You are on page 1of 21

‫تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة‬

‫(اضغط هنا للنتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على النترنت)‬

‫الكتاب ‪ :‬البعد الحضاري للعقيدة الباضية‬

‫المؤلف ‪:‬الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري‬


‫تنسيق ‪:‬هلل بن مصبح الكلباني‬
‫‪hilalmusabah@gmail.com‬‬

‫أما القاضي عبد الجبار ‪:‬تنزيه القرآن‪ 446 :‬و البيضاوي‪ :‬أنوار التنزيل‪. 2/293:‬وأبو السعود‪:‬‬
‫‪ 4/816‬امحمد اطفيش‪ :‬تيسير التفسير‪ 6/467 :‬ومغنية ‪ :‬التفسير الكاشف‪ .7/501 :‬فقد صرحوا‬
‫بالتأبيد‪ .‬وكذلك ابن عاشور ذهب الى نفس الرأي إل أنه يتميز باستثناء المسلمين المستخفين‬
‫بحقوق ال ‪ ،‬أو المعتدين على الناس بغير حق‪ ،‬واحتقارا ل لمجرد غلبة الشهوة فهؤلء لهم حظ‬
‫من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الوعيد"‪ .‬التحرير والتنوير‪ . 30/30 :‬ويصرح امحمد‬
‫اطفيش بخلود الفساق من أهل القبلة ر‪ .‬تيسير التفسير ط ‪.6/467 :1‬‬
‫(‪ )123‬ابن عباس‪ :‬تنوير المقباس‪499 :‬‬
‫(‪ )124‬ر‪ .‬الزمخشري‪ :‬الكشاف‪ 4/209:‬وقد جاءت هذه المعاني بتحليل متفاوت قصرا وطول‬
‫عند كل من الرازي‪ 31/14 :‬والبيضاوي‪ .2/293 :‬القاضي عبد الجبار ‪:‬تنزيه القرآن‪446 :‬‬
‫وأبي السعود ‪ .4/816‬امحمد اطفيش‪ :‬تيسير التفسير‪ 6/467 :‬وابن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير‪:‬‬
‫‪.30/36‬‬
‫(‪ )125‬وقد رد اليجي على القائلين بهذا القول ردودا قائمة على التحليل المنطقي ر‪ .‬المواقف‪:‬‬
‫‪448 -447 /2‬‬
‫(‪ )126‬ر‪ .‬الرازي ‪ :‬التفسير الكبير‪65 -18/63 :‬‬
‫(‪ )127‬لقد أورد عدة أقوال في شأن سني الحقاب‪ .‬والحديث لم يرد عند ونسنك ‪ :‬المعجم‬
‫المفهرس‪1/487 :‬‬
‫(‪ )128‬أبو مهدي عيسى بن إسماعيل الرد على البهلولي‪151 -150:‬‬
‫(‪ )129‬عبد ال السالمي‪ :‬المشارق‪301 :‬‬
‫(‪ )130‬أبو مهدي عيسى بن إسماعيل الرد على البهلولي‪.148 :‬ر‪ .‬جميل بن خميس السعدي‪:‬‬
‫قاموس الشريعة نقل عن شرح النونية للجيطالي‪6/15 .‬‬
‫(‪ )131‬يعني البرادي‬
‫(‪ )132‬أبو مهدي عيسى بن إسماعيل الرد على البهلولي‪ .149:‬والوجه الثاني انظر ما سبق عن‬
‫المشيئة والستثناء ‪ 735‬ر‪ .‬عبد ال السالمي‪ :‬المشارق‪303 :‬‬
‫(‪ )133‬ر‪ . .‬البخاري‪ :‬رقاق ‪ .51‬مسلم‪ :‬إيمان ‪ 363‬لترمذي جهنم ‪ .120‬أحمد بن حنبل ‪274 /4‬‬
‫ر‪ .‬ونسنك ‪ :‬المعجم المفهرس‪ .2/85:‬والنص لعبد ال السالمي‪ :‬المشارق‪. 305 :‬ر‪ .‬خميس بن‬
‫سعيد الرستاقي ‪ :‬المنهج‪1/524 :‬‬
‫‪---‬‬

‫( ‪)2/218‬‬

‫تابع الفصل الثاني‪ :‬الوعد والوعيد وقضية الخلود‬


‫‪ -‬الدلة من الحديث الشريف‪:‬‬
‫لقد ذكرنا عند الحديث عن الوعد والوعيد الحاديث التي استدل بها الباضية لثبات شمولة‬
‫للعصاة من المسلمين وأنه نافذ فيهم ل محالة ول تخرج الحاديث الواردة في باب الخلود عن هذا‬
‫السياق‪.‬‬
‫‪ -‬فمنها ما صرح بالخلود مع التأييد مثل قوله صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬من قتل نفسه بحديدة فهو‬
‫يتوجأ في النار خالدا مخلدا ومن تحسى سما فهو يتحساه في نار جهنم خالدا أبدا" (‪. )2‬‬
‫‪ -‬ومنها ما صرح بالخلود دون ذكر التأييد مثل قوله‪ ":‬من قتل بعد العفو وأخذ الدية فهو خالد‬
‫مخلد في النار" (‪. )3‬‬
‫وقوله " من كذب وأصر فهو مخلد في النار" (‪. )4‬‬
‫‪ -‬ومنها ما عبر عن الخلود في النار بطريقة غير مباشرة‪:‬‬
‫• مثل تحريم الجنة على طائفة من العصاة المصرين في قوله عليه السلم‪ " :‬الجنة حرام على من‬
‫قتل ذميا أو ظلمه أو حمله مال يطيق وأنا حجيج الذمي فكيف المؤمن" (‪ . )5‬وقوله‪ " :‬ل يدخل‬
‫الجنة لحم نبت من سحت‪ ،‬والنار أولى به" (‪ . )6‬وقوله‪ " :‬من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم ال‬
‫عليه الجنة وأوجب له النار‪ .‬فقال رجل‪ :‬وإن كان شيئا يسيرا يا رسول ال فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬إن كان قضيبا من أراك" (‪. )7‬‬
‫• ومثل اليأس من رحمة ال في قوله عليه السلم‪ " :‬من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر‬
‫كلمة لقي ال يوم القيامة آيسا من رحمته" (‪. )8‬‬
‫‪ -‬ومنها ما عنف فيه القائلين بالخروج من النار‪ ،‬كما في قوله صلى ال عليه وسلم ‪ ":‬لكل أمة‬
‫يهود ‪ ،‬ويهود أمتي المرجئة‪ ،‬وهم أشبه باليهود في قولهم ( لن تمسنا النار إل أياما معدودة) ‪)9( .‬‬
‫الباضية والمعتزلة يعتمدون هذه الحاديث على أساس أنها من عمومات الخبار وأن صيغة " من‬
‫فيها جاءت في معرض الشرط تفيد العموم ول تخرج المصرين من عصاة المسلمين‪.‬‬
‫( ‪)2/219‬‬

‫وبعد أن أورد الرازي جميع اليات والحاديث التي استشهد بها المعتزلة في هذا السياق يرد‬
‫عليها بعدة أدلة نذكر منها‪ ":‬إنا ل نسلم أن صيغة " من" في معرض الشرط للعموم‪ ...‬والذي يدل‬
‫عليه أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬انه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض على‪ " ...‬من" كل من دخل داري أكرمته‪ ،‬وبعض‬
‫من دخل داري أكرمته‪ ...‬ولو كانت لفظة " من" تفيد الستغراق لكان إدخال لفظ الكل عليها‬
‫تكريرا أو إدخال لفظ البعض عليها نقضا" (‪. )10‬‬
‫وبعد أن يذكر أدلة أخرى يقول ما معناه إن تقديم عمومات الوعد أولى من ترجيح عمومات‬
‫الوعيد لن الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد (‪. )11‬‬
‫ومهما حاول الرازي أن يلتمس من مخارج تبقى هذه الحاديث صريحة مرجحة جانب الخلود‬
‫خاصة وأنها تذكر معاصي بعينها هي معتبرة من الكبائر بإجماع المة السلمية ول حاجة لتوعد‬
‫المشرك وهو داخل النار بشركه ل محالة خالد مخلد فيها‪.‬‬
‫ول ينبغي أن نغفل عن حديث يعتمده الشعري اعتمادا كليا في البانة ليرد على المعتزلة في‬
‫قولهم بالخلود وهو " ونقول‪ :‬عن ال عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة‬
‫محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وذلك‪ -‬لما جاءت به الرواية عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أن ال عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا فيها وصاروا حمما" (‪. )12‬‬
‫ويقف القاضي عبد الجبار من هذا الحديث موقفين‪:‬‬
‫أما أولهما‪ :‬فيتمثل في اعتباره من الحاد التي ل يمكن الستدلل بها في العقائد (‪. )13‬‬

‫( ‪)2/220‬‬

‫وأما ثانيهما فيتمثل في تأويله كما يلي‪ ":‬فأما ما يروى عنه صلى ال عليه وسلم " يخرج أقوام من‬
‫النار بعد أن امتحشوا وصاروا فحما وحمما" فإن صح فالمراد به يخرجون من الدنيا من استحقاق‬
‫العقاب بعد تحققه فيهم‪ ،‬كما روى عنه عليه السلم للمؤذن وقد أتى بالشهادة قال‪ " :‬خرج من‬
‫النار" يعني من حكم أهل النار وكقوله‪ " :‬يتهافتون في النار تهافت الجرادة وهاأنا أخذ بحجزكم " (‬
‫‪ )14‬من حيث يهديكم ويمنعهم من المعاصي‪.‬‬
‫وقد قيل في جوابهم‪ ":‬إن المراد به التعبيد والمنع من خروجهم من النار حيث شرط أن يكونوا‬
‫فحما وما هذه حالة ل يقع فهو كقوله‪ ( :‬ل يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) (‪7‬‬
‫العراف ‪." )15( )40‬‬
‫ويورد صاحب قاموس الشريعة عن الجيطالي ما يلي‪ ":‬وأما الحاديث التي ذكروها فهي مخالفة‬
‫لكتاب ال عز وجل مردودة لن ال تبارك وتعالى قال‪ ( :‬وما ينطق عن الهوى إن هو إل وحي‬
‫يوحى) (‪ 53‬النجم ‪ )3‬وجاء عنه عليه السلم أنه قال‪ " :‬وكيف أقول بخلف القرآن وبه هداني‬
‫ربي" (‪. )16‬‬
‫ومما يؤازر هذه الحاديث ما ترويه المصادر الباضية عن الحسن عن كعب قال‪ ":‬وقف عمر بن‬
‫الخطاب رضي ال عنه على كدية من رمل‪ ،‬فجلس إليها فبكى حتى بل لحيته فقلت‪ ":‬يا أمير‬
‫المؤمنين ما يبكيك؟" قال‪ ":‬ذكرت أهل النار‪ .‬فقلت‪ :‬لو جعل عدد كل حبة من هذا الرمل سنة‬
‫يعذبون على حسابها ثم يخرجون من النار لطمعوا بالخروج يوما من الدهر ولكن لم يجعل ال لهم‬
‫وقتا وما هم بخارجين منها أبدا" (‪. )17‬‬
‫الحتجاج العقلي‪:‬‬
‫إن قضية الخلود أو عدمه ليست مما يخضع للعقل المجرد وإنما هي المسائل السمعية لكن لم تخل‬
‫من بعض الحجج العقلية المنطلقة من النظر في الثواب والعقاب‪.‬‬
‫وذد نقل كل من أبي مهدي وخميس بن جميل السعدي عن كتاب الموجز نصا تفنن فيه صاحبه‬
‫في الرد على من يقول بعدم الخلود قد اعتمدناه في ما سبق عند ذكر حجج القائلين بالوعيد ل‬
‫نرى فائدة في إعادة ذكره (‪. )18‬‬

‫( ‪)2/221‬‬

‫وبعد أن أوردنا أهم الحجج النقلية والعقلية يحسن قبل أن نصل إلى إبراز البعد الحضاري أن‬
‫نذكر ببعض المواقف التي وردت عند منكري الخلود لهل الكبائر وقد بدت في منتهى الغرابة‪.‬‬
‫===========================‬
‫(‪ )2‬أبو مهدي عيسى بن إسماعيل الرد على البهلولي‪.145 :‬ر‪ .‬جميل بن خميس السعدي‪ :‬قاموس‬
‫الشريعة‪ 6/13 :‬وقد أورد قسما من هذا الحديث القاضي عبد الجبار كما يلي‪ ":‬من قتل نفسه ‪،‬‬
‫فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" فضل العتزال‪210 :‬‬
‫وقد أورد الرازي هذا الحديث أثناء عرض حجج المعتزلة من الحديث في شأن الخلود مع تغيير‬
‫طفيف في العبارة وع السكوت عمن يحتسي السم ‪.‬ر‪ .‬التفسير الكبير‪ .3/150 :‬وعن تخريج‬
‫الحديث انظر ما سبق‪.623 :‬‬
‫(‪ )3‬الربيع بن حبيب ‪ :‬الجامع الصحيح ‪ 3/4 :‬عدد ‪ .761‬واستدل به أبو مهدي عيسى بن‬
‫إسماعيل الرد على البهلولي‪.145 :‬ر‪ .‬جميل بن خميس السعدي‪ :‬قاموس الشريعة‪6/1 :‬ولم يرد‬
‫هذا الحديث عند ونسنك‪.‬‬
‫(‪ )4‬ر‪ .‬جميل بن خميس السعدي‪ :‬قاموس الشريعة‪ . 6/13 :‬انظر ما سبق ‪575‬‬
‫(‪ )5‬الربيع بن حبيب ‪ :‬الجامع الصحيح ‪ 3/3 :‬عدد ‪ 754‬ولم يرد بصفة صريحة عند ونسنك‪.‬‬
‫(‪ )6‬الربيع بن حبيب ‪ :‬الجامع الصحيح ‪ 3/3 :‬عدد ‪ 754‬ر‪ .‬أحمد بن حنبل ‪.399 -3/321‬‬
‫وصيغته‪ ":‬ل يدخل الجنة من نبت لحمه من سحت" ر‪ .‬ونسنك ‪ :‬المعجم المفهرس‪6/339:‬‬
‫(‪ )7‬ر‪ .‬البخاري‪ :‬توحيد ‪ .24‬مسلم‪ :‬إيمان ‪ 218‬الترمذي تفسير سورة آل عمران ‪ 21‬النسائي ‪:‬‬
‫قضاة ‪ -30‬الدارمي بيوع ‪ -62‬الموطا أقضية ‪ .11‬أحمد بن حنبل ‪. 1/189‬ر‪ .‬ونسنك ‪ :‬المعجم‬
‫المفهرس‪5/430 :‬‬
‫(‪ )8‬الربيع بن حبيب ‪ :‬الجامع الصحيح ‪ 3/3 :‬عدد ‪756‬‬
‫(‪ )9‬الحديثان لم يردا عند ونسنك‬
‫(‪ )10‬ما ذكر في الوجود الخرى يتعلق بنصوص قرآنية خاصة ومؤداه الخصوص والعموم ‪.‬‬
‫والرازي يرجح جانب الخصوص ليربط الخلود بالمشركين‪.‬‬
‫(‪ )11‬ر‪ .‬الرازي التفسير الكبير‪3/153 :‬‬
‫(‪ )12‬أبو الحسن الشعري‪ :‬البانة ‪ ، 24 -14 :‬انظر ما سبق‪668 :‬‬

‫( ‪)2/222‬‬

‫(‪ )13‬ر‪ .‬القاضي عبد الجبار ‪ :‬الصول الخمسة ‪.672 :‬‬


‫(‪ )14‬ر‪ .‬البخاري‪ :‬رقاق ‪ 26‬مسلم فضائل ‪ 17.18‬الترمذي أدب ‪ 82‬أحمد بن حنبل ‪...1/390‬ر‪.‬‬
‫ونسنك ‪ :‬المعجم المفهرس‪ 1/427 :‬الحجر‪ :‬من حجز يحجز فلنا عن المر حجزا‪ :‬كفه ومنعه‪،‬‬
‫ويقال اخذ بحجزته أي التجا إليه واستعان به‪( .‬المعجم الوسيط)‬
‫(‪ )15‬القاضي عبد الجبار ‪ :‬فضل العتزال‪211 -210 :‬‬
‫(‪ )16‬جميل بن خميس السعدي‪ :‬قاموس الشريعة‪ 6/15 :‬والحديث لم يرد عند ونسنك‬
‫(‪ )17‬أبو مهدي عيسى بن إسماعيل الرد على البهلولي‪.145 :‬ر‪ .‬جميل بن خميس السعدي‪:‬‬
‫قاموس الشريعة‪6/13 :‬‬
‫(‪ )18‬ر‪ .‬أبو عمار عبد الكافي‪ :‬الموجز‪ 111، 2/108 :‬أبو مهدي عيسى بن إسماعيل الرد على‬
‫البهلولي‪ .147 -146 :‬جميل بن خميس السعدي‪ :‬قاموس الشريعة‪ .14 -6/13 :‬انظر ما سبق ‪:‬‬
‫‪628‬‬
‫‪---‬‬

‫( ‪)2/223‬‬
‫تابع الفصل الثاني‪ :‬الوعد والوعيد وقضية الخلود‬
‫تنبيه‪:‬‬
‫ومما يستنكف الباضية عن قبوله مواقف يحتج بها القائلون بخروج العصاة تبدو غريبة كل‬
‫الغرابة‪ ،‬ومن ذلك ما جاء عند شارح جوهرة التوحيد‪ ":‬وقوله‪ :‬للسعيد والشقي" أي فالجنة دار‬
‫خلود للسعيد وهو من مات على السلم وإن تقدم منه كفر‪ ،‬ودخل في السعيد عصاة المؤمنين‬
‫فدار خلودهم الجنة فل يخلدون في النار إن دخلوها بل ل يدوم عذابهم فيها مدة بقائهم لنهم‬
‫يموتون بعد الدخول بلحظة ما يعلم إل ال مقدارها فل يحيون حتى يخرجوا منها‪ ،‬والمراد بموتهم‬
‫أنهم يفقدون إحساس ألم العذاب ل أنهم يموتون موتا حقيقيا بخروج الروح‪ ،‬وبعضهم اختار أنهم‬
‫يموتون حقيقة" (‪. )19‬‬
‫ومن الردود الواردة على هذا الكلم وما شابهه ما جاء في شرح النونية‪ ...":‬وقال آخرون إنهم‬
‫(أمة محمد صلى ال عليه وسلم ) يعذبون فيها (النار) على قدر أعمالهم السيئة ثم يخرجون منها‬
‫بشفاعته صلى ال عليه وسلم فينجز ال ما وعده لهم من الثواب وتبقى في وجوههم سمة سوداء‬
‫من أثر النار يعرفهم بها أهل الجنة الذي لم يدخلوا النار أصل ويسمونهم الجهنميين (‪ ، )20‬وإنهم‬
‫يشكون إليه تعالى فيبعث إليهم جبريل عليه السلم ويمسح تلك العلمة من وجوههم ويخلق في‬
‫مكانها نورا يتلل حتى إن أهل الجنة يتمنون أن لو أدخلوا النار وفعل بهم ما فعل بأولئك‪ ،‬وهذا‬
‫ل يقبله إل من قاله؟‪ ،‬وقد افتروا على الرسول صلى ال عليه وسلم في ما رواه عنه من ذلك‪.‬‬
‫وقال بعض المرجئة إن أهل الجنة يتنعمون فيها وأهل النار يتنعمون فيها كما أن دود النخل يتنعم‬
‫فيه‪ ،‬ودود العسل يتنعم فيه" (‪. )21‬‬
‫إن مثل هذه المواقف من العذاب النعيم ل يقبله الشرع ول يستسيغه العقل وإل فكيف يتمنى أهل‬
‫الجنة لو ذاقوا النار ليشع عليهم نور الجهنميين‪.‬‬

‫( ‪)2/224‬‬

‫إن مثل هذا يعتبر ضربا من الستخفاف بالدين ودفعا للناس الى إشباع الشهوات بالمحرمات وهذا‬
‫ما سنحاول تحليله في البعد الحضاري للقضية‪.‬‬
‫بعد حرصنا على استيفاء حجج الباضية في هذه القضية مع مقارنتها بحجج غيرهم من الفرق‬
‫القائلة بخلف الوعيد وبالخروج من النار نرى من الضروري‪ -‬كما لمحنا الى ذلك مرات أثناء‬
‫التحليل‪ -‬أن نبين البعد الحضاري لهذه المواقف في الوساط الباضية في المستوى النظري‬
‫والمستوى العملي‪.‬‬
‫المستوى النظري‪:‬‬
‫أما في المستوى النظري فقد بينا أثناء عرض حججهم أنهم يلحون على عظمة ال تعالى‪ ،‬وأنه‬
‫ليس كمثله شيء‪ ،‬وبالتالي فثوابه ليس يشبهه ثواب وكذلك عقابه ل يشابهه عقاب‪ ،‬وفي ذلك يقول‬
‫صاحب المنهج ما يلي‪ " :‬والحكمة من خلود أهل النار أن العاصي إذا عصى ال فقد عصى ربا‬
‫عظيما ل نهاية لعظمته‪ ،‬فكذلك عذابه خلود ل نهاية له‪ ،‬ولن ثواب ال ل يشبهه ثواب‪ ،‬ول‬
‫ينقطع ‪ ،‬ول يزول‪ ،‬وعقاب ال ل يشبهه عقاب ول يزول ول ينقطع فلو كان لثوابه وعقابه نهاية‬
‫وحدا ينتهي إليه ثم ينقطع لشبهه ثواب المخلوقين وعقابهم" (‪. )22‬‬
‫كما وقع اللحاح على أن القول بخلف الوعيد ينتج عنه فقدان الوامر والنواهي قيمتها في‬
‫النصوص الشرعية ذلك لن من يعتقد إمكانية الخلص في النهاية فل سبيل الى أن يرتدع أمام‬
‫الزواجر وتصير النواهي عنده غير مختلفة عن الوامر‪.‬‬
‫المستوى العلمي‪:‬‬
‫إن القائلين بإخلف الوعيد وبعدم الخلود يمكن أن يتلخص تبرير موقفهم في قول يحيى بن معاذ‬
‫الرازي (‪ ": )23‬إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة‪ ،‬فتوحيد خمسين سنة كيف ل‬
‫يهدم معصية ساعة‪ .‬إلهي لما كان الكفر ل ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن‬
‫اليمان ل يضر معه شيء من المعاصي وإل فالكفر أعظم من اليمان‪ .‬فإن يكن كذلك فل أقل من‬
‫رجاء العفو" (‪. )24‬‬

‫( ‪)2/225‬‬

‫فواضح أن يحيى بن معاذ انطلق من معادلة بين طرفين متناقضين دون أن ينبه إلى الفارق‬
‫الساسي بين هذين الطرفين ويتمثل في الول الذي جاء تائبا بحق وقد عاجلته المنية‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫السلم يجب ما قبله بينما الطرف الثاني فإنه قد انحرف عن التوحيد واستمرأ المعصية‪ ،‬ولم‬
‫يبادر الى التوبة حال عصيانه وقد عاجلته المنية وهو بعيد عن اليمان إذ ل يزني الزاني حين‬
‫يزني وهو مؤمن‪.‬‬
‫فتبرير يحيى بن معاذ وإن بدا مقنعا في اللحظة الولى فإن المتأمل بين فساده‪.‬‬
‫وأما التبرير الثاني أقيم على المعادلة بين اليمان والكفر وبما أنه ل تنفع مع الكفر طاعة فالعدل‬
‫يقتضي أن ل تضر مع اليمان معصية معنى ذلك أن اليمان مطية للمعاصي ل للطاعات‬
‫واجتناب المعاصي‪ .‬ويحيى بن معاذ نفسه لما أحس بأن في المعادلتين كلما ختم بالستناد الى‬
‫رجاء العفو‪،‬وهذا باب فيه نظر‪.‬‬
‫صحيح أن ال تعالى عفو‪ -‬يحب العفو‪ -‬لكنه بين في القرآن الكريم شروط العفو والغفران‪ .‬ول‬
‫ينبغي أن ينقلب التكال على العفو سبيل من سبل انتهاك حرمات ال تعالى‪ ،‬وهذا ما استند إليه‬
‫أهل الكتاب الى جانب تعويلهم على انهم شعب ال المختار وقد رد عليهم القرآن الكريم بشدة‪،‬‬
‫وبين أن قولهم بعدم الخلود من باب الماني التي يستحيل أن تتحقق‪.‬‬
‫ويقول ابن عاشور في هذا الصدد‪ ":‬ووجه المناسبة أن قولهم لن تمسنا النار دل على اعتقاد مقرر‬
‫في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك‬
‫الجريمة أو غيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إل أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل‪ ،‬أو أياما‬
‫عن كل ألف سنة من العالم اليوم وأن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم ل يتوقون القدام على‬
‫المعاصي لجل ذلك" (‪. )25‬‬
‫واضح من خلل هذا النص أن اعتقاد عدم الخلود غرور عظيم يجعل النسان ل يتوقى القدام‬
‫على المعاصي مهما كانت‪.‬‬

‫( ‪)2/226‬‬

‫ونحن نتساءل لم يعتبر نفس العتقاد دافعا الى العصيان عند أمة ول ينظر إليه بنفس العتبار عند‬
‫أمة أخرى مع العلم باشتراكها في عقيدة اليمان بال تعالى (‪. )26‬‬
‫صحيح أنه وقع العتماد على الشفاعة ولكن أتكون الشفاعة بمفهومها المطلق عامل من عوامل‬
‫دفع الناس الى العصيان أو حافزا من حوافز الشكر ل تعالى؟‬
‫الحقيقة أن المسلم الحق ل ينبغي أن يستغل جانب العفو اللهي وشفاعة المصطفى ليشبع شهواته‬
‫مما أراد وربك في النهاية غفور رحيم‪ ،‬ول يمكن بحال أن يرد شفاعة النبي فيمن في قلبه دون‬
‫الذرة من اليمان إن كان ما دون الذرة موجودا‪ ،‬بل يجب أن يزداد بذلك شكرا ل تعالى فيقبل‬
‫على طاعاته وينتهي عن نواهيه وبذلك ل يكون من الذين يأمنون مكر ال لنه ( ل يأمن مكر ال‬
‫إل القوم الخاسرون" (‪ 7‬العراف ‪.)99‬‬
‫والباضية ومن يقول بقولهم في الوعيد والخلود كثيرا ما يتهمون بالغلو في الدين على أساس أن‬
‫مثل هذه المواقف من شأنها أن تنفر الناس من الدين‪.‬‬
‫والجواب أن الفرق كبير بين الغلو في الدين ومعناه تجاوز ما تتحماه النصوص من المعاني‪ ،‬وبين‬
‫فهم النصوص بوجه معين‪ ،‬وقد بينا في هذا الباب أن منطلقات الباضية من القرآن والسنة‪ ،‬كما‬
‫أنهم لم يكن قصدهم تنفير الناس من الدين وإنما كان هدفهم السمى صلح المسلمين ومهما يكن‬
‫من أمر فمنتظر الخروج من النار وإخلف الوعيد يكون أجرا على العصيان ممن يعتقد إنفاذ‬
‫الوعيد والخلود في النار‪.‬‬
‫وقبل أن نحلل مدى انعكاس هذا المعتقد على البيئة الباضية يحسن أن ننبه الى أن الباضية ل‬
‫يميزون في موقفهم هذا بين مرتكب الكبيرة الباضي وغير الباضي على عكس ما ينسب الى‬
‫الزارقة‪ -‬إن صح‪ -‬أن من كان في حوزتهم مؤمن وإن ارتكب من المعاصي ما ارتكب والشبهة‬
‫دخلت لجمهور المة من هذه الناحية إذ يحشرون الباضية في زمرة الخوارج عامة وقد وسم‬
‫هؤلء الناس بسمات هم في أغلب الحيان منها براء (‪. )27‬‬
‫==========================‬

‫( ‪)2/227‬‬

‫(‪ )19‬البيجوري ‪ :‬شرح جوهرة التوحيد‪183 :‬‬


‫(‪ )20‬وقد أورد الطاهر ابن عاشور عند ذكر مراتب أهل النار في طور المدة ما يلي‪" :‬كما جاء‬
‫في الحديث انهم يقال لهم الجهنميون في الجنة"‪ .‬التحرير والتنوير‪ .12/165 :‬لم يرد ذكره في‬
‫معجم ونسنك‪.‬‬
‫(‪ )21‬عمرو التلتي‪ :‬شرح النونية ورقة ‪ 108‬وجه‪ .‬عبد العزيز الثميني‪ :‬النور ‪ . 279‬جميل بن‬
‫خميس السعدي‪ :‬قاموس الشريعة ‪6/11:‬‬
‫(‪ )22‬خميس بن سعيد الرستاقي‪ :‬المنهج‪1/523 :‬‬
‫(‪ )23‬يحيى بن معاذ الرازي( ‪ )258/872‬واعظ‪ ،‬زاهد من أهل الري‪.‬ر‪ .‬الزركلي‪ :‬العلم‪:‬‬
‫‪9/218‬‬
‫(‪ )24‬ر‪ .‬الرازي ‪ :‬التفسير الكبير‪ 3/160 :‬وقد علق بقوله " وهو كلم حسن"‪.‬‬
‫(‪ )25‬الطاهر ابن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير‪1/579 :‬‬
‫(‪ )26‬ومعلوم أن بني إسرائيل قبل إنكارهم لنبوة عيسى ومحمد عليهما السلم كانوا على حق‪.‬‬
‫(‪ )27‬انظر ما سبق‪ 57 :‬وقد أشرنا إلى أن الدراسات الموضوعية لم يتم بعد في هذا الباب لننا‬
‫نملك نصوصا لهؤلء الناس لنقراض اتجاهم‪.‬‬
‫‪---‬‬

‫( ‪)2/228‬‬

‫تابع الفصل الثاني‪ :‬الوعد والوعيد وقضية الخلود‬


‫انعكاسات هذا الموقف على المحيط الباضي‬
‫إذا استطاعت كتب المقلت أن ترمي من تسميهم بالخوارج‪ -‬والباضية من بينهم‪ -‬بأنهم أهل‬
‫البدع والهواء والنحل ل لشيء إل لنهم خالفوا غيرهم في الرأي أي في فهم النصوص فإن هذه‬
‫الكتب نفسها وكتب التاريخ لم تستطع أن تخفي إعجابها بسلوك هؤلء‪ ،‬وإن أول على أنه سلوك ل‬
‫ينفع اعتمادا على الحديث الذي يعتبر أن كل خشوعهم يتجاوز حناجرهم‪.‬‬
‫ول أريد أن انتصب مدافعا عن الباضية لن دفاعي عنهم ل يزيد في ميزان حسناتهم ول ينقص‬
‫من سيئاتهم وإنما من باب إحقاق الحق وإثبات نجاعة هذه العقيدة‪.‬‬
‫ول أراني مضطرا الى أن أعيد هنا ذكر ما ذكر في ما سبق من شهادات المام علي والمبرد‬
‫وأحمد أمين في استقامة هؤلء الناس وإنما أضيف بعض العينات التي تقع الشارة فيها الى‬
‫قضيتنا بوضوح وليكن ذلك على سبيل المثال ل على سبيل الستقصاء‪.‬‬
‫ومن ذلك كثرة خشوعهم عند تلوة القرآن الكريم بشهادة أبي حمزة الباضي بمحضر المام مالك‬
‫" كلما مر أحدهم بذكر الجنة بكى شوقا إليها وإذا مر بذكر جهنم شق شهقة كأنه زفير جهنم بين‬
‫أذنيه " (‪. )28‬‬
‫ومن ذلك شهادة المحدثين لمن يسمونهم بالخوارج بالمانة في نقل الحديث ل لشيء إل لنهم ل‬
‫يمكن أن يكذبوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهم يعلمون أن الكاذب عليه مخلد في‬
‫النار إذ حديث فليتبوأ مقعده من النار متفق عليه (‪. )29‬‬
‫ومن ذلك إخلص الباضية في مناصرة أهل القيروان حيث وقف جيش أبي الخطاب عن حدود‬
‫ال ولم يسلب أحدا من القتلى (‪ )30‬ذاك لن النصرة مطلوبة أما سلب حقوق الناس فيورث الخلود‬
‫في جهنم‪.‬‬

‫( ‪)2/229‬‬

‫ومن ذلك شهادة ابن الصغير المالكي في ما تحلى به مؤسس الدولة الرستمية ورع حتى ل يأخذ‬
‫من حقوق الرعية شيئا أليس هو الذي يتولى إصلح جدران داره بنفسه (‪ ، )31‬وهل فعل مثل‬
‫ذلك خلفاء بني أمية‪ -‬باستثناء عمر بن عبد العزيز‪ -‬وخلفاء بني العباس؟‬
‫وانظر ما يقوله محمد عبده في ما تورثه عقيدة الخروج من النار منن الستبداد والقتل والستغلل‬
‫لدى أهل السياسة في كل عصر فهؤلء حسب صاحبي المنار‪ -‬وإن استكبر الجمهور خلودهم في‬
‫النار‪ -‬ل سبيل لهم إلى الخروج " نعم إن أمراء الجور الذين يسفكون دماء من يخالفون أهواءهم‬
‫وزعماء السياسة الذين يجعلون من قوانين جمعياتهم اغتيال المؤمن وغير المؤمن بغير الحق‬
‫لجل التمتع بماله‪ ،‬كل أولئك الفجار الذين يقتلون مع التعمد وسبق الصرار ‪ ،‬جديرون بان ينالوا‬
‫الجزاء الذي توعدت به الية(‪ 4‬النساء ‪ )93‬من الخلود في النار ولعنة ال وغضبه وعذابه العظيم‬
‫الذي ل يعرف كنهه سواه عز وجل لنهم‪ -‬وإن كان فيهم من يعدون في كتب تقويم البلدان ودفاتر‬
‫الحصاء وسجلت الحكومة من المسلمين‪ -‬ليسوا في الحقيقة من المؤمنين بال وبصدق كتابه‬
‫ورسوله في ما أخبرا به من وعيد على القتل وغيره‪ ،‬فهم ل يراقبون ال في عمل ول يخافون‬
‫عقابه على ذنب" (‪. )32‬‬

‫( ‪)2/230‬‬
‫كما بين صاحب المنار أن من أسباب انحلل المسلمين جرأتهم على قتل بعضهم البعض ومرجع‬
‫ذلك إلى اعتقاد عدم الخلود‪ .‬ويقول في ذلك‪ ":‬ومن نظر الى انحلل أمر السلم والمسلمين بعدما‬
‫أقدم بعضهم على سفك دم بعض من زمن طويل يظهر له وجه هذا (‪ ، )33‬وان القاتل ل يعذر‬
‫بهذه الجرأة على هذه الجريمة وهو لم تعرض له شبهة في أمر ال‪ ،‬إذ ل رائحة للعذر في عمله‬
‫بل هو مرجح للغضب وحب النتقام وشهوة النفس على أمر ال تعالى ومن فضل شهوة نفسه‬
‫الخسيسة الضارة على نظر ال وعلى كتابه ودينه ومصلحة المؤمنين بغير شبهة ما فهو جدير‬
‫بالخلود في النار والغضب واللعنة‪ ،‬ويدل على هذا قوله تعالى ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم‬
‫يعلمون) ‪ 3( :‬آل عمران ‪ )135‬وتأمل قوله ( يعلمون) ولو سمح ال أن يفضل أحد شهوته أو‬
‫حميته على ال ورسوله وكتابه ودينه والمؤمنين‪ ،‬ووعده بالمغفرة لتجرأ الناس على كل شيء ولم‬
‫يكن للدين ول للشرع حرمة في قلوبهم " (‪. )34‬‬
‫نرى حينئذ مدى الضرر المتولد في مستوى قيادة المة عندما يعتقد هؤلء أن مجرد اليمان بال‬
‫تعالى يمسح كل شيء ولو ماتوا على الصرار ‪ ،‬وفي أسوأ الحوال أن يكونوا من الجهنميين‬
‫الذين يدخلون جهنم دخول شكليا ليفتخروا على أهل الجنة في ما بعد‪.‬‬
‫واضح حينئذ أن أكبر عامل لتخلي المسلمين عن الوامر والنواهي هو تسرب مثل هذه العقيدة عن‬
‫أهل الكتاب رغم أن القرآن الكريم تصدى لها وكما بينا ذلك في موضعه‪.‬‬
‫ومما بين حسن أثر هذه العقيدة عند الباضية القاعدة التي يقوم عليها فقه العبادات والمعاملت‬
‫والسلوك عندهم وهي ما يسمونه بالخذ والحوط ويعتبره غيرهم من باب التشدد والغلو في‬
‫الدين‪.‬‬
‫ففي باب العبادات أكتفى بذكر ثلثة أمثلة من الطهارة في الصلة والصوم ومن الزكاة‪.‬‬

‫( ‪)2/231‬‬

‫أما في شأن الطهارة للصلة فحالما رأوا نصوص القرآن التي تمدح المتطهرين والوعيد بعذاب‬
‫القبر لمن ل يستبرئ من البول وفي ذلك إشارة الى عذاب النار في ما بعد أوجبوا الجمع بين‬
‫التنشيف والغسل (‪. )35‬‬
‫وأنت إذا دخلت ميضآت المساجد الباضية تحس بهذا التحري فهم يخصصون مواطن لقضاء‬
‫الحاجة ل يوفرون فيها إل الورق أو ما يقوم مقامه للتنشيف والتحري فيه (‪ ، )36‬كما يوفرون‬
‫مواطن للستنجاء بالماء‪ ،‬ثم أما كن ثالثة للوضوء الصغر‪ ،‬ول ترى أحدا منهم يخلط في‬
‫الستعمال بين هذه الماكن كما ترى عند غيرهم ممن ل يرون بأسا بالكتفاء بالماء حيث‬
‫يستنجئون في الماكن المخصصة للوضوء الصغر ‪ .‬كل هذا الحتياط لن الباضية اعتقدوا أل‬
‫خلف في الوعيد وما دام النص واضحا في توعد من ل يستبرئ من البول فليكن الحتياط على‬
‫ذلك الشكل‪.‬‬
‫أما في شأن اعتبار الطهارة الكبرى شرطا من شروط الصوم فهم يرفضون الموقف الذي ينسب‬
‫الى الرسول عليه السلم أنه اغتسل في رمضان بعد طلوع الفجر ويقرون حديثا آخر وهو قوله‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ":‬من أصبح جنبا أصبح مفطرا" (‪ )37‬وحتى في حالة صحة ورود الخبر‬
‫الول العملي فالخبر القولي أشمل واعم وأحوط‪ ،‬والوعيد المسلط على المفطر عمدا في رمضان‬
‫مجمع عليه‪ ،‬فلتكن الطهارة الكبرى شرطا من شروط الصوم وهذا يخرج من الوعيد على أية حال‬
‫وأتى ذلك واضحا في هندسة بناء البيوت إذ لن تجد بيت إباضي خاليا من كان خاص للطهارة‬
‫الكبرى المر الذي ل تجده عند غيرهم حيث يتهافت الناس على الحمامات للغتسال‪.‬‬
‫أما في شأن الزكاة فتروى نصوص على أن الحلي ل يدخل في النصاب (‪ )38‬إل أن الباضية‬
‫رأوا غير ذلك واعتبروا أنه جزء من الممتلكات وأنه رصيد مدخر يستعمل عند الحاجة زيادة‬
‫على المتعة بالتزين به‪ .‬أليس من الحوط أن يعتبر في النصاب وبذلك يخرج المسلم من الوعيد‬
‫المسلط على الذين يكنزون الذهب والفضة (‪. )39‬‬

‫( ‪)2/232‬‬

‫أما أثر هذه العقيدة في باب الفتاوي فهو واضح في أوساط الباضية فمن ذلك انتشار مبدأ أداء‬
‫الكفارات‪ ،‬فتجد الناس عند العزم على أداء فريضة الحج أو عند التوبة يتحرون التحري التام في‬
‫أداء حقوق ال تعالى والتنصل من حقوق العباد‪ ،‬وقد أشرنا من قبل إلى قولهم بالكفارات‬
‫الحتياطية من باب أن الحسنات يذهبن السيئات وهي كفارات اجتهادية اعتمد فيها على القياس‬
‫على ما نص عليه الشرع‪.‬‬
‫ومن ذلك قولهم بتحريم استعمال الشمة والتبغ منذ دخول هاتين الفتين الى المجتمعات السلمية‬
‫ولم يقل واحد من الباضية فيها بالكراهة أو التحليل كما فعل كثير من فقهاء المذاهب الخرى‪.‬‬
‫ولن تجد في مساجد الباضية وحلقات القرآن عندهم فقهاء أو عامة يتهادون الشمة كما يفعل في‬
‫حلقات أخرى‪.‬‬
‫بقي أن ننبه إلى أثر هذه العقيدة في مستوى التعامل المادي والخلقي إذ من يعتقد أن القليل من‬
‫متاع الناس يورث الخلود في النار ل يمكن أن يقبل على أخذه وإن غلبت عليه شهوته سرعان ما‬
‫يبادر الى إرجاع الحق الى أهله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وتجار الباضية مشهورون‬
‫بمحافظتهم على أمانات الناس (‪ )40‬إذ تجد ودائع أهل الحي غالبا محفوظة عندهم (‪. )41‬‬
‫لست بهذا التحليل أدعي أن الوساط الباضية خالية من النحارف بل إن انحراف البعض منهم‬
‫يتجاوز الحد‪ ،‬لكنه ينتهك عن علم ل عن جهل وإن كان إثم هؤلء أكثر إل أن توبتهم تكون‬
‫نصوحا في ما بعد‪ ،‬وكأن في ذلك التصرف نوعا من النفجار كثيرا ما يورث في أصحابه ندما‬
‫وإنابة يؤديان الى تفان بعد ذلك في العبادة‪ .‬لكن كل ذلك يبقى عصيانا ذاتيا ل يتسرب شره الى‬
‫المجتمع الذي يصونه نظام الولية والبراءة (‪ )42‬المنبثق عن العقائد الصولية لتذكير الناس‬
‫بالزجر اللهي عندما ينعدم السلطان الذي يقيم الحد ويذكر الناس بعظمة ال عند الغفلة عنها‪.‬‬

‫( ‪)2/233‬‬

‫وبهذا نتبين أن لقوانين الزجر تأثيرا كبيرا في حياة الناس ذلك أن النفوس البشرية متفاوتة في‬
‫مدى قدرتها على اللتزام ولكن ل يكون الزجر زجرا إل إذا كان حادا‪ .‬وأكبر دليل على ذلك ما‬
‫أقره الشرع من الحدود وهذا مكمل لمفهوم الوعيد والعذاب الذي ينتظر من يعرض عن ذكر ال‬
‫تعالى ليس معنى ذلك أن جانب الرحمة معدوم من الشريعة في المفهوم الباضي وإنما يلح‬
‫الباضية على أل ترجح كفة على أخرى‪ ،‬ونصوص العقيدة تلح كثيرا على التعادل بين الخوف‬
‫والرجاء لنه إن رجحت كفة الخوف يتحول المر كثيرا الى اليأس مما يورث التحدي والعناد‬
‫وإن رجحت كفة الرجاء فإن ذلك يؤدي الى النحلل والتواكل ولهذا جاءت المعادلة واضحة بين‬
‫القول بالخلود في الجنة وفي النار‪.‬‬
‫وأكاد أقول إن ما نلحظه من الحتراز الكامل في مواقف الباضية فيه شيء من الرهان الرابح‬
‫ل محالة (‪ )43‬ذاك أنه إن صح القبول بعدم الخلود في علم ال وال يفعل ما يشاء فلن يخسر‬
‫الباضي آخرته‪ ،‬وإن صح الخلود فالباضي رابح ل محالة بينما يندم من قال بعكسه حيث ل ينفع‬
‫الندم‪.‬‬
‫وفي خاتمة هذا التحليل يحسن أن ننبه إلى تنبيهين أولهما الترابط الوثيق بين السس العقائدية‬
‫فقول الباضية بإنفاذ الوعيد مرتبط ارتباطا جوهريا بقولهم إن اليمان عقيدة وقول وعمل‬
‫وبتحريهم في مبدأ الولية والبراءة‪.‬‬

‫( ‪)2/234‬‬

‫وثانيهما أننا حاولنا بقدر المكان أن نلح على بيان الحكمة من القول بإنفاذ الوعيد وبالخلود رغم‬
‫أن المصادر الباضية لم تلح على إبراز البعد الحضاري لهذه القضية بصفة مباشرة‪ ،‬وغنما‬
‫الواقع العلمي المعاش أثبت الصلة الوثيقة بين السس العقائدية وبين الحياة العملية وذلك الغرض‬
‫السمى للعقيدة السلمية حيث ل تبقى النصوص حبرا على ورق فتتحول الى حيز التطبيق وفعل‬
‫فقد بدا لثر العقيدة الباضية واضحا في أوساطهم عندما كان الناس يخضعون لسلطان العقيدة وما‬
‫يزال هذا الثر واضحا في وادي ميزاب وإن انخرم في بقية الوساط الباضية بالمغرب‪.‬‬
‫=================================‬
‫(‪ )28‬الدرجيني ‪ :‬الطبقات‪2/266 :‬‬
‫(‪ )29‬الربيع بن حبيب‪ :‬الجامع الصحيح‪ . 739 .738 /3 :‬انظر ما سبق ‪621‬‬
‫(‪ )30‬الرقيق القيرواني‪ :‬تاريخ إفريقية والمغرب‪ ،‬مطبعة الوسط ‪ 142 -141 :1968‬ر‪.‬‬
‫الدرجيني ‪ :‬الطبقات‪1/30 :‬‬
‫(‪ )31‬ر‪ .‬ابن الصغير المالكي‪ :‬أخبار الئمة الرستميين ‪5:‬‬
‫(‪ )32‬محمد عبده‪ :‬تفسير المنار‪345 -344 /5 :‬‬
‫(‪ )33‬يشير إلى قول من يرى أن توبة القاتل عمدا ل تقبل مع أنه يخلد في النار انظر ما سبق‪:‬‬
‫‪624‬و ‪730‬و ‪746‬‬
‫(‪ )34‬محمد عبده‪ :‬تفسير المنار‪341 -5/340 :‬‬
‫(‪ )35‬ر‪ .‬عامر الشماخي‪ :‬كتاب اليضاح ‪46 -1/29 :‬‬
‫(‪ )36‬باستثناء الميضآت في المواطن التي يختلطون فيها بغيرهم فإنهم يوفرون الماء‬
‫(‪ )37‬الربيع بن حبيب‪ :‬الجامع الصحيح‪ 1/63 :‬عدد ‪ .315‬لم يرد في معجم ونسنك‪.‬‬
‫(‪ )38‬ر‪ .‬السيوطي‪ :‬تنوير الحوالك‪ ،‬شرح علي موطا مالك ط‪ .‬دار الكتب العلمية بيروت‪ ،‬لبنان‬
‫د‪.‬ت‪1/243 :‬‬
‫(‪ )39‬ر‪ .‬إسماعيل الجيطالي‪ :‬قواعد السلم‪2/32 :‬‬
‫(‪ )40‬التجار بغانة وإسلم أهلها ر‪ .‬الدرجيني‪ :‬الطبقات‪2/517 :‬‬
‫(‪ )41‬ليس معنا هذا أن هذه القيم فقدت في البيئات التي ل تعتقد الخلود‪.‬‬

‫( ‪)2/235‬‬

‫(‪ )42‬وعن موضوع الولية والبراءة ر‪ .‬النامي‪ :‬الطروحة ‪ 396 -331 :‬وهو باب من البواب‬
‫الساسية فيها‪ .‬وتجد فيه الحالة على جميع المصادر ‪.‬ر‪ .‬بحثنا نظام العزابة ‪112 -98 :‬‬
‫(‪ )43‬يقول فتح بن نوح الملوشائي في نونيته في هذا المعنى ما يلي‪( :‬طويل)‬
‫فيا ليت ما فاهت به لهواتعم‬
‫صحيح لكنا أسعد الناس بالمن‬
‫كما يقول جميل بن خميس السعدي ما يلي‪ ":‬يا ليت الذي قالوه (المرجئة من أن اليمان قول ول‬
‫تضر معه معصية) حقا فنكون ممن سعد به ول يضرنا خلفهم‪ ".‬قاموس الشريعة ‪ 6/48 :‬نقل‬
‫عن شرح النونية للجيطالي‪.‬‬
‫‪---‬‬

‫( ‪)2/236‬‬
‫الخاتمة العامة‬
‫لقد تبين من خلل هذا البحث انه ل يمكن أن تتم دراسة مرحلة من مراحل تراث فكري إل‬
‫بتنزيله بين المراحل المهيئة والمراحل اللحقة دون الغفلة عن توضيح مدى تعايشه مع التراث‬
‫النساني عامة‪.‬‬
‫وهذا ما حاولنا أن نفي به طيلة هذه الدراسة حيث بينا في الباب الول أن جذور العقيدة الباضية‬
‫ضاربة في الصالة لن منطلقها كعقائد الفرق الٌسلمية الخرى كتاب ال تعالى وسنة رسوله‬
‫عليه السلم مع تميز واضح من وقت مبكر بالدعوة الى التأويل والجتهاد‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق عايش أئمة الباضية الول أحداث الفتنة الكبرى التي هزت أركان العالم‬
‫السلمي وما تزال لما خلفت بين المسلمين من إحن استحال عليهم أن يتخلصوا من مخلفاتها الى‬
‫يومنا هذا‪ .‬فتبين حينئذ نشأة الفكر الباضي ترجع الى وقت مبكر في تيار الحضارة السلمية‬
‫نستطيع أن نحدده بالربع الول من النصف الثاني من القرن الول هـ‪.‬‬
‫وقد تبعت مرحلة النشأة مراحل ثلث هيأت للمرحلة المقررة في بثنا هذا‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة تمتد من القرن الثاني الى الخامس هـ ناضل فيها الفكر الباضي التيارات التي بدت له‬
‫منحرفة‪ ،‬وانسجم ما بدا له متماشيا وكتاب ال وسننه ورسوله عليه السلم‪ ،‬فرفض فكرة الرجاء‬
‫رفضا قطعيا وبين أن اليمان عقيدة وقول وعمل‪ ،‬كما رفض اعتبار الموحدين مشركين ‪ ،‬ووقف‬
‫موقفا وسطا بين الجبر والحرية وذلك إما أثناء رد مواقف خارجية أو مواقف داخلية وفي هذه‬
‫المرحلة بدأت تتجلى معالم المدرسة الباضية المغربية بمجموعة من المؤلفات لم تدرك مستوى‬
‫النضج وإنما تجلت فيها المواقف العقدية صريحة من جل القضايا‪.‬‬
‫فهذه المرحلة هي مرحلة مخاض واصلت توسيع ما جاء مختصرا في رسائل الئمة الول وفي‬
‫سيرهم وبينت أن العلقة بقيت بين إباضية المشرق وإباضية المغرب‪.‬‬

‫( ‪)2/237‬‬

‫ول ينبغي أن نغفل هنا عن نشأة مدرستي الشعري والماتريدي في القرن الرابه هـ وإن لم‬
‫يتضح أثرهما في هذه المرحلة فإنه سيتجلى في المرحلة اللحقة‪.‬‬
‫‪ -‬وتنحصر هذه المرحلة في القرن السادس هـ وفيها أدرك التراث العقدي مستوى النضج‬
‫فتصدى للرد على كل ما جد في البيئة السلمية من انحراف وإلحاد كما جد في إبراز مميزات‬
‫العقيدة الباضية بين الفرق السلمية الخرى وبصفة خاصة المدرسة الشعرية التي مدت نفوذها‬
‫على كامل بلد المغرب بعد انتهاء النفس الشيعي‪.‬‬
‫‪ -‬ثم يليها المرحلة اللحقة من القرن السابع هـ الى القرن التاسع هـ وقد أحس أصحابها أنه‬
‫ليس في المكان أكثر مما كان عدا بعض الستثناء فوقع التركيز خاصة على المختصرات التي‬
‫يسهل حفظها على من ل يقدر الصبر على المطولت السابقة‪.‬‬
‫وبهذا نصل الى المرحلة المقررة في دراستنا من القرن العاشر الى الثاني عشر وقد تركزت‬
‫استنتاجاتنا في شأنها على النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬وفرة الشروح والحواشي على حساب النتاج الذاتي‪.‬‬
‫‪ -2‬وفرة الجوبة والردود‪.‬‬
‫‪ -3‬جربة قطب الدائرة‪.‬‬
‫‪ -4‬ثراء المدرسة الباضية خاصة والمدرسة السلمية عامة‪.‬‬
‫‪-5‬استمرار النزعة المقارنة‪.‬‬
‫‪ -6‬طغيان النزعة التعليمية‪.‬‬
‫‪ -7‬تعاون بين مناطق الباضية‪.‬‬
‫‪ -8‬دفاع مستميت عن العقيدة عن طريق الحجة والقناع‪.‬‬
‫والمهم أن تراث هذه المرحلة وإن لم يتميز بالبداع فإنه تميز بالفهم والستيعاب وتوفير ما يحتاج‬
‫إليه الدارس من نصوص حتى يتبين له نصاعة العقيدة الباضية بين عقائد مختلف الفرق‬
‫السلمية وخاصة منها المدرسة الشعرية‪.‬‬
‫‪ -‬أما المرحلة الخيرة من القرن الثالث عشر هـ الى القرن الرابع عشر هـ فقد استطاع أقطابها‬
‫أن يعودوا الى النتاج الذاتي رغبة في زيادة التنظير والتوضيح‪.‬‬
‫والملحظ أن الباضية في كل هذه المراحل استمروا يصدرون نصوصهم في العقيدة برد تهمة‬
‫الخارجية وذلك لما نالهم منها من ضير من إخوانهم المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)2/238‬‬

‫تلك هي نشأة العقيدة الباضية ومختلف مراحل تطورها كما بيناها في الباب الول من هذا البحث‬
‫فماذا عن فحوى هذه العقيدة في اللهيات والنسانيات؟‬
‫لقد تمثل الحديث في الباب الثاني عن اللهيات في الوقوف عند المحكم والمتشابه‪.‬‬
‫وقد ثبت أن في محاولة علماء الكلم الربط بين المحكم والمتشابه عامل من اكبر عوامل إثراء‬
‫المكتبة السلمية‪ ،‬وللباضية دور ل يستهان به في هذا الميدان‪ ،‬ذلك لنهم لم يسلكوا مسلك‬
‫التفويض أو مسلك الكتفاء بالظاهر بل أقاموا تحاليلهم على التأويل ومعلوم ما في هذا المسلك من‬
‫سبل الجتهاد والبحث والتنقيب في كتاب ال تعالى وفي السنة وفي التراث الدبي عامة‪.‬‬
‫ولم يكن غرضهم من هذا التأويل تشويه العقيدة السلمية بل كانوا حريصين كل الحرص على‬
‫تحري النصوص المحكمة إن توفرت قبل الغوص في الستنباط والستنتاج‪.‬‬
‫وفعل فقد كان الساس الذي أقاموا عليه فهم المحكم هو نفسه في فهم المتشابه إل وهو الحرص‬
‫على تنزيه ال تعالى‪.‬‬
‫أنا في نطاق المحكم فقد برهنوا على وجود ال تعالى نقل وعقل‪ ،‬وألحوا على تنزيه البارئ في‬
‫اعتبار الصفات عين الذات حتى اتهمهم غيرهم بالتعطيل إل أن ذلك كان رغبة منهم في نفي تعدد‬
‫القدماء‪.‬‬

‫( ‪)2/239‬‬

‫وكم وددنا لو ألحت نصوص العقيدة عند الباضية وغيرهم على قيمة التحلي بأسماء ال الحسنى‬
‫عوض الغوص في متاهات ل طائل من ورائها‪ ،‬مثل علقة السم بالمسمى وما تولد عنها من‬
‫تنافر داخل الباضية أنفسهم‪ .‬وكان اولى لو اجتهد هؤلء العلماء وهم قادرون على ذلك‪ ،‬في‬
‫توظيف دروس العقيدة لمصلحة المسلمين مثل التوسع في إبراز عظمة ال وقدرته من خلل‬
‫أسمائه وصفاته‪ ،‬وهم عارفون من البداية أن العجز عن إدراكه إدراك فكان أحسن لو صبغت‬
‫نصوص العقيدة بصبغة وعظية عملية تحول مجرى حياة المسلمين الى محبة وانسجام وذوبان في‬
‫طاعة الواحد الديان لكن الباحث يفهم العوامل التي دفعت هؤلء الى مثل هذه المباحث وأهمها‬
‫رغبتهم في نفي التشبيه والتجسيم عن البارئ عز وجل‪.‬‬
‫وهذا يتجلى بصفة أوضح عند الباضية في إلحاحهم على التنزيه مع النصوص المتشابهة خاصة‬
‫في ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف موجبا بأن ل عينا ويدا وما إلى ذلك من‬
‫الجوارح‪ ،‬وفعل فقد فهم الباضية من يومهم الول أن القرآن الكريم لو حمل على ظاهره في مثل‬
‫هذه المفاهيم لتناقض‪ ،‬وأنى لكتاب ال أن يتناقض‪ ،‬فعكفوا على كتاب ال تعالى وعلى الحديث‬
‫الشريف وعلى ما في اللغة من مجاز وأقروا تفاسير واضحة لكل هذه المفاهيمن وكان محط الثقل‬
‫خاصة عند قضيتي الستواء ونفي الرؤية فجاء الستواء بمعنى المر والسلطان ولهم في ذلك من‬
‫الدلة الكثير نقل وعقل أما الرؤية فأساس البحث فيها أن ال ل تدركه البصار وهو يدرك‬
‫البصار‪ ،‬وقد مكنهم موقفهم الدفاعي ضد من يرون أن الستواء كاستواء المير على السرير أو‬
‫ينهون عن السؤال عن الكيفية أو يرون إمكانية الرؤية في الدنيا أو في الخرة من جولت موسعة‬
‫في أساليب اللغة وفنون البلغة مع من رأوا رأيهم من المعتزلة أثرت التراث السلمي أيما‬
‫إثراء‪.‬‬

‫( ‪)2/240‬‬
‫والمدار هنا يتمثل في أنه كان أولى بالفرق السلمية أن تتفهم مواقف بعضها البعض حتى ل‬
‫يسفر ذلك عن بغضاء وعداوة وإن كانت هذه العداوة سببا من أسباب الحرص على البحث‬
‫والتحليل لن روح الخاء هو الخر له من المزايا ما ل يحصى ‪ ،‬حيث يجعل الطراف المتعايشة‬
‫تسعى الى إقامة أخوة إسلمية صادقة بدل عن التنابز بألقاب مثل أهل البدعة أو كفار النعمة أو ما‬
‫إلى ذلك ل لشيء إل من أجل خلف لجمد الفكري السلمي من زمان‪ ،‬وكأني بالمتشابه في‬
‫القرآن الكريم حافز من حوافز إعمال الفكر ‪ ،‬ومعلوم أن إعمال الفكر ل يمكن أن يفضي المتأول‬
‫في تأويله وإن كانت أحكامهم في بعض الحيان قاسية على هؤلء سواء أكانوا من غير الباضية‬
‫أو من الباضية أما المستحلون لحرمات ال فما أظن أن المسلمين يختلفون في إيقافهم عند حدهم‬
‫واستتابتهم قبل اتخاذ الموقف النهائي في شأنهم‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر في شأن الستواء والرؤية فإن الخلف بين المسلمين بقي نظريا بالنسبة الى‬
‫ما عرف عن محنة خلق القرآن وإن لم يحترق الباضية مباشرة بنار هذه الفتنة مثل الحنابلة في‬
‫البداية والمعتزلة في ما بعد فإن شرار هذه الفتنة انعكس على بيئتهم العمانية في البداية فاضطرت‬
‫الى موقف عام ل يبت ل بالخلق ول بالقدم لكن اباضية المغرب سرعان ما ردوا الفعل على‬
‫الدولة العباسية والمارة الغلبية فأعلن إمامهم أبو اليقظان أن الصواب في رأي القائلين بخلق‬
‫القرآن‪ ،‬وكتب رسالته في هذا الشأن تلكم الرسالة التي بقيت أساس كل بحث في هذه القضية‪،‬‬
‫والمهم أن هذا المبحث الذي بدا كأنه عديم الجدوى أثرى الفكر الباضي والسلمي في مستوى‬
‫التحليل البلغي والفلسفي والعقائدي‪ ،‬وتجلى أن ثورة الباضية لم تكن عنيفة على القائلين بالقدم‬
‫لن نصيبا من علمائهم قال بذلك خاصة في عمان إلى القرن السادس هـ‪.‬‬

‫( ‪)2/241‬‬

‫ومعلوم أننا نثور على مثل هذا الصراع الدامي في هذه القضية من الناحية الشرعية الخلقية أما‬
‫من حيث الستنتاج الحضاري فإنه قد مكننا من البحث عن أسباب هذا الحدث وعن حقيقته‪ ،‬وعن‬
‫أبعاده ونتائجه ولو كان المر هادئا رصينا لما وقفنا عند كل ذلك ولما بحثنا عن آراء كل الفرق‬
‫في هذا الشأن‪ ،‬وقد حرصنا على إثبات ما وقع بين أيدينا من نصوص لنتبين البون الشاسع بين‬
‫هذه المواقف رغم أن المنطلق واحد‪ ،‬ومعلوم أن الحماس في الجدل يفضي الى حلول متطرفة‬
‫فمن متطرف في القول بقدم الجلد الى متطرف يقول بأنه مخلوق في الماكن بالتلوة والحفظ‬
‫والكتابة والباضية وقفوا في هذا موقفا معتدى جمعوا فيه بين القدم والخلق‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر فإن المعركة الدامية كانت آنية وإن بقيت آثارها في التحاليل الكلمية إلى‬
‫يومنا هذا‪ ،‬وقد أردك المسلمون أن القضية تجاوزتها الحداث ونحن نقول كان أولى بهؤلء جميعا‬
‫أن يحافظوا على وحدة المة السلمية التي انقسمت الى معسكرين انتقم كل منهما من الخر‬
‫عندما تحولت السلطة بيديه فما كان من المأمون أن يجعل من الموضوع قضية وأن يفرض رأيه‬
‫على المة وما كان من المتوكل بعد ذلك أن يرد الكرة بشدة لكن نفوذ السلطان كثيرا ما يعمي‬
‫ويصم رغم أن الكل يعلم أل إكراه في الدين‪ ،‬فكيف يكون الكراه على موقف هو مجرد اجتهاد‬
‫حول نصوص يمكن أن يصيب فيها المجتهد كما يمكن أن يخطئ‪.‬‬
‫وقد آن للمسلمين الن أن يعتبروا من مثل هذه المحن وإن كانوا لم يستفيقوا الى الن‪ ،‬ونحن نرى‬
‫أن العنصر الجنبي قد دخل ليذكي مثل هذه الختلفات وقد أفلح في كثير من ربوع العالم‬
‫السلمي إن بقي هذا الجزء من العالم إسلميا بحق‪.‬‬
‫وغن كان هذا بالنسبة الى اللهيات فكيف سيكون بالنسبة الى النسانيات حيث يتنزل الجدل في‬
‫محيط حرية النسان ومصيره؟ وذلك كان محور الباب الثالث من هذا البحث‪.‬‬

‫( ‪)2/242‬‬

‫لقد تبين من مبحث القدر أن الباضية لم يبقوا في معزل عن مجرى الحداث السياسية ولم يقفوا‬
‫عن الخوض في هذه القضية رغم انهم يعلمون كما يعلم بقية علماء الكلم‪ ،‬أنها سر من أسرار ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫والواضح في كل هذا أن موقفهم كان ذاتيا فلم يكن متأثرا ل بالمعتزلة الذين أطلقوا عنان الحرية‬
‫المطلقة للنسان رغم اتفاقهم والمعتزلة في جل اللهيات كما رأينا‪ ،‬ول بالجبرية الذين لم يميزوا‬
‫بين حركة المضطر وحركة المختار واعتبروا حركة النسان كحركة الشعرة في مهب الريح‪ .‬وقد‬
‫ظهرت بوادر العتدال من وقت مبكر بعد التحول من موقف التفويض وذلك مع أمام الباضية‬
‫الثاني أبي عبيدة مسلم‪.‬‬
‫وفعل فقد وقفوا مناظرين للمعتزلة والجبرية قبل نشأة الشعرية والماتريدية مستعملين حجج هذا‬
‫على ذاك ملحين خاصة على إمكانية تعدد الجهات بالنسبة الى الحركة الواحدة‪.‬‬
‫ومع نشأة هاتين المدرستين تبلور مفهوم الكسب‪ ،‬وهو مصطلح لمفهوم اتضحت معالمه من قبل‬
‫فالفعل من العبد والخلق من ال‪.‬‬
‫ولم يستقر هذا بصفة نهائية إل بعد أن تناست الجيال ما جد من خلف بين أهل جبل نفوسة‬
‫وبقية أهل المغرب في ما يتعلق بالجبل والختيار‪.‬‬
‫واستقر الوضع على مفهوم الكسب مع بلورة مفهوم الرادة والستطاعة والعون والخذلن‪.‬‬
‫والمهم في كل هذا أن الباضية بم يجدوا النسان من المسؤولية وهذا لعمري أساسي في مثل هذا‬
‫المبحث الكلمي وإن بدا لبعض الباحثين أن الكسب تعبير مقنع عن الجبر‪.‬‬
‫والحقيقة في ما نرى ليست كذلك وإنما القول بالكسب شعور من النسان أنه مسؤول أمام مشيئة‬
‫ال التي ل تحد‪ ،‬والفرق كبير بين من يصرح بأنه مجبر ويحمل مسؤولية جميع أعماله على ال‬
‫تعالى فيفعل ما يطيب له وبين من يعتبر أن كل عمل هو من كسبه وأن له دورا فيه سيحاسب‬
‫عليه بين يدي ال‪.‬‬

‫( ‪)2/243‬‬

‫والحقيقة أن فلسفة مثل هذا المبحث‪ ،‬والبعد به من دائرة اليمان الى دائرة العقل المجرد أدت‬
‫علماء الكلم الى الوقوع في متاهات نتيجة التأثر بتحليلت يونانية وفارسية تختلف عن الفكر‬
‫السلمي من منطلقها‪.‬‬
‫والجدير بالملحظة هنا انه على المسلم المؤمن بالقضاء أن يؤمن إيمانا راسخا أن هذا اليمان ل‬
‫يزيده إل ثقة في ال تعالى ومضيا في فعل الخير المر الذي يعود على المة السلمية بالخير‪.‬‬
‫ومثل هذا اليمان الراسخ هو الذي عرفه أصحاب الرسول عليه السلم‪ ،‬ففتح ال على أيديهم‬
‫أطراف العالم‪ ،‬والحقيقة أن العقل مهما تمرد فإنه يركع خاشعا أمام عظمة ال التي ل تحد فإذا‬
‫استكبر ونأى فإنه يجني مرارة استكباره بعد حين ويبقى مدركا أنه لن يستطيع إزاحة الستار عن‬
‫كل الحقائق الكونية فكيف بعالم الغيب!‪.‬‬
‫وإذا ادرك النسان أن له جانبا من المسؤولية في كل ما يقوم به فلم يبق له إل أن يفكر في ثمرة‬
‫العمل في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫أما عن ثمرة العمل في الدنيا فكثيرا ما يجنيها النسان كاملة‪ ،‬وكثيرا مال يحصل إل على نصيب‬
‫منها‪ ،‬وقد ل يحصل على أي نصيب منها وليعلم أنه في ذلك مبتلى من ال تعالى عسى أن يكون‬
‫من الفائزين في الدار الخرة‪.‬‬
‫ومن هنا مبحث الوعد والوعيد وما يرتبط به من خلود في الجنة أو في النار‪.‬‬
‫إن الضجة الكلمية لم تثر حول خلود الصالحين في الجنة أو خلود المشركين في النار وإنما‬
‫ثارت بعنف حول من خلطوا عمل صالحا وآخر سيئا‪ ،‬وقد ثارت في الوساط السلمية من مقتل‬
‫عثمان فتساءل الناس عن مرتكب الكبيرة‪ ،‬وعن اليمان والكفر‪ ،‬والنفاق ‪ ،‬والفسق وما يترتب‬
‫عليها من أحكام‪.‬‬
‫وكسائر المباحث الكلمية تأرجح المسلمون بين طرفين متناقضيين بين الرجاء القائل بأنه ل‬
‫تضر مع اليمان معصية‪ ،‬وبين الحكم بالشرك على كل أنواع المعاصي‪.‬‬

‫( ‪)2/244‬‬

‫ووقف الباضية من يومهم الول موقفا خالصا قالوا فيه بكفر النعم‪ ،‬ثم ألحوا إلحاحا كبيرا على‬
‫قضية الصرار واعتبروا أل سبيل الى نجاة المصر على المعصية حتى الموت ولهذا اتهمهم‬
‫الطرف المتسامح بالشدة وبالغفلة عن رحمة ال إل أنهم ل يرفضون فضل ال لكن يربطون‬
‫القضية بالحكمة وليس من الحكمة أن يجمع بين المؤمن الموفي وبين من مات معاندا مستكبرا‬
‫على ال تعالى في مقام واحد وبهذا قالوا بإنفاذ الوعيد في هؤلء جميعا من الباضية ومن غير‬
‫الباضية‪.‬‬
‫وترتب على هذا القول بخلود كفار النعم المصرين في النار وعرضوا في ذلك من الدلة الكثير‬
‫وقد غلب على هذه الدلة طابع النقل من القرآن والسنة‪.‬‬
‫وارتبطت بهذين المبحثين قضايا أخرى مثل عذاب القبر والشفاعة وما إلى ذلك فكانت كلها خادمة‬
‫للموضوع الصلي وموجهة في اتجاهه فعذاب القبر ثابت لمن مات مصرا على المعصية ول‬
‫سبيل له إلى الشفاعة لن الشفعاء ل يشفعون إل بإذن ال وال ل يأذن بحكمته في أن يشفع في‬
‫من مات مستكبرا معرضا عن التوبة‪.‬‬
‫وفي مبحث التوبة ألح الباضية على ضرورة التحري في حقوق ال تعالى وفي حقوق العباد مع‬
‫أداء ما حدده الشرع من الكفارات‪.‬‬
‫والمهم أن مثل هذا المعتقد بين أثره الفعال في البيئة الباضية إذ دفعها الى مزيد من التحري‬
‫والمحافظة على أحكام الشريعة زمن المامة العادلة وزمن فقدانها حين أرسى علماؤها قواعد‬
‫للولية والبراءة تجعل المجتمع رقيبا على من ينتهك حرمات ال فيحرم من حقوقه المدنية حتى‬
‫يؤوب الى ال تعالى ويقلع عن المعصية التي تضر بمصلحة المة‪.‬‬
‫والمتأمل في واقع البيئة الباضية في وادي ميزاب اليوم حيث ما يزال نفوذ هذه العقيدة ساريا‬
‫يرجو لو سلك المسلمون في كل مكان مثل ذلك المسلك وبالتالي يلتقي الجميع على درب اليمان‬
‫لقامة دولة السلم‪.‬‬
‫‪---‬‬

‫( ‪)2/245‬‬

You might also like