You are on page 1of 535

‫مقدمة المؤلف‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل الذى أنزل على عبده الفرقان الفارق بين الحلل والحرام‪ ،‬والسعداء والشقياء‪،‬‬
‫والحق والباطل‪.‬‬

‫وجعله برحمته هدىً للناس عموما‪ ،‬وللمتقين خصوصا‪ ،‬من ضلل الكفر والمعاصي‪ ،‬والجهل‪،‬‬
‫إلى نور اليمان والتقوى والعلم‪ ،‬وأنزله شفاء للصدور من أمراض الشبهات والشهوات‬
‫ويحصل به اليقين والعلم في المطالب العاليات‪ ،‬وشفاء للبدان من أمراضها وعللها وآلمها‬
‫وسقمها‪ .‬وأخبر أنه ل ريب فيه ول شك بوجه من الوجوه‪ ،‬وذلك لشتماله على الحق العظيم‪،‬‬
‫في أخباره‪ ،‬وأوامره‪ ،‬ونواهيه‪ ،‬وأنزله مباركا‪ ،‬فيه الخير الكثير‪ ،‬والعلم الغزير‪ ،‬والسرار‬
‫البديعة‪ ،‬والمطالب الرفيعة‪ ،‬فكل بركة وسعادة تنال في الدنيا والخرة‪ ،‬فسببها الهتداء به‬
‫واتباعه‪ ،‬وأخبر أنه مصدق ومهيمن على الكتب السابقة‪ ،‬فما يشهد له فهو الحق‪ ،‬وما رده فهو‬
‫المردود‪ ،‬لنه تضمنها وزاد عليها‪ ،‬وقال تعالى فيه‪(:‬يهدي به ال من اتبع رضوانه سبل‬
‫ث عليها‪ ،‬كاشف عن الطريق‬
‫السلم)‪ ،‬فهو هاد لدار السلم‪ ،‬مبين لطريق الوصول إليها‪ ،‬وحا ّ‬
‫الموصلة إلى داراللم ومحذًُر منها‪ ،‬وقال تعالى مخبرا عنه‪( :‬كتاب أحكمت آياته ثم فصلت‬
‫من لدن حكيم خبير) فبين آياته أكمل تبيين وأتقنها أى إتقان‪ ،‬وفصلها بتبيين الحق من الباطل‬
‫والرشد من الضلل‪ ،‬تفصيلً كاشفا للبس‪ ،‬لكونه صادرا من حكيم خبير‪ ،‬فل يخبر إل بالصدق‬
‫والحق واليقين‪ ،‬ول يأمر إل بالعدل والحسان والبر‪ ،‬ول ينهى إل عن المضار الدينية‬
‫والدنيوية‪.‬‬
‫وأقسم تعالى بالقرآن ووصفه بأنه "مجيد" والمجد‪ :‬سعةُ الوصاف وعظمتها‪ ،‬وذلك لسعة‬
‫معانى القرآن وعظمتها‪ ،‬ووصفه بأنه "ذو الذكر" أى يتذكر به العلوم اللهية والخلق الجميلة‬
‫والعمال الصالحة‪ ،‬ويتعظ به من يخشى‪.‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) فأنزله بهذا اللسان لنعقله ونتفهمه‪ ،‬وأمرنا‬
‫بتدبره‪ ،‬والتفكير فيه‪ ،‬والستنباط لعلومه‪ ،‬وما ذاك إل لن تدبره مفتاح لكل خير‪ ،‬محصل‬
‫للعلوم والسرار‪ .‬فلله الحمد والشكر والثناء‪ ،‬الذى جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورا‪،‬‬
‫وتبصرة وتذكرة‪ ،‬وبركة وهدى وبشرى للمسلمين‪.‬‬
‫فإذا علم هذا‪ ،‬علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والهتداء بها‪.‬‬
‫وكان حقيقا بالعبد أن يبذل جهده‪ ،‬ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه بأقرب الطرق الموصلة‬
‫إلى ذلك‪.‬‬
‫وقد كثرت تفاسير الئمة رحمهم ال لكتاب ال‪ ،‬فمن ُمطَوّل خارج في أكثر بحوثه عن‬
‫المقصود‪ ،‬ومن مُ َقصّر يقتصر على حل بعض اللفاظ اللغوية‪.‬‬
‫وكان الذى ينبغى في ذلك‪ ،‬أن يجعل المعنى هو المقصود‪ ،‬واللفظ وسيلة إليه‪ ،‬فينظر في سياق‬
‫الكلم‪ ،‬وما سيق لجله‪ ،‬ويقابل بينه وبين نظيره في موضع آخر‪ ،‬ويعرف أنه سيق لهداية‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬عالمهم وجاهلهم‪ ،‬حضريهم وبدويهم‪ ،‬فالنظر لسياق اليات مع العلم بأحوال‬
‫الرسول وسيرته مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله‪ ،‬من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد‬
‫منه‪ ،‬خصوصا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلف أنواعها فمن وفق لذلك لم‬
‫يبق عليه إل القبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكير في ألفاظه ومعانيه ولوازمها‪ ،‬وما‬
‫تتضمنه‪ ،‬وما تدل عليه منطوقا ومفهوما‪ ،‬فإذا بذل وسعه في ذلك‪ ،‬فالرب أكرم من عبده‪ ،‬فلبد‬
‫أن يفتح عليه من علومه أمورا ل تدخل تحت كسبه‪.‬‬
‫ولما منّ الباري علىّ وعلى إخوانى بالشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال اللئقة [بنا] أحببت‬
‫أن أرسم من تفسير كتاب ال ما تيسر‪ ،‬وما من به ال علينا‪ ،‬ليكون تذكرة للمحصلين‪ ،‬وآلة‬
‫للمستبصرين‪ ،‬ومعونة للسالكين ولقيده خوفَ الضياع‪ ،‬ولم يكن قصدى في ذلك إل أن يكون‬
‫المعنى هو المقصود ولم أشتغل في حل اللفاظ والعقود‪ ،‬للمعنى الذى ذكرت‪ ،‬ولن المفسرين‬
‫ن بعدهم‪ ،‬فجزاهم ال عن المسلمين خيرا‪.‬‬
‫قد كفوا مَ ْ‬
‫وال أرجوا‪ ،‬وعليه أعتمد‪ ،‬أن ييسر ما قصدت‪ ،‬ويذلل ما أردت‪ ،‬فإنه إن لم ييسره ال‪ ،‬فل‬
‫سبيل إلى حصوله‪ ،‬وإن لم يعن عليه‪ ،‬فل طريق إلى نيل العبد مأموله‪.‬‬
‫وأسأله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم‪ ،‬وأن ينفع به النفع العميم‪ ،‬إنه جواد كريم‪ .‬اللهم‬
‫صلِ على محمد وآله وصحبه‪ ،‬وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬

‫تفسير الفاتحة‬
‫وهي مكية‬
‫ن ال ّرحِيمِ * مَاِلكِ‬
‫ن * ال ّرحْمَ ِ‬
‫ح ْمدُ لِلّ ِه رَبّ ا ْلعَاَلمِي َ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ * ا ْل َ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 7 - 1‬ب ْ‬
‫ط اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ عََل ْي ِهمْ‬
‫صرَا َ‬
‫صرَاطَ ا ْل ُمسْتَقِيمَ * ِ‬
‫س َتعِينُ * ا ْه ِدنَا ال ّ‬
‫ن * ِإيّاكَ َن ْع ُبدُ وَِإيّاكَ َن ْ‬
‫يَ ْومِ الدّي ِ‬
‫ن}‬
‫غ ْيرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عََل ْي ِهمْ وَلَا الضّالّي َ‬
‫َ‬

‫سمِ اللّهِ } أي‪ :‬أبتدئ بكل اسم ل تعالى‪ ,‬لن لفظ { اسم } مفرد مضاف‪ ,‬فيعم جميع السماء‬
‫{ ِب ْ‬
‫[الحسنى]‪ { .‬اللّهِ } هو المألوه المعبود‪ ,‬المستحق لفراده بالعبادة‪ ,‬لما اتصف به من صفات‬
‫حمَنِ ال ّرحِي ِم } اسمان دالن على أنه تعالى ذو الرحمة‬
‫اللوهية وهي صفات الكمال‪ { .‬ال ّر ْ‬
‫الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء‪ ,‬وعمت كل حي‪ ,‬وكتبها للمتقين المتبعين لنبيائه‬
‫ورسله‪ .‬فهؤلء لهم الرحمة المطلقة‪ ,‬ومن عداهم فلهم نصيب منها‪.‬‬

‫واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف المة وأئمتها‪ ,‬اليمان بأسماء ال وصفاته‪,‬‬
‫وأحكام الصفات‪.‬‬

‫فيؤمنون مثل‪ ,‬بأنه رحمن رحيم‪ ,‬ذو الرحمة التي اتصف بها‪ ,‬المتعلقة بالمرحوم‪ .‬فالنعم كلها‪,‬‬
‫أثر من آثار رحمته‪ ,‬وهكذا في سائر السماء‪ .‬يقال في العليم‪ :‬إنه عليم ذو علم‪ ,‬يعلم [به] كل‬
‫شيء‪ ,‬قدير‪ ,‬ذو قدرة يقدر على كل شيء‪.‬‬

‫ح ْمدُ لِلّهِ } [هو] الثناء على ال بصفات الكمال‪ ,‬وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل‪ ,‬فله‬
‫{ ا ْل َ‬
‫ن } الرب‪ ,‬هو المربي جميع العالمين ‪-‬وهم من‬
‫ب ا ْلعَاَلمِي َ‬
‫الحمد الكامل‪ ,‬بجميع الوجوه‪ { .‬رَ ّ‬
‫سوى ال‪ -‬بخلقه إياهم‪ ,‬وإعداده لهم اللت‪ ,‬وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة‪ ,‬التي لو فقدوها‪ ,‬لم‬
‫يمكن لهم البقاء‪ .‬فما بهم من نعمة‪ ,‬فمنه تعالى‪.‬‬

‫وتربيته تعالى لخلقه نوعان‪ :‬عامة وخاصة‪.‬‬

‫فالعامة‪ :‬هي خلقه للمخلوقين‪ ,‬ورزقهم‪ ,‬وهدايتهم لما فيه مصالحهم‪ ,‬التي فيها بقاؤهم في الدنيا‪.‬‬

‫والخاصة‪ :‬تربيته لوليائه‪ ,‬فيربيهم باليمان‪ ,‬ويوفقهم له‪ ,‬ويكمله لهم‪ ,‬ويدفع عنهم الصوارف‪,‬‬
‫والعوائق الحائلة بينهم وبينه‪ ,‬وحقيقتها‪ :‬تربية التوفيق لكل خير‪ ,‬والعصمة عن كل شر‪ .‬ولعل‬
‫هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية النبياء بلفظ الرب‪ .‬فإن مطالبهم كلها داخلة تحت‬
‫ربوبيته الخاصة‪.‬‬

‫ن } على انفراده بالخلق والتدبير‪ ,‬والنعم‪ ,‬وكمال غناه‪ ,‬وتمام فقر‬


‫ب ا ْلعَاَلمِي َ‬
‫فدل قوله { رَ ّ‬
‫العالمين إليه‪ ,‬بكل وجه واعتبار‪.‬‬
‫ن } المالك‪ :‬هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى‪ ,‬ويثيب‬
‫{ مَاِلكِ َي ْومِ الدّي ِ‬
‫ويعاقب‪ ,‬ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات‪ ,‬وأضاف الملك ليوم الدين‪ ,‬وهو يوم‬
‫القيامة‪ ,‬يوم يدان الناس فيه بأعمالهم‪ ,‬خيرها وشرها‪ ,‬لن في ذلك اليوم‪ ,‬يظهر للخلق تمام‬
‫الظهور‪ ,‬كمال ملكه وعدله وحكمته‪ ,‬وانقطاع أملك الخلئق‪ .‬حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم‪,‬‬
‫الملوك والرعايا والعبيد والحرار‪.‬‬

‫كلهم مذعنون لعظمته‪ ,‬خاضعون لعزته‪ ,‬منتظرون لمجازاته‪ ,‬راجون ثوابه‪ ,‬خائفون من عقابه‪,‬‬
‫فلذلك خصه بالذكر‪ ,‬وإل‪ ,‬فهو المالك ليوم الدين ولغيره من اليام‪.‬‬

‫س َتعِينُ } أي‪ :‬نخصك وحدك بالعبادة‬


‫وقوله { ِإيّاكَ َن ْع ُبدُ وَِإيّاكَ َن ْ‬

‫والستعانة‪ ,‬لن تقديم المعمول يفيد الحصر‪ ,‬وهو إثبات الحكم للمذكور‪ ,‬ونفيه عما عداه‪ .‬فكأنه‬
‫يقول‪ :‬نعبدك‪ ,‬ول نعبد غيرك‪ ,‬ونستعين بك‪ ,‬ول نستعين بغيرك‪.‬‬

‫وقدم العبادة على الستعانة‪ ,‬من باب تقديم العام على الخاص‪ ,‬واهتماما بتقديم حقه تعالى على‬
‫حق عبده‪.‬‬

‫و { العبادة } اسم جامع لكل ما يحبه ال ويرضاه من العمال‪ ,‬والقوال الظاهرة والباطنة‪ .‬و‬
‫{ الستعانة } هي العتماد على ال تعالى في جلب المنافع‪ ,‬ودفع المضار‪ ,‬مع الثقة به في‬
‫تحصيل ذلك‪.‬‬

‫والقيام بعبادة ال والستعانة به هو الوسيلة للسعادة البدية‪ ,‬والنجاة من جميع الشرور‪ ,‬فل‬
‫سبيل إلى النجاة إل بالقيام بهما‪ .‬وإنما تكون العبادة عبادة‪ ,‬إذا كانت مأخوذة عن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم مقصودا بها وجه ال‪ .‬فبهذين المرين تكون عبادة‪ ,‬وذكر { الستعانة }‬
‫بعد { العبادة } مع دخولها فيها‪ ,‬لحتياج العبد في جميع عباداته إلى الستعانة بال تعالى‪ .‬فإنه‬
‫إن لم يعنه ال‪ ,‬لم يحصل له ما يريده من فعل الوامر‪ ,‬واجتناب النواهي‪.‬‬

‫ط ا ْل ُمسْتَقِيمَ } أي‪ :‬دلنا وأرشدنا‪ ,‬ووفقنا للصراط المستقيم‪ ,‬وهو‬


‫صرَا َ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬ا ْه ِدنَا ال ّ‬
‫الطريق الواضح الموصل إلى ال‪ ,‬وإلى جنته‪ ,‬وهو معرفة الحق والعمل به‪ ,‬فاهدنا إلى‬
‫الصراط واهدنا في الصراط‪ .‬فالهداية إلى الصراط‪ :‬لزوم دين السلم‪ ,‬وترك ما سواه من‬
‫الديان‪ ,‬والهداية في الصراط‪ ,‬تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعمل‪ .‬فهذا الدعاء‬
‫من أجمع الدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على النسان أن يدعو ال به في كل ركعة من‬
‫صلته‪ ,‬لضرورته إلى ذلك‪.‬‬

‫ط اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ عََل ْي ِهمْ } من النبيين والصديقين والشهداء‬


‫صرَا َ‬
‫وهذا الصراط المستقيم هو‪ِ { :‬‬
‫غ ْيرِ } صراط { ا ْل َم ْغضُوبِ عََل ْي ِهمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود‬
‫والصالحين‪َ { .‬‬
‫ن } الذين تركوا الحق على جهل وضلل‪ ,‬كالنصارى‬
‫ونحوهم‪ .‬وغير صراط { الضّالّي َ‬
‫ونحوهم‪.‬‬

‫فهذه السورة على إيجازها‪ ,‬قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن‪ ,‬فتضمنت‬
‫أنواع التوحيد الثلثة‪ :‬توحيد الربوبية يؤخذ من قوله‪ { :‬رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫وتوحيد اللهية وهو إفراد ال بالعبادة‪ ,‬يؤخذ من لفظ‪ { :‬اللّ ِه } ومن قوله‪ِ { :‬إيّاكَ َن ْع ُبدُ }‬
‫وتوحيد السماء والصفات‪ ,‬وهو إثبات صفات الكمال ل تعالى‪ ,‬التي أثبتها لنفسه‪ ,‬وأثبتها له‬
‫ح ْمدُ } كما تقدم‪.‬‬
‫رسوله من غير تعطيل ول تمثيل ول تشبيه‪ ,‬وقد دل على ذلك لفظ { ا ْل َ‬
‫ط ا ْل ُمسْتَقِيمَ } لن ذلك ممتنع بدون الرسالة‪.‬‬
‫صرَا َ‬
‫وتضمنت إثبات النبوة في قوله‪ { :‬ا ْه ِدنَا ال ّ‬

‫ن } وأن الجزاء يكون بالعدل‪ ,‬لن الدين‬


‫وإثبات الجزاء على العمال في قوله‪ { :‬مَاِلكِ يَ ْومِ الدّي ِ‬
‫معناه الجزاء بالعدل‪.‬‬

‫وتضمنت إثبات القدر‪ ,‬وأن العبد فاعل حقيقة‪ ,‬خلفا للقدرية والجبرية‪ .‬بل تضمنت الرد على‬
‫ستَقِيمَ } لنه معرفة الحق والعمل به‪.‬‬
‫جميع أهل البدع [والضلل] في قوله‪ { :‬ا ْه ِدنَا الصّرَاطَ ا ْل ُم ْ‬
‫وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك‪.‬‬

‫ن}‬
‫ستَعِي ُ‬
‫وتضمنت إخلص الدين ل تعالى‪ ,‬عبادة واستعانة في قوله‪ِ { :‬إيّاكَ َن ْع ُبدُ وَِإيّاكَ َن ْ‬
‫فالحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة البقرة‬


‫وهي مدنية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ الم * ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَا رَ ْيبَ فِيهِ ُهدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫ك َومَا أُنْ ِزلَ‬
‫ب وَيُقِيمُونَ الصّلَا َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْنفِقُونَ * وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْي ِ‬
‫ك وَبِالْآخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ * أُولَ ِئكَ عَلَى ُهدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }‬
‫مِنْ قَبِْل َ‬
‫تقدم الكلم على البسملة‪ .‬وأما الحروف المقطعة في أوائل السور‪ ,‬فالسلم فيها‪ ,‬السكوت عن‬
‫التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي]‪ ,‬مع الجزم بأن ال تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة ل‬
‫نعلمها‪.‬‬

‫وقوله { ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة‪ ,‬المشتمل على ما لم‬
‫تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم‪,‬‬

‫والحق المبين‪ .‬فـ { لَا رَ ْيبَ فِيهِ } ول شك بوجه من الوجوه‪ ،‬ونفي الريب عنه‪ ,‬يستلزم ضده‪ ,‬إذ‬
‫ضد الريب والشك اليقين‪ ،‬فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب‪ .‬وهذه قاعدة‬
‫مفيدة‪ ,‬أن النفي المقصود به المدح‪ ,‬ل بد أن يكون متضمنا لضدة‪ ,‬وهو الكمال‪ ,‬لن النفي عدم‪,‬‬
‫والعدم المحض‪ ,‬ل مدح فيه‪.‬‬

‫فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية ل تحصل إل باليقين قال‪ { :‬هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ } والهدى‪ :‬ما‬
‫تحصل به الهداية من الضللة والشبه‪ ،‬وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة‪ .‬وقال { ُهدًى }‬
‫وحذف المعمول‪ ,‬فلم يقل هدى للمصلحة الفلنية‪ ,‬ول للشيء الفلني‪ ,‬لرادة العموم‪ ,‬وأنه هدى‬
‫لجميع مصالح الدارين‪ ،‬فهو مرشد للعباد في المسائل الصولية والفروعية‪ ,‬ومبين للحق من‬
‫الباطل‪ ,‬والصحيح من الضعيف‪ ,‬ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم‪ ,‬في دنياهم وأخراهم‪.‬‬

‫وقال في موضع آخر‪ُ { :‬هدًى لِلنّاسِ } فعمم‪ .‬وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ } لنه في‬
‫نفسه هدى لجميع الخلق‪.‬فالشقياء لم يرفعوا به رأسا‪ .‬ولم يقبلوا هدى ال‪ ,‬فقامت عليهم به الحجة‪,‬‬
‫ولم ينتفعوا به لشقائهم‪ ،‬وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الكبر‪ ,‬لحصول الهداية‪ ,‬وهو التقوى التي‬
‫حقيقتها‪ :‬اتخاذ ما يقي سخط ال وعذابه‪ ,‬بامتثال أوامره‪ ,‬واجتناب النواهي‪ ,‬فاهتدوا به‪ ,‬وانتفعوا‬
‫ج َعلْ َلكُمْ فُ ْرقَانًا } فالمتقون هم‬
‫غاية النتفاع‪ .‬قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ّتقُوا اللّهَ َي ْ‬
‫المنتفعون باليات القرآنية‪ ,‬واليات الكونية‪.‬‬

‫ولن الهداية نوعان‪ :‬هداية البيان‪ ,‬وهداية التوفيق‪ .‬فالمتقون حصلت لهم الهدايتان‪ ,‬وغيرهم لم‬
‫تحصل لهم هداية التوفيق‪ .‬وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها‪ ,‬ليست هداية حقيقية [تامة]‪.‬‬

‫ثم وصف المتقين بالعقائد والعمال الباطنة‪ ,‬والعمال الظاهرة‪ ,‬لتضمن التقوى لذلك فقال‪ { :‬الّذِينَ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } حقيقة اليمان‪ :‬هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل‪ ,‬المتضمن لنقياد‬
‫الجوارح‪ ،‬وليس الشأن في اليمان بالشياء المشاهدة بالحس‪ ,‬فإنه ل يتميز بها المسلم من الكافر‪.‬‬
‫إنما الشأن في اليمان بالغيب‪ ,‬الذي لم نره ولم نشاهده‪ ,‬وإنما نؤمن به‪ ,‬لخبر ال وخبر رسوله‪.‬‬
‫فهذا اليمان الذي يميز به المسلم من الكافر‪ ,‬لنه تصديق مجرد ل ورسله‪ .‬فالمؤمن يؤمن بكل ما‬
‫أخبر ال به‪ ,‬أو أخبر به رسوله‪ ,‬سواء شاهده‪ ,‬أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله‪ ,‬أو لم يهتد إليه‬
‫عقله وفهمه‪ .‬بخلف الزنادقة والمكذبين بالمور الغيبية‪ ,‬لن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد‬
‫إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم‪ ,‬ومرجت أحلمهم‪ .‬وزكت عقول المؤمنين‬
‫المصدقين المهتدين بهدى ال‪.‬‬

‫ويدخل في اليمان بالغيب‪[ ,‬اليمان بـ] بجميع ما أخبر ال به من الغيوب الماضية والمستقبلة‪,‬‬
‫وأحوال الخرة‪ ,‬وحقائق أوصاف ال وكيفيتها‪[ ,‬وما أخبرت به الرسل من ذلك] فيؤمنون بصفات‬
‫ال ووجودها‪ ,‬ويتيقنونها‪ ,‬وإن لم يفهموا كيفيتها‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَ ُيقِيمُونَ الصّلَاةَ } لم يقل‪ :‬يفعلون الصلة‪ ,‬أو يأتون بالصلة‪ ,‬لنه ل يكفي فيها مجرد‬
‫التيان بصورتها الظاهرة‪ .‬فإقامة الصلة‪ ,‬إقامتها ظاهرا‪ ,‬بإتمام أركانها‪ ,‬وواجباتها‪ ,‬وشروطها‪.‬‬
‫وإقامتها باطنا بإقامة روحها‪ ,‬وهو حضور القلب فيها‪ ,‬وتدبر ما يقوله ويفعله منها‪ ،‬فهذه الصلة‬
‫هي التي قال ال فيها‪ { :‬إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ } وهي التي يترتب عليها الثواب‪.‬‬
‫فل ثواب للنسان من صلته‪ ,‬إل ما عقل منها‪ ،‬ويدخل في الصلة فرائضها ونوافلها‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة‪ ,‬والنفقة على الزوجات‬
‫والقارب‪ ,‬والمماليك ونحو ذلك‪ .‬والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير‪ .‬ولم يذكر المنفق عليهم‪,‬‬
‫لكثرة أسبابه وتنوع أهله‪ ,‬ولن النفقة من حيث هي‪ ,‬قربة إلى ال‪ ،‬وأتى بـ " من " الدالة على‬
‫التبعيض‪ ,‬لينبههم أنه لم يرد منهم إل جزءا يسيرا من أموالهم‪ ,‬غير ضار لهم ول مثقل‪ ,‬بل‬
‫ينتفعون هم بإنفاقه‪ ,‬وينتفع به إخوانهم‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬رَ َزقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الموال التي بين أيديكم‪ ,‬ليست حاصلة بقوتكم وملككم‪,‬‬
‫وإنما هي رزق ال الذي خولكم‪ ,‬وأنعم به عليكم‪ ،‬فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده‪,‬‬
‫فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم‪ ,‬وواسوا إخوانكم المعدمين‪.‬‬

‫وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلة والزكاة في القرآن‪ ,‬لن الصلة متضمنة للخلص للمعبود‪,‬‬
‫والزكاة والنفقة متضمنة للحسان على عبيده‪ ،‬فعنوان سعادة العبد إخلصه للمعبود‪ ,‬وسعيه في‬
‫نفع الخلق‪ ،‬كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين المرين منه‪ ,‬فل إخلص ول إحسان‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ } وهو القرآن والسنة‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬وَأَنْ َزلَ اللّهُ عَلَ ْيكَ‬
‫ح ْكمَةَ } فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول‪ ,‬ول يفرقون بين بعض ما أنزل‬
‫ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ‬
‫إليه‪ ,‬فيؤمنون ببعضه‪ ,‬ول يؤمنون ببعضه‪ ,‬إما بجحده أو تأويله‪ ,‬على غير مراد ال ورسوله‪ ,‬كما‬
‫يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة‪ ,‬الذين يؤولون النصوص الدالة على خلف قولهم‪ ,‬بما حاصله‬
‫عدم التصديق بمعناها‪ ,‬وإن صدقوا بلفظها‪ ,‬فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬ومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ } يشمل اليمان بالكتب السابقة‪ ،‬ويتضمن اليمان بالكتب اليمان‬
‫بالرسل وبما اشتملت عليه‪ ,‬خصوصا التوراة والنجيل والزبور‪ ،‬وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون‬
‫بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فل يفرقون بين أحد منهم‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَبِالْآخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ } و " الخرة " اسم لما يكون بعد الموت‪ ،‬وخصه [بالذكر] بعد‬
‫العموم‪ ,‬لن اليمان باليوم الخر‪ ,‬أحد أركان اليمان؛ ولنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة‬
‫والعمل‪ ،‬و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك‪ ,‬الموجب للعمل‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } أي‪ :‬الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَى ُهدًى مِنْ رَ ّبهِمْ } أي‪ :‬على هدى عظيم‪,‬‬
‫لن التنكير للتعظيم‪ ،‬وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة‬
‫والعمال المستقيمة‪ ،‬وهل الهداية [الحقيقية] إل هدايتهم‪ ،‬وما سواها [مما خالفها]‪ ،‬فهو ضللة‪.‬‬

‫وأتى بـ " على " في هذا الموضع‪ ,‬الدالة على الستعلء‪ ,‬وفي الضللة يأتي بـ " في " كما في‬
‫قوله‪ { :‬وَإِنّا َأوْ إِيّا ُكمْ َلعَلَى هُدًى َأوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لن صاحب الهدى مستعل بالهدى‪ ,‬مرتفع‬
‫به‪ ,‬وصاحب الضلل منغمس فيه محتقر‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } والفلح [هو] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب‪ ،‬حصر‬
‫الفلح فيهم؛ لنه ل سبيل إلى الفلح إل بسلوك سبيلهم‪ ,‬وما عدا تلك السبيل‪ ,‬فهي سبل الشقاء‬
‫والهلك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلك‪.‬‬

‫خ َتمَ اللّهُ عَلَى‬


‫ن* َ‬
‫ن كَ َفرُوا سَوَاءٌ عََل ْي ِهمْ أََأ ْن َذرْ َت ُهمْ َأمْ َل ْم ُتنْ ِذرْ ُهمْ لَا ُي ْؤ ِمنُو َ‬
‫{ ‪ِ { } 7 - 6‬إنّ اّلذِي َ‬
‫عظِيمٌ }‬
‫عذَابٌ َ‬
‫غشَاوَةٌ وََل ُهمْ َ‬
‫س ْمعِ ِهمْ وَعَلَى َأ ْبصَارِهِمْ ِ‬
‫قُلُو ِب ِهمْ َوعَلَى َ‬

‫فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا‪ ,‬ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم‪ ،‬المعاندين للرسول‬
‫خ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِب ِهمْ‬
‫ن اّلذِينَ كَ َفرُوا سَوَاءٌ عََل ْيهِمْ أََأ ْن َذ ْر َتهُ ْم َأمْ َلمْ ُت ْن ِذرْهُمْ لَا يُ ْؤ ِمنُونَ َ‬
‫فقال‪ { :‬إِ ّ‬
‫عظِي ٌم } يخبر تعالى أن الذين كفروا‪ ,‬أي‪:‬‬
‫عذَابٌ َ‬
‫غشَاوَةٌ وََل ُهمْ َ‬
‫س ْم ِعهِمْ وَعَلَى َأ ْبصَارِهِمْ ِ‬
‫َوعَلَى َ‬
‫اتصفوا بالكفر‪ ,‬وانصبغوا به‪ ,‬وصار وصفا لهم لزما‪ ,‬ل يردعهم عنه رادع‪ ,‬ول ينجع فيهم‬
‫وعظ‪ ،‬إنهم مستمرون على كفرهم‪ ,‬فسواء عليهم أأنذرتهم‪ ,‬أم لم تنذرهم ل يؤمنون‪ ،‬وحقيقة‬
‫الكفر‪ :‬هو الجحود لما جاء به الرسول‪ ,‬أو جحد بعضه‪ ،‬فهؤلء الكفار ل تفيدهم الدعوة إل‬
‫إقامة الحجة‪ ,‬وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى ال عليه وسلم في إيمانهم‪ ,‬وأنك ل تأس‬
‫عليهم‪ ,‬ول تذهب نفسك عليهم حسرات‪.‬‬

‫سمْ ِع ِهمْ } أي‪ :‬طبع‬


‫خ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِب ِهمْ وَعَلَى َ‬
‫ثم ذكر الموانع المانعة لهم من اليمان فقال‪َ { :‬‬
‫عليها بطابع ل يدخلها اليمان‪ ,‬ول ينفذ فيها‪ ،‬فل يعون ما ينفعهم‪ ,‬ول يسمعون ما يفيدهم‪.‬‬

‫غشَاوَ ٌة } أي‪ :‬غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم‪ ,‬وهذه‬
‫{ وَعَلَى َأ ْبصَارِهِمْ ِ‬
‫طرق العلم والخير‪ ,‬قد سدت عليهم‪ ,‬فل مطمع فيهم‪ ,‬ول خير يرجى عندهم‪ ،‬وإنما منعوا ذلك‪,‬‬
‫وسدت عنهم أبواب اليمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق‪ ,‬كما قال‬
‫ل َمرّةٍ } وهذا عقاب عاجل‪.‬‬
‫ب َأفْ ِئ َد َت ُهمْ وََأ ْبصَارَ ُهمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤ ِمنُوا بِهِ َأوّ َ‬
‫تعالى‪َ { :‬ونُقَلّ ُ‬

‫عظِيمٌ } وهو عذاب النار‪ ,‬وسخط الجبار المستمر‬


‫عذَابٌ َ‬
‫ثم ذكر العقاب الجل‪ ،‬فقال‪ { :‬وََل ُهمْ َ‬
‫الدائم‪.‬‬

‫ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم السلم وباطنهم الكفر فقال‪:‬‬

‫ل آ َمنّا بِاللّهِ َوبِا ْليَ ْو ِم الْآخِرِ َومَا ُه ْم ِبمُ ْؤ ِمنِينَ * ُيخَادِعُونَ اللّهَ‬
‫ن يَقُو ُ‬
‫ن النّاسِ مَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 10 - 8‬ومِ َ‬
‫شعُرُونَ * فِي قُلُو ِب ِهمْ َمرَضٌ َفزَادَ ُهمُ اللّهُ َم َرضًا‬
‫س ُهمْ َومَا َي ْ‬
‫ن إِلّا َأنْ ُف َ‬
‫خدَعُو َ‬
‫ن آ َمنُوا َومَا َي ْ‬
‫وَاّلذِي َ‬
‫ن}‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْك ِذبُو َ‬
‫وََل ُهمْ َ‬

‫واعلم أن النفاق هو‪ :‬إظهار الخير وإبطان الشر‪ ،‬ويدخل في هذا التعريف النفاق العتقادي‪,‬‬
‫والنفاق العملي‪ ،‬كالذي ذكر النبي صلى ال عليه وسلم في قوله‪ " :‬آية المنافق ثلت‪ :‬إذا حدث‬
‫كذب‪ ,‬وإذا وعد أخلف‪ ,‬وإذا اؤتمن خان " وفي رواية‪ " :‬وإذا خاصم فجر "‬

‫وأما النفاق العتقادي المخرج عن دائرة السلم‪ ,‬فهو الذي وصف ال به المنافقين في هذه‬
‫السورة وغيرها‪ ،‬ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى ال عليه وسلم [من مكة]‬
‫إلى المدينة‪ ,‬وبعد أن هاجر‪ ,‬فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر ال المؤمنين وأعزهم‪ ،‬ذل من‬
‫في المدينة ممن لم يسلم‪ ,‬فأظهر بعضهم السلم خوفا ومخادعة‪ ,‬ولتحقن دماؤهم‪ ,‬وتسلم‬
‫أموالهم‪ ,‬فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم‪ ,‬وفي الحقيقة ليسوا منهم‪.‬‬

‫فمن لطف ال بالمؤمنين‪ ,‬أن جل أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها‪ ,‬لئل يغتر بهم‬
‫ن ُتنَزّلَ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ح َذرُ ا ْل ُمنَافِقُو َ‬
‫المؤمنون‪ ,‬ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]‪َ { :‬ي ْ‬
‫عََل ْي ِهمْ سُورَ ٌة ُت َن ّب ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِب ِهمْ } فوصفهم ال بأصل النفاق فقال‪َ { :‬و ِمنَ النّاسِ َمنْ يَقُولُ‬
‫ن } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‪ ،‬فأكذبهم‬
‫خرِ َومَا ُهمْ ِبمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫آ َمنّا بِاللّهِ َوبِا ْليَ ْومِ الْآ ِ‬
‫ن } لن اليمان الحقيقي‪ ,‬ما تواطأ عليه القلب واللسان‪ ,‬وإنما هذا‬
‫ال بقوله‪َ { :‬ومَا ُهمْ ِبمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫مخادعة ل ولعباده المؤمنين‪.‬‬

‫والمخادعة‪ :‬أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا‪ ,‬ويبطن خلفه لكي يتمكن من مقصوده ممن‬
‫يخادع‪ ،‬فهؤلء المنافقون‪ ,‬سلكوا مع ال وعباده هذا المسلك‪ ,‬فعاد خداعهم على أنفسهم‪ ،‬فإن‬
‫هذا من العجائب؛ لن المخادع‪ ,‬إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم‪ ,‬ل له ول‬
‫عليه‪ ،‬وهؤلء عاد خداعهم عليهم‪ ,‬وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لهلك أنفسهم‬
‫وإضرارها وكيدها؛ لن ال تعالى ل يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون‪ ,‬ل يضرهم‬
‫كيدهم شيئا‪ ،‬فل يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون اليمان‪ ,‬فسلمت بذلك أموالهم وحقنت‬
‫دماؤهم‪ ,‬وصار كيدهم في نحورهم‪ ,‬وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا‪ ,‬والحزن‬
‫المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة‪.‬‬

‫ثم في الخرة لهم العذاب الليم الموجع المفجع‪ ,‬بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم‪ ,‬والحال أنهم‬
‫من جهلهم وحماقتهم ل يشعرون بذلك‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬فِي قُلُو ِب ِهمْ َمرَضٌ } والمراد بالمرض هنا‪ :‬مرض الشك والشبهات والنفاق‪ ،‬لن‬
‫القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله‪ :‬مرض الشبهات الباطلة‪ ,‬ومرض‬
‫الشهوات المردية‪ ،‬فالكفر والنفاق والشكوك والبدع‪ ,‬كلها من مرض الشبهات‪ ،‬والزنا‪ ,‬ومحبة‬
‫طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِهِ‬
‫[الفواحش و]المعاصي وفعلها‪ ,‬من مرض الشهوات ‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ف َي ْ‬
‫َمرَضٌ } وهي شهوة الزنا‪ ،‬والمعافى من عوفي من هذين المرضين‪ ,‬فحصل له اليقين‬
‫واليمان‪ ,‬والصبر عن كل معصية‪ ,‬فرفل في أثواب العافية‪.‬‬

‫وفي قوله عن المنافقين‪ { :‬فِي قُلُو ِب ِهمْ َمرَضٌ َفزَادَهُمُ اللّهُ َم َرضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير‬
‫المعاصي على العاصين‪ ,‬وأنه بسبب ذنوبهم السابقة‪ ,‬يبتليهم بالمعاصي اللحقة الموجبة‬
‫لعقوباتها كما قال تعالى‪َ { :‬ونُقَلّبُ َأ ْف ِئ َدتَ ُهمْ وََأبْصَارَ ُهمْ َكمَا َلمْ يُ ْؤ ِمنُوا بِ ِه أَوّلَ َمرّ ٍة } وقال تعالى‪:‬‬
‫{ فََلمّا زَاغُوا َأزَاغَ اللّهُ قُلُو َب ُهمْ } وقال تعالى‪ { :‬وََأمّا اّلذِينَ فِي قُلُو ِب ِهمْ َمرَضٌ َفزَا َد ْت ُهمْ ِرجْسًا إِلَى‬
‫س ِهمْ } فعقوبة المعصية‪ ,‬المعصية بعدها‪ ,‬كما أن من ثواب الحسنة‪ ,‬الحسنة بعدها‪ ،‬قال‬
‫ِرجْ ِ‬
‫ن ا ْه َتدَوْا ُهدًى }‬
‫تعالى‪َ { :‬و َيزِيدُ اللّهُ اّلذِي َ‬
‫ن * أَلَا ِإ ّن ُهمْ ُهمُ‬
‫سدُوا فِي ا ْلَأرْضِ قَالُوا ِإ ّنمَا َنحْنُ ُمصِْلحُو َ‬
‫{ ‪ { } 12 - 11‬وَِإذَا قِيلَ َل ُهمْ لَا تُ ْف ِ‬
‫ن}‬
‫ش ُعرُو َ‬
‫ن لَا َي ْ‬
‫سدُونَ وََلكِ ْ‬
‫ا ْلمُ ْف ِ‬

‫أي‪ :‬إذا نهي هؤلء المنافقون عن الفساد في الرض‪ ,‬وهو العمل بالكفر والمعاصي‪ ,‬ومنه‬
‫إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالتهم للكافرين { قَالُوا ِإ ّنمَا َنحْنُ ُمصِْلحُونَ } فجمعوا بين‬
‫العمل بالفساد في الرض‪ ,‬وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلح‪ ,‬قلبا للحقائق‪ ,‬وجمعا بين‬
‫فعل الباطل واعتقاده حقا‪ ،‬وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية‪ ,‬مع اعتقاد أنها معصية‬
‫فهذا أقرب للسلمة‪ ,‬وأرجى لرجوعه‪.‬‬

‫ن مُصِْلحُونَ } حصر للصلح في جانبهم ‪ -‬وفي ضمنه أن‬


‫ولما كان في قولهم‪ِ { :‬إ ّنمَا َنحْ ُ‬
‫المؤمنين ليسوا من أهل الصلح ‪ -‬قلب ال عليهم دعواهم بقوله‪ { :‬أل إنهم هم المفسدون }‬
‫فإنه ل أعظم فسادا ممن كفر بآيات ال‪ ,‬وصد عن سبيل ال‪ ،‬وخادع ال وأولياءه‪ ,‬ووالى‬
‫المحاربين ل ورسوله‪ ,‬وزعم مع ذلك أن هذا إصلح‪ ,‬فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن ل‬
‫يعلمون علما ينفعهم‪ ,‬وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة ال‪ ،‬وإنما كان العمل‬
‫بالمعاصي في الرض إفسادا‪ ,‬لنه يتضمن فساد ما على وجه الرض من الحبوب والثمار‬
‫والشجار‪ ,‬والنبات‪ ,‬بما يحصل فيها من الفات بسبب المعاصي‪ ،‬ولن الصلح في الرض‬
‫أن تعمر بطاعة ال واليمان به‪ ,‬لهذا خلق ال الخلق‪ ,‬وأسكنهم في الرض‪ ,‬وأدر لهم‬
‫الرزاق‪ ,‬ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]‪ ،‬فإذا عمل فيها بضده‪ ,‬كان سعيا فيها بالفساد‬
‫فيها‪ ,‬وإخرابا لها عما خلقت له‪.‬‬

‫ن السّ َفهَاءُ أَلَا ِإ ّن ُهمْ ُه ُم السّ َفهَاءُ‬


‫ن َكمَا آمَ َ‬
‫ن النّاسُ قَالُوا َأُن ْؤمِ ُ‬
‫ل َل ُهمْ آ ِمنُوا َكمَا آمَ َ‬
‫{ ‪ { } 13‬وَِإذَا قِي َ‬
‫ن لَا َيعَْلمُونَ }‬
‫وََلكِ ْ‬

‫أي‪ :‬إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس‪ ,‬أي‪ :‬كإيمان الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وهو‬
‫اليمان بالقلب واللسان‪ ,‬قالوا بزعمهم الباطل‪ :‬أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون ‪ -‬قبحهم ال ‪-‬‬
‫الصحابة رضي ال عنهم‪ ,‬بزعمهم أن سفههم أوجب لهم اليمان‪ ,‬وترك الوطان‪ ,‬ومعاداة‬
‫الكفار‪ ،‬والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك‪ ,‬فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلء‬
‫أرباب الحجى والنهى‪.‬‬
‫فرد ال ذلك عليهم‪ ,‬وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة‪ ,‬لن حقيقة السفه جهل النسان‬
‫بمصالح نفسه‪ ,‬وسعيه فيما يضرها‪ ,‬وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم‪ ،‬كما أن العقل‬
‫والحجا‪ ,‬معرفة النسان بمصالح نفسه‪ ,‬والسعي فيما ينفعه‪ ,‬و[في] دفع ما يضره‪ ،‬وهذه الصفة‬
‫منطبقة على [الصحابة و]المؤمنين وصادقة عليهم‪ ،‬فالعبرة بالوصاف والبرهان‪ ,‬ل بالدعاوى‬
‫المجردة‪ ,‬والقوال الفارغة‪.‬‬

‫شيَاطِي ِنهِمْ قَالُوا‬


‫ن آ َمنُوا قَالُوا آ َمنّا وَِإذَا خََلوْا إِلَى َ‬
‫ثم قال تعالى‪ { } 15 - 14 { :‬وَِإذَا لَقُوا اّلذِي َ‬
‫ط ْغيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }‬
‫ن * اللّ ُه َيسْ َت ْه ِزئُ ِبهِمْ َو َي ُمدّ ُهمْ فِي ُ‬
‫س َت ْه ِزئُو َ‬
‫ِإنّا َم َع ُكمْ ِإ ّنمَا َنحْنُ ُم ْ‬

‫هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‪ ،‬و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين‪ ,‬أظهروا أنهم‬
‫على طريقتهم وأنهم معهم‪ ,‬فإذا خلوا إلى شياطينهم ‪ -‬أي‪ :‬رؤسائهم وكبرائهم في الشر ‪-‬‬
‫قالوا‪ :‬إنا معكم في الحقيقة‪ ,‬وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم‪ ,‬أنا على طريقتهم‪،‬‬
‫فهذه حالهم الباطنة والظاهرة‪ ,‬ول يحيق المكر السيئ إل بأهله‪.‬‬

‫ن } وهذا جزاء لهم‪ ,‬على استهزائهم‬


‫ط ْغيَانِ ِهمْ َي ْع َمهُو َ‬
‫س َت ْهزِئُ ِب ِهمْ َو َي ُمدّهُمْ فِي ُ‬
‫قال تعالى‪ { :‬اللّهُ َي ْ‬
‫بعباده‪ ،‬فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة‪ ,‬حتى ظنوا أنهم‬
‫مع المؤمنين‪ ,‬لما لم يسلط ال المؤمنين عليهم‪ ،‬ومن استهزائه بهم يوم القيامة‪ ,‬أنه يعطيهم مع‬
‫المؤمنين نورا ظاهرا‪ ,‬فإذا مشي المؤمنون بنورهم‪ ,‬طفئ نور المنافقين‪ ,‬وبقوا في الظلمة بعد‬
‫النور متحيرين‪ ,‬فما أعظم اليأس بعد الطمع‪ُ { ،‬ينَادُو َنهُمْ أََل ْم َنكُنْ َم َع ُكمْ قَالُوا بَلَى وََل ِك ّن ُكمْ َف َتنْ ُتمْ‬
‫ص ُتمْ وَا ْر َت ْب ُتمْ } الية‪.‬‬
‫سكُمْ َو َت َربّ ْ‬
‫َأنْ ُف َ‬

‫ط ْغيَا ِن ِهمْ } أي‪ :‬فجورهم وكفرهم‪َ { ،‬ي ْع َمهُونَ } أي‪:‬‬


‫قوله‪َ { :‬و َي ُمدّ ُهمْ } أي‪ :‬يزيدهم { فِي ُ‬
‫حائرون مترددون‪ ,‬وهذا من استهزائه تعالى بهم‪.‬‬

‫ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم‪:‬‬

‫ش َترَوُا الضّلَالَ َة بِا ْلهُدَى َفمَا َر ِبحَتْ ِتجَارَ ُت ُهمْ َومَا كَانُوا ُم ْه َتدِينَ }‬
‫ك اّلذِينَ ا ْ‬
‫{ ‪ { } 16‬أُوَل ِئ َ‬

‫ش َترَوُا الضّلَالَ َة بِا ْل ُهدَى } أي‪ :‬رغبوا‬


‫أولئك‪ ,‬أي‪ :‬المنافقون الموصوفون بتلك الصفات { اّلذِينَ ا ْ‬
‫في الضللة‪ ,‬رغبة المشتري بالسلعة‪ ,‬التي من رغبته فيها يبذل فيها الثمان النفيسة‪ .‬وهذا من‬
‫أحسن المثلة‪ ,‬فإنه جعل الضللة‪ ,‬التي هي غاية الشر‪ ,‬كالسلعة‪ ،‬وجعل الهدى الذي هو غاية‬
‫الصلح بمنزلة الثمن‪ ،‬فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضللة رغبة فيها‪ ،‬فهذه تجارتهم‪ ,‬فبئس‬
‫التجارة‪ ,‬وبئس الصفقة صفقتهم‬

‫وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا‪ ,‬فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟"‬
‫فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضللة‪ ,‬واختار الشقاء على السعادة‪ ,‬ورغب في سافل المور‬
‫ن اّلذِينَ‬
‫ن ا ْلخَاسِرِي َ‬
‫عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته‪ ,‬بل خسر فيها أعظم خسارة‪ { .‬قُلْ إِ ّ‬
‫ن}‬
‫سرَانُ ا ْل ُمبِي ُ‬
‫خْ‬‫س ُهمْ وَأَهْلِي ِهمْ يَ ْو َم الْ ِقيَامَ ِة أَلَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْل ُ‬
‫خسِرُوا َأنْ ُف َ‬
‫َ‬

‫ن } تحقيق لضللهم‪ ,‬وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء‪ ,‬فهذه‬


‫وقوله‪َ { :‬ومَا كَانُوا ُم ْهتَدِي َ‬
‫أوصافهم القبيحة‪.‬‬

‫ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫حوْلَهُ َذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَ َركَهُمْ‬


‫{ ‪ { } 20 - 17‬مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫سمَاءِ فِيهِ ظُُلمَاتٌ‬
‫جعُونَ * َأوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ‬
‫ع ْميٌ َفهُمْ لَا يَرْ ِ‬
‫فِي ظُُلمَاتٍ لَا يُ ْبصِرُونَ * صُمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫حذَرَ ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ * َيكَادُ‬
‫صوَاعِقِ َ‬
‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ‬
‫وَرَعْ ٌد وَبَرْقٌ َي ْ‬
‫شوْا فِي ِه وَإِذَا أَظَْلمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ‬
‫طفُ أَ ْبصَارَ ُهمْ كُّلمَا َأضَاءَ َل ُهمْ مَ َ‬
‫خَ‬‫الْبَرْقُ يَ ْ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫علَى ُكلّ َ‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ َ‬
‫بِ َ‬

‫أي‪ :‬مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا‪ ،‬أي‪ :‬كان في ظلمة عظيمة‪ ,‬وحاجة إلى‬
‫النار شديدة فاستوقدها من غيره‪ ,‬ولم تكن عنده معدة‪ ,‬بل هي خارجة عنه‪ ،‬فلما أضاءت النار‬
‫ما حوله‪ ,‬ونظر المحل الذي هو فيه‪ ,‬وما فيه من المخاوف وأمنها‪ ,‬وانتفع بتلك النار‪ ,‬وقرت‬
‫بها عينه‪ ,‬وظن أنه قادر عليها‪ ,‬فبينما هو كذلك‪ ,‬إذ ذهب ال بنوره‪ ,‬فذهب عنه النور‪ ,‬وذهب‬
‫معه السرور‪ ,‬وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة‪ ,‬فذهب ما فيها من الشراق‪ ,‬وبقي ما‬
‫فيها من الحراق‪ ،‬فبقي في ظلمات متعددة‪ :‬ظلمة الليل‪ ,‬وظلمة السحاب‪ ,‬وظلمة المطر‪,‬‬
‫والظلمة الحاصلة بعد النور‪ ,‬فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلء المنافقون‪,‬‬
‫استوقدوا نار اليمان من المؤمنين‪ ,‬ولم تكن صفة لهم‪ ,‬فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم‪,‬‬
‫وسلمت أموالهم‪ ,‬وحصل لهم نوع من المن في الدنيا‪ ،‬فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم‬
‫الموت‪ ,‬فسلبهم النتفاع بذلك النور‪ ,‬وحصل لهم كل هم وغم وعذاب‪ ,‬وحصل لهم ظلمة القبر‪,‬‬
‫وظلمة الكفر‪ ,‬وظلمة النفاق‪ ,‬وظلم المعاصي على اختلف أنواعها‪ ,‬وبعد ذلك ظلمة النار‬
‫[وبئس القرار]‪.‬‬
‫ع ْميٌ }‬
‫صمّ } أي‪ :‬عن سماع الخير‪ُ { ،‬ب ْكمٌ } [أي]‪ :‬عن النطق به‪ُ { ،‬‬
‫فلهذا قال تعالى [عنهم]‪ُ { :‬‬
‫عن رؤية الحق‪َ { ،‬فهُمْ لَا َي ْرجِعُونَ } لنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه‪ ,‬فل يرجعون إليه‪،‬‬
‫بخلف من ترك الحق عن جهل وضلل‪ ,‬فإنه ل يعقل‪ ,‬وهو أقرب رجوعا منهم‪.‬‬

‫سمَاءِ } يعني‪ :‬أو مثلهم كصيب‪ ،‬أي‪ :‬كصاحب صيب من‬


‫صيّبٍ ِمنَ ال ّ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬أوْ َك َ‬
‫ت } ظلمة الليل‪ ,‬وظلمة‬
‫السماء‪ ،‬وهو المطر الذي يصوب‪ ,‬أي‪ :‬ينزل بكثرة‪ { ،‬فِي ِه ظُُلمَا ٌ‬
‫ع ٌد } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب‪َ { ،‬و َبرْقٌ } وهو‬
‫السحاب‪ ,‬وظلمات المطر‪َ { ،‬ورَ ْ‬
‫الضوء [اللمع] المشاهد مع السحاب‪.‬‬

‫{ كُّلمَا َأضَا َء َل ُهمْ } البرق في تلك الظلمات { َمشَوْا فِيهِ وَِإذَا َأظَْلمَ عََل ْي ِهمْ قَامُوا } أي‪ :‬وقفوا‪.‬‬

‫فهكذا حال المنافقين‪ ,‬إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده‪ ,‬جعلوا أصابعهم في‬
‫آذانهم‪ ,‬وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده‪ ,‬فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده‪ ،‬فهم‬
‫يعرضون عنها غاية ما يمكنهم‪ ,‬ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد‪ ,‬ويجعل‬
‫أصابعه في أذنيه خشية الموت‪ ,‬فهذا تمكن له السلمة‪ .‬وأما المنافقون فأنى لهم السلمة‪,‬‬
‫وهو تعالى محيط بهم‪ ,‬قدرة وعلما فل يفوتونه ول يعجزونه‪ ,‬بل يحفظ عليهم أعمالهم‪,‬‬
‫ويجازيهم عليها أتم الجزاء‪.‬‬

‫ولما كانوا مبتلين بالصمم‪ ,‬والبكم‪ ,‬والعمى المعنوي‪ ,‬ومسدودة عليهم طرق اليمان‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫سمْ ِع ِهمْ وََأبْصَارِهِ ْم } أي‪ :‬الحسية‪ ,‬ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة‬
‫ب ِب َ‬
‫{ وَلَ ْو شَاءَ اللّهُ َلذَهَ َ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } فل‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُلّ َ‬
‫الدنيوية‪ ,‬ليحذروا‪ ,‬فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم‪ { ،‬إِ ّ‬
‫يعجزه شيء‪ ،‬ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ول معارض‪.‬‬

‫وفي هذه الية وما أشبهها‪ ,‬رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة ال تعالى‪,‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُلّ َ‬
‫لن أفعالهم من جملة الشياء الداخلة في قوله‪ { :‬إِ ّ‬

‫ن قَبِْل ُكمْ َلعَّل ُكمْ َتتّقُونَ * اّلذِي‬


‫ن مِ ْ‬
‫ع ُبدُوا َر ّبكُمُ اّلذِي خََل َق ُكمْ وَاّلذِي َ‬
‫{ ‪ { } 22 - 21‬يَا َأ ّيهَا النّاسُ ا ْ‬
‫ن ال ّث َمرَاتِ ِرزْقًا َل ُكمْ‬
‫خرَجَ بِ ِه مِ َ‬
‫سمَاءِ مَا ًء فََأ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫سمَاءَ ِبنَاءً وََأ ْنزَلَ مِ َ‬
‫جعَلَ َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ِفرَاشًا وَال ّ‬
‫َ‬
‫ن}‬
‫جعَلُوا لِلّهِ َأ ْندَادًا وََأ ْن ُتمْ َتعَْلمُو َ‬
‫فَلَا َت ْ‬
‫هذا أمر عام لكل الناس‪ ,‬بأمر عام‪ ,‬وهو العبادة الجامعة‪ ,‬لمتثال أوامر ال‪ ,‬واجتناب نواهيه‪,‬‬
‫جنّ وَا ْلِإنْسَ إِلّا ِل َي ْع ُبدُونِ‬
‫وتصديق خبره‪ ,‬فأمرهم تعالى بما خلقهم له‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَا خَلَقْتُ ا ْل ِ‬
‫}‬

‫ثم استدل على وجوب عبادته وحده‪ ,‬بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم‪ ,‬فخلقكم بعد العدم‪,‬‬
‫وخلق الذين من قبلكم‪ ,‬وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ,‬فجعل لكم الرض فراشا تستقرون‬
‫عليها‪ ,‬وتنتفعون بالبنية‪ ,‬والزراعة‪ ,‬والحراثة‪ ,‬والسلوك من محل إلى محل‪ ,‬وغير ذلك من‬
‫أنواع النتفاع بها‪ ،‬وجعل السماء بناء لمسكنكم‪ ,‬وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم‬
‫وحاجاتكم‪ ,‬كالشمس‪ ,‬والقمر‪ ,‬والنجوم‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً } والسماء‪[ :‬هو] كل ما عل فوقك فهو سماء‪ ,‬ولهذا قال المفسرون‪:‬‬
‫ن ال ّ‬
‫{ وََأ ْنزَلَ مِ َ‬
‫ت } كالحبوب‪,‬‬
‫ن ال ّثمَرَا ِ‬
‫خرَجَ بِ ِه مِ َ‬
‫المراد بالسماء هاهنا‪ :‬السحاب‪ ،‬فأنزل منه تعالى ماء‪َ { ،‬فَأ ْ‬
‫والثمار‪ ,‬من نخيل‪ ,‬وفواكه‪[ ,‬وزروع] وغيرها { ِرزْقًا َل ُكمْ } به ترتزقون‪ ,‬وتقوتون وتعيشون‬
‫وتفكهون‪.‬‬

‫جعَلُوا لِلّ ِه َأ ْندَادًا } أي‪ :‬نظراء وأشباها من المخلوقين‪ ,‬فتعبدونهم كما تعبدون ال‪,‬‬
‫{ فَلَا َت ْ‬
‫وتحبونهم كما تحبون ال‪ ,‬وهم مثلكم‪ ,‬مخلوقون‪ ,‬مرزوقون مدبرون‪ ,‬ل يملكون مثقال ذرة في‬
‫ن } أن ال ليس له شريك‪,‬‬
‫السماء ول في الرض‪ ،‬ول ينفعونكم ول يضرون‪ { ،‬وََأ ْن ُتمْ َتعَْلمُو َ‬
‫ول نظير‪ ,‬ل في الخلق‪ ,‬والرزق‪ ,‬والتدبير‪ ,‬ول في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع‬
‫علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب‪ ,‬وأسفه السفه‪.‬‬

‫وهذه الية جمعت بين المر بعبادة ال وحده‪ ,‬والنهي عن عبادة ما سواه‪ ,‬وبيان الدليل الباهر‬
‫على وجوب عبادته‪ ,‬وبطلن عبادة من سواه‪ ,‬وهو [ذكر] توحيد الربوبية‪ ,‬المتضمن لنفراده‬
‫بالخلق والرزق والتدبير‪ ،‬فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك‪ ,‬فكذلك فليكن‬
‫إقراره بأن [ال] ل شريك له في العبادة‪ ,‬وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري‪،‬‬
‫وبطلن الشرك‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪َ { :‬لعَّل ُكمْ َتتّقُونَ } يحتمل أن المعنى‪ :‬أنكم إذا عبدتم ال وحده‪ ,‬اتقيتم بذلك سخطه‬
‫وعذابه‪ ,‬لنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك‪ ،‬ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬أنكم إذا عبدتم ال‪ ,‬صرتم‬
‫من المتقين الموصوفين بالتقوى‪ ,‬وكل المعنيين صحيح‪ ,‬وهما متلزمان‪ ،‬فمن أتى بالعبادة‬
‫كاملة‪ ,‬كان من المتقين‪ ،‬ومن كان من المتقين‪ ,‬حصلت له النجاة من عذاب ال وسخطه‪ .‬ثم قال‬
‫تعالى‪:‬‬
‫ن ِمثْلِهِ وَادْعُوا‬
‫ع ْب ِدنَا َف ْأتُوا ِبسُورَ ٍة مِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم فِي َريْبٍ ِممّا نَزّ ْلنَا عَلَى َ‬
‫{ ‪ { } 24 - 23‬وَإِ ْ‬
‫ن تَ ْفعَلُوا فَاتّقُوا النّارَ اّلتِي َوقُودُهَا‬
‫ن َلمْ تَ ْفعَلُوا وَلَ ْ‬
‫ن * فَإِ ْ‬
‫شهَدَا َء ُكمْ ِمنْ دُونِ اللّهِ ِإنْ ُك ْن ُتمْ صَادِقِي َ‬
‫ُ‬
‫ت لِ ْلكَا ِفرِينَ }‬
‫عدّ ْ‬
‫حجَارَ ُة أُ ِ‬
‫النّاسُ وَا ْل ِ‬

‫وهذا دليل عقلي على صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ,‬وصحة ما جاء به‪ ،‬فقال‪ { :‬وإن‬
‫كنتم } معشر المعاندين للرسول‪ ,‬الرادين دعوته‪ ,‬الزاعمين كذبه في شك واشتباه‪ ,‬مما نزلنا‬
‫على عبدنا‪ ,‬هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف‪ ،‬فيه الفيصلة بينكم وبينه‪ ،‬وهو أنه بشر‬
‫مثلكم‪ ,‬ليس بأفصحكم ول بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم‪ ,‬ل يكتب ول يقرأ‪ ،‬فأتاكم‬
‫بكتاب زعم أنه من عند ال‪ ,‬وقلتم أنتم أنه تقوّله وافتراه‪ ،‬فإن كان المر كما تقولون‪ ,‬فأتوا‬
‫بسورة من مثله‪ ,‬واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم‪ ,‬فإن هذا أمر يسير عليكم‪،‬‬
‫خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة‪ ,‬والعداوة العظيمة للرسول‪ ،‬فإن جئتم بسورة من مثله‪,‬‬
‫فهو كما زعمتم‪ ,‬وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز‪ ,‬ولن تأتوا بسورة من مثله‪،‬‬
‫ولكن هذا التقييم على وجه النصاف والتنزل معكم‪ ،‬فهذا آية كبرى‪ ,‬ودليل واضح [جلي]‬
‫على صدقه وصدق ما جاء به‪ ,‬فيتعين عليكم اتباعه‪ ,‬واتقاء النار التي بلغت في الحرارة‬
‫العظيمة [والشدة]‪ ,‬أن كانت وقودها الناس والحجارة‪ ,‬ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب‪,‬‬
‫وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بال ورسله‪ .‬فاحذروا الكفر برسوله‪ ,‬بعد ما تبين‬
‫لكم أنه رسول ال‪.‬‬

‫وهذه الية ونحوها يسمونها آيات التحدي‪ ,‬وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن‪ ،‬قال‬
‫ن ِب ِمثْلِهِ وَلَ ْو كَانَ‬
‫ج َت َمعَتِ ا ْلِإنْسُ وَا ْلجِنّ عَلَى َأنْ َي ْأتُوا ِب ِمثْلِ َهذَا الْ ُقرْآنِ لَا َي ْأتُو َ‬
‫ناْ‬
‫تعالى { قُلْ َلئِ ِ‬
‫ظهِيرًا }‬
‫ض ُهمْ ِل َبعْضٍ َ‬
‫َبعْ ُ‬

‫وكيف يقدر المخلوق من تراب‪ ,‬أن يكون كلمه ككلم رب الرباب؟ أم كيف يقدر الناقص‬
‫الفقير من كل الوجوه‪ ,‬أن يأتي بكلم ككلم الكامل‪ ,‬الذي له الكمال المطلق‪ ,‬والغنى الواسع من‬
‫كل الوجوه؟ هذا ليس في المكان‪ ,‬ول في قدرة النسان‪ ،‬وكل من له أدنى ذوق ومعرفة‬
‫[بأنواع] الكلم‪ ,‬إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلم البلغاء‪ ,‬ظهر له الفرق العظيم‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬وَِإنْ ُك ْن ُتمْ فِي َريْبٍ } إلى آخره‪ ,‬دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضللة‪:‬‬
‫[هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلل‪ ،‬فهذا إذا بين له الحق فهو حري‬
‫بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق‪.‬‬
‫وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه‪ ,‬فهذا ل يمكن رجوعه‪ ,‬لنه ترك الحق بعد ما تبين له‪,‬‬
‫لم يتركه عن جهل‪ ,‬فل حيلة فيه‪.‬‬

‫وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق‪ ,‬بل هو معرض غير مجتهد في طلبه‪ ,‬فهذا في‬
‫الغالب أنه ل يوفق‪.‬‬

‫وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم‪ ,‬دليل على أن أعظم أوصافه صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ,‬قيامه بالعبودية‪ ,‬التي ل يلحقه فيها أحد من الولين والخرين‪.‬‬

‫سرَى ِب َع ْبدِ ِه } وفي مقام النزال‪،‬‬


‫ن اّلذِي َأ ْ‬
‫س ْبحَا َ‬
‫كما وصفه بالعبودية في مقام السراء‪ ،‬فقال‪ُ { :‬‬
‫ع ْبدِهِ }‬
‫فقال‪َ { :‬تبَا َركَ اّلذِي َنزّلَ ا ْل ُفرْقَانَ عَلَى َ‬

‫ت لِ ْلكَا ِفرِينَ } ونحوها من اليات‪ ,‬دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ,‬أن الجنة‬
‫عدّ ْ‬
‫وفي قوله‪ { :‬أُ ِ‬
‫والنار مخلوقتان خلفا للمعتزلة‪ ،‬وفيها أيضا‪ ,‬أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر ل‬
‫ت لِ ْلكَا ِفرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها‪ ,‬لم‬
‫عدّ ْ‬
‫يخلدون في النار‪ ,‬لنه قال‪ { :‬أُ ِ‬
‫تكن معدة للكافرين وحدهم‪ ،‬خلفا للخوارج والمعتزلة‪.‬‬

‫وفيها دللة على أن العذاب مستحق بأسبابه‪ ,‬وهو الكفر‪ ,‬وأنواع المعاصي على اختلفها‪.‬‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ كُّلمَا‬


‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫ن َل ُهمْ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أَ ّ‬
‫ن آ َمنُوا وَ َ‬
‫شرِ اّلذِي َ‬
‫{ ‪َ { } 25‬و َب ّ‬
‫رُ ِزقُوا ِم ْنهَا ِمنْ َث َمرَ ٍة رِ ْزقًا قَالُوا َهذَا اّلذِي ُر ِزقْنَا ِمنْ َقبْلُ وَُأتُوا بِهِ ُم َتشَا ِبهًا وََل ُهمْ فِيهَا َأزْوَاجٌ‬
‫ن}‬
‫ُمطَ ّهرَةٌ وَ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُو َ‬

‫لما ذكر جزاء الكافرين‪ ,‬ذكر جزاء المؤمنين‪ ,‬أهل العمال الصالحات‪ ,‬على طريقته تعالى في‬
‫القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب‪ ,‬ليكون العبد راغبا راهبا‪ ,‬خائفا راجيا فقال‪َ { :‬و َبشّرِ }‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ }‬
‫أي‪[ :‬يا أيها الرسول ومن قام مقامه] { اّلذِينَ آ َمنُوا } بقلوبهم { َو َ‬
‫بجوارحهم‪ ,‬فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة‪.‬‬

‫ووصفت أعمال الخير بالصالحات‪ ,‬لن بها تصلح أحوال العبد‪ ,‬وأمور دينه ودنياه‪ ,‬وحياته‬
‫الدنيوية والخروية‪ ,‬ويزول بها عنه فساد الحوال‪ ,‬فيكون بذلك من الصالحين‪ ,‬الذين يصلحون‬
‫لمجاورة الرحمن في جنته‪.‬‬
‫جنّاتٍ } أي‪ :‬بساتين جامعة من الشجار العجيبة‪ ,‬والثمار النيقة‪ ,‬والظل‬
‫ن َل ُهمْ َ‬
‫فبشرهم { أَ ّ‬
‫المديد‪[ ,‬والغصان والفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها‪ ,‬وينعم فيها ساكنها‪.‬‬

‫حتِهَا ا ْلَأ ْنهَارُ } أي‪ :‬أنهار الماء‪ ,‬واللبن‪ ,‬والعسل‪ ,‬والخمر‪ ،‬يفجرونها كيف شاءوا‪,‬‬
‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫{ َت ْ‬
‫ويصرفونها أين أرادوا‪ ,‬وتشرب منها تلك الشجار فتنبت أصناف الثمار‪.‬‬

‫ن َقبْلُ } أي‪ :‬هذا من جنسه‪ ,‬وعلى‬


‫ن َث َمرَةٍ ِرزْقًا قَالُوا َهذَا اّلذِي ُرزِ ْقنَا مِ ْ‬
‫{ كُّلمَا ُر ِزقُوا ِم ْنهَا مِ ْ‬
‫وصفه‪ ,‬كلها متشابهة في الحسن واللذة‪ ،‬ليس فيها ثمرة خاصة‪ ,‬وليس لهم وقت خال من اللذة‪,‬‬
‫فهم دائما متلذذون بأكلها‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَُأتُوا بِ ِه ُمتَشَا ِبهًا } قيل‪ :‬متشابها في السم‪ ,‬مختلف الطعوم وقيل‪ :‬متشابها في اللون‪,‬‬
‫مختلفا في السم‪ ،‬وقيل‪ :‬يشبه بعضه بعضا‪ ,‬في الحسن‪ ,‬واللذة‪ ,‬والفكاهة‪ ,‬ولعل هذا الصحيح‬

‫ثم لما ذكر مسكنهم‪ ,‬وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم‪ ,‬ذكر أزواجهم‪ ,‬فوصفهن بأكمل‬
‫طهّرَ ٌة } فلم يقل " مطهرة من العيب‬
‫ج ُم َ‬
‫وصف وأوجزه‪ ,‬وأوضحه فقال‪ { :‬وََل ُهمْ فِيهَا َأزْوَا ٌ‬
‫الفلني " ليشمل جميع أنواع التطهير‪ ،‬فهن مطهرات الخلق‪ ,‬مطهرات الخلق‪ ,‬مطهرات‬
‫اللسان‪ ,‬مطهرات البصار‪ ،‬فأخلقهن‪ ,‬أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن‪,‬‬
‫وحسن التبعل‪ ,‬والدب القولي والفعلي‪ ,‬ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني‪ ,‬والبول‬
‫والغائط‪ ,‬والمخاط والبصاق‪ ,‬والرائحة الكريهة‪ ،‬ومطهرات الخلق أيضا‪ ,‬بكمال الجمال‪ ,‬فليس‬
‫فيهن عيب‪ ,‬ول دمامة خلق‪ ,‬بل هن خيرات حسان‪ ,‬مطهرات اللسان والطرف‪ ،‬قاصرات‬
‫طرفهن على أزواجهن‪ ,‬وقاصرات ألسنتهن عن كل كلم قبيح‪.‬‬

‫شرُ به‪ ,‬والسبب الموصل لهذه البشارة‪،‬‬


‫ففي هذه الية الكريمة‪ ,‬ذكر المبشّر والمبشّر‪ ,‬والمب ّ‬
‫فالمبشّر‪ :‬هو الرسول صلى ال عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته‪ ،‬والمبشّر‪ :‬هم المؤمنون‬
‫العاملون الصالحات‪ ،‬والمبشّر به‪ :‬هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات‪ ،‬والسبب الموصل‬
‫لذلك‪ ,‬هو اليمان والعمل الصالح‪ ،‬فل سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة‪ ,‬إل بهما‪ ،‬وهذا‬
‫أعظم بشارة حاصلة‪ ,‬على يد أفضل الخلق‪ ,‬بأفضل السباب‪.‬‬

‫وفيه استحباب بشارة المؤمنين‪ ,‬وتنشيطهم على العمال بذكر جزائها [وثمراتها]‪ ,‬فإنها بذلك‬
‫تخف وتسهل‪ ،‬وأعظم بشرى حاصلة للنسان‪ ,‬توفيقه لليمان والعمل الصالح‪ ،‬فذلك أول‬
‫البشارة وأصلها‪ ،‬ومن بعده البشرى عند الموت‪ ،‬ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم‪،‬‬
‫نسأل ال أن يجعلنا منهم‬
‫ب َمثَلًا مَا َبعُوضَ ًة َفمَا فَ ْوقَهَا َفَأمّا اّلذِينَ آ َمنُوا‬
‫ن َيضْرِ َ‬
‫حيِي أَ ْ‬
‫ستَ ْ‬
‫{ ‪ِ { } 27 - 26‬إنّ اللّهَ لَا َي ْ‬
‫ن كَ َفرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا َأرَادَ اللّهُ ِب َهذَا َمثَلًا ُيضِلّ ِبهِ َكثِيرًا‬
‫ن َر ّبهِمْ وََأمّا اّلذِي َ‬
‫حقّ مِ ْ‬
‫َفيَعَْلمُونَ َأنّهُ ا ْل َ‬
‫طعُونَ‬
‫ع ْهدَ اللّ ِه مِنْ َب ْعدِ مِيثَاقِهِ َويَ ْق َ‬
‫ن َينْ ُقضُونَ َ‬
‫َو َي ْهدِي بِ ِه َكثِيرًا َومَا ُيضِلّ ِبهِ إِلّا الْفَاسِقِينَ * اّلذِي َ‬
‫ك ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ }‬
‫ن فِي ا ْلَأرْضِ أُوَل ِئ َ‬
‫سدُو َ‬
‫ن يُوصَلَ َويُ ْف ِ‬
‫مَا َأ َمرَ اللّ ُه بِ ِه أَ ْ‬

‫ي مثل كان { َبعُوضَ ًة فَمَا فَ ْو َقهَا }‬


‫ب َمثَلًا مَا } أي‪ :‬أ ّ‬
‫ن َيضْرِ َ‬
‫حيِي أَ ْ‬
‫ستَ ْ‬
‫يقول تعالى { ِإنّ اللّهَ لَا َي ْ‬
‫لشتمال المثال على الحكمة‪ ,‬وإيضاح الحق‪ ,‬وال ل يستحيي من الحق‪ ،‬وكأن في هذا‪ ,‬جوابا‬
‫لمن أنكر ضرب المثال في الشياء الحقيرة‪ ،‬واعترض على ال في ذلك‪ .‬فليس في ذلك محل‬
‫اعتراض‪ .‬بل هو من تعليم ال لعباده ورحمته بهم‪ .‬فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر‪ .‬ولهذا‬
‫ن َربّ ِهمْ } فيتفهمونها‪ ،‬ويتفكرون فيها‪.‬‬
‫حقّ مِ ْ‬
‫ن َأنّ ُه ا ْل َ‬
‫قال‪َ { :‬فَأمّا اّلذِينَ آ َمنُوا َف َيعَْلمُو َ‬

‫فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل‪ ،‬ازداد بذلك علمهم وإيمانهم‪ ،‬وإل علموا أنها‬
‫حق‪ ،‬وما اشتملت عليه حق‪ ،‬وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن ال لم يضربها عبثا‪،‬‬
‫بل لحكمة بالغة‪ ،‬ونعمة سابغة‪.‬‬

‫ن مَاذَا َأرَادَ اللّ ُه ِب َهذَا َمثَلًا } فيعترضون ويتحيرون‪ ،‬فيزدادون كفرا‬


‫ن كَ َفرُوا َفيَقُولُو َ‬
‫{ وََأمّا اّلذِي َ‬
‫إلى كفرهم‪ ،‬كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬يضِلّ ِبهِ َكثِيرًا َو َي ْهدِي بِهِ‬
‫َكثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول اليات القرآنية‪ .‬قال تعالى‪ { :‬وَِإذَا مَا ُأ ْنزِلَتْ‬
‫شرُونَ‬
‫س َتبْ ِ‬
‫ن آ َمنُوا فَزَا َد ْتهُمْ إِيمَانًا وَ ُهمْ َي ْ‬
‫ل َأ ّي ُكمْ زَادَتْ ُه َهذِ ِه إِيمَانًا فََأمّا اّلذِي َ‬
‫ن يَقُو ُ‬
‫سُورَ ٌة فَ ِم ْن ُهمْ مَ ْ‬
‫ن } فل أعظم نعمة‬
‫س ِهمْ َومَاتُوا وَ ُهمْ كَا ِفرُو َ‬
‫جِ‬‫ن فِي قُلُو ِب ِهمْ َمرَضٌ َفزَا َد ْت ُهمْ ِرجْسًا إِلَى ِر ْ‬
‫وََأمّا اّلذِي َ‬
‫على العباد من نزول اليات القرآنية‪ ،‬ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضللة] وزيادة شر‬
‫إلى شرهم‪ ،‬ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم‪ ،‬فسبحان من فاوت بين عباده‪،‬‬
‫وانفرد بالهداية والضلل‪.‬‬

‫ثم ذكر حكمته في إضلل من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال‪َ { :‬ومَا ُيضِلّ بِ ِه إِلّا‬
‫ن } أي‪ :‬الخارجين عن طاعة ال; المعاندين لرسل ال; الذين صار الفسق وصفهم; فل‬
‫الْفَاسِقِي َ‬
‫يبغون به بدل‪ ،‬فاقتضت حكمته تعالى إضللهم لعدم صلحيتهم للهدى‪ ،‬كما اقتضت حكمته‬
‫وفضله هداية من اتصف باليمان وتحلى بالعمال الصالحة‪.‬‬

‫والفسق نوعان‪ :‬نوع مخرج من الدين‪ ،‬وهو الفسق المقتضي للخروج من اليمان; كالمذكور‬
‫ن آ َمنُوا‬
‫في هذه الية ونحوها‪ ،‬ونوع غير مخرج من اليمان كما في قوله تعالى‪ { :‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫سقٌ ِب َن َبإٍ َفتَ َب ّينُوا } [الية]‪.‬‬
‫ن جَا َء ُكمْ فَا ِ‬
‫إِ ْ‬
‫ن َب ْعدِ مِيثَاقِ ِه } وهذا يعم العهد الذي بينهم‬
‫ع ْهدَ اللّ ِه مِ ْ‬
‫ثم وصف الفاسقين فقال‪ { :‬اّلذِينَ َينْ ُقضُونَ َ‬
‫وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة واللزامات‪ ،‬فل يبالون بتلك‬
‫المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين‬
‫الخلق‪.‬‬

‫ل } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة‪ ،‬فإن ال أمرنا أن نصل ما‬


‫ن يُوصَ َ‬
‫ن مَا َأ َمرَ اللّهُ بِ ِه أَ ْ‬
‫طعُو َ‬
‫{ َويَ ْق َ‬
‫بيننا وبينه باليمان به والقيام بعبوديته‪ ،‬وما بيننا وبين رسوله باليمان به ومحبته وتعزيره‬
‫والقيام بحقوقه‪ ،‬وما بيننا وبين الوالدين والقارب والصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك‬
‫الحقوق التي أمر ال أن نصلها‪.‬‬

‫فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر ال به أن يوصل من هذه الحقوق‪ ،‬وقاموا بها أتم القيام‪ ،‬وأما‬
‫الفاسقون‪ ،‬فقطعوها‪ ،‬ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل‬
‫بالمعاصي; وهو‪ :‬الفساد في الرض‪.‬‬

‫فـ { َفأُوَل ِئكَ } أي‪ :‬من هذه صفته { ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ } في الدنيا والخرة‪ ،‬فحصر الخسارة فيهم;‬
‫لن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لن كل عمل صالح شرطه‬
‫اليمان; فمن ل إيمان له ل عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر‪ ،‬وأما الخسار الذي قد‬
‫يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب‪ ،‬المذكور في قوله تعالى‪{ :‬‬
‫سرٍ } فهذا عام لكل مخلوق; إل من اتصف باليمان والعمل الصالح;‬
‫خْ‬‫ن لَفِي ُ‬
‫ن ا ْلِإ ْنسَا َ‬
‫إِ ّ‬
‫والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد بصدد تحصيله‬
‫وهو تحت إمكانه‪.‬‬

‫حيِي ُكمْ ُثمّ إَِل ْيهِ‬


‫حيَا ُكمْ ُثمّ ُيمِي ُت ُكمْ ُثمّ ُي ْ‬
‫ن بِاللّهِ َو ُك ْن ُتمْ َأمْوَاتًا َفَأ ْ‬
‫{ ‪ } 28‬ثم قال تعالى‪َ { :‬ك ْيفَ َتكْ ُفرُو َ‬
‫جعُونَ }‬
‫ُترْ َ‬

‫هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والنكار‪ ،‬أي‪ :‬كيف يحصل منكم الكفر بال; الذي خلقكم‬
‫من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم‬
‫يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الوفى‪ ،‬فإذا كنتم في تصرفه;‬
‫وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا‬
‫به; وهل هذا إل جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه‬
‫وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه‪.‬‬
‫سبْعَ‬
‫سمَا ِء فَسَوّا ُهنّ َ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫جمِيعًا ُثمّ ا ْ‬
‫{ ‪ { } 29‬هُ َو اّلذِي خََلقَ َل ُكمْ مَا فِي ا ْلَأرْضِ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫سمَاوَاتٍ وَهُ َو ِبكُلّ َ‬
‫َ‬

‫جمِيعًا } أي‪ :‬خلق لكم‪ ,‬برا بكم ورحمة‪ ,‬جميع ما على‬


‫ض َ‬
‫{ ُهوَ اّلذِي خََلقَ َل ُكمْ مَا فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫الرض‪ ,‬للنتفاع والستمتاع والعتبار‪.‬‬

‫وفي هذه الية العظيمة دليل على أن الصل في الشياء الباحة والطهارة‪ ,‬لنها سيقت في‬
‫معرض المتنان‪ ،‬يخرج بذلك الخبائث‪ ,‬فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من فحوى الية‪ ,‬ومعرفة‬
‫المقصود منها‪ ,‬وأنه خلقها لنفعنا‪ ,‬فما فيه ضرر‪ ,‬فهو خارج من ذلك‪ ،‬ومن تمام نعمته‪ ,‬منعنا‬
‫من الخبائث‪ ,‬تنزيها لنا‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫سمَاوَاتٍ وَهُ َو ِبكُلّ َ‬
‫سبْعَ َ‬
‫ن َ‬
‫سمَاءِ َفسَوّاهُ ّ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫وقوله‪ُ { :‬ثمّ ا ْ‬

‫ستَوَى } ترد في القرآن على ثلثة معاني‪ :‬فتارة ل تعدى بالحرف‪ ،‬فيكون معناها‪ ,‬الكمال‬
‫{اْ‬
‫ستَوَى } وتارة تكون بمعنى " عل " و "‬
‫شدّهُ وَا ْ‬
‫والتمام‪ ,‬كما في قوله عن موسى‪ { :‬وََلمّا بَلَغَ َأ ُ‬
‫ارتفع " وذلك إذا عديت بـ " على " كما في قوله تعالى‪ { :‬ثم استوى على العرش }‬
‫ظهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كما في هذه‬
‫ستَوُوا عَلَى ُ‬
‫{ ِل َت ْ‬
‫الية‪ ،‬أي‪ :‬لما خلق تعالى الرض‪ ,‬قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها‬
‫وأحكمها‪ ,‬وأتقنها‪ { ,‬وهو بكل شيء عليم } فـ { يعلم ما يلج في الرض وما يخرج منها وما‬
‫سرّونَ َومَا ُتعِْلنُونَ } يعلم السر وأخفى‪.‬‬
‫ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { َيعَْلمُ مَا ُت ِ‬

‫وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الية‪ ,‬وكما في قوله تعالى‪ { :‬أَلَا‬
‫خبِيرُ } لن خلقه للمخلوقات‪ ,‬أدل دليل على علمه‪ ,‬وحكمته‪,‬‬
‫َيعَْلمُ مَنْ خََلقَ وَهُ َو الّلطِيفُ ا ْل َ‬
‫وقدرته‪.‬‬

‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ‬


‫علٌ فِي الْأَ ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَ ْ‬
‫{ ‪ { } 34 - 30‬وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ إِنّي جَا ِ‬
‫سمَاءَ‬
‫ح ْم ِدكَ وَنُقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا لَا َتعَْلمُونَ * وَعَلّمَ آ َدمَ الْأَ ْ‬
‫سفِكُ ال ّدمَا َء وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ‬
‫فِيهَا وَيَ ْ‬
‫سمَاءِ َهؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * قَالُوا سُبْحَا َنكَ لَا عِلْمَ‬
‫ضهُمْ عَلَى ا ْلمَلَا ِئكَةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي بَِأ ْ‬
‫كُّلهَا ثُمّ عَ َر َ‬
‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أََلمْ‬
‫سمَا ِئ ِهمْ فََلمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَ ْ‬
‫حكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ‬
‫لَنَا إِلّا مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ‬
‫ن َومَا كُنْ ُتمْ َتكْ ُتمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ‬
‫ض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫سجَدُوا إِلّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫سجُدُوا لِآ َدمَ فَ َ‬
‫اْ‬
‫هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلم أبي البشر أن ال حين أراد خلقه أخبر الملئكة بذلك‪,‬‬
‫وأن ال مستخلفه في الرض‪.‬‬

‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } [و]هذا‬


‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي { وَيَ ْ‬
‫فقالت الملئكة عليهم السلم‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫تخصيص بعد تعميم‪ ,‬لبيان [شدة] مفسدة القتل‪ ،‬وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الرض‬
‫سيحدث منه ذلك‪ ,‬فنزهوا الباري عن ذلك‪ ,‬وعظموه‪ ,‬وأخبروا أنهم قائمون بعبادة ال على وجه‬
‫حمْ ِدكَ } أي‪ :‬ننزهك التنزيه اللئق بحمدك وجللك‪،‬‬
‫خال من المفسدة فقالوا‪ { :‬وَ َنحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫{ وَ ُنقَدّسُ َلكَ } يحتمل أن معناها‪ :‬ونقدسك‪ ,‬فتكون اللم مفيدة للتخصيص والخلص‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫يكون‪ :‬ونقدس لك أنفسنا‪ ،‬أي‪ :‬نطهرها بالخلق الجميلة‪ ,‬كمحبة ال وخشيته وتعظيمه‪ ,‬ونطهرها‬
‫من الخلق الرذيلة‪.‬‬

‫قال ال تعالى للملئكة‪ { :‬إِنّي أَعْلَمُ } من هذا الخليفة { مَا لَا َتعَْلمُونَ } ؛ لن كلمكم بحسب ما‬
‫ظننتم‪ ,‬وأنا عالم بالظواهر والسرائر‪ ,‬وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة‪ ,‬أضعاف أضعاف‬
‫ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك‪ ,‬إل أن ال تعالى أراد أن يجتبي منهم النبياء‬
‫والصديقين‪ ,‬والشهداء والصالحين‪ ,‬ولتظهر آياته للخلق‪ ,‬ويحصل من العبوديات التي لم تكن‬
‫تحصل بدون خلق هذا الخليفة‪ ,‬كالجهاد وغيره‪ ,‬وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير‬
‫والشر بالمتحان‪ ,‬وليتبين عدوه من وليه‪ ,‬وحزبه من حربه‪ ,‬وليظهر ما كمن في نفس إبليس من‬
‫الشر الذي انطوى عليه‪ ,‬واتصف به‪ ,‬فهذه حكم عظيمة‪ ,‬يكفي بعضها في ذلك‪.‬‬

‫ثم لما كان قول الملئكة عليهم السلم‪ ,‬فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله ال في‬
‫الرض‪ ,‬أراد ال تعالى‪ ,‬أن يبين لهم من فضل آدم‪ ,‬ما يعرفون به فضله‪ ,‬وكمال حكمة ال وعلمه‬
‫سمَاءَ كُّلهَا } أي‪ :‬أسماء الشياء‪ ,‬وما هو مسمى بها‪ ،‬فعلمه السم والمسمى‪ ,‬أي‪:‬‬
‫فـ { عَلّمَ آدَمَ الْأَ ْ‬
‫اللفاظ والمعاني‪ ,‬حتى المكبر من السماء كالقصعة‪ ،‬والمصغر كالقصيعة‪.‬‬

‫ضهُمْ } أي‪ :‬عرض المسميات { عَلَى ا ْلمَلَا ِئكَةِ } امتحانا لهم‪ ,‬هل يعرفونها أم ل؟‪.‬‬
‫{ ُثمّ عَ َر َ‬

‫سمَاءِ َهؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } في قولكم وظنكم‪ ,‬أنكم أفضل من هذا الخليفة‪.‬‬
‫{ َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ‬

‫{ قَالُوا سُبْحَا َنكَ } أي‪ :‬ننزهك من العتراض منا عليك‪ ,‬ومخالفة أمرك‪ { .‬لَا عِلْمَ لَنَا } بوجه من‬
‫حكِيمُ } العليم الذي أحاط علما‬
‫الوجوه { ِإلّا مَا عَّلمْتَنَا } إياه‪ ,‬فضل منك وجودا‪ { ،‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ‬
‫بكل شيء‪ ,‬فل يغيب عنه ول يعزب مثقال ذرة في السماوات والرض‪ ,‬ول أصغر من ذلك ول‬
‫أكبر‪.‬‬
‫الحكيم‪ :‬من له الحكمة التامة التي ل يخرج عنها مخلوق‪ ,‬ول يشذ عنها مأمور‪ ،‬فما خلق شيئا إل‬
‫لحكمة‪ :‬ول أمر بشيء إل لحكمة‪ ،‬والحكمة‪ :‬وضع الشيء في موضعه اللئق به‪ ،‬فأقروا‪,‬‬
‫واعترفوا بعلم ال وحكمته‪ ,‬وقصورهم عن معرفة أدنى شيء‪ ،‬واعترافهم بفضل ال عليهم;‬
‫وتعليمه إياهم ما ل يعلمون‪.‬‬

‫سمَا ِئهِمْ } أي‪ :‬أسماء المسميات التي عرضها ال على الملئكة;‬


‫فحينئذ قال ال‪ { :‬يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ‬
‫سمَا ِئهِمْ } تبين للملئكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في‬
‫فعجزوا عنها‪ { ،‬فََلمّا أَنْبََأهُمْ بَِأ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } وهو ما غاب عنا;‬
‫استخلف هذا الخليفة‪ { ،‬قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعَْلمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫فلم نشاهده‪ ،‬فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى‪ { ،‬وَأَعَْلمُ مَا تُبْدُونَ } أي‪ :‬تظهرون‬
‫{ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ }‬

‫ثم أمرهم تعالى بالسجود لدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية ل تعالى‪ ،‬فامتثلوا أمر ال; وبادروا‬
‫كلهم بالسجود‪ { ،‬إِلّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر ال وعلى آدم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫جدُ ِلمَنْ خََلقْتَ طِينًا } وهذا الباء منه والستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت‬
‫{ َأأَسْ ُ‬
‫حينئذ عداوته ل ولدم وكفره واستكباره‪.‬‬

‫وفي هذه اليات من العبر واليات; إثبات الكلم ل تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء;‬
‫ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم‪ ،‬وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة ال في بعض المخلوقات‬
‫والمأمورات فالوجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والقرار ل بالحكمة‪ ،‬وفيه اعتناء ال بشأن‬
‫الملئكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه‪.‬‬

‫وفيه فضيلة العلم من وجوه‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن ال تعرف لملئكته; بعلمه وحكمته ‪ ،‬ومنها‪ :‬أن ال عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل‬
‫صفة تكون في العبد‪ ،‬ومنها‪ :‬أن ال أمرهم بالسجود لدم; إكراما له; لما بان فضل علمه‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أن المتحان للغير; إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه‬
‫ابتداء‪ ،‬ومنها‪ :‬العتبار بحال أبوي النس والجن; وبيان فضل آدم; وأفضال ال عليه; وعداوة‬
‫إبليس له; إلى غير ذلك من العبر‪.‬‬

‫غدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَا َتقْرَبَا َه ِذهِ‬


‫جكَ الْجَنّةَ َوكُلَا مِ ْنهَا رَ َ‬
‫سكُنْ أَ ْنتَ وَزَوْ ُ‬
‫{ ‪َ { } 36 - 35‬وقُلْنَا يَا آدَمُ ا ْ‬
‫ضكُمْ‬
‫ج ُهمَا ِممّا كَانَا فِي ِه َوقُلْنَا اهْ ِبطُوا َب ْع ُ‬
‫الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ * فَأَزَّل ُهمَا الشّيْطَانُ عَ ْنهَا فََأخْرَ َ‬
‫لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }‬
‫لما خلق ال آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما‬
‫بسكنى الجنة; والكل منها رغدا; أي‪ :‬واسعا هنيئا‪ { ،‬حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا } أي‪ :‬من أصناف الثمار‬
‫ضحَى }‬
‫ظمَأُ فِيهَا وَلَا َت ْ‬
‫والفواكه; وقال ال له‪ { :‬إِنّ َلكَ أَلّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا َتعْرَى وَأَ ّنكَ لَا َت ْ‬

‫{ وَلَا َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ } نوع من أنواع شجر الجنة; ال أعلم بها‪ ،‬وإنما نهاهما عنها امتحانا‬
‫وابتلء [أو لحكمة غير معلومة لنا] { فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ } دل على أن النهي للتحريم; لنه رتب‬
‫عليه الظلم‪.‬‬

‫فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما‪ ،‬أي‪ :‬حملهما على‬
‫صحِينَ } فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما‬
‫س َم ُهمَا } بال { إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ النّا ِ‬
‫الزلل بتزيينه‪َ { .‬وقَا َ‬
‫كانا فيه من النعيم والرغد; وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة‪.‬‬

‫ع ُدوّ } أي‪ :‬آدم وذريته; أعداء لبليس وذريته‪ ،‬ومن المعلوم أن العدو; يجد‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫{ َب ْع ُ‬
‫ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق; وحرمانه الخير بكل طريق‪ ،‬ففي ضمن‬
‫خذُوهُ عَ ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُو‬
‫هذا‪ ,‬تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى { إِنّ الشّيْطَانَ َل ُكمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ‬
‫خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َل ُكمْ عَ ُدوّ بِئْسَ‬
‫سعِيرِ } { َأفَتَتّ ِ‬
‫صحَابِ ال ّ‬
‫حِزْ َبهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأ ْ‬
‫لِلظّاِلمِينَ َبدَلًا }‬

‫ثم ذكر منتهى الهباط إلى الرض‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ مُسْ َتقَرّ } أي‪ :‬مسكن وقرار‪،‬‬
‫{ َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم‪ ,‬ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها‪ ,‬وخلقت لكم‪ ،‬ففيها أن‬
‫مدة هذه الحياة‪ ,‬مؤقتة عارضة‪ ,‬ليست مسكنا حقيقيا‪ ,‬وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار‪ ,‬ول‬
‫تعمر للستقرار‪.‬‬

‫{ ‪ { } 37‬فَتََلقّى آ َدمُ }‬

‫{ فَتََلقّى آ َدمُ } أي‪ :‬تلقف وتلقن‪ ,‬وألهمه ال { مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ } وهي قوله‪ { :‬رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا }‬
‫الية‪ ،‬فاعترف بذنبه وسأل ال مغفرته { فَتَابَ } ال { عَلَ ْيهِ } ورحمه { إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ } لمن تاب‬
‫إليه وأناب‪.‬‬

‫وتوبته نوعان‪ :‬توفيقه أول‪ ,‬ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا‪.‬‬

‫{ الرّحِيمِ } بعباده‪ ,‬ومن رحمته بهم‪ ,‬أن وفقهم للتوبة‪ ,‬وعفا عنهم وصفح‪.‬‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ‬
‫جمِيعًا فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي ُهدًى َفمَنْ تَ ِبعَ ُهدَايَ فَلَا َ‬
‫{ ‪ { } 39 - 38‬قُلْنَا اهْ ِبطُوا مِ ْنهَا َ‬
‫وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ * وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ }‬

‫ي وقت وزمان‬
‫كرر الهباط‪ ,‬ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله‪ { :‬فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي هُدًى } أي‪ :‬أ ّ‬
‫جاءكم مني ‪-‬يا معشر الثقلين‪ -‬هدى‪ ,‬أي‪ :‬رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني‪ ,‬ويدنيكم مني;‬
‫ويدنيكم من رضائي‪ { ،‬فمن تبع هداي } منكم‪ ,‬بأن آمن برسلي وكتبي‪ ,‬واهتدى بهم‪ ,‬وذلك‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا هُمْ‬
‫بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب‪ ,‬والمتثال للمر والجتناب للنهي‪ { ،‬فَلَا َ‬
‫يَحْزَنُونَ }‬

‫شقَى }‬
‫ل وَلَا يَ ْ‬
‫ضّ‬‫وفي الية الخرى‪َ { :‬فمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلَا َي ِ‬

‫فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء‪:‬‬

‫نفي الخوف والحزن والفرق بينهما‪ ,‬أن المكروه إن كان قد مضى‪ ,‬أحدث الحزن‪ ,‬وإن كان‬
‫منتظرا‪ ,‬أحدث الخوف‪ ،‬فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا‪ ,‬حصل ضدهما‪ ,‬وهو المن التام‪،‬‬
‫وكذلك نفي الضلل والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما‪ ،‬وهو الهدى والسعادة‪ ،‬فمن‬
‫اتبع هداه‪ ,‬حصل له المن والسعادة الدنيوية والخروية والهدى‪ ،‬وانتفى عنه كل مكروه‪ ,‬من‬
‫الخوف‪ ,‬والحزن‪ ,‬والضلل‪ ,‬والشقاء‪ ،‬فحصل له المرغوب‪ ,‬واندفع عنه المرهوب‪ ،‬وهذا عكس‬
‫من لم يتبع هداه‪ ,‬فكفر به‪ ,‬وكذب بآياته‪.‬‬

‫فـ { أولئك أصحاب النار } أي‪ :‬الملزمون لها‪ ,‬ملزمة الصاحب لصاحبه‪ ,‬والغريم لغريمه‪،‬‬
‫{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ل يخرجون منها‪ ،‬ول يفتر عنهم العذاب ول هم ينصرون‪.‬‬

‫وفي هذه اليات وما أشبهها‪ ,‬انقسام الخلق من الجن والنس‪ ,‬إلى أهل السعادة‪ ,‬وأهل الشقاوة‪,‬‬
‫وفيها صفات الفريقين والعمال الموجبة لذلك‪ ،‬وأن الجن كالنس في الثواب والعقاب‪ ,‬كما أنهم‬
‫مثلهم‪ ,‬في المر والنهي‪.‬‬

‫ثم شرع تعالى يذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال‪:‬‬

‫{ ‪ { } 43 - 40‬يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْي ُك ْم وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ‬
‫وَإِيّايَ فَا ْرهَبُونِ * وَآمِنُوا ِبمَا أَنْزَ ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُ ْم وَلَا َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ بِ ِه وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي‬
‫ق وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ * وََأقِيمُوا الصّلَاةَ‬
‫حّ‬‫ل وَ َتكْ ُتمُوا الْ َ‬
‫طِ‬‫حقّ بِالْبَا ِ‬
‫َثمَنًا قَلِيلًا وَإِيّايَ فَا ّتقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْ َ‬
‫وَآتُوا ال ّزكَا َة وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ }‬
‫{ يَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ } المراد بإسرائيل‪ :‬يعقوب عليه السلم‪ ،‬والخطاب مع فرق بني إسرائيل‪ ,‬الذين‬
‫بالمدينة وما حولها‪ ,‬ويدخل فيهم من أتى من بعدهم‪ ,‬فأمرهم بأمر عام‪ ،‬فقال‪ { :‬ا ْذكُرُوا ِن ْعمَتِيَ الّتِي‬
‫أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْي ُكمْ } وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها‪ ،‬والمراد بذكرها بالقلب‬
‫اعترافا‪ ,‬وباللسان ثناء‪ ,‬وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه‪.‬‬

‫{ وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي } وهو ما عهده إليهم من اليمان به‪ ,‬وبرسله وإقامة شرعه‪.‬‬

‫{ أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } وهو المجازاة على ذلك‪.‬‬

‫عشَرَ‬
‫ل وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ َ‬
‫والمراد بذلك‪ :‬ما ذكره ال في قوله‪ { :‬وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرَائِي َ‬
‫ضلّ‬
‫َنقِيبًا َوقَالَ اللّهُ إِنّي َم َعكُمْ لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّلَاةَ [وَآتَيْتُمُ ال ّزكَا َة وَآمَنْ ُتمْ بِرُسُلِي] } إلى قوله‪َ { :‬فقَ ْد َ‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ }‬
‫َ‬

‫ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده‪ ,‬وهو الرهبة منه تعالى‪ ,‬وخشيته وحده‪ ,‬فإن مَنْ‬
‫خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه‪.‬‬

‫ثم أمرهم بالمر الخاص‪ ,‬الذي ل يتم إيمانهم‪ ,‬ول يصح إل به فقال‪ { :‬وَآمِنُوا ِبمَا أَنْزَ ْلتُ } وهو‬
‫القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمرهم باليمان به‪ ,‬واتباعه‪,‬‬
‫ويستلزم ذلك‪ ,‬اليمان بمن أنزل عليه‪ ،‬وذكر الداعي ليمانهم به‪ ،‬فقال‪ُ { :‬مصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } أي‪:‬‬
‫موافقا له ل مخالفا ول مناقضا‪ ،‬فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب‪ ,‬غير مخالف لها; فل مانع‬
‫لكم من اليمان به‪ ,‬لنه جاء بما جاءت به المرسلون‪ ,‬فأنتم أولى من آمن به وصدق به‪ ,‬لكونكم‬
‫أهل الكتب والعلم‪.‬‬

‫وأيضا فإن في قوله‪ُ { :‬مصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به‪ ,‬عاد ذلك عليكم‪,‬‬
‫بتكذيب ما معكم‪ ,‬لن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من النبياء‪ ،‬فتكذيبكم‬
‫له تكذيب لما معكم‪.‬‬

‫وأيضا‪ ,‬فإن في الكتب التي بأيدكم‪ ,‬صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به‪ ،‬فإن لم‬
‫تؤمنوا به‪ ,‬كذبتم ببعض ما أنزل إليكم‪ ,‬ومن كذب ببعض ما أنزل إليه‪ ,‬فقد كذب بجميعه‪ ،‬كما أن‬
‫من كفر برسول‪ ,‬فقد كذب الرسل جميعهم‪.‬‬

‫فلما أمرهم باليمان به‪ ,‬نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال‪ { :‬وَلَا َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ بِهِ }‬
‫أي‪ :‬بالرسول والقرآن‪.‬‬
‫وفي قوله‪َ { :‬أ ّولَ كَافِرٍ ِبهِ } أبلغ من قوله‪ { :‬ول تكفروا به } لنهم إذا كانوا أول كافر به‪ ,‬كان فيه‬
‫مبادرتهم إلى الكفر به‪ ,‬عكس ما ينبغي منهم‪ ,‬وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم‪.‬‬

‫ثم ذكر المانع لهم من اليمان‪ ,‬وهو اختيار العرض الدنى على السعادة البدية‪ ،‬فقال‪ { :‬وَلَا‬
‫تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنًا قَلِيلًا } وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل‪ ,‬التي يتوهمون انقطاعها‪ ,‬إن‬
‫آمنوا بال ورسوله‪ ,‬فاشتروها بآيات ال واستحبوها‪ ,‬وآثروها‪.‬‬

‫{ وَإِيّايَ } أي‪ :‬ل غيري { فَا ّتقُونِ } فإنكم إذا اتقيتم ال وحده‪ ,‬أوجبت لكم تقواه‪ ,‬تقديم اليمان‬
‫بآياته على الثمن القليل‪ ،‬كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل‪ ,‬فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم‪.‬‬

‫طلِ وَ َتكْتُمُوا ا ْلحَقّ } فنهاهم عن شيئين‪ ,‬عن خلط‬


‫ثم قال‪ { :‬وَلَا تَلْ ِبسُوا } أي‪ :‬تخلطوا { ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬
‫الحق بالباطل‪ ,‬وكتمان الحق؛ لن المقصود من أهل الكتب والعلم‪ ,‬تمييز الحق‪ ,‬وإظهار الحق‪,‬‬
‫ليهتدي بذلك المهتدون‪ ,‬ويرجع الضالون‪ ,‬وتقوم الحجة على المعاندين؛ لن ال فصل آياته‬
‫وأوضح بيناته‪ ,‬ليميز الحق من الباطل‪ ,‬ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين‪ ،‬فمن عمل‬
‫بهذا من أهل العلم‪ ,‬فهو من خلفاء الرسل وهداة المم‪.‬‬

‫ومن لبس الحق بالباطل‪ ,‬فلم يميز هذا من هذا‪ ,‬مع علمه بذلك‪ ,‬وكتم الحق الذي يعلمه‪ ,‬وأمر‬
‫بإظهاره‪ ,‬فهو من دعاة جهنم‪ ,‬لن الناس ل يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم‪ ,‬فاختاروا لنفسكم‬
‫إحدى الحالتين‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وََأقِيمُوا الصّلَاةَ } أي‪ :‬ظاهرا وباطنا { وَآتُوا ال ّزكَاةَ } مستحقيها‪ { ،‬وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ‬
‫} أي‪ :‬صلوا مع المصلين‪ ،‬فإنكم إذا فعلتم ذلك مع اليمان برسل ال وآيات ال‪ ,‬فقد جمعتم بين‬
‫العمال الظاهرة والباطنة‪ ,‬وبين الخلص للمعبود‪ ,‬والحسان إلى عبيده‪ ،‬وبين العبادات القلبية‬
‫البدنية والمالية‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ } أي‪ :‬صلوا مع المصلين‪ ,‬ففيه المر بالجماعة للصلة ووجوبها‪،‬‬
‫وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلة لنه عبّر عن الصلة بالركوع‪ ،‬والتعبير عن العبادة‬
‫بجزئها يدل على فرضيته فيها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 44‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ }‬

‫سكُمْ } أي‪ :‬تتركونها عن أمرها بذلك‪،‬‬


‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫{ أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ } أي‪ :‬باليمان والخير { وَتَنْ َ‬
‫والحال‪ { :‬وَأَنْ ُتمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } وأسمى العقل عقل لنه يعقل به ما ينفعه من الخير‪,‬‬
‫وينعقل به عما يضره‪ ،‬وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به‪ ,‬وأول تارك‬
‫لما ينهى عنه‪ ،‬فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله‪ ,‬أو نهاه عن الشر فلم يتركه‪ ,‬دل على عدم عقله‬
‫وجهله‪ ,‬خصوصا إذا كان عالما بذلك‪ ,‬قد قامت عليه الحجة‪.‬‬

‫وهذه الية‪ ,‬وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل‪ ,‬فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا‬
‫الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا لَا َتفْعَلُونَ كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا لَا َت ْفعَلُونَ } وليس في الية أن‬
‫النسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك المر بالمعروف‪ ,‬والنهي عن المنكر‪ ,‬لنها دلت على‬
‫التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين‪ ،‬وإل فمن المعلوم أن على النسان واجبين‪ :‬أمر غيره ونهيه‪ ,‬وأمر‬
‫نفسه ونهيها‪ ،‬فترك أحدهما‪ ,‬ل يكون رخصة في ترك الخر‪ ،‬فإن الكمال أن يقوم النسان‬
‫بالواجبين‪ ,‬والنقص الكامل أن يتركهما‪ ،‬وأما قيامه بأحدهما دون الخر‪ ,‬فليس في رتبة الول‪,‬‬
‫وهو دون الخير‪ ،‬وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم النقياد لمن يخالف قوله فعله‪ ،‬فاقتداؤهم‬
‫بالفعال أبلغ من اقتدائهم بالقوال المجردة‪.‬‬

‫شعِينَ * الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ‬


‫{ ‪ { } 48 - 45‬وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلَاةِ وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِلّا عَلَى الْخَا ِ‬
‫علَ ْيكُ ْم وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ‬
‫جعُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَتِيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ َ‬
‫مُلَاقُو رَ ّب ِه ْم وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫خذُ مِ ْنهَا عَ ْدلٌ‬
‫شفَاعَ ٌة وَلَا ُيؤْ َ‬
‫عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ * وَا ّتقُوا َي ْومًا لَا تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَلَا ُيقْبَلُ مِ ْنهَا َ‬
‫وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ }‬

‫أمرهم ال أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه‪ ،‬وهو الصبر على طاعة ال حتى‬
‫يؤديها‪ ،‬والصبر عن معصية ال حتى يتركها‪ ,‬والصبر على أقدار ال المؤلمة فل يتسخطها‪،‬‬
‫فبالصبر وحبس النفس على ما أمر ال بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من المور‪ ,‬ومن‬
‫يتصبر يصبره ال‪ ،‬وكذلك الصلة التي هي ميزان اليمان‪ ,‬وتنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ,‬يستعان‬
‫شعِينَ }‬
‫بها على كل أمر من المور { وَإِ ّنهَا } أي‪ :‬الصلة { َلكَبِي َرةٌ } أي‪ :‬شاقة { إِلّا عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لن الخشوع‪ ,‬وخشية ال‪ ,‬ورجاء ما عنده يوجب له فعلها‪ ,‬منشرحا‬
‫صدره لترقبه للثواب‪ ,‬وخشيته من العقاب‪ ،‬بخلف من لم يكن كذلك‪ ,‬فإنه ل داعي له يدعوه إليها‪,‬‬
‫وإذا فعلها صارت من أثقل الشياء عليه‪.‬‬

‫والخشوع هو‪ :‬خضوع القلب وطمأنينته‪ ,‬وسكونه ل تعالى‪ ,‬وانكساره بين يديه‪ ,‬ذل وافتقارا‪,‬‬
‫وإيمانا به وبلقائه‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬الّذِينَ َيظُنّونَ } أي‪ :‬يستيقنون { أَ ّنهُمْ مُلَاقُو رَ ّبهِمْ } فيجازيهم بأعمالهم { وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ‬
‫جعُونَ } فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات‪ ,‬ونفس عنهم‬
‫رَا ِ‬
‫الكربات‪ ,‬وزجرهم عن فعل السيئات‪ ،‬فهؤلء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات‪ ،‬وأما من لم‬
‫يؤمن بلقاء ربه‪ ,‬كانت الصلة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه‪.‬‬
‫ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته‪ ,‬وعظا لهم‪ ,‬وتحذيرا وحثا‪.‬‬

‫وخوفهم بيوم القيامة الذي { لَا تَجْزِي } فيه‪ ،‬أي‪ :‬ل تغني { َنفْسٌ } ولو كانت من النفس الكريمة‬
‫كالنبياء والصالحين { عَنْ َنفْسٍ } ولو كانت من العشيرة القربين { شَيْئًا } ل كبيرا ول صغيرا‬
‫وإنما ينفع النسان عمله الذي قدمه‪.‬‬

‫{ وَلَا ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا } أي‪ :‬النفس‪ ,‬شفاعة لحد بدون إذن ال ورضاه عن المشفوع له‪ ,‬ول يرضى من‬
‫ع ْدلٌ } أي‪ :‬فداء { ولو أن‬
‫العمل إل ما أريد به وجهه‪ ،‬وكان على السبيل والسنة‪ { ،‬وَلَا ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا َ‬
‫للذين ظلموا ما في الرض جميعا ومثله معه لفتدوا به من سوء العذاب } ول يقبل منهم ذلك‬
‫{ وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ } أي‪ :‬يدفع عنهم المكروه‪ ،‬فنفى النتفاع من الخلق بوجه من الوجوه‪ ،‬فقوله‪{ :‬‬
‫لَا تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا } هذا في تحصيل المنافع‪ { ،‬وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ } هذا في دفع المضار‪,‬‬
‫فهذا النفي للمر المستقل به النافع‪.‬‬

‫{ ول يقبل منها شفاعة ول يؤخذ منها عدل } هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض‪,‬‬
‫كالعدل‪ ,‬أو بغيره‪ ,‬كالشفاعة‪ ،‬فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين‪ ,‬لعلمه أنهم ل‬
‫يملكون له مثقال ذرة من النفع‪ ,‬وأن يعلقه بال الذي يجلب المنافع‪ ,‬ويدفع المضار‪ ,‬فيعبده وحده ل‬
‫شريك له ويستعينه على عبادته‪.‬‬

‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ‬
‫{ ‪ { } 57 - 49‬وَإِذْ َنجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْ َ‬
‫عوْنَ وَأَنْتُمْ‬
‫عظِيمٌ * وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْ َبحْرَ فَأَنْجَيْنَا ُك ْم وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ‬
‫نِسَا َء ُك ْم َوفِي ذَِلكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ َ‬
‫ع َفوْنَا‬
‫جلَ مِنْ َبعْ ِد ِه وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ * ثُمّ َ‬
‫خذْتُمُ ا ْلعِ ْ‬
‫تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً ُثمّ اتّ َ‬
‫ب وَا ْلفُ ْرقَانَ َلعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ‬
‫شكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَا َ‬
‫عَ ْنكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫س ُكمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ‬
‫جلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫سكُمْ بِاتّخَا ِذكُمُ ا ْلعِ ْ‬
‫مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ إِ ّن ُكمْ ظََلمْ ُتمْ أَ ْنفُ َ‬
‫َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ‬
‫شكُرُونَ * وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ‬
‫جهْ َرةً فََأخَذَ ْتكُمُ الصّاعِقَ ُة وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ُثمّ َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫َ‬
‫سهُمْ‬
‫ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم َومَا ظََلمُونَا وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ا ْل َغمَا َم وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ‬
‫يَظِْلمُونَ }‬

‫هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال‪ { :‬وَِإذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ‬
‫عوْنَ } أي‪ :‬من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك { َيسُومُو َنكُمْ } أي‪ :‬يولونهم‬
‫فِرْ َ‬
‫ويستعملونهم‪ { ،‬سُوءَ ا ْلعَذَابِ } أي‪ :‬أشده بأن كانوا { يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُمْ } خشية نموكم‪ { ،‬وَيَسْ َتحْيُونَ‬
‫نِسَا َء ُكمْ } أي‪ :‬فل يقتلونهن‪ ،‬فأنتم بين قتيل ومذلل بالعمال الشاقة‪ ،‬مستحيي على وجه المنة عليه‬
‫والستعلء عليه فهذا غاية الهانة‪ ،‬فمن ال عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون‬
‫لتقر أعينهم‪.‬‬

‫عظِيمٌ } فهذا مما يوجب عليكم الشكر‬


‫{ َوفِي ذَلِكم } أي‪ :‬النجاء { بَلَاءٌ } أي‪ :‬إحسان { مِنْ رَ ّبكُمْ َ‬
‫والقيام بأوامره‪.‬‬

‫ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة‬
‫والمصالح العميمة‪ ،‬ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده‪ ,‬أي‪:‬‬
‫ذهابه‪.‬‬

‫{ وَأَنْ ُتمْ ظَاِلمُونَ } عالمون بظلمكم‪ ,‬قد قامت عليكم الحجة‪ ,‬فهو أعظم جرما وأكبر إثما‪.‬‬

‫ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا ال عنكم بسبب ذلك‬
‫شكُرُونَ } ال‪.‬‬
‫{ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬

‫جهْ َرةً } وهذا غاية الظلم والجراءة على ال وعلى‬


‫{ وَِإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫عقَةُ } إما الموت أو الغشية العظيمة‪ { ،‬وَأَنْ ُتمْ تَنْظُرُونَ } وقوع ذلك‪ ,‬كل‬
‫خذَ ْتكُمُ الصّا ِ‬
‫رسوله‪ { ،‬فَأَ َ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫ينظر إلى صاحبه‪ُ { ،‬ثمّ َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َبعْدِ َموْتِكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلل وسعة الرزاق‪ ،‬فقال‪ { :‬وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ‬
‫ا ْل َغمَا َم وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَنّ } وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بل تعب‪ ،‬ومنه الزنجبيل‬
‫والكمأة والخبز وغير ذلك‪.‬‬

‫{ وَالسّ ْلوَى } طائر صغير يقال له السماني‪ ،‬طيب اللحم‪ ،‬فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما‬
‫يكفيهم ويقيتهم { كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ } أي‪ :‬رزقا ل يحصل نظيره لهل المدن المترفهين‪,‬‬
‫فلم يشكروا هذه النعمة‪ ,‬واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب‪.‬‬

‫{ َومَا ظََلمُونَا } يعني بتلك الفعال المخالفة لوامرنا لن ال ل تضره معصية العاصين‪ ,‬كما ل‬
‫س ُهمْ يَظِْلمُونَ } فيعود ضرره عليهم‪.‬‬
‫تنفعه طاعات الطائعين‪ { ،‬وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬

‫خلُوا الْبَابَ سُجّدًا‬


‫غدًا وَادْ ُ‬
‫{ ‪ { } 59 - 58‬وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ رَ َ‬
‫حطّةٌ َن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُك ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ * فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ‬
‫َوقُولُوا ِ‬
‫سقُونَ }‬
‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫فَأَنْزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظََلمُوا رِجْزًا مِنَ ال ّ‬
‫وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه‪ ,‬فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا‬
‫ومسكنا‪ ,‬ويحصل لهم فيها الرزق الرغد‪ ،‬وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين ل فيه بالفعل‪,‬‬
‫وهو دخول الباب { سجدا } أي‪ :‬خاضعين ذليلين‪ ،‬وبالقول وهو أن يقولوا‪ { :‬حِطّةٌ } أي أن يحط‬
‫عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته‪.‬‬

‫{ َن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُكمْ } بسؤالكم المغفرة‪ { ،‬وَسَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ } بأعمالهم‪ ,‬أي‪ :‬جزاء عاجل وآجل‪.‬‬

‫{ فَ َب ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا } منهم‪ ,‬ولم يقل فبدلوا لنهم لم يكونوا كلهم بدلوا { َقوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ }‬
‫فقالوا بدل حطة‪ :‬حبة في حنطة‪ ،‬استهانة بأمر ال‪ ,‬واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم‬
‫للفعل من باب أولى وأحرى‪ ،‬ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم‪ ,‬ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب‬
‫سمَاءِ }‬
‫لوقوع عقوبة ال بهم‪ ،‬قال‪ { :‬فَأَنْزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظََلمُوا } منهم { رِجْزًا } أي‪ :‬عذابا { مِنَ ال ّ‬
‫بسبب فسقهم وبغيهم‪.‬‬

‫عشْ َرةَ عَيْنًا‬


‫حجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫سقَى مُوسَى ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َ‬
‫{ ‪ { } 60‬وَِإذِ اسْتَ ْ‬
‫قَدْ عَِلمَ ُكلّ أُنَاسٍ مَشْرَ َبهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِ ْزقِ اللّ ِه وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ }‬

‫استسقى‪ ,‬أي‪ :‬طلب لهم ماء يشربون منه‪.‬‬

‫{ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ } إما حجر مخصوص معلوم عنده‪ ,‬وإما اسم جنس‪ { ،‬فَا ْنفَجَ َرتْ‬
‫عشْ َرةَ عَيْنًا } وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة‪َ { ،‬قدْ عَلِمَ ُكلّ أُنَاسٍ } منهم { مَشْرَ َبهُمْ‬
‫مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫} أي‪ :‬محلهم الذي يشربون عليه من هذه العين‪ ,‬فل يزاحم بعضهم بعضا‪ ,‬بل يشربونه متهنئين‬
‫ل متكدرين‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِ ْزقِ اللّهِ } أي‪ :‬الذي آتاكم من غير سعي ول تعب‪،‬‬
‫{ وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬تخربوا على وجه الفساد‪.‬‬

‫حدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الْأَ ْرضُ‬
‫طعَا ٍم وَا ِ‬
‫{ ‪ { } 61‬وَِإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ‬
‫سهَا وَ َبصَِلهَا قَالَ أَتَسْتَبْ ِدلُونَ الّذِي ُهوَ َأدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا‬
‫مِنْ َبقِْلهَا َوقِثّا ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَدَ ِ‬
‫ضبٍ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫سكَنَ ُة وَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫ِمصْرًا فَإِنّ َلكُمْ مَا سََألْتُ ْم َوضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ }‬
‫ع َ‬
‫َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ‬

‫طعَامٍ‬
‫أي‪ :‬واذكروا‪ ,‬إذ قلتم لموسى‪ ,‬على وجه التملل لنعم ال والحتقار لها‪ { ،‬لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ‬
‫وَاحِدٍ } أي‪ :‬جنس من الطعام‪ ,‬وإن كان كما تقدم أنواعا‪ ,‬لكنها ل تتغير‪ { ،‬فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا‬
‫ِممّا تُنْ ِبتُ الْأَ ْرضُ مِنْ َبقِْلهَا } أي‪ :‬نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه‪َ { ،‬وقِثّا ِئهَا } وهو الخيار‬
‫{ َوفُو ِمهَا } أي‪ :‬ثومها‪ ،‬والعدس والبصل معروف‪ ،‬قال لهم موسي { أَ َتسْتَبْدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى }‬
‫وهو الطعمة المذكورة‪ { ،‬بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى‪ ,‬فهذا غير لئق بكم‪ ،‬فإن هذه‬
‫الطعمة التي طلبتم‪ ,‬أي مصر هبطتموه وجدتموها‪ ،‬وأما طعامكم الذي من ال به عليكم‪ ,‬فهو خير‬
‫الطعمة وأشرفها‪ ,‬فكيف تطلبون به بدل؟‬

‫ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لوامر ال ونعمه‪ ,‬جازاهم‬
‫سكَ َنةُ }‬
‫من جنس عملهم فقال‪َ { :‬وضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَا ْلمَ ْ‬
‫بقلوبهم‪ ،‬فلم تكن أنفسهم عزيزة‪ ,‬ول لهم همم عالية‪ ,‬بل أنفسهم أنفس مهينة‪ ,‬وهممهم أردأ الهمم‪{ ،‬‬
‫وَبَاءُوا ِب َغضَبٍ مِنَ اللّهِ } أي‪ :‬لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا‪ ,‬إل أن رجعوا بسخطه‬
‫عليهم‪ ,‬فبئست الغنيمة غنيمتهم‪ ,‬وبئست الحالة حالتهم‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَ ّن ُهمْ كَانُوا َيكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } الدالت على الحق الموضحة‬
‫حقّ }‬
‫لهم‪ ,‬فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم‪ ,‬وبما كانوا { َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ الْ َ‬

‫وقوله‪ِ { :‬بغَيْرِ ا ْلحَقّ } زيادة شناعة‪ ,‬وإل فمن المعلوم أن قتل النبي ل يكون بحق‪ ,‬لكن لئل يظن‬
‫جهلهم وعدم علمهم‪.‬‬

‫صوْا } بأن ارتكبوا معاصي ال { َوكَانُوا َيعْ َتدُونَ } على عباد ال‪ ,‬فإن المعاصي يجر‬
‫ع َ‬
‫{ ذَِلكَ ِبمَا َ‬
‫بعضها بعضا‪ ،‬فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير‪ ,‬ثم ينشأ عنه الذنب الكبير‪ ,‬ثم ينشأ عنها أنواع‬
‫البدع والكفر وغير ذلك‪ ,‬فنسأل ال العافية من كل بلء‪.‬‬

‫واعلم أن الخطاب في هذه اليات لمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن‪,‬‬
‫وهذه الفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلفهم‪ ,‬ونسبت لهم لفوائد عديدة‪ ،‬منها‪ :‬أنهم كانوا‬
‫يتمدحون ويزكون أنفسهم‪ ,‬ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به‪ ،‬فبين ال من أحوال سلفهم‬
‫التي قد تقررت عندهم‪ ,‬ما يبين به لكل أحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الخلق‪,‬‬
‫ومعالي العمال‪ ،‬فإذا كانت هذه حالة سلفهم‪ ،‬مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم‬
‫فكيف الظن بالمخاطبين؟"‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن نعمة ال على المتقدمين منهم‪ ,‬نعمة واصلة إلى المتأخرين‪ ,‬والنعمة على الباء‪ ,‬نعمة‬
‫على البناء‪ ،‬فخوطبوا بها‪ ,‬لنها نعم تشملهم وتعمهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم‪ ,‬مما يدل على أن المة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد‬
‫على مصالحها‪ ,‬حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد‪ ,‬وكان الحادث من بعضهم حادثا من‬
‫الجميع‪.‬‬
‫لن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع‪ ,‬وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها‪ ,‬والراضي بالمعصية شريك للعاصي‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫حكَم التي ل يعلمها إل ال‪.‬‬
‫ال ِ‬

‫{‪ } 62‬ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا‬
‫ل صَالِحًا فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَلَا َ‬
‫ع ِم َ‬
‫وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَ َ‬
‫هُمْ يَحْزَنُونَ }‬

‫وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة‪ ,‬لن الصابئين‪ ,‬الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى‪،‬‬
‫فأخبر ال أن المؤمنين من هذه المة‪ ,‬واليهود والنصارى‪ ,‬والصابئين من آمن بال واليوم الخر‪,‬‬
‫وصدقوا رسلهم‪ ,‬فإن لهم الجر العظيم والمن‪ ,‬ول خوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬وأما من كفر‬
‫منهم بال ورسله واليوم الخر‪ ,‬فهو بضد هذه الحال‪ ,‬فعليه الخوف والحزن‪.‬‬

‫والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف‪ ,‬من حيث هم‪ ,‬ل بالنسبة إلى اليمان بمحمد‪ ,‬فإن هذا‬
‫إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى ال عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم‪ ،‬وهذه طريقة القرآن‬
‫إذا وقع في بعض النفوس عند سياق اليات بعض الوهام‪ ,‬فل بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم‪,‬‬
‫لنه تنزيل مَنْ يعلم الشياء قبل وجودها‪ ,‬ومَنْ رحمته وسعت كل شيء‪.‬‬

‫وذلك وال أعلم ‪ -‬أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم‪ ,‬وذكر معاصيهم وقبائحهم‪ ,‬ربما وقع في‬
‫بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم‪ ،‬فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه‪،‬‬
‫ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الختصاص بهم‪ .‬ذكر تعالى حكما عاما يشمل‬
‫الطوائف كلها‪ ,‬ليتضح الحق‪ ,‬ويزول التوهم والشكال‪ ،‬فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول‬
‫العالمين‪.‬‬

‫ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم‪:‬‬

‫{ ‪ { } 63-64‬وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُمْ وَ َرفَعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ‬
‫حمَتُهُ َلكُنْ ُتمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫تَ ّتقُونَ * ُثمّ َتوَلّيْتُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ فََلوْلَا َف ْ‬

‫أي‪ :‬واذكروا { ِإذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُمْ } وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم‪ ,‬برفع الطور فوقهم وقيل‬
‫خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ } من التوراة { ِب ُقوّةٍ } أي‪ :‬بجد واجتهاد‪ ,‬وصبر على أوامر ال‪ { ،‬وَا ْذكُرُوا‬
‫لهم‪ُ { :‬‬
‫مَا فِيهِ } أي‪ :‬ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه‪َ { ،‬لعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ } عذاب ال وسخطه‪ ,‬أو لتكونوا من‬
‫أهل التقوى‪.‬‬
‫فبعد هذا التأكيد البليغ { َتوَلّيْتُمْ } وأعرضتم‪ ,‬وكان ذلك موجبا لن يحل بكم أعظم العقوبات‪ ،‬ولكن‬
‫حمَتُهُ َلكُنْتُمْ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم وَرَ ْ‬
‫{ َلوْلَا َف ْ‬

‫جعَلْنَاهَا‬
‫{ ‪ { } 65-66‬وََلقَدْ عَِلمْتُمُ الّذِينَ اعْتَ َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َل ُهمْ كُونُوا قِ َر َدةً خَاسِئِينَ * فَ َ‬
‫َنكَالًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا َو َموْعِظَةً ِل ْلمُتّقِينَ }‬

‫أي‪ :‬ولقد تقرر عندكم حالة { الّذِينَ اعْتَ َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ } وهم الذين ذكر ال قصتهم مبسوطة‬
‫في سورة العراف في قوله‪ { :‬وَاسَْأ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْ َبحْرِ ِإذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ‬
‫} اليات‪.‬‬

‫فأوجب لهم هذا الذنب العظيم‪ ,‬أن غضب ال عليهم وجعلهم { قِ َر َدةً خَاسِئِينَ } حقيرين ذليلين‪.‬‬

‫وجعل ال هذه العقوبة { َنكَالًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا } أي‪ :‬لمن حضرها من المم‪ ,‬وبلغه خبرها‪ ,‬ممن هو‬
‫في وقتهم‪َ { .‬ومَا خَ ْل َفهَا } أي‪ :‬من بعدهم‪ ,‬فتقوم على العباد حجة ال‪ ,‬وليرتدعوا عن معاصيه‪,‬‬
‫ولكنها ل تكون موعظة نافعة إل للمتقين‪ ،‬وأما من عداهم فل ينتفعون باليات‪.‬‬

‫خذُنَا ُهزُوًا قَالَ‬


‫ن اللّهَ َي ْأ ُم ُركُمْ َأنْ َت ْذ َبحُوا بَ َقرَةً قَالُوا َأ َت ّت ِ‬
‫{ ‪ { } 74 - 67‬وَِإذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِ ِه إِ ّ‬
‫ن َلنَا مَا ِهيَ قَالَ ِإنّهُ يَقُولُ ِإ ّنهَا بَ َقرَةٌ لَا‬
‫ن ا ْلجَاهِلِينَ * قَالُوا ا ْدعُ َلنَا َر ّبكَ ُي َبيّ ْ‬
‫ن مِ َ‬
‫ن َأكُو َ‬
‫أَعُوذُ بِاللّ ِه أَ ْ‬
‫ن ذَِلكَ فَا ْفعَلُوا مَا تُ ْؤ َمرُونَ * قَالُوا ا ْدعُ َلنَا َر ّبكَ ُي َبيّنْ َلنَا مَا لَ ْو ُنهَا قَالَ‬
‫فَارِضٌ وَلَا ِب ْكرٌ عَوَانٌ َبيْ َ‬
‫ظرِينَ * قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ‬
‫ل ِإ ّنهَا بَ َقرَ ٌة صَ ْفرَاءُ فَاقِعٌ َل ْو ُنهَا َتسُ ّر النّا ِ‬
‫ِإنّ ُه يَقُو ُ‬
‫ض وَلَا‬
‫الْ َبقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْ َتدُونَ * قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَ ْر َ‬
‫سقِي ا ْلحَ ْرثَ مُسَّلمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ َفذَبَحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ * وَِإذْ قَتَلْتُمْ‬
‫تَ ْ‬
‫ضهَا كَذَِلكَ يُحْيِي اللّهُ ا ْل َموْتَى‬
‫َنفْسًا فَادّارَأْ ُتمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ * َفقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِ َب ْع ِ‬
‫س َوةً وَإِنّ مِنَ‬
‫حجَا َرةِ َأوْ أَشَدّ قَ ْ‬
‫ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ َف ِهيَ كَالْ ِ‬
‫وَيُرِيكُمْ آيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ * ثُمّ قَ َ‬
‫خشْيَةِ‬
‫شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْ ِبطُ مِنْ َ‬
‫حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ الْأَ ْنهَا ُر وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ‬
‫الْ ِ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }‬
‫اللّ ِه َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬

‫أي‪ :‬واذكروا ما جرى لكم مع موسى‪ ,‬حين قتلتم قتيل‪ ,‬وادارأتم فيه‪ ,‬أي‪ :‬تدافعتم واختلفتم في‬
‫قاتله‪ ,‬حتى تفاقم المر بينكم وكاد ‪ -‬لول تبيين ال لكم ‪ -‬يحدث بينكم شر كبير‪ ،‬فقال لكم موسى‬
‫في تبيين القاتل‪ :‬اذبحوا بقرة‪ ،‬وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره‪ ,‬وعدم العتراض عليه‪،‬‬
‫ولكنهم أبوا إل العتراض‪ ,‬فقالوا‪ { :‬أَتَتّخِذُنَا هُ ُزوًا } فقال نبي ال‪ { :‬أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ مِنَ‬
‫الْجَاهِلِينَ } فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلم الذي ل فائدة فيه‪ ,‬وهو الذي يستهزئ بالناس‪ ،‬وأما‬
‫العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل‪ ,‬استهزاءه بمن هو آدمي مثله‪ ،‬وإن كان‬
‫قد فضل عليه‪ ,‬فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه‪ ,‬والرحمة لعباده‪ .‬فلما قال لهم موسى ذلك‪ ,‬علموا‬
‫أن ذلك صدق فقالوا‪ { :‬ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ }‬

‫عوَانٌ‬
‫أي‪ :‬ما سنها؟ { قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لَا فَا ِرضٌ } أي‪ :‬كبيرة { وَلَا ِبكْرٌ } أي‪ :‬صغيرة { َ‬
‫بَيْنَ ذَِلكَ فَا ْفعَلُوا مَا ُت ْؤمَرُونَ } واتركوا التشديد والتعنت‪.‬‬

‫صفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } أي‪ :‬شديد { َتسُرّ‬


‫{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة َ‬
‫النّاظِرِينَ } من حسنها‪.‬‬

‫{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا } فلم نهتد إلى ما تريد { وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ‬
‫َل ُمهْتَدُونَ }‬

‫سقِي‬
‫{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لَا ذَلُولٌ } أي‪ :‬مذللة بالعمل‪ { ،‬تُثِيرُ الْأَ ْرضَ } بالحراثة { وَلَا تَ ْ‬
‫الْحَ ْرثَ } أي‪ :‬ليست بساقية‪ُ { ،‬مسَّلمَةٌ } من العيوب أو من العمل { لَا شِ َيةَ فِيهَا } أي‪ :‬ل لون فيها‬
‫غير لونها الموصوف المتقدم‪.‬‬

‫{ قَالُوا الْآنَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ } أي‪ :‬بالبيان الواضح‪ ،‬وهذا من جهلهم‪ ,‬وإل فقد جاءهم بالحق أول مرة‪،‬‬
‫فلو أنهم اعترضوا أي‪ :‬بقرة لحصل المقصود‪ ,‬ولكنهم شددوا بكثرة السئلة فشدد ال عليهم‪ ,‬ولو لم‬
‫يقولوا " إن شاء ال " لم يهتدوا أيضا إليها‪َ { ،‬فذَبَحُوهَا } أي‪ :‬البقرة التي وصفت بتلك الصفات‪،‬‬
‫{ َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ } بسبب التعنت الذي جرى منهم‪.‬‬

‫فلما ذبحوها‪ ,‬قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها‪ ,‬أي‪ :‬بعضو منها‪ ,‬إما معين‪ ,‬أو أي عضو منها‪,‬‬
‫فليس في تعيينه فائدة‪ ,‬فضربوه ببعضها فأحياه ال‪ ,‬وأخرج ما كانوا يكتمون‪ ,‬فأخبر بقاتله‪ ،‬وكان‬
‫في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء ال الموتى‪ { ،‬لعلكم تعقلون } فتنزجرون عن ما‬
‫يضركم‪.‬‬

‫ستْ قُلُو ُبكُمْ } أي‪ :‬اشتدت وغلظت‪ ,‬فلم تؤثر فيها الموعظة‪ { ،‬مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ } أي‪ :‬من بعد ما‬
‫{ ُثمّ قَ َ‬
‫أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم اليات‪ ،‬ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم‪ ,‬لن ما شاهدتم‪ ,‬مما‬
‫يوجب رقة القلب وانقياده‪ ،‬ثم وصف قسوتها بأنها { كَا ْلحِجَا َرةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد‪،‬‬
‫لن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار‪ ,‬ذاب بخلف الحجار‪.‬‬

‫س َوةً } أي‪ :‬إنها ل تقصر عن قساوة الحجار‪ ،‬وليست " أو " بمعنى " بل " ثم‬
‫شدّ قَ ْ‬
‫وقوله‪َ { :‬أوْ أَ َ‬
‫حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ الْأَ ْنهَا ُر وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا‬
‫ذكر فضيلة الحجار على قلوبهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّ مِنَ الْ ِ‬
‫خشْيَةِ اللّهِ } فبهذه المور فضلت قلوبكم‪ .‬ثم‬
‫شقّقُ فَ َيخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَاءُ وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْ ِبطُ مِنْ َ‬
‫يَ ّ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها‬
‫توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال‪َ { :‬ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫وكبيرها‪ ,‬وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه‪.‬‬

‫واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم ال‪ ,‬قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل‪,‬‬
‫ونزلوا عليها اليات القرآنية‪ ,‬وجعلوها تفسيرا لكتاب ال‪ ,‬محتجين بقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫حدثوا عن بني إسرائيل ول حرج "‬

‫والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة‪ ,‬ول منزلة على كتاب‬
‫ال‪ ,‬فإنه ل يجوز جعلها تفسيرا لكتاب ال قطعا إذا لم تصح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وذلك أن مرتبتها كما قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل تصدقوا أهل الكتاب ول تكذبوهم " فإذا كانت‬
‫مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها‪ ,‬وكان من المعلوم بالضرورة من دين السلم أن القرآن يجب‬
‫اليمان به والقطع بألفاظه ومعانيه‪ ،‬فل يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة‪,‬‬
‫التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها‪ ,‬معاني لكتاب ال‪ ,‬مقطوعا بها ول يستريب بهذا أحد‪،‬‬
‫ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل‪ ،‬وال الموفق‪.‬‬

‫س َمعُونَ كَلَامَ اللّهِ ُثمّ يُحَ ّرفُونَهُ مِنْ‬


‫ط َمعُونَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا َلكُ ْم َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 78 - 75‬أفَتَ ْ‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا‬
‫عقَلُوهُ وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ * وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَا َب ْع ُ‬
‫َبعْدِ مَا َ‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ *‬
‫أَتُ َ‬

‫ن ا ْل ِكتَابَ إِلّا َأمَانِيّ‬


‫ن لَا َيعَْلمُو َ‬
‫ن اللّ َه َيعَْلمُ مَا ُيسِرّونَ َومَا ُيعِْلنُونَ * َو ِم ْنهُمْ ُأ ّميّو َ‬
‫ن أَ ّ‬
‫أَوَلَا َيعَْلمُو َ‬
‫ن}‬
‫ظنّو َ‬
‫وَِإنْ ُهمْ إِلّا َي ُ‬

‫هذا قطع لطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب‪ ,‬أي‪ :‬فل تطمعوا في إيمانهم وحالتهم ل‬
‫تقتضي الطمع فيهم‪ ,‬فإنهم كانوا يحرفون كلم ال من بعد ما عقلوه وعلموه‪ ,‬فيضعون له‬
‫معاني ما أرادها ال‪ ,‬ليوهموا الناس أنها من عند ال‪ ,‬وما هي من عند ال‪ ،‬فإذا كانت هذه‬
‫حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل ال‪ ,‬فكيف يرجى منهم‬
‫إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الشياء‪.‬‬

‫ن آ َمنُوا قَالُوا آ َمنّا } فأظهروا لهم اليمان‬


‫ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال‪ { :‬وَِإذَا لَقُوا اّلذِي َ‬
‫ض ُهمْ إِلَى َبعْضٍ } فلم يكن عندهم أحد من غير‬
‫قول بألسنتهم‪ ,‬ما ليس في قلوبهم‪ { ،‬وَِإذَا خَلَا َب ْع ُ‬
‫ح اللّهُ عََل ْي ُكمْ } أي‪ :‬أتظهرون لهم اليمان‬
‫ح ّدثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَ َ‬
‫أهل دينهم‪ ،‬قال بعضهم لبعض‪َ { :‬أ ُت َ‬
‫وتخبروهم أنكم مثلهم‪ ,‬فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟‬
‫يقولون‪ :‬إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق‪ ,‬وما هم عليه باطل‪ ,‬فيحتجون عليكم بذلك عند‬
‫ربكم { َأفَلَا َتعْقِلُونَ } أي‪ :‬أفل يكون لكم عقل‪ ,‬فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم‬
‫لبعض‪.‬‬

‫ن } فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم‪,‬‬


‫ن َومَا ُيعِْلنُو َ‬
‫سرّو َ‬
‫{ َأوَلَا َيعَْلمُونَ َأنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا ُي ِ‬
‫وزعموا أنهم بإسرارهم ل يتطرق عليهم حجة للمؤمنين‪ ,‬فإن هذا غلط منهم وجهل كبير‪ ,‬فإن‬
‫ال يعلم سرهم وعلنهم‪ ,‬فيظهر لعباده ما أنتم عليه‪.‬‬

‫ن } أي‪ :‬عوام‪ ,‬ليسوا من أهل العلم‪ { ،‬لَا َيعَْلمُونَ ا ْل ِكتَابَ‬


‫{ َو ِم ْنهُ ْم } أي‪ :‬من أهل الكتاب { ُأ ّميّو َ‬
‫إِلّا َأمَا ِنيّ } أي‪ :‬ليس لهم حظ من كتاب ال إل التلوة فقط‪ ,‬وليس عندهم خبر بما عند الولين‬
‫الذين يعلمون حق المعرفة حالهم‪ ,‬وهؤلء إنما معهم ظنون وتقاليد لهل العلم منهم‪.‬‬

‫فذكر في هذه اليات علماءهم‪ ,‬وعوامهم‪ ,‬ومنافقيهم‪ ,‬ومن لم ينافق منهم‪ ,‬فالعلماء منهم‬
‫متمسكون بما هم عليه من الضلل‪ ،‬والعوام مقلدون لهم‪ ,‬ل بصيرة عندهم فل مطمع لكم في‬
‫الطائفتين‪.‬‬

‫ش َترُوا بِ ِه َث َمنًا قَلِيلًا‬


‫ع ْندِ اللّهِ ِل َي ْ‬
‫ن ا ْل ِكتَابَ ِبَأ ْيدِي ِهمْ ُثمّ يَقُولُونَ َهذَا مِنْ ِ‬
‫ن َي ْك ُتبُو َ‬
‫{ ‪ { } 79‬فَ َويْلٌ لِّلذِي َ‬
‫ل َل ُهمْ ِممّا َي ْكسِبُونَ }‬
‫ت َأ ْيدِي ِهمْ وَ َويْ ٌ‬
‫فَ َويْلٌ َل ُهمْ ِممّا َك َتبَ ْ‬

‫ع ْن ِد اللّ ِه } وهذا‬
‫توعد تعالى المحرفين للكتاب‪ ,‬الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون‪َ { :‬هذَا مِنْ ِ‬
‫ش َترُوا ِبهِ َث َمنًا قَلِيلًا } والدنيا كلها‬
‫فيه إظهار الباطل وكتم الحق‪ ,‬وإنما فعلوا ذلك مع علمهم { ِل َي ْ‬
‫من أولها إلى آخرها ثمن قليل‪ ،‬فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس‪,‬‬
‫فظلموهم من وجهين‪ :‬من جهة تلبيس دينهم عليهم‪ ,‬ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق‪ ,‬بل بأبطل‬
‫الباطل‪ ,‬وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما‪ ،‬ولهذا توعدهم بهذين المرين فقال‪:‬‬
‫سبُونَ } من‬
‫ل َل ُهمْ ِممّا َك َتبَتْ َأ ْيدِي ِهمْ } أي‪ :‬من التحريف والباطل { َو َويْلٌ َل ُهمْ ِممّا َي ْك ِ‬
‫{ فَ َويْ ٌ‬
‫الموال‪ ،‬والويل‪ :‬شدة العذاب والحسرة‪ ,‬وفي ضمنها الوعيد الشديد‪.‬‬

‫ن } إلى { َي ْكسِبُونَ } فإن ال ذم‬


‫ط َمعُو َ‬
‫قال شيخ السلم لما ذكر هذه اليات من قوله‪َ { :‬أ َفتَ ْ‬
‫الذين يحرفون الكلم عن مواضعه‪ ,‬وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة‪ ,‬على ما أصله من‬
‫البدع الباطلة‪.‬‬
‫وذم الذين ل يعلمون الكتاب إل أماني‪ ,‬وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إل مجرد‬
‫تلوة حروفه‪ ،‬ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب ال‪ ,‬لينال به دنيا وقال‪ :‬إنه من عند‬
‫ال‪ ,‬مثل أن يقول‪ :‬هذا هو الشرع والدين‪ ,‬وهذا معنى الكتاب والسنة‪ ,‬وهذا معقول السلف‬
‫والئمة‪ ,‬وهذا هو أصول الدين‪ ,‬الذي يجب اعتقاده على العيان والكفاية‪ ،‬ومتناول لمن كتم ما‬
‫عنده من الكتاب والسنة‪ ,‬لئل يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله‪.‬‬

‫وهذه المور كثيرة جدا في أهل الهواء جملة‪ ,‬كالرافضة‪ ,‬وتفصيل مثل كثير من المنتسبين‬
‫إلى الفقهاء‪.‬‬

‫ع ْهدًا فَلَنْ ُيخِْلفَ‬


‫ع ْندَ اللّهِ َ‬
‫خ ْذتُمْ ِ‬
‫سنَا النّارُ إِلّا َأيّامًا َم ْعدُودَ ًة قُلْ َأ ّت َ‬
‫{ ‪َ { } 82 - 80‬وقَالُوا َلنْ َت َم ّ‬
‫خطِي َئتُ ُه فَأُوَل ِئكَ‬
‫ت بِ ِه َ‬
‫س ّيئَةً وََأحَاطَ ْ‬
‫ن َكسَبَ َ‬
‫ن * بَلَى مَ ْ‬
‫ع ْهدَ ُه َأمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّ ِه مَا لَا َتعَْلمُو َ‬
‫اللّهُ َ‬
‫جنّةِ ُهمْ فِيهَا‬
‫ك َأصْحَابُ ا ْل َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُوَل ِئ َ‬
‫ب النّارِ ُه ْم فِيهَا خَاِلدُونَ * وَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫صحَا ُ‬
‫َأ ْ‬
‫ن}‬
‫خَاِلدُو َ‬

‫ذكر أفعالهم القبيحة‪ ,‬ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم‪ ,‬ويشهدون لها بالنجاة من عذاب ال‪,‬‬
‫والفوز بثوابه‪ ,‬وأنهم لن تمسهم النار إل أياما معدودة‪ ,‬أي‪ :‬قليلة تعد بالصابع‪ ,‬فجمعوا بين‬
‫الساءة والمن‪.‬‬

‫ع ْندَ‬
‫خ ْذتُمْ ِ‬
‫ولما كان هذا مجرد دعوى‪ ,‬رد ال تعالى عليهم فقال‪ { :‬قُلْ } لهم يا أيها الرسول { َأ ّت َ‬
‫ع ْهدًا } أي باليمان به وبرسله وبطاعته‪ ,‬فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي ل يتغير‬
‫اللّهِ َ‬
‫ن } ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على‬
‫ول يتبدل‪َ { .‬أ ْم تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُو َ‬
‫أحد هذين المرين اللذين ل ثالث لهما‪ :‬إما أن يكونوا قد اتخذوا عند ال عهدا‪ ,‬فتكون دعواهم‬
‫صحيحة‪.‬‬

‫وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة‪ ,‬فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم‪ ،‬وقد علم من حالهم‬
‫أنهم لم يتخذوا عند ال عهدا‪ ,‬لتكذيبهم كثيرا من النبياء‪ ,‬حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا‬
‫طائفة منهم‪ ,‬ولنكولهم عن طاعة ال ونقضهم المواثيق‪ ،‬فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون‪,‬‬
‫قائلون عليه ما ل يعلمون‪ ،‬والقول عليه بل علم‪ ,‬من أعظم المحرمات‪ ,‬وأشنع القبيحات‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد‪ ,‬يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم‪ ,‬وهو الحكم الذي ل حكم‬
‫غيره‪ ,‬ل أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين‪ ،‬فقال‪ { :‬بَلَى } أي‪ :‬ليس المر كما ذكرتم‪,‬‬
‫س ّيئَ ًة } وهو نكرة في سياق الشرط‪ ,‬فيعم الشرك فما‬
‫فإنه قول ل حقيقة له‪ ،‬ولكن { َمنْ َكسَبَ َ‬
‫خطِي َئتُ ُه } أي‪ :‬أحاطت بعاملها‪ ,‬فلم‬
‫دونه‪ ،‬والمراد به هنا الشرك‪ ,‬بدليل قوله‪ { :‬وََأحَاطَتْ بِ ِه َ‬
‫تدع له منفذا‪ ,‬وهذا ل يكون إل الشرك‪ ,‬فإن من معه اليمان ل تحيط به خطيئته‪.‬‬

‫ن } وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية‪,‬‬


‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُو َ‬
‫{ َفأُوَل ِئكَ َأ ْ‬
‫وهي حجة عليهم كما ترى‪ ,‬فإنها ظاهرة في الشرك‪ ,‬وهكذا كل مبطل يحتج بآية‪ ,‬أو حديث‬
‫صحيح على قوله الباطل فل بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } ول تكون‬


‫{ وَاّلذِينَ آ َمنُوا } بال وملئكته‪ ,‬وكتبه‪ ,‬ورسله‪ ,‬واليوم الخر‪ { ،‬وَ َ‬
‫العمال صالحة إل بشرطين‪ :‬أن تكون خالصة لوجه ال‪ ,‬متبعا بها سنة رسوله‪.‬‬

‫فحاصل هاتين اليتين‪ ,‬أن أهل النجاة والفوز‪ ,‬هم أهل اليمان والعمل الصالح‪ ،‬والهالكون أهل‬
‫النار المشركون بال‪ ,‬الكافرون به‪.‬‬

‫حسَانًا َوذِي ا ْل ُق ْربَى‬


‫ن إِلّا اللّهَ َوبِالْوَاِل َديْنِ ِإ ْ‬
‫سرَائِيلَ لَا َت ْع ُبدُو َ‬
‫خ ْذنَا مِيثَاقَ َبنِي ِإ ْ‬
‫{ ‪ { } 83‬وَِإ ْذ َأ َ‬
‫سنًا وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَا َة ُثمّ تَوَّل ْي ُتمْ إِلّا قَلِيلًا ِم ْن ُكمْ‬
‫حْ‬‫وَا ْل َيتَامَى وَا ْل َمسَاكِينِ َوقُولُوا لِلنّاسِ ُ‬
‫وََأ ْن ُتمْ ُم ْعرِضُونَ }‬

‫وهذه الشرائع من أصول الدين‪ ,‬التي أمر ال بها في كل شريعة‪ ,‬لشتمالها على المصالح‬
‫العامة‪ ,‬في كل زمان ومكان‪ ,‬فل يدخلها نسخ‪ ,‬كأصل الدين‪ ،‬ولهذا أمرنا بها في قوله‪:‬‬
‫ش ْيئًا } إلى آخر الية‪.‬‬
‫ع ُبدُوا اللّهَ وَلَا ُتشْ ِركُوا بِ ِه َ‬
‫{ وَا ْ‬

‫سرَائِيلَ } هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به‪ ,‬استعصوا؛ فل‬


‫خ ْذنَا مِيثَاقَ َبنِي ِإ ْ‬
‫فقوله‪ { :‬وَِإ ْذ َأ َ‬
‫ن إِلّا اللّهَ } هذا أمر بعبادة ال وحده‪,‬‬
‫يقبلونه إل باليمان الغليظة‪ ,‬والعهود الموثقة { لَا َت ْع ُبدُو َ‬
‫ونهى عن الشرك به‪ ،‬وهذا أصل الدين‪ ,‬فل تقبل العمال كلها إن لم يكن هذا أساسها‪ ,‬فهذا‬
‫حسَانًا } أي‪ :‬أحسنوا بالوالدين إحسانا‪ ،‬وهذا‬
‫ن ِإ ْ‬
‫حق ال تعالى على عباده‪ ,‬ثم قال‪َ { :‬وبِالْوَاِل َديْ ِ‬
‫يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم‪ ،‬وفيه النهي عن الساءة إلى الوالدين‪ ,‬أو‬
‫عدم الحسان والساءة‪ ،‬لن الواجب الحسان‪ ,‬والمر بالشيء نهي عن ضده‪.‬‬

‫وللحسان ضدان‪ :‬الساءة‪ ,‬وهي أعظم جرما‪ ،‬وترك الحسان بدون إساءة‪ ,‬وهذا محرم‪ ,‬لكن‬
‫ل يجب أن يلحق بالول‪ ،‬وكذا يقال في صلة القارب واليتامى‪ ,‬والمساكين‪ ،‬وتفاصيل‬
‫الحسان ل تنحصر بالعد‪ ,‬بل تكون بالحد‪ ,‬كما تقدم‪.‬‬
‫سنًا } ومن القول الحسن أمرهم‬
‫حْ‬‫ثم أمر بالحسان إلى الناس عموما فقال‪َ { :‬وقُولُوا لِلنّاسِ ُ‬
‫بالمعروف‪ ,‬ونهيهم عن المنكر‪ ,‬وتعليمهم العلم‪ ,‬وبذل السلم‪ ,‬والبشاشة وغير ذلك من كل كلم‬
‫طيب‪.‬‬

‫ولما كان النسان ل يسع الناس بماله‪ ,‬أمر بأمر يقدر به على الحسان إلى كل مخلوق‪ ,‬وهو‬
‫الحسان بالقول‪ ,‬فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلم القبيح للناس حتى للكفار‪ ,‬ولهذا قال‬
‫حسَنُ }‬
‫تعالى‪ { :‬وَلَا ُتجَادِلُوا أَهْلَ ا ْل ِكتَابِ إِلّا بِاّلتِي ِهيَ َأ ْ‬

‫ومن أدب النسان الذي أدب ال به عباده‪ ,‬أن يكون النسان نزيها في أقواله وأفعاله‪ ,‬غير‬
‫فاحش ول بذيء‪ ,‬ول شاتم‪ ,‬ول مخاصم‪ ،‬بل يكون حسن الخلق‪ ,‬واسع الحلم‪ ,‬مجامل لكل أحد‪,‬‬
‫صبورا على ما يناله من أذى الخلق‪ ,‬امتثال لمر ال‪ ,‬ورجاء لثوابه‪.‬‬

‫ثم أمرهم بإقامة الصلة‪ ,‬وإيتاء الزكاة‪ ,‬لما تقدم أن الصلة متضمنة للخلص للمعبود‪,‬‬
‫والزكاة متضمنة للحسان إلى العبيد‪.‬‬

‫{ ُثمّ } بعد هذا المر لكم بهذه الوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل‪ ,‬عرف أن من‬
‫إحسان ال على عباده أن أمرهم بها‪ ,,‬وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم { َتوَّل ْيتُ ْم } على‬
‫وجه العراض‪ ،‬لن المتولي قد يتولى‪ ,‬وله نية رجوع إلى ما تولى عنه‪ ،‬وهؤلء ليس لهم‬
‫رغبة ول رجوع في هذه الوامر‪ ،‬فنعوذ بال من الخذلن‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا قَلِيلًا ِم ْن ُكمْ } هذا استثناء‪ ,‬لئل يوهم أنهم تولوا كلهم‪ ،‬فأخبر أن قليل منهم‪ ,‬عصمهم‬
‫ال وثبتهم‪.‬‬

‫سكُمْ ِمنْ ِديَا ِركُمْ ُثمّ‬


‫ن َأنْ ُف َ‬
‫خ ِرجُو َ‬
‫خ ْذنَا مِيثَا َق ُكمْ لَا َتسْ ِفكُونَ ِدمَا َء ُكمْ وَلَا ُت ْ‬
‫{ ‪ { } 86 - 84‬وَِإذْ َأ َ‬
‫ن َفرِيقًا ِم ْنكُمْ ِمنْ ِديَارِهِمْ‬
‫خ ِرجُو َ‬
‫س ُكمْ َو ُت ْ‬
‫ن َأنْ ُف َ‬
‫شهَدُونَ * ُث ّم َأ ْنتُمْ َهؤُلَا ِء تَ ْقتُلُو َ‬
‫َأقْ َر ْرتُمْ وََأ ْن ُتمْ َت ْ‬
‫ج ُهمْ‬
‫خرَا ُ‬
‫ح ّرمٌ عََل ْي ُكمْ ِإ ْ‬
‫ن َي ْأتُو ُكمْ ُأسَارَى ُتفَادُو ُهمْ وَ ُهوَ ُم َ‬
‫َتظَا َهرُونَ عََل ْي ِهمْ بِا ْلِإ ْثمِ وَا ْل ُع ْدوَانِ وَإِ ْ‬
‫حيَاةِ‬
‫ي فِي ا ْل َ‬
‫خزْ ٌ‬
‫ل ذَِلكَ ِم ْنكُمْ إِلّا ِ‬
‫ن يَ ْفعَ ُ‬
‫جزَاءُ مَ ْ‬
‫ن ِب َبعْضٍ َفمَا َ‬
‫ن ِب َبعْضِ ا ْل ِكتَابِ َو َتكْ ُفرُو َ‬
‫َأ َفتُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫ش َترَوُا‬
‫ك اّلذِينَ ا ْ‬
‫ن * أُوَل ِئ َ‬
‫عمّا َت ْعمَلُو َ‬
‫شدّ ا ْل َعذَابِ َومَا اللّ ُه ِبغَافِلٍ َ‬
‫ال ّد ْنيَا َويَ ْو َم الْ ِقيَامَةِ ُي َردّونَ إِلَى َأ َ‬
‫ع ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَلَا ُهمْ ُي ْنصَرُونَ }‬
‫خرَةِ فَلَا ُيخَ ّففُ َ‬
‫حيَاةَ ال ّد ْنيَا بِالْآ ِ‬
‫ا ْل َ‬

‫وهذا الفعل المذكور في هذه الية‪ ,‬فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة‪ ،‬وذلك أن الوس‬
‫والخزرج ‪ -‬وهم النصار ‪ -‬كانوا قبل مبعث النبي صلى ال عليه وسلم مشركين‪ ,‬وكانوا‬
‫يقتتلون على عادة الجاهلية‪ ،‬فنزلت عليهم الفرق الثلث من فرق اليهود‪ ,‬بنو قريظة‪ ,‬وبنو‬
‫النضير‪ ,‬وبنو قينقاع‪ ،‬فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة‪.‬‬

‫فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الخرى من اليهود‪,‬‬
‫فيقتل اليهودي اليهودي‪ ,‬ويخرجه من دياره إذا حصل جلء ونهب‪ ،‬ثم إذا وضعت الحرب‬
‫أوزارها‪ ,‬وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا‪.‬‬

‫والمور الثلثة كلها قد فرضت عليهم‪ ،‬ففرض عليهم أن ل يسفك بعضهم دم بعض‪ ,‬ول‬
‫يخرج بعضهم بعضا‪ ،‬وإذا وجدوا أسيرا منهم‪ ,‬وجب عليهم فداؤه‪ ،‬فعملوا بالخير وتركوا‬
‫ن ِب َبعْضِ ا ْل ِكتَابِ } وهو فداء السير { َو َتكْ ُفرُونَ‬
‫الولين‪ ,‬فأنكر ال عليهم ذلك فقال‪َ { :‬أ َفتُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫ِب َبعْضٍ } وهو القتل والخراج‪.‬‬

‫وفيها أكبر دليل على أن اليمان يقتضي فعل الوامر واجتناب النواهي‪ ،‬وأن المأمورات من‬
‫حيَا ِة ال ّدنْيَا } وقد وقع ذلك‬
‫ن يَ ْفعَلُ ذَِلكَ ِم ْن ُكمْ إِلّا خِ ْزيٌ فِي ا ْل َ‬
‫اليمان‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬فمَا جَزَا ُء مَ ْ‬
‫فأخزاهم ال‪ ,‬وسلط رسوله عليهم‪ ,‬فقتل من قتل‪ ,‬وسبى من سبى منهم‪ ,‬وأجلى من أجلى‪.‬‬

‫ن}‬
‫عمّا َت ْعمَلُو َ‬
‫شدّ ا ْل َعذَابِ } أي‪ :‬أعظمه { َومَا اللّ ُه ِبغَافِلٍ َ‬
‫ن إِلَى َأ َ‬
‫{ َويَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ ُي َردّو َ‬

‫ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب‪ ,‬واليمان ببعضه فقال‪:‬‬
‫خرَةِ } توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار‪,‬‬
‫حيَاةَ ال ّد ْنيَا بِالْآ ِ‬
‫شتَرَوُا ا ْل َ‬
‫ناْ‬
‫{ أُوَل ِئكَ اّلذِي َ‬
‫ع ْن ُهمُ ا ْل َعذَابُ } بل هو باق على شدته‪ ,‬ول‬
‫فاختاروا النار على العار‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬فَلَا ُيخَ ّففُ َ‬
‫يحصل لهم راحة بوقت من الوقات‪ { ،‬وَلَا ُهمْ ُي ْنصَرُونَ } أي‪ :‬يدفع عنهم مكروه‪.‬‬

‫ن َب ْعدِهِ بِال ّرسُلِ وَآ َت ْينَا عِيسَى ا ْبنَ َم ْر َيمَ ا ْل َب ّينَاتِ‬


‫{ ‪ { } 87‬وََل َقدْ آ َت ْينَا مُوسَى ا ْل ِكتَابَ َوقَ ّف ْينَا مِ ْ‬
‫ستَ ْك َب ْرتُمْ فَ َفرِيقًا َك ّذ ْب ُتمْ َو َفرِيقًا‬
‫سكُ ُم ا ْ‬
‫ل ِبمَا لَا َتهْوَى َأنْ ُف ُ‬
‫س َأ َفكُلّمَا جَا َء ُكمْ َرسُو ٌ‬
‫وََأ ّي ْدنَا ُه بِرُوحِ الْ ُقدُ ِ‬
‫تَ ْقتُلُونَ }‬

‫يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى‪ ,‬وآتاه التوراة‪ ,‬ثم تابع من بعده‬
‫بالرسل الذين يحكمون بالتوراة‪ ,‬إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلم‪ ،‬وآتاه من‬
‫ح الْ ُقدُسِ } أي‪ :‬قواه ال بروح القدس‪.‬‬
‫اليات البينات ما يؤمن على مثله البشر‪ { ،‬وََأ ّي ْدنَاهُ ِبرُو ِ‬

‫قال أكثر المفسرين‪ :‬إنه جبريل عليه السلم‪ ,‬وقيل‪ :‬إنه اليمان الذي يؤيد ال به عباده‪.‬‬
‫ستَ ْك َب ْرتُمْ } عن اليمان‬
‫سكُ ُم ا ْ‬
‫ثم مع هذه النعم التي ل يقدر قدرها‪ ,‬لما أتوكم { ِبمَا لَا َتهْوَى َأنْ ُف ُ‬
‫ن } فقدمتم الهوى على الهدى‪ ,‬وآثرتم الدنيا على‬
‫بهم‪ { ،‬فَ َفرِيقًا } منهم { َك ّذ ْبتُمْ َوفَرِيقًا تَ ْقتُلُو َ‬
‫الخرة‪ ،‬وفيها من التوبيخ والتشديد ما ل يخفى‪.‬‬

‫ل َل َع َن ُهمُ اللّ ُه ِبكُ ْفرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُ ْؤ ِمنُونَ }‬


‫{ ‪َ { } 88‬وقَالُوا قُلُو ُبنَا غُ ْلفٌ بَ ْ‬

‫أي‪ :‬اعتذروا عن اليمان لما دعوتهم إليه‪ ,‬يا أيها الرسول‪ ,‬بأن قلوبهم غلف‪ ,‬أي‪ :‬عليها غلف‬
‫وأغطية‪ ,‬فل تفقه ما تقول‪ ،‬يعني فيكون لهم ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬عذر لعدم العلم‪ ,‬وهذا كذب منهم‪،‬‬
‫فلهذا قال تعالى‪ { :‬بَلْ َل َع َن ُهمُ اللّهُ ِبكُ ْفرِ ِهمْ } أي‪ :‬أنهم مطرودون ملعونون‪ ,‬بسبب كفرهم‪ ،‬فقليل‬
‫المؤمن منهم‪ ,‬أو قليل إيمانهم‪ ،‬وكفرهم هو الكثير‪.‬‬

‫ستَ ْف ِتحُونَ‬
‫صدّقٌ ِلمَا َم َع ُهمْ َوكَانُوا ِمنْ َقبْلُ َي ْ‬
‫ع ْندِ اللّ ِه ُم َ‬
‫{ ‪ { } 90 - 89‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ ِكتَابٌ ِمنْ ِ‬
‫ش َترَوْا ِبهِ‬
‫ن * ِب ْئسَمَا ا ْ‬
‫ع َرفُوا َك َفرُوا ِبهِ فََل ْعنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِي َ‬
‫ن كَ َفرُوا فََلمّا جَاءَ ُه ْم مَا َ‬
‫عَلَى اّلذِي َ‬
‫عبَادِ ِه فَبَاءُوا‬
‫ن َيشَاءُ مِنْ ِ‬
‫ن َيكْ ُفرُوا ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ َب ْغيًا َأنْ ُي َنزّلَ اللّهُ ِمنْ َفضْلِهِ عَلَى مَ ْ‬
‫سهُ ْم أَ ْ‬
‫َأنْ ُف َ‬
‫ب ُمهِينٌ }‬
‫عذَا ٌ‬
‫غضَبٍ وَلِ ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫ِبغَضَبٍ عَلَى َ‬

‫أي‪ :‬ولما جاءهم كتاب من عند ال على يد أفضل الخلق وخاتم النبياء‪ ,‬المشتمل على تصديق‬
‫ما معهم من التوراة‪ ,‬وقد علموا به‪ ,‬وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في‬
‫الجاهلية حروب‪ ,‬استنصروا بهذا النبي‪ ,‬وتوعدوهم بخروجه‪ ,‬وأنهم يقاتلون المشركين معه‪،‬‬
‫فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا‪ ,‬كفروا به‪ ,‬بغيا وحسدا‪ ,‬أن ينزل ال من فضله على‬
‫من يشاء من عباده‪ ،‬فلعنهم ال‪ ,‬وغضب عليهم غضبا بعد غضب‪ ,‬لكثرة كفرهم وتوالى شكهم‬
‫وشركهم‪.‬‬

‫{ وللكافرين عذاب مهين } أي‪ :‬مؤلم موجع‪ ,‬وهو صلي الجحيم‪ ,‬وفوت النعيم المقيم‪ ،‬فبئس‬
‫الحال حالهم‪ ,‬وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من اليمان بال وكتبه ورسله‪ ,‬الكفر به‪ ,‬وبكتبه‪,‬‬
‫وبرسله‪ ,‬مع علمهم وتيقنهم‪ ,‬فيكون أعظم لعذابهم‪.‬‬

‫ن ِبمَا ُأ ْنزِلَ عََل ْينَا َو َيكْ ُفرُونَ ِبمَا‬


‫{ ‪ { } 93 - 91‬وَِإذَا قِيلَ َل ُهمْ آ ِمنُوا ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ قَالُوا نُ ْؤمِ ُ‬
‫ن َأ ْن ِبيَاءَ اللّهِ ِمنْ َقبْلُ ِإنْ ُك ْن ُتمْ مُ ْؤ ِمنِينَ * وَلَ َقدْ‬
‫حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َع ُهمْ قُلْ فَِلمَ تَ ْقتُلُو َ‬
‫َورَا َءهُ وَهُ َو ا ْل َ‬
‫خ ْذنَا مِيثَا َق ُكمْ َو َر َفعْنَا‬
‫ل مِنْ َب ْعدِهِ وََأ ْن ُتمْ ظَاِلمُونَ * وَِإذْ َأ َ‬
‫خ ْذتُمُ ا ْل ِعجْ َ‬
‫ت ُثمّ ا ّت َ‬
‫جَا َء ُكمْ مُوسَى بِا ْل َب ّينَا ِ‬
‫عصَ ْينَا وَُأشْ ِربُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل ِعجْلَ‬
‫س ِم ْعنَا َو َ‬
‫س َمعُوا قَالُوا َ‬
‫خذُوا مَا آ َت ْينَا ُكمْ بِ ُقوّةٍ وَا ْ‬
‫فَ ْو َقكُمُ الطّو َر ُ‬
‫ن ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ }‬
‫سمَا َي ْأ ُم ُركُمْ ِبهِ إِيمَا ُن ُكمْ إِ ْ‬
‫ل ِبئْ َ‬
‫ِبكُ ْفرِهِمْ قُ ْ‬
‫أي‪ :‬وإذا أمر اليهود باليمان بما أنزل ال على رسوله‪ ,‬وهو القرآن استكبروا وعتوا‪ ,‬و‬
‫ن ِبمَا َورَاءَ ُه } أي‪ :‬بما سواه من الكتب‪ ،‬مع أن الواجب أن‬
‫ن ِبمَا ُأ ْنزِلَ عََل ْينَا َو َيكْ ُفرُو َ‬
‫{ قَالُوا نُ ْؤمِ ُ‬
‫يؤمن بما أنزل ال مطلقا‪ ,‬سواء أنزل عليهم‪ ,‬أو على غيرهم‪ ,‬وهذا هو اليمان النافع‪ ,‬اليمان‬
‫بما أنزل ال على جميع رسل ال‪.‬‬

‫وأما التفريق بين الرسل والكتب‪ ,‬وزعم اليمان ببعضها دون بعض‪ ,‬فهذا ليس بإيمان‪ ,‬بل هو‬
‫ن اللّهِ‬
‫ن يُ َف ّرقُوا َبيْ َ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ن اّلذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِاللّهِ َورُسُلِهِ َو ُيرِيدُو َ‬
‫الكفر بعينه‪ ,‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬إِ ّ‬
‫سبِيلًا أُوَل ِئكَ ُهمُ‬
‫ن ذَِلكَ َ‬
‫ن َي ّتخِذُوا َبيْ َ‬
‫ن أَ ْ‬
‫َو ُرسُلِهِ َويَقُولُونَ نُ ْؤ ِمنُ ِب َبعْضٍ َو َنكْ ُفرُ ِب َبعْضٍ َو ُيرِيدُو َ‬
‫ن حَقّا }‬
‫ا ْلكَا ِفرُو َ‬

‫ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا‪ ,‬وألزمهم إلزاما ل محيد لهم عنه‪ ,‬فرد عليهم‬
‫حقّ } فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من‬
‫بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال‪ { :‬وَهُ َو ا ْل َ‬
‫الخبارات‪ ,‬والوامر والنواهي‪ ,‬وهو من عند ربهم‪ ,‬فالكفر به بعد ذلك كفر بال‪ ,‬وكفر بالحق‬
‫الذي أنزله‪.‬‬

‫ثم قال‪ُ { :‬مصَ ّدقًا ِلمَا َم َع ُهمْ } أي‪ :‬موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه‪.‬‬

‫فلم تؤمنون بما أنزل عليكم‪ ,‬وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إل تعصب واتباع للهوى ل للهدى؟‬

‫وأيضا‪ ,‬فإن كون القرآن مصدقا لما معهم‪ ,‬يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من‬
‫الكتب‪ ,‬قل سبيل لهم إلى إثباتها إل به‪ ،‬فإذا كفروا به وجحدوه‪ ,‬صاروا بمنزلة من ادعى‬
‫دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها‪ ,‬ول تتم دعواه إل بسلمة بينته‪ ,‬ثم يأتي هو لبينته وحجته‪,‬‬
‫فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن‪ ,‬كفرا بما في‬
‫أيديهم ونقضا له‪.‬‬

‫ثم نقض عليهم تعالى دعواهم اليمان بما أنزل إليهم بقوله‪ { :‬قُلْ } لهم‪ { :‬فَِلمَ تَ ْقتُلُونَ َأ ْن ِبيَا َء اللّهِ‬
‫ن ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ وَلَ َقدْ جَا َء ُكمْ مُوسَى بِا ْل َب ّينَاتِ }‬
‫ل إِ ْ‬
‫ن قَبْ ُ‬
‫مِ ْ‬

‫ن َب ْعدِ ِه } أي‪ :‬بعد مجيئه { وََأ ْن ُتمْ‬


‫خ ْذ ُتمُ ا ْل ِعجْلَ مِ ْ‬
‫أي‪ :‬بالدلة الواضحات المبينة للحق‪ُ { ،‬ثمّ ا ّت َ‬
‫ظَالِمُونَ } في ذلك ليس لكم عذر‪.‬‬
‫س َمعُوا } أي‪ :‬سماع قبول‬
‫خذُوا مَا آ َت ْينَا ُكمْ بِقُوّةٍ وَا ْ‬
‫خ ْذنَا مِيثَا َق ُكمْ َو َر َف ْعنَا فَ ْوقَ ُكمُ الطّورَ ُ‬
‫{ وَِإذْ َأ َ‬
‫شرِبُوا فِي قُلُو ِب ِهمُ‬
‫ص ْينَا } أي‪ :‬صارت هذه حالتهم { وَُأ ْ‬
‫ع َ‬
‫س ِمعْنَا وَ َ‬
‫وطاعة واستجابة‪ { ،‬قَالُوا َ‬
‫ا ْل ِعجْلَ } بسبب كفرهم‪.‬‬

‫ن ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ } أي‪ :‬أنتم تدعون اليمان وتتمدحون بالدين‬


‫سمَا َي ْأ ُمرُ ُكمْ ِبهِ إِيمَا ُنكُ ْم إِ ْ‬
‫{ قُلْ ِب ْئ َ‬
‫الحق‪ ,‬وأنتم قتلتم أنبياء ال‪ ,‬واتخذتم العجل إلها من دون ال‪ ,‬لما غاب عنكم موسى‪ ,‬نبي ال‪,‬‬
‫ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إل بعد التهديد ورفع الطور فوقكم‪ ,‬فالتزمتم بالقول‪ ,‬ونقضتم بالفعل‪،‬‬
‫فما هذا اليمان الذي ادعيتم‪ ,‬وما هذا الدين؟‪.‬‬

‫فإن كان هذا إيمانا على زعمكم‪ ,‬فبئس اليمان الداعي صاحبه إلى الطغيان‪ ,‬والكفر برسل ال‪,‬‬
‫وكثرة العصيان‪ ،‬وقد عهد أن اليمان الصحيح‪ ,‬يأمر صاحبه بكل خير‪ ,‬وينهاه عن كل شر‪،‬‬
‫فوضح بهذا كذبهم‪ ,‬وتبين تناقضهم‪.‬‬

‫ن النّاسِ َف َت َمنّوُا ا ْل َموْتَ‬


‫ن دُو ِ‬
‫ع ْن َد اللّ ِه خَالِصَ ًة مِ ْ‬
‫ت َل ُكمُ الدّارُ الْآخِرَةُ ِ‬
‫{ ‪ { } 96 - 94‬قُلْ ِإنْ كَانَ ْ‬
‫ج َد ّنهُ ْم َأحْرَصَ‬
‫ن ُك ْنتُمْ صَا ِدقِينَ * وََلنْ َي َت َمنّ ْوهُ َأ َبدًا ِبمَا قَ ّدمَتْ َأ ْيدِي ِهمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ * وََل َت ِ‬
‫إِ ْ‬
‫سنَةٍ َومَا ُهوَ ِب ُم َزحْ ِزحِ ِه مِنَ‬
‫حدُ ُهمْ لَ ْو ُي َعمّ ُر أَ ْلفَ َ‬
‫ش َركُوا َي َودّ َأ َ‬
‫ن اّلذِينَ َأ ْ‬
‫حيَاةٍ َومِ َ‬
‫النّاسِ عَلَى َ‬
‫ن}‬
‫ن ُي َع ّمرَ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُو َ‬
‫ا ْل َعذَابِ أَ ْ‬

‫ت َل ُكمُ الدّا ُر الْآخِرَ ُة } يعني الجنة‬


‫أي‪ { :‬قُلْ } لهم على وجه تصحيح دعواهم‪ِ { :‬إنْ كَانَ ْ‬
‫ن النّاسِ } كما زعمتم‪ ,‬أنه لن يدخل الجنة إل من كان هودا أو نصارى‪ ,‬وأن‬
‫{ خَاِلصَ ًة مِنْ دُو ِ‬
‫ت } وهذا نوع‬
‫النار لن تمسهم إل أياما معدودة‪ ،‬فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى { َفتَ َمنّوُا ا ْلمَوْ َ‬
‫مباهلة بينهم وبين رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وليس بعد هذا اللجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم‪ ,‬إل أحد أمرين‪ :‬إما أن يؤمنوا بال‬
‫ورسوله‪ ،‬وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم‪ ,‬وهو تمني الموت الذي يوصلهم‬
‫إلى الدار التي هي خالصة لهم‪ ,‬فامتنعوا من ذلك‪.‬‬

‫فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة ل ولرسوله‪ ,‬مع علمهم بذلك‪ ،‬ولهذا قال تعالى‬
‫ن َي َت َمنّوْ ُه َأ َبدًا ِبمَا َق ّدمَتْ َأ ْيدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي‪ ,‬لنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى‬
‫{ وَلَ ْ‬
‫المجازاة بأعمالهم الخبيثة‪ ،‬فالموت أكره شيء إليهم‪ ,‬وهم أحرص على الحياة من كل أحد من‬
‫الناس‪ ,‬حتى من المشركين الذين ل يؤمنون بأحد من الرسل والكتب‪.‬‬
‫سنَةٍ } وهذا أبلغ ما يكون من‬
‫حدُ ُهمْ لَ ْو ُي َعمّ ُر أَ ْلفَ َ‬
‫ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال‪َ { :‬ي َودّ َأ َ‬
‫الحرص‪ ,‬تمنوا حالة هي من المحالت‪ ،‬والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور‪ ,‬لم يغن عنهم‬
‫شيئا ول دفع عنهم من العذاب شيئا‪.‬‬

‫{ وَاللّ ُه َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ } تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم‪.‬‬

‫ن َيدَيْهِ‬
‫ص ّدقًا ِلمَا َبيْ َ‬
‫ن اللّ ِه مُ َ‬
‫ج ْبرِيلَ َفِإنّهُ َنزّلَهُ عَلَى قَ ْل ِبكَ ِبِإذْ ِ‬
‫ع ُدوّا ِل ِ‬
‫{ ‪ { } 98 - 97‬قُلْ َمنْ كَانَ َ‬
‫عدُوّ‬
‫ج ْبرِيلَ َومِيكَالَ َفإِنّ اللّهَ َ‬
‫عدُوّا لِلّهِ َومَلَا ِئ َكتِهِ َو ُرسُلِهِ َو ِ‬
‫ن كَانَ َ‬
‫ن * مَ ْ‬
‫وَ ُهدًى َو ُبشْرَى لِ ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫لِ ْلكَا ِفرِينَ }‬

‫أي‪ :‬قل لهؤلء اليهود‪ ,‬الذين زعموا أن الذي منعهم من اليمان بك‪ ,‬أن وليك جبريل عليه‬
‫السلم‪ ,‬ولو كان غيره من ملئكة ال‪ ,‬لمنوا بك وصدقوا‪ ،‬إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت‪,‬‬
‫وتكبر على ال‪ ،‬فإن جبريل عليه السلم هو الذي نزل بالقرآن من عند ال على قلبك‪ ,‬وهو‬
‫الذي ينزل على النبياء قبلك‪ ,‬وال هو الذي أمره‪ ,‬وأرسله بذلك‪ ,‬فهو رسول محض‪.‬‬

‫مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ول‬
‫مناقض‪ ,‬وفيه الهداية التامة من أنواع الضللت‪ ,‬والبشارة بالخير الدنيوي والخروي‪ ,‬لمن‬
‫آمن به‪ ،‬فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك‪ ,‬كفر بال وآياته‪ ,‬وعداوة ل ولرسله وملئكته‪ ،‬فإن‬
‫عداوتهم لجبريل‪ ,‬ل لذاته بل لما ينزل به من عند ال من الحق على رسل ال‪.‬‬

‫فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله‪ ,‬والذي أرسل به‪ ,‬والذي أرسل إليه‪ ,‬فهذا وجه‬
‫ذلك‪.‬‬

‫{ ‪ { } 99‬وََل َقدْ َأ ْنزَ ْلنَا إَِل ْيكَ آيَاتٍ َب ّينَاتٍ َومَا َيكْ ُفرُ ِبهَا إِلّا الْفَاسِقُونَ }‬

‫ت َب ّينَاتٍ } تحصل بها الهداية لمن‬


‫يقول لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وَلَ َقدْ َأ ْنزَ ْلنَا إَِل ْيكَ آيَا ٍ‬
‫استهدى‪ ,‬وإقامة الحجة على من عاند‪ ,‬وهي في الوضوح والدللة على الحق‪ ,‬قد بلغت مبلغا‬
‫عظيما ووصلت إلى حالة ل يمتنع من قبولها إل من فسق عن أمر ال‪ ,‬وخرج عن طاعة ال‪,‬‬
‫واستكبر غاية التكبر‪.‬‬

‫ن}‬
‫ع ْهدًا َنبَذَ ُه َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ بَلْ َأ ْك َثرُ ُهمْ لَا ُي ْؤ ِمنُو َ‬
‫{ ‪َ { } 100‬أ َوكُّلمَا عَا َهدُوا َ‬

‫وهذا فيه التعجيب من كثرة معاهداتهم‪ ,‬وعدم صبرهم على الوفاء بها‪.‬‬
‫فـ " كُّلمَا " تفيد التكرار‪ ,‬فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض‪ ،‬ما السبب في ذلك؟ السبب أن‬
‫أكثرهم ل يؤمنون‪ ،‬فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود‪ ،‬ولو صدق إيمانهم‪ ,‬لكانوا‬
‫ن‬
‫مثل من قال ال فيهم‪ِ { :‬منَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫ل صَ َدقُوا مَا عَا َهدُوا اللّهَ عََل ْيهِ }‬
‫ِرجَا ٌ‬

‫صدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ َن َبذَ َفرِيقٌ ِمنَ اّلذِينَ‬


‫ع ْندِ اللّهِ ُم َ‬
‫ل مِنْ ِ‬
‫{ ‪ { } 103 - 101‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ َرسُو ٌ‬
‫ظهُورِهِمْ َكَأ ّن ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ * وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ‬
‫ب اللّهِ َورَا َء ُ‬
‫أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ ِكتَا َ‬
‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْ َر َومَا أُنْ ِزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫سُلَ ْيمَا َ‬
‫هَارُوتَ َومَارُوتَ َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّى َيقُولَا إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا َت ْكفُرْ فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ‬
‫بِهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْجِ ِه َومَا ُهمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ َأحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُه ْم وَلَا يَ ْن َفعُهُمْ‬
‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ *‬
‫ق وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫وَلَقَدْ عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِ َرةِ مِنْ خَلَا ٍ‬
‫وََلوْ أَ ّن ُهمْ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ خَيْرٌ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم‪ ،‬وكانوا يزعمون‬
‫أنهم متمسكون بكتابهم‪ ,‬فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به‪ { ،‬نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ‬
‫ظهُورِهِمْ } وهذا أبلغ في العراض‬
‫كِتَابَ اللّهِ } الذي أنزل إليهم أي‪ :‬طرحوه رغبة عنه { وَرَاءَ ُ‬
‫كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه‪ ،‬وحقيّة ما جاء به‪.‬‬

‫تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول‪,‬‬
‫فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث ل يشعرون‪.‬‬

‫ولما كان من العوائد القدرية والحكمة اللهية أن من ترك ما ينفعه‪ ،‬وأمكنه النتفاع به فلم ينتفع‪,‬‬
‫ابتلي بالشتغال بما يضره‪ ,‬فمن ترك عبادة الرحمن‪ ,‬ابتلي بعبادة الوثان‪ ,‬ومن ترك محبة ال‬
‫وخوفه ورجاءه‪ ,‬ابتلي بمحبة غير ال وخوفه ورجائه‪ ,‬ومن لم ينفق ماله في طاعة ال أنفقه في‬
‫طاعة الشيطان‪ ,‬ومن ترك الذل لربه‪ ,‬ابتلي بالذل للعبيد‪ ،‬ومن ترك الحق ابتلي بالباطل‪.‬‬

‫كذلك هؤلء اليهود لما نبذوا كتاب ال اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك‬
‫سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر‪ ،‬وزعموا أن سليمان عليه السلم كان يستعمله وبه‬
‫حصل له الملك العظيم‪.‬‬

‫وهم كذبة في ذلك‪ ،‬فلم يستعمله سليمان‪ ،‬بل نزهه الصادق في قيله‪َ { :‬ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ } أي‪:‬‬
‫بتعلم السحر‪ ,‬فلم يتعلمه‪ { ،‬وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا } بذلك‪.‬‬
‫{ ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } من إضللهم وحرصهم على إغواء بني آدم‪ ،‬وكذلك اتبع اليهود السحر‬
‫الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق‪ ،‬أنزل عليهما السحر امتحانا‬
‫وابتلء من ال لعباده فيعلمانهم السحر‪.‬‬

‫حدٍ حَتّى } ينصحاه‪ ,‬و { َيقُولَا إِ ّنمَا َنحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا َتكْفُرْ } أي‪ :‬ل تتعلم السحر فإنه‬
‫{ َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ‬
‫كفر‪ ،‬فينهيانه عن السحر‪ ،‬ويخبرانه عن مرتبته‪ ,‬فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس‬
‫والضلل‪ ،‬ونسبته وترويجه إلى من برأه ال منه وهو سليمان عليه السلم‪ ،‬وتعليم الملكين‬
‫امتحانا مع نصحهما لئل يكون لهم حجة‪.‬‬

‫فهؤلء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين‪ ,‬والسحر الذي يعلمه الملكان‪ ,‬فتركوا علم‬
‫النبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين‪ ,‬وكل يصبو إلى ما يناسبه‪.‬‬

‫جهِ } مع أن محبة‬
‫ثم ذكر مفاسد السحر فقال‪ { :‬فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ ِبهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْ ِ‬
‫حمَةً } وفي هذا‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُمْ َموَ ّد ًة وَرَ ْ‬
‫الزوجين ل تقاس بمحبة غيرهما‪ ,‬لن ال قال في حقهما‪ { :‬وَ َ‬
‫دليل على أن السحر له حقيقة‪ ،‬وأنه يضر بإذن ال‪ ،‬أي‪ :‬بإرادة ال‪ ،‬والذن نوعان‪ :‬إذن قدري‪،‬‬
‫وهو المتعلق بمشيئة ال‪ ,‬كما في هذه الية‪ ،‬وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الية السابقة‪:‬‬
‫{ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِِإذْنِ اللّهِ } وفي هذه الية وما أشبهها أن السباب مهما بلغت في قوة‬
‫التأثير‪ ،‬فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير‪ ,‬ولم يخالف في هذا الصل من فرق‬
‫المة غير القدرية في أفعال العباد‪ ،‬زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة‪ ,‬فأخرجوها عن قدرة‬
‫ال‪ ،‬فخالفوا كتاب ال وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة‪ ,‬ليس فيه منفعة ل دينية ول دنيوية كما يوجد بعض المنافع‬
‫الدنيوية في بعض المعاصي‪ ،‬كما قال تعالى في الخمر والميسر‪ُ { :‬قلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ‬
‫س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْفعِ ِهمَا } فهذا السحر مضرة محضة‪ ,‬فليس له داع أصل‪ ,‬فالمنهيات كلها‬
‫لِلنّا ِ‬
‫إما مضرة محضة‪ ,‬أو شرها أكبر من خيرها‪.‬‬

‫كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ عَِلمُوا } أي‪ :‬اليهود { َلمَنِ اشْتَرَاهُ } أي‪ :‬رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة‪.‬‬

‫{ مَا َلهُ فِي الْآخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي‪ :‬نصيب‪ ,‬بل هو موجب للعقوبة‪ ,‬فلم يكن فعلهم إياه جهل‪,‬‬
‫ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة‪.‬‬

‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه‪.‬‬


‫{ وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫عذَابٌ‬
‫س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫{ ‪ { } 105 - 104‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا ا ْنظُرْنَا وَا ْ‬
‫ب وَلَا ا ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَاللّهُ‬
‫أَلِيمٌ * مَا َيوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ }‬
‫حمَتِهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫يَخْ َتصّ بِ َر ْ‬

‫كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين‪ { :‬رَاعِنَا } أي‪ :‬راع أحوالنا‪,‬‬
‫فيقصدون بها معنى صحيحا‪ ،‬وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا‪ ,‬فانتهزوا الفرصة‪ ,‬فصاروا‬
‫يخاطبون الرسول بذلك‪ ,‬ويقصدون المعنى الفاسد‪ ،‬فنهى ال المؤمنين عن هذه الكلمة‪ ,‬سدا لهذا‬
‫الباب‪ ،‬ففيه النهي عن الجائز‪ ,‬إذا كان وسيلة إلى محرم‪ ،‬وفيه الدب‪ ,‬واستعمال اللفاظ‪ ,‬التي ل‬
‫تحتمل إل الحسن‪ ,‬وعدم الفحش‪ ,‬وترك اللفاظ القبيحة‪ ,‬أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لمر‬
‫غير لئق‪ ،‬فأمرهم بلفظة ل تحتمل إل الحسن فقال‪َ { :‬وقُولُوا ا ْنظُرْنَا } فإنها كافية يحصل بها‬
‫س َمعُوا } لم يذكر المسموع‪ ,‬ليعم ما أمر باستماعه‪ ،‬فيدخل فيه‬
‫المقصود من غير محذور‪ { ،‬وَا ْ‬
‫سماع القرآن‪ ,‬وسماع السنة التي هي الحكمة‪ ,‬لفظا ومعنى واستجابة‪ ،‬ففيه الدب والطاعة‪.‬‬

‫ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع‪ ,‬وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين‪ ,‬أنهم ما‬
‫يودون { أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنْ خَيْرٍ } أي‪ :‬ل قليل ول كثيرا { مِنْ رَ ّبكُمْ } حسدا منهم‪ ,‬وبغضا لكم‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ } ومن فضله عليكم‪ ,‬إنزال الكتاب على رسولكم‪,‬‬
‫أن يختصكم بفضله فإنه { ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة‪ ,‬ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ ,‬فله الحمد والمنة‪.‬‬

‫سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ‬
‫{ ‪ { } 107 - 106‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُ ْن ِ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ‬
‫ن وَِل ّ‬
‫ض َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫َ‬
‫}‬

‫النسخ‪ :‬هو النقل‪ ,‬فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع‪ ,‬إلى حكم آخر‪ ,‬أو إلى إسقاطه‪،‬‬
‫وكان اليهود ينكرون النسخ‪ ,‬ويزعمون أنه ل يجوز‪ ,‬وهو مذكور عندهم في التوراة‪ ,‬فإنكارهم له‬
‫كفر وهوى محض‪.‬‬

‫سهَا } أي‪ :‬ننسها العباد‪,‬‬


‫فأخبر ال تعالى عن حكمته في النسخ‪ ،‬وأنه ما ينسخ من آية { َأوْ نُ ْن ِ‬
‫فنزيلها من قلوبهم‪ { ،‬نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا } وأنفع لكم { َأوْ مِثِْلهَا }‬

‫فدل على أن النسخ ل يكون لقل مصلحة لكم من الول؛ لن فضله تعالى يزداد خصوصا على‬
‫هذه المة‪ ,‬التي سهل عليها دينها غاية التسهيل‪.‬‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ‬
‫وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال‪ { :‬أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ }‬
‫أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬

‫فإذا كان مالكا لكم‪ ,‬متصرفا فيكم‪ ,‬تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه‪ ,‬فكما‬
‫أنه ل حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير‪ ,‬كذلك ل يعترض عليه فيما‬
‫يشرعه لعباده من الحكام‪ .‬فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية‪ ,‬فما له‬
‫والعتراض؟‬

‫وهو أيضا‪ ,‬ولي عباده‪ ,‬ونصيرهم‪ ،‬فيتولهم في تحصيل منافعهم‪ ,‬وينصرهم في دفع مضارهم‪،‬‬
‫فمن وليته لهم‪ ,‬أن يشرع لهم من الحكام‪ ,‬ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم‪.‬‬

‫ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ‪ ,‬عرف بذلك حكمة ال ورحمته عباده‪ ,‬وإيصالهم‬
‫إلى مصالحهم‪ ,‬من حيث ل يشعرون بلطفه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 110 - 108‬أمْ تُرِيدُونَ أَنْ َتسْأَلُوا رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ َومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ‬
‫سدًا‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ * َودّ كَثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ يَرُدّو َنكُمْ مِنْ َبعْدِ إِيمَا ِنكُمْ ُكفّارًا حَ َ‬
‫ضلّ َ‬
‫بِالْإِيمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫علَى ُكلّ‬
‫صفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫عفُوا وَا ْ‬
‫حقّ فَا ْ‬
‫سهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َل ُهمُ الْ َ‬
‫مِنْ عِنْدِ أَ ْنفُ ِ‬
‫جدُوهُ عِ ْندَ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِبمَا‬
‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَ ِ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ‬
‫َ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬

‫ينهى ال المؤمنين‪ ,‬أو اليهود‪ ,‬بأن يسألوا رسولهم { َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ } والمراد بذلك‪,‬‬
‫سمَاءِ‬
‫أسئلة التعنت والعتراض‪ ,‬كما قال تعالى‪ { :‬يَسْأَُلكَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ كِتَابًا مِنَ ال ّ‬
‫جهْ َرةً }‬
‫َفقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ َ‬

‫س ْؤكُمْ } فهذه ونحوها‪ ,‬هي‬


‫وقال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ َأشْيَاءَ إِنْ تُ ْبدَ َلكُمْ َت ُ‬
‫المنهي عنها‪.‬‬

‫وأما سؤال السترشاد والتعلم‪ ,‬فهذا محمود قد أمر ال به كما قال تعالى { فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ } و { َيسْأَلُو َنكَ عَنِ‬
‫كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ } ويقررهم عليه‪ ,‬كما في قوله { َيسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫الْيَتَامَى } ونحو ذلك‪.‬‬

‫ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة‪ ,‬قد تصل بصاحبها إلى الكفر‪ ،‬قال‪َ { :‬ومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ }‬
‫ضلّ َ‬
‫بِالْإِيمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب‪ ,‬وأنهم بلغت بهم الحال‪ ,‬أنهم ودوا { َلوْ يَرُدّو َنكُمْ مِنْ َبعْدِ‬
‫إِيمَا ِنكُمْ ُكفّارًا } وسعوا في ذلك‪ ,‬وأعملوا المكايد‪ ,‬وكيدهم راجع عليهم [كما] قال تعالى‪َ { :‬وقَاَلتْ‬
‫طَا ِئفَةٌ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ ال ّنهَا ِر وَا ْكفُرُوا آخِ َرهُ َلعَّل ُهمْ‬
‫جعُونَ } وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم‪.‬‬
‫يَرْ ِ‬

‫فأمرهم ال بمقابلة من أساء إليهم غاية الساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي ال بأمره‪.‬‬

‫ثم بعد ذلك‪ ,‬أتى ال بأمره إياهم بالجهاد‪ ,‬فشفى ال أنفس المؤمنين منهم‪ ,‬فقتلوا من قتلوا‪ ,‬واسترقوا‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫من استرقوا‪ ,‬وأجلوا من أجلوا { إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬

‫ثم أمرهم [ال] بالشتغال في الوقت الحاضر‪ ,‬بإقامة الصلة‪ ,‬وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات‪،‬‬
‫ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير‪ ,‬فإنه ل يضيع عند ال‪ ,‬بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه {‬
‫إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬

‫خلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ُقلْ هَاتُوا‬
‫{ ‪َ { } 112 - 111‬وقَالُوا لَنْ يَ ْد ُ‬
‫خ ْوفٌ‬
‫جهَهُ لِلّهِ وَ ُهوَ ُمحْسِنٌ فَلَهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَلَا َ‬
‫بُرْهَا َنكُمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * َبلَى مَنْ َأسْلَ َم َو ْ‬
‫عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ }‬

‫أي‪ :‬قال اليهود‪ :‬لن يدخل الجنة إل من كان هودا‪ ،‬وقالت النصارى‪ :‬لن يدخل الجنة إل من كان‬
‫نصارى‪ ،‬فحكموا لنفسهم بالجنة وحدهم‪ ,‬وهذا مجرد أماني غير مقبولة‪ ,‬إل بحجة وبرهان‪ ,‬فأتوا‬
‫بها إن كنتم صادقين‪ ،‬وهكذا كل من ادعى دعوى‪ ,‬ل بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه‪ ،‬وإل‪,‬‬
‫فلو قلبت عليه دعواه‪ ,‬وادعى مدع عكس ما ادعى بل برهان لكان ل فرق بينهما‪ ،‬فالبرهان هو‬
‫الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها‪ ،‬ولما لم يكن بأيديهم برهان‪ ,‬علم كذبهم بتلك الدعوى‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد‪ ,‬فقال‪ { :‬بَلَى } أي‪ :‬ليس بأمانيكم ودعاويكم‪ ,‬ولكن‬
‫جهَهُ لِلّهِ } أي‪ :‬أخلص ل أعماله‪ ,‬متوجها إليه بقلبه‪ { ،‬وَ ُهوَ } مع إخلصه { مُحْسِنٌ }‬
‫{ مَنْ َأسْلَ َم َو ْ‬
‫في عبادة ربه‪ ,‬بأن عبده بشرعه‪ ,‬فأولئك هم أهل الجنة وحدهم‪.‬‬

‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ‬


‫{ فََلهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّهِ } وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم‪ { ،‬وَلَا َ‬
‫يَحْزَنُونَ } فحصل لهم المرغوب‪ ,‬ونجوا من المرهوب‪.‬‬

‫ويفهم منها‪ ,‬أن من ليس كذلك‪ ,‬فهو من أهل النار الهالكين‪ ،‬فل نجاة إل لهل الخلص للمعبود‪,‬‬
‫والمتابعة للرسول‪.‬‬
‫شيْءٍ‬
‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬
‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَ ْي َ‬
‫علَى َ‬
‫ستِ ال ّنصَارَى َ‬
‫{ ‪َ { } 113‬وقَالَتِ الْ َيهُودُ لَ ْي َ‬
‫ح ُكمُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ‬
‫وَهُمْ يَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ كَذَِلكَ قَالَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ فَاللّهُ يَ ْ‬
‫يَخْتَِلفُونَ }‬

‫وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد‪ ,‬إلى أن بعضهم ضلل بعضا‪ ,‬وكفر بعضهم بعضا‪ ,‬كما‬
‫فعل الميون من مشركي العرب وغيرهم‪.‬‬

‫فكل فرقة تضلل الفرقة الخرى‪ ,‬ويحكم ال في الخرة بين المختلفين بحكمه العدل‪ ,‬الذي أخبر به‬
‫عباده‪ ,‬فإنه ل فوز ول نجاة إل لمن صدق جميع النبياء والمرسلين‪ ,‬وامتثل أوامر ربه‪ ,‬واجتنب‬
‫نواهيه‪ ,‬ومن عداهم‪ ,‬فهو هالك‪.‬‬

‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ‬


‫سمُ ُه وَ َ‬
‫جدَ اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫{ ‪َ { } 114‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَا ِ‬
‫عظِيمٌ }‬
‫ي وََلهُمْ فِي الْآخِ َرةِ عَذَابٌ َ‬
‫َلهُمْ أَنْ َيدْخُلُوهَا إِلّا خَا ِئفِينَ َلهُمْ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬

‫أي‪ :‬ل أحد أظلم وأشد جرما‪ ,‬ممن منع مساجد ال‪ ,‬عن ذكر ال فيها‪ ,‬وإقامة الصلة وغيرها من‬
‫الطاعات‪.‬‬

‫سعَى } أي‪ :‬اجتهد وبذل وسعه { فِي خَرَا ِبهَا } الحسي والمعنوي‪ ،‬فالخراب الحسي‪ :‬هدمها‬
‫{ وَ َ‬
‫وتخريبها‪ ,‬وتقذيرها‪ ،‬والخراب المعنوي‪ :‬منع الذاكرين لسم ال فيها‪ ،‬وهذا عام‪ ,‬لكل من اتصف‬
‫بهذه الصفة‪ ,‬فيدخل في ذلك أصحاب الفيل‪ ,‬وقريش‪ ,‬حين صدوا رسول ال عنها عام الحديبية‪,‬‬
‫والنصارى حين أخربوا بيت المقدس‪ ,‬وغيرهم من أنواع الظلمة‪ ,‬الساعين في خرابها‪ ,‬محادة ل‪,‬‬
‫ومشاقة‪ ،‬فجازاهم ال‪ ,‬بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا‪ ,‬إل خائفين ذليلين‪ ,‬فلما أخافوا عباد ال‪,‬‬
‫أخافهم ال‪ ،‬فالمشركون الذين صدوا رسوله‪ ,‬لم يلبث رسول ال صلى ال عليه وسلم إل يسيرا‪,‬‬
‫حتى أذن ال له في فتح مكة‪ ،‬ومنع المشركين من قربان بيته‪ ,‬فقال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا‬
‫إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَجَسٌ فَلَا َيقْرَبُوا ا ْل َمسْجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا }‬

‫وأصحاب الفيل‪ ,‬قد ذكر ال ما جرى عليهم‪ ،‬والنصارى‪ ,‬سلط ال عليهم المؤمنين‪ ,‬فأجلوهم عنه‪.‬‬

‫وهكذا كل من اتصف بوصفهم‪ ,‬فل بد أن يناله قسطه‪ ,‬وهذا من اليات العظيمة‪ ,‬أخبر بها الباري‬
‫قبل وقوعها‪ ,‬فوقعت كما أخبر‪.‬‬

‫واستدل العلماء بالية الكريمة‪ ,‬على أنه ل يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد‪.‬‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ }‬
‫{ َل ُهمْ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ } أي‪ :‬فضيحة كما تقدم { وََلهُمْ فِي الْآخِ َرةِ َ‬

‫وإذا كان ل أظلم ممن منع مساجد ال أن يذكر فيها اسمه‪ ,‬فل أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة‬
‫المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية‪ ,‬كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َي ْعمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ‬
‫الْآخِرِ }‬

‫بل قد أمر ال تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها‪ ,‬فقال تعالى‪ { :‬فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُ ْرفَعَ‬
‫سمُهُ }‬
‫وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬

‫وللمساجد أحكام كثيرة‪ ,‬يرجع حاصلها إلى مضون هذه اليات الكريمة‪.‬‬

‫جهُ اللّهِ إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }‬


‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ‬
‫{ ‪ { } 115‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬

‫أي‪ { :‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ } خصهما بالذكر‪ ,‬لنهما محل اليات العظيمة‪ ,‬فهما مطالع النوار‬
‫ومغاربها‪ ،‬فإذا كان مالكا لها‪ ,‬كان مالكا لكل الجهات‪.‬‬

‫{ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا } وجوهكم من الجهات‪ ,‬إذا كان توليكم إياها بأمره‪ ,‬إما أن يأمركم باستقبال الكعبة‬
‫بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس‪ ,‬أو تؤمرون بالصلة في السفر على الراحلة ونحوها‪,‬‬
‫فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة‪ ,‬فيتحرى الصلة إليها‪ ,‬ثم يتبين له الخطأ‪ ,‬أو يكون‬
‫معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك‪ ،‬فهذه المور‪ ,‬إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا‪.‬‬

‫وبكل حال‪ ,‬فما استقبل جهة من الجهات‪ ,‬خارجة عن ملك ربه‪.‬‬

‫سعٌ عَلِيمٌ } فيه إثبات الوجه ل تعالى‪ ,‬على الوجه اللئق به تعالى‪ ,‬وأن‬
‫{ فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّ َه وَا ِ‬
‫ل وجها ل تشبهه الوجوه‪ ,‬وهو ‪ -‬تعالى ‪ -‬واسع الفضل والصفات عظيمها‪ ,‬عليم بسرائركم‬
‫ونياتكم‪.‬‬

‫فمن سعته وعلمه‪ ,‬وسع لكم المر‪ ,‬وقبل منكم المأمور‪ ,‬فله الحمد والشكر‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ‬


‫خذَ اللّهُ وَلَدًا سُ ْبحَانَهُ َبلْ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 117 - 116‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ }‬
‫* بَدِيعُ ال ّ‬
‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬اليهود والنصارى والمشركون‪ ,‬وكل من قال ذلك‪ { :‬اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا } فنسبوه إلى ما‬
‫ل يليق بجلله‪ ,‬وأساءوا كل الساءة‪ ,‬وظلموا أنفسهم‪.‬‬

‫وهو ‪ -‬تعالى ‪ -‬صابر على ذلك منهم‪ ,‬قد حلم عليهم‪ ,‬وعافاهم‪ ,‬ورزقهم مع تنقصهم إياه‪.‬‬

‫{ سُبْحَانَهُ } أي‪ :‬تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما ل يليق بجلله‪،‬‬
‫فسبحان من له الكمال المطلق‪ ,‬من جميع الوجوه‪ ,‬الذي ل يعتريه نقص بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫ومع رده لقولهم‪ ,‬أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال‪َ { :‬بلْ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬جميعهم ملكه وعبيده‪ ,‬يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك‪ ,‬وهم قانتون له‬
‫مسخرون تحت تدبيره‪ ،‬فإذا كانوا كلهم عبيده‪ ,‬مفتقرين إليه‪ ,‬وهو غني عنهم‪ ,‬فكيف يكون منهم‬
‫أحد‪ ,‬يكون له ولدا‪ ,‬والولد ل بد أن يكون من جنس والده‪ ,‬لنه جزء منه‪.‬‬

‫وال تعالى المالك القاهر‪ ,‬وأنتم المملوكون المقهورون‪ ,‬وهو الغني وأنتم الفقراء‪ ،‬فكيف مع هذا‪,‬‬
‫يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه‪.‬‬

‫والقنوت نوعان‪ :‬قنوت عام‪ :‬وهو قنوت الخلق كلهم‪ ,‬تحت تدبير الخالق‪ ،‬وخاص‪ :‬وهو قنوت‬
‫العبادة‪.‬‬

‫فالنوع الول كما في هذه الية‪ ،‬والنوع الثاني‪ :‬كما في قوله تعالى‪َ { :‬وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ }‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ثم قال‪َ { :‬بدِيعُ ال ّ‬
‫سبق‪.‬‬

‫{ وَإِذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ } فل يستعصى عليه‪ ,‬ول يمتنع منه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 119 - 118‬وقَالَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ َلوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آ َيةٌ كَذَِلكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ‬
‫مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ َتشَا َب َهتْ قُلُو ُبهُمْ قَدْ بَيّنّا الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا ُتسَْألُ‬
‫عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ }‬

‫أي‪ :‬قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم‪ :‬هل يكلمنا‪ ,‬كما كلم الرسل‪َ { ،‬أوْ تَأْتِينَا آ َيةٌ } يعنون آيات‬
‫القتراح‪ ,‬التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة‪ ,‬وآرائهم الكاسدة‪ ,‬التي تجرأوا بها على الخالق‪,‬‬
‫جهْ َرةً } { يَسْأَُلكَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ‬
‫واستكبروا على رسله كقولهم‪ { :‬لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫سمَاءِ َفقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ } الية‪ ،‬وقالوا‪َ { :‬لوْلَا أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مََلكٌ‬
‫تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابًا مِنَ ال ّ‬
‫فَ َيكُونَ َمعَهُ َنذِيرًا َأوْ يُ ْلقَى ِإلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ َتكُونُ لَهُ جَنّةٌ } اليات وقوله‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى‬
‫َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا } اليات‪.‬‬

‫فهذا دأبهم مع رسلهم‪ ,‬يطلبون آيات التعنت‪ ,‬ل آيات السترشاد‪ ,‬ولم يكن قصدهم تبين الحق‪ ،‬فإن‬
‫الرسل‪ ,‬قد جاءوا من اليات‪ ,‬بما يؤمن بمثله البشر‪ ,‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬قدْ بَيّنّا الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ‬
‫} فكل موقن‪ ,‬فقد عرف من آيات ال الباهرة‪ ,‬وبراهينه الظاهرة‪ ,‬ما حصل له به اليقين‪ ,‬واندفع‬
‫عنه كل شك وريب‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة لليات الدالة على صدقه صلى ال عليه وسلم‬
‫وصحة ما جاء به فقال‪ { :‬إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ َبشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على اليات التي جاء‬
‫بها‪ ,‬وهي ترجع إلى ثلثة أمور‪:‬‬

‫الول‪ :‬في نفس إرساله‪ ,‬والثاني‪ :‬في سيرته وهديه ودله‪ ،‬والثالث‪ :‬في معرفة ما جاء به من‬
‫القرآن والسنة‪.‬‬

‫فالول والثاني‪ ,‬قد دخل في قوله‪ { :‬إِنّا أَرْسَلْنَاكَ } والثالث دخل في قوله‪ { :‬بِا ْلحَقّ }‬

‫وبيان المر الول وهو ‪ -‬نفس إرساله ‪ -‬أنه قد علم حالة أهل الرض قبل بعثته صلى ال عليه‬
‫وسلم وما كانوا عليه من عبادة الوثان والنيران‪ ,‬والصلبان‪ ,‬وتبديلهم للديان‪ ,‬حتى كانوا في ظلمة‬
‫من الكفر‪ ,‬قد عمتهم وشملتهم‪ ,‬إل بقايا من أهل الكتاب‪ ,‬قد انقرضوا قبيل البعثة‪.‬‬

‫وقد علم أن ال تعالى لم يخلق خلقه سدى‪ ,‬ولم يتركهم همل‪ ,‬لنه حكيم عليم‪ ,‬قدير رحيم‪ ،‬فمن‬
‫حكمته ورحمته بعباده‪ ,‬أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم‪ ,‬يأمرهم بعبادة الرحمن وحده ل شريك‬
‫له‪ ,‬فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه‪ ,‬وهو آية كبيرة على أنه رسول ال‪ ،‬وأما الثاني‪ :‬فمن‬
‫عرف النبي صلى ال عليه وسلم معرفة تامة‪ ,‬وعرف سيرته وهديه قبل البعثة‪ ,‬ونشوءه على‬
‫أكمل الخصال‪ ,‬ثم من بعد ذلك‪,‬‬

‫قد ازدادت مكارمه وأخلقه العظيمة الباهرة للناظرين‪ ,‬فمن عرفها‪ ,‬وسبر أحواله‪ ,‬عرف أنها ل‬
‫تكون إل أخلق النبياء الكاملين‪ ,‬لن ال تعالى جعل الوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها‬
‫وصدقهم وكذبهم‪.‬‬
‫وأما الثالث‪ :‬فهو معرفة ما جاء به صلى ال عليه وسلم من الشرع العظيم‪ ,‬والقرآن الكريم‪,‬‬
‫المشتمل على الخبارات الصادقة‪ ,‬والوامر الحسنة‪ ,‬والنهي عن كل قبيح‪ ,‬والمعجزات الباهرة‪,‬‬
‫فجميع اليات تدخل في هذه الثلثة‪.‬‬

‫قوله‪َ { :‬بشِيرًا } أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والخروية‪َ { ،‬نذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة‬
‫والهلك الدنيوي والخروي‪.‬‬

‫جحِيمِ } أي‪ :‬لست مسئول عنهم‪ ,‬إنما عليك البلغ‪ ,‬وعلينا الحساب‪.‬‬
‫{ وَلَا ُتسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ الْ َ‬

‫{ ‪ { } 120‬وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَلَا ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ مِلّ َتهُمْ ُقلْ إِنّ ُهدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى‬
‫ن وَِليّ وَلَا َنصِيرٍ * }‬
‫وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ َأ ْهوَاءَهُمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ‬

‫يخبر تعالى رسوله‪ ,‬أنه ل يرضى منه اليهود ول النصارى‪ ,‬إل باتباعه دينهم‪ ,‬لنهم دعاة إلى‬
‫الدين الذي هم عليه‪ ,‬ويزعمون أنه الهدى‪ ،‬فقل لهم‪ { :‬إِنّ هُدَى اللّهِ } الذي أرسلت به { ُهوَ ا ْلهُدَى‬
‫}‬

‫وأما ما أنتم عليه‪ ,‬فهو الهوى بدليل قوله { وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَا َءهُمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ مَا َلكَ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ }‬
‫ن وَِل ّ‬
‫مِنَ اللّهِ مِ ْ‬

‫فهذا فيه النهي العظيم‪ ,‬عن اتباع أهواء اليهود والنصارى‪ ,‬والتشبه بهم فيما يختص به دينهم‪،‬‬
‫والخطاب وإن كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك‪ ،‬لن العتبار بعموم‬
‫المعنى ل بخصوص المخاطب‪ ،‬كما أن العبرة بعموم اللفظ‪ ,‬ل بخصوص السبب‪.‬‬

‫حقّ تِلَاوَتِهِ أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َومَنْ َي ْكفُرْ بِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ‬
‫ثم قال‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ يَتْلُونَهُ َ‬
‫الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ *‬
‫شفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ‬
‫ل وَلَا تَ ْن َف ُعهَا َ‬
‫وَاتّقُوا َي ْومًا لَا تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَلَا ُيقْبَلُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ‬
‫*}‬

‫حقّ تِلَاوَتِهِ } أي‪:‬‬


‫يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب‪ ,‬ومنّ عليهم به منة مطلقة‪ ,‬أنهم { يَتْلُونَهُ َ‬
‫يتبعونه حق اتباعه‪ ,‬والتلوة‪ :‬التباع‪ ،‬فيحلون حلله‪ ,‬ويحرمون حرامه‪ ,‬ويعملون بمحكمه‪,‬‬
‫ويؤمنون بمتشابهه‪ ،‬وهؤلء هم السعداء من أهل الكتاب‪ ,‬الذين عرفوا نعمة ال وشكروها‪,‬‬
‫وآمنوا بكل الرسل‪ ,‬ولم يفرقوا بين أحد منهم‪.‬‬

‫فهؤلء‪ ,‬هم المؤمنون حقا‪ ,‬ل من قال منهم‪ { :‬نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه }‬

‫ولهذا توعدهم بقوله { َومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وقد تقدم تفسير الية التي بعدها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 125 - 124‬وَإِذِ ابْ َتلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِنْ‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وََأمْنًا وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ * وَإِذْ َ‬
‫ذُرّيّتِي قَالَ لَا يَنَالُ َ‬
‫ن وَال ّركّعِ السّجُودِ }‬
‫ن وَا ْلعَاكِفِي َ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِي َ‬
‫سمَاعِيلَ أَنْ َ‬
‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫ُمصَلّى وَ َ‬

‫يخبر تعالى‪ ,‬عن عبده وخليله‪ ,‬إبراهيم عليه السلم‪ ,‬المتفق على إمامته وجللته‪ ,‬الذي كل من‬
‫طوائف أهل الكتاب تدعيه‪ ,‬بل وكذلك المشركون‪ :‬أن ال ابتله وامتحنه بكلمات‪ ,‬أي‪ :‬بأوامر‬
‫ونواهي‪ ,‬كما هي عادة ال في ابتلئه لعباده‪ ,‬ليتبين الكاذب الذي ل يثبت عند البتلء‪ ,‬والمتحان‬
‫من الصادق‪ ,‬الذي ترتفع درجته‪ ,‬ويزيد قدره‪ ,‬ويزكو عمله‪ ,‬ويخلص ذهبه‪ ،‬وكان من أجلّهم في‬
‫هذا المقام‪ ,‬الخليل عليه السلم‪.‬‬

‫فأتم ما ابتله ال به‪ ,‬وأكمله ووفاه‪ ,‬فشكر ال له ذلك‪ ,‬ولم يزل ال شكورا فقال‪ { :‬إِنّي جَاعُِلكَ‬
‫لِلنّاسِ ِإمَامًا } أي‪ :‬يقتدون بك في الهدى‪ ,‬ويمشون خلفك إلى سعادتهم البدية‪ ,‬ويحصل لك الثناء‬
‫الدائم‪ ,‬والجر الجزيل‪ ,‬والتعظيم من كل أحد‪.‬‬

‫وهذه ‪ -‬لعمر ال ‪ -‬أفضل درجة‪ ,‬تنافس فيها المتنافسون‪ ,‬وأعلى مقام‪ ,‬شمر إليه العاملون‪ ,‬وأكمل‬
‫حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم‪ ,‬من كل صديق متبع لهم‪ ,‬داع إلى ال وإلى سبيله‪.‬‬

‫فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام‪ ,‬وأدرك هذا‪ ,‬طلب ذلك لذريته‪ ,‬لتعلو درجته ودرجة ذريته‪ ،‬وهذا‬
‫أيضا من إمامته‪ ,‬ونصحه لعباد ال‪ ,‬ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون‪ ،‬فلله عظمة هذه الهمم‬
‫العالية‪ ,‬والمقامات السامية‪.‬‬

‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬ل‬


‫فأجابه الرحيم اللطيف‪ ,‬وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال‪ { :‬لَا يَنَالُ َ‬
‫ينال المامة في الدين‪ ,‬من ظلم نفسه وضرها‪ ,‬وحط قدرها‪ ,‬لمنافاة الظلم لهذا المقام‪ ,‬فإنه مقام آلته‬
‫الصبر واليقين‪ ،‬ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من اليمان والعمال الصالحة‪,‬‬
‫والخلق الجميلة‪ ,‬والشمائل السديدة‪ ,‬والمحبة التامة‪ ,‬والخشية والنابة‪ ،‬فأين الظلم وهذا المقام؟‬

‫ودل مفهوم الية‪ ,‬أن غير الظالم‪ ,‬سينال المامة‪ ,‬ولكن مع إتيانه بأسبابها‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى‪ ,‬نموذجا باقيا دال على إمامة إبراهيم‪ ,‬وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده‪ ,‬ركنا‬
‫من أركان السلم‪ ,‬حاطا للذنوب والثام‪.‬‬

‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً‬


‫وفيه من آثار الخليل وذريته‪ ,‬ما عرف به إمامته‪ ,‬وتذكرت به حالته فقال‪ { :‬وَإِذْ َ‬
‫لِلنّاسِ } أي‪ :‬مرجعا يثوبون إليه‪ ,‬لحصول منافعهم الدينية والدنيوية‪ ,‬يترددون إليه‪ ,‬ول يقضون‬
‫منه وطرا‪ { ،‬و } جعله { َأمْنًا } يأمن به كل أحد‪ ,‬حتى الوحش‪ ,‬وحتى الجمادات كالشجار‪.‬‬

‫ولهذا كانوا في الجاهلية ‪ -‬على شركهم ‪ -‬يحترمونه أشد الحترام‪ ,‬ويجد أحدهم قاتل أبيه في‬
‫الحرم‪ ,‬فل يهيجه‪ ،‬فلما جاء السلم‪ ,‬زاده حرمة وتعظيما‪ ,‬وتشريفا وتكريما‪.‬‬

‫{ وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك‪ ,‬المقام المعروف الذي قد جعل‬
‫الن‪ ,‬مقابل باب الكعبة‪ ،‬وأن المراد بهذا‪ ,‬ركعتا الطواف‪ ,‬يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم‪,‬‬
‫وعليه جمهور المفسرين‪ ،‬ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا‪ ,‬فيعم جميع مقامات إبراهيم في‬
‫الحج‪ ،‬وهي المشاعر كلها‪ :‬من الطواف‪ ,‬والسعي‪ ,‬والوقوف بعرفة‪ ,‬ومزدلفة ورمي الجمار‬
‫والنحر‪ ,‬وغير ذلك من أفعال الحج‪.‬‬

‫فيكون معنى قوله‪ُ { :‬مصَلّى } أي‪ :‬معبدا‪ ,‬أي‪ :‬اقتدوا به في شعائر الحج‪ ،‬ولعل هذا المعنى أولى‪,‬‬
‫لدخول المعنى الول فيه‪ ,‬واحتمال اللفظ له‪.‬‬

‫سمَاعِيلَ } أي‪ :‬أوحينا إليهما‪ ,‬وأمرناهما بتطهير بيت ال من الشرك‪,‬‬


‫عهِدْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫{ وَ َ‬
‫ن وَال ّركّعِ‬
‫والكفر والمعاصي‪ ,‬ومن الرجس والنجاسات والقذار‪ ,‬ليكون { لِلطّا ِئفِينَ } فيه { وَا ْلعَاكِفِي َ‬
‫السّجُودِ } أي‪ :‬المصلين‪ ،‬قدم الطواف‪ ,‬لختصاصه بالمسجد [الحرام]‪ ،‬ثم العتكاف‪ ,‬لن من‬
‫شرطه المسجد مطلقا‪ ،‬ثم الصلة‪ ,‬مع أنها أفضل‪ ,‬لهذا المعنى‪.‬‬

‫وأضاف الباري البيت إليه لفوائد‪ ،‬منها‪ :‬أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره‪,‬‬
‫لكونه بيت ال‪ ،‬فيبذلن جهدهما‪ ,‬ويستفرغان وسعهما في ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الضافة تقتضي التشريف والكرام‪ ،‬ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن هذه الضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه‪.‬‬

‫ج َعلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ َأهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْن ُهمْ بِاللّهِ‬
‫{ ‪ { } 126‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬
‫وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ قَالَ َومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلًا ثُمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫أي‪ :‬وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت‪ ,‬أن يجعله ال بلدا آمنا‪ ,‬ويرزق أهله من أنواع الثمرات‪ ،‬ثم قيد‬
‫عليه السلم هذا الدعاء للمؤمنين‪ ,‬تأدبا مع ال‪ ,‬إذ كان دعاؤه الول‪ ,‬فيه الطلق‪ ,‬فجاء الجواب‬
‫فيه مقيدا بغير الظالم‪.‬‬

‫فلما دعا لهم بالرزق‪ ,‬وقيده بالمؤمن‪ ,‬وكان رزق ال شامل للمؤمن والكافر‪ ,‬والعاصي والطائع‪,‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َكفَرَ } أي‪ :‬أرزقهم كلهم‪ ,‬مسلمهم وكافرهم‪ ،‬أما المسلم فيستعين بالرزق على‬
‫ضطَ ّرهُ } أي‪ :‬ألجئه‬
‫عبادة ال‪ ,‬ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة‪ ،‬وأما الكافر‪ ,‬فيتمتع فيها قليل { ثُمّ َأ ْ‬
‫وأخرجه مكرها { إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَبّلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ‬


‫ت وَإِ ْ‬
‫{ ‪ { } 129 - 127‬وَإِذْ يَ ْر َفعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ‬
‫سكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ‬
‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * رَبّنَا وَا ْ‬
‫ال ّ‬
‫ح ْكمَةَ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫ك وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ * رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِي ِهمْ رَسُولًا مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَا ِت َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫وَيُ َزكّيهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬

‫أي‪ :‬واذكر إبراهيم وإسماعيل‪ ,‬في حالة رفعهما القواعد من البيت الساس‪ ,‬واستمرارهما على هذا‬
‫العمل العظيم‪ ،‬وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء‪ ,‬حتى إنهما مع هذا العمل دعوا ال أن‬
‫يتقبل منهما عملهما‪ ,‬حتى يحصل فيه النفع العميم‪.‬‬

‫ودعوا لنفسهما‪ ,‬وذريتهما بالسلم‪ ,‬الذي حقيقته‪ ,‬خضوع القلب‪ ,‬وانقياده لربه المتضمن لنقياد‬
‫سكَنَا } أي‪ :‬علمناها على وجه الراءة والمشاهدة‪ ,‬ليكون أبلغ‪ .‬يحتمل أن‬
‫الجوارح‪ { .‬وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫يكون المراد بالمناسك‪ :‬أعمال الحج كلها‪ ,‬كما يدل عليه السياق والمقام‪ ،‬ويحتمل أن يكون المراد‬
‫ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله‪ ,‬والعبادات كلها‪ ,‬كما يدل عليه عموم اللفظ‪ ,‬لن النسك‪ :‬التعبد‪,‬‬
‫ولكن غلب على متعبدات الحج‪ ,‬تغليبا عرفيا‪ ،‬فيكون حاصل دعائهما‪ ,‬يرجع إلى التوفيق للعلم‬
‫النافع‪ ,‬والعمل الصالح‪ ،‬ولما كان العبد ‪ -‬مهما كان ‪ -‬ل بد أن يعتريه التقصير‪ ,‬ويحتاج إلى‬
‫التوبة قال‪ { :‬وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }‬

‫{ رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ } أي‪ :‬في ذريتنا { رَسُولًا مِ ْنهُمْ } ليكون أرفع لدرجتهما‪ ,‬ولينقادوا له‪ ,‬وليعرفوه‬
‫ح ْكمَةَ } معنى‪.‬‬
‫حقيقة المعرفة‪ { .‬يَتْلُو عَلَ ْي ِهمْ آيَا ِتكَ } لفظا‪ ,‬وحفظا‪ ,‬وتحفيظا { وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬

‫{ وَيُ َزكّيهِمْ } بالتربية على العمال الصالحة والتبري من العمال الردية‪ ,‬التي ل تزكي النفوس‬
‫حكِيمُ } الذي‬
‫معها‪ { .‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ } أي‪ :‬القاهر لكل شيء‪ ,‬الذي ل يمتنع على قوته شيء‪ { .‬ا ْل َ‬
‫يضع الشياء مواضعها‪ ،‬فبعزتك وحكمتك‪ ,‬ابعث فيهم هذا الرسول‪ .‬فاستجاب ال لهما‪ ,‬فبعث ال‬
‫هذا الرسول الكريم‪ ,‬الذي رحم ال به ذريتهما خاصة‪ ,‬وسائر الخلق عامة‪ ،‬ولهذا قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ " :‬أنا دعوة أبي إبراهيم "‬

‫ولما عظم ال إبراهيم هذا التعظيم‪ ,‬وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى‪:‬‬

‫طفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ‬


‫سفِهَ َنفْسَ ُه وََلقَدِ اصْ َ‬
‫غبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلّا مَنْ َ‬
‫{ ‪َ { } 134 - 130‬ومَنْ يَرْ َ‬
‫فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ * ِإذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َووَصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ‬
‫ش َهدَاءَ ِإذْ‬
‫طفَى َل ُكمُ الدّينَ فَلَا َتمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ * َأمْ كُنْتُمْ ُ‬
‫بَنِي ِه وَ َي ْعقُوبُ يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫ك وَإِلَهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِيمَ‬
‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َه َ‬
‫َ‬
‫ت وََلكُمْ مَا َكسَبْتُمْ‬
‫حدًا وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ * تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫سمَاعِيلَ وَِإسْحَاقَ إَِلهًا وَا ِ‬
‫وَإِ ْ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫وَلَا تُسْأَلُونَ َ‬

‫سفِهَ َنفْسَهُ } أي‪ :‬جهلها‬


‫أي‪ :‬ما يرغب { عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلّا مَنْ َ‬
‫وامتهنها‪ ,‬ورضي لها بالدون‪ ,‬وباعها بصفقة المغبون‪ ،‬كما أنه ل أرشد وأكمل‪ ,‬ممن رغب في ملة‬
‫طفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا } أي‪ :‬اخترناه‬
‫إبراهيم‪ ،‬ثم أخبر عن حالته في الدنيا والخرة فقال‪ { :‬وََلقَدِ اصْ َ‬
‫ووفقناه للعمال‪ ,‬التي صار بها من المصطفين الخيار‪.‬‬

‫{ وَإِنّهُ فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات‪.‬‬

‫{ ِإذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسِْلمْ قَالَ } امتثال لربه { َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } إخلصا وتوحيدا‪ ,‬ومحبة‪ ,‬وإنابة‬
‫فكان التوحيد ل نعته‪.‬‬

‫ثم ورثه في ذريته‪ ,‬ووصاهم به‪ ,‬وجعلها كلمة باقية في عقبه‪ ,‬وتوارثت فيهم‪ ,‬حتى وصلت‬
‫ليعقوب فوصى بها بنيه‪.‬‬

‫فأنتم ‪ -‬يا بني يعقوب ‪ -‬قد وصاكم أبوكم بالخصوص‪ ,‬فيجب عليكم كمال النقياد‪ ,‬واتباع خاتم‬
‫طفَى َلكُمُ الدّينَ } أي‪ :‬اختاره وتخيره لكم‪ ,‬رحمة بكم‪ ,‬وإحسانا‬
‫صَ‬‫النبياء قال‪ { :‬يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ ا ْ‬
‫إليكم‪ ,‬فقوموا به‪ ,‬واتصفوا بشرائعه‪ ,‬وانصبغوا بأخلقه‪ ,‬حتى تستمروا على ذلك فل يأتيكم الموت‬
‫إل وأنتم عليه‪ ,‬لن من عاش على شيء‪ ,‬مات عليه‪ ,‬ومن مات على شيء‪ ,‬بعث عليه‪.‬‬

‫ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم‪ ,‬ومن بعده يعقوب‪ ,‬قال تعالى منكرا عليهم‪ { :‬أَمْ‬
‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ } أي‪ :‬مقدماته وأسبابه‪ ،‬فقال لبنيه على وجه‬
‫ش َهدَاءَ } أي‪ :‬حضورا { إِذْ َ‬
‫كُنْتُمْ ُ‬
‫الختبار‪ ,‬ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به‪ { :‬مَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ َب ْعدِي } ؟ فأجابوه بما‬
‫سحَاقَ إَِلهًا وَاحِدًا } فل نشرك به‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫ك وَإِلَهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَِإ ْ‬
‫قرت به عينه فقالوا‪َ { :‬نعْ ُبدُ إَِل َه َ‬
‫شيئا‪ ,‬ول نعدل به أحدا‪ { ،‬وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ } فجمعوا بين التوحيد والعمل‪.‬‬

‫ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب‪ ,‬لنهم لم يوجدوا بعد‪ ،‬فإذا لم يحضروا‪ ,‬فقد أخبر ال عنه‬
‫أنه وصى بنيه بالحنيفية‪ ,‬ل باليهودية‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ } أي‪ :‬مضت { َلهَا مَا َكسَ َبتْ وََلكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي‪ :‬كل له عمله‪,‬‬
‫وكل سيجازى بما فعله‪ ,‬ل يؤخذ أحد بذنب أحد ول ينفع أحدا إل إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم‬
‫وادعاؤكم‪ ,‬أنكم على ملتهم‪ ,‬والرضا بمجرد القول‪ ,‬أمر فارغ ل حقيقة له‪ ،‬بل الواجب عليكم‪ ,‬أن‬
‫تنظروا حالتكم التي أنتم عليها‪ ,‬هل تصلح للنجاة أم ل؟‬

‫{ ‪َ { } 135‬وقَالُوا كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم‪ ,‬زاعمين أنهم هم المهتدون‬
‫وغيرهم ضال‪.‬‬

‫قل له مجيبا جوابا شافيا‪َ { :‬بلْ } نتبع { مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي‪ :‬مقبل على ال‪ ,‬معرضا عما‬
‫سواه‪ ,‬قائما بالتوحيد‪ ,‬تاركا للشرك والتنديد‪.‬‬

‫فهذا الذي في اتباعه الهداية‪ ,‬وفي العراض عن ملته الكفر والغواية‪.‬‬

‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫{ ‪ { } 136‬قُولُوا آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِ ْ‬
‫وَالْأَسْبَاطِ َومَا أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ وَنَحْنُ لَهُ‬
‫مُسِْلمُونَ }‬

‫هذه الية الكريمة‪ ,‬قد اشتملت على جميع ما يجب اليمان به‪.‬‬

‫واعلم أن اليمان الذي هو تصديق القلب التام‪ ,‬بهذه الصول‪ ,‬وإقراره المتضمن لعمال القلوب‬
‫والجوارح‪ ،‬وهو بهذا العتبار يدخل فيه السلم‪ ,‬وتدخل فيه العمال الصالحة كلها‪ ،‬فهي من‬
‫اليمان‪ ,‬وأثر من آثاره‪ ،‬فحيث أطلق اليمان‪ ,‬دخل فيه ما ذكر‪ ،‬وكذلك السلم‪ ,‬إذا أطلق دخل فيه‬
‫اليمان‪ ،‬فإذا قرن بينهما‪ ,‬كان اليمان اسما لما في القلب من القرار والتصديق‪ ،‬والسلم‪ ,‬اسما‬
‫للعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين اليمان والعمال الصالحة‪ ،‬فقوله تعالى‪ { :‬قُولُوا } أي‪:‬‬
‫بألسنتكم‪ ,‬متواطئة عليها قلوبكم‪ ،‬وهذا هو القول التام‪ ,‬المترتب عليه الثواب والجزاء‪ ،‬فكما أن‬
‫النطق باللسان‪ ,‬بدون اعتقاد القلب‪ ,‬نفاق وكفر‪ ،‬فالقول الخالي من العمل عمل القلب‪ ,‬عديم التأثير‪,‬‬
‫قليل الفائدة‪ ,‬وإن كان العبد يؤجر عليه‪ ,‬إذا كان خيرا ومعه أصل اليمان‪ ،‬لكن فرق بين القول‬
‫المجرد‪ ,‬والمقترن به عمل القلب‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬قُولُوا } إشارة إلى العلن بالعقيدة‪ ,‬والصدع بها‪ ,‬والدعوة لها‪ ,‬إذ هي أصل الدين‬
‫وأساسه‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬آمَنّا } ونحوه مما فيه صدور الفعل‪ ,‬منسوبا إلى جميع المة‪ ,‬إشارة إلى أنه يجب‬
‫على المة‪ ,‬العتصام بحبل ال جميعا‪ ,‬والحث على الئتلف حتى يكون داعيهم واحدا‪ ,‬وعملهم‬
‫متحدا‪ ,‬وفي ضمنه النهي عن الفتراق‪ ،‬وفيه‪ :‬أن المؤمنين كالجسد الواحد‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ } إلخ دللة على جواز إضافة النسان إلى نفسه اليمان‪ ,‬على وجه‬
‫التقييد‪ ,‬بل على وجوب ذلك‪ ،‬بخلف قوله‪" :‬أنا مؤمن" ونحوه‪ ,‬فإنه ل يقال إل مقرونا بالستثناء‬
‫بالمشيئة‪ ,‬لما فيه من تزكية النفس‪ ,‬والشهادة على نفسه باليمان‪.‬‬

‫فقوله‪ { :‬آمَنّا بِاللّهِ } أي‪ :‬بأنه موجود‪ ,‬واحد أحد‪ ,‬متصف بكل صفة كمال‪ ,‬منزه عن كل نقص‬
‫وعيب‪ ,‬مستحق لفراده بالعبادة كلها‪ ,‬وعدم الشراك به في شيء منها‪ ,‬بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫ح ْكمَةَ } فيدخل‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫{ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا } يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى‪ { :‬وَأَنْ َزلَ اللّهُ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَا َ‬
‫فيه اليمان بما تضمنه كتاب ال وسنة رسوله‪ ,‬من صفات الباري‪ ,‬وصفات رسله‪ ,‬واليوم الخر‪,‬‬
‫والغيوب الماضية والمستقبلة‪ ,‬واليمان بما تضمنه ذلك من الحكام الشرعية المرية‪ ,‬وأحكام‬
‫الجزاء وغير ذلك‪.‬‬

‫{ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } إلى آخر الية‪ ،‬فيه اليمان بجميع الكتب المنزلة على جميع النبياء‪،‬‬
‫واليمان بالنبياء عموما وخصوصا‪ ,‬ما نص عليه في الية‪ ,‬لشرفهم ولتيانهم بالشرائع الكبار‪.‬‬
‫فالواجب في اليمان بالنبياء والكتب‪ ,‬أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول‪ ،‬ثم ما عرف منهم‬
‫بالتفصيل‪ ,‬وجب اليمان به مفصل‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬بل نؤمن بهم كلهم‪ ،‬هذه خاصية المسلمين‪ ,‬التي انفردوا بها‬
‫عن كل من يدعي أنه على دين‪.‬‬

‫فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم ‪ -‬وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل‬
‫والكتب ‪ -‬فإنهم يكفرون بغيره‪ ،‬فيفرقون بين الرسل والكتب‪ ,‬بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون‬
‫به‪ ،‬وينقض تكذيبهم تصديقهم‪ ،‬فإن الرسول الذي زعموا‪ ,‬أنهم قد آمنوا به‪ ,‬قد صدق سائر الرسل‬
‫وخصوصا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا كذبوا محمدا‪ ,‬فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به‪,‬‬
‫فيكون كفرا برسولهم‪.‬‬

‫وفي قوله‪َ { :‬ومَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ } دللة على أن عطية الدين‪ ,‬هي العطية الحقيقية‬
‫المتصلة بالسعادة الدنيوية والخروية‪ .‬لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي النبياء من الملك والمال ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع‪.‬‬

‫وفيه أن النبياء مبلغون عن ال‪ ,‬ووسائط بين ال وبين خلقه في تبليغ دينه‪ ,‬ليس لهم من المر‬
‫شيء‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬مِنْ رَ ّبهِمْ } إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده‪ ,‬أن ينزل عليهم الكتب‪ ,‬ويرسل‬
‫إليهم الرسل‪ ,‬فل تقتضي ربوبيته‪ ,‬تركهم سدى ول همل‪.‬‬

‫وإذا كان ما أوتي النبيون‪ ,‬إنما هو من ربهم‪ ,‬ففيه الفرق بين النبياء وبين من يدعي النبوة‪ ,‬وأنه‬
‫يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه‪ ،‬فالرسل ل يدعون إل إلى لخير‪ ,‬ول ينهون إل‬
‫عن كل شر‪ ،‬وكل واحد منهم‪ ,‬يصدق الخر‪ ,‬ويشهد له بالحق‪ ,‬من غير تخالف ول تناقض لكونه‬
‫من عند ربهم { وََلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }‬

‫وهذا بخلف من ادعى النبوة‪ ,‬فل بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم‪ ,‬كما يعلم ذلك‬
‫من سبر أحوال الجميع‪ ,‬وعرف ما يدعون إليه‪.‬‬

‫فلما بيّن تعالى جميع ما يؤمن به‪ ,‬عموما وخصوصا‪ ,‬وكان القول ل يغني عن العمل قال‪ { :‬وَنَحْنُ‬
‫سِلمُونَ } أي‪ :‬خاضعون لعظمته‪ ,‬منقادون لعبادته‪ ,‬بباطننا وظاهرنا‪ ,‬مخلصون له العبادة بدليل‬
‫لَهُ مُ ْ‬
‫تقديم المعمول‪ ,‬وهو { لَهُ } على العامل وهو { مُسِْلمُونَ }‬

‫فقد اشتملت هذه الية الكريمة ‪ -‬على إيجازها واختصارها ‪ -‬على أنواع التوحيد الثلثة‪ :‬توحيد‬
‫الربوبية‪ ,‬وتوحيد اللوهية‪ ,‬وتوحيد السماء والصفات‪ ،‬واشتملت على اليمان بجميع الرسل‪,‬‬
‫وجميع الكتب‪ ،‬وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم‪ ،‬وعلى التصديق بالقلب واللسان‬
‫والجوارح والخلص ل في ذلك‪ ،‬وعلى الفرق بين الرسل الصادقين‪ ,‬ومن ادعى النبوة من‬
‫الكاذبين‪ ،‬وعلى تعليم الباري عباده‪ ,‬كيف يقولون‪ ,‬ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة‬
‫بسعادة الدنيا والخرة‪ ،‬فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء‪ ,‬وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‪.‬‬
‫شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّهُ‬
‫{ ‪ { } 137‬فَإِنْ آمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْتُمْ ِبهِ َفقَدِ اهْ َت َدوْا وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫وَ ُهوَ ال ّ‬

‫أي‪ :‬فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } ‪ -‬يا معشر المؤمنين ‪ -‬من جميع الرسل‪ ,‬وجميع‬
‫الكتب‪ ,‬الذين أول من دخل فيهم‪ ,‬وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى ال عليه وسلم والقرآن‪,‬‬
‫وأسلموا ل وحده‪ ,‬ولم يفرقوا بين أحد من رسل ال { َفقَدِ اهْتَ َدوْا } للصراط المستقيم‪ ,‬الموصل‬
‫لجنات النعيم‪ ،‬أي‪ :‬فل سبيل لهم إلى الهداية‪ ,‬إل بهذا اليمان‪ ،‬ل كما زعموا بقولهم‪ " :‬كونوا هودا‬
‫أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه‪ ،‬و " الهدى " هو العلم بالحق‪,‬‬
‫والعمل به‪ ,‬وضده الضلل عن العلم والضلل عن العمل بعد العلم‪ ,‬وهو الشقاق الذي كانوا عليه‪,‬‬
‫لما تولوا وأعرضوا‪ ،‬فالمشاق‪ :‬هو الذي يكون في شق وال ورسوله في شق‪ ،‬ويلزم من المشاقة‬
‫المحادة‪ ,‬والعداوة البليغة‪ ,‬التي من لوازمها‪ ,‬بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول‪ ،‬فلهذا وعد ال‬
‫رسوله‪ ,‬أن يكفيه إياهم‪ ,‬لنه السميع لجميع الصوات‪ ,‬باختلف اللغات‪ ,‬على تفنن الحاجات‪ ,‬العليم‬
‫بما بين أيديهم وما خلفهم‪ ,‬بالغيب والشهادة‪ ,‬بالظواهر والبواطن‪ ،‬فإذا كان كذلك‪ ,‬كفاك ال شرهم‪.‬‬

‫وقد أنجز ال لرسوله وعده‪ ,‬وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم‪ ,‬وسبى بعضهم‪ ,‬وأجلى بعضهم‪,‬‬
‫وشردهم كل مشرد‪.‬‬

‫ففيه معجزة من معجزات القرآن‪ ,‬وهو الخبار بالشيء قبل وقوعه‪ ,‬فوقع طبق ما أخبر‪.‬‬

‫{ ‪ { } 138‬صِ ْبغَةَ اللّ ِه َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَ ًة وَنَحْنُ َلهُ عَابِدُونَ }‬

‫أي‪ :‬الزموا صبغة ال‪ ,‬وهو دينه‪ ,‬وقوموا به قياما تاما‪ ,‬بجميع أعماله الظاهرة والباطنة‪ ,‬وجميع‬
‫عقائده في جميع الوقات‪ ,‬حتى يكون لكم صبغة‪ ,‬وصفة من صفاتكم‪ ،‬فإذا كان صفة من صفاتكم‪,‬‬
‫أوجب ذلك لكم النقياد لوامره‪ ,‬طوعا واختيارا ومحبة‪ ,‬وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ‬
‫التام للثوب الذي صار له صفة‪ ,‬فحصلت لكم السعادة الدنيوية والخروية‪ ,‬لحث الدين على مكارم‬
‫الخلق‪ ,‬ومحاسن العمال‪ ,‬ومعالي المور‪ ،‬فلهذا قال ‪ -‬على سبيل التعجب المتقرر للعقول‬
‫الزكية‪َ { :-‬ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَةً } أي‪ :‬ل أحسن صبغة من صبغته‬

‫وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة ال وبين غيرها من الصبغ‪ ,‬فقس الشيء‬
‫بضده‪ ،‬فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا‪ ,‬أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح‪ ،‬فلم‬
‫يزل يتحلى بكل وصف حسن‪ ,‬وفعل جميل‪ ,‬وخلق كامل‪ ,‬ونعت جليل‪ ،‬ويتخلى من كل وصف‬
‫قبيح‪ ,‬ورذيلة وعيب‪ ،‬فوصفه‪ :‬الصدق في قوله وفعله‪ ,‬والصبر والحلم‪ ,‬والعفة‪ ,‬والشجاعة‪,‬‬
‫والحسان القولي والفعلي‪ ,‬ومحبة ال وخشيته‪ ,‬وخوفه‪ ,‬ورجاؤه‪ ،‬فحاله الخلص للمعبود‪,‬‬
‫والحسان لعبيده‪ ،‬فقسه بعبد كفر بربه‪ ,‬وشرد عنه‪ ,‬وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف‬
‫بالصفات القبيحة‪ ,‬من الكفر‪ ,‬والشرك والكذب‪ ,‬والخيانة‪ ,‬والمكر‪ ,‬والخداع‪ ,‬وعدم العفة‪ ,‬والساءة‬
‫إلى الخلق‪ ,‬في أقواله‪ ,‬وأفعاله‪ ،‬فل إخلص للمعبود‪ ,‬ول إحسان إلى عبيده‪.‬‬

‫فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما‪ ,‬ويتبين لك أنه ل أحسن صبغة من صبغة ال‪ ,‬وفي ضمنه أنه‬
‫ل أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬وَنَحْنُ َلهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة‪ ,‬وهي القيام بهذين الصلين‪ :‬الخلص‬
‫والمتابعة‪ ,‬لن " العبادة " اسم جامع لكل ما يحبه ال ويرضاه من العمال‪ ,‬والقوال الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬ول تكون كذلك‪ ,‬حتى يشرعها ال على لسان رسوله‪ ،‬والخلص‪ :‬أن يقصد العبد وجه‬
‫ال وحده‪ ,‬في تلك العمال‪ ،‬فتقديم المعمول‪ ,‬يؤذن بالحصر‪.‬‬

‫وقال‪ { :‬وَنَحْنُ َلهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والستقرار‪ ,‬ليدل على‬
‫اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملزما‪.‬‬

‫عمَاُلكُ ْم وَنَحْنُ لَهُ‬


‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 139‬قلْ أَ ُتحَاجّونَنَا فِي اللّهِ وَ ُهوَ رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ وَلَنَا أَ ْ‬
‫مُخِْلصُونَ }‬

‫المحاجة هي‪ :‬المجادلة بين اثنين فأكثر‪ ,‬تتعلق بالمسائل الخلفية‪ ,‬حتى يكون كل من الخصمين‬
‫يريد نصرة قوله‪ ,‬وإبطال قول خصمه‪ ،‬فكل واحد منهما‪ ,‬يجتهد في إقامة الحجة على ذلك‪،‬‬
‫والمطلوب منها‪ ,‬أن تكون بالتي هي أحسن‪ ,‬بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق‪ ,‬ويقيم الحجة على‬
‫المعاند‪ ,‬ويوضح الحق‪ ,‬ويبين الباطل‪ ،‬فإن خرجت عن هذه المور‪ ,‬كانت مماراة‪ ,‬ومخاصمة ل‬
‫خير فيها‪,‬‬

‫وأحدثت من الشر ما أحدثت‪ ،‬فكان أهل الكتاب‪ ,‬يزعمون أنهم أولى بال من المسلمين‪ ,‬وهذا مجرد‬
‫دعوى‪ ,‬تفتقر إلى برهان ودليل‪ .‬فإذا كان رب الجميع واحدا‪ ,‬ليس ربا لكم دوننا‪ ,‬وكل منا ومنكم‬
‫له عمله‪ ,‬فاستوينا نحن وإياكم بذلك‪ .‬فهذا ل يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بال من غيره؛‬
‫لن التفريق مع الشتراك في الشيء‪ ,‬من غير فرق مؤثر‪ ,‬دعوى باطلة‪ ,‬وتفريق بين متماثلين‪,‬‬
‫ومكابرة ظاهرة‪ .‬وإنما يحصل التفضيل‪ ,‬بإخلص العمال الصالحة ل وحده‪ ،‬وهذه الحالة‪,‬‬
‫وصف المؤمنين وحدهم‪ ,‬فتعين أنهم أولى بال من غيرهم؛ لن الخلص‪ ,‬هو الطريق إلى‬
‫الخلص‪ ،‬فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪ ,‬بالوصاف الحقيقية التي يسلمها‬
‫أهل العقول‪ ,‬ول ينازع فيها إل كل مكابر جهول‪ ،‬ففي هذه الية‪ ,‬إرشاد لطيف لطريق المحاجة‪,‬‬
‫وأن المور مبنية على الجمع بين المتماثلين‪ ,‬والفرق بين المختلفين‪.‬‬

‫ب وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى‬


‫سحَاقَ وَ َيعْقُو َ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫{ ‪ { } 140‬أَمْ َتقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِيمَ وَإِ ْ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }‬
‫شهَا َدةً عِ ْن َدهُ مِنَ اللّ ِه َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫ُقلْ أَأَنْتُمْ أَعَْلمُ أَمِ اللّ ُه َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬

‫وهذه دعوى أخرى منهم‪ ,‬ومحاجة في رسل ال‪ ,‬زعموا أنهم أولى بهؤلء الرسل المذكورين من‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫فرد ال عليهم بقوله‪ { :‬أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ َأمِ اللّهُ } فال يقول‪ { :‬مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَلَا َنصْرَانِيّا وََلكِنْ‬
‫كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } وهم يقولون‪ :‬بل كان يهوديا أو نصرانيا‪.‬‬

‫فإما أن يكونوا‪ ,‬هم الصادقين العالمين‪ ,‬أو يكون ال تعالى هو الصادق العالم بذلك‪ ,‬فأحد المرين‬
‫متعين ل محالة‪ ،‬وصورة الجواب مبهم‪ ,‬وهو في غاية الوضوح والبيان‪ ،‬حتى إنه ‪ -‬من وضوحه‬
‫‪ -‬لم يحتج أن يقول بل ال أعلم وهو أصدق‪ ,‬ونحو ذلك‪ ,‬لنجلئه لكل أحد‪ ،‬كما إذا قيل‪ :‬الليل‬
‫أنور‪ ,‬أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك‪.‬‬

‫وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك‪ ,‬ويعرفون أن إبراهيم وغيره من‬
‫النبياء‪ ,‬لم يكونوا هودا ول نصارى‪ ,‬فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة‪ ,‬فلهذا كان ظلمهم أعظم‬
‫شهَا َدةً عِ ْن َدهُ مِنَ اللّهِ } فهي شهادة عندهم‪ ,‬مودعة‬
‫الظلم‪ .‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬
‫من ال‪ ,‬ل من الخلق‪ ,‬فيقتضي الهتمام بإقامتها‪ ,‬فكتموها‪ ,‬وأظهروا ضدها‪ ،‬جمعوا بين كتم الحق‪,‬‬
‫وعدم النطق به‪ ,‬وإظهار الباطل‪ ,‬والدعوة إليه‪ ،‬أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى وال‪ ,‬وسيعاقبهم عليه‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ } بل قد أحصى أعمالهم‪ ,‬وعدها وادخر لهم‬
‫أشد العقوبة‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫جزاءها‪ ,‬فبئس الجزاء جزاؤهم‪ ,‬وبئست النار‪ ,‬مثوى للظالمين‪ ،‬وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم‬
‫والقدرة‪ ,‬عقب اليات المتضمنة للعمال التي يجازى عليها‪.‬‬

‫فيفيد ذلك الوعد والوعيد‪ ,‬والترغيب والترهيب‪ ،‬ويفيد أيضا ذكر السماء الحسنى بعد الحكام‪ ,‬أن‬
‫المر الديني والجزائي‪ ,‬أثر من آثارها‪ ,‬وموجب من موجباتها‪ ,‬وهي مقتضية له‪.‬‬
‫عمّا كَانُوا‬
‫خَلتْ َلهَا مَا َكسَ َبتْ وََلكُمْ مَا كَسَبْتُ ْم وَلَا ُتسْأَلُونَ َ‬
‫{ ‪ } 141‬ثم قال تعالى‪ { :‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ َ‬
‫َي ْعمَلُونَ }‬

‫تقدم تفسيرها‪ ,‬وكررها‪ ,‬لقطع التعلق بالمخلوقين‪ ,‬وأن المعول عليه ما اتصف به النسان‪ ,‬ل عمل‬
‫أسلفه وآبائه‪ ،‬فالنفع الحقيقي بالعمال‪ ,‬ل بالنتساب المجرد للرجال‪.‬‬

‫س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلّا ُهمْ عَنْ قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا ُقلْ لِلّهِ‬
‫{ ‪ { } 143 - 142‬سَ َيقُولُ ال ّ‬
‫شهَدَاءَ‬
‫سطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * َوكَذَِلكَ َ‬
‫ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِلّا لِ َنعَْلمَ مَنْ يَتّبِعُ‬
‫شهِيدًا َومَا َ‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْي ُكمْ َ‬
‫عَلَى النّا ِ‬
‫عقِبَيْ ِه وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً ِإلّا عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّ ُه َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ‬
‫الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَلِبُ عَلَى َ‬
‫إِيمَا َنكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ َرحِيمٌ }‬

‫قد اشتملت الية الولى على معجزة‪ ,‬وتسلية‪ ,‬وتطمين قلوب المؤمنين‪ ,‬واعتراض وجوابه‪ ,‬من‬
‫ثلثة أوجه‪ ,‬وصفة المعترض‪ ,‬وصفة المسلم لحكم ال دينه‪.‬‬

‫فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس‪ ,‬وهم الذين ل يعرفون مصالح أنفسهم‪ ,‬بل يضيعونها‬
‫ويبيعونها بأبخس ثمن‪ ,‬وهم اليهود والنصارى‪ ,‬ومن أشبههم من المعترضين على أحكام ال‬
‫وشرائعه‪ ،‬وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس‪ ,‬مدة مقامهم بمكة‪ ،‬ثم بعد‬
‫الهجرة إلى المدينة‪ ,‬نحو سنة ونصف ‪ -‬لما ل تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها‪,‬‬
‫وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة‪ ،‬فأخبرهم أنه ل بد أن يقول السفهاء من الناس‪ { :‬مَا‬
‫وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَ ِت ِهمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا } وهي استقبال بيت المقدس‪ ،‬أي‪ :‬أيّ شيء صرفهم عنه؟ وفي‬
‫ذلك العتراض على حكم ال وشرعه‪ ,‬وفضله وإحسانه‪ ،‬فسلهم‪ ,‬وأخبر بوقوعه‪ ,‬وأنه إنما يقع‬
‫ممن اتصف بالسفه‪ ,‬قليل العقل‪ ,‬والحلم‪ ,‬والديانة‪ ،‬فل تبالوا بهم‪ ,‬إذ قد علم مصدر هذا الكلم‪،‬‬
‫فالعاقل ل يبالي باعتراض السفيه‪ ,‬ول يلقي له ذهنه‪ .‬ودلت الية على أنه ل يعترض على أحكام‬
‫ال‪ ,‬إل سفيه جاهل معاند‪ ،‬وأما الرشيد المؤمن العاقل‪ ,‬فيتلقى أحكام ربه بالقبول‪ ,‬والنقياد‪,‬‬
‫والتسليم كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ وَلَا ُم ْؤمِنَةٍ ِإذَا َقضَى اللّ ُه وَرَسُولُهُ َأمْرًا أَنْ َيكُونَ َلهُمُ‬
‫شجَرَ بَيْ َنهُمْ } الية‪ { ،‬إِ ّنمَا كَانَ َق ْولَ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬
‫الْخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِهِمْ } { فَلَا وَرَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ حَتّى يُ َ‬
‫طعْنَا } وقد كان في قوله‬
‫س ِمعْنَا وََأ َ‬
‫حكُمَ بَيْ َن ُهمْ أَنْ َيقُولُوا َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ‬
‫{ السفهاء } ما يغني عن رد قولهم‪ ,‬وعدم المبالة به‪.‬‬
‫ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة‪ ,‬حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ ِإلَى صِرَاطٍ‬
‫العتراض‪ ,‬فقال تعالى‪ُ { :‬قلْ } لهم مجيبا‪ { :‬لِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫مُسْ َتقِيمٍ } أي‪ :‬فإذا كان المشرق والمغرب ملكا ل‪ ,‬ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه‪ ,‬ومع‬
‫هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‪ ,‬ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم‬
‫إبراهيم‪ ،‬فلي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك ال‪ ,‬لم تستقبلوا جهة ليست‬
‫ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لمره‪ ,‬بمجرد ذلك‪ ،‬فكيف وهو من فضل ال عليكم‪ ,‬وهدايته‬
‫وإحسانه‪ ,‬أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم‪ ,‬معترض على فضل ال‪ ,‬حسدا لكم وبغيا‪.‬‬

‫ولما كان قوله‪َ { :‬ي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } والمطلق يحمل على المقيد‪ ,‬فإن الهداية‬
‫والضلل‪ ,‬لهما أسباب أوجبتها حكمة ال وعدله‪ ,‬وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب‬
‫ضوَانَهُ‬
‫الهداية‪ ,‬التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى‪َ { :‬يهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّ َبعَ ِر ْ‬
‫سُ ُبلَ السّلَامِ } ذكر في هذه الية السبب الموجب لهداية هذه المة مطلقا بجميع أنواع الهداية‪ ,‬ومنة‬
‫ال عليها فقال‪:‬‬

‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا } أي‪ :‬عدل خيارا‪ ،‬وما عدا الوسط‪ ,‬فأطراف داخلة تحت الخطر‪،‬‬
‫{ َوكَذَِلكَ َ‬
‫فجعل ال هذه المة‪ ,‬وسطا في كل أمور الدين‪ ،‬وسطا في النبياء‪ ,‬بين من غل فيهم‪ ,‬كالنصارى‪,‬‬
‫وبين من جفاهم‪ ,‬كاليهود‪ ,‬بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللئق بذلك‪ ،‬ووسطا في الشريعة‪ ,‬ل‬
‫تشديدات اليهود وآصارهم‪ ,‬ول تهاون النصارى‪.‬‬

‫وفي باب الطهارة والمطاعم‪ ,‬ل كاليهود الذين ل تصح لهم صلة إل في بيعهم وكنائسهم‪ ,‬ول‬
‫يطهرهم الماء من النجاسات‪ ,‬وقد حرمت عليهم الطيبات‪ ,‬عقوبة لهم‪ ،‬ول كالنصارى الذين ل‬
‫ينجسون شيئا‪ ,‬ول يحرمون شيئا‪ ,‬بل أباحوا ما دب ودرج‪.‬‬

‫بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها‪ ،‬وأباح ال لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملبس‬
‫والمناكح‪ ,‬وحرم عليهم الخبائث من ذلك‪ ،‬فلهذه المة من الدين أكمله‪ ,‬ومن الخلق أجلها‪ ,‬ومن‬
‫العمال أفضلها‪.‬‬

‫ووهبهم ال من العلم والحلم‪ ,‬والعدل والحسان‪ ,‬ما لم يهبه لمة سواهم‪ ،‬فلذلك كانوا { ُأمّةً‬
‫علَى النّاسِ } بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط‪ ,‬يحكمون على‬
‫شهَدَاءَ َ‬
‫وَسَطًا } [كاملين] ليكونوا { ُ‬
‫الناس من سائر أهل الديان‪ ,‬ول يحكم عليهم غيرهم‪ ،‬فما شهدت له هذه المة بالقبول‪ ,‬فهو‬
‫مقبول‪ ,‬وما شهدت له بالرد‪ ,‬فهو مردود‪ .‬فإن قيل‪ :‬كيف يقبل حكمهم على غيرهم‪ ,‬والحال أن كل‬
‫مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل‪ :‬إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين‪ ,‬لوجود‬
‫التهمة فأما إذا انتفت التهمة‪ ,‬وحصلت العدالة التامة‪ ,‬كما في هذه المة‪ ,‬فإنما المقصود‪ ,‬الحكم‬
‫بالعدل والحق‪ ،‬وشرط ذلك‪ ,‬العلم والعدل‪ ,‬وهما موجودان في هذه المة‪ ,‬فقبل قولها‪.‬‬

‫فإن شك شاك في فضلها‪ ,‬وطلب مزكيا لها‪ ,‬فهو أكمل الخلق‪ ,‬نبيهم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلهذا‬
‫شهِيدًا }‬
‫قال تعالى‪ { :‬وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬

‫ومن شهادة هذه المة على غيرهم‪ ,‬أنه إذا كان يوم القيامة‪ ,‬وسأل ال المرسلين عن تبليغهم‪,‬‬
‫والمم المكذبة عن ذلك‪ ,‬وأنكروا أن النبياء بلغتهم‪ ،‬استشهدت النبياء بهذه المة‪ ,‬وزكاها نبيها‪.‬‬

‫وفي الية دليل على أن إجماع هذه المة‪ ,‬حجة قاطعة‪ ,‬وأنهم معصومون عن الخطأ‪ ,‬لطلق‬
‫سطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ‪ ,‬لم يكونوا وسطا‪ ,‬إل في بعض المور‪ ,‬ولقوله‪:‬‬
‫قوله‪ { :‬وَ َ‬
‫{ ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن ال أحله أو حرمه أو أوجبه‪،‬‬
‫فإنها معصومة في ذلك‪ .‬وفيها اشتراط العدالة في الحكم‪ ,‬والشهادة‪ ,‬والفتيا‪ ,‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا } وهي استقبال بيت المقدس أول { إِلّا لِ َنعَْلمَ } أي‪:‬‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬
‫علما يتعلق به الثواب والعقاب‪ ,‬وإل فهو تعالى عالم بكل المور قبل وجودها‪.‬‬

‫ولكن هذا العلم‪ ,‬ل يعلق عليه ثوابا ول عقابا‪ ,‬لتمام عدله‪ ,‬وإقامة الحجة على عباده‪ ،‬بل إذا وجدت‬
‫أعمالهم‪ ,‬ترتب عليها الثواب والعقاب‪ ،‬أي‪ :‬شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَنْ يَتّ ِبعُ الرّسُولَ }‬
‫ويؤمن به‪ ,‬فيتبعه على كل حال‪ ,‬لنه عبد مأمور مدبر‪ ،‬ولنه قد أخبرت الكتب المتقدمة‪ ,‬أنه‬
‫يستقبل الكعبة‪ ،‬فالمنصف الذي مقصوده الحق‪ ,‬مما يزيده ذلك إيمانا‪ ,‬وطاعة للرسول‪.‬‬

‫وأما من انقلب على عقبيه‪ ,‬وأعرض عن الحق‪ ,‬واتبع هواه‪ ,‬فإنه يزداد كفرا إلى كفره‪ ,‬وحيرة إلى‬
‫حيرته‪ ,‬ويدلي بالحجة الباطلة‪ ,‬المبنية على شبهة ل حقيقة لها‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كَا َنتْ } أي‪ :‬صرفك عنها { َلكَبِي َرةٌ } أي‪ :‬شاقة { إِلّا عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ } فعرفوا بذلك‬
‫نعمة ال عليهم‪ ,‬وشكروا‪ ,‬وأقروا له بالحسان‪ ,‬حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم‪ ,‬الذي فضله‬
‫على سائر بقاع الرض‪ ،‬وجعل قصده‪ ,‬ركنا من أركان السلم‪ ,‬وهادما للذنوب والثام‪ ,‬فلهذا‬
‫خف عليهم ذلك‪ ,‬وشق على من سواهم‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي‪ :‬ما ينبغي له ول يليق به تعالى‪ ,‬بل هي من‬
‫الممتنعات عليه‪ ،‬فأخبر أنه ممتنع عليه‪ ,‬ومستحيل‪ ,‬أن يضيع إيمانكم‪ ،‬وفي هذا بشارة عظيمة لمن‬
‫مَنّ ال عليهم بالسلم واليمان‪ ,‬بأن ال سيحفظ عليهم إيمانهم‪ ,‬فل يضيعه‪ ,‬وحفظه نوعان‪:‬‬
‫حفظ عن الضياع والبطلن‪ ,‬بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة‪,‬‬
‫والهواء الصادة‪ ،‬وحفظ له بتنميته لهم‪ ,‬وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم‪ ,‬ويتم به إيقانهم‪ ،‬فكما‬
‫ابتدأكم‪ ,‬بأن هداكم لليمان‪ ,‬فسيحفظه لكم‪ ,‬ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره‪ ,‬وثوابه‪ ,‬وحفظه من كل‬
‫مكدر‪ ،‬بل إذا وجدت المحن المقصود منها‪ ,‬تبيين المؤمن الصادق من الكاذب‪ ،‬فإنها تمحص‬
‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي‬
‫المؤمنين‪ ,‬وتظهر صدقهم‪ ،‬وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله‪َ { :‬ومَا َ‬
‫عقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين‬
‫كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِلّا لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّ ِبعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَلِبُ عَلَى َ‬
‫إيمانهم‪ ,‬فدفع هذا الوهم بقوله‪َ { :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها‪.‬‬

‫ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة‪ ,‬فإن ال ل يضيع إيمانهم‪ ,‬لكونهم امتثلوا‬
‫أمر ال وطاعة رسوله في وقتها‪ ،‬وطاعة ال‪ ,‬امتثال أمره في كل وقت‪ ,‬بحسب ذلك‪ ،‬وفي هذه‬
‫الية‪ ,‬دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ,‬أن اليمان تدخل فيه أعمال الجوارح‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ } أي‪ :‬شديد الرحمة بهم عظيمها‪ ،‬فمن رأفته ورحمته بهم‪,‬‬
‫أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها‪ ،‬وأن ميّزَ عنهم من دخل في اليمان بلسانه دون قلبه‪ ،‬وأن‬
‫امتحنهم امتحانا‪ ,‬زاد به إيمانهم‪ ,‬وارتفعت به درجتهم‪ ،‬وأن وجههم إلى أشرف البيوت‪ ,‬وأجلها‪.‬‬

‫سجِدِ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا َف َو ّ‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 144‬قَدْ نَرَى َتقَّلبَ َو ْ‬
‫شطْ َرهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ِه ْم َومَا‬
‫الْحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َه ُكمْ َ‬
‫عمّا َي ْعمَلُونَ }‬
‫اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬

‫سمَاءِ } أي‪ :‬كثرة تردده في جميع جهاته‪ ,‬شوقا‬


‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫ب وَ ْ‬
‫يقول ال لنبيه‪ { :‬قَدْ نَرَى َتقَّل َ‬
‫ج ِهكَ } ولم يقل‪ " :‬بصرك " لزيادة اهتمامه‪,‬‬
‫وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة‪ ،‬وقال‪ { :‬وَ ْ‬
‫ولن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر‪.‬‬

‫{ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ } أي‪ :‬نوجهك لوليتنا إياك‪ { ،‬قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا } أي‪ :‬تحبها‪ ,‬وهي الكعبة‪ ،‬وفي هذا بيان‬
‫لفضله وشرفه صلى ال عليه وسلم‪ ,‬حيث إن ال تعالى يسارع في رضاه‪ ,‬ثم صرح له باستقبالها‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ } والوجه‪ :‬ما أقبل من بدن النسان‪ { ،‬وَحَيْ ُثمَا كُنْ ُتمْ }‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫فقال‪َ { :‬ف َو ّ‬
‫شطْ َرهُ } أي‪ :‬جهته‪.‬‬
‫أي‪ :‬من بر وبحر‪ ,‬وشرق وغرب‪ ,‬جنوب وشمال‪َ { .‬فوَلّوا ُوجُو َهكُمْ َ‬

‫ففيها اشتراط استقبال الكعبة‪ ,‬للصلوات كلها‪ ,‬فرضها‪ ,‬ونفلها‪ ,‬وأنه إن أمكن استقبال عينها‪ ,‬وإل‬
‫فيكفي شطرها وجهتها‪ ،‬وأن اللتفات بالبدن‪ ,‬مبطل للصلة‪ ,‬لن المر بالشيء نهي عن ضده‪،‬‬
‫ولما ذكر تعالى فيما تقدم‪ ,‬المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬وذكر جوابهم‪ ,‬ذكر‬
‫هنا‪ ,‬أن أهل الكتاب والعلم منهم‪ ,‬يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر‪ ،‬لما يجدونه في كتبهم‪,‬‬
‫فيعترضون عنادا وبغيا‪ ،‬فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فل تبالوا بذلك‪ ،‬فإن النسان إنما يغمه‬
‫اعتراض من اعترض عليه‪ ,‬إذا كان المر مشتبها‪ ,‬وكان ممكنا أن يكون معه صواب‪.‬‬

‫فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه‪ ,‬وأن المعترض معاند‪ ,‬عارف ببطلن قوله‪,‬‬
‫فإنه ل محل للمبالة‪ ,‬بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والخروية‪ ,‬فلهذا قال تعالى‪َ { :‬ومَا اللّهُ‬
‫عمّا َي ْعمَلُونَ } بل يحفظ عليهم أعمالهم‪ ,‬ويجازيهم عليها‪ ،‬وفيها وعيد للمعترضين‪ ,‬وتسلية‬
‫ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫للمؤمنين‪.‬‬

‫ك َومَا أَ ْنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَ َتهُ ْم َومَا‬


‫{ ‪ { } 145‬وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ‬
‫ضهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ َب ْعضٍ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَا َءهُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِ ّنكَ ِإذًا َلمِنَ الظّاِلمِينَ }‬
‫َب ْع ُ‬

‫كان النبي صلى ال عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل لهم غاية ما يقدر عليه‬
‫من النصيحة‪ ,‬ويتلطف بهدايتهم‪ ,‬ويحزن إذا لم ينقادوا لمر ال‪ ،‬فكان من الكفار‪ ,‬من تمرد عن‬
‫أمر ال‪ ,‬واستكبر على رسل ال‪ ,‬وترك الهدى‪ ,‬عمدا وعدوانا‪ ،‬فمنهم‪ :‬اليهود والنصارى‪ ,‬أهل‬
‫الكتاب الول‪ ,‬الذين كفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم عن يقين‪ ,‬ل عن جهل‪ ،‬فلهذا أخبره ال‬
‫تعالى أنك لو { أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آيَةٍ } أي‪ :‬بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما‬
‫تدعو إليه‪ { ،‬مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َتكَ } أي‪ :‬ما تبعوك‪ ,‬لن اتباع القبلة‪ ,‬دليل على اتباعه‪ ،‬ولن السبب هو‬
‫شأن القبلة‪ ،‬وإنما كان المر كذلك‪ ,‬لنهم معاندون‪ ,‬عرفوا الحق وتركوه‪ ،‬فاليات إنما تفيد وينتفع‬
‫بها من يتطلب الحق‪ ,‬وهو مشتبه عليه‪ ,‬فتوضح له اليات البينات‪ ،‬وأما من جزم بعدم اتباع الحق‪,‬‬
‫فل حيلة فيه‪.‬‬

‫وأيضا فإن اختلفهم فيما بينهم‪ ,‬حاصل‪ ,‬وبعضهم‪ ,‬غير تابع قبلة بعض‪ ،‬فليس بغريب منهم مع‬
‫ذلك أن ل يتبعوا قبلتك يا محمد‪ ,‬وهم العداء حقيقة الحسدة‪ ،‬وقوله‪َ { :‬ومَا أَ ْنتَ بِتَا ِبعٍ قِبْلَ َتهُمْ } أبلغ‬
‫من قوله‪ " :‬وَلَا تَتّبِعْ " لن ذلك يتضمن أنه صلى ال عليه وسلم اتصف بمخالفتهم‪ ,‬فل يمكن وقوع‬
‫ذلك منه‪ ،‬ولم يقل‪ " :‬ولو أتوا بكل آية " لنهم ل دليل لهم على قولهم‪.‬‬

‫وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية‪ ,‬لم يلزم التيان بأجوبة الشبه الواردة عليه‪ ,‬لنها ل حد لها‪,‬‬
‫ولنه يعلم بطلنها‪ ,‬للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح‪ ,‬فهو باطل‪ ,‬فيكون حل الشبه من باب‬
‫التبرع‪.‬‬
‫{ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَا َءهُمْ } إنما قال‪ " :‬أهواءهم " ولم يقل " دينهم " لن ما هم عليه مجرد أهوية‬
‫نفس‪ ,‬حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين‪ ،‬ومن ترك الدين‪ ,‬اتبع الهوى ول محالة‪ ،‬قال‬
‫خذَ إَِلهَهُ َهوَاهُ }‬
‫تعالى‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ مَنِ اتّ َ‬

‫{ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ } بأنك على الحق‪ ,‬وهم على الباطل‪ { ،‬إِ ّنكَ إِذًا } أي‪ :‬إن اتبعتهم‪,‬‬
‫فهذا احتراز‪ ,‬لئل تنفصل هذه الجملة عما قبلها‪ ,‬ولو في الفهام‪َ { ،‬لمِنَ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬داخل فيهم‪,‬‬
‫ومندرج في جملتهم‪ ،‬وأي ظلم أعظم‪ ,‬من ظلم‪ ,‬من علم الحق والباطل‪ ,‬فآثر الباطل على الحق‪،‬‬
‫وهذا‪ ,‬وإن كان الخطاب له صلى ال عليه وسلم‪ ,‬فإن أمته داخلة في ذلك‪ ،‬وأيضا‪ ,‬فإذا كان هو‬
‫صلى ال عليه وسلم لو فعل ذلك ‪-‬وحاشاه‪ -‬صار ظالما مع علو مرتبته‪ ,‬وكثرة حسناته فغيره‬
‫من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫{ ‪ } 147 - 146‬ثم قال تعالى‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُه ْم وَإِنّ فَرِيقًا‬
‫ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ * ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ }‬
‫حّ‬‫مِ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم‪ ,‬وعرفوا أن محمدا رسول ال‪ ,‬وأن ما جاء به‪ ,‬حق‬
‫وصدق‪ ,‬وتقينوا ذلك‪ ,‬كما تيقنوا أبناءهم بحيث ل يشتبهون عليهم بغيرهم‪ ،‬فمعرفتهم بمحمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ,‬وصلت إلى حد ل يشكون فيه ول يمترون‪ ،‬ولكن فريقا منهم ‪ -‬وهم أكثرهم ‪-‬‬
‫شهَا َدةً عِ ْن َدهُ مِنَ‬
‫الذين كفروا به‪ ,‬كتموا هذه الشهادة مع تيقنها‪ ,‬وهم يعلمون { َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬
‫اللّهِ } وفي ضمن ذلك‪ ,‬تسلية للرسول والمؤمنين‪ ,‬وتحذير له من شرهم وشبههم‪ ،‬وفريق منهم لم‬
‫يكتموا الحق وهم يعلمون‪ ،‬فمنهم من آمن [به] ومنهم من كفر [به] جهل‪ ،‬فالعالم عليه إظهار‬
‫الحق‪ ,‬وتبيينه وتزيينه‪ ,‬بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال‪ ,‬وغير ذلك‪ ,‬وإبطال الباطل‬
‫وتمييزه عن الحق‪ ,‬وتشيينه‪ ,‬وتقبيحه للنفوس‪ ,‬بكل طريق مؤد لذلك‪ ،‬فهولء الكاتمون‪ ,‬عكسوا‬
‫المر‪ ,‬فانعكست أحوالهم‪.‬‬

‫{ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ } أي‪ :‬هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء‪ ,‬لما اشتمل عليه من‬
‫المطالب العالية‪ ,‬والوامر الحسنة‪ ,‬وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها‪ ,‬ودفع مفاسدها‪,‬‬
‫لصدوره من ربك‪ ,‬الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول‬
‫والنفوس‪ ,‬وجميع المصالح‪.‬‬

‫{ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } أي‪ :‬فل يحصل لك أدنى شك وريبة فيه‪ ،‬بل تفكّر فيه وتأمل‪ ,‬حتى‬
‫تصل بذلك إلى اليقين‪ ,‬لن التفكر فيه ل محالة‪ ,‬دافع للشك‪ ,‬موصل لليقين‪.‬‬
‫جمِيعًا إِنّ اللّهَ‬
‫جهَةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْ َنمَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ‬
‫ل وِ ْ‬
‫{ ‪ { } 148‬وَِلكُ ّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫عَلَى ُكلّ َ‬

‫أي‪ :‬كل أهل دين وملة‪ ,‬له وجهة يتوجه إليها في عبادته‪ ،‬وليس الشأن في استقبال القبلة‪ ,‬فإنه من‬
‫الشرائع التي تتغير بها الزمنة والحوال‪ ,‬ويدخلها النسخ والنقل‪ ,‬من جهة إلى جهة‪ ،‬ولكن الشأن‬
‫كل الشأن‪ ,‬في امتثال طاعة ال‪ ,‬والتقرب إليه‪ ,‬وطلب الزلفى عنده‪ ،‬فهذا هو عنوان السعادة‬
‫ومنشور الولية‪ ،‬وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس‪ ,‬حصلت لها خسارة الدنيا والخرة‪ ،‬كما أنها‬
‫إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة‪ ,‬وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع‪ ,‬وهو الذي خلق‬
‫ال له الخلق‪ ,‬وأمرهم به‪.‬‬

‫والمر بالستباق إلى الخيرات قدر زائد على المر بفعل الخيرات‪ ،‬فإن الستباق إليها‪ ,‬يتضمن‬
‫فعلها‪ ,‬وتكميلها‪ ,‬وإيقاعها على أكمل الحوال‪ ,‬والمبادرة إليها‪ ،‬ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات‪,‬‬
‫فهو السابق في الخرة إلى الجنات‪ ,‬فالسابقون أعلى الخلق درجة‪ ،‬والخيرات تشمل جميع‬
‫الفرائض والنوافل‪ ,‬من صلة‪ ,‬وصيام‪ ,‬وزكوات وحج‪ ,‬عمرة‪ ,‬وجهاد‪ ,‬ونفع متعد وقاصر‪.‬‬

‫ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير‪ ,‬وينشطها‪ ,‬ما رتب ال عليها من‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } فيجمعكم ليوم القيامة‬
‫جمِيعًا إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫الثواب قال‪ { :‬أَيْ َنمَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ‬
‫عمِلُوا وَيَجْ ِزيَ الّذِينَ أَحْسَنُوا‬
‫بقدرته‪ ,‬فيجازي كل عامل بعمله { لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ َأسَاءُوا ِبمَا َ‬
‫حسْنَى }‬
‫بِالْ ُ‬

‫ويستدل بهذه الية الشريفة على التيان بكل فضيلة يتصف بها العمل‪ ،‬كالصلة في أول وقتها‪,‬‬
‫والمبادرة إلى إبراء الذمة‪ ,‬من الصيام‪ ,‬والحج‪ ,‬والعمرة‪ ,‬وإخراج الزكاة‪ ,‬والتيان بسنن العبادات‬
‫وآدابها‪ ,‬فلله ما أجمعها وأنفعها من آية"‪.‬‬

‫جدِ الْحَرَا ِم وَإِنّهُ لَ ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ‬


‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْل َمسْ ِ‬
‫جتَ َف َولّ وَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 150 - 149‬ومِنْ حَ ْيثُ خَرَ ْ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَا ِم َوحَيْ ُثمَا كُنْتُمْ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫جتَ َف َو ّ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ * َومِنْ حَ ْيثُ خَرَ ْ‬
‫َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫شوْنِي‬
‫شوْهُ ْم وَاخْ َ‬
‫حجّةٌ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ فَلَا َتخْ َ‬
‫شطْ َرهُ لِئَلّا َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْي ُكمْ ُ‬
‫َفوَلّوا وُجُو َه ُكمْ َ‬
‫علَ ْيكُ ْم وََلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ }‬
‫وَلِأُتِمّ ِن ْعمَتِي َ‬

‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫جتَ } في أسفارك وغيرها‪ ,‬وهذا للعموم‪َ { ,‬ف َو ّ‬
‫أي‪َ { :‬ومِنْ حَ ْيثُ خَرَ ْ‬
‫} أي‪ :‬جهته‪.‬‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ }‬
‫شطْ َرهُ } وقال‪ { :‬وَإِنّهُ لَلْ َ‬
‫ثم خاطب المة عموما فقال‪ { :‬وَحَيْ ُثمَا كُنْ ُتمْ َفوَلّوا ُوجُو َهكُمْ َ‬
‫أكده بـ " إن " واللم‪ ,‬لئل يقع لحد فيه أدنى شبهة‪ ,‬ولئل يظن أنه على سبيل التشهي ل المتثال‪.‬‬

‫عمّا َت ْعمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم‪ ,‬فتأدبوا معه‪ ,‬وراقبوه‬


‫{ َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫بامتثال أوامره‪ ,‬واجتناب نواهيه‪ ،‬فإن أعمالكم غير مغفول عنها‪ ,‬بل مجازون عليها أتم الجزاء‪ ,‬إن‬
‫خيرا فخير‪ ,‬وإن شرا فشر‪.‬‬

‫حجّةٌ } أي‪ :‬شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة‪ ,‬لينقطع عنكم‬


‫وقال هنا‪ { :‬لِئَلّا َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْي ُكمْ ُ‬
‫احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين‪ ،‬فإنه لو بقي مستقبل بيت المقدس‪ ,‬لتوجهت عليه‬
‫الحجة‪ ،‬فإن أهل الكتاب‪ ,‬يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة‪ ,‬هي الكعبة البيت الحرام‪،‬‬
‫والمشركون يرون أن من مفاخرهم‪ ,‬هذا البيت العظيم‪ ,‬وأنه من ملة إبراهيم‪ ,‬وأنه إذا لم يستقبله‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ,‬توجهت نحوه حججهم‪ ,‬وقالوا‪ :‬كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم‪ ,‬وهو‬
‫من ذريته‪ ,‬وقد ترك استقبال قبلته؟‬

‫فباستقبال الكعبة قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين‪ ,‬وانقطعت حججهم عليه‪.‬‬

‫{ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من احتج منهم بحجة‪ ,‬هو ظالم فيها‪ ,‬وليس لها مستند إل اتباع‬
‫الهوى والظلم‪ ,‬فهذا ل سبيل إلى إقناعه والحتجاج عليه‪ ،‬وكذلك ل معنى لجعل الشبهة التي‬
‫شوْ ُهمْ }‬
‫يوردونها على سبيل الحتجاج محل يؤبه لها‪ ,‬ول يلقى لها بال‪ ,‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬فَلَا َتخْ َ‬
‫لن حجتهم باطلة‪ ,‬والباطل كاسمه مخذول‪ ,‬مخذول صاحبه‪ ،‬وهذا بخلف صاحب الحق‪ ,‬فإن‬
‫للحق صولة وعزا‪ ,‬يوجب خشية من هو معه‪ ,‬وأمر تعالى بخشيته‪ ,‬التي هي أصل كل خير‪ ،‬فمن‬
‫لم يخش ال‪ ,‬لم ينكف عن معصيته‪ ,‬ولم يمتثل أمره‪.‬‬

‫وكان صرف المسلمين إلى الكعبة‪ ,‬مما حصلت فيه فتنة كبيرة‪ ,‬أشاعها أهل الكتاب‪ ,‬والمنافقون‪,‬‬
‫والمشركون‪ ,‬وأكثروا فيها من الكلم والشبه‪ ،‬فلهذا بسطها ال تعالى‪ ,‬وبينها أكمل بيان‪ ,‬وأكدها‬
‫بأنواع من التأكيدات‪ ,‬التي تضمنتها هذه اليات‪.‬‬

‫منها‪ :‬المر بها‪ ,‬ثلث مرات‪ ,‬مع كفاية المرة الواحدة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن المعهود‪ ,‬أن المر‪ ,‬إما أن يكون‬
‫للرسول‪ ,‬فتدخل فيه المة تبعا‪ ,‬أو للمة عموما‪ ،‬وفي هذه الية أمر فيها الرسول بالخصوص في‬
‫ج َهكَ } والمة عموما في قوله‪َ { :‬فوَلّوا ُوجُو َهكُمْ }‬
‫ل وَ ْ‬
‫قوله‪َ { :‬ف َو ّ‬

‫ومنها‪ :‬أنه رد فيه جميع الحتجاجات الباطلة‪ ,‬التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة‪ ,‬كما‬
‫تقدم توضيحها‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه قطع الطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب‪ ،‬ومنها قوله‪ { :‬وَإِنّهُ‬
‫حقّ مِنْ‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف‪ ,‬ولكن مع هذا قال‪ { :‬وَإِنّهُ لَلْ َ‬
‫لَلْ َ‬
‫رَ ّبكَ }‬

‫ومنها‪ :‬أنه أخبر ‪ -‬وهو العالم بالخفيات ‪ -‬أن أهل الكتاب متقرر عندهم‪ ,‬صحة هذا المر‪ ,‬ولكنهم‬
‫يكتمون هذه الشهادة مع العلم‪.‬‬

‫ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة‪ ,‬نعمة عظيمة‪ ,‬وكان لطفه بهذه المة ورحمته‪ ,‬لم يزل‬
‫يتزايد‪ ,‬وكلما شرع لهم شريعة‪ ,‬فهي نعمة عظيمة قال‪ { :‬وَلِأُتِمّ ِن ْعمَتِي عَلَ ْيكُمْ }‬

‫فأصل النعمة‪ ,‬الهداية لدينه‪ ,‬بإرسال رسوله‪ ,‬وإنزال كتابه‪ ،‬ثم بعد ذلك‪ ,‬النعم المتممات لهذا‬
‫الصل‪ ,‬ل تعد كثرة‪ ,‬ول تحصر‪ ,‬منذ بعث ال رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا‪ ،‬وقد أعطاه‬
‫ال من الحوال والنعم‪ ,‬وأعطى أمته‪ ,‬ما أتم به نعمته عليه وعليهم‪ ,‬وأنزل ال عليه‪ { :‬الْ َيوْمَ‬
‫َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }‬

‫فلله الحمد على فضله‪ ,‬الذي ل نبلغ له عدا‪ ,‬فضل عن القيام بشكره‪ { ،‬وََلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ } أي‪:‬‬
‫تعلمون الحق‪ ,‬وتعملون به‪ ،‬فال تبارك وتعالى ‪ -‬من رحمته ‪ -‬بالعباد‪ ,‬قد يسر لهم أسباب الهداية‬
‫غاية التيسير‪ ,‬ونبههم على سلوك طرقها‪ ,‬وبينها لهم أتم تبيين‪ ،‬حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض‬
‫للحق‪ ,‬المعاندين له فيجادلون فيه‪ ,‬فيتضح بذلك الحق‪ ,‬وتظهر آياته وأعلمه‪ ,‬ويتضح بطلن‬
‫الباطل‪ ,‬وأنه ل حقيقة له‪ ،‬ولول قيامه في مقابلة الحق‪ ,‬لربما لم يتبين حاله لكثر الخلق‪ ،‬وبضدها‬
‫تتبين الشياء‪ ،‬فلول الليل‪ ,‬ما عرف فضل النهار‪ ،‬ولول القبيح‪ ,‬ما عرف فضل الحسن‪ ،‬ولول‬
‫الظلمة ما عرف منفعة النور‪ ،‬ولول الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا‪ ،‬فلله الحمد على ذلك‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 152 - 151‬كمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِ ْنكُمْ يَتْلُو عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِنَا وَيُ َزكّيكُ ْم وَ ُيعَّل ُمكُمُ ا ْلكِتَابَ‬
‫شكُرُوا لِي وَلَا َت ْكفُرُونِ }‬
‫ح ْكمَ َة وَ ُيعَّل ُمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ * فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُ ْم وَا ْ‬
‫وَالْ ِ‬

‫يقول تعالى‪ :‬إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة‪ ,‬ليس ذلك ببدع من‬
‫إحساننا‪ ,‬ول بأوله‪ ,‬بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها‪ ,‬فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول‬
‫الكريم منكم‪ ,‬تعرفون نسبه وصدقه‪ ,‬وأمانته وكماله ونصحه‪.‬‬

‫{ يَتْلُو عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِنَا } وهذا يعم اليات القرآنية وغيرها‪ ،‬فهو يتلو عليكم اليات المبينة للحق من‬
‫الباطل‪ ,‬والهدى من الضلل‪ ,‬التي دلتكم أول‪ ,‬على توحيد ال وكماله‪ ,‬ثم على صدق رسوله‪,‬‬
‫ووجوب اليمان به‪ ,‬ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب‪ ,‬حتى حصل لكم الهداية التامة‪,‬‬
‫والعلم اليقيني‪.‬‬

‫{ وَيُ َزكّيكُمْ } أي‪ :‬يطهر أخلقكم ونفوسكم‪ ,‬بتربيتها على الخلق الجميلة‪ ,‬وتنزيهها عن الخلق‬
‫الرذيلة‪ ,‬وذلك كتزكيتكم من الشرك‪ ,‬إلى التوحيد ومن الرياء إلى الخلص‪ ,‬ومن الكذب إلى‬
‫الصدق‪ ,‬ومن الخيانة إلى المانة‪ ,‬ومن الكبر إلى التواضع‪ ,‬ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق‪,‬‬
‫ومن التباغض والتهاجر والتقاطع‪ ,‬إلى التحاب والتواصل والتوادد‪ ,‬وغير ذلك من أنواع التزكية‪.‬‬

‫ح ْكمَةَ } قيل‪ :‬هي السنة‪ ,‬وقيل‪ :‬الحكمة‪,‬‬


‫{ وَ ُيعَّل ُمكُمُ ا ْلكِتَابَ } أي‪ :‬القرآن‪ ,‬ألفاظه ومعانيه‪ { ،‬وَالْ ِ‬
‫معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها‪ ,‬وتنزيل المور منازلها‪.‬‬

‫فيكون ‪ -‬على هذا ‪ -‬تعليم السنة داخل في تعليم الكتاب‪ ,‬لن السنة‪ ,‬تبين القرآن وتفسره‪ ,‬وتعبر‬
‫عنه‪ { ،‬وَ ُيعَّل ُمكُمْ مَا لَمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ } لنهم كانوا قبل بعثته‪ ,‬في ضلل مبين‪ ,‬ل علم ول عمل‪،‬‬
‫فكل علم أو عمل‪ ,‬نالته هذه المة فعلى يده صلى ال عليه وسلم‪ ,‬وبسببه كان‪ ،‬فهذه النعم هي‬
‫أصول النعم على الطلق‪ ,‬ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده‪ ،‬فوظيفتهم شكر ال عليها والقيام‬
‫بها؛ فلهذا قال تعالى‪ { :‬فَا ْذكُرُونِي َأ ْذكُ ْركُمْ } فأمر تعالى بذكره‪ ,‬ووعد عليه أفضل جزاء‪ ,‬وهو‬
‫ذكره لمن ذكره‪ ,‬كما قال تعالى على لسان رسوله‪ { :‬من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ,‬ومن‬
‫ذكرني في مل ذكرته في مل خير منهم }‬

‫وذكر ال تعالى‪ ,‬أفضله‪ ,‬ما تواطأ عليه القلب واللسان‪ ,‬وهو الذكر الذي يثمر معرفة ال ومحبته‪,‬‬
‫وكثرة ثوابه‪ ،‬والذكر هو رأس الشكر‪ ,‬فلهذا أمر به خصوصا‪ ,‬ثم من بعده أمر بالشكر عموما‬
‫شكُرُوا لِي } أي‪ :‬على ما أنعمت عليكم بهذه النعم‪ ،‬ودفعت عنكم صنوف النقم‪ ،‬والشكر‬
‫فقال‪ { :‬وَا ْ‬
‫يكون بالقلب‪ ,‬إقرارا بالنعم‪ ,‬واعترافا‪ ,‬وباللسان‪ ,‬ذكرا وثناء‪ ,‬وبالجوارح‪ ,‬طاعة ل وانقيادا لمره‪,‬‬
‫واجتنابا لنهيه‪ ,‬فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة‪ ,‬وزيادة في النعم المفقودة‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬لَئِنْ‬
‫شكَرْتُمْ لَأَزِيدَ ّنكُمْ } وفي التيان بالمر بالشكر بعد النعم الدينية‪ ,‬من العلم وتزكية الخلق والتوفيق‬
‫َ‬
‫للعمال‪ ,‬بيان أنها أكبر النعم‪ ,‬بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم‪ ,‬إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن‬
‫وفقوا لعلم أو عمل‪ ,‬أن يشكروا ال على ذلك‪ ,‬ليزيدهم من فضله‪ ,‬وليندفع عنهم العجاب‪,‬‬
‫فيشتغلوا بالشكر‪.‬‬

‫ولما كان الشكر ضده الكفر‪ ,‬نهى عن ضده فقال‪ { :‬وَلَا َت ْكفُرُونِ } المراد بالكفر هاهنا ما يقابل‬
‫الشكر‪ ,‬فهو كفر النعم وجحدها‪ ,‬وعدم القيام بها‪ ،‬ويحتمل أن يكون المعنى عاما‪ ,‬فيكون الكفر‬
‫أنواعا كثيرة‪ ,‬أعظمه الكفر بال‪ ,‬ثم أنواع المعاصي‪ ,‬على اختلف أنواعها وأجناسها‪ ,‬من الشرك‪,‬‬
‫فما دونه‪.‬‬
‫{ ‪ { } 153‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلَاةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ }‬

‫أمر ال تعالى المؤمنين‪ ,‬بالستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية { بِالصّبْ ِر وَالصّلَاةِ } فالصبر‬
‫هو‪ :‬حبس النفس وكفها عما تكره‪ ,‬فهو ثلثة أقسام‪ :‬صبرها على طاعة ال حتى تؤديها‪ ,‬وعن‬
‫معصية ال حتى تتركها‪ ,‬وعلى أقدار ال المؤلمة فل تتسخطها‪ ،‬فالصبر هو المعونة العظيمة على‬
‫كل أمر‪ ,‬فل سبيل لغير الصابر‪ ,‬أن يدرك مطلوبه‪ ،‬خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة‪ ,‬فإنها‬
‫مفتقرة أشد الفتقار‪ ,‬إلى تحمل الصبر‪ ,‬وتجرع المرارة الشاقة‪ ،‬فإذا لزم صاحبها الصبر‪ ,‬فاز‬
‫بالنجاح‪ ,‬وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملزمة عليها‪ ,‬لم يدرك شيئا‪ ,‬وحصل على‬
‫الحرمان‪ ،‬وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد‪،‬‬
‫فهذه ل يمكن تركها إل بصبر عظيم‪ ,‬وكف لدواعي قلبه ونوازعها ل تعالى‪ ,‬واستعانة بال على‬
‫العصمة منها‪ ,‬فإنها من الفتن الكبار‪ .‬وكذلك البلء الشاق‪ ,‬خصوصا إن استمر‪ ,‬فهذا تضعف معه‬
‫القوى النفسانية والجسدية‪ ,‬ويوجد مقتضاها‪ ,‬وهو التسخط‪ ,‬إن لم يقاومها صاحبها بالصبر ل‪,‬‬
‫والتوكل عليه‪ ,‬واللجأ إليه‪ ,‬والفتقار على الدوام‪.‬‬

‫فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد‪ ,‬بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله‪ ،‬فلهذا أمر ال تعالى‬
‫به‪ ,‬وأخبر أنه { مَعَ الصّابِرِينَ } أي‪ :‬مع من كان الصبر لهم خلقا‪ ,‬وصفة‪ ,‬وملكة بمعونته وتوفيقه‪,‬‬
‫وتسديده‪ ،‬فهانت عليهم بذلك‪ ,‬المشاق والمكاره‪ ,‬وسهل عليهم كل عظيم‪ ,‬وزالت عنهم كل صعوبة‪،‬‬
‫وهذه معية خاصة‪ ,‬تقتضي محبته ومعونته‪ ,‬ونصره وقربه‪ ,‬وهذه [منقبة عظيمة] للصابرين‪ ،‬فلو‬
‫لم يكن للصابرين فضيلة إل أنهم فازوا بهذه المعية من ال‪ ,‬لكفى بها فضل وشرفا‪ ،‬وأما المعية‬
‫العامة‪ ,‬فهي معية العلم والقدرة‪ ,‬كما في قوله تعالى‪ { :‬وَ ُهوَ َم َعكُمْ أَيْنَ مَا كُنْ ُتمْ } وهذه عامة للخلق‪.‬‬

‫وأمر تعالى بالستعانة بالصلة لن الصلة هي عماد الدين‪ ,‬ونور المؤمنين‪ ,‬وهي الصلة بين‬
‫العبد وبين ربه‪ ،‬فإذا كانت صلة العبد صلة كاملة‪ ,‬مجتمعا فيها ما يلزم فيها‪ ,‬وما يسن‪ ,‬وحصل‬
‫فيها حضور القلب‪ ,‬الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها‪ ,‬استشعر دخوله على ربه‪ ,‬ووقوفه بين‬
‫يديه‪ ,‬موقف العبد الخادم المتأدب‪ ,‬مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله‪ ,‬مستغرقا بمناجاة ربه‬
‫ودعائه ل جرم أن هذه الصلة‪ ,‬من أكبر المعونة على جميع المور فإن الصلة تنهى عن‬
‫الفحشاء والمنكر‪ ،‬ولن هذا الحضور الذي يكون في الصلة‪ ,‬يوجب للعبد في قلبه‪ ,‬وصفا‪ ,‬وداعيا‬
‫يدعوه إلى امتثال أوامر ربه‪ ,‬واجتناب نواهيه‪ ،‬هذه هي الصلة التي أمر ال أن نستعين بها على‬
‫كل شيء‪.‬‬

‫شعُرُونَ }‬
‫{ ‪ { } 154‬وَلَا َتقُولُوا ِلمَنْ ُيقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ َبلْ َأحْيَا ٌء وََلكِنْ لَا تَ ْ‬
‫لما ذكر تبارك وتعالى‪ ,‬المر بالستعانة بالصبر على جميع المور ذكر نموذجا مما يستعان‬
‫بالصبر عليه‪ ,‬وهو الجهاد في سبيله‪ ,‬وهو أفضل الطاعات البدنية‪ ,‬وأشقها على النفوس‪ ,‬لمشقته‬
‫في نفسه‪ ,‬ولكونه مؤديا للقتل‪ ,‬وعدم الحياة‪ ,‬التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول‬
‫الحياة ولوازمها‪ ،‬فكل ما يتصرفون به‪ ,‬فإنه سعى لها‪ ,‬ودفع لما يضادها‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن المحبوب ل يتركه العاقل إل لمحبوب أعلى منه وأعظم‪ ،‬فأخبر تعالى‪ :‬أن من‬
‫قتل في سبيله‪ ,‬بأن قاتل في سبيل ال‪ ,‬لتكون كلمة ال هي العليا‪ ,‬ودينه الظاهر‪ ,‬ل لغير ذلك من‬
‫الغراض‪ ,‬فإنه لم تفته الحياة المحبوبة‪ ,‬بل حصل له حياة أعظم وأكمل‪ ,‬مما تظنون وتحسبون‪.‬‬

‫حقُوا‬
‫فالشهداء { َأحْيَاءٌ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ يُرْ َزقُونَ فَ ِرحِينَ ِبمَا آتَا ُهمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِ ِه وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ َيلْ َ‬
‫ل وَأَنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ َيسْتَبْشِرُونَ بِ ِن ْعمَةٍ مِنَ اللّ ِه َو َفضْ ٍ‬
‫ِبهِمْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ أَلّا َ‬
‫أَجْرَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ }‬

‫فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من ال تعالى‪ ,‬وتمتعهم برزقه البدني في المأكولت‬
‫والمشروبات اللذيذة‪ ,‬والرزق الروحي‪ ,‬وهو الفرح‪ ،‬والستبشار وزوال كل خوف وحزن‪ ،‬وهذه‬
‫حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا‪ ،‬بل قد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن أرواح الشهداء في‬
‫أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة‪ ,‬وتأكل من ثمارها‪ ,‬وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش‪ .‬وفي‬
‫هذه الية‪ ,‬أعظم حث على الجهاد في سبيل ال‪ ,‬وملزمة الصبر عليه‪ ،‬فلو شعر العباد بما‬
‫للمقتولين في سبيل ال من الثواب لم يتخلف عنه أحد‪ ،‬ولكن عدم العلم اليقيني التام‪ ,‬هو الذي فتر‬
‫العزائم‪ ,‬وزاد نوم النائم‪ ,‬وأفات الجور العظيمة والغنائم‪ ،‬لم ل يكون كذلك وال تعالى قد‪:‬‬
‫ن وَيُقْتَلُونَ }‬
‫س ُه ْم وََأمْوَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ ا ْلجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُو َ‬
‫{ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ‬

‫فوال لو كان للنسان ألف نفس‪ ,‬تذهب نفسا فنفسا في سبيل ال‪ ,‬لم يكن عظيما في جانب هذا‬
‫الجر العظيم‪ ،‬ولهذا ل يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب ال وحسن جزائه إل أن يردوا إلى‬
‫الدنيا‪ ,‬حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة‪.‬‬

‫وفي الية‪ ,‬دليل على نعيم البرزخ وعذابه‪ ,‬كما تكاثرت بذلك النصوص‪.‬‬

‫ل وَالْأَ ْنفُسِ وَال ّثمَرَاتِ‬


‫خ ْوفِ وَا ْلجُوعِ وَ َن ْقصٍ مِنَ الَْأ ْموَا ِ‬
‫شيْءٍ مِنَ الْ َ‬
‫{ ‪ { } 157 - 155‬وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ بِ َ‬
‫جعُونَ * أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ‬
‫وَبَشّرِ الصّابِرِينَ * الّذِينَ إِذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫حمَ ٌة وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ }‬
‫صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِمْ وَرَ ْ‬
‫أخبر تعالى أنه ل بد أن يبتلي عباده بالمحن‪ ,‬ليتبين الصادق من الكاذب‪ ,‬والجازع من الصابر‪,‬‬
‫وهذه سنته تعالى في عباده؛ لن السراء لو استمرت لهل اليمان‪ ,‬ولم يحصل معها محنة‪ ,‬لحصل‬
‫الختلط الذي هو فساد‪ ,‬وحكمة ال تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر‪ .‬هذه فائدة المحن‪ ,‬ل‬
‫إزالة ما مع المؤمنين من اليمان‪ ,‬ول ردهم عن دينهم‪ ,‬فما كان ال ليضيع إيمان المؤمنين‪ ،‬فأخبر‬
‫خ ْوفِ } من العداء { وَالْجُوعِ } أي‪ :‬بشيء يسير‬
‫شيْءٍ مِنَ الْ َ‬
‫في هذه الية أنه سيبتلي عباده { ِب َ‬
‫منهما؛ لنه لو ابتلهم بالخوف كله‪ ,‬أو الجوع‪ ,‬لهلكوا‪ ,‬والمحن تمحص ل تهلك‪.‬‬

‫{ وَ َن ْقصٍ مِنَ الَْأ ْموَالِ } وهذا يشمل جميع النقص المعتري للموال من جوائح سماوية‪ ,‬وغرق‪,‬‬
‫وضياع‪ ,‬وأخذ الظلمة للموال من الملوك الظلمة‪ ,‬وقطاع الطريق وغير ذلك‪.‬‬

‫{ وَالْأَ ْنفُسِ } أي‪ :‬ذهاب الحباب من الولد‪ ,‬والقارب‪ ,‬والصحاب‪ ,‬ومن أنواع المراض في‬
‫بدن العبد‪ ,‬أو بدن من يحبه‪ { ،‬وَال ّثمَرَاتِ } أي‪ :‬الحبوب‪ ,‬وثمار النخيل‪ ,‬والشجار كلها‪ ,‬والخضر‬
‫ببرد‪ ,‬أو برد‪ ,‬أو حرق‪ ,‬أو آفة سماوية‪ ,‬من جراد ونحوه‪.‬‬

‫فهذه المور‪ ,‬ل بد أن تقع‪ ,‬لن العليم الخبير‪ ,‬أخبر بها‪ ,‬فوقعت كما أخبر‪ ،‬فإذا وقعت انقسم الناس‬
‫قسمين‪ :‬جازعين وصابرين‪ ،‬فالجازع‪ ,‬حصلت له المصيبتان‪ ,‬فوات المحبوب‪ ,‬وهو وجود هذه‬
‫المصيبة‪ ،‬وفوات ما هو أعظم منها‪ ,‬وهو الجر بامتثال أمر ال بالصبر‪ ،‬ففاز بالخسارة‬
‫والحرمان‪ ,‬ونقص ما معه من اليمان‪ ،‬وفاته الصبر والرضا والشكران‪ ,‬وحصل [له] السخط الدال‬
‫على شدة النقصان‪.‬‬

‫وأما من وفقه ال للصبر عند وجود هذه المصائب‪ ,‬فحبس نفسه عن التسخط‪ ,‬قول وفعل‪,‬‬
‫واحتسب أجرها عند ال‪ ,‬وعلم أن ما يدركه من الجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت‬
‫له‪ ,‬بل المصيبة تكون نعمة في حقه‪ ,‬لنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها‪ ,‬فقد‬
‫امتثل أمر ال‪ ,‬وفاز بالثواب‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬وَبَشّرِ الصّابِرِينَ } أي‪ :‬بشرهم بأنهم يوفون‬
‫أجرهم بغير حساب‪.‬‬

‫فالصابرين‪ ,‬هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة‪ ,‬والمنحة الجسيمة‪ ،‬ثم وصفهم بقوله‪ { :‬الّذِينَ إِذَا‬
‫َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره‪.‬‬

‫{ قَالُوا إِنّا لِلّهِ } أي‪ :‬مملوكون ل‪ ,‬مدبرون تحت أمره وتصريفه‪ ,‬فليس لنا من أنفسنا وأموالنا‬
‫شيء‪ ،‬فإذا ابتلنا بشيء منها‪ ,‬فقد تصرف أرحم الراحمين‪ ,‬بمماليكه وأموالهم‪ ,‬فل اعتراض عليه‪،‬‬
‫بل من كمال عبودية العبد‪ ,‬علمه‪ ,‬بأن وقوع البلية من المالك الحكيم‪ ,‬الذي أرحم بعبده من نفسه‪،‬‬
‫فيوجب له ذلك‪ ,‬الرضا عن ال‪ ,‬والشكر له على تدبيره‪ ,‬لما هو خير لعبده‪ ,‬وإن لم يشعر بذلك‪،‬‬
‫ومع أننا مملوكون ل‪ ,‬فإنا إليه راجعون يوم المعاد‪ ,‬فمجاز كل عامل بعمله‪ ،‬فإن صبرنا واحتسبنا‬
‫وجدنا أجرنا موفورا عنده‪ ،‬وإن جزعنا وسخطنا‪ ,‬لم يكن حظنا إل السخط وفوات الجر‪ ،‬فكون‬
‫العبد ل‪ ,‬وراجع إليه‪ ,‬من أقوى أسباب الصبر‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَ ْي ِه ْم صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِمْ } أي‪ :‬ثناء وتنويه بحالهم‬
‫ح َمةٌ } عظيمة‪ ،‬ومن رحمته إياهم‪ ,‬أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الجر‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ‬
‫{ وَرَ ْ‬
‫هُمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ } الذين عرفوا الحق‪ ,‬وهو في هذا الموضع‪ ,‬علمهم بأنهم ل‪ ,‬وأنهم إليه راجعون‪,‬‬
‫وعملوا به وهو هنا صبرهم ل‪.‬‬

‫ودلت هذه الية‪ ,‬على أن من لم يصبر‪ ,‬فله ضد ما لهم‪ ,‬فحصل له الذم من ال‪ ,‬والعقوبة‪,‬‬
‫والضلل والخسار‪ ،‬فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين‪ ,‬وأعظم عناء‬
‫الجازعين‪ ،‬فقد اشتملت هاتان اليتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها‪ ,‬لتخف‬
‫وتسهل‪ ,‬إذا وقعت‪ ،‬وبيان ما تقابل به‪ ,‬إذا وقعت‪ ,‬وهو الصبر‪ ،‬وبيان ما يعين على الصبر‪ ,‬وما‬
‫للصابر من الجر‪ ،‬ويعلم حال غير الصابر‪ ,‬بضد حال الصابر‪.‬‬

‫وأن هذا البتلء والمتحان‪ ,‬سنة ال التي قد خلت‪ ,‬ولن تجد لسنة ال تبديل‪ ،‬وبيان أنواع‬
‫المصائب‪.‬‬

‫طوّفَ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيهِ أَنْ َي ّ‬
‫صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬
‫{ ‪ { } 158‬إِنّ ال ّ‬
‫طوّعَ خَيْرًا فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }‬
‫ِب ِهمَا َومَنْ َت َ‬

‫شعَائِرِ اللّهِ } أي أعلم دينه الظاهرة‪ ,‬التي‬


‫يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان { مِنْ َ‬
‫شعَائِرَ‬
‫تعبد ال بها عباده‪ ,‬وإذا كانا من شعائر ال‪ ,‬فقد أمر ال بتعظيم شعائره فقال‪َ { :‬ومَنْ ُيعَظّمْ َ‬
‫اللّهِ فَإِ ّنهَا مِنْ َت ْقوَى ا ْلقُلُوبِ } فدل مجموع النصين أنهما من شعائر ال‪ ,‬وأن تعظيم شعائره‪ ,‬من‬
‫تقوى القلوب‪.‬‬

‫والتقوى واجبة على كل مكلف‪ ,‬وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لزم للحج والعمرة‪ ,‬كما‬
‫عليه الجمهور‪ ,‬ودلت عليه الحاديث النبوية وفعله النبي صلى ال عليه وسلم وقال‪ " :‬خذوا عني‬
‫مناسككم "‬
‫ط ّوفَ ِب ِهمَا } هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من‬
‫{ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَ ّ‬
‫المسلمين عن الطواف بينهما‪ ,‬لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الصنام‪ ،‬فنفى تعالى الجناح لدفع‬
‫هذا الوهم‪ ,‬ل لنه غير لزم‪.‬‬

‫ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة‪ ,‬أنه ل يتطوع بالسعي مفردا إل مع‬
‫انضمامه لحج أو عمرة‪ ،‬بخلف الطواف بالبيت‪ ,‬فإنه يشرع مع العمرة والحج‪ ,‬وهو عبادة مفردة‪.‬‬

‫فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة‪ ,‬ورمي الجمار فإنها تتبع النسك‪ ،‬فلو فعلت غير تابعة للنسك‪,‬‬
‫كانت بدعة‪ ,‬لن البدعة نوعان‪ :‬نوع يتعبد ل بعبادة‪ ,‬لم يشرعها أصل‪ ،‬ونوع يتعبد له بعبادة قد‬
‫شرعها على صفة مخصوصة‪ ,‬فتفعل على غير تلك الصفة‪ ,‬وهذا منه‪.‬‬

‫ط ّوعَ } أي‪ :‬فعل طاعة مخلصا بها ل تعالى { خَيْرًا } من حج وعمرة‪ ,‬وطواف‪,‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ومَنْ َت َ‬
‫وصلة‪ ,‬وصوم وغير ذلك { َف ُهوَ خَيْرٌ لَهُ } فدل هذا‪ ,‬على أنه كلما ازداد العبد من طاعة ال‪,‬‬
‫ازداد خيره وكماله‪ ,‬ودرجته عند ال‪ ,‬لزيادة إيمانه‪.‬‬

‫ودل تقييد التطوع بالخير‪ ,‬أن من تطوع بالبدع‪ ,‬التي لم يشرعها ال ول رسوله‪ ,‬أنه ل يحصل له‬
‫إل العناء‪ ,‬وليس بخير له‪ ,‬بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل‪.‬‬

‫علِيمٌ } الشاكر والشكور‪ ,‬من أسماء ال تعالى‪ ,‬الذي يقبل من عباده اليسير من‬
‫{ فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ َ‬
‫العمل‪ ,‬ويجازيهم عليه‪ ,‬العظيم من الجر‪ ,‬الذي إذا قام عبده بأوامره‪ ,‬وامتثل طاعته‪ ,‬أعانه على‬
‫ذلك‪ ,‬وأثنى عليه ومدحه‪ ,‬وجازاه في قلبه نورا وإيمانا‪ ,‬وسعة‪ ,‬وفي بدنه قوة ونشاطا‪ ,‬وفي جميع‬
‫أحواله زيادة بركة ونماء‪ ,‬وفي أعماله زيادة توفيق‪.‬‬

‫ثم بعد ذلك‪ ,‬يقدم على الثواب الجل عند ربه كامل موفرا‪ ,‬لم تنقصه هذه المور‪.‬‬

‫ومن شكره لعبده‪ ,‬أن من ترك شيئا ل‪ ,‬أعاضه ال خيرا منه‪ ،‬ومن تقرب منه شبرا‪ ,‬تقرب منه‬
‫ذراعا‪ ,‬ومن تقرب منه ذراعا‪ ,‬تقرب منه باعا‪ ,‬ومن أتاه يمشي‪ ,‬أتاه هرولة‪ ,‬ومن عامله‪ ,‬ربح‬
‫عليه أضعافا مضاعفة‪.‬‬

‫ومع أنه شاكر‪ ,‬فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل‪ ,‬بحسب نيته وإيمانه وتقواه‪ ,‬ممن ليس كذلك‪،‬‬
‫عليم بأعمال العباد‪ ,‬فل يضيعها‪ ,‬بل يجدونها أوفر ما كانت‪ ,‬على حسب نياتهم التي اطلع عليها‬
‫العليم الحكيم‪.‬‬
‫ت وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي‬
‫{ ‪ { } 162 - 159‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ‬
‫ا ْلكِتَابِ أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُن ُهمُ اللّ ُه وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللّاعِنُونَ * إِلّا الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا وَبَيّنُوا فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ‬
‫وَأَنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ * إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْي ِهمْ َلعْنَةُ اللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَ ِة وَالنّاسِ‬
‫ب وَلَا ُهمْ يُنْظَرُونَ }‬
‫خ ّففُ عَ ْن ُهمُ ا ْلعَذَا ُ‬
‫ج َمعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُ َ‬
‫أَ ْ‬

‫هذه الية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب‪ ,‬وما كتموا من شأن الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫وصفاته‪ ,‬فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل ال { مِنَ الْبَيّنَاتِ } الدالت على الحق‬
‫المظهرات له‪ { ،‬وَا ْلهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم‪ ,‬ويتبين به‬
‫طريق أهل النعيم‪ ,‬من طريق أهل الجحيم‪ ،‬فإن ال أخذ الميثاق على أهل العلم‪ ,‬بأن يبينوا الناس ما‬
‫منّ ال به عليهم من علم الكتاب ول يكتموه‪ ،‬فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين‪ ,‬كتم ما أنزل ال‪,‬‬
‫والغش لعباد ال‪ ،‬فأولئك { يَ ْلعَ ُنهُمُ اللّهُ } أي‪ :‬يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته‪.‬‬

‫{ وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللّاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة‪ ,‬فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة‪ ,‬لسعيهم في غش‬
‫الخلق وفساد أديانهم‪ ,‬وإبعادهم من رحمة ال‪ ,‬فجوزوا من جنس عملهم‪ ،‬كما أن معلم الناس الخير‪,‬‬
‫يصلي ال عليه وملئكته‪ ,‬حتى الحوت في جوف الماء‪ ,‬لسعيه في مصلحة الخلق‪ ,‬وإصلح‬
‫أديانهم‪ ,‬وقربهم من رحمة ال‪ ,‬فجوزي من جنس عمله‪ ،‬فالكاتم لما أنزل ال‪ ,‬مضاد لمر ال‪,‬‬
‫مشاق ل‪ ,‬يبين ال اليات للناس ويوضحها‪ ،‬وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد‪.‬‬

‫{ إِلّا الّذِينَ تَابُوا } أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب‪ ,‬ندما وإقلعا‪ ,‬وعزما على عدم المعاودة‬
‫{ وََأصْلَحُوا } ما فسد من أعمالهم‪ ،‬فل يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن‪.‬‬

‫ول يكفي ذلك في الكاتم أيضا‪ ,‬حتى يبين ما كتمه‪ ,‬ويبدي ضد ما أخفى‪ ،‬فهذا يتوب ال عليه‪ ,‬لن‬
‫توبة ال غير محجوب عنها‪ ،‬فمن أتى بسبب التوبة‪ ,‬تاب ال عليه‪ ,‬لنه { ال ّتوّابُ } أي‪ :‬الرجاع‬
‫على عباده بالعفو والصفح‪ ,‬بعد الذنب إذا تابوا‪ ,‬وبالحسان والنعم بعد المنع‪ ,‬إذا رجعوا‪ { ،‬الرّحِيمُ‬
‫} الذي اتصف بالرحمة العظيمة‪ ,‬التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والنابة‬
‫فتابوا وأنابوا‪ ,‬ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم‪ ,‬لطفا وكرما‪ ,‬هذا حكم التائب من الذنب‪.‬‬

‫وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه‪ ,‬ولم ينب إليه‪ ,‬ولم يتب عن قريب‬
‫ج َمعِينَ } لنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا‪ ,‬صارت‬
‫فأولئك { عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةُ اللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫اللعنة عليهم وصفا ثابتا ل تزول‪ ,‬لن الحكم يدور مع علته‪ ,‬وجودا وعدما‪.‬‬

‫و { خَالِدِينَ فِيهَا } أي‪ :‬في اللعنة‪ ,‬أو في العذاب والمعنيان‬


‫خ ّففُ عَ ْن ُهمُ ا ْلعَذَابُ } بل عذابهم دائم شديد مستمر { وَلَا ُهمْ يُ ْنظَرُونَ } أي‪ :‬يمهلون‪ ,‬لن وقت‬
‫{ لَا يُ َ‬
‫المهال وهو الدنيا قد مضى‪ ,‬ولم يبق لهم عذر فيعتذرون‪.‬‬

‫حمَنُ الرّحِيمُ }‬
‫{ ‪ { } 163‬وَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ الرّ ْ‬

‫حدٌ } أي‪ :‬متوحد منفرد في ذاته‪ ,‬وأسمائه‪,‬‬


‫يخبر تعالى ‪ -‬وهو أصدق القائلين ‪ -‬أنه { إَِل ٌه وَا ِ‬
‫وصفاته‪ ,‬وأفعاله‪ ،‬فليس له شريك في ذاته‪ ,‬ول سمي له ول كفو له‪ ,‬ول مثل‪ ,‬ول نظير‪ ,‬ول‬
‫خالق‪ ,‬ول مدبر غيره‪ ،‬فإذا كان كذلك‪ ,‬فهو المستحق لن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة‪ ,‬ول‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ } المتصف بالرحمة العظيمة‪ ,‬التي ل يماثلها رحمة‬
‫يشرك به أحد من خلقه‪ ,‬لنه { الرّ ْ‬
‫أحد‪ ,‬فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي‪ ،‬فبرحمته وجدت المخلوقات‪ ,‬وبرحمته حصلت لها‬
‫أنواع الكمالت‪ ،‬وبرحمته اندفع عنها كل نقمة‪ ،‬وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته وآلئه‪ ,‬وبيّن‬
‫لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم‪ ,‬بإرسال الرسل‪ ,‬وإنزال الكتب‪.‬‬

‫فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة‪ ,‬فمن ال‪ ,‬وأن أحدا من المخلوقين‪ ,‬ل ينفع أحدا‪ ،‬علم أن ال هو‬
‫المستحق لجميع أنواع العبادة‪ ,‬وأن يفرد بالمحبة والخوف‪ ,‬والرجاء‪ ,‬والتعظيم‪ ,‬والتوكل‪ ,‬وغير‬
‫ذلك من أنواع الطاعات‪.‬‬

‫وأن من أظلم الظلم‪ ,‬وأقبح القبيح‪ ,‬أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد‪ ,‬وأن يشرك المخلوق من‬
‫تراب‪ ,‬برب الرباب‪ ,‬أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه‪ ,‬مع الخالق المدبر القادر‬
‫القوي‪ ،‬الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء‪.‬‬

‫ففي هذه الية‪ ,‬إثبات وحدانية الباري وإلهيته‪ ،‬وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان‬
‫أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم‪ ,‬واندفاع [جميع] النقم‪،‬‬
‫فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى‪.‬‬

‫ل وَال ّنهَارِ‬
‫ض وَاخْتِلَافِ اللّ ْي ِ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ } 164‬ثم ذكر الدلة التفصيلية فقال‪ { :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ‬
‫س َومَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫وَا ْلفُلْكِ الّتِي َتجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّا َ‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ لَآيَاتٍ‬
‫سخّرِ بَيْنَ ال ّ‬
‫ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ‬
‫َبعْدَ َموْ ِتهَا وَبَثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّ ٍة وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ‬
‫ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ }‬
‫أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة‪ ,‬آيات أي‪ :‬أدلة على وحدانية الباري وإلهيته‪ ،‬وعظيم‬
‫سلطانه ورحمته وسائر صفاته‪ ،‬ولكنها { ِل َقوْمٍ َيعْقِلُونَ } أي‪ :‬لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت‬
‫له‪ ،‬فعلى حسب ما منّ ال على عبده من العقل‪ ,‬ينتفع باليات ويعرفها بعقله وفكره وتدبّره‪ ،‬ففي {‬
‫سمَاوَاتِ } في ارتفاعها واتساعها‪ ,‬وإحكامها‪ ,‬وإتقانها‪ ,‬وما جعل ال فيها من الشمس‬
‫خَ ْلقِ ال ّ‬
‫والقمر‪ ,‬والنجوم‪ ,‬وتنظيمها لمصالح العباد‪.‬‬

‫وفي خلق { الْأَ ْرضِ } مهادا للخلق‪ ,‬يمكنهم القرار عليها والنتفاع بما عليها‪ ,‬والعتبار‪ .‬ما يدل‬
‫ذلك على انفراد ال تعالى بالخلق والتدبير‪ ,‬وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها‪ ,‬وحكمته التي بها‬
‫أتقنها‪ ,‬وأحسنها ونظمها‪ ,‬وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع‪ ,‬من منافع الخلق ومصالحهم‪,‬‬
‫وضروراتهم وحاجاتهم‪ .‬وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله‪ ,‬واستحقاقه أن يفرد بالعبادة‪ ,‬لنفراده‬
‫ل وَال ّنهَارِ } وهو تعاقبهما على‬
‫بالخلق والتدبير‪ ,‬والقيام بشئون عباده { و } في { اخْتِلَافِ اللّ ْي ِ‬
‫الدوام‪ ,‬إذا ذهب أحدهما‪ ,‬خلفه الخر‪ ،‬وفي اختلفهما في الحر‪ ,‬والبرد‪ ,‬والتوسط‪ ,‬وفي الطول‪,‬‬
‫والقصر‪ ,‬والتوسط‪ ,‬وما ينشأ عن ذلك من الفصول‪ ,‬التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم‪,‬‬
‫وجميع ما على وجه الرض‪ ,‬من أشجار ونوابت‪ ،‬كل ذلك بانتظام وتدبير‪ ,‬وتسخير‪ ,‬تنبهر له‬
‫العقول‪ ,‬وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول‪ ,‬ما يدل ذلك على قدرة مصرفها‪ ,‬وعلمه وحكمته‪,‬‬
‫ورحمته الواسعة‪ ,‬ولطفه الشامل‪ ,‬وتصريفه وتدبيره‪ ,‬الذي تفرد به‪ ,‬وعظمته‪ ,‬وعظمة ملكه‬
‫وسلطانه‪ ,‬مما يوجب أن يؤله ويعبد‪ ,‬ويفرد بالمحبة والتعظيم‪ ,‬والخوف والرجاء‪ ,‬وبذل الجهد في‬
‫محابه ومراضيه‪.‬‬

‫{ و } في { وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها‪ ,‬مما ألهم ال عباده‬
‫صنعتها‪ ,‬وخلق لهم من اللت الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها‪.‬‬

‫ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح‪ ,‬التي تحملها بما فيها من الركاب والموال‪ ,‬والبضائع التي‬
‫هي من منافع الناس‪ ,‬وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم‪.‬‬

‫فمن الذي ألهمهم صنعتها‪ ,‬وأقدرهم عليها‪ ,‬وخلق لهم من اللت ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر‬
‫لها البحر‪ ,‬تجري فيه بإذنه وتسخيره‪ ,‬والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية‪ ,‬النار‬
‫والمعادن المعينة على حملها‪ ,‬وحمل ما فيها من الموال؟ فهل هذه المور‪ ,‬حصلت اتفاقا‪ ,‬أم‬
‫استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز‪ ,‬الذي خرج من بطن أمه‪ ,‬ل علم له ول قدرة‪ ،‬ثم‬
‫خلق له ربه القدرة‪ ,‬وعلمه ما يشاء تعليمه‪ ،‬أم المسخر لذلك رب واحد‪ ,‬حكيم عليم‪ ,‬ل يعجزه‬
‫شيء‪ ,‬ول يمتنع عليه شيء؟ بل الشياء قد دانت لربوبيته‪ ,‬واستكانت لعظمته‪ ,‬وخضعت لجبروته‪.‬‬
‫وغاية العبد الضعيف‪ ,‬أن جعله ال جزءا من أجزاء السباب‪ ,‬التي بها وجدت هذه المور العظام‪,‬‬
‫فهذا يدل على رحمة ال وعنايته بخلقه‪ ,‬وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له‪ ,‬والخوف والرجاء‪,‬‬
‫وجميع الطاعة‪ ,‬والذل والتعظيم‪.‬‬

‫سمَاءِ مِنْ مَاءٍ } وهو المطر النازل من السحاب‪.‬‬


‫{ َومَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬

‫{ فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا } فأظهرت من أنواع القوات‪ ,‬وأصناف النبات‪ ,‬ما هو من‬
‫ضرورات الخلئق‪ ,‬التي ل يعيشون بدونها‪.‬‬

‫أليس ذلك دليل على قدرة من أنزله‪ ,‬وأخرج به ما أخرج ورحمته‪ ,‬ولطفه بعباده‪ ,‬وقيامه‬
‫بمصالحهم‪ ,‬وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم‬
‫وإلههم؟ أليس ذلك دليل على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ { وَ َبثّ فِيهَا } أي‪ :‬في الرض‬
‫{ مِنْ ُكلّ دَابّةٍ } أي‪ :‬نشر في أقطار الرض من الدواب المتنوعة‪ ,‬ما هو دليل على قدرته‬
‫وعظمته‪ ,‬ووحدانيته وسلطانه العظيم‪ ،‬وسخرها للناس‪ ,‬ينتفعون بها بجميع وجوه النتفاع‪.‬‬

‫فمنها‪ :‬ما يأكلون من لحمه‪ ,‬ويشربون من دره‪ ،‬ومنها‪ :‬ما يركبون‪ ،‬ومنها‪ :‬ما هو ساع في‬
‫مصالحهم وحراستهم‪ ,‬ومنها‪ :‬ما يعتبر به‪ ،‬ومع أنه بث فيها من كل دابة‪ ،‬فإنه سبحانه هو القائم‬
‫بأرزاقهم‪ ,‬المتكفل بأقواتهم‪ ،‬فما من دابة في الرض إل على ال رزقها‪ ,‬ويعلم مستقرها‬
‫ومستودعها‪.‬‬

‫وفي { َتصْرِيفِ الرّيَاحِ } باردة وحارة‪ ,‬وجنوبا وشمال‪ ,‬وشرقا ودبورا وبين ذلك‪ ،‬وتارة تثير‬
‫السحاب‪ ,‬وتارة تؤلف بينه‪ ,‬وتارة تلقحه‪ ,‬وتارة تدره‪ ,‬وتارة تمزقه وتزيل ضرره‪ ,‬وتارة تكون‬
‫رحمة‪ ,‬وتارة ترسل بالعذاب‪.‬‬

‫فمن الذي صرفها هذا التصريف‪ ,‬وأودع فيها من منافع العباد‪ ,‬ما ل يستغنون عنه؟ وسخرها‬
‫ليعيش فيها جميع الحيوانات‪ ,‬وتصلح البدان والشجار‪ ,‬والحبوب والنوابت‪ ,‬إل العزيز الحكيم‬
‫الرحيم‪ ,‬اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع‪ ,‬ومحبة وإنابة وعبادة؟‪.‬‬

‫وفي تسخير السحاب بين السماء والرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير‪ ,‬فيسوقه ال إلى‬
‫حيث شاء‪ ،‬فيحيي به البلد والعباد‪ ,‬ويروي التلول والوهاد‪ ,‬وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه‪،‬‬
‫فإذا كان يضرهم كثرته‪ ,‬أمسكه عنهم‪ ,‬فينزله رحمة ولطفا‪ ,‬ويصرفه عناية وعطفا‪ ،‬فما أعظم‬
‫سلطانه‪ ,‬وأغزر إحسانه‪ ,‬وألطف امتنانه"‬
‫أليس من القبيح بالعباد‪ ,‬أن يتمتعوا برزقه‪ ,‬ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه‬
‫ومعاصيه؟ أليس ذلك دليل على حلمه وصبره‪ ,‬وعفوه وصفحه‪ ,‬وعميم لطفه؟‬

‫فله الحمد أول وآخرا‪ ,‬وباطنا وظاهرا‪.‬‬

‫والحاصل‪ ,‬أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات‪ ,‬وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات‪ ,‬وازداد‬
‫تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة‪ ,‬علم بذلك‪ ,‬أنها خلقت للحق وبالحق‪ ,‬وأنها‬
‫صحائف آيات‪ ,‬وكتب دللت‪ ,‬على ما أخبر به ال عن نفسه ووحدانيته‪ ,‬وما أخبرت به الرسل‬
‫من اليوم الخر‪ ,‬وأنها مسخرات‪ ,‬ليس لها تدبير ول استعصاء على مدبرها ومصرفها‪.‬‬

‫فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون‪ ,‬وإليه صامدون‪ ،‬وأنه الغني بالذات عن جميع‬
‫المخلوقات‪ ،‬فل إله إل ال‪ ,‬ول رب سواه‪.‬‬

‫حبّ اللّهِ‬
‫خذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا يُحِبّو َنهُمْ كَ ُ‬
‫{ ‪ } 167 - 165‬ثم قال تعالى‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ يَتّ ِ‬
‫جمِيعًا وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ‬
‫ظَلمُوا ِإذْ يَ َروْنَ ا ْلعَذَابَ أَنّ ا ْلقُ ّوةَ لِلّهِ َ‬
‫وَالّذِينَ آمَنُوا َأشَدّ حُبّا لِلّهِ وََلوْ يَرَى الّذِينَ َ‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ الَْأسْبَابُ * َوقَالَ الّذِينَ‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫ا ْلعَذَابِ * ِإذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُوا وَرََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫عمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَ ْيهِمْ َومَا ُهمْ‬
‫اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّءُوا مِنّا َكذَِلكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَ ْ‬
‫بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ }‬

‫ما أحسن اتصال هذه الية بما قبلها‪ ،‬فإنه تعالى‪ ,‬لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة‪ ,‬وبراهينها‬
‫الساطعة الموصلة إلى علم اليقين‪ ,‬المزيلة لكل شك‪ ،‬ذكر هنا أن { مِنَ النّاسِ } مع هذا البيان التام‬
‫من يتخذ من المخلوقين أندادا ل أي‪ :‬نظراء ومثلء‪ ,‬يساويهم في ال بالعبادة والمحبة‪ ,‬والتعظيم‬
‫والطاعة‪.‬‬

‫ومن كان بهذه الحالة ‪ -‬بعد إقامة الحجة‪ ,‬وبيان التوحيد ‪ -‬علم أنه معاند ل‪ ,‬مشاق له‪ ,‬أو معرض‬
‫عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته‪ ,‬فليس له أدنى عذر في ذلك‪ ,‬بل قد حقت عليه كلمة العذاب‪.‬‬

‫وهؤلء الذين يتخذون النداد مع ال‪ ,‬ل يسوونهم بال في الخلق والرزق والتدبير‪ ,‬وإنما يسوونهم‬
‫به في العبادة‪ ,‬فيعبدونهم‪ ،‬ليقربوهم إليه‪ ،‬وفي قوله‪ { :‬اتخذوا } دليل على أنه ليس ل ند وإنما‬
‫المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له‪ ,‬تسمية مجردة‪ ,‬ولفظا فارغا من المعنى‪ ،‬كما قال‬
‫سمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ ِبمَا لَا َيعْلَمُ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ ا ْلقَ ْولِ }‬
‫جعَلُوا لِلّهِ شُ َركَاءَ ُقلْ َ‬
‫تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُ ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ }‬
‫سمَاءٌ َ‬
‫{ إِنْ ِهيَ إِلّا أَ ْ‬
‫فالمخلوق ليس ندا ل لن ال هو الخالق‪ ,‬وغيره مخلوق‪ ,‬والرب الرازق ومن عداه مرزوق‪ ,‬وال‬
‫هو الغني وأنتم الفقراء‪ ،‬وهو الكامل من كل الوجوه‪ ,‬والعبيد ناقصون من جميع الوجوه‪ ،‬وال هو‬
‫النافع الضار‪ ,‬والمخلوق ليس له من النفع والضر والمر شيء‪ ،‬فعلم علما يقينا‪ ,‬بطلن قول من‬
‫اتخذ من دون ال آلهة وأندادا‪ ،‬سواء كان ملكا أو نبيا‪ ,‬أو صالحا‪ ,‬صنما‪ ,‬أو غير ذلك‪ ،‬وأن ال‬
‫هو المستحق للمحبة الكاملة‪ ,‬والذل التام‪ ،‬فلهذا مدح ال المؤمنين بقوله‪ { :‬وَالّذِينَ آمَنُوا َأشَدّ حُبّا‬
‫لِلّهِ } أي‪ :‬من أهل النداد لندادهم‪ ,‬لنهم أخلصوا محبتهم له‪ ,‬وهؤلء أشركوا بها‪ ،‬ولنهم أحبوا‬
‫من يستحق المحبة على الحقيقة‪ ,‬الذي محبته هي عين صلح العبد وسعادته وفوزه‪ ،‬والمشركون‬
‫أحبوا من ل يستحق من الحب شيئا‪ ,‬ومحبته عين شقاء العبد وفساده‪ ,‬وتشتت أمره‪.‬‬

‫فلهذا توعدهم ال بقوله‪ { :‬وََلوْ يَرَى الّذِينَ ظََلمُوا } باتخاذ النداد والنقياد لغير رب العباد وظلموا‬
‫الخلق بصدهم عن سبيل ال‪ ,‬وسعيهم فيما يضرهم‪.‬‬

‫جمِيعًا وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ‬


‫{ ِإذْ يَ َروْنَ ا ْلعَذَابَ } أي‪ :‬يوم القيامة عيانا بأبصارهم‪ { ،‬أَنّ ا ْلقُ ّوةَ لِلّهِ َ‬
‫ا ْلعَذَابِ } أي‪ :‬لعلموا علما جازما‪ ,‬أن القوة والقدرة ل كلها‪ ,‬وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء‪،‬‬
‫فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها‪ ,‬ل كما اشتبه عليهم في الدنيا‪ ,‬وظنوا أن لها من المر‬
‫شيئا‪ ,‬وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه‪ ،‬فخاب ظنهم‪ ,‬وبطل سعيهم‪ ,‬وحق عليهم شدة العذاب‪ ,‬ولم‬
‫تدفع عنهم أندادهم شيئا‪ ,‬ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع‪ ،‬بل يحصل لهم الضرر منها‪ ,‬من‬
‫حيث ظنوا نفعها‪.‬‬

‫وتبرأ المتبوعون من التابعين‪ ,‬وتقطعت بينهم الوصل‪ ,‬التي كانت في الدنيا‪ ,‬لنها كانت لغير ال‪,‬‬
‫وعلى غير أمر ال‪ ,‬ومتعلقة بالباطل الذي ل حقيقة له‪ ,‬فاضمحلت أعمالهم‪ ,‬وتلشت أحوالهم‪،‬‬
‫وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين‪ ,‬وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها‪ ,‬انقلبت عليهم‬
‫حسرة وندامة‪ ,‬وأنهم خالدون في النار ل يخرجون منها أبدا‪ ،‬فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك‬
‫بأنهم اتبعوا الباطل‪ ،‬فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو‪ ,‬وتعلقوا بغير متعلق‪ ,‬فبطلت العمال‬
‫ببطلن متعلقها‪ ،‬ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من المل فيها‪ ,‬فضرتهم غاية الضرر‪ ،‬وهذا‬
‫بخلف من تعلق بال الملك الحق المبين‪ ,‬وأخلص العمل لوجهه‪ ,‬ورجا نفعه‪ ،‬فهذا قد وضع الحق‬
‫في موضعه‪ ,‬فكانت أعماله حقا‪ ,‬لتعلقها بالحق‪ ,‬ففاز بنتيجة عمله‪ ,‬ووجد جزاءه عند ربه‪ ,‬غير‬
‫عمِلُوا‬
‫عمَاَل ُه ْم وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ضلّ أَ ْ‬
‫منقطع كما قال تعالى‪ { :‬الّذِينَ كَفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َأ َ‬
‫حمّ ٍد وَ ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ِهمْ َكفّرَ عَ ْن ُهمْ سَيّئَا ِتهِ ْم وََأصْلَحَ بَاَل ُهمْ ذَِلكَ‬
‫ت وَآمَنُوا ِبمَا نُ ّزلَ عَلَى مُ َ‬
‫الصّالِحَا ِ‬
‫ل وَأَنّ الّذِينَ آمَنُوا اتّ َبعُوا ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبهِمْ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ لِلنّاسِ‬
‫طَ‬‫بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُوا اتّ َبعُوا الْبَا ِ‬
‫َأمْثَاَلهُمْ }‬
‫وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم‪ ,‬بأن يتركوا الشرك بال‪ ,‬ويقبلوا‬
‫على إخلص العمل ل‪ ،‬وهيهات‪ ,‬فات المر‪ ,‬وليس الوقت وقت إمهال وإنظار‪ ،‬ومع هذا‪ ,‬فهم‬
‫كذبة‪ ,‬فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‪ ،‬وإنما هو قول يقولونه‪ ,‬وأماني يتمنونها‪ ,‬حنقا وغيظا على‬
‫المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم‪ ،‬فرأس المتبوعين على الشر‪ ,‬إبليس‪ ,‬ومع هذا يقول‬
‫علَ ْيكُمْ مِنْ‬
‫ق َووَعَدْ ُتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ لِي َ‬
‫لتباعه لما قضي المر { إِنّ اللّ َه وَعَ َد ُك ْم وَعْدَ ا ْلحَ ّ‬
‫س ُكمْ }‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَ ْنفُ َ‬
‫سُ ْلطَانٍ إِلّا أَنْ دَ َ‬

‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ‬


‫{ ‪ { } 170 - 168‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي الْأَ ْرضِ حَلَالًا طَيّبًا وَلَا تَتّ ِبعُوا خُ ُ‬
‫إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ * إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَا ِء وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ *‬

‫وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُهمْ لَا َي ْعقِلُونَ شَيْئًا‬
‫وَلَا َيهْتَدُونَ }‬

‫هذا خطاب للناس كلهم‪ ,‬مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في‬
‫الرض‪ ،‬من حبوب‪ ,‬وثمار‪ ,‬وفواكه‪ ,‬وحيوانات‪ ,‬حالة كونها { حَلَالًا } أي‪ :‬محلل لكم تناوله‪ ،‬ليس‬
‫بغصب ول سرقة‪ ,‬ول محصل بمعاملة محرمة أو على وجه محرم‪ ،‬أو معينا على محرم‪.‬‬

‫{ طَيّبًا } أي‪ :‬ليس بخبيث‪ ,‬كالميتة والدم‪ ,‬ولحم الخنزير‪ ,‬والخبائث كلها‪ ،‬ففي هذه الية‪ ,‬دليل على‬
‫أن الصل في العيان الباحة‪ ،‬أكل وانتفاعا‪ ,‬وأن المحرم نوعان‪ :‬إما محرم لذاته‪ ,‬وهو الخبيث‬
‫الذي هو ضد الطيب‪ ،‬وإما محرم لما عرض له‪ ,‬وهو المحرم لتعلق حق ال‪ ,‬أو حق عباده به‪,‬‬
‫وهو ضد الحلل‪.‬‬

‫وفيه دليل على أن الكل بقدر ما يقيم البنية واجب‪ ,‬يأثم تاركه لظاهر المر‪ ،‬ولما أمرهم باتباع ما‬
‫طوَاتِ الشّيْطَانِ } أي‪ :‬طرقه التي يأمر‬
‫خُ‬‫أمرهم به ‪ -‬إذ هو عين صلحهم ‪ -‬نهاهم عن اتباع { ُ‬
‫بها‪ ,‬وهي جميع المعاصي من كفر‪ ,‬وفسوق‪ ,‬وظلم‪ ،‬ويدخل في ذلك تحريم السوائب‪ ,‬والحام‪ ,‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬ويدخل فيه أيضا تناول المأكولت المحرمة‪ { ،‬إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ } أي‪ :‬ظاهر العداوة‪ ,‬فل‬
‫يريد بأمركم إل غشكم‪ ,‬وأن تكونوا من أصحاب السعير‪ ،‬فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته‪,‬‬
‫حتى أخبرنا ‪ -‬وهو أصدق القائلين ‪ -‬بعداوته الداعية للحذر منه‪ ,‬ثم لم يكتف بذلك‪ ,‬حتى أخبرنا‬
‫بتفصيل ما يأمر به‪ ,‬وأنه أقبح الشياء‪ ,‬وأعظمها مفسدة فقال‪ { :‬إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِالسّوءِ }‬
‫أي‪ :‬الشر الذي يسوء صاحبه‪ ,‬فيدخل في ذلك‪ ,‬جميع المعاصي‪ ،‬فيكون قوله‪ { :‬وَا ْلفَحْشَاءِ } من‬
‫باب عطف الخاص على العام؛ لن الفحشاء من المعاصي‪ ,‬ما تناهى قبحه‪ ,‬كالزنا‪ ,‬وشرب الخمر‪,‬‬
‫والقتل‪ ,‬والقذف‪ ,‬والبخل ونحو ذلك‪ ,‬مما يستفحشه من له عقل‪ { ،‬وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا‬
‫َتعَْلمُونَ } فيدخل في ذلك‪ ,‬القول على ال بل علم‪ ,‬في شرعه‪ ,‬وقدره‪ ،‬فمن وصف ال بغير ما‬
‫وصف به نفسه‪ ,‬أو وصفه به رسوله‪ ,‬أو نفى عنه ما أثبته لنفسه‪ ,‬أو أثبت له ما نفاه عن نفسه‪ ,‬فقد‬
‫قال على ال بل علم‪ ،‬ومن زعم أن ل ندا‪ ,‬وأوثانا‪ ,‬تقرب من عبدها من ال‪ ,‬فقد قال على ال بل‬
‫علم‪ ،‬ومن قال‪ :‬إن ال أحل كذا‪ ,‬أو حرم كذا‪ ,‬أو أمر بكذا‪ ,‬أو نهى عن كذا‪ ,‬بغير بصيرة‪ ,‬فقد قال‬
‫على ال بل علم‪ ،‬ومن قال‪ :‬ال خلق هذا الصنف من المخلوقات‪ ,‬للعلة الفلنية بل برهان له‬
‫بذلك‪ ,‬فقد قال على ال بل علم‪ ،‬ومن أعظم القول على ال بل علم‪ ,‬أن يتأول المتأول كلمه‪ ,‬أو‬
‫كلم رسوله‪ ,‬على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلل‪ ,‬ثم يقول‪ :‬إن ال أرادها‪ ،‬فالقول‬
‫على ال بل علم‪ ,‬من أكبر المحرمات‪ ,‬وأشملها‪ ,‬وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها‪ ,‬فهذه طرق‬
‫الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده‪ ,‬ويبذلون مكرهم وخداعهم‪ ,‬على إغواء الخلق بما يقدرون‬
‫عليه‪.‬‬

‫وأما ال تعالى‪ ,‬فإنه يأمر بالعدل والحسان‪ ,‬وإيتاء ذي القربى‪ ,‬وينهى عن الفحشاء والمنكر‬
‫والبغي‪ ،‬فلينظر العبد نفسه‪ ,‬مع أي الداعيين هو‪ ,‬ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي ال الذي يريد لك‬
‫الخير والسعادة الدنيوية والخروية‪ ,‬الذي كل الفلح بطاعته‪ ,‬وكل الفوز في خدمته‪ ,‬وجميع‬
‫الرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ,‬الذي ل يأمر إل بالخير‪ ,‬ول ينهى إل عن‬
‫الشر‪ ،‬أم تتبع داعي الشيطان‪ ,‬الذي هو عدو النسان‪ ,‬الذي يريد لك الشر‪ ,‬ويسعى بجهده على‬
‫إهلكك في الدنيا والخرة؟ الذي كل الشر في طاعته‪ ,‬وكل الخسران في وليته‪ ،‬الذي ل يأمر إل‬
‫بشر‪ ,‬ول ينهى إل عن خير‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل ال على رسوله ‪ -‬مما تقدم وصفه ‪-‬‬
‫رغبوا عن ذلك وقالوا‪َ { :‬بلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا } فاكتفوا بتقليد الباء‪ ,‬وزهدوا في اليمان‬
‫بالنبياء‪ ،‬ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس‪ ,‬وأشدهم ضلل وهذه شبهة لرد الحق واهية‪ ،‬فهذا دليل‬
‫على إعراضهم عن الحق‪ ,‬ورغبتهم عنه‪ ,‬وعدم إنصافهم‪ ،‬فلو هدوا لرشدهم‪ ,‬وحسن قصدهم‪ ,‬لكان‬
‫الحق هو القصد‪ ،‬ومن جعل الحق قصده‪ ,‬ووازن بينه وبين غيره‪ ,‬تبين له الحق قطعا‪ ,‬واتبعه إن‬
‫كان منصفا‪.‬‬

‫ع ْميٌ‬
‫صمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫سمَعُ إِلّا دُعَا ًء وَنِدَا ًء ُ‬
‫ثم قال [تعالى]‪َ { :‬ومَثَلُ الّذِينَ َكفَرُوا َكمَ َثلِ الّذِي يَ ْن ِعقُ ِبمَا لَا يَ ْ‬
‫َفهُمْ لَا َي ْعقِلُونَ }‬
‫لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل‪ ,‬وردهم لذلك بالتقليد‪ ,‬علم من ذلك أنهم غير‬
‫قابلين للحق‪ ,‬ول مستجيبين له‪ ,‬بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم‪ ،‬أخبر تعالى‪,‬‬
‫أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى اليمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها‪ ,‬وليس لها علم بما‬
‫يقول راعيها ومناديها‪ ،‬فهم يسمعون مجرد الصوت‪ ,‬الذي تقوم به عليهم الحجة‪ ,‬ولكنهم ل يفقهونه‬
‫فقها ينفعهم‪ ,‬فلهذا كانوا صما‪ ,‬ل يسمعون الحق سماع فهم وقبول‪ ,‬عميا‪ ,‬ل ينظرون نظر اعتبار‪,‬‬
‫بكما‪ ,‬فل ينطقون بما فيه خير لهم‪.‬‬

‫والسبب الموجب لذلك كله‪ ,‬أنه ليس لهم عقل صحيح‪ ,‬بل هم أسفه السفهاء‪ ,‬وأجهل الجهلء‪.‬‬

‫فهل يستريب العاقل‪ ,‬أن من دعي إلى الرشاد‪ ,‬وذيد عن الفساد‪ ,‬ونهي عن اقتحام العذاب‪ ,‬وأمر‬
‫بما فيه صلحه وفلحه‪ ,‬وفوزه‪ ,‬ونعيمه فعصى الناصح‪ ,‬وتولى عن أمر ربه‪ ,‬واقتحم النار على‬
‫بصيرة‪ ,‬واتبع الباطل‪ ,‬ونبذ الحق ‪ -‬أن هذا ليس له مسكة من عقل‪ ,‬وأنه لو اتصف بالمكر‬
‫والخديعة والدهاء‪ ,‬فإنه من أسفه السفهاء‪.‬‬

‫شكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْ ُتمْ إِيّاهُ‬


‫{ ‪ { } 173 - 172‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُك ْم وَا ْ‬
‫حمَ الْخِنْزِيرِ َومَا ُأ ِهلّ ِبهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ‬
‫َتعْبُدُونَ * إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وَلَ ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫وَلَا عَادٍ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬

‫هذا أمر للمؤمنين خاصة‪ ,‬بعد المر العام‪ ,‬وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالوامر‬
‫والنواهي‪ ,‬بسبب إيمانهم‪ ,‬فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق‪ ,‬والشكر ل على إنعامه‪ ,‬باستعمالها‬
‫سلُ‬
‫بطاعته‪ ,‬والتقوي بها على ما يوصل إليه‪ ،‬فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله { يَا أَ ّيهَا الرّ ُ‬
‫عمَلُوا صَالِحًا }‬
‫ت وَا ْ‬
‫كُلُوا مِنَ الطّيّبَا ِ‬

‫فالشكر في هذه الية‪ ,‬هو العمل الصالح‪ ،‬وهنا لم يقل " حلل " لن المؤمن أباح ال له الطيبات‬
‫من الرزق خالصة من التبعة‪ ،‬ولن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له‪.‬‬

‫وقوله { إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ } أي‪ :‬فاشكروه‪ ،‬فدل على أن من لم يشكر ال‪ ,‬لم يعبده وحده‪ ,‬كما‬
‫أن من شكره‪ ,‬فقد عبده‪ ,‬وأتى بما أمر به‪ ،‬ويدل أيضا على أن أكل الطيب‪ ,‬سبب للعمل الصالح‬
‫وقبوله‪ ،‬والمر بالشكر‪ ,‬عقيب النعم؛ لن الشكر يحفظ النعم الموجودة‪ ,‬ويجلب النعم المفقودة كما‬
‫أن الكفر‪ ,‬ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة‪.‬‬
‫ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةَ } وهي‪ :‬ما مات‬
‫بغير تذكية شرعية‪ ,‬لن الميتة خبيثة مضرة‪ ,‬لرداءتها في نفسها‪ ,‬ولن الغلب‪ ,‬أن تكون عن‬
‫مرض‪ ,‬فيكون زيادة ضرر واستثنى الشارع من هذا العموم‪ ,‬ميتة الجراد‪ ,‬وسمك البحر‪ ,‬فإنه‬
‫حلل طيب‪.‬‬

‫{ وَالدّمَ } أي‪ :‬المسفوح كما قيد في الية الخرى‪.‬‬

‫{ َومَا أُ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ } أي‪ :‬ذبح لغير ال‪ ,‬كالذي يذبح للصنام والوثان من الحجار‪ ,‬والقبور‬
‫ونحوها‪ ,‬وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات‪ ،‬جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها‬
‫بمفهوم قوله‪ { :‬طَيّبَاتِ } فعموم المحرمات‪ ,‬تستفاد من الية السابقة‪ ,‬من قوله‪ { :‬حَلَالًا طَيّبًا } كما‬
‫تقدم‪.‬‬

‫ضطُرّ }‬
‫وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها‪ ,‬لطفا بنا‪ ,‬وتنزيها عن المضر‪ ،‬ومع هذا { َفمَنِ ا ْ‬
‫أي‪ :‬ألجئ إلى المحرم‪ ,‬بجوع وعدم‪ ,‬أو إكراه‪ { ،‬غَيْرَ بَاغٍ } أي‪ :‬غير طالب للمحرم‪ ,‬مع قدرته‬
‫على الحلل‪ ,‬أو مع عدم جوعه‪ { ،‬وَلَا عَادٍ } أي‪ :‬متجاوز الحد في تناول ما أبيح له‪ ,‬اضطرارا‪،‬‬
‫فمن اضطر وهو غير قادر على الحلل‪ ،‬وأكل بقدر الضرورة فل يزيد عليها‪ { ،‬فَلَا إِثْمَ } [أي‪:‬‬
‫جناح] عليه‪ ،‬وإذا ارتفع الجناح الثم رجع المر إلى ما كان عليه‪ ،‬والنسان بهذه الحالة‪ ,‬مأمور‬
‫بالكل‪ ,‬بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة‪ ,‬وأن يقتل نفسه‪.‬‬

‫فيجب‪ ,‬إذًا عليه الكل‪ ,‬ويأثم إن ترك الكل حتى مات‪ ,‬فيكون قاتل لنفسه‪.‬‬

‫وهذه الباحة والتوسعة‪ ,‬من رحمته تعالى بعباده‪ ,‬فلهذا ختمها بهذين السمين الكريمين المناسبين‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫غاية المناسبة فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ َ‬

‫ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين‪ ,‬وكان النسان في هذه الحالة‪ ,‬ربما ل يستقصي تمام‬
‫الستقصاء في تحقيقها ‪ -‬أخبر تعالى أنه غفور‪ ,‬فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال‪ ,‬خصوصا وقد‬
‫غلبته الضرورة‪ ,‬وأذهبت حواسه المشقة‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على القاعدة المشهورة‪ " :‬الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور‪,‬‬
‫اضطر إليه النسان‪ ,‬فقد أباحه له‪ ,‬الملك الرحمن‪[ .‬فله الحمد والشكر‪ ,‬أول وآخرا‪ ,‬وظاهرا‬
‫وباطنا]‪.‬‬

‫ب وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنًا قَلِيلًا أُولَ ِئكَ مَا‬


‫{ ‪ { } 176 - 174‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫يَ ْأكُلُونَ فِي ُبطُو ِنهِمْ إِلّا النّا َر وَلَا ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَا يُ َزكّيهِمْ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ‬
‫اشْتَ َروُا الضّلَالَةَ بِا ْلهُدَى وَا ْلعَذَابَ بِا ْل َم ْغفِ َرةِ َفمَا َأصْبَرَ ُهمْ عَلَى النّارِ * ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ }‬
‫ق وَإِنّ الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ َلفِي ِ‬
‫حّ‬‫بِالْ َ‬

‫هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل ال على رسله‪ ,‬من العلم الذي أخذ ال الميثاق على أهله‪ ,‬أن‬
‫يبينوه للناس ول يكتموه‪ ،‬فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي‪ ,‬ونبذ أمر ال‪ ,‬فأولئك‪ { :‬مَا يَ ْأكُلُونَ فِي‬
‫بُطُو ِنهِمْ إِلّا النّارَ } لن هذا الثمن الذي اكتسبوه‪ ,‬إنما حصل لهم بأقبح المكاسب‪ ,‬وأعظم‬
‫المحرمات‪ ,‬فكان جزاؤهم من جنس عملهم‪ { ،‬وَلَا ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } بل قد سخط عليهم‬
‫وأعرض عنهم‪ ،‬فهذا أعظم عليهم من عذاب النار‪ { ،‬وَلَا يُ َزكّيهِمْ } أي‪ :‬ل يطهرهم من الخلق‬
‫الرذيلة‪ ,‬وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها‪ ،‬وإنما لم يزكهم لنهم فعلوا أسباب‬
‫عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب ال‪ ,‬والهتداء به‪ ,‬والدعوة إليه‪ ،‬فهؤلء نبذوا كتاب‬
‫ال‪ ,‬وأعرضوا عنه‪ ,‬واختاروا الضللة على الهدى‪ ,‬والعذاب على المغفرة‪ ،‬فهؤلء ل يصلح لهم‬
‫إل النار‪ ,‬فكيف يصبرون عليها‪ ,‬وأنى لهم الجلد عليها؟"‬

‫{ ذَِلكَ } المذكور‪ ,‬وهو مجازاته بالعدل‪ ,‬ومنعه أسباب الهداية‪ ,‬ممن أباها واختار سواها‪.‬‬

‫حقّ } ومن الحق‪ ,‬مجازاة المحسن بإحسانه‪ ,‬والمسيء بإساءته‪.‬‬


‫{ بِأَنّ اللّهَ نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬

‫وأيضا ففي قوله‪ { :‬نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ } ما يدل على أن ال أنزله لهداية خلقه‪ ,‬وتبيين الحق من‬
‫الباطل‪ ,‬والهدى من الضلل‪ ،‬فمن صرفه عن مقصوده‪ ,‬فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة‪.‬‬

‫شقَاقٍ َبعِيدٍ } أي‪ :‬وإن الذين اختلفوا في الكتاب‪ ,‬فآمنوا ببعضه‪,‬‬


‫{ وَإِنّ الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ َلفِي ِ‬
‫شقَاقٍ } أي‪ :‬محادة‪،‬‬
‫وكفروا ببعضه‪ ،‬والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم { َلفِي ِ‬
‫{ َبعِيدٍ } عن الحق لنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للتفاق وعدم التناقض‪ ،‬فمرج‬
‫أمرهم‪ ,‬وكثر شقاقهم‪ ,‬وترتب على ذلك افتراقهم‪ ،‬بخلف أهل الكتاب الذين آمنوا به‪ ,‬وحكموه في‬
‫كل شيء‪ ,‬فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والجتماع عليه‪.‬‬

‫وقد تضمنت هذه اليات‪ ,‬الوعيد للكاتمين لما أنزل ال‪ ,‬المؤثرين عليه‪ ,‬عرض الدنيا بالعذاب‬
‫والسخط‪ ,‬وأن ال ل يطهرهم بالتوفيق‪ ,‬ول بالمغفرة‪ ،‬وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضللة على‬
‫الهدى‪ ،‬فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة‪ ،‬ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار‪,‬‬
‫لعملهم بالسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها‪ ،‬وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للتفاق‬
‫عليه‪ ,‬وعدم الفتراق‪ ،‬وأن كل من خالفه‪ ,‬فهو في غاية البعد عن الحق‪ ,‬والمنازعة والمخاصمة‪,‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫ب وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِر ِ‬
‫{ ‪ { } 177‬لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َه ُكمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْرِ ِ‬
‫ن وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ َذوِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينَ وَابْنَ‬
‫ب وَالنّبِيّي َ‬
‫الْآخِرِ وَا ْلمَلَا ِئكَةِ وَا ْلكِتَا ِ‬
‫ب وََأقَامَ الصّلَا َة وَآتَى ال ّزكَا َة وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْدِ ِهمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصّابِرِينَ‬
‫ن َوفِي ال ّرقَا ِ‬
‫ل وَالسّائِلِي َ‬
‫السّبِي ِ‬
‫ن صَ َدقُوا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ }‬
‫فِي الْبَأْسَا ِء وَالضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ ِئكَ الّذِي َ‬

‫ق وَا ْل َمغْرِبِ } أي‪ :‬ليس هذا هو البر‬


‫يقول تعالى‪ { :‬لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا ُوجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫المقصود من العباد‪ ,‬فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إل الشقاق‬
‫والخلف‪ ،‬وهذا نظير قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ليس الشديد بالصرعة‪ ,‬إنما الشديد الذي يملك‬
‫نفسه عند الغضب " ونحو ذلك‪.‬‬

‫{ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } أي‪ :‬بأنه إله واحد‪ ,‬موصوف بكل صفة كمال‪ ,‬منزه عن كل نقص‪.‬‬

‫{ وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر ال به في كتابه‪ ,‬أو أخبر به الرسول‪ ,‬مما يكون بعد الموت‪.‬‬

‫{ وَا ْلمَلَا ِئكَةِ } الذين وصفهم ال لنا في كتابه‪ ,‬ووصفهم رسوله صلى ال عليه وسلم { وَا ْلكِتَابِ }‬
‫أي‪ :‬جنس الكتب التي أنزلها ال على رسوله‪ ,‬وأعظمها القرآن‪ ,‬فيؤمن بما تضمنه من الخبار‬
‫والحكام‪ { ،‬وَالنّبِيّينَ } عموما‪ ,‬خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫{ وَآتَى ا ْلمَالَ } وهو كل ما يتموله النسان من مال‪ ,‬قليل كان أو كثيرا‪ ،‬أي‪ :‬أعطى المال { عَلَى‬
‫حُبّهِ } أي‪ :‬حب المال ‪ ،‬بيّن به أن المال محبوب للنفوس‪ ,‬فل يكاد يخرجه العبد‪.‬‬

‫فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى ال تعالى‪ ,‬كان هذا برهانا ليمانه‪ ،‬ومن إيتاء المال على حبه‪,‬‬
‫أن يتصدق وهو صحيح شحيح‪ ,‬يأمل الغنى‪ ,‬ويخشى الفقر‪ ،‬وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة‪,‬‬
‫كانت أفضل‪ ,‬لنه في هذه الحال‪ ,‬يحب إمساكه‪ ,‬لما يتوهمه من العدم والفقر‪.‬‬

‫وكذلك إخراج النفيس من المال‪ ,‬وما يحبه من ماله كما قال تعالى‪ { :‬لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا‬
‫تُحِبّونَ } فكل هؤلء ممن آتى المال على حبه‪.‬‬

‫ثم ذكر المنفق عليهم‪ ,‬وهم أولى الناس ببرك وإحسانك‪ .‬من القارب الذين تتوجع لمصابهم‪,‬‬
‫وتفرح بسرورهم‪ ,‬الذين يتناصرون ويتعاقلون‪ ،‬فمن أحسن البر وأوفقه‪ ,‬تعاهد القارب بالحسان‬
‫المالي والقولي‪ ,‬على حسب قربهم وحاجتهم‪.‬‬

‫ومن اليتامى الذين ل كاسب لهم‪ ,‬وليس لهم قوة يستغنون بها‪ ،‬وهذا من رحمته [تعالى] بالعباد‪,‬‬
‫الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده‪ ،‬فال قد أوصى العباد‪ ,‬وفرض عليهم في أموالهم‪,‬‬
‫الحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه‪ ،‬ولن الجزاء من جنس العمل فمن رحم‬
‫حمَ يتيمه‪.‬‬
‫يتيم غيره‪ ,‬رُ ِ‬

‫{ وَا ْلمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة‪ ,‬وأذلهم الفقر فلهم حق على الغنياء‪ ,‬بما يدفع مسكنتهم‬
‫أو يخففها‪ ,‬بما يقدرون عليه‪ ,‬وبما يتيسر‪ { ،‬وَابْنَ السّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده‪،‬‬
‫فحث ال عباده على إعطائه من المال‪ ,‬ما يعينه على سفره‪ ,‬لكونه مظنة الحاجة‪ ,‬وكثرة‬
‫المصارف‪ ،‬فعلى من أنعم ال عليه بوطنه وراحته‪ ,‬وخوله من نعمته‪ ,‬أن يرحم أخاه الغريب‪ ,‬الذي‬
‫بهذه الصفة‪ ,‬على حسب استطاعته‪ ,‬ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره‪ ,‬أو دفع ما ينوبه من المظالم‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫{ وَالسّا ِئلِينَ } أي‪ :‬الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج‪ ,‬توجب السؤال‪ ،‬كمن ابتلي بأرش جناية‪,‬‬
‫أو ضريبة عليه من ولة المور‪ ,‬أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة‪ ,‬كالمساجد‪ ,‬والمدارس‪,‬‬
‫والقناطر‪ ,‬ونحو ذلك‪ ,‬فهذا له حق وإن كان غنيا { َوفِي ال ّرقَابِ } فيدخل فيه العتق والعانة عليه‪,‬‬
‫وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده‪ ,‬وفداء السرى عند الكفار أو عند الظلمة‪.‬‬

‫{ وََأقَامَ الصّلَاةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ } قد تقدم مرارا‪ ,‬أن ال تعالى يقرن بين الصلة والزكاة‪ ,‬لكونهما‬
‫أفضل العبادات‪ ,‬وأكمل القربات‪ ,‬عبادات قلبية‪ ,‬وبدنية‪ ,‬ومالية‪ ,‬وبهما يوزن اليمان‪ ,‬ويعرف ما‬
‫مع صاحبه من اليقان‪.‬‬

‫{ وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْ ِدهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا } والعهد‪ :‬هو اللتزام بإلزام ال أو إلزام العبد لنفسه‪ .‬فدخل في‬
‫ذلك حقوق ال كلها‪ ,‬لكون ال ألزم بها عباده والتزموها‪ ,‬ودخلوا تحت عهدتها‪ ,‬ووجب عليهم‬
‫أداؤها‪ ,‬وحقوق العباد‪ ,‬التي أوجبها ال عليهم‪ ,‬والحقوق التي التزمها العبد كاليمان والنذور‪ ,‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬

‫{ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي‪ :‬الفقر‪ ,‬لن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة‪ ,‬لكونه يحصل‬
‫له من اللم القلبية والبدنية المستمرة ما ل يحصل لغيره‪.‬‬

‫فإن تنعم الغنياء بما ل يقدر عليه تألم‪ ،‬وإن جاع أو جاعت عياله تألم‪ ،‬وإن أكل طعاما غير‬
‫موافق لهواه تألم‪ ،‬وإن عرى أو كاد تألم‪ ,‬وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي‬
‫يستعد له تألم‪ ,‬وإن أصابه البرد الذي ل يقدر على دفعه تألم‪.‬‬

‫فكل هذه ونحوها‪ ,‬مصائب‪ ,‬يؤمر بالصبر عليها‪ ,‬والحتساب‪ ,‬ورجاء الثواب من ال عليها‪.‬‬
‫{ وَالضّرّاءِ } أي‪ :‬المرض على اختلف أنواعه‪ ,‬من حمى‪ ,‬وقروح‪ ,‬ورياح‪ ,‬ووجع عضو‪ ,‬حتى‬
‫الضرس والصبع ونحو ذلك‪ ,‬فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لن النفس تضعف‪ ,‬والبدن يألم‪,‬‬
‫وذلك في غاية المشقة على النفوس‪ ,‬خصوصا مع تطاول ذلك‪ ,‬فإنه يؤمر بالصبر‪ ,‬احتسابا لثواب‬
‫ال [تعالى]‪.‬‬

‫{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي‪ :‬وقت القتال للعداء المأمور بقتالهم‪ ,‬لن الجلد‪ ,‬يشق غاية المشقة على‬
‫النفس‪ ,‬ويجزع النسان من القتل‪ ,‬أو الجراح أو السر‪ ,‬فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا‪,‬‬
‫ورجاء لثواب ال [تعالى] الذي منه النصر والمعونة‪ ,‬التي وعدها الصابرين‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } أي‪ :‬المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة‪ ,‬والعمال التي هي آثار اليمان‪ ,‬وبرهانه‬
‫ن صَ َدقُوا } في‬
‫ونوره‪ ,‬والخلق التي هي جمال النسان وحقيقة النسانية‪ ،‬فأولئك هم { الّذِي َ‬
‫إيمانهم‪ ,‬لن أعمالهم صدقت إيمانهم‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ } لنهم تركوا المحظور‪ ,‬وفعلوا‬
‫المأمور؛ لن هذه المور مشتملة على كل خصال الخير‪ ,‬تضمنا ولزوما‪ ,‬لن الوفاء بالعهد‪ ,‬يدخل‬
‫فيه الدين كله‪ ،‬ولن العبادات المنصوص عليها في هذه الية أكبر العبادات‪ ،‬ومن قام بها‪ ,‬كان بما‬
‫سواها أقوم‪ ,‬فهؤلء هم البرار الصادقون المتقون‪.‬‬

‫وقد علم ما رتب ال على هذه المور الثلثة‪ ,‬من الثواب الدنيوي والخروي‪ ,‬مما ل يمكن تفصيله‬
‫في [مثل] هذا الموضع‪.‬‬

‫{ ‪ { } 179 - 178‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِالْحُ ّر وَا ْلعَ ْبدُ بِا ْلعَبْدِ‬
‫خفِيفٌ مِنْ‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَِلكَ َت ْ‬
‫ع ِفيَ َلهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى َفمَنْ ُ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * وََلكُمْ فِي ا ْلقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ َلعَّل ُكمْ‬
‫حمَةٌ َفمَنِ اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ َ‬
‫رَ ّبكُ ْم وَرَ ْ‬
‫تَ ّتقُونَ }‬

‫يمتن تعالى على عباده المؤمنين‪ ,‬بأنه فرض عليهم { ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى } أي‪ :‬المساواة فيه‪ ,‬وأن‬
‫يقتل القاتل على الصفة‪ ,‬التي قتل عليها المقتول‪ ,‬إقامة للعدل والقسط بين العباد‪.‬‬

‫وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين‪ ,‬فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم‪ ،‬حتى أولياء القاتل حتى‬
‫القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول‪ ,‬إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل‪ ,‬وأنه ل يجوز لهم أن‬
‫يحولوا بين هذا الحد‪ ,‬ويمنعوا الولي من القتصاص‪ ,‬كما عليه عادة الجاهلية‪ ,‬ومن أشبههم من‬
‫إيواء المحدثين‪.‬‬
‫ثم بيّن تفصيل ذلك فقال‪ { :‬الْحُرّ بِالْحُرّ } يدخل بمنطقوقها‪ ,‬الذكر بالذكر‪ { ،‬وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى }‬
‫والنثى بالذكر‪ ,‬والذكر بالنثى‪ ,‬فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله‪ " :‬النثى بالنثى " مع‬
‫دللة السنة‪ ,‬على أن الذكر يقتل بالنثى‪ ،‬وخرج من عموم هذا البوان وإن علوا‪ ،‬فل يقتلن‬
‫بالولد‪ ,‬لورود السنة بذلك‪ ،‬مع أن في قوله‪ { :‬ا ْل ِقصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل‪ ,‬أن يقتل‬
‫الوالد بولده‪ ،‬ولن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة‪ ,‬ما يمنعه من القتل لولده إل بسبب اختلل‬
‫في عقله‪ ,‬أو أذية شديدة جدا من الولد له‪.‬‬

‫وخرج من العموم أيضا‪ ,‬الكافر بالسنة‪ ,‬مع أن الية في خطاب المؤمنين خاصة‪.‬‬

‫وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي ال بعدوه‪ ،‬والعبد بالعبد‪ ,‬ذكرا كان أو أنثى‪ ,‬تساوت قيمتهما‬
‫أو اختلفت‪ ،‬ودل بمفهومها على أن الحر‪ ,‬ل يقتل بالعبد‪ ,‬لكونه غير مساو له‪ ،‬والنثى بالنثى‪ ,‬أخذ‬
‫بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة‪ ,‬وتقدم وجه ذلك‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن الصل وجوب القود في القتل‪ ,‬وأن الدية بدل عنه‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬فمَنْ‬
‫شيْءٌ } أي‪ :‬عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية‪ ,‬أو عفا بعض الولياء‪ ,‬فإنه‬
‫عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫ُ‬
‫يسقط القصاص‪ ,‬وتجب الدية‪ ,‬وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي‪.‬‬

‫فإذا عفا عنه وجب على الولي‪[ ,‬أي‪ :‬ولي المقتول] أن يتبع القاتل { بِا ْل َمعْرُوفِ } من غير أن يشق‬
‫عليه‪ ,‬ول يحمله ما ل يطيق‪ ,‬بل يحسن القتضاء والطلب‪ ,‬ول يحرجه‪.‬‬

‫وعلى القاتل { َأدَاءٌ ِإلَيْهِ بِِإحْسَانٍ } من غير مطل ول نقص‪ ,‬ول إساءة فعلية أو قولية‪ ,‬فهل جزاء‬
‫الحسان إليه بالعفو‪ ,‬إل الحسان بحسن القضاء‪ ،‬وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس‬
‫للنسان‪ ،‬مأمور من له الحق بالتباع بالمعروف‪ ،‬ومن عليه الحق‪ ,‬بالداء بإحسان‬

‫عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية‪ ،‬وأحسن من ذلك العفو‬
‫وفي قوله‪َ { :‬فمَنْ ُ‬
‫مجانا‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬أَخِيهِ } دليل على أن القاتل ل يكفر‪ ,‬لن المراد بالخوة هنا أخوة اليمان‪ ,‬فلم يخرج‬
‫بالقتل منها‪ ،‬ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر‪ ,‬ل يكفر بها فاعلها‪ ,‬وإنما‬
‫ينقص بذلك إيمانه‪.‬‬

‫وإذا عفا أولياء المقتول‪ ,‬أو عفا بعضهم‪ ,‬احتقن دم القاتل‪ ,‬وصار معصوما منهم ومن غيرهم‪,‬‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪ :‬في الخرة‪ ،‬وأما قتله‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَى َبعْدَ ذَِلكَ } أي‪ :‬بعد العفو { فَلَهُ َ‬
‫وعدمه‪ ,‬فيؤخذ مما تقدم‪ ,‬لنه قتل مكافئا له‪ ,‬فيجب قتله بذلك‪.‬‬
‫وأما من فسر العذاب الليم بالقتل‪ ,‬فإن الية تدل على أنه يتعين قتله‪ ,‬ول يجوز العفو عنه‪ ,‬وبذلك‬
‫قال بعض العلماء والصحيح الول‪ ,‬لن جنايته ل تزيد على جناية غيره‪.‬‬

‫ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال‪ { :‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ } أي‪:‬‬
‫تنحقن بذلك الدماء‪ ,‬وتنقمع به الشقياء‪ ,‬لن من عرف أنه مقتول إذا قتل‪ ,‬ل يكاد يصدر منه‬
‫القتل‪ ,‬وإذا رئي القاتل مقتول انذعر بذلك غيره وانزجر‪ ,‬فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل‪ ,‬لم‬
‫يحصل انكفاف الشر‪ ,‬الذي يحصل بالقتل‪ ،‬وهكذا سائر الحدود الشرعية‪ ,‬فيها من النكاية‬
‫والنزجار‪ ,‬ما يدل على حكمة الحكيم الغفار‪ ،‬ونكّر " الحياة " لفادة التعظيم والتكثير‪.‬‬

‫ولما كان هذا الحكم‪ ,‬ل يعرف حقيقته‪ ,‬إل أهل العقول الكاملة واللباب الثقيلة‪ ,‬خصهم بالخطاب‬
‫دون غيرهم‪ ،‬وهذا يدل على أن ال تعالى‪ ,‬يحب من عباده‪ ,‬أن يعملوا أفكارهم وعقولهم‪ ,‬في تدبر‬
‫ما في أحكامه من الحكم‪ ,‬والمصالح الدالة على كماله‪ ,‬وكمال حكمته وحمده‪ ,‬وعدله ورحمته‬
‫الواسعة‪ ،‬وأن من كان بهذه المثابة‪ ,‬فقد استحق المدح بأنه من ذوي اللباب الذين وجه إليهم‬
‫الخطاب‪ ,‬وناداهم رب الرباب‪ ,‬وكفى بذلك فضل وشرفا لقوم يعقلون‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬لعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من السرار العظيمة‬
‫والحكم البديعة واليات الرفيعة‪ ,‬أوجب له ذلك أن ينقاد لمر ال‪ ,‬ويعظم معاصيه فيتركها‪,‬‬
‫فيستحق بذلك أن يكون من المتقين‪.‬‬

‫حضَرَ َأحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ ِل ْلوَالِدَيْنِ‬


‫{ ‪ { } 182 - 180‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا َ‬
‫س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْثمُهُ عَلَى الّذِينَ يُ َبدّلُونَهُ إِنّ‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ * َفمَنْ بَدّلَهُ َبعْ َدمَا َ‬
‫وَالَْأقْرَبِينَ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ * َفمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَ َنفًا َأوْ إِ ْثمًا فََأصْلَحَ بَيْ َنهُمْ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫اللّهَ َ‬
‫}‬

‫حضَرَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ } أي‪ :‬أسبابه‪ ,‬كالمرض‬


‫أي‪ :‬فرض ال عليكم‪ ,‬يا معشر المؤمنين { إِذَا َ‬
‫المشرف على الهلك‪ ,‬وحضور أسباب المهالك‪ ،‬وكان قد { تَ َركَ خَيْرًا } [أي‪ :‬مال] وهو المال‬
‫الكثير عرفا‪ ,‬فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف‪ ,‬على قدر حاله من غير‬
‫سرف‪ ,‬ول اقتصار على البعد‪ ,‬دون القرب‪ ،‬بل يرتبهم على القرب والحاجة‪ ,‬ولهذا أتى فيه‬
‫بأفعل التفضيل‪.‬‬

‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ } دل على وجوب ذلك‪ ,‬لن الحق هو‪ :‬الثابت‪ ،‬وقد جعله ال من‬
‫وقوله‪َ { :‬‬
‫موجبات التقوى‪.‬‬
‫واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الية منسوخة بآية المواريث‪ ،‬وبعضهم يرى أنها في‬
‫الوالدين والقربين غير الوارثين‪ ,‬مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل‪ ،‬والحسن في هذا أن‬
‫يقال‪ :‬إن هذه الوصية للوالدين والقربين مجملة‪ ,‬ردها ال تعالى إلى العرف الجاري‪.‬‬

‫ثم إن ال تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من القارب الوارثين هذا المعروف في آيات‬
‫المواريث‪ ,‬بعد أن كان مجمل‪ ،‬وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الرث‬
‫وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف‪ ,‬فإن النسان مأمور بالوصية لهؤلء وهم أحق الناس‬
‫ببره‪ ،‬وهذا القول تتفق عليه المة‪ ,‬ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين‪ ,‬لن كل من القائلين‬
‫بهما كل منهم لحظ ملحظا‪ ,‬واختلف المورد‪.‬‬

‫فبهذا الجمع‪ ,‬يحصل التفاق‪ ,‬والجمع بين اليات‪ ,‬لنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء‬
‫النسخ‪ ,‬الذي لم يدل عليه دليل صحيح‪.‬‬

‫ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية‪ ,‬لما يتوهمه أن من بعده‪ ,‬قد يبدل ما وصى به قال تعالى‪:‬‬
‫س ِمعَهُ } [أي‪ ]:‬بعدما عقله‪ ,‬وعرف طرقه‬
‫{ َفمَنْ َبدّلَهُ } أي‪ :‬اليصاء للمذكورين أو غيرهم { َب ْع َدمَا َ‬
‫وتنفيذه‪ { ،‬فَإِ ّنمَا إِ ْثمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ } وإل فالموصي وقع أجره على ال‪ ,‬وإنما الثم على‬
‫المبدل المغير‪.‬‬

‫سمِيعٌ } يسمع سائر الصوات‪ ,‬ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته‪ ،‬فينبغي له أن‬
‫{ إِنّ اللّهَ َ‬
‫يراقب من يسمعه ويراه‪ ,‬وأن ل يجور في وصيته‪ { ،‬عَلِيمٌ } بنيته‪ ,‬وعليم بعمل الموصى إليه‪ ،‬فإذا‬
‫اجتهد الموصي‪ ,‬وعلم ال من نيته ذلك‪ ,‬أثابه ولو أخطأ‪ ،‬وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل‪،‬‬
‫فإن ال عليم به‪ ,‬مطلع على ما فعله‪ ,‬فليحذر من ال‪ ،‬هذا حكم الوصية العادلة‪.‬‬

‫وأما الوصية التي فيها حيف وجنف‪ ,‬وإثم‪ ،‬فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها‪ ,‬أن‬
‫ينصحه بما هو الحسن والعدل‪ ,‬وأن ينهاه عن الجور والجنف‪ ,‬وهو‪ :‬الميل بها عن خطأ‪ ,‬من‬
‫غير تعمد‪ ,‬والثم‪ :‬وهو التعمد لذلك‪.‬‬

‫فإن لم يفعل ذلك‪ ,‬فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم‪ ,‬ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه‬
‫التراضي والمصالحة‪ ,‬ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما‪ ,‬وليس عليهم إثم‪,‬‬
‫غفُورٌ } أي‪ :‬يغفر جميع الزلت‪ ,‬ويصفح‬
‫كما على مبدل الوصية الجائزة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫عن التبعات لمن تاب إليه‪ ,‬ومنه مغفرته لمن غض من نفسه‪ ,‬وترك بعض حقه لخيه‪ ,‬لن من‬
‫سامح‪ ,‬سامحه ال‪ ،‬غفور لميتهم الجائر في وصيته‪ ,‬إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لجل‬
‫براءة ذمته‪ ،‬رحيم بعباده‪ ,‬حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون‪ ،‬فدلت هذه اليات‬
‫على الحث على الوصية‪ ,‬وعلى بيان من هي له‪ ,‬وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة‪ ,‬والترغيب‬
‫في الصلح في الوصية الجائرة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 185 - 183‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّل ُكمْ‬
‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَ َر وَعَلَى الّذِينَ‬
‫تَ ّتقُونَ * أَيّامًا َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫ط ّوعَ خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ *‬
‫سكِينٍ َفمَنْ تَ َ‬
‫طعَامُ مِ ْ‬
‫يُطِيقُونَهُ فِدْ َيةٌ َ‬
‫شهْرَ‬
‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ‬
‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ ُهدًى لِلنّا ِ‬
‫َ‬
‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَلَا يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ‬
‫صمْ ُه َومَنْ كَانَ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫فَلْ َي ُ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْل ِع ّدةَ وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَا ُك ْم وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫يخبر تعالى بما منّ به على عباده‪ ,‬بأنه فرض عليهم الصيام‪ ,‬كما فرضه على المم السابقة‪ ,‬لنه‬
‫من الشرائع والوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان‪.‬‬

‫وفيه تنشيط لهذه المة‪ ,‬بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل العمال‪ ,‬والمسارعة إلى‬
‫صالح الخصال‪ ,‬وأنه ليس من المور الثقيلة‪ ,‬التي اختصيتم بها‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال‪َ { :‬لعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب‬
‫التقوى‪ ,‬لن فيه امتثال أمر ال واجتناب نهيه‪.‬‬

‫فمما اشتمل عليه من التقوى‪ :‬أن الصائم يترك ما حرم ال عليه من الكل والشرب والجماع‬
‫ونحوها‪ ,‬التي تميل إليها نفسه‪ ,‬متقربا بذلك إلى ال‪ ,‬راجيا بتركها‪ ,‬ثوابه‪ ،‬فهذا من التقوى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة ال تعالى‪ ,‬فيترك ما تهوى نفسه‪ ,‬مع قدرته عليه‪ ,‬لعلمه‬
‫باطلع ال عليه‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الصيام يضيق مجاري الشيطان‪ ,‬فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم‪,‬‬
‫فبالصيام‪ ,‬يضعف نفوذه‪ ,‬وتقل منه المعاصي‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الصائم في الغالب‪ ,‬تكثر طاعته‪,‬‬
‫والطاعات من خصال التقوى‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الغني إذا ذاق ألم الجوع‪ ,‬أوجب له ذلك‪ ,‬مواساة الفقراء‬
‫المعدمين‪ ,‬وهذا من خصال التقوى‪.‬‬

‫ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام‪ ,‬أخبر أنه أيام معدودات‪ ,‬أي‪ :‬قليلة في غاية السهولة‪.‬‬

‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ } وذلك‬


‫ثم سهل تسهيل آخر‪ .‬فقال‪َ { :‬فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫للمشقة‪ ,‬في الغالب‪ ,‬رخص ال لهما‪ ,‬في الفطر‪.‬‬
‫ولما كان ل بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن‪ ,‬أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال‬
‫المرض‪ ,‬وانقضى السفر‪ ,‬وحصلت الراحة‪.‬‬

‫وفي قوله‪َ { :‬فعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان‪ ,‬كامل كان‪ ,‬أو ناقصا‪,‬‬
‫وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة‪ ,‬عن أيام طويلة حارة كالعكس‪.‬‬

‫طعَامُ‬
‫وقوله‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ } أي‪ :‬يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { َ‬
‫سكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام‪ ,‬لما كانوا غير معتادين للصيام‪ ,‬وكان فرضه حتما‪ ,‬فيه‬
‫مِ ْ‬
‫مشقة عليهم‪ ,‬درجهم الرب الحكيم‪ ,‬بأسهل طريق‪ ،‬وخيّر المطيق للصوم بين أن يصوم‪ ,‬وهو‬
‫أفضل‪ ,‬أو يطعم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ }‬

‫ثم بعد ذلك‪ ,‬جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق‪ ,‬يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل‪:‬‬
‫{ وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي‪ :‬يتكلفونه‪ ،‬ويشق عليهم مشقة غير محتملة‪ ,‬كالشيخ الكبير‪ ,‬فدية عن‬
‫كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح]‬

‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } أي‪ :‬الصوم المفروض عليكم‪ ,‬هو شهر رمضان‪ ,‬الشهر‬
‫{ َ‬
‫العظيم‪ ,‬الذي قد حصل لكم فيه من ال الفضل العظيم‪ ،‬وهو القرآن الكريم‪ ,‬المشتمل على الهداية‬
‫لمصالحكم الدينية والدنيوية‪ ,‬وتبيين الحق بأوضح بيان‪ ,‬والفرقان بين الحق والباطل‪ ,‬والهدى‬
‫والضلل‪ ,‬وأهل السعادة وأهل الشقاوة‪.‬‬

‫فحقيق بشهر‪ ,‬هذا فضله‪ ,‬وهذا إحسان ال عليكم فيه‪ ,‬أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام‪.‬‬

‫صمْهُ }‬
‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫شهِدَ مِ ْن ُكمُ ال ّ‬
‫فلما قرره‪ ,‬وبين فضيلته‪ ,‬وحكمة ال تعالى في تخصيصه قال‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر‪.‬‬

‫ولما كان النسخ للتخيير‪ ,‬بين الصيام والفداء خاصة‪ ,‬أعاد الرخصة للمريض والمسافر‪ ,‬لئل يتوهم‬
‫أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] { يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَلَا يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ } أي‪ :‬يريد ال تعالى‬

‫تسهيل‪ ،‬ولهذا كان‬ ‫أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير‪ ,‬ويسهلها أشد‬
‫جميع ما أمر ال به عباده في غاية السهولة في أصله‪.‬‬

‫وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله‪ ,‬سهّله تسهيل آخر‪ ,‬إما بإسقاطه‪ ,‬أو تخفيفه بأنواع‬
‫التخفيفات‪.‬‬
‫وهذه جملة ل يمكن تفصيلها‪ ,‬لن تفاصيلها‪ ,‬جميع الشرعيات‪ ,‬ويدخل فيها جميع الرخص‬
‫والتخفيفات‪.‬‬

‫{ وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِ ّدةَ } وهذا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬لئل يتوهم متوهم‪ ,‬أن صيام رمضان‪ ,‬يحصل المقصود‬
‫منه ببعضه‪ ,‬دفع هذا الوهم بالمر بتكميل عدته‪ ،‬ويشكر ال [تعالى] عند إتمامه على توفيقه‬
‫وتسهيله وتبيينه لعباده‪ ,‬وبالتكبير عند انقضائه‪ ,‬ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلل شوال إلى‬
‫فراغ خطبة العيد‪.‬‬

‫ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْ َيسْتَجِيبُوا لِي‬


‫{ ‪ { } 186‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ‬
‫شدُونَ }‬
‫وَلْ ُيؤْمِنُوا بِي َلعَّلهُمْ يَرْ ُ‬

‫هذا جواب سؤال‪ ،‬سأل النبي صلى ال عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ,‬أقريب ربنا‬
‫فنناجيه‪ ,‬أم بعيد فنناديه؟ فنزل‪ { :‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } لنه تعالى‪ ,‬الرقيب الشهيد‪,‬‬
‫المطلع على السر وأخفى‪ ,‬يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور‪ ,‬فهو قريب أيضا من داعيه‪,‬‬
‫ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ } والدعاء نوعان‪ :‬دعاء عبادة‪ ,‬ودعاء مسألة‪.‬‬
‫بالجابة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أُجِيبُ دَ ْ‬

‫والقرب نوعان‪ :‬قرب بعلمه من كل خلقه‪ ,‬وقرب من عابديه وداعيه بالجابة والمعونة والتوفيق‪.‬‬

‫فمن دعا ربه بقلب حاضر‪ ,‬ودعاء مشروع‪ ,‬ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء‪ ,‬كأكل الحرام ونحوه‪,‬‬
‫فإن ال قد وعده بالجابة‪ ،‬وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء‪ ,‬وهي الستجابة ل تعالى‬
‫بالنقياد لوامره ونواهيه القولية والفعلية‪ ,‬واليمان به‪ ,‬الموجب للستجابة‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬
‫{ فَلْ َيسْتَجِيبُوا لِي وَلْ ُي ْؤمِنُوا بِي َلعَّلهُمْ يَ ْرشُدُونَ } أي‪ :‬يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية لليمان‬
‫والعمال الصالحة‪ ,‬ويزول عنهم الغي المنافي لليمان والعمال الصالحة‪ .‬ولن اليمان بال‬
‫ج َعلْ َلكُمْ‬
‫والستجابة لمره‪ ,‬سبب لحصول العلم كما قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ّتقُوا اللّهَ يَ ْ‬
‫فُ ْرقَانًا‬

‫حلّ َل ُكمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ هُنّ لِبَاسٌ َلكُ ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ‬
‫{ ‪ } 187‬ثم قال تعالى‪ُ { :‬أ ِ‬
‫ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ‬
‫عفَا عَ ْن ُكمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُ ّ‬
‫علَ ْيكُ ْم وَ َ‬
‫س ُكمْ فَتَابَ َ‬
‫عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى‬
‫َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ ا ْلخَيْطُ الْأَبْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ الْأَ ْ‬
‫حدُودُ اللّهِ فَلَا َتقْرَبُوهَا َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ‬
‫جدِ تِ ْلكَ ُ‬
‫ن وَأَنْتُمْ عَا ِكفُونَ فِي ا ْل َمسَا ِ‬
‫ل وَلَا تُبَاشِرُوهُ ّ‬
‫اللّ ْي ِ‬
‫لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ }‬
‫كان في أول فرض الصيام‪ ،‬يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الكل والشرب والجماع‪،‬‬
‫فحصلت المشقة لبعضهم‪ ،‬فخفف ال تعالى عنهم ذلك‪ ،‬وأباح في ليالي الصيام كلها الكل والشرب‬
‫والجماع‪ ،‬سواء نام أو لم ينم‪ ،‬لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به‪.‬‬

‫{ فتاب } ال { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان ‪ -‬لول توسعته ‪ -‬موجبا للثم { وعفا عنكم } ما‬
‫سلف من التخون‪.‬‬

‫{ فالن } بعد هذه الرخصة والسعة من ال { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك‪.‬‬

‫{ وابتغوا ما كتب ال لكم } أي‪ :‬انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى ال تعالى والمقصود‬
‫العظم من الوطء‪ ،‬وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته‪ ،‬وحصول مقاصد النكاح‪.‬‬

‫ومما كتب ال لكم ليلة القدر‪ ،‬الموافقة لليالي صيام رمضان‪ ،‬فل ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة‬
‫عنها وتضيعوها‪ ،‬فاللذة مدركة‪ ،‬وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك‪.‬‬

‫{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط البيض من الخيط السود من الفجر } هذا غاية للكل‬
‫والشرب والجماع‪ ،‬وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فل بأس عليه‪.‬‬

‫وفيه‪ :‬دليل على استحباب السحور للمر‪ ،‬وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة ال وتسهيله‬
‫على العباد‪.‬‬

‫وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل‪ ،‬ويصح‬
‫صيامه‪ ،‬لن لزم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر‪ ،‬أن يدركه الفجر وهو جنب‪ ،‬ولزم الحق حق‪.‬‬

‫{ ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي‪ :‬المساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب‬
‫الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد‪ ،‬فإن المعتكف ل‬
‫يحل له ذلك‪ ،‬استثناه بقوله‪ { :‬ول تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي‪ :‬وأنتم متصفون‬
‫بذلك‪ ،‬ودلت الية على مشروعية العتكاف‪ ،‬وهو لزوم المسجد لطاعة ال [تعالى]‪ ،‬وانقطاعا إليه‪،‬‬
‫وأن العتكاف ل يصح إل في المسجد‪.‬‬

‫ويستفاد من تعريف المساجد‪ ،‬أنها المساجد المعروفة عندهم‪ ،‬وهي التي تقام فيها الصلوات‬
‫الخمس‪.‬‬
‫وفيه أن الوطء من مفسدات العتكاف‪.‬‬

‫{ تلك } المذكورات ‪ -‬وهو تحريم الكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام‪،‬‬
‫وتحريم الفطر على غير المعذور‪ ،‬وتحريم الوطء على المعتكف‪ ،‬ونحو ذلك من المحرمات‬
‫{ حدود ال } التي حدها لعباده‪ ،‬ونهاهم عنها‪ ،‬فقال‪ { :‬فل تقربوها } أبلغ من قوله‪ " :‬فل تفعلوها "‬
‫لن القربان‪ ،‬يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه‪ ،‬والنهي عن وسائله الموصلة إليه‪.‬‬

‫والعبد مأمور بترك المحرمات‪ ،‬والبعد منها غاية ما يمكنه‪ ،‬وترك كل سبب يدعو إليها‪ ،‬وأما‬
‫الوامر فيقول ال فيها‪ { :‬تلك حدود ال فل تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها‪.‬‬

‫{ كذلك } أي‪ :‬بيّن [ال] لعباده الحكام السابقة أتم تبيين‪ ،‬وأوضحها لهم أكمل إيضاح‪.‬‬

‫{ يبين ال آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه‪ ،‬وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه‪،‬‬
‫فإن النسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم‪ ،‬ولو علم تحريمه لم يفعله‪ ،‬فإذا بين ال‬
‫للناس آياته‪ ،‬لم يبق لهم عذر ول حجة‪ ،‬فكان ذلك سببا للتقوى‪.‬‬

‫حكّامِ لِتَ ْأكُلُوا فَرِيقًا مِنْ َأ ْموَالِ النّاسِ‬


‫ل وَتُدْلُوا ِبهَا ِإلَى ا ْل ُ‬
‫طِ‬‫{ ‪ { } 188‬وَلَا تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َن ُكمْ بِالْبَا ِ‬
‫بِالْإِثْ ِم وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬ول تأخذوا أموالكم أي‪ :‬أموال غيركم‪ ،‬أضافها إليهم‪ ,‬لنه ينبغي للمسلم أن يحب لخيه ما‬
‫يحب لنفسه‪ ,‬ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند‬
‫القدرة‪.‬‬

‫ولما كان أكلها نوعين‪ :‬نوعا بحق‪ ,‬ونوعا بباطل‪ ,‬وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل‪ ,‬قيده تعالى‬
‫بذلك‪ ،‬ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية‪ ,‬أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬ويدخل فيه أيضا‪ ,‬أخذها على وجه المعاوضة‪ ,‬بمعاوضة محرمة‪ ,‬كعقود الربا‪ ,‬والقمار كلها‪,‬‬
‫فإنها من أكل المال بالباطل‪ ,‬لنه ليس في مقابلة عوض مباح‪ ،‬ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش‬
‫في البيع والشراء والجارة‪ ,‬ونحوها‪ ،‬ويدخل في ذلك استعمال الجراء وأكل أجرتهم‪ ،‬وكذلك‬
‫أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه‪ ،‬ويدخل في ذلك أخذ الجرة على العبادات والقربات‬
‫التي ل تصح حتى يقصد بها وجه ال تعالى‪ ،‬ويدخل في ذلك الخذ من الزكوات والصدقات‪,‬‬
‫والوقاف‪ ،‬والوصايا‪ ,‬لمن ليس له حق منها‪ ,‬أو فوق حقه‪.‬‬
‫فكل هذا ونحوه‪ ,‬من أكل المال بالباطل‪ ,‬فل يحل ذلك بوجه من الوجوه‪ ،‬حتى ولو حصل فيه‬
‫النزاع وحصل الرتفاع إلى حاكم الشرع‪ ,‬وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة‪ ,‬غلبت حجة‬
‫المحق‪ ,‬وحكم له الحاكم بذلك‪ ،‬فإن حكم الحاكم‪ ,‬ل يبيح محرما‪ ,‬ول يحلل حراما‪ ,‬إنما يحكم على‬
‫نحو مما يسمع‪ ,‬وإل فحقائق المور باقية‪ ،‬فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة‪ ,‬ول شبهة‪ ,‬ول‬
‫استراحة‪.‬‬

‫فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة‪ ,‬وحكم له بذلك‪ ,‬فإنه ل يحل له‪ ,‬ويكون آكل لمال غيره‪ ,‬بالباطل‬
‫والثم‪ ,‬وهو عالم بذلك‪ .‬فيكون أبلغ في عقوبته‪ ,‬وأشد في نكاله‪.‬‬

‫وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه‪ ,‬لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال‬
‫خصِيمًا }‬
‫تعالى‪ { :‬وَلَا َتكُنْ لِلْخَائِنِينَ َ‬

‫ج وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ‬


‫س وَا ْلحَ ّ‬
‫{ ‪ { } 189‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ‬
‫ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }‬
‫ُ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَ ِهلّةِ } جمع ‪ -‬هلل ‪ -‬ما فائدتها وحكمتها؟ أو عن ذاتها‪ُ { ،‬قلْ ِهيَ‬
‫َموَاقِيتُ لِلنّاسِ } أي‪ :‬جعلها ال تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلل ضعيفا في أول‬
‫الشهر‪ ,‬ثم يتزايد إلى نصفه‪ ,‬ثم يشرع في النقص إلى كماله‪ ,‬وهكذا‪ ,‬ليعرف الناس بذلك‪ ,‬مواقيت‬
‫عباداتهم من الصيام‪ ,‬وأوقات الزكاة‪ ,‬والكفارات‪ ,‬وأوقات الحج‪.‬‬

‫ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات‪ ,‬ويستغرق أوقاتا كثيرة قال‪ { :‬وَا ْلحَجّ } وكذلك تعرف‬
‫بذلك‪ ,‬أوقات الديون المؤجلت‪ ,‬ومدة الجارات‪ ,‬ومدة العدد والحمل‪ ,‬وغير ذلك مما هو من‬
‫حاجات الخلق‪ ،‬فجعله تعالى‪ ,‬حسابا‪ ,‬يعرفه كل أحد‪ ,‬من صغير‪ ,‬وكبير‪ ,‬وعالم‪ ,‬وجاهل‪ ،‬فلو كان‬
‫الحساب بالسنة الشمسية‪ ,‬لم يعرفه إل النادر من الناس‪.‬‬

‫ظهُورِهَا } وهذا كما كان النصار وغيرهم من العرب‪ ,‬إذا‬


‫{ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫أحرموا‪ ,‬لم يدخلوا البيوت من أبوابها‪ ,‬تعبدا بذلك‪ ,‬وظنا أنه بر‪ .‬فأخبر ال أنه ليس ببر لن ال‬
‫تعالى‪ ,‬لم يشرعه لهم‪ ،‬وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها ال ول رسوله‪ ,‬فهو متعبد ببدعة‪ ،‬وأمرهم‬
‫أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم‪ ,‬التي هي قاعدة من قواعد الشرع‪.‬‬

‫ويستفاد من إشارة الية أنه ينبغي في كل أمر من المور‪ ,‬أن يأتيه النسان من الطريق السهل‬
‫القريب‪ ,‬الذي قد جعل له موصل‪ ،‬فالمر بالمعروف‪ ,‬والناهي عن المنكر‪ ,‬ينبغي أن ينظر في‬
‫حالة المأمور‪ ,‬ويستعمل معه الرفق والسياسة‪ ,‬التي بها يحصل المقصود أو بعضه‪ ،‬والمتعلم‬
‫والمعلم‪ ,‬ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله‪ ,‬يحصل به مقصوده‪ ،‬وهكذا كل من حاول أمرا من‬
‫المور وأتاه من أبوابه وثابر عليه‪ ,‬فل بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود‪.‬‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ } هذا هو البر الذي أمر ال به‪ ,‬وهو لزوم تقواه على الدوام‪ ,‬بامتثال أوامره‪ ,‬واجتناب‬
‫نواهيه‪ ,‬فإنه سبب للفلح‪ ,‬الذي هو الفوز بالمطلوب‪ ,‬والنجاة من المرهوب‪ ،‬فمن لم يتق ال تعالى‪,‬‬
‫لم يكن له سبيل إلى الفلح‪ ,‬ومن اتقاه‪ ,‬فاز بالفلح والنجاح‪.‬‬

‫حبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ *‬


‫{ ‪َ { } 193 - 190‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ وَلَا َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫ل وَلَا ُتقَاتِلُو ُهمْ عِنْدَ‬


‫وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُوهُمْ وَأَخْرِجُو ُهمْ مِنْ حَ ْيثُ َأخْرَجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ َأشَدّ مِنَ ا ْلقَ ْت ِ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ َكذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ * فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * َوقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا َتكُونَ فِتْنَ ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْ َت َهوْا فَلَا عُ ْدوَانَ إِلّا عَلَى الظّاِلمِينَ‬
‫َ‬
‫}‬

‫هذه اليات‪ ,‬تتضمن المر بالقتال في سبيل ال‪ ,‬وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة‪ ,‬لما قوي‬
‫المسلمون للقتال‪ ,‬أمرهم ال به‪ ,‬بعد ما كانوا مأمورين بكف أيديهم‪ ،‬وفي تخصيص القتال { فِي‬
‫سَبِيلِ اللّهِ } حث على الخلص‪ ,‬ونهي عن القتتال في الفتن بين المسلمين‪.‬‬

‫{ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ } أي‪ :‬الذين هم مستعدون لقتالكم‪ ,‬وهم المكلفون الرجال‪ ,‬غير الشيوخ الذين ل‬
‫رأي لهم ول قتال‪.‬‬

‫والنهي عن العتداء‪ ,‬يشمل أنواع العتداء كلها‪ ,‬من قتل من ل يقاتل‪ ,‬من النساء‪ ,‬والمجانين‬
‫والطفال‪ ,‬والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى‪ ,‬وقتل الحيوانات‪ ,‬وقطع الشجار [ونحوها]‪ ,‬لغير‬
‫مصلحة تعود للمسلمين‪.‬‬

‫ومن العتداء‪ ,‬مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها‪ ,‬فإن ذلك ل يجوز‪.‬‬

‫{ وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُمْ } هذا أمر بقتالهم‪ ,‬أينما وجدوا في كل وقت‪ ,‬وفي كل زمان قتال‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ } وأنه ل يجوز إل‬
‫مدافعة‪ ,‬وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم قتالهم { عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫أن يبدأوا بالقتال‪ ,‬فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم‪ ،‬وهذا مستمر في كل وقت‪ ,‬حتى ينتهوا‬
‫عن كفرهم فيسلموا‪ ,‬فإن ال يتوب عليهم‪ ,‬ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بال‪ ,‬والشرك في‬
‫المسجد الحرام‪ ,‬وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده‪.‬‬

‫ولما كان القتال عند المسجد الحرام‪ ,‬يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام‪ ,‬أخبر تعالى أن المفسدة‬
‫بالفتنة عنده بالشرك‪ ,‬والصد عن دينه‪ ,‬أشد من مفسدة القتل‪ ,‬فليس عليكم ‪ -‬أيها المسلمون ‪ -‬حرج‬
‫في قتالهم‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية على القاعدة المشهورة‪ ،‬وهي‪ :‬أنه يرتكب أخف المفسدتين‪ ,‬لدفع أعلهما‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله‪ ,‬وأنه ليس المقصود به‪ ,‬سفك دماء الكفار‪ ,‬وأخذ‬
‫أموالهم‪ ،‬ولكن المقصود به أن { َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ } تعالى‪ ,‬فيظهر دين ال [تعالى]‪ ,‬على سائر‬
‫الديان‪ ,‬ويدفع كل ما يعارضه‪ ,‬من الشرك وغيره‪ ,‬وهو المراد بالفتنة‪ ،‬فإذا حصل هذا المقصود‪,‬‬
‫ع ْدوَانَ إِلّا عَلَى الظّاِلمِينَ }‬
‫فل قتل ول قتال‪ { ،‬فَإِنِ انْ َت َهوْا } عن قتالكم عند المسجد الحرام { فَلَا ُ‬
‫أي‪ :‬فليس عليهم منكم اعتداء‪ ,‬إل من ظلم منهم‪ ,‬فإنه يستحق المعاقبة‪ ,‬بقدر ظلمه‪.‬‬

‫شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ‬
‫شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ‬
‫{ ‪ { } 194‬ال ّ‬
‫ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬

‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ } يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد‬


‫شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬ال ّ‬
‫المشركين للنبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية‪ ,‬عن الدخول لمكة‪ ,‬وقاضوهم على‬
‫دخولها من قابل‪ ,‬وكان الصد والقضاء في شهر حرام‪ ,‬وهو ذو القعدة‪ ,‬فيكون هذا بهذا‪ ،‬فيكون‬
‫فيه‪ ,‬تطييب لقلوب الصحابة‪ ,‬بتمام نسكهم‪ ,‬وكماله‪.‬‬

‫ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه‪ ,‬وهم المعتدون‪,‬‬
‫فليس عليكم في ذلك حرج‪ ،‬وعلى هذا فيكون قوله‪ { :‬وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ } من باب عطف العام‬
‫على الخاص‪ ،‬أي‪ :‬كل شيء يحترم من شهر حرام‪ ,‬أو بلد حرام‪ ,‬أو إحرام‪ ,‬أو ما هو أعم من‬
‫ذلك‪ ,‬جميع ما أمر الشرع باحترامه‪ ,‬فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه‪ ،‬فمن قاتل في الشهر الحرام‪,‬‬
‫قوتل‪ ،‬ومن هتك البلد الحرام‪ ,‬أخذ منه الحد‪ ,‬ولم يكن له حرمة‪ ،‬ومن قتل مكافئا له قتل به‪ ,‬ومن‬
‫جرحه أو قطع عضوا‪ ,‬منه‪ ,‬اقتص منه‪ ،‬ومن أخذ مال غيره المحترم‪ ,‬أخذ منه بدله‪ ،‬ولكن هل‬
‫لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم ل؟ خلف بين العلماء‪ ,‬الراجح من ذلك‪ ,‬أنه إن كان‬
‫سبب الحق ظاهرا كالضيف‪ ,‬إذا لم يقره غيره‪ ,‬والزوجة‪ ,‬والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة‬
‫[من النفاق عليه] فإنه يجوز أخذه من ماله‪.‬‬
‫وإن كان السبب خفيا‪ ,‬كمن جحد دين غيره‪ ,‬أو خانه في وديعة‪ ,‬أو سرق منه ونحو ذلك‪ ,‬فإنه ل‬
‫يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له‪ ,‬جمعا بين الدلة‪ ,‬ولهذا قال تعالى‪ ,‬تأكيدا وتقوية لما تقدم‪:‬‬
‫علَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ } هذا تفسير لصفة المقاصة‪ ,‬وأنها هي‬
‫{ َفمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا َ‬
‫المماثلة في مقابلة المعتدي‪.‬‬

‫ولما كانت النفوس ‪ -‬في الغالب ‪ -‬ل تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي‪,‬‬
‫أمر تعالى بلزوم تقواه‪ ,‬التي هي الوقوف عند حدوده‪ ,‬وعدم تجاوزها‪ ,‬وأخبر تعالى أنه { مَعَ‬
‫ا ْلمُ ّتقِينَ } أي‪ :‬بالعون‪ ,‬والنصر‪ ,‬والتأييد‪ ,‬والتوفيق‪.‬‬

‫ومن كان ال معه‪ ,‬حصل له السعادة البدية‪ ،‬ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه‪ ,‬وخذله‪ ,‬فوكله‬
‫إلى نفسه فصار هلكه أقرب إليه من حبل الوريد‪.‬‬

‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }‬
‫{ ‪ { } 195‬وَأَنْ ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَا تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَ ِة وََأحْسِنُوا إِنّ اللّهَ يُ ِ‬

‫يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله‪ ,‬وهو إخراج الموال في الطرق الموصلة إلى ال‪ ،‬وهي كل‬
‫طرق الخير‪ ,‬من صدقة على مسكين‪ ,‬أو قريب‪ ,‬أو إنفاق على من تجب مؤنته‪.‬‬

‫وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك النفاق في الجهاد في سبيل ال‪ ،‬فإن النفقة فيه جهاد بالمال‪,‬‬
‫وهو فرض كالجهاد بالبدن‪ ،‬وفيها من المصالح العظيمة‪ ,‬العانة على تقوية المسلمين‪ ,‬وعلى‬
‫توهية الشرك وأهله‪ ,‬وعلى إقامة دين ال وإعزازه‪ ،‬فالجهاد في سبيل ال ل يقوم إل على ساق‬
‫النفقة‪ ،‬فالنفقة له كالروح‪ ,‬ل يمكن وجوده بدونها‪ ،‬وفي ترك النفاق في سبيل ال‪ ,‬إبطال للجهاد‪,‬‬
‫وتسليط للعداء‪ ,‬وشدة تكالبهم‪ ،‬فيكون قوله تعالى‪ { :‬وَلَا تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } كالتعليل لذلك‪،‬‬
‫واللقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين‪ :‬ترك ما أمر به العبد‪ ,‬إذا كان تركه موجبا أو مقاربا‬
‫لهلك البدن أو الروح‪ ،‬وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح‪ ,‬فيدخل تحت ذلك‬
‫أمور كثيرة‪ ،‬فمن ذلك‪ ,‬ترك الجهاد في سبيل ال‪ ,‬أو النفقة فيه‪ ,‬الموجب لتسلط العداء‪ ،‬ومن ذلك‬
‫تغرير النسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف‪ ,‬أو محل مسبعة أو حيات‪ ,‬أو يصعد شجرا أو‬
‫بنيانا خطرا‪ ,‬أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك‪ ،‬فهذا ونحوه‪ ,‬ممن ألقى بيده إلى التهلكة‪.‬‬

‫ومن اللقاء باليد إلى التهلكة القامة على معاصي ال‪ ,‬واليأس من التوبة‪ ،‬ومنها ترك ما أمر ال‬
‫به من الفرائض‪ ,‬التي في تركها هلك للروح والدين‪.‬‬
‫ولما كانت النفقة في سبيل ال نوعا من أنواع الحسان‪ ,‬أمر بالحسان عموما فقال‪ { :‬وَأَحْسِنُوا إِنّ‬
‫حسِنِينَ } وهذا يشمل جميع أنواع الحسان‪ ,‬لنه لم يقيده بشيء دون شيء‪ ،‬فيدخل فيه‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫اللّهَ ُي ِ‬
‫الحسان بالمال كما تقدم‪.‬‬

‫ويدخل فيه الحسان بالجاه‪ ,‬بالشفاعات ونحو ذلك‪ ،‬ويدخل في ذلك‪ ,‬الحسان بالمر بالمعروف‪,‬‬
‫والنهي عن المنكر‪ ,‬وتعليم العلم النافع‪ ،‬ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس‪ ,‬من تفريج كرباتهم‬
‫وإزالة شداتهم‪ ,‬وعيادة مرضاهم‪ ,‬وتشييع جنائزهم‪ ,‬وإرشاد ضالهم‪ ,‬وإعانة من يعمل عمل‪,‬‬
‫والعمل لمن ل يحسن العمل ونحو ذلك‪ ,‬مما هو من الحسان الذي أمر ال به‪ ،‬ويدخل في‬
‫الحسان أيضا‪ ,‬الحسان في عبادة ال تعالى‪ ,‬وهو كما ذكر النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أن تعبد‬
‫ال كأنك تراه‪ ,‬فإن لم تكن تراه‪ ,‬فإنه يراك "‬

‫فمن اتصف بهذه الصفات‪ ,‬كان من الذين قال ال فيهم‪ { :‬لِلّذِينَ َأحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ } وكان ال‬
‫معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره‪.‬‬

‫{ ولما فرغ تعالى من [ذكر] أحكام الصيام فالجهاد‪ ,‬ذكر أحكام الحج فقال‪ { } 196 :‬وَأَ ِتمّوا ا ْلحَجّ‬
‫س ُكمْ حَتّى يَبْلُغَ ا ْلهَ ْديُ مَحِلّهُ َفمَنْ‬
‫ي وَلَا َتحِْلقُوا رُءُو َ‬
‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْد ِ‬
‫وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ فَإِنْ ُأ ْ‬
‫سكٍ فَإِذَا َأمِنْتُمْ َفمَنْ َتمَتّعَ‬
‫ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َد َقةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ بِهِ َأذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْ َيةٌ مِ ْ‬
‫جعْتُمْ‬
‫ج وَسَ ْبعَةٍ إِذَا َر َ‬
‫بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ َفمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ َثلَاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَ ّ‬
‫شدِيدُ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ ذَِلكَ ِلمَنْ َلمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬
‫ا ْل ِعقَابِ }‬

‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ } على أمور‪:‬‬


‫يستدل بقوله [تعالى]‪ { :‬وَأَ ِتمّوا ا ْلحَ ّ‬

‫أحدها‪ :‬وجوب الحج والعمرة‪ ,‬وفرضيتهما‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬وجوب إتمامهما بأركانهما‪ ,‬وواجباتهما‪ ,‬التي قد دل عليها فعل النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وقوله‪ " :‬خذوا عني مناسككم "‬

‫الثالث‪ :‬أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما‪ ,‬ولو كانا نفل‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬المر بإتقانهما وإحسانهما‪ ,‬وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما‪.‬‬

‫السادس‪ :‬وفيه المر بإخلصهما ل تعالى‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أنه ل يخرج المحرم بهما بشيء من الشياء حتى يكملهما‪ ,‬إل بما استثناه ال‪ ,‬وهو‬
‫حصِرْتُمْ } أي‪ :‬منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما‪ ,‬بمرض‪ ,‬أو‬
‫الحصر‪ ,‬فلهذا قال‪ { :‬فَإِنْ ُأ ْ‬
‫ضللة‪ ,‬أو عدو‪ ,‬ونحو ذلك من أنواع الحصر‪ ,‬الذي هو المنع‪.‬‬

‫{ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ } أي‪ :‬فاذبحوا ما استيسر من الهدي‪ ,‬وهو سبع بدنة‪ ,‬أو سبع بقرة‪ ,‬أو‬
‫شاة يذبحها المحصر‪ ,‬ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه‪ ,‬لما صدهم المشركون عام الحديبية‪ ،‬فإن لم يجد الهدي‪ ,‬فليصم بدله عشرة أيام كما في‬
‫المتمتع ثم يحل‪.‬‬

‫حلّهُ } وهذا من محظورات الحرام‪ ,‬إزالة‬


‫سكُمْ حَتّى يَبُْلغَ ا ْلهَ ْديُ مَ ِ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَلَا َتحِْلقُوا ُرءُو َ‬
‫الشعر‪ ,‬بحلق أو غيره‪ ,‬لن المعنى واحد من الرأس‪ ,‬أو من البدن‪ ,‬لن المقصود من ذلك‪ ,‬حصول‬
‫الشعث والمنع من الترفه بإزالته‪ ,‬وهو موجود في بقية الشعر‪.‬‬

‫وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر‪ ,‬تقليم الظفار بجامع الترفه‪ ،‬ويستمر المنع مما ذكر‪,‬‬
‫حتى يبلغ الهدي محله‪ ,‬وهو يوم النحر‪ ،‬والفضل أن يكون الحلق بعد النحر‪ ,‬كما تدل عليه الية‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية على أن المتمتع إذا ساق الهدي‪ ,‬لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر‪ ،‬فإذا طاف‬
‫وسعى للعمرة‪ ,‬أحرم بالحج‪ ,‬ولم يكن له إحلل بسبب سوق الهدي‪ ،‬وإنما منع تبارك وتعالى من‬
‫ذلك‪ ,‬لما فيه من الذل والخضوع ل والنكسار له‪ ,‬والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد‪ ,‬وليس‬
‫عليه في ذلك من ضرر‪ ،‬فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض‪ ,‬ينتفع بحلق رأسه له‪ ,‬أو‬
‫قروح‪ ,‬أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه‪ ,‬ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلثة أيام‪,‬‬
‫أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية‪ ,‬فهو مخير‪ ،‬والنسك أفضل‪ ,‬فالصدقة‪,‬‬
‫فالصيام‪.‬‬

‫ومثل هذا‪ ,‬كل ما كان في معنى ذلك‪ ,‬من تقليم الظفار‪ ,‬أو تغطية الرأس‪ ,‬أو لبس المخيط‪ ,‬أو‬
‫الطيب‪ ,‬فإنه يجوز عند الضرورة‪ ,‬مع وجوب الفدية المذكورة لن القصد من الجميع‪ ,‬إزالة ما به‬
‫يترفه‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬فَِإذَا َأمِنْتُمْ } أي‪ :‬بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره‪َ { ،‬فمَنْ َتمَتّعَ‬
‫بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ } بأن توصل بها إليه‪ ,‬وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها‪.‬‬
‫{ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ } أي‪ :‬فعليه ما تيسر من الهدي‪ ,‬وهو ما يجزئ في أضحية‪ ،‬وهذا دم‬
‫نسك‪ ,‬مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة‪ ,‬ولنعام ال عليه بحصول النتفاع بالمتعة بعد‬
‫فراغ العمرة‪ ,‬وقبل الشروع في الحج‪ ،‬ومثلها القِران لحصول النسكين له‪.‬‬

‫ويدل مفهوم الية‪ ,‬على أن المفرد للحج‪ ,‬ليس عليه هدي‪ ،‬ودلت الية‪ ,‬على جواز‪ ,‬بل فضيلة‬
‫المتعة‪ ,‬وعلى جواز فعلها في أشهر الحج‪.‬‬

‫جدْ } أي الهدي أو ثمنه { َفصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَجّ } أول جوازها من حين الحرام‬
‫{ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫بالعمرة‪ ,‬وآخرها ثلثة أيام بعد النحر‪ ,‬أيام رمي الجمار‪ ,‬والمبيت بـ "منى" ولكن الفضل منها‪,‬‬
‫جعْتُمْ } أي‪ :‬فرغتم من أعمال الحج‪ ,‬فيجوز‬
‫أن يصوم السابع‪ ,‬والثامن‪ ,‬والتاسع‪ { ،‬وَسَ ْبعَةٍ إِذَا َر َ‬
‫فعلها في مكة‪ ,‬وفي الطريق‪ ,‬وعند وصوله إلى أهله‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } المذكور من وجوب الهدي على المتمتع { ِلمَنْ َلمْ َيكُنْ أَهُْلهُ حَاضِرِي ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ }‬
‫بأن كان عند مسافة قصر فأكثر‪ ,‬أو بعيدا عنه عرفات‪ ,‬فهذا الذي يجب عليه الهدي‪ ,‬لحصول‬
‫النسكين له في سفر واحد‪ ،‬وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام‪ ,‬فليس عليه هدي لعدم‬
‫الموجب لذلك‪.‬‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ } أي‪ :‬في جميع أموركم‪ ,‬بامتثال أوامره‪ ,‬واجتناب نواهيه‪ ،‬ومن ذلك‪ ,‬امتثالكم‪ ,‬لهذه‬
‫المأمورات‪ ,‬واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الية‪.‬‬

‫شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } أي‪ :‬لمن عصاه‪ ,‬وهذا هو الموجب للتقوى‪ ,‬فإن من خاف عقاب‬
‫{ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫ال‪ ,‬انكف عما يوجب العقاب‪ ،‬كما أن من رجا ثواب ال عمل لما يوصله إلى الثواب‪ ،‬وأما من لم‬
‫يخف العقاب‪ ,‬ولم يرج الثواب‪ ,‬اقتحم المحارم‪ ,‬وتجرأ على ترك الواجبات‪.‬‬

‫جدَالَ فِي‬
‫ج فَلَا رَفَثَ وَلَا ُفسُوقَ وَلَا ِ‬
‫ن ا ْلحَ ّ‬
‫ض فِيهِ ّ‬
‫ن فَرَ َ‬
‫ش ُهرٌ َمعْلُومَاتٌ َفمَ ْ‬
‫حجّ َأ ْ‬
‫{ ‪ { } 197‬ا ْل َ‬
‫ن يَا أُولِي ا ْلأَ ْلبَابِ }‬
‫خ ْيرَ الزّادِ التّ ْقوَى وَاتّقُو ِ‬
‫خ ْيرٍ َيعَْلمْ ُه اللّهُ َو َتزَ ّودُوا َفإِنّ َ‬
‫ا ْلحَجّ َومَا تَ ْفعَلُوا ِمنْ َ‬

‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين‪ ,‬مشهورات‪ ,‬بحيث ل‬


‫ج } واقع في { َأ ْ‬
‫يخبر تعالى أن { ا ْلحَ ّ‬
‫تحتاج إلى تخصيص‪ ،‬كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره‪ ,‬وكما بين تعالى أوقات الصلوات‬
‫الخمس‪.‬‬

‫وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم‪ ,‬التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم‪.‬‬
‫والمراد بالشهر المعلومات عند جمهور العلماء‪ :‬شوال‪ ,‬وذو القعدة‪ ,‬وعشر من ذي الحجة‪,‬‬
‫فهي التي يقع فيها الحرام بالحج غالبا‪.‬‬

‫ج } أي‪ :‬أحرم به‪ ,‬لن الشروع فيه يصيره فرضا‪ ,‬ولو كان نفل‪.‬‬
‫ن ا ْلحَ ّ‬
‫ض فِيهِ ّ‬
‫ن فَرَ َ‬
‫{ َفمَ ْ‬

‫واستدل بهذه الية الشافعي ومن تابعه‪ ,‬على أنه ل يجوز الحرام بالحج قبل أشهره‪ ،‬قلت لو‬
‫قيل‪ :‬إن فيها دللة لقول الجمهور‪ ,‬بصحة الحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا‪ ،‬فإن قوله‪:‬‬
‫ج } دليل على أن الفرض قد يقع في الشهر المذكورة وقد ل يقع فيها‪,‬‬
‫ن ا ْلحَ ّ‬
‫ض فِيهِ ّ‬
‫ن فَرَ َ‬
‫{ َفمَ ْ‬
‫وإل لم يقيده‪.‬‬

‫ج } أي‪ :‬يجب أن تعظموا الحرام بالحج‪,‬‬


‫جدَالَ فِي ا ْلحَ ّ‬
‫وقوله‪ { :‬فَلَا َرفَثَ وَلَا ُفسُوقَ وَلَا ِ‬
‫وخصوصا الواقع في أشهره‪ ,‬وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه‪ ,‬من الرفث وهو الجماع‬
‫ومقدماته الفعلية والقولية‪ ,‬خصوصا عند النساء بحضرتهن‪.‬‬

‫والفسوق وهو‪ :‬جميع المعاصي‪ ,‬ومنها محظورات الحرام‪.‬‬

‫والجدال وهو‪ :‬المماراة والمنازعة والمخاصمة‪ ,‬لكونها تثير الشر‪ ,‬وتوقع العداوة‪.‬‬

‫والمقصود من الحج‪ ,‬الذل والنكسار ل‪ ,‬والتقرب إليه بما أمكن من القربات‪ ,‬والتنزه عن‬
‫مقارفة السيئات‪ ,‬فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور‪ ,‬ليس له جزاء إل الجنة‪ ،‬وهذه الشياء وإن‬
‫كانت ممنوعة في كل مكان وزمان‪ ,‬فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج‪.‬‬

‫واعلم أنه ل يتم التقرب إلى ال بترك المعاصي حتى يفعل الوامر‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ومَا‬
‫خيْرٍ َيعَْلمْ ُه اللّ ُه } أتى بـ " من " لتنصيص على العموم‪ ،‬فكل خير وقربة وعبادة‪,‬‬
‫ن َ‬
‫تَ ْفعَلُوا مِ ْ‬
‫داخل في ذلك‪ ،‬أي‪ :‬فإن ال به عليم‪ ,‬وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير‪ ,‬وخصوصا‬
‫في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة‪ ,‬فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها‪ ,‬من صلة‪,‬‬
‫وصيام‪ ,‬وصدقة‪ ,‬وطواف‪ ,‬وإحسان قولي وفعلي‪.‬‬

‫ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك‪ ,‬فإن التزود فيه الستغناء عن المخلوقين‪ ,‬والكف عن‬
‫أموالهم‪ ,‬سؤال واستشرافا‪ ،‬وفي الكثار منه نفع وإعانة للمسافرين‪ ,‬وزيادة قربة لرب العالمين‪،‬‬
‫وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع‪.‬‬
‫وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه‪ ,‬في دنياه‪ ,‬وأخراه‪ ,‬فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى‬
‫دار القرار‪ ,‬وهو الموصل لكمل لذة‪ ,‬وأجل نعيم دائم أبدا‪ ،‬ومن ترك هذا الزاد‪ ,‬فهو المنقطع‬
‫به الذي هو عرضة لكل شر‪ ,‬وممنوع من الوصول إلى دار المتقين‪ .‬فهذا مدح للتقوى‪.‬‬

‫ن يَا أُولِي ا ْلأَ ْلبَابِ } أي‪ :‬يا أهل العقول الرزينة‪ ,‬اتقوا‬
‫ثم أمر بها أولي اللباب فقال‪ { :‬وَاتّقُو ِ‬
‫ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول‪ ,‬وتركها دليل على الجهل‪ ,‬وفساد الرأي‪.‬‬

‫ع َرفَاتٍ‬
‫ن َر ّبكُمْ َفِإذَا َأ َفضْ ُتمْ مِنْ َ‬
‫جنَاحٌ َأنْ َت ْب َتغُوا فَضْلًا مِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 202 - 198‬ليْسَ عََل ْي ُكمْ ُ‬
‫ن * ُثمّ‬
‫ن الضّالّي َ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم مِنْ َقبْلِ ِه َلمِ َ‬
‫حرَامِ وَا ْذكُرُوهُ َكمَا َهدَا ُكمْ وَإِ ْ‬
‫شعَرِ ا ْل َ‬
‫ع ْندَ ا ْل َم ْ‬
‫فَا ْذ ُكرُوا اللّهَ ِ‬
‫س َك ُكمْ‬
‫ض ْي ُتمْ َمنَا ِ‬
‫س َتغْفِرُوا اللّهَ ِإنّ اللّهَ غَفُو ٌر رَحِيمٌ * َفِإذَا قَ َ‬
‫ث َأفَاضَ النّاسُ وَا ْ‬
‫حيْ ُ‬
‫َأفِيضُوا مِنْ َ‬
‫ن يَقُولُ َر ّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّد ْنيَا َومَا َلهُ فِي‬
‫ن النّاسِ مَ ْ‬
‫شدّ ِذكْرًا َفمِ َ‬
‫فَا ْذ ُكرُوا اللّهَ َك ِذ ْك ِركُمْ آبَا َء ُكمْ أَ ْو َأ َ‬
‫عذَابَ‬
‫حسَنَةً َو ِقنَا َ‬
‫خرَ ِة َ‬
‫حسَنَةً َوفِي الْآ ِ‬
‫ل َر ّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّد ْنيَا َ‬
‫ن يَقُو ُ‬
‫ن خَلَاقٍ * َو ِم ْن ُهمْ مَ ْ‬
‫الْآخِرَ ِة مِ ْ‬
‫حسَابِ }‬
‫سرِيعُ ا ْل ِ‬
‫سبُوا وَاللّهُ َ‬
‫النّا ِر * أُوَل ِئكَ َل ُهمْ َنصِيبٌ ِممّا َك َ‬

‫لما أمر تعالى بالتقوى‪ ,‬أخبر تعالى أن ابتغاء فضل ال بالتكسب في مواسم الحج وغيره‪ ,‬ليس‬
‫فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج‪ ,‬وكان الكسب حلل منسوبا إلى‬
‫فضل ال‪ ,‬ل منسوبا إلى حذق العبد‪ ,‬والوقوف مع السبب‪ ,‬ونسيان المسبب‪ ,‬فإن هذا هو الحرج‬
‫بعينه‪.‬‬

‫حرَامِ } دللة على أمور‪:‬‬


‫شعَرِ ا ْل َ‬
‫ع ْندَ ا ْل َم ْ‬
‫عرَفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ ِ‬
‫ضتُ ْم مِنْ َ‬
‫وفي قوله‪َ { :‬فإِذَا َأ َف ْ‬

‫أحدها‪ :‬الوقوف بعرفة‪ ,‬وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج‪ ،‬فالفاضة من عرفات‪ ,‬ل‬
‫تكون إل بعد الوقوف‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬المر بذكر ال عند المشعر الحرام‪ ,‬وهو المزدلفة‪ ,‬وذلك أيضا معروف‪ ,‬يكون ليلة‬
‫النحر بائتا بها‪ ,‬وبعد صلة الفجر‪ ,‬يقف في المزدلفة داعيا‪ ,‬حتى يسفر جدا‪ ,‬ويدخل في ذكر‬
‫ال عنده‪ ,‬إيقاع الفرائض والنوافل فيه‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن الوقوف بمزدلفة‪ ,‬متأخر عن الوقوف بعرفة‪ ,‬كما تدل عليه الفاء والترتيب‪.‬‬

‫الرابع‪ ,‬والخامس‪ :‬أن عرفات ومزدلفة‪ ,‬كلهما من مشاعر الحج المقصود فعلها‪ ,‬وإظهارها‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن مزدلفة في الحرم‪ ,‬كما قيده بالحرام‪.‬‬


‫السابع‪ :‬أن عرفة في الحل‪ ,‬كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة "‬

‫ن عليكم‬
‫ن } أي‪ :‬اذكروا ال تعالى كما م ّ‬
‫ن الضّالّي َ‬
‫ن قَبْلِ ِه َلمِ َ‬
‫ن ُك ْن ُتمْ مِ ْ‬
‫{ وَا ْذكُرُو ُه َكمَا َهدَاكُمْ وَإِ ْ‬
‫بالهداية بعد الضلل‪ ,‬وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ ،‬فهذه من أكبر النعم‪ ,‬التي يجب شكرها‬
‫ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان‪.‬‬

‫ض النّاسُ } أي‪ :‬ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس‪ ,‬من‬


‫ث َأفَا َ‬
‫حيْ ُ‬
‫{ ُثمّ َأفِيضُوا ِمنْ َ‬
‫لدن إبراهيم عليه السلم إلى الن‪ ،‬والمقصود من هذه الفاضة كان معروفا عندهم‪ ,‬وهو رمي‬
‫الجمار‪ ,‬وذبح الهدايا‪ ,‬والطواف‪ ,‬والسعي‪ ,‬والمبيت بـ " منى " ليالي التشريق وتكميل باقي‬
‫المناسك‪.‬‬

‫ولما كانت [هذه] الفاضة‪ ,‬يقصد بها ما ذكر‪ ,‬والمذكورات آخر المناسك‪ ,‬أمر تعالى عند‬
‫الفراغ منها باستغفاره والكثار من ذكره‪ ،‬فالستغفار للخلل الواقع من العبد‪ ,‬في أداء عبادته‬
‫وتقصيره فيها‪ ،‬وذكر ال شكر ال على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة‬
‫الجسيمة‪.‬‬

‫وهكذا ينبغي للعبد‪ ,‬كلما فرغ من عبادة‪ ,‬أن يستغفر ال عن التقصير‪ ,‬ويشكره على التوفيق‪ ,‬ل‬
‫كمن يرى أنه قد أكمل العبادة‪ ,‬ومن بها على ربه‪ ,‬وجعلت له محل ومنزلة رفيعة‪ ,‬فهذا حقيق‬
‫بالمقت‪ ,‬ورد الفعل‪ ،‬كما أن الول‪ ,‬حقيق بالقبول والتوفيق لعمال أخر‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق‪ ,‬وأن الجميع يسألونه مطالبهم‪ ,‬ويستدفعونه ما يضرهم‪ ,‬ولكن‬
‫مقاصدهم تختلف‪ ،‬فمنهم‪َ { :‬منْ يَقُولُ َر ّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّد ْنيَا } أي‪ :‬يسأله من مطالب الدنيا ما هو‬
‫من شهواته‪ ,‬وليس له في الخرة من نصيب‪ ,‬لرغبته عنها‪ ,‬وقصر همته على الدنيا‪ ،‬ومنهم من‬
‫يدعو ال لمصلحة الدارين‪ ,‬ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه‪ ،‬وكل من هؤلء وهؤلء‪ ,‬لهم‬
‫نصيب من كسبهم وعملهم‪ ,‬وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم‪ ,‬وهماتهم ونياتهم‪ ,‬جزاء‬
‫دائرا بين العدل والفضل‪ ,‬يحمد عليه أكمل حمد وأتمه‪ ،‬وفي هذه الية دليل على أن ال يجيب‬
‫دعوة كل داع‪ ,‬مسلما أو كافرا‪ ,‬أو فاسقا‪ ،‬ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه‪ ,‬دليل على محبته‬
‫له وقربه منه‪ ,‬إل في مطالب الخرة ومهمات الدين‪.‬‬

‫والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد‪ ,‬من رزق هنيء واسع‬
‫حلل‪ ,‬وزوجة صالحة‪ ,‬وولد تقر به العين‪ ,‬وراحة‪ ,‬وعلم نافع‪ ,‬وعمل صالح‪ ,‬ونحو ذلك‪ ,‬من‬
‫المطالب المحبوبة والمباحة‪.‬‬
‫وحسنة الخرة‪ ,‬هي السلمة من العقوبات‪ ,‬في القبر‪ ,‬والموقف‪ ,‬والنار‪ ,‬وحصول رضا ال‪,‬‬
‫والفوز بالنعيم المقيم‪ ,‬والقرب من الرب الرحيم‪ ،‬فصار هذا الدعاء‪ ,‬أجمع دعاء وأكمله‪ ,‬وأوله‬
‫باليثار‪ ,‬ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم يكثر من الدعاء به‪ ,‬والحث عليه‪.‬‬

‫خرَ فَلَا‬
‫ن َت َعجّلَ فِي َي ْو َميْنِ فَلَا ِإ ْثمَ عََليْهِ َو َمنْ َتَأ ّ‬
‫{ ‪ { } 203‬وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي َأيّامٍ َم ْعدُودَاتٍ َفمَ ْ‬
‫حشَرُونَ }‬
‫ن اتّقَى وَاتّقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا َأ ّن ُكمْ إَِليْ ِه ُت ْ‬
‫ِإ ْثمَ عََل ْيهِ ِلمَ ِ‬

‫يأمر تعالى بذكره في اليام المعدودات‪ ,‬وهي أيام التشريق الثلثة بعد العيد‪ ,‬لمزيتها وشرفها‪,‬‬
‫وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها‪ ,‬ولكون الناس أضيافا ل فيها‪ ,‬ولهذا حرم صيامها‪ ،‬فللذكر‬
‫فيها مزية ليست لغيرها‪ ,‬ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أيام التشريق‪ ,‬أيام أكل‬
‫وشرب‪ ,‬وذكر ال "‬

‫ويدخل في ذكر ال فيها‪ ,‬ذكره عند رمي الجمار‪ ,‬وعند الذبح‪ ,‬والذكر المقيد عقب الفرائض‪،‬‬
‫بل قال بعض العلماء‪ :‬إنه يستحب فيها التكبير المطلق‪ ,‬كالعشر‪ ,‬وليس ببعيد‪.‬‬

‫ن } أي‪ :‬خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلَا‬
‫ن َت َعجّلَ فِي يَ ْو َميْ ِ‬
‫{ َفمَ ْ‬
‫خرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلَا ِإ ْثمَ عََل ْيهِ } وهذا تخفيف من‬
‫ِإ ْثمَ عََل ْيهِ َومَنْ َتَأ ّ‬
‫ال [تعالى] على عباده‪ ,‬في إباحة كل المرين‪ ،‬ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كل المرين‪,‬‬
‫فالمتأخر أفضل‪ ,‬لنه أكثر عبادة‪.‬‬

‫ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره‪ ,‬والحاصل أن‬
‫الحرج منفي عن المتقدم‪ ،‬والمتأخر فقط قيده بقوله‪ِ { :‬ل َمنِ اتّقَى } أي‪ :‬اتقى ال في جميع‬
‫أموره‪ ,‬وأحوال الحج‪ ،‬فمن اتقى ال في كل شيء‪ ,‬حصل له نفي الحرج في كل شيء‪ ،‬ومن‬
‫اتقاه في شيء دون شيء‪ ,‬كان الجزاء من جنس العمل‪.‬‬

‫ن } فمجازيكم‬
‫شرُو َ‬
‫حَ‬‫{ وَاتّقُوا اللّ َه } بامتثال أوامره واجتناب معاصيه‪ { ،‬وَاعَْلمُوا َأ ّنكُ ْم إَِليْهِ ُت ْ‬
‫بأعمالكم‪ ،‬فمن اتقاه‪ ,‬وجد جزاء التقوى عنده‪ ,‬ومن لم يتقه‪ ,‬عاقبه أشد العقوبة‪ ،‬فالعلم بالجزاء‬
‫من أعظم الدواعي لتقوى ال‪ ,‬فلهذا حث تعالى على العلم بذلك‪.‬‬

‫ش ِهدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ‬


‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا َو ُي ْ‬
‫جبُكَ قَوُْل ُه فِي ا ْل َ‬
‫ن ُي ْع ِ‬
‫ن النّاسِ مَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 206 - 204‬ومِ َ‬
‫حرْثَ وَال ّنسْلَ وَاللّ ُه لَا ُيحِبّ‬
‫سدَ فِيهَا َو ُيهِْلكَ ا ْل َ‬
‫سعَى فِي ا ْلَأرْضِ ِليُ ْف ِ‬
‫وَ ُهوَ أََل ّد ا ْلخِصَامِ * وَِإذَا تَوَلّى َ‬
‫ج َه ّنمُ وََل ِبئْسَ ا ْل ِمهَادُ }‬
‫سبُهُ َ‬
‫حْ‬‫خ َذتْهُ ا ْل ِعزّ ُة بِا ْلِإثْمِ َف َ‬
‫ل لَ ُه ا ّتقِ اللّ َه َأ َ‬
‫الْ َفسَادَ * وَِإذَا قِي َ‬
‫لما أمر تعالى بالكثار من ذكره‪ ,‬وخصوصا في الوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة‬
‫وبر‪ ,‬أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله‪ ,‬فالكلم إما أن يرفع النسان أو‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا } أي‪ :‬إذا تكلم راق كلمه للسامع‪،‬‬
‫جبُكَ قَوُْل ُه فِي ا ْل َ‬
‫ن ُي ْع ِ‬
‫ن النّاسِ مَ ْ‬
‫يخفضه فقال‪َ { :‬ومِ َ‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَ ْلبِ ِه } بأن‬
‫وإذا نطق‪ ,‬ظننته يتكلم بكلم نافع‪ ,‬ويؤكد ما يقول بأنه { َو ُي ْ‬
‫يخبر أن ال يعلم‪ ,‬أن ما في قلبه موافق لما نطق به‪ ,‬وهو كاذب في ذلك‪ ,‬لنه يخالف قوله‬
‫فعله‪.‬‬

‫فلو كان صادقا‪ ,‬لتوافق القول والفعل‪ ,‬كحال المؤمن غير المنافق‪ ,‬فلهذا قال‪ { :‬وَ ُهوَ أََلدّ‬
‫خصَامِ } أي‪ :‬إذا خاصمته‪ ,‬وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب‪ ,‬وما يترتب على ذلك‪,‬‬
‫ا ْل ِ‬
‫ما هو من مقابح الصفات‪ ,‬ليس كأخلق المؤمنين‪ ,‬الذين جعلوا السهولة مركبهم‪ ,‬والنقياد للحق‬
‫وظيفتهم‪ ,‬والسماحة سجيتهم‪.‬‬

‫سدَ فِيهَا } أي‪:‬‬


‫سعَى فِي ا ْلَأرْضِ ِليُ ْف ِ‬
‫{ وَِإذَا تَوَلّى } هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك { َ‬
‫حرْثَ‬
‫يجتهد على أعمال المعاصي‪ ,‬التي هي إفساد في الرض { َو ُيهِْلكَ } بسبب ذلك { ا ْل َ‬
‫وَال ّنسْلَ } فالزروع والثمار والمواشي‪ ,‬تتلف وتنقص‪ ,‬وتقل بركتها‪ ,‬بسبب العمل في المعاصي‪،‬‬
‫ب الْ َفسَادَ } وإذا كان ل يحب الفساد‪ ,‬فهو يبغض العبد المفسد في الرض‪ ,‬غاية‬
‫{ وَاللّ ُه لَا ُيحِ ّ‬
‫البغض‪ ,‬وإن قال بلسانه قول حسنا‪.‬‬

‫ففي هذه الية دليل على أن القوال التي تصدر من الشخاص‪ ,‬ليست دليل على صدق ول‬
‫كذب‪ ,‬ول بر ول فجور حتى يوجد العمل المصدق لها‪ ,‬المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال‬
‫الشهود‪ ,‬والمحق والمبطل من الناس‪ ,‬بسبر أعمالهم‪ ,‬والنظر لقرائن أحوالهم‪ ,‬وأن ل يغتر‬
‫بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم‪.‬‬

‫خ َذتْهُ‬
‫ثم ذكر أن هذا المفسد في الرض بمعاصي ال‪ ,‬إذا أمر بتقوى ال تكبر وأنف‪ ،‬و { َأ َ‬
‫ا ْل ِعزّةُ بِا ْلِإ ْثمِ } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر على الناصحين‪.‬‬

‫ج َه ّنمُ } التي هي دار العاصين والمتكبرين‪ { ،‬وََل ِبئْسَ ا ْل ِمهَادُ } أي‪ :‬المستقر والمسكن‪,‬‬
‫سبُهُ َ‬
‫حْ‬‫{ َف َ‬
‫عذاب دائم‪ ,‬وهم ل ينقطع‪ ,‬ويأس مستمر‪ ,‬ل يخفف عنهم العذاب‪ ,‬ول يرجون الثواب‪ ,‬جزاء‬
‫لجناياتهم ومقابلة لعمالهم‪ ،‬فعياذا بال من أحوالهم‪.‬‬

‫ن َيشْرِي نَ ْفسَ ُه ا ْب ِتغَاءَ َمرْضَا ِة اللّهِ وَاللّ ُه رَءُوفٌ بِا ْل ِعبَا ِد }‬


‫ن النّاسِ مَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 207‬ومِ َ‬
‫هؤلء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة ال ورجاء لثوابه‪،‬‬
‫فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد‪ ،‬الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك‪ ،‬وقد‬
‫جنّةَ } إلى‬
‫س ُهمْ وََأ ْموَاَل ُهمْ ِبأَنّ َل ُهمُ ا ْل َ‬
‫ن َأنْ ُف َ‬
‫ن ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫شتَرَى مِ َ‬
‫ن اللّ َه ا ْ‬
‫وعد الوفاء بذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬إِ ّ‬
‫آخر الية‪ .‬وفي هذه الية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها‪ ،‬وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل‬
‫ما طلبوا‪ ،‬وبذل ما به رغبوا‪ ،‬فل تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم‪ ،‬وما ينالهم من‬
‫الفوز والتكريم‬

‫ن ِإنّهُ‬
‫شيْطَا ِ‬
‫ت ال ّ‬
‫خطُوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 209 - 208‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ا ْدخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً وَلَا َت ّتبِعُوا ُ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫عزِيزٌ َ‬
‫ت فَاعَْلمُوا َأنّ اللّهَ َ‬
‫ن زَلَ ْلتُ ْم مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َء ْتكُمُ ا ْل َب ّينَا ُ‬
‫ن * فَإِ ْ‬
‫عدُ ّو ُمبِي ٌ‬
‫َل ُكمْ َ‬

‫هذا أمر من ال تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السّلْمِ كَافّ ًة } أي‪ :‬في جميع شرائع الدين‪ ,‬ول‬
‫يتركوا منها شيئا‪ ,‬وأن ل يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه‪ ,‬إن وافق المر المشروع هواه فعله‪ ,‬وإن‬
‫خالفه‪ ,‬تركه‪ ،‬بل الواجب أن يكون الهوى‪ ,‬تبعا للدين‪ ,‬وأن يفعل كل ما يقدر عليه‪ ,‬من أفعال‬
‫الخير‪ ,‬وما يعجز عنه‪ ,‬يلتزمه وينويه‪ ,‬فيدركه بنيته‪.‬‬

‫ولما كان الدخول في السلم كافة‪ ,‬ل يمكن ول يتصور إل بمخالفة طرق الشيطان قال‪ { :‬وَلَا‬
‫ن } والعدو المبين‪ ,‬ل‬
‫عدُ ّو ُمبِي ٌ‬
‫ن } أي‪ :‬في العمل بمعاصي ال { ِإنّ ُه َل ُكمْ َ‬
‫شيْطَا ِ‬
‫ت ال ّ‬
‫خطُوَا ِ‬
‫َت ّت ِبعُوا ُ‬
‫يأمر إل بالسوء والفحشاء‪ ,‬وما به الضرر عليكم‪.‬‬

‫ن َب ْعدِ مَا جَا َء ْت ُكمُ ا ْل َب ّينَاتُ‬


‫ولما كان العبد ل بد أن يقع منه خلل وزلل‪ ,‬قال تعالى‪َ { :‬فإِنْ زَلَ ْل ُتمْ مِ ْ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫عزِي ٌز َ‬
‫} أي‪ :‬على علم ويقين { فَاعَْلمُوا َأنّ اللّهَ َ‬

‫وفيه من الوعيد الشديد‪ ,‬والتخويف‪ ,‬ما يوجب ترك الزلل‪ ,‬فإن العزيز القاهر الحكيم‪ ,‬إذا‬
‫عصاه العاصي‪ ,‬قهره بقوته‪ ,‬وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته‪ ,‬تعذيب العصاة والجناة‪.‬‬

‫ن ا ْل َغمَامِ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َو ُقضِيَ ا ْلَأ ْمرُ وَإِلَى‬


‫ن َي ْأ ِتيَ ُهمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِ َ‬
‫ل َي ْنظُرُونَ إِلّا أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 210‬هَ ْ‬
‫اللّ ِه ُت ْرجَعُ ا ْلُأمُورُ }‬

‫وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب‪ ،‬يقول تعالى‪ :‬هل ينتظر الساعون في‬
‫الفساد في الرض‪ ,‬المتبعون لخطوات الشيطان‪ ,‬النابذون لمر ال إل يوم الجزاء بالعمال‪,‬‬
‫الذي قد حشي من الهوال والشدائد والفظائع‪ ,‬ما يقلقل قلوب الظالمين‪ ,‬ويحق به الجزاء السيئ‬
‫على المفسدين‪.‬‬
‫وذلك أن ال تعالى يطوي السماوات والرض‪ ,‬وتنثر الكواكب‪ ,‬وتكور الشمس والقمر‪ ,‬وتنزل‬
‫الملئكة الكرام‪ ,‬فتحيط بالخلئق‪ ,‬وينزل الباري [تبارك] تعالى‪ { :‬فِي ظُلَلٍ ِمنَ ا ْل َغمَامِ } ليفصل‬
‫بين عباده بالقضاء العدل‪.‬‬

‫فتوضع الموازين‪ ,‬وتنشر الدواوين‪ ,‬وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة‪,‬‬
‫ويتميز أهل الخير من أهل الشر‪ ،‬وكل يجازى بعمله‪ ،‬فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم‬
‫حقيقة ما هو عليه‪.‬‬

‫وهذه الية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ,‬المثبتين للصفات الختيارية‪,‬‬
‫كالستواء‪ ,‬والنزول‪ ,‬والمجيء‪ ,‬ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى‪ ,‬عن نفسه‪ ,‬أو‬
‫أخبر بها عنه رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيثبتونها على وجه يليق بجلل ال وعظمته‪ ,‬من‬
‫غير تشبيه ول تحريف‪ ،‬خلفا للمعطلة على اختلف أنواعهم‪ ,‬من الجهمية‪ ,‬والمعتزلة‪,‬‬
‫والشعرية ونحوهم‪ ,‬ممن ينفي هذه الصفات‪ ,‬ويتأول لجلها اليات بتأويلت ما أنزل ال عليها‬
‫من سلطان‪ ,‬بل حقيقتها القدح في بيان ال وبيان رسوله‪ ,‬والزعم بأن كلمهم هو الذي تحصل‬
‫به الهداية في هذا الباب‪ ،‬فهؤلء ليس معهم دليل نقلي‪ ,‬بل ول دليل عقلي‪ ،‬أما النقلي فقد‬
‫اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة‪ ,‬ظاهرها بل صريحها‪ ,‬دال على مذهب أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ,‬وأنها تحتاج لدللتها على مذهبهم الباطل‪ ,‬أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها‬
‫وينقص‪ ،‬وهذا كما ترى ل يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‪.‬‬

‫وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات‪ ،‬بل العقل دل على أن الفاعل أكمل‬
‫من الذي ل يقدر على الفعل‪ ,‬وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال‪ ،‬فإن‬
‫زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه‪ ،‬قيل لهم‪ :‬الكلم على الصفات‪ ,‬يتبع الكلم على‬
‫الذات‪ ،‬فكما أن ل ذاتا ل تشبهها الذوات‪ ,‬فلله صفات ل تشبهها الصفات‪ ،‬فصفاته تبع لذاته‪,‬‬
‫وصفات خلقه‪ ,‬تبع لذواتهم‪ ,‬فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه‪.‬‬

‫ويقال أيضا‪ ,‬لمن أثبت بعض الصفات‪ ,‬ونفى بعضا‪ ,‬أو أثبت السماء دون الصفات‪ :‬إما أن‬
‫تثبت الجميع كما أثبته ال لنفسه‪ ,‬وأثبته رسوله‪ ،‬وإما أن تنفي الجميع‪ ,‬وتكون منكرا لرب‬
‫العالمين‪ ،‬وأما إثباتك بعض ذلك‪ ,‬ونفيك لبعضه‪ ,‬فهذا تناقض‪ ،‬ففرق بين ما أثبته‪ ,‬وما نفيته‪,‬‬
‫ولن تجد إلى الفرق سبيل‪ ،‬فإن قلت‪ :‬ما أثبته ل يقتضي تشبيها‪ ،‬قال لك أهل السنة‪ :‬والثبات‬
‫لما نفيته ل يقتضي تشبيها‪ ،‬فإن قلت‪ :‬ل أعقل من الذي نفيته إل التشبيه‪ ،‬قال لك النفاة‪ :‬ونحن‬
‫ل نعقل من الذي أثبته إل التشبيه‪ ،‬فما أجبت به النفاة‪ ,‬أجابك به أهل السنة‪ ,‬لما نفيته‪.‬‬
‫والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته‪ ,‬فهو متناقض‪ ,‬ل‬
‫يثبت له دليل شرعي ول عقلي‪ ,‬بل قد خالف المعقول والمنقول‪.‬‬

‫عسَى أَنْ‬
‫خ ْيرٌ َل ُكمْ وَ َ‬
‫ش ْيئًا وَ ُهوَ َ‬
‫ن َتكْرَهُوا َ‬
‫عسَى أَ ْ‬
‫{‪ُ {} 216‬كتِبَ عََل ْي ُكمُ الْ ِقتَالُ وَ ُهوَ ُكرْ ٌه َل ُكمْ َو َ‬
‫ن}‬
‫ش ْيئًا وَهُ َو شَرّ َل ُكمْ وَاللّهُ َيعَْلمُ وََأ ْنتُمْ لَا َتعَْلمُو َ‬
‫حبّوا َ‬
‫ُت ِ‬

‫هذه الية‪ ,‬فيها فرض القتال في سبيل ال‪ ,‬بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه‪ ,‬لضعفهم‪,‬‬
‫وعدم احتمالهم لذلك‪ ،‬فلما هاجر النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة‪ ,‬وكثر المسلمون‪ ,‬وقووا‬
‫أمرهم ال تعالى بالقتال‪ ،‬وأخبر أنه مكروه للنفوس‪ ,‬لما فيه من التعب والمشقة‪ ,‬وحصول أنواع‬
‫المخاوف والتعرض للمتالف‪ ،‬ومع هذا‪ ,‬فهو خير محض‪ ,‬لما فيه من الثواب العظيم‪ ,‬والتحرز‬
‫من العقاب الليم‪ ,‬والنصر على العداء والظفر بالغنائم‪ ,‬وغير ذلك‪ ,‬مما هو مرب‪ ,‬على ما‬
‫ش ْيئًا وَ ُه َو شَرّ َل ُكمْ } وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب‬
‫حبّوا َ‬
‫ن ُت ِ‬
‫عسَى أَ ْ‬
‫فيه من الكراهة { َو َ‬
‫الراحة‪ ,‬فإنه شر‪ ,‬لنه يعقب الخذلن‪ ,‬وتسلط العداء على السلم وأهله‪ ,‬وحصول الذل‬
‫والهوان‪ ,‬وفوات الجر العظيم وحصول العقاب‪.‬‬

‫وهذه اليات عامة مطردة‪ ,‬في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها‬
‫خير بل شك‪ ،‬وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر‬
‫بل شك‪.‬‬

‫وأما أحوال الدنيا‪ ,‬فليس المر مطردا‪ ,‬ولكن الغالب على العبد المؤمن‪ ,‬أنه إذا أحب أمرا من‬
‫المور‪ ,‬فقيض ال [له] من السباب ما يصرفه عنه أنه خير له‪ ,‬فالوفق له في ذلك‪ ,‬أن يشكر‬
‫ال‪ ,‬ويجعل الخير في الواقع‪ ,‬لنه يعلم أن ال تعالى أرحم بالعبد من نفسه‪ ,‬وأقدر على مصلحة‬
‫عبده منه‪ ,‬وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى‪ { ]:‬وَاللّهُ َيعَْلمُ وََأ ْن ُتمْ لَا َتعَْلمُونَ } فاللئق بكم أن‬
‫تتمشوا مع أقداره‪ ,‬سواء سرتكم أو ساءتكم‪.‬‬

‫ولما كان المر بالقتال‪ ,‬لو لم يقيد‪ ,‬لشمل الشهر الحرم وغيرها‪ ,‬استثنى تعالى‪ ,‬القتال في‬
‫صدّ‬
‫حرَامِ قِتَالٍ فِي ِه قُلْ ِقتَالٌ فِيهِ َكبِيرٌ َو َ‬
‫ش ْهرِ ا ْل َ‬
‫عنِ ال ّ‬
‫سأَلُو َنكَ َ‬
‫الشهر الحرم فقال‪َ { } 217 { :‬ي ْ‬
‫ن الْ َقتْلِ‬
‫ع ْن َد اللّهِ وَالْ ِف ْت َنةُ َأ ْك َبرُ مِ َ‬
‫خرَاجُ أَهِْلهِ ِم ْنهُ َأ ْك َبرُ ِ‬
‫حرَامِ وَِإ ْ‬
‫جدِ ا ْل َ‬
‫سِ‬‫سبِيلِ اللّهِ َوكُ ْفرٌ بِهِ وَا ْل َم ْ‬
‫عنْ َ‬
‫َ‬
‫ن دِينِ ِه َف َيمُتْ‬
‫ن َي ْر َتدِدْ ِم ْن ُكمْ عَ ْ‬
‫س َتطَاعُوا َومَ ْ‬
‫ن دِي ِنكُمْ ِإنِ ا ْ‬
‫حتّى َيرُدّو ُكمْ عَ ْ‬
‫ن يُقَاتِلُو َن ُكمْ َ‬
‫وَلَا َيزَالُو َ‬
‫ن}‬
‫ك َأصْحَابُ النّارِ ُه ْم فِيهَا خَاِلدُو َ‬
‫خرَةِ وَأُوَل ِئ َ‬
‫عمَاُل ُهمْ فِي ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ‬
‫ت أَ ْ‬
‫حبِطَ ْ‬
‫ك َ‬
‫وَ ُهوَ كَا ِفرٌ فَأُوَل ِئ َ‬

‫الجمهور على أن تحريم القتال في الشهر الحرم‪ ,‬منسوخ بالمر بقتال المشركين حيثما‬
‫وجدوا‪ ،‬وقال بعض المفسرين‪ :‬إنه لم ينسخ‪ ,‬لن المطلق محمول على المقيد‪ ،‬وهذه الية مقيدة‬
‫لعموم المر بالقتال مطلقا؛ ولن من جملة مزية الشهر الحرم‪ ،‬بل أكبر مزاياها‪ ,‬تحريم القتال‬
‫فيها‪ ,‬وهذا إنما هو في قتال البتداء‪ ،‬وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الشهر الحرم‪ ,‬كما يجوز‬
‫في البلد الحرام‪.‬‬

‫ولما كانت هذه الية نازلة بسبب ما حصل‪ ,‬لسرية عبد ال بن جحش‪ ,‬وقتلهم عمرو بن‬
‫الحضرمي‪ ,‬وأخذهم أموالهم‪ ,‬وكان ذلك ‪ -‬على ما قيل ‪ -‬في شهر رجب‪ ،‬عيرهم المشركون‬
‫بالقتال بالشهر الحرم‪ ,‬وكانوا في تعييرهم ظالمين‪ ,‬إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما‬
‫سبِيلِ اللّهِ } أي‪ :‬صد المشركين‬
‫ن َ‬
‫صدّ عَ ْ‬
‫عيروا به المسلمين‪ ,‬قال تعالى في بيان ما فيهم‪َ { :‬و َ‬
‫من يريد اليمان بال وبرسوله‪ ,‬وفتنتهم من آمن به‪ ,‬وسعيهم في ردهم عن دينهم‪ ,‬وكفرهم‬
‫الحاصل في الشهر الحرام‪ ,‬والبلد الحرام‪ ,‬الذي هو بمجرده‪ ,‬كاف في الشر‪ ،‬فكيف وقد كان في‬
‫خرَاجُ أَهْلِ ِه } أي‪ :‬أهل المسجد الحرام‪ ,‬وهم النبي صلى ال عليه‬
‫شهر حرام وبلد حرام؟! { وَِإ ْ‬
‫وسلم وأصحابه‪ ,‬لنهم أحق به من المشركين‪ ,‬وهم عماره على الحقيقة‪ ,‬فأخرجوهم { ِمنْ ُه } ولم‬
‫يمكنوهم من الوصول إليه‪ ,‬مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد‪ ،‬فهذه المور كل واحد‬
‫ل } في الشهر الحرام‪ ,‬فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة‪ ,‬في‬
‫ن الْ َقتْ ِ‬
‫منها { َأ ْك َبرُ مِ َ‬
‫تعييرهم المؤمنين‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين‪ ،‬وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم‪ ,‬وإنما‬
‫غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم‪ ,‬ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير‪،‬‬
‫فهم باذلون قدرتهم في ذلك‪ ,‬ساعون بما أمكنهم‪ { ,‬ويأبى ال إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون‬
‫}‬

‫وهذا الوصف عام لكل الكفار‪ ,‬ل يزالون يقاتلون غيرهم‪ ,‬حتى يردوهم عن دينهم‪ ،‬وخصوصا‪,‬‬
‫أهل الكتاب‪ ,‬من اليهود والنصارى‪ ,‬الذين بذلوا الجمعيات‪ ,‬ونشروا الدعاة‪ ,‬وبثوا الطباء‪ ,‬وبنوا‬
‫المدارس‪ ,‬لجذب المم إلى دينهم‪ ,‬وتدخيلهم عليهم‪ ,‬كل ما يمكنهم من الشبه‪ ,‬التي تشككهم في‬
‫دينهم‪.‬‬
‫ولكن المرجو من ال تعالى‪ ,‬الذي َمنّ على المؤمنين بالسلم‪ ,‬واختار لهم دينه القيم‪ ,‬وأكمل‬
‫لهم دينه‪ ،‬أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام‪ ,‬وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره‪,‬‬
‫ويجعل كيدهم في نحورهم‪ ,‬وينصر دينه‪ ,‬ويعلي كلمته‪.‬‬

‫وتكون هذه الية صادقة على هؤلء الموجودين من الكفار‪ ,‬كما صدقت على من قبلهم‪ { :‬إِنّ‬
‫سرَةً ُث ّم ُيغَْلبُونَ‬
‫حْ‬‫س ُينْفِقُو َنهَا ُثمّ َتكُونُ عََل ْي ِهمْ َ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه فَ َ‬
‫ن َ‬
‫صدّوا عَ ْ‬
‫ن َأمْوَاَل ُهمْ ِل َي ُ‬
‫اّلذِينَ كَ َفرُوا ُينْفِقُو َ‬
‫ن}‬
‫شرُو َ‬
‫ج َهنّ َم ُيحْ َ‬
‫ن كَ َفرُوا إِلَى َ‬
‫وَاّلذِي َ‬

‫ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن السلم‪ ,‬بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات‬
‫خرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو السلم‪،‬‬
‫عمَاُل ُهمْ فِي ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ‬
‫ح ِبطَتْ أَ ْ‬
‫كافرا‪َ { ،‬فأُوَل ِئكَ َ‬
‫ن}‬
‫ك َأصْحَابُ النّارِ ُه ْم فِيهَا خَاِلدُو َ‬
‫{ وَأُوَل ِئ َ‬

‫ودلت الية بمفهومها‪ ,‬أن من ارتد ثم عاد إلى السلم‪ ,‬أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته‪،‬‬
‫وكذلك من تاب من المعاصي‪ ,‬فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة‪.‬‬

‫حمَ َة اللّهِ‬
‫ن رَ ْ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه أُوَل ِئكَ َي ْرجُو َ‬
‫جرُوا َوجَا َهدُوا فِي َ‬
‫ن هَا َ‬
‫ن آ َمنُوا وَاّلذِي َ‬
‫{ ‪ِ { } 218‬إنّ اّلذِي َ‬
‫وَاللّهُ غَفُو ٌر َرحِيمٌ }‬

‫هذه العمال الثلثة‪ ,‬هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية‪ ,‬وبها يعرف ما مع النسان‪ ,‬من‬
‫الربح والخسران‪ ،‬فأما اليمان‪ ,‬فل تسأل عن فضيلته‪ ,‬وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين‬
‫أهل السعادة وأهل الشقاوة‪ ,‬وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد‪ ,‬قبلت‬
‫أعمال الخير منه‪ ,‬وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ول عدل‪ ,‬ول فرض‪ ,‬ول نفل‪.‬‬

‫وأما الهجرة‪ :‬فهي مفارقة المحبوب المألوف‪ ,‬لرضا ال تعالى‪ ،‬فيترك المهاجر وطنه وأمواله‪,‬‬
‫وأهله‪ ,‬وخلنه‪ ,‬تقربا إلى ال ونصرة لدينه‪.‬‬

‫وأما الجهاد‪ :‬فهو بذل الجهد في مقارعة العداء‪ ,‬والسعي التام في نصرة دين ال‪ ,‬وقمع دين‬
‫الشيطان‪ ،‬وهو ذروة العمال الصالحة‪ ,‬وجزاؤه‪ ,‬أفضل الجزاء‪ ،‬وهو السبب الكبر‪ ,‬لتوسيع‬
‫دائرة السلم وخذلن عباد الصنام‪ ,‬وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولدهم‪.‬‬

‫فمن قام بهذه العمال الثلثة على لوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميل‪.‬‬
‫فحقيق بهؤلء أن يكونوا هم الراجون رحمة ال‪ ,‬لنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة‪ ،‬وفي هذا‬
‫دليل على أن الرجاء ل يكون إل بعد القيام بأسباب السعادة‪ ،‬وأما الرجاء المقارن للكسل‪ ,‬وعدم‬
‫القيام بالسباب‪ ,‬فهذا عجز وتمن وغرور‪ ،‬وهو دال على ضعف همة صاحبه‪ ,‬ونقص عقله‪,‬‬
‫بمنزلة من يرجو وجود ولد بل نكاح‪ ,‬ووجود الغلة بل بذر‪ ,‬وسقي‪ ,‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫حمَ َة اللّ ِه } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من العمال بما أتى به ل‬
‫ك يَ ْرجُونَ َر ْ‬
‫وفي قوله‪ { :‬أُوَل ِئ َ‬
‫ينبغي له أن يعتمد عليها‪ ,‬ويعول عليها‪ ,‬بل يرجو رحمة ربه‪ ,‬ويرجو قبول أعماله ومغفرة‬
‫ذنوبه‪ ,‬وستر عيوبه‪.‬‬

‫غفُورٌ } أي‪ :‬لمن تاب توبة نصوحا { َرحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء‪,‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ َ‬
‫وعم جوده وإحسانه كل حي‪.‬‬

‫وفي هذا دليل على أن من قام بهذه العمال المذكورة‪ ,‬حصل له مغفرة ال‪ ,‬إذ الحسنات يذهبن‬
‫السيئات وحصلت له رحمة ال‪.‬‬

‫وإذا حصلت له المغفرة‪ ,‬اندفعت عنه عقوبات الدنيا والخرة‪ ،‬التي هي آثار الذنوب‪ ,‬التي قد‬
‫غفرت واضمحلت آثارها‪ ،‬وإذا حصلت له الرحمة‪ ,‬حصل على كل خير في الدنيا والخرة؛‬
‫بل أعمالهم المذكورة من رحمة ال بهم‪ ,‬فلول توفيقه إياهم‪ ,‬لم يريدوها‪ ,‬ولول إقدارهم عليها‪,‬‬
‫لم يقدروا عليها‪ ,‬ولول إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم‪ ،‬فله الفضل أول وآخرا‪ ,‬وهو الذي منّ‬
‫بالسبب والمسبب‪.‬‬

‫منَافِعُ ل ِلنَّا ِ‬
‫س‬ ‫م كَبِيٌر وَ َ‬‫ما إِث ْ ٌ‬‫ل فِيهِ َ‬ ‫سرِ قُ ْ‬‫مي ْ ِ‬ ‫مرِ وَال ْ َ‬ ‫خ ْ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫{ ‪ } 220 - 219‬ثم قال تعالى‪ { :‬ي َ ْ‬
‫سأَلُون َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سأَلُون َ َ‬
‫م تَتَفَك ُّرو َ‬
‫ن*‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ت لعَلك ُ ْ‬‫م اليَا ِ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه لك ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬
‫ك يُبَي ِّ ُ‬ ‫ْ‬
‫ل العَفْوَ كَذَل ِ َ‬ ‫ن قُ ِ‬ ‫ماذ َا يُنْفِقُو َ‬
‫ك َ‬ ‫ما وَي َ ْ‬
‫ن نَفْعِهِ َ‬ ‫ما أَكْبَُر ِ‬
‫م ْ‬ ‫وَإِثْ ُ‬
‫مهُ َ‬

‫خ ْيرٌ وَِإنْ ُتخَاِلطُو ُهمْ َفِإخْوَا ُن ُكمْ وَاللّهُ‬


‫عنِ ا ْل َيتَامَى قُلْ ِإصْلَاحٌ َل ُهمْ َ‬
‫خرَةِ َو َيسْأَلُو َنكَ َ‬
‫فِي ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫عزِيزٌ َ‬
‫ن اللّهَ َ‬
‫ع َن َت ُكمْ إِ ّ‬
‫ن ا ْلمُصْلِحِ وََلوْ شَا َء اللّ ُه َلأَ ْ‬
‫سدَ مِ َ‬
‫َيعَْلمُ ا ْلمُ ْف ِ‬

‫أي‪ :‬يسألك ‪ -‬يا أيها الرسول ‪ -‬المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر‪ ,‬وقد كانا مستعملين في‬
‫الجاهلية وأول السلم‪ ,‬فكأنه وقع فيهما إشكال‪ ،‬فلهذا سألوا عن حكمهما‪ ،‬فأمر ال تعالى نبيه‪,‬‬
‫أن يبين لهم منافعهما ومضارهما‪ ,‬ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما‪ ,‬وتحتيم تركهما‪.‬‬

‫فأخبر أن إثمهما ومضارهما‪ ,‬وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال‪ ,‬والصد عن ذكر ال‪,‬‬
‫وعن الصلة‪ ,‬والعداوة‪ ,‬والبغضاء ‪ -‬أكبر مما يظنونه من نفعهما‪ ,‬من كسب المال بالتجارة‬
‫بالخمر‪ ,‬وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس‪ ,‬عند تعاطيهما‪ ،‬وكان هذا البيان زاجرا للنفوس‬
‫عنهما‪ ,‬لن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته‪ ,‬ويجتنب ما ترجحت مضرته‪ ،‬ولكن لما كانوا‬
‫قد ألفوهما‪ ,‬وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة‪ ,‬قدم هذه الية‪ ,‬مقدمة للتحريم‪ ,‬الذي ذكره في‬
‫شيْطَانِ }‬
‫ل ال ّ‬
‫عمَ ِ‬
‫خمْرُ وَا ْل َم ْيسِرُ وَا ْلَأ ْنصَابُ وَا ْلَأزْلَامُ ِرجْسٌ مِنْ َ‬
‫ن آ َمنُوا ِإ ّنمَا ا ْل َ‬
‫قوله‪ { :‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن } وهذا من لطفه ورحمته وحكمته‪ ،‬ولهذا لما نزلت‪ ,‬قال عمر رضي ال‬
‫إلى قوله‪ُ { :‬م ْن َتهُو َ‬
‫عنه‪ :‬انتهينا انتهينا‪.‬‬

‫فأما الخمر‪ :‬فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه‪ ,‬من أي نوع كان‪ ،‬وأما الميسر‪ :‬فهو كل‬
‫المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين‪ ,‬من النرد‪ ,‬والشطرنج‪ ,‬وكل مغالبة قولية أو‬
‫فعلية‪ ,‬بعوض سوى مسابقة الخيل‪ ,‬والبل‪ ,‬والسهام‪ ,‬فإنها مباحة‪ ,‬لكونها معينة على الجهاد‪,‬‬
‫فلهذا رخص فيها الشارع‪.‬‬

‫ن فِي ال ّد ْنيَا وَالْآخِرَ ِة }‬


‫ن قُلِ ا ْلعَفْ َو َكذَِلكَ ُي َبيّنُ اللّهُ َل ُك ُم الْآيَاتِ َلعَّل ُكمْ َتتَ َف ّكرُو َ‬
‫سأَلُو َنكَ مَاذَا ُينْفِقُو َ‬
‫{ َو َي ْ‬

‫وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم‪ ،‬فيسر ال لهم المر‪ ,‬وأمرهم أن ينفقوا العفو‪,‬‬
‫وهو المتيسر من أموالهم‪ ,‬الذي ل تتعلق به حاجتهم وضرورتهم‪ ،‬وهذا يرجع إلى كل أحد‬
‫بحسبه‪ ,‬من غني وفقير ومتوسط‪ ,‬كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله‪ ,‬ولو شق تمرة‪.‬‬

‫ولهذا أمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ,‬أن يأخذ العفو من أخلق الناس وصدقاتهم‪ ,‬ول‬
‫يكلفهم ما يشق عليهم‪ .‬ذلك بأن ال تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا‪ ,‬أو تكليفا لنا [بما‬
‫يشق] بل أمرنا بما فيه سعادتنا‪ ,‬وما يسهل علينا‪ ,‬وما به النفع لنا ولخواننا فيستحق على ذلك‬
‫أتم الحمد‪.‬‬

‫ن اللّ ُه َل ُكمُ‬
‫ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي‪ ,‬وأطلع العباد على أسرار شرعه قال‪َ { :‬كذَِلكَ ُي َبيّ ُ‬
‫ن فِي ال ّد ْنيَا‬
‫الْآيَاتِ } أي‪ :‬الدالت على الحق‪ ,‬المحصلت للعلم النافع والفرقان‪َ { ،‬لعَّل ُكمْ َتتَ َف ّكرُو َ‬
‫خرَ ِة } أي‪ :‬لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه‪ ,‬وتعرفوا أن أوامره‪ ,‬فيها مصالح‬
‫وَالْآ ِ‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها‪ ,‬فترفضوها وفي الخرة‬
‫وبقائها‪ ,‬وأنها دار الجزاء فتعمروها‪.‬‬

‫ن ُتخَالِطُو ُهمْ َفِإخْوَا ُن ُكمْ وَاللّ ُه َيعْلَمُ ا ْل ُم ْفسِ َد مِنَ‬


‫خ ْيرٌ وَإِ ْ‬
‫عنِ ا ْل َيتَامَى قُلْ ِإصْلَاحٌ َل ُهمْ َ‬
‫سأَلُو َنكَ َ‬
‫{ َو َي ْ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫عزِيزٌ َ‬
‫ن اللّهَ َ‬
‫ع َن َت ُكمْ إِ ّ‬
‫ا ْل ُمصْلِحِ وَلَ ْو شَاءَ اللّ ُه َلأَ ْ‬
‫ن فِي ُبطُو ِنهِمْ نَارًا‬
‫ن اّلذِينَ َي ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ ا ْل َيتَامَى ظُ ْلمًا ِإ ّنمَا َي ْأكُلُو َ‬
‫لما نزل قوله تعالى‪ { :‬إِ ّ‬
‫سعِيرًا } شق ذلك على المسلمين‪ ,‬وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى‪ ,‬خوفا على‬
‫ن َ‬
‫س َيصْلَوْ َ‬
‫َو َ‬
‫أنفسهم من تناولها‪ ,‬ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها‪ ,‬وسألوا النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم عن ذلك‪ ،‬فأخبرهم تعالى أن المقصود‪ ,‬إصلح أموال اليتامى‪ ,‬بحفظها‬
‫وصيانتها‪ ,‬والتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه ل يضر‬
‫باليتامى‪ ,‬لنهم إخوانكم‪ ,‬ومن شأن الخ مخالطة أخيه‪ ,‬والمرجع في ذلك إلى النية والعمل‪،‬‬
‫فمن علم ال من نيته أنه مصلح لليتيم‪ ,‬وليس له طمع في ماله‪ ,‬فلو دخل عليه شيء من غير‬
‫قصد لم يكن عليه بأس‪ ،‬ومن علم ال من نيته‪ ,‬أن قصده بالمخالطة‪ ,‬التوصل إلى أكلها‬
‫وتناولها‪ ,‬فذلك الذي حرج وأثم‪ ,‬و " الوسائل لها أحكام المقاصد "‬

‫وفي هذه الية‪ ,‬دليل على جواز أنواع المخالطات‪ ,‬في المآكل والمشارب‪ ,‬والعقود وغيرها‪,‬‬
‫وهذه الرخصة‪ ,‬لطف من ال [تعالى] وإحسان‪ ,‬وتوسعة على المؤمنين‪ ،‬وإل فـ { لَ ْو شَاءَ اللّهُ‬
‫عزِيزٌ }‬
‫ع َن َت ُكمْ } أي‪ :‬شق عليكم بعدم الرخصة بذلك‪ ,‬فحرجتم‪ .‬وشق عليكم وأثمتم‪ِ { ،‬إنّ اللّهَ َ‬
‫َلأَ ْ‬
‫حكِي ٌم } ل يفعل إل ما هو مقتضى‬
‫أي‪ :‬له القوة الكاملة‪ ,‬والقهر لكل شيء‪ ،‬ولكنه مع ذلك { َ‬
‫حكمته الكاملة وعنايته التامة‪ ,‬فعزته ل تنافي حكمته‪ ،‬فل يقال‪ :‬إنه ما شاء فعل‪ ,‬وافق الحكمة‬
‫أو خالفها‪ ،‬بل يقال‪ :‬إن أفعاله وكذلك أحكامه‪ ,‬تابعة لحكمته‪ ,‬فل يخلق شيئا عبثا‪ ,‬بل ل بد له‬
‫من حكمة‪ ,‬عرفناها‪ ,‬أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة‪ ،‬فل يأمر إل‬
‫بما فيه مصلحة خالصة‪ ,‬أو راجحة‪ ,‬ول ينهى إل عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة‪ ,‬لتمام‬
‫حكمته ورحمته‪.‬‬

‫ج َب ْت ُكمْ وَلَا‬
‫عَ‬‫ش ِركَةٍ وَلَ ْو أَ ْ‬
‫خيْرٌ ِمنْ ُم ْ‬
‫حتّى يُ ْؤ ِمنّ وََلَأمَةٌ ُم ْؤ ِمنَ ٌة َ‬
‫{ ‪ { } 221‬وَلَا َت ْن ِكحُوا ا ْل ُمشْ ِركَاتِ َ‬
‫ن إِلَى‬
‫ج َبكُمْ أُوَل ِئكَ َيدْعُو َ‬
‫عَ‬‫ش ِركٍ وََلوْ َأ ْ‬
‫خيْرٌ ِمنْ ُم ْ‬
‫ن َ‬
‫حتّى يُ ْؤ ِمنُوا وََل َع ْبدٌ ُم ْؤمِ ٌ‬
‫ن َ‬
‫ش ِركِي َ‬
‫ُت ْن ِكحُوا ا ْل ُم ْ‬
‫ن}‬
‫س َلعَّلهُ ْم َيتَ َذ ّكرُو َ‬
‫ن آيَاتِهِ لِلنّا ِ‬
‫جنّةِ وَا ْل َمغْ ِفرَةِ ِبِإ ْذنِهِ َو ُي َبيّ ُ‬
‫النّارِ وَاللّهُ َيدْعُو إِلَى ا ْل َ‬

‫حتّى ُي ْؤمِنّ } لن المؤمنة‬


‫ش ِركَاتِ } ما دمن على شركهن { َ‬
‫أي‪ { :‬وَلَا َت ْن ِكحُوا } النساء { ا ْل ُم ْ‬
‫ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة‪ ,‬ولو بلغت من الحسن ما بلغت‪ ,‬وهذه عامة‬
‫في جميع النساء المشركات‪ ،‬وخصصتها آية المائدة‪ ,‬في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال‬
‫ن أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ }‬
‫صنَاتُ ِمنَ اّلذِي َ‬
‫تعالى‪ { :‬وَا ْل ُمحْ َ‬

‫حتّى ُي ْؤ ِمنُوا } وهذا عام ل تخصيص فيه‪.‬‬


‫{ وَلَا ُت ْن ِكحُوا ا ْل ُمشْ ِركِينَ َ‬
‫ثم ذكر تعالى‪ ,‬الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة‪ ,‬لمن خالفهما في الدين فقال‪ { :‬أُوَل ِئكَ‬
‫َيدْعُونَ إِلَى النّارِ } أي‪ :‬في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم‪ ,‬فمخالطتهم على خطر منهم‪ ,‬والخطر‬
‫ليس من الخطار الدنيوية‪ ,‬إنما هو الشقاء البدي‪.‬‬

‫ويستفاد من تعليل الية‪ ,‬النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع‪ ,‬لنه إذا لم يجز التزوج مع أن‬
‫فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى‪ ,‬وخصوصا‪ ,‬الخلطة التي فيها ارتفاع‬
‫المشرك ونحوه على المسلم‪ ,‬كالخدمة ونحوها‪.‬‬

‫ن } دليل على اعتبار الولي [في النكاح]‪.‬‬


‫ش ِركِي َ‬
‫وفي قوله‪ { :‬وَلَا ُت ْن ِكحُوا ا ْل ُم ْ‬

‫جنّةِ وَا ْل َمغْ ِفرَ ِة } أي‪ :‬يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة‪ ,‬التي من آثارها‪,‬‬
‫{ وَاللّ ُه َيدْعُو إِلَى ا ْل َ‬
‫دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من العمال الصالحة‪ ,‬والتوبة النصوح‪ ,‬والعلم النافع‪,‬‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬

‫ن } فيوجب لهم ذلك التذكر لما‬


‫س َلعَّلهُمْ َي َت َذ ّكرُو َ‬
‫{ َو ُي َبيّنُ آيَاتِ ِه } أي‪ :‬أحكامه وحكمها { لِلنّا ِ‬
‫نسوه‪ ,‬وعلم ما جهلوه‪ ,‬والمتثال لما ضيعوه‪.‬‬
‫ع َتزِلُوا ال ّنسَا َء فِي‬
‫ن ا ْل َمحِيضِ قُلْ ُهوَ َأذًى فَا ْ‬
‫سأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { } 223 - 222 { :‬و َي ْ‬
‫ن اللّ َه ُيحِبّ‬
‫حيْثُ َأ َم َر ُكمُ اللّ ُه إِ ّ‬
‫ن َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ط ّهرْنَ َف ْأتُوهُ ّ‬
‫ن َفإِذَا َت َ‬
‫طهُرْ َ‬
‫حتّى َي ْ‬
‫ن َ‬
‫ا ْل َمحِيضِ وَلَا تَ ْق َربُوهُ ّ‬
‫س ُكمْ وَاتّقُوا‬
‫ش ْئتُمْ َو َق ّدمُوا ِلَأنْ ُف ِ‬
‫حرْثٌ َل ُكمْ َف ْأتُوا حَ ْر َث ُكمْ َأنّى ِ‬
‫ط ّهرِينَ * ِنسَا ُؤ ُكمْ َ‬
‫ب ا ْل ُمتَ َ‬
‫التّوّابِينَ َو ُيحِ ّ‬
‫اللّهَ وَاعَْلمُوا َأ ّنكُ ْم مُلَاقُوهُ َو َبشّرِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ }‬

‫يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض‪ ,‬وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض‪ ,‬كما كانت قبل‬
‫ذلك‪ ,‬أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟‪.‬‬

‫فأخبر تعالى أن الحيض أذى‪ ,‬وإذا كان أذى‪ ,‬فمن الحكمة أن يمنع ال تعالى عباده عن الذى‬
‫ض } أي‪ :‬مكان الحيض‪ ,‬وهو الوطء في الفرج‬
‫ع َتزِلُوا ال ّنسَا َء فِي ا ْل َمحِي ِ‬
‫وحده‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬فَا ْ‬
‫خاصة‪ ,‬فهذا هو المحرم إجماعا‪ ،‬وتخصيص العتزال في المحيض‪ ,‬يدل على أن مباشرة‬
‫الحائض وملمستها‪ ,‬في غير الوطء في الفرج جائز‪.‬‬

‫ن } يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج‪ ,‬وذلك‬


‫طهُرْ َ‬
‫حتّى َي ْ‬
‫لكن قوله‪ { :‬وَلَا تَ ْق َربُو ُهنّ َ‬
‫فيما بين السرة والركبة‪ ,‬ينبغي تركه كما كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا أراد أن يباشر‬
‫امرأته وهي حائض‪ ,‬أمرها أن تتزر‪ ,‬فيباشرها‪.‬‬
‫ط ُهرْنَ } أي‪ :‬ينقطع دمهن‪ ,‬فإذا انقطع الدم‪,‬‬
‫حتّى َي ْ‬
‫حيّض { َ‬
‫وحد هذا العتزال وعدم القربان لل ُ‬
‫زال المنع الموجود وقت جريانه‪ ,‬الذي كان لحله شرطان‪ ,‬انقطاع الدم‪ ,‬والغتسال منه‪.‬‬

‫ن } أي‪ :‬اغتسلن‬
‫طهّرْ َ‬
‫فلما انقطع الدم‪ ,‬زال الشرط الول وبقي الثاني‪ ,‬فلهذا قال‪َ { :‬فِإذَا َت َ‬
‫حيْثُ َأ َم َر ُكمُ اللّ ُه } أي‪ :‬في القبل ل في الدبر‪ ,‬لنه محل الحرث‪.‬‬
‫ن َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫{ َف ْأتُوهُ ّ‬

‫وفيه دليل على وجوب الغتسال للحائض‪ ,‬وأن انقطاع الدم‪ ,‬شرط لصحته‪.‬‬

‫ن اللّ َه ُيحِبّ‬
‫ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده‪ ,‬وصيانة عن الذى قال تعالى‪ { :‬إِ ّ‬
‫ن } أي‪ :‬المتنزهين عن الثام وهذا‬
‫طهّرِي َ‬
‫ن } أي‪ :‬من ذنوبهم على الدوام { َو ُيحِبّ ا ْل ُم َت َ‬
‫التّوّابِي َ‬
‫يشمل التطهر الحسي من النجاس والحداث‪.‬‬

‫ففيه مشروعية الطهارة مطلقا‪ ,‬لن ال يحب المتصف بها‪ ,‬ولهذا كانت الطهارة مطلقا‪ ,‬شرطا‬
‫لصحة الصلة والطواف‪ ,‬وجواز مس المصحف‪ ،‬ويشمل التطهر المعنوي عن الخلق‬
‫الرذيلة‪ ,‬والصفات القبيحة‪ ,‬والفعال الخسيسة‪.‬‬

‫ش ْئ ُتمْ } مقبلة ومدبرة غير أنه ل يكون إل في القبل‪,‬‬


‫حرْ َث ُكمْ َأنّى ِ‬
‫حرْثٌ َل ُكمْ َف ْأتُوا َ‬
‫{ ِنسَا ُؤ ُكمْ َ‬
‫لكونه موضع الحرث‪ ,‬وهو الموضع الذي يكون منه الولد‪.‬‬

‫وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر‪ ,‬لن ال لم يبح إتيان المرأة إل في الموضع الذي منه‬
‫الحرث‪ ،‬وقد تكاثرت الحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم في تحريم ذلك‪ ,‬ولعن فاعله‪.‬‬

‫س ُكمْ } أي‪ :‬من التقرب إلى ال بفعل الخيرات‪ ,‬ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته‪,‬‬
‫{ َو َقدّمُوا ِلَأنْ ُف ِ‬
‫ويجامعها على وجه القربة والحتساب‪ ,‬وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع ال بهم‪.‬‬

‫{ وَاتّقُوا اللّ َه } أي‪ :‬في جميع أحوالكم‪ ,‬كونوا ملزمين لتقوى ال‪ ,‬مستعينين بذلك لعلمكم‪،‬‬
‫{ َأ ّن ُكمْ مُلَاقُو ُه } ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها‪.‬‬

‫ن } لم يذكر المبشر به ليدل على العموم‪ ,‬وأن لهم البشرى في الحياة‬


‫شرِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫ثم قال‪َ { :‬و َب ّ‬
‫الدنيا وفي الخرة‪ ،‬وكل خير واندفاع كل ضير‪ ,‬رتب على اليمان فهو داخل في هذه البشارة‪.‬‬

‫وفيها محبة ال للمؤمنين‪ ,‬ومحبة ما يسرهم‪ ,‬واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد ال لهم من‬
‫الجزاء الدنيوي والخروي‪.‬‬
‫سمِيعٌ‬
‫ن النّاسِ وَاللّ ُه َ‬
‫ن َتبَرّوا َو َتتّقُوا َوُتصِْلحُوا َبيْ َ‬
‫ع ْرضَةً ِلَأ ْيمَا ِن ُكمْ أَ ْ‬
‫جعَلُوا اللّهَ ُ‬
‫{ ‪ { } 224‬وَلَا َت ْ‬
‫عَلِيمٌ }‬

‫المقصود من اليمين‪ ،‬والقسم تعظيم المقسم به‪ ,‬وتأكيد المقسم عليه‪ ،‬وكان ال تعالى قد أمر‬
‫بحفظ اليمان‪ ,‬وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء‪ ،‬ولكن ال تعالى استثنى من ذلك إذا‬
‫كان البر باليمين‪ ,‬يتضمن ترك ما هو أحب إليه‪ ،‬فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة‪ ,‬أي‪:‬‬
‫مانعة وحائلة عن أن يبروا‪ :‬أن يفعلوا خيرا‪ ,‬أو يتقوا شرا‪ ,‬أو يصلحوا بين الناس‪ ،‬فمن حلف‬
‫على ترك واجب وجب حنثه‪ ,‬وحرم إقامته على يمينه‪ ،‬ومن حلف على ترك مستحب‪ ,‬استحب‬
‫له الحنث‪ ،‬ومن حلف على فعل محرم‪ ,‬وجب الحنث‪ ,‬أو على فعل مكروه استحب الحنث‪ ،‬وأما‬
‫المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية على القاعدة المشهورة‪ ,‬أنه " إذا تزاحمت المصالح‪ ,‬قدم أهمها " فهنا تتميم‬
‫اليمين مصلحة‪ ,‬وامتثال أوامر ال في هذه الشياء‪ ,‬مصلحة أكبر من ذلك‪ ,‬فقدمت لذلك‪.‬‬

‫سمِيعٌ } أي‪ :‬لجميع الصوات { عَلِيمٌ }‬


‫ثم ختم الية بهذين السمين الكريمين فقال‪ { :‬وَاللّهُ َ‬
‫بالمقاصد والنيات‪ ,‬ومنه سماعه لقوال الحالفين‪ ,‬وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر‪ ،‬وفي‬
‫ضمن ذلك التحذير من مجازاته‪ ,‬وأن أعمالكم ونياتكم‪ ,‬قد استقر علمها عنده‪.‬‬

‫خ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُ ْم وَاللّهُ‬


‫{ ‪ } 225‬ثم قال تعالى‪ { :‬لَا ُيؤَاخِ ُذ ُكمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُ ْم وََلكِنْ ُيؤَا ِ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ }‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬ل يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من اليمان اللغية‪ ,‬التي يتكلم بها العبد‪ ,‬من غير قصد‬
‫منه ول كسب قلب‪ ,‬ولكنها جرت على لسانه كقول الرجل في عرض كلمه‪ " :‬ل وال " و " بلى‬
‫وال " وكحلفه على أمر ماض‪ ,‬يظن صدق نفسه‪ ،‬وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب‪.‬‬

‫وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في القوال‪ ,‬كما هي معتبرة في الفعال‪.‬‬

‫{ وال غفور } لمن تاب إليه‪ { ,‬حليم } بمن عصاه‪ ,‬حيث لم يعاجله بالعقوبة‪ ,‬بل حلم عنه وستر‪,‬‬
‫وصفح مع قدرته عليه‪ ,‬وكونه بين يديه‪.‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ‬
‫شهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫{ ‪ { } 227 - 226‬لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ َأ ْ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ }‬
‫* وَإِنْ عَ َزمُوا الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫وهذا من اليمان الخاصة بالزوجة‪ ,‬في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته‬
‫مطلقا‪ ،‬أو مقيدا‪ ،‬بأقل من أربعة أشهر أو أكثر‪.‬‬

‫فمن آلى من زوجته خاصة‪ ،‬فإن كان لدون أربعة أشهر‪ ,‬فهذا مثل سائر اليمان‪ ,‬إن حنث كفر‪,‬‬
‫وإن أتم يمينه‪ ,‬فل شيء عليه‪ ,‬وليس لزوجته عليه سبيل‪ ,‬لنه ملكه أربعة أشهر‪.‬‬

‫وإن كان أبدا‪ ,‬أو مدة تزيد على أربعة أشهر‪ ,‬ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه‪ ,‬إذا طلبت‬
‫زوجته ذلك‪ ,‬لنه حق لها‪ ،‬فإذا تمت أمر بالفيئة وهو الوطء‪ ،‬فإن وطئ‪ ,‬فل شيء عليه إل كفارة‬
‫اليمين‪ ،‬وإن امتنع‪ ,‬أجبر على الطلق‪ ,‬فإن امتنع‪ ,‬طلق عليه الحاكم‪.‬‬

‫ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته‪ ,‬أحب إلى ال تعالى‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬فَإِنْ فَاءُوا } أي‪ :‬رجعوا إلى‬
‫غفُورٌ } يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف‪ ,‬بسبب‬
‫ما حلفوا على تركه‪ ,‬وهو الوطء‪ { .‬فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫رجوعهم‪ { .‬رَحِيمٌ } حيث جعل ليمانهم كفارة وتحلة‪ ,‬ولم يجعلها لزمة لهم غير قابلة للنفكاك‪,‬‬
‫ورحيم بهم أيضا‪ ,‬حيث فاءوا إلى زوجاتهم‪ ,‬وحنوا عليهن ورحموهن‪.‬‬

‫{ وَإِنْ عَ َزمُوا الطّلَاقَ } أي‪ :‬امتنعوا من الفيئة‪ ,‬فكان ذلك دليل على رغبتهم عنهن‪ ,‬وعدم إرادتهم‬
‫لزواجهم‪ ,‬وهذا ل يكون إل عزما على الطلق‪ ،‬فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة‪ ,‬وإل‬
‫أجبره الحاكم عليه أو قام به‪.‬‬

‫سمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه وعيد وتهديد‪ ,‬لمن يحلف هذا الحلف‪ ,‬ويقصد بذلك المضارة والمشاقة‪.‬‬
‫{ فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫ويستدل بهذه الية على أن اليلء‪ ,‬خاص بالزوجة‪ ,‬لقوله‪ { :‬من نسائهم } وعلى وجوب الوطء‬
‫في كل أربعة أشهر مرة‪ ,‬لنه بعد الربعة‪ ,‬يجبر إما على الوطء‪ ,‬أو على الطلق‪ ,‬ول يكون ذلك‬
‫إل لتركه واجبا‪.‬‬

‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي‬


‫سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُو ٍء وَلَا َي ِ‬
‫{ ‪ { } 228‬وَا ْل ُمطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫حقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلَاحًا وََلهُنّ‬
‫أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫ج ٌة وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَ َ‬

‫سهِنّ } أي‪ :‬ينتظرن ويعتددن مدة { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ‬


‫أي‪ :‬النساء اللتي طلقهن أزواجهن { يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫} أي‪ :‬حيض‪ ,‬أو أطهار على اختلف العلماء في المراد بذلك‪ ,‬مع أن الصحيح أن القرء‪ ,‬الحيض‪,‬‬
‫ح َكمٍ‪ ،‬منها‪ :‬العلم ببراءة الرحم‪ ,‬إذا تكررت عليها ثلثة القراء‪ ,‬علم أنه ليس في‬
‫ع ّدةُ ِ‬
‫ولهذه العدةِ ِ‬
‫رحمها حمل‪ ,‬فل يفضي إلى اختلط النساب‪ ،‬ولهذا أوجب تعالى عليهن الخبار عن { مَا خَلَقَ‬
‫اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ } وحرم عليهن‪ ,‬كتمان ذلك‪ ,‬من حمل أو حيض‪ ,‬لن كتمان ذلك‪ ,‬يفضي إلى‬
‫مفاسد كثيرة‪ ،‬فكتمان الحمل‪ ,‬موجب أن تلحقه بغير من هو له‪ ,‬رغبة فيه واستعجال لنقضاء‬
‫العدة‪ ،‬فإذا ألحقته بغير أبيه‪ ,‬حصل من قطع الرحم والرث‪ ,‬واحتجاب محارمه وأقاربه عنه‪,‬‬
‫وربما تزوج ذوات محارمه‪ ،‬وحصل في مقابلة ذلك‪ ,‬إلحاقه بغير أبيه‪ ,‬وثبوت توابع ذلك‪ ,‬من‬
‫الرث منه وله‪ ,‬ومن جعل أقارب الملحق به‪ ,‬أقارب له‪ ،‬وفي ذلك من الشر والفساد‪ ,‬ما ل يعلمه‬
‫إل رب العباد‪ ،‬ولو لم يكن في ذلك‪ ,‬إل إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه‪ ,‬وفيه الصرار على‬
‫الكبيرة العظيمة‪ ,‬وهي الزنا لكفى بذلك شرا‪.‬‬

‫وأما كتمان الحيض‪ ,‬بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة‪ ,‬ففيه من انقطاع حق الزوج عنها‪,‬‬
‫وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر‪ ,‬كما ذكرنا‪ ،‬وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض‪,‬‬
‫لتطول العدة‪ ,‬فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه‪ ,‬بل هي سحت عليها محرمة من جهتين‪:‬‬

‫من كونها ل تستحقه‪ ,‬ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة‪ ,‬وربما راجعها بعد انقضاء‬
‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ‬
‫العدة‪ ,‬فيكون ذلك سفاحا‪ ,‬لكونها أجنبية عنه‪ ,‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬وَلَا يَ ِ‬
‫اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ }‬

‫فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بال واليوم الخر‪ ,‬وإل فلو آمن بال واليوم الخر‪,‬‬
‫وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن‪ ,‬لم يصدر منهن شيء من ذلك‪.‬‬

‫وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة‪ ,‬عما تخبر به عن نفسها‪ ,‬من المر الذي ل يطلع عليه‬
‫غيرها‪ ,‬كالحيض والحمل ونحوه‬

‫حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ } أي‪ :‬لزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة‪,‬‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬
‫أن يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا ِإصْلَاحًا } أي‪ :‬رغبة وألفة ومودة‪.‬‬

‫ومفهوم الية أنهم إن لم يريدوا الصلح‪ ,‬فليسوا بأحق بردهن‪ ,‬فل يحل لهم أن يراجعوهن‪ ,‬لقصد‬
‫المضارة لها‪ ,‬وتطويل العدة عليها‪ ،‬وهل يملك ذلك‪ ,‬مع هذا القصد؟ فيه قولن‪.‬‬

‫الجمهور على أنه يملك ذلك‪ ,‬مع التحريم‪ ,‬والصحيح أنه إذا لم يرد الصلح‪ ,‬ل يملك ذلك‪ ,‬كما‬
‫هو ظاهر الية الكريمة‪ ,‬وهذه حكمة أخرى في هذا التربص‪ ،‬وهي‪ :‬أنه ربما أن زوجها ندم على‬
‫فراقه لها‪ ,‬فجعلت له هذه المدة‪ ,‬ليتروى بها ويقطع نظره‪.‬‬

‫وهذا يدل على محبته تعالى‪ ,‬لللفة بين الزوجين‪ ,‬وكراهته للفراق‪ ,‬كما قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ " :‬أبغض الحلل إلى ال الطلق " وهذا خاص في الطلق الرجعي‪ ،‬وأما الطلق البائن‪,‬‬
‫فليس البعل بأحق برجعتها‪ ،‬بل إن تراضيا على التراجع‪ ,‬فل بد من عقد جديد مجتمع الشروط‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي‪ :‬وللنساء على بعولتهن من الحقوق‬
‫واللوازم مثل الذي عليهن لزواجهن من الحقوق اللزمة والمستحبة‪.‬‬

‫ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف‪ ,‬وهو‪ :‬العادة الجارية في ذلك البلد وذلك‬
‫الزمان من مثلها لمثله‪ ،‬ويختلف ذلك باختلف الزمنة والمكنة‪ ,‬والحوال‪ ,‬والشخاص والعوائد‪.‬‬

‫وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة‪ ,‬والمعاشرة‪ ,‬والمسكن‪ ,‬وكذلك الوطء ‪ -‬الكل يرجع إلى‬
‫المعروف‪ ،‬فهذا موجب العقد المطلق‪.‬‬

‫وأما مع الشرط‪ ,‬فعلى شرطهما‪ ,‬إل شرطا أحل حراما‪ ,‬أو حرم حلل‪.‬‬

‫{ وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَ َرجَةٌ } أي‪ :‬رفعة ورياسة‪ ,‬وزيادة حق عليها‪ ,‬كما قال تعالى‪ { :‬الرّجَالُ‬
‫ض وَ ِبمَا أَ ْن َفقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ }‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْع ٍ‬
‫ضلَ اللّهُ َب ْع َ‬
‫َقوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ ِبمَا َف ّ‬

‫ومنصب النبوة والقضاء‪ ,‬والمامة الصغرى والكبرى‪ ,‬وسائر الوليات مختص بالرجال‪ ،‬وله‬
‫ضعفا ما لها في كثير من المور‪ ,‬كالميراث ونحوه‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬له العزة القاهرة والسلطان العظيم‪ ,‬الذي دانت له جميع الشياء‪ ,‬ولكنه‬
‫{ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫مع عزته حكيم في تصرفه‪.‬‬

‫ويخرج من عموم هذه الية‪ ,‬الحوامل‪ ,‬فعدتهن وضع الحمل‪ ،‬واللتي لم يدخل بهن‪ ,‬فليس لهن‬
‫عدة‪ ،‬والماء‪ ,‬فعدتهن حيضتان‪ ,‬كما هو قول الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وسياق اليات يدل على‬
‫أن المراد بها الحرة‪.‬‬

‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَ ْأخُذُوا ِممّا‬


‫ن وَلَا َي ِ‬
‫{ ‪ { } 229‬الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَا ٍ‬
‫حدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا‬
‫خفْتُمْ أَلّا ُيقِيمَا ُ‬
‫آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا أَنْ َيخَافَا أَلّا ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫افْتَ َدتْ بِهِ ِت ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }‬

‫كان الطلق في الجاهلية‪ ,‬واستمر أول السلم‪ ,‬يطلق الرجل زوجته بل نهاية‪ ،‬فكان إذا أراد‬
‫مضارتها‪ ,‬طلقها‪ ,‬فإذا شارفت انقضاء عدتها‪ ,‬راجعها‪ ,‬ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا‪ ,‬فيحصل‬
‫عليها من الضرر ما ال به عليم‪ ،‬فأخبر تعالى أن { الطّلَاقَ } أي‪ :‬الذي تحصل به الرجعة‬
‫{ مَرّتَانِ } ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها‪ ,‬ويراجع رأيه في هذه المدة‪ ،‬وأما ما‬
‫فوقها‪ ,‬فليس محل لذلك‪ ,‬لن من زاد على الثنتين‪ ,‬فإما متجرئ على المحرم‪ ,‬أو ليس له رغبة في‬
‫إمساكها‪ ,‬بل قصده المضارة‪ ،‬فلهذا أمر تعالى الزوج‪ ,‬أن يمسك زوجته { ِب َمعْرُوفٍ } أي‪ :‬عشرة‬
‫حسنة‪ ,‬ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم‪ ,‬وهذا هو الرجح‪ ,‬وإل يسرحها ويفارقها { بِِإحْسَانٍ }‬
‫ومن الحسان‪ ,‬أن ل يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها‪ ,‬لنه ظلم‪ ,‬وأخذ للمال في غير مقابلة‬
‫خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا ِإلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ }‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ‬
‫بشيء‪ ,‬فلهذا قال‪ { :‬وَلَا يَ ِ‬
‫وهي المخالعة بالمعروف‪ ,‬بأن كرهت الزوجة زوجها‪ ,‬لخلقه أو خلقه أو نقص دينه‪ ,‬وخافت أن ل‬
‫حدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْ َت َدتْ بِهِ } لنه عوض‬
‫خفْتُمْ أَلّا ُيقِيمَا ُ‬
‫تطيع ال فيه‪ { ،‬فَإِنْ ِ‬
‫لتحصيل مقصودها من الفرقة‪ ،‬وفي هذا مشروعية الخلع‪ ,‬إذا وجدت هذه الحكمة‪.‬‬

‫{ تِ ْلكَ } أي ما تقدم من الحكام الشرعية { حُدُودُ اللّهِ } أي‪ :‬أحكامه التي شرعها لكم‪ ,‬وأمر‬
‫حدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ } وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلل‪,‬‬
‫بالوقوف معها‪َ { ،‬ومَنْ يَ َتعَدّ ُ‬
‫وتعدى منه إلى الحرام‪ ,‬فلم يسعه ما أحل ال؟‬

‫والظلم ثلثة أقسام‪:‬‬

‫ظلم العبد فيما بينه وبين ال‪ ,‬وظلم العبد الكبر الذي هو الشرك‪ ,‬وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق‪،‬‬
‫فالشرك ل يغفره ال إل بالتوبة‪ ,‬وحقوق العباد‪ ,‬ل يترك ال منها شيئا‪ ،‬والظلم الذي بين العبد‬
‫وربه فيما دون الشرك‪ ,‬تحت المشيئة والحكمة‪.‬‬

‫حلّ لَهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا جُنَاحَ‬
‫طّلقَهَا فَلَا َت ِ‬
‫{ ‪ { } 231 - 230‬فَإِنْ َ‬
‫حدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ * وَإِذَا طَّلقْتُمُ‬
‫جعَا إِنْ ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ ُ‬
‫عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ‬
‫ن ضِرَارًا لِ َتعْتَدُوا‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ وَلَا ُتمْ ِ‬
‫النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْسَهُ وَلَا تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم َومَا أَنْ َزلَ عَلَ ْي ُكمْ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫ظ ُكمْ بِ ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫ح ْكمَةِ َيعِ ُ‬
‫مِنَ ا ْلكِتَابِ وَالْ ِ‬

‫حلّ َلهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ } أي‪:‬‬
‫طّلقَهَا } أي‪ :‬الطلقة الثالثة { فَلَا َت ِ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬فَإِنْ َ‬
‫نكاحا صحيحا ويطؤها‪ ,‬لن النكاح الشرعي ل يكون إل صحيحا‪ ,‬ويدخل فيه العقد والوطء‪ ,‬وهذا‬
‫بالتفاق‪.‬‬

‫ويشترط أن يكون نكاح الثاني‪ ,‬نكاح رغبة‪ ،‬فإن قصد به تحليلها للول‪ ,‬فليس بنكاح‪ ,‬ول يفيد‬
‫التحليل‪ ،‬ول يفيد وطء السيد‪ ,‬لنه ليس بزوج‪ ،‬فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها‪ ,‬ثم فارقها‬
‫جعَا } أي‪ :‬يجددا‬
‫وانقضت عدتها { فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا } أي‪ :‬على الزوج الول والزوجة { أَنْ يَتَرَا َ‬
‫عقدا جديدا بينهما‪ ,‬لضافته التراجع إليهما‪ ,‬فدل على اعتبار التراضي‪.‬‬
‫حدُودَ اللّهِ } بأن يقوم كل منهما‪ ,‬بحق صاحبه‪ ،‬وذلك‬
‫ولكن يشترط في التراجع أن يظنا { أَنْ ُيقِيمَا ُ‬
‫إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق‪ ,‬وعزما أن يبدلها بعشرة حسنة‪ ,‬فهنا ل جناح‬
‫عليهما في التراجع‪.‬‬

‫ومفهوم الية الكريمة‪ ,‬أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود ال‪ ,‬بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة‬
‫باقية‪ ,‬والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا‪ ,‬لن جميع المور‪ ,‬إن لم يقم فيها أمر‬
‫ال‪ ,‬ويسلك بها طاعته‪ ,‬لم يحل القدام عليها‪.‬‬

‫وفي هذا دللة على أنه ينبغي للنسان‪ ,‬إذا أراد أن يدخل في أمر من المور‪ ,‬خصوصا الوليات‪,‬‬
‫الصغار‪ ,‬والكبار‪ ,‬نظر في نفسه ‪ ،‬فإن رأى من نفسه قوة على ذلك‪ ,‬ووثق بها‪ ,‬أقدم‪ ,‬وإل أحجم‪.‬‬

‫حدُودُ اللّهِ } أي‪ :‬شرائعه التي حددها وبينها‬


‫ولما بين تعالى هذه الحكام العظيمة قال‪ { :‬وَتِ ْلكَ ُ‬
‫ووضحها‪.‬‬

‫{ يُبَيّ ُنهَا ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } لنهم هم المنتفعون بها‪ ,‬النافعون لغيرهم‪.‬‬

‫وفي هذا من فضيلة أهل العلم‪ ,‬ما ل يخفى‪ ,‬لن ال تعالى جعل تبيينه لحدوده‪ ,‬خاصا بهم‪ ,‬وأنهم‬
‫المقصودون بذلك‪ ،‬وفيه أن ال تعالى يحب من عباده‪ ,‬معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه‬
‫بها‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَِإذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ } أي‪ :‬طلقا رجعيا بواحدة أو ثنتين‪.‬‬

‫{ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } أي‪ :‬قاربن انقضاء عدتهن‪.‬‬

‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } أي‪ :‬إما أن تراجعوهن‪ ,‬ونيتكم القيام بحقوقهن‪ ,‬أو‬
‫{ فََأمْ ِ‬
‫ن ضِرَارًا } أي‪ :‬مضارة بهن { لِ َتعْ َتدُوا‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫تتركوهن بل رجعة ول إضرار‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَا ُتمْ ِ‬
‫} في فعلكم هذا الحلل‪ ,‬إلى الحرام‪ ،‬فالحلل‪ :‬المساك بمعروف والحرام‪ :‬المضارة‪َ { ،‬ومَنْ‬
‫َي ْفعَلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْسَهُ } ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار‪.‬‬

‫{ وَلَا تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين‪ ,‬وكان المقصود‪ ,‬العلم بها‬
‫والعمل‪ ,‬والوقوف معها‪ ,‬وعدم مجاوزتها‪ ,‬لنه تعالى لم ينزلها عبثا‪ ,‬بل أنزلها بالحق والصدق‬
‫والجد‪ ,‬نهى عن اتخاذها هزوا‪ ,‬أي‪ :‬لعبا بها‪ ,‬وهو التجرؤ عليها‪ ,‬وعدم المتثال لواجبها‪ ،‬مثل‬
‫استعمال المضارة في المساك‪ ,‬أو الفراق‪ ,‬أو كثرة الطلق‪ ,‬أو جمع الثلت‪ ،‬وال من رحمته‬
‫جعل له واحدة بعد واحدة‪ ,‬رفقا به وسعيا في مصلحته‪.‬‬
‫{ وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْي ُكمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا‪ ،‬وبالقلب اعترافا وإقرارا‪ ,‬وبالركان‬
‫ح ْكمَةِ } أي‪ :‬السنة اللذين بيّن لكم بهما‬
‫بصرفها في طاعة ال‪َ { ،‬ومَا أَنْ َزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَا ْل ِ‬
‫طرق الخير ورغبكم فيها‪ ,‬وطرق الشر وحذركم إياها‪ ,‬وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه‪,‬‬
‫وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬المراد بالحكمة أسرار الشريعة‪ ,‬فالكتاب فيه‪ ,‬الحكم‪ ،‬والحكمة فيها‪ ,‬بيان حكمة ال في‬
‫ظكُمْ بِهِ } أي‪ :‬بما أنزل عليكم‪ ,‬وهذا مما‬
‫أوامره ونواهيه‪ ،‬وكل المعنيين صحيح‪ ،‬ولهذا قال { َيعِ ُ‬
‫يقوي أن المراد بالحكمة‪ ,‬أسرار الشريعة‪ ,‬لن الموعظة ببيان الحكم والحكمة‪ ,‬والترغيب‪ ,‬أو‬
‫الترهيب‪ ,‬فالحكم به‪ ,‬يزول الجهل‪ ،‬والحكمة مع الترغيب‪ ,‬يوجب الرغبة‪ ،‬والحكمة مع الترهيب‬
‫يوجب الرهبة‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الحكام‬


‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ } في جميع أموركم { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫بغاية الحكام والتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان‪[ ,‬فله الحمد والمنة]‪.‬‬

‫ضوْا بَيْ َنهُمْ‬


‫جهُنّ ِإذَا تَرَا َ‬
‫{ ‪ { } 232‬وَِإذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَا َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْن ِكحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫طهَ ُر وَاللّهُ َيعَْلمُ‬
‫عظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َل ُك ْم وَأَ ْ‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ ذَِلكَ يُو َ‬
‫وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ }‬

‫هذا خطاب لولياء المرأة المطلقة دون الثلث إذا خرجت من العدة‪ ,‬وأراد زوجها أن ينكحها‪,‬‬
‫ورضيت بذلك‪ ,‬فل يجوز لوليها‪ ,‬من أب وغيره; أن يعضلها; أي‪ :‬يمنعها من التزوج به حنقا‬
‫عليه; وغضبا; واشمئزازا لما فعل من الطلق الول‪.‬‬

‫وذكر أن من كان يؤمن بال واليوم الخر فإيمانه يمنعه من العضل‪ ،‬فإن ذلك أزكى لكم وأطهر‬
‫وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه هو الرأي‪ :‬واللئق وأنه يقابل بطلقه الول بعدم التزويج‬
‫له كما هو عادة المترفعين المتكبرين‪.‬‬

‫فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه‪ ,‬فال { َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ } فامتثلوا أمر من هو‬
‫عالم بمصالحكم‪ ,‬مريد لها‪ ,‬قادر عليها‪ ,‬ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره‪.‬‬

‫وفي هذه الية‪ ,‬دليل على أنه ل بد من الولي في النكاح‪ ,‬لنه نهى الولياء عن العضل‪ ,‬ول‬
‫ينهاهم إل عن أمر‪ ,‬هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪:‬‬


‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُ ِتمّ ال ّرضَاعَ َة وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ‬
‫ضعْنَ َأوْلَا َدهُنّ َ‬
‫{ ‪ { } 233‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫س َعهَا لَا ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَ ِدهَا وَلَا َموْلُودٌ لَهُ ِبوَلَ ِدهِ‬
‫سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ لَا ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِلّا وُ ْ‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫لَهُ رِ ْز ُقهُ ّ‬
‫علَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَ َردْتُمْ أَنْ‬
‫وَعَلَى ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ َ‬
‫ضعُوا َأوْلَا َدكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا‬
‫تَسْتَ ْر ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬

‫ضعْنَ َأوْلَا َدهُنّ‬


‫هذا خبر بمعنى المر‪ ,‬تنزيل له منزلة المتقرر‪ ,‬الذي ل يحتاج إلى أمر بأن { يُ ْر ِ‬
‫حوْلَيْنِ }‬
‫َ‬

‫ولما كان الحول‪ ,‬يطلق على الكامل‪ ,‬وعلى معظم الحول قال‪ { :‬كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُ ِتمّ ال ّرضَاعَةَ‬
‫} فإذا تم للرضيع حولن‪ ,‬فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك‪ ,‬بمنزلة سائر الغذية‪ ,‬فلهذا كان‬
‫الرضاع بعد الحولين‪ ,‬غير معتبر‪ ,‬ل يحرم‪.‬‬

‫شهْرًا } أن أقل مدة الحمل ستة‬


‫حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَاثُونَ َ‬
‫ويؤخذ من هذا النص‪ ,‬ومن قوله تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫أشهر‪ ,‬وأنه يمكن وجود الولد بها‪.‬‬

‫سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } وهذا شامل لما إذا كانت في‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫{ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ } أي‪ :‬الب { رِ ْز ُقهُ ّ‬
‫حباله أو مطلقة‪ ,‬فإن على الب رزقها‪ ,‬أي‪ :‬نفقتها وكسوتها‪ ,‬وهي الجرة للرضاع‪.‬‬

‫ودل هذا‪ ,‬على أنها إذا كانت في حباله‪ ,‬ل يجب لها أجرة‪ ,‬غير النفقة والكسوة‪ ,‬وكل بحسب حاله‪,‬‬
‫س َعهَا } فل يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني‪ ,‬ول من لم يجد شيئا‬
‫فلهذا قال‪ { :‬لَا ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِلّا وُ ْ‬
‫بالنفقة حتى يجد‪ { ،‬لَا ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوََلدِهَا وَلَا َموْلُودٌ لَهُ ِبوَلَ ِدهِ } أي‪ :‬ل يحل أن تضار الوالدة‬
‫بسبب ولدها‪ ,‬إما أن تمنع من إرضاعه‪ ,‬أو ل تعطى ما يجب لها من النفقة‪ ,‬والكسوة أو الجرة‪{ ،‬‬
‫وَلَا َموْلُودٌ لَهُ ِبوَلَ ِدهِ } بأن تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة له‪ ,‬أو تطلب زيادة عن الواجب‪,‬‬
‫ونحو ذلك من أنواع الضرر‪.‬‬

‫ودل قوله‪َ { :‬موْلُودٌ َلهُ } أن الولد لبيه‪ ,‬لنه موهوب له‪ ,‬ولنه من كسبه‪ ،‬فلذلك جاز له الخذ من‬
‫ماله‪ ,‬رضي أو لم يرض‪ ,‬بخلف الم‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَعَلَى ا ْلوَارِثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ } أي‪ :‬على وارث الطفل إذا عدم الب‪ ,‬وكان الطفل ليس له‬
‫مال‪ ,‬مثل ما على الب من النفقة للمرضع والكسوة‪ ،‬فدل على وجوب نفقة القارب المعسرين‪,‬‬
‫على القريب الوارث الموسر‪ { ،‬فَإِنْ أَرَادَا } أي‪ :‬البوان { ِفصَالًا } أي‪ :‬فطام الصبي قبل‬
‫الحولين‪ { ،‬عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا } بأن يكونا راضيين { وَتَشَاوُرٍ } فيما بينهما‪ ,‬هل هو مصلحة‬
‫للصبي أم ل؟ فإن كان مصلحة ورضيا { فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا } في فطامه قبل الحولين‪ ،‬فدلت الية‬
‫بمفهومها‪ ,‬على أنه إن رضي أحدهما دون الخر‪ ,‬أو لم يكن مصلحة للطفل‪ ,‬أنه ل يجوز فطامه‪.‬‬

‫ضعُوا َأوْلَا َدكُمْ } أي‪ :‬تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير‬
‫وقوله‪ { :‬وَإِنْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ تَسْتَ ْر ِ‬
‫وجه المضارة { فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا سَّلمْ ُتمْ مَا آتَيْ ُتمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي‪ :‬للمرضعات‪ { ,‬وَاللّهُ ِبمَا‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } فمجازيكم على ذلك بالخير والشر‪.‬‬

‫شهُ ٍر وَعَشْرًا فَإِذَا بََلغْنَ‬


‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 234‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَ َيذَرُونَ أَ ْزوَاجًا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }‬
‫أَجََلهُنّ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫أي‪ :‬إذا توفي الزوج‪ ,‬مكثت زوجته‪ ,‬متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا‪ ،‬والحكمة في ذلك‪,‬‬
‫ليتبين الحمل في مدة الربعة‪ ,‬ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس‪ ،‬وهذا العام مخصوص‬
‫بالحوامل‪ ,‬فإن عدتهن بوضع الحمل‪ ،‬وكذلك المة‪ ,‬عدتها على النصف من عدة الحرة‪ ,‬شهران‬
‫وخمسة أيام‪.‬‬

‫سهِنّ } أي‪ :‬من‬


‫وقوله‪ { :‬فَإِذَا َبَلغْنَ أَجََلهُنّ } أي‪ :‬انقضت عدتهن { فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫مراجعتها للزينة والطيب‪ { ،‬بِا ْل َمعْرُوفِ } أي‪ :‬على وجه غير محرم ول مكروه‪.‬‬

‫وفي هذا وجوب الحداد مدة العدة‪ ,‬على المتوفى عنها زوجها‪ ,‬دون غيرها من المطلقات‬
‫والمفارقات‪ ,‬وهو مجمع عليه بين العلماء‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي‪ :‬عالم بأعمالكم‪ ,‬ظاهرها وباطنها‪ ,‬جليلها وخفيها‪ ,‬فمجازيكم عليها‪.‬‬

‫سهِنّ } دليل على أن الولي ينظر‬


‫وفي خطابه للولياء بقوله‪ { :‬فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫على المرأة‪ ,‬ويمنعها مما ل يجوز فعله ويجبرها على ما يجب‪ ,‬وأنه مخاطب بذلك‪ ,‬واجب عليه‪.‬‬

‫سكُمْ عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ‬


‫{ ‪ { } 235‬وَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْ ُتمْ بِهِ مِنْ خِطْ َبةِ النّسَاءِ َأوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَبْلُغَ‬
‫ن وََلكِنْ لَا ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا إِلّا أَنْ َتقُولُوا َقوْلًا َمعْرُوفًا وَلَا َتعْ ِزمُوا ُ‬
‫سَتَ ْذكُرُو َنهُ ّ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ }‬
‫حذَرُوهُ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫سكُمْ فَا ْ‬
‫ا ْلكِتَابُ أَجََل ُه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫هذا حكم المعتدة من وفاة‪ ,‬أو المبانة في الحياة‪ ،‬فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة‪,‬‬
‫عدُوهُنّ سِرّا } وأما التعريض‪ ,‬فقد أسقط تعالى فيه الجناح‪.‬‬
‫وهو المراد بقوله‪ { :‬وََلكِنْ لَا ُتوَا ِ‬

‫والفرق بينهما‪ :‬أن التصريح‪ ,‬ل يحتمل غير النكاح‪ ,‬فلهذا حرم‪ ,‬خوفا من استعجالها‪ ,‬وكذبها في‬
‫انقضاء عدتها‪ ,‬رغبة في النكاح‪ ،‬ففيه دللة على منع وسائل المحرم‪ ,‬وقضاء لحق زوجها الول‪,‬‬
‫بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها‪.‬‬

‫وأما التعريض‪ ,‬وهو الذي يحتمل النكاح وغيره‪ ,‬فهو جائز للبائن كأن يقول لها‪ :‬إني أريد التزوج‪,‬‬
‫وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك‪ ,‬ونحو ذلك‪ ,‬فهذا جائز لنه ليس بمنزلة الصريح‪,‬‬
‫وفي النفوس داع قوي إليه‪.‬‬

‫وكذلك إضمار النسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها‪ ,‬إذا انقضت‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أوْ َأكْنَنْ ُتمْ‬
‫س ُكمْ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ } هذا التفصيل كله في مقدمات العقد‪.‬‬
‫فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫وأما عقد النكاح فل يحل { حَتّى يَبْلُغَ ا ْلكِتَابُ َأجَلَهُ } أي‪ :‬تنقضي العدة‪.‬‬

‫سكُمْ } أي‪ :‬فانووا الخير‪ ,‬ول تنووا الشر‪ ,‬خوفا من عقابه ورجاء‬
‫{ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫لثوابه‪.‬‬

‫غفُورٌ } لمن صدرت منه الذنوب‪ ,‬فتاب منها‪ ,‬ورجع إلى ربه { حَلِيمٌ } حيث لم‬
‫{ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫يعاجل العاصين على معاصيهم‪ ,‬مع قدرته عليهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 236‬لَا جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ‬
‫حقّا عَلَى ا ْل ُمحْسِنِينَ }‬
‫عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ قَدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬

‫أي‪ :‬ليس عليكم يا معشر الزواج جناح وإثم‪ ,‬بتطليق النساء قبل المسيس‪ ,‬وفرض المهر‪ ,‬وإن‬
‫كان في ذلك كسر لها‪ ,‬فإنه ينجبر بالمتعة‪ ،‬فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال‪ ,‬جبرا‬
‫لخواطرهن‪ { .‬عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ } أي‪ :‬المعسر { قَدَ ُرهُ }‬

‫وهذا يرجع إلى العرف‪ ,‬وأنه يختلف باختلف الحوال ولهذا قال‪ { :‬مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ } فهذا حق‬
‫واجب { عَلَى ا ْل ُمحْسِنِينَ } ليس لهم أن يبخسوهن‪.‬‬

‫فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن‪ ,‬وتعلق قلوبهن‪ ,‬ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه‪ ,‬فعليهم في مقابلة‬
‫ذلك المتعة‪.‬‬
‫فلله ما أحسن هذا الحكم اللهي‪ ,‬وأدله على حكمة شارعه ورحمته" ومن أحسن من ال حكما لقوم‬
‫يوقنون؟" فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر‪.‬‬

‫ثم ذكر حكم المفروض لهن فقال‪:‬‬

‫صفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِلّا‬


‫{ ‪ { } 237‬وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُنّ َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِن ْ‬
‫ضلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ‬
‫سوُا ا ْل َف ْ‬
‫ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّتقْوَى وَلَا تَنْ َ‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ‬
‫أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ َي ْع ُفوَ الّذِي بِيَ ِدهِ ُ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬

‫أي‪ :‬إذا طلقتم النساء قبل المسيس‪ ,‬وبعد فرض المهر‪ ,‬فللمطلقات من المهر المفروض نصفه‪,‬‬
‫ولكم نصفه‪.‬‬

‫هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة‪ ,‬بأن تعفو عن نصفها لزوجها‪ ,‬إذا كان يصح عفوها‪{ ,‬‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ } وهو الزوج على الصحيح لنه الذي بيده حل عقدته؛ ولن الولي‬
‫َأوْ َيعْ ُفوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫ل يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة‪ ,‬لكونه غير مالك ول وكيل‪.‬‬

‫ثم رغب في العفو‪ ,‬وأن من عفا‪ ,‬كان أقرب لتقواه‪ ,‬لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر‪ ,‬ولكون‬
‫النسان ل ينبغي أن يهمل نفسه من الحسان والمعروف‪ ,‬وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات‬
‫المعاملة‪ ,‬لن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين‪ :‬إما عدل وإنصاف واجب‪ ,‬وهو‪ :‬أخذ‬
‫الواجب‪ ,‬وإعطاء الواجب‪ .‬وإما فضل وإحسان‪ ,‬وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق‪,‬‬
‫والغض مما في النفس‪ ،‬فل ينبغي للنسان أن ينسى هذه الدرجة‪ ,‬ولو في بعض الوقات‪,‬‬
‫وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة‪ ,‬أو مخالطة‪ ,‬فإن ال مجاز المحسنين بالفضل والكرم‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‪.‬‬

‫سطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ‬


‫ت وَالصّلَاةِ ا ْلوُ ْ‬
‫ثم قال تعالى‪ { } 239 - 238 { :‬حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫خفْتُمْ فَرِجَالًا َأوْ ُركْبَانًا فَإِذَا َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا عَّل َمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ }‬
‫* فَإِنْ ِ‬

‫يأمر بالمحافظة على الصلوات عمومًا وعلى الصلة الوسطى‪ ،‬وهي العصر خصوصًا‪،‬‬
‫والمحافظة عليها أداؤهابوقتها وشروطها وأركانها وخشوعها وجميع ما لها من واجب ومستحب‪،‬‬
‫وبالمحافظة على الصلوات تحصل المحافظة على سائر العبادات‪ ،‬وتفيد النهي عن الفحشاء‬
‫والمنكر خصوصًا إذا أكملها كما أمر بقوله { َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } أي‪ :‬ذليلين خاشعين‪ ،‬ففيه المر‬
‫بالقيام والقنوت والنهي عن الكلم‪ ،‬والمر بالخشوع‪ ،‬هذا مع المن والطمأنينة‪.‬‬
‫خفْتُمْ } لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع‪ ،‬وغير ذلك من أنواع‬
‫{ فَإِنْ ِ‬
‫المخاوف‪ ،‬أي‪ :‬إن خفتم بصلتكم على تلك الصفة فصلوها { رِجَالًا } أي‪ :‬ماشين على أقدامكم‪،‬‬
‫{ َأوْ ُركْبَانًا } على الخيل والبل وغيرها‪ ،‬ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير‬
‫مستقبليها‪ ،‬وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الخلل بكثير‬
‫من الركان والشروط‪ ،‬وأنه ل يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة‪ ،‬فصلتها‬
‫على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلتها مطمئنا خارج الوقت { فَِإذَا َأمِنْتُمْ } أي‪:‬‬
‫زال الخوف عنكم { فَا ْذكُرُوا اللّهَ } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلة على كمالها‬
‫وتمامها { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } فإنها نعمة عظيمة ومنة جسيمة‪ ،‬تقتضي مقابلتها‬
‫بالذكر والشكر ليبقي نعمته عليكم ويزيدكم عليها‪.‬‬

‫ح ْولِ‬
‫جهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْ َ‬
‫ثم قال تعالى‪ { } 240 { :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَ َيذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لِأَ ْزوَا ِ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَ َرجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫أي‪ :‬الزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا { وصية لزواجهم متاعا‬
‫إلى الحول غير إخراج } أي‪ :‬يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة ل يخرجن منها { فإن خرجن }‬
‫من أنفسهن { فل جناح عليكم } أيها الولياء { فيما فعلن في أنفسهم من معروف وال عزيز حكيم‬
‫} أي‪ :‬من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن هذه الية منسوخة بما قبلها‬
‫شهُ ٍر وَعَشْرًا } وقيل‬
‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬
‫وهي قوله‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫لم تنسخها بل الية الولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة‪ ،‬وما زاد على ذلك فهي‬
‫مستحبة ينبغي فعلها تكميل لحق الزوج‪ ،‬ومراعاة للزوجة‪ ،‬والدليل على أن ذلك مستحب أنه هنا‬
‫نفى الجناح عن الولياء إن خرجن قبل تكميل الحول‪ ،‬فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج‬
‫عنهم‪.‬‬

‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ * كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ آيَا ِتهِ‬
‫{ ‪ { } 242 - 241‬وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ }‬

‫أي‪ :‬لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق‪ ،‬جبرا لخاطرها وأداء لبعض حقوقها‪ ،‬وهذه‬
‫المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس‪ ،‬والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم‪ ،‬هذا أحسن ما‬
‫قيل فيها‪ ،‬وقيل إن المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الية‪ ،‬ولكن القاعدة أن‬
‫المطلق محمول على المقيّد‪ ،‬وتقدم أن ال فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة‪.‬‬
‫ولما بيّن تعالى هذه الحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة امتن بها على عباده فقال‪:‬‬
‫{ كذلك يبين ال لكم آياته } أي‪ :‬حدوده‪ ،‬وحلله وحرامه والحكام النافعة لكم‪ ،‬لعلكم تعقلونها‬
‫فتعرفونها وتعرفون المقصود منها‪ ،‬فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫حذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ‬


‫{ ‪ { } 245 - 243‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ َ‬
‫شكُرُونَ * َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا يَ ْ‬
‫ضلٍ عَلَى النّا ِ‬
‫مُوتُوا ُثمّ أَحْيَاهُمْ إِنّ اللّهَ َلذُو َف ْ‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً‬
‫حسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫جعُونَ }‬
‫ط وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫وَاللّهُ َيقْ ِبضُ وَيَبْسُ ُ‬

‫يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم‪ ،‬بأن الذي‬
‫أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره‪ ،‬يقصدون بهذا الخروج السلمة من الموت‪ ،‬ولكن ل‬
‫يغني حذر عن قدر‪ { ،‬فقال ال لهم موتوا } فماتوا { ثم } إن ال تعالى { أحياهم } إما بدعوة نبي‬
‫أو بغير ذلك‪ ،‬رحمة بهم ولطفا وحلما‪ ،‬وبيانا لياته لخلقه بإحياء الموتى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إن ال لذو‬
‫فضل } أي‪ :‬عظيم { على الناس ولكن أكثرهم ل يشكرون } فل تزيدهم النعمة شكرا‪ ،‬بل ربما‬
‫استعانوا بنعم ال على معاصيه‪ ،‬وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في‬
‫طاعة المنعم‪.‬‬

‫ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله‪ ،‬وهو قتال العداء الكفار لعلء كلمة ال ونصر دينه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ وقاتلوا في سبيل ال واعلموا أن ال سميع عليم } أي‪ :‬فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه ال‪،‬‬
‫واعلموا أنه ل يفيدكم القعود عن القتال شيئا‪ ،‬ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم‪ ،‬فليس المر‬
‫كذلك‪ ،‬ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا المر‪ ،‬فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر‬
‫الموت خروجهم‪ ،‬بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا‪ ،‬فاعلموا أنكم كذلك‪.‬‬

‫ولما كان القتال فى سبيل ال ل يتم إل بالنفقة وبذل الموال في ذلك‪ ،‬أمر تعالى بالنفاق في سبيله‬
‫ورغب فيه‪ ،‬وسماه قرضا فقال‪ { :‬من ذا الذي يقرض ال قرضا حسنا } فينفق ما تيسر من أمواله‬
‫في طرق الخيرات‪ ،‬خصوصا في الجهاد‪ ،‬والحسن هو الحلل المقصود به وجه ال تعالى‪،‬‬
‫{ فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪،‬‬
‫بحسب حالة المنفق‪ ،‬ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها‪ ،‬ولما كان النسان ربما توهم أنه إذا أنفق‬
‫افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله‪ { :‬وال يقبض ويبسط } أي‪ :‬يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه‬
‫عمن يشاء‪ ،‬فالتصرف كله بيديه ومدار المور راجع إليه‪ ،‬فالمساك ل يبسط الرزق‪ ،‬والنفاق ل‬
‫يقبضه‪ ،‬ومع ذلك فالنفاق غير ضائع على أهله‪ ،‬بل لهم يوم يجدون ما قدموه كامل موفرا‬
‫مضاعفا‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬
‫ففي هذه اليات دليل على أن السباب ل تنفع مع القضاء والقدر‪ ،‬وخصوصا السباب التي تترك‬
‫بها أوامر ال‪ .‬وفيها‪ :‬الية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار‪ .‬وفيها‪ :‬المر بالقتال‬
‫والنفقة في سبيل ال‪ ،‬وذكر السباب الداعية لذلك الحاثة عليه‪ ،‬من تسميته قرضا‪ ،‬ومضاعفته‪،‬‬
‫وأن ال يقبض ويبسط وإليه ترجعون‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 248- 246‬ألَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلَإِ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا‬
‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلقِتَالُ أَلّا ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَلّا ُنقَا ِتلَ فِي‬
‫مَِلكًا ُنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ َهلْ َ‬
‫سَبِيلِ اللّهِ َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِلّا قَلِيلًا مِ ْن ُه ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ‬
‫بِالظّاِلمِينَ * َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّي ُهمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َلكُمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ‬
‫سمِ‬
‫سطَةً فِي ا ْلعِ ْل ِم وَالْجِ ْ‬
‫طفَاهُ عَلَ ْي ُك ْم وَزَا َدهُ بَ ْ‬
‫صَ‬‫س َعةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ ا ْ‬
‫حقّ بِا ْلمُ ْلكِ مِنْ ُه وَلَمْ ُيؤْتَ َ‬
‫أَ َ‬
‫وَاللّهُ ُيؤْتِي مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ * َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّي ُهمْ إِنّ آ َيةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ التّابُوتُ فِيهِ‬
‫حمِلُهُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫سكِينَةٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَبَقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ َت ْ‬
‫َ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫يقص تعالى على نبيه قصة المل من بني إسرائيل وهم الشراف والرؤساء‪ ،‬وخص المل بالذكر‪،‬‬
‫لنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه‪ ،‬وذلك أنهم‬
‫أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلم فقالوا له { ابعث لنا ملكا } أي‪ :‬عيّن لنا ملكا { نقاتل في‬
‫سبيل ال } ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا‪ ،‬ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم‪ ،‬كما‬
‫جرت عادة القبائل أصحاب البيوت‪ ،‬كل بيت ل يرضى أن يكون من البيت الخر رئيس‪ ،‬فالتمسوا‬
‫من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم‪ ،‬وكانت أنبياء بني إسرائيل‬
‫تسوسهم‪ ،‬كلما مات نبي خلفه نبي آخر‪ ،‬فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة { قال } لهم نبيهم { هل عسيتم‬
‫إن كتب عليكم القتال أل تقاتلوا } أي‪ :‬لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم ل تقومون به‪،‬‬
‫فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها‪ ،‬واعتمدوا على عزمهم ونيتهم‪ ،‬فقالوا‪ { :‬وما لنا أل نقاتل في‬
‫سبيل ال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي‪ :‬أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه‪ ،‬بأن‬
‫أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا‪ ،‬فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا‪ ،‬فكيف مع أنه‬
‫فرض علينا وقد حصل ما حصل‪ ،‬ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم { فلما‬
‫كتب عليهم القتال تولوا } فجبنوا عن قتال العداء وضعفوا عن المصادمة‪ ،‬وزال ما كانوا عزموا‬
‫عليه‪ ،‬واستولى على أكثرهم الخور والجبن { إل قليل منهم } فعصمهم ال وثبتهم وقوى قلوبهم‬
‫فالتزموا أمر ال ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه‪ ،‬فحازوا شرف الدنيا والخرة‪ ،‬وأما أكثرهم‬
‫فظلموا أنفسهم وتركوا أمر ال‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وال عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم } مجيبا لطلبهم‬
‫{ إن ال قد بعث لكم طالوت ملكا } فكان هذا تعيينا من ال الواجب عليهم فيه القبول والنقياد‬
‫وترك العتراض‪ ،‬ولكن أبوا إل أن يعترضوا‪ ،‬فقالوا‪ { :‬أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق‬
‫بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } أي‪ :‬كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن‬
‫أحق بالملك منه‪ .‬ومع هذا فهو فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الموال‪ ،‬وهذا بناء منهم على‬
‫ظن فاسد‪ ،‬وهو أن الملك ونحوه من الوليات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال‪ ،‬ولم يعلموا أن‬
‫الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها‪ ،‬فلهذا قال لهم نبيهم‪ { :‬إن ال اصطفاه عليكم }‬
‫فلزمكم النقياد لذلك { وزاده بسطة في العلم والجسم } أي‪ :‬فضله عليكم بالعلم والجسم‪ ،‬أي‪ :‬بقوة‬
‫الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك‪ ،‬لنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي‬
‫المصيب‪ ،‬حصل بذلك الكمال‪ ،‬ومتى فاته واحد من المرين اختل عليه المر‪ ،‬فلو كان قوي البدن‬
‫مع ضعف الرأي‪ ،‬حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع‪ ،‬قوة على غير حكمة‪ ،‬ولو كان‬
‫عالما بالمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي ل ينفذه شيئا { وال واسع } الفضل‬
‫كثير الكرم‪ ،‬ل يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد‪ ،‬ول شريفا عن وضيع‪ ،‬ولكنه مع ذلك‬
‫{ عليم } بمن يستحق الفضل فيضعه فيه‪ ،‬فأزال بهذا الكلم ما في قلوبهم من كل ريب وشك‬
‫وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه‪ ،‬وأن فضل ال يؤتيه من يشاء من عباده‪ ،‬ليس له راد‪،‬‬
‫ول لحسانه صاد‪.‬‬

‫ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانا طويل وفي‬
‫ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم‪ ،‬وتطمئن لها خواطرهم‪ ،‬وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل‬
‫هارون‪ ،‬فأتت به الملئكة حاملة له وهم يرونه عيانا‪.‬‬

‫صلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِ ْنهُ فَلَيْسَ مِنّي‬
‫{ ‪ { } 249-252‬فََلمّا َف َ‬
‫ط َعمْهُ فَإِنّهُ مِنّي إِلّا مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْرفَةً بِ َي ِدهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُهوَ‬
‫َومَنْ َلمْ َي ْ‬
‫وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ ِبجَالُوتَ وَجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلَاقُو اللّهِ َكمْ مِنْ‬
‫ت وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا‬
‫فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ * وََلمّا بَرَزُوا لِجَالُو َ‬
‫علَيْنَا صَبْرًا وَثَ ّبتْ َأ ْقدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ * َفهَ َزمُوهُمْ بِِإذْنِ اللّ ِه َوقَ َتلَ دَاوُدُ‬
‫َأفْ ِرغْ َ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ‬
‫ح ْكمَ َة وَعَّلمَهُ ِممّا َيشَا ُء وََلوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫ك وَالْ ِ‬
‫ت وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ‬
‫جَالُو َ‬
‫ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ‬
‫حّ‬‫ض وََلكِنّ اللّهَ ذُو َفضْلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ * تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ‬
‫الْأَ ْر ُ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬لما تملّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم‪ ،‬فلما فصل طالوت‬
‫بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا‪ ،‬امتحنهم بأمر ال ليتبين الثابت المطمئن ممن‬
‫ليس كذلك فقال‪ { :‬إن ال مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني } فهو عاص ول يتبعنا لعدم‬
‫صبره وثباته ولمعصيته { ومن لم يطعمه } أي‪ :‬لم يشرب منه فإنه مني { إل من اغترف غرفة‬
‫بيده } فل جناح عليه في ذلك‪ ،‬ولعل ال أن يجعل فيها بركة فتكفيه‪ ،‬وفي هذا البتلء ما يدل على‬
‫أن الماء قد قل عليهم ليتحقق المتحان‪ ،‬فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه‪،‬‬
‫ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة‬
‫أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة‪ ،‬وكان في‬
‫رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكل على ال‪ ،‬وتضرعا واستكانة وتبرؤا من‬
‫حولهم وقوتهم‪ ،‬وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬فلما جاوزه } أي‪ :‬النهر‬
‫{ هو } أي‪ :‬طالوت { والذين آمنوا معه } وهم الذين أطاعوا أمر ال ولم يشربوا من النهر الشرب‬
‫المنهي عنه فرأوا‪ ...‬قلتهم وكثرة أعدائهم‪ ،‬قالوا أي‪ :‬قال كثير منهم { ل طاقة لنا اليوم بجالوت‬
‫وجنوده } لكثرتهم وعَددهم وعُددهم { قال الذين يظنون أنهم ملقوا ال } أي‪ :‬يستيقنون ذلك‪ ،‬وهم‬
‫أهل اليمان الثابت واليقين الراسخ‪ ،‬مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم‪ ،‬وآمرين لهم بالصبر‬
‫{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ال } أي‪ :‬بإرادته ومشيئته فالمر ل تعالى‪ ،‬والعزيز من‬
‫أعزه ال‪ ،‬والذليل من أذله ال‪ ،‬فل تغني الكثرة مع خذلنه‪ ،‬ول تضر القلة مع نصره‪ { ،‬وال مع‬
‫الصابرين } بالنصر والمعونة والتوفيق‪ ،‬فأعظم جالب لمعونة ال صبر العبد ل‪ ،‬فوقعت موعظته‬
‫في قلوبهم وأثرت معهم‪.‬‬

‫ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده { قالوا } جميعهم { ربنا أفرغ علينا صبرا } أي‪ :‬قو قلوبنا‪،‬‬
‫وأوزعنا الصبر‪ ،‬وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار‪ ،‬وانصرنا على القوم الكافرين‪.‬‬

‫من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا‪ ،‬فاستجاب ال لهم ذلك الدعاء لتيانهم بالسباب‬
‫الموجبة لذلك‪ ،‬ونصرهم عليهم { فهزموهم بإذن ال وقتل داود } عليه السلم‪ ،‬وكان مع جنود‬
‫طالوت‪ { ،‬جالوت } أي‪ :‬باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره { وآتاه ال } أي‪ :‬آتى‬
‫ال داود { الملك والحكمة } أي‪ :‬منّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة‪ ،‬وهي النبوة‬
‫المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم‪ ،‬ولهذا قال { وعلمه مما يشاء } من العلوم‬
‫الشرعية والعلوم السياسية‪ ،‬فجمع ال له الملك والنبوة‪ ،‬وقد كان من قبله من النبياء يكون الملك‬
‫لغيرهم‪ ،‬فلما نصرهم ال تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا ال آمنين مطمئنين لخذلن أعدائهم‬
‫وتمكينهم من الرض‪ ،‬وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله‪ ،‬فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال‬
‫تعالى‪ { :‬ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض } أي‪ :‬لول أنه يدفع بمن يقاتل في‬
‫سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الرض باستيلء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر‬
‫ومنعهم من عبادة ال تعالى‪ ،‬وإظهار دينه { ولكن ال ذو فضل على العالمين } حيث شرع لهم‬
‫الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الرض بأسباب يعلمونها‪ ،‬وأسباب ل‬
‫يعلمونها‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬تلك آيات ال نتلوها عليك بالحق } أي‪ :‬بالصدق الذي ل ريب فيها المتضمن‬
‫للعتبار والستبصار وبيان حقائق المور { وإنك لمن المرسلين } فهذه شهادة من ال لرسوله‬
‫برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه ال عليه من أخبار المم السالفين والنبياء وأتباعهم‬
‫وأعدائهم التي لول خبر ال إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من‬
‫هذه المور‪ ،‬فدل أنه رسول ال حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين‬
‫كله ولو كره المشركون‪.‬‬

‫وفي هذه القصة من اليات والعبر ما يتذكر به أولو اللباب‪ ،‬فمنها‪ :‬أن اجتماع أهل الكلمة والحل‬
‫والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه‪ ،‬ثم العمل به‪ ،‬أكبر سبب لرتقائهم‬
‫وحصول مقصودهم‪ ،‬كما وقع لهؤلء المل حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم‬
‫ويلم متفرقهم‪ ،‬وتحصل له الطاعة منهم‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد‬
‫وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلء‪ ،‬لما اعترضوا على استحقاق طالوت‬
‫للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها القناع وزوال الشبه والريب‪ .‬ومنها‪ :‬أن العلم والرأي‪ :‬مع القوة‬
‫المنفذة بهما كمال الوليات‪ ،‬وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها‪ .‬ومنها‪ :‬أن التكال على‬
‫النفس سبب الفشل والخذلن‪ ،‬والستعانة بال والصبر واللتجاء إليه سبب النصر‪ ،‬فالول كما في‬
‫قولهم لنبيهم { وما لنا أل نقاتل في سبيل ال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } فكأنه نتيجة ذلك أنه‬
‫لما كتب عليهم القتال تولوا‪ ،‬والثاني في قوله‪ { :‬ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا‬
‫صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن ال } ومنها‪ :‬أن من حكمة ال‬
‫تعالى تمييز الخبيث من الطيب‪ ،‬والصادق من الكاذب‪ ،‬والصابر من الجبان‪ ،‬وأنه لم يكن ليذر‬
‫العباد على ما هم عليه من الختلط وعدم التمييز‪ .‬ومنها‪ :‬أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع‬
‫ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين‪ ،‬وأنه لول ذلك لفسدت الرض باستيلء الكفر‬
‫وشعائره عليها‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫ضهُمْ َد َرجَاتٍ‬
‫ن كَّلمَ اللّهُ َو َرفَعَ َب ْع َ‬
‫ض ُهمْ عَلَى َبعْضٍ ِم ْن ُهمْ مَ ْ‬
‫ك الرّسُلُ َفضّ ْلنَا َبعْ َ‬
‫{ ‪ { } 253‬تِ ْل َ‬
‫ن مِنْ َب ْعدِ ِهمْ مِنْ‬
‫وَآ َت ْينَا عِيسَى ا ْبنَ َم ْر َيمَ ا ْل َب ّينَاتِ وََأ ّي ْدنَا ُه ِبرُوحِ ا ْل ُقدُسِ وََل ْو شَاءَ اللّ ُه مَا ا ْق َتتَلَ اّلذِي َ‬
‫ختَلَفُوا َف ِم ْنهُمْ َمنْ آ َمنَ َو ِم ْنهُ ْم مَنْ كَ َفرَ وََلوْ شَا َء اللّ ُه مَا ا ْق َتتَلُوا‬
‫َب ْعدِ مَا جَا َء ْت ُهمُ ا ْل َب ّينَاتُ وََل ِكنِ ا ْ‬
‫ل مَا ُيرِي ُد }‬
‫ن اللّهَ يَ ْفعَ ُ‬
‫وََلكِ ّ‬
‫يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه‬
‫وإرسالهم إلى الناس‪ ،‬ودعائهم الخلق إلى ال‪ ،‬ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من‬
‫الوصاف الحميدة والفعال السديدة والنفع العام‪ ،‬فمنهم من كلمه ال كموسى بن عمران خصه‬
‫بالكلم‪ ،‬ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى ال عليه وسلم الذي اجتمع فيه من‬
‫الفضائل ما تفرق في غيره‪ ،‬وجمع ال له من المناقب ما فاق به الولين والخرين { وآتينا‬
‫عيسى ابن مريم البينات } الدالت على نبوته وأنه عبد ال ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم‬
‫وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي‪ :‬باليمان واليقين الذي أيده به ال وقواه على ما أمر‬
‫به‪ ،‬وقيل أيده بجبريل عليه السلم يلزمه في أحواله { ولو شاء ال ما اقتتل الذين من بعدهم‬
‫من بعد ما جاءتهم البينات } الموجبة للجتماع على اليمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن‬
‫ومنهم من كفر } فكان موجب هذا الختلف التفرق والمعاداة والمقاتلة‪ ،‬ومع هذا فلو شاء ال‬
‫بعد هذا الختلف ما اقتتلوا‪ ،‬فدل ذلك على أن مشيئة ال نافذة غالبة للسباب‪ ،‬وإنما تنفع‬
‫السباب مع عدم معارضة المشيئة‪ ،‬فإذا وجدت اضمحل كل سبب‪ ،‬وزال كل موجب‪ ،‬فلهذا‬
‫قال { ولكن ال يفعل ما يريد } فإرادته غالبة ومشيئته نافذة‪ ،‬وفي هذا ونحوه دللة على أن ال‬
‫تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته‪ ،‬ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه‬
‫وأخبر به عنه رسوله صلى ال عليه وسلم من الستواء والنزول والقوال‪ ،‬والفعال التي‬
‫يعبرون عنها بالفعال الختيارية‪.‬‬

‫فائدة‪ :‬كما يجب على المكلف معرفته بربه‪ ،‬فيجب عليه معرفته برسله‪ ،‬ما يجب لهم ويمتنع‬
‫عليهم ويجوز في حقهم‪ ،‬ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم ال به في آيات متعددة‪ ،‬منها‪ :‬أنهم‬
‫رجال ل نساء‪ ،‬من أهل القرى ل من أهل البوادي‪ ،‬وأنهم مصطفون مختارون‪ ،‬جمع ال لهم‬
‫من الصفات الحميدة ما به الصطفاء والختيار‪ ،‬وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم‬
‫من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية‪ ،‬وأنهم ل يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة‬
‫والتكليف‪ ،‬وأن ال تعالى خصهم بوحيه‪ ،‬فلهذا وجب اليمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم‬
‫فهو كافر‪ ،‬ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله‪ ،‬ودلئل هذه الجمل كثيرة‪ ،‬من‬
‫تدبر القرآن تبين له الحق‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫ن َي ْأ ِتيَ يَ ْومٌ لَا َبيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلّةٌ وَلَا‬


‫ن َقبْلِ أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 254‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َأنْفِقُوا ِممّا رَ َز ْقنَا ُكمْ مِ ْ‬
‫ن}‬
‫ن ُهمُ الظّاِلمُو َ‬
‫شَفَاعَةٌ وَا ْلكَا ِفرُو َ‬

‫وهذا من لطف ال بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم ال‪ ،‬من صدقة واجبة ومستحبة‪،‬‬
‫ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير‪ ،‬فل بيع‬
‫فيه ولو افتدى النسان نفسه بملء الرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه‪،‬‬
‫ولم ينفعه خليل ول صديق ل بوجاهة ول بشفاعة‪ ،‬وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون‬
‫ويحصل الخزي على الظالمين‪ ،‬وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه‪ ،‬فتركوا الواجب‬
‫من حق ال وحق عباده وتعدوا الحلل إلى الحرام‪ ،‬وأعظم أنواع الظلم الكفر بال الذي هو‬
‫وضع العبادة التي يتعين أن تكون ل فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪:‬‬
‫{ والكافرون هم الظالمون } وهذا من باب الحصر‪ ،‬أي‪ :‬الذين ثبت لهم الظلم التام‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ { :‬إن الشرك لظلم عظيم } ثم قال تعالى‪:‬‬

‫سمَاوَاتِ َومَا فِي‬


‫سنَةٌ وَلَا نَ ْومٌ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫حيّ ا ْل َقيّومُ لَا َت ْأخُذُ ُه ِ‬
‫{ ‪ { } 255‬اللّهُ لَا إِلَ َه إِلّا ُهوَ ا ْل َ‬
‫شيْءٍ مِنْ‬
‫ن ِب َ‬
‫ع ْندَ ُه إِلّا ِبِإ ْذنِهِ َيعَْلمُ مَا َب ْينَ َأ ْيدِي ِهمْ َومَا خَلْ َف ُهمْ وَلَا ُيحِيطُو َ‬
‫ن ذَا اّلذِي َيشْفَعُ ِ‬
‫ا ْلَأرْضِ مَ ْ‬
‫ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ }‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ وَلَا َيئُودُ ُه حِ ْف ُ‬
‫سيّ ُه ال ّ‬
‫عِ ْلمِ ِه إِلّا ِبمَا شَاءَ َوسِ َع ُكرْ ِ‬

‫هذه الية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها‪ ،‬وذلك لما اشتملت عليه من المور‬
‫العظيمة والصفات الكريمة‪ ،‬فلهذا كثرت الحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا‬
‫للنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات‪ ،‬فأخبر تعالى عن‬
‫نفسه الكريمة بأن { ل إله إل هو } أي‪ :‬ل معبود بحق سواه‪ ،‬فهو الله الحق الذي تتعين أن‬
‫تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى‪ ،‬لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه‪ ،‬ولكون‬
‫العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه‪ ،‬ممتثل أوامره مجتنبا نواهيه‪ ،‬وكل ما سوى ال تعالى باطل‪،‬‬
‫فعبادة ما سواه باطلة‪ ،‬لكون ما سوى ال مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه‪ ،‬فلم‬
‫يستحق شيئا من أنواع العبادة‪ ،‬وقوله‪ { :‬الحي القيوم } هذان السمان الكريمان يدلن على‬
‫سائر السماء الحسنى دللة مطابقة وتضمنا ولزوما‪ ،‬فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة‬
‫لجميع صفات الذات‪ ،‬كالسمع والبصر والعلم والقدرة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬والقيوم‪ :‬هو الذي قام بنفسه‬
‫وقام بغيره‪ ،‬وذلك مستلزم لجميع الفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من‬
‫الستواء والنزول والكلم والقول والخلق والرزق والماتة والحياء‪ ،‬وسائر أنواع التدبير‪ ،‬كل‬
‫ذلك داخل في قيومية الباري‪ ،‬ولهذا قال بعض المحققين‪ :‬إنهما السم العظم الذي إذا دعي ال‬
‫به أجاب‪ ،‬وإذا سئل به أعطى‪ ،‬ومن تمام حياته وقيوميته أن { ل تأخذه سنة ول نوم } والسنة‬
‫النعاس { له ما في السماوات وما في الرض } أي‪ :‬هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق‬
‫الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر ل يملك لنفسه ول لغيره مثقال ذرة في السماوات‬
‫ول في الرض فلهذا قال‪ { :‬من ذا الذي يشفع عنده إل بإذنه } أي‪ :‬ل أحد يشفع عنده بدون‬
‫إذنه‪ ،‬فالشفاعة كلها ل تعالى‪ ،‬ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد‬
‫أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه‪ ،‬ل يبتدئ الشافع قبل الذن‪ ،‬ثم قال { يعلم ما بين أيديهم }‬
‫أي‪ :‬ما مضى من جميع المور { وما خلفهم } أي‪ :‬ما يستقبل منها‪ ،‬فعلمه تعالى محيط‬
‫بتفاصيل المور‪ ،‬متقدمها ومتأخرها‪ ،‬بالظواهر والبواطن‪ ،‬بالغيب والشهادة‪ ،‬والعباد ليس لهم‬
‫من المر شيء ول من العلم مثقال ذرة إل ما علمهم تعالى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ول يحيطون بشيء‬
‫من علمه إل بما شاء وسع كرسيه السماوات والرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة‬
‫سلطانه‪ ،‬إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والرض على عظمتهما وعظمة من‬
‫فيهما‪ ،‬والكرسي ليس أكبر مخلوقات ال تعالى‪ ،‬بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش‪ ،‬وما ل‬
‫يعلمه إل هو‪ ،‬وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الفكار وتكل البصار‪ ،‬وتقلقل الجبال وتكع‬
‫عنها فحول الرجال‪ ،‬فكيف بعظمة خالقها ومبدعها‪ ،‬والذي أودع فيها من الحكم والسرار ما‬
‫أودع‪ ،‬والذي قد أمسك السماوات والرض أن تزول من غير تعب ول نصب‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬
‫{ ول يؤوده } أي‪ :‬يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه‪ ،‬العلي بقهره لجميع‬
‫المخلوقات‪ ،‬العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة‪،‬‬
‫وتصغر في جانب جلله أنوف الملوك القاهرة‪ ،‬فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء‬
‫الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء‪ ،‬فقد اشتملت هذه الية على توحيد اللهية وتوحيد الربوبية‬
‫وتوحيد السماء والصفات‪ ،‬وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلله ومجده‪،‬‬
‫وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته‪ ،‬فهذه الية بمفردها عقيدة في أسماء ال‬
‫وصفاته‪ ،‬متضمنة لجميع السماء الحسنى والصفات العل‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫ن َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َويُ ْؤ ِمنْ‬


‫ن ال ّرشْدُ ِمنَ ا ْل َغيّ َفمَ ْ‬
‫ن قَدْ َت َبيّ َ‬
‫{ ‪ { } 257 - 256‬لَا ِإ ْكرَاهَ فِي الدّي ِ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ *‬
‫سكَ بِا ْل ُعرْوَ ِة الْ ُوثْقَى لَا انْ ِفصَا َم َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫ستَ ْم َ‬
‫بِاللّهِ فَ َق ِد ا ْ‬

‫ن كَ َفرُوا أَوِْليَاؤُ ُه ُم الطّاغُوتُ‬


‫ن الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَاّلذِي َ‬
‫خ ِرجُ ُهمْ مِ َ‬
‫ي اّلذِينَ آ َمنُوا ُي ْ‬
‫اللّهُ وَِل ّ‬
‫ن}‬
‫ك َأصْحَابُ النّارِ ُه ْم فِيهَا خَاِلدُو َ‬
‫ن النّو ِر إِلَى الظُّلمَاتِ أُوَل ِئ َ‬
‫ُيخْ ِرجُو َن ُهمْ مِ َ‬

‫يخبر تعالى أنه ل إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الكراه عليه‪ ،‬لن الكراه ل يكون إل على‬
‫أمر خفية أعلمه‪ ،‬غامضة أثاره‪ ،‬أو أمر في غاية الكراهة للنفوس‪ ،‬وأما هذا الدين القويم‬
‫والصراط المستقيم فقد تبينت أعلمه للعقول‪ ،‬وظهرت طرقه‪ ،‬وتبين أمره‪ ،‬وعرف الرشد من‬
‫الغي‪ ،‬فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره‪ ،‬وأما من كان سيئ القصد فاسد الرادة‪،‬‬
‫خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل‪ ،‬ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح‪ ،‬فهذا ليس ل‬
‫حاجة في إكراهه على الدين‪ ،‬لعدم النتيجة والفائدة فيه‪ ،‬والمكره ليس إيمانه صحيحا‪ ،‬ول تدل‬
‫الية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين‪ ،‬وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب‬
‫لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق‪ ،‬وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له‪ ،‬وإنما يؤخذ فرض‬
‫القتال من نصوص أخر‪ ،‬ولكن يستدل في الية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬كما هو قول كثير من العلماء‪ ،‬فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى ال وطاعة‬
‫الشيطان‪ ،‬ويؤمن بال إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى }‬
‫أي‪ :‬بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه‪ ،‬وكان المتمسك به على ثقة من أمره‪،‬‬
‫لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { ل انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بال وآمن‬
‫بالطاغوت‪ ،‬فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة‪ ،‬واستمسك بكل باطل مآله‬
‫إلى الجحيم { وال سميع عليم } فيجازي كل منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر‪،‬‬
‫وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها‪.‬‬

‫ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال‪ { :‬ال ولي الذين آمنوا } وهذا يشمل وليتهم لربهم‪،‬‬
‫بأن تولوه فل يبغون عنه بدل ول يشركون به أحدا‪ ،‬قد اتخذوه حبيبا ووليا‪ ،‬ووالوا أولياءه‬
‫وعادوا أعداءه‪ ،‬فتولهم بلطفه ومنّ عليهم بإحسانه‪ ،‬فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي‬
‫والجهل إلى نور اليمان والطاعة والعلم‪ ،‬وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر‬
‫والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا أولياؤهم‬
‫الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه‪ ،‬واتخذوه من دون ال وليا ووالوه وتركوا ولية ربهم‬
‫وسيدهم‪ ،‬فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا‪ ،‬ويزعجونهم إلى الشر‬
‫إزعاجا‪ ،‬فيخرجونهم من نور اليمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي‪،‬‬
‫فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات‪ ،‬وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات‪ ،‬وكانوا من‬
‫حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬أولئك أصحاب النار هم فيها‬
‫خالدون }‬

‫ل ِإبْرَاهِيمُ َرّبيَ اّلذِي‬


‫ن آتَا ُه اللّ ُه ا ْلمُ ْلكَ ِإ ْذ قَا َ‬
‫{ ‪ { } 258‬أََل ْم تَ َر إِلَى اّلذِي حَاجّ ِإ ْبرَاهِيمَ فِي َربّ ِه أَ ْ‬
‫ن ا ْل َمشْ ِرقِ َفأْتِ ِبهَا مِنَ‬
‫شمْسِ مِ َ‬
‫حيِي وَُأمِيتُ قَالَ ِإ ْبرَاهِيمُ َفإِنّ اللّهَ َي ْأتِي بِال ّ‬
‫حيِي َو ُيمِيتُ قَالَ َأنَا ُأ ْ‬
‫ُي ْ‬
‫ن}‬
‫ت اّلذِي كَ َفرَ وَاللّهُ لَا َي ْهدِي الْقَ ْو َم الظّاِلمِي َ‬
‫ب َفبُهِ َ‬
‫ا ْل َمغْرِ ِ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } أي‪ :‬إلى جرائته وتجاهله وعناده‬
‫ومحاجته فيما ل يقبل التشكيك‪ ،‬وما حمله على ذلك إل { أن آتاه ال الملك } فطغى وبغى‬
‫ورأى نفسه مترئسا على رعيته‪ ،‬فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية ال فزعم أنه‬
‫يفعل كما يفعل ال‪ ،‬فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي‪ :‬هو المنفرد بأنواع التصرف‪،‬‬
‫وخص منه الحياء والماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير‪ ،‬ولن الحياء مبدأ الحياة الدنيا‬
‫والماتة مبدأ ما يكون في الخرة‪ ،‬فقال ذلك المحاج‪ { :‬أنا أحيي وأميت } ولم يقل أنا الذي‬
‫أحيي وأميت‪ ،‬لنه لم يدع الستقلل بالتصرف‪ ،‬وإنما زعم أنه يفعل كفعل ال ويصنع صنعه‪،‬‬
‫فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته‪ ،‬ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه‪ ،‬فلما رآه إبراهيم‬
‫يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء ل يصلح أن يكون شبهة فضل عن كونه حجة‪ ،‬اطرد معه في‬
‫الدليل فقال إبراهيم‪ { :‬فإن ال يأتي بالشمس من المشرق } أي‪ :‬عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك‬
‫الكافر { فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه‪ ،‬فلما قال‬
‫له أمرا ل قوة له في شبهة تشوش دليله‪ ،‬ول قادحا يقدح في سبيله { بهت الذي كفر } أي‪:‬‬
‫تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته‪ ،‬وهذه حالة المبطل المعاند الذي‬
‫يريد أن يقاوم الحق ويغالبه‪ ،‬فإنه مغلوب مقهور‪ ،‬فلذلك قال تعالى‪ { :‬وال ل يهدي القوم‬
‫الظالمين } بل يبقيهم على كفرهم وضللهم‪ ،‬وهم الذين اختاروا لنفسهم ذلك‪ ،‬وإل فلو كان‬
‫قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه‪ ،‬ففي هذه الية برهان قاطع‬
‫على تفرد الرب بالخلق والتدبير‪ ،‬ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والنابة والتوكل عليه في‬
‫جميع الحوال‪ ،‬قال ابن القيم رحمه ال‪ :‬وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا‪ ،‬وهي أن شرك‬
‫العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور‪ ،‬ثم صورت الصنام على صورها‪ ،‬فتضمن‬
‫الدليلن اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن ال وحده هو الذي يحيي ويميت‪،‬‬
‫ول يصلح الحي الذي يموت لللهية ل في حال حياته ول بعد موته‪ ،‬فإن له ربا قادرا قاهرا‬
‫متصرفا فيه إحياء وإماتة‪ ،‬ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته‪،‬‬
‫ويعبد من دونه‪ ،‬وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة‬
‫مسخرة‪ ،‬ل تصرف لها بنفسها بوجه ما‪ ،‬بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد‬
‫لمره ومشيئته‪ ،‬فهي مربوبة مسخرة مدبرة‪ ،‬ل إله يعبد من دون ال‪ " .‬من مفتاح دار السعادة‬
‫" ثم قال تعالى‪:‬‬

‫حيِي َه ِذهِ اللّهُ َب ْعدَ‬


‫ل َأنّى ُي ْ‬
‫شهَا قَا َ‬
‫عرُو ِ‬
‫{ ‪َ { } 259‬أوْ كَاّلذِي َمرّ عَلَى قَ ْريَةٍ وَ ِهيَ خَا ِويَةٌ عَلَى ُ‬
‫ل بَلْ َل ِبثْتَ مِائَةَ‬
‫ض يَ ْو ٍم قَا َ‬
‫ت يَ ْومًا َأوْ َبعْ َ‬
‫مَ ْو ِتهَا َفَأمَاتَ ُه اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ُثمّ َب َعثَ ُه قَالَ َكمْ َل ِبثْتَ قَالَ َل ِبثْ ُ‬
‫ظرْ إِلَى‬
‫جعََلكَ آيَ ًة لِلنّاسِ وَا ْن ُ‬
‫حمَا ِركَ وَِل َن ْ‬
‫سنّهْ وَا ْنظُرْ إِلَى ِ‬
‫شرَا ِبكَ َلمْ َي َت َ‬
‫طعَا ِمكَ َو َ‬
‫ظرْ إِلَى َ‬
‫عَامٍ فَانْ ُ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُلّ َ‬
‫حمًا فََلمّا َت َبيّنَ َلهُ قَالَ َأعَْلمُ أَ ّ‬
‫ا ْل ِعظَامِ َك ْيفَ ُن ْنشِزُهَا ُثمّ َن ْكسُوهَا َل ْ‬

‫وهذا أيضا دليل آخر على توحد ال بالخلق والتدبير والماتة والحياء‪ ،‬فقال‪ { :‬أو كالذي مر‬
‫على قرية وهي خاوية على عروشها } أي‪ :‬قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على‬
‫عروشها‪ ،‬فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة‪ ،‬فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا‬
‫و { قال أنى يحيي هذه ال بعد موتها } استبعادا لذلك وجهل بقدرة ال تعالى‪ ،‬فلما أراد ال به‬
‫خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره‪ ،‬وكان معه طعام وشراب‪ { ،‬فأماته ال مائة عام ثم بعثه‬
‫قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت‬
‫معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته‪ ،‬فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك‬
‫وشرابك لم يتسنه } أي‪ :‬لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلف الوقات‬
‫عليه‪ ،‬ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد‪ ،‬مع أن الطعام‬
‫والشراب من أسرع الشياء فسادا { وانظر إلى حمارك } وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده‬
‫وانتثرت عظامه‪ ،‬وتفرقت أوصاله { ولنجعلك آية للناس } على قدرة ال وبعثه الموات من‬
‫قبورهم‪ ،‬لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالبصار‪ ،‬فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل‬
‫{ وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي‪ :‬ندخل بعضها في بعض‪ ،‬ونركب بعضها ببعض { ثم‬
‫نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا كما وصفها ال تعالى‪ { ،‬فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة ال‬
‫تعالى { قال أعلم أن ال على كل شيء قدير } والظاهر من سياق الية أن هذا رجل منكر‬
‫للبعث أراد ال به خيرا‪ ،‬وأن يجعله آية ودليل للناس لثلثة أوجه أحدها قوله { أنى يحيي هذه‬
‫ال بعد موتها } ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك‪ ،‬والثاني‪ :‬أن ال أراه آية في طعامه‬
‫وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره‪ ،‬ولم يذكر في الية أن القرية المذكورة‬
‫عمرت وعادت إلى حالتها‪ ،‬ول في السياق ما يدل على ذلك‪ ،‬ول في ذلك كثير فائدة‪ ،‬ما‬
‫الفائدة الدالة على إحياء ال للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها؟!‬
‫وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله‪ ،‬والثالث في قوله‪{ :‬‬
‫فلما تبين له } أي‪ :‬تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه‪ ،‬فعلم بذلك صحة ما ذكرناه‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫ن ِل َيطْ َمئِنّ‬
‫حيِ ا ْلمَ ْوتَى قَالَ َأوََلمْ تُ ْؤ ِمنْ قَالَ بَلَى وََلكِ ْ‬
‫ل ِإ ْبرَاهِيمُ رَبّ َأ ِرنِي َك ْيفَ ُت ْ‬
‫{‪ { } 260‬وَِإ ْذ قَا َ‬
‫ع ُهنّ‬
‫جزْءًا ُثمّ ادْ ُ‬
‫ن ُ‬
‫جبَلٍ ِم ْنهُ ّ‬
‫جعَلْ عَلَى كُلّ َ‬
‫ك ُثمّ ا ْ‬
‫صرْهُنّ إَِل ْي َ‬
‫ط ْيرِ فَ ُ‬
‫خذْ َأ ْر َبعَةً ِمنَ ال ّ‬
‫قَ ْلبِي قَالَ َف ُ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫عزِيزٌ َ‬
‫س ْعيًا وَاعَْلمْ َأنّ اللّهَ َ‬
‫َي ْأتِي َنكَ َ‬

‫وهذا فيه أيضا أعظم دللة حسية على قدرة ال وإحيائه الموتى للبعث والجزاء‪ ،‬فأخبر تعالى‬
‫عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى‪ ،‬لنه قد تيقن ذلك بخبر ال‬
‫تعالى‪ ،‬ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين‪ ،‬فلهذا قال ال له‪ { :‬أولم‬
‫تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } وذلك أنه بتوارد الدلة اليقينية مما يزداد به اليمان ويكمل‬
‫به اليقان ويسعى في نيله أولو العرفان‪ ،‬فقال له ربه { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك }‬
‫أي‪ :‬ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك‪ { .‬ثم اجعل على كل جبل منهن‬
‫جزءا } أي‪ :‬مزقهن‪ ،‬اخلط أجزاءهن بعضها ببعض‪ ،‬واجعل على كل جبل‪ ،‬أي‪ :‬من الجبال‬
‫التي في القرب منه‪ ،‬جزء من تلك الجزاء { ثم ادعهن يأتينك سعيا } أي‪ :‬تحصل لهن حياة‬
‫كاملة‪ ،‬ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران‪ ،‬ففعل إبراهيم عليه السلم ذلك وحصل له ما‬
‫أراد وهذا من ملكوت السماوات والرض الذي أراه ال إياه في قوله { وكذلك نري إبراهيم‬
‫ملكوت السماوات والرض وليكون من الموقنين } ثم قال‪ { :‬واعلم أن ال عزيز حكيم } أي‪:‬‬
‫ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات‪ ،‬فلم يستعص عليه شيء منها‪ ،‬بل هي منقادة لعزته‬
‫خاضعة لجلله‪ ،‬ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته‪ ،‬ل يفعل شيئا عبثا‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫س ْنبُلَةٍ‬
‫سنَابِلَ فِي كُلّ ُ‬
‫سبْعَ َ‬
‫حبّ ٍة َأ ْن َبتَتْ َ‬
‫سبِيلِ اللّهِ َك َمثَلِ َ‬
‫ن َأمْوَاَل ُهمْ فِي َ‬
‫ل اّلذِينَ ُينْفِقُو َ‬
‫{ ‪َ { } 261‬مثَ ُ‬
‫عفُ ِل َمنْ َيشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }‬
‫حبّ ٍة وَاللّ ُه يُضَا ِ‬
‫مِائَةُ َ‬

‫هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها ال في قوله { من ذا الذي يقرض ال قرضا حسنا فيضاعفه له‬
‫أضعافا كثيرة } وهنا قال‪ { :‬مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل ال } أي‪ :‬في طاعته‬
‫ومرضاته‪ ،‬وأولها إنفاقها في الجهاد في سبيله { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة‬
‫مائة حبة } وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل‪ ،‬الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد‬
‫هذه المضاعفة ببصيرته‪ ،‬فيقوى شاهد اليمان مع شاهد العيان‪ ،‬فتنقاد النفس مذعنة للنفاق‬
‫سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة‪ { ،‬وال يضاعف } هذه المضاعفة‬
‫{ لمن يشاء } أي‪ :‬بحسب حال المنفق وإخلصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها‬
‫ووقوعها موقعها‪ ،‬ويحتمل أن يكون { وال يضاعف } أكثر من هذه المضاعفة { لمن يشاء }‬
‫فيعطيهم أجرهم بغير حساب { وال واسع } الفضل‪ ،‬واسع العطاء‪ ،‬ل ينقصه نائل ول يحفيه‬
‫سائل‪ ،‬فل يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة‪ ،‬لن ال تعالى ل يتعاظمه شيء‬
‫ول ينقصه العطاء على كثرته‪ ،‬ومع هذا فهو { عليم } بمن يستحق هذه المضاعفة ومن ل‬
‫يستحقها‪ ،‬فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته‪.‬‬

‫جرُهُمْ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه ُثمّ لَا ُي ْت ِبعُونَ مَا َأنْ َفقُوا َمنّا وَلَا َأذًى َل ُهمْ َأ ْ‬
‫ن َأمْوَاَل ُهمْ فِي َ‬
‫ن ُينْفِقُو َ‬
‫{ ‪ { } 262‬اّلذِي َ‬
‫ن صَ َدقَةٍ َي ْت َب ُعهَا َأذًى‬
‫خ ْيرٌ مِ ْ‬
‫ل َم ْعرُوفٌ َو َمغْ ِفرَ ٌة َ‬
‫ع ْندَ َر ّب ِهمْ وَلَا خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ وَلَا ُه ْم َيحْ َزنُونَ * قَوْ ٌ‬
‫ِ‬
‫غ ِنيّ حَلِيمٌ }‬
‫وَاللّهُ َ‬

‫أي‪ :‬الذين ينفقون أموالهم في طاعة ال وسبيله‪ ،‬ول يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها‬
‫على المنفق عليه بالقلب أو باللسان‪ ،‬بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته‪ ،‬ول أذية له‬
‫قولية أو فعلية‪ ،‬فهؤلء لهم أجرهم اللئق بهم ول خوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬فحصل لهم‬
‫الخير واندفع عنهم الشر لنهم عملوا عمل خالصا ل سالما من المفسدات‪.‬‬

‫{ قول معروف } أي‪ :‬تعرفه القلوب ول تنكره‪ ،‬ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال‬
‫السرور على قلب المسلم‪ ،‬ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له { ومغفرة } لمن‬
‫أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه‪ ،‬ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما ل ينبغي‪،‬‬
‫فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى‪ ،‬لن القول المعروف إحسان‬
‫قولي‪ ،‬والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة‪ ،‬وكلهما إحسان ما فيه مفسد‪ ،‬فهما أفضل من‬
‫الحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره‪ ،‬ومفهوم الية أن الصدقة التي ل يتبعها أذى‬
‫ن بالصدقة مفسدا لها محرما‪ ،‬لن المنّة ل‬
‫أفضل من القول المعروف والمغفرة‪ ،‬وإنما كان الم ّ‬
‫ن بنعمة ال وإحسانه وفضله وهو ليس منه‪ ،‬وأيضا‬
‫تعالى وحده‪ ،‬والحسان كله ل‪ ،‬فالعبد ل يم ّ‬
‫ن عليه‪ ،‬والذل والستعباد ل ينبغي إل ل‪ ،‬وال غني بذاته عن جميع‬
‫ن مستع ِبدٌ لمن يم ّ‬
‫فإن الما ّ‬
‫مخلوقاته‪ ،‬وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالت والوقات‪ ،‬فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم‬
‫يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم‪ { ،‬وال غني } عنها‪ ،‬ومع هذا فهو { حليم } على من عصاه‬
‫ل يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه‪ ،‬ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين‪،‬‬
‫بل يمهلهم ويصرّف لهم اليات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه‪ ،‬فإذا علم تعالى أنه ل خير‬
‫فيهم ول تغني عنهم اليات ول تفيد بهم المثلت أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه‪.‬‬

‫صدَقَا ِتكُمْ بِا ْلمَنّ وَا ْلَأذَى كَاّلذِي ُينْ ِفقُ مَالَ ُه ِرئَا َء النّاسِ‬
‫{ ‪ { } 264‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا لَا ُتبْطِلُوا َ‬
‫ب فََأصَابَهُ وَابِلٌ َف َترَكَ ُه صَ ْلدًا لَا‬
‫ن بِاللّهِ وَا ْليَ ْو ِم الْآخِرِ َف َمثَلُ ُه َك َمثَلِ صَفْوَانٍ عََليْهِ ُترَا ٌ‬
‫وَلَا يُ ْؤمِ ُ‬
‫شيْءٍ ِممّا َكسَبُوا وَاللّ ُه لَا َي ْهدِي الْقَ ْو َم ا ْلكَا ِفرِينَ }‬
‫يَ ْق ِدرُونَ عَلَى َ‬

‫ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والذى ففيه أن المن والذى‬
‫يبطل الصدقة‪ ،‬ويستدل بهذا على أن العمال السيئة تبطل العمال الحسنة‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ ول تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم ل تشعرون } فكما أن‬
‫الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات‪ ،‬وفي هذه الية مع قوله تعالى‬
‫{ ول تبطلوا أعمالكم } حث على تكميل العمال وحفظها من كل ما يفسدها لئل يضيع العمل‬
‫سدى‪ ،‬وقوله‪ { :‬كالذي ينفق ماله رئاء الناس ول يؤمن بال واليوم الخر } أي‪ :‬أنتم وإن‬
‫قصدتم بذلك وجه ال في ابتداء المر‪ ،‬فإن المنة والذى مبطلن لعمالكم‪ ،‬فتصير أعمالكم‬
‫بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ول يريد به ال والدار الخرة‪ ،‬فهذا ل شك أن عمله من‬
‫أصله مردود‪ ،‬لن شرط العمل أن يكون ل وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس ل ل‪ ،‬فأعماله‬
‫باطلة وسعيه غير مشكور‪ ،‬فمثله المطابق لحاله { كمثل صفوان } وهو الحجر الملس الشديد‬
‫{ عليه تراب فأصابه وابل } أي‪ :‬مطر غزير { فتركه صلدا } أي‪ :‬ليس عليه شيء من‬
‫التراب‪ ،‬فكذلك حال هذا المرائي‪ ،‬قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان‪ ،‬وصدقته ونحوها من‬
‫أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان‪ ،‬إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة‬
‫للنبات‪ ،‬فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب‪ ،‬وأن قلبه‬
‫غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه‪ ،‬بل الرياء الذي فيه والرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه‬
‫بشيء من عمله‪ ،‬فلهذا { ل يقدرون على شيء } من أعمالهم التي اكتسبوها‪ ،‬لنهم وضعوها‬
‫في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم‪ ،‬ل يملك لهم ضررا ول نفعا وانصرفوا عن عبادة‬
‫من تنفعهم عبادته‪ ،‬فصرف ال قلوبهم عن الهداية‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وال ل يهدي القوم الكافرين }‬

‫جنّ ٍة ِب َربْوَةٍ‬
‫س ِهمْ َك َمثَلِ َ‬
‫ن َأمْوَاَل ُهمُ ا ْب ِتغَاءَ َم ْرضَاةِ اللّهِ َو َت ْثبِيتًا ِمنْ َأنْ ُف ِ‬
‫ل اّلذِينَ ُينْفِقُو َ‬
‫{‪َ { } 265‬و َمثَ ُ‬
‫ن َبصِيرٌ }‬
‫ل فَطَلّ وَاللّ ُه ِبمَا َت ْعمَلُو َ‬
‫ص ْبهَا وَابِ ٌ‬
‫ن َلمْ ُي ِ‬
‫ن فَإِ ْ‬
‫ضعْ َفيْ ِ‬
‫َأصَا َبهَا وَابِلٌ فَآتَتْ ُأكَُلهَا ِ‬

‫هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى‪ { :‬ومثل‬
‫الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة ال } أي‪ :‬قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه { وتثبيتا‬
‫من أنفسهم } أي‪ :‬صدر النفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به‪ ،‬ل على وجه التردد‬
‫وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد النسان بها محمدة‬
‫الناس ومدحهم وهو الرياء‪ ،‬أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد‪ ،‬فهؤلء سلموا من‬
‫هاتين الفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات ال ل لغير ذلك من المقاصد‪ ،‬وتثبيتا من أنفسهم‪ ،‬فمثل‬
‫نفقة هؤلء { كمثل جنة } أي‪ :‬كثيرة الشجار غزيرة الظلل‪ ،‬من الجتنان وهو الستر‪ ،‬لستر‬
‫أشجارها ما فيها‪ ،‬وهذه الجنة { بربوة } أي‪ :‬محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه‬
‫وآخره‪ ،‬فثماره أكثر الثمار وأحسنها‪ ،‬ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس‪ ،‬فـ { أصابها }‬
‫أي‪ :‬تلك الجنة التي بربوة { وابل } وهو المطر الغزير { فآتت أكلها ضعفين } أي‪ :‬تضاعفت‬
‫ثمراتها لطيب أرضها ووجود السباب الموجبة لذلك‪ ،‬وحصول الماء الكثير الذي ينميها‬
‫ويكملها { فإن لم يصبها وابل فطل } أي‪ :‬مطر قليل يكفيها لطيب منبتها‪ ،‬فهذه حالة المنفقين‬
‫أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله‪ ،‬وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها‬
‫والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك‪ ،‬الذي يريد مصلحتك حيث ل تريدها‪ ،‬فيال لو قدر‬
‫وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد‪ ،‬ولحصل‬
‫القتتال عنده‪ ،‬مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها‪ ،‬وهذا الثواب‬
‫الذي ذكره ال كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة اليمان‪ ،‬دائم مستمر فيه أنواع المسرات‬
‫والفرحات‪ ،‬ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة‪ ،‬والعزائم عن طلبه خامدة‪ ،‬أترى ذلك زهدا في‬
‫الخرة ونعيمها‪ ،‬أم ضعف إيمان بوعد ال ورجاء ثوابه؟! وإل فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين‬
‫وباشر اليمان به بشاشة قلبه لنبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه‪ ،‬وتوجهت همم عزائمه‬
‫إليه‪ ،‬وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وال بما تعملون‬
‫بصير } فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل‪ ،‬فيجازيه عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى‪:‬‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَا ُر لَ ُه فِيهَا‬


‫جرِي ِمنْ َت ْ‬
‫عنَابٍ َت ْ‬
‫جنّ ٌة مِنْ َنخِيلٍ وََأ ْ‬
‫ن لَ ُه َ‬
‫ن َتكُو َ‬
‫ح ُد ُكمْ أَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 266‬أ َي َودّ َأ َ‬
‫ح َترَقَتْ َكذَِلكَ ُي َبيّنُ‬
‫عصَارٌ فِي ِه نَارٌ فَا ْ‬
‫ضعَفَا ُء َفأَصَا َبهَا ِإ ْ‬
‫ن كُلّ ال ّث َمرَاتِ وََأصَابَ ُه ا ْل ِك َبرُ وََلهُ ُذ ّريّةٌ ُ‬
‫مِ ْ‬
‫ن}‬
‫اللّ ُه َل ُكمُ الْآيَاتِ َلعَّل ُكمْ َتتَ َف ّكرُو َ‬

‫وهذا المثل مضروب لمن عمل عمل لوجه ال تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمال‬
‫تفسده‪ ،‬فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات‪ ،‬وخص منها النخل والعنب‬
‫لفضلهما وكثرة منافعهما‪ ،‬لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى‪ ،‬وتلك الجنة فيها النهار‬
‫الجارية التي تسقيها من غير مؤنة‪ ،‬وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته‪ ،‬ثم إنه أصابه الكبر‬
‫فضعف عن العمل وزاد حرصه‪ ،‬وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له‪ ،‬بل هم كل عليه‪،‬‬
‫ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة‪ ،‬فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية‬
‫التي تستدير ثم ترتفع في الجو‪ ،‬وفي ذلك العصار نار فاحترقت تلك الجنة‪ ،‬فل تسأل عما‬
‫لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن‪ ،‬فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله‬
‫الحزن‪ ،‬كذلك من عمل عمل لوجه ال فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار‪ ،‬ول يزال‬
‫كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء‪ ،‬وتلك المفسدات التي تفسد‬
‫العمال بمنزلة العصار الذي فيه نار‪ ،‬والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة ل‬
‫يقدر معها على العمل‪ ،‬فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا‪ ،‬ووجد ال عنده فوفاه حسابه‪.‬‬

‫وال سريع الحساب فلو علم النسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم‬
‫على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف اليمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه‬
‫إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون ل يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما‪ ،‬فلهذا‬
‫أمر تعالى بالتفكر وحثّ عليه‪ ،‬فقال‪ { :‬كذلك يبين ال لكم اليات لعلكم تتفكرون }‬

‫جنَا َل ُكمْ مِنَ‬


‫خ َر ْ‬
‫س ْب ُتمْ َو ِممّا َأ ْ‬
‫ط ّيبَاتِ مَا َك َ‬
‫{ ‪ { } 268 - 267‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َأنْفِقُوا مِنْ َ‬
‫غ ِنيّ‬
‫ن ُت ْغمِضُوا فِيهِ وَاعَْلمُوا َأنّ اللّهَ َ‬
‫خذِيهِ إِلّا أَ ْ‬
‫س ُتمْ بِآ ِ‬
‫ث ِمنْهُ ُتنْفِقُونَ وََل ْ‬
‫خبِي َ‬
‫ا ْلَأرْضِ وَلَا َت َي ّممُوا ا ْل َ‬
‫حشَاءِ وَاللّ ُه َي ِع ُدكُمْ َمغْ ِفرَ ًة ِمنْهُ َو َفضْلًا وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‬
‫شيْطَانُ َي ِع ُد ُكمُ الْفَ ْقرَ َو َي ْأ ُم ُركُمْ بِالْ َف ْ‬
‫حمِي ٌد * ال ّ‬
‫َ‬
‫}‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب‪ ،‬ومما أخرج لهم من‬
‫الرض فكما منّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرا ل وأداء لبعض حقوق إخوانكم‬
‫عليكم‪ ،‬وتطهيرا لموالكم‪ ،‬واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لنفسكم‪ ،‬ول تيمموا‬
‫الرديء الذي ل ترغبونه ول تأخذونه إل على وجه الغماض والمسامحة { واعلموا أن ال‬
‫غني حميد } فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم‪ ،‬ومع هذا فهو حميد على ما‬
‫يأمركم به من الوامر الحميدة والخصال السديدة‪ ،‬فعليكم أن تمتثلوا أوامره لنها قوت القلوب‬
‫وحياة النفوس ونعيم الرواح‪ ،‬وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالمساك‪،‬‬
‫ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم‪ ،‬وليس هذا نصحا لكم‪ ،‬بل هذا غاية الغش { إنما يدعو حزبه‬
‫ليكونوا من أصحاب السعير } بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ول‬
‫يضركم‪ ،‬ومع هذا فهو { يعدكم مغفرة } لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم { وفضل } وإحسانا إليكم في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬من الخلف العاجل‪ ،‬وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر‪ ،‬وحصول‬
‫ثوابها وتوفيتها يوم القيامة‪ ،‬وليس هذا عظيما عليه لنه { واسع } الفضل عظيم الحسان‬
‫{ عليم } بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها‪ ،‬سرها وعلنها‪ ،‬فيجازيكم عليها من سعته‬
‫وفضله وإحسانه‪ ،‬فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل‪ ،‬فقد تضمنت هاتان اليتان أمورا‬
‫عظيمة منها‪ :‬الحث على النفاق‪ ،‬ومنها‪ :‬بيان السباب الموجبة لذلك‪ ،‬ومنها‪ :‬وجوب الزكاة‬
‫من النقدين وعروض التجارة كلها‪ ،‬لنها داخلة في قوله‪ { :‬من طيبات ما كسبتم } ومنها‪:‬‬
‫وجوب الزكاة في الخارج من الرض من الحبوب والثمار والمعادن‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الزكاة على‬
‫من له الزرع والثمر ل على صاحب الرض‪ ،‬لقوله { أخرجنا لكم } فمن أخرجت له وجبت‬
‫عليه ومنها‪ :‬أن الموال المعدة للقتناء من العقارات والواني ونحوها ليس فيها زكاة‪ ،‬وكذلك‬
‫الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة‪ ،‬أو عند من ل يقدر ربها على استخراجها منه‪،‬‬
‫ليس فيها زكاة‪ ،‬لن ال أوجب النفقة من الموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الرض‪،‬‬
‫وأموال التجارة مواساة من نمائها‪ ،‬وأما الموال التي غير معدة لذلك ول مقدورا عليها فليس‬
‫فيها هذا المعنى‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الرديء ينهى عن إخراجه ول يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى‪:‬‬

‫خ ْيرًا َكثِيرًا َومَا َي ّذ ّكرُ إِلّا أُولُو‬


‫ح ْكمَةَ فَ َقدْ أُو ِتيَ َ‬
‫ت ا ْل ِ‬
‫ن يُؤْ َ‬
‫ح ْكمَةَ َمنْ َيشَاءُ َومَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 269‬ي ْؤتِي ا ْل ِ‬
‫ا ْلأَ ْلبَابِ }‬
‫لما أمر تعالى بهذه الوامر العظيمة المشتملة على السرار والحكم وكان ذلك ل يحصل لكل‬
‫أحد‪ ،‬بل لمن منّ عليه وآتاه ال الحكمة‪ ،‬وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار‬
‫الشرائع وحكمها‪ ،‬وإن من آتاه ال الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه‬
‫سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة النبياء‪،‬‬
‫فكمال العبد متوقف على الحكمة‪ ،‬إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية‬
‫بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به‪ ،‬وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر‪ ،‬وبذلك‬
‫يتمكن من الصابة بالقول والعمل وتنزيل المور منازلها في نفسه وفي غيره‪ ،‬وبدون ذلك ل‬
‫يمكنه ذلك‪ ،‬ولما كان ال تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق‪ ،‬فبعث‬
‫ال الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم‪ ،‬ومفصلين لهم ما لم يعرفوه‪ ،‬انقسم‬
‫الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه‪ ،‬وما يضرهم فتركوه‪ ،‬وهؤلء هم‬
‫أولو اللباب الكاملة‪ ،‬والعقول التامة‪ ،‬وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم‪ ،‬بل أجابوا ما عرض لفطرهم‬
‫من الفساد‪ ،‬وتركوا طاعة رب العباد‪ ،‬فهؤلء ليسوا من أولي اللباب‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬وما‬
‫يذكر إل أولو اللباب }‬

‫ن اللّ َه َيعَْلمُهُ َومَا لِلظّاِلمِينَ ِمنْ َأ ْنصَارٍ }‬


‫ن َن ْذرٍ فَإِ ّ‬
‫{ ‪َ { } 270‬ومَا َأنْفَ ْق ُتمْ ِمنْ نَ َفقَ ٍة أَ ْو َنذَ ْر ُتمْ مِ ْ‬

‫وهذا فيه المجازاة على النفقات‪ ،‬واجبها ومستحبها‪ ،‬قليلها وكثيرها‪ ،‬التي أمر ال بها‪ ،‬والنذور‬
‫التي ألزمها المكلف نفسه‪ ،‬وإن ال تعالى يعلمها فل يخفى عليه منها شيء‪ ،‬ويعلم ما صدرت‬
‫عنه‪ ،‬هل هو الخلص أو غيره‪ ،‬فإن صدرت عن إخلص وطلب لمرضاة ال جازى عليها‬
‫بالفضل العظيم والثواب الجسيم‪ ،‬وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما‬
‫أوجبه على نفسه من المنذورات‪ ،‬أو قصد بذلك رضى المخلوقات‪ ،‬فإنه ظالم قد وضع الشيء‬
‫في غير موضعه‪ ،‬واستحق العقوبة البليغة‪ ،‬ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬
‫{ وما للظالمين من أنصار }‬

‫خ ْيرٌ َل ُكمْ َو ُيكَ ّفرُ‬


‫صدَقَاتِ َف ِن ِعمّا ِهيَ وَِإنْ ُتخْفُوهَا َوتُ ْؤتُوهَا الْفُ َقرَا َء فَهُ َو َ‬
‫{ ‪ِ { } 271‬إنْ ُت ْبدُوا ال ّ‬
‫خبِيرٌ }‬
‫ن َ‬
‫س ّيئَا ِت ُكمْ وَاللّ ُه ِبمَا َت ْعمَلُو َ‬
‫ن َ‬
‫ع ْن ُكمْ مِ ْ‬
‫َ‬

‫أي‪ { :‬إن تبدوا الصدقات } فتظهروها وتكون علنية حيث كان القصد بها وجه ال { فنعما‬
‫هي } أي‪ :‬فنعم الشيء { هي } لحصول المقصود بها { وإن تخفوها } أي‪ :‬تسروها { وتؤتوها‬
‫الفقراء فهو خير لكم } ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلنية‪ ،‬وأما إذا‬
‫لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الية أن السر ليس خيرا من العلنية‪ ،‬فيرجع في ذلك إلى‬
‫المصلحة‪ ،‬فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول القتداء ونحوه‪ ،‬فهو أفضل من‬
‫السرار‪ ،‬ودل قوله‪ { :‬وتؤتوها الفقراء } على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته‬
‫المحتاجين‪ ،‬ول يعطي محتاجا وغيره أحوج منه‪ ،‬ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق‬
‫ويتضمن ذلك حصول الثواب قال‪ { :‬ويكفر عنكم من سيئاتكم } ففيه دفع العقاب { وال بما‬
‫تعملون خبير } من خير وشر‪ ،‬قليل وكثير والمقصود من ذلك المجازاة‪.‬‬

‫سكُمْ‬
‫خ ْيرٍ فَِلَأنْ ُف ِ‬
‫ن اللّ َه َي ْهدِي َمنْ َيشَاءُ َومَا ُتنْفِقُوا ِمنْ َ‬
‫{ ‪َ { } 274 - 272‬ليْسَ عََل ْيكَ ُهدَا ُهمْ وََلكِ ّ‬
‫ن * لِلْفُ َقرَا ِء اّلذِينَ‬
‫خ ْيرٍ يُ َوفّ إَِل ْي ُكمْ وََأ ْن ُتمْ لَا ُتظَْلمُو َ‬
‫ن َ‬
‫جهِ اللّهِ َومَا ُتنْفِقُوا مِ ْ‬
‫َومَا ُتنْ ِفقُونَ إِلّا ا ْب ِتغَاءَ َو ْ‬
‫ن ال ّتعَ ّففِ‬
‫غ ِنيَا َء مِ َ‬
‫س ُب ُهمُ ا ْلجَاهِلُ أَ ْ‬
‫حَ‬‫ضرْبًا فِي ا ْلَأرْضِ َي ْ‬
‫ن َ‬
‫ستَطِيعُو َ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه لَا َي ْ‬
‫حصِرُوا فِي َ‬
‫ُأ ْ‬
‫ن ُينْفِقُونَ‬
‫ن اللّ َه بِهِ عَلِيمٌ * اّلذِي َ‬
‫خيْ ٍر فَإِ ّ‬
‫ن َ‬
‫ن النّاسَ إِ ْلحَافًا َومَا ُتنْفِقُوا مِ ْ‬
‫سأَلُو َ‬
‫َتعْ ِر ُفهُ ْم ِبسِيمَا ُهمْ لَا َي ْ‬
‫ن}‬
‫ح َزنُو َ‬
‫ع ْن َد َربّ ِهمْ وَلَا خَ ْوفٌ عََل ْي ِهمْ وَلَا ُهمْ َي ْ‬
‫جرُ ُهمْ ِ‬
‫سرّا وَعَلَا ِنيَ ًة فََلهُمْ َأ ْ‬
‫َأمْوَاَل ُهمْ بِالّليْلِ وَال ّنهَارِ ِ‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم ليس عليك هدي الخلق‪ ،‬وإنما عليك البلغ المبين‪،‬‬
‫والهداية بيد ال تعالى‪ ،‬ففيها دللة على أن النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو‬
‫لم يهتد‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وما تنفقوا من خير } أي‪ :‬قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم‬
‫وكافر { فلنفسكم } أي‪ :‬نفعه راجع إليكم { وما تنفقون إل ابتغاء وجه ال } هذا إخبار عن‬
‫نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها ل تكون إل لوجه ال تعالى‪ ،‬لن إيمانهم يمنعهم عن‬
‫المقاصد الردية ويوجب لهم الخلص { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } يوم القيامة تستوفون‬
‫أجوركم { وأنتم ل تظلمون } أي‪ :‬تنقصون من أعمالكم شيئا ول مثقال ذرة‪ ،‬كما ل يزاد في‬
‫سيئاتكم‪.‬‬

‫ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر‪ ،‬والثاني‬
‫قوله‪ { :‬أحصروا في سبيل ال } أي‪ :‬قصروها على طاعة ال من جهاد وغيره‪ ،‬فهم مستعدون‬
‫لذلك محبوسون له‪ ،‬الثالث عجزهم عن السفار لطلب الرزق فقال‪ { :‬ل يستطيعون ضربا في‬
‫الرض } أي‪ :‬سفرا للتكسب‪ ،‬الرابع قوله‪ { :‬يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وهذا بيان‬
‫لصدق صبرهم وحسن تعففهم‪ .‬الخامس‪ :‬أنه قال‪ { :‬تعرفهم بسيماهم } أي‪ :‬بالعلمة التي‬
‫ذكرها ال في وصفهم‪ ،‬وهذا ل ينافي قوله‪ { :‬يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس‬
‫له فطنة يتفرس بها ما هم عليه‪ ،‬وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلمتهم‪،‬‬
‫السادس قوله‪ { :‬ل يسألون الناس إلحافا } أي‪ :‬ل يسألونهم سؤال إلحاف‪ ،‬أي‪ :‬إلحاح‪ ،‬بل إن‬
‫صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا‪ ،‬فهؤلء أولى الناس وأحقهم‬
‫بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات‪ ،‬وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان‪،‬‬
‫فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وما تنفقوا من خير فإن ال‬
‫به عليم }‬

‫ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الوقات على جميع الحوال فقال‪ { :‬الذين ينفقون أموالهم‬
‫في سبيل ال } أي‪ :‬طاعته وطريق مرضاته‪ ،‬ل في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم‬
‫{ بالليل والنهار سرا وعلنية فلهم أجرهم عند ربهم } أي‪ :‬أجر عظيم من خير عند الرب‬
‫الرحيم { ول خوف عليهم } إذا خاف المقصرون { ول هم يحزنون } إذا حزن المفرطون‪،‬‬
‫ففازوا بحصول المقصود المطلوب‪ ،‬ونجوا من الشرور والمرهوب‪ ،‬ولما كمل تعالى حالة‬
‫المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الساءة فقال‪:‬‬

‫ش ْيطَانُ ِمنَ‬
‫خّبطُهُ ال ّ‬
‫ن إِلّا َكمَا يَقُومُ اّلذِي َي َت َ‬
‫ن ال ّربَا لَا يَقُومُو َ‬
‫ن َي ْأكُلُو َ‬
‫{ ‪ { } 281 - 275‬اّلذِي َ‬
‫عظَ ٌة مِنْ‬
‫حرّمَ ال ّربَا َفمَنْ جَا َءهُ َموْ ِ‬
‫ل اللّ ُه ا ْل َبيْعَ َو َ‬
‫ا ْلمَسّ ذَِلكَ ِبَأ ّن ُهمْ قَالُوا ِإ ّنمَا ا ْل َبيْ ُع ِمثْلُ ال ّربَا وََأحَ ّ‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ *‬
‫َربّهِ فَا ْن َتهَى فَلَ ُه مَا سََلفَ وََأ ْمرُ ُه إِلَى اللّهِ َومَنْ عَادَ َفأُوَل ِئكَ َأ ْ‬
‫عمِلُوا‬
‫ن اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫ل كَفّارٍ َأثِي ٍم * إِ ّ‬
‫ص َدقَاتِ وَاللّهُ لَا ُيحِبّ كُ ّ‬
‫َي ْمحَقُ اللّهُ ال ّربَا َو ُي ْربِي ال ّ‬
‫ح َزنُونَ‬
‫خ ْوفٌ عََل ْي ِهمْ وَلَا ُهمْ َي ْ‬
‫ع ْندَ َر ّبهِمْ وَلَا َ‬
‫جرُهُمْ ِ‬
‫الصّالِحَاتِ وََأقَامُوا الصّلَاةَ وَآ َتوُا ال ّزكَا َة َل ُهمْ َأ ْ‬
‫ن َلمْ تَ ْفعَلُوا َف ْأ َذنُوا‬
‫ن * فَإِ ْ‬
‫ن ُك ْن ُتمْ مُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫ن آ َمنُوا اتّقُوا اللّهَ َو َذرُوا مَا بَ ِقيَ ِمنَ ال ّربَا إِ ْ‬
‫* يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫س َأمْوَاِل ُكمْ لَا تَظِْلمُونَ وَلَا ُتظَْلمُونَ * وَِإنْ كَانَ ذُو‬
‫ن اللّهِ َو َرسُولِهِ وَِإنْ ُت ْب ُتمْ فََل ُكمْ رُءُو ُ‬
‫ب مِ َ‬
‫ِبحَرْ ٍ‬
‫ن فِيهِ‬
‫جعُو َ‬
‫خ ْيرٌ َل ُكمْ ِإنْ ُك ْن ُتمْ َتعَْلمُونَ * وَاتّقُوا يَ ْومًا ُت ْر َ‬
‫ن َتصَ ّدقُوا َ‬
‫سرَةٍ وَأَ ْ‬
‫سرَةٍ َف َنظِرَ ٌة إِلَى َم ْي َ‬
‫عْ‬‫ُ‬
‫ن}‬
‫ل نَفْسٍ مَا َكسَبَتْ وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُو َ‬
‫إِلَى اللّ ِه ُثمّ تُ َوفّى كُ ّ‬

‫يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم‪ ،‬أنهم ل يقومون من قبورهم ليوم‬
‫نشورهم { إل كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي‪ :‬يصرعه الشيطان بالجنون‪،‬‬
‫فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين‪ ،‬متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال‪ ،‬فكما‬
‫تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا ل يكون إل من جاهل عظيم جهله‪ ،‬أو‬
‫متجاهل عظيم عناده‪ ،‬جازاهم ال من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكون قوله‪ { :‬ل يقومون إل كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما‬
‫انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلمهم وضعفت آراؤهم‪ ،‬وصاروا في‬
‫هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلخ العقل الدبي عنهم‪ ،‬قال ال‬
‫تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل ال البيع } أي‪ :‬لما فيه من عموم المصلحة‬
‫وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه‪ ،‬وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية‬
‫حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة‪ ،‬والربا نوعان‪:‬‬
‫ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة‪ ،‬ومنه جعل ما في الذمة رأس مال‪ ،‬سلم‪،‬‬
‫وربا فضل‪ ،‬وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضل‪ ،‬وكلهما محرم بالكتاب والسنة‪،‬‬
‫والجماع على ربا النسيئة‪ ،‬وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة‪ ،‬بل الربا‬
‫من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي‪ :‬وعظ وتذكير وترهيب عن‬
‫تعاطي الربا على يد من قيضه ال لموعظته رحمة من ال بالموعوظ‪ ،‬وإقامة للحجة عليه‬
‫{ فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي‪ :‬ما تقدم من المعاملت التي‬
‫فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة‪ ،‬دل مفهوم الية أن من لم ينته جوزي‬
‫بالول والخر { وأمره إلى ال } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى‬
‫تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة‪ ،‬بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }‬
‫اختلف العلماء رحمهم ال في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي‬
‫دون الشرك بال‪ ،‬والحسن فيها أن يقال هذه المور التي رتب ال عليها الخلود في النار‬
‫موجبات ومقتضيات لذلك‪ ،‬ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه‪ ،‬وقد علم‬
‫بالكتاب والسنة وإجماع سلف المة أن التوحيد واليمان مانع من الخلود في النار‪ ،‬فلول ما مع‬
‫النسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬يمحق ال الربا } أي‪ :‬يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا‪ ،‬فيكون سببا لوقوع‬
‫الفات فيه ونزع البركة عنه‪ ،‬وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار { ويربي‬
‫الصدقات } أي‪ :‬ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا‬
‫لن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي‪،‬‬
‫فجوزي بذهاب ماله‪ ،‬والمحسن إليهم بأنواع الحسان ربه أكرم منه‪ ،‬فيحسن عليه كما أحسن‬
‫على عباده { وال ل يحب كل كفار } لنعم ال‪ ،‬ل يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات‪ ،‬ول‬
‫يسلم منه ومن شره عباد ال { أثيم } أي‪ :‬قد فعل ما هو سبب لثمه وعقوبته‪.‬‬

‫لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما‬
‫صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم‪ ،‬وخاطبهم باليمان‪ ،‬ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا‬
‫مؤمنين‪ ،‬وهؤلء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لمره‪ ،‬وأمرهم أن يتقوه‪ ،‬ومن جملة‬
‫تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي‪ :‬المعاملت الحاضرة الموجودة‪ ،‬وأما ما سلف‪ ،‬فمن اتعظ‬
‫عفا ال عنه ما سلف‪ ،‬وأما من لم ينزجر بموعظة ال ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه‬
‫محارب له‪ ،‬وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ول‬
‫يهمله حتى إذا أخذه‪ ،‬أخذه أخذ عزيز مقتدر { وإن تبتم } عن الربا { فلكم رءوس أموالكم }‬
‫أي‪ :‬أنزلوا عليها { ل تظلمون } من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا { ول تظلمون }‬
‫بنقص رءوس أموالكم‪.‬‬

‫{ وإن كان } المدين { ذو عسرة } ل يجد وفاء { فنظرة إلى ميسرة } وهذا واجب عليه أن‬
‫ينظره حتى يجد ما يوفي به { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } إما بإسقاطها أو‬
‫بعضها‪.‬‬

‫{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى ال ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ل يظلمون } وهذه الية‬
‫من آخر ما نزل من القرآن‪ ،‬وجعلت خاتمة لهذه الحكام والوامر والنواهي‪ ،‬لن فيها الوعد‬
‫على الخير‪ ،‬والوعيد على فعل الشر‪ ،‬وأن من علم أنه راجع إلى ال فمجازيه على الصغير‬
‫والكبير والجلي والخفي‪ ،‬وأن ال ل يظلمه مثقال ذرة‪ ،‬أوجب له الرغبة والرهبة‪ ،‬وبدون حلول‬
‫العلم في ذلك في القلب ل سبيل إلى ذلك‪.‬‬

‫ب َب ْي َنكُمْ كَاتِبٌ‬
‫سمّى فَا ْك ُتبُوهُ وَ ْل َي ْكتُ ْ‬
‫ل ُم َ‬
‫{ ‪ { } 282‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ِإذَا َتدَا َي ْن ُتمْ ِب َديْنٍ إِلَى َأجَ ٍ‬
‫حقّ وَ ْل َيّتقِ اللّهَ َربّهُ‬
‫ل اّلذِي عََليْ ِه ا ْل َ‬
‫بِا ْلعَدْلِ وَلَا َيأْبَ كَاتِبٌ َأنْ َي ْكتُبَ َكمَا عَّلمَ ُه اللّ ُه فَ ْل َيكْتُبْ وَ ْل ُيمْلِ ِ‬
‫ل هُ َو فَ ْليُمْلِلْ‬
‫ستَطِيعُ َأنْ ُيمِ ّ‬
‫ق سَفِيهًا أَ ْو ضَعِيفًا َأ ْو لَا َي ْ‬
‫ن كَانَ اّلذِي عََليْ ِه ا ْلحَ ّ‬
‫ش ْيئًا َفإِ ْ‬
‫وَلَا َي ْبخَسْ ِمنْهُ َ‬
‫ن تَ ْرضَوْنَ‬
‫ن ِممّ ْ‬
‫ن فَ َرجُلٌ وَا ْمرََأتَا ِ‬
‫ن َلمْ َيكُونَا َرجَُليْ ِ‬
‫شهِي َديْنِ ِمنْ ِرجَاِلكُمْ َفإِ ْ‬
‫ش ِهدُوا َ‬
‫ستَ ْ‬
‫وَِليّهُ بِا ْل َعدْلِ وَا ْ‬
‫سَأمُوا‬
‫ش َهدَاءُ ِإذَا مَا دُعُوا وَلَا َت ْ‬
‫خرَى وَلَا َيأْبَ ال ّ‬
‫حدَاهُمَا ا ْلُأ ْ‬
‫حدَا ُهمَا َف ُت َذكّ َر ِإ ْ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن تَضِ ّ‬
‫شهَدَا ِء أَ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫مِ َ‬
‫شهَادَةِ وََأ ْدنَى أَلّا َت ْرتَابُوا إِلّا أَنْ‬
‫ع ْن َد اللّهِ وََأقْ َومُ لِل ّ‬
‫سطُ ِ‬
‫ن َت ْك ُتبُو ُه صَغِيرًا أَ ْو َكبِيرًا إِلَى َأجَلِ ِه ذَِل ُكمْ َأقْ َ‬
‫أَ ْ‬
‫شهِدُوا ِإذَا َتبَا َي ْع ُتمْ وَلَا‬
‫ح أَلّا َت ْك ُتبُوهَا وََأ ْ‬
‫جنَا ٌ‬
‫ن ِتجَارَ ًة حَاضِرَ ًة ُتدِيرُو َنهَا َب ْي َن ُكمْ فََليْسَ عََل ْي ُكمْ ُ‬
‫َتكُو َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ‬
‫شهِيدٌ وَِإنْ تَ ْفعَلُوا َفِإنّ ُه فُسُوقٌ ِب ُكمْ وَاتّقُوا اللّهَ َو ُيعَّلمُ ُكمُ اللّهُ وَاللّ ُه ِبكُلّ َ‬
‫ُيضَارّ كَاتِبٌ وَلَا َ‬
‫}‬

‫هذه آية الدين‪ ،‬وهي أطول آيات القرآن‪ ،‬وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة‬
‫والمقدار‪ ،‬أحدها‪ :‬أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره‪ ،‬لن ال أخبر عن المداينة‬
‫التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها‪ ،‬وذلك يدل على الجواز‪ ،‬الثاني والثالث‬
‫أنه ل بد للسلم من أجل وأنه ل بد أن يكون معينا معلوما فل يصح حال ول إلى أجل مجهول‪،‬‬
‫الرابع‪ :‬المر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها‪،‬‬
‫لنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم‪ ،‬الخامس‪ :‬أمر‬
‫الكاتب أن يكتب‪ ،‬السادس‪ :‬أن يكون عدل في نفسه لجل اعتبار كتابته‪ ،‬لن الفاسق ل يعتبر‬
‫قوله ول كتابته‪ ،‬السابع أنه يجب عليه العدل بينهما‪ ،‬فل يميل لحدهما لقرابة أو صداقة أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬الثامن‪ :‬أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما‪ ،‬وما‬
‫يحصل به التوثق‪ ،‬لنه ل سبيل إلى العدل إل بذلك‪ ،‬وهذا مأخوذ من قوله‪ { :‬وليكتب بينكم‬
‫كاتب بالعدل } التاسع‪ :‬أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها‪ ،‬ولو‬
‫ن ال‬
‫كان هو والشهود قد ماتوا‪ ،‬العاشر‪ :‬قوله‪ { :‬ول يأب كاتب أن يكتب } أي‪ :‬ل يمتنع من م ّ‬
‫عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين‪ ،‬فكما أحسن ال إليه بتعليمه‪ ،‬فليحسن إلى عباد ال‬
‫المحتاجين إلى كتابته‪ ،‬ول يمتنع من الكتابة لهم‪ ،‬الحادي عشر‪ :‬أمر الكاتب أن ل يكتب إل ما‬
‫أمله من عليه الحق‪ ،‬الثاني عشر‪ :‬أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين‪ ،‬الثالث عشر‪:‬‬
‫أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ول يبخس منه شيئا‪ ،‬الرابع عشر‪ :‬أن إقرار النسان على‬
‫نفسه مقبول‪ ،‬لن ال أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب‪ ،‬فإذا كتب إقراره بذلك ثبت‬
‫موجبه ومضمونه‪ ،‬وهو ما أقر به على نفسه‪ ،‬ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا‪ ،‬الخامس‬
‫عشر‪ :‬أن من عليه حقا من الحقوق التي البينة على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل‬
‫وتأجيل‪ ،‬أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق‪ ،‬لنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي‬
‫عليه‪ ،‬إل أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته‪ ،‬السادس عشر‪ :‬أنه يحرم على‬
‫من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره‪ ،‬أو طيبه وحسنه‪ ،‬أو أجله أو غير‬
‫ذلك من توابعه ولواحقه‪ ،‬السابع عشر‪ :‬أن من ل يقدر على إملء الحق لصغره أو سفهه أو‬
‫خرسه‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬فإنه ينوب وليه منابه في الملء والقرار‪ ،‬الثامن عشر‪ :‬أنه يلزم الولي‬
‫من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل‪ ،‬وعدم البخس لقوله { بالعدل } التاسع عشر‪ :‬أنه‬
‫يشترط عدالة الولي‪ ،‬لن الملء بالعدل المذكور ل يكون من فاسق‪ ،‬العشرون‪ :‬ثبوت الولية‬
‫في الموال‪ ،‬الحادي والعشرون‪ :‬أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف‪،‬‬
‫ل على وليهم‪ ،‬الثاني والعشرون‪ :‬أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم‬
‫وتصرفهم غير صحيح‪ ،‬لن ال جعل الملء لوليهم‪ ،‬ولم يجعل لهم منه شيئا لطفا بهم‬
‫ورحمة‪ ،‬خوفا من تلف أموالهم‪ ،‬الثالث والعشرون‪ :‬صحة تصرف الولي في مال من ذكر‪،‬‬
‫الرابع والعشرون‪ :‬فيه مشروعية كون النسان يتعلم المور التي يتوثق بها المتداينون كل‬
‫واحد من صاحبه‪ ،‬لن المقصود من ذلك التوثق والعدل‪ ،‬وما ل يتم المشروع إل به فهو‬
‫مشروع‪ ،‬الخامس والعشرون‪ :‬أن تعلم الكتابة مشروع‪ ،‬بل هو فرض كفاية‪ ،‬لن ال أمر بكتابة‬
‫الديون وغيرها‪ ،‬ول يحصل ذلك إل بالتعلم‪ ،‬السادس والعشرون‪ :‬أنه مأمور بالشهاد على‬
‫العقود‪ ،‬وذلك على وجه الندب‪ ،‬لن المقصود من ذلك الرشاد إلى ما يحفظ الحقوق‪ ،‬فهو عائد‬
‫لمصلحة المكلفين‪ ،‬نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين‬
‫أن يكون الشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا‪ ،‬السابع والعشرون‪ :‬أن نصاب الشهادة في الموال‬
‫ونحوها رجلن أو رجل وامرأتان‪ ،‬ودلت السنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي‪ ،‬الثامن‬
‫والعشرون‪ :‬أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل‪ ،‬التاسع والعشرون‪ :‬أن شهادة‬
‫النساء منفردات في الموال ونحوها ل تقبل‪ ،‬لن ال لم يقبلهن إل مع الرجل‪ ،‬وقد يقال إن ال‬
‫أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات وال‬
‫أعلم‪ .‬الثلثون‪ :‬أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله‪ { :‬فاستشهدوا شهيدين‬
‫من رجالكم } والعبد البالغ من رجالنا‪ ،‬الحادي والثلثون‪ :‬أن شهادة الكفار ذكورا كانوا أو‬
‫نساء غير مقبولة‪ ،‬لنهم ليسوا منا‪ ،‬ولن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل‪ ،‬الثاني‬
‫والثلثون‪ :‬فيه فضيلة الرجل على المرأة‪ ،‬وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص‬
‫حفظها‪ ،‬الثالث والثلثون‪ :‬أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله‪ { :‬فتذكر‬
‫إحداهما الخرى } الرابع والثلثون‪ :‬يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في‬
‫الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها‪ ،‬لن ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬والخامس‬
‫والثلثون‪ :‬أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور‪ ،‬ل يجوز له أن يأبى‬
‫لقوله‪ { :‬ول يأب الشهداء إذا ما دعوا } السادس والثلثون‪ :‬أن من لم يتصف بصفة الشهداء‬
‫المقبولة شهادتهم‪ ،‬لم يجب عليه الجابة لعدم الفائدة بها ولنه ليس من الشهداء‪ ،‬السابع‬
‫والثلثون‪ :‬النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الجل‬
‫وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود‪ ،‬الثامن والثلثون‪ :‬بيان الحكمة في مشروعية‬
‫الكتابة والشهاد في العقود‪ ،‬وأنه { أقسط عند ال وأقوم للشهادة وأدنى أل ترتابوا } فإنها‬
‫متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلد‪ ،‬والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد‬
‫من الشك والريب والتنازع والتشاجر‪ ،‬التاسع والثلثون‪ :‬يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في‬
‫شهادته لم يجز له القدام عليها بل ل بد من اليقين‪ ،‬الربعون‪ :‬قوله‪ { :‬إل أن تكون تجارة‬
‫حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أل تكتبوها } فيه الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت‬
‫التجارة حاضرا بحاضر‪ ،‬لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة‪ ،‬الحادي والربعون‪ :‬أنه وإن رخص‬
‫في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة‪ ،‬فإنه يشرع الشهاد لقوله‪ { :‬وأشهدوا إذا تبايعتم } الثاني‬
‫والربعون‪ :‬النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه‪ ،‬الثالث‬
‫والربعون‪ :‬النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض‬
‫أو شغل يشق عليه‪ ،‬أو غير ذلك هذا على جعل قوله‪ { :‬ول يضار كاتب ول شهيد } مبنيا‬
‫للمجهول‪ ،‬وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق‬
‫بالمتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك‪ ،‬وهذان هما الرابع والربعون والخامس والربعون‬
‫والسادس والربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق لقوله‪ { :‬وإن تفعلوا فإنه‬
‫فسوق بكم } السابع والربعون أن الوصاف كالفسق واليمان والنفاق والعداوة والولية ونحو‬
‫ذلك تتجزأ في النسان‪ ،‬فتكون فيه مادة فسق وغيرها‪ ،‬وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله‪ { :‬فإنه‬
‫فسوق بكم } ولم يقل فأنتم فاسقون أو ُفسّاق‪ .‬الثامن والربعون‪ - :‬وحقه أن يتقدم على ما هنا‬
‫لتقدم موضعه‪ -‬اشتراط العدالة في الشاهد لقوله‪ { :‬ممن ترضون من الشهداء } التاسع‬
‫والربعون‪ :‬أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان‪ ،‬فكل من كان مرضيا معتبرا‬
‫عند الناس قبلت شهادته‪ ،‬الخمسون‪ :‬يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى‪ ،‬فهذه‬
‫الحكام مما يستنبط من هذه الية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر‪ ،‬ول في‬
‫كلمه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬

‫ض ُكمْ َبعْضًا فَ ْليُ َؤدّ‬


‫ن َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫جدُوا كَاتِبًا َفرِهَانٌ مَ ْقبُوضَةٌ َفإِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُمْ عَلَى سَ َفرٍ وََلمْ َت ِ‬
‫{ ‪ { } 283‬وَإِ ْ‬
‫ن َي ْك ُت ْمهَا فَِإنّ ُه آ ِثمٌ قَ ْلبُهُ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ‬
‫شهَادَةَ َومَ ْ‬
‫ن َأمَا َنتَهُ وَ ْل َيّتقِ اللّ َه َربّهُ وَلَا َت ْك ُتمُوا ال ّ‬
‫اّلذِي ا ْؤ ُتمِ َ‬
‫عَلِيمٌ }‬

‫أي‪ :‬إن كنتم مسافرين { ولم تجدوا كاتبا } يكتب بينكم ويحصل به التوثق { فرهان مقبوضة }‬
‫أي‪ :‬يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه‪ ،‬ودل هذا على أن الرهن غير‬
‫المقبوضة ل يحصل منها التوثق‪ ،‬ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما‬
‫رهنت به‪ ،‬كان القول قول المرتهن‪ ،‬ووجه ذلك أن ال جعل الرهن عوضا عن الكتابة في‬
‫توثق صاحب الحق‪ ،‬فلول أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى‬
‫المقصود‪ ،‬ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا‪ ،‬وإنما نص ال على السفر‪،‬‬
‫لنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه‪ ،‬هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق‬
‫لحقه‪ ،‬فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه‬
‫الحق أن يؤدي إليه كامل غير ظالم له ول باخس حقه { وليتق ال ربه } في أداء الحق‬
‫ويجازي من أحسن به الظن بالحسان { ول تكتموا الشهادة } لن الحق مبني عليها ل يثبت‬
‫بدونها‪ ،‬فكتمها من أعظم الذنوب‪ ،‬لنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده‬
‫وهو الكذب‪ ،‬ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬ومن يكتمها فإنه‬
‫آثم قلبه وال بما تعملون عليم } وقد اشتملت هذه الحكام الحسنة التي أرشد ال عباده إليها‬
‫على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد ال لصلحت دنياهم‬
‫مع صلح دينهم‪ ،‬لشتمالها على العدل والمصلحة‪ ،‬وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات‬
‫والمنازعات‪ ،‬وانتظام أمر المعاش‪ ،‬فلله الحمد كما ينبغي لجلل وجهه وعظيم سلطانه ل‬
‫نحصي ثناء عليه‪.‬‬
‫سبْ ُكمْ‬
‫سكُ ْم أَ ْو ُتخْفُوهُ ُيحَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ا ْلَأرْضِ وَِإنْ ُت ْبدُوا مَا فِي َأنْ ُف ِ‬
‫{ ‪ { } 284‬لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫ل َ‬
‫ن َيشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُ ّ‬
‫بِ ِه اللّ ُه َفيَغْ ِفرُ ِل َمنْ َيشَاءُ َو ُي َعذّبُ مَ ْ‬

‫هذا إخبار من ال أنه له ما في السماوات وما في الرض‪ ،‬الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم‬
‫لمصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬فكانوا ملكا له وعبيدا‪ ،‬ل يملكون لنفسهم ضرا ول نفعا ول موتا‬
‫ول حياة ول نشورا‪ ،‬وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه‪ ،‬وقد‬
‫أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه‪ { ،‬فيغفر لمن يشاء } وهو لمن أتى بأسباب‬
‫المغفرة‪ ،‬ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره { وال على كل شيء قدير } ل‬
‫يعجزه شيء‪ ،‬بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه‪.‬‬

‫ن بِاللّهِ َومَلَا ِئ َكتِهِ َو ُك ُتبِهِ‬


‫ل آمَ َ‬
‫ن َربّهِ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ كُ ّ‬
‫ل ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِليْ ِه مِ ْ‬
‫{ ‪ { } 285‬آ َمنَ ال ّرسُو ُ‬
‫ط ْعنَا غُ ْفرَا َنكَ َر ّبنَا وَإَِل ْيكَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫س ِمعْنَا وََأ َ‬
‫ح ٍد مِنْ ُرسُلِهِ َوقَالُوا َ‬
‫َو ُرسُلِ ِه لَا نُ َف ّرقُ َبيْنَ َأ َ‬

‫يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه‪ ،‬وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة‪،‬‬
‫فأخبر أنهم آمنوا بال وملئكته وكتبه ورسله‪ ،‬وهذا يتضمن اليمان بجميع ما أخبر ال به عن‬
‫نفسه‪ ،‬وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلله على وجه الجمال والتفصيل‪،‬‬
‫وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص‪ ،‬ويتضمن اليمان بالملئكة الذين‬
‫نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيل‪ ،‬وعلى اليمان بجميع الرسل والكتب‪ ،‬أي‪ :‬بكل ما‬
‫أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الخبار والوامر والنواهي‪ ،‬وأنهم ل يفرقون بين أحد‬
‫من رسله‪ ،‬بل يؤمنون بجميعهم‪ ،‬لنهم وسائط بين ال وبين عباده‪ ،‬فالكفر ببعضهم كفر‬
‫بجميعهم بل كفر بال { وقالوا سمعنا } ما أمرتنا به ونهيتنا { وأطعنا } لك في ذلك‪ ،‬ولم يكونوا‬
‫ممن قالوا سمعنا وعصينا‪ ،‬ولما كان العبد ل بد أن يحصل منه تقصير في حقوق ال تعالى‬
‫وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام‪ ،‬قالوا { غفرانك } أي‪ :‬نسألك مغفرة لما صدر منا من‬
‫التقصير والذنوب‪ ،‬ومحو ما اتصفنا به من العيوب { وإليك المصير } أي‪ :‬المرجع لجميع‬
‫الخلئق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر‪.‬‬

‫خ ْذنَا ِإنْ‬
‫سبَتْ َر ّبنَا لَا ُتؤَا ِ‬
‫سبَتْ وَعََل ْيهَا مَا ا ْك َت َ‬
‫س َعهَا َلهَا مَا َك َ‬
‫ف اللّ ُه نَ ْفسًا إِلّا ُو ْ‬
‫{ ‪ { } 286‬لَا ُيكَلّ ُ‬
‫حمّ ْلنَا مَا لَا‬
‫ن قَبِْلنَا َر ّبنَا وَلَا ُت َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫حمَ ْلتَهُ عَلَى اّلذِي َ‬
‫صرًا َكمَا َ‬
‫حمِلْ عََل ْينَا ِإ ْ‬
‫ط ْأنَا َر ّبنَا وَلَا َت ْ‬
‫خَ‬‫َنسِينَا َأوْ َأ ْ‬
‫ن}‬
‫ص ْرنَا عَلَى ا ْلقَ ْومِ ا ْلكَا ِفرِي َ‬
‫ت مَوْلَانَا فَانْ ُ‬
‫عنّا وَاغْ ِفرْ َلنَا وَا ْرحَ ْمنَا َأنْ َ‬
‫عفُ َ‬
‫طَاقَ َة َلنَا بِهِ وَا ْ‬

‫لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به ال } شق ذلك على‬
‫المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من المور اللزمة والعارضة المستقرة وغيرها‬
‫مؤاخذون به‪ ،‬فأخبرهم بهذه الية أنه ل يكلف نفسا إل وسعها أي‪ :‬أمرا تسعه طاقتها‪ ،‬ول‬
‫يكلفها ويشق عليها‪ ،‬كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل الوامر‬
‫والنواهي ليست من المور التي تشق على النفوس‪ ،‬بل هي غذاء للرواح ودواء للبدان‪،‬‬
‫وحمية عن الضرر‪ ،‬فال تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا‪ ،‬ومع هذا إذا حصل‬
‫بعض العذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل‪ ،‬إما بإسقاطه عن المكلف‪ ،‬أو‬
‫إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم‪ ،‬ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما‬
‫كسبت من الخير‪ ،‬وعليها ما اكتسبت من الشر‪ ،‬فل تزر وازرة وزر أخرى ول تذهب حسنات‬
‫العبد لغيره‪ ،‬وفي التيان بـ " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للنسان‬
‫بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ " اكتسب " في عمل الشر للدللة على أن عمل‬
‫الشر ل يكتب على النسان حتى يعمله ويحصل سعيه‪ ،‬ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول‬
‫والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله‪ ،‬وكان النسان عرضة للتقصير والخطأ‬
‫والنسيان‪ ،‬وأخبر أنه ل يكلفنا إل ما نطيق وتسعه قوتنا‪ ،‬أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك‪ ،‬وقد‬
‫أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن ال قال‪ :‬قد فعلت‪ .‬إجابة لهذا الدعاء‪ ،‬فقال { ربنا ل‬
‫تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما‪ :‬أن النسيان‪ :‬ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه‬
‫نسيانا‪ ،‬والخطأ‪ :‬أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما ل يجوز له فعله‪ :‬فهذان قد‬
‫عفا ال عن هذه المة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا‪ ،‬فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب‪،‬‬
‫أو نجس‪ ،‬أو قد نسي نجاسة على بدنه‪ ،‬أو تكلم في الصلة ناسيا‪ ،‬أو فعل مفطرا ناسيا‪ ،‬أو فعل‬
‫محظورا من محظورات الحرام التي ليس فيها إتلف ناسيا‪ ،‬فإنه معفو عنه‪ ،‬وكذلك ل يحنث‬
‫من فعل المحلوف عليه ناسيا‪ ،‬وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مال فليس عليه إثم‪ ،‬وإنما‬
‫الضمان مرتب على مجرد التلف‪ ،‬وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها‬
‫النسان ناسيا لم يضر‪ { .‬ربنا ول تحمل علينا إصرا } أي‪ :‬تكاليف مشقة { كما حملته على‬
‫الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى فإن ال خفف عن هذه المة في الوامر من الطهارات وأحوال‬
‫العبادات ما لم يخففه على غيرها { ربنا ول تحملنا ما ل طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد‬
‫{ واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور‪،‬‬
‫والرحمة يحصل بها صلح المور { أنت مولنا } أي‪ :‬ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل‬
‫وليتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الوقات‪ ،‬ثم أنعمت علينا‬
‫بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة‪ ،‬وهي نعمة السلم التي جميع النعم تبع لها‪ ،‬فنسألك يا ربنا‬
‫ومولنا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين‪ ،‬الذين كفروا بك وبرسلك‪ ،‬وقاوموا أهل‬
‫دينك ونبذوا أمرك‪ ،‬فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان‪ ،‬بأن تمكن لنا في الرض‬
‫وتخذلهم وترزقنا اليمان والعمال التي يحصل بها النصر‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪ .‬تم تفسير‬
‫سورة البقرة بعون ال وتوفيقه وصلى ال على محمد وسلم‪.‬‬

‫تفسير سورة آل عمران‬


‫وهي مدنية‬

‫نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى‬
‫الدخول في الدين الحق دين السلم كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم‪.‬‬

‫ن ال ّرحِيمِ‬
‫حمَ ِ‬
‫ِبسْمِ اللّ ِه الرّ ْ‬

‫صدّقًا ِلمَا َب ْينَ‬


‫ب بِا ْلحَقّ ُم َ‬
‫حيّ الْ َقيّو ُم * نَزّلَ عََل ْيكَ ا ْل ِكتَا َ‬
‫{ ‪ { } 6 - 1‬الم * اللّ ُه لَا إَِلهَ إِلّا هُ َو ا ْل َ‬
‫ت اللّهِ‬
‫ن كَ َفرُوا بِآيَا ِ‬
‫َي َديْهِ وََأ ْنزَلَ التّ ْورَاةَ وَا ْلِإ ْنجِيلَ * ِمنْ َقبْلُ ُهدًى لِلنّاسِ وََأ ْنزَلَ الْ ُف ْرقَانَ ِإنّ اّلذِي َ‬
‫سمَاءِ‬
‫شيْءٌ فِي ا ْلَأرْضِ وَلَا فِي ال ّ‬
‫ن اللّ َه لَا َيخْفَى عََليْ ِه َ‬
‫عزِيزٌ ذُو ا ْنتِقَامٍ * إِ ّ‬
‫شدِيدٌ وَاللّهُ َ‬
‫ب َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫َل ُهمْ َ‬
‫حكِي ُم }‬
‫* هُ َو اّلذِي ُيصَ ّو ُركُمْ فِي ا ْلَأ ْرحَامِ َك ْيفَ َيشَاءُ لَا إِلَ َه إِلّا ُهوَ ا ْل َعزِيزُ ا ْل َ‬

‫افتتحها تبارك وتعالى بالخبار بألوهيته‪ ،‬وأنه الله الذي ل إله إل هو الذي ل ينبغي التأله‬
‫والتعبد إل لوجهه‪ ،‬فكل معبود سواه فهو باطل‪ ،‬وال هو الله الحق المتصف بصفات اللوهية‬
‫التي مرجعها إلى الحياة والقيومية‪ ،‬فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع‬
‫الصفات التي ل تتم ول تكمل الحياة إل بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء‬
‫والدوام والعز الذي ل يرام { القيوم } الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته‪ ،‬وقام بغيره‬
‫فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في اليجاد والعداد والمداد‪ ،‬فهو الذي قام بتدبير الخلئق‬
‫وتصريفهم‪ ،‬تدبير للجسام وللقلوب والرواح‪.‬‬

‫ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم الكتاب‪،‬‬
‫الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه‪ ،‬فما أخبر به‬
‫صدق‪ ،‬وما حكم به فهو العدل‪ ،‬وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا‬
‫لما بين يديه } من الكتب السابقة‪ ،‬فهو المزكي لها‪ ،‬فما شهد له فهو المقبول‪ ،‬وما رده فهو‬
‫المردود‪ ،‬وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون‪ ،‬وهي شاهدة له‬
‫بالصدق‪ ،‬فأهل الكتاب ل يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به‪ ،‬فإن كفرهم به ينقض‬
‫إيمانهم بكتبهم‪ ،‬ثم قال تعالى { وأنزل التوراة } أي‪ :‬على موسى { والنجيل } على عيسى‪.‬‬
‫{ من قبل } إنزال القرآن { هدى للناس } الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم‪ ،‬أي‪ :‬أنزل ال‬
‫القرآن والتوراة والنجيل هدى للناس من الضلل‪ ،‬فمن قبل هدى ال فهو المهتدي‪ ،‬ومن لم‬
‫يقبل ذلك بقي على ضلله { وأنزل الفرقان } أي‪ :‬الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة‬
‫على جميع المقاصد والمطالب‪ ،‬وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الحكام‬
‫جلية ظاهرة‪ ،‬فلم يبق لحد عذر ول حجة لمن لم يؤمن به وبآياته‪ ،‬فلهذا قال { إن الذين كفروا‬
‫بآيات ال } أي‪ :‬بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل { لهم عذاب شديد } ل يقدر قدره ول‬
‫يدرك وصفه { وال عزيز } أي‪ :‬قوي ل يعجزه شيء { ذو انتقام } ممن عصاه‪.‬‬

‫{ إن ال ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء } وهذا فيه تقرير إحاطة علمه‬
‫بالمعلومات كلها‪ ،‬جليها وخفيها‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬ومن جملة ذلك الجنة في البطون التي ل‬
‫يدركها بصر المخلوقين‪ ،‬ول ينالها علمهم‪ ،‬وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير‪ ،‬ويقدرها بكل‬
‫تقدير‪ ،‬فلهذا قال { هو الذي يصوركم في الرحام كيف يشاء }‬

‫{ هو الذي يصوركم في الرحام كيف يشاء } من كامل الخلق وناقصه‪ ،‬وحسن وقبيح‪ ،‬وذكر‬
‫وأنثى { ل إله إل هو العزيز الحكيم } تضمنت هذه اليات تقرير إلهية ال وتعينها‪ ،‬وإبطال‬
‫إلهية ما سواه‪ ،‬وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه‬
‫السلم‪ ،‬وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة‪ ،‬المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما‬
‫تقدم‪ ،‬وإثبات الشرائع الكبار‪ ،‬وأنها رحمة وهداية للناس‪ ،‬وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره‪،‬‬
‫وعقوبة من لم يهتد بها‪ ،‬وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته‪.‬‬

‫خرُ ُمتَشَا ِبهَاتٌ‬


‫ن ُأمّ ا ْل ِكتَابِ وَُأ َ‬
‫ت هُ ّ‬
‫ح َكمَا ٌ‬
‫ت ُم ْ‬
‫{ ‪ُ { } 9 - 7‬هوَ اّلذِي َأ ْنزَلَ عََل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ ِم ْنهُ آيَا ٌ‬
‫ن مَا َتشَابَهَ ِم ْنهُ ا ْب ِتغَاءَ ا ْل ِف ْتنَةِ وَا ْب ِتغَاءَ َتأْوِيلِ ِه َومَا َيعَْلمُ َتأْوِيلَ ُه إِلّا‬
‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم زَيْ ٌغ فَ َي ّت ِبعُو َ‬
‫َفأَمّا اّلذِي َ‬
‫ع ْندِ َر ّبنَا َومَا َي ّذ ّكرُ إِلّا أُولُو ا ْلأَ ْلبَابِ * َر ّبنَا لَا‬
‫ن آ َمنّا بِ ِه كُلّ ِمنْ ِ‬
‫ن فِي ا ْلعِ ْلمِ يَقُولُو َ‬
‫سخُو َ‬
‫اللّهُ وَالرّا ِ‬
‫ك َأنْتَ ا ْلوَهّابُ * َر ّبنَا ِإ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ‬
‫حمَةً ِإ ّن َ‬
‫ن َل ُد ْنكَ َر ْ‬
‫ب َلنَا مِ ْ‬
‫غ قُلُو َبنَا َب ْعدَ ِإذْ َه َد ْي َتنَا وَهَ ْ‬
‫ُتزِ ْ‬
‫ِليَ ْومٍ لَا َريْبَ فِيهِ ِإنّ اللّهَ لَا ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ }‬

‫القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }‬
‫فهو مشتمل على غاية التقان والحكام والعدل والحسان { ومن أحسن من ال حكما لقوم‬
‫يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى‪،‬‬
‫وأما الحكام والتشابه المذكور في هذه الية فإن القرآن كما ذكره ال { منه آيات محكمات }‬
‫أي‪ :‬واضحات الدللة‪ ،‬ليس فيها شبهة ول إشكال { هن أم الكتاب } أي‪ :‬أصله الذي يرجع إليه‬
‫كل متشابه‪ ،‬وهي معظمه وأكثره‪ { ،‬و } منه آيات { أخر متشابهات } أي‪ :‬يلتبس معناها على‬
‫كثير من الذهان‪ :‬لكون دللتها مجملة‪ ،‬أو يتبادر إلى بعض الفهام غير المراد منها‪،‬‬
‫فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد‪ ،‬وهي الكثر التي يرجع إليها‪ ،‬ومنه آيات تشكل‬
‫على بعض الناس‪ ،‬فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي‪ ،‬فبهذه‬
‫الطريق يصدق بعضه بعضا ول يحصل فيه مناقضة ول معارضة‪ ،‬ولكن الناس انقسموا إلى‬
‫فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي‪ :‬ميل عن الستقامة بأن فسدت مقاصدهم‪ ،‬وصار‬
‫قصدهم الغي والضلل وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه }‬
‫أي‪ :‬يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه‪ ،‬ويعكسون المر فيحملون المحكم على‬
‫المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم‪ ،‬فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الشتباه‬
‫الواقع فيه‪ ،‬وإل فالمحكم الصريح ليس محل للفتنة‪ ،‬لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه‪،‬‬
‫وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إل ال } للمفسرين في الوقوف على { ال } من قوله‬
‫{ وما يعلم تأويله إل ال } قولن‪ ،‬جمهورهم يقفون عندها‪ ،‬وبعضهم يعطف عليها‬
‫{ والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل‪ ،‬فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه‬
‫كان الصواب الوقوف على { إل ال } لن المتشابه الذي استأثر ال بعلم كنهه وحقيقته‪ ،‬نحو‬
‫حقائق صفات ال وكيفيتها‪ ،‬وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الخر ونحو ذلك‪ ،‬فهذه ل‬
‫يعلمها إل ال‪ ،‬ول يجوز التعرض للوقوف عليها‪ ،‬لنه تعرض لما ل يمكن معرفته‪ ،‬كما سئل‬
‫المام مالك رحمه ال عن قوله { الرحمن على العرش [استوى ] } فقال السائل‪ :‬كيف‬
‫استوى؟ فقال مالك‪ :‬الستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول‪ ،‬واليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪،‬‬
‫فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال المام مالك‪ ،‬تلك الصفة‬
‫معلومة‪ ،‬وكيفيتها مجهولة‪ ،‬واليمان بها واجب‪ ،‬والسؤال عنها بدعة‪ ،‬وقد أخبرنا ال بها ولم‬
‫يخبرنا بكيفيتها‪ ،‬فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا‪ ،‬فأهل الزيغ يتبعون هذه المور‬
‫المشتبهات تعرضا لما ل يعني‪ ،‬وتكلفا لما ل سبيل لهم إلى علمه‪ ،‬لنه ل يعلمها إل ال‪ ،‬وأما‬
‫الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى ال فيسلمون ويسلمون‪ ،‬وإن أريد بالتأويل‬
‫التفسير والكشف واليضاح‪ ،‬كان الصواب عطف { الراسخون } على { ال } فيكون ال قد‬
‫أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة ل يعلمها إل هو تعالى‬
‫والراسخون في العلم يعلمون أيضا‪ ،‬فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم‬
‫والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ول تناقض بل هو متفق‬
‫يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الصل الكبير‪ ،‬وهو أنهم إذا علموا‬
‫أن جميعه من عند ال‪ ،‬وأشكل عليهم مجمل المتشابه‪ ،‬علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم‪ ،‬وإن‬
‫لم يفهموا وجه ذلك‪ .‬ولما رغب تعالى في التسليم واليمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه‬
‫قال { وما يذكر } أي‪ :‬يتعظ بمواعظ ال ويقبل نصحه وتعليمه إل { أولوا اللباب } أي‪ :‬أهل‬
‫العقول الرزينة لب العالم وخلصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم‪ ،‬فيتذكرون ما ينفعهم‬
‫فيفعلونه‪ ،‬وما يضرهم فيتركونه‪ ،‬وأما من عداهم فهم القشور الذي ل حاصل له ول نتيجة‬
‫تحته‪ ،‬ل ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون { ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‬
‫} أي‪ :‬ل تملها عن الحق جهل وعنادا منا‪ ،‬بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين‪ ،‬فثبتنا على‬
‫هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين { وهب لنا من لدنك رحمة } أي‪ :‬عظيمة توفقنا بها‬
‫للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات { إنك أنت الوهاب } أي‪ :‬واسع العطايا والهبات‪ ،‬كثير‬
‫الحسان الذي عم جودك جميع البريات‪.‬‬

‫{ ربنا إنك جامع الناس ليوم ل ريب فيه إنك ل تخلف الميعاد } فمجازيهم بأعمالهم حسنها‬
‫وسيئها‪ ،‬وقد أثنى ال تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬العلم الذي هو الطريق الموصل إلى ال‪ ،‬المبين لحكامه وشرائعه‪ ،‬الثانية‪ :‬الرسوخ‬
‫في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم‪ ،‬فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا‪،‬‬
‫وعارفا مدققا‪ ،‬قد علمه ال ظاهر العلم وباطنه‪ ،‬فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحال‬
‫وعمل‪ ،‬الثالثة‪ :‬أنه وصفهم باليمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه‪ ،‬بقوله { يقولون‬
‫آمنا به كل من عند ربنا } الرابعة‪ :‬أنهم سألوا ال العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون‬
‫المنحرفون‪ ،‬الخامسة‪ :‬اعترافهم بمنة ال عليهم بالهداية وذلك قوله { ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ‬
‫هديتنا } السادسة‪ :‬أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر‪،‬‬
‫وتوسلوا إليه باسمه الوهاب‪ ،‬السابعة‪ :‬أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه‪،‬‬
‫وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫{ ‪ { } 13 - 10‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْنِيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَ ِئكَ هُمْ‬
‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فََأخَذَ ُهمُ اللّهُ بِذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ‬
‫عوْ َ‬
‫َوقُودُ النّارِ * كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ * قَدْ كَانَ َل ُكمْ آ َيةٌ فِي فِئَتَيْنِ‬
‫حشَرُونَ ِإلَى َ‬
‫ن وَتُ ْ‬
‫ا ْل ِعقَابِ * ُقلْ لِلّذِينَ َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُو َ‬
‫الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ يَشَاءُ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ }‬

‫يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله‪ ،‬الجاحدين بدينه وكتابه‪ ،‬قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم‬
‫وذنوبهم وأنه ل يغني عنهم مالهم ول أولدهم شيئا‪ ،‬وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات‬
‫التي ترد عليهم‪ ،‬ويقولون { نحن أكثر أموال وأولدا وما نحن بمعذبين } فيوم القيامة يبدو لهم من‬
‫ال ما لم يكونوا يحتسبون { وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن } وليس‬
‫للولد والموال قدر عند ال‪ ،‬إنما ينفع العبد إيمانه بال وأعماله الصالحة‪ ،‬كما قال تعالى { وما‬
‫أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إل من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف‬
‫بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار‪ ،‬أي‪ :‬حطبها‪ ،‬الملزمون‬
‫لها دائما أبدا‪ ،‬وهذه الحال التي ذكر ال تعالى أنها ل تغني الموال والولد عن الكفار شيئا‪،‬‬
‫سنته الجارية في المم السابقة‪.‬‬

‫كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة أرباب الموال والجنود لما‬
‫كذبوا بآيات ال وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا‪ ،‬أخذهم ال بذنوبهم عدل منه ل ظلما وال‬
‫شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلف أنواعها وتعدد مراتبها‬

‫ثم قال تعالى { قل } يا محمد { للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } وفي هذا‬
‫إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار‪ ،‬وقد وقع كما أخبر تعالى‪ ،‬فنصر ال المؤمنين‬
‫على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى‪ ،‬وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين‬
‫إلى يوم القيامة‪ ،‬ففي هذا عبرة وآية من آيات القرآن المشاهدة بالحس والعيان‪ ،‬وأخبر تعالى أن‬
‫الكفار مع أنهم مغلوبون في الدار أنهم محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي مهدوه لنفسهم فبئس المهاد مهادهم‪ ،‬وبئس الجزاء جزاؤهم‪.‬‬

‫{ قد كان لكم آية } أي‪ :‬عبرة عظيمة { في فئتين التقتا } وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل ال }‬
‫وهم الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه { وأخرى كافرة } أي‪ :‬كفار قريش الذين خرجوا من‬
‫ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس‪ ،‬ويصدون عن سبيل ال‪ ،‬فجمع ال بين الطائفتين في بدر‪ ،‬وكان‬
‫المشركون أضعاف المؤمنين‪ ،‬فلهذا قال { يرونهم مثليهم رأي العين } أي‪ :‬يرى المؤمنون‬
‫الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة‪ ،‬تبلغ المضاعفة وتزيد عليها‪ ،‬وأكد هذا بقوله { رأي العين }‬
‫فنصر ال المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم‪ ،‬وقتلوا صناديدهم‪ ،‬وأسروا كثيرا منهم‪ ،‬وما ذاك إل‬
‫لن ال ناصر من نصره‪ ،‬وخاذل من كفر به‪ ،‬ففي هذا عبرة لولي البصار‪ ،‬أي‪ :‬أصحاب‬
‫البصائر النافذة والعقول الكاملة‪ ،‬على أن الطائفة المنصورة معها الحق‪ ،‬والخرى مبطلة‪ ،‬وإل فلو‬
‫نظر الناظر إلى مجرد السباب الظاهرة والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة‬
‫الكثيرة من أنواع المحالت‪ ،‬ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالبصار سبب أعظم منه ل يدركه‬
‫إل أهل البصائر واليمان بال والتوكل على ال والثقة بكفايته‪ ،‬وهو نصره وإعزازه لعباده‬
‫المؤمنين على أعدائه الكافرين‪.‬‬
‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ‬
‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 17 - 14‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫حسْنُ ا ْلمَآبِ * ُقلْ‬
‫س ّومَ ِة وَالْأَ ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ ذَِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ‬
‫وَا ْلفِضّ ِة وَا ْلخَ ْيلِ ا ْلمُ َ‬
‫َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَِلكُمْ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِنْدَ رَ ّب ِهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَ ْزوَاجٌ‬
‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا َوقِنَا‬
‫ضوَانٌ مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ * الّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا إِنّنَا آمَنّا فَا ْ‬
‫طهّ َر ٌة وَ ِر ْ‬
‫مُ َ‬
‫ن وَا ْلمُسْ َت ْغفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }‬
‫ن وَا ْلقَانِتِينَ وَا ْلمُ ْنفِقِي َ‬
‫عَذَابَ النّارِ * الصّابِرِينَ وَالصّا ِدقِي َ‬

‫يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية‪ ،‬وخص هذه المور المذكورة لنها أعظم‬
‫شهوات الدنيا وغيرها تبع لها‪ ،‬قال تعالى { إنا جعلنا ما على الرض زينة لها } فلما زينت لهم‬
‫هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات‪ ،‬تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم‪ ،‬وانقسموا‬
‫بحسب الواقع إلى قسمين‪ :‬قسم‪ :‬جعلوها هي المقصود‪ ،‬فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم‬
‫الظاهرة والباطنة لها‪ ،‬فشغلتهم عما خلقوا لجله‪ ،‬وصحبوها صحبة البهائم السائمة‪ ،‬يتمتعون‬
‫بلذاتها ويتناولون شهواتها‪ ،‬ول يبالون على أي‪ :‬وجه حصلوها‪ ،‬ول فيما أنفقوها وصرفوها‪،‬‬
‫فهؤلء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب‪ ،‬والقسم الثاني‪ :‬عرفوا المقصود منها وأن‬
‫ال جعلها ابتلء وامتحانا لعباده‪ ،‬ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته‪ ،‬فجعلوها‬
‫وسيلة لهم وطريقا يتزودن منها لخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الستعانة به على‬
‫مرضاته‪ ،‬قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم‪ ،‬وعلموا أنها كما قال ال فيها { ذلك متاع الحياة‬
‫الدنيا } فجعلوها معبرا إلى الدار الخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة‪ ،‬فهؤلء صارت لهم‬
‫زادا إلى ربهم‪ .‬وفي هذه الية تسلية للفقراء الذين ل قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها‬
‫الغنياء‪ ،‬وتحذير للمغترين بها وتزهيد لهل العقول النيرة بها‪ ،‬وتمام ذلك أن ال تعالى أخبر‬
‫بعدها عن دار القرار ومصير المتقين البرار‪ ،‬وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور‪ ،‬أل وهي‬
‫الجنات العاليات ذات المنازل النيقة والغرف العالية‪ ،‬والشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار‪،‬‬
‫والنهار الجارية على حسب مرادهم والزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن‪،‬‬
‫مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم‪ ،‬مع الرضوان من ال الذي هو أكبر نعيم‪ ،‬فقس هذه الدار‬
‫الجليلة بتلك الدار الحقيرة‪ ،‬ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما { وال‬
‫بصير بالعباد } أي‪ :‬عالم بما فيهم من الوصاف الحسنة والوصاف القبيحة‪ ،‬وما هو اللئق‬
‫بأحوالهم‪ ،‬يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء‪ .‬فالجنة التي ذكر ال وصفها ونعتها بأكمل نعت‬
‫وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه‪ ،‬وكان من دعائهم‬
‫أن قالوا‪:‬‬

‫(‪ { )17 - 16‬ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } توسلوا بمنة ال عليهم بتوفيقهم‬
‫لليمان أن يغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار‪ ،‬ثم فصل أوصاف التقوى‪.‬‬
‫فقال { الصابرين } أنفسهم على ما يحبه ال من طاعته‪ ،‬وعن معصيته‪ ،‬وعلى أقداره المؤلمة‪،‬‬
‫{ والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما رزقهم ال بأنواع النفقات على‬
‫المحاويج من القارب وغيرهم { والمستغفرين بالسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم‬
‫لنفسهم وأنهم ل يرون لنفسهم‪ ،‬حال ول مقاما‪ ،‬بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون‬
‫ربهم‪ ،‬ويتوقعون أوقات الجابة وهي السحر‪ ،‬قال الحسن‪ :‬مدوا الصلة إلى السحر‪ ،‬ثم جلسوا‬
‫يستغفرون ربهم‪ .‬فتضمنت هذه اليات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي‪ ،‬ثم وصف الجنة‬
‫وما فيها من النعيم وفاضل بينهما‪ ،‬وفضل الخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل‬
‫لها‪ ،‬ووصف أهل الجنة وهم المتقون‪ ،‬ثم فصل خصال التقوى‪ ،‬فبهذه الخصال يزن العبد نفسه‪،‬‬
‫هل هو من أهل الجنة أم ل؟‬

‫ش ِهدَ اللّهُ أَنّهُ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ وَأُولُو ا ْلعِلْمِ قَا ِئمًا بِا ْلقِسْطِ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ‬
‫{ ‪َ { } 20 - 18‬‬
‫حكِيمُ * إِنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الِْإسْلَا ُم َومَا اخْتََلفَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيًا‬
‫الْ َ‬
‫ج ِهيَ ِللّ ِه َومَنِ‬
‫بَيْ َنهُ ْم َومَنْ َي ْكفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجّوكَ َف ُقلْ أَسَْل ْمتُ وَ ْ‬
‫ن َو ُقلْ لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَالُْأمّيّينَ أََأسَْلمْتُمْ فَإِنْ َأسَْلمُوا َفقَدِ اهْتَ َدوْا وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَلَاغُ‬
‫اتّ َبعَ ِ‬
‫وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ }‬

‫هذا تقرير من ال تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له‪ ،‬وهي شهادته تعالى وشهادة خواص‬
‫الخلق وهم الملئكة وأهل العلم‪ ،‬أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على‬
‫توحيده‪ ،‬وأنه ل إله إل هو‪ ،‬فنوع الدلة في الفاق والنفس على هذا الصل العظيم‪ ،‬ولو لم يكن‬
‫في ذلك إل أنه ما قام أحد بتوحيده إل ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد‪ ،‬وكذلك إنعامه‬
‫العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إل منه‪ ،‬ول يدفع النقم إل هو‪ ،‬والخلق كلهم عاجزون عن المنافع‬
‫والمضار لنفسهم ولغيرهم‪ ،‬ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلن الشرك‪ ،‬وأما‬
‫شهادة الملئكة بذلك فنستفيدها بإخبار ال لنا بذلك وإخبار رسله‪ ،‬وأما شهادة أهل العلم فلنهم هم‬
‫المرجع في جميع المور الدينية خصوصا في أعظم المور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد‪ ،‬فكلهم‬
‫من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه‪ ،‬فوجب‬
‫على الخلق التزام هذا المر المشهود عليه والعمل به‪ ،‬وفي هذا دليل على أن أشرف المور علم‬
‫التوحيد لن ال شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه‪ ،‬والشهادة ل تكون إل عن علم ويقين‪،‬‬
‫بمنزلة المشاهدة للبصر‪ ،‬ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من‬
‫أولي العلم‪ .‬وفي هذه الية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬أن ال خصهم بالشهادة‬
‫على أعظم مشهود عليه دون الناس‪ ،‬ومنها‪ :‬أن ال قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملئكته‪ ،‬وكفى‬
‫بذلك فضل‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه جعلهم أولي العلم‪ ،‬فأضافهم إلى العلم‪ ،‬إذ هم القائمون به المتصفون‬
‫بصفته‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس‪ ،‬وألزم الناس العمل بالمر المشهود به‪،‬‬
‫فيكونون هم السبب في ذلك‪ ،‬فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره‪ ،‬وذلك فضل ال يؤتيه من‬
‫يشاء‪ ،‬ومنها‪ :‬أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما‬
‫استرعاهم عليه‪ ،‬ولما قرر توحيده قرر عدله‪ ،‬فقال‪ { :‬قائمًا بالقسط } أي‪ :‬لم يزل متصفا بالقسط‬
‫في أفعاله وتدبيره بين عباده‪ ،‬فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه‪ ،‬وفيما خلقه‬
‫وقدره‪ ،‬ثم أعاد تقرير توحيده فقال { ل إله إل هو العزيز الحكيم } واعلم أن هذا الصل الذي هو‬
‫توحيد ال وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الدلة النقلية والدلة العقلية‪ ،‬حتى صار لذوي البصائر‬
‫أجلى من الشمس‪ ،‬فأما الدلة النقلية فكل ما في كتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬من المر به وتقريره‪،‬‬
‫ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم‪ ،‬وذم الشرك وأهله‪ ،‬فهو من الدلة النقلية على ذلك‪،‬‬
‫حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه‪ ،‬وأما الدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره‬
‫للمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها‪ ،‬فمن أعظمها‪ :‬العتراف بربوبية ال‪ ،‬فإن من‬
‫عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع المور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي ل تنبغي‬
‫العبادة إل له‪ ،‬ولما كان هذا من أوضح الشياء وأعظمها أكثر ال تعالى من الستدلل به في‬
‫كتابه‪ .‬ومن الدلة العقلية على أن ال هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم‪ ،‬فإن من‬
‫عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من ال‪ ،‬وأنه ما من نقمة ول شدة ول كربة‬
‫إل وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق ل يملك لنفسه ‪ -‬فضل عن غيره‪ -‬جلب نعمة ول‬
‫دفع نقمة‪ ،‬تيقن أن عبودية ما سوى ال من أبطل الباطل وأن العبودية ل تنبغي إل لمن انفرد‬
‫بجلب المصالح ودفع المضار‪ ،‬فلهذا أكثر ال في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا‪ ،‬ومن الدلة‬
‫العقلية أيضا على ذلك‪ :‬ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه‪ ،‬بأنها ل تملك نفعا‬
‫ول ضرا‪ ،‬ول تنصر غيرها ول تنصر نفسها‪ ،‬وسلبها السماع والبصار‪ ،‬وأنها على فرض‬
‫سماعها ل تغني شيئا‪ ،‬وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص‪ ،‬وما أخبر به عن‬
‫نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والفعال الجميلة‪ ،‬والقدرة والقهر‪ ،‬وغير ذلك من الصفات التي‬
‫تعرف بالدلة السمعية والعقلية‪ ،‬فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة ل تليق ول تحسن‬
‫إل بالرب العظيم الذي له الكمال كله‪ ،‬والمجد كله‪ ،‬والحمد كله‪ ،‬والقدرة كلها‪ ،‬والكبرياء كلها‪ ،‬ل‬
‫بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين ل يعقلون‪ ،‬ومن الدلة العقلية على ذلك ما‬
‫شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه‪ ،‬من الكرام لهل التوحيد‪ ،‬والهانة والعقوبة‬
‫لهل الشرك‪ ،‬وما ذاك إل لن التوحيد جعله ال موصل إلى كل خير دافعا لكل شر ديني‬
‫ودنيوي‪ ،‬وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية‪ ،‬ولهذا إذا ذكر تعالى قصص‬
‫الرسل مع أمم المطيعين والعاصين‪ ،‬وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم‪ ،‬قال‬
‫عقب كل قصة‪ { :‬إن في ذلك لية } أي‪ :‬لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو‬
‫الموجب للنجاة‪ ،‬وتركه هو الموجب للهلك‪ ،‬فهذه من الدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا‬
‫الصل العظيم‪ ،‬وقد أكثر ال منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة‪ ،‬ويهلك من‬
‫هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء‪.‬‬

‫ولما قرر أنه الله الحق المعبود‪ ،‬بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له‪ ،‬وهو‬
‫السلم الذي هو الستسلم ل بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله‪ ،‬وحثت عليها كتبه‪ ،‬وهو‬
‫الذي ل يقبل من أحد دين سواه‪ ،‬وهو متضمن للخلص له في الحب والخوف والرجاء والنابة‬
‫والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك‪ ،‬وهذا هو دين الرسل كلهم‪ ،‬وكل من تابعهم فهو على طريقهم‪،‬‬
‫وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الجتماع على دين ال‪ ،‬بغيا بينهم‪،‬‬
‫وظلما وعدوانا من أنفسهم‪ ،‬وإل فقد جاءهم السبب الكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا‬
‫الختلف‪ ،‬وهذا من كفرهم‪ ،‬فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إل من بعد ما‬
‫جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات ال فإن ال سريع الحساب } فيجازي كل عامل بعمله‪،‬‬
‫وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته‪ ،‬فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الليم‪ ،‬ثم أمر تعالى‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين السلم‬

‫عليه أن يقول لهم‪ :‬قد { أسلمت وجهي ل ومن اتبعن } أي‪ :‬أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا‬
‫وأسلمنا وجوهنا لربنا‪ ،‬وتركنا ما سوى دين السلم‪ ،‬وجزمنا ببطلنه‪ ،‬ففي هذا تأييس لمن طمع‬
‫فيكم‪ ،‬وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات‪ ،‬وحجة على من اشتبه عليه المر‪ ،‬لنه قد تقدم أن ال‬
‫استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم‪ ،‬وسيد أهل العلم وأفضلهم‬
‫وأعلمهم هو نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم من بعده أتباعه على اختلف مراتبهم وتفاوت‬
‫درجاتهم‪ ،‬فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم‪،‬‬
‫فإذا ثبت وتقرر توحيد ال ودينه بأدلته الظاهرة‪ ،‬وقام به أكمل الخلق وأعلمهم‪ ،‬حصل بذلك اليقين‬
‫وانتفى كل شك وريب وقادح‪ ،‬وعرف أن ما سواه من الديان باطلة‪ ،‬فلهذا قال { وقل للذين أوتوا‬
‫الكتاب } من النصارى واليهود { والميين } مشركي العرب وغيرهم { أأسلمتم فإن أسلموا } أي‪:‬‬
‫بمثل ما أمنتم به { فقد اهتدوا } كما اهتديتم وصاروا إخوانكم‪ ،‬لهم ما لكم‪ ،‬وعليهم ما عليكم { وإن‬
‫تولوا } عن السلم ورضوا بالديان التي تخالفه { فإنما عليك البلغ } فقد وجب أجرك على‬
‫ربك‪ ،‬وقامت عليهم الحجة‪ ،‬ولم يبق بعد هذا إل مجازاتهم بالعقاب على جرمهم‪ ،‬فلهذا قال { وال‬
‫بصير بالعباد }‬

‫ق وَ َيقْتُلُونَ الّذِينَ يَ ْأمُرُونَ‬


‫{ ‪ { } 22 - 21‬إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ حَ ّ‬
‫عمَاُل ُهمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َومَا َل ُهمْ مِنْ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫بِا ْلقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْ ُهمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ حَ ِب َ‬
‫نَاصِرِينَ }‬

‫هؤلء الذين أخبر ال عنهم في هذه الية‪ ،‬أشد الناس جرما وأي‪ :‬جرم أعظم من الكفر بآيات ال‬
‫التي تدل دللة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء ال‬
‫الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق ال‪ ،‬الذين أوجب ال طاعتهم واليمان بهم‪،‬‬
‫وتعزيرهم‪ ،‬وتوقيرهم‪ ،‬ونصرهم وهؤلء قابلوهم بضد ذلك‪ ،‬ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس‬
‫بالقسط الذي هو العدل‪ ،‬وهو المر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور‬
‫ونصح له‪ ،‬فقابلوهم شر مقابلة‪ ،‬فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات‪ ،‬وهو العذاب‬
‫المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية ل يمكن وصفها‪ ،‬ول يقدر قدرها المؤلم للبدان والقلوب‬
‫والرواح‪.‬‬

‫وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم‪ ،‬وما لهم أحد ينصرهم من عذاب ال ول يدفع عنهم من نقمته‬
‫مثقال ذرة‪ ،‬بل قد أيسوا من كل خير‪ ،‬وحصل لهم كل شر وضير‪ ،‬وهذه الحالة صفة اليهود‬
‫ونحوهم‪ ،‬قبحهم ال ما أجرأهم على ال وعلى أنبيائه وعباده الصالحين‪.‬‬

‫حكُمَ بَيْ َنهُمْ ثُمّ‬


‫عوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَ ْ‬
‫{ ‪ { } 25 - 23‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا َنصِيبًا مِنَ ا ْلكِتَابِ يُدْ َ‬
‫ت وَغَرّ ُهمْ فِي‬
‫يَ َتوَلّى فَرِيقٌ مِ ْنهُ ْم وَهُمْ ُمعْرِضُونَ * ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ قَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا َمعْدُودَا ٍ‬
‫ج َمعْنَاهُمْ لِ َيوْمٍ لَا رَ ْيبَ فِي ِه َو ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا َكسَ َبتْ وَ ُهمْ لَا‬
‫دِي ِنهِمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ * َفكَ ْيفَ ِإذَا َ‬
‫يُظَْلمُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم ال عليهم بكتابه‪ ،‬فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به‬
‫وأسرعهم انقيادا لحكامه‪ ،‬فأخبر ال عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم‬
‫يعرضون‪ ،‬تولوا بأبدانهم‪ ،‬وأعرضوا بقلوبهم‪ ،‬وهذا غاية الذم‪ ،‬وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل‬
‫كفعلهم‪ ،‬فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم‪ ،‬بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب ال أن‬
‫يسمع ويطيع وينقاد‪ ،‬كما قال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم‬
‫بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي ال هو قولهم‬
‫{ لن تمسنا النار إل أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون }‬

‫افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن المحارم‪ ،‬لن أنفسهم منتهم‬
‫وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة‪ ،‬وكذبوا في ذلك‪ ،‬فإن هذا مجرد كذب وافتراء‪ ،‬وإنما مآلهم شر مآل‪،‬‬
‫وعاقبتهم عاقبة وخيمة‪ ،‬فلهذا قال تعالى { فكيف إذا جمعناهم ليوم ل ريب فيه }‬
‫أي‪ :‬كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه‪ ،‬حالة ل يمكن وصفها ول يتصور قبحها لن ذلك‬
‫اليوم يوم توفية النفوس ما كسبت ومجازاتها بالعدل ل بالظلم‪ ،‬وقد علم أن ذلك على قدر العمال‪،‬‬
‫وقد تقدم من أعمالهم ما يبين أنهم من أشد الناس عذابا‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 27 - 26‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَنْ تَشَا ُء وَتَنْ ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَا ُء وَ ُتعِزّ مَنْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي‬
‫تَشَاءُ وَتُ ِذلّ مَنْ َتشَاءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ي وَتَرْزُقُ مَنْ َتشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }‬
‫حّ‬‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَ ُتخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ‬
‫ل وَتُخْرِجُ ا ْل َ‬
‫اللّ ْي ِ‬

‫يقول ال لنبيه صلى ال عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي‪ :‬أنت الملك المالك لجميع الممالك‪،‬‬
‫فصفة الملك المطلق لك‪ ،‬والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك‪ ،‬ثم فصل‬
‫بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها‪ ،‬فقال‪ { :‬تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن‬
‫تشاء } وفيه الشارة إلى أن ال تعالى سينزع الملك من الكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه‬
‫أمة محمد‪ ،‬وقد فعل ول الحمد‪ ،‬فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة ال تعالى‪ ،‬ول ينافي ذلك ما‬
‫أجرى ال به سنته من السباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله‪،‬‬
‫فإنها كلها بمشيئة ال ل يوجد سبب يستقل بشيء‪ ،‬بل السباب كلها تابعة للقضاء والقدر‪ ،‬ومن‬
‫السباب التي جعلها ال سببا لحصول الملك اليمان والعمل الصالح‪ ،‬التي منها اجتماع المسلمين‬
‫واتفاقهم‪ ،‬وإعدادهم اللت التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع‪ ،‬قال ال تعالى‪ { :‬وعد ال‬
‫الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم } الية‬
‫فأخبر أن اليمان والعمل الصالح سبب للستخلف المذكور‪ ،‬وقال تعالى‪ { :‬هو الذي أيدك بنصره‬
‫وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الية وقال تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا‬
‫ال كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا ال ورسوله ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن ال‬
‫مع الصابرين } فأخبر أن ائتلف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على‬
‫العداء‪ ،‬وأنت إذا استقرأت الدول السلمية وجدت السبب العظم في زوال ملكها ترك الدين‬
‫والتفرق الذي أطمع فيهم العداء وجعل بأسهم بينهم‪ ،‬ثم قال تعالى‪ { :‬وتعز من تشاء } بطاعتك {‬
‫وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } ل يمتنع عليك أمر من المور بل الشياء‬
‫كلها طوع مشيئتك وقدرتك‬

‫{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي‪ :‬تدخل هذا على هذا‪ ،‬وهذا على هذا‪ ،‬فينشأ‬
‫عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والنتشار‪ ،‬ما هو من أكبر الدلة‬
‫على قدرة ال وعظمته وحكمته ورحمته { وتخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة‪،‬‬
‫وكالشجر من النوى‪ ،‬وكالزرع من بذره‪ ،‬وكالمؤمن من الكافر { وتخرج الميت من الحي }‬
‫كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر‪ ،‬وكالحب من الزرع‪ ،‬وكالكافر من المؤمن‪ ،‬وهذا أعظم‬
‫دليل على قدرة ال‪ ،‬وأن جميع الشياء مسخرة مدبرة ل تملك من التدبير شيئا‪ ،‬فخلقه تعالى‬
‫الضداد‪ ،‬والضد من ضده بيان أنها مقهورة { وترزق من تشاء بغير حساب } أي‪ :‬ترزق من‬
‫تشاء رزقا واسعا من حيث ل يحتسب ول يكتسب‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫ن َومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ فَلَ ْيسَ مِنَ‬


‫{ ‪ { } 30 - 28‬لَا يَتّخِذِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫خفُوا مَا فِي‬
‫شيْءٍ إِلّا أَنْ تَ ّتقُوا مِ ْنهُمْ ُتقَاةً وَ ُيحَذّ ُركُمُ اللّهُ َنفْسَ ُه وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ * ُقلْ إِنْ تُ ْ‬
‫اللّهِ فِي َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ *‬
‫ض وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫صُدُو ِركُمْ َأوْ تُبْدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّ ُه وَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫عمَِلتْ مِنْ سُوءٍ َتوَدّ َلوْ أَنّ بَيْ َنهَا وَبَيْنَهُ َأمَدًا َبعِيدًا‬
‫حضَرًا َومَا َ‬
‫عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مُ ْ‬
‫جدُ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫َيوْمَ تَ ِ‬
‫س ُه وَاللّهُ َرءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ }‬
‫وَيُحَذّ ُر ُكمُ اللّهُ َنفْ َ‬

‫وهذا نهي من ال تعالى للمؤمنين عن موالة الكافرين بالمحبة والنصرة والستعانة بهم على أمر‬
‫من أمور المسلمين‪ ،‬وتوعد على ذلك فقال‪ { :‬ومن يفعل ذلك فليس من ال في شيء } أي‪ :‬فقد‬
‫انقطع عن ال‪ ،‬وليس له في دين ال نصيب‪ ،‬لن موالة الكافرين ل تجتمع مع اليمان‪ ،‬لن‬
‫اليمان يأمر بموالة ال وموالة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين ال وجهاد أعدائه‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ { :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى ‪ -‬الكافرين من دون المؤمنين‬
‫الذين يريدون أن يطفؤا نور ال ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين‪ ،‬وصار من حزب‬
‫الكافرين‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الية دليل على البتعاد عن الكفار‬
‫وعن معاشرتهم وصداقتهم‪ ،‬والميل إليهم والركون إليهم‪ ،‬وأنه ل يجوز أن يولى كافر ولية من‬
‫وليات المسلمين‪ ،‬ول يستعان به على المور التي هي مصالح لعموم المسلمين‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬‬
‫إل أن تتقوا منهم تقاة }‬

‫أي‪ :‬تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار‬
‫ما به تحصل التقية‪ .‬ثم قال تعالى‪ { :‬ويحذركم ال نفسه } أي‪ :‬فل تتعرضوا لسخطه بارتكاب‬
‫معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى ال المصير } أي‪ :‬مرجع العباد ليوم التناد‪ ،‬فيحصي أعمالهم‬
‫ويحاسبهم عليها ويجازيهم‪ ،‬فإياكم أن تفعلوا من العمال القباح ما تستحقون به العقوبة‪ ،‬واعملوا‬
‫ما به يحصل الجر والمثوبة‪ ،‬ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا‪ ،‬ولما في السماء‬
‫والرض عموما‪ ،‬وعن كمال قدرته‪ ،‬ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم ال كل وقت‬
‫فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محل لكل فكر رديء‪ ،‬بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى ال من‬
‫تدبر آية من كتاب‪ ،‬أو سنة من أحاديث رسول ال‪ ،‬أو تصور وبحث في علم ينفعه‪ ،‬أو تفكر في‬
‫مخلوقات ال ونعمه‪ ،‬أو نصح لعباد ال‪ ،‬وفي ضمن أخبار ال عن علمه وقدرته الخبار بما هو‬
‫لزم ذلك من المجازاة على العمال‪ ،‬ومحل ذلك يوم القيامة‪ ،‬فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها‬
‫فلهذا قال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا }‬
‫أي‪ :‬كامل موفرا لم ينقص مثقال ذرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره } والخير‪:‬‬
‫اسم جامع لكل ما يقرب إلى ال من العمال الصالحة صغيرها وكبيرها‪ ،‬كما أن السوء اسم جامع‬
‫لكل ما يسخط ال من العمال السيئة صغيرها وكبيرها { وما عملت من سوء تود لو أن بينها‬
‫وبينه أمدًا بعيدًا } أي‪ :‬مسافة بعيدة‪ ،‬لعظم أسفها وشدة حزنها‪ ،‬فليحذر العبد من أعمال السوء التي‬
‫ل بد أن يحزن عليها أشد الحزن‪ ،‬وليتركها وقت المكان قبل أن يقول { يا حسرتا على ما فرطت‬
‫في جنب ال } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الرض } { ويوم يعض‬
‫الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيل يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلنًا خليل } { حتى‬
‫إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } فوال لترك كل شهوة ولذة وان‬
‫عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح‪ ،‬ولكن‬
‫العبد من ظلمه وجهله ل ينظر إل المر الحاضر‪ ،‬فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب المور‬
‫فيقدم على ما ينفعه عاجل وآجل‪ ،‬ويحجم عن ما يضره عاجل وآجل‪ ،‬ثم أعاد تعالى تحذيرنا‬
‫نفسه رأفة بنا ورحمة لئل يطول علينا المد فتقسو قلوبنا‪ ،‬وليجمع لنا بين الترغيب الموجب‬
‫للرجاء والعمل الصالح‪ ،‬والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب‪ ،‬فقال { ويحذركم ال نفسه وال‬
‫رءوفٌ بالعباد } فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام‪ ،‬حتى ل نفعل ما يسخطه ويغضبه‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫{ ‪ُ { } 31‬قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي ُيحْبِ ْبكُمُ اللّ ُه وَ َيغْفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُ ْم وَاللّهُ َ‬

‫وهذه الية فيها وجوب محبة ال‪ ،‬وعلماتها‪ ،‬ونتيجتها‪ ،‬وثمراتها‪ ،‬فقال { قل إن كنتم تحبون ال }‬
‫أي‪ :‬ادعيتم هذه المرتبة العالية‪ ،‬والرتبة التي ليس فوقها رتبة فل يكفي فيها مجرد الدعوى‪ ،‬بل‬
‫لبد من الصدق فيها‪ ،‬وعلمة الصدق اتباع رسوله صلى ال عليه وسلم في جميع أحواله‪ ،‬في‬
‫أقواله وأفعاله‪ ،‬في أصول الدين وفروعه‪ ،‬في الظاهر والباطن‪ ،‬فمن اتبع الرسول دل على صدق‬
‫دعواه محبة ال تعالى‪ ،‬وأحبه ال وغفر له ذنبه‪ ،‬ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته‪ ،‬ومن‬
‫لم يتبع الرسول فليس محبا ل تعالى‪ ،‬لن محبته ل توجب له اتباع رسوله‪ ،‬فما لم يوجد ذلك دل‬
‫على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها‪ ،‬مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها‪ ،‬وبهذه‬
‫الية يوزن جميع الخلق‪ ،‬فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم ل‪ ،‬وما نقص‬
‫من ذلك نقص‪.‬‬

‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫{ ‪ُ { } 32‬قلْ َأطِيعُوا اللّ َه وَالرّسُولَ فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫وهذا أمر من ال تعالى لعباده بأعم الوامر‪ ،‬وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها اليمان‬
‫والتوحيد‪ ،‬وما هو من فروع ذلك من العمال والقوال الظاهرة والباطنة‪ ،‬بل يدخل في طاعته‬
‫وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه‪ ،‬لن اجتنابه امتثال لمر ال هو من طاعته‪ ،‬فمن أطاع ال‬
‫ورسوله‪ ،‬فأولئك هم المفلحون { فإن تولوا } أي‪ :‬أعرضوا عن طاعة ال ورسوله فليس ثم أمر‬
‫يرجعون إليه إل الكفر وطاعة كل شيطان مريد { كتب عليه أنه من توله فأنه يضله ويهديه إلى‬
‫عذاب السعير } فلهذا قال‪ { :‬فإن تولوا فإن ال ل يحب الكافرين } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم‬
‫أشد العقوبة‪ ،‬وكأن في هذه الية الكريمة بيانا وتفسيرا لتباع رسوله‪ ،‬وأن ذلك بطاعة ال وطاعة‬
‫رسوله‪ ،‬هذا هو التباع الحقيقي‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ * ذُرّيّةً‬


‫طفَى آ َد َم وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِي َم وَآلَ ِ‬
‫{ ‪ { } 37 - 33‬إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫عمْرَانَ َربّ إِنّي َنذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي َبطْنِي‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَاَلتِ امْرََأةُ ِ‬
‫ض وَاللّهُ َ‬
‫ضهَا مِنْ َب ْع ٍ‬
‫َب ْع ُ‬
‫ضعْ ُتهَا أُنْثَى وَاللّهُ أَعَْلمُ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * فََلمّا َوضَعَ ْتهَا قَاَلتْ َربّ إِنّي َو َ‬
‫مُحَرّرًا فَ َتقَ ّبلْ مِنّي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫سمّيْ ُتهَا مَرْيَ َم وَإِنّي أُعِيذُهَا ِبكَ وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ‬
‫ت وَلَيْسَ ال ّذكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنّي َ‬
‫ِبمَا َوضَ َع ْ‬
‫خلَ عَلَ ْيهَا َزكَرِيّا ا ْل ِمحْرَابَ وَجَدَ‬
‫ن وَأَنْبَ َتهَا نَبَاتًا حَسَنًا َو َكفَّلهَا َزكَرِيّا كُّلمَا دَ َ‬
‫* فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ حَسَ ٍ‬
‫عِنْدَهَا رِ ْزقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى َلكِ َهذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }‬

‫يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه‪ ،‬فأخبر أنه اصطفى آدم‪ ،‬أي‪ :‬اختاره‬
‫على سائر المخلوقات‪ ،‬فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وأمر الملئكة بالسجود له‪ ،‬وأسكنه جنته‪،‬‬
‫وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات‪ ،‬ولهذا فضل بنيه‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬ولقد‬
‫كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا‬
‫تفضيل }‬

‫واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الرض حين عبدت الوثان‪ ،‬ووفقه من الصبر‬
‫والحتمال والشكر والدعوة إلى ال في جميع الوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه‪ ،‬وأغرق ال‬
‫أهل الرض بدعوته‪ ،‬ونجاه ومن معه في الفلك المشحون‪ ،‬وجعل ذريته هم الباقين‪ ،‬وترك عليه‬
‫ثناء يذكر في جميع الحيان والزمان‪.‬‬

‫واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه ال بخلته‪ ،‬وبذل نفسه للنيران وولده‬
‫للقربان وماله للضيفان‪ ،‬ودعا إلى ربه ليل ونهارا وسرا وجهارا‪ ،‬وجعله ال أسوة يقتدي به من‬
‫بعده‪ ،‬وجعل في ذريته النبوة والكتاب‪ ،‬ويدخل في آل إبراهيم جميع النبياء الذين بعثوا من بعده‬
‫لنهم من ذريته‪ ،‬وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين‪ ،‬ومنهم سيد ولد آدم‬
‫نبينا محمد صلى ال عليه وسلم فإن ال تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره‪ ،‬وفاق صلى‬
‫ال عليه وسلم الولين والخرين‪ ،‬فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم‪.‬‬
‫واصطفى ال آل عمران وهو والد مريم بنت عمران‪ ،‬أو والد موسى بن عمران عليه السلم‪،‬‬
‫فهذه البيوت التي ذكرها ال هي صفوته من العالمين‪ ،‬وتسلسل الصلح والتوفيق بذرياتهم‪ ،‬فلهذا‬
‫قال تعالى { ذرية بعضها من بعض }‬

‫أي‪ :‬حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والخلق الجميلة‪ ،‬كما قال تعالى لما ذكر جملة من‬
‫النبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار { ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم‬
‫وهديناهم إلى صراط مستقيم } { وال سميع عليم } يعلم من يستحق الصطفاء فيصطفيه ومن ل‬
‫يستحق ذلك فيخذله ويرديه‪ ،‬ودل هذا على أن هؤلء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك‬
‫فضل منه وكرما‪ ،‬ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلء الصفياء أن نحبهم ونقتدي‬
‫بهم‪ ،‬ونسأل ال أن يوفقنا لما وفقهم‪ ،‬وأن ل نزال نزري أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا‬
‫بأوصافهم ومزاياهم الجميلة‪ ،‬وهذا أيضا من لطفه بهم‪ ،‬وإظهاره الثناء عليهم في الولين‬
‫والخرين‪ ،‬والتنويه بشرفهم‪ ،‬فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته‪ ،‬لو لم يكن لهم من‬
‫الشرف إل أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضل‬

‫ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف ال بها في‬
‫تربيتها ونشأتها‪ ،‬فقال‪ { :‬إذ قالت امرأة عمران } أي‪ :‬والدة مريم لما حملت { رب إني نذرت لك‬
‫ما في بطني محررًا } أي‪ :‬جعلت ما في بطني خالصا لوجهك‪ ،‬محررا لخدمتك وخدمة بيتك‬
‫{ فتقبل مني } هذا العمل المبارك { إنك أنت السميع العليم } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي‪،‬‬
‫هذا وهي في البطن قبل وضعها‬

‫{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } كأنها تشوفت أن يكون ذكرا ليكون أقدر على‬
‫الخدمة وأعظم موقعا‪ ،‬ففي كلمها [نوع] عذر من ربها‪ ،‬فقال ال‪ { :‬وال أعلم بما وضعت } أي‪:‬‬
‫ل يحتاج إلى إعلمها‪ ،‬بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي { وليس الذكر كالنثى وإني‬
‫سميتها مريم } فيه دللة على تفضيل الذكر على النثى‪ ،‬وعلى التسمية وقت الولدة‪ ،‬وعلى أن‬
‫للم تسمية الولد إذا لم يكره الب { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } دعت لها‬
‫ولذريتها أن يعيذهم ال من الشيطان الرجيم‪.‬‬

‫{ فتقبلها ربها بقبول حسن } أي‪ :‬جعلها نذيرة مقبولة‪ ،‬وأجارها وذريتها من الشيطان { وأنبتها‬
‫نباتًا حسنًا } أي‪ :‬نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلقها‪ ،‬لن ال تعالى قيض لها زكريا عليه‬
‫السلم { وكفلها } إياه‪ ،‬وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الحوال‪ ،‬فنشأت في عبادة ربها‬
‫وفاقت النساء‪ ،‬وانقطعت لعبادة ربها‪ ،‬ولزمت محرابها أي‪ :‬مصلها فكان { كلما دخل عليها‬
‫زكريا المحراب وجد عندها رزقًا } أي‪ :‬من غير كسب ول تعب‪ ،‬بل رزق ساقه ال إليها‪،‬‬
‫وكرامة أكرمها ال بها‪ ،‬فيقول لها زكريا { أنى لك هذا قالت هو من عند ال } فضل وإحسانا‬
‫{ إن ال يرزق من يشاء بغير حساب } أي‪ :‬من غير حسبان من العبد ول كسب‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ ومن يتق ال يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث ل يحتسب } وفي هذه الية دليل على إثبات‬
‫كرامات الولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الخبار بذلك‪ ،‬خلفا لمن نفى ذلك‪ ،‬فلما رأى‬
‫زكريا عليه السلم ما من ال به على مريم‪ ،‬وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير‬
‫سعي منها ول كسب‪ ،‬طمعت نفسه بالولد‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪:‬‬

‫سمِيعُ الدّعَاءِ‬
‫{ ‪ { } 41 - 38‬هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ قَالَ َربّ َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْنكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِ ّنكَ َ‬
‫* فَنَادَ ْتهُ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّ ُركَ بِ َيحْيَى ُمصَ ّدقًا ِبكَِلمَةٍ مِنَ اللّ ِه وَسَيّدًا‬
‫حصُورًا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ * قَالَ َربّ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم َوقَدْ بََلغَ ِنيَ ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ‬
‫وَ َ‬
‫ج َعلْ لِي آيَةً قَالَ آيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ إِلّا َرمْزًا وَا ْذكُرْ‬
‫كَذَِلكَ اللّهُ َي ْفعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ َربّ ا ْ‬
‫ي وَالْإِ ْبكَارِ }‬
‫شّ‬‫رَ ّبكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ‬

‫أي‪ :‬دعا زكريا عليه السلم ربه أن يرزقه ذرية طيبة‪ ،‬أي‪ :‬طاهرة الخلق‪ ،‬طيبة الداب‪ ،‬لتكمل‬
‫النعمة الدينية والدنيوية بهم‪ .‬فاستجاب له دعاءه‪.‬‬

‫وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملئكة { أن ال يبشرك بيحيى مصدقًا‬
‫بكلمة من ال } أي‪ :‬بعيسى عليه السلم‪ ،‬لنه كان بكلمة ال { وسيدًا } أي‪ :‬يحصل له من‬
‫الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع إليه في المور { وحصورًا } أي‪ :‬ممنوعا من إتيان‬
‫النساء‪ ،‬فليس في قلبه لهن شهوة‪ ،‬اشتغال بخدمة ربه وطاعته { ونبيًا من الصالحين } فأي‪ :‬بشارة‬
‫أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة بوجوده‪ ،‬وبكمال صفاته‪ ،‬وبكونه نبيا من الصالحين‪،‬‬
‫فقال زكريا من شدة فرحه { رب أنى يكون لي غلم وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } وكل واحد‬
‫من المرين مانع من وجود الولد‪ ،‬فكيف وقد اجتمعا‪ ،‬فأخبره ال تعالى أن هذا خارق للعادة‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬كذلك ال يفعل ما يشاء } فكما أنه تعالى قدر وجود الولد بالسباب التي منها التناسل‪،‬‬
‫فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل‪ ،‬لنه ل يستعصي عليه شيء‪ ،‬فقال زكريا عليه السلم‬
‫استعجال لهذا المر‪ ،‬وليحصل له كمال الطمأنينة‪.‬‬

‫{ رب اجعل لي آية } أي‪ :‬علمة على وجود الولد قال { آيتك أل تكلم الناس ثلثة أيام إل رمزًا }‬
‫أي‪ :‬ينحبس لسانك عن كلمهم من غير آفة ول سوء‪ ،‬فل تقدر إل على الشارة والرمز‪ ،‬وهذا آية‬
‫عظيمة أن ل تقدر على الكلم‪ ،‬وفيه مناسبة عجيبة‪ ،‬وهي أنه كما يمنع نفوذ السباب مع وجودها‪،‬‬
‫فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن السباب كلها مندرجة في قضائه وقدره‪ ،‬فامتنع من الكلم‬
‫ثلثة أيام‪ ،‬وأمره ال أن يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والبكار‪ ،‬حتى إذا خرج على قومه من‬
‫المحراب { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيّا } أي‪ :‬أول النهار وآخره‪.‬‬

‫طفَاكِ عَلَى ِنسَاءِ‬


‫ك وَاصْ َ‬
‫طهّ َر ِ‬
‫ك وَ َ‬
‫طفَا ِ‬
‫صَ‬‫{ ‪ { } 44 - 42‬وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَا ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ ا ْ‬
‫سجُدِي وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ * َذِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَ ْيكَ‬
‫ك وَا ْ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَ ّب ِ‬
‫صمُونَ }‬
‫َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُونَ َأقْلَا َمهُمْ أَ ّي ُهمْ َي ْكفُلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ َيخْ َت ِ‬

‫ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها‪ ،‬وأن الملئكة خاطبتها بذلك فقالت { يا مريم إن ال‬
‫اصطفاك } أي‪ :‬اختارك { وطهّرك } من الفات المنقصة { واصطفاك على نساء العالمين }‬
‫الصطفاء الول يرجع إلى الصفات الحميدة والفعال السديدة‪ ،‬والصطفاء الثاني يرجع إلى‬
‫تفضيلها على سائر نساء العالمين‪ ،‬إما على عالمي زمانها‪ ،‬أو مطلقا‪ ،‬وإن شاركها أفراد من‬
‫النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة‪ ،‬لم يناف الصطفاء المذكور‪ ،‬فلما أخبرتها الملئكة‬
‫باصطفاء ال إياها وتطهيرها‪ ،‬كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها‬
‫القيام بشكرها‪ ،‬فلهذا قالت لها الملئكة‪ { :‬يا مريم اقنتي لربك }‬

‫{ اقنتي لربك } القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع‪ { ،‬واسجدي واركعي مع الراكعين }‬
‫خص السجود والركوع لفضلهما ودللتهما على غاية الخضوع ل‪ ،‬ففعلت مريم‪ ،‬ما أمرت به‬
‫شكرا ل تعالى وطاعة‪ ،‬ولما أخبر ال نبيه بما أخبر به عن مريم‪ ،‬وكيف تنقلت بها الحوال التي‬
‫قيضها ال لها‪ ،‬وكان هذا من المور الغيبية التي ل تعلم إل بالوحي‪.‬‬

‫قال { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } أي‪ :‬عندهم { إذ يلقون أقلمهم أيهم يكفل‬
‫مريم } لما ذهبت بها أمها إلى من لهم المر على بيت المقدس‪ ،‬فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل‬
‫مريم‪ ،‬واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلمهم في النهر‪ ،‬فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها‪ ،‬فوقع‬
‫ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم‪ ،‬فلما أَخْبَر َتهُم يا محمد بهذه الخبار التي ل علم لك ول لقومك بها دل‬
‫على أنك صادق وأنك رسول ال حقا‪ ،‬فوجب عليهم النقياد لك وامتثال أوامرك‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى المر } اليات‪.‬‬

‫سمُهُ ا ْل َمسِيحُ عِيسَى ابْنُ‬


‫{ ‪ِ { } 58 - 45‬إذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَا ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مِنْهُ ا ْ‬
‫مَرْيَ َم وَجِيهًا فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة َومِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْلًا َومِنَ الصّالِحِينَ *‬
‫خلُقُ مَا َيشَاءُ ِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا‬
‫قَاَلتْ َربّ أَنّى َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وَلَمْ َي ْمسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَِلكِ اللّهُ يَ ْ‬
‫ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَا َة وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ * وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَا َ‬
‫خلُقُ َل ُكمْ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ‬
‫قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَ ّبكُمْ أَنّي أَ ْ‬
‫ن َومَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُو ِتكُمْ إِنّ‬
‫وَأُبْ ِرئُ الَْأ ْكمَ َه وَالْأَبْ َرصَ وَأُحْيِي ا ْل َموْتَى بِإِذْنِ اللّ ِه وَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا تَ ْأكُلُو َ‬
‫حلّ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ‬
‫فِي ذَِلكَ لَآيَةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ * َو ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َي َديّ مِنَ ال ّتوْرَا ِة وَلِأُ ِ‬
‫عَلَ ْيكُ ْم وَجِئْ ُت ُكمْ بِآيَةٍ مِنْ رَ ّب ُكمْ فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ‬
‫حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ‬
‫مُسْ َتقِيمٌ * فََلمّا َأحَسّ عِيسَى مِ ْنهُمُ ا ْلكُفْرَ قَالَ مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ‬
‫ت وَاتّ َبعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ * َو َمكَرُوا‬
‫شهَدْ بِأَنّا ُمسِْلمُونَ *رَبّنَا آمَنّا ِبمَا أَنْزَ ْل َ‬
‫آمَنّا بِاللّ ِه وَا ْ‬
‫طهّ ُركَ مِنَ‬
‫ك وَرَا ِف ُعكَ ِإَليّ َومُ َ‬
‫َو َمكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ * ِإذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنّي مُ َت َوفّي َ‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُكمْ‬
‫ج ُعكُمْ فَأَ ْ‬
‫علُ الّذِينَ اتّ َبعُوكَ َفوْقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ُثمّ إَِليّ مَرْ ِ‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا وَجَا ِ‬
‫شدِيدًا فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة َومَا َلهُمْ مِنْ‬
‫عذَابًا َ‬
‫عذّ ُبهُمْ َ‬
‫فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ َتخْتَِلفُونَ * فََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا فَأُ َ‬
‫حبّ الظّاِلمِينَ * ذَِلكَ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُ ْم وَاللّهُ لَا يُ ِ‬
‫نَاصِرِينَ * وََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حكِيمِ }‬
‫نَتْلُوهُ عَل ْيكَ مِنَ الْآيَاتِ وَال ّذكْرِ ا ْل َ‬

‫يخبر تعالى أن الملئكة بشرت مريم عليها السلم بأعظم بشارة‪ ،‬وهو كلمة ال عبده ورسوله‬
‫عيسى ابن مريم‪ ،‬سمي كلمة ال لنه كان بالكلمة من ال‪ ،‬لن حالته خارجة عن السباب‪ ،‬وجعله‬
‫ال من آياته وعجائب مخلوقاته‪ ،‬فأرسل ال جبريل عليه السلم إلى مريم‪ ،‬فنفخ في جيب درعها‬
‫فولجت فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الزكي‪ ،‬فأنشأ ال منها تلك الروح الزكية‪ ،‬فكان‬
‫روحانيا نشأ من مادة روحانية‪ ،‬فلهذا سمى روح ال { وجيها في الدنيا والخرة } أي‪ :‬له الوجاهة‬
‫العظيمة في الدنيا‪ ،‬جعله ال أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والتباع‪،‬‬
‫ونشر ال له من الذكر ما مل ما بين المشرق والمغرب‪ ،‬وفي الخرة وجيها عند ال يشفع أسوة‬
‫إخوانه من النبيين والمرسلين‪ ،‬ويظهر فضله على أكثر العالمين‪ ،‬فلهذا كان من المقربين إلى ال‪،‬‬
‫أقرب الخلق إلى ربهم‪ ،‬بل هو عليه السلم من سادات المقربين‪.‬‬

‫{ ويكلم الناس فى المهد وكهل } وهذا غير التكليم المعتاد‪ ،‬بل المراد يكلم الناس بما فيه صلحهم‬
‫وفلحهم‪ ،‬وهو تكليم المرسلين‪ ،‬ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم‪ ،‬وفي تكليمهم في المهد‬
‫آية عظيمة من آيات ال ينتفع بها المؤمنون‪ ،‬وتكون حجة على المعاندين‪ ،‬أنه رسول رب‬
‫العالمين‪ ،‬وأنه عبد ال‪ ،‬وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به { ومن الصالحين } أي‪ :‬يمن‬
‫عليه بالصلح‪ ،‬من من عليهم‪ ،‬ويدخله في جملتهم‪ ،‬وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من‬
‫التنويه بذكر المسيح عليه السلم‪.‬‬

‫{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } والولد في العادة ل يكون إل من مس البشر‪،‬‬
‫وهذا استغراب منها‪ ،‬ل شك في قدرة ال تعالى‪ { :‬قال كذلك ال يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا‬
‫فإنما يقول له كن فيكون } فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة‪ ،‬خلقه من يقول لكل أمر أراده‪ :‬كن‬
‫فيكون‪ ،‬فمن تيقن ذلك زال عنه الستغراب والتعجب‪ ،‬ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار‬
‫العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه‪ ،‬فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير‬
‫والخر عاقر‪ ،‬ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب‪ ،‬وهو وجود عيسى عليه السلم من أم بل أب ليدل‬
‫عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلم‪ ،‬فقال { ويعلمه الكتاب }‬
‫يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب‪ ،‬فيكون ذكر التوراة والنجيل تخصيصا لهما‪ ،‬لشرفهما‬
‫وفضلهما واحتوائهما على الحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم‪ ،‬لذلك‬
‫يدخل فيه تعليم ألفاظه ومعانيه‪ ،‬ويحتمل أن يكون المراد بقوله { ويعلمه الكتاب } أي‪ :‬الكتابة‪ ،‬لن‬
‫الكتابة من أعظم نعم ال على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة‬
‫أنزلها فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق النسان من علق اقرأ وربك الكرم الذي علم بالقلم }‬

‫والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع‪ ،‬ووضع الشياء مواضعها‪ ،‬فيكون ذلك امتنانا على عيسى‬
‫عليه السلم بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة‪ ،‬وهذا هو الكمال للنسان في نفسه‪.‬‬

‫ثم ذكر له كمال آخر وفضل زائدا على ما أعطاه ال من الفضائل‪ ،‬فقال { ورسول إلى بني‬
‫إسرائيل } فأرسله ال إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى‬
‫ال‪ ،‬وأقام له من اليات ما دلهم أنه رسول ال حقا ونبيه صدقا ولهذا قال { أني قد جئتكم بآية من‬
‫ربكم أني أخلق لكم من الطين } طيرا‪ ،‬أي‪ :‬أصوره على شكل الطير { فأنفخ فيه فيكون طيرا‬
‫بإذن ال } أي‪ :‬طيرا له روح تطير بإذن ال { وأبرى الكمه } وهو الذي يولد أعمى { والبرص‬
‫} بإذن ال { وأحيي الموتى بإذن ال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لية‬
‫لكم إن كنتم مؤمنين } وأي‪ :‬آية أعظم من جعل الجماد حيوانا‪ ،‬وإبراء ذوي العاهات التي ل قدرة‬
‫للطباء في معالجتها‪ ،‬وإحياء الموتى‪ ،‬والخبار بالمور الغيبية‪ ،‬فكل واحدة من هذه المور آية‬
‫عظيمة بمفردها‪ ،‬فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة لليقان وداعية‬
‫لليمان‪.‬‬

‫{ ومصدقا لما بين يدي من التوراة } أي‪ :‬أتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬وعلمة الصادق أن يكون خبره من جنس خبر الصادقين‪ ،‬يخبر بالصدق‪ ،‬ويأمر‬
‫بالعدل من غير تخالف ول تناقض‪ ،‬بخلف من ادعى دعوى كاذبة‪ ،‬خصوصا أعظم الدعاوى‬
‫وهي دعوى النبوة‪ ،‬فالكاذب فيها لبد أن يظهر لكل أحد كذب صاحبها وتناقضه ومخالفته لخبار‬
‫الصادقين وموافقته لخبار الكاذبين‪ ،‬هذا موجب السنن الماضية والحكمة اللهية والرحمة الربانية‬
‫بعباده‪ ،‬إذ ل يشتبه الصادق بالكاذب في دعوى النبوة أبدا‪ ،‬بخلف بعض المور الجزئية‪ ،‬فإنه قد‬
‫يشتبه فيها الصادق بالكاذب‪ ،‬وأما النبوة فإنه يترتب عليها هداية الخلق أو ضللهم وسعادتهم‬
‫وشقاؤهم‪ ،‬ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق‪ ،‬والكاذب فيها من أخس الخلق وأكذبهم‬
‫وأظلمهم‪ ،‬فحكمة ال ورحمته بعباده أن يكون بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل‪ ،‬ثم‬
‫أخبر عيسى عليه السلم أن شريعة النجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال { ولحل لكم بعض‬
‫الذي حرم عليكم } فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها النجيل بل كان متمما لها‬
‫ومقررا { وجئتكم بآية من ربكم } تدل على صدقي ووجوب اتباعي‪ ،‬وهي ما تقدم من اليات‪،‬‬
‫والمقصود من ذلك كله قوله { فاتقوا ال } بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن‬
‫طاعة الرسول طاعة ل‪.‬‬

‫{ إن ال ربي وربكم فاعبدوه } استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد اللهية‬
‫الذي ينكره المشركون‪ ،‬فكما أن ال هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة‪ ،‬فليكن‬
‫هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء والستعانة وجميع أنواع العبادة‪ ،‬وفي‬
‫هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن ال‪ ،‬وهذا إقراره عليه السلم بأنه عبد مدبر‬
‫مخلوق‪ ،‬كما قال { إني عبد ال آتاني الكتاب وجعلني نبيا } وقال تعالى‪ { :‬وإذ قال ال يا عيسى‬
‫ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون ال قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما‬
‫ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته } إلى قوله { ما قلت لهم إل ما أمرتني به أن اعبدوا ال‬
‫ربي وربكم } وقوله { هذا } أي‪ :‬عبادة ال وتقواه وطاعة رسوله { صراط مستقيم } موصل إلى‬
‫ال وإلى جنته‪ ،‬وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم‪.‬‬

‫{ فلما أحس عيسى منهم الكفر } أي‪ :‬رأى منهم عدم النقياد له‪ ،‬وقالوا هذا سحر مبين‪ ،‬وهموا‬
‫بقتله وسعوا في ذلك { قال من أنصاري إلى ال } من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين ال { قال‬
‫الحواريون } وهم النصار { نحن أنصار ال } أي‪ :‬انتدبوا معه وقاموا بذلك‪.‬‬

‫وقالوا‪ { :‬آمنا بال } { فاكتبنا مع الشاهدين } أي‪ :‬الشهادة النافعة‪ ،‬وهي الشهادة بتوحيد ال‬
‫وتصديق رسوله مع القيام بذلك‪ ،‬فلما قاموا مع عيسى بنصر دين ال وإقامة شرعه آمنت طائفة‬
‫من بني إسرائيل وكفرت طائفة‪ ،‬فاقتتلت الطائفتان فأيد ال الذين آمنوا بنصره على عدوهم‬
‫فأصبحوا ظاهرين‪ ،‬فلهذا قال تعالى هنا { ومكروا } أي‪ :‬الكفار بإرادة قتل نبي ال وإطفاء نوره {‬
‫ومكر ال } بهم جزاء لهم على مكرهم { وال خير الماكرين } رد ال كيدهم في نحورهم‪ ،‬فانقلبوا‬
‫خاسرين‪.‬‬

‫{ إذ قال ال يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } فرفع ال عبده‬
‫ورسوله عيسى إليه‪ ،‬وألقي شبهه على غيره‪ ،‬فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه‪ ،‬وباءوا‬
‫بالثم العظيم بنيتهم أنه رسول ال‪ ،‬قال ال { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } وفي هذه الية‬
‫دليل على علو ال تعالى واستوائه على عرشه حقيقة‪ ،‬كما دلت على ذلك النصوص القرآنية‬
‫والحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة بالقبول واليمان والتسليم‪ ،‬وكان ال عزيزا قويا قاهرا‪،‬‬
‫ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلم‪،‬‬
‫كما قال تعالى { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إل‬
‫سحر مبين } حكيم يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل‪،‬‬
‫فوقعوا في الشبه كما قال تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إل اتباع‬
‫الظن وما قتلوه يقينا } ثم قال تعالى‪ { :‬وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة }‬
‫وتقدم أن ال أيد المؤمنين منهم على الكافرين‪ ،‬ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلم لم‬
‫يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود‪ ،‬حتى بعث ال نبينا محمدا‬
‫صلى ال عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة‪ ،‬فأيدهم ال ونصرهم على اليهود‬
‫والنصارى وسائر الكفار‪ ،‬وإنما يحصل في بعض الزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم‬
‫على المسلمين‪ ،‬حكمة من ال وعقوبة على تركهم لتباع الرسول صلى ال عليه وسلم { ثم إلي‬
‫مرجعكم } أي‪ :‬مصير الخلئق كلها { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } كل يدعي أن الحق‬
‫معه وأنه المصيب وغيره مخطئ‪ ،‬وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان‪.‬‬

‫ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل‪ ،‬فقال { فأما الذين كفروا } أي‪ :‬بال وآياته ورسله‬
‫{ فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والخرة } أما عذاب الدنيا‪ ،‬فهو ما أصابهم ال به من القوارع‬
‫والعقوبات المشاهدة والقتل والذل‪ ،‬وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الخرة‪ ،‬وأما عذاب‬
‫الخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى‪ ،‬أل وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم‬
‫ثواب البرار { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من عذاب ال‪ ،‬ل من زعموا أنهم شفعاء لهم‬
‫عند ال‪ ،‬ول ما اتخذوهم أولياء من دونه‪ ،‬ول أصدقائهم وأقربائهم‪ ،‬ول أنفسهم ينصرون‪.‬‬

‫{ وأما الذين آمنوا } بال وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما أمر ال‬
‫باليمان به { وعملوا الصالحات } القلبية والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون‪،‬‬
‫وقصدوا بها رضا رب العالمين { فيوفيهم أجورهم } دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب‬
‫لعمالهم من الكرام والعزاز والنصر والحياة الطيبة‪ ،‬وإنما توفية الجور يوم القيامة‪ ،‬يجدون ما‬
‫قدموه من الخيرات محضرا موفرا‪ ،‬فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه‬
‫{ وال ل يحب الظالمين } بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه‪.‬‬

‫{ ذلك نتلوه عليك من اليات والذكر الحكيم } وهذا منة عظيمة على رسوله محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم وعلى أمته‪ ،‬حيث أنزل عليهم هذا الذكر الحكيم‪ ،‬المحكم المتقن‪ ،‬المفصل للحكام والحلل‬
‫والحرام وإخبار النبياء القدمين‪ ،‬وما أجرى ال على أيديهم من اليات البينات والمعجزات‬
‫الباهرات‪ ،‬فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الخبار والحكام‪ ،‬فيحصل فيها العلم والعبرة‬
‫وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫حقّ‬
‫{ ‪ { } 60 - 59‬إِنّ مَ َثلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ َكمَ َثلِ آدَمَ خََلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ * الْ َ‬
‫مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ }‬

‫يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلم ما ليس له بحق‪ ،‬بغير برهان ول‬
‫شبهة‪ ،‬بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن ال أو شريكا ل في الربوبية‪ ،‬وهذا‬
‫ليس بشبهة فضل أن يكون حجة‪ ،‬لن خلقه كذلك من آيات ال الدالة على تفرد ال بالخلق‬
‫والتدبير وأن جميع السباب طوع مشيئته وتبع لرادته‪ ،‬فهو على نقيض قولهم أدل‪ ،‬وعلى أن‬
‫أحدا ل يستحق المشاركة ل بوجه من الوجوه أولى‪ ،‬ومع هذا فآدم عليه السلم خلقه ال من تراب‬
‫ل من أب ول أم‪ ،‬فإذا كان ذلك ل يوجب لدم ما زعمه النصارى في المسيح‪ ،‬فالمسيح المخلوق‬
‫من أم بل أب من باب أولى وأحرى‪ ،‬فإن صح إدعاء البنوة واللهية في المسيح‪ ،‬فادعاؤها في آدم‬
‫من باب أولى وأحرى‪ ،‬فلهذا قال تعالى { إن مثل عيسى عند ال كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال‬
‫له كن فيكون الحق من ربك } أي‪ :‬هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلم هو الحق‬
‫الذي في أعلى رتب الصدق‪ ،‬لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولمتك أن قص‬
‫عليكم ما قص من أخبار النبياء عليهم السلم‪ { .‬فل تكن من الممترين } أي‪ :‬الشاكين في شيء‬
‫مما أخبرك به ربك‪ ،‬وفي هذه الية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الدلة‬
‫على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها‪ ،‬فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه‬
‫فهو باطل‪ ،‬وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة‪ ،‬سواء قدر العبد على حلها أم ل‪ ،‬فل يوجب له‬
‫عجزه عن حلها القدح فيما علمه‪ ،‬لن ما خالف الحق فهو باطل‪ ،‬قال تعالى { فماذا بعد الحق إل‬
‫الضلل } وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن النسان إشكالت كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها‬
‫المنطقيون‪ ،‬إن حلها النسان فهو تبرع منه‪ ،‬وإل فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه‪.‬‬

‫جكَ فِيهِ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ َف ُقلْ َتعَاَلوْا َن ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَا َءكُمْ‬
‫{ ‪َ { } 63 - 61‬فمَنْ حَا ّ‬
‫صصُ‬
‫ج َعلْ َلعْنَةَ اللّهِ عَلَى ا ْلكَاذِبِينَ *إِنّ َهذَا َل ُهوَ ا ْلقَ َ‬
‫س ُكمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَنَ ْ‬
‫وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وَأَنْفُ َ‬
‫سدِينَ }‬
‫حكِيمُ * فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِا ْلمُفْ ِ‬
‫ق َومَا مِنْ إِلَهٍ ِإلّا اللّ ُه وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫حّ‬‫الْ َ‬

‫أي‪ { :‬فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلم وزعم أنه فوق منزلة العبودية‪ ،‬بل رفعه‬
‫فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد ال ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من‬
‫الدلة الدالة على أنه عبد أنعم ال عليه‪ ،‬دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني‪ ،‬فلم يبق‬
‫في مجادلته فائدة تستفيدها ول يستفيدها هو‪ ،‬لن الحق قد تبين‪ ،‬فجداله فيه جدال معاند مشاق ل‬
‫ورسوله‪ ،‬قصده اتباع هواه‪ ،‬ل اتباع ما أنزل ال‪ ،‬فهذا ليس فيه حيلة‪ ،‬فأمر ال نبيه أن ينتقل إلى‬
‫مباهلته وملعنته‪ ،‬فيدعون ال ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين‪،‬‬
‫هو وأحب الناس إليه من الولد والبناء والنساء‪ ،‬فدعاهم النبي صلى ال عليه وسلم إلى ذلك‬
‫فتولوا وأعرضوا ونكلوا‪ ،‬وعلموا أنهم إن لعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولدهم فلم يجدوا أهل ول‬
‫مال وعوجلوا بالعقوبة‪ ،‬فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلنه‪ ،‬وهذا غاية الفساد والعناد‪ ،‬فلهذا قال‬
‫تعالى { فإن تولوا فإن ال عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة‪ .‬وأخبر تعالى { إن هذا‬
‫} الذي قصه ال على عباده هو { القصص الحق } وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه‬
‫فهو باطل { وما من إله إل ال } فهو المألوه المعبود حقا الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬ول يستحق‬
‫غيره مثقال ذرة من العبادة { وإن ال لهو العزيز } الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء‬
‫{ الحكيم } الذي يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وله الحكمة التامة في ابتلء المؤمنين بالكافرين‪،‬‬
‫يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل‬

‫سوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ أَلّا َنعْبُدَ إِلّا اللّ َه وَلَا نُشْ ِركَ ِبهِ شَيْئًا‬
‫{ ‪ُ { } 64‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْا إِلَى كَِلمَةٍ َ‬
‫شهَدُوا بِأَنّا مُسِْلمُونَ }‬
‫خذَ َب ْعضُنَا َب ْعضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ َتوَلّوْا َفقُولُوا ا ْ‬
‫وَلَا يَتّ ِ‬

‫أي‪ :‬قل لهل الكتاب من اليهود والنصارى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } أي‪ :‬هلموا‬
‫نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها النبياء والمرسلون‪ ،‬ولم يخالفها إل المعاندون‬
‫والضالون‪ ،‬ليست مختصة بأحدنا دون الخر‪ ،‬بل مشتركة بيننا وبينكم‪ ،‬وهذا من العدل في المقال‬
‫والنصاف في الجدال‪ ،‬ثم فسرها بقوله { أل نعبد إل ال ول نشرك به شيئا } فنفرد ال بالعبادة‬
‫ونخصه بالحب والخوف والرجاء ول نشرك به نبيا ول ملكا ول وليا ول صنما ول وثنا ول‬
‫حيوانا ول جمادا { ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون ال } بل تكون الطاعة كلها ل ولرسله‪،‬‬
‫فل نطيع المخلوقين في معصية الخالق‪ ،‬لن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية‪ ،‬فإذا دعي‬
‫أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك‪ ،‬فإن أجابوا كانوا مثلكم‪ ،‬لهم ما لكم وعليهم ما عليكم‪ ،‬وإن تولوا‬
‫فهم معاندون متبعون أهواءهم فاشهدوهم أنكم مسلمون‪ ،‬ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك‬
‫وأنتم أهل العلم على الحقيقة‪ ،‬كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم كما استشهد تعالى بأهل العلم‬
‫حجة على المعاندين‪ ،‬وأيضا فإنكم إذا أسلمتم أنتم وآمنتم فل يعبأ ال بعدم إسلم غيركم لعدم‬
‫زكائهم ولخبث طويتهم‪ ،‬كما قال تعالى { قل آمنوا به أو ل تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا‬
‫يتلى عليهم يخرون للذقان سجدا } الية وأيضا فإن في ورود الشبهات على العقيدة اليمانية مما‬
‫يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن بإسلمه‪ ،‬إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 68 - 65‬يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ تُحَاجّونَ فِي إِبْرَاهِي َم َومَا أُنْزَِلتِ ال ّتوْرَا ُة وَالْإِنْجِيلُ إِلّا مِنْ َبعْ ِدهِ‬
‫َأفَلَا َت ْعقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ َهؤُلَاءِ حَاجَجْ ُتمْ فِيمَا َلكُمْ ِبهِ عِلْمٌ فَلِمَ ُتحَاجّونَ فِيمَا لَيْسَ َل ُكمْ بِهِ عِ ْل ٌم وَاللّهُ َيعَْلمُ‬
‫وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَلَا َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ * إِنّ َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُو ُه وَهَذَا النّ ِبيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّ ُه وَِليّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا‪ ،‬والنصارى أنه نصراني‪ ،‬وجادلوا على ذلك‪ ،‬رد تعالى‬
‫محاجتهم ومجادلتهم من ثلثة أوجه‪ ،‬أحدها‪ :‬أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم‪،‬‬
‫فل يمكن لهم ول يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام‬
‫التوراة والنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم‪ ،‬الوجه الثاني‪ :‬أن‬
‫اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة‪ ،‬والنصارى ينتسبون إلى أحكام النجيل‪ ،‬والتوراة والنجيل ما‬
‫أنزل إل من بعد إبراهيم‪ ،‬فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم‪ ،‬فهل هذا يعقل؟!‬
‫فلهذا قال { أفل تعقلون } أي‪ :‬فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك‪ ،‬الوجه الثالث‪ :‬أن ال تعالى برأ‬
‫خليله من اليهود والنصارى والمشركين‪ ،‬وجعله حنيفا مسلما‪ ،‬وجعل أولى الناس به من آمن به‬
‫من أمته‪ ،‬وهذا النبي وهو محمد صلى ال على وسلم ومن آمن معه‪ ،‬فهم الذين اتبعوه وهم أولى‬
‫به من غيرهم‪ ،‬وال تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم‪ ،‬وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود‬
‫والنصارى والمشركين‪ ،‬فليسوا من إبراهيم وليس منهم‪ ،‬ول ينفعهم مجرد النتساب الخالي من‬
‫الصواب‪ .‬وقد اشتملت هذه اليات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم‪ ،‬وأن من تكلم‬
‫بذلك فهو متكلم في أمر ل يمكن منه ول يسمح له فيه‪ ،‬وفيها أيضا حث على علم التاريخ‪ ،‬وأنه‬
‫طريق لرد كثير من القوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫شعُرُونَ *‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫{ ‪ { } 74 - 69‬وَ ّدتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ ُيضِلّو َنكُ ْم َومَا ُيضِلّونَ إِلّا أَ ْنفُ َ‬
‫طلِ‬
‫شهَدُونَ *يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ تَلْبِسُونَ ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬
‫يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ َتكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَأَنْتُمْ تَ ْ‬
‫ق وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ * َوقَاَلتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا‬
‫وَ َتكْ ُتمُونَ ا ْلحَ ّ‬
‫جعُونَ * وَلَا ُت ْؤمِنُوا إِلّا ِلمَنْ تَبِعَ دِي َنكُمْ ُقلْ إِنّ ا ْل ُهدَى هُدَى اللّهِ‬
‫وَجْهَ ال ّنهَارِ وَاكْفُرُوا آخِ َرهُ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬
‫ضلَ بِيَدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ‬
‫أَنْ ُيؤْتَى َأحَدٌ مِ ْثلَ مَا أُوتِيتُمْ َأوْ ُيحَاجّوكُمْ عِنْدَ رَ ّبكُمْ ُقلْ إِنّ ا ْلفَ ْ‬
‫حمَتِهِ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َفضْلِ ا ْل َعظِيمِ }‬
‫وَاسِعٌ عَلِيمٌ * َيخْ َتصّ بِ َر ْ‬
‫يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب‪ ،‬وأنهم يودون أن‬
‫يضلوكم‪ ،‬كما قال تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا } ومن‬
‫المعلوم أن من ود شيئا سعى بجهده على تحصيل مراده‪ ،‬فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد‬
‫المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه‪ ،‬ولكن من لطف ال أنه ل يحيق المكر‬
‫السيئ إل بأهله فلهذا قال تعالى { وما يضلون إل أنفسهم } فسعيهم في إضلل المؤمنين زيادة في‬
‫ضلل أنفسهم وزيادة عذاب لهم‪ ،‬قال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل ال زدناهم عذابا‬
‫فوق العذاب بما كانوا يفسدون } { وما يشعرون } بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم ل‬
‫يضرونكم شيئا‪.‬‬

‫{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات ال وأنتم تشهدون } أي‪ :‬ما الذي دعاكم إلى الكفر بآيات ال مع‬
‫علمكم بأن ما أنتم عليه باطل‪ ،‬وأن ما جاءكم به محمد صلى ال عليه وسلم هو الحق الذي ل‬
‫تشكون فيه‪ ،‬بل تشهدون به ويسر به بعضكم إلى بعض في بعض الوقات‪ ،‬فهذا نهيهم عن‬
‫ضللهم‪.‬‬

‫ثم وبخهم على إضللهم الخلق‪ ،‬فقال { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق‬
‫وأنتم تعلمون } فوبخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق‪ ،‬لنهم بهذين المرين يضلون‬
‫من انتسب إليهم‪ ،‬فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما‪ ،‬بل أبقوا المر مبهما‬
‫وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره‪ ،‬ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب‪،‬‬
‫ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه‪ ،‬والمقصود من أهل العلم أن يظهروا‬
‫للناس الحق ويعلنوا به‪ ،‬ويميزوا الحق من الباطل‪ ،‬ويظهروا الخبيث من الطيب‪ ،‬والحلل والحرام‬
‫‪ ،‬والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة‪ ،‬ليهتدي المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على‬
‫المعاندين قال تعالى { وإذ أخذ ال ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه فنبذوه وراء‬
‫ظهورهم }‬

‫ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة‪ ،‬وإرادة المكر بالمؤمنين‪ ،‬فقال { وقالت طائفة‬
‫من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } أي‪ :‬ادخلوا في‬
‫دينهم على وجه المكر والكيد أول النهار‪ ،‬فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه { لعلهم يرجعون }‬
‫عن دينهم‪ ،‬فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه أهل العلم والكتاب‪ ،‬هذا الذي أرادوه عجبا‬
‫بأنفهسم وظنا أن الناس سيحسنون ظنهم بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه‪ ،‬ولكن يأبى ال‬
‫إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون‪.‬‬
‫{ و } قال بعضهم لبعض { ل تؤمنوا إل لمن تبع دينكم } أي‪ :‬ل تثقوا ول تطمئنوا ول تصدقوا‬
‫إل من تبع دينكم‪ ،‬واكتموا أمركم‪ ،‬فإنكم إذا أخبرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم‬
‫من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم‪ ،‬أو حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم‬
‫الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه‪ ،‬فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار المؤمنين بما معهم من العلم‬
‫قاطعا عنهم العلم‪ ،‬لن العلم بزعمهم ل يكون إل عندهم وموجبا للحجة عليهم‪ ،‬فرد ال عليهم بأن‬
‫{ الهدى هدى ال } فمادة الهدى من ال تعالى لكل من اهتدى‪ ،‬فإن الهدى إما علم الحق‪ ،‬أو‬
‫إيثارة‪ ،‬ول علم إل ما جاءت به رسل ال‪ ،‬ول موفق إل من وفقه ال‪ ،‬وأهل الكتاب لم يؤتوا من‬
‫العلم إل قليل‪ ،‬وأما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم‪ ،‬وأما هذه المة‬
‫فقد حصل لهم ول الحمد من هداية ال من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا‬
‫على كل أحد‪ ،‬فكانوا هم الهداة الذين يهدون بأمر ال‪ ،‬وهذا من فضل ال عليها وإحسانه العظيم‪،‬‬
‫فلهذا قال تعالى { قل إن الفضل بيد ال } أي‪ :‬ال هو الذي يحسن على عباده بأنواع الحسان‬
‫{ يؤتيه من يشاء } ممن أتى بأسبابه { وال واسع } الفضل كثير الحسان { عليم } بمن يصلح‬
‫للحسان فيعطيه‪ ،‬ومن ل يستحقه فيحرمه إياه‪.‬‬

‫{ يختص برحمته من يشاء } أي‪ :‬برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالخرة وهي نعمة‬
‫الدين ومتمماته { وال ذو الفضل العظيم } الذي ل يصفه الواصفون ول يخطر بقلب بشر‪ ،‬بل‬
‫وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه‪ ،‬ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‪.‬‬

‫ك َومِ ْنهُمْ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبدِينَارٍ لَا‬


‫{ ‪َ { } 77 - 75‬ومِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ ُي َؤ ّدهِ إِلَ ْي َ‬
‫علَيْهِ قَا ِئمًا ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الُْأمّيّينَ سَبِيلٌ وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ‬
‫ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ إِلّا مَا ُد ْمتَ َ‬
‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ * إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ‬
‫ب وَهُمْ َيعَْلمُونَ * بَلَى مَنْ َأ ْوفَى ِب َع ْه ِدهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫ا ْلكَ ِذ َ‬
‫اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنًا قَلِيلًا أُولَ ِئكَ لَا خَلَاقَ َلهُمْ فِي الْآخِ َر ِة وَلَا ُيكَّل ُمهُمُ اللّ ُه وَلَا يَنْظُرُ ِإلَ ْيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَا‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ‬

‫يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الموال‪ ،‬لما ذكر خيانتهم في الدين‬
‫ومكرهم وكتمهم الحق‪ ،‬فأخبر أن منهم الخائن والمين‪ ،‬وأن منهم { من إن تأمنه بقنطار } وهو‬
‫المال الكثير { يؤده } وهو على أداء ما دونه من باب أولى‪ ،‬ومنهم { من إن تأمنه بدينار ل يؤده‬
‫إليك } وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى‪ ،‬والذي أوجب لهم الخيانة وعدم الوفاء‬
‫إليكم بأنهم زعموا أنه { ليس } عليهم { في الميين سبيل } أي‪ :‬ليس عليهم إثم في عدم أداء‬
‫أموالهم إليهم‪ ،‬لنهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الحتقار‪ ،‬ورأوا أنفسهم في‬
‫غاية العظمة‪ ،‬وهم الذلء الحقرون‪ ،‬فلم يجعلوا للميين حرمة‪ ،‬وأجازوا ذلك‪ ،‬فجمعوا بين أكل‬
‫الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على ال‪ ،‬لن العالم الذي يحلل الشياء المحرمة قد كان عند‬
‫الناس معلوم أنه يخبر عن حكم ال ليس يخبر عن نفسه‪ ،‬وذلك هو الكذب‪ ،‬فلهذا قال { ويقولون‬
‫على ال الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم إثما من القول على ال بل علم‪ ،‬ثم رد عليهم زعمهم‬
‫الفاسد‪.‬‬

‫فقال { بلى } أي‪ :‬ليس المر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الميين حرج‪ ،‬بل عليكم في ذلك‬
‫أعظم الحرج وأشد الثم‪.‬‬

‫{ من أوفى بعهده واتقى } والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه‪ ،‬وهو جميع ما أوجبه ال‬
‫على العبد من حقه‪ ،‬ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد‪ ،‬والتقوى تكون في هذا الموضع‪ ،‬ترجع‬
‫إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه‪ ،‬وبينه وبين الخلق‪ ،‬فمن كان كذلك فإنه من المتقين‬
‫الذين يحبهم ال تعالى‪ ،‬سواء كانوا من الميين أو غيرهم‪ ،‬فمن قال ليس علينا في الميين سبيل‪،‬‬
‫فلم يوف بعهده ولم يتق ال‪ ،‬فلم يكن ممن يحبه ال‪ ،‬بل ممن يبغضه ال‪ ،‬وإذا كان المييون قد‬
‫عرفوا بوفاء العهود وبتقوى ال وعدم التجرئ على الموال المحترمة‪ ،‬كانوا هم المحبوبين ل‪،‬‬
‫المتقين الذين أعدت لهم الجنة‪ ،‬وكانوا أفضل خلق ال وأجلهم‪ ،‬بخلف الذين يقولون ليس علينا في‬
‫الميين سبيل‪ ،‬فإنهم داخلون في قوله‪ { :‬إن الذين يشترون بعهد ال وأيمانهم ثمنا قليل } ويدخل‬
‫في ذلك كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق ال أو حق عباده‪ ،‬وكذلك من حلف‬
‫على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه الية‪ ،‬فهؤلء { ل خلق لهم في الخرة }‬
‫أي‪ :‬ل نصيب لهم من الخير { ول يكلمهم ال } يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا‪ ،‬لتقديمهم هوى‬
‫أنفسهم على رضا ربهم { ول يزكيهم } أي‪ :‬يطهرهم من ذنوبهم‪ ،‬ول يزيل عيوبهم { ولهم عذاب‬
‫أليم } أي‪ :‬موجع للقلوب والبدان‪ ،‬وهو عذاب السخط والحجاب‪ ،‬وعذاب جهنم‪ ،‬نسأل ال العافية‪.‬‬

‫ب َومَا ُهوَ مِنَ ا ْلكِتَابِ‬


‫{ ‪ { } 78‬وَإِنّ مِ ْن ُهمْ َلفَرِيقًا يَ ْلوُونَ أَلْسِنَ َتهُمْ بِا ْلكِتَابِ لِ َتحْسَبُوهُ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫وَيَقُولُونَ ُهوَ مِنْ عِنْدِ اللّ ِه َومَا ُهوَ مِنْ عِنْدِ اللّ ِه وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ وَهُمْ َيعَْلمُونَ }‬

‫يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب‪ ،‬أي‪ :‬يميلونه ويحرفونه عن المقصود‬
‫به‪ ،‬وهذا يشمل اللي والتحريف للفاظه ومعانيه‪ ،‬وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم‬
‫تغييرها‪ ،‬وفهم المراد منها وإفهامه‪ ،‬وهؤلء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب‪ ،‬إما‬
‫تعريضا وإما تصريحا‪ ،‬فالتعريض في قوله { لتحسبوه من الكتاب } أي‪ :‬يلوون ألسنتهم‬
‫ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب ال‪ ،‬وليس هو المراد‪ ،‬والتصريح في قولهم‪ { :‬ويقولون هو‬
‫من عند ال وما هو من عند ال ويقولون على ال الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم جرما ممن‬
‫يقول على ال بل علم‪ ،‬هؤلء يقولون على ال الكذب فيجمعون بين نفي المعنى الحق‪ ،‬وإثبات‬
‫المعنى الباطل‪ ،‬وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد‪ ،‬مع علمهم بذلك‪.‬‬

‫حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ ثُمّ َيقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا‬


‫{ ‪ { } 80 - 79‬مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ ُيؤْتِيَهُ اللّهُ ا ْلكِتَابَ وَالْ ُ‬
‫ب وَ ِبمَا كُنْ ُتمْ تَدْ ُرسُونَ * وَلَا يَ ْأمُ َر ُكمْ أَنْ‬
‫لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وََلكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ ِبمَا كُنْتُمْ ُتعَّلمُونَ ا ْلكِتَا َ‬
‫خذُوا ا ْلمَلَا ِئكَ َة وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلكُفْرِ َبعْدَ إِذْ أَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ }‬
‫تَتّ ِ‬

‫وهذه الية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى ال عليه وسلم لما أمرهم باليمان به‬
‫ودعاهم إلى طاعته‪ :‬أتريد يا محمد أن نعبدك مع ال‪ ،‬فقوله { ما كان لبشر } أي‪ :‬يمتنع ويستحيل‬
‫على بشر من ال عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق { أن يقول للناس‬
‫كونوا عبادا لي من دون ال } فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من النبياء عليهم أفضل‬
‫الصلة والسلم‪ ،‬لن هذا أقبح الوامر على الطلق‪ ،‬والنبياء أكمل الخلق على الطلق‪،‬‬
‫فأوامرهم تكون مناسبة لحوالهم‪ ،‬فل يأمرون إل بمعالي المور وهم أعظم الناس نهيا عن المور‬
‫القبيحة‪ ،‬فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي‪ :‬ولكن‬
‫يأمرهم بأن يكونوا ربانيين‪ ،‬أي‪ :‬علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم‪ ،‬بصغار العلم قبل‬
‫كباره‪ ،‬عاملين بذلك‪ ،‬فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة‪ ،‬وبفوات شيء‬
‫منها يحصل النقص والخلل‪ ،‬والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ‪ ،‬باء السببية‪ ،‬أي‪ :‬بسبب‬
‫تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب ال وسنة نبيه‪ ،‬التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى‪،‬‬
‫تكونون ربانيين‪.‬‬

‫{ ول يأمركم أن تتخذوا الملئكة والنبيين أربابا } وهذا تعميم بعد تخصيص‪ ،‬أي‪ :‬ل يأمركم بعبادة‬
‫نفسه ول بعبادة أحد من الخلق من الملئكة والنبيين وغيرهم { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‬
‫} هذا ما ل يكون ول يتصور أن يصدر من أحد من ال عليه بالنبوة‪ ،‬فمن قدح في أحد منهم‬
‫بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما‪.‬‬

‫ح ْكمَةٍ ثُمّ جَا َء ُكمْ رَسُولٌ ُمصَدّقٌ‬


‫ب وَ ِ‬
‫{ ‪ { } 82 - 81‬وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ َلمَا آتَيْ ُتكُمْ مِنْ كِتَا ٍ‬
‫ش َهدُوا وَأَنَا‬
‫ِلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِ ِه وَلَتَ ْنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُمْ وَأَخَذْ ُتمْ عَلَى ذَِلكُمْ ِإصْرِي قَالُوا َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ‬
‫سقُونَ }‬
‫َم َعكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ * َفمَنْ َتوَلّى َبعْدَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬

‫يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب ال المنزل‪،‬‬
‫والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلل‪ ،‬إنه إن بعث ال رسول مصدقا لما معهم‬
‫أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم‪ ،‬فالنبياء عليهم الصلة والسلم قد أوجب ال‬
‫عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض‪ ،‬ويصدق بعضهم بعضا لن جميع ما عندهم هو من عند ال‪ ،‬وكل‬
‫ما من عند ال يجب التصديق به واليمان‪ ،‬فهم كالشيء الواحد‪ ،‬فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى‬
‫ال عليه وسلم هو خاتمهم‪ ،‬فكل النبياء عليهم الصلة والسلم لو أدركوه لوجب عليهم اليمان به‬
‫واتباعه ونصرته‪ ،‬وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم‪ ،‬فهذه الية الكريمة من أعظم الدلئل على‬
‫علو مرتبته وجللة قدره‪ ،‬وأنه أفضل النبياء وسيدهم صلى ال عليه وسلم لما قررهم تعالى‬
‫{ قالوا أقررنا } أي‪ :‬قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين { قال } ال لهم‪ { :‬فاشهدوا } على‬
‫أنفسكم وعلى أممكم بذلك‪ ،‬قال { وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك } العهد والميثاق‬
‫المؤكد بالشهادة من ال ومن رسله { فأولئك هم الفاسقون } فعلى هذا كل من ادعى أنه من أتباع‬
‫النبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم‪ ،‬فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ‪ ،‬واستحقوا الفسق‬
‫الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫جعُونَ‬
‫طوْعًا َوكَرْهًا وَإِلَ ْيهِ يُرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َ‬
‫{ ‪َ { } 83‬أ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُونَ وَلَهُ أَسَْلمَ مَنْ فِي ال ّ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين ال؟ ل يحسن هذا ول يليق‪ ،‬لنه ل أحسن‬
‫دينا من دين ال { وله أسلم من في السماوات والرض طوعا وكرها } أي‪ :‬الخلق كلهم منقادون‬
‫بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا‪ ،‬وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم‪ ،‬وكرها‬
‫وهم سائر الخلق‪ ،‬حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره ل خروج لهم عنه‪ ،‬ول امتناع لهم‬
‫منه‪ ،‬وإليه مرجع الخلئق كلها‪ ،‬فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل‪.‬‬

‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 84‬قلْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِ ْ‬
‫حدٍ مِ ْنهُ ْم وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ }‬
‫وَالْأَسْبَاطِ َومَا أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬

‫تقدم نظير هذه الية في سورة البقرة‪ ،‬ثم قال تعالى‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 85‬ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْ ُه وَ ُهوَ فِي الْآخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }‬

‫أي‪ :‬من يدين ل بغير دين السلم الذي ارتضاه ال لعباده‪ ،‬فعمله مردود غير مقبول‪ ،‬لن دين‬
‫السلم هو المتضمن للستسلم ل‪ ،‬إخلصا وانقيادا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب‬
‫النجاة من عذاب ال والفوز بثوابه‪ ،‬وكل دين سواه فباطل‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫ق وَجَا َءهُمُ‬
‫حّ‬‫شهِدُوا أَنّ الرّسُولَ َ‬
‫{ ‪ { } 88 - 86‬كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َق ْومًا َكفَرُوا َب ْعدَ إِيمَا ِنهِ ْم وَ َ‬
‫ت وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ * أُولَ ِئكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَ ْيهِمْ َلعْنَةَ اللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَ ِة وَالنّاسِ‬
‫الْبَيّنَا ُ‬
‫ب وَلَا ُهمْ يُنْظَرُونَ }‬
‫خ ّففُ عَ ْن ُهمُ ا ْلعَذَا ُ‬
‫ج َمعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُ َ‬
‫أَ ْ‬

‫هذا من باب الستبعاد‪ ،‬أي‪ :‬من المر البعيد أن يهدي ال قوما اختاروا الكفر والضلل بعدما‬
‫آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما جاءهم به من اليات البينات والبراهين القاطعات { وال ل‬
‫يهدي القوم الظالمين } فهؤلء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه‪ ،‬واتبعوا الباطل مع علمهم‬
‫ببطلنه ظلما وبغيا واتباعا لهوائهم‪ ،‬فهؤلء ل يوفقون للهداية‪ ،‬لن الذي يرجى أن يهتدي هو‬
‫الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه‪ ،‬فهذا بالحري أن ييسر ال له أسباب الهداية‬
‫ويصونه من أسباب الغواية‪.‬‬

‫ثم أخبر عن عقوبة هؤلء المعاندين الظالمين الدنيوية والخروية‪ ،‬فقال { أولئك جزاؤهم أن عليهم‬
‫لعنة ال والملئكة والناس أجمعين خالدين فيها ل يخفف عنهم العذاب ول هم ينظرون } أي‪ :‬ل‬
‫يفتر عنهم العذاب ساعة ول لحظة‪ ،‬ل بإزالته أو إزالة بعض شدته‪ { ،‬ول هم ينظرون } أي‪:‬‬
‫يمهلون‪ ،‬لن زمن المهال قد مضى‪ ،‬وقد أعذر ال منهم وعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر‪ ،‬فلو‬
‫كان فيهم خير لوجد‪ ،‬ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 91 - 90‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َب ْعدَ إِيمَا ِنهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ ُتقْ َبلَ َتوْبَ ُتهُ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ الضّالّونَ‬
‫* إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْ َأحَدِ ِهمْ ِملْءُ الْأَ ْرضِ َذهَبًا وََلوِ افْ َتدَى بِهِ أُولَ ِئكَ َلهُمْ‬
‫عَذَابٌ أَلِي ٌم َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }‬

‫يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه‪ ،‬ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلل‪ ،‬واستمراره‬
‫على ترك الرشد والهدى‪ ،‬أنه ل تقبل توبتهم‪ ،‬أي‪ :‬ل يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم ال في طغيانهم‬
‫يعمهون‪ ،‬قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } { فلما زغوا أزاغ ال‬
‫قلوبهم } فالسيئات ينتج بعضها بعضا‪ ،‬وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬وقد قامت عليه الحجة ووضح ال له اليات والبراهين‪ ،‬فهذا هو الذي سعى في قطع‬
‫أسباب رحمة ربه عنه‪ ،‬وهو الذي سد على نفسه باب التوبة‪ ،‬ولهذا حصر الضلل في هذا‬
‫الصنف‪ ،‬فقال { وأولئك هم الضالون } وأي‪ :‬ضلل أعظم من ضلل من ترك الطريق عن‬
‫بصيرة‪ ،‬وهؤلء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات تعين هلكهم وشقاؤهم البدي‪ ،‬ولم‬
‫ينفعهم شيء‪ ،‬فلو أنفق أحدهم ملء الرض ذهبا ليفتدي به من عذاب ال ما نفعه ذلك‪ ،‬بل ل‬
‫يزالون في العذاب الليم‪ ،‬ل شافع لهم ول ناصر ول مغيث ول مجير ينقذهم من عذاب ال فأيسوا‬
‫من كل خير‪ ،‬وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط‪ ،‬فعياذا بال من حالهم‪.‬‬

‫شيْءٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ }‬


‫{ ‪ { } 92‬لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا ُتحِبّونَ َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ َ‬

‫هذا حث من ال لعباده على النفاق في طرق الخيرات‪ ،‬فقال { لن تنالوا } أي‪ :‬تدركوا وتبلغوا‬
‫البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة‪ { ،‬حتى‬
‫تنفقوا مما تحبون } أي‪ :‬من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم‪ ،‬فإنكم إذا قدمتم محبة ال على‬
‫محبة الموال فبذلتموها في مرضاته‪ ،‬دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم‪،‬‬
‫فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الموال‪ ،‬والنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه‪ ،‬والنفاق في‬
‫حال الصحة‪ ،‬ودلت الية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره‪ ،‬وأنه ينقص من بره بحسب‬
‫ما نقص من ذلك‪ ،‬ولما كان النفاق على أي‪ :‬وجه كان مثابا عليه العبد‪ ،‬سواء كان قليل أو‬
‫كثيرا‪ ،‬محبوبا للنفس أم ل‪ ،‬وكان قوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } مما يوهم أن‬
‫إنفاق غير هذا المقيد غير نافع‪ ،‬احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله { وما تنفقوا من شيء فإن ال‬
‫به عليم } فل يضيق عليكم‪ ،‬بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه‪.‬‬

‫علَى َنفْسِهِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ‬


‫طعَامِ كَانَ حِلّا لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ إِلّا مَا حَرّمَ ِإسْرَائِيلُ َ‬
‫{ ‪ُ { } 95 - 93‬كلّ ال ّ‬
‫تُنَ ّزلَ ال ّتوْرَاةُ ُقلْ فَأْتُوا بِال ّتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * َفمَنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ‬
‫فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ * ُقلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }‬

‫وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز‪ ،‬فكفروا بعيسى ومحمد صلى ال عليهما‬
‫وسلم‪ ،‬لنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام النصاف في‬
‫المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الطعمة محللة لبني إسرائيل { إل ما‬
‫حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلم { على نفسه } أي‪ :‬من غير تحريم من ال تعالى‪ ،‬بل‬
‫حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه ال تعالى ليحرمن أحب الطعمة عليه‪،‬‬
‫فحرم فيما يذكرون لحوم البل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة‪ ،‬ثم نزل‬
‫في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلل لهم طيبا‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وأمر ال رسوله إن أنكروا ذلك أن‬
‫يأمرهم بإحضار التوراة‪ ،‬فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد‪ ،‬فلهذا قال تعالى { فمن افترى على‬
‫ال الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } وأي‪ :‬ظلم أعظم من ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه‬
‫فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا‪ ،‬وهذا من أعظم الدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم وقيام اليات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من‬
‫المور التي ل يعلمها إل بإخبار ربه له بها‪ ،‬فلهذا قال تعالى { قل صدق ال } أي‪ :‬فيما أخبر به‬
‫وحكم‪ ،‬وهذا أمر من ال لرسوله ولمن يتبعه أن يقولوا بألسنتهم‪ :‬صدق ال‪ ،‬معتقدين بذلك في‬
‫قلوبهم عن أدلة يقينية‪ ،‬مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها‪ ،‬ومن هنا تعلم أن أعظم الناس تصديقا‬
‫ل أعظمهم علما ويقينا بالدلة التفصيلية السمعية والعقلية‪ ،‬ثم أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه‬
‫السلم بالتوحيد وترك الشرك الذي هو مدار السعادة‪ ،‬وبتركه حصول الشقاوة‪ ،‬وفي هذا دليل على‬
‫أن اليهود وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين‪ ،‬ولما أمرهم باتباع ملة‬
‫إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته الحرام بالحج وغيره‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ت ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَا َركًا وَهُدًى لِ ْلعَاَلمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ‬
‫{ ‪ { } 97 - 96‬إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ‬
‫َمقَامُ إِبْرَاهِيمَ َومَنْ دَخََلهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلًا َومَنْ َكفَرَ فَإِنّ‬
‫اللّهَ غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫يخبر تعالى عن شرف هذا البيت الحرام‪ ،‬وأنه أول بيت وضعه ال للناس‪ ،‬يتعبدون فيه لربهم‬
‫فتغفر أوزارهم‪ ،‬وتقال عثارهم‪ ،‬ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم‬
‫والفوز بثوابه والنجاة من عقابه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مباركا } أي‪ :‬فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية‬
‫والدنيوية كما قال تعالى { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم ال على ما رزقهم من بهيمة النعام }‬
‫{ وهدى للعالمين } والهدى نوعان‪ :‬هدى في المعرفة‪ ،‬وهدى في العمل‪ ،‬فالهدى في العمل ظاهر‪،‬‬
‫وهو ما جعل ال فيه من أنواع التعبدات المختصة به‪ ،‬وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من‬
‫العلم بالحق بسبب اليات البينات التي ذكر ال تعالى في قوله { فيه آيات بينات } أي‪ :‬أدلة‬
‫واضحات‪ ،‬وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم اللهية والمطالب العالية‪ ،‬كالدلة على توحيده‬
‫ورحمته وحكمته وعظمته وجلله وكمال علمه وسعة جوده‪ ،‬وما مَنّ به على أوليائه وأنبيائه‪ ،‬فمن‬
‫اليات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه‬
‫الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان‪ ،‬وكان ملصقا في جدار الكعبة‪ ،‬فلما كان عمر رضي ال‬
‫عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الن‪ ،‬والية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم‪ ،‬قد أثرت في الصخرة‬
‫وبقي ذلك الثر إلى أوائل هذه المة‪ ،‬وهذا من خوارق العادات‪ ،‬وقيل إن الية فيه ما أودعه ال‬
‫في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه‪ ،‬ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد‬
‫مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها‪ ،‬فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته‬
‫آيات بينات‪ ،‬كالطواف والسعي ومواضعها‪ ،‬والوقوف بعرفة ومزدلفة‪ ،‬والرمي‪ ،‬وسائر الشعائر‪،‬‬
‫والية في ذلك ما جعله ال في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والموال في‬
‫الوصول إليها وتحمل كل مشقة لجلها‪ ،‬وما في ضمنها من السرار البديعة والمعاني الرفيعة‪،‬‬
‫وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها‪ ،‬ومن اليات البينات‬
‫فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا‪ ،‬فالشرع قد أمر ال رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد‬
‫باحترامه وتأمين من دخله‪ ،‬وأن ل يهاج‪ ،‬حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها‬
‫ونباتها‪ ،‬وقد استدل بهذه الية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه‬
‫يأمن ول يقام عليه الحد حتى يخرج منه‪ ،‬وأما تأمينها قدرا فلن ال تعالى بقضائه وقدره وضع‬
‫في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه‪ ،‬حتى إن الواحد منهم مع شدة‬
‫حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فل يهيجه‪ ،‬ومن جعله‬
‫حرما أن كل من أراده بسوء فل بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة‪ ،‬كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم‪،‬‬
‫وقد رأيت لبن القيم هاهنا كلما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة‪ { :‬ول على الناس‬
‫حج البيت من استطاع إليه سبيل } "حج البيت" مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله‪ ،‬والذي‬
‫يقتضيه المعنى أن يكون في قوله‪" :‬على الناس" لنه وجوب‪ ،‬والوجوب يقتضي "على" ويجوز أن‬
‫يكون في قوله‪" :‬ول" لنه متضمن الوجوب والستحقاق‪ ،‬ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط‬
‫الفائدة وموضعها‪ ،‬وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير‪ ،‬فكان الحسن أن يكون "ول على الناس"‬
‫‪ .‬ويرجح الوجه الول بأن يقال قوله‪" :‬حج البيت على الناس" أكثر استعمال في باب الوجوب من‬
‫أن يقال‪" :‬حج البيت ل" أي‪ :‬حق واجب ل‪ ،‬فتأمله‪ .‬وعلى هذا ففي تقديم المجرور الول وليس‬
‫بخبر فائدتان‪ :‬إحداهما‪ :‬أنه اسم للموجب للحج‪ ،‬فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب‪ ،‬فتضمنت‬
‫الية ثلثة أمور مرتبة بحسب الوقائع‪ :‬أحدها‪ :‬الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره‪ ،‬والثاني‪ :‬مؤدي‬
‫الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس‪ ،‬والثالث‪ :‬النسبة‪ ،‬والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا‬
‫وأداء‪ ،‬وهو الحج‪.‬‬

‫والفائدة الثانية‪ :‬أن السم المجرور من حيث كان اسما ل سبحانه‪ ،‬وجب الهتمام بتقديمه تعظيما‬
‫لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه‪ ،‬وتخويفا من تضييعه‪ ،‬إذ ليس ما أوجبه ال سبحانه بمثابة ما‬
‫يوجبه غيره‪.‬‬

‫وأما قوله‪" :‬مَنْ" فهي بدل‪ ،‬وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر‪ ،‬كأنه قال‪ :‬أن‬
‫يحج البيت من استطاع إليه سبيل‪ ،‬وهذا القول يضعف من وجوه‪ ،‬منها‪ :‬أن الحج فرض عين‪،‬‬
‫ولو كان معنى الية ما ذكره لفهم فرض الكفاية‪ ،‬لنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم‪،‬‬
‫لن المعنى يؤل إلى‪ :‬ول على الناس حج البيت مستطيعهم‪ ،‬فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق‬
‫واجبا على غير المستطيعين‪ ،‬وليس المر كذلك‪ ،‬بل الحج فرض عين على كل أحد‪ ،‬حج‬
‫المستطيعون أو قعدوا‪ ،‬ولكن ال سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب‪ ،‬فل يؤاخذه‬
‫به ول يطالبه بأدائه‪ ،‬فإذا حج سقط الفرض عن نفسه‪ ،‬وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن‬
‫العاجزين‪ ،‬وإذا أردت زيادة إيضاح‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم‬
‫الطائفة المستطيعون للجهاد‪ ،‬فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم‪ ،‬وإذا قلت‬
‫واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع‪ ،‬كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز‬
‫بعجزه‪ ،‬ففي نظم الية على هذا الوجه دون أن يقال‪ :‬ول حج البيت على المستطيعين‪ ،‬هذه النكتة‬
‫البديعة فتأملها‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ول يعدل عن‬
‫هذا الصل إل بدليل منقول‪ ،‬فلو كان من هو الفاعل لضيف المصدر إليه فكان يقال‪" :‬ول على‬
‫الناس حج مَنْ استطاع" وحمله على باب "يعجبني ضرب زيد عمرا" وفيما يفصل فيه بين المصدر‬
‫وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح‪ ،‬وهي قراءة ابن عامر‬
‫( قتل أولدهم شركائهم )‪ ،‬فل يصار إليه‪.‬وإذا ثبت أن "من" بدل بعض من كل وجب أن يكون في‬
‫الكلم ضمير يعود إلى "الناس" كأنه قيل‪ :‬من استطاع منهم‪ ،‬وحذف هذا الضمير في أكثر الكلم‬
‫ل يحسن‪ ،‬وحسنه هاهنا أمور منها‪ :‬أن "من" واقعة على من ل يعقل‪ ،‬كالسم المبدل منه فارتبطت‬
‫به‪ ،‬ومنها‪ :‬أنها موصولة بما هو أخص من السم الول‪ ،‬ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف‬
‫الضمير العائد‪ ،‬ومثال ذلك إذا قلت‪ :‬رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم‪ ،‬كان قبيحا‪ ،‬لن‬
‫الذاهب إلى السوق أعم من الخوة‪ ،‬وكذلك لو قلت‪ :‬البس الثياب ما حسن وجمل‪ ،‬يريد منها‪ ،‬ولم‬
‫يذكر الضمير كان أبعد في الجواز‪ ،‬لن لفظ ما حسن أعم من الثياب‪.‬‬

‫وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه‪ ،‬فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته‬
‫بضمير يعود إلى الول ارتفع العموم وبقي الخصوص‪ ،‬ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا‬
‫مع ما تقدم طول الكلم بالصلة والموصول‪.‬‬

‫وأما المجرور من قوله "ل" فيحتمل وجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن يكون في موضع من سبيل‪ ،‬كأنه نعت‬
‫نكرة قدم عليها‪ ،‬لنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل‪ ،‬والثاني‪ :‬أن يكون متعلقا بسبيل‪ ،‬فإن‬
‫قلت‪ :‬كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟ قيل‪ :‬السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى‬
‫البيت من قوت وزاد ونحوهما‪ ،‬كان فيه رائحة الفعل‪ ،‬ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق‪،‬‬
‫فصلح تعلق المجرور به‪ ،‬واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه‬
‫التأخير‪ ،‬لنه ضمير يعود على البيت‪ ،‬والبيت هو المقصود به العتناء‪ ،‬وهم يقدمون في كلمهم‬
‫ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي‪ ،‬وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار‬
‫والمجرور وجه آخر أحسن من هذين‪ ،‬ول يليق بالية سواه‪ ،‬وهو الوجوب المفهوم من قوله "على‬
‫الناس" أي‪ :‬يجب ل على الناس الحج‪ ،‬فهو حق واجب ل‪ ،‬وأما تعليقه بالسبيل وجعله حال منها‪،‬‬
‫ففي غاية البعد فتأمله‪ ،‬ول يكاد يخطر بالبال من الية‪ ،‬وهذا كما تقول‪ :‬ل عليك الصلة والزكاة‬
‫والصيام‪.‬‬

‫ومن فوائد الية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ المر والنهي‪ ،‬وهو‬
‫الكثر‪ ،‬وبلفظ اليجاب والكتابة والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة }‬
‫{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من‬
‫عشرة أوجه‪ ،‬أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لم الستحقاق والختصاص ثم ذكر من‬
‫أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الستطاعة‪ ،‬ثم نكر السبيل في‬
‫سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي‪ :‬سبيل تيسرت‪ ،‬من قوت أو مال‪ ،‬فعلق الوجوب‬
‫بحصول ما يسمى سبيل‪ ،‬ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي‪ :‬لعدم التزامه‬
‫هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه‪ ،‬وال تعالى هو الغني‬
‫الحميد‪ ،‬ول حاجة به إلى حج أحد‪ ،‬وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من العلم بمقته له وسخطه‬
‫عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه‪ ،‬ثم أكد ذلك بذكر اسم "العالمين" عموما‪،‬‬
‫ولم يقل‪ :‬فإن ال غني عنه‪ ،‬لنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل‬
‫وجه بكل اعتبار‪ ،‬فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه‪ ،‬ثم أكد هذا المعنى بأداة "إن"‬
‫الدالة على التأكيد‪ ،‬فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم‪.‬‬

‫وتأمل سر البدل في الية المقتضي لذكر السناد مرتين‪ ،‬مرة بإسناده إلى عموم الناس‪ ،‬ومرة‬
‫بإسناده إلى خصوص المستطيعين‪ ،‬وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر السناد ولهذا‬
‫كان في نية تكرار العامل وإعادته‪.‬‬

‫ثم تأمل ما في الية من اليضاح بعد البهام والتفصيل بعد الجمال‪ ،‬وكيف تضمن ذلك إيراد‬
‫الكلم في صورتين وخلتين‪ ،‬اعتناء به وتأكيد لشأنه‪ ،‬ثم تأمل كيف افتتح هذا اليجاب بذكر‬
‫محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها‪ ،‬فقال‪ { :‬إن‬
‫أول بيت } إلخ‪ ،‬فوصفه بخمس صفات‪ :‬أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الرض‪ ،‬الثاني‪:‬‬
‫أنه مبارك‪ ،‬والبركة كثرة الخير ودوامه‪ ،‬وليس في بيوت العالم أبرك منه ول أكثر خيرا ول أدوم‬
‫ول أنفع للخلئق‪ ،‬الثالث‪ :‬أنه هدى‪ ،‬ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة‪ ،‬حتى كأنه نفس الهدى‪ ،‬الرابع‬
‫ما تضمن من اليات البينات التي تزيد على أربعين آية‪ ،‬الخامس‪ :‬المن الحاصل لداخله‪ ،‬وفي‬
‫وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار‬
‫وتناءت بهم القطار‪ ،‬ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات‪ ،‬وهذا يدل على العتناء‬
‫منه سبحانه لهذا البيت العظيم‪ ،‬والتنويه بذكره‪ ،‬والتعظيم لشأنه‪ ،‬والرفعة من قدره‪ ،‬ولو لم يكن له‬
‫شرف إل إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الضافة فضل وشرفا‪ ،‬وهذه‬
‫الضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه‪ ،‬وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته‪ ،‬فهذه المثابة‬
‫للمحبين يثوبون إليه ول يقضون منه وطرا أبدا‪ ،‬كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه‬
‫اشتياقا‪ ،‬فل الوصال يشفيهم ول البعاد يسليهم‪ ،‬كما قيل‪:‬‬

‫إليه وهل بعـد الطـواف تداني‬ ‫أطوف به والنفس بعد مشوقة‬


‫بقلبي من شـوق ومن هيمان‬ ‫وألثم منه الركـن أطلـب برد ما‬
‫ول القــلب إل كثرة الخفقان‬ ‫فـوال مـا ازداد إل صبــابة‬
‫ويا منيتي من دون كل أمـان‬ ‫فيـا جنة المأوى ويا غاية المنى‬
‫إليـك فمـا لي بالبـعاد يدان‬ ‫أبت غلبـات الشـوق إل تقـربا‬
‫ولي شـاهد من مقلتي ولسان‬ ‫ومـا كان صدى عنك صد مللة‬
‫فلبى البكا والصبر عنك عصاني‬ ‫دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا‬
‫سيبلى هـواه بعد طـول زمان‬ ‫وقـد زعموا أن المـحب إذا نأى‬
‫دواء الهوى في الناس كل زمان‬ ‫ولـو كان هذا الزعم حقا لكان ذا‬
‫حاله لم يبله الملـوان‬ ‫بلى إنـه يبلـى والهـوى عـلى‬
‫بغـير زمـام قائد وعنــان‬ ‫وهذا محـب قاده الشوق والهوى‬
‫مطيته جــاءت به القـدمان‬ ‫أتاك عـلى بعد المـزار ولو ونت‬

‫انتهى كلمه رحمه ال تعالى‪.‬‬

‫شهِيدٌ عَلَى مَا َت ْعمَلُونَ * ُقلْ يَا‬


‫{ ‪ُ { } 101 - 98‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ َتكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬
‫عمّا‬
‫ش َهدَا ُء َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫ع َوجًا وَأَنْتُمْ ُ‬
‫صدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَ ْبغُو َنهَا ِ‬
‫أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ َت ُ‬
‫َت ْعمَلُونَ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ يَرُدّوكُمْ َب ْعدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ‬
‫علَ ْيكُمْ آيَاتُ اللّ ِه َوفِيكُمْ رَسُولُهُ َومَنْ َيعْ َتصِمْ بِاللّهِ َفقَدْ ُه ِديَ إِلَى صِرَاطٍ‬
‫* َوكَيْفَ َت ْكفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى َ‬
‫مُسْ َتقِيمٍ }‬

‫يوبخ تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى على كفرهم بآيات ال التي أنزلها ال على رسله‪،‬‬
‫التي جعلها رحمة لعباده يهتدون بها إليه‪ ،‬ويستدلون بها على جميع المطالب المهمة والعلوم‬
‫النافعة‪ ،‬فهؤلء الكفرة جمعوا بين الكفر بها وصد من آمن بال عنها وتحريفها وتعويجها عما‬
‫جعلت له‪ ،‬وهم شاهدون بذلك عالمون بأن ما فعلوه أعظم الكفر الموجب لعظم العقوبة { الذين‬
‫كفروا وصدوا عن سبيل ال زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } فلهذا توعدهم هنا‬
‫بقوله‪ { :‬وما ال بغافل عما تعملون } بل محيط بأعمالكم ونياتكم ومكركم السيء‪ ،‬فمجازيكم عليه‬
‫أشر الجزاء لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين منهم لئل‬
‫يمكروا بهم من حيث ل يشعرون‪ ،‬فقال‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا‬
‫الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وذلك لحسدهم وبغيهم عليكم‪ ،‬وشدة حرصهم على ردكم عن‬
‫دينكم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند‬
‫أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } ثم ذكر تعالى السبب العظم والموجب الكبر لثبات المؤمنين‬
‫على إيمانهم‪ ،‬وعدم تزلزلهم عن إيقانهم‪ ،‬وأن ذلك من أبعد الشياء‪ ،‬فقال‪ { :‬وكيف تكفرون وأنتم‬
‫تتلى عليكم آيات ال وفيكم رسوله } أي‪ :‬الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت‪،‬‬
‫وهي اليات البينات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬خصوصا والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم وأنصحهم وأرأفهم‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬الحريص على هداية الخلق وإرشادهم بكل طريق يقدر عليه‪ ،‬فصلوات ال وسلمه‬
‫عليه‪ ،‬فلقد نصح وبلغ البلغ المبين‪ ،‬فلم يبق في نفوس القائلين مقال ولم يترك لجائل في طلب‬
‫الخير مجال‪ ،‬ثم أخبر أن من اعتصم به فتوكل عليه وامتنع بقوته ورحمته عن كل شر‪ ،‬واستعان‬
‫به على كل خير { فقد هدي إلى صراط مستقيم } موصل له إلى غاية المرغوب‪ ،‬لنه جمع بين‬
‫اتباع الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله وبين العتصام بال‪.‬‬

‫{ ‪ { } 103 - 102‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ حَقّ ُتقَاتِهِ وَلَا َتمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ *‬
‫عدَاءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ‬
‫علَ ْيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَ ْ‬
‫جمِيعًا وَلَا َتفَ ّرقُوا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ َ‬
‫صمُوا بِحَ ْبلِ اللّهِ َ‬
‫وَاعْ َت ِ‬
‫حفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَ ْنقَ َذ ُكمْ مِ ْنهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ َلعَّلكُمْ‬
‫شفَا ُ‬
‫خوَانًا َوكُنْتُمْ عَلَى َ‬
‫فََأصْبَحْتُمْ بِ ِن ْعمَتِهِ إِ ْ‬
‫َتهْتَدُونَ }‬

‫هذا أمر من ال لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه‪ ،‬وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه‬
‫ويستقيموا إلى الممات‪ ،‬فإن من عاش على شيء مات عليه‪ ،‬فمن كان في حال صحته ونشاطه‬
‫وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته‪ ،‬منيبا إليه على الدوام‪ ،‬ثبته ال عند موته ورزقه حسن‬
‫الخاتمة‪ ،‬وتقوى ال حق تقواه كما قال ابن مسعود‪ :‬وهو أن يُطاع فل يُعصى‪ ،‬ويُذكر فل ينسى‪،‬‬
‫ويشكر فل يكفر‪ ،‬وهذه الية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى‪ ،‬وأما ما يجب على العبد منها‪،‬‬
‫فكما قال تعالى‪ { :‬فاتقوا ال ما استطعتم } وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا‪،‬‬
‫يجمعها فعل ما أمر ال به وترك كل ما نهى ال عنه‪ ،‬ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى‬
‫وهو الجتماع والعتصام بدين ال‪ ،‬وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين‪ ،‬فإن في‬
‫اجتماع المسلمين على دينهم‪ ،‬وائتلف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالجتماع يتمكنون من‬
‫كل أمر من المور‪ ،‬ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الئتلف ما ل يمكن عدها‪ ،‬من‬
‫التعاون على البر والتقوى‪ ،‬كما أن بالفتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل‬
‫واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه‪ ،‬ولو أدى إلى الضرر العام‪ ،‬ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم‬
‫بذكرها فقال‪ { :‬واذكروا نعمة ال عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا‪ ،‬ويأخذ بعضكم مال‬
‫بعض‪ ،‬حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا‪ ،‬وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والقتتال‪،‬‬
‫وكانوا في شر عظيم‪ ،‬وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى ال عليه وسلم فلما بعثه ال وآمنوا‬
‫به واجتمعوا على السلم وتآلفت قلوبهم على اليمان كانوا كالشخص الواحد‪ ،‬من تآلف قلوبهم‬
‫وموالة بعضهم لبعض‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا‬
‫حفرة من النار } أي‪ :‬قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إل أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها‬
‫} بما مَنّ عليكم من اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم { كذلك يبين ال لكم آياته } أي‪ :‬يوضحها‬
‫ويفسرها‪ ،‬ويبين لكم الحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضلل { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل‬
‫به‪ ،‬وفي هذه الية ما يدل أن ال يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا‬
‫له ومحبة‪ ،‬وليزيدهم من فضله وإحسانه‪ ،‬وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى‬
‫السلم‪ ،‬واتباع الرسول صلى ال عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها‪.‬‬

‫ف وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ‬


‫{ ‪ { } 105 - 104‬وَلْ َتكُنْ مِ ْنكُمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ إِلَى الْخَيْ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫ت وَأُولَ ِئكَ َلهُمْ‬
‫وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ َتفَ ّرقُوا وَاخْتََلفُوا مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ الْبَيّنَا ُ‬
‫عظِيمٌ }‬
‫عَذَابٌ َ‬

‫أي‪ :‬وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنّ ال عليهم باليمان والعتصام بحبله { أمة } أي‪ :‬جماعة‬
‫{ يدعون إلى الخير } وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى ال ويبعد من سخطه { ويأمرون‬
‫بالمعروف } وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه { وينهون عن المنكر } وهو ما عرف بالشرع‬
‫والعقل قبحه‪ ،‬وهذا إرشاد من ال للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله‬
‫وإرشاد الخلق إلى دينه‪ ،‬ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين‪ ،‬والوعاظ الذين يدعون أهل‬
‫الديان إلى الدخول في دين السلم‪ ،‬ويدعون المنحرفين إلى الستقامة‪ ،‬والمجاهدون في سبيل‬
‫ال‪ ،‬والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج‬
‫وغير ذلك من شرائع السلم‪ ،‬وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل السواق ومنعهم من الغش‬
‫والمعاملت الباطلة‪ ،‬وكل هذه المور من فروض الكفايات كما تدل عليه الية الكريمة في قوله‬
‫{ ولتكن منكم أمة } إلخ أي‪ :‬لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الشياء المذكورة‪،‬‬
‫ومن المعلوم المتقرر أن المر بالشيء أمر به وبما ل يتم إل به فكل ما تتوقف هذه الشياء عليه‬
‫فهو مأمور به‪ ،‬كالستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية العداء وعز السلم‪ ،‬وتعلم‬
‫العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها‪ ،‬وبناء المدارس للرشاد والعلم‪،‬‬
‫ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال‪ ،‬وغير ذلك مما‬
‫تتوقف هذه المور عليه‪ ،‬وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر هم خواص المؤمنين‪ ،‬ولهذا قال تعالى عنهم‪ { :‬وأولئك هم المفلحون } الفائزون بالمطلوب‪،‬‬
‫الناجون من المرهوب‪ ،‬ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلفهم‪ ،‬فقال‪ { :‬ول‬
‫تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ومن العجائب أن اختلفهم { من بعد ما جاءهم البينات } الموجبة‬
‫لعدم التفرق والختلف‪ ،‬فهم أولى من غيرهم بالعتصام بالدين‪ ،‬فعكسوا القضية مع علمهم‬
‫بمخالفتهم أمر ال‪ ،‬فاستحقوا العقاب البليغ‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وأولئك لهم عذاب عظيم }‬

‫ت وُجُو ُه ُهمْ َأ َكفَرْتُمْ َبعْدَ‬


‫سوَ ّد ْ‬
‫سوَ ّد ُوجُوهٌ فََأمّا الّذِينَ ا ْ‬
‫ض وُجُو ٌه وَتَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 108 - 106‬يوْمَ تَبْ َي ّ‬
‫حمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا‬
‫ت وُجُو ُههُمْ َففِي رَ ْ‬
‫إِيمَا ِنكُمْ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ َتكْفُرُونَ * وََأمّا الّذِينَ ابْ َيضّ ْ‬
‫ق َومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُ ْلمًا لِ ْلعَاَلمِينَ }‬
‫خَاِلدُونَ * تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ‬

‫يخبر تعالى عن حال يوم القيامة وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل‪ ،‬ويتضمن ذلك الترغيب‬
‫والترهيب الموجب للخوف والرجاء فقال‪ { :‬يوم تبيض وجوه } وهي وجوه أهل السعادة والخير‪،‬‬
‫أهل الئتلف والعتصام بحبل ال { وتسود وجوه } وهي وجوه أهل الشقاوة والشر‪ ،‬أهل الفرقة‬
‫والختلف‪ ،‬هؤلء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان والذلة والفضيحة‪ ،‬وأولئك‬
‫أبيضت وجوههم‪ ،‬لما في قلوبهم من البهجة والسرور والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على‬
‫وجوههم كما قال تعالى‪ { :‬ولقاهم نضرة وسرورا } نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم‪ ،‬وقال‬
‫تعالى‪ { :‬والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من‬
‫الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } { فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم على‬
‫وجه التوبيخ والتقريع‪ { :‬أكفرتم بعد إيمانكم } أي‪ :‬كيف آثرتم الكفر والضلل على اليمان‬
‫والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق الغي؟ { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }‬
‫فليس يليق بكم إل النار‪ ،‬ول تستحقون إل الخزي والفضيحة والعار‪.‬‬

‫{ وأما الذين ابيضت وجوههم } فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم بشارة‪ ،‬وذلك أنهم يبشرون‬
‫بدخول الجنات ورضى ربهم ورحمته { ففي رحمة ال هم فيها خالدون } وإذا كانوا خالدين في‬
‫الرحمة‪ ،‬فالجنة أثر من آثار رحمته تعالى‪ ،‬فهم خالدون فيها بما فيها من النعيم المقيم والعيش‬
‫السليم‪ ،‬في جوار أرحم الراحمين‪ ،‬لما بين ال لرسوله صلى ال عليه وسلم الحكام المرية‬
‫والحكام الجزائية قال‪ { :‬تلك آيات ال نتلوها } أي‪ :‬نقصها { عليك بالحق } لن أوامره ونواهيه‬
‫مشتملة على الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها‪ ،‬كذلك مشتمل على الحكمة والرحمة والعدل الخالي‬
‫من الظلم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وما ال يريد ظلما للعالمين } نفى إرادته ظلمهم فضل عن كونه يفعل ذلك‬
‫فل ينقص أحدا شيئا من حسناته‪ ،‬ول يزيد في ظلم الظالمين‪ ،‬بل يجازيهم بأعمالهم فقط‪ ،‬ثم قال‬
‫تعالى‪. :‬‬

‫ض وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ الُْأمُورُ }‬


‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 109‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫أي‪ :‬هو المالك لما في السماوات وما في الرض‪ ،‬الذي خلقهم ورزقهم ويتصرف فيهم بقدره‬
‫وقضائه‪ ،‬وفي شرعه وأمره‪ ،‬وإليه يرجعون يوم القيامة فيجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها‪.‬‬

‫ف وَتَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ‬


‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫{ ‪ { } 112 - 110‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬
‫سقُونَ * لَنْ‬
‫وَ ُتؤْمِنُونَ بِاللّ ِه وََلوْ آمَنَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرًا َل ُهمْ مِ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫َيضُرّوكُمْ إِلّا أَذًى وَإِنْ ُيقَاتِلُوكُمْ ُيوَلّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمّ لَا يُ ْنصَرُونَ * ضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ُثقِفُوا‬
‫سكَنَةُ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫إِلّا ِبحَ ْبلٍ مِنَ اللّ ِه وَحَ ْبلٍ مِنَ النّاسِ وَبَاءُوا ِب َغضَبٍ مِنَ اللّ ِه َوضُرِبَتْ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَ ْ‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ }‬
‫ع َ‬
‫َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ حَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ‬

‫يمدح تعالى هذه المة ويخبر أنها خير المم التي أخرجها ال للناس‪ ،‬وذلك بتكميلهم لنفسهم‬
‫باليمان المستلزم للقيام بكل ما أمر ال به‪ ،‬وبتكميلهم لغيرهم بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫المتضمن دعوة الخلق إلى ال وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضللهم وغيهم‬
‫وعصيانهم‪ ،‬فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬لما كانت الية السابقة وهي قوله‪ { :‬ولتكن منكم‬
‫أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه المة‪،‬‬
‫والمر قد يمتثله المأمور ويقوم به‪ ،‬وقد ل يقوم به‪ ،‬أخبر في هذه الية أن المة قد قامت بما‬
‫أمرها ال بالقيام به‪ ،‬وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر المم { ولو آمن أهل الكتاب‬
‫لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى اليمان‪ ،‬ولكن لم يؤمن منهم‬
‫إل قليل‪ ،‬وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة ال المعادون لولياء ال بأنواع العداوة‪ ،‬ولكن‬
‫من لطف ال بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم‪ ،‬فليس على المؤمنين منهم ضرر في‬
‫أديانهم ول أبدانهم‪ ،‬وإنما غاية ما يصلون إليه من الذى أذية الكلم التي ل سبيل إلى السلمة‬
‫منها من كل معادي‪ ،‬فلو قاتلوا المؤمنين لولوا الدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ول هم‬
‫ينصرون في وقت من الوقات‪ ،‬ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على‬
‫ظواهرهم‪ ،‬فل يستقرون ول يطمئنون { إل بحبل } أي‪ :‬عهد { من ال وحبل من الناس } فل‬
‫يكون اليهود إل تحت أحكام المسلمين وعهدهم‪ ،‬تؤخذ منهم الجزية ويستذلون‪ ،‬أو تحت أحكام‬
‫النصارى وقد { باءوا } مع ذلك { بغضب من ال } وهذا أعظم العقوبات‪ ،‬والسبب الذي أوصلهم‬
‫إلى هذه الحال ذكره ال بقوله‪ { :‬ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات ال } التي أنزلها ال على رسوله‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم الموجبة لليقين واليمان‪ ،‬فكفروا بها بغيا وعنادا { ويقتلون النبياء‬
‫بغير حق } أي‪ :‬يقابلون أنبياء ال الذين يحسنون إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة‪ ،‬وهو القتل‪ ،‬فهل‬
‫بعد هذه الجراءة والجناية شيء أعظم منها‪ ،‬وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم‪ ،‬فهو الذي‬
‫جرأهم على الكفر بال وقتل أنبياء ال‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫سوَاءً مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَا ِئمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّ ْيلِ وَهُمْ‬
‫{ ‪ { } 115 - 113‬لَيْسُوا َ‬
‫سجُدُونَ * ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُسَارِعُونَ فِي‬
‫يَ ْ‬
‫ت وَأُولَ ِئكَ مِنَ الصّالِحِينَ * َومَا َي ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ ُي ْكفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫الْخَيْرَا ِ‬

‫لما بين تعالي الفرقة الفاسقة من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم‪،‬‬

‫بين هاهنا المة المستقيمة‪ ،‬وبين أفعالها وثوابها‪ ،‬فأخبر أنهم ل يستوون عنده‪ ،‬بل بينهم من الفرق‬
‫ما ل يمكن وصفه‪ ،‬فأما تلك الطائفة الفاسقة فقد مضى وصفهم‪ ،‬وأما هؤلء المؤمنون‪ ،‬فقال تعالى‬
‫منهم { أمة قائمة } أي‪ :‬مستقيمة على دين ال‪ ،‬قائمة بما ألزمها ال به من المأمورات‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قيامها بالصلة { يتلون آيات ال آناء الليل وهم يسجدون } وهذا بيان لصلتهم في أوقات الليل‬
‫وطول تهجدهم وتلوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم الخضوع والركوع والسجود له‪.‬‬

‫{ يؤمنون بال واليوم الخر } أي‪ :‬كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم اليمان بكل نبي أرسله‪ ،‬وكل‬
‫كتاب أنزله ال‪ ،‬وخص اليمان باليوم الخر لن اليمان الحقيقي باليوم الخر يحث المؤمن به‬
‫على ما يقر به إلى ال‪ ،‬ويثاب عليه في ذلك اليوم‪ ،‬وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم‬
‫{ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } فحصل منهم تكميل أنفسهم باليمان ولوازمه‪ ،‬وتكميل‬
‫غيرهم بأمرهم بكل خير‪ ،‬ونهيهم عن كل شر‪ ،‬ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على اليمان‬
‫بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم وصفهم بالهمم العالية { و } أنهم { يسارعون في الخيرات } أي‪:‬‬
‫يبادرون إليها فينتهزون الفرصة فيها‪ ،‬ويفعلونها في أول وقت إمكانها‪ ،‬وذلك من شدة رغبتهم في‬
‫الخير ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده‪ ،‬فهؤلء الذين وصفهم ال بهذه الصفات الجميلة والفعال‬
‫الجليلة { من الصالحين } الذين يدخلهم ال في رحمته ويتغمدهم بغفرانه وينيلهم من فضله‬
‫وإحسانه‪ ،‬وأنهم مهما فعلوا { من خير } قليل كان أو كثيرا { فلن يكفروه } أي‪ :‬لن يحرموه‬
‫ويفوتوا أجره‪ ،‬بل يثيبهم ال على ذلك أكمل ثواب‪ ،‬ولكن العمال ثوابها تبع لما يقوم بقلب‬
‫صاحبها من اليمان والتقوى‪ ،‬فلهذا قال { وال عليم بالمتقين } كما قال تعالى‪ { :‬إنما يتقبل ال من‬
‫المتقين }‬

‫{ ‪ { } 117 - 116‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْنِيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَ ِئكَ‬
‫َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَ َثلُ مَا يُ ْنفِقُونَ فِي َه ِذهِ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ َأصَا َبتْ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ }‬
‫سهُمْ فَأَهَْلكَتْ ُه َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وََلكِنْ أَ ْنفُ َ‬
‫حَ ْرثَ َقوْمٍ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬

‫يخبر تعالى أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم من ال شيئا‪ ،‬أي‪ :‬ل تدفع عنهم‬
‫شيئا من عذاب ال‪ ،‬ول تجدي عليهم شيئا من ثواب ال‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وما أموالكم ول‬
‫أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إل من آمن وعمل صالحا } بل تكون أموالهم وأولدهم زادا لهم‬
‫إلى النار‪ ،‬وحجة عليهم في زيادة نعم ال عليهم‪ ،‬تقتضي منهم شكرها‪ ،‬ويعاقبون على عدم القيام‬
‫بها وعلى كفرها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }‬

‫ثم ضرب مثل لما ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل ال ويستعينون بها على‬
‫إطفاء نور ال‪ ،‬بأنها تبطل وتضمحل‪ ،‬كمن زرع زرعا يرجو نتيجته ويؤمل إدراك ريعه‪ ،‬فبينما‬
‫هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر‪ ،‬أي‪ :‬برد شديد محرق‪ ،‬فأهلكت زرعه‪ ،‬ولم يحصل له إل‬
‫التعب والعناء وزيادة السف‪ ،‬فكذلك هؤلء الكفار الذين قال ال فيهم‪ { :‬إن الذين كفروا ينفقون‬
‫أموالهم ليصدوا عن سبيل ال فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } { وما ظلمهم ال }‬
‫بإبطال أعمالهم { ولكن } كانوا { أنفسهم يظلمون } حيث كفروا بآيات ال وكذبوا رسوله‬
‫وحرصوا على إطفاء نور ال‪ ،‬هذه المور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت بأموالهم‪ ،‬ثم قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫{ ‪ { } 120 - 118‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا ِبطَانَةً مِنْ دُو ِنكُمْ لَا يَأْلُو َنكُمْ خَبَالًا وَدّوا مَا عَنِتّمْ‬
‫خفِي صُدُورُهُمْ َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا َلكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ َت ْعقِلُونَ * هَا‬
‫قَدْ َب َدتِ الْ َب ْغضَاءُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِ ْم َومَا تُ ْ‬
‫عضّوا عَلَ ْيكُمُ‬
‫أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبّو َنهُ ْم وَلَا ُيحِبّو َنكُ ْم وَ ُتؤْمِنُونَ بِا ْلكِتَابِ كُلّ ِه وَإِذَا َلقُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وَِإذَا خََلوْا َ‬
‫سؤْ ُه ْم وَإِنْ‬
‫سكُمْ حَسَ َنةٌ تَ ُ‬
‫ظكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * إِنْ َتمْسَ ْ‬
‫الْأَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ ُقلْ مُوتُوا ِبغَ ْي ِ‬
‫ُتصِ ْبكُمْ سَيّ َئةٌ َيفْرَحُوا ِبهَا وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَ ّتقُوا لَا َيضُ ّركُمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئًا إِنّ اللّهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطٌ }‬

‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على‬
‫سرائرهم أو يولونهم بعض العمال السلمية وذلك أنهم هم العداء الذين امتلت قلوبهم من‬
‫العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم { وما تخفي صدورهم أكبر } مما يسمع منهم فلهذا { ل‬
‫يألونكم خبال } أي‪ :‬ل يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل السباب التي فيها‬
‫ضرركم ومساعدة العداء عليكم قال ال للمؤمنين { قد بينا لكم اليات } أي‪ :‬التي فيها مصالحكم‬
‫الدينية والدنيوية { لعلكم تعقلون } فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو‪ ،‬فليس كل أحد يجعل‬
‫بطانة‪ ،‬وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ول يطلعه من باطنه‬
‫على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه‪.‬‬

‫قال ال مهيجا للمؤمنين على الحذر من هؤلء المنافقين من أهل الكتاب‪ ،‬ومبينا شدة عداوتهم‬
‫{ هاأنتم أولء تحبونهم ول يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } أي‪ :‬جنس الكتب التي أنزلها ال على‬
‫أنبيائه وهم ل يؤمنون بكتابكم‪ ،‬بل إذا لقوكم أظهروا لكم اليمان { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا‬
‫عضوا عليكم النامل } وهي أطراف الصابع من شدة غيظهم عليكم { قل موتوا بغيظكم إن ال‬
‫عليم بذات الصدور } وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلء الذين قصدوا ضرركم ل يضرون إل‬
‫أنفسهم‪ ،‬وإن غيظهم ل يقدرون على تنفيذه‪ ،‬بل ل يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من‬
‫عذاب الدنيا إلى عذاب الخرة‪.‬‬

‫{ إن تمسسكم حسنة } كالنصر على العداء وحصول الفتح والغنائم { تسؤهم } أي‪ :‬تغمهم‬
‫وتحزنهم { وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا ل يضركم كيدهم شيئا إن ال بما‬
‫يعملون محيط } فإذا أتيتم بالسباب التي وعد ال عليها النصر ‪ -‬وهي الصبر والتقوى‪ -‬لم‬
‫يضركم مكرهم‪ ،‬بل يجعل ال مكرهم في نحورهم لنه محيط بهم علمه وقدرته فل منفذ لهم عن‬
‫ذلك ول يخفى عليهم منهم شيء‪.‬‬

‫علِيمٌ *ِإذْ‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫غ َد ْوتَ مِنْ َأهِْلكَ تُ َب ّوئُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ َمقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ وَاللّهُ َ‬
‫{ ‪ { } 122 - 121‬وَإِذْ َ‬
‫َه ّمتْ طَا ِئفَتَانِ مِ ْنكُمْ أَنْ َتفْشَلَا وَاللّ ُه وَلِ ّي ُهمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }‬

‫هذه اليات نزلت في وقعة "أُحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ‪ ،‬ولعل الحكمة في ذكرها‬
‫في هذا الموضع‪ ،‬وأدخل في أثنائها وقعة "بدر" لما أن ال تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا‬
‫واتقوا نصرهم‪ ،‬ورد كيد العداء عنهم‪ ،‬وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا ل يتخلف مع التيان‬
‫بشرطه‪ ،‬فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين‪ ،‬وأن ال نصر المؤمنين في "بدر" لما صبروا‬
‫واتقوا‪ ،‬وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الخلل بالتقوى ما صدر‪ ،‬ومن حكمة الجمع‬
‫بين القصتين أن ال يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون‪ ،‬فيخف عنهم‬
‫البلء ويشكروا ال على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة‬
‫خير لهم‪ ،‬كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا‪ ،‬وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في‬
‫قوله { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن المشركين لما‬
‫رجع فلهم من "بدر" إلى مكة‪ ،‬وذلك في سنة اثنتين من الهجرة‪ ،‬استعدوا بكل ما يقدرون عليه من‬
‫العدد بالموال والرجال والعدد‪ ،‬حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء‬
‫غيظهم‪ ،‬ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلثة آلف مقاتل‪ ،‬حتى نزلوا قرب المدينة‪ ،‬فخرج النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج‪،‬‬
‫وخرج في ألف‪ ،‬فلما ساروا قليل رجع عبد ال بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل‬
‫طريقته‪ ،‬وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم ال‪ ،‬فلما‬
‫وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى ال عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد‪ ،‬ورتب‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم خمسين رجل من أصحابه في خلة في جبل "أحد" وأمرهم أن يلزموا‬
‫مكانهم ول يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم‪ ،‬فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم‬
‫المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم‪ ،‬واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون‪،‬‬
‫فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى ال عليه وسلم في الجبل‪ ،‬قال بعضهم لبعض‪ :‬الغنيمة‬
‫الغنيمة‪ ،‬ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا‪ ،‬ووعظهم أميرهم عبد ال بن جبير عن المعصية‬
‫فلم يلتفتوا إليه‪ ،‬فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إل نفر يسير‪ ،‬منهم أميرهم عبد ال بن جبير‪،‬‬
‫جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم‪ ،‬فجال المسلمون‬
‫جولة ابتلهم ال بها وكفر بها عنهم‪ ،‬وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة‪ ،‬فحصل ما حصل من قتل من‬
‫قتل منهم‪ ،‬ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف ال عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى‬
‫بلدهم‪ ،‬ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه المدينة قال ال تعالى { وإذ غدوت من‬
‫أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج‪ ،‬ليس المراد به الخروج في أول النهار‪ ،‬لن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إل بعدما صلوا الجمعة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي‪:‬‬
‫تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللئق به‪ ،‬وفيها أعظم مدح للنبي صلى ال عليه وسلم حيث هو‬
‫الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال‪ ،‬وما ذاك إل لكمال علمه ورأيه‪ ،‬وسداد نظره وعلو‬
‫همته‪ ،‬حيث يباشر هذه المور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات ال وسلمه عليه { وال سميع }‬
‫لجميع المسموعات‪ ،‬ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه‬
‫{ عليم } بنيات العبيد‪ ،‬فيجازيهم عليها أتم الجزاء‪ ،‬وأيضا فال سميع عليم بكم‪ ،‬يكلؤكم‪ ،‬ويتولى‬
‫تدبير أموركم‪ ،‬ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } ومن‬
‫لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه‪ ،‬لما { همت طائفتان } من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة‬
‫كما تقدم ثبتهما ال تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين‪ ،‬فلهذا قال { وال وليهما } أي‪:‬‬
‫بوليته الخاصة‪ ،‬التي هي لطفه بأوليائه‪ ،‬وتوفيقهم لما فيه صلحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم‪،‬‬
‫فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي الفشل والفرار عن رسول ال‬
‫عصمهما‪ ،‬لما معهما من اليمان كما قال تعالى‪ { :‬ال ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى‬
‫النور } ثم قال { وعلى ال فليتوكل المؤمنون } ففيها المر بالتوكل الذي هو اعتماد القلب على ال‬
‫في جلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬مع الثقة بال‪ ،‬وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله‪ ،‬وأن المؤمنين‬
‫أولى بالتوكل على ال من غيرهم‪ ،‬وخصوصا في مواطن الشدة والقتال‪ ،‬فإنهم مضطرون إلى‬
‫التوكل والستعانة بربهم والستنصار له‪ ،‬والتبري من حولهم وقوتهم‪ ،‬والعتماد على حول ال‬
‫وقوته‪ ،‬فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البليا والمحن‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫شكُرُونَ * إِذْ َتقُولُ‬


‫{ ‪ { } 126 - 123‬وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْ ُتمْ أَذِلّةٌ فَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ َألَنْ َي ْكفِيَكُمْ أَنْ ُيمِ ّدكُمْ رَ ّب ُكمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ َتصْبِرُوا وَتَ ّتقُوا‬
‫جعََلهُ اللّهُ إِلّا بُشْرَى‬
‫س ّومِينَ * َومَا َ‬
‫خمْسَةِ آلَافٍ مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ مُ َ‬
‫وَيَأْتُوكُمْ مِنْ َفوْرِ ِهمْ َهذَا ُيمْدِ ْد ُكمْ رَ ّبكُمْ ِب َ‬
‫حكِيمِ }‬
‫طمَئِنّ قُلُو ُبكُمْ بِ ِه َومَا ال ّنصْرُ إِلّا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬
‫َلكُ ْم وَلِتَ ْ‬

‫وهذا امتنان منه على عباده المؤمنين‪ ،‬وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر وهم أذلة في قلة عَددهم‬
‫وعُددهم مع كثرة عدد عدوهم وعُددهم‪ ،‬وكانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬خرج النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم من المدينة بثلث مئة وبضعة عشر من أصحابه‪ ،‬ولم يكن معهم إل سبعون‬
‫بعيرا وفرسان لطلب عير لقريش قدمت من الشام‪ ،‬فسمع به المشركون فتجهزوا من مكة لفكاك‬
‫عيرهم‪ ،‬وخرجوا في زهاء ألف مقاتل مع العدة الكاملة والسلح العام والخيل الكثيرة‪ ،‬فالتقوا همم‬
‫والمسلمون في ماء يقال له "بدر" بين مكة والمدينة فاقتتلوا‪ ،‬ونصر ال المسلمين نصرا عظيما‪،‬‬
‫فقتلوا من المشركين سبعين قتيل من صناديد المشركين وشجعانهم‪ ،‬وأسروا سبعين‪ ،‬واحتووا على‬
‫معسكرهم ستأتي ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬القصة في سورة النفال‪ ،‬فإن ذلك موضعها‪ ،‬ولكن ال تعالى‬
‫هنا أتى بها ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا ربهم ويشكروه‪ ،‬فلهذا قال { فاتقوا ال لعلكم تشكرون } لن‬
‫من اتقى ربه فقد شكره‪ ،‬ومن ترك التقوى فلم يشكره‪ ،‬إذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا‬
‫لهم بالنصر‪.‬‬

‫{ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة آلف من الملئكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من‬
‫فورهم هذا } أي‪ :‬من مقصدهم هذا‪ ،‬وهو وقعة بدر { يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملئكة‬
‫مسومين } أي‪ :‬معلمين بعلمة الشجعان‪ ،‬فشرط ال لمدادهم ثلثة شروط‪ :‬الصبر‪ ،‬والتقوى‪،‬‬
‫وإتيان المشركين من فورهم هذا‪ ،‬فهذا الوعد بإنزال الملئكة المذكورين وإمدادهم بهم‪ ،‬وأما وعد‬
‫النصر وقمع كيد العداء فشرط ال له الشرطين الولين كما تقدم في قوله‪ { :‬وإن تصبروا وتتقوا‬
‫ل يضركم كيدهم شيئا }‬

‫{ وما جعله ال } أي‪ :‬إمداده لكم بالملئكة { إل بشرى } تستبشرون بها وتفرحون { ولتطمئن‬
‫قلوبكم به وما النصر إل من عند ال } فل تعتمدوا على ما معكم من السباب‪ ،‬بل السباب فيها‬
‫طمأنينة لقلوبكم‪ ،‬وأما النصر الحقيقي الذي ل معارض له‪ ،‬فهو مشيئة ال لنصر من يشاء من‬
‫عباده‪ ،‬فإنه إن شاء نصر من معه السباب كما هي سنته في خلقه‪ ،‬وإن شاء نصر المستضعفين‬
‫الذلين ليبين لعباده أن المر كله بيديه‪ ،‬ومرجع المور إليه‪ ،‬ولهذا قال { عند ال العزيز } فل‬
‫يمتنع عليه مخلوق‪ ،‬بل الخلق كلهم أذلء مدبرون تحت تدبيره وقهره { الحكيم } الذي يضع‬
‫الشياء مواضعها‪ ،‬وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الوقات على المسلمين إدالة غير‬
‫مستقرة‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ذلك ولو يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }‬

‫{ ‪ { } 127‬لِ َيقْطَعَ طَ َرفًا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا َأوْ َيكْبِ َتهُمْ فَيَ ْنقَلِبُوا خَائِبِينَ }‬

‫يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لحد أمرين‪ :‬إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا‪ ،‬أي‪ :‬جانبا‬
‫منهم وركنا من أركانهم‪ ،‬إما بقتل‪ ،‬أو أسر‪ ،‬أو استيلء على بلد‪ ،‬أو غنيمة مال‪ ،‬فيقوى بذلك‬
‫المؤمنون ويذل الكافرون‪ ،‬وذلك لن مقاومتهم ومحاربتهم للسلم تتألف من أشخاصهم وسلحهم‬
‫وأموالهم وأرضهم فبهذه المور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض‬
‫قوتهم‪ ،‬المر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم‪ ،‬طمعا في المسلمين‪ ،‬ويمنوا أنفسهم ذلك‪،‬‬
‫ويحرصوا عليه غاية الحرص‪ ،‬ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك‪ ،‬فينصر ال المؤمنين عليهم‬
‫ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم‪ ،‬بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة‪ ،‬وإذا تأملت الواقع رأيت‬
‫نصر ال لعباده المؤمنين دائرا بين هذين المرين‪ ،‬غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو خذل‬
‫لهم‪.‬‬

‫شيْءٌ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ َأوْ ُيعَذّ َبهُمْ فَإِ ّنهُمْ ظَاِلمُونَ * وَلِلّهِ مَا‬
‫{ ‪ { } 129 - 128‬لَيْسَ َلكَ مِنَ الَْأمْرِ َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ َ‬
‫فِي ال ّ‬

‫لما جرى يوم "أحد" ما جرى‪ ،‬وجرى على النبي صلى ال عليه وسلم مصائب‪ ،‬رفع ال بها‬
‫درجته‪ ،‬فشج رأسه وكسرت رباعيته‪ ،‬قال "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" وجعل يدعو على رؤساء‬
‫من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب‪ ،‬وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو‪ ،‬والحارث بن هشام‪،‬‬
‫أنزل ال تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة ال { ليس لك من‬
‫المر شيء } إنما عليك البلغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم‪ ،‬وإنما المر ل تعالى هو‬
‫الذي يدبر المور‪ ،‬ويهدي من يشاء ويضل من يشاء‪ ،‬فل تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم‪،‬‬
‫إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالسلم فعل‪ ،‬وإن اقتضت حكمته إبقاءهم‬
‫على كفرهم وعدم هدايتهم‪ ،‬فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك‪ ،‬فعل‪ ،‬وقد تاب‬
‫ال على هؤلء المعينين وغيرهم‪ ،‬فهداهم للسلم رضي ال عنهم‪ ،‬وفي هذه الية مما يدل على‬
‫أن اختيار ال غالب على اختيار العباد‪ ،‬وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعل قدره قد يختار شيئا‬
‫وتكون الخيرة والمصلحة في غيره‪ ،‬وأن الرسول صلى ال عليه وسلم ليس له من المر شيء‬
‫فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم‪،‬‬
‫وأن هذا شرك في العبادة‪ ،‬نقص في العقل‪ ،‬يتركون من المر كله له ويدعون من ل يملك من‬
‫المر مثقال ذرة‪ ،‬إن هذا لهو الضلل البعيد‪ ،‬وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل‬
‫إليه‪ ،‬ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك‪ ،‬ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده‪ ،‬من غير‬
‫سبق سبب من العبد ول وسيلة‪ ،‬ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم‪ ،‬ورتبه على العذاب بالفاء‬
‫المفيدة للسببية‪ ،‬فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل ال وحكمته‪ ،‬حيث‬
‫وضع العقوبة موضعها‪ ،‬ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه‪ ،‬ولما نفى عن رسوله أنه‬
‫ليس له من المر شيء قرر من المر له فقال { ول ما في السماوات وما في الرض } من‬
‫الملئكة والنس والجن والحيوانات والفلك والجمادات كلها‪ ،‬وجميع ما في السماوات والرض‪،‬‬
‫الكل ملك ل مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك‪ ،‬فليس لهم مثقال ذرة من الملك‪،‬‬
‫وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للسلم فيغفر شركه‬
‫ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه‪ { ،‬ويعذب من يشاء } بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة‬
‫المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك‪ ،‬ثم ختم الية باسمين كريمين دالين على سعة‬
‫رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه‪ ،‬فقال { وال غفور رحيم } ففيها أعظم بشارة‬
‫بأن رحمته غلبت غضبه‪ ،‬ومغفرته غلبت مؤاخذته‪ ،‬فالية فيها الخبار عن حالة الخلق وأن منهم‬
‫من يغفر ال له ومنهم من يعذبه‪ ،‬فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة‪ ،‬والثاني دال على‬
‫النقمة‪ ،‬بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة‪ ،‬فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده ل‬
‫تخطر ببال بشر‪ ،‬ول يدرك لها وصف‪ ،‬فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده‬
‫الصالحين‪.‬‬

‫تم السفر الول من هذا التفسير المبارك بيسر من ال وإعانة‪ ،‬فله الحمد والشكر والثناء‪ ،‬وأسأله‬
‫المزيد من فضله وكرمه وإحسانه‪ ،‬ويليه المجلد الثاني‪ ،‬أوله قول الباري جل جلله { يا أيها الذين‬
‫آمنوا ل تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } الية وذلك في تسع وعشرين من شهر ربيع الول من‬
‫سنة ‪ 1343‬ثلث وأربعين وثلث مئة وألف من الهجرة النبوية وصلى ال على محمد وسلم‬
‫تسليما كثيرا بقلم جامعه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال السعدي غفر ال له ولوالديه وإخوانه‬
‫المسلمين‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تم المجلد الول بحمد الله‬


‫المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلم الرحمن لجامعه الفقير إلى ال‪ :‬عبد‬
‫الرحمن بن ناصر بن عبد ال بن سعدي غفر ال له ولوالديه وللمسلمين آمين‪.‬‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهد ال فل‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا‬
‫عبده ورسوله صلى ال عليه وسلم تسليما كثيرا قال تعالى‪:‬‬

‫عفَ ًة وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ‬


‫ضعَافًا ُمضَا َ‬
‫{ ‪ { } 136 - 130‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ ْأكُلُوا الرّبَا َأ ْ‬
‫حمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى‬
‫ع ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ َلعَّل ُكمْ تُرْ َ‬
‫* وَا ّتقُوا النّارَ الّتِي أُ ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ فِي السّرّاءِ‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫ضهَا ال ّ‬
‫َمغْفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم َوجَنّةٍ عَ ْر ُ‬
‫حشَةً َأوْ‬
‫حسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا َفعَلُوا فَا ِ‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫س وَاللّهُ يُ ِ‬
‫ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ‬
‫ظمِينَ ا ْلغَ ْي َ‬
‫وَالضّرّا ِء وَا ْلكَا ِ‬
‫سهُمْ َذكَرُوا اللّهَ فَاسْ َتغْفَرُوا لِذُنُو ِبهِ ْم َومَنْ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ إِلّا اللّ ُه وَلَمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا‬
‫ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫وَهُمْ َيعَْلمُونَ * أُولَ ِئكَ جَزَاؤُ ُهمْ َم ْغفِرَةٌ مِنْ رَ ّبهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَ ِنعْمَ‬
‫أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ }‬

‫تقدم في مقدمة هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الوامر والنواهي في نفسه وفي غيره‪ ،‬وأن‬
‫ال تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه ‪-‬أول‪ -‬أن يعرف حده‪ ،‬وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من‬
‫امتثاله‪ ،‬فإذا عرف ذلك اجتهد‪ ،‬واستعان بال على امتثاله في نفسه وفي غيره‪ ،‬بحسب قدرته‬
‫وإمكانه‪ ،‬وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده‪ ،‬وما يدخل فيه وما ل يدخل‪ ،‬ثم اجتهد واستعان بربه‬
‫في تركه‪ ،‬وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الوامر اللهية والنواهي‪ ،‬وهذه اليات الكريمات قد‬
‫اشتملت عن أوامر وخصال من خصال الخير‪ ،‬أمر ال [بها] وحث على فعلها‪ ،‬وأخبر عن جزاء‬
‫أهلها‪ ،‬وعلى نواهي حث على تركها‪.‬‬

‫ولعل الحكمة ‪-‬وال أعلم‪ -‬في إدخال هذه اليات أثناء قصة "أحد" أنه قد تقدم أن ال تعالى وعد‬
‫عباده المؤمنين‪ ،‬أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم‪ ،‬وخذل العداء عنهم‪ ،‬كما في قوله‬
‫تعالى‪ { :‬وإن تصبروا وتتقوا ل يضركم كيدهم شيئا }‬

‫ثم قال‪ { :‬بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } اليات‪.‬‬
‫فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى‪ ،‬التي يحصل بها النصر والفلح والسعادة‪ ،‬فذكر‬
‫ال في هذه اليات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى‪،‬‬
‫ويدل على ما قلنا أن ال ذكر لفظ "التقوى" في هذه اليات ثلث مرات‪ :‬مرة مطلقة وهي قوله‪:‬‬
‫{ أعدت للمتقين } ومرتين مقيدتين‪ ،‬فقال‪ { :‬واتقوا ال } { واتقوا النار } فقوله تعالى‪ { :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا } كل ما في القرآن من قوله تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا } افعلوا كذا‪ ،‬أو اتركوا كذا‪،‬‬
‫يدل على أن اليمان هو السبب الداعي والموجب لمتثال ذلك المر‪ ،‬واجتناب ذلك النهي؛ لن‬
‫اليمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به‪ ،‬المستلزم لعمال الجوارح‪ ،‬فنهاهم عن أكل‬
‫الربا أضعافا مضاعفة‪ ،‬وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية‪ ،‬ومن ل يبالي بالوامر الشرعية من أنه‬
‫إذا حل الدين‪ ،‬على المعسر ولم يحصل منه شيء‪ ،‬قالوا له‪ :‬إما أن تقضي ما عليك من الدين‪،‬‬
‫وإما أن نزيد في المدة‪ ،‬ويزيد ما في ذمتك‪ ،‬فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك‪ ،‬اغتناما‬
‫لراحته الحاضرة‪ ، ،‬فيزداد ‪-‬بذلك‪ -‬ما في ذمته أضعافا مضاعفة‪ ،‬من غير نفع وانتفاع‪.‬‬

‫ففي قوله‪ { :‬أضعافًا مضاعفة } تنبيه على شدة شناعته بكثرته‪ ،‬وتنبيه لحكمة تحريمه‪ ،‬وأن تحريم‬
‫الربا حكمته أن ال منع منه لما فيه من الظلم‪.‬‬

‫وذلك أن ال أوجب إنظار المعسر‪ ،‬وبقاء ما في ذمته من غير زيادة‪ ،‬فإلزامه بما فوق ذلك ظلم‬
‫متضاعف‪ ،‬فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه‪ ،‬لن تركه من موجبات التقوى‪.‬‬

‫والفلح متوقف على التقوى‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬واتقوا ال لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت‬
‫للكافرين } بترك ما يوجب دخولها‪ ،‬من الكفر والمعاصي‪ ،‬على اختلف درجاتها‪ ،‬فإن المعاصي‬
‫كلها‪ -‬وخصوصا المعاصي الكبار‪ -‬تجر إلى الكفر‪ ،‬بل هي من خصال الكفر الذي أعد ال النار‬
‫لهله‪ ،‬فترك المعاصي ينجي من النار‪ ،‬ويقي من سخط الجبار‪ ،‬وأفعال الخير والطاعة توجب‬
‫رضا الرحمن‪ ،‬ودخول الجنان‪ ،‬وحصول الرحمة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وأطيعوا ال والرسول } بفعل‬
‫الوامر امتثال‪ ،‬واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون }‬

‫فطاعة ال وطاعة رسوله‪ ،‬من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى‪ { :‬ورحمتي وسعت كل‬
‫شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } اليات‪.‬‬

‫ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والرض‪ ،‬فكيف‬
‫بطولها‪ ،‬التي أعدها ال للمتقين‪ ،‬فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها‪ ،‬ثم وصف المتقين‬
‫وأعمالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬الذين ينفقون في السراء والضراء } أي‪ :‬في حال عسرهم ويسرهم‪ ،‬إن أيسروا‬
‫أكثروا من النفقة‪ ،‬وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل‪.‬‬
‫{ والكاظمين الغيظ } أي‪ :‬إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم ‪-‬وهو امتلء قلوبهم من‬
‫الحنق‪ ،‬الموجب للنتقام بالقول والفعل‪ ،-‬هؤلء ل يعملون بمقتضى الطباع البشرية‪ ،‬بل يكظمون‬
‫ما في القلوب من الغيظ‪ ،‬ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم‪.‬‬

‫{ والعافين عن الناس } يدخل في العفو عن الناس‪ ،‬العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل‪،‬‬
‫والعفو أبلغ من الكظم‪ ،‬لن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء‪ ،‬وهذا إنما يكون ممن‬
‫تحلى بالخلق الجميلة‪ ،‬وتخلى عن الخلق الرذيلة‪ ،‬وممن تاجر مع ال‪ ،‬وعفا عن عباد ال‬
‫رحمة بهم‪ ،‬وإحسانا إليهم‪ ،‬وكراهة لحصول الشر عليهم‪ ،‬وليعفو ال عنه‪ ،‬ويكون أجره على ربه‬
‫الكريم‪ ،‬ل على العبد الفقير‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فمن عفا وأصلح فأجره على ال }‬

‫ثم ذكر حالة أعم من غيرها‪ ،‬وأحسن وأعلى وأجل‪ ،‬وهي الحسان‪ ،‬فقال [تعالى]‪ { :‬وال يحب‬
‫المحسنين } والحسان نوعان‪ :‬الحسان في عبادة الخالق‪[ .‬والحسان إلى المخلوق‪ ،‬فالحسان في‬
‫عبادة الخالق]‪.‬‬

‫فسرها النبي صلى ال عليه وسلم بقوله‪" :‬أن تعبد ال كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك"‬

‫وأما الحسان إلى المخلوق‪ ،‬فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم‪ ،‬ودفع الشر الديني والدنيوي‬
‫عنهم‪ ،‬فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف‪ ،‬ونهيهم عن المنكر‪ ،‬وتعليم جاهلهم‪ ،‬ووعظ غافلهم‪،‬‬
‫والنصيحة لعامتهم وخاصتهم‪ ،‬والسعي في جمع كلمتهم‪ ،‬وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة‬
‫والمستحبة إليهم‪ ،‬على اختلف أحوالهم وتباين أوصافهم‪ ،‬فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الذى‪،‬‬
‫واحتمال الذى‪ ،‬كما وصف ال به المتقين في هذه اليات‪ ،‬فمن قام بهذه المور‪ ،‬فقد قام بحق ال‬
‫وحق عبيده‪.‬‬

‫ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم‪ ،‬فقال‪ { :‬والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم }‬
‫أي‪ :‬صدر منهم أعمال [سيئة] كبيرة‪ ،‬أو ما دون ذلك‪ ،‬بادروا إلى التوبة والستغفار‪ ،‬وذكروا‬
‫ربهم‪ ،‬وما توعد به العاصين ووعد به المتقين‪ ،‬فسألوه المغفرة لذنوبهم‪ ،‬والستر لعيوبهم‪ ،‬مع‬
‫إقلعهم عنها وندمهم عليها‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }‬

‫{ أولئك } الموصوفون بتلك الصفات { جزاؤهم مغفرة من ربهم } تزيل عنهم كل محذور‬
‫{ وجنات تجري من تحتها النهار } فيها من النعيم المقيم‪ ،‬والبهجة والسرور والبهاء‪ ،‬والخير‬
‫والسرور‪ ،‬والقصور والمنازل النيقة العاليات‪ ،‬والشجار المثمرة البهية‪ ،‬والنهار الجاريات في‬
‫تلك المساكن الطيبات‪ { ،‬خالدين فيها } ل يحولون عنها‪ ،‬ول يبغون بها بدل‪ ،‬ول يغير ما هم فيه‬
‫من النعيم‪ { ،‬ونعم أجر العاملين } عملوا ل قليل فأجروا كثيرا فـ "عند الصباح يحمد القوم‬
‫السرى" وعند الجزاء يجد العامل أجره كامل موفرا‪.‬‬

‫وهذه اليات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة‪ ،‬على أن العمال تدخل في اليمان‪ ،‬خلفا‬
‫للمرجئة‪ ،‬ووجه الدللة إنما يتم بذكر الية‪ ،‬التي في سورة الحديد‪ ،‬نظير هذه اليات‪ ،‬وهي قوله‬
‫تعالى‪ { :‬سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والرض أعدت للذين آمنوا‬
‫بال ورسله } فلم يذكر فيها إل لفظ اليمان به وبرسله‪ ،‬وهنا قال‪ { :‬أعدت للمتقين } ثم وصف‬
‫المتقين بهذه العمال المالية والبدنية‪ ،‬فدل على أن هؤلء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم‬
‫أولئك المؤمنون‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { } 138 - 137 { :‬قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْل ُكمْ سُنَنٌ َفسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُروا كَ ْيفَ‬
‫ظةٌ لِ ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫س وَ ُهدًى َومَوْعِ َ‬
‫كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنّا ِ‬

‫وهذه اليات الكريمات‪ ،‬وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم‪ ،‬ويخبرهم‬
‫أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة‪ ،‬امتحنوا‪ ،‬وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين‪ ،‬فلم يزالوا في‬
‫مداولة ومجاولة‪ ،‬حتى جعل ال العاقبة للمتقين‪ ،‬والنصر لعباده المؤمنين‪ ،‬وآخر المر حصلت‬
‫الدولة على المكذبين‪ ،‬وخذلهم ال بنصر رسله وأتباعهم‪.‬‬

‫{ فسيروا في الرض } بأبدانكم وقلوبكم { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنكم ل تجدونهم‬
‫إل معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية‪ ،‬قد خوت ديارهم‪ ،‬وتبين لكل أحد خسارهم‪ ،‬وذهب عزهم‬
‫وملكهم‪ ،‬وزال بذخهم وفخرهم‪ ،‬أفليس في هذا أعظم دليل‪ ،‬وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به‬
‫الرسل؟"‬

‫وحكمة ال التي يمتحن بها عباده‪ ،‬ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬هذا‬
‫بيان للناس } أي‪ :‬دللة ظاهرة‪ ،‬تبين للناس الحق من الباطل‪ ،‬وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪ ،‬وهو‬
‫الشارة إلى ما أوقع ال بالمكذبين‪.‬‬

‫{ وهدى وموعظة للمتقين } لنهم هم المنتفعون باليات فتهديهم إلى سبيل الرشاد‪ ،‬وتعظهم‬
‫وتزجرهم عن طريق الغي‪ ،‬وأما باقي الناس فهي بيان لهم‪ ،‬تقوم [به] عليهم الحجة من ال‪ ،‬ليهلك‬
‫من هلك عن بينة‪.‬‬

‫ويحتمل أن الشارة في قوله‪ { :‬هذا بيان للناس } للقرآن العظيم‪ ،‬والذكر الحكيم‪ ،‬وأنه بيان للناس‬
‫عموما‪ ،‬وهدى وموعظة للمتقين خصوصا‪ ،‬وكل المعنيين حق‪.‬‬
‫سكُمْ قَرْحٌ َفقَدْ‬
‫سْ‬‫{ ‪ { } 143 - 139‬وَلَا َتهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعَْلوْنَ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ * إِنْ َيمْ َ‬
‫شهَدَا َء وَاللّهُ‬
‫س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِ ْنكُمْ ُ‬
‫مَسّ ا ْل َقوْمَ قَرْحٌ مِثْلُ ُه وَتِ ْلكَ الْأَيّامُ نُدَاوُِلهَا بَيْنَ النّا ِ‬
‫حصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َيمْحَقَ ا ْلكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا‬
‫حبّ الظّاِلمِينَ *وَلِ ُيمَ ّ‬
‫لَا يُ ِ‬
‫َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُوا مِ ْنكُ ْم وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ * وََلقَدْ كُنْ ُتمْ َتمَ ّنوْنَ ا ْل َموْتَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تَ ْل َق ْوهُ َفقَدْ‬
‫رَأَيْ ُتمُوهُ وَأَنْ ُتمْ تَنْظُرُونَ }‬

‫يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين‪ ،‬ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم‪ { :‬ول تهنوا ول تحزنوا }‬
‫أي‪ :‬ول تهنوا وتضعفوا في أبدانكم‪ ،‬ول تحزنوا في قلوبكم‪ ،‬عندما أصابتكم المصيبة‪ ،‬وابتليتم بهذه‬
‫البلوى‪ ،‬فإن الحزن في القلوب‪ ،‬والوهن على البدان‪ ،‬زيادة مصيبة عليكم‪ ،‬وعون لعدوكم عليكم‪،‬‬
‫بل شجعوا قلوبكم وصبروها‪ ،‬وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم‪ ،‬وذكر تعالى أنه ل‬
‫ينبغي ول يليق بهم الوهن والحزن‪ ،‬وهم العلون في اليمان‪ ،‬ورجاء نصر ال وثوابه‪ ،‬فالمؤمن‬
‫المتيقن ما وعده ال من الثواب الدنيوي والخروي ل ينبغي منه ذلك‪ ،‬ولهذا قال [تعالى]‪ { :‬وأنتم‬
‫العلون إن كنتم مؤمنين }‬

‫ثم سلّاهم بما حصل لهم من الهزيمة‪ ،‬وبيّن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬إن يمسسكم‬
‫قرح فقد مس القوم قرح مثله } فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح‪ ،‬ولكنكم ترجون من ال ما ل‬
‫يرجون كما قال تعالى‪ { :‬إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من ال ما ل‬
‫يرجون }‬

‫ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي ال منها المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر‪ ،‬فيداول ال اليام‬
‫بين الناس‪ ،‬يوم لهذه الطائفة‪ ،‬ويوم للطائفة الخرى؛ لن هذه الدار الدنيا منقضية فانية‪ ،‬وهذا‬
‫بخلف الدار الخرة‪ ،‬فإنها خالصة للذين آمنوا‪.‬‬

‫{ وليعلم ال الذين آمنوا } هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي ال عباده بالهزيمة والبتلء‪ ،‬ليتبين‬
‫المؤمن من المنافق؛ لنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في السلم من ل‬
‫يريده‪ ،‬فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع البتلء‪ ،‬تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في‬
‫السلم‪ ،‬في الضراء والسراء‪ ،‬واليسر والعسر‪ ،‬ممن ليس كذلك‪.‬‬

‫{ ويتخذ منكم شهداء } وهذا أيضا من بعض الحكم‪ ،‬لن الشهادة عند ال من أرفع المنازل‪ ،‬ول‬
‫سبيل لنيلها إل بما يحصل من وجود أسبابها‪ ،‬فهذا من رحمته بعباده المؤمنين‪ ،‬أن قيّض لهم من‬
‫السباب ما تكرهه النفوس‪ ،‬لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم‪ { ،‬وال ل يحب‬
‫الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم‪ ،‬وتقاعدوا عن القتال في سبيله‪ ،‬وكأن في هذا تعريضا بذم‬
‫المنافقين‪ ،‬وأنهم مبغضون ل‪ ،‬ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله‪.‬‬

‫{ ولو أرادوا الخروج لعدوا له عدة ولكن كره ال انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين }‬

‫{ وليمحص ال الذين آمنوا } وهذا أيضا من الحكم أن ال يمحص بذلك المؤمنين من ذنوبهم‬
‫وعيوبهم‪ ،‬يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل ال يكفر الذنوب‪ ،‬ويزيل العيوب‪ ،‬وليمحص‬
‫ال أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين‪ ،‬فيتخلصون منهم‪ ،‬ويعرفون المؤمن من المنافق‪ ،‬ومن‬
‫الحكم أيضا أنه يقدر ذلك‪ ،‬ليمحق الكافرين‪ ،‬أي‪ :‬ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة‪ ،‬فإنهم‬
‫إذا انتصروا‪ ،‬بغوا‪ ،‬وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم‪ ،‬يستحقون به المعاجلة بالعقوبة‪ ،‬رحمة بعباده‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذا‬
‫استفهام إنكاري‪ ،‬أي‪ :‬ل تظنوا‪ ،‬ول يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره‬
‫في سبيل ال وابتغاء مرضاته‪ ،‬فإن الجنة أعلى المطالب‪ ،‬وأفضل ما به يتنافس المتنافسون‪ ،‬وكلما‬
‫عظم المطلوب عظمت وسيلته‪ ،‬والعمل الموصل إليه‪ ،‬فل يوصل إلى الراحة إل بترك الراحة‪،‬‬
‫ول يدرك النعيم إل بترك النعيم‪ ،‬ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل ال عند توطين‬
‫النفس لها‪ ،‬وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه‪ ،‬تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها‪ ،‬ول‬
‫يبالون بها‪ ،‬وذلك فضل ال يؤتيه من يشاء‪.‬‬

‫ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله‪ ،‬فقال‪ { :‬ولقد كنتم تمنون‬
‫الموت من قبل أن تلقوه } وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي ال عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن‬
‫يحضرهم ال مشهدا يبذلون فيه جهدهم‪ ،‬قال ال [تعالى] لهم‪ { :‬فقد رأيتموه } أي‪ :‬رأيتم ما تمنيتم‬
‫بأعينكم { وأنتم تنظرون } فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة ل تليق ول تحسن‪ ،‬خصوصا لمن‬
‫تمنى ذلك‪ ،‬وحصل له ما تمنى‪ ،‬فإن الواجب عليه بذل الجهد‪ ،‬واستفراغ الوسع في ذلك‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أنه ل يكره تمني الشهادة‪ ،‬ووجه الدللة أن ال تعالى أقرهم على‬
‫أمنيتهم‪ ،‬ولم ينكر عليهم‪ ،‬وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫سلُ َأفَإِنْ مَاتَ َأوْ‬


‫حمّدٌ إِلّا َرسُولٌ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { } 145 - 144 { :‬ومَا ُم َ‬
‫عقِبَيْهِ فَلَنْ َيضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ * َومَا‬
‫عقَابِكُمْ َومَنْ يَ ْنقَِلبْ عَلَى َ‬
‫قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَى أَ ْ‬
‫كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابًا ُمؤَجّلًا َومَنْ يُرِدْ َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَنْ يُ ِردْ َثوَابَ‬
‫الْآخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَ َنجْزِي الشّاكِرِينَ }‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل } أي‪ :‬ليس ببدع من الرسل‪ ،‬بل هو‬
‫من جنس الرسل الذين قبله‪ ،‬وظيفتهم تبليغ رسالت ربهم وتنفيذ أوامره‪ ،‬ليسوا بمخلدين‪ ،‬وليس‬
‫بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر ال‪ ،‬بل الواجب على المم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك‪.‬‬

‫قال [ال] تعالى‪ { :‬ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا } إنما يضر نفسه‪ ،‬وإل فال تعالى‬
‫غني عنه‪ ،‬وسيقيم دينه‪ ،‬ويعز عباده المؤمنين‪ ،‬فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه‪ ،‬مدح من‬
‫ثبت مع رسوله‪ ،‬وامتثل أمر ربه‪ ،‬فقال‪ { :‬وسيجزي ال الشاكرين } والشكر ل يكون إل بالقيام‬
‫بعبودية ال تعالى في كل حال‪.‬‬

‫وفي هذه الية الكريمة إرشاد من ال تعالى لعباده أن يكونوا بحالة ل يزعزعهم عن إيمانهم أو‬
‫عن بعض لوازمه‪ ،‬فقدُ رئيس ولو عظم‪ ،‬وما ذاك إل بالستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة‬
‫أناس من أهل الكفاءة فيه‪ ،‬إذا فقد أحدهم قام به غيره‪ ،‬وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة‬
‫دين ال‪ ،‬والجهاد عنه‪ ،‬بحسب المكان‪ ،‬ل يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس‪ ،‬فبهذه الحال‬
‫يستتب لهم أمرهم‪ ،‬وتستقيم أمورهم‪.‬‬

‫وفي هذه الية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الكبر أبي بكر‪ ،‬وأصحابه الذين قاتلوا‬
‫المرتدين بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم لنهم هم سادات الشاكرين‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن ال وقدره وقضائه‪ ،‬فمن حتّم عليه بالقدر أن‬
‫يموت‪ ،‬مات ولو بغير سبب‪ ،‬ومن أراد بقاءه‪ ،‬فلو أتى من السباب كل سبب‪ ،‬لم يضره ذلك قبل‬
‫بلوغ أجله‪ ،‬وذلك أن ال قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى‪ { :‬إذا جاء أجلهم فل يستأخرون‬
‫ساعة ول يستقدمون }‬

‫ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والخرة ما تعلقت به إراداتهم‪ ،‬فقال‪ { :‬ومن يرد‬
‫ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الخرة نؤته منها }‬

‫قال ال تعالى‪ { :‬كلّ نمدّ هؤلء وهؤلء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف‬
‫فضلنا بعضهم على بعض وللخرة أكبر درجات وأكبر تفضيل }‬

‫{ وسنجزي الشاكرين } ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته‪ ،‬وليعلم أن الجزاء على‬
‫قدر الشكر‪ ،‬قلة وكثرة وحسنا‪.‬‬
‫{ ‪َ { } 148 - 146‬وكَأَيّنْ مِنْ نَ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُوا ِلمَا َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‬
‫حبّ الصّابِرِينَ * َومَا كَانَ َقوَْلهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا ا ْ‬
‫ض ُعفُوا َومَا اسْ َتكَانُوا وَاللّهُ يُ ِ‬
‫َومَا َ‬
‫حسْنَ‬
‫وَإِسْرَافَنَا فِي َأمْرِنَا وَثَ ّبتْ َأ ْقدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا وَ ُ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫َثوَابِ الْآخِ َر ِة وَاللّهُ ُي ِ‬

‫هذا تسلية للمؤمنين‪ ،‬وحث على القتداء بهم‪ ،‬والفعل كفعلهم‪ ،‬وأن هذا أمر قد كان متقدما‪ ،‬لم تزل‬
‫سنة ال جارية بذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬وكأين من نبي } أي‪ :‬وكم من نبي { قاتل معه ربيون كثير } أي‪:‬‬
‫جماعات كثيرون من أتباعهم‪ ،‬الذين قد ربتهم النبياء باليمان والعمال الصالحة‪ ،‬فأصابهم قتل‬
‫وجراح وغير ذلك‪.‬‬

‫{ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل ال وما ضعفوا وما استكانوا } أي‪ :‬ما ضعفت قلوبهم‪ ،‬ول‬
‫وهنت أبدانهم‪ ،‬ول استكانوا‪ ،‬أي‪ :‬ذلوا لعدوهم‪ ،‬بل صبروا وثبتوا‪ ،‬وشجعوا أنفسهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ وال يحب الصابرين }‬

‫ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وما كان قولهم } أي‪ :‬في تلك المواطن الصعبة { إل‬
‫أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والسراف‪ :‬هو مجاوزة الحد إلى ما حرم‪،‬‬
‫علموا أن الذنوب والسراف من أعظم أسباب الخذلن‪ ،‬وأن التخلي منها من أسباب النصر‪،‬‬
‫فسألوا ربهم مغفرتها‪.‬‬

‫ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر‪ ،‬بل اعتمدوا على ال‪ ،‬وسألوه أن يثبت‬
‫أقدامهم عند ملقاة العداء الكافرين‪ ،‬وأن ينصرهم عليهم‪ ،‬فجمعوا بين الصبر وترك ضده‪،‬‬
‫والتوبة والستغفار‪ ،‬والستنصار بربهم‪ ،‬ل جرم أن ال نصرهم‪ ،‬وجعل لهم العاقبة في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فآتاهم ال ثواب الدنيا } من النصر والظفر والغنيمة‪ { ،‬وحُسن ثواب‬
‫الخرة } وهو الفوز برضا ربهم‪ ،‬والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات‪ ،‬وما ذاك إل أنهم‬
‫أحسنوا له العمال‪ ،‬فجازاهم بأحسن الجزاء‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وال يحب المحسنين } في عبادة الخالق‬
‫ومعاملة الخلق‪ ،‬ومن الحسان أن يفعل عند جهاد العداء‪ ،‬كفعل هؤلء الموصوفين‬

‫ثم قال تعالى‪:‬‬


‫عقَا ِبكُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا‬
‫{ ‪ { } 151 - 149‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ ُتطِيعُوا الّذِينَ َكفَرُوا يَرُدّوكُمْ عَلَى أَ ْ‬
‫عبَ ِبمَا‬
‫خَاسِرِينَ * َبلِ اللّهُ َموْلَاكُ ْم وَ ُهوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ * سَُن ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُوا الرّ ْ‬
‫أَشْ َركُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ بِهِ سُلْطَانًا َومَأْوَا ُهمُ النّا ُر وَبِئْسَ مَ ْثوَى الظّاِلمِينَ }‬
‫وهذا نهي من ال للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين‪ ،‬فإنهم إن أطاعوهم لم‬
‫يريدوا لهم إل الشر‪ ،‬وهم [قصدهم] ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران‪.‬‬

‫ثم أخبر أنه مولهم وناصرهم‪ ،‬ففيه إخبار لهم بذلك‪ ،‬وبشارة بأنه سيتولى أمورهم بلطفه‪،‬‬
‫ويعصمهم من أنواع الشرور‪.‬‬

‫وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد‪ ،‬فمن وليته ونصره‬
‫لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب‪ ،‬وهو الخوف العظيم الذي‬
‫يمنعهم من كثير من مقاصدهم‪ ،‬وقد فعل تعالى‪.‬‬

‫وذلك أن المشركين ‪-‬بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" ‪ -‬تشاوروا بينهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف ننصرف‪،‬‬
‫بعد أن قتلنا منهم من قتلنا‪ ،‬وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك‪ ،‬فألقى ال الرعب في قلوبهم‪،‬‬
‫فانصرفوا خائبين‪ ،‬ول شك أن هذا من أعظم النصر‪ ،‬لنه قد تقدم أن نصر ال لعباده المؤمنين ل‬
‫يخرج عن أحد أمرين‪ :‬إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا‪ ،‬أو يكبتهم فينقلبوا خائبين‪ ،‬وهذا من‬
‫الثاني‪.‬‬

‫ثم ذكر السبب الموجب للقاء الرعب في قلوب الكافرين‪ ،‬فقال‪ { :‬بما أشركوا بال ما لم ينزل به‬
‫سلطانا } أي‪ :‬ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من النداد والصنام‪ ،‬التي اتخذوها على حسب‬
‫أهوائهم وإرادتهم الفاسدة‪ ،‬من غير حجة ول برهان‪ ،‬وانقطعوا من ولية الواحد الرحمن‪ ،‬فمن ثم‬
‫كان المشرك مرعوبا من المؤمنين‪ ،‬ل يعتمد على ركن وثيق‪ ،‬وليس له ملجأ عند كل شدة‬
‫وضيق‪ ،‬هذا حاله في الدنيا‪ ،‬وأما في الخرة فأشد وأعظم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ومأواهم النار } أي‪:‬‬
‫مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج‪ { ،‬وبئس مثوى الظالمين } بسبب ظلمهم‬
‫وعدوانهم صارت النار مثواهم‪.‬‬

‫عصَيْتُمْ‬
‫ص َد َقكُمُ اللّهُ وَعْ َدهُ إِذْ َتحُسّو َنهُمْ بِِإذْنِهِ حَتّى إِذَا َفشِلْتُ ْم وَتَنَازَعْتُمْ فِي الَْأمْ ِر وَ َ‬
‫{ ‪ { } 152‬وَلَقَ ْد َ‬
‫مِنْ َبعْدِ مَا أَرَا ُكمْ مَا تُحِبّونَ مِ ْنكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيَا َومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِ َرةَ ثُ ّم صَ َر َفكُمْ عَ ْنهُمْ لِيَبْتَلِ َيكُمْ‬
‫ضلٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫عفَا عَ ْنكُمْ وَاللّهُ ذُو َف ْ‬
‫وَلَقَدْ َ‬

‫أي‪ { :‬ولقد صدقكم ال وعده } بالنصر‪ ،‬فنصركم عليهم‪ ،‬حتى ولوكم أكتافهم‪ ،‬وطفقتم فيهم قتل‪،‬‬
‫حتى صرتم سببا لنفسكم‪ ،‬وعونا لعدائكم عليكم‪ ،‬فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور {‬
‫وتنازعتم في المر } الذي فيه ترك أمر ال بالئتلف وعدم الختلف‪ ،‬فاختلفتم‪ ،‬فمن قائل نقيم‬
‫في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن قائل‪ :‬ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو‪،‬‬
‫ولم يبق محذور‪ ،‬فعصيتم الرسول‪ ،‬وتركتم أمره من بعد ما أراكم ال ما تحبون وهو انخذال‬
‫أعدائكم؛ لن الواجب على من أنعم ال عليه بما أحب‪ ،‬أعظم من غيره‪.‬‬

‫فالواجب في هذه الحال خصوصًا‪ ،‬وفي غيرها عموما‪ ،‬امتثال أمر ال ورسوله‪.‬‬

‫{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب‪ { ،‬ومنكم من يريد الخرة } وهم‬
‫الذين لزموا أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا‪.‬‬

‫{ ثم صرفكم عنهم } أي‪ :‬بعدما وجدت هذه المور منكم‪ ،‬صرف ال وجوهكم عنهم‪ ،‬فصار الوجه‬
‫لعدوكم‪ ،‬ابتلء من ال لكم وامتحانا‪ ،‬ليتبين المؤمن من الكافر‪ ،‬والطائع من العاصي‪ ،‬وليكفر ال‬
‫عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬ولقد عفا عنكم وال ذو فضل على المؤمنين }‬
‫أي‪ :‬ذو فضل عظيم عليهم‪ ،‬حيث منّ عليهم بالسلم‪ ،‬وهداهم لشرائعه‪ ،‬وعفا عنهم سيئاتهم‪،‬‬
‫وأثابهم على مصيباتهم‪.‬‬

‫ومن فضله على المؤمنين أنه ل يقدر عليهم خيرا ول مصيبة‪ ،‬إل كان خيرا لهم‪ .‬إن أصابتهم‬
‫سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين‪ ،‬وإن أصابتهم ضراء فصبروا‪ ،‬جازاهم جزاء الصابرين‪.‬‬

‫غمّا‬
‫ح ٍد وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَا َبكُمْ َ‬
‫صعِدُونَ وَلَا َت ْلوُونَ عَلَى أَ َ‬
‫{ ‪ِ { } 154 - 153‬إذْ ُت ْ‬
‫ِبغَمّ ِلكَيْلَا َتحْزَنُوا عَلَى مَا فَا َتكُ ْم وَلَا مَا َأصَا َبكُ ْم وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ * ثُمّ أَنْ َزلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنْ َبعْدِ‬
‫حقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ‬
‫سهُمْ َيظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْ َ‬
‫ا ْلغَمّ َأمَ َنةً ُنعَاسًا َيغْشَى طَا ِئفَةً مِ ْن ُك ْم وَطَا ِئفَةٌ قَدْ َأ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫سهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ َلكَ َيقُولُونَ‬
‫خفُونَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫شيْءٍ ُقلْ إِنّ الَْأمْرَ كُلّهُ لِلّهِ يُ ْ‬
‫َيقُولُونَ َهلْ لَنَا مِنَ الَْأمْرِ مِنْ َ‬
‫شيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا ُقلْ َلوْ كُنْتُمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَتْلُ إِلَى‬
‫َلوْ كَانَ لَنَا مِنَ الَْأمْرِ َ‬
‫علِيمٌ ِبذَاتِ }‬
‫حصَ مَا فِي قُلُو ِبكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫ج ِعهِ ْم وَلِيَبْتَِليَ اللّهُ مَا فِي صُدُو ِركُ ْم وَلِ ُيمَ ّ‬
‫َمضَا ِ‬

‫يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال‪ ،‬ويعاتبهم على ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬إذ تصعدون } أي‪:‬‬
‫تجدون في الهرب { ول تلوون على أحد } أي‪ :‬ل يلوي أحد منكم على أحد‪ ،‬ول ينظر إليه‪ ،‬بل‬
‫ليس لكم هم إل الفرار والنجاء عن القتال‪.‬‬

‫والحال أنه ليس عليكم خطر كبير‪ ،‬إذ لستم آخر الناس مما يلي العداء‪ ،‬ويباشر الهيجاء‪ ،‬بل‬
‫{ الرسول يدعوكم في أخراكم } أي‪ :‬مما يلي القوم يقول‪" :‬إليّ عباد ال" فلم تلتفتوا إليه‪ ،‬ول‬
‫عرجتم عليه‪ ،‬فالفرار نفسه موجب للوم‪ ،‬ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس‪ ،‬أعظم لوما‬
‫بتخلفكم عنها‪ { ،‬فأثابكم } أي‪ :‬جازاكم على فعلكم { غما بغم } أي‪ :‬غما يتبع غما‪ ،‬غم بفوات‬
‫النصر وفوات الغنيمة‪ ،‬وغم بانهزامكم‪ ،‬وغم أنساكم كل غم‪ ،‬وهو سماعكم أن محمدا صلى ال‬
‫عليه وسلم قد قتل‪.‬‬

‫ولكن ال ‪-‬بلطفه وحسن نظره لعباده‪ -‬جعل اجتماع هذه المور لعباده المؤمنين خيرا لهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ لكيل تحزنوا على ما فاتكم } من النصر والظفر‪ { ،‬ول ما أصابكم } من الهزيمة والقتل‬
‫والجراح‪ ،‬إذا تحققتم أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات‪،‬‬
‫واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة‪ ،‬فلله ما في ضمن البليا والمحن من السرار‬
‫والحكم‪ ،‬وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم‪ ،‬وظواهركم وبواطنكم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ وال خبير بما تعملون }‬

‫ويحتمل أن معنى قوله‪ { :‬لكيل تحزنوا على ما فاتكم ول ما أصابكم } يعني‪ :‬أنه قدّر ذلك الغم‬
‫والمصيبة عليكم‪ ،‬لكي تتوطن نفوسكم‪ ،‬وتمرنوا على الصبر على المصيبات‪ ،‬ويخف عليكم تحمل‬
‫المشقات‪ { :‬ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي أصابكم { أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }‬

‫ول شك أن هذا رحمة بهم‪ ،‬وإحسان وتثبيت لقلوبهم‪ ،‬وزيادة طمأنينة؛ لن الخائف ل يأتيه النعاس‬
‫لما في قلبه من الخوف‪ ،‬فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس‪.‬‬

‫وهذه الطائفة التي أنعم ال عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إل إقامة دين ال‪،‬‬
‫ورضا ال ورسوله‪ ،‬ومصلحة إخوانهم المسلمين‪.‬‬

‫وأما الطائفة الخرى الذين { قد أهمتهم أنفسهم } فليس لهم هم في غيرها‪ ،‬لنفاقهم أو ضعف‬
‫إيمانهم‪ ،‬فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم‪ { ،‬يقولون هل لنا من المر من شيء }‬
‫وهذا استفهام إنكاري‪ ،‬أي‪ :‬ما لنا من المر ‪-‬أي‪ :‬النصر والظهور‪ -‬شيء‪ ،‬فأساءوا الظن بربهم‬
‫وبدينه ونبيه‪ ،‬وظنوا أن ال ل يتم أمر رسوله‪ ،‬وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين‬
‫ال‪ ،‬قال ال في جوابهم‪ { :‬قل إن المر كله ل } المر يشمل المر القدري‪ ،‬والمر الشرعي‪،‬‬
‫فجميع الشياء بقضاء ال وقدره‪ ،‬وعاقبة النصر والظفر لوليائه وأهل طاعته‪ ،‬وإن جرى عليهم‬
‫ما جرى‪.‬‬

‫{ يخفون } يعني المنافقين { في أنفسهم ما ل يبدون لك } ثم بين المر الذي يخفونه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ يقولون لو كان لنا من المر شيء } أي‪ :‬لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة { ما قتلنا‬
‫هاهنا } وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر ال‪ ،‬وتسفيه منهم لرأي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ورأي أصحابه‪ ،‬وتزكية منهم لنفسهم‪ ،‬فرد ال عليهم بقوله‪ { :‬قل لو كنتم في بيوتكم } التي هي‬
‫أبعد شيء عن مظان القتل { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } فالسباب ‪-‬وإن‬
‫عظمت‪ -‬إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء‪ ،‬فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا‪ ،‬بل ل بد أن‬
‫يمضي ال ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة‪ { ،‬وليبتلي ال ما في صدوركم } أي‪:‬‬
‫يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان‪ { ،‬وليمحص ما في قلوبكم } من وساوس الشيطان‪،‬‬
‫وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة‪.‬‬

‫{ وال عليم بذات الصدور } أي‪ :‬بما فيها وما أكنته‪ ،‬فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من السباب‪،‬‬
‫ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر المور‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪:‬‬


‫ج ْمعَانِ إِ ّنمَا اسْتَزَّلهُمُ الشّ ْيطَانُ بِ َب ْعضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ‬
‫{ ‪ { } 155‬إِنّ الّذِينَ َتوَلّوْا مِ ْنكُمْ َي ْومَ الْ َتقَى ا ْل َ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ }‬
‫عفَا اللّهُ عَ ْنهُمْ إِنّ اللّهَ َ‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم "أحد" وما الذي أوجب لهم الفرار‪ ،‬وأنه من تسويل‬
‫الشيطان‪ ،‬وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم‪ .‬فهم الذين أدخلوه على أنفسهم‪ ،‬ومكنوه بما فعلوا من‬
‫المعاصي‪ ،‬لنها مركبه ومدخله‪ ،‬فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان‪.‬‬

‫قال تعالى‪ { :‬إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب‬
‫المؤاخذة‪ ،‬وإل فلو واخذهم لستأصلهم‪.‬‬

‫{ إن ال غفور } للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والستغفار‪ ،‬والمصائب المكفرة‪،‬‬


‫{ حليم } ل يعاجل من عصاه‪ ،‬بل يستأني به‪ ،‬ويدعوه إلى النابة إليه‪ ،‬والقبال عليه‪.‬‬

‫ثم إن تاب وأناب قبل منه‪ ،‬وصيره كأنه لم يجر منه ذنب‪ ،‬ولم يصدر منه عيب‪ ،‬فلله الحمد على‬
‫إحسانه‪.‬‬

‫خوَا ِنهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي‬


‫{ ‪ { } 158 - 156‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتكُونُوا كَالّذِينَ َكفَرُوا َوقَالُوا لِِإ ْ‬
‫ج َعلَ اللّهُ َذِلكَ حَسْ َرةً فِي قُلُو ِبهِ ْم وَاللّهُ‬
‫الْأَ ْرضِ َأوْ كَانُوا غُزّى َلوْ كَانُوا عِ ْندَنَا مَا مَاتُوا َومَا قُتِلُوا لِ َي ْ‬
‫حمَةٌ‬
‫يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْ ُتمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأوْ مُتّمْ َل َم ْغفِرَةٌ مِنَ اللّ ِه وَرَ ْ‬
‫ج َمعُونَ *‬
‫خَيْرٌ ِممّا َي ْ‬

‫ن}‬
‫شرُو َ‬
‫ن ُمّتمْ أَ ْو ُقتِ ْلتُمْ َلإِلَى اللّ ِه ُتحْ َ‬
‫وََلئِ ْ‬
‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين‪ ،‬الذين ل يؤمنون بربهم‪ ،‬ول بقضائه وقدره‪،‬‬
‫من المنافقين وغيرهم‪.‬‬

‫ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء‪ ،‬وفي هذا المر الخاص وهو أنهم يقولون لخوانهم في‬
‫الدين أو في النسب‪ { :‬إذا ضربوا في الرض } أي‪ :‬سافروا للتجارة { أو كانوا غزى } أي‪:‬‬
‫غزاة‪ ،‬ثم جرى عليهم قتل أو موت‪ ،‬يعارضون القدر ويقولون‪ { :‬لو كانوا عندنا ما ماتوا وما‬
‫قتلوا } وهذا كذب منهم‪ ،‬فقد قال تعالى‪ { :‬قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل‬
‫إلى مضاجعهم } ولكن هذا التكذيب لم يفدهم‪ ،‬إل أن ال يجعل هذا القول‪ ،‬وهذه العقيدة حسرة‬
‫في قلوبهم‪ ،‬فتزداد مصيبتهم‪ ،‬وأما المؤمنون بال فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر ال‪ ،‬فيؤمنون‬
‫ويسلمون‪ ،‬فيهدي ال قلوبهم ويثبتها‪ ،‬ويخفف بذلك عنهم المصيبة‪.‬‬

‫قال ال ردا عليهم‪ { :‬وال يحيي ويميت } أي‪ :‬هو المنفرد بذلك‪ ،‬فل يغني حذر عن قدر‪.‬‬

‫{ وال بما تعملون بصير } فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه‪ ،‬ليس فيه نقص ول محذور‪ ،‬وإنما هو مما‬
‫ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون‪ ،‬لنه سبب مفض وموصل إلى مغفرة ال ورحمته‪ ،‬وذلك‬
‫خير مما يجمع أهل الدنيا من دنياهم‪ ،‬وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت‪ ،‬فإنما‬
‫مرجعهم إلى ال‪ ،‬ومآلهم إليه‪ ،‬فيجازي كل بعمله‪ ،‬فأين الفرار إل إلى ال‪ ،‬وما للخلق عاصم‬
‫إل العتصام بحبل ال؟"‬

‫عفُ‬
‫ك فَا ْ‬
‫ن حَوِْل َ‬
‫ب لَانْ َفضّوا مِ ْ‬
‫ت فَظّا غَلِيظَ الْقَلْ ِ‬
‫ت َل ُهمْ وََلوْ ُكنْ َ‬
‫ن اللّهِ ِلنْ َ‬
‫حمَةٍ مِ َ‬
‫{ ‪َ { } 159‬ف ِبمَا َر ْ‬
‫ن}‬
‫ن اللّ َه ُيحِبّ ا ْل ُمتَ َوكّلِي َ‬
‫ت فَتَ َوكّلْ عَلَى اللّ ِه إِ ّ‬
‫ع َزمْ َ‬
‫ستَغْ ِفرْ َل ُهمْ َوشَا ِورْ ُهمْ فِي ا ْلَأ ْمرِ َفِإذَا َ‬
‫ع ْن ُهمْ وَا ْ‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬برحمة ال لك ولصحابك‪ ،‬منّ ال عليك أن ألنت لهم جانبك‪ ،‬وخفضت لهم جناحك‪،‬‬
‫وترققت عليهم‪ ،‬وحسنت لهم خلقك‪ ،‬فاجتمعوا عليك وأحبوك‪ ،‬وامتثلوا أمرك‪.‬‬

‫{ ولو كنت فظا } أي‪ :‬سيئ الخلق { غليظ القلب } أي‪ :‬قاسيه‪ { ،‬لنفضوا من حولك } لن هذا‬
‫ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ‪.‬‬

‫فالخلق الحسنة من الرئيس في الدين‪ ،‬تجذب الناس إلى دين ال‪ ،‬وترغبهم فيه‪ ،‬مع ما‬
‫لصاحبه من المدح والثواب الخاص‪ ،‬والخلق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن‬
‫الدين‪ ،‬وتبغضهم إليه‪ ،‬مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص‪ ،‬فهذا الرسول المعصوم يقول‬
‫ال له ما يقول‪ ،‬فكيف بغيره؟!‬

‫أليس من أوجب الواجبات‪ ،‬وأهم المهمات‪ ،‬القتداء بأخلقه الكريمة‪ ،‬ومعاملة الناس بما‬
‫يعاملهم به صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من اللين وحسن الخلق والتأليف‪ ،‬امتثال لمر ال‪ ،‬وجذبا‬
‫لعباد ال لدين ال‪.‬‬

‫ثم أمره ال تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ويستغفر لهم في التقصير في حق ال‪ ،‬فيجمع بين العفو والحسان‪.‬‬

‫{ وشاورهم في المر } أي‪ :‬المور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر‪ ،‬فإن في الستشارة‬
‫من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما ل يمكن حصره‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى ال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن فيها تسميحا لخواطرهم‪ ،‬وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث‪ ،‬فإن من له‬
‫المر على الناس ‪-‬إذا جمع أهل الرأي‪ :‬والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث‪ -‬اطمأنت‬
‫نفوسهم وأحبوه‪ ،‬وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم‪ ،‬وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة‬
‫للجميع‪ ،‬فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته‪ ،‬لعلمهم بسعيه في مصالح العموم‪ ،‬بخلف من‬
‫ليس كذلك‪ ،‬فإنهم ل يكادون يحبونه محبة صادقة‪ ،‬ول يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن في الستشارة تنور الفكار‪ ،‬بسبب إعمالها فيما وضعت له‪ ،‬فصار في ذلك زيادة‬
‫للعقول‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما تنتجه الستشارة من الرأي‪ :‬المصيب‪ ،‬فإن المشاور ل يكاد يخطئ في فعله‪ ،‬وإن‬
‫أخطأ أو لم يتم له مطلوب‪ ،‬فليس بملوم‪ ،‬فإذا كان ال يقول لرسوله ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫وهو أكمل الناس عقل‪ ،‬وأغزرهم علما‪ ،‬وأفضلهم رأيا‪ { :-‬وشاورهم في المر } فكيف‬
‫بغيره؟!‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬فإذا عزمت } أي‪ :‬على أمر من المور بعد الستشارة فيه‪ ،‬إن كان يحتاج إلى‬
‫استشارة { فتوكل على ال } أي‪ :‬اعتمد على حول ال وقوته‪ ،‬متبرئا من حولك وقوتك‪ { ،‬إن‬
‫ال يحب المتوكلين } عليه‪ ،‬اللجئين إليه‪.‬‬
‫ن َبعْدِ ِه وَعَلَى‬
‫ن ذَا اّلذِي َي ْنصُ ُر ُكمْ مِ ْ‬
‫خذُلْ ُكمْ َفمَ ْ‬
‫ن َي ْ‬
‫صرْ ُكمُ اللّهُ فَلَا غَالِبَ َل ُكمْ وَإِ ْ‬
‫{ ‪ِ { } 160‬إنْ َي ْن ُ‬
‫ل ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ }‬
‫اللّ ِه فَ ْليَتَ َوكّ ِ‬

‫أي‪ :‬إن يمددكم ال بنصره ومعونته { فل غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما‬
‫عندهم من العدد والعُدد‪ ،‬لن ال ل مغالب له‪ ،‬وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم‪ ،‬فل تتحرك دابة‬
‫إل بإذنه‪ ،‬ول تسكن إل بإذنه‪.‬‬

‫{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فل بد أن تنخذلوا ولو‬
‫أعانكم جميع الخلق‪.‬‬

‫وفي ضمن ذلك المر بالستنصار بال والعتماد عليه‪ ،‬والبراءة من الحول والقوة‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬وعلى ال فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر‪ ،‬أي‪ :‬على ال توكلوا ل‬
‫على غيره‪ ،‬لنه قد علم أنه هو الناصر وحده‪ ،‬فالعتماد عليه توحيد محصل للمقصود‪،‬‬
‫والعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه‪ ،‬بل ضار‪.‬‬

‫وفي هذه الية المر بالتوكل على ال وحده‪ ،‬وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله‪.‬‬

‫س مَا‬
‫ل َيأْتِ ِبمَا غَلّ َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة ُثمّ تُ َوفّى كُلّ نَفْ ٍ‬
‫ن َيغُلّ َو َمنْ َيغْلُ ْ‬
‫ن ِل َن ِبيّ أَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 161‬ومَا كَا َ‬
‫ن}‬
‫سبَتْ وَ ُه ْم لَا ُيظَْلمُو َ‬
‫َك َ‬

‫الغلول هو‪ :‬الكتمان من الغنيمة‪[ ،‬والخيانة في كل مال يتوله النسان] وهو محرم إجماعا‪ ،‬بل‬
‫هو من الكبائر‪ ،‬كما تدل عليه هذه الية الكريمة وغيرها من النصوص‪ ،‬فأخبر ال تعالى أنه‬
‫ما ينبغي ول يليق بنبي أن يغل‪ ،‬لن الغلول ‪-‬كما علمت‪ -‬من أعظم الذنوب وأشر العيوب‪.‬‬
‫وقد صان ال تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم‪ ،‬وجعلهم أفضل العالمين أخلقا‪،‬‬
‫وأطهرهم نفوسا‪ ،‬وأزكاهم وأطيبهم‪ ،‬ونزههم عن كل عيب‪ ،‬وجعلهم محل رسالته‪ ،‬ومعدن‬
‫حكمته { ال أعلم حيث يجعل رسالته }‪.‬‬

‫فبمجرد علم العبد بالواحد منهم‪ ،‬يجزم بسلمتهم من كل أمر يقدح فيهم‪ ،‬ول يحتاج إلى دليل‬
‫على ما قيل فيهم من أعدائهم‪ ،‬لن معرفته بنبوتهم‪ ،‬مستلزم لدفع ذلك‪ ،‬ولذلك أتى بصيغة يمتنع‬
‫معها وجود الفعل منهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وما كان لنبي أن يغل } أي‪ :‬يمتنع ذلك ويستحيل على من‬
‫اختارهم ال لنبوته‪.‬‬
‫ثم ذكر الوعيد على من غل‪ ،‬فقال‪ { :‬ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي‪ :‬يأت به حامله‬
‫على ظهره‪ ،‬حيوانا كان أو متاعا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬ليعذب به يوم القيامة‪ { ،‬ثم توفى كل نفس ما‬
‫كسبت } الغال وغيره‪ ،‬كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه‪ { ،‬وهم ل يظلمون } أي‪ :‬ل‬
‫يزاد في سيئاتهم‪ ،‬ول يهضمون شيئا من حسناتهم‪ ،‬وتأمل حسن هذا الحتراز في هذه الية‬
‫الكريمة‪.‬‬

‫لما ذكر عقوبة الغال‪ ،‬وأنه يأتي يوم القيامة بما غله‪ ،‬ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه‪ ،‬وكان‬
‫القتصار على الغال يوهم ‪-‬بالمفهوم‪ -‬أن غيره من أنواع العاملين قد ل يوفون ‪-‬أتى بلفظ‬
‫عام جامع له ولغيره‪.‬‬

‫ج َه ّنمُ َو ِبئْسَ‬
‫ن اللّهِ َو َمأْوَا ُه َ‬
‫سخَطٍ مِ َ‬
‫ن ا ّتبَعَ رِضْوَانَ اللّ ِه َكمَنْ بَا َء ِب َ‬
‫{ ‪َ { } 163 - 162‬أ َفمَ ِ‬
‫ن}‬
‫ع ْن َد اللّهِ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُو َ‬
‫ا ْل َمصِيرُ * ُهمْ َد َرجَاتٌ ِ‬

‫يخبر تعالى أنه ل يستوي من كان قصده رضوان ربه‪ ،‬والعمل على ما يرضيه‪ ،‬كمن ليس‬
‫كذلك‪ ،‬ممن هو مكب على المعاصي‪ ،‬مسخط لربه‪ ،‬هذان ل يستويان في حكم ال‪ ،‬وحكمة ال‪،‬‬
‫وفي فطر عباد ال‪.‬‬

‫{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ل يستوون } ولهذا قال هنا‪ { :‬هم درجات عند ال } أي‪ :‬كل‬
‫هؤلء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم‪.‬‬

‫فالمتبعون لرضوان ال يسعون في نيل الدرجات العاليات‪ ،‬والمنازل والغرفات‪ ،‬فيعطيهم ال‬
‫من فضله وجوده على قدر أعمالهم‪ ،‬والمتبعون لمساخط ال يسعون في النزول في الدركات‬
‫إلى أسفل سافلين‪ ،‬كل على حسب عمله‪ ،‬وال تعالى بصير بأعمالهم‪ ،‬ل يخفى عليه منها‬
‫شيء‪ ،‬بل قد علمها‪ ،‬وأثبتها في اللوح المحفوظ‪ ،‬ووكل ملئكته المناء الكرام‪ ،‬أن يكتبوها‬
‫ويحفظوها‪ ،‬ويضبطونها‪.‬‬

‫سهِمْ َيتْلُو عََل ْي ِهمْ آيَا ِتهِ‬


‫ن اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِإ ْذ َبعَثَ فِيهِمْ َرسُولًا مِنْ َأ ْن ُف ِ‬
‫{ ‪َ { } 164‬ل َقدْ مَ ّ‬
‫ن}‬
‫ن َقبْلُ لَفِي ضَلَالٍ ُمبِي ٍ‬
‫ح ْكمَةَ وَِإنْ كَانُوا مِ ْ‬
‫َو ُي َزكّيهِمْ َو ُيعَّل ُمهُمُ ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ‬

‫هذه المنة التي امتن ال بها على عباده‪ ،‬أكبر النعم‪ ،‬بل أصلها‪ ،‬وهي المتنان عليهم بهذا‬
‫الرسول الكريم الذي أنقذهم ال به من الضللة‪ ،‬وعصمهم به من الهلكة‪ ،‬فقال‪ { :‬لقد منّ ال‬
‫على المؤمنين إذ بعث فيهم رسول من أنفسهم } يعرفون نسبه‪ ،‬وحاله‪ ،‬ولسانه‪ ،‬من قومهم‬
‫وقبيلتهم‪ ،‬ناصحا لهم‪ ،‬مشفقا عليهم‪ ،‬يتلو عليهم آيات ال‪ ،‬يعلمهم ألفاظها ومعانيها‪.‬‬

‫{ ويزكيهم } من الشرك‪ ،‬والمعاصي‪ ،‬والرذائل‪ ،‬وسائر مساوئ الخلق‪.‬‬

‫و { يعلمهم الكتاب } إما جنس الكتاب الذي هو القرآن‪ ،‬فيكون قوله‪ { :‬يتلو عليهم آياته }‬
‫المراد به اليات الكونية‪ ،‬أو المراد بالكتاب ‪-‬هنا‪ -‬الكتابة‪ ،‬فيكون قد امتن عليهم‪ ،‬بتعليم‬
‫الكتاب والكتابة‪ ،‬التي بها تدرك العلوم وتحفظ‪ { ،‬والحكمة } هي‪ :‬السنة‪ ،‬التي هي شقيقة‬
‫القرآن‪ ،‬أو وضع الشياء مواضعها‪ ،‬ومعرفة أسرار الشريعة‪.‬‬

‫فجمع لهم بين تعليم الحكام‪ ،‬وما به تنفذ الحكام‪ ،‬وما به تدرك فوائدها وثمراتها‪ ،‬ففاقوا بهذه‬
‫المور العظيمة جميع المخلوقين‪ ،‬وكانوا من العلماء الربانيين‪ { ،‬وإن كانوا من قبل } بعثة هذا‬
‫الرسول { لفي ضلل مبين } ل يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم‪ ،‬ول ما يزكي النفوس‬
‫ويطهرها‪ ،‬بل ما زين لهم جهلهم فعلوه‪ ،‬ولو ناقض ذلك عقول العالمين‪.‬‬

‫ع ْندِ‬
‫ص ْبتُمْ ِمثَْل ْيهَا قُ ْل ُتمْ َأنّى َهذَا قُلْ ُهوَ ِمنْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 168 - 165‬أوََلمّا َأصَا َبتْ ُكمْ ُمصِيبَةٌ َقدْ َأ َ‬
‫ن اللّهِ وَِل َيعَْلمَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ‬
‫ن َف ِبإِذْ ِ‬
‫ج ْمعَا ِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ * َومَا َأصَا َب ُكمْ يَ ْومَ ا ْلتَقَى ا ْل َ‬
‫ل َ‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُ ّ‬
‫سكُ ْم إِ ّ‬
‫َأنْ ُف ِ‬
‫سبِيلِ اللّهِ َأ ِو ادْ َفعُوا قَالُوا َلوْ َنعَْلمُ ِقتَالًا لَا ّت َبعْنَا ُكمْ‬
‫ن نَافَقُوا َوقِيلَ َل ُهمْ َتعَالَوْا قَاتِلُوا فِي َ‬
‫* وَِل َيعَْلمَ اّلذِي َ‬
‫ن ِبأَفْوا ِه ِهمْ مَا َليْسَ فِي قُلُو ِب ِهمْ وَاللّهُ َأعَْلمُ ِبمَا َي ْك ُتمُونَ‬
‫ُهمْ لِ ْلكُ ْفرِ َي ْو َمئِ ٍذ َأقْرَبُ ِم ْن ُهمْ لِ ْلإِيمَانِ َيقُولُو َ‬
‫س ُكمُ ا ْل َموْتَ ِإنْ ُك ْن ُتمْ‬
‫عنْ َأنْ ُف ِ‬
‫* اّلذِينَ قَالُوا ِلِإخْوَا ِن ِهمْ َو َق َعدُوا َل ْو َأطَاعُونَا مَا ُقتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا َ‬
‫صَا ِدقِينَ }‬

‫هذا تسلية من ال تعالى لعباده المؤمنين‪ ،‬حين أصابهم ما أصابهم يوم "أحد" وقتل منهم نحو‬
‫سبعين‪ ،‬فقال ال‪ :‬إنكم { قد أصبتم } من المشركين { مثليها } يوم بدر فقتلتم سبعين من كبارهم‬
‫وأسرتم سبعين‪ ،‬فليهن المر ولتخف المصيبة عليكم‪ ،‬مع أنكم ل تستوون أنتم وهم‪ ،‬فإن قتلكم‬
‫في الجنة وقتلهم في النار‪.‬‬

‫{ قلتم أنى هذا } أي‪ :‬من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ { قل هو من عند أنفسكم } حين‬
‫تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون‪ ،‬فعودوا على أنفسكم باللوم‪ ،‬واحذروا من‬
‫السباب المردية‪.‬‬
‫{ إن ال على كل شيء قدير } فإياكم وسوء الظن بال‪ ،‬فإنه قادر على نصركم‪ ،‬ولكن له أتم‬
‫الحكمة في ابتلئكم ومصيبتكم‪ { .‬ذلك ولو يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }‬

‫ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان‪ ،‬جمع المسلمين وجمع المشركين في "أحد" من القتل‬
‫والهزيمة‪ ،‬أنه بإذنه وقضائه وقدره‪ ،‬ل مرد له ول بد من وقوعه‪ .‬والمر القدري ‪-‬إذا نفذ‪ ،‬لم‬
‫يبق إل التسليم له‪ ،‬وأنه قدره لحكم عظيمة وفوائد جسيمة‪ ،‬وأنه ليتبين بذلك المؤمن من‬
‫المنافق‪ ،‬الذين لما أمروا بالقتال‪ { ،‬وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل ال } أي‪ :‬ذبا عن دين ال‪،‬‬
‫وحماية له وطلبا لمرضاة ال‪ { ،‬أو ادفعوا } عن محارمكم وبلدكم‪ ،‬إن لم يكن لكم نية صالحة‪،‬‬
‫فأبوا ذلك واعتذروا بأن { قالوا لو نعلم قتال لتبعناكم } أي‪ :‬لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم‬
‫قتال لتبعناكم‪ ،‬وهم كذبة في هذا‪ .‬قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد أن هؤلء المشركين‪ ،‬قد‬
‫ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين بما أصابوا منهم‪ ،‬وأنهم قد بذلوا أموالهم‪ ،‬وجمعوا ما‬
‫يقدرون عليه من الرجال والعدد‪ ،‬وأقبلوا في جيش عظيم قاصدين المؤمنين في بلدهم‪،‬‬
‫متحرقين على قتالهم‪ ،‬فمن كانت هذه حالهم‪ ،‬كيف يتصور أنهم ل يصير بينهم وبين المؤمنين‬
‫قتال؟ خصوصا وقد خرج المسلمون من المدينة وبرزوا لهم‪ ،‬هذا من المستحيل‪ ،‬ولكن‬
‫المنافقين ظنوا أن هذا العذر‪ ،‬يروج على المؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬هم للكفر يومئذ } أي‪ :‬في‬
‫تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين { أقرب منهم لليمان يقولون بأفواههم ما‬
‫ليس في قلوبهم } وهذه خاصة المنافقين‪ ،‬يظهرون بكلمهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم‬
‫وسرائرهم‪.‬‬

‫ومنه قولهم‪ { :‬لو نعلم قتال لتبعناكم } فإنهم قد علموا وقوع القتال‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلهما‪ ،‬وفعل أدنى المصلحتين‪،‬‬
‫للعجز عن أعلهما" ؛ [لن المنافقين أمروا أن يقاتلوا للدين‪ ،‬فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال‬
‫والوطان] { وال أعلم بما يكتمون } فيبديه لعباده المؤمنين‪ ،‬ويعاقبهم عليه‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬الذين قالوا لخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } أي‪ :‬جمعوا بين التخلف عن‬
‫الجهاد‪ ،‬وبين العتراض والتكذيب بقضاء ال وقدره‪ ،‬قال ال ردّا عليهم‪ { :‬قل فادرءوا } أي‪:‬‬
‫ادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا‪ ،‬ل تقدرون على ذلك‬
‫ول تستطيعونه‪.‬‬

‫وفي هذه اليات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان‪ ،‬وقد يكون إلى‬
‫أحدهما أقرب منه إلى الخرى‪.‬‬
‫ع ْندَ َر ّب ِهمْ ُيرْ َزقُونَ‬
‫حيَاءٌ ِ‬
‫سبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتًا بَلْ َأ ْ‬
‫ن ُقتِلُوا فِي َ‬
‫سبَنّ اّلذِي َ‬
‫حَ‬‫{ ‪ { } 171 - 169‬وَلَا َت ْ‬
‫ن بِاّلذِينَ َل ْم يَ ْلحَقُوا ِبهِمْ ِمنْ خَلْ ِف ِهمْ أَلّا خَ ْوفٌ عََل ْي ِهمْ‬
‫شرُو َ‬
‫س َتبْ ِ‬
‫ن فَضْلِهِ َو َي ْ‬
‫* فَ ِرحِينَ ِبمَا آتَا ُهمُ اللّ ُه مِ ْ‬
‫جرَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ }‬
‫ن اللّهِ َو َفضْلٍ وََأنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ َأ ْ‬
‫س َت ْبشِرُونَ ِب ِن ْعمَ ٍة مِ َ‬
‫حزَنُونَ * َي ْ‬
‫وَلَا ُهمْ َي ْ‬

‫ن ال عليهم به من فضله وإحسانه‪،‬‬


‫هذه اليات الكريمة فيها فضيلة الشهداء وكرامتهم‪ ،‬وما م ّ‬
‫وفي ضمنها تسلية الحياء عن قتلهم وتعزيتهم‪ ،‬وتنشيطهم للقتال في سبيل ال والتعرض‬
‫للشهادة‪ ،‬فقال‪ { :‬ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال } أي‪ :‬في جهاد أعداء الدين‪ ،‬قاصدين‬
‫بذلك إعلء كلمة ال { أمواتا } أي‪ :‬ل يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا‪ ،‬وذهبت عنهم‬
‫لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها‪ ،‬الذي يحذر من فواته‪ ،‬من جبن عن القتال‪ ،‬وزهد في‬
‫الشهادة‪ { .‬بل } قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون‪ .‬فهم { أحياء عند ربهم } في‬
‫دار كرامته‪.‬‬

‫ولفظ‪ { :‬عند ربهم } يقتضي علو درجتهم‪ ،‬وقربهم من ربهم‪ { ،‬يرزقون } من أنواع النعيم‬
‫الذي ل يعلم وصفه‪ ،‬إل من أنعم به عليهم‪ ،‬ومع هذا { فرحين بما آتاهم ال من فضله } أي‪:‬‬
‫مغتبطين بذلك‪ ،‬قد قرت به عيونهم‪ ،‬وفرحت به نفوسهم‪ ،‬وذلك لحسنه وكثرته‪ ،‬وعظمته‪،‬‬
‫وكمال اللذة في الوصول إليه‪ ،‬وعدم المنغص‪ ،‬فجمع ال لهم بين نعيم البدن بالرزق‪ ،‬ونعيم‬
‫القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله‪ :‬فتم لهم النعيم والسرور‪ ،‬وجعلوا { يستبشرون‬
‫بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } أي‪ :‬يبشر بعضهم بعضا‪ ،‬بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا‬
‫بهم‪ ،‬وأنهم سينالون ما نالوا‪ { ،‬أل خوف عليهم ول هم يحزنون } أي‪ :‬يستبشرون بزوال‬
‫المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور‬

‫{ يستبشرون بنعمة من ال وفضل } أي‪ :‬يهنىء بعضهم بعضا‪ ،‬بأعظم مهنأ به‪ ،‬وهو‪ :‬نعمة‬
‫ربهم‪ ،‬وفضله‪ ،‬وإحسانه‪ { ،‬وأن ال ل يضيع أجر المؤمنين } بل ينميه ويشكره‪ ،‬ويزيده من‬
‫فضله‪ ،‬ما ل يصل إليه سعيهم‪.‬‬

‫وفي هذه اليات إثبات نعيم البرزخ‪ ،‬وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم‪ ،‬وفيه تلقي أرواح‬
‫أهل الخير‪ ،‬وزيارة بعضهم بعضا‪ ،‬وتبشير بعضهم بعضا‪.‬‬

‫سنُوا‬
‫حَ‬‫ن َب ْعدِ مَا َأصَا َبهُمُ ا ْل َقرْحُ لِّلذِينَ َأ ْ‬
‫ل مِ ْ‬
‫س َتجَابُوا لِلّ ِه وَالرّسُو ِ‬
‫ناْ‬
‫{ ‪ { } 175 - 172‬اّلذِي َ‬
‫ج َمعُوا َل ُكمْ فَاخْشَوْ ُهمْ َفزَادَهُ ْم إِيمَانًا‬
‫ن قَالَ َل ُهمُ النّاسُ ِإنّ النّاسَ َقدْ َ‬
‫عظِيمٌ * اّلذِي َ‬
‫جرٌ َ‬
‫ِم ْنهُمْ وَاتّ َقوْا َأ ْ‬
‫س ُهمْ سُوءٌ وَا ّت َبعُوا‬
‫سْ‬‫ل * فَانْقََلبُوا ِب ِن ْعمَةٍ ِمنَ اللّهِ َوفَضْلٍ َل ْم َيمْ َ‬
‫حسْ ُبنَا اللّهُ َو ِن ْعمَ الْ َوكِي ُ‬
‫َوقَالُوا َ‬
‫ن إِنْ‬
‫خ ّوفُ أَوِْليَا َءهُ فَلَا َتخَافُو ُهمْ َوخَافُو ِ‬
‫ش ْيطَانُ ُي َ‬
‫عظِي ٍم * ِإ ّنمَا ذَِلكُمُ ال ّ‬
‫رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّ ُه ذُو فَضْلٍ َ‬
‫ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ }‬

‫لما رجع النبي صلى ال عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة‪ ،‬وسمع أن أبا سفيان ومن معه من‬
‫المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة‪ ،‬ندب أصحابه إلى الخروج‪ ،‬فخرجوا ‪-‬على ما بهم‬
‫من الجراح‪ -‬استجابة ل ولرسوله‪ ،‬وطاعة ل ولرسوله‪ ،‬فوصلوا إلى "حمراء السد" وجاءهم‬
‫من جاءهم وقال لهم‪ { :‬إن الناس قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم‪ ،‬تخويفا لهم وترهيبا‪ ،‬فلم‬
‫يزدهم ذلك إل إيمانا بال واتكال عليه‪.‬‬

‫{ وقالوا حسبنا ال } أي‪ :‬كافينا كل ما أهمنا { ونعم الوكيل } المفوض إليه تدبير عباده‪ ،‬والقائم‬
‫بمصالحهم‪.‬‬

‫{ فانقلبوا } أي‪ :‬رجعوا { بنعمة من ال وفضل لم يمسسهم سوء }‬

‫وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم‪ ،‬وندم من تخلف منهم‪ ،‬فألقى ال‬
‫الرعب في قلوبهم‪ ،‬واستمروا راجعين إلى مكة‪ ،‬ورجع المؤمنون بنعمة من ال وفضل‪ ،‬حيث‬
‫ن عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والتكال على ربهم‪ ،‬ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة‬
‫مَ ّ‬
‫تامة‪ ،‬فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم‪ ،‬وتقواهم عن معصيته‪ ،‬لهم أجر عظيم‪ ،‬وهذا فضل ال‬
‫عليهم‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي‪ :‬إن ترهيب من رهب من المشركين‪،‬‬
‫وقال‪ :‬إنهم جمعوا لكم‪ ،‬داع من دعاة الشيطان‪ ،‬يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم‪ ،‬أو ضعف‪{ .‬‬
‫فل تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي‪ :‬فل تخافوا المشركين أولياء الشيطان‪ ،‬فإن‬
‫نواصيهم بيد ال‪ ،‬ل يتصرفون إل بقدره‪ ،‬بل خافوا ال الذي ينصر أولياءه الخائفين منه‬
‫المستجيبين لدعوته‪.‬‬

‫وفي هذه الية وجوب الخوف من ال وحده‪ ،‬وأنه من لوازم اليمان‪ ،‬فعلى قدر إيمان العبد‬
‫يكون خوفه من ال‪ ،‬والخوف المحمود‪ :‬ما حجز العبد عن محارم ال‪.‬‬

‫ش ْيئًا ُيرِيدُ اللّهُ‬


‫ن َيضُرّوا اللّهَ َ‬
‫ح ُز ْنكَ اّلذِينَ ُيسَارِعُونَ فِي ا ْلكُ ْفرِ ِإ ّن ُهمْ لَ ْ‬
‫{ ‪ { } 177 - 176‬وَلَا َي ْ‬
‫ن َيضُرّوا‬
‫ن لَ ْ‬
‫ش َترَوُا ا ْلكُ ْفرَ بِا ْلإِيمَا ِ‬
‫ن اّلذِينَ ا ْ‬
‫عظِيمٌ * إِ ّ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫خرَةِ وََل ُهمْ َ‬
‫حظّا فِي الْآ ِ‬
‫جعَلَ َل ُهمْ َ‬
‫أَلّا َي ْ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫ش ْيئًا وََل ُهمْ َ‬
‫اللّ َه َ‬
‫كان النبي صلى ال عليه وسلم حريصا على الخلق‪ ،‬مجتهدا في هدايتهم‪ ،‬وكان يحزن إذا لم‬
‫يهتدوا‪ ،‬قال ال تعالى‪ { :‬ول يحزنك الذين يسارعون في الكفر } من شدة رغبتهم فيه‪،‬‬
‫وحرصهم عليه { إنهم لن يضروا ال شيئا } فال ناصر دينه‪ ،‬ومؤيد رسوله‪ ،‬ومنفذ أمره من‬
‫دونهم‪ ،‬فل تبالهم ول تحفل بهم‪ ،‬إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم‪ ،‬بفوات اليمان في‬
‫الدنيا‪ ،‬وحصول العذاب الليم في الخرى‪ ،‬من هوانهم على ال وسقوطهم من عينه‪ ،‬وإرادته‬
‫أن ل يجعل لهم نصيبا في الخرة من ثوابه‪ .‬خذلهم فلم يوفقهم لما وفق له أولياءه ومن أراد به‬
‫خيرا‪ ،‬عدل منه وحكمة‪ ،‬لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى‪ ،‬ول قابلين للرشاد‪ ،‬لفساد أخلقهم‬
‫وسوء قصدهم‪.‬‬

‫ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على اليمان‪ ،‬ورغبوا فيه رغبة من بذل ما يحب من المال‪،‬‬
‫في شراء ما يحب من السلع { لن يضروا ال شيئا } بل ضرر فعلهم يعود على أنفسهم‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬ولهم عذاب أليم } وكيف يضرون ال شيئا‪ ،‬وهم قد زهدوا أشد الزهد في اليمان‪،‬‬
‫ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن؟! فال غني عنهم‪ ،‬وقد قيض لدينه من عباده البرار‬
‫الزكياء سواهم‪ ،‬وأعد له ‪-‬ممن ارتضاه لنصرته‪ -‬أهل البصائر والعقول‪ ،‬وذوي اللباب من‬
‫الرجال الفحول‪ ،‬قال ال تعالى‪ { :‬قل آمنوا به أو ل تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا‬
‫يتلى عليهم يخرون للذقان سجدا } اليات‪.‬‬

‫سهِمْ ِإ ّنمَا ُنمْلِي َل ُهمْ ِل َي ْزدَادُوا ِإ ْثمًا‬


‫خ ْيرٌ ِلَأنْ ُف ِ‬
‫ن كَ َفرُوا َأ ّنمَا ُنمْلِي َل ُهمْ َ‬
‫سبَنّ اّلذِي َ‬
‫حَ‬‫{ ‪ { } 178‬وَلَا َي ْ‬
‫ن}‬
‫عذَابٌ ُمهِي ٌ‬
‫وََل ُهمْ َ‬

‫أي‪ :‬ول يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه‪ ،‬وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا‪،‬‬
‫وعدم استئصالنا لهم‪ ،‬وإملءنا لهم خير لنفسهم‪ ،‬ومحبة منا لهم‪.‬‬

‫كل‪ ،‬ليس المر كما زعموا‪ ،‬وإنما ذلك لشر يريده ال بهم‪ ،‬وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } فال تعالى يملي للظالم‪ ،‬حتى‬
‫يزداد طغيانه‪ ،‬ويترادف كفرانه‪ ،‬حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬فليحذر الظالمون من‬
‫المهال‪ ،‬ول يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال‪.‬‬

‫طيّبِ َومَا‬
‫ن ال ّ‬
‫خبِيثَ مِ َ‬
‫حتّى َيمِيزَ ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 179‬مَا كَانَ اللّهُ ِل َي َذرَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ عَلَى مَا َأ ْن ُتمْ عََليْ ِه َ‬
‫ن َيشَاءُ فَآ ِمنُوا بِاللّهِ َو ُرسُلِهِ وَِإنْ‬
‫ن رُسُلِ ِه مَ ْ‬
‫ج َتبِي مِ ْ‬
‫كَانَ اللّهُ ِل ُيطِْل َع ُكمْ عَلَى ا ْل َغيْبِ وََل ِكنّ اللّهَ َي ْ‬
‫عظِيمٌ }‬
‫جرٌ َ‬
‫تُ ْؤ ِمنُوا َو َتتّقُوا فََل ُكمْ َأ ْ‬
‫أي‪ :‬ما كان في حكمة ال أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الختلط وعدم التميز‬
‫حتى يميز الخبيث من الطيب‪ ،‬والمؤمن من المنافق‪ ،‬والصادق من الكاذب‪.‬‬

‫ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده‪ ،‬فاقتضت حكمته‬
‫الباهرة أن يبتلي عباده‪ ،‬ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب‪ ،‬من أنواع البتلء والمتحان‪،‬‬
‫فأرسل [ال] رسله‪ ،‬وأمر بطاعتهم‪ ،‬والنقياد لهم‪ ،‬واليمان بهم‪ ،‬ووعدهم على اليمان والتقوى‬
‫الجر العظيم‪.‬‬

‫فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين‪ :‬مطيعين وعاصين‪ ،‬ومؤمنين ومنافقين‪ ،‬ومسلمين‬
‫وكافرين‪ ،‬ليرتب على ذلك الثواب والعقاب‪ ،‬وليظهر عدله وفضله‪ ،‬وحكمته لخلقه‪.‬‬

‫ل هُ َو شَ ّر َل ُهمْ‬
‫خ ْيرًا َل ُهمْ بَ ْ‬
‫ن َفضْلِهِ ُهوَ َ‬
‫ن ِبمَا آتَا ُهمُ اللّهُ مِ ْ‬
‫ن َي ْبخَلُو َ‬
‫سبَنّ اّلذِي َ‬
‫حَ‬‫{ ‪ { } 180‬وَلَا َي ْ‬
‫خبِيرٌ }‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ‬
‫سيُطَ ّوقُونَ مَا َبخِلُوا ِبهِ َي ْومَ الْ ِقيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬ول يظن الذين يبخلون‪ ،‬أي‪ :‬يمنعون ما عندهم مما آتاهم ال من فضله‪ ،‬من المال والجاه‬
‫والعلم‪ ،‬وغير ذلك مما منحهم ال‪ ،‬وأحسن إليهم به‪ ،‬وأمرهم ببذل ما ل يضرهم منه لعباده‪،‬‬
‫فبخلوا بذلك‪ ،‬وأمسكوه‪ ،‬وضنوا به على عباد ال‪ ،‬وظنوا أنه خير لهم‪ ،‬بل هو شر لهم‪ ،‬في‬
‫دينهم ودنياهم‪ ،‬وعاجلهم وآجلهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي‪ :‬يجعل ما بخلوا به‬
‫طوقا في أعناقهم‪ ،‬يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح‪" ،‬إن البخيل يمثل له ماله يوم‬
‫القيامة شجاعا أقرع‪ ،‬له زبيبتان‪ ،‬يأخذ بلهزمتيه يقول‪ :‬أنا مالك‪ ،‬أنا كنزك" وتل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم مصداق ذلك‪ ،‬هذه الية‪.‬‬

‫فهؤلء حسبوا أن بخلهم نافعهم‪ ،‬ومجد عليهم‪ ،‬فانقلب عليهم المر‪ ،‬وصار من أعظم‬
‫مضارهم‪ ،‬وسبب عقابهم‪.‬‬

‫{ ول ميراث السماوات والرض } أي‪ :‬هو تعالى مالك الملك‪ ،‬وترد جميع الملك إلى‬
‫مالكها‪ ،‬وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ول دينار‪ ،‬ول غير ذلك من المال‪.‬‬

‫قال تعالى‪ { :‬إنا نحن نرث الرض ومن عليها وإلينا يرجعون } وتأمل كيف ذكر السبب‬
‫البتدائي والسبب الغائي‪ ،‬الموجب كل واحد منهما أن ل يبخل العبد بما أعطاه ال‪.‬‬
‫أخبر أول‪ :‬أن الذي عنده وفي يده فضل من ال ونعمة‪ ،‬ليس ملكا للعبد‪ ،‬بل لول فضل ال‬
‫عليه وإحسانه‪ ،‬لم يصل إليه منه شيء‪ ،‬فمنعه لذلك منع لفضل ال وإحسانه؛ ولن إحسانه‬
‫موجب للحسان إلى عبيده كما قال تعالى‪ { :‬وأحسن كما أحسن ال إليك }‬

‫فمن تحقق أن ما بيده‪ ،‬فضل من ال‪ ،‬لم يمنع الفضل الذي ل يضره‪ ،‬بل ينفعه في قلبه وماله‪،‬‬
‫وزيادة إيمانه‪ ،‬وحفظه من الفات‪.‬‬

‫ثم ذكر ثانيا‪ :‬أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى ال‪ ،‬ويرثها تعالى‪ ،‬وهو خير الوارثين‪،‬‬
‫فل معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك‪.‬‬

‫ثم ذكر ثالثا‪ :‬السبب الجزائي‪ ،‬فقال‪ { :‬وال بما تعملون خبير } فإذا كان خبيرا بأعمالكم‬
‫جميعها ‪-‬ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات‪ ،‬والعقوبات على الشر‪ -‬لم يتخلف من في‬
‫قلبه مثقال ذرة من إيمان عن النفاق الذي يجزى به الثواب‪ ،‬ول يرضى بالمساك الذي به‬
‫العقاب‪.‬‬

‫س َن ْكتُبُ مَا قَالُوا‬


‫غ ِنيَاءُ َ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ن اللّ َه فَقِيرٌ َو َنحْ ُ‬
‫ل اّلذِينَ قَالُوا إِ ّ‬
‫سمِعَ اللّ ُه قَوْ َ‬
‫{ ‪َ { } 182 - 181‬ل َقدْ َ‬
‫حرِيقِ * ذَِلكَ ِبمَا َق ّدمَتْ َأ ْيدِي ُكمْ وََأنّ اللّهَ َليْسَ‬
‫ب ا ْل َ‬
‫عذَا َ‬
‫ل ذُوقُوا َ‬
‫حقّ َونَقُو ُ‬
‫َو َقتَْل ُهمُ ا ْلَأ ْنبِيَا َء ِب َغيْرِ َ‬
‫ِبظَلّامٍ لِ ْل َعبِيدِ }‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬عن قول هؤلء المتمردين‪ ،‬الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها‪ ،‬وأسمجها‪ ،‬فأخبر أنه‬
‫قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه‪ ،‬مع أفعالهم الشنيعة‪ ،‬وهو‪ :‬قتلهم النبياء الناصحين‪،‬‬
‫وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة‪ ،‬وأنه يقال لهم ‪-‬بدل قولهم إن ال فقير ونحن أغنياء‪-‬‬
‫{ ذوقوا عذاب الحريق } المحرق النافذ من البدن إلى الفئدة‪ ،‬وأن عذابهم ليس ظلما من ال‬
‫لهم‪ ،‬فإنه { ليس بظلم للعبيد } فإنه منزه عن ذلك‪ ،‬وإنما ذلك بما قدمت أيديهم من المخازي‬
‫والقبائح‪ ،‬التي أوجبت استحقاقهم العذاب‪ ،‬وحرمانهم الثواب‪.‬‬

‫وقد ذكر المفسرون أن هذه الية نزلت في قوم من اليهود‪ ،‬تكلموا بذلك‪ ،‬وذكروا منهم‬
‫"فنحاص بن عازوراء" من رؤساء علماء اليهود في المدينة‪ ،‬وأنه لما سمع قول ال تعالى‪:‬‬
‫{ من ذا الذي يقرض ال قرضا حسنا } { وأقرضوا ال قرضا حسنا } قال‪- :‬على وجه التكبر‬
‫والتجرهم‪ -‬هذه المقالة قبحه ال‪ ،‬فذكرها ال عنهم‪ ،‬وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم‪ ،‬بل قد‬
‫سبق لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك‪ ،‬وهو‪ { :‬قتلهم النبياء بغير حق } هذا القيد يراد به‪،‬‬
‫أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته‪ ،‬ل جهل وضلل‪ ،‬بل تمردا وعنادا‪.‬‬
‫ن َت ْأكُلُهُ‬
‫حتّى َي ْأ ِت َينَا بِ ُق ْربَا ٍ‬
‫ل َ‬
‫ن ِلرَسُو ٍ‬
‫ع ِهدَ إَِل ْينَا أَلّا ُن ْؤمِ َ‬
‫ن قَالُوا ِإنّ اللّهَ َ‬
‫{ ‪ { } 184 - 183‬اّلذِي َ‬
‫ن ُك ْن ُتمْ صَا ِدقِينَ * َفإِنْ‬
‫النّا ُر قُلْ قَ ْد جَا َءكُ ْم رُسُلٌ ِمنْ َقبْلِي بِا ْل َب ّينَاتِ َوبِاّلذِي قُ ْلتُمْ فَِلمَ َقتَ ْل ُتمُو ُهمْ إِ ْ‬
‫ب ا ْل ُمنِيرِ }‬
‫َك ّذبُوكَ فَ َقدْ ُكذّبَ ُرسُلٌ ِمنْ َقبِْلكَ جَاءُوا بِا ْل َب ّينَاتِ وَال ّز ُبرِ وَا ْل ِكتَا ِ‬

‫يخبر تعالى عن حال هؤلء المفترين القائلين‪ { :‬إن ال عهد إلينا } أي‪ :‬تقدم إلينا وأوصى‪،‬‬
‫{ أل نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فجمعوا بين الكذب على ال‪ ،‬وحصر آية‬
‫الرسل بما قالوه‪ ،‬من هذا الفك المبين‪ ،‬وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار‪،‬‬
‫فهم ‪-‬في ذلك‪ -‬مطيعون لربهم‪ ،‬ملتزمون عهده‪ ،‬وقد علم أن كل رسول يرسله ال‪ ،‬يؤيده من‬
‫اليات والبراهين‪ ،‬ما على مثله آمن البشر‪ ،‬ولم يقصرها على ما قالوه‪ ،‬ومع هذا فقد قالوا إفكا‬
‫لم يلتزموه‪ ،‬وباطل لم يعملوا به‪ ،‬ولهذا أمر ال رسوله أن يقول لهم‪ { :‬قل قد جاءكم رسل من‬
‫قبلي بالبينات } الدالت على صدقهم { وبالذي قلتم } بأن أتاكم بقربان تأكله النار { فلم‬
‫قتلتموهم إن كنتم صادقين } أي‪ :‬في دعواهم اليمان برسول يأتي بقربان تأكله النار‪ ،‬فقد‬
‫تبين بهذا كذبهم‪ ،‬وعنادهم وتناقضهم‪.‬‬

‫ثم سلّى رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ { :‬فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك } أي‪ :‬هذه‬
‫عادة الظالمين‪ ،‬ودأبهم الكفر بال‪ ،‬وتكذيب رسل ال وليس تكذيبهم لرسل ال‪ ،‬عن قصور ما‬
‫أتوا به‪ ،‬أو عدم تبين حجة‪ ،‬بل قد { جاءوا بالبينات } أي‪ :‬الحجج العقلية‪ ،‬والبراهين النقلية‪،‬‬
‫{ والزبر } أي‪ :‬الكتب المزبورة المنزلة من السماء‪ ،‬التي ل يمكن أن يأتي بها غير الرسل‪.‬‬

‫{ والكتاب المنير } للحكام الشرعية‪ ،‬وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية‪ ،‬ومنير أيضا‬
‫للخبار الصادقة‪ ،‬فإذا كان هذا عادتهم في عدم اليمان بالرسل‪ ،‬الذين هذا وصفهم‪ ،‬فل يحزنك‬
‫أمرهم‪ ،‬ول يهمنك شأنهم‪.‬‬

‫حزِحَ‬
‫ل نَفْسٍ ذَائِ َقةُ ا ْل َموْتِ وَِإ ّنمَا تُ َوفّ ْونَ ُأجُو َركُمْ َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة َفمَنْ ُز ْ‬
‫ثم قال تعالى‪ { } 185 { :‬كُ ّ‬
‫ع ا ْلغُرُو ِر }‬
‫حيَاةُ ال ّد ْنيَا إِلّا َمتَا ُ‬
‫جنّةَ فَ َق ْد فَازَ َومَا ا ْل َ‬
‫ل ا ْل َ‬
‫عنِ النّارِ وَُأ ْدخِ َ‬
‫َ‬

‫هذه الية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها‪ ،‬وأنها متاع الغرور‪ ،‬تفتن‬
‫بزخرفها‪ ،‬وتخدع بغرورها‪ ،‬وتغر بمحاسنها‪ ،‬ثم هي منتقلة‪ ،‬ومنتقل عنها إلى دار القرار‪ ،‬التي‬
‫توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬
‫{ فمن زحزح } أي‪ :‬أخرج‪ { ،‬عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي‪ :‬حصل له الفوز العظيم‬
‫من العذاب الليم‪ ،‬والوصول إلى جنات النعيم‪ ،‬التي فيها ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول‬
‫خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫ومفهوم الية‪ ،‬أن من لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة‪ ،‬فإنه لم يفز‪ ،‬بل قد شقي الشقاء‬
‫البدي‪ ،‬وابتلي بالعذاب السرمدي‪.‬‬

‫وفي هذه الية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه‪ ،‬وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء‬
‫مما عملوه‪ ،‬ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه‪ ،‬يفهم هذا من قوله‪ { :‬وإنما توفون أجوركم يوم‬
‫القيامة } أي‪ :‬توفية العمال التامة‪ ،‬إنما يكون يوم القيامة‪ ،‬وأما ما دون ذلك فيكون في‬
‫البرزخ‪ ،‬بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى‪ { :‬ولنذيقنهم من العذاب الدنى دون‬
‫العذاب الكبر }‬

‫ن قَبِْل ُكمْ َو ِمنَ اّلذِينَ‬


‫ب مِ ْ‬
‫ن أُوتُوا ا ْل ِكتَا َ‬
‫ن مِنَ اّلذِي َ‬
‫س َمعُ ّ‬
‫س ُكمْ وََل َت ْ‬
‫{ ‪َ { } 186‬ل ُتبْلَ ُونّ فِي َأ ْموَاِل ُكمْ وََأنْ ُف ِ‬
‫ع ْزمِ ا ْلُأمُورِ }‬
‫ن ذَِلكَ مِنْ َ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َفإِ ّ‬
‫ن َت ْ‬
‫َأشْ َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ‬

‫يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة‪ ،‬ومن‬
‫التعريض لتلفها في سبيل ال‪ ،‬وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من‬
‫الناس‪ ،‬كالجهاد في سبيل ال‪ ،‬والتعرض فيه للتعب والقتل والسر والجراح‪ ،‬وكالمراض التي‬
‫تصيبه في نفسه‪ ،‬أو فيمن يحب‪.‬‬

‫{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‪ ،‬ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من الطعن فيكم‪،‬‬
‫وفي دينكم وكتابكم ورسولكم‪.‬‬

‫وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك‪ ،‬عدة فوائد‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن حكمته تعالى تقتضي ذلك‪ ،‬ليتميز المؤمن الصادق من غيره‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه تعالى يقدر عليهم هذه المور‪ ،‬لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم‪ ،‬ويكفر من‬
‫سيئاتهم‪ ،‬وليزداد بذلك إيمانهم‪ ،‬ويتم به إيقانهم‪ ،‬فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر { قالوا‬
‫هذا ما وعدنا ال ورسوله‪ ،‬وصدق ال ورسوله‪ ،‬وما زادهم إل إيمانا وتسليما }‬
‫ومنها‪ :‬أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك‪ ،‬والصبر عليه إذا وقع؛ لنهم قد‬
‫استعدوا لوقوعه‪ ،‬فيهون عليهم حمله‪ ،‬وتخف عليهم مؤنته‪ ،‬ويلجأون إلى الصبر والتقوى‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وإن تصبروا وتتقوا } أي‪ :‬إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم‪ ،‬من‬
‫البتلء والمتحان وعلى أذية الظالمين‪ ،‬وتتقوا ال في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه ال‬
‫والتقرب إليه‪ ،‬ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع ل يحل لكم فيه‬
‫الحتمال‪ ،‬بل وظيفتكم فيه النتقام من أعداء ال‪.‬‬

‫{ فإن ذلك من عزم المور } أي‪ :‬من المور التي يعزم عليها‪ ،‬وينافس فيها‪ ،‬ول يوفق لها إل‬
‫أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى‪ { :‬وما يلقاها إل الذين صبروا‪ ،‬وما يلقاها إل ذو حظ‬
‫عظيم }‬

‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ َل ُت َب ّي ُننّهُ لِلنّاسِ وَلَا َت ْكتُمُو َنهُ َف َن َبذُوهُ‬
‫{ ‪ { } 188 - 187‬وَِإذْ َأ َ‬
‫ن اّلذِينَ يَ ْف َرحُونَ ِبمَا َأ َتوْا‬
‫سبَ ّ‬
‫حَ‬‫ن * لَا َت ْ‬
‫شتَرَوْا بِ ِه َث َمنًا قَلِيلًا فَ ِبئْسَ مَا َيشْ َترُو َ‬
‫ظهُورِهِمْ وَا ْ‬
‫َورَا َء ُ‬
‫ب أَلِيمٌ }‬
‫عذَا ٌ‬
‫حسَ َب ّن ُهمْ ِبمَفَازَةٍ ِمنَ ا ْل َعذَابِ وََل ُهمْ َ‬
‫ح َمدُوا ِبمَا َلمْ يَ ْفعَلُوا فَلَا َت ْ‬
‫حبّونَ َأنْ ُي ْ‬
‫َو ُي ِ‬

‫الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد‪ ،‬وهذا الميثاق أخذه ال تعالى على كل من أعطاه [ال] الكتب‬
‫وعلمه العلم‪ ،‬أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه ال‪ ،‬ول يكتمهم ذلك‪ ،‬ويبخل عليهم به‪،‬‬
‫خصوصا إذا سألوه‪ ،‬أو وقع ما يوجب ذلك‪ ،‬فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن‬
‫يبينه‪ ،‬ويوضح الحق من الباطل‪.‬‬

‫فأما الموفقون‪ ،‬فقاموا بهذا أتم القيام‪ ،‬وعلموا الناس مما علمهم ال‪ ،‬ابتغاء مرضاة ربهم‪،‬‬
‫وشفقة على الخلق‪ ،‬وخوفا من إثم الكتمان‪.‬‬

‫وأما الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬من اليهود والنصارى ومن شابههم‪ ،‬فنبذوا هذه العهود والمواثيق‬
‫وراء ظهورهم‪ ،‬فلم يعبأوا بها‪ ،‬فكتموا الحق‪ ،‬وأظهروا الباطل‪ ،‬تجرؤا على محارم ال‪،‬‬
‫وتهاونا بحقوق ال‪ ،‬وحقوق الخلق‪ ،‬واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليل‪ ،‬وهو ما يحصل لهم إن‬
‫حصل من بعض الرياسات‪ ،‬والموال الحقيرة‪ ،‬من سفلتهم المتبعين أهواءهم‪ ،‬المقدمين‬
‫شهواتهم على الحق‪ { ،‬فبئس ما يشترون } لنه أخس العوض‪ ،‬والذي رغبوا عنه ‪-‬وهو بيان‬
‫الحق‪ ،‬الذي فيه السعادة البدية‪ ،‬والمصالح الدينية والدنيوية‪ -‬أعظم المطالب وأجلها‪ ،‬فلم‬
‫يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا العالي النفيس‪ ،‬إل لسوء حظهم وهوانهم‪ ،‬وكونهم ل‬
‫يصلحون لغير ما خلقوا له‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬ل تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي‪ :‬من القبائح والباطل القولي والفعلي‪.‬‬

‫{ ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي‪ :‬بالخير الذي لم يفعلوه‪ ،‬والحق الذي لم يقولوه‪،‬‬
‫فجمعوا بين فعل الشر وقوله‪ ،‬والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه‪.‬‬

‫{ فل تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي‪ :‬بمحل نجوة منه وسلمة‪ ،‬بل قد استحقوه‪ ،‬وسيصيرون‬
‫إليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ولهم عذاب أليم }‬

‫ويدخل في هذه الية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم‪ ،‬ولم ينقادوا‬
‫للرسول‪ ،‬وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم‪ ،‬وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو‬
‫فعلية‪ ،‬وفرح بها‪ ،‬ودعا إليها‪ ،‬وزعم أنه محق وغيره مبطل‪ ،‬كما هو الواقع من أهل البدع‪.‬‬

‫ودلت الية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق‪،‬‬
‫إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة‪ ،‬أنه غير مذموم‪ ،‬بل هذا من المور المطلوبة‪ ،‬التي‬
‫أخبر ال أنه يجزي بها المحسنين له العمال والقوال‪ ،‬وأنه جازى بها خواص خلقه‪ ،‬وسألوها‬
‫منه‪ ،‬كما قال إبراهيم عليه السلم‪ { :‬واجعل لي لسان صدق في الخرين } وقال‪ { :‬سلم على‬
‫نوح في العالمين‪ ،‬إنا كذلك نجزي المحسنين } وقد قال عباد الرحمن‪ { :‬واجعلنا للمتقين إماما }‬
‫وهي من نعم الباري على عبده‪ ،‬ومننه التي تحتاج إلى الشكر‪.‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلّ َ‬
‫{ ‪ { } 189‬وَلِلّ ِه مُ ْلكُ ال ّ‬

‫أي‪ :‬هو المالك للسماوات والرض وما فيهما‪ ،‬من سائر أصناف الخلق‪ ،‬المتصرف فيهم بكمال‬
‫القدرة‪ ،‬وبديع الصنعة‪ ،‬فل يمتنع عليه منهم أحد‪ ،‬ول يعجزه أحد‪.‬‬

‫ف الّليْلِ وَال ّنهَارِ لَآيَاتٍ ِلأُولِي‬


‫ختِلَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَا ْ‬
‫{ ‪ِ { } 194 - 190‬إنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫ق ال ّ‬
‫ن فِي خَلْ ِ‬
‫جنُو ِبهِمْ َو َيتَ َف ّكرُو َ‬
‫ن اللّهَ ِقيَامًا َو ُقعُودًا وَعَلَى ُ‬
‫ن َيذْ ُكرُو َ‬
‫ا ْلأَ ْلبَابِ * اّلذِي َ‬
‫ب النّارِ * َر ّبنَا ِإ ّنكَ َمنْ ُت ْدخِلِ النّارَ فَ َقدْ‬
‫عذَا َ‬
‫س ْبحَا َنكَ فَ ِقنَا َ‬
‫وَا ْلَأرْضِ َر ّبنَا مَا خَلَ ْقتَ َهذَا بَاطِلًا ُ‬
‫ن آ ِمنُوا ِب َر ّب ُكمْ فَآ َمنّا‬
‫ن أَ ْ‬
‫سمِ ْعنَا ُمنَا ِديًا ُينَادِي لِ ْلإِيمَا ِ‬
‫ن َأنْصَارٍ * َر ّبنَا ِإ ّننَا َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫خزَ ْيتَهُ َومَا لِلظّالِمِي َ‬
‫َأ ْ‬
‫ع ْد َتنَا عَلَى ُرسُِلكَ‬
‫س ّيئَا ِتنَا َوتَ َو ّفنَا مَ َع ا ْلَأبْرَارِ * َر ّبنَا وَآ ِتنَا مَا َو َ‬
‫عنّا َ‬
‫َربّنَا فَاغْ ِف ْر َلنَا ُذنُو َبنَا َو َك ّفرْ َ‬
‫وَلَا ُتخْ ِزنَا يَ ْو َم الْ ِقيَامَ ِة ِإ ّنكَ لَا ُتخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ }‬

‫يخبر تعالى‪ { :‬إن في خلق السماوات والرض واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب }‬
‫وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها‪ ،‬والتبصر بآياتها‪ ،‬وتدبر خلقها‪ ،‬وأبهم قوله‪:‬‬
‫{ آيات } ولم يقل‪" :‬على المطلب الفلني" إشارة لكثرتها وعمومها‪ ،‬وذلك لن فيها من اليات‬
‫العجيبة ما يبهر الناظرين‪ ،‬ويقنع المتفكرين‪ ،‬ويجذب أفئدة الصادقين‪ ،‬وينبه العقول النيرة على‬
‫جميع المطالب اللهية‪ ،‬فأما تفصيل ما اشتملت عليه‪ ،‬فل يمكن لمخلوق أن يحصره‪ ،‬ويحيط‬
‫ببعضه‪ ،‬وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة‪ ،‬وانتظام السير والحركة‪ ،‬يدل على عظمة‬
‫خالقها‪ ،‬وعظمة سلطانه وشمول قدرته‪ .‬وما فيها من الحكام والتقان‪ ،‬وبديع الصنع‪ ،‬ولطائف‬
‫الفعل‪ ،‬يدل على حكمة ال ووضعه الشياء مواضعها‪ ،‬وسعة علمه‪ .‬وما فيها من المنافع‬
‫للخلق‪ ،‬يدل على سعة رحمة ال‪ ،‬وعموم فضله‪ ،‬وشمول بره‪ ،‬ووجوب شكره‪.‬‬

‫وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها‪ ،‬وبذل الجهد في مرضاته‪ ،‬وأن ل يشرك به‬
‫سواه‪ ،‬ممن ل يملك لنفسه ول لغيره مثقال ذرة في الرض ول في السماء‪.‬‬

‫وخص ال باليات أولي اللباب‪ ،‬وهم أهل العقول؛ لنهم هم المنتفعون بها‪ ،‬الناظرون إليها‬
‫بعقولهم ل بأبصارهم‪.‬‬

‫ثم وصف أولي اللباب بأنهم { يذكرون ال } في جميع أحوالهم‪ { :‬قياما وقعودا وعلى جنوبهم‬
‫} وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب‪ ،‬ويدخل في ذلك الصلة قائما‪ ،‬فإن لم يستطع‬
‫فقاعدا‪ ،‬فإن لم يستطع فعلى جنب‪ ،‬وأنهم { يتفكرون في خلق السماوات والرض } أي‪:‬‬
‫ليستدلوا بها على المقصود منها‪ ،‬ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء ال‬
‫العارفين‪ ،‬فإذا تفكروا بها‪ ،‬عرفوا أن ال لم يخلقها عبثا‪ ،‬فيقولون‪ { :‬ربنا ما خلقت هذا باطل‬
‫سبحانك } عن كل ما ل يليق بجللك‪ ،‬بل خلقتها بالحق وللحق‪ ،‬مشتملة على الحق‪.‬‬

‫{ فقنا عذاب النار } بأن تعصمنا من السيئات‪ ،‬وتوفقنا للعمال الصالحات‪ ،‬لننال بذلك النجاة‬
‫من النار‪.‬‬

‫ويتضمن ذلك سؤال الجنة‪ ،‬لنهم إذا وقاهم ال عذاب النار حصلت لهم الجنة‪ ،‬ولكن لما قام‬
‫الخوف بقلوبهم‪ ،‬دعوا ال بأهم المور عندهم‪ { ،‬ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي‪:‬‬
‫لحصوله على السخط من ال‪ ،‬ومن ملئكته‪ ،‬وأوليائه‪ ،‬ووقوع الفضيحة التي ل نجاة منها‪ ،‬ول‬
‫منقذ منها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وما للظالمين من أنصار } ينقذونهم من عذابه‪ ،‬وفيه دللة على أنهم‬
‫دخلوها بظلمهم‪.‬‬

‫{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي لليمان } وهو محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أي‪ :‬يدعو الناس‬
‫إليه‪ ،‬ويرغبهم فيه‪ ،‬في أصوله وفروعه‪.‬‬
‫{ فآمنا } أي‪ :‬أجبناه مبادرة‪ ،‬وسارعنا إليه‪ ،‬وفي هذا إخبار منهم بمنة ال عليهم‪ ،‬وتبجح‬
‫بنعمته‪ ،‬وتوسل إليه بذلك‪ ،‬أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم‪ ،‬لن الحسنات يذهبن السيئات‪،‬‬
‫والذي من عليهم باليمان‪ ،‬سيمن عليهم بالمان التام‪.‬‬

‫{ وتوفنا مع البرار } يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير‪ ،‬وترك الشر‪ ،‬الذي به يكون‬
‫العبد من البرار‪ ،‬والستمرار عليه‪ ،‬والثبات إلى الممات‪.‬‬

‫ولما ذكروا توفيق ال إياهم لليمان‪ ،‬وتوسلهم به إلى تمام النعمة‪ ،‬سألوه الثواب على ذلك‪ ،‬وأن‬
‫ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر‪ ،‬والظهور في الدنيا‪ ،‬ومن الفوز برضوان‬
‫ال وجنته في الخرة‪ ،‬فإنه تعالى ل يخلف الميعاد‪ ،‬فأجاب ال دعاءهم‪ ،‬وقبل تضرعهم‪ ،‬فلهذا‬
‫قال‪:‬‬

‫ضكُمْ مِنْ َب ْعضٍ‬


‫ع َملَ عَا ِملٍ مِ ْنكُمْ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى َب ْع ُ‬
‫{ ‪ { } 195‬فَاسْتَجَابَ َلهُمْ رَ ّبهُمْ أَنّي لَا ُأضِيعُ َ‬
‫فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْ ِرجُوا مِنْ دِيَارِ ِه ْم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي َوقَاتَلُوا َوقُتِلُوا لَُأ َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِمْ‬
‫وَلَأُدْخِلَ ّن ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َثوَابًا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ال ّثوَابِ }‬

‫أي‪ :‬أجاب ال دعاءهم‪ ،‬دعاء العبادة‪ ،‬ودعاء الطلب‪ ،‬وقال‪ :‬إني ل أضيع عمل عامل منكم من‬
‫ذكر وأنثى‪ ،‬فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كامل موفرا‪ { ،‬بعضكم من بعض } أي‪ :‬كلكم على حد‬
‫سواء في الثواب والعقاب‪ { ،‬فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا‬
‫} فجمعوا بين اليمان والهجرة‪ ،‬ومفارقة المحبوبات من الوطان والموال‪ ،‬طلبا لمرضاة ربهم‪،‬‬
‫وجاهدوا في سبيل ال‪.‬‬

‫{ لكفرن عنهم سيئاتهم ولدخلنهم جنات تجري من تحتها النهار ثوابا من عند ال } الذي يعطي‬
‫عبده الثواب الجزيل على العمل القليل‪.‬‬

‫{ وال عنده حسن الثواب } مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬فمن‬
‫أراد ذلك‪ ،‬فليطلبه من ال بطاعته والتقرب إليه‪ ،‬بما يقدر عليه العبد‪.‬‬

‫جهَنّمُ وَبِئْسَ‬
‫{ ‪ { } 198 - 196‬لَا َيغُرّ ّنكَ َتقَّلبُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫ا ْل ِمهَادُ * َلكِنِ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ َلهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ‬
‫َومَا عِ ْندَ اللّهِ خَيْرٌ ِللْأَبْرَارِ }‬
‫وهذه الية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا‪ ،‬وتنعمهم فيها‪ ،‬وتقلبهم‬
‫في البلد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات‪ ،‬وأنواع العز‪ ،‬والغلبة في بعض الوقات‪ ،‬فإن هذا‬
‫كله { متاع قليل } ليس له ثبوت ول بقاء‪ ،‬بل يتمتعون به قليل‪ ،‬ويعذبون عليه طويل‪ ،‬هذه أعلى‬
‫حالة تكون للكافر‪ ،‬وقد رأيت ما تؤول إليه‪.‬‬

‫وأما المتقون لربهم‪ ،‬المؤمنون به‪ -‬فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها { لهم جنات تجري‬
‫من تحتها النهار خالدين فيها }‬

‫فلو قدر أنهم في دار الدنيا‪ ،‬قد حصل لهم كل بؤس وشدة‪ ،‬وعناء ومشقة‪ ،‬لكان هذا بالنسبة إلى‬
‫النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم‪ ،‬والسرور والحبور‪ ،‬والبهجة نزرا يسيرا‪ ،‬ومنحة في صورة محنة‪،‬‬
‫ولهذا قال تعالى‪ { :‬وما عند ال خير للبرار } وهم الذين برت قلوبهم‪ ،‬فبرت أقوالهم وأفعالهم‪،‬‬
‫فأثابهم البر الرحيم من بره أجرا عظيما‪ ،‬وعطاء جسيما‪ ،‬وفوزا دائما‪.‬‬

‫شعِينَ‬
‫{ ‪ { } 200 - 199‬وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُمْ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي ِهمْ خَا ِ‬
‫لِلّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا أُولَ ِئكَ َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ * يَا أَ ّيهَا‬
‫الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا َوصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }‬

‫أي‪ :‬وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير‪ ،‬يؤمنون بال‪ ،‬ويؤمنون بما أنزل إليكم وما أنزل‬
‫إليهم‪ ،‬وهذا اليمان النافع ل كمن يؤمن ببعض الرسل والكتب‪ ،‬ويكفر ببعض‪.‬‬

‫ولهذا ‪-‬لما كان إيمانهم عاما حقيقيا‪ -‬صار نافعا‪ ،‬فأحدث لهم خشية ال‪ ،‬وخضوعهم لجلله‬
‫الموجب للنقياد لوامره ونواهيه‪ ،‬والوقوف عند حدوده‪.‬‬

‫وهؤلء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إنما يخشى ال من عباده العلماء } ومن‬
‫تمام خشيتهم ل‪ ،‬أنهم { ل يشترون بآيات ال ثمنًا قليل } فل يقدمون الدنيا على الدين كما فعل‬
‫أهل النحراف الذين يكتمون ما أنزل ال ويشترون به ثمنا قليل‪ ،‬وأما هؤلء فعرفوا المر على‬
‫الحقيقة‪ ،‬وعلموا أن من أعظم الخسران‪ ،‬الرضا بالدون عن الدين‪ ،‬والوقوف مع بعض حظوظ‬
‫النفس السفلية‪ ،‬وترك الحق الذي هو‪ :‬أكبر حظ وفوز في الدنيا والخرة‪ ،‬فآثروا الحق وبينوه‪،‬‬
‫ودعوا إليه‪ ،‬وحذروا عن الباطل‪ ،‬فأثابهم ال على ذلك بأن وعدهم الجر الجزيل‪ ،‬والثواب‬
‫الجميل‪ ،‬وأخبرهم بقربه‪ ،‬وأنه سريع الحساب‪ ،‬فل يستبطؤون ما وعدهم ال‪ ،‬لن ما هو آت محقق‬
‫حصوله‪ ،‬فهو قريب‪.‬‬
‫ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلح ‪ -‬وهو‪ :‬الفوز والسعادة والنجاح‪ ،‬وأن الطريق‬
‫الموصل إلى ذلك لزوم الصبر‪ ،‬الذي هو حبس النفس على ما تكرهه‪ ،‬من ترك المعاصي‪ ،‬ومن‬
‫الصبر على المصائب‪ ،‬وعلى الوامر الثقيلة على النفوس‪ ،‬فأمرهم بالصبر على جميع ذلك‪.‬‬

‫والمصابرة أي الملزمة والستمرار على ذلك‪ ،‬على الدوام‪ ،‬ومقاومة العداء في جميع الحوال‪.‬‬

‫والمرابطة‪ :‬وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه‪ ،‬وأن يراقبوا أعداءهم‪،‬‬
‫ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم‪ ،‬لعلهم يفلحون‪ :‬يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي‬
‫والخروي‪ ،‬وينجون من المكروه كذلك‪.‬‬

‫فعلم من هذا أنه ل سبيل إلى الفلح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات‪ ،‬فلم يفلح من‬
‫أفلح إل بها‪ ،‬ولم يفت أحدا الفلح إل بالخلل بها أو ببعضها‪.‬‬

‫وال الموفق ول حول ول قوة إل به‪.‬‬

‫تم تفسير "سورة آل عمران" والحمد ل على نعمته‪ ،‬ونسأله تمام النعمة‪.‬‬
‫تفسير سورة النساء‬
‫وهي مدنية‬

‫س وَاحِ َد ٍة َوخَلَقَ مِ ْنهَا‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬
‫{ ‪ { } 1‬بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫جهَا وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا ِرجَالًا كَثِيرًا وَنِسَا ًء وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ ِب ِه وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫َزوْ َ‬
‫َرقِيبًا }‬

‫افتتح تعالى هذه السورة بالمر بتقواه‪ ،‬والحث على عبادته‪ ،‬والمر بصلة الرحام‪ ،‬والحث على‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وبيّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك‪ ،‬وأن الموجب لتقواه لنه { رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ }‬
‫جهَا }‬
‫ورزقكم‪ ،‬ورباكم بنعمه العظيمة‪ ،‬التي من جملتها خلقكم { مِن ّنفْسٍ وَاحِ َد ٍة َوخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫ليناسبها‪ ،‬فيسكن إليها‪ ،‬وتتم بذلك النعمة‪ ،‬ويحصل به السرور‪ ،‬وكذلك من الموجب الداعي لتقواه‬
‫تساؤلكم به وتعظيمكم‪ ،‬حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم‪ ،‬توسلتم بـها بالسؤال بال‪.‬‬
‫فيقول من يريد ذلك لغيره‪ :‬أسألك بال أن تفعل المر الفلني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم ال‬
‫الداعي أن ل يرد من سأله بال‪ ،‬فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه‪.‬‬
‫وكذلك الخبار بأنه رقيب‪ ،‬أي‪ :‬مطلع على العباد في حال حركاتـهم وسكونـهم‪ ،‬وسرهم‬
‫وعلنهم‪ ،‬وجميع أحوالهم‪ ،‬مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته‪ ،‬وشدة الحياء منه‪ ،‬بلزوم تقواه‪.‬‬

‫وفي الخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة‪ ،‬وأنه بثهم في أقطار الرض‪ ،‬مع رجوعهم إلى أصل‬
‫واحد ‪-‬ليعطف بعضهم على بعض‪ ،‬ويرقق بعضهم على بعض‪ .‬وقرن المر بتقواه بالمر ببر‬
‫الرحام والنهي عن قطيعتها‪ ،‬ليؤكد هذا الحق‪ ،‬وأنه كما يلزم القيام بحق ال‪ ،‬كذلك يجب القيام‬
‫بحقوق الخلق‪ ،‬خصوصا القربين منهم‪ ،‬بل القيام بحقوقهم هو من حق ال الذي أمر به‪.‬‬

‫وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالمر بالتقوى‪ ،‬وصلة الرحام والزواج عموما‪ ،‬ثم بعد ذلك فصل‬
‫هذه المور أتم تفصيل‪ ،‬من أول السورة إلى آخرها‪ .‬فكأنـها مبنية على هذه المور المذكورة‪،‬‬
‫مفصلة لما أجمل منها‪ ،‬موضحة لما أبهم‪.‬‬

‫جهَا } تنبيه على مراعاة حق الزواج والزوجات والقيام به‪ ،‬لكون‬


‫وفي قوله‪ { :‬وخلق مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫الزوجات مخلوقات من الزواج‪ ،‬فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال‪ ،‬وأقرب علقة‪.‬‬

‫ب وَلَا تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا‬


‫وَآتُوا الْيَتَامَى َأ ْموَاَلهُمْ وَلَا تَتَبَدّلُوا ا ْلخَبِيثَ بِالطّ ّي ِ‬
‫}‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬وَآتُوا الْيَتَامَى َأ ْموَاَلهُمْ ول تتبدلوا الخبيث بالطيب ول تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه‬
‫كان حوبا كبيرا } هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة‪ .‬وهم اليتامى الذين‬
‫فقدوا آباءهم الكافلين لهم‪ ،‬وهم صغار ضعاف ل يقومون بمصالحهم‪.‬‬

‫فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم‪ ،‬وأن ل يقربوا أموالهم إل بالتي هي أحسن‪ ،‬وأن‬
‫يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا‪ ،‬كاملة موفرة‪ ،‬وأن ل { تَتَبَدّلُوا ا ْلخَبِيثَ } الذي هو أكل مال‬
‫اليتيم بغير حق‪ { .‬بِالطّ ّيبِ } وهو الحلل الذي ما فيه حرج ول تبعة‪ { .‬وَلَا تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى‬
‫َأ ْموَاِلكُمْ } أي‪ :‬مع أموالكم‪ ،‬ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة‪ ،‬التي قد استغنى بها النسان بما‬
‫جعل ال له من الرزق في ماله‪ .‬فمن تجرأ على هذه الحالة‪ ،‬فقد أتى { حُوبًا كَبِيرًا } أي‪ :‬إثمًا‬
‫عظيمًا‪ ،‬ووزرًا جسيمًا‪.‬‬

‫ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس‪ ،‬ويجعل بدله من ماله الخسيس‪.‬‬
‫وفيه الولية على اليتيم‪ ،‬لن مِنْ لزم إيتاء اليتيم ماله‪ ،‬ثبوت ولية المؤتي على ماله‪.‬‬
‫وفيه المر بإصلح مال اليتيم‪ ،‬لن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم‬
‫تعريضه للمخاوف والخطار‪.‬‬

‫خفْتُمْ أَلّا ُتقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَا ْنكِحُوا مَا طَابَ َلكُمْ مِنَ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ‬
‫{ ‪ { } 4 - 3‬وَإِنْ ِ‬
‫خفْتُمْ أَلّا َتعْدِلُوا َفوَاحِ َدةً َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ ذَِلكَ َأدْنَى أَلّا َتعُولُوا * وَآتُوا النّسَاءَ‬
‫وَرُبَاعَ فَإِنْ ِ‬
‫شيْءٍ مِنْهُ َنفْسًا َفكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }‬
‫صَ ُدقَا ِتهِنّ نِحَْلةً فَإِنْ طِبْنَ َلكُمْ عَنْ َ‬

‫أي‪ :‬وإن خفتم أل تعدلوا في يتامى النساء اللتي تحت حجوركم ووليتكم وخفتم أن ل تقوموا‬
‫بحقهن لعدم محبتكم إياهن‪ ،‬فاعدلوا إلى غيرهن‪ ،‬وانكحوا { مَا طَابَ َلكُم مّنَ النّسَاء } أي‪ :‬ما وقع‬
‫عليهن اختياركم من ذوات الدين‪ ،‬والمال‪ ،‬والجمال‪ ،‬والحسب‪ ،‬والنسب‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‬
‫الداعية لنكاحهن‪ ،‬فاختاروا على نظركم‪ ،‬ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬تنكح المرأة لربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِ َبتْ‬
‫يمينك"‬

‫وفي هذه الية ‪ -‬أنه ينبغي للنسان أن يختار قبل النكاح‪ ،‬بل وقد أباح له الشارع النظر إلى مَنْ‬
‫يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره‪ .‬ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال‪ { :‬مَثْنَى‬
‫وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي‪ :‬من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل‪ ،‬أو ثلثا فليفعل‪ ،‬أو أربعا فليفعل‪ ،‬ول يزيد‬
‫عليها‪ ،‬لن الية سيقت لبيان المتنان‪ ،‬فل يجوز الزيادة على غير ما سمى ال تعالى إجماعا‪.‬‬

‫وذلك لن الرجل قد ل تندفع شهوته بالواحدة‪ ،‬فأبيح له واحدة بعد واحدة‪ ،‬حتى يبلغ أربعا‪ ،‬لن في‬
‫الربع غنية لكل أحد‪ ،‬إل ما ندر‪ ،‬ومع هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم‪،‬‬
‫ووثق بالقيام بحقوقهن‪.‬‬

‫فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة‪ ،‬أو على ملك يمينه‪ .‬فإنه ل يجب عليه القسم في ملك‬
‫اليمين { ذَلِك } أي‪ :‬القتصار على واحدة أو ما ملكت اليمين { أَدْنَى أَلّا َتعُولُوا } أي‪ :‬تظلموا‪.‬‬

‫وفي هذا أن تعرض العبد للمر الذي يخاف منه الجور والظلم‪ ،‬وعدم القيام بالواجب ‪-‬ولو كان‬
‫مباحًا‪ -‬أنه ل ينبغي له أن يتعرض‪ ،‬له بل يلزم السعة والعافية‪ ،‬فإن العافية خير ما أعطي العبد‪.‬‬

‫ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونـهن حقوقهن‪ ،‬خصوصا الصداق الذي يكون‬
‫شيئا كثيرًا‪ ،‬ودفعة واحدة‪ ،‬يشق دفعه للزوجة‪ ،‬أمرهم وحثهم على إيتاء النساء { صَ ُدقَا ِتهِنّ } أي‪:‬‬
‫مهورهن { نِحَْلةً } أي‪ :‬عن طيب نفس‪ ،‬وحال طمأنينة‪ ،‬فل تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا‪ .‬وفيه‪:‬‬
‫أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة‪ ،‬وأنـها تملكه بالعقد‪ ،‬لنه أضافه إليها‪ ،‬والضافة‬
‫تقتضي التمليك‪.‬‬

‫شيْءٍ مّنْهُ } أي‪ :‬من الصداق { َنفْسًا } بأن سمحن لكم عن رضا واختيار‬
‫{ فَإِنْ طِبْنَ َلكُم عَنْ َ‬
‫بإسقاط شيء منه‪ ،‬أو تأخيره أو المعاوضة عنه‪َ { .‬فكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أي‪ :‬ل حرج عليكم في ذلك‬
‫ول تبعة‪.‬‬

‫وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها ‪-‬ولو بالتبرع‪ -‬إذا كانت رشيدة‪ ،‬فإن لم تكن كذلك‬
‫فليس لعطيتها حكم‪ ،‬وأنه ليس لوليها من الصداق شيء‪ ،‬غير ما طابت به‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬فَا ْنكِحُوا مَا طَابَ َلكُم مّنَ النّسَاء } دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به‪ ،‬بل‬
‫منهي عنه كالمشركة‪ ،‬وكالفاجرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَلَا تَن ِكحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ } وقال‪:‬‬
‫حهَا إِلّا زَانٍ َأوْ مُشْ ِركٌ }‬
‫{ وَالزّانِ َيةُ لَا يَنكِ ُ‬

‫ج َعلَ اللّهُ َل ُكمْ قِيَامًا وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُ ْم َوقُولُوا َلهُمْ‬
‫سفَهَاءَ َأ ْموَاَلكُمُ الّتِي َ‬
‫{ ‪ { } 5‬وَلَا ُتؤْتُوا ال ّ‬
‫َقوْلًا ّمعْرُوفًا }‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل ال لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا‬
‫لهم قول معروفا } السفهاء‪ :‬جمع "سفيه" وهو‪ :‬من ل يحسن التصرف في المال‪ ،‬إما لعدم عقله‬
‫كالمجنون والمعتوه‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد‪ .‬فنهى ال الولياء أن‬
‫يؤتوا هؤلء أموالهم خشية إفسادها وإتلفها‪ ،‬لن ال جعل الموال قياما لعباده في مصالح دينهم‬
‫ودنياهم‪ ،‬وهؤلء ل يحسنون القيام عليها وحفظها‪ ،‬فأمر الولي أن ل يؤتيهم إياها‪ ،‬بل يرزقهم منها‬
‫ويكسوهم‪ ،‬ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وأن يقولوا لهم قول‬
‫معروفا‪ ،‬بأن يعدوهم ‪-‬إذا طلبوها‪ -‬أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويلطفوا لهم في‬
‫القوال جبرًا لخواطرهم‪.‬‬

‫وفي إضافته تعالى الموال إلى الولياء‪ ،‬إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء‬
‫ما يفعلونه في أموالهم‪ ،‬من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للخطار‪ .‬وفي الية دليل على أن‬
‫نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم‪ ،‬إذا كان لهم مال‪ ،‬لقوله‪ { :‬وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُو ُهمْ }‬

‫وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة؛ لن ال جعله مؤتمنا‬
‫على مالهم فلزم قبول قول المين‪.‬‬
‫{ ‪ { } 6‬وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى ِإذَا بََلغُوا ال ّنكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِ ْن ُهمْ رُشْدًا فَا ْد َفعُوا إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُ ْم وَلَا‬
‫ف َومَنْ كَانَ َفقِيرًا فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ فَإِذَا‬
‫تَ ْأكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ َيكْبَرُوا َومَنْ كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْ َت ْعفِ ْ‬
‫ش ِهدُوا عَلَ ْيهِ ْم َو َكفَى بِاللّهِ حَسِيبًا }‬
‫َد َفعْتُمْ إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ فَأَ ْ‬

‫البتلء‪ :‬هو الختبار والمتحان‪ ،‬وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد‪ ،‬الممكن رشده‪ ،‬شيئا من‬
‫ماله‪ ،‬ويتصرف فيه التصرف اللئق بحاله‪ ،‬فيتبين بذلك رشده من سفهه‪ ،‬فإن استمر غير محسن‬
‫للتصرف لم يدفع إليه ماله‪ ،‬بل هو باق على سفهه‪ ،‬ولو بلغ عمرا كثيرا‪.‬‬

‫فإن تبين رشده وصلحه في ماله وبلغ النكاح { فَا ْد َفعُوا إِلَ ْي ِهمْ َأ ْموَاَلهُمْ } كاملة موفرة‪ { .‬وَلَا‬
‫تَ ْأكُلُوهَا إِسْرَافًا } أي‪ :‬مجاوزة للحد الحلل الذي أباحه ال لكم من أموالكم‪ ،‬إلى الحرام الذي حرمه‬
‫ال عليكم من أموالهم‪.‬‬

‫{ وَبِدَارًا أَنْ َيكْبَرُوا } أي‪ :‬ول تأكلوها في حال صغرهم التي ل يمكنهم فيها أخذها منكم‪ ،‬ول‬
‫منعكم من أكلها‪ ،‬تبادرون بذلك أن يكبروا‪ ،‬فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها‪.‬‬

‫وهذا من المور الواقعة من كثير من الولياء‪ ،‬الذين ليس عندهم خوف من ال‪ ،‬ول رحمة ومحبة‬
‫للمولى عليهم‪ ،‬يرون هذه الحال حال فرصة فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم ال عليهم‪ ،‬فنهى ال‬
‫تعالى عن هذه الحالة بخصوصها‪.‬‬

‫ن وَالَْأقْرَبُونَ‬
‫ن وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ‬
‫ن وَالَْأقْرَبُو َ‬
‫{ ‪ { } 7‬لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ‬
‫ِممّا َقلّ مِنْهُ َأوْ كَثُرَ َنصِيبًا َمفْرُوضًا }‬

‫كان العرب في الجاهلية ‪ -‬من جبروتهم وقسوتهم ل يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان‪،‬‬
‫ويجعلون الميراث للرجال القوياء لنهم ‪-‬بزعمهم‪ -‬أهل الحرب والقتال والنهب والسلب‪ ،‬فأراد‬
‫الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا‪ ،‬يستوي فيه رجالهم ونساؤهم‪ ،‬وأقوياؤهم وضعفاؤهم‪.‬‬
‫وقدم بين يدي ذلك أمرا مجمل لتتوطّن على ذلك النفوس‪.‬‬

‫فيأتي التفصيل بعد الجمال‪ ،‬قد تشوفت له النفوس‪ ،‬وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬لِلرّجَالِ َنصِيبٌ } ‪ :‬أي‪ :‬قسط وحصة { ِممّا تَ َركَ } أي‪ :‬خلف { ا ْلوَاِلدَان } أي‪ :‬الب والم‬
‫ن وَالَْأقْرَبُونَ }‬
‫{ وَالَْأقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ّممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ‬
‫فكأنه قيل‪ :‬هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة‪ ،‬وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا‬
‫مقدرا؟ فقال تعالى‪َ { :‬نصِيبًا َمفْرُوضًا } ‪ :‬أي‪ :‬قد قدره العليم الحكيم‪ .‬وسيأتي ‪-‬إن شاء ال‪ -‬تقدير‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وأيضا فهاهنا توهم آخر‪ ،‬لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إل من المال الكثير‪،‬‬
‫فأزال ذلك بقوله‪ِ { :‬ممّا َقلّ مِنْهُ َأوْ كَثُرَ } فتبارك ال أحسن الحاكمين‪.‬‬

‫سمَةَ أُولُو ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينُ فَارْ ُزقُوهُمْ مِنْ ُه َوقُولُوا َلهُمْ َقوْلًا‬
‫حضَرَ ا ْلقِ ْ‬
‫{ ‪ { } 8‬وَإِذَا َ‬
‫َمعْرُوفًا }‬

‫سمَةَ } أي‪ :‬قسمة‬


‫حضَرَ ا ْلقِ ْ‬
‫وهذا من أحكام ال الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال‪ { :‬وَإِذَا َ‬
‫سمَةَ } لن الوارثين من‬
‫المواريث { أُولُو ا ْلقُرْبَى } أي‪ :‬القارب غير الوارثين بقرينة قوله‪ { :‬ا ْلقِ ْ‬
‫المقسوم عليهم‪ { .‬وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِين } أي‪ :‬المستحقون من الفقراء‪ { .‬فَارْ ُزقُوهُم مّنْهُ } أي‪:‬‬
‫أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ول تعب‪ ،‬ول عناء ول َنصَب‪ ،‬فإن نفوسهم‬
‫متشوفة إليه‪ ،‬وقلوبهم متطلعة‪ ،‬فاجبروا خواطرهم بما ل يضركم وهو نافعهم‪.‬‬

‫ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي النسان‪ ،‬ينبغي له أن‬
‫يعطيه منه ما تيسر‪ ،‬كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه‬
‫فليجلسه معه‪ ،‬فإن لم يجلسه معه‪ ،‬فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال‪.‬‬

‫وكان الصحابة رضي ال عنهم ‪-‬إذا بدأت باكورة أشجارهم‪ -‬أتوا بها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فبرّك عليها‪ ،‬ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك‪ ،‬علما منه بشدة تشوفه لذلك‪ ،‬وهذا كله‬
‫مع إمكان العطاء‪ ،‬فإن لم يمكن ذلك ‪-‬لكونه حق سفهاء‪ ،‬أو ثَم أهم من ذلك‪ -‬فليقولوا لهم { قَولًا‬
‫َمعْرُوفًا } يردوهم ردّا جميل‪ ،‬بقول حسن غير فاحش ول قبيح‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُوا اللّ َه وَلْ َيقُولُوا‬


‫ضعَافًا خَافُوا َ‬
‫{ ‪ { } 10 - 9‬وَلْيَخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُوا مِنْ خَ ْلفِهِمْ ذُرّيّ ًة ِ‬
‫سعِيرًا }‬
‫َقوْلًا سَدِيدًا * إِنّ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُ ْلمًا إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي ُبطُو ِنهِمْ نَارًا وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬

‫قيل‪ :‬إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته‪ ،‬أن يأمره بالعدل في‬
‫سدِيدًا } أي‪ :‬سدادا‪ ،‬موافقا للقسط والمعروف‪.‬‬
‫وصيته والمساواة فيها‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وَلْ َيقُولُوا َقوْلًا َ‬
‫وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولده بما يحبون معاملة أولدهم بعدهم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم‬
‫الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَ ّتقُوا اللّهَ } في‬
‫وليتهم لغيرهم‪ ،‬أي‪ :‬يعاملونهم بما فيه تقوى ال‪ ،‬من عدم إهانتهم والقيام عليهم‪ ،‬وإلزامهم لتقوى‬
‫ال‪.‬‬

‫ولما أمرهم بذلك‪ ،‬زجرهم عن أكل أموال اليتامى‪ ،‬وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ‬
‫يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُ ْلمًا } أي‪ :‬بغير حق‪ .‬وهذا القيد يخرج به ما تقدم‪ ،‬من جواز الكل للفقير‬
‫بالمعروف‪ ،‬ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى‪.‬‬

‫فمَنْ أكلها ظلمًا فـ { إنما يَ ْأكُلُونَ فِي ُبطُو ِنهِمْ نَارًا } أي‪ :‬فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم‬
‫سعِيرًا } أي‪ :‬نارًا محرقة متوقدة‪ .‬وهذا أعظم وعيد‬
‫وهم الذين أدخلوها في بطونهم‪ { .‬وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬
‫ورد في الذنوب‪ ،‬يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها‪ ،‬وأنها موجبة لدخول النار‪ ،‬فدل ذلك‬
‫أنها من أكبر الكبائر‪ .‬نسأل ال العافية‪.‬‬

‫{ ‪ { } 12 - 11‬يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأوْلَا ِدكُمْ لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنّ نِسَاءً َفوْقَ اثْنَتَيْنِ فََلهُنّ‬
‫ل وَاحِدٍ مِ ْن ُهمَا السّدُسُ ِممّا تَ َركَ إِنْ كَانَ لَهُ‬
‫ف وَلِأَ َبوَيْهِ ِل ُك ّ‬
‫ص ُ‬
‫ك وَإِنْ كَا َنتْ وَاحِ َدةً فََلهَا ال ّن ْ‬
‫ثُلُثَا مَا تَ َر َ‬
‫خ َوةٌ فَلُِأمّهِ السّدُسُ مِنْ َب ْع ِد َوصِيّةٍ‬
‫وَلَدٌ فَإِنْ َلمْ َيكُنْ لَ ُه وََل ٌد َووَرِثَهُ أَ َبوَاهُ فَلُِأمّهِ الثُّلثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِ ْ‬
‫يُوصِي ِبهَا َأوْ دَيْنٍ آبَا ُؤكُ ْم وَأَبْنَا ُؤكُمْ لَا تَدْرُونَ أَ ّي ُهمْ َأقْ َربُ َلكُمْ َن ْفعًا فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ‬
‫ن وَلَدٌ فََل ُكمُ الرّبُعُ ِممّا‬
‫ن وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َلهُ ّ‬
‫جكُمْ إِنْ لَمْ َيكُنْ َلهُ ّ‬
‫صفُ مَا تَ َركَ أَ ْزوَا ُ‬
‫حكِيمًا *وََلكُمْ ِن ْ‬
‫عَلِيمًا َ‬
‫ن وََلهُنّ الرّبُعُ ِممّا تَ َركْ ُتمْ إِنْ لَمْ َيكُنْ َلكُ ْم وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َلكُمْ‬
‫تَ َركْنَ مِنْ َبعْ ِد َوصِيّةٍ يُوصِينَ ِبهَا َأوْ دَيْ ٍ‬
‫جلٌ يُو َرثُ كَلَاَلةً َأوِ امْرََأةٌ‬
‫وَلَدٌ فََلهُنّ الّثمُنُ ِممّا تَ َركْتُمْ مِنْ َب ْع ِد َوصِيّةٍ تُوصُونَ ِبهَا َأوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ َر ُ‬
‫حدٍ مِ ْن ُهمَا السّدُسُ فَإِنْ كَانُوا َأكْثَرَ مِنْ ذَِلكَ َف ُهمْ شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ مِنْ َبعْدِ‬
‫ختٌ فَِل ُكلّ وَا ِ‬
‫وَلَهُ أَخٌ َأوْ ُأ ْ‬
‫حلِيمٌ }‬
‫َوصِيّةٍ يُوصَى ِبهَا َأوْ دَيْنٍ غَيْرَ ُمضَا ّر َوصِيّةً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬

‫هذه اليات والية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها‪ .‬فإنها مع حديث عبد‬
‫ال بن عباس الثابت في صحيح البخاري "أ ْلحِقوا الفرائض بأهلها‪ ،‬فما بقي فلولى رجل ذكر" ‪-‬‬
‫مشتملت على جل أحكام الفرائض‪ ،‬بل على جميعها كما سترى ذلك‪ ،‬إل ميراث الجدات فإنه غير‬
‫مذكور في ذلك‪ .‬لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أعطى الجدة السدس‪ ،‬مع إجماع العلماء على ذلك‪.‬‬

‫فقوله تعالى‪ { :‬يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأوْلَا ِدكُمْ } أي‪ :‬أولدكم ‪-‬يا معشر الوالِدِين‪ -‬عندكم ودائع قد‬
‫وصاكم ال عليهم‪ ،‬لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن‬
‫المفاسد‪ ،‬وتأمرونهم بطاعة ال وملزمة التقوى على الدوام كما قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا‬
‫س وَا ْلحِجَا َرةُ } فالولد عند والديهم موصى بهم‪ ،‬فإما أن‬
‫سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا َوقُو ُدهَا النّا ُ‬
‫قُوا أَنفُ َ‬
‫يقوموا بتلك الوصية‪ ،‬وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على أن ال تعالى أرحم بعباده من الوالدين‪ ،‬حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم‪،‬‬
‫عليهم‪.‬‬

‫ثم ذكر كيفية إرثهم فقال‪ { :‬لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي‪ :‬الولد للصلب‪ ،‬والولد للبن‪ ،‬للذكر‬
‫مثل حظ النثيين‪ ،‬إن لم يكن معهم صاحب فرض‪ ،‬أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك‪ ،‬وقد‬
‫أجمع العلماء على ذلك‪ ،‬وأنه ‪-‬مع وجود أولد الصلب‪ -‬فالميراث لهم‪ .‬وليس لولد البن شيء‪،‬‬
‫حيث كان أولد الصلب ذكورًا وإناثا‪ ،‬هذا مع اجتماع الذكور والناث‪ .‬وهنا حالتان‪ :‬انفراد‬
‫الذكور‪ ،‬وسيأتي حكمها‪ .‬وانفراد الناث‪ ،‬وقد ذكره بقوله‪ { :‬فَإِنْ كُنّ نِسَاءً َفوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي‪ :‬بنات‬
‫ك وَإِن كَا َنتْ وَاحِدَة } أي‪ :‬بنتا أو بنت ابن { فََلهَا‬
‫صلب أو بنات ابن‪ ،‬ثلثا فأكثر { فََلهُنّ ثُلُثَا مَا تَ َر َ‬
‫صفُ } وهذا إجماع‪.‬‬
‫ال ّن ْ‬

‫بقي أن يقال‪ :‬من أين يستفاد أن للبنتين الثنتين الثلثين بعد الجماع على ذلك؟‬

‫صفُ } فمفهوم ذلك أنه إن زادت على‬


‫ح َدةً فََلهَا ال ّن ْ‬
‫ت وَا ِ‬
‫فالجواب أنه يستفاد من قوله‪ { :‬وَإِنْ كَا َن ْ‬
‫الواحدة‪ ،‬انتقل الفرض عن النصف‪ ،‬ول ثَمّ بعده إل الثلثان‪ .‬وأيضا فقوله‪ { :‬لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ حَظّ‬
‫الْأُنْثَيَيْنِ } إذا خلّف ابنًا وبنتًا‪ ،‬فإن البن له الثلثان‪ ،‬وقد أخبر ال أنه مثل حظ النثيين‪ ،‬فدل ذلك‬
‫على أن للبنتين الثلثين‪.‬‬

‫وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها ‪ -‬وهو أزيد ضررًا عليها من أختها‪ ،‬فأخذها له مع‬
‫أختها من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫وأيضا فإن قوله تعالى في الختين‪ { :‬فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فََل ُهمَا الثّلُثَانِ ِممّا تَ َركَ } نص في الختين‬
‫الثنتين‪.‬‬

‫فإذا كان الختان الثنتان ‪-‬مع بُعدهما‪ -‬يأخذان الثلثين فالبنتان ‪-‬مع قربهما‪ -‬من باب أولى‬
‫وأحرى‪ .‬وقد أعطى النبي صلى ال عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح‪.‬‬

‫بقي أن يقال‪ :‬فما الفائدة في قوله‪َ { :‬فوْقَ اثْنَتَيْن } ؟‪ .‬قيل‪ :‬الفائدة في ذلك ‪-‬وال أعلم‪ -‬أنه ليعلم‬
‫أن الفرض الذي هو الثلثان ل يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا‪ .‬ودلت الية‬
‫الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة‪ ،‬وبنت ابن أو بنات ابن‪ ،‬فإن لبنت الصلب النصف‪ ،‬ويبقى‬
‫من الثلثين اللذين فرضهما ال للبنات أو بنات البن السدس‪ ،‬فيعطى بنت البن‪ ،‬أو بنات البن‪،‬‬
‫ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين‪.‬‬

‫ومثل ذلك بنت البن‪ ،‬مع بنات البن اللتي أنزل منها‪.‬‬

‫وتدل الية أنه متى استغرق البنات أو بنات البن الثلثين‪ ،‬أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات البن لن‬
‫ال لم يفرض لهن إل الثلثين‪ ،‬وقد تم‪ .‬فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين‪،‬‬
‫وهو خلف النص‪.‬‬

‫وكل هذه الحكام مجمع عليها بين العلماء ول الحمد‪.‬‬

‫ودل قوله‪ِ { :‬ممّا تَ َركَ } أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة‬
‫وغير ذلك‪ ،‬حتى الدية التي لم تجب إل بعد موته‪ ،‬وحتى الديون التي في الذمم‬

‫ل وَاحِدٍ مّ ْن ُهمَا السّدُسُ ِممّا تَ َركَ إِنْ‬


‫ثم ذكر ميراث البوين فقال‪ { :‬وَلِأَ َبوَيْهِ } أي‪ :‬أبوه وأمه { ِل ُك ّ‬
‫كَانَ لَ ُه وَلَدٌ } أي‪ :‬ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى‪ ،‬واحدًا أو متعددًا‪.‬‬

‫فأما الُم فل تزيد على السدس مع أحد من الولد‪.‬‬

‫وأما الب فمع الذكور منهم‪ ،‬ل يستحق أزيد من السدس‪ ،‬فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد‬
‫الفرض شيء ‪-‬كأبوين وابنتين‪ -‬لم يبق له تعصيب‪ .‬وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء‬
‫أخذ الب السدس فرضًا‪ ،‬والباقي تعصيبًا‪ ،‬لننا ألحقنا الفروض بأهلها‪ ،‬فما بقي فلولى رجل‬
‫ذكر‪ ،‬وهو أولى من الخ والعم وغيرهما‪.‬‬

‫{ فَإِن لّمْ َيكُن لّهُ وَلَ ٌد َووَرِثَهُ أَ َبوَاهُ فَلُِأمّهِ الثُّلثُ } أي‪ :‬والباقي للب لنه أضاف المال إلى الب‬
‫والُم إضافة واحدة‪ ،‬ثم قدر نصيب الُم‪ ،‬فدل ذلك على أن الباقي للب‪.‬‬

‫وعلم من ذلك أن الب مع عدم الولد ل فرض له‪ ،‬بل يرث تعصيبا المال كله‪ ،‬أو ما أبقت‬
‫الفروض‪ ،‬لكن لو وجد مع البوين أحد الزوجين ‪-‬ويعبر عنهما بالعمريتين‪ -‬فإن الزوج أو‬
‫الزوجة يأخذ فرضه‪ ،‬ثم تأخذ الُم ثلث الباقي والب الباقي‪.‬‬

‫وقد دل على ذلك قوله‪َ { :‬ووَرِثَهُ أَ َبوَاهُ فَلُِأمّهِ الثُّلثُ } أي‪ :‬ثلث ما ورثه البوان‪ .‬وهو في هاتين‬
‫الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب‪ ،‬وإما ربع في زوجة وأم وأب‪ .‬فلم تدل الية على إرث‬
‫ث المال كامل مع عدم الولد حتى يقال‪ :‬إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا‪.‬‬
‫الُم ثل َ‬
‫ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء‪ ،‬فيكون من رأس المال‪،‬‬
‫والباقي بين البوين‪.‬‬

‫ولنا لو أعطينا الُم ثلث المال‪ ،‬لزم زيادتها على الب في مسألة الزوج‪ ،‬أو أخذ الب في مسألة‬
‫الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس‪ ،‬وهذا ل نظير له‪ ،‬فإن المعهود مساواتها للب‪ ،‬أو أخذه ضعفَ‬
‫ما تأخذه الم‪.‬‬

‫خ َوةٌ فَلُِأمّهِ السّدُسُ } أشقاء‪ ،‬أو لب‪ ،‬أو لم‪ ،‬ذكورًا كانوا أو إناثًا‪ ،‬وارثين أو‬
‫{ فَإِن كَانَ َلهُ ِإ ْ‬
‫خ َوةٌ } شامل لغير‬
‫محجوبين بالب أو الجد [لكن قد يقال‪ :‬ليس ظاهرُ قوله‪ { :‬فَإِنْ كَانَ لَهُ إِ ْ‬
‫الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف‪ ،‬فعلى هذا ل يحجبها عن الثلث من الخوة إل‬
‫الخوة الوارثون‪ .‬ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لجل أن يتوفر لهم شيء من المال‪،‬‬
‫وهو معدوم‪ ،‬وال أعلم] ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر‪ ،‬ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الخوة"‬
‫بلفظ الجمع‪ .‬وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد‪ ،‬ل الجمع‪ ،‬ويصدق ذلك باثنين‪.‬‬

‫ح ْك ِمهِمْ شَا ِهدِينَ }‬


‫وقد يطلق الجمع ويراد به الثنان‪ ،‬كما في قوله تعالى عن داود وسليمان { َوكُنّا ِل ُ‬
‫ل وَاحِدٍ مِ ْن ُهمَا‬
‫ختٌ فَِل ُك ّ‬
‫جلٌ يُو َرثُ كَلَالَةً َأوِ امْرََأ ٌة وَلَهُ أَخٌ َأوْ أُ ْ‬
‫وقال في الخوة للُم‪ { :‬وَإِن كَانَ رَ ُ‬
‫السّدُسُ فَإِن كَانُوا َأكْثَرَ مِنْ ذَِلكَ َف ُهمْ شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ }‬

‫فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالجماع‪ .‬فعلى هذا لو خلف أمّا وأبًا وإخوة‪ ،‬كان للُم‬
‫السدس‪ ،‬والباقي للب فحجبوها عن الثلث‪ ،‬مع حجب الب إياهم [إل على الحتمال الخر فإن‬
‫للم الثلث والباقي للب]‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬مِن َب ْع ِد َوصِيّةٍ يُوصِي ِبهَا َأوْ دَيْنٍ } أي‪ :‬هذه الفروض والنصباء والمواريث إنما‬
‫ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت ل أو للدميين‪ ،‬وبعد الوصايا التي قد أوصى‬
‫الميت بها بعد موته‪ ،‬فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة‪.‬‬

‫وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للهتمام بشأنها‪ ،‬لكون إخراجها شاقّا على الورثة‪ ،‬وإل‬
‫فالديون مقدمة عليها‪ ،‬وتكون من رأس المال‪.‬‬

‫وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للجنبي الذي هو غير وارث‪ .‬وأما غير ذلك فل ينفذ إل‬
‫بإجازة الورثة‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬آبَا ُؤكُ ْم وَأَبْنَا ُؤكُمْ لَا تَدْرُونَ أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ َلكُمْ َن ْفعًا }‬
‫فلو ردّ تقدير الرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما ال به عليم‪ ،‬لنقص العقول‬
‫ي الولدِ أو الوالِدين‬
‫وعدم معرفتها بما هو اللئق الحسن‪ ،‬في كل زمان ومكان‪ .‬فل يدرون َأ ّ‬
‫أنفع لهم‪ ،‬وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫حكِيمًا } أي‪ :‬فرضها ال الذي قد أحاط بكل شيء علمًا‪،‬‬


‫{ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ‬
‫وأحكم ما شرعه وقدّر ما قدّره على أحسن تقدير ل تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه‬
‫الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال‪.‬‬

‫ن وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َلهُنّ‬


‫جكُمْ إِن لّمْ َيكُن ّلهُ ّ‬
‫صفُ مَا تَ َركَ أَ ْزوَا ُ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وََلكُمْ } أيها الزواج { ِن ْ‬
‫ن وََلهُنّ الرّبُعُ ِممّا تَ َركْ ُتمْ إِن لّمْ َيكُنْ ّلكُمْ‬
‫وَلَدٌ فََلكُمُ الرّبُعُ ِممّا تَ َركْنَ مِن َبعْ ِد َوصِيّةٍ يُوصِينَ ِبهَا َأوْ دَيْ ٍ‬
‫وَلَدٌ فَإِن كَانَ َلكُمْ وَلَدٌ فََلهُنّ الّثمُنُ ِممّا تَ َركْتُم مّنْ َب ْع ِد َوصِيّةٍ تُوصُونَ ِبهَا َأوْ دَيْنٍ }‬

‫ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه‪ ،‬ولد الصلب أو ولد البن الذكر والُنثى‪،‬‬
‫الواحد والمتعدد‪ ،‬الذي من الزوج أو من غيره‪ ،‬ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا‪.‬‬

‫ختٌ } أي‪ :‬من أم‪ ،‬كما هي في‬


‫جلٌ يُورَثُ كَلَالَةً َأوِ امْرََأةٌ وَلَهُ أَخٌ َأوْ ُأ ْ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَإِنْ كَانَ َر ُ‬
‫بعض القراءات‪ .‬وأجمع العلماء على أن المراد بالخوة هنا الخوة للُم‪ ،‬فإذا كان يورث كللة‬
‫أي‪ :‬ليس للميت والد ول ولد أي‪ :‬ل أب ول جد ول ابن ول ابن ابن ول بنت ول بنت ابن وإن‬
‫نزلوا‪ .‬وهذه هي الكللة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي ال عنه‪ ،‬وقد حصل على ذلك‬
‫التفاق ول الحمد‪.‬‬

‫حدٍ مّ ْن ُهمَا } أي‪ :‬من الخ والخت { السّدُسُ }‪ { ،‬فَإِن كَانُوا َأكْثَرَ مِنْ ذَِلكَ } أي‪ :‬من‬
‫ل وَا ِ‬
‫{ فَِل ُك ّ‬
‫واحد { َفهُمْ شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ } أي‪ :‬ل يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين‪ .‬ودل قوله‪َ { :‬فهُمْ‬
‫شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ } أن َذكَرهم وأنثاهم سواء‪ ،‬لن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية‪.‬‬

‫ودل لفظ { ا ْلكَلَاَلةِ } على أن الفروع وإن نزلوا‪ ،‬والصولَ الذكور وإن علوا‪ ،‬يُسقطون أولد الُم‪،‬‬
‫لن ال لم يورثهم إل في الكللة‪ ،‬فلو لم يكن يورث كللة‪ ،‬لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا‪.‬‬

‫ودل قوله‪َ { :‬فهُمْ شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ } أن الخوة الشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية‪.‬‬
‫وهى‪ :‬زوج‪ ،‬وأم‪ ،‬وإخوة لم‪ ،‬وإخوة أشقاء‪ .‬للزوج النصف‪ ،‬وللم السدس‪ ،‬وللخوة للم الثلث‪،‬‬
‫ويسقط الشقاء‪ ،‬لن ال أضاف الثلث للخوة من الُم‪ ،‬فلو شاركهم الشقاء لكان جمعا لما فرّق‬
‫ال حكمه‪ .‬وأيضا فإن الخوة للم أصحاب فروض‪ ،‬والشقاء عصبات‪ .‬وقد قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪" - :‬ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلولى رجل ذكر" ‪ -‬وأهل الفروض هم الذين قدّر‬
‫سقُط الشقاء‪ ،‬وهذا هو الصواب في ذلك‪.‬‬
‫ال أنصباءهم‪ ،‬ففي هذه المسألة ل يبقى بعدهم شيء‪ ،‬فيَ ْ‬

‫وأما ميراث الخوة والخوات الشقاء أو لب‪ ،‬فمذكور في قوله‪ { :‬يَسْ َتفْتُو َنكَ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِي‬
‫ا ْلكَلَالَةِ } الية‪.‬‬

‫فالخت الواحدة شقيقة أو لب لها النصف‪ ،‬والثنتان لهما الثلثان‪ ،‬والشقيقة الواحدة مع الخت‬
‫للب أو الخوات تأخذ النصف‪ ،‬والباقي من الثلثين للخت أو الخوات لب وهو السدس تكملة‬
‫الثلثين‪ .‬وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الخوات للب كما تقدم في البنات وبنات البن‪ .‬وإن‬
‫كان الخوة رجالً ونساءً فللذكر مثل حظ النثيين‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فهل يستفاد حكم ميراث القاتل‪ ،‬والرقيق‪ ،‬والمخالف في الدين‪ ،‬والمبعض‪ ،‬والخنثى‪،‬‬
‫والجد مع الخوة لغير أم‪ ،‬والعول‪ ،‬والرد‪ ،‬وذوي الرحام‪ ،‬وبقية العصبة‪ ،‬والخوات لغير أم مع‬
‫البنات أو بنات البن من القرآن أم ل؟‬

‫قيل‪ :‬نعم‪ ،‬فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات‪.‬‬
‫فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة اللهية في توزيع‬
‫المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي‪.‬‬

‫وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله‪ { :‬لَا تَدْرُونَ أَ ّي ُهمْ َأقْ َربُ َلكُمْ َن ْفعًا } وقد عُلم أن القاتل قد‬
‫سعى لمورثه بأعظم الضرر‪ ،‬فل ينتهض ما فيه من موجب الرث أن يقاوم ضرر القتل الذي‬
‫هو ضد النفع الذي رتب عليه الرث‪ .‬فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث‪ ،‬ويقطع‬
‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } مع أنه قد استقرت‬
‫الرحم الذي قال ال فيه‪ { :‬وَأُولُو الْأَرْحَامِ َب ْع ُ‬
‫القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"‬

‫وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث ل إرث له‪ ،‬وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي‬
‫هو اتصال النسب الموجب للرث‪ ،‬والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل‬
‫وجه‪ ،‬فقوي المانع ومنع موجب الرث الذي هو النسب‪ ،‬فلم يعمل الموجب لقيام المانع‪ .‬يوضح‬
‫ذلك أن ال تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق القارب الكفار الدنيوية‪ ،‬فإذا مات‬
‫ضهُمْ َأوْلَى‬
‫المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به‪ .‬فيكون قوله تعالى‪ { :‬وَأُولُو الْأَرْحَامِ َب ْع ُ‬
‫بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } إذا اتفقت أديانهم‪ ،‬وأما مع تباينهم فالخوة الدينية مقدمة على الخوة‬
‫النسبية المجردة‪.‬‬
‫قال ابن القيم في "جلء الفهام"‪ :‬وتأمل هذا المعنى في آية المواريث‪ ،‬وتعليقه سبحانه التوارث‬
‫جكُمْ } إيذانا بأن‬
‫صفُ مَا تَ َركَ أَ ْزوَا ُ‬
‫فيها بلفظ الزوجة دون المرأة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ { :‬وََلكُمْ ِن ْ‬
‫هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب‪ ،‬والمؤمن والكافر ل تشاكل بينهما‬
‫ول تناسب‪ ،‬فل يقع بينهما التوارث‪ .‬وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين‬
‫[انتهى]‪.‬‬

‫وأما ( الرقيق ) فإنه ل يرث ول يورث‪ ،‬أما كونه ل يورث فواضح‪ ،‬لنه ليس له مال يورث‬
‫عنه‪ ،‬بل كل ما معه فهو لسيده‪ .‬وأما كونه ل يرث فلنه ل يملك‪ ،‬فإنه لو ملك لكان لسيده‪ ،‬وهو‬
‫صفُ مَا تَ َركَ‬
‫حظّ الْأُنْثَيَيْن } { وََلكُمْ ِن ْ‬
‫أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى‪ { :‬لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬
‫حدٍ مّ ْن ُهمَا السّ ُدسُ } ونحوها لمن يتأتى منه التملك‪ ،‬وأما الرقيق فل يتأتى منه‬
‫ل وَا ِ‬
‫جكُمْ } { فَِل ُك ّ‬
‫أَ ْزوَا ُ‬
‫ذلك‪ ،‬فعلم أنه ل ميراث له‪ .‬وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه‪ .‬فما فيه من‬
‫الحرية يستحق بها ما رتبه ال في المواريث‪ ،‬لكون ما فيه من الحرية قابل للتملك‪ ،‬وما فيه من‬
‫الرق فليس بقابل لذلك‪ ،‬فإذا يكون المبعض‪ ،‬يرث ويورث‪ ،‬ويحجب بقدر ما فيه من الحرية‪ .‬وإذا‬
‫كان العبد يكون محمودا مذموما‪ ،‬مثابا ومعاقبا‪ ،‬بقدر ما فيه من موجبات ذلك‪ ،‬فهذا كذلك‪ .‬وأما‬
‫( الخنثى ) فل يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته‪ ،‬أو مشكل‪ .‬فإن كان واضحا فالمر‬
‫فيه واضح‪.‬‬

‫إن كان ذكرا فله حكم الذكور‪ ،‬ويشمله النص الوارد فيهم‪.‬‬

‫وإن كان أنثى فله حكم الناث‪ ،‬ويشملها النص الوارد فيهن‪.‬‬

‫وإن كان مشكل‪ ،‬فإن كان الذكر والنثى ل يختلف إرثهما ‪-‬كالخوة للم‪ -‬فالمر فيه واضح‪،‬‬
‫وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته‪ ،‬ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك‪ ،‬لم نعطه‬
‫أكثر التقديرين‪ ،‬لحتمال ظلم من معه من الورثة‪ ،‬ولم نعطه القل‪ ،‬لحتمال ظلمنا له‪ .‬فوجب‬
‫عدِلُوا ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى } وليس لنا‬
‫التوسط بين المرين‪ ،‬وسلوكُ أعدل الطريقين‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ا ْ‬
‫س َعهَا } {‬
‫طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور‪ .‬و { لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬
‫طعْتُمْ }‬
‫فَا ّتقُوا اللّهَ مَا اسْ َت َ‬

‫وأما ( ميراث الجد ) مع الخوة الشقاء أو لب‪ ،‬وهل يرثون معه أم ل؟ فقد دل كتاب ال على‬
‫قول أبي بكر الصديق رضي ال عنه‪ ،‬وأن الجد يحجب الخوة أشقاء أو لب أو لم‪ ،‬كما يحجبهم‬
‫الب‪.‬‬
‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ ِإذْ‬
‫وبيان ذلك‪ :‬أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى‪ { :‬إِذْ َ‬
‫سحَاقَ } الية‪ .‬وقال‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫ك وَإِلَهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَِإ ْ‬
‫قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْ ُبدُ إَِل َه َ‬
‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ }‬
‫يوسف عليه السلم‪ { :‬وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَائِي إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬

‫فسمى ال الجد وجد الب أبا‪ ،‬فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الب‪ ،‬يرث ما يرثه الب‪ ،‬ويحجب‬
‫من يحجبه‪.‬‬

‫وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الب عند عدمه في ميراثه مع الولد‬
‫وغيرهم من بني الخوة والعمام وبنيهم‪ ،‬وسائر أحكام المواريث‪ ،‬فينبغي أيضا أن يكون حكمُه‬
‫حكمَه في حجب الخوة لغير أم‪.‬‬

‫وإذا كان ابن البن بمنزلة ابن الصلب فلم ل يكون الجد بمنزلة الب؟ وإذا كان جد الب مع ابن‬
‫الخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه‪ .‬فلم ل يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع مَنْ يورّث الخوةَ‬
‫مع الجد‪ ،‬نص ول إشارة ول تنبيه ول قياس صحيح‪.‬‬

‫وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن‪ ،‬وذلك أن ال تعالى قد فرض وقدر لهل‬
‫المواريث أنصباء‪ ،‬وهم بين حالتين‪:‬‬

‫إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو ل‪ .‬فإن حجب بعضهم بعضا‪ ،‬فالمحجوب ساقط ل يزاحِم ول‬
‫يستحق شيئا‪ ،‬وإن لم يحجب بعضهم بعضا فل يخلو‪ ،‬إما أن ل تستغرق الفروض التركة‪ ،‬أو‬
‫تستغرقها من غير زيادة ول نقص‪ ،‬أو تزيد الفروض على التركة‪ ،‬ففي الحالتين الوليين كل يأخذ‬
‫فرضه كامل‪ .‬وفي الحالة الخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فل يخلو من حالين‪:‬‬

‫إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه ال له‪ ،‬ونكمل للباقين منهم فروضهم‪ ،‬وهذا‬
‫ترجيح بغير مرجح‪ ،‬وليس نقصان أحدهم بأولى من الخر‪ ،‬فتعينت الحال الثانية‪ ،‬وهي‪ :‬أننا‬
‫نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر المكان‪ ،‬ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال‬
‫الغريم‪ ،‬ول طريق موصل إلى ذلك إل بالعول‪ ،‬فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه ال في‬
‫كتابه‪.‬‬

‫وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم الترك َة وبقي‬
‫شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ول بعيد‪ ،‬فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح‪،‬‬
‫ضهُمْ‬
‫وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل‪ ،‬ومعارضة لقوله‪ { :‬وَأُولُو الْأَرْحَامِ َب ْع ُ‬
‫َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } فتعين أن يُرَدّ على أهل الفروض بقدر فروضهم‪.‬‬
‫ولما كان الزوجان ليسا من القرابة‪ ،‬لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من ل يورّث‬
‫الزوجين بالرد‪ ،‬وهم جمهور القائلين بالرد‪ ،‬فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا‪،‬‬
‫وعلى القول الخر‪ ،‬أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَ ّد عليهما؛ فكما ينقصان بالعول‬
‫فإنهما يزادان بالرد كغيرهما‪ ،‬فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض‪ ،‬فهذا هو الظاهر من‬
‫دللة الكتاب والسنة‪ ،‬والقياس الصحيح‪ ،‬وال أعلم]‬

‫وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ول عاصبا‪،‬‬
‫وبقي المر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الجانب‪ ،‬وبين كون ماله يرجع إلى‬
‫ضهُمْ َأوْلَى‬
‫أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم‪ ،‬ويدل على ذلك قوله تعالى‪ { :‬وَأُولُو الْأَ ْرحَامِ َب ْع ُ‬
‫بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره‪ ،‬فتعين توريث ذوي الرحام‪.‬‬

‫وإذا تعين توريثهم‪ ،‬فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب ال‪ .‬وأن بينهم وبين‬
‫الميت وسائط‪ ،‬صاروا بسببها من القارب‪ .‬فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط‪ .‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬

‫وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والخوة وبنيهم‪ ،‬والعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى ال‬
‫جعَلْنَا‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلولي رجل ذكر" وقال تعالى‪ { :‬وَِل ُكلّ َ‬
‫َموَالِيَ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَانِ وَالَْأقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء‪ ،‬لم يستحق‬
‫العاصب شيئًا‪ ،‬وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة‪ ،‬وبحسب جهاتهم ودرجاتهم‪.‬‬

‫فإن جهات العصوبة خمس‪ :‬البنوة‪ ،‬ثم البوة‪ ،‬ثم الخوة وبنوهم‪ ،‬ثم العمومة وبنوهم‪ ،‬ثم الولء‪،‬‬
‫فيقدم منهم القرب جهة‪ .‬فإن كانوا في جهة واحدة فالقرب منزلة‪ ،‬فإن كانوا في منزلة واحدة‬
‫فالقوى‪ ،‬وهو الشقيق‪ ،‬فإن تساووا من كل وجه اشتركوا‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫وأما كون الخوات لغير أم مع البنات أو بنات البن عصبات‪ ،‬يأخذن ما فضل عن فروضهن‪،‬‬
‫فلنه ليس في القرآن ما يدل على أن الخوات يسقطن بالبنات‪.‬‬

‫فإذا كان المر كذلك‪ ،‬وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن‪ ،‬فإنه يعطى للخوات ول يعدل عنهن‬
‫إلى عصبة أبعد منهن‪ ،‬كابن الخ والعم‪ ،‬ومن هو أبعد منهم‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 14 - 13‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّ ِه َومَنْ يُطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ * َومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَيَ َتعَدّ حُدُو َدهُ ُيدْخِ ْلهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ‬
‫عَذَابٌ ُمهِينٌ }‬

‫أي‪ :‬تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود ال التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها‪،‬‬
‫ول القصور عنها‪ ،‬وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء‬
‫الوارثين‪.‬‬

‫حدُودُ اللّهِ } فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي‪ ،‬مع‬
‫ثم قوله تعالى‪ { :‬تِ ْلكَ ُ‬
‫قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل وصية لوارث" ثم ذكر طاعة ال ورسوله ومعصيتهما عموما‬
‫طعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } بامتثال‬
‫ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال‪َ { :‬ومَنْ يُ ِ‬
‫أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد‪ ،‬ثم الوامر على اختلف درجاتها واجتناب نهيهما الذي‬
‫أعظمُه الشرك بال‪ ،‬ثم المعاصي على اختلف طبقاتها { يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا } فمن أدى الوامر واجتنب النواهي فل بد له من دخول الجنة والنجاة من النار‪.‬‬
‫{ وَذَِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ } الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه‪ ،‬والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم‬
‫المقيم الذي ل يصفه الواصفون‪.‬‬

‫حدُو َدهُ يُ ْدخِلْهُ نَارًا خَاِلدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ ّمهِينٌ } ويدخل في اسم‬
‫{ َومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُوَل ُه وَيَ َتعَدّ ُ‬
‫المعصية الكفر فما دونه من المعاصي‪ ،‬فل يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي‬
‫فإن ال تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله‪ .‬ورتب دخول النار على معصيته‬
‫ومعصية رسوله‪ ،‬فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بل عذاب‪.‬‬

‫ومن عصى ال ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه‪ ،‬دخل النار وخلد فيها‪ ،‬ومن‬
‫اجتمع فيه معصية وطاعة‪ ،‬كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة‬
‫والمعصية‪ .‬وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد‪ ،‬غير‬
‫مخلدين في النار‪ ،‬فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها‪.‬‬

‫شهِدُوا‬
‫شهِدُوا عَلَ ْيهِنّ أَرْ َبعَةً مِ ْنكُمْ فَإِنْ َ‬
‫شةَ مِنْ نِسَا ِئكُمْ فَاسْتَ ْ‬
‫{ ‪ { } 16 - 15‬وَاللّاتِي يَأْتِينَ ا ْلفَاحِ َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ َلهُنّ سَبِيلًا * وَاللّذَانِ يَأْتِيَا ِنهَا مِ ْنكُمْ‬
‫سكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَ َت َوفّاهُنّ ا ْل َم ْوتُ َأوْ يَ ْ‬
‫فََأمْ ِ‬
‫فَآذُو ُهمَا فَإِنْ تَابَا وََأصْلَحَا فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمَا إِنّ اللّهَ كَانَ َتوّابًا رَحِيمًا }‬

‫حشَةَ } أي‪ :‬الزنا‪ ،‬ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها‪.‬‬


‫أي‪ :‬النساء { اللتي يَأْتِينَ ا ْلفَا ِ‬
‫سكُوهُنّ فِي‬
‫شهِدُوا فََأمْ ِ‬
‫شهِدُوا عَلَ ْيهِنّ أَرْ َبعَةً مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬من رجالكم المؤمنين العدول‪ { .‬فَإِنْ َ‬
‫{ فَاسْتَ ْ‬
‫الْبُيُوتِ } أي‪ :‬احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة‪ .‬وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات‬
‫ج َعلَ اللّهُ َلهُنّ سَبِيلًا } أي‪ :‬طريقا غير‬
‫{ حَتّى يَ َت َوفّاهُنّ ا ْل َموْتُ } أي‪ :‬هذا منتهى الحبس‪َ { .‬أوْ َي ْ‬
‫الحبس في البيوت‪ ،‬وهذه الية ليست منسوخة‪ ،‬وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت‪ ،‬فكان المر في‬
‫أول السلم كذلك حتى جعل ال لهن سبيل‪ ،‬وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن‪.‬‬

‫{ و } كذلك { الّلذَانِ يَأْتِيَا ِنهَا } أي‪ :‬الفاحشة { مِ ْنكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُو ُهمَا } بالقول‬
‫والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة‪ ،‬فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة‬
‫يؤذون‪ ،‬والنساء يحبسن ويؤذين‪.‬‬

‫فالحبس غايته إلى الموت‪ ،‬والذية نهايتها إلى التوبة والصلح‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَإِنْ تَابَا } أي‪:‬‬
‫رجعا عن الذنب الذي فعله وندما عليه‪ ،‬وعزما على أن ل يعودا { وََأصْلَحَا } العمل الدال على‬
‫صدق التوبة { فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمَا } أي‪ :‬عن أذاهما { إِنّ اللّهَ كَانَ َتوّابًا رَحِيمًا } أي‪ :‬كثير التوبة‬
‫على المذنبين الخطائين‪ ،‬عظيم الرحمة والحسان‪ ،‬الذي ‪-‬من إحسانه‪ -‬وفقهم للتوبة وقبلها منهم‪،‬‬
‫وسامحهم عن ما صدر منهم‪.‬‬

‫ويؤخذ من هاتين اليتين أن بينة الزنا‪ ،‬ل بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين‪ ،‬ومن باب أولى‬
‫وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لن ال تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة‪ ،‬سترًا لعباده‪ ،‬حتى إنه ل يقبل‬
‫فيها النساء منفردات‪ ،‬ول مع الرجال‪ ،‬ول ما دون أربعة‪.‬‬

‫ول بد من التصريح بالشهادة‪ ،‬كما دلت على ذلك الحاديث الصحيحة‪ ،‬وتومئ إليه هذه الية لما‬
‫شهِدُوا } أي‪ :‬ل بد من‬
‫ش ِهدُوا عَلَ ْيهِنّ أَرْ َبعَةً مِ ْنكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال‪ { :‬فَإِنْ َ‬
‫قال‪ { :‬فَاسْتَ ْ‬
‫شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا‪ ،‬من غير تعريض ول كناية‪.‬‬

‫ويؤخذ منهما أن الذية بالقول والفعل والحبس‪ ،‬قد شرعه ال تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل‬
‫به الزجر‪.‬‬

‫جهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَ ِئكَ‬


‫علَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ‬
‫{ ‪ { } 18 - 17‬إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ َ‬
‫حضَرَ‬
‫ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا َ‬
‫حكِيمًا * وَلَ ْي َ‬
‫يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْيهِ ْم َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫ن وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ أَعْتَدْنَا َل ُهمْ عَذَابًا أَلِيمًا }‬
‫ن وَلَا الّذِينَ َيمُوتُو َ‬
‫حدَهُمُ ا ْل َموْتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ الْآ َ‬
‫أَ َ‬
‫توبة ال على عباده نوعان‪ :‬توفيق منه للتوبة‪ ،‬وقبول لها بعد وجودها من العبد‪ ،‬فأخبر هنا ‪-‬أن‬
‫التوبة المستحقة على ال حق أحقه على نفسه‪ ،‬كرما منه وجودا‪ ،‬لمن عمل السوء أي‪ :‬المعاصي {‬
‫جهَالَةٍ } أي‪ :‬جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط ال وعقابه‪ ،‬وجهل منه بنظر ال ومراقبته له‪،‬‬
‫بِ َ‬
‫وجهل منه بما تئول إليه من نقص اليمان أو إعدامه‪ ،‬فكل عاص ل‪ ،‬فهو جاهل بهذا العتبار‬
‫وإن كان عالما بالتحريم‪ .‬بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ُثمّ يَتُوبُونَ مِنْ‬
‫قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى‪ :‬ثم يتوبون قبل معاينة الموت‪ ،‬فإن ال يقبل توبة العبد إذا تاب‬
‫قبل معاينة الموت والعذاب قطعا‪ .‬وأما بعد حضور الموت فل يُقبل من العاصين توبة ول من‬
‫الكفار رجوع‪ ،‬كما قال تعالى عن فرعون‪ { :‬حَتّى ِإذَا أَدْ َركَهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي‬
‫آمَ َنتْ بِهِ بَنُو ِإسْرَائِيلَ } الية‪ .‬وقال تعالى‪ { :‬فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َد ُه َو َكفَرْنَا ِبمَا كُنّا‬
‫بِهِ مُشْ ِركِينَ فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ }‬

‫وقال هنا‪:‬‬

‫حدَهُمُ‬
‫حضَرَ أَ َ‬
‫ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ } أي‪ :‬المعاصي فيما دون الكفر‪ { .‬حَتّى إِذَا َ‬
‫{ وَلَيْ َ‬
‫ن وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ أَعْتَدْنَا َلهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن‬
‫ن وَلَا الّذِينَ َيمُوتُو َ‬
‫ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ الْآ َ‬
‫التوبة في هذه الحال توبة اضطرار ل تنفع صاحبها‪ ،‬إنما تنفع توبة الختيار‪ .‬ويحتمل أن يكون‬
‫معنى قوله‪ { :‬مِنْ قَرِيبٍ } أي‪ :‬قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬أن من بادر‬
‫إلى القلع من حين صدور الذنب وأناب إلى ال وندم عليه فإن ال يتوب عليه‪ ،‬بخلف من‬
‫استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه‪ ،‬حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد‬
‫التوبة التامة‪.‬‬

‫والغالب أنه ل يوفق للتوبة ول ييسر لسبابها‪ ،‬كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون‬
‫بنظر ال إليه‪ ،‬فإنه سد على نفسه باب الرحمة‪.‬‬

‫نعم قد يوفق ال عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف‬
‫من سيئاته وما تقدم من جناياته‪ ،‬ولكن الرحمة والتوفيق للول أقرب‪ ،‬ولهذا ختم الية الولى‬
‫حكِيمًا }‬
‫بقوله‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬

‫فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كل منهما بحسب ما يستحق بحكمته‪ ،‬ومن‬
‫حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة‪ ،‬ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ‬
‫توفيقه‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَرِثُوا النّسَاءَ كَ ْرهًا وَلَا َت ْعضُلُوهُنّ لِ َتذْهَبُوا‬
‫{ ‪ { } 21 - 19‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َي ِ‬
‫بِ َب ْعضِ مَا آتَيْ ُتمُوهُنّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِشَةٍ مُبَيّ َن ٍة وَعَاشِرُوهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْ ُتمُوهُنّ َفعَسَى أَنْ‬
‫ج َعلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *‬
‫َتكْرَهُوا شَيْئًا وَيَ ْ‬

‫خذُونَ ُه ُب ْهتَانًا‬
‫ش ْيئًا َأ َت ْأ ُ‬
‫خذُوا ِمنْهُ َ‬
‫ن قِ ْنطَارًا فَلَا َت ْأ ُ‬
‫حدَاهُ ّ‬
‫ن زَوْجٍ وَآ َت ْي ُتمْ ِإ ْ‬
‫ستِ ْبدَالَ زَ ْوجٍ َمكَا َ‬
‫وَِإنْ َأ َر ْد ُتمُ ا ْ‬
‫ن ِم ْنكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }‬
‫خذْ َ‬
‫ض ُكمْ إِلَى َبعْضٍ وََأ َ‬
‫خذُونَ ُه َوقَدْ َأ ْفضَى َبعْ ُ‬
‫وَِإ ْثمًا ُمبِينًا * َو َكيْفَ َت ْأ ُ‬

‫كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته‪ ،‬رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق‬
‫بزوجته من كل أحد‪ ،‬وحماها عن غيره‪ ،‬أحبت أو كرهت‪.‬‬

‫فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها‪ ،‬وإن لم يرضها عضلها فل يزوجها إل من يختاره‬
‫هو‪ ،‬وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها‪ ،‬وكان‬
‫الرجل أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها‪ ،‬فنهى ال المؤمنين‬
‫عن جميع هذه الحوال إل حالتين‪ :‬إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الول‪ ،‬كما هو‬
‫مفهوم قوله‪َ { :‬كرْهًا } وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلم الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في‬
‫هذه الحال يجوز له أن يعضلها‪ ،‬عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضل بالعدل‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬وعَاشِرُو ُهنّ بِا ْل َم ْعرُوفِ } وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية‪ ،‬فعلى الزوج أن‬
‫يعاشر زوجته بالمعروف‪ ،‬من الصحبة الجميلة‪ ،‬وكف الذى وبذل الحسان‪ ،‬وحسن المعاملة‪،‬‬
‫ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما‪ ،‬فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها‬
‫في ذلك الزمان والمكان‪ ،‬وهذا يتفاوت بتفاوت الحوال‪.‬‬

‫خيْرًا َكثِيرًا } أي‪ :‬ينبغي لكم ‪-‬أيها‬


‫جعَلَ اللّهُ فِي ِه َ‬
‫ش ْيئًا َو َي ْ‬
‫ن َكرِهْ ُتمُو ُهنّ َف َعسَى َأنْ َت ْكرَهُوا َ‬
‫{ َفإِ ْ‬
‫الزواج‪ -‬أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن‪ ،‬فإن في ذلك خيرًا كثيرًا‪ .‬من ذلك امتثال أمر‬
‫ال‪ ،‬وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ومنها أن إجباره نفسَه ‪-‬مع عدم محبته لها‪ -‬فيه مجاهدة النفس‪ ،‬والتخلق بالخلق الجميلة‪.‬‬
‫وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة‪ ،‬كما هو الواقع في ذلك‪ .‬وربما رزق منها ولدا‬
‫صالحا نفع والديه في الدنيا والخرة‪ .‬وهذا كله مع المكان في المساك وعدم المحذور‪.‬‬

‫فإن كان ل بد من الفراق‪ ،‬وليس للمساك محل‪ ،‬فليس المساك بلزم‪.‬‬


‫ج أخرى‪ .‬أي‪ :‬فل جناح‬
‫ج َمكَانَ زَ ْوجٍ } أي‪ :‬تطليقَ زوجة وتزو َ‬
‫س ِت ْبدَالَ زَوْ ٍ‬
‫بل متى { َأ َردْ ُتمُ ا ْ‬
‫ن } أي‪ :‬المفارقة أو التي تزوجها { ِق ْنطَارًا }‬
‫حدَاهُ ّ‬
‫عليكم في ذلك ول حرج‪ .‬ولكن إذا { آ َت ْي ُتمْ ِإ ْ‬
‫ش ْيئًا } بل وفروه لهن ول تمطلوا بهن‪.‬‬
‫أي‪ :‬مال كثيرا‪ { .‬فَلَا َت ْأخُذُوا ِمنْ ُه َ‬

‫وفي هذه الية دللة على عدم تحريم كثرة المهر‪ ،‬مع أن الفضل واللئق القتداءُ بالنبي صلى‬
‫ال عليه وسلم في تخفيف المهر‪ .‬ووجه الدللة أن ال أخبر عن أمر يقع منهم‪ ،‬ولم ينكره‬
‫عليهم‪ ،‬فدل على عدم تحريمه [لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم‬
‫مصلحة تقاوم]‬

‫خذُونَهُ ُب ْهتَانًا وَِإ ْثمًا ُمبِينًا } فإن هذا ل يحل ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل‪ ،‬فإن إثمه‬
‫ثم قال‪َ { :‬أ َت ْأ ُ‬
‫واضح‪.‬‬

‫خذْنَ ِم ْن ُكمْ‬
‫ض ُكمْ إِلَى َبعْضٍ وََأ َ‬
‫خذُونَهُ َو َقدْ َأ ْفضَى َب ْع ُ‬
‫وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله‪َ { :‬و َك ْيفَ َت ْأ ُ‬
‫مِيثَاقًا غَلِيظًا } وبيان ذلك‪ :‬أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له‬
‫إل بذلك المهر الذي يدفعه لها‪ ،‬فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما‬
‫قبل ذلك‪ ،‬والتي لم ترض ببذلها إل بذلك العوض‪ ،‬فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه‬
‫العوض‪.‬‬

‫فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور‪ ،‬وكذلك‬
‫أخذ ال على الزواج ميثاقا غليظا بالعقد‪ ،‬والقيام بحقوقها‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫حشَةً َومَ ْقتًا َوسَاءَ‬


‫ح آبَا ُؤ ُكمْ ِمنَ ال ّنسَاءِ إِلّا مَا َقدْ سََلفَ ِإنّ ُه كَانَ فَا ِ‬
‫{ ‪ { } 22‬وَلَا َت ْن ِكحُوا مَا َنكَ َ‬
‫سبِيلًا }‬
‫َ‬

‫حشَةً } أي‪:‬‬
‫أي‪ :‬ل تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي‪ :‬الب وإن عل‪ِ { .‬إنّ ُه كَانَ فَا ِ‬
‫أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه { َومَ ْقتًا } من ال لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك البن أباه‬
‫والب ابنه‪ ،‬مع المر ببره‪.‬‬

‫سبِيلًا } أي‪ :‬بئس الطريق طريقا لمن سلكه لن هذا من عوائد الجاهلية‪ ،‬التي جاء‬
‫{ َوسَاءَ َ‬
‫السلم بالتنزه عنها والبراءة منها‪.‬‬
‫عمّاتُ ُكمْ َوخَالَاتُ ُكمْ َو َبنَاتُ ا ْلأَخِ‬
‫خوَا ُت ُكمْ َو َ‬
‫ح ّرمَتْ عََل ْي ُكمْ ُأ ّمهَا ُت ُكمْ َو َبنَا ُت ُكمْ وََأ َ‬
‫{ ‪ُ { } 24 - 23‬‬
‫ض ْع َنكُمْ وََأخَوَا ُت ُكمْ ِمنَ ال ّرضَاعَةِ وَُأ ّمهَاتُ ِنسَا ِئكُمْ َو َربَائِ ُب ُكمُ‬
‫َو َبنَاتُ ا ْلُأخْتِ وَُأ ّمهَا ُت ُكمُ اللّاتِي َأرْ َ‬
‫جنَاحَ عََل ْي ُكمْ‬
‫ن فَلَا ُ‬
‫ن َلمْ َتكُونُوا َدخَ ْل ُتمْ ِبهِ ّ‬
‫ن فَإِ ْ‬
‫ن ِنسَا ِئكُمُ اللّاتِي َدخَ ْل ُتمْ ِبهِ ّ‬
‫حجُورِ ُكمْ مِ ْ‬
‫اللّاتِي فِي ُ‬
‫ن اللّ َه كَانَ غَفُورًا‬
‫خ َتيْنِ إِلّا مَا َقدْ سََلفَ إِ ّ‬
‫ن ا ْلُأ ْ‬
‫ج َمعُوا َبيْ َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َوحَلَائِلُ َأ ْبنَا ِئ ُكمُ اّلذِينَ ِمنْ َأصْلَا ِبكُمْ وَأَ ْ‬
‫صنَاتُ ِمنَ ال ّنسَاءِ إِلّا مَا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُكمْ ِكتَابَ اللّهِ عََل ْيكُمْ وَُأحِلّ َل ُك ْم مَا َورَا َء ذَِلكُمْ‬
‫َرحِيمًا * وَا ْل ُمحْ َ‬
‫ن فَرِيضَةً وَلَا‬
‫ن ُأجُورَهُ ّ‬
‫س َتمْ َت ْع ُتمْ بِ ِه ِم ْنهُنّ فَآتُوهُ ّ‬
‫ن َفمَا ا ْ‬
‫غ ْيرَ ُمسَا ِفحِي َ‬
‫صنِينَ َ‬
‫ح ِ‬
‫ن َت ْب َتغُوا ِبَأمْوَاِل ُكمْ ُم ْ‬
‫أَ ْ‬
‫حكِيمًا }‬
‫ن اللّ َه كَانَ عَلِيمًا َ‬
‫ض ْي ُتمْ بِ ِه مِنْ َب ْعدِ ا ْل َفرِيضَ ِة إِ ّ‬
‫جنَاحَ عََل ْي ُكمْ فِيمَا َترَا َ‬
‫ُ‬

‫هذه اليات الكريمات مشتملت على المحرمات بالنسب‪ ،‬والمحرمات بالرضاع‪ ،‬والمحرمات‬
‫بالصهر‪ ،‬والمحرمات بالجمع‪ ،‬وعلى المحللت من النساء‪ .‬فأما المحرمات في النسب فهن‬
‫السبع اللتي ذكرهن ال‪.‬‬

‫الم يدخل فيها كل من لها عليك ولدة‪ ،‬وإن بعدت‪ ،‬ويدخل في البنت كل من لك عليها ولدة‪،‬‬
‫والخوات الشقيقات‪ ،‬أو لب أو لم‪ .‬والعمة‪ :‬كل أخت لبيك أو لجدك وإن عل‪.‬‬

‫والخالة‪ :‬كل أخت لمك‪ ،‬أو جدتك وإن علت وارثة أم ل‪ .‬وبنات الخ وبنات الخت أي‪ :‬وإن‬
‫نزلت‪.‬‬

‫فهؤلء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الية الكريمة وما عداهن فيدخل‬
‫في قوله‪ { :‬وَُأحِلّ َل ُكمْ مَا َورَا َء ذَِلكُمْ } وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة‪.‬‬

‫وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر ال منهن الم والخت‪ .‬وفي ذلك تحريم الم مع أن اللبن‬
‫ليس لها‪ ،‬إنما هو لصاحب اللبن‪ ،‬دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا‬
‫ثبتت البوة والمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم‬

‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فينتشر التحريم من‬
‫جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في القارب‪ ،‬وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط‪.‬‬
‫لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة‪.‬‬

‫وأما المحرمات بالصهر فهن أربع‪ .‬حلئل الباء وإن علوا‪ ،‬وحلئل البناء وإن نزلوا‪ ،‬وارثين‬
‫أو محجوبين‪ .‬وأمهات الزوجة وإن علون‪ ،‬فهؤلء الثلث يحرمن بمجرد العقد‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت‪ ،‬فهذه ل تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا‬
‫ن } الية‪.‬‬
‫حجُو ِركُمْ ِمنْ ِنسَا ِئكُمُ اللّاتِي َدخَ ْل ُتمْ ِبهِ ّ‬
‫{ َو َربَا ِئ ُب ُكمُ اللّاتِي فِي ُ‬

‫حجُو ِر ُكمْ } قيد خرج مخرج الغالب ل مفهوم له‪ ،‬فإن‬


‫وقد قال الجمهور‪ :‬إن قوله‪ { :‬اللّاتِي فِي ُ‬
‫الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح‬
‫إباحتها‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬فيه دللة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته‬
‫ونحوهن‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر ال الجمع بين الختين وحرمه وحرم النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها‪ ،‬فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما‬
‫ذكرًا والخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما‪ ،‬وذلك لما في ذلك من أسباب‬
‫التقاطع بين الرحام‪.‬‬

‫ن ال ّنسَاءِ } أي‪ :‬ذوات الزواج‪ .‬فإنه يحرم‬


‫صنَاتُ مِ َ‬
‫ح َ‬
‫{ وَ } من المحرمات في النكاح { وَا ْل ُم ْ‬
‫ت َأ ْيمَا ُنكُمْ } أي‪:‬‬
‫نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها‪ { .‬إِلّا مَا مََلكَ ْ‬
‫بالسبي‪ ،‬فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ‪ .‬وأما إذا بيعت المة‬
‫المزوجة أو وهبت فإنه ل ينفسخ نكاحها لن المالك الثاني نزل منزلة الول ولقصة بريرة‬
‫حين خيرها النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ب اللّهِ عََل ْي ُكمْ } أي‪ :‬الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلل‬
‫وقوله‪ِ { :‬كتَا َ‬
‫من الحرام‪.‬‬

‫ودخل في قوله‪ { :‬وَُأحِلّ َل ُكمْ مَا َورَا َء ذَِلكُمْ } كلّ ما لم يذكر في هذه الية‪ ،‬فإنه حلل طيب‪.‬‬
‫فالحرام محصور والحلل ليس له حد ول حصر لطفًا من ال ورحمة وتيسيرًا للعباد‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬أنْ َت ْب َتغُوا ِبَأمْوَاِل ُكمْ } أي‪ :‬تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللتي أباحهن‬
‫ن } أي‪ :‬مستعفين عن الزنا‪ ،‬ومعفين نساءكم‪.‬‬
‫صنِي َ‬
‫ال لكم حالة كونكم { ُمحْ ِ‬
‫غ ْيرَ ُمسَا ِفحِينَ } والسفح‪ :‬سفح الماء في الحلل والحرام‪ ،‬فإن الفاعل لذلك ل يحصن زوجته‬
‫{ َ‬
‫لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلل فل يبقى محصنا لزوجته‪ .‬وفيها دللة‬
‫ح إلّا زَا ِنيَ ًة أَ ْو ُمشْ ِركَةً وَالزّا ِنيَ ُة لَا‬
‫على أنه ل يزوج غير العفيف لقوله تعالى‪ { :‬الزّانِي لَا َي ْنكِ ُ‬
‫ستَ ْم َت ْع ُتمْ بِ ِه ِم ْنهُنّ } أي‪ :‬ممن تزوجتموها { فَآتُو ُهنّ‬
‫ش ِركٌ } ‪َ {.‬فمَا ا ْ‬
‫َي ْن ِكحُهَا إِلّا زَانٍ َأوْ ُم ْ‬
‫ن } أي‪ :‬الجور في مقابلة الستمتاع‪ .‬ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها‬
‫ُأجُورَهُ ّ‬
‫{ َفرِيضَ ًة } أي‪ :‬إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه ال عليكم‪ ،‬ليس بمنزلة التبرع الذي إن‬
‫شاء أمضاه وإن شاء رده‪ .‬أو معنى قوله فريضة‪ :‬أي‪ :‬مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم‪ ،‬فل‬
‫تنقصوا منها شيئًا‪.‬‬

‫ن َب ْعدِ الْ َفرِيضَةِ } أي‪ :‬بزيادة من الزوج أو إسقاط من‬


‫ضيْ ُتمْ ِبهِ مِ ْ‬
‫جنَاحَ عََل ْي ُكمْ فِيمَا َترَا َ‬
‫{ وَلَا ُ‬
‫الزوجة عن رضا وطيب نفس [هذا قول كثير من المفسرين‪ ،‬وقال كثير منهم‪ :‬إنها نزلت في‬
‫متعة النساء التي كانت حلل في أول السلم ثم حرمها النبي صلى ال عليه وسلم وأنه يؤمر‬
‫بتوقيتها وأجرها‪ ،‬ثم إذا انقضى المد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فل حرج عليهما‪ ،‬وال‬
‫أعلم]‪.‬‬

‫حكِيمًا } أي‪ :‬كامل العلم واسعه‪ ،‬كامل الحكمة‪ :‬فمن علمه وحكمته شرع‬
‫{ ِإنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ‬
‫لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلل والحرام‪.‬‬

‫ت َأ ْيمَانُ ُكمْ مِنْ‬


‫صنَاتِ ا ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ َفمِنْ مَا مََلكَ ْ‬
‫ح ا ْل ُمحْ َ‬
‫س َتطِعْ ِم ْن ُكمْ طَوْلًا َأنْ َي ْنكِ َ‬
‫{ ‪َ { } 25‬و َمنْ َلمْ َي ْ‬
‫ن ُأجُورَهُنّ‬
‫ن أَهِْلهِنّ وَآتُوهُ ّ‬
‫ن َبعْضٍ فَا ْنكِحُو ُهنّ ِبِإذْ ِ‬
‫ض ُكمْ مِ ْ‬
‫َفتَيَا ِت ُكمُ ا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ وَاللّ ُه أَعَْلمُ ِبإِيمَا ِنكُ ْم َبعْ ُ‬
‫حشَ ٍة فَعََل ْيهِنّ‬
‫ن بِفَا ِ‬
‫حصِنّ َفإِنْ َأ َتيْ َ‬
‫ن َفِإذَا ُأ ْ‬
‫خدَا ٍ‬
‫خذَاتِ َأ ْ‬
‫غ ْيرَ ُمسَافِحَاتٍ وَلَا ُم ّت ِ‬
‫صنَاتٍ َ‬
‫ح َ‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ ُم ْ‬
‫خ ْيرٌ َل ُكمْ وَاللّهُ‬
‫ص ِبرُوا َ‬
‫شيَ ا ْل َعنَتَ ِم ْن ُكمْ وََأنْ َت ْ‬
‫خِ‬‫ن َ‬
‫ن ا ْل َعذَابِ ذَِلكَ ِلمَ ْ‬
‫ت مِ َ‬
‫صنَا ِ‬
‫ح َ‬
‫ِنصْفُ مَا عَلَى ا ْل ُم ْ‬
‫غَفُورٌ َرحِي ٌم }‬

‫س َتطِعْ ِم ْن ُكمْ طَوْلًا } الية‪.‬‬


‫ثم قال تعالى { َو َمنْ َلمْ َي ْ‬

‫أي‪ :‬ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي‪ :‬الحرائر المؤمنات وخاف‬
‫على نفسه ال َعنَت أي‪ :‬الزنا والمشقة الكثيرة‪ ،‬فيجوز له نكاح الماء المملوكات المؤمنات‪ .‬وهذا‬
‫بحسب ما يظهر‪ ،‬وإل فال أعلم بالمؤمن الصادق من غيره‪ ،‬فأمور الدنيا مبنية على ظواهر‬
‫المور‪ ،‬وأحكام الخرة مبنية على ما في البواطن‪.‬‬

‫ن } أي‪ :‬سيدهن واحدا أو متعددا‪.‬‬


‫ن } أي‪ :‬المملوكات { ِبِإذْنِ أَهِْلهِ ّ‬
‫{ فَا ْن ِكحُوهُ ّ‬
‫{ وَآتُو ُهنّ ُأجُورَهُنّ بِا ْل َم ْعرُوفِ } أي‪ :‬ولو كن إماء‪ ،‬فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب‬
‫غ ْيرَ‬
‫صنَاتٍ } أي‪ :‬عفيفات عن الزنا { َ‬
‫للمة‪ .‬ولكن ل يجوز نكاح الماء إل إذا كن { ُمحْ َ‬
‫ن } أي‪ :‬أخلء في السر‪.‬‬
‫خدَا ٍ‬
‫خذَاتِ َأ ْ‬
‫ُمسَا ِفحَاتٍ } أي‪ :‬زانيات علنية‪ { .‬وَلَا ُم ّت ِ‬

‫فالحاصل أنه ل يجوز للحر المسلم نكاح أمة إل بأربعة شروط ذكرها ال‪ :‬اليمان بهن والعفة‬
‫ظاهرا وباطنا‪ ،‬وعدم استطاعة طول الحرة‪ ،‬وخوف العنت‪ ،‬فإذا تمت هذه الشروط جاز له‬
‫نكاحهن‪.‬‬

‫ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الولد للرق‪ ،‬ولما فيه من الدناءة‬
‫والعيب‪ .‬وهذا إذا أمكن الصبر‪ ،‬فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إل بنكاحهن وجب ذلك‪ .‬ولهذا‬
‫خيْرٌ َل ُكمْ وَاللّهُ غَفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫ن َتصْ ِبرُوا َ‬
‫قال‪ { :‬وَأَ ْ‬

‫صنَاتِ‬
‫ح َ‬
‫ن ِنصْفُ مَا عَلَى ا ْل ُم ْ‬
‫حصِنّ } أي‪ :‬تزوجن أو أسلمن أي‪ :‬الماء { َفعَلَ ْيهِ ّ‬
‫وقوله‪َ { :‬فِإذَا ُأ ْ‬
‫ن ا ْل َعذَابِ }‬
‫} أي‪ :‬الحرائر { مِ َ‬

‫وذلك الذي يمكن تنصيفه وهو‪ :‬الجَلد فيكون عليهن خمسون جَلدة‪ .‬وأما الرجم فليس على‬
‫الماء رجم لنه ل يتنصف‪ ،‬فعلى القول الول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد‪ ،‬إنما عليهن‬
‫تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة‪.‬‬

‫وعلى القول الثاني‪ :‬إن الماء غير المسلمات‪ ،‬إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن‪.‬‬

‫وختم هذه الية بهذين السمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه الحكام رحمةً بالعباد‬
‫وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم‪ ،‬بل وسع غاية السعة‪.‬‬

‫ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات‪ ،‬يغفر ال بها ذنوب عباده‬
‫كما ورد بذلك الحديث‪ .‬وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم المة لعدم الفارق بينهما‪.‬‬

‫ن اّلذِينَ ِمنْ َقبِْل ُكمْ َو َيتُوبَ عََل ْيكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ‬


‫سنَ َ‬
‫{ ‪ُ { } 28 - 26‬يرِيدُ اللّ ُه ِل ُي َبيّنَ َل ُكمْ َو َي ْه ِد َيكُمْ ُ‬
‫عظِيمًا * ُيرِيدُ‬
‫شهَوَاتِ َأنْ َتمِيلُوا َميْلًا َ‬
‫ن َي ّتبِعُونَ ال ّ‬
‫ن َيتُوبَ عََل ْي ُكمْ َو ُيرِيدُ اّلذِي َ‬
‫حكِيمٌ * وَاللّ ُه ُيرِيدُ أَ ْ‬
‫َ‬
‫ضعِيفًا }‬
‫ن َ‬
‫ع ْن ُكمْ َوخُِلقَ ا ْلِإ ْنسَا ُ‬
‫ن ُيخَ ّففَ َ‬
‫اللّ ُه أَ ْ‬

‫يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة‪ ،‬وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال‪:‬‬
‫{ ُيرِيدُ اللّ ُه ِل ُي َبيّنَ َل ُك ْم } أي‪ :‬جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل‪ ،‬والحلل والحرام‪،‬‬
‫ن َقبِْلكُمْ } أي‪ :‬الذين أنعم ال عليهم من النبيين وأتباعهم‪ ،‬في سيرهم‬
‫ن اّلذِينَ مِ ْ‬
‫سنَ َ‬
‫{ َو َي ْه ِديَ ُكمْ ُ‬
‫الحميدة‪ ،‬وأفعالهم السديدة‪ ،‬وشمائلهم الكاملة‪ ،‬وتوفيقهم التام‪ .‬فلذلك نفذ ما أراده‪ ،‬ووضح لكم‬
‫وبين بيانا كما بين لمن قبلكم‪ ،‬وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل‪.‬‬

‫{ َو َيتُوبَ عََل ْي ُكمْ } أي‪ :‬يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما‬
‫حده ال‪ ،‬والكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر ال عليكم فهذا من توبته على عباده‪.‬‬

‫ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم النابة إليه‪ ،‬والتذلل بين‬
‫يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له‪ .‬فله الحمد والشكر على ذلك‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬كامل الحكمة‪ ،‬فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون‪،‬‬


‫وقوله‪ { :‬وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫ومنها هذه الشياء والحدود‪ .‬ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة‬
‫عليه‪ ،‬ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من ل يصلح للتوبة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَاللّ ُه ُيرِيدُ َأنْ َيتُوبَ عََل ْي ُكمْ } أي‪ :‬توبة تلم شعثكم‪ ،‬وتجمع متفرقكم‪ ،‬وتقرب بعيدكم‪.‬‬

‫ت } أي‪ :‬يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا‬


‫شهَوَا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َي ّت ِبعُو َ‬
‫{ َو ُيرِيدُ اّلذِي َ‬
‫محبوبهم‪ ،‬ويعبدون أهواءهم‪ ،‬من أصناف الكفرة والعاصين‪ ،‬المقدمين لهوائهم على طاعة‬
‫عظِيمًا } أي‪[ :‬أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى‬
‫ن َتمِيلُوا َميْلًا َ‬
‫ربهم‪ ،‬فهؤلء يريدون { أَ ْ‬
‫صراط المغضوب عليهم والضالين‪.‬‬

‫يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان‪ ،‬وعن التزام حدود من السعادة‬
‫ن الشقاوةُ كلها في اتباعه‪ .‬فإذا عرفتم أن ال تعالى يأمركم بما‬
‫كلها في امتثال أوامره‪ ،‬إلى مَ ْ‬
‫فيه صلحكم وفلحكم وسعادتكم‪ ،‬وأن هؤلء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار‬
‫والشقاء‪ ،‬فاختاروا لنفسكم أوْلى الداعيين‪ ،‬وتخيّروا أحسن الطريقتين‪.‬‬

‫ع ْن ُكمْ } أي‪ :‬بسهولة ما أمركم به و [ما] نهاكم عنه‪ ،‬ثم مع حصول‬


‫ن ُيخَ ّففَ َ‬
‫{ ُيرِيدُ اللّ ُه أَ ْ‬
‫المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم‪ ،‬كالميتة والدم ونحوهما للمضطر‪،‬‬
‫وكتزوج المة للحر بتلك الشروط السابقة‪ .‬وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل‪ ،‬وعلمه‬
‫وحكمته بضعف النسان من جميع الوجوه‪ ،‬ضعف البنية‪ ،‬وضعف الرادة‪ ،‬وضعف العزيمة‪،‬‬
‫وضعف اليمان‪ ،‬وضعف الصبر‪ ،‬فناسب ذلك أن يخفف ال عنه‪ ،‬ما يضعف عنه وما ل‬
‫يطيقه إيمانه وصبره وقوته‪.‬‬
‫{ ‪ { } 30 - 29‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا لَا َت ْأكُلُوا َأمْوَاَل ُك ْم َب ْينَ ُكمْ بِا ْلبَاطِلِ إِلّا َأنْ َتكُونَ ِتجَارَةً عَنْ‬
‫عدْوَانًا َوظُ ْلمًا َفسَ ْوفَ‬
‫ل ذَِلكَ ُ‬
‫ن يَ ْفعَ ْ‬
‫سكُمْ ِإنّ اللّ َه كَانَ ِب ُكمْ َرحِيمًا * َومَ ْ‬
‫َترَاضٍ ِم ْن ُكمْ وَلَا تَ ْقتُلُوا َأنْ ُف َ‬
‫ن ذَِلكَ عَلَى اللّ ِه َيسِيرًا }‬
‫ُنصْلِي ِه نَارًا َوكَا َ‬

‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل‪ ،‬وهذا يشمل أكلها بالغصوب‬
‫والسرقات‪ ،‬وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة‪ .‬بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على‬
‫وجه البطر والسراف‪ ،‬لن هذا من الباطل وليس من الحق‪.‬‬

‫ثم إنه ‪-‬لما حرم أكلها بالباطل‪ -‬أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع‪،‬‬
‫المشتملة على الشروط من التراضي وغيره‪.‬‬

‫س ُكمْ } أي‪ :‬ل يقتل بعضكم بعضًا‪ ،‬ول يقتل النسان نفسه‪ .‬ويدخل في ذلك‬
‫{ وَلَا تَ ْقتُلُوا َأنْ ُف َ‬
‫ن ِبكُمْ‬
‫ن اللّ َه كَا َ‬
‫اللقاءُ بالنفس إلى التهلكة‪ ،‬وفعلُ الخطار المفضية إلى التلف والهلك { إِ ّ‬
‫َرحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم‪ ،‬ونهاكم عن إضاعتها وإتلفها‪ ،‬ورتب على‬
‫ذلك ما رتبه من الحدود‪.‬‬

‫س ُكمْ } كيف شمل‬


‫وتأمل هذا اليجاز والجمع في قوله‪ { :‬لَا َت ْأكُلُوا َأمْوَاَل ُكمْ } { وَلَا تَ ْقتُلُوا َأنْ ُف َ‬
‫أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله‪" :‬ل يأكل بعضكم‬
‫مال بعض" و "ل يقتل بعضكم بعضًا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط‪.‬‬

‫مع أن إضافة الموال والنفس إلى عموم المؤمنين فيه دللة على أن المؤمنين في توادهم‬
‫وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد‪ ،‬حيث كان اليمان يجمعهم على مصالحهم‬
‫الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫ولما نهى عن أكل الموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم‪ ،‬على الكل‪ ،‬ومن أخذ ماله‪،‬‬
‫أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات‪ ،‬وأنواع الحرف والجارات‪ ،‬فقال‪{ :‬‬
‫ن َترَاضٍ ِم ْن ُكمْ } أي‪ :‬فإنها مباحة لكم‪.‬‬
‫إِلّا َأنْ َتكُونَ ِتجَارَةً عَ ْ‬

‫وشرط التراضي ‪-‬مع كونها تجارة‪ -‬لدللة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لن الربا‬
‫ليس من التجارة‪ ،‬بل مخالف لمقصودها‪ ،‬وأنه ل بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به‬
‫اختيارًا‪.‬‬
‫ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما‪ ،‬لنه إذا لم يكن كذلك ل يتصور الرضا‬
‫مقدورًا على تسليمه‪ ،‬لن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار‪ ،‬فبيع الغرر بجميع أنواعه خال‬
‫من الرضا فل ينفذ عقده‪.‬‬

‫وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل‪ ،‬لن ال شرط الرضا فبأي طريق حصل‬
‫ن ِب ُكمْ َرحِيمًا } ومن رحمته أن عصم‬
‫الرضا انعقد به العقد‪ .‬ثم ختم الية بقوله‪ِ { :‬إنّ اللّهَ كَا َ‬
‫دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها‪.‬‬

‫عدْوَانًا َوظُ ْلمًا }‬


‫ل ذَِلكَ } أي‪ :‬أكل الموال بالباطل وقتل النفوس { ُ‬
‫(‪ )30‬ثم قال‪َ { :‬و َمنْ يَ ْفعَ ْ‬
‫ن ذَِلكَ عَلَى‬
‫أي‪ :‬ل جهل ونسيانا { َفسَ ْوفَ ُنصْلِيهِ نَارًا } أي‪ :‬عظيمة كما يفيده التنكير { َوكَا َ‬
‫اللّ ِه َيسِيرًا }‬

‫سيّئَا ِت ُكمْ َو ُن ْدخِ ْل ُكمْ ُم ْدخَلًا َكرِيمًا }‬


‫ع ْنكُ ْم َ‬
‫ع ْنهُ ُنكَ ّفرْ َ‬
‫ج َتنِبُوا َكبَائِ َر مَا ُت ْنهَوْنَ َ‬
‫ن َت ْ‬
‫{ ‪ { } 31‬إِ ْ‬

‫وهذا من فضل ال وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر‬
‫لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخل كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما ل‬
‫عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة‪ ،‬كالصلوات الخمس‪،‬‬
‫والجمعة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى‬
‫الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" ‪.‬‬

‫وأحسن ما حُدت به الكبائر‪ ،‬أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا‪ ،‬أو وعيد في الخرة‪ ،‬أو نفي‬
‫إيمان‪ ،‬أو ترتيب لعنة‪ ،‬أو غضب عليه‪.‬‬

‫سبُوا وَلِل ّنسَاءِ‬


‫ضكُمْ عَلَى َبعْضٍ لِل ّرجَالِ َنصِيبٌ ِممّا ا ْك َت َ‬
‫{ ‪ { } 32‬وَلَا َت َت َمنّوْا مَا َفضّلَ اللّهُ بِ ِه َب ْع َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمًا }‬
‫ن ِبكُلّ َ‬
‫ن اللّ َه كَا َ‬
‫ن فَضْلِ ِه إِ ّ‬
‫سأَلُوا اللّ َه مِ ْ‬
‫ب ِممّا ا ْك َتسَبْنَ وَا ْ‬
‫َنصِي ٌ‬

‫ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل ال به غيره من المور الممكنة وغير‬
‫الممكنة‪ .‬فل تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء‪ ،‬ول صاحب الفقر‬
‫والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لن هذا هو الحسد بعينه‪ ،‬تمني نعمة ال على غيرك‬
‫أن تكون لك ويسلب إياها‪ .‬ولنه يقتضي السخط على قدر ال والخلد إلى الكسل والماني‬
‫الباطلة التي ل يقترن بها عمل ول كسب‪ .‬وإنما المحمود أمران‪ :‬أن يسعى العبد على حسب‬
‫قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية‪ ،‬ويسأل ال تعالى من فضله‪ ،‬فل يتكل على نفسه‬
‫ب ِممّا ا ْك َتسَبُوا } أي‪ :‬من أعمالهم المنتجة‬
‫ول على غير ربه‪ .‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬لِل ّرجَالِ َنصِي ٌ‬
‫سبْنَ } فكل منهم ل يناله غير ما كسبه وتعب فيه‪.‬‬
‫للمطلوب‪ { .‬وَلِل ّنسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا ا ْك َت َ‬
‫سأَلُوا اللّهَ ِمنْ َفضْلِهِ } أي‪ :‬من جميع مصالحكم في الدين والدنيا‪ .‬فهذا كمال العبد وعنوان‬
‫{ وَا ْ‬
‫سعادته ل من يترك العمل‪ ،‬أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه‪ ،‬أو يجمع بين المرين فإن هذا‬
‫مخذول خاسر‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهل لذلك‪ ،‬ويمنع من يعلمه غير‬


‫ن ِبكُلّ َ‬
‫وقوله‪ِ { :‬إنّ اللّهَ كَا َ‬
‫مستحق‪.‬‬

‫جعَ ْلنَا مَوَاِليَ ِممّا َت َركَ ا ْلوَاِلدَانِ وَا ْلَأقْ َربُونَ وَاّلذِينَ عَ َقدَتْ َأ ْيمَا ُن ُكمْ فَآتُو ُهمْ‬
‫ل َ‬
‫{ ‪ { } 33‬وَِلكُ ّ‬
‫شهِيدًا }‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ل َ‬
‫ن اللّ َه كَانَ عَلَى كُ ّ‬
‫َنصِي َب ُهمْ إِ ّ‬

‫جعَ ْلنَا مَوَاِليَ } أي‪ :‬يتولونه ويتولهم بالتعزز والنصرة والمعاونة‬


‫ل } من الناس { َ‬
‫أي‪ { :‬وَِلكُ ّ‬
‫على المور‪ِ { .‬ممّا َت َركَ ا ْلوَاِلدَانِ وَا ْلَأقْ َربُونَ } وهذا يشمل سائر القارب من الصول والفروع‬
‫والحواشي‪ ،‬هؤلء الموالي من القرابة‪.‬‬

‫ت َأ ْيمَا ُن ُكمْ } أي‪ :‬حالفتموهم بما عقدتم معهم‬


‫ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال‪ { :‬وَاّلذِينَ عَ َقدَ ْ‬
‫من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والشتراك بالموال وغير ذلك‪ .‬وكل هذا من نعم ال‬
‫على عباده‪ ،‬حيث كان الموالي يتعاونون بما ل يقدر عليه بعضهم مفردا‪.‬‬

‫قال تعالى‪ { :‬فَآتُو ُهمْ َنصِي َبهُمْ } أي‪ :‬آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة‬
‫والمعاونة والمساعدة على غير معصية ال‪ .‬والميراث للقارب الدنين من الموالي‪.‬‬

‫شهِيدًا } أي‪ :‬مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع المور‪ ،‬وبصره‬


‫شيْءٍ َ‬
‫{ ِإنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ َ‬
‫لحركات عباده‪ ،‬وسمعه لجميع أصواتهم‪.‬‬

‫ض ُهمْ عَلَى َبعْضٍ َو ِبمَا َأنْفَقُوا مِنْ‬


‫ل اللّ ُه َبعْ َ‬
‫{ ‪ { } 34‬ال ّرجَالُ قَوّامُونَ عَلَى ال ّنسَاءِ ِبمَا فَضّ َ‬
‫ن ُنشُوزَهُنّ َف ِعظُوهُنّ‬
‫ب ِبمَا حَ ِفظَ اللّهُ وَاللّاتِي َتخَافُو َ‬
‫َأمْوَاِل ِهمْ فَالصّاِلحَاتُ قَا ِنتَاتٌ حَا ِفظَاتٌ لِ ْل َغيْ ِ‬
‫سبِيلًا ِإنّ اللّهَ كَانَ عَِليّا‬
‫ن َ‬
‫طعْ َن ُكمْ فَلَا َت ْبغُوا عََل ْيهِ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫ضرِبُو ُهنّ َفإِ ْ‬
‫جرُو ُهنّ فِي ا ْل َمضَاجِعِ وَا ْ‬
‫وَا ْه ُ‬
‫َكبِيرًا }‬
‫يخبر تعالى أن ال ّرجَال { قَوّامُونَ عَلَى ال ّنسَاءِ } أي‪ :‬قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق ال‬
‫تعالى‪ ،‬من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد‪ ،‬والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك‪،‬‬
‫وقوامون عليهن أيضا بالنفاق عليهن‪ ،‬والكسوة والمسكن‪ ،‬ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال‬
‫ن َأمْوَاِل ِهمْ } أي‪ :‬بسبب‬
‫ض ُهمْ عَلَى َبعْضٍ َو ِبمَا أَنفَقُوا مِ ْ‬
‫ل اللّ ُه َبعْ َ‬
‫على النساء فقال‪ِ { :‬بمَا فَضّ َ‬
‫فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن‪ ،‬فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة‪:‬‬
‫من كون الوليات مختصة بالرجال‪ ،‬والنبوة‪ ،‬والرسالة‪ ،‬واختصاصهم بكثير من العبادات‬
‫كالجهاد والعياد والجمع‪ .‬وبما خصهم ال به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس‬
‫للنساء مثله‪ .‬وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال‬
‫ويتميزون عن النساء‪.‬‬

‫ولعل هذا سر قوله‪َ { :‬و ِبمَا َأنْ َفقُوا } وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة‪ .‬فعلم من هذا كله‬
‫أن الرجل كالوالي والسيد لمرأته‪ ،‬وهي عنده عانية أسيرة خادمة‪،‬فوظيفته أن يقوم بما‬
‫استرعاه ال به‪.‬‬

‫ووظيفتها‪ :‬القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال‪ { :‬فَالصّاِلحَاتُ قَا ِنتَاتٌ } أي‪ :‬مطيعات‬
‫ت لِ ْل َغيْبِ } أي‪ :‬مطيعات لزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها‬
‫ل تعالى { حَا ِفظَا ٌ‬
‫وماله‪ ،‬وذلك بحفظ ال لهن وتوفيقه لهن‪ ،‬ل من أنفسهن‪ ،‬فإن النفس أمارة بالسوء‪ ،‬ولكن من‬
‫توكل على ال كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه‪.‬‬

‫ن ُنشُوزَهُنّ } أي‪ :‬ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو‬


‫ثم قال‪ { :‬وَاللّاتِي َتخَافُو َ‬
‫الفعل فإنه يؤدبها بالسهل فالسهل‪َ { ،‬فعِظُو ُهنّ } أي‪ :‬ببيان حكم ال في طاعة الزوج‬
‫ومعصيته والترغيب في الطاعة‪ ،‬والترهيب من معصيته‪ ،‬فإن انتهت فذلك المطلوب‪ ،‬وإل‬
‫فيهجرها الزوج في المضجع‪ ،‬بأن ل يضاجعها‪ ،‬ول يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود‪،‬‬
‫وإل ضربها ضربًا غير مبرح‪ ،‬فإن حصل المقصود بواحد من هذه المور وأطعنكم { فَلَا‬
‫سبِيلًا } أي‪ :‬فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على المور الماضية‪،‬‬
‫َت ْبغُوا عََل ْيهِنّ َ‬
‫والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر‪.‬‬

‫{ ِإنّ اللّهَ كَانَ عَِليّا َكبِيرًا } أي‪ :‬له العلو المطلق بجميع الوجوه والعتبارات‪ ،‬علو الذات وعلو‬
‫القدر وعلو القهر الكبير الذي ل أكبر منه ول أجل ول أعظم‪ ،‬كبير الذات والصفات‪.‬‬

‫ن أَهِْلهَا ِإنْ ُيرِيدَا ِإصْلَاحًا‬


‫ح َكمًا مِ ْ‬
‫ن أَهْلِهِ َو َ‬
‫ح َكمًا مِ ْ‬
‫{ ‪ { } 35‬وَِإنْ خِ ْف ُتمْ شِقَاقَ َب ْي ِن ِهمَا فَابْ َعثُوا َ‬
‫خبِيرًا }‬
‫يُ َو ّفقِ اللّ ُه َب ْي َنهُمَا ِإنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ‬
‫أي‪ :‬وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق { فَا ْب َعثُوا‬
‫ن أَهِْلهَا } أي‪ :‬رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين‬
‫ح َكمًا مِ ْ‬
‫ح َكمًا مِنْ أَهِْلهِ َو َ‬
‫َ‬
‫الزوجين‪ ،‬ويعرفان الجمع والتفريق‪ .‬وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لنه ل يصلح حكما إل من‬
‫اتصف بتلك الصفات‪.‬‬

‫فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه‪ ،‬ثم يلزمان كل منهما ما يجب‪ ،‬فإن لم يستطع أحدهما‬
‫ذلك‪ ،‬قنّعا الزوج الخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق‪ ،‬ومهما أمكنهما الجمع والصلح‬
‫فل يعدل عنه‪.‬‬

‫فإن وصلت الحال إلى أنه ل يمكن اجتماعهما وإصلحهما إل على وجه المعاداة والمقاطعة‬
‫ومعصية ال‪ ،‬ورأيا أن التفريق بينهما أصلح‪ ،‬فرقا بينهما‪ .‬ول يشترط رضا الزوج‪ ،‬كما يدل‬
‫ن ُيرِيدَا‬
‫عليه أن ال سماهما حكمين‪ ،‬والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِ ْ‬
‫ِإصْلَاحًا ُي َوفّقِ اللّهُ َب ْي َن ُهمَا } أي‪ :‬بسبب الرأي الميمون والكلم الذي يجذب القلوب ويؤلف بين‬
‫القرينين‪.‬‬

‫خبِيرًا } أي‪ :‬عالمًا بجميع الظواهر والبواطن‪ ،‬مطلعا على خفايا المور‬
‫{ ِإنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ‬
‫وأسرارها‪ .‬فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الحكام الجليلة والشرائع الجميلة‪.‬‬

‫حسَانًا َو ِبذِي الْ ُق ْربَى وَا ْل َيتَامَى‬


‫ن ِإ ْ‬
‫ش ْيئًا َوبِالْوَاِل َديْ ِ‬
‫ع ُبدُوا اللّهَ وَلَا ُتشْ ِركُوا بِ ِه َ‬
‫{ ‪ { } 38 - 36‬وَا ْ‬
‫سبِيلِ َومَا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُكمْ‬
‫ن ال ّ‬
‫ب بِا ْلجَنْبِ وَابْ ِ‬
‫جنُبِ وَالصّاحِ ِ‬
‫وَا ْل َمسَاكِينِ وَا ْلجَا ِر ذِي الْ ُق ْربَى وَا ْلجَارِ ا ْل ُ‬
‫ن النّاسَ بِا ْل ُبخْلِ َو َي ْك ُتمُونَ مَا‬
‫ختَالًا َفخُورًا * اّلذِينَ َي ْبخَلُونَ َو َي ْأ ُمرُو َ‬
‫ب مَنْ كَانَ ُم ْ‬
‫ن اللّ َه لَا ُيحِ ّ‬
‫إِ ّ‬
‫ن َأمْوَاَل ُهمْ ِرئَا َء النّاسِ وَلَا‬
‫عذَابًا ُمهِينًا * وَاّلذِينَ ُينْ ِفقُو َ‬
‫ع َت ْدنَا لِ ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫ن فَضْلِهِ وََأ ْ‬
‫آتَا ُهمُ اللّ ُه مِ ْ‬
‫ن لَ ُه َقرِينًا َفسَاءَ َقرِينًا }‬
‫ش ْيطَا ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫خرِ َو َمنْ َيكُ ِ‬
‫يُ ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِا ْليَ ْومِ الْآ ِ‬

‫يأمر تعالى عباده بعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وهو الدخول تحت رق عبوديته‪ ،‬والنقياد‬
‫لوامره ونواهيه‪ ،‬محبة وذل وإخلصا له‪ ،‬في جميع العبادات الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫وينهى عن الشرك به شيئا ل شركا أصغر ول أكبر‪ ،‬ل ملكا ول نبيا ول وليا ول غيرهم من‬
‫المخلوقين الذين ل يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا ول موتا ول حياة ول نشورا‪ ،‬بل الواجب‬
‫المتعين إخلص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه‪ ،‬وله التدبير الكامل الذي ل‬
‫يشركه ول يعينه عليه أحد‪ .‬ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد‬
‫حسَانًا } أي‪ :‬أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب‬
‫ن ِإ ْ‬
‫القرب فالقرب‪ .‬فقال‪َ { :‬وبِالْوَاِل َديْ ِ‬
‫اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والنفاق عليهما وإكرام من له تعلق‬
‫بهما وصلة الرحم التي ل رحم لك إل بهما‪ .‬وللحسان ضدان‪ ،‬الساءةُ وعد ُم الحسان‪.‬‬
‫وكلهما منهي عنه‪.‬‬

‫{ َو ِبذِي الْ ُق ْربَى } أيضا إحسانا‪ ،‬ويشمل ذلك جميع القارب‪ ،‬قربوا أو بعدوا‪ ،‬بأن يحسن إليهم‬
‫بالقول والفعل‪ ،‬وأن ل يقطع برحمه بقوله أو فعله‪.‬‬

‫{ وَا ْل َيتَامَى } أي‪ :‬الذين فقدوا آباءهم وهم صغار‪ ،‬فلهم حق على المسلمين‪ ،‬سواء كانوا أقارب‬
‫أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم‪ ،‬وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم‬
‫ودنياهم‪.‬‬

‫{ وَا ْل َمسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر‪ ،‬فلم يحصلوا على كفايتهم‪ ،‬ول كفاية من‬
‫يمونون‪ ،‬فأمر ال تعالى بالحسان إليهم‪ ،‬بسد خلتهم وبدفع فاقتهم‪ ،‬والحض على ذلك‪ ،‬والقيام‬
‫بما يمكن منه‪.‬‬

‫{ وَا ْلجَارِ ذِي الْ ُق ْربَى } أي‪ :‬الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة‪ ،‬فله على‬
‫ب } أي‪ :‬الذي ليس له قرابة‪.‬‬
‫جنُ ِ‬
‫جاره حق وإحسان راجع إلى العرف‪ { .‬و } كذلك { ا ْلجَارِ ا ْل ُ‬
‫وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقّا‪ ،‬فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة‬
‫والدعوة واللطافة بالقوال والفعال وعدم أذيته بقول أو فعل‪.‬‬

‫جنْبِ } قيل‪ :‬الرفيق في السفر‪ ،‬وقيل‪ :‬الزوجة‪ ،‬وقيل الصاحب مطلقا‪ ،‬ولعله‬
‫ب بِا ْل َ‬
‫{ وَالصّاحِ ِ‬
‫أولى‪ ،‬فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة‪ .‬فعلى الصاحب لصاحبه حق‬
‫زائد على مجرد إسلمه‪ ،‬من مساعدته على أمور دينه ودنياه‪ ،‬والنصح له؛ والوفاء معه في‬
‫اليسر والعسر‪ ،‬والمنشط والمكره‪ ،‬وأن يحب له ما يحب لنفسه‪ ،‬ويكره له ما يكره لنفسه‪،‬‬
‫وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد‪.‬‬

‫ل } وهو‪ :‬الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج‪ ،‬فله حق على المسلمين‬
‫سبِي ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫{ وَابْ َ‬
‫لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [وبإكرامه وتأنيسه]‬

‫{ َومَا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُكمْ } ‪ :‬أي‪ :‬من الدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم‬
‫وإعانتهم على ما يتحملون‪ ،‬وتأديبهم لما فيه مصلحتهم‪ .‬فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع‬
‫لربه‪ ،‬المتواضع لعباد ال‪ ،‬المنقاد لمر ال وشرعه‪ ،‬الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء‬
‫الجميل‪ ،‬ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه‪ ،‬غير منقاد لوامره‪ ،‬ول متواضع للخلق‪،‬‬
‫ن كَانَ‬
‫ب مَ ْ‬
‫ن اللّ َه لَا ُيحِ ّ‬
‫بل هو متكبر على عباد ال معجب بنفسه فخور بقوله‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِ ّ‬
‫ختَالًا } أي‪ :‬معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { َفخُورًا } يثني على نفسه ويمدحها على وجه‬
‫ُم ْ‬
‫الفخر والبطر على عباد ال‪ ،‬فهؤلء ما بهم من الختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق‪.‬‬
‫ن } أي‪ :‬يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة‪َ { .‬و َي ْأ ُمرُونَ‬
‫ن َي ْبخَلُو َ‬
‫ولهذا ذمهم بقوله‪ { :‬اّلذِي َ‬
‫ن فَضْلِ ِه } أي‪ :‬من العلم الذي‬
‫ن مَا آتَا ُهمُ اللّ ُه مِ ْ‬
‫النّاسَ بِا ْل ُبخْلِ } بأقوالهم وأفعالهم { َو َي ْك ُتمُو َ‬
‫يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم‪ ،‬ويظهرون لهم من الباطل ما يحول‬
‫بينهم وبين الحق‪ .‬فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم‪ ،‬وبين السعي في خسارة أنفسهم‬
‫عذَابًا ُمهِينًا }‬
‫ع َت ْدنَا لِ ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫وخسارة غيرهم‪ ،‬وهذه هي صفات الكافرين‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ { :‬وََأ ْ‬
‫أي‪ :‬كما تكبروا على عباد ال ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم‬
‫الهتداء‪ ،‬أهانهم بالعذاب الليم والخزي الدائم‪ .‬فعياذًا بك اللهم من كل سوء‪.‬‬

‫ن َأمْوَاَل ُهمْ‬
‫ن ُينْفِقُو َ‬
‫ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال‪ { :‬وَاّلذِي َ‬
‫خرِ } أي‪:‬‬
‫ِرئَا َء النّاسِ } أي‪ :‬ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم { وَلَا يُ ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِا ْليَ ْومِ الْآ ِ‬
‫ليس إنفاقهم صادرا عن إخلص وإيمان بال ورجاء ثوابه‪ .‬أي‪ :‬فهذا من خطوات الشيطان‬
‫وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير‪ .‬وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم‬
‫ن لَ ُه قَرِينًا َفسَا َء قَرِينًا } أي‪ :‬بئس المقارن والصاحب‬
‫شيْطَا ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫وأزهم إليها فلهذا قال‪َ { :‬و َمنْ َيكُ ِ‬
‫الذي يريد إهلك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي‪.‬‬

‫ن به ال عليه عاص آثم مخالف لربه‪ ،‬فكذلك من أنفق‬


‫فكما أن من بخل بما آتاه ال‪ ،‬وكتم ما مَ ّ‬
‫وتعبد لغير ال فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة‪ ،‬لن ال إنما أمر بطاعته وامتثال أمره‬
‫ن } فهذا‬
‫على وجه الخلص‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا ُأ ِمرُوا إِلّا ِل َي ْع ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ َلهُ الدّي َ‬
‫العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه بقوله‪:‬‬

‫خرِ وََأنْفَقُوا ِممّا َرزَ َق ُهمُ اللّهُ َوكَانَ اللّهُ ِب ِهمْ عَلِيمًا‬
‫{ ‪َ { } 39‬ومَاذَا عََل ْي ِهمْ لَ ْو آ َمنُوا بِاللّهِ وَا ْليَ ْومِ الْآ ِ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم اليمان بال الذي هو الخلص‪،‬‬
‫وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم ال وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الخلص والنفاق‪ ،‬ولما كان‬
‫الخلص سرّا بين العبد وبين ربه‪ ،‬ل يطلع عليه إل ال أخبر تعالى بعلمه بجميع الحوال‬
‫ن اللّ ُه ِب ِهمْ عَلِيمًا }‬
‫فقال‪َ { :‬وكَا َ‬

‫جرًا‬
‫ن َل ُدنْ ُه َأ ْ‬
‫سنَةً ُيضَاعِ ْفهَا َويُ ْؤتِ مِ ْ‬
‫حَ‬‫ن َتكُ َ‬
‫ل َذرّةٍ وَإِ ْ‬
‫{ ‪ِ { } 42 - 40‬إنّ اللّهَ لَا َيظْلِمُ ِمثْقَا َ‬
‫شهِيدًا * َي ْو َم ِئذٍ يَ َودّ اّلذِينَ‬
‫ج ْئنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلَا ِء َ‬
‫ل ُأمّ ٍة ِبشَهِيدٍ َو ِ‬
‫ج ْئنَا ِمنْ كُ ّ‬
‫عظِيمًا * َفكَ ْيفَ ِإذَا ِ‬
‫َ‬
‫حدِيثًا }‬
‫ن اللّ َه َ‬
‫عصَوُا ال ّرسُولَ َلوْ ُتسَوّى ِب ِهمُ ا ْلَأرْضُ وَلَا َي ْك ُتمُو َ‬
‫كَ َفرُوا وَ َ‬

‫يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير فقال‪ِ { :‬إنّ‬
‫اللّ َه لَا َيظِْلمُ ِمثْقَالَ َذرّ ٍة } أي‪ :‬ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في سيئاته‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬‬
‫ن َي ْعمَلْ ِمثْقَالَ َذرّ ٍة شَرّا يَرَ ُه }‬
‫خ ْيرًا َيرَهُ َومَ ْ‬
‫ل ذَرّ ٍة َ‬
‫َفمَنْ َي ْعمَلْ ِمثْقَا َ‬

‫سنَةً ُيضَاعِ ْفهَا } أي‪ :‬إلى عشرة أمثالها‪ ،‬إلى أكثر من ذلك‪ ،‬بحسب حالها ونفعها‬
‫حَ‬‫ن َتكُ َ‬
‫{ وَإِ ْ‬
‫وحال صاحبها‪ ،‬إخلصا ومحبة وكمال‪.‬‬

‫عظِيمًا } أي‪ :‬زيادة على ثواب العمل بنفسه من التوفيق لعمال أخر‪،‬‬
‫جرًا َ‬
‫ن َل ُدنْهُ َأ ْ‬
‫ت مِ ْ‬
‫{ َويُؤْ ِ‬
‫وإعطاء البر الكثير والخير الغزير‪.‬‬

‫شهِيدًا } أي‪ :‬كيف‬


‫ج ْئنَا ِبكَ عَلَى هَؤُلَاءِ َ‬
‫شهِيدٍ َو ِ‬
‫ن كُلّ ُأمّةٍ ِب َ‬
‫ج ْئنَا مِ ْ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ف َك ْيفَ ِإذَا ِ‬
‫تكون تلك الحوال‪ ،‬وكيف يكون ذلك الحكم العظيم‪ ،‬الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم‪،‬‬
‫كاملُ العدل‪ ،‬كامل الحكمة‪ ،‬بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم‬
‫عليه؟" فهذا ‪-‬وال‪ -‬الحكم الذي هو أعم الحكام وأعدلها وأعظمها‪.‬‬

‫وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل‪ ،‬والحمد والثناء‪ .‬وهناك يسعد أقوام‬
‫بالفوز والفلح والعز والنجاح‪ .‬ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة والعذاب المهين‪.‬‬

‫ل } أي‪ :‬جمعوا بين الكفر بال وبرسوله‪،‬‬


‫عصَوُا ال ّرسُو َ‬
‫ن كَ َفرُوا َو َ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ي ْو َم ِئذٍ يَ َودّ اّلذِي َ‬
‫ض } أي‪ :‬تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما‪ ،‬كما قال‬
‫ومعصيةِ الرسول { َلوْ ُتسَوّى ِبهِ ُم ا ْلأَرْ ُ‬
‫حدِيثًا } أي‪ :‬بل يقرون له بما‬
‫ن اللّهَ َ‬
‫ت ُترَابًا }‪ { .‬وَلَا َي ْك ُتمُو َ‬
‫ل ا ْلكَافِرُ يَا َل ْي َتنِي ُكنْ ُ‬
‫تعالى‪َ { :‬ويَقُو ُ‬
‫عملوا‪ ،‬وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‪ .‬يومئذ يوفيهم ال جزاءهم‬
‫الحق‪ ،‬ويعلمون أن ال هو الحق المبين‪.‬‬
‫فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم‪ ،‬فإن ذلك يكون في بعض مواضع‬
‫القيامة‪ ،‬حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب ال‪ ،‬فإذا عرفوا الحقائق وشهدت عليهم‬
‫جوارحهم حينئذ ينجلي المر‪ ،‬ول يبقى للكتمان موضع‪ ،‬ول نفع ول فائدة‪.‬‬

‫ج ُنبًا إِلّا‬
‫حتّى َتعَْلمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا ُ‬
‫سكَارَى َ‬
‫ن آ َمنُوا لَا تَ ْق َربُوا الصّلَا َة وََأ ْنتُمْ ُ‬
‫{ ‪ { } 43‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫حدٌ ِم ْنكُ ْم مِنَ ا ْلغَا ِئطِ َأوْ‬
‫حتّى َت ْغتَسِلُوا وَِإنْ ُك ْن ُتمْ َمرْضَى َأوْ عَلَى سَ َفرٍ َأوْ جَا َء َأ َ‬
‫ل َ‬
‫سبِي ٍ‬
‫عَا ِبرِي َ‬
‫ن اللّ َه كَانَ عَ ُفوّا‬
‫سحُوا بِ ُوجُو ِه ُكمْ وََأ ْيدِي ُكمْ إِ ّ‬
‫ط ّيبًا فَامْ َ‬
‫صعِيدًا َ‬
‫جدُوا مَاءً َف َت َيمّمُوا َ‬
‫لَا َمسْ ُتمُ ال ّنسَاءَ فََلمْ َت ِ‬
‫غَفُورًا }‬

‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلة وهم سكارى‪ ،‬حتى يعلموا ما يقولون‪ ،‬وهذا‬
‫شامل لقربان مواضع الصلة‪ ،‬كالمسجد‪ ،‬فإنه ل يمكّن السكران من دخوله‪ .‬وشامل لنفس‬
‫الصلة‪ ،‬فإنه ل يجوز للسكران صلة ول عبادة‪ ،‬لختلط عقله وعدم علمه بما يقول‪ ،‬ولهذا‬
‫حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران‪ .‬وهذه الية الكريمة منسوخة بتحريم‬
‫الخمر مطلقا‪ ،‬فإن الخمر ‪-‬في أول المر‪ -‬كان غير محرم‪ ،‬ثم إن ال تعالى عرض لعباده‬
‫سرِ قُلْ فِي ِهمَا ِإ ْثمٌ َكبِيرٌ َو َمنَافِ ُع لِلنّاسِ وَِإ ْث ُم ُهمَا َأ ْك َبرُ‬
‫خ ْمرِ وَا ْل َميْ ِ‬
‫عنِ ا ْل َ‬
‫سأَلُو َنكَ َ‬
‫بتحريمه بقوله‪َ { :‬ي ْ‬
‫ن نَ ْف ِع ِهمَا }‬
‫مِ ْ‬

‫ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلة كما في هذه الية‪ ،‬ثم إنه تعالى حرمه على‬
‫سرُ وَا ْلَأنْصَابُ‬
‫خ ْمرُ وَا ْل َميْ ِ‬
‫الطلق في جميع الوقات في قوله‪ { :‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ِإ ّنمَا ا ْل َ‬
‫ج َت ِنبُو ُه } الية‪.‬‬
‫ش ْيطَانِ فَا ْ‬
‫عمَلِ ال ّ‬
‫وَا ْلَأزْلَامُ ِرجْسٌ مِنْ َ‬

‫ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة‪ ،‬بعد حصول‬
‫مقصود الصلة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب‪ ،‬فإن الخمر يسكر القلب‪،‬‬
‫ويصد عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلة في حال النعاس‬
‫المفرط‪ ،‬الذي ل يشعر صاحبه بما يقول ويفعل‪ ،‬بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد‬
‫الصلة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره‪ ،‬كمدافعة الخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد‬
‫في ذلك الحديث الصحيح‪.‬‬

‫سبِيلٍ } أي‪ :‬ل تقربوا الصلة حالة كون أحدكم جنبا‪ ،‬إل في هذه‬
‫ج ُنبًا إِلّا عَا ِبرِي َ‬
‫ثم قال‪ { :‬وَلَا ُ‬
‫حتّى َت ْغتَسِلُوا } أي‪ :‬فإذا‬
‫الحال وهو عابر السبيل أي‪ :‬تمرون في المسجد ول تمكثون فيه‪َ { ،‬‬
‫اغتسلتم فهو غاية المنع من قربان الصلة للجنب‪ ،‬فيحل للجنب المرور في المسجد فقط‪.‬‬
‫جدُوا مَاءً‬
‫س ُتمُ ال ّنسَاءَ فََلمْ َت ِ‬
‫ط أَ ْو لَامَ ْ‬
‫ن ا ْلغَائِ ِ‬
‫حدٌ ِم ْن ُكمْ مِ َ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم مَ ْرضَى أَوْ عَلَى سَ َف ٍر أَ ْو جَاءَ َأ َ‬
‫{ وَإِ ْ‬
‫َفتَ َي ّممُوا }‬

‫فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه‪ ،‬والعلة المرض الذي يشق معه استعمال‬
‫الماء‪ ،‬وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء‪ ،‬فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب‬
‫ونحوه‪ ،‬جاز له التيمم‪.‬‬

‫وكذلك إذا أحدث النسان ببول أو غائط أو ملمسة النساء‪ ،‬فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد‬
‫الماء‪ ،‬حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم الية‪ .‬والحاصل‪ :‬أن ال تعالى أباح التيمم في‬
‫حالتين‪:‬‬

‫حال عدم الماء‪ ،‬وهذا مطلقا في الحضر والسفر‪ ،‬وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه‪.‬‬

‫س ُتمُ ال ّنسَاءَ } هل المراد بذلك‪ :‬الجماع فتكون الية‬


‫واختلف المفسرون في معنى قوله‪َ { :‬أوْ لَا َم ْ‬
‫نصا في جواز التيمم للجنب‪ ،‬كما تكاثرت بذلك الحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد‬
‫اللمس باليد‪ ،‬ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي‪ ،‬وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون‬
‫الية دالة على نقض الوضوء بذلك؟‬

‫واستدل الفقهاء بقوله‪ { :‬فَلَ ْم َتجِدُوا مَا ًء } بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت‪ ،‬قالوا‪ :‬لنه ل‬
‫يقال‪" :‬لم يجد" لمن لم يطلب‪ ،‬بل ل يكون ذلك إل بعد الطلب‪ ،‬واستدل بذلك أيضا على أن‬
‫الماء المتغير بشيء من الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله‪ { :‬فَلَ ْم َتجِدُوا‬
‫مَاءً } وهذا ماء‪ .‬ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر‪.‬‬

‫وفي هذه الية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به ال على هذه المة‪ ،‬وهو‬
‫مشروعية التيمم‪ ،‬وقد أجمع على ذلك العلماء ول الحمد‪ ،‬وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب‪،‬‬
‫وهو كل ما تصاعد على وجه الرض سواء كان له غبار أم ل‪ ،‬ويحتمل أن يختص ذلك بذي‬
‫الغبار لن ال قال‪ { :‬فَا ْمسَحُوا بِ ُوجُو ِه ُكمْ وََأ ْيدِي ُكمْ ِمنْ ُه } وما ل غبار له ل يمسح به‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬فَا ْمسَحُوا بِ ُوجُو ِه ُكمْ وََأ ْيدِي ُكمْ } هذا محل المسح في التيمم‪ :‬الوجه جميعه واليدان إلى‬
‫الكوعين‪ ،‬كما دلت على ذلك الحاديث الصحيحة‪ ،‬ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة‪ ،‬كما‬
‫دل على ذلك حديث عمار‪ ،‬وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره‪ ،‬بالوجه واليدين‪.‬‬

‫فائدة‬
‫اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلث قواعد‪ :‬حفظ الصحة عن المؤذيات‪ ،‬والستفراغ منها‪،‬‬
‫والحمية عنها‪ .‬وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز‪.‬‬

‫أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي‪ ،‬فقد أمر بالكل والشرب وعدم السراف في ذلك‪ ،‬وأباح‬
‫للمسافر والمريض الفطر حفظا لصتحهما‪ ،‬باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل‪ ،‬وحماية‬
‫للمريض عما يضره‪.‬‬

‫حرِم المتأذي برأسه أن يحلقه لزالة البخرة المحتقنة‬


‫وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للم ْ‬
‫فيه‪ ،‬ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمني والدم‪ ،‬وغير‬
‫ذلك‪ ،‬نبه على ذلك ابن القيم رحمه ال تعالى‪.‬‬

‫وفي الية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين‪ ،‬وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت‪ ،‬وأنه ل‬
‫يخاطب بطلب الماء إل بعد وجود سبب الوجوب وال أعلم‪.‬‬

‫ن اللّ َه كَانَ عَ ُفوّا غَفُورًا } أي‪ :‬كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين‪،‬‬
‫ثم ختم الية بقوله‪ { :‬إِ ّ‬
‫بتيسير ما أمرهم به‪ ،‬وتسهيله غاية التسهيل‪ ،‬بحيث ل يشق على العبد امتثاله‪ ،‬فيحرج بذلك‪.‬‬

‫ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه المة بشرع طهارة التراب بدل الماء‪ ،‬عند تعذر استعماله‪.‬‬
‫ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة والنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم‪.‬‬
‫ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو أتاه بقراب الرض خطايا ثم لقيه ل يشرك به شيئا‪ ،‬لتاه‬
‫بقرابها مغفرة‪.‬‬

‫ن الضّلَالَةَ َو ُيرِيدُونَ َأنْ‬


‫ش َترُو َ‬
‫ن ا ْل ِكتَابِ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 46 - 44‬أََل ْم تَ َر إِلَى اّلذِينَ أُوتُوا َنصِيبًا مِ َ‬
‫ن اّلذِينَ هَادُوا‬
‫عدَا ِئكُمْ َوكَفَى بِاللّهِ وَِليّا َوكَفَى بِاللّهِ َنصِيرًا * مِ َ‬
‫سبِيلَ *وَاللّهُ َأعَْلمُ ِبأَ ْ‬
‫َتضِلّوا ال ّ‬
‫عنَا َليّا ِبأَ ْلسِ َن ِت ِهمْ‬
‫سمَعٍ َورَا ِ‬
‫غ ْيرَ ُم ْ‬
‫سمَعْ َ‬
‫ص ْينَا وَا ْ‬
‫ع َ‬
‫س ِمعْنَا وَ َ‬
‫ن َ‬
‫ضعِهِ َويَقُولُو َ‬
‫عنْ َموَا ِ‬
‫ن ا ْلكَِلمَ َ‬
‫ُيحَ ّرفُو َ‬
‫ن َل َع َن ُهمُ‬
‫خ ْيرًا َل ُهمْ وََأقْ َومَ وََلكِ ْ‬
‫ن َ‬
‫سمَعْ وَا ْنظُ ْرنَا َلكَا َ‬
‫ط ْعنَا وَا ْ‬
‫س ِم ْعنَا وََأ َ‬
‫ط ْعنًا فِي الدّينِ وَلَ ْو َأ ّن ُهمْ قَالُوا َ‬
‫َو َ‬
‫ن إِلّا قَلِيلًا }‬
‫اللّ ُه ِبكُ ْفرِهِ ْم فَلَا ُي ْؤ ِمنُو َ‬

‫ن ا ْل ِكتَابِ } وفي ضمنه تحذير عباده عن الغترار بهم‪ ،‬والوقوع‬


‫هذا ذم لمن { أُوتُوا َنصِيبًا مِ َ‬
‫ن الضّلَالَةَ } أي‪ :‬يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها‬
‫ش َترُو َ‬
‫في أشراكهم‪ ،‬فأخبر أنهم في أنفسهم { َي ْ‬
‫إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه‪ .‬فيؤثرون الضلل على الهدى‪ ،‬والكفر على‬
‫سبِيلَ } ‪.‬‬
‫ن َتضِلّوا ال ّ‬
‫ن أَ ْ‬
‫اليمان‪ ،‬والشقاء على السعادة‪ ،‬ومع هذا { ُيرِيدُو َ‬

‫فهم حريصون على إضللكم غاية الحرص‪ ،‬باذلون جهدهم في ذلك ‪.‬ولكن لما كان ال ولي‬
‫عباده المؤمنين وناصرهم‪ ،‬بيّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلل والضلل‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ َوكَفَى بِاللّهِ وَِليّا } أي‪ :‬يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم‪ ،‬وييسر لهم ما به‬
‫سعادتهم وفلحهم‪َ { .‬وكَفَى بِاللّ ِه َنصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم‬
‫ويعينهم عليهم‪ .‬فوليته تعالى فيها حصول الخير‪ ،‬ونصره فيه زوال الشر‪.‬‬

‫ن اّلذِينَ هَادُوا } أي‪:‬‬


‫ثم بين كيفية ضللهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال‪ { :‬مِ َ‬
‫اليهود وهم علماء الضلل منهم‪.‬‬

‫ضعِ ِه } إما بتغيير اللفظ أو المعنى‪ ،‬أو هما جميعا‪ .‬فمن تحريفهم تنزيل‬
‫ن مَوَا ِ‬
‫ن ا ْلكَِلمَ عَ ْ‬
‫ح ّرفُو َ‬
‫{ ُي َ‬
‫الصفات التي ذكرت في كتبهم التي ل تنطبق ول تصدق إل على محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫على أنه غير مراد بها‪ ،‬ول مقصود بها بل أريد بها غيره‪ ،‬وكتمانهم ذلك‪.‬‬

‫فهذا حالهم في العلم أشر حال‪ ،‬قلبوا فيه الحقائق‪ ،‬ونزلوا الحق على الباطل‪ ،‬وجحدوا لذلك‬
‫ص ْينَا } أي‪ :‬سمعنا قولك‬
‫ع َ‬
‫س ِم ْعنَا وَ َ‬
‫الحق‪ ،‬وأما حالهم في العمل والنقياد فإنهم { يَقُولون َ‬
‫وعصينا أمرك‪ ،‬وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن النقياد‪ ،‬وكذلك يخاطبون الرسول صلى‬
‫سمَعٍ } قصدهم‪ :‬اسمع‬
‫غ ْيرَ ُم ْ‬
‫سمَعْ َ‬
‫ال عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الدب فيقولون‪ { :‬ا ْ‬
‫عنَا } قصدهم بذلك الرعونة‪ ،‬بالعيب القبيح‪،‬‬
‫منا غير مسمع ما تحب‪ ،‬بل مسمع ما تكره‪َ { ،‬ورَا ِ‬
‫ويظنون أن اللفظ ‪-‬لما كان محتمل لغير ما أرادوا من المور‪ -‬أنه يروج على ال وعلى‬
‫رسوله‪ ،‬فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول‪،‬‬
‫ط ْعنًا فِي الدّينِ }‬
‫س َن ِت ِهمْ َو َ‬
‫ويصرحون بذلك فيما بينهم‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ليّا ِبأَلْ ِ‬

‫ظ ْرنَا‬
‫سمَعْ وَانْ ُ‬
‫ط ْعنَا وَا ْ‬
‫س ِمعْنَا وََأ َ‬
‫ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال‪ { :‬وََلوْ َأ ّن ُهمْ قَالُوا َ‬
‫خ ْيرًا َل ُهمْ وََأقْ َومَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلم من حسن الخطاب والدب اللئق في‬
‫َلكَانَ َ‬
‫مخاطبة الرسول‪ ،‬والدخول تحت طاعة ال والنقياد لمره‪ ،‬وحسن التلطف في طلبهم العلم‬
‫بسماع سؤالهم‪ ،‬والعتناء بأمرهم‪ ،‬فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه‪ .‬ولكن لما كانت طبائعهم‬
‫ن َل َع َنهُمُ اللّهُ‬
‫غير زكية‪ ،‬أعرضوا عن ذلك‪ ،‬وطردهم ال بكفرهم وعنادهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِ ْ‬
‫ن إِلّا قَلِيلًا }‬
‫ِبكُ ْفرِهِمْ فَلَا ُي ْؤ ِمنُو َ‬
‫طمِسَ‬
‫ن َن ْ‬
‫ن َقبْلِ أَ ْ‬
‫صدّقًا ِلمَا َم َع ُكمْ مِ ْ‬
‫ن أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ آ ِمنُوا ِبمَا َنزّ ْلنَا ُم َ‬
‫{ ‪ { } 47‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫سبْتِ َوكَانَ َأ ْمرُ اللّهِ مَ ْفعُولًا }‬
‫صحَابَ ال ّ‬
‫ُوجُوهًا َفنَ ُردّهَا عَلَى َأ ْدبَارِهَا َأوْ نَ ْل َع َن ُهمْ َكمَا َل َعنّا َأ ْ‬

‫يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫وما أنزل ال عليه من القرآن العظيم‪ ،‬المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها‪،‬‬
‫فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر‪.‬‬

‫وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب‪ ،‬لن كتب ال‬
‫يصدق بعضها بعضا‪ ،‬ويوافق بعضها بعضًا‪ .‬فدعوى اليمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة‬
‫ل يمكن صدقها‪.‬‬

‫ص ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم‬


‫وفي قوله‪ { :‬آ ِمنُوا ِبمَا َنزّ ْلنَا ُم َ‬
‫مبادرين إليه بسبب ما أنعم ال عليهم به من العلم‪ ،‬والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم‬
‫طمِسَ ُوجُوهًا َف َنرُدّهَا‬
‫أعظم من غيرهم‪ ،‬ولهذا توعدهم على عدم اليمان فقال‪ِ { :‬منْ َقبْلِ َأنْ َن ْ‬
‫عَلَى َأ ْدبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا‪ ،‬كما تركوا الحق‪ ،‬وآثروا الباطل وقلبوا‬
‫الحقائق‪ ،‬فجعلوا الباطل حقا والحق باطل‪ ،‬جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا‬
‫الحق‪ ،‬وردها على أدبارها‪ ،‬بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَ ْو نَ ْل َع َنهُمْ َكمَا َل َعنّا‬
‫سبْتِ } بأن يطردهم من رحمته‪ ،‬ويعاقبهم بجعلهم قردة‪ ،‬كما فعل بإخوانهم الذين‬
‫ب ال ّ‬
‫صحَا َ‬
‫َأ ْ‬
‫ن َأ ْمرُ اللّ ِه مَ ْفعُولًا } كقوله‪ِ { :‬إ ّنمَا‬
‫ن } { َوكَا َ‬
‫سئِي َ‬
‫اعتدوا في السبت { فَقُ ْلنَا َل ُهمْ كُونُوا قِ َردَ ًة خَا ِ‬
‫ن}‬
‫ش ْيئًا َأنْ يَقُولَ َل ُه كُنْ َف َيكُو ُ‬
‫َأ ْمرُهُ ِإذَا َأرَادَ َ‬

‫ش ِركْ بِاللّ ِه فَ َقدِ‬


‫ن َيشَاءُ َومَنْ ُي ْ‬
‫ن ذَِلكَ ِلمَ ْ‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُو َ‬
‫ن اللّ َه لَا َيغْ ِفرُ َأنْ ُي ْ‬
‫{ ‪ { } 48‬إِ ّ‬
‫عظِيمًا }‬
‫ا ْفتَرَى ِإ ْثمًا َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أنه ل يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين‪ ،‬ويغفر ما دون الشرك من الذنوب‬
‫صغائرها وكبائرها‪ ،‬وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك‪ ،‬إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه‪.‬‬

‫فالذنوب التي دون الشرك قد جعل ال لمغفرتها أسبابا كثيرة‪ ،‬كالحسنات الماحية والمصائب‬
‫المكفرة في الدنيا‪ ،‬والبرزخ ويوم القيامة‪ ،‬وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض‪ ،‬وبشفاعة‬
‫الشافعين‪ .‬ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل اليمان والتوحيد‪.‬‬
‫وهذا بخلف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة‪ ،‬وأغلق دونه أبواب‬
‫الرحمة‪ ،‬فل تنفعه الطاعات من دون التوحيد‪ ،‬ول تفيده المصائب شيئا‪ ،‬وما لهم يوم القيامة‬
‫حمِيمٍ }‬
‫{ ِمنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ َ‬

‫عظِيمًا } أي‪ :‬افترى جرما كبيرا‪ ،‬وأي‪:‬‬


‫ش ِركْ بِاللّهِ فَ َقدِ ا ْف َترَى ِإ ْثمًا َ‬
‫ولهذا قال تعالى‪َ { :‬و َمنْ ُي ْ‬
‫ظلم أعظم ممن سوى المخلوق ‪-‬من تراب‪ ،‬الناقص من جميع الوجوه‪ ،‬الفقير بذاته من كل‬
‫وجه‪ ،‬الذي ل يملك لنفسه‪ -‬فضل عمن عبده ‪-‬نفعًا ول ضرّا ول موتًا ول حياة ول نشورًا‪-‬‬
‫بالخالق لكل شيء‪ ،‬الكامل من جميع الوجوه‪ ،‬الغني بذاته عن جميع مخلوقاته‪ ،‬الذي بيده النفع‬
‫والضر والعطاء والمنع‪ ،‬الذي ما من نعمة بالمخلوقين إل فمنه تعالى‪ ،‬فهل أعظم من هذا الظلم‬
‫شيء؟‬

‫ح ّرمَ اللّهُ‬
‫ك بِاللّهِ فَ َقدْ َ‬
‫شرِ ْ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب { ِإنّهُ مَ ْ‬
‫جنّةَ َو َمأْوَا ُه النّارُ } وهذه الية الكريمة في حق غير التائب‪ ،‬وأما التائب‪ ،‬فإنه يغفر له‬
‫عََليْ ِه ا ْل َ‬
‫حمَةِ‬
‫ن َر ْ‬
‫س ِهمْ لَا تَ ْق َنطُوا مِ ْ‬
‫سرَفُوا عَلَى َأنْ ُف ِ‬
‫ن َأ ْ‬
‫عبَادِيَ اّلذِي َ‬
‫الشرك فما دونه كما قال تعالى‪ { :‬قُلْ يَا ِ‬
‫جمِيعًا } أي‪ :‬لمن تاب إليه وأناب‪.‬‬
‫ب َ‬
‫ن اللّ َه َيغْ ِفرُ ال ّذنُو َ‬
‫اللّ ِه إِ ّ‬

‫ن َفتِيلًا *‬
‫ن َيشَاءُ وَلَا ُيظَْلمُو َ‬
‫س ُهمْ بَلِ اللّ ُه يُ َزكّي مَ ْ‬
‫{ ‪ { } 50 - 49‬أََل ْم تَ َر إِلَى اّلذِينَ ُي َزكّونَ َأنْ ُف َ‬
‫ا ْنظُرْ َك ْيفَ يَ ْف َترُونَ عَلَى اللّ ِه ا ْل َكذِبَ َوكَفَى بِ ِه ِإ ْثمًا ُمبِينًا }‬

‫هذا تعجيب من ال لعباده‪ ،‬وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود والنصارى‪ ،‬ومن نحا‬
‫ن َأ ْبنَاءُ‬
‫نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه‪ .‬وذلك أن اليهود والنصارى يقولون‪َ { :‬نحْ ُ‬
‫ن هُودًا أَ ْو َنصَارَى } وهذا مجرد دعوى ل‬
‫جنّةَ إِلّا مَنْ كَا َ‬
‫حبّا ُؤهُ } ويقولون‪َ { :‬لنْ َي ْدخُلَ ا ْل َ‬
‫اللّهِ وََأ ِ‬
‫جهَ ُه لِلّهِ وَ ُهوَ‬
‫ن َأسَْلمَ َو ْ‬
‫برهان عليها‪ ،‬وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله‪ { :‬بَلَى مَ ْ‬
‫ن } فهؤلء هم الذين زكاهم ال ولهذا‬
‫ح َزنُو َ‬
‫ع ْندَ َربّهِ وَلَا خَ ْوفٌ عََل ْي ِهمْ وَلَا ُهمْ َي ْ‬
‫جرُهُ ِ‬
‫حسِنٌ فَلَ ُه َأ ْ‬
‫ُم ْ‬
‫ن َيشَاءُ } أي‪ :‬باليمان والعمل الصالح بالتخلي عن الخلق‬
‫قال هنا‪ { :‬بَلِ اللّهُ ُي َزكّي مَ ْ‬
‫الرذيلة‪ ،‬والتحلي بالصفات الجميلة‪.‬‬

‫وأما هؤلء فهم ‪-‬وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء‪ ،‬وأن الثواب لهم وحدهم‪ -‬فإنهم‬
‫كذبة في ذلك‪ ،‬ليس لهم من خصال الزاكين نصيب‪ ،‬بسبب ظلمهم وكفرهم ل بظلم من ال لهم‪،‬‬
‫ن َفتِيلًا } وهذا لتحقيق العموم أي‪ :‬ل يظلمون شيئا ول مقدار الفتيل‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَلَا ُيظَْلمُو َ‬
‫الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها‪.‬‬
‫ب } أي‪ :‬بتزكيتهم أنفسهم‪ ،‬لن هذا من أعظم‬
‫ظرْ َك ْيفَ يَ ْف َترُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َكذِ َ‬
‫قال تعالى‪ { :‬ا ْن ُ‬
‫الفتراء على ال‪ .‬لن مضمون تزكيتهم لنفسهم الخبار بأن ال جعل ما هم عليه حقا وما‬
‫عليه المؤمنون المسلمون باطل‪ .‬وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطل‪ ،‬والباطلِ‬
‫حقّا‪ .‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَفَى بِ ِه ِإ ْثمًا ُمبِينًا } أي‪ :‬ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة والعذاب الليم‪.‬‬

‫جبْتِ وَالطّاغُوتِ‬
‫ن بِا ْل ِ‬
‫ن ا ْل ِكتَابِ ُي ْؤ ِمنُو َ‬
‫{ ‪ { } 57 - 51‬أََل ْم تَ َر إِلَى اّلذِينَ أُوتُوا َنصِيبًا مِ َ‬
‫ك اّلذِينَ َل َع َن ُهمُ اللّ ُه َومَنْ يَ ْلعَنِ‬
‫سبِيلًا * أُوَل ِئ َ‬
‫ن اّلذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫ن كَ َفرُوا هَؤُلَا ِء أَ ْهدَى مِ َ‬
‫َويَقُولُونَ لِّلذِي َ‬
‫سدُونَ‬
‫حُ‬‫ن النّاسَ نَقِيرًا * َأمْ َي ْ‬
‫ن ا ْلمُ ْلكِ َفِإذًا لَا يُ ْؤتُو َ‬
‫جدَ َلهُ َنصِيرًا * َأمْ َل ُهمْ َنصِيبٌ مِ َ‬
‫اللّ ُه فَلَنْ َت ِ‬
‫عظِيمًا *‬
‫ح ْكمَةَ وَآ َت ْينَا ُهمْ مُ ْلكًا َ‬
‫ل ِإ ْبرَاهِيمَ ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ‬
‫ن فَضْلِ ِه فَ َقدْ آ َت ْينَا آ َ‬
‫النّاسَ عَلَى مَا آتَا ُهمُ اللّ ُه مِ ْ‬
‫ن اّلذِينَ َك َفرُوا بِآيَا ِتنَا سَ ْوفَ‬
‫سعِيرًا * إِ ّ‬
‫ج َهنّمَ َ‬
‫عنْهُ َو َكفَى ِب َ‬
‫صدّ َ‬
‫ن َ‬
‫ن بِهِ َو ِم ْن ُهمْ مَ ْ‬
‫ن آمَ َ‬
‫َفمِ ْن ُهمْ مَ ْ‬
‫عزِيزًا‬
‫ن اللّ َه كَانَ َ‬
‫ب إِ ّ‬
‫غ ْيرَهَا ِل َيذُوقُوا ا ْل َعذَا َ‬
‫ضجَتْ جُلُودُ ُهمْ َبدّ ْلنَا ُهمْ جُلُودًا َ‬
‫ُنصْلِي ِهمْ نَارًا كُّلمَا َن ِ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا‬
‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫س ُن ْدخِلُ ُهمْ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ‬
‫ن آ َمنُوا وَ َ‬
‫حكِيمًا * وَاّلذِي َ‬
‫َ‬
‫ط ّهرَةٌ َو ُن ْدخُِلهُمْ ظِلّا ظَلِيلًا }‬
‫َأ َبدًا َل ُهمْ فِيهَا َأزْوَاجٌ ُم َ‬

‫وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى ال عليه وسلم والمؤمنين‪ ،‬أن أخلقهم الرذيلة‬
‫وطبعهم الخبيث‪ ،‬حملهم على ترك اليمان بال ورسوله‪ ،‬والتعوض عنه باليمان بالجبت‬
‫والطاغوت‪ ،‬وهو اليمان بكل عبادة لغير ال‪ ،‬أو حكم بغير شرع ال‪.‬‬

‫فدخل في ذلك السحر والكهانة‪ ،‬وعباده غير ال‪ ،‬وطاعة الشيطان‪ ،‬كل هذا من الجبت‬
‫حمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بال ‪-‬عبدة الصنام‪-‬‬
‫والطاغوت‪ ،‬وكذلك َ‬
‫ن لِّلذِينَ َك َفرُوا } أي‪ :‬لجلهم تملقا لهم ومداهنة‪ ،‬وبغضا‬
‫على طريق المؤمنين فقال‪َ { :‬ويَقُولُو َ‬
‫سبِيلًا } أي‪ :‬طريقا‪ .‬فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل‬
‫ن اّلذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫لليمان‪ { :‬هَؤُلَا ِء أَ ْهدَى مِ َ‬
‫عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من‬
‫العقلء‪ ،‬أو يدخل عقلَ أحد من الجهلء‪ ،‬فهل يُ َفضّل دين قام على عبادة الصنام والوثان‪،‬‬
‫واستقام على تحريم الطيبات‪ ،‬وإباحة الخبائث‪ ،‬وإحلل كثير من المحرمات‪ ،‬وإقامة الظلم بين‬
‫الخلق‪ ،‬وتسوية الخالق بالمخلوقين‪ ،‬والكفر بال ورسله وكتبه‪ ،‬على دين قام على عبادة‬
‫الرحمن‪ ،‬والخلص ل في السر والعلن‪ ،‬والكفر بما يعبد من دونه من الوثان والنداد‬
‫والكاذبين‪ ،‬وعلى صلة الرحام والحسان إلى جميع الخلق‪ ،‬حتى البهائم‪ ،‬وإقامة العدل والقسط‬
‫بين الناس‪ ،‬وتحريم كل خبيث وظلم‪ ،‬والصدق في جميع القوال والعمال‪ ،‬فهل هذا إل من‬
‫الهذيان‪ ،‬وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقل‪ ،‬وإما من أعظمهم عنادا‬
‫ك اّلذِينَ َل َع َن ُهمُ اللّ ُه }‬
‫وتمردا ومراغمة للحق‪ ،‬وهذا هو الواقع‪ ،‬ولهذا قال تعالى عنهم‪ { :‬أُوَل ِئ َ‬
‫جدَ َلهُ َنصِيرًا } أي‪ :‬يتوله‬
‫ن اللّ ُه فَلَنْ َت ِ‬
‫أي‪ :‬طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته‪َ { .‬و َمنْ يَ ْلعَ ِ‬
‫ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره‪ ،‬وهذا غاية الخذلن‪.‬‬

‫ك } أي‪ :‬فيفضّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم‪ ،‬فيكونون‬


‫ب مِنَ ا ْلمُ ْل ِ‬
‫{ َأ ْم َل ُهمْ نَصِي ٌ‬
‫شركاء ل في تدبير المملكة‪ ،‬فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فإِذًا }‬
‫ن النّاسَ نَقِيرًا } أي‪ :‬شيئًا ول قليل‪ .‬وهذا وصف‬
‫أي‪ :‬لو كان لهم نصيب من الملك { لَا ُي ْؤتُو َ‬
‫لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك ال‪ .‬وأخرج هذا مخرج الستفهام‬
‫المتقرر إنكاره عند كل أحد‪.‬‬

‫سدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَا ُهمُ اللّهُ ِمنْ َفضْلِهِ } أي‪ :‬هل الحامل لهم على قولهم كونهم‬
‫{ َأ ْم َيحْ ُ‬
‫شركاءَ ل فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما‬
‫ل ِإ ْبرَاهِيمَ ا ْل ِكتَابَ‬
‫آتاهم ال من فضله؟ وذلك ليس ببدع ول غريب على فضل ال‪ { .‬فَ َقدْ آ َت ْينَا آ َ‬
‫عظِيمًا } وذلك ما أنعم ال به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب‬
‫ح ْكمَةَ وَآ َت ْينَا ُهمْ مُ ْلكًا َ‬
‫وَا ْل ِ‬
‫والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "داود" و "سليمان" ‪ .‬فإنعامه لم يزل مستمرًا على‬
‫عباده المؤمنين‪ .‬فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى ال عليه وسلم‬
‫أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بال وأخشاهم له؟"‬

‫{ َف ِم ْنهُ ْم مَنْ آ َمنَ ِبهِ } أي‪ :‬بمحمد صلى ال عليه وسلم فنال بذلك السعادة الدنيوية والفلح‬
‫عنْ ُه } عنادًا وبغيًا وحسدًا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما‬
‫صدّ َ‬
‫الخروي‪َ { .‬و ِم ْنهُ ْم مَنْ َ‬
‫سعِيرًا } تسعر على من كفر بال‪ ،‬وجحد نبوة أنبيائه‬
‫جهَ ّنمَ َ‬
‫هو بعض آثار معاصيهم { َوكَفَى ِب َ‬
‫من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة‪.‬‬

‫ن كَ َفرُوا بِآيَا ِتنَا سَ ْوفَ ُنصْلِي ِهمْ نَارًا } أي‪ :‬عظيمة الوقود شديدة الحرارة‬
‫ولهذا قال‪ِ { :‬إنّ اّلذِي َ‬
‫غ ْيرَهَا ِل َيذُوقُوا ا ْل َعذَابَ } أي‪ :‬ليبلغ‬
‫ضجَتْ جُلُودُ ُهمْ } أي‪ :‬احترقت { َبدّ ْلنَاهُمْ جُلُودًا َ‬
‫{ كُّلمَا َن ِ‬
‫العذاب منهم كل مبلغ‪ .‬وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم‬
‫حكِيمًا } أي‪ :‬له العزة العظيمة والحكمة‬
‫عزِيزًا َ‬
‫ن اللّ َه كَانَ َ‬
‫العذاب جزاء وِفاقا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِ ّ‬
‫في خلقه وأمره‪ ،‬وثوابه وعقابه‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } من الواجبات‬


‫{ وَاّلذِينَ آ َمنُوا } أي‪ :‬بال وما أوجب اليمانَ به { َو َ‬
‫طهّرَةٌ‬
‫ج ُم َ‬
‫ن فِيهَا َأ َبدًا َل ُهمْ فِيهَا َأزْوَا ٌ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫ت َتجْرِي مِ ْ‬
‫جنّا ٍ‬
‫س ُن ْدخُِلهُمْ َ‬
‫والمستحبات { َ‬
‫} أي‪ :‬من الخلق الرذيلة‪ ،‬والخلْق الذميم‪ ،‬ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب‬
‫{ َو ُن ْدخُِلهُمْ ظِلّا ظَلِيلًا }‬
‫ح َك ْمتُ ْم َبيْنَ النّاسِ َأنْ‬
‫ت إِلَى أَهِْلهَا وَِإذَا َ‬
‫ن تُ َؤدّوا ا ْلَأمَانَا ِ‬
‫{ ‪ِ { } 59 - 58‬إنّ اللّهَ َي ْأ ُم ُركُ ْم أَ ْ‬
‫ن آ َمنُوا َأطِيعُوا‬
‫سمِيعًا بَصِيرًا * يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن َ‬
‫ظكُمْ ِبهِ ِإنّ اللّهَ كَا َ‬
‫ن اللّهَ ِن ِعمّا َي ِع ُ‬
‫ح ُكمُوا بِا ْل َعدْلِ إِ ّ‬
‫َت ْ‬
‫ع ُتمْ فِي شَيْ ٍء فَ ُردّوهُ إِلَى اللّهِ وَال ّرسُولِ ِإنْ‬
‫ل وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْن ُكمْ َفإِنْ َتنَازَ ْ‬
‫اللّهَ وََأطِيعُوا الرّسُو َ‬
‫ن َتأْوِيلًا }‬
‫حسَ ُ‬
‫خ ْيرٌ وََأ ْ‬
‫خرِ ذَِلكَ َ‬
‫ن بِاللّهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ‬
‫ُك ْنتُمْ ُت ْؤ ِمنُو َ‬

‫المانات كل ما ائتمن عليه النسان وأمر بالقيام به‪ .‬فأمر ال عباده بأدائها أي‪ :‬كاملة موفرة‪،‬‬
‫ل منقوصة ول مبخوسة‪ ،‬ول ممطول بها‪ ،‬ويدخل في ذلك أمانات الوليات والموال‬
‫والسرار؛ والمأمورات التي ل يطلع عليها إل ال‪ .‬وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة‬
‫وجب عليه حفظها في حرز مثلها‪ .‬قالوا‪ :‬لنه ل يمكن أداؤها إل بحفظها؛ فوجب ذلك‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬إِلَى أَهِْلهَا } دللة على أنها ل تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن‪ ،‬ووكيلُه بمنزلته؛ فلو‬
‫دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها‪.‬‬

‫حكُمُوا بِا ْل َعدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والموال‬


‫ن َت ْ‬
‫س أَ ْ‬
‫ح َك ْم ُتمْ َبيْنَ النّا ِ‬
‫{ وَِإذَا َ‬
‫والعراض‪ ،‬القليل من ذلك والكثير‪ ،‬على القريب والبعيد‪ ،‬والبر والفاجر‪ ،‬والولي والعدو‪.‬‬

‫والمراد بالعدل الذي أمر ال بالحكم به هو ما شرعه ال على لسان رسوله من الحدود‬
‫والحكام‪ ،‬وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به‪ .‬ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال‪ { :‬إِنّ‬
‫سمِيعًا َبصِيرًا } وهذا مدح من ال لوامره ونواهيه‪ ،‬لشتمالها‬
‫ن َ‬
‫ن اللّ َه كَا َ‬
‫ظ ُكمْ بِ ِه إِ ّ‬
‫اللّ َه ِن ِعمّا َيعِ ُ‬
‫على مصالح الدارين ودفع مضارهما‪ ،‬لن شارعها السميع البصير الذي ل تخفى عليه خافية‪،‬‬
‫ويعلم بمصالح العباد ما ل يعلمون‪.‬‬

‫ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما‪ ،‬الواجب والمستحب‪ ،‬واجتناب نهيهما‪.‬‬
‫وأمر بطاعة أولي المر وهم‪ :‬الولة على الناس‪ ،‬من المراء والحكام والمفتين‪ ،‬فإنه ل يستقيم‬
‫للناس أمر دينهم ودنياهم إل بطاعتهم والنقياد لهم‪ ،‬طاعة ل ورغبة فيما عنده‪ ،‬ولكن بشرط‬
‫أل يأمروا بمعصية ال‪ ،‬فإن أمروا بذلك فل طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪ .‬ولعل هذا هو‬
‫السر في حذف الفعل عند المر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول‪ ،‬فإن الرسول ل يأمر إل‬
‫بطاعة ال‪ ،‬ومن يطعه فقد أطاع ال‪ ،‬وأما أولو المر فشرط المر بطاعتهم أن ل يكون‬
‫معصية‪.‬‬

‫ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى ال وإلى الرسول أي‪ :‬إلى‬
‫كتاب ال وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلفية‪ ،‬إما بصريحهما أو‬
‫عمومهما؛ أو إيماء‪ ،‬أو تنبيه‪ ،‬أو مفهوم‪ ،‬أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه‪ ،‬لن كتاب ال‬
‫وسنة رسوله عليهما بناء الدين‪ ،‬ول يستقيم اليمان إل بهما‪.‬‬

‫خرِ } فدل ذلك على‬


‫ن بِاللّهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم تُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫فالرد إليهما شرط في اليمان فلهذا قال‪ { :‬إِ ْ‬
‫أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة‪ ،‬بل مؤمن بالطاغوت‪ ،‬كما ذكر في‬
‫حسَنُ َتأْوِيلًا } فإن حكم ال ورسوله‬
‫خ ْيرٌ وََأ ْ‬
‫الية بعدها { ذَِلكَ } أي‪ :‬الرد إلى ال ورسوله { َ‬
‫أحسن الحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم‪.‬‬

‫ك َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ يُرِيدُونَ‬


‫عمُونَ أَ ّن ُهمْ آمَنُوا ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ‬
‫{ ‪ { } 63 - 60‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْ ُ‬
‫ت َوقَدْ ُأمِرُوا أَنْ َي ْكفُرُوا بِ ِه وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ ُيضِّلهُ ْم ضَلَالًا َبعِيدًا * وَإِذَا‬
‫أَنْ يَتَحَا َكمُوا إِلَى الطّاغُو ِ‬
‫صدُودًا * َفكَ ْيفَ إِذَا‬
‫ك ُ‬
‫صدّونَ عَ ْن َ‬
‫قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا إِلَى مَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَإِلَى الرّسُولِ رَأَ ْيتَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َي ُ‬
‫حسَانًا وَ َت ْوفِيقًا * أُولَ ِئكَ‬
‫َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ ثُمّ جَاءُوكَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا إِ ْ‬
‫سهِمْ َقوْلًا بَلِيغًا }‬
‫ظهُ ْم َو ُقلْ َلهُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫الّذِينَ َيعَْلمُ اللّهُ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ فَأَعْ ِرضْ عَ ْن ُه ْم وَعِ ْ‬

‫عمُونَ أَ ّنهُمْ } مؤمنون بما جاء به الرسول وبما‬


‫يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين‪ { .‬الّذِينَ يَزْ ُ‬
‫قبله‪ ،‬ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَا َكمُوا إِلَى الطّاغُوتِ } وهو كل من حكم بغير شرع ال فهو‬
‫طاغوت‪.‬‬

‫والحال أنهم { قد ُأمِرُوا أَنْ َي ْكفُرُوا بِهِ } فكيف يجتمع هذا واليمان؟ فإن اليمان يقتضي النقياد‬
‫لشرع ال وتحكيمه في كل أمر من المور‪ ،‬فمَنْ زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم‬
‫ال‪ ،‬فهو كاذب في ذلك‪ .‬وهذا من إضلل الشيطان إياهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَيُرِيدُ الشّ ْيطَانُ أَنْ ُيضِّلهُمْ‬
‫ضَلَالًا َبعِيدًا } عن الحق‪.‬‬

‫{ َفكَ ْيفَ } يكون حال هؤلء الضالين { ِإذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ } من المعاصي ومنها‬
‫تحكيم الطاغوت؟!‬

‫{ ُثمّ جَاءُوكَ } معتذرين لما صدر منهم‪ ،‬ويقولون‪ { :‬إِنْ أَ َردْنَا إِلّا ِإحْسَانًا وَ َت ْوفِيقًا } أي‪ :‬ما قصدنا‬
‫في ذلك إل الحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم‪ ،‬وهم َكذَبة في ذلك‪ .‬فإن الحسان كل‬
‫الحسان تحكيم ال ورسوله { ومَنْ أحْسَن من ال حكمًا لقوْمٍ يوقنون }‬

‫ولهذا قال‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ } أي‪ :‬من النفاق والقصد السيئ‪ { .‬فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ‬
‫ظهُمْ } أي‪ :‬بين لهم حكم ال تعالى مع‬
‫} أي‪ :‬ل تبال بهم ول تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه‪ { .‬وَعِ ْ‬
‫س ِهمْ َقوْلًا بَلِيغًا } أي‪ :‬انصحهم سرا‬
‫الترغيب في النقياد ل‪ ،‬والترهيب من تركه { َو ُقلْ َل ُهمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫بينك وبينهم‪ ،‬فإنه أنجح لحصول المقصود‪ ،‬وبالغ في زجرهم وقمعهم عمّا كانوا عليه‪ ،‬وفي هذا‬
‫دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا‪ ،‬ويبالغ في وعظه بما يظن‬
‫حصول المقصود به‪.‬‬

‫سهُمْ جَاءُوكَ‬
‫ظَلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ ‪َ { } 65 - 64‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ َرسُولٍ إِلّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّ ِه وََلوْ أَ ّنهُمْ ِإذْ َ‬
‫ح ّكمُوكَ‬
‫جدُوا اللّهَ َتوّابًا َرحِيمًا * فَلَا وَرَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ حَتّى يُ َ‬
‫فَاسْ َت ْغفَرُوا اللّ َه وَاسْ َت ْغفَرَ َلهُمُ الرّسُولُ َلوَ َ‬
‫س ِهمْ حَ َرجًا ِممّا َقضَ ْيتَ وَيُسَّلمُوا تَسْلِيمًا }‬
‫جدُوا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫فِيمَا شَجَرَ بَيْ َنهُمْ ثُمّ لَا يَ ِ‬

‫يخبر تعالى خبرا في ضمنه المر والحث على طاعة الرسول والنقياد له‪ .‬وأن الغاية من إرسال‬
‫الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه‪ ،‬وأن يكونوا‬
‫معظمين تعظيم المطيع للمطاع‪.‬‬

‫وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن ال‪ ،‬وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لن ال أمر‬
‫بطاعتهم مطلقا‪ ،‬فلول أنهم معصومون ل يشرعون ما هو خطأ‪ ،‬لما أمر بذلك مطلقا‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬بِإِذْنِ اللّهِ } أي‪ :‬الطاعة من المطيع صادرة بقضاء ال وقدره‪ .‬ففيه إثبات القضاء والقدر‪،‬‬
‫والحث على الستعانة بال‪ ،‬وبيان أنه ل يمكن النسان ‪-‬إن لم يعنه ال‪ -‬أن يطيع الرسول‪.‬‬

‫ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده‪ ،‬ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا‬
‫س ُهمْ جَاءُوكَ } أي‪ :‬معترفين بذنوبهم باخعين بها‪.‬‬
‫ال فقال‪ { :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ ِإذْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬

‫{ فَاسْ َتغْفَرُوا اللّهَ وَاسْ َتغْفَرَ َلهُمُ الرّسُولُ َلوَجَدُوا اللّهَ َتوّابًا رَحِيمًا } أي‪ :‬لتاب عليهم بمغفرته ظ ْلمَهم‪،‬‬
‫ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها‪ ،‬وهذا المجيء إلى الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫مختص بحياته؛ لن السياق يدل على ذلك لكون الستغفار من الرسول ل يكون إل في حياته‪،‬‬
‫وأما بعد موته فإنه ل يطلب منه شيء بل ذلك شرك‪.‬‬

‫ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم ل يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم‪ ،‬أي‪ :‬في كل‬
‫شيء يحصل فيه اختلف‪ ،‬بخلف مسائل الجماع‪ ،‬فإنها ل تكون إل مستندة للكتاب والسنة‪ ،‬ثم ل‬
‫يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق‪ ،‬وكونهم يحكمونه على وجه الغماض‪،‬‬
‫ثم ل يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر‪ ،‬وطمأنينة نفس‪ ،‬وانقياد بالظاهر‬
‫والباطن‪.‬‬
‫فالتحكيم في مقام السلم‪ ،‬وانتفاء الحرج في مقام اليمان‪ ،‬والتسليم في مقام الحسان‪ .‬فمَن‬
‫استكمل هذه المراتب وكملها‪ ،‬فقد استكمل مراتب الدين كلها‪ .‬فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير‬
‫ملتزم له فهو كافر‪ ،‬ومَن تركه‪ ،‬مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين‪.‬‬

‫سكُمْ َأوِ اخْ ُرجُوا مِنْ دِيَا ِر ُكمْ مَا َفعَلُوهُ إِلّا قَلِيلٌ‬
‫{ ‪ { } 68 - 66‬وََلوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَ ْيهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫مِ ْنهُ ْم وََلوْ أَ ّنهُمْ َفعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ َلكَانَ خَيْرًا َلهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَا ُهمْ مِنْ لَدُنّا أَجْرًا‬
‫عَظِيمًا * وََلهَدَيْنَاهُ ْم صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا }‬

‫يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من‬
‫الديار لم يفعله إل القليل منهم والنادر‪ ،‬فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من‬
‫الوامر التي تسهل على كل أحد‪ ،‬ول يشق فعلها‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد‬
‫ضد ما هو فيه من المكروهات‪ ،‬لتخف عليه العبادات‪ ،‬ويزداد حمدًا وشكرًا لربه‪.‬‬

‫ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي‪ :‬ما وُظّف عليهم في كل وقت بحسبه‪ ،‬فبذلوا هممهم‪،‬‬
‫ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله‪ ،‬ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه‪ ،‬ولم يكونوا بصدده‪ ،‬وهذا‬
‫هو الذي ينبغي للعبد‪ ،‬أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها‪ ،‬ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى‬
‫يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا‪ ،‬وهذا بخلف من طمحت نفسه إلى‬
‫أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد‪ ،‬فإنه ل يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة‪ ،‬وحصول‬
‫الكسل وعدم النشاط‪.‬‬

‫ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به‪ ،‬وهو أربعة أمور‪:‬‬

‫(أحدها) الخيرية في قوله‪َ { :‬لكَانَ خَيْرًا َلهُمْ } أي‪ :‬لكانوا من الخيار المتصفين بأوصافهم من‬
‫أفعال الخير التي أمروا بها‪ ،‬أي‪ :‬وانتفى عنهم بذلك صفة الشرار‪ ،‬لن ثبوت الشيء يستلزم نفي‬
‫ضده‪.‬‬

‫(الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته‪ ،‬فإن ال يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من‬
‫اليمان‪ ،‬الذي هو القيام بما وعظوا به‪ ،‬فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الوامر‬
‫والنواهي والمصائب‪ ،‬فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس‬
‫فعلها‪ ،‬وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد‪ .‬فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو‬
‫للشكر‪ .‬فينزل عليه معونة من ال للقيام بذلك‪ ،‬ويحصل له الثبات على الدين‪ ،‬عند الموت وفي‬
‫القبر‪.‬‬
‫وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به‪ ،‬ل يزال يتمرن على الوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها‬
‫وإلى أمثالها‪ ،‬فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات‪.‬‬

‫عظِيمًا } أي‪ :‬في العاجل والجل الذي يكون للروح‬


‫(الثالث) قوله‪ { :‬وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنّا َأجْرًا َ‬
‫والقلب والبُدن‪ ،‬ومن النعيم المقيم مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫(الرابع) الهداية إلى صراط مستقيم‪ .‬وهذا عموم بعد خصوص‪ ،‬لشرف الهداية إلى الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬من كونها متضمنة للعلم بالحق‪ ،‬ومحبته وإيثاره والعمل به‪ ،‬وتوقف السعادة والفلح‬
‫ق لكل خير واندفع عنه كل شر وضير‪.‬‬
‫على ذلك‪ ،‬فمن ُه ِديَ إلى صراط مستقيم‪ ،‬فقد ُوفّ َ‬

‫ن وَالصّدّيقِينَ‬
‫{ ‪َ { } 70 - 69‬ومَنْ يُطِعِ اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّي َ‬
‫حسُنَ أُولَ ِئكَ َرفِيقًا * ذَِلكَ ا ْل َفضْلُ مِنَ اللّ ِه َوكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا }‬
‫ن وَ َ‬
‫شهَدَا ِء وَالصّالِحِي َ‬
‫وَال ّ‬

‫أي‪ :‬كل مَنْ أطاع ال ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير‬
‫وكبير‪ { ،‬فَأُولَ ِئكَ َمعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلح‬
‫والسعادة { مِنَ النّبِيّينَ } الذين فضلهم ال بوحيه‪ ،‬واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق‪،‬‬
‫ودعوتهم إلى ال تعالى { وَالصّدّيقِينَ } وهم‪ :‬الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل‪ ،‬فعلموا‬
‫شهَدَاءِ } الذين قاتلوا في‬
‫الحق وصدقوه بيقينهم‪ ،‬وبالقيام به قول وعمل وحال ودعوة إلى ال‪ { ،‬وَال ّ‬
‫سبيل ال لعلء كلمة ال فقتلوا‪ { ،‬وَالصّالِحِينَ } الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم‪،‬‬
‫حسُنَ أُولَ ِئكَ َرفِيقًا } بالجتماع بهم في‬
‫فكل من أطاع ال تعالى كان مع هؤلء في صحبتهم { وَ َ‬
‫جنات النعيم والُنْس بقربهم في جوار رب العالمين‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ ا ْل َفضْلُ } الذي نالوه { مِنَ اللّهِ } فهو الذي وفقهم لذلك‪ ،‬وأعانهم عليه‪ ،‬وأعطاهم من الثواب‬
‫ما ل تبلغه أعمالهم‪.‬‬

‫{ َو َكفَى بِاللّهِ عَلِيمًا } يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب الجزيل‪ ،‬بما قام به من العمال‬
‫الصالحة التي تواطأ عليها القلب والجوارح‪.‬‬

‫جمِيعًا * وَإِنّ مِ ْنكُمْ َلمَنْ‬


‫{ ‪ { } 74 - 71‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْ َركُمْ فَا ْنفِرُوا ثُبَاتٍ َأوِ ا ْنفِرُوا َ‬
‫ضلٌ مِنَ‬
‫شهِيدًا * وَلَئِنْ َأصَا َبكُمْ َف ْ‬
‫لَيُبَطّئَنّ فَإِنْ َأصَابَ ْتكُمْ ُمصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَ ْنعَمَ اللّهُ عََليّ ِإذْ لَمْ َأكُنْ َم َعهُمْ َ‬
‫عظِيمًا * فَلْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ‬
‫اللّهِ لَ َيقُولَنّ كَأَنْ لَمْ َتكُنْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَهُ َموَ ّدةٌ يَا لَيْتَنِي كُ ْنتُ َم َعهُمْ فََأفُوزَ َفوْزًا َ‬
‫س ْوفَ ُنؤْتِيهِ أَجْرًا‬
‫اللّهِ الّذِينَ َيشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالْآخِ َرةِ َومَنْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ ُيقْ َتلْ َأوْ َيغِْلبْ فَ َ‬
‫عَظِيمًا }‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين‪ .‬وهذا يشمل الخذ بجميع السباب‪،‬‬
‫التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم‪ ،‬من استعمال الحصون والخنادق‪ ،‬وتعلم‬
‫الرمي والركوب‪ ،‬وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك‪ ،‬وما به يعرف مداخلهم‪ ،‬ومخارجهم‪،‬‬
‫ومكرهم‪ ،‬والنفير في سبيل ال‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فَا ْنفِرُوا ثُبَاتٍ } أي‪ :‬متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش‪ ،‬ويقيم غيرهم { َأوِ ا ْنفِرُوا‬
‫جمِيعًا } وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية‪ ،‬والراحة للمسلمين في دينهم‪ ،‬وهذه الية نظير قوله‬
‫َ‬
‫طعْ ُتمْ مِنْ ُق ّوةٍ }‬
‫تعالى‪ { :‬وَأَعِدّوا َلهُمْ مَا اسْتَ َ‬

‫ثم أخبر عن ضعفاء اليمان المتكاسلين عن الجهاد فقال‪ { :‬وَإِنّ مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬أيها المؤمنون { َلمَنْ‬
‫لَيُبَطّئَنّ } أي‪ :‬يتثاقل عن الجهاد في سبيل ال ضعفا وخورا وجبنا‪ ،‬هذا الصحيح‪.‬‬

‫وقيل معناه‪ :‬ليبطئن غيرَه أي‪ :‬يزهده عن القتال‪ ،‬وهؤلء هم المنافقون‪ ،‬ولكن الول أَولى‬
‫لوجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬قوله { مِ ْنكُمْ } والخطاب للمؤمنين‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬قوله في آخر الية‪ { :‬كَأَنْ َلمْ َتكُنْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَهُ َموَ ّدةٌ } فإن الكفار من المشركين والمنافقين‬
‫قد قطع ال بينهم وبين المؤمنين المودة‪ .‬وأيضا فإن هذا هو الواقع‪ ،‬فإن المؤمنين على قسمين‪:‬‬

‫صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد‪.‬‬

‫وضعفاء دخلوا في السلم فصار معهم إيمان ضعيف ل يقوى على الجهاد‪.‬‬

‫كما قال تعالى‪ { :‬قَاَلتِ الْأَعْرَابُ آمَنّا ُقلْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا وََلكِنْ قُولُوا أَسَْلمْنَا } إلى آخر اليات‪ .‬ثم ذكر‬
‫غايات هؤلء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم‪ ،‬وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال‪ { :‬فَإِنْ َأصَابَ ْتكُمْ‬
‫ُمصِيبَةٌ } أي‪ :‬هزيمة وقتل‪ ،‬وظفر العداء عليكم في بعض الحوال لما ل في ذلك من الحكم‪.‬‬
‫شهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن‬
‫{ قَالَ } ذلك المتخلف { قَدْ أَ ْن َعمَ اللّهُ عََليّ ِإذْ َلمْ َأكُنْ َم َعهُمْ َ‬
‫التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة‪ .‬ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه‬
‫الطاعة الكبيرة‪ ،‬التي بها يقوى اليمان‪ ،‬ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران‪ ،‬ويحصل له فيها‬
‫عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب‪.‬‬
‫وأما القعود فإنه وإن استراح قليلً‪ ،‬فإنه يعقبه تعب طويل وآلم عظيمة‪ ،‬ويفوته ما يحصل‬
‫للمجاهدين‪.‬‬

‫ضلٌ مِنَ اللّهِ } أي‪ :‬نصر وغنيمة { لَ َيقُولَنّ كَأَنْ َلمْ َتكُنْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَهُ َموَ ّدةٌ‬
‫ثم قال‪ { :‬وَلَئِنْ َأصَا َبكُمْ َف ْ‬
‫يَا لَيْتَنِي كُ ْنتُ َم َعهُمْ فََأفُوزَ َفوْزًا عَظِيمًا } أي‪ :‬يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم‪ ،‬ليس له رغبة‬
‫ول قصد في غير ذلك‪ ،‬كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ول بينكم وبينه المودة اليمانية التي‬
‫من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم‪ ،‬يفرحون بحصولها ولو‬
‫على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها‪ ،‬ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به‬
‫دينهم ودنياهم‪ ،‬فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط‪ ،‬ليست معه الروح اليمانية المذكورة‪.‬‬

‫ومن لطف ال بعباده أن ل يقطع عنهم رحمته‪ ،‬ول يغلق عنهم أبوابها‪ .‬بل من حصل منه غير ما‬
‫يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه‪ ،‬فلهذا أمر هؤلء بالخلص والخروج في سبيله‬
‫فقال‪ { :‬فَلْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا بِالْآخِ َرةِ } هذا أحد القوال في هذه الية‬
‫وهو أصحها‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن معناه‪ :‬فليقاتل في سبيل ال المؤمنون الكاملو اليمان‪ ،‬الصادقون في إيمانهم { الّذِينَ‬
‫يَشْرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا بِالْآخِ َرةِ } أي‪ :‬يبيعون الدنيا رغبة عنها بالخرة رغبة فيها‪.‬‬

‫فإن هؤلء الذين يوجه إليهم الخطاب لنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطّنوها على جهاد العداء‪،‬‬
‫لما معهم من اليمان التام المقتضي لذلك‪.‬‬

‫وأما أولئك المتثاقلون‪ ،‬فل يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا‪ ،‬فيكون هذا نظير قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ آمِنُوا بِهِ‬
‫َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ سُجّدًا } إلى آخر اليات‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلَاءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َق ْومًا لَ ْيسُوا ِبهَا ِبكَافِرِينَ } وقيل‪ :‬إن معنى الية‪ :‬فليقاتل‬
‫المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالخرة‪ ،‬فيكون على هذا الوجه "الذين" في‬
‫محل نصب على المفعولية‪.‬‬

‫{ َومَنْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } بأن يكون جهادا قد أمر ال به ورسوله‪ ،‬ويكون العبد مخلصا ل فيه‬
‫س ْوفَ ُنؤْتِيهِ َأجْرًا عَظِيمًا } زيادة في إيمانه ودينه‪ ،‬وغنيمة‪،‬‬
‫قاصدا وجه ال‪ { .‬فَ ُيقْ َتلْ َأوْ َيغِْلبْ فَ َ‬
‫وثناء حسنا‪ ،‬وثواب المجاهدين في سبيل ال الذين أعد ال لهم في الجنة ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫ل وَالنّسَا ِء وَا ْلوِلْدَانِ الّذِينَ‬
‫ض َعفِينَ مِنَ الرّجَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 75‬ومَا َل ُكمْ لَا ُتقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمُسْ َت ْ‬
‫جعَل لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ‬
‫جعَل لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ وَلِيّا وَا ْ‬
‫َيقُولُونَ رَبّنَا َأخْرِجْنَا مِنْ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهُْلهَا وَا ْ‬
‫َنصِيرًا }‬

‫هذا حث من ال لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله‪ ،‬وأن ذلك قد تعين عليهم‪،‬‬
‫وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا َلكُمْ لَا ُتقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } والحال أن‬
‫المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين ل يستطيعون حيلة ول يهتدون سبيلً‪ ،‬ومع هذا‬
‫فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم‪ ،‬فهم يدعون ال أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لنفسهم‬
‫بالكفر والشرك‪ ،‬وللمؤمنين بالذى والصد عن سبيل ال‪ ،‬ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة‪.‬‬

‫ويدعون ال أن يجعل لهم وليّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها‪ ،‬فصار جهادكم على‬
‫هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلتكم وأولدكم ومحارمكم‪ ،‬ل من باب الجهاد الذي هو‬
‫الطمع في الكفار‪ ،‬فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلم المتخلف عنه أعظم اللوم‪ ،‬فالجهاد الذي فيه‬
‫استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة‪ ،‬بحيث يكون من باب دفع العداء‪.‬‬

‫{ ‪ } 76‬ثم قال‪ { :‬الّذِينَ آمَنُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ كَفَرُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ‬
‫ضعِيفًا }‬
‫ن َ‬
‫َفقَاتِلُوا َأوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَا َ‬

‫هذا إخبار من ال بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله { وَالّذِينَ َكفَرُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ }‬
‫الذي هو الشيطان‪ .‬في ضمن ذلك عدة فوائد‪:‬‬

‫منها‪ :‬أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل ال‪ ،‬وإخلصه ومتابعته‪ .‬فالجهاد في سبيل ال‬
‫من آثار اليمان ومقتضياته ولوازمه‪ ،‬كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر‬
‫ومقتضياته‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الذي يقاتل في سبيل ال ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما ل يقوم به غيره‪،‬‬
‫فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل‪ ،‬فأهل الحق أولى بذلك‪ ،‬كما قال‬
‫ن وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَا يَرْجُونَ‬
‫تعالى في هذا المعنى‪ { :‬إِنْ َتكُونُوا تَ ْأَلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُو َ‬
‫} الية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الذي يقاتل في سبيل ال معتمد على ركن وثيق‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬والتوكل على ال‪.‬‬
‫فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما ل يطلب ممن يقاتل عن‬
‫الباطل‪ ،‬الذي ل حقيقة له ول عاقبة حميدة‪ .‬فلهذا قال تعالى‪َ { :‬فقَاتِلُوا َأوْلِيَاءَ الشّ ْيطَانِ إِنّ كَيْدَ‬
‫ضعِيفًا }‬
‫ن َ‬
‫الشّ ْيطَانِ كَا َ‬

‫والكيد‪ :‬سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو‪ ،‬فالشيطان وإن بلغ َمكْ ُر ُه مهما بلغ فإنه في غاية‬
‫الضعف‪ ،‬الذي ل يقوم لدنى شيء من الحق ول لكيد ال لعباده المؤمنين‪.‬‬

‫{ ‪ { } 78 ، 77‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ َلهُمْ ُكفّوا أَيْدِ َيكُمْ وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ فََلمّا كُ ِتبَ‬
‫شوْنَ النّاسَ َكخَشْيَةِ اللّهِ َأوْ َأشَدّ خَشْيَةً َوقَالُوا رَبّنَا ِلمَ كَتَ ْبتَ عَلَيْنَا‬
‫عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ َيخْ َ‬
‫ل وَالْآخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى وَلَا ُتظَْلمُونَ فَتِيلًا *‬
‫جلٍ قَرِيبٍ ُقلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِي ٌ‬
‫ا ْلقِتَالَ َلوْلَا َأخّرْتَنَا إِلَى أَ َ‬
‫أَيْ َنمَا َتكُونُوا ُيدْ ِر ُككُمُ ا ْل َم ْوتُ وََلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ }‬

‫كان المسلمون ‪-‬إذ كانوا بمكة‪ -‬مأمورين بالصلة والزكاة أي‪ :‬مواساة الفقراء‪ ،‬ل الزكاة‬
‫المعروفة ذات النصب والشروط‪ ،‬فإنها لم تفرض إل بالمدينة‪ ،‬ولم يؤمروا بجهاد العداء لعدة‬
‫فوائد‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه ل يشق عليهم؛ ويبدأ بالهم‬
‫فالهم‪ ،‬والسهل فالسهل‪.‬‬

‫عدَدِهِم وعُدَ ِدهِم وكثرة أعدائهم‪ -‬لدى ذلك إلى‬


‫ومنها‪ :‬أنه لو فرض عليهم القتال ‪-‬مع قلة َ‬
‫حكَم‪.‬‬
‫اضمحلل السلم‪ ،‬فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من ال ِ‬

‫وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال‪ ،‬غير اللئق فيها ذلك‪ ،‬وإنما‬
‫اللئق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلة والزكاة ونحو ذلك كما قال‬
‫تعالى‪ { :‬وََلوْ أَ ّن ُهمْ َفعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وََأشَدّ تَثْبِيتًا } فلما هاجروا إلى المدينة‬
‫وقوي السلم‪ ،‬كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك‪ ،‬فقال فريق من الذين يستعجلون القتال‬
‫قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا‪ { :‬رَبّنَا لِمَ كَتَ ْبتَ عَلَيْنَا ا ْلقِتَالَ } ؟ وفي هذا تضجرهم‬
‫واعتراضهم على ال‪ ،‬وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال‪ ،‬التسليم لمر ال والصبر على‬
‫جلٍ قَرِيبٍ } أي‪ :‬هلّا أخرت فرض‬
‫أوامره‪ ،‬فعكسوا المر المطلوب منهم فقالوا‪َ { :‬لوْلَا َأخّرْتَنَا إِلَى َأ َ‬
‫القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر‪ ،‬وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين‬
‫واستعجل في المور قبل وقتها‪ ،‬فالغالب عليه أنه ل يصبر عليها وقت حلولها ول ينوء بحملها‪،‬‬
‫بل يكون قليل الصبر‪ .‬ثم إن ال وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال‪ُ { :‬قلْ‬
‫ل وَالْآخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى } أي‪ :‬التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل‪ ،‬فتحمل الثقال في‬
‫مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِي ٌ‬
‫طاعة ال في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لنها إذا علمت أن المشقة التي‬
‫تنالها ل يطول لبثها هان عليها ذلك‪ ،‬فكيف إذا وازنت بين الدنيا والخرة‪ ،‬وأن الخرة خير منها‪،‬‬
‫في ذاتها‪ ،‬ولذاتها وزمانها‪ ،‬فذاتها ‪-‬كما ذكر النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الثابت عنه‪-‬‬
‫"أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" ‪ .‬ولذاتها صافية عن المكدرات‪ ،‬بل كل ما‬
‫خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة‪ ،‬فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى‪ { :‬فَلَا َتعْلَمُ َنفْسٌ‬
‫خ ِفيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ } وقال ال على لسان نبيه‪" :‬أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت‪،‬‬
‫مَا أُ ْ‬
‫ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر" ‪.‬‬

‫وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع‬
‫اللم والهموم والغموم‪ ،‬لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫وأما زمانها‪ ،‬فإن الدنيا منقضية‪ ،‬وعمر النسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير‪ ،‬وأما الخرة فإنها‬
‫دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها‪ ،‬فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق‬
‫التصور‪ ،‬عرف ما هو أحق باليثار‪ ،‬والسعي له والجتهاد لطلبه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَالْآخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ‬
‫ا ّتقَى } أي‪ :‬اتقى الشرك‪ ،‬وسائر المحرمات‪ { .‬وَلَا تُظَْلمُونَ فَتِيلًا } أي‪ :‬فسعيكم للدار الخرة‬
‫ل موفرًا غير منقوص منه شيئًا‪.‬‬
‫ستجدونه كام ً‬

‫ثم أخبر أنه ل يغني حذر عن قدر‪ ،‬وأن القاعد ل يدفع عنه قعوده شيئًا‪ ،‬فقال‪ { :‬أَيْ َنمَا َتكُونُوا‬
‫يُدْ ِر ُككُمُ ا ْل َموْتُ } أي‪ :‬في أي زمان وأي مكان‪ { .‬وََلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ } أي‪ :‬قصور منيعة‬
‫ومنازل رفيعة‪ ،‬وكل هذا حث على الجهاد في سبيل ال تارة بالترغيب في فضله وثوابه‪ ،‬وتارة‬
‫بالترهيب من عقوبة تركه‪ ،‬وتارة بالخبار أنه ل ينفع القاعدين قعودُهم‪ ،‬وتارة بتسهيل الطريق في‬
‫ذلك وقصرها‪.‬‬

‫حسَنَةٌ َيقُولُوا هَ ِذهِ مِنْ عِ ْندِ اللّ ِه وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ َيقُولُوا هَ ِذهِ‬
‫{ ‪ } 80 - 78‬ثم قال‪ { :‬وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ َ‬
‫حسَنَةٍ َفمِنَ‬
‫حدِيثًا مَا َأصَا َبكَ مِنْ َ‬
‫مِنْ عِنْ ِدكَ ُقلْ ُكلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ َفمَالِ َهؤُلَاءِ ا ْل َقوْمِ لَا َيكَادُونَ َي ْف َقهُونَ َ‬
‫شهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرّسُولَ‬
‫سكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ َرسُولًا َو َكفَى بِاللّهِ َ‬
‫اللّ ِه َومَا َأصَا َبكَ مِنْ سَيّ َئةٍ َفمِنْ َنفْ ِ‬
‫حفِيظًا }‬
‫َفقَدْ أَطَاعَ اللّ َه َومَنْ َتوَلّى َفمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَ ْي ِهمْ َ‬

‫يخبر تعالى عن الذين ل يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل‪ ،‬المعارضين لهم أنهم إذا‬
‫جاءتهم حسنة أي‪ :‬خصب وكثرة أموال‪ ،‬وتوفر أولد وصحة‪ ،‬قالوا‪ { :‬هَ ِذهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } وأنهم‬
‫إن أصابتهم سيئة أي‪ :‬جدب وفقر‪ ،‬ومرض وموت أولد وأحباب قالوا‪ { :‬هَ ِذهِ مِنْ عِنْ ِدكَ } أي‪:‬‬
‫بسبب ما جئتنا به يا محمد‪ ،‬تطيروا برسول ال صلى ال عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل ال‪،‬‬
‫كما أخبر ال عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَِإذَا جَاءَ ْتهُمُ ا ْلحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَ ِذهِ وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ‬
‫سَيّئَةٌ يَطّيّرُوا ِبمُوسَى َومَنْ َمعَهُ }‬

‫ك وَ ِبمَنْ َم َعكَ }‬
‫وقال قوم صالح‪ { :‬قالوا اطّيّرْنَا ِب َ‬

‫جمَ ّنكُمْ } الية‪ .‬فلما تشابهت قلوبهم‬


‫وقال قوم ياسين لرسلهم‪ { :‬إِنّا تَطَيّرْنَا ِبكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْ َتهُوا لَنَ ْر ُ‬
‫بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم‪ .‬وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به‬
‫الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم‪.‬‬

‫قال ال في جوابهم‪ُ { :‬قلْ ُكلّ } أي‪ :‬من الحسنة والسيئة والخير والشر‪ { .‬مِنْ عِنْدِ اللّهِ } أي‪:‬‬
‫بقضائه وقدره وخلقه‪َ { .‬فمَا ل َهؤُلَاءِ ا ْلقَوْم } أي‪ :‬الصادر منهم تلك المقالة الباطلة‪ { .‬لَا َيكَادُونَ‬
‫َيفْ َقهُونَ حَدِيثًا } أي‪ :‬ل يفهمون حديثا بالكلية ول يقربون من فهمه‪ ،‬أو ل يفهمون منه إل فهمًا‬
‫ضعيفًا‪ ،‬وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن ال وعن رسوله‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫كفرهم وإعراضهم‪.‬‬

‫وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن ال وعن رسوله‪ ،‬والحث على ذلك‪ ،‬وعلى السباب المعينة‬
‫على ذلك‪ ،‬من القبال على كلمهما وتدبره‪ ،‬وسلوك الطرق الموصلة إليه‪ .‬فلو فقهوا عن ال‬
‫لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء ال وقدره‪ ،‬ل يخرج منها شيء عن ذلك‪.‬‬

‫وأن الرسل عليهم الصلة والسلم ل يكونون سببا لشر يحدث‪ ،‬هم ول ما جاءوا به لنهم بعثوا‬
‫بصلح الدنيا والخرة والدين‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬مَا َأصَا َبكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي‪ :‬في الدين والدنيا { َفمِنَ اللّهِ } هو الذي مَنّ بها‬
‫سكَ } أي‪ :‬بذنوبك‬
‫ويسرها بتيسير أسبابها‪َ { .‬ومَا َأصَا َبكَ مِنْ سَيّئَةٍ } في الدين والدنيا { َفمِنْ َنفْ ِ‬
‫وكسبك‪ ،‬وما يعفو ال عنه أكثر‪.‬‬

‫فال تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله‪ ،‬وأخبرهم أن المعاصي‬
‫مانعة من فضله‪ ،‬فإذا فعلها العبد فل يلومن إل نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل ال وبره‪.‬‬

‫ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم فقال‪ { :‬وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولًا‬
‫شهِيدًا } على أنك رسول ال حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين‬
‫َوكَفَى بِاللّهِ َ‬
‫شهِيدٌ‬
‫شهَا َدةً ُقلِ اللّهُ َ‬
‫شيْءٍ َأكْبَرُ َ‬
‫الساطعة‪ ،‬فهي أكبر شهادة على الطلق‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬قلْ َأيّ َ‬
‫بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ } فإذا علم أن ال تعالى كامل العلم‪ ،‬تام القدرة عظيم الحكمة‪ ،‬وقد أيد ال رسوله بما‬
‫أيده‪ ،‬ونصره نصرا عظيما‪ ،‬تيقن بذلك أنه رسول ال‪ ،‬وإل فلو تقول عليه بعض القاويل لخذ‬
‫منه باليمين‪ ،‬ثم لقطع منه الوتين‪.‬‬

‫حفِيظًا *‬
‫{ ‪ { } 81 - 80‬مَنْ ُيطِعِ الرّسُولَ َفقَدْ َأطَاعَ اللّ َه َومَنْ َتوَلّى َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫ل وَاللّهُ َيكْ ُتبُ مَا يُبَيّتُونَ‬
‫وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَِإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْ ِدكَ بَ ّيتَ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ غَيْرَ الّذِي َتقُو ُ‬
‫فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُ ْم وَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ َوكَفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا }‬

‫أي‪ :‬كل مَنْ أطاع رسول ال في أوامره ونواهيه { َفقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } تعالى لكونه ل يأمر ول ينهى‬
‫إل بأمر ال وشرعه ووحيه وتنزيله‪ ،‬وفي هذا عصمة الرسول صلى ال عليه وسلم لن ال أمر‬
‫بطاعته مطلقا‪ ،‬فلول أنه معصوم في كل ما يُبَلّغ عن ال لم يأمر بطاعته مطلقا‪ ،‬ويمدح على ذلك‪.‬‬
‫وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلثة‪:‬‬

‫حق ل تعالى ل يكون لحد من الخلق‪ ،‬وهو عبادة ال والرغبة إليه‪ ،‬وتوابع ذلك‪.‬‬

‫وقسم مختص بالرسول‪ ،‬وهو التعزير والتوقير والنصرة‪.‬‬

‫وقسم مشترك‪ ،‬وهو اليمان بال ورسوله ومحبتهما وطاعتهما‪ ،‬كما جمع ال بين هذه الحقوق في‬
‫قوله‪ { :‬لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُوِل ِه وَ ُتعَزّرُو ُه وَ ُت َوقّرُو ُه وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا } فمَنْ أطاع الرسول فقد‬
‫أطاع ال‪ ،‬وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة ال { َومَنْ َتوَلّى } عن طاعة ال ورسوله‬
‫حفِيظًا } أي‪ :‬تحفظ أعمالهم‬
‫فإنه ل يضر إل نفسه‪ ،‬ول يضر ال شيئًا { َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫وأحوالهم‪ ،‬بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا‪ ،‬وقد أديت وظيفتك‪ ،‬ووجب أجرك على ال‪ ،‬سواء‬
‫ستَ عَلَ ْيهِمْ ِب ُمصَيْطِرٍ } الية‪.‬‬
‫اهتدوا أم لم يهتدوا‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬ف َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ لَ ْ‬

‫ول بد أن تكون طاعة ال ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب‪ .‬فأما مَنْ يظهر في‬
‫الحضرة والطاعة واللتزام فإذا خل بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها‪ ،‬فإن‬
‫الطاعة التي أظهرها غير نافعة ول مفيدة‪ ،‬وقد أشبه من قال ال فيهم‪ { :‬وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي‪:‬‬
‫يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك‪ { .‬فَِإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْ ِدكَ } أي‪ :‬خرجوا وخلوا في حالة ل يطلع‬
‫فيها عليهم‪ { .‬بَ ّيتَ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ غَيْرَ الّذِي َتقُولُ } أي‪ :‬بيتوا ودبروا غير طاعتك ول ثَ ّم إل‬
‫المعصية‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬بَ ّيتَ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ غَيْرَ الّذِي َتقُولُ } دليل على أن المر الذي استقروا عليه غير‬
‫الطاعة؛ لن التبييت تدبير المر ليل على وجه يستقر عليه الرأي‪ ،‬ثم توعدهم على ما فعلوا فقال‪:‬‬
‫{ وَاللّهُ َيكْ ُتبُ مَا يُبَيّتُونَ } أي‪ :‬يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء‪ ،‬ففيه وعيد لهم‪.‬‬
‫ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالعراض وعدم التعنيف‪ ،‬فإنهم ل يضرونه شيئا إذا توكل على ال‬
‫واستعان به في نصر دينه‪ ،‬وإقامة شرعه‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُ ْم وَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ َوكَفَى‬
‫بِاللّ ِه َوكِيلًا }‬

‫ن وََلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }‬
‫{ ‪َ { } 82‬أفَلَا يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآ َ‬

‫يأمر تعالى بتدبر كتابه‪ ،‬وهو التأمل في معانيه‪ ،‬وتحديق الفكر فيه‪ ،‬وفي مبادئه وعواقبه‪ ،‬ولوازم‪،‬‬
‫ذلك فإن تدبر كتاب ال مفتاح للعلوم والمعارف‪ ،‬وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم‪،‬‬
‫وبه يزداد اليمان في القلب وترسخ شجرته‪ .‬فإنه يعرّف بالرب المعبود‪ ،‬وما له من صفات‬
‫الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص‪ ،‬ويعرّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها‪ ،‬وما لهم عند‬
‫القدوم عليه‪ ،‬ويعرّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة‪ ،‬والطريق الموصلة إلى العذاب‪ ،‬وصفة‬
‫أهلها‪ ،‬وما لهم عند وجود أسباب العقاب‪.‬‬

‫وكلما ازداد العبد تأمل فيه ازداد علما وعمل وبصيرة‪ ،‬لذلك أمر ال بذلك وحث عليه وأخبر أنه‬
‫[هو] المقصود بإنزال القرآن‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لِيَدّبّرُوا آيَاتِ ِه وَلِيَتَ َذكّرَ‬
‫أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى‪َ { :‬أفَلَا يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَالُهَا }‬

‫ومن فوائد التدبر لكتاب ال‪ :‬أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلم ال‪ ،‬لنه يراه‬
‫يصدق بعضه بعضا‪ ،‬ويوافق بعضه بعضا‪ .‬فترى الحكم والقصة والخبارات تعاد في القرآن في‬
‫عدة مواضع‪ ،‬كلها متوافقة متصادقة‪ ،‬ل ينقض بعضها بعضا‪ ،‬فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من‬
‫عند من أحاط علمه بجميع المور‪ ،‬فلذلك قال تعالى‪ { :‬وََلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُوا فِيهِ‬
‫اخْتِلَافًا كَثِيرًا } أي‪ :‬فلما كان من عند ال لم يكن فيه اختلف أصلً‪.‬‬

‫خ ْوفِ أَذَاعُوا ِب ِه وََلوْ َردّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُولِي الَْأمْرِ‬


‫{ ‪ { } 83‬وَإِذَا جَاءَهُمْ َأمْرٌ مِنَ الَْأمْنِ َأوِ الْ َ‬
‫حمَتُهُ لَاتّ َبعْ ُتمُ الشّ ْيطَانَ إِلّا قَلِيلًا }‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُ ْم وََلوْلَا َف ْ‬

‫هذا تأديب من ال لعباده عن فعلهم هذا غير اللئق‪ .‬وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من المور‬
‫المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالمن وسرور المؤمنين‪ ،‬أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن‬
‫يتثبتوا ول يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر‪ ،‬بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي المر منهم‪ ،‬أهلِ‬
‫الرأي‪ :‬والعلم والنصح والعقل والرزانة‪ ،‬الذين يعرفون المور ويعرفون المصالح وضدها‪ .‬فإن‬
‫رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك‪ .‬وإن رأوا‬
‫أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته‪ ،‬لم يذيعوه‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ َلعَِلمَهُ الّذِينَ َيسْتَنْبِطُونَهُ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة‪.‬‬

‫وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من المور ينبغي أن يولّى مَنْ هو‬
‫أهل لذلك ويجعل إلى أهله‪ ،‬ول يتقدم بين أيديهم‪ ،‬فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلمة من‬
‫الخطأ‪ .‬وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر المور من حين سماعها‪ ،‬والمر بالتأمل قبل الكلم‬
‫والنظر فيه‪ ،‬هل هو مصلحة‪ ،‬ف ُيقْدِم عليه النسان؟ أم ل‪،‬فيحجم عنه؟‬

‫حمَتُهُ } أي‪ :‬في توفيقكم وتأديبكم‪ ،‬وتعليمكم ما لم تكونوا‬


‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وََلوْلَا َف ْ‬
‫تعلمون‪ { ،‬لَاتّ َبعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلّا قَلِيلًا } لن النسان بطبعه ظالم جاهل‪ ،‬فل تأمره نفسه إل بالشر‪.‬‬
‫فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك‪ ،‬لطف به ربه ووفقه لكل خير‪ ،‬وعصمه من‬
‫الشيطان الرجيم‪.‬‬

‫عسَى اللّهُ أَنْ َي ُكفّ بَأْسَ الّذِينَ‬


‫سكَ َوحَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ‬
‫{ ‪ { } 84‬فَقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا ُتكَّلفُ إِلّا َنفْ َ‬
‫َكفَرُوا وَاللّهُ َأشَدّ بَ ْأسًا وَأَشَدّ تَ ْنكِيلًا }‬

‫هذه الحالة أفضل أحوال العبد‪ ،‬أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر ال من الجهاد وغيره‪،‬‬
‫ويحرض غيره عليه‪ ،‬وقد يعدم في العبد المران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله‪َ { :‬فقَاتِلْ فِي سَبِيلِ‬
‫سكَ } أي‪ :‬ليس لك قدرة على غير نفسك‪ ،‬فلن تكلف بفعل غيرك‪ { .‬وَحَ ّرضِ‬
‫اللّهِ لَا ُتكَّلفُ ِإلّا َنفْ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } على القتال‪ ،‬وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم‪ ،‬من تقويتهم‬
‫والخبار بضعف العداء وفشلهم‪ ،‬وبما أُعد للمقاتلين من الثواب‪ ،‬وما على المتخلفين من العقاب‪،‬‬
‫فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال‪.‬‬

‫عسَى اللّهُ أَنْ َي ُكفّ بَأْسَ الّذِينَ َكفَرُوا } أي‪ :‬بقتالكم في سبيل ال‪ ،‬وتحريض بعضكم بعضًا‪.‬‬
‫{ َ‬
‫شدّ بَأْسًا } أي‪ :‬قوة وعزة { وَأَشَدّ تَ ْنكِيلًا } بالمذنب في نفسه‪ ،‬وتنكيل لغيره‪ ،‬فلو شاء تعالى‬
‫{ وَاللّهُ أَ َ‬
‫لنتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية‪.‬‬

‫ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد‪ ،‬ويحصل اليمان النافع‪ ،‬إيمان‬
‫الختيار‪ ،‬ل إيمان الضطرار والقهر الذي ل يفيد شيئا‪.‬‬

‫شفَاعَةً سَيّئَةً َيكُنْ لَهُ ِك ْفلٌ مِ ْنهَا‬


‫شفَعْ َ‬
‫شفَاعَةً حَسَنَةً َيكُنْ لَهُ َنصِيبٌ مِ ْنهَا َومَنْ يَ ْ‬
‫شفَعْ َ‬
‫{ ‪ { } 85‬مَنْ يَ ْ‬
‫شيْءٍ ُمقِيتًا }‬
‫َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫المراد بالشفاعة هنا‪ :‬المعاونة على أمر من المور‪ ،‬فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور‬
‫الخير ‪-‬ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم‪ -‬كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله‬
‫ونفعه‪ ،‬ول ينقص من أجر الصيل والمباشر شيء‪ ،‬ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان‬
‫عليه كفل من الثم بحسب ما قام به وعاون عليه‪ .‬ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر‬
‫والتقوى‪ ،‬والزجر العظيم عن التعاون على الثم والعدوان‪ ،‬وقرر ذلك بقوله‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ‬
‫شيْءٍ ُمقِيتًا } أي‪ :‬شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه العمال‪ ،‬فيجازي كُلّا ما يستحقه‪.‬‬
‫َ‬

‫شيْءٍ حَسِيبًا }‬
‫{ ‪ { } 86‬وَإِذَا حُيّي ُتمْ بِ َتحِيّةٍ فَحَيّوا بَِأحْسَنَ مِ ْنهَا َأوْ ُردّوهَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ‬

‫التحية هي‪ :‬اللفظ الصادر من أحد المتلقيين على وجه الكرام والدعاء‪ ،‬وما يقترن بذلك اللفظ من‬
‫البشاشة ونحوها‪.‬‬

‫وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع‪ ،‬من السلم ابتداء وردّا‪ .‬فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا‬
‫بأي تحية كانت‪ ،‬أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة‪ ،‬أو مثلها في ذلك‪ .‬ومفهوم ذلك النهي عن‬
‫عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها‪.‬‬

‫ويؤخذ من الية الكريمة الحث على ابتداء السلم والتحية من وجهين أحدهما‪:‬‬

‫أن ال أمر بردها بأحسن منها أو مثلها‪ ،‬وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن‪ ،‬كما‬
‫هو الصل في ذلك‪.‬‬

‫ويستثنى من عموم الية الكريمة من حيّا بحال غير مأمور بها‪ ،‬كـ "على مشتغل بقراءة‪ ،‬أو‬
‫استماع خطبة‪ ،‬أو مصلٍ ونحو ذلك" فإنه ل يطلب إجابة تحيته‪ ،‬وكذلك يستثنى من ذلك من أمر‬
‫الشارع بهجره وعدم تحيته‪ ،‬وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر‪ ،‬فإنه يهجر ول يُحيّا‪،‬‬
‫ول تُرد تحيته‪ ،‬وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى‪.‬‬

‫ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا‪ ،‬فإنه مأمور بردّها‬
‫وبأحسن منها‪ ،‬ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ‬
‫شيْءٍ حَسِيبًا } فيحفظ على العباد أعمالهم‪ ،‬حسنها وسيئها‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬ثم يجازيهم بما‬
‫َ‬
‫اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود‪.‬‬

‫ج َمعَ ّنكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِي ِه َومَنْ َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا }‬
‫{ ‪ { } 87‬اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ لَيَ ْ‬
‫يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه ل معبود ول مألوه إل هو‪ ،‬لكماله في ذاته وأوصافه‬
‫ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير‪ ،‬والنعم الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫وذلك يستلزم المر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية‪ .‬لكونه المستحق لذلك وحده‬
‫والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها‪ ،‬ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء‬
‫ج َمعَ ّنكُمْ } أي‪ :‬أولكم وآخِركم في مقام واحد‪.‬‬
‫وهو يوم القيامة‪ ،‬فقال‪ { :‬لَ َي ْ‬

‫في { َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ } أي‪ :‬ل شك ول شبهة بوجه من الوجوه‪ ،‬بالدليل العقلي والدليل‬
‫السمعي‪ ،‬فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الرض بعد موتها‪ ،‬ومن وجود النشأة الولى التي‬
‫وقوع الثانية َأوْلى منها بالمكان‪ ،‬ومن الحكمة التي تجزم بأن ال لم يخلق خلقه عبثًا‪ ،‬يحيون ثم‬
‫يموتون‪ .‬وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك‪ ،‬بل إقسامه عليه ولهذا قال‪َ { :‬ومَنْ‬
‫َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا } كذلك أمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من‬
‫عمِلْ ُتمْ‬
‫القرآن‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬زَعَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ لَنْ يُ ْبعَثُوا ُقلْ بَلَى وَرَبّي لَتُ ْبعَثُنّ ثُمّ لَتُنَ ّبؤُنّ ِبمَا َ‬
‫وَذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ }‬

‫وفي قوله‪َ { :‬ومَنْ َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا } { َومَنْ َأصْ َدقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا } إخبار بأن حديثه وأخباره‬
‫وأقواله في أعلى مراتب الصدق‪ ،‬بل أعلها‪ .‬فكل ما قيل في العقائد [والعلوم] والعمال مما‬
‫يناقض ما أخبر ال به‪ ،‬فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين‪ ،‬فل يمكن أن يكون حقّا‪.‬‬

‫ضلّ‬
‫س ُهمْ ِبمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ َتهْدُوا مَنْ َأ َ‬
‫ن وَاللّهُ أَ ْركَ َ‬
‫{ ‪َ { } 91 - 88‬فمَا َلكُمْ فِي ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِئَتَيْ ِ‬
‫سوَاءً فَلَا تَتّخِذُوا‬
‫جدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُوا فَ َتكُونُونَ َ‬
‫اللّ ُه َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ فَلَنْ تَ ِ‬
‫خذُوا‬
‫جدْ ُتمُوهُ ْم وَلَا تَتّ ِ‬
‫ث وَ َ‬
‫مِ ْنهُمْ َأوْلِيَاءَ حَتّى ُيهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ َتوَّلوْا َفخُذُوهُ ْم وَاقْتُلُو ُهمْ حَ ْي ُ‬
‫حصِ َرتْ‬
‫مِ ْنهُ ْم وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا * إِلّا الّذِينَ َيصِلُونَ إِلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ َأوْ جَاءُوكُمْ َ‬
‫طهُمْ عَلَ ْيكُمْ فََلقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَ َزلُوكُمْ فَلَمْ‬
‫صُدُورُهُمْ أَنْ ُيقَاتِلُوكُمْ َأوْ ُيقَاتِلُوا َق ْومَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَسَلّ َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ َل ُكمْ عَلَ ْيهِمْ سَبِيلًا * سَ َتجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَ ْأمَنُوكُمْ‬
‫ُيقَاتِلُوكُ ْم وَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ َفمَا َ‬
‫وَيَ ْأمَنُوا َق ْو َمهُمْ كُّلمَا رُدّوا إِلَى ا ْلفِتْنَةِ أُ ْر ِكسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ َيعْتَزِلُوكُ ْم وَيُ ْلقُوا إِلَ ْي ُكمُ السَّل َم وَ َي ُكفّوا أَيْدِ َي ُهمْ‬
‫جعَلْنَا َلكُمْ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا }‬
‫خذُوهُ ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَأُولَ ِئكُمْ َ‬
‫فَ ُ‬

‫المراد بالمنافقين المذكورين في هذه اليات‪ :‬المنافقون المظهرون إسلمهم‪ ،‬ولم يهاجروا مع‬
‫كفرهم‪ ،‬وكان قد وقع بين الصحابة رضوان ال عليهم فيهم اشتباه‪ ،‬فبعضهم تحرج عن قتالهم‪،‬‬
‫وقطع موالتهم بسبب ما أظهروه من اليمان‪ ،‬وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم‪.‬‬
‫فأخبرهم ال تعالى أنه ل ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ول تشكوا‪ ،‬بل أمرهم واضح غير مشكل‪،‬‬
‫إنهم منافقون قد تكرر كفرهم‪ ،‬وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم‪ .‬فإذا تحققتم ذلك منهم { فَلَا‬
‫خذُوا مِ ْنهُمْ َأوْلِيَاءَ } وهذا يستلزم عدم محبتهم لن الولية فرع المحبة‪.‬‬
‫تَتّ ِ‬

‫ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لن النهي عن الشيء أمر بضده‪ ،‬وهذا المر موقت بهجرتهم‬
‫فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين‪ ،‬كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يجري‬
‫أحكام السلم لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه‪ ،‬وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر اليمان‪.‬‬

‫ث وَجَدْ ُتمُوهُمْ } أي‪ :‬في أي وقت وأي‬


‫خذُوهُ ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْي ُ‬
‫وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها { فَ ُ‬
‫محل كان‪ ،‬وهذا من جملة الدلة الدالة على نسخ القتال في الشهر الحرم‪ ،‬كما هو قول جمهور‬
‫العلماء‪ ،‬والمنازعون يقولون‪ :‬هذه نصوص مطلقة‪ ،‬محمولة على تقييد التحريم في الشهر الحرم‪.‬‬

‫ثم إن ال استثنى من قتال هؤلء المنافقين ثلث فِرَق‪:‬‬

‫فرقتين أمر بتركهم وحتّم [على] ذلك‪ ،‬إحداهما من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد‬
‫وميثاق بترك القتال فينضم إليهم‪ ،‬فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال‪.‬‬

‫ت صُدُورُهُمْ أَنْ ُيقَاتِلُوكُمْ َأوْ ُيقَاتِلُوا َق ْو َمهُمْ } أي‪ :‬بقوا‪ ،‬ل تسمح أنفسهم‬
‫حصِ َر ْ‬
‫والفرقة الثانية قوم { َ‬
‫بقتالكم‪ ،‬ول بقتال قومهم‪ ،‬وأحبوا ترك قتال الفريقين‪ ،‬فهؤلء أيضا أمر بتركهم‪ ،‬وذكر الحكمة في‬
‫ط ُهمْ عَلَ ْيكُمْ فََلقَاتَلُوكُمْ } فإن المور الممكنة ثلثة أقسام‪:‬‬
‫ذلك في قوله‪ { :‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَسَلّ َ‬

‫إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم‪ ،‬وهذا متعذر من هؤلء‪ ،‬فدار المر بين قتالكم مع قومهم‬
‫وبين ترك قتال الفريقين‪ ،‬وهو أهون المرين عليكم‪ ،‬وال قادر على تسليطهم عليكم‪ ،‬فاقبلوا‬
‫العافية‪ ،‬واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك‪.‬‬

‫ج َعلَ اللّهُ َل ُكمْ عَلَ ْيهِمْ سَبِيلًا }‬


‫فـهؤلء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فََلمْ ُيقَاتِلُوكُمْ وَأَلْ َقوْا إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ َفمَا َ‬

‫الفرقة الثالثة‪ :‬قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم‪ ،‬وهم الذين قال ال فيهم‪:‬‬
‫جدُونَ آخَرِينَ } أي‪ :‬من هؤلء المنافقين‪ { .‬يُرِيدُونَ أَنْ يَ ْأمَنُوكُمْ } أي‪ :‬خوفا منكم { وَيَ ْأمَنُوا‬
‫{ سَتَ ِ‬
‫َق ْومَهُمْ كُّلمَا ُردّوا إِلَى ا ْلفِتْنَةِ أُ ْركِسُوا فِيهَا } أي‪ :‬ل يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم‪ ،‬وكلما‬
‫عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم‪ ،‬وازداد كفرهم ونفاقهم‪،‬‬
‫وهؤلء في الصورة كالفرقة الثانية‪ ،‬وفي الحقيقة مخالفة لها‪.‬‬

‫فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم ل خوفا على أنفسهم‪ ،‬وأما هذه الفرقة فتركوه‬
‫خوفا ل احتراما‪ ،‬بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين‪ ،‬فإنهم مستعدون لنتهازها‪ ،‬فهؤلء إن‬
‫لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم‪ ،‬فإنهم يقاتلون‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ فَإِنْ َلمْ َيعْتَزِلُوكُ ْم وَيُ ْلقُوا إِلَ ْي ُكمُ السَّلمَ } أي‪ :‬المسالمة والموادعة { وَ َيكُفّوا أَيْدِ َيهُمْ فَخُذُو ُه ْم وَاقْتُلُوهُمْ‬
‫جعَلْنَا َلكُمْ عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانًا مُبِينًا } أي‪ :‬حجة بينة واضحة‪ ،‬لكونهم معتدين‬
‫حَ ْيثُ َث ِقفْتُمُوهُ ْم وَأُولَ ِئكُمْ َ‬
‫ظالمين لكم تاركين للمسالمة‪ ،‬فل يلوموا إل أنفسهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 92‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَنْ َيقْ ُتلَ ُم ْؤمِنًا إِلّا خَطًَأ َومَنْ قَ َتلَ ُم ْؤمِنًا خَطَأً فَ َتحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُم ْؤمِنَ ٍة وَدِ َيةٌ‬
‫مُسَّلمَةٌ إِلَى َأهْلِهِ إِلّا أَنْ َيصّ ّدقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ َقوْمٍ عَ ُدوّ َل ُك ْم وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُم ْؤمِنَ ٍة وَإِنْ‬
‫كَانَ مِنْ َقوْمٍ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ فَدِ َيةٌ مُسَّلمَةٌ إِلَى َأهْلِ ِه وَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ُم ْؤمِنَةٍ َفمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ‬
‫حكِيمًا }‬
‫شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ َتوْبَةً مِنَ اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫َ‬

‫هذه الصيغة من صيغ المتناع‪ ،‬أي‪ :‬يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن‪ ،‬أي‪ :‬متعمدا‪،‬‬
‫وفي هذا الخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف لليمان أشد منافاة‪ ،‬وإنما يصدر ذلك إما من كافر‪ ،‬أو‬
‫من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما‪ ،‬ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك‪ ،‬فإن اليمان الصحيح‬
‫يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد ال بينه وبينه الخوة اليمانية التي من مقتضاها محبته‬
‫وموالته‪ ،‬وإزالة ما يعرض لخيه من الذى‪ ،‬وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدقه قوله صلى‬
‫ال عليه وسلم‪" :‬ل ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"‬

‫فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بال‪ .‬ولما كان قوله‪َ { :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ‬
‫أَنْ َيقْ ُتلَ ُم ْؤمِنًا } لفظا عاما لجميع الحوال‪ ،‬وأنه ل يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه‪ ،‬استثنى‬
‫خطَأً } فإن المخطئ الذي ل يقصد القتل غير آثم‪ ،‬ول مجترئ على‬
‫تعالى قتل الخطأ فقال‪ { :‬إِلّا َ‬
‫محارم ال‪ ،‬ولكنه لما كان قد فعل فعلً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى‬
‫خطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرّا أو عبدًا‪،‬‬
‫بالكفارة والدية فقال‪َ { :‬ومَنْ قَ َتلَ ُم ْؤمِنًا َ‬
‫صغيرًا أو كبيرًا‪ ،‬عاقلً أو مجنونًا‪ ،‬مسلمًا أو كافرًا‪ ،‬كما يفيده لفظ "مَنْ" الدالة على العموم وهذا‬
‫من أسرار التيان بـ "مَنْ" في هذا الموضع‪ ،‬فإن سياق الكلم يقتضي أن يقول‪ :‬فإن قتله‪ ،‬ولكن‬
‫هذا لفظ ل يشمل ما تشمله "مَنْ"‬

‫وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى‪ ،‬صغيرًا أو كبيرًا‪ ،‬كما يفيده التنكير في سياق الشرط‪ ،‬فإن على‬
‫القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك‪ ،‬تكون في ماله‪ ،‬ويشمل ذلك الصغير والكبير‪ ،‬والذكر‬
‫والنثى‪ ،‬والصحيح والمعيب‪ ،‬في قول بعض العلماء‪.‬‬

‫ولكن الحكمة تقتضي أن ل يجزئ عتق المعيب في الكفارة؛ لن المقصود بالعتق نفع العتيق‪،‬‬
‫وملكه منافع نفسه‪ ،‬فإذا كان يضيع بعتقه‪ ،‬وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه ل يجزئ عتقه‪ ،‬مع أن في‬
‫قوله‪ { :‬تحرير رقبة } ما يدل على ذلك؛ فإن التحرير‪ :‬تخليص من استحقت منافعه لغيره أن‬
‫تكون له‪ ،‬فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير‪ .‬فتأمل ذلك فإنه واضح‪.‬‬

‫وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد‪ { .‬مُسَّلمَةٌ ِإلَى َأهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم‪،‬‬
‫والمراد بأهله هنا هم ورثته‪ ،‬فإن الورثة يرثون ما ترك‪ ،‬الميت‪ ،‬فالدية داخلة فيما ترك وللدية‬
‫تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا أَنْ َيصّ ّدقُوا } أي‪ :‬يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية‪ ،‬فإنها تسقط‪ ،‬وفي ذلك حث‬
‫لهم على العفو لن ال سماها صدقة‪ ،‬والصدقة مطلوبة في كل وقت‪ { .‬فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ‬
‫َقوْمٍ عَ ُدوّ َلكُمْ } أي‪ :‬من كفار حربيين { وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُمؤْمِنَةٍ } أي‪ :‬وليس عليكم لهله‬
‫دية‪ ،‬لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم‪.‬‬

‫سّلمَةٌ إِلَى أَهِْل ِه وَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُم ْؤمِنَةٍ }‬


‫{ وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ َقوْمٍ بَيْ َن ُك ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ َفدِيَةٌ مُ َ‬
‫وذلك لحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق‪.‬‬

‫جدْ } الرقبة ول ثمنها‪ ،‬بأن كان معسرا بذلك‪ ،‬ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه‬
‫{ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ } أي‪ :‬ل يفطر بينهما من غير عذر‪ ،‬فإن‬
‫الصلية شيء يفي بالرقبة‪َ { ،‬فصِيَامُ َ‬
‫أفطر لعذر فإن العذر ل يقطع التتابع‪ ،‬كالمرض والحيض ونحوهما‪ .‬وإن كان لغير عذر انقطع‬
‫التتابع ووجب عليه استئناف الصوم‪.‬‬

‫{ َتوْبَةً مِنَ اللّهِ } أي‪ :‬هذه الكفارات التي أوجبها ال على القاتل توبة من ال على عباده ورحمة‬
‫بهم‪ ،‬وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز‪ ،‬كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ‪.‬‬

‫حكِيمًا } أي‪ :‬كامل العلم كامل الحكمة‪ ،‬ل يخفى عليه مثقال ذرة في الرض ول‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫في السماء‪ ،‬ول أصغر من ذلك ول أكبر‪ ،‬في أي وقت كان وأي محل كان‪.‬‬

‫ول يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء‪ ،‬بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية‬
‫الحكمة‪ ،‬ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه‪ ،‬فإنه تسبب لعدام‬
‫نفس محترمة‪ ،‬وأخرجها من الوجود إلى العدم‪ ،‬فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية‬
‫للخلق إلى الحرية التامة‪ ،‬فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين‪ ،‬فأخرج نفسه من رق‬
‫الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته البدية إلى التعبد ل تعالى بتركها تقربا إلى‬
‫ال‪.‬‬
‫ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها‪ ،‬ولم يشرع الطعام في هذا‬
‫الموضع لعدم المناسبة‪ .‬بخلف الظهار‪ ،‬كما سيأتي إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ‪ ،‬لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل‬
‫باستعمال السباب العاصمة عن ذلك‪.‬‬

‫ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ‪ ،‬بإجماع العلماء‪ ،‬لكون القاتل لم يذنب فيشق‬
‫عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة‪ ،‬فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة‬
‫والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من‬
‫القتل حذرًا من تحميلهم] ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم‪ ،‬وخففت أيضا‬
‫بتأجيلها عليهم ثلث سنين‪.‬‬

‫ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم‪ ،‬بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل‪.‬‬

‫عذَابًا‬
‫ضبَ اللّهُ عَلَيْ ِه وََلعَنَ ُه وَأَعَدّ لَهُ َ‬
‫جهَنّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَ ِ‬
‫{ ‪َ { } 93‬ومَنْ َيقْ ُتلْ ُمؤْمِنًا مُ َت َعمّدًا َفجَزَا ُؤهُ َ‬
‫عَظِيمًا }‬

‫تقدم أن ال أخبر أنه ل يصدر قتل المؤمن من المؤمن‪ ،‬وأن القتل من الكفر العملي‪ ،‬وذكر هنا‬
‫وعيد القاتل عمدا‪ ،‬وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الفئدة‪ ،‬وتنزعج منه أولو العقول‪.‬‬

‫فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد‪ ،‬بل ول مثله‪ ،‬أل وهو الخبار بأن جزاءه جهنم‪،‬‬
‫أي‪ :‬فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم‪ ،‬بما فيها من العذاب العظيم‪،‬‬
‫والخزي المهين‪ ،‬وسخط الجبار‪ ،‬وفوات الفوز والفلح‪ ،‬وحصول الخيبة والخسار‪ .‬فعياذًا بال من‬
‫كل سبب يبعد عن رحمته‪.‬‬

‫وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد‪ ،‬على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار‪،‬‬
‫أو حرمان الجنة‪.‬‬

‫وقد اختلف الئمة رحمهم ال في تأويلها مع اتفاقهم على بطلن قول الخوارج والمعتزلة الذين‬
‫يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين‪ .‬والصواب في تأويلها ما قاله المام المحقق‪ :‬شمس الدين‬
‫بن القيم رحمه ال في "المدارج" فإنه قال ‪ -‬بعدما ذكر تأويلت الئمة في ذلك وانتقدها فقال‪:‬‬
‫وقالت فِرقَة‪ :‬هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة‪ ،‬ول يلزم من وجود مقتضي‬
‫الحكم وجوده‪ ،‬فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه‪.‬‬
‫وغاية هذه النصوص العلم بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها‪ ،‬وقد قام الدليل على ذكر الموانع‬
‫فبعضها بالجماع‪ ،‬وبعضها بالنص‪ .‬فالتوبة مانع بالجماع‪ ،‬والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة‬
‫التي ل مدفع لها‪ ،‬والحسنات العظيمة الماحية مانعة‪ ،‬والمصائب الكبار المكفرة مانعة‪ ،‬وإقامة‬
‫الحدود في الدنيا مانع بالنص‪ ،‬ول سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فل بد من إعمال النصوص‬
‫من الجانبين‪.‬‬

‫ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات‪ ،‬اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه‪ ،‬وإعمال‬
‫لرجحها‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما‪ .‬وعلى هذا بناء الحكام الشرعية والحكام‬
‫القدرية‪ ،‬وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود‪ ،‬وبه ارتباط السباب ومسبباتها خلقا وأمرا‪ ،‬وقد‬
‫جعل ال سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه‪ ،‬ويكون الحكم للغلب منهما‪.‬‬

‫فالقوة مقتضية للصحة والعافية‪ ،‬وفساد الخلط وبغيها مانع من عمل الطبيعة‪ ،‬وفعل القوة والحكم‬
‫للغالب منهما‪ ،‬وكذلك قوى الدوية والمراض‪ .‬والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب‪،‬‬
‫وأحدهما يمنع كمال تأثير الخر ويقاومه‪ ،‬فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له‪.‬‬

‫ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ول يدخل النار‪ ،‬وعكسه‪ ،‬ومَنْ يدخل النار ثم‬
‫يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه‪ .‬ومن‬
‫له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر ال به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله‪ ،‬حتى كأنه‬
‫يشاهده رأي عين‪.‬‬

‫ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه‪ ،‬وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلف ذلك‪،‬‬
‫ونسبة ذلك إليه نسبة ما ل يليق به إليه‪ ،‬فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى‬
‫بصره‪.‬‬

‫وهذا يقين اليمان‪ ،‬وهو الذي يحرق السيئات‪ ،‬كما تحرق النار الحطب‪ ،‬وصاحب هذا المقام من‬
‫اليمان يستحيل إصراره على السيئات‪ ،‬وإن وقعت منه وكثرت‪ ،‬فإن ما معه من نور اليمان‬
‫يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى ال في عدد أنفاسه‪ ،‬وهذا من أحب الخلق إلى ال‪.‬‬
‫انتهى كلمه قدس ال روحه‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خيرا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 94‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْ ُتمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلَا َتقُولُوا ِلمَنْ َأ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَامَ‬
‫ستَ ُم ْؤمِنًا تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َفعِنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ كَذَِلكَ كُنْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ‬
‫لَ ْ‬
‫فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا }‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في‬
‫جميع أمورهم المشتبهة‪ .‬فإن المور قسمان‪ :‬واضحة وغير واضحة‪ .‬فالواضحة البيّنة ل تحتاج‬
‫إلى تثبت وتبين‪ ،‬لن ذلك تحصيل حاصل‪ .‬وأما المور المشكلة غير الواضحة فإن النسان يحتاج‬
‫إلى التثبت فيها والتبين‪ ،‬ليعرف هل يقدم عليها أم ل؟‬

‫فإن التثبت في هذه المور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة‪ ،‬والكف لشرور عظيمة‪ ،‬ما به يعرف‬
‫دين العبد وعقله ورزانته‪ ،‬بخلف المستعجل للمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يؤدي إلى ما ل ينبغي‪ ،‬كما جرى لهؤلء الذين عاتبهم ال في الية لمـَا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم‬
‫عليهم‪ ،‬وكان معه غنيمة له أو مال غيره‪ ،‬ظنّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم‪ ،‬وكان هذا خطأ في نفس‬
‫ستَ ُم ْؤمِنًا تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ‬
‫المر‪ ،‬فلهذا عاتبهم بقوله‪ { :‬وَلَا َتقُولُوا ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَامَ لَ ْ‬
‫الدّنْيَا َفعِ ْندَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ } أي‪ :‬فل يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما ل ينبغي‬
‫فيفوتكم ما عند ال من الثواب الجزيل الباقي‪ ،‬فما عند ال خير وأبقى‪.‬‬

‫وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي‬
‫مضرة له‪ ،‬أن ُي َذكّرها ما أعد ال لمن نهى نفسه عن هواها‪ ،‬وقدّم مرضاة ال على رضا نفسه‪،‬‬
‫فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر ال‪ ،‬وإن شق ذلك عليها‪.‬‬

‫ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الولى‪ ،‬قبل هدايتهم إلى السلم‪َ { :‬كذَِلكَ كُنْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ‬
‫عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬فكما هداكم بعد ضللكم فكذلك يهدي غيركم‪ ،‬وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا‬
‫فشيئًا‪ ،‬فكذلك غيركم‪ .‬فنظر الكامل لحاله الولى الناقصة‪ ،‬ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى‬
‫ما يعرف من حاله الولى‪ ،‬ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة ‪ -‬من أكبر السباب لنفعه‬
‫وانتفاعه‪ ،‬ولهذا أعاد المر بالتبين فقال‪ { :‬فَتَبَيّنُوا }‬

‫فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل ال‪ ،‬ومجاهدة أعداء ال‪ ،‬وقد استعد بأنواع الستعداد لليقاع‬
‫بهم‪ ،‬مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلم‪ ،‬وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل‬
‫وخوفا على نفسه ‪ -‬فإن ذلك يدل على المر بالتبين والتثبت في كل الحوال التي يقع فيها نوع‬
‫اشتباه‪ ،‬فيتثبت فيها العبد‪ ،‬حتى يتضح له المر ويتبين الرشد والصواب‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلّا ما عمله ونواه‪ ،‬بحسب ما علمه من أحوال عباده‬
‫ونياتهم‪.‬‬
‫{ ‪ { } 96 - 95‬لَا َيسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَ ِر وَا ْلمُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫ج ًة َوكُلّا وَعَدَ اللّهُ‬
‫علَى ا ْلقَاعِدِينَ دَرَ َ‬
‫سهِمْ َ‬
‫ضلَ اللّهُ ا ْل ُمجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫سهِمْ َف ّ‬
‫بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫ح َم ًة َوكَانَ‬
‫ضلَ اللّهُ ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْ ُه َو َم ْغفِ َرةً وَرَ ْ‬
‫حسْنَى َو َف ّ‬
‫الْ ُ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا }‬
‫اللّهُ َ‬

‫أي‪ :‬ل يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء ال‪ ،‬ففيه‬
‫الحث على الخروج للجهاد‪ ،‬والترغيب في ذلك‪ ،‬والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير‬
‫عذر‪.‬‬

‫وأما أهل الضرر كالمريض والعمى والعرج والذي ل يجد ما يتجهز به‪ ،‬فإنهم ليسوا بمنزلة‬
‫القاعدين من غير عذر‪ ،‬فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده ل ينوي الخروج في سبيل ال‬
‫حدّث نفسه بذلك‪ ،‬فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر‪.‬‬
‫لول [وجود] المانع‪ ،‬ول يُ َ‬

‫حدّث به نفسه‪ ،‬فإنه‬


‫ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل ال لول وجود المانع يتمنى ذلك ويُ َ‬
‫بمنزلة من خرج للجهاد‪ ،‬لن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل‬
‫صاحبها منزلة الفاعل‪.‬‬

‫ثم صرّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة‪ ،‬أي‪ :‬الرفعة‪ ،‬وهذا تفضيل على وجه‬
‫الجمال‪ ،‬ثم صرح بذلك على وجه التفصيل‪ ،‬ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم‪ ،‬والرحمة التي‬
‫تشتمل على حصول كل خير‪ ،‬واندفاع كل شر‪.‬‬

‫والدرجات التي فصلها النبي صلى ال عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في "الصحيحين" أن في‬
‫الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والرض‪ ،‬أعدها ال للمجاهدين في سبيله‪.‬‬

‫وهذا الثواب الذي رتبه ال على الجهاد‪ ،‬نظير الذي في سورة الصف في قوله‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫عذَابٍ أَلِيمٍ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫آمَنُوا َهلْ أَ ُدّلكُمْ عَلَى تِجَا َرةٍ تُ ْنجِيكُمْ مِنْ َ‬
‫سكُمْ ذَِل ُكمْ خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ َي ْغفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُمْ وَيُدْخِ ْل ُكمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا‬
‫بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫الْأَ ْنهَا ُر َومَسَاكِنَ طَيّ َبةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ } إلى آخر السورة‪.‬‬

‫وتأمل حسن هذا النتقال من حالة إلى أعلى منها‪ ،‬فإنه نفى التسوية أول بين المجاهد وغيره‪ ،‬ثم‬
‫صرّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة‪ ،‬ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات‪.‬‬

‫وهذا النتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح‪ ،‬أو النزول من حالة إلى ما دونها‪،‬‬
‫عند القدح والذم ‪ -‬أحسن لفظا وأوقع في النفس‪.‬‬
‫وكذلك إذا فضّل تعالى شيئا على شيء‪ ،‬وكل منهما له فضل‪ ،‬احترز بذكر الفضل الجامع للمرين‬
‫حسْنَى }‬
‫لئل يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا‪َ { :‬وكُلّا وَعَدَ اللّهُ الْ ُ‬

‫وكما [قال تعالى] في اليات المذكورة في الصف في قوله‪ { :‬وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وكما في قوله‬
‫ح َوقَا َتلَ } أي‪ :‬ممن لم يكن كذلك‪.‬‬
‫تعالى‪ { :‬لَا يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْ ِ‬

‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا }‬


‫ن َوكُلّا آتَيْنَا ُ‬
‫ثم قال‪َ { :‬وكُلّا وَعَدَ اللّهُ ا ْلحُسْنَى } وكما قال تعالى‪َ { :‬ف َفهّمْنَاهَا سُلَ ْيمَا َ‬
‫فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الشخاص والطوائف والعمال أن يتفطن لهذه النكتة‪.‬‬

‫وكذلك لو تكلم في ذم الشخاص والمقالت ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض‪،‬‬
‫لئل يتوهم أن المفضّل قد حصل له الكمال‪ .‬كما إذا قيل‪ :‬النصارى خير من المجوس فليقل مع‬
‫ذلك‪ :‬وكل منهما كافر‪.‬‬

‫والقتل أشنع من الزنا‪ ،‬وكل منهما معصية كبيرة‪ ،‬حرمها ال ورسوله وزجر عنها‪.‬‬

‫ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين { ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } ختم هذا‬
‫غفُورًا َرحِيمًا }‬
‫الية بهما فقال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ َ‬

‫ض َعفِينَ فِي‬
‫سهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنّا مُسْ َت ْ‬
‫{ ‪ { } 99 - 97‬إِنّ الّذِينَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬
‫جهَنّ ُم وَسَا َءتْ َمصِيرًا * إِلّا‬
‫سعَةً فَ ُتهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَ ِئكَ مَ ْأوَا ُهمْ َ‬
‫الْأَ ْرضِ قَالُوا أَلَمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫ل وَالنّسَا ِء وَا ْلوِلْدَانِ لَا يَسْ َتطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا َيهْ َتدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَ ِئكَ عَسَى‬
‫ض َعفِينَ مِنَ الرّجَا ِ‬
‫ا ْلمُسْ َت ْ‬
‫غفُورًا }‬
‫عفُوّا َ‬
‫اللّهُ أَنْ َي ْعفُوَ عَ ْنهُ ْم َوكَانَ اللّهُ َ‬

‫هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات‪ ،‬فإن الملئكة الذين يقبضون روحه‬
‫يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم‪ ،‬ويقولون لهم‪ { :‬فِيمَ كُنْتُمْ } أي‪ :‬على أي حال كنتم؟ وبأي شيء‬
‫تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم‪ ،‬وربما ظاهرتموهم على المؤمنين‪ ،‬وفاتكم الخير الكثير‪،‬‬
‫والجهاد مع رسوله‪ ،‬والكون مع المسلمين‪ ،‬ومعاونتهم على أعدائهم‪.‬‬

‫ض َعفِينَ فِي الْأَرْض } أي‪ :‬ضعفاء مقهورين مظلومين‪ ،‬ليس لنا قدرة على الهجرة‪.‬‬
‫{ قَالُوا كُنّا مُسْ َت ْ‬
‫وهم غير صادقين في ذلك لن ال وبخهم وتوعدهم‪ ،‬ول يكلف ال نفسا إل وسعها‪ ،‬واستثنى‬
‫المستضعفين حقيقة‪.‬‬

‫س َعةً فَ ُتهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير‪ ،‬أي‪ :‬قد‬


‫ولهذا قالت لهم الملئكة‪ { :‬أَلَمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫تقرر عند كل أحد أن أرض ال واسعة‪ ،‬فحيثما كان العبد في محل ل يتمكن فيه من إظهار دينه‪،‬‬
‫فإن له متسعًا وفسحة من الرض يتمكن فيها من عبادة ال‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ‬
‫سعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ } قال ال عن هؤلء الذين ل عذر لهم‪ { :‬فَأُولَ ِئكَ مَ ْأوَا ُهمْ‬
‫آمَنُوا إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬
‫جهَنّمُ وَسَا َءتْ َمصِيرًا } وهذا كما تقدم‪ ،‬فيه ذكر بيان السبب الموجِب‪ ،‬فقد يترتب عليه مقتضاه‪،‬‬
‫َ‬
‫مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه‪ ،‬وقد يمنع من ذلك مانع‪.‬‬

‫وفي الية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات‪ ،‬وتركها من المحرمات‪ ،‬بل من الكبائر‪ ،‬وفي‬
‫الية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والجل والعمل‪ ،‬وذلك‬
‫مأخوذ من لفظ "التوفي" فإنه يدل على ذلك‪ ،‬لنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا‪.‬‬

‫وفيه اليمان بالملئكة ومدحهم‪ ،‬لن ال ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والستحسان‬
‫منهم‪ ،‬وموافقته لمحله‪.‬‬

‫ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة‪ ،‬الذين ل قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه { وَلَا‬
‫َيهْتَدُونَ سَبِيلًا }‬

‫غفُورًا } و "عسى" ونحوها‬


‫عفُوّا َ‬
‫عسَى اللّهُ أَنْ َيعْ ُفوَ عَ ْنهُ ْم َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫فهؤلء قال ال فيهم‪ { :‬فَأُولَ ِئكَ َ‬
‫واجب وقوعها من ال تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه‪ ،‬وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض‬
‫العمال فائدة‪ ،‬وهو أنه قد ل يوفيه حق توفيته‪ ،‬ول يعمله على الوجه اللئق الذي ينبغي‪ ،‬بل‬
‫يكون مقصرًا فل يستحق ذلك الثواب‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫وفي الية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور‪ ،‬كما قال‬
‫ج وَلَا عَلَى‬
‫ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ‬
‫عمَى حَرَ ٌ‬
‫تعالى في العاجزين عن الجهاد‪ { :‬لَ ْيسَ عَلَى الْأَ ْ‬
‫طعْتُمْ }‬
‫ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ } وقال في عموم الوامر‪ { :‬فَا ّتقُوا اللّهَ مَا اسْ َت َ‬

‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولكن ل يعذر النسان إل‬
‫إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله‪ { :‬لَا يَسْ َتطِيعُونَ حِيلَةً } وفي الية تنبيه على أن‬
‫الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الستطاعة‪.‬‬

‫سعَ ًة َومَنْ َيخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ‬


‫غمًا كَثِيرًا وَ َ‬
‫{ ‪َ { } 100‬ومَنْ ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الْأَ ْرضِ مُرَا َ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا }‬
‫ُمهَاجِرًا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْ ِركْهُ ا ْل َموْتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلَى اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب‪ ،‬وبيان ما فيها من المصالح‪ ،‬فوعد الصادق في وعده‬
‫أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته‪ ،‬أنه يجد مراغما في الرض وسعة‪ ،‬فالمراغم مشتمل على‬
‫مصالح الدين‪ ،‬والسعة على مصالح الدنيا‪.‬‬

‫وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد اللفة‪ ،‬وفقرًا بعد الغنى‪ ،‬وذل بعد العز‪،‬‬
‫وشدة بعد الرخاء‪.‬‬

‫والمر ليس كذلك‪ ،‬فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص‪ ،‬ل في العبادات‬
‫القاصرة عليه كالصلة ونحوها‪ ،‬ول في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل‪ ،‬وتوابع ذلك‪،‬‬
‫لعدم تمكنه من ذلك‪ ،‬وهو بصدد أن يفتن عن دينه‪ ،‬خصوصا إن كان مستضعفًا‪.‬‬

‫فإذا هاجر في سبيل ال تمكن من إقامة دين ال وجهاد أعداء ال ومراغمتهم‪ ،‬فإن المراغمة اسم‬
‫جامع لكل ما يحصل به إغاظة لعداء ال من قول وفعل‪ ،‬وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه‪،‬‬
‫وقد وقع كما أخبر ال تعالى‪.‬‬

‫واعتبر ذلك بالصحابة رضي ال عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل ال وتركوا ديارهم وأولدهم‬
‫وأموالهم ل‪ ،‬كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من اليمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين ال‪ ،‬ما‬
‫كانوا به أئمة لمن بعدهم‪ ،‬وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم‪ ،‬ما كانوا‬
‫به أغنى الناس‪ ،‬وهكذا كل من فعل فعلهم‪ ،‬حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ ُمهَاجِرًا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ } أي‪ :‬قاصدا ربه ورضاه‪ ،‬ومحبة‬
‫لرسوله ونصرًا لدين ال‪ ،‬ل لغير ذلك من المقاصد { ُثمّ يُدْ ِركْهُ ا ْل َموْتُ } بقتل أو غيره‪َ { ،‬فقَ ْد َوقَعَ‬
‫أَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ } أي‪ :‬فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان ال تعالى‪ ،‬وذلك‬
‫لنه نوى وجزم‪ ،‬وحصل منه ابتداء وشروع في العمل‪ ،‬فمن رحمة ال به وبأمثاله أن أعطاهم‬
‫ل ولو لم يكملوا العمل‪ ،‬وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها‪.‬‬
‫أجرهم كام ً‬

‫غفُورًا َرحِيمًا } يغفر للمؤمنين ما‬


‫ولهذا ختم هذه الية بهذين السمين الكريمين فقال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ َ‬
‫اقترفوه من الخطيئات‪ ،‬خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم‪.‬‬

‫{ َرحِيمًا } بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم لليمان‪ ،‬وعلمهم من العلم ما يحصل به اليقان‪ ،‬ويسر لهم أسباب‬
‫السعادة والفلح وما به يدركون غاية الرباح‪ ،‬وسيرون من رحمته وكرمه ما ل عين رأت‪ ،‬ول‬
‫أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬فنسأل ال أن ل يحرمنا خيره بشر ما عندنا‪.‬‬
‫خفْتُمْ‬
‫{ ‪ { } 102 - 101‬وَإِذَا ضَرَبْ ُتمْ فِي الْأَ ْرضِ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ َت ْقصُرُوا مِنَ الصّلَاةِ إِنْ ِ‬
‫ع ُدوّا مُبِينًا *وَإِذَا كُ ْنتَ فِيهِمْ فََأ َق ْمتَ َلهُمُ الصّلَاةَ فَلْ َتقُمْ‬
‫أَنْ َيفْتِ َنكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إِنّ ا ْلكَافِرِينَ كَانُوا َلكُمْ َ‬
‫ن وَرَا ِئكُ ْم وَلْتَ ْأتِ طَا ِئفَةٌ أُخْرَى َلمْ ُيصَلّوا‬
‫سجَدُوا فَلْ َيكُونُوا مِ ْ‬
‫خذُوا أَسِْلحَ َتهُمْ فَإِذَا َ‬
‫ك وَلْيَأْ ُ‬
‫طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ َم َع َ‬
‫حذْرَهُ ْم وََأسْلِحَ َتهُمْ وَدّ الّذِينَ كَفَرُوا َلوْ َت ْغفُلُونَ عَنْ َأسْلِحَ ِتكُمْ وََأمْتِعَ ِتكُمْ‬
‫خذُوا ِ‬
‫ك وَلْيَأْ ُ‬
‫فَلْ ُيصَلّوا َم َع َ‬
‫ضعُوا‬
‫فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْي ُكمْ مَيْلَ ًة وَاحِ َد ًة وَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ كَانَ ِب ُكمْ أَذًى مِنْ َمطَرٍ َأوْ كُنْتُمْ مَ ْرضَى أَنْ َت َ‬
‫حذْ َركُمْ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابًا ُمهِينًا }‬
‫خذُوا ِ‬
‫أَسِْلحَ َتكُ ْم وَ ُ‬

‫هاتان اليتان أصل في رخصة القصر‪ ،‬وصلة الخوف‪ ،‬يقول تعالى‪ { :‬وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ }‬
‫أي‪ :‬في السفر‪ ،‬وظاهر الية [أنه] يقتضي الترخص في أي سفر كان ولو كان سفر معصية‪ ،‬كما‬
‫هو مذهب أبي حنيفة رحمه ال‪ ،‬وخالف في ذلك الجمهور‪ ،‬وهم الئمة الثلثة وغيرهم‪ ،‬فلم‬
‫يجوزوا الترخص في سفر المعصية‪ ،‬تخصيصا للية بالمعنى والمناسبة‪ ،‬فإن الرخصة سهولة من‬
‫ال لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا‪ ،‬والعاصي بسفره ل يناسب حاله التخفيف‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ َتقْصُرُوا مِنَ الصّلَاةِ } أي‪ :‬ل حرج ول إثم عليكم في ذلك‪ ،‬ول‬
‫ينافي ذلك كون القصر هو الفضل‪ ،‬لن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من‬
‫صفَا وَا ْلمَرْ َوةَ مِنْ‬
‫النفوس‪ ،‬بل ول ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله‪ { :‬إِنّ ال ّ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ } إلى آخر الية‪.‬‬
‫َ‬

‫وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة‪ ،‬لن الصلة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة‬
‫التامة‪ ،‬ول يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إل بذكر ما ينافيه‪.‬‬

‫ويدل على أفضلية القصر على التمام أمران‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬ملزمة النبي صلى ال عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد‪ ،‬وال تعالى يحب أن تؤتى رخصه‬
‫كما يكره أن تؤتى معصيته‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬أَنْ َت ْقصُرُوا مِنَ الصّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلة فيه فائدتان‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬أنه لو قال أن تقصروا الصلة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود‪ ،‬فربما ظن أنه‬
‫لو قصر معظم الصلة وجعلها ركعة واحدة لجزأ‪ ،‬فإتيانه بقوله‪ { :‬مِنَ الصّلَاةِ } ليدل ذلك على‬
‫أن القصر محدود مضبوط‪ ،‬مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات ل جميعها‪،‬‬
‫فإن الفجر والمغرب ل يقصران وإنما الذي يقصر الصلة الرباعية من أربع إلى ركعتين‪.‬‬

‫فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة‪ ،‬فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد‪ ،‬وهو قوله‪:‬‬
‫خفْتُمْ أَنْ َيفْتِ َنكُمُ الّذِينَ َكفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر ل يجوز إل بوجود المرين‬
‫{ إِنْ ِ‬
‫كليهما‪ ،‬السفر مع الخوف‪.‬‬

‫ويرجع حاصل اختلفهم إلى أنه هل المراد بقوله‪ { :‬أَنْ َت ْقصُرُوا } قصر العدد فقط؟ أو قصر‬
‫العدد والصفة؟ فالشكال إنما يكون على الوجه الول‪.‬‬

‫وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬حتى سأل عنه النبي صلى‬
‫خفْتُمْ أَنْ‬
‫ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول ال ما لنا نقصر الصلة وقد أمِنّا؟ أي‪ :‬وال يقول‪ { :‬إِنْ ِ‬
‫َيفْتِ َنكُمُ الّذِينَ َكفَرُوا } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬صدقة تصدق ال بها عليكم فاقبلوا‬
‫صدقته" أو كما قال‪.‬‬

‫فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه‬
‫عليها‪ ،‬فإن غالب أسفاره أسفار جهاد‪.‬‬

‫وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر‪ ،‬فبيّن في هذه الية‬
‫أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة‪ ،‬وهي اجتماع السفر والخوف‪ ،‬ول يستلزم ذلك أن‬
‫ل يقصر مع السفر وحده‪ ،‬الذي هو مظنة المشقة‪.‬‬

‫وأما على الوجه الثاني‪ ،‬وهو أن المراد بالقصر‪ :‬قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه‪ ،‬فإذا وجد‬
‫السفر والخوف‪ ،‬جاز قصر العدد‪ ،‬وقصر الصفة‪ ،‬وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط‪ ،‬أو‬
‫الخوف وحده جاز قصر الصفة‪.‬‬

‫ولذلك أتى بصفة صلة الخوف بعدها بقوله‪ { :‬وَإِذَا كُ ْنتَ فِي ِهمْ فََأ َق ْمتَ َل ُهمُ الصّلَاةَ } أي‪ :‬صليت بهم‬
‫صلة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم‪ ،‬فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله‪.‬‬

‫ثم فسّر ذلك بقوله‪ { :‬فَلْ َتقُمْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ َم َعكَ } أي‪ :‬وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما‬
‫جدُوا } أي‪ :‬الذين معك أي‪ :‬أكملوا صلتهم وعبر عن الصلة بالسجود ليدل على‬
‫يأتي‪ { :‬فَإِذَا سَ َ‬
‫فضل السجود‪ ،‬وأنه ركن من أركانها‪ ،‬بل هو أعظم أركانها‪.‬‬
‫ن وَرَا ِئكُ ْم وَلْتَ ْأتِ طَا ِئفَةٌ ُأخْرَى لَمْ ُيصَلّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو‬
‫{ فَلْ َيكُونُوا مِ ْ‬
‫{ فَلْ ُيصَلّوا َم َعكَ } ودل ذلك على أن المام يبقى بعد انصراف الطائفة الولى منتظرا للطائفة‬
‫الثانية‪ ،‬فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلتهم‪ ،‬ثم يسلم‬
‫بهم وهذا أحد الوجوه في صلة الخوف‪.‬‬

‫فإنها صحت عن النبي صلى ال عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة‪ ،‬وهذه الية تدل على أن‬
‫صلة الجماعة فرض عين من وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن ال تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة‪ ،‬وقت اشتداد الخوف من العداء وحذر‬
‫مهاجمتهم‪ ،‬فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والمن من باب َأوْلَى‬
‫وأحرى‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن المصلين صلة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم‪ ،‬ويعفى فيها عن‬
‫كثير من الفعال المبطلة في غيرها‪ ،‬وما ذاك إل لتأكد وجوب الجماعة‪ ،‬لنه ل تعارض بين‬
‫واجب ومستحب‪ ،‬فلول وجوب الجماعة لم تترك هذه المور اللزمة لجلها‪.‬‬

‫وتدل الية الكريمة على أن الولى والفضل أن يصلوا بإمام واحد‪ .‬ولو تضمن ذلك الخلل‬
‫بشيء ل يخل به لو صلوها بعدة أئمة‪ ،‬وذلك لجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق‬
‫كلمتهم‪ ،‬وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم‪ ،‬وأمر تعالى بأخذ السلح والحذر في صلة‬
‫الخوف‪ ،‬وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلة فإن فيه مصلحة راجحة وهو‬
‫الجمع بين الصلة والجهاد‪ ،‬والحذر من العداء الحريصين غاية الحرص على اليقاع بالمسلمين‬
‫والميل عليهم وعلى أمتعتهم‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وَدّ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْ َت ْغفُلُونَ عَنْ أَسِْلحَ ِتكُ ْم وََأمْ ِتعَ ِتكُمْ‬
‫فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْي ُكمْ مَيْلَ ًة وَاحِ َدةً }‬

‫ثم إن ال عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلحه‪ ،‬ولكن مع أخذ الحذر فقال‪ { :‬وَلَا‬
‫حذْ َركُمْ إِنّ اللّهَ‬
‫ضعُوا أَسِْلحَ َتكُ ْم َوخُذُوا ِ‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِنْ كَانَ ِبكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ َأوْ كُنْ ُتمْ مَ ْرضَى أَنْ َت َ‬
‫عذَابًا ُمهِينًا }‬
‫أَعَدّ ِل ْلكَافِرِينَ َ‬

‫ومن العذاب المهين ما أمر ال به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما‬
‫ثقفوهم‪ ،‬ويأخذوهم ويحصروهم‪ ،‬ويقعدوا لهم كل مرصد‪ ،‬ويحذروهم في جميع الحوال‪ ،‬ول‬
‫يغفلوا عنهم‪ ،‬خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم‪.‬‬
‫فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنّ به على المؤمنين‪ ،‬وأيّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على‬
‫وجه الكمال لم تهزم لهم راية‪ ،‬ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الوقات‪.‬‬

‫ن وَرَا ِئكُمْ } يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلتها قبل‬
‫جدُوا فَلْ َيكُونُوا مِ ْ‬
‫وفي قوله‪ { :‬فَإِذَا سَ َ‬
‫ذهابهم إلى موضع الحارسين‪ .‬وأن الرسول صلى ال عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الخرى‬
‫قبل السلم‪ ،‬لنه أول ذكر أن الطائفة تقوم معه‪ ،‬فأخبر عن مصاحبتهم له‪ .‬ثم أضاف الفعل ب ْعدُ‬
‫إليهم دون الرسول‪ ،‬فدل ذلك على ما ذكرناه‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬وَلْتَ ْأتِ طَا ِئفَةٌ أُخْرَى لَمْ ُيصَلّوا فَلْ ُيصَلّوا َم َعكَ } دليل على أن الطائفة الولى قد صلوا‪،‬‬
‫وأن جميع صلة الطائفة الثانية تكون مع المام حقيقة في ركعتهم الولى‪ ،‬وحكما في ركعتهم‬
‫الخيرة‪ ،‬فيستلزم ذلك انتظار المام إياهم حتى يكملوا صلتهم‪ ،‬ثم يسلم بهم‪ ،‬وهذا ظاهر للمتأمل‪.‬‬

‫طمَأْنَنْتُمْ فََأقِيمُوا‬
‫{ ‪ { } 103‬فَإِذَا َقضَيْتُمُ الصّلَاةَ فَا ْذكُرُوا اللّهَ قِيَامًا َو ُقعُودًا وَعَلَى جُنُو ِبكُمْ فَإِذَا ا ْ‬
‫الصّلَاةَ إِنّ الصّلَاةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابًا َم ْوقُوتًا }‬

‫أي‪ :‬فإذا فرغتم من صلتكم‪ ،‬صلة الخوف وغيرها‪ ،‬فاذكروا ال في جميع أحوالكم وهيئاتكم‪،‬‬
‫ولكن خصت صلة الخوف بذلك لفوائد‪ .‬منها‪ :‬أن القلب صلحه وفلحه وسعادته بالنابة إلى ال‬
‫تعالى في المحبة وامتلء القلب من ذكره والثناء عليه‪.‬‬

‫وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلة‪ ،‬التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن فيها من حقائق اليمان ومعارف اليقان ما أوجب أن يفرضها ال على عباده كل يوم‬
‫وليلة‪ .‬ومن المعلوم أن صلة الخوف ل تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب‬
‫والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه‪ ،‬وإذا ضعف القلب ضعف‬
‫البدن عن مقاومة العدو‪ ،‬والذكر ل والكثار منه من أعظم مقويات القلب‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الذكر ل تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلح والظفر بالعداء‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَا‬
‫أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } فأمر بالكثار منه في هذه‬
‫حكَم‪.‬‬
‫الحال إلى غير ذلك من ال ِ‬
‫طمَأْنَنْتُمْ فََأقِيمُوا الصّلَاة } أي‪ :‬إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا‬
‫وقوله‪ { :‬فَإِذَا ا ْ‬
‫صلتكم على الوجه الكمل ظاهرا وباطنا‪ ،‬بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملتها‪.‬‬

‫{ إِنّ الصّلَاةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابًا َم ْوقُوتًا } أي‪ :‬مفروضا في وقته‪ ،‬فدل ذلك على فرضيتها‪،‬‬
‫وأن لها وقتا ل تصح إل به‪ ،‬وهو هذه الوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم‪،‬‬
‫عالمهم وجاهلهم‪ ،‬وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى ال عليه وسلم بقوله‪" :‬صلوا كما رأيتموني‬
‫أصلي" ودل قوله‪ { :‬عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } على أن الصلة ميزان اليمان وعلى حسب إيمان العبد‬
‫تكون صلته وتتم وتكمل‪ ،‬ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لحكام المسلمين كأهل‬
‫الذمة ‪ -‬أنهم ل يخاطبون بفروع الدين كالصلة‪ ،‬ول يؤمرون بها‪ ،‬بل ول تصح منهم ما داموا‬
‫على كفرهم‪ ،‬وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الحكام في الخرة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 104‬وَلَا َتهِنُوا فِي ابْ ِتغَاءِ ا ْل َقوْمِ إِنْ َتكُونُوا تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ‬
‫حكِيمًا }‬
‫علِيمًا َ‬
‫ن َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫اللّهِ مَا لَا يَرْجُو َ‬

‫أي‪ :‬ل تضعفوا ول تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار‪ ،‬أي‪ :‬في جهادهم والمرابطة على ذلك‪،‬‬
‫فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن‪ ،‬وذلك يضعف عن مقاومة العداء‪ .‬بل كونوا أقوياء نشيطين‬
‫في قتالهم‪.‬‬

‫ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين‪ ،‬فذكر شيئين‪:‬‬

‫الول‪ :‬أن ما يصيبكم من اللم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم‪ ،‬فليس من‬
‫المروءة النسانية والشهامة السلمية أن تكونوا أضعف منهم‪ ،‬وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب‬
‫ذلك‪ ،‬لن العادة الجارية ل يضعف إل من توالت عليه اللم وانتصر عليه العداء على الدوام‪،‬‬
‫ل من يدال مرة‪ ،‬ويدال عليه أخرى‪.‬‬

‫المر الثاني‪ :‬أنكم ترجون من ال ما ل يرجون‪ ،‬فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه‪ ،‬بل‬
‫خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين ال‪ ،‬وإقامة شرعه‪ ،‬واتساع دائرة‬
‫السلم‪ ،‬وهداية الضالين‪ ،‬وقمع أعداء الدين‪ ،‬فهذه المور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة‪،‬‬
‫وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛ لن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله‪ ،‬ليس‬
‫كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والخروية‪ ،‬والفوز برضوان ال وجنته‪ ،‬فسبحان من فاوت بين‬
‫حكِيمًا } كامل العلم كامل الحكمة‬
‫العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَا أَرَاكَ اللّ ُه وَلَا َتكُنْ‬
‫حقّ لِتَ ْ‬
‫{ ‪ { } 113 - 105‬إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫ختَانُونَ‬
‫ن اّلذِينَ َي ْ‬
‫ن اللّهَ كَانَ غَفُورًا َرحِيمًا * وَلَا ُتجَادِلْ عَ ِ‬
‫س َتغْ ِفرِ اللّ َه إِ ّ‬
‫خصِيمًا * وَا ْ‬
‫لِلْخَائِنِينَ َ‬
‫س َتخْفُونَ ِمنَ اللّهِ وَهُوَ‬
‫س َتخْفُونَ ِمنَ النّاسِ وَلَا َي ْ‬
‫ن خَوّانًا َأثِيمًا * َي ْ‬
‫ن اللّ َه لَا ُيحِبّ َمنْ كَا َ‬
‫سهُ ْم إِ ّ‬
‫َأنْ ُف َ‬
‫ن ُمحِيطًا * هَا َأ ْن ُتمْ هَؤُلَا ِء جَادَ ْلتُمْ‬
‫ن اللّ ُه ِبمَا َي ْعمَلُو َ‬
‫ن مَا لَا َي ْرضَى ِمنَ ا ْلقَوْلِ َوكَا َ‬
‫َم َعهُمْ ِإ ْذ ُي َب ّيتُو َ‬
‫ن َي ْعمَلْ‬
‫ع ْن ُهمْ يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ َأ ْم مَنْ َيكُونُ عََل ْي ِهمْ َوكِيلًا * َومَ ْ‬
‫ن ُيجَادِلُ اللّهَ َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َفمَ ْ‬
‫ع ْن ُهمْ فِي ا ْل َ‬
‫َ‬
‫سبُهُ عَلَى‬
‫جدِ اللّهَ غَفُورًا َرحِيمًا * َو َمنْ َي ْكسِبْ ِإ ْثمًا َفِإ ّنمَا َي ْك ِ‬
‫س َتغْ ِفرِ اللّ َه َي ِ‬
‫سُوءًا أَ ْو َيظْلِمْ َن ْفسَهُ ُثمّ َي ْ‬
‫ح َتمَلَ ُب ْهتَانًا‬
‫خطِيئَ ًة أَ ْو ِإ ْثمًا ُثمّ َيرْ ِم بِهِ َبرِيئًا فَ َقدِ ا ْ‬
‫حكِيمًا * َومَنْ َي ْكسِبْ َ‬
‫ن اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫نَ ْفسِهِ َوكَا َ‬
‫ح َمتُ ُه َل َهمّتْ طَائِفَ ٌة ِم ْنهُمْ َأنْ ُيضِلّوكَ َومَا ُيضِلّونَ إِلّا‬
‫وَِإ ْثمًا ُمبِينًا * وَلَوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْيكَ َو َر ْ‬
‫ن َتعَْلمُ َوكَانَ‬
‫ح ْكمَةَ َوعَّل َمكَ مَا َلمْ َتكُ ْ‬
‫ل اللّهُ عََل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ‬
‫شيْءٍ وََأ ْنزَ َ‬
‫ن َ‬
‫ضرّو َنكَ مِ ْ‬
‫سهُمْ َومَا َي ُ‬
‫َأنْ ُف َ‬
‫عظِيمًا }‬
‫فَضْلُ اللّهِ عََل ْيكَ َ‬

‫يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق‪ ،‬أي‪ :‬محفوظًا في إنزاله من الشياطين‪،‬‬
‫أن يتطرق إليه منهم باطل‪ ،‬بل نزل بالحق‪ ،‬ومشتمل أيضا على الحق‪ ،‬فأخباره صدق‪،‬‬
‫عدْلًا } وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس‪.‬‬
‫صدْقًا َو َ‬
‫وأوامره ونواهيه عدل { َو َتمّتْ كَِلمَ ُة َر ّبكَ ِ‬

‫س مَا ُنزّلَ إَِل ْي ِهمْ }‪ .‬فيحتمل أن هذه الية في‬


‫وفي الية الخرى‪ { :‬وََأ ْنزَ ْلنَا إَِل ْيكَ ال ّذ ْكرَ ِل ُت َبيّنَ لِلنّا ِ‬
‫الحكم بين الناس في مسائل النزاع والختلف‪ ،‬وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه‪،‬‬
‫ويحتمل أن اليتين كلتيهما معناهما واحد‪ ،‬فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في‬
‫الدماء والعراض والموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الحكام‪.‬‬

‫طقُ‬
‫وقوله‪ِ { :‬بمَا َأرَاكَ اللّهُ } أي‪ :‬ل بهواك بل بما علّمك ال وألهمك‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬ومَا َينْ ِ‬
‫حيٌ يُوحَى } وفي هذا دليل على عصمته صلى ال عليه وسلم فيما ُيبَلّغ‬
‫ن هُ َو إِلّا َو ْ‬
‫عنِ ا ْلهَوَى إِ ْ‬
‫َ‬
‫عن ال من جميع الحكام وغيرها‪ ،‬وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله‪ِ { :‬بمَا َأرَاكَ‬
‫اللّ ُه } ولم يقل‪ :‬بما رأيت‪ .‬ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب‪ ،‬ولما أمر ال‬
‫بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال‪:‬‬
‫خصِيمًا } أي‪ :‬ل تخاصم عن مَن عرفت خيانته‪ ،‬من مدع ما ليس له‪ ،‬أو‬
‫ن لِ ْلخَا ِئنِينَ َ‬
‫{ وَلَا َتكُ ْ‬
‫منكرٍ حقا عليه‪ ،‬سواء علم ذلك أو ظنه‪ .‬ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل‪،‬‬
‫والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية‪.‬‬

‫ويدل مفهوم الية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم‪.‬‬

‫س َتغْفِ ِر اللّ َه } مما صدر منك إن صدر‪.‬‬


‫{ وَا ْ‬
‫غفُورًا َرحِيمًا } أي‪ :‬يغفر الذنب العظيم لمن استغفره‪ ،‬وتاب إليه وأناب ويوفقه‬
‫{ ِإنّ اللّهَ كَانَ َ‬
‫للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه‪.‬‬

‫س ُهمْ } "الختيان" و "الخيانة" بمعنى الجناية والظلم والثم‪،‬‬


‫ن َأنْ ُف َ‬
‫ختَانُو َ‬
‫ن اّلذِينَ َي ْ‬
‫{ وَلَا ُتجَادِلْ عَ ِ‬
‫وهذا يشمل النهي عن المجادلة‪ ،‬عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير‪ ،‬فإنه ل‬
‫يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة‪ ،‬أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية‪.‬‬
‫ن خَوّانًا َأثِيمًا } أي‪ :‬كثير الخيانة والثم‪ ،‬وإذا انتفى الحب ثبت ضده‬
‫ن كَا َ‬
‫{ ِإنّ اللّهَ لَا ُيحِبّ مَ ْ‬
‫وهو ال ُبغْض‪ ،‬وهذا كالتعليل‪ ،‬للنهي المتقدم‪.‬‬

‫ن مِنَ اللّهِ وَ ُهوَ َم َع ُهمْ ِإذْ‬


‫ستَخْفُو َ‬
‫ن النّاسِ وَلَا َي ْ‬
‫ن مِ َ‬
‫ستَخْفُو َ‬
‫ثم ذكر عن هؤلء الخائنين أنهم { َي ْ‬
‫ل } وهذا من ضعف اليمان‪ ،‬ونقصان اليقين‪ ،‬أن تكون مخافة‬
‫ن مَا لَا َي ْرضَى ِمنَ الْ َقوْ ِ‬
‫ُي َب ّيتُو َ‬
‫الخلق عندهم أعظم من مخافة ال‪ ،‬فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة‬
‫عند الناس‪ ،‬وهم مع ذلك قد بارزوا ال بالعظائم‪ ،‬ولم يبالوا بنظره واطلعه عليهم‪.‬‬

‫وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم‪ ،‬خصوصًا في حال تبييتهم ما ل يرضيه من القول‪ ،‬من‬
‫تبرئة الجاني‪ ،‬ورمي البريء بالجناية‪ ،‬والسعي في ذلك للرسول صلى ال عليه وسلم ليفعل ما‬
‫بيتوه‪.‬‬

‫فقد جمعوا بين عدة جنايات‪ ،‬ولم يراقبوا رب الرض والسماوات‪ ،‬المطلع على سرائرهم‬
‫ن اللّ ُه ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطًا } أي‪ :‬قد أحاط بذلك‬
‫وضمائرهم‪ ،‬ولهذا توعدهم تعالى بقوله‪َ { :‬وكَا َ‬
‫علما‪ ،‬ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم‪ ،‬وعرض عليهم التوبة وحذرهم من‬
‫الصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة‪.‬‬

‫ن َيكُونُ‬
‫ع ْنهُمْ َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة َأمْ مَ ْ‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا َفمَنْ ُيجَادِلُ اللّهَ َ‬
‫ع ْن ُهمْ فِي ا ْل َ‬
‫{ هَا َأ ْن ُتمْ هَؤُلَا ِء جَادَ ْلتُمْ َ‬
‫عََل ْي ِهمْ َوكِيلًا } أي‪ :‬هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬ودفع عنهم جدالُكم بعض ما‬
‫تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق‪ ،‬فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل ال عنهم يوم‬
‫القيامة حين تتوجه عليهم الحجة‪ ،‬وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟‬
‫حقّ ا ْل ُمبِينُ }‬
‫حقّ َو َيعَْلمُونَ َأنّ اللّ َه هُ َو ا ْل َ‬
‫{ َي ْو َم ِئذٍ يُ َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َن ُهمُ ا ْل َ‬

‫فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما ل يمكن معه النكار؟‬
‫وفي هذه الية إرشاد إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر ال‬
‫أو فعل مناهيه‪ ،‬وبين ما يفوت من ثواب الخرة أو يحصل من عقوباتها‪.‬‬
‫فيقول من أمرته نفسه بترك أمر ال ها أنت تركت أمره كسل وتفريطا فما النفع الذي انتفعت‬
‫به؟ وماذا فاتك من ثواب الخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة‬
‫والخسران؟‬

‫وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها‪ :‬هبك فعلت ما اشتهيت فإن‬
‫لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات‪ ،‬وفوات الثواب وحصول العقاب ‪ -‬ما‬
‫بعضه يكفي العاقل في الحجام عنها‪ .‬وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه‪ ،‬وهو خاصة العقل‬
‫الحقيقي‪ .‬بخلف الذي يدعي العقل‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة‬
‫والراحة الراهنة‪ ،‬ولو ترتب عليها ما ترتب‪ .‬وال المستعان‪.‬‬

‫جدِ اللّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي‪:‬‬


‫س َتغْ ِفرِ اللّهَ َي ِ‬
‫ن َي ْعمَلْ سُوءًا أَ ْو َيظْلِ ْم نَ ْفسَهُ ُثمّ َي ْ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫من تجرأ على المعاصي واقتحم على الثم ثم استغفر ال استغفارا تاما يستلزم القرار بالذنب‬
‫والندم عليه والقلع والعزم على أن ل يعود‪ .‬فهذا قد وعده من ل يخلف الميعاد بالمغفرة‬
‫والرحمة‪.‬‬

‫فيغفر له ما صدر منه من الذنب‪ ،‬ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب‪ ،‬ويعيد إليه ما‬
‫تقدم من العمال الصالحة‪ ،‬ويوفقه فيما يستقبله من عمره‪ ،‬ول يجعل ذنبه حائل عن توفيقه‪،‬‬
‫لنه قد غفره‪ ،‬وإذا غفره غفر ما يترتب عليه‪.‬‬

‫واعلم أن عمل السوء عند الطلق يشمل سائر المعاصي‪ ،‬الصغيرة والكبيرة‪ ،‬وسمي "سوءًا"‬
‫لكونه يسوء عامله بعقوبته‪ ،‬ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن‪.‬‬

‫وكذلك ظلم النفس عند الطلق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه‪ .‬ولكن عند اقتران أحدهما‬
‫بالخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه‪ ،‬فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس‪،‬‬
‫وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪.‬‬

‫ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين ال وبين عبده‪ ،‬وسمي ظلم النفس "ظلما" لن‬
‫نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء‪ ،‬وإنما هي ملك ل تعالى قد جعلها أمانة عند‬
‫العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل‪ ،‬بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملً‪ ،‬فيسعى في‬
‫تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب‪ ،‬فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة‬
‫وعدول بها عن العدل‪ ،‬الذي ضده الجور والظلم‪.‬‬
‫ثم قال‪َ { :‬و َمنْ َي ْكسِبْ ِإ ْثمًا َفِإ ّنمَا َي ْكسِبُهُ عَلَى نَ ْفسِهِ } وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير‪،‬‬
‫فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والخروية على نفسه‪ ،‬ل تتعداها إلى غيرها‪ ،‬كما قال‬
‫خرَى } لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل‬
‫تعالى‪ { :‬وَلَا َت ِزرُ وَا ِزرَةٌ ِو ْزرَ ُأ ْ‬
‫إثمها‪ ،‬فل تخرج أيضا عن حكم هذه الية الكريمة‪ ،‬لن من ترك النكار الواجب فقد كسب‬
‫سيئة‪.‬‬

‫وفي هذا بيان عدل ال وحكمته‪ ،‬أنه ل يعاقب أحدا بذنب أحد‪ ،‬ول يعاقب أحدا أكثر من‬
‫حكِيمًا } أي‪ :‬له العلم الكامل والحكمة‬
‫العقوبة الناشئة عن ذنبه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫التامة‪.‬‬

‫ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه‪ ،‬والسبب الداعي لفعله‪ ،‬والعقوبة المترتبة‬
‫على فعله‪ ،‬ويعلم حالة المذنب‪ ،‬أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه المارة بالسوء مع‬
‫إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته‪ ،‬أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة‪.‬‬

‫وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه‪ ،‬وتهاونا بعقابه‪ ،‬فإن هذا بعيد من‬
‫المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة‪.‬‬

‫خطِيئَةً } أي‪ :‬ذنبا كبيرا { َأوْ ِإ ْثمًا } ما دون ذلك‪ُ { .‬ثمّ َي ْرمِ بِ ِه } أي يتهم‬
‫ثم قال‪َ { :‬و َمنْ َي ْكسِبْ َ‬
‫ل ُب ْهتَانًا وَِإ ْثمًا ُمبِينًا } أي‪ :‬فقد حمل‬
‫ح َتمَ َ‬
‫بذنبه { َبرِيئًا } من ذلك الذنب‪ ،‬وإن كان مذنبا‪ { .‬فَ َقدِ ا ْ‬
‫فوق ظهره بهتا للبريء وإثمًا ظاهرًا بينًا‪ ،‬وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها‪،‬‬
‫فإنه قد جمع عدة مفاسد‪ :‬كسب الخطيئة والثم‪ ،‬ثم َرمْي مَن لم يفعلها بفعلها‪ ،‬ثم الكذب الشنيع‬
‫بتبرئة نفسه واتهام البريء‪ ،‬ثم ما يترتب على ذلك من العقوبة الدنيوية‪ ،‬تندفع عمن وجبت‬
‫عليه‪ ،‬وتقام على من ل يستحقها‪.‬‬

‫ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلم الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل‬
‫ال العافية منها ومن كل شر‪.‬‬

‫ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال‪ { :‬وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عََل ْيكَ‬
‫ت طَائِفَةٌ ِم ْن ُهمْ َأنْ ُيضِلّوكَ } وذلك أن هذه اليات الكريمات قد ذكر المفسرون أن‬
‫ح َمتُهُ َل َهمّ ْ‬
‫َو َر ْ‬
‫سبب نزولها‪ :‬أن أهل بيت سرقوا في المدينة‪ ،‬فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة‪ ،‬وأخذوا‬
‫سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك‪.‬‬
‫واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ويطلبوا منه أن يبرئ‬
‫صاحبهم على رءوس الناس‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته‬
‫وهو البريء‪ .‬ف َهمّ رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم‪ ،‬فأنزل ال هذه اليات‬
‫تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول صلى ال عليه وسلم من المخاصمة عن الخائنين‪،‬‬
‫فإن المخاصمة عن المبطل من الضلل‪ ،‬فإن الضلل نوعان‪:‬‬

‫ضلل في العلم‪ ،‬وهو الجهل بالحق‪ .‬وضلل في العمل‪ ،‬وهو العمل بغير ما يجب‪ .‬فحفظ ال‬
‫رسوله عن هذا النوع من الضلل [كما حفظه عن الضلل في العمال]‬

‫س ُهمْ }‬
‫ن إِلّا َأنْ ُف َ‬
‫وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم‪ ،‬كحالة كل ماكر‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا ُيضِلّو َ‬
‫لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم فيه مقصودهم‪ ،‬ولم يحصل لهم إل الخيبة‬
‫والحرمان والثم والخسران‪ .‬وهذه نعمة كبيرة على رسوله صلى ال عليه وسلم تتضمن‬
‫النعمة بالعمل‪ ،‬وهو التوفيق لفعل ما يجب‪ ،‬والعصمة له عن كل محرم‪.‬‬

‫ح ْكمَ َة } أي‪ :‬أنزل عليك هذا‬


‫ك ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ‬
‫ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال‪ { :‬وََأ ْنزَلَ اللّهُ عََل ْي َ‬
‫القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الولين والخِرين‪.‬‬

‫سنّة تنزل عليه كما ينزل القرآن‪.‬‬


‫سنّة التي قد قال فيها بعض السلف‪ :‬إن ال ّ‬
‫والحكمة‪ :‬إما ال ّ‬

‫وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها‪ ،‬وتنزيل الشياء منازلها وترتيب كل‬
‫شيء بحسبه‪.‬‬

‫ن َتعْلَ ُم } وهذا يشمل جميع ما علمه ال تعالى‪ .‬فإنه صلى ال عليه وسلم كما‬
‫{ وَعَّل َمكَ مَا َلمْ َتكُ ْ‬
‫ج َدكَ ضَالّا َف َهدَى }‬
‫وصفه ال قبل النبوة بقوله‪ { :‬مَا ُكنْتَ َت ْدرِي مَا ا ْل ِكتَابُ وَلَا ا ْلإِيمَانُ } { وَ َو َ‬

‫ثم لم يزل يوحي ال إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الولين‬
‫والخرين‪ ،‬فكان أعلم الخلق على الطلق‪ ،‬وأجمعهم لصفات الكمال‪ ،‬وأكملهم فيها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫عظِيمًا } ففضله على الرسول محمد صلى ال عليه وسلم أعظم من‬
‫{ َوكَانَ َفضْلُ اللّهِ عََل ْيكَ َ‬
‫فضله على كل مخلوق‬

‫وأجناس الفضل الذي قد فضله ال به ل يمكن استقصاؤها ول يتيسر إحصاؤها‬


‫جوَاهُمْ إِلّا مَنْ َأمَرَ ِبصَ َدقَةٍ َأوْ َمعْرُوفٍ َأوْ ِإصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ‬
‫{ ‪ { }ْ 114‬لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ َن ْ‬
‫س ْوفَ ُنؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ}‬
‫َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ فَ َ‬

‫أي‪ :‬ل خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون‪ ،‬وإذا لم يكن فيه خير‪ ،‬فإما ل فائدة فيه‬
‫كفضول الكلم المباح‪ ،‬وإما شر ومضرة محضة كالكلم المحرم بجميع أنواعه‪.‬‬

‫ثم استثنى تعالى فقال‪ { :‬إِلّا مَنْ َأمَرَ ِبصَ َد َقةٍ ْ} من مال أو علم أو أي نفع كان‪ ،‬بل لعله يدخل فيه‬
‫العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن بكل تسبيحة‬
‫صدقة‪ ،‬وكل تكبيرة صدقة‪ ،‬وكل تهليلة صدقة‪ ،‬وأمر بالمعروف صدقة‪ ،‬ونهي عن المنكر صدقة‪،‬‬
‫وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث‪.‬‬

‫{ َأوْ َمعْرُوفٍ ْ} وهو الحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه‪ ،‬وإذا أطلق المر‬
‫بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر‪ ،‬وذلك لن ترك‬
‫المنهيات من المعروف‪ ،‬وأيضا ل يتم فعل الخير إل بترك الشر‪ .‬وأما عند القتران فيفسر‬
‫المعروف بفعل المأمور‪ ،‬والمنكر بترك المنهي‪.‬‬

‫{ َأوْ ِإصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ ْ} والصلح ل يكون إل بين متنازعين متخاصمين‪ ،‬والنزاع والخصام‬
‫والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما ل يمكن حصره‪ ،‬فلذلك حث الشارع على الصلح بين‬
‫صمُوا ِبحَ ْبلِ اللّهِ‬
‫الناس في الدماء والموال والعراض‪ ،‬بل وفي الديان كما قال تعالى‪ { :‬وَاعْ َت ِ‬
‫جمِيعًا وَلَا َتفَ ّرقُوا ْ} وقال تعالى‪ { :‬وَإِنْ طَا ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فََأصْلِحُوا بَيْ َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ‬
‫َ‬
‫حدَا ُهمَا عَلَى الُْأخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأمْرِ اللّهِ ْ} الية‪.‬‬
‫إِ ْ‬

‫وقال تعالى‪ { :‬وَالصّلْحُ خَيْرٌ ْ} والساعي في الصلح بين الناس أفضل من القانت بالصلة‬
‫والصيام والصدقة‪ ،‬والمصلح ل بد أن يصلح ال سعيه وعمله‪.‬‬

‫كما أن الساعي في الفساد ل يصلح ال عمله ول يتم له مقصوده كما قال تعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ لَا‬
‫سدِينَ ْ}‪ .‬فهذه الشياء حيثما فعلت فهي خير‪ ،‬كما دل على ذلك الستثناء‪.‬‬
‫ع َملَ ا ْلمُفْ ِ‬
‫ُيصْلِحُ َ‬

‫ولكن كمال الجر وتمامه بحسب النية والخلص‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ‬
‫عظِيمًا ْ} فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه ال تعالى ويخلص العمل ل في‬
‫سوْفَ ُنؤْتِيهِ َأجْرًا َ‬
‫اللّهِ َف َ‬
‫كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير‪ ،‬ليحصل له بذلك الجر العظيم‪ ،‬وليتعود الخلص‬
‫فيكون من المخلصين‪ ،‬وليتم له الجر‪ ،‬سواء تم مقصوده أم ل‪ ،‬لن النية حصلت واقترن بها ما‬
‫يمكن من العمل‪.‬‬
‫{ ‪َ { }ْ 116 ، 115‬ومَنْ ُيشَاقِقِ الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ ا ْل ُهدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬
‫جهَنّ َم وَسَا َءتْ َمصِيرًا * إِنّ اللّهَ لَا َي ْغفِرُ أَنْ يُشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ‬
‫ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى وَ ُنصْلِهِ َ‬
‫ل ضَلَالًا َبعِيدًا ْ}‬
‫ضّ‬‫ِلمَنْ يَشَاءُ َومَنْ ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَ ْد َ‬

‫أي‪ :‬ومن يخالف الرسول صلى ال عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُ ا ْلهُدَى ْ}‬
‫بالدلئل القرآنية والبراهين النبوية‪.‬‬

‫{ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم { ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى ْ} أي‪:‬‬
‫نتركه وما اختاره لنفسه‪ ،‬ونخذله فل نوفقه للخير‪ ،‬لكونه رأى الحق وعلمه وتركه‪ ،‬فجزاؤه من ال‬
‫عدلً أن يبقيه في ضلله حائرا ويزداد ضلل إلى ضلله‪.‬‬

‫كما قال تعالى‪ { :‬فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ ْ} وقال تعالى‪ { :‬وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ‬
‫ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ ْ}‬

‫ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول‪ ،‬ويتبع سبيل المؤمنين‪ ،‬بأن كان قصده وجه ال‬
‫واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين‪ ،‬ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات‬
‫النفوس‪ ،‬وغلبات الطباع‪ ،‬فإن ال ل يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه‪ ،‬ويمن عليه بحفظه‬
‫ويعصمه من السوء‪ ،‬كما قال تعالى عن يوسف عليه السلم‪َ { :‬كذَِلكَ لِ َنصْ ِرفَ عَ ْنهُ السّوءَ‬
‫وَا ْلفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْلمُخَْلصِينَ ْ} أي‪ :‬بسبب إخلصه صرفنا عنه السوء‪ ،‬وكذلك كل مخلص‪،‬‬
‫كما يدل عليه عموم التعليل‪.‬‬

‫جهَنّمَ ْ} أي‪ :‬نعذبه فيها عذابا عظيما‪ { .‬وَسَا َءتْ َمصِيرًا ْ} أي‪ :‬مرجعا له ومآل‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَ ُنصْلِهِ َ‬

‫وهذا الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب ل يحصيها إل ال بحسب حالة الذنب‬
‫صغرا وكبرا‪ ،‬فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلن‪ .‬ومنه ما هو دون ذلك‪ ،‬فلعل الية‬
‫الثانية كالتفصيل لهذا المطلق‪.‬‬

‫وهو‪ :‬أن الشرك ل يغفره ال تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته وتسوية‬
‫المخلوق الذي ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا بمن هو مالك النفع والضر‪ ،‬الذي ما من نعمة إل منه‪،‬‬
‫ول يدفع النقم إل هو‪ ،‬الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه‪ ،‬والغنى التام بجميع وجوه‬
‫العتبارات‪.‬‬
‫فمن أعظم الظلم وأبعد الضلل عدم إخلص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته‪ ،‬وصرف شيء منها‬
‫للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء‪ ،‬ول له من صفات الغنى شيء بل ليس له إل‬
‫العدم‪ .‬عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى‪ ،‬والفقر من جميع الوجوه‪.‬‬

‫وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة‪ ،‬إن شاء ال غفره برحمته وحكمته‪،‬‬
‫وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته‪ ،‬وقد استدل بهذه الية الكريمة على أن إجماع هذه‬
‫المة حجة وأنها معصومة من الخطأ‪.‬‬

‫ووجه ذلك‪ :‬أن ال توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلن والنار‪ ،‬و { سبيل المؤمنين ْ} مفرد‬
‫مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والعمال‪ .‬فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو‬
‫استحبابه‪ ،‬أو تحريمه أو كراهته‪ ،‬أو إباحته ‪ -‬فهذا سبيلهم‪ ،‬فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد‬
‫جتْ‬
‫انعقاد إجماعهم عليه‪ ،‬فقد اتبع غير سبيلهم‪ .‬ويدل على ذلك قوله تعالى‪ { :‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ‬
‫ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ ْ}‬
‫لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬

‫ووجه الدللة منها‪ :‬أن ال تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه المة ل يأمرون إل بالمعروف‪ ،‬فإذا‬
‫اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به‪ ،‬فيتعين بنص الية أن يكون معروفا ول‬
‫شيء بعد المعروف غير المنكر‪ ،‬وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فل‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّاس ْ}‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫يكون إل منكرا‪ ،‬ومثل ذلك قوله تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫فأخبر تعالى أن هذه المة جعلها ال وسطا أي‪ :‬عدل خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي‪ :‬في كل‬
‫شيء‪ ،‬فإذا شهدوا على حكم بأن ال أمر به أو نهى عنه أو أباحه‪ ،‬فإن شهادتهم معصومة لكونهم‬
‫عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم‪ ،‬فلو كان المر بخلف ذلك لم يكونوا عادلين في‬
‫شهادتهم ول عالمين بها‪.‬‬

‫شيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّ ِه وَالرّسُولِ ْ} يفهم منها أن ما لم‬


‫ومثل ذلك قوله تعالى‪ { :‬فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي َ‬
‫يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة‪ ،‬وذلك ل يكون إل موافقا‬
‫للكتاب والسنة فل يكون مخالفا‪.‬‬

‫فهذه الدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه المة حجة قاطعة‪ ،‬ولهذا بيّن ال قبح ضلل‬
‫المشركين بقوله‪:‬‬

‫{ ‪ { }ْ 121 - 117‬إِنْ َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * َلعَنَهُ اللّ ُه َوقَالَ‬
‫خذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبًا َمفْرُوضًا * وَلَُأضِلّ ّنهُ ْم وَلَُأمَنّيَ ّنهُ ْم وَلَآمُرَ ّنهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَانَ الْأَ ْنعَا ِم وَلَآمُرَ ّنهُمْ‬
‫لَأَتّ ِ‬
‫فَلَ ُيغَيّرُنّ خَ ْلقَ اللّ ِه َومَنْ يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * َيعِدُ ُه ْم وَ ُيمَنّيهِمْ‬
‫جهَنّ ُم وَلَا َيجِدُونَ عَ ْنهَا مَحِيصًا ْ}‬
‫َومَا َي ِعدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلّا غُرُورًا * أُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمْ َ‬

‫أي‪ :‬ما يدعو هؤلء المشركون من دون ال إل إناثا‪ ،‬أي‪ :‬أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الناث‬
‫كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما‪ ،‬ومن المعلوم أن السم دال على المسمى‪ .‬فإذا كانت أسماؤها‬
‫أسماء مؤنثة ناقصة‪ ،‬دل ذلك على نقص المسميات بتلك السماء‪ ،‬وفقدها لصفات الكمال‪ ،‬كما‬
‫أخبر ال تعالى في غير موضع من كتابه‪ ،‬أنها ل تخلق ول ترزق ول تدفع عن عابديها بل ول‬
‫عن نفسها؛ نفعا ول ضرا ول تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء‪ ،‬وليس لها أسماع ول أبصار ول‬
‫أفئدة‪ ،‬فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الخلص لمن له السماء الحسنى والصفات العليا والحمد‬
‫والكمال‪ ،‬والمجد والجلل‪ ،‬والعز والجمال‪ ،‬والرحمة والبر والحسان‪ ،‬والنفراد بالخلق والتدبير‪،‬‬
‫والحكمة العظيمة في المر والتقدير؟" هل هذا إل من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه‪،‬‬
‫وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور‪ ،‬أو يصفه واصف؟"‬

‫ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الوثان الناقصة‪ .‬وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان‬
‫الذي هو عدوهم الذي يريد إهلكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه‪ ،‬الذي هو في غاية البعد‬
‫من ال‪ ،‬لعنه ال وأبعده عن رحمته‪ ،‬فكما أبعده ال من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة‬
‫سعِيرِ ْ} ولهذا أخبر ال عن سعيه في إغواء العباد‪،‬‬
‫ال‪ { .‬إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫خذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبًا َمفْرُوضًا ْ} أي‪ :‬مقدرا‪.‬‬
‫وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما‪ { :‬لَأَتّ ِ‬
‫علم اللعين أنه ل يقدر على إغواء جميع عباد ال‪ ،‬وأن عباد ال المخلصين ليس له عليهم سلطان‪،‬‬
‫وإنما سلطانه على من توله‪ ،‬وآثر طاعته على طاعة موله‪.‬‬

‫ج َمعِينَ إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ ْ} فهذا الذي ظنه‬


‫غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫وأقسم في موضع آخر ليغوينهم { لَأُ ْ‬
‫علَ ْيهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّ َبعُوهُ إِلّا فَرِيقًا‬
‫الخبيث وجزم به‪ ،‬أخبر ال تعالى بوقوعه بقوله‪ { :‬وََلقَدْ صَدّقَ َ‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ}‬

‫وهذا النصيب المفروض الذي أقسم ل إنه يتخذهم ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله‪:‬‬
‫{ وَلَُأضِلّ ّنهُمْ ْ} أي‪ :‬عن الصراط المستقيم ضلل في العلم‪ ،‬وضلل في العمل‪.‬‬

‫{ وَلَُأمَنّيَ ّنهُمْ ْ} أي‪ :‬مع الضلل‪ ،‬لمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون‪ .‬وهذا هو الغرور بعينه‪ ،‬فلم‬
‫يقتصر على مجرد إضللهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلل‪ .‬وهذا زيادة شر إلى شرهم‬
‫حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة‪ ،‬واعتبر ذلك باليهود‬
‫خلَ ا ْلجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ‬
‫والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى ال عنهم‪َ { ،‬وقَالُوا لَنْ َيدْ ُ‬
‫ضلّ‬
‫ن َ‬
‫عمَالًا الّذِي َ‬
‫عمََل ُهمْ ْ} { ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُمْ بِالَْأخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫َنصَارَى ِت ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ْ} { كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫ن صُ ْنعًا ْ} الية‪.‬‬
‫حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُو َ‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ‬
‫َ‬

‫وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين‪ { :‬أََلمْ َنكُنْ َم َعكُمْ قَالُوا بَلَى وََلكِ ّنكُمْ فَتَنْتُمْ‬
‫سكُ ْم وَتَرَ ّبصْتُ ْم وَارْتَبْتُ ْم وَغَرّ ْتكُمُ الَْأمَا ِنيّ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّ ِه وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ ْ}‬
‫أَ ْنفُ َ‬

‫وقوله‪ { :‬وَلَآمُرَ ّنهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَانَ الْأَ ْنعَامِ ْ} أي‪ :‬بتقطيع آذانها‪ ،‬وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة‬
‫والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه‪ ،‬وهذا نوع من الضلل يقتضي تحريم ما أحل ال أو تحليل‬
‫ما حرم ال‪ ،‬ويلتحق بذلك من العتقادات الفاسدة والحكام الجائرة ما هو من أكبر الضلل‪.‬‬
‫{ وَلَآمُرَ ّنهُمْ فَلَ ُيغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ ْ} وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم‪ ،‬والوشر والنمص‬
‫والتفلج للحسن‪ ،‬ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن‪.‬‬

‫وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته‪ ،‬واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من‬
‫خلقة الرحمن‪ ،‬وعدم الرضا بتقديره وتدبيره‪ ،‬ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة‪ ،‬فإن ال تعالى‬
‫خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره‪ ،‬فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق‬
‫الجميل‪ ،‬وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان‪.‬‬

‫فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه‪ ،‬ونحو ذلك مما‬
‫يغيرون به ما فطر ال عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته‪ .‬فافترستهم الشياطين في هذا‬
‫الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة‪ .‬لول لطف ال وكرمه بعباده المخلصين لجرى‬
‫عليهم ما جرى على هؤلء المفتونين‪ ،‬وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم‬
‫وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه‪ ،‬فخسروا الدنيا والخرة‪ ،‬ورجعوا بالخيبة والصفقة‬
‫ن وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ْ} وأي خسار‬
‫خذِ الشّيْطَا َ‬
‫الخاسرة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَنْ يَتّ ِ‬
‫أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!! فحصل له الشقاء البدي‪ ،‬وفاته‬
‫النعيم السرمدي‪.‬‬

‫كما أن من تولى موله وآثر رضاه‪ ،‬ربح كل الربح‪ ،‬وأفلح كل الفلح‪ ،‬وفاز بسعادة الدارين‪،‬‬
‫وأصبح قرير العين‪ ،‬فل مانع لما أعطيت‪ ،‬ول معطي لما منعت‪ ،‬اللهم تولنا فيمن توليت‪ ،‬وعافنا‬
‫فيمن عافيت‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬ي ِعدُهُ ْم وَ ُيمَنّيهِمْ ْ} أي‪ :‬يعد الشيطان من يسعى في إضللهم‪ ،‬والوعد يشمل حتى الوعيد‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ ْ} فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل ال افتقروا‪ ،‬ويخوفهم إذا‬
‫خ ّوفُ َأوْلِيَا َءهُ ْ} الية‪ .‬ويخوفهم عند‬
‫جاهدوا بالقتل وغيره‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا ذَِل ُكمُ الشّ ْيطَانُ يُ َ‬
‫إيثار مرضاة ال بكل ما يمكن وما ل يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير‪،‬‬
‫وكذلك يمنيهم الماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي ل حقيقة له‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا‬
‫جهَنّمُ ْ} أي‪ :‬من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه‪ ،‬وصار‬
‫َيعِدُ ُهمُ الشّ ْيطَانُ إِلّا غُرُورًا أُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫جدُونَ عَ ْنهَا َمحِيصًا ْ} أي‪ :‬مخلصا ول ملجأ بل هم‬
‫من أتباع إبليس وحزبه‪ ،‬مستقرهم النار‪ { .‬وَلَا يَ ِ‬
‫خالدون فيها أبد الباد‪.‬‬

‫{ ‪ }ْ 122‬ولما بين مآل الشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال‪ { :‬وَالّذِينَ آمَنُوا‬
‫حقّا َومَنْ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ سَنُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫وَ َ‬
‫َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا ْ}‬

‫أي‪ { :‬آمَنُوا ْ} بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ ْ} الناشئة عن اليمان؟‬
‫أمروا به علما وتصديقا وإقرارا‪ { .‬وَ َ‬

‫وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب‪ ،‬الذي على القلب‪ ،‬والذي على اللسان‪ ،‬والذي‬
‫على بقية الجوارح‪ .‬كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه‪ ،‬وتكميله لليمان‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬

‫ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من اليمان والعمل‪ ،‬وذلك بحسب ما علم من حكمة‬
‫ال ورحمته‪ ،‬وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب ال وسنة رسوله‪.‬‬

‫ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله‪ { :‬سَنُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ ْ} فيها ما ل‬
‫عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة‪،‬‬
‫والمناظر العجيبة‪ ،‬والزواج الحسنة‪ ،‬والقصور‪ ،‬والغرف المزخرفة‪ ،‬والشجار المتدلية‪ ،‬والفواكه‬
‫المستغربة‪ ،‬والصوات الشجية‪ ،‬والنعم السابغة‪ ،‬وتزاور الخوان‪ ،‬وتذكرهم ما كان منهم في‬
‫ل رضوان ال عليهم وتمتع الرواح بقربه‪ ،‬والعيون‬
‫رياض الجنان‪ ،‬وأعلى من ذلك كله وأج ّ‬
‫برؤيته‪ ،‬والسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور‪ ،‬ولول الثبات من ال لهم لطاروا وماتوا‬
‫من الفرح والحبور‪ ،‬فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم‪ ،‬وماذا حصل لهم‬
‫من كل خير وبهجة ل يصفه الواصفون‪ ،‬وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات‪،‬‬
‫حقّا َومَنْ َأصْ َدقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا ْ}‬
‫ولهذا قال‪ { :‬خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫فصدق ال العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون‪ ،‬ولهذا لما كان كلمه صدقا‬
‫وخبره حقا‪ ،‬كان ما يدل عليه مطابق ًة وتضمنًا وملزم ًة كل ذلك مراد من كلمه‪ ،‬وكذلك كلم‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم لكونه ل يخبر إل بأمره ول ينطق إل عن وحيه‪.‬‬

‫جدْ لَهُ مِنْ‬


‫{ ‪ { }ْ 124 ، 123‬لَيْسَ بَِأمَانِ ّيكُ ْم وَلَا َأمَا ِنيّ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ َي ْع َملْ سُوءًا يُجْزَ بِ ِه وَلَا يَ ِ‬
‫دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا * َومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ‬
‫الْجَنّ َة وَلَا يُظَْلمُونَ َنقِيرًا ْ}‬

‫أي‪ { :‬لَ ْيسَ ْ} المر والنجاة والتزكية { بَِأمَانِ ّيكُمْ وَلَا َأمَانِيّ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ْ} والماني‪ :‬أحاديث النفس‬
‫المجردة عن العمل‪ ،‬المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها‪ .‬وهذا عامّ‬
‫في كل أمر‪ ،‬فكيف بأمر اليمان والسعادة البدية؟!‬

‫خلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى‬


‫فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر ال بها أنهم قالوا‪ { :‬لَنْ يَ ْد ُ‬
‫تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ْ} وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ول رسول من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫وكذلك أدخل ال في ذلك من ينتسب إلى السلم لكمال العدل والنصاف‪ ،‬فإن مجرد النتساب إلى‬
‫أي دين كان‪ ،‬ل يفيد شيئا إن لم يأت النسان ببرهان على صحة دعواه‪ ،‬فالعمال تصدق الدعوى‬
‫أو تكذبها ولهذا قال تعالى‪ { :‬مَنْ َي ْع َملْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ} وهذا شامل لجميع العاملين‪ ،‬لن السوء‬
‫شامل لي ذنب كان‬

‫من صغائر الذنوب وكبائرها‪ ،‬وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير‪ ،‬دنيوي أو أخروي‪.‬‬

‫والناس في هذا المقام درجات ل يعلمها إل ال‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪ ،‬فمن كان عمله كله سوءا وذلك‬
‫ل يكون إل كافرا‪ .‬فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الليم‪.‬‬

‫ومن كان عمله صالحا‪ ،‬وهو مستقيم في غالب أحواله‪ ،‬وإنما يصدر منه بعض الحيان بعض‬
‫الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والذى و [بعض]‬

‫اللم في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك ‪ -‬فإنها مكفرات للذنوب‪ ،‬وهي مما يجزى به‬
‫على عمله‪ ،‬قيضها ال لطفا بعباده‪ ،‬وبين هذين الحالين مراتب كثيرة‪.‬‬

‫وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين‪ ،‬فإن التائب من الذنب كمن ل‬
‫ذنب له‪ ،‬كما دلت على ذلك النصوص‪.‬‬
‫جدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا ْ} لزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق‬
‫وقوله‪ { :‬وَلَا يَ ِ‬
‫المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه‪ ،‬فأخبر تعالى بانتفاء‬
‫ذلك‪ ،‬فليس له ولي يحصل له المطلوب‪ ،‬ول نصير يدفع عنه المرهوب‪ ،‬إل ربه ومليكه‪.‬‬

‫{ َومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ ْ} دخل في ذلك سائر العمال القلبية والبدنية‪ ،‬ودخل أيضا كل عامل‬
‫من إنس أو جن‪ ،‬صغير أو كبير‪ ،‬ذكر أو أنثى‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ْ} وهذا‬
‫شرط لجميع العمال‪ ،‬ل تكون صالحة ول تقبل ول يترتب عليها الثواب ول يندفع بها العقاب إل‬
‫باليمان‪.‬‬

‫فالعمال بدون اليمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء بني على موج الماء‪ ،‬فاليمان هو‬
‫الصل والساس والقاعدة التي يبنى عليه كل شيء‪ ،‬وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل‬
‫أطلق‪ ،‬فإنه مقيد به‪.‬‬

‫{ فَأُولَ ِئكَ ْ} أي‪ :‬الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح { َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ ْ} المشتملة على ما‬
‫تشتهي النفس وتلذ العين { وَلَا يُظَْلمُونَ َنقِيرًا ْ} أي‪ :‬ل قليل ول كثيرا مما عملوه من الخير‪ ،‬بل‬
‫يجدونه كامل موفرا‪ ،‬مضاعفا أضعافا كثيرة‪.‬‬

‫جهَهُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتّخَذَ اللّهُ‬
‫{ ‪َ { }ْ 125‬ومَنْ َأحْسَنُ دِينًا ِممّنْ أَسَْل َم وَ ْ‬
‫إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ}‬

‫أي‪ :‬ل أحد أحسن من دين من جمع بين الخلص للمعبود‪ ،‬وهو إسلم الوجه ل الدال على‬
‫استسلم القلب وتوجهه وإنابته وإخلصه‪ ،‬وتوجه الوجه وسائر العضاء ل‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ ْ} مع هذا الخلص والستسلم { مُحْسِنٌ ْ} أي‪ :‬متبع لشريعة ال التي أرسل بها رسله‪،‬‬
‫وأنزل كتبه‪ ،‬وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم‪.‬‬

‫{ وَاتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ ْ} أي‪ :‬دينه وشرعه { حَنِيفًا ْ} أي‪ :‬مائل عن الشرك إلى التوحيد‪ ،‬وعن التوجه‬
‫للخلق إلى القبال على الخالق‪ { ،‬وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ} والخُلة أعلى أنواع المحبة‪ ،‬وهذه‬
‫المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلة والسلم‪ ،‬وأما المحبة من ال فهي لعموم‬
‫المؤمنين‪ ،‬وإنما اتخذ ال إبراهيم خليل لنه وفّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به‪ ،‬فجعله ال إماما‬
‫للناس‪ ،‬واتخذه خليل‪ ،‬ونوه بذكره في العالمين‪.‬‬
‫شيْءٍ ُمحِيطًا ْ}‬
‫ض َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 126‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬

‫ت َومَا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وهذه الية الكريمة فيها بيان إحاطة ال تعالى بجميع الشياء‪ ،‬فأخبر أنه له { مَا فِي ال ّ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬الجميع ملكه وعبيده‪ ،‬فهم المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم‪ ،‬وقد أحاط‬
‫علمه بجميع المعلومات‪ ،‬وبصره بجميع المبصرات‪ ،‬وسمعه بجميع المسموعات‪ ،‬ونفذت مشيئته‬
‫وقدرته بجميع الموجودات‪ ،‬ووسعت رحمته أهل الرض والسماوات‪ ،‬وقهر بعزه وقهره كل‬
‫مخلوق‪ ،‬ودانت له جميع الشياء‪.‬‬

‫ن َومَا يُتْلَى عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ‬


‫{ ‪ { }ْ 127‬وَيَسْ َتفْتُو َنكَ فِي النّسَاءِ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِيهِ ّ‬
‫ن وَأَنْ َتقُومُوا‬
‫ض َعفِينَ مِنَ ا ْلوِلْدَا ِ‬
‫ن وَا ْلمُسْ َت ْ‬
‫ن وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَ ْنكِحُوهُ ّ‬
‫اللّاتِي لَا ُتؤْتُو َنهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُ ّ‬
‫ط َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ْ}‬
‫لِلْيَتَامَى بِا ْلقِسْ ِ‬

‫الستفتاء‪ :‬طلب السائل من المسئول بيان الحكم الشرعي في ذلك المسئول عنه‪ .‬فأخبر عن‬
‫المؤمنين أنهم يستفتون الرسول صلى ال عليه وسلم في حكم النساء المتعلق بهم‪ ،‬فتولى ال هذه‬
‫الفتوى بنفسه فقال‪ُ { :‬قلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِيهِنّ ْ} فاعملوا على ما أفتاكم به في جميع شئون النساء‪ ،‬من‬
‫القيام بحقوقهن وترك ظلمهن عموما وخصوصا‪.‬‬

‫وهذا أمر عام يشمل جميع ما شرع ال أمرا ونهيا في حق النساء الزوجات وغيرهن‪ ،‬الصغار‬
‫والكبار‪ ،‬ثم خص ‪-‬بعد التعميم‪ -‬الوصية بالضعاف من اليتامى والولدان اهتماما بهم وزجرا عن‬
‫التفريط في حقوقهم فقال‪َ { :‬ومَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ ْ} أي‪ :‬ويفتيكم أيضا بما‬
‫يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى من النساء‪ { .‬اللّاتِي لَا ُتؤْتُو َنهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُنّ ْ} وهذا إخبار‬
‫عن الحالة الموجودة الواقعة في ذلك الوقت‪ ،‬فإن اليتيمة إذا كانت تحت ولية الرجل بخسها حقها‬
‫وظلمها‪ ،‬إما بأكل مالها الذي لها أو بعضه‪ ،‬أو منعها من التزوج لينتفع بمالها‪ ،‬خوفا من‬
‫استخراجه من يده إنْ زوّجها‪ ،‬أو يأخذ من مهرها الذي تتزوج به بشرط أو غيره‪ ،‬هذا إذا كان‬
‫راغبا عنها‪ ،‬أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال ول يقسط في مهرها‪ ،‬بل يعطيها دون ما‬
‫تستحق‪ ،‬فكل هذا ظلم يدخل تحت هذا النص ولهذا قال‪ { :‬وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَ ْنكِحُوهُنّ ْ} أي‪ :‬ترغبون‬
‫عن نكاحهن أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله‪.‬‬

‫ض َعفِينَ مِنَ ا ْلوِلْدَان ْ} أي‪ :‬ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار‪ ،‬أن تعطوهم‬
‫{ وَا ْلمُسْ َت ْ‬
‫حقهم من الميراث وغيره وأن ل تستولوا على أموالهم على وجه الظلم والستبداد‪ { .‬وَأَنْ َتقُومُوا‬
‫لِلْيَتَامَى بِا ْلقِسْطِ ْ} أي‪ :‬بالعدل التام‪ ،‬وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر ال وما أوجبه على‬
‫عباده‪ ،‬فيكون الولياء مكلفين بذلك‪ ،‬يلزمونهم بما أوجبه ال‪.‬‬
‫ويشمل القيام عليهم في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الحظ لهم فيها‪ ،‬وأن ل يقربوها‬
‫إل بالتي هي أحسن‪ ،‬وكذلك ل يحابون فيهم صديقا ول غيره‪ ،‬في تزوج وغيره‪ ،‬على وجه الهضم‬
‫لحقوقهم‪ .‬وهذا من رحمته تعالى بعباده‪ ،‬حيث حثّ غاية الحث على القيام بمصالح من ل يقوم‬
‫بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه‪.‬‬

‫ثم حثّ على الحسان عموما فقال‪َ { :‬ومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ْ} لليتامى ولغيرهم سواء كان الخير‬
‫متعديا أو لزما { فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ْ} أي‪ :‬قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير‪ ،‬قلة وكثرة‪،‬‬
‫حسنا وضده‪ ،‬فيجازي كُلّا بحسب عمله‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 128‬وَإِنِ امْرََأةٌ خَا َفتْ مِنْ َبعِْلهَا نُشُوزًا َأوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا‬
‫ح وَإِنْ ُتحْسِنُوا وَتَ ّتقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا ْ}‬
‫حضِ َرتِ الْأَ ْنفُسُ الشّ ّ‬
‫صُلْحًا وَالصّلْحُ خَيْ ٌر وَأُ ْ‬

‫أي‪ :‬إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي‪ :‬ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها‪ ،‬فالحسن‬
‫في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللزمة لزوجها على‬
‫وجه تبقى مع زوجها‪ ،‬إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن‪ ،‬أو‬
‫القسم بأن تسقط حقها منه‪ ،‬أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها‪.‬‬

‫فإذا اتفقا على هذه الحالة فل جناح ول بأس عليهما فيها‪ ،‬ل عليها ول على الزوج‪ ،‬فيجوز حينئذ‬
‫لزوجها البقاء معها على هذه الحال‪ ،‬وهي خير من الفرقة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَالصّلْحُ خَيْرٌ ْ}‬

‫ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الشياء‬
‫أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه‪ ،‬لما فيها من الصلح وبقاء اللفة والتصاف‬
‫بصفة السماح‪.‬‬

‫وهو جائز في جميع الشياء إل إذا أحلّ حراما أو حرّم حلل‪ ،‬فإنه ل يكون صلحا وإنما يكون‬
‫جورا‪.‬‬

‫واعلم أن كل حكم من الحكام ل يتم ول يكمل إل بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه‪ ،‬فمن ذلك هذا‬
‫الحكم الكبير الذي هو الصلح‪ ،‬فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير‪ ،‬والخير كل عاقل‬
‫يطلبه ويرغب فيه‪ ،‬فإن كان ‪-‬مع ذلك‪ -‬قد أمر ال به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة‬
‫فيه‪.‬‬

‫حضِرَتِ الْأَ ْنفُسُ الشّحّ ْ} أي‪ :‬جبلت النفوس على الشح‪ ،‬وهو‪ :‬عدم الرغبة‬
‫وذكر المانع بقوله‪ { :‬وَُأ ْ‬
‫في بذل ما على النسان‪ ،‬والحرص على الحق الذي له‪ ،‬فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا‪ ،‬أي‪:‬‬
‫فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم‪ ،‬وتستبدلوا به ضده وهو السماحة‪،‬‬
‫وهو بذل الحق الذي عليك؛ والقتناع ببعض الحق الذي لك‪.‬‬

‫فمتى وفق النسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله‪ ،‬وتسهلت‬
‫الطريق للوصول إلى المطلوب‪ .‬بخلف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه‪ ،‬فإنه يعسر عليه‬
‫الصلح والموافقة‪ ،‬لنه ل يرضيه إل جميع ماله‪ ،‬ول يرضى أن يؤدي ما عليه‪ ،‬فإن كان خصمه‬
‫مثله اشتد المر‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَإِنْ ُتحْسِنُوا وَتَ ّتقُوا ْ} أي‪ :‬تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم‬
‫يكن يراه فإنه يراه‪ ،‬وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الحسان‪ ،‬من نفع بمال‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو جاه‪،‬‬
‫أو غير ذلك‪ { .‬وَتَتّقُوا ْ} ال بفعل جميع المأمورات‪ ،‬وترك جميع المحظورات‪ .‬أو تحسنوا بفعل‬
‫المأمور‪ ،‬وتتقوا بترك المحظور { فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا ْ} قد أحاط به علما وخبرا‪،‬‬
‫بظاهره وباطنه‪ ،‬فيحفظه لكم‪ ،‬ويجازيكم عليه أتم الجزاء‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 129‬وَلَنْ َتسْتَطِيعُوا أَنْ َت ْعدِلُوا بَيْنَ النّسَا ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ فَلَا َتمِيلُوا ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ فَتَذَرُوهَا‬
‫غفُورًا رَحِيمًا ْ}‬
‫كَا ْل ُمعَلّقَ ِة وَإِنْ ُتصِْلحُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أن الزواج ل يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء‪ ،‬وذلك لن العدل‬
‫يستلزم وجود المحبة على السواء‪ ،‬والداعي على السواء‪ ،‬والميل في القلب إليهن على السواء‪ ،‬ثم‬
‫العمل بمقتضى ذلك‪ .‬وهذا متعذر غير ممكن‪ ،‬فلذلك عفا ال عما ل يستطاع‪ ،‬ونهى عما هو ممكن‬
‫بقوله‪ { :‬فَلَا َتمِيلُوا ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ فَ َتذَرُوهَا كَا ْل ُمعَلّقَةِ ْ} أي‪ :‬ل تميلوا ميل كثيرا بحيث ل تؤدون حقوقهن‬
‫الواجبة‪ ،‬بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل‪.‬‬

‫فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها‪ ،‬بخلف الحب والوطء ونحو ذلك‪ ،‬فإن‬
‫الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها‪ ،‬صارت كالمعلقة التي ل زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج‪،‬‬
‫ول ذات زوج يقوم بحقوقها‪.‬‬

‫{ وَإِنْ ُتصِْلحُوا ْ} ما بينكم وبين زوجاتكم‪ ،‬بإجبار أنفسكم على فعل ما ل تهواه النفس‪ ،‬احتسابا‬
‫وقياما بحق الزوجة‪ ،‬وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس‪ ،‬وتصلحوا أيضا بين الناس فيما‬
‫تنازعوا فيه‪ ،‬وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم‪.‬‬
‫غفُورًا َرحِيمًا‬
‫{ وَتَ ّتقُوا ْ} ال بفعل المأمور وترك المحظور‪ ،‬والصبر على المقدور‪ { .‬فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ‬
‫ْ} يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب‪ ،‬ويرحمكم كما عطفتم على‬
‫أزواجكم ورحمتموهن‪.‬‬

‫حكِيمًا ْ}‬
‫سعًا َ‬
‫سعَتِهِ َوكَانَ اللّ ُه وَا ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 130‬وَإِنْ يَ َتفَ ّرقَا ُيغْنِ اللّهُ كُلّا مِنْ َ‬

‫هذه الحالة الثالثة بين الزوجين‪ ،‬إذا تعذر التفاق فإنه ل بأس بالفراق‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنْ يَ َتفَ ّرقَا ْ} أي‪:‬‬
‫سعَتِهِ ْ} أي‪ :‬من فضله‬
‫بطلق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك { ُيغْنِ اللّهُ كُلّا ْ} من الزوجين { مِنْ َ‬
‫وإحسانه الواسع الشامل‪ .‬فيغني الزوج بزوجة خير له منها‪ ،‬ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها‬
‫من زوجها‪ ،‬فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق‪ ،‬القائم بمصالحهم‪ ،‬ولعل ال يرزقها‬
‫سعًا ْ} أي‪ :‬كثير الفضل واسع الرحمة‪ ،‬وصلت رحمته وإحسانه‬
‫زوجا خيرا منه‪َ { ،‬وكَانَ اللّ ُه وَا ِ‬
‫إلى حيث وصل إليه علمه‪.‬‬

‫حكِيمًا ْ} أي‪ :‬يعطي بحكمة‪ ،‬ويمنع لحكمة‪ .‬فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده‬
‫ولكنه مع ذلك { َ‬
‫من إحسانه‪ ،‬بسبب من العبد ل يستحق معه الحسان‪ ،‬حرمه عدل وحكمة‪.‬‬

‫ض وََلقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ‬


‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 132 ، 131‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ض َوكَانَ اللّهُ غَنِيّا‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫قَبِْلكُ ْم وَإِيّاكُمْ أَنِ ا ّتقُوا اللّ َه وَإِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ض َو َكفَى بِاللّهِ َوكِيلًا ْ}‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫حمِيدًا * وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير‪ ،‬وتصرفه بأنواع‬
‫التصريف قدرا وشرعا‪ ،‬فتصرفه الشرعي أن وصى الولين والخرين أهل الكتب السابقة‬
‫واللحقة بالتقوى المتضمنة للمر والنهي‪ ،‬وتشريع الحكام‪ ،‬والمجازاة لمن قام بهذه الوصية‬
‫بالثواب‪ ،‬والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِنْ َت ْكفُرُوا ْ} بأن تتركوا تقوى‬
‫ال‪ ،‬وتشركوا بال ما لم ينزل به عليكم سلطانا‪ ،‬فإنكم ل تضرون بذلك إل أنفسكم‪ ،‬ول تضرون‬
‫ال شيئا ول تنقصون ملكه‪ ،‬وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر‪ ،‬مطيعون له خاضعون لمره‪.‬‬
‫ض َوكَانَ اللّهُ غَنِيّا‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫ولهذا رتب على ذلك قوله‪ { :‬وَإِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫حمِيدًا ْ} له الجود الكامل والحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته التي ل ينقصها النفاق ول‬
‫َ‬
‫يغيضها نفقة‪ ،‬سحاء الليل والنهار‪ ،‬لو اجتمع أهل السماوات وأهل الرض أولهم وآخرهم‪ ،‬فسأل‬
‫كل [واحد] منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا‪ ،‬ذلك بأنه جواد واجد ماجد‪ ،‬عطاؤه كلم‬
‫وعذابه كلم‪ ،‬إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون‪.‬‬
‫ومن تمام غناه أنه كامل الوصاف‪ ،‬إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه‪ ،‬لكان فيه نوع افتقار‬
‫إلى ذلك الكمال‪ ،‬بل له كل صفة كمال‪ ،‬ومن تلك الصفة كمالها‪ ،‬ومن تمام غناه أنه لم يتخذ‬
‫صاحبة ول ولدا‪ ،‬ول شريكا في ملكه ول ظهيرا‪ ،‬ول معاونا له على شيء من تدابير ملكه‪.‬‬

‫ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع‬
‫حوائجهم الدقيقة والجليلة‪ ،‬فقام تعالى بتلك المطالب والسئلة وأغناهم وأقناهم‪ ،‬ومَنّ عليهم بلطفه‬
‫وهداهم‪.‬‬

‫وأما الحميد فهو من أسماء ال تعالى الجليلة الدال على أنه [هو] المستحق لكل حمد ومحبة وثناء‬
‫وإكرام‪ ،‬وذلك لما اتصف به من صفات الحمد‪ ،‬التي هي صفة الجمال والجلل‪ ،‬ولما أنعم به على‬
‫خلقه من النّعم الجزال‪ ،‬فهو المحمود على كل حال‪.‬‬

‫حمِيدُ ْ}!! فإنه غني محمود‪ ،‬فله كمال من‬


‫وما أحسن اقتران هذين السمين الكريمين { ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ‬
‫غناه‪ ،‬وكمال من حمده‪ ،‬وكمال من اقتران أحدهما بالخر‪.‬‬

‫ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الرض‪ ،‬وأنه على كل شيء وكيل‪ ،‬أي‪ :‬عالم قائم‬
‫بتدبير الشياء على وجه الحكمة‪ ،‬فإن ذلك من تمام الوكالة‪ ،‬فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل‬
‫عليه‪ ،‬والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره‪ ،‬وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة‪ ،‬فما‬
‫نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل‪ ،‬وال تعالى منزه عن كل نقص‪.‬‬

‫س وَيَ ْأتِ بِآخَرِينَ َوكَانَ اللّهُ عَلَى ذَِلكَ َقدِيرًا * مَنْ‬


‫{ ‪ { }ْ 134 - 133‬إِنْ َيشَأْ يُذْهِ ْب ُكمْ أَ ّيهَا النّا ُ‬
‫سمِيعًا َبصِيرًا ْ}‬
‫كَانَ يُرِيدُ َثوَابَ الدّنْيَا َفعِنْدَ اللّهِ َثوَابُ الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة َوكَانَ اللّهُ َ‬

‫أي‪ :‬هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم { إِنْ يَشَأْ يُ ْذهِ ْبكُمْ أَ ّيهَا النّاسُ‬
‫وَيَ ْأتِ بِآخَرِينَ ْ} غيركم هم أطوع ل منكم وخير منكم‪ ،‬وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على‬
‫كفرهم وإعراضهم عن ربهم‪ ،‬فإن ال ل يعبأ بهم شيئا إن لم يطيعوه‪ ،‬ولكنه يمهل ويملي ول‬
‫يهمل‪.‬‬

‫ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا‪ ،‬وليس له إرادة في الخرة فإنه‬
‫قد قصر سعيه ونظره‪ ،‬ومع ذلك فل يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب ال له منها‪ ،‬فإنه‬
‫تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والخرة‪ ،‬فليطلبا منه ويستعان به عليهما‪ ،‬فإنه‬
‫ل ينال ما عنده إل بطاعته‪ ،‬ول تدرك المور الدينية والدنيوية إل بالستعانة به‪ ،‬والفتقار إليه‬
‫على الدوام‪.‬‬

‫وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه‪ ،‬وخذلن من يخذله وفي عطائه ومنعه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ‬
‫سمِيعًا َبصِيرًا ْ}‬
‫اللّهُ َ‬

‫سكُمْ َأوِ‬
‫شهَدَاءَ لِلّهِ وََلوْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫سطِ ُ‬
‫{ ‪ }ْ 135‬ثم قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ بِا ْلقِ ْ‬
‫ن وَالَْأقْرَبِينَ إِنْ َيكُنْ غَنِيّا َأوْ فَقِيرًا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا فَلَا تَتّ ِبعُوا ا ْل َهوَى أَنْ َتعْدِلُوا وَإِنْ تَ ْلوُوا َأوْ‬
‫ا ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫ُتعْ ِرضُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا ْ}‬

‫ش َهدَاءَ لِلّهِ ْ} والقوّام صيغة مبالغة‪ ،‬أي‪:‬‬


‫يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا { َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ ُ‬
‫كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬فالقسط في‬
‫حقوق ال أن ل يستعان بنعمه على معصيته‪ ،‬بل تصرف في طاعته‪.‬‬

‫والقسط في حقوق الدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك‪ .‬فتؤدي النفقات‬
‫الواجبة‪ ،‬والديون‪ ،‬وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به‪ ،‬من الخلق والمكافأة وغير ذلك‪.‬‬

‫ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالت والقائلين‪ ،‬فل يحكم لحد القولين أو أحد المتنازعين‬
‫لنتسابه أو ميله لحدهما‪ ،‬بل يجعل وجهته العدل بينهما‪ ،‬ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على‬
‫سكُمْ َأوِ‬
‫شهَدَاءَ لِلّ ِه وََلوْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫أي وجه كان‪ ،‬حتى على الحباب بل على النفس‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬‬
‫ن وَالَْأقْرَبِينَ إِنْ َيكُنْ غَنِيّا َأوْ فَقِيرًا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا ْ} أي‪ :‬فل تراعوا الغني لغناه‪ ،‬ول الفقير‬
‫ا ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫بزعمكم رحمة له‪ ،‬بل اشهدوا بالحق على من كان‪.‬‬

‫والقيام بالقسط من أعظم المور وأدل على دين القائم به‪ ،‬وورعه ومقامه في السلم‪ ،‬فيتعين على‬
‫من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الهتمام‪ ،‬وأن يجعله ُنصْب عينيه‪ ،‬ومحل إرادته‪،‬‬
‫وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به‪.‬‬

‫وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى‪ ،‬ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله‪ { :‬فَلَا تَتّ ِبعُوا ا ْل َهوَى‬
‫أَنْ َتعْدِلُوا ْ} أي‪ :‬فل تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق‪ ،‬فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن‬
‫الصواب‪ ،‬ولم توفقوا للعدل‪ ،‬فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطل‬
‫والباطل حقا‪ ،‬وإما أن يعرف الحق ويتركه لجل هواه‪ ،‬فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي‬
‫إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫ولما بيّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك‪ ،‬وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات‬
‫وغيرها‪ ،‬وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه‪ ،‬أو من بعض الوجوه‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها‪ ،‬أو تأويل الشاهد على أمر آخر‪ ،‬فإن هذا من اللي لنه‬
‫النحراف عن الحق‪َ { .‬أوْ ُتعْ ِرضُوا ْ} أي‪ :‬تتركوا القسط المنوط بكم‪ ،‬كترك الشاهد لشهادته‪،‬‬
‫وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به‪.‬‬

‫{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا ْ} أي‪ :‬محيط بما فعلتم‪ ،‬يعلم أعمالكم خفيها وجليها‪ ،‬وفي هذا‬
‫تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض‪ .‬ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور‪،‬‬
‫لنه أعظم جرما‪ ،‬لن الولين تركا الحق‪ ،‬وهذا ترك الحق وقام بالباطل‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 136‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي نَ ّزلَ عَلَى رَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي‬
‫ضلّ ضَلَالًا َبعِيدًا ْ}‬
‫أَنْ َزلَ مِنْ قَ ْبلُ َومَنْ َي ْكفُرْ بِاللّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِل ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ َفقَدْ َ‬

‫اعلم أن المر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه‪ ،‬فهذا يكون أمرا له‬
‫في الدخول فيه‪ ،‬وذلك كأمر من ليس بمؤمن باليمان‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬يَأَ ّيهَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ‬
‫آمِنُوا ِبمَا نَزّلْنَا ُمصَ ّدقًا ّلمَا َم َعكُمْ ْ} الية‪.‬‬

‫وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد‪،‬‬
‫ومنه ما ذكره ال في هذه الية من أمر المؤمنين باليمان‪ ،‬فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح‬
‫إيمانهم من الخلص والصدق‪ ،‬وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات‪.‬‬

‫ويقتضي أيضا المر بما لم يوجد من المؤمن من علوم اليمان وأعماله‪ ،‬فإنه كلما وصل إليه نص‬
‫وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من اليمان المأمور به‪.‬‬

‫وكذلك سائر العمال الظاهرة والباطنة‪ ،‬كلها من اليمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة‪،‬‬
‫وأجمع عليه سلف المة‪.‬‬

‫ثم الستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى‪ { :‬يَأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ حَقّ‬
‫ُتقَاتِ ِه وَلَا َتمُوتُنّ إِلّا وَأَنتُم مّسِْلمُونَ ْ} وأمر هنا باليمان به وبرسوله‪ ،‬وبالقرآن وبالكتب المتقدمة‪،‬‬
‫فهذا كله من اليمان الواجب الذي ل يكون العبد مؤمنا إل به‪ ،‬إجمال فيما لم يصل إليه تفصيله‬
‫وتفصيل فيما علم من ذلك بالتفصيل‪ ،‬فمن آمن هذا اليمان المأمور به‪ ،‬فقد اهتدى وأنجح‪َ { .‬ومَن‬
‫ل ضَلَالًا َبعِيدًا ْ} وأي ضلل أبعد من ضلل‬
‫ضّ‬‫َي ْكفُرْ بِاللّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ َفقَ ْد َ‬
‫من ترك طريق الهدى المستقيم‪ ،‬وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الليم؟"‬

‫واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها‪ ،‬لتلزمها وامتناع وجود اليمان‬
‫ببعضها دون بعض‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫{ ‪ { }ْ 137‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ َكفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا ُثمّ ازْدَادُوا كُفْرًا َلمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم وَلَا‬
‫لِ َيهْدِ َيهُمْ سَبِيلًا ْ}‬

‫أي‪ :‬من تكرر منه الكفر بعد اليمان فاهتدى ثم ضل‪ ،‬وأبصر ثم عمي‪ ،‬وآمن ثم كفر واستمر‬
‫على كفره وازداد منه‪ ،‬فإنه بعيد من التوفيق والهداية لقوم الطريق‪ ،‬وبعيد من المغفرة لكونه أتى‬
‫بأعظم مانع يمنعه من حصولها‪ .‬فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا ل يزول كما قال تعالى‪ { :‬فََلمّا‬
‫زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ ْ} { وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ ْ} ودلت الية‪:‬‬
‫أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى اليمان‪ ،‬وتركوا ما هم عليه من الكفران‪ ،‬فإن ال يغفر‬
‫لهم‪ ،‬ولو تكررت منهم الردة‪.‬‬

‫وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت‬
‫منه ثم عاد إلى التوبة‪ ،‬عاد ال له بالمغفرة‪.‬‬

‫عذَابًا أَلِيمًا * الّذِينَ يَتّخِذُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ‬


‫{ ‪ { }ْ 139 ، 138‬بَشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ بِأَنّ َلهُمْ َ‬
‫جمِيعًا ْ}‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَيَبْ َتغُونَ عِ ْندَهُمُ ا ْلعِ ّزةَ فَإِنّ ا ْلعِ ّزةَ لِلّهِ َ‬

‫البشارة تستعمل في الخير‪ ،‬وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الية‪ .‬يقول تعالى‪ { :‬بَشّرِ‬
‫ا ْلمُنَا ِفقِينَ ْ} أي‪ :‬الذين أظهروا السلم وأبطنوا الكفر‪ ،‬بأقبح بشارة وأسوئها‪ ،‬وهو العذاب الليم‪،‬‬
‫وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالتهم ونصرتهم‪ ،‬وتركهم لموالة المؤمنين‪ ،‬فأي شيء حملهم على‬
‫ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟‬

‫وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين‪ ،‬ساء ظنهم بال وضعف يقينهم بنصر ال لعباده المؤمنين‪،‬‬
‫ولحظوا بعض السباب التي عند الكافرين‪ ،‬وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك‪ ،‬فاتخذوا الكافرين‬
‫أولياء يتعززون بهم ويستنصرون‪.‬‬

‫والحال أن العزة ل جميعا‪ ،‬فإن نواصي العباد بيده‪ ،‬ومشيئته نافذة فيهم‪ .‬وقد تكفل بنصر دينه‬
‫وعباده المؤمنين‪ ،‬ولو تخلل ذلك بعض المتحان لعباده المؤمنين‪ ،‬وإدالة العدو عليهم إدالة غير‬
‫مستمرة‪ ،‬فإن العاقبة والستقرار للمؤمنين‪ ،‬وفي هذه الية الترهيب العظيم من موالة الكافرين؛‬
‫وترك موالة المؤمنين‪ ،‬وأن ذلك من صفات المنافقين‪ ،‬وأن اليمان يقتضي محبة المؤمنين‬
‫وموالتهم‪ ،‬وبغض الكافرين وعداوتهم‪.‬‬

‫س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَلَا‬


‫{ ‪َ { }ْ 141 ، 140‬وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ‬
‫ن وَا ْلكَافِرِينَ فِي‬
‫َت ْقعُدُوا َم َعهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّنكُمْ إِذًا مِثُْلهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَافِقِي َ‬
‫جمِيعًا *الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِب ُكمْ فَإِنْ كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ قَالُوا أََلمْ َنكُنْ َم َعكُ ْم وَإِنْ كَانَ لِ ْلكَافِرِينَ‬
‫جهَنّمَ َ‬
‫َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَنْ َي ْ‬
‫حوِذْ عَلَ ْيكُمْ وَ َنمْنَ ْعكُمْ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاللّهُ يَ ْ‬
‫َنصِيبٌ قَالُوا أََلمْ نَسْ َت ْ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلًا }‬

‫أي‪ :‬وقد بيّن ال لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي { أَنْ‬
‫س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا } أي‪ :‬يستهان بها‪ .‬وذلك أن الواجب على كل مكلف في‬
‫إِذَا َ‬
‫آيات ال اليمان بها وتعظيمها وإجللها وتفخيمها‪ ،‬وهذا المقصود بإنزالها‪ ،‬وهو الذي خَلَق ال‬
‫الخَلْق لجله‪ ،‬فضد اليمان الكفر بها‪ ،‬وضد تعظيمها الستهزاء بها واحتقارها‪ ،‬ويدخل في ذلك‬
‫مجادلة الكفار والمنافقين لبطال آيات ال ونصر كفرهم‪.‬‬

‫وكذلك المبتدعون على اختلف أنواعهم‪ ،‬فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الستهانة بآيات ال‬
‫لنها ل تدل إل على حق‪ ،‬ول تستلزم إل صدقا‪ ،‬بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي‬
‫والفسوق التي يستهان فيها بأوامر ال ونواهيه‪ ،‬وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي‬
‫عن القعود معهم { حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ } أي‪ :‬غير الكفر بآيات ال والستهزاء بها‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُكمْ إِذًا } أي‪ :‬إن قعدتم معهم في الحال المذكورة { مِثُْلهُمْ } لنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم‪،‬‬
‫والراضي بالمعصية كالفاعل لها‪ ،‬والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى ال به‪ ،‬فإنه يتعين عليه‬
‫النكار عليهم مع القدرة‪ ،‬أو القيام مع عدمها‪.‬‬

‫جمِيعًا } كما اجتمعوا على الكفر والموالة ول ينفع‬


‫جهَنّمَ َ‬
‫{ إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلكَافِرِينَ فِي َ‬
‫ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ‬
‫الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُو َ‬
‫لِلّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِن نّو ِركُمْ } إلى آخر اليات‪.‬‬

‫ثم ذكر تحقيق موالة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال‪ { :‬الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ } أي‪:‬‬
‫ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها‪ ،‬وتنتهون إليها من خير أو شر‪ ،‬قد أعدوا لكل حالة جوابا‬
‫بحسب نفاقهم‪ { .‬فَإِن كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوا أََلمْ َنكُن ّم َعكُمْ } فيظهرون أنهم مع المؤمنين‬
‫ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم‪ ،‬وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم‪.‬‬

‫{ وَإِن كَانَ لِ ْلكَافِرِينَ َنصِيبٌ } ولم يقل فتح؛ لنه ل يحصل لهم فتح‪ ،‬يكون مبدأ لنصرتهم‬
‫المستمرة‪ ،‬بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر‪ ،‬حكمة من ال‪ .‬فإذا كان ذلك { قَالُوا‬
‫حوِذْ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬نستولي عليكم { وَ َنمْ َن ْعكُم مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬يتصنعون عندهم بكف‬
‫أَلَمْ َنسْتَ ْ‬
‫أيديهم عنهم مع القدرة‪ ،‬ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في القتال‪،‬‬
‫ومظاهرة العداء عليهم‪ ،‬وغير ذلك مما هو معروف منهم‪.‬‬

‫ح ُكمُ بَيْ َنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة‪ ،‬ويعذب المنافقين‬
‫{ فَاللّهُ يَ ْ‬
‫والمنافقات والمشركين والمشركات‪.‬‬

‫ج َعلَ اللّهُ لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلًا } أي‪ :‬تسلطا واستيلء عليهم‪ ،‬بل ل تزال طائفة‬
‫{ وَلَن َي ْ‬
‫من المؤمنين على الحق منصورة‪ ،‬ل يضرهم من خذلهم ول من خالفهم‪ ،‬ول يزال ال يحدث من‬
‫أسباب النصر للمؤمنين‪ ،‬ودفعٍ لتسلط الكافرين‪ ،‬ما هو مشهود بالعيان‪ .‬حتى إن [بعض] المسلمين‬
‫الذين تحكمهم الطوائف الكافرة‪ ،‬قد بقوا محترمين ل يتعرضون لديانهم ول يكونون مستصغرين‬
‫عندهم‪ ،‬بل لهم العز التام من ال‪ ،‬فله الحمد أوّلًا وآخرًا‪ ،‬وظاهرًا وباطنًا‪.‬‬

‫عهُ ْم وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى‬


‫{ ‪ { } 143 ، 142‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ‬
‫س وَلَا َي ْذكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلًا * مُذَ ْبذَبِينَ بَيْنَ ذَِلكَ لَا إِلَى َهؤُلَا ِء وَلَا إِلَى َهؤُلَا ِء َومَنْ ُيضِْللِ‬
‫يُرَاءُونَ النّا َ‬
‫جدَ لَهُ سَبِيلًا }‬
‫اللّهُ فَلَنْ تَ ِ‬

‫يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه‪ ،‬من قبيح الصفات وشنائع السمات‪ ،‬وأن طريقتهم‬
‫مخادعة ال تعالى‪ ،‬أي‪ :‬بما أظهروه من اليمان وأبطنوه من الكفران‪ ،‬ظنوا أنه يروج على ال‬
‫ول يعلمه ول يبديه لعباده‪ ،‬والحال أن ال خادعهم‪ ،‬فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها‪،‬‬
‫خداع لنفسهم‪ .‬وأي‪ :‬خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟"‬

‫ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه‪ ،‬حيث جمع بين المعصية‪ ،‬ورآها حسنة‪ ،‬وظنها من العقل‬
‫والمكر‪ ،‬فلله ما يصنع الجهل والخذلن بصاحبه"‬
‫ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا‬
‫ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره ال في قوله‪َ { :‬يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُو َ‬
‫جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُـوا نُورًا َفضُ ِربَ بَيْ َنهُم ِبسُـورٍ َلهُ بَابٌ‬
‫انظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِن نّو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ‬
‫حمَـ ُة وَظَاهـ ُرهُ مِن قِبَِلهِ ا ْلعَذَابُ يُنَادُو َنهُمْ أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ } إلى آخر اليات‪.‬‬
‫بَاطُِنهُ فِيهِ الرّ ْ‬

‫" وَ " من صفاتهم أنهم { ِإذَا قَامُوا إِلَى الصّلَاةِ } ‪-‬إن قاموا‪ -‬التي هي أكبر الطاعات العملية‬
‫{ قَامُوا كُسَالَى } متثاقلين لها متبرمين من فعلها‪ ،‬والكسل ل يكون إل من فقد الرغبة من قلوبهم‪،‬‬
‫فلول أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى ال وإلى ما عنده‪ ،‬عادمة لليمان‪ ،‬لم يصدر منهم الكسل‪{ ،‬‬
‫يُرَاءُونَ النّاسَ } أي‪ :‬هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم‪ ،‬مراءاة الناس‪،‬‬
‫يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ول يخلصون ل‪ ،‬فلهذا { لَا يَ ْذكُرُونَ اللّهَ ِإلّا قَلِيلًا }‬
‫لمتلء قلوبهم من الرياء‪ ،‬فإن ذكر ال تعالى وملزمته ل يكون إل من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة‬
‫ال وعظمته‪.‬‬

‫{ ُمذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَِلكَ لَا إِلَى َهؤُلَا ِء وَلَا ِإلَى َهؤُلَاءِ } أي‪ :‬مترددين بين فريق المؤمنين وفريق‬
‫الكافرين‪ .‬فل من المؤمنين ظاهرا وباطنا‪ ،‬ول من الكافرين ظاهرا وباطنا‪ .‬أعطوا باطنهم‬
‫للكافرين وظاهرهم للمؤمنين‪ ،‬وهذا أعظم ضلل يقدر‪ .‬ولهذا قـال‪َ { :‬ومَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ‬
‫سَبِيلًا } أي‪ :‬لن تجد طريقا لهدايته ول وسيلة لترك غوايته‪ ،‬لنه انغلق عنه باب الرحمة‪ ،‬وصار‬
‫بدله كل نقمة‪.‬‬

‫فهذه الوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها‪ ،‬من الصدق ظاهرا‬
‫وباطنا‪ ،‬والخلص‪ ،‬وأنهم ل يجهل ما عندهم‪ ،‬ونشاطهم في صلتهم وعباداتهم‪ ،‬وكثرة ذكرهم ل‬
‫تعالى‪ .‬وأنهم قد هداهم ال ووفقهم للصراط المستقيم‪ .‬فليعرض العاقل نفسه على هذين المرين‬
‫وليختر أيهما أولى به‪ ،‬وبال المستعان‪.‬‬

‫جعَلُوا لِلّهِ‬
‫خذُوا ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَ ْ‬
‫{ ‪ { } 144‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّ ِ‬
‫عَلَ ْيكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا }‬

‫لما ذكر أن من صفات المنافقين اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين‪ ،‬نهى عباده المؤمنين أن‬
‫جعَلُوا لِلّهِ عَلَ ْي ُكمْ‬
‫يتصفوا بهذه الحالة القبيحة‪ ،‬وأن يشابهوا المنافقين‪ ،‬فإن ذلك موجب لن { َت ْ‬
‫سُ ْلطَانًا مّبِينًا } أي‪ :‬حجة واضحة على عقوبتكم‪ ،‬فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها‪ ،‬وأخبرنا بما فيها من‬
‫المفاسد‪ ،‬فسلوكها بعد هذا موجِب للعقاب‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على كمال عدل ال‪ ،‬وأن ال ل ُيعَذّب أحدا قبل قيام الحجة عليه‪ ،‬وفيه‬
‫التحذير من المعاصي؛ فإن فاعلها يجعل ل عليه سلطانا مبينا‪.‬‬

‫سفَلِ مِنَ النّا ِر وَلَنْ َتجِدَ َل ُهمْ َنصِيرًا * إِلّا الّذِينَ‬


‫{ ‪ { } 147 - 145‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِي الدّ ْركِ الَْأ ْ‬
‫سوْفَ ُي ْؤتِ اللّهُ‬
‫تَابُوا وََأصْلَحُوا وَاعْ َتصَمُوا بِاللّهِ وَأَخَْلصُوا دِي َنهُمْ ِللّهِ فَأُولَ ِئكَ مَعَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َ‬
‫شكَرْتُمْ وَآمَنْتُ ْم َوكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }‬
‫عظِيمًا * مَا َي ْفعَلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِنْ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َأجْرًا َ‬

‫يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب‪ ،‬وأشر الحالت من العقاب‪ .‬فهم‬
‫تحت سائر الكفار لنهم شاركوهم بالكفر بال ومعاداة رسله‪ ،‬وزادوا عليهم المكر والخديعة‬
‫والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين‪ ،‬على وجه ل يشعر به ول يحس‪ .‬ورتبوا على ذلك‬
‫جريان أحكام السلم عليهم‪ ،‬واستحقاق ما ل يستحقونه‪ ،‬فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب‪ ،‬وليس‬
‫لهم منقذ من عذابه ول ناصر يدفع عنهم بعض عقابه‪ ،‬وهذا عام لكل منافق إل مَنْ مَنّ ال عليهم‬
‫صمُوا بِاللّهِ } والتجأوا إليه في‬
‫بالتوبة من السيئات‪ { .‬وََأصْلَحُوا } له الظواهر والبواطن { وَاعْ َت َ‬
‫جلب منافعهم ودفع المضار عنهم‪ { .‬وََأخَْلصُوا دِي َنهُمْ } الذي هو السلم واليمان والحسان‬
‫{ لِلّهِ }‬

‫فقصدوا وجه ال بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسِلمُوا من الرياء والنفاق‪ ،‬فمن اتصف بهذه الصفات‬
‫س ْوفَ ُي ْؤتِ اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَجْرًا‬
‫{ فَأُولَ ِئكَ مَعَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬في الدنيا‪ ،‬والبرزخ‪ ،‬ويوم القيامة { وَ َ‬
‫عَظِيمًا } ل يعلم كنهه إل ال‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫وتأمل كيف خص العتصام والخلص بالذكر‪ ،‬مع دخولهما في قوله‪ { :‬وََأصْلَحُوا } لن‬
‫العتصام والخلص من جملة الصلح‪ ،‬لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج‬
‫الذي يمكن من القلوب النفاق‪ ،‬فل يزيله إل شدة العتصام بال‪ ،‬ودوام اللجأ والفتقار إليه في‬
‫ف العمال الظاهرة‬
‫دفعه‪ ،‬وكون الخلص منافيا كل المنافاة للنفاق‪ ،‬فذكرهما لفضلهما وتوق ِ‬
‫والباطنة عليهما‪ ،‬ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما‪.‬‬

‫وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلء مع المؤمنين لم يقل‪ :‬وسوف يؤتيهم أجرا عظيما‪ ،‬مع أن السياق‬
‫س ْوفَ ُي ْؤتِ اللّهُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ َأجْرًا عَظِيمًا } لن هذه القاعدة الشريفة ‪-‬لم يزل ال‬
‫فيهم‪ .‬بل قال‪ { :‬وَ َ‬
‫يبدئ فيها ويعيد‪ ،‬إذا كان السياق في بعض الجزئيات‪ ،‬وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان‬
‫ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه‪ ،‬رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته‬
‫تلك القضية وغيرها‪ ،‬ولئل يتوهم اختصاص الحكم بالمر الجزئي‪ ،‬فهذا من أسرار القرآن‬
‫البديعة‪ ،‬فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقال‪ { :‬مَا َي ْفعَلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِن‬
‫شكَرْتُ ْم وَآمَنتُمْ } والحال أن ال شاكر عليم‪ .‬يعطي المتحملين لجله الثقال‪ ،‬الدائبين في العمال‪،‬‬
‫َ‬
‫جزيل الثواب وواسع الحسان‪ .‬ومن ترك شيئًا ل أعطاه ال خيرًا منه‪.‬‬

‫ومع هذا يعلم ظاهركم وباطنكم‪ ،‬وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلص وصدق‪ ،‬وضد ذلك‪ .‬وهو‬
‫يريد منكم التوبة والنابة والرجوع إليه‪ ،‬فإذا أنبتم إليه‪ ،‬فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه ل يتشفى‬
‫بعذابكم‪ ،‬ول ينتفع بعقابكم‪ ،‬بل العاصي ل يضر إل نفسه‪ ،‬كما أن عمل المطيع لنفسه‪.‬‬

‫والشكر هو خضوع القلب واعترافه بنعمة ال‪ ،‬وثناء اللسان على المشكور‪ ،‬وعمل الجوارح‬
‫بطاعته وأن ل يستعين بنعمه على معاصيه‪.‬‬

‫سمِيعًا عَلِيمًا *‬
‫جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ إِلّا مَنْ ظُِل َم َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫حبّ اللّهُ ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 149 ، 148‬لَا يُ ِ‬
‫ع ُفوّا قَدِيرًا }‬
‫خفُوهُ َأوْ َتعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ‬
‫إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا َأوْ تُ ْ‬

‫يخبر تعالى أنه ل يحب الجهر بالسوء من القول‪ ،‬أي‪ :‬يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه‪ ،‬ويشمل‬
‫ذلك جميع القوال السيئة التي تسوء وتحزن‪ ،‬كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من‬
‫المنهي عنه الذي يبغضه ال‪ .‬ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلم الطيب‬
‫اللين‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا مَن ظُلِمَ } أي‪ :‬فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه‪ ،‬ويجهر بالسوء‬
‫لمن جهر له به‪ ،‬من غير أن يكذب عليه ول يزيد على مظلمته‪ ،‬ول يتعدى بشتمه غير ظالمه‪،‬‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فََأجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ }‬
‫ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى‪ ،‬كما قـال تعالى‪َ { :‬فمَنْ َ‬

‫سمِيعًا عَلِيمًا } ولما كانت الية قد اشتملت على الكلم السيئ والحسن والمباح‪ ،‬أخبر‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم‪ ،‬فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك‪ .‬وفيه‬
‫أيضا ترغيب على القول الحسن‪ { .‬عَلِيمٌ } بنياتكم ومصدر أقوالكم‪.‬‬
‫خفُوهُ } وهذا يشمل كل خير قوليّ وفعليّ‪ ،‬ظاهر وباطن‪ ،‬من‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا َأوْ تُ ْ‬
‫واجب ومستحب‪.‬‬

‫{ َأوْ َت ْعفُوا عَن سُوءٍ } أي‪ :‬عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم‪ ،‬فتسمحوا عنه‪ ،‬فإن‬
‫الجزاء من جنس العمل‪ .‬فمن عفا ل عفا ال عنه‪ ،‬ومن أحسن أحسن ال إليه‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬فَإِنّ‬
‫ع ُفوّا قَدِيرًا } أي‪ :‬يعفو عن زلت عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره‪ ،‬ثم يعاملهم‬
‫اللّهَ كَانَ َ‬
‫بعفوه التام الصادر عن قدرته‪.‬‬

‫وفي هذه الية إرشاد إلى التفقه في معاني أسماء ال وصفاته‪ ،‬وأن الخلق والمر صادر عنها‪،‬‬
‫وهي مقتضية له‪ ،‬ولهذا يعلل الحكام بالسماء الحسنى‪ ،‬كما في هذه الية‪.‬‬

‫لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك‪ ،‬بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك‬
‫يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص‪.‬‬

‫{ ‪ { } 152 - 150‬إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِاللّ ِه وَرُسُلِ ِه وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُلِ ِه وَ َيقُولُونَ‬
‫حقّا وَأَعْتَدْنَا‬
‫ض وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتّخِذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيلًا * أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ‬
‫ض وَ َن ْكفُرُ بِ َب ْع ٍ‬
‫ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ‬
‫سوْفَ ُيؤْتِيهِمْ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابًا ُمهِينًا * وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِ ِه وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ أُولَ ِئكَ َ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا }‬
‫أُجُورَ ُه ْم َوكَانَ اللّهُ َ‬

‫هنا قسمان قد وضحا لكل أحد‪ :‬مؤمنٌ بال وبرسله كلّهم وكتبه‪ ،‬وكافرٌ بذلك كله‪.‬‬

‫وبقي قسم ثالث‪ :‬وهو الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض‪ ،‬وأن هذا سبيل ينجيه من‬
‫عذاب ال‪ ،‬إنْ هذا إل مجرد أماني‪ .‬فإن هؤلء يريدون التفريق بين ال وبين رسله‪.‬‬

‫فإن من تولى ال حقيقة تولى جميع رسله لن ذلك من تمام توليه‪ ،‬ومن عادى أحدا من رسله فقد‬
‫عادى ال وعادى جميع رسله‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬مَن كَانَ عَ ُدوّا لّلّهِ } اليات‪.‬‬

‫ن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل‪ ،‬بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫وكذلك مَ ْ‬
‫حقّا } وذلك لئل يتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين اليمان والكفر‪.‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ هُـمُ ا ْلكَـافِرُونَ َ‬

‫ووجه كونهم كافرين ‪ -‬حتى بما زعموا اليمان به‪ -‬أن كل دليل دلهم على اليمان بمن آمنوا به‬
‫موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي كفروا به‪ ،‬وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في‬
‫النبي الذي كفروا به موجود مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به‪.‬‬
‫فلم يبق بعد ذلك إل التشهي والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها‪ ،‬ولما‬
‫عذَابًا‬
‫ذكر أن هؤلء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شامل لهم ولكل كافر فقال‪ { :‬وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫ّمهِينًا } كما تكبروا عن اليمان بال‪ ،‬أهانهم بالعذاب الليم المخزي‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } وهذا يتضمن اليمان بكل ما أخبر ال به عن نفسه وبكل ما جاءت‬
‫حدٍ } من رسله‪ ،‬بل آمنوا بهم كلهم‪ ،‬فهذا هو‬
‫به الرسل من الخبار والحكام‪ { .‬وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ أَ َ‬
‫اليمان الحقيقي‪ ،‬واليقين المبني على البرهان‪.‬‬

‫س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ ُأجُورَهُمْ } أي‪ :‬جزاء إيمانهم وما ترتب عليه من عمل صالح‪ ،‬وقول حسن‪،‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ َ‬
‫وخلق جميل‪ُ ،‬كلّ على حسب حاله‪ .‬ولعل هذا هو السر في إضافة الجور إليهم‪َ { ،‬وكَانَ اللّهُ‬
‫غفُورًا رّحِيمًا } يغفر السيئات ويتقبل الحسنات‪.‬‬
‫َ‬

‫سمَاءِ َفقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ‬


‫{ ‪ { } 161 - 153‬يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابًا مِنَ ال ّ‬
‫جلَ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ‬
‫خذُوا ا ْلعِ ْ‬
‫عقَةُ ِبظُ ْل ِمهِمْ ثُمّ اتّ َ‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّا ِ‬
‫جهْ َرةً فَأَ َ‬
‫مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫ك وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَ َرفَعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِ ْم َوقُلْنَا َلهُمُ ادْخُلُوا‬
‫الْبَيّنَاتُ َفعَ َفوْنَا عَنْ ذَِل َ‬
‫ضهِمْ مِيثَا َقهُ ْم َو ُكفْرِهِمْ‬
‫خذْنَا مِ ْنهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *فَ ِبمَا َنقْ ِ‬
‫ت وَأَ َ‬
‫سجّدًا َوقُلْنَا َلهُمْ لَا َتعْدُوا فِي السّ ْب ِ‬
‫الْبَابَ ُ‬
‫ق َو َقوِْلهِمْ قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا ِب ُكفْرِهِمْ فَلَا ُي ْؤمِنُونَ إِلّا‬
‫بِآيَاتِ اللّ ِه َوقَتِْلهِمُ الْأَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ حَ ّ‬
‫قَلِيلًا * وَ ِب ُكفْرِهِ ْم َو َقوِْلهِمْ عَلَى مَرْيَمَ ُبهْتَانًا عَظِيمًا * َوقَوِْلهِمْ إِنّا قَتَلْنَا ا ْلمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ‬
‫شكّ مِنْهُ مَا َل ُهمْ بِهِ مِنْ عِ ْلمٍ إِلّا‬
‫اللّ ِه َومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُو ُه وََلكِنْ شُبّهَ َلهُ ْم وَإِنّ الّذِينَ اخْ َتَلفُوا فِيهِ َلفِي َ‬
‫حكِيمًا * وَإِنْ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ إِلّا‬
‫ن َومَا قَتَلُوهُ َيقِينًا * َبلْ َر َف َعهُ اللّهُ إِلَيْ ِه َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ‬
‫اتّبَاعَ الظّ ّ‬
‫شهِيدًا * فَبِظُ ْلمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ‬
‫لَ ُي ْؤمِنَنّ ِبهِ قَ ْبلَ َموْتِ ِه وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ عَلَ ْي ِهمْ َ‬
‫أُحِّلتْ َل ُه ْم وَ ِبصَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا * وَأَخْ ِذهِمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُوا عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ‬
‫ل وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }‬
‫طِ‬‫بِالْبَا ِ‬

‫هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى ال عليه وسلم على وجه العناد‬
‫والقتراح‪ ،‬وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم‪ .‬وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم‬
‫القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والنجيل‪ ،‬وهذا غاية الظلم منهم والجهل‪ ،‬فإن الرسول بشر‬
‫عبد مدبر‪ ،‬ليس في يده من المر شيء‪ ،‬بل المر كله ل‪ ،‬وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على‬
‫عباده كما قال تعالى عن الرسول‪ ،‬لما ذكر اليات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ُ { ،‬قلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ إِلّا بَشَرًا رّسُولًا }‬
‫وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا‪ ،‬مجرد دعوى ل دليل‬
‫عليها ول مناسبة‪ ،‬بل ول شبهة‪ ،‬فمن أين يوجد في نبوة أحد من النبياء أن الرسول الذي يأتيكم‬
‫بكتاب نزل مفرقا فل تؤمنوا به ول تصدقوه؟‬

‫بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الحوال مما يدل على عظمته واعتناء ال بمن أنزل عليه‪ ،‬كما‬
‫ك وَرَتّلْنَاهُ‬
‫جمَْل ًة وَاحِ َدةً كَذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا نُ ّزلَ عَلَيْهِ ا ْلقُرْآنُ ُ‬
‫ق وََأحْسَنَ َتفْسِيرًا }‬
‫تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ إِلّا جِئْنَاكَ بِا ْلحَ ّ‬

‫فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم‪ ،‬بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما‬
‫هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به‪ .‬من سؤالهم له رؤية ال عيانا‪،‬‬
‫واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه‪ ،‬من بعد ما رأوا من اليات بأبصارهم ما لم يره غيرهم‪.‬‬

‫ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة‪ ،‬حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا‬
‫أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم‪ ،‬فقبلوا ذلك على وجه الغماض واليمان الشبيه باليمان‬
‫الضروري‪.‬‬

‫ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين‪ ،‬فخالفوا القول‬
‫والفعل‪ .‬ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم ال تلك العقوبة الشنيعة‪.‬‬

‫وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات ال وقتلوا رسله بغير حق‪ .‬ومن‬
‫قولهم‪ :‬إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه‪ ،‬والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبّه لهم غيره‪،‬‬
‫فقتلوا غيره وصلبوه‪.‬‬

‫وادعائهم أن قلوبهم غلف ل تفقه ما تقول لهم ول تفهمه‪ ،‬وبصدهم الناس عن سبيل ال‪ ،‬فصدوهم‬
‫عن الحق‪ ،‬ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلل والغي‪ .‬وبأخذهم السحت والربا مع نهي ال لهم‬
‫عنه والتشديد فيه‪.‬‬

‫فالذين فعلوا هذه الفاعيل ل يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من‬
‫السماء‪ ،‬وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل‪ ،‬وهو أنه إذا صدر منه من‬
‫العتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة‬
‫ما هو من أقبح ما صدر منه‪ ،‬ليعلم كل أحد أن هذا العتراض من ذلك الوادي الخسيس‪ ،‬وأن له‬
‫مقدمات يُجعل هذا معها‪.‬‬
‫وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو‬
‫ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم‪ ،‬وكل حجة‬
‫سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها‪ ،‬دالة ومقررة لنبوة‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ولما كان المراد من تعديد ما عدد ال من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع‪ ،‬بل‬
‫أشار إليها‪ ،‬وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللئق ببسطها‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَإِن مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ إِلّا لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله‪ { :‬قَ ْبلَ‬
‫َموْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب‪ ،‬فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين المر حقيقة‪ ،‬فإنه‬
‫يؤمن بعيسى عليه السلم ولكنه إيمان ل ينفع‪ ،‬إيمان اضطرار‪ ،‬فيكون مضمون هذا التهديد لهم‬
‫والوعيد‪ ،‬وأن ل يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم‪ ،‬فكيف يكون حالهم يوم‬
‫حشرهم وقيامهم؟"‬

‫ويحتمل أن الضمير في قوله‪ { :‬قَ ْبلَ َموْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلم‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬وما من‬
‫أحد من أهل الكتاب إل ليؤمنن بالمسيح عليه السلم قبل موت المسيح‪ ،‬وذلك يكون عند اقتراب‬
‫الساعة وظهور علماتها الكبار‪.‬‬

‫فإنه تكاثرت الحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلم في آخر هذه المة‪ .‬يقتل الدجال‪ ،‬ويضع‬
‫الجزية‪ ،‬ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين‪ .‬ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا‪ ،‬يشهد عليهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬وهل هي موافقة لشرع ال أم ل؟‬

‫وحينئذ ل يشهد إل ببطلن كل ما هم عليه‪ ،‬مما هو مخالف لشريعة القرآن وَِلمَا دعاهم إليه محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬علمنا بذلك‪ِ ،‬لعِ ْلمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلم وصدقه‪ ،‬وأنه ل يشهد‬
‫إل بالحق‪ ،‬إل أن ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلل وباطل‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلل عليهم‪ ،‬وهذا تحريم‬
‫عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم‪ ،‬وصدهم الناس عن سبيل ال‪ ،‬ومنعهم إياهم من الهدى‪ ،‬وبأخذهم‬
‫الربا وقد نهوا عنه‪ ،‬فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل‪ ،‬فعاقبهم ال من جنس فعلهم‬
‫فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها‪ ،‬لكونها طيبة‪ ،‬وأما التحريم الذي على هذه‬
‫المة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫سخُونَ فِي ا ْلعِ ْلمِ مِ ْنهُ ْم وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكَ َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ‬
‫{ ‪َ { } 162‬لكِنِ الرّا ِ‬
‫وَا ْلمُقِيمِينَ الصّلَا َة وَا ْل ُمؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ أُولَ ِئكَ سَ ُنؤْتِيهِمْ َأجْرًا عَظِيمًا }‬

‫سخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ } أي‪ :‬الذين‬


‫لما ذكر معايب أهل الكتاب‪ ،‬ذكر الممدوحين منهم فقال‪َ { :‬لكِنِ الرّا ِ‬
‫ك َومَا‬
‫ثبت العلم في قلوبهم ورسخ اليقان في أفئدتهم فأثمر لهم اليمان التام العام { ِبمَا أُن ِزلَ إِلَ ْي َ‬
‫أُن ِزلَ مِن قَبِْلكَ }‬

‫وأثمر لهم العمال الصالحة من إقامة الصلة وإيتاء الزكاة اللذين هما أفضل العمال‪ ،‬وقد اشتملتا‬
‫على الخلص للمعبود والحسان إلى العبيد‪ .‬وآمنوا باليوم الخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد‪.‬‬

‫عظِيمًا } لنهم جمعوا بين العلم واليمان والعمل الصالح‪ ،‬واليمان بالكتب‬
‫{ أُولَ ِئكَ سَ ُنؤْتِيهِمْ أَجْرًا َ‬
‫والرسل السابقة واللحقة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 165 - 163‬إِنّا َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ َكمَا َأوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ َبعْ ِد ِه وََأوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ‬
‫سلَ ْيمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا‬
‫س وَهَارُونَ وَ ُ‬
‫ب وَيُونُ َ‬
‫ط وَعِيسَى وَأَيّو َ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ وَالْأَسْبَا ِ‬
‫سمَاعِيلَ وَِإسْحَا َ‬
‫وَإِ ْ‬
‫ك َوكَلّمَ اللّهُ مُوسَى َتكْلِيمًا * رُسُلًا‬
‫صهُمْ عَلَ ْي َ‬
‫ص ْ‬
‫ل وَرُسُلًا لَمْ َنقْ ُ‬
‫صصْنَاهُمْ عَلَ ْيكَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫* وَرُسُلًا قَدْ َق َ‬
‫حكِيمًا }‬
‫سلِ َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ‬
‫ن َومُنْذِرِينَ لِئَلّا َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ‬
‫مُبَشّرِي َ‬

‫يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلء‬
‫النبياء عليهم الصلة والسلم وفي هذا عدة فوائد‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن محمدا صلى ال عليه وسلم ليس ببدع من الرسل‪ ،‬بل أرسل ال قبله من المرسلين العدد‬
‫الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته ل وجه له إل الجهل والعناد‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الصول والعدل الذي اتفقوا عليه‪ ،‬وأن بعضهم يصدق‬
‫بعضا ويوافق بعضهم بعضا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه من جنس هؤلء الرسل‪ ،‬فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين‪ ،‬فدعوته دعوتهم؛ وأخلقهم‬
‫متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة‪ ،‬فلم يقرنه بالمجهولين؛ ول بالكذابين ول بالملوك‬
‫الظالمين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن في ذكر هؤلء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم‪ ،‬والثناء الصادق عليهم‪ ،‬وشرح أحوالهم‬
‫مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم‪ ،‬واقتداء بهديهم‪ ،‬واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم‪،‬‬
‫ويكون ذلك مصداقا لقوله‪ { :‬سَلَامٌ عَلَى نُــوحٍ فـي ا ْلعَـاَلمِيـنَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ‬
‫عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى ِإلْ يَاسِينَ * إِنّا َكذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ }‬

‫فكل محسن له من الثناء الحسن بين النام بحسب إحسانه‪ .‬والرسل ‪-‬خصوصا هؤلء المسمون‪-‬‬
‫في المرتبة العليا من الحسان‪.‬‬

‫ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم‪ ،‬فذكر أنه آتى داود الزبور‪ ،‬وهو الكتاب‬
‫المعروف المزبور الذي خص ال به داود عليه السلم لفضله وشرفه‪ ،‬وأنه كلم موسى تكليما‪،‬‬
‫أي‪ :‬مشافهة منه إليه ل بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال‪" :‬موسى كليم الرحمن"‪.‬‬

‫وذكر أن الرسل منهم من قصه ال على رسوله‪ ،‬ومنهم من لم يقصصه عليه‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫كثرتهم وأن ال أرسلهم مبشرين لمن أطاع ال واتبعهم‪ ،‬بالسعادة الدنيوية والخروية‪ ،‬ومنذرين‬
‫من عصى ال وخالفهم بشقاوة الدارين‪ ،‬لئل يكون للناس على ال حجة بعد الرسل فيقولوا‪ { :‬مَا‬
‫جَاءَنَا مِن بَشِي ٍر وَلَا َنذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُم بَشِي ٌر وَ َنذِيرٌ }‬

‫فلم يبق للخَلْق على ال حجة لرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم‪ ،‬ومراضي ربهم‬
‫ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار‪ ،‬فمن كفر منهم بعد ذلك فل يلومن إل نفسه‪.‬‬

‫وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب‪ ،‬وذلك أيضا من‬
‫فضله وإحسانه‪ ،‬حيث كان الناس مضطرين إلى النبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا‬
‫الضطرار‪ ،‬فله الحمد وله الشكر‪ .‬ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم‪ ،‬أن يتمها بالتوفيق‬
‫لسلوك طريقهم‪ ،‬إنه جواد كريم‪.‬‬

‫شهِيدًا }‬
‫ش َهدُونَ َو َكفَى بِاللّهِ َ‬
‫ش َهدُ ِبمَا أَنْ َزلَ إِلَ ْيكَ أَنْزَلَهُ ِبعِ ْلمِ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةُ يَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 166‬لكِنِ اللّهُ يَ ْ‬

‫لما ذكر أن ال أوحى إلى رسوله محمد صلى ال عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين‪،‬‬
‫أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به‪ ،‬وأنه { أَنْزَلَهُ ِبعِ ْل ِمهِ } يحتمل أن يكون‬
‫المراد أنزله مشتمل على علمه‪ ،‬أي‪ :‬فيه من العلوم اللهية والحكام الشرعية والخبار الغيبية ما‬
‫هو من علم ال تعالى الذي علم به عباده‪.‬‬

‫ويحتمل أن يكون المراد‪ :‬أنزله صادرا عن علمه‪ ،‬ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته‪،‬‬
‫وأن المعنى‪ :‬إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الوامر والنواهي‪ ،‬وهو يعلم ذلك ويعلم‬
‫حالة الذي أنزله عليه‪ ،‬وأنه دعا الناس إليه‪ ،‬فمن أجابه وصدقه كان وليه‪ ،‬ومن كذبه وعاداه كان‬
‫عدوه واستباح ماله ودمه‪ ،‬وال تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته‪ ،‬ويخذل أعداءه وينصر‬
‫أولياءه‪ ،‬فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟" ول يمكن القدح في هذه الشهادة إل بعد‬
‫القدح بعلم ال وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملئكة على ما أنزل على رسوله‪ ،‬لكمال‬
‫إيمانهم ولجللة هذا المشهود عليه‪.‬‬

‫فإن المور العظيمة ل يستشهد عليها إل الخواص‪ ،‬كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد‪:‬‬
‫حكِيمُ } وكفى‬
‫شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا ُه َو وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَأُولُو ا ْلعِ ْلمِ قَا ِئمًا بِا ْلقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫{ َ‬
‫بال شهيدا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 169 - 167‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قَ ْد ضَلّوا ضَلَالًا َبعِيدًا * إِنّ الّذِينَ‬
‫جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا َوكَانَ‬
‫َكفَرُوا وَظََلمُوا لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم وَلَا لِ َي ْهدِ َيهُمْ طَرِيقًا * إِلّا طَرِيقَ َ‬
‫ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا }‬

‫لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات ال وسلمه عليهم وأخبر برسالة خاتمهم محمد‪ ،‬وشهد بها‬
‫وشهدت ملئكته ‪-‬لزم من ذلك ثبوت المر المقرر والمشهود به‪ ،‬فوجب تصديقهم‪ ،‬واليمان بهم‬
‫واتباعهم‪.‬‬

‫ثم توعد من كفر بهم فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَصَدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي‪ :‬جمعوا بين الكفر‬
‫بأنفسهم وصدّهم الناس عن سبيل ال‪ .‬وهؤلء هم أئمة الكفر ودعاة الضلل { َق ْد ضَلّوا ضَلَالًا‬
‫َبعِيدًا } وأي ضلل أعظم من ضلل من ضل بنفسه وأضل غيره‪ ،‬فباء بالثمين ورجع‬
‫بالخسارتين وفاتته الهدايتان‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَظََلمُوا } وهذا الظلم هو زيادة على‬
‫كفرهم‪ ،‬وإل فالكفر عند إطلق الظلم يدخل فيه‪.‬‬

‫والمراد بالظلم هنا أعمال الكفر والستغراق فيه‪ ،‬فهؤلء بعيدون من المغفرة والهداية للصراط‬
‫جهَنّمَ }‬
‫المستقيم‪ .‬ولهذا قال‪َ { :‬لمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم وَلَا لِ َيهْدِ َيهُمْ طَرِيقًا * إِلّا طَرِيقَ َ‬

‫وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية لنهم استمروا في طغيانهم‪ ،‬وازدادوا في كفرانهم فطبع على‬
‫ظلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }‬
‫قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا‪َ { ،‬ومَا رَ ّبكَ بِ َ‬

‫علَى اللّهِ يَسِيرًا } أي‪ :‬ل يبالي ال بهم ول يعبأ‪ ،‬لنهم ل يصلحون للخير‪ ،‬ول يليق‬
‫{ َوكَانَ ذَِلكَ َ‬
‫بهم إل الحالة التي اختاروها لنفسهم‪.‬‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا َلكُ ْم وَإِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ‬
‫{ ‪ { } 170‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َء ُكمُ الرّسُولُ بِالْ َ‬
‫حكِيمًا }‬
‫علِيمًا َ‬
‫ض َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫مَا فِي ال ّ‬

‫يأمر تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬وذكر السبب‬
‫الموجب لليمان به‪ ،‬والفائدة في اليمان به‪ ،‬والمضرة من عدم اليمان به‪ ،‬فالسبب الموجب هو‬
‫إخباره بأنه جاءهم بالحق‪.‬أي‪ :‬فمجيئه نفسه حق‪ ،‬وما جاء به من الشرع حق‪ ،‬فإن العاقل يعرف‬
‫أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون‪ ،‬وفي كفرهم يترددون‪ ،‬والرسالة قد انقطعت عنهم غير لئق‬
‫بحكمة ال ورحمته‪ ،‬فمن حكمته ورحمته العظيمة نفس إرسال الرسول إليهم‪ ،‬ليعرفهم الهدى من‬
‫الضلل‪ ،‬والغي من الرشد‪ ،‬فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوته‪.‬‬

‫وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم‪ .‬فإن فيه من الخبار بالغيوب‬
‫الماضية والمستقبلة‪ ،‬والخبر عن ال وعن اليوم الخر ‪-‬ما ل يعرف إل بالوحي والرسالة‪ .‬وما‬
‫فيه من المر بكل خير وصلح‪ ،‬ورشد وعدل وإحسان‪ ،‬وصدق وبر وصلة وحسن خلق‪ ،‬ومن‬
‫النهي عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق‪ ،‬والكذب والعقوق‪ ،‬مما يقطع به أنه من عند‬
‫ال‪.‬‬

‫وكلما ازداد به العبد بصيرة‪ ،‬ازداد إيمانه ويقينه‪ ،‬فهذا السبب الداعي لليمان‪ .‬وأما الفائدة في‬
‫اليمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر‪ .‬فاليمان خير للمؤمنين في أبدانهم وقلوبهم‬
‫وأرواحهم ودنياهم وأخراهم‪ .‬وذلك لما يترتب عليه من المصالح والفوائد‪ ،‬فكل ثواب عاجل وآجل‬
‫فمن ثمرات اليمان‪ ،‬فالنصر والهدى والعلم والعمل الصالح والسرور والفراح‪ ،‬والجنة وما‬
‫اشتملت عليه من النعيم كل ذلك مسبب عن اليمان‪.‬‬

‫كما أن الشقاء الدنيوي والخروي من عدم اليمان أو نقصه‪ .‬وأما مضرة عدم اليمان به صلى‬
‫ال عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على اليمان به‪ .‬وأن العبد ل يضر إل نفسه‪ ،‬وال تعالى‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪:‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫غني عنه ل تضره معصية العاصين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫حكِيمًا } في خلقه‬
‫الجميع خلقه وملكه‪ ،‬وتحت تدبيره وتصريفه { َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا } بكل شيء { َ‬
‫وأمره‪ .‬فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية‪ ،‬الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما‪.‬‬

‫{ ‪ { } 171‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَا َتغْلُوا فِي دِي ِنكُ ْم وَلَا َتقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلّا ا ْلحَقّ إِ ّنمَا ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ‬
‫مَرْيَمَ رَسُولُ اللّ ِه َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَى مَرْيَ َم وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّ ِه وَرُسُِل ِه وَلَا َتقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْ َتهُوا خَيْرًا‬
‫ض َو َكفَى بِاللّهِ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َلكُمْ إِ ّنمَا اللّهُ إَِل ٌه وَاحِدٌ سُبْحَا َنهُ أَنْ َيكُونَ لَ ُه وََلدٌ لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫َوكِيلًا }‬

‫ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر المشروع إلى ما ليس‬
‫بمشروع‪ .‬وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى عليه السلم‪ ،‬ورفعه عن مقام النبوة والرسالة‬
‫إلى مقام الربوبية الذي ل يليق بغير ال‪ ،‬فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات‪ ،‬فالغلو كذلك‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَلَا َتقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلّا ا ْلحَقّ } وهذا الكلم يتضمن ثلثة أشياء‪:‬‬

‫أمرين منهي عنهما‪ ،‬وهما قول الكذب على ال‪ ،‬والقول بل علم في أسمائه وصفاته وأفعاله‬
‫وشرعه ورسله‪ ،‬والثالث‪ :‬مأمور به وهو قول الحق في هذه المور‪.‬‬

‫ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية‪ ،‬وكان السياق في شأن عيسى عليه السلم نصّ على قول الحق‬
‫فيه‪ ،‬المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية فقال‪ { :‬إِ ّنمَا ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ } أي‪:‬‬
‫غاية المسيح عليه السلم ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال أعلى حالة تكون للمخلوقين‪،‬‬
‫وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأجلّ المثوبات‪.‬‬

‫وأنه { كَِلمَتُهُ } التي { أَ ْلقَاهَا ِإلَى مَرْ َيمَ } أي‪ :‬كلمة تكلم ال بها فكان بها عيسى‪ ،‬ولم يكن تلك‬
‫الكلمة‪ ،‬وإنما كان بها‪ ،‬وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم‪.‬‬

‫وكذلك قوله‪ { :‬وَرُوحٌ مّنْهُ } أي‪ :‬من الرواح التي خلقها وكملها بالصفات الفاضلة والخلق‬
‫الكاملة‪ ،‬أرسل ال روحه جبريل عليه السلم فنفخ في فرج مريم عليها السلم‪ ،‬فحملت بإذن ال‬
‫بعيسى عليه السلم‪.‬‬

‫فلما بيّن حقيقة عيسى عليه السلم‪ ،‬أمر أهل الكتاب باليمان به وبرسله‪ ،‬ونهاهم أن يجعلوا ال‬
‫ثالث ثلثة أحدهم عيسى‪ ،‬والثاني مريم‪ ،‬فهذه مقالة النصارى قبحهم ال‪.‬‬

‫فأمرهم أن ينتهوا‪ ،‬وأخبر أن ذلك خير لهم‪ ،‬لنه الذي يتعين أنه سبيل النجاة‪ ،‬وما سواه فهو طريق‬
‫الهلك‪ ،‬ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال‪ { :‬إِ ّنمَا اللّهُ إَِل ٌه وَاحِدٌ } أي‪ :‬هو المنفرد باللوهية‪،‬‬
‫الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ { .‬سُ ْبحَانَهُ } أي‪ :‬تنزه وتقدس { أَن َيكُونَ َل ُه وَلَدٌ } لن { َلهُ مَا فِي‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ } فالكل مملوكون له مفتقرون إليه‪ ،‬فمحال أن يكون له شريك منهم أو‬
‫ال ّ‬
‫ولد‪.‬‬

‫ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والخروية وحافظها‪،‬‬
‫ومجازيهم عليها تعالى‪.‬‬
‫ن َومَنْ يَسْتَ ْن ِكفْ‬
‫{ ‪ { } 173 ، 172‬لَنْ يَسْتَ ْن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَنْ َيكُونَ عَ ْبدًا لِلّ ِه وَلَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُو َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ أُجُورَهُمْ‬
‫جمِيعًا * فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَيَسْ َتكْبِرْ فَسَ َيحْشُرُ ُهمْ إِلَيْهِ َ‬
‫عذَابًا أَلِيمًا وَلَا َيجِدُونَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ‬
‫وَيَزِيدُهُمْ مِنْ َفضْلِ ِه وََأمّا الّذِينَ اسْتَ ْن َكفُوا وَاسْ َتكْبَرُوا فَ ُيعَذّ ُبهُمْ َ‬
‫وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا }‬

‫لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلم‪ ،‬وذكر أنه عبده ورسوله‪ ،‬ذكر هنا أنه ل‬
‫يستنكف عن عبادة ربه‪ ،‬أي‪ :‬ل يمتنع عنها رغبة عنها‪ ،‬ل هو { وَلَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ } فنزههم‬
‫عن الستنكاف وتنزيههم عن الستكبار من باب أولى‪ ،‬ونفي الشيء فيه إثبات ضده‪.‬‬

‫أي‪ :‬فعيسى والملئكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم‪ ،‬وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم‪،‬‬
‫فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم‪ ،‬فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ول للهيته‪،‬‬
‫بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار‪.‬‬

‫ول يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله ال فيها وترفعه عن العبادة‬
‫كمال‪ ،‬بل هو النقص بعينه‪ ،‬وهو محل الذم والعقاب‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَن يَسْتَن ِكفْ عَنْ عِبَادَ ِتهِ‬
‫جمِيعًا } أي‪ :‬فسيحشر الخلق كلهم إليه‪ ،‬المستنكفين والمستكبرين وعباده‬
‫حشُرُهُمْ إِلَيْهِ َ‬
‫وَيَسْ َتكْبِرْ فَسَيَ ْ‬
‫المؤمنين‪ ،‬فيحكم بينهم بحكمه العدل‪ ،‬وجزائه الفصل‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬جمعوا بين اليمان المأمور‬


‫ثم فصل حكمه فيهم فقال‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫به‪ ،‬وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات‪ ،‬من حقوق ال وحقوق عباده‪.‬‬

‫{ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُمْ } أي‪ :‬الجور التي رتبها على العمال‪ُ ،‬كلّ بحسب إيمانه وعمله‪.‬‬

‫{ وَيَزِي ُدهُم مِن َفضْلِهِ } من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم‪ ،‬ولم يخطر على‬
‫قلوبهم‪ .‬ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب‪ ،‬والمناكح‪ ،‬والمناظر والسرور‪،‬‬
‫ونعيم القلب والروح‪ ،‬ونعيم البدن‪ ،‬بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على اليمان‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬

‫عذَابًا أَلِيمًا } وهو سخط ال‬


‫{ وََأمّا الّذِينَ اسْتَن َكفُوا وَاسْ َتكْبَرُوا } أي‪ :‬عن عبادة ال تعالى { فَ ُيعَذّ ُبهُمْ َ‬
‫وغضبه‪ ،‬والنار الموقدة التي تطلع على الفئدة‪.‬‬
‫{ وَلَا َيجِدُونَ َلهُم مّن دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا } أي‪ :‬ل يجدون أحدا من الخلق يتولهم فيحصل‬
‫لهم المطلوب‪ ،‬ول مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب‪ ،‬بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين‪ ،‬وتركهم‬
‫في عذابهم خالدين‪ ،‬وما حكم به تعالى فل رادّ لحكمه ول مغيّر لقضائه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 175 ، 174‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَا َءكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ نُورًا مُبِينًا * فََأمّا‬
‫ل وَ َيهْدِيهِمْ إِلَ ْي ِه صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا }‬
‫ضٍ‬‫حمَةٍ مِنْهُ َوفَ ْ‬
‫صمُوا بِهِ فَسَ ُيدْخُِل ُهمْ فِي َر ْ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَاعْ َت َ‬

‫يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والنوار الساطعة‪ ،‬ويقيم عليهم‬
‫الحجة‪ ،‬ويوضح لهم المحجة‪ ،‬فقال‪ { :‬يَأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُم بُرْهَانٌ مِن رّ ّبكُمْ } أي‪ :‬حجج قاطعة‬
‫على الحق تبينه وتوضحه‪ ،‬وتبين ضده‪.‬‬

‫سهِمْ‬
‫وهذا يشمل الدلة العقلية والنقلية‪ ،‬اليات الفقية والنفسية { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ َوفِي أَ ْنفُ ِ‬
‫حَتّى يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ }‬

‫وفي قوله‪ { :‬مِن رّ ّبكُمْ } ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته‪ ،‬حيث كان من ربكم الذي رباكم‬
‫التربية الدينية والدنيوية‪ ،‬فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر‪ ،‬أن أوصل إليكم البينات‪،‬‬
‫ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم‪ ،‬والوصول إلى جنات النعيم‪.‬‬

‫{ وَأَنزَلْنَا إِلَ ْي ُكمْ نُورًا مّبِينًا } وهو هذا القرآن العظيم‪ ،‬الذي قد اشتمل على علوم الولين والخرين‬
‫والخبار الصادقة النافعة‪ ،‬والمر بكل عدل وإحسان وخير‪ ،‬والنهي عن كل ظلم وشر‪ ،‬فالناس في‬
‫ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره‪ ،‬وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره‪.‬‬

‫ولكن انقسم الناس ‪-‬بحسب اليمان بالقرآن والنتفاع به‪ -‬قسمين‪:‬‬

‫{ فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ } أي‪ :‬اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل‪ ،‬وتنزيهه من كل نقص‬
‫صمُــوا بِـهِ } أي‪ :‬لجأوا إلى ال واعتمدوا عليه وتبرأوا من حولهم وقوتهم‬
‫وعيب‪ { .‬وَاعْ َت َ‬
‫حمَةٍ مّ ْن ُه َو َفضْلٍ } أي‪ :‬فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة‪ ،‬فيوفقهم‬
‫خُلهُمْ فِي رَ ْ‬
‫واستعانوا بربهم‪َ { .‬فسَيُدْ ِ‬
‫للخيرات ويجزل لهم المثوبات‪ ،‬ويدفع عنهم البليات والمكروهات‪.‬‬

‫{ وَ َيهْدِيهِمْ إِلَيْ ِه صِرَاطًا مّسْ َتقِيمًا } أي‪ :‬يوفقهم للعلم والعمل‪ ،‬معرفة الحق والعمل به‪.‬‬
‫أي‪ :‬ومن لم يؤمن بال ويعتصم به ويتمسك بكتابه‪ ،‬منعهم من رحمته‪ ،‬وحرمهم من فضله‪ ،‬وخلى‬
‫بينهم وبين أنفسهم‪ ،‬فلم يهتدوا‪ ،‬بل ضلوا ضلل مبينا‪ ،‬عقوبة لهم على تركهم اليمان فحصلت لهم‬
‫الخيبة والحرمان‪ ،‬نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة‪.‬‬

‫صفُ مَا‬
‫ختٌ فََلهَا ِن ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 176‬يَسْ َتفْتُونَكَ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِي ا ْلكَلَاَلةِ إِنِ امْ ُرؤٌ هََلكَ لَيْسَ لَ ُه وَلَ ٌد وََلهُ أُ ْ‬
‫خ َوةً ِرجَالًا‬
‫ك وَإِنْ كَانُوا إِ ْ‬
‫ك وَ ُهوَ يَرِ ُثهَا إِنْ لَمْ َيكُنْ َلهَا وََلدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فََل ُهمَا الثّلُثَانِ ِممّا تَ َر َ‬
‫تَ َر َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ}‬
‫وَنِسَاءً فَلِل ّذكَرِ مِ ْثلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ أَنْ َتضِلّوا وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬

‫أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى ال عليه وسلم أي‪ :‬في الكللة بدليل قوله‪ُ { :‬قلِ اللّهُ‬
‫ُيفْتِيكُمْ فِي ا ْلكَلَاَلةِ ْ} وهي الميت يموت وليس له ولد صلب ول ولد ابن‪ ،‬ول أب‪ ،‬ول جد‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬إِنِ امْ ُرؤٌ هََلكَ لَيْسَ لَ ُه وَلَدٌ ْ} أي‪ :‬ل ذكر ول أنثى‪ ،‬ل ولد صلب ول ولد ابن‪.‬‬

‫وكذلك ليس له والد‪ ،‬بدليل أنه ورث فيه الخوة‪ ،‬والخوات بالجماع ل يرثون مع الوالد‪ ،‬فإذا‬
‫ختٌ ْ} أي‪ :‬شقيقة أو لب‪ ،‬ل لم‪ ،‬فإنه قد تقدم حكمها‪.‬‬
‫هلك وليـس لـه ولـد ول والـد { وَلَهُ ُأ ْ‬
‫صفُ مَا تَ َركَ ْ} أي نصف متروكات أخيها‪ ،‬من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك‪ ،‬وذلك من‬
‫{ فََلهَا ِن ْ‬
‫بعد الدين والوصية كما تقدم‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ ْ} أي‪ :‬أخوها الشقيق أو الذي للب { يَرِ ُثهَا إِن لّمْ َيكُن ّلهَا وَلَدٌ ْ} ولم يقدر له إرثا لنه‬
‫عاصب فيأخذ مالها كله‪ ،‬إن لم يكن صاحب فرض ول عاصب يشاركه‪ ،‬أو ما أبقت الفروض‪.‬‬

‫خ َوةً ِرجَالًا‬
‫ك وَإِن كَانُوا ِإ ْ‬
‫{ فَإِن كَانَتَا ْ} أي‪ :‬الختان { اثْنَتَيْنِ ْ} أي‪ :‬فما فوق { فََل ُهمَا الثّلُثَانِ ِممّا تَ َر َ‬
‫حظّ الْأُنْثَيَيْنِ ْ} فيسقط‬
‫وَنِسَاءً ْ} أي‪ :‬اجتمع الذكور من الخوة لغير أم مع الناث { فَلِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬
‫فرض الناث ويعصبهن إخوتهن‪.‬‬

‫{ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ أَن َتضِلّوا ْ} أي‪ :‬يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها‪ ،‬ويوضحها ويشرحها لكم فضل‬
‫منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه‪ ،‬وتعملوا بأحكامه‪ ،‬ولئل تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم‬
‫وعدم علمكم‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ} أي‪ :‬عالم بالغيب والشهادة والمور الماضية والمستقبلة‪ ،‬ويعلم حاجتكم‬
‫{ وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫إلى بيانه وتعليمه‪ ،‬فيعلمكم من علمه الذي ينفعكم على الدوام في جميع الزمنة والمكنة‪.‬‬

‫آخر تفسير سورة النساء فلله الحمد والشكر‪.‬‬


‫تفسير سورة المائدة‬
‫وهي مدنية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َأ ْوفُوا بِا ْل ُعقُودِ أُحِّلتْ َلكُمْ َبهِيمَةُ الْأَ ْنعَامِ إِلّا مَا‬
‫{ ‪ { }ْ 1‬بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫حكُمُ مَا يُرِيدُ ْ}‬
‫يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ غَيْرَ ُمحِلّي الصّيْ ِد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ َي ْ‬

‫هذا أمر من ال تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه اليمان بالوفاء بالعقود‪ ،‬أي‪ :‬بإكمالها‪ ،‬وإتمامها‪،‬‬
‫وعدم نقضها ونقصها‪ .‬وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه‪ ،‬من التزام عبوديته‪ ،‬والقيام بها‬
‫أتم قيام‪ ،‬وعدم النتقاص من حقوقها شيئا‪ ،‬والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه‪ ،‬والتي بينه‬
‫وبين الوالدين والقارب‪ ،‬ببرهم وصلتهم‪ ،‬وعدم قطيعتهم‪.‬‬

‫والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر‪ ،‬واليسر والعسر‪ ،‬والتي بينه‬
‫وبين الخلق من عقود المعاملت‪ ،‬كالبيع والجارة‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬وعقود التبرعات كالهبة ونحوها‪،‬‬
‫خ َوةٌ ْ} بالتناصر على‬
‫بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها ال بينهم في قوله‪ { :‬إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ إِ ْ‬
‫الحق‪ ،‬والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع‪.‬‬

‫فهذا المر شامل لصول الدين وفروعه‪ ،‬فكلها داخلة في العقود التي أمر ال بالقيام بها‬

‫ثم قال ممتنا على عباده‪ { :‬أُحِّلتْ َل ُكمْ ْ} أي‪ :‬لجلكم‪ ،‬رحمة بكم { َبهِيمَةُ الْأَ ْنعَامِ ْ} من البل والبقر‬
‫والغنم‪ ،‬بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها‪ ،‬والظباء وحمر الوحش‪ ،‬ونحوها من الصيود‪.‬‬

‫واستدل بعض الصحابة بهذه الية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح‪.‬‬

‫علَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالدّ ُم وََلحْمُ ا ْلخِنزِيرِ ْ} إلى آخر‬


‫علَ ْيكُمْ ْ} تحريمه منها في قوله‪ { :‬حُ ّر َمتْ َ‬
‫{ إِلّا مَا يُتْلَى َ‬
‫الية‪ .‬فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة النعام فإنها محرمة‪.‬‬

‫ولما كانت إباحة بهيمة النعام عامة في جميع الحوال والوقات‪ ،‬استثنى منها الصيد في حال‬
‫الحرام فقال‪ { :‬غَيْرَ ُمحِلّي الصّيْ ِد وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ} أي‪ :‬أحلت لكم بهيمة النعام في كل حال‪ ،‬إل‬
‫حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم‪ ،‬أي‪ :‬متجرئون على قتله في حال الحرام‪،‬‬
‫وفي الحرم‪ ،‬فإن ذلك ل يحل لكم إذا كان صيدا‪ ،‬كالظباء ونحوه‪.‬‬

‫والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش‪.‬‬


‫حكُمُ مَا يُرِيدُ ْ} أي‪ :‬فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته‪ ،‬كما أمركم بالوفاء‬
‫{ إِنّ اللّهَ َي ْ‬
‫بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم‪.‬‬

‫وأحل لكم بهيمة النعام رحمة بكم‪ ،‬وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض‪ ،‬من الميتة‬
‫ونحوها‪ ،‬صونا لكم واحتراما‪ ،‬ومن صيد الحرام احتراما للحرام وإعظاما‪.‬‬

‫شهْرَ ا ْلحَرَا َم وَلَا ا ْل َه ْديَ وَلَا ا ْلقَلَائِ َد وَلَا آمّينَ‬


‫شعَائِرَ اللّهِ وَلَا ال ّ‬
‫حلّوا َ‬
‫{ ‪ { }ْ 2‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُ ِ‬
‫ضوَانًا وَِإذَا حَلَلْ ُتمْ فَاصْطَادُوا وَلَا َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَنْ‬
‫الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ يَبْ َتغُونَ َفضْلًا مِنْ رَ ّبهِ ْم وَ ِر ْ‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ أَنْ َتعْتَدُوا وَ َتعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّ ْقوَى وَلَا َتعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْ ِم وَا ْل ُع ْدوَانِ‬
‫صَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ْ}‬

‫شعَائِرَ اللّهِ ْ} أي‪ :‬محرماته التي أمركم بتعظيمها‪ ،‬وعدم‬


‫حلّوا َ‬
‫يقول تعالى { يَأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُ ِ‬
‫فعلها‪ ،‬والنهي يشمل النهي عن فعلها‪ ،‬والنهي عن اعتقاد حلها؛ فهو يشمل النهي‪ ،‬عن فعل القبيح‪،‬‬
‫وعن اعتقاده‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الحرام‪ ،‬ومحرمات الحرم‪ .‬ويدخل في ذلك ما نص عليه‬
‫شهْرَ ا ْلحَرَامَ ْ} أي‪ :‬ل تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى‪:‬‬
‫بقوله‪ { :‬وَلَا ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ مِ ْنهَا أَرْ َبعَةٌ‬
‫شهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ َيوْمَ خَلَقَ ال ّ‬
‫شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ‬
‫{ إِنّ عِ ّدةَ ال ّ‬
‫سكُمْ ْ}‬
‫حُ ُرمٌ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَلَا َتظِْلمُوا فِيهِنّ أَنفُ َ‬

‫شهُرُ‬
‫والجمهور من العلماء على أن القتال في الشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى‪ { :‬فَِإذَا انسَلَخَ الْأَ ْ‬
‫الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْيثُ َوجَدّتمُوهُمْ ْ} وغير ذلك من العمومات التي فيها المر بقتال الكفار‬
‫مطلقا‪ ،‬والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا‪.‬‬

‫وبأن النبي صلى ال عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة‪ ،‬وهو من الشهر الحرم‪.‬‬

‫وقال آخرون‪ :‬إن النهي عن القتال في الشهر الحرم غير منسوخ لهذه الية وغيرها‪ ،‬مما فيه‬
‫النهي عن ذلك بخصوصه‪ ،‬وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬المطلق يحمل‬
‫على المقيد‪.‬‬

‫وفصل بعضهم فقال‪ :‬ل يجوز ابتداء القتال في الشهر الحرم‪ ،‬وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله‬
‫في غيرها‪ ،‬فإنه يجوز‪.‬‬
‫وحملوا قتال النبي صلى ال عليه وسلم لهل الطائف على ذلك‪ ،‬لن أول قتالهم في "حنين" في‬
‫"شوال"‪ .‬وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع‪.‬‬

‫فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال‪ ،‬فإنه يجوز للمسلمين القتال‪ ،‬دفعا عن أنفسهم في‬
‫الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء‪.‬‬

‫ي وَلَا ا ْلقَلَائِدَ ْ} أي‪ :‬ول تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت ال في حج أو عمرة‪،‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَلَا ا ْلهَ ْد َ‬
‫أو غيرهما‪ ،‬من نعم وغيرها‪ ،‬فل تصدوه عن الوصول إلى محله‪ ،‬ول تأخذوه بسرقة أو غيرها‪،‬‬
‫ول تقصروا به‪ ،‬أو تحملوه ما ل يطيق‪ ،‬خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله‪ ،‬بل عظموه‬
‫وعظموا من جاء به‪ { .‬وَلَا ا ْلقَلَائِدَ ْ} هذا نوع خاص من أنواع الهدي‪ ،‬وهو الهدي الذي يفتل له‬
‫قلئد أو عرى‪ ،‬فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر ال‪ ،‬وحمل للناس على القتداء‪ ،‬وتعليما لهم‬
‫للسنة‪ ،‬وليعرف أنه هدي فيحترم‪ ،‬ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة‪.‬‬

‫{ وَلَا آمّينَ الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ ْ} أي‪ :‬قاصدين له { يَبْ َتغُونَ َفضْلًا مّن رّ ّب ِه ْم وَ ِرضْوَانًا ْ} أي‪ :‬من قصد هذا‬
‫البيت الحرام‪ ،‬وقصده فضل ال بالتجارة والمكاسب المباحة‪ ،‬أو قصده رضوان ال بحجه وعمرته‬
‫والطواف به‪ ،‬والصلة‪ ،‬وغيرها من أنواع العبادات‪ ،‬فل تتعرضوا له بسوء‪ ،‬ول تهينوه‪ ،‬بل‬
‫أكرموه‪ ،‬وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم‪.‬‬

‫ودخل في هذا المرُ المر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت ال وجعل القاصدين له مطمئنين‬
‫مستريحين‪ ،‬غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه‪ ،‬ول على أموالهم من المكس والنهب‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬

‫وهذه الية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى‪ { :‬يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَلَا َيقْرَبُوا‬
‫سجِدَ ا ْلحَرَامَ َب ْعدَ عَا ِمهِمْ َهذَا ْ} فالمشرك ل ُي َمكّن من الدخول إلى الحرم‪.‬‬
‫ا ْلمَ ْ‬

‫والتخصيص في هذه الية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل ال أو رضوانه ‪-‬يدل‬
‫على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي‪ ،‬فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الفساد‬
‫عذَابٍ أَلِيمٍ ْ}‬
‫ببيت ال‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَن يُرِدْ فِيهِ بِإِ ْلحَادٍ ِبظُلْمٍ ُن ِذقْهُ مِنْ َ‬

‫صطَادُوا ْ} أي‪ :‬إذا حللتم من الحرام‬


‫ولما نهاهم عن الصيد في حال الحرام قال‪ { :‬وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَا ْ‬
‫بالحج والعمرة‪ ،‬وخرجتم من الحرم حل لكم الصطياد‪ ،‬وزال ذلك التحريم‪ .‬والمر بعد التحريم‬
‫يرد الشياء إلى ما كانت عليه من قبل‪.‬‬
‫جدِ الْحَرَامِ أَن َتعْ َتدُوا ْ} أي‪ :‬ل يحملنكم بغض قوم‬
‫{ وَلَا َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ ا ْل َمسْ ِ‬
‫وعداوتهم واعتداؤهم عليكم‪ ،‬حيث صدوكم عن المسجد‪ ،‬على العتداء عليهم‪ ،‬طلبا للشتفاء منهم‪،‬‬
‫فإن العبد عليه أن يلتزم أمر ال‪ ،‬ويسلك طريق العدل‪ ،‬ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه‪ ،‬فل‬
‫يحل له أن يكذب على من كذب عليه‪ ،‬أو يخون من خانه‪.‬‬

‫{ وَ َتعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّ ْقوَى ْ} أي‪ :‬ليعن بعضكم بعضا على البر‪ .‬وهو‪ :‬اسم جامع لكل ما يحبه‬
‫ال ويرضاه‪ ،‬من العمال الظاهرة والباطنة‪ ،‬من حقوق ال وحقوق الدميين‪.‬‬

‫والتقوى في هذا الموضع‪ :‬اسم جامع لترك كل ما يكرهه ال ورسوله‪ ،‬من العمال الظاهرة‬
‫والباطنة‪ .‬وكلّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها‪ ،‬أو خصلة من خصال الشر المأمور‬
‫بتركها‪ ،‬فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه‪ ،‬وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها‪ ،‬بكل قول يبعث‬
‫عليها وينشط لها‪ ،‬وبكل فعل كذلك‪.‬‬

‫{ وَلَا َتعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ} وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها‪ ،‬ويحرج‪ { .‬وَا ْلعُ ْدوَانِ ْ}‬
‫وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪ ،‬فكل معصية وظلم يجب على العبد كف‬
‫نفسه عنه‪ ،‬ثم إعانة غيره على تركه‪.‬‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ْ} على من عصاه وتجرأ على محارمه‪ ،‬فاحذروا المحارم لئل‬
‫يحل بكم عقابه العاجل والجل‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 3‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َت ُة وَالدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِ ِه وَا ْلمُ ْنخَ ِنقَةُ وَا ْلمَ ْوقُو َذةُ‬
‫سمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَِلكُمْ‬
‫ب وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ‬
‫ص ِ‬
‫وَا ْلمُتَرَدّيَ ُة وَالنّطِيحَةُ َومَا َأ َكلَ السّبُعُ إِلّا مَا َذكّيْتُ ْم َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ‬
‫شوْنِ الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َنكُمْ وَأَ ْتمَ ْمتُ عَلَ ْيكُمْ‬
‫شوْ ُه ْم وَاخْ َ‬
‫فِسْقٌ الْ َيوْمَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ دِي ِنكُمْ فَلَا َتخْ َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ ْ}‬
‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُ َتجَا ِنفٍ لِإِ ْثمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َل ُكمُ الْإِسْلَامَ دِينًا َفمَنِ اضْطُرّ فِي مَ ْ‬

‫هذا الذي حولنا ال عليه في قوله‪ { :‬إِلّا مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ ْ} واعلم أن ال تبارك وتعالى ل يحرّم ما‬
‫يحرّم إل صيانة لعباده‪ ،‬وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات‪ ،‬وقد يبين للعباد ذلك وقد‬
‫ل يبين‪.‬‬

‫فأخبر أنه حرم { ا ْلمَيْتَة ْ} والمراد بالميتة‪ :‬ما ُفقِدَت حياُتهُ بغير ذكاة شرعية‪ ،‬فإنها تحرم لضررها‪،‬‬
‫وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها المضر بآكلها‪ .‬وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلكها‪،‬‬
‫فتضر بالكل‪.‬‬

‫ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك‪ ،‬فإنه حلل‪.‬‬


‫{ وَالدّمَ ْ} أي‪ :‬المسفوح‪ ،‬كما قيد في الية الخرى‪ { .‬وََلحْم ا ْلخِنْزِيرِ ْ} وذلك شامل لجميع أجزائه‪،‬‬
‫وإنما نص ال عليه من بين سائر الخبائث من السباع‪ ،‬لن طائفة من أهل الكتاب من النصارى‬
‫يزعمون أن ال أحله لهم‪ .‬أي‪ :‬فل تغتروا بهم‪ ،‬بل هو محرم من جملة الخبائث‪.‬‬

‫{ َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ ْ} أي‪ :‬ذُكر عليه اسم غير ال تعالى‪ ،‬من الصنام والولياء والكواكب‬
‫وغير ذلك من المخلوقين‪ .‬فكما أن ذكر ال تعالى يطيب الذبيحة‪ ،‬فذكر اسم غيره عليها‪ ،‬يفيدها‬
‫خبثا معنويا‪ ،‬لنه شرك بال تعالى‪.‬‬

‫{ وَا ْلمُنْخَ ِنقَةُ ْ} أي‪ :‬الميتة بخنق‪ ،‬بيد أو حبل‪ ،‬أو إدخالها رأسها بشيء ضيق‪ ،‬فتعجز عن إخراجه‬
‫حتى تموت‪.‬‬

‫{ وَا ْل َم ْوقُو َذةُ ْ} أي‪ :‬الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة‪ ،‬أو هدم شيء عليها‪ ،‬بقصد أو‬
‫بغير قصد‪.‬‬

‫{ وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ ْ} أي‪ :‬الساقطة من علو‪ ،‬كجبل أو جدار أو سطح ونحوه‪ ،‬فتموت بذلك‪.‬‬

‫{ وَالنّطِيحَةُ ْ} وهي التي تنطحها غيرها فتموت‪.‬‬

‫{ َومَا َأ َكلَ السّبُعُ ْ} من ذئب أو أسد أو نمر‪ ،‬أو من الطيور التي تفترس الصيود‪ ،‬فإنها إذا ماتت‬
‫بسبب أكل السبع‪ ،‬فإنها ل تحل‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا مَا َذكّيْتُمْ ْ} راجع لهذه المسائل‪ ،‬من منخنقة‪ ،‬وموقوذة‪ ،‬ومتردية‪ ،‬ونطيحة‪ ،‬وأكيلة‬
‫سبع‪ ،‬إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها‪ ،‬ولهذا قال الفقهاء‪ { :‬لو أبان السبع أو غيره‬
‫حشوتها‪ ،‬أو قطع حلقومها‪ ،‬كان وجود حياتها كعدمه‪ ،‬لعدم فائدة الذكاة فيها ْ} [وبعضهم لم يعتبر‬
‫فيها إل وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها حياة حلت ولو كانت مبانة الحشوة وهو ظاهر الية الكريمة]‬

‫سمُوا بِالْأَزْلَامِ ْ} أي‪ :‬وحرم عليكم الستقسام بالزلم‪ .‬ومعنى الستقسام‪ :‬طلب ما يقسم‬
‫{ وَأَن َتسْ َتقْ ِ‬
‫لكم ويقدر بها‪ ،‬وهي قداح ثلثة كانت تستعمل في الجاهلية‪ ،‬مكتوب على أحدها "افعل" وعلى‬
‫الثاني "ل تفعل" والثالث غفل ل كتابة فيه‪.‬‬

‫فإذا هَمّ أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما‪ ،‬أجال تلك القداح المتساوية في الجرم‪ ،‬ثم أخرج واحدا‬
‫منها‪ ،‬فإن خرج المكتوب عليه "افعل" مضى في أمره‪ ،‬وإن ظهر المكتوب عليه "ل تفعل" لم يفعل‬
‫ولم يمض في شأنه‪ ،‬وإن ظهر الخر الذي ل شيء عليه‪ ،‬أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل‬
‫به‪ .‬فحرمه ال عليهم‪ ،‬الذي في هذه الصورة وما يشبهه‪ ,‬وعوضهم عنه بالستخارة لربهم في‬
‫جميع أمورهم‪.‬‬

‫سقٌ ْ} الشارة لكل ما تقدم من المحرمات‪ ،‬التي حرمها ال صيانة لعباده‪ ،‬وأنها فسق‪ ،‬أي‪:‬‬
‫{ ذَِلكُمْ فِ ْ‬
‫خروج عن طاعته إلى طاعة الشيطان‪.‬‬

‫ثم امتن على عباده بقوله‪:‬‬

‫علَ ْيكُمْ‬
‫شوْنِ الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َنكُ ْم وَأَ ْت َم ْمتُ َ‬
‫شوْهُ ْم وَاخْ َ‬
‫{ الْ َي ْومَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُوا مِن دِي ِن ُكمْ فَلَا َتخْ َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ ْ}‬
‫خ َمصَة غَيْرَ مُ َتجَا ِنفٍ لّإِ ْثمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َل ُكمُ الْإِسْلَامَ دِينًا َفمَنِ اضْطُرّ فِي مَ ْ‬

‫واليوم المشار إليه يوم عرفة‪ ،‬إذ أتم ال دينه‪ ،‬ونصر عبده ورسوله‪ ،‬وانخذل أهل الشرك انخذال‬
‫بليغا‪ ،‬بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم‪ ،‬طامعين في ذلك‪.‬‬

‫فلما رأوا عز السلم وانتصاره وظهوره‪ ،‬يئسوا كل اليأس من المؤمنين‪ ،‬أن يرجعوا إلى دينهم‪،‬‬
‫وصاروا يخافون منهم ويخشون‪ ،‬ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫سنة عشر حجة الوداع ‪ -‬لم يحج فيها مشرك‪ ،‬ولم يطف بالبيت عريان‪.‬‬

‫شوْنِ ْ} أي‪ :‬فل تخشوا المشركين‪ ،‬واخشوا ال الذي نصركم عليهم‬


‫شوْ ُه ْم وَاخْ َ‬
‫ولهذا قال‪ { :‬فَلَا َتخْ َ‬
‫وخذلهم‪ ،‬ورد كيدهم في نحورهم‪.‬‬

‫{ الْ َي ْومَ َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُكمْ ْ} بتمام النصر‪ ،‬وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة‪ ،‬الصول والفروع‪،‬‬
‫ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية‪ ،‬في أحكام الدين أصوله وفروعه‪.‬‬

‫فكل متكلف يزعم أنه ل بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة‪،‬‬
‫من علم الكلم وغيره‪ ،‬فهو جاهل‪ ،‬مبطل في دعواه‪ ،‬قد زعم أن الدين ل يكمل إل بما قاله ودعا‬
‫إليه‪ ،‬وهذا من أعظم الظلم والتجهيل ل ولرسوله‪.‬‬

‫{ وَأَ ْت َم ْمتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي ْ} الظاهرة والباطنة { وَ َرضِيتُ َلكُمُ الِْإسْلَامَ دِينًا ْ} أي‪ :‬اخترته واصطفيته‬
‫لكم دينا‪ ،‬كما ارتضيتكم له‪ ،‬فقوموا به شكرا لربكم‪ ،‬واحمدوا الذي مَنّ عليكم بأفضل الديان‬
‫وأشرفها وأكملها‪.‬‬

‫ضطُرّ ْ} أي‪ :‬ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات السابقة‪ ،‬في قوله‪ { :‬حُ ّر َمتْ‬
‫{ َفمَنِ ا ْ‬
‫خ َمصَةٍ ْ} أي‪ :‬مجاعة { غَيْرَ مُتَجَا ِنفٍ ْ} أي‪ :‬مائل { لِإِثْمٍ ْ} بأن ل يأكل حتى‬
‫عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َتةُ ْ} { فِي َم ْ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ ْ} حيث أباح له الكل في هذه‬
‫يضطر‪ ،‬ول يزيد في الكل على كفايته { فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫الحال‪ ،‬ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه‪.‬‬

‫جوَارِحِ ُمكَلّبِينَ ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا‬


‫ت َومَا عَّلمْتُمْ مِنَ الْ َ‬
‫حلّ َل ُكمُ الطّيّبَا ُ‬
‫حلّ َلهُمْ ُقلْ أُ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 4‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا ُأ ِ‬
‫سمَ اللّهِ عَلَيْ ِه وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ ْ}‬
‫سكْنَ عَلَ ْيكُ ْم وَا ْذكُرُوا ا ْ‬
‫عَّل َمكُمُ اللّهُ َفكُلُوا ِممّا َأ ْم َ‬

‫حلّ‬
‫حلّ َل ُهمْ ْ} من الطعمة؟ { ُقلْ ُأ ِ‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ مَاذَا أُ ِ‬
‫َلكُمُ الطّيّبَاتُ ْ} وهي كل ما فيه نفع أو لذة‪ ,‬من غير ضرر بالبدن ول بالعقل‪ ،‬فدخل في ذلك جميع‬
‫الحبوب والثمار التي في القرى والبراري‪ ،‬ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات‬
‫البر‪ ،‬إل ما استثناه الشارع‪ ،‬كالسباع والخبائث منها‪.‬‬

‫حلّ َلهُمُ‬
‫ولهذا دلت الية بمفهومها على تحريم الخبائث‪ ،‬كما صرح به في قوله تعالى‪ { :‬وَيُ ِ‬
‫ت وَيُحَرّمُ عَلَ ْيهِمُ الْخَبَا ِئثَ ْ}‬
‫الطّيّبَا ِ‬

‫جوَارِحِ ْ} أي‪ :‬أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الية‪ .‬دلت هذه الية‬
‫{ َومَا عَّلمْتُمْ مِنَ الْ َ‬
‫على أمور‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬لطف ال بعباده ورحمته لهم‪ ،‬حيث وسع عليهم طرق الحلل‪ ،‬وأباح لهم ما لم يذكوه مما‬
‫صادته الجوارح‪ ،‬والمراد بالجوارح‪ :‬الكلب‪ ،‬والفهود‪ ،‬والصقر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما يصيد بنابه أو‬
‫بمخلبه‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أنه يشترط أن تكون معلمة‪ ،‬بما يعد في العرف تعليما‪ ،‬بأن يسترسل إذا أرسل‪ ،‬وينزجر‬
‫علَ ْيكُمْ ْ}‬
‫سكْنَ َ‬
‫إذا زجر‪ ،‬وإذا أمسك لم يأكل‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬تعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َمكُمُ اللّهُ َفكُلُوا ِممّا َأمْ َ‬
‫أي‪ :‬أمسكن من الصيد لجلكم‪.‬‬

‫وما أكل منه الجارح فإنه ل يعلم أنه أمسكه على صاحبه‪ ،‬ولعله أن يكون أمسكه على نفسه‪.‬‬

‫جوَارِحِ ْ} مع ما تقدم من‬


‫الثالث‪ :‬اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما‪ ،‬لقوله‪ { :‬مِنَ الْ َ‬
‫تحريم المنخنقة‪ .‬فلو خنقه الكلب أو غيره‪ ،‬أو قتله بثقله لم يبح [هذا بناء على أن الجوارح اللتي‬
‫يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها‪ ،‬والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي‪ :‬المحصلت للصيد‬
‫والمدركات لها فل يكون فيها على هذا دللة ‪ -‬وال أعلم‪]-‬‬
‫الرابع‪ :‬جواز اقتناء كلب الصيد‪ ،‬كما ورد في الحديث الصحيح‪ ،‬مع أن اقتناء الكلب محرم‪ ،‬لن‬
‫من لزم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد‪ ،‬لن ال أباحه ولم يذكر له غسل‪ ،‬فدل على‬
‫طهارته‪.‬‬

‫السادس‪ :‬فيه فضيلة العلم‪ ،‬وأن الجارح المعلم ‪-‬بسبب العلم‪ -‬يباح صيده‪ ،‬والجاهل بالتعليم ل يباح‬
‫صيده‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن الشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما‪ ،‬ليس مذموما‪ ،‬وليس من العبث والباطل‪.‬‬
‫بل هو أمر مقصود‪ ،‬لنه وسيلة لحل صيده والنتفاع به‪.‬‬

‫الثامن‪ :‬فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد‪ ،‬قال‪ :‬لنه قد ل يحصل له إل بذلك‪.‬‬

‫التاسع‪ :‬فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح‪ ،‬وأنه إن لم يسم ال متعمدا‪ ،‬لم يبح ما قتل‬
‫الجارح‪.‬‬

‫العاشر‪ :‬أنه يجوز أكل ما صاده الجارح‪ ،‬سواء قتله الجارح أم ل‪ .‬وأنه إن أدركه صاحبه‪ ،‬وفيه‬
‫حياة مستقرة فإنه ل يباح إل بها‪.‬‬

‫ثم حث تعالى على تقواه‪ ،‬وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة‪ ،‬وأن ذلك أمر قد دنا واقترب‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ ْ}‬

‫حصَنَاتُ‬
‫حلّ َلهُ ْم وَا ْلمُ ْ‬
‫طعَا ُمكُمْ ِ‬
‫حلّ َلكُ ْم وَ َ‬
‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫حلّ َل ُكمُ الطّيّبَاتُ َو َ‬
‫{ ‪ { }ْ 5‬الْ َيوْمَ ُأ ِ‬
‫حصِنِينَ غَيْرَ‬
‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ إِذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُنّ ُم ْ‬
‫ت وَا ْلمُ ْ‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ فِي الْآخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ْ}‬
‫ن َومَنْ َي ْكفُرْ بِالْإِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ‬
‫ن وَلَا مُتّخِذِي َأخْدَا ٍ‬
‫مُسَافِحِي َ‬

‫كرر تعالى إحلل الطيبات لبيان المتنان‪ ،‬ودعوة للعباد إلى شكره والكثار من ذكره‪ ،‬حيث أباح‬
‫لهم ما تدعوهم الحاجة إليه‪ ،‬ويحصل لهم النتفاع به من الطيبات‪.‬‬

‫حلّ ّلكُمْ ْ} أي‪ :‬ذبائح اليهود والنصارى حلل لكم ‪-‬يا معشر‬
‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫المسلمين‪ -‬دون باقي الكفار‪ ،‬فإن ذبائحهم ل تحل للمسلمين‪ ،‬وذلك لن أهل الكتاب ينتسبون إلى‬
‫النبياء والكتب‪.‬‬
‫وقد اتفق الرسل كلهم على تحريم الذبح لغير ال‪ ،‬لنه شرك‪ ،‬فاليهود والنصارى يتدينون بتحريم‬
‫الذبح لغير ال‪ ،‬فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم‪.‬‬

‫والدليل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم‪ ،‬أن الطعام الذي ليس من الذبائح كالحبوب والثمار ليس‬
‫لهل الكتاب فيه خصوصية‪ ،‬بل يباح ذلك ولو كان من طعام غيرهم‪ .‬وأيضا فإنه أضاف الطعام‬
‫إليهم‪.‬‬

‫فدل ذلك‪ ،‬على أنه كان طعاما‪ ،‬بسبب ذبحهم‪ .‬ول يقال‪ :‬إن ذلك للتمليك‪ ،‬وأن المراد‪ :‬الطعام الذي‬
‫يملكون‪ .‬لن هذا‪ ،‬ل يباح على وجه الغصب‪ ،‬ول من المسلمين‪.‬‬

‫حلّ ّلهُمْ ْ} أي‪ :‬يحل لكم أن تطعموهم إياه { وَ ْ} أحل لكم‬


‫طعَا ُمكُمْ ْ} أيها المسلمون { ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫حصَنَاتِ ْ} أي‪ :‬الحرائر العفيفات { مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ْ} والحرائر العفيفات { مِنَ الّذِينَ أُوتُوا‬
‫{ ا ْل ُم ْ‬
‫ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُمْ ْ} أي‪ :‬من اليهود والنصارى‪.‬‬

‫وهذا مخصص لقوله تعالى { وَلَا تَن ِكحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ ْ} ومفهوم الية‪ ،‬أن الرقاء من‬
‫المؤمنات ل يباح نكاحهن للحرار‪ ,‬وهو كذلك‪.‬‬

‫وأما الكتابيات فعلى كل حال ل يبحن‪ ،‬ول يجوز نكاحهن للحرار مطلقا‪ ،‬لقوله تعالى‪ { :‬مِن‬
‫فَتَيَا ِتكُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ْ} وأما المسلمات إذا كن رقيقات فإنه ل يجوز للحرار نكاحهن إل بشرطين‪،‬‬
‫عدم الطول وخوف العنت‪.‬‬

‫وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فل يباح نكاحهن‪ ،‬سواء كن مسلمات أو كتابيات‪ ،‬حتى يتبن‬
‫لقوله تعالى‪ { :‬الزّانِي لَا يَنكِحُ إلّا زَانِ َيةً َأوْ مُشْ ِركَةً ْ} الية‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُنّ ْ} أي‪ :‬أبحنا لكم نكاحهن‪ ،‬إذا أعطيتموهن مهورهن‪ ،‬فمن عزم‬
‫على أن ل يؤتيها مهرها فإنها ل تحل له‪.‬‬

‫وأمر بإيتائها إذا كانت رشيدة تصلح لليتاء‪ ،‬وإل أعطاه الزوج لوليها‪.‬‬

‫وإضافة الجور إليهن دليل على أن المرأة تملك جميع مهرها‪ ،‬وليس لحد منه شيء‪ ،‬إل ما‬
‫حصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ْ} أي‪ :‬حالة كونكم ‪-‬أيها‬
‫سمحت به لزوجها أو وليها أو غيرهما‪ُ { .‬م ْ‬
‫الزواج‪ -‬محصنين لنسائكم‪ ،‬بسبب حفظكم لفروجكم عن غيرهن‪.‬‬

‫{ غَيْرَ ُمسَافِحِينَ ْ} أي‪ :‬زانين مع كل أحد { وَلَا مُتّخِذِي أَخْدَانٍ ْ}‬


‫وهو‪ :‬الزنا مع العشيقات‪ ،‬لن الزناة في الجاهلية‪ ،‬منهم من يزني مع من كان‪ ،‬فهذا المسافح‪.‬‬
‫ومنهم من يزني مع خدنه ومحبه‪ .‬فأخبر ال تعالى أن ذلك كله ينافي العفة‪ ،‬وأن شرط التزوج أن‬
‫يكون الرجل عفيفا عن الزنا‪.‬‬

‫عمَلُهُ ْ} أي‪ :‬ومن كفر بال تعالى‪ ،‬وما يجب اليمان‬


‫وقوله تعالى‪َ { :‬ومَن َي ْكفُرْ بِالْإِيمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ‬
‫به من كتبه ورسله أو شيء من الشرائع‪ ،‬فقد حبط عمله‪ ،‬بشرط أن يموت على كفره‪ ،‬كما قال‬
‫عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ ْ}‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫تعالى‪َ { :‬ومَن يَرْ َتدِدْ مِن ُكمْ عَن دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ‬
‫{ وَ ُهوَ فِي الْآخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ْ} أي‪ :‬الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة‪،‬‬
‫وحصلوا على الشقاوة البدية‪.‬‬

‫ق وَامْسَحُوا‬
‫{ ‪ { }ْ 6‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ُقمْ ُتمْ إِلَى الصّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُو َهكُمْ وَأَيْدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَا ِف ِ‬
‫سفَرٍ َأوْ جَاءَ‬
‫طهّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَ ْرضَى َأوْ عَلَى َ‬
‫ن وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَا ّ‬
‫سكُ ْم وَأَ ْرجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَيْ ِ‬
‫بِرُءُو ِ‬
‫صعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُوا ِبوُجُو ِه ُكمْ‬
‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ ا ْلغَا ِئطِ َأوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ َتجِدُوا مَاءً فَتَ َي ّممُوا َ‬
‫أَ َ‬
‫طهّ َركُمْ وَلِيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّلكُمْ‬
‫ج وََلكِنْ يُرِيدُ لِيُ َ‬
‫ج َعلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنْ حَرَ ٍ‬
‫وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِ َي ْ‬
‫شكُرُونَ ْ}‬
‫تَ ْ‬

‫هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة‪ ،‬نذكر منها ما يسره ال وسهله‪.‬‬

‫أحدها‪ :‬أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم اليمان الذي ل يتم إل به‪ ،‬لنه‬
‫صدرها بقوله { يَأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ْ} إلى آخرها‪ .‬أي‪ :‬يا أيها الذين آمنوا‪ ،‬اعملوا بمقتضى إيمانكم‬
‫بما شرعناه لكم‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬المر بالقيام بالصلة لقوله‪ { :‬إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلَاةِ ْ}‬

‫الثالث‪ :‬المر بالنية للصلة‪ ،‬لقوله‪ { :‬إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلَاةِ ْ} أي‪ :‬بقصدها ونيتها‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬اشتراط الطهارة لصحة الصلة‪ ،‬لن ال أمر بها عند القيام إليها‪ ،‬والصل في المر‬
‫الوجوب‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن الطهارة ل تجب بدخول الوقت‪ ،‬وإنما تجب عند إرادة الصلة‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن كل ما يطلق عليه اسم الصلة‪ ،‬من الفرض والنفل‪ ،‬وفرض الكفاية‪ ،‬وصلة الجنازة‪،‬‬
‫تشترط له الطهارة‪ ،‬حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء‪ ،‬كسجود التلوة والشكر‪.‬‬
‫السابع‪ :‬المر بغسل الوجه‪ ،‬وهو‪ :‬ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد‪ ،‬إلى ما‬
‫انحدر من اللحيين والذقن طول‪ .‬ومن الذن إلى الذن عرضا‪.‬‬

‫ويدخل فيه المضمضة والستنشاق‪ ،‬بالسنة‪ ،‬ويدخل فيه الشعور التي فيه‪ .‬لكن إن كانت خفيفة فل‬
‫بد من إيصال الماء إلى البشرة‪ ،‬وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها‪.‬‬

‫الثامن‪ :‬المر بغسل اليدين‪ ،‬وأن حدهما إلى المرفقين و "إلى" كما قال جمهور المفسرين بمعنى‬
‫"مع" كقوله تعالى‪ { :‬وَلَا تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ ْ} ولن الواجب ل يتم إل بغسل جميع المرفق‪.‬‬

‫التاسع‪ :‬المر بمسح الرأس‪.‬‬

‫العاشر‪ :‬أنه يجب مسح جميعه‪ ،‬لن الباء ليست للتبعيض‪ ،‬وإنما هي للملصقة‪ ،‬وأنه يعم المسح‬
‫بجميع الرأس‪.‬‬

‫الحادي عشر‪ :‬أنه يكفي المسح كيفما كان‪ ،‬بيديه أو إحداهما‪ ،‬أو خرقة أو خشبة أو نحوهما‪ ،‬لن‬
‫ال أطلق المسح ولم يقيده بصفة‪ ،‬فدل ذلك على إطلقه‪.‬‬

‫الثاني عشر‪ :‬أن الواجب المسح‪ .‬فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف‪ ،‬لنه لم يأت بما أمر‬
‫ال به‪.‬‬

‫الثالث عشر‪ :‬المر بغسل الرجلين إلى الكعبين‪ ،‬ويقال فيهما ما يقال في اليدين‪.‬‬

‫الرابع عشر‪ :‬فيها الرد على الرافضة‪ ،‬على قراءة الجمهور بالنصب‪ ،‬وأنه ل يجوز مسحهما ما‬
‫دامتا مكشوفتين‪.‬‬

‫الخامس عشر‪ :‬فيه الشارة إلى مسح الخفين‪ ،‬على قراءة الجر في { وأرجلكم ْ}‬

‫وتكون كل من القراءتين‪ ،‬محمولة على معنى‪ ،‬فعلى قراءة النصب فيها‪ ،‬غسلهما إن كانتا‬
‫مكشوفتين‪ ،‬وعلى قراءة الجر فيها‪ ،‬مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف‪.‬‬

‫السادس عشر‪ :‬المر بالترتيب في الوضوء‪ ،‬لن ال تعالى ذكرها مرتبة‪.‬‬

‫ولنه أدخل ممسوحا ‪-‬وهو الرأس‪ -‬بين مغسولين‪ ،‬ول يعلم لذلك فائدة غير الترتيب‪.‬‬

‫السابع عشر‪ :‬أن الترتيب مخصوص بالعضاء الربعة المسميات في هذه الية‪.‬‬
‫وأما الترتيب بين المضمضة والستنشاق والوجه‪ ،‬أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين‪،‬‬
‫فإن ذلك غير واجب‪ ،‬بل يستحب تقديم المضمضة والستنشاق على غسل الوجه‪ ،‬وتقديم اليمنى‬
‫على اليسرى من اليدين والرجلين‪ ،‬وتقديم مسح الرأس على مسح الذنين‪.‬‬

‫الثامن عشر‪ :‬المر بتجديد الوضوء عند كل صلة‪ ،‬لتوجد صورة المأمور به‪.‬‬

‫التاسع عشر‪ :‬المر بالغسل من الجنابة‪.‬‬

‫العشرون‪ :‬أنه يجب تعميم الغسل للبدن‪ ،‬لن ال أضاف التطهر للبدن‪ ،‬ولم يخصصه بشيء دون‬
‫شيء‪.‬‬

‫الحادي والعشرون‪ :‬المر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة‪.‬‬

‫الثاني والعشرون‪ :‬أنه يندرج الحدث الصغر في الحدث الكبر‪ ،‬ويكفي من هما عليه أن ينوي‪،‬‬
‫ثم يعمم بدنه‪ ،‬لن ال لم يذكر إل التطهر‪ ،‬ولم يذكر أنه يعيد الوضوء‪.‬‬

‫الثالث والعشرون‪ :‬أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما‪ ،‬أو جامع ولو لم ينزل‪.‬‬

‫الرابع والعشرون‪ :‬أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بلل‪ ،‬فإنه ل غسل عليه‪ ،‬لنه لم تتحقق منه‬
‫الجنابة‪.‬‬

‫الخامس والعشرون‪ :‬ذكر مِنّة ال تعالى على العباد‪ ،‬بمشروعية التيمم‪.‬‬

‫السادس والعشرون‪ :‬أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء‪ ،‬فيجوز‬
‫له التيمم‪.‬‬

‫السابع والعشرون‪ :‬أن من جملة أسباب جوازه‪ ،‬السفر والتيان من البول والغائط إذا عدم الماء‪،‬‬
‫فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به‪ ،‬وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان‬
‫في الحضر‪.‬‬

‫الثامن والعشرون‪ :‬أن الخارج من السبيلين من بول وغائط‪ ،‬ينقض الوضوء‪.‬‬

‫التاسع والعشرون‪ :‬استدل بها من قال‪ :‬ل ينقض الوضوء إل هذان المران‪ ،‬فل ينتقض بلمس‬
‫الفرج ول بغيره‪.‬‬

‫حدٌ مِنكُم مّنَ ا ْلغَا ِئطِ ْ}‬


‫الثلثون‪ :‬استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به لقوله تعالى‪َ { :‬أوْ جَاءَ أَ َ‬
‫الحادي والثلثون‪ :‬أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء‪.‬‬

‫الثاني والثلثون‪ :‬اشتراط عدم الماء لصحة التيمم‪.‬‬

‫الثالث والثلثون‪ :‬أن مع وجود الماء ولو في الصلة‪ ،‬يبطل التيمم لن ال إنما أباحه مع عدم‬
‫الماء‪.‬‬

‫الرابع والثلثون‪ :‬أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء‪ ،‬فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه‪،‬‬
‫لنه ل يقال "لم يجد" لمن لم يطلب‪.‬‬

‫الخامس والثلثون‪ :‬أن من وجد ماء ل يكفي بعض طهارته‪ ،‬فإنه يلزمه استعماله‪ ،‬ثم يتيمم بعد‬
‫ذلك‪.‬‬

‫السادس والثلثون‪ :‬أن الماء المتغير بالطاهرات‪ ،‬مقدم على التيمم‪ ،‬أي‪ :‬يكون طهورا‪ ،‬لن الماء‬
‫المتغير ماء‪ ،‬فيدخل في قوله‪ { :‬فَلَمْ َتجِدُوا مَاءً ْ}‬

‫السابع والثلثون‪ :‬أنه ل بد من نية التيمم لقوله‪ { :‬فَتَ َي ّممُوا ْ} أي‪ :‬اقصدوا‪.‬‬

‫الثامن والثلثون‪ :‬أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الرض من تراب وغيره‪ .‬فيكون‬
‫على هذا‪ ،‬قوله‪ { :‬فَامْسَحُوا ِبوُجُو ِه ُك ْم وَأَيْدِيكُم مّ ْنهُ ْ} إما من باب التغليب‪ ،‬وأن الغالب أن يكون له‬
‫غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين‪ ،‬وإما أن يكون إرشادا للفضل‪ ،‬وأنه إذا أمكن التراب الذي‬
‫فيه غبار فهو أولى‪.‬‬

‫التاسع والثلثون‪ :‬أنه ل يصح التيمم بالتراب النجس‪ ،‬لنه ل يكون طيبا بل خبيثا‪.‬‬

‫الربعون‪ :‬أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط‪ ،‬دون بقية العضاء‪.‬‬

‫الحادي والربعون‪ :‬أن قوله‪ِ { :‬بوُجُو ِهكُمْ ْ} شامل لجميع الوجه وأنه يعممه بالمسح‪ ،‬إل أنه معفو‬
‫عن إدخال التراب في الفم والنف‪ ،‬وفيما تحت الشعور‪ ،‬ولو خفيفة‪.‬‬

‫الثاني والربعون‪ :‬أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط‪ ،‬لن اليدين عند الطلق كذلك‪.‬‬

‫فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده ال بذلك‪ ،‬كما قيده في الوضوء‪.‬‬
‫الثالث والربعون‪ :‬أن الية عامة في جواز التيمم‪ ،‬لجميع الحداث كلها‪ ،‬الحدث الكبر والصغر‪،‬‬
‫بل ولنجاسة البدن‪ ،‬لن ال جعلها بدل عن طهارة الماء‪ ،‬وأطلق في الية فلم يقيد [وقد يقال أن‬
‫نجاسة البدن ل تدخل في حكم التيمم لن السياق في الحداث وهو قول جمهور العلماء]‬

‫الرابع والربعون‪ :‬أن محل التيمم في الحدث الصغر والكبر واحد‪ ،‬وهو الوجه واليدان‪.‬‬

‫الخامس والربعون‪ :‬أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما‪ ،‬فإنه يجزئ أخذا من عموم الية‬
‫وإطلقها‪.‬‬

‫السادس والربعون‪ :‬أنه يكفي المسح بأي شيء كان‪ ،‬بيده أو غيرها‪ ،‬لن ال قال { فامسحوا ْ}‬
‫ولم يذكر الممسوح به‪ ،‬فدل على جوازه بكل شيء‪.‬‬

‫السابع والربعون‪ :‬اشتراط الترتيب في طهارة التيمم‪ ،‬كما يشترط ذلك في الوضوء‪ ،‬ولن ال بدأ‬
‫بمسح الوجه قبل مسح اليدين‪.‬‬

‫الثامن والربعون‪ :‬أن ال تعالى ‪-‬فيما شرعه لنا من الحكام‪ -‬لم يجعل علينا في ذلك من حرج‬
‫ول مشقة ول عسر‪ ،‬وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم‪ ،‬وليتم نعمته عليهم‪.‬‬

‫وهذا هو التاسع والربعون‪ :‬أن طهارة الظاهر بالماء والتراب‪ ،‬تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد‪،‬‬
‫والتوبة النصوح‪.‬‬

‫الخمسون‪ :‬أن طهارة التيمم‪ ،‬وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة‪ ،‬فإن فيها‬
‫طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر ال تعالى‪.‬‬

‫حكَم والسرار في شرائع ال‪ ،‬في الطهارة وغيرها‬


‫الحادي والخمسون‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يتدبر ال ِ‬
‫ليزداد معرفة وعلما‪ ،‬ويزداد شكرا ل ومحبة له‪ ،‬على ما شرع من الحكام التي توصل العبد إلى‬
‫المنازل العالية الرفيعة‪.‬‬

‫طعْنَا وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ‬


‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 7‬وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم َومِيثَاقَهُ الّذِي وَا َث َقكُمْ بِهِ إِذْ قُلْ ُتمْ َ‬
‫عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ ْ}‬

‫يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية‪ ،‬بقلوبهم وألسنتهم‪ .‬فإن في استدامة ذكرها داعيا‬
‫لشكر ال تعالى ومحبته‪ ،‬وامتلء القلب من إحسانه‪ .‬وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية‪،‬‬
‫وزيادة لفضل ال وإحسانه‪ .‬و { مِيثَاقهِ ْ} أي‪ :‬واذكروا ميثاقه { الّذِي وَا َث َقكُمْ بِهِ ْ} أي‪ :‬عهده الذي‬
‫أخذه عليكم‪.‬‬

‫وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق‪ ،‬وإنما المراد بذلك أنهم بإيمانهم بال‬
‫طعْنَا ْ} أي‪ :‬سمعنا ما دعوتنا به من‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫ورسوله قد التزموا طاعتهما‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إذْ قُلْتُمْ َ‬
‫آياتك القرآنية والكونية‪ ،‬سمع فهم وإذعان وانقياد‪ .‬وأطعنا ما أمرتنا به بالمتثال‪ ،‬وما نهيتنا عنه‬
‫بالجتناب‪ .‬وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد ال وميثاقه عليهم‪ ،‬وتكون منهم على بال‪ ،‬ويحرصون على‬
‫أداء ما ُأمِرُوا به كامل غير ناقص‪.‬‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ ْ} في جميع أحوالكم { إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ ْ} أي‪ :‬بما تنطوي عليه من الفكار‬
‫والسرار والخواطر‪ .‬فاحذروا أن يطلع من قلوبكم على أمر ل يرضاه‪ ،‬أو يصدر منكم ما يكرهه‪،‬‬
‫واعمروا قلوبكم بمعرفته ومحبته والنصح لعباده‪ .‬فإنكم ‪-‬إن كنتم كذلك‪ -‬غفر لكم السيئات‪،‬‬
‫وضاعف لكم الحسنات‪ ،‬لعلمه بصلح قلوبكم‪.‬‬

‫ط وَلَا َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى َألّا َتعْدِلُوا‬


‫شهَدَاءَ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 8‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ لِلّهِ ُ‬
‫اعْدِلُوا ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ}‬

‫أي { يَأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ْ} بما ُأمِرُوا باليمان به‪ ،‬قوموا بلزم إيمانكم‪ ،‬بأن تكونوا { َقوّامِينَ لِلّهِ‬
‫شهَدَاءَ بِا ْلقِسْطِ ْ} بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫ُ‬

‫وأن يكون ذلك القيام ل وحده‪ ،‬ل لغرض من الغراض الدنيوية‪ ،‬وأن تكونوا قاصدين للقسط‪،‬‬
‫الذي هو العدل‪ ،‬ل الفراط ول التفريط‪ ،‬في أقوالكم ول أفعالكم‪ ،‬وقوموا بذلك على القريب‬
‫والبعيد‪ ،‬والصديق والعدو‪.‬‬

‫علَى أَلّا َتعْدِلُوا ْ} كما يفعله من ل عدل عنده ول‬


‫{ وَلَا َيجْ ِرمَ ّنكُمْ ْ} أي‪ :‬ل يحملنكم بغض { َقوْمٍ َ‬
‫قسط‪ ،‬بل كما تشهدون لوليكم‪ ،‬فاشهدوا عليه‪ ،‬وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له‪ ،‬ولو كان‬
‫كافرا أو مبتدعا‪ ،‬فإنه يجب العدل فيه‪ ،‬وقبول ما يأتي به من الحق‪ ،‬لنه حق ل لنه قاله‪ ،‬ول يرد‬
‫الحق لجل قوله‪ ،‬فإن هذا ظلم للحق‪.‬‬

‫عدِلُوا ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى ْ} أي‪ :‬كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به‪ ،‬كان ذلك أقرب‬
‫{اْ‬
‫لتقوى قلوبكم‪ ،‬فإن تم العدل كملت التقوى‪.‬‬
‫{ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ} فمجازيكم بأعمالكم‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬جزاء‬
‫عاجل‪ ،‬وآجل‪.‬‬

‫عظِيمٌ * وَالّذِينَ َكفَرُوا‬


‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَأَجْرٌ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 10 ، 9‬وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫جحِيمِ ْ}‬
‫َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْ َ‬

‫أي { وَعَدَ اللّهُ ْ} الذي ل يخلف الميعاد وهو أصدق القائلين ‪-‬المؤمنين به وبكتبه ورسله واليوم‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ ْ} من واجبات ومستحبات‪ -‬بالمغفرة لذنوبهم‪ ،‬بالعفو عنها وعن‬
‫الخر‪ { ،‬وَ َ‬
‫عواقبها‪ ،‬وبالجر العظيم الذي ل يعلم عظمه إل ال تعالى‪.‬‬

‫خ ِفيَ َلهُم مِن قُ ّرةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ْ}‬
‫{ فَلَا َتعَْلمُ َنفْسٌ مَا أُ ْ‬

‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على الحق المبين‪ ،‬فكذبوا بها بعد ما أبانت الحقائق‪ { .‬أُولَ ِئكَ‬
‫َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ ْ} الملزمون لها ملزمة الصاحب لصاحبه‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 11‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ َهمّ َقوْمٌ أَنْ يَ ْبسُطُوا إِلَ ْيكُمْ أَيْدِ َيهُمْ َفكَفّ‬
‫أَيْدِ َيهُمْ عَ ْنكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ْ}‬

‫يُ َذكّر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة‪ ،‬ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان‪ ،‬وأنهم ‪-‬كما أنهم‬
‫يعدون قتلهم لعدائهم‪ ،‬وأخذ أموالهم وبلدهم وسبيهم نعمةً ‪ -‬فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف‬
‫أيديهم عنهم‪ ،‬ورد كيدهم في نحورهم نعمة‪ .‬فإنهم العداء‪ ،‬قد هموا بأمر‪ ،‬وظنوا أنهم قادرون‬
‫عليه‪.‬‬

‫فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم‪ ،‬فهو نصر من ال لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا ال‬
‫على ذلك‪ ،‬ويعبدوه ويذكروه‪ ،‬وهذا يشمل كل من هَمّ بالمؤمنين بشر‪ ،‬من كافر ومنافق وباغ‪ ،‬كف‬
‫ال شره عن المسلمين‪ ،‬فإنه داخل في هذه الية‪.‬‬

‫ثم أمرهم بما يستعينون به على النتصار على عدوهم‪ ،‬وعلى جميع أمورهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَعَلَى اللّهِ‬
‫فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ْ} أي‪ :‬يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وتبرؤوا من حولهم‬
‫وقوتهم‪ ،‬ويثقوا بال تعالى في حصول ما يحبون‪ .‬وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله‪ ،‬وهو من‬
‫واجبات القلب المتفق عليها‪.‬‬
‫ل وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ عَشَرَ َنقِيبًا َوقَالَ اللّهُ إِنّي‬
‫{ ‪ { }ْ 13 ، 12‬وَلَقَدْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫َم َعكُمْ لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّلَاةَ وَآتَيْتُمُ ال ّزكَا َة وَآمَنْ ُتمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُ ْم وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا لَُأكَفّرَنّ‬
‫سوَاءَ‬
‫ضلّ َ‬
‫عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَلَأُ ْدخِلَ ّنكُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َفمَنْ َكفَرَ َبعْدَ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ‬
‫ضعِهِ وَنَسُوا حَظّا‬
‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِ َيةً يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَِلمَ عَنْ َموَا ِ‬
‫ضهِمْ مِيثَا َقهُمْ َلعَنّا ُه ْم وَ َ‬
‫السّبِيلِ * فَ ِبمَا َن ْق ِ‬
‫حبّ‬
‫صفَحْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَا ْ‬
‫ِممّا ُذكّرُوا بِ ِه وَلَا تَزَالُ َتطّلِعُ عَلَى خَائِ َنةٍ مِ ْنهُمْ إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُمْ فَا ْ‬
‫حسِنِينَ ْ}‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد‪ ،‬وذكر صفة الميثاق وأجرهم إن قاموا‬
‫به‪ ،‬وإثمهم إن لم يقوموا به‪ ،‬ثم ذكر أنهم ما قاموا به‪ ،‬وذكر ما عاقبهم به‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ‬
‫مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ْ} أي‪ :‬عهدهم المؤكد الغليظ‪ { ،‬وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ عَشَرَ َنقِيبًا ْ} أي‪ :‬رئيسا‬
‫وعريفا على من تحته‪ ،‬ليكون ناظرا عليهم‪ ،‬حاثا لهم على القيام بما ُأمِرُوا به‪ ،‬مطالبا يدعوهم‪.‬‬

‫{ َوقَالَ اللّهُ ْ} للنقباء الذين تحملوا من العباء ما تحملوا‪ { :‬إِنّي َم َعكُمْ ْ} أي‪ :‬بالعون والنصر‪ ،‬فإن‬
‫المعونة بقدر المؤنة‪.‬‬

‫ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال‪ { :‬لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّلَاةَ ْ} ظاهرا وباطنا‪ ،‬بالتيان بما يلزم وينبغي فيها‪،‬‬
‫والمداومة على ذلك { وَآتَيْتُمُ ال ّزكَاةَ ْ} لمستحقيها { وَآمَنْتُمْ بِ ُرسُلِي ْ} جميعهم‪ ،‬الذين أفضلهم وأكملهم‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ { ،‬وَعَزّرْ ُتمُو ُهمْ ْ} أي‪ :‬عظمتموهم‪ ،‬وأديتم ما يجب لهم من الحترام‬
‫حسَنًا ْ} وهو الصدقة والحسان‪ ،‬الصادر عن الصدق والخلص‬
‫والطاعة { وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫وطيب المكسب‪ ،‬فإذا قمتم بذلك { لَُأ َكفّرَنّ عَن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ وَلَأُدْخِلَ ّن ُكمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ ْ}‬
‫فجمع لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم‪ ،‬واندفاع المكروه بتكفير السيئات‪ ،‬ودفع‬
‫ما يترتب عليها من العقوبات‪.‬‬

‫{ َفمَن َكفَرَ َبعْدَ ذَِلكَ ْ} العهد والميثاق المؤكد باليمان واللتزامات‪ ،‬المقرون بالترغيب بذكر ثوابه‪.‬‬

‫سوَاءَ السّبِيلِ ْ} أي‪ :‬عن عمد وعلم‪ ،‬فيستحق ما يستحقه الضالون من حرمان الثواب‪،‬‬
‫ضلّ َ‬
‫{ َفقَ ْد َ‬
‫وحصول العقاب‪ .‬فكأنه قيل‪ :‬ليت شعري ماذا فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا ال عليه أم نكثوا؟‬

‫ضهِم مّيثَا َقهُمْ ْ}‬


‫فبين أنهم نقضوا ذلك فقال‪ { :‬فَ ِبمَا َنقْ ِ‬
‫أي‪ :‬بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات‪ :‬الولى‪ :‬أنا { َلعَنّا ُهمْ ْ} أي‪ :‬طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا‪،‬‬
‫حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة‪ ،‬ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم‪ ،‬الذي هو سببها‬
‫العظم‪.‬‬

‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِ َيةً ْ} أي‪ :‬غليظة ل تجدي فيها المواعظ‪ ،‬ول تنفعها اليات‬
‫الثانية‪ :‬قوله‪ { :‬وَ َ‬
‫والنذر‪ ،‬فل يرغبهم تشويق‪ ،‬ول يزعجهم تخويف‪ ،‬وهذا من أعظم العقوبات على العبد‪ ،‬أن يكون‬
‫قلبه بهذه الصفة التي ل يفيده الهدى‪ ,‬والخير إل شرا‪.‬‬

‫ضعِهِ ْ} أي‪ :‬ابتلوا بالتغيير والتبديل‪ ،‬فيجعلون للكلم الذي أراد‬


‫الثالثة‪ :‬أنهم { ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن َموَا ِ‬
‫ال معنى غير ما أراده ال ول رسوله‪.‬‬

‫حظّا ّممّا ُذكّرُوا بِهِ ْ} فإنهم ذكروا بالتوراة‪ ،‬وبما أنزل ال على موسى‪ ،‬فنسوا‬
‫الرابعة‪ :‬أنهم { نسوا َ‬
‫حظا منه‪ ،‬وهذا شامل لنسيان علمه‪ ،‬وأنهم نسوه وضاع عنهم‪ ،‬ولم يوجد كثير مما أنساهم ال إياه‬
‫عقوبة منه لهم‪.‬‬

‫وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك‪ ،‬فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به‪ ،‬ويستدل بهذا على أهل‬
‫الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم‪ ،‬أو وقع في زمانهم‪ ،‬أنه مما نسوه‪.‬‬

‫علَى خَائِنَةٍ مّ ْنهُمْ ْ} أي‪ :‬خيانة ل ولعباده‬


‫الخامسة‪ :‬الخيانة المستمرة التي { ل تَزَالُ َتطّلِعُ َ‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫ومن أعظم الخيانة منهم‪ ،‬كتمهم [عن] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق‪ ،‬وإبقاؤهم على كفرهم‪،‬‬
‫فهذه خيانة عظيمة‪ .‬وهذه الخصال الذميمة‪ ،‬حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم‪.‬‬

‫فكل من لم يقم بما أمر ال به‪ ،‬وأخذ به عليه اللتزام‪ ،‬كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب‪،‬‬
‫والبتلء بتحريف الكلم‪ ،‬وأنه ل يوفق للصواب‪ ،‬ونسيان حظ مما ُذكّر به‪ ،‬وأنه ل بد أن يبتلى‬
‫بالخيانة‪ ،‬نسأل ال العافية‪.‬‬

‫وسمى ال تعالى ما ذكروا به حظا‪ ،‬لنه هو أعظم الحظوظ‪ ،‬وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬فخَرَجَ عَلَى َق ْومِهِ فِي زِينَ ِتهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يَا لَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَا‬
‫عظِيمٍ ْ} وقال في الحظ النافع‪َ { :‬ومَا ُيَلقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا‬
‫حظّ َ‬
‫أُو ِتيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو َ‬
‫عظِيمٍ ْ}‬
‫إِلّا ذُو حَظّ َ‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُمْ ْ} أي‪ :‬فإنهم وفوا بما عاهدوا ال عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم‪.‬‬
‫صفَحْ ْ} أي‪ :‬ل تؤاخذهم بما يصدر منهم من الذى‪ ،‬الذي يقتضي أن يعفى عنهم‪،‬‬
‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَا ْ‬
‫{ فَا ْ‬
‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ ْ} والحسان‪ :‬هو أن تعبد ال كأنك تراه‬
‫واصفح‪ ،‬فإن ذلك من الحسان { إن اللّهُ يُ ِ‬
‫فإن لم تكن تراه‪ ،‬فإنه يراك‪ .‬وفي حق المخلوقين‪ :‬بذل النفع الديني والدنيوي لهم‪.‬‬

‫خذْنَا مِيثَا َقهُمْ فَنَسُوا حَظّا ِممّا ُذكّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْ َنهُمُ‬
‫{ ‪َ { }ْ 14‬ومِنَ الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى أَ َ‬
‫س ْوفَ يُنَبّ ُئ ُهمُ اللّهُ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ ْ}‬
‫ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَ َ‬

‫أي‪ :‬وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق‪ ،‬فكذلك أخذنا على { الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى ْ} لعيسى‬
‫حظّا ّممّا‬
‫ابن مريم‪ ،‬وزكوا أنفسهم باليمان بال ورسله وما جاءوا به‪ ،‬فنقضوا العهد‪ { ،‬فَنَسُوا َ‬
‫ُذكّرُوا بِهِ ْ} نسيانا علميا‪ ،‬ونسيانا عمليا‪ { .‬فَأَغْرَيْنَا بَيْ َن ُهمُ ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ْ} أي‪:‬‬
‫سلطنا بعضهم على بعض‪ ،‬وصار بينهم من الشرور والحن ما يقتضي بغض بعضهم بعضا‬
‫ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة‪ ،‬وهذا أمر مشاهد‪ ،‬فإن النصارى لم يزالوا ول يزالون في‬
‫س ْوفَ يُنَبّ ُئهُمُ اللّهُ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ ْ} فيعاقبهم عليه‪.‬‬
‫بغض وعداوة وشقاق‪ { .‬وَ َ‬

‫خفُونَ مِنَ ا ْلكِتَابِ‬


‫{ ‪ { }ْ 16 ، 15‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ َرسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ كَثِيرًا ِممّا كُنْ ُتمْ تُ ْ‬
‫وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَا َءكُمْ مِنَ اللّهِ نُو ٌر َوكِتَابٌ مُبِينٌ * َيهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِرضْوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَامِ‬
‫ج ُهمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِِإذْنِ ِه وَ َيهْدِيهِمْ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ْ}‬
‫وَيُخْرِ ُ‬

‫لما ذكر تعالى ما أخذه ال على أهل الكتاب من اليهود والنصارى‪ ،‬وأنهم نقضوا ذلك إل قليل‬
‫منهم‪ ،‬أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على‬
‫خفُون عن الناس‪ ،‬حتى عن العوام من أهل ملتهم‪ ،‬فإذا‬
‫صحة نبوته‪ ،‬وهي‪ :‬أنه بين لهم كثيرا مما ُي ْ‬
‫كانوا هم المشار إليهم في العلم ول علم عند أحد في ذلك الوقت إل ما عندهم‪ ،‬فالحريص على‬
‫العلم ل سبيل له إلى إدراكه إل منهم‪ ،‬فإتيان الرسول صلى ال عليه وسلم بهذا القرآن العظيم‬
‫الذي بيّن به ما كانوا يتكاتمونه بينهم‪ ،‬وهو ُأ ّميّ ل يقرأ ول يكتب ‪ -‬من أدل الدلئل على القطع‬
‫برسالته‪ ،‬وذلك مثل صفة محمد في كتبهم‪ ،‬ووجود البشائر به في كتبهم‪ ،‬وبيان آية الرجم ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬

‫{ وَ َي ْعفُو عَن كَثِيرٍ ْ} أي‪ :‬يترك بيان ما ل تقتضيه الحكمة‪.‬‬

‫{ َقدْ جَا َءكُم مّنَ اللّهِ نُورٌ ْ} وهو القرآن‪ ،‬يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضللة‪.‬‬
‫{ َوكِتَابٌ مّبِينٌ ْ} لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم‪ .‬من العلم بال وأسمائه وصفاته‬
‫وأفعاله‪ ،‬ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية‪.‬‬

‫ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن‪ ،‬وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬ي ْهدِي‬
‫ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَامِ ْ} أي‪ :‬يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة ال‪،‬‬
‫بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬
‫وصار قصده حسنا ‪-‬سبل السلم التي تسلم صاحبها من العذاب‪ ،‬وتوصله إلى دار السلم‪ ،‬وهو‬
‫العلم بالحق والعمل به‪ ،‬إجمال وتفصيل‪.‬‬

‫جهُم مّن ْ} ظلمات الكفر والبدعة والمعصية‪ ،‬والجهل والغفلة‪ ،‬إلى نور اليمان والسنة‬
‫{ وَيُخْ ِر ُ‬
‫والطاعة والعلم‪ ،‬والذكر‪ .‬وكل هذه الهداية بإذن ال‪ ،‬الذي ما شاء كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪.‬‬
‫{ وَ َيهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ ْ}‬

‫{ ‪َ { }ْ 18 ، 17‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َومَا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫جمِيعًا وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫أَرَادَ أَنْ ُيهِْلكَ ا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْ َي َم وَُأمّ ُه َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * َوقَالَتِ الْ َيهُو ُد وَال ّنصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ‬
‫بَيْ َن ُهمَا يخُْلقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫ُقلْ فَِلمَ ُيعَذّ ُب ُكمْ بِذُنُو ِبكُمْ َبلْ أَنْ ُتمْ بَشَرٌ ِممّنْ خَلَقَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين‪ ،‬وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه‪ ،‬ذكر أقوالهم الشنيعة‪.‬‬

‫فذكر قول النصارى‪ ،‬القول الذي ما قاله أحد غيرهم‪ ،‬بأن ال هو المسيح ابن مريم‪ ،‬ووجه شبهتهم‬
‫أنه ولد من غير أب‪ ،‬فاعتقدوا فيه هذا العتقاد الباطل مع أن حواء نظيره‪ ،‬خُِلقَت بل أم‪ ،‬وآدم‬
‫أولى منه‪ ،‬خلق بل أب ول أم‪ ،‬فهل ادعوا فيهما اللهية كما ادعوها في المسيح؟‬

‫فدل على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ول شبهة‪ .‬فرد ال عليهم بأدلة عقلية واضحة فقال‪:‬‬
‫جمِيعًا }‬
‫{ ُقلْ َفمَن َيمِْلكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن ُيهِْلكَ ا ْل َمسِيحَ ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ َومَن فِي الْأَ ْرضِ َ‬

‫فإذا كان المذكورون ل امتناع عندهم يمنعهم لو أراد ال أن يهلكهم‪ ،‬ول قدرة لهم على ذلك ‪ -‬دل‬
‫على بطلن إلهية من ل يمتنع من الهلك‪ ،‬ول في قوته شيء من الفكاك‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫ومن الدلة أن { لِلّهِ } وحده { مُ ْلكُ ال ّ‬
‫والجزائي‪ ،‬وهم مملوكون مدبرون‪ ،‬فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير‪ ،‬إلها معبودا غنيا من‬
‫كل وجه؟ هذا من أعظم المحال‪.‬‬
‫ول وجه لستغرابهم لخلق المسيح عيسى ابن مريم من غير أب‪ ،‬فإن ال { َيخْلُقُ مَا يَشَاءُ } إن‬
‫شاء من أب وأم‪ ،‬كسائر بني آدم‪ ،‬وإن شاء من أب بل أم‪ ،‬كحواء‪ .‬وإن شاء من أم بل أب‪،‬‬
‫كعيسى‪ .‬وإن شاء من غير أب ول أم [كآدم]‬

‫فنوع خليقته تعالى بمشيئته النافذة‪ ،‬التي ل يستعصي عليها شيء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ عَلَى ُكلّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫َ‬

‫ومن مقالت اليهود والنصارى أن كل منهما ادعى دعوى باطلة‪ ،‬يزكون بها أنفسهم‪ ،‬بأن قال كل‬
‫منهما‪ { :‬نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ }‬

‫والبن في لغتهم هو الحبيب‪ ،‬ولم يريدوا البنوة الحقيقية‪ ،‬فإن هذا ليس من مذهبهم إل مذهب‬
‫النصارى في المسيح‪.‬‬

‫قال ال ردا عليهم حيث ادعوا بل برهان‪ُ { :‬قلْ فَلِمَ ُيعَذّ ُبكُمْ ِبذُنُو ِبكُمْ } ؟‬

‫فلو كنتم أحبابه ما عذبكم [لكون ال ل يحب إل من قام بمراضيه]‬

‫{ َبلْ أَنتُم بَشَرٌ ّممّنْ خَلَقَ } تجري عليكم أحكام العدل والفضل { َي ْغفِرُ ِلمَن َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَن يَشَاءُ }‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا وَإِلَيْهِ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب‪ { ،‬وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة‪ ،‬وأنتم من جملة المماليك ومن جملة من يرجع إلى‬
‫ال في الدار الخرة‪ ،‬فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬

‫سلِ أَنْ َتقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ‬


‫{ ‪ { } 19‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ َرسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ عَلَى فَتْ َرةٍ مِنَ الرّ ُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫بَشِي ٍر وَلَا َنذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُمْ بَشِي ٌر وَ َنذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب ‪-‬بسبب ما من عليهم من كتابه‪ -‬أن يؤمنوا برسوله محمد صلى‬
‫سلِ } وشدة حاجة‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ويشكروا ال تعالى الذي أرسله إليهم على حين { فَتْ َرةٍ مّنَ الرّ ُ‬
‫إليه‪.‬‬

‫وهذا مما يدعو إلى اليمان به‪ ،‬وأنه يبين لهم جميع المطالب اللهية والحكام الشرعية‪.‬‬
‫وقد قطع ال بذلك حجتهم‪ ،‬لئل يقولوا‪ { :‬مَا جَاءَنَا مِن َبشِي ٍر وَلَا نَذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُم بَشِي ٌر وَنَذِيرٌ }‬
‫يبشر بالثواب العاجل والجل‪ ،‬وبالعمال الموجبة لذلك‪ ،‬وصفة العاملين بها‪ .‬وينذر بالعقاب‬
‫العاجل والجل‪ ،‬وبالعمال الموجبة لذلك‪ ،‬وصفة العاملين بها‪.‬‬

‫شيْءٍ قَدِيرٌ } انقادت الشياء طوعا وإذعانا لقدرته‪ ،‬فل يستعصي عليه شيء منها‪،‬‬
‫{ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ومن قدرته أن أرسل الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب‪ ،‬وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم‪.‬‬

‫جعََلكُمْ‬
‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء وَ َ‬
‫{ ‪ { } 26 - 20‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ َ‬
‫مُلُوكًا وَآتَا ُكمْ مَا لَمْ ُي ْؤتِ َأحَدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ * يَا َقوْمِ ا ْدخُلُوا الْأَ ْرضَ ا ْل ُمقَدّسَةَ }‬

‫إلى آخر القصة‬

‫لما امتن ال على موسى وقومه بنجاتهم من فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم‪ ،‬ذهبوا قاصدين‬
‫لوطانهم ومساكنهم‪ ،‬وهي بيت المقدس وما حواليه‪ ،‬وقاربوا وصول بيت المقدس‪ ،‬وكان ال قد‬
‫فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم‪ .‬فوعظهم موسى عليه السلم؛ وذكرهم ليقدموا‬
‫على الجهاد فقال لهم‪ { :‬ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } بقلوبكم وألسنتكم‪ .‬فإن ذكرها داع إلى محبته‬
‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ } يدعونكم إلى الهدى‪ ،‬ويحذرونكم من الردى‪،‬‬
‫تعالى ومنشط على العبادة‪ { ،‬إِذْ َ‬
‫جعََلكُم مّلُوكًا } تملكون أمركم‪،‬‬
‫ويحثونكم على سعادتكم البدية‪ ،‬ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون { وَ َ‬
‫بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم‪ ،‬فكنتم تملكون أمركم‪ ،‬وتتمكنون من إقامة دينكم‪.‬‬

‫{ وَآتَا ُكمْ } من النعم الدينية والدنيوية { مَا لَمْ ُي ْؤتِ َأحَدًا مّنَ ا ْلعَاَلمِينَ } فإنهم في ذلك الزمان خيرة‬
‫الخلق‪ ،‬وأكرمهم على ال تعالى‪ .‬وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم‪.‬‬

‫فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية‪ ،‬الداعي ذلك ليمانهم وثباته‪ ،‬وثباتهم على الجهاد‪ ،‬وإقدامهم عليه‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْدخُلُوا الْأَ ْرضَ ا ْل ُمقَدّسَةَ }‬

‫أي‪ :‬المطهرة { الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ } فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم‪ ،‬إن كانوا مؤمنين مصدقين‬
‫بخبر ال‪ ،‬وأنه قد كتب ال لهم دخولها‪ ،‬وانتصارهم على عدوهم‪ { .‬وَلَا تَرْ َتدّوا } أي‪ :‬ترجعوا‬
‫{ عَلَى َأدْبَا ِركُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } قد خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر على العداء وفتح‬
‫بلدكم‪ .‬وآخرتكم بما فاتكم من الثواب‪ ،‬وما استحققتم ‪-‬بمعصيتكم‪ -‬من العقاب‪ ،‬فقالوا قول يدل‬
‫على ضعف قلوبهم‪ ،‬وخور نفوسهم‪ ،‬وعدم اهتمامهم بأمر ال ورسوله‪.‬‬
‫{ يَا مُوسَى إِنّ فِيهَا َق ْومًا جَبّارِينَ } شديدي القوة والشجاعة‪ ،‬أي‪ :‬فهذا من الموانع لنا من دخولها‪.‬‬

‫{ وَإِنّا لَن نّدْخَُلهَا حَتّى يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا فَإِن يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ } وهذا من الجبن وقلة اليقين‪،‬‬
‫وإل فلو كان معهم رشدهم‪ ،‬لعلموا أنهم كلهم من بني آدم‪ ،‬وأن القوي من أعانه ال بقوة من عنده‪،‬‬
‫فإنه ل حول ول قوة إل بال‪ ،‬ولعلموا أنهم سينصرون عليهم‪ ،‬إذ وعدهم ال بذلك‪ ،‬وعدا خاصا‪.‬‬

‫{ قَالَ َرجُلَانِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ } ال تعالى‪ ،‬مشجعين لقومهم‪ ،‬منهضين لهم على قتال عدوهم‬
‫واحتلل بلدهم‪ { .‬أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمَا } بالتوفيق‪ ،‬وكلمة الحق في هذا الموطن المحتاج إلى مثل‬
‫كلمهم‪ ،‬وأنعم عليهم بالصبر واليقين‪.‬‬

‫{ ادْخُلُوا عَلَ ْي ِهمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْ ُتمُوهُ فَإِ ّنكُمْ غَالِبُونَ } أي‪ :‬ليس بينكم وبين نصركم عليهم إل أن‬
‫تجزموا عليهم‪ ،‬وتدخلوا عليهم الباب‪ ،‬فإذا دخلتموه عليهم فإنهم سينهزمون‪ ،‬ثم أمَرَاهم بعدة هي‬
‫أقوى العدد‪ ،‬فقال‪ { :‬وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُوا إِن كُنْتُم ّم ْؤمِنِينَ } فإن في التوكل على ال ‪-‬وخصوصا‬
‫في هذا الموطن‪ -‬تيسيرا للمر‪ ،‬ونصرا على العداء‪ .‬ودل هذا على وجوب التوكل‪ ،‬وعلى أنه‬
‫بحسب إيمان العبد يكون توكله‪ ،‬فلم ينجع فيهم هذا الكلم‪ ،‬ول نفع فيهم الملم‪ ،‬فقالوا قول الذلين‪:‬‬
‫ت وَرَ ّبكَ َفقَاتِلَا إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }‬
‫خَلهَا أَبَدًا مّا دَامُوا فِيهَا فَاذْ َهبْ أَن َ‬
‫{ يَا مُوسَى إِنّا لَن نَدْ ُ‬

‫فما أشنع هذا الكلم منهم‪ ،‬ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق‪ ،‬الذي قد دعت الحاجة‬
‫والضرورة إلى نصرة نبيهم‪ ،‬وإعزاز أنفسهم‪.‬‬

‫وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر المم‪ ،‬وأمة محمد صلى ال عليه وسلم حيث قال الصحابة‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪-‬حين شاورهم في القتال يوم "بدر" مع أنه لم يحتم عليهم‪ :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك‪ ،‬ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك أحد‪.‬‬
‫ت وَرَ ّبكَ َفقَاتِلَا إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب‬
‫ول نقول كما قال قوم موسى لموسى‪ { :‬ا ْذ َهبْ أَن َ‬
‫أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون‪ ،‬من بين يديك ومن خلفك‪ ،‬وعن يمينك وعن يسارك‪.‬‬

‫فلما رأى موسى عليه السلم عتوهم عليه { قَالَ َربّ إِنّي لَا َأمِْلكُ إِلّا َنفْسِي وََأخِي } أي‪ :‬فل يدان‬
‫سقِينَ } أي‪ :‬احكم بيننا وبينهم‪،‬‬
‫لنا بقتالهم‪ ،‬ولست بجبار على هؤلء‪ { .‬فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫بأن تنزل فيهم من العقوبة ما اقتضته حكمتك‪ ،‬ودل ذلك على أن قولهم وفعلهم من الكبائر العظيمة‬
‫الموجبة للفسق‪.‬‬

‫{ قَالَ } ال مجيبا لدعوة موسى‪ { :‬فَإِ ّنهَا ُمحَ ّرمَةٌ عَلَ ْيهِمْ أَرْ َبعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬إن‬
‫من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها ال لهم‪ ،‬مدة أربعين سنة‪ ،‬وتلك المدة‬
‫أيضا يتيهون في الرض‪ ،‬ل يهتدون إلى طريق ول يبقون مطمئنين‪ ،‬وهذه عقوبة دنيوية‪ ،‬لعل ال‬
‫تعالى كفر بها عنهم‪ ،‬ودفع عنهم عقوبة أعظم منها‪ ،‬وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد‬
‫تكون بزوال نعمة موجودة‪ ،‬أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر‪.‬‬

‫ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلء الذين قالوا هذه المقالة‪ ،‬الصادرة عن قلوب ل‬
‫صبر فيها ول ثبات‪ ،‬بل قد ألفت الستعباد لعدوها‪ ،‬ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها‬
‫وعلوها‪ ،‬ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر العداء‪ ،‬وعدم الستعباد‪ ،‬والذل‬
‫المانع من السعادة‪.‬‬

‫ولما علم ال تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق‪ ،‬خصوصا قومه‪ ،‬وأنه ربما رق‬
‫لهم‪ ،‬واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة‪ ،‬أو الدعاء لهم بزوالها‪ ،‬مع أن ال قد‬
‫سقِينَ } أي‪ :‬ل تأسف عليهم ول تحزن‪ ،‬فإنهم قد فسقوا‪،‬‬
‫حتمها‪ ،‬قال‪ { :‬فَلَا تَ ْأسَ عَلَى ا ْلقَوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم ل ظلما منا‪.‬‬

‫حقّ }‬
‫{ ‪ { } 31 - 27‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ آدَمَ بِالْ َ‬

‫إلى آخر القصة أي‪ :‬قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق‪ ،‬تلوة‬
‫يعتبر بها المعتبرون‪ ،‬صدقا ل كذبا‪ ،‬وجدا ل لعبا‪ ،‬والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه‪ ،‬كما يدل‬
‫عليه ظاهر الية والسياق‪ ،‬وهو قول جمهور المفسرين‪.‬‬

‫أي‪ :‬اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان‪ ،‬الذي أداهما إلى الحال المذكورة‪.‬‬

‫{ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانًا } أي‪ :‬أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى ال‪ { ،‬فَ ُتقُبّلَ مِنْ َأحَدِ ِهمَا‬
‫وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الْآخَرِ } بأن علم ذلك بخبر من السماء‪ ،‬أو بالعادة السابقة في المم‪ ،‬أن علمة تقبل‬
‫ال لقربان‪ ،‬أن تنزل نار من السماء فتحرقه‪.‬‬

‫{ قَالَ } البن‪ ،‬الذي لم يتقبل منه للخر حسدا وبغيا { لََأقْتُلَ ّنكَ } فقال له الخر ‪-‬مترفقا له في‬
‫ذلك‪ { -‬إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ } فأي ذنب لي وجناية توجب لك أن تقتلني؟ إل أني اتقيت ال‬
‫ي وعليك‪ ،‬وعلى كل أحد‪ ،‬وأصح القوال في تفسير المتقين هنا‪ ،‬أي‪:‬‬
‫تعالى‪ ،‬الذي تقواه واجبة عل ّ‬
‫المتقين ل في ذلك العمل‪ ،‬بأن يكون عملهم خالصا لوجه ال‪ ،‬متبعين فيه لسنة رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ثم قال له مخبرا أنه ل يريد أن يتعرض لقتله‪ ،‬ل ابتداء ول مدافعة فقال‪:‬‬
‫طتَ إَِليّ َي َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْيكَ لَِأقْتَُلكَ } وليس ذلك جبنا مني ول عجزا‪.‬‬
‫{ لَئِن بَسَ ْ‬
‫وإنما ذلك لني { أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } والخائف ل ل يقدم على الذنوب‪ ،‬خصوصا الذنوب‬
‫الكبار‪ .‬وفي هذا تخويف لمن يريد القتل‪ ،‬وأنه ينبغي لك أن تتقي ال وتخافه‪.‬‬

‫{ إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ } أي‪ :‬ترجع { بِإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ } أي‪ :‬إنه إذا دار المر بين أن أكون قاتل أو‬
‫صحَابِ النّا ِر وَذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ }‬
‫تقتلني فإني أوثر أن تقتلني‪ ،‬فتبوء بالوزرين { فَ َتكُونَ مِنْ َأ ْ‬
‫دل هذا على أن القتل من كبائر الذنوب‪ ،‬وأنه موجب لدخول النار‪.‬‬

‫فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر‪ ،‬ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها‪ ،‬حتى طوعت له قتل أخيه الذي‬
‫يقتضي الشرع والطبع احترامه‪.‬‬

‫{ َفقَتَلَهُ فََأصْبَحَ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } دنياهم وآخرتهم‪ ،‬وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل‪.‬‬

‫"ومن سن سنة سيئة‪ ،‬فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"‪ .‬ولهذا ورد في الحديث‬
‫الصحيح أنه "ما من نفس تقتل إل كان على ابن آدم الول شطر من دمها‪ ،‬لنه أول من سن‬
‫القتل"‪.‬‬

‫حثُ فِي‬
‫فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به؛ لنه أول ميت مات من بني آدم { فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْ َ‬
‫سوَْأةَ أَخِيهِ } أي‪ :‬بدنه‪،‬‬
‫الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا‪ { .‬لِيُرِ َيهُ } بذلك { كَ ْيفَ ُيوَارِي َ‬
‫لن بدن الميت يكون عورة { فََأصْبَحَ مِنَ النّا ِدمِينَ } وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة‪.‬‬

‫علَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَنْ قَ َتلَ َنفْسًا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ َفسَادٍ فِي الْأَ ْرضِ‬
‫جلِ ذَِلكَ كَتَبْنَا َ‬
‫{ ‪ { } 32‬مِنْ أَ ْ‬
‫سلُنَا بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ إِنّ‬
‫جمِيعًا وََلقَدْ جَاءَ ْتهُمْ رُ ُ‬
‫جمِيعًا َومَنْ أَحْيَاهَا َفكَأَ ّنمَا أَحْيَا النّاسَ َ‬
‫َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ النّاسَ َ‬
‫كَثِيرًا مِ ْنهُمْ َبعْدَ ذَِلكَ فِي الْأَ ْرضِ َلمُسْ ِرفُونَ }‬

‫جلِ ذَِلكَ } الذي ذكرناه في قصة ابني آدم‪ ،‬وقتل أحدهما أخاه‪ ،‬وسنه القتل لمن‬
‫يقول تعالى { مِنْ أَ ْ‬
‫بعده‪ ،‬وأن القتل عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والخرة‪ { .‬كَتَبْنَا عَلَى بَنِي ِإسْرَائِيلَ } أهل الكتب‬
‫السماوية { أَنّهُ مَنْ قَ َتلَ َنفْسًا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬بغير حق { َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ النّاسَ‬
‫جمِيعًا } ؛ لنه ليس معه داع يدعوه إلى التبيين‪ ،‬وأنه ل يقدم على القتل إل بحق‪ ،‬فلما تجرأ على‬
‫َ‬
‫قتل النفس التي لم تستحق القتل علم أنه ل فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره‪ ،‬وإنما ذلك‬
‫بحسب ما تدعوه إليه نفسه المارة بالسوء‪ .‬فتجرؤه على قتله‪ ،‬كأنه قتل الناس جميعا‪.‬‬

‫وكذلك من أحيا نفسا أي‪ :‬استبقى أحدا‪ ،‬فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله‪ ،‬فمنعه خوف ال تعالى‬
‫من قتله‪ ،‬فهذا كأنه أحيا الناس جميعا‪ ،‬لن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من ل يستحق القتل‪.‬‬
‫ودلت الية على أن القتل يجوز بأحد أمرين‪:‬‬

‫إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك‪ ،‬فإنه يحل قتله‪ ،‬إن كان مكلفا مكافئا‪ ،‬ليس بوالد‬
‫للمقتول‪.‬‬

‫وإما أن يكون مفسدا في الرض‪ ،‬بإفساده لديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم‪ ،‬كالكفار المرتدين‬
‫والمحاربين‪ ،‬والدعاة إلى البدع الذين ل ينكف شرهم إل بالقتل‪.‬‬

‫وكذلك قطاع الطريق ونحوهم‪ ،‬ممن يصول على الناس لقتلهم‪ ،‬أو أخذ أموالهم‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ جَاءَ ْتهُمْ ُرسُلُنَا بِالْبَيّنَاتِ } التي ل يبقى معها حجة لحد‪ { .‬ثُمّ إِنّ كَثِيرًا مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من الناس‬
‫{ َب ْعدِ ذَِلكَ } البيان القاطع للحجة‪ ،‬الموجب للستقامة في الرض { َل ُمسْ ِرفُونَ } في العمل‬
‫بالمعاصي‪ ،‬ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج‪.‬‬

‫س َعوْنَ فِي الْأَ ْرضِ فَسَادًا أَنْ ُيقَتّلُوا َأوْ‬


‫{ ‪ { } 34 ، 33‬إِ ّنمَا جَزَاءُ الّذِينَ ُيحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَ ُه وَيَ ْ‬
‫ُيصَلّبُوا َأوْ ُتقَطّعَ أَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ مِنْ خِلَافٍ َأوْ يُ ْنفَوْا مِنَ الْأَ ْرضِ ذَِلكَ َلهُمْ خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا وََلهُمْ فِي‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ * إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهِمْ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫الْآخِ َرةِ َ‬

‫المحاربون ل ولرسوله‪ ،‬هم الذين بارزوه بالعداوة‪ ،‬وأفسدوا في الرض بالكفر والقتل‪ ،‬وأخذ‬
‫الموال‪ ،‬وإخافة السبل‪.‬‬

‫والمشهور أن هذه الية الكريمة في أحكام قطاع الطريق‪ ،‬الذين يعرضون للناس في القرى‬
‫والبوادي‪ ،‬فيغصبونهم أموالهم‪ ،‬ويقتلونهم‪ ،‬ويخيفونهم‪ ،‬فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم‬
‫بها‪ ،‬فتنقطع بذلك‪.‬‬

‫فأخبر ال أن جزاءهم ونكالهم ‪-‬عند إقامة الحد عليهم‪ -‬أن يفعل بهم واحد من هذه المور‪.‬‬

‫واختلف المفسرون‪ :‬هل ذلك على التخيير‪ ،‬وأن كل قاطع طريق يفعل به المام أو نائبه ما رآه‬
‫المصلحة من هذه المور المذكورة؟ وهذا ظاهر اللفظ‪ ،‬أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم‪،‬‬
‫فكل جريمة لها قسط يقابلها‪ ،‬كما تدل عليه الية بحكمتها وموافقتها لحكمة ال تعالى‪ .‬وأنهم إن‬
‫قتلوا وأخذوا مالًا تحتم قتلُهم وصلبهم‪ ،‬حتى يشتهروا ويختزوا ويرتدع غيرهم‪.‬‬
‫وإن قتلوا ولم يأخذوا مال تحتم قتلهم فقط‪ .‬وإن أخذوا مال ولم يقتلوا تحتم أن تقطع أيديهم‬
‫وأرجلهم من خلف‪ ،‬اليد اليمنى والرجل اليسرى‪ .‬وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا‪ ،‬ول أخذوا مال‪،‬‬
‫نفوا من الرض‪ ،‬فل يتركون يأوون في بلد حتى تظهر توبتهم‪ .‬وهذا قول ابن عباس رضي ال‬
‫عنه وكثير من الئمة‪ ،‬على اختلف في بعض التفاصيل‪.‬‬

‫عذَابٌ عَظِيمٌ } فدل‬


‫{ ذَِلكَ } النكال { َلهُمْ خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا } أي‪ :‬فضيحة وعار { وََلهُمْ فِي الْآخِ َرةِ َ‬
‫هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب‪ ،‬موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الخرة‪ ،‬وأن فاعله محارب‬
‫ل ولرسوله‪.‬‬

‫وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة‪ ،‬علم أن تطهير الرض من المفسدين‪ ،‬وتأمين السبل‬
‫والطرق‪ ،‬عن القتل‪ ،‬وأخذ الموال‪ ،‬وإخافة الناس‪ ،‬من أعظم الحسنات وأجل الطاعات‪ ،‬وأنه‬
‫إصلح في الرض‪ ،‬كما أن ضده إفساد في الرض‪.‬‬

‫غفُورٌ‬
‫{ إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِن قَ ْبلِ أَن َتقْدِرُوا عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬من هؤلء المحاربين‪ { ،‬فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫رّحِيمٌ } أي‪ :‬فيسقط عنه ما كان ل‪ ،‬من تحتم القتل والصلب والقطع والنفي‪ ،‬ومن حق الدمي‬
‫أيضا‪ ،‬إن كان المحارب كافرا ثم أسلم‪ ،‬فإن كان المحارب مسلما فإن حق الدمي‪ ،‬ل يسقط عنه‬
‫من القتل وأخذ المال‪ .‬ودل مفهوم الية على أن توبة المحارب ‪-‬بعد القدرة عليه‪ -‬أنها ل تسقط‬
‫عنه شيئا‪ ،‬والحكمة في ذلك ظاهرة‪.‬‬

‫وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه‪ ،‬تمنع من إقامة الحد في الحرابة‪ ،‬فغيرها من الحدود ‪-‬إذا تاب‬
‫من فعلها‪ ،‬قبل القدرة عليه‪ -‬من باب أولى‪.‬‬

‫{ ‪ { } 35‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَابْ َتغُوا إِلَيْهِ ا ْلوَسِيَل َة وَجَا ِهدُوا فِي سَبِيلِهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }‬

‫هذا أمر من ال لعباده المؤمنين‪ ،‬بما يقتضيه اليمان من تقوى ال والحذر من سخطه وغضبه‪،‬‬
‫وذلك بأن يجتهد العبد‪ ،‬ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في اجتناب ما يَسخطه ال‪ ،‬من معاصي‬
‫القلب واللسان والجوارح‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ .‬ويستعين بال على تركها‪ ،‬لينجو بذلك من سخط ال‬
‫وعذابه‪ { .‬وَابْ َتغُوا إِلَ ْيهِ ا ْلوَسِيَلةَ } أي‪ :‬القرب منه‪ ،‬والحظوة لديه‪ ،‬والحب له‪ ،‬وذلك بأداء فرائضه‬
‫القلبية‪ ،‬كالحب له وفيه‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬والنابة والتوكل‪ .‬والبدنية‪ :‬كالزكاة والحج‪ .‬والمركبة‬
‫من ذلك كالصلة ونحوها‪ ،‬من أنواع القراءة والذكر‪ ،‬ومن أنواع الحسان إلى الخلق بالمال والعلم‬
‫والجاه‪ ،‬والبدن‪ ،‬والنصح لعباد ال‪ ،‬فكل هذه العمال تقرب إلى ال‪ .‬ول يزال العبد يتقرب بها إلى‬
‫ال حتى يحبه ال‪ ،‬فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش‬
‫بها‪ ،‬ورجله التي يمشي [بها] ويستجيب ال له الدعاء‪.‬‬
‫ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه‪ ،‬الجهاد في سبيله‪ ،‬وهو‪ :‬بذل الجهد في قتال‬
‫الكافرين بالمال‪ ،‬والنفس‪ ،‬والرأي‪ ،‬واللسان‪ ،‬والسعي في نصر دين ال بكل ما يقدر عليه العبد‪،‬‬
‫لن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات‪.‬‬

‫ولن من قام به‪ ،‬فهو على القيام بغيره أحرى وأولى { َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } إذا اتقيتم ال بترك‬
‫المعاصي‪ ،‬وابتغيتم الوسيلة إلى ال‪ ،‬بفعل الطاعات‪ ،‬وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته‪.‬‬

‫والفلح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب‪ ،‬والنجاة من كل مرهوب‪ ،‬فحقيقته السعادة البدية‬
‫والنعيم المقيم‪.‬‬

‫عذَابِ‬
‫جمِيعًا َومِثْلَهُ َمعَهُ لِ َيفْتَدُوا بِهِ مِنْ َ‬
‫{ ‪ { } 37 ، 36‬إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَا ُتقُ ّبلَ مِ ْنهُمْ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ َيخْرُجُوا مِنَ النّا ِر َومَا هُمْ ِبخَارِجِينَ مِ ْنهَا‬
‫وََلهُمْ عَذَابٌ ُمقِيمٌ }‬

‫يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين بال يوم القيامة ومآلهم الفظيع‪ ،‬وأنهم لو افتدوا من عذاب‬
‫ال بملء الرض ذهبا ومثله معه ما تقبل منهم‪ ،‬ول أفاد‪ ،‬لن محل الفتداء قد فات‪ ،‬ولم يبق إل‬
‫العذاب الليم‪ ،‬الموجع الدائم الذي ل يخرجون منه أبدا‪ ،‬بل هم ماكثون فيه سرمدا‪.‬‬

‫طعُوا أَيْدِ َي ُهمَا جَزَاءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالًا مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ‬
‫ق وَالسّا ِرقَةُ فَا ْق َ‬
‫{ ‪ { } 40 - 38‬وَالسّا ِر ُ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ‬
‫ظ ْلمِ ِه وََأصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫حكِيمٌ * َفمَنْ تَابَ مِنْ َبعْدِ ُ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَ َيغْفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬

‫السارق‪ :‬هو من أخذ مال غيره المحترم خفية‪ ،‬بغير رضاه‪ .‬وهو من كبائر الذنوب الموجبة‬
‫لترتب العقوبة الشنيعة‪ ،‬وهو قطع اليد اليمنى‪ ،‬كما هو في قراءة بعض الصحابة‪.‬‬

‫وحد اليد عند الطلق من الكوع‪ ،‬فإذا سرق قطعت يده من الكوع‪ ،‬وحسمت في زيت لتنسد‬
‫العروق فيقف الدم‪ ،‬ولكن السنة قيدت عموم هذه الية من عدة أوجه‪:‬‬

‫منها‪ :‬الحرز‪ ،‬فإنه لبد أن تكون السرقة من حرز‪ ،‬وحرز كل مال‪ :‬ما يحفظ به عادة‪ .‬فلو سرق‬
‫من غير حرز فل قطع عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه لبد أن يكون المسروق نصابا‪ ،‬وهو ربع دينار‪ ،‬أو ثلثة دراهم‪ ،‬أو ما يساوي أحدهما‪،‬‬
‫فلو سرق دون ذلك فل قطع عليه‪.‬‬
‫ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها‪ ،‬فإن لفظ "السرقة" أخذ الشيء على وجه ل يمكن‬
‫الحتراز منه‪ ،‬وذلك أن يكون المال محرزا‪ ،‬فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية‪.‬‬

‫ومن الحكمة أيضا أن ل تقطع اليد في الشيء النزر التافه‪ ،‬فلما كان لبد من التقدير‪ ،‬كان التقدير‬
‫الشرعي مخصصا للكتاب‪.‬‬

‫والحكمة في قطع اليد في السرقة‪ ،‬أن ذلك حفظ للموال‪ ،‬واحتياط لها‪ ،‬وليقطع العضو الذي‬
‫صدرت منه الجناية‪ ،‬فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى‪ ،‬فإن عاد‪ ،‬فقيل‪ :‬تقطع يده اليسرى‪ ،‬ثم‬
‫رجله اليمنى‪ ،‬وقيل‪ :‬يحبس حتى يموت‪ .‬وقوله‪ { :‬جَزَاءً ِبمَا َكسَبَا } أي‪ :‬ذلك القطع جزاء للسارق‬
‫بما سرقه من أموال الناس‪.‬‬

‫{ َنكَالًا مّنَ اللّهِ } أي‪ :‬تنكيل وترهيبا للسارق ولغيره‪ ،‬ليرتدع السراق ‪-‬إذا علموا‪ -‬أنهم سيقطعون‬
‫إذا سرقوا‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬عَزّ وحكم فقطع السارق‪.‬‬


‫{ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ } فيغفر لمن تاب فترك‬


‫علَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫{ َفمَن تَابَ مِن َبعْدِ ظُ ْلمِ ِه وََأصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ َ‬
‫الذنوب‪ ،‬وأصلح العمال والعيوب‪.‬‬

‫وذلك أن ل ملك السماوات والرض‪ ،‬يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية والشرعية‪،‬‬
‫والمغفرة والعقوبة‪ ،‬بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته‪.‬‬

‫{ ‪ { } 44 - 41‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ لَا يَحْزُ ْنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوا آمَنّا‬
‫سمّاعُونَ ِل َقوْمٍ آخَرِينَ َلمْ يَأْتُوكَ‬
‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ َ‬
‫بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَلَمْ ُت ْؤمِنْ قُلُو ُبهُ ْم َومِنَ الّذِينَ هَادُوا َ‬
‫حذَرُوا َومَنْ يُ ِردِ اللّهُ‬
‫ضعِهِ َيقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا َفخُذُو ُه وَإِنْ لَمْ ُتؤْ َت ْوهُ فَا ْ‬
‫يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ مِنْ َبعْدِ َموَا ِ‬
‫ي وََلهُمْ‬
‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ َلهُمْ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬
‫فِتْنَتَهُ فَلَنْ َتمِْلكَ َلهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَمْ يُ ِردِ اللّهُ أَنْ يُ َ‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ‬
‫حتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَا ْ‬
‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫عظِيمٌ * َ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫فِي الْآخِ َرةِ َ‬
‫سطِينَ‬
‫حبّ ا ْلمُقْ ِ‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِسْطِ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫ح َك ْمتَ فَا ْ‬
‫عَ ْنهُ ْم وَإِنْ ُتعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ فَلَنْ َيضُرّوكَ شَيْئًا وَإِنْ َ‬
‫ح ْكمُ اللّهِ ُثمّ يَ َتوَّلوْنَ مِنْ َبعْدِ َذِلكَ َومَا أُولَ ِئكَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ *‬
‫ك وَعِنْدَ ُهمُ ال ّتوْرَاةُ فِيهَا ُ‬
‫ح ّكمُو َن َ‬
‫* َوكَيْفَ ُي َ‬
‫سَلمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ وَالَْأحْبَارُ‬
‫حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَ ْ‬
‫إِنّا أَنْزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا ُهدًى وَنُورٌ َي ْ‬
‫ن وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنًا‬
‫شوْ ِ‬
‫شوُا النّاسَ وَاخْ َ‬
‫ش َهدَاءَ فَلَا َتخْ َ‬
‫حفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّ ِه َوكَانُوا عَلَ ْيهِ ُ‬
‫ِبمَا اسْ ُت ْ‬
‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ }‬
‫قَلِيلًا َومَنْ لَمْ َي ْ‬
‫كان الرسول صلى ال عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر اليمان‪ ،‬ثم‬
‫يرجع إلى الكفر‪ ،‬فأرشده ال تعالى‪ ،‬إلى أنه ل يأسى ول يحزن على أمثال هؤلء‪ .‬فإن هؤلء ل‬
‫في العير ول في النفير‪ .‬إن حضروا لم ينفعوا‪ ،‬وإن غابوا لم يفقدوا‪ ،‬ولهذا قال مبينا للسبب‬
‫الموجب لعدم الحزن عليهم ‪ -‬فقال‪ { :‬مِنَ الّذِينَ قَالُوا آمَنّا بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَلَمْ ُت ْؤمِن قُلُو ُبهُمْ } فإن الذين‬
‫يؤسى ويحزن عليهم‪ ،‬من كان معدودا من المؤمنين‪ ،‬وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا‪ ,‬وحاشا ل أن‬
‫يرجع هؤلء عن دينهم ويرتدوا‪ ،‬فإن اليمان ‪-‬إذا خالطت بشاشته القلوب‪ -‬لم يعدل به صاحبه‬
‫غيره‪ ،‬ولم يبغ به بدل‪.‬‬

‫سمّاعُونَ ِل َقوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي‪:‬‬


‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َ‬
‫{ َومِنَ الّذِينَ هَادُوا } أي‪ :‬اليهود { َ‬
‫مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم‪ ،‬المبني أمرهم على الكذب والضلل والغي‪ .‬وهؤلء الرؤساء‬
‫المتبعون { لَمْ يَأْتُوكَ } بل أعرضوا عنك‪ ،‬وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن‬
‫مواضعه‪ ،‬أي‪ :‬جلب معان لللفاظ ما أرادها ال ول قصدها‪ ،‬لضلل الخلق ولدفع الحق‪ ،‬فهؤلء‬
‫المنقادون للدعاة إلى الضلل‪ ،‬المتبعين للمحال‪ ،‬الذين يأتون بكل كذب‪ ،‬ل عقول لهم ول همم‪ .‬فل‬
‫تبال أيضا إذا لم يتبعوك‪ ،‬لنهم في غاية النقص‪ ،‬والناقص ل يؤبه له ول يبالى به‪.‬‬

‫خذُوهُ وَإِن لّمْ ُتؤْ َت ْوهُ فَاحْذَرُوا } أي‪ :‬هذا قولهم عند محاكمتهم إليك‪ ،‬ل‬
‫{ َيقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ َهذَا فَ ُ‬
‫قصد لهم إل اتباع الهوى‪.‬‬

‫يقول بعضهم لبعض‪ :‬إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم‪ ،‬فاقبلوا حكمه‪ ،‬وإن لم‬
‫يحكم لكم به‪ ،‬فاحذروا أن تتابعوه على ذلك‪ ،‬وهذا فتنة واتباع ما تهوى النفس‪.‬‬

‫ت وََلكِنّ اللّهَ‬
‫{ َومَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَ َتهُ فَلَن َتمِْلكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } كقوله تعالى‪ { :‬إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ أَحْبَ ْب َ‬
‫َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ }‬

‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ } أي‪ :‬فلذلك صدر منهم ما صدر‪ .‬فدل ذلك على أن‬
‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن ُي َ‬
‫من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه‪ ،‬وأنه إن حكم له رضي‪ ،‬وإن لم يحكم له‬
‫سخط‪ ،‬فإن ذلك من عدم طهارة قلبه‪ ،‬كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به‪ ،‬وافق هواه‬
‫أو خالفه‪ ،‬فإنه من طهارة القلب‪ ،‬ودل على أن طهارة القلب‪ ،‬سبب لكل خير‪ ،‬وهو أكبر داع إلى‬
‫كل قول رشيد وعمل سديد‪.‬‬

‫عظِيمٌ } هو‪ :‬النار وسخط‬


‫{ َلهُم فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ } أي‪ :‬فضيحة وعار { وََلهُم فِي الْآخِ َرةِ عَذَابٌ َ‬
‫الجبار‪.‬‬
‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ } والسمع هاهنا سمع استجابة‪ ،‬أي‪ :‬من قلة دينهم وعقلهم‪ ،‬أن استجابوا لمن‬
‫{ َ‬
‫دعاهم إلى القول الكذب‪.‬‬

‫حتِ } أي‪ :‬المال الحرام‪ ،‬بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم من المعلومات‬
‫{ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫والرواتب‪ ،‬التي بغير الحق‪ ،‬فجمعوا بين اتباع الكذب وأكل الحرام‪.‬‬

‫ح ُكمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ } فأنت مخير في ذلك‪ .‬وليست هذه منسوخة‪ ،‬فإنه‪-‬‬
‫{ فَإِنْ جَاءُوكَ فَا ْ‬
‫عند تحاكم هذا الصنف إليه‪ -‬يخير بين أن يحكم بينهم‪ ،‬أو يعرض عن الحكم بينهم‪ ،‬بسبب أنه ل‬
‫قصد لهم في الحكم الشرعي إل أن يكون موافقا لهوائهم‪ ،‬وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى‬
‫عالم‪ ،‬يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض‪ ،‬لم يجب الحكم ول الفتاء لهم‪ ،‬فإن حكم بينهم‬
‫حكُم بَيْ َنهُم‬
‫ح َك ْمتَ فَا ْ‬
‫وجب أن يحكم بالقسط‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِن ُتعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ فَلَن َيضُرّوكَ شَيْئًا وَإِنْ َ‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ } حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء‪ ،‬فل يمنعك ذلك من العدل في‬
‫بِا ْلقِسْطِ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫الحكم بينهم‪.‬‬

‫وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس‪ ،‬وأن ال تعالى يحبه‪.‬‬

‫ك َومَا‬
‫حكْمُ اللّهِ ثُمّ يَ َتوَّلوْنَ مِن َبعْدِ ذَِل َ‬
‫ح ّكمُو َنكَ وَعِن َدهُمُ ال ّتوْرَاةُ فِيهَا ُ‬
‫ثم قال متعجبا لهم { َوكَ ْيفَ يُ َ‬
‫أُولَ ِئكَ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ } فإنهم ‪-‬لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه اليمان ويوجبه‪ -‬لم يصدفوا عن‬
‫حكم ال الذي في التوراة التي بين أيديهم‪ ،‬لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم‪.‬‬

‫وحين حكمت بينهم بحكم ال الموافق لما عندهم أيضا‪ ،‬لم يرضوا بذلك بل أعرضوا عنه‪ ،‬فلم‬
‫يرتضوه أيضا‪.‬‬

‫قال تعالى‪َ { :‬ومَا أُولَ ِئكَ } الذين هذا صنيعهم { بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬ليس هذا دأب المؤمنين‪ ،‬وليسوا‬
‫حريين باليمان‪ .‬لنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم‪ ،‬وجعلوا أحكام اليمان تابعة لهوائهم‪.‬‬

‫{ إِنّا أَنْزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلة والسلم‪ { .‬فِيهَا هُدًى } يهدي إلى‬
‫اليمان والحق‪ ،‬ويعصم من الضللة { وَنُورٌ } يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك‪،‬‬
‫والشبهات والشهوات‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ ا ْلفُ ْرقَانَ َوضِيَا ًء وَ ِذكْرًا ِل ْلمُتّقِينَ }‬
‫حكُمُ ِبهَا } بيـن الذيـن هـادوا‪ ،‬أي‪ :‬اليـهود فـي القضايـا والفتـاوى { النّبِيّونَ الّذِينَ‬
‫{ َي ْ‬
‫أَسَْلمُوا } ل وانقادوا لوامره‪ ،‬الذين إسلمهم أعظم من إسلم غيرهم‪ ،‬وهم صفوة ال من العباد‪.‬‬
‫فإذا كان هؤلء النبيون الكرام والسادة للنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها‪ ،‬فما الذي منع‬
‫هؤلء الراذل من اليهود من القتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من‬
‫اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الذي ل يقبل عمل ظاهر وباطن‪ ،‬إل بتلك العقيدة؟ هل لهم‬
‫إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف‪ ،‬وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس‪ ،‬والتأكل بكتمان‬
‫الحق‪ ،‬وإظهار الباطل‪ ،‬أولئك أئمة الضلل الذين يدعون إلى النار‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَالرّبّانِيّونَ وَالَْأحْبَارُ } أي‪ :‬وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من الربانيين‪،‬‬
‫أي‪ :‬العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية‪ ،‬ويسلكون معهم مسلك النبياء‬
‫المشفقين‪.‬‬

‫والحبار أي‪ :‬العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم‪ ،‬وترمق آثارهم‪ ،‬ولهم لسان الصدق بين أممهم‪.‬‬

‫ش َهدَاءَ } أي‪:‬‬
‫علَيْهِ ُ‬
‫حفِظُوا مِن كِتَابِ اللّ ِه َوكَانُوا َ‬
‫وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق { ِبمَا اسْ ُت ْ‬
‫بسبب أن ال استحفظهم على كتابه‪ ،‬وجعلهم أمناء عليه‪ ،‬وهو أمانة عندهم‪ ،‬أوجب عليهم حفظه‬
‫من الزيادة والنقصان والكتمان‪ ،‬وتعليمه لمن ل يعلمه‪.‬‬

‫وهم شهداء عليه‪ ،‬بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه‪ ،‬وفيما اشتبه على الناس منه‪ ،‬فال تعالى قد حمل‬
‫أهل العلم‪ ،‬ما لم يحمله الجهال‪ ،‬فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا‪.‬‬

‫وأن ل يقتدوا بالجهال‪ ،‬بالخلد إلى البطالة والكسل‪ ،‬وأن ل يقتصروا على مجرد العبادات‬
‫القاصرة‪ ،‬من أنواع الذكر‪ ،‬والصلة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والحج‪ ،‬والصوم‪ ،‬ونحو ذلك من المور‪ ،‬التي إذا‬
‫قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا‪.‬‬

‫وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم‪ ،‬فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس‬
‫وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم‪ ،‬خصوصا المور الصولية والتي يكثر وقوعها‬
‫شوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي‬
‫خَ‬‫س وَا ْ‬
‫شوُا النّا َ‬
‫خَ‬‫وأن ل يخشوا الناس بل يخشون ربهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَلَا تَ ْ‬
‫َثمَنًا قَلِيلًا } فتكتمون الحق‪ ،‬وتظهرون الباطل‪ ،‬لجل متاع الدنيا القليل‪ ،‬وهذه الفات إذا سلم منها‬
‫العالم فهو من توفيقه وسعادته‪ ،‬بأن يكون همه الجتهاد في العلم والتعليم‪ ،‬ويعلم أن ال قد‬
‫استحفظه ما أودعه من العلم واستشهده عليه‪ ،‬وأن يكون خائفا من ربه‪ ،‬ول يمنعه خوف الناس‬
‫وخشيتهم من القيام بما هو لزم له‪ ،‬وأن ل يؤثر الدنيا على الدين‪.‬‬

‫كما أن علمة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة‪ ،‬غير قائم بما أمر به‪ ،‬ول مبال بما استحفظ‬
‫عليه‪ ،‬قد أهمله وأضاعه‪ ،‬قد باع الدين بالدنيا‪ ،‬قد ارتشى في أحكامه‪ ،‬وأخذ المال على فتاويه‪ ،‬ولم‬
‫يعلم عباد ال إل بأجرة وجعالة‪.‬‬
‫فهذا قد من ال عليه بمنة عظيمة‪ ،‬كفرها ودفع حظا جسيما‪ ،‬محروما منه غيره‪ ،‬فنسألك اللهم علما‬
‫نافعا‪ ،‬وعمل متقبل‪ ،‬وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلء يا كريم‪.‬‬

‫حكُم ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ } من الحق المبين‪ ،‬وحكم بالباطل الذي يعلمه‪ ،‬لغرض من أغراضه‬
‫{ َومَن لّمْ يَ ْ‬
‫الفاسدة { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل ال من أعمال أهل الكفر‪ ،‬وقد يكون كفرا‬
‫ينقل عن الملة‪ ،‬وذلك إذا اعتقد حله وجوازه‪ .‬وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب‪ ،‬ومن أعمال‬
‫الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد‪.‬‬

‫ن وَالسّنّ‬
‫ف وَالْأُذُنَ بِالْأُذُ ِ‬
‫ن وَالْأَ ْنفَ بِالْأَ ْن ِ‬
‫س وَا ْلعَيْنَ بِا ْلعَيْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 45‬وكَتَبْنَا عَلَ ْي ِهمْ فِيهَا أَنّ ال ّنفْسَ بِال ّنفْ ِ‬
‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ‬
‫ن وَا ْلجُرُوحَ ِقصَاصٌ َفمَنْ َتصَدّقَ بِهِ َف ُهوَ َكفّا َرةٌ َل ُه َومَنْ لَمْ َي ْ‬
‫بِالسّ ّ‬
‫الظّاِلمُونَ }‬

‫هذه الحكام من جملة الحكام التي في التوراة‪ ،‬يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‬
‫والربانيون والحبار‪ .‬إن ال أوجب عليهم فيها أن النفس ‪-‬إذا قتلت‪ -‬تقتل بالنفس بشرط العمد‬
‫والمكافأة‪ ،‬والعين تقلع بالعين‪ ،‬والذن تؤخذ بالذن‪ ،‬والسن ينزع بالسن‪.‬‬

‫ومثل هذه ما أشبهها من الطراف التي يمكن القتصاص منها بدون حيف‪ { .‬وَالْجُرُوحَ ِقصَاصٌ }‬
‫والقتصاص‪ :‬أن يفعل به كما فعل‪ .‬فمن جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه‬
‫للمجروح‪ ،‬حدا‪ ،‬وموضعا‪ ،‬وطول‪ ،‬وعرضا وعمقا‪ ،‬وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا‪ ،‬ما لم يرد‬
‫شرعنا بخلفه‪.‬‬

‫{ َفمَن َتصَدّقَ بِهِ } أي‪ :‬بالقصاص في النفس‪ ،‬وما دونها من الطراف والجروح‪ ،‬بأن عفا عمن‬
‫جنى‪ ،‬وثبت له الحق قبله‪.‬‬

‫{ َف ُهوَ َكفّا َرةٌ لّهُ } أي‪ :‬كفارة للجاني‪ ،‬لن الدمي عفا عن حقه‪ .‬وال تعالى أحق وأولى بالعفو عن‬
‫حقه‪ ،‬وكفارة أيضا عن العافي‪ ،‬فإنه كما عفا عمن جنى عليه‪ ،‬أو على من يتعلق به‪ ،‬فإن ال يعفو‬
‫عن زلته وجناياته‪.‬‬

‫حكُم ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } قال ابن عباس‪ :‬كفر دون كفر‪ ،‬وظلم دون‬
‫{ َومَن لّمْ يَ ْ‬
‫ظلم‪ ،‬وفسق دون فسق‪ ،‬فهو ظلم أكبر‪ ،‬عند استحلله‪ ،‬وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له‪.‬‬
‫{ ‪َ { } 47 ، 46‬وقَفّيْنَا عَلَى آثَارِ ِهمْ ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ال ّتوْرَا ِة وَآتَيْنَاهُ‬
‫ح ُكمْ أَ ْهلُ‬
‫الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُو ٌر َو ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ال ّتوْرَا ِة وَهُدًى َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ * وَلْيَ ْ‬
‫سقُونَ }‬
‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫الْإِنْجِيلِ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فِي ِه َومَنْ لَمْ يَ ْ‬

‫أي‪ :‬وأتبعنا هؤلء النبياءَ والمرسلين‪ ،‬الذين يحكمون بالتوراة‪ ،‬بعبدنا ورسولنا عيسى ابن مريم‪،‬‬
‫روحِ ال وكلمتِه التي ألقاها إلى مريم‪.‬‬

‫بعثه ال مصدقا لما بين يديه من التوراة‪ ،‬فهو شاهد لموسى ولما جاء به من التوراة بالحق‬
‫والصدق‪ ،‬ومؤيد لدعوته‪ ،‬وحاكم بشريعته‪ ،‬وموافق له في أكثر المور الشرعية‪.‬‬

‫وقد يكون عيسى عليه السلم أخف في بعض الحكام‪ ،‬كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل‪:‬‬
‫حلّ َلكُم َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْي ُكمْ ْ}‬
‫{ وَلُِأ ِ‬

‫{ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ْ} الكتاب العظيم المتمم للتوراة‪ { .‬فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ْ} يهدي إلى الصراط المستقيم‪،‬‬
‫ويبين الحق من الباطل‪َ { .‬و ُمصَ ّدقًا ّلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ال ّتوْرَاةِ ْ} بتثبيتها والشهادة لها والموافقة‪.‬‬
‫{ وَ ُهدًى َومَوْعِظَة لّ ْلمُ ّتقِينَ ْ} فإنهم الذين ينتفعون بالهدى‪ ،‬ويتعظون بالمواعظ‪ ،‬ويرتدعون عما ل‬
‫يليق‪.‬‬

‫حكُمْ أَ ْهلُ الْإِنجِيلِ ِبمَا أَن َزلَ اللّهُ فِيهِ ْ} أي‪ :‬يلزمهم التقيد بكتابهم‪ ،‬ول يجوز لهم العدول عنه‪{ .‬‬
‫{ وَلْ َي ْ‬
‫سقُونَ ْ}‬
‫حكُمْ ِبمَا أَن َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬
‫َومَن لّمْ َي ْ‬

‫حكُمْ‬
‫{ ‪ { } 50 - 48‬وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ َو ُمهَ ْيمِنًا عَلَيْهِ فَا ْ‬
‫ع ًة َومِ ْنهَاجًا وََلوْ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْ َ‬
‫عمّا جَا َءكَ مِنَ ا ْلحَقّ ِل ُكلّ َ‬
‫بَيْ َنهُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَهُمْ َ‬
‫جمِيعًا‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫جعََلكُمْ ُأمّةً وَاحِ َد ًة وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَا ُكمْ فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْ ِ‬
‫شَاءَ اللّهُ َل َ‬
‫ح ُكمْ بَيْ َنهُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَلَا تَتّبِعْ َأ ْهوَاءَهُمْ وَاحْذَرْ ُهمْ أَنْ‬
‫فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ * وَأَنِ ا ْ‬
‫َيفْتِنُوكَ عَنْ َب ْعضِ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكَ فَإِنْ َتوَّلوْا فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيصِي َبهُمْ بِ َب ْعضِ ذُنُو ِبهِ ْم وَإِنّ‬
‫ح ْكمًا ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ }‬
‫ن َومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ ُ‬
‫حكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَ ْبغُو َ‬
‫سقُونَ * َأفَ ُ‬
‫كَثِيرًا مِنَ النّاسِ َلفَا ِ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَأَنزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ ْ} الذي هو القرآن العظيم‪ ،‬أفضل الكتب وأجلها‪.‬‬

‫{ بِا ْلحَقّ ْ} أي‪ :‬إنزال بالحق‪ ،‬ومشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه‪ُ { .‬مصَ ّدقًا ّلمَا بَيْنَ‬
‫يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ ْ} لنه شهد لها ووافقها‪ ،‬وطابقت أخباره أخبارها‪ ،‬وشرائعه الكبار شرائعها‪،‬‬
‫وأخبرت به‪ ،‬فصار وجوده مصداقا لخبرها‪.‬‬
‫{ َو ُمهَ ْيمِنًا عَلَيْهِ ْ} أي‪ :‬مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة‪ ،‬وزيادة في المطالب اللهية‬
‫والخلق النفسية‪ .‬فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به‪ ،‬وحث عليه‪ ،‬وأكثر من‬
‫الطرق الموصلة إليه‪.‬‬

‫وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللحقين‪ ،‬وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة‪ ،‬والحكام الذي‬
‫عرضت عليه الكتب السابقة‪ ،‬فما شهد له بالصدق فهو المقبول‪ ،‬وما شهد له بالرد فهو مردود‪ ،‬قد‬
‫دخله التحريف والتبديل‪ ،‬وإل فلو كان من عند ال‪ ،‬لم يخالفه‪.‬‬

‫عمّا‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ ِبمَا أَن َزلَ اللّهُ ْ} من الحكم الشرعي الذي أنزله ال عليك‪ { .‬وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َ‬
‫{ فَا ْ‬
‫حقّ ْ} أي‪ :‬ل تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدل عما جاءك من الحق‬
‫جَا َءكَ مِنَ الْ َ‬
‫فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير‪.‬‬

‫جعَلْنَا مِنكُمْ ْ} أيها المم جعلنا { شِرْعَةً َومِنْهَاجًا ْ} أي‪ :‬سبيل وسنة‪ ،‬وهذه الشرائع التي‬
‫{ ِل ُكلّ َ‬
‫تختلف باختلف المم‪ ،‬هي التي تتغير بحسب تغير الزمنة والحوال‪ ،‬وكلها ترجع إلى العدل في‬
‫وقت شرعتها‪ ،‬وأما الصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان‪ ،‬فإنها ل تختلف‪،‬‬
‫جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً ْ} تبعا لشريعة واحدة‪ ،‬ل يختلف‬
‫فتشرع في جميع الشرائع‪ { .‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ َل َ‬
‫متأخرها و[ل] متقدمها‪.‬‬

‫{ وََلكِن لّيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَا ُكمْ ْ} فيختبركم وينظر كيف تعملون‪ ،‬ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه‬
‫حكمته‪ ،‬ويؤتي كل أحد ما يليق به‪ ،‬وليحصل التنافس بين المم فكل أمة تحرص على سبق‬
‫غيرها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاسْتَ ِبقُوا ا ْلخَيْرَاتِ ْ} أي‪ :‬بادروا إليها وأكملوها‪ ،‬فإن الخيرات الشاملة لكل‬
‫فرض ومستحب‪ ،‬من حقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬ل يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على المر‪،‬‬
‫إل بأمرين‪:‬‬

‫المبادرة إليها‪ ،‬وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها‪ ،‬والجتهاد في أدائها كاملة‬
‫على الوجه المأمور به‪ .‬ويستدل بهذه الية‪ ،‬على المبادرة لداء الصلة وغيرها في أول وقتها‪،‬‬
‫وعلى أنه ينبغي أن ل يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلة وغيرها من العبادات من‬
‫المور الواجبة‪ ،‬بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات‪ ،‬التي يقدر عليها لتتم وتكمل‪ ،‬ويحصل بها السبق‪.‬‬

‫جمِيعًا ْ} المم السابقة واللحقة‪ ،‬كلهم سيجمعهم ال ليوم ل ريب فيه‪ { .‬فَيُنَبّ ُئكُم‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫{ إِلَى اللّهِ مَرْ ِ‬
‫ِبمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ ْ} من الشرائع والعمال‪ ،‬فيثيب أهل الحق والعمل الصالح‪ ،‬ويعاقب أهل‬
‫الباطل والعمل السيئ‪.‬‬
‫حكُم بَيْ َنهُمْ َأوْ‬
‫حكُم بَيْ َنهُم ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ ْ} هذه الية هي التي قيل‪ :‬إنها ناسخة لقوله‪ { :‬فَا ْ‬
‫{ وَأَنِ ا ْ‬
‫أَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ ْ}‬

‫والصحيح‪ :‬أنها ليست بناسخة‪ ،‬وأن تلك الية تدل على أنه صلى ال عليه وسلم مخير بين الحكم‬
‫بينهم وبين عدمه‪ ،‬وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق‪ .‬وهذه الية تدل على أنه إذا حكم‪ ،‬فإنه يحكم‬
‫حكُم‬
‫ح َك ْمتَ فَا ْ‬
‫بينهم بما أنزل ال من الكتاب والسنة‪ ،‬وهو القسط الذي تقدم أن ال قال‪ { :‬وَإِنْ َ‬
‫سطِ ْ} ودل هذا على بيان القسط‪ ،‬وأن مادته هو ما شرعه ال من الحكام‪ ،‬فإنها المشتملة‬
‫بَيْ َنهُم بِا ْلقِ ْ‬
‫على غاية العدل والقسط‪ ،‬وما خالف ذلك فهو جور وظلم‪.‬‬

‫{ وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ ْ} كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها‪ .‬ولن ذلك في مقام الحكم‬
‫والفتوى‪ ،‬وهو أوسع‪ ،‬وهذا في مقام الحكم وحده‪ ،‬وكلهما يلزم فيه أن ل يتبع أهواءهم المخالفة‬
‫للحق‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاحْذَرْ ُهمْ أَن َيفْتِنُوكَ عَن َب ْعضِ مَا أَن َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكَ ْ} أي‪ :‬إياك والغترار بهم‪،‬‬
‫وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [ال] إليك‪ ،‬فصار اتباع أهوائهم سببا موصل إلى ترك‬
‫الحق الواجب‪ ،‬والفرض اتباعه‪.‬‬

‫{ فَإِن َتوَّلوْا ْ} عن اتباعك واتباع الحق { فَاعْلَمْ ْ} أن ذلك عقوبة عليهم وأن ال يريد { أَن ُيصِي َبهُم‬
‫بِ َب ْعضِ ذُنُو ِبهِمْ ْ} فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة‪ ،‬ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له‬
‫ترك اتباع الرسول‪ ،‬وذلك لفسقه‪.‬‬

‫سقُونَ ْ} أي‪ :‬طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة ال واتباع رسوله‪.‬‬


‫{ وَإِنّ كَثِيرًا مّنَ النّاسِ َلفَا ِ‬

‫حكْمَ ا ْلجَاهِلِيّةِ يَ ْبغُونَ ْ} أي‪ :‬أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية‪ ،‬وهو كل حكم‬
‫{ َأ َف ُ‬
‫خالف ما أنزل ال على رسوله‪ .‬فل ثم إل حكم ال ورسوله أو حكم الجاهلية‪ .‬فمن أعرض عن‬
‫الول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي‪ ،‬ولهذا أضافه ال للجاهلية‪ ،‬وأما حكم ال‬
‫تعالى فمبني على العلم‪ ،‬والعدل والقسط‪ ،‬والنور والهدى‪.‬‬

‫ح ْكمًا ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ ْ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز‬
‫{ َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّهِ ُ‬
‫‪-‬بإيقانه‪ -‬ما في حكم ال من الحسن والبهاء‪ ،‬وأنه يتعين ‪-‬عقل وشرعا‪ -‬اتباعه‪ .‬واليقين‪ ،‬هو‬
‫العلم التام الموجب للعمل‪.‬‬

‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ َومَنْ‬


‫{ ‪ { }ْ 53 - 51‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا الْ َيهُودَ وَال ّنصَارَى َأوْلِيَاءَ َب ْع ُ‬
‫يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَإِنّهُ مِ ْنهُمْ إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ * فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ ُيسَارِعُونَ‬
‫فِيهِمْ َيقُولُونَ َنخْشَى أَنْ ُتصِيبَنَا دَائِ َرةٌ َف َعسَى اللّهُ أَنْ يَأْ ِتيَ بِا ْلفَتْحِ َأوْ َأمْرٍ مِنْ عِنْ ِدهِ فَ ُيصْبِحُوا عَلَى مَا‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ إِ ّنهُمْ َل َم َعكُمْ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫سهِمْ نَا ِدمِينَ * وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا َأ َهؤُلَاءِ الّذِينَ َأقْ َ‬
‫أَسَرّوا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫عمَاُلهُمْ فََأصْبَحُوا خَاسِرِينَ ْ}‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫حَ ِب َ‬

‫يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بيّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة‪ ،‬أن ل‬
‫يتخذوهم أولياء‪ .‬فإن َبعْضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم‪،‬‬
‫فأنتم ل تتخذوهم أولياء‪ ،‬فإنهم العداء على الحقيقة ول يبالون بضركم‪ ،‬بل ل يدخرون من‬
‫مجهودهم شيئا على إضللكم‪ ،‬فل يتولهم إل من هو مثلهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَن يَ َتوَّلهُم مّ ْنكُمْ فَإِنّهُ‬
‫مِ ْنهُمْ ْ} لن التولي التام يوجب النتقال إلى دينهم‪ .‬والتولي القليل يدعو إلى الكثير‪ ،‬ثم يتدرج شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬حتى يكون العبد منهم‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ْ} أي‪ :‬الذين وصْفُهم الظلم‪ ،‬وإليه يَرجعون‪ ،‬وعليه يعولون‪ .‬فلو‬
‫جئتهم بكل آية ما تبعوك‪ ،‬ول انقادوا لك‪.‬‬

‫ولما نهى ال المؤمنين عن توليهم‪ ،‬أخبر أن ممن يدعي اليمان طائفةً تواليهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فَتَرَى الّذِينَ‬
‫فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ ْ} أي‪ :‬شك ونفاق‪ ،‬وضعف إيمان‪ ،‬يقولون‪ :‬إن تولينا إياهم للحاجة‪ ،‬فإننا‬
‫{ َنخْشَى أَن ُتصِيبَنَا دَائِ َرةٌ ْ} أي‪ :‬تكون الدائرة لليهود والنصارى‪ ،‬فإذا كانت الدائرة لهم‪ ،‬فإذا لنا‬
‫معهم يد يكافؤننا عنها‪ ،‬وهذا سوء ظن منهم بالسلم‪ ،‬قال تعالى ‪-‬رادا لظنهم السيئ‪َ { :-‬فعَسَى‬
‫اللّهُ أَن يَأْ ِتيَ بِا ْلفَتْحِ ْ} الذي يعز ال به السلم على اليهود والنصارى‪ ،‬ويقهرهم المسلمون { َأوْ‬
‫َأمْرٍ مِنْ عِن ِدهِ ْ} ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود وغيرهم { فَ ُيصْبِحُوا عَلَى مَا‬
‫سهِمْ نَا ِدمِينَ ْ} على ما كان منهم وضرهم بل نفع حصل لهم‪،‬‬
‫أَسَرّوا ْ} أي‪ :‬أضمروا { فِي أَنفُ ِ‬
‫فحصل الفتح الذي نصر ال به السلم والمسلمين‪ ،‬وأذل به الكفر والكافرين‪ ،‬فندموا وحصل لهم‬
‫من الغم ما ال به عليم‪.‬‬

‫سمُوا‬
‫{ وَ َيقُولُ الّذِينَ آمَنُوا ْ} متعجبين من حال هؤلء الذين في قلوبهم مرض‪ { :‬أَ َهؤُلَاءِ الّذِينَ َأقْ َ‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ إِ ّنهُمْ َل َم َعكُمْ ْ} أي‪ :‬حلفوا وأكدوا حلفهم‪ ،‬وغلظوه بأنواع التأكيدات‪ :‬إنهم لمعكم في‬
‫بِاللّهِ َ‬
‫اليمان‪ ،‬وما يلزمه من النصرة والمحبة والموالة‪ ،‬ظهر ما أضمروه‪ ،‬وتبين ما أسروه‪ ،‬وصار‬
‫عمَاُل ُهمْ ْ}‬
‫كيدهم الذي كادوه‪ ،‬وظنهم الذي ظنوه بالسلم وأهله ‪-‬باطل‪ ،‬فبطل كيدهم وبطلت { أَ ْ‬
‫في الدنيا { فََأصْبَحُوا خَاسِرِينَ ْ} حيث فاتهم مقصودهم‪ ،‬وحضرهم الشقاء والعذاب‪.‬‬

‫س ْوفَ يَأْتِي اللّهُ ِبقَوْمٍ يُحِ ّبهُ ْم وَ ُيحِبّونَهُ أَذِلّةٍ‬


‫{ ‪ { }ْ 54‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَ َ‬
‫ضلُ اللّهِ‬
‫عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ُيجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَا يَخَافُونَ َل ْومَةَ لَا ِئمٍ ذَِلكَ َف ْ‬
‫ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ ْ}‬
‫يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين‪ ،‬وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر ال شيئا‪ ،‬وإنما يضر نفسه‪.‬‬
‫وأن ل عبادا مخلصين‪ ،‬ورجال صادقين‪ ،‬قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم‪ ،‬ووعد بالتيان بهم‪،‬‬
‫وأنهم أكمل الخلق أوصافا‪ ،‬وأقواهم نفوسا‪ ،‬وأحسنهم أخلقا‪ ،‬أجلّ صفاتهم أن ال { يُحِ ّب ُه ْم وَيُحِبّونَهُ‬
‫ْ} فإن محبة ال للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه‪ ،‬وأفضل فضيلة‪ ،‬تفضل ال بها عليه‪ ،‬وإذا أحب‬
‫ال عبدا يسر له السباب‪ ،‬وهون عليه كل عسير‪ ،‬ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات‪ ،‬وأقبل‬
‫بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد‪.‬‬

‫ومن لوازم محبة العبد لربه‪ ،‬أنه لبد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى ال عليه وسلم ظاهرا‬
‫وباطنا‪ ،‬في أقواله وأعماله وجميع أحواله‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬قلْ إِن كُنْ ُتمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي‬
‫يُحْبِ ْبكُمُ اللّهُ ْ}‬

‫كما أن من لزم محبة ال للعبد‪ ،‬أن يكثر العبد من التقرب إلى ال بالفرائض والنوافل‪ ،‬كما قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ال‪" :‬وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ‬
‫مما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال [عبدي] يتقرب إليّ بالنوافل حتى أُحبه‪ ،‬فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي‬
‫يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬ولئن سألني‬
‫لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه"‪.‬‬

‫ومن لوازم محبة ال معرفته تعالى‪ ،‬والكثار من ذكره‪ ،‬فإن المحبة بدون معرفة بال ناقصة جدا‪،‬‬
‫بل غير موجودة وإن وجدت دعواها‪ ،‬ومن أحب ال أكثر من ذكره‪ ،‬وإذا أحب ال عبدا قبل منه‬
‫اليسير من العمل‪ ،‬وغفر له الكثير من الزلل‪.‬‬

‫ومن صفاتهم أنهم { َأذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ْ} فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم‪،‬‬
‫ونصحهم لهم‪ ،‬ولينهم ورفقهم ورأفتهم‪ ،‬ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم‪ ،‬وقرب الشيء الذي يطلب‬
‫منهم وعلى الكافرين بال‪ ،‬المعاندين لياته‪ ،‬المكذبين لرسله ‪ -‬أعزة‪ ،‬قد اجتمعت هممهم وعزائمهم‬
‫على معاداتهم‪ ،‬وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به النتصار عليهم‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬وَأَعِدّوا َلهُم‬
‫ع ُدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُمْ ْ} وقال تعالى‪َ { :‬أشِدّاءُ عَلَى‬
‫طعْتُمْ مِن ُق ّو ٍة َومِن رِبَاطِ ا ْلخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ َ‬
‫مَا اسْ َت َ‬
‫حمَاءُ بَيْ َنهُمْ ْ} فالغلظة والشدة على أعداء ال مما يقرب العبد إلى ال‪ ،‬ويوافق العبد ربه‬
‫ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫في سخطه عليهم‪ ،‬ول تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين السلمي بالتي هي أحسن‪.‬‬
‫فتجتمع الغلظة عليهم‪ ،‬واللين في دعوتهم‪ ،‬وكل المرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم‪.‬‬

‫{ ُيجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ْ} بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬بأقوالهم وأفعالهم‪ { .‬وَلَا يَخَافُونَ َل ْومَةَ لَا ِئمٍ ْ} بل‬
‫يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين‪ ،‬وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم‪،‬‬
‫فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة‪ ،‬تنتقض عزيمته عند لوم اللئمين‪ ،‬وتفتر قوته عند عذل‬
‫العاذلين‪ .‬وفي قلوبهم تعبد لغير ال‪ ،‬بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على‬
‫أمر ال‪ ،‬فل يسلم القلب من التعبد لغير ال‪ ،‬حتى ل يخاف في ال لومة لئم‪.‬‬

‫ن الصفات الجليلة والمناقب العالية‪ ،‬المستلزمة لما لم يذكر‬


‫ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم م ّ‬
‫من أفعال الخير ‪-‬أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئل يعجبوا بأنفسهم‪ ،‬وليشكروا الذي مَنّ‬
‫عليهم بذلك ليزيدهم من فضله‪ ،‬وليعلم غيرُهم أن فضل ال تعالى ليس عليه حجاب‪ ،‬فقال‪ { :‬ذَِلكَ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ ْ} أي‪ :‬واسع الفضل والحسان‪ ،‬جزيل المنن‪ ،‬قد عمت‬
‫ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَن يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫َف ْ‬
‫رحمته كل شيء‪ ،‬ويوسع على أوليائه من فضله‪ ،‬ما ل يكون لغيرهم‪ ،‬ولكنه عليم بمن يستحق‬
‫الفضل فيعطيه‪ ،‬فال أعلم حيث يجعل رسالته أصل وفرعا‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 56 ، 55‬إِ ّنمَا وَلِ ّيكُمُ اللّهُ وَرَسُولُ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ وَهُمْ‬
‫رَا ِكعُونَ * َومَنْ يَ َت َولّ اللّ َه وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِ ْزبَ اللّهِ هُمُ ا ْلغَالِبُونَ ْ}‬

‫لما نهى عن ولية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم‪ ،‬وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين‪،‬‬
‫أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه‪ ،‬وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال‪ { :‬إِ ّنمَا وَلِ ّيكُمُ اللّ ُه وَرَسُولُهُ ْ}‬
‫فولية ال تدرك باليمان والتقوى‪ .‬فكل من كان مؤمنا تقيا كان ل وليا‪ ،‬ومن كان وليا ل فهو‬
‫ولي لرسوله‪ ،‬ومن تولى ال ورسوله كان تمام ذلك تولي من توله‪ ،‬وهم المؤمنون الذين قاموا‬
‫باليمان ظاهرا وباطنا‪ ،‬وأخلصوا للمعبود‪ ،‬بإقامتهم الصلة بشروطها وفروضها ومكملتها‪،‬‬
‫وأحسنوا للخلق‪ ،‬وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَهُمْ رَا ِكعُونَ ْ} أي‪ :‬خاضعون ل ذليلون‪ .‬فأداة الحصر في قوله { إِ ّنمَا وَلِ ّيكُمُ اللّهُ‬
‫وَرَسُولُ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا ْ} تدل على أنه يجب قصر الولية على المذكورين‪ ،‬والتبري من ولية‬
‫غيرهم‪.‬‬

‫ثم ذكر فائدة هذه الولية فقال‪َ { :‬ومَن يَ َت َولّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِ ْزبَ اللّهِ ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ‬
‫ْ} أي‪ :‬فإنه من الحزب المضافين إلى ال إضافة عبودية وولية‪ ،‬وحزبه هم الغالبون الذين لهم‬
‫العاقبة في الدنيا والخرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنّ جُنْدَنَا َل ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ ْ}‬

‫وهذه بشارة عظيمة‪ ،‬لمن قام بأمر ال وصار من حزبه وجنده‪ ،‬أن له الغلبة‪ ،‬وإن أديل عليه في‬
‫بعض الحيان لحكمة يريدها ال تعالى‪ ،‬فآخر أمره الغلبة والنتصار‪ ،‬ومن أصدق من ال قيل‪.‬‬
‫خذُوا دِي َنكُمْ هُ ُزوًا وََلعِبًا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا‬
‫خذُوا الّذِينَ اتّ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 58 ، 57‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّ ِ‬
‫ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُ ْم وَا ْل ُكفّارَ َأوْلِيَاءَ وَاتّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلَاةِ اتّخَذُوهَا هُ ُزوًا‬
‫وََلعِبًا ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َي ْعقِلُونَ ْ}‬

‫ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء‬
‫يحبونهم ويتولونهم‪ ،‬ويبدون لهم أسرار المؤمنين‪ ،‬ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر‬
‫السلم والمسلمين‪ ،‬وأن ما معهم من اليمان يوجب عليهم ترك موالتهم‪ ،‬ويحثهم على معاداتهم‪،‬‬
‫وكذلك التزامهم لتقوى ال التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما تدعوهم إلى معاداتهم‪،‬‬
‫وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين‪ ،‬من قدحهم في دين المسلمين‪،‬‬
‫واتخاذهم إياه هزوا ولعبا‪ ،‬واحتقاره واستصغاره‪ ،‬خصوصا الصلة التي هي أظهر شعائر‬
‫المسلمين‪ ،‬وأجلّ عباداتهم‪ ،‬إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا‪ ،‬وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم‬
‫العظيم‪ ،‬وإل فلو كان لهم عقول لخضعوا لها‪ ،‬ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف‬
‫بها النفوس‪.‬‬

‫فإذا علمتم ‪-‬أيها المؤمنون‪ -‬حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم‪ ،‬فمن لم يعادهم بعد هذا دل‬
‫على أن السلم عنده رخيص‪ ،‬وأنه ل يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلل‪ ،‬وأنه ليس‬
‫عنده من المروءة والنسانية شيء‪.‬‬

‫فكيف تدعي لنفسك دينا قيما‪ ،‬وأنه الدين الحق وما سواه باطل‪ ،‬وترضى بموالة من اتخذه هزوا‬
‫ولعبا‪ ،‬وسخر به وبأهله‪ ،‬من أهل الجهل والحمق؟! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو‬
‫معلوم لكل من له أدنى مفهوم‪.‬‬

‫{ ‪ُ { }ْ 63 - 59‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َهلْ تَ ْن ِقمُونَ مِنّا إِلّا أَنْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ‬
‫ضبَ عَلَيْهِ‬
‫غ ِ‬
‫سقُونَ * ُقلْ َهلْ أُنَبّ ُئ ُكمْ بِشَرّ مِنْ ذَِلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ َلعَنَهُ اللّ ُه وَ َ‬
‫قَ ْبلُ وَأَنّ َأكْثَ َر ُكمْ فَا ِ‬
‫سوَاءِ السّبِيلِ * وَإِذَا‬
‫ضلّ عَنْ َ‬
‫ج َعلَ مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِي َر وَعَ َبدَ الطّاغُوتَ أُولَ ِئكَ شَرّ َمكَانًا وََأ َ‬
‫وَ َ‬
‫جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنّا َوقَدْ دَخَلُوا بِا ْل ُكفْرِ وَهُمْ قَدْ خَ َرجُوا بِ ِه وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا كَانُوا َيكْ ُتمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا‬
‫حتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * َلوْلَا يَ ْنهَا ُهمُ الرّبّانِيّونَ‬
‫مِ ْنهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬
‫حتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ ْ}‬
‫وَالْأَحْبَارُ عَنْ َقوِْلهِمُ الْإِثْ َم وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬

‫أي‪ُ { :‬قلْ ْ} يا أيها الرسول { يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ْ} ملزما لهم‪ ،‬إن دين السلم هو الدين الحق‪ ،‬وإن‬
‫قدحهم فيه قدح بأمر ينبغي المدح عليه‪َ { :‬هلْ تَن ِقمُونَ مِنّا إِلّا أَنْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُن ِزلَ إِلَيْنَا َومَا أُن ِزلَ‬
‫سقُونَ ْ} أي‪ :‬هل لنا عندكم من العيب إل إيماننا بال‪ ،‬وبكتبه السابقة‬
‫مِن قَ ْبلُ وَأَنّ َأكْثَ َر ُكمْ فَا ِ‬
‫واللحقة‪ ،‬وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬وبأننا نجزم أن من لم يؤمن كهذا اليمان فإنه كافر‬
‫فاسق؟‬

‫فهل تنقمون منا بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟"‬

‫ومع هذا فأكثركم فاسقون‪ ،‬أي‪ :‬خارجون عن طاعة ال‪ ،‬متجرئون على معاصيه‪ ،‬فأولى لكم ‪-‬أيها‬
‫الفاسقون‪ -‬السكوت‪ ،‬فلو كان عيبكم وأنتم سالمون من الفسق‪ ،‬وهيهات ذلك ‪ -‬لكان الشر أخف من‬
‫قدحكم فينا مع فسقكم‪.‬‬

‫ولما كان قدحهم في المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر‪ ،‬قال تعالى‪ُ { :‬قلْ ْ} لهم مخبرا‬
‫عن شناعة ما كانوا عليه‪َ { :‬هلْ أُنَبّ ُئكُم بِشَرّ مِن ذَِلكَ ْ} الذي نقمتم فيه علينا‪ ،‬مع التنزل معكم‪.‬‬
‫ج َعلَ مِ ْنهُمُ‬
‫غضِبَ عَلَيْهِ ْ} وعاقبه في الدنيا والخرة { وَ َ‬
‫{ مَن ّلعَ َنهُ اللّهُ ْ} أي‪ :‬أبعده عن رحمته { وَ َ‬
‫ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِي َر وَعَبَدَ الطّاغُوتَ ْ} وهو الشيطان‪ ،‬وكل ما عبد من دون ال فهو طاغوت‪.‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ ْ} المذكورون بهذه الخصال القبيحة { شَرّ ّمكَانًا ْ} من المؤمنين الذين رحمة ال قريب‬
‫منهم‪ ،‬ورضي ال عنهم وأثابهم في الدنيا والخرة‪ ،‬لنهم أخلصوا له الدين‪.‬‬

‫سوَاءِ السّبِيلِ‬
‫ضلّ عَن َ‬
‫وهذا النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله‪ { :‬وََأ َ‬
‫ْ} أي‪ :‬وأبعد عن قصد السبيل‪.‬‬

‫{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنّا ْ} نفاقا ومكرا { و ْ} هم { قد دّخَلُوا ْ} مشتملين على الكفر { وَهُمْ َقدْ‬
‫خَ َرجُوا بِهِ ْ} فمدخلهم ومخرجهم بالكفر ‪-‬وهم يزعمون أنهم مؤمنون‪ ،‬فهل أشر من هؤلء وأقبح‬
‫حال منهم؟"‬

‫{ وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا كَانُوا َيكْ ُتمُونَ ْ} فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها‪.‬‬

‫ثم استمر تعالى يعدد معايبهم‪ ،‬انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين‪ ،‬فقال‪ { :‬وَتَرَى كَثِيرًا مّ ْنهُمْ ْ}‬
‫أي‪ :‬من اليهود { ُيسَارِعُونَ فِي الْإِ ْث ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ ْ} أي‪ :‬يحرصون‪ ،‬ويبادرون المعاصي المتعلقة في‬
‫حق الخالق والعدوان على المخلوقين‪.‬‬

‫حتَ ْ} الذي هو الحرام‪ .‬فلم يكتف بمجرد الخبار أنهم يفعلون ذلك‪ ،‬حتى أخبر أنهم‬
‫{ وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬
‫يسارعون فيه‪ ،‬وهذا يدل على خبثهم وشرهم‪ ،‬وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم‪.‬‬
‫هذا وهم يدعون لنفسهم المقامات العالية‪ { .‬لَبِ ْئسَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ْ} وهذا في غاية الذم لهم‬
‫والقدح فيهم‪.‬‬
‫حتَ ْ} أي‪ :‬هل ينهاهم العلماء‬
‫ن وَالْأَحْبَارُ عَن َقوِْلهِمُ الْإِثْ َم وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬
‫{ َلوْلَا يَ ْنهَا ُهمُ الرّبّانِيّو َ‬
‫المتصدون لنفع الناس‪ ،‬الذين من ال عليهم بالعلم والحكمة ‪-‬عن المعاصي التي تصدر منهم‪،‬‬
‫ليزول ما عندهم من الجهل‪ ،‬وتقوم حجة ال عليهم‪ ،‬فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم‪ ،‬وأن‬
‫يبينوا لهم الطريق الشرعي‪ ،‬ويرغبونهم في الخير ويرهبونهم من الشر { لَبِ ْئسَ مَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ‬
‫ْ}‬

‫{ ‪َ { }ْ 66 - 64‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ يَدُ اللّهِ َمغْلُولَةٌ غُّلتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَُلعِنُوا ِبمَا قَالُوا َبلْ َيدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‬
‫طغْيَانًا َوكُفْرًا وَأَ ْلقَيْنَا بَيْ َن ُهمُ ا ْلعَدَا َوةَ‬
‫يُنفِقُ كَ ْيفَ َيشَا ُء وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرًا مِ ْنهُم مّا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِن رَ ّبكَ ُ‬
‫س َعوْنَ فِي الْأَ ْرضِ فَسَادًا وَاللّهُ لَا‬
‫طفَأَهَا اللّ ُه وَيَ ْ‬
‫وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ كُّلمَا َأ ْوقَدُوا نَارًا لِ ْلحَ ْربِ أَ ْ‬
‫حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ * وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ آمَنُوا وَاتّ َقوْا َل َكفّرْنَا عَ ْن ُهمْ سَيّئَا ِتهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ ال ّنعِيمِ *‬
‫يُ ِ‬
‫حتِ أَ ْرجُِلهِمْ مِ ْنهُمْ‬
‫ل َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي ِهمْ مِنْ رَ ّبهِمْ لََأكَلُوا مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ تَ ْ‬
‫وََلوْ أَ ّن ُهمْ َأقَامُوا ال ّتوْرَاةَ وَالْإِنْجِي َ‬
‫ُأمّةٌ ُمقْ َتصِ َد ٌة َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ سَاءَ مَا َي ْعمَلُونَ ْ}‬

‫يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة‪ ،‬وعقيدتهم الفظيعة‪ ،‬فقال‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ يَدُ اللّهِ َمغْلُولَةٌ ْ}‬
‫أي‪ :‬عن الخير والحسان والبر‪.‬‬

‫{ غُّلتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَُلعِنُوا ِبمَا قَالُوا ْ} وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم‪ .‬فإن كلمهم متضمن لوصف ال‬
‫الكريم‪ ،‬بالبخل وعدم الحسان‪ .‬فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم‪.‬‬

‫فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا‪ ،‬وأسوأهم ظنا بال‪ ،‬وأبعدهم ال عن رحمته التي وسعت كل‬
‫شيء‪ ،‬وملت أقطار العالم العلوي والسفلي‪ .‬ولهذا قال‪َ { :‬بلْ َيدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُ ْنفِقُ كَ ْيفَ يَشَاءُ ْ} ل‬
‫حجر عليه‪ ،‬ول مانع يمنعه مما أراد‪ ،‬فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي‪ ،‬وأمر‬
‫العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده‪ ،‬وأن ل يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم‪.‬‬

‫فيداه سحاء الليل والنهار‪ ،‬وخيره في جميع الوقات مدرارا‪ ،‬يفرج كربا‪ ،‬ويزيل غما‪ ،‬ويغني‬
‫فقيرا‪ ،‬ويفك أسيرا ويجبر كسيرا‪ ,‬ويجيب سائل‪ ،‬ويعطي فقيرا عائل‪ ،‬ويجيب المضطرين‪،‬‬
‫ويستجيب للسائلين‪ .‬وينعم على من لم يسأله‪ ،‬ويعافي من طلب العافية‪ ،‬ول يحرم من خيره‬
‫عاصيا‪ ،‬بل خيره يرتع فيه البر والفاجر‪ ،‬ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح العمال ثم يحمدهم‬
‫عليها‪ ،‬ويضيفها إليهم‪ ،‬وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والجل ما ل يدركه‬
‫الوصف‪ ،‬ول يخطر على بال العبد‪ ،‬ويلطف بهم في جميع أمورهم‪ ،‬ويوصل إليهم من الحسان‪،‬‬
‫ويدفع عنهم من النقم ما ل يشعرون بكثير منه‪ ،‬فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه‪ ،‬وإليه‬
‫يجأرون في دفع المكاره‪ ،‬وتبارك من ل يحصي أحد ثناء عليه‪ ,‬بل هو كما أثنى على نفسه‪،‬‬
‫وتعالى من ل يخلو العباد من كرمه طرفة عين‪ ،‬بل ل وجود لهم ول بقاء إل بجوده‪.‬‬
‫وقبّح ال من استغنى بجهله عن ربه‪ ،‬ونسبه إلى ما ل يليق بجلله‪ ،‬بل لو عامل ال اليهود القائلين‬
‫تلك المقالة‪ ،‬ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم‪ ،‬لهلكوا‪ ،‬وشقوا في دنياهم‪ ،‬ولكنهم يقولون‬
‫تلك القوال‪ ،‬وهو تعالى‪ ,‬يحلم عنهم‪ ،‬ويصفح‪ ،‬ويمهلهم ول يهملهم‪.‬‬

‫طغْيَانًا َوكُفْرًا ْ} وهذا أعظم العقوبات على‬


‫وقوله { وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرًا مّ ْنهُم مّا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِن رّ ّبكَ ُ‬
‫العبد‪ ،‬أن يكون الذكر الذي أنزله ال على رسوله‪ ،‬الذي فيه حياة القلب والروح‪ ،‬وسعادة الدنيا‬
‫والخرة‪ ,‬وفلح الدارين‪ ،‬الذي هو أكبر منة امتن ال بها على عباده‪ ,‬توجب عليهم المبادرة إلى‬
‫قبولها‪ ,‬والستسلم ل بها‪ ,‬وشكرا ل عليها‪ ,‬أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه‪ ،‬وطغيان إلى‬
‫طغيانه‪ ،‬وكفر إلى كفره‪ ،‬وذلك بسبب إعراضه عنها‪ ،‬ورده لها‪ ،‬ومعاندته إياها‪ ،‬ومعارضته لها‬
‫بالشبه الباطلة‪ { .‬وَأَ ْلقَيْنَا بَيْ َنهُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَاءَ ِإلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ْ} فل يتآلفون‪ ،‬ول يتناصرون‪ ,‬ول‬
‫يتفقون على حالة فيها مصلحتهم‪ ،‬بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم‪ ,‬متعادين بأفعالهم‪ ,‬إلى يوم‬
‫القيامة { كُّلمَا َأ ْوقَدُوا نَارًا لِلْحَ ْربِ ْ} ليكيدوا بها السلم وأهله‪ ،‬وأبدوا وأعادوا‪ ،‬وأجلبوا بخيلهم‬
‫طفَأَهَا اللّهُ ْ} بخذلنهم وتفرق جنودهم‪ ,‬وانتصار المسلمين عليهم‪.‬‬
‫ورجلهم { أَ ْ‬

‫س َعوْنَ فِي الْأَ ْرضِ فَسَادًا ْ} أي‪ :‬يجتهدون ويجدون‪ ،‬ولكن بالفساد في الرض‪ ،‬بعمل‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫سدِينَ‬
‫حبّ ا ْل ُمفْ ِ‬
‫المعاصي‪ ،‬والدعوة إلى دينهم الباطل‪ ،‬والتعويق عن الدخول في السلم‪ { .‬وَاللّهُ لَا يُ ِ‬
‫ْ} بل يبغضهم أشد البغض‪ ،‬وسيجازيهم على ذلك‪.‬‬

‫[ثم قال تعالى]‪ { :‬وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َل َكفّرْنَا عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِه ْم وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ ال ّنعِيمِ ْ}‬
‫وهذا من كرمه وجوده‪ ،‬حيث ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة‪ ،‬دعاهم إلى التوبة‪،‬‬
‫وأنهم لو آمنوا بال وملئكته‪ ،‬وجميع كتبه‪ ،‬وجميع رسله‪ ،‬واتقوا المعاصي‪ ،‬لكفر عنهم سيئاتهم‬
‫ولو كانت ما كانت‪ ،‬ولدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه النفس وتلذ العين‪.‬‬

‫ل َومَا أُن ِزلَ إِلَ ْيهِمْ مِن رَّ ّب ِهمْ ْ} أي‪ :‬قاموا بأوامرهما ونواهيهما‪ ،‬كما‬
‫{ وََلوْ أَ ّنهُمْ َأقَامُوا ال ّتوْرَا َة وَالْإِنجِي َ‬
‫ندبهم ال وحثهم‪.‬‬

‫ومن إقامتهما اليمان بما دعيا إليه‪ ،‬من اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم وبالقرآن‪ ،‬فلو قاموا‬
‫بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم‪ ،‬أي‪ :‬لجلهم وللعتناء بهم { لََأكَلُوا مِن َف ْو ِقهِمْ َومِن‬
‫حتِ أَ ْرجُِلهِمْ ْ} أي‪ :‬لدر ال عليهم الرزق‪ ،‬ولمطر عليهم السماء‪ ،‬وأنبت لهم الرض كما قال‬
‫تَ ْ‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ ْ}‬
‫تعالى‪ { :‬وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلقُرَى آمَنُوا وَاتّ َقوْا َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِم بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ‬
‫{ مِ ْنهُمْ ْ} أي‪ :‬من أهل الكتاب { ُأمّةٌ ّمقْتَصِ َدةٌ ْ} أي‪ :‬عاملة بالتوراة والنجيل‪ ،‬عمل غير قوي ول‬
‫نشيط‪َ { ،‬وكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ سَاءَ مَا َي ْعمَلُونَ ْ} أي‪ :‬والمسيء منهم الكثير‪ .‬وأما السابقون منهم فقليل ما‬
‫هم‪.‬‬

‫ص ُمكَ‬
‫ك وَإِنْ َلمْ َت ْفعَلْ َفمَا بَّل ْغتَ رِسَالَ َت ُه وَاللّهُ َي ْع ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 67‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّب َ‬
‫مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ ْ}‬

‫هذا أمر من ال لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم بأعظم الوامر وأجلها‪ ،‬وهو التبليغ لما أنزل‬
‫ال إليه‪ ،‬ويدخل في هذا كل أمر تلقته المة عنه صلى ال عليه وسلم من العقائد والعمال‬
‫والقوال‪ ،‬والحكام الشرعية والمطالب اللهية‪ .‬فبلغ صلى ال عليه وسلم أكمل تبليغ‪ ،‬ودعا‬
‫وأنذر‪ ،‬وبشر ويسر‪ ،‬وعلم الجهال الميين حتى صاروا من العلماء الربانيين‪ ،‬وبلغ بقوله وفعله‬
‫وكتبه ورسله‪ .‬فلم يبق خير إل دل أمته عليه‪ ،‬ول شر إل حذرها عنه‪ ،‬وشهد له بالتبليغ أفاضل‬
‫المة من الصحابة‪ ،‬فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين‪.‬‬

‫{ وَإِن لّمْ َت ْفعَلْ ْ} أي‪ :‬لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك { َفمَا بَّل ْغتَ رِسَالَ َتهُ ْ} أي‪ :‬فما امتثلت أمره‪.‬‬

‫صمُكَ مِنَ النّاسِ ْ} هذه حماية وعصمة من ال لرسوله من الناس‪ ،‬وأنه ينبغي أن يكون‬
‫{ وَاللّهُ َي ْع ِ‬
‫حرصك على التعليم والتبليغ‪ ،‬ول يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهـم بيد ال وقد‬
‫تكفل بعصمتك‪ ،‬فأنت إنما عليك البلغ المبين‪ ،‬فمن اهتدى فلنفسه‪ ،‬وأما الكافرون الذين ل قصد‬
‫لهم إل اتباع أهوائهم فإن ال ل يهديهم ول يوفقهم للخير‪ ،‬بسبب كفرهم‪.‬‬

‫شيْءٍ حَتّى ُتقِيمُوا ال ّتوْرَا َة وَالْإِ ْنجِيلَ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُمْ مِنْ‬
‫علَى َ‬
‫{ ‪ُ { }ْ 68‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَسْتُمْ َ‬
‫طغْيَانًا َو ُكفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ ْ}‬
‫رَ ّبكُ ْم وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرًا مِ ْنهُمْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ُ‬

‫شيْءٍ ْ} من المور‬
‫أي‪ :‬قل لهل الكتاب‪ ،‬مناديا على ضللهم‪ ،‬ومعلنا بباطلهم‪َ { :‬لسْتُمْ عَلَى َ‬
‫الدينية‪ ،‬فإنكم ل بالقرآن ومحمد آمنتم‪ ،‬ول بنبيكم وكتابكم صدقتم‪ ،‬ول بحق تمسكتم‪ ،‬ول على‬
‫أصل اعتمدتم { حَتّى ُتقِيمُوا ال ّتوْرَا َة وَالْإِنجِيلَ ْ} أي‪ :‬تجعلوهما قائمين باليمان بهما واتباعهما‪،‬‬
‫والتمسك بكل ما يدعوان إليه‪.‬‬
‫{ و ْ} تقيموا { ما أُن ِزلَ إِلَ ْيكُمْ مِن رَ ّب ُكمْ ْ} الذي رباكم‪ ،‬وأنعم عليكم‪ ،‬وجعل أجلّ إنعامه إنزالَ الكتب‬
‫إليكم‪ .‬فالواجب عليكم‪ ،‬أن تقوموا بشكر ال‪ ،‬وتلتزموا أحكام ال‪ ،‬وتقوموا بما حملتم من أمانة ال‬
‫وعهده‪.‬‬

‫طغْيَانًا َوكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ ْ}‬


‫{ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرًا مّ ْنهُمْ مّا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ُ‬

‫عمِلَ‬
‫ن وَال ّنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 69‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئُو َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ}‬
‫صَالِحًا فَلَا َ‬

‫يخبر تعالى عن أهل الكتب من أهل القرآن والتوراة والنجيل‪ ،‬أن سعادتهم ونجاتهم في طريق‬
‫واحد‪ ،‬وأصل واحد‪ ،‬وهو اليمان بال واليوم الخر [والعمل الصالح] فمن آمن منهم بال واليوم‬
‫الخر‪ ،‬فله النجاة‪ ،‬ول خوف عليهم فيما يستقبلونه من المور المخوفة‪ ،‬ول هم يحزنون على ما‬
‫خلفوا منها‪ .‬وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الزمنة‪.‬‬

‫خذْنَا مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرَائِيلَ وَأَ ْرسَلْنَا إِلَ ْيهِمْ ُرسُلًا كُّلمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ ِبمَا لَا َت ْهوَى‬
‫{ ‪َ { }ْ 71 ، 70‬لقَدْ أَ َ‬
‫صمّوا ُثمّ تَابَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ ثُمّ‬
‫سهُمْ فَرِيقًا كَذّبُوا َوفَرِيقًا َيقْتُلُونَ * وَحَسِبُوا أَلّا َتكُونَ فِتْنَةٌ َف َعمُوا َو َ‬
‫أَ ْنفُ ُ‬
‫صمّوا كَثِيرٌ مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ْ}‬
‫عمُوا َو َ‬
‫َ‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬لقَدْ َأخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرَائِيلَ ْ} أي‪ :‬عهدهم الثقيل باليمان بال‪ ،‬والقيام بواجباته‬
‫ل وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ عَشَرَ َنقِيبًا ْ}‬
‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫التي تقدم الكلم عليها في قوله‪ { :‬وََلقَدْ أَ َ‬
‫إلى آخر اليات‪ { .‬وَأَرْسَلْنَا إِلَ ْي ِهمْ رُسُلًا ْ} يتوالون عليهم بالدعوة‪ ،‬ويتعاهدونهم بالرشاد‪ ،‬ولكن ذلك‬
‫سهُمْ ْ} من الحق كذبوه وعاندوه‪،‬‬
‫لم ينجع فيهم‪ ،‬ولم يفد { كُّلمَا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ ِبمَا لَا َت ْهوَى أَنفُ ُ‬
‫وعاملوه أقبح المعاملة { فَرِيقًا َكذّبُوا َوفَرِيقًا َيقْتُلُونَ ْ}‬

‫حسِبُوا أَلّا َتكُونَ فِتْنَةٌ ْ} أي‪ :‬ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم ل يجر عليهم عذابا ول عقوبة‪،‬‬
‫{ وَ َ‬
‫صمّوا ْ} عن الحق { ثُمّ ْ} نعشهم و { تاب ال عَلَ ْيهِمْ ْ} حين تابوا‬
‫فاستمروا على باطلهم‪َ { .‬ف َعمُوا َو َ‬
‫صمّوا‬
‫إليه وأنابوا { ثُمّ ْ} لم يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة‪ { .‬ف َعمُوا َو َ‬
‫كَثِيرٌ مِ ْنهُمْ ْ} بهذا الوصف‪ ،‬والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم‪ { .‬وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ْ}‬
‫فيجازي كل عامل بعمله‪ ،‬إن خيرا فخير وإن شرا فشر‪.‬‬
‫{ ‪َ { }ْ 75 - 72‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ َوقَالَ ا ْلمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ إِنّهُ مَنْ ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَ ْيهِ الْجَنّ َة َومَ ْأوَاهُ النّارُ َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ‬
‫عمّا َيقُولُونَ‬
‫ح ٌد وَإِنْ لَمْ يَنْ َتهُوا َ‬
‫أَ ْنصَارٍ * َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَاِلثُ ثَلَا َث ٍة َومَا مِنْ ِإلَهٍ إِلّا ِإلَ ٌه وَا ِ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * مَا‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * َأفَلَا يَتُوبُونَ ِإلَى اللّ ِه وَيَسْ َت ْغفِرُونَهُ وَاللّهُ َ‬
‫لَ َيمَسّنّ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ َ‬
‫طعَامَ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ‬
‫ل وَُأمّ ُه صِدّيقَةٌ كَانَا يَ ْأكُلَانِ ال ّ‬
‫سُ‬‫ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َيمَ إِلّا َرسُولٌ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫نُبَيّنُ َلهُمُ الْآيَاتِ ُثمّ ا ْنظُرْ أَنّى ُي ْؤفَكُونَ ْ}‬

‫يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم‪ { :‬إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ْ} بشبهة أنه خرج من أم بل‬
‫أب‪ ،‬وخالف المعهود من الخلقة اللهية‪ ،‬والحال أنه عليه الصلة والسلم قد كذبهم في هذه‬
‫الدعوى‪ ،‬وقال لهم‪ { :‬يَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ ْ} فأثبت لنفسه العبودية التامة‪ ،‬ولربه‬
‫الربوبية الشاملة لكل مخلوق‪.‬‬

‫{ إِنّهُ مَن يُشْ ِركْ بِاللّهِ ْ} أحدا من المخلوقين‪ ،‬ل عيسى ول غيره‪َ { .‬فقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ ا ْلجَنّ َة َومَ ْأوَاهُ‬
‫النّارُ ْ} وذلك لنه سوى الخلق بالخالق‪ ،‬وصرف ما خلقه ال له ‪ -‬وهو العبادة الخالصة ‪ -‬لغير‬
‫من هي له‪ ،‬فاستحق أن يخلد في النار‪.‬‬

‫{ َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ْ} ينقذونهم من عذاب ال‪ ،‬أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم‪.‬‬

‫{ َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَاِلثُ ثَلَاثَةٍ ْ} وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم‪ ،‬زعموا أن‬
‫ال ثالث ثلثة‪ :‬ال‪ ،‬وعيسى‪ ،‬ومريم‪ ،‬تعالى ال عن قولهم علوا كبيرا‪.‬‬

‫وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى‪ ،‬كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء‪ ،‬والعقيدة القبيحة؟! كيف‬
‫اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين ؟! كيف خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى ‪-‬رادا عليهم وعلى‬
‫أشباههم ‪َ { :-‬ومَا مِنْ إِلَهٍ إِلّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ْ} متصف بكل صفة كمال‪ ،‬منزه عن كل نقص‪ ،‬منفرد‬
‫بالخلق والتدبير‪ ،‬ما بالخلق من نعمة إل منه‪ .‬فكيف يجعل معه إله غيره؟" تعالى ال عما يقول‬
‫الظالمون علوا كبيرا‪.‬‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ ْ}‬


‫عمّا َيقُولُونَ لَ َيمَسّنّ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ َ‬
‫ثم توعدهم بقوله‪ { :‬وَإِن لّمْ يَن َتهُوا َ‬

‫ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم‪ ،‬وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال‪َ { :‬أفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ‬
‫ْ} أي‪ :‬يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من القرار ل بالتوحيد‪ ،‬وبأن عيسى عبد ال ورسوله‪ ،‬عما‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ ْ} أي‪ :‬يغفر ذنوب التائبين‪،‬‬
‫كانوا يقولونه { وَيَسْ َت ْغفِرُونَهُ ْ} عن ما صدر منهم { وَاللّهُ َ‬
‫ولو بلغت عنان السماء‪ ،‬ويرحمهم بقبول توبتهم‪ ،‬وتبديل سيئاتهم حسنات‪.‬‬

‫وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله‪َ { :‬أفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ ْ}‬

‫ثم ذكر حقيقة المسيح وُأمّه‪ ،‬الذي هو الحق‪ ،‬فقال‪ { :‬مَا ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلّا َرسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن‬
‫سلُ ْ} أي‪ :‬هذا غايته ومنتهى أمره‪ ،‬أنه من عباد ال المرسلين‪ ،‬الذين ليس لهم من المر‬
‫قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫ول من التشريع‪ ،‬إل ما أرسلهم به ال‪ ،‬وهو من جنس الرسل قبله‪ ،‬ل مزية له عليهم تخرجه عن‬
‫البشرية إلى مرتبة الربوبية‪.‬‬

‫{ وَُأمّهُ ْ} مريم { صِدّيقَةٌ ْ} أي‪ :‬هذا أيضا غايتها‪ ،‬أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق‬
‫رتبة بعد النبياء‪ .‬والصديقية‪ ،‬هي العلم النافع المثمر لليقين‪ ،‬والعمل الصالح‪ .‬وهذا دليل على أن‬
‫مريم لم تكن نبية‪ ،‬بل أعلى أحوالها الصديقية‪ ،‬وكفى بذلك فضل وشرفا‪ .‬وكذلك سائر النساء لم‬
‫يكن منهن نبية‪ ،‬لن ال تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين‪ ،‬في الرجال كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا‬
‫أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّا رِجَالًا نّوحِي ِإلَ ْيهِمْ ْ} فإذا كان عيسى عليه السلم من جنس النبياء والرسل من‬
‫قبله‪ ،‬وأمه صديقة‪ ،‬فلي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع ال؟‬

‫طعَامَ ْ} دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران‪ ،‬محتاجان كما يحتاج بنو آدم‬
‫وقوله‪ { :‬كَانَا يَ ْأكُلَانِ ال ّ‬
‫إلى الطعام والشراب‪ ،‬فلو كانا إلهين لستغنيا عن الطعام والشراب‪ ،‬ولم يحتاجا إلى شيء‪ ،‬فإن‬
‫الله هو الغني الحميد‪.‬‬

‫ولما بين تعالى البرهان قال‪ { :‬انظُرْ كَ ْيفَ نُبَيّنُ َلهُمُ الْآيَاتِ ْ} الموضحة للحق‪ ،‬الكاشفة لليقين‪ ،‬ومع‬
‫هذا ل تفيد فيهم شيئا‪ ،‬بل ل يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم‪ ،‬وذلك ظلم وعناد منهم‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ ْ}‬


‫{ ‪ُ { }ْ 76‬قلْ أَ َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيمِْلكُ َلكُ ْم ضَرّا وَلَا َن ْفعًا وَاللّهُ ُهوَ ال ّ‬

‫أي‪ُ { :‬قلْ ْ} لهم أيها الرسول‪ { :‬أَ َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ ْ} من المخلوقين الفقراء المحتاجين‪ { ،‬ما لَا‬
‫سمِيعُ ْ}‬
‫َيمِْلكُ َلكُ ْم ضَرّا وَلَا َن ْفعًا ْ} وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع‪ { ،‬وَاللّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫لجميع الصوات باختلف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪.‬‬

‫{ ا ْلعَلِيمُ ْ} بالظواهر والبواطن‪ ،‬والغيب والشهادة‪ ،‬والمور الماضية والمستقبلة‪ ،‬فالكامل تعالى‬
‫الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة‪ ،‬ويخلص له الدين‪.‬‬
‫ق وَلَا تَتّ ِبعُوا أَ ْهوَاءَ َقوْمٍ َق ْد ضَلّوا‬
‫حّ‬‫{ ‪ُ { } 81 - 77‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَا َتغْلُوا فِي دِي ِنكُمْ غَيْرَ الْ َ‬
‫سوَاءِ السّبِيلِ * ُلعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ‬
‫مِنْ قَ ْبلُ وََأضَلّوا كَثِيرًا َوضَلّوا عَنْ َ‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْ َتدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَا َهوْنَ عَنْ مُ ْنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِ ْئسَ مَا‬
‫ع َ‬
‫دَاوُ َد وَعِيسَى ابْنِ مَرْ َيمَ ذَِلكَ ِبمَا َ‬
‫خطَ اللّهُ‬
‫سهُمْ أَنْ سَ ِ‬
‫كَانُوا َي ْفعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِ ْنهُمْ يَ َتوَّلوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا َق ّد َمتْ َل ُهمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫خذُوهُمْ َأوْلِيَاءَ‬
‫ي َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مَا اتّ َ‬
‫عَلَ ْيهِ ْم َوفِي ا ْلعَذَابِ ُهمْ خَاِلدُونَ * وََلوْ كَانُوا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالنّ ِب ّ‬
‫سقُونَ }‬
‫وََلكِنّ كَثِيرًا مِ ْنهُمْ فَا ِ‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ُ { :‬قلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَا َتغْلُوا فِي دِي ِن ُكمْ غَيْرَ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬ل‬
‫تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل‪ ،‬وذلك كقولهم في المسيح‪ ،‬ما تقدم حكايته عنهم‪.‬‬

‫وكغلوهم في بعض المشايخ‪ ،‬اتباعا لـ { َأ ْهوَاءَ َقوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬تقدم ضللهم‪.‬‬

‫سوَاءِ‬
‫{ وََأضَلّوا كَثِيرًا } من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين‪ ،‬الذي هم عليه‪َ { .‬وضَلّوا عَنْ َ‬
‫السّبِيلِ } أي‪ :‬قصد الطريق‪ ،‬فجمعوا بين الضلل والضلل‪ ،‬وهؤلء هم أئمة الضلل الذين حذر‬
‫ال عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية‪ ،‬وآرائهم المضلة‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ُ { :‬لعِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ } أي‪ :‬طردوا وأبعدوا عن رحمة ال { عَلَى‬
‫لِسَـانِ دَاوُ َد وَعِيسَـى ابْنِ مَرْيَــمَ } أي‪ :‬بشهادتهما وإقرارهما‪ ،‬بأن الحجة قد قامت عليهم‪،‬‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْ َتدُونَ } أي‪ :‬بعصيانهم ل‪ ،‬وظلمهم لعباد‬
‫ع َ‬
‫وعاندوها‪ { .‬ذَِلكَ } الكفر واللعن { ِبمَا َ‬
‫ال‪ ،‬صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة ال‪ ،‬فإن للذنوب والظلم عقوبات‪.‬‬

‫ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلت‪ ،‬وأوقعت بهم العقوبات أنهم‪ { :‬كَانُوا لَا يَتَنَا َهوْنَ عَنْ مُ ْنكَرٍ‬
‫َفعَلُوهُ } أي‪ :‬كانوا يفعلون المنكر‪ ،‬ول ينهى بعضهم بعضا‪ ،‬فيشترك بذلك المباشر‪ ،‬وغيره الذي‬
‫سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك‪.‬‬

‫وذلك يدل على تهاونهم بأمر ال‪ ،‬وأن معصيته خفيفة عليهم‪ ،‬فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا‬
‫لمحارمه‪ ،‬ولغضبوا لغضبه‪ ،‬وإنما كان السكوت عن المنكر ‪-‬مع القدرة‪ -‬موجبا للعقوبة‪ ،‬لما فيه‬
‫من المفاسد العظيمة‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن مجرد السكوت‪ ،‬فعل معصية‪ ،‬وإن لم يباشرها الساكت‪ .‬فإنه ‪-‬كما يجب اجتناب‬
‫المعصية‪ -‬فإنه يجب النكار على من فعل المعصية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي‪ ،‬وقلة الكتراث بها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها‪ ،‬فيزداد‬
‫الشر‪ ،‬وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية‪ ،‬ويكون لهم الشوكة والظهور‪ ،‬ثم بعد ذلك يضعف أهل‬
‫الخير عن مقاومة أهل الشر‪ ،‬حتى ل يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوّلًا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ‪ -‬في ترك النكار للمنكر‪ -‬يندرس العلم‪ ،‬ويكثر الجهل‪ ،‬فإن المعصية‪ -‬مع تكررها‬
‫وصدورها من كثير من الشخاص‪ ،‬وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها ‪ -‬يظن أنها ليست بمعصية‪،‬‬
‫وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة‪ ،‬وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرّم ال حلل؟ وانقلب‬
‫الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟"‬

‫ومنها‪ :‬أن السكوت على معصية العاصين‪ ،‬ربما تزينت المعصية في صدور الناس‪ ،‬واقتدى‬
‫بعضهم ببعض‪ ،‬فالنسان مولع بالقتداء بأضرابه وبني جنسه‪ ،‬ومنها ومنها‪.‬‬

‫فلما كان السكوت عن النكار بهذه المثابة‪ ،‬نص ال تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم‬
‫بمعاصيهم واعتدائهم‪ ،‬وخص من ذلك هذا المنكر العظيم‪.‬‬

‫{ لَبِ ْئسَ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ } { تَرَى كَثِيرًا مِ ْنهُمْ يَ َتوَّلوْنَ الّذِينَ َكفَرُوا } بالمحبة والموالة والنصرة‪.‬‬

‫سهُمْ } هذه البضاعةَ الكاسدة‪ ،‬والصفقةَ الخاسرة‪ ،‬وهي سخط ال الذي‬


‫{ لَبِ ْئسَ مَا قَ ّد َمتْ َلهُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫يسخط لسخطه كل شيء‪ ،‬والخلود الدائم في العذاب العظيم‪ ،‬فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم‬
‫هذا النزل غير الكريم‪ ،‬وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم‪.‬‬

‫{ وََلوْ كَانُوا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالنّ ِبيّ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُو ُهمْ َأوْلِيَاءَ } فإن اليمان بال وبالنبي وما‬
‫أنزل إليه‪ ،‬يوجب على العبد موالة ربه‪ ،‬وموالة أوليائه‪ ،‬ومعاداة من كفر به وعاداه‪ ،‬وأوضع في‬
‫معاصيه‪ ،‬فشرط ولي ِة ال واليمانِ به‪ ،‬أن ل يتخذ أعداء ال أولياء‪ ،‬وهؤلء لم يوجد منهم‬
‫سقُونَ } أي‪ :‬خارجون عن طاعة ال‬
‫الشرط‪ ،‬فدل على انتفاء المشروط‪ { .‬وََلكِنّ كَثِيرًا مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫واليمان به وبالنبي‪ .‬ومن فسقهم موالةُ أعداء ال‪.‬‬

‫{ ‪ { } 86 - 82‬لَ َتجِدَنّ َأشَدّ النّاسِ عَدَا َوةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْ َيهُو َد وَالّذِينَ أَشْ َركُوا وَلَتَجِدَنّ َأقْرَ َبهُمْ َموَ ّدةً‬
‫ن وَرُهْبَانًا وَأَ ّنهُمْ لَا َيسْ َتكْبِرُونَ * وَإِذَا‬
‫لِلّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى ذَِلكَ بِأَنّ مِ ْنهُمْ قِسّيسِي َ‬
‫س ِمعُوا مَا أُنْ ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُوا مِنَ ا ْلحَقّ َيقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا‬
‫َ‬
‫خلَنَا رَبّنَا مَعَ ا ْل َقوْمِ‬
‫طمَعُ أَنْ يُدْ ِ‬
‫ق وَنَ ْ‬
‫حّ‬‫فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ * َومَا لَنَا لَا ُن ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَا جَاءَنَا مِنَ الْ َ‬
‫الصّالِحِينَ * فَأَثَا َبهُمُ اللّهُ ِبمَا قَالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَِلكَ جَزَاءُ‬
‫جحِيمِ }‬
‫صحَابُ الْ َ‬
‫حسِنِينَ * وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين‪ ،‬وإلى وليتهم ومحبتهم‪ ،‬وأبعدهم من ذلك‪:‬‬
‫{ لَ َتجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَا َوةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْ َيهُو َد وَالّذِينَ أَشْ َركُوا } فهؤلء الطائفتان على الطلق‬
‫أعظم الناس معاداة للسلم والمسلمين‪ ،‬وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم‪ ،‬وذلك لشدة‬
‫بغضهم لهم‪ ،‬بغيا وحسدا وعنادا وكفرا‪.‬‬

‫{ وَلَ َتجِدَنّ َأقْرَ َبهُمْ َموَ ّدةً لِلّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى } وذكر تعالى لذلك عدة أسباب‪:‬‬

‫ن وَرُهْبَانًا } أي‪ :‬علماء متزهدين‪ ،‬وعُبّادًا في الصوامع متعبدين‪ .‬والعلم مع‬


‫منها‪ :‬أن { مِ ْنهُمْ قِسّيسِي َ‬
‫الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه‪ ،‬ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة‪ ،‬فلذلك ل‬
‫يوجد فيهم غلظة اليهود‪ ،‬وشدة المشركين‪.‬‬

‫ومنها‪ { :‬أنهم لَا يَسْ َتكْبِرُونَ } أي‪ :‬ليس فيهم تكبر ول عتو عن النقياد للحق‪ ،‬وذلك موجب لقربهم‬
‫من المسلمين ومن محبتهم‪ ،‬فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر‪.‬‬

‫س ِمعُوا مَا أُنْ ِزلَ إِلَى الرّسُولِ } محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أثر ذلك في قلوبهم‬
‫ومنها‪ :‬أنهم { إذا َ‬
‫وخشعوا له‪ ،‬وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه‪ ،‬فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا‪:‬‬
‫{ رَبّنَا آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ } وهم أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يشهدون ل بالتوحيد‪،‬‬
‫ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به‪ ،‬ويشهدون على المم السابقة بالتصديق والتكذيب‪.‬‬

‫شهَدَاءَ عَلَى‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫وهم عدول‪ ،‬شهادتهم مقبولة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫شهِيدًا }‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫النّا ِ‬

‫حقّ‬
‫فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬ومَا لَنَا لَا ُن ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَا جَاءَنَا مِنَ الْ َ‬
‫طمَعُ أَنْ ُيدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ ا ْل َقوْمِ الصّالِحِينَ } أي‪ :‬وما الذي يمنعنا من اليمان بال‪ ،‬والحال أنه قد‬
‫وَنَ ْ‬
‫جاءنا الحق من ربنا‪ ،‬الذي ل يقبل الشك والريب‪ ،‬ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا ال‬
‫الجنة مع القوم الصالحين‪ ،‬فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والنقياد لليمان وعدم‬
‫التخلف عنه‪.‬‬

‫قال ال تعالى‪ { :‬فَأَثَا َبهُمُ اللّهُ ِبمَا قَالُوا } أي‪ :‬بما تفوهوا به من اليمان ونطقوا به من التصديق‬
‫بالحق { جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْل ُمحْسِنِينَ } وهذه اليات نزلت‬
‫في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم‪ .‬وكذلك ل‬
‫يزال يوجد فيهم من يختار دين السلم‪ ،‬ويتبين له بطلن ما كانوا عليه‪ ،‬وهم أقرب من اليهود‬
‫والمشركين إلى دين السلم‪.‬‬

‫صحَابُ‬
‫ولما ذكر ثواب المحسنين‪ ،‬ذكر عقاب المسيئين قال‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫جحِيمِ } لنهم كفروا بال‪ ،‬وكذبوا بآياته المبينة للحق‪.‬‬
‫الْ َ‬

‫حبّ‬
‫حلّ اللّهُ َل ُك ْم وَلَا َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬
‫{ ‪ { } 88 - 87‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُتحَ ّرمُوا طَيّبَاتِ مَا َأ َ‬
‫ا ْل ُمعْتَدِينَ * َوكُلُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَلَالًا طَيّبًا وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ }‬

‫حلّ اللّهُ َلكُمْ } من المطاعم والمشارب‪،‬‬


‫يقول تعالى { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُتحَ ّرمُوا طَيّبَاتِ مَا أَ َ‬
‫فإنها نعم أنعم ال بها عليكم‪ ،‬فاحمدوه إذ أحلها لكم‪ ،‬واشكروه ول تردوا نعمته بكفرها أو عدم‬
‫قبولها‪ ،‬أو اعتقاد تحريمها‪ ،‬فتجمعون بذلك بين القول على ال الكذب‪ ،‬وكفر النعمة‪ ،‬واعتقاد‬
‫الحلل الطيب حراما خبيثا‪ ،‬فإن هذا من العتداء‪.‬‬

‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ } بل يبغضهم ويمقتهم‬


‫وال قد نهى عن العتداء فقال‪ { :‬وَلَا َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬
‫ويعاقبهم على ذلك‪.‬‬

‫ثم أمر بضد ما عليه المشركون‪ ،‬الذين يحرمون ما أحل ال فقال‪َ { :‬وكُلُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَلَالًا‬
‫طَيّبًا } أي‪ :‬كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم‪ ،‬بما يسره من السباب‪ ،‬إذا كان حلَالًا ل سرقة ول‬
‫غصبا ول غير ذلك من أنواع الموال التي تؤخذ بغير حق‪ ،‬وكان أيضا طيبا‪ ،‬وهو الذي ل خبث‬
‫فيه‪ ،‬فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث‪.‬‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ } في امتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ { .‬الّذِي أَنْ ُتمْ بِهِ ُمؤْمِنُونَ } فإن إيمانكم بال‬
‫يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه‪ ،‬فإنه ل يتم إل بذلك‪.‬‬

‫ودلت الية الكريمة على أنه إذا حرم حلل عليه من طعام وشراب‪ ،‬وسرية وأمة‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬
‫فإنه ل يكون حراما بتحريمه‪ ،‬لكن لو فعله فعليه كفارة يمين‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ‬
‫حلّ اللّهُ َلكَ } الية‪.‬‬
‫تُحَرّمُ مَا أَ َ‬

‫إل أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار‪ ،‬ويدخل في هذه الية أنه ل ينبغي للنسان أن يتجنب‬
‫الطيبات ويحرمها على نفسه‪ ،‬بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه‪.‬‬
‫{ ‪ { } 89‬لَا ُيؤَاخِ ُذ ُكمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ }‬

‫أي‪ :‬في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو‪ ،‬وهي اليمان التي حلف بها المقسم من غير نية ول‬
‫عقّدْتُمُ الْأَ ْيمَانَ } أي‪ :‬بما‬
‫خ ُذكُمْ ِبمَا َ‬
‫قصد‪ ،‬أو عقدها يظن صدق نفسه‪ ،‬فبان بخلف ذلك‪ { .‬وََلكِنْ ُيؤَا ِ‬
‫عزمتم عليه‪ ،‬وعقدت عليه قلوبكم‪ .‬كما قال في الية الخرى‪ { :‬وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ‬
‫عشَ َرةِ مَسَاكِينَ }‬
‫طعَامُ َ‬
‫قُلُو ُبكُمْ } { َف َكفّارَتُهُ } أي‪ :‬كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم { ِإ ْ‬

‫سوَ ُتهُمْ } أي‪ :‬كسوة عشرة مساكين‪ ،‬والكسوة‬


‫ط ِعمُونَ أَهْلِيكُمْ َأوْ كِ ْ‬
‫وذلك الطعام { مِنْ َأوْسَطِ مَا تُ ْ‬
‫هي التي تجزئ في الصلة‪َ { .‬أوْ َتحْرِيرُ َرقَبَةٍ } أي‪ :‬عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا‬
‫الموضع‪ ،‬فمتى فعل واحدا من هذه الثلثة فقد انحلت يمينه‪.‬‬

‫جدْ } واحدا من هذه الثلثة { َفصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ ذَِلكَ } المذكور { َكفّا َرةُ أَ ْيمَا ِنكُمْ ِإذَا‬
‫{ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫حََلفْتُمْ } تكفرها وتمحوها وتمنع من الثم‪.‬‬

‫حفَظُوا أَ ْيمَا َنكُمْ } عن الحلف بال كاذبا‪ ،‬وعن كثرة اليمان‪ ،‬واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث‬
‫{ وَا ْ‬
‫فيهـا‪ ،‬إل إذا كان الحنث خيرا‪ ،‬فتمام الحفظ‪ :‬أن يفعل الخير‪ ،‬ول يكون يمينه عرضة لذلك‬
‫الخير‪.‬‬

‫شكُرُونَ } الَ‬
‫{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَا ِتهِ } المبينة للحلل من الحرام‪ ،‬الموضحة للحكام‪َ { .‬لعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ .‬فعلى العباد شكر ال تعالى على ما منّ به عليهم‪ ،‬من معرفة‬
‫الحكام الشرعية وتبيينها‪.‬‬

‫ع َملِ‬
‫ب وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ َ‬
‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِرُ وَالْأَ ْنصَا ُ‬
‫{ ‪ { } 91 ، 90‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا الْ َ‬
‫خمْرِ‬
‫الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفِْلحُونَ * إِ ّنمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْ َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَاءَ فِي ا ْل َ‬
‫وَا ْلمَيْسِ ِر وَ َيصُ ّدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه وَعَنِ الصّلَاةِ َف َهلْ أَنْتُمْ مُنْ َتهُونَ }‬

‫يذم تعالى هذه الشياء القبيحة‪ ،‬ويخبر أنها من عمل الشيطان‪ ،‬وأنها رجس‪ { .‬فَاجْتَنِبُوهُ } أي‪:‬‬
‫اتركوه { َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } فإن الفلح ل يتم إل بترك ما حرم ال‪ ،‬خصوصا هذه الفواحش‬
‫المذكورة‪ ،‬وهي الخمر وهي‪ :‬كل ما خامر العقل أي‪ :‬غطاه بسكره‪ ،‬والميسر‪ ،‬وهو‪ :‬جميع‬
‫المغالبات التي فيها عوض من الجانبين‪ ،‬كالمراهنة ونحوها‪ ،‬والنصاب التي هي‪ :‬الصنام‬
‫والنداد ونحوها‪ ،‬مما يُنصب ويُعبد من دون ال‪ ،‬والزلم التي يستقسمون بها‪ ،‬فهذه الربعة نهى‬
‫ال عنها وزجر‪ ،‬وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها‪ .‬فمنها‪ :‬أنها رجس‪ ،‬أي‪ :‬خبث‪،‬‬
‫نجس معنى‪ ،‬وإن لم تكن نجسة حسا‪.‬‬

‫والمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها‪ .‬ومنها‪ :‬أنها من عمل الشيطان‪ ،‬الذي‬
‫هو أعدى العداء للنسان‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن العدو يحذر منه‪ ،‬وتحذر مصايده وأعماله‪ ،‬خصوصا العمال التي يعملها ليوقع‬
‫فيها عدوه‪ ،‬فإنها فيها هلكه‪ ،‬فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين‪ ،‬والحذر منهـا‪،‬‬
‫والخوف من الوقوع فيها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل يمكن الفلح للعبد إل باجتنابها‪ ،‬فإن الفلح هو‪ :‬الفوز بالمطلوب المحبوب‪ ،‬والنجاة‬
‫من المرهوب‪ ،‬وهذه المور مانعة من الفلح ومعوقة له‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس‪ ،‬والشيطان حريص على بثها‪ ،‬خصوصا‬
‫الخمر والميسر‪ ،‬ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء‪.‬‬

‫فإن في الخمر من انغلب العقل وذهاب حجاه‪ ،‬ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين‪،‬‬
‫خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر‪ ،‬فإنه ربما أوصل إلى القتل‪.‬‬
‫وما في الميسر من غلبة أحدهما للخر‪ ،‬وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة‪ ،‬ما هو من أكبر‬
‫السباب للعداوة والبغضاء‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن هذه الشياء تصد القلب‪ ،‬ويتبعه البدن عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬اللذين خلق لهما‬
‫العبد‪ ،‬وبهما سعادته‪ ،‬فالخمر والميسر‪ ،‬يصدانه عن ذلك أعظم صد‪ ،‬ويشتغل قلبه‪ ،‬ويذهل لبه في‬
‫الشتغال بهما‪ ،‬حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو ل يدري أين هو‪.‬‬

‫فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها‪ ،‬وتجعله من أهل الخبث‪ ،‬وتوقعه في أعمال‬
‫الشيطان وشباكه‪ ،‬فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها‪ ،‬وتحول بين العبد وبين فلحه‪ ،‬وتوقع‬
‫العداوة والبغضاء بين المؤمنين‪ ،‬وتصد عن ذكر ال وعن الصلة؟" فهل فوق هذه المفاسد شيء‬
‫أكبر منها؟"‬

‫ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها‪ ،‬عرضا بقوله‪َ { :‬ف َهلْ أَنْتُمْ مُنْ َتهُونَ } لن‬
‫العاقل ‪-‬إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد‪ -‬انزجر عنها وكفت نفسه‪ ،‬ولم يحتج إلى وعظ كثير ول‬
‫زجر بليغ‪.‬‬
‫{ ‪ { } 92‬وَأَطِيعُوا اللّ َه وََأطِيعُوا الرّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ‬
‫ا ْلمُبِينُ }‬

‫طاعة ال وطاعة رسوله واحدة‪ ،‬فمن أطاع ال‪ ،‬فقد أطاع الرسول‪ ،‬ومن أطاع الرسول فقد أطاع‬
‫ال‪ .‬وذلك شامل للقيام بما أمر ال به ورسوله من العمال‪ ،‬والقوال الظاهرة والباطنة‪ ،‬الواجبة‬
‫والمستحبة‪ ،‬المتعلقة بحقوق ال وحقوق خلقه والنتهاء عما نهى ال ورسوله عنه كذلك‪.‬‬

‫وهذا المر أعم الوامر‪ ،‬فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي‪ ،‬ظاهر وباطن‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫{ وَاحْذَرُوا } أي‪ :‬من معصية ال ومعصية رسوله‪ ،‬فإن في ذلك الشر والخسران المبين‪ { .‬فَإِنْ‬
‫َتوَلّيْتُمْ } عما أمرتم به ونهيتم عنه‪ { .‬فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } وقد أدى ذلك‪ .‬فإن‬
‫اهتديتم فلنفسكم‪ ،‬وإن أسأتم فعليها‪ ،‬وال هو الذي يحاسبكم‪ ،‬والرسول قد أدى ما عليه وما حمل‬
‫به‪.‬‬

‫عمِلُوا‬
‫ط ِعمُوا ِإذَا مَا ا ّت َقوْا وَآمَنُوا وَ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا َ‬
‫{ ‪ { } 93‬لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }‬
‫حسَنُوا وَاللّهُ يُ ِ‬
‫الصّالِحَاتِ ثُمّ ا ّتقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ ا ّتقَوْا وَأَ ْ‬

‫لما نزل تحريم الخمر والنهي الكيد والتشديد فيه‪ ،‬تمنى أناس من المؤمنين أن يعلموا حال‬
‫إخوانهم الذين ماتوا على السلم قبل تحريم الخمر وهم يشربونها‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أي‪:‬‬


‫فأنزل ال هذه الية‪ ،‬وأخبر تعالى أنه { لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ط ِعمُوا } من الخمر والميسر قبل تحريمهما‪.‬‬
‫حرج وإثم { فِيمَا َ‬

‫عمِلُوا‬
‫ولما كان نفي الجناح يشمل المذكورات وغيرها‪ ،‬قيد ذلك بقوله‪ { :‬إِذَا مَا ا ّتقَوْا وَآمَنُوا وَ َ‬
‫الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬بشرط أنهم تاركون للمعاصي‪ ،‬مؤمنون بال إيمانا صحيحا‪ ،‬موجبا لهم عمل‬
‫الصالحات‪ ،‬ثم استمروا على ذلك‪ .‬وإل فقد يتصف العبد بذلك في وقت دون آخر‪ .‬فل يكفي حتى‬
‫يكون كذلك حتى يأتيه أجله‪ ،‬ويدوم على إحسانه‪ ،‬فإن ال يحب المحسنين في عبادة الخالق‪،‬‬
‫المحسنين في نفع العبيد‪ ،‬ويدخل في هذه الية الكريمة‪ ،‬من طعم المحرم‪ ،‬أو فعل غيره بعد‬
‫التحريم‪ ،‬ثم اعترف بذنبه وتاب إلى ال‪ ،‬واتقى وآمن وعمل صالحا‪ ،‬فإن ال يغفر له‪ ،‬ويرتفع عنه‬
‫الثم في ذلك‪.‬‬

‫حكُمْ لِ َيعْلَمَ اللّهُ‬


‫شيْءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنَاُلهُ أَيْدِيكُمْ وَ ِرمَا ُ‬
‫{ ‪ { } 96 - 94‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَيَبُْلوَ ّنكُمُ اللّهُ ِب َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتقْتُلُوا الصّيْ َد وَأَنْتُمْ‬
‫مَنْ يَخَافُهُ بِا ْلغَ ْيبِ َفمَنِ اعْ َتدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ َ‬
‫ع ْدلٍ مِ ْنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ ا ْل َكعْبَةِ‬
‫حكُمُ ِبهِ َذوَا َ‬
‫حُ ُر ٌم َومَنْ قَتََلهُ مِ ْنكُمْ مُ َت َعمّدًا َفجَزَاءٌ مِ ْثلُ مَا قَ َتلَ مِنَ ال ّنعَمِ َي ْ‬
‫عمّا سََلفَ َومَنْ عَادَ فَيَنْ َتقِمُ‬
‫عفَا اللّهُ َ‬
‫ق وَبَالَ َأمْ ِرهِ َ‬
‫ك صِيَامًا لِيَذُو َ‬
‫طعَامُ مَسَاكِينَ َأوْ عَ ْدلُ ذَِل َ‬
‫َأوْ كَفّا َرةٌ َ‬
‫طعَامُهُ مَتَاعًا َل ُك ْم وَلِلسّيّا َر ِة وَحُرّمَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫حلّ َل ُك ْم صَيْدُ الْ َبحْ ِر وَ َ‬
‫اللّهُ مِ ْن ُه وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ * ُأ ِ‬
‫حشَرُونَ }‬
‫صَيْدُ الْبَرّ مَا ُدمْتُمْ حُ ُرمًا وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إِلَ ْيهِ تُ ْ‬

‫هذا من منن ال على عباده‪ ،‬أن أخبرهم بما سيفعل قضاء وقدرا‪ ،‬ليطيعوه ويقدموا على بصيرة‪،‬‬
‫ويهلك من هلك عن بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن بينة‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } لبد أن‬
‫يختبر ال إيمانكم‪.‬‬

‫شيْءٍ مِنَ الصّيْدِ } أي‪ :‬بشيء غير كثير‪ ،‬فتكون محنة يسيرة‪ ،‬تخفيفا منه تعالى‬
‫{ لَيَبُْلوَ ّنكُمُ اللّهُ ِب َ‬
‫حكُمْ } أي‪ :‬تتمكنون من صيده‪ ،‬ليتم‬
‫ولطفا‪ ،‬وذلك الصيد الذي يبتليكم ال به { تَنَاُلهُ أَيْدِي ُك ْم وَ ِرمَا ُ‬
‫بذلك البتلء‪ ،‬ل غير مقدور عليه بيد ول رمح‪ ،‬فل يبقى للبتلء فائدة‪.‬‬

‫ثم ذكر الحكمة في ذلك البتلء‪ ،‬فقال‪ { :‬لِ َيعَْلمَ اللّهُ } علما ظاهرا للخلق يترتب عليه الثواب‬
‫والعقاب { مَنْ َيخَافُهُ بِا ْلغَ ْيبِ } فيكف عما نهى ال عنه مع قدرته عليه وتمكنه‪ ،‬فيثيبه الثواب‬
‫الجزيل‪ ،‬ممن ل يخافه بالغيب‪ ،‬فل يرتدع عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه { َفمَنِ‬
‫اعْتَدَى } منكم { َبعْدِ ذَِلكَ } البيان‪ ،‬الذي قطع الحجج‪ ،‬وأوضح السبيل‪ { .‬فََلهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪:‬‬
‫مؤلم موجع‪ ،‬ل يقدر على وصفه إل ال‪ ،‬لنه ل عذر لذلك المعتدي‪ ،‬والعتبار بمن يخافه‬
‫بالغيب‪ ،‬وعدم حضور الناس عنده‪ .‬وأما إظهار مخافة ال عند الناس‪ ،‬فقد يكون ذلك لجل مخافة‬
‫الناس‪ ،‬فل يثاب على ذلك‪.‬‬

‫ثم صرح بالنهي عن قتل الصيد في حال الحرام‪ ،‬فقال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتقْتُلُوا الصّيْ َد وَأَنْتُمْ‬
‫حُ ُرمٌ } أي‪ :‬محرمون في الحج والعمرة‪ ،‬والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل‪ ،‬وعن‬
‫المشاركة في القتل‪ ،‬والدللة عليه‪ ،‬والعانة على قتله‪ ،‬حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن‬
‫أكل ما قُتل أو صيد لجله‪ ،‬وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم‪ ،‬أنه يحرم على المحرم قتل وصيد‬
‫ما كان حلل له قبل الحرام‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬ومَنْ قَتََلهُ مِ ْنكُمْ مُ َت َعمّدًا } أي‪ :‬قتل صيدا عمدا { فـ } عليه { جزاء مِ ْثلُ مَا قَ َتلَ مِنَ‬
‫ال ّنعَمِ } أي‪ :‬البل‪ ،‬أو البقر‪ ،‬أو الغنم‪ ،‬فينظر ما يشبه شيئا من ذلك‪ ،‬فيجب عليه مثله‪ ،‬يذبحه‬
‫حكُمُ ِبهِ َذوَا عَ ْدلٍ مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬عدلن يعرفان الحكم‪ ،‬ووجه‬
‫ويتصدق به‪ .‬والعتبار بالمماثلة أن { َي ْ‬
‫الشبه‪ ،‬كما فعل الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬حيث قضوا بالحمامة شاة‪ ،‬وفي النعامة بدنة‪ ،‬وفي بقر‬
‫الوحش ‪-‬على اختلف أنواعه‪ -‬بقرة‪ ،‬وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم‪ ،‬ففيه مثله‪ ،‬فإن لم يشبه‬
‫شيئا ففيه قيمته‪ ،‬كما هو القاعدة في المتلفات‪ ،‬وذلك الهدي ل بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ ا ْل َكعْبَةِ } أي‪:‬‬
‫يذبح في الحرم‪.‬‬
‫طعَامُ مَسَاكِينَ } أي‪ :‬كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين‪ ،‬أي‪ :‬يجعل مقابلة المثل من‬
‫{ َأوْ َكفّا َرةٌ َ‬
‫النعم‪ ،‬طعام يطعم المساكين‪.‬‬

‫قال كثير من العلماء‪ :‬يقوم الجزاء‪ ،‬فيشترى بقيمته طعام‪ ،‬فيطعم كل مسكين ُمدّ بُ ّر أو نصفَ‬
‫صاع من غيره‪َ { .‬أوْ عَ ْدلُ ذَِلكَ } الطعام { صِيَامًا } أي‪ :‬يصوم عن إطعام كل مسكين يوما‪.‬‬
‫{ لِ َيذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ َأمْ ِرهِ } { َومَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْ َتقِمُ اللّهُ مِنْهُ‬
‫وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ } وإنما نص ال على المتعمد لقتل الصيد‪ ،‬مع أن الجزاء يلزم المتعمد‬
‫والمخطيء‪ ،‬كما هو القاعدة الشرعية ‪-‬أن المتلف للنفوس والموال المحترمة‪ ،‬فإنه يضمنها على‬
‫أي حال كان‪ ،‬إذا كان إتلفه بغير حق‪ ،‬لن ال رتب عليه الجزاء والعقوبة والنتقام‪ ،‬وهذا‬
‫للمتعمد‪ .‬وأما المخطئ فليس عليه عقوبة‪ ،‬إنما عليه الجزاء‪[ ،‬هذا جواب الجمهور من هذا القيد‬
‫الذي ذكره ال‪ .‬وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الية‪ .‬والفرق‬
‫بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والموال في هذا الموضع الحق فيه ل‪ ،‬فكما ل إثم‬
‫ل جزاء لتلفه نفوس الدميين وأموالهم]‬

‫حلّ َل ُك ْم صَيْدُ‬
‫ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري‪ ،‬استثنى تعالى الصيد البحري فقال‪ { :‬أُ ِ‬
‫طعَامُهُ } أي‪ :‬أحل لكم ‪-‬في حال إحرامكم‪ -‬صيد البحر‪ ،‬وهو الحي من حيواناته‪،‬‬
‫الْبَحْرِ وَ َ‬
‫وطعامه‪ ،‬وهو الميت منها‪ ،‬فدل ذلك على حل ميتة البحر‪ { .‬مَتَاعًا َلكُ ْم وَلِلسّيّا َرةِ } أي‪ :‬الفائدة في‬
‫إباحته لكم أنه لجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم‪ { .‬وَحُرّمَ عَلَ ْيكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا‬
‫ُدمْتُمْ حُ ُرمًا } ويؤخذ من لفظ "الصيد" أنه ل بد أن يكون وحشيا‪ ،‬لن النسي ليس بصيد‪ .‬ومأكول‪،‬‬
‫حشَرُونَ } أي‪:‬‬
‫فإن غير المأكول ل يصاد ول يطلق عليه اسم الصيد‪ { .‬وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي إِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫اتقوه بفعل ما أمر به‪ ،‬وترك ما نهى عنه‪ ،‬واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون‪.‬‬
‫فيجازيكم‪ ،‬هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل‪ ،‬أم لم تقوموا بها فيعاقبكم؟‪.‬‬

‫شهْرَ ا ْلحَرَامَ وَا ْلهَ ْديَ وَالْقَلَائِدَ ذَِلكَ‬


‫س وَال ّ‬
‫ج َعلَ اللّهُ ا ْل َكعْبَةَ الْبَ ْيتَ ا ْلحَرَامَ قِيَامًا لِلنّا ِ‬
‫{ ‪َ { } 99 - 79‬‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ * اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫ض وَأَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫ن َومَا َتكْ ُتمُونَ }‬
‫غ وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * مَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَا ُ‬
‫شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ وَأَنّ اللّهَ َ‬

‫يخبر تعالى أنه جعل { ا ْل َكعْبَةَ الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنّاسِ } يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم‪،‬‬
‫فبذلك يتم إسلمهم‪ ،‬وبه تحط أوزارهم‪ ،‬وتحصل لهم ‪ -‬بقصده ‪ -‬العطايا الجزيلة‪ ،‬والحسان‬
‫الكثير‪ ،‬وبسببه تنفق الموال‪ ،‬وتتقحم ‪ -‬من أجله ‪ -‬الهوال‪.‬‬

‫ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين‪ ،‬فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض‪،‬‬
‫ويتشاورون على المصالح العامة‪ ،‬وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫سمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ‬
‫شهَدُوا مَنَافِعَ َلهُ ْم وَيَ ْذكُرُوا ا ْ‬
‫قال تعالى‪ { :‬لِيَ ْ‬
‫الْأَ ْنعَامِ } ومن أجل كون البيت قياما للناس قال من قال من العلماء‪ :‬إن حج بيت ال فرض كفاية‬
‫في كل سنة‪ .‬فلو ترك الناس حجه لثم كل قادر‪ ،‬بل لو ترك الناس حجه لزال ما به قوامهم‪،‬‬
‫وقامت القيامة‪.‬‬

‫ي وَا ْلقَلَائِدَ } أي‪ :‬وكذلك جعل الهدي والقلئد ‪-‬التي هي أشرف أنواع الهدي‪ -‬قياما‬
‫وقوله‪ { :‬وَا ْلهَ ْد َ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫للناس‪ ،‬ينتفعون بهما ويثابون عليهما‪ { .‬ذَِلكَ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫علِيمٌ } فمن علمه أن جعل لكم هذا البيت الحرام‪ ،‬لما يعلمه من مصالحكم‬
‫شيْءٍ َ‬
‫وَأَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ } أي‪ :‬ليكن هذان العلمان موجودين في قلوبكم‬


‫ب وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫{ اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَا ِ‬
‫على وجه الجزم واليقين‪ ،‬تعلمون أنه شديد العقاب العاجل والجل على من عصاه‪ ،‬وأنه غفور‬
‫رحيم لمن تاب إليه وأطاعه‪.‬فيثمر لكم هذا العلمُ الخوفَ من عقابه‪ ،‬والرجاءَ لمغفرته وثوابه‪،‬‬
‫وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬مَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَاغُ } وقد بلّغ كما ُأمِر‪ ،‬وقام بوظيفته‪ ،‬وما سـوى ذلك‬
‫فليـس لـه مـن المـر شـيء‪ { .‬وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا َتكْ ُتمُونَ } فيجازيكم بما يعلمه تعالى‬
‫منكم‪.‬‬

‫ب وََلوْ أَعْجَ َبكَ كَثْ َرةُ ا ْلخَبِيثِ فَا ّتقُوا اللّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ‬
‫ث وَالطّ ّي ُ‬
‫{ ‪ُ { } 100‬قلْ لَا يَسْ َتوِي الْخَبِي ُ‬
‫َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }‬

‫ث وَالطّ ّيبُ } من كل‬


‫أي‪ُ { :‬قلْ } للناس محذرا عن الشر ومرغبا في الخير‪ { :‬لَا يَسْ َتوِي الْخَبِي ُ‬
‫شيء‪ ،‬فل يستوي اليمان والكفر‪ ،‬ول الطاعة والمعصية‪ ،‬ول أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬ول العمال‬
‫الخبيثة والعمال الطيبة‪ ،‬ول المال الحرام بالمال الحلل‪.‬‬

‫{ وََلوْ أَعْجَ َبكَ كَثْ َرةُ الْخَبِيثِ } فإنه ل ينفع صاحبه شيئا‪ ،‬بل يضره في دينه ودنياه‪.‬‬

‫{ فَا ّتقُوا اللّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } فأمر أُولي اللباب‪ ،‬أي‪ :‬أهل العقول الوافية‪ ،‬والراء‬
‫الكاملة‪ ،‬فإن ال تعالى يوجه إليهم الخطاب‪ .‬وهم الذين يؤبه لهم‪ ،‬ويرجى أن يكون فيهم خير‪.‬‬

‫ثم أخبر أن الفلح متوقف على التقوى التي هي موافقة ال في أمره ونهيه‪ ،‬فمن اتقاه أفلح كل‬
‫الفلح‪ ،‬ومن ترك تقواه حصل له الخسران وفاتته الرباح‪.‬‬
‫س ْؤكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَ ْنهَا‬
‫{ ‪ { } 102 - 101‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُ ْبدَ َلكُمْ َت ُ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأََلهَا َقوْمٌ مِنْ قَبِْلكُمْ ثُمّ َأصْبَحُوا ِبهَا‬
‫عفَا اللّهُ عَ ْنهَا وَاللّهُ َ‬
‫حِينَ يُنَ ّزلُ ا ْلقُرْآنُ تُ ْبدَ َلكُمْ َ‬
‫كَافِرِينَ }‬

‫ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم‪ ،‬وذلك كسؤال بعض‬
‫المسلمين لرسول ال صلى ال عليه وسلم عن آبائهم‪ ،‬وعن حالهم في الجنة أو النار‪ ،‬فهذا ربما‬
‫أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير‪ ،‬وكسؤالهم للمور غير الواقعة‪.‬‬

‫وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت المة‪ ،‬وكالسؤال عما ل يعني‪،‬‬
‫فهذه السئلة‪ ،‬وما أشبهها هي المنهي عنها‪ ،‬وأما السؤال الذي ل يترتب عليه شيء من ذلك فهذا‬
‫مأمور به‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ }‬

‫{ وَإِنْ َتسْأَلُوا عَ ْنهَا حِينَ يُنَ ّزلُ ا ْلقُرْآنُ تُ ْبدَ َلكُمْ } أي‪ :‬وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل‬
‫عليكم القرآن‪ ،‬فتسألون عن آية أشكلت‪ ،‬أو حكم خفي وجهه عليكم‪ ،‬في وقت يمكن فيه نزول‬
‫الوحي من السماء‪ ،‬تبد لكم‪ ،‬أي‪ :‬تبين لكم وتظهر‪ ،‬وإل فاسكتوا عمّا سكت ال عنه‪.‬‬

‫عفَا اللّهُ عَ ْنهَا } أي‪ :‬سكت معافيا لعباده منها‪ ،‬فكل ما سكت ال عنه فهو مما أباحه وعفا عنه‪{ .‬‬
‫{ َ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ } أي‪ :‬لم يزل بالمغفرة موصوفا‪ ،‬وبالحلم والحسان معروفا‪ ،‬فتعرضوا لمغفرته‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫وإحسانه‪ ،‬واطلبوه من رحمته ورضوانه‪.‬‬

‫وهذه المسائل التي نهيتم عنها { َقدْ سَأََلهَا َقوْمٌ مِنْ قَبِْل ُكمْ } أي‪ :‬جنسها وشبهها‪ ،‬سؤال تعنت ل‬
‫استرشاد‪ .‬فلما بينت لهم وجاءتهم { َأصْبَحُوا ِبهَا كَافِرِينَ } كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحديث الصحيح‪" :‬ما نهيتكم عنه فاجتنبوه‪ ،‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم‪ ،‬فإنما أهلك من‬
‫كان قبلكم كثرة مسائلهم‪ ،‬واختلفهم على أنبيائهم"‪.‬‬

‫ج َعلَ اللّهُ مِنْ بَحِي َرةٍ وَلَا سَائِبَ ٍة وَلَا َوصِيلَ ٍة وَلَا حَا ٍم وََلكِنّ الّذِينَ َكفَرُوا‬
‫{ ‪ { } 104 - 103‬مَا َ‬
‫ب وََأكْثَرُهُمْ لَا َيعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا إِلَى مَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَإِلَى الرّسُولِ‬
‫َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬
‫قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ شَيْئًا وَلَا َيهْتَدُونَ }‬
‫هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به ال‪ ،‬وحرموا ما أحله ال‪ ،‬فجعلوا بآرائهم‬
‫الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما‪ ،‬على حسب اصطلحاتهم التي عارضت ما أنزل ال فقال‪ { :‬مَا‬
‫ج َعلَ اللّهُ مِنْ بَحِي َرةٍ } وهي‪ :‬ناقة يشقون أذنها‪ ،‬ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة‪.‬‬
‫َ‬

‫{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي‪ :‬ناقة‪ ،‬أو بقرة‪ ،‬أو شاة‪ ،‬إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه‪ ،‬سيبوها فل تركب ول‬
‫يحمل عليها ول تؤكل‪ ،‬وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة‪.‬‬

‫{ وَلَا حَامٍ } أي‪ :‬جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل‪ ،‬إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم‪.‬‬

‫فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ول برهان‪ .‬وإنما ذلك افتراء على ال‪ ،‬وصادرة‬
‫ب وََأكْثَرُهُمْ لَا‬
‫من جهلهم وعدم عقلهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬
‫َي ْعقِلُونَ } فل نقل فيها ول عقل‪ ،‬ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم‪.‬‬

‫علَيْهِ‬
‫حسْبُنَا مَا وَجَدْنَا َ‬
‫فإذا دعوا { إِلَى مَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَإِلَى الرّسُولِ } أعرضوا فلم يقبلوا‪ ،‬و { قَالُوا َ‬
‫آبَاءَنَا } من الدين‪ ،‬ولو كان غير سديد‪ ،‬ول دينًا ينجي من عذاب ال‪.‬‬

‫ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان المر‪ .‬ولكن آباءهم ل يعقلون شيئا‪ ،‬أي‪ :‬ليس‬
‫عندهم من المعقول شيء‪ ،‬ول من العلم والهدى شيء‪ .‬فتبا لمن قلد من ل علم عنده صحيح‪ ،‬ول‬
‫عقل رجيح‪ ،‬وترك اتباع ما أنزل ال‪ ،‬واتباع رسله الذي يمل القلوب علما وإيمانا‪ ,‬وهدى‪ ,‬وإيقانا‪.‬‬

‫ج ُعكُمْ‬
‫ضلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَ ْر ِ‬
‫ن َ‬
‫سكُمْ لَا َيضُ ّركُمْ مَ ْ‬
‫{ ‪ { } 105‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَ ْيكُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫جمِيعًا فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫َ‬

‫سكُمْ } أي‪ :‬اجتهدوا في إصلحها وكمالها وإلزامها‬


‫يقول تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَ ْيكُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫سلوك الصراط المستقيم‪ ،‬فإنكم إذا صلحتم ل يضركم من ضل عن الصراط المستقيم‪ ،‬ولم يهتد‬
‫إلى الدين القويم‪ ،‬وإنما يضر نفسه‪.‬‬

‫ول يدل هذا على أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ل يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما‪ ،‬فإنه‬
‫ل يتم هداه‪ ,‬إل بالتيان بما يجب عليه من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه‪ ،‬فإنه ل يضره ضلل غيره‪.‬‬
‫جمِيعًا } أي‪ :‬مآلكم يوم القيامة‪ ،‬واجتماعكم بين يدي ال تعالى‪.‬‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫وقوله‪ { :‬إِلَى اللّهِ مَ ْر ِ‬
‫{ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير وشر‪.‬‬

‫حضَرَ أَحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ حِينَ ا ْل َوصِيّةِ اثْنَانِ‬


‫شهَا َدةُ بَيْ ِنكُمْ ِإذَا َ‬
‫{ ‪ { } 108 - 106‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َ‬
‫َذوَا عَ ْدلٍ مِ ْنكُمْ َأوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْ ِركُمْ إِنْ أَنْ ُت ْم ضَرَبْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ فََأصَابَ ْتكُمْ ُمصِيبَةُ ا ْل َم ْوتِ‬
‫سمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْ ُتمْ لَا نَشْتَرِي ِبهِ َثمَنًا وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا َنكْتُمُ‬
‫تَحْ ِبسُو َنهُمَا مِنْ َبعْدِ الصّلَاةِ فَيُقْ ِ‬
‫حقّا إِ ْثمًا فَآخَرَانِ َيقُومَانِ َمقَا َمهُمَا مِنَ الّذِينَ‬
‫شهَا َدةَ اللّهِ إِنّا ِإذًا َلمِنَ الْآ ِثمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَ ّن ُهمَا اسْتَ َ‬
‫َ‬
‫شهَادَ ِت ِهمَا َومَا اعْتَدَيْنَا إِنّا ِإذًا َلمِنَ الظّاِلمِينَ *‬
‫شهَادَتُنَا َأحَقّ مِنْ َ‬
‫سمَانِ بِاللّهِ َل َ‬
‫اسْ َتحَقّ عَلَ ْي ِهمُ الَْأوْلَيَانِ فَ ُيقْ ِ‬
‫س َمعُوا‬
‫ج ِههَا َأوْ َيخَافُوا أَنْ تُرَدّ أَ ْيمَانٌ َب ْعدَ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَا ْ‬
‫شهَا َدةِ عَلَى وَ ْ‬
‫ذَِلكَ َأدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِال ّ‬
‫سقِينَ }‬
‫وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلفَا ِ‬

‫ت الموت‬
‫يخبر تعالى خبرا متضمنا للمر بإشهاد اثنين على الوصية‪ ،‬إذا حضر النسان مقدما ُ‬
‫وعلئمه‪ .‬فينبغي له أن يكتب وصيته‪ ،‬ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما‪.‬‬

‫{ َأوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْ ِر ُكمْ } أي‪ :‬من غير أهل دينكم‪ ،‬من اليهود أو النصارى أو غيرهم‪ ،‬وذلك عند‬
‫الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين‪.‬‬

‫{ إِنْ أَنْتُ ْم ضَرَبْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬سافرتم فيها { فََأصَابَ ْتكُمْ ُمصِيبَةُ ا ْل َموْتِ } أي‪ :‬فأشهدوهما‪ ،‬ولم‬
‫يأمر بشهادتهما إل لن قولهما في تلك الحال مقبول‪ ،‬ويؤكد عليهما‪ ،‬بأن يحبسا { مِنْ َب ْعدِ الصّلَاةِ }‬
‫التي يعظمونها‪.‬‬

‫سمَانِ بِاللّهِ } أنهما صدقا‪ ،‬وما غيرا ول بدل‪ ،‬هذا { إِنِ ارْتَبْتُمْ } في شهادتهما‪ ،‬فإن‬
‫{ فَ ُيقْ ِ‬
‫صدقتموهما‪ ،‬فل حاجة إلى القسم بذلك‪.‬‬

‫ويقولن‪ { :‬لَا نَشْتَرِي ِبهِ } أي‪ :‬بأيماننا { َثمَنًا } بأن نكذب فيها‪ ،‬لجل عرض من الدنيا‪ { .‬وََلوْ‬
‫شهَا َدةَ اللّهِ } بل نؤديها على ما سمعناها { إِنّا‬
‫كَانَ ذَا قُرْبَى } فل نراعيه لجل قربه منا { وَلَا َنكْتُمُ َ‬
‫إِذًا } أي‪ :‬إن كتمناها { َلمِنَ الْآ ِثمِينَ }‬

‫حقّا إِ ْثمًا } بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما‬


‫{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَ ّن ُهمَا } أي‪ :‬الشاهدين { اسْ َت َ‬
‫وأنهما خانا { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الوليان }‬

‫شهَادَتُنَا َأحَقّ‬
‫سمَانِ بِاللّهِ َل َ‬
‫أي‪ :‬فليقم رجلن من أولياء الميت‪ ،‬وليكونا من أقرب الولياء إليه‪ { .‬فَ ُيقْ ِ‬
‫شهَادَ ِت ِهمَا } أي‪ :‬أنهما كذبا‪ ،‬وغيرا وخانا‪َ { .‬ومَا اعْتَدَيْنَا إِنّا ِإذًا َلمِنَ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬إن ظلمنا‬
‫مِنْ َ‬
‫واعتدينا‪ ،‬وشهدنا بغير الحق‪.‬‬
‫قال ال تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها‪ ،‬وردها على أولياء الميت حين تظهر من‬
‫ج ِههَا } حين تؤكد عليهما‬
‫شهَا َدةِ عَلَى وَ ْ‬
‫الشاهدين الخيانة‪ { :‬ذَِلكَ َأدْنَى } أي‪ :‬أقرب { أَنْ يَأْتُوا بِال ّ‬
‫تلك التأكيدات‪َ { .‬أوْ يَخَافُوا أَنْ تُ َردّ أَ ْيمَانٌ َبعْدَ أَ ْيمَا ِن ِهمْ } أي‪ :‬أن ل تقبل أيمانهم‪ ،‬ثم ترد على أولياء‬
‫الميت‪.‬‬

‫صفُهم الفسق‪ ،‬فل يريدون الهدى والقصد إلى‬


‫سقِينَ } أي‪ :‬الذين و ْ‬
‫{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬
‫الصراط المستقيم‪.‬‬

‫وحاصل هذا‪ ،‬أن الميت ‪ -‬إذا حضره الموت في سفر ونحوه‪ ،‬مما هو مظنة قلة الشهود‬
‫المعتبرين‪ -‬أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين‪.‬‬

‫فإن لم يجد إل شاهدين كافرين‪ ،‬جاز أن يوصي إليهما‪ ،‬ولكن لجل كفرهما فإن الولياء إذا‬
‫ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلة‪ ،‬أنهما ما خانا‪ ،‬ول كذبا‪ ،‬ول غيرا‪ ،‬ول بدل‪ ،‬فيبرآن‬
‫بذلك من حق يتوجه إليهما‪.‬‬

‫فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين‪ ،‬فإن شاء أولياء الميت‪ ،‬فليقم منهم‬
‫اثنان‪ ،‬فيقسمان بال‪ :‬لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الولين‪ ،‬وأنهما خانا وكذبا‪ ،‬فيستحقون‬
‫منهما ما يدعون‪.‬‬

‫وهذه اليات الكريمة نزلت في قصة "تميم الداري" و "عدي بن بداء" المشهورة حين أوصى لهما‬
‫العدوي‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫ويستدل باليات الكريمات على عدة أحكام‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن الوصية مشروعة‪ ،‬وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنها معتبرة‪ ،‬ولو كان النسان وصل إلى مقدمات الموت وعلماته‪ ،‬ما دام عقله ثابتا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن شهادة الوصية لبد فيها من اثنين عدلين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة‪ ،‬وهذا مذهب المام‬
‫أحمد‪ .‬وزعم كثير من أهل العلم‪ :‬أن هذا الحكم منسوخ‪ ،‬وهذه دعوى ل دليل عليها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه‪ ،‬أن شهادة الكفار ‪-‬عند عدم غيرهم‪ ،‬حتى في غير‬
‫هذه المسألة‪ -‬مقبولة‪ ،‬كما ذهب إلى ذلك شيخ السلم ابن تيمية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز السفر للتجارة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الشاهدين ‪-‬إذا ارتيب منهما‪ ،‬ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما‪ ،‬وأراد الولياء‪ -‬أن‬
‫يؤكدوا عليهم اليمين‪ ،‬ويحبسوهما من بعد الصلة‪ ،‬فيقسمان بصفة ما ذكر ال تعالى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه إذا لم تحصل تهمة ول ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما‪ ،‬وتأكيد اليمين عليهما‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه‪ ،‬وأنه يجب العتناء بها والقيام بها‬
‫بالقسط‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما‪ ،‬وتفريقهما لينظر عن شهادتهما‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة ‪ -‬قام اثنان من أولياء‬
‫الميت فأقسما بال‪ :‬أن أيماننا أصدق من أيمانهما‪ ،‬ولقد خانا وكذبا‪.‬‬

‫ثم يدفع إليهما ما ادعياه‪ ،‬فتكون القرينة ‪-‬مع أيمانهما‪ -‬قائمة مقام البينة‪.‬‬

‫سلَ فَ َيقُولُ مَاذَا ُأجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِ ْلمَ لَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ‬
‫جمَعُ اللّهُ الرّ ُ‬
‫{ ‪َ { } 110 ، 109‬يوْمَ يَ ْ‬
‫ك وَعَلى وَاِلدَ ِتكَ إِذْ أَيّدْ ُتكَ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ ُتكَلّمُ‬
‫* إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ا ْذكُرْ ِن ْعمَتِي عَلَ ْي َ‬
‫ل وَإِذْ تَخُْلقُ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ‬
‫ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَا َة وَالْإِنْجِي َ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫النّاسَ فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْلًا وَإِذْ عَّلمْ ُتكَ ا ْلكِتَا َ‬
‫الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَ ْنفُخُ فِيهَا فَ َتكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْ ِرئُ الَْأ ْكمَ َه وَالْأَبْ َرصَ بِِإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ا ْل َموْتَى بِإِذْنِي‬
‫وَإِذْ َكفَ ْفتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَ ْنكَ إِذْ جِئْ َتهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ إِنْ َهذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ }‬

‫يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الهوال العظام‪ ،‬وأن ال يجمع به جميع الرسل فيسألهم‪{ :‬‬
‫مَاذَا ُأجِبْتُمْ } أي‪ :‬ماذا أجابتكم به أممكم‪.‬‬

‫علْمَ لَنَا } وإنما العلم لك يا ربنا‪ ،‬فأنت أعلم منا‪ { .‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ } أي‪ :‬تعلم‬
‫فـ { قَالُوا لَا ِ‬
‫المور الغائبة والحاضرة‪.‬‬

‫ك وَعَلى وَالِدَ ِتكَ } أي‪ :‬اذكرها بقلبك ولسانك‪ ،‬وقم‬


‫{ ِإذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ا ْذكُرْ ِن ْعمَتِي عَلَ ْي َ‬
‫بواجبها شكرا لربك‪ ،‬حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك‪.‬‬
‫{ ِإذْ أَيّدْ ُتكَ بِرُوحِ ا ْلقُ ُدسِ } أي‪ :‬إذ قويتك بالروح والوحي‪ ،‬الذي طهرك وزكاك‪ ،‬وصار لك قوة‬
‫على القيام بأمر ال والدعوة إلى سبيله‪ .‬وقيل‪ :‬إن المراد "بروح القدس" جبريل عليه السلم‪ ،‬وأن‬
‫ال أعانه به وبملزمته له‪ ،‬وتثبيته في المواطن المشقة‪.‬‬

‫{ ُتكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْلًا } المراد بالتكليم هنا‪ ،‬غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلم‪،‬‬
‫وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب‪ ،‬وهو الدعوة إلى ال‪.‬‬

‫ولعيسى عليه السلم من ذلك‪ ،‬ما لخوانه من أولي العزم من المرسلين‪ ،‬من التكليم في حال‬
‫الكهولة‪ ،‬بالرسالة والدعوة إلى الخير‪ ،‬والنهي عن الشر‪ ،‬وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد‪،‬‬
‫ت وََأ ْوصَانِي بِالصّلَاةِ‬
‫جعَلَنِي مُبَا َركًا أَيْنَ مَا كُ ْن ُ‬
‫جعَلَنِي نَبِيّا َو َ‬
‫فقال‪ { :‬إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ َو َ‬
‫وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا } الية‪.‬‬

‫ح ْكمَةَ } فالكتاب يشمل الكتب السابقة‪ ،‬وخصوصا التوراة‪ ،‬فإنه من أعلم‬


‫{ وَإِذْ عَّلمْ ُتكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬
‫أنبياء بني إسرائيل ‪-‬بعد موسى‪ -‬بها‪ .‬ويشمل النجيل الذي أنزله ال عليه‪.‬‬

‫والحكمة هي‪ :‬معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه‪ ،‬وحسن الدعوة والتعليم‪ ،‬ومراعاة ما ينبغي‪،‬‬
‫على الوجه الذي ينبغي‪.‬‬

‫{ وَإِذْ تَخُْلقُ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ } أي‪ :‬طيرا مصورا ل روح فيه‪ .‬فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن‬
‫ال‪ ،‬وتبرئ الكمه الذي ل بصر له ول عين‪ { .‬وَالْأَبْ َرصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ا ْل َموْتَى بِإِذْنِي } فهذه‬
‫آيات بيّنَات‪ ،‬ومعجزات باهرات‪ ،‬يعجز عنها الطباء وغيرهم‪ ،‬أيد ال بها عيسى وقوى بها‬
‫دعوته‪ { .‬وَإِذْ َكفَ ْفتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَ ْنكَ إِذْ جِئْ َتهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ } لما جاءهم الحق‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ } وهموا بعيسى أن يقتلوه‪ ،‬وسعوا في‬
‫مؤيدا بالبينات الموجبة لليمان به‪ { .‬إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫ذلك‪ ،‬فكفّ ال أيديهم عنه‪ ،‬وحفظه منهم وعصمه‪.‬‬

‫فهذه مِنَنٌ امتَنّ ال بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم‪ ،‬ودعاه إلى شكرها والقيام بها‪ ،‬فقام بها‬
‫عليه السلم أتم القيام‪ ،‬وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم‪.‬‬

‫حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنّا }‬


‫{ ‪ { } 120 - 111‬وَإِذْ َأ ْوحَ ْيتُ إِلَى الْ َ‬

‫إلى آخر اليات أي‪ :‬واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا‪ .‬فأوحيت إلى الحواريين‬
‫أي‪ :‬ألهمتهم‪ ،‬وأوزعت قلوبهم اليمان بي وبرسولي‪ ،‬أو أوحيت إليهم على لسانك‪ ،‬أي‪ :‬أمرتهم‬
‫بالوحي الذي جاءك من عند ال‪ ،‬فأجابوا لذلك وانقادوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬آمنا بال‪ ،‬واشهد بأننا مسلمون‪،‬‬
‫فجمعوا بين السلم الظاهر‪ ،‬والنقياد بالعمال الصالحة‪ ،‬واليمان الباطن المخرج لصاحبه من‬
‫النفاق ومن ضعف اليمان‪.‬‬

‫والحواريون هم‪ :‬النصار‪ ،‬كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم للحواريين‪ { :‬مَنْ أَ ْنصَارِي‬
‫حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ }‬
‫إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ‬

‫سمَاءِ } أي‪:‬‬
‫حوَارِيّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ َيمَ َهلْ يَسْ َتطِيعُ رَ ّبكَ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَيْنَا مَائِ َدةً مِنَ ال ّ‬
‫{ ِإذْ قَالَ الْ َ‬
‫مائدة فيها طعام‪ ،‬وهذا ليس منهم عن شك في قدرة ال‪ ،‬واستطاعته على ذلك‪ .‬وإنما ذلك من باب‬
‫العرض والدب منهم‪.‬‬

‫ولما كان سؤال آيات القتراح منافيا للنقياد للحق‪ ،‬وكان هذا الكلم الصادر من الحواريين ربما‬
‫أوهم ذلك‪ ،‬وعظهم عيسى عليه السلم فقال‪ { :‬ا ّتقُوا اللّهَ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ } فإن المؤمن يحمله ما‬
‫معه من اليمان على ملزمة التقوى‪ ،‬وأن ينقاد لمر ال‪ ،‬ول يطلب من آيات القتراح التي ل‬
‫يدري ما يكون بعدها شيئا‪.‬‬

‫فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى‪ ،‬وإنما لهم مقاصد صالحة‪ ،‬ولجل الحاجة إلى‬
‫طمَئِنّ قُلُوبُنَا }‬
‫ذلك فـ { قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَ ْأ ُكلَ مِ ْنهَا } وهذا دليل على أنهم محتاجون لها‪ { ،‬وَتَ ْ‬
‫باليمان حين نرى اليات العيانية‪ ،‬فيكون اليمان عين اليقين‪ ،‬كما كان قبل ذلك علم اليقين‪ .‬كما‬
‫سأل الخليل عليه الصلة والسلم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى { قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي } فالعبد محتاج إلى زيادة العلم واليقين واليمان كل وقت‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َنعْلَمَ أَنْ َقدْ‬
‫لِيَ ْ‬
‫صَ َدقْتَنَا } أي‪ :‬نعلم صدق ما جئت به‪ ،‬أنه حق وصدق‪ { ،‬وَ َنكُونَ عَلَ ْيهَا مِنَ الشّا ِهدِينَ } فتكون‬
‫مصلحة لمن بعدنا‪ ،‬نشهدها لك‪ ،‬فتقوم الحجة‪ ،‬ويحصل زيادة البرهان بذلك‪.‬‬

‫فلما سمع عيسى عليه الصلة والسلم ذلك‪ ،‬وعلم مقصودهم‪ ،‬أجابهم إلى طلبهم في ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سمَاءِ َتكُونُ لَنَا عِيدًا لَِأوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِ ْنكَ } أي‪ :‬يكون وقت‬
‫{ الّلهُمّ رَبّنَا أَنْ ِزلْ عَلَيْنَا مَا ِئ َدةً مِنَ ال ّ‬
‫نزولها عيدا وموسما‪ ،‬يتذكر به هذه الية العظيمة‪ ،‬فتحفظ ول تنسى على مرور الوقات وتكرر‬
‫السنين‪.‬‬

‫كما جعل ال تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لياته‪ ،‬ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم‬
‫القويمة‪ ،‬وفضله وإحسانه عليهم‪ { .‬وَارْ ُزقْنَا وَأَ ْنتَ خَيرُ الرّا ِزقِينَ } أي‪ :‬اجعلها لنا رزقا‪ ،‬فسأل‬
‫عيسى عليه السلم نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين‪ ،‬مصلحة الدين بأن تكون آية باقية‪،‬‬
‫ومصلحة الدنيا‪ ،‬وهي أن تكون رزقا‪.‬‬
‫حدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } لنه‬
‫{ قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزُّلهَا عَلَ ْيكُمْ َفمَنْ َي ْكفُرْ َب ْعدُ مِ ْنكُمْ فَإِنّي أُعَذّ ُبهُ عَذَابًا لَا أُعَذّ ُبهُ أَ َ‬
‫شاهد الية الباهرة وكفر عنادا وظلما‪ ،‬فاستحق العذاب الليم والعقاب الشديد‪ .‬واعلم أن ال تعالى‬
‫وعد أنه سينزلها‪ ،‬وتوعدهم ‪-‬إن كفروا‪ -‬بهذا الوعيد‪ ،‬ولم يذكر أنه أنزلها‪ ،‬فيحتمل أنه لم ينزلها‬
‫بسبب أنهم لم يختاروا ذلك‪ ،‬ويدل على ذلك‪ ،‬أنه لم يذكر في النجيل الذي بأيدي النصارى‪ ،‬ول‬
‫له وجود‪ .‬ويحتمل أنها نزلت كما وعد ال‪ ،‬وال ل يخلف الميعاد‪ ،‬ويكون عدم ذكرها في الناجيل‬
‫التي بأيديهم من الحظ الذي ذكروا به فنسوه‪.‬‬

‫أو أنه لم يذكر في النجيل أصل‪ ،‬وإنما ذلك كان متوارثا بينهم‪ ،‬ينقله الخلف عن السلف‪ ،‬فاكتفى‬
‫ال بذلك عن ذكره في النجيل‪ ،‬ويدل على هذا المعنى قوله‪ { :‬وَ َنكُونَ عَلَ ْيهَا مِنَ الشّا ِهدِينَ } وال‬
‫أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬

‫{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إَِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ } وهذا‬
‫توبيخ للنصارى الذين قالوا‪ :‬إن ال ثالث ثلثة‪ ،‬فيقول ال هذا الكلم لعيسى‪ .‬فيتبرأ عيسى ويقول‪:‬‬
‫{ سُبْحَا َنكَ } عن هذا الكلم القبيح‪ ،‬وعمّا ل يليق بك‪.‬‬

‫حقّ } أي‪ :‬ما ينبغي لي‪ ،‬ول يليق أن أقول شيئا ليس من‬
‫{ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِ َ‬
‫أوصافي ول من حقوقي‪ ،‬فإنه ليس أحد من المخلوقين‪ ،‬ل الملئكة المقربون ول النبياء‬
‫المرسلون ول غيرهم له حق ول استحقاق لمقام اللهية وإنما الجميع عباد‪ ،‬مدبرون‪ ،‬وخلق‬
‫سكَ }‬
‫مسخرون‪ ،‬وفقراء عاجزون { إِنْ كُ ْنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي وَلَا أَعَْلمُ مَا فِي َنفْ ِ‬
‫فأنت أعلم بما صدر مني و { إِ ّنكَ أَ ْنتَ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ } وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلة‬
‫والسلم في خطابه لربه‪ ،‬فلم يقل عليه السلم‪" :‬لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلم ينفي عن‬
‫نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف‪ ،‬وأن هذا من المور المحالة‪ ،‬ونزه ربه عن ذلك‬
‫أتم تنزيه‪ ،‬ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة‪.‬‬

‫ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل‪ ،‬فقال‪ { :‬مَا قُ ْلتُ َلهُمْ إِلّا مَا َأمَرْتَنِي بِهِ } فأنا عبد متبع‬
‫لمرك‪ ،‬ل متجرئ على عظمتك‪ { ،‬أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ } أي‪ :‬ما أمرتهم إل بعبادة ال‬
‫وحده وإخلص الدين له‪ ،‬المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون ال‪ ،‬وبيان أني عبد‬
‫مربوب‪ ،‬فكما أنه ربكم فهو ربي‪.‬‬

‫شهِيدًا مَا ُد ْمتُ فِيهِمْ } أشهد على من قام بهذا المر‪ ،‬ممن لم يقم به‪ { .‬فََلمّا َت َوفّيْتَنِي‬
‫{ َوكُ ْنتُ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫شهِيدٌ }‬
‫شيْءٍ َ‬
‫كُ ْنتَ أَ ْنتَ ال ّرقِيبَ عَلَ ْي ِهمْ } أي‪ :‬المطلع على سرائرهم وضمائرهم‪ { .‬وَأَ ْنتَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫علما وسمعا وبصرا‪ ،‬فعلمك قد أحاط بالمعلومات‪ ،‬وسمعك بالمسموعات‪ ،‬وبصرك بالمبصرات‪،‬‬
‫فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر‪.‬‬
‫{ إِنْ ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ } وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم‪ ،‬فلول أنهم عباد متمردون‬
‫حكِيمُ } أي‪ :‬فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة‪،‬‬
‫لم تعذبهم‪ { .‬وَإِنْ َت ْغفِرْ َلهُمْ فَإِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫ل كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة‪.‬‬

‫الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة‪.‬‬

‫{ قَالَ اللّهُ } مبينا لحال عباده يوم القيامة‪ ،‬ومَن الفائز منهم ومَن الهالك‪ ،‬ومَن الشقي ومَن السعيد‪،‬‬
‫ن صِ ْد ُقهُمْ } والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على‬
‫{ هَذَا َيوْمُ يَ ْنفَعُ الصّا ِدقِي َ‬
‫الصراط المستقيم والهدْي القويم‪ ،‬فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق‪ ،‬إذا أحلهم ال في مقعد‬
‫ضيَ‬
‫صدق عند مليك مقتدر‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ل ُهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا َر ِ‬
‫اللّهُ عَ ْن ُه ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } والكاذبون بضدهم‪ ،‬سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم‪،‬‬
‫وثمرة أعمالهم الفاسدة‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } لنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري‪ ،‬وحكمه الشرعي‪،‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } فل يعجزه شيء‪ ،‬بل جميع الشياء‬
‫وحكمه الجزائي‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫منقادة لمشيئته‪ ،‬ومسخرة بأمره‪.‬‬

‫تم تفسير سورة المائدة بفضل من ال وإحسان‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‬

‫تفسير سورة النعام‬


‫وهي مكية‬

‫ج َعلَ الظُّلمَاتِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َو َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 2 ، 1‬بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫سمّى عِ ْن َدهُ‬
‫جلٌ ُم َ‬
‫وَالنّورَ ُثمّ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ َي ْعدِلُونَ * ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمّ َقضَى أَجَلًا وََأ َ‬
‫ثُمّ أَنْ ُتمْ َتمْتَرُونَ }‬

‫هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال‪ ،‬ونعوت العظمة والجلل عموما‪ ،‬وعلى هذه‬
‫المذكورات خصوصا‪ .‬فحمد نفسه على خلقه السماوات والرض‪ ،‬الدالة على كمال قدرته‪ ،‬وسعة‬
‫علمه ورحمته‪ ،‬وعموم حكمته‪ ،‬وانفراده بالخلق والتدبير‪ ،‬وعلى جعله الظلمات والنور‪ ،‬وذلك‬
‫شامل للحسي من ذلك‪ ،‬كالليل والنهار‪ ،‬والشمس والقمر‪ .‬والمعنوي‪ ،‬كظلمات الجهل‪ ،‬والشك‪،‬‬
‫والشرك‪ ،‬والمعصية‪ ،‬والغفلة‪ ،‬ونور العلم واليمان‪ ،‬واليقين‪ ،‬والطاعة‪ ،‬وهذا كله‪ ،‬يدل دللة قاطعة‬
‫أنه تعالى‪ ،‬هو المستحق للعبادة‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬ومع هذا الدليل ووضوح البرهان { ثُمّ الّذِينَ‬
‫َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ َي ْعدِلُونَ } أي يعدلون به سواه‪ ،‬يسوونهم به في العبادة والتعظيم‪ ،‬مع أنهم لم يساووا‬
‫ال في شيء من الكمال‪ ،‬وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه‪.‬‬

‫خَلقَكُمْ مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلم‪ { .‬ثُمّ َقضَى أَجَلًا } أي‪:‬‬
‫{ ُهوَ الّذِي َ‬
‫ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجل‪ ،‬تتمتعون به وتمتحنون‪ ،‬وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله‪.‬‬
‫سمّى عِ ْن َدهُ } وهي‪ :‬الدار‬
‫جلٌ ُم َ‬
‫عمَلًا } ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر‪ { .‬وََأ َ‬
‫{ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ‬
‫الخرة‪ ،‬التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار‪ ،‬فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر‪.‬‬

‫{ ُثمّ } مع هذا البيان التام وقطع الحجة { أَنْ ُتمْ َتمْتَرُونَ } أي‪ :‬تشكون في وعد ال ووعيده‪ ،‬ووقوع‬
‫الجزاء يوم القيامة‪.‬‬

‫وذكر ال الظلمات بالجمع‪ ،‬لكثرة موادها وتنوع طرقها‪ .‬ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى‬
‫ال واحدة ل تعدد فيها‪ ،،‬وهي‪ :‬الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَأَنّ‬
‫هَذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيمًا فَاتّ ِبعُو ُه وَلَا تَتّ ِبعُوا السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }‬

‫جهْ َر ُك ْم وَ َيعْلَمُ مَا َتكْسِبُونَ }‬


‫سمَاوَاتِ َوفِي الْأَ ْرضِ َيعْلَمُ سِ ّركُ ْم وَ َ‬
‫{ ‪ { } 3‬وَ ُهوَ اللّهُ فِي ال ّ‬

‫أي‪ :‬وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الرض‪ ،‬فأهل السماء والرض‪ ،‬متعبدون لربهم‪،‬‬
‫خاضعون لعظمته‪ ،‬مستكينون لعزه وجلله‪ ،‬الملئكة المقربون‪ ،‬والنبياء والمرسلون‪،‬‬
‫والصديقون‪ ،‬والشهداء والصالحون‪.‬‬

‫وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون‪ ،‬فاحذروا معاصيه وارغبوا في العمال التي‬
‫تقربكم منه‪ ،‬وتدنيكم من رحمته‪ ،‬واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته‪.‬‬

‫حقّ َلمّا‬
‫{ ‪َ { } 6 - 4‬ومَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَ ّب ِهمْ إِلّا كَانُوا عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ * فَقَدْ كَذّبُوا بِالْ َ‬
‫سوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ * أَلَمْ يَ َروْا كَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبِْلهِمْ مِنْ قَرْنٍ َمكّنّا ُهمْ‬
‫جَاءَهُمْ َف َ‬
‫جعَلْنَا الْأَ ْنهَارَ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهِمْ‬
‫سمَاءَ عَلَ ْيهِمْ مِدْرَارًا وَ َ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ مَا لَمْ ُن َمكّنْ َلكُ ْم وَأَ ْرسَلْنَا ال ّ‬
‫فَأَهَْلكْنَاهُمْ بِذُنُو ِبهِ ْم وَأَنْشَأْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }‬

‫هذا إخبار منه تعالى عن إعراض المشركين‪ ،‬وشدة تكذيبهم وعداوتهم‪ ،‬وأنهم ل تنفع فيهم اليات‬
‫حتى تحل بهم المثلت‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَ ّبهِم } الدالة على الحق دللة قاطعة‪،‬‬
‫الداعية لهم إلى اتباعه وقبوله { إِلّا كَانُوا عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِين } ل يلقون لها بال‪ ،‬ول يصغون لها‬
‫سمعا‪ ،‬قد انصرفت قلوبهم إلى غيرها‪ ،‬وولوها أدبارَهم‪.‬‬

‫حقّ َلمّا جَاءَهُمْ } والحق حقه أن يتبع‪ ،‬ويشكر ال على تيسيره لهم‪ ،‬وإتيانهم به‪،‬‬
‫{ َفقَدْ َكذّبُوا بِالْ َ‬
‫سوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ‬
‫فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد‪َ { .‬ف َ‬
‫يَسْ َتهْزِئُونَ } أي‪ :‬فسوف يرون ما استهزأوا به‪ ،‬أنه الحق والصدق‪ ،‬ويبين ال للمكذبين كذبهم‬
‫وافتراءهم‪ ،‬وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين‪ { :‬هَ ِذهِ‬
‫النّارُ الّتِي كُنتُم ِبهَا ُت َكذّبُونَ }‬

‫حقّا وََلكِنّ َأكْثَرَ‬


‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَا يَ ْب َعثُ اللّهُ مَنْ َيمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَ ْيهِ َ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫وقال تعالى‪ { :‬وََأقْ َ‬
‫النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ لِيُبَيّنَ َل ُهمُ الّذِي َيخْتَِلفُونَ فِي ِه وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } ثم أمرهم أن‬
‫يعتبروا بالمم السالفة فقال‪ { :‬أَلَمْ يَ َروْا َكمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبِْل ِهمْ مِنْ قَرْنٍ } أي‪ :‬كم تتابع إهلكنا للمم‬
‫المكذبين‪ ،‬وأمهلناهم قبل ذلك الهلك‪ ،‬بأن { َمكّنّا ُهمْ فِي الْأَ ْرضِ مَا لَمْ ُن َمكّنْ } لهؤلء من الموال‬
‫والبنين والرفاهية‪.‬‬

‫جعَلْنَا الْأَ ْنهَارَ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمْ } فينبت لهم بذلك ما شاء ال‪ ،‬من‬
‫علَ ْيهِمْ مِدْرَارًا وَ َ‬
‫سمَاءَ َ‬
‫{ وَأَرْسَلْنَا ال ّ‬
‫زروع وثمار‪ ،‬يتمتعون بها‪ ،‬ويتناولون منها ما يشتهون‪ ،‬فلم يشكروا ال على نعمه‪ ،‬بل أقبلوا على‬
‫الشهوات‪ ،‬وألهتهم أنواع اللذات‪ ،‬فجاءتهم رسلهم بالبينات‪ ،‬فلم يصدقوها‪ ،‬بل ردوها وكذبوها‬
‫فأهلكهم ال بذنوبهم وأنشأ { مِنْ َبعْدِ ِهمْ قَرْنًا آخَرِينَ }‬

‫فهذه سنة ال ودأبه‪ ،‬في المم السابقين واللحقين‪ ،‬فاعتبروا بمن قص ال عليكم نبأهم‪.‬‬

‫سحْرٌ‬
‫{ ‪ { } 9 - 7‬وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فََل َمسُوهُ بِأَ ْيدِيهِمْ َلقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫جعَلْنَاهُ مََلكًا‬
‫ك وََلوْ أَنْزَلْنَا مََلكًا َل ُقضِيَ الَْأمْرُ ثُمّ لَا يُنْظَرُونَ *وََلوْ َ‬
‫مُبِينٌ * َوقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ مََل ٌ‬
‫جعَلْنَاهُ َرجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْي ِهمْ مَا يَلْبِسُونَ }‬
‫لَ َ‬

‫هذا إخبار من ال لرسوله عن شدة عناد الكافرين‪ ،‬وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به‪ ،‬ول‬
‫لجهل منهم بذلك‪ ،‬وإنما ذلك ظلم وبغي‪ ،‬ل حيلة لكم فيه‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابًا فِي‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ }‬
‫قِرْطَاسٍ فََل َمسُوهُ بِأَ ْيدِيهِمْ } وتيقنوه { َلقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا } ظلما وعلوا { إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬

‫فأي بينة أعظم من هذه البينة‪ ،‬وهذا قولهم الشنيع فيها‪ ،‬حيث كابروا المحسوس الذي ل يمكن مَن‬
‫له أدنى مسكة مِن عقل دفعه؟"‬
‫{ َوقَالُوا } أيضا تعنتا مبنيا على الجهل‪ ،‬وعدم العلم بالمعقول‪َ { .‬لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ مََلكٌ } أي‪ :‬هل‬
‫أنزل مع محمد ملك‪ ،‬يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر‪ ،‬وأن رسالة ال‪ ،‬ل تكون‬
‫إل على أيدي الملئكة‪.‬‬

‫قال ال في بيان رحمته ولطفه بعباده‪ ،‬حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون اليمان بما جاء به‪ ،‬عن‬
‫علم وبصيرة‪ ،‬وغيب‪ { .‬وََلوْ أَنْ َزلْنَا مََلكًا } برسالتنا‪ ،‬لكان اليمان ل يصدر عن معرفة بالحق‪،‬‬
‫ولكان إيمانا بالشهادة‪ ،‬الذي ل ينفع شيئا وحده‪ ،‬هذا إن آمنوا‪ ،‬والغالب أنهم ل يؤمنون بهذه‬
‫الحالة‪ ،‬فإذا لم يؤمنوا قضي المر بتعجيل الهلك عليهم وعدم إنظارهم‪ ،‬لن هذه سنة ال‪ ،‬فيمن‬
‫طلب اليات المقترحة فلم يؤمن بها‪ ،‬فإرسال الرسول البشري إليهم باليات البينات‪ ،‬التي يعلم ال‬
‫أنها أصلح للعباد‪ ،‬وأرفق بهم‪ ،‬مع إمهال ال للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع‪ ،‬فطلبُهم لنزال‬
‫الملك شر لهم لو كانوا يعلمون‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فالملك لو أنزل عليهم‪ ،‬وأرسل‪ ،‬لم يطيقوا التلقي عنه‪،‬‬
‫ول احتملوا ذلك‪ ،‬ول أطاقته قواهم الفانية‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُ رَجُلًا } لن الحكمة ل تقتضي سوى ذلك‪ { .‬وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }‬
‫جعَلْنَاهُ مََلكًا َل َ‬
‫{ وََلوْ َ‬
‫أي‪ :‬ولكان المر‪ ،‬مختلطا عليهم‪ ،‬وملبوسا وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم‪ ،‬فإنهم بنوا أمرهم‬
‫على هذه القاعدة التي فيها اللبس‪ ،‬وبها عدم بيان الحق‪.‬‬

‫فلما جاءهم الحق‪ ،‬بطرقه الصحيحة‪ ،‬وقواعده التي هي قواعده‪ ،‬لم يكن ذلك هداية لهم‪ ،‬إذا اهتدى‬
‫بذلك غيرهم‪ ،‬والذنب ذنبهم‪ ،‬حيث أغلقوا على أنفسهم باب الهدى‪ ،‬وفتحوا أبواب الضلل‪.‬‬

‫سلٍ مِنْ قَبِْلكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِ ْنهُمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ‬
‫{ ‪ { } 11 ، 10‬وَلَقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِرُ ُ‬
‫* ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ ثُمّ ا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ }‬

‫سلٍ مِنْ قَبِْلكَ }‬


‫يقول تعالى مسليا لرسوله ومصبرا‪ ،‬ومتهددا أعداءه ومتوعدا‪ { .‬وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِرُ ُ‬
‫لما جاءوا أممهم بالبينات‪ ،‬كذبوهم واستهزأوا بهم وبما جاءوا به‪ .‬فأهلكهم ال بذلك الكفر‬
‫والتكذيب‪ ،‬ووفى لهم من العذاب أكمل نصيب‪ { .‬فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِ ْنهُمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ‬
‫} فاحذروا ‪-‬أيها المكذبون‪ -‬أن تستمروا على تكذيبكم‪ ،‬فيصيبكم ما أصابهم‪.‬‬

‫فإن شككتم في ذلك‪ ،‬أو ارتبتم‪ ،‬فسيروا في الرض‪ ،‬ثم انظروا‪ ،‬كيف كان عاقبة المكذبين‪ ،‬فلن‬
‫تجدوا إل قوما مهلكين‪ ،‬وأمما في المثلت تالفين‪ ،‬قد أوحشت منهم المنازل‪ ،‬وعدم من تلك الربوع‬
‫كل متمتع بالسرور نازل‪ ،‬أبادهم الملك الجبار‪ ،‬وكان بناؤهم عبرة لولي البصار‪ .‬وهذا السير‬
‫المأمور به‪ ،‬سير القلوب والبدان‪ ،‬الذي يتولد منه العتبار‪ .‬وأما مجرد النظر من غير اعتبار‪،‬‬
‫فإن ذلك ل يفيد شيئا‪.‬‬

‫ج َمعَ ّنكُمْ إِلَى َيوْمِ‬


‫حمَةَ لَ َي ْ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ُقلْ لِلّهِ كَ َتبَ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ُ { } 12‬قلْ ِلمَنْ مَا فِي ال ّ‬
‫سهُمْ َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ الّذِينَ َ‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم { ُقلْ } لهؤلء المشركين بال‪ ،‬مقررا لهم وملزما بالتوحيد‪:‬‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬مَن الخالق لذلك‪ ،‬المالك له‪ ،‬المتصرف فيه؟‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ِلمَنْ مَا فِي ال ّ‬

‫{ ُقلْ } لهم‪ { :‬لِلّهِ } وهم مقرون بذلك ل ينكرونه‪ ،‬أفل حين اعترفوا بانفراد ال بالملك والتدبير‪،‬‬
‫أن يعترفوا له بالخلص والتوحيد؟"‪.‬‬

‫حمَةَ } أي‪ :‬العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره‪ ،‬وهو تعالى قد‬
‫وقوله { كَ َتبَ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫بسط عليهم رحمته وإحسانه‪ ،‬وتغمدهم برحمته وامتنانه‪ ،‬وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب‬
‫غضبه‪ ،‬وأن العطاء أحب إليه من المنع‪ ،‬وأن ال قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة‪ ،‬إن لم يغلقوا‬
‫عليهم أبوابها بذنوبهم‪ ،‬ودعاهم إليها‪ ،‬إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم‪ ،‬وقوله‬
‫ج َمعَ ّنكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ } وهذا قسم منه‪ ،‬وهو أصدق المخبرين‪ ،‬وقد أقام على ذلك‬
‫{ لَ َي ْ‬
‫من الحجج والبراهين‪ ،‬ما يجعله حق اليقين‪ ،‬ولكن أبى الظالمون إل جحودا‪ ،‬وأنكروا قدرة ال‬
‫على بعث الخلئق‪ ،‬فأوضعوا في معاصيه‪ ،‬وتجرءوا على الكفر به‪ ،‬فخسروا دنياهم وأخراهم‪،‬‬
‫سهُمْ َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫ولهذا قال‪ { :‬الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * ُقلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا‬


‫سكَنَ فِي اللّ ْيلِ وَال ّنهَا ِر وَ ُهوَ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 20 - 13‬وَلَهُ مَا َ‬
‫طعَمُ ُقلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ َأسْلَ َم وَلَا َتكُونَنّ مِنَ‬
‫طعِمُ وَلَا يُ ْ‬
‫ض وَ ُهوَ يُ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫فَاطِرِ ال ّ‬
‫حمَهُ‬
‫عظِيمٍ * مَنْ ُيصْرَفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ رَ ِ‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ * ُقلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫سكَ ِبخَيْرٍ َف ُهوَ عَلَى ُكلّ‬
‫شفَ لَهُ إِلّا ُه َو وَإِنْ َيمْسَ ْ‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَا كَا ِ‬
‫وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ * وَإِنْ َيمْسَ ْ‬
‫شهِيدٌ‬
‫شهَا َدةً ُقلِ اللّهُ َ‬
‫شيْءٍ َأكْبَرُ َ‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ * ُقلْ َأيّ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫َ‬
‫شهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آِلهَةً ُأخْرَى ُقلْ‬
‫حيَ إَِليّ َهذَا ا ْلقُرْآنُ لِأُ ْنذِ َركُمْ ِب ِه َومَنْ بََلغَ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْ‬
‫بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ وَأُو ِ‬
‫ش َهدُ ُقلْ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَ ٌه وَاحِ ٌد وَإِنّنِي بَرِيءٌ ِممّا تُشْ ِركُونَ * الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا‬
‫لَا أَ ْ‬
‫سهُمْ َف ُهمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬

‫اعلم أن هذه السورة الكريمة‪ ،‬قد اشتملت على تقرير التوحيد‪ ،‬بكل دليل عقلي ونقلي‪ ،‬بل كادت أن‬
‫تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بال المكذبين لرسوله‪.‬‬
‫سكَنَ‬
‫فهذه اليات‪ ،‬ذكر ال فيها ما يتبين به الهدى‪ ،‬وينقمع به الشرك‪ .‬فذكر أن { َلهُ } تعالى { مَا َ‬
‫فِي اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ } وذلك هو المخلوقات كلها‪ ،‬من آدميها‪ ،‬وجِنّها‪ ،‬وملئكتها‪ ،‬وحيواناتها‬
‫وجماداتها‪ ،‬فالكل خلق مدبرون‪ ،‬وعبيد مسخرون لربهم العظيم‪ ،‬القاهر المالك‪ ،‬فهل يصح في عقل‬
‫ونقل‪ ،‬أن يعبد مِن هؤلء المماليك‪ ،‬الذي ل نفع عنده ول ضر؟ ويترك الخلص للخالق‪ ،‬المدبر‬
‫المالك‪ ،‬الضار النافع؟! أم العقول السليمة‪ ،‬والفطر المستقيمة‪ ،‬تدعو إلى إخلص العبادة‪ ،‬والحب‪،‬‬
‫والخوف‪ ،‬والرجاء ل رب العالمين؟!‪.‬‬

‫سمِيعُ } لجميع الصوات‪ ،‬على اختلف اللغات‪ ،‬بتفنن الحاجات‪ { .‬ا ْلعَلِيمُ } بما كان‪ ،‬وما‬
‫{ ال ّ‬
‫يكون‪ ،‬وما لم يكن لو كان كيف كان يكون‪ ،‬المطلع على الظواهر والبواطن؟!‪.‬‬

‫خ ُذ وَلِيّا } من هؤلء المخلوقات العاجزة يتولني‪،‬‬


‫{ ُقلْ } لهؤلء المشركين بال‪ { :‬أَغَيْرَ اللّهِ أَتّ ِ‬
‫وينصرني؟!‪.‬‬

‫فل أتخذ من دونه تعالى وليا‪ ،‬لنه فاطر السماوات والرض‪ ،‬أي‪ :‬خالقهما ومدبرهما‪ { .‬وَ ُهوَ‬
‫طعَمُ } أي‪ :‬وهو الرزاق لجميع الخلق‪ ،‬من غير حاجة منه تعالى إليهم‪ ،‬فكيف يليق أن‬
‫طعِمُ وَلَا يُ ْ‬
‫يُ ْ‬
‫أتخذ وليا غير الخالق الرزاق‪ ،‬الغني الحميد؟" { ُقلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ َأسْلَمَ } ل‬
‫بالتوحيد‪ ،‬وانقاد له بالطاعة‪ ،‬لني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي‪.‬‬

‫{ وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } أي‪ :‬ونهيت أيضا‪ ،‬عن أن أكون من المشركين‪ ،‬ل في اعتقادهم‪ ،‬ول‬
‫في مجالستهم‪ ،‬ول في الجتماع بهم‪ ،‬فهذا أفرض الفروض عليّ‪ ،‬وأوجب الواجبات‪.‬‬

‫عظِيمٍ } فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في‬


‫عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫{ ُقلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫النار‪ ،‬وسخطَ الجبار‪ .‬وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه‪ ،‬ويُحذر عقابه؛ لنه مَن صُرف عنه‬
‫العذاب يومئذ فهو المرحوم‪ ،‬ومن نجا فيه فهو الفائز حقا‪ ،‬كما أن من لم ينج منه فهو الهالك‬
‫الشقي‪.‬‬

‫ومن أدلة توحيده‪ ،‬أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء‪ ،‬وجلب الخير والسراء‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِنْ‬
‫شفَ لَهُ إِلّا ُهوَ‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ } من فقر‪ ،‬أو مرض‪ ،‬أو عسر‪ ،‬أو غم‪ ،‬أو هم أو نحوه‪ { .‬فَلَا كَا ِ‬
‫َيمْسَ ْ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } فإذا كان وحده النافع الضار‪ ،‬فهو الذي يستحق أن‬
‫سكَ ِبخَيْرٍ َف ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وَإِنْ َيمْسَ ْ‬
‫يفرد بالعبودية واللهية‪.‬‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ } فل يتصرف منهم متصرف‪ ،‬ول يتحرك متحرك‪ ،‬ول يسكن ساكن‪ ،‬إل‬
‫بمشيئته‪ ،‬وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه‪ ،‬بل هم مدبرون مقهورون‪ ،‬فإذا كان‬
‫هو القاهر وغيره مقهورا‪ ،‬كان هو المستحق للعبادة‪.‬‬

‫حكِيمُ } فيما أمر به ونهى‪ ،‬وأثاب‪ ،‬وعاقب‪ ،‬وفيما خلق وقدر‪ { .‬الْخَبِيرُ } المطلع على‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫السرائر والضمائر وخفايا المور‪ ،‬وهذا كله من أدلة التوحيد‪.‬‬

‫شهَا َدةً } على هذا‬


‫شيْءٍ َأكْبَرُ َ‬
‫{ ُقلْ } لهم ‪-‬لما بينا لهم الهدى‪ ،‬وأوضحنا لهم المسالك‪َ { :-‬أيّ َ‬
‫شهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ } فل أعظم منه شهادة‪ ،‬ول‬
‫الصل العظيم‪ُ { .‬قلِ اللّهُ } أكبر شهادة‪ ،‬فهو { َ‬
‫أكبر‪ ،‬وهو يشهد لي بإقراره وفعله‪ ،‬فيقرني على ما قلت لكم‪ ،‬كما قال تعالى { وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ } فال حكيم قدير‪ ،‬فل يليق بحكمته وقدرته‬
‫َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ لََأخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ ثُمّ َلقَ َ‬
‫أن يقر كاذبا عليه‪ ،‬زاعما أن ال أرسله ولم يرسله‪ ،‬وأن ال أمره بدعوة الخلق ولم يأمره‪ ،‬وأن ال‬
‫أباح له دماء من خالفه‪ ،‬وأموالهم ونساءهم‪ ،‬وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله‪ ،‬فيؤيده على ما‬
‫قال بالمعجزات الباهرة‪ ،‬واليات الظاهرة‪ ،‬وينصره‪ ،‬ويخذل من خالفه وعاداه‪ ،‬فأي‪ :‬شهادة أكبر‬
‫من هذه الشهادة؟"‬

‫حيَ إَِليّ هَذَا ا ْلقُرْآنُ لِأُنْذِ َركُمْ ِب ِه َومَنْ بَلَغَ } أي وأوحى ال إليّ هذا القرآن الكريم‬
‫وقوله‪ { :‬وَأُو ِ‬
‫لمنفعتكم ومصلحتكم‪ ،‬لنذركم به من العقاب الليم‪ .‬والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به‪ ،‬من‬
‫الترغيب‪ ،‬والترهيب‪ ،‬وببيان العمال‪ ،‬والقوال‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ ،‬التي مَن قام بها‪ ،‬فقد قبل‬
‫النذارة‪ ،‬فهذا القرآن‪ ،‬فيه النذارة لكم أيها المخاطبون‪ ،‬وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة‪ ،‬فإن‬
‫فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب اللهية‪.‬‬

‫لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده‪ ،‬قال‪ :‬قل لهؤلء المعارضين لخبر‬
‫ش َهدُ } أي‪ :‬إن شهدوا‪ ،‬فل‬
‫شهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آِلهَةً ُأخْرَى ُقلْ لَا أَ ْ‬
‫ال‪ ،‬والمكذبين لرسله { أَئِ ّن ُكمْ لَتَ ْ‬
‫تشهد معهم‪.‬‬

‫فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين‪ ،‬ورب العالمين‪ ،‬وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة‬
‫والحجج الساطعة‪ ،‬على توحيد ال وحده ل شريك له‪ ،‬وشهادة أهل الشرك‪ ،‬الذين مرجت عقولهم‬
‫وأديانهم‪ ،‬وفسدت آراؤهم وأخلقهم‪ ،‬وأضحكوا على أنفسهم العقلء‪.‬‬

‫بل خالفوا بشهادة فطرهم‪ ،‬وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع ال آلهة أخرى‪ ،‬مع أنه ل يقوم‬
‫على ما قالوه أدنى شبهة‪ ،‬فضل عن الحجج‪ ،‬واختر لنفسك أي‪ :‬الشهادتين‪ ،‬إن كنت تعقل‪ ،‬ونحن‬
‫نختار لنفسنا ما اختاره ال لنبيه‪ ،‬الذي أمرنا ال بالقتداء به‪ ،‬فقال‪ُ { :‬قلْ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَ ٌه وَاحِدٌ } أي‪:‬‬
‫منفرد‪ ،‬ل يستحق العبودية واللهية سواه‪ ،‬كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير‪.‬‬

‫{ وَإِنّنِي بَرِيءٌ ِممّا تُشْ ِركُونَ } به‪ ،‬من الوثان‪ ،‬والنداد‪ ،‬وكل ما أشرك به مع ال‪ .‬فهذا حقيقة‬
‫التوحيد‪ ،‬إثبات اللهية ل ونفيها عما عداه‪.‬‬

‫لما بيّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد‪ ،‬وشهادةَ المشركين الذين ل علم لديهم على ضده‪،‬‬
‫ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى‪َ { .‬يعْ ِرفُونَهُ } أي‪ :‬يعرفون صحة التوحيد { َكمَا َيعْ ِرفُونَ‬
‫أَبْنَاءَ ُهمْ } أي‪ :‬ل شك عندهم فيه بوجه‪ ،‬كما أنهم ل يشتبهون بأولدهم‪ ،‬خصوصا البنين الملزمين‬
‫في الغالب لبائهم‪.‬‬

‫ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن أهل الكتاب ل يشتبهون‬
‫بصحة رسالته ول يمترون بها‪ ،‬لما عندهم من البشارات به‪ ،‬ونعوته التي تنطبق عليه ول تصلح‬
‫لغيره‪ ،‬والمعنيان متلزمان‪.‬‬

‫سهُمْ } أي‪ :‬فوتوها ما خلقت له‪ ،‬من اليمان والتوحيد‪ ،‬وحرموها الفضل‬
‫قوله { الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫من الملك المجيد { َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ } فإذا لم يوجد اليمان منهم‪ ،‬فل تسأل عن الخسار والشر‪ ،‬الذي‬
‫يحصل لهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 21‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَا ِتهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬ل أعظم ظلما وعنادا‪ ،‬ممن كان فيه أحد الوصفين‪ ،‬فكيف لو اجتمعا‪ ،‬افتراء الكذب على ال‪،‬‬
‫أو التكذيب بآياته‪ ،‬التي جاءت بها المرسلون‪ ،‬فإن هذا أظلم الناس‪ ،‬والظالم ل يفلح أبدا‪.‬‬

‫ويدخل في هذا‪ ،‬كل من كذب على ال‪ ،‬بادعاء الشريك له والعوين‪ ،‬أو [زعم] أنه ينبغي أن يعبد‬
‫غيره أو اتخذ له صاحبة أو ولدا‪ ،‬وكل من رد الحق الذي جاءت به الرسل أو مَنْ قام مقامهم‪.‬‬

‫عمُونَ‬
‫جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ َأشْ َركُوا أَيْنَ شُ َركَا ُؤكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْ ُ‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 24 - 22‬وَ َيوْمَ نَ ْ‬
‫ضلّ‬
‫سهِمْ وَ َ‬
‫* ثُمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ * انْظُرْ كَ ْيفَ كَذَبُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬
‫يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك يوم القيامة‪ ،‬وأنهم يسألون ويوبخون فيقال لهم { أَيْنَ شُ َركَا ُؤكُمُ‬
‫عمُونَ } أي إن ال ليس له شريك‪ ،‬وإنما ذلك على وجه الزعم منهم والفتراء‪ { .‬ثُمّ‬
‫الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬
‫لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُت ُهمْ } أي‪ :‬لم يكن جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤال‪ ،‬إل إنكارهم لشركهم‬
‫سهِمْ }‬
‫وحلفهم أنهم ما كانوا مشركين‪ { .‬انْظُرْ } متعجبا منهم ومن أحوالهم { كَ ْيفَ كَذَبُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا‬
‫أي‪ :‬كذبوا كذبا عاد بالخسار على أنفسهم وضرهم‪-‬وال‪ -‬غاية الضرر { َو َ‬
‫َيفْتَرُونَ } من الشركاء الذين زعموهم مع ال‪ ،‬تعالى ال عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬

‫علَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َي ْفقَهُوهُ َوفِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرًا وَإِنْ يَ َروْا‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫ك وَ َ‬
‫{ ‪َ { } 25‬ومِنْهُمْ مَنْ َيسْ َتمِعُ إِلَ ْي َ‬
‫ُكلّ آيَةٍ لَا ُي ْؤمِنُوا ِبهَا حَتّى ِإذَا جَاءُوكَ ُيجَادِلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ }‬

‫أي‪ :‬ومن هؤلء المشركين‪ ،‬قوم يحملهم بعضَ الوقات‪ ،‬بعضُ الدواعي إلى الستماع لما تقول‪،‬‬
‫ولكنه استماع خال من قصد الحق واتباعه‪ ،‬ولهذا ل ينتفعون بذلك الستماع‪ ،‬لعدم إرادتهم للخير {‬
‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً } أي‪ :‬أغطية وأغشية‪ ،‬لئل يفقهوا كلم ال‪ ،‬فصان كلمه عن أمثال‬
‫وَ َ‬
‫هؤلء‪َ { .‬وفِي آذَا ِنهِمْ } جعلنا { َوقْرًا } أي‪ :‬صمما‪ ،‬فل يستمعون ما ينفعهم‪.‬‬

‫{ وَإِنْ يَ َروْا ُكلّ آ َيةٍ لَا ُي ْؤمِنُوا ِبهَا } وهذا غاية الظلم والعناد‪ ،‬أن اليات البينات الدالة على الحق‪،‬‬
‫ل ينقادون لها‪ ،‬ول يصدقون بها‪ ،‬بل يجادلون بالباطل الحقّ ليدحضوه‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬حَتّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬مأخوذ‬
‫من صحف الولين المسطورة‪ ،‬التي ليست عن ال‪ ،‬ول عن رسله‪ .‬وهذا من كفرهم‪ ،‬وإل فكيف‬
‫يكون هذا الكتاب الحاوي لنباءالسابقين واللحقين‪ ،‬والحقائق التي جاءت بها النبياء والمرسلون‪،‬‬
‫والحق‪ ،‬والقسط‪ ،‬والعدل التام من كل وجه‪ ،‬أساطي َر الولين؟‪.‬‬

‫شعُرُونَ }‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫{ ‪ { } 26‬وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْ ُه وَيَنَْأوْنَ عَنْ ُه وَإِنْ ُيهِْلكُونَ إِلّا أَ ْنفُ َ‬

‫وهم‪ :‬أي المشركون بال‪ ،‬المكذبون لرسوله‪ ،‬يجمعون بين الضلل والضلل‪ ،‬ينهون الناس عن‬
‫اتباع الحق‪ ،‬ويحذرونهم منه‪ ،‬ويبعدون بأنفسهم عنه‪ ،‬ولن يضروا ال ول عباده المؤمنين‪ ،‬بفعلهم‬
‫شعُرُونَ } بذلك‪.‬‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫هذا‪ ،‬شيئا‪ { .‬وَإِنْ ُيهِْلكُونَ إِلّا أَ ْنفُ َ‬

‫{ ‪ { } 29 - 27‬وََلوْ تَرَى إِ ْذ ُو ِقفُوا عَلَى النّارِ َفقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُ َر ّد وَلَا ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ‬
‫ل وََلوْ ُردّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ *‬
‫خفُونَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ * َبلْ َبدَا َلهُمْ مَا كَانُوا ُي ْ‬
‫َوقَالُوا إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ }‬
‫يقول تعالى ‪-‬مخبرا عن حال المشركين يوم القيامة‪ ،‬وإحضارهم النار‪ { .:‬وََلوْ تَرَى إِذْ ُوقِفُوا عَلَى‬
‫النّارِ } ليوبخوا ويقرعوا‪ ،‬لرأيت أمرا هائل‪ ،‬وحال مفظعة‪ .‬ولرأيتهم كيف أقروا على أنفسهم‬
‫بالكفر والفسوق‪ ،‬وتمنوا أن لو يردون إلى الدنيا‪َ { .‬فقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُ َر ّد وَلَا ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ‬
‫خفُونَ مِنْ قَ ْبلُ } فإنهم كانوا يخفون في أنفسهم‪ ،‬أنهم كانوا‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َبلْ َبدَا َلهُمْ مَا كَانُوا ُي ْ‬
‫كاذبين‪ ،‬ويَبدو في قلوبهم في كثير من الوقات‪ .‬ولكن الغراض الفاسدة‪ ،‬صدتهم عن ذلك‪،‬‬
‫وصرفت قلوبهم عن الخير‪ ،‬وهم كذبة في هذه المنية‪ ،‬وإنما قصدهم‪ ،‬أن يدفعوا بها عن أنفسهم‬
‫العذاب‪.‬‬

‫{ وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَ ْن ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ } { َوقَالُوا } منكرين للبعث { إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا‬
‫الدّنْيَا } أي‪ :‬ما حقيقة الحال والمر وما المقصود من إيجادنا‪ ،‬إل الحياة الدنيا وحدها‪َ { .‬ومَا َنحْنُ‬
‫ِبمَ ْبعُوثِينَ }‬

‫{ ‪ { } 30‬وَلَوْ تَرَى ِإ ْذ ُوقِفُوا عَلَى رَ ّبهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِا ْلحَقّ قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ‬
‫ِبمَا كُنْتُمْ َت ْكفُرُونَ }‬

‫علَى رَ ّب ِهمْ } لرأيت أمرا عظيما‪ ،‬و َهوْلًا جسيما‪ { ،‬قَالَ } لهم‬
‫أي‪ { :‬وََلوْ تَرَى } الكافرين { إِ ْذ ُو ِقفُوا َ‬
‫حقّ قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا } فأقروا‪ ،‬واعترفوا‬
‫موبخا ومقرعا‪ { :‬أَلَ ْيسَ هَذَا } الذي ترون من العذاب { بِالْ َ‬
‫حيث ل ينفعهم ذلك‪ { ،‬قَالَ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ َتكْفُرُونَ }‬

‫علَى مَا‬
‫{ ‪ { } 31‬قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِِلقَاءِ اللّهِ حَتّى ِإذَا جَاءَ ْتهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا َ‬
‫ظهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }‬
‫حمِلُونَ َأوْزَارَهُمْ عَلَى ُ‬
‫فَرّطْنَا فِيهَا وَ ُهمْ يَ ْ‬

‫أي‪ :‬قد خاب وخسر‪ ،‬وحرم الخير كله‪ ،‬من كذب بلقاء ال‪ ،‬فأوجب له هذا التكذيب‪ ،‬الجتراء على‬
‫المحرمات‪ ،‬واقتراف الموبقات { حَتّى ِإذَا جَاءَ ْتهُمُ السّاعَةُ } وهم على أقبح حال وأسوئه‪ ،‬فأظهروا‬
‫حمِلُونَ‬
‫حسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرّطْنَا فِيهَا } ولكن هذا تحسر ذهب وقته‪ { ،‬وَهُمْ َي ْ‬
‫غاية الندم‪ .‬و { قَالُوا يَا َ‬
‫ظهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } فإن وزرهم وزر يثقلهم‪ ،‬ول يقدرون على التخلص‬
‫َأوْزَارَهُمْ عَلَى ُ‬
‫منه‪ ،‬ولهذا خلدوا في النار‪ ،‬واستحقوا التأبيد في غضب الجبار‪.‬‬

‫ب وََل ْهوٌ وَلَلدّارُ الْآخِ َرةُ خَيْرٌ لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ }‬
‫{ ‪َ { } 32‬ومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ِع ٌ‬
‫هذه حقيقة الدنيا وحقيقة الخرة‪ ،‬أما حقيقة الدنيا فإنها لعب ولهو‪ ،‬لعب في البدان ولهو في‬
‫القلوب‪ ،‬فالقلوب لها والهة‪ ،‬والنفوس لها عاشقة‪ ،‬والهموم فيها متعلقة‪ ،‬والشتغال بها كلعب‬
‫الصبيان‪.‬‬

‫وأما الخرة‪ ،‬فإنها { خَيْرٌ لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ } في ذاتها وصفاتها‪ ،‬وبقائها ودوامها‪ ،‬وفيها ما تشتهيه‬
‫النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬من نعيم القلوب والرواح‪ ،‬وكثرة السرور والفراح‪ ،‬ولكنها ليست لكل‬
‫أحد‪ ،‬وإنما هي للمتقين الذين يفعلون أوامر ال‪ ،‬ويتركون نواهيه وزواجره { َأفَلَا َتعْقِلُونَ } أي‪:‬‬
‫أفل يكون لكم عقول‪ ،‬بها تدركون‪ ،‬أيّ الدارين أحق باليثار‪.‬‬

‫{ ‪ { } 35 - 33‬قَدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُمْ لَا ُي َكذّبُو َنكَ وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ‬
‫سلٌ مِنْ قَبِْلكَ َفصَبَرُوا عَلَى مَا كُذّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَا ُهمْ َنصْرُنَا وَلَا مُبَ ّدلَ‬
‫جحَدُونَ * وََلقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ‬
‫يَ ْ‬
‫ط ْعتَ أَنْ تَبْ َت ِغيَ‬
‫ضهُمْ فَإِنِ اسْتَ َ‬
‫ِلكَِلمَاتِ اللّ ِه وََلقَدْ جَا َءكَ مِنْ نَبَإِ ا ْلمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكَ إِعْرَا ُ‬
‫ج َم َعهُمْ عَلَى ا ْلهُدَى فَلَا َتكُونَنّ مِنَ‬
‫سمَاءِ فَتَأْتِ َي ُهمْ بِآيَ ٍة وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬
‫َنفَقًا فِي الْأَ ْرضِ َأوْ سُّلمًا فِي ال ّ‬
‫الْجَاهِلِينَ }‬

‫أي‪ :‬قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك يحزنك ويسوءك‪ ،‬ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر‬
‫إل لتحصل لك المنازل العالية والحوال الغالية‪ .‬فل تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك‪،‬‬
‫وشك فيك‪ { .‬فَإِ ّنهُمْ لَا ُيكَذّبُو َنكَ } لنهم يعرفون صدقك‪ ،‬ومدخلك ومخرجك‪ ،‬وجميع أحوالك‪ ،‬حتى‬
‫جحَدُونَ } أي‪ :‬فإن تكذيبهم‬
‫إنهم كانوا يسمونه ‪-‬قبل البعثة‪ -‬المين‪ { .‬وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ‬
‫ليات ال التي جعلها ال على يديك ‪.‬‬

‫سلٌ مِنْ قَبِْلكَ َفصَبَرُوا عَلَى مَا كُذّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَا ُهمْ َنصْرُنَا } فاصبر كما‬
‫{ وََلقَدْ كُذّ َبتْ ُر ُ‬
‫صبروا‪ ،‬تظفر كما ظفروا‪ { .‬وََلقَدْ جَا َءكَ مِنْ نَبَإِ ا ْلمُرْسَلِينَ } ما به يثبت فؤادك‪ ،‬ويطمئن به قلبك‪.‬‬

‫ضهُمْ } أي‪ :‬شق عليك‪ ،‬من حرصك عليهم‪ ،‬ومحبتك ليمانهم‪ ،‬فابذل‬
‫{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكَ إِعْرَا ُ‬
‫وسعك في ذلك‪ ،‬فليس في مقدورك‪ ،‬أن تهدي من لم يرد ال هدايته‪.‬‬

‫سمَاءِ فَتَأْتِ َيهُمْ بِآيَةٍ } أي‪ :‬فافعل ذلك‪ ،‬فإنه ل‬


‫ط ْعتَ أَنْ تَبْ َت ِغيَ َنفَقًا فِي الْأَ ْرضِ َأوْ سُّلمًا فِي ال ّ‬
‫{ فَإِنِ اسْتَ َ‬
‫يفيدهم شيئا‪ ،‬وهذا قطع لطمعه في هدايته أشباه هؤلء المعاندين‪.‬‬

‫ج َم َعهُمْ عَلَى ا ْلهُدَى } ولكن حكمته تعالى‪ ،‬اقتضت أنهم يبقون على الضلل‪ { .‬فَلَا‬
‫{ وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬
‫َتكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } الذين ل يعرفون حقائق المور‪ ،‬ول ينزلونها على منازلها‪.‬‬
‫جعُونَ * َوقَالُوا َلوْلَا‬
‫ن وَا ْل َموْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُ ْر َ‬
‫س َمعُو َ‬
‫{ ‪ { } 37 ، 36‬إِ ّنمَا يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَ ْ‬
‫نُ ّزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَ ّزلَ آيَةً وََلكِنّ َأكْثَ َرهُمْ لَا َيعَْلمُونَ }‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ { :‬إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ } لدعوتك‪ ،‬ويلبي رسالتك‪ ،‬وينقاد لمرك‬
‫س َمعُونَ } بقلوبهم ما ينفعهم‪ ،‬وهم أولو اللباب والسماع‪.‬‬
‫ونهيك { الّذِينَ يَ ْ‬

‫والمراد بالسماع هنا‪ :‬سماع القلب والستجابة‪ ،‬وإل فمجرد سماع الذن‪ ،‬يشترك فيه البر والفاجر‪.‬‬
‫فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة ال تعالى‪ ،‬باستماع آياته‪ ،‬فلم يبق لهم عذر‪ ،‬في عدم القبول‪.‬‬

‫جعُونَ } يحتمل أن المعنى‪ ،‬مقابل للمعنى المذكور‪ .‬أي‪ :‬إنما‬


‫{ وَا ْل َموْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ُثمّ إِلَيْهِ يُرْ َ‬
‫يستجيب لك أحياء القلوب‪ ،‬وأما أموات القلوب‪ ،‬الذين ل يشعرون بسعادتهم‪ ،‬ول يحسون بما‬
‫ينجيهم‪ ،‬فإنهم ل يستجيبون لك‪ ،‬ول ينقادون‪ ،‬وموعدهم القيامة‪ ،‬يبعثهم ال ثم إليه يرجعون‪،‬‬
‫ويحتمل أن المراد بالية‪ ،‬على ظاهرها‪ ،‬وأن ال تعالى يقرر المعاد‪ ،‬وأنه سيبعث الموات يوم‬
‫القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون‪.‬‬

‫ويكون هذا‪ ،‬متضمنا للترغيب في الستجابة ل ورسوله‪ ،‬والترهيب من عدم ذلك‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬المكذبون بالرسول‪ ،‬تعنتا وعنادا‪َ { :‬لوْلَا نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ } يعنون بذلك آيات‬
‫القتراح‪ ،‬التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة‪.‬‬

‫كقولهم‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ‬
‫سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا ِك َ‬
‫سمَاءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّرَ الْأَ ْنهَارَ خِلَاَلهَا َتفْجِيرًا *َأوْ ُت ْ‬
‫وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا } اليات‪.‬‬

‫{ ُقلْ } مجيبا لقولهم‪ { :‬إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَ ّزلَ آيَةً } فليس في قدرته قصور عن ذلك‪ ،‬كيف‪،‬‬
‫وجميع الشياء منقادة لعزته‪ ،‬مذعنة لسلطانه؟!‬

‫ولكن أكثر الناس ل يعلمون فهم لجهلهم وعدم علمهم يطلبون ما هو شر لهم من اليات‪ ،‬التي لو‬
‫جاءتهم‪ ،‬فلم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقاب‪ ،‬كما هي سنة ال‪ ،‬التي ل تبديل لها‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فإن كان‬
‫قصدهم اليات التي تبين لهم الحق‪ ،‬وتوضح السبيل‪ ،‬فقد أتى محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بكل آية‬
‫قاطعة‪ ،‬وحجة ساطعة‪ ،‬دالة على ما جاء به من الحق‪ ،‬بحيث يتمكن العبد في كل مسألة من مسائل‬
‫الدين‪ ،‬أن يجد فيما جاء به عدة أدلة عقلية ونقلية‪ ،‬بحيث ل تبقي في القلوب أدنى شك وارتياب‪،‬‬
‫فتبارك الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‪ ،‬وأيده باليات البينات ليهلك من هلك عن بينة‪،‬‬
‫ويحيا من حي عن بينة‪ ،‬وإن ال لسميع عليم‪.‬‬
‫ض وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ إِلّا ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ مَا فَرّطْنَا فِي ا ْلكِتَابِ‬
‫{ ‪َ { } 38‬ومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫شيْءٍ ُثمّ إِلَى رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ }‬
‫مِنْ َ‬

‫أي‪ :‬جميع الحيوانات‪ ،‬الرضية والهوائية‪ ،‬من البهائم والوحوش والطيور‪ ،‬كلها أمم أمثالكم‬
‫خلقناها‪ .‬كما خلقناكم‪ ،‬ورزقناها كما رزقناكم‪ ،‬ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا‪ ،‬كما كانت نافذة فيكم‪.‬‬

‫شيْءٍ } أي‪ :‬ما أهملنا ول أغفلنا‪ ،‬في اللوح المحفوظ شيئا من الشياء‪،‬‬
‫{ مَا فَرّطْنَا فِي ا ْلكِتَابِ مِنْ َ‬
‫بل جميع الشياء‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬مثبتة في اللوح المحفوظ‪ ،‬على ما هي عليه‪ ،‬فتقع جميع‬
‫الحوادث طبق ما جرى به القلم‪.‬‬

‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على أن الكتاب الول‪ ،‬قد حوى جميع الكائنات‪ ،‬وهذا أحد مراتب القضاء‬
‫والقدر‪ ،‬فإنها أربع مراتب‪ :‬علم ال الشامل لجميع الشياء‪ ،‬وكتابه المحيط بجميع الموجودات‪،‬‬
‫ومشيئته وقدرته النافذة العامة لكل شيء‪ ،‬وخلقه لجميع المخلوقات‪ ،‬حتى أفعال العباد‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد بالكتاب‪ ،‬هذا القرآن‪ ،‬وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى { وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‬
‫شيْءٍ }‬
‫تِبْيَانًا ِل ُكلّ َ‬

‫وقوله { ُثمّ إِلَى رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ } أي‪ :‬جميع المم تحشر وتجمع إلى ال في موقف القيامة‪ ،‬في ذلك‬
‫الموقف العظيم الهائل‪ ،‬فيجازيهم بعدله وإحسانه‪ ،‬ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الولون‬
‫والخرون‪ ،‬أهل السماء وأهل الرض‪.‬‬

‫جعَلْهُ عَلَى‬
‫{ ‪ { } 39‬وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا صُمّ وَ ُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللّهُ ُيضْلِلْ ُه َومَنْ يَشَأْ يَ ْ‬
‫صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‬

‫هذا بيان لحال المكذبين بآيات ال‪ ،‬المكذبين لرسله‪ ،‬أنهم قد سدوا على أنفسهم باب الهدى‪ ،‬وفتحوا‬
‫باب الردى‪ ،‬وأنهم { صُمّ } عن سماع الحق { وَ ُبكْمٌ } عن النطق به‪ ،‬فل ينطقون إل بباطل ‪.‬‬

‫{ فِي الظُّلمَاتِ } أي‪ :‬منغمسون في ظلمات الجهل‪ ،‬والكفر‪ ،‬والظلم‪ ،‬والعناد‪ ،‬والمعاصي‪ .‬وهذا من‬
‫جعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } لنه المنفرد‬
‫إضلل ال إياهم‪ ،‬فـ { مَنْ يَشَأِ اللّهُ ُيضْلِلْ ُه َومَنْ يَشَأْ يَ ْ‬
‫بالهداية والضلل‪ ،‬بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته‪.‬‬
‫{ ‪ُ { } 41 ، 40‬قلْ أَرَأَيْ َت ُكمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ َأوْ أَتَ ْتكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ َتدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫سوْنَ مَا تُشْ ِركُونَ }‬
‫شفُ مَا َتدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَا َء وَتَنْ َ‬
‫صَا ِدقِينَ * َبلْ إِيّاهُ َتدْعُونَ فَ َيكْ ِ‬

‫يقول تعالى لرسوله‪ُ { :‬قلْ } للمشركين بال‪ ،‬العادلين به غيره‪ { :‬أَرَأَيْ َت ُكمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ َأوْ‬
‫أَتَ ْتكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ َتدْعُونَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } أي‪ :‬إذا حصلت هذه المشقات‪ ،‬وهذه الكروب‪،‬‬
‫التي يضطر إلى دفعها‪ ،‬هل تدعون آلهتكم وأصنامكم‪ ،‬أم تدعون ربكم الملك الحق المبين‪.‬‬

‫سوْنَ مَا ُتشْ ِركُونَ } فإذا كانت هذه حالكم مع‬


‫شفُ مَا َتدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَا َء وَتَنْ َ‬
‫{ َبلْ إِيّاهُ َتدْعُونَ فَ َيكْ ِ‬
‫أندادكم عند الشدائد‪ ،‬تنسونهم‪ ،‬لعلمكم أنهم ل يملكون لكم ضرا ول نفعا‪ ،‬ول موتا‪ ،‬ول حياة‪ ،‬ول‬
‫نشورا‪.‬‬

‫وتخلصون ل الدعاء‪ ،‬لعلمكم أنه هو النافع الضار‪ ،‬المجيب لدعوة المضطر‪ ،‬فما بالكم في الرخاء‬
‫تشركون به‪ ،‬وتجعلون له شركاء؟‪ .‬هل دلكم على ذلك‪ ،‬عقل أو نقل‪ ،‬أم عندكم من سلطان بهذا؟‬
‫بل تفترون على ال الكذب؟‬

‫خذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ َلعَّلهُمْ يَ َتضَرّعُونَ *‬


‫{ ‪ { } 45 - 42‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَأَ َ‬
‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * فََلمّا نَسُوا‬
‫فََلوْلَا إِذْ جَاءَ ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُوا وََلكِنْ قَ َ‬
‫شيْءٍ حَتّى إِذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَةً فَِإذَا ُهمْ مُبْلِسُونَ‬
‫مَا ُذكّرُوا بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫* َفقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ ظََلمُوا وَالْ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأ َممٍ مِنْ قَبِْلكَ } من المم السالفين‪ ،‬والقرون المتقدمين‪ ،‬فكذبوا‬
‫خذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَا ِء وَالضّرّاءِ } أي‪ :‬بالفقر والمرض والفات‪ ،‬والمصائب‪،‬‬
‫رسلنا‪ ،‬وجحدوا بآياتنا‪ { .‬فَأَ َ‬
‫رحمة منا بهم‪َ { .‬لعَّل ُهمْ يَ َتضَرّعُونَ } إلينا‪ ،‬ويلجأون عند الشدة إلينا‪.‬‬

‫ستْ قُلُو ُبهُمْ } أي‪ :‬استحجرت فل تلين للحق‪ { .‬وَزَيّنَ َلهُمُ‬


‫{ فََلوْلَا ِإذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُوا وََلكِنْ َق َ‬
‫الشّ ْيطَانُ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فظنوا أن ما هم عليه دين الحق‪ ،‬فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان‪،‬‬
‫ولعب بعقولهم الشيطان‪.‬‬

‫شيْءٍ } من الدنيا ولذاتها وغفلتها‪ { .‬حَتّى ِإذَا‬


‫{ فََلمّا َنسُوا مَا ُذكّرُوا بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبِْلسُونَ } أي‪ :‬آيسون من كل خير‪ ،‬وهذا أشد ما يكون من‬
‫فَرِحُوا ِبمَا أُوتُوا أَ َ‬
‫العذاب‪ ،‬أن يؤخذوا على غرة‪ ،‬وغفلة وطمأنينة‪ ،‬ليكون أشد لعقوبتهم‪ ،‬وأعظم لمصيبتهم‪.‬‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ‬
‫ظَلمُوا } أي اصطلموا بالعذاب‪ ،‬وتقطعت بهم السباب‪ { .‬وَا ْل َ‬
‫{ َفقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ َ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ } على ما قضاه وقدره‪ ،‬من هلك المكذبين‪ .‬فإن بذلك‪ ،‬تتبين آياته‪ ،‬وإكرامه لوليائه‪،‬‬
‫وإهانته لعدائه‪ ،‬وصدق ما جاءت به المرسلون‪.‬‬

‫س ْم َعكُمْ وَأَ ْبصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُو ِبكُمْ مَنْ إَِلهٌ غَيْرُ اللّهِ‬
‫{ ‪ُ { } 47 ، 46‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َأخَذَ اللّهُ َ‬
‫يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَ ْيفَ ُنصَ ّرفُ الْآيَاتِ ُثمّ ُهمْ َيصْ ِدفُونَ * ُقلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً َأوْ‬
‫جهْ َرةً َهلْ ُيهَْلكُ إِلّا ا ْلقَوْمُ الظّاِلمُونَ }‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه كما أنه هو المتفرد بخلق الشياء وتدبيرها‪ ،‬فإنه المنفرد بالوحدانية واللهية فقال‪:‬‬
‫س ْم َعكُ ْم وَأَ ْبصَا َركُ ْم وَخَ َتمَ عَلَى قُلُو ِبكُمْ } فبقيتم بل سمع ول بصر ول عقل‬
‫{ ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َأخَذَ اللّهُ َ‬
‫{ مَنْ إَِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبهِ } فإذا لم يكن غير ال يأتي بذلك‪ ،‬فلم عبدتم معه من ل قدرة له على‬
‫شيء إل إذا شاءه ال‪.‬‬

‫وهذا من أدلة التوحيد وبطلن الشرك‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ُنصَرّفُ الْآيَاتِ } أي‪ :‬ننوعها‪،‬‬
‫ونأتي بها في كل فن‪ ،‬ولتنير الحق‪ ،‬وتتبين سبيل المجرمين‪ { .‬ثُمّ هُمْ } مع هذا البيان التام‬
‫{ َيصْ ِدفُونَ } عن آيات ال‪ ،‬ويعرضون عنها‪.‬‬

‫جهْ َرةً } أي‪ :‬مفاجأة أو قد تقدم أمامه‬


‫{ ُقلْ أَرَأَيْ َتكُمْ } أي‪ :‬أخبروني { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً َأوْ َ‬
‫مقدمات‪ ،‬تعلمون بها وقوعه‪َ { .‬هلْ ُيهَْلكُ إِلّا ا ْل َقوْمُ الظّاِلمُونَ } الذين صاروا سببا لوقوع العذاب‬
‫بهم‪ ،‬بظلمهم وعنادهم‪ .‬فاحذروا أن تقيموا على الظلم‪ ،‬فإنه الهلك البدي‪ ،‬والشقاء السرمدي‪.‬‬

‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا‬


‫ن وََأصْلَحَ فَلَا َ‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا مُبَشّرِينَ َومُنْذِرِينَ َفمَنْ آمَ َ‬
‫{ ‪َ { } 49 ، 48‬ومَا نُ ْر ِ‬
‫سقُونَ }‬
‫سهُمُ ا ْلعَذَابُ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالّذِينَ َكذّبُوا بِآيَاتِنَا َيمَ ّ‬

‫يذكر تعالى‪ ،‬زبدة ما أرسل به المرسلين؛ أنه البشارة والنذارة‪ ،‬وذلك مستلزم لبيان المبشر‬
‫والمبشر به‪ ،‬والعمال التي إذا عملها العبد‪ ،‬حصلت له البشارة‪ .‬والمنذر والمنذر به‪ ،‬والعمال‬
‫التي من عملها‪ ،‬حقت عليه النذارة‪.‬‬

‫ن وََأصْلَحَ } أي‪:‬‬
‫ولكن الناس انقسموا ‪-‬بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها ‪ -‬إلى قسمين‪َ { :‬فمَنْ آمَ َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ }‬
‫آمن بال وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله واليوم الخر‪ ،‬وأصلح إيمانه وأعماله ونيته { فَلَا َ‬
‫فيما يستقبل { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى‪.‬‬
‫سقُونَ }‬
‫سهُمُ ا ْلعَذَابُ } أي‪ :‬ينالهم‪ ،‬ويذوقونه { ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫{ وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا َيمَ ّ‬

‫ب وَلَا َأقُولُ َل ُكمْ إِنّي مََلكٌ إِنْ أَتّبِعُ ِإلّا مَا‬


‫علَمُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫{ ‪ُ { } 50‬قلْ لَا َأقُولُ َلكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّ ِه وَلَا أَ ْ‬
‫عمَى وَالْ َبصِيرُ َأفَلَا تَ َت َفكّرُونَ }‬
‫يُوحَى إَِليّ ُقلْ َهلْ َيسْ َتوِي الْأَ ْ‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم؛ المقترحين عليه اليات‪ ،‬أو القائلين له‪ :‬إنما تدعونا‬
‫لنتخذك إلها مع ال‪ { .‬وَلَا َأقُولُ َل ُكمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ } أي‪ :‬مفاتيح رزقه ورحمته‪ { .‬وَلَا أَعَْلمُ‬
‫ا ْلغَ ْيبَ } وإنما ذلك كله عند ال فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فل ممسك لها وما يمسك فل‬
‫مرسل له من بعده‪ ،‬وهو وحده عالم الغيب والشهادة‪ .‬فل يظهر على غيبه أحدا إل من ارتضى‬
‫من رسول‪.‬‬

‫{ وَلَا َأقُولُ َلكُمْ إِنّي مََلكٌ } فأكون نافذ التصرف قويا‪ ،‬فلست أدعي فوق منزلتي‪ ،‬التي أنزلني ال‬
‫بها‪ { .‬إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ } أي‪ :‬هذا غايتي ومنتهى أمري وأعله‪ ،‬إن أتبع إل ما يوحى‬
‫إلي‪ ،‬فأعمل به في نفسي‪ ،‬وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك‪.‬‬

‫فإذا عرفت منزلتي‪ ،‬فلي شيء يبحث الباحث معي‪ ،‬أو يطلب مني أمرا لست أدعيه‪ ،‬وهل يلزم‬
‫النسان‪ ،‬بغير ما هو بصدده؟‪.‬‬

‫ولي شيء إذا دعوتكم‪ ،‬بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي‪ .‬وهل هذا إل‬
‫ظلم منكم‪ ،‬وعناد‪ ،‬وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق‪ ،‬بين من قبل دعوتي‪ ،‬وانقاد لما أوحي إلي‪،‬‬
‫عمَى وَالْ َبصِيرُ َأفَلَا تَ َت َفكّرُونَ } فتنزلون الشياء منازلها‪،‬‬
‫وبين من لم يكن كذلك { ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الْأَ ْ‬
‫وتختارون ما هو أولى بالختيار واليثار؟‬

‫شفِيعٌ‬
‫{ ‪ { } 55 - 51‬وَأَنْذِرْ ِبهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ ُيحْشَرُوا إِلَى رَ ّبهِمْ لَيْسَ َلهُمْ مِنْ دُونِ ِه وَِليّ وَلَا َ‬
‫جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِمْ‬
‫شيّ يُرِيدُونَ وَ ْ‬
‫َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ * وَلَا تَطْرُدِ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَاةِ وَا ْلعَ ِ‬
‫ضهُمْ‬
‫شيْءٍ فَتَطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ * َوكَذَِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬
‫حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ َ‬
‫شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ‬
‫مِنْ َ‬
‫بِ َب ْعضٍ لِ َيقُولُوا أَ َهؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ * وَإِذَا جَا َءكَ الّذِينَ‬
‫جهَالَةٍ ُثمّ‬
‫ع ِملَ مِ ْن ُكمْ سُوءًا ِب َ‬
‫حمَةَ أَنّهُ مَنْ َ‬
‫علَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِنَا َف ُقلْ سَلَامٌ َ‬
‫ت وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ }‬
‫صلُ الْآيَا ِ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * َوكَذَِلكَ ُنفَ ّ‬
‫تَابَ مِنْ َبعْ ِد ِه وََأصْلَحَ فَأَنّهُ َ‬

‫هذا القرآن نذارة للخلق كلهم‪ ،‬ولكن إنما ينتفع به { الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ ُيحْشَرُوا إِلَى رَ ّبهِمْ } فهم‬
‫متيقنون للنتقال‪ ،‬من هذه الدار‪ ،‬إلى دار القرار‪ ،‬فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدَعُون ما‬
‫شفِيعٌ } أي‪ :‬من يتولى أمرهم‬
‫ي وَلَا َ‬
‫يضرهم‪ { .‬لَيْسَ َل ُهمْ مِنْ دُونِهِ } أي‪ :‬ل من دون ال { وَِل ّ‬
‫فيحصّل لهم المطلوب‪ ،‬ويدفع عنهم المحذور‪ ،‬ول من يشفع لهم‪ ،‬لن الخلق كلهم‪ ،‬ليس لهم من‬
‫المر شيء‪َ { .‬لعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ } ال‪ ،‬بامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬فإن النذار موجب لذلك‪،‬‬
‫وسبب من أسبابه‪.‬‬

‫ج َههُ } أي‪ :‬ل تطرد عنك‪ ،‬وعن‬


‫ن وَ ْ‬
‫شيّ يُرِيدُو َ‬
‫{ وَلَا َتطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫مجالستك‪ ،‬أهل العبادة والخلص‪ ،‬رغبة في مجالسة غيرهم‪ ،‬من الملزمين لدعاء ربهم‪ ،‬دعاء‬
‫العبادة بالذكر والصلة ونحوها‪ ،‬ودعاء المسألة‪ ،‬في أول النهار وآخره‪ ،‬وهم قاصدون بذلك وجه‬
‫ال‪ ،‬ليس لهم من الغراض سوى ذلك الغرض الجليل‪ ،‬فهؤلء ليسوا مستحقين للطرد والعراض‬
‫عنهم‪ ،‬بل مستحقون لموالتهم ومحبتهم‪ ،‬وإدنائهم‪ ،‬وتقريبهم‪ ،‬لنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا‬
‫فقراء‪ ،‬والعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلء‪.‬‬

‫شيْءٍ } أي‪ :‬كلّ له حسابه‪ ،‬وله عمله‬


‫حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ َ‬
‫شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ‬
‫{ مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِمْ مِنْ َ‬
‫الحسن‪ ،‬وعمله القبيح‪ { .‬فَ َتطْرُدَ ُهمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ } وقد امتثل صلى ال عليه وسلم هذا‬
‫المر‪ ،‬أشد امتثال‪ ،‬فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نفسَه معهم‪ ،‬وأحسن معاملتهم‪ ،‬وألن‬
‫لهم جانبه‪ ،‬وحسن خلقَه‪ ،‬وقربهم منه‪ ،‬بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي ال عنهم‪.‬‬

‫وكان سبب نزول هذه اليات‪ ،‬أن أناسا [من قريش‪ ،‬أو] من أجلف العرب قالوا للنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ :‬إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك‪ ،‬فاطرد فلنا وفلنا‪ ،‬أناسا من فقراء الصحابة‪ ،‬فإنا‬
‫نستحيي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلء الفقراء‪ ،‬فحمله حبه لسلمهم‪ ،‬واتباعهم له‪ ،‬فحدثته‬
‫نفسه بذلك‪ .‬فعاتبه ال بهذه الية ونحوها‪.‬‬

‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ لِ َيقُولُوا َأ َهؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } أي‪ :‬هذا من ابتلء ال‬
‫{ َوكَذَِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬
‫لعباده‪ ،‬حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا‪ ،‬وبعضهم شريفا‪ ،‬وبعضهم وضيعا‪ ،‬فإذا مَنّ ال‬
‫باليمان على الفقير أو الوضيع؛‪ .‬كان ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق‬
‫واتباعه‪ ،‬آمن وأسلم‪ ،‬ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫صادقا في طلب الحق‪ ،‬كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق‪.‬‬

‫وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم‪َ { :‬أ َهؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } فمنعهم هذا من اتباع الحق‪،‬‬
‫لعدم زكائهم‪ ،‬قال ال مجيبا لكلمهم المتضمن العتراض على ال في هداية هؤلء‪ ،‬وعدم هدايتهم‬
‫هم‪ { .‬أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ بِالشّاكِرِينَ } الذين يعرفون النعمة‪ ،‬ويقرون بها‪ ،‬ويقومون بما تقتضيه من‬
‫العمل الصالح‪ ،‬فيضع فضله ومنته عليهم‪ ،‬دون من ليس بشاكر‪ ،‬فإن ال تعالى حكيم‪ ،‬ل يضع‬
‫فضله عند من ليس له بأهل‪ ،‬وهؤلء المعترضون بهذا الوصف‪ ،‬بخلف من مَنّ ال عليهم‬
‫باليمان‪ ،‬من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون‪ .‬ولما نهى ال رسولَه‪ ،‬عن طرد المؤمنين‬
‫القانتين‪ ،‬أمَره بمقابلتهم بالكرام والعظام‪ ،‬والتبجيل والحترام‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِذَا جَا َءكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ‬
‫سلَامٌ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬وإذا جاءك المؤمنون‪ ،‬فحَيّهم ورحّب بهم وَلقّهم منك تحية وسلما‪،‬‬
‫بِآيَاتِنَا َفقُلْ َ‬
‫وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم‪ ،‬من رحمة ال‪ ،‬وسَعة جوده وإحسانه‪ ،‬وحثهم على كل سبب‬
‫وطريق‪ ،‬يوصل لذلك‪.‬‬

‫ورَهّبْهم من القامة على الذنوب‪ ،‬و ْأمُرْهم بالتوبة من المعاصي‪ ،‬لينالوا مغفرة ربهم وجوده‪ ،‬ولهذا‬
‫جهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِنْ َب ْع ِد ِه وََأصْلَحَ }‬
‫ع ِملَ مِ ْنكُمْ سُوءًا ِب َ‬
‫حمَةَ أَنّهُ مَنْ َ‬
‫قال‪ { :‬كَ َتبَ رَ ّب ُكمْ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫أي‪ :‬فل بد مع ترك الذنوب والقلع‪ ،‬والندم عليها‪ ،‬من إصلح العمل‪ ،‬وأداء ما أوجب ال‪،‬‬
‫وإصلح ما فسد من العمال الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ } أي‪ :‬صب عليهم من مغفرته ورحمته‪ ،‬بحسب ما قاموا به‪،‬‬
‫فإذا وجد ذلك كله { فَأَنّهُ َ‬
‫مما أمرهم به‪.‬‬

‫صلُ الْآيَاتِ } أي‪ :‬نوضحها ونبينها‪ ،‬ونميز بين طريق الهدى من الضلل‪ ،‬والغي‬
‫{ َوكَذَِلكَ ُن َف ّ‬
‫والرشاد‪ ،‬ليهتدي بذلك المهتدون‪ ،‬ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه‪ { .‬وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ }‬
‫الموصلة إلى سخط ال وعذابه‪ ،‬فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت‪ ،‬أمكن اجتنابها‪ ،‬والبعد‬
‫منها‪ ،‬بخلف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة‪ ،‬فإنه ل يحصل هذا المقصود الجليل‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 58 - 56‬قلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ُقلْ لَا أَتّ ِبعُ أَ ْهوَا َءكُمْ قَ ْد ضَلَ ْلتُ‬
‫إِذًا َومَا أَنَا مِنَ ا ْل ُمهْتَدِينَ * ُقلْ إِنّي عَلَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّي َوكَذّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْ َت ْعجِلُونَ بِهِ إِنِ‬
‫ضيَ الَْأمْرُ‬
‫ح ْكمُ إِلّا لِلّهِ َي ُقصّ ا ْلحَقّ وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ * ُقلْ َلوْ أَنّ عِنْدِي مَا تَسْ َت ْعجِلُونَ بِهِ َل ُق ِ‬
‫الْ ُ‬
‫بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ وَاللّهُ أَعَْلمُ بِالظّاِلمِينَ }‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ُ { :‬قلْ } لهؤلء المشركين الذين يدعون مع ال آلهة أخرى‪:‬‬
‫{ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } من النداد والوثان‪ ،‬التي ل تملك نفعا ول‬
‫ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا‪ ،‬فإن هذا باطل‪ ،‬وليس لكم فيه حجة بل ول شبهة‪ ،‬ول اتباع‬
‫الهوى الذي اتباعه أعظم الضلل‪ ،‬ولهذا قال { ُقلْ لَا أَتّبِعُ َأ ْهوَا َءكُمْ قَدْ ضَلَ ْلتُ ِإذًا } أي‪ :‬إن اتبعت‬
‫أهواءكم { َومَا أَنَا مِنَ ا ْل ُمهْتَدِينَ } بوجه من الوجوه‪ .‬وأما ما أنا عليه‪ ،‬من توحيد ال وإخلص‬
‫العمل له‪ ،‬فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والدلة القاطعة‪.‬‬
‫وأنا { عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي } أي‪ :‬على يقين مبين‪ ،‬بصحته‪ ،‬وبطلن ما عداه‪ ،‬وهذه شهادة من‬
‫الرسول جازمة‪ ،‬ل تقبل التردد‪ ،‬وهو أعدل الشهود على الطلق‪ .‬فصدق بها المؤمنون‪ ،‬وتبين‬
‫لهم من صحتها وصدقها‪ ،‬بحسب ما مَنّ ال به عليهم‪.‬‬

‫{ وَ } لكنكم أيها المشركون – { كذبتم به } وهو ل يستحق هذا منكم‪ ،‬ول يليق به إل التصديق‪،‬‬
‫وإذا استمررتم على تكذيبكم‪ ،‬فاعلموا أن العذاب واقع بكم ل محالة‪ ،‬وهو عند ال‪ ،‬هو الذي ينزله‬
‫حكْمُ إِلّا لِلّهِ }‬
‫عليكم‪ ،‬إذا شاء‪ ،‬وكيف شاء‪ ،‬وإن استعجلتم به‪ ،‬فليس بيدي من المر شيء { إِنِ ا ْل ُ‬
‫فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي‪ ،‬فأمر ونهى‪ ،‬فإنه سيحكم بالحكم الجزائي‪ ،‬فيثيب ويعاقب‪،‬‬
‫بحسب ما تقتضيه حكمته‪ .‬فالعتراض على حكمه مطلقا مدفوع‪ ،‬وقد أوضح السبيل‪ ،‬وقص على‬
‫عباده الحق قصا‪ ،‬قطع به معاذيرهم‪ ،‬وانقطعت له حجتهم‪ ،‬ليهلك من هلك عن بينة‪ ،‬ويحيا من‬
‫حي عن بينة { وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ } بين عباده‪ ،‬في الدنيا والخرة‪ ،‬فيفصل بينهم فصل‪ ،‬يحمده‬
‫عليه‪ ،‬حتى من قضى عليه‪ ،‬ووجه الحق نحوه‪.‬‬

‫ضيَ الَْأمْرُ‬
‫{ قُل } للمستعجلين بالعذاب‪ ،‬جهل وعنادا وظلما‪َ { ،‬لوْ أَنّ عِنْدِي مَا َتسْ َتعْجِلُونَ بِهِ َلقُ ِ‬
‫بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ } فأوقعته بكم ول خير لكم في ذلك‪ ،‬ولكن المر‪ ،‬عند الحليم الصبور‪ ،‬الذي يعصيه‬
‫العاصون‪ ،‬ويتجرأ عليه المتجرئون‪ ،‬وهو يعافيهم‪ ،‬ويرزقهم‪ ،‬ويسدي عليهم نعمه‪ ،‬الظاهرة‬
‫والباطنة‪ { .‬وَاللّهُ أَعَْلمُ بِالظّاِلمِينَ } ل يخفى عليه من أحوالهم شيء‪ ،‬فيمهلهم ول يهملهم‪.‬‬

‫ن وَ َرقَةٍ ِإلّا‬
‫سقُطُ مِ ْ‬
‫{ ‪ { } 59‬وَعِنْ َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَا َيعَْل ُمهَا إِلّا ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ‬
‫طبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }‬
‫ض وَلَا َر ْ‬
‫َيعَْل ُمهَا وَلَا حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الْأَ ْر ِ‬

‫هذه الية العظيمة‪ ،‬من أعظم اليات تفصيل لعلمه المحيط‪ ،‬وأنه شامل للغيوب كلها‪ ،‬التي يطلع‬
‫منها ما شاء من خلقه‪ .‬وكثير منها طوى علمه عن الملئكة المقربين‪ ،‬والنبياء المرسلين‪ ،‬فضل‬
‫عن غيرهم من العالمين‪ ،‬وأنه يعلم ما في البراري والقفار‪ ،‬من الحيوانات‪ ،‬والشجار‪ ،‬والرمال‬
‫والحصى‪ ،‬والتراب‪ ،‬وما في البحار من حيواناتها‪ ،‬ومعادنها‪ ،‬وصيدها‪ ،‬وغير ذلك مما تحتويه‬
‫أرجاؤها‪ ،‬ويشتمل عليه ماؤها‪.‬‬

‫ن وَ َرقَةٍ } من أشجار البر والبحر‪ ،‬والبلدان والقفر‪ ،‬والدنيا والخرة‪ ،‬إل يعلمها‪.‬‬
‫سقُطُ مِ ْ‬
‫{ َومَا تَ ْ‬
‫{ وَلَا حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الْأَ ْرضِ } من حبوب الثمار والزروع‪ ،‬وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛‬
‫وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات‪.‬‬
‫طبٍ وَلَا يَا ِبسٍ } هذا عموم بعد خصوص { إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وهو اللوح المحفوظ‪ ،‬قد‬
‫{ وَلَا َر ْ‬
‫حواها‪ ،‬واشتمل عليها‪ ،‬وبعض هذا المذكور‪ ،‬يبهر عقول العقلء‪ ،‬ويذهل أفئدة النبلء‪ ،‬فدل هذا‬
‫على عظمة الرب العظيم وسعته‪ ،‬في أوصافه كلها‪.‬‬

‫وأن الخلق ‪-‬من أولهم إلى آخرهم‪ -‬لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته‪ ،‬لم يكن لهم قدرة‬
‫ول وسع في ذلك‪ ،‬فتبارك الرب العظيم‪ ،‬الواسع العليم‪ ،‬الحميد المجيد‪ ،‬الشهيد‪ ،‬المحيط‪.‬‬

‫وجل مِنْ إله‪ ،‬ل يحصي أحد ثناء عليه‪ ،‬بل كما أثنى على نفسه‪ ،‬وفوق ما يثني عليه عباده‪ ،‬فهذه‬
‫الية‪ ،‬دلت على علمه المحيط بجميع الشياء‪ ،‬وكتابه المحيط بجميع الحوادث‪.‬‬

‫جلٌ‬
‫{ ‪ { } 62 - 60‬وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ بِاللّ ْيلِ وَ َيعْلَمُ مَا جَ َرحْتُمْ بِال ّنهَارِ ُثمّ يَ ْبعَ ُثكُمْ فِيهِ لِ ُيقْضَى أَ َ‬
‫حفَظَةً‬
‫سلُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫ج ُعكُمْ ُثمّ يُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ * وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ‬
‫سمّى ُثمّ إِلَ ْيهِ مَرْ ِ‬
‫مُ َ‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَ ُهمْ لَا ُيفَرّطُونَ * ثُمّ رُدّوا إِلَى اللّهِ َموْلَاهُمُ ا ْلحَقّ َألَا لَهُ‬
‫حَتّى إِذَا جَاءَ أَ َ‬
‫ح ْك ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ الْحَاسِبِينَ }‬
‫الْ ُ‬

‫هذا كله‪ ،‬تقرير للوهيته‪ ،‬واحتجاج على المشركين به‪ ،‬وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم‪،‬‬
‫والجلل والكرام‪ ،‬فأخبر أنه وحده‪ ،‬المتفرد بتدبير عباده‪ ،‬في يقظتهم ومنامهم‪ ،‬وأنه يتوفاهم‬
‫بالليل‪ ،‬وفاة النوم‪ ،‬فتهدأ حركاتهم‪ ،‬وتستريح أبدانهم‪ ،‬ويبعثهم في اليقظة من نومهم‪ ،‬ليتصرفوا في‬
‫مصالحهم الدينية والدنيوية وهو –تعالى‪ -‬يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك العمال‪ .‬ثم ل يزال‬
‫تعالى هكذا‪ ،‬يتصرف فيهم‪ ،‬حتى يستوفوا آجالهم‪ .‬فيقضى بهذا التدبير‪ ،‬أجل مسمى‪ ،‬وهو‪ :‬أجل‬
‫ج ُعكُمْ } ل إلى‬
‫الحياة‪ ،‬وأجل آخر فيما بعد ذلك‪ ،‬وهو البعث بعد الموت‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ثمّ إِلَيْهِ مَرْ ِ‬
‫غيره { ُثمّ يُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } من خير وشر‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ } تعالى { ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ } ينفذ فيهم إرادته الشاملة‪ ،‬ومشيئته العامة‪ ،‬فليسوا يملكون من‬
‫المر شيئا‪ ،‬ول يتحركون ول يسكنون إل بإذنه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد وكل بالعباد حفظةً من الملئكة‪،‬‬
‫يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنّ عَلَ ْي ُكمْ لَحَا ِفظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ *‬
‫شمَالِ َقعِيدٌ * مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َق ْولٍ إِلّا َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ } فهذا‬
‫َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ } { عَنِ الْ َيمِينِ وَعَنِ ال ّ‬
‫حفظه لهم في حال الحياة‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا جَاءَ َأحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا } أي الملئكة الموكلون بقبض الرواح‪ { .‬وَهُمْ لَا‬
‫ُيفَرّطُونَ } في ذلك‪ ،‬فل يزيدون ساعة مما قدره ال وقضاه ول ينقصون‪ ،‬ول ينفذون من ذلك‪ ،‬إل‬
‫بحسب المراسيم اللهية والتقادير الربانية‪.‬‬
‫حقّ }‬
‫{ ُثمّ } بعد الموت والحياة البرزخية‪ ،‬وما فيها من الخير والشر { ُردّوا إِلَى اللّهِ َموْلَا ُهمُ الْ َ‬
‫أي‪ :‬الذي تولهم بحكمه القدري‪ ،‬فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير‪ ،‬ثم تولهم بأمره ونهيه‪،‬‬
‫وأرسل إليهم الرسل‪ ،‬وأنزل عليهم الكتب‪ ،‬ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء‪ ،‬ويثيبهم على‬
‫حكْمُ } وحده ل‬
‫ما عملوا من الخيرات‪ ،‬ويعاقبهم على الشرور والسيئات‪،‬وَلهذا قال‪ { :‬أَلَا لَهُ ا ْل ُ‬
‫شريك له { وَ ُهوَ أَسْ َرعُ ا ْلحَاسِبِينَ } لكمال علمه وحفظه لعمالهم‪ ،‬بما أثبتته في اللوح المحفوظ‪ ،‬ثم‬
‫أثبته ملئكته في الكتاب‪ ،‬الذي بأيديهم‪ ،‬فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير‪ ،‬وهو القاهر‬
‫فوق عباده‪ ،‬وقد اعتنى بهم كل العتناء‪ ،‬في جميع أحوالهم‪ ،‬وهو الذي له الحكم القدري‪ ،‬والحكم‬
‫الشرعي‪ ،‬والحكم الجزائي‪ ،‬فأين للمشركين العدولُ عن من هذا وصفه ونعته‪ ،‬إلى عبادة من ليس‬
‫له من المر شيء‪ ،‬ول عنده مثقال ذرة من النفع‪ ،‬ول له قدرة وإرادة؟!‪.‬‬

‫أما وال لو علموا حلم ال عليهم‪ ،‬وعفوه ورحمته بهم‪ ،‬وهم يبارزونه بالشرك والكفران‪،‬‬
‫ويتجرءون على عظمته بالفك والبهتان‪ ،‬وهو يعافيهم ويرزقهم لنجذبت‪ ،‬دواعيهم إلى معرفته‪،‬‬
‫وذهلت عقولهم في حبه‪ .‬ولمقتوا أنفسهم أشد المقت‪ ،‬حيث انقادوا لداعي الشيطان‪ ،‬الموجب للخزي‬
‫والخسران‪ ،‬ولكنهم قوم ل يعقلون‪.‬‬

‫خفْيَةً لَئِنْ أَ ْنجَانَا مِنْ‬


‫{ ‪ُ { } 64 ، 63‬قلْ مَنْ يُ َنجّيكُمْ مِنْ ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َتدْعُونَهُ َتضَرّعًا وَ ُ‬
‫هَ ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ * ُقلِ اللّهُ يُ َنجّيكُمْ مِ ْنهَا َومِنْ ُكلّ كَ ْربٍ ُثمّ أَنْتُمْ ُتشْ ِركُونَ }‬

‫أي { ُقلْ } للمشركين بال‪ ،‬الداعين معه آلهة أخرى‪ ،‬ملزما لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية‪،‬‬
‫على ما أنكروا من توحيد اللهية { مَنْ يُنَجّي ُكمْ مِنْ ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ } أي‪ :‬شدائدهما‬
‫ومشقاتهما‪ ،‬وحين يتعذر أو يتعسر عليكم وجه الحيلة‪ ،‬فتدْعون ربكم تضرعا بقلب خاضع‪ ،‬ولسان‬
‫ل يزال يلهج بحاجته في الدعاء‪ ،‬وتقولون وأنتم في تلك الحال‪ { :‬لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَ ِذهِ } الشدة التي‬
‫وقعنا فيها { لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ } ل‪ ،‬أي المعترفين بنعمته‪ ،‬الواضعين لها في طاعة ربهم‪،‬‬
‫الذين حفظوها عن أن يبذلوها في معصيته‪.‬‬

‫{ ُقلِ اللّهُ يُنَجّي ُكمْ مِ ْنهَا َومِنْ ُكلّ كَ ْربٍ } أي‪ :‬من هذه الشدة الخاصة‪ ،‬ومن جميع الكروب العامة‪{ .‬‬
‫ثُمّ أَنْ ُتمْ تُشْ ِركُونَ } ل تفون ل بما قلتم‪ ،‬وتنسون نعمه عليكم‪ ،‬فأي برهان أوضح من هذا على‬
‫بطلن الشرك‪ ،‬وصحة التوحيد؟"‬

‫حتِ أَ ْرجُِلكُمْ َأوْ‬


‫عذَابًا مِنْ َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِنْ تَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 67 - 65‬قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَى أَنْ يَ ْب َعثَ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ انْظُرْ كَ ْيفَ ُنصَ ّرفُ الْآيَاتِ َلعَّلهُمْ َيفْ َقهُونَ * َوكَ ّذبَ بِهِ َق ْو ُمكَ‬
‫سكُمْ شِ َيعًا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬
‫يَلْبِ َ‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ }‬
‫ستُ عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ * ِل ُكلّ نَبَإٍ مُسْ َتقَ ّر وَ َ‬
‫حقّ ُقلْ لَ ْ‬
‫وَ ُهوَ الْ َ‬
‫حتِ أَ ْرجُِلكُمْ َأوْ‬
‫أي‪ :‬هو تعالى قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة‪ { .‬مِنْ َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِنْ تَ ْ‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ } أي‪ :‬في الفتنة‪ ،‬وقتل بعضكم بعضا‪.‬‬
‫سكُمْ } أي‪ :‬يخلطكم { شِ َيعًا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬
‫يَلْبِ َ‬

‫فهو قادر على ذلك كله‪ ،‬فاحذروا من القامة على معاصيه‪ ،‬فيصيبكم من العذاب ما يتلفكم‬
‫ويمحقكم‪ ،‬ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك‪ .‬ولكن من رحمته‪ ،‬أن رفع عن هذه المة العذاب‬
‫من فوقهم بالرجم والحصب‪ ،‬ونحوه‪ ،‬ومن تحت أرجلهم بالخسف‪.‬‬

‫ولكن عاقب من عاقب منهم‪ ،‬بأن أذاق بعضهم بأس بعض‪ ،‬وسلط بعضهم على بعض‪ ،‬عقوبة‬
‫عاجلة يراها المعتبرون‪ ،‬ويشعر بها العالمون‬

‫{ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ُنصَرّفُ الْآيَاتِ } أي‪ :‬ننوعها‪ ،‬ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحق‪.‬‬
‫{ َلعَّل ُهمْ َيفْ َقهُونَ } أي‪ :‬يفهمون ما خلقوا من أجله‪ ،‬ويفقهون الحقائق الشرعية‪ ،‬والمطالب اللهية‪.‬‬

‫ستُ‬
‫{ َوكَ ّذبَ بِهِ } أي‪ :‬بالقرآن { َق ْو ُمكَ وَ ُهوَ ا ْلحَقّ } الذي ل مرية فيه‪ ،‬ول شك يعتريه‪ُ { .‬قلْ لَ ْ‬
‫عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ } أحفظ أعمالكم‪ ،‬وأجازيكم عليها‪ ،‬وإنما أنا منذر ومبلغ‪.‬‬

‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ } ما‬


‫{ ِل ُكلّ نَبَإٍ مُسْ َتقَرّ } أي‪ :‬وقت يستقر فيه‪ ،‬وزمان ل يتقدم عنه ول يتأخر‪ { .‬وَ َ‬
‫توعدون به من العذاب‪.‬‬

‫حدِيثٍ‬
‫{ ‪ { } 69 ، 68‬وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ حَتّى َيخُوضُوا فِي َ‬
‫غَيْ ِر ِه وَِإمّا يُنْسِيَ ّنكَ الشّ ْيطَانُ فَلَا َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَى مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ * َومَا عَلَى الّذِينَ يَ ّتقُونَ مِنْ‬
‫شيْ ٍء وََلكِنْ ِذكْرَى َلعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ }‬
‫حسَا ِبهِمْ مِنْ َ‬
‫ِ‬

‫المراد بالخوض في آيات ال‪ :‬التكلم بما يخالف الحق‪ ،‬من تحسين المقالت الباطلة‪ ،‬والدعوة إليها‪،‬‬
‫ومدح أهلها‪ ،‬والعراض عن الحق‪ ،‬والقدح فيه وفي أهله‪ ،‬فأمر ال رسوله أصل‪ ،‬وأمته تبعا‪ ،‬إذا‬
‫رأوا من يخوض بآيات ال بشيء مما ذكر‪ ،‬بالعراض عنهم‪ ،‬وعدم حضور مجالس الخائضين‬
‫بالباطل‪ ،‬والستمرار على ذلك‪ ،‬حتى يكون البحث والخوض في كلم غيره‪ ،‬فإذا كان في كلم‬
‫غيره‪ ،‬زال النهي المذكور‪.‬‬

‫فإن كان مصلحة كان مأمورا به‪ ،‬وإن كان غير ذلك‪ ،‬كان غير مفيد ول مأمور به‪ ،‬وفي ذم‬
‫الخوض بالباطل‪ ،‬حث على البحث‪ ،‬والنظر‪ ،‬والمناظرة بالحق‪ .‬ثم قال‪ { :‬وَِإمّا يُنْسِيَ ّنكَ الشّيْطَانُ }‬
‫أي‪ :‬بأن جلست معهم‪ ،‬على وجه النسيان والغفلة‪ { .‬فَلَا َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَى مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }‬
‫يشمل الخائضين بالباطل‪ ،‬وكل متكلم بمحرم‪ ،‬أو فاعل لمحرم‪ ،‬فإنه يحرم الجلوس والحضور عند‬
‫حضور المنكر‪ ،‬الذي ل يقدر على إزالته‪.‬‬

‫هذا النهي والتحريم‪ ،‬لمن جلس معهم‪ ،‬ولم يستعمل تقوى ال‪ ،‬بأن كان يشاركهم في القول والعمل‬
‫المحرم‪ ،‬أو يسكت عنهم‪ ،‬وعن النكار‪ ،‬فإن استعمل تقوى ال تعالى‪ ،‬بأن كان يأمرهم بالخير‪،‬‬
‫وينهاهم عن الشر والكلم الذي يصدر منهم‪ ،‬فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه‪ ،‬فهذا ليس‬
‫شيْءٍ وََلكِنْ ِذكْرَى َلعَّلهُمْ‬
‫حسَا ِبهِمْ مِنْ َ‬
‫عليه حرج ول إثم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا عَلَى الّذِينَ يَ ّتقُونَ مِنْ ِ‬
‫يَ ّتقُونَ } أي‪ :‬ولكن ليذكرهم‪ ،‬ويعظهم‪ ،‬لعلهم يتقون ال تعالى‪.‬‬

‫وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكّرُ من الكلم‪ ،‬ما يكون أقرب إلى حصول مقصود‬
‫التقوى‪ .‬وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ‪ ،‬مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره‪ ،‬إلى أن‬
‫تركه هو الواجب لنه إذا ناقض المقصود‪ ،‬كان تركه مقصودا‪.‬‬

‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا‬


‫خذُوا دِي َنهُمْ َلعِبًا وََل ْهوًا وَغَرّ ْتهُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َو َذكّرْ بِهِ أَنْ تُ ْب َ‬
‫{ ‪ { } 70‬وَذَرِ الّذِينَ اتّ َ‬
‫خذْ مِ ْنهَا أُولَ ِئكَ الّذِينَ أُ ْبسِلُوا‬
‫شفِي ٌع وَإِنْ َتعْ ِدلْ ُكلّ عَ ْدلٍ لَا ُيؤْ َ‬
‫ي وَلَا َ‬
‫كَسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَِل ّ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ }‬
‫حمِي ٍم وَ َ‬
‫ِبمَا كَسَبُوا َلهُمْ شَرَابٌ مِنْ َ‬

‫المقصود من العباد‪ ،‬أن يخلصوا ل الدين‪ ،‬بأن يعبدوه وحده ل شريك له‪ ،‬ويبذلوا مقدورهم في‬
‫مرضاته ومحابه‪ .‬وذلك متضمن لقبال القلب على ال وتوجهه إليه‪ ،‬وكون سعي العبد نافعا‪،‬‬
‫وجدّا‪ ،‬ل هزل‪ ،‬وإخلصا لوجه ال‪ ،‬ل رياء وسمعة‪ ،‬هذا هو الدين الحقيقي‪ ،‬الذي يقال له دين‪،‬‬
‫فأما من زعم أنه على الحق‪ ،‬وأنه صاحب دين وتقوى‪ ،‬وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا‪ .‬بأن َلهَا قلبُه عن‬
‫محبة ال ومعرفته‪ ،‬وأقبل على كل ما يضره‪ ،‬وَلهَا في باطله‪ ،‬ولعب فيه ببدنه‪ ،‬لن العمل والسعي‬
‫إذا كان لغير ال‪ ،‬فهو لعب‪ ،‬فهذا َأمَر ال تعالى أن يترك ويحذر‪ ،‬ول يغتر به‪ ،‬وتنظر حاله‪،‬‬
‫ويحذر من أفعاله‪ ،‬ول يغتر بتعويقه عما يقرب إلى ال‪.‬‬

‫{ وَ َذكّرْ ِبهِ } أي‪ :‬ذكر بالقرآن‪ ،‬ما ينفع العباد‪ ،‬أمرا‪ ،‬وتفصيل‪ ،‬وتحسينا له‪ ،‬بذكر ما فيه من‬
‫أوصاف الحسن‪ ،‬وما يضر العباد نهيا عنه‪ ،‬وتفصيل لنواعه‪ ،‬وبيان ما فيه‪ ،‬من الوصاف‬
‫القبيحة الشنيعة‪ ،‬الداعية لتركه‪ ،‬وكل هذا لئل تبسل نفس بما كسبت‪ ،‬أي‪ :‬قبل اقتحام العبد للذنوب‬
‫وتجرئه على علم الغيوب‪ ،‬واستمرارها على ذلك المرهوب‪ ،‬فذكرها‪ ،‬وعظها‪ ،‬لترتدع وتنزجر‪،‬‬
‫وتكف عن فعلها‪.‬‬
‫شفِيعٌ } أي‪ :‬قبل [أن] تحيط بها ذنوبها‪ ،‬ثم ل ينفعها أحد‬
‫وقوله { لَ ْيسَ َلهَا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَِليّ وَلَا َ‬
‫من الخلق‪ ،‬ل قريب ول صديق‪ ،‬ول يتولها من دون ال أحد‪ ،‬ول يشفع لها شافع { وَإِنْ َتعْ ِدلْ ُكلّ‬
‫عَ ْدلٍ } أي‪ :‬تفتدي بكل فداء‪ ،‬ولو بملء الرض ذهبا { لَا ُيؤْخَذْ مِ ْنهَا } أي‪ :‬ل يقبل ول يفيد‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الموصوفون بما ذكر { الّذِينَ أُبْسِلُوا } أي‪ :‬أهلكوا وأيسوا من الخير‪ ،‬وذلك { ِبمَا كَسَبُوا‬
‫حمِيمٍ } أي‪ :‬ماء حار قد انتهى حره‪ ،‬يشوي وجوههم‪ ،‬ويقطع أمعاءهم { وَعَذَابٌ‬
‫َلهُمْ شَرَابٌ مِنْ َ‬
‫أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ }‬

‫عقَابِنَا َبعْدَ إِذْ هَدَانَا‬


‫{ ‪ُ { } 73 - 71‬قلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َفعُنَا وَلَا َيضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَى أَ ْ‬
‫اللّهُ كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الْأَ ْرضِ حَيْرَانَ لَهُ َأصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ا ْل ُهدَى ائْتِنَا ُقلْ إِنّ هُدَى‬
‫حشَرُونَ *‬
‫اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَُأمِرْنَا لِنُسِْلمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَأَنْ َأقِيمُوا الصّلَا َة وَاتّقُو ُه وَ ُهوَ الّذِي إِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي‬
‫ق وَ َيوْمَ َيقُولُ كُنْ فَ َيكُونُ َقوْلُهُ ا ْلحَ ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَ ّ‬
‫وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ }‬
‫شهَا َد ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫ب وَال ّ‬
‫الصّورِ عَالِمُ ا ْلغَ ْي ِ‬

‫{ ُقلْ } يا أيها الرسول للمشركين بال‪ ،‬الداعين معه غيره‪ ،‬الذين يدعونكم إلى دينهم‪ ،‬مبينا‬
‫وشارحا لوصف آلهتهم‪ ،‬التي يكتفي العاقل بذكر وصفها‪ ،‬عن النهي عنها‪ ،‬فإن كل عاقل إذا‬
‫تصور مذهب المشركين جزم ببطلنه‪ ،‬قبل أن تقام البراهين على ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬أَنَدْعُو مِنْ دُونِ‬
‫اللّهِ مَا لَا يَ ْن َفعُنَا وَلَا َيضُرّنَا } وهذا وصف‪ ،‬يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون ال‪ ،‬فإنه ل ينفع ول‬
‫يضر‪ ،‬وليس له من المر شيء‪ ،‬إن المر إل ل‪.‬‬

‫عقَابِنَا َبعْدَ إِذْ َهدَانَا اللّهُ } أي‪ :‬وننقلب بعد هداية ال لنا إلى الضلل‪ ،‬ومن الرشد إلى‬
‫{ وَنُرَدّ عَلَى أَ ْ‬
‫الغي‪ ،‬ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم‪ ،‬إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الليم‪.‬‬
‫فهذه حال ل يرتضيها ذو رشد‪ ،‬وصاحبها { كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬أضلته‬
‫وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده‪ .‬فبقي { حَيْرَانَ لَهُ َأصْحَابٌ َيدْعُونَهُ إِلَى‬
‫ا ْلهُدَى } والشياطين يدعونه إلى الردى‪ ،‬فبقي بين الداعيين حائرا وهذه حال الناس كلهم‪ ،‬إل من‬
‫عصمه ال تعالى‪ ،‬فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي متعارضة‪ ،‬دواعي الرسالة والعقل‬
‫الصحيح‪ ،‬والفطرة المستقيمة { يَدْعُونَهُ ِإلَى ا ْل ُهدَى } والصعود إلى أعلى عليين‪.‬‬

‫ودواعي الشيطان‪ ،‬ومن سلك مسلكه‪ ،‬والنفس المارة بالسوء‪ ،‬يدعونه إلى الضلل‪ ،‬والنزول إلى‬
‫أسفل سافلين‪ ،‬فمن الناس من يكون مع داعي الهدى‪ ،‬في أموره كلها أو أغلبها‪ ،‬ومنهم من بالعكس‬
‫من ذلك‪ .‬ومنهم من يتساوى لديه الداعيان‪ ،‬ويتعارض عنده الجاذبان‪ ،‬وفي هذا الموضع‪ ،‬تعرف‬
‫أهل السعادة من أهل الشقاوة‪.‬‬
‫وقوله‪ُ { :‬قلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْل ُهدَى } أي‪ :‬ليس الهدى إل الطريق التي شرعها ال على لسان‬
‫رسوله‪ ،‬وما عداه‪ ،‬فهو ضلل وردى وهلك‪ { .‬وَُأمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } بأن ننقاد لتوحيده‪،‬‬
‫ونستسلم لوامره ونواهيه‪ ،‬وندخل تحت عبوديته‪ ،‬فإن هذا أفضل نعمة أنعم ال بها على العباد‪،‬‬
‫وأكمل تربية أوصلها إليهم‪.‬‬

‫{ وَأَنْ َأقِيمُوا الصّلَاةَ } أي‪ :‬وأمرنا أن نقيم الصلة بأركانها وشروطها وسننها ومكملتها‪ { .‬وَا ّتقُوهُ‬
‫جمَعون ليوم القيامة‪،‬‬
‫حشَرُونَ } أي‪ :‬تُ ْ‬
‫} بفعل ما أمر به‪ ،‬واجتناب ما عنه نهى‪ { .‬وَ ُهوَ الّذِي إِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫فيجازيكم بأعمالكم‪ ،‬خيرها وشرها‪.‬‬

‫حقّ } ليأمر العباد وينهاهم‪ ،‬ويثيبهم ويعاقبهم‪ { ،‬وَ َيوْمَ‬


‫ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫حقّ } الذي ل مرية فيه ول مثنوية‪ ،‬ول يقول شيئا عبثا { وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ‬
‫َيقُولُ كُنْ فَ َيكُونُ َقوْلُهُ الْ َ‬
‫يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ } أي‪ :‬يوم القيامة‪ ،‬خصه بالذكر –مع أنه مالك كل شيء‪ -‬لنه تنقطع فيه‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ } الذي له‬
‫شهَا َد ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫ب وَال ّ‬
‫الملك‪ ،‬فل يبقى ملك إل ال الواحد القهار‪ { .‬عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫الحكمة التامة‪ ،‬والنعمة السابغة‪ ،‬والحسان العظيم‪ ،‬والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا‪ ،‬ل‬
‫إله إل هو‪ ،‬ول رب سواه‪.‬‬

‫ك َو َق ْو َمكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‬


‫{ ‪ { } 83 - 74‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَامًا آِلهَةً إِنّي أَرَا َ‬
‫ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ } إلى آخر القصة‪.‬‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫* َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬

‫يقول تعالى‪ :‬واذكر قصة إبراهيم‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ ،‬مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى‬
‫التوحيد‪ ،‬ونهيه عن الشرك‪ ،‬وإذ قال لبيه { آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَامًا آِلهَةً } أي‪ :‬ل تنفع ول تضر وليس‬
‫ك َو َق ْو َمكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث عبدتم من ل يستحق من العبادة‬
‫لها من المر شيء‪ { ،‬إِنّي أَرَا َ‬
‫شيئا‪ ،‬وتركتم عبادة خالقكم‪ ،‬ورازقكم‪ ،‬ومدبركم‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪:‬‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َوكَذَِلكَ } حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه { نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫ليرى ببصيرته‪ ،‬ما اشتملت عليه من الدلة القاطعة‪ ،‬والبراهين الساطعة { وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ }‬
‫فإنه بحسب قيام الدلة‪ ،‬يحصل له اليقان والعلم التام بجميع المطالب‪.‬‬

‫{ فََلمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّ ْيلُ } أي‪ :‬أظلم { رَأَى َك ْوكَبًا } لعله من الكواكب المضيئة‪ ،‬لن تخصيصه‬
‫بالذكر‪ ،‬يدل على زيادته عن غيره‪ ،‬ولهذا ‪-‬وال أعلم‪ -‬قال من قال‪ :‬إنه الزهرة‪.‬‬
‫{ قَالَ َهذَا رَبّي } أي‪ :‬على وجه التنزل مع الخصم أي‪ :‬هذا ربي‪ ،‬فهلم ننظر‪ ،‬هل يستحق‬
‫الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه ل ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه‪ ،‬بغير حجة ول‬
‫برهان‪.‬‬

‫حبّ الْآفِلِينَ } أي‪ :‬الذي يغيب ويختفي عمن عبده‪،‬‬


‫{ فََلمّا َأ َفلَ } أي‪ :‬غاب ذلك الكوكب { قَالَ لَا ُأ ِ‬
‫فإن المعبود ل بد أن يكون قائما بمصالح من عبده‪ ،‬ومدبرا له في جميع شئونه‪ ،‬فأما الذي يمضي‬
‫وقت كثير وهو غائب‪ ،‬فمن أين يستحق العبادة؟! وهل اتخاذه إلها إل من أسفه السفه‪ ،‬وأبطل‬
‫الباطل؟!‬

‫{ فََلمّا رَأَى ا ْلقَمَرَ بَازِغًا } أي‪ :‬طالعا‪ ،‬رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها { قَالَ َهذَا رَبّي‬
‫} تنزل‪ { .‬فََلمّا َأ َفلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ َي ْهدِنِي رَبّي لََأكُونَنّ مِنَ ا ْل َقوْمِ الضّالّينَ } فافتقر غاية الفتقار إلى‬
‫هداية ربه‪ ،‬وعلم أنه إن لم يهده ال فل هادي له‪ ،‬وإن لم يعنه على طاعته‪ ،‬فل معين له‪.‬‬

‫شمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّي َهذَا َأكْبَرُ } من الكوكب ومن القمر‪ { .‬فََلمّا َأفََلتْ } تقرر‬
‫{ فََلمّا رَأَى ال ّ‬
‫حينئذ الهدى‪ ،‬واضمحل الردى فـ { قَالَ يَا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ِممّا تُشْ ِركُونَ } حيث قام البرهان‬
‫الصادق الواضح‪ ،‬على بطلنه‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضَ حَنِيفًا } أي‪ :‬ل وحده‪ ،‬مقبل عليه‪ ،‬معرضا‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫ج ِهيَ لِلّذِي َفطَرَ ال ّ‬
‫ت وَ ْ‬
‫ج ْه ُ‬
‫{ إِنّي وَ ّ‬
‫عن من سواه‪َ { .‬ومَا أَنَا مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ } فتبرأ من الشرك‪ ،‬وأذعن بالتوحيد‪ ،‬وأقام على ذلك‬
‫البرهان [وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه اليات‪ ،‬هو الصواب‪ ،‬وهو أن المقام مقام مناظرة‪ ،‬من‬
‫إبراهيم لقومه‪ ،‬وبيان بطلن إلهية هذه الجرام العلوية وغيرها‪ .‬وأما من قال‪ :‬إنه مقام نظر في‬
‫حال طفوليته‪ ،‬فليس عليه دليل]‬

‫{ وَحَاجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَ ُتحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ َهدَانِ } أيّ فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى؟ فأما‬
‫من هداه ال‪ ،‬ووصل إلى أعلى درجات اليقين‪ ،‬فإنه –هو بنفسه‪ -‬يدعو الناس إلى ما هو عليه‪.‬‬

‫{ وَلَا َأخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ } فإنها لن تضرني‪ ،‬ولن تمنع عني من النفع شيئا‪ { .‬إِلّا أَنْ َيشَاءَ رَبّي‬
‫ع ْلمًا َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ } فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية‪.‬‬
‫شيْءٍ ِ‬
‫شَيْئًا وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ‬

‫{ َوكَ ْيفَ أَخَافُ مَا أَشْ َركْ ُتمْ } وحالها حال العجز‪ ،‬وعدم النفع‪ { ،‬وَلَا تَخَافُونَ أَ ّنكُمْ أَشْ َركْتُمْ بِاللّهِ مَا لَمْ‬
‫حقّ بِالَْأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫يُنَ ّزلْ بِهِ عَلَ ْيكُمْ سُلْطَانًا } أي‪ :‬إل بمجرد اتباع الهوى‪ { .‬فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ أَ َ‬
‫َتعَْلمُونَ }‬
‫قال ال تعالى فاصل بين الفريقين { الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا } أي‪ :‬يخلطوا { إِيمَا َنهُمْ بِظُ ْلمٍ أُولَ ِئكَ‬
‫ن وَ ُهمْ ُمهْتَدُونَ } المن من المخاوفِ والعذاب والشقاء‪ ،‬والهدايةُ إلى الصراط المستقيم‪،‬‬
‫َلهُمُ الَْأمْ ُ‬
‫فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا‪ ،‬ل بشرك‪ ،‬ول بمعاص‪ ،‬حصل لهم المن التام‪ ،‬والهداية‬
‫التامة‪ .‬وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده‪ ،‬ولكنهم يعملون السيئات‪ ،‬حصل لهم أصل‬
‫الهداية‪ ،‬وأصل المن‪ ،‬وإن لم يحصل لهم كمالها‪ .‬ومفهوم الية الكريمة‪ ،‬أن الذين لم يحصل لهم‬
‫المران‪ ،‬لم يحصل لهم هداية‪ ،‬ول أمن‪ ،‬بل حظهم الضلل والشقاء‪.‬‬

‫ولما حكم لبراهيم عليه السلم‪ ،‬بما بين به من البراهين القاطعة قال‪ { :‬وَتِ ْلكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاهَا‬
‫إِبْرَاهِيمَ عَلَى َقوْمِهِ } أي‪ :‬عل بها عليهم‪ ،‬وفلجهم بها‪.‬‬

‫{ نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مَنْ َنشَاءُ } كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلم في الدنيا والخرة‪ ،‬فإن العلم‬
‫يرفع ال به صاحبه فوق العباد درجات‪ .‬خصوصا العالم العامل المعلم‪ ،‬فإنه يجعله ال إماما‬
‫للناس‪ ،‬بحسب حاله ترمق أفعاله‪ ،‬وتقتفى آثاره‪ ،‬ويستضاء بنوره‪ ،‬ويمشى بعلمه في ظلمة‬
‫ديجوره‪.‬‬

‫قال تعالى { يَ ْرفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ دَ َرجَاتٍ }‬

‫علِيمٌ } فل يضع العلم والحكمة‪ ،‬إل في المحل اللئق بها‪ ،‬وهو أعلم بذلك المحل‪،‬‬
‫حكِيمٌ َ‬
‫{ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫وبما ينبغي له‪.‬‬

‫ل َومِنْ ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ‬


‫ق وَ َيعْقُوبَ كُلّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَ ْب ُ‬
‫{ ‪َ { } 90 - 84‬ووَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَا َ‬
‫حسِنِينَ * وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَى وَعِيسَى‬
‫سفَ َومُوسَى وَهَارُونَ َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫ب وَيُو ُ‬
‫ن وَأَيّو َ‬
‫وَسُلَ ْيمَا َ‬
‫س َع وَيُونُسَ وَلُوطًا َوكُلّا َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ * َومِنْ‬
‫ل وَالْيَ َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫وَإِلْيَاسَ ُكلّ مِنَ الصّالِحِينَ * وَإِ ْ‬
‫خوَا ِنهِ ْم وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * ذَِلكَ ُهدَى اللّهِ َي ْهدِي بِهِ مَنْ‬
‫آبَا ِئهِمْ وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَإِ ْ‬
‫حكْمَ‬
‫يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وََلوْ أَشْ َركُوا لَحَ ِبطَ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ وَالْ ُ‬
‫وَالنّ ُب ّوةَ فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلَاءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َق ْومًا لَيْسُوا ِبهَا ِبكَافِرِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَ ِبهُدَاهُمُ‬
‫اقْتَ ِدهِ ُقلْ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرَى لِ ْلعَاَلمِينَ }‬

‫لما ذكر ال تعالى عبده وخليله‪ ،‬إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وذكر ما مَنّ ال عليه به‪ ،‬من العلم والدعوة‪،‬‬
‫والصبر‪ ،‬ذكر ما أكرمه ال به من الذرية الصالحة‪ ،‬والنسل الطيب‪ .‬وأن ال جعل صفوة الخلق‬
‫من نسله‪ ،‬وأعظم بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة‪ ،‬التي ل يدرك لها نظير فقال‪َ { :‬ووَهَبْنَا لَهُ‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ } ابنه‪ ،‬الذي هو إسرائيل‪ ،‬أبو الشعب الذي فضله ال على العالمين‪.‬‬
‫سحَا َ‬
‫إِ ْ‬
‫{ كُلّا } منهما { هَدَيْنَا } الصراط المستقيم‪ ،‬في علمه وعمله‪.‬‬

‫{ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَ ْبلُ } وهدايته من أنواع الهدايات الخاصة التي لم تحصل إل لفراد من العالم؛‬
‫وهم أولو العزم من الرسل‪ ،‬الذي هو أحدهم‪.‬‬

‫{ َومِنْ ذُرّيّ ِتهِ } يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح‪ ،‬لنه أقرب مذكور‪ ،‬ولن ال ذكر مع من ذكر‬
‫لوطا‪ ،‬وهو من ذرية نوح‪ ،‬ل من ذرية إبراهيم لنه ابن أخيه‪.‬‬

‫ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لن السياق في مدحه والثناء عليه‪ ،‬ولوط ‪-‬وإن لم يكن من‬
‫ذريته‪ -‬فإنه ممن آمن على يده‪ ،‬فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك‪ ،‬أبلغ من كونه مجرد ابن له‪.‬‬

‫سفَ } بن يعقوب‪َ { .‬ومُوسَى وَهَارُونَ } ابني عمران‪،‬‬


‫{ دَاوُ َد وَسُلَ ْيمَانَ } بن داود { وَأَيّوبَ وَيُو ُ‬
‫{ َوكَذَِلكَ } كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل‪ ،‬لنه أحسن في عبادة ربه‪ ،‬وأحسن في نفع الخلق‬
‫{ كذلك نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ } بأن نجعل لهم من الثناء الصدق‪ ،‬والذرية الصالحة‪ ،‬بحسب إحسانهم‪.‬‬

‫{ وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَى } ابنه { وَعِيسَى } ابن مريم‪ { .‬وَإِلْيَاسَ ُكلّ } هؤلء { مِنَ الصّاِلحِينَ } في‬
‫أخلقهم وأعمالهم وعلومهم‪ ،‬بل هم سادة الصالحين وقادتهم وأئمتهم‪.‬‬

‫سمَاعِيلَ } بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب‪ ،‬وهو الشعب العربي‪ ،‬ووالد سيد‬
‫{ وَإِ ْ‬
‫ولد آدم‪ ،‬محمد صلى ال عليه وسلم‪ { .‬وَيُونُسَ } بن متى { وَلُوطًا } بن هاران‪ ،‬أخي إبراهيم‪.‬‬
‫{ َوكُلَا } من هؤلء النبياء والمرسلين { َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } لن درجات الفضائل أربع – وهي‬
‫التي ذكرها ال بقوله‪َ { :‬ومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ َمعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ‬
‫شهَدَا ِء وَالصّاِلحِينَ } فهؤلء من الدرجة العليا‪ ،‬بل هم أفضل الرسل على الطلق‪،‬‬
‫وَالصّدّيقِينَ وَال ّ‬
‫فالرسل الذين قصهم ال في كتابه‪ ،‬أفضل ممن لم يقص علينا نبأهم بل شك‪.‬‬

‫خوَا ِنهِمْ } أي‪ :‬وهدينا من آباء هؤلء‬


‫{ َومِنْ آبَا ِئ ِهمْ } أي‪ :‬آباء هؤلء المذكورين { وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَِإ ْ‬
‫وذرياتهم وإخوانهم‪ { .‬وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } أي‪ :‬اخترناهم { وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ }‬

‫{ ذَِلكَ } الهدى المذكور { هُدَى اللّهِ } الذي ل هدى إل هداه‪َ { .‬ي ْهدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ }‬
‫فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فل هادي لكم غيره‪ ،‬وممن شاء هدايته هؤلء المذكورون‪.‬‬
‫{ وََلوْ أَشْ َركُوا } على الفرض والتقدير { َلحَبِطَ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فإن الشرك محبط للعمل‪،‬‬
‫موجب للخلود في النار‪ .‬فإذا كان هؤلء الصفوة الخيار‪ ،‬لو أشركوا ‪-‬وحاشاهم‪ -‬لحبطت أعمالهم‬
‫فغيرهم أولى‪.‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ } المذكورون { الّذِينَ َهدَى اللّهُ فَ ِب ُهدَاهُمُ اقْتَ ِدهِ } أي‪ :‬امش ‪-‬أيها الرسول الكريم‪ -‬خلف‬
‫هؤلء النبياء الخيار‪ ،‬واتبع ملتهم وقد امتثل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاهتدى بهدي الرسل قبله‪،‬‬
‫وجمع كل كمال فيهم‪ .‬فاجتمعت لديه فضائل وخصائص‪ ،‬فاق بها جميع العالمين‪ ،‬وكان سيد‬
‫المرسلين‪ ،‬وإمام المتقين‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه وعليهم أجمعين‪ ،‬وبهذا الملحظ‪ ،‬استدل بهذه‬
‫من استدل من الصحابة‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أفضل الرسل كلهم‪.‬‬

‫{ ُقلْ } للذين أعرضوا عن دعوتك‪ { :‬لَا أَسَْأُلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي‪ :‬ل أطلب منكم مغرما ومال‪،‬‬
‫جزاء عن إبلغي إياكم‪ ،‬ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم‪ ،‬إن أجري إل على ال‪.‬‬

‫{ إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرَى لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ما ينفعهم‪ ،‬فيفعلونه‪ ،‬وما يضرهم‪ ،‬فيذرونه‪ ،‬ويتذكرون‬
‫به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه‪ .‬ويتذكرون به الخلق الحميدة‪ ،‬والطرق الموصلة إليها‪،‬‬
‫والخلق الرذيلة‪ ،‬والطرق المفضية إليها‪ ،‬فإذا كان ذكرى للعالمين‪ ،‬كان أعظم نعمة أنعم ال بها‬
‫عليهم‪ ،‬فعليهم قبولها والشكر عليها‪.‬‬

‫شيْءٍ ُقلْ مَنْ أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ‬


‫{ ‪َ { } 91‬ومَا َقدَرُوا اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ َ‬
‫خفُونَ كَثِيرًا وَعُّلمْتُمْ مَا َلمْ‬
‫جعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُو َنهَا وَتُ ْ‬
‫الّذِي جَاءَ ِبهِ مُوسَى نُورًا وَ ُهدًى لِلنّاسِ َت ْ‬
‫ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ }‬
‫خ ْو ِ‬
‫َتعَْلمُوا أَنْ ُت ْم وَلَا آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْ ُهمْ فِي َ‬

‫هذا تشنيع على من نفى الرسالة‪[ ،‬من اليهود والمشركين] وزعم أن ال ما أنزل على بشر من‬
‫شيء‪ ،‬فمن قال هذا‪ ،‬فما قدر ال حق قدره‪ ،‬ول عظمه حق عظمته‪ ،‬إذ هذا قدح في حكمته‪ ،‬وزعم‬
‫أنه يترك عباده همل‪ ،‬ل يأمرهم ول ينهاهم‪ ،‬ونفي لعظم منة‪ ،‬امتن ال بها على عباده‪ ،‬وهي‬
‫الرسالة‪ ،‬التي ل طريق للعباد إلى نيل السعادة‪ ،‬والكرامة‪ ،‬والفلح‪ ،‬إل بها‪ ،‬فأي قدح في ال أعظم‬
‫من هذا؟"‬

‫{ ُقلْ ْ} لهم –ملزما بفساد قولهم‪ ،‬وقرّرْهم‪ ،‬بما به يقرون‪ { :-‬مَنْ أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى‬
‫ْ} وهو التوراة العظيمة { نُورًا ْ} في ظلمات الجهل { وَهُدًى ْ} من الضللة‪ ،‬وهاديا إلى الصراط‬
‫المستقيم علما وعمل‪ ،‬وهو الكتاب الذي شاع وذاع‪ ،‬ومل ذكره القلوب والسماع‪ .‬حتى أنهم‬
‫جعلوا يتناسخونه في القراطيس‪ ،‬ويتصرفون فيه بما شاءوا‪ ،‬فما وافق أهواءهم منه‪ ،‬أبدوه‬
‫وأظهروه‪ ،‬وما خالف ذلك‪ ،‬أخفوه وكتموه‪ ،‬وذلك كثير‪.‬‬

‫{ وَعُّلمْتُمْ ْ} من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل { مَا لَمْ َتعَْلمُوا أَنْ ُت ْم وَلَا آبَا ُؤكُمْ ْ} فإذا سألتهم‬
‫عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك الصفات‪ ،‬فأجب عن هذا السؤال‪ .‬و { قل ال ْ} الذي أنزله‪،‬‬
‫فحينئذ يتضح الحق وينجلي مثل الشمس‪ ،‬وتقوم عليهم الحجة‪ ،‬ثم إذا ألزمتهم بهذا اللزام { ذَ ْرهُمْ‬
‫ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ ْ} أي‪ :‬اتركهم يخوضوا في الباطل‪ ،‬ويلعبوا بما ل فائدة فيه‪ ،‬حتى يلقوا‬
‫خ ْو ِ‬
‫فِي َ‬
‫يومهم الذي يوعدون‪.‬‬

‫حوَْلهَا وَالّذِينَ‬
‫{ ‪ { } 92‬وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ ُمصَدّقُ الّذِي بَيْنَ َيدَيْ ِه وَلِتُنْذِرَ أُمّ ا ْلقُرَى َومَنْ َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ }‬

‫صفُه البركة‪ ،‬وذلك لكثرة خيراته‪،‬‬


‫أي‪ { :‬وَ َهذَا ْ} القرآن الذي { أَنْزَلْنَاهُ ْ} إليك { مُبَا َركٌ ْ} أي‪ :‬وَ ْ‬
‫وسعة مبراته‪ُ { .‬مصَدّقُ الّذِي بَيْنَ َيدَيْهِ ْ} أي‪ :‬موافق للكتب السابقة‪ ،‬وشاهد لها بالصدق‪.‬‬

‫حوَْلهَا ْ} أي‪ :‬وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى‪ ،‬وهي‪ :‬مكة المكرمة‪ ،‬ومن‬
‫{ وَلِتُ ْنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَى َومَنْ َ‬
‫حولها‪ ،‬من ديار العرب‪ ،‬بل‪ ،‬ومن سائر البلدان‪ .‬فتحذر الناس عقوبة ال‪ ،‬وأخذه المم‪ ،‬وتحذرهم‬
‫مما يوجب ذلك‪ { .‬وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ ْ} لن الخوف إذا كان في القلب عمرت‬
‫أركانه‪ ،‬وانقاد لمراضي ال‪.‬‬

‫{ وَ ُهمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ ْ} أي‪ :‬يداومون عليها‪ ،‬ويحفظون أركانها وحدودها وشروطها‬
‫وآدابها‪ ،‬ومكملتها‪ .‬جعلنا ال منهم‪.‬‬

‫شيْءٌ َومَنْ‬
‫حيَ إَِليّ وََلمْ يُوحَ إِلَيْهِ َ‬
‫{ ‪َ { } 94 - 93‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ قَالَ أُو ِ‬
‫غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَاسِطُو أَ ْيدِيهِمْ‬
‫قَالَ سَأُنْ ِزلُ مِ ْثلَ مَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫علَى اللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ َوكُنْتُمْ عَنْ آيَا ِتهِ‬
‫سكُمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْتُمْ َتقُولُونَ َ‬
‫أَخْ ِرجُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ظهُورِكُمْ َومَا‬
‫خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ‬
‫تَسْ َتكْبِرُونَ * وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَى َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُمْ مَا َ‬
‫عمُونَ }‬
‫عمْتُمْ أَ ّن ُهمْ فِيكُمْ شُ َركَاءُ َلقَدْ َتقَطّعَ بَيْ َن ُك ْم َوضَلّ عَ ْنكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْ ُ‬
‫ش َفعَا َءكُمُ الّذِينَ زَ َ‬
‫نَرَى َم َعكُمْ ُ‬

‫يقول تعالى‪ :‬ل أحد أعظم ظلما‪ ،‬ول أكبر جرما‪ ،‬ممن كذب [على] ال‪.‬بأن نسب إلى ال قول أو‬
‫حكما وهو تعالى بريء منه‪ ،‬وإنما كان هذا أظلم الخلق‪ ،‬لن فيه من الكذب‪ ،‬وتغيير الديان‬
‫أصولها‪ ،‬وفروعها‪ ،‬ونسبة ذلك إلى ال ‪-‬ما هو من أكبر المفاسد‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك‪ ،‬ادعاء النبوة‪ ،‬وأن ال يوحي إليه‪ ،‬وهو كاذب في ذلك‪ ،‬فإنه ‪ -‬مع كذبه على ال‪،‬‬
‫وجرأته على عظمته وسلطانه‪ -‬يوجب على الخلق أن يتبعوه‪ ،‬ويجاهدهم على ذلك‪ ،‬ويستحل دماء‬
‫من خالفه وأموالهم‪.‬‬
‫ويدخل في هذه الية‪ ،‬كل من ادعى النبوة‪ ،‬كمسيلمة الكذاب والسود العنسي والمختار‪ ،‬وغيرهم‬
‫ممن اتصف بهذا الوصف‪.‬‬

‫{ َومَنْ قَالَ سَأُنْ ِزلُ مِ ْثلَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ْ} أي‪ :‬ومن أظلم ممن زعم‪ .‬أنه يقدر على ما يقدر ال عليه‬
‫ويجاري ال في أحكامه‪ ،‬ويشرع من الشرائع‪ ،‬كما شرعه ال‪ .‬ويدخل في هذا‪ ،‬كل من يزعم أنه‬
‫يقدر على معارضة القرآن‪ ،‬وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله‪ .‬وأي‪ :‬ظلم أعظم من دعوى الفقير‬
‫العاجز بالذات‪ ،‬الناقص من كل وجه‪ ،‬مشاركةَ القوي الغني‪ ،‬الذي له الكمال المطلق‪ ،‬من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬في ذاته وأسمائه وصفاته؟"‬

‫ولما ذم الظالمين‪ ،‬ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الحتضار‪ ،‬ويوم القيامة فقال‪ { :‬وََلوْ تَرَى‬
‫غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ ْ} أي‪ :‬شدائده وأهواله الفظيعة‪ ،‬وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا‬
‫إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫هائل‪ ،‬وحالة ل يقدر الواصف أن يصفها‪.‬‬

‫{ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَاسِطُو أَ ْيدِيهِمْ ْ} إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب‪ ،‬يقولون لهم عند‬
‫عذَابَ‬
‫س ُكمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ َ‬
‫منازعة أرواحهم وقلقها‪ ،‬وتعصيها للخروج من البدان‪َ { :‬أخْرِجُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ا ْلهُونِ ْ} أي‪ :‬العذاب الشديد‪ ،‬الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل‪ ،‬فإن هذا العذاب { ِبمَا‬
‫كُنْتُمْ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ ْ} من كذبكم عليه‪ ،‬وردكم للحق‪ ،‬الذي جاءت به الرسل‪َ { .‬وكُنْتُمْ‬
‫عَنْ آيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ ْ} أي‪ :‬تَ َرفّعون عن النقياد لها‪ ،‬والستسلم لحكامها‪ .‬وفي هذا دليل على‬
‫عذاب البرزخ ونعيمه‪ ،‬فإن هذا الخطاب‪ ،‬والعذاب الموجه إليهم‪ ،‬إنما هو عند الحتضار وقبيل‬
‫الموت وبعده‪.‬‬

‫وفيه دليل‪ ،‬على أن الروح جسم‪ ،‬يدخل ويخرج‪ ،‬ويخاطب‪ ،‬ويساكن الجسد‪ ،‬ويفارقه‪ ،‬فهذه حالهم‬
‫في البرزخ‪.‬‬

‫وأما يوم القيامة‪ ،‬فإنهم إذا وردوها‪ ،‬وردوها مفلسين فرادى بل أهل ول مال‪ ،‬ول أولد ول جنود‪،‬‬
‫ول أنصار‪ ،‬كما خلقهم ال أول مرة‪ ،‬عارين من كل شيء‪.‬‬

‫فإن الشياء‪ ،‬إنما تتمول وتحصل بعد ذلك‪ ،‬بأسبابها‪ ،‬التي هي أسبابها‪ ،‬وفي ذلك اليوم تنقطع‬
‫جميع المور‪ ،‬التي كانت مع العبد في الدنيا‪ ،‬سوى العمل الصالح والعمل السيء‪ ،‬الذي هو مادة‬
‫الدار الخرة‪ ،‬الذي تنشأ عنه‪ ،‬ويكون حسنها وقبحها‪ ،‬وسرورها وغمومها‪ ،‬وعذابها ونعيمها‪،‬‬
‫بحسب العمال‪ .‬فهي التي تنفع أو تضر‪ ،‬وتسوء أو تسر‪ ،‬وما سواها من الهل والولد‪ ،‬والمال‬
‫والنصار‪ ،‬فعواري خارجية‪ ،‬وأوصاف زائلة‪ ،‬وأحوال حائلة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬
‫خوّلْنَاكُمْ ْ} أي‪ :‬أعطيناكم‪ ،‬وأنعمنا به عليكم‬
‫{ وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَى َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ وَتَ َركْتُمْ مَا َ‬
‫عمْ ُتمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَاءُ‬
‫ش َفعَا َءكُمُ الّذِينَ زَ َ‬
‫ظهُو ِركُمْ ْ} ل يغنون عنكم شيئا { َومَا نَرَى َم َعكُمْ ُ‬
‫{ وَرَاءَ ُ‬
‫ْ}‬

‫فإن المشركين يشركون بال‪ ،‬ويعبدون معه الملئكة‪ ،‬والنبياء‪ ،‬والصالحين‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وهم كلهم‬
‫ل‪ ،‬ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم‪ ،‬وشركة في عبادتهم‪ ،‬وهذا زعم منهم‬
‫وظلم‪ ،‬فإن الجميع عبيد ل‪ ،‬وال مالكهم‪ ،‬والمستحق لعبادتهم‪ .‬فشركهم في العبادة‪ ،‬وصرفها‬
‫لبعض العبيد‪ ،‬تنزيل لهم منزلة الخالق المالك‪ ،‬فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة‪.‬‬

‫عمْ ُتمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَاءُ َلقَدْ َتقَطّعَ بَيْ َنكُمْ ْ} أي‪ :‬تقطعت الوصل‬
‫ش َفعَا َءكُمُ الّذِينَ زَ َ‬
‫{ َومَا نَرَى َم َعكُمْ ُ‬
‫ضلّ عَ ْنكُمْ مَا كُنْتُمْ‬
‫والسباب بينكم وبين شركائكم‪ ،‬من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم ُتجْد شيئا‪َ { .‬و َ‬
‫عمُونَ ْ} من الربح‪ ،‬والمن والسعادة‪ ،‬والنجاة‪ ،‬التي زينها لكم الشيطان‪ ،‬وحسنها في قلوبكم‪،‬‬
‫تَزْ ُ‬
‫فنطقت بها ألسنتكم‪ .‬واغتررتم بهذا الزعم الباطل‪ ،‬الذي ل حقيقة له‪ ،‬حين تبين لكم نقيض ما كنتم‬
‫تزعمون‪ ،‬وظهر أنكم الخاسرون لنفسكم وأهليكم وأموالكم‪.‬‬

‫حيّ‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ الْ َ‬
‫ب وَال ّنوَى يُخْرِجُ الْ َ‬
‫ح ّ‬
‫{ ‪ { } 98 - 95‬إِنّ اللّهَ فَاِلقُ الْ َ‬
‫س وَا ْلقَمَرَ حُسْبَانًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ‬
‫شمْ َ‬
‫سكَنًا وَال ّ‬
‫ج َعلَ اللّ ْيلَ َ‬
‫ح وَ َ‬
‫ذَِلكُمُ اللّهُ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ * فَاِلقُ الِْإصْبَا ِ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ النّجُومَ لِ َتهْتَدُوا ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ قَدْ َفصّلْنَا الْآيَاتِ‬
‫ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ * وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫س وَاحِ َدةٍ َفمُسْ َتقَ ّر َومُسْ َتوْ َدعٌ َقدْ َفصّلْنَا الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َيفْ َقهُونَ }‬
‫ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ * وَ ُهوَ الّذِي أَنْشََأكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬

‫يخبر تعالى عن كماله‪ ،‬وعظمة سلطانه‪ ،‬وقوة اقتداره‪ ،‬وسعة رحمته‪ ،‬وعموم كرمه‪ ،‬وشدة عنايته‬
‫حبّ } شامل لسائر الحبوب‪ ،‬التى يباشر الناس زرعها‪ ،‬والتي ل‬
‫بخلقه‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْ َ‬
‫يباشرونها‪ ،‬كالحبوب التي يبثها ال في البراري والقفار‪ ،‬فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت‪،‬‬
‫على اختلف أنواعها‪ ،‬وأشكالها‪ ،‬ومنافعها‪ ،‬ويفلق النوى عن الشجار‪ ،‬من النخيل والفواكه‪ ،‬وغير‬
‫ذلك‪ .‬فينتفع الخلق‪ ،‬من الدميين والنعام‪ ،‬والدواب‪.‬ويرتعون فيما فلق ال من الحب والنوى‪،‬‬
‫ويقتاتون‪ ،‬وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها ال في ذلك‪.‬ويريهم ال من بره وإحسانه ما‬
‫يبهر العقول‪ ،‬ويذهل الفحول‪ ،‬ويريهم من بدائع صنعته‪ ،‬وكمال حكمته‪ ،‬ما به يعرفونه ويوحدونه‪،‬‬
‫ويعلمون أنه هو الحق‪ ،‬وأن عبادة ما سواه باطلة‪.‬‬

‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ } كما يخرج من المني حيوانا‪ ،‬ومن البيضة فرخا‪ ،‬ومن الحب والنوى‬
‫{ ُيخْرِجُ ا ْل َ‬
‫زرعا وشجرا‪.‬‬
‫حيّ } كما يخرج من الشجار‬
‫{ َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ } وهو الذي ل نمو فيه‪ ،‬أو ل روح { مِنَ الْ َ‬
‫والزروع النوى والحب‪ ،‬ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } الذي فعل ما فعل‪ ،‬وانفرد بخلق هذه الشياء وتدبيرها { اللّهُ } رَ ّبكُمْ أي‪ :‬الذي له اللوهية‬
‫والعبادة على خلقه أجمعين‪ ،‬وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه‪ ،‬وغذاهم بكرمه‪ { .‬فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ‬
‫} أي‪ :‬فأنى تصرفون‪ ،‬وتصدون عن عبادة من هذا شأنه‪ ،‬إلى عبادة من ل يملك لنفسه نفعا ول‬
‫ضرا‪ ،‬ول موتا‪ ،‬ول حياة‪ ،‬ول نشورا؟"‬

‫ولما ذكر تعالى مادة خلق القوات‪ ،‬ذكر منته بتهيئة المساكن‪ ،‬وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد‪ ،‬من‬
‫الضياء والظلمة‪ ،‬وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال‪ { :‬فَالِقُ الِْإصْبَاحِ } أي‪:‬‬
‫كما أنه فالق الحب والنوى‪ ،‬كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي‪ ،‬الشامل لما على وجه الرض‪،‬‬
‫بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا‪ ،‬حتى تذهب ظلمة الليل كلها‪ ،‬ويخلفها الضياء والنور العام‪،‬‬
‫الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم‪ ،‬ومعايشهم‪ ،‬ومنافع دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والستقرار والراحة‪ ،‬التي ل تتم بوجود النهار والنور‬
‫سكَنًا } يسكن فيه الدميون إلى دورهم ومنامهم‪ ،‬والنعام إلى مأواها‪،‬‬
‫ج َعلَ } ال { اللّ ْيلَ َ‬
‫{ َ‬
‫والطيور إلى أوكارها‪ ،‬فتأخذ نصيبها من الراحة‪ ،‬ثم يزيل ال ذلك بالضياء‪ ،‬وهكذا أبدا إلى يوم‬
‫القيامة { و } جعل تعالى { الشمس وَا ْل َقمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الزمنة والوقات‪ ،‬فتنضبط بذلك‬
‫أوقات العبادات‪ ،‬وآجال المعاملت‪ ،‬ويعرف بها مدة ما مضى من الوقات التي لول وجود‬
‫الشمس والقمر‪ ،‬وتناوبهما واختلفهما ‪ -‬لما عرف ذلك عامة الناس‪ ،‬واشتركوا في علمه‪ ،‬بل كان‬
‫ل يعرفه إل أفراد من الناس‪ ،‬بعد الجتهاد‪ ،‬وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } التقدير المذكور { َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ } الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات‬
‫العظيمة‪ ،‬فجرت مذللة مسخرة بأمره‪ ،‬بحيث ل تتعدى ما حده ال لها‪ ،‬ول تتقدم عنه ول تتأخر‬
‫{ ا ْلعَلِيمُ } الذي أحاط علمه‪ ،‬بالظواهر والبواطن‪ ،‬والوائل والواخر‪.‬‬

‫ومن الدلة العقلية على إحاطة علمه‪ ،‬تسخير هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬على تقدير‪ ،‬ونظام بديع‪،‬‬
‫تحيّرُ العقول في حسنه وكماله‪ ،‬وموافقته للمصالح والحكم‪.‬‬

‫ج َعلَ َلكُمُ النّجُومَ لِ َتهْ َتدُوا ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ } حين تشتبه عليكم المسالك‪،‬‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫ويتحير في سيره السالك‪ ،‬فجعل ال النجوم هداية للخلق إلى السبل‪ ،‬التي يحتاجون إلى سلوكها‬
‫لمصالحهم‪ ،‬وتجاراتهم‪ ،‬وأسفارهم‪.‬‬
‫منها‪ :‬نجوم ل تزال ترى‪ ،‬ول تسير عن محلها‪ ،‬ومنها‪ :‬ما هو مستمر السير‪ ،‬يعرف سيرَه أهل‬
‫المعرفة بذلك‪ ،‬ويعرفون به الجهات والوقات‪.‬‬

‫ودلت هذه الية ونحوها‪ ،‬على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها الذي يسمى علم التسيير‪ ،‬فإنه‬
‫ل تتم الهداية ول تمكن إل بذلك‪.‬‬

‫{ َقدْ َفصّلْنَا الْآيَاتِ } أي بيناها‪ ،‬ووضحناها‪ ،‬وميزنا كل جنس ونوع منها عن الخر‪ ،‬بحيث‬
‫صارت آيات ال بادية ظاهرة { ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬لهل العلم والمعرفة‪ ،‬فإنهم الذين يوجه إليهم‬
‫الخطاب‪ ،‬ويطلب منهم الجواب‪ ،‬بخلف أهل الجهل والجفاء‪ ،‬المعرضين عن آيات ال‪ ،‬وعن العلم‬
‫الذي جاءت به الرسل‪ ،‬فإن البيان ل يفيدهم شيئا‪ ،‬والتفصيل ل يزيل عنهم ملتبسا‪ ،‬واليضاح ل‬
‫يكشف لهم مشكل‪.‬‬

‫س وَاحِ َدةٍ } وهو آدم عليه السلم‪ .‬أنشأ ال منه هذا العنصر الدمي؛‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي أَنْشََأكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬
‫الذي قد مل الرض ولم يزل في زيادة ونمو‪ ،‬الذي قد تفاوت في أخلقه وخلقه‪ ،‬وأوصافه تفاوتا‬
‫ل يمكن ضبطه‪ ،‬ول يدرك وصفه‪ ،‬وجعل ال لهم مستقرا‪ ،‬أي منتهى ينتهون إليه‪ ،‬وغاية يساقون‬
‫إليها‪ ،‬وهي دار القرار‪ ،‬التي ل مستقر وراءها‪ ،‬ول نهاية فوقها‪ ،‬فهذه الدار‪ ،‬هي التي خلق الخلق‬
‫لسكناها‪ ،‬وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها‪ ،‬التي تنشأ عليها وتعمر بها‪ ،‬وأودعهم ال في‬
‫أصلب آبائهم وأرحام أمهاتهم‪ ،‬ثم في دار الدنيا‪ ،‬ثم في البرزخ‪ ،‬كل ذلك‪ ،‬على وجه الوديعة‪،‬‬
‫التي ل تستقر ول تثبت‪ ،‬بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر‪ ،‬وأما هذه الدار‪،‬‬
‫فإنها مستودع وممر { قَدْ َفصّلْنَا الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْفقَهُونَ } عن ال آياته‪ ،‬ويفهمون عنه حججه‪،‬‬
‫وبيناته‪.‬‬

‫خضِرًا ُنخْرِجُ‬
‫شيْءٍ فََأخْرَجْنَا مِنْهُ َ‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ نَبَاتَ ُكلّ َ‬
‫{ ‪ { } 99‬وَ ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ب وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ ُمشْتَ ِبهًا‬
‫خلِ مِنْ طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِيَ ٌة وَجَنّاتٍ مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫مِنْهُ حَبّا مُتَرَاكِبًا َومِنَ النّ ْ‬
‫وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ا ْنظُرُوا إِلَى َثمَ ِرهِ إِذَا أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ إِنّ فِي ذَِلكُمْ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫وهذا من أعظم مننه العظيمة‪ ،‬التي يضطر إليها الخلق‪ ،‬من الدميين وغيرهم‪ ،‬وهو أنه أنزل من‬
‫السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه‪ ،‬فأنبت ال به كل شيء‪ ،‬مما يأكل الناس والنعام‪ ،‬فرتع‬
‫الخلق بفضل ال‪ ،‬وانبسطوا برزقه‪ ،‬وفرحوا بإحسانه‪ ،‬وزال عنهم الجدب واليأس والقحط‪ ،‬ففرحت‬
‫القلوب‪ ،‬وأسفرت الوجوه‪ ،‬وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم‪ ،‬ما به يتمتعون وبه يرتعون‪،‬‬
‫مما يوجب لهم‪ ،‬أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم‪ ،‬وعبادته والنابة إليه‪ ،‬والمحبة له‪.‬‬
‫ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء‪ ،‬من أنواع الشجار والنبات‪ ،‬ذكر الزرع والنخل‪ ،‬لكثرة نفعهما‬
‫خضِرًا ُنخْرِجُ مِنْهُ } أي‪ :‬من ذلك النبات الخضر‪،‬‬
‫وكونهما قوتا لكثر الناس فقال‪ { :‬فََأخْرَجْنَا مِ ْنهُ َ‬
‫{ حَبّا مُتَرَاكِبًا } بعضه فوق بعض‪ ،‬من بر‪ ،‬وشعير‪ ،‬وذرة‪ ،‬وأرز‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من أصناف‬
‫الزروع‪ ،‬وفي وصفه بأنه متراكب‪ ،‬إشارة إلى أن حبوبه متعددة‪ ،‬وجميعها تستمد من مادة واحدة‪،‬‬
‫وهي ل تختلط‪ ،‬بل هي متفرقة الحبوب‪ ،‬مجتمعة الصول‪ ،‬وإشارة أيضا إلى كثرتها‪ ،‬وشمول‬
‫ريعها وغلتها‪ ،‬ليبقى أصل البذر‪ ،‬ويبقى بقية كثيرة للكل والدخار‪.‬‬

‫خلِ } أخرج ال { مِنْ طَ ْل ِعهَا } وهو الكفرى‪ ،‬والوعاء قبل ظهور القنو منه‪ ،‬فيخرج من‬
‫{ َومِنَ النّ ْ‬
‫ذلك الوعاء { قِ ْنوَانٌ دَانِيَةٌ } أي‪ :‬قريبة سهلة التناول‪ ،‬متدلية على من أرادها‪ ،‬بحيث ل يعسر‬
‫التناول من النخل وإن طالت‪ ،‬فإنه يوجد فيها كرب ومراقي‪ ،‬يسهل صعودها‪.‬‬

‫{ و } أخرج تعالى بالماء { جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ } فهذه من الشجار الكثيرة النفع‪،‬‬
‫العظيمة الوقع‪ ،‬فلذلك خصصها ال بالذكر بعد أن عم جميع الشجار والنوابت‪.‬‬

‫وقوله { مُشْتَ ِبهًا وَغَيْرَ مُتَشَا ِبهٍ } يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون‪ ،‬أي‪ :‬مشتبها في شجره‬
‫وورقه‪ ،‬غير متشابه في ثمره‪.‬‬

‫ويحتمل أن يرجع ذلك‪ ،‬إلى سائر الشجار والفواكه‪ ،‬وأن بعضها مشتبه‪ ،‬يشبه بعضه بعضا‪،‬‬
‫ويتقارب في بعض أوصافه‪ ،‬وبعضها ل مشابهة بينه وبين غيره‪ ،‬والكل ينتفع به العباد‪،‬‬
‫ويتفكهون‪ ،‬ويقتاتون‪ ،‬ويعتبرون‪ ،‬ولهذا أمر تعالى بالعتبار به‪ ،‬فقال‪ { :‬ا ْنظُرُوا } نظر فكر‬
‫واعتبار { إِلَى َثمَ ِرهِ } أي‪ :‬الشجار كلها‪ ،‬خصوصا‪ :‬النخل { إذا أثمر }‬

‫{ وَيَ ْنعِهِ } أي‪ :‬انظروا إليه‪ ،‬وقت إطلعه‪ ،‬ووقت نضجه وإيناعه‪ ،‬فإن في ذلك عبرا وآيات‪،‬‬
‫يستدل بها على رحمة ال‪ ،‬وسعة إحسانه وجوده‪ ،‬وكمال اقتداره وعنايته بعباده‪.‬‬

‫ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر‪ ،‬أدرك المعنى المقصود‪ ،‬ولهذا قيد تعالى‬
‫النتفاع باليات بالمؤمنين فقال‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَم لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فإن المؤمنين يحملهم ما معهم‬
‫من اليمان‪ ،‬على العمل بمقتضياته ولوازمه‪ ،‬التي منها التفكر في آيات ال‪ ،‬والستنتاج منها ما‬
‫يراد منها‪ ،‬وما تدل عليه‪ ،‬عقل‪ ،‬وفطرة‪ ،‬وشرعا‪.‬‬

‫ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ‬


‫ن وَخََل َقهُ ْم َوخَ َرقُوا َلهُ بَنِي َ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ شُ َركَاءَ الْجِ ّ‬
‫{ ‪ { } 104 - 100‬وَ َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ أَنّى َيكُونُ َل ُه وَلَ ٌد وَلَمْ َتكُنْ لَ ُه صَاحِ َب ٌة وَخََلقَ ُكلّ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫صفُونَ * َبدِيعُ ال ّ‬
‫عمّا َي ِ‬
‫وَ َتعَالَى َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ *‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫َ‬

‫شيْ ٍء َوكِيلٌ * لَا تُدْ ِر ُكهُ الْأَ ْبصَارُ‬


‫شيْءٍ فَاعْ ُبدُوهُ وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ خَالِقُ ُكلّ َ‬
‫وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الْأَ ْبصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ * َقدْ جَا َءكُمْ َبصَائِرُ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِهِ َومَنْ‬
‫حفِيظٍ }‬
‫ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ بِ َ‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم‪ ،‬بآياته البينات‪ ،‬وحججه الواضحات ‪-‬أن‬
‫المشركين به‪ ،‬من قريش وغيرهم‪ ،‬جعلوا له شركاء‪ ،‬يدعونهم‪ ،‬ويعبدونهم‪ ،‬من الجن والملئكة‪،‬‬
‫الذين هم خلق من خلق ال‪ ،‬ليس فيهم من خصائص الربوبية واللوهية شيء‪ ،‬فجعلوها شركاء‬
‫لمن له الخلق والمر‪ ،‬وهو المنعم بسائر أصناف النعم‪ ،‬الدافع لجميع النقم‪ ،‬وكذلك "خرق‬
‫المشركون" أي‪ :‬ائتفكوا‪ ،‬وافتروا من تلقاء أنفسهم ل‪ ،‬بنين وبنات بغير علم منهم‪ ،‬ومن أظلم ممن‬
‫قال على ال بل علم‪ ،‬وافترى عليه أشنع النقص‪ ،‬الذي يجب تنزيه ال عنه؟!!‪.‬‬

‫صفُونَ } فإنه تعالى‪،‬‬


‫عمّا َي ِ‬
‫ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال‪ { :‬سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫الموصوف بكل كمال‪ ،‬المنزه عن كل نقص‪ ،‬وآفة وعيب‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬خالقهما‪ ،‬ومتقن صنعتهما‪ ،‬على غير مثال سبق‪ ،‬بأحسن خلق‪،‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َبدِيعُ ال ّ‬
‫ونظام وبهاء‪ ،‬ل تقترح عقول أولي اللباب مثله‪ ،‬وليس له في خلقهما مشارك‪.‬‬

‫{ أَنّى َيكُونُ لَ ُه وََل ٌد وَلَمْ َتكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } أي‪ :‬كيف يكون ل الولد‪ ،‬وهو الله السيد الصمد‪ ،‬الذي‬
‫ل صاحبة له أي‪ :‬ل زوجة له‪ ،‬وهو الغني عن مخلوقاته‪ ،‬وكلها فقيرة إليه‪ ،‬مضطرة في جميع‬
‫أحوالها إليه‪ ،‬والولد ل بد أن يكون من جنس والده؛ وال خالق كل شيء وليس شيء من‬
‫المخلوقات مشابها ل بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ } وفي ذكر العلم‬


‫ولما ذكر عموم خلقه للشياء‪ ،‬ذكر إحاطة علمه بها فقال‪ { :‬وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫بعد الخلق‪ ،‬إشارة إلى الدليل العقلي إلى ثبوت علمه‪ ،‬وهو هذه المخلوقات‪ ،‬وما اشتملت عليه من‬
‫النظام التام‪ ،‬والخلق الباهر‪ ،‬فإن في ذلك دللة على سعة علم الخالق‪ ،‬وكمال حكمته‪ ،‬كما قال‬
‫ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ } وكما قال تعالى‪ { :‬وَ ُهوَ الْخَلّاقُ ا ْلعَلِيمُ } ذلكم الذي‬
‫تعالى‪ { :‬أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََل َ‬
‫خلق ما خلق‪ ،‬وقدر ما قدر‪ { .‬اللّهُ رَ ّبكُمْ }أي‪ :‬المألوه المعبود‪ ،‬الذي يستحق نهاية الذل‪ ،‬ونهاية‬
‫الحب‪ ،‬الرب‪ ،‬الذي ربى جميع الخلق بالنعم‪ ،‬وصرف عنهم صنوف النقم‪ { .‬لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ خَاِلقُ‬
‫شيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي‪ :‬إذا استقر وثبت‪ ،‬أنه ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬فاصرفوا له جميع أنواع‬
‫ُكلّ َ‬
‫العبادة‪ ،‬وأخلصوها ل‪ ،‬واقصدوا بها وجهه‪ .‬فإن هذا هو المقصود من الخلق‪ ،‬الذي خلقوا لجله‬
‫ن وَالْإِنْسَ إِلّا لِ َيعْ ُبدُونِ }‬
‫خَلقْتُ ا ْلجِ ّ‬
‫{ َومَا َ‬

‫شيْ ٍء َوكِيلٌ } أي‪ :‬جميع الشياء‪ ،‬تحت وكالة ال وتدبيره‪ ،‬خلقا‪ ،‬وتدبيرا‪،‬‬
‫{ وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وتصريفا‪.‬‬

‫ومن المعلوم‪ ،‬أن المر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه‪ ،‬وكمال انتظامه‪ ،‬بحسب حال الوكيل‬
‫عليه‪ .‬ووكالته تعالى على الشياء‪ ،‬ليست من جنس وكالة الخلق‪ ،‬فإن وكالتهم‪ ،‬وكالة نيابة‪،‬‬
‫والوكيل فيها تابع لموكله‪.‬‬

‫وأما الباري‪ ،‬تبارك وتعالى‪ ،‬فوكالته من نفسه لنفسه‪ ،‬متضمنة لكمال العلم‪ ،‬وحسن التدبير‬
‫والحسان فيه‪ ،‬والعدل‪ ،‬فل يمكن لحد أن يستدرك على ال‪ ،‬ول يرى في خلقه خلل ول فطورا‪،‬‬
‫ول في تدبيره نقصا وعيبا‪.‬‬

‫ومن وكالته‪ :‬أنه تعالى‪ ،‬توكل ببيان دينه‪ ،‬وحفظه عن المزيلت والمغيرات‪ ،‬وأنه تولى حفظ‬
‫المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم‪.‬‬

‫{ لَا تُدْ ِركُهُ الْأَ ْبصَارُ } لعظمته‪ ،‬وجلله وكماله‪ ،‬أي‪ :‬ل تحيط به البصار‪ ،‬وإن كانت تراه‪ ،‬وتفرح‬
‫بالنظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬فنفي الدراك ل ينفي الرؤية‪ ،‬بل يثبتها بالمفهوم‪ .‬فإنه إذا نفى الدراك‪،‬‬
‫الذي هو أخص أوصاف الرؤية‪ ،‬دل على أن الرؤية ثابتة‪.‬‬

‫فإنه لو أراد نفي الرؤية‪ ،‬لقال "ل تراه البصار" ونحو ذلك‪ ،‬فعلم أنه ليس في الية حجة لمذهب‬
‫المعطلة‪ ،‬الذين ينفون رؤية ربهم في الخرة‪ ،‬بل فيها ما يدل على نقيض قولهم‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ يُدْ ِركُ الْأَ ْبصَارَ } أي‪ :‬هو الذي أحاط علمه‪ ،‬بالظواهر والبواطن‪ ،‬وسمعه بجميع الصوات‬
‫الظاهرة‪ ،‬والخفية‪ ،‬وبصره بجميع المبصرات‪ ،‬صغارها‪ ،‬وكبارها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ ُهوَ اللّطِيفُ‬
‫الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبرته‪ ،‬ودق حتى أدرك السرائر والخفايا‪ ،‬والخبايا والبواطن‪.‬‬

‫ومن لطفه‪ ،‬أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه‪ ،‬ويوصلها إليه بالطرق التي ل يشعر بها العبد‪ ،‬ول‬
‫يسعى فيها‪ ،‬ويوصله إلى السعادة البدية‪ ،‬والفلح السرمدي‪ ،‬من حيث ل يحتسب‪ ،‬حتى أنه يقدر‬
‫عليه المور‪ ،‬التي يكرهها العبد‪ ،‬ويتألم منها‪ ،‬ويدعو ال أن يزيلها‪ ،‬لعلمه أن دينه أصلح‪ ،‬وأن‬
‫كماله متوقف عليها‪ ،‬فسبحان اللطيف لما يشاء‪ ،‬الرحيم بالمؤمنين‪.‬‬
‫حفِيظٍ } لما بين‬
‫ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ ِب َ‬
‫{ َقدْ جَا َءكُمْ َبصَائِرُ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِهِ َومَنْ َ‬
‫تعالى من اليات البينات‪ ،‬والدلة الواضحات‪ ،‬الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد‪ ،‬نبه‬
‫العباد عليها‪ ،‬وأخبر أن هدايتهم وضدها لنفسهم‪ ،‬فقال‪ { :‬قَدْ جَا َءكُمْ َبصَائِرُ مِنْ رَ ّب ُكمْ } أي‪ :‬آيات‬
‫تبين الحق‪ ،‬وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للبصار‪ ،‬لما اشتملت عليه من فصاحة اللفظ‪ ،‬وبيانه‪،‬‬
‫ووضوحه‪ ،‬ومطابقته للمعاني الجليلة‪ ،‬والحقائق الجميلة‪ ،‬لنها صادرة من الرب‪ ،‬الذي ربى خلقه‪،‬‬
‫بصنوف نعمه الظاهرة والباطنة‪ ،‬التي من أفضلها وأجلها‪ ،‬تبيين اليات‪ ،‬وتوضيح المشكلت‪.‬‬

‫{ َفمَنْ أَ ْبصَرَ } بتلك اليات‪ ،‬مواقع العبرة‪ ،‬وعمل بمقتضاها { فَلِ َنفْسِهِ } فإن ال هو الغني الحميد‪.‬‬

‫ع ِميَ } بأن ُبصّر فلم يتبصر‪ ،‬و ُزجِر فلم ينزجر‪ ،‬وبين له الحق‪ ،‬فما انقاد له ول تواضع‪،‬‬
‫{ َومَنْ َ‬
‫فإنما عماه مضرته عليه‪.‬‬

‫حفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأرقبها على الدوام إنما عليّ البلغ المبين‬
‫{ َومَا أَنَا } أي الرسول { عَلَ ْي ُكمْ بِ َ‬
‫وقد أديته‪ ،‬وبلغت ما أنزل ال إليّ‪ ،‬فهذه وظيفتي‪ ،‬وما عدا ذلك فلست موظفا فيه‬

‫{ ‪ { } 108‬وَلَا َتسُبّوا الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَ ْدوًا ِبغَيْرِ عِلْمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ‬
‫ج ُعهُمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫عمََلهُمْ ثُمّ إِلَى رَ ّبهِمْ مَرْ ِ‬
‫َ‬

‫ينهى ال المؤمنين عن أمر كان جائزا‪ ،‬بل مشروعا في الصل‪ ،‬وهو سب آلهة المشركين‪ ،‬التي‬
‫اتخذت أوثانا وآلهة مع ال‪ ،‬التي يتقرب إلى ال بإهانتها وسبها‪.‬‬

‫ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين‪ ،‬الذي يجب تنزيه جنابه العظيم‬
‫عن كل عيب‪ ،‬وآفة‪ ،‬وسب‪ ،‬وقدح ‪-‬نهى ال عن سب آلهة المشركين‪ ،‬لنهم يحمون لدينهم‪،‬‬
‫ويتعصبون له‪ .‬لن كل أمة‪ ،‬زين ال لهم عملهم‪ ،‬فرأوه حسنا‪ ،‬وذبوا عنه‪ ،‬ودافعوا بكل طريق‪،‬‬
‫حتى إنهم‪ ،‬ليسبون ال رب العالمين‪ ،‬الذي رسخت عظمته في قلوب البرار والفجار‪ ،‬إذا سب‬
‫المسلمون آلهتهم‪.‬‬

‫ولكن الخلق كلهم‪ ،‬مرجعهم ومآلهم‪ ،‬إلى ال يوم القيامة‪ ،‬يعرضون عليه‪ ،‬وتعرض أعمالهم‪،‬‬
‫فينبئهم بما كانوا يعملون‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬

‫وفي هذه الية الكريمة‪ ،‬دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالمور التي توصل إليها‪،‬‬
‫وأن وسائل المحرم‪ ،‬ولو كانت جائزة تكون محرمة‪ ،‬إذا كانت تفضي إلى الشر‪.‬‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِن ِهمْ لَئِنْ جَاءَ ْتهُمْ آيَةٌ لَ ُي ْؤمِنُنّ ِبهَا ُقلْ إِ ّنمَا الْآيَاتُ عِنْدَ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫{ ‪ { } 111 - 109‬وََأقْ َ‬
‫شعِ ُر ُكمْ أَ ّنهَا إِذَا جَا َءتْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * وَ ُنقَلّبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ‬
‫اللّ ِه َومَا يُ ْ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ * وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَا إِلَ ْيهِمُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ َوكَّلمَهُمُ ا ْل َموْتَى وَحَشَرْنَا عَلَ ْيهِمْ ُكلّ‬
‫وَنَذَرُهُمْ فِي ُ‬
‫جهَلُونَ }‬
‫شيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّ ُه وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ َي ْ‬
‫َ‬

‫ج ْهدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ } أي‪:‬‬


‫أي‪ :‬وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى ال عليه وسلم‪ { .‬بِاللّهِ َ‬
‫قسما اجتهدوا فيه وأكدوه‪ { .‬لَئِنْ جَاءَ ْت ُهمْ آ َيةٌ } تدل على صدق محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫{ لَ ُي ْؤمِنُنّ ِبهَا } وهذا الكلم الذي صدر منهم‪ ،‬لم يكن قصدهم فيه الرشاد‪ ،‬وإنما قصدهم دفع‬
‫العتراض عليهم‪ ،‬ورد ما جاء به الرسول قطعا‪ ،‬فإن ال أيد رسوله صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫باليات البينات‪ ،‬والدلة الواضحات‪ ،‬التي ‪-‬عند اللتفات لها‪ -‬ل تبقي أدنى شبهة ول إشكال في‬
‫صحة ما جاء به‪ ،‬فطلبهم ‪-‬بعد ذلك‪ -‬لليات من باب التعنت‪ ،‬الذي ل يلزم إجابته‪ ،‬بل قد يكون‬
‫المنع من إجابتهم أصلح لهم‪ ،‬فإن ال جرت سنته في عباده‪ ،‬أن المقترحين لليات على رسلهم‪ ،‬إذا‬
‫جاءتهم‪ ،‬فلم يؤمنوا بها ‪-‬أنه يعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ إِ ّنمَا الْآيَاتُ عِ ْندَ اللّهِ } أي‪ :‬هو‬
‫الذي يرسلها إذا شاء‪ ،‬ويمنعها إذا شاء‪ ،‬ليس لي من المر شيء‪ ،‬فطلبكم مني اليات ظلم‪ ،‬وطلب‬
‫لما ل أملك‪ ،‬وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به‪ ،‬وتصديقه‪ ،‬وقد حصل‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فليس‬
‫معلوما‪ ،‬أنهم إذا جاءتهم اليات يؤمنون ويصدقون‪ ،‬بل الغالب ممن هذه حاله‪ ،‬أنه ل يؤمن‪ ،‬ولهذا‬
‫شعِ ُركُمْ أَ ّنهَا ِإذَا جَا َءتْ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫قال‪َ { :‬ومَا ُي ْ‬

‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } أي‪:‬‬


‫{ وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ وَ َنذَرُهُمْ فِي ُ‬
‫ونعاقبهم‪ ،‬إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي‪ ،‬وتقوم عليهم الحجة‪ ،‬بتقليب القلوب‪،‬‬
‫والحيلولة بينهم وبين اليمان‪ ،‬وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم‪.‬‬

‫وهذا من عدل ال‪ ،‬وحكمته بعباده‪ ،‬فإنهم الذين جنوا على أنفسهم‪ ،‬وفتح لهم الباب فلم يدخلوا‪،‬‬
‫وبين لهم الطريق فلم يسلكوا‪ ،‬فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق‪ ،‬كان مناسبا لحوالهم‪.‬‬

‫وكذلك تعليقهم اليمان بإرادتهم‪ ،‬ومشيئتهم وحدهم‪ ،‬وعدم العتماد على ال من أكبر الغلط‪ ،‬فإنهم‬
‫لو جاءتهم اليات العظيمة‪ ،‬من تنزيل الملئكة إليهم‪ ،‬يشهدون للرسول بالرسالة‪ ،‬وتكليم الموتى‬
‫وبعثهم بعد موتهم‪ ،‬وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم { قُبُلًا } ومشاهدة‪ ،‬ومباشرة‪ ،‬بصدق ما‬
‫جاء به الرسول ما حصل منهم اليمان‪ ،‬إذا لم يشأ ال إيمانهم‪ ،‬ولكن أكثرهم يجهلون‪ .‬فلذلك رتبوا‬
‫إيمانهم‪ ،‬على مجرد إتيان اليات‪ ،‬وإنما العقل والعلم‪ ،‬أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق‪ ،‬ويطلبه‬
‫بالطرق التي بينها ال‪ ،‬ويعمل بذلك‪ ،‬ويستعين ربه في اتباعه‪ ،‬ول يتكل على نفسه وحوله وقوته‪،‬‬
‫ول يطلب من اليات القتراحية ما ل فائدة فيه‪.‬‬

‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ‬


‫س وَا ْلجِنّ يُوحِي َب ْع ُ‬
‫جعَلْنَا ِل ُكلّ نَ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِينَ الْإِنْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 113 ، 112‬وكَذَِلكَ َ‬
‫صغَى إِلَيْهِ َأفْ ِئ َدةُ الّذِينَ لَا‬
‫زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورًا وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ * وَلِ َت ْ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَلِيَ ْرضَ ْو ُه وَلِ َيقْتَ ِرفُوا مَا ُهمْ ُمقْتَ ِرفُونَ }‬

‫يقول تعالى ‪-‬مسليا لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ -‬وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك‪،‬‬
‫ويحاربونك‪ ،‬ويحسدونك‪ ،‬فهذه سنتنا‪ ،‬أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء‪ ،‬من شياطين‬
‫النس والجن‪ ،‬يقومون بضد ما جاءت به الرسل‪.‬‬

‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ غُرُورًا } أي‪ :‬يزين بعضهم لبعض المر الذي يدعون‬
‫{ يُوحِي َب ْع ُ‬
‫إليه من الباطل‪ ،‬ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة‪ ،‬ليغتر به السفهاء‪ ،‬وينقاد‬
‫له الغبياء‪ ،‬الذين ل يفهمون الحقائق‪ ،‬ول يفقهون المعاني‪ ،‬بل تعجبهم اللفاظ المزخرفة‪،‬‬
‫صغَى ِإلَيْهِ } أي‪:‬‬
‫والعبارات المموهة‪ ،‬فيعتقدون الحق باطل والباطل حقا‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وَلِ َت ْ‬
‫ولتميل إلى ذلك الكلم المزخرف { َأفْئِ َدةُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ } لن عدم إيمانهم باليوم الخر‬
‫وعدم عقولهم النافعة‪ ،‬يحملهم على ذلك‪ { ،‬وَلِيَ ْرضَ ْوهُ } بعد أن يصغوا إليه‪ ،‬فيصغون إليه أول‪،‬‬
‫فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة‪ ،‬رضوه‪ ،‬وزين في قلوبهم‪ ،‬وصار عقيدة راسخة‪،‬‬
‫وصفة لزمة‪ ،‬ثم ينتج من ذلك‪ ،‬أن يقترفوا من العمال والقوال ما هم مقترفون‪ ،‬أي‪ :‬يأتون من‬
‫الكذب بالقول والفعل‪ ،‬ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة‪ ،‬فهذه حال المغترين بشياطين النس‬
‫والجن‪ ،‬المستجيبين لدعوتهم‪ ،‬وأما أهل اليمان بالخرة‪ ،‬وأولو العقول الوافية واللباب الرزينة‪،‬‬
‫فإنهم ل يغترون بتلك العبارات‪ ،‬ول تخلبهم تلك التمويهات‪ ،‬بل همتهم مصروفة إلى معرفة‬
‫الحقائق‪ ،‬فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة‪ ،‬فإن كانت حقا قبلوها‪ ،‬وانقادوا لها‪ ،‬ولو‬
‫كسيت عبارات ردية‪ ،‬وألفاظا غير وافية‪ ،‬وإن كانت باطل ردوها على من قالها‪ ،‬كائنا من كان‪،‬‬
‫ولو ألبست من العبارات المستحسنة‪ ،‬ما هو أرق من الحرير‪.‬‬

‫ومن حكمة ال تعالى‪ ،‬في جعله للنبياء أعداء‪ ،‬وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه‪ ،‬أن يحصل‬
‫لعباده البتلء والمتحان‪ ،‬ليتميز الصادق من الكاذب‪ ،‬والعاقل من الجاهل‪ ،‬والبصير من العمى‪.‬‬

‫ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق‪ ،‬وتوضيحا له‪ ،‬فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل‬
‫يصارعه ويقاومه‪ .‬فإنه ‪-‬حينئذ‪ -‬يتبين من أدلة الحق‪ ،‬وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته‪ ،‬ومن‬
‫فساد الباطل وبطلنه‪ ،‬ما هو من أكبر المطالب‪ ،‬التي يتنافس فيها المتنافسون‪.‬‬
‫ح َكمًا وَ ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكِتَابَ ُم َفصّلًا وَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ‬
‫{ ‪َ { } 115 ، 114‬أ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ‬
‫عدْلًا‬
‫ك صِ ْدقًا وَ َ‬
‫ا ْلكِتَابَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ مُنَ ّزلٌ مِنْ رَ ّبكَ بِا ْلحَقّ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ * وَ َتمّتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫لَا مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ ِه وَ ُهوَ ال ّ‬

‫ح َكمًا } أحاكم إليه‪ ،‬وأتقيد بأوامره ونواهيه‪ .‬فإن غير‬


‫أي‪ :‬قل يا أيها الرسول { َأ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ‬
‫ال محكوم عليه ل حاكم‪ .‬وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص‪ ،‬والعيب‪ ،‬والجور‪،‬‬
‫وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما‪ ،‬فهو ال وحده ل شريك له‪ ،‬الذي له الخلق والمر‪.‬‬

‫{ الّذِي أَنْ َزلَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكِتَابَ ُم َفصّلًا } أي‪ :‬موضّحا فيه الحلل والحرام‪ ،‬والحكام الشرعية‪ ،‬وأصول‬
‫الدين وفروعه‪ ،‬الذي ل بيان فوق بيانه‪ ،‬ول برهان أجلى من برهانه‪ ،‬ول أحسن منه حكما ول‬
‫أقوم قيل‪ ،‬لن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة‪.‬‬

‫حقّ }‬
‫وأهل الكتب السابقة‪ ،‬من اليهود والنصارى‪ ،‬يعترفون بذلك { و َيعَْلمُونَ أَنّهُ مُنَ ّزلٌ مِنْ رَ ّبكَ بِالْ َ‬
‫شكّنّ في ذلك ول { َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ }‬
‫ولهذا‪ ،‬تواطأت الخبارات { فَلَا } ت ُ‬

‫ك صِ ْدقًا وَعَدْلًا } أي‪ :‬صدقا في الخبار‪ ،‬وعدل في‬


‫ثم وصف تفصيلها فقال‪ { :‬وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ‬
‫المر والنهي‪ .‬فل أصدق من أخبار ال التي أودعها هذا الكتاب العزيز‪ ،‬ول أعدل من أوامره‬
‫ونواهيه { لَا مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ } [حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق‪ ،‬وبغاية الحق‪ ،‬فل يمكن‬
‫تغييرها‪ ،‬ول اقتراح أحسن منها]‬

‫سمِيعُ } لسائر الصوات‪ ،‬باختلف اللغات على تفنن الحاجات‪ { .‬ا ْلعَلِيمُ } الذي أحاط‬
‫{ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫علمه بالظواهر والبواطن‪ ،‬والماضي والمستقبل‪.‬‬

‫{ ‪ { } 117 ، 116‬وَإِنْ ُتطِعْ َأكْثَرَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ ُيضِلّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيِل ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ }‬
‫علَمُ مَنْ َي ِ‬
‫وَإِنْ هُمْ إِلّا يَخْ ُرصُونَ * إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَ ْ‬

‫يقول تعالى‪ ،‬لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬محذرا عن طاعة أكثر الناس‪ { :‬وَإِنْ تُطِعْ َأكْثَرَ مَنْ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ ُيضِلّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم‪ ،‬وعلومهم‪.‬‬
‫فأديانهم فاسدة‪ ،‬وأعمالهم تبع لهوائهم‪ ،‬وعلومهم ليس فيها تحقيق‪ ،‬ول إيصال لسواء الطريق‪.‬‬

‫بل غايتهم أنهم يتبعون الظن‪ ،‬الذي ل يغني من الحق شيئا‪ ،‬ويتخرصون في القول على ال ما ل‬
‫يعلمون‪ ،‬ومن كان بهذه المثابة‪ ،‬فحرى أن يحذّر ال منه عبادَه‪ ،‬ويصف لهم أحوالهم؛ لن هذا –‬
‫وإن كان خطابا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ -‬فإن أمته أسوة له في سائر الحكام‪ ،‬التي ليست من‬
‫خصائصه‪.‬‬

‫ضلّ عَنْ سَبِيلِهِ } وأعلم بمن يهتدي‪.‬‬


‫وال تعالى أصدق قيل‪ ،‬وأصدق حديثا‪ ،‬و { ُهوَ أَعْلَمُ مَنْ َي ِ‬
‫ويهدي‪ .‬فيجب عليكم ‪-‬أيها المؤمنون‪ -‬أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه لنه أعلم بمصالحكم‪،‬‬
‫وأرحم بكم من أنفسكم‪.‬‬

‫ودلت هذه الية‪ ،‬على أنه ل يستدل على الحق‪ ،‬بكثرة أهله‪ ،‬ول يدل قلة السالكين لمر من المور‬
‫أن يكون غير حق‪ ،‬بل الواقع بخلف ذلك‪ ،‬فإن أهل الحق هم القلون عددا‪ ،‬العظمون ‪-‬عند‬
‫ال‪ -‬قدرا وأجرا‪ ،‬بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل‪ ،‬بالطرق الموصلة إليه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 119 ، 118‬فكُلُوا ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَ ْيهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ ُم ْؤمِنِينَ * َومَا َل ُكمْ أَلّا تَ ْأكُلُوا ِممّا‬
‫ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْ ِه َوقَدْ َفصّلَ َلكُمْ مَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمْ إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْ ِه وَإِنّ كَثِيرًا لَ ُيضِلّونَ بِأَ ْهوَا ِئهِمْ‬
‫ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمعْتَدِينَ }‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين‪ ،‬بمقتضى اليمان‪ ،‬وأنهم إن كانوا مؤمنين‪ ،‬فليأكلوا مما ذكر اسم ال‬
‫عليه من بهيمة النعام‪ ،‬وغيرها من الحيوانات المحللة‪ ،‬ويعتقدوا حلها‪ ،‬ول يفعلوا كما يفعل أهل‬
‫الجاهلية من تحريم كثير من الحلل‪ ،‬ابتداعا من عند أنفسهم‪ ،‬وإضلل من شياطينهم‪ ،‬فذكر ال أن‬
‫علمة المؤمن مخالفة أهل الجاهلية‪ ،‬في هذه العادة الذميمة‪ ،‬المتضمنة لتغيير شرع ال‪ ،‬وأنه‪ ،‬أي‬
‫شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم ال عليه‪ ،‬وقد فصل ال لعباده ما حرم عليهم‪ ،‬وبينه‪ ،‬ووضحه؟‬
‫فلم يبق فيه إشكال ول شبهة‪ ،‬توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلل‪ ،‬خوفا من الوقوع في‬
‫الحرام‪ ،‬ودلت الية الكريمة‪ ،‬على أن الصل في الشياء والطعمة الباحة‪ ،‬وأنه إذا لم يرد‬
‫الشرع بتحريم شيء منها‪ ،‬فإنه باق على الباحة‪ ،‬فما سكت ال عنه فهو حلل‪ ،‬لن الحرام قد‬
‫فصله ال‪ ،‬فما لم يفصله ال فليس بحرام‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فالحرام الذي قد فصله ال وأوضحه‪ ،‬قد أباحه عند الضرورة والمخمصة‪ ،‬كما قال‬
‫خ َمصَةٍ غَيْرَ‬
‫ضطُرّ فِي َم ْ‬
‫تعالى‪ { :‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالدّ ُم وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلى أن قال‪َ { :‬فمَنِ ا ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫مُتَجَا ِنفٍ لِإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫ثم حذر عن كثير من الناس‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّ كَثِيرًا لَ ُيضِلّونَ بِأَ ْهوَا ِئهِمْ } أي‪ :‬بمجرد ما تهوى أنفسهم {‬
‫ِبغَيْرِ عِلْمٍ } ول حجة‪ .‬فليحذر العبد من أمثال هؤلء‪ ،‬وعلمتُهم ‪-‬كما وصفهم ال لعباده‪ -‬أن‬
‫دعوتهم غير مبنية على برهان‪ ،‬ول لهم حجة شرعية‪ ،‬وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم‬
‫الفاسدة‪ ،‬وآرائهم القاصرة‪ ،‬فهؤلء معتدون على شرع ال وعلى عباد ال‪ ،‬وال ل يحب المعتدين‪،‬‬
‫بخلف الهادين المهتدين‪ ،‬فإنهم يدعون إلى الحق والهدى‪ ،‬ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية‬
‫والنقلية‪ ،‬ول يتبعون في دعوتهم إل رضا ربهم والقرب منه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 120‬وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْ ِم وَبَاطِ َنهُ إِنّ الّذِينَ َيكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْ َزوْنَ ِبمَا كَانُوا َيقْتَ ِرفُونَ }‬
‫المراد بالثم‪ :‬جميع المعاصي‪ ،‬التي تؤثم العبد‪ ،‬أي‪ :‬توقعه في الثم‪ ،‬والحرج‪ ،‬من الشياء المتعلقة‬
‫بحقوق ال‪ ،‬وحقوق عباده‪ .‬فنهى ال عباده‪ ،‬عن اقتراف الثم الظاهر والباطن‪ ،‬أي‪ :‬السر‬
‫والعلنية‪ ،‬المتعلقة بالبدن والجوارح‪ ،‬والمتعلقة بالقلب‪ ،‬ول يتم للعبد‪ ،‬ترك المعاصي الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬إل بعد معرفتها‪ ،‬والبحث عنها‪ ،‬فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن‪،‬‬
‫والعلمُ بذلك واجبا متعينا على المكلف‪.‬‬

‫وكثير من الناس‪ ،‬تخفى عليه كثير من المعاصي‪ ،‬خصوصا معاصي القلب‪ ،‬كالكبر والعجب‬
‫والرياء‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬حتى إنه يكون به كثير منها‪ ،‬وهو ل يحس به ول يشعر‪ ،‬وهذا من‬
‫العراض عن العلم‪ ،‬وعدم البصيرة‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى‪ ،‬أن الذين يكسبون الثم الظاهر والباطن‪ ،‬سيجزون على حسب كسبهم‪ ،‬وعلى قدر‬
‫ذنوبهم‪ ،‬قلّت أو كثرت‪ ،‬وهذا الجزاء يكون في الخرة‪ ،‬وقد يكون في الدنيا‪ ،‬يعاقب العبد‪ ،‬فيخفف‬
‫عنه بذلك من سيئاته‪.‬‬

‫ق وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَا ِئهِمْ‬


‫{ ‪ { } 121‬وَلَا تَ ْأكُلُوا ِممّا َلمْ يُ ْذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ َلفِسْ ٌ‬
‫طعْ ُتمُوهُمْ إِ ّنكُمْ َلمُشْ ِركُونَ }‬
‫لِيُجَادِلُوكُ ْم وَإِنْ أَ َ‬

‫ويدخل تحت هذا المنهي عنه‪ ،‬ما ذكر عليه اسم غير ال كالذي يذبح للصنام‪ ،‬وآلهتهم‪ ،‬فإن هذا‬
‫مما أهل لغير ال به‪ ،‬المحرم بالنص عليه خصوصا‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك‪ ،‬متروك التسمية‪ ،‬مما ذبح ل‪ ،‬كالضحايا‪ ،‬والهدايا‪ ،‬أو للحم والكل‪ ،‬إذا كان الذابح‬
‫متعمدا ترك التسمية‪ ،‬عند كثير من العلماء‪.‬‬

‫ويخرج من هذا العموم‪ ،‬الناسي بالنصوص الخر‪ ،‬الدالة على رفع الحرج عنه‪ ،‬ويدخل في هذه‬
‫الية‪ ،‬ما مات بغير ذكاة من الميتات‪ ،‬فإنها مما لم يذكر اسم ال عليه‪.‬‬
‫علَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةُ } ولعلها سبب نزول الية‪ ،‬لقوله‬
‫ونص ال عليها بخصوصها‪ ،‬في قوله‪ { :‬حُ ّر َمتْ َ‬
‫{ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَا ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } بغير علم‪.‬‬

‫فإن المشركين ‪-‬حين سمعوا تحريم ال ورسوله الميتةَ‪ ،‬وتحليله للمذكاة‪ ،‬وكانوا يستحلون أكل‬
‫الميتة‪ -‬قالوا ‪-‬معاندة ل ورسوله‪ ،‬ومجادلة بغير حجة ول برهان‪ -‬أتأكلون ما قتلتم‪ ،‬ول تأكلون‬
‫ما قتل ال؟ يعنون بذلك‪ :‬الميتة‪.‬‬

‫وهذا رأي فاسد‪ ،‬ل يستند على حجة ول دليل بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعا‬
‫لها لفسدت السماوات والرض‪ ،‬ومن فيهن‪.‬‬

‫فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع ال وأحكامه‪ ،‬الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة‪ .‬ول‬
‫يستغرب هذا منهم‪ ،‬فإن هذه الراء وأشباهها‪ ،‬صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين‪ ،‬الذين‬
‫يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم‪ ،‬ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير‪.‬‬

‫طعْ ُتمُوهُمْ } في شركهم وتحليلهم الحرام‪ ،‬وتحريمهم الحلل { إِ ّنكُمْ َل ُمشْ ِركُونَ } لنكم‬
‫{ وَإِنْ َأ َ‬
‫اتخذتموهم أولياء من دون ال‪ ،‬ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين‪ ،‬فلذلك كان طريقكم‪،‬‬
‫طريقهم‪.‬‬

‫ودلت هذه الية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من اللهامات والكشوف‪ ،‬التي يكثر وقوعها‬
‫عند الصوفية ونحوهم‪ ،‬ل تدل –بمجردها على أنها حق‪ ،‬ول تصدق حتى تعرض على كتاب ال‬
‫وسنة رسوله‪.‬‬

‫فإن شهدا لها بالقبول قبلت‪ ،‬وإن ناقضتهما ردت‪ ،‬وإن لم يعلم شيء من ذلك‪ ،‬توقف فيها ولم‬
‫تصدق ولم تكذب‪ ،‬لن الوحي واللهام‪ ،‬يكون الرحمن ويكون من الشيطان‪ ،‬فل بد من التمييز‬
‫بينهما والفرقان‪ ،‬وبعدم التفريق بين المرين‪ ،‬حصل من الغلط والضلل‪ ،‬ما ل يحصيه إل ال‪.‬‬

‫جعَلْنَا لَهُ نُورًا َيمْشِي بِهِ فِي النّاسِ َكمَنْ مَثَُلهُ فِي‬
‫{ ‪َ { } 124 - 122‬أ َومَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَا ُه وَ َ‬
‫جعَلْنَا فِي ُكلّ قَرْيَةٍ َأكَابِرَ‬
‫الظُّلمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِ ْنهَا كَذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلكَافِرِينَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * َوكَذَِلكَ َ‬
‫شعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَ ْت ُهمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ‬
‫سهِ ْم َومَا يَ ْ‬
‫مُجْ ِرمِيهَا لِ َي ْمكُرُوا فِيهَا َومَا َي ْمكُرُونَ إِلّا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫صغَارٌ عِ ْندَ‬
‫ج َعلُ ِرسَالَتَهُ سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َأجْ َرمُوا َ‬
‫سلُ اللّهِ اللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ‬
‫حَتّى ُنؤْتَى مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ رُ ُ‬
‫عذَابٌ شَدِيدٌ ِبمَا كَانُوا َي ْمكُرُونَ }‬
‫اللّ ِه وَ َ‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬أ َومَنْ كَانَ } من قبل هداية ال له { مَيْتًا } في ظلمات الكفر‪ ،‬والجهل‪ ،‬والمعاصي‪،‬‬
‫{ فََأحْيَيْنَاهُ } بنور العلم واليمان والطاعة‪ ،‬فصار يمشي بين الناس في النور‪ ،‬متبصرا في أموره‪،‬‬
‫مهتديا لسبيله‪ ،‬عارفا للخير مؤثرا له‪ ،‬مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره‪ ،‬عارفا بالشر مبغضا له‪،‬‬
‫مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره‪ .‬أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات‪ ،‬ظلمات الجهل‬
‫والغي‪ ،‬والكفر والمعاصي‪.‬‬

‫{ لَ ْيسَ بِخَارِجٍ مِ ْنهَا } قد التبست عليه الطرق‪ ،‬وأظلمت عليه المسالك‪ ،‬فحضره الهم والغم والحزن‬
‫والشقاء‪ .‬فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه‪ ،‬أنه ل يستوي هذا ول هذا كما ل يستوي الليل‬
‫والنهار‪ ،‬والضياء والظلمة‪ ،‬والحياء والموات‪.‬‬

‫فكأنه قيل‪ :‬فكيف يؤثر من له أدنى مسكة من عقل‪ ،‬أن يكون بهذه الحالة‪ ،‬وأن يبقى في الظلمات‬
‫متحيرا‪ :‬فأجاب بأنه { زُيّنَ لِ ْلكَافِرِينَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم‪،‬‬
‫ويزينها في قلوبهم‪ ،‬حتى استحسنوها ورأوها حقا‪ .‬وصار ذلك عقيدة في قلوبهم‪ ،‬وصفة راسخة‬
‫ملزمة لهم‪ ،‬فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح‪ .‬وهؤلء الذين في الظلمات يعمهون‪،‬‬
‫وفي باطلهم يترددون‪ ،‬غير متساوين‪.‬‬

‫فمنهم‪ :‬القادة‪ ،‬والرؤساء‪ ،‬والمتبوعون‪ ،‬ومنهم‪ :‬التابعون المرءوسون‪ ،‬والولون‪ ،‬منهم الذين فازوا‬
‫بأشقى الحوال‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫جعَلْنَا فِي ُكلّ قَرْيَةٍ َأكَابِرَ مُجْ ِرمِيهَا } أي‪ :‬الرؤساء الذين قد كبر جرمهم‪ ،‬واشتد طغيانهم‬
‫{ َوكَذَِلكَ َ‬
‫{ لِ َي ْمكُرُوا فِيهَا } بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان‪ ،‬ومحاربة الرسل وأتباعهم‪ ،‬بالقول والفعل‪،‬‬
‫وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم‪ ،‬لنهم يمكرون‪ ،‬ويمكر ال وال خير الماكرين‪.‬‬

‫وكذلك يجعل ال كبار أئمة الهدى وأفاضلهم‪ ،‬يناضلون هؤلء المجرمين‪ ،‬ويردون عليهم أقوالهم‬
‫ويجاهدونهم في سبيل ال‪ ،‬ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك‪ ،‬ويعينهم ال ويسدد رأيهم‪،‬‬
‫ويثبت أقدامهم‪ ،‬ويداول اليام بينهم وبين أعدائهم‪ ،‬حتى يدول المر في عاقبته بنصرهم‬
‫وظهورهم‪ ،‬والعاقبة للمتقين‪.‬‬

‫وإنما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم‪ ،‬وقاموا برد الحق الذي جاءت به الرسل‪ ،‬حسدا منهم‬
‫سلُ اللّهِ } من النبوة والرسالة‪ .‬وفي هذا‬
‫وبغيا‪ ،‬فقالوا‪ { :‬لَنْ ُن ْؤمِنَ حَتّى ُنؤْتَى مِ ْثلَ مَا أُوتِيَ رُ ُ‬
‫اعتراض منهم على ال‪ ،‬وعجب بأنفسهم‪ ،‬وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله‪ ،‬وتحجر‬
‫على فضل ال وإحسانه‪.‬‬

‫فرد ال عليهم اعتراضهم الفاسد‪ ،‬وأخبر أنهم ل يصلحون للخير‪ ،‬ول فيهم ما يوجب أن يكونوا‬
‫ج َعلُ‬
‫من عباد ال الصالحين‪ ،‬فضل أن يكونوا من النبيين والمرسلين‪ ،‬فقال‪ { :‬اللّهُ أَعْلَمُ حَ ْيثُ يَ ْ‬
‫رِسَالَتَهُ } فيمن علمه يصلح لها‪ ،‬ويقوم بأعبائها‪ ،‬وهو متصف بكل خلق جميل‪ ،‬ومتبرئ من كل‬
‫خلق دنيء‪ ،‬أعطاه ال ما تقتضيه حكمته أصل وتبعا‪ ،‬ومن لم يكن كذلك‪ ،‬لم يضع أفضل مواهبه‪،‬‬
‫عند من ل يستأهله‪ ،‬ول يزكو عنده‪.‬‬

‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على كمال حكمة ال تعالى‪ ،‬لنه‪ ،‬وإن كان تعالى رحيما واسع الجود‪ ،‬كثير‬
‫الحسان‪ ،‬فإنه حكيم ل يضع جوده إل عند أهله‪ ،‬ثم توعد المجرمين فقال‪ { :‬سَ ُيصِيبُ الّذِينَ‬
‫شدِيدٌ ِبمَا‬
‫صغَارٌ عِنْدَ اللّهِ } أي‪ :‬إهانة وذل‪ ،‬كما تكبروا على الحق‪ ،‬أذلهم ال‪ { .‬وَعَذَابٌ َ‬
‫أَجْ َرمُوا َ‬
‫كَانُوا َي ْمكُرُونَ } أي‪ :‬بسبب مكرهم‪ ،‬ل ظلما منه تعالى‪.‬‬

‫ل صَدْ َر ُه ضَ ّيقًا‬
‫ج َع ْ‬
‫ح صَدْ َرهُ لِلْإِسْلَا ِم َومَنْ يُ ِردْ أَنْ ُيضِلّهُ يَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 125‬فمَنْ يُ ِردِ اللّهُ أَنْ يَهدِ َيهُ يَشْرَ ْ‬
‫ج َعلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫سمَاءِ َكذَِلكَ يَ ْ‬
‫صعّدُ فِي ال ّ‬
‫حَ َرجًا كَأَ ّنمَا َي ّ‬

‫يقول تعالى ‪-‬مبينا لعباده علمة سعادة العبد وهدايته‪ ،‬وعلمة شقاوته وضلله‪ :-‬إن من انشرح‬
‫صدره للسلم‪ ،‬أي‪ :‬اتسع وانفسح‪ ،‬فاستنار بنور اليمان‪ ،‬وحيي بضوء اليقين‪ ،‬فاطمأنت بذلك‬
‫نفسه‪ ،‬وأحب الخير‪ ،‬وطوعت له نفسه فعله‪ ،‬متلذذا به غير مستثقل‪ ،‬فإن هذا علمة على أن ال قد‬
‫هداه‪ ،‬ومَنّ عليه بالتوفيق‪ ،‬وسلوك أقوم الطريق‪.‬‬

‫وأن علمة من يرد ال أن يضله‪ ،‬أن يجعل صدره ضيقا حرجا‪ .‬أي‪ :‬في غاية الضيق عن اليمان‬
‫والعلم واليقين‪ ،‬قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات‪ ،‬فل يصل إليه خير‪ ،‬ل ينشرح قلبه لفعل‬
‫الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء‪ ،‬أي‪ :‬كأنه يكلف الصعود إلى السماء‪ ،‬الذي ل‬
‫حيلة له فيه‪.‬‬

‫وهذا سببه‪ ،‬عدم إيمانهم‪ ،‬هو الذي أوجب أن يجعل ال الرجس عليهم‪ ،‬لنهم سدوا على أنفسهم‬
‫باب الرحمة والحسان‪ ،‬وهذا ميزان ل يعول‪ ،‬وطريق ل يتغير‪ ،‬فإن من أعطى واتقى‪ ،‬وصدق‬
‫بالحسنى‪ ،‬يسره ال لليسرى‪ ،‬ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى‪ ،‬فسييسره للعسرى‪.‬‬

‫{ ‪ { } 127 ، 126‬وَهَذَا صِرَاطُ رَ ّبكَ مُسْ َتقِيمًا َقدْ َفصّلْنَا الْآيَاتِ ِلقَوْمٍ يَ ّذكّرُونَ * َلهُمْ دَارُ السّلَامِ‬
‫عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَ ُهوَ وَلِ ّيهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬

‫أي‪ :‬معتدل‪ ،‬موصل إلى ال‪ ،‬وإلى دار كرامته‪ ،‬قد بينت أحكامه‪ ،‬وفصلت شرائعه‪ ،‬وميز الخير‬
‫من الشر‪ .‬ولكن هذا التفصيل والبيان‪ ،‬ليس لكل أحد‪ ،‬إنما هو { ِل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ } فإنهم الذين علموا‪،‬‬
‫فانتفعوا بعلمهم‪ ،‬وأعد ال لهم الجزاء الجزيل‪ ،‬والجر الجميل‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ل ُهمْ دَارُ السّلَامِ عِنْدَ‬
‫رَ ّبهِمْ } وسميت الجنة دار السلم‪ ،‬لسلمتها من كل عيب وآفة وكدر‪ ،‬وهم وغم‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫المنغصات‪ ،‬ويلزم من ذلك‪ ،‬أن يكون نعيمها في غاية الكمال‪ ،‬ونهاية التمام‪ ،‬بحيث ل يقدر على‬
‫وصفه الواصفون‪ ،‬ول يتمنى فوقه المتمنون‪ ،‬من نعيم الروح والقلب والبدن‪ ،‬ولهم فيها‪ ،‬ما تشتهيه‬
‫النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وهم فيها خالدون‪.‬‬

‫{ وَ ُه َو وَلِ ّيهُمْ } الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم‪ ،‬ولطف بهم في جميع أمورهم‪ ،‬وأعانهم على طاعته‪،‬‬
‫ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته‪ ،‬وإنما تولهم‪ ،‬بسبب أعمالهم الصالحة‪ ،‬ومقدماتهم التي‬
‫قصدوا بها رضا مولهم‪ ،‬بخلف من أعرض عن موله‪ ،‬واتبع هواه‪ ،‬فإنه سلط عليه الشيطان‬
‫فتوله‪ ،‬فأفسد عليه دينه ودنياه‪.‬‬

‫س َوقَالَ َأوْلِيَاؤُ ُهمْ‬


‫جمِيعًا يَا َمعْشَرَ ا ْلجِنّ قَدِ اسْ َتكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْ ِ‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 135 - 128‬وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫مِنَ الْإِنْسِ رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ وَبََلغْنَا َأجَلَنَا الّذِي أَجّ ْلتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَ ْثوَاكُمْ خَاِلدِينَ فِيهَا إِلّا‬
‫علِيمٌ * َوكَذَِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َب ْعضًا ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * يَا‬
‫حكِيمٌ َ‬
‫مَا شَاءَ اللّهُ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫سلٌ مِ ْنكُمْ َي ُقصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُو َنكُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا قَالُوا‬
‫ن وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ رُ ُ‬
‫َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ‬
‫سهِمْ أَ ّن ُهمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَِلكَ أَنْ َلمْ َيكُنْ‬
‫شهِدُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫علَى أَ ْنفُسِنَا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَ َ‬
‫شهِدْنَا َ‬
‫َ‬
‫عمّا َي ْعمَلُونَ *‬
‫عمِلُوا َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَى ِبظُلْ ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ * وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا َ‬
‫حمَةِ إِنْ يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَسْ َتخِْلفْ مِنْ َبعْ ِدكُمْ مَا َيشَاءُ َكمَا أَنْشََأ ُكمْ مِنْ ذُرّيّةِ َقوْمٍ‬
‫وَرَ ّبكَ ا ْلغَنِيّ ذُو الرّ ْ‬
‫عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ‬
‫ت َومَا أَنْتُمْ ِب ُم ْعجِزِينَ * ُقلْ يَا َقوْمِ ا ْ‬
‫آخَرِينَ * إِنّ مَا تُوعَدُونَ لَآ ٍ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ َتكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ }‬
‫فَ َ‬

‫جمِيعًا } أي‪ :‬جميع الثقلين‪ ،‬من النس والجن‪ ،‬من ضل منهم‪ ،‬ومن‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫يقول تعالى { وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫أضل غيره‪ ،‬فيقول موبخا للجن الذين أضلوا النس‪ ،‬وزينوا لهم الشر‪ ،‬وأزّوهم إلى المعاصي‪:‬‬
‫{ يَا َمعْشَرَ الْجِنّ َقدِ اسْ َتكْثَرْ ُتمْ مِنَ الْإِنْسِ } أي‪ :‬من إضللهم‪ ،‬وصدهم عن سبيل ال‪ ،‬فكيف أقدمتم‬
‫على محارمي‪ ،‬وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين ل‪ ،‬ساعين في صد عباد ال عن‬
‫سبيله إلى سبيل الجحيم؟‬

‫فاليوم حقت عليكم لعنتي‪ ،‬ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم‪ ،‬وإضللكم‬
‫لغيركم‪ .‬وليس لكم عذر به تعتذرون‪ ،‬ول ملجأ إليه تلجأون‪ ،‬ول شافع يشفع ول دعاء يسمع‪ ،‬فل‬
‫تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال‪ ،‬والخزي والوبال‪ ،‬ولهذا لم يذكر ال لهم اعتذارا‪ ،‬وأما‬
‫أولياؤهم من النس‪ ،‬فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا‪ { :‬رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ } أي‪ :‬تمتع كل‬
‫من الجِنّي والنسي بصاحبه‪ ،‬وانتفع به‪.‬‬
‫فالجنّي يستمتع بطاعة النسي له وعبادته‪ ،‬وتعظيمه‪ ،‬واستعاذته به‪ .‬والنسي يستمتع بنيل‬
‫أغراضه‪ ،‬وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته‪ ،‬فإن النسي يعبد الجِنّي‪ ،‬فيخدمه الجِنّي‪،‬‬
‫ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية‪ ،‬أي‪ :‬حصل منا من الذنوب ما حصل‪ ،‬ول يمكن رد ذلك‪،‬‬
‫{ وَبََلغْنَا َأجَلَنَا الّذِي أَجّ ْلتَ لَنَا } أي‪ :‬وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالعمال‪ ،‬فافعل بنا الن‬
‫ما تشاء‪ ،‬واحكم فينا بما تريد‪ ،‬فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر‪ ،‬والمر أمرك‪ ،‬والحكم حكمك‪.‬‬
‫وكأن في هذا الكلم منهم نوع تضرع وترقق‪ ،‬ولكن في غير أوانه‪ .‬ولهذا حكم فيهم بحكمه‬
‫العادل‪ ،‬الذي ل جور فيه‪ ،‬فقال‪ { :‬النّارُ مَ ْثوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }‬

‫علِيمٌ } فكما أن‬


‫حكِيمٌ َ‬
‫ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه‪ ،‬ختم الية بقوله‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫علمه وسع الشياء كلها وعمّها‪ ،‬فحكمته الغائية شملت الشياء وعمتها ووسعتها‪.‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َب ْعضًا ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } أي‪ :‬وكما ولّيْنَا الجن المردة وسلطناهم‬
‫على إضلل أوليائهم من النس وعقدنا بينهم عقد الموالة والموافقة‪ ،‬بسبب كسبهم وسعيهم بذلك‪.‬‬

‫كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله‪ ،‬يؤزه إلى الشر ويحثه عليه‪ ،‬ويزهده في الخير‬
‫وينفره عنه‪ ،‬وذلك من عقوبات ال العظيمة الشنيع أثرها‪ ،‬البليغ خطرها‪.‬‬

‫ظلّامٍ‬
‫والذنب ذنب الظالم‪ ،‬فهو الذي أدخل الضرر على نفسه‪ ،‬وعلى نفسه جنى { َومَا رَ ّبكَ بِ َ‬
‫لِ ْلعَبِيدِ } ومن ذلك‪ ،‬أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم‪ ،‬ومنْعهم الحقوق الواجبة‪ ،‬ولّى عليهم ظلمة‪،‬‬
‫يسومونهم سوء العذاب‪ ،‬ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق ال‪ ،‬وحقوق‬
‫عباده‪ ،‬على وجه غير مأجورين فيه ول محتسبين‪.‬‬

‫كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا‪ ،‬أصلح ال رعاتهم‪ ،‬وجعلهم أئمة عدل وإنصاف‪ ،‬ل ولة ظلم‬
‫واعتساف‪ .‬ثم وبخ ال جميع من أعرض عن الحق ورده‪ ،‬من الجن والنس‪ ،‬وبين خطأهم‪،‬‬
‫فاعترفوا بذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫سلٌ مِ ْنكُمْ َي ُقصّونَ عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِي } الواضحات البينات‪ ،‬التي فيها‬
‫ن وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْ ِت ُكمْ رُ ُ‬
‫{ يَا َمعْشَرَ الْجِ ّ‬
‫تفاصيل المر والنهي‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والوعد والوعيد‪.‬‬

‫{ وَيُنْذِرُو َنكُمْ ِلقَاءَ َي ْومِكُمْ هَذَا } ويعلمونكم أن النجاة فيه‪ ،‬والفوز إنما هو بامتثال أوامر ال واجتناب‬
‫شهِدْنَا‬
‫نواهيه‪ ،‬وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك‪ ،‬فأقروا بذلك واعترفوا‪ ،‬فـ { قالوا } بلى { َ‬
‫عَلَى أَ ْنفُسِنَا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بزينتها وزخرفها‪ ،‬ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا‪ ،‬وألهتهم عن‬
‫سهِمْ أَ ّنهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } فقامت عليهم حجة ال‪ ،‬وعلم حينئذ كل أحد‪،‬‬
‫علَى أَ ْنفُ ِ‬
‫ش ِهدُوا َ‬
‫الخرة‪ { ،‬وَ َ‬
‫حتى هم بأنفسهم عدل ال فيهم‪ ،‬فقال لهم‪ :‬حاكما عليهم بالعذاب الليم‪ { :‬ادْخُلُوا فِي } جملة { ُأمَمٍ‬
‫ن وَالْإِنْسِ } صنعوا كصنيعكم‪ ،‬واستمتعوا بخلقهم كما استمعتم‪،‬‬
‫قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلكُمْ مِنَ ا ْلجِ ّ‬
‫وخاضوا بالباطل كما خضتم‪ ،‬إنهم كانوا خاسرين‪ ،‬أي‪ :‬الولون من هؤلء والخرون‪ ،‬وأي‬
‫خسران أعظم من خسران جنات النعيم‪ ،‬وحرمان جوار أكرم الكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في‬
‫الخسران‪ ،‬فإنهم يتفاوتون في مقداره تفاوتا عظيما‪.‬‬

‫عمِلُوا } بحسب أعمالهم‪ ،‬ل يجعل قليل الشر منهم ككثيره‪ ،‬ول التابع‬
‫{ وَِل ُكلّ } منهم { دَرَجَاتٌ ِممّا َ‬
‫كالمتبوع‪ ،‬ول المرءوس كالرئيس‪ ،‬كما أن أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلح‬
‫ودخول الجنة‪ ،‬فإن بينهم من الفرق ما ل يعلمه إل ال‪ ،‬مع أنهم كلهم‪ ،‬قد رضوا بما آتاهم‬
‫مولهم‪ ،‬وقنعوا بما حباهم‪.‬‬

‫فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس العلى‪ ،‬التي أعدها ال للمقربين من عباده‪ ،‬والمصطفين‬
‫من خلقه‪ ،‬وأهل الصفوة من أهل وداده‪.‬‬

‫عمّا َي ْعمَلُونَ } فيجازي كل بحسب علمه‪ ،‬وبما يعلمه من مقصده‪ ،‬وإنما أمر ال‬
‫{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫العباد بالعمال الصالحة‪ ،‬ونهاهم عن العمال السيئة‪ ،‬رحمة بهم‪ ،‬وقصدا لمصالحهم‪ .‬وإل فهو‬
‫الغني بذاته‪ ،‬عن جميع مخلوقاته‪ ،‬فل تنفعه طاعة الطائعين‪ ،‬كما ل تضره معصية العاصين‪.‬‬

‫{ إِنْ يَشَأْ يُ ْذهِ ْبكُمْ } بالهلك { وَيَسْ َتخِْلفْ مِنْ َبعْ ِدكُمْ مَا َيشَاءُ َكمَا أَنْشََأ ُكمْ مِنْ ذُرّيّةِ َقوْمٍ آخَرِينَ } فإذا‬
‫عرفتم بأنكم ل بد أن تنتقلوا من هذه الدار‪ ،‬كما انتقل غيركم‪ ،‬وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم‪،‬‬
‫كما رحل عنها من قبلكم وخلوها لكم‪ ،‬فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم‪ ،‬أنها دار ممر ل‬
‫دار مقر‪ .‬وأن أمامكم دارًا‪ ،‬هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص؟‬

‫وهي الدار التي يسعى إليها الولون والخرون‪ ،‬ويرتحل نحوها السابقون واللحقون‪ ،‬التي إذا‬
‫وصلوها‪ ،‬ف َثمّ الخلود الدائم‪ ،‬والقامة اللزمة‪ ،‬والغاية التي ل غاية وراءها‪ ،‬والمطلوب الذي‬
‫ينتهي إليه كل مطلوب‪ ،‬والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب‪ ،‬هنالك وال‪ ،‬ما تشتهيه‬
‫النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬ويتنافس فيه المتنافسون‪ ،‬من لذة الرواح‪ ،‬وكثرة الفراح‪ ،‬ونعيم البدان‬
‫والقلوب‪ ،‬والقرب من علم الغيوب‪ ،‬فلله همة تعلقت بتلك الكرامات‪ ،‬وإرادة سمت إلى أعلى‬
‫الدرجات" وما أبخس حظ من رضي بالدون‪ ،‬وأدنى همة من اختار صفقة المغبون" ول يستبعد‬
‫ت َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ }‬
‫المعرض الغافل‪ ،‬سرعة الوصول إلى هذه الدار‪ .‬فـ { إِنّ مَا تُوعَدُونَ لَآ ٍ‬
‫ل‪ ،‬فارين من عقابه‪ ،‬فإن نواصيكم تحت قبضته‪ ،‬وأنتم تحت تدبيره وتصرفه‪.‬‬
‫{ ُقلْ } يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى ال‪ ،‬وبينت لهم ما لهم وما عليهم من حقوقه‪،‬‬
‫عمَلُوا عَلَى‬
‫فامتنعوا من النقياد لمره‪ ،‬واتبعوا أهواءهم‪ ،‬واستمروا على شركهم‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْ‬
‫َمكَانَ ِتكُمْ } أي‪ :‬على حالتكم التي أنتم عليها‪ ،‬ورضيتموها لنفسكم‪ { .‬إِنّي عَا ِملٌ } على أمر ال‪،‬‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ َتكُونُ لَهُ عَاقِ َبةُ الدّارِ } أنا أو أنتم‪ ،‬وهذا من النصاف‬
‫ومتبع لمراضي ال‪ { .‬فَ َ‬
‫بموضع عظيم‪ ،‬حيث بيّن العمال وعامليها‪ ،‬وجعل الجزاء مقرونا بنظر البصير‪ ،‬ضاربا فيه‬
‫صفحا عن التصريح الذي يغني عنه التلويح‪ .‬وقد علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والخرة‬
‫للمتقين‪ ،‬وأن المؤمنين لهم عقبى الدار‪ ،‬وأن كل معرض عما جاءت به الرسل‪ ،‬عاقبته سوء وشر‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ } فكل ظالم‪ ،‬وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به‪ ،‬فنهايته [فيه]‬
‫الضمحلل والتلف "إن ال ليملي للظالم‪ ،‬حتى إذا أخذه لم يفلته"‬

‫ع ِمهِ ْم وَهَذَا‬
‫ث وَالْأَ ْنعَامِ َنصِيبًا َفقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَ ْ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ ا ْلحَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 140 - 136‬وَ َ‬
‫ح ُكمُونَ‬
‫صلُ إِلَى شُ َركَا ِئهِمْ سَاءَ مَا يَ ْ‬
‫صلُ إِلَى اللّ ِه َومَا كَانَ لِلّهِ َف ُهوَ َي ِ‬
‫لِشُ َركَائِنَا َفمَا كَانَ لِشُ َركَا ِئ ِهمْ فَلَا َي ِ‬
‫* َوكَذَِلكَ زَيّنَ ِلكَثِيرٍ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ قَ ْتلَ َأوْلَا ِدهِمْ شُ َركَاؤُهُمْ لِيُرْدُو ُه ْم وَلِيَلْبِسُوا عَلَ ْيهِمْ دِي َنهُ ْم وََلوْ شَاءَ‬
‫ع ِمهِمْ‬
‫ط َع ُمهَا إِلّا مَنْ نَشَاءُ بِزَ ْ‬
‫اللّهُ مَا َفعَلُوهُ فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ * َوقَالُوا هَ ِذهِ أَ ْنعَا ٌم وَحَ ْرثٌ حِجْرٌ لَا َي ْ‬
‫سمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا افْتِرَاءً عَلَ ْيهِ سَ َيجْزِيهِمْ ِبمَا كَانُوا َيفْتَرُونَ *‬
‫ظهُورُهَا وَأَ ْنعَامٌ لَا يَ ْذكُرُونَ ا ْ‬
‫وَأَ ْنعَامٌ حُ ّر َمتْ ُ‬
‫َوقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَ ِذهِ الْأَ ْنعَامِ خَاِلصَةٌ لِ ُذكُورِنَا َومُحَرّمٌ عَلَى أَ ْزوَاجِنَا وَإِنْ َيكُنْ مَيْ َتةً َفهُمْ فِيهِ‬
‫س َفهًا ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَحَ ّرمُوا مَا‬
‫خسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا َأوْلَادَهُمْ َ‬
‫علِيمٌ * َقدْ َ‬
‫حكِيمٌ َ‬
‫شُ َركَاءُ سَيَجْزِيهِمْ َوصْ َفهُمْ إِنّهُ َ‬
‫رَ َز َقهُمُ اللّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ قَ ْد ضَلّوا َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ } يخبر تعالى‪ ،‬عمّا عليه المشركون‬
‫المكذبون للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من سفاهة العقل‪ ،‬وخفة الحلم‪ ،‬والجهل البليغ‪ ،‬وعدّد تبارك‬
‫وتعالى شيئا من خرافاتهم‪ ،‬لينبه بذلك على ضللهم والحذر منهم‪ ،‬وأن معارضة أمثال هؤلء‬
‫السفهاء للحق الذي جاء به الرسول‪ ،‬ل تقدح فيه أصل‪ ،‬فإنهم ل أهلية لهم في مقابلة الحق‪ ،‬فذكر‬
‫ث وَالْأَ ْنعَامِ َنصِيبًا } ولشركائهم من ذلك نصيبا‪ ،‬والحال‬
‫من ذلك أنهم { جعلوا لِلّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ‬
‫أن ال تعالى هو الذي ذرأه للعباد‪ ،‬وأوجده رزقا‪ ،‬فجمعوا بين محذورين محظورين‪ ،‬بل ثلثة‬
‫محاذير‪ ،‬منّتهم على ال‪ ،‬في جعلهم له نصيبا‪ ،‬مع اعتقادهم أن ذلك منهم تبرع‪ ،‬وإشراك الشركاء‬
‫الذين لم يرزقوهم‪ ،‬ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك‪ ،‬وحكمهم الجائر في أن ما كان ل لم يبالوا به‪،‬‬
‫ولم يهتموا‪ ،‬ولو كان واصل إلى الشركاء‪ ،‬وما كان لشركائهم اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل‬
‫إلى ال منه شيء‪ ،‬وذلك أنهم إذا حصل لهم ‪-‬من زروعهم وثمارهم وأنعامهم‪ ،‬التي أوجدها ال‬
‫لهم‪ -‬شيء‪ ،‬جعلوه قسمين‪:‬‬

‫قسمًا قالوا‪ :‬هذا ل بقولهم وزعمهم‪ ،‬وإل فال ل يقبل إل ما كان خالصا لوجهه‪ ،‬ول يقبل عمل مَن‬
‫أشرك به‪.‬‬
‫وقسمًا جعلوه حصة شركائهم من الوثان والنداد‪.‬‬

‫فإن وصل شيء مما جعلوه ل‪ ،‬واختلط بما جعلوه لغيره‪ ،‬لم يبالوا بذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال غني عنه‪،‬‬
‫فل يردونه‪ ،‬وإن وصل شيء مما جعلوه للهتهم إلى ما جعلوه ل‪ ،‬ردوه إلى محله‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنها‬
‫فقيرة‪ ،‬ل بد من رد نصيبها‪.‬‬

‫فهل أسوأ من هذا الحكم‪ .‬وأظلم؟" حيث جعلوا ما للمخلوق‪ ،‬يجتهد فيه وينصح ويحفظ‪ ،‬أكثر مما‬
‫يفعل بحق ال‪.‬‬

‫ويحتمل أن تأويل الية الكريمة‪ ،‬ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال عن‬
‫ال تعالى أنه قال‪" :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬من أشرك معي شيئا تركته وشركه"‪.‬‬

‫وأن معنى الية أن ما جعلوه وتقربوا به لوثانهم‪ ،‬فهو تقرب خالص لغير ال‪ ،‬ليس ل منه شيء‪،‬‬
‫وما جعلوه ل ‪-‬على زعمهم‪ -‬فإنه ل يصل إليه لكونه شركًا‪ ،‬بل يكون حظ الشركاء والنداد‪ ،‬لن‬
‫ال غني عنه‪ ،‬ل يقبل العمل الذي أُشرِك به معه أحد من الخلق‪.‬‬

‫ومن سفه المشركين وضللهم‪ ،‬أنه زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم ‪-‬أي‪ :‬رؤساؤهم‬
‫وشياطينهم‪ -‬قتل أولدهم‪ ،‬وهو‪ :‬الوأد‪ ،‬الذين يدفنون أولدهم الذكور خشية الفتقار‪ ،‬والناث‬
‫خشية العار‪.‬‬

‫وكل هذا من خدع الشياطين‪ ،‬الذين يريدون أن يُرْدُوهم بالهلك‪ ،‬ويلبسوا عليهم دينهم‪ ،‬فيفعلون‬
‫الفعال التي في غاية القبح‪ ،‬ول يزال شركاؤهم يزينونها لهم‪ ،‬حتى تكون عندهم من المور‬
‫الحسنة والخصال المستحسنة‪ ،‬ولو شاء ال أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الفعال‪ ،‬ويمنع‬
‫أولدهم عن قتل البوين لهم‪ ،‬ما فعلوه‪ ،‬ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين أفعالهم‪ ،‬استدراجا‬
‫منه لهم‪ ،‬وإمهال لهم‪ ،‬وعدم مبالة بما هم عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَذَرْ ُه ْم َومَا َيفْتَرُونَ } أي‪ :‬دعهم مع‬
‫كذبهم وافترائهم‪ ،‬ول تحزن عليهم‪ ،‬فإنهم لن يضروا ال شيئا‪.‬‬

‫ومن أنواع سفاهتهم أن النعام التي أحلها ال لهم عموما‪ ،‬وجعلها رزقا ورحمة‪ ،‬يتمتعون بها‬
‫وينتفعون‪ ،‬قد اخترعوا فيها بِدعًا وأقوال من تلقاء أنفسهم‪ ،‬فعندهم اصطلح في بعض النعام‬
‫ط َع ُمهَا إِلّا مَنْ نَشَاءُ }‬
‫حجْرٌ } أي‪ :‬محرم { لَا َي ْ‬
‫[والحرث] أنهم يقولون فيها‪ { :‬هَ ِذهِ أَ ْنعَامٌ وَحَ ْرثٌ ِ‬
‫أي‪ :‬ل يجوز أن يطعمه أحد‪ ،‬إل من أردنا أن يطعمه‪ ،‬أو وصفناه بوصف ‪-‬من عندهم‪.-‬‬

‫وكل هذا بزعمهم ل مستند لهم ول حجة إل أهويتهم‪ ،‬وآراؤهم الفاسدة‪.‬‬


‫وأنعام ليست محرمة من كل وجه‪ ،‬بل يحرمون ظهورها‪ ،‬أي‪ :‬بالركوب والحمل عليها‪ ،‬ويحمون‬
‫ظهرها‪ ،‬ويسمونها الحام‪ ،‬وأنعام ل يذكرون اسم ال عليها‪ ،‬بل يذكرون اسم أصنامهم وما كانوا‬
‫يعبدون من دون ال عليها‪ ،‬وينسبون تلك الفعال إلى ال‪ ،‬وهم كذبة ُفجّار في ذلك‪.‬‬

‫{ سَيَجْزِيهِمْ ِبمَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } على ال‪ ،‬من إحلل الشرك‪ ،‬وتحريم الحلل من الكل‪ ،‬والمنافع‪.‬‬

‫ومن آرائهم السخيفة أنهم يجعلون بعض النعام‪ ،‬ويعينونها –محرما ما في بطنها على الناث دون‬
‫الذكور‪ ،‬فيقولون‪ { :‬مَا فِي بُطُونِ هَ ِذهِ الْأَ ْنعَامِ خَاِلصَةٌ لِ ُذكُورِنَا } أي‪ :‬حلل لهم‪ ،‬ل يشاركهم فيها‬
‫النساء‪َ { ،‬ومُحَرّمٌ عَلَى أَ ْزوَاجِنَا } أي‪ :‬نسائنا‪ ،‬هذا إذا ولد حيا‪ ،‬وإن يكن ما [في] بطنها يولد ميتا‪،‬‬
‫فهم فيه شركاء‪ ،‬أي‪ :‬فهو حلل للذكور والناث‪.‬‬

‫ص َفهُمْ } حين وصفوا ما أحله ال بأنه حرام‪ ،‬ووصفوا الحرام بالحلل‪،‬‬


‫{ سَيَجْزِيهِمْ } ال { َو ْ‬
‫حكِيمٌ } حيث أمهل لهم‪ ،‬ومكنهم مما هم فيه‬
‫فناقضوا شرع ال وخالفوه‪ ،‬ونسبوا ذلك إلى ال‪ { .‬إِنّهُ َ‬
‫من الضلل‪ { .‬عَلِيمٌ } بهم‪ ،‬ل تخفى عليه خافية‪ ،‬وهو تعالى يعلم بهم وبما قالوه عليه وافتروه‪،‬‬
‫وهو يعافيهم ويرزقهم جل جلله‪.‬‬

‫س َفهًا ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ } أي‪:‬‬


‫خسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا َأوْلَادَهُمْ َ‬
‫ثم بين خسرانهم وسفاهة عقولهم فقال‪َ { :‬قدْ َ‬
‫صفُهم ‪-‬بعد العقول الرزينة‪ -‬السفه المردي‪ ،‬والضلل‪.‬‬
‫خسروا دينهم وأولدهم وعقولهم‪ ،‬وصار و ْ‬

‫{ وَحَ ّرمُوا مَا رَ َز َقهُمُ اللّهُ } أي‪ :‬ما جعله رحمة لهم‪ ،‬وساقه رزقا لهم‪ .‬فردوا كرامة ربهم‪ ،‬ولم‬
‫حلّ الحلل‪.‬‬
‫يكتفوا بذلك‪ ،‬بل وصفوها بأنها حرام‪ ،‬وهي من َأ َ‬

‫وكل هذا { افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ } أي‪ :‬كذبا يكذب به كل معاند َكفّار‪ { .‬قَ ْد ضَلّوا َومَا كَانُوا ُمهْ َتدِينَ }‬
‫أي‪ :‬قد ضلوا ضلل بعيدا‪ ،‬ولم يكونوا مهتدين في شيء من أمورهم‪.‬‬

‫ل وَالزّ ْرعَ ُمخْتَِلفًا ُأكُلُهُ‬


‫خَ‬‫{ ‪ { } 141‬وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ َمعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ َمعْرُوشَاتٍ وَالنّ ْ‬
‫حصَا ِد ِه وَلَا تُسْ ِرفُوا‬
‫حقّهُ َيوْمَ َ‬
‫وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ مُتَشَا ِبهًا وَغَيْرَ مُتَشَا ِبهٍ كُلُوا مِنْ َثمَ ِرهِ إِذَا أَ ْثمَ َر وَآتُوا َ‬
‫حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ } لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله ال لهم من الحروث‬
‫إِنّهُ لَا يُ ِ‬
‫والنعام‪ ،‬ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك‪ ،‬ووظيفتهم اللزمة عليهم في الحروث والنعام‬
‫فقال‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ } أي‪ :‬بساتين‪ ،‬فيها أنواع الشجار المتنوعة‪ ،‬والنباتات المختلفة‪.‬‬

‫ت وَغَيْرَ َمعْرُوشَاتٍ } أي‪ :‬بعض تلك الجنات‪ ،‬مجعول لها عرش‪ ،‬تنتشر عليه الشجار‪،‬‬
‫{ َمعْرُوشَا ٍ‬
‫ويعاونها في النهوض عن الرض‪ .‬وبعضها خال من العروش‪ ،‬تنبت على ساق‪ ،‬أو تنفرش في‬
‫الرض‪ ،‬وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها‪ ،‬وخيراتها‪ ،‬وأنه تعالى‪ ،‬علم العباد كيف يعرشونها‪،‬‬
‫وينمونها‪.‬‬

‫{ وَ } أنشأ تعالى { النخل وَالزّ ْرعَ مُخْتَِلفًا ُأكُلُهُ } أي‪ :‬كله في محل واحد‪ ،‬ويشرب من ماء واحد‪،‬‬
‫ويفضل ال بعضه على بعض في الكل‪.‬‬

‫وخص تعالى النخل والزرع على اختلف أنواعه لكثرة منافعها‪ ،‬ولكونها هي القوت لكثر الخلق‪.‬‬
‫{ وَ } أنشأ تعالى { الزيتون وَال ّرمّانَ مُتَشَا ِبهًا } في شجره { وَغَيْرَ مُتَشَا ِبهٍ } في ثمره وطعمه‪ .‬كأنه‬
‫قيل‪ :‬لي شيء أنشأ ال هذه الجنات‪ ،‬وما عطف عليها؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال‪:‬‬
‫حصَا ِدهِ } أي‪ :‬أعطوا حق الزرع‪،‬‬
‫حقّهُ َيوْمَ َ‬
‫{ كُلُوا مِنْ َثمَ ِرهِ } أي‪ :‬النخل والزرع { إِذَا أَ ْثمَرَ وَآتُوا َ‬
‫وهو الزكاة ذات النصباء المقدرة في الشرع‪ ،‬أمرهم أن يعطوها يوم حصادها‪ ،‬وذلك لن حصاد‬
‫الزرع بمنزلة حولن الحول‪ ،‬لنه الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء‪ ،‬ويسهل حينئذ إخراجه‬
‫على أهل الزرع‪ ،‬ويكون المر فيها ظاهرا لمن أخرجها‪ ،‬حتى يتميز المخرج ممن ل يخرج‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَلَا تُسْ ِرفُوا } يعم النهي عن السراف في الكل‪ ،‬وهو مجاوزة الحد والعادة‪ ،‬وأن يأكل‬
‫صاحب الزرع أكل يضر بالزكاة‪ ،‬والسراف في إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب‬
‫عليه‪ ،‬ويضر نفسه أو عائلته أو غرماءه‪ ،‬فكل هذا من السراف الذي نهى ال عنه‪ ،‬الذي ل يحبه‬
‫ال بل يبغضه ويمقت عليه‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على وجوب الزكاة في الثمار‪ ،‬وأنه ل حول لها‪ ،‬بل حولها حصادها في‬
‫الزروع‪ ،‬وجذاذ النخيل‪ ،‬وأنه ل تتكرر فها الزكاة‪ ،‬لو مكثت عند العبد أحوال كثيرة‪ ،‬إذا كانت‬
‫لغير التجارة‪ ،‬لن ال لم يأمر بالخراج منه إل وقت حصاده‪.‬‬

‫وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر‪ ،‬أنه ل يضمنها‪ ،‬وأنه يجوز‬
‫الكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه‪ ،‬وأنه ل يحسب ذلك من الزكاة‪ ،‬بل يزكي المال‬
‫الذي يبقى بعده‪.‬‬

‫وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يبعث خارصا‪ ،‬يخرص للناس ثمارهم‪ ،‬ويأمره أن يدع لهلها‬
‫الثلث‪ ،‬أو الربع‪ ،‬بحسب ما يعتريها من الكل وغيره‪ ،‬من أهلها‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ‬


‫حمُولَ ًة َوفَرْشًا كُلُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّ ُه وَلَا تَتّ ِبعُوا خُ ُ‬
‫{ ‪َ { } 144 - 142‬ومِنَ الْأَ ْنعَامِ َ‬
‫ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ آل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ‬
‫إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ * َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ‬
‫ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ‬
‫َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِ ْلمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ * َومِنَ الْإِ ِبلِ اثْنَيْ ِ‬
‫شهَدَاءَ ِإ ْذ َوصّاكُمُ اللّهُ ِب َهذَا‬
‫ُقلْ آل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْ ُتمْ ُ‬
‫ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي‪:‬‬
‫َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا لِ ُي ِ‬
‫حمُولَ ًة َوفَرْشًا } أي‪ :‬بعضها تحملون عليه وتركبونه‪ ،‬وبعضها ل‬
‫{ و } خلق وأنشأ { من الْأَ ْنعَامِ َ‬
‫تصلح للحمل والركوب عليها لصغرها كالفصلن ونحوها‪ ،‬وهي الفرش‪ ،‬فهي من جهة الحمل‬
‫والركوب‪ ،‬تنقسم إلى هذين القسمين‪.‬‬

‫وأما من جهة الكل وأنواع النتفاع‪ ،‬فإنها كلها تؤكل وينتفع بها‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬كُلُوا ِممّا رَ َز َق ُكمُ‬
‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ } أي‪ :‬طرقه وأعماله التي من جملتها أن تحرموا بعض ما‬
‫اللّ ُه وَلَا تَتّ ِبعُوا خُ ُ‬
‫رزقكم ال‪ { .‬إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ } فل يأمركم إل بما فيه مضرتكم وشقاؤكم البدي‪.‬‬

‫وهذه النعام التي امتن ال بها على عباده‪ ،‬وجعلها كلها حلل طيبا‪ ،‬فصلها بأنها‪َ { :‬ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ‬
‫مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ } ذكر وأنثى { َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ } كذلك‪ ،‬فهذه أربعة‪ ،‬كلها داخلة فيما أحل ال‪،‬‬
‫ل فرق بين شيء منها‪ ،‬فقل لهؤلء المتكلفين‪ ،‬الذين يحرمون منها شيئا دون شيء‪ ،‬أو يحرمون‬
‫بعضها على الناث دون الذكور‪ ،‬ملزما لهم بعدم وجود الفرق بين ما أباحوا منها وحرموا‪:‬‬
‫{ آل ّذكَرَيْنِ } من الضأن والمعز { حَرّمَ } ال‪ ،‬فلستم تقولون بذلك وتطردونه‪ { ،‬أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ } حرم‬
‫ال من الضأن والمعز‪ ،‬فليس هذا قولكم‪ ،‬ل تحريم الذكور الخلص‪ ،‬ول الناث الخلص من‬
‫الصنفين‪.‬‬

‫بقي إذا كان الرحم مشتمل على ذكر وأنثى‪ ،‬أو على مجهول فقال‪ { :‬أَمْ } تحرمون { ما اشْ َتمََلتْ‬
‫عَلَيْهِ أَ ْرحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } أي‪ :‬أنثى الضأن وأنثى المعز‪ ،‬من غير فرق بين ذكر وأنثى‪ ،‬فلستم تقولون‬
‫أيضا بهذا القول‪.‬‬

‫فإذا كنتم ل تقولون بأحد هذه القوال الثلثة‪ ،‬التي حصرت القسام الممكنة في ذلك‪ ،‬فإلى أي‬
‫شيء تذهبون؟‪.‬‬

‫{ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } في قولكم ودعواكم‪ ،‬ومن المعلوم أنهم ل يمكنهم أن يقولوا قول‬
‫سائغا في العقل‪ ،‬إل واحدا من هذه المور الثلثة‪ .‬وهم ل يقولون بشيء منها‪ .‬إنما يقولون‪ :‬إن‬
‫بعض النعام التي يصطلحون عليها اصطلحات من عند أنفسهم‪ ،‬حرام على الناث دون الذكور‪،‬‬
‫أو محرمة في وقت من الوقات‪ ،‬أو نحو ذلك من القوال‪ ،‬التي يعلم علما ل شك فيه أن مصدرها‬
‫من الجهل المركب‪ ،‬والعقول المختلة المنحرفة‪ ،‬والراء الفاسدة‪ ،‬وأن ال‪ ،‬ما أنزل –بما قالوه‪-‬‬
‫من سلطان‪ ،‬ول لهم عليه حجة ول برهان‪.‬‬
‫ثم ذكر في البل والبقر مثل ذلك‪ .‬فلما بين بطلن قولهم وفساده‪ ،‬قال لهم قولًا ل حيلة لهم في‬
‫شهَدَاءَ إِ ْذ َوصّاكُمُ اللّهُ } أي‪ :‬لم يبق عليكم إل‬
‫الخروج من تبعته‪ ،‬إل في اتباع شرع ال‪َ { .‬أمْ كُنْتُمْ ُ‬
‫دعوى‪ ،‬ل سبيل لكم إلى صدقها وصحتها‪ .‬وهي أن تقولوا‪ :‬إن ال وصّانا بذلك‪ ،‬وأوحى إلينا كما‬
‫أوحى إلى رسله‪ ،‬بل أوحى إلينا وحيا مخالفا لما دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب‪ ،‬وهذا افتراء‬
‫ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِلْمٍ } أي‪ :‬مع‬
‫ل يجهله أحد‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا لِ ُي ِ‬
‫كذبه وافترائه على ال‪ ،‬قصده بذلك إضلل عباد ال عن سبيل ال‪ ،‬بغير بينة منه ول برهان‪ ،‬ول‬
‫عقل ول نقل‪ { .‬إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } الذين ل إرادة لهم في غير الظلم والجور‪،‬‬
‫والفتراء على ال‪.‬‬

‫ط َعمُهُ إِلّا أَنْ َيكُونَ مَيْ َتةً َأوْ‬


‫حيَ ِإَليّ ُمحَ ّرمًا عَلَى طَاعِمٍ يَ ْ‬
‫جدُ فِي مَا أُو ِ‬
‫{ ‪ُ { } 146 ، 145‬قلْ لَا أَ ِ‬
‫غ وَلَا عَادٍ فَإِنّ‬
‫ضطُرّ غَيْرَ بَا ٍ‬
‫سقًا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ َفمَنِ ا ْ‬
‫سفُوحًا َأوْ َلحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنّهُ ِرجْسٌ َأوْ فِ ْ‬
‫َدمًا مَ ْ‬
‫ظفُ ٍر َومِنَ الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ‬
‫رَ ّبكَ َ‬
‫حوَايَا َأوْ مَا اخْتَلَطَ ِب َعظْمٍ ذَِلكَ جَزَيْنَاهُمْ بِ َبغْ ِيهِ ْم وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ‬
‫ظهُورُ ُهمَا َأوِ الْ َ‬
‫حمََلتْ ُ‬
‫شحُومَ ُهمَا إِلّا مَا َ‬
‫ُ‬
‫} لما ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلل ونسبوه إلى ال‪ ،‬وأبطل قولهم‪ .‬أمر‬
‫تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه ال عليهم‪ ،‬ليعلموا أن ما عدا ذلك حلل‪ ،‬مَنْ نسب تحريمه‬
‫إلى ال فهو كاذب مبطل‪ ،‬لن التحريم ل يكون إل من عند ال على لسان رسوله‪ ،‬وقد قال‬
‫عمٍ } أي‪ :‬محرما أكله‪ ،‬بقطع النظر عن‬
‫حيَ إَِليّ مُحَ ّرمًا عَلَى طَا ِ‬
‫جدُ فِيمَا أُو ِ‬
‫لرسوله‪ُ { :‬قلْ لَا أَ ِ‬
‫تحريم النتفاع بغير الكل وعدمه‪.‬‬

‫{ إِلّا أَنْ َيكُونَ مَيْتَةً } والميتة‪ :‬ما مات بغير ذكاة شرعية‪ ،‬فإن ذلك ل يحل‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫علَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالدّ ُم وََلحْمُ ا ْلخِنْزِيرِ }‬
‫{ حُ ّر َمتْ َ‬

‫سفُوحًا } وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها‪ ،‬فإنه الدم الذي يضر احتباسه في‬
‫{ َأوْ َدمًا مَ ْ‬
‫البدن‪ ،‬فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل اللحم‪ ،‬ومفهوم هذا اللفظ‪ ،‬أن الدم الذي يبقى في‬
‫اللحم والعروق بعد الذبح‪ ،‬أنه حلل طاهر‪.‬‬

‫{ َأوْ َلحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنّهُ ِرجْسٌ } أي‪ :‬فإن هذه الشياء الثلثة‪ ،‬رجس‪ ،‬أي‪ :‬خبث نجس مضر‪ ،‬حرمه‬
‫ال لطفا بكم‪ ،‬ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث‪.‬‬

‫{ َأوْ } إل أن يكون { فسقا أهل لغير ال به } أي‪ :‬إل أن تكون الذبيحة مذبوحة لغير ال‪ ،‬من‬
‫الوثان واللهة التي يعبدها المشركون‪ ،‬فإن هذا من الفسق الذي هو الخروج عن طاعة ال إلى‬
‫معصيته‪ ،‬أي‪ :‬ومع هذا‪ ،‬فهذه الشياء المحرمات‪ ،‬من اضطر إليها‪ ،‬أي‪ :‬حملته الحاجة والضرورة‬
‫إلى أكل شيء منها‪ ،‬بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف‪ { .‬غَيْرَ بَاغٍ ول عاد } أي‪:‬‬
‫{ غَيْرَ بَاغٍ } أي‪ :‬مريدٍ لكلها من غير اضطرار وَلَا متعد‪ ،‬أي‪ :‬متجاوز للحد‪ ،‬بأن يأكل زيادة عن‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } أي‪ :‬فال قد سامح من كان بهذه‬
‫حاجته‪ { .‬فمن اضطر غير باغ ول عاد فَإِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫الحال‪.‬‬

‫واختلف العلماء رحمهم ال في هذا الحصر المذكور في هذه الية‪ ،‬مع أن َثمّ محرمات لم تذكر‬
‫فيها‪ ،‬كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬إن هذه الية نازلة قبل تحريم‬
‫ما زاد على ما ذكر فيها‪ ،‬فل ينافي هذا الحصر المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك؛ لنه لم‬
‫يجده فيما أوحي إليه في ذلك الوقت‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن هذه الية مشتملة على سائر المحرمات‪،‬‬
‫بعضها صريحا‪ ،‬وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة‪.‬‬

‫فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير‪ ،‬أو الخير منها فقط‪ { :‬فَإِنّهُ ِرجْسٌ } وصف‬
‫شامل لكل محرم‪ ،‬فإن المحرمات كلها رجس وخبث‪ ،‬وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها ال‬
‫على عباده‪ ،‬صيانة لهم‪ ،‬وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس‪.‬‬

‫ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم من السُنّة‪ ،‬فإنها تفسر القرآن‪ ،‬وتبين المقصود منه‪ ،‬فإذا كان ال‬
‫تعالى لم يحرم من المطاعم إل ما ذكر‪ ،‬والتحريم ل يكون مصدره‪ ،‬إل شرع ال ‪-‬دل ذلك على‬
‫أن المشركين‪ ،‬الذين حرموا ما رزقهم ال مفترون على ال‪ ،‬متقولون عليه ما لم يقل‪.‬‬

‫وفي الية احتمال قوي‪ ،‬لول أن ال ذكر فيها الخنزير‪ ،‬وهو‪ :‬أن السياق في نقض أقوال‬
‫المشركين المتقدمة‪ ،‬في تحريمهم لما أحله ال وخوضهم بذلك‪ ،‬بحسب ما سولت لهم أنفسهم‪ ،‬وذلك‬
‫في بهيمة النعام خاصة‪ ،‬وليس منها محرم إل ما ذكر في الية‪ :‬الميتة منها‪ ،‬وما أهل لغير ال‬
‫به‪ ،‬وما سوى ذلك فحلل‪.‬‬

‫ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الحتمال‪ ،‬أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة النعام‪،‬‬
‫وأنه نوع من أنواع الغنم‪ ،‬كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم‪ ،‬فينمونها كما ينمون المواشي‪،‬‬
‫ويستحلونها‪ ،‬ول يفرقون بينها وبين النعام‪ ،‬فهذا المحرم على هذه المة كله من باب التنزيه لهم‬
‫والصيانة‪.‬‬

‫وأما ما حرم على أهل الكتاب‪ ،‬فبعضه طيب ولكنه حرم عليهم عقوبة لهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَعَلَى‬
‫ظفُرٍ } وذلك كالبل‪ ،‬وما أشبهها { وَ } حرمنا عليهم‪.‬‬
‫الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ‬
‫شحُومَ ُهمَا } وليس المحرم جميع الشحوم منها‪ ،‬بل‬
‫{ َومِنَ الْ َبقَ ِر وَا ْلغَنَمِ } بعض أجزائها‪ ،‬وهو‪ُ { :‬‬
‫ظهُورُ ُهمَا َأوِ‬
‫حمََلتْ ُ‬
‫شحم اللية والثرب‪ ،‬ولهذا استثنى الشحم الحلل من ذلك فقال‪ { :‬إِلّا مَا َ‬
‫حوَايَا } أي‪ :‬الشحم المخالط للمعاء { َأوْ مَا اخْتَلَطَ ِبعَظْمٍ }‬
‫الْ َ‬

‫{ ذَِلكَ } التحريم على اليهود { جَزَيْنَاهُمْ بِ َبغْ ِيهِمْ } أي‪ :‬ظلمهم وتعديهم في حقوق ال وحقوق عباده‪،‬‬
‫فحرم ال عليهم هذه الشياء عقوبة لهم ونكال‪ { .‬وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ } في كل ما نقول ونفعل ونحكم‬
‫به‪ ،‬ومن أصدق من ال حديثا‪ ،‬ومن أحسن من ال حكما لقوم يوقنون‪.‬‬

‫سهُ عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬فإن‬


‫سعَ ٍة وَلَا يُ َردّ بَأْ ُ‬
‫حمَ ٍة وَا ِ‬
‫{ ‪ { } 147‬فَإِنْ َكذّبُوكَ َف ُقلْ رَ ّبكُمْ ذُو َر ْ‬
‫حمَةٍ‬
‫كذبك هؤلء المشركون‪ ،‬فاستمر على دعوتهم‪ ،‬بالترغيب والترهيب‪ ،‬وأخبرهم بأن ال { ذُو َر ْ‬
‫سعَةٍ } أي‪ :‬عامة شاملة [لجميع] للمخلوقات كلها‪ ،‬فسارعوا إلى رحمته بأسبابها‪ ،‬التي رأسها‬
‫وَا ِ‬
‫وأسها ومادتها‪ ،‬تصديق محمد صلى ال عليه وسلم فيما جاء به‪.‬‬

‫{ وَلَا يُ َردّ بَأْسُهُ عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬الذين كثر إجرامهم وذنوبهم‪.‬فاحذروا الجرائم الموصلة‬
‫لبأس ال‪ ،‬التي أعظمها ورأسها تكذيب محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫شيْءٍ‬
‫{ ‪ { } 149 ، 148‬سَ َيقُولُ الّذِينَ َأشْ َركُوا َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْ َركْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَ ّرمْنَا مِنْ َ‬
‫كَذَِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ حَتّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ُقلْ َهلْ عِ ْن َدكُمْ مِنْ عِ ْلمٍ فَتُخْ ِرجُوهُ لَنَا إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا‬
‫ج َمعِينَ } هذا إخبار من ال‬
‫الظّنّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلّا َتخْ ُرصُونَ * ُقلْ فَِللّهِ ا ْلحُجّةُ الْبَاِلغَةُ فََلوْ شَاءَ َلهَدَا ُكمْ أَ ْ‬
‫أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل ال‪ ،‬بالقضاء والقدر‪ ،‬ويجعلون مشيئة ال‬
‫الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم‪.‬‬

‫وقد قالوا ما أخبر ال أنهم سيقولونه‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َلوْ شَاءَ اللّهُ‬
‫شيْءٍ } الية‪.‬‬
‫مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ َ‬

‫فأخبر تعالى أن هذة الحجة‪ ،‬لم تزل المم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل‪ ،‬ويحتجون بها‪ ،‬فلم‬
‫تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم‪ ،‬فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم ال‪ ،‬وأذاقهم بأسه‪.‬‬

‫فلو كانت حجة صحيحة‪ ،‬لدفعت عنهم العقاب‪ ،‬ولما أحل ال بهم العذاب‪ ،‬لنه ل يحل بأسه إل‬
‫بمن استحقه‪ ،‬فعلم أنها حجة فاسدة‪ ،‬وشبهة كاسدة‪ ،‬من عدة أوجه‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما ذكر ال من أنها لو كانت صحيحة‪ ،‬لم تحل بهم العقوبة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الحجة‪ ،‬ل بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان‪ ،‬فأما إذا كانت مستندة إلى‬
‫مجرد الظن والخرص‪ ،‬الذي ل يغني من الحق شيئا‪ ،‬فإنها باطلة‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ َهلْ عِنْ َدكُمْ مِنْ‬
‫عِلْمٍ فَ ُتخْرِجُوهُ لَنَا } فلو كان لهم علم ‪ -‬وهم خصوم ألداء‪ -‬لخرجوه‪ ،‬فلما لم يخرجوه علم أنه ل‬
‫ن وَإِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا َتخْ ُرصُونَ } ومَنْ بنى حججه على الخرص والظن‪،‬‬
‫علم عندهم‪ { .‬إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّ ّ‬
‫فهو مبطل خاسر‪ ،‬فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟‬

‫ومنها‪ :‬أن الحجة ل البالغة‪ ،‬التي لم تبق لحد عذرا‪ ،‬التي اتفقت عليها النبياء والمرسلون‪،‬‬
‫والكتب اللهية‪ ،‬والثار النبوية‪ ،‬والعقول الصحيحة‪ ،‬والفطر المستقيمة‪ ،‬والخلق القويمة‪ ،‬فعلم‬
‫بذلك أن كل ما خالف هذه الدلة القاطعة باطل‪ ،‬لن نقيض الحق‪ ،‬ل يكون إل باطل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ال تعالى أعطى كل مخلوق‪ ،‬قدرة‪ ،‬وإرادة‪ ،‬يتمكن بها من فعل ما كلف به‪ ،‬فل أوجب‬
‫ال على أحد ما ل يقدر على فعله‪ ،‬ول حرم على أحد ما ل يتمكن من تركه‪ ،‬فالحتجاج بعد هذا‬
‫بالقضاء والقدر‪ ،‬ظلم محض وعناد صرف‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ال تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم‪ ،‬بل جعل أفعالهم تبعا لختيارهم‪ ،‬فإن شاءوا‬
‫فعلوا‪ ،‬وإن شاءوا كفوا‪ .‬وهذا أمر مشاهد ل ينكره إل من كابر‪ ،‬وأنكر المحسوسات‪ ،‬فإن كل أحد‬
‫يفرق بين الحركة الختيارية والحركة القسرية‪ ،‬وإن كان الجميع داخل في مشيئة ال‪ ،‬ومندرجا‬
‫تحت إرادته‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك‪ .‬فإنهم ل يمكنهم أن‬
‫يطردوا ذلك‪ ،‬بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك‪ ،‬واحتج بالقضاء والقدر‬
‫لما قبلوا منه هذا الحتجاج‪ ،‬ولغضبوا من ذلك أشد الغضب‪.‬‬

‫فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي ال ومساخطه‪ .‬ول يرضون من أحد أن يحتج به في‬
‫مقابلة مساخطهم؟"‬

‫ومنها‪ :‬أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا‪ ،‬ويعلمون أنه ليس بحجة‪ ،‬وإنما المقصود منه‬
‫دفع الحق‪ ،‬ويرون أن الحق بمنزلة الصائل‪ ،‬فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلم وإن‬
‫كانوا يعتقدونه خطأ‬

‫شهَدْ َم َعهُ ْم وَلَا تَتّبِعْ‬


‫شهِدُوا فَلَا َت ْ‬
‫ش َهدُونَ أَنّ اللّهَ حَرّمَ هَذَا فَإِنْ َ‬
‫ش َهدَا َءكُمُ الّذِينَ يَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 150‬قلْ هَُلمّ ُ‬
‫أَ ْهوَاءَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا وَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَهُمْ بِرَ ّبهِمْ َيعْدِلُونَ } أي‪ :‬قل لمن حرّم ما أحل‬
‫حضِروا شهداءكم الذين يشهدون أن ال حرم هذا‪ ،‬فإذا قيل لهم هذا‬
‫ال‪ ،‬ونسب ذلك إلى ال‪ :‬أ ْ‬
‫الكلم‪ ،‬فهم بين أمرين‪:‬‬

‫إما‪ :‬أن ل يحضروا أحدا يشهد بهذا‪ ،‬فتكون دعواهم إذًا باطلة‪ ،‬خلية من الشهود والبرهان‪.‬‬

‫وإما‪ :‬أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك‪ ،‬ول يمكن أن يشهد بهذا إل كل أفاك أثيم غير مقبول‬
‫الشهادة‪ ،‬وليس هذا من المور التي يصح أن يشهد بها العدول؛ ولهذا قال تعالى –ناهيا نبيه‪،‬‬
‫ش َهدْ َم َعهُ ْم وَلَا تَتّبِعْ َأ ْهوَاءَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا وَالّذِينَ لَا‬
‫شهِدُوا فَلَا تَ ْ‬
‫وأتباعه عن هذه الشهادة‪ { :-‬فَإِنْ َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَهُمْ بِرَ ّبهِمْ َيعْدِلُونَ } أي‪ :‬يسوون به غيره من النداد والوثان‪.‬‬

‫فإذا كانوا كافرين باليوم الخر غير موحدين ل‪ ،‬كانت أهويتهم مناسبة لعقيدتهم‪ ،‬وكانت دائرة بين‬
‫الشرك والتكذيب بالحق‪ ،‬فحري بهوى هذا شأنه‪ ،‬أن ينهى ال خيار خلقه عن اتباعه‪ ،‬وعن‬
‫الشهادة مع أربابه‪ ،‬وعلم حينئذ أن تحريمهم لما أحل ال صادر عن تلك الهواء المضلة‪.‬‬

‫حسَانًا وَلَا‬
‫{ ‪ُ { } 153 - 151‬قلْ َتعَاَلوْا أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ أَلّا تُشْ ِركُوا بِهِ شَيْئًا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ‬
‫ن وَلَا َتقْتُلُوا‬
‫ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا بَطَ َ‬
‫حشَ مَا َ‬
‫َتقْتُلُوا َأوْلَا َد ُكمْ مِنْ ِإمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْ ُز ُقكُمْ وَإِيّاهُ ْم وَلَا َتقْرَبُوا ا ْلفَوَا ِ‬
‫حقّ َذِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ * وَلَا َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ‬
‫ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْ َ‬
‫س َعهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْ ِدلُوا وََلوْ‬
‫حسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُ ّد ُه وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْطِ لَا ُنكَّلفُ َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬
‫أَ ْ‬
‫كَانَ ذَا قُرْبَى وَ ِب َعهْدِ اللّهِ َأ ْوفُوا ذَِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ * وَأَنّ َهذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيمًا فَاتّ ِبعُوهُ‬
‫وَلَا تَتّ ِبعُوا السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ }‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ُ { :‬قلْ } لهؤلء الذين حرموا ما أحل ال‪َ { .‬تعَاَلوْا أَ ْتلُ مَا‬
‫حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْي ُكمْ } تحريما عاما شامل لكل أحد‪ ،‬محتويا على سائر المحرمات‪ ،‬من المآكل‬
‫والمشارب والقوال والفعال‪ { .‬أَلّا تُشْ ِركُوا ِبهِ شَيْئًا } أي‪ :‬ل قليل ول كثيرا‪.‬‬

‫وحقيقة الشرك بال‪ :‬أن يعبد المخلوق كما يعبد ال‪ ،‬أو يعظم كما يعظم ال‪ ،‬أو يصرف له نوع‬
‫من خصائص الربوبية واللهية‪ ،‬وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدا‪ ،‬مخلصا ل في جميع‬
‫أحواله‪ ،‬فهذا حق ال على عباده‪ ،‬أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا‪.‬‬

‫ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال‪ { :‬وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } من القوال الكريمة الحسنة‪ ،‬والفعال‬
‫الجميلة المستحسنة‪ ،‬فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما‪ ،‬فإن ذلك من‬
‫الحسان‪ ،‬وإذا وجد الحسان انتفى العقوق‪.‬‬
‫{ وَلَا َتقْتُلُوا َأوْلَا َدكُمْ } من ذكور وإناث { مِنْ ِإمْلَاقٍ } أي‪ :‬بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم‪ ،‬كما‬
‫كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة‪ ،‬وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال‪ ،‬وهم‬
‫أولدهم‪ ،‬فنهيهم عن قتلهم لغير موجب‪ ،‬أو قتل أولد غيرهم‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫{ َنحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُهمْ } أي‪ :‬قد تكفلنا برزق الجميع‪ ،‬فلستم الذين ترزقون أولدكم‪ ،‬بل ول أنفسكم‪،‬‬
‫ظهَرَ‬
‫فليس عليكم منهم ضيق‪ { .‬وَلَا َتقْرَبُوا ا ْل َفوَاحِشَ } وهي‪ :‬الذنوب العظام المستفحشة‪ { ،‬مَا َ‬
‫مِ ْنهَا َومَا َبطَنَ } أي‪ :‬ل تقربوا الظاهر منها والخفي‪ ،‬أو المتعلق منها بالظاهر‪ ،‬والمتعلق بالقلب‬
‫والباطن‪.‬‬

‫والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها‪ ،‬فإنه يتناول النهي عن مقدماتها‬
‫ووسائلها الموصلة إليها‪.‬‬

‫{ وَلَا َتقْتُلُوا ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ } وهي‪ :‬النفس المسلمة‪ ،‬من ذكر وأنثى‪ ،‬صغير وكبير‪ ،‬بر‬
‫حقّ } كالزاني المحصن‪ ،‬والنفس‬
‫وفاجر‪ ،‬والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق‪ { .‬إِلّا بِالْ َ‬
‫بالنفس‪ ،‬والتارك لدينه المفارق للجماعة‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } المذكور { َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } عن ال وصيته‪ ،‬ثم تحفظونها‪ ،‬ثم تراعونها‬
‫وتقومون بها‪ .‬ودلت الية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر ال به‪.‬‬

‫{ وَلَا َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ } بأكل‪ ،‬أو معاوضة على وجه المحاباة لنفسكم‪ ،‬أو أخذ من غير سبب‪.‬‬
‫{ إِلّا بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ } أي‪ :‬إل بالحال التي تصلح بها أموالهم‪ ،‬وينتفعون بها‪ .‬فدل هذا على أنه ل‬
‫يجوز قربانها‪ ،‬والتصرف بها على وجه يضر اليتامى‪ ،‬أو على وجه ل مضرة فيه ول مصلحة‪{ ،‬‬
‫حَتّى يَبْلُغَ } اليتيم { َأشُدّه } أي‪ :‬حتى يبلغ ويرشد‪ ،‬ويعرف التصرف‪ ،‬فإذا بلغ أشده‪ ،‬أُعطي حينئذ‬
‫مالُه‪ ،‬وتصرف فيه على نظره‪.‬‬

‫وفي هذا دللة على أن اليتيم ‪-‬قبل بلوغ الشُد‪ -‬محجور عليه‪ ،‬وأن وليه يتصرف في ماله‬
‫بالحظ‪ ،‬وأن هذا الحجر ينتهي ببلوغ الشُد‪.‬‬

‫سطِ } أي‪ :‬بالعدل والوفاء التام‪ ،‬فإذا اجتهدتم في ذلك‪ ،‬فـ { لَا ُنكَّلفُ‬
‫{ وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِ ْ‬
‫س َعهَا } أي‪ :‬بقدر ما تسعه‪ ،‬ول تضيق عنه‪ .‬فمَن حرَص على اليفاء في الكيل والوزن‪،‬‬
‫َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬
‫ثم حصل منه تقصير لم يفرط فيه‪ ،‬ولم يعلمه‪ ،‬فإن ال عفو غفور ‪.‬‬

‫وبهذه الية ونحوها استدل الصوليون‪ ،‬بأن ال ل يكلف أحدا ما ل يطيق‪ ،‬وعلى أن من اتقى ال‬
‫فيما أمر‪ ،‬وفعل ما يمكنه من ذلك‪ ،‬فل حرج عليه فيما سوى ذلك‪.‬‬
‫{ وَإِذَا قُلْتُمْ } قول تحكمون به بين الناس‪ ،‬وتفصلون بينهم الخطاب‪ ،‬وتتكلمون به على المقالت‬
‫والحوال { فَاعْدِلُوا } في قولكم‪ ،‬بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون‪ ،‬والنصاف‪ ،‬وعدم‬
‫كتمان ما يلزم بيانه‪ ،‬فإن الميل على من تكره بالكلم فيه أو في مقالته من الظلم المحرم‪.‬‬

‫بل إذا تكلم العالم على مقالت أهل البدع‪ ،‬فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه‪ ،‬وأن يبين ما‬
‫فيها من الحق والباطل‪ ،‬ويعتبر قربها من الحق وبُعدها منه‪.‬‬

‫وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين‪ ،‬في لحظه ولفظه‪ { .‬وَ ِب َعهْدِ اللّهِ َأ ْوفُوا }‬
‫وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد من القيام بحقوقه والوفاء بها‪ ،‬ومن العهد الذي يقع‬
‫التعاقد به بين الخلق‪ .‬فالجميع يجب الوفاء به‪ ،‬ويحرم نقضه والخلل به‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } الحكام المذكورة { َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ } ما بينه لكم من الحكام‪ ،‬وتقومون بوصية‬
‫ال لكم حق القيام‪ ،‬وتعرفون ما فيها‪ ،‬من الحكم والحكام‪.‬‬

‫ولما بين كثيرا من الوامر الكبار‪ ،‬والشرائع المهمة‪ ،‬أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال‪ { :‬وَأَنّ‬
‫هَذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيمًا } أي‪ :‬هذه الحكام وما أشبهها‪ ،‬مما بينه ال في كتابه‪ ،‬ووضحه لعباده‪،‬‬
‫صراط ال الموصل إليه‪ ،‬وإلى دار كرامته‪ ،‬المعتدل السهل المختصر‪.‬‬

‫{ فَاتّ ِبعُوهُ } لتنالوا الفوز والفلح‪ ،‬وتدركوا المال والفراح‪ { .‬وَلَا تَتّ ِبعُوا السّ ُبلَ } أي‪ :‬الطرق‬
‫المخالفة لهذا الطريق { فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } أي‪ :‬تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمال‪ ،‬فإذا ضللتم‬
‫عن الصراط المستقيم‪ ،‬فليس ثم إل طرق توصل إلى الجحيم‪.‬‬

‫{ ذَِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } فإنكم إذا قمتم بما بينه ال لكم علما وعمل صرتم من المتقين‪،‬‬
‫وعباد ال المفلحين‪ ،‬ووحد الصراط وأضافه إليه لنه سبيل واحد موصل إليه‪ ،‬وال هو المعين‬
‫للسالكين على سلوكه‪.‬‬

‫شيْ ٍء وَ ُهدًى‬
‫ن وَ َتفْصِيلًا ِل ُكلّ َ‬
‫حسَ َ‬
‫علَى الّذِي أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 157 - 154‬ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َتمَامًا َ‬
‫حمُونَ * أَنْ‬
‫حمَةً َلعَّلهُمْ بِِلقَاءِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ فَاتّ ِبعُوهُ وَا ّتقُوا َلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬
‫وَرَ ْ‬
‫َتقُولُوا إِ ّنمَا أُنْ ِزلَ ا ْلكِتَابُ عَلَى طَا ِئفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَ ِتهِمْ َلغَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُوا َلوْ أَنّا‬
‫ح َمةٌ َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ كَ ّذبَ‬
‫أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا ا ْلكِتَابُ َلكُنّا أَ ْهدَى مِ ْنهُمْ َفقَدْ جَا َءكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫ص ِدفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُوا َيصْ ِدفُونَ }‬
‫بِآيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا سَ َنجْزِي الّذِينَ َي ْ‬
‫{ ُثمّ } في هذا الموضع‪ ،‬ليس المراد منها الترتيب الزماني‪ ،‬فإن زمن موسى عليه السلم‪ ،‬متقدم‬
‫على تلوة الرسول محمد صلى ال عليه وسلم هذا الكتاب‪ ،‬وإنما المراد الترتيب الخباري‪ .‬فأخبر‬
‫حسَنَ }‬
‫أنه آتى { مُوسَى ا ْلكِتَابَ } وهو التوراة { َتمَامًا } لنعمته‪ ،‬وكمال لحسانه‪ { .‬عَلَى الّذِي أَ ْ‬
‫من أُمة موسى‪ ،‬فإن ال أنعم على المحسنين منهم ب ِنعَم ل تحصى‪ .‬من جملتها وتمامها إنزال‬
‫التوراة عليهم‪ .‬فتمت عليهم نعمة ال‪ ،‬ووجب عليهم القيام بشكرها‪.‬‬

‫شيْءٍ } يحتاجون إلى تفصيله‪ ،‬من الحلل والحرام‪ ،‬والمر والنهي‪ ،‬والعقائد‬
‫{ وَ َت ْفصِيلًا ِل ُكلّ َ‬
‫حمَةً } أي‪ :‬يهديهم إلى الخير‪ ،‬ويعرفهم بالشر‪ ،‬في الصول والفروع‪.‬‬
‫ونحوها‪ { .‬وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫ح َمةٌ } يحصل به لهم السعادة والرحمة والخير الكثير‪َ { .‬لعَّل ُهمْ } بسبب إنزالنا الكتاب‬
‫{ وَرَ ْ‬
‫والبينات عليهم { بِِلقَاءِ رَ ّب ِهمْ ُي ْؤمِنُونَ } فإنه اشتمل من الدلة القاطعة على البعث والجزاء‬
‫بالعمال‪ ،‬ما يوجب لهم اليمان بلقاء ربهم والستعداد له‪.‬‬

‫{ وَ َهذَا } القرآن العظيم‪ ،‬والذكر الحكيم‪ { .‬كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ } أي‪ :‬فيه الخير الكثير والعلم‬
‫الغزير‪ ،‬وهو الذي تستمد منه سائر العلوم‪ ،‬وتستخرج منه البركات‪ ،‬فما من خير إل وقد دعا إليه‬
‫ورغب فيه‪ ،‬وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه‪ ،‬وما من شر إل وقد نهى عنه وحذر منه‪،‬‬
‫وذكر السباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة { فَاتّ ِبعُوهُ } فيما يأمر به وينهى‪ ،‬وابنوا أصول‬
‫حمُونَ }‬
‫دينكم وفروعه عليه { وَا ّتقُوا } ال تعالى أن تخالفوا له أمرا { َلعَّل ُكمْ } إن اتبعتموه { تُرْ َ‬
‫فأكبر سبب لنيل رحمة ال اتباع هذا الكتاب‪ ،‬علما وعمل‪.‬‬

‫{ أَنْ َتقُولُوا إِ ّنمَا أُنْ ِزلَ ا ْلكِتَابُ عَلَى طَا ِئفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَ ِتهِمْ َلغَافِلِينَ } أي‪ :‬أنزلنا‬
‫إليكم هذا الكتاب المبارك قطعا لحجتكم‪ ،‬وخشية أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من‬
‫قبلنا‪ ،‬أي‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَ ِتهِمْ َلغَافِلِينَ } أي‪ :‬تقولون لَمْ تنزل علينا كتابا‪ ،‬والكتب التي أنزلتها على‬
‫الطائفتين ليس لنا بها علم ول معرفة‪ ،‬فأنزلنا إليكم كتابا‪ ،‬لم ينزل من السماء كتاب أجمع ول‬
‫أوضح ول أبين منه‪.‬‬

‫علَيْنَا ا ْلكِتَابُ َلكُنّا أَهْدَى مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬إما أن تعتذروا بعدم وصول أصل‬
‫{ َأوْ َتقُولُوا َلوْ أَنّا أُنْ ِزلَ َ‬
‫الهداية إليكم‪ ،‬وإما أن تعتذروا‪ ،‬بـ[عدم] كمالها وتمامها‪ ،‬فحصل لكم بكتابكم أصل الهداية‬
‫وكمالها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فقَدْ جَا َءكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ } وهذا اسم جنس‪ ،‬يدخل فيه كل ما يبين الحق‬
‫ح َمةٌ } أي‪ :‬سعادة لكم في دينكم ودنياكم‪ ،‬فهذا يوجب لكم النقياد‬
‫{ وَ ُهدًى } من الضللة { وَرَ ْ‬
‫لحكامه واليمان بأخباره‪ ،‬وأن من لم يرفع به رأسا وكذب به‪ ،‬فإنه أظلم الظالمين‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ َك ّذبَ بِآيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا } أي‪ :‬أعرض ونأى بجانبه‪.‬‬
‫{ سَنَجْزِي الّذِينَ َيصْ ِدفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ ا ْلعَذَابِ } أي‪ :‬العذاب الذي يسوء صاحبه ويشق عليه‪{ .‬‬
‫ص ِدفُونَ } لنفسهم ولغيرهم‪ ،‬جزاء لهم على عملهم السيء { َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }‬
‫ِبمَا كَانُوا َي ْ‬

‫وفي هذه اليات دليل على أن علم القرآن أجل العلوم وأبركها وأوسعها‪ ،‬وأنه به تحصل الهداية‬
‫إلى الصراط المستقيم‪ ،‬هداية تامة ل يحتاج معها إلى تخرص المتكلمين‪ ،‬ول إلى أفكار‬
‫المتفلسفين‪ ،‬ول لغير ذلك من علوم الولين والخرين‪.‬‬

‫وأن المعروف أنه لم ينزل جنس الكتاب إل على الطائفتين‪[ ،‬من] اليهود والنصارى‪ ،‬فهم أهل‬
‫الكتاب عند الطلق‪ ،‬ل يدخل فيهم سائر الطوائف‪ ،‬ل المجوس ول غيرهم‪.‬‬

‫وفيه‪ :‬ما كان عليه الجاهلية قبل نزول القرآن‪ ،‬من الجهل العظيم وعدم العلم بما عند أهل الكتاب‪،‬‬
‫الذين عندهم مادة العلم‪ ،‬وغفلتهم عن دراسة كتبهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 158‬هلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي‬
‫َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ لَا يَ ْنفَعُ َنفْسًا إِيمَا ُنهَا لَمْ َتكُنْ آمَ َنتْ مِنْ قَ ْبلُ َأوْ كَسَ َبتْ فِي إِيمَا ِنهَا خَيْرًا ُقلِ انْ َتظِرُوا‬
‫إِنّا مُنْتَظِرُونَ }‬

‫يقول تعالى‪ :‬هل ينظر هؤلء الذين استمر ظلمهم وعنادهم‪ { ،‬إِلّا أَنْ يَأْتِ َيهُمُ } مقدمات العذاب‪،‬‬
‫ومقدمات الخرة بأن تأتيهم { ا ْلمَلَا ِئ َكةِ } لقبض أرواحهم‪ ،‬فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال‪ ،‬لم‬
‫ينفعهم اليمان ول صالح العمال‪َ { .‬أوْ يَأْ ِتيَ‬

‫رَ ّبكَ } لفصل القضاء بين العباد‪ ،‬ومجازاة المحسنين والمسيئين‪َ { .‬أوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ }‬
‫الدالة على قرب الساعة‪.‬‬

‫{ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ } الخارقة للعادة‪ ،‬التي يعلم بها أن الساعة قد دنت‪ ،‬وأن القيامة قد‬
‫اقتربت‪ { .‬لَا يَ ْنفَعُ َنفْسًا إِيمَا ُنهَا لَمْ َتكُنْ آمَ َنتْ مِنْ قَ ْبلُ َأوْ كَسَ َبتْ فِي إِيمَا ِنهَا خَيْرًا } أي‪ :‬إذا وجد‬
‫بعض آيات ال لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن‪ ،‬ول المؤمنَ المقصر أن يزداد خيرُه بعد ذلك‪ ،‬بل‬
‫ينفعه ما كان معه من اليمان قبل ذلك‪ ،‬وما كان له من الخير المرجوّ قبل أن يأتي بعض اليات‪.‬‬

‫والحكمة في هذا ظاهرة‪ ،‬فإنه إنما كان اليمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب‪ ،‬وكان اختيارا من العبد‪،‬‬
‫فأما إذا وجدت اليات صار المر شهادة‪ ،‬ولم يبق لليمان فائدة‪ ،‬لنه يشبه اليمان الضروري‪،‬‬
‫كإيمان الغريق والحريق ونحوهما‪ ،‬ممن إذا رأى الموت‪ ،‬أقلع عما هو فيه كما قال تعالى‪ { :‬فََلمّا‬
‫ح َد ُه َوكَفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ فَلَمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا َرَأوْا بَ ْأسَنَا‬
‫رََأوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَ ْ‬
‫سُنّةَ اللّهِ الّتِي َقدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ }‬
‫وقد تكاثرت الحاديث الصحيحة عن النبي صلى ال عليه وسلم أن المراد ببعض آيات ال‪ ،‬طلوع‬
‫الشمس من مغربها‪ ،‬وأن الناس إذا رأوها‪ ،‬آمنوا‪ ،‬فلم ينفعهم إيمانهم‪ ،‬ويُغلق حينئذ بابُ التوبة‪.‬‬

‫ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬منتظرا‪ ،‬وهم ينتظرون بالنبي صلى‬
‫ال عليه وسلم وأتباعه قوارع الدهر ومصائب المور‪ ،‬قال‪ُ { :‬قلِ انْ َتظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ }‬
‫فستعلمون أينا أحق بالمن‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الفعال الختيارية ل تعالى‪ ،‬كالستواء‬
‫والنزول‪ ،‬والتيان ل تبارك وتعالى‪ ،‬من غير تشبيه له بصفات المخلوقين‪.‬‬

‫وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير‪ ،‬وفيه أن من جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من‬
‫مغربها‪ .‬وأن ال تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته‪ ،‬أن اليمان إنما ينفع إذا كان اختياريا ل‬
‫اضطراريا‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫وأن النسان يكتسب الخير بإيمانه‪ .‬فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو إذا كان مع العبد‬
‫اليمان‪ .‬فإذا خل القلب من اليمان لم ينفعه شيء من ذلك‪.‬‬

‫شيْءٍ إِ ّنمَا َأمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ‬


‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫{ ‪ { } 160 ، 159‬إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُ ْم َوكَانُوا شِ َيعًا لَ ْ‬
‫حسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَنْ جَاءَ بِالسّيّ َئةِ فَلَا ُيجْزَى إِلّا‬
‫ثُمّ يُنَبّ ُئ ُهمْ ِبمَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْ َ‬
‫مِثَْلهَا وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ }‬

‫يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم‪ ،‬أي‪ :‬شتتوه وتفرقوا فيه‪ ،‬وكلّ أخذ لنفسه نصيبا من السماء التي‬
‫ل تفيد النسان في دينه شيئا‪ ،‬كاليهودية والنصرانية والمجوسية‪ .‬أو ل يكمل بها إيمانه‪ ،‬بأن يأخذ‬
‫من الشريعة شيئا ويجعله دينه‪ ،‬ويدع مثله‪ ،‬أو ما هو أولى منه‪ ،‬كما هو حال أهل الفرقة من أهل‬
‫البدع والضلل والمفرقين للُمة‪.‬‬

‫ودلت الية الكريمة أن الدين يأمر بالجتماع والئتلف‪ ،‬وينهى عن التفرق والختلف في أهل‬
‫الدين‪ ،‬وفي سائر مسائله الصولية والفروعية‪.‬‬

‫شيْءٍ } أي لست منهم وليسوا منك‪ ،‬لنهم‬


‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال‪ { :‬لَ ْ‬
‫خالفوك وعاندوك‪ { .‬إِ ّنمَا َأمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ } يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم { ُثمّ يُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُوا‬
‫َي ْفعَلُونَ }‬
‫ثم ذكر صفة الجزاء فقال‪ { :‬مَنْ جَاءَ بِا ْلحَسَ َنةِ } القولية والفعلية‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ ،‬المتعلقة بحق‬
‫عشْرُ َأمْثَاِلهَا } هذا أقل ما يكون من التضعيف‪.‬‬
‫ال أو حق خلقه { فَلَهُ َ‬

‫{ َومَنْ جَاءَ بِالسّيّ َئةِ فَلَا ُيجْزَى إِلّا مِثَْلهَا } وهذا من تمام عدله تعالى وإحسانه‪ ،‬وأنه ل يظلم مثقال‬
‫ذرة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ }‬

‫{ ‪ُ { } 165 - 161‬قلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ دِينًا قِ َيمًا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ‬
‫ي َو َممَاتِي لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * لَا شَرِيكَ لَ ُه وَبِ َذِلكَ‬
‫سكِي َومَحْيَا َ‬
‫ن صَلَاتِي وَنُ ُ‬
‫مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * ُقلْ إِ ّ‬
‫سبُ ُكلّ َنفْسٍ إِلّا‬
‫شيْ ٍء وَلَا َتكْ ِ‬
‫ُأمِ ْرتُ وَأَنَا َأ ّولُ ا ْلمُسِْلمِينَ * ُقلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِي رَبّا وَ ُهوَ َربّ ُكلّ َ‬
‫ج ُعكُمْ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ * وَ ُهوَ الّذِي‬
‫عَلَ ْيهَا وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَى ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ مَرْ ِ‬
‫ضكُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنّ رَ ّبكَ سَرِيعُ‬
‫ض وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫جعََلكُمْ خَلَا ِئفَ الْأَ ْر ِ‬
‫َ‬
‫ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫ا ْل ِعقَا ِ‬

‫يأمر تعالى نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن يقول ويعلن بما هو عليه من الهداية إلى الصراط‬
‫المستقيم‪ :‬الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬والمر بكل حسن‪ ،‬والنهي‬
‫عن كل قبيح‪ ،‬الذي عليه النبياء والمرسلون‪ ،‬خصوصا إمام الحنفاء‪ ،‬ووالد من بعث من بعد موته‬
‫من النبياء‪ ،‬خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلة والسلم‪ ،‬وهو الدين الحنيف المائل عن كل دين‬
‫غير مستقيم‪ ،‬من أديان أهل النحراف‪ ،‬كاليهود والنصارى والمشركين‪.‬‬

‫سكِي } أي‪ :‬ذبحي‪،‬‬


‫ن صَلَاتِي وَنُ ُ‬
‫وهذا عموم‪ ،‬ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال‪ُ { :‬قلْ إِ ّ‬
‫وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما‪ ،‬ودللتهما على محبة ال تعالى‪ ،‬وإخلص الدين له‪،‬‬
‫والتقرب إليه بالقلب واللسان‪ ،‬والجوارح وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال‪ ،‬لما هو‬
‫أحب إليها وهو ال تعالى‪.‬‬

‫ومن أخلص في صلته ونسكه‪ ،‬استلزم ذلك إخلصه ل في سائر أعماله‪ .‬وقوله‪َ { :‬ومَحْيَايَ‬
‫ي في مماتي‪ ،‬الجميع { لِلّهِ‬
‫َو َممَاتِي } أي‪ :‬ما آتيه في حياتي‪ ،‬وما يجريه ال عليّ‪ ،‬وما يقدر عل ّ‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } { لَا شَرِيكَ َلهُ } في العبادة‪ ،‬كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير‪ ،‬وليس هذا‬
‫الخلص ل ابتداعا مني‪ ،‬وبدعا أتيته من تلقاء نفسي‪ ،‬بل { بِذَِلكَ ُأمِ ْرتُ } أمرا حتما‪ ،‬ل أخرج‬
‫من التبعة إل بامتثاله { وَأَنَا َأ ّولُ ا ْل ُمسِْلمِينَ } من هذه المة‪.‬‬

‫{ ُقلْ أَغَيْرَ اللّهِ } من المخلوقين { أَ ْبغِي رَبّا } أي‪ :‬يحسن ذلك ويليق بي‪ ،‬أن أتخذ غيره‪ ،‬مربيا‬
‫ومدبرا وال رب كل شيء‪ ،‬فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته‪ ،‬منقادون لمره؟"‪.‬‬
‫فتعين علي وعلى غيري‪ ،‬أن يتخذ ال ربا‪ ،‬ويرضى به‪ ،‬وأل يتعلق بأحد من المربوبين الفقراء‬
‫العاجزين‪.‬‬

‫سبُ ُكلّ َنفْسٍ } من خير وشر { إِلّا عَلَ ْيهَا } كما قال‬
‫ثم رغب ورهب بذكر الجزاء فقال‪ { :‬وَلَا َتكْ ِ‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا }‬
‫تعالى‪ { :‬مَنْ َ‬

‫{ وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى } بل كل عليه وزر نفسه‪ ،‬وإن كان أحد قد تسبب في ضلل غيره‬
‫ووزره‪ ،‬فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء‪.‬‬

‫ج ُعكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ َتخْتَِلفُونَ } من خير وشر‪ ،‬ويجازيكم‬
‫{ ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ مَ ْر ِ‬
‫على ذلك‪ ،‬أوفى الجزاء‪.‬‬

‫جعََلكُمْ خَلَا ِئفَ الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬يخلف بعضكم بعضا‪ ،‬واستخلفكم ال في الرض‪،‬‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫وسخّر لكم جميع ما فيها‪ ،‬وابتلكم‪ ،‬لينظر كيف تعملون‪.‬‬

‫ضكُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ } في القوة والعافية‪ ،‬والرزق والخَلْق والخُلُق‪ { .‬لِيَبُْل َوكُمْ فِيمَا‬
‫{ وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫آتَاكُمْ } فتفاوتت أعمالكم‪ { .‬إِنّ رَ ّبكَ سَرِيعُ ا ْل ِعقَابِ } لمن عصاه وكذّب بآياته { وَإِنّهُ َل َغفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫لمن آمن به وعمل صالحا‪ ،‬وتاب من الموبقات‪.‬‬

‫آخر تفسير سورة النعام‪ ،‬فلله الحمد والثناء وصلى ال وسلم على نبينا محمد‬

‫[وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين] ‪.‬‬

‫" المجلد الثالث من تيسير الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى ال‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر‬
‫السعدي‪".‬‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫تفسير سورة العراف‬


‫مكية‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ المص * كِتَابٌ أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ فَلَا َيكُنْ فِي صَدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 7 - 1‬بِ ْ‬
‫لِتُنْذِرَ ِب ِه وَ ِذكْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * اتّ ِبعُوا مَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكُمْ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَلَا تَتّ ِبعُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا‬
‫عوَاهُمْ إِذْ جَاءَ ُهمْ‬
‫تَ َذكّرُونَ * َوكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهَْلكْنَاهَا َفجَاءَهَا بَ ْأسُنَا بَيَاتًا َأوْ ُهمْ قَائِلُونَ * َفمَا كَانَ دَ ْ‬
‫سلَ إِلَ ْي ِه ْم وَلَنَسْأَلَنّ ا ْلمُ ْرسَلِينَ * فَلَ َن ُقصّنّ عَلَ ْي ِهمْ‬
‫بَأْسُنَا إِلّا أَنْ قَالُوا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ * فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْ ِ‬
‫ِبعِلْ ٍم َومَا كُنّا غَائِبِينَ }‬

‫يقول تعالى لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن‪ { :‬كِتَابٌ أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ } أي‪:‬‬
‫كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد‪ ،‬وجميع المطالب اللهية‪ ،‬والمقاصد الشرعية‪ ،‬محكما‬
‫مفصل { فَلَا َيكُنْ فِي صَدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي‪ :‬ضيق وشك واشتباه‪ ،‬بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم‬
‫حمِيدٍ } وأنه أصدق الكلم‬
‫حكِيمٍ َ‬
‫طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَل مِنْ خَ ْلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ َ‬
‫حميد { ل يَأْتِيهِ الْبَا ِ‬
‫فلينشرح له صدرك‪ ،‬ولتطمئن به نفسك‪ ،‬ولتصدع بأوامره ونواهيه‪ ،‬ول تخش لئما ومعارضا‪.‬‬

‫{ لِتُ ْنذِرَ بِهِ } الخلق‪ ،‬فتعظهم وتذكرهم‪ ،‬فتقوم الحجة على المعاندين‪.‬‬

‫{ و } ليكون { َ ِذكْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } كما قال تعالى‪ { :‬وَ َذكّرْ فَإِنّ ال ّذكْرَى تَ ْنفَعُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } يتذكرون به‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬وأعماله الظاهرة والباطنة‪ ،‬وما يحول بين العبد‪ ،‬وبين سلوكه‪.‬‬

‫ثم خاطب اللّه العباد‪ ،‬وألفتهم إلى الكتاب فقال‪ { :‬اتّ ِبعُوا مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي ُكمْ مِنْ رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬الكتاب الذي‬
‫أريد إنزاله لجلكم‪ ،‬وهو‪ { :‬مِنْ رَ ّبكُمْ } الذي يريد أن يتم تربيته لكم‪ ،‬فأنزل عليكم هذا الكتاب‬
‫الذي‪ ،‬إن اتبعتموه‪ ،‬كملت تربيتكم‪ ،‬وتمت عليكم النعمة‪ ،‬وهديتم لحسن العمال والخلق‬
‫ومعاليها { وَلَا تَتّ ِبعُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ } أي‪ :‬تتولونهم‪ ،‬وتتبعون أهواءهم‪ ،‬وتتركون لجلها الحق‪.‬‬

‫{ قَلِيلًا مَا تَ َذكّرُونَ } فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة‪ ،‬لما آثرتم الضار على النافع‪ ،‬والعدو على‬
‫الوليّ‪.‬‬

‫ثم حذرهم عقوباته للمم الذين كذبوا ما جاءتهم به رسلهم‪ ،‬لئل يشابهوهم فقال‪َ { :‬وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ‬
‫أَهَْلكْنَاهَا َفجَاءَهَا بَأْسُنَا } أي‪ :‬عذابنا الشديد { بَيَاتًا َأوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي‪ :‬في حين غفلتهم‪ ،‬وعلى‬
‫غرتهم غافلون‪ ،‬لم يخطر الهلك على قلوبهم‪ .‬فحين جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم‪ ،‬ول‬
‫أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يرجونهم‪ ،‬ول أنكروا ما كانوا يفعلونه من الظلم والمعاصي‪.‬‬

‫صمْنَا مِنْ‬
‫عوَاهُمْ ِإذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلّا أَنْ قَالُوا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ } كما قال تعالى‪َ { :‬وكَمْ َق َ‬
‫{ َفمَا كَانَ دَ ْ‬
‫قَرْيَةٍ كَا َنتْ ظَاِل َم ًة وَأَنْشَأْنَا َبعْدَهَا َق ْومًا آخَرِينَ فََلمّا َأحَسّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِ ْنهَا يَ ْر ُكضُونَ لَا تَ ْر ُكضُوا‬
‫جعُوا إِلَى مَا أُتْ ِرفْتُمْ فِيهِ َومَسَاكِ ِنكُمْ َلعَّلكُمْ تُسَْألُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ َفمَا زَاَلتْ تِ ْلكَ‬
‫وَارْ ِ‬
‫حصِيدًا خَامِدِينَ }‬
‫جعَلْنَاهُمْ َ‬
‫عوَا ُهمْ حَتّى َ‬
‫دَ ْ‬

‫سلَ إِلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬لنسألن المم الذين أرسل اللّه إليهم المرسلين‪ ،‬عما‬
‫وقوله‪ { :‬فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُ ْر ِ‬
‫أجابوا به رسلهم‪ { ،‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ مَاذَا َأجَبْتُمُ ا ْلمُ ْرسَلِينَ } اليات‪.‬‬

‫{ وَلَنَسَْألَنّ ا ْلمُرْسَلِينَ } عن تبليغهم لرسالت ربهم‪ ،‬وعما أجابتهم به أممهم‪.‬‬

‫{ فَلَ َن ُقصّنّ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬على الخلق كلهم ما عملوا { ِبعِلْمٍ } منه تعالى لعمالهم { َومَا كُنّا غَائِبِينَ }‬
‫حصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ } وقال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ سَبْعَ‬
‫في وقت من الوقات‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬أ ْ‬
‫خلْقِ غَافِلِينَ }‬
‫ق َومَا كُنّا عَنِ الْ َ‬
‫طَرَا ِئ َ‬

‫خ ّفتْ َموَازِينُهُ‬
‫حقّ َفمَنْ َثقَُلتْ َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَنْ َ‬
‫{ ‪ { } 9 - 8‬وَا ْلوَزْنُ َي ْومَئِذٍ الْ َ‬
‫سهُمْ ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا َيظِْلمُونَ }‬
‫فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬

‫حقّ َفمَنْ َثقَُلتْ َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ‬


‫ثم ذكر الجزاء على العمال‪ ،‬فقال‪ { :‬وَا ْلوَزْنُ َي ْومَئِذٍ الْ َ‬
‫سهُمْ ِبمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظِْلمُونَ } أي‪ :‬والوزن يوم‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫خ ّفتْ َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ َ‬
‫َومَنْ َ‬
‫القيامة يكون بالعدل والقسط‪ ،‬الذي ل جور فيه ول ظلم بوجه‪.‬‬

‫{ َفمَنْ َثقَُلتْ َموَازِينُهُ } بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ } أي‪ :‬الناجون‬
‫من المكروه‪ ،‬المدركون للمحبوب‪ ،‬الذين حصل لهم الربح العظيم‪ ،‬والسعادة الدائمة‪.‬‬

‫سهُمْ } إذ‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫خفّتْ َموَازِينُهُ } بأن رجحت سيئاته‪ ،‬وصار الحكم لها‪ { ،‬فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ َ‬
‫{ َومَنْ َ‬
‫فاتهم النعيم المقيم‪ ،‬وحصل لهم العذاب الليم { ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظِْلمُونَ } فلم ينقادوا لها كما يجب‬
‫عليهم ذلك‪.‬‬

‫شكُرُونَ }‬
‫جعَلْنَا َل ُكمْ فِيهَا َمعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَ ْ‬
‫ض وَ َ‬
‫{ ‪ { } 10‬وََلقَدْ َمكّنّاكُمْ فِي الْأَ ْر ِ‬

‫يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة‪ { :‬وََلقَدْ َمكّنّاكُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬هيأناها‬
‫جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِشَ } مما‬
‫لكم‪ ،‬بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها‪ ،‬ووجوه النتفاع بها { وَ َ‬
‫يخرج من الشجار والنبات‪ ،‬ومعادن الرض‪ ،‬وأنواع الصنائع والتجارات‪ ،‬فإنه هو الذي هيأها‪،‬‬
‫وسخر أسبابها‪.‬‬

‫شكُرُونَ } اللّه‪ ،‬الذي أنعم عليكم بأصناف النعم‪ ،‬وصرف عنكم النقم‪.‬‬
‫{ قَلِيلًا مَا تَ ْ‬
‫سجَدُوا إِلّا إِبْلِيسَ َلمْ َيكُنْ‬
‫سجُدُوا لِآدَمَ فَ َ‬
‫صوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا ِل ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ‬
‫{ ‪ { } 15 - 11‬وََلقَدْ خََلقْنَاكُمْ ُث ّم َ‬
‫مِنَ السّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَ َن َعكَ أَلّا َتسْجُدَ إِذْ َأمَرْ ُتكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَا ٍر وَخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ‬
‫* قَالَ فَاهْبِطْ مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَنْ تَ َتكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِ ّنكَ مِنَ الصّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى َيوْمِ‬
‫يُ ْبعَثُونَ * قَالَ إِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنْظَرِينَ }‬

‫يقول تعالى مخاطبا لبني آدم‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَاكُمْ } بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم‪ :‬أبيكم آدم‬
‫صوّرْنَاكُمْ } في أحسن صورة‪ ،‬وأحسن تقويم‪ ،‬وعلمه ال تعالى ما به تكمل‬
‫عليه السلم { ثُ ّم َ‬
‫صورته الباطنة‪ ،‬أسماء كل شيء‪.‬‬

‫ثم أمر الملئكة الكرام أن يسجدوا لدم‪ ،‬إكراما واحتراما‪ ،‬وإظهارا لفضله‪ ،‬فامتثلوا أمر ربهم‪،‬‬
‫جدُوا } كلهم أجمعون { إِلّا إِبْلِيسَ } أبى أن يسجد له‪ ،‬تكبرا عليه وإعجابا بنفسه‪.‬‬
‫{ َفسَ َ‬

‫جدَ } لما خلقت بيديّ‪ ،‬أي‪ :‬شرفته وفضلته بهذه‬


‫فوبخه اللّه على ذلك وقال‪ { :‬مَا مَ َن َعكَ أَلّا َتسْ ُ‬
‫الفضيلة‪ ،‬التي لم تكن لغيره‪ ،‬فعصيت أمري وتهاونت بي؟‬

‫{ قَالَ } إبليس معارضا لربه‪ { :‬أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله‪ { :‬خََلقْتَنِي‬
‫مِنْ نَا ٍر وَخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ }‬

‫وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها‪،‬‬
‫وهذا القياس من أفسد القيسة‪ ،‬فإنه باطل من عدة أوجه‪:‬‬

‫منها‪ :‬أنه في مقابلة أمر اللّه له بالسجود‪ ،‬والقياس إذا عارض النص‪ ،‬فإنه قياس باطل‪ ،‬لن‬
‫المقصود بالقياس‪ ،‬أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص‪ ،‬يقارب المور المنصوص عليها‪ ،‬ويكون‬
‫تابعا لها‪.‬‬

‫فأما قياس يعارضها‪ ،‬ويلزم من اعتباره إلغاءُ النصوص‪ ،‬فهذا القياس من أشنع القيسة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن قوله‪ { :‬أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث‪ .‬فإنه برهن على نقصه‬
‫بإعجابه بنفسه وتكبره‪ ،‬والقول على اللّه بل علم‪ .‬وأي نقص أعظم من هذا؟"‬

‫ومنها‪ :‬أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب‪ ،‬فإن مادة الطين فيها الخشوع‬
‫والسكون والرزانة‪ ،‬ومنها تظهر بركات الرض من الشجار وأنواع النبات‪ ،‬على اختلف‬
‫أجناسه وأنواعه‪ ،‬وأما النار ففيها الخفة والطيش والحراق‪.‬‬
‫ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى‪ ،‬انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين‪.‬‬

‫فقال اللّه له‪ { :‬فَاهْ ِبطْ مِ ْنهَا } أي‪ :‬من الجنة { َفمَا َيكُونُ َلكَ أَنْ تَ َتكَبّرَ فِيهَا } لنها دار الطيبين‬
‫الطاهرين‪ ،‬فل تليق بأخبث خلق اللّه وأشرهم‪.‬‬

‫{ فَاخْرُجْ إِ ّنكَ مِنَ الصّاغِرِينَ } أي‪ :‬المهانين الذلين‪ ،‬جزاء على كبره وعجبه بالهانة والذل‪.‬‬

‫فلما أعلن عدو اللّه بعداوة اللّه‪ ،‬وعداوة آدم وذريته‪ ،‬سأل اللّهَ النّظِ َر َة والمهال إلى يوم البعث‪،‬‬
‫ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم‪.‬‬

‫ولما كانت حكمة اللّه مقتضية لبتلء العباد واختبارهم‪ ،‬ليتبين الصادق من الكاذب‪ ،‬ومن يطيعه‬
‫ومن يطيع عدوه‪ ،‬أجابه لما سأل‪ ،‬فقال‪ { :‬إِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنْظَرِينَ }‬

‫طكَ ا ْل ُمسْ َتقِيمَ * ثُمّ لَآتِيَ ّنهُمْ مِنْ بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ‬
‫غوَيْتَنِي لََأ ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ‬
‫{ ‪ { } 17 - 16‬قَالَ فَ ِبمَا أَ ْ‬
‫جدُ َأكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }‬
‫شمَائِِلهِ ْم وَلَا تَ ِ‬
‫خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَنْ َ‬

‫غوَيْتَنِي لََأ ْق ُعدَنّ َلهُمْ } أي‪ :‬للخلق‬


‫أي‪ :‬قال إبليس ‪ -‬لما أبلس وأيس من رحمة اللّه ‪ { -‬فَ ِبمَا أَ ْ‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } أي‪ :‬للزمن الصراط ولسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم‬
‫{ صِرَا َ‬
‫سلوكهم إياه‪.‬‬

‫شمَائِِلهِمْ } أي‪ :‬من جميع الجهات‬


‫{ ُثمّ لَآتِيَ ّنهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَنْ َ‬
‫والجوانب‪ ،‬ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم‪.‬‬

‫ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم‪ ،‬وكان جازما ببذل مجهوده على‬
‫جدُ َأكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } فإن القيام بالشكر من سلوك‬
‫إغوائهم‪ ،‬ظن وصدق ظنه فقال‪ { :‬وَلَا تَ ِ‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬وهو يريد صدهم عنه‪ ،‬وعدم قيامهم به‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْ َبهُ لِ َيكُونُوا‬
‫سعِيرِ }‬
‫مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬

‫وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله‪ ،‬لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا‪ ،‬ونحترز منه‬
‫بعلمنا‪ ،‬بالطريق التي يأتي منها‪ ،‬ومداخله التي ينفذ منها‪ ،‬فله تعالى علينا بذلك‪ ،‬أكمل نعمة‪.‬‬

‫ج َمعِينَ }‬
‫جهَنّمَ مِ ْنكُمْ َأ ْ‬
‫{ ‪ { } 18‬قَالَ اخْرُجْ مِ ْنهَا مَذْءُومًا مَ ْدحُورًا َلمَنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ لََأمْلَأَنّ َ‬

‫أي‪ :‬قال اللّه لبليس لما قال ما قال‪ { :‬اخْرُجْ مِ ْنهَا } خروج صغار واحتقار‪ ،‬ل خروج إكرام بل {‬
‫مَذْءُومًا } أي‪ :‬مذموما { َمدْحُورًا } مبعدا عن اللّه وعن رحمته وعن كل خير‪.‬‬
‫ج َمعِينَ } وهذا قسم منه تعالى‪ ،‬أن النار دار العصاة‪ ،‬ل‬
‫جهَنّمَ } منك وممن تبعك منهم { أَ ْ‬
‫{ لََأمْلَأَنّ َ‬
‫بد أن يملها من إبليس وأتباعه من الجن والنس‪.‬‬

‫ثم حذر آدم شره وفتنته فقال‪:‬‬


‫جكَ ا ْلجَنّةَ َفكُلَا مِنْ حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَا َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ‬
‫سكُنْ أَ ْنتَ وَ َزوْ ُ‬
‫{ ‪ { } 23 - 19‬وَيَا آدَمُ ا ْ‬
‫سوْآ ِت ِهمَا َوقَالَ مَا‬
‫سوَسَ َل ُهمَا الشّيْطَانُ لِيُ ْب ِديَ َل ُهمَا مَا وُو ِريَ عَ ْن ُهمَا مِنْ َ‬
‫فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ * َفوَ ْ‬
‫س َم ُهمَا إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ‬
‫َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ هَ ِذهِ الشّجَ َرةِ إِلّا أَنْ َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ َتكُونَا مِنَ ا ْلخَالِدِينَ * َوقَا َ‬
‫ن وَرَقِ‬
‫خصِفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِ ْ‬
‫ط ِفقَا َي ْ‬
‫سوْآ ُت ُهمَا وَ َ‬
‫النّاصِحِينَ * َفدَلّا ُهمَا ِبغُرُورٍ فََلمّا ذَاقَا الشّجَ َرةَ َب َدتْ َل ُهمَا َ‬
‫الْجَنّ ِة وَنَادَا ُهمَا رَ ّب ُهمَا أََلمْ أَ ْن َه ُكمَا عَنْ تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وََأ ُقلْ َل ُكمَا إِنّ الشّيْطَانَ َل ُكمَا عَ ُدوّ مُبِينٌ * قَالَا‬
‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }‬
‫رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ‬

‫أي‪ :‬أمر اللّه تعالى آدم وزوجته حواء‪ ،‬التي أنعم اللّه بها عليه ليسكن إليها‪ ،‬أن يأكل من الجنة‬
‫حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا‪ ،‬إل أنه عين لهما شجرة‪ ،‬ونهاهما عن أكلها‪ ،‬واللّه أعلم ما هي‪،‬‬
‫وليس في تعيينها فائدة لنا‪ .‬وحرم عليهما أكلها‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ }‬

‫فلم يزال ممتثلين لمر اللّه‪ ،‬حتى تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره‪ ،‬فوسوس لهما وسوسة‬
‫خدعهما بها‪ ،‬وموه عليهما وقال‪ { :‬مَا َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ َه ِذهِ الشّجَ َرةِ إِلّا أَنْ َتكُونَا مََلكَيْنِ } أي‪ :‬من‬
‫جنس الملئكة { َأوْ َتكُونَا مِنَ ا ْلخَالِدِينَ } كما قال في الية الخرى‪َ { :‬هلْ أَ ُدّلكَ عَلَى شَجَ َرةِ ا ْلخُلْدِ‬
‫َومُ ْلكٍ لَا يَبْلَى }‬

‫ومع قوله هذا أقسم لهما باللّه { إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ النّاصِحِينَ } أي‪ :‬من جملة الناصحين حيث قلت لكما‬
‫ما قلت‪ ،‬فاغترا بذلك‪ ،‬وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل‪.‬‬

‫{ َفدَلّا ُهمَا } أي‪ :‬نزّلهما عن رتبتهما العالية‪ ،‬التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث‬
‫بأوضارها‪ ،‬فأقدما على أكلها‪.‬‬

‫سوْآ ُت ُهمَا } أي‪ :‬ظهرت عورة كل منهما بعد ما كانت مستورة‪ ،‬فصار‬
‫{ فََلمّا ذَاقَا الشّجَ َرةَ بَ َدتْ َل ُهمَا َ‬
‫للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في اللباس الظاهر‪ ،‬حتى انخلع فظهرت عوراتهما‪،‬‬
‫جعَل يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة‪ ،‬ليستترا‬
‫ولما ظهرت عوراتهما خَجِل و َ‬
‫بذلك‪.‬‬

‫{ وَنَادَا ُهمَا رَ ّب ُهمَا } وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا‪ { :‬أَلَمْ أَ ْن َه ُكمَا عَنْ تِ ْل ُكمَا الشّجَ َرةِ وََأقُلْ َل ُكمَا إِنّ‬
‫الشّ ْيطَانَ َل ُكمَا عَ ُدوّ مُبِينٌ } فلم اقترفتما المنهي‪ ،‬وأطعتما عد ّوكُما؟‬
‫فحينئذ‪ ،‬من اللّه عليهما بالتوبة وقبولها‪ ،‬فاعترفا بالذنب‪ ،‬وسأل من اللّه مغفرته فقال‪ { :‬رَبّنَا ظََلمْنَا‬
‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } أي‪ :‬قد فعلنا الذنب‪ ،‬الذي نهيتنا عنه‪،‬‬
‫أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ‬
‫وضربنا بأنفسنا باقتراف الذنب‪ ،‬وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا‪ ،‬بمحو أثر الذنب وعقوبته‪،‬‬
‫وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا‪.‬‬

‫عصَى آدَمُ رَبّهُ َف َغوَى ُثمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْ ِه وَ َهدَى }‬
‫فغفر اللّه لهما ذلك { وَ َ‬

‫هذا وإبليس مستمر على طغيانه‪ ،‬غير مقلع عن عصيانه‪ ،‬فمن أشبه آدم بالعتراف وسؤال‬
‫المغفرة والندم والقلع ‪ -‬إذا صدرت منه الذنوب ‪ -‬اجتباه ربه وهداه‪.‬‬

‫ومن أشبه إبليس ‪ -‬إذا صدر منه الذنب‪ ،‬ل يزال يزداد من المعاصي ‪ -‬فإنه ل يزداد من اللّه إل‬
‫بعدا‪.‬‬

‫علَ ْيكُمْ‬
‫ن َومِ ْنهَا ُتخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا َ‬
‫ن َوفِيهَا َتمُوتُو َ‬
‫{ ‪ { } 26 - 25‬قَالَ فِيهَا تَحْ َيوْ َ‬
‫سوْآ ِت ُك ْم وَرِيشًا وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَى ذَِلكَ خَيْرٌ ذَِلكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ َلعَّلهُمْ يَ ّذكّرُونَ }‬
‫لِبَاسًا ُيوَارِي َ‬

‫أي‪ :‬لما أهبط اللّه آدم وزوجته وذريتهما إلى الرض‪ ،‬أخبرهما بحال إقامتهم فيها‪ ،‬وأنه جعل لهم‬
‫فيها حياة يتلوها الموت‪ ،‬مشحونة بالمتحان والبتلء‪ ،‬وأنهم ل يزالون فيها‪ ،‬يرسل إليهم رسله‪،‬‬
‫وينزل عليهم كتبه‪ ،‬حتى يأتيهم الموت‪ ،‬فيدفنون فيها‪ ،‬ثم إذا استكملوا بعثهم اللّه وأخرجهم منها‬
‫إلى الدار التي هي الدار حقيقة‪ ،‬التي هي دار المقامة‪.‬‬

‫ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري‪ ،‬واللباس الذي المقصود منه الجمال‪ ،‬وهكذا‬
‫سائر الشياء‪ ،‬كالطعام والشراب والمراكب‪ ،‬والمناكح ونحوها‪ ،‬قد يسر اللّه للعباد ضروريها‪،‬‬
‫ومكمل ذلك‪ ،‬و[بين لهم] أن هذا ليس مقصودا بالذات‪ ،‬وإنما أنزله اللّه ليكون معونة لهم على‬
‫عبادته وطاعته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَى ذَِلكَ خَيْرٌ } من اللباس الحسي‪ ،‬فإن لباس التقوى‬
‫يستمر مع العبد‪ ،‬ول يبلى ول يبيد‪ ،‬وهو جمال القلب والروح‪.‬‬

‫وأما اللباس الظاهري‪ ،‬فغايته أن يستر العورة الظاهرة‪ ،‬في وقت من الوقات‪ ،‬أو يكون جمال‬
‫للنسان‪ ،‬وليس وراء ذلك منه نفع‪.‬‬

‫وأيضا‪ ،‬فبتقدير عدم هذا اللباس‪ ،‬تنكشف عورته الظاهرة‪ ،‬التي ل يضره كشفها‪ ،‬مع الضرورة‪،‬‬
‫وأما بتقدير عدم لباس التقوى‪ ،‬فإنها تنكشف عورته الباطنة‪ ،‬وينال الخزي والفضيحة‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬ذَِلكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ َلعَّل ُهمْ يَ ّذكّرُونَ } أي‪ :‬ذلك المذكور لكم من اللباس‪ ،‬مما تذكرون به ما‬
‫ينفعكم ويضركم وتشبهون باللباس الظاهر على الباطن‪.‬‬

‫س ُهمَا‬
‫ع ْن ُهمَا ِلبَا َ‬
‫جنّةِ َي ْن ِزعُ َ‬
‫خرَجَ َأ َب َو ْي ُكمْ مِنَ ا ْل َ‬
‫ش ْيطَانُ َكمَا َأ ْ‬
‫{ ‪ { } 27‬يَا َبنِي آ َدمَ لَا يَ ْف ِت َننّ ُكمُ ال ّ‬
‫ن لَا‬
‫ن أَوِْليَا َء لِّلذِي َ‬
‫شيَاطِي َ‬
‫جعَ ْلنَا ال ّ‬
‫ث لَا َترَ ْو َن ُهمْ ِإنّا َ‬
‫حيْ ُ‬
‫ِل ُيرِ َي ُهمَا سَوْآ ِت ِهمَا ِإنّهُ َيرَا ُكمْ هُوَ َو َقبِيلُ ُه مِنْ َ‬
‫يُ ْؤ ِمنُونَ }‬

‫يقول تعالى‪ ،‬محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم‪ { :‬يَا َبنِي آ َد َم لَا يَ ْف ِت َن ّن ُكمُ‬
‫خرَجَ‬
‫ن } بأن يزين لكم العصيان‪ ،‬ويدعوكم إليه‪ ،‬ويرغبكم فيه‪ ،‬فتنقادون له { َكمَا َأ ْ‬
‫شيْطَا ُ‬
‫ال ّ‬
‫جنّ ِة } وأنزلهما من المحل العالي إلى أنزل منه‪ ،‬فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك‪ ،‬ول‬
‫ن ا ْل َ‬
‫َأبَ َو ْي ُكمْ مِ َ‬
‫يألو جهده عنكم‪ ،‬حتى يفتنكم‪ ،‬إن استطاع‪ ،‬فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم‪ ،‬وأن تلبسوا‬
‫َل ْأمَةَ الحرب بينكم وبيْنه‪ ،‬وأن ل تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم‪.‬‬

‫ث لَا َترَ ْو َن ُهمْ‬


‫حيْ ُ‬
‫فـ { ِإنّ ُه } يراقبكم على الدوام‪ ،‬و { َيرَا ُكمْ هُوَ َو َقبِيلُ ُه } من شياطين الجن { ِمنْ َ‬
‫ن أَوِْليَا َء لِّلذِينَ لَا يُ ْؤ ِمنُونَ } فعدم اليمان هو الموجب لعقد الولية بين النسان‬
‫شيَاطِي َ‬
‫جعَ ْلنَا ال ّ‬
‫ِإنّا َ‬
‫والشيطان‪.‬‬

‫ن آ َمنُوا َوعَلَى َر ّب ِهمْ َيتَ َوكّلُونَ * ِإ ّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى اّلذِينَ َي َتوَلّ ْونَهُ‬
‫س لَ ُه سُلْطَانٌ عَلَى اّلذِي َ‬
‫{ ِإنّهُ َليْ َ‬
‫شرِكُونَ }‬
‫ن ُهمْ بِ ِه ُم ْ‬
‫وَاّلذِي َ‬

‫ن اللّ َه لَا َي ْأ ُمرُ‬


‫ل إِ ّ‬
‫ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَاللّ ُه َأ َمرَنَا ِبهَا قُ ْ‬
‫حشَةً قَالُوا َو َ‬
‫{ ‪ { } 30 - 28‬وَِإذَا َفعَلُوا فَا ِ‬
‫ع ْندَ كُلّ‬
‫سطِ وََأقِيمُوا ُوجُو َه ُكمْ ِ‬
‫حشَا ِء َأتَقُولُونَ عَلَى اللّ ِه مَا لَا َتعَْلمُونَ * قُلْ َأ َمرَ َربّي بِالْ ِق ْ‬
‫بِالْ َف ْ‬
‫حقّ عََل ْيهِمُ الضّلَالَةُ‬
‫ن لَ ُه الدّينَ َكمَا َبدََأ ُكمْ َتعُودُونَ * َفرِيقًا َهدَى َوفَرِيقًا َ‬
‫سجِدٍ وَادْعُو ُه ُمخْلِصِي َ‬
‫َم ْ‬
‫ن}‬
‫سبُونَ َأ ّن ُهمْ ُم ْه َتدُو َ‬
‫ن اللّ ِه َو َيحْ َ‬
‫ن دُو ِ‬
‫ن أَوِْليَا َء مِ ْ‬
‫شيَاطِي َ‬
‫خذُوا ال ّ‬
‫ِإ ّن ُهمُ ا ّت َ‬

‫يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب‪ ،‬وينسبون أن ال أمرهم بها‪ { .‬وَِإذَا‬
‫ج ْدنَا‬
‫َفعَلُوا فَاحِشَ ًة } وهي‪ :‬كل ما يستفحش ويستقبح‪ ،‬ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة { قَالُوا َو َ‬
‫عََل ْيهَا آبَا َءنَا } وصدقوا في هذا‪ { .‬وَاللّ ُه َأ َم َرنَا ِبهَا } وكذبوا في هذا‪ ،‬ولهذا رد اللّه عليهم هذه‬
‫حشَا ِء } أي‪ :‬ل يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده‬
‫النسبة فقال‪ { :‬قُلْ ِإنّ اللّ َه لَا َي ْأ ُمرُ بِالْ َف ْ‬
‫ن}‬
‫بتعاطي الفواحش ل هذا الذي يفعله المشركون ول غيره { َأتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُو َ‬
‫وأي‪ :‬افتراء أعظم من هذا"‬
‫ثم ذكر ما يأمر به‪ ،‬فقال‪ { :‬قُلْ َأ َمرَ َربّي بِالْ ِقسْطِ } أي‪ :‬بالعدل في العبادات والمعاملت‪ ،‬ل‬
‫جدٍ } أي‪ :‬توجهوا للّه‪ ،‬واجتهدوا في تكميل‬
‫ل َمسْ ِ‬
‫ع ْندَ كُ ّ‬
‫بالظلم والجور‪ { .‬وََأقِيمُوا ُوجُو َه ُكمْ ِ‬
‫العبادات‪ ،‬خصوصا { الصلة } أقيموها‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬ونقوها من كل نقص ومفسد‪.‬‬
‫ن لَ ُه الدّينَ } أي‪ :‬قاصدين بذلك وجهه وحده ل شريك له‪ .‬والدعاء يشمل‬
‫{ وَادْعُو ُه ُمخْلِصِي َ‬
‫دعاء المسألة‪ ،‬ودعاء العبادة‪ ،‬أي‪ :‬ل تراءوا ول تقصدوا من الغراض في دعائكم سوى‬
‫عبودية اللّه ورضاه‪.‬‬

‫{ َكمَا َبدََأ ُكمْ } أول مرة { َتعُودُونَ } للبعث‪ ،‬فالقادر على بدء خلقكم‪ ،‬قادر على إعادته‪ ،‬بل‬
‫العادة‪ ،‬أهون من البداءة‪.‬‬

‫{ َفرِيقًا } منكم { َهدَى } اللّه‪ ،‬أي‪ :‬وفقهم للهداية‪ ،‬ويسر لهم أسبابها‪ ،‬وصرف عنهم موانعها‪{ .‬‬
‫حقّ عََل ْي ِهمُ الضّلَالَ ُة } أي‪ :‬وجبت عليهم الضللة بما تسببوا لنفسهم وعملوا بأسباب‬
‫َو َفرِيقًا َ‬
‫الغواية‪.‬‬

‫ن دُونِ اللّهِ فَ َقدْ‬


‫ش ْيطَانَ وَِليّا مِ ْ‬
‫ن َي ّتخِذِ ال ّ‬
‫ن اللّهِ } { َومَ ْ‬
‫ن دُو ِ‬
‫ن أَوِْليَا َء مِ ْ‬
‫شيَاطِي َ‬
‫خذُوا ال ّ‬
‫فـ { ِإ ّن ُهمُ ا ّت َ‬
‫سرَانا ُمبِينا } فحين انسلخوا من ولية الرحمن‪ ،‬واستحبوا ولية الشيطان‪ ،‬حصل لهم‬
‫خْ‬‫خسِرَ ُ‬
‫َ‬
‫سبُونَ َأ ّن ُهمْ‬
‫النصيب الوافر من الخذلن‪ ،‬ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران‪ { .‬وَهم َيحْ َ‬
‫ُم ْهتَدُونَ } لنهم انقلبت عليهم الحقائق‪ ،‬فظنوا الباطل حقا والحق باطل‪ ،‬وفي هذه اليات دليل‬
‫على أن الوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة‪ ،‬حيث ذكر تعالى أنه ل يتصور أن يأمر‬
‫بما تستفحشه وتنكره العقول‪ ،‬وأنه ل يأمر إل بالعدل والخلص‪ ،‬وفيه دليل على أن الهداية‬
‫بفضل اللّه و َمنّه‪ ،‬وأن الضللة بخذلنه للعبد‪ ،‬إذا تولى ‪ -‬بجهله وظلمه ‪ -‬الشيطانَ‪ ،‬وتسبب‬
‫لنفسه بالضلل‪ ،‬وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالّ‪ ،‬أنه ل عذر له‪ ،‬لنه متمكن من الهدى‪،‬‬
‫وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى‪.‬‬

‫جدٍ َوكُلُوا وَاشْ َربُوا وَلَا ُتسْ ِرفُوا ِإنّهُ لَا ُيحِبّ‬
‫سِ‬‫ع ْن َد كُلّ َم ْ‬
‫خذُوا زِينَ َت ُكمْ ِ‬
‫{ ‪ { } 31‬يَا َبنِي آ َدمَ ُ‬
‫ا ْل ُمسْ ِرفِينَ }‬

‫خذُوا‬
‫يقول تعالى ‪ -‬بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا‪ { :‬يَا َبنِي آ َدمَ ُ‬
‫جدٍ } أي‪ :‬استروا عوراتكم عند الصلة كلها‪ ،‬فرضها ونفلها‪ ،‬فإن سترها‬
‫سِ‬‫ل َم ْ‬
‫ع ْندَ كُ ّ‬
‫زِي َن َت ُكمْ ِ‬
‫زينة للبدن‪ ،‬كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن‪ ،‬ففي هذا المر بستر‬
‫العورة في الصلة‪ ،‬وباستعمال التجميل فيها ونظافة السترة من الدناس والنجاس‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْ َربُوا } أي‪ :‬مما رزقكم اللّه من الطيبات { وَلَا ُتسْ ِرفُوا } في ذلك‪،‬‬
‫والسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولت الذي يضر بالجسم‪،‬‬
‫وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب واللباس‪ ،‬وإما بتجاوز الحلل إلى‬
‫الحرام‪.‬‬

‫سرِفِينَ } فإن السرف يبغضه اللّه‪ ،‬ويضر بدن النسان ومعيشته‪ ،‬حتى إنه‬
‫{ ِإنّهُ لَا ُيحِبّ ا ْل ُم ْ‬
‫ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات‪ ،‬ففي هذه الية الكريمة المر‬
‫بتناول الكل والشرب‪ ،‬والنهي عن تركهما‪ ،‬وعن السراف فيهما‪.‬‬

‫ل ِهيَ لِّلذِينَ‬
‫ط ّيبَاتِ ِمنَ ال ّرزْقِ قُ ْ‬
‫ج ِل ِعبَادِهِ وَال ّ‬
‫خرَ َ‬
‫ح ّرمَ زِينَةَ اللّهِ اّلتِي َأ ْ‬
‫{ ‪ { } 33 - 32‬قُلْ َمنْ َ‬
‫ح ّرمَ َربّيَ‬
‫ن * قُلْ ِإ ّنمَا َ‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا خَالِصَ ًة يَ ْو َم الْ ِقيَامَةِ َكذَِلكَ ُن َفصّلُ الْآيَاتِ لِ َق ْومٍ َيعَْلمُو َ‬
‫آ َمنُوا فِي ا ْل َ‬
‫ن ُتشْ ِركُوا بِاللّ ِه مَا َلمْ ُي َنزّلْ بِهِ‬
‫حقّ وَأَ ْ‬
‫ظ َهرَ ِم ْنهَا َومَا َبطَنَ وَا ْلِإ ْثمَ وَا ْل َب ْغيَ ِب َغيْرِ ا ْل َ‬
‫ش مَا َ‬
‫الْفَوَاحِ َ‬
‫ن}‬
‫ن تَقُولُوا عَلَى اللّ ِه مَا لَا َتعَْلمُو َ‬
‫سُلْطَانًا وَأَ ْ‬

‫حرّمَ زِينَ َة اللّ ِه اّلتِي‬


‫ن َ‬
‫يقول تعالى منكرا على من تعنت‪ ،‬وحرم ما أحل اللّه من الطيبات { قُلْ مَ ْ‬
‫خرَجَ ِل ِعبَادِهِ } من أنواع اللباس على اختلف أصنافه‪ ،‬والطيبات من الرزق‪ ،‬من مأكل‬
‫َأ ْ‬
‫ومشرب بجميع أنواعه‪ ،‬أي‪ :‬مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه بها على العباد‪ ،‬ومن‬
‫ذا الذي يضيق عليهم ما وسّعه اللّه؟"‪.‬‬

‫وهذا التوسيع من اللّه لعباده بالطيبات‪ ،‬جعله لهم ليستعينوا به على عبادته‪ ،‬فلم يبحه إل لعباده‬
‫حيَا ِة ال ّدنْيَا خَاِلصَ ًة يَ ْومَ الْ ِقيَامَ ِة } أي‪ :‬ل تبعة‬
‫ي لِّلذِينَ آ َمنُوا فِي ا ْل َ‬
‫المؤمنين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬قُلْ ِه َ‬
‫عليهم فيها‪.‬‬

‫ومفهوم الية أن من لم يؤمن باللّه‪ ،‬بل استعان بها على معاصيه‪ ،‬فإنها غير خالصة له ول‬
‫مباحة‪ ،‬بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها‪ ،‬ويُسأل عن النعيم يوم القيامة‪.‬‬

‫ل الْآيَاتِ } أي‪ :‬نوضحها ونبينها { ِلقَ ْومٍ َيعَْلمُونَ } لنهم الذين ينتفعون بما فصله‬
‫{ َكذَِلكَ نُ َفصّ ُ‬
‫اللّه من اليات‪ ،‬ويعلمون أنها من عند اللّه‪ ،‬فيعقلونها ويفهمونها‪.‬‬
‫ح ّرمَ َربّيَ‬
‫ثم ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال‪ { :‬قُلْ ِإ ّنمَا َ‬
‫ش } أي‪ :‬الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها‪ ،‬وذلك كالزنا واللواط‬
‫الْفَوَاحِ َ‬
‫ونحوهما‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬مَا ظَ َهرَ ِم ْنهَا َومَا َبطَنَ } أي‪ :‬الفواحش التي تتعلق بحركات البدن‪ ،‬والتي تتعلق‬
‫حقّ }‬
‫بحركات القلوب‪ ،‬كالكبر والعجب والرياء والنفاق‪ ،‬ونحو ذلك‪ { ،‬وَا ْلِإ ْثمَ وَا ْل َب ْغيَ ِب َغ ْيرِ ا ْل َ‬
‫أي‪ :‬الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه‪ ،‬والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم‬
‫وأعراضهم‪ ،‬فدخل في هذا الذنوبُ المتعلق ُة بحق اللّه‪ ،‬والمتعلقةُ بحق العباد‪.‬‬

‫ن ُتشْ ِركُوا بِاللّ ِه مَا َلمْ ُي َنزّلْ بِ ِه سُ ْلطَانًا } أي‪ :‬حجة‪ ،‬بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد‪.‬‬
‫{ وَأَ ْ‬
‫والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق‪ ،‬وربما دخل في هذا الشرك الصغر‬
‫كالرياء والحلف بغير اللّه‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ن } في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه‪ ،‬فكل هذه قد حرمها‬


‫ن تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُو َ‬
‫{ وَأَ ْ‬
‫اللّه‪ ،‬ونهى العباد عن تعاطيها‪ ،‬لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة‪ ،‬ولما فيها من الظلم‬
‫والتجري على اللّه‪ ،‬والستطالة على عباد اللّه‪ ،‬وتغيير دين اللّه وشرعه‪.‬‬

‫ستَ ْقدِمُونَ }‬
‫ن سَاعَةً وَلَا َي ْ‬
‫خرُو َ‬
‫ستَ ْأ ِ‬
‫ل ُأمّ ٍة َأجَلٌ َفِإذَا جَاءَ َأجَُل ُهمْ لَا َي ْ‬
‫{ ‪ { } 34‬وَِلكُ ّ‬

‫أي‪ :‬وقد أخرج اللّه بني آدم إلى الرض‪ ،‬وأسكنهم فيها‪ ،‬وجعل لهم أجل مسمى ل تتقدم أمة‬
‫من المم على وقتها المسمى‪ ،‬ول تتأخر‪ ،‬ل المم المجتمعة ول أفرادها‪.‬‬

‫ح فَلَا‬
‫{ ‪ { } 36 - 35‬يَا َبنِي آ َد َم ِإمّا َي ْأ ِت َينّ ُكمْ ُرسُلٌ ِم ْن ُكمْ يَ ُقصّونَ عََل ْي ُكمْ آيَاتِي َفمَنِ اتّقَى وََأصْلَ َ‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ‬
‫ع ْنهَا أُوَل ِئكَ َأ ْ‬
‫س َتكْ َبرُوا َ‬
‫خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ وَلَا ُه ْم َيحْ َزنُونَ * وَاّلذِينَ َك ّذبُوا بِآيَاتِنَا وَا ْ‬
‫فِيهَا خَاِلدُونَ }‬

‫لما أخرج اللّه بني آدم من الجنة‪ ،‬ابتلهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم يقصون عليهم‬
‫آيات اللّه ويبينون لهم أحكامه‪ ،‬ثم ذكر فضل من استجاب لهم‪ ،‬وخسار من لم يستجب لهم‬
‫ح } أعماله الظاهرة‬
‫فقال‪َ { :‬فمَنِ اتّقَى } ما حرم اللّه‪ ،‬من الشرك والكبائر والصغائر‪ { ،‬وََأصْلَ َ‬
‫ن } على ما‬
‫ح َزنُو َ‬
‫والباطنة { فَلَا خَ ْوفٌ عََل ْيهِ ْم } من الشر الذي قد يخافه غيرهم { وَلَا ُهمْ َي ْ‬
‫مضى‪ ،‬وإذا انتفى الخوف والحزن حصل المن التام‪ ،‬والسعادة‪ ،‬والفلح البدي‪.‬‬
‫ع ْنهَا } أي‪ :‬ل آمنت بها قلوبهم‪ ،‬ول انقادت لها جوارحهم‪،‬‬
‫س َتكْ َبرُوا َ‬
‫{ وَاّلذِينَ َك ّذبُوا بِآيَاتِنَا وَا ْ‬
‫ن } كما استهانوا بآياته‪ ،‬ولزموا التكذيب بها‪ ،‬أهينوا‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُو َ‬
‫{ أُوَل ِئكَ َأ ْ‬
‫بالعذاب الدائم الملزم‪.‬‬

‫ب بِآيَاتِ ِه أُوَل ِئكَ َينَاُلهُمْ َنصِي ُبهُمْ ِمنَ ا ْل ِكتَابِ‬


‫ن افْ َترَى عَلَى اللّ ِه َكذِبًا َأوْ َكذّ َ‬
‫{ ‪َ { } 37‬فمَنْ َأظَْلمُ ِممّ ِ‬
‫ش ِهدُوا‬
‫عنّا َو َ‬
‫ن دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلّوا َ‬
‫ن مَا ُك ْن ُتمْ َتدْعُونَ مِ ْ‬
‫حتّى ِإذَا جَا َء ْت ُهمْ ُرسُلُنَا َيتَ َوفّ ْو َن ُهمْ قَالُوا َأيْ َ‬
‫َ‬
‫س ِهمْ َأ ّن ُهمْ كَانُوا كَا ِفرِينَ }‬
‫عَلَى َأنْ ُف ِ‬

‫ن ا ْفتَرَى عَلَى اللّ ِه َك ِذبًا ْ} بنسبة الشريك له‪ ،‬أو النقص له‪ ،‬أو التقول عليه‬
‫أي‪ :‬ل أحد أظلم { ِممّ ِ‬
‫ما لم يقل‪ { ،‬أَ ْو َكذّبَ بِآيَاتِهِ ْ} الواضحة المبينة للحق المبين‪ ،‬الهادية إلى الصراط المستقيم‪،‬‬
‫فهؤلء وإن تمتعوا بالدنيا‪ ،‬ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ‪ ،‬فليس ذلك‬
‫حتّى ِإذَا جَا َء ْت ُهمْ ُرسُلُنَا َيتَ َوفّ ْو َن ُهمْ ْ} أي‪:‬‬
‫بمغن عنهم شيئا‪ ،‬يتمتعون قليل‪ ،‬ثم يعذبون طويل‪َ { ،‬‬
‫الملئكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم‪.‬‬

‫ن دُونِ اللّهِ ْ} من الصنام‬


‫ن مِ ْ‬
‫ن مَا ُك ْنتُ ْم َتدْعُو َ‬
‫{ قَالُوا ْ} لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا { َأيْ َ‬
‫عنّا ْ} أي‪:‬‬
‫والوثان‪ ،‬فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة‪ { .‬قَالُوا ضَلّوا َ‬
‫اضمحلوا وبطلوا‪ ،‬وليسوا مغنين عنا من عذاب اللّه من شيء‪.‬‬

‫ن ْ} مستحقين للعذاب المهين الدائم‪.‬‬


‫سهِ ْم َأ ّنهُمْ كَانُوا كَافِرِي َ‬
‫شهِدُوا عَلَى َأنْ ُف ِ‬
‫{ َو َ‬

‫ن وَا ْلِإنْسِ‬
‫ن َقبِْلكُمْ ِمنَ ا ْلجِ ّ‬
‫فقالت لهم الملئكة { ا ْدخُلُوا فِي ُأ َممٍ ْ} أي‪ :‬في جملة أمم { قَ ْد خَلَتْ مِ ْ‬
‫ْ} أي‪ :‬مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر والستكبار‪ ،‬فاستحق الجميع الخزي والبوار‪،‬‬
‫خ َتهَا ْ} كما قال تعالى‪ { :‬و َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة َيكْ ُفرُ‬
‫كلما دخلت أمة من المم العاتية النار { َل َعنَتْ ُأ ْ‬
‫جمِيعًا ْ} أي‪ :‬اجتمع في النار‬
‫حتّى ِإذَا ادّا َركُوا فِيهَا َ‬
‫ض ُكمْ َبعْضًا ْ} { َ‬
‫ض ُكمْ ِب َبعْضٍ َويَ ْلعَنُ َب ْع ُ‬
‫َبعْ ُ‬
‫جميع أهلها‪ ،‬من الولين والخرين‪ ،‬والقادة والرؤساء والمقلدين التباع‪.‬‬

‫خرَا ُهمْ ْ} أي‪ :‬متأخروهم‪ ،‬المتبعون للرؤساء { ِلأُولَا ُهمْ ْ} أي‪ :‬لرؤسائهم‪ ،‬شاكين إلى‬
‫{ قَالَتْ ُأ ْ‬
‫ن النّارِ ْ} أي‪ :‬عذبهم عذابا‬
‫ضعْفًا مِ َ‬
‫عذَابًا ِ‬
‫اللّه إضللهم إياهم‪َ { :‬ر ّبنَا هَؤُلَا ِء َأضَلّونَا فَآ ِتهِمْ َ‬
‫مضاعفا لنهم أضلونا‪ ،‬وزينوا لنا العمال الخبيثة‪.‬‬

‫ضعْفٌ ْ} ونصيب من العذاب‪.‬‬


‫ل ْ} منكم { ِ‬
‫{ قَالَ ْ} اللّه { ِلكُ ّ‬
‫خرَاهُم ْ}‬
‫{ ‪َ { }ْ 39‬وقَالَتْ أُولَا ُهمْ ِلُأ ْ‬

‫ن َفضْلٍ ْ} أي‪ :‬قد اشتركنا جميعا في الغي‬


‫ن َل ُكمْ عََل ْينَا مِ ْ‬
‫أي‪ :‬الرؤساء‪ ،‬قالوا لتباعهم‪َ { :‬فمَا كَا َ‬
‫والضلل‪ ،‬وفي فعل أسباب العذاب‪ ،‬فأي‪ :‬فضل لكم علينا؟ { َفذُوقُوا ا ْل َعذَابَ ِبمَا ُك ْن ُتمْ َت ْكسِبُونَ ْ}‬
‫ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلل أبلغ وأشنع من عذاب التباع‪ ،‬كما أن نعيم‬
‫سبِيلِ اللّهِ‬
‫ن َ‬
‫صدّوا عَ ْ‬
‫ن كَ َفرُوا َو َ‬
‫أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب التباع‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬اّلذِي َ‬
‫ن ْ} فهذه اليات ونحوها‪ ،‬دلت على أن سائر أنواع‬
‫سدُو َ‬
‫ق ا ْل َعذَابِ ِبمَا كَانُوا يُ ْف ِ‬
‫عذَابًا فَ ْو َ‬
‫ِزدْنَا ُهمْ َ‬
‫المكذبين بآيات اللّه‪ ،‬مخلدون في العذاب‪ ،‬مشتركون فيه وفي أصله‪ ،‬وإن كانوا متفاوتين في‬
‫مقداره‪ ،‬بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم‪ ،‬وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا‬
‫تنقلب يوم القيامة عداوة وملعنة‪.‬‬

‫سمَا ِء وَلَا يَ ْدخُلُونَ‬


‫{ ‪ { }ْ 41 - 40‬إِنّ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُوا عَ ْنهَا لَا ُتفَتّحُ َلهُمْ أَ ْبوَابُ ال ّ‬
‫جهَنّمَ ِمهَا ٌد َومِنْ َف ْو ِقهِمْ‬
‫ج َملُ فِي سَمّ ا ْلخِيَاطِ َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ * َلهُمْ مِنْ َ‬
‫الْجَنّةَ حَتّى يَلِجَ الْ َ‬
‫ش َوكَذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ ْ}‬
‫غوَا ٍ‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها‪ ،‬مع أنها آيات بينات‪ ،‬واستكبر عنها فلم يَ ْنقَد‬
‫لحكامها‪ ،‬بل كذب وتولى‪ ،‬أنهم آيسون من كل خير‪ ،‬فل تفتح أبواب السماء لرواحهم إذا ماتوا‬
‫وصعدت تريد العروج إلى اللّه‪ ،‬فتستأذن فل يؤذن لها‪ ،‬كما لم تصعد في الدنيا إلى اليمان باللّه‬
‫ومعرفته ومحبته كذلك ل تصعد بعد الموت‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪.‬‬

‫ومفهوم الية أن أرواح المؤمنين المنقادين لمر اللّه المصدقين بآياته‪ ،‬تفتح لها أبواب السماء حتى‬
‫تعرج إلى اللّه‪ ،‬وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي‪ ،‬وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة‬
‫برضوانه‪.‬‬

‫ج َملُ ْ} وهو البعير المعروف { فِي سَمّ الْخِيَاطِ‬


‫وقوله عن أهل النار { وَلَا يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى يَلِجَ ا ْل َ‬
‫ْ} أي‪ :‬حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما‪ ،‬في خرق البرة‪ ،‬الذي هو من‬
‫أضيق الشياء‪ ،‬وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال‪ ،‬أي‪ :‬فكما أنه محال دخول الجمل في سم‬
‫الخياط‪ ،‬فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬إِنّهُ مَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَدْ‬
‫حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ ا ْلجَنّ َة َومَ ْأوَاهُ النّارُ ْ} وقال هنا { َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ ْ} أي‪ :‬الذين كثر إجرامهم‬
‫واشتد طغيانهم‪.‬‬
‫غوَاشٍ ْ} أي‪ :‬ظلل من العذاب‪،‬‬
‫جهَنّمَ ِمهَادٌ ْ} أي‪ :‬فراش من تحتهم { َومِنْ َف ْو ِقهِمْ َ‬
‫{ َل ُهمْ مِنْ َ‬
‫تغشاهم‪.‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ َنجْزِي الظّاِلمِينَ ْ} لنفسهم‪ ،‬جزاء وفاقا‪ ،‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬

‫صحَابُ الْجَنّةِ‬
‫س َعهَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَا ُنكَّلفُ َنفْسًا ِإلّا وُ ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 43 - 42‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ‬
‫غلّ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِت ِهمُ الْأَ ْنهَا ُر َوقَالُوا الْ َ‬
‫هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ ِ‬
‫ق وَنُودُوا أَنْ تِ ْلكُمُ الْجَنّةُ‬
‫حّ‬‫سلُ رَبّنَا بِالْ َ‬
‫الّذِي هَدَانَا ِل َهذَا َومَا كُنّا لِ َنهْتَ ِديَ َلوْلَا أَنْ َهدَانَا اللّهُ َلقَدْ جَا َءتْ رُ ُ‬
‫أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ْ}‬

‫لما ذكر ال تعالى عقاب العاصين الظالمين‪ ،‬ذكر ثواب المطيعين فقال‪ { :‬وَالّذِينَ آمَنُوا ْ} بقلوبهم {‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ ْ} بجوارحهم‪ ،‬فجمعوا بين اليمان والعمل‪ ،‬بين العمال الظاهرة والعمال‬
‫وَ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ ْ} لفظا عاما‬
‫الباطنة‪ ،‬بين فعل الواجبات وترك المحرمات‪ ،‬ولما كان قوله‪ { :‬وَ َ‬
‫يشمل جميع الصالحات الواجبة والمستحبة‪ ،‬وقد يكون بعضها غير مقدور للعبد‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬لَا‬
‫س َعهَا ْ} أي‪ :‬بمقدار ما تسعه طاقتها‪ ،‬ول يعسر على قدرتها‪ ،‬فعليها في هذه الحال‬
‫ُنكَّلفُ َنفْسًا ِإلّا وُ ْ‬
‫أن تتقي اللّه بحسب استطاعتها‪ ،‬وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها سقطت‬
‫ج َعلَ‬
‫س َعهَا ْ} { لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا مَا آتَاهَا ْ} { مَا َ‬
‫عنها كما قال تعالى‪ { :‬لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬
‫طعْ ُتمْ ْ} فل واجب مع العجز‪ ،‬ول محرم مع‬
‫عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ْ} { فَا ّتقُوا اللّهَ مَا اسْتَ َ‬
‫الضرورة‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ ْ} أي‪ :‬المتصفون باليمان والعمل الصالح { َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ} أي‪ :‬ل‬
‫يحولون عنها ول يبغون بها بدل‪ ،‬لنهم يرون فيها من أنواع اللذات وأصناف المشتهيات ما تقف‬
‫عنده الغايات‪ ،‬ول يطلب أعلى منه‪.‬‬

‫غلّ ْ} وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة‪ ،‬أن الغل الذي كان‬
‫{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ ِ‬
‫موجودا في قلوبهم‪ ،‬والتنافس الذي بينهم‪ ،‬أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين‪،‬‬
‫وأخلء متصافين‪.‬‬

‫خوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ْ} ويخلق اللّه لهم من‬


‫غلّ إِ ْ‬
‫قال تعالى‪ { :‬وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِ ِهمْ مِنْ ِ‬
‫الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور‪ ،‬ويرى أنه ل فوق ما هو فيه من النعيم‬
‫نعيم‪ .‬فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض‪ ،‬لنه قد فقدت أسبابه‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ ْ} أي‪ :‬يفجرونها تفجيرا‪ ،‬حيث شاءوا‪ ،‬وأين أرادوا‪ ،‬إن شاءوا‬
‫في خلل القصور‪ ،‬أو في تلك الغرف العاليات‪ ،‬أو في رياض الجنات‪ ،‬من تحت تلك الحدائق‬
‫الزاهرات‪.‬‬

‫أنهار تجري في غير أخدود‪ ،‬وخيرات ليس لها حد محدود { و ْ} لهذا لما رأوا ما أنعم اللّه عليهم‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا ِلهَذَا ْ} بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا‪ ،‬فآمنت به‪،‬‬
‫وأكرمهم به { َوقَالُوا الْ َ‬
‫وانقادت للعمال الموصلة إلى هذه الدار‪ ،‬وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا‪ ،‬حتى أوصلنا بها إلى‬
‫هذه الدار‪ ،‬فنعم الرب الكريم‪ ،‬الذي ابتدأنا بالنعم‪ ،‬وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ما ل يحصيه‬
‫المحصون‪ ،‬ول يعده العادون‪َ { ،‬ومَا كُنّا لِ َنهْتَ ِديَ َلوْلَا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ْ} أي‪ :‬ليس في نفوسنا قابلية‬
‫للهدى‪ ،‬لول أنه تعالى منّ بهدايته واتباع رسله‪.‬‬

‫حقّ ْ} أي‪ :‬حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت به الرسل‪ ،‬وصار‬
‫سلُ رَبّنَا بِالْ َ‬
‫{ َلقَدْ جَا َءتْ رُ ُ‬
‫حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [لهم]‪ ،‬قالوا لقد تحققنا‪ ،‬ورأينا ما وعدتنا به الرسل‪ ،‬وأن جميع‬
‫ما جاءوا به حق اليقين‪ ،‬ل مرية فيه ول إشكال‪ { ،‬وَنُودُوا ْ} تهنئة لهم‪ ،‬وإكراما‪ ،‬وتحية واحتراما‪،‬‬
‫{ أَنْ تِ ْلكُمُ ا ْلجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا ْ} أي‪ :‬كنتم الوارثين لها‪ ،‬وصارت إقطاعا لكم‪ ،‬إذ كان إقطاع الكفار‬
‫النار‪ ،‬أورثتموها { ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ْ}‬

‫قال بعض السلف‪ :‬أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه‪ ،‬وأدخلوا الجنة برحمة اللّه‪ ،‬واقتسموا‬
‫المنازل وورثوها بالعمال الصالحة وهي من رحمته‪ ،‬بل من أعلى أنواع رحمته‪.‬‬

‫حقّا َف َهلْ وَجَدْ ُتمْ‬


‫عدَنَا رَبّنَا َ‬
‫{ ‪ { } 45 - 44‬وَنَادَى َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَنْ َق ْد وَجَدْنَا مَا وَ َ‬
‫حقّا قَالُوا َن َعمْ فَأَذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َن ُهمْ أَنْ َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ * الّذِينَ َيصُدّونَ عَنْ‬
‫مَا وَعَدَ رَ ّبكُمْ َ‬
‫عوَجًا وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ كَافِرُونَ }‬
‫سَبِيلِ اللّهِ وَيَ ْبغُو َنهَا ِ‬

‫يقول تعالى لما ذكر استقرار كل من الفريقين في الدارين‪ ،‬ووجدوا ما أخبرت به الرسل ونطقت‬
‫به الكتب من الثواب والعقاب‪ :‬أن أهل الجنة نادوا أصحاب النار بأن قالوا‪ { :‬أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا‬
‫حقّا } حين وعدنا على اليمان والعمل الصالح الجنة فأدخلناها وأرانا ما وصفه لنا‬
‫وَعَدَنَا رَبّنَا َ‬
‫حقّا قالوا نعم } قد وجدناه حقا‪ ،‬فبين للخلق‬
‫ل وَجَدْ ُتمْ مَا وَعَدَ رَ ّب ُكمْ } على الكفر والمعاصي { َ‬
‫{ َف َه ْ‬
‫كلهم‪ ،‬بيانا ل شك فيه‪ ،‬صدق وعد اللّه‪ ،‬ومن أصدق من اللّه قيل‪ ،‬وذهبت عنهم الشكوك والشبه‪،‬‬
‫وصار المر حق اليقين‪ ،‬وفرح المؤمنون بوعد اللّه واغتبطوا‪ ،‬وأيس الكفار من الخير‪ ،‬وأقروا‬
‫على أنفسهم بأنهم مستحقون للعذاب‪.‬‬
‫{ فََأذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬بين أهل النار وأهل الجنة‪ ،‬بأن قال‪ { :‬أَنْ َلعْنَةُ اللّهِ } أي‪ُ :‬بعْدُه وإقصاؤه‬
‫عن كل خير { عَلَى الظّاِلمِينَ } إذ فتح اللّه لهم أبواب رحمته‪ ،‬فصدفوا أنفسهم عنها ظلما‪ ،‬وصدوا‬
‫عن سبيل اللّه بأنفسهم‪ ،‬وصدوا غيرهم‪ ،‬فضلوا وأضلوا‪.‬‬

‫عوَجًا }‬
‫واللّه تعالى يريد أن تكون مستقيمة‪ ،‬ويعتدل سير السالكين إليه‪ { ،‬و } هؤلء يريدونها { ِ‬
‫منحرفة صادة عن سواء السبيل‪ { ،‬وَ ُهمْ بِالْآخِ َرةِ كَافِرُونَ } وهذا الذي أوجب لهم النحراف عن‬
‫الصراط‪ ،‬والقبال على شهوات النفوس المحرمة‪ ،‬عدم إيمانهم بالبعث‪ ،‬وعدم خوفهم من العقاب‬
‫ورجائهم للثواب‪ ،‬ومفهوم هذا النداء أن رحمة اللّه على المؤمنين‪ ،‬وبرّه شامل لهم‪ ،‬وإحسانَه‬
‫متواتر عليهم‪.‬‬

‫حجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّا بِسِيمَا ُه ْم وَنَا َدوْا َأصْحَابَ‬
‫{ ‪ { } 49 - 46‬وَبَيْ َن ُهمَا ِ‬
‫ط َمعُونَ * وَإِذَا صُ ِر َفتْ أَ ْبصَارُهُمْ تِ ْلقَاءَ َأصْحَابِ النّارِ قَالُوا‬
‫سلَامٌ عَلَ ْيكُمْ لَمْ َيدْخُلُوهَا وَ ُهمْ يَ ْ‬
‫الْجَنّةِ أَنْ َ‬
‫جعَلْنَا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ * وَنَادَى َأصْحَابُ الْأَعْرَافِ ِرجَالًا َيعْ ِرفُو َنهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا‬
‫رَبّنَا لَا َت ْ‬
‫حمَةٍ ادْخُلُوا ا ْلجَنّةَ لَا‬
‫سمْ ُتمْ لَا يَنَاُلهُمُ اللّهُ بِ َر ْ‬
‫ج ْم ُعكُمْ َومَا كُنْتُمْ تَسْ َتكْبِرُونَ * أَ َهؤُلَاءِ الّذِينَ َأقْ َ‬
‫أَغْنَى عَ ْنكُمْ َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا أَنْ ُتمْ تَحْزَنُونَ }‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب يقال له‪ { :‬الَعْرَاف } ل من الجنة ول من النار‪،‬‬
‫يشرف على الدارين‪ ،‬وينظر مِنْ عليه حالُ الفريقين‪ ،‬وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون كل من‬
‫أهل الجنة والنار بسيماهم‪ ،‬أي‪ :‬علماتهم‪ ،‬التي بها يعرفون ويميزون‪ ،‬فإذا نظروا إلى أهل الجنة‬
‫نَا َدوْهم { أَنْ سَلَامٌ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬يحيونهم ويسلمون عليهم‪ ،‬وهم ‪ -‬إلى الن ‪ -‬لم يدخلوا الجنة‪،‬‬
‫ولكنهم يطمعون في دخولها‪ ،‬ولم يجعل اللّه الطمع في قلوبهم إل لما يريد بهم من كرامته‪.‬‬

‫{ وَإِذَا صُ ِر َفتْ أَ ْبصَارُ ُهمْ تِ ْلقَاءَ َأصْحَابِ النّارِ } ورأوا منظرا شنيعا‪ ،‬و َهوْلًا فظيعا { قَالُوا رَبّنَا لَا‬
‫جعَلْنَا مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ } فأهل الجنة [إذا رآهم أهل العراف] يطمعون أن يكونوا معهم في‬
‫تَ ْ‬
‫الجنة‪ ،‬ويحيونهم ويسلمون عليهم‪ ،‬وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لهل النار‪ ،‬يستجيرون‬
‫بال من حالهم هذا على وجه العموم‪.‬‬

‫ثم ذكر الخصوص بعد العموم فقال‪ { :‬وَنَادَى َأصْحَابُ الْأَعْرَافِ ِرجَالًا َيعْ ِرفُو َنهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وهم‬
‫من أهل النار‪ ،‬وقد كانوا في الدنيا لهم أبهة وشرف‪ ،‬وأموال وأولد‪ ،‬فقال لهم أصحاب العراف‪،‬‬
‫ج ْم ُعكُمْ } في الدنيا‪ ،‬الذي‬
‫حين رأوهم منفردين في العذاب‪ ،‬بل ناصر ول مغيث‪ { :‬مَا أَغْنَى عَ ْنكُمْ َ‬
‫تستدفعون به المكاره‪ ،‬وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا‪ ،‬فاليوم اضمحل‪ ،‬ول أغني عنكم شيئا‪،‬‬
‫وكذلك‪ ،‬أي شيء نفعكم استكباركم على الحق وعلى من جاء به وعلى من اتبعه‪.‬‬
‫ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء يستهزئ بهم أهل النار‪ ،‬فقالوا‬
‫حمَةٍ } احتقارا لهم‬
‫سمْ ُتمْ لَا يَنَاُلهُمُ اللّهُ بِ َر ْ‬
‫لهل النار‪َ { :‬أ َهؤُلَاءِ } الذين أدخلهم اللّه الجنة { الّذِينَ َأقْ َ‬
‫وازدراء وإعجابا بأنفسكم‪ ،‬قد حنثتم في أيمانكم‪ ،‬وبدا لكم من اللّه ما لم يكن لكم في حساب‪،‬‬
‫{ ادْخُلُوا ا ْلجَنّةَ } بما كنتم تعملون‪ ،‬أي‪ :‬قيل لهؤلء الضعفاء إكراما واحتراما‪ :‬ادخلوا الجنة‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيكُمْ } فيما يستقبل من المكاره { وَلَا أَنْتُمْ َتحْزَنُونَ } على ما مضى‪،‬‬
‫بأعمالكم الصالحة { لَا َ‬
‫بل آمنون مطمئنون فرحون بكل خير‪.‬‬

‫ن وَإِذَا مَرّوا ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ }‬


‫حكُو َ‬
‫وهذا كقوله تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ أَجْ َرمُوا كَانُوا مِنَ الّذِينَ آمَنُوا َيضْ َ‬
‫حكُونَ عَلَى الْأَرَا ِئكِ يَ ْنظُرُونَ } واختلف أهل العلم‬
‫إلى أن قال { فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُوا مِنَ ا ْلكُفّارِ َيضْ َ‬
‫والمفسرون‪ ،‬من هم أصحاب العراف‪ ،‬وما أعمالهم؟‬

‫والصحيح من ذلك‪ ،‬أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم‪ ،‬فل رجحت سيئاتهم فدخلوا النار‪ ،‬ول‬
‫رجحت حسناتهم فدخلوا الجنة‪ ،‬فصاروا في العراف ما شاء اللّه‪ ،‬ثم إن اللّه تعالى يدخلهم‬
‫برحمته الجنة‪ ،‬فإن رحمته تسبق وتغلب غضبه‪ ،‬ورحمته وسعت كل شيء‪.‬‬

‫{ ‪ { } 53 - 50‬وَنَادَى َأصْحَابُ النّارِ َأصْحَابَ الْجَنّةِ أَنْ َأفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ َأوْ ِممّا رَ َز َق ُكمُ‬
‫اللّهُ قَالُوا إِنّ اللّهَ حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ * الّذِينَ اتّخَذُوا دِي َنهُمْ َل ْهوًا وََلعِبًا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا‬
‫جحَدُونَ * وََلقَدْ جِئْنَاهُمْ ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ‬
‫فَالْ َيوْمَ نَنْسَاهُمْ َكمَا نَسُوا ِلقَاءَ َي ْو ِمهِمْ َهذَا َومَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْ‬
‫حمَةً ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا تَ ْأوِيَلهُ َيوْمَ يَأْتِي تَ ْأوِيلُهُ َيقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ‬
‫عَلَى عِلْمٍ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫ش َفعُوا لَنَا َأوْ نُرَدّ فَ َن ْع َملَ غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْعمَلُ‬
‫ش َفعَاءَ فَيَ ْ‬
‫سلُ رَبّنَا بِا ْلحَقّ َف َهلْ لَنَا مِنْ ُ‬
‫قَ ْبلُ َقدْ جَا َءتْ رُ ُ‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬
‫سهُ ْم َو َ‬
‫قَدْ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬

‫أي‪ :‬ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة‪ ،‬حين يبلغ منهم العذاب كل مبلغ‪ ،‬وحين يمسهم الجوع‬
‫المفرط والظمأ الموجع‪ ،‬يستغيثون بهم‪ ،‬فيقولون‪َ { :‬أفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ َأوْ ِممّا رَ َز َق ُكمُ اللّهُ }‬
‫من الطعام‪ ،‬فأجابهم أهل الجنة بقولهم‪ { :‬إِنّ اللّهَ حَ ّر َم ُهمَا } أي‪ :‬ماء الجنة وطعامها { عَلَى‬
‫ا ْلكَافِرِينَ } وذلك جزاء لهم على كفرهم بآيات اللّه‪ ،‬واتخاذهم دينهم الذي أمروا أن يستقيموا عليه‪،‬‬
‫ووعدوا بالجزاء الجزيل عليه‪.‬‬

‫{ َل ْهوًا وََلعِبًا } أي‪ :‬لهت قلوبهم وأعرضت عنه‪ ،‬ولعبوا واتخذوه سخريا‪ ،‬أو أنهم جعلوا بدل دينهم‬
‫اللهو واللعب‪ ،‬واستعاضوا بذلك عن الدين القيم‪.‬‬

‫{ وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها‪ ،‬فاطمأنوا إليها ورضوا بها وفرحوا‪،‬‬
‫وأعرضوا عن الخرة ونسوها‪.‬‬
‫{ فَالْ َيوْمَ نَنْسَا ُهمْ } أي‪ :‬نتركهم في العذاب { َكمَا نَسُوا ِلقَاءَ َي ْو ِمهِمْ هَذَا } فكأنهم لم يخلقوا إل للدنيا‪،‬‬
‫وليس أمامهم عرض ول جزاء‪.‬‬

‫جحَدُونَ } والحال أن جحودهم هذا‪ ،‬ل عن قصور في آيات اللّه وبيناته‪.‬‬


‫{ َومَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْ‬

‫بل قد { جِئْنَاهُمْ ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ } أي‪ :‬بينا فيه جميع المطالب التي يحتاج إليها الخلق { عَلَى عِلْمٍ }‬
‫من اللّه بأحوال العباد في كل زمان ومكان‪ ،‬وما يصلح لهم وما ل يصلح‪ ،‬ليس تفصيله تفصيل‬
‫غير عالم بالمور‪ ،‬فتجهله بعض الحوال‪ ،‬فيحكم حكما غير مناسب‪ ،‬بل تفصيل من أحاط علمه‬
‫بكل شيء‪ ،‬ووسعت رحمته كل شيء‪.‬‬

‫حمَةً ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب الهداية من الضلل‪ ،‬وبيان الحق‬
‫{ هُدًى وَرَ ْ‬
‫والباطل‪ ،‬والغيّ والرشد‪ ،‬ويحصل أيضا لهم به الرحمة‪ ،‬وهي‪ :‬الخير والسعادة في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫فينتفى عنهم بذلك الضلل والشقاء‪.‬‬

‫وهؤلء الذين حق عليهم العذاب‪ ،‬لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم‪ ،‬ول انقادوا لوامره ونواهيه‪ ،‬فلم‬
‫يبق فيهم حيلة إل استحقاقهم أن يحل بهم ما أخبر به القرآن‪.‬‬

‫ولهذا قال‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِلّا تَ ْأوِيلَهُ } أي‪ :‬وقوع ما أخبر به كما قال يوسف عليه السلم حين‬
‫وقعت رؤياه‪ { :‬هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ }‬

‫{ َيوْمَ يَأْتِي تَ ْأوِيلُهُ َيقُولُ الّذِينَ َنسُوهُ مِنْ قَ ْبلُ } متندمين متأسفين على ما مضى منهم‪ ،‬متشفعين في‬
‫ش َفعَاءَ‬
‫سلُ رَبّنَا بِا ْلحَقّ َفهَلْ لَنَا مِنْ ُ‬
‫مغفرة ذنوبهم‪ .‬مقرين بما أخبرت به الرسل‪ { :‬قَدْ جَا َءتْ رُ ُ‬
‫ش َفعُوا لَنَا َأوْ نُ َردّ } إلى الدنيا { فَ َن ْع َملَ غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْع َملُ } وقد فات الوقت عن الرجوع إلى‬
‫فَيَ ْ‬
‫شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ }‬
‫الدنيا‪َ { .‬فمَا تَ ْن َفعُهُمْ َ‬

‫وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا‪ ،‬ليعملوا غير عملهم كذب منهم‪ ،‬مقصودهم به‪ ،‬دفع ما حل بهم‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ { :‬وََلوْ ُردّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‬

‫سهُمْ } حين فوتوها الرباح‪ ،‬وسلكوا بها سبيل الهلك‪ ،‬وليس ذلك كخسران‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ َقدْ َ‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬
‫الموال والثاث أو الولد‪ ،‬إنما هذا خسران ل جبران لمصابه‪َ { ،‬و َ‬
‫في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم به‪ ،‬ويعدهم به الشيطان‪ ،‬قدموا على ما لم يكن لهم في حساب‪ ،‬وتبين‬
‫لهم باطلهم وضللهم‪ ،‬وصدق ما جاءتهم به الرسل‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ ُي ْغشِي‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 54‬إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫ق وَالَْأمْرُ تَبَا َركَ اللّهُ‬
‫سخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ أَلَا لَهُ الْخَ ْل ُ‬
‫س وَا ْل َقمَرَ وَالنّجُومَ مُ َ‬
‫شمْ َ‬
‫طلُبُهُ حَثِيثًا وَال ّ‬
‫اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ يَ ْ‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده ل شريك له‪ { :‬إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضَ } وما فيهما على عظمهما وسعتهما‪ ،‬وإحكامهما‪ ،‬وإتقانهما‪ ،‬وبديع خلقهما‪.‬‬

‫{ فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد‪ ،‬وآخرها يوم الجمعة‪ ،‬فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما‬
‫أودع { اسْ َتوَى } تبارك وتعالى { عَلَى ا ْلعَرْشِ } العظيم الذي يسع السماوات والرض وما فيهما‬
‫وما بينهما‪ ،‬استوى استواء يليق بجلله وعظمته وسلطانه‪ ،‬فاستوى على العرش‪ ،‬واحتوى على‬
‫الملك‪ ،‬ودبر الممالك‪ ،‬وأجرى عليهم أحكامه الكونية‪ ،‬وأحكامه الدينية‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬يغْشِي اللّ ْيلَ }‬
‫المظلم { ال ّنهَارَ } المضيء‪ ،‬فيظلم ما على وجه الرض‪ ،‬ويسكن الدميون‪ ،‬وتأوى المخلوقات إلى‬
‫مساكنها‪ ،‬ويستريحون من التعب‪ ،‬والذهاب والياب الذي حصل لهم في النهار‪.‬‬

‫{ َيطْلُبُهُ حَثِيثًا } كلما جاء الليل ذهب النهار‪ ،‬وكلما جاء النهار ذهب الليل‪ ،‬وهكذا أبدا على الدوام‪،‬‬
‫حتى يطوي اللّه هذا العالم‪ ،‬وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار‪.‬‬

‫شمْسَ وَالْ َقمَ َر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ } أي‪ :‬بتسخيره وتدبيره‪ ،‬الدال على ما له من أوصاف‬
‫{ وَال ّ‬
‫ظمُها دالّ على كمال قدرته‪ ،‬وما فيها من الحكام والنتظام والتقان دال على‬
‫الكمال‪ ،‬فخ ْلقُها وع َ‬
‫كمال حكمته‪ ،‬وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وذلك‬
‫دال على سعة علمه‪ ،‬وأنه الله الحق الذي ل تنبغي العبادة إل له‪.‬‬

‫{ أَلَا لَهُ ا ْلخَلْقُ وَالَْأمْرُ } أي‪ :‬له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها‪ ،‬أعيانها‬
‫وأوصافها وأفعالها والمر المتضمن للشرائع والنبوات‪ ،‬فالخلق‪ :‬يتضمن أحكامه الكونية القدرية‪،‬‬
‫والمر‪ :‬يتضمن أحكامه الدينية الشرعية‪ ،‬وثم أحكام الجزاء‪ ،‬وذلك يكون في دار البقاء‪ { ،‬تَبَا َركَ‬
‫اللّهُ } أي‪ :‬عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه‪ ،‬فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها‪ ،‬وبارك‬
‫في غيره بإحلل الخير الجزيل والبر الكثير‪ ،‬فكل بركة في الكون‪ ،‬فمن آثار رحمته‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫فـ { تَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫ولما ذكر من عظمته وجلله ما يدل ذوي اللباب على أنه وحده‪ ،‬المعبود المقصود في الحوائج‬
‫ن وَل‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِي َ‬
‫خفْيَةً إِنّهُ ل يُ ِ‬
‫كلها أمر بما يترتب على ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬ادْعُوا رَ ّبكُمْ َتضَرّعًا وَ ُ‬
‫ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ ا ْلمُحْسِنِينَ }‬
‫طمَعا إِنّ رَ ْ‬
‫خوْفا َو َ‬
‫حهَا وَادْعُوهُ َ‬
‫ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْل ِ‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ * وَلَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ َبعْدَ‬
‫خفْيَةً إِنّهُ لَا يُ ِ‬
‫{ ‪ { } 56 - 55‬ادْعُوا رَ ّب ُكمْ َتضَرّعًا وَ ُ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫حمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫ط َمعًا إِنّ رَ ْ‬
‫خ ْوفًا وَ َ‬
‫حهَا وَادْعُوهُ َ‬
‫ِإصْلَا ِ‬

‫الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة‪ ،‬ودعاء العبادة‪ ،‬فأمر بدعائه { َتضَرّعًا } أي‪ :‬إلحاحا في المسألة‪،‬‬
‫خفْيَةً } أي‪ :‬ل جهرا وعلنية‪ ،‬يخاف منه الرياء‪ ،‬بل خفية وإخلصا للّه‬
‫ودُءُوبا في العبادة‪ { ،‬وَ ُ‬
‫تعالى‪.‬‬

‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ } أي‪ :‬المتجاوزين للحد في كل المور‪ ،‬ومن العتداء كون العبد يسأل اللّه‬
‫{ إِنّهُ لَا ُي ِ‬
‫مسائل ل تصلح له‪ ،‬أو يتنطع في السؤال‪ ،‬أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء‪ ،‬فكل هذا داخل في‬
‫العتداء المنهي عنه‪.‬‬

‫حهَا } بالطاعات‪ ،‬فإن المعاصي تفسد‬


‫{ وَلَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ } بعمل المعاصي { َب ْعدَ ِإصْلَا ِ‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي‬
‫الخلق والعمال والرزاق‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬‬
‫النّاسِ } كما أن الطاعات تصلح بها الخلق‪ ،‬والعمال‪ ،‬والرزاق‪ ،‬وأحوال الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ط َمعًا } أي‪ :‬خوفا من عقابه‪ ،‬وطمعا في ثوابه‪ ،‬طمعا في قبولها‪ ،‬وخوفا من‬
‫خ ْوفًا َو َ‬
‫{ وَادْعُوهُ َ‬
‫ردها‪ ،‬ل دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه‪ ،‬ونزل نفسه فوق منزلته‪ ،‬أو دعاء من هو‬
‫لهٍ‪.‬‬
‫غافل َ‬

‫وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء‪ :‬الخلص فيه للّه وحده‪ ،‬لن ذلك يتضمنه الخفية‪ ،‬وإخفاؤه‬
‫وإسراره‪ ،‬وأن يكون القلب خائفا طامعا ل غافل‪ ،‬ول آمنا ول غير مبال بالجابة‪ ،‬وهذا من‬
‫إحسان الدعاء‪ ،‬فإن الحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها‪ ،‬وأداؤها كاملة ل نقص فيها بوجه من‬
‫حسِنِينَ } في عبادة اللّه‪ ،‬المحسنين إلى عباد اللّه‪،‬‬
‫حمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫الوجوه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ رَ ْ‬
‫فكلما كان العبد أكثر إحسانا‪ ،‬كان أقرب إلى رحمة ربه‪ ،‬وكان ربه قريبا منه برحمته‪ ،‬وفي هذا‬
‫من الحث على الحسان ما ل يخفى‪.‬‬

‫سقْنَاهُ‬
‫سحَابًا ِثقَالًا ُ‬
‫حمَتِهِ حَتّى ِإذَا َأقَّلتْ َ‬
‫سلُ الرّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ‬
‫{ ‪ { } 58 - 57‬وَ ُهوَ الّذِي يُ ْر ِ‬
‫لِبَلَدٍ مَ ّيتٍ فَأَنْزَلْنَا ِبهِ ا ْلمَاءَ فََأخْرَجْنَا ِبهِ مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َكذَِلكَ نُخْرِجُ ا ْل َموْتَى َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ *وَالْبََلدُ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫الطّ ّيبُ َيخْرُجُ نَبَاتُهُ بِِإذْنِ رَبّ ِه وَالّذِي خَ ُبثَ لَا َيخْرُجُ إِلّا َن ِكدًا كَذَِلكَ ُنصَ ّرفُ الْآيَاتِ ِلقَوْمٍ َي ْ‬
‫سلُ الرّيَاحَ بُشْرًا‬
‫يبين تعالى أثرا من آثار قدرته‪ ،‬ونفحة من نفحات رحمته فقال‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي يُرْ ِ‬
‫حمَتِهِ } أي‪ :‬الرياح المبشرات بالغيث‪ ،‬التي تثيره بإذن اللّه من الرض‪ ،‬فيستبشر الخلق‬
‫بَيْنَ يَ َديْ َر ْ‬
‫برحمة اللّه‪ ،‬وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله‪.‬‬

‫سحَابًا ِثقَالًا } قد أثاره بعضها‪ ،‬وألفه ريح أخرى‪ ،‬وألحقه ريح أخرى {‬
‫{ حَتّى إِذَا َأقَّلتْ } الرياح { َ‬
‫سقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَ ّيتٍ } قد كادت تهلك حيواناته‪ ،‬وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة اللّه‪ { ،‬فَأَنْزَلْنَا ِبهِ } أي‪:‬‬
‫ُ‬
‫بذلك البلد الميت { ا ْلمَاءُ } الغزير من ذلك السحاب وسخر اللّه له ريحا تدره وتفرقه بإذن اللّه‪.‬‬

‫{ فََأخْرَجْنَا ِبهِ مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } فأصبحوا مستبشرين برحمة اللّه‪ ،‬راتعين بخير اللّه‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫{ َكذَِلكَ نُخْرِجُ ا ْل َموْتَى َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } أي‪ :‬كما أحيينا الرض بعد موتها بالنبات‪ ،‬كذلك نخرج‬
‫الموتى من قبورهم‪ ،‬بعد ما كانوا رفاتا متمزقين‪ ،‬وهذا استدلل واضح‪ ،‬فإنه ل فرق بين المرين‪،‬‬
‫فمنكر البعث استبعادا له ‪ -‬مع أنه يرى ما هو نظيره ‪ -‬من باب العناد‪ ،‬وإنكار المحسوسات‪.‬‬

‫وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلء اللّه والنظر إليها بعين العتبار والستدلل‪ ،‬ل بعين‬
‫الغفلة والهمال‪.‬‬

‫ثم ذكر تفاوت الراضي‪ ،‬التي ينزل عليها المطر‪ ،‬فقال‪ { :‬وَالْبَلَدُ الطّ ّيبُ } أي‪ :‬طيب التربة‬
‫والمادة‪ ،‬إذا نزل عليه مطر { يَخْرُجُ نَبَاُتهُ } الذي هو مستعد له { بِإِذْنِ رَبّهِ } أي‪ :‬بإرادة اللّه‬
‫ومشيئته‪ ،‬فليست السباب مستقلة بوجود الشياء‪ ،‬حتى يأذن اللّه بذلك‪.‬‬

‫{ وَالّذِي خَ ُبثَ } من الراضي { لَا يَخْرُجُ إِلّا َنكِدًا } أي‪ :‬إل نباتا خاسا ل نفع فيه ول بركة‪.‬‬

‫شكُرُونَ } أي‪ :‬ننوعها ونبينها ونضرب فيها المثال ونسوقها لقوم‬


‫{ َكذَِلكَ ُنصَرّفُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ يَ ْ‬
‫يشكرون اللّه بالعتراف بنعمه‪ ،‬والقرار بها‪ ،‬وصرفها في مرضاة اللّه‪ ،‬فهم الذين ينتفعون بما‬
‫فصل اللّه في كتابه من الحكام والمطالب اللهية‪ ،‬لنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من‬
‫ربهم‪ ،‬فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها‪ ،‬فيتدبرونها ويتأملونها‪ ،‬فيبين لهم من معانيها بحسب‬
‫استعدادهم‪ ،‬وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة‪ ،‬كما أن الغيث مادة‬
‫الحيا‪ ،‬فإن القلوب الطيبة حين يجيئها الوحي‪ ،‬تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها‪ ،‬وحسن‬
‫عنصرها‪.‬‬

‫وأما القلوب الخبيثة التي ل خير فيها‪ ،‬فإذا جاءها الوحي لم يجد محل قابل‪ ،‬بل يجدها غافلة‬
‫معرضة‪ ،‬أو معارضة‪ ،‬فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور‪ ،‬فل يؤثر فيها‬
‫سمَاءِ مَاءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدًا رَابِيًا }‬
‫شيئا‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪ { :‬أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫اليات‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 64 - 59‬لقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ }‬

‫إلى آخر القصة لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة‪ ،‬أيد ذلك بذكر ما جرى للنبياء‬
‫الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك‪ ،‬وكيف أيد اللّه أهل التوحيد‪ ،‬وأهلك من عاندهم ولم‬
‫يَ ْنقَدْ لهم‪ ،‬وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد‪ ،‬فقال عن نوح ‪ -‬أول‬
‫المرسلين ‪َ { :-‬لقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ } يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده‪ ،‬حين كانوا يعبدون‬
‫الوثان { َفقَالَ } لهم‪ { :‬يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ } أي‪ :‬وحده { مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ } لنه الخالق‬
‫الرازق المدبّر لجميع المور‪ ،‬وما سواه مخلوق مدبّر‪ ،‬ليس له من المر شيء‪ ،‬ثم خوفهم إن لم‬
‫علَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا من نصحه عليه الصلة‬
‫يطيعوه عذاب اللّه‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّي َأخَافُ َ‬
‫والسلم وشفقته عليهم‪ ،‬حيث خاف عليهم العذاب البدي‪ ،‬والشقاء السرمدي‪ ،‬كإخوانه من‬
‫المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم‪ ،‬فلما قال لهم هذه المقالة‪،‬‬
‫ردوا عليه أقبح رد‪.‬‬

‫{ قَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ } أي‪ :‬الرؤساء الغنياء المتبوعون الذين قد جرت العادة باستكبارهم على‬
‫الحق‪ ،‬وعدم انقيادهم للرسل‪ { ،‬إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فلم يكفهم ‪ -‬قبحهم اللّه ‪ -‬أنهم لم‬
‫ينقادوا له‪ ،‬بل استكبروا عن النقياد له‪ ،‬وقدحوا فيه أعظم قدح‪ ،‬ونسبوه إلى الضلل‪ ،‬ولم يكتفوا‬
‫بمجرد الضلل حتى جعلوه ضلل مبينا واضحا لكل أحد‪.‬‬

‫وهذا من أعظم أنواع المكابرة‪ ،‬التي ل تروج على أضعف الناس عقل‪ ،‬وإنما هذا الوصف منطبق‬
‫على قوم نوح‪ ،‬الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم‪ ،‬من الجمادات التي ل تسمع‬
‫ول تبصر‪ ،‬ول تغني عنهم شيئا‪ ،‬فنزلوها منزلة فاطر السماوات‪ ،‬وصرفوا لها ما أمكنهم من‬
‫أنواع القربات‪ ،‬فلول أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم‪،‬‬
‫بل هم أهدى منهم وأعقل‪ ،‬فرد نوح عليهم ردا لطيفا‪ ،‬وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال‪ { :‬يَا َقوْمِ‬
‫لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ }‬

‫{ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ } أي‪ :‬لست ضال في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه‪ ،‬وإنما أنا هاد‬
‫مهتد‪ ،‬بل هدايته عليه الصلة والسلم من جنس هداية إخوانه‪ ،‬أولي العزم من المرسلين‪ ،‬أعلى‬
‫أنواع الهدايات وأكملها وأتمها‪ ،‬وهي هداية الرسالة التامة الكاملة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنّي رَسُولٌ مِنْ‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬ربي وربكم ورب جميع الخلق‪ ،‬الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية‪ ،‬الذي‬
‫من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسل تأمرهم بالعمال الصالحة والخلق الفاضلة والعقائد‬
‫الحسنة وتنهاهم عن أضدادها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ أُبَّل ُغ ُكمْ رِسَالَاتِ رَبّي وَأَ ْنصَحُ َل ُكمْ } أي‪ :‬وظيفتي تبليغكم‪ ،‬ببيان توحيده وأوامره ونواهيه‪ ،‬على‬
‫وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم‪ { ،‬وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } فالذي يتعين أن تطيعوني‬
‫وتنقادوا لمري إن كنتم تعلمون‪.‬‬

‫جلٍ مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬كيف تعجبون من حالة ل ينبغي‬


‫عجِبْتُمْ أَنْ جَا َء ُكمْ ِذكْرٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَلَى َر ُ‬
‫{ َأوَ َ‬
‫العجب منها‪ ،‬وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة‪ ،‬على يد رجل منكم‪ ،‬تعرفون حقيقته‬
‫وصدقه وحاله؟" فهذه الحال من عناية اللّه بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫حمُونَ } أي‪ :‬لينذركم العذاب الليم‪ ،‬وتفعلوا السباب المنجية من‬
‫{ لِيُ ْنذِ َركُ ْم وَلِتَ ّتقُوا وََلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬
‫استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا‪ ،‬وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة‪.‬‬

‫فلم يفد فيهم‪ ،‬ول نجح { َفكَذّبُوهُ فَأَ ْنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ } أي‪ :‬السفينة التي أمر اللّه نوحا‬
‫عليه الصلة والسلم بصنعتها‪ ،‬وأوحى إليه أن يحمل من كل صنف من الحيوانات‪ ،‬زوجين اثنين‬
‫وأهله ومن آمن معه‪ ،‬فحملهم فيها ونجاهم اللّه بها‪.‬‬

‫عمِينَ } عن الهدى‪ ،‬أبصروا الحق‪ ،‬وأراهم اللّه ‪-‬‬


‫{ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا إِ ّن ُهمْ كَانُوا َق ْومًا َ‬
‫على يد نوح ‪ -‬من اليات البينات‪ ،‬ما بهم يؤمن أولوا اللباب‪ ،‬فسخروا منه‪ ،‬واستهزءوا به‬
‫وكفروا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 72 - 65‬وَإِلَى عَادٍ َأخَاهُمْ هُودًا } إلى آخر القصة‬

‫أي‪ { :‬و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } الولى‪ ،‬الذين كانوا في أرض اليمن { َأخَا ُهمْ } في النسب { هُودًا }‬
‫عليه السلم‪ ،‬يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك والطغيان في الرض‪.‬‬

‫فـ { قَالَ } لهم‪ { :‬يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ } سخطه وعذابه‪ ،‬إن أقمتم‬
‫على ما أنتم عليه‪ ،‬فلم يستجيبوا ول انقادوا‪.‬‬

‫سفَاهَةٍ‬
‫فـ { قَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ } رادين لدعوته‪ ،‬قادحين في رأيه‪ { :‬إِنّا لَنَرَاكَ فِي َ‬
‫وَإِنّا لَنَظُ ّنكَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } أي‪ :‬ما نراك إل سفيها غير رشيد‪ ،‬ويغلب على ظننا أنك من جملة‬
‫الكاذبين‪ ،‬وقد انقلبت عليهم الحقيقة‪ ،‬واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلم بما هم‬
‫متصفون به‪ ،‬وهو أبعد الناس عنه‪ ،‬فإنهم السفهاء حقا الكاذبون‪.‬‬
‫وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والنكار‪ ،‬وتكبر عن النقياد للمرشدين والنصحاء‪،‬‬
‫وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد‪ ،‬ووضع العبادة في غير موضعها‪ ،‬فعبد من ل يغني عنه شيئا‬
‫من الشجار والحجار؟"‬

‫وأي‪ :‬كذب أبلغ من كذب من نسب هذه المور إلى اللّه تعالى؟"‬

‫سفَاهَةٌ } بوجه من الوجوه‪ ،‬بل هو الرسول المرشد الرشيد‪ { ،‬وََلكِنّي رَسُولٌ‬


‫{ قَالَ يَا َقوْمِ لَ ْيسَ بِي َ‬
‫مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ أُبَّل ُغكُمْ رِسَالَاتِ رَبّي وَأَنَا َلكُمْ نَاصِحٌ َأمِينٌ }‬

‫فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والنقياد وطاعة رب العباد‪.‬‬

‫جلٍ مِ ْنكُمْ لِيُ ْنذِ َركُمْ } أي‪ :‬كيف تعجبون من أمر ل‬


‫عجِبْتُمْ أَنْ جَا َء ُكمْ ِذكْرٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَلَى َر ُ‬
‫{ َأوَ َ‬
‫يتعجب منه‪ ،‬وهو أن اللّه أرسل إليكم رجل منكم تعرفون أمره‪ ،‬يذكركم بما فيه مصالحكم‪،‬‬
‫ويحثكم على ما فيه النفع لكم‪ ،‬فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين‪.‬‬

‫جعََل ُكمْ خَُلفَاءَ مِنْ َب ْعدِ َقوْمِ نُوحٍ } أي‪ :‬واحمدوا ربكم واشكروه‪ ،‬إذ مكن لكم في‬
‫{ وَا ْذكُرُوا ِإذْ َ‬
‫الرض‪ ،‬وجعلكم تخلفون المم الهالكة الذين كذبوا الرسل‪ ،‬فأهلكهم اللّه وأبقاكم‪ ،‬لينظر كيف‬
‫تعملون‪ ،‬واحذروا أن تقيموا على التكذيب كما أقاموا‪ ،‬فيصيبكم ما أصابهم‪ { ،‬و } اذكروا نعمة‬
‫سطَةً } في القوة وكبر الجسام‪ ،‬وشدة‬
‫اللّه عليكم التي خصكم بها‪ ،‬وهي أن { زَا َد ُكمْ فِي الْخَ ْلقِ بَ ْ‬
‫البطش‪ { ،‬فَا ْذكُرُوا آلَاءَ اللّهِ } أي‪ :‬نعمه الواسعة‪ ،‬وأياديه المتكررة { َلعَّلكُمْ } إذا ذكرتموها بشكرها‬
‫وأداء حقها { ُتفْلِحُونَ } أي‪ :‬تفوزون بالمطلوب‪ ،‬وتنجون من المرهوب‪ ،‬فوعظهم وذكرهم‪،‬‬
‫وأمرهم بالتوحيد‪ ،‬وذكر لهم وصف نفسه‪ ،‬وأنه ناصح أمين‪ ،‬وحذرهم أن يأخذهم اللّه كما أخذ من‬
‫قبلهم‪ ،‬وذكرهم نعم اللّه عليهم وإدرار الرزاق إليهم‪ ،‬فلم ينقادوا ول استجابوا‪.‬‬

‫فـ { قَالُوا } متعجبين من دعوته‪ ،‬ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه‪َ { :‬أجِئْتَنَا لِ َنعْبُدَ اللّهَ‬
‫وَحْ َد ُه وَنَذَرَ مَا كَانَ َيعْبُدُ آبَاؤُنَا } قبحهم اللّه‪ ،‬جعلوا المر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل‬
‫المور‪ ،‬من المور التي ل يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم‪ ،‬فقدموا ما عليه الباء الضالون‬
‫من الشرك وعبادة الصنام‪ ،‬على ما دعت إليه الرسل من توحيد اللّه وحده ل شريك له‪ ،‬وكذبوا‬
‫نبيهم‪ ،‬وقالوا‪ { :‬فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } وهذا استفتاح منهم على أنفسهم‪.‬‬

‫ضبٌ } أي‪ :‬ل بد من وقوعه‪ ،‬فإنه‬


‫غ َ‬
‫س وَ َ‬
‫فقَالَ لهم هود عليه السلم‪ { :‬قَ ْد َوقَعَ عَلَ ْي ُكمْ مِنْ رَ ّبكُمْ ِرجْ ٌ‬
‫قد انعقدت أسبابه‪ ،‬وحان وقت الهلك‪.‬‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْ ُت ْم وَآبَا ُؤكُمْ } أي‪ :‬كيف تجادلون على أمور‪ ،‬ل حقائق لها‪،‬‬
‫سمَاءٍ َ‬
‫{ أَ ُتجَادِلُونَنِي فِي أَ ْ‬
‫وعلى أصنام سميتوها آلهة‪ ،‬وهي ل شيء من اللهة فيها‪ ،‬ول مثقال ذرة و { مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ‬
‫سُ ْلطَانٍ } فإنها لو كانت صحيحة لنزل اللّه بها سلطانا‪ ،‬فعدم إنزاله له دليل على بطلنها‪ ،‬فإنه ما‬
‫من مطلوب ومقصود ‪ -‬وخصوصا المور الكبار ‪ -‬إل وقد بين اللّه فيها من الحجج‪ ،‬ما يدل‬
‫عليها‪ ،‬ومن السلطان‪ ،‬ما ل تخفى معه‪.‬‬

‫{ فَانْ َتظِرُوا } ما يقع بكم من العقاب‪ ،‬الذي وعدتكم به { إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْ َتظِرِينَ } وفرق بين‬
‫النتظارين‪ ،‬انتظار من يخشى وقوع العقاب‪ ،‬ومن يرجو من اللّه النصر والثواب‪ ،‬ولهذا فتح اللّه‬
‫بين الفريقين فقال‪:‬‬

‫حمَةٍ مِنّا } فإنه الذي هداهم لليمان‪ ،‬وجعل‬


‫{ فَأَ ْنجَيْنَاهُ } أي‪ :‬هودا { وَالّذِينَ } آمنوا { َمعَهُ بِ َر ْ‬
‫طعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا } أي‪:‬‬
‫إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته‪َ { ،‬وقَ َ‬
‫استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يبق منهم أحدا‪ ،‬وسلط اللّه عليهم الريح العقيم‪ ،‬ما تذر من‬
‫شيء أتت عليه إل جعلته كالرميم‪ ،‬فأهلكوا فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم‪ ،‬فانظر كيف كان عاقبة‬
‫المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج‪ ،‬فلم ينقادوا لها‪ ،‬وأمروا باليمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم‬
‫الهلك‪ ،‬والخزي والفضيحة‪.‬‬

‫{ وَأُتْ ِبعُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَ ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَلَا إِنّ عَادًا كَفَرُوا رَ ّبهُمْ أَلَا ُبعْدًا ِلعَادٍ َقوْمِ هُودٍ }‬

‫طعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا َومَا كَانُوا ُمؤْمِنِينَ } بوجه من الوجوه‪ ،‬بل وصفهم‬
‫وقال هنا { َوقَ َ‬
‫التكذيب والعناد‪ ،‬ونعتهم الكبر والفساد‪.‬‬

‫{ ‪ { } 79 - 73‬وَإِلَى َثمُودَ أَخَاهُ ْم صَالِحًا } إلى آخر قصتهم ‪.‬‬

‫أي { و } أرسلنا { إِلَى َثمُودَ } القبيلة المعروفة الذين كانوا يسكنون الحجر وما حوله‪ ،‬من أرض‬
‫الحجاز وجزيرة العرب‪ ،‬أرسل اللّه إليهم { َأخَا ُه ْم صَالِحًا } نبيا يدعوهم إلى اليمان والتوحيد‪،‬‬
‫وينهاهم عن الشرك والتنديد‪ ،‬فـ { قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } دعوته عليه‬
‫الصلة والسلم من جنس دعوة إخوانه من المرسلين‪ ،‬المر بعبادة اللّه‪ ،‬وبيان أنه ليس للعباد إله‬
‫غير اللّه‪َ { ،‬قدْ جَاءَ ْتكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬خارق من خوارق العادات‪ ،‬التي ل تكون إل آية‬
‫سماوية ل يقدر الناس عليها‪ ،‬ثم فسرها بقوله‪ { :‬هَ ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ َلكُمْ آيَةً } أي‪ :‬هذه ناقة شريفة‬
‫فاضلة لضافتها إلى اللّه تعالى إضافة تشريف‪ ،‬لكم فيها آية عظيمة‪ .‬وقد ذكر وجه الية في‬
‫قوله‪َ { :‬لهَا شِ ْربٌ وََلكُمْ شِ ْربُ َيوْمٍ َمعْلُومٍ }‬
‫وكان عندهم بئر كبيرة‪ ،‬وهي المعروفة ببئر الناقة‪ ،‬يتناوبونها هم والناقة‪ ،‬للناقة يوم تشربها‬
‫ويشربون اللبن من ضرعها‪ ،‬ولهم يوم يردونها‪ ،‬وتصدر الناقة عنهم‪.‬‬

‫وقال لهم نبيهم صالح عليه السلم { َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّهِ } فل عليكم من مئونتها شيء‪،‬‬
‫{ وَلَا َتمَسّوهَا ِبسُوءٍ } أي‪ :‬بعقر أو غيره‪ { ،‬فَيَ ْأخُ َذكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }‬

‫جعََل ُكمْ خَُلفَاءَ } في الرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم { مِنْ َبعْدِ عَادٍ } الذين‬
‫{ وَا ْذكُرُوا ِإذْ َ‬
‫أهلكهم اللّه‪ ،‬وجعلكم خلفاء من بعدهم‪ { ،‬وَ َبوَّأكُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬مكن لكم فيها‪ ،‬وسهل لكم‬
‫سهُوِلهَا ُقصُورًا } أي‪ :‬من الراضي‬
‫خذُونَ مِنْ ُ‬
‫السباب الموصلة إلى ما تريدون وتبتغون { تَتّ ِ‬
‫السهلة التي ليست بجبال‪ ،‬تتخذون فيها القصور العالية والبنية الحصينة‪ { ،‬وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ‬
‫بُيُوتًا } كما هو مشاهد إلى الن من أعمالهم التي في الجبال‪ ،‬من المساكن والحجر ونحوها‪ ،‬وهي‬
‫باقية ما بقيت الجبال‪ { ،‬فَا ْذكُرُوا آلَاءَ اللّهِ } أي‪ :‬نعمه‪ ،‬وما خولكم من الفضل والرزق والقوة‪،‬‬
‫{ وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ } أي‪ :‬ل تخربوا الرض بالفساد والمعاصي‪ ،‬فإن المعاصي تدع‬
‫الديار العامرة بلقع‪ ،‬وقد أخلت ديارهم منهم‪ ،‬وأبقت مساكنهم موحشة بعدهم‪.‬‬

‫{ قَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا مِنْ َق ْومِهِ } أي‪ :‬الرؤساء والشراف الذين تكبروا عن الحق‪ { ،‬لِلّذِينَ‬
‫ن صَالِحًا‬
‫ض ِعفُوا } ولما كان المستضعفون ليسوا كلهم مؤمنين‪ ،‬قالوا { ِلمَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ أَ َتعَْلمُونَ أَ ّ‬
‫اسْ ُت ْ‬
‫سلٌ مِنْ رَبّهِ } أي‪ :‬أهو صادق أم كاذب؟‪.‬‬
‫مُرْ َ‬

‫سلَ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ } من توحيد اللّه والخبر عنه وأمره ونهيه‪.‬‬


‫فقال المستضعفون‪ { :‬إِنّا ِبمَا أُرْ ِ‬

‫{ قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا بِالّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } حملهم الكبر أن ل ينقادوا للحق الذي انقاد له‬
‫الضعفاء‪.‬‬

‫{ َف َعقَرُوا النّاقَةَ } التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم‪ { ،‬وَعَ َتوْا عَنْ َأمْرِ رَ ّبهِمْ }‬
‫أي‪ :‬قسوا عنه‪ ،‬واستكبروا عن أمره الذي من عتا عنه أذاقه العذاب الشديد‪ .‬ل جرم أحل اللّه بهم‬
‫من النكال ما لم يحل بغيرهم { َوقَالُوا } مع هذه الفعال متجرئين على اللّه‪ ،‬معجزين له‪ ،‬غير‬
‫مبالين بما فعلوا‪ ،‬بل مفتخرين بها‪ { :‬يَا صَالِحُ ائْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا } إن كنت من الصادقين من العذاب‬
‫ك وَعْدٌ غَيْرُ َم ْكذُوبٍ }‬
‫فقال‪َ { :‬تمَ ّتعُوا فِي دَا ِركُمْ ثَل َثةَ أَيّامٍ ذَِل َ‬

‫جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ } على ركبهم‪ ،‬قد أبادهم اللّه‪ ،‬وقطع دابرهم‪.‬‬
‫{ فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬

‫{ فَ َتوَلّى عَ ْنهُمْ } صالح عليه السلم حين أحل اللّه بهم العذاب‪َ { ،‬وقَالَ } مخاطبا لهم توبيخا وعتابا‬
‫حتُ َلكُمْ } أي‪ :‬جميع ما أرسلني اللّه به‬
‫بعدما أهلكهم اللّه‪ { :‬يَا َقوْمِ َلقَدْ أَبَْلغْ ُت ُكمْ رِسَالَةَ رَبّي وَ َنصَ ْ‬
‫إليكم‪ ،‬قد أبلغتكم به وحرصت على هدايتكم‪ ،‬واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين‬
‫القويم‪ { .‬وََلكِنْ لَا ُتحِبّونَ النّاصِحِينَ } بل رددتم قول النصحاء‪ ،‬وأطعتم كل شيطان رجيم‪.‬‬

‫واعلم أن كثيرا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن الناقة قد خرجت من صخرة صماء‬
‫ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت تمخض الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها‬
‫فصيل حين عقروها رغى ثلث رغيات وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلم قال‬
‫لهم‪ :‬آية نزول العذاب بكم‪ ،‬أن تصبحوا في اليوم الول من اليام الثلثة ووجوهكم مصفرة‪،‬‬
‫واليوم الثاني‪ :‬محمرة‪ ،‬والثالث‪ :‬مسودة‪ ،‬فكان كما قال‪.‬‬

‫وكل هذا من السرائيليات التي ل ينبغي نقلها في تفسير كتاب اللّه‪ ،‬وليس في القرآن ما يدل على‬
‫شيء منها بوجه من الوجوه‪ ،‬بل لو كانت صحيحة لذكرها اللّه تعالى‪ ،‬لن فيها من العجائب‬
‫والعبر واليات ما ل يهمله تعالى ويدع ذكره‪ ،‬حتى يأتي من طريق من ل يوثق بنقله‪ ،‬بل القرآن‬
‫يكذب بعض هذه المذكورات‪ ،‬فإن صالحا قال لهم‪َ { :‬تمَ ّتعُوا فِي دَا ِركُمْ َثلَاثَةَ أَيّامٍ } أي‪ :‬تنعموا‬
‫وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا‪ ،‬فإنه ليس لكم من المتاع واللذة سوى هذا‪ ،‬وأي لذة وتمتع لمن‬
‫وعدهم نبيهم وقوع العذاب‪ ،‬وذكر لهم وقوع مقدماته‪ ،‬فوقعت يوما فيوما‪ ،‬على وجه يعمهم‬
‫ويشملهم [احمرار وجوههم‪ ،‬واصفرارها واسودادها من العذاب]‬

‫هل هذا إل مناقض للقرآن‪ ،‬ومضاد له؟"‪ .‬فالقرآن فيه الكفاية والهداية عن ما سواه‪.‬‬

‫نعم لو صح شيء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما ل يناقض كتاب اللّه‪ ،‬فعلى الرأس‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } وقد تقدم‬
‫والعين‪ ،‬وهو مما أمر القرآن باتباعه { َومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫أنه ل يجوز تفسير كتاب اللّه بالخبار السرائيلية‪ ،‬ولو على تجويز الرواية عنهم بالمور التي ل‬
‫يجزم بكذبها‪ ،‬فإن معاني كتاب اللّه يقينية‪ ،‬وتلك أمور ل تصدق ول تكذب‪ ،‬فل يمكن اتفاقهما‪.‬‬

‫حشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } إلى‬


‫{ ‪ { } 84 - 80‬وَلُوطًا ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَا ِ‬
‫آخر القصة ‪.‬‬

‫أي‪ { :‬و ْ} اذكر عبدنا { لُوطًا ْ} عليه الصلة والسلم‪ ،‬إذ أرسلناه إلى قومه يأمرهم بعبادة اللّه‬
‫شةَ ْ} أي‪:‬‬
‫وحده‪ ،‬وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين‪ ،‬فقال‪ { :‬أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬
‫الخصلة التي بلغت ‪ -‬في العظم والشناعة ‪ -‬إلى أن استغرقت أنواع الفحش‪ { ،‬مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ‬
‫حدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ ْ} فكونها فاحشة من أشنع الشياء‪ ،‬وكونهم ابتدعوها وابتكروها‪ ،‬وسنوها لمن‬
‫أَ َ‬
‫بعدهم‪ ،‬من أشنع ما يكون أيضا‪.‬‬
‫ش ْهوَةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ ْ} أي‪ :‬كيف تذرون النساء اللتي‬
‫ثم بينها بقوله‪ { :‬إِ ّن ُكمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ‬
‫خلقهن اللّه لكم‪ ،‬وفيهن المستمتع الموافق للشهوة والفطرة‪ ،‬وتقبلون على أدبار الرجال‪ ،‬التي هي‬
‫غاية ما يكون في الشناعة والخبث‪ ،‬ومحل تخرج منه النتان والخباث‪ ،‬التي يستحيي من ذكرها‬
‫فضل عن ملمستها وقربها‪َ { ،‬بلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ ُمسْ ِرفُونَ ْ} أي‪ :‬متجاوزون لما حده اللّه متجرئون على‬
‫محارمه‪.‬‬

‫طهّرُونَ ْ} أي‪ :‬يتنزهون عن‬


‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا أَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّن ُهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ‬
‫{ َومَا كَانَ َ‬
‫حمِيدِ ْ} ‪.‬‬
‫فعل الفاحشة‪َ { .‬ومَا َن َقمُوا مِ ْنهُمْ إِلّا أَنْ ُي ْؤمِنُوا بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬

‫{ فَأَ ْنجَيْنَا ُه وَأَهْلَهُ ِإلّا امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ ْ} أي‪ :‬الباقين المعذبين‪ ،‬أمره اللّه أن يسري بأهله‬
‫ليل‪ ،‬فإن العذاب مصبح قومه فسرى بهم‪ ،‬إل امرأته أصابها ما أصابهم‪.‬‬

‫{ وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مَطَرًا ْ} أي‪ :‬حجارة حارة شديدة‪ ،‬من سجيل‪ ،‬وجعل اللّه عاليها سافلها‪ { ،‬فَا ْنظُرْ‬
‫كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ْ} الهلك والخزي الدائم‪.‬‬

‫شعَيْبًا ْ} ‪ ...‬إلى آخر القصة‬


‫{ ‪ { }ْ 87 - 85‬وَإِلَى مَدْيَنَ َأخَاهُمْ ُ‬

‫شعَيْبًا ْ} يدعوهم إلى عبادة‬


‫أي‪ { :‬و ْ} أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين { أَخَاهُمْ ْ} في النسب { ُ‬
‫اللّه وحده ل شريك له‪ ،‬ويأمرهم بإيفاء المكيال والميزان‪ ،‬وأن ل يبخسوا الناس أشياءهم‪ ،‬وأن ل‬
‫يعثوا في الرض مفسدين‪ ،‬بالكثار من عمل المعاصي‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ َبعْدَ‬
‫حهَا ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ ْ} فإن ترك المعاصي امتثال لمر اللّه وتقربا إليه خير‪،‬‬
‫ِإصْلَا ِ‬
‫وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار‪ ،‬وعذاب النار‪.‬‬

‫ل صِرَاطٍ ْ} أي‪ :‬طريق من الطرق التي يكثر سلوكها‪ ،‬تحذرون الناس‬


‫{ وَلَا َت ْقعُدُوا ْ} للناس { ِب ُك ّ‬
‫منها { و ْ} { تُوعَدُونَ ْ} من سلكها { وَ َتصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ْ} من أراد الهتداء به { وَتَ ْبغُو َنهَا‬
‫عوَجًا ْ} أي‪ :‬تبغون سبيل اللّه تكون معوجة‪ ،‬وتميلونها اتباعا لهوائكم‪ ،‬وقد كان الواجب عليكم‬
‫ِ‬
‫وعلى غيركم الحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها اللّه لعباده ليسلكوها إلى مرضاته ودار‬
‫كرامته‪ ،‬ورحمهم بها أعظم رحمة‪ ،‬وتصدون لنصرتها والدعوة إليها والذب عنها‪ ،‬ل أن تكونوا‬
‫أنتم قطاع طريقها‪ ،‬الصادين الناس عنها‪ ،‬فإن هذا كفر لنعمة اللّه ومحادة للّه‪ ،‬وجعل أقوم الطرق‬
‫وأعدلها مائلة‪ ،‬وتشنعون على من سلكها‪.‬‬
‫{ وَا ْذكُرُوا ْ} نعمة اللّه عليكم { إِذْ كُنْ ُتمْ قَلِيلًا َفكَثّ َركُمْ ْ} أي‪ :‬نماكم بما أنعم عليكم من الزوجات‬
‫والنسل‪ ،‬والصحة‪ ،‬وأنه ما ابتلكم بوباء أو أمراض من المراض المقللة لكم‪ ،‬ول سلط عليكم‬
‫عدوا يجتاحكم ول فرقكم في الرض‪ ،‬بل أنعم عليكم باجتماعكم‪ ،‬وإدرار الرزاق وكثرة النسل‪.‬‬

‫سدِينَ ْ} فإنكم ل تجدون في جموعهم إل الشتات‪ ،‬ول في ربوعهم‬


‫{ وَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُفْ ِ‬
‫إل الوحشة والنبتات ولم يورثوا ذكرا حسنا‪ ،‬بل أتبعوا في هذه الدنيا لعنة‪ ،‬ويوم القيامة أشد خزيا‬
‫وفضيحة‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كَانَ طَا ِئفَةٌ مِ ْنكُمْ آمَنُوا بِالّذِي أُرْسِ ْلتُ بِ ِه َوطَا ِئفَةٌ لَمْ ُي ْؤمِنُوا ْ} وهم الجمهور منهم‪ { .‬فَاصْبِرُوا‬
‫ح ُكمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ ْ} فينصر المحق‪ ،‬ويوقع العقوبة على المبطل‪.‬‬
‫حَتّى يَ ْ‬

‫{ ‪ { }ْ 93 - 88‬قَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا مِنْ َق ْومِهِ ْ} وهم الشراف والكبراء منهم الذين اتبعوا‬
‫أهواءهم ولهوا بلذاتهم‪ ،‬فلما أتاهم الحق ورأوه غير موافق لهوائهم الرديئة‪ ،‬ردوه واستكبروا‬
‫ب وَالّذِينَ آمَنُوا‬
‫شعَ ْي ُ‬
‫عنه‪ ،‬فقالوا لنبيهم شعيب ومن معه من المؤمنين المستضعفين‪ { :‬لَنُخْ ِرجَ ّنكَ يَا ُ‬
‫َم َعكَ مِنْ قَرْيَتِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا ْ} استعملوا قوتهم السبعية‪ ،‬في مقابلة الحق‪ ،‬ولم يراعوا دينا‬
‫ول ذمة ول حقا‪ ،‬وإنما راعوا واتبعوا آهواءهم وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول‬
‫الفاسد‪ ،‬فقالوا‪ :‬إما أن ترجع أنت ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا‪.‬‬

‫فـ { شعيب ْ} عليه الصلة والسلم كان يدعوهم طامعا في إيمانهم‪ ،‬والن لم يسلم من شرهم‪،‬‬
‫حتى توعدوه إن لم يتابعهم ‪ -‬بالجلء عن وطنه‪ ،‬الذي هو ومن معه أحق به منهم‪.‬‬

‫فـ { قَالَ ْ} لهم شعيب عليه الصلة والسلم متعجبا من قولهم‪َ { :‬أوَ َلوْ كُنّا كَارِهِينَ ْ} أي‪ :‬أنتابعكم‬
‫على دينكم وملتكم الباطلة‪ ،‬ولو كنا كارهين لها لعلمنا ببطلنها‪ ،‬فإنما يدعى إليها من له نوع رغبة‬
‫فيها‪ ،‬أما من يعلن بالنهي عنها‪ ،‬والتشنيع على من اتبعها فكيف يدعى إليها؟"‬

‫عدْنَا فِي مِلّ ِت ُكمْ َبعْدَ ِإذْ نَجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا ْ} أي‪ :‬اشهدوا علينا أننا إن‬
‫{ َقدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ ُ‬
‫عدنا إليها بعد ما نجانا اللّه منها وأنقذنا من شرها‪ ،‬أننا كاذبون مفترون على اللّه الكذب‪ ،‬فإننا نعلم‬
‫أنه ل أعظم افتراء ممن جعل للّه شريكا‪ ،‬وهو الواحد الحد الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم يتخذ ولدا ول‬
‫صاحبة‪ ،‬ول شريكا في الملك‪.‬‬

‫{ َومَا َيكُونُ لَنَا أَنْ َنعُودَ فِيهَا ْ} أي‪ :‬يمتنع على مثلنا أن نعود فيها‪ ،‬فإن هذا من المحال‪ ،‬فآيسهم‬
‫عليه الصلة والسلم من كونه يوافقهم من وجوه متعددة‪ ،‬من جهة أنهم كارهون لها مبغضون لما‬
‫هم عليه من الشرك‪ .‬ومن جهة أنه جعل ما هم عليه كذبا‪ ،‬وأشهدهم أنه إن اتبعهم ومن معه فإنهم‬
‫كاذبون‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬اعترافهم بمنة اللّه عليهم إذ أنقذهم اللّه منها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن عودهم فيها ‪ -‬بعد ما هداهم اللّه ‪ -‬من المحالت‪ ،‬بالنظر إلى حالتهم الراهنة‪ ،‬وما في‬
‫قلوبهم من تعظيم اللّه تعالى والعتراف له بالعبودية‪ ،‬وأنه الله وحده الذي ل تنبغي العبادة إل له‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬وأن آلهة المشركين أبطل الباطل‪ ،‬وأمحل المحال‪.‬‬

‫وحيث إن اللّه منّ عليهم بعقول يعرفون بها الحق والباطل‪ ،‬والهدى والضلل‪.‬‬

‫وأما من حيث النظر إلى مشيئة اللّه وإرادته النافذة في خلقه‪ ،‬التي ل خروج لحد عنها‪ ،‬ولو‬
‫تواترت السباب وتوافقت القوى‪ ،‬فإنهم ل يحكمون على أنفسهم أنهم سيفعلون شيئا أو يتركونه‪،‬‬
‫ولهذا استثنى { َومَا َيكُونُ لَنَا أَنْ َنعُودَ فِيهَا إِلّا أَنْ َيشَاءَ اللّهُ رَبّنَا ْ} أي‪ :‬فل يمكننا ول غيرنا‪،‬‬
‫ع ْلمًا ْ} فيعلم ما يصلح للعباد‬
‫شيْءٍ ِ‬
‫الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته‪ ،‬وقد { وَسِعَ رَبّنَا ُكلّ َ‬
‫وما يدبرهم عليه‪ { .‬عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا ْ} أي‪ :‬اعتمدنا أنه سيثبتنا على الصراط المستقيم‪ ،‬وأن‬
‫يعصمنا من جميع طرق الجحيم‪ ،‬فإن من توكل على اللّه‪ ،‬كفاه‪ ،‬ويسر له أمر دينه ودنياه‪.‬‬

‫{ رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِا ْلحَقّ ْ} أي‪ :‬انصر المظلوم‪ ،‬وصاحب الحق‪ ،‬على الظالم المعاند‬
‫للحق { وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ ْ} وفتحه تعالى لعباده نوعان‪ :‬فتح العلم‪ ،‬بتبيين الحق من الباطل‪،‬‬
‫والهدى من الضلل‪ ،‬ومن هو من المستقيمين على الصراط‪ ،‬ممن هو منحرف عنه‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬فتحه بالجزاء وإيقاع العقوبة على الظالمين‪ ،‬والنجاة والكرام للصالحين‪ ،‬فسألوا‬
‫اللّه أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق والعدل‪ ،‬وأن يريهم من آياته وعبره ما يكون فاصل بين‬
‫الفريقين‪.‬‬

‫شعَيْبًا إِ ّنكُمْ ِإذًا‬


‫{ َوقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ ْ} محذرين عن اتباع شعيب‪ { ،‬لَئِنِ اتّ َبعْتُمْ ُ‬
‫لَخَاسِرُونَ ْ} هذا ما سولت لهم أنفسهم أن الخسارة والشقاء في اتباع الرشد والهدى‪ ،‬ولم يدروا أن‬
‫الخسارة كل الخسارة في لزوم ما هم عليه من الضلل والضلل‪ ،‬وقد علموا ذلك حين وقع بهم‬
‫النكال‪.‬‬

‫جفَةُ ْ} أي‪ :‬الزلزلة الشديدة { فََأصْبَحُوا فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ ْ} أي‪ :‬صرعى ميتين‬
‫{ فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬
‫هامدين‪.‬‬
‫شعَيْبًا كَأَنْ َلمْ َيغْ َنوْا فِيهَا ْ} أي‪ :‬كأنهم ما أقاموا في ديارهم‪،‬‬
‫قال تعالى ناعيا حالهم { الّذِينَ كَذّبُوا ُ‬
‫وكأنهم ما تمتعوا في عرصاتها‪ ،‬ول تفيئوا في ظللها‪ ،‬ول غنوا في مسارح أنهارها‪ ،‬ول أكلوا‬
‫من ثمار أشجارها‪ ،‬حين فاجأهم العذاب‪ ،‬فنقلهم من مورد اللهو واللعب واللذات‪ ،‬إلى مستقر‬
‫شعَيْبًا كَانُوا هُمُ ا ْلخَاسِرِينَ ْ} أي‪:‬‬
‫الحزن والشقاء والعقاب والدركات ولهذا قال‪ { :‬الّذِينَ كَذّبُوا ُ‬
‫الخسار محصور فيهم‪ ،‬لنهم خسروا دينهم وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة‪ ،‬أل ذلك هو الخسران‬
‫شعَيْبًا إِ ّن ُكمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ْ}‬
‫المبين‪ ،‬ل من قالوا لهم‪ { :‬لَئِنِ اتّ َبعْتُمْ ُ‬

‫فحين هلكوا تولى عنهم نبيهم شعيب عليه الصلة والسلم { َوقَالَ ْ} معاتبا وموبخا ومخاطبا بعد‬
‫موتهم‪ { :‬يَا َقوْمِ َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ ِرسَالَاتِ رَبّي ْ} أي‪ :‬أوصلتها إليكم‪ ،‬وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما‬
‫حتُ َلكُمْ ْ} فلم تقبلوا نصحي‪ ،‬ول انقدتم لرشادي‪ ،‬بل‬
‫يمكن أن تصل إليه‪ ،‬وخالطت أفئدتكم { وَ َنصَ ْ‬
‫فسقتم وطغيتم‪.‬‬

‫{ َفكَ ْيفَ آسَى عَلَى َقوْمٍ كَافِرِينَ ْ} أي‪ :‬فكيف أحزن على قوم ل خير فيهم‪ ،‬أتاهم الخير فردوه ولم‬
‫يقبلوه ول يليق بهم إل الشر‪ ،‬فهؤلء غير حقيقين أن يحزن عليهم‪ ،‬بل يفرح بإهلكهم ومحقهم‪.‬‬
‫فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة‪ ،‬وأي‪ :‬شقاء وعقوبة أبلغ من أن يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم‬
‫أنصح الخلق لهم؟"‪.‬‬

‫خذْنَا أَهَْلهَا بِالْبَ ْأسَا ِء وَالضّرّاءِ َلعَّلهُمْ َيضّرّعُونَ‬


‫{ ‪َ { }ْ 95 - 94‬ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا أَ َ‬
‫عفَوْا َوقَالُوا قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّا ُء وَالسّرّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً‬
‫* ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ السّيّ َئةِ ا ْلحَسَنَةَ حَتّى َ‬
‫شعُرُونَ ْ}‬
‫وَهُمْ لَا َي ْ‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَ ِبيّ ْ} يدعوهم إلى عبادة اللّه‪ ،‬وينهاهم عن ما هم فيه من‬
‫الشر‪ ،‬فلم ينقادوا له‪ :‬إل ابتلهم ال { بِالْبَ ْأسَا ِء وَالضّرّاءِ ْ} أي‪ :‬بالفقر والمرض وأنواع البليا‬
‫{ َلعَّل ُهمْ ْ} إذا أصابتهم‪ ،‬أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى ال واستكانوا للحق‪.‬‬

‫{ ُثمّ ْ} إذا لم يفد فيهم‪ ،‬واستمر استكبارهم‪ ،‬وازداد طغيانهم‪.‬‬

‫ع َفوْا‬
‫حسَنَةَ ْ} فَأدَرّ عليهم الرزاق‪ ،‬وعافى أبدانهم‪ ،‬ورفع عنهم البلء { حَتّى َ‬
‫{ َبدّلْنَا َمكَانَ السّيّ َئةِ الْ َ‬
‫ْ} أي‪ :‬كثروا‪ ،‬وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة اللّه وفضله‪ ،‬ونسوا ما مر عليهم من البلء‪.‬‬
‫{ َوقَالُوا قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّا ُء وَالسّرّاءُ ْ} أي‪ :‬هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الولين‬
‫واللحقين‪ ،‬تارة يكونون في سراء وتارة في ضراء‪ ،‬وتارة في فرح‪ ،‬ومرة في ترح‪ ،‬على حسب‬
‫تقلبات الزمان وتداول اليام‪ ،‬وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير‪ ،‬ول للستدراج والنكير حتى‬
‫إذا اغتبطوا‪ ،‬وفرحوا بما أوتوا‪ ،‬وكانت الدنيا‪ ،‬أسر ما كانت إليهم‪ ،‬أخذناهم بالعذاب { َبغْتَ ًة وَهُمْ لَا‬
‫شعُرُونَ ْ} أي‪ :‬ل يخطر لهم الهلك على بال‪ ،‬وظنوا أنهم قادرون على ما آتاهم اللّه‪ ،‬وأنهم غير‬
‫يَ ْ‬
‫زائلين ول منتقلين عنه‪.‬‬

‫ض وََلكِنْ‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 99 - 96‬وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلقُرَى آمَنُوا وَا ّتقَوْا َلفَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَ َركَاتٍ مِنَ ال ّ‬
‫خذْنَاهُمْ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * َأفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَا ِئمُونَ * َأوََأمِنَ‬
‫كَذّبُوا فَأَ َ‬
‫أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَ ْأسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَ ْلعَبُونَ * َأفََأمِنُوا َمكْرَ اللّهِ فَلَا يَ ْأمَنُ َمكْرَ اللّهِ إِلّا ا ْلقَوْمُ‬
‫الْخَاسِرُونَ ْ}‬

‫لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا‪ ،‬وبالسراء استدراجا ومكرا‪،‬‬
‫ذكر أن أهل القرى‪ ،‬لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته العمال‪ ،‬واستعملوا تقوى اللّه تعالى‬
‫ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه‪ ،‬لفتح عليهم بركات السماء والرض‪ ،‬فأرسل السماء عليهم‬
‫مدرارا‪ ،‬وأنبت لهم من الرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم‪ ،‬في أخصب عيش وأغزر رزق‪،‬‬
‫خذْنَاهُمْ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ‬
‫من غير عناء ول تعب‪ ،‬ول كد ول نصب‪ ،‬ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا { فَأَ َ‬
‫ْ} بالعقوبات والبليا ونزع البركات‪ ،‬وكثرة الفات‪ ،‬وهي بعض جزاء أعمالهم‪ ،‬وإل فلو آخذهم‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ِبمَا َكسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ‬
‫بجميع ما كسبوا‪ ،‬ما ترك عليها من دابة‪َ { .‬‬
‫جعُونَ ْ}‬
‫عمِلُوا َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ‬
‫لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬

‫{ َأفََأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَى ْ} أي‪ :‬المكذبة‪ ،‬بقرينة السياق { أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا ْ} أي‪ :‬عذابنا الشديد { بَيَاتًا وَهُمْ‬
‫نَا ِئمُونَ ْ} أي‪ :‬في غفلتهم‪ ،‬وغرتهم وراحتهم‪.‬‬

‫ضحًى وَ ُهمْ يَ ْلعَبُونَ ْ} أي‪ :‬أي شيء يؤمنهم من ذلك‪ ،‬وهم قد‬
‫{ َأوَ َأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َي ُهمْ بَأْسُنَا ُ‬
‫فعلوا أسبابه‪ ،‬وارتكبوا من الجرائم العظيمة‪ ،‬ما يوجب بعضه الهلك؟!‬

‫{ َأفََأمِنُوا َمكْرَ اللّهِ ْ} حيث يستدرجهم من حيث ل يعلمون‪ ،‬ويملي لهم‪ ،‬إن كيده متين‪ { ،‬فَلَا يَ ْأمَنُ‬
‫َمكْرَ اللّهِ إِلّا ا ْلقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ} فإن من أمن من عذاب اللّه‪ ،‬فهو لم يصدق بالجزاء على العمال‪،‬‬
‫ول آمن بالرسل حقيقة اليمان‪.‬‬

‫وهذه الية الكريمة فيها من التخويف البليغ‪ ،‬على أن العبد ل ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه‬
‫من اليمان‪.‬‬

‫بل ل يزال خائفا وجل أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من اليمان‪ ،‬وأن ل يزال داعيا بقوله‪ { :‬يا‬
‫مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ْ} وأن يعمل ويسعى‪ ،‬في كل سبب يخلصه من الشر‪ ،‬عند وقوع‬
‫الفتن‪ ،‬فإن العبد ‪ -‬ولو بلغت به الحال ما بلغت ‪ -‬فليس على يقين من السلمة‪.‬‬
‫{ ‪َ { }ْ 102 - 100‬أوَلَمْ َي ْهدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ أَهِْلهَا أَنْ َلوْ نَشَاءُ َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِمْ‬
‫س َمعُونَ * تِ ْلكَ ا ْلقُرَى َنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَا ِئهَا وََلقَدْ جَاءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ‬
‫وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَا يَ ْ‬
‫جدْنَا‬
‫بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا كَذّبُوا مِنْ قَ ْبلُ كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى قُلُوبِ ا ْلكَافِرِينَ * َومَا وَ َ‬
‫سقِينَ ْ}‬
‫ن وَجَدْنَا َأكْثَرَهُمْ َلفَا ِ‬
‫ع ْه ٍد وَإِ ْ‬
‫لَِأكْثَرِهِمْ مِنْ َ‬

‫يقول تعالى منبها للمم الغابرين بعد هلك المم الغابرين { َأوَ لَمْ َي ْهدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الْأَ ْرضَ مِنْ‬
‫َبعْدِ أَ ْهِلهَا أَنْ َلوْ نَشَاءُ َأصَبْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِمْ ْ} أي‪ :‬أو لم يتبين ويتضح للمم الذين ورثوا الرض‪ ،‬بعد‬
‫إهلك من قبلهم بذنوبهم‪ ،‬ثم عملوا كأعمال أولئك المهلكين؟‪.‬‬

‫أو لم يهتدوا أن اللّه‪ ،‬لو شاء لصابهم بذنوبهم‪ ،‬فإن هذه سنته في الولين والخرين‪.‬‬

‫س َمعُونَ ْ} أي‪ :‬إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا‪ ،‬وذكرهم فلم يتذكروا‪،‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَا يَ ْ‬
‫وهداهم باليات والعبر فلم يهتدوا‪ ،‬فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم‪ ،‬فيعلوها الران‬
‫والدنس‪ ،‬حتى يختم عليها‪ ،‬فل يدخلها حق‪ ،‬ول يصل إليها خير‪ ،‬ول يسمعون ما ينفعهم‪ ،‬وإنما‬
‫يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم‪.‬‬

‫{ تِ ْلكَ ا ْلقُرَى ْ} الذين تقدم ذكرهم { َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَا ِئهَا ْ} ما يحصل به عبرة للمعتبرين‪،‬‬
‫وازدجار للظالمين‪ ،‬وموعظة للمتقين‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ جَاءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ ْ} أي‪ :‬ولقد جاءت هؤلء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى ما فيه‬
‫سعادتهم‪ ،‬وأيدهم اللّه بالمعجزات الظاهرة‪ ،‬والبينات المبينات للحق بيانا كامل‪ ،‬ولكنهم لم يفدهم‬
‫هذا‪ ،‬ول أغنى عنهم شيئا‪َ { ،‬فمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا َكذّبُوا مِنْ قَ ْبلُ ْ} أي‪ :‬بسبب تكذيبهم وردهم‬
‫الحق أول مرة‪ ،‬ما كان ليهديهم لليمان‪ ،‬جزاء لهم على ردهم الحق‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَنُقَّلبُ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ ْ} { َكذَِلكَ يَطْبَعُ اللّهُ‬
‫َأفْئِدَ َتهُمْ وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬
‫عَلَى قُلُوبِ ا ْلكَافِرِينَ ْ} عقوبة منه‪ .‬وما ظلمهم اللّه ولكنهم ظلموا أنفسهم‪.‬‬

‫ع ْهدٍ ْ} أي‪ :‬وما وجدنا لكثر المم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من‬
‫جدْنَا لَِأكْثَرِهِمْ مِنْ َ‬
‫{ َومَا وَ َ‬
‫عهد‪ ،‬أي‪ :‬من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها جميع العالمين‪ ،‬ول انقادوا لوامره التي‬
‫ساقها إليهم على ألسنة رسله‪.‬‬
‫سقِينَ ْ} أي‪ :‬خارجين عن طاعة اللّه‪ ،‬متبعين لهوائهم بغير هدى من اللّه‪،‬‬
‫جدْنَا َأكْثَرَ ُهمْ َلفَا ِ‬
‫ن وَ َ‬
‫{ وَإِ ْ‬
‫فاللّه تعالى امتحن العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب‪ ،‬وأمرهم باتباع عهده وهداه‪ ،‬فلم يمتثل‬
‫لمره إل القليل من الناس‪ ،‬الذين سبقت لهم من اللّه‪ ،‬سابقة السعادة‪.‬‬

‫وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى‪ ،‬واستكبروا عما جاءت به الرسل‪ ،‬فأحل اللّه بهم من‬
‫عقوباته المتنوعة ما أحل‪.‬‬

‫تتمة تفسير سورة العراف‬

‫‪.‬‬ ‫ن َبعْدِهِ ْم مُوسَى بِآيَا ِتنَا إِلَى فِرْعَوْنَ َومََلئِهِ‪...‬‬


‫ثُ ّم َبعَ ْثنَا مِ ْ‬ ‫‪171 - 103‬‬

‫‪.‬‬ ‫إلى آخر قصته‬

‫أي‪ :‬ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى الكليم‪ ،‬المام العظيم‪ ،‬والرسول الكريم‪ ،‬إلى قوم عتاة جبابرة‪ ،‬وهم‬

‫بأن‬ ‫ظَلمُوا ِبهَا‬


‫فَ َ‬ ‫ل العظيمة ما لم يشاهد له نظير‬
‫فرعون وملؤه‪ ،‬من أشرافهم وكبرائهم‪ ،‬فأراهم من آيات ا ّ‬

‫كيف‬ ‫سدِينَ‬
‫ف كَانَ عَا ِقبَةُ ا ْلمُفْ ِ‬
‫لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له فهو ظالم‪ ،‬بل استكبروا عنها‪ .‬فَانْظُ ْر َكيْ َ‬
‫أهلكهم الّ‪ ،‬وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة‪ ،‬بئس الرفد المرفود‪ ،‬وهذا مجمل فصله بقوله‪:‬‬

‫حين جاء إلى فرعون يدعوه إلى اليمان‪.‬‬ ‫ل مُوسَى‬


‫َوقَا َ‬

‫ل مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ أي‪ :‬إني رسول من مرسل عظيم‪ ،‬وهو رب العالمين‪ ،‬الشامل‬‫يَا فِرْعَوْنُ ِإنّي رَسُو ٌ‬
‫للعالم العلوي والسفلي‪ ،‬مربي جميع خلقه بأنواع التدابير اللهية‪ ،‬التي من جملتها أنه ل يتركهم سدى‪ ،‬بل يرسل‬
‫إليهم الرسل مبشرين ومنذرين‪ ،‬وهو الذي ل يقدر أحد أن يتجرأ عليه‪ ،‬ويدعي أنه أرسله ولم يرسله‪.‬‬

‫فإذا كان هذا شأنه‪ ،‬وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته‪ ،‬فحقيق علي أن ل أكذب عليه‪ ،‬ول أقول عليه إل الحق‪.‬‬
‫فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة‪ ،‬وأخذني أخذ عزيز مقتدر‪.‬‬

‫فهذا موجب لن ينقادوا له ويتبعوه‪ ،‬خصوصا وقد جاءهم ببينة من الّ واضحة على صحة ما جاء به من الحق‪،‬‬
‫فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته‪ ،‬ولها مقصودان عظيمان‪ .‬إيمانهم به‪ ،‬واتباعهم له‪ ،‬وإرسال بني إسرائيل‬
‫الشعب الذي فضله الّ على العالمين‪ ،‬أولد النبياء‪ ،‬وسلسلة يعقوب عليه السلم‪ ،‬الذي موسى عليه الصلة‬
‫والسلم واحد منهم‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ت مِنَ الصّادِقِينَ‬


‫ن كُ ْن َ‬
‫ت بِهَا ِإ ْ‬
‫ج ْئتَ بِآيَةٍ فَ ْأ ِ‬
‫ن ُكنْتَ ِ‬
‫إِ ْ‬ ‫فقال له فرعون‪:‬‬

‫أي‪ :‬حية ظاهرة تسعى‪ ،‬وهم يشاهدونها‪.‬‬ ‫ن ُمبِينٌ‬


‫ي ثُ ْعبَا ٌ‬
‫فَإِذَا هِ َ‬ ‫في الرض‬ ‫عصَاهُ‬
‫َ‬ ‫موسى‬ ‫فَأَ ْلقَى‬

‫من غير سوء‪ ،‬فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به‬ ‫ي َبيْضَاءُ لِلنّاظِرِينَ‬
‫َفإِذَا هِ َ‬ ‫من جيبه‬ ‫وَنـزعَ يَ َدهُ‬
‫موسى وصدقه‪ ،‬وأنه رسول رب العالمين‪ ،‬ولكن الذين ل يؤمنون لو جاءتهم كل آية ل يؤمنون حتى يروا العذاب الليم‪.‬‬
‫إِنّ َهذَا لَسَاحِرٌ‬ ‫حين بهرهم ما رأوا من اليات‪ ،‬ولم يؤمنوا‪ ،‬وطلبوا لها التأويلت الفاسدة‪:‬‬ ‫عوْنَ‬
‫قَالَ ا ْلمَل مِنْ َقوْمِ فِرْ َ‬ ‫فلهذا‬

‫أي‪ :‬ماهر في سحره‪.‬‬ ‫عَلِيمٌ‬

‫أي‪ :‬يريد أن يجليكم‬ ‫ضكُمْ‬


‫جكُمْ مِنْ أَرْ ِ‬
‫ن يُخْرِ َ‬
‫أَ ْ‬ ‫موسى بفعله هذا‬ ‫يُرِيدُ‬ ‫ثم خوفوا ضعفاء الحلم وسفهاء العقول‪ ،‬بأنه‬

‫أي‪ :‬إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى‪ ،‬وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم‪ ،‬فإن ما‬ ‫َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ‬ ‫عن أوطانكم‬
‫جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه‪ ،‬وإل دخل في عقول أكثر الناس‪.‬‬

‫أي‪ :‬احبسهما وأمهلهما‪ ،‬وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة‬ ‫ج ْه وَأَخَاهُ‬
‫أَرْ ِ‬ ‫فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون‪:‬‬
‫ويأتون بكل سحار عليم‪ ،‬أي‪ :‬يجيئون بالسحرة المهرة‪ ،‬ليقابلوا ما جاء به موسى‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا ل نخلفه نحن‬
‫ول أنت مكانا سوى‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫جمَ َع َكيْ َدهُ ثُمّ َأتَى‬


‫عوْنُ فَ َ‬
‫ن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى * َف َتوَلّى فِ ْر َ‬
‫ل َموْعِ ُدكُ ْم َيوْمُ الزّينَ ِة وََأ ْ‬
‫قَا َ‬

‫؟‬ ‫ن ُكنّا نَحْنُ ا ْلغَاِلبِينَ‬


‫قَالُوا ِإنّ َلنَا لجْرًا إِ ْ‬ ‫طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ‬ ‫عوْنَ‬
‫وَجَاءَ السّحَ َرةُ ِفرْ َ‬ ‫وقال هنا‪:‬‬

‫فوعدهم الجر والتقريب‪ ،‬وعلو المنـزلة عنده‪ ،‬ليجتهدوا‬ ‫وَِإنّكُمْ َلمِنَ ا ْل ُمقَ ّربِينَ‬ ‫لكم أجر‬ ‫نَعَمْ‬ ‫فرعون‪:‬‬ ‫قَالَ‬ ‫فـ‬
‫ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى‪.‬‬

‫يَا مُوسَى ِإمّا أَنْ‬ ‫على وجه التألي وعدم المبالة بما جاء به موسى‪:‬‬ ‫قَالُوا‬ ‫فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم‬

‫‪.‬‬ ‫ن نَحْنُ ا ْلمُ ْلقِينَ‬


‫ن نَكُو َ‬
‫وَِإمّا َأ ْ‬ ‫ما معك‬ ‫تُ ْلقِيَ‬

‫لجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى‪.‬‬ ‫أَ ْلقُوا‬ ‫موسى‪:‬‬ ‫قَالَ‬ ‫فـ‬

‫ستَرْهَبُوهُ ْم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ‬


‫س وَا ْ‬
‫عيُنَ النّا ِ‬
‫سَحَرُوا َأ ْ‬ ‫حبالهم وعصيهم‪ ،‬إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى‪ ،‬فـ‬ ‫فََلمّا َأ ْل َقوْا‬

‫لم يوجد له نظير من السحر‪.‬‬ ‫عظِيمٍ‬


‫َ‬

‫أي‪:‬‬ ‫مَا يَأْ ِفكُونَ‬ ‫جميع‬ ‫تَ ْلقَفُ‬ ‫حية تسعى‪ ،‬فـ‬ ‫فَإِذَا هِيَ‬ ‫َفأَ ْلقَاهَا‬ ‫حيْنَا إِلَى مُوسَى َأنْ أَ ْلقِ عَصَاكَ‬
‫وََأوْ َ‬
‫يكذبون به ويموهون‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ل مَا كَانُوا يَ ْعمَلُونَ‬


‫َو َبطَ َ‬ ‫أي‪ :‬تبين وظهر‪ ،‬واستعلن في ذلك المجمع‪،‬‬ ‫حقّ‬
‫َفوَقَعَ الْ َ‬

‫أي‪ :‬حقيرين قد اضمحل باطلهم‪ ،‬وتلشى سحرهم‪ ،‬ولم يحصل لهم‬ ‫وَا ْنقََلبُوا صَاغِرِينَ‬ ‫أي‪ :‬في ذلك المقام‬ ‫َفغُِلبُوا ُهنَاِلكَ‬
‫المقصود الذي ظنوا حصوله‪.‬‬

‫وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر‪ ،‬الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته‪ ،‬ما ل يعرفه غيرهم‪ ،‬فعرفوا أن هذه آية‬
‫ل ل يدان لحد بها‪.‬‬
‫عظيمة من آيات ا ّ‬
‫جدِينَ * قَالُوا آ َمنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َربّ مُوسَى وَهَارُونَ‬
‫وَأُ ْلقِيَ السّحَ َرةُ سَا ِ‬

‫أي‪ :‬وصدقنا بما بعث به موسى من اليات البينات‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ت مِنَ الصّادِقِينَ‬


‫ن كُ ْن َ‬
‫ت بِهَا ِإ ْ‬
‫ج ْئتَ بِآيَةٍ فَ ْأ ِ‬
‫ن ُكنْتَ ِ‬
‫إِ ْ‬ ‫فقال له فرعون‪:‬‬

‫أي‪ :‬حية ظاهرة تسعى‪ ،‬وهم يشاهدونها‪.‬‬ ‫ن ُمبِينٌ‬


‫ي ثُ ْعبَا ٌ‬
‫فَإِذَا هِ َ‬ ‫في الرض‬ ‫عصَاهُ‬
‫َ‬ ‫موسى‬ ‫فَأَ ْلقَى‬

‫من غير سوء‪ ،‬فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به‬ ‫ي َبيْضَاءُ لِلنّاظِرِينَ‬
‫َفإِذَا هِ َ‬ ‫من جيبه‬ ‫وَنـزعَ يَ َدهُ‬
‫موسى وصدقه‪ ،‬وأنه رسول رب العالمين‪ ،‬ولكن الذين ل يؤمنون لو جاءتهم كل آية ل يؤمنون حتى يروا العذاب الليم‪.‬‬

‫إِنّ َهذَا لَسَاحِرٌ‬ ‫حين بهرهم ما رأوا من اليات‪ ،‬ولم يؤمنوا‪ ،‬وطلبوا لها التأويلت الفاسدة‪:‬‬ ‫عوْنَ‬
‫قَالَ ا ْلمَل مِنْ َقوْمِ فِرْ َ‬ ‫فلهذا‬

‫أي‪ :‬ماهر في سحره‪.‬‬ ‫عَلِيمٌ‬

‫أي‪ :‬يريد أن يجليكم‬ ‫ضكُمْ‬


‫جكُمْ مِنْ أَرْ ِ‬
‫ن يُخْرِ َ‬
‫أَ ْ‬ ‫موسى بفعله هذا‬ ‫يُرِيدُ‬ ‫ثم خوفوا ضعفاء الحلم وسفهاء العقول‪ ،‬بأنه‬

‫أي‪ :‬إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى‪ ،‬وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم‪ ،‬فإن ما‬ ‫َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ‬ ‫عن أوطانكم‬
‫جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه‪ ،‬وإل دخل في عقول أكثر الناس‪.‬‬

‫أي‪ :‬احبسهما وأمهلهما‪ ،‬وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة‬ ‫ج ْه وَأَخَاهُ‬
‫أَرْ ِ‬ ‫فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون‪:‬‬
‫ويأتون بكل سحار عليم‪ ،‬أي‪ :‬يجيئون بالسحرة المهرة‪ ،‬ليقابلوا ما جاء به موسى‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا ل نخلفه نحن‬
‫ول أنت مكانا سوى‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫جمَ َع َكيْ َدهُ ثُمّ َأتَى‬


‫عوْنُ فَ َ‬
‫ن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى * َف َتوَلّى فِ ْر َ‬
‫ل َموْعِ ُدكُ ْم َيوْمُ الزّينَ ِة وََأ ْ‬
‫قَا َ‬

‫؟‬ ‫ن ُكنّا نَحْنُ ا ْلغَاِلبِينَ‬


‫قَالُوا ِإنّ َلنَا لجْرًا إِ ْ‬ ‫طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ‬ ‫عوْنَ‬
‫وَجَاءَ السّحَ َرةُ ِفرْ َ‬ ‫وقال هنا‪:‬‬

‫فوعدهم الجر والتقريب‪ ،‬وعلو المنـزلة عنده‪ ،‬ليجتهدوا‬ ‫وَِإنّكُمْ َلمِنَ ا ْل ُمقَ ّربِينَ‬ ‫لكم أجر‬ ‫نَعَمْ‬ ‫فرعون‪:‬‬ ‫قَالَ‬ ‫فـ‬
‫ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى‪.‬‬

‫يَا مُوسَى ِإمّا أَنْ‬ ‫على وجه التألي وعدم المبالة بما جاء به موسى‪:‬‬ ‫قَالُوا‬ ‫فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم‬

‫‪.‬‬ ‫ن نَحْنُ ا ْلمُ ْلقِينَ‬


‫ن نَكُو َ‬
‫وَِإمّا َأ ْ‬ ‫ما معك‬ ‫تُ ْلقِيَ‬

‫لجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى‪.‬‬ ‫أَ ْلقُوا‬ ‫موسى‪:‬‬ ‫قَالَ‬ ‫فـ‬

‫ستَرْهَبُوهُ ْم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ‬


‫س وَا ْ‬
‫عيُنَ النّا ِ‬
‫سَحَرُوا َأ ْ‬ ‫حبالهم وعصيهم‪ ،‬إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى‪ ،‬فـ‬ ‫فََلمّا َأ ْل َقوْا‬

‫لم يوجد له نظير من السحر‪.‬‬ ‫عظِيمٍ‬


‫َ‬
‫أي‪:‬‬ ‫مَا يَأْ ِفكُونَ‬ ‫جميع‬ ‫تَ ْلقَفُ‬ ‫حية تسعى‪ ،‬فـ‬ ‫فَإِذَا هِيَ‬ ‫َفأَ ْلقَاهَا‬ ‫حيْنَا إِلَى مُوسَى َأنْ أَ ْلقِ عَصَاكَ‬
‫وََأوْ َ‬
‫يكذبون به ويموهون‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ل مَا كَانُوا يَ ْعمَلُونَ‬


‫َو َبطَ َ‬ ‫أي‪ :‬تبين وظهر‪ ،‬واستعلن في ذلك المجمع‪،‬‬ ‫حقّ‬
‫َفوَقَعَ الْ َ‬

‫أي‪ :‬حقيرين قد اضمحل باطلهم‪ ،‬وتلشى سحرهم‪ ،‬ولم يحصل لهم‬ ‫وَا ْنقََلبُوا صَاغِرِينَ‬ ‫أي‪ :‬في ذلك المقام‬ ‫َفغُِلبُوا ُهنَاِلكَ‬
‫المقصود الذي ظنوا حصوله‪.‬‬

‫وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر‪ ،‬الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته‪ ،‬ما ل يعرفه غيرهم‪ ،‬فعرفوا أن هذه آية‬
‫ل ل يدان لحد بها‪.‬‬
‫عظيمة من آيات ا ّ‬

‫جدِينَ * قَالُوا آ َمنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َربّ مُوسَى وَهَارُونَ‬


‫وَأُ ْلقِيَ السّحَ َرةُ سَا ِ‬

‫أي‪ :‬وصدقنا بما بعث به موسى من اليات البينات‪.‬‬

‫وَإِنْ‬ ‫أي‪ :‬نحن مستحقون لها‪ ،‬فلم يشكروا الّ عليها‬ ‫قَالُوا َلنَا َه ِذهِ‬ ‫أي‪ :‬الخصب وإدرار الرزق‬ ‫سنَةُ‬
‫فَإِذَا جَا َءتْهُمُ الْحَ َ‬

‫أي‪ :‬يقولوا‪ :‬إنما جاءنا بسبب مجيء موسى‪ ،‬واتباع بني إسرائيل‬ ‫ن َمعَهُ‬
‫طيّرُوا ِبمُوسَى َومَ ْ‬
‫َي ّ‬ ‫أي‪ :‬قحط وجدب‬ ‫سّيئَةٌ‬
‫صبْهُمْ َ‬
‫تُ ِ‬
‫له‪.‬‬

‫أي‪ :‬بقضائه وقدرته‪ ،‬ليس كما قالوا‪ ،‬بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك‪ ،‬بل‬ ‫عنْدَ الِّ‬
‫أَل ِإّنمَا طَائِرُهُمْ ِ‬ ‫قال الّ تعالى‪:‬‬

‫أي‪ :‬فلذلك قالوا ما قالوا‪.‬‬ ‫َأ ْكثَرَهُ ْم ل َيعَْلمُونَ‬

‫ن آيَةٍ ِلتَسْحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُمؤْ ِمنِينَ‬


‫َمهْمَا تَ ْأتِنَا بِ ِه مِ ْ‬ ‫مبينين لموسى أنهم ل يزالون‪ ،‬ول يزولون عن باطلهم‪:‬‬ ‫وَقَالُوا‬

‫أي‪ :‬قد تقرر عندنا أنك ساحر‪ ،‬فمهما جئت بآية‪ ،‬جزمنا أنها سحر‪ ،‬فل نؤمن لك ول نصدق‪ ،‬وهذا غاية ما يكون من العناد‪ ،‬أن يبلغ‬
‫بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالت‪ ،‬سواء نـزلت عليهم اليات أم لم تنـزل‪.‬‬

‫فأكل‬ ‫وَالْجَرَادَ‬ ‫أي‪ :‬الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم‪ ،‬وأضر بهم ضررا كثيرا‬ ‫عَليْهِمُ الطّوفَانَ‬
‫فَأَرْسَ ْلنَا َ‬

‫ضفَا ِدعَ‬
‫وَال ّ‬ ‫قيل‪ :‬إنه الدباء‪ ،‬أي‪ :‬صغار الجراد‪ ،‬والظاهر أنه القمل المعروف‬ ‫وَا ْل ُقمّلَ‬ ‫ثمارهم وزروعهم‪ ،‬ونباتهم‬

‫إما أن يكون الرعاف‪ ،‬أو كما قال كثير من المفسرين‪ ،‬أن ماءهم الذي‬ ‫وَالدّمَ‬ ‫فملت أوعيتهم‪ ،‬وأقلقتهم‪ ،‬وآذتهم أذية شديدة‬
‫يشربون انقلب دما‪ ،‬فكانوا ل يشربون إل دما‪ ،‬ول يطبخون إل بدم‪.‬‬

‫ستَ ْكبَرُوا‬
‫فَا ْ‬ ‫أي‪ :‬أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين‪ ،‬وعلى أن ما جاء به موسى‪ ،‬حق وصدق‬ ‫آيَاتٍ ُمفَصّلتٍ‬

‫فلذلك عاقبهم الّ تعالى‪ ،‬بأن أبقاهم على الغي والضلل‪.‬‬ ‫َق ْومًا مُجْ ِرمِينَ‬ ‫في سابق أمرهم‬ ‫َوكَانُوا‬ ‫لما رأوا اليات‬

‫أي‪ :‬العذاب‪ ،‬يحتمل أن المراد به‪ :‬الطاعون‪ ،‬كما قاله كثير من المفسرين‪ ،‬ويحتمل أن يراد به ما تقدم‬ ‫وََلمّا وَقَعَ عََل ْيهِمُ الرّجْزُ‬

‫قَالُوا يَا مُوسَى ا ْدعُ َلنَا‬ ‫من اليات‪ :‬الطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪ ،‬فإنها رجز وعذاب‪ ،‬وأنهم كلما أصابهم واحد منها‬
‫ن َم َعكَ‬
‫ك وََلنُرْسِلَ ّ‬
‫عنّا الرّجْزَ َلُنؤْ ِمنَنّ َل َ‬
‫ن كَشَ ْفتَ َ‬
‫َلئِ ْ‬ ‫أي‪ :‬تشفعوا بموسى بما عهد الّ عنده من الوحي والشرع‪،‬‬ ‫عنْ َدكَ‬
‫عهِدَ ِ‬
‫َرّبكَ ِبمَا َ‬

‫وهم في ذلك كذبة‪ ،‬ل قصد لهم إل زوال ما حل بهم من العذاب‪ ،‬وظنوا إذا رفع ل يصيبهم غيره‪.‬‬ ‫بَنِي إِسْرَائِيلَ‬

‫إِذَا هُمْ‬ ‫ل بقاءهم إليها‪ ،‬وليس كشفا مؤبدا‪ ،‬وإنما هو مؤقت‪،‬‬


‫أي‪ :‬إلى مدة قدر ا ّ‬ ‫جزَ إِلَى أَجَلٍ هُ ْم بَاِلغُوهُ‬
‫ع ْنهُمُ الرّ ْ‬
‫شفْنَا َ‬
‫فََلمّا كَ َ‬

‫العهد الذي عاهدوا عليه موسى‪ ،‬ووعدوه باليمان به‪ ،‬وإرسال بني إسرائيل‪ ،‬فل آمنوا به ول أرسلوا معه بني إسرائيل‪ ،‬بل‬ ‫يَ ْن ُكثُونَ‬
‫استمروا على كفرهم يعمهون‪ ،‬وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين‪.‬‬

‫أي‪ :‬حين جاء الوقت المؤقت لهلكهم‪ ،‬أمر الّ موسى أن يسري ببني إسرائيل ليل وأخبره أن فرعون سيتبعهم هو‬ ‫فَا ْنتَ َق ْمنَا ِمنْهُمْ‬

‫إِنّ َهؤُلءِ لَشِ ْر ِذمَةٌ قَلِيلُونَ *‬ ‫يجمعون الناس ليتبعوا بني إسرائيل‪ ،‬وقالوا لهم‪:‬‬ ‫عوْنُ فِي ا ْلمَدَائِنِ حَاشِرِينَ‬ ‫فَأَرْسَلَ فِرْ َ‬ ‫وجنوده‬
‫ك وََأوْ َر ْثنَاهَا َبنِي إِسْرَائِيلَ *‬ ‫ن * َو ُكنُو ٍز َو َمقَامٍ كَرِي ٍم * كَذَِل َ‬
‫عيُو ٍ‬
‫جنّاتٍ وَ ُ‬ ‫جنَاهُ ْم مِنْ َ‬ ‫جمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَ ْ‬ ‫ن * وَِإنّا لَ َ‬ ‫وَِإنّهُمْ َلنَا َلغَا ِئظُو َ‬
‫ح ْينَا إِلَى مُوسَى أَنْ‬ ‫سيَهْدِين * فََأوْ َ‬ ‫ن مَعِي َربّي َ‬ ‫ل كَل ِإ ّ‬ ‫ج ْمعَانِ قَالَ َأصْحَابُ مُوسَى ِإنّا َلمُدْ َركُونَ * قَا َ‬ ‫فََأ ْتبَعُوهُ ْم مُشْرِقِينَ * فََلمّا تَرَاءى الْ َ‬
‫ن * ثُمّ َأغْرَ ْقنَا‬‫ج َمعِي َ‬
‫ن َمعَهُ أَ ْ‬
‫جيْنَا مُوسَى َومَ ْ‬ ‫ن * وََأنْ َ‬‫طوْدِ ا ْل َعظِي ِم * وَأَ ْزَلفْنَا ثَمّ الخَرِي َ‬‫ن كُلّ ِف ْرقٍ كَال ّ‬‫ض ِربْ ِبعَصَاكَ ا ْلبَحْرَ فَانفََلقَ َفكَا َ‬ ‫ا ْ‬

‫‪.‬‬ ‫الخَرِينَ‬

‫أي‪ :‬بسبب تكذيبهم بآيات الّ وإعراضهم عما دلت عليه من‬ ‫عنْهَا غَافِلِينَ‬
‫َفأَغْرَ ْقنَاهُمْ فِي ا ْليَ ّم بَِأنّهُ ْم كَ ّذبُوا بِآيَا ِتنَا َوكَانُوا َ‬ ‫وقال هنا‪:‬‬
‫الحق‪.‬‬

‫في الرض‪ ،‬أي‪ :‬بني إسرائيل الذين كانوا خدمة لل فرعون‪ ،‬يسومونهم سوء العذاب‬ ‫ض َعفُونَ‬
‫ن كَانُوا يُسْتَ ْ‬
‫وََأوْ َرثْنَا ا ْل َقوْمَ الّذِي َ‬

‫والمراد بالرض هاهنا‪ ،‬أرض مصر‪ ،‬التي كانوا فيها مستضعفين‪ ،‬أذلين‪ ،‬أي‪ :‬ملكهم الّ‬ ‫ض َومَغَا ِر َبهَا‬
‫مَشَا ِرقَ الرْ ِ‬ ‫أورثهم الّ‬

‫حين قال لهم موسى‪:‬‬ ‫صبَرُوا‬


‫ل ِبمَا َ‬
‫سنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫ت كَِلمَةُ َرّبكَ الْحُ ْ‬
‫َو َتمّ ْ‬ ‫جميعا‪ ،‬ومكنهم فيها اّلتِي بَا َركْنَا فِيهَا‬

‫‪.‬‬ ‫عبَا ِد ِه وَا ْلعَا ِقبَةُ لِ ْل ُمّتقِينَ‬


‫ن يَشَاءُ مِنْ ِ‬
‫صبِرُوا إِنّ ال ْرضَ لِّ يُو ِرثُهَا مَ ْ‬
‫لّ وَا ْ‬
‫س َتعِينُوا بِا ِ‬
‫اْ‬

‫ك ُبيُو ُتهُمْ‬
‫َفتِ ْل َ‬ ‫َومَا كَانُوا َيعْرِشُونَ‬ ‫من البنية الهائلة‪ ،‬والمساكن المزخرفة‬ ‫ن وَ َق ْومُهُ‬
‫عوْ ُ‬
‫صنَعُ فِرْ َ‬
‫ن يَ ْ‬
‫وَ َدمّرْنَا مَا كَا َ‬

‫‪.‬‬ ‫ك ليَةً ِل َقوْ ٍم َيعَْلمُونَ‬


‫خَا ِويَ ًة بِمَا ظََلمُوا إِنّ فِي ذَِل َ‬

‫أي‪ :‬اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك بفضائل عظيمة‪ ،‬ومناقب جليلة‪،‬‬ ‫طفَ ْي ُتكَ عَلَى النّاسِ‬
‫صَ‬‫يَا مُوسَى ِإنّي ا ْ‬

‫التي ل أجعلها‪ ،‬ول أخص بها إل أفضل الخلق‪.‬‬ ‫بِرِسَالتِي‬

‫خ ْذ مَا‬
‫فَ ُ‬ ‫إياك من غير واسطة‪ ،‬وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم‪ ،‬وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين‪،‬‬ ‫َوبِكَلمِي‬

‫ل على ما‬ ‫ن مِنَ الشّاكِرِينَ‬


‫َوكُ ْ‬ ‫من النعم‪ ،‬وخذ ما آتيتك من المر والنهي بانشراح صدر‪ ،‬وتلقه بالقبول والنقياد‪،‬‬ ‫آ َتيْ ُتكَ‬
‫خصك وفضلك‪.‬‬

‫ترغب النفوس في أفعال الخير‪ ،‬وترهبهم من أفعال‬ ‫عظَةً‬


‫َموْ ِ‬ ‫يحتاج إليه العباد‬ ‫يءٍ‬
‫ن كُلّ شَ ْ‬
‫ح مِ ْ‬
‫َوكَ َتبْنَا َلهُ فِي ال ْلوَا ِ‬

‫أي‪ :‬بجد واجتهاد على‬ ‫خذْهَا ِبقُ ّوةٍ‬


‫فَ ُ‬ ‫من الحكام الشرعية‪ ،‬والعقائد والخلق والداب‬ ‫يءٍ‬
‫ش ْ‬
‫َو َتفْصِيل ِلكُلّ َ‬ ‫الشر‪،‬‬
‫وهي الوامر الواجبة والمستحبة‪ ،‬فإنها أحسنها‪ ،‬وفي هذا دليل على أن أوامر الّ ‪ -‬في كل‬ ‫س ِنهَا‬
‫وَ ْأمُرْ َق ْو َمكَ يَأْخُذُوا بِأَحْ َ‬ ‫إقامتها‪،‬‬
‫شريعة ‪ -‬كاملة عادلة حسنة‪.‬‬

‫بعد ما أهلكهم الّ‪ ،‬وأبقى ديارهم عبرة بعدهم‪ ،‬يعتبر بها المؤمنون الموفقون المتواضعون‪.‬‬ ‫سقِينَ‬
‫سَأُرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ‬

‫الّذِينَ‬ ‫أي‪ :‬عن العتبار في اليات الفقية والنفسية‪ ،‬والفهم ليات الكتاب‬ ‫ن آيَاتِيَ‬
‫عْ‬‫سََأصْرِفُ َ‬ ‫وأما غيرهم‪ ،‬فقال عنهم‪:‬‬

‫أي‪ :‬يتكبرون على عباد الّ وعلى الحق‪ ،‬وعلى من جاء به‪ ،‬فمن كان بهذه الصفة‪ ،‬حرمه الّ خيرا‬ ‫حقّ‬
‫ض ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫يَ َت َكبّرُونَ فِي الرْ ِ‬
‫ل ما ينتفع به‪ ،‬بل ربما انقلبت عليه الحقائق‪ ،‬واستحسن القبيح‪.‬‬
‫كثيرا وخذله‪ ،‬ولم يفقه من آيات ا ّ‬

‫أي‪ :‬الهدى‬ ‫سبِيلَ الرّشْدِ‬


‫ن يَ َروْا َ‬
‫وَِإ ْ‬ ‫لعراضهم واعتراضهم‪ ،‬ومحادتهم لّ ورسوله‪،‬‬ ‫ل آيَ ٍة ل ُيؤْ ِمنُوا ِبهَا‬
‫ن يَ َروْا كُ ّ‬
‫وَإِ ْ‬

‫سبِيلَ‬
‫ن يَ َروْا َ‬
‫وَِإ ْ‬ ‫أي‪ :‬ل يسلكوه ول يرغبوا فيه‬ ‫ل يَتّخِذُوهُ‬ ‫والستقامة‪ ،‬وهو الصراط الموصل إلى الّ‪ ،‬وإلى دار كرامته‬

‫ك بَِأّنهُمْ كَ ّذبُوا‬
‫ذَِل َ‬ ‫والسبب في انحرافهم هذا النحراف‬ ‫سبِيل‬
‫يَتّخِذُوهُ َ‬ ‫أي‪ :‬الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء‬ ‫ا ْلغَيّ‬

‫فردهم ليات الّ‪ ،‬وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها ‪ -‬هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي‪،‬‬ ‫عنْهَا غَافِلِينَ‬
‫بِآيَا ِتنَا َوكَانُوا َ‬
‫وترك طريق الرشد ما أوجب‪.‬‬

‫العظيمة الدالة على صحة ما أرسلنا به رسلنا‪.‬‬ ‫ن كَ ّذبُوا بِآيَا ِتنَا‬


‫وَالّذِي َ‬

‫هَلْ‬ ‫لنها على غير أساس‪ ،‬وقد فقد شرطها وهو اليمان بآيات الّ‪ ،‬والتصديق بجزائه‬ ‫عمَاُلهُمْ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫ح ِب َ‬
‫وَِلقَاءِ الخِ َرةِ َ‬

‫فإن أعمال من ل يؤمن باليوم الخر‪ ،‬ل يرجو‬ ‫إِل مَا كَانُوا َيعْمَلُونَ‬ ‫في بطلن أعمالهم وحصول ضد مقصودهم‬ ‫يُجْ َزوْنَ‬
‫فيها ثوابا‪ ،‬وليس لها غاية تنتهي إليه‪ ،‬فلذلك اضمحلت وبطلت‪.‬‬

‫خوَارٌ‬
‫َلهُ ُ‬ ‫صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار‬ ‫حِليّهِمْ عِجْل جَسَدًا‬
‫ن َبعْ ِدهِ مِنْ ُ‬
‫وَاتّخَذَ َقوْ ُم مُوسَى مِ ْ‬
‫وصوت‪ ،‬فعبدوه واتخذوه إلها‪.‬‬

‫موسى‪ ،‬وذهب يطلبه‪ ،‬وهذا من سفههم‪ ،‬وقلة بصيرتهم‪ ،‬كيف اشتبه عليهم رب الرض‬ ‫هَذَا إَِل ُهكُ ْم وَإَِل ُه مُوسَى فنسي‬ ‫وقال‬
‫والسماوات‪ ،‬بعجل من أنقص المخلوقات؟"‬

‫أي‪ :‬وعدم الكلم‬ ‫أََل ْم يَ َروْا َأنّ ُه ل ُيكَّل ُمهُمْ‬ ‫ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ول الفعلية‪ ،‬ما يوجب أن يكون إلها‬

‫أي‪ :‬ل يدلهم طريقا دينيا‪ ،‬ول يحصل‬ ‫سبِيل‬


‫وَل يَهْدِيهِمْ َ‬ ‫نقص عظيم‪ ،‬فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد‪ ،‬الذي ل يتكلم‬
‫لهم مصلحة دنيوية‪ ،‬لن من المتقرر في العقول والفطر‪ ،‬أن اتخاذ إله ل يتكلم ول ينفع ول يضر من أبطل الباطل‪ ،‬وأسمج السفه‪ ،‬ولهذا‬

‫ل ما لم ينـزل به سلطانا‪ ،‬وفيها دليل على أن‬


‫حيث وضعوا العبادة في غير موضعها‪ ،‬وأشركوا با ّ‬ ‫اتّخَذُوهُ َوكَانُوا ظَاِلمِينَ‬ ‫قال‪:‬‬
‫من أنكر كلم الّ‪ ،‬فقد أنكر خصائص إلهية الّ تعالى‪ ،‬لن الّ ذكر أن عدم الكلم دليل على عدم صلحية الذي ل يتكلم لللهية‪.‬‬
‫أي‪ :‬من الهم والندم‬ ‫س ِقطَ فِي َأيْدِيهِمْ‬
‫ُ‬ ‫رجع موسى إلى قومه‪ ،‬فوجدهم على هذه الحال‪ ،‬وأخبرهم بضللهم ندموا و‬ ‫وََلمّا‬

‫فيدلنا عليه‪ ،‬ويرزقنا عبادته‪،‬‬ ‫حمْنَا َرّبنَا‬


‫قَالُوا َلئِنْ لَ ْم يَرْ َ‬ ‫فتنصلوا‪ ،‬إلى الّ وتضرعوا و‬ ‫وَرََأوْا َأّنهُمْ قَدْ ضَلّوا‬ ‫على فعلهم‪،‬‬

‫الذين خسروا الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫َلنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‬ ‫ما صدر منا من عبادة العجل‬ ‫َو َيغْفِرْ َلنَا‬ ‫ويوفقنا لصالح العمال‪،‬‬

‫أي‪ :‬ممتلئا غضبا وغيظا عليهم‪ ،‬لتمام غيرته عليه الصلة السلم‪ ،‬وكمال نصحه‬ ‫سفًا‬
‫ضبَانَ أَ ِ‬
‫غ ْ‬
‫وََلمّا رَجَ َع مُوسَى ِإلَى َق ْومِهِ َ‬

‫أي‪ :‬بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم‪ ،‬فإنها حالة تفضي إلى الهلك‬ ‫ن َبعْدِي‬
‫سمَا خََل ْفتُمُونِي مِ ْ‬
‫ل ِبئْ َ‬
‫قَا َ‬ ‫وشفقته‪،‬‬
‫البدي‪ ،‬والشقاء السرمدي‪.‬‬

‫أي‪:‬‬ ‫وَأَ ْلقَى ال ْلوَاحَ‬ ‫حيث وعدكم بإنـزال الكتاب‪ .‬فبادرتم ‪ -‬برأيكم الفاسد ‪ -‬إلى هذه الخصلة القبيحة‬ ‫ج ْلتُمْ َأمْرَ َربّكُمْ‬
‫أَعَ ِ‬

‫ضلّوا * أن ل َتتّ ِبعَن‬


‫مَا َم َن َعكَ ِإذْ رََأ ْيتَهُمْ َ‬ ‫وقال له‪:‬‬ ‫يَجُ ّرهُ إَِليْهِ‬ ‫هارون ولحيته‬ ‫وَأَخَ َذ بِرَ ْأسِ أَخِيهِ‬ ‫رماها من الغضب‬

‫ح َيتِي وَل‬
‫ل يَا ابْنَ أُ ّم ل تَأْخُ ْذ بِلِ ْ‬
‫قَا َ‬ ‫فـ‬ ‫سبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ‬
‫ح وَل تَّتبِعْ َ‬
‫اخُْل ْفنِي فِي َقوْمِي وََأصْلِ ْ‬ ‫لك بقولي‪:‬‬ ‫ص ْيتَ َأمْرِي‬
‫أَ َفعَ َ‬

‫هذا ترقيق لخيه‪ ،‬بذكر‬ ‫ا ْبنَ أُمّ‬ ‫هنا‬ ‫قَالَ‬ ‫و‬ ‫ل وَلَ ْم تَرْ ُقبْ َقوْلِي‬
‫ن َبنِي إِسْرَائِي َ‬
‫ن َتقُولَ َفرّ ْقتَ َبيْ َ‬
‫بِرَأْسِي ِإنّي خَشِيتُ َأ ْ‬

‫يَا َقوْمِ ِإّنمَا ُف ِت ْنتُمْ ِب ِه وَإِنّ َرّبكُمُ‬ ‫أي‪ :‬احتقروني حين قلت لهم‪:‬‬ ‫ضعَفُونِي‬
‫ستَ ْ‬
‫إِنّ ا ْل َقوْمَ ا ْ‬ ‫الم وحدها‪ ،‬وإل فهو شقيقه لمه وأبيه‪:‬‬

‫بنهرك لي‪،‬‬ ‫ش ِمتْ بِيَ العْدَاءَ‬


‫فَل تُ ْ‬ ‫أي‪ :‬فل تظن بي تقصيرا‬ ‫َوكَادُوا َيقْتُلُو َننِي‬ ‫حمَنُ فَاتّ ِبعُونِي وََأطِيعُوا َأمْرِي‬
‫الرّ ْ‬

‫وَل تَجْعَ ْلنِي مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ‬ ‫ومسك إياي بسوء‪ ،‬فإن العداء حريصون على أن يجدوا عليّ عثرة‪ ،‬أو يطلعوا لي على زلة‬
‫فتعاملني معاملتهم‪.‬‬

‫فندم موسى عليه السلم على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته‪ ،‬مما ظنه فيه من التقصير‪.‬‬

‫أي‪ :‬في وسطها‪ ،‬واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب‪،‬‬ ‫حمَ ِتكَ‬
‫وَأَدْخِ ْلنَا فِي رَ ْ‬ ‫هارون‬ ‫غفِرْ لِي وَلخِي‬
‫قَالَ َربّ ا ْ‬ ‫و‬
‫فإنها حصن حصين‪ ،‬من جميع الشرور‪ ،‬وثم كل الخير وسرور‪.‬‬

‫أي‪ :‬أرحم بنا من كل راحم‪ ،‬أرحم بنا من آبائنا‪ ،‬وأمهاتنا وأولدنا وأنفسنا‪.‬‬ ‫حمِينَ‬
‫حمُ الرّا ِ‬
‫وََأ ْنتَ أَرْ َ‬

‫حيَاةِ‬
‫ب مِنْ َرّبهِ ْم وَذِلّةٌ فِي الْ َ‬
‫ض ٌ‬
‫س َينَاُلهُمْ غَ َ‬
‫َ‬ ‫أي‪ :‬إلها‬ ‫خذُوا ا ْلعِجْلَ‬
‫ن اتّ َ‬
‫إِنّ الّذِي َ‬ ‫ل تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه‪:‬‬
‫قال ا ّ‬

‫كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره‪.‬‬ ‫ال ّدنْيَا‬

‫فكل مفتر على الّ‪ ،‬كاذب على شرعه‪ ،‬متقول عليه ما لم يقل‪ ،‬فإن له نصيبا من الغضب من الّ‪ ،‬والذل‬ ‫ك نَجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ‬
‫َوكَذَِل َ‬
‫في الحياة الدنيا‪ ،‬وقد نالهم غضب الّ‪ ،‬حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم‪ ،‬وأنه ل يرضى الّ عنهم إل بذلك‪ ،‬فقتل بعضهم بعضا‪ ،‬وانجلت‬
‫ثم تاب الّ عليهم بعد ذلك‪.‬‬ ‫المعركة عن كثير من القتلى‬

‫ن َبعْدِهَا‬
‫ثُ ّم تَابُوا مِ ْ‬ ‫من شرك وكبائر‪ ،‬وصغائر‬ ‫سّيئَاتِ‬
‫عمِلُوا ال ّ‬
‫وَالّذِينَ َ‬ ‫ولهذا ذكر حكما عاما يدخلون فيه هم وغيرهم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ل وبما أوجب الّ من اليمان به‪ ،‬ول يتم‬


‫با ّ‬ ‫وَآمنُوا‬ ‫بأن ندموا على ما مضى‪ ،‬وأقلعوا عنها‪ ،‬وعزموا على أن ل يعودوا‬
‫أي‪ :‬بعد هذه الحالة‪ ،‬حالة التوبة من‬ ‫ن َبعْدِهَا‬
‫إِنّ َرّبكَ مِ ْ‬ ‫اليمان إل بأعمال القلوب‪ ،‬وأعمال الجوارح المترتبة على اليمان‬

‫بقبول التوبة‪،‬‬ ‫رَحِيمٌ‬ ‫يغفر السيئات ويمحوها‪ ،‬ولو كانت قراب الرض‬ ‫َل َغفُورٌ‬ ‫السيئات والرجوع إلى الطاعات‪،‬‬
‫والتوفيق لفعال الخير وقبولها‪.‬‬

‫أَخَذَ‬ ‫أي‪ :‬سكن غضبه‪ ،‬وتراجعت نفسه‪ ،‬وعرف ما هو فيه‪ ،‬اشتغل بأهم الشياء عنده‪ ،‬فـ‬ ‫ضبُ‬
‫ن مُوسَى ا ْلغَ َ‬
‫س َكتَ عَ ْ‬
‫وََلمّا َ‬

‫أي‪ :‬فيها‬ ‫حمَةٌ‬


‫هُدًى وَرَ ْ‬ ‫أي‪ :‬مشتملة ومتضمنة‬ ‫وَفِي نُسْخَ ِتهَا‬ ‫التي ألقاها‪ ،‬وهي ألواح عظيمة المقدار‪ ،‬جليلة‬ ‫ال ْلوَاحَ‬
‫الهدى من الضللة‪ ،‬وبيان الحق من الباطل‪ ،‬وأعمال الخير وأعمال الشر‪ ،‬والهدى لحسن العمال‪ ،‬والخلق‪ ،‬والداب‪ ،‬ورحمة‬
‫وسعادة لمن عمل بها‪ ،‬وعلم أحكامها ومعانيها‪ ،‬ولكن ليس كل أحد يقبل هدى الّ ورحمته‪ ،‬وإنما يقبل ذلك وينقاد له‪ ،‬ويتلقاه بالقبول الذين‬

‫ل ول المقام بين يديه‪ ،‬فإنه ل يزداد بها إل عتوا ونفورا‬


‫أي‪ :‬يخافون منه ويخشونه‪ ،‬وأما من لم يخف ا ّ‬ ‫لِ َربّهِ ْم يَرْ َهبُونَ‬ ‫[هم]‬
‫ل فيها‪.‬‬ ‫وتقوم عليه حجة ا ّ‬

‫من خيارهم‪ ،‬ليعتذروا لقومهم‬ ‫سبْعِينَ رَجُل‬


‫َ‬ ‫منهم‬ ‫ختَارَ مُوسَى‬
‫اْ‬ ‫لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم‬ ‫و‬

‫فتجرأوا على الّ جراءة كبيرة‪،‬‬ ‫جهْرَةً‬


‫أَ ِرنَا الَّ َ‬ ‫عند ربهم‪ ،‬ووعدهم الّ ميقاتا يحضرون فيه‪ ،‬فلما حضروه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا موسى‪،‬‬

‫فصعقوا وهلكوا‪.‬‬ ‫ج َفةُ‬


‫أَخَ َذ ْتهُمُ الرّ ْ‬ ‫وأساءوا الدب معه‪ ،‬فـ‬

‫أن يحضروا ويكونون في‬ ‫شئْتَ أَهَْل ْك َتهُمْ مِنْ َقبْلُ‬


‫َربّ َلوْ ِ‬ ‫ل ويتبتل ويقول‬
‫فلم يزل موسى عليه الصلة والسلم‪ ،‬يتضرع إلى ا ّ‬

‫أي‪ :‬ضعفاء العقول‪ ،‬سفهاء الحلم‪ ،‬فتضرع إلى‬ ‫س َفهَاءُ ِمنّا‬


‫َأتُهِْل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ال ّ‬ ‫حالة يعتذرون فيها لقومهم‪ ،‬فصاروا هم الظالمين‬
‫الّ واعتذر بأن المتجرئين على الّ ليس لهم عقول كاملة‪ ،‬تردعهم عما قالوا وفعلوا‪ ،‬وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها النسان‪ ،‬ويخاف‬

‫أي‪:‬‬ ‫خيْرُ ا ْلغَافِرِينَ‬


‫ح ْمنَا َوَأنْتَ َ‬
‫غفِرْ َلنَا وَارْ َ‬
‫ن تَشَاءُ َأ ْنتَ وَِلّينَا فَا ْ‬
‫ن تَشَا ُء َوتَهْدِي مَ ْ‬
‫ل ِبهَا مَ ْ‬
‫ك تُضِ ّ‬
‫إِنْ هِيَ إِل ِف ْت َنتُ َ‬ ‫من ذهاب دينه فقال‪:‬‬
‫أنت خير من غفر‪ ،‬وأولى من رحم‪ ،‬وأكرم من أعطى وتفضل‪ ،‬فكأن موسى عليه الصلة والسلم‪ ،‬قال‪ :‬المقصود يا رب بالقصد الول‬
‫لنا كلنا‪ ،‬هو التزام طاعتك واليمان بك‪ ،‬وأن من حضره عقله ورشده‪ ،‬وتم على ما وهبته من التوفيق‪ ،‬فإنه لم يزل مستقيما‪ ،‬وأما من‬
‫ضعف عقله‪ ،‬وسفه رأيه‪ ،‬وصرفته الفتنة‪ ،‬فهو الذي فعل ما فعل‪ ،‬لذينك السببين‪ ،‬ومع هذا فأنت أرحم الراحمين‪ ،‬وخير الغافرين‪ ،‬فاغفر‬
‫لنا وارحمنا‪.‬‬

‫فأجاب الّ سؤاله‪ ،‬وأحياهم من بعد موتهم‪ ،‬وغفر لهم ذنوبهم‪.‬‬

‫من علم نافع‪ ،‬ورزق واسع‪ ،‬وعمل صالح‪.‬‬ ‫سنَةً‬


‫وَا ْكُتبْ َلنَا فِي هَ ِذهِ ال ّد ْنيَا حَ َ‬ ‫وقال موسى في تمام دعائه‬

‫ل لوليائه الصالحين من الثواب‪.‬‬


‫‪:‬وهي ما أعد ا ّ‬ ‫سنَةً‬
‫وَفِي الخِ َرةِ حَ َ‬

‫أي‪ :‬رجعنا مقرين بتقصيرنا‪ ،‬منيبين في جميع أمورنا‪.‬‬ ‫ِإنّا هُ ْدنَا إَِل ْيكَ‬

‫من‬ ‫يءٍ‬
‫س َعتْ كُلّ شَ ْ‬
‫ح َمتِي وَ ِ‬
‫وَرَ ْ‬ ‫ممن كان شقيا‪ ،‬متعرضا لسبابه‪،‬‬ ‫عَذَابِي أُصِيبُ ِب ِه مَنْ أَشَاءُ‬ ‫ل تعالى‬
‫ا ّ‬ ‫قَالَ‬
‫العالم العلوي والسفلي‪ ،‬البر والفاجر‪ ،‬المؤمن والكافر‪ ،‬فل مخلوق إل وقد وصلت إليه رحمة الّ‪ ،‬وغمره فضله وإحسانه‪ ،‬ولكن الرحمة‬

‫المعاصي‪ ،‬صغارها وكبارها‪.‬‬ ‫ن يَ ّتقُونَ‬


‫فَسََأ ْكُتبُهَا ِللّذِي َ‬ ‫الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والخرة‪ ،‬ليست لكل أحد‪ ،‬ولهذا قال عنها‪:‬‬

‫ل معرفة معناها‪ ،‬والعمل‬


‫ومن تمام اليمان بآيات ا ّ‬ ‫وَالّذِينَ ُه ْم بِآيَا ِتنَا ُي ْؤمِنُونَ‬ ‫الواجبة مستحقيها‬ ‫َويُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ‬
‫بمقتضاها‪ ،‬ومن ذلك اتباع النبي صلى ال عليه وسلم ظاهرا وباطنا‪ ،‬في أصول الدين وفروعه‪.‬‬
‫احتراز عن سائر النبياء‪ ،‬فإن المقصود بهذا محمد بن عبد الّ بن عبد المطلب صلى ال‬ ‫ي المّيّ‬
‫ن يَّتبِعُونَ الرّسُولَ الّنبِ ّ‬
‫الّذِي َ‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن اليمان بالنبي محمد صلى ال عليه وسلم شرط في دخولهم في اليمان‪ ،‬وأن المؤمنين به المتبعين‪،‬‬
‫ل لهم‪ ،‬ووصفه بالمي لنه من العرب المة المية‪ ،‬التي ل تقرأ ول تكتب‪ ،‬وليس عندها قبل‬ ‫هم أهل الرحمة المطلقة‪ ،‬التي كتبها ا ّ‬
‫القرآن كتاب‪.‬‬

‫باسمه وصفته‪ ،‬التي من أعظمها وأجلها‪ ،‬ما يدعو إليه‪ ،‬وينهى عنه‪ .‬وأنه‬ ‫عنْدَهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ‬
‫الّذِي يَجِدُونَ ُه َم ْكتُوبًا ِ‬

‫وهو كل ما عرف حسنه وصلحه ونفعه‪.‬‬ ‫يَأْمُرُهُ ْم بِا ْل َمعْرُوفِ‬

‫وهو‪ :‬كل ما عرف قبحه في العقول والفطر‪.‬‬ ‫َويَ ْنهَاهُمْ عَنِ ا ْل ُمنْكَرِ‬

‫فيأمرهم بالصلة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصوم‪ ،‬والحج‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬والحسان إلى الجار والمملوك‪ ،‬وبذل النفع لسائر الخلق‪،‬‬
‫والصدق‪ ،‬والعفاف‪ ،‬والبر‪ ،‬والنصيحة‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬وينهى عن الشرك بالّ‪ ،‬وقتل النفوس بغير حق‪ ،‬والزنا‪ ،‬وشرب ما يسكر العقل‪،‬‬
‫والظلم لسائر الخلق‪ ،‬والكذب‪ ،‬والفجور‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫من المطاعم‬ ‫طّيبَاتِ‬


‫يُحِلّ َلهُمُ ال ّ‬ ‫فأعظم دليل يدل على أنه رسول الّ‪ ،‬ما دعا إليه وأمر به‪ ،‬ونهى عنه‪ ،‬وأحله وحرمه‪ ،‬فإنه‬
‫والمشارب‪ ،‬والمناكح‪.‬‬

‫من المطاعم والمشارب والمناكح‪ ،‬والقوال والفعال‪.‬‬ ‫خبَا ِئثَ‬


‫َويُحَرّمُ عََل ْيهِمُ الْ َ‬

‫أي‪ :‬ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر‪ ،‬ل إصر فيه‪ ،‬ول أغلل‪ ،‬ول‬ ‫عَليْهِمْ‬
‫ع ْنهُمْ إِصْرَهُ ْم وَالغْللَ اّلتِي كَا َنتْ َ‬
‫َويَضَعُ َ‬
‫مشقات ول تكاليف ثقال‪.‬‬

‫وهو القرآن‪ ،‬الذي يستضاء به‬ ‫ل َمعَهُ‬


‫َونَصَرُو ُه وَاتّ َبعُوا النّورَ الّذِي أُنـز َ‬ ‫أي‪ :‬عظموه وبجلوه‬ ‫عزّرُوهُ‬
‫ن آ َمنُوا بِ ِه وَ َ‬
‫فَالّذِي َ‬

‫الظافرون بخير الدنيا والخرة‪ ،‬والناجون‬ ‫أُوَل ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ‬ ‫في ظلمات الشك والجهالت‪ ،‬ويقتدى به إذا تعارضت المقالت‪،‬‬
‫من شرهما‪ ،‬لنهم أتوا بأكبر أسباب الفلح‪.‬‬

‫وأما من لم يؤمن بهذا النبي المي‪ ،‬ويعزره‪ ،‬وينصره‪ ،‬ولم يتبع النور الذي أنـزل معه‪ ،‬فأولئك هم الخاسرون‪.‬‬

‫ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل‪ ،‬إلى اتباعه‪ ،‬وكان ربما توهم متوهم‪ ،‬أن الحكم مقصور عليهم‪ ،‬أتى بما يدل على العموم فقال‪:‬‬

‫أي‪ :‬عربيكم‪ ،‬وعجميكم‪ ،‬أهل الكتاب منكم‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫جمِيعًا‬


‫ل يَا َأّيهَا النّاسُ ِإنّي رَسُولُ الِّ إَِل ْيكُمْ َ‬
‫قُ ْ‬

‫يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية‪ ،‬وبأحكامه الشرعية الدينية التي من‬ ‫سمَاوَاتِ وَالرْضِ‬
‫الّذِي َل ُه مُ ْلكُ ال ّ‬
‫جملتها‪ :‬أن أرسل إليكم رسول عظيما يدعوكم إلى الّ وإلى دار كرامته‪ ،‬ويحذركم من كل ما يباعدكم منه‪ ،‬ومن دار كرامته‪.‬‬

‫أي‪:‬‬ ‫يُحْيِي َويُمِيتُ‬ ‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬ول تعرف عبادته إل من طريق رسله‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ل معبود بحق‪ ،‬إل ا ّ‬ ‫ل إِلَهَ إِل ُهوَ‬
‫من جملة تدابيره‪ :‬الحياء والماتة‪ ،‬التي ل يشاركه فيها أحد‪ ،‬الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء‪ ،‬التي من آمن بها‬
‫صدق الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم قطعا‪.‬‬
‫أي‪:‬‬ ‫لّ َوكَِلمَاتِهِ‬
‫ن بِا ِ‬
‫الّذِي ُيؤْمِ ُ‬ ‫إيمانا في القلب‪ ،‬متضمنا لعمال القلوب والجوارح‪.‬‬ ‫ي المّيّ‬
‫لّ وَرَسُوِلهِ الّنبِ ّ‬
‫فَآ ِمنُوا بِا ِ‬

‫في مصالحكم الدينية والدنيوية‪ ،‬فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم‬ ‫وَاّت ِبعُوهُ َلعَّلكُ ْم تَ ْهتَدُونَ‬ ‫آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله‪،‬‬
‫ضلل بعيدا‪.‬‬

‫أي‪ :‬يهدون به الناس في تعليمهم إياهم‬ ‫ق وَبِ ِه َيعْدِلُونَ‬


‫حّ‬‫ن بِالْ َ‬
‫َيهْدُو َ‬ ‫أي‪ :‬جماعة‬ ‫َومِنْ َقوْ ِم مُوسَى ُأمّةٌ‬ ‫‪159‬‬

‫صبَرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا‬


‫ن بِأَمْ ِرنَا َلمّا َ‬
‫جعَلْنَا ِمنْهُمْ َأ ِئمّ ًة َيهْدُو َ‬
‫وَ َ‬ ‫وفتواهم لهم‪ ،‬ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم‪ ،‬بقضاياهم‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬

‫وفي هذا فضيلة لمة موسى عليه الصلة والسلم‪ ،‬وأن الّ تعالى جعل منهم هداة يهدون بأمره‪.‬‬ ‫يُوقِنُونَ‬

‫وكأن التيان بهذه الية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم‪ ،‬فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل‪ ،‬المنافية للكمال‬
‫المناقضة للهداية‪ ،‬فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم‪ ،‬فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية‪.‬‬

‫أي‪ :‬اثنتي عشرة قبيلة متعارفة متوالفة‪ ،‬كل بني‬ ‫سبَاطًا ُأ َممًا‬
‫ا ْثنَتَيْ عَشْ َرةَ أَ ْ‬ ‫أي‪ :‬قسمناهم‬ ‫طعْنَاهُمُ‬
‫وَ َق ّ‬ ‫‪160‬‬
‫رجل من أولد يعقوب قبيلة‪.‬‬

‫أي‪ :‬طلبوا منه أن يدعو الّ تعالى‪ ،‬أن يسقيهم ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم‪،‬‬ ‫سقَاهُ َق ْومُهُ‬
‫ستَ ْ‬
‫حيْنَا إِلَى مُوسَى ِإذِ ا ْ‬
‫وََأوْ َ‬
‫وذلك لنهم ‪ -‬والّ أعلم ‪ -‬في محل قليل الماء‪.‬‬

‫يحتمل أنه حجر معين‪ ،‬ويحتمل أنه اسم جنس‪ ،‬يشمل أي حجر‬ ‫أَنِ اضْ ِربْ ِبعَصَاكَ الْحَجَرَ‬ ‫ل لموسى إجابة لطلبتهم‬
‫فأوحى ا ّ‬

‫جارية سارحة‪.‬‬ ‫ع ْينًا‬


‫ا ْث َنتَا عَشْ َرةَ َ‬ ‫أي‪ :‬انفجرت من ذلك الحجر‬ ‫فَا ْنبَجَسَتْ‬ ‫كان‪ ،‬فضربه‬

‫أي‪ :‬قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الثنتي عشرة‪ ،‬وجعل لكل منهم عينا‪ ،‬فعلموها‪ ،‬واطمأنوا‪،‬‬ ‫س مَشْ َربَهُمْ‬
‫قَدْ عَلِ َم كُلّ ُأنَا ٍ‬
‫واستراحوا من التعب والمزاحمة‪ ،‬والمخاصمة‪ ،‬وهذا من تمام نعمة الّ عليهم‪.‬‬

‫وهو لحم‬ ‫وَالسّ ْلوَى‬ ‫وهو الحلوى‪،‬‬ ‫عَليْهِمُ ا ْلمَنّ‬


‫وَأَنـز ْلنَا َ‬ ‫فكان يسترهم من حر الشمس‬ ‫َوظَلّ ْلنَا عََل ْيهِمُ ا ْل َغمَامَ‬
‫طير من أنواع الطيور وألذها‪ ،‬فجمع الّ لهم بين الظلل‪ ،‬والشراب‪ ،‬والطعام الطيب‪ ،‬من الحلوى واللحوم‪ ،‬على وجه الراحة والطمأنينة‪.‬‬

‫حين لم يشكروا الّ‪ ،‬ولم يقوموا بما أوجب الّ عليهم‪.‬‬ ‫ت مَا رَزَ ْقنَاكُ ْم وَمَا ظََلمُونَا‬
‫طّيبَا ِ‬
‫ن َ‬
‫كُلُوا مِ ْ‬ ‫وقيل لهم‪:‬‬

‫حيث فوتوها كل خير‪ ،‬وعرضوها للشر والنقمة‪ ،‬وهذا كان مدة لبثهم في التيه‪.‬‬ ‫سهُ ْم يَظِْلمُونَ‬
‫ن كَانُوا َأ ْنفُ َ‬
‫وََلكِ ْ‬

‫ش ْئتُمْ‬
‫ح ْيثُ ِ‬
‫َوكُلُوا ِمنْهَا َ‬ ‫أي‪ :‬ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا‪ ،‬وهي (إيلياء)‬ ‫سكُنُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ‬
‫وَإِذْ قِيلَ َلهُمُ ا ْ‬ ‫(‪)161‬‬
‫أي‪ :‬قرية كانت كثيرة الشجار‪ ،‬غزيرة الثمار‪ ،‬رغيدة العيش‪ ،‬فلذلك أمرهم الّ أن يأكلوا منها حيث شاءوا‪.‬‬

‫أي‪ :‬احطط عنا خطايانا‪ ،‬واعف عنا‪.‬‬ ‫حطّةٌ‬


‫ِ‬ ‫حين تدخلون الباب‪:‬‬ ‫وَقُولُوا‬

‫أي‪ :‬خاضعين لربكم مستكينين لعزته‪ ،‬شاكرين لنعمته‪ ،‬فأمرهم بالخضوع‪ ،‬وسؤال المغفرة‪ ،‬ووعدهم على‬ ‫وَادْخُلُوا ا ْلبَابَ سُجّدًا‬

‫من خير الدنيا والخرة‪ ،‬فلم يمتثلوا هذا‬ ‫سنِينَ‬


‫خطِيئَاتِكُمْ سَنـزيدُ ا ْلمُحْ ِ‬
‫َن ْغفِرْ َلكُمْ َ‬ ‫ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والجل فقال‪:‬‬
‫فقالوا بدل طلب‬ ‫غيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ‬
‫َقوْل َ‬ ‫أي‪ :‬عصوا الّ واستهانوا بأمره‬ ‫ن ظََلمُوا ِم ْنهُمْ‬
‫َفبَدّلَ الّذِي َ‬ ‫المر اللهي‪ ،‬بل‬

‫(حبة في شعيرة)‪ ،‬وإذا بدلوا القول ‪ -‬مع يسره وسهولته ‪ -‬فتبديلهم للفعل من باب أولى‪ ،‬ولهذا دخلوا‬ ‫حطّة‬
‫ِ‬ ‫المغفرة‪ ،‬وقولهم‪:‬‬
‫وهم يزحفون على أستاههم‪.‬‬

‫أي‪ :‬عذابا شديدا‪ ،‬إما الطاعون وإما غيره من العقوبات‬ ‫سمَاءِ‬


‫رِجْزًا مِنَ ال ّ‬ ‫ل وعصوه‬
‫حين خالفوا أمر ا ّ‬ ‫عَليْهِمُ‬
‫فَأَرْسَ ْلنَا َ‬
‫السماوية‪.‬‬

‫أي‪ :‬يخرجون من طاعة ال إلى معصيته‪ ،‬من غير ضرورة ألجأتهم ول‬ ‫ِبمَا كَانُوا َيظِْلمُونَ‬ ‫ل بعقابه وإنما كان ذلك‬
‫وما ظلمهم ا ّ‬
‫داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم‪.‬‬

‫أي‪ :‬على ساحله في حال تعديهم‬ ‫عنِ ا ْلقَ ْريَةِ اّلتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ ا ْلبَحْرِ‬
‫َ‬ ‫أي‪ :‬اسأل بني إسرائيل‬ ‫وَاسْأَ ْلهُمْ‬ ‫‪163‬‬
‫وعقاب الّ إياهم‪.‬‬

‫ل وامتحنهم‪ ،‬فكانت‬
‫وكان الّ تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ول يصيدوا فيه صيدا‪ ،‬فابتلهم ا ّ‬ ‫س ْبتِ‬
‫إِ ْذ َيعْدُونَ فِي ال ّ‬

‫أي‪ :‬كثيرة طافية على وجه البحر‪.‬‬ ‫س ْبتِهِمْ شُرّعًا‬


‫َيوْمَ َ‬ ‫الحيتان تأتيهم‬

‫ك َنبْلُوهُ ْم بِمَا‬
‫كَذَِل َ‬ ‫أي‪ :‬تذهب في البحر فل يرون منها شيئا‬ ‫ل تَ ْأتِيهِمْ‬ ‫أي‪ :‬إذا ذهب يوم السبت‬ ‫َويَوْ َم ل يَسْ ِبتُونَ‬

‫الّ‪ ،‬وأن تكون لهم هذه المحنة‪ ،‬وإل فلو لم يفسقوا‪ ،‬لعافاهم الّ‪ ،‬ولما عرضهم‬ ‫ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم‬ ‫سقُونَ‬
‫كَانُوا َيفْ ُ‬
‫للبلء والشر‪ ،‬فتحيلوا على الصيد‪ ،‬فكانوا يحفرون لها حفرا‪ ،‬وينصبون لها الشباك‪ ،‬فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك‪،‬‬
‫لم يأخذوها في ذلك اليوم‪ ،‬فإذا جاء يوم الحد أخذوها‪ ،‬وكثر فيهم ذلك‪ ،‬وانقسموا ثلث فرق‪:‬‬

‫(‪ )164‬معظمهم اعتدوا وتجرؤوا‪ ،‬وأعلنوا بذلك‪.‬‬

‫وفرقة أعلنت بنهيهم والنكار عليهم‪.‬‬

‫كأنهم يقولون‪ :‬ل‬ ‫لّ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَ ّذبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‬
‫لِ َم تَ ِعظُونَ َق ْومًا ا ُ‬ ‫وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم‪ ،‬ونهيهم لهم‪ ،‬وقالوا لهم‪:‬‬
‫فائدة في وعظ من اقتحم محارم الّ‪ ،‬ولم يصغ للنصيح‪ ،‬بل استمر على اعتدائه وطغيانه‪ ،‬فإنه ل بد أن يعاقبهم الّ‪ ،‬إما بهلك أو عذاب‬
‫شديد‪.‬‬

‫أي‪ :‬لنعذر فيهم‪.‬‬ ‫َمعْذِ َرةً إِلَى َرّبكُمْ‬ ‫فقال الواعظون‪ :‬نعظهم وننهاهم‬

‫أي‪ :‬يتركون ما هم فيه من المعصية‪ ،‬فل نيأس من هدايتهم‪ ،‬فربما نجع فيهم الوعظ‪ ،‬وأثر فيهم اللوم‪.‬‬ ‫وََلعَّلهُ ْم يَ ّتقُونَ‬

‫وهذا المقصود العظم من إنكار المنكر ليكون معذرة‪ ،‬وإقامة حجة على المأمور المنهي‪ ،‬ولعل الّ أن يهديه‪ ،‬فيعمل بمقتضى ذلك‬
‫المر‪ ،‬والنهي‪.‬‬

‫أي‪ :‬تركوا ما ذكروا به‪ ،‬واستمروا على غيهم واعتدائهم‪.‬‬ ‫فََلمّا نَسُوا مَا ُذكّرُوا بِهِ‬

‫وهكذا سنة الّ في عباده‪ ،‬أن العقوبة إذا نـزلت نجا منها المرون‬ ‫عنِ السّوءِ‬
‫ن َينْ َهوْنَ َ‬
‫الّذِي َ‬ ‫من العذاب‬ ‫جيْنَا‬
‫َأنْ َ‬
‫بالمعروف والناهون عن المنكر‪.‬‬
‫سقُونَ‬
‫بِمَا كَانُوا َيفْ ُ‬ ‫أي‪ :‬شديد‬ ‫ب بَئِيسٍ‬
‫ِبعَذَا ٍ‬ ‫وهم الذين اعتدوا في السبت‬ ‫ن ظََلمُوا‬
‫وَأَخَ ْذنَا الّذِي َ‬

‫فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلكهم‪ ،‬والظاهر أنهم كانوا‬ ‫لّ ُمهِْل ُكهُمْ‬
‫لِ َم تَ ِعظُونَ َق ْومًا ا ُ‬ ‫وأما الفرقة الخرى التي قالت للناهين‪:‬‬
‫من الناجين‪ ،‬لن الّ خص الهلك بالظالمين‪ ،‬وهو لم يذكر أنهم ظالمون‪.‬‬

‫فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت‪ ،‬ولن المر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية‪ ،‬إذا قام به البعض سقط عن‬

‫فأبدوا من‬ ‫لّ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَ ّذبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‬
‫لِ َم تَ ِعظُونَ َق ْومًا ا ُ‬ ‫الخرين‪ ،‬فاكتفوا بإنكار أولئك‪ ،‬ولنهم أنكروا عليهم بقولهم‪:‬‬
‫غضبهم عليهم‪ ،‬ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم‪ ،‬وأن الّ سيعاقبهم أشد العقوبة‪.‬‬

‫كُونُوا ِقرَ َدةً‬ ‫قول قدريا‪:‬‬ ‫قُ ْلنَا َلهُمْ‬ ‫أي‪ :‬قسوا فلم يلينوا‪ ،‬ول اتعظوا‪،‬‬ ‫عنْهُ‬
‫عمّا ُنهُوا َ‬
‫ع َتوْا َ‬
‫فََلمّا َ‬ ‫‪166‬‬

‫فانقلبوا بإذن الّ قردة‪ ،‬وأبعدهم الّ من رحمته‪ ،‬ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال‪:‬‬ ‫سئِينَ‬
‫خَا ِ‬

‫أي‪:‬‬ ‫ن يَسُومُهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ‬


‫عَليْهِمْ ِإلَى َيوْمِ ا ْل ِقيَامَ ِة مَ ْ‬
‫َل َيبْ َعثَنّ َ‬ ‫أي‪ :‬أعلم إعلما صريحا‪:‬‬ ‫وَإِ ْذ تَأَذّنَ َرّبكَ‬ ‫‪167‬‬
‫يهينهم‪ ،‬ويذلهم‪.‬‬

‫لمن تاب إليه وأناب‪ ،‬يغفر‬ ‫وَِإنّهُ َل َغفُورٌ رَحِيمٌ‬ ‫لمن عصاه‪ ،‬حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا‪.‬‬ ‫إِنّ َرّبكَ لَسَرِيعُ ا ْلعِقَابِ‬
‫ل بهم ما أوعدهم به‪ ،‬فل‬‫له الذنوب‪ ،‬ويستر عليه العيوب‪ ،‬ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات‪ ،‬ويثيبه عليها بأنواع المثوبات‪ ،‬وقد فعل ا ّ‬
‫علَمٌ‪.‬‬
‫يزالون في ذل وإهانة‪ ،‬تحت حكم غيرهم‪ ،‬ل تقوم لهم راية‪ ،‬ول ينصر لهم َ‬

‫مِ ْنهُمُ‬ ‫أي‪ :‬فرقناهم ومزقناهم في الرض بعد ما كانوا مجتمعين‪،‬‬ ‫ط ْعنَاهُمْ فِي الرْضِ ُأ َممًا‬
‫وَ َق ّ‬ ‫‪170 - 168‬‬

‫أي‪ :‬دون الصلح‪ ،‬إما مقتصدون‪ ،‬وإما ظالمون لنفسهم‪،‬‬ ‫َو ِمنْهُمْ دُونَ ذَِلكَ‬ ‫القائمون بحقوق الّ‪ ،‬وحقوق عباده‪،‬‬ ‫الصّالِحُونَ‬

‫أي‪ :‬بالعسر واليسر‪.‬‬ ‫سّيئَاتِ‬


‫ت وَال ّ‬
‫سنَا ِ‬
‫بِالْحَ َ‬ ‫على عادتنا وسنتنا‪،‬‬ ‫َوبََلوْنَاهُمْ‬

‫عما هم عليه مقيمون من الردى‪ ،‬يراجعون ما خلقوا له من الهدى‪ ،‬فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد‪ ،‬حتى‬ ‫جعُونَ‬
‫َلعَّلهُ ْم يَرْ ِ‬

‫وصار المرجع فيه إليهم‪ ،‬وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم‪،‬‬ ‫ا ْل ِكتَابُ‬ ‫بعدهم‬ ‫وَ ِرثُوا‬ ‫خلف من بعدهم خلف‪ .‬زاد شرهم‬
‫وتبذل لهم الموال‪ ،‬ليفتوا ويحكموا‪ ،‬بغير الحق‪ ،‬وفشت فيهم الرشوة‪.‬‬

‫وهذا قول خال من الحقيقة‪ ،‬فإنه ليس‬ ‫سيُ ْغفَرُ َلنَا‬


‫َ‬ ‫مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة‪:‬‬ ‫يَأْخُذُونَ عَرَضَ َهذَا ال ْدنَى َو َيقُولُونَ‬
‫استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة‪.‬‬

‫فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا‪ ،‬وعزموا على أن ل يعودوا‪ ،‬ولكنهم ‪ -‬إذا أتاهم عرض آخر‪ ،‬ورشوة أخرى ‪ -‬يأخذوه‪.‬‬

‫أََل ْم يُؤْخَذْ‬ ‫ل ثمنا قليل واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير‪ ،‬قال الّ [تعالى] في النكار عليهم‪ ،‬وبيان جراءتهم‪:‬‬
‫فاشتروا بآيات ا ّ‬

‫فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لهوائهم‪ ،‬وميل مع مطامعهم‪.‬‬ ‫حقّ‬
‫علَى الِّ إِل الْ َ‬
‫ن ل َيقُولُوا َ‬
‫عََل ْيهِ ْم مِيثَاقُ ا ْل ِكتَابِ َأ ْ‬

‫فليس عليهم فيه إشكال‪ ،‬بل قد َأ َتوْا أمرهم متعمدين‪ ،‬وكانوا في أمرهم مستبصرين‪،‬‬ ‫دَرَسُوا مَا فِيهِ‬ ‫الحال أنهم قد‬ ‫و‬

‫وهذا أعظم للذنب‪ ،‬وأشد للوم‪ ،‬وأشنع للعقوبة‪ ،‬وهذا من نقص عقولهم‪ ،‬وسفاهة رأيهم‪ ،‬بإيثار الحياة الدنيا على الخرة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ما حرم الّ عليهم‪ ،‬من المآكل التي تصاب‪ ،‬وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنـزل الّ‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫ن َيّتقُونَ‬
‫خيْرٌ لِلّذِي َ‬
‫وَالدّارُ الخِ َرةُ َ‬
‫من أنواع المحرمات‪.‬‬

‫أي‪ :‬أفل يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره‪ ،‬وما ينبغي اليثار عليه‪ ،‬وما هو أولى بالسعي إليه‪ ،‬والتقديم له‬ ‫أَفَل َت ْعقِلُونَ‬
‫على غيره‪ .‬فخاصية العقل النظر للعواقب‪.‬‬

‫وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع‪ ،‬يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟‬

‫أي‪ :‬يتمسكون به علما وعمل فيعلمون ما فيه من الحكام‬ ‫ن بِا ْل ِكتَابِ‬


‫سكُو َ‬
‫ن ُيمَ ّ‬
‫وَالّذِي َ‬ ‫ل بقوله‬
‫وإنما العقلء حقيقة من وصفهم ا ّ‬
‫والخبار‪ ،‬التي علمها أشرف العلوم‪.‬‬

‫ويعلمون بما فيها من الوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب‪ ،‬وأفراح الرواح‪ ،‬وصلح الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات‪ ،‬إقامة الصلة‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬ولهذا خصها ال بالذكر لفضلها‪ ،‬وشرفها‪ ،‬وكونها ميزان‬
‫اليمان‪ ،‬وإقامتها داعية لقامة غيرها من العبادات‪.‬‬

‫في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم‪ ،‬مصلحين لنفسهم‬ ‫ِإنّا ل نُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُصْلِحِينَ‬ ‫ولما كان عملهم كله إصلحا‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ولغيرهم‪.‬‬

‫وهذه الية وما أشبهها دلت على أن الّ بعث رسله عليهم الصلة والسلم بالصلح ل بالفساد‪ ،‬وبالمنافع ل بالمضار‪ ،‬وأنهم بعثوا‬
‫بصلح الدارين‪ ،‬فكل من كان أصلح‪ ،‬كان أقرب إلى اتباعهم‪.‬‬

‫حين امتنعوا من قبول ما في التوراة‪.‬‬ ‫جبَلَ َفوْ َقهُمْ‬


‫وَِإ ْذ نَ َت ْقنَا الْ َ‬ ‫ثم قال تعالى‪:‬‬ ‫‪171‬‬

‫خُذُوا مَا آ َتيْنَاكُ ْم ِبقُ ّوةٍ‬ ‫وقيل لهم‪:‬‬ ‫كََأنّ ُه ظُلّ ٌة َوظَنّوا َأنّ ُه وَاقِ ٌع بِهِمْ‬ ‫فألزمهم الّ العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل‪ ،‬فصار فوقهم‬

‫أي‪ :‬بجد واجتهاد‪.‬‬

‫إذا فعلتم ذلك‪.‬‬ ‫َلعَّلكُمْ َتّتقُونَ‬ ‫دراسة ومباحثة‪ ،‬واتصافا بالعمل به‬ ‫وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ‬

‫ن َتقُولُوا‬‫شهِ ْدنَا أَ ْ‬
‫ستُ بِ َرّبكُمْ قَالُوا بَلَى َ‬ ‫علَى َأ ْنفُسِهِمْ َألَ ْ‬ ‫شهَدَهُمْ َ‬ ‫ظهُورِهِمْ ذُ ّريّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫ن ُ‬ ‫ن بَنِي آدَ َم مِ ْ‬‫ك مِ ْ‬‫وَِإذْ أَخَذَ َرّب َ‬ ‫‪174- 172‬‬
‫ك ُنفَصّ ُ‬
‫ل‬ ‫ن * َوكَذَِل َ‬ ‫ن بَعْدِهِمْ أَ َفُتهْلِ ُكنَا بِمَا َفعَلَ ا ْلمُ ْبطِلُو َ‬
‫ل َو ُكنّا ُذ ّريّ ًة مِ ْ‬ ‫ك آبَاؤُنَا مِنْ َقبْ ُ‬
‫عنْ هَذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُوا ِإّنمَا أَشْ َر َ‬
‫َيوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا َ‬

‫‪.‬‬ ‫جعُونَ‬
‫ت وََلعَّلهُ ْم يَرْ ِ‬
‫اليَا ِ‬

‫أي‪ :‬أخرج من أصلبهم ذريتهم‪ ،‬وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا‬ ‫ظهُورِهِمْ ذُ ّريّ َتهُمْ‬
‫ن ُ‬
‫ن بَنِي آدَ َم مِ ْ‬
‫ك مِ ْ‬
‫وَِإذْ أَخَذَ َرّب َ‬ ‫يقول تعالى‪:‬‬
‫بعد قرن‪.‬‬

‫أي‪ :‬قررهم بإثبات ربوبيته‪ ،‬بما‬ ‫ت بِرَّبكُمْ‬


‫س ُ‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫علَى َأ ْنفُ ِ‬
‫شهَدَهُمْ َ‬
‫أَ ْ‬ ‫حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلب آبائهم‬ ‫و‬
‫أودعه في فطرهم من القرار‪ ،‬بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬بلى قد أقررنا بذلك‪ ،‬فإن الّ تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم‪.‬‬
‫ن َتقُولُوا َيوْمَ‬
‫شهِ ْدنَا أَ ْ‬
‫قَالُوا بَلَى َ‬ ‫فكل أحد فهو مفطور على ذلك‪ ،‬ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة‪ ،‬ولهذا‬

‫أي‪ :‬إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم‪ ،‬من أن الّ تعالى ربكم‪ ،‬خشية أن تنكروا يوم القيامة‪،‬‬ ‫ا ْل ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ هَذَا غَا ِفلِينَ‬
‫ل ما قامت عليكم‪ ،‬ول عندكم بها علم‪ ،‬بل أنتم غافلون عنها لهون‪.‬‬
‫فل تقروا بشيء من ذلك‪ ،‬وتزعمون أن حجة ا ّ‬

‫فاليوم قد انقطعت حجتكم‪ ،‬وثبتت الحجة البالغة لّ عليكم‪.‬‬

‫فحذونا حذوهم‪ ،‬وتبعناهم في باطلهم‪.‬‬ ‫ن َبعْدِهِمْ‬


‫ل وَ ُكنّا ذُ ّريّ ًة مِ ْ‬
‫ك آبَا ُؤنَا مِنْ َقبْ ُ‬
‫ِإنّمَا أَشْ َر َ‬ ‫أو تحتجون أيضا بحجة أخرى‪ ،‬فتقولون‪:‬‬

‫فقد أودع الّ في فطركم‪ ،‬ما يدلكم على أن ما مع آبائكم باطل‪ ،‬وأن الحق ما جاءت به الرسل‪ ،‬وهذا‬ ‫أَ َفُتهِْلكُنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُم ْبطِلُونَ‬
‫يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم‪ ،‬ويعلو عليه‪.‬‬

‫ل وبيناته‪ ،‬وآياته‬
‫نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين‪ ،‬ومذاهبهم الفاسدة ما يظنه هو الحق‪ ،‬وما ذاك إل لعراضه‪ ،‬عن حجج ا ّ‬
‫الفقية والنفسية‪ ،‬فإعراضه عن ذلك‪ ،‬وإقباله على ما قاله المبطلون‪ ،‬ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق‪ ،‬هذا هو الصواب‬
‫في تفسير هذه اليات‪.‬‬

‫ل الميثاق على ذرية آدم‪ ،‬حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم‪ ،‬فشهدوا بذلك‪ ،‬فاحتج عليهم بما‬‫وقد قيل‪ :‬إن هذا يوم أخذ ا ّ‬
‫أقروا به في ذلك الوقت على ظلمهم في كفرهم‪ ،‬وعنادهم في الدنيا والخرة‪ ،‬ولكن ليس في الية ما يدل على هذا‪ ،‬ول له مناسبة‪ ،‬ول‬
‫تقتضيه حكمة الّ تعالى‪ ،‬والواقع شاهد بذلك‪.‬‬

‫فإن هذا العهد والميثاق‪ ،‬الذي ذكروا‪ ،‬أنه حين أخرج الّ ذرية آدم من ظهره‪ ،‬حين كانوا في عالم كالذر‪ ،‬ل يذكره أحد‪ ،‬ول يخطر ببال‬
‫آدمي‪ ،‬فكيف يحتج الّ عليهم بأمر ليس عندهم به خبر‪ ،‬ول له عين ول أثر؟" ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫إلى ما أودع الّ في فطرهم‪ ،‬وإلى ما عاهدوا الّ عليه‪،‬‬ ‫وََلعَّلهُ ْم يَرْجِعُونَ‬ ‫أي‪ :‬نبينها ونوضحها‪،‬‬ ‫ل اليَاتِ‬
‫ك نُفَصّ ُ‬
‫َوكَذَِل َ‬
‫فيرتدعون عن القبائح‪.‬‬

‫شئْنَا لَرَ َف ْعنَاهُ ِبهَا وََلكِنّهُ‬


‫ن * وََلوْ ِ‬ ‫ن مِنَ ا ْلغَاوِي َ‬ ‫ش ْيطَانُ َفكَا َ‬
‫خ ِم ْنهَا فََأتْ َبعَهُ ال ّ‬‫وَاتْلُ عََل ْيهِمْ َنبَأَ الّذِي آ َتيْنَا ُه آيَاتِنَا فَانْسَلَ َ‬ ‫‪175-178‬‬
‫ن كَ ّذبُوا بِآيَا ِتنَا فَا ْقصُصِ ا ْل َقصَ َ‬
‫ص‬ ‫ك مَثَلُ ا ْل َقوْمِ الّذِي َ‬
‫حمِلْ عََليْ ِه يَ ْل َهثْ َأ ْو تَتْ ُركْ ُه يَ ْل َهثْ َذِل َ‬
‫ن تَ ْ‬‫ض وَاتّبَعَ َهوَاهُ َف َمثَلُ ُه َكمَثَلِ ا ْلكَ ْلبِ إِ ْ‬
‫أَخَْلدَ إِلَى ال ْر ِ‬
‫ن يُضِْللْ فَأُوَل ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‬ ‫ن يَهْدِ الُّ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَ ْ‬‫ن * مَ ْ‬ ‫ن كَ ّذبُوا بِآيَاتِنَا وََأ ْنفُسَهُ ْم كَانُوا َيظِْلمُو َ‬ ‫َلعَّلهُ ْم يَ َت َفكّرُونَ * سَاءَ َمثَل ا ْل َقوْمُ الّذِي َ‬

‫‪.‬‬

‫أي‪ :‬علمناه كتاب الّ‪ ،‬فصار العالم الكبير والحبر‬ ‫وَاتْلُ عََل ْيهِمْ َنبَأَ الّذِي آ َتيْنَا ُه آيَاتِنَا‬ ‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫النحرير‪.‬‬

‫أي‪ :‬انسلخ من التصاف الحقيقي بالعلم بآيات الّ‪ ،‬فإن العلم بذلك‪ ،‬يصير صاحبه متصفا بمكارم‬ ‫ش ْيطَانُ‬
‫خ ِم ْنهَا فََأ ْت َبعَهُ ال ّ‬
‫فَانْسَلَ َ‬
‫ل وراء ظهره‪ ،‬ونبذ الخلق التي يأمر بها‬
‫الخلق ومحاسن العمال‪ ،‬ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات‪ ،‬فترك هذا كتاب ا ّ‬
‫الكتاب‪ ،‬وخلعها كما يخلع اللباس‪.‬‬

‫فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان‪ ،‬أي‪ :‬تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين‪ ،‬وصار إلى أسفل سافلين‪ ،‬فأزه إلى المعاصي أزا‪.‬‬

‫بعد أن كان من الراشدين المرشدين‪.‬‬ ‫ن مِنَ ا ْلغَاوِينَ‬


‫َفكَا َ‬

‫بأن نوفقه للعمل بها‪ ،‬فيرتفع في الدنيا‬ ‫شئْنَا لَرَ َف ْعنَاهُ ِبهَا‬
‫وََلوْ ِ‬ ‫وهذا لن الّ تعالى خذله ووكله إلى نفسه‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪:‬‬
‫والخرة‪ ،‬فيتحصن من أعدائه‪.‬‬
‫وترك‬ ‫وَاّتبَعَ َهوَاهُ‬ ‫فعل ما يقتضي الخذلن‪ ،‬فَأَخْلَدَ إِلَى الرْضِ‪ ،‬أي‪ :‬إلى الشهوات السفلية‪ ،‬والمقاصد الدنيوية‪.‬‬ ‫وََلكِنّهُ‬

‫عَليْ ِه يَ ْلهَثْ َأ ْو َتتْرُكْ ُه يَ ْل َهثْ‬


‫حمِلْ َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫َكمَثَلِ ا ْلكَ ْلبِ إِ ْ‬ ‫في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها‪،‬‬ ‫َف َمثَلُهُ‬ ‫طاعة موله‪،‬‬
‫أي‪ :‬ل يزال لهثا في كل حال‪ ،‬وهذا ل يزال حريصا‪ ،‬حرصا قاطعا قلبه‪ ،‬ل يسد فاقته شيء من الدنيا‪.‬‬

‫بعد أن ساقها الّ إليهم‪ ،‬فلم ينقادوا لها‪ ،‬بل كذبوا بها وردوها‪ ،‬لهوانهم على الّ‪ ،‬واتباعهم‬ ‫ن كَ ّذبُوا بِآيَا ِتنَا‬
‫ك َمثَلُ ا ْل َقوْمِ الّذِي َ‬
‫ذَِل َ‬
‫لهوائهم‪ ،‬بغير هدى من الّ‪.‬‬

‫في ضرب المثال‪ ،‬وفي العبر واليات‪ ،‬فإذا تفكروا علموا‪ ،‬وإذا علموا عملوا‪.‬‬ ‫فَا ْقصُصِ ا ْلقَصَصَ َلعَّلهُ ْم َيتَ َفكّرُونَ‬

‫أي‪ :‬ساء وقبح‪ ،‬مثل من كذب بآيات الّ‪ ،‬وظلم نفسه بأنواع المعاصي‪،‬‬ ‫ن كَ ّذبُوا بِآيَاتِنَا وََأ ْنفُسَهُ ْم كَانُوا َيظِْلمُونَ‬
‫سَاءَ َمثَل ا ْل َقوْمُ الّذِي َ‬
‫ل آياته‪ ،‬يحتمل أن المراد به شخص معين‪ ،‬قد كان منه ما ذكره الّ‪ ،‬فقص الّ قصته تنبيها للعباد‪.‬‬ ‫فإن مثلهم مثل السوء‪ ،‬وهذا الذي آتاه ا ّ‬
‫ويحتمل أن المراد بذلك أنه اسم جنس‪ ،‬وأنه شامل لكل من آتاه الّ آياته فانسلخ منها‪.‬‬

‫وفي هذه اليات الترغيب في العمل بالعلم‪ ،‬وأن ذلك رفعة من الّ لصاحبه‪ ،‬وعصمة من الشيطان‪ ،‬والترهيب من عدم العمل به‪ ،‬وأنه‬
‫نـزول إلى أسفل سافلين‪ ،‬وتسليط للشيطان عليه‪ ،‬وفيه أن اتباع الهوى‪ ،‬وإخلد العبد إلى الشهوات‪ ،‬يكون سببا للخذلن‪.‬‬

‫بأن يوفقه للخيرات‪ ،‬ويعصمه من المكروهات‪ ،‬ويعلمه ما لم يكن‬ ‫ن يَهْدِ الُّ‬


‫مَ ْ‬ ‫ثم قال تعالى مبينا أنه المنفرد بالهداية والضلل‪:‬‬

‫َفأُوَل ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‬ ‫فيخذله ول يوفقه للخير‬ ‫ن يُضِْللِ‬


‫َومَ ْ‬ ‫حقا لنه آثر هدايته تعالى‪،‬‬ ‫َف ُهوَ ا ْل ُم ْهتَدِي‬ ‫يعلم‬
‫لنفسهم وأهليهم يوم القيامة‪ ،‬أل ذلك هو الخسران المبين‪.‬‬

‫سمَعُونَ‬
‫ن ل يَ ْ‬
‫ن ِبهَا وََلهُمْ آذَا ٌ‬
‫ن ل ُيبْصِرُو َ‬
‫عيُ ٌ‬
‫ن بِهَا وََلهُمْ َأ ْ‬
‫ن وَال ْنسِ َلهُمْ قُلُوبٌ ل َي ْفقَهُو َ‬
‫ج َهنّ َم َكثِيرًا مِنَ الْجِ ّ‬
‫وََلقَدْ ذَرَ ْأنَا لِ َ‬ ‫‪179‬‬

‫‪.‬‬ ‫ك كَال ْنعَا ِم بَلْ هُمْ َأضَلّ أُوَل ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ‬
‫بِهَا أُوَل ِئ َ‬

‫ن وَال ْنسِ‬
‫جهَنّ َم َكثِيرًا مِنَ الْجِ ّ‬
‫لِ َ‬ ‫أي‪ :‬أنشأنا وبثثنا‬ ‫وََلقَدْ ذَرَ ْأنَا‬ ‫يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين‪ ،‬المتبعين إبليس اللعين‪:‬‬

‫صارت البهائم أحسن حالة منهم‪.‬‬

‫أي‪ :‬ل يصل إليها فقه ول علم‪ ،‬إل مجرد قيام الحجة‪.‬‬ ‫ن ِبهَا‬
‫ب ل َي ْف َقهُو َ‬
‫َلهُمْ قُلُو ٌ‬

‫ما ينفعهم‪ ،‬بل فقدوا منفعتها وفائدتها‪.‬‬ ‫ن بِهَا‬


‫ن ل ُيبْصِرُو َ‬
‫عيُ ٌ‬
‫وََلهُمْ أَ ْ‬

‫سماعا يصل معناه إلى قلوبهم‪.‬‬ ‫ن ِبهَا‬


‫ن ل يَسْ َمعُو َ‬
‫وََلهُمْ آذَا ٌ‬

‫أي‪ :‬البهائم‪ ،‬التي فقدت العقول‪ ،‬وهؤلء آثروا ما يفنى على ما يبقى‪،‬‬ ‫كَال ْنعَامِ‬ ‫الذين بهذه الوصاف القبيحة‬ ‫أُوَل ِئكَ‬
‫فسلبوا خاصية العقل‪.‬‬

‫من البهائم‪ ،‬فإن النعام مستعملة فيما خلقت له‪ ،‬ولها أذهان‪ ،‬تدرك بها‪ ،‬مضرتها من منفعتها‪ ،‬فلذلك كانت أحسن‬ ‫بَلْ هُمْ َأضَلّ‬
‫حال منهم‪.‬‬
‫الذين غفلوا عن أنفع الشياء‪ ،‬غفلوا عن اليمان بالّ وطاعته وذكره‪.‬‬ ‫أُوَل ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ‬

‫خلقت لهم الفئدة والسماع والبصار‪ ،‬لتكون عونا لهم على القيام بأوامر الّ وحقوقه‪ ،‬فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود‪.‬‬

‫ل لجهنم وخلقهم لها‪ ،‬فخلقهم للنار‪ ،‬وبأعمال أهلها يعملون‪.‬‬


‫فهؤلء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ ا ّ‬

‫ل ومحبته‪ ،‬ولم يغفل عن الّ‪ ،‬فهؤلء‪ ،‬أهل الجنة‪ ،‬وبأعمال أهل‬


‫وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة الّ‪ ،‬وانصبغ قلبه باليمان با ّ‬
‫الجنة يعملون‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ن مَا كَانُوا يَ ْعمَلُونَ‬


‫سيُجْ َزوْ َ‬
‫سمَائِهِ َ‬
‫ن يُلْحِدُونَ فِي أَ ْ‬
‫سنَى فَادْعُو ُه ِبهَا وَذَرُوا الّذِي َ‬
‫سمَاءُ الْحُ ْ‬
‫وَلِّ ال ْ‬ ‫‪180‬‬

‫هذا بيان لعظيم جلله وسعة أوصافه‪ ،‬بأن له السماء الحسنى‪ ،‬أي‪ :‬له كل اسم حسن‪ ،‬وضابطه‪ :‬أنه كل اسم دال على صفة كمال‬
‫عظيمة‪ ،‬وبذلك كانت حسنى‪ ،‬فإنها لو دلت على غير صفة‪ ،‬بل كانت علما محضا لم تكن حسنى‪ ،‬وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة‬
‫كمال‪ ،‬بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح‪ ،‬لم تكن حسنى‪ ،‬فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها‪،‬‬
‫مستغرق لجميع معناها‪.‬‬

‫الدال على أن له علما محيطا عاما لجميع الشياء‪ ،‬فل يخرج عن علمه مثقال ذرة في الرض ول في السماء‪.‬‬ ‫العليم‬ ‫وذلك نحو‬

‫الدال على أن له رحمة عظيمة‪ ،‬واسعة لكل شيء‪.‬‬ ‫كالرحيم‬ ‫و‬

‫الدال على أن له قدرة عامة‪ ،‬ل يعجزها شيء‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫كالقدير‬ ‫و‬

‫وهذا شامل لدعاء العبادة‪ ،‬ودعاء المسألة‪ ،‬فيدعى في كل‬ ‫فَا ْدعُوهُ ِبهَا‬ ‫ومن تمام كونها "حسنى" أنه ل يدعى إل بها‪ ،‬ولذلك قال‪:‬‬
‫ي يا تواب‪ ،‬وارزقني يا‬
‫مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب‪ ،‬فيقول الداعي مثل اللّهم اغفر لي وارحمني‪ ،‬إنك أنت الغفور الرحيم‪ ،‬وتب عَلَ ّ‬
‫رزاق‪ ،‬والطف بي يا لطيف ونحو ذلك‪.‬‬

‫أي‪ :‬عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه‪ ،‬وحقيقة اللحاد‬ ‫ن مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ‬
‫سيُجْزَوْ َ‬
‫سمَائِهِ َ‬
‫ن يُلْحِدُونَ فِي أَ ْ‬
‫وَذَرُوا الّذِي َ‬ ‫وقوله‪:‬‬
‫الميل بها عما جعلت له‪ ،‬إما بأن يسمى بها من ل يستحقها‪ ،‬كتسمية المشركين بها للهتهم‪ ،‬وإما بنفي معانيها وتحريفها‪ ،‬وأن يجعل لها‬
‫ل ول رسوله‪ ،‬وإما أن يشبه بها غيرها‪ ،‬فالواجب أن يحذر اللحاد فيها‪ ،‬ويحذر الملحدون فيها‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح‬ ‫معنى ما أراده ا ّ‬
‫ل تسعة وتسعين اسما‪ ،‬من أحصاها دخل الجنة )‬ ‫عن النبي صلى ال عليه صلى ال عليه وسلم ( أن ّ‬

‫‪.‬‬ ‫ق وَبِ ِه َيعْدِلُونَ‬


‫حّ‬‫ن بِالْ َ‬
‫َومِمّنْ خََل ْقنَا ُأمّ ٌة َيهْدُو َ‬ ‫‪.‬وقوله‪:‬‬ ‫‪181‬‬

‫أي‪ :‬ومن جملة من خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها‪ ،‬مكملة لغيرها‪ ،‬يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق‪ ،‬فيعلمون الحق ويعملون به‪،‬‬
‫ويعلّمونه‪ ،‬ويدعون إليه وإلى العمل به‪.‬‬

‫بين الناس في أحكامهم إذا حكموا في الموال والدماء والحقوق والمقالت‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وهؤلء هم أئمة الهدى‪،‬‬ ‫َوبِ ِه يَعْدِلُونَ‬
‫ل عليهم باليمان والعمل الصالح‪ ،‬والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪ ،‬وهم الصديقون الذين‬
‫ومصابيح الدجى‪ ،‬وهم الذين أنعم ا ّ‬
‫مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة‪ ،‬وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله وعلو منـزلته‪ ،‬فسبحان من يختص برحمته من يشاء‪ ،‬والّ‬
‫ذو الفضل العظيم‪.‬‬

‫ح ِبهِ ْم‬
‫ن َكيْدِي َمتِينٌ * َأوََل ْم يَ َت َفكّرُوا مَا بِصَا ِ‬
‫ن * وَُأمْلِي َلهُمْ إِ ّ‬‫ح ْيثُ ل َيعَْلمُو َ‬
‫جهُ ْم مِنْ َ‬
‫سنَسْتَدْرِ ُ‬
‫ن كَ ّذبُوا بِآيَاتِنَا َ‬
‫وَالّذِي َ‬ ‫‪182-186‬‬
‫ن َيكُونَ َقدِ ا ْقتَ َربَ أَجَُلهُمْ‬ ‫ي ٍء وََأنْ عَسَى َأ ْ‬
‫لّ مِنْ شَ ْ‬ ‫خَلقَ ا ُ‬‫ض َومَا َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالرْ ِ‬ ‫جنّةٍ ِإنْ ُهوَ إِل نَذِي ٌر مُبِينٌ * َأوََل ْم يَ ْنظُرُوا فِي مََلكُوتِ ال ّ‬
‫مِنْ ِ‬

‫‪.‬‬ ‫ط ْغيَانِهِ ْم َيعْ َمهُونَ‬


‫ن يُضِْللِ الُّ فَل هَادِيَ لَ ُه َويَذَرُهُمْ فِي ُ‬
‫ن * مَ ْ‬
‫َفبِأَيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫جهُ ْم مِنْ‬
‫سنَسْتَدْرِ ُ‬
‫َ‬ ‫أي‪ :‬والذين كذبوا بآيات الّ الدالة على صحة ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من الهدى فردوها ولم يقبلوها‪.‬‬

‫بأن يدر لهم الرزاق‪.‬‬ ‫ث ل يَعَْلمُونَ‬


‫حيْ ُ‬
‫َ‬

‫أي‪ُ :‬أ ْمهُِلهُم حتى يظنوا أنهم ل يؤخذون ول يعاقبون‪ ،‬فيزدادون كفرا وطغيانا‪ ،‬وشرا إلى شرهم‪ ،‬وبذلك تزيد‬ ‫وَُأمْلِي َلهُمْ‬

‫أي‪ :‬قوي بليغ‪.‬‬ ‫ن َكيْدِي َمتِينٌ‬


‫إِ ّ‬ ‫عقوبتهم‪ ،‬ويتضاعف عذابهم‪ ،‬فيضرون أنفسهم من حيث ل يشعرون‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫أي‪َ :‬أوَ َل ْم يُ ْعمِلُوا أفكارهم‪ ،‬وينظروا‪ :‬هل في صاحبهم‬ ‫جنّةٍ‬


‫مِنْ ِ‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫حبِهِمْ‬
‫َأوَلَ ْم َي َتفَكّرُوا مَا بِصَا ِ‬
‫الذي يعرفونه ول يخفى عليهم من حاله شيء‪ ،‬هل هو مجنون؟ فلينظروا في أخلقه وهديه‪ ،‬ودله وصفاته‪ ،‬وينظروا في ما دعا إليه‪ ،‬فل‬
‫يجدون فيه من الصفات إل أكملها‪ ،‬ول من الخلق إل أتمها‪ ،‬ول من العقل والرأي إل ما فاق به العالمين‪ ،‬ول يدعو إل لكل خير‪ ،‬ول‬
‫ينهى إل عن كل شر‪.‬‬

‫أفبهذا يا أولي اللباب من جنة؟ أم هو المام العظيم والناصح المبين‪ ،‬والماجد الكريم‪ ،‬والرءوف الرحيم؟‬

‫أي‪ :‬يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب‪ ،‬ويحصل لهم الثواب‪.‬‬ ‫إِنْ ُهوَ إِل نَذِي ٌر مُبِينٌ‬ ‫ولهذا قال‪:‬‬

‫فإنهم إذا نظروا إليها‪ ،‬وجدوها أدلة دالة على توحيد ربها‪ ،‬وعلى ما له من صفات‬ ‫ت وَالرْضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َأوَلَ ْم َي ْنظُرُوا فِي مََلكُوتِ ال ّ‬
‫الكمال‪.‬‬

‫فإن جميع أجزاء العالم‪ ،‬يدل أعظم دللة على الّ وقدرته وحكمته‬ ‫يءٍ‬
‫لّ مِنْ شَ ْ‬
‫خَلقَ ا ُ‬
‫مَا َ‬ ‫كذلك لينظروا إلى جميع‬ ‫و‬
‫وسعة رحمته‪ ،‬وإحسانه‪ ،‬ونفوذ مشيئته‪ ،‬وغير ذلك من صفاته العظيمة‪ ،‬الدالة على تفرده بالخلق والتدبير‪ ،‬الموجبة لن يكون هو‬
‫المعبود المحمود‪ ،‬المسبح الموحد المحبوب‪.‬‬

‫أي‪ :‬لينظروا في خصوص حالهم‪ ،‬وينظروا لنفسهم قبل أن يقترب أجلهم‪ ،‬ويفجأهم‬ ‫ن َيكُونَ قَدِ ا ْقتَ َربَ أَجَُلهُمْ‬
‫وَأَنْ عَسَى أَ ْ‬ ‫وقوله‪:‬‬
‫الموت وهم في غفلة معرضون‪ ،‬فل يتمكنون حينئذ‪ ،‬من استدراك الفارط‪.‬‬

‫أي‪ :‬إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب الجليل‪ ،‬فبأي حديث يؤمنون به؟" أبكتب الكذب والضلل؟ أم بحديث‬ ‫َفبِأَيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ‬
‫كل مفتر دجال؟ ولكن الضال ل حيلة فيه‪ ،‬ول سبيل إلى هدايته‪.‬‬

‫يترددون‪ ،‬ل يخرجون منه ول‬ ‫أي‪ :‬متحيرين‬ ‫ط ْغيَانِهِ ْم َيعْ َمهُونَ‬
‫ضلِلِ الُّ فَل هَادِيَ لَ ُه َويَذَرُهُمْ فِي ُ‬
‫ن يُ ْ‬
‫مَ ْ‬ ‫ولهذا قال تعالى‬
‫يهتدون إلى حق‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫عنْدَ َربّي ل يُجَلّيهَا ِلوَ ْق ِتهَا إِل ُه َو َثقَُلتْ فِي ال ّ‬
‫ن مُرْسَاهَا ُقلْ ِإّنمَا عِ ْل ُمهَا ِ‬
‫عةِ َأيّا َ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ‬ ‫‪188 - 187‬‬

‫‪.‬‬ ‫س ل يَعَْلمُونَ‬
‫لّ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫عنْدَ ا ِ‬
‫عنْهَا ُقلْ ِإّنمَا عِ ْل ُمهَا ِ‬
‫حفِيّ َ‬
‫ض ل تَ ْأتِيكُمْ إِل بَ ْغتَ ًة يَسْأَلُو َنكَ كََأّنكَ َ‬
‫وَالرْ ِ‬

‫سنِيَ السّوءُ إِنْ َأنَا إِل نَذِي ٌر َوبَشِيرٌ‬


‫خيْ ِر َومَا مَ ّ‬
‫ت مِنَ الْ َ‬
‫ب لسْ َتكْثَ ْر ُ‬
‫علَمُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫لّ وََل ْو ُكنْتُ أَ ْ‬
‫قُلْ ل َأمِْلكُ ِل َنفْسِي َنفْعًا وَل ضَرّا إِل مَا شَاءَ ا ُ‬

‫‪.‬‬ ‫ِل َقوْ ٍم ُيؤْ ِمنُونَ‬


‫أي‪:‬‬ ‫ن مُرْسَاهَا‬
‫عنِ السّاعَةِ َأيّا َ‬
‫َ‬ ‫أي‪ :‬المكذبون لك‪ ،‬المتعنتون‬ ‫يَسْأَلُو َنكَ‬ ‫يقول تعالى لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫متى وقتها الذي تجيء به‪ ،‬ومتى تحل بالخلق؟‬

‫أي‪ :‬ل يظهرها لوقتها الذي قدر أن‬ ‫ل يُجَلّيهَا ِلوَ ْقتِهَا إِل ُهوَ‬ ‫أي‪ :‬إنه تعالى مختص بعلمها‪،‬‬ ‫عنْدَ َربّي‬
‫ع ْلمُهَا ِ‬
‫قُلْ ِإنّمَا ِ‬
‫تقوم فيه إل هو‪.‬‬

‫أي‪ :‬خفي علمها على أهل السماوات والرض‪ ،‬واشتد أمرها أيضا عليهم‪ ،‬فهم من الساعة‬ ‫سمَاوَاتِ وَالرْضِ‬
‫َثقَُلتْ فِي ال ّ‬
‫مشفقون‪.‬‬

‫أي‪ :‬فجأة من حيث ل تشعرون‪ ،‬لم يستعدوا لها‪ ،‬ولم يتهيأوا لقيامها‪.‬‬ ‫ل تَ ْأتِيكُمْ إِل َبغْتَةً‬

‫أي‪ :‬هم حريصون على سؤالك عن الساعة‪ ،‬كأنك مستحف عن السؤال عنها‪ ،‬ولم يعلموا أنك ‪ -‬لكمال‬ ‫ع ْنهَا‬
‫حفِيّ َ‬
‫ك كََأّنكَ َ‬
‫يَسْأَلُو َن َ‬
‫علمك بربك‪ ،‬وما ينفع السؤال عنه ‪ -‬غير مبال بالسؤال عنها‪ ،‬ول حريص على ذلك‪ ،‬فلم ل يقتدون بك‪ ،‬ويكفون عن الستحفاء عن هذا‬
‫السؤال الخالي من المصلحة المتعذر علمه‪ ،‬فإنه ل يعلمها نبي مرسل‪ ،‬ول ملك مقرب‪.‬‬

‫وهي من المور التي أخفاها ال عن الخلق‪ ،‬لكمال حكمته وسعة علمه‪.‬‬

‫فلذلك حرصوا على ما ل ينبغي الحرص عليه‪ ،‬وخصوصا مثل حال هؤلء‬ ‫س ل َيعَْلمُونَ‬
‫لّ وََلكِنّ َأ ْكثَرَ النّا ِ‬
‫عنْدَ ا ِ‬
‫ع ْلمُهَا ِ‬
‫قُلْ ِإنّمَا ِ‬
‫الذين يتركون السؤال عن الهم‪ ،‬ويدعون ما يجب عليهم من العلم‪ ،‬ثم يذهبون إلى ما ل سبيل لحد أن يدركه‪ ،‬ول هم مطالبون بعلمه‪.‬‬

‫فإني فقير مدبر‪ ،‬ل يأتيني خير إل من الّ‪ ،‬ول يدفع عني الشر إل هو‪ ،‬وليس لي من العلم إل‬ ‫قُلْ ل َأمِْلكُ ِل َنفْسِي َنفْعًا وَل ضَرّا‬
‫ل تعالى‪.‬‬ ‫ما علمني ا ّ‬

‫أي‪ :‬لفعلت السباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع‪،‬‬ ‫سنِيَ السّوءُ‬
‫خيْ ِر وَمَا مَ ّ‬
‫ستَ ْكثَ ْرتُ مِنَ الْ َ‬
‫وََل ْو كُ ْنتُ أَعَْلمُ ا ْل َغ ْيبَ ل ْ‬
‫ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه‪ ،‬لعلمي بالشياء قبل كونها‪ ،‬وعلمي بما تفضي إليه‪.‬‬

‫ولكني ‪ -‬لعدم علمي ‪ -‬قد ينالني ما ينالني من السوء‪ ،‬وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها‪ ،‬فهذا أدل دليل على أني ل علم لي‬
‫بالغيب‪.‬‬

‫أنذر العقوبات الدينية والدنيوية والخروية‪ ،‬وأبين العمال المفضية إلى ذلك‪ ،‬وأحذر منها‪.‬‬ ‫إِنْ َأنَا إِل نَذِيرٌ‬

‫بالثواب العاجل والجل‪ ،‬ببيان العمال الموصلة إليه والترغيب فيها‪ ،‬ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة‪،‬‬ ‫َوبَشِيرٌ‬
‫وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون‪ ،‬وهذه اليات الكريمات‪ ،‬مبينة جهل من يقصد النبي صلى ال عليه وسلم ويدعوه لحصول نفع أو دفع‬
‫ضر‪.‬‬

‫ل تعالى‪،‬‬
‫فإنه ليس بيده شيء من المر‪ ،‬ول ينفع من لم ينفعه الّ‪ ،‬ول يدفع الضر عمن لم يدفعه الّ عنه‪ ،‬ول له من العلم إل ما علمه ا ّ‬
‫وإنما ينفع من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة‪ ،‬وعمل بذلك‪ ،‬فهذا نفعه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الذي فاق نفع الباء والمهات‪،‬‬
‫والخلء والخوان بما حث العباد على كل خير‪ ،‬وحذرهم عن كل شر‪ ،‬وبينه لهم غاية البيان واليضاح‪.‬‬

‫خفِيفًا َفمَ ّرتْ بِهِ فََلمّا‬


‫حمْل َ‬
‫حمََلتْ َ‬ ‫جهَا ِليَسْكُنَ ِإَليْهَا َفَلمّا َتغَشّاهَا َ‬
‫ل ِمنْهَا َزوْ َ‬‫جعَ َ‬
‫ن َن ْفسٍ وَاحِ َد ٍة وَ َ‬
‫ُهوَ الّذِي خََل َقكُ ْم مِ ْ‬ ‫‪189-193‬‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ *‬ ‫جعَل َلهُ شُ َركَاءَ فِيمَا آتَا ُهمَا َف َتعَالَى الُّ َ‬ ‫ن مِنَ الشّاكِرِينَ * فََلمّا آتَا ُهمَا صَالِحًا َ‬ ‫ن آ َت ْيتَنَا صَالِحًا َل َنكُونَ ّ‬
‫عوَا الَّ َرّبهُمَا َلئِ ْ‬
‫َأ ْثقََلتْ دَ َ‬
‫سوَاءٌ‬ ‫ن تَدْعُوهُمْ ِإلَى ا ْلهُدَى ل َيتّ ِبعُوكُمْ َ‬ ‫ن * وَِإ ْ‬ ‫سهُمْ َينْصُرُو َ‬ ‫ن * وَل يَسْ َتطِيعُونَ َلهُ ْم نَصْرًا وَل َأ ْنفُ َ‬ ‫ش ْيئًا وَهُ ْم يُخَْلقُو َ‬
‫ن مَا ل يَخُْلقُ َ‬ ‫َأيُشْ ِركُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫ع ْوتُمُوهُمْ أَمْ َأنْتُمْ صَامِتُونَ‬


‫عََل ْيكُمْ أَ َد َ‬
‫وهو آدم أبو‬ ‫ح َدةٍ‬
‫ن َن ْفسٍ وَا ِ‬
‫مِ ْ‬ ‫أيها الرجال والنساء‪ ،‬المنتشرون في الرض على كثرتكم وتفرقكم‪.‬‬ ‫ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ‬ ‫أي‪:‬‬
‫البشر صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫أي‪ :‬خلق من آدم زوجته حواء لجل أن يسكن إليها لنها إذا كانت منه حصل بينهما من المناسبة والموافقة‬ ‫جهَا‬
‫جعَلَ ِم ْنهَا َزوْ َ‬
‫وَ َ‬
‫ما يقتضي سكون أحدهما إلى الخر‪ ،‬فانقاد كل منهما إلى صاحبه بزمام الشهوة‪.‬‬

‫خفِيفًا‪،‬‬
‫حمْل َ‬
‫حمََلتْ َ‬
‫َ‬ ‫أي‪ :‬تجللها مجامعا لها قدّر الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل‪[ ،‬وحينئذ]‬ ‫فََلمّا َتغَشّاهَا‬
‫وذلك في ابتداء الحمل‪ ،‬ل تحس به النثى‪ ،‬ول يثقلها‪.‬‬

‫به حين كبر في بطنها‪ ،‬فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد‪ ،‬وعلى خروجه حيا‪،‬‬ ‫َأ ْثقََلتْ‬ ‫استمرت به و‬ ‫فََلمّا‬

‫أي‪ :‬صالح الخلقة تامها‪ ،‬ل نقص فيه‬ ‫صَالِحًا‬ ‫ولدا‬ ‫ن آ َت ْيتَنَا‬
‫الَّ َرّبهُمَا َلئِ ْ‬ ‫فدعوا‬ ‫صحيحا‪ ،‬سالما ل آفة فيه [كذلك]‬

‫‪.‬‬ ‫ن مِنَ الشّاكِرِينَ‬


‫َل َنكُونَ ّ‬

‫ل شركاء في‬
‫أي‪ :‬جعل ّ‬ ‫جعَل َلهُ شُ َركَاءَ فِيمَا آتَا ُهمَا‬
‫َ‬ ‫على وفق ما طلبا‪ ،‬وتمت عليهما النعمة فيه‬ ‫فََلمّا آتَا ُهمَا صَالِحًا‬
‫ل بإيجاده والنعمة به‪ ،‬وأقرّ به أعين والديه‪َ ،‬فعَبّدَاه لغير الّ‪ .‬إما أن يسمياه بعبد غير الّ كـ "عبد الحارث" و "عبد‬
‫ذلك الولد الذي انفرد ا ّ‬
‫و "عبد الكعبة" ونحو ذلك‪ ،‬أو يشركا بالّ في العبادة‪ ،‬بعدما منّ الّ عليهما بما منّ من النعم التي ل يحصيها أحد من العباد‪.‬‬ ‫العزيز"‬

‫وهذا انتقال من النوع إلى الجنس‪ ،‬فإن أول الكلم في آدم وحواء‪ ،‬ثم انتقل إلى الكلم في الجنس‪ ،‬ول شك أن هذا موجود في الذرية‬
‫كثيرا‪ ،‬فلذلك قررهم الّ على بطلن الشرك‪ ،‬وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم‪ ،‬سواء كان الشرك في القوال‪ ،‬أم في الفعال‪ ،‬فإن الخالق‬
‫لهم من نفس واحدة‪ ،‬الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا‪ ،‬ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى‬
‫بعض‪ ،‬ويألفه ويلتذ به‪ ،‬ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والولد والنسل‪.‬‬

‫ثم أوجد الذرية في بطون المهات‪ ،‬وقتا موقوتا‪ ،‬تتشوف إليه نفوسهم‪ ،‬ويدعون الّ أن يخرجه سويا صحيحا‪ ،‬فأتم الّ عليهم النعمة‬
‫وأنالهم مطلوبهم‪.‬‬

‫أفل يستحق أن يعبدوه‪ ،‬ول يشركوا به في عبادته أحدا‪ ،‬ويخلصوا له الدين‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫ش ْيئًا وَهُ ْم يُخَْلقُونَ‬


‫يَخُْلقُ َ‬ ‫ل من ل‬
‫ولكن المر جاء على العكس‪ ،‬فأشركوا با ّ‬

‫‪.‬‬ ‫سهُمْ َينْصُرُونَ‬


‫نَصْرًا وَل َأ ْنفُ َ‬ ‫أي‪ :‬لعابديها‬ ‫ستَطِيعُونَ َلهُمْ‬
‫وَل يَ ْ‬

‫فإذا كانت ل تخلق شيئا‪ ،‬ول مثقال ذرة‪ ،‬بل هي مخلوقة‪ ،‬ول تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها‪ ،‬بل ول عن أنفسها‪ ،‬فكيف تتخذ‬
‫مع الّ آلهة؟ إن هذا إل أظلم الظلم‪ ،‬وأسفه السفه‪.‬‬

‫ع ْوُتمُوهُمْ َأمْ َأ ْنتُمْ صَا ِمتُونَ‬


‫عَليْكُمْ َأدَ َ‬
‫سوَاءٌ َ‬
‫إِلَى ا ْلهُدَى ل َيّتبِعُوكُمْ َ‬ ‫وإن تدعوا‪ ،‬أيها المشركون هذه الصنام‪ ،‬التي عبدتم من دون الّ‬

‫‪.‬‬

‫فصار النسان أحسن حالة منها‪ ،‬لنها ل تسمع‪ ،‬ول تبصر‪ ،‬ول تهدِي ول تُهدى‪ ،‬وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا‪،‬‬
‫جزم ببطلن إلهيتها‪ ،‬وسفاهة من عبدها‪.‬‬
‫ن ِبهَا‬
‫ل يَمْشُو َ‬
‫جٌ‬‫ن ُك ْنتُمْ صَادِقِينَ * أََلهُمْ أَرْ ُ‬
‫ستَجِيبُوا َلكُمْ إِ ْ‬
‫عبَادٌ َأ ْمثَاُلكُمْ فَا ْدعُوهُمْ فَ ْليَ ْ‬
‫ن مِنْ دُونِ الِّ ِ‬
‫ن تَدْعُو َ‬
‫إِنّ الّذِي َ‬ ‫‪196 - 194‬‬

‫‪.‬‬ ‫ن يَسْ َمعُونَ ِبهَا قُلِ ادْعُوا شُ َركَا َءكُ ْم ثُمّ كِيدُونِ فَل ُت ْنظِرُونِ‬
‫ن ِبهَا أَمْ َلهُمْ آذَا ٌ‬
‫ن ُيبْصِرُو َ‬
‫عيُ ٌ‬
‫ن بِهَا َأمْ َلهُمْ أَ ْ‬
‫أَمْ َلهُمْ َأيْ ٍد يَ ْبطِشُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫ن َوِليّيَ الُّ الّذِي نـزلَ ا ْل ِكتَابَ وَ ُه َو يَ َتوَلّى الصّالِحِينَ‬


‫إِ ّ‬

‫أي‪ :‬ل فرق بينكم‬ ‫عبَادٌ َأ ْمثَاُلكُمْ‬


‫ن مِنْ دُونِ الِّ ِ‬
‫ن تَدْعُو َ‬
‫إِنّ الّذِي َ‬ ‫وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للوثان‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬

‫فإن‬ ‫فَادْعُوهُمْ َف ْليَسْتَجِيبُوا َلكُمْ‬ ‫ل مملوكون‪ ،‬فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا‬
‫وبينهم‪ ،‬فكلكم عبيد ّ‬
‫استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم‪ ،‬وإل تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى‪ ،‬مفترون على الّ أعظم الفرية‪ ،‬وهذا ل يحتاج إلى التبيين فيه‪،‬‬
‫فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء‪،‬فليس لها أرجل تمشي بها‪ ،‬ول أيد تبطش بها‪ ،‬ول أعين‬
‫تبصر بها‪ ،‬ول آذان تسمع بها‪ ،‬فهي عادمة لجميع اللت والقوى الموجودة في النسان‪.‬‬

‫فإذا كانت ل تجيبكم إذا دعوتموها‪ ،‬وهي عباد أمثالكم‪ ،‬بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الشياء‪ ،‬فلي شيء عبدتموها‪.‬‬

‫أي‪ :‬اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي‪ ،‬من غير إمهال ول‬ ‫قُلِ ادْعُوا شُ َركَا َءكُ ْم ثُمّ كِيدُونِ فَل ُت ْنظِرُونِ‬
‫فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي‪.‬‬ ‫إنظار‬

‫الذي يتولني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار‪.‬‬ ‫ن َوِليّيَ الُّ‬


‫إِ ّ‬

‫الذي فيه الهدى والشفاء والنور‪ ،‬وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية‪.‬‬ ‫الّذِي نـزلَ ا ْلكِتَابَ‬

‫ن آ َمنُوا يُخْرِجُهُ ْم مِنَ الظُّلمَاتِ‬


‫لّ وَلِيّ الّذِي َ‬
‫ا ُ‬ ‫الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬ ‫وَ ُهوَ َي َتوَلّى الصّالِحِينَ‬

‫ل ولطف بهم‬
‫فالمؤمنون الصالحون ‪ -‬لما تولوا ربهم باليمان والتقوى‪ ،‬ولم يتولوا غيره ممن ل ينفع ول يضر ‪ -‬تولهم ا ّ‬ ‫إِلَى النّورِ‬

‫لّ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ‬


‫إِنّ ا َ‬ ‫وأعانهم على ما فيه الخير والمصلحة لهم‪ ،‬في دينهم ودنياهم‪ ،‬ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫آ َمنُوا‬

‫سمَعُوا‬
‫ن تَدْعُوهُمْ ِإلَى ا ْلهُدَى ل يَ ْ‬
‫ن * وَِإ ْ‬
‫سهُمْ َينْصُرُو َ‬
‫ن نَصْ َركُ ْم وَل َأ ْنفُ َ‬
‫س َتطِيعُو َ‬
‫ن مِنْ دُونِ ِه ل يَ ْ‬
‫ن تَ ْدعُو َ‬
‫وَالّذِي َ‬ ‫‪198,197‬‬

‫‪.‬‬ ‫َوتَرَاهُ ْم يَ ْنظُرُونَ ِإَل ْيكَ وَهُ ْم ل يُبْصِرُونَ‬

‫وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الصنام التي يعبدونها من دون الّ لشيء من العبادة‪ ،‬لنها ليس لها استطاعة ول اقتدار في نصر‬
‫أنفسهم‪ ،‬ول في نصر عابديها‪ ،‬وليس لها قوة العقل والستجابة‪.‬‬

‫فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد‪ ،‬وهي صور ل حياة فيها‪ ،‬فتراهم ينظرون إليك‪ ،‬وهم ل يبصرون حقيقة‪ ،‬لنهم صوروها على صور‬
‫الحيوانات من الدميين أو غيرهم‪ ،‬وجعلوا لها أبصارا وأعضاء‪ ،‬فإذا رأيتها قلت‪ :‬هذه حية‪ ،‬فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات ل حراك‬
‫بها‪ ،‬ول حياة‪ ،‬فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع الّ؟ ولي مصلحة أو نفع عكفوا عندها وتقربوا لها بأنواع العبادات؟‬

‫فإذا عرف هذا‪ ،‬عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها‪ ،‬لو اجتمعوا‪ ،‬وأرادوا أن يكيدوا من توله فاطر الرض والسماوات‪ ،‬متولي‬
‫ل واقتداره‪ ،‬وقوة من احتمى‬
‫أحوال عباده الصالحين‪ ،‬لم يقدروا على كيده بمثقال ذرة من الشر‪ ،‬لكمال عجزهم وعجزها‪ ،‬وكمال قوة ا ّ‬
‫بجلله وتوكل عليه‪.‬‬
‫أن الضمير يعود إلى المشركين المكذبين لرسول الّ صلى ال‬ ‫ك وَهُ ْم ل ُيبْصِرُونَ‬
‫َوتَرَاهُ ْم َي ْنظُرُونَ إَِل ْي َ‬ ‫وقيل‪ :‬إن معنى قوله‬
‫ل نظر اعتبار يتبين به الصادق من الكاذب‪ ،‬ولكنهم ل يبصرون حقيقتك وما يتوسمه‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول ا ّ‬
‫المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫عنِ الْجَاهِلِينَ‬


‫ف وََأعْرِضْ َ‬
‫خُذِ ا ْلعَ ْف َو وَ ْأمُرْ بِا ْلعُرْ ِ‬ ‫‪199‬‬

‫هذه الية جامعة لحسن الخلق مع الناس‪ ،‬وما ينبغي في معاملتهم‪ ،‬فالذي ينبغي أن يعامل به الناس‪ ،‬أن يأخذ العفو‪ ،‬أي‪ :‬ما سمحت به‬
‫أنفسهم‪ ،‬وما سهل عليهم من العمال والخلق‪ ،‬فل يكلفهم ما ل تسمح به طبائعهم‪ ،‬بل يشكر من كل أحد ما قابله به‪ ،‬من قول وفعل‬
‫جميل أو ما هو دون ذلك‪ ،‬ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم‪ ،‬ول يتكبر على الصغير لصغره‪ ،‬ول ناقص العقل لنقصه‪،‬‬
‫ول الفقير لفقره‪ ،‬بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم‪.‬‬

‫أي‪ :‬بكل قول حسن وفعل جميل‪ ،‬وخلق كامل للقريب والبعيد‪ ،‬فاجعل ما يأتي إلى الناس منك‪ ،‬إما تعليم علم‪ ،‬أو‬ ‫وَ ْأمُرْ بِا ْلعُرْفِ‬
‫حث على خير‪ ،‬من صلة رحم‪ ،‬أو بِرّ والدين‪ ،‬أو إصلح بين الناس‪ ،‬أو نصيحة نافعة‪ ،‬أو رأي مصيب‪ ،‬أو معاونة على بر وتقوى‪ ،‬أو‬
‫زجر عن قبيح‪ ،‬أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية‪ ،‬ولما كان ل بد من أذية الجاهل‪ ،‬أمر الّ تعالى أن يقابل الجاهل‬
‫بالعراض عنه وعدم مقابلته بجهله‪ ،‬فمن آذاك بقوله أو فعله ل تؤذه‪ ،‬ومن حرمك ل تحرمه‪ ،‬ومن قطعك فَصِ ْلهُ‪ ،‬ومن ظلمك فاعدل فيه‪.‬‬

‫وأما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين النس والجن‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬

‫ش ْيطَانِ‬
‫ف مِنَ ال ّ‬
‫ن ا ّت َقوْا إِذَا مَسّهُ ْم طَائِ ٌ‬
‫علِيمٌ * إِنّ الّذِي َ‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫ستَعِ ْذ بِالِّ ِإنّهُ َ‬
‫ن نـزغٌ فَا ْ‬
‫ش ْيطَا ِ‬
‫غّنكَ مِنَ ال ّ‬
‫وَِإمّا يَنـز َ‬ ‫‪200-202‬‬

‫‪.‬‬ ‫خوَا ُنهُ ْم َيمُدّو َنهُمْ فِي ا ْلغَيّ ثُ ّم ل ُيقْصِرُونَ‬


‫ن * وَإِ ْ‬
‫تَ َذكّرُوا فَإِذَا هُ ْم ُمبْصِرُو َ‬

‫أي‪ :‬تحس منه بوسوسة‪ ،‬وتثبيط عن الخير‪ ،‬أو حث على الشر‪ ،‬وإيعاز‬ ‫ن نـزغٌ‬
‫ش ْيطَا ِ‬
‫غّنكَ مِنَ ال ّ‬
‫يَنـز َ‬ ‫أي‪ :‬أي وقت‪ ،‬وفي أي حال‬

‫بنيتك وضعفك‪ ،‬وقوة‬ ‫عَلِيمٌ‬ ‫لما تقول‪.‬‬ ‫سمِيعٌ‬


‫َ‬ ‫أي‪ :‬التجئ واعتصم بالّ‪ ،‬واحتم بحماه فإنه‬ ‫ستَعِ ْذ بِالِّ‬
‫فَا ْ‬ ‫إليه‪.‬‬

‫إلى آخر السورة‪.‬‬ ‫قُلْ أَعُو ُذ بِ َربّ النّاسِ‬ ‫التجائك له‪ ،‬فسيحميك من فتنته‪ ،‬ويقيك من وسوسته‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬

‫ولما كان العبد ل بد أن يغفل وينال منه الشيطان‪ ،‬الذي ل يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته‪ ،‬ذكر تعالى علمة المتقين من الغاوين‪ ،‬وأن‬
‫المتقي إذا أحس بذنب‪ ،‬ومسه طائف من الشيطان‪ ،‬فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب ‪ -‬تذكر من أي باب ُأتِيَ‪ ،‬ومن أي مدخل دخل‬
‫الشيطان عليه‪ ،‬وتذكر ما أوجب الّ عليه‪ ،‬وما عليه من لوازم اليمان‪ ،‬فأبصر واستغفر الّ تعالى‪ ،‬واستدرك ما فرط منه بالتوبة‬
‫النصوح والحسنات الكثيرة‪ ،‬فرد شيطانه خاسئا حسيرا‪ ،‬قد أفسد عليه كل ما أدركه منه‪.‬‬

‫وأما إخوان الشياطين وأولياؤهم‪ ،‬فإنهم إذا وقعوا في الذنوب‪ ،‬ل يزالون يمدونهم في الغي ذنبا بعد ذنب‪ ،‬ول يقصرون عن ذلك‪،‬‬
‫فالشياطين ل تقصر عنهم بالغواء‪ ،‬لنها طمعت فيهم‪ ،‬حين رأتهم سلسي القياد لها‪ ،‬وهم ل يقصرون عن فعل الشر‪.‬‬

‫حمَةٌ ِل َقوْمٍ‬
‫ي مِنْ َربّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ َرّبكُ ْم وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫جتَ َبيْ َتهَا قُلْ ِإّنمَا َأّتبِعُ مَا يُوحَى إِلَ ّ‬
‫وَإِذَا لَ ْم تَ ْأتِهِ ْم بِآيَةٍ قَالُوا َلوْل ا ْ‬ ‫‪203‬‬

‫‪.‬‬ ‫ُيؤْ ِمنُونَ‬

‫أي ل يزال هؤلء المكذبون لك في تعنت وعناد‪ ،‬ولو جاءتهم اليات الدالة على الهدى والرشاد‪ ،‬فإذا جئتهم بشيء من اليات الدالة على‬
‫صدقك لم ينقادوا‪.‬‬

‫أي‪ :‬هل اخترت الية‪ ،‬فصارت الية الفلنية‪ ،‬أو‬ ‫ج َت َبيْ َتهَا‬
‫قَالُوا َلوْل ا ْ‬ ‫من آيات القتراح التي يعينونها‬ ‫وَإِذَا لَ ْم تَ ْأتِهِ ْم بِآيَةٍ‬
‫المعجزة الفلنية كأنك أنت المنـزل لليات‪ ،‬المدبر لجميع المخلوقات‪ ،‬ولم يعلموا أنه ليس لك من المر شيء‪ ،‬أو أن المعنى‪ :‬لول‬
‫اخترعتها من نفسك‪.‬‬
‫ل تعالى هو الذي ينـزل اليات ويرسلها على حسب ما اقتضاه‬
‫فأنا عبد متبع مدبّر‪ ،‬وا ّ‬ ‫ي مِنْ َربّي‬
‫قُلْ ِإنّمَا َأّتبِعُ مَا يُوحَى إِلَ ّ‬

‫القرآن‬ ‫هَذَا‬ ‫حمده‪ ،‬وطلبتْه حكمته البالغة‪ ،‬فإن أردتم آية ل تضمحل على تعاقب الوقات‪ ،‬وحجة ل تبطل في جميع النات‪ ،‬فـ‬

‫يستبصر به في جميع المطالب اللهية والمقاصد النسانية‪ ،‬وهو الدليل والمدلول فمن‬ ‫بَصَائِ ُر مِنْ َرّبكُمْ‬ ‫العظيم‪ ،‬والذكر الحكيم‬
‫تفكر فيه وتدبره‪ ،‬علم أنه تنـزيل من حكيم حميد ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬وبه قامت الحجة على كل من بلغه‪ ،‬ولكن‬

‫له من الشقاء‪ ،‬فالمؤمن مهتد بالقرآن‪ ،‬متبع‬ ‫حمَةٌ‬


‫وَرَ ْ‬ ‫له من الضلل‬ ‫هُدًى‬ ‫أكثر الناس ل يؤمنون‪ ،‬وإل فمن آمن‪ ،‬فهو‬
‫له‪ ،‬سعيد في دنياه وأخراه‪.‬‬

‫وأما من لم يؤمن به‪ ،‬فإنه ضال شقي‪ ،‬في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫حمُونَ‬
‫صتُوا َلعَّلكُ ْم تُرْ َ‬
‫س َت ِمعُوا لَ ُه وََأنْ ِ‬
‫وَإِذَا قُرِئَ ا ْلقُرْآنُ فَا ْ‬ ‫‪204‬‬

‫ل يتلى‪ ،‬فإنه مأمور بالستماع له والنصات‪ ،‬والفرق بين الستماع والنصات‪ ،‬أن النصات في‬
‫هذا المر عام في كل من سمع كتاب ا ّ‬
‫الظاهر بترك التحدث أو الشتغال بما يشغل عن استماعه‪.‬‬

‫وأما الستماع له‪ ،‬فهو أن يلقي سمعه‪ ،‬ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع‪ ،‬فإن من لزم على هذين المرين حين يتلى كتاب الّ‪ ،‬فإنه ينال‬
‫خيرا كثيرا وعلما غزيرا‪ ،‬وإيمانا مستمرا متجددا‪ ،‬وهدى متزايدا‪ ،‬وبصيرة في دينه‪ ،‬ولهذا رتب الّ حصول الرحمة عليهما‪ ،‬فدل ذلك‬
‫على أن من تُلِيَ عليه الكتاب‪ ،‬فلم يستمع له وينصت‪ ،‬أنه محروم الحظ من الرحمة‪ ،‬قد فاته خير كثير‪.‬‬

‫ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن‪ ،‬أن يستمع له وينصت في الصلة الجهرية إذا قرأ إمامه‪ ،‬فإنه مأمور بالنصات‪ ،‬حتى إن أكثر‬
‫العلماء يقولون‪ :‬إن اشتغاله بالنصات‪ ،‬أولى من قراءته الفاتحة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫ن مِنَ ا ْلغَافِلِينَ * إِنّ‬


‫ل وَل َتكُ ْ‬
‫ل بِا ْلغُ ُدوّ وَالصَا ِ‬
‫جهْ ِر مِنَ ا ْل َقوْ ِ‬
‫سكَ تَضَرّعًا وَخِيفَ ًة وَدُونَ الْ َ‬
‫وَا ْذكُرْ َرّبكَ فِي َنفْ ِ‬ ‫‪206 - 205‬‬

‫‪.‬‬ ‫عبَا َدتِ ِه َويُسَبّحُونَ ُه َولَ ُه يَسْجُدُونَ‬


‫ستَ ْكبِرُونَ عَنْ ِ‬
‫عنْدَ َرّبكَ ل يَ ْ‬
‫الّذِينَ ِ‬

‫الذكر لّ تعالى يكون بالقلب‪ ،‬ويكون باللسان‪ ،‬ويكون بهما‪ ،‬وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله‪ ،‬فأمر الّ عبده ورسوله محمدا أصل وغيره‬
‫تبعا‪ ،‬بذكر ربه في نفسه‪ ،‬أي‪ :‬مخلصا خاليا‪.‬‬

‫جلَ القلب منه‪ ،‬خوفا‬


‫في قلبك بأن تكون خائفا من الّ‪ ،‬وَ ِ‬ ‫وَخِيفَةً‬ ‫أي‪ :‬متضرعا بلسانك‪ ،‬مكررا لنواع الذكر‪،‬‬ ‫تَضَرّعًا‬
‫أن يكون عملك غير مقبول‪ ،‬وعلمة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلحه‪ ،‬والنصح به‪.‬‬

‫أول النهار‬ ‫بِا ْلغُ ُدوّ‬ ‫أي‪ :‬كن متوسطا‪ ،‬ل تجهر بصلتك‪ ،‬ول تخافت بها‪ ،‬وابتغ بين ذلك سبيل‪.‬‬ ‫جهْرِ مِنَ ا ْل َقوْلِ‬
‫وَدُونَ الْ َ‬

‫آخره‪ ،‬وهذان الوقتان لذكر ال فيهما مزية وفضيلة على غيرهما‪.‬‬ ‫وَالصَالِ‬

‫ل فأنساهم أنفسهم‪ ،‬فإنهم حرموا خير الدنيا والخرة‪ ،‬وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز في‬ ‫الذين نسوا ا ّ‬ ‫ن مِنَ ا ْلغَا ِفلِينَ‬
‫وَل َتكُ ْ‬
‫ذكره وعبوديته‪ ،‬وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الشتغال به‪ ،‬وهذه من الداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها‪ ،‬وهي‬
‫الكثار من ذكر الّ آناء الليل والنهار‪ ،‬خصوصا طَرَفَيِ النهار‪ ،‬مخلصا خاشعا متضرعا‪ ،‬متذلل ساكنا‪ ،‬وتواطئا عليه قلبه ولسانه‪ ،‬بأدب‬
‫ل ل يستجيب دعاء من قلب غافل له‪.‬‬‫ووقار‪ ،‬وإقبال على الدعاء والذكر‪ ،‬وإحضار له بقلبه وعدم غفلة‪ ،‬فإن ا ّ‬

‫ل ل يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة‪ ،‬ول‬


‫ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته‪ ،‬ملزمين لخدمته وهم الملئكة‪ ،‬فلتعلموا أن ا ّ‬

‫عنْ‬
‫ستَ ْكبِرُونَ َ‬
‫ك ل يَ ْ‬
‫عنْدَ َرّب َ‬
‫إِنّ الّذِينَ ِ‬ ‫ليتعزز بها من ذلة‪ ،‬وإنما يريد نفع أنفسكم‪ ،‬وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫عبَا َدتِ ِه َويُسَبّحُونَ ُه وَلَ ُه يَسْجُدُونَ‬


‫ِ‬
‫من الملئكة المقربين‪ ،‬وحملة العرش والكروبيين‪.‬‬ ‫عنْدَ َرّبكَ‬
‫إِنّ الّذِينَ ِ‬

‫الليل والنهار ل يفترون‪.‬‬ ‫سبّحُونَهُ‬


‫َويُ َ‬ ‫بل يذعنون لها وينقادون لوامر ربهم‬ ‫عبَا َدتِهِ‬
‫عنْ ِ‬
‫ستَ ْكبِرُونَ َ‬
‫ل يَ ْ‬

‫فليقتد العباد بهؤلء الملئكة الكرام‪ ،‬وليداوموا [على] عبادة الملك العلم‪.‬‬ ‫يَسْجُدُونَ‬ ‫وحده ل شريك له‬ ‫وَلَهُ‬

‫تم تفسير سورة العراف‬

‫ولّ الحمد والشكر والثناء‪ .‬وصلى الّ على محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬

You might also like