Professional Documents
Culture Documents
فصول الكتاب:
الفصل الول :الجاهلية الرومانسية.
* العقيدة الرومانسية.
* الشريعة الرومانسية.
* الرهاب الرومانسي.
* نهاية النسان الرومانسي.
* السلم الرومانسي.
العقيدة الرومانسية
الرومانسية مذهب أدبي ثم فلسفي في تعاطي التصورات والنفعالت
النسانية ومناقشة الكون والحياة .نتج في أصل نشأته عن اضطراب
المجتمع المدني في فرنسا ثم ألمانيا ثم بقية المجتمعات في أوروبا
التي فقدت الدين ثم فقدت روح المبدأ الجماعي ثم فقدت الحقيقة في
معنى الحياة عندما أيقن النسان الوروبي أن ثورة فرنسا ليست إل
صيحة رجل مجنون ,جمعت الناس على أمر ل يعلمون لماذا اجتمعوا
عليه!.
لقد كان التجاه الرومانسي هو أول النتاج النفسي للحضارة المدنية
ولهذا تجد في سماته كل مؤثرات المدنية الصلفة ,فهو يميل إلى
اللمعقول وينبذ القواعد والصول ويطلق أجنحة العاطفة في سماء
التصور بل حدود؛ لن المدنية تقيد النسان في قفص من إسمنت
مسلح وتحوله إلى مجرد آلة في ورشة عمل كبيرة ,شعوره هو آخر
شيء يحق له أن يتكلم عنه حتى يعود إلى منزله من جديد .ولن
النسان الغربي مازال يحمل في نفسه "عقدة الضطهاد النظامي"
الموروثة عن سيطرة الكنيسة ولصوصها في الحقبة السابقة فقد صار
يمقت الشكلية المنظمة والترتيب السلوكي والحكم المسبق على
المبادئ العامة ,ولهذا يمتاز المذهب الرومانسي بفرط النانية
الشعورية وتسلط الخيال الفردي دون أي اعتبار لكل مقومات
التصور والشعور المشترك ,ولهذا تجد الب الغربي كاثوليكيا،
وزوجته بروتستانتيه ،وابنته ملحدة ،وابنه بوذيا وثنيا ,وستعلم كيف
آل بهم الحال إلى هذا الوضع بعد نهاية هذا الفصل من الكتاب ,وهذه
ردة فعل طبيعية للشعور بالتهميش والحتقار اللي الذي ينتج عن
طبيعة جريان الحياة المدنية التي ينساب الناس في شعابها كما تتدافع
الثيران من باب الحظيرة ل تعرف شيئا سوى أنها تريد أن تجتاز تلك
المدنية التي تفتت أفراد المجتمع فيها في خليا المصالح المدنية
13 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
الشريعة الرومانسية
أشير هنا إلى أن سلب النسان الحق في أن يمثل نفسه في الحياة
بشكل كامل بحيث ل يأمر بما يراه معروفا ول ينهى عما يراه منكرا
تبعا لمثل وأخلقيات عليا يجتمع عليها كل المجتمع ,أمر خطير له
عواقب فصامية تورث نزعات اضطهادية تجاه المجتمع وقوى
السيطرة فيه ,وما التكفير ومثله العلمانية والباحية في عصرنا إل
أعراض لهذه العقد الضطهادية .وربما نتج عن هذه العقد
الضطهادية تصورات خاصة لدى الفرد يقابل فيها شعور التهميش
والحتقار الناتج عن سوء تصرفه بنفسه وجهله بالحقيقة المتعلقة بذاته
وبالكون وبحقوقه وحقوق الناس من حوله وبحق ال عليه قبل كل
شيء ,لهذا يقول ال تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إل من سفه
19 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
نفسه)( )12قال ابن كثير « :ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره! » (.)13
فهذه الركاكة في تصور العالم بشكل واضح هي سبب الجنوح الول
في عقيدة النسان المنضبط ,وهي مصدر الفسوق واللحاد وربما
الكفر وهي التي يسميها علماء السلف بالزندقة؛ أي أن ل يكون له
عقيدة معلنة واضحة ،ويبطن عقيدة خاصة يقدّسها ويضفي عليها هالة
من التصورات الخرافية ،ويجعلها منهجا للحياة بتجاهل تام لمجموع
الناس وظروف البيئة من حوله ,ول يلزم من النسان المتزندق أن
يكون يضمر المكيدة للسلم فربما نتجت زندقته عن (دوافعه
النسانية الذاتية) ,ولهذا كان ابن تيمية رحمه ال يقول لمناظريه من
الجهمية :بأن قولهم كفر؛ ولكنه ل يكفرهم لنهم جهلة ,مع أنه يكفر
من يقول بقول الجهمية .فكم حفل التاريخ بشخصيات كانت تنافح عن
زندقتها والسيوف فوق رقابها حتى قتلت على ذلك .والشيء الذي
أريد أن أصل إليه هو أن المجتمع إذا أصبحت لديه قناعة بأن الدين
أداة حكم مدنية وليس له طعم العبودية ول لونها ,وأزيلت عنه (صِبغة
ال) التي ذكرها في كتابه ,وأن أكثر أحكامه هي رغبات تراثية قديمة
مشكوك في صحة ثبوتها ل تمثل أهل الرض ول أهل السماء ,وأنه
سياسة من السياسات ونظام إدارة سلوكي مع إغفال تام لمعنى الحسنة
والسيئة ,فحينها سيكون قبول أحكامه وإملءاته بل تعليل نفعي مقنع
فكريا ونفسيا ضربا من البلهة والخنوع المخجل ,وعندها تجد أن
مناقشة ما يسمونه( :عجرفة الدين) ستكون أمرا من باب المراجعة
الفكرية والتنظيم السلوكي ,ثم بعد ذلك ينشأ جدار الوحشة بين
المكلفين وبين مفهوم المجتمع المتدين ,ذلك المجتمع الذي صار الناس
ينظرون إليه أنه في تصوراته وعقوباته ل يختلف عن أي شرطي
أمي منفعل يقدس النظام ول يعرفه ،ولو أراد تنفيذ عقوبة لما استطاع
كتابة قسيمة مخالفة بها ,فهو صورية ساذجة تقف حجر عثرة في
طريق الناس وتزعم أنها سفينة نوح ,ثم بعد ذلك تنشأ الرغبة الذاتية
بالفسوق والتمرد الشخصي ،ثم العائلي ،ثم الجتماعي ،ثم تتطور
)(12البقرة.130 :
)(13تفسير ابن كثير . 256/ 1،
20 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
من أمامك وهي تتسلل في مشيتها وتخاتل في نظرتها لنها تعلم بأنها
ل لها ,فحتى تأخذ فضل غيرها وأن هذه القطعة لم تصنع أص ً
الحيوانات ل تستطيع أن تنكر النضباط والخلق مطلقا ,واحترام
الطبائع البشرية الصلية أمر سيكون رغما عنهم؛ لن النسان ل
يمكن أن يتنكر لطبيعته على وجه المنهجية واللزوم؛ وإنما يجنح عن
ذلك ثم يعود ل محالة ،فليس هذا من ترتيب حبكتهم الفكرية ،ول من
سابق ترشيدهم الفكري للرومانسية ،لنها في حقيقتها شيء كالمخدر
الذي يتداوله الناس ،فل يلبث أن يكون قوت أهل المدينة وسلوتهم؛
ولكنه لن يغنيهم عن الماء والخبز ،فكذلك ل غنى للنسان عن
مقوماته الطبيعية وإن أغرقته في الباحية ,ويتضح فشل من يتنكر
لهذه الطبائع في أتباع المذهب (الهيـبي) ،الذين صاروا ينامون بين
ركام القمامات وتحت الجسور وفي الخرب والحشوش ،ثم يموت
ل كالكلب الجرب ,ولن الطبيعة تعني الكل أحدهم موبوءا مرذو ً
والشرب والجماع والتناسل وحب التملك والشعور بالبقاء والمتداد
والتعبير عن الذات ،وهذه كلها وغيرها من المور التي ل تنفك عن
أحد وتلزم حتى المجانين في عنابرهم ,وهذه هي الشياء الوحيدة
التي تعلن المدنية الكاذبة الفاكة اليوم احترامها وتقديرها وجعلها من
المقدرات الجتماعية المقدسة التي يجب الحفاظ عليها ,وكأنها تستطيع
قول غير ذلك!.
23 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
الرهاب الرومانسي
تفتح الجريدة وتقرأ فإذا فيها رجال كفقاقيع الصابون! ,تجد أحدهم
منتفخا ,برّاقا ,أنيقا ,تشع منه أطياف كثيرة وألوان مثيرة ,يتسامى إلى
السماء كأنه قطعة منها ,ولكنه خفيف الوزن ,فارغ! ,ما أن تلمسه
وإذا به ينفجر والماء قد مل وجهك وغطى عارضيك ,فهم يبصقون
العجرفة بصقا ويمارسون حذلقة عبارات المنطق الرياضي والعقلني
ببهلوانية ,فإذا فشلوا في تزوير جدول الرياضيات أو قائمة المسلمات
في تصور من يناظرون ,تغنوا بأهازيج الرومانسية الحالمة بعالم
مليء بالعدل والمساواة والحرية الطبيعية والتقدمية الخلّقة الفعّالة,
ونشروا بين يديك سجلت المة المنكوبة ومساوئ العهد الحاضر
الليم والعهد المتحجر القديم وترتروك وثرثروك وهولوك ,ثم قالوا:
من ربك؟ ,ما دينك؟ ,من نبيك؟! ,فإذا وجدوا أنك مازلت مسلما مؤمنا
ولّى أحدهم حسيرا كسيرا وقد ذهبت (فيهقاته الفلسفية) كما قال
المعلمي عن أباطيل الكوثري :كضرطة عير في فلة !!!.
هذا المنهج التشكيكي الذي يمارسة دعاة الرومانسية ,وسمهم كما
تشاء ,علمانيين ,ليبراليين ,عصرانيين ,عقلنيين ,منصّرين ,حشّاشين,
مجانين! ,المهم أنهم ينتحلون هذا المنهج ليس عن عدوانية تلقائية،
ول نفور مجرد؛ وإنما هو عن مكر مسبق ،وعن عقد ذاتية تنتاب أي
إنسان على وجه الرض بالرغبة في السيطرة والعلو ،وذلك بسبب
تلك القطعة الذي ذكرها ابن القيم عندما قال :بأن في كل إنسان قطعة
من الهوى تدعوه ليمارس الربوبية في الرض ،فمن الناس من
يضعها تحت ذل العبودية حتى تنكسر وتستسلم لرب العالمين ،ومنهم
من تكبر فيه هذه القطعة حتى يقول للناس (أنا ربكم العلى! ),
وبسبب هذه القطعة يجد المرء في نفسه شيء من الخجل إذا دعي
للستسلم اللمبرر في نصوص الشريعة ,كتقبيل الحجر أو رمي
الجمار أو أن المرأة مرورها يقطع الصلة ول يقطعها مرور
24 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
النعجة! ,كل هذا بسبب تلك النزعة المتعالية على إرادات ال المبهمة
والتي هي فعل محكّ العبودية الذي يميز الخبيث من الطيب ,بل
بلهة من المكلف ،وبل انقياد أحمق؛ ولكن اتباع من بعد اقتناع
بثبوت النص ولزوم الحجة وصدق العبودية!.
إن الخلفية العقدية لدى هؤلء القوم المتحذلقين على أمر ال ل تؤمن
بالعلم الخارجي؛ وإنما العلم هو ما نبع من الداخل كما بينت ذلك في
كلم يونك المريكي وغيره من واضعي أصول المذهب الرومانسي،
فهم ينسفون الخبرات الموروثة ،ويشككون في الماضي مطلقا،
ويربطون مصادر المعرفة بالخبرة الذاتية الفردية والجمعية النية
بحيث يكون الشارع اليوم ومن فيه هم بناة (الثقافة المحترمة
الصيلة) ،وذلك كما قال يونك « :الصيل له طبع خضري » ،ويتم
تجاهل الجيل السابق الذي سوف يكون اسمه الن (الكلسيكي) .ثم
تبدأ مرحلة جديدة من تقييم الذات والمجتمع والكون تنتج عنها مبادئ
جديدة حتما؛ لن المعطيات المادية الحاضرة تختلف بل ريب عن
الماديات في الجيل السابق ،ولهذا تجد التفاوت بين الجيال كبيرا في
الغرب ،فيتحدث الب لبنائه عن زمانه وكأنه قادم من العصور
الوسطى! ,ثم إذا جاء الجيل القادم سوف يكفر بكل ما بناه هذا الجيل
من قيم ثقافية وسلوكية ويسميه بالجيل (الكلسيكي الخير!) ثم يفعل
كما فعل الجيل الذي سبقه ,وهكذا يتجدد الكفر والجحود بين الجيال،
والهدم الخرق الغوغائي لكل ما بناه الخرون .إن الستمرار على
هذه الطريقة الجاحدة الكفورة في التعاطي مع الرث الثقافي للجيال
وبطريقة مستمرة أورث الغرب أجيالً (طفولية البعاد) ل تبلغ في
اهتماماتها وأركان المعرفة فيها ما يؤهلها لنتاج النسان الناضج
الحكيم وتجد هذا واضحا ,على سبيل المثال ,في جهل بعض أفراد
الشعب المريكي باسم رئيس الوليات المتحدة! وأحيانا باسم دولة
مثل الصين! ,هذا على مستوى المعلومة المجردة وليس المعلومة
المستنبطة أو المولدة أو المقترحة ,فكيف سيكون تفكير وسلوك هذا
المجتمع الذي يمارس تلقي المعرفة كما تمارسه البهائم التي تبني
تصوراتها للكون والحياة على ما تراه في قارعة الطريق! ,فهم ليس
لهم (ميت عاقل محترم) فكل موتاهم حمقى ورجعيون! والحي منهم
فقط هو الذي يدرك ما يقول ,وهم ل يعرفون غيبا مقدسا فكل الغيب
25 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
عندهم خرافة ،فإذا قلت لهم جنة ونارا تبرم أحدهم ولوى شدقيه,
فحالك معهم كحال كبير القوم ,أمير الزمان يجيء إلى ثور قيقول له:
يا ثور! عندي برسيم في المنزل!! فيرمرم الثور ويستمر في رمرمته
ل لكبير القوم أمير الزمان! ,لن الثيران ل تعرف الوعودل يلقي با ً
بالبرسيم وإنما تعرف البرسيم نفسه! ,حتى إذا أشرف طفل حاسر
الرأس حافي القدمين ومعه حزمة برسيم ,ركض إليه الثور واعتنقه
ولعق قدميه؛ لنه يحمل كل (مقومات الثقافة البناءة) التي ل تتحدث
عن جنة فوق السماوات السبع ،سماها صاحب رواية مزرعة الحيوان
بـ (مدينة الغراب الكذاب موسى) يقصد موسى عليه السلم!! ,فحال
هؤلء القوم كحال هذا الثور ذي العقيدة البرسيمية الذي إن تكلمت
معه عن أمر غير مشاهد قال( :يا شعيب ما نفقه كثيرا مما
تقول!)(.)16
وإليك هذا النموذج البائس الفقير! ,يقول كاتب خليجي ليبرالي في
جريدة يومية 4 ,شعبان 1428هـ « :إن مشكلتنا الحضارية هي
في تسلط أفكار متشددة (يعني دينية) على أكثر مجريات المور
ونقدها هو أقرب الحلول للتخفيف من تسلط هذا الفكر » .فهو يبين
أنه إنما يمارس هذا المنهج التشكيكي وليس النقدي ,ليوهن وليس
ليمحص الحق عن الباطل أو ليصل إلى رؤية معينة واضحة
صحيحة ,فهو لديه قوة فكرية يريدها أن تفعل في المجتمع فعلها؛
ولكن المجتمع مشغول بقيم ومبادئ ل تقبل المشاركة في الحكم لنها
من ال ,على القل بحسب اجتهاد من قررها أو دان بها ,والمجتمع
يثق في هذه القيم ،وهو ل يستطيع أن يفرض فكره بالنار والبارود،
ولهذا يسعى لحجب الثقة عن ال بقطع العلقة بين المكلف وبين الثقة
بثبوت دين ال! ,ومن ثم طرد حكمه من الرض ،وبناء حكومة ثقافية
فكرية جديدة تدير المة يكون المرجع فيها إلى عقيدته الرومانسية
البرسيمية هو وأضرابه ,التي تقول بأن الحق في السعادة ،وأن قيمة
الذات تساوي قدرتها على التعبير ،وأن العالم ملك مشاع كروض
كبير تنتفع فيه كل المخلوقات بتلقائية وحرية طبيعية رومانسية!.
)(16هود.91 :
26 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
نفس الوقت أن أهله كأهل تلك الديان من حيث الكفر واليمان ,فهو
ل يحتاج إلى كل هذه الحذلقات لعلن البراءة من السلم .ثم ل
أدري متى كان حفظ جدول الضرب شرطا في صحة المبادئ
النسانية ،فكون الدين ل يعرف قوانين نيوتن أو جداء ديكارت أو
النظرية السموزية أو كيف يعمل مفتاح الدايود داخل الترانزيستور
في الحاسب اللي ،فهل يعني هذا أنه ل يستطيع أن يعطينا تفسيرا
حقيقيا لذواتنا البشرية و وجودنا الكوني وقصتنا الموغلة في الزمان
الول عندما كان ال ول شيء غير ال ثم خلق الخلق ثم خرجنا من
الجنة ثم ركبنا سفينة نوح ثم وقفنا خلف محمد عند قليب بدر إلى
أن جلسنا الن نناجز بعقولنا أغبياء العقيدة من أمثالك؟!!.
و في نفس هذا المقال ينتقد هذا الكاتب الليبرالي حديث الذبابة الذي
ورد في أصح كتب الحديث " صحيح البخاري " و يقول بأن الدين
الذي يأمر بالنظافة ل يمكن أن يأمر بغمس الذبابة في الناء قبل
شربه ! .فتجده يتجاهل تماما أن ذلك المر جاء على وجه الستطباب
حيث قال عليه الصلة و السلم ( :فإن في أحد جناحيه شفاء و في
الخر داء ) ثم ل تجد هذا الكاتب يستنكر أن يأمر الغرب الذي يقدس
النظافة و الحرية الشخصية الطبيب بوضع إصبعه في دبر مريض
البروستاتا .و لكن يقال له ليس اللوم عليك وإنما أنت (فروج
صاح عندما صاحت الديكة) ,وقد سبقك من المقلدين الكثير من الذين
يديرون العبارة يمينا وشمالً فيحسبون أنهم جاءوا بما لم يستطعه
الوائل ,ول أزعم أني من اكتشف هذا الضرب من المتفلسفة فقد
سبقني الفيلسوف الوروبي توماس كري الذي عاش فترة بداية
الرومانسية وتأثيرها على الشعر الكلسيكي ذي القواعد ودخول
الشعر المحكي فحدثت له هذه القصة الساخرة التي تنبئ عن شعوره
بفوضوية عبثية جلبتها تلك الرومانسية الغجرية ,فعندما سأله رجل
يأمل أن يكون شاعرا ,كيف يقلب قطعة نثر بسيطة إلى الشعر,
يعني كما فعل هذا الكاتب عندما سرق كلما من مفاهيم الغرب ضد
كنيستهم ليصنع منها هجاءا للسلم ــ ،فلخص له كري بسخرية
كيف يحول النثر إلى قصيدة رومانسية في ثلث خطوات ,قال« :
أدرها قليل لتأخذ شكل حكمة! ,وضع فيها زهرة! ,وامهرها بتعبير
29 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
إذا فشلت الرومانسية في مهمة أرسلت بدلً منها فنانا! .قد يحتقر
الناس الفنان من حيث تأثيره وينظرون إليه وهو يلوي شدقيه وينفخ
منخريه ويتقمص المشاهد فيضحكون منه وعليه ول يعلمون أن هذا
الكائن المشوّه الهلمي هو الوحيد ,على حد علمي بأصناف البشر,
الذي يجتث قلب النسان ويبول عليه وهو يضحك لضحيته وضحيته
يضحك له ,ل يعلم من أمر مكره شيئا .والغريب في التصور
النساني أن الناس يربطون الجمال بالخير والسعادة ،وهذا ربط
أحمق؛ لن أخطر المصائب التي دخلت على المجتمعات إنما دخلت
تحت وجوه جميلة ،ومشاهد جذابة ،وقد علم البشر في تاريخهم
الطويل هذه الحقيقة على مختلف حضاراتهم؛ حتى قال الصينيون :
(إذا فشل الشيطان في مهمة أرسل بدلً منه امرأة! ) ,بل إن هذه حيلة
طبيعية حتى في عالم النبات حيث توجد نباتات تقتات على قتل
الحشرات فتخرج لها أزهارا غاية في الجمال والجاذبية وبمجرد
وقوع الحشرة على الزهرة تنكمش النبتة على الحشرة فتقتلها فتمتص
عصارتها وتتغذى عليها ,وفي عالم الكائنات البحرية عشرات المثلة
المشابهة .فكون الفن يطفح بالجمال والشهوة والخيال الحالم فهذا ل
يعني أنه مصدر من مصادر الخير في المجتمع ,وقد جاء في
الصحيحين عن عائشة رضي ال عنها قالت :لما اشتكى النبي
ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية
وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي ال عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا
من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال( :أولئك إذا مات منهم
الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور
أولئك شرار الخلق عند ال) ,فلم تكن تلك التصاوير الفنية العجيبة
سببا في تقدمهم أو النظر إليهم بعين التقدير ،ولم يحترم النبي
إعجاب نسائه بتلك الحبكة الفنية في التصوير والبناء ،فرد كما ينبغي
لمسلم أن يرد وذلك من منظور (موافقة إرادات ال) لهذا العمل ،فكان
ذلك العمل من أشرّ الشر وكانوا هم من أفسد الناس ،وكانت النقطة
المرجعية التي يرد إليها كل مبدأ تلك الجملة التي ختم بها عليه
الصلة والسلم كلمه عندما قال ( :عند ال! ) .فكل القيم والمعايير
يجب أن ترد إلى ال بتجرد وعبودية نابعة عن اليمان المطلق بقوله
تعالى( :وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا
32 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
فالبث يصل دون فتوى ،والجوال يستقبل دون فتوى ،والشبكة تربط
الناس دون فتوى ،فصار الفساد يمشي بشكل آلي ل يحتاج إلى
وسائط بشرية قد تكون التقوى فيها أو التمييز بين الشر والخير سببا
في الحد من الفساد المنقول ,ومثل الذي حدث للدين حدث للثقة بالقادة
والرموز ،فنتج عن كل ذلك الجرأة على النقد المعلن لكل شيء من
كل أحد ،وشيوع الرومانسية الشخصية بترويج شعارات مثل الحرية
الشخصية وتقديس الذوق العام ,وهكذا!.
إن من أشهر مدارس علم الجتماع المدرسة الماركسية التي تفسر
التاريخ البشري بأنه مجرد( :تاريخ الصراع بين الطبقات) وهذا
تفسير مادي باطل ,وتقول بأن المادة هي التي تحكم تطور التاريخ،
فالتغيرات المادية في حياة البشر هي التي تغير نمط حياتهم
وأفكارهم ،وهذا قول على كثير من الصحة من ناحية اجتماعية ،أما
من ناحية عقدية فهو باطل؛ لنه ينفي أفعال ال وسننه في الكون
والتاريخ؛ ولكنه من منظور اجتماعي حقيقة ثابتة ،فالمجتمع يتغير
بقدر ما تتغير المواد التي تقوم عليها حياته ،ولهذا كلما زادت
المتغيرات المادية في المجتمع المدني كان ينبغي لنا أن نتوقع الكثير
من التغير الجتماعي على المستوى المعيشي النفعي والمستوى
الفكري النفسي بما في ذلك الدين ،وكذلك زيادة اضطراب الركنين
الساسيين اللذين يقوم عليهما أي مجتمع وهما( :الستقرار و
التكامل) وهذا سوف يقع في المجتمع الديني أو القومي ،والمجتمع
الصغر مثل القبيلة والسرة ،وهذا يفسر خروج المرأة عن القوامة ،
وخروج البناء عن عرف الباء ,وهكذا يقال في كل انسلخ جديد
عن انتماء سابق .
إن انهيار مبدأ المر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في ذات
الوقت نصب لعمود المذهب الرومانسي الذي سوف ينتج تلقائيا بل
مطالبة وبل صدام وفي صمت ل ينتبه إليه أحد؛ لن انهيار المر
بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أن المجتمع قد فقد (المبادئ
العامة المشتركة) التي يعرفها كل أحد أو ينكرها كل أحد والتي يرى
كل أحد جواز تبنيها والقيام عليها أمرا ونهيا ,فإذا زالت الحسبة من
سلوك الناس فهذا يعني أن الناس قد أقروا وبالجماع السكوتي كما
35 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
في كتابه (علم الجتماع) مشيرا إلى أهمية أن يكون للمجتمع مبادئ
تسمى معروفا ،ومبادئ أخرى تسمى منكرا « :إن المدرسة الوظيفية
تشدد على أهمية (الجماع الخلقي) في الحفاظ على النظام
والستقرار في المجتمع .ويتجلى الجماع الخلقي هذا عندما
يشترك أغلب الناس في المجتمع في ال ِقيَم نفسها .ويرى الوظيفيون أن
النظام والتوازن يمثلن الحالة العتيادية للمجتمع ،ويرتكز التوازن
الجتماعي على وجود إجماع أخلقي بين أعضاء المجتمع .إن
دريكهايم ,على سبيل المثال ,كان يعتقد أن الدين يؤكد تماسك الناس
بالقيم الجتماعية الجوهرية؛ ويسهم بالتالي في صيانة التماسك
الجتماعي» (.)22
وفي مقابل هذه المدرسة توجد نظرية الصراع التي تشمل النظرة
البراغماتية التي تعني تقويم المبادئ تبعا لمنفعتها الناتجة عن
الخطوات العملية مع تجاهل تام لكل المثاليات والمعاني المجردة التي
قد ل تكون (واقعا عمليا) ،وهذه النظرة لتقويم الكون هي (نظرة
ماركسية ذات ملكية خاصة!) .كذلك تشمل نظرية الصراع قانون
النتقاء الطبيعي أو قانون الغابة الذي ينص على أن البقاء للقوى،
وأن كثرة الفوضى الجتماعية تؤدي إلى تحرر الطاقات الكامنة،
فتنتج احتياجات جديدة يقابلها عمل وصناعة جديدة ،وهذه هي نظرية
المجتمع الصناعي القائمة على استثمار رؤوس البشر قبل رؤوس
الموال بطريقة مادية تشبه إلى حد كبير المبادئ الستثمارية التي
تدار بها مزارع الدجاج والبقار والخنازير! .ثم يتكلم غدينز عن
(الصدمة الثقافية) التي تنتج عن إغراق مجتمع ما في مبادئ مجتمع
آخر وثقافة أخرى كما يحدث لنا اليوم في العالم السلمي عندما
أغرقنا في الثقافة الغربية التي باتت تحيط بنا ،فيقول غدينز في (علم
الجتماع) صفحة « :86كثيرا ما يستخدم اصطلح (الصدمة
الثقافية) في هذا المجال! فإن الناس قد يصابون بالتشويش والحيرة
عندما يجدون أنفسهم في بيئة ثقافية جديدة؛ لنهم يشعرون عندئذٍ
بغياب النقاط المرجعية التي درجوا على الستهداء بها في فهم العالم
* * *
السلم الرومانسي
لم تكن الرومانسية مذهبا محتكرا للدباء والفلسفة؛ بل هي منهج
حياة يمس العقيدة .وهي مرحلة حادثة للتطور المادي والنمطي الذي
تسلل إلينا اليوم ليدخل تحت تأثيرها كل الناس ,كما أنها (أصول
ثابتة) يمكن طردها على كل تكتل اجتماعي يمر بنفس الظروف التي
يمر بها المجتمع المدني الغربي .فاليوم نسمع عن من يتكلم في أمور
الدين ويقول أنا مسلم علماني! ,وقد يكون الرجل كذلك من ناحية
شرعية لعدم تحقق شرط أو انتفاء مانع؛ ولكنه من ناحية منهجية
يؤسس إسلما جديدا ،فهو يقول كما قالوا في أصولهم الرومانسية
الدبية وذلك بأن المسلم يجب أن ل يتخلى عن طبيعته البشرية ،ثم
يسرد الحاديث واليات التي تذكر حقوق الفطرة والمأكل والمشرب
والنكاح؛ بل ويزعمون أن ال أذن بالكفر؛ وذلك بقولهم بالحرية
العتقادية ،فيقولون( :فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)( ,!)25وأننا
يجب أن نغضب لرسولنا وندافع عنه؛ (لنه شخصية فكرية خاصة
بنا) ،ونشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،أما ما عدا ذلك
من أمور الشريعة فهو خاضع لمبدأ عام واحد ،وهو( :أن الحق في
السعادة) ،فل ينبغي للسلم أن يقف في وجه سعادة الناس وراحتهم؛
لنه رحمة للعالمين .ثم يبدأ كل مسلم رومانسي تأسيس تصوره
الخاص وخرافته الخاصة عن السلم ،فيحيا بها ويدعو إليها،
ويجتمع مع غيره على (الطبيعة البشرية المقدسة) ،أو ما يسمونه بملة
إبراهيم كما هي حال من سبقوه من مؤسسي الرومانسية الدبية.
سبق أن ذكرت أنه كان من مؤسسي الرومانسية ومن أعضاء جماعة
الرومانسيين الوائل المفكر الديني شليرماخر ،وأنه كان ينادي
بإطلق الرومانسية عن طريق الفن ،وجعل الفنان عنصرا مركزيا
)(25الكهف .29 :
41 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
في ذلك ,وهذه اللوثة ذات الطابع الرومانسي تأثر بها جمع من الدعاة
السلميين حتى سمعنا بعضهم يفتي بجواز التمثيل للمرأة ،ويقول بأن
الفن رسالة! ,وهذه العبارة هي أصل من أصول المذهب الرومانسي
المتطرف ،وهي في لغة علماء العتقاد كقولك( :الخارجي يكفر
بالكبيرة ،والمعتزلي يقول بالمنزلة بين المنزلتين) ,كذلك فالرومانسي
يرى الفن رسالة كما نقلت سابقا عن الرومانسية بوصفها إعادة تقويم
وجودية شاملة كان مقدرا لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم
أجمع .والناشيد والمسرحيات التي يسمونها (إسلمية) داخلة في هذا
المبدأ المنحرف؛ لن الفن حسب تعريفه هو نقل الفكرة النسانية
بطريقة معنوية كالكتابة الدبية نثرية كانت أو شعرية ،أو بطريقة
حسيّة كالغنية والمسرحية والرسم بحيث تترك في المتلقي انطباعا
خاصا .وسواء كانت معنوية أو حسيّة فالسلم عقيدة وشريعة,
والفكرة السلمية ل يمثلها إل الدليل الشرعي؛ لن هذه الفكرة
بحاجة إلى ضبط وحسن توجيه شديدين قام لجلهما علم كامل اسمه
علم الصول ,فأما الدب والتمثيل والغناء فهي من زخارف القول
والفعل التي تضفي على الشيء ما هو أكبر منه وتتعامل مع الشعور
والحواس أكثر مما تتعامل مع العقل والفهم المستقيم ,حتى أن الكذب
والمبالغة في الشعر قد يكون غرضا شعريا محترما بل وربما كان
مطلوبا ,بل أن بعض الدعاة اليوم صاروا يعبدون ال بالكاذيب،
ويمارسون مهنة القصاص التي تقوم على مبدأ (الدعوة الرخيصة إلى
الدين) ،فل حاجة لعلم ول عمل؛ ولكن بصناعة الروايات الخرافية
ذات النهايات اليمانية والكرامات اللدنية!! ,والكرامات مثبتة عند أهل
السنة والجماعة؛ ولكن الزور منفي .ولو شارك بعض الدعاة
بقصصه الدعوية في جائزة نوبل العالمية لحصل على جائزة الرواية
المأساوية .وهذه النزعة العجائزية للسيطرة على توجهات الناس
بالخرافة والقصص العجيبة كانت منتشرة في زمن القصاصين الذين
حذر من خرافاتهم أهل العلم؛ حتى قال عمر بن الخطاب لكعب
الحبار وهو ينشر القصص العجيبة في كتب بني إسرائيل( :لتنتهين
عن ذلك أو للحقنك بجزر الخنازير!!) .وقد ثبتت هذه المقولة بسند
صحيح عن عمر .وقد يظن البعض أن هذه النزعة العجائزية (ملح
وعظية عابرة) ،والصحيح أنها تشكل الخلفية الولى التي يبنى عليها
42 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
كل تصور جديد؛ لن مدخل الفاسق أو الكافر إلى التدين يكون عن
طريق هذه الكاذيب الكراماتية ،فيصير هذا المتدين الجديد عالة على
أهله وأمته ،فل يجيد إل توهّم الكرامات وانتظار الئمة المنتظرين.
والصحيح أن الكرامة مثبتة في عقيدة أهل السنة والجماعة ،وقد قرر
هذا المر ابن تيمية رحمه ال في (أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)
خير تقرير؛ ولكن أن يصل المر إلى أن يقول لي أخ كريم :دخلت
قرية لم يدخلها داعية قبلي ،وكان معي رجل من أولياء ال ،وفجأة
ونحن نمر بالشارع خرج من أحد البيوت رجل أجنبي يركض!,
أترى يا صاحبي كيف أخرجت الدعوة العاصي وطردته عن
معصيته ,إنها بركة العمل ل!! .اهـ .فنحن نعاني كثيرا من هذه
" الصوفية الدارية " عند بعض الملتزمين ,و ل أحد ينكر بركة
العمل الصالح؛ ولكن ثبت أن الزنا وقع في المدينة المنورة وفيها سيد
الولياء محمد وما خرج الزناة منها يركضون ببركة عمله
الصالح!! ,و ثبت أنه عليه السلم كان يطلب أن يكون الرسول الذي
يرسل في حاجة ،حسن السم حسن الهيئة ,لكي يكون أدعى لقبول
ما عنده من كلم .و أنا هنا أربط بين الكرامات الوهمية المختلقة
وبين الفن؛ لنها نوع من الفن والدجل النفسي الذي يمارسه بعض
الدعاة على نفسه وعلى الناس من حوله فيجعل له تأثيرا في مجرى
الحداث من حوله ،ثم يتطور المر حتى يصير (قطبا من أقطاب
الصوفية) الذين تتحرك ببركة تسبيحهم الكواكب والفلك!! .وكل
ذلك مؤثر جدا في تكوين الصورة الحقيقية للكون من حولنا ولذواتنا
فيه.
كذلك الحال في سائر الفنون التعبيرية تجد أنه يتسرب إلى العمل
الكثير من المعاني التي ليس لها معنى! .فالفن بغض النظر عن
مناقشة تفصيلته مناقشة شرعية ففيه علة ظاهرة تجعله ل يصلح لن
يكون وسيلة دعوة إسلمية وهي :عدم القدرة على ضبط حدود
اليحاء .الذي سيقع في نفس المتلقي نتيجة العمل الفني ,وهذا يجعل
الفن مرتعا خصبا للوهام والمؤثرات المتداخلة والنتائج الغير
متوقعة ،ولهذا تجد أهل البدع يغرمون بمثل هذه المور؛ لنها
تمنحهم الفرصة لممارسة المبالغة وإدخال التصورات الشخصية داخل
43 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
العمل دون تحرج اجتماعي وشرعي بين من يقبلون ذلك .قد يقول
قائل بأن النبي قال لحسان( :أهجهم ومعك روح القدس!)( ,)26فهذا
في مواجهة الضد بالضد وليس في الدعوة إلى ال؛ لن الدعوة ل
تكون دعوة صحيحة إل إذا كانت تحقق (البلغ المبين) ،فال تعالى
يقول( :فهل على الرسل إل البلغ المبين)( )27ويقول( :فإن تولوا
فإنما عليك البلغ المبين)( )28وفسر ذلك البلغ قوله تعالى( :يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته)( )29وقوله( :وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
ولعلهم يتفكرون)( )30وكذلك قوله( :وما أنزلنا عليك الكتاب إل لتبين
لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)( ,)31ولو كتب
رجل قصيدة أو أدى مسرحية لكافر أو فاسق ثم قال :بينت له وأقمت
عليه الحجة؛ لكان من الكاذبين ,ل يخالف في هذا حتى أحذق النقاد
الدبيين الذين يجعلون معيار القصيدة الرائعة بأن يكون لها في كل
ن جديدة! .أما التمثيل والمسرح والغناء,مرة تُقرأ فيها إيحاءات ومعا ٍ
فحدّث ول حرج! ,خصوصا في بلد الغرب تجد أن بعض الذين
اعتنقوا السلم منهم من يمارس الرومانسية السلمية بشكل علني،
حتى أن مغنيا أمريكيا مشهورا أسلم ثم صار يسمي نفسه " يوسف
إسلم " يعد الن رأسا في الدعاة إلى السلم في الغرب قام بعد
اعتناقه السلم بعمل فرقة من الرجال والنساء وصار يغني للسلم،
وله عرض عالمي شهير اسمه Peace Trainأي (قطار السلم) يردد
فيه عبارات حب السلم وهو يتأبط الجيتار ويعزف وخلفه مجموعة
فتيات حاسرات الذرع والرؤوس يحملن دفوفا صغيرة يضربن بها
)(26ـورد الحديث بألفاظ كثيرة وفي الصحيحين( :أجب عني اللهم
ايده بروح القدس) وفي لفظ لمسلم( :هاجهم وجبريل معك).
)(27النحل.35 :
)(28النحل.82 :
)(29المائدة.67 :
)(30النحل.44 :
)( 31النحل.64 :
44 الفصل الول :الجاهلية الرومانسية
)(32النعام.116 :
50 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
رجلً أتى النبي فقال أي الناس أفضل؟ فقال :رجل يجاهد في سبيل
ال بماله ونفسه .قال ثم من؟ قال :مؤمن في شعب من الشعاب يعبد
ال ربه ويدع الناس من شره » .وهذا أيضا يدل على أن المسلم الذي
يعلم دينه حق العلم ويوقن به حق اليقين ينبغي له أن يشتغل بالدعوة
إليه والجهاد به وله وعنه ،فإن لم يستطع فإنه يفر بما معه من حقيقة
من وجه طوفان الضلل الذي يحيط به فينقطع في شعب من الشعاب
يعبد ربه حتى يموت على ما معه من حق .فوظيفة المسلم
والنسان بشكل عام هو أن يبحث عن الحقيقة ثم يحيا عليها حتى
يموت ،فليست وظيفة النسان في هذا العالم أن يمارس " العيش
الكريم " ،وإنما وظيفته ممارسة " الحقيقة الكريمة! " التي قد تضمن
له العيش الكريم أو قد ل تضمنه فيقتصر المر على " الحياة الطيبة "
من حيث قوة اليمان والشعور بلذته ،أما ما يتصوره الناس من طيب
عيش في مأكل ومشرب فليس شيئا تقتضيه "الحقيقة الكريمة" ،حتى
أن ال تعالى قال( :و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) ،وفي
قراءة متواترة (قُتل معه ربيون) ،فإن كانت حقيقة النبوة التي هي
أعلى الحقائق قد يترتب عليه قتل النبي ومن معه كما حدث ليحيى
عليه السلم الذي قدم رأسه هدية إلى عاهرة في خيمتها ,فوقوع ذلك
على من دون النبي من باب أولى .والحياة على الحقيقة الكريمة
والموت عليها هو النجاح الوحيد الذي تستطيع أن تسميه " نجاحا
حقيقيا " ،وقد سماه ال عز وجل في قصة أهل الخدود بـ " الفوز
الكبير " كما في سورة البروج مع أن القوم أحرقوا بالنار عن بكرة
أبيهم مع نسائهم وأطفالهم .فأما ما عدا ذلك فهي نجاحات آنية لحظية
تشبه في حدوثها الحصول على أكلة لذيذة بعد عناء في طبخها
وتحضيرها مع العلم أنها سوف تنتهي إلى أقرب مرحاض بعد
ساعات قليلة ,فالحقيقة الكريمة لها طابع الديمومة والخلود وكلما
كانت الفكرة قابلة للتغير السريع والضمحلل في أي لحظة فهي
فكرة ل يمكن أن تبني عليها " علما مطمئنا وعقيدة مستقيمة " ،وهذا
واضح لمن تأمله ،ولمن يرى في نفسه أنه يمثل في هذه الحياة شيئا
أكبر من دور الحمار والدجاجة البياضة والبقرة الحلوب وعلبة
الكوكاكول ،أو ببساطة ل يرى نفسه "سلعة استهلكية" على رفٍ في
سوق كبير اسمه "القوى العاملة"!.
51 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
يمكن أن يتحقق بها المجتمع النساني السعيد لما امتن ال بها ،ولكان
الذين جاءوا من بعد ذلك فصنعوا اللت المصنوعة أحق بهذه المنة
من ال؛ لنهم قدّموا للبشرية أدوات كمال إنساني حققت ما لم يحققه
خلق ال الول لمخلوقاته عندما خلق الكون من السماء والرض وما
فيهما ,وهذا واضح؛ بل وواقع سوف يحدث في زمن نزول عيسى
عليه السلم عندما ينزل ليقاتل بالسيف والرمح! ,بل صناعات وبل
مخترعات كما هي حالنا اليوم ,ثم يحكم العالم كما في صحيح مسلم:
« فيمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة » يستظلون بالرمانة
وتروي اللقحة من البل القبيلة ,فإن لم يكن هذا مجتمعا سعيدا فل
أدري ما هو تعريف المجتمع السعيد! .فإن تحقيق المجتمع السعيد ل
يفتقر إلى الختراع أو إلى البتكار أو إلى الصناعة؛ ولكنه يفتقر إلى
" نقاء الجنس البشري من كل أنواع الشرك والكفر والنفاق وكل
مقومات تلك الشياء " .وقد يسخر الناس من مثل هذه المثاليات التي
يندر تحققها؛ ولكنها ستتحقق ،وثبت ذلك كما في زمن نزول عيسى
عليه السلم .ولكن الناس ل يسخرون من مثاليات أرضية مادية
كالتي قالها كارل ماركس في تنظيره لمستقبل الشيوعية عندما توقع
أن العالم كله سيصبح شيوعيا ،ثم يستغني الناس في النهاية عن
الحكومات ويعيشون في "طبقة واحدة" ليس فيها حكومة ول
شرطي!! ,ثم رأينا من يؤمن بهذا ويثور لجله الثورة الحمراء التي
يقيمها على جثث أهله وبني جلدته وهو يغني في بعض شوارع العالم
العربي:
إن تسل عني فهذي قيمي *** إنني ماركسي لينيني أممي
وهذا وال هو العمى والصمى!! .ولهذا عندما ينزل عيسى عليه
السلم وقبل أن يقوم له المجتمع السعيد فإنه يقتل الدجال وحزبه
الكافر ،ويكسر الصليب ،ويقتل الخنزير ،ثم يقوم له أمر حكمه .وهذا
ل ينفي أن المصنوع البشري قد ل تتم السعادة إل به؛ لن الوضع
الصلي للعالم قد تغيّر ،فصارت هناك مفاسد غيرت هيئة المجتمع
المسلم الول الذي أشرك بعد عشرة قرون من نزول آدم على
الرض ,كما ثبت ذلك عن ابن عباس في صحيح البخاري ,فصار
هناك عناصر فاسدة تمتلك مصنوعات أخلّت بتوازن مقومات الخير
53 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
ولكن أين الذي يصل إلى تلك التركيبة الروحية الدقيقة من حيث
اليمان والفهم والتطبيق؟!.
المشكلة في النسان المصاب بداء " الهوس الفكري " إنه ل يقتنع بما
وراء العقل حتى يفقد عقله أو يقف على أبواب الموت فيشعر فعلً
بمعنى ما وراء الوجود المحسوس فيستسلم ويعود إلى رشده .تماما
كما حدث لخر عظماء اللحاد في الغرب "جون بول سارتر"
صاحب كتاب "الوجود والعدم" الذي أقلق حقبة الستينيات فما بعدها،
والذي أسس مذهب الوجودية ،وكان يدعو إلى تحويل النسان إلى
ميكانيكي حذق يغمر نفسه في حفرة الزيت تحت السيارات طيلة
حياته ل يخرج إل للكل والنوم ،ثم يعود إلى الحفرة من جديد ملغيا
من تصوراته كل ما وراء الحفرة وما هو خارجها تحت شعار (إكدح
حتى تنسى) ،و(التقط اللذة ولو من المرحاض) و ( عش كأنه لم يكن
أحد قبلك و لن يكون أحد بعدك ) ,ثم ماذا؟!! .يقول سارتر في آخر
حوار له عن آرائه الفلسفية والدبية :أنا ل أشعر بأني ذرة غبار
ظهرت في هذا الكون وإنما ككائن حساس تم التحضير لظهوره
وأحسن تكوينه أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إل من خالق!!.
( )35اهـ .
هكذا؟! .نعم ,هكذا!.
والوجودية واللحاد والتباع؟!
أين نذهب بكل هذا وأين يذهب كل هذا؟.
"جهنم الحمرا"!! ..هذا هو رأي سارتر الخير!.
إن تاريخ الصراع البشري في البحث عن المثالية النسانية ليس ناتج
عن فقدان الوجود الحقيقي لتلك المثالية علما وعملً وإنما هو ناتج
عن عدم فهم "مفهوم الحقيقة الكريمة" التي تترتب عليها المثالية
والفضيلة والنجاح الكوني ،ولهذا نجد أن بعض المجتمعات تبحث عن
تلك المثالية في جدول الضرب ،والجدول الدوري للعناصر
الكيميائية ،وبعض المجتمعات تبحث عنها في الخرافة الموروثة عن
() انتحار المثقفين العرب ,محمد جابر النصاري ,ص .146 35
55 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
الذي ينبغي له تبيان هذه الشياء بأنه (على كل شيء شهيد) ،فهو
الذي شهد نشأة العالم ،ونشأة كل ذرة فيه؛ لنه ما من غائبة في
السماء والرض إل في كتاب مبين؛ ولنه خالق كل شيء وهو على
كل شيء وكيل ,فبث هذه العلوم في كتابه وسنة نبيه ،حتى صار
يتحدث لصحابه فيقول كما في قصته مع أبي ذر حين غربت
الشمس « تدري أين تذهب؟ » .قلت ال ورسوله أعلم قال « :فإنها
تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ،ويوشك أن تسجد
فل يقبل منها ،وتستأذن فل يؤذن لها ،فيقال لها :ارجعي من حيث
جئت ،فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (الشمس تجري لمستقر لها
ذلك تقدير العزيز العليم) » ( .)40وكما في قصته أيضا مع أبي
ذر أن رسول ال رأى شاتين تنتطحان فقال « :يا أبا ذر هل
تدري فيم تنتطحان؟» ،قال :ل ،قال « :لكن ال يدرى وسيقضي
بينهما » ( .)41فهما شاتان ولكن بينهما لغة مشتركة ،ومظلَمة قائمة،
وشعور بالحقية متنازع فيه ،وشجار لن ينتهي إل بالعدل ،فإن لم
يكن الن فسيكون ذلك يوم القيامة ،فكل شيء في كتاب ،وكل شيء
واقع تحت الميزان ،ولن يخسر الميزان من أمر بإقامة الوزن فيه!.
فليس في هذا العالم شيء إل وهو آية في ذاته ,له غاياته وصفاته
التي ما وضعت فيه إل لغاية كونية أو شرعية فهو تبارك وتعالى
(الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى)( .)42ولجل أمثال هذه
النصوص قال أبو ذر رضي ال عنه أيضا ــ« :لقد تركنا
رسول ال وما يتقلب في السماء طائر إل ذكر لنا منه علما
» ( .)43ولهذا أقول :إن العلم في المقدمات وليس في النتائج .فهذا هو
الذي ربانا عليه القران عندما جاء ليبني الخلفية العقدية الولى التي
ستكون حاضنة لكل التصورات القادمة لكل نص مقدّس في الشريعة؛
حتى قال بعض أهل العلم كما ذكر السيوطي في التقان « :كل سورة
)( 40يس.38 :
)(41رواهـ ـأحمد,ـ ـوقالـ ـاللبانيـ ـفيـ ـالسلسلةـ ـالصحيحة:ـ ـإسناده
صحيح ،وحسنه شعيب الرناؤوط في حكمه على أحاديث المسند.
)(42العلى.3 ,2 :
)(43رواه أحمد وصححه اللباني في الصحيحة.
58 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
فيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهي مكية ،وكل سورة فيها
قصص النبياء والمم الخالية مكية» ( .)44فنحن فصل متأخر في
ملحمة من القصص والمآلت ،ولن نفهم هذا الفصل الذي نعيشه حتى
نراجع كل المقدمات الولى التي منها نشأ هذا الكم الهائل من السبل
والنتائج الناجحة والفاشلة.
ويذكر ال عز وجل في القران الكريم تعليمه آدم السماء كلها ،وهذا
هو أصل كل علم البشر مما لم يكن من الغيبيات التي أوحيت إلى
النبياء بعد ذلك ،وفيه تقرير للمبدأ اللهي الذي يذكره ال عز وجل
كثيرا وهو (وال يعلم وأنتم ل تعلمون)( ،)45فالصل في النسان
الجهل ،وان العلم بالنسبة إليه أمر أجنبي يطلبه من غيره؛ ولكن
بعض الناس ممن ل يعرف قدر نفسه ،وقد صار في مكانة يسمع
الناس فيها لقوله ،يظن أن العلم هو مجرد أن يجلس ويحك رأسه،
ويكتب ،ويسخر السلم لخيالته الحالمة ،ويحتكر فهم السلم على
بنيّات أفكاره ،تحت دعوى التجديد وإعادة قراءة النص .وفي يوم من
اليام ,كان يجلس شيخ فاضل في درسه والناس من حوله فأشار إلى
طفل يجلس بالقرب منه فقال له :أنت مسلم؟ فقال :نعم! قال الشيخ:
وتفكر؟ فقال :نعم! ,فرفع الشيخ رأسه وقال للحضور وهو يشير إلى
الطفل :هذا " مفكر إسلمي" ,مسلم ويفكر!.
إن العلم الحقيقي لن يكون من سوى ال ،ولهذا قال تعالى لنبيه في
بداية الوحي والنبوة( :إقرأ باسم ربك الذي خلق)( )46فربط العلم
بالكتساب ،وهو هنا القراءة ،ثم ذكر أن ذلك ينبغي أن يكون باسم
ال ,بال ول ،وختم الية بصفة الخلق؛ لكي يذكر بأن الخالق هو
الذي يعلّم وأن المخلوق هو المتعلّم ،ول ريب فجذور العلم وأصول
أبواب المعرفة بالنسبة للنسان شيء أجنبي يطلبه من خارجه ،والذي
يظن بأن الحقائق المستقلة التي ل تعتمد في تصورها وثبوتها على
غيرها قد تولد بداخله فهو إما مدعٍ للنبوة أو مجنون .يقول تعالى بعد
)(44التقان للسيوطي . 1/56،
)(45آل عمران.66 :
)(46العلق.1 :
59 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
)(50رواه مسلم.
61 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
قد يظن متسائل أن هذا الكلم ما كان ينبغي أن يكون تحت هذا
الباب ،والصحيح أنه ينبغي التوكيد على هذه المسألة خصوصا ً في
مراحل البناء الولى لشخصية المسلم ،فالذي يريد أن يزيل الذروة
يزيل حجرا؛ بينما الذي يريد أن يزيل الساس فعليه أن يزيل البناء
كله ولهذا يقول تعالى (أفمن أسس بنيانه على تقوى من ال ورضوان
خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار
جهنم)( ,)51فكل اليات التي نزلت في ترك المداهنة وحثت على
الصبر على الحق وتوحيد مصدر التلقي للعلم إنما كانت في أول
السلم ،فسورة الكافرون وسورة القلم وغير ذلك من اليات
الصريحات في التأكيد على نقاء المعتقد وصفاء المبدأ كقوله تعالى
في سورة يونس وهي مكية ــ( :وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات
قال الذين ل يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون
لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إل ما يوحى إلي إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم)( .)52والمعنى من هذا الباب الشارة
إلى أن المانة التي حملها النسان والخلفة في الرض التي جعلت
له إنما هي معان ٍ عقدية لها أبعاد موغلة في الزمان الول حيث نشأة
الكون ونشأة آدم والشيطان ،وأن تلك المعاني كانت منوطة بكل المم
السابقة كما هي منوطة بنا اليوم ،وأن ل قصصا مع تلك المم تبعا
لتحقيق هذه الخلفة من عدم تحقيقها ،فينبغي لنا أن نعود إلى كل تلك
المقدمات التي ل يعلم حقيقتها إل من استقاها من الكتاب والسنة
وتلقاها عن مشكاة رب العالمين الذي هو خالق كل شيء وهو على
كل شيء شهيد ,فليست الخلفة في الرض عيني فتاة جميلة ول
ضفيرتيها لتكون شغلً للشعراء وأهل الخيالت الحالمة يتكلمون فيها
كيفما أملت عليهم مخيلتهم الرومانسية الخصبة المتدبقة بكل أمر
دنيوي مرغوب ,ولسان حالهم قول امرؤ القيس:
()53
طرّب ل سُ ْدفَةٍ ** َت َغرّدَ َميّا ِ
ح النّدامى ال ُم َ لسْحارِ في ك ّ
ُيغَ ّردُ با َ
)(51التوبة.109 :
)(52يونس.15 :
)(53لسان العرب .1/557،
62 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
ولكنها الوظيفة الولى للنبياء والرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين ,قال تعالى( :يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين
الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل ال * إن الذين
يضلون عن سبيل ال لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)(.)54
وقال تعالى( :ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * ثم أرسلنا
رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا
وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ل يؤمنون)( )55إلى قوله (يا أيها الرسل
كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه
أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل
حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم حتى حين)(.)56
)(54
.44 )(55المؤمنون43 :
)(56المؤمنون 51 :ـــ .53
63 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
بال في عقل فرعون فإن عكسه هو العلم الذي ينفي الجهل عن كل
مخلوق في عقل أي متسائل ,أي أن المخلوق المراد العلم به هو ذلك
الشيء الذي خلقه ال بتلك الخلقة والهيئة المعينة لجل تلك الغاية
المعلومة ،فهذا هو العلم بالشيء بأن تعرف حقيقة خلقته التي خلق
عليها بمنفعته التي خلق لجلها ،وقل في المصنوع والمعاني المجردة
مثل ذلك .وهذه الطريقة في تعريف الشياء هي ما جاء في كلم ال
عز وجل كما قال تعالى في سورة الواقعة( :نحن خلقناكم فلول
تصدقون * أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن
قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم
وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد علمتم النشأة الولى فلول تذكرون
* أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء
لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون *
أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن
المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلول تشكرون * أفرأيتم النار التي
تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها
تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك العظيم)(.)61
بعد الشارة إلى هذه المعاني المذكورة تعلم أنه ل يمكن أن تدرك
حقيقة أي نظام حتى تدرك حقيقة كل العناصر الداخلة فيه من حيث
حقيقة تركيبها وتنشئتها ،ومن حيث غايات صنعها التي أوجدت هي
من أجلها ،وكذلك طريقة عملها؛ لكي تكون محققة لتلك الغايات التي
تم إيجادها من أجلها ,ولهذا تجد ان ال عز وجل يتكلم عن تراكيب
مادية في هذا الكون ليس لها دخل بالحسنة ول السيئة ،ول علقة لها
بالمر الشرعي ،مثل قوله تعالى (ولقد خلقنا النسان من سللة من
طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا
العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه
خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين)( )62فإن قيل بأن ال ذكر هذا
فقط ليثبت أنه أحسن الخالقين ،لقلنا بأنه يكفي أن يقول لنا بأنه
أحسن الخالقين فنؤمن بذلك دون كل هذه التفاصيل ،فإن آمنا بأنه
)(61الواقعة 57 :ـــ .74
)(62المؤمنون 13 :ـــ .14
65 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
خالق كل شيء أفل نؤمن أنه أحسن الخالقين؟! ولكن المعنى هو أن
يبين لنا حقيقة هذا الشيء المسمى النسان الذي خلقه ولم يكن في
حين من الدهر شيئا ً مذكورا؛ لن هذا ركن من أركان معرفة الدمي
نفسه ،ويبقى بعد ذلك الركن الخر وهو لي غاية خلق ال هذا
النسان؟ ,وكذلك هي الحال في كلمه عن البرد في قوله تعالى (ألم
تر أن ال يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق
يخرج من خلله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به
من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالبصار)(.)63
والفرق بين إشاراتنا هذه وبين قول من يجعل القرآن دفترا يشرح كل
موجود على الرض وكل مخترع جديد هو أننا نقول بأن ال ما ترك
مخلوقا من مخلوقاته التي أوجدها على الرض أو في السماء
وسيحتاج ابن آدم العلم بها في الدنيا أو الخرة إل وقد أشار إلى
أجناسها بشيء من تفصيل خلقتها أو أصل مادتها وغاية خلقها؛ ليكون
تركيب هذا العالم واضحا في ذهن وخيال كل مسلم ،وقبل هذا علم
آدم السماء كلها حتى قال ابن عباس« :عرض عليه أسماء ولده
إنسانا إنسانا والدواب فقيل :هذا الجمل هذا الحمار هذا الفرس وكل
ن كان شيء»( .)64وقد تكلم النبي في بعض الحاديث عن معا ٍ
يريد التنبيه إليها تصب في مثل هذا الباب الذي نتكلم فيه الن ،فقد
جاء في الصحيحين أنه قال « :بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها
فضربها فقالت وفي رواية :التفتت فقالت ,يعني البقرة ــ :إنا لم
نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث » ( ,)65وكذلك جاء في المسند بسند
صحيح :أنه أهديت إلى رسول ال بغلة فأعجبته فقلنا :يا رسول
ال لو أنزينا الحمر على خيلنا فجاءت مثل هذه ،فقال« :إنما يفعل
ذلك الذين ل يعلمون» .ففي الحديث الول تنبيه على أن البقرة خلقت
لغراض معينه كما قال تعالى( :وإن لكم في النعام لعبرة نسقيكم
مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى
)(63النور.43 :
)(64تفسير ابن كثير . 109/ 1،
)(65رواه البخاري .
66 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
لجلها ولهذا ينبغي أن يكون "النسان الخليفة " عالما بحقائق التكوين
وغايات الخلق في كل شيء من حوله على نحو يختلف في تفصيله
وإجماله من مخلوق إلى آخر وذلك حسب علقة الدمي بذلك
المخلوق واحتياجه العلم به ،ولجل هذا قال تعالى( :و لو اتبع الحق
أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن)( )71فسادا كونيا
وفسادا شرعيا؛ بل إن الساعة التي هي خراب الكون ل تكون إل
بسبب فقدان هذه المعاني الصلية في مخالفة الشياء لغايات خلقها فقد
جاء في الصحيح أن أعرابيا سأل النبي :متى الساعة؟ .وكان يسأل
عن الحد الزمني ،فرد عليه النبي بالحد السببي فقال« :إذا ضيّعت
المانة فانتظر الساعة» .قال كيف إضاعتها؟ قال« :إذا وسّد المر
إلى غير أهله فانتظر الساعة» ( ,)72فأصل كل خلل في الكون هو في
أن يفقد الشيء هيئته الفاعلة التي كان يعتمد عليها في أداء وظيفته
الصلية ،أو أن يفقد القدرة على تحقيق غايته أو منفعته التي ينبغي له
أن يحققها ,فإذا ساد هذا الختلل حتى صار أهم عنصر في الكون
وهو الدمي ل يستطيع تحقيق غايته التي خلق لجلها وهي التوحيد
والعبودية ل وذلك لندثار العلم وفشو الكفر كما قال « :ل تقوم
الساعة وعلى الرض من يقول ال ال» ( ,)73فإذا حدث ذلك قامت
الساعة؛ لن هذا العالم الذي كان أصل خلقه ليكون حاضنا للنسان
فقد غايته التي خلق لجلها؛ لن النسان بدوره فقد غايته بانقراض
اليمان وتوسيده اللوهية لغير ال وصار ليس لوجوده غاية فعندها
سيعلن ال عز وجل نفخة الصعق التي ستبيد البشر ثم يبيد من بعدهم
هذا الكون بأسره حتى ينادي سبحانه :لمن الملك اليوم ,فل يجيبه إل
نفسه المقدسة .وسنناقش هذا المر بمزيد من التفصيل في باب العدل
الكوني والشرعي.
والمعنى من إيراد هذا الباب هو الشارة إلى أن الخلفة في الرض
نوع من السيطرة أو الستمتاع أو النتفاع ،أو على أقل الحوال
)(71المؤمنون.71 :
)(72رواه البخاري.
)(73رواه مسلم.
68 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
العالم وتفصيل منافع ذلك التكوين وتسخيره لبني البشر ،وأن هذا
التسخير دليل عقلي لمن تفكر ،وأن هذه الحياة لمر ما قد أوجدت،
وأن الذين يكتفون منها بالستمتاع بمنافع الدنيا دون النظر إلى غايات
خلقها ويركنون إلى ذلك سيكون مصيرهم إلى النار ،وقد أشار إلى
هذا المعنى محمد أبو السعود في تفسيره لقوله تعالى( :ربنا إننا سمعنا
مناديا ينادي لليمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر
عنا سيئاتنا وتوفنا مع البرار)( ,)81قال :فإن معرفة سر خلق العالم
وما فيه من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه من
العمال الصالحة وتنزيه الخالق تعالى عن العبث من دواعى
الستعاذة مما يحيق بالمخلّين بذلك من وجهين؛ أحدهما :الوقوف على
تحقق العذاب ،فالفاء لترتيب الدعاء على ما ذكر .والثاني :الستعداد
لقبول الدعاء ،فالفاء لترتيب المدعو أعنى الوقاية على ذلك كأنه قيل:
وإذ قد عرفنا سرّك وأطعنا أمرك ونزهناك عما ل ينبغى فقنا عذاب
النار الذي هو جزاء الذين ل يعرفون ذلك ( .)82فكلمه يدور على أن
فهم قصة خلق العالم أصل أصيل في تكوين اليمان المطلوب للنجاة
من النار ،وهذا هو مقتضى قوله تعالى( :وما خلقنا السماء والرض
وما بينهما باطل ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من
النار)(.)83
في حديث عمران بن حصين دليل على أن السؤال عن نشوء العالم
هو أصل اليمان الول؛ لن النبي قال مجيبا على سؤالهم :حدثنا
عن أول هذا المر؟ بقوله« :كان ال ول شيء غير ال» ،ثم تكلم عن
المخلوق بعد أن اثبت الخالق .وفي الحديث دليل على مدى سعة خيال
الصحابة رضوان ال عليهم ومدى شمول تفكيرهم فهم على ما هم
عليه من بساطة حال تجشموا عناء السفر من اليمن إلى المدينة
وقطعوا المفازات وتعرضوا للمشقة العظيمة لكي يسألوا النبي :
كيف نشأ هذا العالم؟ حدثنا عن أول هذا المر!.
)(81آل عمران.193 :
)(82تفسير القران لبي السعود . 131/ 2،
)(83ص .27
73 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
كثير ممن تورط بثقافات الغرب وعاش تطورات البشرية اليوم حتى
صار ينظر إلى الكتاب والسنة على أنها كتب صفراء قديمة ل تفيد
في واقع الحياة ول تحل من أزمة الفكر النساني اليوم شيئا ،فكثير
ممن هم على هذه الشاكلة الملحدة لم يبلغ أحدهم في قرارة نفسه
وسعة خياله أن يسأل نفسه بجدية :كيف نشأ هذا العالم؟ ناهيك على
أن يعتقد حقا أن في هذا العالم من سيجيب على تساؤله هذا بجواب
صحيح يشفي غليل الضالين عن الحقيقة ,وما أكثرهم ,حتى أن
فيلسوفا من كبار فلسفة أوروبا في عصر النهضة اسمه " شوبنهور "
عندما يأس من تفسير العالم وتعليل تقلبات المجتمعات عبر الزمان
مع إلحاده وضعف عقله وضع نظرية فلسفية مشهورة هي (نظرية
عدم جدوى الوجود)( .)84التي مفادها أن البشر في هذا العالم
بالتجربة واستقراء التاريخ لن يبلغوا درجة النسانية المطلوبة
والمأمولة ،بحيث يعيشون في ود وسلم بل ظلم وبل استعلء وتكبر
فيما بينهم وبل سفك دماء ،وأنهم سيبقون لصوصا وكذابين وقتلة .
وبناءا على ذلك فقد نصت النظرية على حث البشر على عدم
التناسل؛ لكي يقوم البشر بعملية انقراض طوعي لجنسهم وعنصرهم
وجعل الجيل الذي كتبت فيه النظرية هو آخر جيل على وجه
الرض؛ لكي تتوقف هذه التجربة الكونية الفاشلة للنسان على حد
زعم ذلك الفيلسوف! .ولم تكن هذه نزعة فردية في الغرب بل كان
يرافقها كثير من السفاهات التي كانت تطرح على أعلى المستويات
العلمية مثل ما فعله فيلسوف ألماني()85كان يقول بأنه ل يستطيع أن
يتصور بأن هذا العالم نشأ بل رب وعندما قيل له :كيف تصر على
اليمان بأن لهذا العالم رب خلقه وأنت ترى كل هذا الظلم فيه؟ أين
ربك ليعدل بينهم؟ فما كان منه إل أن قال عبارته المشهورة عندهم:
(إن ربي خلق هذا العالم ثم مات!) ,بينما اعتنق صنف آخر اللحاد
مثل نيتشه الذي قال ( :إن ال مات و نحن الذين قتلناه و بات على
النسان السوبرمان أن يدير هذا العالم ) ,قتلناه أي اكتشفنا بالعلم و
التجربة أن ال مجرد خرافة ,تعالى ال عما يقولون ,و من نظرية
)(84ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة .
)(85ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة.
74 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
و فلسفة نيتشه بنا هتلر منهجه النازي القائم على الصفاء داروين
و النتقاء الطبيعي . العرقي
عندما تبنى الفرضية فوق فرضية أخرى و يتحول تطور العالم إلى
سلسلة من الظنون التي يتبناها بعض المثقفين ينتقل المجتمع بأكمله
إلى عالم آخر من المسلمات و المقاييس النسانية الجديدة .هنا نجد
ميرتشيا إلياده يحاول تلخيص الخطوات الفرضية التي سبقت
النمساخ الغربي فيقول ( :كانت الدعاية المادية في أوجها في
أواسط القرن التاسع عشر حيث ألف أوغست كونت 1855 ,م ,
كتابه " التعاليم الوضعية " و كذلك " نسق السياسة الوضعية " ثم نشر
بوخنر كتابه " القوة و المادة " الذي يريد أن يبرهن فيه على أن
الطبيعة تفتقد للغائية و أن الحياة قد نشأت عن التولد التلقائي و أن
الروح و العقل وظيفتان عضويتان كما أكد أن العقل عبارة عن
مجموع القوى المجتمعة في الدماغ و أن ما يسمى بالنفس أو الروح
هي عبارة عن مجالت مغناطيسية ناتجه عن كهرباء البدن .و في
العام 1856م نشر ماكس موللر كتابه " مقالت في الميثيولوجيا
المقارنة " ثم ظهر " أصل النواع " لداروين الذي أصل النزعة
المادية عام 1858م .ثم كتب هربرت سبنسر " المبادئ الولى "
عام 1862م محاول إثبات أن الكون نشأ من تحول غامض طرأ
على المادة الولنية نقلها من تجانس غير محدد إلى حال تغاير محدد
.و سرعان ما سرت هذه النظريات في الغرب فأخذت بعقول
المتعلمين و أفئدتهم وصار لها شعبية منقطعة النظير مما نتج عنه
كثمرة لكل هذا كتاب آرنست هايكل " قصة الخليقة على المذهب
الطبيعي " فنشر عام 1868م ليطبع منه في أقل من أربعين سنة
عشرين طبعة . )86( ) .هذا كله يفسر شدة النزعة اللحادية لدى
الغرب فكفرهم كفر شجاع ,لنه يثق بنفسه بناءا على تجربة علمية
و نظريات فرضية يرى هو صحتها ,فهو موهوم بأنه يمتلك على
صحة كفره البرهان ,و لكن الغريب في ملحد من المسلمين يزعم
بأنه يؤمن بالكتاب و السنة ثم تراه يقول بقول الغرب في كثير من
)(86البحث عن التاريخ و المعنى في الدين ,ميرتشيا إلياده ,ص:
. 115 -114
75 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
مناهجه التي بناها على كفر مبرر سابق ,فهما نقيضان ل يجتمعان و
لكنها لوثة التقليد العمى لدى بعض المثقفين الذين ل يجيدون حتى
الكفر ناهيك عن إجادة السلم .فكم هم مساكين و بسطاء ,
يذكرونني بقصة الحمق الذي عندما أراد إثبات شراسته و شدته قام
بقتل أبيه فهؤلء يحسبون التقدم بمجرد الكفر بالموروث ,و مخالفة
الراهن بل رؤية ,و ل فهم ,مع أن الصحيح أن حتى الكفر يحتاج
إلى وعي ,و منطقية ,و خيال جريء على التجربة ,فالغرب ل
يترك مبدأ ما حتى يجد له بديل منطقيا – حسب تصوره لمفهوم
المنطق -يكون هو على قناعة به ,بينما كفارنا اليوم يمارسون
الكفر المعلب و استنساخ تجارب المم الخرى التي لها معطيات و
عناصر تختلف تماما عما لدينا !.
وقد ضل في مسألة تعليل العالم وما فيه من العناصر خلق كثير؛
ولكن الضلل يكون واضحا ً أكثر فيمن عاش بعيدا عن نور الوحي؛
لن هذا العالم مليء بعناصر خفية لها تأثير واضح فيه نحن ل نراها
ول يمكن أن نتصور وجودها بل وحي فالملئكة والجن ,خصوصا
الشياطين منهم ,الذين يديرون كل مصائب العالم وآلمه ويقفون
وراءها ،فإبليس يضع عرشه على الماء ويبث سراياه وجنوده في
الناس ،ويدير المؤامرات ويؤثر في العالم والبشر تأثيرا منظما
مدروسا ،فكل مولود يولد يوكل به قرين من أتباعه يوسوس له،
ويغري البشر بمعصية ال ويزين لهم ذلك ،ويسعى في الرض
فسادا ،ويجيش الجنود من بني البشر الذين ل يؤمنون بوجوده ويجلس
على عواتقهم يسوقهم ويوحي إليهم فيتحدثون له وعنه ويدعون الناس
إلى دين الكفر بمنطق وهيئة الدميين .ول تزال الشياطين تشارك
النسان حتى في لقمته وبضع زوجته وهو ل يشعر ولو أن فلسفة
أوروبا قرأوا صحيح البخاري مؤمنين به لوجدوا قوله « :لتؤدن
الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة
القرناء» .ولما دعوا البشرية إلى أن تبيد كما باد الديناصور ،ولما
زعموا أن لهم رب خلق العالم ثم مات كأي نجا ٍر هرم ٍ مسكين غير
أن ال يختص بنوره من يشاء .أما عمران ومن معه رضوان ال
عليهم على بدائية حالهم وتقدم زمانهم فإن ال وهبهم عقولً تستوعب
76 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
الدنيا والخرة وتطلب الكمال بتكامل الدنيا مع الخرة فهم يعلمون أن
لهذا العالم رب ل يموت ,بدأ خلقه ثم يعيده وعدا عليه حقا ليجزي كل
نفس بما كسبت ولكن أكثر الناس ل يعلمون.
إن تجاهل النشأة الولى للكون وللنسان وتفصيل علقات مقومات
العالم الصلية مع بعضها البعض يورث الرتباك في ترتيب المعتقد
الفكري والنفسي تجاه العالم وغايته ،وتجاه القيم الحقيقية لفراد
المخلوقات في هذا الوجود ،ولهذا يستشهد سبحانه على وجوب المعاد
بذكر المبدأ كما في قوله( :نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن
بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد
علمتم النشأة الولى فلول تذكرون)( .)87إن اليمان بهذه النشأة
الولى للنفس البشرية وللكون يستصحب الشعور بأنه ليس لبن آدم
من المر شيء ,وأنه أجير في ملك غيره ،فل يفتري الغايات من
تلقاء نفسه ،ويعطي التقييمات لشياء هو لم يخلقها؛ بل ربما ل يعلم
حقيقتها ،وأنه كان في يوم من اليام " شيئا مستقلً بذاته " عن كل
تفاصيل هذه الحياة الدنيا التي تحيط به ليدرك أنه لم يخلق كجزء منها
وهي لم تخلق لتكون جزءا منه ،فل تلزم بين مسار الدمي وتحقيقه
للشخصية الدمية المثالية وبين مسار العالم في تطوراته المادية على
شتى تفسيرات كلمة "تطوّر" كما تفهم اليوم ,وكم هو شخص جاهل
بطوية النفس البشرية وحقيقة النتماءات العقدية في الكون من يقول
متعجبا متحسرا :صعد النسان القمر ومازال النسان يقتل النسان؟!
فلعل النسان ما صعد إلى القمر إل ليقتل النسان من هناك! .وقد
قرر علماء الجتماع في الغرب هذه الحقيقة التي تنص على أن
التطور الصناعي ل يعني التطور النساني ،وأن النسانية المثالية
والمجتمع المثالي ل علقة لهما من حيث إمكانية التكوين وحقيقة
الوجود بالتطور المادي لحضارة البشر ،فيقول العالم (إنتوني غدينز)
في كتابه "علم الجتماع " وهو يتكلم عن المجتمعات القديمة أو ما قبل
المجتمع الحديث :إن نسبة التفاوت وعدم المساواة في مجتمعات
الصيد ضئيلة جدا ول يهتم أفراد هذه المجتمعات بتجميع الثروة
المادية بما يتجاوز احتياجاتهم الساسية .وتنحصر اهتماماتهم عادة
)(87الواقعة 60 :ـــ .61
77 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
من الزخارف الكاذبة والمراسيم العبثية التي كانت تمليها عليه تفاهات
الحضارة المنصرمة وسيجد كل إنسان نفسه ذكرا يبحث عن أنثى
وجائعا يبحث عن رغيف وخائفا يبحث من مأوى ومتسائلً يبحث عن
عقيدة ثم بعد ذلك َهرِما ينتظر الموت وهو يقرأ كتابا في عقائد عجائز
نيسابور!! ,وهكذا .فليس من ركب الطائرة بأفضل ممن ركب الحمار
من الناحية النسانية والرقي الفكري وقد أجرى ال على أيدي أهل
الحمير والخيل والبغال من المكاشفات الكونية والمعجزات ما لم يجره
على أيدي أهل زماننا وأولهم من رعايته وشرف العناية بذوات
شخوصهم ما لم ينله أصحاب هذا الزمان وذلك على مستوى عامة
الناس حتى قال لُبيّ بن كعب« :إن ال أمرني أن أقرأ عليك
سورة البينة» ،فقال أُبيّ :وسماني لك رب العزة؟!! قال« :نعم»،
فبكى أُبيّ! (.)95
وفي قصة لعلها لم تتكرر في تاريخ البشرية بمثل هذه العظمة اللهية
التجريدية الصريحة عندما كان رجل بسيط يركب حماره فمر على
قرية خاوية فذكر ال قصته فقال( :أو كالذي مر على قرية وهي
خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه ال بعد موتها فأماته ال مائة
عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت
مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك
ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما
فلما تبين له قال أعلم أن ال على كل شيء قدير)( ،)96فهذا مقام
عظيم في زمان قديم ,و لو أنفق أهل الرض اليوم كل واحد ٍ منهم
مثل أحد ذهبا ليتمتعوا بممارسة ومشاهدة مثل هذا العلم اليقيني الذي
مر على صويحب القرية والحمار لما تمكنوا من ذلك! ولهذا قال
تعالى( :فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على
عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الرض فتكون
لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها ل تعمى البصار
)(95متفق عليه .
)(96البقرة .259 :
81 الفصل الثاني :المقدمات الولية للتصور الصحيح
مخلقة لنبين لكم ونقر في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم
نخرجكم طفل ..الية) (. )98
)2قال تعالى( :إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون) (.)99
)3قال تعالى( :فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من
طين لزب) (.)100
)4عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال :قال رسول ال :
«إن ال خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الرض ،فجاء بنو
آدم على قدر الرض ،جاء منهم الحمر والبيض والسود وبين
ذلك ،والسهل والحزن والخبيث والطيب» .رواه أحمد وغيره بسند
صحيح.
فصل في فوائد الدلة:
-1ان مادة خلق النسان لها تأثير في صفاته ،فالطيب من الرض
الطيبة ،والخبيث من الرض الخبيثة ،وكما قال عن النساء:
«إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وأعوج ما في الضلع أعله
فإن ذهبت تقومه كسرته» .فهيئة الضلع وموقع العوج منه كان
له تأثير في هيئة المرأة وموضع الميل فيها وهو أعلها أي
لسانها ،وقد أخبر سبحانه انه خلق آدم من تراب ،وأخبر انه
خلقه من سللة من طين ،وأخبر انه خلقه من صلصال من حمأ
مسنون ،فقد وردت النصوص بكل هذا ،والصلصال قيل فيه هو:
الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو فخار.
وقيل هو :المتغيّر الرائحة من قولهم صل إذا انتن .أما الحمأ
فالطين السود المتغيّر ،والمسنون فسّر بأنه من سننت الماء إذا
صببته أي المصبوب ،وقيل المنتن المسن من قولهم :سننت
الحجر على الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين،
)(98الحج. 5 :
)(99الحجر. 28 :
)(100الصافات. 11 :
87 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
ول يكون إل منتنا وهذه كلها أطوار التراب الذي هو مبدأ الخلق
الول.
-2قال ابن القيم في شفاء العليل :إن المادة الرضية اقتضت
حصول التفاوت في النوع النساني كما في المسند والترمذي
عنه أن ال خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الرض فكان
منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك فاقتضت مادة
النوع النساني تفاوتهم في أخلقهم وإراداتهم وأعمالهم ،ثم
اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة
بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها ،وابتله بعدوه الذي
ل يألوه خبالً ول يغفل عنه ،ثم ابتله مع ذلك بزينة الدنيا
وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه وحاجته ،وزيّن له
حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب
والفضة والخيل المسوّمة والنعام والحرث ،وأمره بترك قضاء
أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى
دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها.
وكان مقتضى الطبيعة النسانية أن ل يثبت على هذا البتلء
أحد ،وأن يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة،
فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم؛ بل أرسل إليهم رسله،
وأنزل عليهم كتبه ،وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه ،ووعدهم
على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم ،فلم تقو
عقول الكثرين على إيثار الجل المنتظر بعد زوال الدنيا على
هذا العاجل الحاضر المشاهد ،وقالوا :كيف يباع نقد حاضر وهو
قبض باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا
وخراب العالم؟! ولسان حال أكثرهم يقول :خذ ما تراه ودع شيئا
سمعت به .فساعد التوفيق اللهي من علم أنه يصلح لمواقع
فضله ،فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوئها حقيقة الخرة
ودوامها وما أعد ال فيها لهل طاعته وأهل معصيته ،ورأى
حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم شركائها ،وأنها
كما وصفها ال سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في
88 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
صفة الشيطان
-1إثبات أن إبليس هو أبو الجن ،وأن لبليس ذرية وانهم
يموتون ،وأنهم أمة عظيمة العدد ،وأن منهم الشياطين
وأن يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس؛ وإنما هم
من ذرية آدم عليه السلم:
)1قال تعالى( :وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا إل إبليس كان
من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني
وهم لكم عدو بئس للظالمين بدل) (.)101
)2قال تعالى( :يا بني آدم ل يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من
الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله
من حيث ل ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين ل يؤمنون)
(.)102
(أولياء) في الية الثانية فسرتها الية الولى بأنهم إبليس
وذريته ,و هم الشياطين.
)2عن عمران بن حصين رضي ال عنه قال :كنا مع النبي في
سفر ،فتفاوت بين أصحابه في السير ،فرفع رسول ال صوته
بهاتين اليتين (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء
عظيم) إلى قوله (عذاب ال شديد) فلما سمع ذلك أصحابه حثوا
المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله فقال« :هل تدرون أي يوم
ذلك؟» قالوا :ال ورسوله أعلم .قال« :ذاك يوم ينادي ال فيه آدم
فيناديه ربه فيقول يا آدم ابعث بعث النار فيقول يا رب؟ وما بعث
(سنفرغ لكم أيها الثقلن) ويقصد بهما النس والجن فعلم حينها أن
من مات من هذه الخليقة الثانية وكان مخاطبا بالتكليف والحسنة
والسيئة إنما هم البشر والجن فعلم من ذلك أن قوله « :و بني
إبليس» يقصد به الجن كافة فكان هذا نصا صريحا على أن إبليس هو
أبو الجن ولم أجد على حد علمي من أهل التفسير ول غيرهم
من استشهد بهذا الحديث على أن إبليس هو أبو الجن؛ وإنما عامة من
تكلم في ذلك استشهد بأقوال الحسن البصري وبعض التابعين مع أن
هذا نص في المسألة وملخصها أن النبي صنف المكلفين إلى ثلثة
أصناف :صنف خلقه ال قبل بعثة النبي ثم أن هذا الخلق يموت
بعد موته عليه الصلة والسلم فهم ليسوا من " أمة الدعوة " ،وهم
يأجوج ومأجوج وعيسى عليه السلم ،وخلق خلقوا وماتوا قبل بعثته
فهم أيضا ليسوا من أمته ،وهم من مات من بني آدم وبني إبليس،
وخلق خلقوا بعد بعثته فكلهم داخل في " أمة الدعوة " ,وال اعلم.
-2إثبات أن الجن أصناف ثلثة
)1عن أبي ثعلبة الخشني رضي ال عنه قال :قال رسول ال :
«الجن ثلثة أصناف :صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء،
وصنف حيات وكلب ،وصنف يحلّون ويظعنون» .رواه ابن
حبان في صحيحه ،والحاكم وقال :هذا حديث صحيح السناد،
وصححه الذهبي واللباني.
فصل في فوائد الدلة:
هذا التصنيف الذي ذكره النبي تصنيف حاصر ل يخرج عنه شيء
من أفراد الجن ،والجن في حقيقة أمرهم ينقسمون من حيث وجودهم
وتأثيرهم إلى ثلثة أقسام :قسم يقارن البشر ليغويهم ،فكل مولود يولد
يقارنه قرين من الجن كما قال « :ما منكم من أحد إل وقد وكّل به
قرينه من الجن» وقوله« :وكّل» مبني للمجهول والفاعل حقيقة هو
إبليس حيث يوكّل بكل مولود قرين من الشياطين إما بشكل مباشر أو
عن طريق جنوده وسراياه التي يبثها في الرض حيث قال في
الصحيح« :إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس»
95 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
وأما القرين فهو الذي يمس الطفل عند ولدته فيستهل صارخا حيث
قال كما في الصحيح« :ما من مولود يولد إل والشيطان يمسه حين
يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إل مريم وابنها» ،فهذا
صنف من أصناف الشياطين ،وهؤلء القرناء ل يتصورون ول
يظهرون للبشر أبدا وإنما هم كما وصفهم رسول ال يجرون من
ابن آدم مجرى الدم.
الصنف الثاني :هو صنف من الجن يعيش مع البشر كما تعيش
دواجن الحيوانات ،ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ،وهذا الصنف يعيش
مع الناس يوسوس لهم ويشاركهم في أرزاقهم ،ويسكنون أسقف
البيوت والخرب والحشوش ويتشكّلون في صور حيات وكلب وبشر
وهم في أصل خلقهم منهم من يطير ومنهم من ل يطير؛ لنه ثبت
تصور الشياطين في صور كائنات تطير وكائنات ل تطير كما في
حديث أبي هريرة رضي ال عنه في الذي يسرق من الزكاة ،وحديث
أُبيّ بن كعب رضي ال عنه ،وحديث ابن مسعود رضي ال عنه في
خبر الجني الذي كان على هيئة طائر أبيض وغير ذلك .وقد ثبت عن
النبي أنه قال كما في الصحيحين في حال رؤية الحيات« :إن
بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا أي على صورة حية
فآذنوه ثلثة أيام ،فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ،فإنما هو شيطان»،
فهذا يدل على أن الصنف الذي يتشكّل ويتصوّر قد يكون منه مؤمن
وكافر.
الصنف الثالث :وهم الذين يحلّون ويظعنون أي أن لهم مجتمعات
وحياة مستقلة بعيدا عن البشر ول يطيرون كجن نصيبين الذين جاءوا
إلى النبي فقال ابن مسعود« :فانطلق بنا أي رسول ال فأرانا
آثارهم وآثار نيرانهم ،وسألوه الزاد فقال :لكم كل عظم ذكر اسم ال
عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ،وكل بعرة علف لدوابكم»،
فل تكون لهم آثار ونيران ودواب إل وهم يمشون ول يطيرون ،وهذا
الصنف أيضا هو الذي ذكره ذلك الجني كما في حديث عمر عندما
قال بأنه في الجاهلية مع بداية بعثة النبي سمع صارخ الجن ينادي
عند الكعبة كما عند البخاري« :ألم تر الجن وإبلسها ولحوقها
بالقلص وأحلسها» ،والقلوص هي :الراحلة ،والحلس هو :ما يضعه
96 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
الراكب تحته ،وقد كانت الجن تشد الرحال إلى مكة لتعلم خبر هذا
النبي الجديد ،فهذا هو الصنف الذي يحلّ ويظعن ،وهم أيضا قد يكون
منهم مؤمن وكافر كما جاءت بذلك النصوص .وال اعلم.
-3أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من الشياطين
مقلدة في عقيدتهم:
)1عن ابن عباس قوله (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا
طرائق قددا) يقول :أهواء شتى منا المسلم ومنا المشرك (.)103
)2قال ابن جرير الطبري :قوله تعالى (وأنا ظننا أن لن تقول
النس والجن على ال كذبا) يقول :قالوا :وأنا حسبنا أن لن تقول
بنو آدم والجن على ال كذبا من القول والظن هاهنا بمعنى
الشك ــ ،وإنما أنكر هؤلء النفر من الجن أن تكون علمت أن
أحدا يجترئ على الكذب على ال لما سمعت القرآن؛ لنهم قبل أن
يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب ال الزاعمين أن ل صاحبة وولدا
وغير ذلك من معاني الكفر كانوا يحسبون أن إبليس صادق فيما
يدعو بني آدم إليه من صنوف الكفر فلما سمعوا القرآن أيقنوا أنه
كان كاذبا في كل ذلك ،فلذلك قالوا (وأنه كان يقول سفيهنا على
ال شططا) فسموه سفيها (.)104
-3قال تعالى( :وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما
حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا
يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي ال
وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن ل
يجب داعي ال فليس بمعجز في الرض وليس له من دونه أولياء
أولئك في ضلل مبين) (.)105
)(103تفسير الطبري .
)(104تفسير الطبري .
. 32 )(105الحقاف 29 :
97 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
)(106العراف . 27 :
)(107الحجر . 27 :
)(108الرحمن . 15 :
98 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
إذ مر به رجل جميل فقال :لقد أخطأ ظني أو ان هذا على دينه في
ي الرجل ،فدعي له ،فقال له ذلك،الجاهلية ،أو لقد كان كاهنهم ،عل ّ
فقال :ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم ،قال :فإني أعزم
عليك إل ما أخبرتني ،قال :كنت كاهنهم في الجاهلية ،قال :فما
أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال :بينما أنا يوما في السوق جاءتني
فيها الفزع ،فقالت :ألن تر الجن وإبلسها ويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلص وأحلسها .قال عمر :صدق ،بينما أنا عند
آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه ،فصرخ به صارخ لم أسمع
صارخا قط أش ّد صوتا منه يقول :يا جليح ،أمر نجيح ،رجل
فصيح ،يقول ل إله إل ال ،فوثب القوم ،قلت :ل أبرح حتى أعلم
ما وراء هذا ،ثم نادى يا جليح ،أمر نجيح ،رجل فصيح يقول ل
إله إل ال ،فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي .رواه البخاري.
-10باب إثبات صفة اليدين والقدمين للشيطان وأنه يأكل
ويشرب على الحقيقة:
)1عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما :أن رسول ال قال:
«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ،وإذا شرب فليشرب بيمينه ،فإن
الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» .رواه مسلم.
)2عن حذيفة رضي ال عنه قال :كنا إذا حضرنا مع النبي
طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول ال فيضع يده ،وإنا
حضرنا معه مرة طعاما ،فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع
يدها في الطعام فأخذ رسول ال بيدها ،ثم جاء أعرابي كأنما
يدفع فأخذ بيده فقال رسول ال « :إن الشيطان يستحل الطعام أن
ل يذكر اسم ال عليه ،وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت
بيدها ،فجاء بهذا العرابي ليستحل به فأخذت بيده ،والذي نفسي
بيده إن يده في يدي مع يدها» .رواه مسلم.
)3عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال قال« :إن
الشيطان يمشي في النعل الواحدة» .رواه الطحاوي بسند صحيح.
103 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
)4عن علقمة قال :سألت ابن مسعود فقلت هل شهد أحد منكم مع
رسول ال ليلة الجن؟ قال :ل؛ ولكنا كنا مع رسول ال ذات
ليلة ففقدناه ،فالتمسناه في الودية والشعاب ،فقلنا استطير أو
اغتيل ،قال :فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ،فلما أصبحنا إذا هو جاء
من قبل حراء ،قال :فقلنا :يا رسول ال ،فقدناك فطلبناك فلم
نجدك ،فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ،فقال« :أتاني داعي الجن
فذهبت معه ،فقرأت عليهم القرآن» ،قال :فانطلق بنا فأرانا آثارهم
وآثار نيرانهم .رواه مسلم.
-11إثبات أن لبليس عرش على الماء في البحر وأن له تاج:
)1عن أبي سعيد في حديثه عن ابن صياد الذي قيل بأنه هو
الدجال قال :لقيه رسول ال وأبو بكر وعمر في بعض طرق
المدينة فقال له رسول ال « :أتشهد أني رسول ال؟» فقال هو:
أتشهد أني رسول ال؟ فقال رسول ال « :آمنت بال وملئكته
وكتبه ما ترى؟» قال :أرى عرشا على الماء ،فقال رسول ال :
«ترى عرش إبليس على البحر وما ترى؟» قال :أرى صادقين
وكذابا ،أو كاذبين وصادقا ،فقال رسول ال « :لبس عليه
دعوه» .رواه مسلم .وله من حديث جابر عنه عليه الصلة
والسلم« :إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه
فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة».
)2عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال :قال رسول ال :
«إذا أصبح إبليس بث جنوده ،فيقول :من أضل اليوم مسلما ألبسته
التاج ،قال :فيخرج هذا فيقول :لم أزل به حتى طلق امرأته،
فيقول :أوشك أن يتزوج .ويجيء هذا فيقول :لم أزل به حتى عق
والديه ،فيقول :يوشك أن يبرهما .ويجيء هذا فيقول :لم أزل به
حتى أشرك ،فيقول :أنت أنت! ويجيء هذا فيقول :لم أزل به حتى
قتل ،فيقول :أنت أنت ويلبسه التاج» .رواه ابن حبان في صحيحة،
وقال اللباني :وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال
البخاري.
104 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
)2عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال :قال رسول ال :
«فناء أمتي بالطعن والطاعون) فقيل :يا رسول ال هذا الطعن قد
عرفناه فما الطاعون؟ قال (وخز أعدائكم من الجن وفي كل
شهادة) رواه احمد وقال المنذري :أحد أسانيده صحيح وصححه
اللباني.
)3عن حمنة بنت جحش رضي ال عنها قالت :كنت أستحاض
حيضة كثيرة شديدة ،فأتيت النبي أستفتيه وأخبره فوجدته في
بيت أختي زينب بنت جحش ،فقلت :يا رسول ال ،إني أستحاض
حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني؟ فقال« :إنما هي ركضة من
الشيطان» رواه الترمذي وقال حسن صحيح ،وقال :سألت محمد
أي البخاري عن هذا الحديث؟ فقال هو حديث حسن صحيح،
وهكذا قال أحمد بن حنبل.
«الركضة» :الضرب بالرجل ,قال بعض أهل العلم :أي
ضرب الشيطان الرحم برجله.
)4عن عائشة ،قالت استحيضت أم حبيبة بنت جحش أخت زينب
بنت جحش زوج النبي فاستفتت رسول ال ،فقال لها
رسول ال « :إن هذه ليست بحيضة ،ولكن هذا عرق فتقه
إبليس ،فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي ،وإذا أقبلت فاتركي
لها الصلة» .رواه الطحاوي والطبراني في مسند الشاميين بسند
حسن.
الواقع والواقعية
()110
يقول ال عز وجل( :إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع)
وقال تعالى( :إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبه)( )111فالواقع
في تعريفه ل يعدو أن يكون :الشيء الذي سيعايشه النسان حتما
على المستوى الحسي والمعنوي ل يستطيع أنه يدفعه عن نفسه ل
إقداما ول إحجاما ول تجاهلً .فالموت واقع! لنك سوف تمر به,
والحياة واقع! لنك تعاني َك َبدَها ولوائها ,والشيطان ووسوسته واقع!
لنه يؤثر فيك علمت أم لم تعلم آمنت أم لم تؤمن ,والملئكة واقع!.
ولهذا قال ( :كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .وكان ابن
عمر يقول إذا أمسيت فل تنتظر الصباح وإذا أصبحت فل تنتظر
المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك( .)112فهذه
ليست "عزلة توحدية " أو كما يقولون " عقدة ميتافيزيقية النتماء "
وإنما هي " الواقعية السمحة! "على نور من ال ,لمن يعرف ما هي
حقيقة الواقع وما هي مقتضيات تلك الحقيقة .وعند معرفة هذا ستعلم
أن أكثر الواقعيين تطرفا اليوم هو أبعدهم عن الواقع والواقعية ,فهو
يقول :كن واقعيا وتجاوز عن هذا المحظور الشرعي فإن لي فيه
منفعة! ,مع أن الذنب ل يبلى وستلقى كل نفس ما عملت من سوء
محضرا ,فالواقعية أن ل تتجاوز ,ويقول :كن واقعيا ول تقل ملئكة
وجن وشياطين! والواقع أن ال أثبت ذلك بل أن حتى الحمار يعلم
حق العلم وعين اليقين أن ذلك جنوح عن الواقع كما قال ( :إذا
سمعتم صياح الديكة فاسألوا ال من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم
)(110الطور.8 ,7 :
)(111الواقعة.2 ,1 :
)(112رواه البخاري.
113 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
للسنة ,فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله فتلك العروة
الوثقى التي ل انفصام لها)( ,)118فأين دعاة أستاذية العالم من هذا
اليوم؟ ,بعضهم في تحالف فكري مع الرافضي والعلماني في وجه
الغرب المتغطرس على فكرنا وحضارتنا! ,وبعضهم عضو في
المجلس التشريعي ويزعم أنه يوسف القرن الجديد! ,حسنا ,والناس؟
وأمة محمد ؟ أين هم من الحسنة والسيئة؟ ينتظرون على الرصفة
بل علم وبل كتاب وبل سنة إلى أن ينتصر حليف الرافضي
والعلماني على الغرب ويسود أعضاء " السلم الدسيس " في
البرلمان ويحول إلى خلفة راشدة ل يعلم برشدها إل ال ,ثم
الستاذية! ,ثم بعد هذه الحقب الطويلة من الزمان ,إن لم تكن قامت
الساعة بعد ,يلتفت بعد ذلك إلى عوام المكلفين ليقال لهم " نحن الن
خلفاء الرض وأساتذة العالم ,فتعالوا نبني الحياة! " ,لن هذا هو
المعلن من الهداف الستاذية الن ,صناعة السعادة والحياة
للبشرية!!.
إن التفسير المادي للتاريخ والواقع الناتج عن التداعيات السابقة هو
ذاته التفكير الماركسي الذي جاءت به الشيوعية الملحدة حيث يكرر
ماركس كما في كتابه " بؤس الفلسفة " أن كل الفكار الرضية ناتجة
عن المادة لن المادة سابقة للفكر والدماغ مادة والفكر ناتج عن
الدماغ والمادة كانت قبل كل شيء وستبقى بعد كل شيء! .ففكرة "
ال! " ,على حد وصف ماركس ,ناتجة عن العهد الزراعي الذي كان
النسان فيه بحاجة لقوة خفية تحمي محاصيله من الفات وتساعد
على كثرة النتاج فنتجت " فكرة ال " التي اخترعها النسان لسبب
اقتصادي بحت بحيث يوكل إليها زيادة إنتاجه وحفظ محصوله ثم أن
هذه الفكرة يجب أن تنتهي الن بعد اكتشاف تركيبة النبات والسمدة
ودخول عهد الصناعة فليس هناك حاجة لـ"فكرة ال " لن الصناعة
تتم السيطرة فيها على المصنوع بشكل كامل فليس هناك غيب يجبر
النسان على التعلق بفكرة الرب الخرافية ,في نظره ,التي كان يحتاج
النسان إليها لسباب اقتصادية بحيث يبارك ذلك الرب بعنايته اللهية
غلة المزارع ويحميها من الشرور الخفية!! .ويقول زميله فريدريك
)(118حلية الولياء (.)144/ 6
116 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
انجلز في كتابه (أصل السرة والملكية الخاصة والدولة) بأن " فكرة
الشرف " نتجت بعد اكتشاف المحراث!! ,حيث زادت ثروة الرجل
بسبب زيادة الرض المزروعة فصارت هناك ثروات يتم توريثها
بعد موت الرجال فنتجت فكرة الشرف لكي يعرف الرجل أن زوجته
ل تنجب إل من صلبه فيكون على يقين أن ثروته تذهب لبنائه
الطبيعيين حال ورثهم له بعد موته وأما قبل اكتشاف المحراث فلم
يكن للرجل ثروة يرثها أحد من بعده ولهذا يقول بأنه لم يكن هناك
شرف وأن كل رجل كان يسمح له أن يجامع كل امرأة بل حرج قبل
اكتشاف المحراث اللعين!! .فإذا تم نزع الملكية الفردية كما هو قانون
الشيوعية فإنه لن يكون لي شخص أي ثروة وعندها فإن سبب
احتكار المرأة على رجل واحد بدعوى الشرف أمر رجعي يجب
تركه ولهذا كانت الشيوعية في عهد فلديمير لينين تحرم الزواج لنه
استعباد وتملك بل سبب منطقي ثم سمح به بعد ذلك دون إجبار عليه
لسباب طبية بحته في مشروع سماه (زواج الكوب) وليس هذا مجال
بسط هذه السخافات!!.
اليوم نجد من يتكلم عن الواقع بنفس هذا المنظور المادي الملحد,
فعندما تنسب بعض الخفاقات الرضية لسباب غيبية كأن تجعل
السيئة والمعصية سببا لمصيبة حلت في مكان ما من بلد المسلمين
تجد من ينظر إليك نظر المغشي عليه من الضحك ويقول " :هذه
صوفية سياسية وبوهيمية الدراويش " فالقوم ما قتلوك إل بالبندقية
والصاروخ فما دخل السيئة بذلك؟! .فقديما عندما يمرض النسان
" مرض بذنبه ومعصيته " لننا ل نعرف كان يستساغ أن يقال
الفيروس والمجهر فأما اليوم فل حاجة لفكرة " العقوبة اللهية " لننا
بتنا نعرف السباب ,تماما كما هي الحال في مقولة ماركس بالنسبة
لـ" فكرة ال!! " ولكن على نطاق ضيق غير صريح ثم يزعم من
يقول بذلك بأن هذه هي الواقعية الصحيحة ويسميها " براغماتيه " لكي
تعتقد أنها مذهب جديد وإنما هي في الحقيقة " العقيدة الماركسية في
تحليل الحداث الكونية!! " غير أن البراغماتية تربط المادة بالنتيجة
الخارجية الناتجة عن منظومة الفكار العملية بينما الماركسية تربط
الجدلية المادية بمرحلة المقدمات الولية والستقصاء التي تبنى عليها
117 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
المسلمات الماركسية و في النهاية كلها " مادية "! .ول أحد ينفي
الحداث الكونية وارتباط القوة والتأثير بالسبب المادي بل أن ُمنِكر
ذلك يسمى " جبري" ولكن لكل فعل يأذن به ال حكمة بالغة تتجلى
لمن كان في قلبه نور ينظر به إلى مواطن رضا ال وسخطه كما أن
ال نص على ذلك في كتابه حيث قال( :وما أصابكم من مصيبة فبما
كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى.30 :
فليس الواقع مداره على النتائج النيّة ,بل إن التاريخ مليء بعبر
المآلت التي لم تكن تخطر ببال أحد مثل تسمية صلح الحديبية بـ "
الفتح المبين " على ما فيه من شروط كان ظاهرها الستضعاف
والضطهاد وكما وصف سبحانه حادثة الفك التي أبكت النبياء
والصديقين بأنها " خير لكم " أي للمسلمين! .وكما كانت قنبلة
هيروشيما التي ظن العالم أنها نهاية مجد اليابان فصارت بداية
تحرره من عبودية العائلة المبراطورية التي تزعم أنها من سللة ال
والتي كان يحرم على المواطن الياباني أن ينظر إلى أي فرد من
أفرادها إل بإذنه فكانوا يسجدون عند مرور أي فرد من أفراد العائلة
لكي ل ينظرون إليهم فحررتهم تلك الكارثة من عبودية الساطير
المتفرعنة والموت في سبيل المبراطور كما فعل طيارو الكانيكازي
في عملياتهم النتحارية ,وغير هذا من المثلة الكثير .إن العتماد
على التدبير الذاتي بشكل كامل حماقة ل ينكرها حتى الملحدين بل
حتى المبادئ الرياضية المنطقية والفيزيائية ,فلو نظرت إلى هذين
الخطين كما في الرسم التالي:
118 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
إن انحراف الخط السفل قليل وكذلك العلى سينتج عنه التقاء
الخطين في تقاطع سوف يقع في المستقبل بعد مسافة كبيرة ولكنه
سوف يقع ل محالة ومكان تلك النقطة التي سيلتقيان فيها ومدة الزمن
السابق لللتقاء كل هذا يحدده مقدار النحراف تقاربا وتباعدا
والمسافة بين أصل المستقيمين .كذلك فإن مقدار النحراف في الخط
العلوي سينتج عنه مرور الخط بنقاط كثيرة وهي التي تنتشر في
الرسم وفي نفس الوقت فإنه سيتجنب المرور بنقاط أخرى وتجد أن
هذا المرور والتجنب للنقاط أيضا متعلق بمقدار النحراف في
المستقيم .كذلك الحياة ,فلك أن تجعل ذلك النحراف هو مقدار بعدك
من الدين وقربك منه أو الخرة أو المال أو العلم أو أي طبع من
طباع البشر ككثرة المزاح أو الجديّة أو الحس المرهف أو الجلفة أو
قلة الحياء أو الشجاعة أو أي شيء له تأثير أصيل واضح في الحياة,
ثم نظرت إلى تركيبة حياتك والحداث التي مرت بها تجد أنها كلها
متأثرة بمقدار انحراف تلك الصفة صعودا أو نزولً بما في ذلك
الشخاص الذين صاحبتهم في حياتك كلها! .وقد تجد أنك تغير مسار
طريقك من شارع إلى شارع لجل " مطعم " أو " مغسلة ملبس " ثم
ينتج عن ذلك اللتقاء بأشخاص كثر أنت لم تكن تسعى للقياهم وربما
صدمت أحدهم بسيارتك وربما كان أحدهم يدين لك بمبلغ ما فيعطيك
إياه وربما تشاجرت مع شخص ما عند المطعم وربما حدثت أشياء
كثيرة قد تغير مسار حياتك وكل هذه الشياء أنت لم تكن تسعى إليها
119 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
ولكنك كنت تريد "المطعم" فقط!! .ولو حسبت الشياء التي تنتج عن
قرار ما أنت تختاره تجد أنه ينتج عنه " حدث واحد أو بضعة أحداث
" أنت كنت تتوقعها وتسعى إليها ولكن لو نظرت إلى كمية الحداث
الخرى المصاحبة والناتجة عن غير قصد لها والمترتبة على ذلك
الختيار المعين الذي اخترته تجد أنها قد تبلغ اللف دون مبالغة.
فكيف إذا تحدثت لك عن الفيروسات التي تمل الجو ولربما أصابك
فيروس كان في ذلك الشارع ولم يكن متواجدا في غيره لن ثمة
مريض بداء معين مر من هنا وحدثته نفسه في لحظة معينة اتفقت
مع مروره في هذا الشارع أن يبصق فينتشر الفيروس فتمر أنت
فتلتقطه! .وكيف لو تكلمت لك عن مسمار صغير قد يتلف إطار
سيارتك ,سقط من جيب عامل بناء كان يمر في هذا الشارع وكان قد
أوصى زوجته أن تخيط جيب سرواله ولكنها لم تفعل وهو صابر
عليها إلى هذه اللحظة لنها ابنة قريبه التي أجبرته أمه على الزواج
منها ولو طلقها وجاء بأخرى نشيطة قبل هذا اليوم لكانت قد خاطت
الجيب ولم يسقط المسمار ولم يتلف إطار سيارتك!!.و لو حدثتك عن
الشياطين الذين يتسكعون في الطرقات! ,فكم وكم من النقاط التي
تزاحمك وتصطدم بها وأنت ل تعلم وتظن أنك " تتحرك بخط واضح
مدروس! " وتظن أنك تعرف المؤثرات التي فعلً تقع عليك وهذا
غير صحيح .ففي مسألة المسمار هل كان الذنب ذنب الزوج أم
الزوجة أم الم أم ذنب من صنع المسمار أم ذنبك أنت لنك مررت
بهذا الشارع أم ذنب من فتح المطعم في هذا الشارع بالذات؟ .كل هذه
المؤثرات لو غاب منها واحد فقط لما تلف إطار سيارتك! ,وبعضها
دخل إلى هذه الدنيا قبل عشرات السنين وبقي موجودا لكي يؤثر
عليك في هذه اللحظة بالذات كذلك المسمار الذي ربما صنع في
الصين وبقي في مخازنها عشرات العوام ثم أتي به ليلعب دوره في
هذه اللحظة!.
إن النسان يعمل على دفع السبب الظاهر لكي ل تقع المصيبة
الظاهرة ولكن أي مصيبة قد تقع في أي لحظة لسباب كثيرة تحيط
بك وأنت ل تعلم ولكن ال هو الذي يحميك من هذه السباب ويعافيك
منها بينما أنت مشغول بالسباب الظاهرة .فمثل ً ,القتل قد يقع لي
120 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
سبب وقد كان أبي بن خلف من رؤوس الكفر والشرك ولكنه كان
يعلم أن ال قد ينصر نبيه في أي لحظة حتى قال مرة( :و ال لو
بصق علي محمد لقتلني) هذا مع أنه كافر قد حشي رأسه بعفن
الشرك! .وقد جاء في التاريخ من تسخير ال لبعض المور فقط لكي
تتجلى هذه المسألة في فهوم البشر وذلك كما في قصة تعذيب فرعون
وقومه بالقمل والضفادع والجراد وقد كان ال عز وجل قادر على أن
يعذبهم بالفيلة والديناصورات والمخلوقات المخيفة ولكن ال يريد أن
يبين لبني آدم أنه هو الذي يمسك السماوات والرض أن تزول وأنه
يمسك من أسباب الهلك الشيء الكثير الذي ل نأبه به ,بل وربما
نحتقره ولول عصمة ال لنا لقتل النسان ريقه الذي في فمه يشرق به
فيموت وقد حدث هذا كثيرا! .وقد وقفت بنفسي قبل أيام على قصة
فتاة صغيرة خرجت من باب المنزل فقفزت من أمامها قطة فخافت
الصغيرة وسقطت ميتة مع أن هذه القطة كانت تدخل البيت كل يوم
وكانت هذه الفتاة تراها ولكن ال قدّر في هذا اليوم بالذات وفي هذه
الساعة أن تتحول هذه القطة إلى " سبب قاتل مميت " فحدث ذلك.
فمن الذي قدّر كل هذا؟ .إنه ال سبحانه الذي يحول من حال إلى حال
والذي توعد الذين يجهلون قدر عظمته بأنه سيستدرجهم من حيث ل
يعلمون .فمن الذي سيعطيك خير هذه الشياء المحيطة بك والتي
تؤثر عليك وأنت ل تعرفها؟ .ومن الذي سيكفيك شرها ويجعلها ل
تعيق " حفنة " الهداف الصلية التي كنت أنت تسعى إليها؟؟ .إنه
توفيق ال ول شيء غير توفيق ال ول أحد في الدنيا كلها يستطيع
إحصاء عُشر ما يحيط بك من أسباب مؤذيه ناهيك عن إيجاد
الضمانات بدفعها عنك ولكن ال الذي بكل شيء محيط وهو القاهر
فوق عباده قادر على أن يحيط بذلك ويقهره بقوته وعظمته سبحانه,
فهذا الكون فضاء مخيف من المخلوقات ول يدرك عظمة ال من ل
يدرك عظمة هذا الكون الذي يسير فيه كل مخلوق دون أن يدخل في
نطاق الخر .فالذئب يأكل الخروف والخروف يأكل العشب والدجاجة
تأكل الحب ولن يأكل الدجاج الخروف ولن يأكل الذئب الحب وهذا
معنى قوله عليه الصلة والسلم (أعوذ بكلمات ال التامات التي ل
121 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
)(121رواه البخاري.
)(122ــذكرهـ ـفيـ ـكتابهـ ـ"ـ ـتفسيرـ ـسورةـ ـالتوبةـ ـ"ـ ـمتداولـ ـعلى
النترنت ولم يطبع.
124 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
عقيدة تقول بأن اليمان يزيد وينقص تبعا لتقارير الواشنطن بوست
وتعاملت الوول ستريت!! .ثم ينصبون أنفسهم أساتذة للواقع والحياة
وكأن الدين ليس من الحياة وليس من الواقع ,وقد كانت العذار
مقبولة نوعا ما لهل هذا المنحى ,ولكن بعدما كشف غطاء الصمت
وكسرت حواجز التعتيم وصار المسلم يقتل في مسجد ريفي في
العراق فتتناقل وسائل العلم صور قتله بعدها بلحظات ,والطفل
يقتل في فلسطين خلف ظهر أبيه فينقل ذلك بالصوت والصورة ,بل
أن حتى هفوات القادة والرؤساء أثناء جلسات الستراحة في
المؤتمرات العالمية تنقل بشكل يكاد يكون مباشر( ,)129بعد كل هذا
لماذا ننادي باليغال في " توهم واقع خفي " وننسب انحرافاتنا
المنهجية إلى اعتبارات وغايات ل يعلمها " عامة الناس! " .فأقول,
وهل بقي في هذا الزمان عامة في فهم الواقع؟!! .حتى العجائز
والطفال صاروا يعرفون أسماء أهل السياسة وقادة القتال في كل بلد
ويتوهمون المستقبل كما يتوهمه أي خبير سياسي غير أن الخبراء
يتوهمون بلغة سياسية علمية مليئة بالمصطلحات وشيء من الحدس
الشطرنجي حتى قال الستاذ الصحفي محمد حسنين هيكل بأن الخليج
بات مكشوفا بعد تجارب القارة الهندية النووية بين الهند وباكستان
وهو الن في خطر فرد عليه سفير خليجي عمل في خمس وزارات
()130
وسفيرا لبلده في بريطانيا بأن هذا استنتاج غريب غير مفيد!!.
الصحيح هو أن تفهم الدين لتفهم الواقع وليس أن تفهم الواقع وتجعل
الدين تبعا له حتى وإن قلنا بقاعدة المصلحة والمفسدة لن الواقع
المرئي جزء صغير جدا من واقع كبير اسمه " الواقع الشرعي " وهو
الذي يتركب من فهمك للكون وعناصره الفاعلة فيه ثم فهمك لخويصة
نفسك ودورها المناسب في الحياة ,وال عز وجل ما تركنا هملً بل
بصرنا وأخبرنا بأن هناك أجناس معينة من البشر والضللت سوف
تتكرر على مر الزمان ,فذكر سماتهم وسمات أزمنتهم التي يخرجون
)(129كما نقلت الفضائيات كلمات سوقيةـ للرئيس المريكي في
استراحة اجتماع حلف الناتو
( )2استراحة الخميس ,غازي القصيبي ,ص132 - 131 :
130
127 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
فيها وال عز وجل يقول( :و ال أعلم بأعدائكم وكفى بال وليا وكفى
بال نصيرا)( .)131لهذا عليك أن تعود إلى ما قلنا في تفصيل معنى
العلم بأن تعرف حقيقة تركيب الشيء وهيئته ثم تعرف غايته التي
يعمل لجلها ,وكل ذلك على أصول علمية من الكتاب والسنة ,فإذا
أنزلت هذا على كل شيء اكتشفت أن هذا الواقع شيء آخر تماما
وعرفت من الناس؟ ومن النسناس؟.
الواقع له أبعاد كثيرة بل هو عوالم في عالم واحد فأنت كآدمي تعيش
على المستوى الحسي من مسموع ومشاهد وملموس ولك ذهن وفطرة
وإيمان بالغيب وقرينك الذي يرافقك ل ينفك عنك من الشياطين يعيش
على المستوى الغيبي فل تراه وهو يراك ومعه أمة أخرى من بني
جنسه لهم ظروفهم وتركيبتهم وعالمهم الخر وأنت وهم تشتركون
حتى في المأكل والمشرب بل وربما شارك الجني الدمي في زوجته
وفراشه وهو ل يعلم! ,فالشيطان كائن حي يدخل بيتك مثلما تدخله
النملة والذبابة والبعوض وله رأس وله قرنين ويدين وقدمين ولسان
وحلق وقبل ودبر ويبول ويأكل ويشرب وحجمه يكبر ويصغر
ويجامع ويتنفس وأخبرنا أنهم يسكنون البيوت ويقفون على أبوابها
كما قال عليه الصلة والسلم (إذا خرج الرجل من بيته فقال :بسم ال
توكلت على ال ل حول ول قوة إل بال فيقال له :حسبك قد هديت
وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر :كيف لك
برجل قد هدي وكفي ووقي؟)( )132فهذا يدلك على أن مخرج كل
بيت يقف على بابه على القل شيطانان! .بعد ذلك تأتي البهائم التي
تعيش على المستوى الحسي وليس لها بعد معنوي يذكر فهي تعلم
غاية خلقها ولكن من ناحية أنها تتعارض في شيء معنوي مع البشر
فل يوجد شيء من ذلك فيبقى النسان يعيش على المستوى الحسي
والغيبي ,والغيب ينقسم إلى قسمين غيبي ذهني يمكن إدراكه بالفهوم
وهو " الذهن الرياضي والتصوري " وغيبي شرعي ل نعرفه إل
بالوحي ,ثم الملئكة الكاتبون والحافظون والموكلون بأرزاق الرض,
)(131النساء.45 :
)(132رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والترمذي وقال حسن
صحيح وصححه اللباني.
128 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
مخلصا لدينه وأمته!"( ,)135وهذا لن هذا الشيخ الداعية يرى حسب "
تركيبته الرومانسية " أن الخلص خلق فاضل والعقيدة الرومانسية
توجب تقديس مشاعر وتضحيات الخرين واحترامها ,وذلك كما قال
الفيلسوف الفرنسي فولتير " :ربما ل أوافقك على ما تقول ولكني أدفع
حياتي ثمنا لتقول ما تريد قوله"( .)136ولم أقابل في حياتي أسخف من
هذه المقولة الفولتيرية السمجة .فإن كنت ل توافقه لنك ترى رأيه
مخالفا للصواب فالولى أن تدفع عمرك لتمنعه من قول ما يريد قوله
لن الدفاع عن الحق أشرف من نصرة " حرية الباطل " وإن كنت
ترى أن قولك وقوله صواب أو على القل قد يكون له وجه من
الصحة فقولك ليس بأولى من قوله وفعلك في نصرته ليس شيئا جديدا
في عالم الشرفاء وأما إن كنت ترى بأنك ل تدري أمعك الحق أم معه
فأنت أحمق قد باع حياته ثمنا ليمارس الخرون حماقاتهم وأما إن
كنت ترى بأن القول مهما كان مضمونه ومعناه وموضوعه ,جدير
بأن يفسح له المجال ليخرج بكل حرية بغض النظر عن صحته
وبطلنه فإني أنا من سيدفع عمره في سبيل إسكات الغوغائيين من
أمثالك الذين أفسدوا " قيمة الكلمة العلمية والدبية " وأباحوها حتى
للمهرجين والمومسات والكلب الضالة! .وبناءا على هذه النظرية
الفولتيرية كان ينبغي في نظر ذلك الشيخ تقدير ذلك الخلص في
قلب ذلك البابا الهالك ,,أنمدح الكلب على إخلصه ول نمدح بني
النسان؟ .هكذا بكل رومانسية! ,وهذا واقع نراه بأعيننا لم يأتنا به
"من لم نزودِ".
هناك عالم آخر قائم موجود اسمه الجنة ,هو واقع أيضا ,وهو القوة
الخفية التي كانت في نفوس الصحابة من قبل والتي كانت تدفعهم إلى
التجرد حتى من ضروريات آدميتهم فكان الرجل يقبل على الموت
وهو يقول " :إني لشم ريح الجنة من دون أحد"( )137ويصبر على
الداء العضال لنه قيل له( :أتصبر ولك الجنة؟)( ,)138وقد قال
يصف لهم الجنة( :ثم انطلق بي – يعني جبريل -حتى انتهى بي إلى
سدرة المنتهى وغشيها ألوان ل أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا
فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)( )139وقال( :دخلت الجنة
فرأيت فيها دارا أو قصرا فقلت لمن هذا؟ فقالوا لعمر بن الخطاب
فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك فبكى عمر وقال أي رسول ال أو
عليك يغار؟)( ,)140ولكن هذا لم يكن ليكفي بل أراد رسول ال أن
يجعل الدار الخرة وكأنها غرفة خلف الجدار فذكر للناس أشخاصا
كانوا يعيشون معهم يكلمونهم ويمازحونهم ويشاركونهم الطعام
والشراب والخوف والجوع في يوم من اليام ,وهم الن في الجنة,
ليعلم الناس صدق الوجود وحقيقة النتقال والترقي في ملكوت ال
فقال عليه الصلة والسلم في قصة أخرى في دخوله الجنة( :ثم
أشرف بي – يعني الملك الذي معه في السراء -شرفا فإذا أنا بنفر
ثلثة يشربون من خمر لهم قلت :من هؤلء؟ قال :هؤلء جعفر وزيد
وابن رواحة)( ,)141يعيشون الن حياة هي الحياة التي يجدر بها أن
تسمى حقيقية بعد أن كانوا معنا هنا في هذه الحياة الدنيا هم الن
هناك حقيقة ً واقعا ً!.
كذلك ,كما في حديث أبي هريرة قال( :كنا مع رسول ال إذ
سمع وجبة – أي صوت سقطة -فقال النبي تدرون ما هذا؟ قال
قلنا ال ورسوله أعلم.قال :هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين
خريفا فهو يهوي في النار الن حتى انتهى إلى قعرها)( .)142فهناك
واقع آخر أيضا ً اسمه النار هو قائم موجود وقد سقط ذلك الحجر من
شفير جهنم قبل سبعين سنة وهو يصل إلى قعرها الن وربما يحدث
هذا كل يوم ولكن ال أسمعهم هذه الوجبة لكي تحدث في قلوبهم هذه
النكتة اليمانية لحقيقة الوجود والواقعية في معرفة النار والشعور
بها .ولم يتوقف واقع النار عند هذا الحد بل تجاوزه إلى الشعور بها
على وجه الدوام والعموم حيث قال عليه الصلة والسلم( :اشتكت
النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس
في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما
تجدون من الزمهرير)( .)143وغير هذا من تفاصيل الكون الكثير,
فنحن ل نرى إل شيئاَ من الواقع وإل فقد قال من زويت له الرض
وعرف ال حق معرفته ( :لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليل ولبكيتم
كثيرا)( .)144قال أنس – راوي الحديث -فغطى أصحاب رسول ال
وجوههم لهم خنين!.
)(143متفق عليه.
)(144متفق عليه.
134 الفصل الثالث :معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة
فرد ورفع الدرجات وتمييز الناس فقد قال ( :إن في الجنة مائة
درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيل ال ما بين الدرجتين كما بين
السماء والرض فإذا سالتم ال فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة
وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن)( .)155وقال ابن القيم رحمه ال في
شفاء العليل( :أما عن حكمة ال في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من
الحكم مال يحيط بتفصيله إل ال فمنها أن يكمل لنبيائه وأوليائه
مراتب العبودية بمجاهدة عدو ال وحزبه ومخالفته ومراغمته في ال
وإغاظته وإغاظة أوليائه والستعاذة به منه واللجاء إليه أن يعيذهم
من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والخروية
ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء ل يحصل بدونه
ومنها خوف الملئكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال
إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة البليسية
يكون أقوى وأتم ول ريب أن الملئكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم
عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو
المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الهانة التي
بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فل ريب أن خوفهم وحذرهم يكون
أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته
وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه
أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن
والنس بالذنب وجعل هذا الب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا
الب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم
الباهرة واليات الظاهرة) .كذلك ,فإن ال عز وجل عندما تكلم عن
الشقاء في الرض تكلم عنه من جهة آدم فهو بل شك شقاء ويكفي
من ذلك الموت الذي لم يسلم من سكراته حتى النبي ,فال سبحانه
يخاطب آدم من جهة نفسه أنه إن نزل إلى الرض فقد شقي بالمكابدة
ولهذا يقول تعالى( :لقد خلقنا النسان في كبد)( )156وأما ال عز
وجل من جهة نفسه المقدسة فهو يحب أن تقوم له أنواع من العبودية
كالجهاد والصيام والنفاق ولكنه لم يأمر بهذا ولم يطلبه ولم يقل بأنه
)(155متفق عليه.
)(156البلد.4 :
143 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
يحب أن يتعرض آدم لهذه التكليفات ولم يندب إلى القصد إلى أسباب
وقوعها بل أمر آدم أن ل يخرج من الجنة وهو سبحانه يعلم بأن كل
تلك الشياء إنما هي مترتبة على خروج آدم ومع هذا فقد جعل "
إرادته الشرعية " الموافقة لمحبته ,بدليل أنه أمر بها ,أن ل يخرج آدم
من الجنة .وقد يقال بأن الستخلف في الرض من جنس الكفارات
وهذا صحيح في معناه لن الستخلف ليس مقصودا لذاته وما كان
ال عز وجل ليشرع حد الزنا لكي يقصد الناس الزنا فيقام عليهم الحد
فتكون تلك القامة للحد مقصودة لذاتها مع أنها محبوبة عند ال إل
أنه ما شرعها لتقصد وتطلب فهي محبوبة أداءا وليس قصدا وطلبا,
وكذلك الحال في الستخلف في الرض فهو محبوب أداءً بحيث
يصبر آدم وذريته على ذلك ويمارسون العبودية ل بالصبر على قدره
القاهر وشرعه المر وما كان ينبغي لدم عليه السلم أن يقصد طلب
الستخلف في الرض لنه كان منهيا عن الخروج من الجنة! ,بل
لو أن آدم عليه السلم طلب ذلك بفعله وقصده لكان عاصيا ل ,وهذا
واضح.
-2أن ال عز وجل خلق آدم ليبتليه وهي غاية شرعية محبوبة من
ال وهذا البتلء كان متحققا في الجنة حيث نهاه ربه عن الكل من
الشجرة وكان الشيطان يوسوس له بالكل منها فكان البتلء قائما
حتى قبل النزول إلى الرض ولهذا قال تعالى( :ولو شاء ربك لجعل
الناس أمة واحدة ول يزالون مختلفين * إل من رحم ربك ولذلك
خلقهم وتمت كلمة ربك لملن جهنم من الجنة والناس
أجمعين)( ,)157وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي
()158
لبي بكر( :يا أبا بكر لو أراد ال أن ل يعصى ما خلق إبليس)
وقال( :والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب ال بكم ولجاء بقوم
يذنبون فيستغفرون ال فيغفر لهم)( .)159فإن كانت غاية البتلء غاية
)(157هود .119-118
)(158ـرواه البيهقي قي السماء وقال اللباني :سنده حسن وهو
صحيح بمجموع طرقه.
)(159رواه مسلم.
144 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
ينكر النتيجة القدرية لنها واقع محسوس .وفي هذه النقطة الخيرة
رد على من يرى أن الستخلف في الرض كان تشريفا وتكريما
لدم عليه السلم وذريته ,بينما الصحيح أنه كان يبكي من تبعات هذا
التشريف المزعوم ويسأل ال منه المغفرة!! ,وال أعلم.
-4إن غايات ال المرعية هي في إراداته الشرعية فعندما يأتي نهي
من ال عن أمر ما ثم يخبر تعالى بأن ذلك المر سوف يقع فهذا يدلك
على أن هذا الخبار هو إخبار عن إرادته الكونية القاضية بنفاذ ذلك
المر على غير محبة من ال .ولو نظرت إلى مسألة الستخلف
وقوله تعالى (إني جاعل في الرض خليفة)( )173وهي الية التي
يستشهد بها كل من يريد تعظيم مسألة الخلفة على الرض في نفوس
الناس ,لوجدت أنها من باب الخبار عن شيء سيقع كونا وليست هي
إرادة ال الشرعية المحبوبة عنده لنه ل يرتبط بها أمر ولكن المر
يرتبط بقوله تعالى (فل يخرجنكما من الجنة فتشقى) ,والمر المعلوم
عند من يبحث في علل النصوص هو أن الغايات والمقاصد ترتبط
بإرادة ال الشرعية وليس الكونية ولهذا تعلم بأن " غاية خلق الدمي "
لبد أن تكون متحققة في الجنة قبل النزول إلى الرض لن أمر ال
وإرادته الشرعية كانت على أن يبقى آدم في الجنة ول يخرج منها
وغاية ال ومقصده من خلق آدم لبد أن تتحقق لنه ما خلق شيئا عبثا
ً ,فاستقراء المر ببساطة هو أن ال ل يخلق شيئا إل لغاية وأنه جعل
آدم في الجنة ونهاه عن الخروج منها فدل هذا على أن بقاء آدم في
الجنة غير معطل لغاية خلقه ومن ل يوافق في هذا فإنه ينسب إلى ال
العبث ,فإذا كان المر كذلك فهذا يدل على أن غاية خلق آدم كانت
متحققة قبل مسألة الستخلف وهذا يدل على أن استخلف آدم في
الرض " أمر زائد على الغاية الصلية من خلقه " ,وهذا واضح جلي
الوضوح ,وال أعلم.
)(173البقرة.30 :
147 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
معنى العبودية
إن قوله تعالى (و ما خلقت الجن والنس إل ليعبدون)( )174ليس
حصرا لغاية الخلق في العبادات التكليفية الدنيوية والصحيح هو أن
ال خلق آدم عليه السلم وذريته لعبادته ولعبادته فقط وهذه العبادة
كانت متحققة في الجنة قبل النزول إلى الرض وذلك أن أهل الجنة
يسبحون ويحمدون ويعبدون ربهم بكل العبادات القلبية بل والعملية
ولكن بل تكليف وكلفة كما جاء في الصحيح مرفوعا ً( :بينا أنا نائم
رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) وليس في الجنة
درن ول حدث ول تكاليف واجبة ذات كلفة ولكنها عبادة النعيم واللذة
كما هي لذة النظر لوجه ال عز وجل بخضوع وتذلل وخشوع,
وكذلك حملة العرش الذين هم فوق مستوى الفردوس الذي هو أعلى
الجنة ,يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا.
فليست العبادة حكرا على التكليف الدنيوي ولكن لن آدم داخل في
غاية خلقه " البتلء " حيث جعل ال عز وجل هذا البتلء هو روح
العبادة التي يمارسها آدم وذريته لنه ل يلهم العبادة كما تلهمها
الملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون .وقد كان آدم في
الجنة يبتلى بكلفة " ذاتية نفسية " هي مدافعة الشيطان الذي كان يغريه
بالكل من الشجرة ولم يكن ثمة " تكاليف مستقلة مطلوبة " وإنما هو
الستمتاع بالجنة ومدافعة الشيطان .لهذا تجد أن ال عز وجل نفى
عن آدم الظروف الخارجية المؤذية فقال " إن لك أل تجوع فيها ول
تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول تضحى * فوسوس إليه
الشيطان"( ,)175ولم ينف عنه المشقة النفسية في مدافعة الشيطان ,فهو
لم يكلف بعبادة مستقلة مطلوبة ولكن يتمتع في الجنة ويدافع الشيطان
فكان محققا للعبودية لربه بوقوعه تحت هذا البتلء من حيث الصبر
)(174الذاريات.56 :
)(175طه.120 ,119 :
148 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
وبناءً على نحو هذا الفهم ,قال ابن عباس في تفسيره لقوله (إل
ليعبدون) قال" :إل ليقروا بالعبودة طوعا وكرها"( )180وقد اختار ابن
جرير الطبري حمل معنى العبادة في قوله (ليعبدون) على العبادة
الشرعية والعبادة القهرية فقال ( :وأولى القولين في ذلك بالصواب
القول الذي ذكرنا عن ابن عباس وهو أن ما خلقت الجن والنس إل
ليعبدون أي إل لعبادتنا والتذلل لمرنا فإن قال قائل :فكيف كفروا وقد
خلقهم للتذلل لمره إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لن
قضاءه جار عليهم ل يقدرون من المتناع منه إذا نزل بهم وإنما
خالفه من كفر به في العمل بما أمره به فأما التذلل لقضائه فإنه غير
ممتنع منه)( .)181فالمعنى من هذا الباب أن الستشهاد بقوله تعالى
(إل ليعبدون) وقوله (إني جاعل في الرض خليفة) على أن ال عز
وجل ما خلق آدم إل لتحمل مشقة التكليف في الرض خصوصا
وذلك بطلب الحسنة وترك السيئة أو بإعمارها الكوني المادي المباح
وقصر العبودية على ذلك ,استشهاد باطل في حصره وتوجيهه فال ما
خلق آدم إل ليبتليه ويدخله الجنة ابتداءا وكانت هذه الغاية متحققة قبل
الهبوط إلى الرض ل شك في ذلك ,وكان ال تعالى يحب أن يبقى
آدم في الجنة ونهاه عن الخروج منها بالمعصية ,فقال( :فل يخرجنكما
من الجنة فتشقى) ,ولكن آدم عصى ربه فخرج ,والحياة الدنيا امتداد
لجراء تلك الغاية وإن كان ال عز وجل سيدخل خلقا من خلقه الجنة
ما وطأهم التكليف قط عندما سيفضل فضل في الجنة يخلق ال له
خلقا ما شاء ,فمن باب أولى أن يقال بأن آدم إنما خلقه ال ليبتليه
ويدخله الجنة ابتداءا وأنه ما خلقه ربه ليجعل دخوله الجنة مترتبا
على تكليفه الدنيوي كغاية أصلية في خلقه ول ليكون " أستاذ الرض
العبقري المبتكر! " ,وهذا الفهم هو ما جاءت به النصوص
الواضحات خلف ما ينادي به أهل السلمية الرومانسية والنفعية
المادية! .وقد قال المام ابن منصور عبد القاهر البغدادي في " الفرق
بين الفرق وبيان الفرقة الناجية "( :وقالوا – أي أهل الفرقة الناجية -
لو خلق ال تعالى عباده كلهم في الجنة لكان ذلك فضل منه خلف
)(180تفسير الطبري (.)475/ 11
)(181تفسير الطبري (.)475/ 11
150 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
قول من زعم من القدرية انه لو فعل ذلك لم يكن حكيما وهذا حجر
منهم على ال سبحانه ونحن ل نرى الحجر عليه بل نقول له المر
والنهى وله القضاء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد).
151 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
فقال :يا أعداء ال أتطعموني السحت وال لقد جئتكم من عند أحب
الناس إلي ولنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ول
يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن ل أعدل عليكم فقالوا :بهذا
قامت السماوات والرض)( ,)186فالسماوات والرض قامتا بالعدل,
وذلك بأن يوضع الشيء في محله الذي يناسبه وأن يوسد المر إلى
أهله ,واليهود بقولهم " بهذا قامت السماوات والرض " يمدحون
رسول ال قبل أن يمدحوا ابن رواحه لن عدل رسول ال سابق
لعدل عبد ال بن رواحة عندما وضع رسول ال الرجل المناسب
في المكان المناسب.
ولكي يكون هذا الباب واضحا سأعطي بعض المثلة التي عايشها
العالم وكانت تتعلق بهذا الباب ,فمثل قضية النباتيين الذين ينادون
بعدم ذبح الكائنات أيا كانت بما في ذلك بهيمة النعام فمن ناحية
الميزان الكوني فإن طبيعة أبدان البشر ل تتعارض مع لحومها بل
لعلها تعتمد اعتمادا واضحا عليها وكذلك فإن ال أخبرنا أنه خلقها
لتكون قوتا لهل الرض فهي من الناحية الكونية تكون محققة لغاية
خلقها إذا كانت طعاما لهم ,وإن قلنا بأنه ل ضير في تجاوز هذا ,من
أجل خاطر البقار في الغرب ,فإن الميزان الشرعي يمنع ذلك فال
عز وجل أمرنا بذبحها وتعبدنا به ,فقال تعالى( :ولكل أمة جعلنا
منسكا ليذكروا اسم ال على ما رزقهم من بهيمة النعام فإلهكم إله
واحد فله أسلموا وبشر المخبتين)( )187وقال( :والبدن جعلناها لكم من
شعائر ال لكم فيها خير فاذكروا اسم ال عليها صواف فإذا وجبت
جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم
تشكرون)( ,)188فالذبح غاية وليس وسيلة للحياة والمطعم وحسب ,بل
غاية داخلة في العبودية والذي يوافق أو يرى أنه يجوز العتقاد بأن
ذبحها مخالف لرقي العالم فهو من ناحية شرعية قد ضاد ال في أمره
وقد ظلم وأخسر الميزان الشرعي والكوني فالظلم في ترك ذبحها
)(186رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح.
)(187الحج.34 :
)(188الحج.36 :
153 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
شجرة أكلها بعير فازدردها ,وقيد عمر وصف الكبش بأنه ذُبح وجُعل
شواءا وقديدا ثم أكله أهله وقيد أبو الدرداء الشجرة بأن تكون تعضد
أو تثمر ويأكل الناس ثمرها! ,وقيد أبو عبيدة وصف الكبش بأن أهله
يذبحونه ويأكلون لحمه ويشربون مرقه! .فكل تلك التعابير في كلمهم
ليست للتفنن وإنما هي عقيدة في نفوسهم تجاه هذه الشياء التي خلقها
ال في هذا الكون .وعند السترسال في هذا المنحى في التفكير تجد
أنه تفتح لك أبوابا من المعرفة لم تكن تخطر لك على بال وكل هذا
ببركة المنهج القرآني في التفكير ,منهج إعادة الشيء إلى أصله ,فخذ
مثلً الفرق بين الرجل والمرأة تجد أن الشريعة قد فرقت بين الرجل
والمرأة في مواطن كثيرة ومن ذلك قوله (يرش من بول الغلم
ويغسل من بول الجارية)( ,)189فقد روى ابن ماجة عن الشافعي قوله
للذي سأله عن سبب التفريق( :لن بول الغلم من الماء والطين
وبول الجارية من اللحم والدم .ثم قال للذي سأله عن السبب :فهمت؟
قال له :ل .قال :إن ال تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه
القصير ,فصار بول الغلم من الماء والطين وصار بول الجارية من
اللحم والدم) ,وهذا لمن تأمله كلم وجيه فإن كان الصل غير الصل
فل بد أن المنفصل عن كل منهما سيكون كذلك ,فإذا أضفت إلى ذلك
أن ال خلق آدم استقللُ في مادته وغاية خلقه فإنه خلق حواء من
مادة جنسها من البشر فخلقها من ضلع آدم بينما آدم خلق من تراب,
وكذلك فإن ال خلق آدم لجل غاية ل علقة لها بحواء بينما خلق ال
حواء بسبب خلقه لدم فقال تعالى( :هو الذي خلقكم من نفس واحدة
وجعل منها زوجها ليسكن إليها)( ,)190وأسجد الملئكة لدم ولم تكن
معه حواء لن ال قال (اسجدوا لدم)( )191ولن الشيطان قال( :لم
أكن لسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)( )192وحواء لم
تكن كذلك وإنما كان هذا في خلق آدم ,وكذلك اصطفاه بالعلم فعلمه
السماء كلها ولم تكن معه حواء ,ثم اصطفاه بالقوامة عليها في
الجنة! فقال تعالى( :و عصى آدم ربه فغوى)( )193مع أن حواء هي
التي أغرته بالكل من الشجرة وأكلت معه لما روى مسلم عنه
(لول حواء ما خانت امرأة زوجها)( ,)194وإنما خانته بإغرائه بالكل
من الشجرة ,ومع هذا فإن المعصية نسبت لدم حتى قال موسى عليه
السلم (أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة)( )195لنه لو لم
يأكل آدم لما أكلت حواء ,فدل هذا على أنه كان هو المر الناهي وأن
الرأي كان في يده ,فله القوامة حتى في الجنة التي ل تعب فيها ول
نصب! .وبمثل هذا الفهم وهذا التصور تعلم لماذا تلعن الملئكة
المرأة التي تمتنع من فراش زوجها ولم يثبت اللعن للرجل الممتنع!,
ولماذا قال تعالى (وليس الذكر كالنثى)( ,)196وغير ذلك.
نحن نتكلم عن هذا المر هنا لنه متعلق بفهم الميزان الكوني
والميزان الشرعي الذي هو أساس العدالة التي ل يتحقق الستخلف
الصحيح في الرض إل بها ,وقد سقت حديث البقرة التي تكلمت
وقالت لمن ركب على ظهرها ( ما خلقنا لهذا وإنما خلقنا
للحرث)( ,)197وقد مر ابن عمر في طرقات المدينة فإذا فتية قد
نصبوا دجاجة يرمونها ,فغضب وقال من فعل هذا؟ قال فتفرقوا فقال
ابن عمر( :لعن رسول ال من يمثل بالحيوان)( .)198لنه لم يخلق
لهذا! ولن هذا سخرية بمقاصد ال في خلقه ,فإن لُعن الدمي لجل
الحيوان وهو ميت فكيف ل تحفظ هذه الشريعة " حقوق الحيوان "
وهو حي؟ ,بل إن بعض الروايات جاءت بلفظ (لعن من أتخذ شيئا فيه
)(199رواه مسلم.
)(200رواه مسلم.
)(201البقرة.29 :
)(202الجاثية.13 :
)(203العراف 54 :
( )2سبق تخريجه
157 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
دينار وابن جريج وغيرهم( )219وفي لفظ للترمذي( :خرج رجل ممن
كان قبلكم في حلة له يختال فيها فأمر ال الرض فأخذته فهو يتجلجل
فيها) وقال أبو عيسى :حديث صحيح ,وفيه التصريح بأنه كان خارج
داره ,ول شك أن داره كانت من أعظم وأروع ما بناه البشر في ذلك
الزمان فإن كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة فكيف
بخزائن كنوزه ثم كيف بقصره الذي فيه الخزائن وهو يسكن فيه؟ .
مع هذا كله أهلكه ال وخسف بداره معه فلم تكن داره عند ال شيئا
يستحق البقاء عليه ,مع أن قارون لم يصنع داره بنفسه بل بناها
أناس ليس لهم صلة بظلم قارون وتكبره ,وإنما هم أناس فكروا
وخططوا وبنوا فكان عملهم هذا " إنجازا علميا معماريا " ومع هذا لم
يبالي ال عز وجل لكل هذه المعاني التي يقدسها الناس ويعتقدون أنها
هي العمارة التي طلبت منا عندما أهبطنا ال إلى الرض حتى أن
بعض من ينتسب إلى الدعوة إلى ال يطالب بعدم هدم تماثيل بوذا
بحجة أنها إنجازات حضارية! ,فإن كان ال خسف بدار قارون وهو
ليس فيها وليست صنما يعبد فكيف بصنم معبود؟.
وقد ثبت فيما جاء عن ال تبارك وتعالى مقت ذلك الفهم لعمار
الرض الذي يسعى به كثير من الناس حيث يجعلون عمارة الرض
زخرفة البنيان وتشييده وبناء الجواد والقصور العالية فقال تعالى يذم
قوم هود (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون)( )221قال ابن كثير رحمه ال( :اختلف المفسرون في الريع
بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة يبنون
هناك بنيانا محكما هائل باهرا -قلت :مثل النصاب التي تبنى اليوم
على مداخل المدن ومجمع الطرق -ولهذا قال "أتبنون بكل ريع آية "
أي معلما بناء مشهورا " تعبثون " أي وإنما تفعلون ذلك عبثا ل
للحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم
نبيهم عليه السلم ذلك لنه تضييع للزمان وإتعاب للبدان في غير
فائدة واشتغال بما ل يجدي في الدنيا ول في الخرة ولهذا قال "
وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " قال مجاهد :والمصانع البروج
المشيدة والبنيان المخلد)( )222إنتهى .ويكفي لبطال هذا الفهم قوله
تعالى ( :إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل
* وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)( )223فكل تلك الشياء
الدنيوية التي قد يظن أنها من العمارة التي يحبها ال ويرضاها إنما
هي من البلء والبتلء ,و لو كانت غاية في ذاتها ما جعلها ال
صعيدا جرزا ,فهو سبحانه الذي ل يضيع عمل عامل وعندما توعد
كل ما على الرض من زينة بالزوال علمنا أنها ليست هي تلك
العمارة التي حثنا أن نعمل بها ولها ,وقد قال كما روى ابن حبان
بسند صحيح( :إن ال يبغض كل جعظري جواظ سخاب في السواق
جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالخرة) ,والنكير هنا
ليس على مجرد العلم بأمر الدنيا ولكن على العلم الذي يراد به الدنيا
فقط .
ال عز وجل ل يعبد بما نهى عنه وقد نهى عن التوسع في الدنيا بما
يصل إلى حد هدر المنفعة وذلك على لسان نبيه حيث قال كما في
صحيح مسلم (:فراش للرجل وفراش لمرأته والثالث للضيف والرابع
للشيطان) ,وقال في البيت والدابة مثل ذلك .وجعل المبذرين إخوان
الشياطين ,و ذم كل شيء ل يكون وسيلة لدخول الجنة ,أو يكون
ملهاة عن طلب الجنة ,أو غاية تقصد لذاتها دون الجنة قل أو كثر,
فقد روى المام أحمد في المسند وصححه اللباني في الصحيحة:
( عن ضمرة بن ثعلبة انه :أتى النبي وعليه حلتان من حلل اليمن
فقال ( :يا ضمرة أترى ثوبيك هذين مدخليك الجنة؟ ) فقال :لئن
استغفرت لي يا رسول ال ل أقعد حتى أنزعهما عنى فقال النبي :
( اللهم اغفر لضمرة بن ثعلبة) فانطلق سريعا حتى نزعهما
عنه)( .)224واليوم تعجب من الذين يدعون الناس إلى إنفاق أعمارهم
في صناعة الدنيا وآلتها ,على ما في الناس من فجور وفسق ل
يناقشونهم في شأنه ويقرونهم عليه ,ثم يزينون لهم على فسقهم
النغماس في طلب الدنيا ويقولون " المؤمن القوي خير وأحب إلى ال
من المؤمن الضعيف"( . )225وكأنهم لم يقرأوا القيد بأن يكون "
مؤمنا " قبل أن يكون قويا أو ضعيفا.
بالفئران ,و ل غابة كبيرة مليئة بالكائنات الهاملة فكل فيها يقرر
منهجه بيده و رجله كما يشاء ! ,و لكنه قصة طويلة سرمدية الطرفين
ل يحسن شرحها إل ال سبحانه ! .
أرأيت لو حكم ملك على بضعة أشخاص بالسجن ,ثم قال من خرج
وقد حفظ قصيدتي الفلنية فسوف ينجو ,وما عدا ذلك فسيكون
نصيبه الموت ,ثم أمهلهم شهرا من الزمان .فجلس هؤلء الرجال
فمنهم من احتقر مهنة الحفظ ,وقال ل يفعلها إل ساذج ,فاشتغل
بالختراع والبتكار ,ومنهم من جلس يكتب القصائد ويفلسف الكون
من حوله ,ومنهم من التزم بطلب الملك وجلس في الزاوية يحفظ
القصيدة .فمن أكثر هؤلء القوم عقلنية وحكمة؟ .إنه الذي جلس
يحفظ قصيدة الملك ليخرج من مأزقه هذا فينال بعدها حياة طويلة
عامرة بما يحب من الختراع والبتكار وما يشاء من المور ,بينما
قتل الذين فضلوا شهوة الحذلقة وتكبر العناد ,وخسروا شهورا كثيرة
كان بإمكانهم أن يبتكروا ويفعلوا فيها ما يشاءون.
كذلك ,ول المثل العلى ,حال أهل الدنيا .فإن استطعت أن تبدع
وتبتكر وأنت على ما يحب ال ويرضى ,فهذا خير كثير فإن عجزت
عن ذلك و صار الخيار إما الدنيا وإما الخرة ,فعليك بطاعة ال
التي بعدها خلود فل موت في جنة تبتكر فيها وتخترع ما تشاء ,لن
الفهم والتفكير والبداع إن كان من نعيم الدنيا فل بد أن يكون من
نعيم الخرة .فل تضيع مستقبلك البدي لجل نزوات نفسية وذهنية
واجتماعية هنا وهناك ,ترضي بها شيئا في نفسك أو نفوس الناس
على حساب مرضاة ال سبحانه .وقد ثبت كما في صحيح البخاري
أن النبي كان يوما يحدث وعنده رجل من أهل البادية( :أن رجل
من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له ألست فيما شئت؟ قال
بلى ولكني أحب أن أزرع قال فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه
واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول ال دونك يا ابن آدم فإنه ل
يشبعك شيء) .فقال العرابي وال ل تجده إل قرشيا أو أنصاريا
فإنهم أصحاب زرع ,وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ,فضحك
رسول ال .ومعنى الحديث ودللته في غاية الوضوح!.
168 الفصل الرابع :تحقيق معنى الستخلف في الرض
169 خاتـمـة الكتـاب
خاتمة الكتاب
كان الناس في منتصف التسعينات يتكلمون عن الكمبيوتر وكأنه
أسطورة مصباح علء الدين ,الذي كان كلما فركه بيديه خرج منه
مارد طويل وحقق له كل أحلمه ,وبمجرد ما وطأت قدماي أرض
جامعة البترول والمعادن عام 1995م تقدمت لدخول كلية هندسة
الحاسب اللي ثم تخرجت وكان مشروع تخرجي تحت عنوان :
ذات يوم قلت لمدربي الخبير الهولندي الملحد :هل تسمح لحد من
عائلتك أن ينظف أذنيه بالمفك المسمى " سكروب " يا مستر ولكو؟.
فقال وهو يضحك متعجبا ً :بالتأكيد ل! .فقلت له :إذن لماذا يسمح
170 خاتـمـة الكتـاب
* * *
فهرس الموضوعات
إهــــــــــداء1................................ .........
5...............................................................
فصول الكتاب8.................................... .........:
:الجاهلية الرومانسية11........................................ ...
العقيدة الرومانسية13..............................................
الشريعة الرومانسية19.......................................... ...
الرهاب الرومانسي23............................................
نهاية النسان الرومانسي37..................................... ...
السلم الرومانسي39.............................................
:المقدمات الولية للتصور الصحيح46..........................
مفهوم الحقيقة والمجد48...........................................
أصل العلم كله من ال55..........................................
حقيقة الكون والنظام61............................................
قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق68......................
:معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة80.......................
صفة آدم وحواء82................................................
-1متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرج منها؟ ومتى
مات؟82..............................................
فصل :فوائد الدلة82................................:
-2من أي مادة خلق ال آدم عليه السلم82.................
فصل في فوائد الدلة83............................. .:
173 فهرس الموضوعات