Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

البريئة: دراما, #3
البريئة: دراما, #3
البريئة: دراما, #3
Ebook531 pages3 hours

البريئة: دراما, #3

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

البريئة تعالج الكثير من العادات والتقاليد العمياء التي ما زلنا متمسكين بها بعيدا عن الدين والخلق - حكاية الجشع والحسد والحقد المتمثل في شخصية فتحي الذي ضمر كل تلك الصفات فيصب جام غضبه على ابن عمه اليتيم والصغير وحيد حتى وصل به الأمر للزواج من خطيبته  للانتقام منه وبعد عام دبر مكيدة لهما ليقع وحيد في فخ مكره وخبثه بالتعاون مع والدته الشريرة وزوجته المغفلة ليتهمهما بالفاحشة وقد دبر الشهود الزور وجمع اهل البلدة كلها حتى اعمى الغضب والدها فقتلها ليمحو العار الكاذب ككذب قميص يوسف ليستولي فيما بعد على املاكه ويهدر دمه فيهرب وحيد بعيدا ليعيش في عذاب لكن القدر بالمرصاجد وتتغير الاحوال وتبدأ حرب حزيران ليهرب  الى الاردن ويعيش هناك مع عائلته لكنه كان في عذاب فلم يمهله المرض طويلا حتى توفي. يكبر الابناء وتظهر الخلافات وتجد الام وصية زوجها التي اصابتها بالهستيرية عندما علمت انه  هرب من بلاد بعيدة لامر ما وتبدأ البحث والتقصي حتى تجد أهل زوجها وتظهر المفاجاءات التي غيرت حياتهما للافضل والأهم بقي سرا يجده القاريء بين صفحات الرواية.

Languageالعربية
PublisherRiyad Halayqa
Release dateMar 18, 2019
ISBN9781386370055
البريئة: دراما, #3
Author

Riyad Halayqa

Jordanian novelist He has four novels that were printed in Jordan, Egypt and Algeria Some of his works have been translated into French and English He has three works that will be published soon Writes fiction and drama

Related to البريئة

Titles in the series (1)

View More

Related ebooks

Reviews for البريئة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    البريئة - Riyad Halayqa

    البَرِيئَةُ

    رِوَايَةٌ

    رِياض حَلايقه

    ––––––––

    البريئة

    الرواية كفنّ أُذيبتْ في كيانه مختلف الأجناس الأدبية الأخرى، فاعتُبِرت بحق علامة العصر المميّزة والمتميّزة..غيرَ أنّ الذي يُدهشك في (البريئة) لصاحبها الأستاذ رياض حلايقه، تمازج الأحداث وتداخلها بصورة أقلّ ما يقال عنها أنّها مبهرة! أضف إلى ذلك عنصر الزمكانية المرتبط بواقعية الأحداث بسردية حكائية بسيطة أدّت الغرض اللغوي والدلالي على حدّ سواء! فهنيئا لنا بمُنجَز راق سيدعَمُ دون شك مكانة الرواية العربية محليا وإقليميا وعالميا..

    الأستاذ الأديب: محمد الصالح شرفية الجزائري - الجزائر.

    تَنويــــــهٌ

    أحداثُ هذهِ الروايةِ حقيقيةٌ, صِيغتْ بقالبٍ جديدٍ, الأسماءُ والأماكنُ من الخيالِ, إذا تشابهتْ الأسماءُ أو الأماكنُ أو الأحداثُ لشخصٍ ما فإنَّ ذلكَ مَحضُ صُدفةٍ.

    ––––––––

    لَمْحَـــةٌ

    رأتْ والدَها بالبابِ حالتُهُ لا تُبشّرُ بخيرٍ, نظرتْ في عينيهِ الغائرتينِ المُتعَبَتيْنِ, وجهُهُ مُسوَدٌّ كالعنبرِ، أسنانُه تصطكُّ بقوةٍ كأنهُ في القطبِ المُتجمِّدِ، عرَفَتْ أنَّ الحيلةَ والمكيدةَ صِدقُها, وأصبحَ مصيرُها في مَهَبِّ الريحِ, رمتْ بنفسِها عليهِ, وقعتْ على الأرضِ تُقبّلُ قدميهِ, تُمسكُ بقوَّةٍ أطرافَ ثوبهِ, تنوحُ بغضبٍ, تتوسَّلُ بعنفٍ, تحاولُ الدفاعَ عن نفسِها وشرفِها:

    - أُقسِمُ أنَّهُ كاذبٌ, أُقسِمُ أنَّنِي بريئةٌ ومظلومةٌ.

    ما زالَ واقفاً كتمثالٍ, دموعُ الخوفِ... دموعُ القهرِ والظلمِ تنهمرُ, الأمُّ تتوسَّلُ وتبكي, أيقنتْ أنَّ والدَها سيُقدِمُ على عملٍ جنونيٍّ يُسَمَّى غسلَ العارِ لاتِّهامٍ باطلٍ.

    تفاجأَتْ بيدِهِ الحنونةِ دومًا تُداعبُ شعرَها بلطفٍ, جعلتْهَا تخرجُ منْ بحرٍ مُتلاطِمِ الأمواجِ إلى بَرِّ الأمانِ، نظرتْ بخوفٍ تلكَ اللحظةَ إلى عينَيْ والدِها الصلبتَيْنِ المُتحجِّرَتَيْنِ, قرأتْ فيهمَا أنَّ العارَ لا يُغْسَلُ إلا بالدَّمِ، أدركتْ أنَّها النِّهايةُ.

    شعرَ الأبُ بانعدامِ  مشاعرِهِ نحوَ ابنتهِ على نَحوٍ غريبٍ, يتحسَّسُ رأسَهَا بيديهِ, حَسَمَ أمرَهُ, امتدَّتْ يدُهُ التي تَرتجفُ نحوَ خِنْجرِهِ استلَّهُ أودعَهُ صدرَ ابنَتِهِ, ما زالتْ تُمسكُ بقوَّةٍ بأذيالِ ثوبِهِ ثُمَّ هَوَتْ نحوِ صدرِ أُمِّها الذي أَبَدًا كانَ الملاذَ الآمِنَ, الدَّمُ يتدفَّقُ من صدرِها, فقدتْ الأمُّ وعيَها, هاجتْ النِّساءُ خوفاً ورُعباً, غادرَ مُسرعًا يخترقُ جموعَ النَّاسِ رافعًا الخِنجرَ بيدهِ يقطرُ دمًا.

    بلدةُ السَّعيدةِ ـ جنوبِ فلسطينَ 1935

    تلكَ القريةُ

    منزلٌ قديمٌ يُشبِهُ مَنازلَ القريةِ المُتناثرةِ هُنا وهُناكَ بشكلٍ عَشوائيٍّ, تَعلو سطحَ المنزلِ الأعشابُ الصغيرةُ اليابسةُ بينَ كُتَلٍ من الترابِ, تمتدُّ أمامَهُ ساحةٌ تُرابيَّةٌ تصلُ الشارعَ الرئيسَ للقريةِ.

    تتربَّعُ وَسْطَ السَّاحةِ شجرةُ صَنَوْبَرٍ شامخةٌ في السَّماءِ، يُعِدُّها صاحبُ المنزلِ العجوزُ توأمَ روحِهِ, تحتَها مكانٌ يقضِي به مُعظمَ نهارهِ وباقِيَ عُمرهِ الذي شارفَ على نهايتِهِ.

    كان الشَّيْخُ غارِقاً في ذكرياتِ الماضِي شيخاً ناهزَ المائةَ عامٍ قصيرَ القامةِ ضئيلَ الجسمِ, يُشِعُّ النُّورُ منْ وَجْهِهِ الذي داعَبَهُ الدهرُ بِمِعْوَلِهِ؛ فاحتفرتْ بهِ الأخاديدُ احتفارًا، لحيتُهُ شديدةُ البياضِ مع عينينِ حادَّتينِ وجسمٍ هزيلٍ وأسنانٍ ناصعَةِ البياضِ،  يرتدي عمامَتَهُ الخضراءَ وقمبازَهُ العربيَّ الرثَّ، يجلسُ على بِساطٍ عتيقٍ، يتَّكِئُ على زوجٍ من المِخَداتِ الباليةِ يتأملُ المارَّةَ، استوقفتْنِي هيبتُهُ فعرَّجْتُ عليهِ لإلقاءِ التَّحيَّةِ فحدَّثَنِي عن أحوالِ البلدةِ الكارثيَّةِ التي أصبحتْ من الماضِي.

    يوسفُ: رجلٌ ذو خلقٍ وكرمٍ، مِحورُ الحِكايةِ.

    الشيخُ عثمانُ: إمامُ القريةِ حَظِيَ بمكانةٍ خاصَّةٍ عندَ أهلِهَا؛ فَكَنَّ لهُ الجميعُ الاحترامَ والتقديرَ، رافقَ والدَهُ الجنديَّ في دَرَكِ الدولةِ العثمانيَّةِ صغيرًا، ألحقَهُ والدُهُ بالكتاتيبِ عندَ شيخ ٍفي المدينةِ؛ تعلَّمَ القرآنَ الكريمَ وأحاديثَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-؛ مِمَّا أهَّلهُ لاعتلاءِ مِنبَرِ مَسجدِ القريةِ.

    الحاجةُ سكينةُ: شقيقةُ الشيخِ عثمانَ القابلةُ غيرُ القانونيّةِ للبلدةِ، والطبيبةُ المُعتمَدَةُ لنساءِ القريةِ ورجالِهِا.

    الحاجُّ كاملٌ: غنيٌّ جَشِعٌ قصيرٌ بَدينٌ بِعَينينِ صَلِبتيْنِ, يعتمرُ كوفيةً زرقاءَ، ذو مَكرٍ ودَهاءٍ, مُراوِغٌ كالثَّعلبِ؛ لا يُحِلُّ حَلالا ولا يُحرِّمُ حَرامًا، لهُ نُفوذٌ وسُلطةٌ في القريةِ مع عددٍ قليلٍ من رجالِهَا.

    حليمةُ: زوجةُ الحاجِّ محمودٍ الأخِ الأكبرِ ليوسفَ، أختُ الحاجِّ كاملٍ، قويةٌ سليطةُ اللسانِ، ذاتُ مَكرٍ ودَهاءٍ ولُؤمٍ وحِقدٍ وحَسدٍ, امرأةٌ طويلةٌ نحيلةٌ، وجهُهَا شاحبٌ باستمرارِ, عَيناها من نارٍ خدودُهَا كأنَّها مَسلولةٌ حادَّةُ المِزاجِ سريعةُ الغَضبِ، حاولتْ جاهدةً خَلْقَ كاملٍ آخرَ تُجسِّدُهُ في ابنِهَا فتحي.

    عُمَرُ: رجلٌ متوسطُ الجسمِ وجهُهُ الأسمرُ ذو عينينِ واسعتينِ عسليتينِ ولحيةٍ ناصعةِ السَّوَادِ وشاربٍ، يلبسُ كوفيةً سوداءَ وقمبازًا عربيًّا كأهلِ القريَةِ، بسيطٌ ومُتواضِعٌ وخَدومٌ.

    بدأتْ الحِــــــــكايةُ

    كانتْ السماءُ مُوشَّحةً بالغُيومِ تسيُر الهُوَيْنَى، والقمرُ كادَ أنْ يختفيَ، وبِضْعُ نجماتٍ تلوحُ بالأفُقِ عندَمَا توجَّهَ يوسفُ لصلاةِ الفجرِ دائمَ الدعاءِ:

    - رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.   

    بَعْدَ عشرينَ عامًا منْ الزَّواجِ, حرَمَ القدرُ يوسفَ من أجملِ ما في الحياةِ من فَلْذةِ الكبدِ، من حنانِ الأطفالِ، من السَّعادةِ الحقيقيَّةِ لأيِّ زوجينِ؛ مِمَّا أرَّقَ النومَ في عينيهِ سنواتٍ طوالا وهوَ ينتظرُ مَولودًا واحداً  ذَكَراً كانَ أَمْ أُنثَى؛ ليحملَ اسمَهُ، وليكونَ امتداداً لحياتهِ التي غَمَرَها الأملُ في ذلكَ.

    يملكُ يوسفُ أرضا ًواسعةً تُسمَّى خلَّةَ القصرِ وقِطَعًا من الأراضِي الصَّغيرةِ أيضًا.

    في المدينةِ تعرَّفِ علَى نعيمٍ صديقٍ لعُمَرَ، سألَ نعيمٌ بعدَ أنْ عرَفَ بمُشكلتهِ:

    - أَذَهَبَتْ زوجتُكَ إلى لطبيبِ؟

    ذُهِلَ يُوسُفُ من كلامهِ، التفتَ نَحوَ عُمرَ آمِلاً أنْ يُجيبَهُ, تساءَلَ إنْ كانَ هذا الرجلُ يقصِدُ الإساءةَ, أَمْ أَنَّهُ جادٌّ في كلامِهِ قالَ -مُستغرباً-:

    - طبيبٌ رجلٌ!

    نعيمٌ: أَلَمْ تذهبْ زوجتُكَ إلى طبيبٍ منذُ زواجِكُمَا؟

    يوسفُ: -مُندهشاً- لا، ولَكِنَّ الحاجَّةُ سكينةُ تُعالجُهَا باستمرارٍ.

    نعيمٌ: أَهِيَ طبيبةٌ؟

    يوسفُ: لا, إنَّها تُداوي نساءَ القريةِ بالأعشابِ وَلَهَا خبرةٌ طويلةٌ.

    نعيمٌ: لا بُدَّ من ذَهابِ زوجتِكَ إلى طبيبٍ مُتخصِّصٍ.

    يوسفُ: رجلٌ يعالجُ النِّساءَ وينظرُ لِعَوْرَاتِهِنَّ! أيُّ كلامٍ هذَا؟

    نعيمٌ: لا فَرْقَ في الطِّبِّ بينَ رَجُلٍ أَوْ امرأةٍ، أَنَا أَنْصَحُكَ أنْ تُسرعَ في عِلاجِ زوجتِكَ.

    قالَ يوسفُ لعُمرَ: صاحبُكَ ينصحُنِي أنْ تَتَكَشَّفَ زوجَتِي أمامَ رجلٍ غريبٍ، واللهِ لمْ أسمعْ بهذَا من قبلُ! ماذا سيقولُ الناسُ في القريةِ؟

    ماذا سيقولُ الشيخُ عثمانُ؟

    ماذا ستقولُ زوجةُ أخِي حليمةُ؟

    يا لفضيحَتِكَ يا يوسفُ! ستُصبحُ أُضْحوكةً في القريةِ كلِّهَا! ستُصبحُ حكايةً على كلِّ لسانٍ! هيَّا يا عُمَرُ.

    نعيمٌ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاّ باللهِ.

    عمرُ: لا بَأْسَ يا نعيمُ، ما قلتَهُ غريبٌ، لمْ نسمعْ بهِ من قبلُ.

    نعيمٌ: إنْ قرَّرْتَ الذَّهابَ إلى الطَّبيبِ فَأَنَا في خدمتِكَ.

    الباعةُ مُنهمِكونَ في المناداةِ بأعلَى أصواتِهِمْ، الحمَّالُونَ يسعُونَ في طَلَبِ رزقِهِمْ، اشتَرَيَا ما يُريدَانِ قبلَ العصرِ بقليلٍ، وصلَ مَوكبُ الصديقينِ إلى حارةِ الأحْلَامِ كمَا يُسَمِّيهَا يُوسفُ.

    يوسفُ يُفكِّرُ في موضوعِ الطبيبِ ونصيحةِ نعيمٍ، وجدَ في كلامِهِ بَصِيْصاً من الأمَلِ -معَ إِيمَانِهِ بالمُعتَقَدَاتِ التِي تُحرِّمُ ذلكَ- إِلاّ أَنَّهُ سيكُونُ سعيداً إذَا أَفْتَى الشيخُ عثمانُ بالمُوافقةِ.

    بعدَ صلاةِ المَغربِ عَرَّجَ يوسفُ على بيتِ أخيهِ محمودٍ ليستشيرَهُ في أمرِ الطَّبيبِ، كانتْ حليمةُ تُعِدُّ كَأْساً من الشَّايِ وتَسْتَرِقُ السَّمْعَ، سمِعَتْ يوسفَ يُحدِّثُ زوجَهَا، أُذُنَاها تلتقطانِ كلَّ كلمةٍ وهَمْسَةٍ، عرَفتْ بخبرِ الطَّبيبِ، أخذَتْ تُحَلِّلُ تلكَ الشَّفْرَةَ وَمَا سينتُجُ عنْهَا مُستقْبَلاً، تَرَنَّحتْ حليمةُ كادَتْ أنْ تُوقِعَ إِبرِيقَ الشَّاي عن وَابُورِ الجَازِ، وجدَتْ أنَّ هُنَاكَ كارِثةً قادِمَةً معَ كُلِّ حرْفٍ ينطِقُ بهِ يوسفُ ويتعجَّبُ لهُ زوجُهَا.

    أسرَعَتْ حليمةُ وهيَ تحملُ الشَّايَ، تُفكِّرُ في الرَّدِّ على يوسفَ قبلَ أنْ ينطقَ زوجُهَا بحرفٍ واحدٍ؛ فيُفْسِدُ كلَّ مُخَطَّطاتِها ويَسرِقُ كلَّ أحلامِها، بصوتِها الأَجَشِّ ونَبْرَتِهَا الحادَّةِ وعيونٍ يتطايرُ الغضبُ منْهَا عندَ كُلِّ أمرٍ لا يُنَاسِبُهَا قالَتْ:

    - مَا الَّذِي أَسْمَعُهُ؟ مَاذا جَرَى لَكَ يا يُوسُفُ؟

    تُريدُ أنْ تتكشَّفَ زوجتُكَ أمامَ رجُلٍ غريبٍ؟

    أينَ غِيرتُكَ يا رَجلُ وحُبُّكَ لَهَا؟

    أينَ كَرَامَتُكَ وشَرَفُكَ؟

    أينَ إيمانُكَ باللهِ؟

    أَلَا تعلمُ بِأَنَّ ذلكَ حرامٌ؟ اسمعْ يا يوسفُ، نحنُ أهلٌ, احرصْ ألَّا يسمعَ هذا الكلامَ شخصٌ آخرُ لِئَلَّا يسخرَ منكَ، أنتَ مِنَّا تُهِمُّنَا سُمْعَتُكَ وكَرَامَتُكَ، سأَقُولُ لكَ شَيْئاً آخرَ كنتُ لا أريدُ الإفصاحَ بهِ قبلَ اليومِ, لكنَّ كلامَكَ الآنَ جَعَلَنِي أتكَلَّمُ من حِرْصِي وخوفِي عليكَ أرجُو أنْ تُسامِحَني, قالتْ الحاجةُ سكينةُ كلامًا قاسِيًا وأنَّ السببَ يعودُ إليكَ واللهُ أعلمُ.

    كانَ يوسفُ يتوقَّدُ نارًا كَقِدْرٍ يَغْلِي، قالَ بصوتٍ مَخْنُوقٍ وَيَدَاهُ ترتَجِفَانِ من الأَلَمِ الذِي سَبَّبتْهُ لَهُ حليمةُ:

    - تُصْبِحُونَ على خيرٍ.

    هَمَّ بالذَّهابِ أمْسَكَ بهِ أخوهُ الذي كانَ يرهبُ جانبَ زوجتِهِ اتِّقاءً لشرِّهَا, ويتجنَّبُ الرَّدَّ عليْهَا في مُعظَمِ الحَالاتِ، يَشعُرُ بتأنيبِ الضَّميرِ من هَولِ ما سمِعَ من زوجتِهِ واعتصرَ قلبَهُ حزنٌ عميقٌ, امتزجَ بإحساسٍ بالذَّنبِ لِعَدَمِ ردْعِهِا مُنْذُ البِدَايَةِ:

    - ماذَا تَقُولينَ يا امرأةُ .. اتَّقِي اللهَ.

    حليمةُ: -وهي تُبْدِي جَانِبَ الوُدِّ والخَوْفِ على سُمعةِ يوسفَ-: يا أَبَا فَتْحِي، إِنَّمَا أقولُ ذَلِكَ خَوْفاً عليهِ وحِرْصاً على مصلحَتِهِ؛ لِئَلَّا يعرِفَ الناسُ أنَّهُ السَّبَبُ في عَدَمِ الإنْجَابِ, ويُصبِحُ حديثَ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ.

    كانَ يوسفُ واجِماً لا يتكلَّمُ كَأَنَّ علَى رَأْسِهِ الطيرَ، محمودٌ مُضطرِبٌ خائفٌ حائرٌ مِمَّا سَمِعَ عن أَخِيهِ، وبينَ خَوفِهِ من زوجتِهِ إنْ تَكَلَّمَ أنْ تَثُورَ في وَجْهِهِ أَمَامَ أَخِيهِ؛ فَتَتَوَلَّدُ مشكلةٌ كبيرةٌ غيرَ محمودةِ العواقبِ؛ فالتَزَمَ الصمْتَ، نَهَضَ يوسفُ يُلَمْلِمُ نفسَهُ ويَطْوِي عَبَاءَتَهُ، العَرَقُ يتصَبَّبُ من جبينِهِ، يستغفِرُ رَبَّهُ:

    - أَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ ... لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ ... أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ.

    لم يَحْتَمِلُ محمودٌ مشاهدةَ أخيهِ الأَصْغَرَ الوَحِيدَ يائِساً غاضِباً, تَشَجَّعَ محمودٌ وصَاحَ في زوجتِهِ مُحَاوِلاً إِيصَالَ صَوْتِهِ لأخِيهِ: - - ماذا أصَابَكِ يا امرأةُ؟ هلْ وصلَ بِكِ الأمرُ إلى هَذا الحَدِّ من الحِقْدِ والبُغْضِ؟

    خَرَجَ مُسرِعاً عَسَى أنْ يُخفِّفَ عنهُ:

    - يا يوسفُ، يا أخِي .. يا يوسفُ .. ارجِعْ أرجوكَ.

    حليمةُ: لا تَنْفَعِلْ يا رجلُ... أنْ يسمعَ مني أفضلُ من أنْ يعرفَ الجميعُ بأمرِهِ, يجبُ أنْ تتكلَّمَ معَهُ وتَشْكُرَنِي على الاهتمامِ بِسُمْعَتِهِ.

    زوجُها: كانَ عليكِ أنْ تُخبِرينِي أولاً؛ فهوَ يتقبَّلُ الأمرَ منِّي، ما قُلْتِهِ لهُ أمرٌ مُحرجٌ وقاسٍ.

    قالتْ: صَدَقْتَ يا أبا فتحي، لمْ أَنتبِهْ للأمرِ من هذا الجانِبِ, فَحِرْصِي على سُمْعَتِهِ جعلَنِي أَتَعَجَّلُ في الكَلامِ.

    يوسفُ يُواصِلُ سَيْرَهُ، اسوَدَّتْ الدُّنيَا في عينيْهِ, شعرَ أنَّهُ مُصابٌ بالدُّوَارِ، وضَاقَتْ علَيهِ الأرْضُ بمَا رَحُبَتْ حتَّى الْتَقَى بِعُمَرَ.

    عُمَرُ يتحدَّثُ إلى يوسفَ وهوَ واجمٌ لمْ ينْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ:

    - ما لَكَ يا رجلُ؟  تَعِبْتُ من الكَلَامِ وَأَنْتَ لا تُجِيبُ، لِمَ كُلُّ هَذَا الحُزْنِ والأَسَى؟

    نَظَرَ يوسفُ إلى عمرَ بعينينِ مُتعبتَيْنِ وَبِوَجْهٍ حَزِينٍ كَالِحٍ:

    - سامِحْنِي يا عمرُ؛ أَنَا مُتعبٌ وَلَسْتُ مُستعِدًّا للكلامِ في هذَا الموضوعِ.

    عمرُ: مَاذا قالَ لكَ أخُوكَ؟ لا بُدَّ أَنْ تَحْكِيَ وتُفرِغَ مَا في صدْرِكَ من هُمُومٍ.

    يوسفُ: أَخِي لمْ يَقُلْ شيْئاً، تَرَكَ الأمرَ لزوجَتِهِ لِتُسْمِعَنِي كَلاماً كالعَلْقمِ.

    عمرُ: لا تهتمّ لكلامِ النِّساءِ يا رجلُ، حليمةُ امرأةٌ ثرثارةٌ تتدخَّلُ في كلِّ شيءٍ، هَيَّا بِنَا إلى الشَّيْخِ عُثمانَ لَعَلَّنَا نَسمعُ منهُ مَا يُزِيلُ من صدْرِكَ مَا أَدْخَلتْهُ حليمةُ.

    أخبرَ يوسفُ الشيخَ بأمرِ الطبيبِ مُتَوَقِّعَا جَواباً سَريعاً شَافِياً، لِينطَلِقَ من الفَجْرِ مُصطَحِباً زوجتَهُ إلى المدينةِ نَظَرَ الشيخُ إلى أُخْتِهِ الَّتِي تَرْمُقُهُ بنظراتٍ وتحذيراتٍ تَنَحْنَحَ الشيخُ:

    - سأبْحَثُ في كُتُبِي هَذِهِ الليلةَ وأُخبرُكَ غداً بعدَ صلاةِ العصرِ إنْ شاءَ اللهُ.

    بعدَ خُروجِ يوسفَ وعمرَ قالتْ سكينةُ للشيخِ عثمانَ:

    - مَاذا سَتقُولُ لَهُمْ؟ اعْلَمْ أنَّكَ لَو سَمَحْتَ لَهُ بالذَّهابِ إلى الطَّبيبِ فإنَّ كلَّ نساءِ القريةِ سيذْهَبْنَ واحدةً تِلْوَ الأُخْرَى؛ بَعْدَ ذلكَ سَيَنْقَطِعُ رِزْقِي وأجلسُ أَنَا وأَبنائي في بيتِكَ لِتُنفِقَ علَيْنَا حَتَّى يكبُرَ الأولادُ، ستكونُ أنتَ المَسؤولُ عن العائلتينِ بعدَ ذلكَ، سَتَتَحَمَّلُ إِثْمَ كلِّ امرأةٍ في القريةِ تَنْكَشِفُ أمَامَ رجُلٍ غريبٍ.

    الشيخُ: يا أُخْتِي لَمْ...

    - قاطَعَتْهُ مَرَّةً أُخْرَى -: سيقولُ النَّاسُ أنَّ الشَّيْخَ سمحَ لنَا بذَلِكَ، وأَنَّ الشيخَ أفْتَى بذَلِكَ، وأَنَّ الشيخَ شَجَّعَ النِّسَاءَ علَى ذلكَ، ستَذْهبُ هَيْبَتُكَ بينَ النَّاسِ رُبَّمَا يذهبونَ إلى مشايخِ المدينةِ فَلا تَجِدُ أحَداً يَسْتَفْتِيكَ بعدَ ذلكَ، سَتُصبِحُ فقِيراً وَنُضْطَرُّ لِمَدِّ أَيدينَا للنَّاسِ.

    الشيخُ: كَفَى.. كَفَى يا حاجَّةُ سكينةُ، أَنَا لَمْ أَقُلْ شَيْئاً بعدُ، أَنْتِ تعلَمينَ جَيِّدًا أَنَّنِي أَستَشِيرُك بِخُصوصِ النِّسَاءِ قَبلَ أَنْ أَرُدَّ عَلَيهِنَّ غَداً سَأَقُولُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ.

    مَا زَالَ كَلامُ نعيمٍ يُدَوِّي في أُذُنِ يُوسُفَ علَى الرَّغْمِ منْ كُلِّ مَا سَمِعَهُ مِنْ حليمَةَ سَيُتَابِعُ هَذا الأَمَلَ مَهْمَا كَانَتْ الأسْبَابُ، هُوَ مُتَشَوِّقٌ لِلِقَاءِ الشيخِ غَدًا وَكُلُّهُ أَمَلٌ أَنَّ الشَّيخَ سَيُفتِي بالمُوافقةِ، وَيفتَحُ لهُ البَابَ علَى مِصْرَاعَيْهِ، سَيكونُ مُرتاحَ البَالِ والضَّميرِ، أسْلَمَ نفسَهُ تلكَ الليلةَ لأَحلامٍ راودَتْهُ ونتائجَ إيجَابِيَّةٍ سَرَّتْهُ, ولكنْ تَجرِي الرِّياحُ بِمَا لا تَشْتَهِي السُّفُنُ, أَفْتَاهُ الشيخُ بِعَكْسِ مَا تَمَنَّى؛ قطعَ بذَلِكَ آخرَ خَيْطٍ في شُعَاعِ ذَلِكَ الأملِ وَأَنْهَى ذلكَ الحُلْمَ بالحقيقةِ التي خَطَّطَتْ لهَا حليمةُ وسكينةُ.

    لَمْ يَيْأَسْ يوسفُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ, مَا زَالَ كَلامُ نعيمٍ يُرَاوِحُ مَكانَهُ في عَقْلِهِ وَوُجْدانِهِ، أَحَسَّ عمرُ بِمَا يَخْتَلِجُ بِهِ صدْرُ أخيهِ وصَديقِ عُمْرِهِ، كانَ دَائِماً يَحُثُّهُ على الذَّهابِ إلى الطَّبيبِ وعدمِ الاكتراثِ لمَا يقولُهُ الآخرُونَ وأَنَّ مصلحَتَهُ هي الأهمُّ وفوقَ كلِّ اعتبارٍ.

    لَمْ يَكُنْ يوسفُ بحاجةٍ لِمَنْ يُقْنِعُهُ بأمرِ الطَّبيبِ وإِنَّمَا لِمَنْ يُشَجِّعُهُ على ذلكَ، كانَ كلامُ عُمرَ حافِزًا قويًّا لَهُ, تحتَ جُنْحِ الظَّلامِ خرَجَ ثَلاثَتُهُم خِلْسَةً إلى أَنْ وصَلَ الوفدُ الحائرُ المدينةَ معَ شُروقِ الشَّمسِ التِي أطَلَّتْ لِتُنيرَ شَوَارِعَ المدينةِ فتَدبَّ الحياةُ فيها.

    انتظَرُوا نعيمًا في المكانِ الذِي تَعَوَّدَ أنْ يجْلِسَ فيهِ، دارَ حوارٌ مُتواصِلٌ بينَ يوسفَ وعمرَ حولَ مشروعيَّةِ القرارِ الذِي اتَّخَذَهُ, عِنْدَمَا وصلَ نعيمٌ فرِحَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَجَدَ آذَاناً صاغِيَةً، وَعَرَفَ مَا يَختَلِجُ في صدْرِ يوسفَ حولَ شرعِيَّةِ الموضوعِ، فاصْطَحَبَهُمْ إلى مُدِيريَّةِ الأوْقَافِ وأَخْبَرَ المُفْتِيَ بِمَخَاوِفِ يوسفَ وحالتِهِ الَّتِي يُعَانِي منهَا، تَهَلَّلَ وجْهُ يوسفَ بالفَرَحِ والسُّرُورِ الَّذِي أدخلَهُ المُفتِي على قَلْبِهِ بإجابَتِهِ الوافيةِ الشَّافِيَةِ، عَلِمَ أَنَّ الدِّيْنَ مَعَ العِلْمِ والطِّبِّ، ولا فَرْقَ بينَ المَرْأَةِ والرَّجُلِ عندَمَا يتعلَّقُ الأمرُ بالعِلَاجِ وَأَنَّهُ لا إِثْمَ  عليهِ في ذلكَ  لِعَدَمِ وجودِ طبيبةٍ مُختصَّةٍ, ذهبَ الجميعُ إلى الطبيبِ بكلِّ أَمَلٍ واطمِئنَانٍ.

    قامَ الطَّبيبُ بإِجْرَاءِ الفُحُوصَاتِ اللازِمَةِ، وأَخَذَ بعضَ العَيِّنَاتِ وحوَّلَهَا إلى المُخْتَبرِ أعطَاهُم مَوْعِداً للمُراجَعَةِ لِمَعرِفَةِ النتيجةِ، ثُمَّ خرجُوا جَميعاً من عندِ الطَّبيبِ مسرُورينَ شَكَرُوا صديقَهُم نعيمًا علَى مُساعدتِهم.

    مرَّتْ الأيَّامُ حتَّى مَوعدِ النتيجةِ التي سَتُحدِّدُ مُستقبلَ تلكَ العائلةِ بالاستِمرَارِ في الحياةِ أو الفناءِ عُمْرًا بأكملِهِ, عرَفَ يوسفُ أَنَّ الشيخَ عثمانَ أَفتَى بغيرِ علمٍ لِجهلِهِ في أمورِ الدِّينِ أوْ لأمرٍ في نفسِهِ، وأَنَّ وجودَ أُختِهِ سكينةَ تلكَ الليلةَ لَدَليلٌ على وجودِ مَصلَحَةٍ لَهَا.

    أخبرَهُ الطَّبيبُ أَنَّ زوجتَهُ سليمةٌ 100% لا يوجدُ عندَها أيُّ سببٍ يمنعُها من الإنجَابِ.

    صُعِقَ يوسفُ وعَلِمَ أَنَّ الحاجَّةَ سكينةَ صادِقَةٌ في كلامِهَا، وأَنَّ حليمةَ أخبرَتْهُ الحقيقةَ وتُريدُ مصلحَتَهُ بالفِعْلِ، لكِنَّهُ أَرَادَ التَّأَكُّدَ من الأمرِ فقالَ مُهتَاجاً:

    - لماذَا لَمْ تُنْجِبْ طِيلَةَ هذِهِ السِّنينَ؟

    أينَ المُشكلَةُ إذاً؟ مَا الحِكَايَةُ؟

    الطبيبُ: ما دامتْ الزوجةُ سليمةٌ فلا بُدَّ من وُجودِ سَبَبٍ لَدَيْكَ يمنعُ الحَملَ؛ لذلكَ لا بُدَّ من إِجرَاءِ بعضِ الفُحوصَاتِ لكَ.

    يوسفُ –غاضبًا-: ماذا تقولُ يا دكتورُ؟

    تكشفُ عليَّ! فُحوصَاتٍ لي! هلْ تَشُكُّ في رُجُولتِي؟ هلْ تَرَى أَنَّنِي امرأةٌ أمامَكَ؟

    الطبيبُ: يا حاجُّ يوسفَ، عَدَمُ الإنجابِ هو مَرَضٌ بحاجةٍ إلى عِلاجٍ، أنتَ تَمرَضُ تُصابُ بالرَّشْحِ والبَرْد،ِ يُؤلِمُكَ سِنُّكَ، كذلكَ عدمُ الإنجابِ مرضٌ لا تشعُرُ بِأَلَمِهِ إِلَّا أنَّهُ بحاجةٍ إلى علاجٍ، ولا دَخْلَ للرجولةِ في ذلكَ.

    خرجَ يوسفُ من العيادةِ مُحبَطاً وسَاقاهُ تُسابِقَانِ الرِّيحَ, كان مَذْعورًا يَتَرَنَّحُ كَأَنَّهُ مُصابٌ بالدُّوارِ، باغَتَهُ كلامُ الطَّبيبِ المُفاجِئِ والمُهينِ، ووقعَ عليهِ وقْعَ الصَّاعقَةِ، وهوَ يُتَمْتِمُ:

    - أنَا عَقِيمٌ... أنَا السَّبَبُ في ذلكَ! هذا جُنُونٌ... جُنُونٌ ـ.

    فتفَجَّرَ الغضبُ في باطِنِ عُمَرَ؛ وبدَا كالثَّمِلِ من شِدَّةِ حُزْنِهِ على يوسفَ، خَشِيَ عليهِ من الضَّيَاعِ, لَحِقَ بهِ مُحَاوِلاً تهدِئَتَهُ والتَّخفيفَ عنهُ قالَ:

    - الأمرُ لا يستحقُّ كلَّ هذَا الغضبِ، أَوْكِلْ أَمْرَكَ للهِ –سُبْحَانَهُ-.

    يوسفُ: أرْجُوكَ لا تَقُلْ شَيْئاً، عَانَيْتُ مَا فيهِ الكِفَايَةُ هذا اليومِ. كانَ شاحِبَ اللونِ مُسْوَدَّ الوجْهِ, يعلَمُ جيداً أَنَّ عُمرَ لنْ يُفْشِيَ لهُ سِرًّا أَبَداً لكنَّهُ بدأَ يشُكُّ في نفسِهِ، مَا زالَ عُمَرُ يحدِّثُهُ بكلامٍ لمْ يسمعْ منهُ حرْفاً، يحدِّثُ نفسَهُ يَستَعِدُّ للبَحثِ عن جوابٍ شافٍ لزوجتِهِ:

    - مَاذا لو عَرَفَ النَّاسُ بكلامِ الطَّبيبِ؟ مَاذا لو عَرَفَتْ حليمةُ بالأمرِ؟ مَاذا لو عرَفتْ زوجَتِي أَنَّنِي السَّبَبُ في عَدَمِ الإنْجَابِ؟ مَاذا سَيكُونُ موقِفُهَا مِنِّي؟ كَيْفَ تَنْظُرُ إليَّ بعدَ اليومِ! و...

    أخذَ يوسفُ يَحَمَدُ اللهَ على عدمِ كشفِ سِرِّهِ للآخَرينَ، وشكرَ -في نفسِهِ- الشيخَ عثمانَ والحاجةَ سكينةَ، وأَثْنَى على سليطةِ اللسَانِ زوجةِ أخيهِ حليمةِ الذينَ أَجمَعُوا على عَدَمِ ذَهَابِ مريمَ إلى الطَّبيبِ وإلَّا لَعرَفَ الجميعُ حكايَتَهُ، وأصبحتْ سُمعَتُهُ على كلِّ لسانٍ؛ وَلَكَانَ عليهِ الاعتكافُ في بيتِهِ بعيداً عن عيونِ النَّاسِ ونظراتِهِم السَّاخرَةِ.

    كانَ عليهِ أنْ يَكذِبَ على زوجَتِهِ لأَوَّلِ مَرَّةٍ في حياتِهِ، سَيُخفِي عنهَا الحقيقةَ بكذبةٍ -كَمَا يقولُ- بيضاءَ لأنَّهُ مُجبَرٌ عليها وللضرورَةِ أحكامٌ كَمَا يُقَالُ؛ ليبقَى في نَظَرِهَا كَمَا كانَ دائِماً, ولو عرَفتْ مريمُ الحقيقةَ لَمَا تغيَّر شيءٌ أَبَداً، ولَبَقِيَ يوسفُ عِنْدَها يوسفَ الذِي أَحَبَّتْهُ وأَخْلَصَتْ لَهُ.

    كانتْ مريمُ بدورِها مُجْهَشَةً بالبُكَاءِ وهي فريسةُ الأَلَمِ والحيرةِ الشديدةِ قلقةً على زوجِهَا الذِي رُبَّمَا ستُدمِّرُهُ كلماتُ الطّبيبِ إلى الأبدِ.

    كُلَّمَا خَلَا يوسفُ بنفسهِ كانَ يُتَمْتِمُ:

    - مِسكينةٌ يا زوجتِي العزيزةَ آهٍ لو تعلمينَ الحقيقةَ! آهٍ لو تعلمينَ أنَّنِي عَقيمٌ وأنتِ سليمةٌ! واللهِ إنَّكِ مظلومةٌ! نَعَم، لقدْ كذبْتُ عليكِ، لمَاذا أنَا أنَانِيٌّ؟ لمَاذا أحْبَبْتُ نفسِي وأَخفَيْتُ عنكِ الحقيقةَ؟ كيفَ لي أنْ أنظُرَ في عينيكِ الجميلتينِ بعدَ اليومِ وهي ترمِي بسِهامِهَا في سُويدَاءِ القَلبِ؟

    سامِحِينِي يا عَزيزَتِي... أرجوكِ سَامحِينِي... أنَا أتعذَّبُ.. أتأَلَّمُ، لكنْ يجبُ أنْ أبقَى كَمَا كنتُ دائِماً، يجبُ ألَّا تتغيرَ تلكَ المعَانِي الساميةُ التِي تَحمِلِينَهَا في قلبِكِ ووُجْدَانِكِ عَنِّي.

    رُبَّمَا كنْتُ غيرَ عادلٍ في حُكْمِي واتخاذِ القرارِ لكنْ تَذَكَّرِي... تَذَكَّرِي أَنَّنِي رفضْتُ كلَّ عُروضِ الزَّواجِ بالرَّغْمِ من كُلِّ الضُّغُوطِ وقبلَ معرفةِ الحقيقةِ المُرَّةِ؛ ومَا رفضتُ ذلكَ إلَّا حُبًّا فيكِ وإكرَاماً لكِ.

    منذُ تلكَ اللحظةِ التي سمعَ فيها حُكْمَ الطَّبيبِ قرَّرَ يوسفُ أنْ ينسَى ويتناسَى كلَّ ما يتَعَلَّقُ بالحَمْلِ والأولادِ، وعَلَيْهِ أنْ يَتَقَبَّلَ الأمرَ بالرَّغْمِ من مَرارةِ النتيجةِ، لكنْ مَا يُحزِنُهُ حقّاً ويُزيدُ في عذَابِهِ أنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ سَينتقِلُ إلى حَليمَةَ وأولادِها، وأَنَّ عليهِ أنْ يبقَى حَبِيساً في سِجْنِ الأوهامِ والأحْزَانِ حَتَّى نهايةِ رحلةِ العذابِ في هذهِ الحياةِ.

    مَرَّتْ الأيامُ والشُّهورُ والسِّنونُ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1