Professional Documents
Culture Documents
htm
(غرينتش) الخميس 29/3/1427هـ -الموافق 27/4/2006م (آخر تحديث) الساعة ( 15:25مكة المكرمة)12:25 ،
العلوم النسانية والطبيعة البشرية
"بسبب هزيمة العالم السلمي أصبحت محاولة "اللحاق بالغرب" هي جوهر معظم المشروعات النهضوية –الليبرالية والماركسية
واليمانية -في العالم الثالث ،بما في ذلك العالم السلمي ،علميا وفلسفيا"
وانصبت دراسات علم النفس التجريبي في الخمسينيات والستينيات على رصد سلوك النسان من الخارج ،تماما كما يُرصد
سلوك الطيور والنمل ،وأضحت المفاهيم موضوعا للضبط والقياس ومجال للتعريف الدقيق ،ومساحة تسعى العلوم النسانية من
خلل التماس الدقة فيها إلى اللحاق بالعلوم الطبيعية ،بحيث تصل إلى درجة من اليقين العلمي ل تختلف عن مثيلتها في العلوم
الطبيعية.
وقد هيمنت خلل هذه الفترة فكرة الموضوعية والتجاه نحو علم إنساني خال من القيم ،value-freeوهو ما جعل الهتمام
بدراسة القيم يتوارى.
وساد افتراض أن البحث العلمي يجب أن يتيح اختبار الظاهرة نفسها والوصول للنتائج نفسها إذا تم استخدام المنهج نفسه.
ومن الحقائق الساسية التي تجابه النسان في القرن العشرين أن النموذج الحضاري الغربي الحديث أصبح يشغل مكانا مركزيا
في فكر ووجدان معظم المفكرين والشعوب بسبب انتصاراته -أو إن شئنا الدقة فلنقل هيمنته -المعرفية والعسكرية
الواضحة في مجالت عديدة ،خاصة أنها ترجمت نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة المفرطة بالنفس من جانب النسان الغربي،
وإلى إيمانه بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصل إليه النسان ،وأن كل التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ
http://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/aspx/print.htm
(غرينتش) الخميس 29/3/1427هـ -الموافق 27/4/2006م (آخر تحديث) الساعة ( 15:25مكة المكرمة)12:25 ،
العلوم النسانية والطبيعة البشرية
الغربي الحديث ،وأن العلوم الغربية علوم عالمية ،وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان ،أو على القل يصلح
لكل زمان ومكان في العصر الحديث.
ولعله بسبب هزيمة العالم السلمي أصبحت محاولة "اللحاق بالغرب" هي جوهر معظم المشروعات النهضوية – الليبرالية
والماركسية واليمانية -في العالم الثالث بما في ذلك العالم السلمي ،علميا وفلسفيا.
والسمة الساسية لكل المشروعات الحضارية السابقة رغم تنوعها واختلفها وتصارعها هي أنها جعلت الغرب نقطة مرجعية
نهائية ومطلقة ،وأصبح الغرب بامتداده "الشمالي" هو هذا التشكيل الحضاري الذي سبقنا والذي علينا (نحن أهل الجنوب
اللتيني الفريقي العربي السيوي) اللحاق به أو الذي سبقناه حسب الرؤية "اليمانية" التلفيقية ،وعلينا أيضا اللحاق به.
فثمة نقطة واحدة تحاول كل المجتمعات الوصول إليها ،وثمة طريقة واحدة لدارة المجتمعات ولتحديد تطلعات البشر وأحلمهم
وسلوكهم ،أي أن ثمة رؤية واحدة عالمية للنسان والكون ،ل فرق بين من يقبل جوهرها وإن غالى في الفصل بين الجنسين
وسعى لسلمة العلم الغربي (ل تحديه برؤى بديلة ندية) ،أو من تبنى جوهر الرؤية الغربية وأطلق العنان للشره الجسدي باسم
الحرية الفردية.
ومن ثم تحول الغرب من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى البقعة التي يخرج منها الفكر "العالمي"
الحديث.
وقد أضفى هذا شرعية هائلة على عملية اللحاق بأوروبا ،إذ أصبح العلم الغربي الذي يسعى المثقفون العرب والمسلمون إلى
تحصيله علما عالميا حديثا ،وأصبح الرضوخ الفكري للغرب والتبعية الفكرية له من سمات التقدمية والتحرر والطريق الوحيد
إلى النتماء للعصر الحديث والعالمية.
ونتيجة لهذا الوضع تحيز معظم مثقفي العالم العربي والسلمي والعالم الثالث للتراث الغربي وأهملوا تراثهم ،بل وأهملوا
التراث العالمي ذاته.
فمَن مِنا يهتم حقا باليابان والصين؟ ومَن مِنا يدرس السواحيلية لغة معظم سكان أفريقيا الشرقية ،واللغة التي تربطها صلة
قرابة بالعروبة والسلم؟ أو من يفكر في تنمية بديلة تتفاعل مع رؤى تمكين المجتمع والحفاظ على السرة ورفض ماكينة
الخدمات؟
تغافل الجميع لتحصيل ما يسمّى الثقافة العالمية دون أي تساؤل بخصوص المفاهيم الدراكية الكامنة فيه أو بخصوص جذوره
التاريخية أو الليات الجتماعية التي أدت إلى ظهورها.
وأصبحت مهمة الباحث هي تلقي المعلومات التي يُقال لها عالمية ،والتي هي في واقع المر غربية ،ثم إعادة إنتاجها على هيئة
دراسات وكتب جيدة الهوامش (وجيدة في تهميشنا أيضا) تظل حبيسة المفاهيم الغربية وتساهم في تطوير المعارف والعلوم
الغربية ،وفي فصل الباحث عن مجتمعه وعن معجمه الحضاري.
فيصبح "العالَِم" البارز المستنير أقدر على مخاطبة مؤتمرات الغربيين ودوائر العولمة منه على التواصل مع جاره أو مع رجل
الشارع العادي.
http://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/aspx/print.htm
(غرينتش) الخميس 29/3/1427هـ -الموافق 27/4/2006م (آخر تحديث) الساعة ( 15:25مكة المكرمة)12:25 ،
العلوم النسانية والطبيعة البشرية
ولكن تشهد العلوم الجتماعية والنسانية في الغرب ودوائر الدراسات الفلسفية مراجعات نقدية ونقاشات عميقة تراجع
الكثير من المسلمات التي قام عليها العلم الحديث ،أو إن شئنا الدقة فلنقل "الحداثي" ،فقد شكلت رؤى الحداثة ومنطلقاتها
الفلسفية "العقل العلمي الغربي".
"العلوم واليديولوجيات شهدت مراجعات للنموذج الدراكي أو المعرفي الحاكم نحو مزيد من الجتهاد لرؤى تتجاوز
الحداثة بل وتتجاوز مدرسة "ما بعد الحداثة" ذاتها ول تتقيد بفكرتها النسبية ومنحاها التقويضي العدمي"
فثمة نقد ونقض للكثير من منطلقات العلوم التي تدرس الظاهرة النسانية ،لم يقتصر على الدوائر الكاديمية فحسب ،بل
شهدت النساق اليدلوجية ذاتها مراجعات ،فقامت مدارس ليبرالية بمراجعة فكرة الفردية نحو مزيد من الحتفاء بالجماعة،
وبرزت مدرسة فرانكفورت التي أرادت استعادة مركزية النسان في النسق اليديولوجي الماركسي من أجل "أنسنته".
وهكذا فإن العلوم واليدلوجيات شهدت مراجعات للنموذج الدراكي أو المعرفي الحاكم نحو مزيد من الجتهاد لرؤى
تتجاوز الحداثة بل وتتجاوز مدرسة "ما بعد الحداثة" ذاتها ول تتقيد بفكرتها النسبية ومنحاها التقويضي العدمي.
إن الجتهاد يعني ببساطة حرية العقل وأن كل ما هو إنساني له بُعد ثقافي وحضاري ،وتعبير عن نموذج حاكم ليس من
المفيد إخفاء مسلماته والتعمية عليها ،بل الهم كشفها ومناقشتها وتقويم السهام العلمي والفكري بناء على اتساقه معها.
وقد شهدت نهاية الثمانينيات عودة إلى الهتمام بالقيم وبالمنظومات الثقافية والمعرفية وعلقتها بمناهج العلوم بشكل مباشر،
كموضوع وكإطار يمكن أن يتم دمجه في مناهج القتراب والبحث وزوايا التحليل وذلك بسبب عدة تطورات ،من أهمها ما
يلي.
-1استرجاع مفهوم الطبيعة البشرية ومن ثم مفاهيم القيمة والهدف والغاية ،لن حركة المادة حركة عمياء صماء ل تعرف
القيمة ول الهدف ول الغاية.
وقد تنامى الدراك بأن القيم تؤثر في إدراك الواقع وأن تجاهلها يحرم النظرية من أدوات هامة للفهم والتفسير.
كما تزايد الوعي بأن القيم ليست مبحثا منفصل أو محض موضوع مستقل ،بل هي تدخل في دراسة كل الظواهر النسانية ،بل
وتحدد القيم المدنية الساسية من عدل ومساواة وشفافية وكفاءة وديمقراطية للقرار السياسي.
وربما لهذا السبب نجد أن الوليات المتحدة على سبيل المثال تجد نفسها في الوقت الحاضر مضطرة إلى ادعاء أنها تغزو
العراق من أجل نشر الحرية والديمقراطية ،وتضرب المدنيين بالقنابل النووية وغير النووية دفاعا عن النسان.
-2تنامي النقد للفكر العقلني الجامد ولفلسفة الحداثة التي قامت على العقلنية المادية ،وظهور أصوات تطالب بإعادة
تعريف العقلنية من جديد كي ل تكون متناقضة مع العقل أو العقيدة أو حتى المجاز في اللغة.
وتنامى الدراك بأن هناك أساطير داخل صناعة العلم ذاته ،أي أنه تم نقد العقلنية المادية الصلبة لصالح عقلنية مركبة
أكثر رحابة تتيح مكانا للقيم والذات والبعاد الثقافية في التحليل بما يثري النظرية والمنهج.
http://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/aspx/print.htm
(غرينتش) الخميس 29/3/1427هـ -الموافق 27/4/2006م (آخر تحديث) الساعة ( 15:25مكة المكرمة)12:25 ،
العلوم النسانية والطبيعة البشرية
-3تنامي الوعي بأن منظومة الحداثة والتنوير الفكرية التي قامت على مركزية النسان وإخضاع الكون لعقله وتنحية القيم
لصالح القوة والسلطة وإخضاع الطبيعة قد أدت إلى مشكلت التسلح النووي المدمر ،والعبث بالطبيعة النسانية من خلل
الهندسة الوراثية وتدمير البيئة ،وإدراك أن العلم وحده دون منظومة قيم حاكمة لمساره قد يدمر النسان ذاته ،وتنامي
الجدل داخل العلوم الطبيعية والطبية بشأن الحدود الخلقية الواجب اللتزام بها.
-4تنامي المد الديني في كل التقاليد الدينية في الديان الثلثة الكبرى فضل عن الديان الوضعية كالبوذية والهندوسية،
بل وظهور أديان وضعية وروحانية جديدة ،بما يعكس أن العقلنية وحدها ل تفي باحتياجات النسان النفسية والروحية.
وهذا ما جعل العديد من الباحثين يعيد النظر في الدين كمصدر للمعرفة العلمية ومنبع للمفاهيم النظرية ،فظهرت فكرة
إسلمية المعرفة ومسيحية المعرفة بل ويهودية المعرفة ،والربط بين التصور الديني وتصور البحث والفهم في النظرية
الجتماعية ،أو على القل إعادة العتبار للدين كموضوع للبحث يدخل في التحليل السياسي.
فل يمكن فهم سياسات البلقان في التسعينيات ،أو المواجهات العرقية أو السياسة الخارجية الميركية اليوم في ظل المحافظين
الجدد وتحالفهم مع اليمين الديني وبعض الكنائس المسيحية التي تؤيد الصهيونية إل بفهم الدين والوعي بأهميته كعامل ذي
أثر هام ،بل وحاسم أحيانا.
"تنامى الحساس لدى الكثيرين بأن هُوية المة سواء كانت قومية أو دينية مهددة بسبب تبنيها لنماذج ورؤى الخر دون
إدراك عميق أحيانا للتضمينات المعرفية لهذه النماذج"
فإذا كانت فكرة فصل الدين عن العلم وخلق علوم محايدة خالية من القيم قد جاءت في ظل توجه علماني في الفلسفة والعلم
في القرن السابع عشر وما تله ،فإن إخفاق الحداثة في تحقق توقعاتها بزوال الدين ومنظوماته العقدية والخلقية قد أدى
إلى مراجعة الفكرة ومراجعة نتائجها وتجلياتها على العلوم الجتماعية وإعادة العتبار إلى القيم والدين كمصدر للمعرفة
وموضوع للبحث.
والحق أن هم المراجعة لم يكن غربيا فقط ،فعلى أرضية عربية قومية برزت محاولت فردية لصياغة رؤى مختلفة مثل جهود
جمال حمدان وإسماعيل راجي الفاروقي وأنور عبد الملك ومالك بن نبي في الدراسات الحضارية الستراتيجية ،بل وناقش
بعض علماء الجتماع العرب إمكانية تأسيس علم اجتماع عربي وصلته بالعلم الغربي.
وفي العلوم والفنون والعمارة برزت إبداعات تعيد معانقة التاريخ وتطوره لخدمة البيئة والنسان.
وكانت الستينيات والسبعينيات والثمانينيات تحمل إرهاصات قلق فكري ووجودي في العلوم الجتماعية العربية ،وهي الفترة
التي شهدت ظهور الفكر القومي العربي الذي أكد أهمية الهوية والموروث الحضاري والخصوصية الحضارية وضرورة
الحفاظ عليها.
وبعد ذلك ظهرت فكرة أسلمة المعرفة التي تحاول استعادة مفهوم الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية للعلوم النسانية وربط
هذه العلوم بمنظومة القيم النسانية السلمية.
http://www.aljazeera.net/KnowledgeGate/aspx/print.htm
(غرينتش) الخميس 29/3/1427هـ -الموافق 27/4/2006م (آخر تحديث) الساعة ( 15:25مكة المكرمة)12:25 ،
العلوم النسانية والطبيعة البشرية
باختصار شديد تنامى الحساس لدى الكثيرين بأن هُوية المة -سواء كانت قومية أو دينية -مهددة بسبب تبنيها لنماذج
ورؤى الخر دون إدراك عميق أحيانا للتضمينات المعرفية لهذه النماذج .وال أعلم.
__________________
كاتب مصري