You are on page 1of 175

‫تحقيق خلفـة‬

‫تحقيق خلفـة النسان على‬


‫على الرض‬ ‫الرض‬
‫النسان‬
‫تأليـف‬
‫تأليف‬
‫الرويلي‬ ‫جميل‬
‫جميل بن صبيح الرويلي‬
‫إهـــداء‬

‫إلى النسان حيثما كان ‪...‬‬


‫‪4‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫الحمد ل والصلة والسلم على رسول ال وآله وصحبه‪ ,‬أما بعد‪:‬‬


‫فإن لكل شيء ٍ أصل يرد إليه‪ ،‬وما ليس له أصل فليس له حقيقة‪،‬‬
‫ولهذا تجد أن ال تعالى يرد كل شيء مشكل في فهوم البشر إلى‬
‫أصله الذي نشأ منه؛ بل إنه ليس في الكون شيء إل وقد اخبر ال‬
‫عز وجل عن أصله الول ونشأته الولى إل نفسه المقدسة تبارك‬
‫وتعالى؛ وذلك أنه الول فليس قبله شيء‪ ،‬والخر فليس بعده شيء‪،‬‬
‫أو كما قال المام الطحاوي في عقيدته " الول بل ابتداء " ‪ .‬وهذا‬
‫واضح لمن تتبع الحجة اللهية في القرآن ‪.‬‬
‫قد يتصور الباحث عن الحقيقة المنجية أنه سوف يجدها ذات فتح من‬
‫ال جمعاء ليس فيها من جدعاء في نص من نصوص الكتاب أو‬
‫السنة‪ ،‬فيقول ‪ :‬هذه منجيتي‪ ،‬فهي حق لنها في الكتاب أو السنة‪،‬‬
‫وهي النجاة لنها من ال‪ ,‬وهذا غير صحيح‪ ,‬فما أكثر الحقائق‬
‫الموجودة في نص من نصوص الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة؛‬
‫ولكنها في ذاتها حقائق جدعاء‪ ،‬قد يظنها النسان " حقيقة مكتملة‬
‫البناء " مع أنها جزء من حقيقة كلية كبيرة مركبة الصور والمعاني‪,‬‬
‫فحتى الشريعة لم تكتمل إل قبل وفاة رسول ال بمدة وجيزة‪ ،‬بل‬
‫أنه في حجة الوداع تكلم عن صفة من صفات ال الذاتية وهي صفة‬
‫العين فقال‪« :‬إن ربكم ل يخفى عليكم‪ ,‬إن الدجال أعور وإن ربكم‬
‫ليس بأعور»(‪ .)1‬فحتى الكلم عن صفات ال لم يكتمل إل قبل وفاته‬
‫عليه الصلة والسلم بعام واحد‪ ,‬فكيف تأتي الحقيقة بعد كل هذا في‬
‫موطن واحد جمعاء ليس فيها من جدعاء؟‪ .‬إنما تأتي الحقيقة مفرقة‬
‫‪ )( 1‬متفق عليه ‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫مبثوثة في كتاب ال وسنة رسوله يشد بعضها بعضا؛ لتكتمل الصورة‬


‫ويتضح المنهج‪ ،‬فل يقال حينها بتناقض ول بنقص ول بتفاوت‪ ،‬ول‬
‫يتعارض العقل والنقل‪ ،‬ول يتشابه الفهم علينا‪ ،‬ول نمارس " الثرية‬
‫العضين " التي مارسها الخوارج من قبل‪ ،‬ول " الجاهلية الرومانسية "‬
‫التي يمارسها العصرانيون والعلمانيون اليوم المبنية على مبدأ أن‬
‫الحق في السعادة‪ ،‬وأن الطبيعة البشرية هي ملة إبراهيم التي ينبغي‬
‫لكل البشر أن يجتمعوا عليها‪ ,‬ويزعمون أن السلم قائم على هذا‪,‬‬
‫ولكي ل نمارس " السلم النفعي " عند بعض الدعاة السلميين في‬
‫هذا العصر من أهل الجتهاد الرخيص المبني على" الدعوة التجريبية‬
‫إلى ال " والذين يسخرون السلم لكل مشكلة تنوب أهل الرض‪,‬‬
‫فمن مشكلة السمنة وتصلب الشرايين التي قاموا بحلها بأحاديث فضل‬
‫المشي إلى الصلة إلى مشكلة الثقوب الكونية السوداء على أطراف‬
‫المجرة التي سمعت شيخا من كبراء هذا المنهج يقول إنها ذكرت في‬
‫القرآن‪ ,‬أل تقرأ قوله تعالى‪( :‬والسماء ذات الحبك)(‪ )2‬؟!‪ ,‬ولكل قوم‬
‫وارث!‪ ,‬فقد سبق هؤلء القوم إلى هذه النفعية المادية رجل أعرابي‬
‫كان يجلس على مائدة سليمان بن عبد الملك يلتهم الفالوذج فقال له‬
‫سليمان‪ :‬أتدري ما تأكل؟ قال العرابي‪ :‬إن مذاقه لهني‪ ،‬وإن ازدراده‬
‫لمري‪ ،‬ول أظنه إل الصراط المستقيم الذي ذكره ال في كتابه ! (‪.)3‬‬
‫لمثل هذه المناهج وأهلها ولكل باحث عن الحقيقة الكلية في مسألة‬
‫خلفة النسان على الرض أجتهد في نظم هذه الكتابة الستدللية‬
‫التي أرجو من ال أن يكون أصلها ثابت وفرعها في السماء‪ ,‬على‬
‫منهج رب العالمين في حجته على خلقه بإعادة كل شيء إلى أصله‬
‫الصيل‪ ,‬وال حسبي ونعم الوكيل ‪.‬‬
‫كتبه ‪/‬‬
‫أبو بكر جميل بن مونّس الصبيح الرويلي‬
‫‪ibn-sabeeh@hotmail.com‬‬

‫() الذاريات ‪.7 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫() جمهرة خطب العرب ‪. 3/341 ،‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪6‬‬ ‫مقـدمـة‬
‫‪7‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫فصول الكتاب‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‪.‬‬
‫* العقيدة الرومانسية‪.‬‬
‫* الشريعة الرومانسية‪.‬‬
‫* الرهاب الرومانسي‪.‬‬
‫* نهاية النسان الرومانسي‪.‬‬
‫* السلم الرومانسي‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‪:‬‬


‫* مفهوم الحقيقة والمجد‪.‬‬
‫* أصل العلم كله من ال‪.‬‬
‫* حقيقة الكون والنظام‪.‬‬
‫* قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‪:‬‬


‫* صفة آدم وحواء‪.‬‬
‫* صفة الشيطان‪.‬‬
‫* تكريم آدم ومعصية إبليس‪.‬‬
‫* الواقع والواقعية‪.‬‬
‫‪8‬‬ ‫مقـدمـة‬

‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق الستخلف في الرض‪:‬‬


‫* سكنى الرض وإعمارها ليس غاية في خلق بني‬
‫آدم‪.‬‬
‫* معنى العبودية‪.‬‬
‫* الستخلف ل يتحقق إل بإقامة الميزان الكوني‬
‫والشرعي‪.‬‬
‫* الخلفة الشريفة للنسان في الرض‪.‬‬
‫خاتمة الكتاب‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫مقـدمـة‬
‫‪‬‬
‫الجاهلية الرومانسية‬
‫‪11‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫‪12‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫العقيدة الرومانسية‬
‫الرومانسية مذهب أدبي ثم فلسفي في تعاطي التصورات والنفعالت‬
‫النسانية ومناقشة الكون والحياة ‪ .‬نتج في أصل نشأته عن اضطراب‬
‫المجتمع المدني في فرنسا ثم ألمانيا ثم بقية المجتمعات في أوروبا‬
‫التي فقدت الدين ثم فقدت روح المبدأ الجماعي ثم فقدت الحقيقة في‬
‫معنى الحياة عندما أيقن النسان الوروبي أن ثورة فرنسا ليست إل‬
‫صيحة رجل مجنون‪ ,‬جمعت الناس على أمر ل يعلمون لماذا اجتمعوا‬
‫عليه!‪.‬‬
‫لقد كان التجاه الرومانسي هو أول النتاج النفسي للحضارة المدنية‬
‫ولهذا تجد في سماته كل مؤثرات المدنية الصلفة‪ ,‬فهو يميل إلى‬
‫اللمعقول وينبذ القواعد والصول ويطلق أجنحة العاطفة في سماء‬
‫التصور بل حدود؛ لن المدنية تقيد النسان في قفص من إسمنت‬
‫مسلح وتحوله إلى مجرد آلة في ورشة عمل كبيرة‪ ,‬شعوره هو آخر‬
‫شيء يحق له أن يتكلم عنه حتى يعود إلى من‍زله من جديد‪ .‬ولن‬
‫النسان الغربي مازال يحمل في نفسه "عقدة الضطهاد النظامي"‬
‫الموروثة عن سيطرة الكنيسة ولصوصها في الحقبة السابقة فقد صار‬
‫يمقت الشكلية المنظمة والترتيب السلوكي والحكم المسبق على‬
‫المبادئ العامة‪ ,‬ولهذا يمتاز المذهب الرومانسي بفرط النانية‬
‫الشعورية وتسلط الخيال الفردي دون أي اعتبار لكل مقومات‬
‫التصور والشعور المشترك‪ ,‬ولهذا تجد الب الغربي كاثوليكيا‪،‬‬
‫وزوجته بروتستانتيه‪ ،‬وابنته ملحدة‪ ،‬وابنه بوذيا وثنيا‪ ,‬وستعلم كيف‬
‫آل بهم الحال إلى هذا الوضع بعد نهاية هذا الفصل من الكتاب‪ ,‬وهذه‬
‫ردة فعل طبيعية للشعور بالتهميش والحتقار اللي الذي ينتج عن‬
‫طبيعة جريان الحياة المدنية التي ينساب الناس في شعابها كما تتدافع‬
‫الثيران من باب الحظيرة ل تعرف شيئا سوى أنها تريد أن تجتاز تلك‬
‫المدنية التي تفتت أفراد المجتمع فيها في خليا المصالح المدنية‬
‫‪13‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫الكثيرة الناتجة عن تنوع المعاملت والتداخلت؛ حتى يشعر الفرد‬


‫بأنه في سجن انفرادي مع أنه يعيش بين ضجيج المصانع والناس!‪.‬‬
‫ترتبط كلمة (رومانسية) في أذهان الناس بالجلسة ذات النوار‬
‫الخافتة‪ ،‬أو تحت ضوء القمر‪ ،‬أو الكلم الغزلي‪ ،‬أو المنظر الطبيعي‬
‫الخلّب؛ وهي في حقيقتها أكبر وأشمل وأعمق من هذا الفهم التطبيقي‬
‫الساذج؛ لنها منهج حياة وتفاعل وتصور يسيطر على الداخل‬
‫الشخصي والخارج الجتماعي‪ ،‬وهي مرحلة أصدق ما يطلق عليها‬
‫بمرحلة التشويش لجل التغيير وليست كما يصورها أصحابها بأنها‬
‫التنظير لجل التغيير‪.‬‬
‫سنناقش تعريف الرومانسية على لسان القوم الذين ولد في أحضانهم‬
‫هذا المذهب‪ ,‬حيث عرفها جوته بأنها‪ :‬مرض وضللة مهلكة!(‪. )4‬‬
‫وعرفها ووتر هاوس بأنها ‪ :‬جهد للهروب من الواقع(‪ .)5‬وأصدق من‬
‫عرفها هو اشعيا اللماني حيث قال ‪ :‬طغيان الفن على الحياة(‪.)6‬‬
‫والفن هنا يقصد به الخيال الحر الذي يترتب على تصوراته السلوك‬
‫النفسي والجتماعي وليس هو الغناء والرقص فقط!‪ ,‬وإن كان يدخل‬
‫فيه الغناء والرقص ولكن بعقيدة وهدف كما يزعمون!!‪ ,‬ولهذا كثيرا‬
‫ما نسمع من يقول‪ " :‬الفن رسالة! "‪ ,‬أما الغناء والرقص بل عقيدة‬
‫وبل هدف فهذا ما يسمى بالجمالية التي هي الفن من أجل الفن! ‪.‬‬
‫وأهم أصول الرومانسية هو طغيان الخيال الشخصي على الذات‪،‬‬
‫بحيث يبني كل فرد عقيدته تجاه العالم بنفسه دون أي قيود‪ ،‬والخروج‬
‫عن النسق والقاعدة‪ ،‬وأن يكون له الحق في التعبير عن كل ذلك كيفما‬
‫يشاء‪.‬‬
‫وقد ذكرت ليليان فورست في بحثها المتخصص في الرومانسية‪,‬‬
‫مقاصد الرومانسية التي أعلنت في نهاية القرن الثامن عشر‪ ,‬فقالت ‪:‬‬
‫نجد أن مرحلة ما قبل الرومانسية تتحرك بفعل نفور حقيقي من كل‬
‫‪ )( 4‬موسوعة المصطلح النقدي‪.256 :‬‬
‫‪ )( 5‬موسوعة المصطلح النقدي‪.164 :‬‬
‫‪ )( 6‬موسوعة المصطلح النقدي‪.164 :‬‬
‫‪14‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫ما كانت تمثله الكلسيكية‪ ,‬التي هي تعظيم النظام واحترام الماضي‪,‬‬


‫مثل‪ :‬قواعد بليدة‪ ,‬أناقة سطحية‪ ,‬نمطية‪ ,‬ترتيب‪ ,‬آراء محددة‪ ,‬تكلّف‪,‬‬
‫أعراف‪ ,‬وعظية‪ ,‬حضارة القصور‪ ,‬الحفاظ على الوضع الراهن(‪.)7‬‬
‫وتقول ‪ :‬ففي كل مجال كان التوكيد على ما هو طبيعي ضد ما هو‬
‫عقلني‪ ،‬وعلى التلقائي؛ ليأخذ مكان المحسوب‪ ،‬وعلى الحرية لتكون‬
‫بديل عن الخضوع لنسق (‪ .)8‬ثم تتكلم عن الجماعات الولى التي‬
‫تبنت الرومانسية فتذكر الرومانسيين اللمان ‪ :‬جوته شيلر‬
‫هردر كلينكر لنتز بركر‪ ,‬كانوا في ثورة ضد أي مذهب‬
‫منظم أدبي‪ ,‬اجتماعي‪ ,‬سياسي‪ ,‬أو ديني ففي اندفاعهم العام للتخلص‬
‫من قيود الماضي‪ ,‬رفضوا جميع مظاهر الوضع الراهن وكل ما كان‬
‫يهم في الحياة كما في الفن هو النبوغ الصيل الخلق لدى الفرد الذي‬
‫يجب أن يكون حرا للتعبير عن خبرته الشخصية تلقائيا(‪ .)9‬ثم تتكلم‬
‫عن جماعة الرومانسيين الوائل ‪ :‬كانت فئة الرومانسيين الوائل‬
‫بؤرتها الخوان شليكل‪ ,‬فريدريك وقد شملت من الشعراء فكندور‬
‫وتيك ونوقاليس‪ ,‬والمفكر الديني شليرماخر‪ ،‬والفيلسوفين الطبيعيين‬
‫شيلنك وبآدر والفيزيائي ريتر!‪ .‬ولم تكن هذه الشمولية محض تعبير‬
‫عن هوس تقليدي ألماني بالثقافة‪ ,‬فقد كانت نابعة من النظر إلى‬
‫الرومانسية بوصفها إعادة تقويم وجودية شاملة كان مقدرا لها أن تشع‬
‫من الشعر لكي تقلب العالم أجمع(‪ .)10‬وأنا هنا ألفت النتباه إلى هذا‬
‫النقل الخير فقد ذكرت أن الرومانسية يقوم عليها العالم والفيلسوف‬
‫والمفكر الديني! والفيزيائي‪ ,‬بل والصحيح أن الرومانسية يدخل فيها‬
‫حتى البغايا والعاهرات؛ لنها مبنية على تقديس المعتقد الشخصي‪،‬‬
‫وحرية التعاطي مع الحياة‪ ،‬وفتح البواب للنسان لكي يمارس‬
‫الطبيعة البشرية بل قيود‪ ،‬حتى أن أحد المنظرين الوائل للرومانسية‪,‬‬
‫‪ 1739‬م‪ ,‬وهو هيوم قال في كتابه (القول في الطبيعة البشرية)‪,‬‬

‫‪ )( 7‬موسوعة المصطلح النقدي‪.196 :‬‬


‫‪ )( 8‬موسوعة المصطلح النقدي‪ 196 :‬ـــ ‪.197‬‬
‫‪ )( 9‬موسوعة المصطلح النقدي‪.211 :‬‬
‫‪ )(10‬موسوعة المصطلح النقدي‪.221 :‬‬
‫‪15‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫الكتاب الثاني‪ ,‬القسم الثالث‪ ,‬المقطع الثالث‪ « :‬العقل هو النسان‪,‬‬


‫ويجب أن ل يكون العقل سوى العبد للعواطف! »‪ .‬وفي نفس الحقبة‬
‫الزمنية ألف منظر آخر هو ديديرو‪1757 ,‬م‪ ,‬كتاب (البن الطبيعي)‬
‫أي ابن الزنا‪ ,‬يمهد فيه للرومانسية القادمة!‪ ,‬ونفس هذا السم حمله‬
‫فيلم سينمائي تم طرحه قبل سنوات قليلة وحصد الكثير من الجوائز!‪,‬‬
‫فنحن ل نتحدث عن مذهب منقرض أو غير فعّال فالرومانسية تبث‬
‫في بيوتنا‪ ,‬بين أطفالنا ونسائنا‪ ,‬بل إني رأيت لوحة دعائية على جسر‬
‫في مدينة خليجية وقد كتبت عليها إحدى القنوات الفضائية دعاية لفيلم‬
‫سوف يبث عليها (تابعوا معنا الب الطبيعي) على قناة كذا وكذا‪,‬‬
‫والب الطبيعي هو الزاني والد البن الطبيعي!‪ .‬وهذا الذي يحدث هو‬
‫الذي يسمونه‪( :‬دعوة العودة إلى الطبيعة! ) وهو الذي على أساسه تم‬
‫في المغرب وتونس ولبنان تشريع قانون (الزواج المدني) أي‬
‫الطبيعي!‪ ,‬بمعنى أن أي ذكر يحق له أن يتزوج أي أنثى!‪ ,‬فهذا هو‬
‫قانون الطبيعة بل تفاصيل رجعية زائدة!‪ .‬ولو تكلمنا بواقعية لوجدنا‬
‫أن القائم على السرة ل يستطيع السيطرة على ثقافة من يربيهم على‬
‫مستوى الفرد والفردين فكيف بمن يقوم على المليين في فضاء‬
‫مفتوح!‪ .‬العصر القادم هو عصر الثقافات الشعبية وليس ثقافة‬
‫الحكومات‪ ،‬والذين سوف يخوضون صراع الهوية هم أفراد الشعوب‬
‫وليست الحكومات في أغلب الحيان‪ ،‬ولهذا فإن العصر القادم هو‬
‫(عصر العقلية الفردية العصامية)‪ ،‬التي يجب أن تبني نفسها بنفسها؛‬
‫لتعرف الحقيقة وتنجو من الضلل ‪ .‬كما أنه (عصر الرقابة الذاتية)‬
‫الذي سوف يدوس بقدميه الستباحيتين كل المنافقين والمرائين‬
‫والمتذبذبين والهلميين‪ ،‬فإما أن تخلص ل بصدق‪ ،‬وإما أن تذهب إلى‬
‫الجحيم!!‪.‬‬
‫لم تكن الرومانسية كمذهب هي مجرد أداة شعرية أو أدبية وحسب؛‬
‫بل كانت في أصل نشأتها حاجة اجتماعية أملتها تطورات المجتمع‬
‫المدني الذي لم يكن يتصور كيف تركب فتاة أوروبية تقليدية ذات‬
‫ثوب طويل تجرّه خلفها على دراجة هوائية متجهة إلى العمل!‪ ,‬ول‬
‫كيف يخرج السيد البرجوازي المهيب من قصره بنصف ملبسه‬
‫ليدور على قصره ويطبق نصائح الطبيب بكثرة الجري والحركة!‪,‬‬
‫‪16‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫وتتابعت الحتياجات‪ ،‬وتتابعت الخروقات للعراف والتقاليد على‬


‫المستوى الفكري‪ ،‬ثم الجتماعي والسياسي‪ ،‬ثم بدأت مرحلة الدعوة‬
‫إلى الطبيعة والتلقائية ونبذ القواعد والتقاليد ورفض الوضع الراهن‬
‫بكل تفاصيله‪ ،‬ثم بتطبيق ما قاله اشعيا اللماني في تعريف‬
‫الرومانسية ‪ « :‬طغيان الفن على الحياة »‪ .‬وذلك بجعل الرومانسية‬
‫مذهبا عالميا لمناقشة الوجود والحياة دون أي قيود‪ .‬و قد تكلم كارل‬
‫ماركس في " البيان الشيوعي " الذي أصدره قرابة عام ‪ 1845‬م‬
‫عن العولمة القتصادية و الفكرية فقال بأن من تداعيات سيطرة رأس‬
‫المال أن الدول العظمى ستتغلغل ‪ ,‬و تعشش في كل مكان و‬
‫ستستخدم قوتها لفرض نفسها على بقية العالم ‪ ,‬و أن الموروث‬
‫المحلي بكل تقاليده سينهار نتيجة اقتحام الثقافة الخارجية له و سيتبع‬
‫ذلك انهيار ثقافي يتبعه نشوء أدب عالمي يحمل غالبا صفات الدول‬
‫العظمى التي تمتلك رأس المال ‪ ,‬و قد أبدع ماركس في هذا البيان في‬
‫تصور مصير العالم على يد الرأسمالية بشكل يشبه النبوءات (‪.)11‬‬
‫فالذي نمر به اليوم طور طبيعي كان متوقعا جدا و هو سمة عالمية ‪,‬‬
‫و ليس كما يصور البعض بأنه " مجرد مؤامرة " على السلم ‪ ,‬فمع‬
‫وجود شيء من التآمر فهناك واقع مادي حتمي يفرض نفسه اقتصاديا‬
‫و ثقافيا و تقنيا ‪.‬‬
‫عندما يسقط المبدأ العام‪ ،‬وتخلوا الشوارع من العراف‪ ،‬ويصبح ليس‬
‫من حقك ول حق أي أحد أن ينكر أي شيء لن الحرية المدنية تمنع‬
‫ذلك‪ ,‬عندها لن يكون للنسان مكان يمارس فيه إنسانيته إل في بيته‪،‬‬
‫ول أمان إل في صمته‪ ،‬ول حرية شخصية إل في الرومانسية!‪,‬‬
‫ولهذا تجد أن من طابع النسان المدني شدة الحذر من إبداء رأيه في‬
‫التجمعات والمرافق العامة‪ ،‬وكثرة الصمت‪ ،‬والرغبة في النطوائية‬
‫على معتقداته الخاصة؛ حتى تجاه المجتمع؛ بل حتى تجاه نفسه ‪.‬‬
‫وهذا ملحوظ في أي إنسان غربي !! والناس يعتقدون أن هذا من‬
‫فرط لباقتهم و ذوقهم ؟! والصحيح أنه من شدة شعورهم بالغربة‬
‫خارج منازلهم‪ ،‬فهم يوقنون حق اليقين أن الشارع ليس ملكا لهم‪ ،‬ول‬
‫لي أحد من الناس؛ وإنما هو للمدنية الصلفة!‪.‬‬
‫‪ )(11‬البيان الشيوعي ‪ ,‬كارل ماركس ‪ ,‬فريدريك إنجلز ‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫ل تعترف الرومانسية بالثوابت‪ ،‬ول تعترف بالمعقول‪ ،‬ول‬


‫بالعراف‪ ،‬وتثور على كل القيود الكلسيكية كما يسمونها‪ ,‬وتقدّس‬
‫الطبيعة البشرية والكونية وتدعو إلى الرجوع إليها‪ ,‬وكل هذا أيضا‬
‫ناتج عن مؤثرات المدنية ‪ .‬فالثوابت إما أن تكون دينية‪ ،‬ول دين في‬
‫المدنية التي تعتبر الجنون فنا من الفنون المعلنة‪ ,‬وإما أخلقية‪ ،‬ول‬
‫أخلق في المدنية الصلفة؛ لن الخلق ل يكون خلقا إل إذا رافقه إقدام‬
‫أو إحجام‪ ،‬والمدنية ل أحد يستطيع أن يناقشها‪ ،‬فهي كتروس الساعة‪،‬‬
‫والنسان عقربها الذي عليه أن يتناغم مع حركة التروس الخفية‬
‫تحته‪ ،‬فينضبط ويعبر عنها بدقة‪ ،‬وإل سوف يلقى في أقرب برميل‬
‫زبالة!‪ ,‬لنه ل ينضبط ول يمثل المدنية التي ل تؤمن إل بنفسها!‪.‬‬
‫ول تعترف الرومانسية بالمعقول!! لنها ل يمكن أن تكون عاقلة‪،‬‬
‫وهي ناتجة أصلً عن رغبة بالجنون ‪ .‬حتى قال أحد أكابر المذهب‬
‫الرومانسي‪ :‬ل يمكن أن تعطي تعريفا للرومانسية دون أن تكون‬
‫مجنونا!‪ .‬فعندما يختزل العالم إلى بيت صغير وغرفة صغيرة تمارس‬
‫فيها إنسانيتك‪ ,‬وعندما يختزل الكلم على كثرته في حفنة عبارات‬
‫تقولها لرئيسك في العمل‪ ,‬وعندما يختزل المان والثقة على ذات‬
‫النسان فقط ويصير كل من سواها أغراب وانتهازيون‪ ،‬وعندما‬
‫يختزل الشعور والنفعال النفسي إلى لحظات يقضيها النسان في‬
‫فسقة ليلية‪ ،‬أو رقصة هستيرية في السحر بين صرخات الموتورين‬
‫من أمثاله‪ ،‬فل بد أن يكون الحل في الهروب إلى عالم آخر ل يعترف‬
‫بالمعقول ول بالنظام!‪.‬‬
‫قد ل يتصور البعض أن الكفر أو الفسوق عن أمر المبدأ الموروث‬
‫بما في ذلك الدين والعرف ربما يكون رغبة ذاتية نتيجة اللحاح‬
‫النفسي بضرورة إثبات الذات ‪ .‬فالمجتمع الذي يعيش الفرد فيه وهو‬
‫يعتقد أن مجتمعه هذا يسلب النسان كل القدرة على تمثيل نفسه‬
‫يورث في النفس اندفاعا لتحقيق المعتقد الشخصي مهما كان انحرافه؛‬
‫لن هذا النسان المدني المفعم بالعقد الضطهادية تجاه بيئته يتحين‬
‫أي فرصة لكي يثبت ذاته المهمشة بحسب ظنه فإذا كان هذا ل‬
‫يتحقق إل بمعزل عن ملحظة الخرين وسيطرة المدنية الصلفة التي‬
‫ل تعترف بقيم ثابتة يقايس النسان عليها ذاته من حيث نفاسة ما‬
‫‪18‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫عنده وتفاهته فإنه لن يكون إل في زوايا النزعة الرومانسية التي‬


‫وسع خيال المؤمنين بها اليمان بشخصية الرجل السوبرمان الذي‬
‫يشبه في قدراته الخرافية المهدي المنتظر عند الرافضة والذي بمجرد‬
‫ما أن يرفع يديه في الهواء يطير فل ينزل إل على سطح الشمس أو‬
‫القمر‪ ,‬وهذا يدلك على ما بلغته العقلية الوروبية للنسان العادي من‬
‫حيرة وضيق ورغبة جامحة في نجدة تأتي من السماء لتنقذها من هذه‬
‫الجاهلية الرومانسية‪ ,‬فكان ذلك سوبرمان‪ ,‬عجّل ال فرجه كما‬
‫يقولون ‪ ,‬ثم بعد أن سقط الممثل كريستوفر ريف الذي يمثل شخصية‬
‫سوبرمان ‪ ,‬فأصيب بشلل رباعي ثم مات عام ‪ 2004‬م ‪ ,‬لم يستطع‬
‫الغرب البقاء بل " نصف إله "جديد يجد فيه سلوته فاخترع شخصية "‬
‫الترمونيتور " و هو عبارة عن رجل نصفه آلي و نصفه الخر‬
‫بشري يمارس نفس المهام النبيلة لمام الزمان الغائب المشلول‬
‫سوبرمان ‪ ,‬عجل ال فرجه !!‪.‬‬

‫الشريعة الرومانسية‬
‫أشير هنا إلى أن سلب النسان الحق في أن يمثل نفسه في الحياة‬
‫بشكل كامل بحيث ل يأمر بما يراه معروفا ول ينهى عما يراه منكرا‬
‫تبعا لمثل وأخلقيات عليا يجتمع عليها كل المجتمع‪ ,‬أمر خطير له‬
‫عواقب فصامية تورث نزعات اضطهادية تجاه المجتمع وقوى‬
‫السيطرة فيه‪ ,‬وما التكفير ومثله العلمانية والباحية في عصرنا إل‬
‫أعراض لهذه العقد الضطهادية‪ .‬وربما نتج عن هذه العقد‬
‫الضطهادية تصورات خاصة لدى الفرد يقابل فيها شعور التهميش‬
‫والحتقار الناتج عن سوء تصرفه بنفسه وجهله بالحقيقة المتعلقة بذاته‬
‫وبالكون وبحقوقه وحقوق الناس من حوله وبحق ال عليه قبل كل‬
‫شيء‪ ,‬لهذا يقول ال تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إل من سفه‬
‫‪19‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫نفسه)(‪ )12‬قال ابن كثير‪ « :‬ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره! » (‪.)13‬‬
‫فهذه الركاكة في تصور العالم بشكل واضح هي سبب الجنوح الول‬
‫في عقيدة النسان المنضبط‪ ,‬وهي مصدر الفسوق واللحاد وربما‬
‫الكفر وهي التي يسميها علماء السلف بالزندقة؛ أي أن ل يكون له‬
‫عقيدة معلنة واضحة‪ ،‬ويبطن عقيدة خاصة يقدّسها ويضفي عليها هالة‬
‫من التصورات الخرافية‪ ،‬ويجعلها منهجا للحياة بتجاهل تام لمجموع‬
‫الناس وظروف البيئة من حوله‪ ,‬ول يلزم من النسان المتزندق أن‬
‫يكون يضمر المكيدة للسلم فربما نتجت زندقته عن (دوافعه‬
‫النسانية الذاتية)‪ ,‬ولهذا كان ابن تيمية رحمه ال يقول لمناظريه من‬
‫الجهمية ‪ :‬بأن قولهم كفر؛ ولكنه ل يكفرهم لنهم جهلة‪ ,‬مع أنه يكفر‬
‫من يقول بقول الجهمية‪ .‬فكم حفل التاريخ بشخصيات كانت تنافح عن‬
‫زندقتها والسيوف فوق رقابها حتى قتلت على ذلك ‪ .‬والشيء الذي‬
‫أريد أن أصل إليه هو أن المجتمع إذا أصبحت لديه قناعة بأن الدين‬
‫أداة حكم مدنية وليس له طعم العبودية ول لونها‪ ,‬وأزيلت عنه (صِبغة‬
‫ال) التي ذكرها في كتابه‪ ,‬وأن أكثر أحكامه هي رغبات تراثية قديمة‬
‫مشكوك في صحة ثبوتها ل تمثل أهل الرض ول أهل السماء‪ ,‬وأنه‬
‫سياسة من السياسات ونظام إدارة سلوكي مع إغفال تام لمعنى الحسنة‬
‫والسيئة‪ ,‬فحينها سيكون قبول أحكامه وإملءاته بل تعليل نفعي مقنع‬
‫فكريا ونفسيا ضربا من البلهة والخنوع المخجل‪ ,‬وعندها تجد أن‬
‫مناقشة ما يسمونه‪( :‬عجرفة الدين) ستكون أمرا من باب المراجعة‬
‫الفكرية والتنظيم السلوكي‪ ,‬ثم بعد ذلك ينشأ جدار الوحشة بين‬
‫المكلفين وبين مفهوم المجتمع المتدين‪ ,‬ذلك المجتمع الذي صار الناس‬
‫ينظرون إليه أنه في تصوراته وعقوباته ل يختلف عن أي شرطي‬
‫أمي منفعل يقدس النظام ول يعرفه‪ ،‬ولو أراد تنفيذ عقوبة لما استطاع‬
‫كتابة قسيمة مخالفة بها‪ ,‬فهو صورية ساذجة تقف حجر عثرة في‬
‫طريق الناس وتزعم أنها سفينة نوح‪ ,‬ثم بعد ذلك تنشأ الرغبة الذاتية‬
‫بالفسوق والتمرد الشخصي‪ ،‬ثم العائلي‪ ،‬ثم الجتماعي‪ ،‬ثم تتطور‬

‫‪ )(12‬البقرة‪.130 :‬‬
‫‪ )(13‬تفسير ابن كثير ‪. 256/ 1،‬‬
‫‪20‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫خطوات المدنية المسخية التي لن تنتهي إل بالكفر المقدّس المسمى‬


‫الحرية!‪.‬‬
‫دعت الرومانسية إلى الطبيعة والعودة إليها وكانوا يريدونها (عودة‬
‫جذرية وحشية) بحيث ينسفون كل المبادئ المعرفية المكتسبة المتعلقة‬
‫بالخلق والعقائد والسلوك ‪ .‬وسأضع هنا هذا النص المخيف‬
‫المرعب ثم أعلق عليه‪ ,‬الذي كتبه أحد مؤسسي الرومانسية وهو‬
‫المريكي يونك‪1759 ,‬م‪ ,‬في كتابه ‪( :‬أقوال في الـتأليف الصيل)‬
‫والذي يعد بحق الجذوة التي أشعلت الرومانسية في أوروبا بعد‬
‫ترجمته‪ ,‬يقول في صفحة ‪ « :45‬فيمكن القول بأن الصيل ذو طبيعة‬
‫خضرية‪ ,‬فهو يرتفع تلقائيا من جذور النبوغ الحي‪ ,‬وهو ينمو ول‬
‫يصنع‪ ,‬والتقليديات غالبا نوع من الصناعة يخرجها أولئك الليون‬
‫بالصنعة والجهد‪ ,‬من مواد موجودة سلفا ليست مما يعود لهم »‪ ,‬هكذا‬
‫بكل هذه الجرأة الطاغية على ميراث البشرية بأسرها!‪ .‬فهو يقول بأن‬
‫النسان الصيل في تطوره هو الذي يبني مراحل التطور على قدراته‬
‫الذاتية البحتة النابعة من طبيعة ذاته النفسية والعضوية كما تنبت‬
‫النبتة من أصل بذرتها تستمد منها مقومات الرقي ثم ترتفع وتنمو‬
‫دون أن تدخل في ذاتها أي شيء ليس منها‪ ،‬وهذا ما يعنيه بقوله ‪« :‬‬
‫ل يصنع » ‪ .‬ثم يصف ما ينتج عن الناس الذين ليسوا أصيلين بأنه‬
‫صناعة آلية أي أنهم يأخذون المبادئ من بعضهم البعض التي حصلوا‬
‫عليها من أسلفهم سواء كانت سلوكية أو عقدية أو تصورية فكرية‬
‫ويمزجونها ويتطورون تبعا لستفادتهم من ذلك المزيج ‪ .‬وكلمه‬
‫واضح في أنه يدعو إلى نسف كل المعتقدات الدينية والعرفية‬
‫والنسانية وبناء (النسان الشخصي) الذي ل يمت بخبرات الخرين‬
‫بصلة معتمدا على غرائزه وانفعالته الذاتية‪ ،‬وهذا ما يسمى عندهم‬
‫تارة بالتلقائية‪ ،‬وتارة بترك اللية الميكانيكية إلى اللية العضوية‪ ،‬وكلها‬
‫تعني‪( :‬العودة إلى الطبيعة!)‪.‬‬
‫الرومانسية هي الصل الول من حيث المبدأ لكل ما نراه اليوم؛‬
‫ولكن عندما تعلقت بالدولة والشعب صارت علمانية‪ ،‬وعندما تعلقت‬
‫بالقتصاد صارت رأسمالية‪ ،‬وعندما تعلقت بالحقوق المدنية صارت‬
‫ديمقراطية‪ ،‬وعندما تعلقت بالفكر النظري صارت عقلنية‪ ،‬وعندما‬
‫‪21‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫تعلقت بمعاني السعادة المجردة في النفس البشرية وبالمصير‬


‫الشخصي صارت وجودية‪ ,‬وعندما تعلقت بالخلق والسلوك‬
‫النساني صارت إباحية‪ ,‬وعندما تعلقت بالعبث الفني والفوضى‬
‫التعبيرية وبمعاني الجمال اللغائية صارت جمالية‪ ,‬وهكذا!‪ ,‬بل ان‬
‫حتى الشيوعية هي تفريع عن الرومانسية؛ لن الشيوعية ببساطة‬
‫عودة إلى الطبيعة التي تنفي حق التملك وتثبت الحقوق المشاعة‬
‫للجميع حتى أن روسو ‪1755‬م‪ ,‬له كتاب اسمه ‪( :‬القول في أصل‬
‫عدم المساواة بين البشر)‪ ,‬يقول فيه بأن النحلل ينجم عن الحضارة‪،‬‬
‫وخصوصا حيازة الملكية التي أدت إلى عدم المساواة‪ ،‬وكان علجه‬
‫المقترح مفهوم العودة إلى الطبيعة وإلى ما دعاه (الحالة الشتراكية‬
‫الولى) وهي تنظيم جماعي أولي يقوم على المشاركة! (‪ .)14‬وقد‬
‫يظن البعض أن الرأسمالية نظام مادي محاسباتي اقتصادي بحت ليس‬
‫له علقة بمبادئ الرومانسية‪ ,‬وهذا غير صحيح؛ لن الرأسمالية‬
‫تعتمد على (الغراق في الشهوة)؛ لن حب المادة ونفوذها وسيطرتها‬
‫في المجتمع كل ذلك يتعلق تعلقا أوليا بالمنسوب الكمي للشهوة‪،‬‬
‫والحاجة في التصور الشخصي لكل فرد‪ ،‬والرومانسية هي الكفيلة بأن‬
‫تفتح مصاريع الشهوة والحتياج على آخرها‪ ,‬لهذا تعلم لماذا نصبت‬
‫أمريكا لقطات الفضائيات فوق بيوت الفقراء في أفغانستان‬
‫والعراق؟! وفتحت لكل طائفة محطة فضائية قبل أن تبني لهم‬
‫خزانات الماء وأفران المخابز ؟!‪ .‬أما عن كونها هي بذرة العلمانية‬
‫فأنقل لك نص ما ذكرته ليليان فورست في سردها تاريخ الرومانسية‪:‬‬
‫« كان صراع الرومانسية في جوهره بين فئة عنيدة وطنية تقليدية‪,‬‬
‫غالبا ملكية في السياسة وكاثوليكية في الدين‪ ،‬وبين فئة تقدمية عالمية‬
‫النظرة تميل إلى التحرر في جميع جوانب نظرتها‪ ،‬ول يعني هذا أن‬
‫التقسيم كان واضح المعالم في ذلك الحين فمثل في ‪1822‬م كان ثمة‬
‫رومانسيون ملكيون ومتحررون رومانسيون إلى جانب الملكيين‬
‫الكلسيكيين والمتحررين الكلسيكيين » (‪.)15‬‬
‫يقولون بأن الرومانسية ليست بهيمية أنيقة ول غوغائية ساحرة‪ ,‬خالية‬
‫من أي تنظيم؛ لن مؤسسي الرومانسية دعوا إلى التمسك بالطبيعة‬
‫والعودة إليها‪ ،‬وهذا إطراء فارغ وتملّق أحمق للنضباط الفطري في‬
‫نفوس البشر؛ بل حتى في نفوس البهائم‪ ,‬فحتى القطة تأخذ قطعة اللحم‬
‫‪ )(14‬موسوعة المصطلح النقدي‪.206 :‬‬
‫‪ )(15‬موسوعة المصطلح النقدي‪.231 :‬‬
‫‪22‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫من أمامك وهي تتسلل في مشيتها وتخاتل في نظرتها لنها تعلم بأنها‬
‫ل لها‪ ,‬فحتى‬ ‫تأخذ فضل غيرها وأن هذه القطعة لم تصنع أص ً‬
‫الحيوانات ل تستطيع أن تنكر النضباط والخلق مطلقا‪ ,‬واحترام‬
‫الطبائع البشرية الصلية أمر سيكون رغما عنهم؛ لن النسان ل‬
‫يمكن أن يتنكر لطبيعته على وجه المنهجية واللزوم؛ وإنما يجنح عن‬
‫ذلك ثم يعود ل محالة‪ ،‬فليس هذا من ترتيب حبكتهم الفكرية‪ ،‬ول من‬
‫سابق ترشيدهم الفكري للرومانسية‪ ،‬لنها في حقيقتها شيء كالمخدر‬
‫الذي يتداوله الناس‪ ،‬فل يلبث أن يكون قوت أهل المدينة وسلوتهم؛‬
‫ولكنه لن يغنيهم عن الماء والخبز‪ ،‬فكذلك ل غنى للنسان عن‬
‫مقوماته الطبيعية وإن أغرقته في الباحية‪ ,‬ويتضح فشل من يتنكر‬
‫لهذه الطبائع في أتباع المذهب (الهيـبي)‪ ،‬الذين صاروا ينامون بين‬
‫ركام القمامات وتحت الجسور وفي الخرب والحشوش‪ ،‬ثم يموت‬
‫ل كالكلب الجرب‪ ,‬ولن الطبيعة تعني الكل‬ ‫أحدهم موبوءا مرذو ً‬
‫والشرب والجماع والتناسل وحب التملك والشعور بالبقاء والمتداد‬
‫والتعبير عن الذات‪ ،‬وهذه كلها وغيرها من المور التي ل تنفك عن‬
‫أحد وتلزم حتى المجانين في عنابرهم‪ ,‬وهذه هي الشياء الوحيدة‬
‫التي تعلن المدنية الكاذبة الفاكة اليوم احترامها وتقديرها وجعلها من‬
‫المقدرات الجتماعية المقدسة التي يجب الحفاظ عليها‪ ,‬وكأنها تستطيع‬
‫قول غير ذلك!‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫الرهاب الرومانسي‬
‫تفتح الجريدة وتقرأ فإذا فيها رجال كفقاقيع الصابون!‪ ,‬تجد أحدهم‬
‫منتفخا‪ ,‬برّاقا‪ ,‬أنيقا‪ ,‬تشع منه أطياف كثيرة وألوان مثيرة‪ ,‬يتسامى إلى‬
‫السماء كأنه قطعة منها‪ ,‬ولكنه خفيف الوزن‪ ,‬فارغ!‪ ,‬ما أن تلمسه‬
‫وإذا به ينفجر والماء قد مل وجهك وغطى عارضيك‪ ,‬فهم يبصقون‬
‫العجرفة بصقا ويمارسون حذلقة عبارات المنطق الرياضي والعقلني‬
‫ببهلوانية‪ ,‬فإذا فشلوا في تزوير جدول الرياضيات أو قائمة المسلمات‬
‫في تصور من يناظرون‪ ,‬تغنوا بأهازيج الرومانسية الحالمة بعالم‬
‫مليء بالعدل والمساواة والحرية الطبيعية والتقدمية الخلّقة الفعّالة‪,‬‬
‫ونشروا بين يديك سجلت المة المنكوبة ومساوئ العهد الحاضر‬
‫الليم والعهد المتحجر القديم وترتروك وثرثروك وهولوك‪ ,‬ثم قالوا‪:‬‬
‫من ربك؟‪ ,‬ما دينك؟‪ ,‬من نبيك؟!‪ ,‬فإذا وجدوا أنك مازلت مسلما مؤمنا‬
‫ولّى أحدهم حسيرا كسيرا وقد ذهبت (فيهقاته الفلسفية) كما قال‬
‫المعلمي عن أباطيل الكوثري ‪ :‬كضرطة عير في فلة !!!‪.‬‬
‫هذا المنهج التشكيكي الذي يمارسة دعاة الرومانسية‪ ,‬وسمهم كما‬
‫تشاء‪ ,‬علمانيين‪ ,‬ليبراليين‪ ,‬عصرانيين‪ ,‬عقلنيين‪ ,‬منصّرين‪ ,‬حشّاشين‪,‬‬
‫مجانين!‪ ,‬المهم أنهم ينتحلون هذا المنهج ليس عن عدوانية تلقائية‪،‬‬
‫ول نفور مجرد؛ وإنما هو عن مكر مسبق‪ ،‬وعن عقد ذاتية تنتاب أي‬
‫إنسان على وجه الرض بالرغبة في السيطرة والعلو‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫تلك القطعة الذي ذكرها ابن القيم عندما قال‪ :‬بأن في كل إنسان قطعة‬
‫من الهوى تدعوه ليمارس الربوبية في الرض‪ ،‬فمن الناس من‬
‫يضعها تحت ذل العبودية حتى تنكسر وتستسلم لرب العالمين‪ ،‬ومنهم‬
‫من تكبر فيه هذه القطعة حتى يقول للناس (أنا ربكم العلى! )‪,‬‬
‫وبسبب هذه القطعة يجد المرء في نفسه شيء من الخجل إذا دعي‬
‫للستسلم اللمبرر في نصوص الشريعة‪ ,‬كتقبيل الحجر أو رمي‬
‫الجمار أو أن المرأة مرورها يقطع الصلة ول يقطعها مرور‬
‫‪24‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫النعجة!‪ ,‬كل هذا بسبب تلك النزعة المتعالية على إرادات ال المبهمة‬
‫والتي هي فعل محكّ العبودية الذي يميز الخبيث من الطيب‪ ,‬بل‬
‫بلهة من المكلف‪ ،‬وبل انقياد أحمق؛ ولكن اتباع من بعد اقتناع‬
‫بثبوت النص ولزوم الحجة وصدق العبودية!‪.‬‬
‫إن الخلفية العقدية لدى هؤلء القوم المتحذلقين على أمر ال ل تؤمن‬
‫بالعلم الخارجي؛ وإنما العلم هو ما نبع من الداخل كما بينت ذلك في‬
‫كلم يونك المريكي وغيره من واضعي أصول المذهب الرومانسي‪،‬‬
‫فهم ينسفون الخبرات الموروثة‪ ،‬ويشككون في الماضي مطلقا‪،‬‬
‫ويربطون مصادر المعرفة بالخبرة الذاتية الفردية والجمعية النية‬
‫بحيث يكون الشارع اليوم ومن فيه هم بناة (الثقافة المحترمة‬
‫الصيلة)‪ ،‬وذلك كما قال يونك ‪ « :‬الصيل له طبع خضري »‪ ،‬ويتم‬
‫تجاهل الجيل السابق الذي سوف يكون اسمه الن (الكلسيكي)‪ .‬ثم‬
‫تبدأ مرحلة جديدة من تقييم الذات والمجتمع والكون تنتج عنها مبادئ‬
‫جديدة حتما؛ لن المعطيات المادية الحاضرة تختلف بل ريب عن‬
‫الماديات في الجيل السابق‪ ،‬ولهذا تجد التفاوت بين الجيال كبيرا في‬
‫الغرب‪ ،‬فيتحدث الب لبنائه عن زمانه وكأنه قادم من العصور‬
‫الوسطى!‪ ,‬ثم إذا جاء الجيل القادم سوف يكفر بكل ما بناه هذا الجيل‬
‫من قيم ثقافية وسلوكية ويسميه بالجيل (الكلسيكي الخير!) ثم يفعل‬
‫كما فعل الجيل الذي سبقه‪ ,‬وهكذا يتجدد الكفر والجحود بين الجيال‪،‬‬
‫والهدم الخرق الغوغائي لكل ما بناه الخرون ‪ .‬إن الستمرار على‬
‫هذه الطريقة الجاحدة الكفورة في التعاطي مع الرث الثقافي للجيال‬
‫وبطريقة مستمرة أورث الغرب أجيالً (طفولية البعاد) ل تبلغ في‬
‫اهتماماتها وأركان المعرفة فيها ما يؤهلها لنتاج النسان الناضج‬
‫الحكيم وتجد هذا واضحا‪ ,‬على سبيل المثال‪ ,‬في جهل بعض أفراد‬
‫الشعب المريكي باسم رئيس الوليات المتحدة! وأحيانا باسم دولة‬
‫مثل الصين!‪ ,‬هذا على مستوى المعلومة المجردة وليس المعلومة‬
‫المستنبطة أو المولدة أو المقترحة‪ ,‬فكيف سيكون تفكير وسلوك هذا‬
‫المجتمع الذي يمارس تلقي المعرفة كما تمارسه البهائم التي تبني‬
‫تصوراتها للكون والحياة على ما تراه في قارعة الطريق!‪ ,‬فهم ليس‬
‫لهم (ميت عاقل محترم) فكل موتاهم حمقى ورجعيون! والحي منهم‬
‫فقط هو الذي يدرك ما يقول‪ ,‬وهم ل يعرفون غيبا مقدسا فكل الغيب‬
‫‪25‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫عندهم خرافة‪ ،‬فإذا قلت لهم جنة ونارا تبرم أحدهم ولوى شدقيه‪,‬‬
‫فحالك معهم كحال كبير القوم‪ ,‬أمير الزمان يجيء إلى ثور قيقول له‪:‬‬
‫يا ثور! عندي برسيم في المنزل!! فيرمرم الثور ويستمر في رمرمته‬
‫ل لكبير القوم أمير الزمان!‪ ,‬لن الثيران ل تعرف الوعود‬‫ل يلقي با ً‬
‫بالبرسيم وإنما تعرف البرسيم نفسه!‪ ,‬حتى إذا أشرف طفل حاسر‬
‫الرأس حافي القدمين ومعه حزمة برسيم‪ ,‬ركض إليه الثور واعتنقه‬
‫ولعق قدميه؛ لنه يحمل كل (مقومات الثقافة البناءة) التي ل تتحدث‬
‫عن جنة فوق السماوات السبع‪ ،‬سماها صاحب رواية مزرعة الحيوان‬
‫بـ (مدينة الغراب الكذاب موسى) يقصد موسى عليه السلم!!‪ ,‬فحال‬
‫هؤلء القوم كحال هذا الثور ذي العقيدة البرسيمية الذي إن تكلمت‬
‫معه عن أمر غير مشاهد قال‪( :‬يا شعيب ما نفقه كثيرا مما‬
‫تقول!)(‪.)16‬‬
‫وإليك هذا النموذج البائس الفقير!‪ ,‬يقول كاتب خليجي ليبرالي في‬
‫جريدة يومية‪ 4 ,‬شعبان ‪ 1428‬هـ‪ « :‬إن مشكلتنا الحضارية هي‬
‫في تسلط أفكار متشددة (يعني دينية) على أكثر مجريات المور‬
‫ونقدها هو أقرب الحلول للتخفيف من تسلط هذا الفكر »‪ .‬فهو يبين‬
‫أنه إنما يمارس هذا المنهج التشكيكي وليس النقدي‪ ,‬ليوهن وليس‬
‫ليمحص الحق عن الباطل أو ليصل إلى رؤية معينة واضحة‬
‫صحيحة‪ ,‬فهو لديه قوة فكرية يريدها أن تفعل في المجتمع فعلها؛‬
‫ولكن المجتمع مشغول بقيم ومبادئ ل تقبل المشاركة في الحكم لنها‬
‫من ال‪ ,‬على القل بحسب اجتهاد من قررها أو دان بها‪ ,‬والمجتمع‬
‫يثق في هذه القيم‪ ،‬وهو ل يستطيع أن يفرض فكره بالنار والبارود‪،‬‬
‫ولهذا يسعى لحجب الثقة عن ال بقطع العلقة بين المكلف وبين الثقة‬
‫بثبوت دين ال!‪ ,‬ومن ثم طرد حكمه من الرض‪ ،‬وبناء حكومة ثقافية‬
‫فكرية جديدة تدير المة يكون المرجع فيها إلى عقيدته الرومانسية‬
‫البرسيمية هو وأضرابه‪ ,‬التي تقول بأن الحق في السعادة‪ ،‬وأن قيمة‬
‫الذات تساوي قدرتها على التعبير‪ ،‬وأن العالم ملك مشاع كروض‬
‫كبير تنتفع فيه كل المخلوقات بتلقائية وحرية طبيعية رومانسية!‪.‬‬

‫‪ )(16‬هود‪.91 :‬‬
‫‪26‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫وتحت عنوان‪( :‬إستنبات السلمية في الخطاب المعرفي) في نفس‬


‫الجريدة لنفس الكاتب‪ ,‬بتاريخ ‪ 18‬شوال ‪ 1428‬هـ‪ ,‬يقول منفذا ما‬
‫أعلنه من (مكر تشكيكي عابث)‪ « :‬خطابنا المعرفي في الواقع‬
‫العربي تشكل وفق مكونات العقل العربي إبان حركة التدوين في‬
‫العصر الذهبي للدولة العباسية » ‪ .‬فهو هنا يؤكد على أن كل هذا‬
‫التراث الفكري العربي الذي ورثته المة على مدى ‪ 1300‬عام‬
‫وهو ما تل عهد التدوين المذكور‪ ,‬وهو يؤكد على عهد التدوين لنه‬
‫يريد أن يشكك في الدواوين!‪ ,‬يقول بأن ذلك التراث كله برمته خرافة‬
‫وأساطير بنيت على (مكونات العقل العربي البدائي!)‪ ,‬وإليك بقية‬
‫الكلم عن تشكل الخطاب المعرفي العربي الذي يقول عنه‪ « :‬تشكل‬
‫وفق مكونات العقل العربي إبان حركة التدوين في العصر الذهبي‬
‫للدولة العباسية حسب وجهة نظر محمد عابد الجابري‪ ،‬بعد ثقافة‬
‫شفاهية تتداخل إلى جانبها النظرة السطورية والعجائبية في كافة‬
‫جوانب الحياة‪ ،‬حتى العادية منها كالحكايات الميثيولوجية للصيد‬
‫والكرم كأقل المثلة تأثيرا وسذاجة‪ ،‬وإل فإن الخطاب المعرفي‬
‫العربي كان خطابا أسطوريا في الكثير من جوانبه حتى العلمي منه‬
‫آنذاك‪ ،‬بسبب أن العقل الذي تشكل كان بدائيا إلى درجة كبيرة وتم‬
‫تدوين كل ذلك على أنه حقيقة معرفية ل تستطيع أن تتجاوزه العقول‬
‫النقدية »‪ .‬فكلمه واضح في أنه ينسب كل ما تم تدوينه في عهد‬
‫التدوين الذي دونت فيه كتب السنة‪ ,‬إلى العقول البشرية المليئة‬
‫بالخرافة والحكايات الميثيولوجية وضرب مثال بالكرم! والصيد!‬
‫وخاف على نفسه من أن يرفسه المجتمع على قفاه العريض إن هو‬
‫صرح برفضه لقصص كالسراء والمعراج‪ ،‬وقصة آدم وإبليس‪،‬‬
‫ووصف الجنة والنار‪ ،‬والجن والحور العين؛ لنه يصرح بأن تلك‬
‫الخرافات كانت موجودة في ذلك التراث الديني (حتى العلمي منه)‪,‬‬
‫على حد قوله‪ ،‬ثم يتحسر بسبب ظلم ذوي القربى الجهلة الذين ل‬
‫يعلمون كل هذه الستنارة الفكرية لديه التي لعله حصل عليها من تلك‬
‫السطورة الغريقية المسماة بـ (سارق النار)‪ ,‬وهي قصة رجل‬
‫عندما ضاق ذرعا بالظلم الذي في الرض طار إلى الشمس فسرق‬
‫منها جذوة نار فأدخل النار ولول مرة عالم البشر‪ ,‬فصاحبنا لعله‬
‫حصل على شيء من تلك الجذوة السحرية التي ل تمت للرض‬
‫‪27‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫وأهلها بصلة!‪ ,‬فيقول متحسرا ً بسبب تلك القداسة الوهمية – حسب‬


‫تصوره ‪ -‬للنصوص الدينية‪ « :‬ل تستطيع أن تتجاوزها العقول‬
‫النقدية أو حتى أن تشكك في مصداقيتها الروائية التراثية على طريقة‬
‫أهل الحديث و وفق منطلقاتهم الفكرية ذاتها »‪ ,‬وقد كذب في هذه‬
‫الجزئية الخيرة لن أهل السنة ومن شدة تمسكهم بميثاق الشرف‬
‫العلمي الذي أخذه عليهم ربهم بأن يبينونه للناس ول يكتمونه كتبوا‬
‫المصنفات المستقلة في نقد أعلى كتبهم في درجة الصحة وهو صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬ومن ذلك ما صنفه المام الدارقطني تحت إسم (التتبع) لما‬
‫في صحيح البخاري وهو مطبوع مع (اللزامات) ورد عليه الحافظ‬
‫في الفتح ‪ .‬ونحو هذا التصرف ما ذكره ابن الجوزي من أحاديث‬
‫المسند في (الموضوعات)‪ ،‬وتعقبه الحافظ في (القول المسدد في الذب‬
‫عن المسند)‪ ،‬ثم تتبعهم السيوطي في (الذيل الممهد على القول‬
‫المسدد)‪ ،‬وكذلك ناقش بعض الحاديث في الصحيح العلمة اللباني‬
‫رحمه ال في (إرواء الغليل) و(السلسلة الصحيحة) وغيرهم‪ ,‬ول تجد‬
‫هذا عند غير أهل السنة‪ ,‬أهل الحديث‪ ,‬بيّض ال وجوههم يوم تسوّد‬
‫وجوه الظالمين!‪.‬‬
‫وفي النهاية‪ ,‬يختم مقالته ساخرا من الدين الذي ل ينتج إل الخرافة‬
‫بزعمه‪ ,‬فيقول‪ « :‬فإن التفوق الغربي كان محرجا للكثير من العقول‬
‫العربية خاصة القومية منها والسلموية‪ ،‬ولذا كان البحث عن بذور‬
‫من هنا وهناك في التاريخ السلمي أو في النصوص الدينية‬
‫السلمية أو الراء الفقهية هو الحل بالنسبة لممثلي هذا الخطاب‪،‬‬
‫كنوع من إعادة العتبار للذات وكنوع من شرعنة العلوم وأسلمتها‬
‫في الوقت الذي ليست بحاجة إلى هذه الشرعنة كونها في الصل‬
‫جاءت إثر خطاب فلسفي نقدي يقوم على نقض المسلمات واليقينيات‬
‫التي تكثر لدى الخطابات الدينية في كافة الديان »‪ .‬ول أدري متى‬
‫كان العلم يبنى على نقض اليقينيات والمسلمات ؟! والصحيح أنه يبنى‬
‫على نقدها فإن صمدت بكونها فعلً يقينيات ومسلمات حقيقية وإل‬
‫فهي خرافة ينبغي أن تزول‪ ,‬وهذا ما فعله الغرب بنقده التجريبي‬
‫لخرافاته الدينية أما (دين السلم) فهو ليس كأديان الغرب‪ ،‬ومن‬
‫يعتقد أنه مثلها من حيث بنائه وموافقته أو مخالفته للحق فهو يعتقد في‬
‫‪28‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫نفس الوقت أن أهله كأهل تلك الديان من حيث الكفر واليمان‪ ,‬فهو‬
‫ل يحتاج إلى كل هذه الحذلقات لعلن البراءة من السلم‪ .‬ثم ل‬
‫أدري متى كان حفظ جدول الضرب شرطا في صحة المبادئ‬
‫النسانية‪ ،‬فكون الدين ل يعرف قوانين نيوتن أو جداء ديكارت أو‬
‫النظرية السموزية أو كيف يعمل مفتاح الدايود داخل الترانزيستور‬
‫في الحاسب اللي‪ ،‬فهل يعني هذا أنه ل يستطيع أن يعطينا تفسيرا‬
‫حقيقيا لذواتنا البشرية و وجودنا الكوني وقصتنا الموغلة في الزمان‬
‫الول عندما كان ال ول شيء غير ال ثم خلق الخلق ثم خرجنا من‬
‫الجنة ثم ركبنا سفينة نوح ثم وقفنا خلف محمد عند قليب بدر إلى‬
‫أن جلسنا الن نناجز بعقولنا أغبياء العقيدة من أمثالك؟!!‪.‬‬
‫و في نفس هذا المقال ينتقد هذا الكاتب الليبرالي حديث الذبابة الذي‬
‫ورد في أصح كتب الحديث " صحيح البخاري " و يقول بأن الدين‬
‫الذي يأمر بالنظافة ل يمكن أن يأمر بغمس الذبابة في الناء قبل‬
‫شربه !‪ .‬فتجده يتجاهل تماما أن ذلك المر جاء على وجه الستطباب‬
‫حيث قال عليه الصلة و السلم ‪ ( :‬فإن في أحد جناحيه شفاء و في‬
‫الخر داء ) ثم ل تجد هذا الكاتب يستنكر أن يأمر الغرب الذي يقدس‬
‫النظافة و الحرية الشخصية الطبيب بوضع إصبعه في دبر مريض‬
‫البروستاتا ‪ .‬و لكن يقال له ليس اللوم عليك وإنما أنت (فروج‬
‫صاح عندما صاحت الديكة)‪ ,‬وقد سبقك من المقلدين الكثير من الذين‬
‫يديرون العبارة يمينا وشمالً فيحسبون أنهم جاءوا بما لم يستطعه‬
‫الوائل‪ ,‬ول أزعم أني من اكتشف هذا الضرب من المتفلسفة فقد‬
‫سبقني الفيلسوف الوروبي توماس كري الذي عاش فترة بداية‬
‫الرومانسية وتأثيرها على الشعر الكلسيكي ذي القواعد ودخول‬
‫الشعر المحكي فحدثت له هذه القصة الساخرة التي تنبئ عن شعوره‬
‫بفوضوية عبثية جلبتها تلك الرومانسية الغجرية‪ ,‬فعندما سأله رجل‬
‫يأمل أن يكون شاعرا‪ ,‬كيف يقلب قطعة نثر بسيطة إلى الشعر‪,‬‬
‫يعني كما فعل هذا الكاتب عندما سرق كلما من مفاهيم الغرب ضد‬
‫كنيستهم ليصنع منها هجاءا للسلم ــ‪ ،‬فلخص له كري بسخرية‬
‫كيف يحول النثر إلى قصيدة رومانسية في ثلث خطوات‪ ,‬قال‪« :‬‬
‫أدرها قليل لتأخذ شكل حكمة!‪ ,‬وضع فيها زهرة!‪ ,‬وامهرها بتعبير‬
‫‪29‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫ثمين! » (‪ .)17‬كذلك الحال في المستنيرين من أهل التقليد الغربي‬


‫الذين يشبهون أفعى الكوبرا عندما يكشف عنها غطاء الزنبيل فتخرج‪،‬‬
‫ثم يبدأ الكاهن بالنفخ في مزماره وهي تتراقص‪ ،‬فيظن الناس أنها‬
‫تتناغم مع حركات ذلك الكاهن الطروب؛ ولكن الحقيقة أن الفعى‬
‫تكون في تلك اللحظة عمياء ل ترى بعد خروجها إلى النور‪ ،‬فتتمايل‬
‫لتوهم أي عدو أمامها أنها تراه!!‪ ,‬كذلك الحال في فراريج التغريب‬
‫الذين يفعلون كما تفعل أفعى الكوبرا والصحيح أنهم مجرد (عميان‬
‫يرقصون باتجاه الصوت العلى!)‪.‬‬
‫تكمن المشكلة في الرومانسية أنها مذهب حياتي يتسلل إلى الناس من‬
‫ثقوب تعاملتهم اليومية البسيطة والتي قد ل يخطر على بال أحد أنها‬
‫ثغر سيدخل منه الهلك والدمار والرهاب الرومانسي ‪ .‬لهذا تجد أن‬
‫للرومانسية مظاهر مشاعة ومعلنة في كثير من البلدان السلمية؛‬
‫ولكنها ل تأخذ تسمية معينة فيظن أنها من (عموم الفسوق‬
‫والعصيان)‪ ،‬والصحيح أنها داخلة تحت منهجية تضطرد وتنمو‬
‫وتتطور وتستمر حتى تشكل طيفا كبيرا يمثل المذهب الرومانسي‬
‫بجموحه على المعتقد والقاعدة‪ ،‬وبجرأته على إنتاج ما ل ينتظره أحد‪,‬‬
‫ثم يندر أن ل يقع تحت ذلك الطيف أحد من أبناء المجتمع ‪ .‬فمثل ً‪,‬‬
‫من عربة صغيرة يصنع صاحبها دمى خشبية صغيرة يحركها بيديه‬
‫ويضحك على ذلك الصبيان فيحصل منهم على قرش أو قرشين في‬
‫حارة تقليدية مظلمة الزوايا في عاصمة عربية ما‪ ,‬استطاعت‬
‫الرومانسية أن تتشكل وتتمدد إلى ما تراه اليوم من مسارح ومراقص‬
‫ومواخير ومحطات إباحية وهذه حقيقة مثبته!‪ .‬نحن في المجتمع‬
‫المسلم اليوم بل استثناء مطلقا نعاني من جرأة (الفن) على الحياة‪،‬‬
‫وهذا هو تعريف اشعيا اللماني للرومانسية عندما قال‪« :‬هي طغيان‬
‫الفن على الحياة»‪ ,‬فل يوجد شيء مقدّس‪ ،‬ول يوجد مثالية ل تقبل‬
‫النتقاص‪ ,‬فكل شيء قابل لن يكون فنا‪ ,‬وبعض الطيبين من الدعاة‬
‫السلميين التجريبيين! ينادي بهذا ويوافق عليه‪ ،‬ويقول‪ :‬طالما أن‬
‫الحق معنا فلماذا نمنع الناس من التساؤل؟ وهذا الشيخ المتزلف ومن‬
‫معه ل يعلمون بأن (التساؤل على الطريقة الرومانسية) شيء آخر!‪,‬‬
‫‪ )(17‬توماس كراي‪ ،‬مراسلت مع وليم ميسن ‪ ،‬ص ‪.146‬‬
‫‪30‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫وأن النقد في المذهب الرومانسي له ضوابط أخرى وهو كما تقول‬


‫ليليان فورست‪ « :‬تقويم العمل الفني بمقاييس جمالية إيجابية أي تقدير‬
‫ما فيه من جمال وليس بالمقياس السلبي المتفيهق الذي يعدد تجاوزات‬
‫العمل على القواعد!» (‪ )18‬يعني لو أن ماجنة مثلت دور إحدى‬
‫الصحابيات على الشاشة وكانت تلك الفنانة‪ ,‬رشيقة القوام‪ ,‬دافئة‬
‫المشاعر‪ ,‬أندلسية القسمات‪ ,‬فل يحق لحد مطلقا أبدا إل أن يقول‪:‬‬
‫(كانت فنانة جميلة ورائعة وكان دورها كذلك! ) فهذا هو الجمال‬
‫الذي ينبغي إبرازه في العمل الفني‪ ,‬فأما مسألة تجاوزها للضوابط‬
‫الشرعية والعرفية وحتى العلمية في تمثيل الشخصية وكونها في ذاتها‬
‫امرأة ذات سمعة رخيصة وأن شخصية الصحابية أكبر وأطهر من‬
‫أن تمثلها فنانة فهذه كلها (معتقدات ذاتية نابعة من تصور ذاتي‬
‫متدين)‪ ،‬لك الحق أن تعيش به‪ ،‬وليس لك الحق أن تجعله المعيار‬
‫المثل‪ ،‬فالرومانسية كما قلت ‪ :‬هي «طغيان الخيال الفردي على‬
‫تصور الوجود والتعبير عنه»‪ ,‬ومثال حي على ذلك ما ذكره مدير‬
‫تحرير جريدة محلية عندما قال بأنه ل يناقش قضية الحجاب ول هيئة‬
‫الحسبة في السواق فهذه أمور تخص الرؤوس التي تعيش فيها هذه‬
‫الفكار! ولكنني أتحدث عن أحلمي برؤية دخول أول فتاة من بلدي‬
‫في دورة عالمية لكرة التنس الرضي!!‪ ,‬فهو ل يهمه تلك الضوابط‬
‫وتلك التشريعات المتفيهقة (بفهمه) و إنما يهمه منظر جميل لفتاة‬
‫وطنية في ريعان الشباب ترتدي تنورة لنصاف الفخذين وتركض‬
‫حاسرة في ملعب رياضي مكشوف فيجلس هو ورفاقه في المدرج‬
‫الول يهتفون لها ويصفقون بحرارة‪ ,‬ولتذهب القواعد والتشريعات‬
‫والعراف إلى الجحيم!‪ ,‬وأي شخص ينتقد هذه الرؤية فهو متخلف!‬
‫لنه يعير عقله وتصوره للحياة لمن هو ليس في حاجة إليه؛ بل لمن‬
‫هو يمقته ويزدريه‪ ,‬فهذا هو معنى (حرية الكلمة وحرية النقد)‬
‫فليفهمها كل من يبهش إليها من إخواننا الطيبين السلميين‪ ,‬والسبيل‬
‫المثل لمقابلة مطالب هؤلء الغوغائيين الرومانسيين بحرية النقد‬
‫والتعبير هي أن تغلق البواب والنوافذ وتضع أصبعيك في أذنيك‬
‫وتستغشي ثيابك وتصر وتستكبر استكبارا!!‪.‬‬

‫‪ )(18‬موسوعة المصطلح النقدي‪.191 :‬‬


‫‪31‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫إذا فشلت الرومانسية في مهمة أرسلت بدلً منها فنانا!‪ .‬قد يحتقر‬
‫الناس الفنان من حيث تأثيره وينظرون إليه وهو يلوي شدقيه وينفخ‬
‫منخريه ويتقمص المشاهد فيضحكون منه وعليه ول يعلمون أن هذا‬
‫الكائن المشوّه الهلمي هو الوحيد‪ ,‬على حد علمي بأصناف البشر‪,‬‬
‫الذي يجتث قلب النسان ويبول عليه وهو يضحك لضحيته وضحيته‬
‫يضحك له‪ ,‬ل يعلم من أمر مكره شيئا‪ .‬والغريب في التصور‬
‫النساني أن الناس يربطون الجمال بالخير والسعادة‪ ،‬وهذا ربط‬
‫أحمق؛ لن أخطر المصائب التي دخلت على المجتمعات إنما دخلت‬
‫تحت وجوه جميلة‪ ،‬ومشاهد جذابة‪ ،‬وقد علم البشر في تاريخهم‬
‫الطويل هذه الحقيقة على مختلف حضاراتهم؛ حتى قال الصينيون ‪:‬‬
‫(إذا فشل الشيطان في مهمة أرسل بدلً منه امرأة! )‪ ,‬بل إن هذه حيلة‬
‫طبيعية حتى في عالم النبات حيث توجد نباتات تقتات على قتل‬
‫الحشرات فتخرج لها أزهارا غاية في الجمال والجاذبية وبمجرد‬
‫وقوع الحشرة على الزهرة تنكمش النبتة على الحشرة فتقتلها فتمتص‬
‫عصارتها وتتغذى عليها‪ ,‬وفي عالم الكائنات البحرية عشرات المثلة‬
‫المشابهة‪ .‬فكون الفن يطفح بالجمال والشهوة والخيال الحالم فهذا ل‬
‫يعني أنه مصدر من مصادر الخير في المجتمع‪ ,‬وقد جاء في‬
‫الصحيحين عن عائشة رضي ال عنها قالت‪ :‬لما اشتكى النبي‬
‫ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية‬
‫وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي ال عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا‬
‫من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال‪( :‬أولئك إذا مات منهم‬
‫الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور‬
‫أولئك شرار الخلق عند ال)‪ ,‬فلم تكن تلك التصاوير الفنية العجيبة‬
‫سببا في تقدمهم أو النظر إليهم بعين التقدير‪ ،‬ولم يحترم النبي‬
‫إعجاب نسائه بتلك الحبكة الفنية في التصوير والبناء‪ ،‬فرد كما ينبغي‬
‫لمسلم أن يرد وذلك من منظور (موافقة إرادات ال) لهذا العمل‪ ،‬فكان‬
‫ذلك العمل من أشرّ الشر وكانوا هم من أفسد الناس‪ ،‬وكانت النقطة‬
‫المرجعية التي يرد إليها كل مبدأ تلك الجملة التي ختم بها عليه‬
‫الصلة والسلم كلمه عندما قال ‪( :‬عند ال! ) ‪ .‬فكل القيم والمعايير‬
‫يجب أن ترد إلى ال بتجرد وعبودية نابعة عن اليمان المطلق بقوله‬
‫تعالى‪( :‬وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا‬
‫‪32‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫وهو شر لكم وال يعلم وأنتم ل تعلمون) (‪ ,)19‬فمهما أحببنا وأعجبنا‬


‫وشُغفنا بشيء ما أو مذهب ما أو مسلك ما فهو واقع تحت هذه الية‬
‫والمرد في كل ذلك إلى إرادة ال الشرعية فهي مقياس الخير والشر!‪.‬‬
‫وبسبب ما للفن من سلطان الشهوة والخيال الحالم والحرية الغوغائية‬
‫في التعبير تجد أن الفنان بكافة تطبيقاته الفنية من تمثيل ومسرح‬
‫ورقص وغناء يمثل شخصية مركزية في النظام الرومانسي لي بلد؛‬
‫لنه الساحر الوحيد في البلد المرخص له بممارسة السحر والخرافة‬
‫تحت الضواء‪ ،‬فتجد النسان الغربي غالبا يسخر من الدين الذي‬
‫يتحدث عن جنة فوق السماء فيها نساء جميلت وأنهار من عسل‬
‫ولبن؛ بينما يصفقون لخرافات الذين يكتبون قصصا عن مخلوقات‬
‫تهاجم الرض من كواكب أخرى‪ ،‬أو شخصية عجائبية كشخصية‬
‫سوبرمان‪ ،‬أو الترمونيتور الذي نصفه بشر ونصفه الخر آلة‪،‬‬
‫ويرون ذلك إبداعا خلّقا وليس خرافة ول شعوذة؛ بينما هو في‬
‫الحقيقة كما وصفة غوته عندما تكلم عن الرومانسية فقال‪ « :‬هي‬
‫مرض وضللة »‪ .‬ولو أن أهل الرومانسية فكروا كما فكر ذلك‬
‫الفيلسوف أظنه أرسطو عندما قال‪ « :‬إن شوق النفس البشرية‬
‫وشغفها بالفضيلة والسعادة المطلقة والعدل المطلق دليل على أنها قد‬
‫عرفت هذه الشياء في يوم من اليام على وجه الحقيقة » لكان أجدر‬
‫بهم وأكثر حكمة‪ .‬ولو أن هذا الفيلسوف قرأ قوله تعالى في سورة‬
‫العراف‪( :‬وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم‬
‫على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا‬
‫عن هذا غافلين)‪ ,‬ثم علم تفسيرها كما ينبغي لسلم‪ ،‬وللفيته الن‬
‫إماما في محراب مسجد من مساجد المسلمين يتلو قوله تعالى‪( :‬إن‬
‫الذين قالوا ربنا ال ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة أل تخافوا ول‬
‫تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة‬
‫الدنيا وفي الخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون *‬
‫نزلً من غفور رحيم) (‪.)20‬‬

‫‪ )(19‬البقرة ‪. 216 :‬‬


‫‪. 32‬‬ ‫‪)(20‬فصلت ‪30 :‬‬
‫‪33‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫ولجل تلك الصلحيات العالية المتناقضة التي أعطيت للفن صار‬


‫الفن هو الرب الجديد الذي يملي المعايير والقيم التي يجب أن تحترم‬
‫(من كيسه) دون الرجوع لي أحد‪ ,‬فل تندهش لتصديري موضوع‬
‫الرومانسية لهذا البحث عن (تحقيق الخلفة النسانية على الرض)؛‬
‫لن حياتنا اليوم كلها يحكمها الفن فكرا وقيمةً واحتراما‪ .‬تقول ليليان‬
‫فورست عن المفكر الديني! شليرماخر وهو من جماعة الرومانسيين‬
‫الوائل بأنه‪ « :‬بدأ إعادة تقويم الوجود البشري من موقف الذاتية‬
‫المفرطة الذي نادى به زميله (فخته)‪ ,‬فبما أن العالم يقوم على إدراكنا‬
‫فبوسعنا إعادة تشكيله في مثالية سحرية دائمة التقدم‪ ,‬والوسيلة لبلوغ‬
‫هذه الصيغة الشعرية هو الخيال الخلق وبخاصة ذلك الذي يمتلكه‬
‫الفنان‪ ,‬الذي لهذا السبب يشغل منزلة سامية في هذا النظام » (‪.)21‬‬
‫هذا كله في الفن الرومانسي المبني على الفن الهادف كما يسمونه‪ ،‬ثم‬
‫يأتي بعد ذلك الفن الجمالي المبني على نظرية الفن لجل الفن وهو‬
‫الذي ل يعترف حتى بمعاني الرذيلة ناهيك عن الفضيلة أو المعقول‪,‬‬
‫وهذا موجود في عالمنا العربي والسلمي‪ ,‬حتى أنه احتفلت إحدى‬
‫دور السينما في أندونيسيا في عام ‪2007‬م بعرضها أول فيلم يظهر‬
‫فيه مشهد شاب وهو يقبل شابا آخر في مشهد غرامي لوطي‬
‫رومانسي جمالي!!‪.‬‬
‫هذا الرهاب الرومانسي للنسان المسلم‪ ،‬وهذه الطوار الوقحة التي‬
‫توصل إليها الفن والفنانون في مجتمعاتنا لم تكن وليدة الصدفة‪ ،‬ول‬
‫وليدة المؤامرة المجردة أيضا‪ ،‬وإن كان هناك ثمة تآمر؛ ولكنها‬
‫بالضافة إلى ذلك وليدة الشهوة الشخصية المشتركة كالجنس والمال‬
‫المتأصلة في نفوس أفراد كل مجتمع مدني والتي استغلها صناع‬
‫الرومانسية فزرعوا البذرة وتولى الناس رعايتها تحت ظروف‬
‫(المدنية) التي تنمو كل يوم وكلما نمت فرضت علينا أشياء ل‬
‫نستطيع ردها فمن تسلل أشرطة الكاسيت ثم الفيديو ثم الفضاء‬
‫المفتوح ثم الشبكة العنكبوتية ثم الجيل الثالث من الجوال‪ .‬وكل هذا‬
‫التحول يرافقه انهيارات تصاحب النهيار الخلقي كانهيار الثقة‬
‫بالدين والستهانة بأحكام الشرع؛ لن التقنية ل تستفتي قبل أن تعمل‪،‬‬
‫‪ )(21‬موسوعة المصطلح النقدي‪.222 :‬‬
‫‪34‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫فالبث يصل دون فتوى‪ ،‬والجوال يستقبل دون فتوى‪ ،‬والشبكة تربط‬
‫الناس دون فتوى‪ ،‬فصار الفساد يمشي بشكل آلي ل يحتاج إلى‬
‫وسائط بشرية قد تكون التقوى فيها أو التمييز بين الشر والخير سببا‬
‫في الحد من الفساد المنقول‪ ,‬ومثل الذي حدث للدين حدث للثقة بالقادة‬
‫والرموز‪ ،‬فنتج عن كل ذلك الجرأة على النقد المعلن لكل شيء من‬
‫كل أحد‪ ،‬وشيوع الرومانسية الشخصية بترويج شعارات مثل الحرية‬
‫الشخصية وتقديس الذوق العام ‪,‬وهكذا!‪.‬‬
‫إن من أشهر مدارس علم الجتماع المدرسة الماركسية التي تفسر‬
‫التاريخ البشري بأنه مجرد‪( :‬تاريخ الصراع بين الطبقات) وهذا‬
‫تفسير مادي باطل‪ ,‬وتقول بأن المادة هي التي تحكم تطور التاريخ‪،‬‬
‫فالتغيرات المادية في حياة البشر هي التي تغير نمط حياتهم‬
‫وأفكارهم‪ ،‬وهذا قول على كثير من الصحة من ناحية اجتماعية‪ ،‬أما‬
‫من ناحية عقدية فهو باطل؛ لنه ينفي أفعال ال وسننه في الكون‬
‫والتاريخ؛ ولكنه من منظور اجتماعي حقيقة ثابتة‪ ،‬فالمجتمع يتغير‬
‫بقدر ما تتغير المواد التي تقوم عليها حياته‪ ،‬ولهذا كلما زادت‬
‫المتغيرات المادية في المجتمع المدني كان ينبغي لنا أن نتوقع الكثير‬
‫من التغير الجتماعي على المستوى المعيشي النفعي والمستوى‬
‫الفكري النفسي بما في ذلك الدين‪ ،‬وكذلك زيادة اضطراب الركنين‬
‫الساسيين اللذين يقوم عليهما أي مجتمع وهما‪( :‬الستقرار و‬
‫التكامل) وهذا سوف يقع في المجتمع الديني أو القومي‪ ،‬والمجتمع‬
‫الصغر مثل القبيلة والسرة‪ ،‬وهذا يفسر خروج المرأة عن القوامة ‪،‬‬
‫وخروج البناء عن عرف الباء‪ ,‬وهكذا يقال في كل انسلخ جديد‬
‫عن انتماء سابق ‪.‬‬
‫إن انهيار مبدأ المر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في ذات‬
‫الوقت نصب لعمود المذهب الرومانسي الذي سوف ينتج تلقائيا بل‬
‫مطالبة وبل صدام وفي صمت ل ينتبه إليه أحد؛ لن انهيار المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أن المجتمع قد فقد (المبادئ‬
‫العامة المشتركة) التي يعرفها كل أحد أو ينكرها كل أحد والتي يرى‬
‫كل أحد جواز تبنيها والقيام عليها أمرا ونهيا‪ ,‬فإذا زالت الحسبة من‬
‫سلوك الناس فهذا يعني أن الناس قد أقروا وبالجماع السكوتي كما‬
‫‪35‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫يقول أهل الصول على قبول المذهب الرومانسي الذي يقضي‬


‫باحترام تصورات الخرين للكون والحياة مهما كانت هذه التصورات‬
‫ويرفض فكرة نقد الشيء بناءا على تجاوزه للقواعد‪ ,‬وهذه هي بداية‬
‫الباحية التي ستضطرد حتى يرفع الرجل ذيل المرأة فيجامعها في‬
‫الطريق ل يجد من ينكر عليه كما ثبت ذلك في صحيح السنة!‪ ,‬وهذه‬
‫ليست تصورات شخصية سوداوية مني ولكنها خطوات الشيطان‬
‫الجموحة الطامحة‪ ,‬التي ل تنتظر المغفلين وضعيفي الفهم لكي‬
‫يستوعبوها!‪.‬‬
‫وقد تنبه علماء الجتماع في الغرب إلى هذه النقطة وتكلموا عنها‬
‫تحت مسمى (الجماع الخلقي) والتي تكلم عنها السلم تحت اسم‬
‫(المر بالمعروف والنهي عن المنكر)‪ ،‬ثم ل نلبث أن نجد من يكابر‬
‫ويتكبر على العلم السماوي ويصف المستمدين منه مناهجهم‬
‫الجتماعية في مواجهة المناهج الغربية بأنهم يشرعنون نظريات‬
‫الغرب في محاولة فاشلة لمضاهاته كما قال الكاتب الخليجي البائس‬
‫الفقير الذي ذكرت نص مقالته سابقا عندما قال‪ « :‬فإن التفوق الغربي‬
‫كان محرجا للكثير من العقول العربية خاصة القومية منها‬
‫والسلموية‪ ،‬ولذا كان البحث عن بذور من هنا وهناك في التاريخ‬
‫السلمي أو في النصوص الدينية السلمية أو الراء الفقهية هو‬
‫الحل بالنسبة لممثلي هذا الخطاب‪ ،‬كنوع من إعادة العتبار للذات‬
‫وكنوع من شرعنة العلوم وأسلمتها في الوقت الذي ليست بحاجة إلى‬
‫هذه الشرعنة كونها في الصل جاءت إثر خطاب فلسفي نقدي يقوم‬
‫على نقض المسلمات واليقينيات التي تكثر لدى الخطابات الدينية في‬
‫كافة الديان »‪.‬‬
‫وللرد على مثل هذا الفكر النهزامي المنسلخ من كل تراثه وقيمه‬
‫لصالح الشيء الغربي مهما كان ذلك الشيء فإني أورد نص قول أحد‬
‫أكابر علم الجتماع اليوم في الغرب والذي يعد فيهم مجددا في هذا‬
‫العلم‪ ,‬تدرّس كتبه أكثر جامعات العالم‪ ،‬يقول وهو يتحدث عن مدرسة‬
‫من مدارس علم الجتماع‪ ،‬وهي المدرسة الوظيفية التي تشدد على أن‬
‫استقرار المجتمع وتكامله قائم على معرفة كل عنصر فيه حقيقة‬
‫وظيفته التي ينبغي له أداءها في ذلك المجتمع‪ ،‬فيقول إنتوني غدينز‬
‫‪36‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫في كتابه (علم الجتماع) مشيرا إلى أهمية أن يكون للمجتمع مبادئ‬
‫تسمى معروفا‪ ،‬ومبادئ أخرى تسمى منكرا‪ « :‬إن المدرسة الوظيفية‬
‫تشدد على أهمية (الجماع الخلقي) في الحفاظ على النظام‬
‫والستقرار في المجتمع ‪ .‬ويتجلى الجماع الخلقي هذا عندما‬
‫يشترك أغلب الناس في المجتمع في ال ِقيَم نفسها‪ .‬ويرى الوظيفيون أن‬
‫النظام والتوازن يمثلن الحالة العتيادية للمجتمع‪ ،‬ويرتكز التوازن‬
‫الجتماعي على وجود إجماع أخلقي بين أعضاء المجتمع‪ .‬إن‬
‫دريكهايم‪ ,‬على سبيل المثال‪ ,‬كان يعتقد أن الدين يؤكد تماسك الناس‬
‫بالقيم الجتماعية الجوهرية؛ ويسهم بالتالي في صيانة التماسك‬
‫الجتماعي» (‪.)22‬‬
‫وفي مقابل هذه المدرسة توجد نظرية الصراع التي تشمل النظرة‬
‫البراغماتية التي تعني تقويم المبادئ تبعا لمنفعتها الناتجة عن‬
‫الخطوات العملية مع تجاهل تام لكل المثاليات والمعاني المجردة التي‬
‫قد ل تكون (واقعا عمليا)‪ ،‬وهذه النظرة لتقويم الكون هي (نظرة‬
‫ماركسية ذات ملكية خاصة!)‪ .‬كذلك تشمل نظرية الصراع قانون‬
‫النتقاء الطبيعي أو قانون الغابة الذي ينص على أن البقاء للقوى‪،‬‬
‫وأن كثرة الفوضى الجتماعية تؤدي إلى تحرر الطاقات الكامنة‪،‬‬
‫فتنتج احتياجات جديدة يقابلها عمل وصناعة جديدة‪ ،‬وهذه هي نظرية‬
‫المجتمع الصناعي القائمة على استثمار رؤوس البشر قبل رؤوس‬
‫الموال بطريقة مادية تشبه إلى حد كبير المبادئ الستثمارية التي‬
‫تدار بها مزارع الدجاج والبقار والخنازير!‪ .‬ثم يتكلم غدينز عن‬
‫(الصدمة الثقافية) التي تنتج عن إغراق مجتمع ما في مبادئ مجتمع‬
‫آخر وثقافة أخرى كما يحدث لنا اليوم في العالم السلمي عندما‬
‫أغرقنا في الثقافة الغربية التي باتت تحيط بنا‪ ،‬فيقول غدينز في (علم‬
‫الجتماع) صفحة ‪ « :86‬كثيرا ما يستخدم اصطلح (الصدمة‬
‫الثقافية) في هذا المجال! فإن الناس قد يصابون بالتشويش والحيرة‬
‫عندما يجدون أنفسهم في بيئة ثقافية جديدة؛ لنهم يشعرون عندئذٍ‬
‫بغياب النقاط المرجعية التي درجوا على الستهداء بها في فهم العالم‬

‫‪ )(22‬علم الجتماع ‪ ,‬غدينز ‪ ,‬ص ‪174 :‬‬


‫‪37‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫المحيط بهم‪ ,‬كما أن بعضهم في إبحارهم عبر الفضاءات الجديدة‬


‫يكونون أشبه بسفينة فقدت مراسيها »‪.‬‬
‫المشكلة في هذه التجاوزات الغير شرعية التي تخترق مجتمعاتنا‬
‫المسلمة على كافة المستويات الدينية والعرفية والخلقية والنفعية‬
‫والصناعية؛ بل وحتى الحيوانية‪ ،‬تجد أنها تكسر حاجز الذهول لدى‬
‫النسان المنضبط‪ ،‬وتضفي على اللمعقول حالة من الواقعية‪ ،‬وتجعل‬
‫الشذوذ عن المألوف يتم في سكينة وهدوء وكأنه شربة ماء!‪.‬‬
‫تقول كاتبة سورية مشهورة أحتفظ باسمها في أحد كتبها أنها‬
‫دخلت مسرحا في لندن‪ ،‬وبمجرد فتح الستار وبداية المسرحية وإذا‬
‫بالمشهد الول رجل يضطجع عاريا تماما هو وامرأة على حافة‬
‫المسرح بين الجمهور‪ ،‬ثم يجري معها علقة جنسية كاملة والناس في‬
‫صمت ينظرون ثم تبدأ المسرحية‪ ,‬تقول هي معلقة على هذا المشهد‬
‫بأنها أدركت الغاية منه؛ وهي كسر كل حواجز الشعور المنتظم في‬
‫نفس الجمهور‪ .‬ثم يبدءون بعرض المسرحية لناس بل أي عقيدة‬
‫منتظمة سابقه للعرض فتؤثر فيهم المسرحية أكبر تأثير‪ ,‬وكلمها هذا‬
‫أجزم أنه صحيح جدا‪ ,‬مع أن تجربتها هذه بحد ذاتها وذكرها في‬
‫كتابها على وجه الفخر دون خجل هي في حد ذاتها رومانسية ودعوة‬
‫لستمراء الباحية‪ ,‬وهذا ما يحدث لنا اليوم‪ ،‬فنحن نتعرض لمرحلة‬
‫من الذهول التي تهدف إلى كسر الشعور الشرعي المنتظم لدينا لتبدأ‬
‫مرحلة التشكيل!‪ ,‬وكل هذا سيكون بالفن والمدنية القسرية الوقحة‪ ,‬و‬
‫المشكلة أنه سوف يتم التطرق لتصورنا للحياة والكون والناس والدين‬
‫وكل هذا له تأثير مباشر على مسألة (خلفة النسان في الرض) ‪.‬‬
‫‪38‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫نهاية النسان الرومانسي‬


‫لن أكتب هذا الباب وسأترك الذين ذاقوا نهاية النسان الرومانسي‬
‫يتكلمون عنها على لسان الباحثة ليليان فورست‪ ,‬حيث تقول في‬
‫مبحث نتائج ما بعد الرومانسية وهي تتحسر على الكلسيكية‪ ,‬والتي‬
‫تعني التمسك بالماضي التقليدي وحب النظام‪ ,‬والتي نسفتها‬
‫الرومانسية بكل تقليدياتها وقواعدها وقيمها‪ ,‬تقول‪ « :‬فهي تعني‬
‫الكلسيكية قد منحت الناس نظرة للعالم واضحة ثابتة‪ ,‬مستقاة من‬
‫الطمئنان إلى نظام راسخ في العالم‪ ,‬يعطي الدب كذلك مستندا ثابتا‪.‬‬
‫ولدى هجر النظام القديم ضاع شعورها بالطمئنان في الحياة كما في‬
‫الفن‪ .‬وهذا انفصام ذو نتائج بعيدة المدى ما تزال آثاره حتى اليوم‬
‫بغير حاجة إلى برهان‪ ,‬فما لدينا من نسبية ومشاعر ضدين وتردد في‬
‫الحكم وعدم رغبة قادرة في الستقرار على أية مقاييس ثابتة كل ذلك‬
‫في آخر المطاف‪ ,‬ل يعدو عن كونه تطورات عن ذلك النفي الحاسم‬
‫لتعريفات الكلسيكيه المحدثة من إجابات التساؤلت النية في عصر‬
‫الستنارة وفي تدرج ووثوق أزاحت الرومانسية النظام الموضوعي‬
‫بمبدأ ذاتي ل يستند إل على نفسه! » (‪ .)23‬أما الكاتب الساخر موسيه‬
‫فقد قال إن كلمة رومانسية في معجمي ل يقابلها إل كلمة‪:‬‬
‫(سخيف!)(‪.)24‬‬
‫وأما عالم الجتماع غدينز فيقول في صفحة ‪ 185‬من كتابه (علم‬
‫الجتماع) المصنف عالميا من أفضل مائة كتاب في القرن العشرين‬
‫في العلوم الجتماعية‪ « :‬بعض البنات أو النساء في الغرب يتحولن‬
‫إلى ذكور مثلما يتحول بعض الذكور إلى إناث وحجتهم في ذلك أن‬
‫(الطبيعة) ارتكبت بحقهم خطأ فظيعا‪ .‬بل إننا أخذنا نسمع في الونة‬
‫‪ )(23‬موسوعة المصطلح النقدي‪.186 :‬‬
‫‪ )(24‬موسوعة المصطلح النقدي‪.166 :‬‬
‫‪39‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫الخيرة أن بعض المجتمعات الغربية قد بدأت تقر العلقات بين‬


‫الجنسين المثيلين ل على سبيل المعاشرة فحسب بل على سبيل‬
‫الزواج»‪ .‬ويقول في صفحة ‪« :217‬في أواخر ‪1999‬م أقر‬
‫البرلمان الهولندي قانونا تحول بموجبه البغاء إلى مهنة معترف بها‬
‫رسميا وأنشئت نقابة للعاملت في صناعة الجنس تضم أكثر من‬
‫ثلثمائة ألف عضو من النساء»‪ .‬ثم يتكلم في صفحة ‪ 218‬عن‬
‫رحلت جماعية سياحية مجدولة لمجموعات من الرجال تنظمها‬
‫الوليات المتحدة وأوروبا واليابان إلى الفلبين وتايلند بغرض ممارسة‬
‫الجنس مع الطفال!‪.‬‬

‫* * *‬

‫قصيدة لـ( يونك) أحد مؤسسي الرومانسية يبحث فيها عن رحمة‬


‫السماء كتبها عام ‪1813‬م!!‬

‫لمَ يندبون ضياعهم من ليسوا بضائعين؟‬


‫لمَ يحوم فكر البؤس حول قبورهم؟‬
‫في أسى كافر‪ ...‬هل ثمة ملئكة؟!‬
‫أتخبو مطمورة في الرماد‪ ...‬نور السماء؟!‬
‫أحياء‪ ...‬هم!‪ ,‬يحيون على الرض‪ ...‬أي حياة؟!‬
‫و من عين ٍ عطوفة‪ ...‬لتنزل رحمة السماء!‬
‫كل ما في الرض وهم‪ ...‬كله!‬
‫و ما خلفه جوهر‪ ...‬وليس سوى هذا إل عقيدة الجنون‪:‬‬
‫أي ثبات سيمل قلبي لو أن الشياء ل تتغير!‬

‫(يونك!!‪ ,‬لندن‪1813 ,‬م‪ ,‬أفكار ليل‪ ,‬الليلة ‪ ,1‬ص ‪)7‬‬


‫‪40‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫السلم الرومانسي‬
‫لم تكن الرومانسية مذهبا محتكرا للدباء والفلسفة؛ بل هي منهج‬
‫حياة يمس العقيدة ‪ .‬وهي مرحلة حادثة للتطور المادي والنمطي الذي‬
‫تسلل إلينا اليوم ليدخل تحت تأثيرها كل الناس‪ ,‬كما أنها (أصول‬
‫ثابتة) يمكن طردها على كل تكتل اجتماعي يمر بنفس الظروف التي‬
‫يمر بها المجتمع المدني الغربي‪ .‬فاليوم نسمع عن من يتكلم في أمور‬
‫الدين ويقول أنا مسلم علماني!‪ ,‬وقد يكون الرجل كذلك من ناحية‬
‫شرعية لعدم تحقق شرط أو انتفاء مانع؛ ولكنه من ناحية منهجية‬
‫يؤسس إسلما جديدا‪ ،‬فهو يقول كما قالوا في أصولهم الرومانسية‬
‫الدبية وذلك بأن المسلم يجب أن ل يتخلى عن طبيعته البشرية‪ ،‬ثم‬
‫يسرد الحاديث واليات التي تذكر حقوق الفطرة والمأكل والمشرب‬
‫والنكاح؛ بل ويزعمون أن ال أذن بالكفر؛ وذلك بقولهم بالحرية‬
‫العتقادية‪ ،‬فيقولون‪( :‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(‪ ,!)25‬وأننا‬
‫يجب أن نغضب لرسولنا وندافع عنه؛ (لنه شخصية فكرية خاصة‬
‫بنا)‪ ،‬ونشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال‪ ،‬أما ما عدا ذلك‬
‫من أمور الشريعة فهو خاضع لمبدأ عام واحد‪ ،‬وهو‪( :‬أن الحق في‬
‫السعادة)‪ ،‬فل ينبغي للسلم أن يقف في وجه سعادة الناس وراحتهم؛‬
‫لنه رحمة للعالمين‪ .‬ثم يبدأ كل مسلم رومانسي تأسيس تصوره‬
‫الخاص وخرافته الخاصة عن السلم‪ ،‬فيحيا بها ويدعو إليها‪،‬‬
‫ويجتمع مع غيره على (الطبيعة البشرية المقدسة)‪ ،‬أو ما يسمونه بملة‬
‫إبراهيم كما هي حال من سبقوه من مؤسسي الرومانسية الدبية‪.‬‬
‫سبق أن ذكرت أنه كان من مؤسسي الرومانسية ومن أعضاء جماعة‬
‫الرومانسيين الوائل المفكر الديني شليرماخر ‪ ،‬وأنه كان ينادي‬
‫بإطلق الرومانسية عن طريق الفن‪ ،‬وجعل الفنان عنصرا مركزيا‬
‫‪ )(25‬الكهف ‪.29 :‬‬
‫‪41‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫في ذلك‪ ,‬وهذه اللوثة ذات الطابع الرومانسي تأثر بها جمع من الدعاة‬
‫السلميين حتى سمعنا بعضهم يفتي بجواز التمثيل للمرأة‪ ،‬ويقول بأن‬
‫الفن رسالة!‪ ,‬وهذه العبارة هي أصل من أصول المذهب الرومانسي‬
‫المتطرف‪ ،‬وهي في لغة علماء العتقاد كقولك‪( :‬الخارجي يكفر‬
‫بالكبيرة‪ ،‬والمعتزلي يقول بالمنزلة بين المنزلتين)‪ ,‬كذلك فالرومانسي‬
‫يرى الفن رسالة كما نقلت سابقا عن الرومانسية بوصفها إعادة تقويم‬
‫وجودية شاملة كان مقدرا لها أن تشع من الشعر لكي تقلب العالم‬
‫أجمع ‪ .‬والناشيد والمسرحيات التي يسمونها (إسلمية) داخلة في هذا‬
‫المبدأ المنحرف؛ لن الفن حسب تعريفه هو نقل الفكرة النسانية‬
‫بطريقة معنوية كالكتابة الدبية نثرية كانت أو شعرية‪ ،‬أو بطريقة‬
‫حسيّة كالغنية والمسرحية والرسم بحيث تترك في المتلقي انطباعا‬
‫خاصا‪ .‬وسواء كانت معنوية أو حسيّة فالسلم عقيدة وشريعة‪,‬‬
‫والفكرة السلمية ل يمثلها إل الدليل الشرعي؛ لن هذه الفكرة‬
‫بحاجة إلى ضبط وحسن توجيه شديدين قام لجلهما علم كامل اسمه‬
‫علم الصول‪ ,‬فأما الدب والتمثيل والغناء فهي من زخارف القول‬
‫والفعل التي تضفي على الشيء ما هو أكبر منه وتتعامل مع الشعور‬
‫والحواس أكثر مما تتعامل مع العقل والفهم المستقيم‪ ,‬حتى أن الكذب‬
‫والمبالغة في الشعر قد يكون غرضا شعريا محترما بل وربما كان‬
‫مطلوبا‪ ,‬بل أن بعض الدعاة اليوم صاروا يعبدون ال بالكاذيب‪،‬‬
‫ويمارسون مهنة القصاص التي تقوم على مبدأ (الدعوة الرخيصة إلى‬
‫الدين)‪ ،‬فل حاجة لعلم ول عمل؛ ولكن بصناعة الروايات الخرافية‬
‫ذات النهايات اليمانية والكرامات اللدنية!!‪ ,‬والكرامات مثبتة عند أهل‬
‫السنة والجماعة؛ ولكن الزور منفي‪ .‬ولو شارك بعض الدعاة‬
‫بقصصه الدعوية في جائزة نوبل العالمية لحصل على جائزة الرواية‬
‫المأساوية‪ .‬وهذه النزعة العجائزية للسيطرة على توجهات الناس‬
‫بالخرافة والقصص العجيبة كانت منتشرة في زمن القصاصين الذين‬
‫حذر من خرافاتهم أهل العلم؛ حتى قال عمر بن الخطاب لكعب‬
‫الحبار وهو ينشر القصص العجيبة في كتب بني إسرائيل‪( :‬لتنتهين‬
‫عن ذلك أو للحقنك بجزر الخنازير!!)‪ .‬وقد ثبتت هذه المقولة بسند‬
‫صحيح عن عمر‪ .‬وقد يظن البعض أن هذه النزعة العجائزية (ملح‬
‫وعظية عابرة)‪ ،‬والصحيح أنها تشكل الخلفية الولى التي يبنى عليها‬
‫‪42‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫كل تصور جديد؛ لن مدخل الفاسق أو الكافر إلى التدين يكون عن‬
‫طريق هذه الكاذيب الكراماتية‪ ،‬فيصير هذا المتدين الجديد عالة على‬
‫أهله وأمته‪ ،‬فل يجيد إل توهّم الكرامات وانتظار الئمة المنتظرين‪.‬‬
‫والصحيح أن الكرامة مثبتة في عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬وقد قرر‬
‫هذا المر ابن تيمية رحمه ال في (أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)‬
‫خير تقرير؛ ولكن أن يصل المر إلى أن يقول لي أخ كريم‪ :‬دخلت‬
‫قرية لم يدخلها داعية قبلي‪ ،‬وكان معي رجل من أولياء ال‪ ،‬وفجأة‬
‫ونحن نمر بالشارع خرج من أحد البيوت رجل أجنبي يركض!‪,‬‬
‫أترى يا صاحبي كيف أخرجت الدعوة العاصي وطردته عن‬
‫معصيته‪ ,‬إنها بركة العمل ل!!‪ .‬اهـ ‪ .‬فنحن نعاني كثيرا من هذه‬
‫" الصوفية الدارية " عند بعض الملتزمين ‪ ,‬و ل أحد ينكر بركة‬
‫العمل الصالح؛ ولكن ثبت أن الزنا وقع في المدينة المنورة وفيها سيد‬
‫الولياء محمد وما خرج الزناة منها يركضون ببركة عمله‬
‫الصالح!!‪ ,‬و ثبت أنه عليه السلم كان يطلب أن يكون الرسول الذي‬
‫يرسل في حاجة ‪،‬حسن السم حسن الهيئة ‪ ,‬لكي يكون أدعى لقبول‬
‫ما عنده من كلم ‪ .‬و أنا هنا أربط بين الكرامات الوهمية المختلقة‬
‫وبين الفن؛ لنها نوع من الفن والدجل النفسي الذي يمارسه بعض‬
‫الدعاة على نفسه وعلى الناس من حوله فيجعل له تأثيرا في مجرى‬
‫الحداث من حوله‪ ،‬ثم يتطور المر حتى يصير (قطبا من أقطاب‬
‫الصوفية) الذين تتحرك ببركة تسبيحهم الكواكب والفلك!!‪ .‬وكل‬
‫ذلك مؤثر جدا في تكوين الصورة الحقيقية للكون من حولنا ولذواتنا‬
‫فيه‪.‬‬
‫كذلك الحال في سائر الفنون التعبيرية تجد أنه يتسرب إلى العمل‬
‫الكثير من المعاني التي ليس لها معنى!‪ .‬فالفن بغض النظر عن‬
‫مناقشة تفصيلته مناقشة شرعية ففيه علة ظاهرة تجعله ل يصلح لن‬
‫يكون وسيلة دعوة إسلمية وهي ‪ :‬عدم القدرة على ضبط حدود‬
‫اليحاء ‪ .‬الذي سيقع في نفس المتلقي نتيجة العمل الفني‪ ,‬وهذا يجعل‬
‫الفن مرتعا خصبا للوهام والمؤثرات المتداخلة والنتائج الغير‬
‫متوقعة‪ ،‬ولهذا تجد أهل البدع يغرمون بمثل هذه المور؛ لنها‬
‫تمنحهم الفرصة لممارسة المبالغة وإدخال التصورات الشخصية داخل‬
‫‪43‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫العمل دون تحرج اجتماعي وشرعي بين من يقبلون ذلك ‪ .‬قد يقول‬
‫قائل بأن النبي قال لحسان‪( :‬أهجهم ومعك روح القدس!)(‪ ,)26‬فهذا‬
‫في مواجهة الضد بالضد وليس في الدعوة إلى ال؛ لن الدعوة ل‬
‫تكون دعوة صحيحة إل إذا كانت تحقق (البلغ المبين)‪ ،‬فال تعالى‬
‫يقول‪( :‬فهل على الرسل إل البلغ المبين)(‪ )27‬ويقول‪( :‬فإن تولوا‬
‫فإنما عليك البلغ المبين)(‪ )28‬وفسر ذلك البلغ قوله تعالى‪( :‬يا أيها‬
‫الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت‬
‫رسالته)(‪ )29‬وقوله‪( :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‬
‫ولعلهم يتفكرون)(‪ )30‬وكذلك قوله‪( :‬وما أنزلنا عليك الكتاب إل لتبين‬
‫لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)(‪ ,)31‬ولو كتب‬
‫رجل قصيدة أو أدى مسرحية لكافر أو فاسق ثم قال‪ :‬بينت له وأقمت‬
‫عليه الحجة؛ لكان من الكاذبين ‪ ,‬ل يخالف في هذا حتى أحذق النقاد‬
‫الدبيين الذين يجعلون معيار القصيدة الرائعة بأن يكون لها في كل‬
‫ن جديدة!‪ .‬أما التمثيل والمسرح والغناء‪,‬‬‫مرة تُقرأ فيها إيحاءات ومعا ٍ‬
‫فحدّث ول حرج!‪ ,‬خصوصا في بلد الغرب تجد أن بعض الذين‬
‫اعتنقوا السلم منهم من يمارس الرومانسية السلمية بشكل علني‪،‬‬
‫حتى أن مغنيا أمريكيا مشهورا أسلم ثم صار يسمي نفسه " يوسف‬
‫إسلم " يعد الن رأسا في الدعاة إلى السلم في الغرب قام بعد‬
‫اعتناقه السلم بعمل فرقة من الرجال والنساء وصار يغني للسلم‪،‬‬
‫وله عرض عالمي شهير اسمه ‪Peace Train‬أي (قطار السلم) يردد‬
‫فيه عبارات حب السلم وهو يتأبط الجيتار ويعزف وخلفه مجموعة‬
‫فتيات حاسرات الذرع والرؤوس يحملن دفوفا صغيرة يضربن بها‬
‫‪ )(26‬ـورد الحديث بألفاظ كثيرة وفي الصحيحين‪( :‬أجب عني اللهم‬
‫ايده بروح القدس) وفي لفظ لمسلم‪( :‬هاجهم وجبريل معك)‪.‬‬
‫‪ )(27‬النحل‪.35 :‬‬
‫‪ )(28‬النحل‪.82 :‬‬
‫‪ )(29‬المائدة‪.67 :‬‬
‫‪ )(30‬النحل‪.44 :‬‬
‫‪ )( 31‬النحل‪.64 :‬‬
‫‪44‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫خلف الداعية الموسيقار ويرددن (أووه أووه نعم! نعم!) وأشياء‬


‫كهذه!‪ ,‬وتم عرض هذا العمل السلمي بزعمهم في غير بلد‬
‫إسلمي منها بعض دول الخليج!‪.‬‬
‫إني أذكر أنه في مادة المطالعة في المرحلة المتوسطة أو البتدائية‬
‫قصة رجل خسر في تجارته؛ لنه كان يعرض الحذية للزبائن فوق‬
‫قطعة قماش لونها اسود؛ فلما أبدلها بقماش أخضر تضاعف ربحه!‪,‬‬
‫ل على تأثر الناس باللوان‪ .‬فكذلك هذا داخل‬‫وكانوا يجعلون هذا مثا ً‬
‫في التمثيل والمسرح ففيه من المؤثرات الغير ظاهرة ما قد يدخل‬
‫مفاهيم ومبادئ منحرفة للناس من حيث ل يشعرون ‪ .‬وفي يوم من‬
‫اليام صلى بجانبي عامل بناء في الثلثين من عمره‪ ،‬فرأيته يسجد‬
‫باسطا ذراعيه على الرض كما جاء في النهي عن ذلك (انبساط‬
‫الكلب)‪ ،‬وبعد الصلة وقفت له بقرب الباب؛ فلما أراد أن يخرج‬
‫أخذت بيده وقلت له‪ :‬بارك ال فيك‪ ,‬أنت فعلت كذا وكذا وهذا تشبه‬
‫بالسبع منهي عنه! فقال لي بكل صدق وحسن نية‪ :‬كنت أجافي يدي‬
‫عن جنبي حتى رأيت صورة لقطعة حجر كبير يتداولها الناس وكأنها‬
‫رجل في هيئة السجود‪ ،‬وكان ذلك الحجر باسطا ذراعية على الرض‬
‫فمنذ ذلك الحين صرت أبسط ذراعي! اهـ ‪ .‬هذا أمر شاهدته‬
‫فعرفته‪ ،‬فكيف بمفاهيم كثيرة قد تستقر في نفوس الناس بسبب هذه‬
‫المور ل أحد يعلمها إل ال!‪.‬‬
‫إن المسلم العادي اليوم يواجه مشكلة كبيرة في تمييز المنهج‬
‫الصحيح‪ ،‬وفي معرفة المصادر النقية التي من خللها يعرف التصور‬
‫الصحيح للكون والحياة وعلقته بمختلف عناصر الكون الفاعلة؛ حتى‬
‫أن مسائل هي من مسلمات العقيدة عند عجائز نيسابور صار الناس‬
‫اليوم يفتحون المجال فيها لراء العوام الجهلة ليبدوا آرائهم فيها على‬
‫شاشات التلفزيونات وصفحات الجرائد‪ ,‬وهذه كلها خطوات رومانسية‬
‫تنبع من مبدأ (حق النقد المطلق) و (حق التعبير المطلق) الذي‬
‫تكلمت عنه سابقا‪ .‬والمشكلة لدى هؤلء الدعاة السلميين السذج أنهم‬
‫ل يفرقون بين التعبير وبين الحكم!! فالحكم ليس له طابع النشاء‬
‫والظن؛ بينما التعبير هو إبداء خلجات النفس على نحو يصوّر ما‬
‫فيها‪ .‬ومن المثلة على هذا السلم الرومانسي قيام بعض الدعاة‬
‫‪45‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬

‫بالتجاوزات الشرعية من خلط النساء بالرجال وخروجهن متبرجات‬


‫دون إبداء النكير‪ ،‬وهذا يفيد بأن للمرأة حقوقا جديدة صارت تمارسها‬
‫ولم تكن تمارسها من قبل!‪ ,‬وكذلك ترويجهم لبعض المصطلحات ذات‬
‫النكهة الرومانسية مثل (حقوق المرأة) الذي في اصطلحه فقط دليل‬
‫على رغبة جادة في مراجعة أحكام المرأة في السلم‪ ،‬وإل فإنه ل‬
‫يقال حقوق المرأة وإنما يقال (ظلم المرأة) أو (اضطهاد المرأة)؛ لن‬
‫حقوقها معلومة ليست بحاجة لن تفرد في مصطلح مستقل وبحث‬
‫مستقل الن وبشكل جديد‪ ،‬فهذه كلها من مبادئ الرومانسية التي تنفي‬
‫العدالة عن أحكام وأهل القرن المنصرم بمجرد موتهم وانقراض‬
‫قرنهم‪ ,‬فالنسان الرومانسي خائن بطبعة‪ ،‬وأول شيء يفعله بعد دفن‬
‫ميته هو أن يبصق على قبره ويقول له‪( :‬ذهب ما تعلم!)‪ .‬وكذلك‬
‫الدعوة إلى التعايش‪ ،‬وتهافت الدعاة الرومانسيون عليها‪ ،‬وهذه بداية‬
‫تأسيس لختزال العقيدة في السلوك المنزلي والشخصي‪ ،‬وهذا عرض‬
‫من أعراض الرومانسية‪.‬‬
‫ومن ذلك الدعوة إلى (صناعة النفوذ الكمي) بغض النظر عن اتحاد‬
‫المبدأ ونقائه‪ ،‬وهذا ناتج عن (عقيدة الخاء النفعي)‪ ،‬وهي أن يجتمع‬
‫الناس على منفعة ويتجاهلون كل المحاذير الشرعية التي قد تمنع هذا‬
‫الجتماع‪ ,‬وهو مبدأ شبيه بمبدأ النقد الرومانسي الذي ذكرته سابقا‬
‫والذي ينص على القتصار على ذكر محاسن العمل دون اللتفات‬
‫إلى تجاوزه للقواعد والنمطية والشرعية‪ ,‬وقد رأينا من يزعم بأنه من‬
‫متبعي السنة ثم هو يجالس أهل البدع غلظ البدعة والعلمانيين‬
‫ويجعلهم شركاء رسالة مع أنه لو ساقهم كلهم شفعاء في إعتاق ذبابة‬
‫من العدو ما نفعوه! ؛ ولكنه يشاكلهم ويداهنهم لعقيدة نفعية رومانسية‬
‫في حسها النقدي‪ ,‬فهم يقولون ل إله ال ال وليسوا يهودا محتلين ول‬
‫نصارى محاربين‪ ,‬ففيهم من سمات الجمال ما يكفي لقبولهم وربما‬
‫الوقوع في حبهم!!‪.‬‬
‫‪46‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬الجاهلية الرومانسية‬
‫‪‬‬
‫المقدمات الولية للتصور‬
‫الصحيح‬
‫‪48‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫‪49‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫مفهوم الحقيقة والمجد‬


‫ليست الحقيقة معنى يكتسب القداسة من تأييد جماعة الناس أو‬
‫رفضهم؛ لن الجتماع البشري كثيرا ما يقع على الباطل؛ بل وقد‬
‫تكرر كثيرا في التاريخ أن اجتمع الناس على الجريمة والفعال الغير‬
‫أخلقية التي يتقزز من فعل مثلها الوحوش والمجانين واقرأ كتاب "‬
‫موسوعة العذاب " لتطلع على شيء من هذه الحقيقة الكئيبة‪ .‬كذلك‪,‬‬
‫ليست الحقيقة مخرجات تجربة عملية فهذا جائز في الماديات أما‬
‫البشر فالحقائق النسانية والمعنوية بالنسبة لهم ل علقة لها بالتجربة‬
‫العلمية غالبا ‪ ،‬فلو سألت ألف شخص من مختلف أنحاء العالم عن "‬
‫حقيقة الستحمام " في حياة كل فرد منهم لوجدت أن بعضهم يراه‬
‫عبادة مقدسة‪ ،‬وبعضهم يراه نظافة ل بد منها‪ ،‬وبعضهم يراه ترفيها‪،‬‬
‫وبعضهم يراه ترفا زائدا‪ ،‬وبعضهم يراه علجا‪ ،‬وبعضهم يراه وسيلة‬
‫لتعديل مستوى الحموضة في الدم والحصول على جسد نشيط‪،‬‬
‫وبعضهم يكرهه ويمقته‪ ،‬وبعضهم يرى أنه من المحرمات كما في‬
‫بعض الديانات‪ ،‬وكل هذه المعتقدات ل علقة لها بالتجربة؛ لن‬
‫التجربة في هذا السياق هي جريان الماء على البدن‪ ،‬وهذا يحدث‬
‫بنفس الطريقة لكل هؤلء الشخاص غير أن الحقائق في النهاية‬
‫تختلف تماما من شخص لخر‪ ,‬ولهذا كان النص القرآني واضحا في‬
‫ذلك عندما قال تعالى‪( :‬وإن تطع أكثر من في الرض يضلوك عن‬
‫سبيل ال إن يتبعون إل الظن وإن هم إل يخرصون) (‪ ,)32‬ويطلق‬
‫الكثر على ما زاد على النصف في أقل الحوال!‪ .‬وقد ثبت عن‬
‫النبي كما في البخاري قوله‪ « :‬يوشك أن يكون خير مال المسلم‬
‫غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن »‪ .‬فهذا‬
‫يدل على أن الحقيقة قد تكون مع فرد في مقابل جماعة أو مجتمع‬
‫بأسره يغلب عليه الضلل‪ .‬وفي حديث آخر في الصحيحين‪ « :‬أن‬

‫‪ )(32‬النعام‪.116 :‬‬
‫‪50‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫رجلً أتى النبي فقال أي الناس أفضل؟ فقال‪ :‬رجل يجاهد في سبيل‬
‫ال بماله ونفسه‪ .‬قال ثم من؟ قال‪ :‬مؤمن في شعب من الشعاب يعبد‬
‫ال ربه ويدع الناس من شره »‪ .‬وهذا أيضا يدل على أن المسلم الذي‬
‫يعلم دينه حق العلم ويوقن به حق اليقين ينبغي له أن يشتغل بالدعوة‬
‫إليه والجهاد به وله وعنه‪ ،‬فإن لم يستطع فإنه يفر بما معه من حقيقة‬
‫من وجه طوفان الضلل الذي يحيط به فينقطع في شعب من الشعاب‬
‫يعبد ربه حتى يموت على ما معه من حق‪ .‬فوظيفة المسلم‬
‫والنسان بشكل عام هو أن يبحث عن الحقيقة ثم يحيا عليها حتى‬
‫يموت‪ ،‬فليست وظيفة النسان في هذا العالم أن يمارس " العيش‬
‫الكريم "‪ ،‬وإنما وظيفته ممارسة " الحقيقة الكريمة! " التي قد تضمن‬
‫له العيش الكريم أو قد ل تضمنه فيقتصر المر على " الحياة الطيبة "‬
‫من حيث قوة اليمان والشعور بلذته‪ ،‬أما ما يتصوره الناس من طيب‬
‫عيش في مأكل ومشرب فليس شيئا تقتضيه "الحقيقة الكريمة"‪ ،‬حتى‬
‫أن ال تعالى قال‪( :‬و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)‪ ،‬وفي‬
‫قراءة متواترة (قُتل معه ربيون)‪ ،‬فإن كانت حقيقة النبوة التي هي‬
‫أعلى الحقائق قد يترتب عليه قتل النبي ومن معه كما حدث ليحيى‬
‫عليه السلم الذي قدم رأسه هدية إلى عاهرة في خيمتها‪ ,‬فوقوع ذلك‬
‫على من دون النبي من باب أولى‪ .‬والحياة على الحقيقة الكريمة‬
‫والموت عليها هو النجاح الوحيد الذي تستطيع أن تسميه " نجاحا‬
‫حقيقيا "‪ ،‬وقد سماه ال عز وجل في قصة أهل الخدود بـ " الفوز‬
‫الكبير " كما في سورة البروج مع أن القوم أحرقوا بالنار عن بكرة‬
‫أبيهم مع نسائهم وأطفالهم‪ .‬فأما ما عدا ذلك فهي نجاحات آنية لحظية‬
‫تشبه في حدوثها الحصول على أكلة لذيذة بعد عناء في طبخها‬
‫وتحضيرها مع العلم أنها سوف تنتهي إلى أقرب مرحاض بعد‬
‫ساعات قليلة‪ ,‬فالحقيقة الكريمة لها طابع الديمومة والخلود وكلما‬
‫كانت الفكرة قابلة للتغير السريع والضمحلل في أي لحظة فهي‬
‫فكرة ل يمكن أن تبني عليها " علما مطمئنا وعقيدة مستقيمة "‪ ،‬وهذا‬
‫واضح لمن تأمله‪ ،‬ولمن يرى في نفسه أنه يمثل في هذه الحياة شيئا‬
‫أكبر من دور الحمار والدجاجة البياضة والبقرة الحلوب وعلبة‬
‫الكوكاكول‪ ،‬أو ببساطة ل يرى نفسه "سلعة استهلكية" على رفٍ في‬
‫سوق كبير اسمه "القوى العاملة"!‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ل يمكن لشخص واحد أن يدرك الحقيقة الكونية المجملة لهذا الكون‬


‫فيعرفها ويتمتع بها على يقين منها دون الستفادة من مصدر خارجي‬
‫لهذه الحقيقة ‪ .‬إن الفكر البشري المتراكم الذي يحلل النسان وصلته‬
‫بالكون فكر متناقض يهدم بعضه بعضا‪ ،‬ول يمكن أن يتكامل بشكل‬
‫إنساني من الناحية العقلية والروحية بحيث يتزايد في تقدم مستمر في‬
‫الفهم والستيعاب والتكامل؛ لن كل جيل يمقت الذي سبقه غالبا‪ ،‬أو‬
‫ربما يكتب فيه قصائد الحنين والرثاء‪ ،‬فالبشر على اختلف عقولهم‬
‫وأهوائهم وشهواتهم ل يمكن أن يتكاملوا لفهم الكون‪ ،‬ولهذا تجد أن‬
‫هذا العالم ل بد له من يد خفية تسطر له المعايير والمقاييس‬
‫الصحيحة التي يسعد بها كل إنسان‪ ،‬فالذي أتقن خلق السماء والرض‬
‫وكل هذه الكائنات جدير بأن يتقن لهم نظاما معنويا يمنحهم حق‬
‫السعادة كما منحهم حق الوجود والتنفس والكل والشرب على حد‬
‫سواء‪ ،‬ومن ينكر هذه الحقيقة الحتمية فهو إما جاهل بمعنى الربوبية‬
‫واللوهية‪ ،‬أو جاهل بتكوين هذا العالم وأصل نشأته‪ ,‬وبداية الشعور‬
‫بهذا التصور هو بداية حصولك على "المفهوم الصحيح للحقيقة"‪.‬‬
‫إن المجد الحقيقي للنسان وللنسانية بشكل عام يكمن في تحقيق‬
‫غايات وجودها‪ ،‬وفي فوزها الكلي الذي يجمع " نجاح الدنيا " بالحياة‬
‫على الحق والموت عليه‪ ،‬ثم النجاح الخروي الذي هو " الفلح "‬
‫المترتب على النجاح الدنيوي كما في قوله تعالى‪( :‬كل نفس ذائقة‬
‫الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل‬
‫الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إل متاع الغرور) (‪ .)33‬فهذا هو‬
‫الخلص الشخصي‪ ،‬وبغير هذا الفهم ل يمكن أن يتحقق لي فرد أي‬
‫نجاح أو أي خلص حقيقي‪ .‬وعندما أمتن ال سبحانه على البشر بأنه‬
‫جعل لهم الجبال أكنانا‪ ،‬وخلق لهم الحيوانات من بهيمة النعام ليأكلوا‬
‫منها ويصنعوا من أوبارها وأصوافها البيوت واللباس‪ ،‬ومن دواب‬
‫ليركبوا منها كالحمير والبغال‪ ،‬وبث في الرض من كل شيء‬
‫زوجين‪ ،‬وجعل الشمس والقمر حسبانا‪ ،‬والليل لباسا‪ ،‬والنهار معاشا؛‬
‫فإن مقتضى هذه المنة من ال هو " كمال النعمة وصدق السعادة "‪،‬‬
‫فلو كانت هذه الشياء تعتبر "نعمة ناقصة "‪ ،‬أو " مقومات ناقصة " ل‬
‫‪ )(33‬آل عمران ‪.185 :‬‬
‫‪52‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫يمكن أن يتحقق بها المجتمع النساني السعيد لما امتن ال بها‪ ،‬ولكان‬
‫الذين جاءوا من بعد ذلك فصنعوا اللت المصنوعة أحق بهذه المنة‬
‫من ال؛ لنهم قدّموا للبشرية أدوات كمال إنساني حققت ما لم يحققه‬
‫خلق ال الول لمخلوقاته عندما خلق الكون من السماء والرض وما‬
‫فيهما‪ ,‬وهذا واضح؛ بل وواقع سوف يحدث في زمن نزول عيسى‬
‫عليه السلم عندما ينزل ليقاتل بالسيف والرمح!‪ ,‬بل صناعات وبل‬
‫مخترعات كما هي حالنا اليوم‪ ,‬ثم يحكم العالم كما في صحيح مسلم‪:‬‬
‫« فيمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة » يستظلون بالرمانة‬
‫وتروي اللقحة من البل القبيلة‪ ,‬فإن لم يكن هذا مجتمعا سعيدا فل‬
‫أدري ما هو تعريف المجتمع السعيد!‪ .‬فإن تحقيق المجتمع السعيد ل‬
‫يفتقر إلى الختراع أو إلى البتكار أو إلى الصناعة؛ ولكنه يفتقر إلى‬
‫" نقاء الجنس البشري من كل أنواع الشرك والكفر والنفاق وكل‬
‫مقومات تلك الشياء "‪ .‬وقد يسخر الناس من مثل هذه المثاليات التي‬
‫يندر تحققها؛ ولكنها ستتحقق‪ ،‬وثبت ذلك كما في زمن نزول عيسى‬
‫عليه السلم‪ .‬ولكن الناس ل يسخرون من مثاليات أرضية مادية‬
‫كالتي قالها كارل ماركس في تنظيره لمستقبل الشيوعية عندما توقع‬
‫أن العالم كله سيصبح شيوعيا‪ ،‬ثم يستغني الناس في النهاية عن‬
‫الحكومات ويعيشون في "طبقة واحدة" ليس فيها حكومة ول‬
‫شرطي!!‪ ,‬ثم رأينا من يؤمن بهذا ويثور لجله الثورة الحمراء التي‬
‫يقيمها على جثث أهله وبني جلدته وهو يغني في بعض شوارع العالم‬
‫العربي‪:‬‬
‫إن تسل عني فهذي قيمي *** إنني ماركسي لينيني أممي‬
‫وهذا وال هو العمى والصمى!!‪ .‬ولهذا عندما ينزل عيسى عليه‬
‫السلم وقبل أن يقوم له المجتمع السعيد فإنه يقتل الدجال وحزبه‬
‫الكافر‪ ،‬ويكسر الصليب‪ ،‬ويقتل الخنزير‪ ،‬ثم يقوم له أمر حكمه‪ .‬وهذا‬
‫ل ينفي أن المصنوع البشري قد ل تتم السعادة إل به؛ لن الوضع‬
‫الصلي للعالم قد تغيّر‪ ،‬فصارت هناك مفاسد غيرت هيئة المجتمع‬
‫المسلم الول الذي أشرك بعد عشرة قرون من نزول آدم على‬
‫الرض‪ ,‬كما ثبت ذلك عن ابن عباس في صحيح البخاري‪ ,‬فصار‬
‫هناك عناصر فاسدة تمتلك مصنوعات أخلّت بتوازن مقومات الخير‬
‫‪53‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫والشر فصار كمال مقومات المجتمع السعيد لم تعد تقتصر على‬


‫المخلوق الصلي وإنما صار داخلً فيها " المصنوع البشري "‪ ،‬ولهذا‬
‫قال تعالى‪( :‬و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم ال‬
‫من ينصره ورسله بالغيب) (‪)34‬؛ ولكن هذا ل يعني أن هذا المصنوع‬
‫صار هو الصل؛ بل هو " مطلب زائد على الصل "‪ .‬وهذا كله في‬
‫سياق "الجتماع والمجتمع "‪ ،‬وإل فإن النسان على مستوى الفرد‬
‫قادر على أن يبني الحياة السعيدة على المقومات الصلية للعالم‪ ،‬ويدل‬
‫على ذلك الحديث السابق « يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع‬
‫بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن »‪ ،‬وهذا الفهم‬
‫يستسيغه فقط من يعلم المعنى الشمل للسعادة الذي ل يقتصر على‬
‫تنعّم الحواس وحدود السمع والبصر؛ بل يكون كذلك المسلم الذي‬
‫صاح بأعلى صوته ذات يوم وهو في جيش رسول ال فقال‪ " :‬إني‬
‫لشم ريح الجنة دون أحد "‪ ,‬فيكفيك لتكون سعيدا أن تشم ريح الجنة‬
‫وأنت في الدنيا‪ ,‬وهذا أيضا ل يستسيغه إل من يعرف ذلك!!‪.‬‬
‫أذكر أنني أيام الدراسة الجامعية قرأت رواية لديب فرنسي اسمها‬
‫"الفنان" تحكي قصة رجل قام بتربية أبنائه تربية كريمة‪ ،‬وبعد تخرج‬
‫أبنائه واطمئنانه عليهم وبعد حضوره لزفاف ابنته هرب في ليلة‬
‫ظلماء وعمره يناهز الخمسين عاما إلى قرية نائية في ضواحي‬
‫فرنسا‪ ،‬وجلس في كوخ صغير يرسم ويكتب القصائد وقد ترك حياته‬
‫السابقة‪ ،‬وترك أهله متخفيا عنهم‪ ،‬وكذلك وظيفته المرموقة‪ ،‬واعتزل‬
‫هذه العزلة الختيارية؛ حتى إذا أدركه الموت دخلوا عليه وهو على‬
‫سريرٍ رث ٍ تحيط به لوحاته الفنية وهو يبتسم ويقول‪ :‬الن أموت‬
‫سعيدا ً!‪ .‬فقد كانت هذه الرغبة تخالجه‪ ،‬وكان يرى بأنه ما جاء إلى‬
‫هذه الحياة ليلعب دور البقرة الحلوب ثم يرحل؛ ولكن ينبغي أن يعبر‬
‫وأن يحيا الحياة كما يريدها وليس كما هي تريده‪ ،‬فانتهى به المر‬
‫إلى ذلك التصرف وذلك الجتهاد!‪ .‬فليست السعادة إل خليط فكري‬
‫وروحي يخالج النفس فتنتشي وتفرح بغض النظر عن أدوات الواقع‪.‬‬
‫وبما أن السلم هو الحبكة المعنوية اللهية التي تناسب كل فطرة‬
‫سليمة فبه يستطيع كل أحد أن يسعد ولو كان في جحر جرذ قديم‪,‬‬
‫() الحديد‪.25 :‬‬ ‫‪34‬‬
‫‪54‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ولكن أين الذي يصل إلى تلك التركيبة الروحية الدقيقة من حيث‬
‫اليمان والفهم والتطبيق؟!‪.‬‬
‫المشكلة في النسان المصاب بداء " الهوس الفكري " إنه ل يقتنع بما‬
‫وراء العقل حتى يفقد عقله أو يقف على أبواب الموت فيشعر فعلً‬
‫بمعنى ما وراء الوجود المحسوس فيستسلم ويعود إلى رشده‪ .‬تماما‬
‫كما حدث لخر عظماء اللحاد في الغرب "جون بول سارتر"‬
‫صاحب كتاب "الوجود والعدم" الذي أقلق حقبة الستينيات فما بعدها‪،‬‬
‫والذي أسس مذهب الوجودية‪ ،‬وكان يدعو إلى تحويل النسان إلى‬
‫ميكانيكي حذق يغمر نفسه في حفرة الزيت تحت السيارات طيلة‬
‫حياته ل يخرج إل للكل والنوم‪ ،‬ثم يعود إلى الحفرة من جديد ملغيا‬
‫من تصوراته كل ما وراء الحفرة وما هو خارجها تحت شعار (إكدح‬
‫حتى تنسى)‪ ،‬و(التقط اللذة ولو من المرحاض) و ( عش كأنه لم يكن‬
‫أحد قبلك و لن يكون أحد بعدك ) ‪ ,‬ثم ماذا؟!!‪ .‬يقول سارتر في آخر‬
‫حوار له عن آرائه الفلسفية والدبية‪ :‬أنا ل أشعر بأني ذرة غبار‬
‫ظهرت في هذا الكون وإنما ككائن حساس تم التحضير لظهوره‬
‫وأحسن تكوينه أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إل من خالق!!‪.‬‬
‫(‪ )35‬اهـ ‪.‬‬
‫هكذا؟!‪ .‬نعم‪ ,‬هكذا!‪.‬‬
‫والوجودية واللحاد والتباع؟!‬
‫أين نذهب بكل هذا وأين يذهب كل هذا؟‪.‬‬
‫"جهنم الحمرا"!!‪ ..‬هذا هو رأي سارتر الخير!‪.‬‬
‫إن تاريخ الصراع البشري في البحث عن المثالية النسانية ليس ناتج‬
‫عن فقدان الوجود الحقيقي لتلك المثالية علما وعملً وإنما هو ناتج‬
‫عن عدم فهم "مفهوم الحقيقة الكريمة" التي تترتب عليها المثالية‬
‫والفضيلة والنجاح الكوني‪ ،‬ولهذا نجد أن بعض المجتمعات تبحث عن‬
‫تلك المثالية في جدول الضرب‪ ،‬والجدول الدوري للعناصر‬
‫الكيميائية‪ ،‬وبعض المجتمعات تبحث عنها في الخرافة الموروثة عن‬
‫() انتحار المثقفين العرب ‪ ,‬محمد جابر النصاري ‪ ,‬ص ‪.146‬‬ ‫‪35‬‬
‫‪55‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫العصور السطورية أو الديانات المحرفة‪ ،‬وبعضها تبحث عنها في‬


‫الغراق في الشهوة واللذة والنانية الشخصية‪ ،‬ثم ينتهي الجميع إلى‬
‫فشل ذريع يلخصه لنا البروفيسور إنتوني غدينز عندما نجده في كتابه‬
‫"علم الجتماع" يعود من حيث ل يشعر إلى البحث عن "مقاييس‬
‫ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا أن يلتزموا بها" وكأنه بذلك‬
‫يضع تعريفا لمفهوم "الدين الحق" فهو ليس إل مقاييس ومعايير ينبغي‬
‫للبشر جميعا أن يلتزموا بها!!‪ ,‬حيث يقول في نفس الكتاب ص ‪87‬‬
‫وهو يتحدث عن شعوره بالحيرة واللتباس تجاه نظرية "النسبية‬
‫الثقافية" في علم الجتماع التي تدعو إلى العتقاد بأن كل الثقافات‬
‫على خير وهدى! فيقول‪ « :‬إن تطبيق مبدأ النسبية الثقافية وتعليق‬
‫وتجميد اقتناعاتك ومعتقداتك الشخصية العميقة قد يكون مجلبة للحيرة‬
‫واللتباس‪ ,‬ويطرح تحديا واضحا لقدرتك على الدراسة الموضوعية‪.‬‬
‫ول يقتصر ذلك على تعطيل القدرة على رؤية المور من وجهة نظر‬
‫أخرى‪ ,‬بل يتعداه إلى إثارة سلسلة من السئلة الشكالية المقلقة‪ .‬هل‬
‫تعني النسبية الثقافية أن جميع العادات والمسلكيات سليمة مشروعة؟‬
‫هل ثمة مقاييس ومعايير شاملة ينبغي على البشر جميعا أن يلتزموا‬
‫بها؟ »(‪ .)36‬قلت‪ :‬نعم!‪ .‬تجدها في قوله تعالى‪( :‬اليوم أكملت لكم‬
‫دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا) (‪.)37‬‬

‫() علم الجتماع ‪ ،‬إنتوني غدينز ‪ ،‬ص ‪. 87‬‬ ‫‪36‬‬


‫() المائدة ‪. 3 :‬‬ ‫‪37‬‬
‫‪56‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫أصل العلم كله من ال‬


‫لمعرفة الطريق الصحيح إلى الولوج في عالم المعرفة الكلية للكون‬
‫وعناصره ومظان طلب ذلك العلم وتلك المعرفة وطرق تلقيها فإنه‬
‫ينبغي الرجوع إلى البدايات الولى لعلقة محمد بربه وكيفية‬
‫خطاب ال عز وجل له؛ لكي يتعرف الدمي العادي إلى السلوب‬
‫المثل في تشرب العلم واستيعابه وإلى الدخول في التصور الكلي‬
‫للكون وكيفية بناء ذلك التصور سواء في أولوياته أو في نسقه أو‬
‫اتساقه‪.‬‬
‫من المعلوم لكل مستقرئ لنصوص الشريعة أن ال عز وجل بدأ‬
‫بالعقيدة وأركان اليمان بالذات قبل أن يشرع التكاليف الفردية‬
‫والجماعية‪ ،‬وكان الخطاب صريحا ً واضحا يناقش الجذور الفكرية‬
‫لكل إنسان‪ ،‬ويعظ النفس البشرية بشكل عام ويبصّرها بتركيبتها‬
‫الداخلية‪ ،‬فيتكلم لها عن الهلع والجزع والظلم والكفور والعجلة وحب‬
‫المال وكراهية الموت والتكبر والحسد والضعف‪ ,‬وغير ذلك‪ ,‬ويأمر‬
‫بالتجرد الفكري والصدق مع الذات قبل كل شيء‪ ,‬فيقول تعالى (قل‬
‫إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا ل مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما‬
‫بصاحبكم من جنة)(‪ ,)38‬ويقول كذلك (سنريهم آياتنا في الفاق وفي‬
‫أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء‬
‫شهيد)(‪ )39‬فيصرّح ال عز وجل في هذه الية أن أصل اليمان‬
‫واليقين بأن ال هو الحق هو أن يكون لديك "تصور صحيح" لهذا‬
‫الكون بما في ذلك نفسك التي بين جنبيك؛ وذلك بمعرفة عناصره‬
‫وتراكيبه وغايات خلق كل مخلوق فيه؛ لن الشياء إنما يحدد موقعها‬
‫في هذا العالم غايتها التي أوجدت من أجلها‪ ،‬ووظيفتها التي ينبغي أن‬
‫تقوم بها لتحقيق تلك الغاية‪ ،‬ثم استشهد على أنه هو المصدر الوحيد‬
‫‪ )(38‬سبأ‪.46 :‬‬
‫‪ )(39‬فصلت‪.53 :‬‬
‫‪57‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫الذي ينبغي له تبيان هذه الشياء بأنه (على كل شيء شهيد)‪ ،‬فهو‬
‫الذي شهد نشأة العالم‪ ،‬ونشأة كل ذرة فيه؛ لنه ما من غائبة في‬
‫السماء والرض إل في كتاب مبين؛ ولنه خالق كل شيء وهو على‬
‫كل شيء وكيل‪ ,‬فبث هذه العلوم في كتابه وسنة نبيه‪ ،‬حتى صار‬
‫يتحدث لصحابه فيقول كما في قصته مع أبي ذر حين غربت‬
‫الشمس « تدري أين تذهب؟ »‪ .‬قلت ال ورسوله أعلم قال‪ « :‬فإنها‬
‫تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها‪ ،‬ويوشك أن تسجد‬
‫فل يقبل منها‪ ،‬وتستأذن فل يؤذن لها‪ ،‬فيقال لها‪ :‬ارجعي من حيث‬
‫جئت‪ ،‬فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (الشمس تجري لمستقر لها‬
‫ذلك تقدير العزيز العليم) » (‪ .)40‬وكما في قصته أيضا مع أبي‬
‫ذر أن رسول ال رأى شاتين تنتطحان فقال‪ « :‬يا أبا ذر هل‬
‫تدري فيم تنتطحان؟»‪ ،‬قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ « :‬لكن ال يدرى وسيقضي‬
‫بينهما » (‪ .)41‬فهما شاتان ولكن بينهما لغة مشتركة‪ ،‬ومظلَمة قائمة‪،‬‬
‫وشعور بالحقية متنازع فيه‪ ،‬وشجار لن ينتهي إل بالعدل‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن الن فسيكون ذلك يوم القيامة‪ ،‬فكل شيء في كتاب‪ ،‬وكل شيء‬
‫واقع تحت الميزان‪ ،‬ولن يخسر الميزان من أمر بإقامة الوزن فيه!‪.‬‬
‫فليس في هذا العالم شيء إل وهو آية في ذاته‪ ,‬له غاياته وصفاته‬
‫التي ما وضعت فيه إل لغاية كونية أو شرعية فهو تبارك وتعالى‬
‫(الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى)(‪ .)42‬ولجل أمثال هذه‬
‫النصوص قال أبو ذر رضي ال عنه أيضا ــ‪« :‬لقد تركنا‬
‫رسول ال وما يتقلب في السماء طائر إل ذكر لنا منه علما‬
‫» (‪ .)43‬ولهذا أقول‪ :‬إن العلم في المقدمات وليس في النتائج‪ .‬فهذا هو‬
‫الذي ربانا عليه القران عندما جاء ليبني الخلفية العقدية الولى التي‬
‫ستكون حاضنة لكل التصورات القادمة لكل نص مقدّس في الشريعة؛‬
‫حتى قال بعض أهل العلم كما ذكر السيوطي في التقان‪ « :‬كل سورة‬
‫‪ )( 40‬يس‪.38 :‬‬
‫‪ )(41‬رواهـ ـأحمد‪,‬ـ ـوقالـ ـاللبانيـ ـفيـ ـالسلسلةـ ـالصحيحة‪:‬ـ ـإسناده‬
‫صحيح‪ ،‬وحسنه شعيب الرناؤوط في حكمه على أحاديث المسند‪.‬‬
‫‪ )(42‬العلى‪.3 ,2 :‬‬
‫‪ )(43‬رواه أحمد وصححه اللباني في الصحيحة‪.‬‬
‫‪58‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫فيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهي مكية‪ ،‬وكل سورة فيها‬
‫قصص النبياء والمم الخالية مكية» (‪ .)44‬فنحن فصل متأخر في‬
‫ملحمة من القصص والمآلت‪ ،‬ولن نفهم هذا الفصل الذي نعيشه حتى‬
‫نراجع كل المقدمات الولى التي منها نشأ هذا الكم الهائل من السبل‬
‫والنتائج الناجحة والفاشلة‪.‬‬
‫ويذكر ال عز وجل في القران الكريم تعليمه آدم السماء كلها‪ ،‬وهذا‬
‫هو أصل كل علم البشر مما لم يكن من الغيبيات التي أوحيت إلى‬
‫النبياء بعد ذلك‪ ،‬وفيه تقرير للمبدأ اللهي الذي يذكره ال عز وجل‬
‫كثيرا وهو (وال يعلم وأنتم ل تعلمون)(‪ ،)45‬فالصل في النسان‬
‫الجهل‪ ،‬وان العلم بالنسبة إليه أمر أجنبي يطلبه من غيره؛ ولكن‬
‫بعض الناس ممن ل يعرف قدر نفسه‪ ،‬وقد صار في مكانة يسمع‬
‫الناس فيها لقوله‪ ،‬يظن أن العلم هو مجرد أن يجلس ويحك رأسه‪،‬‬
‫ويكتب‪ ،‬ويسخر السلم لخيالته الحالمة‪ ،‬ويحتكر فهم السلم على‬
‫بنيّات أفكاره‪ ،‬تحت دعوى التجديد وإعادة قراءة النص‪ .‬وفي يوم من‬
‫اليام‪ ,‬كان يجلس شيخ فاضل في درسه والناس من حوله فأشار إلى‬
‫طفل يجلس بالقرب منه فقال له‪ :‬أنت مسلم؟ فقال‪ :‬نعم! قال الشيخ‪:‬‬
‫وتفكر؟ فقال‪ :‬نعم!‪ ,‬فرفع الشيخ رأسه وقال للحضور وهو يشير إلى‬
‫الطفل‪ :‬هذا " مفكر إسلمي"‪ ,‬مسلم ويفكر!‪.‬‬
‫إن العلم الحقيقي لن يكون من سوى ال‪ ،‬ولهذا قال تعالى لنبيه في‬
‫بداية الوحي والنبوة‪( :‬إقرأ باسم ربك الذي خلق)(‪ )46‬فربط العلم‬
‫بالكتساب‪ ،‬وهو هنا القراءة‪ ،‬ثم ذكر أن ذلك ينبغي أن يكون باسم‬
‫ال‪ ,‬بال ول‪ ،‬وختم الية بصفة الخلق؛ لكي يذكر بأن الخالق هو‬
‫الذي يعلّم وأن المخلوق هو المتعلّم‪ ،‬ول ريب فجذور العلم وأصول‬
‫أبواب المعرفة بالنسبة للنسان شيء أجنبي يطلبه من خارجه‪ ،‬والذي‬
‫يظن بأن الحقائق المستقلة التي ل تعتمد في تصورها وثبوتها على‬
‫غيرها قد تولد بداخله فهو إما مدعٍ للنبوة أو مجنون‪ .‬يقول تعالى بعد‬
‫‪ )(44‬التقان للسيوطي ‪. 1/56،‬‬
‫‪ )(45‬آل عمران‪.66 :‬‬
‫‪ )(46‬العلق‪.1 :‬‬
‫‪59‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ذلك (خلق النسان من علق)(‪ )47‬أي يا محمد أنت مخلوق من علق‬


‫فإن وجدت نفسك في حيرة من أمر هذا الوجود والعلم بحقيقته فل‬
‫تقلق لذلك فهذا أمر ملزم لكل شيء حادث الوجود‪ ،‬فالصل أنك‬
‫علق‪ ،‬والصل أنك جاهل ول علم لك إل ما علّمك ال‪ ،‬وال هو الذي‬
‫خلقك من علق وشهد خلقك ونشأتك وقام عليها بقيوميته فإليه الملتجأ‬
‫وعليه التكلن‪ ،‬وهو (الكرم * الذي علم بالقلم * علم النسان ما لم‬
‫يعلم)(‪ )48‬وهذا هو أول موضع يصف ال نفسه فيه بالكرم لنبيه فربط‬
‫ذلك بالعلم‪ ،‬فقال (الكرم * الذي علم بالقلم * علم النسان ما لم‬
‫يعلم)؛ لكي يدرك النبي عظمة هذا الوحي الذي يأتيه‪ ،‬ثم قال (كل‬
‫إن النسان ليطغى أن رآه استغنى)(‪ ،)49‬فذكر ال عز وجل أن من‬
‫طبيعة النسان الطغيان‪ ،‬وهو مجاوزة الحد‪ ،‬وهو هنا مجاوزة الحد‬
‫في تعظيم النفس‪ ،‬فالنسان يطغى إذا رأى أن قد استغنى بما لديه من‬
‫مكاسب محسوسة يظن أنها تغنيه عن كل ما سواها‪ ،‬فمن يجد نفسه‬
‫قادرة على إدارة حياته بطريقة مجدية‪ ،‬بحيث يأكل ويشرب وينكح‬
‫ويجمع المال يرى أنه قد استغنى عن عــلم ال‪ ،‬وتعليم ال‪ ،‬وما‬
‫جاء من ال‪ ،‬فهو يعيش بحذقه يفكر ويمضي في حياته بما لديه من‬
‫عقل يصرف به أموره‪ ،‬فيترك العلم الذي جاء من ال‪ ،‬ويعرض عن‬
‫دين ال‪ ،‬وهذه خدعة شيطانية يقع فيها كثير من الخلق الذين‬
‫يمارسون الحياة بطريقة بهيمية‪ ،‬بحيث يرونها المأكل والمشرب‬
‫والتلذذ‪ ،‬ثم ينغمسون في ذلك كله‪ ،‬ويتركون الدين وراء ظهورهم؛ بل‬
‫ان حتى بعض السلميين ممن يعلنون العمل للسلم إذا وجدوا القوة‬
‫في شيء هو على كثير من مخالفة دين ال أخذوا به بحجة تقدير‬
‫المصلحة والمفسدة‪ ،‬فيستغنون عن ال ليصلوا إليه‪ ،‬مع أن النبي ما‬
‫كان يستغني إل بالحق الذي جاءه من ال‪ ،‬وما كان يروّج السلم‬
‫بين الناس كما يروّج التاجر الحريص الجبان بضاعته بالمراوغة‬
‫والمخاتلة وعدم الوضوح؛ بل كان يصف السلم على حقيقته‪ ،‬أمينا‬
‫عليه مؤمنا به‪ ،‬ل يخرم من أصوله شيئا ً تحت أي ظرف؛ حتى قال‬
‫‪ )(47‬العلق‪.2 :‬‬
‫‪.5‬‬ ‫‪ )(48‬العلق‪3 :‬‬
‫‪ )(49‬العلق‪.6 :‬‬
‫‪60‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ع َبسَة السلمي رضي ال عنه‪ :‬سمعت برجل بمكة يخبر‬ ‫عمرو بن َ‬


‫أخبارا‪ ،‬فقعدت على راحلتي فقدمت عليه‪ ،‬فإذا رسول ال مستخفيا‬
‫جرءاء عليه قومه‪ ،‬فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما أنت؟‬
‫قال ‪« :‬أنا نبي»‪ ،‬فقلت‪ :‬وما نبي؟ قال‪« :‬أرسلني ال»‪ ،‬فقلت‪ :‬وبأي‬
‫شيء أرسلك؟ قال‪« :‬أرسلني بصلة الرحام‪ ،‬وكسر الوثان‪ ،‬وأن‬
‫يوحّد ال ل يشرك به شيء»‪ ،‬قلت له‪ :‬فمن معك على هذا؟ قال‪:‬‬
‫«حر وعبد»‪ ،‬قال‪ :‬ومعه يومئذ أبو بكر وبلل ممن آمن به‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫إني متبعك‪ ،‬قال‪ :‬إنك ل تستطيع ذلك يومك هذا‪ ،‬أل ترى حالي وحال‬
‫الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني» (‪.)50‬‬
‫فل يمكن أن تبني نفسك إل على مثل هذه الصراحة والوضوح فهو‬
‫بين الصنام‪ ,‬جرءاء عليه قومه‪ ,‬يقول لرجل غريب يسأله عن‬
‫دعوته بأنه أتى بكسر الوثان‪ ،‬وأن يعبد ال وحده‪ ،‬وبيّن له أنه‬
‫ضعيف‪ ،‬فلم يزعم أنه دسّ له أتباعا تسللوا إلى برلمان قريش المسمى‬
‫دار الندوة وأنهم يحكمون مكة من وراء ستار؛ ولكن قال معي حر‬
‫وعبد‪ ،‬فكان مؤمنا صادقا واقعيا‪ ،‬ومع هذا كله كان موقنا بربه‪ ،‬وأنه‬
‫على كل شيء قدير‪ ،‬فقال عد فإذا سمعت بي قد نصرني ال وقد‬
‫وعدني بذلك وهو منجز وعده فأتني‪ ,‬فل يمكن أن تنشئ دعوة ناجحة‬
‫إل على مثل هذه الصراحة والوضوح وهذا العتزاز بالعلم من ال‬
‫والتمسك بذلك كله‪ ,‬فالصول يجب أن ل يكون فيها اشتباه ول‬
‫غموض ول تذبذب بين احتمالين‪ ،‬وفرق بين أن تقع أنت على العقيدة‬
‫وبين أن تقع العقيدة عليك‪ ،‬فالذي يقع عليه السلم فيعتنقه يكون على‬
‫أهبة من التضحية والتغيير ولن يتحول كيفما حوله الدين الجديد‪،‬‬
‫وأما المتأسلم النفعي الذي وقع من بطن أمه على السلم وأهله فهو‬
‫ل يعرف الجاهلية‪ ،‬فإنه ل يقدم إل على ما يعزز النفعية في حياته‪،‬‬
‫فإذا تعارض الدين والمنفعة في نظره وجد للشذوذ تخريجا فقهيا‪،‬‬
‫ولتباع الهوى بعدا فاضلً في " الجاهلية الرومانسية "‪ ,‬حتى قال‬
‫قائلهم‪ :‬لول اشتغالي بالدعوة إلى ال لكنت فنانا مسرحيا‪ ,‬فالفن رسالة‬
‫عظيمة!‪.‬‬

‫‪ )(50‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫قد يظن متسائل أن هذا الكلم ما كان ينبغي أن يكون تحت هذا‬
‫الباب‪ ،‬والصحيح أنه ينبغي التوكيد على هذه المسألة خصوصا ً في‬
‫مراحل البناء الولى لشخصية المسلم‪ ،‬فالذي يريد أن يزيل الذروة‬
‫يزيل حجرا؛ بينما الذي يريد أن يزيل الساس فعليه أن يزيل البناء‬
‫كله ولهذا يقول تعالى (أفمن أسس بنيانه على تقوى من ال ورضوان‬
‫خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار‬
‫جهنم)(‪ ,)51‬فكل اليات التي نزلت في ترك المداهنة وحثت على‬
‫الصبر على الحق وتوحيد مصدر التلقي للعلم إنما كانت في أول‬
‫السلم‪ ،‬فسورة الكافرون وسورة القلم وغير ذلك من اليات‬
‫الصريحات في التأكيد على نقاء المعتقد وصفاء المبدأ كقوله تعالى‬
‫في سورة يونس وهي مكية ــ‪( :‬وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‬
‫قال الذين ل يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون‬
‫لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إل ما يوحى إلي إني أخاف إن‬
‫عصيت ربي عذاب يوم عظيم)(‪ .)52‬والمعنى من هذا الباب الشارة‬
‫إلى أن المانة التي حملها النسان والخلفة في الرض التي جعلت‬
‫له إنما هي معان ٍ عقدية لها أبعاد موغلة في الزمان الول حيث نشأة‬
‫الكون ونشأة آدم والشيطان‪ ،‬وأن تلك المعاني كانت منوطة بكل المم‬
‫السابقة كما هي منوطة بنا اليوم‪ ،‬وأن ل قصصا مع تلك المم تبعا‬
‫لتحقيق هذه الخلفة من عدم تحقيقها‪ ،‬فينبغي لنا أن نعود إلى كل تلك‬
‫المقدمات التي ل يعلم حقيقتها إل من استقاها من الكتاب والسنة‬
‫وتلقاها عن مشكاة رب العالمين الذي هو خالق كل شيء وهو على‬
‫كل شيء شهيد‪ ,‬فليست الخلفة في الرض عيني فتاة جميلة ول‬
‫ضفيرتيها لتكون شغلً للشعراء وأهل الخيالت الحالمة يتكلمون فيها‬
‫كيفما أملت عليهم مخيلتهم الرومانسية الخصبة المتدبقة بكل أمر‬
‫دنيوي مرغوب‪ ,‬ولسان حالهم قول امرؤ القيس‪:‬‬
‫(‪)53‬‬
‫طرّب‬ ‫ل سُ ْدفَةٍ ** َت َغرّدَ َميّا ِ‬
‫ح النّدامى ال ُم َ‬ ‫لسْحارِ في ك ّ‬
‫ُيغَ ّردُ با َ‬
‫‪ )(51‬التوبة‪.109 :‬‬
‫‪ )(52‬يونس‪.15 :‬‬
‫‪ )(53‬لسان العرب ‪.1/557،‬‬
‫‪62‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ولكنها الوظيفة الولى للنبياء والرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم‬
‫الدين‪ ,‬قال تعالى‪( :‬يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين‬
‫الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل ال * إن الذين‬
‫يضلون عن سبيل ال لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)(‪.)54‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * ثم أرسلنا‬
‫رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا‬
‫وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ل يؤمنون)(‪ )55‬إلى قوله (يا أيها الرسل‬
‫كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه‬
‫أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل‬
‫حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم حتى حين)(‪.)56‬‬

‫‪)(54‬‬
‫‪.44‬‬ ‫‪ )(55‬المؤمنون‪43 :‬‬
‫‪ )(56‬المؤمنون‪ 51 :‬ـــ ‪.53‬‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫حقيقة الكون والنظام‬


‫ل يكون النسان عالما بالشيء حتى يعلم حقيقته التي خلقه ال عليها‬
‫ومنفعته التي خلق لجلها‪ ،‬فإن كان من صنع البشر ولم يكن من‬
‫الشيء الذي استأثر ال بخلقه فالعلم به هو معرفة حقيقته التي صنع‬
‫عليها والمنفعة التي صنع لجلها‪ ،‬فإن كان معنا مجردا ليس له عين‬
‫فالعلم به يكون بمعرفة حقيقة معنى اللفظ الموضوع بترتب وقوعه‬
‫على كل ما يدل عليه بغايته التي عبر عنه لجلها‪ ,‬كالكذب والموت‬
‫مثل‪ ,‬فل يكون معنى الكذب واضحا في عقل من يريد التعرف عليه‬
‫حتى يخالف الخبر المخبر عنه‪ ،‬ول يمكن أن نعلم بمعنى الموت‬
‫ونتحقق من ذلك حتى تنقطع الحياة‪ ,‬وهكذا‪ .‬هذه المعاني في تعريف‬
‫العلم مأخوذة من كتاب ال حيث يقول تعـالى‪( :‬سبح اسم ربك‬
‫العلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى)(‪ ،)57‬وقال تعالى‪:‬‬
‫(قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم‬
‫هدى)(‪ ،)58‬فإن موسى عليه السلم قام بتعريف ربه سبحانه وتعالى‬
‫لفرعون بأنه هو الذي خلق كل شيء فأعطاه خلقه وهيئته وقدر‬
‫مقادير خلقته ثم هداه لما خلقه له‪ ،‬ولهذا قال ابن عباس في تفسير هذه‬
‫الية‪« :‬خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه‬
‫ومسكنه ومولده» (‪ ,)59‬وقال مجاهد‪(« :‬سوّى) خلق كل دابة ثم هداها‬
‫لما يصلحها وعلمها إياه ولم يجعل الناس في خلق البهائم‪ ،‬ول خلق‬
‫البهائم في خلق الناس؛ ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا» (‪ ,)60‬فإن‬
‫كان هذا الجواب من موسى عليه السلم لفرعون جوابا نافيا الجهل‬

‫العلى‪ 1 :‬ـــ ‪.3‬‬ ‫‪)(57‬‬


‫طه‪ 49 :‬ـــ ‪.50‬‬ ‫‪)(58‬‬
‫تفسير الطبري ‪. 421/ 8 ،‬‬ ‫‪)(59‬‬
‫تفسير الطبري ‪. 421/ 8 ،‬‬ ‫‪)(60‬‬
‫‪64‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫بال في عقل فرعون فإن عكسه هو العلم الذي ينفي الجهل عن كل‬
‫مخلوق في عقل أي متسائل‪ ,‬أي أن المخلوق المراد العلم به هو ذلك‬
‫الشيء الذي خلقه ال بتلك الخلقة والهيئة المعينة لجل تلك الغاية‬
‫المعلومة‪ ،‬فهذا هو العلم بالشيء بأن تعرف حقيقة خلقته التي خلق‬
‫عليها بمنفعته التي خلق لجلها‪ ،‬وقل في المصنوع والمعاني المجردة‬
‫مثل ذلك‪ .‬وهذه الطريقة في تعريف الشياء هي ما جاء في كلم ال‬
‫عز وجل كما قال تعالى في سورة الواقعة‪( :‬نحن خلقناكم فلول‬
‫تصدقون * أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن‬
‫قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم‬
‫وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد علمتم النشأة الولى فلول تذكرون‬
‫* أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء‬
‫لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون *‬
‫أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن‬
‫المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلول تشكرون * أفرأيتم النار التي‬
‫تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها‬
‫تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك العظيم)(‪.)61‬‬
‫بعد الشارة إلى هذه المعاني المذكورة تعلم أنه ل يمكن أن تدرك‬
‫حقيقة أي نظام حتى تدرك حقيقة كل العناصر الداخلة فيه من حيث‬
‫حقيقة تركيبها وتنشئتها‪ ،‬ومن حيث غايات صنعها التي أوجدت هي‬
‫من أجلها‪ ،‬وكذلك طريقة عملها؛ لكي تكون محققة لتلك الغايات التي‬
‫تم إيجادها من أجلها‪ ,‬ولهذا تجد ان ال عز وجل يتكلم عن تراكيب‬
‫مادية في هذا الكون ليس لها دخل بالحسنة ول السيئة‪ ،‬ول علقة لها‬
‫بالمر الشرعي‪ ،‬مثل قوله تعالى (ولقد خلقنا النسان من سللة من‬
‫طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا‬
‫العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه‬
‫خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين)(‪ )62‬فإن قيل بأن ال ذكر هذا‬
‫فقط ليثبت أنه أحسن الخالقين‪ ،‬لقلنا بأنه يكفي أن يقول لنا بأنه‬
‫أحسن الخالقين فنؤمن بذلك دون كل هذه التفاصيل‪ ،‬فإن آمنا بأنه‬
‫‪ )(61‬الواقعة‪ 57 :‬ـــ ‪.74‬‬
‫‪ )(62‬المؤمنون ‪ 13 :‬ـــ ‪.14‬‬
‫‪65‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫خالق كل شيء أفل نؤمن أنه أحسن الخالقين؟! ولكن المعنى هو أن‬
‫يبين لنا حقيقة هذا الشيء المسمى النسان الذي خلقه ولم يكن في‬
‫حين من الدهر شيئا ً مذكورا؛ لن هذا ركن من أركان معرفة الدمي‬
‫نفسه‪ ،‬ويبقى بعد ذلك الركن الخر وهو لي غاية خلق ال هذا‬
‫النسان؟‪ ,‬وكذلك هي الحال في كلمه عن البرد في قوله تعالى (ألم‬
‫تر أن ال يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق‬
‫يخرج من خلله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به‬
‫من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالبصار)(‪.)63‬‬
‫والفرق بين إشاراتنا هذه وبين قول من يجعل القرآن دفترا يشرح كل‬
‫موجود على الرض وكل مخترع جديد هو أننا نقول بأن ال ما ترك‬
‫مخلوقا من مخلوقاته التي أوجدها على الرض أو في السماء‬
‫وسيحتاج ابن آدم العلم بها في الدنيا أو الخرة إل وقد أشار إلى‬
‫أجناسها بشيء من تفصيل خلقتها أو أصل مادتها وغاية خلقها؛ ليكون‬
‫تركيب هذا العالم واضحا في ذهن وخيال كل مسلم‪ ،‬وقبل هذا علم‬
‫آدم السماء كلها حتى قال ابن عباس‪« :‬عرض عليه أسماء ولده‬
‫إنسانا إنسانا والدواب فقيل‪ :‬هذا الجمل هذا الحمار هذا الفرس وكل‬
‫ن كان‬ ‫شيء»(‪ .)64‬وقد تكلم النبي في بعض الحاديث عن معا ٍ‬
‫يريد التنبيه إليها تصب في مثل هذا الباب الذي نتكلم فيه الن‪ ،‬فقد‬
‫جاء في الصحيحين أنه قال‪ « :‬بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها‬
‫فضربها فقالت وفي رواية‪ :‬التفتت فقالت‪ ,‬يعني البقرة ــ‪ :‬إنا لم‬
‫نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث » (‪ ,)65‬وكذلك جاء في المسند بسند‬
‫صحيح‪ :‬أنه أهديت إلى رسول ال بغلة فأعجبته فقلنا‪ :‬يا رسول‬
‫ال لو أنزينا الحمر على خيلنا فجاءت مثل هذه‪ ،‬فقال‪« :‬إنما يفعل‬
‫ذلك الذين ل يعلمون»‪ .‬ففي الحديث الول تنبيه على أن البقرة خلقت‬
‫لغراض معينه كما قال تعالى‪( :‬وإن لكم في النعام لعبرة نسقيكم‬
‫مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى‬
‫‪ )(63‬النور‪.43 :‬‬
‫‪ )(64‬تفسير ابن كثير ‪. 109/ 1،‬‬
‫‪ )(65‬رواه البخاري ‪.‬‬
‫‪66‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫الفلك تحملون)(‪ )66‬فكانت البقرة داخلة في قوله‪( :‬ولكم فيها منافع‬


‫كثيرة ومنها تأكلون) وليست مما يحمل الناس عليه وقد كانت هي‬
‫عالمة بذلك لنه تعالى (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)(‪ .)67‬فل بد‬
‫للنسان لكي يكون خليفة في الرض أن يعلم كل هذه الشياء لكي ل‬
‫يظلم فيضع الشيء في غير موضعه فإن فعل فقد ظلم وجهل‪ ,‬ولهذا‬
‫يقول عن الذي ينزي الحمار على الفرس بأنه فعل أفعال الذين ل‬
‫يعلمون!‪ ,‬فالحمار لم يخلق للفرس لنه تعالى يقول (ومن كل شيء‬
‫خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)(‪.)68‬‬
‫فكل جنس مكوّن من زوجين وقال تعالى (سبحان الذي خلق الزواج‬
‫كلها)(‪ ,)69‬فهو هنا يمدح ويمجّد نفسه بأنه خلق لكل شيء زوج من‬
‫ت فينزي جنسا ً على غير جنسه وكأنه يقدح في‬ ‫جنسه‪ ،‬ثم يأتي آ ٍ‬
‫حكمة ال ويستهين بدقة حبكته وصنعته التي امتدح بها نفسه!‪ .‬إن‬
‫الحمار ليس من جنس الفرس وإنزاء الحمار على الفرس جهل بهذه‬
‫الحقيقة في تكوين الحمار والفرس وفي غاية خلق الحمار والفرس‪.‬‬
‫وتجد هذا المعنى في حديث البغلة يتكرر في وصفه تعالى لعمل قوم‬
‫لوط في وقوع الرجال على الرجال فإن هذا خلل في معرفة تكوين‬
‫الذكر والغاية الكونية لتكوينه فهو خلق للنثى وليس لذكر مثله ولهذا‬
‫قال تعالى عن قوم لوط‪( :‬أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء‬
‫بل أنتم قوم تجهلون)(‪ )70‬فوصفهم بالجهل لنهم أغفلوا الركن‬
‫الخـر في العلم بالدمي وهو الهيئة التي خلق عليها والغاية الكونية‬
‫التي خلق على هذه الهيئة لجلها‪ ,‬فكانوا من الجاهلين جهلً عمليا‪.‬‬
‫والذي يجهل مثل هذه الشياء في مواطن كثيرة في نظام الكون‬
‫سيكون مصدر إفساد له ولحقيقة تكوينه المرتبطة بمنفعته التي خلق‬

‫المؤمنون ‪.21 :‬‬ ‫‪)(66‬‬


‫طه ‪.50 :‬‬ ‫‪)(67‬‬
‫الذاريات‪.49 :‬‬ ‫‪)(68‬‬
‫يس‪.36 :‬‬ ‫‪)(69‬‬
‫النمل‪.55 :‬‬ ‫‪)(70‬‬
‫‪67‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫لجلها ولهذا ينبغي أن يكون "النسان الخليفة " عالما بحقائق التكوين‬
‫وغايات الخلق في كل شيء من حوله على نحو يختلف في تفصيله‬
‫وإجماله من مخلوق إلى آخر وذلك حسب علقة الدمي بذلك‬
‫المخلوق واحتياجه العلم به‪ ،‬ولجل هذا قال تعالى‪( :‬و لو اتبع الحق‬
‫أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن)(‪ )71‬فسادا كونيا‬
‫وفسادا شرعيا؛ بل إن الساعة التي هي خراب الكون ل تكون إل‬
‫بسبب فقدان هذه المعاني الصلية في مخالفة الشياء لغايات خلقها فقد‬
‫جاء في الصحيح أن أعرابيا سأل النبي ‪ :‬متى الساعة؟‪ .‬وكان يسأل‬
‫عن الحد الزمني‪ ،‬فرد عليه النبي بالحد السببي فقال‪« :‬إذا ضيّعت‬
‫المانة فانتظر الساعة»‪ .‬قال كيف إضاعتها؟ قال‪« :‬إذا وسّد المر‬
‫إلى غير أهله فانتظر الساعة» (‪ ,)72‬فأصل كل خلل في الكون هو في‬
‫أن يفقد الشيء هيئته الفاعلة التي كان يعتمد عليها في أداء وظيفته‬
‫الصلية‪ ،‬أو أن يفقد القدرة على تحقيق غايته أو منفعته التي ينبغي له‬
‫أن يحققها‪ ,‬فإذا ساد هذا الختلل حتى صار أهم عنصر في الكون‬
‫وهو الدمي ل يستطيع تحقيق غايته التي خلق لجلها وهي التوحيد‬
‫والعبودية ل وذلك لندثار العلم وفشو الكفر كما قال ‪« :‬ل تقوم‬
‫الساعة وعلى الرض من يقول ال ال» (‪ ,)73‬فإذا حدث ذلك قامت‬
‫الساعة؛ لن هذا العالم الذي كان أصل خلقه ليكون حاضنا للنسان‬
‫فقد غايته التي خلق لجلها؛ لن النسان بدوره فقد غايته بانقراض‬
‫اليمان وتوسيده اللوهية لغير ال وصار ليس لوجوده غاية فعندها‬
‫سيعلن ال عز وجل نفخة الصعق التي ستبيد البشر ثم يبيد من بعدهم‬
‫هذا الكون بأسره حتى ينادي سبحانه‪ :‬لمن الملك اليوم‪ ,‬فل يجيبه إل‬
‫نفسه المقدسة ‪ .‬وسنناقش هذا المر بمزيد من التفصيل في باب العدل‬
‫الكوني والشرعي‪.‬‬
‫والمعنى من إيراد هذا الباب هو الشارة إلى أن الخلفة في الرض‬
‫نوع من السيطرة أو الستمتاع أو النتفاع‪ ،‬أو على أقل الحوال‬
‫‪ )(71‬المؤمنون‪.71 :‬‬
‫‪ )(72‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(73‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪68‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫التقييم والنقد والعلم المجرد بأن تعرف المعروف والمنكر فتعرف‬


‫وتنكر بقلبك‪ ,‬فل ينبغي لمن أُنيطت به الخلفة أن يكون جاهلً لحقيقة‬
‫الكون والنظام‪ ,‬فل بد من معرفة الشياء على النحو النافي للجهل‬
‫بها‪ ,‬بمعرفة حقيقة خلق الشيء والغاية التي خلق لجلها ولهذا قال‬
‫الناس عندما كسفت الشمس‪ :‬إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم‪ ,‬ولد‬
‫النبي ‪ ,‬فقال عليه الصلة والسلم‪« :‬إن الشمس والقمر آيتان من‬
‫آيات ال يخوّف ال بهما عباده‪ ،‬وإنهما ل ينكسفان لموت أحد من‬
‫الناس‪ ،‬فإذا رأيتم منها شيئا فصلّوا وادعوا ال حتى يكشف ما بكم»‬
‫(‪ ,)74‬وما دخلت الخرافة في عقول الناس إل بجهلهم بهذا الباب‬
‫فصاروا كلما هابوا شيئا عبدوه‪ ،‬وكلما رأوا مخلوقا ذي مركزية في‬
‫نفعه عظّموه‪ ،‬فعبدوا الشمس والقمر والنجوم والبحار والنهار‬
‫والجبال والملوك والعقل‪ ،‬واليوم يعبدون المادة وقد قال تعالى‪( :‬هو‬
‫الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد‬
‫السنين والحساب ما خلق ال ذلك إل بالحق يفصل اليات لقوم‬
‫يعلمون)(‪ ,)75‬فهو يفصل اليات ويبين خلقتها وغاية خلقها لمن أراد‬
‫أن يعلم ويوقن بأن ال ما خلق هذا العالم باطل ً سبحانه‪ ,‬فالذين‬
‫عبدوا الشمس لم يكن لديهم من " العلم الحقيقي " ما كان لدى يوشع‬
‫بن نون عندما أراد دخول فلسطين لقتال الكافرين كما جاء في‬
‫الصحيح‪« :‬فغزا فدنا من القرية صلة العصر أو قريبا من ذلك فقال‬
‫للشمس‪ :‬إنك مأمورة وأنا مأمور‪ ،‬اللهم احبسها علينا‪ ،‬فحُبست حتى‬
‫فتح ال عليه» (‪ )76‬فهو يعرف ما هي الشمس‪ ،‬ولماذا خلقت؟ وأنها‬
‫مأمورة كما هو مأمور‪.‬‬
‫إن العالم في حقيقته أسهل ألف مرة مما هو عليه في مخيّلت كثير‬
‫من العقول الفاسدة التي أفسدها الجهل بحقيقة التكوين وحقيقة الحكمة‬
‫لماهيات كثير من جزئيات هذا العالم فصارت الحياة مأساة والعالم‬
‫سجن كبير‪ ,‬فالنقص عندهم مشكلة؛ لن الكمال الخروي مفقود‪،‬‬
‫‪ )(74‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )(75‬يونس‪.5 :‬‬
‫‪ )(76‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫والحزن شعور يعني الفشل؛ لن الشعور بالسعادة الدنيوية هو النجاح‬


‫س ينبغي‬‫الوحيد‪ ،‬وهكذا تتكدس الظلمات بعضها فوق بعض في أنف ٍ‬
‫أن تكون مسلمة؛ ولكنها ل تعي معنى السلم‪ ،‬ول تعرف قصته؛‬
‫لكي تنتظم في نظامه وتسير في نسقه‪ ،‬فالجهل بحقائق الشياء في‬
‫ذواتهم وخارجها أفقد الشياء منفعتها علما وعملً؛ حتى صار لسان‬
‫حال بعض القوم يقول ما قاله أهل الوجودية‪" :‬التقط اللذة ولو من‬
‫المرحاض! "‪ ,‬بل إن بعضهم يعيش على ما يسمى بنظرية‬
‫(النتروبي) التي تنص على أن العنصر يبلغ قمة فاعليته في البيئة‬
‫التي تحتويه إذا فقد النظام انضباطه بشكل كامل؛ لنه حينها فقط‬
‫يكون كل عنصر فيه قد تحرر من كل القيود‪ ،‬فيبلغ ذروته في حرية‬
‫التصرف والنتقال الذين يترتب عليهما أكبر كم من المصادفات ‪.‬‬
‫وهذا ما قد يسمونه بـ "الفوضى الخلَقة" أي التي تنتج كمّا هائلً من‬
‫الحتمالت بكافة أنواعها وتراكيبها‪ ,‬والذي يعيش على مثل هذه‬
‫المبادئ العدمية ل ينبغي أن يؤتمن على حمار أهله ناهيك عن جعله‬
‫خليفة ل في الرض وإن صنع الصاروخ وأنشأ المدن تحت الماء‪,‬‬
‫وهؤلء قال ال عنهم‪( :‬ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات ال أنى‬
‫يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون‬
‫* إذ الغلل في أعناقهم والسلسل يسحبون * في الحميم ثم في‬
‫النار يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون ال‪,‬‬
‫قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل ال‬
‫الكافرين * ذلكم بما كنتم تفرحون في الرض بغير الحق وبما كنتم‬
‫تمرحون * أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى‬
‫المتكبرين)(‪.)77‬‬

‫‪ )(77‬غافر‪ 69 :‬ـــ ‪.76‬‬


‫‪70‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق‬


‫قال تعالى‪( :‬الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن‬
‫أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم‬
‫صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين * إن ربكم ال‬
‫الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ثم استوى على العرش‬
‫يدبر المر ما من شفيع إل من بعد إذنه ذلكم ال ربكم فاعبدوه أفل‬
‫تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد ال حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده‬
‫ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم‬
‫شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو الذي جعل‬
‫الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين‬
‫والحساب ما خلق ال ذلك إل بالحق يفصل اليات لقوم يعلمون * إن‬
‫في اختلف الليل والنهار وما خلق ال في السماوات والرض ليات‬
‫لقوم يتقون * إن الذين ل يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا‬
‫واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما‬
‫كانوا يكسبون)(‪ ,)78‬وعن عمران بن حصين قال‪ :‬إني عند النبي إذ‬
‫جاءه قوم من بني تميم فقال‪« :‬اقبلوا البشرى يا بني تميم»‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫بشّرتنا فأعطنا‪ ،‬فدخل ناس من أهل اليمن فقال‪« :‬اقبلوا البشرى يا‬
‫أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم»‪ .‬قالوا‪ :‬قبلنا‪ ,‬جئناك لنتفقه في الدين‪،‬‬
‫ولنسألك عن أول هذا المر ما كان‪ ،‬قال‪« :‬كان ال ولم يكن شيء‬
‫قبله‪ ،‬وكان عرشه على الماء‪ ،‬ثم خلق السماوات والرض وكتب في‬
‫الذكر كل شيء»‪ .‬ثم أتاني رجل فقال‪ :‬يا عمران‪ ،‬أدرك ناقتك فقد‬
‫ذهبت‪ ،‬فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها‪ ،‬وايم ال لوددت‬
‫أنها قد ذهبت ولم أقم (‪.)79‬‬

‫‪ )(78‬يونس‪ 1 :‬ـــ ‪.8‬‬


‫‪ )(79‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫يذكرنا ال تعالى في الدليل الول في اليات الكريمة بحكمة كلمه‬


‫في قوله‪( :‬تلك آيات الكتاب الحكيم)؛ لنه سيسوق لنا ترتيبا حكيما‬
‫لمور غيبية ل يمكن للمؤمن أن يصل إلى حقيقة تكوين العالم وكنهه‬
‫وماهيته إل بها‪ ،‬وهي كون هذا القرآن جاء على لسان رجل نبي ل‬
‫ينطق عن الهوى؛ وإن كان من القوم ومثلهم يأكل مما يأكلون منه‬
‫ويشرب مما يشربون غير أنه يوحى إليه من أمر ال ما قد كلف‬
‫بتبليغه الخلق من النذارة والبشارة والمصير الخير الذي إما أن يكون‬
‫إلى الجنة وإما أن يكون إلى النار‪ ،‬ثم يصف تبارك وتعالى من أنكر‬
‫هذه المقدمة التي هي اليمان بنبوة محمد بأنه كافر؛ لن كل ما‬
‫سيأتي بعد ذلك من أمر الغيب إنما هو فرع عن اليمان بذلك‪ .‬بعد‬
‫ذلك تكلم ال عز وجل عن خلق السماوات والرض‪ ،‬وأن خالقها هو‬
‫الرب الذي خلقها في ستة أيام ثم استوى على العرش كما يليق بجلله‬
‫وعظمته يدبر أمر خلقه‪ ،‬ثم يذكر بأنه ل شفيع إل من بعد إذنه فهو‬
‫الخالق وهو المالك الحقيقي لكل مملوك بما في ذلك النسان نفسه‪،‬‬
‫فهذا الرب سبحانه الذي يملك منك نفسك من دونك حقيق بأن يكون‬
‫هو المعبود الذي ترفع إليه الحاجات‪ ،‬وتطلب من عنده المكرمات‪،‬‬
‫وإليه يرجع المر كله بما في ذلك مصير النسان نفسه‪ .‬إن هذا‬
‫الرجوع إلى ال هو وعده الذي وصفه بأنه "حق "؛ لن الذي بدأ‬
‫الخلق يعلم بأن هذه النشأة الولى للخلق سيترتب عليها كثير من‬
‫المظالم‪ ،‬فكانت إعادة الخلق من كمال عدله؛ ليفصل بين الناس ما‬
‫ترتب على خلقهم الول ويجزي كل نفس ٍ بما كسبت‪ ،‬ثم يختم الكلم‬
‫في هذه الجزئية بالحديث عن السيئات والحسنات؛ لنها هي ميزان‬
‫العودة الجديدة‪ ،‬والنشأة الثانية يوم النشور‪ ،‬وقد قال قتادة في قوله‬
‫تعالى‪( :‬ولقد علمتم النشأة الولى فلول تذكرون) ‪ :‬يعني خلق آدم‬
‫لست سائل أحدا من الخلق إل أنبأك أن ال خلق آدم من طين(‪,)80‬‬
‫فالذي ل يكون في عقيدته اليمان بهذه النشأة الولى لن يكون فيها‬
‫شيء من إيمان بالنشأة الثانية ولهذا يكرر ال عز وجل ذكر نشأة‬
‫العالم ونشأة النسان في مواضع كثيرة من كتابه لنهما هما أصل كل‬
‫عقيدة في ال ‪ .‬في آخر اليات‪ ,‬ينتقل تبارك وتعالى إلى ذكر تكوين‬

‫‪ )(80‬تفسير الطبري ‪.653/ 11،‬‬


‫‪72‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫العالم وتفصيل منافع ذلك التكوين وتسخيره لبني البشر‪ ،‬وأن هذا‬
‫التسخير دليل عقلي لمن تفكر‪ ،‬وأن هذه الحياة لمر ما قد أوجدت‪،‬‬
‫وأن الذين يكتفون منها بالستمتاع بمنافع الدنيا دون النظر إلى غايات‬
‫خلقها ويركنون إلى ذلك سيكون مصيرهم إلى النار‪ ،‬وقد أشار إلى‬
‫هذا المعنى محمد أبو السعود في تفسيره لقوله تعالى‪( :‬ربنا إننا سمعنا‬
‫مناديا ينادي لليمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر‬
‫عنا سيئاتنا وتوفنا مع البرار)(‪ ,)81‬قال‪ :‬فإن معرفة سر خلق العالم‬
‫وما فيه من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه من‬
‫العمال الصالحة وتنزيه الخالق تعالى عن العبث من دواعى‬
‫الستعاذة مما يحيق بالمخلّين بذلك من وجهين؛ أحدهما‪ :‬الوقوف على‬
‫تحقق العذاب‪ ،‬فالفاء لترتيب الدعاء على ما ذكر‪ .‬والثاني‪ :‬الستعداد‬
‫لقبول الدعاء‪ ،‬فالفاء لترتيب المدعو أعنى الوقاية على ذلك كأنه قيل‪:‬‬
‫وإذ قد عرفنا سرّك وأطعنا أمرك ونزهناك عما ل ينبغى فقنا عذاب‬
‫النار الذي هو جزاء الذين ل يعرفون ذلك (‪ .)82‬فكلمه يدور على أن‬
‫فهم قصة خلق العالم أصل أصيل في تكوين اليمان المطلوب للنجاة‬
‫من النار‪ ،‬وهذا هو مقتضى قوله تعالى‪( :‬وما خلقنا السماء والرض‬
‫وما بينهما باطل ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من‬
‫النار)(‪.)83‬‬
‫في حديث عمران بن حصين دليل على أن السؤال عن نشوء العالم‬
‫هو أصل اليمان الول؛ لن النبي قال مجيبا على سؤالهم‪ :‬حدثنا‬
‫عن أول هذا المر؟ بقوله‪« :‬كان ال ول شيء غير ال»‪ ،‬ثم تكلم عن‬
‫المخلوق بعد أن اثبت الخالق‪ .‬وفي الحديث دليل على مدى سعة خيال‬
‫الصحابة رضوان ال عليهم ومدى شمول تفكيرهم فهم على ما هم‬
‫عليه من بساطة حال تجشموا عناء السفر من اليمن إلى المدينة‬
‫وقطعوا المفازات وتعرضوا للمشقة العظيمة لكي يسألوا النبي ‪:‬‬
‫كيف نشأ هذا العالم؟ حدثنا عن أول هذا المر!‪.‬‬
‫‪ )(81‬آل عمران‪.193 :‬‬
‫‪ )(82‬تفسير القران لبي السعود ‪. 131/ 2،‬‬
‫‪ )(83‬ص ‪.27‬‬
‫‪73‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫كثير ممن تورط بثقافات الغرب وعاش تطورات البشرية اليوم حتى‬
‫صار ينظر إلى الكتاب والسنة على أنها كتب صفراء قديمة ل تفيد‬
‫في واقع الحياة ول تحل من أزمة الفكر النساني اليوم شيئا‪ ،‬فكثير‬
‫ممن هم على هذه الشاكلة الملحدة لم يبلغ أحدهم في قرارة نفسه‬
‫وسعة خياله أن يسأل نفسه بجدية‪ :‬كيف نشأ هذا العالم؟ ناهيك على‬
‫أن يعتقد حقا أن في هذا العالم من سيجيب على تساؤله هذا بجواب‬
‫صحيح يشفي غليل الضالين عن الحقيقة‪ ,‬وما أكثرهم‪ ,‬حتى أن‬
‫فيلسوفا من كبار فلسفة أوروبا في عصر النهضة اسمه " شوبنهور "‬
‫عندما يأس من تفسير العالم وتعليل تقلبات المجتمعات عبر الزمان‬
‫مع إلحاده وضعف عقله وضع نظرية فلسفية مشهورة هي (نظرية‬
‫عدم جدوى الوجود)(‪ .)84‬التي مفادها أن البشر في هذا العالم‬
‫بالتجربة واستقراء التاريخ لن يبلغوا درجة النسانية المطلوبة‬
‫والمأمولة‪ ،‬بحيث يعيشون في ود وسلم بل ظلم وبل استعلء وتكبر‬
‫فيما بينهم وبل سفك دماء‪ ،‬وأنهم سيبقون لصوصا وكذابين وقتلة ‪.‬‬
‫وبناءا على ذلك فقد نصت النظرية على حث البشر على عدم‬
‫التناسل؛ لكي يقوم البشر بعملية انقراض طوعي لجنسهم وعنصرهم‬
‫وجعل الجيل الذي كتبت فيه النظرية هو آخر جيل على وجه‬
‫الرض؛ لكي تتوقف هذه التجربة الكونية الفاشلة للنسان على حد‬
‫زعم ذلك الفيلسوف!‪ .‬ولم تكن هذه نزعة فردية في الغرب بل كان‬
‫يرافقها كثير من السفاهات التي كانت تطرح على أعلى المستويات‬
‫العلمية مثل ما فعله فيلسوف ألماني(‪)85‬كان يقول بأنه ل يستطيع أن‬
‫يتصور بأن هذا العالم نشأ بل رب وعندما قيل له‪ :‬كيف تصر على‬
‫اليمان بأن لهذا العالم رب خلقه وأنت ترى كل هذا الظلم فيه؟ أين‬
‫ربك ليعدل بينهم؟ فما كان منه إل أن قال عبارته المشهورة عندهم‪:‬‬
‫(إن ربي خلق هذا العالم ثم مات!) ‪ ,‬بينما اعتنق صنف آخر اللحاد‬
‫مثل نيتشه الذي قال ‪ ( :‬إن ال مات و نحن الذين قتلناه و بات على‬
‫النسان السوبرمان أن يدير هذا العالم ) ‪ ,‬قتلناه أي اكتشفنا بالعلم و‬
‫التجربة أن ال مجرد خرافة ‪ ,‬تعالى ال عما يقولون ‪ ,‬و من نظرية‬
‫‪ )(84‬ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة ‪.‬‬
‫‪ )(85‬ذكر هذه القصة ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة‪.‬‬
‫‪74‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫و فلسفة نيتشه بنا هتلر منهجه النازي القائم على الصفاء‬ ‫داروين‬
‫و النتقاء الطبيعي ‪.‬‬ ‫العرقي‬
‫عندما تبنى الفرضية فوق فرضية أخرى و يتحول تطور العالم إلى‬
‫سلسلة من الظنون التي يتبناها بعض المثقفين ينتقل المجتمع بأكمله‬
‫إلى عالم آخر من المسلمات و المقاييس النسانية الجديدة ‪ .‬هنا نجد‬
‫ميرتشيا إلياده يحاول تلخيص الخطوات الفرضية التي سبقت‬
‫النمساخ الغربي فيقول ‪ ( :‬كانت الدعاية المادية في أوجها في‬
‫أواسط القرن التاسع عشر حيث ألف أوغست كونت ‪ 1855 ,‬م ‪,‬‬
‫كتابه " التعاليم الوضعية " و كذلك " نسق السياسة الوضعية " ثم نشر‬
‫بوخنر كتابه " القوة و المادة " الذي يريد أن يبرهن فيه على أن‬
‫الطبيعة تفتقد للغائية و أن الحياة قد نشأت عن التولد التلقائي و أن‬
‫الروح و العقل وظيفتان عضويتان كما أكد أن العقل عبارة عن‬
‫مجموع القوى المجتمعة في الدماغ و أن ما يسمى بالنفس أو الروح‬
‫هي عبارة عن مجالت مغناطيسية ناتجه عن كهرباء البدن‪ .‬و في‬
‫العام ‪ 1856‬م نشر ماكس موللر كتابه " مقالت في الميثيولوجيا‬
‫المقارنة " ثم ظهر " أصل النواع " لداروين الذي أصل النزعة‬
‫المادية عام ‪ 1858‬م ‪ .‬ثم كتب هربرت سبنسر " المبادئ الولى "‬
‫عام ‪ 1862‬م محاول إثبات أن الكون نشأ من تحول غامض طرأ‬
‫على المادة الولنية نقلها من تجانس غير محدد إلى حال تغاير محدد‬
‫‪ .‬و سرعان ما سرت هذه النظريات في الغرب فأخذت بعقول‬
‫المتعلمين و أفئدتهم وصار لها شعبية منقطعة النظير مما نتج عنه‬
‫كثمرة لكل هذا كتاب آرنست هايكل " قصة الخليقة على المذهب‬
‫الطبيعي " فنشر عام ‪ 1868‬م ليطبع منه في أقل من أربعين سنة‬
‫عشرين طبعة ‪ . )86( ) .‬هذا كله يفسر شدة النزعة اللحادية لدى‬
‫الغرب فكفرهم كفر شجاع ‪ ,‬لنه يثق بنفسه بناءا على تجربة علمية‬
‫و نظريات فرضية يرى هو صحتها ‪ ,‬فهو موهوم بأنه يمتلك على‬
‫صحة كفره البرهان ‪ ,‬و لكن الغريب في ملحد من المسلمين يزعم‬
‫بأنه يؤمن بالكتاب و السنة ثم تراه يقول بقول الغرب في كثير من‬
‫‪ )(86‬البحث عن التاريخ و المعنى في الدين ‪ ,‬ميرتشيا إلياده ‪ ,‬ص‪:‬‬
‫‪. 115 -114‬‬
‫‪75‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫مناهجه التي بناها على كفر مبرر سابق ‪ ,‬فهما نقيضان ل يجتمعان و‬
‫لكنها لوثة التقليد العمى لدى بعض المثقفين الذين ل يجيدون حتى‬
‫الكفر ناهيك عن إجادة السلم ‪ .‬فكم هم مساكين و بسطاء ‪,‬‬
‫يذكرونني بقصة الحمق الذي عندما أراد إثبات شراسته و شدته قام‬
‫بقتل أبيه فهؤلء يحسبون التقدم بمجرد الكفر بالموروث ‪ ,‬و مخالفة‬
‫الراهن بل رؤية ‪ ,‬و ل فهم ‪ ,‬مع أن الصحيح أن حتى الكفر يحتاج‬
‫إلى وعي ‪ ,‬و منطقية ‪ ,‬و خيال جريء على التجربة ‪ ,‬فالغرب ل‬
‫يترك مبدأ ما حتى يجد له بديل منطقيا – حسب تصوره لمفهوم‬
‫المنطق‪ -‬يكون هو على قناعة به ‪ ,‬بينما كفارنا اليوم يمارسون‬
‫الكفر المعلب و استنساخ تجارب المم الخرى التي لها معطيات و‬
‫عناصر تختلف تماما عما لدينا !‪.‬‬
‫وقد ضل في مسألة تعليل العالم وما فيه من العناصر خلق كثير؛‬
‫ولكن الضلل يكون واضحا ً أكثر فيمن عاش بعيدا عن نور الوحي؛‬
‫لن هذا العالم مليء بعناصر خفية لها تأثير واضح فيه نحن ل نراها‬
‫ول يمكن أن نتصور وجودها بل وحي فالملئكة والجن‪ ,‬خصوصا‬
‫الشياطين منهم‪ ,‬الذين يديرون كل مصائب العالم وآلمه ويقفون‬
‫وراءها‪ ،‬فإبليس يضع عرشه على الماء ويبث سراياه وجنوده في‬
‫الناس‪ ،‬ويدير المؤامرات ويؤثر في العالم والبشر تأثيرا منظما‬
‫مدروسا‪ ،‬فكل مولود يولد يوكل به قرين من أتباعه يوسوس له‪،‬‬
‫ويغري البشر بمعصية ال ويزين لهم ذلك‪ ،‬ويسعى في الرض‬
‫فسادا‪ ،‬ويجيش الجنود من بني البشر الذين ل يؤمنون بوجوده ويجلس‬
‫على عواتقهم يسوقهم ويوحي إليهم فيتحدثون له وعنه ويدعون الناس‬
‫إلى دين الكفر بمنطق وهيئة الدميين‪ .‬ول تزال الشياطين تشارك‬
‫النسان حتى في لقمته وبضع زوجته وهو ل يشعر ولو أن فلسفة‬
‫أوروبا قرأوا صحيح البخاري مؤمنين به لوجدوا قوله ‪« :‬لتؤدن‬
‫الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة‬
‫القرناء»‪ .‬ولما دعوا البشرية إلى أن تبيد كما باد الديناصور‪ ،‬ولما‬
‫زعموا أن لهم رب خلق العالم ثم مات كأي نجا ٍر هرم ٍ مسكين غير‬
‫أن ال يختص بنوره من يشاء‪ .‬أما عمران ومن معه رضوان ال‬
‫عليهم على بدائية حالهم وتقدم زمانهم فإن ال وهبهم عقولً تستوعب‬
‫‪76‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫الدنيا والخرة وتطلب الكمال بتكامل الدنيا مع الخرة فهم يعلمون أن‬
‫لهذا العالم رب ل يموت‪ ,‬بدأ خلقه ثم يعيده وعدا عليه حقا ليجزي كل‬
‫نفس بما كسبت ولكن أكثر الناس ل يعلمون‪.‬‬
‫إن تجاهل النشأة الولى للكون وللنسان وتفصيل علقات مقومات‬
‫العالم الصلية مع بعضها البعض يورث الرتباك في ترتيب المعتقد‬
‫الفكري والنفسي تجاه العالم وغايته‪ ،‬وتجاه القيم الحقيقية لفراد‬
‫المخلوقات في هذا الوجود‪ ،‬ولهذا يستشهد سبحانه على وجوب المعاد‬
‫بذكر المبدأ كما في قوله‪( :‬نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن‬
‫بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ل تعلمون * ولقد‬
‫علمتم النشأة الولى فلول تذكرون)(‪ .)87‬إن اليمان بهذه النشأة‬
‫الولى للنفس البشرية وللكون يستصحب الشعور بأنه ليس لبن آدم‬
‫من المر شيء‪ ,‬وأنه أجير في ملك غيره‪ ،‬فل يفتري الغايات من‬
‫تلقاء نفسه‪ ،‬ويعطي التقييمات لشياء هو لم يخلقها؛ بل ربما ل يعلم‬
‫حقيقتها‪ ،‬وأنه كان في يوم من اليام " شيئا مستقلً بذاته " عن كل‬
‫تفاصيل هذه الحياة الدنيا التي تحيط به ليدرك أنه لم يخلق كجزء منها‬
‫وهي لم تخلق لتكون جزءا منه‪ ،‬فل تلزم بين مسار الدمي وتحقيقه‬
‫للشخصية الدمية المثالية وبين مسار العالم في تطوراته المادية على‬
‫شتى تفسيرات كلمة "تطوّر" كما تفهم اليوم‪ ,‬وكم هو شخص جاهل‬
‫بطوية النفس البشرية وحقيقة النتماءات العقدية في الكون من يقول‬
‫متعجبا متحسرا‪ :‬صعد النسان القمر ومازال النسان يقتل النسان؟!‬
‫فلعل النسان ما صعد إلى القمر إل ليقتل النسان من هناك!‪ .‬وقد‬
‫قرر علماء الجتماع في الغرب هذه الحقيقة التي تنص على أن‬
‫التطور الصناعي ل يعني التطور النساني‪ ،‬وأن النسانية المثالية‬
‫والمجتمع المثالي ل علقة لهما من حيث إمكانية التكوين وحقيقة‬
‫الوجود بالتطور المادي لحضارة البشر‪ ،‬فيقول العالم (إنتوني غدينز)‬
‫في كتابه "علم الجتماع " وهو يتكلم عن المجتمعات القديمة أو ما قبل‬
‫المجتمع الحديث‪ :‬إن نسبة التفاوت وعدم المساواة في مجتمعات‬
‫الصيد ضئيلة جدا ول يهتم أفراد هذه المجتمعات بتجميع الثروة‬
‫المادية بما يتجاوز احتياجاتهم الساسية‪ .‬وتنحصر اهتماماتهم عادة‬
‫‪ )(87‬الواقعة ‪ 60 :‬ـــ ‪.61‬‬
‫‪77‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫بالقيم الدينية والنشطة الحتفالية والشعائرية(‪ .)88‬ثم يقول‪ :‬و ل يعني‬


‫ن إلى تلك الوضاع التي كان‬ ‫ذلك بطبيعة المر أن نمجّد أو نح ّ‬
‫يعيشها الصيادون وجامعوا المحاصيل‪ .‬بيد أن غياب الحرب وانعدام‬
‫اللمساواة في الثروة والقوة والتأكيد على التعاون بدلً من المنافسة‬
‫في تلك المجتمعات تذكرنا كلها بأن العالم الذي خلقته الحضارة‬
‫الصناعية الحديثة ل يمكن بأي حال من الحوال أن يكون مرادفا‬
‫لمفهوم "التقدم"(‪ .)89‬وقد اختصر النبي كل هذا العناء من استقراء‬
‫للتاريخ ومعاناة تجريبية للبحث عن المجتمع المثالي عندما قال‪« :‬من‬
‫أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما‬
‫حيزت له الدنيا»‪ .‬فقوام المجتمع المثالي كما يقرره علماء الجتماع‬
‫يكون في الستقرار والتكامل‪ ،‬وزاد الحديث على هذا الفهم‪ ،‬فدل على‬
‫أن قوام المجتمع المثالي بالضافة إلى المن والستقرار والتكامل‬
‫"في السرب"‪ ,‬أيضا‪ ,‬تمام العافية في الجسد‪ ،‬والكتفاء الذاتي في‬
‫القوت‪ ،‬فإذا فقد شيء من هذا فقد اختل المجتمع‪ ،‬وأي مؤثر يدخل‬
‫على المجتمع ليخل بشيء من هذه الساسيات فهو مؤثر سوء‬
‫وفوضى‪.‬‬
‫إن ما يقع فيه الناس اليوم من ربط بين تطور العالم وتطور النسان‬
‫هو مجرد عرض من أعراض "وسواس الخلود الرضي" الذي صار‬
‫جزءا من العقل الجمعي في كثير من المجتمعات إن لم يكن كلها؛ بل‬
‫إن فكرة الوطنية المقدسة والنتماء الوطني في كل العالم إنما نتجت‬
‫عن هذا الوسواس القديم‪ ،‬حتى قال ال لبعض من سلف منهم‪( :‬أولم‬
‫تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال)(‪ .)90‬مع أن الدين ل ينافي‬
‫الوطنية الخالية من المعاني الجاهلية‪ ،‬فالسلم يدعو إلى الدفاع عن‬
‫معاقل السلم التي يقطنها المسلمون‪ ،‬أو توجد فيها مصالح‬
‫المسلمين‪ ،‬فالوطن المسلم ليس أرضا مجردة وإنما هو مجموع من‬

‫‪ )(88‬علم الجتماع ‪ ،‬إنتوني غدينز ‪ ،‬ص ‪. 93‬‬


‫‪ )(89‬علم الجتماع ‪ ،‬إنتوني غدينز ‪ ،‬ص ‪. 93‬‬
‫‪ )(90‬إبراهيم ‪. 44 :‬‬
‫‪78‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫المصلحة الدينية والدنيوية والنتماء الشرعي والجغرافي وكل ذلك‬


‫تحت مبدأ "ليكون الدين كله ل"‪.‬‬
‫نجد أن ربط الحياة بالخلود يتردد كثيرا في الخطاب العربي اليوم‬
‫على المستوى الفردي والجماعي؛ حتى قال أحد الملحدين العرب بأنه‬
‫على يقين تام من أن الغرب سيكتشفون علجا للموت وتمنى أن يكون‬
‫ذلك قبل وفاته!‪ ,‬وهذه ليست شطحات ٍ عشوائية ولكنها نتاج‬
‫لتراكمات ذلك الوسواس القديم الذي يربط مثالية النسان الكونية على‬
‫القل مع حضارته المادية في تناسب طردي‪ ،‬وهذا هو جوهر العقيدة‬
‫الرومانسية الداعية إلى العودة إلى الطبيعة‪ ,‬بينما الوحي يشير إلى‬
‫غير هذا تماما كما في قوله ‪« :‬إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها‬
‫(‪)91‬‬
‫أبناء الملوك أبناء فارس والروم سلط شرارها على خيارها»‬
‫وقال‪ « :‬سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان‬
‫الشراب ويلبسون ألوان الثياب يتشدقون في الكلم أولئك شرار أمتي!‬
‫» (‪ ,)92‬ونحن ل نناقش بطلن قول ذلك الملحد فيغني عن الرد عليه‬
‫حكايته؛ ولكننا نناقش "جنس هذه العقلية" التي ترى بأن القدرة على‬
‫تحقيق الرغبات النسانية ملزم للخيرية‪ ،‬وأن ازدياد إتقان الحياة‬
‫ووسائلها دليل على البعد عن ظروف البدائية المادية والفكرية‬
‫والزمان الول والنشأة الولى وما يرافق تلك المور من تبعات!!‬
‫وهذا غير صحيح فالنبي قال‪« :‬أعمار أمتي ما بين ستين إلى‬
‫سبعين وأقلهم من يجوز ذلك» (‪ )93‬فأعمار أمته في زمانه كأعمار‬
‫الذين سيقاتل آخرهم الدجال وقل فيما بين ذلك مثل ذلك فليس كل‬
‫شيء خاضع لمعيار التنمية المادية كما ظن ذلك الحالم بإكسير‬
‫الحياة!‪.‬‬
‫كما أن ظروف البيئة النسانية الكونية الصلية ثابتة منذ النشأة‬
‫الولى ل تتغير‪ ،‬فالفطرة هي الفطرة حتى تتغير بالكتساب‪ ،‬والغرائز‬
‫هي الغرائز والمؤثرات هي المؤثرات‪ ,‬نعم تختلف في أجرامها‬
‫‪ )(91‬رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي وصححه اللباني‪.‬‬
‫‪ )(92‬صححه اللباني في السلسلة الصحيحة ‪. 512/ 4،‬‬
‫‪ )(93‬رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحة وحسنه اللباني‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ومصادرها ولكنها تنبع من أجناس ثابتة في أصل الكون‪ ,‬فالحقد هو‬


‫الحقد والشهوة هي الشهوة والحسد هو الحسد والخوف هو الخوف‬
‫والتمني هو التمني وحب الدنيا وكراهية الموت والرغبة في الخلود‬
‫والتكبر وحب التملك‪ ,‬كل ذلك كذلك‪ ,‬ولهذا يقول تعالى (إن كيد‬
‫الشيطان كان ضعيفا)(‪)94‬؛ لن كيده واقع تحت أجناس من أسباب‬
‫الغواية ثابتة‪ ,‬وهي مكونة في النسان من الخلق الطبيعية‬
‫"فيسيولوجية البدن بهرموناته وأنزيماته "‪ ،‬والنفسية "التصورات‬
‫النسانية والغريزة والفطرة " وهي ثابتة في أدوات تفعيلها وفي مادة‬
‫تفاعلها وإن تشكلت في صور شتى فعندما يرى الذكر النثى يوسوس‬
‫له الشيطان تصورات شهوانية فيستجيب البدن بتفاعلته وغرائزه‬
‫فتحدث محنة البتلء والفتنة والمدافعة لكل ذلك‪ ,‬هذا مع تفاوت في‬
‫الكلءة والعصمة من ال‪ ,‬وهذا يقع في كل زمان بنفس النمطية‬
‫الشعورية ولكن بطرق مختلفة وأساليب شتى‪ ,‬وهذه الشياء يعني‬
‫البتلء والفتنة هي الوظيفة الساسية التي خلق ال هذا الكون لجلها‬
‫فإن تساوى الناس في أول الزمان وآخرة في هذه المسألة فكل ما‬
‫عدى ذلك قشور ل قيمة لها على مستوى الفرد والخلص الشخصي‪،‬‬
‫ثم تأتي بعد ذلك المؤثرات الجماعية كالستضعاف الجماعي‬
‫والضطراب الممي والبطال العام لسنن الوحي وسقوط حاكمية‬
‫الشريعة وغياب النصرة والتمكين وهذه ل تصلح إل بصلح الفرد‬
‫كل على حده فيتحقق القول بأن ظروف الكون ثابتة في مجملها‪.‬‬
‫لهذا نجد أن ال عز وجل قد فضح الشيطان في كل ذلك فحكى كيفية‬
‫مكره تحت كل جنس من تلك الجناس فقال بأنه يعد بالفقر ويأمر‬
‫بالفحشاء ويمني الماني ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويغرس في‬
‫النفوس ظن السوء‪ ,‬وهكذا‪ ,‬فالكون في مجملة وأصل أجناسه ثابت‬
‫من ناحية المؤثرات والظروف‪ ,‬وهذه القشور الرقيقة المسماة‬
‫بالحضارة المادية وتلوناتها وتفريعاتها النفسية والفكرية وفقاقيعها‬
‫الفارغة المنتفخة وطقوسها المبهرجة المحدثة وتطبيقاتها العملية‬
‫الكثيرة ل تلبث أن تنسلخ وتطير في الهواء كما يطير جلد الفعى‬
‫ويعود النسان إلى ممارسة نفسه واحتياجاتها الصلية الثابتة بل هالة‬
‫‪ )(94‬النساء ‪. 76 :‬‬
‫‪80‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫من الزخارف الكاذبة والمراسيم العبثية التي كانت تمليها عليه تفاهات‬
‫الحضارة المنصرمة وسيجد كل إنسان نفسه ذكرا يبحث عن أنثى‬
‫وجائعا يبحث عن رغيف وخائفا يبحث من مأوى ومتسائلً يبحث عن‬
‫عقيدة ثم بعد ذلك َهرِما ينتظر الموت وهو يقرأ كتابا في عقائد عجائز‬
‫نيسابور!!‪ ,‬وهكذا‪ .‬فليس من ركب الطائرة بأفضل ممن ركب الحمار‬
‫من الناحية النسانية والرقي الفكري وقد أجرى ال على أيدي أهل‬
‫الحمير والخيل والبغال من المكاشفات الكونية والمعجزات ما لم يجره‬
‫على أيدي أهل زماننا وأولهم من رعايته وشرف العناية بذوات‬
‫شخوصهم ما لم ينله أصحاب هذا الزمان وذلك على مستوى عامة‬
‫الناس حتى قال لُبيّ بن كعب‪« :‬إن ال أمرني أن أقرأ عليك‬
‫سورة البينة»‪ ،‬فقال أُبيّ‪ :‬وسماني لك رب العزة؟!! قال‪« :‬نعم»‪،‬‬
‫فبكى أُبيّ! (‪.)95‬‬

‫وفي قصة لعلها لم تتكرر في تاريخ البشرية بمثل هذه العظمة اللهية‬
‫التجريدية الصريحة عندما كان رجل بسيط يركب حماره فمر على‬
‫قرية خاوية فذكر ال قصته فقال‪( :‬أو كالذي مر على قرية وهي‬
‫خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه ال بعد موتها فأماته ال مائة‬
‫عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت‬
‫مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك‬
‫ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما‬
‫فلما تبين له قال أعلم أن ال على كل شيء قدير)(‪ ،)96‬فهذا مقام‬
‫عظيم في زمان قديم ‪,‬و لو أنفق أهل الرض اليوم كل واحد ٍ منهم‬
‫مثل أحد ذهبا ليتمتعوا بممارسة ومشاهدة مثل هذا العلم اليقيني الذي‬
‫مر على صويحب القرية والحمار لما تمكنوا من ذلك! ولهذا قال‬
‫تعالى‪( :‬فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على‬
‫عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الرض فتكون‬
‫لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها ل تعمى البصار‬
‫‪ )(95‬متفق عليه ‪.‬‬
‫‪ )(96‬البقرة ‪.259 :‬‬
‫‪81‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬

‫ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(‪ .)97‬فالبئر محفورة والقصر‬


‫مشيد‪ ,‬قال عكـرمة‪ :‬مبني بالجص‪ ,‬ولكنها ظلمت فإذا هي خاوية‬
‫على عروشها‪ ,‬ما نفعتهم البئر المحفورة وما نفعهم القصر المشيد!‪.‬‬

‫‪ )(97‬الحج‪ 45 :‬ـــ ‪.46‬‬


‫‪82‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‬
‫‪‬‬
‫معرفة مقومات العالم وعناصره‬
‫الفاعلة‬
‫‪84‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫‪85‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫صفة آدم وحواء‬


‫‪ -1‬متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرج منها؟‬
‫ومتى مات؟‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪« :‬خير يوم‬
‫طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه‬
‫أخرج منها» رواه مسلم‪ .‬وزاد ابن حبان بسند صحيح على شرط‬
‫الشيخين‪« :‬وفيه مات وفيه تيب عليه»‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬أخذ رسول ال بيدي‬
‫فقال‪« :‬خلق ال عز وجل آدم عليه السلم بعد العصر من يوم‬
‫الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين‬
‫العصر إلى الليل» رواه مسلم‪.‬‬
‫فصل‪ :‬فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬أهمية يوم الجمعة في تاريخ بني آدم وأصل نشأتهم‪.‬‬
‫‪-2‬إثبات أن آدم أدخل جنة الخلد وليس كما يقول الفلسفة جنة في‬
‫الرض‪.‬‬
‫‪-3‬إثبات موت آدم عليه السلم‪.‬‬
‫‪ -2‬من أي مادة خلق ال آدم عليه السلم؟‬
‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم‬
‫من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير‬
‫‪86‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫مخلقة لنبين لكم ونقر في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم‬
‫نخرجكم طفل ‪ ..‬الية) (‪. )98‬‬
‫‪ )2‬قال تعالى‪( :‬إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون) (‪.)99‬‬
‫‪ )3‬قال تعالى‪( :‬فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من‬
‫طين لزب) (‪.)100‬‬
‫‪ )4‬عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪:‬‬
‫«إن ال خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الرض‪ ،‬فجاء بنو‬
‫آدم على قدر الرض‪ ،‬جاء منهم الحمر والبيض والسود وبين‬
‫ذلك‪ ،‬والسهل والحزن والخبيث والطيب»‪ .‬رواه أحمد وغيره بسند‬
‫صحيح‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪ -1‬ان مادة خلق النسان لها تأثير في صفاته‪ ،‬فالطيب من الرض‬
‫الطيبة‪ ،‬والخبيث من الرض الخبيثة‪ ،‬وكما قال عن النساء‪:‬‬
‫«إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وأعوج ما في الضلع أعله‬
‫فإن ذهبت تقومه كسرته»‪ .‬فهيئة الضلع وموقع العوج منه كان‬
‫له تأثير في هيئة المرأة وموضع الميل فيها وهو أعلها أي‬
‫لسانها‪ ،‬وقد أخبر سبحانه انه خلق آدم من تراب‪ ،‬وأخبر انه‬
‫خلقه من سللة من طين‪ ،‬وأخبر انه خلقه من صلصال من حمأ‬
‫مسنون‪ ،‬فقد وردت النصوص بكل هذا‪ ،‬والصلصال قيل فيه هو‪:‬‬
‫الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو فخار‪.‬‬
‫وقيل هو‪ :‬المتغيّر الرائحة من قولهم صل إذا انتن‪ .‬أما الحمأ‬
‫فالطين السود المتغيّر‪ ،‬والمسنون فسّر بأنه من سننت الماء إذا‬
‫صببته أي المصبوب‪ ،‬وقيل المنتن المسن من قولهم‪ :‬سننت‬
‫الحجر على الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين‪،‬‬
‫‪ )(98‬الحج‪. 5 :‬‬
‫‪ )(99‬الحجر‪. 28 :‬‬
‫‪ )(100‬الصافات‪. 11 :‬‬
‫‪87‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫ول يكون إل منتنا وهذه كلها أطوار التراب الذي هو مبدأ الخلق‬
‫الول‪.‬‬
‫‪ -2‬قال ابن القيم في شفاء العليل‪ :‬إن المادة الرضية اقتضت‬
‫حصول التفاوت في النوع النساني كما في المسند والترمذي‬
‫عنه أن ال خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الرض فكان‬
‫منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك فاقتضت مادة‬
‫النوع النساني تفاوتهم في أخلقهم وإراداتهم وأعمالهم‪ ،‬ثم‬
‫اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة‬
‫بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها‪ ،‬وابتله بعدوه الذي‬
‫ل يألوه خبالً ول يغفل عنه‪ ،‬ثم ابتله مع ذلك بزينة الدنيا‬
‫وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه وحاجته‪ ،‬وزيّن له‬
‫حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب‬
‫والفضة والخيل المسوّمة والنعام والحرث‪ ،‬وأمره بترك قضاء‬
‫أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى‬
‫دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها‪.‬‬
‫وكان مقتضى الطبيعة النسانية أن ل يثبت على هذا البتلء‬
‫أحد‪ ،‬وأن يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة‪،‬‬
‫فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم؛ بل أرسل إليهم رسله‪،‬‬
‫وأنزل عليهم كتبه‪ ،‬وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه‪ ،‬ووعدهم‬
‫على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم‪ ،‬فلم تقو‬
‫عقول الكثرين على إيثار الجل المنتظر بعد زوال الدنيا على‬
‫هذا العاجل الحاضر المشاهد‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف يباع نقد حاضر وهو‬
‫قبض باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا‬
‫وخراب العالم؟! ولسان حال أكثرهم يقول‪ :‬خذ ما تراه ودع شيئا‬
‫سمعت به‪ .‬فساعد التوفيق اللهي من علم أنه يصلح لمواقع‬
‫فضله‪ ،‬فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوئها حقيقة الخرة‬
‫ودوامها وما أعد ال فيها لهل طاعته وأهل معصيته‪ ،‬ورأى‬
‫حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم شركائها‪ ،‬وأنها‬
‫كما وصفها ال سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في‬
‫‪88‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الموال والولد‪ ،‬وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه‬


‫مصفرا ثم يكون حطاما‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪ -3‬ان أصل ألوان البشر ثلثة نقية‪ :‬أحمر وأبيض وأسود وما عدى‬
‫ذلك فبين ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬ان النسان مركب من ثلثة أشياء هي التي تميزه‪ :‬لونه وهيئة‬
‫شكله وحقيقة ذاته ولكل شيء من هذه الشياء أصل وتأثير‪.‬‬
‫‪ -3‬من أي شيء خلقت حواء؟‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪:‬‬
‫«استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع‪ ،‬وإن أعوج شيء‬
‫في الضلع أعله‪ ،‬فإن ذهبت تقيمه كسرته‪ ،‬وإن تركته لم يزل‬
‫أعوج‪ ،‬فاستوصوا بالنساء» رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )2‬عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪« :‬خلق الرجل من الرض‬
‫فجعلت نهمته الرض وخلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في‬
‫الرجل فاحبسوا نساءكم‪ ,‬أي عن الرجال»‪ .‬رواه ابن أبي حاتم في‬
‫تفسيره وقال أحمد شاكر‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬ان حواء خلقت من ضلع حي فهي حياة خلقت من حياة‪ ،‬أما آدم‬
‫فخلق من تراب ل حياة فيه‪ ،‬ثم كان نسلهما من سللة من ماء‬
‫مهين‪ ،‬ولهذا تأثير في طبيعة الرجل والمرأة كما روى ابن ماجه‬
‫عن الشافعي بسند حسن لول أن فيه رجل مستور أنه قال في‬
‫سبب الغسل من بول الجارية والرش من بول الغلم‪ :‬لن بول‬
‫الغلم من الماء والطين‪ ،‬وبول الجارية من اللحم والدم‪ .‬ثم قال‬
‫للذي سأله عن السبب‪ :‬فهمت؟ قال له‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬إن ال تعالى لما‬
‫خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير‪ ,‬فصار بول الغلم من‬
‫الماء والطين وصار بول الجارية من اللحم والدم‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -2‬قال الحافظ في الفتح‪ :‬أعوج شيء في الضلع أعله‪ ،‬قيل فيه‬


‫إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها‪ ،‬وفي استعمال أعوج‬
‫استعمال لفعل في العيوب وهو شاذ‪ .‬وفائدة هذه المقدمة أن‬
‫المرأة خلقت من ضلع أعوج‪ ،‬فل ينكر اعوجاجها أو الشارة إلى‬
‫أنها ل تقبل التقويم كما أن الضلع ل يقبله قوله‪« :‬فإن ذهبت تقيمه‬
‫كسرته» قيل هو ضرب مثل للطلق أي أن أردت منها أن تترك‬
‫اعوجاجها أفضى المر إلى فراقها ويؤيده قوله في رواية العرج‬
‫عن أبي هريرة عند مسلم‪« :‬وأن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها‬
‫طلقها»‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪ -4‬كيف كانت هيئة آدم التي خلقه ال عليها؟‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ :‬عن النبي قال‪« :‬خلق ال آدم‬
‫وطوله ستون ذراعا‪ ،‬ثم قال‪ :‬اذهب فسلّم على أولئك من الملئكة‬
‫فاستمع ما يحيونك تحيتك وتحية ذريتك‪ ،‬فقال‪ :‬السلم عليكم‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬السلم عليك ورحمة ال‪ .‬فزادوه ورحمة ال‪ ،‬فكل من‬
‫يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الن)‪.‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬ان آدم خلق على صورته التي هي لذريته الن ولكن كان طوله‬
‫ستون ذراعا‪ ،‬وهذا الفهم خلف فهم الملحدة الدهريين ممن يرون‬
‫أن النسان تطوّر عن كائن آخر يقولون بأنه القرد كما في نظرية‬
‫داروين " النشوء والرتقاء " التي كان الجدر به أن يسميها "‬
‫نظرية النكوص والرتكاس! "‪.‬‬
‫‪- 2‬ان آدم تكلم مع ال وثبت ذلك مرفوعا عند ابن حبان في‬
‫صحيحه بسند صحيح‪ :‬أن رجلً قال‪ :‬يا رسول ال أنبي كان‬
‫آدم؟ قال‪« :‬نعم‪ ,‬مكلّم» قال‪ :‬فكم كان بينه وبين نوح؟ قال‪:‬‬
‫«عشرة قرون»‪.‬‬
‫‪90‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪- 3‬روى الطبراني وحسنه المنذري واللباني‪ :‬أن رسول ال قال‪:‬‬


‫«ما من أحد يموت سقطا ول هرما إنما الناس فيما بين ذلك إل‬
‫بعث ابن ثلثين سنة‪ ،‬فمن كان من أهل الجنة كان على مسحة‬
‫آدم وصورة يوسف وقلب أيوب‪ ،‬ومن كان من أهل النار عظموا‬
‫وفخموا كالجبال»‪ .‬وعند الترمذي وقال حسن غريب من حديث‬
‫معاذ بن جبل رضي ال عنه‪ :‬أن النبي قال‪« :‬يدخل أهل‬
‫الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلثين أو ثلث وثلثين‬
‫سنة»‪.‬‬
‫‪ -5‬أول خلق آدم عليه السلم ورؤيته لذريته‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪« :‬لما خلق‬
‫ال آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال‪ :‬الحمد ل فحمد ال بإذن ال‬
‫فقال له ربه‪ :‬يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى أولئك الملئكة إلى‬
‫مل منهم جلوس فسلم عليهم فقال‪ :‬السلم عليكم‪ .‬فقالوا‪ :‬وعليكم‬
‫السلم ورحمة ال‪ .‬ثم رجع إلى ربه فقال‪ :‬هذه تحيتك وتحية بنيك‬
‫بينهم‪ .‬وقال ال جل وعل ويداه مقبوضتان ــ‪ :‬اختر أيهما‬
‫شئت فقال‪ :‬اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة‪ ،‬ثم‬
‫بسطهما فإذا فيهما آدم وذريته‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب ما هؤلء؟ فقال‪:‬‬
‫هؤلء ذريتك فإذا كل إنسان منهم مكتوب عمره بين عينيه فإذا‬
‫فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم لم يكتب له إل أربعين‬
‫سنة قال‪ :‬يا رب ما هذا؟ قال‪ :‬هذا ابنك داود وقد كتب ال عمره‬
‫أربعين سنة‪ .‬قال‪ :‬أي رب زده في عمره‪ .‬قال‪ :‬ذاك الذي كتبت‬
‫له‪ .‬قال‪ :‬فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة‪ .‬قال‪ :‬أنت وذاك‬
‫اسكن الجنة‪ ،‬فسكن الجنة ما شاء ال‪ ،‬ثم أهبط منها‪ ،‬وكان آدم يعد‬
‫لنفسه‪ ،‬فأتاه ملك الموت فقال له آدم‪ :‬قد عجلت قد كتب لي ألف‬
‫سنة قال‪ :‬بلى؛ ولكنك جعلت لبنك داود منها ستين سنة‪ ،‬فجحد‪،‬‬
‫فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي‪ ،‬فنسيت ذريته‪ ،‬فيومئذ أمر بالكتاب‬
‫والشهود»‪ .‬رواه ابن حبان في صحيحه‪ ،‬والترمذي وقال حسن‬
‫غريب‪ ،‬وصححه اللباني‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬ان آدم عليه السلم خلقه ال بمفرده ولم تكن معه حواء‪.‬‬
‫‪ -2‬ان آدم كان يعلم قبل دخول الجنة أنه سيكون له ذرية‪.‬‬
‫‪ -3‬ان آدم عليه السلم عاش ألف سنة‪.‬‬
‫‪ -4‬إثبات توريث الصفات المعنوية في قوله‪ :‬فجحد فجحدت ذريته‪،‬‬
‫ونسي فنسيت ذريته‪.‬‬
‫‪ -6‬إن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه‬
‫‪ )1‬عن أنس رضي ال عنه‪ :‬أن رسول ال قال‪« :‬لما صور ال‬
‫آدم في الجنة تركه ما شاء ال أن يتركه‪ ،‬فجعل إبليس يطيف به‬
‫ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا ل يتمالك»‪.‬‬
‫رواه مسلم‪ .‬وزاد أحمد في " الزهد " بسند صحيح‪« :‬ظفرت به‪,‬‬
‫خلق ل يتمالك»‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪ -1‬ان ال عز وجل خلق آدم في الجنة فكان فيها قبل أن تنفخ فيه‬
‫الروح؛ ولكن عند نفخ الروح فيه كان بين يدي ربه خارج الجنة‬
‫كما في الحاديث السابقة حيث ذكر نفخ الروح فيه ثم قال له‬
‫ربه‪ :‬اسكن الجنة‪.‬‬
‫‪ -2‬ان إبليس كان في الجنة عند خلق آدم‪ ،‬وأنه كائن حي يفكر وله‬
‫اجتهاد ومعرفة‪.‬‬
‫‪- 3‬ان لبليس سابق عهد بالغواء قبل آدم؛ لنه يعلم أن من كان‬
‫أجوف ل يتمالك ومن ليس كذلك يتمالك مع أن إبليس نفسه‬
‫أجوف؛ لنه يبول ويضرط ويأكل ويشرب‪.‬‬
‫‪ -4‬التنبيه على أن سر ضعف النسان هو كونه أجوف‪.‬‬
‫‪92‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫صفة الشيطان‬
‫‪ -1‬إثبات أن إبليس هو أبو الجن‪ ،‬وأن لبليس ذرية وانهم‬
‫يموتون‪ ،‬وأنهم أمة عظيمة العدد‪ ،‬وأن منهم الشياطين‬
‫وأن يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس؛ وإنما هم‬
‫من ذرية آدم عليه السلم‪:‬‬
‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا إل إبليس كان‬
‫من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني‬
‫وهم لكم عدو بئس للظالمين بدل) (‪.)101‬‬
‫‪ )2‬قال تعالى‪( :‬يا بني آدم ل يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من‬
‫الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله‬
‫من حيث ل ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين ل يؤمنون)‬
‫(‪.)102‬‬
‫(أولياء) في الية الثانية فسرتها الية الولى بأنهم إبليس‬
‫وذريته ‪,‬و هم الشياطين‪.‬‬
‫‪ )2‬عن عمران بن حصين رضي ال عنه قال‪ :‬كنا مع النبي في‬
‫سفر‪ ،‬فتفاوت بين أصحابه في السير‪ ،‬فرفع رسول ال صوته‬
‫بهاتين اليتين (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء‬
‫عظيم) إلى قوله (عذاب ال شديد) فلما سمع ذلك أصحابه حثوا‬
‫المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله فقال‪« :‬هل تدرون أي يوم‬
‫ذلك؟» قالوا‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ .‬قال‪« :‬ذاك يوم ينادي ال فيه آدم‬
‫فيناديه ربه فيقول يا آدم ابعث بعث النار فيقول يا رب؟ وما بعث‬

‫‪ )(101‬الكهف ‪.50 :‬‬


‫‪ )(102‬العراف ‪.27 :‬‬
‫‪93‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد‬


‫في الجنة»‪ .‬فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة؛ فلما رأى رسول‬
‫ال الذي بأصحابه قال‪« :‬اعملوا وأبشروا فو الذي نفس محمد‬
‫بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إل كثرتاه يأجوج ومأجوج‬
‫ومن مات من بني آدم وبني إبليس»‪ .‬قال فسري عن القوم بعض‬
‫الذي يجدون فقال‪« :‬اعملوا وأبشروا فو الذي نفس محمد بيده ما‬
‫أنتم في الناس إل كالشامة في جنب البعير‪ ،‬أو كالرقعة في ذراع‬
‫الدابة»‪ .‬رواه احمد والترمذي وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وصححه‬
‫اللباني‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫قوله ‪« :‬إنكم لمع خليقتين» الخطاب لمة محمد (يأجوج‬
‫ومأجوج) وهم خليقة خلقوا قبل بعثته وهم من ذرية آدم ويموتون‬
‫آخر الزمان لما روى البخاري‪« :‬يقول ال عز وجل يوم القيامة‪ :‬يا‬
‫آدم‪ ،‬يقول لبيك ربنا وسعديك‪ ،‬فينادى بصوت إن ال يأمرك أن تخرج‬
‫من ذريتك بعثا إلى النار‪ ،‬قال‪ :‬يارب وما بعث النار؟ قال من كل‬
‫ألف تسعمائة وتسعة وتسعين‪ ،‬فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب‬
‫الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب ال شديد‪,‬‬
‫فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم‪ .‬فقال النبي ‪« :‬من‬
‫يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد» فيأجوج‬
‫ومأجوج من ذرية آدم؛ لن بعث النار كله من ذرية آدم كما نص‬
‫ربنا تبارك وتعالى في الحديث؛ ولكنهم ل يموتون إل في آخر الزمان‬
‫فلم يكونوا من أمة محمد لنهم خلقوا قبل بعثته وخوطبوا بالسلم‬
‫قبله كما أن عيسى عليه السلم ليس من أمته عليه الصلة والسلم‬
‫كما روى جابر في صحيح مسلم‪« :‬فينزل عيسى ابن مريم فيقول‬
‫أميرهم‪ :‬تعال صل لنا‪ .‬فيقول‪ :‬ل‪ ،‬إن بعضكم على بعض أمراء‬
‫تكرمة ال هذه المة» فمع أن عيسى ينزل على ملة وشريعة محمد‬
‫ويموت ويدفن عليها فهو ليس منها؛ لنه وجد قبل وجود النبي‬
‫وخوطب بالسلم قبله‪ ،‬فكذلك يأجوج ومأجوج من باب أولى‪ ،‬ثم ذكر‬
‫الخليقة الثانية التي هي ليست من أمة محمد فقال‪« :‬و من مات من‬
‫بني آدم وبني إبليس» أي قبل بعثته ومعلوم أن ال تعالى يقول‪:‬‬
‫‪94‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫(سنفرغ لكم أيها الثقلن) ويقصد بهما النس والجن فعلم حينها أن‬
‫من مات من هذه الخليقة الثانية وكان مخاطبا بالتكليف والحسنة‬
‫والسيئة إنما هم البشر والجن فعلم من ذلك أن قوله ‪« :‬و بني‬
‫إبليس» يقصد به الجن كافة فكان هذا نصا صريحا على أن إبليس هو‬
‫أبو الجن ولم أجد على حد علمي من أهل التفسير ول غيرهم‬
‫من استشهد بهذا الحديث على أن إبليس هو أبو الجن؛ وإنما عامة من‬
‫تكلم في ذلك استشهد بأقوال الحسن البصري وبعض التابعين مع أن‬
‫هذا نص في المسألة وملخصها أن النبي صنف المكلفين إلى ثلثة‬
‫أصناف‪ :‬صنف خلقه ال قبل بعثة النبي ثم أن هذا الخلق يموت‬
‫بعد موته عليه الصلة والسلم فهم ليسوا من " أمة الدعوة "‪ ،‬وهم‬
‫يأجوج ومأجوج وعيسى عليه السلم‪ ،‬وخلق خلقوا وماتوا قبل بعثته‬
‫فهم أيضا ليسوا من أمته‪ ،‬وهم من مات من بني آدم وبني إبليس‪،‬‬
‫وخلق خلقوا بعد بعثته فكلهم داخل في " أمة الدعوة "‪ ,‬وال اعلم‪.‬‬
‫‪ -2‬إثبات أن الجن أصناف ثلثة‬
‫‪ )1‬عن أبي ثعلبة الخشني رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪:‬‬
‫«الجن ثلثة أصناف‪ :‬صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء‪،‬‬
‫وصنف حيات وكلب‪ ،‬وصنف يحلّون ويظعنون»‪ .‬رواه ابن‬
‫حبان في صحيحه‪ ،‬والحاكم وقال‪ :‬هذا حديث صحيح السناد‪،‬‬
‫وصححه الذهبي واللباني‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫هذا التصنيف الذي ذكره النبي تصنيف حاصر ل يخرج عنه شيء‬
‫من أفراد الجن‪ ،‬والجن في حقيقة أمرهم ينقسمون من حيث وجودهم‬
‫وتأثيرهم إلى ثلثة أقسام‪ :‬قسم يقارن البشر ليغويهم‪ ،‬فكل مولود يولد‬
‫يقارنه قرين من الجن كما قال ‪« :‬ما منكم من أحد إل وقد وكّل به‬
‫قرينه من الجن» وقوله‪« :‬وكّل» مبني للمجهول والفاعل حقيقة هو‬
‫إبليس حيث يوكّل بكل مولود قرين من الشياطين إما بشكل مباشر أو‬
‫عن طريق جنوده وسراياه التي يبثها في الرض حيث قال في‬
‫الصحيح‪« :‬إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس»‬
‫‪95‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫وأما القرين فهو الذي يمس الطفل عند ولدته فيستهل صارخا حيث‬
‫قال كما في الصحيح‪« :‬ما من مولود يولد إل والشيطان يمسه حين‬
‫يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إل مريم وابنها»‪ ،‬فهذا‬
‫صنف من أصناف الشياطين‪ ،‬وهؤلء القرناء ل يتصورون ول‬
‫يظهرون للبشر أبدا وإنما هم كما وصفهم رسول ال يجرون من‬
‫ابن آدم مجرى الدم‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬هو صنف من الجن يعيش مع البشر كما تعيش‬
‫دواجن الحيوانات‪ ،‬ومنهم المؤمن ومنهم الكافر‪ ،‬وهذا الصنف يعيش‬
‫مع الناس يوسوس لهم ويشاركهم في أرزاقهم‪ ،‬ويسكنون أسقف‬
‫البيوت والخرب والحشوش ويتشكّلون في صور حيات وكلب وبشر‬
‫وهم في أصل خلقهم منهم من يطير ومنهم من ل يطير؛ لنه ثبت‬
‫تصور الشياطين في صور كائنات تطير وكائنات ل تطير كما في‬
‫حديث أبي هريرة رضي ال عنه في الذي يسرق من الزكاة‪ ،‬وحديث‬
‫أُبيّ بن كعب رضي ال عنه‪ ،‬وحديث ابن مسعود رضي ال عنه في‬
‫خبر الجني الذي كان على هيئة طائر أبيض وغير ذلك‪ .‬وقد ثبت عن‬
‫النبي أنه قال كما في الصحيحين في حال رؤية الحيات‪« :‬إن‬
‫بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا أي على صورة حية‬
‫فآذنوه ثلثة أيام‪ ،‬فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه‪ ،‬فإنما هو شيطان»‪،‬‬
‫فهذا يدل على أن الصنف الذي يتشكّل ويتصوّر قد يكون منه مؤمن‬
‫وكافر‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬وهم الذين يحلّون ويظعنون أي أن لهم مجتمعات‬
‫وحياة مستقلة بعيدا عن البشر ول يطيرون كجن نصيبين الذين جاءوا‬
‫إلى النبي فقال ابن مسعود‪« :‬فانطلق بنا أي رسول ال فأرانا‬
‫آثارهم وآثار نيرانهم‪ ،‬وسألوه الزاد فقال‪ :‬لكم كل عظم ذكر اسم ال‬
‫عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما‪ ،‬وكل بعرة علف لدوابكم»‪،‬‬
‫فل تكون لهم آثار ونيران ودواب إل وهم يمشون ول يطيرون‪ ،‬وهذا‬
‫الصنف أيضا هو الذي ذكره ذلك الجني كما في حديث عمر عندما‬
‫قال بأنه في الجاهلية مع بداية بعثة النبي سمع صارخ الجن ينادي‬
‫عند الكعبة كما عند البخاري‪« :‬ألم تر الجن وإبلسها ولحوقها‬
‫بالقلص وأحلسها»‪ ،‬والقلوص هي‪ :‬الراحلة‪ ،‬والحلس هو‪ :‬ما يضعه‬
‫‪96‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الراكب تحته‪ ،‬وقد كانت الجن تشد الرحال إلى مكة لتعلم خبر هذا‬
‫النبي الجديد‪ ،‬فهذا هو الصنف الذي يحلّ ويظعن‪ ،‬وهم أيضا قد يكون‬
‫منهم مؤمن وكافر كما جاءت بذلك النصوص‪ .‬وال اعلم‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من الشياطين‬
‫مقلدة في عقيدتهم‪:‬‬
‫‪ )1‬عن ابن عباس قوله (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا‬
‫طرائق قددا) يقول‪ :‬أهواء شتى منا المسلم ومنا المشرك (‪.)103‬‬
‫‪ )2‬قال ابن جرير الطبري‪ :‬قوله تعالى (وأنا ظننا أن لن تقول‬
‫النس والجن على ال كذبا) يقول‪ :‬قالوا‪ :‬وأنا حسبنا أن لن تقول‬
‫بنو آدم والجن على ال كذبا من القول والظن هاهنا بمعنى‬
‫الشك ــ‪ ،‬وإنما أنكر هؤلء النفر من الجن أن تكون علمت أن‬
‫أحدا يجترئ على الكذب على ال لما سمعت القرآن؛ لنهم قبل أن‬
‫يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب ال الزاعمين أن ل صاحبة وولدا‬
‫وغير ذلك من معاني الكفر كانوا يحسبون أن إبليس صادق فيما‬
‫يدعو بني آدم إليه من صنوف الكفر فلما سمعوا القرآن أيقنوا أنه‬
‫كان كاذبا في كل ذلك‪ ،‬فلذلك قالوا (وأنه كان يقول سفيهنا على‬
‫ال شططا) فسموه سفيها (‪.)104‬‬
‫‪-3‬قال تعالى‪( :‬وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما‬
‫حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا‬
‫يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه‬
‫يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي ال‬
‫وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن ل‬
‫يجب داعي ال فليس بمعجز في الرض وليس له من دونه أولياء‬
‫أولئك في ضلل مبين) (‪.)105‬‬
‫‪ )(103‬تفسير الطبري ‪.‬‬
‫‪ )(104‬تفسير الطبري ‪.‬‬
‫‪. 32‬‬ ‫‪)(105‬الحقاف ‪29 :‬‬
‫‪97‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬قال العلماء بأن الجن تبع للنس في باب الرسالة‪ ،‬فالنبياء من‬
‫البشر‪ ،‬وليس من الجن رسل ول أنبياء‪ ،‬وهذا هو المستقر‪ ،‬وفي‬
‫الية الولى دليل على أن الجن يتأثرون بمقالت النس‬
‫وبسوادهم العظم‪ ،‬وأن قول الجمهور عندنا قول معتبر معمول‬
‫به عندهم‪ ،‬فهم ظنوا بال عز وجل ظن السوء؛ لنهم لم يكن في‬
‫خلد أحد منهم أن النس والجن يتمالئون على الكفر والكذب على‬
‫ال عز وجل‪.‬‬
‫‪ -2‬في الية الثانية (وأنه كان يقول سفيهنا على ال شططا) دليل‬
‫على أن إبليس ليس بذاك المعظّم في عالم الجن‪ ،‬ول بذاك المام‬
‫المخوف‪ ،‬فهم يصفونه بأنه " سفيههم "‪ ،‬ويعلنون مخالفته‬
‫ودخولهم دين السلم‪ ،‬وجرأة الجن هنا أقوى وأصدق من ردة‬
‫فعل الطائفة اليزيدية الكافرة التي تعبد الشيطان بحجة أنهم يتقون‬
‫شره‪ ،‬ويقولون هو رئيس الملئكة!‪.‬‬
‫‪ -4‬أن إبليس كائن حي موجود على الحقيقة وأنه مخلوق‬
‫من نار‪:‬‬
‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬إنه يراكم هو وقبيله من حيث ل ترونهم إنا جعلنا‬
‫الشياطين أولياء للذين ل يؤمنون) (‪.)106‬‬
‫‪ )2‬قال تعالى‪( :‬والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (‪.)107‬‬
‫‪ )3‬قال تعالى‪( :‬وخلق الجان من مارج من نار) (‪.)108‬‬

‫‪ )(106‬العراف ‪. 27 :‬‬
‫‪ )(107‬الحجر ‪. 27 :‬‬
‫‪ )(108‬الرحمن ‪. 15 :‬‬
‫‪98‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ )4‬عن عائشة رضي ال عنها قالت‪ :‬قال رسول ال ‪« :‬خلقت‬


‫الملئكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما‬
‫وصف لكم»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫و المارج‪ :‬طرف النار ولسانها من أعلى‪ ،‬ويقال " أمر مريج " أي‬
‫مضطرب من اضطراب مارج النار أي طرف لهبها‪ ،‬ولهذا فطبع‬
‫الجان الضطراب وسرعة التردد وعدم السكون‪.‬‬
‫فكل من ل يؤمن بال ورسله وما جاء عنهم في شأن خلق ال لدم‬
‫والشيطان وعداوته الولى لدم وذريته وحقيقة أمره فهو غير مدرك‬
‫لحقيقة وجود الشيطان وحقيقة علقته معه في هذه الحياة الدنيا فيكون‬
‫وليا له لنه ل يعلم بأن كل ما هو فيه من شر إنما هو بإملء‬
‫الشيطان ووسوسته وتزيينه فيكون له مطيعا من حيث ل يعلم ول‬
‫يشعر‪ ,‬قال تعالى‪( :‬أل إنهم هم السفهاء ولكن ل يعلمون)‪.‬‬
‫‪ -5‬إثبات صفة الجسم للشيطان وأن الحمار والكلب يريانه‬
‫عيانا‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي قال‪« :‬إذا سمعتم‬
‫صياح الديكة فاسألوا ال من فضله فإنها رأت ملكا‪ ،‬وإذا سمعتم‬
‫نهيق الحمار فتعوذوا بال من الشيطان فإنه رأى شيطانا»‪ .‬متفق‬
‫عليه‪.‬‬
‫‪ )2‬عن جابر بن عبد ال رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪« :‬إذا‬
‫سمعتم نباح الكلب ونهاق الحمير من الليل فتعوذوا بال فإنها‬
‫ترى ما ل ترون»‪ .‬رواه أحمد وابن حبان في صحيحه‪ ،‬وقال‬
‫اللباني‪ :‬إسناده جيد رجاله ثقات رجال الشيخين‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬إثبات صفة الجسم للشيطان بهذه الحاديث دون غيرها متعلق بأن‬
‫الشيطان في حالته العادية الصلية ل يرى‪ ،‬فإن أردت إثبات‬
‫‪99‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫صفة الجسم له لم يمكنك ذلك إل في حال كون الشيطان في‬


‫حالته العادية الصلية فلم يكن ذلك إل برؤية الحمار والكلب‪،‬‬
‫ولو أردت إثبات صفة الجسم بأحاديث ذكر فيها أن الشيطان‬
‫تصور للنسان فرآه لما كان هذا مثبتا لصفة الجسم له؛ لنه‬
‫خرج للعيان بجسم غير جسمه‪ ،‬وقد قال الحافظ في الفتح‪ :‬وروى‬
‫البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع سمعت الشافعي‬
‫يقول‪ :‬من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إل أن يكون نبيا‪.‬‬
‫انتهى‪ ,‬وهذا محمول على من يدّعي رؤيتهم على صورهم التي‬
‫خلقوا عليها‪ ،‬وأما من ادّعى أنه يرى شيئا منهم بعد أن يتطور‬
‫على صور شتى من الحيوان فل يقدح فيه‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫‪- 2‬إثبات أن في هذا الواقع صور تمر من حولنا ونحن ل نراها‪،‬‬
‫وأن فهمنا لهذه الحياة ناقص إذا كنا نتصوره بل عقيدة‪ ،‬فباليمان‬
‫بالغيب فقط تكتمل صورة الواقع‪ ،‬ونرى بقلوبنا ما ل نراه‬
‫بأعيننا‪.‬‬
‫‪ -6‬ذكر ما جاء في حجم الشيطان في حال كونه على‬
‫صورته الصلية‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه أن رسول ال قام‬
‫فصلى صلة الصبح وهو خلفه‪ ،‬فقرأ فالتبست عليه القراءة‪ ،‬فلما‬
‫فرغ من صلته قال‪« :‬لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما‬
‫زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين البهام والتي‬
‫تليها‪ ،‬ولول دعوة أخي سليمان لصبح مربوطا بسارية من‬
‫سواري المسجد يتلعب به صبيان المدينة»‪ .‬رواه أحمد بسند‬
‫حسن وأصله في الصحيحين‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أنس بن مالك أن النبي قال‪« :‬راصوا صفوفكم‪ ،‬وقاربوا‬
‫بينها‪ ،‬وحاذوا بالعناق‪ ،‬فوالذي نفس محمد بيده إني لرى‬
‫الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف»‪ .‬رواه أحمد وغيره‬
‫بسند صحيح على شرط مسلم‪.‬‬
‫الحذف‪ :‬صغار الضأن‪ ،‬وقيل طائر بحجم طائر البط‪.‬‬
‫‪100‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫تكثر الخرافات حول حجم الشيطان في أصل هيئته العادية فيقال أنه‬
‫أكبر من كذا وكذا ويقال أصغر من كذا وكذا‪ ،‬والصحيح أن الحاديث‬
‫أشارت إلى حجمه كما في قوله‪« :‬يتلعب به صبيان المدينة» فلن‬
‫يتلعبوا به إل وهو صغير الحجم‪ ،‬وكذلك قوله‪« :‬كأنها الحذف»‬
‫والحذف صغار الضان وهو ليس كبير الحجم‪ ,‬وقيل الحذف طائر‬
‫بحجم البط‪ .‬كذلك قوله‪« :‬فأهويت بيدي فمازلت أخنقه» دليل على‬
‫صغر حجمه؛ لن الهوي هو النزول إلى أسفل‪ ،‬وقد أهوى بيديه‬
‫ومكانهما في الصلة كان على صدره‪ ،‬فدل ذلك على صغر حجم‬
‫الشيطان‪ ،‬وأن عنقه كان تحت مستوى صدر وبطن النبي ‪.‬‬
‫‪ -7‬ذكر ما جاء في أن حجم الشيطان يتغير‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي المليح عن أبيه رضي ال عنه قال كنت رديف النبي‬
‫فعثر بعيرنا فقلت‪ :‬تعس الشيطان فقال لي النبي ‪« :‬ل تقل تعس‬
‫الشيطان‪ ،‬فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت وفي رواية‪ :‬مثل‬
‫الجبل ــ‪ ،‬ويقول‪ :‬بقوتي صرعته؛ ولكن قل‪ :‬بسم ال‪ ،‬فإنه‬
‫يصغر حتى يصير مثل الذباب»‪ .‬رواه أحمد وابو داود والنسائي‬
‫وهو حديث صحيح‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫يرد وصف الشيطان في آثار كثيرة بشكل مختلف من أثر إلى أثر‬
‫فيظن في ذلك التعارض كما في حديث أن الشيطان يأكل بشماله‬
‫ويشرب بشماله‪ ،‬وأن الشمس تخرج بين قرني شيطان‪ ،‬وأن الشيطان‬
‫ينام على خياشيم النسان إذا نام‪ ،‬فهذه الشياء ل تكون من كائن حي‬
‫له هيئة ثابتة‪ ،‬فكيف تخرج الشمس بين قرنيه ثم ينام على الخياشيم‬
‫الصغيرة في أنف الدمي؟‪ .‬هذه الشكالت كلها تزول إذا علمت أن‬
‫حجم الشيطان يتغيّر فيكون كالجبل‪ ،‬وقد يتصاغر حتى يكون‬
‫كالذبابة‪ ،‬وكذلك الحال في كل مشكل متعلق بحجم الشيطان‪.‬‬
‫‪101‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -8‬إثبات أن للشياطين أسماء‬


‫‪ )1‬عن عثمان بن أبي العاص رضي ال عنه أنه أتى النبي فقال‪:‬‬
‫يا رسول ال‪ ،‬إن الشيطان قد حال بيني وبين صلتي وقراءتي‬
‫يلبسها علي !! فقال رسول ال ‪« :‬ذاك شيطان يقال له‪ :‬خنزب‪،‬‬
‫فإذا أحسسته فتعوذ بال منه‪ ،‬واتفل على يسارك ثلثا»‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ففعلت ذلك‪ ،‬فأذهبه ال عني‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬أن للجن مجتمعات وتعاملت فيما بينها فل يكون هناك اسم إل‬
‫وهناك منادٍ يناديه ويتعامل معه‪ ،‬وقيل بأن خنزب لقبه ومعناه‪:‬‬
‫قطعة اللحم النتنة‪.‬‬
‫‪-2‬أن البصاق على الشياء أو على أحد من الناس إنما هو إهانة؛‬
‫لنه تشبيه للمبصوق عليه بالشيطان وإل فالبصاق في حد ذاته‬
‫طاهر كما أنه ثبت في السنة النفث على المريض في القراءة؛‬
‫ولكن اليوم أصبح البصاق على الشياء إهانة مستقلة بغض‬
‫النظر عن كونه تشبيها للمبصوق عليه بالشيطان‪ ،‬وهذا من فساد‬
‫العراف؛ حتى أن بعض الفساق يلقبون أنفسهم بألقاب الشيطان‪،‬‬
‫فإذا بصقت عليه غضب مع أنه ل يجد في وصفة بالشيطان‬
‫إهانة له!‪.‬‬
‫‪ -9‬إثبات صفة الكلم للشيطان وأنه قد يخاطب البشر‬
‫‪ )1‬عن عائشة رضي ال عنها قالت‪ :‬لما كان يوم أحد هزم‬
‫المشركون‪ ،‬فصاح إبليس أي عباد ال أخراكم‪ ،‬فرجعت أولهم‬
‫فاجتلدت هي وأخراهم‪ ،‬فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أي عباد ال أبي أبي‪ .‬فوال ما احتجزوا حتى قتلوه‪ ،‬فقال حذيفة‪:‬‬
‫غفر ال لكم‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )2‬عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما قال‪ :‬ما سمعت عمر قال‬
‫لشيء قط يقول إني لظنه كذا إل كان كما يظن‪,‬فبينما عمر جالس‬
‫‪102‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫إذ مر به رجل جميل فقال‪ :‬لقد أخطأ ظني أو ان هذا على دينه في‬
‫ي الرجل‪ ،‬فدعي له‪ ،‬فقال له ذلك‪،‬‬‫الجاهلية‪ ،‬أو لقد كان كاهنهم‪ ،‬عل ّ‬
‫فقال‪ :‬ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم‪ ،‬قال‪ :‬فإني أعزم‬
‫عليك إل ما أخبرتني‪ ،‬قال‪ :‬كنت كاهنهم في الجاهلية‪ ،‬قال‪ :‬فما‬
‫أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال‪ :‬بينما أنا يوما في السوق جاءتني‬
‫فيها الفزع‪ ،‬فقالت‪ :‬ألن تر الجن وإبلسها ويأسها من بعد إنكاسها‬
‫ولحوقها بالقلص وأحلسها‪ .‬قال عمر‪ :‬صدق‪ ،‬بينما أنا عند‬
‫آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه‪ ،‬فصرخ به صارخ لم أسمع‬
‫صارخا قط أش ّد صوتا منه يقول‪ :‬يا جليح‪ ،‬أمر نجيح‪ ،‬رجل‬
‫فصيح‪ ،‬يقول ل إله إل ال‪ ،‬فوثب القوم‪ ،‬قلت‪ :‬ل أبرح حتى أعلم‬
‫ما وراء هذا‪ ،‬ثم نادى يا جليح‪ ،‬أمر نجيح‪ ،‬رجل فصيح يقول ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ -10‬باب إثبات صفة اليدين والقدمين للشيطان وأنه يأكل‬
‫ويشرب على الحقيقة‪:‬‬
‫‪ )1‬عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما‪ :‬أن رسول ال قال‪:‬‬
‫«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه‪ ،‬وإذا شرب فليشرب بيمينه‪ ،‬فإن‬
‫الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )2‬عن حذيفة رضي ال عنه قال‪ :‬كنا إذا حضرنا مع النبي‬
‫طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول ال فيضع يده‪ ،‬وإنا‬
‫حضرنا معه مرة طعاما‪ ،‬فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع‬
‫يدها في الطعام فأخذ رسول ال بيدها‪ ،‬ثم جاء أعرابي كأنما‬
‫يدفع فأخذ بيده فقال رسول ال ‪« :‬إن الشيطان يستحل الطعام أن‬
‫ل يذكر اسم ال عليه‪ ،‬وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت‬
‫بيدها‪ ،‬فجاء بهذا العرابي ليستحل به فأخذت بيده‪ ،‬والذي نفسي‬
‫بيده إن يده في يدي مع يدها»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )3‬عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال قال‪« :‬إن‬
‫الشيطان يمشي في النعل الواحدة»‪ .‬رواه الطحاوي بسند صحيح‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ )4‬عن علقمة قال‪ :‬سألت ابن مسعود فقلت هل شهد أحد منكم مع‬
‫رسول ال ليلة الجن؟ قال‪ :‬ل؛ ولكنا كنا مع رسول ال ذات‬
‫ليلة ففقدناه‪ ،‬فالتمسناه في الودية والشعاب‪ ،‬فقلنا استطير أو‬
‫اغتيل‪ ،‬قال‪ :‬فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم‪ ،‬فلما أصبحنا إذا هو جاء‬
‫من قبل حراء‪ ،‬قال‪ :‬فقلنا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬فقدناك فطلبناك فلم‬
‫نجدك‪ ،‬فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم‪ ،‬فقال‪« :‬أتاني داعي الجن‬
‫فذهبت معه‪ ،‬فقرأت عليهم القرآن»‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق بنا فأرانا آثارهم‬
‫وآثار نيرانهم‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ -11‬إثبات أن لبليس عرش على الماء في البحر وأن له تاج‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي سعيد في حديثه عن ابن صياد الذي قيل بأنه هو‬
‫الدجال قال‪ :‬لقيه رسول ال وأبو بكر وعمر في بعض طرق‬
‫المدينة فقال له رسول ال ‪« :‬أتشهد أني رسول ال؟» فقال هو‪:‬‬
‫أتشهد أني رسول ال؟ فقال رسول ال ‪« :‬آمنت بال وملئكته‬
‫وكتبه ما ترى؟» قال‪ :‬أرى عرشا على الماء‪ ،‬فقال رسول ال ‪:‬‬
‫«ترى عرش إبليس على البحر وما ترى؟» قال‪ :‬أرى صادقين‬
‫وكذابا‪ ،‬أو كاذبين وصادقا‪ ،‬فقال رسول ال ‪« :‬لبس عليه‬
‫دعوه»‪ .‬رواه مسلم‪ .‬وله من حديث جابر عنه عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه‬
‫فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة»‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪:‬‬
‫«إذا أصبح إبليس بث جنوده‪ ،‬فيقول‪ :‬من أضل اليوم مسلما ألبسته‬
‫التاج‪ ،‬قال‪ :‬فيخرج هذا فيقول‪ :‬لم أزل به حتى طلق امرأته‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أوشك أن يتزوج‪ .‬ويجيء هذا فيقول‪ :‬لم أزل به حتى عق‬
‫والديه‪ ،‬فيقول‪ :‬يوشك أن يبرهما‪ .‬ويجيء هذا فيقول‪ :‬لم أزل به‬
‫حتى أشرك‪ ،‬فيقول‪ :‬أنت أنت! ويجيء هذا فيقول‪ :‬لم أزل به حتى‬
‫قتل‪ ،‬فيقول‪ :‬أنت أنت ويلبسه التاج»‪ .‬رواه ابن حبان في صحيحة‪،‬‬
‫وقال اللباني‪ :‬وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال‬
‫البخاري‪.‬‬
‫‪104‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫‪ -1‬أن عمل الشيطان منظم وأن له عرش وسرايا وجنود‪.‬‬
‫‪ -2‬أن فترة ما بعد الصباح هي بداية جديدة لعمل الشيطان‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الشياطين يراجعون إبليس ويذكرون له ما عملوه مع بني آدم‪.‬‬
‫‪ -12‬باب إثبات أن الشيطان يخاف من بعض البشر‬
‫‪ )1‬عن عبدال بن بريدة عن أبيه أن رسول ال قال لعمر بن‬
‫الخطاب رضي ال عنه‪« :‬إن الشيطان ليفرق وفي رواية‪:‬‬
‫يخاف منك يا عمر»‪ .‬رواه أحمد وابن حبان في صحيحه‪ ،‬وقال‬
‫اللباني‪ :‬سنده صحيح على شرط مسلم‪.‬‬
‫‪ )2‬عن مجاهد قال‪ :‬بينا أنا أصلي إذ قام مثل الغلم ذات ليلة‪،‬‬
‫فشددت عليه لخذه‪ ،‬فوثب فوقع خلف الحائط حتى سمعت وجبته‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬إنهم يهابونكم كما تهابونهم من أجل ملك سليمان‪ .‬رواه‬
‫ابن عساكر‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬أهمية السمت الخارجي للنسان المسلم وأنه قد يكون سببا في‬
‫طرد الشيطان‪ ،‬فالذي يطيل لحيته ول يسبل ثوبه يكون معلوما‬
‫للشيطان أنه أقوى دينا من غيره بمجرد النظر إلى هيئته فل‬
‫يتجرأ على أذاه‪.‬‬
‫‪-2‬أن الشيطان يتعامل مع الظاهر وقد ل يتجاوزه كما جاء عند ابن‬
‫جرير في تفسير قوله تعالى‪( :‬فلما خ ّر تبينت الجن أن لو كانوا‬
‫يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) عن عطاء قال‪ :‬كان‬
‫سليمان بن داود يصلي‪ ،‬فمات وهو قائم يصلي‪ ،‬والجن يعملون‬
‫ل يعلمون بموته حتى أكلت الرضة عصاه فخرّ‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪-3‬أن للجن تاريخ محفوظ يعلمه أفرادهم من الجن لقوله‪« :‬يهابونكم‬


‫من أجل ملك سليمان »‪ ،‬وملك سليمان مضت عليه قرون‬
‫طويلة!‪.‬‬
‫‪ -13‬إثبات أن الشيطان ينام‪:‬‬
‫‪ )1‬عن جابر بن عبدال رضي ال عنه أن رسول ال قال له‪:‬‬
‫«فراش للرجل‪ ،‬وفراش لمرأته‪ ،‬والثالث للضيف‪ ،‬والرابع‬
‫للشيطان»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )2‬عن أنس رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪« :‬قيلوا فإن‬
‫الشياطين ل تقيل»‪ .‬أخرجه أبو نعيم في "الطب"‪ ،‬وقال اللباني‪:‬‬
‫سنده حسن‪.‬‬
‫‪ )3‬عن قيس بن أبي حازم‪ ,‬و هو من كبار التابعين وقيل له رؤية‪,‬‬
‫أنه قال‪ :‬ما من فراش يكون في بيت مفروشا ل ينام عليه أحد إل‬
‫نام عليه الشيطان‪ .‬رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان بسند‬
‫صحيح‪.‬‬
‫‪ )4‬عن سلم بن مسكين قال‪ :‬سئل الحسن‪ :‬يا أبا سعيد‪ ،‬هل ينام‬
‫إبليس؟ قال‪ :‬لو نام لوجدنا لذلك راحة‪ .‬رواه أحمد في الزهد بسند‬
‫صحيح‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫لو كان مستقرا في أذهان الصحابة ان الشيطان ل ينام لما كان لهذا‬
‫القول حاجة‪ ،‬واقتصاره في نفي النوم على المقيل دليل على ثبوته‬
‫فيما عداه‪ ,‬وقد نفى صفة النوم عن الشيطان بعض السلف واثبتها‬
‫بعضهم‪ ,‬والجمع بين هذه الثار أن إبليس ل ينام باعتبار أنه قد أنظر‬
‫فل يموت إلى يوم القيامة والنوم ميتة صغرى فهو ل ينام‪ ،‬أما ذريته‬
‫فقد ثبت في صحيح السنة أنهم يموتون فل يمتنع عليهم أنهم ينامون‪,‬‬
‫وال اعلم‪.‬‬
‫‪106‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -14‬إثبات أن للجن عموما ذكور وإناث وأنهم يجامعون‪:‬‬


‫‪ )1‬قال تعالى‪( :‬و أنه كان رجال من النس يعوذون برجال من الجن‬
‫فزادوهم رهقا) الجن‪6:‬‬
‫‪ )2‬عن أسماء بنت يزيد رضي ال عنها أن النبي قال‪« :‬أل هل‬
‫عست امرأة أن تخبر القوم بما يكون من زوجها إذا خل بها؟ أل‬
‫هل عسى رجل أن يخبر القوم بما يكون منه إذا خل بأهله؟ فقامت‬
‫منهن امرأة سفعاء الخدين فقالت‪ :‬وال إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن‪.‬‬
‫قال‪ :‬فل تفعلوا ذلك‪ ،‬أفل أنبئكم ما مثل ذلك؟ مثل شيطان أتى‬
‫شيطانة بالطريق فوقع بها والناس ينظرون»‪ .‬رواه أحمد وأبو‬
‫داود‪ ،‬وقال اللباني حديث صحيح‪.‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬
‫قال ابن تيمية في دقائق التفسير عن استمتاع الجن بالنس والنس‬
‫بالجن‪ :‬تارة يخدم هؤلء لهؤلء في أغراضهم وهؤلء لهؤلء في‬
‫أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه‬
‫والنس تطيع الجن فتارة يسجد له وتارة لما يأمره بالسجود له وتارة‬
‫يمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك الجنيات منهن من يريد من‬
‫النس الذي يخدمنه ما يريد نساء النس من الرجال وهذا كثير في‬
‫رجال الجن ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء النس ما يناله‬
‫النسي وقد يفعل ذلك بالذكران (‪.)109‬‬
‫‪ -15‬إثبات صفة البكاء للشيطان‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪« :‬إذا قرأ‬
‫ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول‪ :‬يا ويلي أمر‬
‫ابن آدم بالسجود فسجد‪ ،‬فله الجنة‪ ،‬وأمرت بالسجود فأبيت‪ ،‬فلي‬
‫النار»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪ )(109‬دقائق التفسير لبن تيمية‪. 2/127 ،‬‬


‫‪107‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -16‬إثبات صفة اليأس للشيطان‪:‬‬


‫‪ )1‬عن جابر رضي ال عنه قال‪ :‬سمعت النبي يقول‪« :‬إن‬
‫الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؛ ولكن في‬
‫التحريش بينهم»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪ -17‬إثبات صفة الضحك للشيطان‪:‬‬


‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي أنه قال ‪« :‬إن ال‬
‫يحب العطاس ويكره التثاؤب‪ ،‬فإذا عطس فحمد ال فحق على كل‬
‫مسلم سمعه أن يشمته‪ ،‬وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان‪ ،‬فليرده‬
‫ما استطاع‪ ،‬فإذا قال‪ :‬ها‪ ،‬ضحك منه الشيطان»‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪ -18‬إثبات صفة الحلق واللسان للشيطان على الحقيقة‬


‫وأنه يتنفس‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول ال قال‪« :‬اعترض‬
‫الشيطان في مصلي فأخذت بحلقه فخنقته حتى وجدت برد لسانه‬
‫على كفي؛ ولول ما كان من دعوة أخي سليمان لصبح موثقا‬
‫تنظرون إليه»‪ .‬رواه ابن حبان في صحيحه بسند حسن‪.‬‬
‫‪ )2‬عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول ال فقال‪ :‬يا‬
‫عائشة أتعرفين هذه؟ قالت‪ :‬ل‪ ،‬يا نبي ال‪ .‬فقال‪ :‬هذه قينه بني‬
‫فلن‪ ،‬تحبين أن تغنيك؟ قالت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فأعطاها طبقا فغنتها‪،‬‬
‫فقال النبي ‪ :‬قد نفخ الشيطان في منخريها‪ .‬رواه أحمد بسند‬
‫صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬

‫‪ -19‬ذكر ما جاء في صفة القرين‪:‬‬


‫‪ )1‬عن علي بن الحسين‪ :‬كان النبي في المسجد وعنده أزواجه‬
‫فرحن‪ ،‬فقال لصفية بنت حيي ‪« :‬ل تعجلي حتى أنصرف معك»‪.‬‬
‫وكان بيتها في دار أسامة‪ ،‬فخرج النبي معها فلقيه رجلن من‬
‫‪108‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫النصار‪ ،‬فنظرا إلى النبي ثم أجازا‪ ،‬وقال لهما النبي ‪:‬‬


‫«تعاليا إنها صفية بنت حيي»‪ .‬قال‪ :‬سبحان ال يا رسول ال‪،‬‬
‫قال‪« :‬إن الشيطان يجري من النسان مجرى الدم‪ ،‬وإني خشيت‬
‫أن يلقي في أنفسكما شيئا»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )2‬عن عبدال بن عمر رضي ال عنهما أن رسول ال قال‪« :‬إذا‬
‫كان أحدكم يصلي فل يدع أحدا يمر بين يديه‪ ،‬فإن أبى فليقاتله‪،‬‬
‫فإن معه القرين»‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )3‬عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪:‬‬
‫«إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل»‪.‬‬
‫رواه مسلم‬
‫‪ )4‬عن خالد بن معدان وهو تابعي روى عن جمع من الصحابة‪،‬‬
‫قال عنه الذهبي‪ :‬فقيه كبير ثقة مهيب مخلص‪ ,‬أنه قال‪ :‬ما من‬
‫إنسان إل وشيطان متبطن فقار ظهره‪ ،‬ل ٍو عنقه على عاتقه‪ ،‬فاغر‬
‫فاه على قلبه‪ .‬رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان بسند حسن‪.‬‬
‫‪ )5‬عن أبي قلبة‪ ,‬وهو من أئمة التابعين‪ ،‬أنه قال‪ :‬إن ال عز وجل‬
‫لما لعن إبليس سأله النظرة‪ ،‬فقال‪ :‬وعزتك ل أخرج من صدر‬
‫عبدك حتى تخرج نفسه‪ ،‬قال‪ :‬وعزتي ل أحجب توبتي عن عبدي‬
‫حتى تخرج نفسه‪ ،‬أو قال‪ :‬روحه‪ .‬رواه البيهقي في الشعب بسند‬
‫صحيح‪.‬‬
‫‪ )6‬عن عائشة رضي ال عنها أن رسول ال خرج من عندها‬
‫ليلً‪ ،‬قالت‪ :‬فغرت عليه‪ ،‬فجاء فرأى ما أصنع‪ ،‬فقال‪« :‬مالك؟ يا‬
‫عائشة أغرت؟» فقلت‪ :‬وما لي ل يغار مثلي على مثلك؟ فقال‬
‫رسول ال ‪« :‬أقد جاءك شيطانك؟» قالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أو معي‬
‫شيطان؟ قال‪« :‬نعم» قلت‪ :‬ومع كل إنسان؟ قال‪« :‬نعم»‪ .‬قلت‪:‬‬
‫ومعك يا رسول ال؟ قال‪« :‬نعم؛ ولكن ربي أعانني عليه حتى‬
‫أسلم»‪ .‬رواه مسلم‬
‫‪109‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫الحديث الول والثاني والثالث‪ ،‬والثر الرابع والخامس يؤيد أن قوله‪:‬‬
‫«يجري من ابن آدم مجرى الدم» على ظاهره؛ لن المصلي إنما‬
‫يقاتل بدن المار ويمنعه من الجتياز أمامه‪ ،‬ولو كان القرين منفصلً‬
‫عنه لما علمنا بوجوده من عدمه في أثناء المرور‪ ،‬فدلّ هذا أنه في‬
‫بدنه‪ .‬وجعل الحديث الول على ظاهره فريق من أهل العلم؛ ولكن‬
‫الحديث السادس يدل على أن القرين قد ينفصل فيغيب ثم يأتي وذلك‬
‫في قوله‪« :‬أجاءك شيطانك؟» فهو لن يجيء ال بعد غياب إل أن‬
‫يقال‪ :‬يقصد بذلك غياب وسوسته مع بقائه في البدن‪ .‬وعلى كل حال‬
‫فدخول الشيطان البدن وخروجه منه أمر أثبته الشرع والواقع كما في‬
‫قوله تعالى‪( :‬الذين يأكلون الربا ل يقومون إل كما يقوم الذي يتخبطه‬
‫الشيطان من المس)‪ ،‬وحديث عثمان ابن أبي العاص‪ ،‬والحديث الذي‬
‫في مسلم من أن إبليس عندما رأى جسد آدم في الجنة‪( :‬فلما رآه‬
‫أجوف عرف أنه خلق خلقا ل يتمالك) وغيره‪ .‬فالراجح أن القرين قد‬
‫يدخل البدن وقد يوسوس من خارجه‪ ,‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪ –20‬إثبات أن الشيطان يقوم بأفعال محسوسة تورث‬


‫المراض في البدان‪:‬‬
‫‪ )1‬عن زينب امرأة عبدال بن مسعود رضي ال عنه أن عبدال رأى‬
‫في عنقي خيطا فقال‪ :‬ما هذا؟ فقلت‪ :‬خيط رقي لي فيه‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫فأخذه فقطعه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أنتم آل عبدال لغنياء عن الشرك‪ ،‬سمعت‬
‫رسول ال يقول‪« :‬إن الرقى والتمائم والتولة شرك»‪ .‬فقلت‪ :‬لم‬
‫تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف‪ ،‬وكنت أختلف إلى فلن‬
‫اليهودي‪ ،‬فإذا رقاها سكنت‪ .‬فقال عبدال‪ :‬إنما ذلك عمل الشيطان‬
‫كان ينخسها بيده فإذا رقي كف عنها‪ ،‬إنما كان يكفيك أن تقولي‬
‫كما كان رسول ال يقول‪« :‬أذهب البأس رب الناس‪ ،‬واشف‬
‫أنت الشافي‪ ،‬ل شفاء إل شفاؤك‪ ،‬شفاء ل يغادر سقما»‪ .‬رواه أبو‬
‫داود وصححه اللباني‬
‫‪110‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ )2‬عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال ‪:‬‬
‫«فناء أمتي بالطعن والطاعون) فقيل‪ :‬يا رسول ال هذا الطعن قد‬
‫عرفناه فما الطاعون؟ قال (وخز أعدائكم من الجن وفي كل‬
‫شهادة) رواه احمد وقال المنذري‪ :‬أحد أسانيده صحيح وصححه‬
‫اللباني‪.‬‬
‫‪ )3‬عن حمنة بنت جحش رضي ال عنها قالت‪ :‬كنت أستحاض‬
‫حيضة كثيرة شديدة‪ ،‬فأتيت النبي أستفتيه وأخبره فوجدته في‬
‫بيت أختي زينب بنت جحش‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إني أستحاض‬
‫حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني؟ فقال‪« :‬إنما هي ركضة من‬
‫الشيطان» رواه الترمذي وقال حسن صحيح‪ ،‬وقال‪ :‬سألت محمد‬
‫أي البخاري عن هذا الحديث؟ فقال هو حديث حسن صحيح‪،‬‬
‫وهكذا قال أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫«الركضة»‪ :‬الضرب بالرجل‪ ,‬قال بعض أهل العلم‪ :‬أي‬
‫ضرب الشيطان الرحم برجله‪.‬‬
‫‪ )4‬عن عائشة‪ ،‬قالت استحيضت أم حبيبة بنت جحش أخت زينب‬
‫بنت جحش زوج النبي فاستفتت رسول ال ‪ ،‬فقال لها‬
‫رسول ال ‪« :‬إن هذه ليست بحيضة‪ ،‬ولكن هذا عرق فتقه‬
‫إبليس‪ ،‬فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي‪ ،‬وإذا أقبلت فاتركي‬
‫لها الصلة»‪ .‬رواه الطحاوي والطبراني في مسند الشاميين بسند‬
‫حسن‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫فيها دليل قاطع على أن الرقية الشرعية تكون للمرض العضوي‬
‫وغير العضوي‪ ،‬وأن بعض الجروح الداخلية والحروق والبثور‬
‫وسيلن العين وغير ذلك‪ ،‬قد يكون سبب وجودها الوحيد هو‬
‫الشيطان‪ ،‬فل تعالج ال بالرقية‪ ,‬وال أعلم‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫‪ -21‬أن علقة النسان بالشيطان تنتهي بعد خروج الروح‬


‫وأن التكليف العام للنسان ل ينتهي إل بالموت‪:‬‬
‫‪ )1‬عن أبي سعيد رضي ال عنه أن رسول ال قال‪« :‬إن الشيطان‬
‫قال‪ :‬وعزتك يا رب ل أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في‬
‫أجسادهم‪ ،‬فقال الرب تبارك وتعالى‪ :‬وعزتي وجللي ل أزال‬
‫أغفر لهم ما استغفروني»‪ .‬رواه احمد وصححه اللباني‪.‬‬

‫فصل في فوائد الدلة‪:‬‬


‫فيه دللة على أن الشيطان يتعلق إغواؤه ببقاء الروح في الجسد‬
‫وليس بقاء العقل وأن موت الدماغ مع بقاء الروح ل يعني نهاية‬
‫التكليف لن الشيطان إلى هذه المرحلة من ضعف البدن مازال يغوي‬
‫وال تبارك وتعالى مازال يغفر وهذا نص شرعي على أن ميت‬
‫الدماغ ليس بميت ل شرعا ول كونا ‪ ,‬و أن رفع الجهزة عن الميت‬
‫دماغيا لكي تخرج روحه هو قتل لنسان مكلف ‪ ,‬وال أعلم‪.‬‬
‫‪112‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الواقع والواقعية‬
‫(‪)110‬‬
‫يقول ال عز وجل‪( :‬إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع)‬
‫وقال تعالى‪( :‬إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبه)(‪ )111‬فالواقع‬
‫في تعريفه ل يعدو أن يكون‪ :‬الشيء الذي سيعايشه النسان حتما‬
‫على المستوى الحسي والمعنوي ل يستطيع أنه يدفعه عن نفسه ل‬
‫إقداما ول إحجاما ول تجاهلً‪ .‬فالموت واقع! لنك سوف تمر به‪,‬‬
‫والحياة واقع! لنك تعاني َك َبدَها ولوائها‪ ,‬والشيطان ووسوسته واقع!‬
‫لنه يؤثر فيك علمت أم لم تعلم آمنت أم لم تؤمن‪ ,‬والملئكة واقع!‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪( :‬كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)‪ .‬وكان ابن‬
‫عمر يقول إذا أمسيت فل تنتظر الصباح وإذا أصبحت فل تنتظر‬
‫المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك(‪ .)112‬فهذه‬
‫ليست "عزلة توحدية " أو كما يقولون " عقدة ميتافيزيقية النتماء "‬
‫وإنما هي " الواقعية السمحة! "على نور من ال‪ ,‬لمن يعرف ما هي‬
‫حقيقة الواقع وما هي مقتضيات تلك الحقيقة‪ .‬وعند معرفة هذا ستعلم‬
‫أن أكثر الواقعيين تطرفا اليوم هو أبعدهم عن الواقع والواقعية‪ ,‬فهو‬
‫يقول‪ :‬كن واقعيا وتجاوز عن هذا المحظور الشرعي فإن لي فيه‬
‫منفعة!‪ ,‬مع أن الذنب ل يبلى وستلقى كل نفس ما عملت من سوء‬
‫محضرا‪ ,‬فالواقعية أن ل تتجاوز‪ ,‬ويقول‪ :‬كن واقعيا ول تقل ملئكة‬
‫وجن وشياطين! والواقع أن ال أثبت ذلك بل أن حتى الحمار يعلم‬
‫حق العلم وعين اليقين أن ذلك جنوح عن الواقع كما قال ‪( :‬إذا‬
‫سمعتم صياح الديكة فاسألوا ال من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم‬

‫‪ )(110‬الطور‪.8 ,7 :‬‬
‫‪ )(111‬الواقعة‪.2 ,1 :‬‬
‫‪ )(112‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫نهيق الحمار فتعوذوا بال من الشيطان فإنه رأى شيطانا)(‪ )113‬وفي‬


‫رواية (إذا سمعتم نباح الكلب ونهاق الحمير)(‪ ,)114‬ولكن بعض‬
‫البشر لم يبلغ في واقعيته ما بلغته الديكة والكلب والحمير! نسأل ال‬
‫العافية‪ ,‬وكل من قال في شيء واقع مثل ذلك فهو كذلك‪.‬‬
‫الحسنة والسيئة هي أيضا من الواقع لنها تكتب حقيق ًة وقد وكل ال‬
‫مخلوقات حقيقية بتولي كتابة العمال وسماهم "الكرام الكاتبين"‪,‬‬
‫يعيشون معنا كما يعيش أي كائن حقيقي الوجود والمنفعة والتأثير‪,‬‬
‫وبعضهم يشتغل معنا في الليل وبعضهم في النهار!‪ ,‬ثم ترفع العمال‬
‫إلى رب العالمين وسوف تبيض بسببها وجوه وتسود وجوه‪ .‬وقد كان‬
‫الربيع بن خثيم إذا استيقظ من نومه قال‪ :‬أكتبوا يا ملئكتي! بسم ال‪,‬‬
‫سبحان ال والحمد ل ول إله إل ال وال أكبر!‪ ,‬يقول لكي تبدأ‬
‫صحيفة أعمالي بذكر ال‪ ,‬فهو رجل واقعي في تصوره وواقعي جدا!‪.‬‬
‫إن الدنيا في تقلباتها وتفاصيلها اليومية إنما تحركها تبعات الحسنات‬
‫والسيئات بشكل كبير ‪ ,‬يقول ‪( :‬إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب‬
‫يصيبه ول يرد القدر ال الدعاء ول يزيد في العمر ال البر)(‪,)115‬‬
‫فالدينار والزوجة والعافية وكل رزق ربما ضاع بسبب السيئة!‪ ,‬بل‬
‫أن ظاهرة التصحر وتقلص الغطاء النباتي تكون بسبب السيئات فقد‬
‫قال تعالى في ذلك‪( :‬ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي‬
‫الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)(‪ )116‬قال زيد بن‬
‫رفيع في تفسير هذه الية‪ :‬إن المطر لينقطع ثم يتبعه القحط وإن‬
‫دواب البحر ليصيبها العمى في قعره(‪ ,)117‬أي بمعصية ابن آدم!‪.‬‬
‫فالواقع الشخصي والجتماعي والكوني بما في ذلك دواب البحر‪ ,‬كلها‬
‫تتأثر بأشياء ل يقيم لها أكثر الناس في هذا الزمان اعتبارا‪ ,‬بل إن‬
‫‪ )(113‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )(114‬ـرواهـ أحمدـ وابنـ حبان ـفي ـصحيحهـ وقال ـاللباني‪:‬ـ إسناده‬
‫جيد رجاله ثقات رجال الشيخين‪.‬‬
‫‪ )(115‬رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم وحسنه اللباني‪.‬‬
‫‪ )(116‬الروم‪.41 :‬‬
‫‪ )(117‬تفسير ابن كثير (‪.)576/ 3‬‬
‫‪114‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫المة بأسرها قد تجتال وتستباح ول أحد يجد في نفسه أدنى إشارة‬


‫إلى السبب الحقيقي وراء ذلك فكلهم يتحدثون عن الطماع المعلنة‬
‫والمؤامرات المدبرة والتحالفات الخفية وربما يكون هذا واقعا ولكن "‬
‫الواقع الول " الذي نتج عنه هذا " الواقع العقوبة " هو الذي ينبغي أن‬
‫تناط به ألباب المفكرين والمنظرين وتعتمد على تحليله حكمة‬
‫الحاكمين على المة وأفرادها قبل أن تشتغل هذه الفهام بأعراض‬
‫المرض وتنسى علته‪ ,‬فليست الواقعية في أن تتجه إلى المعركة‬
‫المادية المشاهدة فتنظر في بروتوكولت العداء وآلت جيوشهم‪,‬‬
‫وكيف نصنع طائرة نوقع بها طائرتهم ودبابة نفجر بها دبابتهم!‪ ,‬هذا‬
‫جزء ضئيل من الواقع بل إن من حكمة ال التامة ورحمته السابغة‬
‫على هذا الدين أن ل تتولى أفراد أمه محمد اليوم القيام على العالم أو‬
‫ما يسمونها بـ " أستاذية العالم " لن من يسعون اليوم لتلك الستاذية‬
‫على طريقتهم التسلقية لو ملكوا العالم كما ملكه سليمان عليه السلم‬
‫لقاموا شرعا ً منحرفا ومل ًة ناقصة ولسخروا شرع ال لبنيات‬
‫أفكارهم الحالمة وتوجهاتهم الرومانسية ولوقع التبديل والبطال لكثير‬
‫من شرائع الدين‪ ,‬فانظر إلى كل البلد السلمية وكل بدعة متغلغلة‬
‫فيها فلو رجعت إلى التاريخ لوجدت أن تلك البدع المتفشية المتأصلة‬
‫في تراث تلك الشعوب‪ ,‬وبعضها قد يبلغ حد الكفر‪ ,‬إنما غرست في "‬
‫زمن القوة " عندما حكمت جماعة مسلمة ما تلك الشعوب وأذنت‬
‫بإقامة تلك البدع فيها فرسخ في عقيدة الناس أنها هي الدين كما في‬
‫القبورية في مصر التي أنشأتها الدولة العبيدية أو الصوفية التي‬
‫رعتها الدولة العثمانية والتي مازال أهل تلك البلدان التي كانت تقع‬
‫تحت حكمها يعانون تأصلها في إرثهم النفسي والجغرافي حتى أنه‬
‫بعدما حكم أهل الدعوة النقية الحجاز وجدوا رسالة من الخليفة‬
‫العثماني عند قبر رسول ال يستغيث به ويطلب منه المدد!‪ ,‬فقبل أن‬
‫نسعى للستخلف الممي والستاذية علينا أن نتعلم كيف نكون‬
‫أساتذة وكيف نكون خلفاء!‪ ,‬فالمبتدع إن حكم أبطل الدين وإن رأيت‬
‫الذان يرفع والرؤوس تسجد وتركع فما يفيدنا ذلك وقد نقضت "‬
‫العروة الوثقى" التي هي كما قال أحد أساتذة الزمان وأئمة الهدى‪,‬‬
‫الوزاعي رحمه ال‪ ,‬قال‪( :‬ل يستقيم اليمان إل بالقول ول يستقيم‬
‫القول إل بالعمل ول يستقيم اليمان والقول والعمل إل بالنية الموافقة‬
‫‪115‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫للسنة‪ ,‬فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله فتلك العروة‬
‫الوثقى التي ل انفصام لها)(‪ ,)118‬فأين دعاة أستاذية العالم من هذا‬
‫اليوم؟‪ ,‬بعضهم في تحالف فكري مع الرافضي والعلماني في وجه‬
‫الغرب المتغطرس على فكرنا وحضارتنا!‪ ,‬وبعضهم عضو في‬
‫المجلس التشريعي ويزعم أنه يوسف القرن الجديد!‪ ,‬حسنا‪ ,‬والناس؟‬
‫وأمة محمد ؟ أين هم من الحسنة والسيئة؟ ينتظرون على الرصفة‬
‫بل علم وبل كتاب وبل سنة إلى أن ينتصر حليف الرافضي‬
‫والعلماني على الغرب ويسود أعضاء " السلم الدسيس " في‬
‫البرلمان ويحول إلى خلفة راشدة ل يعلم برشدها إل ال‪ ,‬ثم‬
‫الستاذية!‪ ,‬ثم بعد هذه الحقب الطويلة من الزمان‪ ,‬إن لم تكن قامت‬
‫الساعة بعد‪ ,‬يلتفت بعد ذلك إلى عوام المكلفين ليقال لهم " نحن الن‬
‫خلفاء الرض وأساتذة العالم‪ ,‬فتعالوا نبني الحياة! "‪ ,‬لن هذا هو‬
‫المعلن من الهداف الستاذية الن‪ ,‬صناعة السعادة والحياة‬
‫للبشرية!!‪.‬‬
‫إن التفسير المادي للتاريخ والواقع الناتج عن التداعيات السابقة هو‬
‫ذاته التفكير الماركسي الذي جاءت به الشيوعية الملحدة حيث يكرر‬
‫ماركس كما في كتابه " بؤس الفلسفة " أن كل الفكار الرضية ناتجة‬
‫عن المادة لن المادة سابقة للفكر والدماغ مادة والفكر ناتج عن‬
‫الدماغ والمادة كانت قبل كل شيء وستبقى بعد كل شيء!‪ .‬ففكرة "‬
‫ال! "‪ ,‬على حد وصف ماركس‪ ,‬ناتجة عن العهد الزراعي الذي كان‬
‫النسان فيه بحاجة لقوة خفية تحمي محاصيله من الفات وتساعد‬
‫على كثرة النتاج فنتجت " فكرة ال " التي اخترعها النسان لسبب‬
‫اقتصادي بحت بحيث يوكل إليها زيادة إنتاجه وحفظ محصوله ثم أن‬
‫هذه الفكرة يجب أن تنتهي الن بعد اكتشاف تركيبة النبات والسمدة‬
‫ودخول عهد الصناعة فليس هناك حاجة لـ"فكرة ال " لن الصناعة‬
‫تتم السيطرة فيها على المصنوع بشكل كامل فليس هناك غيب يجبر‬
‫النسان على التعلق بفكرة الرب الخرافية‪ ,‬في نظره‪ ,‬التي كان يحتاج‬
‫النسان إليها لسباب اقتصادية بحيث يبارك ذلك الرب بعنايته اللهية‬
‫غلة المزارع ويحميها من الشرور الخفية!!‪ .‬ويقول زميله فريدريك‬
‫‪ )(118‬حلية الولياء (‪.)144/ 6‬‬
‫‪116‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫انجلز في كتابه (أصل السرة والملكية الخاصة والدولة) بأن " فكرة‬
‫الشرف " نتجت بعد اكتشاف المحراث!!‪ ,‬حيث زادت ثروة الرجل‬
‫بسبب زيادة الرض المزروعة فصارت هناك ثروات يتم توريثها‬
‫بعد موت الرجال فنتجت فكرة الشرف لكي يعرف الرجل أن زوجته‬
‫ل تنجب إل من صلبه فيكون على يقين أن ثروته تذهب لبنائه‬
‫الطبيعيين حال ورثهم له بعد موته وأما قبل اكتشاف المحراث فلم‬
‫يكن للرجل ثروة يرثها أحد من بعده ولهذا يقول بأنه لم يكن هناك‬
‫شرف وأن كل رجل كان يسمح له أن يجامع كل امرأة بل حرج قبل‬
‫اكتشاف المحراث اللعين!!‪ .‬فإذا تم نزع الملكية الفردية كما هو قانون‬
‫الشيوعية فإنه لن يكون لي شخص أي ثروة وعندها فإن سبب‬
‫احتكار المرأة على رجل واحد بدعوى الشرف أمر رجعي يجب‬
‫تركه ولهذا كانت الشيوعية في عهد فلديمير لينين تحرم الزواج لنه‬
‫استعباد وتملك بل سبب منطقي ثم سمح به بعد ذلك دون إجبار عليه‬
‫لسباب طبية بحته في مشروع سماه (زواج الكوب) وليس هذا مجال‬
‫بسط هذه السخافات!!‪.‬‬
‫اليوم نجد من يتكلم عن الواقع بنفس هذا المنظور المادي الملحد‪,‬‬
‫فعندما تنسب بعض الخفاقات الرضية لسباب غيبية كأن تجعل‬
‫السيئة والمعصية سببا لمصيبة حلت في مكان ما من بلد المسلمين‬
‫تجد من ينظر إليك نظر المغشي عليه من الضحك ويقول‪ " :‬هذه‬
‫صوفية سياسية وبوهيمية الدراويش " فالقوم ما قتلوك إل بالبندقية‬
‫والصاروخ فما دخل السيئة بذلك؟!‪ .‬فقديما عندما يمرض النسان‬
‫" مرض بذنبه ومعصيته " لننا ل نعرف‬ ‫كان يستساغ أن يقال‬
‫الفيروس والمجهر فأما اليوم فل حاجة لفكرة " العقوبة اللهية " لننا‬
‫بتنا نعرف السباب‪ ,‬تماما كما هي الحال في مقولة ماركس بالنسبة‬
‫لـ" فكرة ال!! " ولكن على نطاق ضيق غير صريح ثم يزعم من‬
‫يقول بذلك بأن هذه هي الواقعية الصحيحة ويسميها " براغماتيه " لكي‬
‫تعتقد أنها مذهب جديد وإنما هي في الحقيقة " العقيدة الماركسية في‬
‫تحليل الحداث الكونية!! " غير أن البراغماتية تربط المادة بالنتيجة‬
‫الخارجية الناتجة عن منظومة الفكار العملية بينما الماركسية تربط‬
‫الجدلية المادية بمرحلة المقدمات الولية والستقصاء التي تبنى عليها‬
‫‪117‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫المسلمات الماركسية و في النهاية كلها " مادية "!‪ .‬ول أحد ينفي‬
‫الحداث الكونية وارتباط القوة والتأثير بالسبب المادي بل أن ُمنِكر‬
‫ذلك يسمى " جبري" ولكن لكل فعل يأذن به ال حكمة بالغة تتجلى‬
‫لمن كان في قلبه نور ينظر به إلى مواطن رضا ال وسخطه كما أن‬
‫ال نص على ذلك في كتابه حيث قال‪( :‬وما أصابكم من مصيبة فبما‬
‫كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى‪.30 :‬‬
‫فليس الواقع مداره على النتائج النيّة ‪,‬بل إن التاريخ مليء بعبر‬
‫المآلت التي لم تكن تخطر ببال أحد مثل تسمية صلح الحديبية بـ "‬
‫الفتح المبين " على ما فيه من شروط كان ظاهرها الستضعاف‬
‫والضطهاد وكما وصف سبحانه حادثة الفك التي أبكت النبياء‬
‫والصديقين بأنها " خير لكم " أي للمسلمين!‪ .‬وكما كانت قنبلة‬
‫هيروشيما التي ظن العالم أنها نهاية مجد اليابان فصارت بداية‬
‫تحرره من عبودية العائلة المبراطورية التي تزعم أنها من سللة ال‬
‫والتي كان يحرم على المواطن الياباني أن ينظر إلى أي فرد من‬
‫أفرادها إل بإذنه فكانوا يسجدون عند مرور أي فرد من أفراد العائلة‬
‫لكي ل ينظرون إليهم فحررتهم تلك الكارثة من عبودية الساطير‬
‫المتفرعنة والموت في سبيل المبراطور كما فعل طيارو الكانيكازي‬
‫في عملياتهم النتحارية‪ ,‬وغير هذا من المثلة الكثير‪ .‬إن العتماد‬
‫على التدبير الذاتي بشكل كامل حماقة ل ينكرها حتى الملحدين بل‬
‫حتى المبادئ الرياضية المنطقية والفيزيائية‪ ,‬فلو نظرت إلى هذين‬
‫الخطين كما في الرسم التالي‪:‬‬
‫‪118‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫إن انحراف الخط السفل قليل وكذلك العلى سينتج عنه التقاء‬
‫الخطين في تقاطع سوف يقع في المستقبل بعد مسافة كبيرة ولكنه‬
‫سوف يقع ل محالة ومكان تلك النقطة التي سيلتقيان فيها ومدة الزمن‬
‫السابق لللتقاء كل هذا يحدده مقدار النحراف تقاربا وتباعدا‬
‫والمسافة بين أصل المستقيمين‪ .‬كذلك فإن مقدار النحراف في الخط‬
‫العلوي سينتج عنه مرور الخط بنقاط كثيرة وهي التي تنتشر في‬
‫الرسم وفي نفس الوقت فإنه سيتجنب المرور بنقاط أخرى وتجد أن‬
‫هذا المرور والتجنب للنقاط أيضا متعلق بمقدار النحراف في‬
‫المستقيم‪ .‬كذلك الحياة‪ ,‬فلك أن تجعل ذلك النحراف هو مقدار بعدك‬
‫من الدين وقربك منه أو الخرة أو المال أو العلم أو أي طبع من‬
‫طباع البشر ككثرة المزاح أو الجديّة أو الحس المرهف أو الجلفة أو‬
‫قلة الحياء أو الشجاعة أو أي شيء له تأثير أصيل واضح في الحياة‪,‬‬
‫ثم نظرت إلى تركيبة حياتك والحداث التي مرت بها تجد أنها كلها‬
‫متأثرة بمقدار انحراف تلك الصفة صعودا أو نزولً بما في ذلك‬
‫الشخاص الذين صاحبتهم في حياتك كلها!‪ .‬وقد تجد أنك تغير مسار‬
‫طريقك من شارع إلى شارع لجل " مطعم " أو " مغسلة ملبس " ثم‬
‫ينتج عن ذلك اللتقاء بأشخاص كثر أنت لم تكن تسعى للقياهم وربما‬
‫صدمت أحدهم بسيارتك وربما كان أحدهم يدين لك بمبلغ ما فيعطيك‬
‫إياه وربما تشاجرت مع شخص ما عند المطعم وربما حدثت أشياء‬
‫كثيرة قد تغير مسار حياتك وكل هذه الشياء أنت لم تكن تسعى إليها‬
‫‪119‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫ولكنك كنت تريد "المطعم" فقط!!‪ .‬ولو حسبت الشياء التي تنتج عن‬
‫قرار ما أنت تختاره تجد أنه ينتج عنه " حدث واحد أو بضعة أحداث‬
‫" أنت كنت تتوقعها وتسعى إليها ولكن لو نظرت إلى كمية الحداث‬
‫الخرى المصاحبة والناتجة عن غير قصد لها والمترتبة على ذلك‬
‫الختيار المعين الذي اخترته تجد أنها قد تبلغ اللف دون مبالغة‪.‬‬
‫فكيف إذا تحدثت لك عن الفيروسات التي تمل الجو ولربما أصابك‬
‫فيروس كان في ذلك الشارع ولم يكن متواجدا في غيره لن ثمة‬
‫مريض بداء معين مر من هنا وحدثته نفسه في لحظة معينة اتفقت‬
‫مع مروره في هذا الشارع أن يبصق فينتشر الفيروس فتمر أنت‬
‫فتلتقطه!‪ .‬وكيف لو تكلمت لك عن مسمار صغير قد يتلف إطار‬
‫سيارتك‪ ,‬سقط من جيب عامل بناء كان يمر في هذا الشارع وكان قد‬
‫أوصى زوجته أن تخيط جيب سرواله ولكنها لم تفعل وهو صابر‬
‫عليها إلى هذه اللحظة لنها ابنة قريبه التي أجبرته أمه على الزواج‬
‫منها ولو طلقها وجاء بأخرى نشيطة قبل هذا اليوم لكانت قد خاطت‬
‫الجيب ولم يسقط المسمار ولم يتلف إطار سيارتك!!‪.‬و لو حدثتك عن‬
‫الشياطين الذين يتسكعون في الطرقات!‪ ,‬فكم وكم من النقاط التي‬
‫تزاحمك وتصطدم بها وأنت ل تعلم وتظن أنك " تتحرك بخط واضح‬
‫مدروس! " وتظن أنك تعرف المؤثرات التي فعلً تقع عليك وهذا‬
‫غير صحيح‪ .‬ففي مسألة المسمار هل كان الذنب ذنب الزوج أم‬
‫الزوجة أم الم أم ذنب من صنع المسمار أم ذنبك أنت لنك مررت‬
‫بهذا الشارع أم ذنب من فتح المطعم في هذا الشارع بالذات؟‪ .‬كل هذه‬
‫المؤثرات لو غاب منها واحد فقط لما تلف إطار سيارتك!‪ ,‬وبعضها‬
‫دخل إلى هذه الدنيا قبل عشرات السنين وبقي موجودا لكي يؤثر‬
‫عليك في هذه اللحظة بالذات كذلك المسمار الذي ربما صنع في‬
‫الصين وبقي في مخازنها عشرات العوام ثم أتي به ليلعب دوره في‬
‫هذه اللحظة!‪.‬‬
‫إن النسان يعمل على دفع السبب الظاهر لكي ل تقع المصيبة‬
‫الظاهرة ولكن أي مصيبة قد تقع في أي لحظة لسباب كثيرة تحيط‬
‫بك وأنت ل تعلم ولكن ال هو الذي يحميك من هذه السباب ويعافيك‬
‫منها بينما أنت مشغول بالسباب الظاهرة‪ .‬فمثل ً‪ ,‬القتل قد يقع لي‬
‫‪120‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫سبب وقد كان أبي بن خلف من رؤوس الكفر والشرك ولكنه كان‬
‫يعلم أن ال قد ينصر نبيه في أي لحظة حتى قال مرة‪( :‬و ال لو‬
‫بصق علي محمد لقتلني) هذا مع أنه كافر قد حشي رأسه بعفن‬
‫الشرك!‪ .‬وقد جاء في التاريخ من تسخير ال لبعض المور فقط لكي‬
‫تتجلى هذه المسألة في فهوم البشر وذلك كما في قصة تعذيب فرعون‬
‫وقومه بالقمل والضفادع والجراد وقد كان ال عز وجل قادر على أن‬
‫يعذبهم بالفيلة والديناصورات والمخلوقات المخيفة ولكن ال يريد أن‬
‫يبين لبني آدم أنه هو الذي يمسك السماوات والرض أن تزول وأنه‬
‫يمسك من أسباب الهلك الشيء الكثير الذي ل نأبه به‪ ,‬بل وربما‬
‫نحتقره ولول عصمة ال لنا لقتل النسان ريقه الذي في فمه يشرق به‬
‫فيموت وقد حدث هذا كثيرا!‪ .‬وقد وقفت بنفسي قبل أيام على قصة‬
‫فتاة صغيرة خرجت من باب المنزل فقفزت من أمامها قطة فخافت‬
‫الصغيرة وسقطت ميتة مع أن هذه القطة كانت تدخل البيت كل يوم‬
‫وكانت هذه الفتاة تراها ولكن ال قدّر في هذا اليوم بالذات وفي هذه‬
‫الساعة أن تتحول هذه القطة إلى " سبب قاتل مميت " فحدث ذلك‪.‬‬
‫فمن الذي قدّر كل هذا؟‪ .‬إنه ال سبحانه الذي يحول من حال إلى حال‬
‫والذي توعد الذين يجهلون قدر عظمته بأنه سيستدرجهم من حيث ل‬
‫يعلمون‪ .‬فمن الذي سيعطيك خير هذه الشياء المحيطة بك والتي‬
‫تؤثر عليك وأنت ل تعرفها؟‪ .‬ومن الذي سيكفيك شرها ويجعلها ل‬
‫تعيق " حفنة " الهداف الصلية التي كنت أنت تسعى إليها؟؟‪ .‬إنه‬
‫توفيق ال ول شيء غير توفيق ال ول أحد في الدنيا كلها يستطيع‬
‫إحصاء عُشر ما يحيط بك من أسباب مؤذيه ناهيك عن إيجاد‬
‫الضمانات بدفعها عنك ولكن ال الذي بكل شيء محيط وهو القاهر‬
‫فوق عباده قادر على أن يحيط بذلك ويقهره بقوته وعظمته سبحانه‪,‬‬
‫فهذا الكون فضاء مخيف من المخلوقات ول يدرك عظمة ال من ل‬
‫يدرك عظمة هذا الكون الذي يسير فيه كل مخلوق دون أن يدخل في‬
‫نطاق الخر‪ .‬فالذئب يأكل الخروف والخروف يأكل العشب والدجاجة‬
‫تأكل الحب ولن يأكل الدجاج الخروف ولن يأكل الذئب الحب وهذا‬
‫معنى قوله عليه الصلة والسلم (أعوذ بكلمات ال التامات التي ل‬
‫‪121‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫يجاوزهن بر ول فاجر)(‪ )119‬فهو يخلق كل شيء بكلماته فيقول له‬


‫كن هكذا فيكون كذلك ويبقى على ما خلقه ال عليه ل يتجاوزه حتى‬
‫يرث ال الرض ومن عليها‪ .‬وهي ظاهرة حيرت علماء الجتماع‬
‫عندما راقبوا الحيوانات فوجدوا أن أخلقها ل تتطور ول تتغير على‬
‫مر العصور‪ .‬فمن الذي يحكم هذه الرواح في هذه التصرفات وهذه‬
‫الطر النفسية؟‪ .‬إنه ال!‪ .‬ثم يأتي من يريد تفريغ هذا العالم من أفعال‬
‫ال وتأثيراته ويزعم بأن ذلك " براغماتية! " يقتضيها عصر التجربة‬
‫والمادة والمنفعة العملية!‪ .‬العيش مع المسلمات والمعاني الخفية‬
‫المستصحبة على الدوام أمر حتمي لبد منه وإل فعليك في كل مرة‬
‫تفكر فيها بواشنطن أن تذهب إلى واشطن وتعود لكي ل تخضع‬
‫للتسليم واليمان الغيبي بوجود مدينة ربما ليس لها وجود إل في‬
‫دماغك اللبراغماتي‪ .‬ولهذا ينبه ال تبارك وتعالى على هذه الحاطة‬
‫الشديدة وهذا النظام المحكوم بقيام ال عليه فيقول‪( :‬ال يعلم ما تحمل‬
‫كل أنثى وما تغيض الرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار *‬
‫عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول ومن‬
‫جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من‬
‫بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر ال إن ال ل يغير ما بقوم حتى‬
‫يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد ال بقوم سوءا فل مرد له وما لهم من‬
‫دونه من وال * هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب‬
‫الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملئكة من خيفته ويرسل الصواعق‬
‫فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في ال وهو شديد المحال) الرعد‪:‬‬
‫‪ ,12-8‬فسبحان ال العظيم‪ ,‬سبحان ال العظيم!!‪.‬‬
‫فنحن ندبر سببا واحدا وال يدبر من حيث ل نرى ول نعلم عددا ل‬
‫يحصى من السباب التي لو لم يتيسر واحد منها لفشل تدبيرنا التافه‬
‫الضئيل الذي كنا نظنه هو الصل الذي عليه نبني " جدوى المشروع‬
‫" الذي نسعى إلى تحقيقه!‪ .‬لهذا تجد النبي يقول‪( :‬إذا خرج الرجل‬
‫من بيته فقال‪ :‬بسم ال توكلت على ال ل حول ول قوة إل بال فيقال‬
‫له‪ :‬حسبك قد هديت وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له‬
‫شيطان آخر‪ :‬كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)‪ .‬فالحديث‬
‫‪ )(119‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪122‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫يوضح أن التوكل على ال سبب لدفع شر من يترصد لك عند‬


‫خروجك وذلك في قوله " كفيت " وكذلك سبب في عناية ال التي‬
‫تحميك من الوقوع في كل ما يتوقى الناس الوقوع فيه من أذى غير‬
‫مقصود وذلك في قوله " وقيت " ثم هو سبب في هدايتك إلى السبيل‬
‫المثل لبلوغ غايتك سالما غانما وذلك في قوله " هديت "‪.‬‬
‫والمعنى من كل هذا هو أن تحديد معالم الواقع من معطياته المادية‬
‫وجعلها هي ذاتها مدخلت أي مشروع لتنظير المستقبل بشكل‬
‫حصري‪ ,‬أمر غير حكيم ل كونا ول شرعا لن أفعال ال في الكون‬
‫على مستوى الفرد والجماعة ل تنقطع عن التدخل الذي تدركه عقولنا‬
‫أو ل تدركه وإنما يتاح لها التعامل مع تلك الفعال بأمور وصفها ال‬
‫في دينه كالتوكل والنابة والخوف والرجاء‪ ,‬ولهذا قال ال تعالى في‬
‫الحديث القدسي كما في الصحيحين‪( :‬يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا‬
‫الدهر بيدي المر أقلب الليل والنهار)‪ .‬وفي صحيح مسلم عن أبي‬
‫موسى قال‪ :‬قام فينا رسول ال بأربع‪( :‬إن ال ل ينام ول ينبغي له‬
‫أن ينام يرفع القسط ويخفضه ويرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل‬
‫الليل بالنهار)‪ ,‬وهذا هو تفسير قوله تعالى‪( :‬يسأله من في السماوات‬
‫والرض كل يوم هو في شأن) الرحمن‪ .29 :‬كما أن رسول ال‬
‫وصف كلمة (ل حول ول قوة إل بال) بأنها كنز من كنوز الجنة‬
‫وهي واضحة المعنى فل تحول ول انتقال إل بقوة ال وإذنه وتدخله‪.‬‬
‫ولو تأملت الواقع لوجدت طرفه في قلب العبد وطرفه الخر في يد‬
‫ال‪ ,‬ولن يرى الواقع على حقيقته من ل يرى فعل أمر ال في خلقه‬
‫وقد قال ‪( :‬لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إل ظهر‬
‫فيهم الطاعون والوجاع التي لم تكن مضت في أسلفهم ولم ينقصوا‬
‫المكيال والميزان إل أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان‬
‫عليهم ولم يمنعوا الزكاة إل منعوا القطر من السماء ولول البهائم لم‬
‫يمطروا ولم ينقضوا عهد ال وعهد رسوله إل سلط عليهم عدوهم من‬
‫غيرهم‪ ,‬وما لم تحكم أئمتهم بكتاب ال ويتخيروا مما أنزل ال إل‬
‫جعل ال بأسهم بينهم)(‪.)120‬‬
‫‪ )(120‬ـرواهـ ـابنـ ـماجهـ ـوحسنهـ ـاللبانيـ ـوصححهـ ـالحاكمـ ـووافقه‬
‫الذهبي‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫إن الواقع أكبر من خرائط القادة في ساحات القتال وأبعاد المشكلة‬


‫أبعد من رائحة الدم والبارود في بيوت المستضعفين من المسلمين‬
‫والنصر رضيع الواقع ولن يشب ويشتد ساعد النصر واللبن فاسد فإن‬
‫ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‪ ,‬وإنك لترى الرجل يتعب‬
‫ويشقى وينال من العذاب ما ال به عليم فإذا سألته عن أهدافه قال‪" :‬‬
‫تحرير الرض ونيل الحرية واستعادة الكرامة "‪ ,‬هكذا ينخلع من‬
‫سبيل ال فيوالي ويعادي على هذه المفاهيم المتأصلة في قلبه والتي‬
‫نتجت عن " وسواس الرض والكرامة والوطن الخالد! "‪ ,‬بينما‬
‫الرض في نظام سنن ال الكونية هي لمن يقيم فيها السلم والملة‬
‫وأن ال يورث الرض من يشاء من عباده‪ ,‬ولو كفر العرب عن‬
‫بكرة أبيهم وآمن اليهود والنصارى لكانوا أحق من المسلمين بديارهم‬
‫وكما قال عليه السلم‪( :‬أل إن آل بني فلن ليسوا بأوليائي ولكن ولي‬
‫ال وصالح المؤمنين)(‪ .)121‬ول يكاد يخلو قلب مسلم من شائبة هذه‬
‫الفة إل من رحم ال وقد ذكرتها تحت هذا الباب لنها تحتل جزءا‬
‫كبيرا من الواقع المعاش ولن كثيرا من المسلمين يقعون تحتها عمليا‬
‫أو على القل تحت تأثيرها الذي تروجه وسائل العلم وهي في‬
‫الحقيقة واقع باطل ل ينبغي لحد أن يعيش من أجله ول أن يتأثر به‬
‫إل أن يكون ذلك ل ولدين ال ولعباد ال من المؤمنين‪ .‬وقد نقل‬
‫الشيخ ابن عزام رحمه ال مشاهداته لبعض ما يقع من بعض‬
‫المنحرفين من المسلمين الذين يسمون أنفسهم بالمناضلين من أجل‬
‫الوطن والحرية والقومية العربية في بعض البلدان السلمية العربية‬
‫المحتلة فقال أنه رأى فريقا منهم يطلقون النار على المآذن عند موت‬
‫رئيس عربي تبنى الدعوة القومية العربية وكان ذلك الفعل منهم‬
‫انتقاما من ال بزعمهم لنه أمات زعيم القومية العربية(‪.)122‬‬
‫ومازالت بقايا هؤلء القوم موجودة في زوايا الواقع العربي وبعضهم‬
‫مازال يحمل اللواء والناس يركضون خلفه ويتعلقون بشماليله‬
‫ويهتفون له‪ ,‬فعلى أي هباء!‪ .‬أما مشاهداتي أنا فإني رأيت مفكرا‬

‫‪ )(121‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(122‬ــذكرهـ ـفيـ ـكتابهـ ـ"ـ ـتفسيرـ ـسورةـ ـالتوبةـ ـ"ـ ـمتداولـ ـعلى‬
‫النترنت ولم يطبع‪.‬‬
‫‪124‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫إسلميا كان في السابق شيوعيا ثم ارتدى عباءة فصار " مفكرا‬


‫إسلميا! "‪ ,‬يقول بأن الذي ل يدعو لنصرة الروافض في لبنان إنما‬
‫هو رجل يعمل بفتاوى بدوية متقوقعة تصدر عن أناس ل يفقهون‬
‫شيئا‪ ,‬ثم يستضاف في مهرجانات التقريب والتخريب في أمريكا‬
‫وأوروبا وفي الفضائيات والمجلت السيارة ليكون " إمام التنظير‬
‫والتنوير " لعقول الشباب المسلم‪ ,‬فعلى أي هباء!!‪.‬‬
‫إن إدراك الواقع على حقيقته ومعرفة عناصره أصل أصيل لتولي‬
‫مقاليد الخلفة في الرض سواء على المستوى الفردي بالعبودية ل‬
‫أو على المستوى الممي بالخلفة الشرعية فالذي ل يدري من أين‬
‫سيؤتى‪ ,‬لن يكون خليفة ال في الرض ‪,‬و رحم ال إبراهيم الخواص‬
‫عندما تأوه ثم تأوه فقالوا‪ :‬ما هذا التأوه يرحمك ال؟ فقال‪ :‬أوه! أوه!‪,‬‬
‫من كان يسره ما يضره‪ ,‬متى يفلح؟!!(‪ .)123‬وقد ساد السلف العالم‬
‫وأملوا على الدنيا مبادئهم عندما أدركوا كل هذه المعاني حتى قال‬
‫أحدهم لصاحبه‪( :‬يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك فأما إذا صرنا يقتدى‬
‫بنا ما أرى يسعنا التبسم!)(‪ )124‬فصارت في نفوسهم قناعة تامة بأنهم‬
‫مسئولون وأنهم " هم الناس " كما قال سنيد بن داود يقول سألت ابن‬
‫المبارك‪ " :‬من الناس؟ قال‪ :‬العلماء‪ ,‬قلت‪ :‬فمن الملوك؟ قال‪:‬‬
‫الزهاد"(‪ ,)125‬فلن يكون عالما ول أستاذا من يجد في قرارة نفسه‬
‫شعورا بأنه لن يكون عالما إل بالناس! ‪,‬فالناس كما قال أبو الدرداء‪:‬‬
‫(عالم ومتعلم وما عدى ذلك فهمج رعاع ل خير فيهم)(‪ .)126‬وابن‬
‫جلدتك الذي حاز علم الدنيا على غير رغبة في دين ال فإن لم‬
‫يضرك فلن يسرك‪ .‬ولن يتمكن النسان المسلم من تمثيل دور "‬
‫الدمي المثالي على الرض " وهو يعتقد أنه لن يكون مثاليا إل‬
‫بمشابهة الخرين ومشاكلتهم‪ ,‬فالصحيح أن هذا الواقع المرئي أمر‬
‫‪ )(123‬حلية الولياء (‪.)326/ 10‬‬
‫‪ )(124‬حلية الولياء (‪.)143/ 6‬‬
‫‪ )(125‬حلية الولياء (‪.)167/ 8‬‬
‫‪ )(126‬أخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) ( ‪)27/ 1‬‬
‫وغيره‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫مشكوك فيه‪ ,‬فالفواه صارت أبواقا خرقاء والوجوه صارت كجلد‬


‫الحرباء ورؤوس أهل المناهج المبتكرة من القوم " السلميين "‬
‫يتصدرون المة بألسنتهم ثم فجأة يتبرأ أحدهم حتى من كرسيه الذي‬
‫كان يجلس عليه وينخلع حتى من نعليه ويذهب من بين القوم عاريا‬
‫من كل شيء لتضيع من بعده الفراريج! التي وصفت عليها أم‬
‫المؤمنين عائشة رضي ال عنها أبا سلمة بن عبد الرحمن عندما‬
‫قالت‪( :‬أتدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ إنما أنت مثل الفروج‪ ,‬يسمع‬
‫الديك يصيح فصاح)(‪ .)127‬فلجل هذا ندعو إلى واقعية العلم‬
‫الشرعي والجذور ولجل هذا ندندن حول الصول ومن يدندن على‬
‫غير أصل فإنما هو رجل سوء يريد أن يعبده الخلق من دون ال‪ ,‬ولو‬
‫أنه فعل كما قال عامر الشعبي للسدي لكان خيرا ً له عندما قال له‪:‬‬
‫(لن يضع الرجل طبلً على أسته يضرب به في السواق ويغني‪,‬‬
‫خير له من أن يفعل كما تفعل يا سدي)(‪ ,)128‬وكان يرى أنه يفسر‬
‫القرآن برأيه‪ .‬فليست كل المبادئ المعلنة مبادئ حقيقية‪ ,‬لن المبدأ‬
‫الحقيقي هو المبدأ الذي ل يمثل إل نفسه‪ ,‬بينما ما نراه من حولنا من‬
‫مبادئ عند أهل السلم النفعي والرومانسي ل تمثل نفسها إل فيما‬
‫يرى صاحبها أنها توافق فيه الخرين أو على القل تجد القبول‬
‫عندهم أيا كانوا هؤلء الخرين‪ ,‬بدأ المر بأهل الظلم والجور ثم‬
‫عامة الفساق إلى أن انتهى المر إلى اليهود والنصارى الذين صار‬
‫اسمهم " الطرف الخر "‪ ,‬حتى أن رجلً سألني مرة‪ :‬إذا أنا كنت إمام‬
‫الناس في الصلة هل يجوز لي أن أقرأ " قل يا أيها الخرون! ل‬
‫أعبد ما تعبدون؟! "‪ .‬ومعاملة الكفار على الوجه الذي ل تظلمهم فيه‬
‫مسطورة في كتاب ال وسنة رسوله ول أحد ينكر حقوقهم التي كفلها‬
‫ال لهم لن ذلك جزء من تحقيق الخلفة على الرض فمنهم أهل ذمة‬
‫وأمان ومنهم أهل عهد‪ ,‬وليس هذا مجال بسط ذلك‪.‬‬
‫إن في المة علماء هدى يعلمون الناس الخير ويأمرون بالمعروف‬
‫وينهون عن المنكر ولكننا نتحدث عن الذين يتصدرون لوجوه العامة‬
‫من بعض الدعاة والمفكرين الذين ل تستغرب إن قلت لك بأن لديهم‬
‫‪ )(127‬مصنف عبد الرزاق (‪.)246/ 1‬‬
‫‪ )(128‬الكامل لبن عدي (‪.)274/ 1‬‬
‫‪126‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫عقيدة تقول بأن اليمان يزيد وينقص تبعا لتقارير الواشنطن بوست‬
‫وتعاملت الوول ستريت!!‪ .‬ثم ينصبون أنفسهم أساتذة للواقع والحياة‬
‫وكأن الدين ليس من الحياة وليس من الواقع‪ ,‬وقد كانت العذار‬
‫مقبولة نوعا ما لهل هذا المنحى‪ ,‬ولكن بعدما كشف غطاء الصمت‬
‫وكسرت حواجز التعتيم وصار المسلم يقتل في مسجد ريفي في‬
‫العراق فتتناقل وسائل العلم صور قتله بعدها بلحظات‪ ,‬والطفل‬
‫يقتل في فلسطين خلف ظهر أبيه فينقل ذلك بالصوت والصورة‪ ,‬بل‬
‫أن حتى هفوات القادة والرؤساء أثناء جلسات الستراحة في‬
‫المؤتمرات العالمية تنقل بشكل يكاد يكون مباشر(‪ ,)129‬بعد كل هذا‬
‫لماذا ننادي باليغال في " توهم واقع خفي " وننسب انحرافاتنا‬
‫المنهجية إلى اعتبارات وغايات ل يعلمها " عامة الناس! "‪ .‬فأقول‪,‬‬
‫وهل بقي في هذا الزمان عامة في فهم الواقع؟!!‪ .‬حتى العجائز‬
‫والطفال صاروا يعرفون أسماء أهل السياسة وقادة القتال في كل بلد‬
‫ويتوهمون المستقبل كما يتوهمه أي خبير سياسي غير أن الخبراء‬
‫يتوهمون بلغة سياسية علمية مليئة بالمصطلحات وشيء من الحدس‬
‫الشطرنجي حتى قال الستاذ الصحفي محمد حسنين هيكل بأن الخليج‬
‫بات مكشوفا بعد تجارب القارة الهندية النووية بين الهند وباكستان‬
‫وهو الن في خطر فرد عليه سفير خليجي عمل في خمس وزارات‬
‫(‪)130‬‬
‫وسفيرا لبلده في بريطانيا بأن هذا استنتاج غريب غير مفيد!!‪.‬‬
‫الصحيح هو أن تفهم الدين لتفهم الواقع وليس أن تفهم الواقع وتجعل‬
‫الدين تبعا له حتى وإن قلنا بقاعدة المصلحة والمفسدة لن الواقع‬
‫المرئي جزء صغير جدا من واقع كبير اسمه " الواقع الشرعي " وهو‬
‫الذي يتركب من فهمك للكون وعناصره الفاعلة فيه ثم فهمك لخويصة‬
‫نفسك ودورها المناسب في الحياة‪ ,‬وال عز وجل ما تركنا هملً بل‬
‫بصرنا وأخبرنا بأن هناك أجناس معينة من البشر والضللت سوف‬
‫تتكرر على مر الزمان‪ ,‬فذكر سماتهم وسمات أزمنتهم التي يخرجون‬
‫‪)(129‬كما نقلت الفضائيات كلمات سوقيةـ للرئيس المريكي في‬
‫استراحة اجتماع حلف الناتو‬
‫(‪ )2‬استراحة الخميس ‪ ,‬غازي القصيبي ‪ ,‬ص‪132 - 131 :‬‬
‫‪130‬‬
‫‪127‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫فيها وال عز وجل يقول‪( :‬و ال أعلم بأعدائكم وكفى بال وليا وكفى‬
‫بال نصيرا)(‪ .)131‬لهذا عليك أن تعود إلى ما قلنا في تفصيل معنى‬
‫العلم بأن تعرف حقيقة تركيب الشيء وهيئته ثم تعرف غايته التي‬
‫يعمل لجلها‪ ,‬وكل ذلك على أصول علمية من الكتاب والسنة‪ ,‬فإذا‬
‫أنزلت هذا على كل شيء اكتشفت أن هذا الواقع شيء آخر تماما‬
‫وعرفت من الناس؟ ومن النسناس؟‪.‬‬
‫الواقع له أبعاد كثيرة بل هو عوالم في عالم واحد فأنت كآدمي تعيش‬
‫على المستوى الحسي من مسموع ومشاهد وملموس ولك ذهن وفطرة‬
‫وإيمان بالغيب وقرينك الذي يرافقك ل ينفك عنك من الشياطين يعيش‬
‫على المستوى الغيبي فل تراه وهو يراك ومعه أمة أخرى من بني‬
‫جنسه لهم ظروفهم وتركيبتهم وعالمهم الخر وأنت وهم تشتركون‬
‫حتى في المأكل والمشرب بل وربما شارك الجني الدمي في زوجته‬
‫وفراشه وهو ل يعلم!‪ ,‬فالشيطان كائن حي يدخل بيتك مثلما تدخله‬
‫النملة والذبابة والبعوض وله رأس وله قرنين ويدين وقدمين ولسان‬
‫وحلق وقبل ودبر ويبول ويأكل ويشرب وحجمه يكبر ويصغر‬
‫ويجامع ويتنفس وأخبرنا أنهم يسكنون البيوت ويقفون على أبوابها‬
‫كما قال عليه الصلة والسلم (إذا خرج الرجل من بيته فقال‪ :‬بسم ال‬
‫توكلت على ال ل حول ول قوة إل بال فيقال له‪ :‬حسبك قد هديت‬
‫وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر‪ :‬كيف لك‬
‫برجل قد هدي وكفي ووقي؟)(‪ )132‬فهذا يدلك على أن مخرج كل‬
‫بيت يقف على بابه على القل شيطانان!‪ .‬بعد ذلك تأتي البهائم التي‬
‫تعيش على المستوى الحسي وليس لها بعد معنوي يذكر فهي تعلم‬
‫غاية خلقها ولكن من ناحية أنها تتعارض في شيء معنوي مع البشر‬
‫فل يوجد شيء من ذلك فيبقى النسان يعيش على المستوى الحسي‬
‫والغيبي‪ ,‬والغيب ينقسم إلى قسمين غيبي ذهني يمكن إدراكه بالفهوم‬
‫وهو " الذهن الرياضي والتصوري " وغيبي شرعي ل نعرفه إل‬
‫بالوحي‪ ,‬ثم الملئكة الكاتبون والحافظون والموكلون بأرزاق الرض‪,‬‬
‫‪ )(131‬النساء‪.45 :‬‬
‫‪ )(132‬رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والترمذي وقال حسن‬
‫صحيح وصححه اللباني‪.‬‬
‫‪128‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫والواقع هو خليط من تقاطعات كل هذه المؤثرات الفاعلة التي تعيش‬


‫فيه وإن لم تتعرف عليها وعلى حقيقة تكوينها وغايات خلقها فلن تفهم‬
‫الواقع وسيغيب عنك على القل نصف الواقع الحقيقي الفاعل‪ ,‬هذا مع‬
‫وجوب اليمان بأثر إرادات ال المتفرقة بين البتلء والنصرة‬
‫والعقوبة والخذلن والسباب القائمة في أفراد المكلفين وجماعاتهم‬
‫التي بسببها تكون إرادات ال على ما هي عليه في الرض‪ ,‬وكل ذلك‬
‫مذكور في الكتاب والسنة بأماراته وإشاراته وأحيانا شخوصه!‪.‬‬
‫أنت بحاجة لن تبحث وتستقصي وتفكر وتنفق الكثير من عمرك لكي‬
‫تحصل على الحقيقة والنجاة‪ ,‬ورحم ال الشافعي عندما عدد أصناف‬
‫العلم في رسالته لبن مهدي فقال‪( :‬و من العلم ما فرض ال على‬
‫خلقه الجتهادَ في طلبه وابتلى طاعتهم في الجتهاد كما ابتلى طاعتهم‬
‫في غيره مما فرض عليهم فإنه يقول تبارك وتعالى‪( :‬ولنبلونكم حتى‬
‫نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم)‪ .‬فل بد لكل إنسان‬
‫مكلف في هذه الحياة أن يجد نفسه في يوم من اليام يقف على مفترق‬
‫طرق وقد كتب عليه " إما كمال الحياة وإما كمال الدين؟ "‪ ,‬ولهذا أمر‬
‫عليه السلم بالتسديد والمقاربة وأخبر بأنه لن يشاد الدين أحد إل غلبه‬
‫وكان يؤصل في نفوس المسلمين فكرة أن النسان " خاطئ بطبعه "‬
‫فكان يقول كما في صحيح مسلم‪( :‬والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا‬
‫لذهب ال بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون ال فيغفر لهم)‪ .‬فأنت‬
‫يجب أن تجتهد ويجب أن تعبد ويجب أن تعيش دون أن يطغى شيء‬
‫على شيء!‪.‬‬
‫إن المشكلة التي تواجه الدعاة اليوم على قلة علم أكثرهم وعلى قلة‬
‫إحاطتهم بأصول العلوم التي دخلت في عقول كثير من الناس وكذلك‬
‫الثقافات التي صارت جزءا من واقعنا هي أنهم يحاولون جعل الدين "‬
‫أداة حياة " فيتكلمون عنه بين الناس وكأنه رغيف خبز أو قارورة ماء‬
‫فل هم فهموا ما في عقول الناس ول هم فهموا ما يدعون إليه‪ .‬وتلك‬
‫العبارة التي ذكرها شيخ السلم ابن تيمية عندما قال " جنتي في‬
‫صدري " هي جنة يندر أن يصل إليها إل من رحم ال من أوليائه‬
‫حتى وإن وجدنا انشراح الصدر وشيء من الرضا بعد التدين ولكن‬
‫كل هذه الحاسيس الهشة ستذوب تحت أول معول من معاول الواقع‬
‫‪129‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫إن لم يكن الردئ لها الصبر والحتساب‪ ,‬فكيف بعامة المسلمين؟‪,‬‬


‫وإل فالتدين في هذا الزمان هو كما قال ‪( :‬يأتي زمان على الناس‬
‫الصابر على دينه كالقابض على الجمر)(‪ )133‬فالدين اليوم "جمر"‬
‫وليس للجمر إل نكهة الحرقة والحتراق والدين بحاجة لمن يصبر‬
‫عليه‪ ,‬فليس هو تلك النكهة التي يحاول بعض الدعاة غرسها في‬
‫مخيلة الناس حتى إذا قلت لحدهم الموسيقى حرام لوى شدقيه ومط‬
‫برطميه وقال‪ :‬أمر غريب!‪ .‬فعليك قبل أن تدعو الناس إلى الدين أن‬
‫تبين لهم "واقع المعركة الشرعية" على كافة مستوياتها الشخصية‬
‫والجتماعية والممية كل مرحلة في وقتها وأن توجد له الحلول التقية‬
‫النقية فإغراء الناس بالسعادة وبالحلول السحرية السلمية الوهمية ل‬
‫يجدي شيئا ول ينفع المكلف بل يضره ولهذا كانت قصة آدم وإبليس‬
‫هي محور العقيدة في العهد المكي ثم قصص النبياء وعذابات المم‬
‫السابقة من المؤمنين وما جرى لهم ثم جاءت العبادات ثم بعد ذلك‬
‫( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن ال على نصرهم لقدير)(‪.)134‬‬
‫ينبغي أن نجعل هذا الواقع الشرعي بكل تفاصيله متأصلً في قلوب‬
‫المكلفين على مختلف درجات التزامهم بالدين وأن يفهموا أنهم لم‬
‫يخلقوا لهذه الدنيا وأن سعادتهم الكاملة لن تكون إل بعد تركهم هذا‬
‫العالم إلى عالم كمال الفضيلة والعدل المطلق الذي فيه ما ل عين‬
‫رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫اليوم نرى من يمارس عكس ذلك فيرى أن السعادة تكمن في تولي‬
‫زمام هذا العالم وإعماره وبنائه وزخرفته وممارسة الستاذية عليه مع‬
‫ان كل هذه الشياء وسائل بينما هو يعتقد أن ذلك مقصد مطلوب لذاته‬
‫فيبتغيه بركوب الصعب والذلول ويشعر بالشقاء والحنق لفقدان ذلك‬
‫وكان الجدر به أن يشعر بالستكانة والنابة والعودة لمناقشة الجذور‬
‫والصول التي دخل عليها عفن التبديل وأكلتها أرضة التخلف‬
‫والركود الفكري والعقدي في القرون السابقة‪ ,‬وهذا الشعور المحموم‬
‫لتولي سلطة العالم لدى هؤلء الناس فيه من نزعة الطمع وحب‬
‫التسلط أكثر مما فيه من الرأفة والشفقة على من وقع تحت ولية‬
‫‪ )(133‬رواه الترمذي وغيره وصححه اللباني‪.‬‬
‫‪ )(134‬الحج‪.39 :‬‬
‫‪130‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الكفرة والفجرة والفساق بدليل أن كثيرا من أصحاب هذه النهمة‬


‫الستاذية يقرون الفساق على فسقهم والمبتدعين على بدعتهم بل‬
‫وربما شاركوا القبوريين قبوريتهم وكل ذلك لجل أن يجمعوا لهم "‬
‫تلميذا جهلة " يمارسون عليهم الستاذية دون أدنى تحرج شرعي‪.‬‬
‫وهذا النكار لمعنى الستاذية منصب على فلسفة أولئك القوم لمعنى‬
‫الستاذية وطريقة الوصول إليها وليس كمبدأ عام في السلم‪ ,‬لن‬
‫علو السلم على غيره أمر مقرر في العقيدة والشريعة فهو كما قال‬
‫في حديث صحيح عند أحمد وغيره (السلم يعلو ول يعلى عليه)‪.‬‬
‫وبسبب جهل العامة أو تجهيلهم فقد نطق الرويبضة لنه تكلم بين‬
‫أناس ل يعلمون عن دينهم شيئا حتى سمعت أحدهم يقول " الدين ليس‬
‫ببتر اليدي والرجل وتشويه الناس! "‪ ,‬وله جمهور وله أتباع ويقول‬
‫بأنه أستاذ إسلمي!‪ .‬ولو لبس رجل بدوي عباءة وعمامة وذهب إلى‬
‫قبائل حديثة السلم في أدغال أفريقيا وخطب بهم خطبة الجمعة وهو‬
‫يقول‪ " :‬لو جمعنا واحدا إلى واحد لكانت ثلثة وأن الشمس تخرج‬
‫بالليل والنجوم تخرج بالنهار"‪ ,‬لجلسوا بكل خشوع واحترام يستمعون‬
‫إلى هذا الفقيه النجدي!‪ ,‬وكذلك الحال فيمن يعبّد الناس لربهم بالسياسة‬
‫والعقائد الرومانسية والنفعية‪ ,‬لن يفهموه‪ ,‬لنه في تجدد وتقدميّة‬
‫مستمرة!‪ ,‬وسيكتفون بإظهار المشاركة والتفاعل بالمظاهرات‬
‫والهتافات وفتات التبرعات لنه حتى هو نفسه ل يفهم إلى أين هو‬
‫ذاهب!‪ ,‬فهو كالخائف المدلج الذي يجد في المشي ويهذي لكي يبدد‬
‫وحشة الظلم من قلبه ويمني نفسه بصبح قريب على غير هدى‬
‫وغير علم‪ ,‬وكلما جد في سيره كلما زاد في ضياعه وأبعد النجعة عن‬
‫مظنة نجاته‪.‬‬
‫قد يظن البعض أن هذا ضربا من التهويل ناتج عن وساوس نشأة‬
‫أثرية في نفسي‪ ,‬ولكن عندما ترى رجلً تم تقليده مناصب قيادية في‬
‫هيئات إسلمية عالمية في الغرب وتم إبرازه ليكون رمزا في الدعوة‬
‫والصلح عند أهل السلم قاطبة‪ ,‬يقنت في صلته فيدعو على‬
‫اليهود لنهم سرقوا منا الرض ثم يجري بعدها لقاءا معلنا يذكر فيه‬
‫وفاة بابا الفاتيكان ويقول‪ " :‬أسأل ال أن يغفر له ويرحمه! فقد كان‬
‫‪131‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫مخلصا لدينه وأمته!"(‪ ,)135‬وهذا لن هذا الشيخ الداعية يرى حسب "‬
‫تركيبته الرومانسية " أن الخلص خلق فاضل والعقيدة الرومانسية‬
‫توجب تقديس مشاعر وتضحيات الخرين واحترامها‪ ,‬وذلك كما قال‬
‫الفيلسوف الفرنسي فولتير‪ " :‬ربما ل أوافقك على ما تقول ولكني أدفع‬
‫حياتي ثمنا لتقول ما تريد قوله"(‪ .)136‬ولم أقابل في حياتي أسخف من‬
‫هذه المقولة الفولتيرية السمجة‪ .‬فإن كنت ل توافقه لنك ترى رأيه‬
‫مخالفا للصواب فالولى أن تدفع عمرك لتمنعه من قول ما يريد قوله‬
‫لن الدفاع عن الحق أشرف من نصرة " حرية الباطل " وإن كنت‬
‫ترى أن قولك وقوله صواب أو على القل قد يكون له وجه من‬
‫الصحة فقولك ليس بأولى من قوله وفعلك في نصرته ليس شيئا جديدا‬
‫في عالم الشرفاء وأما إن كنت ترى بأنك ل تدري أمعك الحق أم معه‬
‫فأنت أحمق قد باع حياته ثمنا ليمارس الخرون حماقاتهم وأما إن‬
‫كنت ترى بأن القول مهما كان مضمونه ومعناه وموضوعه‪ ,‬جدير‬
‫بأن يفسح له المجال ليخرج بكل حرية بغض النظر عن صحته‬
‫وبطلنه فإني أنا من سيدفع عمره في سبيل إسكات الغوغائيين من‬
‫أمثالك الذين أفسدوا " قيمة الكلمة العلمية والدبية " وأباحوها حتى‬
‫للمهرجين والمومسات والكلب الضالة!‪ .‬وبناءا على هذه النظرية‬
‫الفولتيرية كان ينبغي في نظر ذلك الشيخ تقدير ذلك الخلص في‬
‫قلب ذلك البابا الهالك‪ ,,‬أنمدح الكلب على إخلصه ول نمدح بني‬
‫النسان؟‪ .‬هكذا بكل رومانسية!‪ ,‬وهذا واقع نراه بأعيننا لم يأتنا به‬
‫"من لم نزودِ"‪.‬‬
‫هناك عالم آخر قائم موجود اسمه الجنة‪ ,‬هو واقع أيضا‪ ,‬وهو القوة‬
‫الخفية التي كانت في نفوس الصحابة من قبل والتي كانت تدفعهم إلى‬
‫التجرد حتى من ضروريات آدميتهم فكان الرجل يقبل على الموت‬
‫وهو يقول‪ " :‬إني لشم ريح الجنة من دون أحد"(‪ )137‬ويصبر على‬

‫‪ )(135‬قالها داعية دكتور ازهري في برنامج في قناة الجزيرة وهو‬


‫يشغل منصب رئيس رابطة العلماء المسلمين العالمية!!‪.‬‬
‫‪)(136‬‬
‫‪ )(137‬رواه البخاري‪ ,‬قالها أنس بن النضر في معركة أحد‪.‬‬
‫‪132‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الداء العضال لنه قيل له‪( :‬أتصبر ولك الجنة؟)(‪ ,)138‬وقد قال‬
‫يصف لهم الجنة‪( :‬ثم انطلق بي – يعني جبريل ‪ -‬حتى انتهى بي إلى‬
‫سدرة المنتهى وغشيها ألوان ل أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا‬
‫فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)(‪ )139‬وقال‪( :‬دخلت الجنة‬
‫فرأيت فيها دارا أو قصرا فقلت لمن هذا؟ فقالوا لعمر بن الخطاب‬
‫فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك فبكى عمر وقال أي رسول ال أو‬
‫عليك يغار؟)(‪ ,)140‬ولكن هذا لم يكن ليكفي بل أراد رسول ال أن‬
‫يجعل الدار الخرة وكأنها غرفة خلف الجدار فذكر للناس أشخاصا‬
‫كانوا يعيشون معهم يكلمونهم ويمازحونهم ويشاركونهم الطعام‬
‫والشراب والخوف والجوع في يوم من اليام‪ ,‬وهم الن في الجنة‪,‬‬
‫ليعلم الناس صدق الوجود وحقيقة النتقال والترقي في ملكوت ال‬
‫فقال عليه الصلة والسلم في قصة أخرى في دخوله الجنة‪( :‬ثم‬
‫أشرف بي – يعني الملك الذي معه في السراء ‪ -‬شرفا فإذا أنا بنفر‬
‫ثلثة يشربون من خمر لهم قلت‪ :‬من هؤلء؟ قال‪ :‬هؤلء جعفر وزيد‬
‫وابن رواحة)(‪ ,)141‬يعيشون الن حياة هي الحياة التي يجدر بها أن‬
‫تسمى حقيقية بعد أن كانوا معنا هنا في هذه الحياة الدنيا هم الن‬
‫هناك حقيقة ً واقعا ً!‪.‬‬
‫كذلك‪ ,‬كما في حديث أبي هريرة قال‪( :‬كنا مع رسول ال إذ‬
‫سمع وجبة – أي صوت سقطة ‪ -‬فقال النبي تدرون ما هذا؟ قال‬
‫قلنا ال ورسوله أعلم‪.‬قال‪ :‬هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين‬
‫خريفا فهو يهوي في النار الن حتى انتهى إلى قعرها)(‪ .)142‬فهناك‬
‫واقع آخر أيضا ً اسمه النار هو قائم موجود وقد سقط ذلك الحجر من‬
‫شفير جهنم قبل سبعين سنة وهو يصل إلى قعرها الن وربما يحدث‬

‫لمرأة سوداء كانت تصرع‪.‬‬ ‫متفق عليه‪ ,‬قالها‬ ‫‪)(138‬‬


‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪)(139‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪)(140‬‬
‫رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان وصححه اللباني‪.‬‬ ‫‪)(141‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(142‬‬
‫‪133‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫هذا كل يوم ولكن ال أسمعهم هذه الوجبة لكي تحدث في قلوبهم هذه‬
‫النكتة اليمانية لحقيقة الوجود والواقعية في معرفة النار والشعور‬
‫بها‪ .‬ولم يتوقف واقع النار عند هذا الحد بل تجاوزه إلى الشعور بها‬
‫على وجه الدوام والعموم حيث قال عليه الصلة والسلم‪( :‬اشتكت‬
‫النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس‬
‫في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما‬
‫تجدون من الزمهرير)(‪ .)143‬وغير هذا من تفاصيل الكون الكثير‪,‬‬
‫فنحن ل نرى إل شيئاَ من الواقع وإل فقد قال من زويت له الرض‬
‫وعرف ال حق معرفته ‪( :‬لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليل ولبكيتم‬
‫كثيرا)(‪ .)144‬قال أنس – راوي الحديث ‪ -‬فغطى أصحاب رسول ال‬
‫وجوههم لهم خنين!‪.‬‬

‫‪ )(143‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )(144‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪134‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫تكريم آدم ومعصية إبليس‬


‫قال تعالى‪( :‬وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا إل إبليس أبى‬
‫واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‬
‫وكل منها رغدا حيث شئتما ول تقربا هذه الشجرة فتكونا من‬
‫الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا‬
‫اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الرض مستقر ومتاع إلى حين‬
‫* فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا‬
‫اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فل خوف‬
‫عليهم ول هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب‬
‫النار هم فيها خالدون)(‪ .)145‬وقد جاء ذكر هذه القصة في مواضع‬
‫كثيرة في كتاب ال عز وجل وذلك لن الرجوع إلى الجذور في أي‬
‫مسألة ومناقشة أصلها يجعلها أكثر وضوحا واقرب إلى نفس النسان‬
‫فمن علم قصة آدم وإبليس ثم نظر حوله فوجد مع كل إنسان قرين‬
‫من الجن ووجد الشيطان يرصد ابن آدم عند كل شيء علم أن القصة‬
‫الولى مازالت تتكرر وأن هذه الحياة عبارة عن محاولة جديدة لبن‬
‫من أبناء آدم للنتصار على إبن من أبناء إبليس كما كان آدم يجاهد‬
‫الشيطان ويراغمه وأمامنا ذات الوعد وذات الوعيد الذي قاله ال لدم‬
‫عندما أهبطه إلى الرض‪( :‬قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني‬
‫هدى فمن تبع هداي فل خوف عليهم ول هم يحزنون * والذين كفروا‬
‫وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(‪ ,)146‬فنحن اليوم‬
‫نفعل نفس الشيء ونعاني نفس التجربة بغض النظر عن كل تفاصيل‬
‫الحياة ولهذا يقول تعالى‪( :‬يا بني آدم ل يفتننكم الشيطان كما أخرج‬
‫أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو‬

‫‪ )(145‬البقرة ‪ 34‬ـــ ‪.39‬‬


‫‪ )(146‬البقرة ‪.39 ,38‬‬
‫‪135‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫وقبيله من حيث ل ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين ل‬


‫يؤمنون)(‪.)147‬‬
‫إن في هذه اليات سر عظيم ومفتاح من مفاتيح الفهم لهذا العالم ل‬
‫تجده إل في القرآن والسنة فهذا الصل العظيم الذي مفاده أننا جزء‬
‫من قصة طويلة وعداء قديم بين الشيطان والدمي وهذا التوجيه لكل‬
‫إنسان بأن يشعر بالنتماء الحقيقي لقوم خلقهم ال قبل قرون عديدة ل‬
‫يعلم عددها إل ال حتى أن ال سبحانه قال‪( :‬إنا لما طغى الماء‬
‫حملناكم في الجارية)(‪ )148‬أي يمتن ال على كل من قرأ القرآن‬
‫فيقول له بأنه حمله في ظهر نوح في السفينة عندما فاض الماء ذات‬
‫يوم فهلك كل شيء فكنت أنت يا من تقرأ هذه الية من الذين أنجيتهم‬
‫في ذلك اليوم في ظهر نوح عليه السلم فكنت من السللة الباقية ولم‬
‫نجعلك في تلك السللت التي انقرضت‪ ,‬فنوح عليه السلم هو الذي‬
‫قال ال عنه‪(:‬و جعلنا ذريته هم الباقين)(‪ ,)149‬أل ترى كم هو بعيد‬
‫خطاب القرآن؟ وكم هو حقيقي هذا النتماء لنوح عليه السلم ومن‬
‫كان قبل نوح؟‪ .‬وفي اليات كل هذا اليجاز في تعليل الوجود والعالم‬
‫بحيث يعلم الدمي أنه ببساطة كائن مبتلى بهذه الحياة وأن هذه الحياة‬
‫هي مشكلة تحتاج إلى حل وعقوبة تحتاج إلى صبر واحتساب قبل أن‬
‫تكون أي شيء آخر!‪ .‬على العكس مما ينادي به كثير ممن ل‬
‫يتخذون الكتاب والسنة مصدرا لوعيهم حيث ينادون بترسيخ مفهوم‬
‫أن الحياة فرصة لن تتكرر للحصول على السعادة وأن النسان ل‬
‫يفترض به في هذه الحياة ال أن يكون سعيدا وأن هذه الحياة هي‬
‫الوجود الجمل والمثل وهي الحاضن الوحيد لكل ما لدى النسان‬
‫من أحلم وطموحات يجب أن يحلمها ويطمح إليها وهذا كله بمعزل‬
‫عن ذكر الخرة وهذا فهم أخرق ول أقول بهيمي لني أجزم بأن‬
‫كثير من رؤوس الحيوانات تحمل ما هو اشرف وأعلى من هذا الفهم‬
‫حيث يقول عن يوم الجمعة وشعور الحيوانات فيه‪( :‬وفيه تقوم‬
‫‪ )(147‬العراف ‪.27‬‬
‫‪ )(148‬الحاقة‪.11 :‬‬
‫‪ )(149‬الصافات‪.77 :‬‬
‫‪136‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬

‫الساعة ما على الرض من دابة إل وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة‬


‫حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إل بن آدم) رواه احمد وأهل‬
‫السنن بسند صحيح‪ ,‬فحتى البهيمة العجماء تدرك أن هذا العالم قد‬
‫ينتهي في أي لحظة وتشعر بالقلق تجاه هذا الوجود الهش الذي ل‬
‫يعلم ال ال إلى متى سيبقى ناهيك عن الموت الذي يتخطف الناس‬
‫كل لحظة‪.‬‬
‫كذلك هذه اليات تحمل تنبيها لكل آدمي على أن مهمته في هذه الحياة‬
‫هي الرجوع إلى الجنة وإلى بيته القديم الذي خرج منه وهو في ظهر‬
‫آدم عليه السلم وكما كان رجوع آدم إلى الجنة مشروطا بالتوبة‬
‫والطاعة والصبر والحتساب فكل ذريته مطالبة أيضا بالتوبة‬
‫والحتساب والصبر على هذا البتلء وهذه الحياة المليئة باللم‬
‫والمشقة وذلك بالتوجه الصادق إلى ال ومتابعة أمره وأمر رسوله‬
‫لجل الخلص من كل هذا إلى نهاية سعيده كما ذكر ال عز وجل‬
‫في اليات السابقات‪ .‬واليات تلخص مفهوم الوجود في أنه محنة لها‬
‫طابع عام وشخصي فنحن أمة مؤمنة تجاهد أمة كافرة مكونة من‬
‫شياطين النس والجن وكذلك نحن أفراد كل فرد منا يسعى إلى‬
‫خلصه الشخصي من سيطرة قرينه الجني عليه ومن وسوسته وذلك‬
‫باللجوء إلى ال عز وجل وكما ذكر ابن الجوزي في تلبيس إبليس‪:‬‬
‫خير من أن تقاتل الكلب‪ ,‬أن تطلب من صاحبه كفه عنك‪ ,‬فهذا حال‬
‫كل فرد منا مع شيطانه ومع ربه‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‬
‫‪‬‬
‫تحقيق معنى الستخلف في‬
‫الرض‬
‫‪139‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫‪140‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫سكنى الرض وإعمارها ليس غاية في‬


‫خلق بني آدم‬
‫قال تعالى‪( :‬ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما *‬
‫وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا إل إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن‬
‫هذا عدو لك ولزوجك فل يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك أل‬
‫تجوع فيها ول تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول تضحى * فوسوس‬
‫إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ل يبلى *‬
‫فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة‬
‫وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال‬
‫اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع‬
‫هداي فل يضل ول يشقى)(‪ .)150‬إن المتأمل لهذه اليات سوف يعلم‬
‫دون تكلف أن آدم عليه السلم كان مأمورا بالبقاء في الجنة هو‬
‫وزوجه أمرا صريحا في قوله تعالى‪( :‬فل يخرجنكما من الجنة‬
‫فتشقى) ثم قال تعالى كلما يتضح من سياقه أن الجنة قد أعدت ليبقى‬
‫آدم وزوجه فيها بشكل دائم حيث يقول تعالى (إن لك أل تجوع فيها‬
‫ول تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول تضحى)‪ ,‬فبقاء آدم في الجنة كان‬
‫أمرا محبوبا عند ال وهذا ما يسمى بالرادة الشرعية أي الموافقة‬
‫للمر والنهي وأما الرادة الكونية هي أن يأذن ال بنفاذ أمر ما قدرا‬
‫دون أن يكون محبا لهذا المر كوقوع الزنا مثل‪ .‬ولجل ما سبق‬
‫بيانه فإنه يتضح لك خطأ من يقول بأن ال عز وجل خلق آدم ليكون‬
‫خليفته على الرض بمعنى أن هذه هي الغاية الشرعية المحبوبة عند‬
‫ال عز وجل‪ ,‬فالخلفة في الرض أمر طارئ جاء على وجه العقوبة‬
‫وما كان ال ليخلق آدم لجل أن يعاقبه‪ ,‬فهذا قول مخالف للصواب‬
‫لن ال ما خلق آدم لذلك ويتضح ذلك من وجوه هي‪:‬‬

‫‪ )(150‬طه‪.123 – 115 :‬‬


‫‪141‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫‪ )1‬أن ال عز وجل قال للجنة‪( :‬أنتي رحمتي أرحم بك من‬


‫أشاء)(‪ )151‬وعندما خلق آدم قال له‪( :‬يا آدم أسكن أنت وزوجك‬
‫الجنة)(‪ )152‬فكان واضحا أن ال عز وجل خلق آدم ليرحمه برحمته‬
‫التي هي الجنة ومن يقول بأن ال خلق آدم عليه السلم للخلفة في‬
‫الرض فإنه يقول بأن ال خلق آدم للشقاء لنه تعالى وصف الخروج‬
‫من الجنة – الذي هو الهبوط إلى الرض – بأنه شقاء‪ ,‬فقال‪( :‬فل‬
‫يخرجنكما من الجنة فتشقى)‪ ,‬ومن يقول بأن الخلفة في الرض‬
‫ليست كلها شقاءا لن النسان يتلذذ بطاعة ربه والخضوع له وتحدث‬
‫له من الحوال اليمانية التي هي من جنس النعيم الخالص فإن هذا‬
‫متعلق بذكر ال وعبادته ونحن نتحدث عن الخلفة بشكل عام بكل ما‬
‫فيها وبكل تبعاتها فهي بل شك شقاء‪ ,‬حتى أنه عليه الصلة والسلم‬
‫أشار إلى هذا المعنى في أن الدنيا قد ل تكون كلها شقاء ولكن أكثرها‬
‫الشقاء في قوله‪( :‬الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ذكر ال وما واله‬
‫وعالم أو متعلم)(‪ ,)153‬ول شك أنه قامت على الرض أنواع من‬
‫العبودية ل هي أعظم مما حدث لدم عليه السلم في الجنة فقد أرسل‬
‫ال الرسل وأتخذ من عباده الشهداء غير أن هذا في حد ذاته ل يخلو‬
‫من الشقاء فالنبي قد حدّث عن نبي من النبياء ضربه قومه حتى‬
‫أدموه فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم ل‬
‫يعلمون‪ ,‬فهذا نوع من العبودية في معناه وقصده ولكنه في الشعور به‬
‫وبمكابدته فهو شقاء وكان آدم يتنعم في الجنة ول حاجة له بكل هذا‬
‫هو وذريته‪ ,‬بل أن موسى عليه السلم سمى النزول إلى الرض بأنه‬
‫شقاء حيث قال لدم عندما لقيه‪( :‬أنت آدم الذي أخرجت الناس من‬
‫الجنة بذنبك وأشقيتهم)(‪ ,)154‬والشقاء ثابت حتى للنبياء عليهم السلم‬
‫سواء في دعوتهم أو موتهم أو بعثهم يوم الحشر والنشور وإنما‬
‫الخروج من الجنة فيه خير من جهة المآلت التي سيصير إليها كل‬

‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪)(151‬‬


‫البقرة‪.35 :‬‬ ‫‪)(152‬‬
‫رواه الترمذي وحسنه ووافقه اللباني‪.‬‬ ‫‪)(153‬‬
‫رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪)(154‬‬
‫‪142‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫فرد ورفع الدرجات وتمييز الناس فقد قال ‪( :‬إن في الجنة مائة‬
‫درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيل ال ما بين الدرجتين كما بين‬
‫السماء والرض فإذا سالتم ال فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة‬
‫وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن)(‪ .)155‬وقال ابن القيم رحمه ال في‬
‫شفاء العليل‪( :‬أما عن حكمة ال في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من‬
‫الحكم مال يحيط بتفصيله إل ال فمنها أن يكمل لنبيائه وأوليائه‬
‫مراتب العبودية بمجاهدة عدو ال وحزبه ومخالفته ومراغمته في ال‬
‫وإغاظته وإغاظة أوليائه والستعاذة به منه واللجاء إليه أن يعيذهم‬
‫من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والخروية‬
‫ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء ل يحصل بدونه‬
‫ومنها خوف الملئكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال‬
‫إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة البليسية‬
‫يكون أقوى وأتم ول ريب أن الملئكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم‬
‫عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو‬
‫المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الهانة التي‬
‫بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فل ريب أن خوفهم وحذرهم يكون‬
‫أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته‬
‫وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه‬
‫أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن‬
‫والنس بالذنب وجعل هذا الب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا‬
‫الب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم‬
‫الباهرة واليات الظاهرة)‪ .‬كذلك‪ ,‬فإن ال عز وجل عندما تكلم عن‬
‫الشقاء في الرض تكلم عنه من جهة آدم فهو بل شك شقاء ويكفي‬
‫من ذلك الموت الذي لم يسلم من سكراته حتى النبي ‪ ,‬فال سبحانه‬
‫يخاطب آدم من جهة نفسه أنه إن نزل إلى الرض فقد شقي بالمكابدة‬
‫ولهذا يقول تعالى‪( :‬لقد خلقنا النسان في كبد)(‪ )156‬وأما ال عز‬
‫وجل من جهة نفسه المقدسة فهو يحب أن تقوم له أنواع من العبودية‬
‫كالجهاد والصيام والنفاق ولكنه لم يأمر بهذا ولم يطلبه ولم يقل بأنه‬
‫‪ )(155‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ )(156‬البلد‪.4 :‬‬
‫‪143‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫يحب أن يتعرض آدم لهذه التكليفات ولم يندب إلى القصد إلى أسباب‬
‫وقوعها بل أمر آدم أن ل يخرج من الجنة وهو سبحانه يعلم بأن كل‬
‫تلك الشياء إنما هي مترتبة على خروج آدم ومع هذا فقد جعل "‬
‫إرادته الشرعية " الموافقة لمحبته‪ ,‬بدليل أنه أمر بها‪ ,‬أن ل يخرج آدم‬
‫من الجنة‪ .‬وقد يقال بأن الستخلف في الرض من جنس الكفارات‬
‫وهذا صحيح في معناه لن الستخلف ليس مقصودا لذاته وما كان‬
‫ال عز وجل ليشرع حد الزنا لكي يقصد الناس الزنا فيقام عليهم الحد‬
‫فتكون تلك القامة للحد مقصودة لذاتها مع أنها محبوبة عند ال إل‬
‫أنه ما شرعها لتقصد وتطلب فهي محبوبة أداءا وليس قصدا وطلبا‪,‬‬
‫وكذلك الحال في الستخلف في الرض فهو محبوب أداءً بحيث‬
‫يصبر آدم وذريته على ذلك ويمارسون العبودية ل بالصبر على قدره‬
‫القاهر وشرعه المر وما كان ينبغي لدم عليه السلم أن يقصد طلب‬
‫الستخلف في الرض لنه كان منهيا عن الخروج من الجنة!‪ ,‬بل‬
‫لو أن آدم عليه السلم طلب ذلك بفعله وقصده لكان عاصيا ل‪ ,‬وهذا‬
‫واضح‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ال عز وجل خلق آدم ليبتليه وهي غاية شرعية محبوبة من‬
‫ال وهذا البتلء كان متحققا في الجنة حيث نهاه ربه عن الكل من‬
‫الشجرة وكان الشيطان يوسوس له بالكل منها فكان البتلء قائما‬
‫حتى قبل النزول إلى الرض ولهذا قال تعالى‪( :‬ولو شاء ربك لجعل‬
‫الناس أمة واحدة ول يزالون مختلفين * إل من رحم ربك ولذلك‬
‫خلقهم وتمت كلمة ربك لملن جهنم من الجنة والناس‬
‫أجمعين)(‪ ,)157‬وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي‬
‫(‪)158‬‬
‫لبي بكر‪( :‬يا أبا بكر لو أراد ال أن ل يعصى ما خلق إبليس)‬
‫وقال‪( :‬والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب ال بكم ولجاء بقوم‬
‫يذنبون فيستغفرون ال فيغفر لهم)(‪ .)159‬فإن كانت غاية البتلء غاية‬

‫‪ )(157‬هود ‪.119-118‬‬
‫‪ )(158‬ـرواه البيهقي قي السماء وقال اللباني‪ :‬سنده حسن وهو‬
‫صحيح بمجموع طرقه‪.‬‬
‫‪ )(159‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪144‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫شرعية مقصودة لذاتها كما قال تعالى في الحديث القدسي للنبي‬


‫(إني مبتليك ومبتل ٍ بك)(‪ ,)160‬وكانت هذه الغاية متحققة ً قبل‬
‫الستخلف في الرض فل يقال بأن الخلفة هي الغاية الصلية لنها‬
‫سُبقت بغاية قبلها كانت متحققة ولن الستخلف في الرض هو‬
‫وسيلة لتحقيق هذه الغاية فل يكون هو غاية في ذاته‪ ,‬ويدل على ذلك‬
‫قوله تعالى‪( :‬إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن‬
‫عمل * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا ً جرزا)(‪ .)161‬فال عز وجل‬
‫ربط بقاء الكون ببقاء البتلء فإذا تعطلت غاية البتلء قامت الساعة‬
‫وآن خراب الكون حيث قال ‪( :‬ل تقوم الساعة وعلى الرض من‬
‫يقول ال ال)(‪ ,)162‬فإذا انقرض اليمان ودرس السلم وصار الناس‬
‫كلهم أمة واحدة على الكفر ورفع علم ال من الرض وكتابه فقد‬
‫انتفت فاعلية البتلء وتعطلت آليته التي هي التردد بين الحق‬
‫والباطل لنه قد ذهب الحق كله فعندها تقوم الساعة وتخرب الرض‬
‫وهذا يدلك على أن البتلء هو الغاية وليس مجرد البقاء على‬
‫الرض وأن علقة النسان بالرض هي " وسيلة ل تقصد لذاتها "‬
‫فل يقال بأن ال خلق النسان ليعمر الرض بمعزل عن معنى‬
‫البتلء فهذا فهم جاهلي أما المؤمن فيرى بأن خلفة النسان في‬
‫الرض هي ابتلؤه فيها بإقامة العبودية ل‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الفهم القائم على أن الصل في حال آدم وذريته هو البقاء في‬
‫الجنة‪ ,‬هو فهم النبياء حيث قال موسى عليه السلم لدم عندما لقيه‪:‬‬
‫(أنت آدم الذي أخرجت الناس – وفي رواية‪ :‬ذريتك ‪ -‬من الجنة‬
‫بذنبك وأشقيتهم)(‪ . )163‬فكان يستقر في فهم موسى عليه السلم أن‬
‫الصل في آدم وذريته أن يكونوا كلهم في الجنة ‪ ,‬ولم يعترض آدم‬
‫على هذا الفهم وإنما اعترض على اللوم لن النتيجة محسوسة‪ ,‬ويدلك‬
‫على ذلك حزن آدم عليه السلم على من سيدخل النار من ذريته‪ ,‬لنه‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(160‬‬
‫الكهف‪ 7 :‬ـــ ‪.8‬‬ ‫‪)(161‬‬
‫رواه مسلم ‪.‬‬ ‫‪)(162‬‬
‫رواه البخاري ‪.‬‬ ‫‪)(163‬‬
‫‪145‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫جاء في بعض الروايات الصحيحة لحديث المحاجة‪( :‬أغويت الناس‬


‫وأخرجتهم من الجنة)(‪ )164‬فلول معصية آدم ما وقع أحد في الكفر‬
‫وما دخل أحد النار لن الخروج كان مترتبا على معصية آدم ولهذا‬
‫جاء عنه عليه الصلة والسلم أنه رأى آدم في السراء فقال‪( :‬فلما‬
‫علونا إلى السماء إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا‬
‫نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي‬
‫الصالح والبن الصالح قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا آدم وهذه‬
‫السودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة‬
‫والسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا‬
‫نظر قبل شماله بكى)(‪ ,)165‬فل يقال بأن آدم عليه السلم كان يبكي‬
‫رأفة ببنيه لنهم سوف يعذبون بالنار لن ال عز وجل يقول‪( :‬فل‬
‫تأس على القوم الكافرين)(‪ )166‬ويقول‪( :‬فل أنساب بينهم يومئذ ول‬
‫(‪)168‬‬
‫يتساءلون)(‪ )167‬ويقول‪( :‬ول تُسأل عن أصحاب الجحيم)‬
‫ويقول‪( :‬و ل تزر وازرة وزر أخرى)(‪ )169‬ويقول (فكلً أخذنا‬
‫(‪)171‬‬
‫بذنبه)(‪ )170‬وقال لنوح ٍ عندما سأله ابنه‪( :‬إنه ليس من أهلك)‬
‫ولكنه يبكي لنه يستقر في اعتقاده أنه لو لم يعص ربه لكانوا كلهم‬
‫في الجنة‪ ,‬ولكنه عصى فكان أولئك من أصحاب الجحيم‪ ,‬وهذا هو‬
‫معنى قول موسى لدم عليه السلم في أحد ألفاظ الحديث‪( :‬أنت آدم‬
‫الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟)(‪ )172‬فأنكر آدم اللوم ولم‬
‫رواه مسلم ‪.‬‬ ‫‪)(164‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪)(165‬‬
‫المائدة‪.68 :‬‬ ‫‪)(166‬‬
‫المؤمنون‪.101 :‬‬ ‫‪)(167‬‬
‫البقرة‪.119 :‬‬ ‫‪)(168‬‬
‫النجم‪.38 :‬‬ ‫‪)(169‬‬
‫العنكبوت‪.40 :‬‬ ‫‪)(170‬‬
‫هود‪.46 :‬‬ ‫‪)(171‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(172‬‬
‫‪146‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫ينكر النتيجة القدرية لنها واقع محسوس‪ .‬وفي هذه النقطة الخيرة‬
‫رد على من يرى أن الستخلف في الرض كان تشريفا وتكريما‬
‫لدم عليه السلم وذريته‪ ,‬بينما الصحيح أنه كان يبكي من تبعات هذا‬
‫التشريف المزعوم ويسأل ال منه المغفرة!!‪ ,‬وال أعلم‪.‬‬
‫‪ -4‬إن غايات ال المرعية هي في إراداته الشرعية فعندما يأتي نهي‬
‫من ال عن أمر ما ثم يخبر تعالى بأن ذلك المر سوف يقع فهذا يدلك‬
‫على أن هذا الخبار هو إخبار عن إرادته الكونية القاضية بنفاذ ذلك‬
‫المر على غير محبة من ال‪ .‬ولو نظرت إلى مسألة الستخلف‬
‫وقوله تعالى (إني جاعل في الرض خليفة)(‪ )173‬وهي الية التي‬
‫يستشهد بها كل من يريد تعظيم مسألة الخلفة على الرض في نفوس‬
‫الناس‪ ,‬لوجدت أنها من باب الخبار عن شيء سيقع كونا وليست هي‬
‫إرادة ال الشرعية المحبوبة عنده لنه ل يرتبط بها أمر ولكن المر‬
‫يرتبط بقوله تعالى (فل يخرجنكما من الجنة فتشقى)‪ ,‬والمر المعلوم‬
‫عند من يبحث في علل النصوص هو أن الغايات والمقاصد ترتبط‬
‫بإرادة ال الشرعية وليس الكونية ولهذا تعلم بأن " غاية خلق الدمي "‬
‫لبد أن تكون متحققة في الجنة قبل النزول إلى الرض لن أمر ال‬
‫وإرادته الشرعية كانت على أن يبقى آدم في الجنة ول يخرج منها‬
‫وغاية ال ومقصده من خلق آدم لبد أن تتحقق لنه ما خلق شيئا عبثا‬
‫ً‪ ,‬فاستقراء المر ببساطة هو أن ال ل يخلق شيئا إل لغاية وأنه جعل‬
‫آدم في الجنة ونهاه عن الخروج منها فدل هذا على أن بقاء آدم في‬
‫الجنة غير معطل لغاية خلقه ومن ل يوافق في هذا فإنه ينسب إلى ال‬
‫العبث‪ ,‬فإذا كان المر كذلك فهذا يدل على أن غاية خلق آدم كانت‬
‫متحققة قبل مسألة الستخلف وهذا يدل على أن استخلف آدم في‬
‫الرض " أمر زائد على الغاية الصلية من خلقه "‪ ,‬وهذا واضح جلي‬
‫الوضوح‪ ,‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪ )(173‬البقرة‪.30 :‬‬
‫‪147‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫معنى العبودية‬
‫إن قوله تعالى (و ما خلقت الجن والنس إل ليعبدون)(‪ )174‬ليس‬
‫حصرا لغاية الخلق في العبادات التكليفية الدنيوية والصحيح هو أن‬
‫ال خلق آدم عليه السلم وذريته لعبادته ولعبادته فقط وهذه العبادة‬
‫كانت متحققة في الجنة قبل النزول إلى الرض وذلك أن أهل الجنة‬
‫يسبحون ويحمدون ويعبدون ربهم بكل العبادات القلبية بل والعملية‬
‫ولكن بل تكليف وكلفة كما جاء في الصحيح مرفوعا ً‪( :‬بينا أنا نائم‬
‫رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) وليس في الجنة‬
‫درن ول حدث ول تكاليف واجبة ذات كلفة ولكنها عبادة النعيم واللذة‬
‫كما هي لذة النظر لوجه ال عز وجل بخضوع وتذلل وخشوع‪,‬‬
‫وكذلك حملة العرش الذين هم فوق مستوى الفردوس الذي هو أعلى‬
‫الجنة‪ ,‬يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا‪.‬‬
‫فليست العبادة حكرا على التكليف الدنيوي ولكن لن آدم داخل في‬
‫غاية خلقه " البتلء " حيث جعل ال عز وجل هذا البتلء هو روح‬
‫العبادة التي يمارسها آدم وذريته لنه ل يلهم العبادة كما تلهمها‬
‫الملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون‪ .‬وقد كان آدم في‬
‫الجنة يبتلى بكلفة " ذاتية نفسية " هي مدافعة الشيطان الذي كان يغريه‬
‫بالكل من الشجرة ولم يكن ثمة " تكاليف مستقلة مطلوبة " وإنما هو‬
‫الستمتاع بالجنة ومدافعة الشيطان‪ .‬لهذا تجد أن ال عز وجل نفى‬
‫عن آدم الظروف الخارجية المؤذية فقال " إن لك أل تجوع فيها ول‬
‫تعرى * وأنك ل تظمأ فيها ول تضحى * فوسوس إليه‬
‫الشيطان"(‪ ,)175‬ولم ينف عنه المشقة النفسية في مدافعة الشيطان‪ ,‬فهو‬
‫لم يكلف بعبادة مستقلة مطلوبة ولكن يتمتع في الجنة ويدافع الشيطان‬
‫فكان محققا للعبودية لربه بوقوعه تحت هذا البتلء من حيث الصبر‬
‫‪ )(174‬الذاريات‪.56 :‬‬
‫‪ )(175‬طه‪.120 ,119 :‬‬
‫‪148‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫عليه والمتثال لمر ال فيه‪ ,‬ثم عندما حدثت المعصية زالت‬


‫الظروف الكاملة في الجنة التي ل تقوم على السباب ونزل آدم إلى‬
‫الرض لكي يقع تحت نوع جديد من البتلء وهو البتلء بالدنيا‬
‫ذات السباب كمؤثرٍ خارجي ‪ ,‬والبتلء بالشيطان كمؤثر داخلي‬
‫وخارجي ‪ ,‬و صار آدم يواجه المشقة في عبودية الصبر على‬
‫المكروه المقدر المتعلق بالمؤثرات الخارجية أكثر من مشقة القيام‬
‫بالعبادات المستقلة كالصلة والصوم فصار الصبر على المقدور نوعا‬
‫من أعظم أنواع العبودية ل الذي ليس هو عبادة تكليفية مستقلة ذات‬
‫تعاليم معينه ولكنه الصبر المطلق ل وعلى أمر ال وفي ال‪ .‬عند‬
‫تطبيق هذا الفهم ستجد أن النسان المدرك لحقيقة الكون وحقيقة نفسه‬
‫فيه يجني من الحسنات الناتجه عن " نية العبودية " ما ل يجنيه غيره‪,‬‬
‫فمجرد صبره على ظروف الحياة وهو يعتقد أنه مطالب بالصبر على‬
‫ذلك لن ال أمر به فقال‪( :‬قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني‬
‫هدى فمن تبع هداي فل خوف عليهم ول هم يحزنون)(‪ ,)176‬ثم بعد‬
‫ذلك أعلمه بأنه ال خلق له ما في الرض جميعا وقال له (ل تخسروا‬
‫الميزان)(‪ )177‬وأخبره بأن كل مخلوق خلقه ال وهداه لغاية خلقه وأن‬
‫الدمي على الرض ينبغي له أن يعرف غاية خلق كل شيء حوله‬
‫وكيف يتعامل معه تبعا لما خلقه ال له‪ ,‬على منهج موافق لرادات‬
‫ال الشرعية وأنه في كل ذلك واقع تحت قول ربه‪( :‬أيحسب النسان‬
‫أن يترك سدى)(‪ )178‬فهو مأمور بنظام يحكم علقته بالعالم وبكل‬
‫عنصر فيه بل حتى علقته بنفسه التي بين جنبيه تدخل التشريع فيها‬
‫فقال ‪( :‬إن لبدنك عليك حق ولنفسك عليك حق!)(‪ ,)179‬فإذا علم هذا‬
‫كله وعلم كيف يتصرف تبعا لهذا الفهم فهو العبد المثالي وهو‬
‫"النسان الخليفة" أما ما عدى ذلك فهي عبودية المتوهمين وخلفة‬
‫القراصنة!!‪.‬‬

‫البقرة‪.38 :‬‬ ‫‪)(176‬‬


‫الرحمن‪.9 :‬‬ ‫‪)(177‬‬
‫القيامة‪.36 :‬‬ ‫‪)(178‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪)(179‬‬
‫‪149‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫وبناءً على نحو هذا الفهم‪ ,‬قال ابن عباس في تفسيره لقوله (إل‬
‫ليعبدون) قال‪" :‬إل ليقروا بالعبودة طوعا وكرها"(‪ )180‬وقد اختار ابن‬
‫جرير الطبري حمل معنى العبادة في قوله (ليعبدون) على العبادة‬
‫الشرعية والعبادة القهرية فقال‪ ( :‬وأولى القولين في ذلك بالصواب‬
‫القول الذي ذكرنا عن ابن عباس وهو أن ما خلقت الجن والنس إل‬
‫ليعبدون أي إل لعبادتنا والتذلل لمرنا فإن قال قائل‪ :‬فكيف كفروا وقد‬
‫خلقهم للتذلل لمره إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لن‬
‫قضاءه جار عليهم ل يقدرون من المتناع منه إذا نزل بهم وإنما‬
‫خالفه من كفر به في العمل بما أمره به فأما التذلل لقضائه فإنه غير‬
‫ممتنع منه)(‪ .)181‬فالمعنى من هذا الباب أن الستشهاد بقوله تعالى‬
‫(إل ليعبدون) وقوله (إني جاعل في الرض خليفة) على أن ال عز‬
‫وجل ما خلق آدم إل لتحمل مشقة التكليف في الرض خصوصا‬
‫وذلك بطلب الحسنة وترك السيئة أو بإعمارها الكوني المادي المباح‬
‫وقصر العبودية على ذلك‪ ,‬استشهاد باطل في حصره وتوجيهه فال ما‬
‫خلق آدم إل ليبتليه ويدخله الجنة ابتداءا وكانت هذه الغاية متحققة قبل‬
‫الهبوط إلى الرض ل شك في ذلك‪ ,‬وكان ال تعالى يحب أن يبقى‬
‫آدم في الجنة ونهاه عن الخروج منها بالمعصية‪ ,‬فقال‪( :‬فل يخرجنكما‬
‫من الجنة فتشقى)‪ ,‬ولكن آدم عصى ربه فخرج‪ ,‬والحياة الدنيا امتداد‬
‫لجراء تلك الغاية وإن كان ال عز وجل سيدخل خلقا من خلقه الجنة‬
‫ما وطأهم التكليف قط عندما سيفضل فضل في الجنة يخلق ال له‬
‫خلقا ما شاء‪ ,‬فمن باب أولى أن يقال بأن آدم إنما خلقه ال ليبتليه‬
‫ويدخله الجنة ابتداءا وأنه ما خلقه ربه ليجعل دخوله الجنة مترتبا‬
‫على تكليفه الدنيوي كغاية أصلية في خلقه ول ليكون " أستاذ الرض‬
‫العبقري المبتكر! "‪ ,‬وهذا الفهم هو ما جاءت به النصوص‬
‫الواضحات خلف ما ينادي به أهل السلمية الرومانسية والنفعية‬
‫المادية!‪ .‬وقد قال المام ابن منصور عبد القاهر البغدادي في " الفرق‬
‫بين الفرق وبيان الفرقة الناجية "‪( :‬وقالوا – أي أهل الفرقة الناجية ‪-‬‬
‫لو خلق ال تعالى عباده كلهم في الجنة لكان ذلك فضل منه خلف‬
‫‪ )(180‬تفسير الطبري (‪.)475/ 11‬‬
‫‪ )(181‬تفسير الطبري (‪.)475/ 11‬‬
‫‪150‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫قول من زعم من القدرية انه لو فعل ذلك لم يكن حكيما وهذا حجر‬
‫منهم على ال سبحانه ونحن ل نرى الحجر عليه بل نقول له المر‬
‫والنهى وله القضاء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد)‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫الستخلف ل يتحقق إل بإقامة الميزان‬


‫الكوني والشرعي‬
‫إن لكل شيء نظام تنتظم فيه عناصره فيكون لكل عنصر موقعه‬
‫ومنفعته وبربط هذه العناصر بشكل تكاملي تنتج منفعة هذا النظام‬
‫ويتم تفعيله ويتحقق الهدف العام منه وهذا ما سماه ال عز وجل‬
‫بالحق في قوله تعالى‪( :‬هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا‬
‫وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق ال ذلك إل بالحق‬
‫يفصل اليات لقوم يعلمون)(‪ ,)182‬وقال تعالى‪( :‬و السماء رفعها‬
‫ووضع الميزان * أن ل تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط‬
‫ول تخسروا الميزان)(‪ .)183‬والميزان هو العدل كما قال مجاهد‬
‫وقتادة(‪ ,)184‬وذلك في كل شيء‪ ,‬والعدل عدلن‪ :‬عدل كوني وعدل‬
‫شرعي‪ ,‬فالعدل الكوني يحدث بوضع الشيء المناسب في الموضع‬
‫الذي يناسبه في هيئته وتكوينه موافقا في ذلك منفعته التي هو موجود‬
‫لجلها‪ ,‬والميزان الشرعي أن تتعامل مع الشيء تحت موافقة للمقاصد‬
‫الشرعية من حيث الحكم والغاية‪ ,‬وكل شيء داخل تحت هذا الميزان‬
‫فال تعالى يقول‪( :‬و إن من شيء إل عندنا خزائنه وما ننزله إل بقدر‬
‫معلوم)(‪ ,)185‬ول يخرج من هذا شيء حتى النبياء فهم رزق للمم‬
‫وهم بقدر معلوم في فضلهم ورسالتهم وزمان بعثهم والعقيدة فيهم‪,‬‬
‫فكل هذا العالم قائم على الوزن والتقدير وعليهما يقوم النظام الكلي‬
‫والجزئي‪ ,‬وقد روى ابن حبان عن عبد ال بن رواحة‪( :‬أنه بعثه‬
‫رسول ال إلى يهود خيبر لكي يخرص نخلهم فأرادوا أن يرشوه‬
‫‪ )(182‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ )(183‬الرحمن‪.7-4 :‬‬
‫‪ )(184‬تفسير الطبري (‪.)577/ 11‬‬
‫‪ )(185‬الحجر‪.21 :‬‬
‫‪152‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫فقال‪ :‬يا أعداء ال أتطعموني السحت وال لقد جئتكم من عند أحب‬
‫الناس إلي ولنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ول‬
‫يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن ل أعدل عليكم فقالوا‪ :‬بهذا‬
‫قامت السماوات والرض)(‪ ,)186‬فالسماوات والرض قامتا بالعدل‪,‬‬
‫وذلك بأن يوضع الشيء في محله الذي يناسبه وأن يوسد المر إلى‬
‫أهله‪ ,‬واليهود بقولهم " بهذا قامت السماوات والرض " يمدحون‬
‫رسول ال قبل أن يمدحوا ابن رواحه لن عدل رسول ال سابق‬
‫لعدل عبد ال بن رواحة عندما وضع رسول ال الرجل المناسب‬
‫في المكان المناسب‪.‬‬
‫ولكي يكون هذا الباب واضحا سأعطي بعض المثلة التي عايشها‬
‫العالم وكانت تتعلق بهذا الباب‪ ,‬فمثل قضية النباتيين الذين ينادون‬
‫بعدم ذبح الكائنات أيا كانت بما في ذلك بهيمة النعام فمن ناحية‬
‫الميزان الكوني فإن طبيعة أبدان البشر ل تتعارض مع لحومها بل‬
‫لعلها تعتمد اعتمادا واضحا عليها وكذلك فإن ال أخبرنا أنه خلقها‬
‫لتكون قوتا لهل الرض فهي من الناحية الكونية تكون محققة لغاية‬
‫خلقها إذا كانت طعاما لهم‪ ,‬وإن قلنا بأنه ل ضير في تجاوز هذا‪ ,‬من‬
‫أجل خاطر البقار في الغرب‪ ,‬فإن الميزان الشرعي يمنع ذلك فال‬
‫عز وجل أمرنا بذبحها وتعبدنا به‪ ,‬فقال تعالى‪( :‬ولكل أمة جعلنا‬
‫منسكا ليذكروا اسم ال على ما رزقهم من بهيمة النعام فإلهكم إله‬
‫واحد فله أسلموا وبشر المخبتين)(‪ )187‬وقال‪( :‬والبدن جعلناها لكم من‬
‫شعائر ال لكم فيها خير فاذكروا اسم ال عليها صواف فإذا وجبت‬
‫جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم‬
‫تشكرون)(‪ ,)188‬فالذبح غاية وليس وسيلة للحياة والمطعم وحسب‪ ,‬بل‬
‫غاية داخلة في العبودية والذي يوافق أو يرى أنه يجوز العتقاد بأن‬
‫ذبحها مخالف لرقي العالم فهو من ناحية شرعية قد ضاد ال في أمره‬
‫وقد ظلم وأخسر الميزان الشرعي والكوني فالظلم في ترك ذبحها‬
‫‪ )(186‬رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح‪.‬‬
‫‪ )(187‬الحج‪.34 :‬‬
‫‪ )(188‬الحج‪.36 :‬‬
‫‪153‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫وليس في ذبحها‪ ,‬ولو رجعنا إلى مواقف بعض الدعاة من هذه‬


‫المشكلة لوجدنا أن بعضهم كان يستحي أن يقول بأن ال خلق كل ما‬
‫في هذا الكون لخدمة النسان ومنفعته وهذا بسبب العقيدة الرومانسية‬
‫التي كما قلت في بداية هذا الكتاب تقوم على مبدأ أن الحق في‬
‫السعادة وأن النسانية هي أن تشعر بقيمة نفسك دون أن تنتقص من‬
‫قيم الخرين!‪ .‬فكل من الشاة والبقرة تكون سعيدة إذا لم تذبح فالحق‬
‫في أن ل تذبح وهم – النباتيون في فرنسا ‪ -‬يؤمنون بهذا ولكي تكون‬
‫" مسلما رومانسيا " فعليك أن تراوغ وتخاتل لكي تجعل هذا العمل في‬
‫شريعتنا عمل نبيل في أعينهم‪ ,‬ثم تختتم كلمك بإبداء الحترام‬
‫والتقدير لوجهة نظرهم الفاضلة هذه تجاه حرية البقار والغنام‬
‫والرانب!‪.‬‬
‫المشكلة في بعض من يتعصب للسلم ويبرز نفسه كمنافح عنه أنه‬
‫هو في ذاته ل يعرف " أصول الفهم السلمي " للكون وعناصره‪.‬‬
‫ولكي تعرف قدر تفكير الصحابة رضوان ال عليهم ومدى دقة‬
‫ألفاظهم في تعبيرهم‪ ,‬سأورد بعض الثار ثم نتحدث عنها تحت ضوء‬
‫معنى هذا الباب‪ ,‬فقد روى البيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق‬
‫أنه قال‪ ( :‬وال لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق فمر‬
‫علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلكني ثم إزدردني ولم أكن بشرا)‬
‫وعن عمر أنه قال‪ ( :‬يا ليتني كنت كبش أهلي‪ ,‬سمنوني ما بدا لهم‬
‫حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم‬
‫فجعلوا بعضه شواء وبعضه قديدا ثم أكلوني ولم أكن بشرا) وعن أبي‬
‫الدرداء أنه قال‪( :‬يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل ثمرتي ولم أكن‬
‫بشر) وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال‪( :‬لوددت أني كنت كبشا‬
‫فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي)‪ .‬وهذه الثار يشتهر‬
‫مثلها عن الصحابة في تمني لو أنهم لم يكونوا بشرا‪ ,‬ولكن لننظر إلى‬
‫هذه الثار‪ ,‬فكلهم لم يتمنوا أن يكونوا شيئا آخر وحسب‪ ,‬أي شيء‬
‫غير النسان‪ ,‬أو أي شجرة أو أي كبش‪ ,‬بل أن يكونوا شيئا محققا‬
‫للغاية التي خلق من أجلها فهم إنما هربوا من الدمية خشية أن يكونوا‬
‫لم يحققوا ما خلقهم ال لجله فتمنوا أن يكونوا أشياء ل يشكون في‬
‫تحقيقها للغاية التي خلقت لها‪ ,‬فقيد أبو بكر وصف الشجرة بأنها‬
‫‪154‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫شجرة أكلها بعير فازدردها‪ ,‬وقيد عمر وصف الكبش بأنه ذُبح وجُعل‬
‫شواءا وقديدا ثم أكله أهله وقيد أبو الدرداء الشجرة بأن تكون تعضد‬
‫أو تثمر ويأكل الناس ثمرها!‪ ,‬وقيد أبو عبيدة وصف الكبش بأن أهله‬
‫يذبحونه ويأكلون لحمه ويشربون مرقه!‪ .‬فكل تلك التعابير في كلمهم‬
‫ليست للتفنن وإنما هي عقيدة في نفوسهم تجاه هذه الشياء التي خلقها‬
‫ال في هذا الكون‪ .‬وعند السترسال في هذا المنحى في التفكير تجد‬
‫أنه تفتح لك أبوابا من المعرفة لم تكن تخطر لك على بال وكل هذا‬
‫ببركة المنهج القرآني في التفكير‪ ,‬منهج إعادة الشيء إلى أصله‪ ,‬فخذ‬
‫مثلً الفرق بين الرجل والمرأة تجد أن الشريعة قد فرقت بين الرجل‬
‫والمرأة في مواطن كثيرة ومن ذلك قوله (يرش من بول الغلم‬
‫ويغسل من بول الجارية)(‪ ,)189‬فقد روى ابن ماجة عن الشافعي قوله‬
‫للذي سأله عن سبب التفريق‪( :‬لن بول الغلم من الماء والطين‬
‫وبول الجارية من اللحم والدم‪ .‬ثم قال للذي سأله عن السبب‪ :‬فهمت؟‬
‫قال له‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬إن ال تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه‬
‫القصير‪ ,‬فصار بول الغلم من الماء والطين وصار بول الجارية من‬
‫اللحم والدم)‪ ,‬وهذا لمن تأمله كلم وجيه فإن كان الصل غير الصل‬
‫فل بد أن المنفصل عن كل منهما سيكون كذلك‪ ,‬فإذا أضفت إلى ذلك‬
‫أن ال خلق آدم استقللُ في مادته وغاية خلقه فإنه خلق حواء من‬
‫مادة جنسها من البشر فخلقها من ضلع آدم بينما آدم خلق من تراب‪,‬‬
‫وكذلك فإن ال خلق آدم لجل غاية ل علقة لها بحواء بينما خلق ال‬
‫حواء بسبب خلقه لدم فقال تعالى‪( :‬هو الذي خلقكم من نفس واحدة‬
‫وجعل منها زوجها ليسكن إليها)(‪ ,)190‬وأسجد الملئكة لدم ولم تكن‬
‫معه حواء لن ال قال (اسجدوا لدم)(‪ )191‬ولن الشيطان قال‪( :‬لم‬
‫أكن لسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)(‪ )192‬وحواء لم‬
‫تكن كذلك وإنما كان هذا في خلق آدم‪ ,‬وكذلك اصطفاه بالعلم فعلمه‬

‫رواه أبو داود وغيره وصححه اللباني‪.‬‬ ‫‪)(189‬‬


‫العراف‪.189 :‬‬ ‫‪)(190‬‬
‫البقرة‪.34 :‬‬ ‫‪)(191‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪)(192‬‬
‫‪155‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫السماء كلها ولم تكن معه حواء‪ ,‬ثم اصطفاه بالقوامة عليها في‬
‫الجنة! فقال تعالى‪( :‬و عصى آدم ربه فغوى)(‪ )193‬مع أن حواء هي‬
‫التي أغرته بالكل من الشجرة وأكلت معه لما روى مسلم عنه‬
‫(لول حواء ما خانت امرأة زوجها)(‪ ,)194‬وإنما خانته بإغرائه بالكل‬
‫من الشجرة‪ ,‬ومع هذا فإن المعصية نسبت لدم حتى قال موسى عليه‬
‫السلم (أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة)(‪ )195‬لنه لو لم‬
‫يأكل آدم لما أكلت حواء‪ ,‬فدل هذا على أنه كان هو المر الناهي وأن‬
‫الرأي كان في يده‪ ,‬فله القوامة حتى في الجنة التي ل تعب فيها ول‬
‫نصب!‪ .‬وبمثل هذا الفهم وهذا التصور تعلم لماذا تلعن الملئكة‬
‫المرأة التي تمتنع من فراش زوجها ولم يثبت اللعن للرجل الممتنع!‪,‬‬
‫ولماذا قال تعالى (وليس الذكر كالنثى)(‪ ,)196‬وغير ذلك‪.‬‬
‫نحن نتكلم عن هذا المر هنا لنه متعلق بفهم الميزان الكوني‬
‫والميزان الشرعي الذي هو أساس العدالة التي ل يتحقق الستخلف‬
‫الصحيح في الرض إل بها‪ ,‬وقد سقت حديث البقرة التي تكلمت‬
‫وقالت لمن ركب على ظهرها ( ما خلقنا لهذا وإنما خلقنا‬
‫للحرث)(‪ ,)197‬وقد مر ابن عمر في طرقات المدينة فإذا فتية قد‬
‫نصبوا دجاجة يرمونها‪ ,‬فغضب وقال من فعل هذا؟ قال فتفرقوا فقال‬
‫ابن عمر‪( :‬لعن رسول ال من يمثل بالحيوان)(‪ .)198‬لنه لم يخلق‬
‫لهذا! ولن هذا سخرية بمقاصد ال في خلقه‪ ,‬فإن لُعن الدمي لجل‬
‫الحيوان وهو ميت فكيف ل تحفظ هذه الشريعة " حقوق الحيوان "‬
‫وهو حي؟‪ ,‬بل إن بعض الروايات جاءت بلفظ (لعن من أتخذ شيئا فيه‬

‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪)(193‬‬


‫متفق عليه بلفظ "ما خانت أنثى زوجها"‪.‬‬ ‫‪)(194‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪)(195‬‬
‫آل عمران‪.36 :‬‬ ‫‪)(196‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪)(197‬‬
‫رواه أحمد وقال شعيب الرنؤوط‪ :‬سنده صحيح‪.‬‬ ‫‪)(198‬‬
‫‪156‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫الروح غرضا)(‪ )199‬أي مرمى يرميه بالنبل‪ ,‬ويدخل في هذا حتى‬


‫الحيوان المأمور بقتله مثل الحدأة والغراب البقع(‪ )200‬فحتى طريقة‬
‫قتل الحيوان المأمور بقتله يجب أن تكون بميزان‪ .‬فالمشكلة ليست في‬
‫ظواهر التشريع وإنما المشكلة في عدم تصور الغايات والصول‬
‫الولى لعناصر الكون‪ ,‬والدهى والخطر من ذلك هو سبب تجاهل‬
‫ذلك التصور أو سبب عدم الهتمام بتلك الصول الولى الذي ل أراه‬
‫إل الشعور بالخجل من التصريح بأن أهل الرض ينبغي أن يراجعوا‬
‫في كل تصرفاتهم ربهم الذي في السماء!‪ ,‬فهذا أمر يعتبر التصريح‬
‫به كمبدأ أصيل " خزي وعار قديم " تخلصت منه أوروبا عند كسر‬
‫أول باب في سجن الباستيل الفرنسي!!‪.‬‬
‫المعنى من هذا الباب أن يعلم المسلم بأن ال الذي أمره بأن ل يخسر‬
‫الميزان لن يأمره بهذا إل وقد أنزل إليه من العلم ما يؤهله للقيام‬
‫بذلك‪ ,‬وأن ال أخبرنا بأنه خلق لنا ما في الرض جميعا‪( :‬هو الذي‬
‫خلق لكم ما في الرض جميعا)(‪ )201‬وقال‪( :‬و سخر لكم ما في‬
‫السماوات وما في الرض جميعا منه)(‪ )202‬ولن يخلقها لنا ويسخرها‬
‫لنا ثم ل تكون لنا بها أية علقة أو صلة!‪ ,‬فل بد من علقة النسان‬
‫بما سخره ال له‪ ,‬فإن كان المر كذلك فل بد حينها من أن ينزل ال‬
‫عز وجل من العلم ما يحكم به هذه العلقة بين النسان وبين كل هذه‬
‫الشياء لنه قال سبحانه (أل له الخلق والمر) (‪ ,)203‬وقال (أيحسب‬
‫النسان أن يترك سدى) (‪ ,)2‬أي يتصرف في هذا العالم بل ضوابط‬
‫وأمر ونهي ‪,‬فإن كان ذلك كذلك‪ ,‬فل بد أن يتعلم المسلم ويبحث في‬
‫الكتاب والسنة ما تبرأ به ذمته ولكي يعرف كيف يحقق العدالة‬

‫‪ )(199‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(200‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(201‬البقرة‪.29 :‬‬
‫‪ )(202‬الجاثية‪.13 :‬‬
‫‪ )(203‬العراف ‪54 :‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه‬
‫‪157‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫الكونية والشرعية على الرض‪ ,‬فليست السيطرة المجردة ول‬


‫الستاذية الجاهلة المزعومة هي الخلفة على الرض وإنما الخلفة‬
‫هي العدل الكوني والشرعي تجاه العالم كله بما في ذلك شعر عانتك‬
‫وإبطيك الذي يجب أن تزيله كل أربعين يوما!‪.‬‬
‫‪158‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫الخلفة الشريفة للنسان في الرض‬


‫قال ابن كثير رحمه ال‪ ( :‬قوله تعالى ‪ ( :‬وهو الذي جعلكم خلئف‬
‫الرض ) أي جعلكم تعمرونها جيل بعد جيل وقرنا بعد قرن وخلفا‬
‫بعد سلف ‪ ,‬قاله ابن زيد وغيره كقوله ( إني جاعل في الرض‬
‫خليفة) )(‪ .)204‬فالخلفة الكونية الوجودية هي المحققة للمعنى‬
‫اللغوي بمعنى توارث الوجود على الرض والبقاء وعدم انقراض‬
‫العنصر ‪ ,‬وهذا ليس فيه ثمة شرف لنه ثابت حتى للبهائم العجماء ‪,‬‬
‫حيث أخبر كما في الصحيح بأن آخر من سيصعق يوم القيامة‬
‫راعيان من مزينة يسوقان غنمهما‪ ,‬وفي هذا إثبات بقاء الغنام‬
‫واستخلفها في الرض إلى يوم القيامة‪ .‬ويدخل في معنى الستخلف‬
‫الوجودي أيضا قوله تعالى‪ ( :‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها‬
‫)‪ ,‬قال ابن جرير‪( :‬أسكنكم فيها أيام حياتكم)(‪ ,)205‬فالستخلف‬
‫اللغوي أو الكوني الوجودي‪ ,‬الذي يتعلق بالبقاء على الرض جيلً‬
‫بعد جيل‪ ,‬ثابت للكافر والمؤمن بل إن الكافر خير من المؤمن في ذلك‬
‫لنه سيبقى أكثر من المؤمن على الرض حيث يرسل ال الريح‬
‫الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين آخر الزمان فل يبقى إل كافر‪.‬‬

‫وهذا المعنى الوجودي للستخلف يدخل تحته قوله تعالى‪( :‬إني‬


‫جاعل في الرض خليفة)(‪ )206‬غير أن النسان يتميز عن سائر‬
‫الكائنات بأنها كلها مسخرة له كونا فخصه ال بكونه هو الخليفة لهذه‬
‫الميزة فجعله كأنه هو المستخلف الوحيد‪ ,‬ولهذا ربط ال تعالى تكريم‬
‫بني آدم الخلقي بذلك عندما قال‪( :‬و لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في‬
‫‪ )(204‬تفسير ابن كثير (‪.)268/ 2‬‬
‫‪ )(205‬تفسير الطبري (‪.)61/ 7‬‬
‫‪ )(206‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )4‬السراء ‪70 :‬‬
‫‪159‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا‬


‫تفضيل) (‪)4‬فهذا تفضيل كوني داخل في تركيب وتكوين الدمي ل‬
‫يخص به مؤمن دون كافر‪ ,‬ولهذا قال تعالى ( قل من حرم زينة ال‬
‫التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة‬
‫الدنيا خالصة يوم القيامة ) (‪ )207‬فهي خلقت أصل للمؤمنين ولكن‬
‫الكافرين استمتعوا بها تبعا ثم يكون النعيم خالصا للمؤمنين يوم‬
‫القيامة‪ ,‬ولهذا يقول تعالى ( ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يتفرقون )‬
‫(‪ .)208‬فأما الستخلف الشرعي الذي يحبه ال ويرضاه فهو الذي‬
‫يكون موافقا لغايات ال الشرعية من إهباط آدم وذريته إلى الرض‬
‫وهي إقامة العبودية‪ ,‬وهذا المعنى هو الذي يشير ال إليه في قوله‪:‬‬
‫(وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض‬
‫كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‬
‫(‪)209‬‬
‫وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ل يشركون بي شيئا)‬
‫وقوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها‬
‫عبادي الصالحون)(‪ )210‬وقوله‪( :‬فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‬
‫* ولنسكننكم الرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف‬
‫وعيد)(‪ ,)211‬ويخطئ كثير من الناس في فهم عمارة الرض ويدخل‬
‫فيها غرس الجنان وتشييد البنيان وتطوير النسان وهذه كلها وسائل‬
‫ليست غايات وال عز وجل عندما تكلم عن عمارة الرض جعلها‬
‫غاية ولم يكن يتكلم عنها كوسيلة وقد قال تعالى‪( :‬و لقد أهلكنا القرون‬
‫من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك‬
‫نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلئف في الرض من بعدهم‬

‫العراف ‪.32 :‬‬ ‫‪)(207‬‬


‫الروم ‪.55 :‬‬ ‫‪)(208‬‬
‫النور‪.55 :‬‬ ‫‪)(209‬‬
‫النبياء‪.105 :‬‬ ‫‪)(210‬‬
‫إبراهيم‪.14-13 :‬‬ ‫‪)(211‬‬
‫‪160‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫لننظر كيف تعملون)(‪ )212‬فأثبت سبحانه أنه أهلك القرون من قبلهم‬


‫بسبب ظلمهم ثم استخلفهم في الرض لينظر كيف يعملون فهل‬
‫سيكون عملهم الذي ينظر ال إليه إل العدل بعد أن أهلك الولين‬
‫بظلمهم؟! ‪ .‬وكذلك في قوله تعالى‪( :‬و تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا‬
‫وجعلنا لمهلكهم موعدا)(‪ , )213‬وقوله تعالى‪( :‬فأوحى إليهم ربهم‬
‫لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الرض من بعدهم ذلك لمن خاف‬
‫مقامي وخاف وعيد)(‪ , )214‬وقوله تعالى‪( :‬فكأين من قرية أهلكناها‬
‫وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر‬
‫مشيد)(‪ )215‬فمع أنهم حفروا البئر وشادوا القصر غير أنهم ما عدلوا‬
‫فأهلكهم ال فهي خاوية على عروشها‪.‬‬

‫وعندما خسف ال عز وجل بقارون خسف بداره معه حيث قال‬


‫( فخسفنا به وبداره الرض)(‪ )216‬هذا مع انه كان خارج داره عندما‬
‫خسف ال به الرض حيث قال تعالى ( فخرج على قومه في‬
‫زينته)(‪ )217‬فهو في الطريق ولم يكن في داره‪ ,‬وقد قال كما في‬
‫الصحيحين‪( :‬بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه‬
‫فخسف ال به الرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)‪ ,‬وقد قال‬
‫قتادة في قوله تعالى (فخسفنا به وبداره الرض)‪ " :‬ذكر لنا أنه‬
‫يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل فيها ل يبلغ قعرها إلى يوم‬
‫القيامة"(‪ .)218‬وكذلك حمل هذا الحديث على أنه قارون‪ ,‬مالك بن‬

‫فاطر‪.39 :‬‬ ‫‪)(212‬‬


‫الكهف‪.59 :‬‬ ‫‪)(213‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪)(214‬‬
‫سبق تخريجه‪.‬‬ ‫‪)(215‬‬
‫القصص‪.81 :‬‬ ‫‪)(216‬‬
‫القصص‪.79 :‬‬ ‫‪)(217‬‬
‫تفسير الطبري (‪.)109/ 10‬‬ ‫‪)(218‬‬
‫‪161‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫دينار وابن جريج وغيرهم(‪ )219‬وفي لفظ للترمذي‪( :‬خرج رجل ممن‬
‫كان قبلكم في حلة له يختال فيها فأمر ال الرض فأخذته فهو يتجلجل‬
‫فيها) وقال أبو عيسى‪ :‬حديث صحيح‪ ,‬وفيه التصريح بأنه كان خارج‬
‫داره‪ ,‬ول شك أن داره كانت من أعظم وأروع ما بناه البشر في ذلك‬
‫الزمان فإن كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة فكيف‬
‫بخزائن كنوزه ثم كيف بقصره الذي فيه الخزائن وهو يسكن فيه؟ ‪.‬‬
‫مع هذا كله أهلكه ال وخسف بداره معه فلم تكن داره عند ال شيئا‬
‫يستحق البقاء عليه ‪ ,‬مع أن قارون لم يصنع داره بنفسه بل بناها‬
‫أناس ليس لهم صلة بظلم قارون وتكبره ‪ ,‬وإنما هم أناس فكروا‬
‫وخططوا وبنوا فكان عملهم هذا " إنجازا علميا معماريا " ومع هذا لم‬
‫يبالي ال عز وجل لكل هذه المعاني التي يقدسها الناس ويعتقدون أنها‬
‫هي العمارة التي طلبت منا عندما أهبطنا ال إلى الرض حتى أن‬
‫بعض من ينتسب إلى الدعوة إلى ال يطالب بعدم هدم تماثيل بوذا‬
‫بحجة أنها إنجازات حضارية!‪ ,‬فإن كان ال خسف بدار قارون وهو‬
‫ليس فيها وليست صنما يعبد فكيف بصنم معبود؟‪.‬‬

‫كل هذه النجازات العلمية البشرية ل تساوي عند ال شيئا من جهة‬


‫الحبكة والصنعة ‪ ,‬وإنما معناها في غايتها بل إن رأس حمار يأكل‬
‫الرجيع والحنظل في فلة فيه من عظمة الصنعة ودقة الحبكة‬
‫والعجاز ما ليس في أعظم مصنوع بشري ‪ .‬فال ليس بحاجة لمن‬
‫يبني له الرض أو يعينه على تمام خلقه فيها فهي تامة تامة تامة ‪,‬‬
‫وال عز وجل ذكر في كتابه غير مرة بأنه أحسن كل شيء خلقه‪ ,‬فل‬
‫يقال بأن عمارة الرض بعمارة المادة فيها حتى أن ال عز وجل‬
‫تحدى الناس جميعا بالذبابة فأعجزهم وقطعهم وقبل هذا كله قال‬
‫تعالى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت * فارجع البصر هل‬
‫ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو‬
‫حسير)(‪ )220‬فالذي نفى عن خلقه مجرد التفاوت لم يكن ليقول بوجود‬
‫النقص فيه‪.‬‬
‫‪ )(219‬تفسير الطبري (‪.)109/ 10‬‬
‫‪ )(220‬الملك‪.4 ,3 :‬‬
‫‪162‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫وقد ثبت فيما جاء عن ال تبارك وتعالى مقت ذلك الفهم لعمار‬
‫الرض الذي يسعى به كثير من الناس حيث يجعلون عمارة الرض‬
‫زخرفة البنيان وتشييده وبناء الجواد والقصور العالية فقال تعالى يذم‬
‫قوم هود (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم‬
‫تخلدون)(‪ )221‬قال ابن كثير رحمه ال‪( :‬اختلف المفسرون في الريع‬
‫بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة يبنون‬
‫هناك بنيانا محكما هائل باهرا ‪ -‬قلت‪ :‬مثل النصاب التي تبنى اليوم‬
‫على مداخل المدن ومجمع الطرق ‪ -‬ولهذا قال "أتبنون بكل ريع آية "‬
‫أي معلما بناء مشهورا " تعبثون " أي وإنما تفعلون ذلك عبثا ل‬
‫للحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم‬
‫نبيهم عليه السلم ذلك لنه تضييع للزمان وإتعاب للبدان في غير‬
‫فائدة واشتغال بما ل يجدي في الدنيا ول في الخرة ولهذا قال "‬
‫وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " قال مجاهد‪ :‬والمصانع البروج‬
‫المشيدة والبنيان المخلد)(‪ )222‬إنتهى‪ .‬ويكفي لبطال هذا الفهم قوله‬
‫تعالى‪ ( :‬إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل‬
‫* وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)(‪ )223‬فكل تلك الشياء‬
‫الدنيوية التي قد يظن أنها من العمارة التي يحبها ال ويرضاها إنما‬
‫هي من البلء والبتلء‪ ,‬و لو كانت غاية في ذاتها ما جعلها ال‬
‫صعيدا جرزا ‪ ,‬فهو سبحانه الذي ل يضيع عمل عامل وعندما توعد‬
‫كل ما على الرض من زينة بالزوال علمنا أنها ليست هي تلك‬
‫العمارة التي حثنا أن نعمل بها ولها ‪ ,‬وقد قال كما روى ابن حبان‬
‫بسند صحيح‪( :‬إن ال يبغض كل جعظري جواظ سخاب في السواق‬
‫جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالخرة) ‪ ,‬والنكير هنا‬
‫ليس على مجرد العلم بأمر الدنيا ولكن على العلم الذي يراد به الدنيا‬
‫فقط ‪.‬‬

‫‪ )(221‬الشعراء‪.130 -128 :‬‬


‫‪ )(222‬تفسير ابن كثير (‪.)454/ 3‬‬
‫‪ )(223‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫ال عز وجل ل يعبد بما نهى عنه وقد نهى عن التوسع في الدنيا بما‬
‫يصل إلى حد هدر المنفعة وذلك على لسان نبيه حيث قال كما في‬
‫صحيح مسلم‪ (:‬فراش للرجل وفراش لمرأته والثالث للضيف والرابع‬
‫للشيطان) ‪ ,‬وقال في البيت والدابة مثل ذلك‪ .‬وجعل المبذرين إخوان‬
‫الشياطين ‪ ,‬و ذم كل شيء ل يكون وسيلة لدخول الجنة ‪ ,‬أو يكون‬
‫ملهاة عن طلب الجنة ‪ ,‬أو غاية تقصد لذاتها دون الجنة قل أو كثر‪,‬‬
‫فقد روى المام أحمد في المسند وصححه اللباني في الصحيحة‪:‬‬
‫( عن ضمرة بن ثعلبة انه‪ :‬أتى النبي وعليه حلتان من حلل اليمن‬
‫فقال‪ ( :‬يا ضمرة أترى ثوبيك هذين مدخليك الجنة؟ ) فقال‪ :‬لئن‬
‫استغفرت لي يا رسول ال ل أقعد حتى أنزعهما عنى فقال النبي ‪:‬‬
‫( اللهم اغفر لضمرة بن ثعلبة) فانطلق سريعا حتى نزعهما‬
‫عنه)(‪ .)224‬واليوم تعجب من الذين يدعون الناس إلى إنفاق أعمارهم‬
‫في صناعة الدنيا وآلتها ‪ ,‬على ما في الناس من فجور وفسق ل‬
‫يناقشونهم في شأنه ويقرونهم عليه ‪ ,‬ثم يزينون لهم على فسقهم‬
‫النغماس في طلب الدنيا ويقولون " المؤمن القوي خير وأحب إلى ال‬
‫من المؤمن الضعيف"(‪ . )225‬وكأنهم لم يقرأوا القيد بأن يكون "‬
‫مؤمنا " قبل أن يكون قويا أو ضعيفا‪.‬‬

‫العمارة الحقيقية للرض هي عمارتها بالطاعة والعدل فإن كانت‬


‫السماوات والرض قائمات على العدل مع جللة خلقها ‪ ,‬و ثقل‬
‫بنيانها لن يقوم عليه بنيان الدنيا وزينتها أولى وأحرى ‪ ,‬كما قال عبد‬
‫ال بن رواحة ليهود خيبر عندما أرادوا رشوته وهو يخرص تمرهم‬
‫كما في صحيح ابن حبان بسند صحيح‪( :‬يا أعداء ال أتطعموني‬
‫السحت وال لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولنتم أبغض إلي من‬
‫عدتكم من القردة والخنازير ول يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على‬
‫أن ل أعدل عليكم فقالوا‪ :‬بهذا قامت السماوات والرض)‪ .‬والستثمار‬
‫الحقيقي الذي سيجلب كل خيرات الرض هو استثمار الرض‬
‫بالطاعة والستقامة ‪ ,‬كما سيحدث في عهد عيسى عليه السلم عندما‬
‫‪ )(224‬رواه أحمد وصححه اللباني‪.‬‬
‫‪ )(225‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪164‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫ينزل ويبيد كل الملل إل السلم ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقيم‬


‫العدل في الناس ‪ ,‬عندها كما في صحيح مسلم‪ ( :‬يرسل ال مطرا ل‬
‫يكن منه بيت مدر ول وبر فيغسل الرض حتى يتركها كالزلفة ثم‬
‫يقال للرض أنبتي ثمرك وردي بركتك ‪ ,‬فيومئذ تأكل العصابة من‬
‫الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل ‪ ,‬حتى أن اللقحة من‬
‫البل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس‬
‫واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس)‪ .‬فهذه هي عمارة الرض‬
‫وهذا هو الستثمار والتنمية ‪ ,‬وليس أن يبني الناس المصانع‬
‫والقصور والجواد الطوال على معصية ال ‪ ,‬ومخالفة أمره ‪ ,‬حتى‬
‫منعت السماء قطرها ‪ ,‬فما كان من أهل الحضارة والعمارة ال أن‬
‫بنوا مصنعا يكررون فيه أبوالهم ثم يشربونها !‪ ,‬ويرون أن ذلك من‬
‫مزيد توفيق ال لهم في عمارتهم وبناء حضارتهم‪ ,‬والصحيح أن هذا‬
‫من فشلهم في عمارة الرض فعندما عصوا ال أمسكت السماء القطر‬
‫فضيق ال عليهم فكرروا أبوالهم وشربوها فهذه معرّة وليست مفخرة‬
‫ولكن أين العقول!!‪.‬‬
‫وقد صار اليوم الحديث عن الزهد ضربا من الدروشة‪ ,‬وصار‬
‫الحتساب في هجر ملذات الدنيا الزائدة على ما ل بد منه نوعا من‬
‫الخيبة والعراض النفسية النسحابية التي توحي بالحباط أكثر مما‬
‫توحي بالنضباط!‪ .‬وينبغي النتباه إلى هذه المسألة لن النسان إذا‬
‫استكثر من الدنيا كثر عمله لجلها وضاع عمره في غير ما خلق له‬
‫فيصير هو في حد ذاته " مفسدة حية " وال عز وجل يقول ( و ل‬
‫تفسدوا في الرض بعد إصلحها)(‪ , )226‬والفساد ببساطة ووضوح‬
‫هو أن يستعمل الشيء في الرض لغير ما خلقه ال له ‪ .‬ولهذا جعل‬
‫النبي طالب الدنيا ممن دخل قلوبهم شيء من الشرك حيث قال‪:‬‬
‫(تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة)(‪ ,)227‬وهذا‬
‫الكلم ينبغي أن ل يستحيا منه!‪ .‬وقد نقلت كلم عالم الجتماع غدينز‬
‫عندما تكلم عن مجتمع ما قبل الصناعة فقال‪( :‬إن غياب الحرب‬
‫وانعدام اللمساواة في الثروة والقوة والتأكيد على التعاون بدلً من‬
‫‪ )(226‬العراف‪.56 :‬‬
‫‪ )(227‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫المنافسة في تلك المجتمعات – مجتمعات الصيد والزراعة ‪ -‬تذكرنا‬


‫كلها بأن العالم الذي خلقته الحضارة الصناعية الحديثة ل يمكن بأي‬
‫حال من الحوال أن يكون مرادفا لمفهوم التقدم)‪ .‬فليس الرقي وليد‬
‫الصناعة ‪ ,‬حتى وإن كانت الصناعة قد تساعد في قيامه لن الرقي‬
‫النساني يرتقي على معيار معنوي فليس ماديا مجردا ‪ ,‬فأما‬
‫النخراط في طابور عبّـاد الدنيا لجل الدنيا فهو تخلف وحمارية‬
‫لنه وصف الكادح لجل الدنيا بذلك فقال‪( :‬إن ال يبغض كل‬
‫جعظري جواظ سخاب بالسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا‬
‫جاهل بالخرة!!)‪ ,‬وقال الحسن البصري‪( :‬إنك لتجد الرجل يقلب‬
‫الدينار على ظفره فيعرف نقصه وتمامه ثم هو ل يحسن أن‬
‫يصلي!)(‪ ,)228‬وقد روى أنس أن رسول ال خرج يوما وهو‬
‫معه فرأى قبة مشرفة فقال‪( :‬ما هذه؟) قال أصحابه‪ :‬هذه لفلن رجل‬
‫من النصار فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول‬
‫ال فسلم عليه في الناس فأعرض عنه رسول ال ‪ ,‬وصنع ذلك‬
‫مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والعراض عنه فشكا ذلك إلى‬
‫أصحابه فقال‪ :‬وال إني لنكر رسول ال قالوا‪ :‬خرج فرأى قبتك‬
‫فرجع إلى قبته فهدمها حتى سواها بالرض فخرج رسول ال ذات‬
‫يوم فلم يرها فقال‪( :‬ما فعلت القبة؟) قالوا‪ :‬شكا إلينا صاحبها‬
‫إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال ‪( :‬أما إن كل بناء وبال على‬
‫صاحبه إل ما ل إل ما ل)‪ ,‬يعني ما ل بد منه(‪.)229‬‬
‫فليست هندمة الثياب وتقبيب القباب دليل على النجاح الكوني‬
‫والشرعي ‪ ,‬بل لعل رجل فقير قد مل رأسه القمل أحب وأصلح عند‬
‫ال من عالم ذهب بصره وتقعرت عدسات نظارته وهو يقرأ في‬
‫الفيزياء النووية ‪ ,‬أو شبكات الحاسب اللي ‪ .‬لن الصلح والقيمة‬
‫والمعيار كلها أمور متعلقة بإرادات ال وبما يوافق إرادات ال وقد‬
‫قال أبو سعيد الخدري‪ :‬يا رسول ال أي الناس أشد بلء قال‪:‬‬
‫(النبياء ثم الصالحون وقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إل‬
‫العباءة يجوبها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله ولحدهم كان أشد‬
‫‪ )(228‬تفسير ابن كثير (‪.)560/ 3‬‬
‫‪ )(229‬رواه ابو داود و قال اللباني‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪166‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫فرحا بالبلء من أحدكم بالعطاء)(‪ ,)230‬فهذه بعض صفات أناس‬


‫وصفهم ال بأنهم خير عباد مشوا على الرض!‪ .‬وهذا ل يعني أن‬
‫من سمات المؤمنين أن يكونوا فقراء ومقمولين ولكنه إشارة إلى أن‬
‫قيمة النسان في الكون متعلقة بتحقيقه لغايات ال التي هي الصبر‬
‫على البتلء وإقامة العدل الكوني والشرعي‪.‬‬
‫أما رأيت السكافي وهو يحكي خبرته في صنعته؟‪ ,‬والجعلن وهو‬
‫يدهده الخرأ بأنفه بعد أن درس جدوى المشروع؟‪ .‬فضلت ل يهتم‬
‫بها أحد ولن تقاتله عليها بقية الحيوانات‪ ,‬أمن قومي كبير‪ ,‬يجعله على‬
‫شكل كرة‪ ,‬يصنع له مخبأ تحت الرض ثم يقف على يديه ويدحرج‬
‫بقدميه ثم يضع قدما على قدم وينتظر كل مساء الصحافة فقد تأتيه‬
‫في أي لحظة ليشرح لها كل هذه الحبكة التي ل يجيدها إل المبتكر‬
‫الكبير‪ ,‬السيد جعلن!‪ .‬ولو زعم أي شخص أنه أسس البراجماتية‬
‫القتصادية لقلت له كذبت ‪ ,‬لن مؤسسها هو السيد جعلن العظيم!‪.‬‬
‫فليس الحل في أن يرضى النسان عن نفسه أو عن جدوى عمله‬
‫كالسيد جعلن ‪ ,‬بقدر ما يجب عليه أن يقيّم نفسه تبعا لمعايير كونية‬
‫هي التي تحدد من القيّم ومن التافه ‪ ,‬ومن الذي هو على صراط‬
‫مستقيم؟!‪ .‬نحن بشر ويجب أن نبحث عن الحقيقة والمجد كبشر‪ ,‬وإل‬
‫فكل شيء يستطيع أن يدّعي الكرامة ويقول‪ :‬ل كرامة لمن يخالف‪,‬‬
‫فحتى الكلب لها مناقب ومنافع ومهام وتاريخ ضارب في التنوع‬
‫والصراع!‪.‬وما عدا هذا الفهم في استقصاء القيمة الذاتية فبهارج زائلة‬
‫‪ ,‬و وساوس باطلة ‪ ,‬وسيبدو للمغفلين من ال ما لم يكونوا يحتسبون ‪,‬‬
‫و ذلك بعد أول وهلة تمر عليهم لحظة موتهم التي سماها عمر بن‬
‫الخطاب بـ" هول المطلع " ‪ ,‬فيكتشف ذلك النسان المسكين الذي‬
‫كان يعاني من " أعرابية الروح والخيال " ول يتجاوز في ذاته‬
‫النزعات الفرعونية والتصورات الحيوانية ونهمة الفكر والهجس و‬
‫الشهوة أنه كما قال تعالى ‪ ( :‬الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم‬
‫يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) (‪ ,)2‬فهذا الكون ليس ملعب بولينج‬
‫تتناثر فيه القوارير و تقوم بل سبب ‪ ,‬و ل صندوق تجارب مليء‬
‫‪ )(230‬ــرواهـ ـالبخاريـ ـفيـ ـالدبـ ـالمفردـ ـوقالـ ـالألباني‪:‬ـ ـحديث‬
‫صحيح‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكهف ‪104 :‬‬
‫‪167‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬

‫بالفئران ‪ ,‬و ل غابة كبيرة مليئة بالكائنات الهاملة فكل فيها يقرر‬
‫منهجه بيده و رجله كما يشاء !‪ ,‬و لكنه قصة طويلة سرمدية الطرفين‬
‫ل يحسن شرحها إل ال سبحانه ! ‪.‬‬
‫أرأيت لو حكم ملك على بضعة أشخاص بالسجن ‪ ,‬ثم قال من خرج‬
‫وقد حفظ قصيدتي الفلنية فسوف ينجو ‪ ,‬وما عدا ذلك فسيكون‬
‫نصيبه الموت ‪ ,‬ثم أمهلهم شهرا من الزمان‪ .‬فجلس هؤلء الرجال‬
‫فمنهم من احتقر مهنة الحفظ ‪ ,‬وقال ل يفعلها إل ساذج ‪ ,‬فاشتغل‬
‫بالختراع والبتكار‪ ,‬ومنهم من جلس يكتب القصائد ويفلسف الكون‬
‫من حوله ‪ ,‬ومنهم من التزم بطلب الملك وجلس في الزاوية يحفظ‬
‫القصيدة‪ .‬فمن أكثر هؤلء القوم عقلنية وحكمة؟‪ .‬إنه الذي جلس‬
‫يحفظ قصيدة الملك ليخرج من مأزقه هذا فينال بعدها حياة طويلة‬
‫عامرة بما يحب من الختراع والبتكار وما يشاء من المور‪ ,‬بينما‬
‫قتل الذين فضلوا شهوة الحذلقة وتكبر العناد ‪ ,‬وخسروا شهورا كثيرة‬
‫كان بإمكانهم أن يبتكروا ويفعلوا فيها ما يشاءون‪.‬‬
‫كذلك‪ ,‬ول المثل العلى‪ ,‬حال أهل الدنيا ‪ .‬فإن استطعت أن تبدع‬
‫وتبتكر وأنت على ما يحب ال ويرضى ‪ ,‬فهذا خير كثير فإن عجزت‬
‫عن ذلك و صار الخيار إما الدنيا وإما الخرة ‪ ,‬فعليك بطاعة ال‬
‫التي بعدها خلود فل موت في جنة تبتكر فيها وتخترع ما تشاء ‪,‬لن‬
‫الفهم والتفكير والبداع إن كان من نعيم الدنيا فل بد أن يكون من‬
‫نعيم الخرة‪ .‬فل تضيع مستقبلك البدي لجل نزوات نفسية وذهنية‬
‫واجتماعية هنا وهناك ‪ ,‬ترضي بها شيئا في نفسك أو نفوس الناس‬
‫على حساب مرضاة ال سبحانه‪ .‬وقد ثبت كما في صحيح البخاري‬
‫أن النبي كان يوما يحدث وعنده رجل من أهل البادية‪( :‬أن رجل‬
‫من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له ألست فيما شئت؟ قال‬
‫بلى ولكني أحب أن أزرع قال فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه‬
‫واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول ال دونك يا ابن آدم فإنه ل‬
‫يشبعك شيء)‪ .‬فقال العرابي وال ل تجده إل قرشيا أو أنصاريا‬
‫فإنهم أصحاب زرع ‪ ,‬وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ‪ ,‬فضحك‬
‫رسول ال ‪ .‬ومعنى الحديث ودللته في غاية الوضوح!‪.‬‬
‫‪168‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‬
‫‪169‬‬ ‫خاتـمـة الكتـاب‬

‫خاتمة الكتاب‬
‫كان الناس في منتصف التسعينات يتكلمون عن الكمبيوتر وكأنه‬
‫أسطورة مصباح علء الدين ‪ ,‬الذي كان كلما فركه بيديه خرج منه‬
‫مارد طويل وحقق له كل أحلمه‪ ,‬وبمجرد ما وطأت قدماي أرض‬
‫جامعة البترول والمعادن عام ‪1995‬م تقدمت لدخول كلية هندسة‬
‫الحاسب اللي ثم تخرجت وكان مشروع تخرجي تحت عنوان ‪:‬‬

‫(‪ )The Main Concepts Of Mobile Networks Design‬لكتشف ذلك‬


‫السحر الكبير الذي هو روح هذه الحضارة الرقمية ‪ ,‬وما معنى أن‬
‫يكون العالم قرية صغيرة‪ ,‬وما معنى " العولمة " التي هي نتاج تقني‬
‫قبل أن يكون نتاج ثقافي‪ .‬فعلمت أن الكمبيوتر آلة كأي آلة وأنه ل‬
‫يختلف في ميكانيكيته عن أي آلة ميكانيكية ‪ ,‬وأنه ليس بسحر و ل‬
‫معجزة غير أنه شديد التكامل ‪ ,‬شديدة الحبكة اللكترونية ‪ ,‬وأنه كله‬
‫مبني على خاصية فريدة ل توجد إل في حجر يسمى " الجرمانيوم! "‬
‫بني عليها تصميم اصغر وحدة في الحاسب ‪ ,‬التي هي الترانزيستور‪.‬‬
‫فالحاسب في حقيقته ليس إل أمة عظيمة من الترانزيستورات التي‬
‫رتبت بطريقة معينة لتؤدي غرضا معينا‪ .‬بالنسبة لي‪ ,‬لم يعد النسان‬
‫الغربي شخصية مهيمنة وهو في الصل لم يكن كذلك‪ ,‬غير أني الن‬
‫اكتشفته أكثر على حقيقته!‪ .‬إن سوبرمان الطائر الذي يوهم الناس بأنه‬
‫المهدي المنتظر للحضارة الرقمية ‪ ,‬ليس إل فيلسوف رومانسي من‬
‫القرن التاسع عشر ‪ ,‬طار عقله فطار هو خلفه ليبحث عنه من مكان‬
‫إلى مكان‪ ,‬فهو ليس إل رجل مجنون يجيد الطيران!‪ .‬إن النسان‬
‫الغربي مسكين ومسكين جدا وهذه ليست غطرسة مني ول هي‬
‫ممارسة للظلم في هيئة إشفاق وإنما هي حقيقة واضحة تتمطى‬
‫يضحك لصدقها الصبيان!‪.‬‬

‫ذات يوم قلت لمدربي الخبير الهولندي الملحد‪ :‬هل تسمح لحد من‬
‫عائلتك أن ينظف أذنيه بالمفك المسمى " سكروب " يا مستر ولكو؟‪.‬‬
‫فقال وهو يضحك متعجبا ً‪ :‬بالتأكيد ل!‪ .‬فقلت له‪ :‬إذن لماذا يسمح‬
‫‪170‬‬ ‫خاتـمـة الكتـاب‬

‫القساوسة في بلدك بعقد النكاح بين الرجال؟!‪ .‬فقال وهو محرج‬


‫بشيء من البلهة‪ !Because it may work :‬وترجتمها‪ ":‬لنه‬
‫يمكن يمشي الحال!! "‪ .‬هذا هو مثل النسان الغربي‪ ,‬عندما يجلس في‬
‫محافل الواقع ويبدي قدراته على إدارة الحياة ‪ ,‬ويلقي بثقل مخترعاته‬
‫بين يدي الشعوب فإذا جاء إلى العقيدة التي هي أخص خصائص‬
‫النسان‪ ,‬وجدته يتصرف ببلهة وبرود ليس لهما مثيل‪ ,‬فتراه بعد كل‬
‫هذا النجاح المادي الحضاري الكبير يسلم أمر قلبه وعقيدته وبنائه‬
‫النفسي‪ ,‬الذي هو ذاته‪ ,‬إلى حفنة فاشلة من الفلسفة والفنانين‬
‫والغوغائيين الذين ل يجيدون إل ممارسة الشك والشهوة والتنظير‬
‫السخيف!‪.‬‬
‫وهو ذا يركب صهوة المادة ويسوقها كما يساق البعير!‪ ,‬وهو ذا‬
‫يختار صفاته الوراثية من الخريطة الجينية لوالديه!‪ ,‬يرتشف الزوج‬
‫فنجان الشاي مع زوجته‪ ,‬يقلبان صفحات الكاتالوج الوراثي ويقولن‪:‬‬
‫ابننا القادم نريده أشقر الشعر أخضر العينين!‪ ,‬وهو ذا يقتل الخرين‬
‫بالريموت كنترول‪ ,‬وهو ذا ملء السمع والبصر‪ .‬ولكن؟!‪ .‬أين هو من‬
‫النسان المثالي؟ ‪ .‬بل أين هو من حقيقة ذاته؟ ‪ .‬لماذا يموت النسان‬
‫الغربي كما تموت الدابة؟‪ ,‬وهو يردد جئت ول أدري من أين جئت‬
‫ولكني أتيت‪ ,‬ثم أبصرت قدامي طريقا فمشيت‪ ,‬ثم غويت‪ ,‬ثم عانيت‪,‬‬
‫ثم توفيت!!‪ .‬لماذا هذه النهايات البائسة وهذه النظرات اليائسة وهذا‬
‫العراض عن الحق؟‪ .‬ولماذا هذا الهروب المرضي من الغيبيات‬
‫والمبادئ المقدسة؟‪ ,‬ثم يجلس أحدهم بعد طول ولء للعقل المنطقي‬
‫المجرد والمادية النفعية على سرير الموت يتسول الخرافة وحكايات‬
‫الرهبان السكارى في أقبية كنائس العصور الوسطى عن السيدة‬
‫العذراء التي تنتظر الموتى ومعها باقة من ورود!‪ ,‬ليبرر لنفسه قبول‬
‫الموت القادم المتحتم‪ ,‬ونفسه الضعيفة التائهة تتردد في صدره وهو‬
‫يقول‪ :‬أنا بحاجة لعقيدة!‪ ,‬وبحاجة لرفيق حميم ينتقل معي إلى الحياة‬
‫الجديدة القادمه!‪ ,‬أنا بحاجة إلى ال الذي هو بكل شيء محيط!‪.‬‬
‫أين ال؟!‪ ,‬أريد ال!!‪...‬‬
‫(آلن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ ) ‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫خاتـمـة الكتـاب‬

‫* * *‬

‫تم الكتاب والحمد ل الذي بنعمته تتم الصالحات ‪ .‬ليلة‬


‫‪10/2/1429‬هـ ‪.‬‬
‫‪172‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫فهرس الموضوعات‬
‫إهــــــــــداء‪1................................ .........‬‬
‫‪5...............................................................‬‬
‫فصول الكتاب‪8.................................... .........:‬‬
‫‪ :‬الجاهلية الرومانسية‪11........................................ ...‬‬
‫العقيدة الرومانسية‪13..............................................‬‬
‫الشريعة الرومانسية‪19.......................................... ...‬‬
‫الرهاب الرومانسي‪23............................................‬‬
‫نهاية النسان الرومانسي‪37..................................... ...‬‬
‫السلم الرومانسي‪39.............................................‬‬
‫‪ :‬المقدمات الولية للتصور الصحيح‪46..........................‬‬
‫مفهوم الحقيقة والمجد‪48...........................................‬‬
‫أصل العلم كله من ال‪55..........................................‬‬
‫حقيقة الكون والنظام‪61............................................‬‬
‫قصة نشوء الكون وإثبات الخالق والمخلوق‪68......................‬‬
‫‪ :‬معرفة مقومات العالم وعناصره الفاعلة‪80.......................‬‬
‫صفة آدم وحواء‪82................................................‬‬
‫‪ -1‬متى خلق آدم؟ ومتى أدخل الجنة؟ ومتى أخرج منها؟ ومتى‬
‫مات؟‪82..............................................‬‬
‫فصل‪ :‬فوائد الدلة‪82................................:‬‬
‫‪ -2‬من أي مادة خلق ال آدم عليه السلم‪82.................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪83............................. .:‬‬
‫‪173‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫‪ -3‬من أي شيء خلقت حواء؟‪85...........................‬‬


‫فصل في فوائد الدلة‪85............................. .:‬‬
‫‪ -4‬كيف كانت هيئة آدم التي خلقه ال عليها‪86..............‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪86............................. .:‬‬
‫‪ -5‬أول خلق آدم عليه السلم ورؤيته لذريته‪86.............‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪87............................. .:‬‬
‫‪ -6‬أن إبليس كره آدم قبل تمام خلقه‪87......................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪88............................. .:‬‬
‫صفة الشيطان‪89............................. ...............‬‬
‫‪ -1‬إثبات أن إبليس هو أبو الجن وأن لبليس ذرية وانهم‬
‫يموتون وأنهم أمة عظيمة العدد وأن منهم الشياطين وأن‬
‫يأجوج ومأجوج ليسوا من ذرية إبليس وإنما هم من ذرية‬
‫آدم عليه السلم‪89...................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪90............................. .:‬‬
‫‪ -2‬إثبات أن الجن أصناف ثلثة‪91.........................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪91............................. .:‬‬
‫‪ -3‬أن الشياطين ملل وطرائق مختلفة وأن من الشياطين مقلدة‬
‫في عقيدتهم‪93.......................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪94............................. .:‬‬
‫‪ -4‬أن إبليس كائن حي موجود على الحقيقة وأنه مخلوق من نار‪:‬‬
‫‪94‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪95............................. .:‬‬
‫‪ -5‬إثبات صفة الجسم للشيطان وأن الحمار والكلب يريانه‬
‫عيانا‪95.............................................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪95............................. .:‬‬
‫‪ -6‬ذكر ما جاء في حجم الشيطان في حال كونه على صورته‬
‫الصلية‪96..........................................:‬‬
‫‪174‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫فصل في فوائد الدلة‪97............................. .:‬‬


‫‪ -7‬ذكر ما جاء في أن حجم الشيطان يتغير‪97.............:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪97............................. .:‬‬
‫‪ -8‬إثبات أن للشياطين أسماء‪98............................‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪98............................. .:‬‬
‫‪ -9‬إثبات صفة الكلم للشيطان وأنه قد يخاطب البشر‪98.....‬‬
‫‪ -10‬باب إثبات صفة اليدين والقدمين للشيطان وأنه يأكل‬
‫ويشرب على الحقيقة‪99..............................:‬‬
‫‪ -11‬إثبات أن لبليس عرش على الماء في البحر وأن له‬
‫تاج‪100................................ .............:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪101............................:‬‬
‫‪ -12‬باب إثبات أن الشيطان يخاف من بعض البشر‪101....‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪101............................:‬‬
‫‪ -13‬إثبات أن الشيطان ينام‪102..........................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪102............................:‬‬
‫‪ -14‬إثبات أن للجن عموما ذكور وإناث وأنهم يجامعون‪....:‬‬
‫‪102‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪103............................:‬‬
‫‪ -15‬إثبات صفة البكاء للشيطان‪103......................:‬‬
‫‪ -16‬إثبات صفة اليأس للشيطان‪103......................:‬‬
‫‪ -17‬إثبات صفة الضحك للشيطان‪104....................:‬‬
‫‪ -18‬إثبات صفة الحلق واللسان للشيطان على الحقيقة وأنه يتنفس‪. :‬‬
‫‪104‬‬
‫‪ -19‬ذكر ما جاء في صفة القرين‪104....................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪105............................:‬‬
‫‪175‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫‪ -20‬إثبات أن الشيطان يقوم بأفعال محسوسة تورث‬


‫المراض في البدان‪106............................:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪107............................:‬‬
‫‪ -21‬أن علقة النسان بالشيطان تنتهي بعد خروج الروح‬
‫وأن التكليف العام للنسان ل ينتهي إل بالموت‪107...:‬‬
‫فصل في فوائد الدلة‪108............................:‬‬
‫الواقع والواقعية‪109..............................................‬‬
‫تكريم آدم ومعصية إبليس‪128.....................................‬‬
‫‪ :‬تحقيق معنى الستخلف في الرض‪1............................‬‬
‫سكنى الرض وإعمارها ليس غاية في خلق بني آدم‪134...........‬‬
‫معنى العبودية‪141................................................‬‬
‫الستخلف ل يتحقق إل بإقامة الميزان الكوني والشرعي‪144.....‬‬
‫الخلفة الشريفة للنسان في الرض‪150..........................‬‬
‫خاتمة الكتاب‪159............................... ..................‬‬
‫فهرس الموضوعات‪162..........................................‬‬

You might also like