Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ظبية الجواء: رواية
ظبية الجواء: رواية
ظبية الجواء: رواية
Ebook341 pages2 hours

ظبية الجواء: رواية

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يحمل الكاتب قارئ الرواية ليرتحل به إلى منطقة الظفرة، ليعايش الحياة اليومية لسكان المنطقة في الفترة التي سبقت الإتحاد وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وما كان يعانيه الأهالي من شح الموارد وقسوة الطبيعة والأخطار التي كانوا يتعرضون لها خلال رحلات الغوص بحثا عن اللؤلؤ وصيد الأسماك، حيث يعيش المرء عند الغوص في الأعماق المظلمة مع الموت، مع لحظات الفناء المداهمة في كون يتخلق من كائنات ليس لها لغة تتحدث بها، وتراوغ وتناور وتساوم، هي هكذا خلقت في المباشرة والوضوح، وهي لا تعرف غير لغة إشباع الغريزة، صامتة إلى حد الرعب، شرسة إلى درجة لا تتوقع منها الرأفة أو تخفيف الحكم، فلديها شريعة الموت للآخر كي تبقى هي حية. ومن خلال أحداث الرواية؛ يغزل أبو الريش ملامح الحياة الاجتماعية لأهل الجواء إحدى قرى منطقة الظفرة، والعادات والتقاليد والمعتقدات التي كانت سائدة لديهم، فيلمس القارىء حرصهم على إرسال الأطفال، فتية وفتيات، إلى الكتاب لحفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة، والعلاقات القوية التي تربط الجار بجاره، وتجذر قيم الكرم والشهامة وإغاثة الملهوف والمحتاج، وتقديم العون للفقير حتى من قبل غير الموسرين.
مشروع إصدارات
ظبية الجواء: رواية

Related to ظبية الجواء

Related ebooks

Related categories

Reviews for ظبية الجواء

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ظبية الجواء - علي أبو الريش

    ظبية الجواء

    ظبية الجواء

    روايـــة

    علي أبو الريش

    @ دائرة الثقافة والسياحة- دار الكتب الوطنية.

    بيانات الفهرسة أثناء النشر.

    PJ7808.R57 D43 2018

    أبو الريش، علي

    ظبية الجواء: رواية / تأليف علي أبو الريش. ـ ط. 1. - أبوظبي: دائرة الثقافة والسياحة- دار الكتب الوطنية، 2018.

    ²⁰² ص.؛ ¹⁴ x ²¹ سم.

    ¹- القصص العربية- الإمارات العربية المتحدة- القرن 21.

    أ‌- العنوان.

    في الماضي عندما كنت أملك من الصّبر لأبسط الأشياء من حولي حتى لخربشة قطة مشاغبة عند مخدعي؛ استمعت لحكاية روتها لي أمي، أنّ شهر يناير هوالزمن كله الذي تدور فيه دواليب الغيمة فترمي بقطراتها على الأرض، وقبل ذلك تبلّل شعر رأسي، وتجعلني أشعر بالبرودة، فأسعى جاهدة لمسح القطرات بأناملي المرتجفة، ثم أخفي رأسي في الوشاح القطني، وأهرب متدفئة تحت الفراش، مثل هرة هاربة من مداهمة خطيرة.

    ولربّما هذا الإحساس يباغتني في كل لحظة، حتى عندما بلغت الثانية عشرة، وقد بدأت أميز ما بين الأشياء المفيدة، والأشياء التي تحسم أموراً كثيرة، وتفضي إلى نهايات مأساوية، مثل الرطوبة الشّديدة التي تنفثها الطبيعة جرّاء الحرارة الشّديدة في لظى الصيف. والآن وأنا أراقب الأشجار العارية والرّمال الممتدة والمتعرّجة مثل المحيط الهائج بأمواجه العاتية؛أشعر بأن هناك غضباً ما يجتاح الصّحراء، أو ربّما هي نفسها تشيح بوجوم وتولي مدبرة ولا تلتفت لمناجاتي وأنا أكفكف دموعي المتقاطرة على وجنتيَّ، وفي هذه الأثناء أسمع صوتاً يتسلل من بين تلافيف الرّمال، أو حتى من تفاصيل أزمنتي المتراكمة، والتي لم أستطع أنّ أزيح عنها الغبار، كون الصّحراء لا تنفك عن بث مثل هذه النفايات التاريخية، لتجعل من الحياة مجرد ركام أشبه ببقايا مركبة محطّمة، أو محارات جوفاء ألقاها الموج العارم على ساحل متهدج.

    في أحشاء هذه الرّمال الحمراء أجد نفسي أغوص في المجهول، والمنحدرات الخفيضة تلتهم ساقيّ بنهم الأفواه الشرهة، أتعرّج تحت اللظى اللاهب، تلفحني صحائف الهواء الصّحراوي الغاضب، ولكن لا مجال للقنوط، والامتعاض، ولا بدَّّ من التجاسر وخوض معركة المصير باندفاع لا تحده عقبة، لأن الموت هو المعادل الطبيعي لليأس. هكذا لقنني أبي حينما هم بالرّحيل قاصداً رحلته الأخيرة، ونهاية الطّريق الذي بدأه، بينما كانت دموع أمّي تغزل صوف الفجيعة وهي تودّع القرين، وتنشّف خيط السائل اللزج المنسحب من أنفها الدقيق، وكان أبي يحتفظ بدفق مشاعره، في صلابة ذكوريّة لم تخفِ حقيقة الإحساس الدفين كأي إنسان يغادر وكر الألفة ليذهب إلى المجهول، وبالأخصّ وأن حادث وفاة أبو عايض، الذي وافته المنية وهو في رحلة الغوص وكما روي لنا أنّ النوخذا لم يفعل إزاء هذا الحادث الأليم أكثر من أن يأمر رفاق أبي عايض بلف الجثّة في خرقة بالية، ثم إلقائها في عرض البحر لتبقّى لقمة سائغة لأسماك القرش.

    كلّما أتذكر تلك الحادثة ينقبض قلبي، وتضيق الدنيا في عينيَّ، ولا أرى سوى البحر وهو يفتح فوهة الموت لكل من يقترب من حياضه، والصّحراء ترتطم كثبانها أمامي بصورة عدوانية، فأشعر بانقباض يعصر قلبي، ويطوقني الخوف بحبل سميك، وكل الأشياء تصطدم بي، الحصى القاسي يجرح قدميَّ، وبقايا الأغصان اليابسة تجرحني كلّما مررت تحت غافة عجفاء، الرّمل الكثيف يعثرني، ولا يدعني أمضي بسلاسة، الشّمس من فوق رأسي تسوطني بأسياخ لاهبة، السماء الزّرقاء مثل طاسة عملاقة تخفق فوقي، وتمنع عني الهواء.

    وأتساءل هل لي أنّ أرى أحلاماً أقل قتامة تحت هذا السقف المدلهم والمخيّم على رأسي مثل قبعة عملاقة مزروعة بالأشواك؟

    في هذه السّاعة من النهار مضيت ولم أبالِ، متأزرة بعزم وصايا أبي وهمهمات أمّي التّي على الرّغم من تفجعها على غياب أبي إلا أنّها تناولت قرص الشجاعة من مخزن الذّاكرة، واستدعت كلمات أبي قبل مغادرته البيت، ليس لسبب، وإنّما لأنّ لا مجال للعيش إلا بإطفاء جمرات الخوف بنثات الأمل.

    وقفت عند عتبة باب الخيمة تطل من خلاله على المدى الغائم، وقد تناهت إلى سمعها همهمة أمّها واعتقدت أنّها تناغي القطّة الصغيرة كعادتها، ولكن بعد هنيهة ارتفعت حدّة الصوت، وبدت على النبرات مسحة من الحزن، حاولت أنّ تتفادى هذا الخيال، فمالت ناحية ضلفة الباب متكئة على ساعدها، واستغرقت في تأمل الغيمة الداكنة التي بدت كقبعة رمادية تغطي السماء، والتي اختفت خلفها مثل محيط واسع يغشاه الزبد، قالت وهي ترمق الفضاء المدلهم: إنه شتاء استثنائي. فمنذ زمن بعيد كما ذكرت لها أمّها لم يخطر على بال السماء تذكر صحراء الجواء بهذا الوابل المطري، والذي بدا مثل صنبور ماء عملاق يسكب ماءه بحماقة وعدوانية.

    وبينما هي غارقة في بلل الأفكار المنثالة مثل غضب الطبيعة؛ سمعت نشيجاً، فالتفتت مذعورة وخمّنت ربّما حدث مكروهاً للقطة، فهي تعرف مدى تمسك أمّها بهذه القطّة التي أصبحت كأحد أفراد الأسرة، وبعد برهة وهي تقترب من زاوية الفناء؛ أيقنت أنّ جللاً ما حلّ في ذلك المكان الذي تجلس فيه أمها، هرولت مذعورة، ولما اقتربت من مكان أمّها وجدتها تمسح دمعة بظاهر كفها، وقد تلبدت لزوجة بين الجفنين، وغدت العينان مثل قشرة الفستق الحمراء، صاحت يا إلهي، ما خطبك يا أماه. رفعت السيدة الوقور محيا شاحباً، وهزت رأسها وهي مخفضة عينيها في التراب مثل طفل ضبط يسرق من مستلزمات أحد إخوته، وقالت بصوت مشروخ كلا لا شيء، فقط انتابتني ليلة البارحة أحلام مزعجة، ولم أنم على إثرها، ولذلك أشعر الآن بألام في ظهري، وبصداع شديد.

    لم تصدق ما روته أمها، وبينما هي تتفحص الوجه الذابل؛ كانت زخات المطر تقذف بحلقات بحجم خاتم إصبع البنصر، وفناء الجريد بدأ يترنح مثل حيوان مريض اشتد عليه وزر الأحمال. أمعنت النّظر في وجه أمّها التي لم تكن طيعة إلى حد تسمح فيه بإماطة اللثام عما يجول في خاطرها، الأمر الذي جعل البنت تبدو أكثر قلقاً، كما أكثر إصراراً على معرفة ما يكمن في بئر أمها. لبثت صامتة لفترة وجيزة، ومتسمرة أمام أمّها كضابط تحقيق يقف حائراً أمام قضية شائكة ثم قرفصت، وهمت على رأس أمّها تقبلها، ويدها تمسح على ظهرها، بينما أذعنت الأم لليدين الصغيرتين وخفضت بصرها، ولكن الدمعتين الّلتين هربتا من محجري العينين الواسعتين السوداوين وظلتا جامدتين تحت الجفنين، وبللتا الكحل الذي اعتادت المرأة أنّ تضعه كل صباح، أفصحتا عما في الجب.

    لم تشعر البنت بارتياح إزاء هذا الوضع الذي تمرّ به أمّها فقالت بشيء من الأحتجاج: أماه لا يبدو عليك أنك تحبينني، وإلا لما خبّأت عني حقيقة ما أدمع عينيك الجميلتين.

    نظرت الأم إلى ابنتها وكأنّها كانت تنتظر إلحاح البنت لتبوح بالسر الدفين، كعادة أيّ إنسان يذرف الدموع ليس فقط لتفريغ ما بداخله، وإنّما لأجل استدعاء مشاعر الآخرين لكسب التعاطف والانسجام، مع حاجته إلى المواساة، وتخفيف الألم الذي ألم به.

    حدقت الأم في محيا ابنتها الطفولي، واغرورقت عيناها بالدموع، ثم نشجت وهي تضمّ جسد ابنتها إلى صدرها. وكانت مضعضعة منهارة مثل حمل وديع تمّت ملاحقته من قبل كائن مفترس ولم يجد مجالاً غير الاستسلام للأمر الواقع، وقالت في صوت مهشم مثل زجاجة مصعوقة بصفعة بارق قاسٍ: اسمعي يا ظبية، أنا تعبت، ولم تعد بي طاقة لتحمل فراق أبيك، إنه ذهب إلى الغوص، وأغرقني أنا في فراغ مريع أشعر به وكأنّه فوهة بركانية تفتح شرها لكي تلتهمني.

    تنفست ظبية الصعداء، وابتلعت ريقها الناشف، وأحست وكأنّها أمضت وقتاً طويلاً في الجري وراء سراب، واعتدلت في جلستها ملتصقةً بأمها، ويدها الصغيرة تضمّ يد أمّها اليمنى، في حين أطلقت يداً أخرى تداعب خصلات شعر أمها، ولأول مرة تنادي أمّها باسمها قائلة: يا شمسة بنت جوعان، ما كان بالإمكان أنّ تدعي الدموع تنهال على خديك وتفزعي ابنتك حبيبتك، وكما تعرفين أنّ أحمد بن عايض المنصوري فارس من فرسان الظّفرة، ولا يخشى عليه من مجاهيل الغوص وأخطاره.

    شمسة تقفز مثل طفل التقط إجابة تعسر عليه التوصل إليها، وقالت: ها هي أنت، لقد قلتها، مجاهيل الغوص، وهذا ما يؤرق مضجعي، هذه المجاهيل وأخطار البحر، وكلّما تذكّرت ذلك المسكين جارنا سالم بن حسن الذي ألقي به في عرض البحر؛ تعتريني الحمى ويشتد الصداع في رأسي، ويلفني خوف فظيع.

    جاهدت ظبية على الاحتفاظ بتماسكها والامتناع عن الانكسار أمام أمها، لكنّها في الحقيقة أخفقت في اتباع نصيحة والدها الذي أوصاها بالحرص على التمسك برباطة الجأش، وألا تضعف أمام تفجعات أمّها والتي وصفها بالمرأة الهشة، فوجدت نفسها تغوص في بئر من الدموع، وتدفن رأسها في نحر أمها، مما أجبر شمسة على التخلص من ظبية وإبعادها برفق وهي تلثم خدها قائلة: لا تبكي يا حبيبتي، دعي الدموع لأمك، أما أنت فتفرغي للاعتناء بشبابك، ومثلك لا يجب أنّ تدع طريقاً للحزن إلى قلبها.

    رفعت ظبية رأسها وتأملت ملامح أمّها وقسمات وجهها، وبعض الخيوط الدقيقة التي بدت تغزو وجهها، ولكن هذا الغزو لم يمحُ ما تحته من فتنة الأيّام الخوالي، وكم كانت ظبية تحسد أمّها على أنفها الدقيق الذي يسمق على وجه رهيف، تبدو عظام فكّيه مثل غضاريف غزالة فتية. وقالت: من أين لي ذاك القلب الذي يستطيع أنّ يصمد أمام مدرار دموعك يا أحب النّاس إلى قلبي.

    تأملت شمسة عيني ابنتها، ثم مدت يدها تتحسس ملامحها مستدعية صورة الزوج، وقالت في سرها: هاتان العينان هما عينا أحمد بن عايض، إنّها الرمية الأولى التي تحكمت فيّ، وتشبثت في تلابيب فؤادي، ثم أطرقت قائلة:

    كل ما أريده هو ألّا أسبب لك أيّ متاعب اتباعاً لوصيّة والدك أعاده الله إلينا بسلامة، وتقاطعها ظبية: إذن لا أريد الدموع أنّ تشوه هذا الوجه الجميل. وتضع سبابتها على أنف أمّها الذي طالما رفعت من أجله نشيد المديح، وفي الأثناء بدأ المطر يسحب أذياله، وكأنما الغيمة قصاصة ورق عملاقة طارت مع هبات الهواء التي بدأت تخترق المسامع بارتطامها بسقف الخيمة الذي فر لحافه بعد ضربات المطر العنيفة وابتلاله بالماء.

    توقف المطر، ولكن الغيمة الداكنة لم تزل متلبدة، وكأنما تحرس ما يجري على الأرض، وتراقب عن كثب مثلما يفعل أيّ صانع. فعندما ينتهي من صنعته يقف متأملاً يقرأ التفاصيل في الشيء المصنوع، لعله يكتشف النواقص.

    أفلتت ظبية يديها من حول عنق أمها، وعادت لتقف أمام باب الخيمة. في هذه الأثناء انهمكت شمسة في سف خصلات السعف لتصنع حَصِيراً، وكأنّها ودت لو تهرب من حثالة الأفكار المؤذية، وليتسنى لها تفويت الفرصة على الوساوس التي تهاجمها كلّما جلست وحيدة بلا شاغل يشغلها، وفي خضم انغماسها في العمل كانت القطّة الصغيرة تموء بصوت طفولي أخاذ، وتعبث بطرف ثوبها، وكلّما زجرتها ازدادت القطّة ولعاً في المشاكسة، وبدورها تستمر شمسة في روغها وإمساكها من أذنها بدعابة، بينما القطّة تحرك ذيلها، وتغمض جفنين على عينين خضراوين كنبقتين صغيرتين، تدوران بلطف، ولم تتوانَ المرأة العطوف في رمي نتف الخبز اليابس لقطتها المحبوبة التي ألفتها دوماً تخاطب مشاعرها كلّما شعرت شمسة بالتذمر والضيق، أو ربّما يتهيأ لها ذلك بحكم حاجتها الماسة إلى كائن ألف الدعابة مع البشر، واستأنس لوجوده بين يدي امرأتين لم تصفُ لهما الحياة في هذا المكان الغارق في وديان الوعورة ورمال الحسرات المتوالية.

    لم تكن ظبية على ما يرام، فهي ترى أمّها تزداد شحوباً، وغياب الأب سبب لها فراغاً وقلقاً، ولم تكن هي أقل من أمّها لهفة على أبيها الذي كان يشكل في وجوده حزاماً واقيا ضد الخوف، لكنّها كانت تحاول أنّ تتوارى خلف شجاعة مزيفة لكي لا تخسر أمها، فهي تقول في نفسها فيما لوخسرت أمّها لا قدر الله أنّها لن تجد ما يطوقها بالحب، وبطبيعة الحال فإن شمسة بحكم إحساسها بوجود البنت التي لا يشاركها إخوة ولا أخوات في البيت؛ كمن لا يملك إلا عيناً واحدة ويخشى فقدانها، فكانت توليها أيما اهتمام ورعاية، بل وتحيطها بحب لا يدانيه إلا حب أبي عايض، والآن أبوعايض يقع في قارة أخرى، ويعيش بين أسماك القرش وتحت طيات الموج العنيف، ولا أحد يجزم بمتى عودته، وكيف يكون مصيره.

    في صباح اليوم التّالي، فتحت ظبية عينيها على دوائر شمسية، تسللت من شق الباب الموارب، واستقرت عند طرف الوسادة، وفي فسحة الخيمة تدحرجت خيوط ذهبية ساقطة من فتحة ضيقة في زاوية السقف، بعدما عبثت الريح الليلية في أشلاء الخيمة المبعثرة مثل لعبة أطفال ملّ منها صاحبها الصغير، فحولها إلى مزق وفتات. نهضت ظبية ومطّت ساقيها وذراعيها، وحكت أرنبة أنفها متثائبة، وشعور بالانقباض يجثم على صدرها. بعد برهة رفعت رأسها وتلفتت، وكانت القطّة تتكور بجانب الباب، وشعرها الواقف مثل أسياخ دقيقة دلّ على إحساسها بالبرد، وما إن لحظت نهوض شمسة هرعت نحوها مندسة في صدرها، مصدرة شخيراً خفيفاً أشبه بخرير خيط الماء المنسكب من قارورة مثقوبة. أزاحتها ظبية ممتعضة دون أنّ تنهرها، ولكن القطّة لم تبارحها، وظلت ملتصقة بها إلى أنّ نهضت ظبية، وراحت القطّة تتبعها حتى دخلت ظبية مكان قضاء الحاجة، وظلت تموء بصوت أشبه بمناغاة طفل رضيع، وظبية تناغيها مستمتعة بإصرار القطّة على أنّ تكون مصدر الحنان العفوي الذي يبدر من الكائنات البريئة، وما إن تخلصت ظبية من أعباء النوم وكسله؛ خرجت تسأل عن أمّها التي تعرف مكانها في المطبخ في مثل هذا الوقت من كل يوم.

    لم تنتظر ظبية طويلاً، وأفاد لها قلبها أنّ أمّها في هذا الصباح ستكون أحسن حالاً من أمس، فهي عندما تكون على ما يرام تعتني بإعداد الفطور، وتقوم بترتيب المائدة المتواضعة بطيب خاطر، وكأنّها تود أنّ تتخلص من مشاعرها المهشمة بأيّ وسيلة، على أقل تقدير لإعفاء ابنتها الصغيرة من الهموم، ودائماً ما تقول لها: لا تشغلي نفسك بالمشاكل، فما زلت صغيرة على تحمل شعث التفكير. وهذا ما يجعل ظبية أكثر أماناً على الرّغم من وعيها بما يدور في ذهن أمها، كما أنّ الحياة رغم قسوتها؛ إلا أنّ ظبية بحكم سنها، وكذلك لعدم إحساسها بالفراغ الذي خلفه والدها، لأن شمسة لم تترك للفراغ أيّ أنياب، لما تقوم به من دور فاعل في توفير كل ما تحتاجه ظبية من حنان، إضافة إلى بذلها الجهد لتسخير إمكانياتها المادية المتوافرة لإرضاء الفتاة الصغيرة، وسد حاجتها من المأكل والملبس، الأمر الذي جعل من ظبية فتاة مدللة قياساً بقريناتها، وتعمل شمسة كل هذا لتنفيذ وصيّة أبي عايض الذي وقف عند باب البيت قبل المغادرة وهو يؤكد على زوجته كي تسد مكانه في البيت، وألا تقصر يدها في مد البنت الوحيدة بكل ما ترغب فيه.

    في زاوية مظللة بجريد النخل المسنود بالجذوع الضخمة والعوارض الخشبية الممتدة كأضلاع بشرية منهكة؛ وقفت ظبية تتأمل وجه أمّها وهي منسجمة في وضع آنية حليب الإبل على موقد النار، واستلهمت شمسة من رائحة الحليب المخثر وعطر الزنجبيل الذي تفضله مع خبز الرقاق المدهون بالزبدة مع حبّات تمرّ الخصاب، وهي الوجبة الصباحية اليومية التي تقول عنها شمسة، إنّها الطّعام الذي يشد جسد البنت لتصبح أرشق من الغزال، وتبدو بشرتها أنعم من القشدة، في حين تتألق وجنتاها مثل القمر. وما أن لحظت شمسة وجه ابنتها حتى وافتها بابتسامة أشعت على محيّاها مثل بصيص النور المنبعث من نجوم السماء الصافية، وعلى إثر هذا الخيال الذي بزغ في مخيلتها؛ أفادت شمسة قائلة: يبدو أنّ الغيمة أرهقت في اليومين السّابقين، لذا لاذت بالفرار، أو أنّ الأرض ذادت عن نفسها لتحمي أبناءها من نقمة السماء، التفتت شمسة ممتعضة من بلاهة ابنتها ومؤنبة: لا تقنطي من رحمة الله، فالأمطار مهما بلغت من قوّة وغزارة فهي في النهاية فضل من رب العالمين لإغاثة الزرع والضرع.

    تتدخل ظبية معتذرة وأطلقت ابتسامة علامة على التراجع عن قول فيه جحود وقنوط: لا بأس يا أمي، ولكن منذ جئت إلى هذه الدنيا لم أشهد مثل هذا الشتاء العاصف. ثم تطوق عنق أمّها في دلال، لاثمة خدها بشفتين مبللتين بريق صباحي مفعم برائحة اللبان العربي الذي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1