Professional Documents
Culture Documents
وهي مدنية
. ق كَرِيمٌ
عنْدَ َرّبهِ ْم وَ َم ْغفِ َرةٌ وَرِ ْز ٌ
حقّا َلهُمْ دَرَجَاتٌ ِ
ن يُقِيمُونَ الصّل َة َومِمّا رَزَ ْقنَاهُ ْم ُي ْن ِفقُونَ * أُوَل ِئكَ هُمُ ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ َ
الّذِي َ
أول بدر النفال هي الغنائم التي ينفلها الّ لهذه المة من أموال الكفار ،وكانت هذه اليات في هذه السورة قد نـزلت في قصة
غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين. ،فحصل بين بعض المسلمين فيها نـزاع ،فسألوا رسول الّ صلى ال عليه وسلم عنها،
لهم :النفال ل ورسوله يضعانها حيث شاءا ،فل اعتراض لكم على حكم الّ ورسوله .،بل عليكم إذا حكم الّ ورسوله أن ُقلْ
بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.. فَاتّقُوا الَّ ترضوا بحكمهما ،وتسلموا المر لهما .،وذلك داخل في قوله
أي :أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر ،بالتوادد والتحاب والتواصل..فبذلك تجتمع كلمتكم، وََأصْلِحُوا ذَاتَ َب ْينِكُمْ
ويزول ما يحصل -بسبب التقاطع -من التخاصم ،والتشاجر والتنازع.
ويدخل في إصلح ذات البين تحسين الخلق لهم ،والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء
ل ورسوله.،كما
فإن اليمان يدعو إلى طاعة ا ّ ن كُ ْنتُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ
لّ وَرَسُولَهُ ِإ ْ
وََأطِيعُوا ا َ والتدابر.،والمر الجامع لذلك كله قوله:
ل ورسوله فليس بمؤمن. أن من لم يطع ا ّ
ومن نقصت طاعته لّ ورسوله ،فذلك لنقص إيمانه،ولما كان اليمان قسمين :إيمانا كامل يترتب عليه المدح والثناء ،والفوز التام،
اللف واللم للستغراق لشرائع اليمان. ِإّنمَا ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ وإيمانا دون ذلك ذكر اليمان الكامل فقال:
ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم.،لن عَليْهِ ْم آيَاتُهُ زَا َد ْتهُمْ إِيمَانًا
وَِإذَا تُِل َيتْ َ
التدبر من أعمال القلوب ،ولنه ل بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه ،أو يتذكرون ما كانوا نسوه،أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير،
واشتياقا إلى كرامة ربهم،أو وجل من العقوبات ،وازدجارا عن المعاصي ،وكل هذا مما يزداد به اليمان.
أي :يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم يَ َت َوكّلُونَ وحده ل شريك له علَى َرّبهِمْ
وَ َ
ل تعالى سيفعل ذلك.
الدينية والدنيوية ،ويثقون بأن ا ّ
من فرائض ونوافل ،بأعمالها الظاهرة والباطنة ،كحضور القلب فيها ،الذي هو روح الصلة ولبها.، ن ُيقِيمُونَ الصّلةَ
الّذِي َ
النفقات الواجبة ،كالزكوات ،والكفارات ،والنفقة على الزوجات والقارب ،وما ملكت َو ِممّا رَ َز ْقنَاهُ ْم يُ ْن ِفقُونَ
أيمانهم.،والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.
لنهم جمعوا بين السلم واليمان ،بين العمال الباطنة حقّا
هُمُ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ َ الذين اتصفوا بتلك الصفات أُوَل ِئكَ
ل وحقوق عباده .وقدم تعالى أعمال القلوب ،لنها أصل لعمال الجوارح وأفضل والعمال الظاهرة ،بين العلم والعمل ،بين أداء حقوق ا ّ
منها.،وفيها دليل على أن اليمان ،يزيد وينقص ،فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها.
وهو ما أعد وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ لذنوبهم َومَ ْغفِ َرةٌ أي :عالية بحسب علو أعمالهم. عنْدَ َرّبهِمْ
َلهُمْ دَرَجَاتٌ ِ فقال:
الّ لهم في دار كرامته ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في اليمان -وإن دخل الجنة -فلن ينال ما نالوا من كرامة الّ التامة.
قدم تعالى -أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة -الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها ،لن من قام بها استقامت أحواله وصلحت
أعماله ،التي من أكبرها الجهاد في سبيله .فكما أن إيمانهم هو اليمان الحقيقي ،وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم الّ به.،كذلك أخرج الّ
بالحق الذي يحبه الّ تعالى ،وقد قدره وقضاه. بدر رسوله صلى ال عليه وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في
وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال.
فحين تبين لهم أن ذلك واقع ،جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى ال عليه وسلم في ذلك ،ويكرهون لقاء عدوهم ،كأنما يساقون
إلى الموت وهم ينظرون.
هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء ،ول كرهوا لقاء عدوهم.،وكذلك الذين عاتبهم الّ ،انقادوا للجهاد أشد
النقياد ،وثبتهم الّ ،وقيض لهم من السباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها.
وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام ،قافلة كبيرة.،فلما سمعوا برجوعها من الشام،
ندب النبي صلى ال عليه وسلم الناس.،فخرج معه ثلثمائة ،وبضعة عشر رجل معهم سبعون بعيرا ،يعتقبون عليها ،ويحملون عليها
ع ّدةٍ وافرة من السلح والخيل والرجال ،يبلغ عددهم قريبا من
متاعهم.،فسمعت بخبرهم قريش ،فخرجوا لمنع عيرهم ،في عَدَ ٍد كثير و ُ
اللف.
فوعد الّ المؤمنين إحدى الطائفتين ،إما أن يظفروا بالعير ،أو بالنفير.،فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين ،ولنها غير ذات شوكة.،ولكن
ل تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا.ا ّ
أي :يستأصل أهل الباطل ،ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم. َويَ ْقطَعَ دَابِرَ ا ْلكَافِرِينَ
بما يقيم من الدلة والشواهد َويُ ْبطِلَ ا ْلبَاطِلَ بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه.، حقّ
ِليُحِقّ الْ َ
ل بهم.
فل يبالي ا ّ وََل ْو كَرِهَ ا ْلمُجْرِمُونَ على بطلنه
ن بِهِ
طمَئِ ّ
جعََلهُ الُّ إِل بُشْرَى وَِل َت ْ ن * َومَا َ ف مِنَ ا ْلمَل ِئكَ ِة مُرْدِفِي َ
ستَجَابَ َلكُمْ َأنّي مُمِ ّدكُ ْم بِأَلْ ٍ ستَغِيثُونَ َرّبكُمْ فَا ْإِ ْذ تَ ْ 14 - 9
سمَا ِء مَاءً ِل ُيطَهّ َركُ ْم بِ ِه َويُذْهِبَ
عَليْكُ ْم مِنَ ال ّ حكِيمٌ * إِ ْذ ُيغَشّيكُمُ الّنعَاسَ َأمَنَ ًة ِمنْ ُه َويُنـزلُ َ عزِيزٌ َ عنْدِ الِّ إِنّ الَّ َقُلُو ُبكُمْ َومَا النّصْرُ إِل مِنْ ِ
ن آ َمنُوا سَُأ ْلقِي فِي ُقلُوبِ ن وَِليَ ْر ِبطَ عَلَى قُلُوبِكُ ْم َويُ َثّبتَ بِهِ ال ْقدَامَ * إِ ْذ يُوحِي َرّبكَ ِإلَى ا ْلمَل ِئكَةِ َأنّي مَ َعكُمْ َف َثبّتُوا الّذِي َ ش ْيطَا ِ
ع ْنكُمْ رِجْزَ ال ّ
َ
لّ وَرَسُولَهُ فَإِنّ الَّ شَدِيدُ ن يُشَا ِققِ ا َ لّ وَرَسُولَ ُه َومَ ْ ل َبنَانٍ * َذِلكَ بَِأّنهُمْ شَاقّوا ا َ عنَاقِ وَاضْ ِربُوا ِم ْنهُمْ كُ ّ عبَ فَاضْ ِربُوا َف ْوقَ ال ْ ن كَفَرُوا الرّ ْ
الّذِي َ
ستَجَابَ َلكُمْ
فَا ْ أي :اذكروا نعمة الّ عليكم ،لما قارب التقاؤكم بعدوكم ،استغثتم بربكم ،وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم
وأغاثكم بعدة أمور.:
ل يغالبه مغالب ،بل هو القهار ،الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة إِنّ الَّ عَزِيزٌ عدَ ٍد ول عُدَدٍ..
فالنصر بيد الّ ،ليس بكثرة َ
[أي] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل ،ويكون ُيغَشّيكُمُ ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنـزل عليكم نعاسا
ومن ذلك :أنه أنـزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث ،وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه.
فإن الرض كانت سهلة دهسة َوُيثَّبتَ بِهِ القْدَامَ أي :يثبتها فإن ثبات القلب ،أصل ثبات البدن، وَِليَ ْر ِبطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ
فلما نـزل عليها المطر تلبدت ،وثبتت به القدام.
الذي هو أعظم جند لكم عليهم،فإن الّ إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب عبَن َكفَرُوا الرّ ْ
سَُأ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِي َ
ل أكتافهم.
الكافرين ،لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم ا ّ
وهذا خطاب ،إما للملئكة الذين أوحى ال إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر،أو للمؤمنين
يشجعهم الّ ،ويعلمهم كيف يقتلون المشركين ،وأنهم ل يرحمونهم،وذلك لنهم شاقوا ال ورسوله أي :حاربوهما وبارزوهما بالعداوة.
ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم. لّ وَرَسُوَلهُ فَإِنّ الَّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ
ن يُشَا ِققِ ا َ
َومَ ْ
وفي هذه القصة من آيات الّ العظيمة ما يدل على أن ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم رسول الّ حقا.
ل وعدهم وعدا ،فأنجزهموه.
منها :أن ا ّ
ل للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من السباب،وفيها العتناء العظيم بحال عباده المؤمنين ،وتقييض السباب التي
ومنها :إجابة دعوة ا ّ
بها ثبت إيمانهم ،وثبتت أقدامهم ،وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.
يأمر الّ تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة اليمانية ،والقوة في أمره ،والسعي في جلب السباب المقوية للقلوب والبدان،ونهاهم عن
بل اثبتوا لقتالهم ،واصبروا على جلدهم ،فإن في ذلك نصرة لدين الّ ،وقوة فَل ُتوَلّوهُمُ ال ْدبَارَ واقتراب بعضهم من بعض،
لقلوب المؤمنين ،وإرهابا للكافرين.
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر ،كما وردت بذلك الحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده
بهذا الوعيد الشديد.
ومفهوم الية :أن المتحرف للقتال ،وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى ،ليكون أمكن له في القتال ،وأنكى لعدوه ،فإنه ل بأس بذلك،
لنه لم يول دبره فارا ،وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه ،أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته ،أو ليخدعه بذلك ،أو غير ذلك من
مقاصد المحاربين ،وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار ،فإن ذلك جائز،فإن كانت الفئة في العسكر ،فالمر في هذا
واضح،وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر
آخر من عسكر المسلمين ،فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز،ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن النهزام أحمد
عاقبة ،وأبقى عليهم.
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم ،فيبعد -في هذه الحال -أن تكون من الحوال المرخص فيها ،لنه -على هذا -ل يتصور
الفرار المنهي عنه،وهذه الية مطلقة ،وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.
سمِيعٌ سنًا إِنّ الَّ َ ن ِمنْ ُه بَلءً حَ َ فََل ْم تَ ْقتُلُوهُ ْم وََلكِنّ الَّ َقتََلهُ ْم وَمَا َر َميْتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ َوَلكِنّ الَّ َرمَى وَِلُيبْلِيَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ 19 - 17
عنْكُمْ ِف َئُتكُمْ
ن ُت ْغنِيَ َ
ن َتعُودُوا َنعُ ْد وَلَ ْخيْرٌ َلكُ ْم وَإِ ْ ن َتنْ َتهُوا َفهُوَ َ
ح وَِإ ْ
ن تَسْ َتفْتِحُوا َفقَدْ جَا َءكُمُ ا ْلفَتْ ُ
ن كَيْدِ ا ْلكَافِرِينَ * ِإ ْ
لّ مُوهِ ُ
عَلِيمٌ * ذَِلكُ ْم وَأَنّ ا َ
حيث وََلكِنّ الَّ َقتََلهُمْ بحولكم وقوتكم َفلَ ْم َتقْتُلُوهُمْ يقول تعالى -لما انهزم المشركون يوم بدر ،وقتلهم المسلمون -
أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره.
وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو الّ ،ويناشده َومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َر َم ْيتَ وََلكِنّ الَّ َرمَى
في نصرته،ثم خرج منه ،فأخذ حفنة من تراب ،فرماها في وجوه المشركين ،فأوصلها الّ إلى وجوههم،فما بقي منهم واحد إل وقد
أصاب وجهه وفمه وعينيه منها،فحينئذ انكسر حدهم ،وفتر زندهم ،وبان فيهم الفشل والضعف ،فانهزموا.
وَِلُيبْلِيَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ يقول تعالى لنبيه :لست بقوتك -حين رميت التراب -أوصلته إلى أعينهم ،وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا.
أي :إن الّ تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين ،من دون مباشرة قتال،ولكن الّ أراد أن يمتحن سنًا
مِنْ ُه بَلءً حَ َ
المؤمنين ،ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات ،وأرفع المقامات ،ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيل.
يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن ،ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها،فيقدر على العباد علِيمٌ
سمِيعٌ َ
إِنّ الَّ َ
أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده ،ويجزي كل بحسب نيته وعمله.
أيها المشركون ،أي :تطلبوا من الّ أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين. ستَ ْفتِحُوا
ن تَ ْ
إِ ْ ()19
في نَعُدْ إلى الستفتاح وقتال حزب ال المؤمنين وإن تعودوا لنه ربما أمهلتم ،ولم يعجل لكم النقمة. خيْرٌ
َ
نصرهم عليكم.
أي :أعوانكم وأنصاركم ،الذين تحاربون وتقاتلون ،معتمدين عليهم ،شَيئا وأن ال مع الْمؤمنين. ع ْنكُمْ ِفئَ ُتكُمْ
ن تُ ْغنِيَ َ
وََل ْ
ومن كان الّ معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليل عدده ،وهذه المعية التي أخبر الّ أنه يؤيد بها المؤمنين ،تكون بحسب ما قاموا به
من أعمال اليمان.
فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الوقات ،فليس ذلك إل تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب اليمان ومقتضاه ،وإل فلو قاموا
ول أديل عليهم عدوهم أبدا. بما أمر الّ به من كل وجه ،لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا]
ما يتلى عليكم من كتاب الّ، وََأ ْنتُ ْم تَسْ َمعُونَ أي :عن هذا المر الذي هو طاعة الّ ،وطاعة رسوله. عنْهُ
وَل تَوَّلوْا َ
وأوامره ،ووصاياه ،ونصائحه،فتوليكم في هذه الحال من أقبح الحوال.
أي :ل تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية التي ل حقيقة لها ،فإنها حالة ل يرضاها س َمعُونَ
س ِمعْنَا وَهُ ْم ل يَ ْ
وَل تَكُونُوا كَالّذِينَ قَالُوا َ
الّ ول رسوله،فليس اليمان بالتمني والتحلي ،ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته العمال.
س َم َعهُمْ َلتَوَّلوْا وَهُمْ
خيْرًا لسْ َمعَهُ ْم وََلوْ أَ ْ
ن * َوَلوْ عَلِمَ الُّ فِيهِمْ َ
ن ل َيعْقِلُو َ
عنْدَ الِّ الصّمّ ا ْلُبكْمُ الّذِي َ
إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ ِ 23 - 22
. مُعْرِضُونَ
ا ْلُبكْمُ عن استماع الحق الصّمّ من لم تفد فيهم اليات والنذر،وهم عنْدَ الِّ
إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ ِ يقول تعالى:
الدواب ،لن الّ ل من جميع ما ينفعهم ،ويؤثرونه على ما يضرهم،فهؤلء شر عند ا ّ ن ل يَ ْعقِلُونَ
الّذِي َ عن النطق به.
أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة ،ليستعملوها في طاعة الّ ،فاستعملوها في معاصيه وعدموا -بذلك -الخير الكثير،فإنهم كانوا بصدد أن
يكونوا من خيار البرية.
ل عنهم ،سمع المعنى المؤثر في القلب،وأما سمع فأبوا هذا الطريق ،واختاروا لنفسهم أن يكونوا من شر البرية،والسمع الذي نفاه ا ّ
ل تعالى عليهم بما سمعوه من آياته،وإنما لم يسمعهم السماع النافع ،لنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع
الحجة ،فقد قامت حجة ا ّ
آياته.
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه اليمان منهم وهو الستجابة لّ وللرسول ،أي :النقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة
إليه ،والجتناب لما نهيا عنه ،والنكفاف عنه والنهي عنه.
ل أول ما يأتيكم،
فإياكم أن تردوا أمر ا ّ ل َبيْنَ ا ْلمَ ْر ِء وَقَ ْلبِهِ
لّ يَحُو ُ
وَاعَْلمُوا أَنّ ا َ ثم حذر عن عدم الستجابة لّ وللرسول فقال:
ل يحول بين المرء وقلبه ،يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك ،وتختلف قلوبكم ،فإن ا ّ
فليكثر العبد من قول :يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ،يا مصرف القلوب ،اصرف قلبي إلى طاعتك.
أي :تجمعون ليوم ل ريب فيه ،فيجازي المحسن بإحسانه ،والمسيء بعصيانه. وََأنّهُ إَِليْ ِه تُحْشَرُونَ
بل تصيب فاعل الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير ،فإن عقوبته تعم ن ظََلمُوا مِ ْنكُمْ خَاصّةً
وَا ّتقُوا ِف ْتنَ ًة ل تُصِيبَنّ الّذِي َ
هذه الفتنة بالنهي عن المنكر ،وقمع أهل الشر والفساد ،وأن ل يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن. الفاعل وغيره،وتقوى
لمن تعرض لمساخطه ،وجانب رضاه. وَاعَْلمُوا أَنّ الَّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ
. شكُرُونَ
طّيبَاتِ َلعَّلكُ ْم تَ ْ
وَ َر َز َقكُ ْم مِنَ ال ّ
يقول تعالى ممتنا على عباده في نصرهم بعد الذلة ،وتكثيرهم بعد القلة ،وإغنائهم بعد العيلة.
ن َيتَخَطّ َف ُكمُ
تَخَافُونَ أَ ْ أي :مقهورون تحت حكم غيركم ن فِي الرْضِ
ضعَفُو َ
ستَ ْ
ل مُ ْ
وَاذْكُرُوا ِإذْ َأ ْنتُ ْم قَلِي ٌ
فجعل لكم بلدا تأوون إليه ،وانتصر من أعدائكم على أيديكم، طّيبَاتِ
فَآوَاكُمْ وََأّي َدكُ ْم ِبنَصْرِهِ َورَ َز َقكُ ْم مِنَ ال ّ
وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء.
الّ على منته العظيمة وإحسانه التام ،بأن تعبدوه ول تشركوا به شيئا. ش ُكرُونَ
َلعَّلكُ ْم تَ ْ
ن آ َمنُوا ل تَخُونُوا الَّ وَالرّسُولَ َوتَخُونُوا َأمَانَا ِتكُمْ وََأ ْنتُ ْم تَعَْلمُونَ * وَاعَْلمُوا َأّنمَا
يَا َأيّهَا اّلذِي َ 28 - 27
ل عليه من أوامره ونواهيه ،فإن المانة قد عرضها الّ علىيأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم ا ّ
السماوات والرض والجبال ،فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها النسان إنه كان ظلوما جهولفمن أدى
المانة استحق من الّ الثواب الجزيل ،ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل ،وصار خائنا لّ وللرسول
ولمانته ،منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ،وأقبح الشيات ،وهي الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات
وأتمها ،وهي المانة.
ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته ،أخبر ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولده ،فربما حمله محبة
ل بهما عباده ،وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها ،وترد لمن استودعها
الّ تعالى أن الموال والولد فتنة يبتلي ا ّ
فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ ،فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة ،فالعاقل يوازن بين الشياء ،ويؤثر
أولها باليثار ،وأحقها بالتقديم.
. ا ْلعَظِيمِ
امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة ،وعلمة الفلح ،وقد رتب الّ على التقوى من خير الدنيا والخرة شيئا
كثيرا،فذكر هنا أن من اتقى الّ حصل له أربعة أشياء ،كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:
الول :الفرقان :وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلل ،والحق والباطل ،والحلل
والحرام ،وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني والثالث :تكفير السيئات ،ومغفرة الذنوب،وكل واحد منهما داخل في الخر عند الطلق وعند الجتماع
يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ،ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.
. ا ْلمَاكِرِينَ
فكلّ أبدى من هذه الراء رأيا رآه،فاتفق رأيهم على رأي :رآه شريرهم أبو جهل لعنه الّ،وهو أن يأخذوا من كل
قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما ،ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ،ليتفرق دمه في القبائل.فيرضى
قريش ،فترصدوا للنبي صلى ال عليه وسلم في الليل بنو هاشم [ َثمّ] بديته ،فل يقدرون على مقاومة سائر
ليوقعوا به إذا قام من فراشه.
فنفض كل منهم التراب عن رأسه ،ومنع الّ رسوله منهم ،وأذن له في الهجرة إلى المدينة،فهاجر إليها ،وأيده الّ
بأصحابه المهاجرين والنصار،ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة ،وقهر أهلها،فأذعنوا له وصاروا تحت
حكمه ،بعد أن خرج مستخفيا منهم ،خائفا على نفسه.
س ِم ْعنَا لَ ْو نَشَاءُ َلقُ ْلنَا ِمثْلَ َهذَا إِنْ َهذَا إِل أَسَاطِي ُر
َوِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَا ُتنَا قَالُوا َقدْ َ وقوله: 34 - 31
سمَاءِ َأ ِو ا ْئتِنَا ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ * َومَا
ك فََأمْطِرْ عََل ْينَا حِجَارَ ًة مِنَ ال ّ
عنْ ِد َ
ق مِنْ ِ ن كَانَ َهذَا هُوَ ا ْلحَ ّ
الوّلِينَ * وَِإذْ قَالُوا الّلهُمّ إِ ْ
س َتغْ ِفرُونَ *
لّ ُم َعذّ َبهُمْ وَهُ ْم يَ ْ
ت فِيهِمْ َومَا كَانَ ا ُ
كَانَ الُّ ِل ُي َعذّ َبهُمْ وََأنْ َ
الدالة على صدق ما جاء به الرسول. وَِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَاتُنَا يقول تعالى في بيان عناد المكذبين للرسول صلى ال عليه وسلم:
ل أن يأتوا بسورة
وهذا من عنادهم وظلمهم،وإل فقد تحداهم ا ّ س ِم ْعنَا َلوْ نَشَاءُ َلقُ ْلنَا مِثْلَ هَذَا ِإنْ هَذَا إِل أَسَاطِي ُر الوّلِينَ
قَالُوا قَدْ َ
من مثله ،ويدعوا من استطاعوا من دون الّ ،فلم يقدروا على ذلك ،وتبين عجزهم.
قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ،والجهل بما ينبغي من الخطاب.
فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه ،قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق
معه :إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ،لكان أولى لهم وأستر لظلمهم.
الية ،علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الغبياء ،الجهلة الظالمون،فلو عاجلهم عنْ ِدكَ
ق مِنْ ِ
حّن كَانَ َهذَا ُهوَ الْ َ
الّلهُمّ إِ ْ فمنذ قالوا:
َومَا كَانَ الُّ ِلُيعَ ّذبَهُ ْم وََأ ْنتَ ل بالعقاب لما أبقى منهم باقية ،ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم ،فقال:
اّ
فوجوده صلى ال عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب. فِيهِمْ
وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الشهاد ،يدرون بقبحها ،فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ،فيستغفرون الّ
أي :أي شيء يمنعهم من عذاب َومَا َلهُمْ أَل ُيعَ ّذبَهُمُ الُّ فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ،بعد ما انعقدت أسبابه ثم قال:
الّ ،وقد فعلوا ما يوجب ذلك ،وهو صد الناس عن المسجد الحرام ،خصوصا صدهم النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،الذين هم
يحتمل أن الضمير يعود إلى الّ ،أي :أولياء َأوِْليَاءَهُ أي :المشركون َومَا كَانُوا أولى به منهم ،ولهذا قال:
وهم الذين آمنوا بالّ إِنْ َأوِْليَا ُؤهُ إِل ا ْلمُ ّتقُونَ الّ.ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام ،أي :وما كانوا أولى به من غيرهم.
. عنْدَ ا ْل َب ْيتِ إِل ُمكَاءً َوتَصْ ِديَةً َفذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُ ْنتُ ْم تَ ْكفُرُونَ
َومَا كَانَ صَل ُتهُمْ ِ 35
ل تعالى إنما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه ،وتخلص له فيه العبادة،فالمؤمنون هم الذين قاموا بهذا المر،وأما هؤلء
يعني أن ا ّ
أي :صفيرا وتصفيقا، إِل ُمكَاءً َوتَصْ ِديَةً المشركون الذين يصدون عنه ،فما كان صلتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات
فعل الجهلة الغبياء ،الذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم ،ول معرفة بحقوقه ،ول احترام لفضل البقاع وأشرفها،فإذا كانت هذه صلتهم
فيه ،فكيف ببقية العبادات؟".
فبأي :شيء كانوا أولى بهذا البيت من المؤمنين الذين هم في صلتهم خاشعون ،والذين هم عن اللغو معرضون ،إلى آخر ما وصفهم الّ
به من الصفات الحميدة ،والفعال السديدة.
َفذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُ ْنتُ ْم تَ ْكفُرُونَ وقال هنا ا ْلمَسْجِدَ الْحَرَا َم َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا
ن َكفَرُوا
ن وَالّذِي َسيُ ْن ِفقُو َنهَا ثُ ّم َتكُونُ عََل ْيهِمْ حَسْ َرةً ثُ ّم ُيغَْلبُو َ
سبِيلِ الِّ فَ َ
ن َكفَرُوا ُينْ ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ ِليَصُدّوا عَنْ َ
إِنّ الّذِي َ 37 - 36
ج َهنّمَ أُوَل ِئكَ ُهمُ
جمِيعًا َفيَجْعََلهُ فِي َ ضهُ عَلَى بَعْضٍ َفيَ ْر ُكمَهُ َ ث بَعْ َ
خبِي َ
ب َويَجْعَلَ الْ َ طيّ ِ
خبِيثَ مِنَ ال ّ جهَنّ َم يُحْشَرُونَ * ِل َيمِيزَ الُّ الْ َ
إِلَى َ
. الْخَاسِرُونَ
يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم ،ومبارزتهم لّ ولرسوله ،وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته ،وأن وبال مكرهم
ج َهنّمَ
ن َكفَرُوا إِلَى َ
وَالّذِي َ أي :ندامة وخزيا وذل ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا ،ويعذبون في الخرة أشد العذاب .ولهذا قال:
أي :يجمعون إليها ،ليذوقوا عذابها ،وذلك لنها دار الخبث والخبثاء ،والّ تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب ،ويجعل يُحْشَرُونَ
جعَلَهُ
جمِيعًا َفيَ ْ
َفيَ ْر ُكمَهُ َ كل واحدة على حدة ،وفي دار تخصه،فيجعل الخبيث بعضه على بعض ،من العمال والموال والشخاص.
الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ،أل ذلك هو الخسران المبين. ج َهنّمَ أُوَل ِئكَ ُهمُ الْخَاسِرُونَ
فِي َ
حتّى ل تَكُونَ
ن * وَقَاتِلُوهُمْ َ
سنّ ُة الوّلِي َ
ضتْ ُ
ن َيعُودُوا َفقَ ْد مَ َ
ف وَإِ ْ
ن َي ْنتَهُوا ُيغْفَرْ َلهُ ْم مَا قَدْ سََل َ
ن َكفَرُوا إِ ْ
قُلْ لِلّذِي َ 40 - 38
هذا من لطفه تعالى بعباده ل يمنعه كفر العباد ول استمرارهم في العناد ،من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى ،وينهاهم عما يهلكهم
أي :شرك وصد عن سبيل الّ ،ويذعنوا لحكام السلم، حتّى ل تَكُونَ ِف ْتنَةٌ
وَقَاتِلُوهُمْ َ أمرهم بمعاملة الكافرين ،فقال:
فهذا المقصود من القتال والجهاد لعداء الدين ،أن يدفع شرهم عن الدين ،وأن يذب عن دين الّ الذي خلق ن كُلّهُ لِّ
َويَكُونَ الدّي ُ
الخلق له ،حتى يكون هو العالي على سائر الديان.
الذي ينصرهم ،فيدفع عنهم كيد الفجار، َونِعْمَ النّصِيرُ لهم منافعهم الدينية والدنيوية. ويوصل إليهم مصالحهم ،وييسر
وتكالب الشرار.
ل موله وناصره فل خوف عليه ،ومن كان الّ عليه فل عِزّ له ول قائمة له.
ومن كان ا ّ
بمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ ِلّلهِ خُمُسَهُ وَ ِل لرّ سُولِ وَ لِذِي ا ْلقُرْببَى وَا ْلَي تَامَى
{ { }ْ 42 - 41وَاعْلَمُوا أَ نّمَا غَنِمْت ُ
ج ْمعَانِ
ن وَابْنِ السّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّ ِه َومَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا َيوْمَ ا ْلفُ ْرقَانِ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ
وَا ْلمَسَاكِي ِ
س َفلَ مِ ْنكُ ْم وََلوْ
صوَى وَال ّركْبُ أَ ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْ ُتمْ بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا وَهُمْ بِا ْل ُع ْد َوةِ ا ْلقُ ْ
وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
َتوَاعَدْتُمْ لَاخْتََلفْتُمْ فِي ا ْلمِيعَا ِد وََلكِنْ لِ َي ْقضِيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّنَ ٍة وَيَحْيَا مَنْ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ}
حيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ َل َ
َ
شيْءٍ ْ} أي :أخذتم من مال الكفار قهرا بحق ،قليل كان أو
يقول تعالى { :وَاعَْلمُوا أَ ّنمَا غَ ِنمْ ُتمْ مِنْ َ
خمُسَهُ ْ} أي :وباقيه لكم أيها الغانمون ،لنه أضاف الغنيمة إليهم ،وأخرج منها
كثيرا { .فَأَنّ ِللّهِ ُ
خمسها.فدل على أن الباقي لهم ،يقسم على ما قسمه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم :للراجل
سهم ،وللفارس سهمان لفرسه ،وسهم له.
وأما هذا الخمس ،فيقسم خمسة أسهم ،سهم للّه ولرسوله ،يصرف في مصالح المسلمين العامة ،من
غير تعيين لمصلحة ،لن اللّه جعله له ولرسوله ،واللّه ورسوله غنيان عنه ،فعلم أنه لعباد اللّه.فإذا
لم يعين اللّه له مصرفا ،دل على أن مصرفه للمصالح العامة.
والخمس الثاني :لذي القربى ،وهم قرابة النبي صلى ال عليه وسلم من بني هاشم وبني
المطلب.وأضافه اللّه إلى القرابة دليل على أن العلة فيه مجرد القرابة ،فيستوي فيه غنيهم
وفقيرهم ،ذكرهم وأنثاهم.
والخمس الثالث لليتامى ،وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ،جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة
بهم ،حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم ،وقد فقد من يقوم بمصالحهم.
والخمس الرابع للمساكين ،أي :المحتاجين الفقراء من صغار وكبار ،ذكور وإناث.
والخمس الخامس لبن السبيل ،وهو الغريب المنقطع به في غير بلده[ ،وبعض المفسرين يقول
إن خمس الغنيمة ل يخرج عن هذه الصناف ول يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك تبع
للمصلحة وهذا هو الولى] وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا لليمان فقال { :إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللّ ِه َومَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا َيوْمَ ا ْلفُ ْرقَانِ ْ} وهو يوم { بدر ْ} الذي فرق اللّه به بين الحق
والباطل .وأظهر الحق وأبطل الباطل.
ج ْمعَانِ ْ} جمع المسلمين ،وجمع الكافرين،أي :إن كان إيمانكم باللّه ،وبالحق الذي
{ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ
أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان ،الذي حصل فيه من اليات والبراهين ،ما دل على أن ما جاء
شيْءٍ قَدِيرٌ ْ} ل يغالبه أحد إل غلبه.
به هو الحق { .وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
{ ِإذْ أَنْتُمْ بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا ْ} أي :بعدوة الوادي القريبة من المدينة ،وهم بعدوته أي :جانبه البعيدة من
المدينة ،فقد جمعكم واد واحد.
سفَلَ مِ ْنكُمْ ْ} مما يلي ساحل البحر.
{ وَال ّر ْكبُ ْ} الذي خرجتم لطلبه ،وأراد اللّه غيره { َأ ْ
{ وََلوْ َتوَاعَدْتُمْ ْ} أنتم وإياهم على هذا الوصف وبهذه الحال { لَاخْتََلفْتُمْ فِي ا ْلمِيعَادِ ْ} أي :ل بد من
تقدم أو تأخر أو اختيار منزل ،أو غير ذلك ،مما يعرض لكم أو لهم ،يصدفكم عن ميعادكم
ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا ْ} أي :مقدرا في الزل ،ل بد
{ وََلكِنْ ْ} اللّه جمعكم على هذه الحال { لِ َي ْق ِ
من وقوعه.
{ لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّنَةٍ ْ} أي :ليكون حجة وبينة للمعاند ،فيختار الكفر على بصيرة وجزم
ببطلنه ،فل يبقى له عذر عند اللّه.
حيّ عَنْ بَيّنَةٍ ْ} أي :يزداد المؤمن بصيرة ويقينا ،بما أرى اللّه الطائفتين من أدلة الحق
{ وَيَحْيَا مَنْ َ
وبراهينه ،ما هو تذكرة لولي اللباب.
سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ} سميع لجميع الصوات ،باختلف اللغات ،على تفنن الحاجات ،عليم
{ وَإِنّ اللّهَ لَ َ
بالظواهر والضمائر والسرائر ،والغيب والشهادة.
{ ِ { }ْ 44 - 43إذْ يُرِي َكهُمُ اللّهُ فِي مَنَا ِمكَ قَلِيلًا وََلوْ أَرَا َكهُمْ كَثِيرًا َلفَشِلْ ُت ْم وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الَْأمْرِ
وََلكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ * وَإِذْ يُرِي ُكمُوهُمْ إِذِ الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِن ُكمْ قَلِيلًا وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي
ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ ْ}
أَعْيُ ِنهِمْ لِ َي ْق ِ
وكان اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليل ،فبشر بذلك أصحابه ،فاطمأنت قلوبهم
وتثبتت أفئدتهم.
ولو أراكهم ال إياهم كَثِيرًا فأخبرت بذلك أصحابك { َلفَشِلْ ُت ْم وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الَْأمْرِ ْ} فمنكم من يرى
القدام على قتالهم ،ومنكم من ل يرى ذلك فوقع من الختلف والتنازع ما يوجب الفشل.
{ وََلكِنّ اللّهَ سَلّمَ ْ} فلطف بكم { إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ْ} أي :بما فيها من ثبات وجزع ،وصدق
وكذب،فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ،فأرى اللّه
المؤمنين عدوهم قليل في أعينهم ،ويقللكم -يا معشر المؤمنين -في أعينهم،فكل من الطائفتين
ترى الخرى قليلة ،لتقدم كل منهما على الخرى.
ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا ْ} من نصر المؤمنين وخذلن الكافرين وقتل قادتهم ورؤساء
{ لِ َي ْق ِ
الضلل منهم ،ولم يبق منهم أحد له اسم يذكر ،فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى السلم،
فصار أيضا لطفا بالباقين ،الذين مَنّ اللّه عليهم بالسلم.
{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ ْ} أي :جميع أمور الخلئق ترجع إلى اللّه ،فيميز الخبيث من الطيب،
ويحكم في الخلئق بحكمه العادل ،الذي ل جور فيه ول ظلم.
{ { }ْ 49 - 45يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ *
حكُ ْم وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ * وَلَا
وَأَطِيعُوا اللّ َه وَرَسُوَل ُه وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَ ْذ َهبَ رِي ُ
س وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَاللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ
َتكُونُوا كَالّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِهمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النّا ِ
س وَإِنّي جَارٌ َلكُمْ فََلمّا
عمَاَلهُ ْم َوقَالَ لَا غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّا ِ
مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَ َروْنَ إِنّي َأخَافُ اللّ َه وَاللّهُ
تَرَا َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَى َ
شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ * إِذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ غَرّ َهؤُلَاءِ دِي ُن ُه ْم َومَنْ يَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ
حكِيمٌ ْ}
فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
يقول تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َلقِيتُمْ فِئَةً ْ} أي :طائفة من الكفار تقاتلكم.
{ فَاثْبُتُوا ْ} لقتالها ،واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة ،التي عاقبتها العز
والنصر.
واستعينوا على ذلك بالكثار من ذكر اللّه { َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ ْ} أي :تدركون ما تطلبون من النتصار
على أعدائكم،فالصبر والثبات والكثار من ذكر اللّه من أكبر السباب للنصر.
{ وََأطِيعُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ ْ} في استعمال ما أمرا به ،والمشي خلف ذلك في جميع الحوال.
ح ُكمْ ْ}
{ وَلَا تَنَازَعُوا ْ} تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها { ،فَ َتفْشَلُوا ْ} أي :تجبنوا { وَتَذْ َهبَ رِي ُ
أي :تنحل عزائمكم ،وتفرق قوتكم ،ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله.
{ وَاصْبِرُوا ْ} نفوسكم على طاعة اللّه { إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ ْ} بالعون والنصر والتأييد ،واخشعوا
لربكم واخضعوا له.
س وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ْ} أي :هذا
{ وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَا ِرهِمْ َبطَرًا وَرِئَاءَ النّا ِ
مقصدهم الذي خرجوا إليه ،وهذا الذي أبرزهم من ديارهم لقصد الشر والبطر في الرض،
وليراهم الناس ويفخروا لديهم.
والمقصود العظم أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل اللّه من أراد سلوكه { ،وَاللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطٌ
ْ} فلذلك أخبركم بمقاصدهم ،وحذركم أن تشبهوا بهم ،فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.
فليكن قصدكم في خروجكم وجه اللّه تعالى وإعلء دين اللّه ،والصد عن الطرق الموصلة إلى
سخط اللّه وعقابه ،وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم.
عمَاَلهُمْ ْ} حسّنها في قلوبهم وخدعهمَ { .وقَالَ لَا غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّاسِ
{ وَإِذْ زَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ
ْ} فإنكم في عَ َددٍ وعُدَدٍ وهيئة ل يقاومكم فيها محمد ومن معه.
{ وَإِنّي جَارٌ َلكُمْ ْ} من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته ،لن إبليس قد تبدّى لقريش في صورة
سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ،وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم.
فقال لهم الشيطان :أنا جار لكم ،فاطمأنت نفوسهم وأتوا على حرد قادرين.
{ فََلمّا تَرَا َءتِ ا ْلفِئَتَانِ ْ} المسلمون والكافرون ،فرأى الشيطان جبريل عليه السلم يزع الملئكة
عقِبَيْهِ ْ} أي :ولى مدبراَ { .وقَالَ ْ} لمن خدعهم وغرهم { :إِنّي
خاف خوفا شديدا و { َن َكصَ عَلَى َ
بَرِيءٌ مِ ْنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَ َروْنَ ْ} أي :أرى الملئكة الذين ل يدان لحد بقتالهم.
{ إِنّي َأخَافُ اللّهَ ْ} أي :أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ْ}
ومن المحتمل أن يكون الشيطان ،قد سول لهم ،ووسوس في صدورهم أنه ل غالب لهم اليوم من
الناس ،وأنه جار لهم،فلما أوردهم مواردهم ،نكص عنهم ،وتبرأ منهم ،كما قال تعالىَ { :كمَ َثلِ
الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِ ْنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َفكَانَ
عَاقِبَ َت ُهمَا أَ ّن ُهمَا فِي النّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا َوذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ ْ}
{ ِإذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ ْ} أي :شك وشبهة ،من ضعفاء اليمان ،للمؤمنين
حين أقدموا -مع قِلّتهم -على قتال المشركين مع كثرتهم.
{ غَرّ َهؤُلَاءِ دِي ُن ُهمْ ْ} أي :أوردهم الدين الذي هم عليه هذه الموارد التي ل يدان لهم بها ،ول
خفّاءُ عقول ،الضعفاء
استطاعة لهم بها،يقولونه احتقارا لهم واستخفافا لعقولهم ،وهم -واللّه -ال ِ
أحلما.
فإن اليمان يوجب لصاحبه القدام على المور الهائلة التي ل يقدم عليها الجيوش العظام،فإن
المؤمن المتوكل على اللّه ،الذي يعلم أنه ما من حول ول قوة ول استطاعة لحد إل باللّه
تعالى،وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص بمثقال ذرة لم ينفعوه،ولو اجتمعوا على أن
يضروه لم يضروه إل بشيء قد كتبه اللّه عليه ،وعلم أنه على الحق ،وأن اللّه تعالى حكيم رحيم
في كل ما قدره وقضاه ،فإنه ل يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة ،وكان واثقا بربه ،مطمئن
القلب ل فزعا ول جبانا. ،ولهذا قال { َومَنْ يَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ْ} ل يغالب قوته قوة.
حكِيمٌ ْ} فيما قضاه وأجراه.
{ َ
{ { }ْ 52 - 50وََلوْ تَرَى إِذْ يَ َت َوفّى الّذِينَ َكفَرُوا ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُونَ وُجُو َههُ ْم وَأَدْبَا َرهُ ْم وَذُوقُوا
ن وَالّذِينَ مِنْ
عوْ َ
عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ * ذَِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيكُ ْم وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ * كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
خذَهُمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِمْ إِنّ اللّهَ َق ِويّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ْ}
قَبِْلهِمْ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَأَ َ
يقول تعالى :ولو ترى الذين كفروا بآيات اللّه حين توفاهم الملئكة الموكلون بقبض أرواحهم وقد
ن وُجُو َههُ ْم وَأَدْبَا َرهُمْ ْ} يقولون لهم :أخرجوا
اشتد بهم القلق وعظم كربهم ،و { ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُو َ
أنفسكم ،ونفوسهم متمنعة مستعصية على الخروج ،لعلمها ما أمامها من العذاب الليم.
ولهذا قال { :وَذُوقُوا عَذَابَ ا ْلحَرِيق أي :العذاب الشديد المحرق ،ذلك العذاب حصل لكم ،غير ظلم
ول جور من ربكم ،وإنما هو بما قدمت أيديكم من المعاصي التي أثرت لكم ما أثرت ،وهذه سنة
اللّه في الولين والخرين ،فإن دأب هؤلء المكذبين أي :سنتهم وما أجرى اللّه عليهم من الهلك
بذنوبهم.
ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ { من المم المكذبةَ }ْ .كفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ فََأخَذَ ُهمُ اللّهُ
عوْ َ
ْ} كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
خذٌ
شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { ل يعجزه أحد يريد أخذه ْ} مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا ُهوَ آ ِ
{ بالعقاب ْ} بِذُنُو ِبهِمْ إِنّ اللّهَ َق ِويّ َ
بِنَاصِيَ ِتهَا
سهِ ْم وَأَنّ
{ َ { }ْ 54 - 53ذِلكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ َيكُ ُمغَيّرًا ِن ْعمَةً أَ ْن َع َمهَا عَلَى َقوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ
ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ كَذّبُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ فَأَ ْهَلكْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَأَغْ َرقْنَا
عوْ َ
سمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
اللّهَ َ
ن َوكُلّ كَانُوا ظَاِلمِينَ ْ}
عوْ َ
آلَ فِرْ َ
{ ذَِلكَ ْ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالمم المكذبين وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم ،بسبب
ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم،فإن ال لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا ،بل
سهِمْ ْ} من الطاعة إلى المعصية
يبقيها ويزيدهم منها ،إن ازدادوا له شكرا { .حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ
فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا ،فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.
وللّه الحكمة في ذلك والعدل والحسان إلى عباده ،حيث لم يعاقبهم إل بظلمهم ،وحيث جذب
قلوب أوليائه إليه ،بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره.
سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ} يسمع جميع ما نطق به الناطقون ،سواء من أسر القول ومن جهر
{ وَأَنّ اللّهَ َ
به،ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر ،وتخفيه السرائر ،فيجري على عباده من القدار ما اقتضاه
علمه وجرت به مشيئته.
عوْنَ ْ} أي :فرعون وقومه { وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ ْ} حين جاءتهم
{ َكدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
{ فَأَ ْهَلكْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِمْ ْ} كل بحسب جرمه.
{ { }ْ 57 - 55إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ عِنْدَ اللّهِ الّذِينَ َكفَرُوا َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * الّذِينَ عَا َه ْدتَ مِ ْنهُمْ ثُمّ
عهْدَ ُهمْ فِي ُكلّ مَ ّر ٍة وَهُمْ لَا يَ ّتقُونَ * فَِإمّا تَ ْث َقفَ ّنهُمْ فِي الْحَ ْربِ فَشَرّدْ ِبهِمْ مَنْ خَ ْل َفهُمْ َلعَّلهُمْ
يَ ْنقُضُونَ َ
يَ ّذكّرُونَ ْ}
هؤلء الذين جمعوا هذه الخصال الثلث :الكفر ،وعدم اليمان ،والخيانة ،بحيث ل يثبتون على
عهد عاهدوه ول قول قالوه ،هم شر الدواب عند ال فهم شر من الحمير والكلب وغيرها ،لن
الخير معدوم منهم ،والشر متوقع فيهم ،فإذهاب هؤلء ومحقهم هو المتعين ،لئل يسري داؤهم
لغيرهم ،ولهذا قال { :فَِإمّا تَ ْثقَفَ ّنهُمْ فِي الْحَ ْربِ ْ} أي :تجدنهم في حال المحاربة ،بحيث ل يكون لهم
عهد وميثاق.
{ َفشَرّدْ ِبهِمْ مَنْ خَ ْل َفهُمْ ْ} أي :نكل بهم غيرهم ،وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [به] عبرة لمن
بعدهم { َلعَّل ُهمْ ْ} أي من خلفهم { َي ْذكُرُونَ ْ} صنيعهم ،لئل يصيبهم ما أصابهم،وهذه من فوائد
العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي ،أنها سبب لزدجار من لم يعمل المعاصي ،بل وزجرا
لمن عملها أن ل يعاودها.
طيَ
عِودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر -ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر -أنه إذا أُ ْ
عهدا ل يجوز خيانته وعقوبته.
أي :وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة،بأن ظهر من قرائن
أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة.
سوَاءٍ ْ} أي:
{ فَانْ ِبذْ إِلَ ْيهِمْ ْ} عهدهم ،أي :ارمه عليهم ،وأخبرهم أنه ل عهد بينك وبينهم { .عَلَى َ
حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ،ول يحل لك أن تغدرهم ،أو تسعى في شيء مما منعه موجب
العهد ،حتى تخبرهم بذلك.
ودلت الية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ،لنه لم يخف
سوَاءٍ ْ} وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم.
منهم ،بل علم ذلك ،ولعدم الفائدة ولقوله { :عَلَى َ
خفْ منهم خيانة ،بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ،أنه ل يجوز
ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم ُي َ
نبذ العهد إليهم ،بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته.
أي :ل يحسب الكافرون بربهم المكذبون بآياته ،أنهم سبقوا اللّه وفاتوه ،فإنهم ل يعجزونه ،واللّه
لهم بالمرصاد.
وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة ،التي من جملتها ابتلء عباده
المؤمنين وامتحانهم ،وتزودهم من طاعته ومراضيه ،ما يصلون به المنازل العالية ،واتصافهم
بأخلق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها ،فلهذا قال لعباده المؤمنين:
طعْتُمْ مِنْ ُق ّو ٍة َومِنْ رِبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَ ُدوّ اللّهِ وَعَ ُد ّوكُمْ
{ { }ْ 60وَأَعِدّوا َلهُمْ مَا اسْتَ َ
شيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُيوَفّ إِلَ ْيكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
وَآخَرِينَ مِنْ دُو ِنهِمْ لَا َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُ ْم َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ َ
تُظَْلمُونَ ْ}
طعْتُمْ مِنْ ُق ّوةٍ ْ} أي:
أي { وَأَعِدّوا ْ} لعدائكم الكفار الساعين في هلككم وإبطال دينكم { .مَا اسْتَ َ
كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع السلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم،
فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف السلحة واللت من المدافع والرشاشات،
والبنادق ،والطيارات الجوية ،والمراكب البرية والبحرية ،والحصون والقلع والخنادق ،وآلت
الدفاع ،والرأْي :والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم ،و َتعَلّم ال ّر ْميِ،
والشجاعة والتدبير.
ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم { :أل إن القوة ال ّر ْميُ ْ} ومن ذلك :الستعداد بالمراكب
المحتاج إليها عند القتال،ولهذا قال تعالىَ { :ومِنْ رِبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ عَ ُدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُمْ ْ}
وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ،وهي إرهاب العداء ،والحكم يدور مع علته.
فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها ،كالسيارات البرية والهوائية ،المعدة للقتال التي تكون
النكاية فيها أشد ،كانت مأمورا بالستعداد بها ،والسعي لتحصيلها،حتى إنها إذا لم توجد إل بتعلّم
الصناعة ،وجب ذلك ،لن ما ل يتم الواجب إل به ،فهو واجب
وقوله { :تُرْهِبُونَ بِهِ عَ ُدوّ اللّهِ وَعَ ُد ّوكُمْْ} ممن تعلمون أنهم أعداؤكم {ْ .وَآخَرِينَ مِنْ دُو ِنهِمْ لَا
َتعَْلمُونَهُمُ} ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم ال به ْ{ اللّهُ َيعَْل ُمهُم}ْ فلذلك أمرهم
بالستعداد لهم،ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار.
يقول تعالى { :وَإِنْ جَ َنحُوا ْ} أي :الكفار المحاربون ،أي :مالوا { لِلسّ ْلمِ ْ} أي :الصلح وترك القتال.
{ فَاجْنَحْ َلهَا وَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ ْ} أي :أجبهم إلى ما طلبوا متوكل على ربك ،فإن في ذلك فوائد
كثيرة.
منها :أن طلب العافية مطلوب كل وقت ،فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك ،كان أولى لجابتهم.
ومنها :أن في ذلك إجماما لقواكم ،واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر ،إن احتيج لذلك.
ومنها :أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا ،وتمكن كل من معرفة ما عليه الخر ،فإن السلم
يعلو ول يعلى عليه.،فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فل بد أن يؤثره على غيره
من الديان ،لحسنه في أوامره ونواهيه ،وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم ،وأنه ل جور فيه
ول ظلم بوجه ،فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له.،فصار هذا السلم عونا للمسلمين على
الكافرين.،ول يخاف من السلم إل خصلة واحدة ،وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع
المسلمين ،وانتهاز الفرصة فيهم.،فأخبرهم اللّه أنه حسبهم وكافيهم خداعهم ،وأن ذلك يعود عليهم
خدَعُوكَ فَإِنّ حَسْ َبكَ اللّهُ ْ} أي :كافيك ما يؤذيك ،وهو القائم
ضرره ،فقال { :وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَ ْ
بمصالحك ومهماتك ،فقد سبق [لك] من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك.
فلب { ُهوَ الّذِي أَيّ َدكَ بِ َنصْ ِر ِه وَبِا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} أي :أعانك بمعونة سماوية ،وهو النصر منه الذي ل
يقاومه شيء ،ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك.
{ وَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبهِمْ ْ} فاجتمعوا وائتلفوا ،وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم ،ولم يكن هذا بسعي أحد،
ول بقوة غير قوة اللّه،فلو أنفقت ما في الرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك
النفرة والفرقة الشديدة { مَا أَّل ْفتَ بَيْنَ قُلُو ِبهِمْ ْ} لنه ل يقدر على تقليب القلوب إل اللّه تعالى.
حكِيمٌ ْ} ومن عزته أن ألف بين قلوبهم ،وجمعها بعد الفرقة كما
{ وََلكِنّ اللّهَ أَّلفَ بَيْ َنهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ َ
خوَانًا
عدَاءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ بِ ِن ْعمَتِهِ ِإ ْ
قال تعالى { :وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ كُنْتُمْ أَ ْ
حفْ َرةٍ مِنَ النّارِ فَأَ ْنقَ َذكُمْ مِ ْنهَا ْ}
شفَا ُ
َوكُنْتُمْ عَلَى َ
ثم قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَسْ ُبكَ اللّهُ ْ} أي :كافيك { َومَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} أي :وكافي
أتباعك من المؤمنين.،وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله ،بالكفاية والنصرة على
العداء.
فإذا أتوا بالسبب الذي هو اليمان والتباع ،فلبد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا ،وإنما
تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.
ن صَابِرُونَ َيغْلِبُوا
{ { }ْ 66 - 65يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ إِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ عِشْرُو َ
خ ّففَ اللّهُ عَ ْن ُكمْ
ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَةٌ َيغْلِبُوا أَ ْلفًا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ * الْآنَ َ
مِائَتَيْ ِ
ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ َأ ْلفٌ َيغْلِبُوا أَ ْلفَيْنِ بِإِذْنِ
ضعْفًا فَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَةٌ صَابِ َرةٌ َيغْلِبُوا مِائَتَيْ ِ
وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ َ
اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ْ}
يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ ْ} أي :حثهم
وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم ،من الترغيب في الجهاد ومقارعة العداء،
والترهيب من ضد ذلك ،وذكر فضائل الشجاعة والصبر ،وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا
والخرة ،وذكر مضار الجبن ،وأنه من الخلق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة ،وأن الشجاعة
بالمؤمنين أولى من غيرهم { إِنْ َتكُونُوا تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُونَ وَتَ ْرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَا
يَرْجُونَ ْ}
ض ْعفًا ْ} فلذلك
خ ّففَ اللّهُ عَ ْنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُ ْم َ
ثم إن هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال { :الْآنَ َ
ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ أَ ْلفٌ
اقتضت رحمته وحكمته التخفيف { .،فَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَ ٌة صَابِ َرةٌ َيغْلِبُوا مِائَتَيْ ِ
َيغْلِبُوا أَ ْلفَيْنِ بِِإذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ْ} بعونه وتأييده.
وهذه اليات صورتها صورة الخبار عن المؤمنين ،بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون
ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار ،وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة
اليمانية.
ولكن معناها وحقيقتها المر وأن اللّه أمر المؤمنين -في أول المر -أن الواحد ل يجوز له أن
يفر من العشرة ،والعشرة من المائة ،والمائة من اللف.
ثم إن اللّه خفف ذلك ،فصار ل يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار ،فإن زادوا على مثليهم
جاز لهم الفرار ،ولكن يرد على هذا أمران.:
أحدهما :أنها بصورة الخبر ،والصل في الخبر أن يكون على بابه ،وأن المقصود بذلك المتنان
والخبار بالواقع..
والثاني :تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر.
ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين ،فإنه يجوز لهم الفرار ،ولو أقل من مثليهم [إذا غلب على
ظنهم الضرر] كما تقتضيه الحكمة اللهية.
خفّفَ اللّهُ عَ ْنكُمْ ْ} إلى آخرها ،دليل على أن هذا أمر لزم
ويجاب عن الول بأن قوله { :الْآنَ َ
وأمر محتم ،ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد .،فهذا ظاهر في أنه أمر ،وإن كان في صيغة الخبر..
وقد يقال :إن في إتيانه بلفظ الخبر ،نكتة بديعة ل توجد فيه إذا كان بلفظ المر.،وهي تقوية قلوب
المؤمنين ،والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين..
ويجاب عن الثاني :أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين ،أنه حث على الصبر ،وأنه ينبغي منكم أن
تفعلوا السباب الموجبة لذلك[فإذا فعلوها صارت السباب اليمانية والسباب المادية مبشرة
بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل]
{ { }ْ 69- 67مَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َيكُونَ َلهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَ ْرضِ تُرِيدُونَ عَ َرضَ الدّنْيَا
عظِيمٌ *
سكُمْ فِيمَا َأخَذْ ُتمْ عَذَابٌ َ
حكِيمٌ * َلوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ َلمَ ّ
وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِ َر َة وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
غفُورٌ َرحِيمٌ ْ}
َفكُلُوا ِممّا غَ ِنمْ ُتمْ حَلَالًا طَيّبًا وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم { بدر ْ} إذ أسروا المشركين وأبقوهم لجل الفداء.،
وكان رأي :أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال ،قتلهم واستئصالهم.
فقال تعالى { :مَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َيكُونَ لَهُ أَسْ َرىَ حَتّى يُ ْثخِنَ فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي :ما ينبغي ول يليق به
إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لخماد دينه ،وأن ل يبقى على وجه
الرض من يعبد اللّه ،أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لجل الفداء الذي يحصل منهم ،وهو عرض
قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لبادتهم وإبطال شرهم.،فما دام لهم شر وصولة ،فالوفق أن
ل يؤسروا..
فإذا أثخنوا ،وبطل شرهم ،واضمحل أمرهم ،فحينئذ ل بأس بأخذ السرى منهم وإبقائهم.
يقول تعالى { :تُرِيدُونَ ْ} بأخذكم الفداء وإبقائهم { عَ َرضَ الدّنْيَا ْ} أي :ل لمصلحة تعود إلى دينكم.
{ وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِ َرةَ ْ} بإعزاز دينه ،ونصر أوليائه ،وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم ،فيأمركم بما
يوصل إلى ذلك.
حكِيمٌ ْ} أي :كامل العزة ،ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل ،لكنه
{ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
حكيم ،يبتلي بعضكم ببعض.
{ َلوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَ َبقَ ْ} به القضاء والقدر ،أنه قد أحل لكم الغنائم ،وأن اللّه رفع عنكم -أيها
عظِيمٌ ْ} وفي الحديث { :لو نزل عذاب يوم بدر ،ما نجا
سكُمْ فِيمَا َأخَذْ ُتمْ عَذَابٌ َ
المة -العذاب { َلمَ ّ
منه إل عمر ْ}
{ َفكُلُوا ِممّا غَ ِنمْتُمْ حَلَالًا طَيّبًا ْ} وهذا من لطفه تعالى بهذه المة ،أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لمة
قبلها.
{ { }ْ 71 - 70يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ ِلمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ َيعَْلمِ اللّهُ فِي قُلُو ِبكُمْ خَيْرًا ُيؤْ ِتكُمْ
غفُورٌ َرحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَ َتكَ َفقَدْ خَانُوا اللّهَ مِنْ قَ ْبلُ
خَيْرًا ِممّا ُأخِذَ مِ ْن ُك ْم وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
حكِيمٌ ْ}
فََأ ْمكَنَ مِ ْن ُه ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
وهذه نزلت في أسارى يوم بدر ،وكان في جملتهم العباس عم رسول اللّه صلى ال عليه
وسلم،فلما طلب منه الفداء ،ادّعى أنه مسلم قبل ذلك ،فلم يسقطوا عنه الفداء،فأنزل اللّه تعالى جبرا
لخاطره ومن كان على مثل حاله.
{ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ ِلمَنْ فِي أَيْدِي ُكمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ َيعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُو ِبكُمْ خَيْرًا ُيؤْ ِتكُمْ خَيْرًا ِممّا ُأخِذَ
مِ ْنكُمْ ْ} أي :من المال ،بأن ييسر لكم من فضله ،خيرا وأكثر مما أخذ منكم.
{ وَ َي ْغفِرْ َلكُمْ ْ} ذنوبكم ،ويدخلكم الجنة وقد أنجز اللّه وعده للعباس وغيره ،فحصل له -بعد ذلك
-من المال شيء كثير،حتى إنه مرة لما قدم على النبي صلى ال عليه وسلم مال كثير ،أتاه
العباس فأمره أن يأخذ منه بثوبه ما يطيق حمله ،فأخذ منه ما كاد أن يعجز عن حمله.
{ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَ َتكَ ْ} في السعي لحربك ومنابذتكَ { ،فقَدْ خَانُوا اللّهَ مِنْ قَ ْبلُ فََأ ْمكَنَ مِ ْنهُمْ ْ}
حكِيمٌ ْ} أي :عليم بكل
فليحذروا خيانتك ،فإنه تعالى قادر عليهم وهم تحت قبضته { ،وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
شيء ،حكيم يضع الشياء مواضعها ،ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الحكام الجليلة
الجميلة ،وأن تكفل بكفايتكم شأن السرى وشرهم إن أرادوا خيانة.
سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ آ َووْا وَ َنصَرُوا
{ { }ْ 72إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَا َهدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
شيْءٍ حَتّى ُيهَاجِرُوا
ن وَلَايَ ِتهِمْ مِنْ َ
أُولَ ِئكَ َب ْعضُهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ ُيهَاجِرُوا مَا َلكُمْ مِ ْ
ق وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ
وَإِنِ اسْتَ ْنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ َفعَلَ ْيكُمُ ال ّنصْرُ إِلّا عَلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَا ٌ
ْ}
هذا عقد موالة ومحبة ،عقدها اللّه بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه ،وتركوا
أوطانهم للّه لجل الجهاد في سبيل اللّه،وبين النصار الذين آووا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم
وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم،فهؤلء بعضهم أولياء بعض ،لكمال إيمانهم
وتمام اتصال بعضهم ببعض.
وقوله تعالى { :إِلّا عَلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُمْ وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ ْ} أي :عهد بترك القتال ،فإنهم إذا أراد المؤمنون
المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم ،فل تعينوهم عليهم ،لجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.
{ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ْ} يعلم ما أنتم عليه من الحوال ،فيشرع لكم من الحكام ما يليق بكم.
لما عقد الولية بين المؤمنين ،أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض فل
يواليهم إل كافر مثلهم.
وقوله { :إِلّا َت ْفعَلُوهُ ْ} أي :موالة المؤمنين ومعاداة الكافرين ،بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم
كلهم ،أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين.
{ َتكُنْ فِتْ َنةٌ فِي الْأَ ْرضِ َوفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ} فإنه يحصل بذلك من الشر ما ل ينحصر من اختلط الحق
بالباطل ،والمؤمن بالكافر ،وعدم كثير من العبادات الكبار ،كالجهاد والهجرة ،وغير ذلك من
مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض.
{ { }ْ 75 - 74وَالّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ آ َووْا وَ َنصَرُوا أُولَ ِئكَ ُهمُ
حقّا َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ َب ْع ُد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا َم َعكُمْ فَأُولَ ِئكَ
ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ ْ}
مِ ْنكُ ْم وَأُولُو الْأَ ْرحَامِ َب ْعضُهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
وهذه اليات في بيان مدحهم وثوابهم ،فقال { :وَالّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ
حقّا ْ} لنهم
وَالّذِينَ آ َووْا وَ َنصَرُوا أُولَ ِئكَ ْ} أي :المؤمنون من المهاجرين والنصار { هُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ
صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالة بعضهم لبعض ،وجهادهم لعدائهم من
الكفار والمنافقين.
{ َل ُهمْ َمغْفِ َرةٌ ْ} من اللّه تمحى بها سيئاتهم ،وتضمحل بها زلتهم { ،و ْ} لهم { رِ ْزقٌ كَرِيمٌ ْ} أي:
خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.
وربما حصل لهم من الثواب المعجل ما تقر به أعينهم ،وتطمئن به قلوبهم ،وكذلك من جاء بعد
هؤلء المهاجرين والنصار ،ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللّه { .فَأُولَ ِئكَ
مِ ْنكُمْ ْ} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم
فهذه الموالة اليمانية -وقد كانت في أول السلم -لها وقع كبير وشأن عظيم ،حتى إن النبي
صلى ال عليه وسلم آخى بين المهاجرين والنصارأخوة خاصة ،غير الخوة اليمانية العامة،
ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ْ} فل
وحتى كانوا يتوارثون بها ،فأنزل اللّه { وَأُولُو الْأَ ْرحَامِ َب ْع ُ
يرثه إل أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا ،فأقرب قراباته من ذوي الرحام،
كما دل عليه عموم هذه الية الكريمة،وقوله { :فِي كِتَابِ اللّهِ ْ} أي :في حكمه وشرعه.
شيْءٍ عَلِيمٌ ْ} ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما
{ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
يناسبها.
أي :هذه براءة من اللّه ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين ،أن لهم أربعة أشهر يسيحون
في الرض على اختيارهم ،آمنين من المؤمنين ،وبعد الربعة الشهر فل عهد لهم ،ول ميثاق.
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر ،أو مقدر بأربعة أشهر فأقل ،أما من كان له عهد مقدر
بزيادة على أربعة أشهر ،فإن ال يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة ،ولم يبدأ بنقض
العهد.
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم ،أنهم وإن كانوا آمنين ،فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه ،وأنه
من استمر منهم على شركه فإنه ل بد أن يخزيه ،فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في السلم،
إل من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له.
ن وَرَسُولُهُ
{ { }ْ 3وَأَذَانٌ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ َيوْمَ الْحَجّ الَْأكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِي َ
فَإِنْ تُبْتُمْ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّ ِه وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ}
هذا ما وعد اللّه به المؤمنين ،من نصر دينه وإعلء كلمته ،وخذلن أعدائهم من المشركين الذين
أخرجوا الرسول ومن معه من مكة ،من بيت اللّه الحرام ،وأجلوهم ،مما لهم التسلط عليه من
أرض الحجاز.
نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة ،وأذل المشركين ،وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على
تلك الديار.
فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الكبر ،وهو يوم النحر ،وقت اجتماع الناس مسلمهم
وكافرهم ،من جميع جزيرة العرب ،أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين ،فليس لهم
عنده عهد وميثاق ،فأينما وجدوا قتلوا ،وقيل لهم :ل تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا ،وكان
ذلك سنة تسع من الهجرة.
وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ،وأذن ببراءة -يوم النحر -ابن عم رسول اللّه
صلى ال عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة ،ورهبهم من الستمرار على الشرك فقال { :فَإِنْ تُبْتُمْ َف ُهوَ خَيْرٌ
َلكُ ْم وَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَاعَْلمُوا أَ ّن ُكمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّهِ ْ}
أي :فائتيه ،بل أنتم في قبضته ،قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين { .وَبَشّرِ الّذِينَ َكفَرُوا ِب َعذَابٍ
أَلِيمٍ ْ} أي :مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والسر ،والجلء ،وفي الخرة ،بالنار ،وبئس القرار.
أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين { .إِلّا الّذِينَ عَا َهدْتُمْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ْ} واستمروا
على عهدهم ،ولم يجر منهم ما يوجب النقض ،فل نقصوكم شيئا ،ول عاونوا عليكم أحدا ،فهؤلء
أتموا لهم عهدهم إلى مدتهم ،قَّلتْ ،أو كثرت ،لن السلم ل يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.
حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ} الذين أدوا ما أمروا به ،واتقوا الشرك والخيانة ،وغير ذلك من
{ إِنّ اللّهَ ُي ِ
المعاصي.
شهُرُ الْحُ ُرمُ ْ} أي :التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين ،وهي
يقول تعالى { فَإِذَا ا ْنسَلَخَ الَْأ ْ
أشهر التسيير الربعة ،وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها ،فقد برئت منهم الذمة.
حصُرُوهُمْ ْ}
خذُوهُمْ ْ} أسرى { وَا ْ
ث وَجَدْ ُتمُو ُهمْ ْ} في أي مكان وزمان { ،وَ ُ
{ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
أي :ضيقوا عليهم ،فل تدعوهم يتوسعون في بلد اللّه وأرضه ،التي جعلها [ال] معبدا لعباده.
فهؤلء ليسوا أهل لسكناها ،ول يستحقون منها شبرا ،لن الرض أرض اللّه ،وهم أعداؤه
المنابذون له ولرسله ،المحاربون الذين يريدون أن يخلو الرض من دينه ،ويأبى اللّه إل أن يتم
نوره ولو كره الكافرون.
{ وَا ْقعُدُوا َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ ْ} أي :كل ثنية وموضع يمرون عليه ،ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية
مجهودكم في ذلك ،ول تزالوا على هذا المر حتى يتوبوا من شركهم.
ولهذا قال { :فَإِنْ تَابُوا ْ} من شركهم { وََأقَامُوا الصّلَاةَ ْ} أي :أدوها بحقوقها { وَآتُوا ال ّزكَاةَ ْ}
لمستحقيها { َفخَلّوا سَبِيَلهُمْ ْ} أي :اتركوهم ،وليكونوا مثلكم ،لهم ما لكم ،وعليهم ما عليكم.
غفُورٌ رَحِيمٌ ْ} يغفر الشرك فما دونه ،للتائبين ،ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة ،ثم قبولها منهم.
{ إِنّ اللّهَ َ
وفي هذه الية ،دليل على أن من امتنع من أداء الصلة أو الزكاة ،فإنه يقاتل حتى يؤديهما ،كما
استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.
خذُوهُمْ
جدْ ُتمُوهُ ْم وَ ُ
ث وَ َ
شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
لما كان ما تقدم من قوله { فَإِذَا ا ْنسَلَخَ الَْأ ْ
حصُرُوهُ ْم وَا ْقعُدُوا َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ ْ} أمرا عاما في جميع الحوال ،وفي كل الشخاص منهم،
وَا ْ
ذكر تعالى ،أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم جاز ،بل وجب ذلك فقال { :وَإِنْ َأحَدٌ مِنَ
ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْ َتجَا َركَ ْ} أي :طلب منك أن تجيره ،وتمنعه من الضرر ،لجل أن يسمع كلم اللّه،
وينظر حالة السلم.
سمَعَ كَلَامَ اللّهِ ْ} ثم إن أسلم ،فذاك ،وإل فأبلغه مأمنه ،أي :المحل الذي يأمن فيه،
{ فََأجِ ْرهُ حَتّى يَ ْ
والسبب في ذلك أن الكفار قوم ل يعلمون ،فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم ،إذا زال
اختاروا عليه السلم ،فلذلك أمر اللّه رسوله ،وأمته أسوته في الحكام ،أن يجيروا من طلب أن
يسمع كلم اللّه.
وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة ،القائلين بأن القرآن كلم اللّه غير مخلوق،
لنه تعالى هو المتكلم به ،وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها ،وبطلن مذهب
المعتزلة ومن أخذ بقولهم :أن القرآن مخلوق.
وكم من الدلة الدالة على بطلن هذا القول ،ليس هذا محل ذكرها.
أما سعوا في الرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ اللّه منهم ،وأن ل يكون لهم عهد عنده ول عند
رسوله.
ظهَرُوا عَلَ ْيكُمْ لَا يَ ْرقُبُوا فِي ُكمْ إِلّا وَلَا ِذمّةً يُ ْرضُونَكُمْ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَتَأْبَى
{ { }ْ 11 - 8كَ ْيفَ وَإِنْ يَ ْ
سقُونَ * اشْتَ َروْا بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا َفصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ
قُلُو ُبهُ ْم وََأكْثَرُهُمْ فَا ِ
* لَا يَ ْرقُبُونَ فِي ُمؤْمِنٍ إِلّا وَلَا ِذمّ ًة وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وََأقَامُوا الصّلَا َة وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ
صلُ الْآيَاتِ ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ ْ}
ن وَنُ َف ّ
خوَا ُنكُمْ فِي الدّي ِ
فَإِ ْ
ول يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم ،فإنهم { يُ ْرضُو َنكُمْ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَتَأْبَى قُلُو ُبهُمْ ْ}
سقُونَ ْ} ل ديانة لهم
الميل والمحبة لكم ،بل هم العداء حقا ،المبغضون لكم صدقا { ،وََأكْثَرُهُمْ فَا ِ
ول مروءة.
{ اشْتَ َروْا بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا ْ} أي :اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا .على اليمان باللّه
ورسوله ،والنقياد ليات اللّه.
{ َفصَدّوا ْ} بأنفسهم ،وصدوا غيرهم { عَنْ سَبِيلِهِ إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * لَا يَ ْرقُبُونَ فِي ُم ْؤمِنٍ
إِلّا وَلَا ِذمّةً ْ} أي :لجل عداوتهم لليمان { إِلّا وَلَا ِذمّةً ْ} أي :لجل عداوتهم لليمان وأهله.
فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لجله ويبغضونكم ،هو اليمان ،فذبوا عن دينكم ،وانصروه
واتخذوا من عاداه لكم عدوا ومن نصره لكم وليا ،واجعلوا الحكم يدور معه وجودا وعدما ،ل
تجعلوا الولية والعداوة ،طبيعية تميلون بهما ،حيثما مال الهوى ،وتتبعون فيهما النفس المارة
بالسوء ،ولهذا { :فَإِنْ تَابُوا ْ} عن شركهم ،ورجعوا إلى اليمان { وََأقَامُوا الصّلَا َة وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ
خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ ْ} وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين لتكونوا عباد اللّه المخلصين ،وبهذا
فَإِ ْ
يكون العبد عبدا حقيقة .لما بين من أحكامه العظيمة ما بين ،ووضح منها ما وضح ،أحكاما
ح ْكمًا ،وحكمة قال { :وَ ُن َفصّلُ الْآيَاتِ ْ} أي :نوضحها ونميزها { ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ ْ} فإليهم
ح َكمًا ،و ُ
وِ
سياق الكلم ،وبهم تعرف اليات والحكام ،وبهم عرف دين السلم وشرائع الدين.
اللهم اجعلنا من القوم الذين يعلمون ،ويعملون بما يعلمون ،برحمتك وجودك وكرمك [وإحسانك يا
رب العالمين].
يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على
عهْدِ ِهمْ ْ} أي :نقضوها وحلوها ،فقاتلوكم أو أعانوا على
الوفاء { :وَإِنْ َنكَثُوا أَ ْيمَا َنهُمْ مِنْ َب ْعدِ َ
طعَنُوا فِي دِي ِنكُمْ ْ} أي :عابوه ،وسخروا منه.
قتالكم ،أو نقصوكم { ،وَ َ
ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين ،أو إلى القرآنَ { ،فقَاتِلُوا أَ ِئمّةَ ا ْل ُكفْرِ ْ} أي:
القادة فيه ،الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن ،الناصرين لدين الشيطان ،وخصهم بالذكر لعظم
جنايتهم ،ولن غيرهم تبع لهم ،وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه ،فإنه من
أئمة الكفر.
{ إِ ّن ُهمْ لَا أَ ْيمَانَ َلهُمْ ْ} أي :ل عهود ول مواثيق يلزمون على الوفاء بها ،بل ل يزالون خائنين،
ناكثين للعهد ،ل يوثق منهم.
{ َلعَّل ُهمْ ْ} في قتالكم إياهم { يَنْ َتهُونَ ْ} عن الطعن في دينكم ،وربما دخلوا فيه ،ثم حث على قتالهم،
وهيج المؤمنين بذكر الوصاف ،التي صدرت من هؤلء العداء ،والتي هم موصوفون بها،
المقتضية لقتالهم فقال { :أَلَا ُتقَاتِلُونَ َق ْومًا َنكَثُوا أَ ْيمَا َن ُه ْم وَ َهمّوا بِِإخْرَاجِ الرّسُولِ ْ} الذي يجب
احترامه وتوقيره وتعظيمه؟ وهم هموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه وسعوا في ذلك ما أمكنهم{ ،
وَهُمْ َبدَءُوكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ ْ} حيث نقضوا العهد وأعانوا عليكم ،وذلك حيث عاونت قريش -وهم
معاهدون -بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،وقاتلوا معهم
كما هو مذكور مبسوط في السيرة.
فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لمر اللّه ،ول تخشوهم فتتركوا أمر اللّه ،ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب
على قتالهم من الفوائد ،وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم ،فقال { :قَاتِلُو ُهمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ
بِأَيْدِيكُمْ ْ} بالقتل { وَيُخْزِ ِهمْ ْ} إذا نصركم اللّه عليهم ،وهم العداء الذين يطلب خزيهم ويحرص
عليه { ،وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِمْ ْ} هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها.
ن وَيُذْ ِهبْ غَيْظَ قُلُو ِبهِمْ ْ} فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما
ف صُدُورَ َقوْمٍ ُم ْؤمِنِي َ
ش ِ
{ وَيَ ْ
يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم ،إذ يرون هؤلء العداء محاربين
للّه ولرسوله ،ساعين في إطفاء نور اللّه ،وزوال للغيظ الذي في قلوبهم ،وهذا يدل على محبة اللّه
لعباده المؤمنين ،واعتنائه بأحوالهم ،حتى إنه جعل -من جملة المقاصد الشرعية -شفاء ما في
صدورهم وذهاب غيظهم.
ثم قال { :وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ْ} من هؤلء المحاربين ،بأن يوفقهم للدخول في السلم،
ويزينه في قلوبهم ،و ُيكَرّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
حكِيمٌ ْ} يضع الشياء مواضعها ،ويعلم من يصلح لليمان فيهديه ،ومن ل يصلح،
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
فيبقيه في غيه وطغيانه.
{ { }ْ 16أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْ َركُوا وََلمّا َيعَْلمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُوا مِ ْن ُك ْم وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلَا
ن وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ}
رَسُولِ ِه وَلَا ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
{ وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِ ْنكُمْ ْ} أي :علما يظهر مما في القوة إلى الخارج ،ليترتب عليه
الثواب والعقاب ،فيعلم الذين يجاهدون في سبيله :لعلء كلمته { وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلَا
ن وَلِيجَةً ْ} أي :وليا من الكافرين ،بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء.
رَسُولِ ِه وَلَا ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود العظم ،وهو أن يتميز الصادقون الذين ل يتحيزون
إل لدين اللّه ،من الكاذبين الذين يزعمون اليمان وهم يتخذون الولئج والولياء من دون اللّه ول
رسوله ول المؤمنين.
{ وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ} أي :يعلم ما يصير منكم ويصدر ،فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم
عليه ،ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها.
يقول تعالى { :مَا كَانَ ْ} أي :ما ينبغي ول يليق { لِ ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ َي ْعمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ ْ} بالعبادة،
والصلة ،وغيرها من أنواع الطاعات ،والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة
حالهم وفطرهم ،وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.
سهِمْ بِا ْل ُكفْرِ ْ} وعدم اليمان ،الذي هو شرط لقبول العمال ،فكيف
فإذا كانوا { شَا ِهدِينَ عَلَى أَ ْنفُ ِ
عمّارُ مساجد اللّه ،والصل منهم مفقود ،والعمال منهم باطلة؟".
يزعمون أنهم ُ
ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال { :إِ ّنمَا َي ْعمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وََأقَامَ
الصّلَاةَ ْ} الواجبة والمستحبة ،بالقيام بالظاهر منها والباطن.
{ وَآتَى ال ّزكَاةَ ْ} لهلها { وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللّهَ ْ} أي قصر خشيته على ربه ،فكف عما حرم اللّه ،ولم
يقصر بحقوق اللّه الواجبة.
فوصفهم باليمان النافع ،وبالقيام بالعمال الصالحة التي ُأمّها الصلة والزكاة ،وبخشية اللّه التي
هي أصل كل خير ،فهؤلء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها ،الذين هم أهلها.
{ َفعَسَى أُولَ ِئكَ أَنْ َيكُونُوا مِنَ ا ْل ُمهْتَدِينَ ْ} و { عسى ْ} من اللّه واجبة .وأما من لم يؤمن باللّه ول
باليوم الخر ،ول عنده خشية للّه ،فهذا ليس من عمار مساجد اللّه ،ول من أهلها الذين هم أهلها،
وإن زعم ذلك وادعاه.
سجِدِ ا ْلحَرَامِ َكمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر َوجَاهَدَ
عمَا َرةَ ا ْلمَ ْ
ج وَ ِ
سقَايَةَ الْحَا ّ
جعَلْتُمْ ِ
{ َ { }ْ 22 - 19أ َ
فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْ َتوُونَ عِ ْندَ اللّ ِه وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ * الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَا َهدُوا
ح َمةٍ
جةً عِنْدَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ * يُ َبشّرُهُمْ رَ ّب ُهمْ بِرَ ْ
عظَمُ دَرَ َ
سهِمْ أَ ْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
عظِيمٌ }
ضوَانٍ َوجَنّاتٍ َل ُهمْ فِيهَا َنعِيمٌ ُمقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ أَجْرٌ َ
مِنْ ُه وَ ِر ْ
لما اختلف بعض المسلمين ،أو بعض المسلمين وبعض المشركين ،في تفضيل عمارة المسجد
الحرام ،بالبناء والصلة والعبادة فيه وسقاية الحاج ،على اليمان باللّه والجهاد في سبيله ،أخبر
سقَايَةَ ا ْلحَاجّ } أي :سقيهم الماء من زمزم كما هو
جعَلْ ُتمْ ِ
اللّه تعالى بالتفاوت بينهما ،فقال { :أَ َ
سجِدِ الْحَرَامِ َكمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ
عمَا َرةَ ا ْلمَ ْ
المعروف إذا أطلق هذا السم ،أنه المراد { وَ ِ
وَجَا َهدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْ َتوُونَ عِ ْندَ اللّهِ }
فالجهاد واليمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة ،لن اليمان
أصل الدين ،وبه تقبل العمال ،وتزكو الخصال.
وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين ،الذي به يحفظ الدين السلمي ويتسع ،وينصر
الحق ويخذل الباطل.
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج ،فهي وإن كانت أعمال صالحة ،فهي متوقفة على
اليمان ،وليس فيها من المصالح ما في اليمان والجهاد ،فلذلك قال { :لَا يَسْ َتوُونَ عِنْدَ اللّ ِه وَاللّهُ لَا
َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي :الذين وصفهم الظلم ،الذين ل يصلحون لقبول شيء من الخير ،بل ل
يليق بهم إل الشر.
ثم صرح بالفضل فقال { :الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ } بالنفقة في
جةً عِنْدَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ }
عظَمُ دَرَ َ
سهِمْ } بالخروج بالنفس { أَ ْ
الجهاد وتجهيز الغزاة { وَأَ ْنفُ ِ
أي :ل يفوز بالمطلوب ول ينجو من المرهوب ،إل من اتصف بصفاتهم ،وتخلق بأخلقهم.
عظِيمٌ } ل
حوَلًا { ،إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ َأجْرٌ َ
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } ل ينتقلون عنها ،ول يبغون عنها ِ
تستغرب كثرته على فضل اللّه ،ول يتعجب من عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون.
يقول تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى اليمان ،بأن توالوا من قام به ،وتعادوا من لم
يقم به.
خوَا َنكُمْ } الذين هم أقرب الناس إليكم ،وغيرهم من باب أولى وأحرى ،فل
و { لَا تَتّخِذُوا آبَا َءكُ ْم وَإِ ْ
تتخذوهم { َأوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبّوا } أي :اختاروا على وجه الرضا والمحبة { ا ْل ُكفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ }
{ َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } لنهم تجرؤوا على معاصي اللّه ،واتخذوا أعداء اللّه
أولياء ،وأصل الولية :المحبة والنصرة ،وذلك أن اتخاذهم أولياء ،موجب لتقديم طاعتهم على
طاعة اللّه ،ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله.
ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك ،وهو أن محبة اللّه ورسوله ،يتعين تقديمهما على محبة كل شيء،
خوَا ُنكُمْ
وجعل جميع الشياء تابعة لهما فقالُ { :قلْ إِنْ كَانَ آبَا ُؤكُمْ } ومثلهم المهات { وَأَبْنَا ُؤكُ ْم وَإِ ْ
جكُ ْم وَعَشِيرَ ُت ُكمْ } أي :قراباتكم عموما { وََأ ْموَالٌ اقْتَ َرفْ ُتمُوهَا } أي:
} في النسب والعشرة { وَأَ ْزوَا ُ
اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها ،خصها بالذكر ،لنها أرغب عند أهلها ،وصاحبها أشد حرصا
عليها ممن تأتيه الموال من غير تعب ول َكدّ.
شوْنَ كَسَادَهَا } أي :رخصها ونقصها ،وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب
{ وَ ِتجَا َرةٌ تَخْ َ
من عروض التجارات ،من الثمان ،والواني ،والسلحة ،والمتعة ،والحبوب ،والحروث،
والنعام ،وغير ذلك.
حبّ
ضوْ َنهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لهوائكم ،فإن كانت هذه الشياء { َأ َ
{ َومَسَاكِنُ تَ ْر َ
جهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة.
إِلَ ْيكُمْ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ِ
{ فَتَرَ ّبصُوا } أي :انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ } الذي ل مرد له.
سقِينَ } أي :الخارجين عن طاعة اللّه ،المقدمين على محبة اللّه شيئا من
{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
المذكورات.
وهذه الية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله ،وعلى تقديمها على محبة كل
شيء ،وعلى الوعيد الشديد والمقت الكيد ،على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من
اللّه ورسوله ،وجهاد في سبيله.
وعلمة ذلك ،أنه إذا عرض عليه أمران ،أحدهما يحبه اللّه ورسوله ،وليس لنفسه فيها هوى،
والخر تحبه نفسه وتشتهيه ،ولكنه ُي َف ّوتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله ،أو ينقصه ،فإنه إن قدم ما
تهواه نفسه ،على ما يحبه اللّه ،دل ذلك على أنه ظالم ،تارك لما يجب عليه.
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ،بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء ،ومواضع
الحروب والهيجاء ،حتى في يوم { حنين } الذي اشتدت عليهم فيه الزمة ،ورأوا من التخاذل
والفرار ،ما ضاقت عليهم به الرض على رحبها وسعتها.
وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم لما فتح مكة ،سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه ،فسار إليهم
صلى ال عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة ،وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة ،فكانوا اثني
عشر ألفا ،والمشركون أربعة آلف ،فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم ،وقال بعضهم :لن نغلب
اليوم من قلة.
فلما التقوا هم وهوازن ،حملوا على المسلمين حملة واحدة ،فانهزموا ل يلوي أحد على أحد ،ولم
يبق مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،إل نحو مائة رجل ،ثبتوا معه ،وجعلوا يقاتلون
المشركين ،وجعل النبي صلى ال عليه وسلم ،يركض بغلته نحو المشركين ويقول { :أنا النبي ل
كذب ،أنا ابن عبد المطلب }
ولما رأى من المسلمين ما رأى ،أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في النصار وبقية
المسلمين ،وكان رفيع الصوت ،فناداهم :يا أصحاب السمرة ،يا أهل سورة البقرة.
فلما سمعوا صوته ،عطفوا عطفة رجل واحد ،فاجتلدوا مع المشركين ،فهزم اللّه المشركين،
هزيمة شنيعة ،واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.
وذلك قوله تعالى { َلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َر ٍة وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ } وهو اسم للمكان الذي كانت
فيه الوقعة بين مكة والطائف.
عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ فََلمْ ُتغْنِ عَ ْنكُمْ شَيْئًا } أي :لم تفدكم شيئا ،قليل ول كثيرا { َوضَاقَتْ عَلَ ْيكُمُ
{ ِإذْ أَ ْ
الْأَ ْرضُ } بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم { ِبمَا رَحُ َبتْ } أي :على رحبها وسعتهاُ { ،ثمّ
وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أي :منهزمين.
سكِينَتَهُ عَلَى رَسُوِل ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } والسكينة ما يجعله اللّه في القلوب وقت
{ ُثمّ أَنْ َزلَ اللّهُ َ
القلقل والزلزل والمفظعات ،مما يثبتها ،ويسكنها ويجعلها مطمئنة ،وهي من نعم اللّه العظيمة
على العباد.
{ وَأَنْ َزلَ جُنُودًا لَمْ تَ َروْهَا } وهم الملئكة ،أنزلهم اللّه معونة للمسلمين يوم حنين ،يثبتونهم،
ويبشرونهم بالنصر.
{ وَعَ ّذبَ الّذِينَ َكفَرُوا } بالهزيمة والقتل ،واستيلء المسلمين على نسائهم وأولدهم وأموالهم.
{ وَ َذِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ } يعذبهم اللّه في الدنيا ،ثم يردهم في الخرة إلى عذاب غليظ.
{ ُثمّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } فتاب اللّه على كثير ممن كانت الوقعة عليهم ،وأتوا
إلى النبي صلى ال عليه وسلم مسلمين تائبين ،فرد عليهم نساءهم ،وأولدهم.
غفُورٌ َرحِيمٌ } أي :ذو مغفرة واسعة ،ورحمة عامة ،يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين،
{ وَاللّهُ َ
ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة ،والصفح عن جرائمهم ،وقبول توباتهم ،فل ييأسنّ أحد من
مغفرته ورحمته ،ولو فعل من الذنوب والجرام ما فعل.
يقول تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره { َنجَسٌ } أي:
خبثاء في عقائدهم وأعمالهم ،وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة ل تنفع ول تضر ،ول
تغني عنه شيئا؟".
وأعمالهم ما بين محاربة للّه ،وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل ،ورد للحق ،وعمل بالفساد في
الرض ل في الصلح ،فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم.
سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة ،حين حج بالناس أبو بكر
{ فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ
الصديق ،وبعث النبي صلى ال عليه وسلم ابن عمه عليا ،أن يؤذن يوم الحج الكبر بب { براءة }
فنادى أن ل يحج بعد العام مشرك ،ول يطوف بالبيت عريان.
وليس المراد هنا ،نجاسة البدن ،فإن الكافر كغيره طاهر البدن ،بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء
الكتابية ومباشرتها ،ولم يأمر بغسل ما أصاب منها.
والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار ،ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منهاَ ،تقَذّرَهْم من
النجاسات ،وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية ،بالشرك ،فكما أن التوحيد واليمان ،طهارة،
فالشرك نجاسة.
خفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيَْلةً } أي :فقرا وحاجة ،من منع المشركين من قربان
وقوله { :وَإِنْ ِ
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ
المسجد الحرام ،بأن تنقطع السباب التي بينكم وبينهم من المور الدنيوية { ،فَ َ
مِنْ َفضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب واحد ،ومحل واحد ،بل ل ينغلق باب إل وفتح غيره
أبواب كثيرة ،فإن فضل اللّه واسع ،وجوده عظيم ،خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم ،فإن
اللّه أكرم الكرمين.
وقد أنجز اللّه وعده ،فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله ،وبسط لهم من الرزاق ما كانوا به
من أكبر الغنياء والملوك.
وقوله { :إِنْ شَاءَ } تعليق للغناء بالمشيئة ،لن الغنى في الدنيا ،ليس من لوازم اليمان ،ول يدل
على محبة اللّه ،فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.
فإن اللّه يعطي الدنيا ،من يحب ،ومن ل يحب ،ول يعطي اليمان والدين ،إل من يحب.
واسع ،يعلم من يليق به الغنى ،ومن ل يليق ،ويضع الشياء مواضعها وينزلها منازلها.
سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا } أن المشركين بعد ما
وتدل الية الكريمة ،وهي قوله { فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ
كانوا ،هم الملوك والرؤساء بالبيت ،ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين ،مع إقامتهم
في البيت ،ومكة المكرمة ،ثم نزلت هذه الية.
ولما مات النبي صلى ال عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز ،فل يبقى فيها دينان ،وكل هذا
سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا
لجل ُبعْ ِد كل كافر عن المسجد الحرام ،فيدخل في قوله { فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ
}
{ { } 29قَاتِلُوا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَلَا بِالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَلَا ُيحَ ّرمُونَ مَا حَرّمَ اللّ ُه وَرَسُولُهُ وَلَا
حقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ حَتّى ُي ْعطُوا الْجِزْ َيةَ عَنْ يَدٍ وَهُ ْم صَاغِرُونَ }
يَدِينُونَ دِينَ الْ َ
هذه الية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من { الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَلَا بِالْ َيوْمِ الْآخِرِ }
إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم .ول يحرمون ما حرم ال ،فل يتبعون شرعه في تحريم
المحرمات { ،وَلَا َيدِينُونَ دِينَ ا ْلحَقّ } أي :ل يدينون بالدين الصحيح ،وإن زعموا أنهم على دين،
فإنه دين غير الحق ،لنه إما بين دين مبدل ،وهو الذي لم يشرعه اللّه أصل ،وإما دين منسوخ قد
شرعه اللّه ،ثم غيره بشريعة محمد صلى ال عليه وسلم ،فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز.
فأمره بقتال هؤلء وحث على ذلك ،لنهم يدعون إلى ما هم عليه ،ويحصل الضرر الكثير منهم
للناس ،بسبب أنهم أهل كتاب.
وغيّى ذلك القتال { حَتّى ُيعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي :المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم،
وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم ،بين أظهر المسلمين ،يؤخذ منهم كل عام ،كلّ على حسب
حاله ،من غني وفقير ومتوسط ،كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره ،من أمراء
المؤمنين.
وقوله { :عَنْ يَدٍ } أي :حتى يبذلوها في حال ذلهم ،وعدم اقتدارهم ،ويعطونها بأيديهم ،فل
يرسلون بها خادما ول غيره ،بل ل تقبل إل من أيديهم { ،وَ ُه ْم صَاغِرُونَ }
فإذا كانوا بهذه الحال ،وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية ،وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم،
وحال المن من شرهم وفتنتهم ،واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم
وتكبرهم ،ويوجب ذلهم وصغارهم ،وجب على المام أو نائبه أن يعقدها لهم.
وإل بأن لم يفوا ،ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ،لم يجز إقرارهم بالجزية ،بل يقاتلون
حتى يسلموا.
واستدل بهذه الية الجمهور الذين يقولون :ل تؤخذ الجزية إل من أهل الكتاب ،لن اللّه لم يذكر
أخذ الجزية إل منهم.
وأما غيرهم فلم يذكر إل قتالهم حتى يسلموا ،وألحق بأهل الكتاب في أخد الجزية وإقرارهم في
ديار المسلمين ،المجوس ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم ،أخذ الجزية من مجوس هجر ،ثم أخذها
أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس.
وقيل :إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ،لن هذه الية نزلت بعد الفراغ
من قتال العرب المشركين ،والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم ،فيكون هذا القيد إخبارا
بالواقع ،ل مفهوما له.
ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب ،ولنه قد تواتر عن المسلمين
من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلث :إما السلم ،أو أداء الجزية،
أو السيف ،من غير فرق بين كِتَا ِبيّ وغيره.
{ َ { } 33 - 30وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّ ِه َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى ا ْل َمسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَِلكَ َقوُْلهُمْ
بَِأ ْفوَا ِههِمْ ُيضَاهِئُونَ َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ قَاتََلهُمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ * اتّخَذُوا َأحْبَارَ ُه ْم وَرُهْبَا َنهُمْ
عمّا
حدًا لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ سُبْحَانَهُ َ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْ َي َم َومَا ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْبُدُوا إَِلهًا وَا ِ
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَى اللّهُ ِإلّا أَنْ يُتِمّ نُو َرهُ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ *
يُشْ ِركُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ ُي ْ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }
حقّ لِ ُي ْ
سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ الْ َ
ُهوَ الّذِي أَ ْر َ
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ،ذكر من أقوالهم الخبيثة ،ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم
ولدينه على قتالهم ،والجتهاد وبذل الوسع فيه فقالَ { :وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ } وهذه المقالة
وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ،فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما
أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه ،وتنقصوا عظمته وجلله.
وقد قيل :إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه ،أنه لما سلط ال الملوك على بني إسرائيل،
حمَلَةَ التوراة ،وجدوا
ومزقوهم كل ممزق ،وقتلوا َ
عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لكثرها ،فأملها عليهم من حفظه ،واستنسخوها ،فادعوا فيه هذه
الدعوى الشنيعة.
{ َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللّهِ } قال اللّه تعالى { ذَِلكَ } القول الذي قالوه
{ َقوُْلهُمْ بَِأ ْفوَا ِه ِهمْ } لم يقيموا عليه حجة ول برهانا.
ومن كان ل يبالي بما يقول ،ل يستغرب عليه أي قول يقوله ،فإنه ل دين ول عقل ،يحجزه ،عما
يريد من الكلم.
ولهذا قالُ { :يضَاهِئُونَ } أي :يشابهون في قولهم هذا { َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ } أي :قول
المشركين الذين يقولون { :الملئكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم ،فتشابهت أقوالهم في البطلن.
{ قَاتََل ُهمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ } أي :كيف يصرفون على الحق ،الصرف الواضح المبين ،إلى القول
الباطل المبين.
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة ،أن تتفق على قول -يدل على بطلنه أدنى تفكر
وتسليط للعقل عليه ،فإن لذلك سببا وهو أنهم { :اتّخَذُوا َأحْبَارَ ُهمْ } وهم علماؤهم { وَرُهْبَا َنهُمْ } أي:
العُبّاد المتجردين للعبادة.
{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ } ُيحِلّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه ،ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه،
ويشرعون لهم من الشرائع والقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم ،ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه،
وتقصد بالذبائح ،والدعاء والستغاثة.
{ وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه ،والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على
ألسنة رسله فما { ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْبُدُوا إَِلهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } فيخلصون له العبادة والطاعة،
ويخصونه بالمحبة والدعاء ،فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.
عمّا ُيشْ ِركُونَ } أي :تنزه وتقدس ،وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم،
{ سُبْحَا َنهُ } وتعالى { َ
فإنهم ينتقصونه في ذلك ،ويصفونه بما ل يليق بجلله ،واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن
كل ما نسب إليه ،مما ينافي كماله المقدس.
فلما تبين أنه ل حجة لهم على ما قالوه ،ول برهان لما أصّلوه ،وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِمْ }
افتروه أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُ ْ
ونور اللّه :دينه الذي أرسل به الرسل ،وأنزل به الكتب ،وسماه اللّه نورا ،لنه يستنار به في
ظلمات الجهل والديان الباطلة ،فإنه علم بالحق ،وعمل بالحق ،وما عداه فإنه بضده ،فهؤلء
اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين ،يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم ،التي
ليس عليها دليل أصل.
{ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُ ِتمّ نُو َرهُ } لنه النور الباهر ،الذي ل يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على
إطفائه أن يطفئوه ،والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده ،وقد تكفل بحفظه من كل من يريده
بسوء ،ولهذا قال { :وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُ ِتمّ نُو َرهُ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في رده
وإبطاله ،فإن سعيهم ل يضر الحق شيئا.
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ } أي :ليعليه على
فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق { لِيُ ْ
سائر الديان ،بالحجة والبرهان ،والسيف والسنان ،وإن كره المشركون ذلك ،وبغوا له الغوائل،
ومكروا مكرهم ،فإن المكر السيئ ل يضر إل صاحبه ،فوعد اللّه ل بد أن ينجزه ،وما ضمنه لبد
أن يقوم به.
طلِ
{ { } 35 - 34يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَا ِر وَالرّهْبَانِ لَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
ب وَا ْل ِفضّ َة وَلَا يُ ْنفِقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْ ُهمْ ِبعَذَابٍ
وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
سكُمْ
ظهُورُهُمْ َهذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ
جهَنّمَ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم َوجُنُو ُبهُمْ وَ ُ
حمَى عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ
أَلِيمٍ * َيوْمَ يُ ْ
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْنِزُونَ }
هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الحبار والرهبان ،أي :العلماء والعباد
الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ،أي :بغير حق ،ويصدون عن سبيل اللّه ،فإنهم إذا كانت لهم
رواتب من أموال الناس ،أو بذل الناس لهم من أموالهم فإنه لجل علمهم وعبادتهم ،ولجل هداهم
وهدايتهم ،وهؤلء يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل اللّه ،فيكون أخذهم لها على هذا الوجه
سحتا وظلما ،فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إل ليدلوهم إلى الطريق المستقيم.
ومن أخذهم لموال الناس بغير حق ،أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه،
فهؤلء الحبار والرهبان ،ليحذر منهم هاتان الحالتان :أخذهم لموال الناس بغير حق ،وصدهم
الناس عن سبيل اللّه.
ب وَا ْل ِفضّةَ } أي :يمسكونها { وَلَا يُ ْن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي :طرق الخير
{ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
الموصلة إلى اللّه ،وهذا هو الكنز المحرم ،أن يمسكها عن النفقة الواجبة ،كأن يمنع منها الزكاة أو
النفقات الواجبة للزوجات ،أو القارب ،أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت.
ظهُورُ ُهمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره
{ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم وَجُنُو ُبهُ ْم وَ ُ
سكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْ ُتمْ َتكْنِزُونَ } فما
خمسين ألف سنة ،ويقال لهم توبيخا ولوماَ { :هذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ
ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز.
وذكر اللّه في هاتين اليتين ،انحراف النسان في ماله ،وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي ل يجدي عليه نفعا ،بل ل يناله منه إل الضرر المحض ،وذلك
كإخراج الموال في المعاصي والشهوات التي ل تعين على طاعة اللّه ،وإخراجها للصد عن سبيل
اللّه.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات ،و { النهي عن الشيء ،أمر بضده }
سمَاوَاتِ
شهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ َيوْمَ خَلَقَ ال ّ
شهُورِ عِ ْندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ
{ } 36وقوله { :إِنّ عِ ّدةَ ال ّ
سكُ ْم َوقَاتِلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ كَافّةً َكمَا
وَالْأَ ْرضَ مِ ْنهَا أَرْ َب َعةٌ حُ ُرمٌ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَلَا َتظِْلمُوا فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَافّةً وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُتّقِينَ }
{ مِ ْنهَا أَرْ َبعَةٌ حُ ُرمٌ } وهي :رجب الفرد ،وذو القعدة ،وذو الحجة ،والمحرم ،وسميت حرما لزيادة
حرمتها ،وتحريم القتال فيها.
سكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الثنى عشر شهرا ،وأن اللّه تعالى بين
{ فَلَا تَظِْلمُوا فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
أنه جعلها مقادير للعباد ،وأن تعمر بطاعته ،ويشكر اللّه تعالى على مِنّتِ ِه بها ،وتقييضها لمصالح
العباد ،فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الربعة الحرم ،وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها ،خصوصا مع
النهي عن الظلم كل وقت ،لزيادة تحريمها ،وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها.
ومن ذلك النهي عن القتال فيها ،على قول من قال :إن القتال في الشهر الحرام لم ينسخ تحريمه
عمل بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها.
ومنهم من قال :إن تحريم القتال فيها منسوخ ،أخذا بعموم نحو قوله تعالىَ { :وقَاتِلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ
كَافّةً َكمَا ُيقَاتِلُونَكُمْ كَافّةً } أي :قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين.
ول تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد ،بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك ،قد
اتخذوا أهل اليمان أعداء لهم ،ل يألونهم من الشر شيئا.
ويحتمل أن { كَافّةً } حال من الواو فيكون معنى هذا :وقاتلوا جميعكم المشركين ،فيكون فيها
وجوب النفير على جميع المؤمنين.
وقد نسخت على هذا الحتمال بقولهَ { :ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً } الية { .وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ
مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } بعونه ونصره وتأييده ،فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام
بطاعته ،خصوصا عند قتال الكفار ،فإنه في هذه الحال ،ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في
معاملة الكفار العداء المحاربين.
النسيء :هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الشهر الحرم ،وكان من جملة بدعهم الباطلة،
أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال ،في بعض أوقات الشهر الحرم ،رأوا -بآرائهم الفاسدة -أن
يحافظوا على عدة الشهر الحرم ،التي حرم اللّه القتال فيها ،وأن يؤخروا بعض الشهر الحرم،
أو يقدموه ،ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا ،فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه ،وجعلوا
الشهر الحلل حراما ،فهذا -كما أخبر اللّه عنهم -أنه زيادة في كفرهم وضللهم ،لما فيه من
المحاذير.
منها :أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ،وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه ،واللّه ورسوله بريئان منه.
ومنها :أنهم َموّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده ،ولبسوا عليهم دينهم ،واستعملوا الخداع والحيلة
في دين اللّه.
ومنها :أن العوائد المخالفة للشرع مع الستمرار عليها ،يزول قبحها عن النفوس ،وربما ظن أنها
حلّونَهُ
ضلّ ِبهِ الّذِينَ َكفَرُوا يُ ِ
عوائد حسنة ،فحصل من الغلط والضلل ما حصل ،ولهذا قالُ { :ي َ
ع ّدةَ مَا حَرّمَ اللّهُ } أي :ليوافقوها في العدد ،فيحلوا ما حرم اللّه.
عَامًا وَيُحَ ّرمُونَهُ عَامًا لِ ُيوَاطِئُوا ِ
عمَاِلهِمْ } أي :زينت لهم الشياطين العمال السيئة ،فرأوها حسنة ،بسبب العقيدة
{ زُيّنَ َلهُمْ سُوءُ أَ ْ
المزينة في قلوبهم.
{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ } أي :الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم ،فلو جاءتهم كل آية،
لم يؤمنوا.
{ } 39 - 38قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا َلكُمْ ِإذَا قِيلَ َلكُمُ ا ْنفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْ ُتمْ
إِلَى الْأَ ْرضِ أَ َرضِيتُمْ بِا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الْآخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الْآخِ َرةِ إِلّا قَلِيلٌ * إِلّا تَ ْنفِرُوا
شيْءٍ قَدِيرٌ }
عذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَ ْب ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُ ْم وَلَا َتضُرّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
ُيعَذّ ْبكُمْ َ
اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة ،نزلت في غزوة تبوك ،إذ ندب النبي صلى ال عليه وسلم
المسلمين إلى غزو الروم ،وكان الوقت حارا ،والزاد قليل ،والمعيشة عسرة ،فحصل من بعض
المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم ،فقال تعالى:
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } أل تعملون بمقتضى اليمان ،وداعي اليقين من المبادرة لمر اللّه،
والمسارعة إلى رضاه ،وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم ،فب { مَا َل ُكمْ إِذَا قِيلَ َل ُكمُ ا ْنفِرُوا فِي سَبِيلِ
اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَ ْرضِ } أي :تكاسلتم ،وملتم إلى الرض والدعة والسكون فيها.
{ أَ َرضِي ُتمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الْآخِ َرةِ } أي :ما حالكم إل حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال
بالخرة ،فكأنه ما آمن بها.
{ َفمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } التي مالت بكم ،وقدمتموها على الخرة { ِإلّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه
لكم عقول تَزِنُون بها المور ،وأيها أحق باليثار؟.
أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها -ل نسبة لها في الخرة .فما مقدار عمر النسان القصير جدا
من الدنيا حتى يجعله الغاية التي ل غاية وراءها ،فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته ل يتعدى
حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالكدار ،المشحونة بالخطار.
فبأي رَ ْأيٍ رأيتم إيثارها على الدار الخرة الجامعة لكل نعيم ،التي فيها ما تشتهيه النفس وتلذ
العين ،وأنتم فيها خالدون ،فواللّه ما آثر الدنيا على الخرة من وقر اليمان في قلبه ،ول من
جزل رأيه ،ول من عُدّ من أولي اللباب ،ثم توعدهم على عدم النفير فقال:
{ ِإلّا تَ ْنفِرُوا ُيعَذّ ْب ُكمْ عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا والخرة ،فإن عدم النفير في حال الستنفار من كبائر
الذنوب الموجبة لشد العقاب ،لما فيها من المضار الشديدة ،فإن المتخلف ،قد عصى اللّه تعالى
وارتكب لنهيه ،ولم يساعد على نصر دين اللّه ،ول ذب عن كتاب اللّه وشرعه ،ول أعان إخوانه
المسلمين على عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم ،وربما اقتدى به غيره من ضعفاء
اليمان ،بل ربما َفتّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه ،فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده اللّه
بالوعيد الشديد ،فقالِ { :إلّا تَ ْنفِرُوا ُيعَذّ ْب ُكمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َر ُكمْ } ثم ل يكونوا أمثالكم {
وَلَا َتضُرّوهُ شَيْئًا } فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلء كلمته ،فسواء امتثلتم لمر اللّه ،أو
ألقيتموه ،وراءكم ظهريا.
{ ِ { } 40إلّا تَ ْنصُرُوهُ َفقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ إِذْ أَخْ َرجَهُ الّذِينَ َكفَرُوا ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ ِإذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ إِذْ َيقُولُ
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ
علَيْ ِه وَأَيّ َدهُ ِبجُنُودٍ َلمْ تَ َروْهَا وَ َ
سكِينَتَهُ َ
ِلصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ
حكِيمٌ }
سفْلَى َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
َكفَرُوا ال ّ
أي :إل تنصروا رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم ،فاللّه غني عنكم ،ل تضرونه شيئا ،فقد
نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْ َرجَهُ الّذِينَ َكفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله ،وسعوا في ذلك،
وحرصوا أشد الحرص ،فألجؤوه إلى أن يخرج.
{ ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ } أي :هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه { .إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ } أي :لما هربا من
مكة ،لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة ،فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.
فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة ،حين انتشر العداء من كل جانب يطلبونهما
ليقتلوهما ،فأنزل اللّه عليهما من نصره ما ل يخطر على البال.
{ ِإذْ َيقُولُ } النبي صلى ال عليه وسلم { ِلصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه { ،لَا تَحْزَنْ إِنّ
اللّهَ َمعَنَا } بعونه ونصره وتأييده.
سكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي :الثبات والطمأنينة ،والسكون المثبتة للفؤاد ،ولهذا لما قلق صاحبه
{ فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ
سكنه وقال { ل تحزن إن اللّه معنا }
ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه ،وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع ،فإن النصر على
قسمين :نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا ،وقصدوا ،ويستولوا على
عدوهم ويظهروا عليهم.
والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر ،فنصر اللّه إياه ،أن يرد عنه عدوه ،ويدافع
عنه ،ولعل هذا النصر أنفع النصرين ،ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من
هذا النوع.
وقوله { َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية ،هي العالية على كلمة غيره،
سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي
حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } { إِنّا لَنَ ْنصُرُ رُ ُ
التي من جملتها قولهَ { :وكَانَ َ
شهَادُ } { وَإِنّ جُ ْندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر العالي على
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ َيقُومُ الْأَ ْ
سائر الديان ،بالحجج الواضحة ،واليات الباهرة والسلطان الناصر.
وفي هذه الية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه المة ،وهي
الفوز بهذه المنقبة الجليلة ،والصحبة الجميلة ،وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الية
الكريمة ،ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى ال عليه وسلم ،كافرا ،لنه منكر
للقرآن الذي صرح بها.
وفيها فضيلة السكينة ،وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش
بها الفئدة ،وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه ،وثقته بوعده الصادق ،وبحسب إيمانه
وشجاعته.
وفيها :أن الحزن قد يعرض لخواص عباد ال الصديقين ،مع أن الولى -إذا نزل بالعبد -أن
يسعى في ذهابه عنه ،فإنه مضعف للقلب ،موهن للعزيمة.
سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي :ابذلوا جهدكم في ذلك ،واستفرغوا وسعكم في
{ َوجَاهِدُوا بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ
المال والنفس ،وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس -يجب الجهاد في المال ،حيث
اقتضت الحاجة ودعت لذلك.
ثم قال { :ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي :الجهاد في النفس والمال ،خير لكم من التقاعد عن
ذلك ،لن فيه رضا اللّه تعالى ،والفوز بالدرجات العاليات عنده ،والنصر لدين اللّه ،والدخول في
جملة جنده وحزبه.
سفَرًا
لو كان خروجهم لطلب العرض القريب ،أي :منفعة دنيوية سهلة التناول { و } كان السفر { َ َ
شقّةُ } أي:
قَاصِدًا } أي :قريبا سهل { .لَاتّ َبعُوكَ } لعدم المشقة الكثيرة { ،وََلكِنْ َبعُ َدتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
طالت عليهم المسافة ،وصعب عليهم السفر ،فلذلك تثاقلوا عنك ،وليس هذا من أمارات العبودية،
بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال ،القائم بالعبادة السهلة والشاقة ،فهذا العبد للّه على كل
حال.
طعْنَا لَخَ َرجْنَا َم َعكُمْ } أي :سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا
{ وَسَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلوِ اسْ َت َ
وأنهم ل يستطيعون ذلك.
سهُمْ } بالقعود والكذب والخبار بغير الواقع { ،وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }
{ ُيهِْلكُونَ أَ ْنفُ َ
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين ،الذين تخلفوا عن النبي صلى ال عليه وسلم في { غزوة تبوك }
وأبدوا من العذار الكاذبة ما أبدوا ،فعفا النبي صلى ال عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم ،من
غير أن يمتحنهم ،فيتبين له الصادق من الكاذب ،ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم
فقال:
ثم أخبر أن المؤمنين باللّه واليوم الخر ،ل يستأذنون في ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم ،لن ما
معهم من الرغبة في الخير واليمان ،يحملهم على الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث،
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُتّقِينَ } فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه ،ومن علمه بالمتقين ،أنه أخبر ،أن من
علماتهم ،أنهم ل يستأذنون في ترك الجهاد.
{ إِ ّنمَا َيسْتَأْذِ ُنكَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ } أي :ليس لهم إيمان تام ،ول
يقين صادق ،فلذلك قّلتْ رغبتهم في الخير ،وجبنوا عن القتال ،واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك
القتالَ { .فهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَ َردّدُونَ } أي :ل يزالون في الشك والحيرة.
يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا
الخروج للجهاد بالكلية ،وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة ،فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا
بذل العبد وسعه ،وسعى في أسباب الخروج ،ثم منعه مانع شرعي ،فهذا الذي يعذر.
ع ّدةً } أي :لستعدوا وعملوا ما
عدّوا لَهُ ُ
{ و } أما هؤلء المنافقون فب { َلوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَ َ
يمكنهم من السباب ،ولكن لما لم يعدوا له عدة ،علم أنهم ما أرادوا الخروج.
ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال { َلوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا خَبَالًا } أي :نقصا.
ضعُوا خِلَاَلكُمْ } أي :ولسعوا في الفتنة والشر بينكم ،وفرقوا جماعتكم المجتمعين { ،يَ ْبغُو َنكُمُ
{ وَلََأ ْو َ
ا ْلفِتْنَةَ } أي :هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم.
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } فيعلم عباده كيف يحذرونهم ،ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.
ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقالَ { :لقَدِ ابْ َت َغوُا ا ْلفِتْنَةَ مِنْ قَ ْبلُ } أي :حين هاجرتم إلى
المدينة ،بذلوا الجهدَ { ،وقَلّبُوا َلكَ الُْأمُورَ } أي :أداروا الفكار ،وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم
ظهَرَ َأمْرُ اللّ ِه وَ ُهمْ كَارِهُونَ } فبطل
ق َو َ
وخذلن دينكم ،ولم يقصروا في ذلك { ،حَتّى جَاءَ ا ْلحَ ّ
كيدهم واضمحل باطلهم ،فحقيق بمثل هؤلء أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم ،وأن ل يبالي
المؤمنين ،بتخلفهم عنهم.
أي :ومن هؤلء المنافقين من يستأذن في التخلف ،ويعتذر بعذر آخر عجيب ،فيقول { :ا ْئذَنْ لِي }
في التخلف { وَلَا َتفْتِنّي } في الخروج ،فإني إذا خرجت ،فرأيت نساء بين الصفر ل أصبر
عنهن ،كما قال ذلك { الجد بن قيس }
ومقصوده -قبحه اللّه -الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن ،فإن في خروجي فتنة
وتعرضا للشر ،وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر.
سقَطُوا } فإنه على تقدير صدق هذا القائل في
قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القولَ { :ألَا فِي ا ْلفِتْنَةِ َ
قصده[ ،فإن] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة ،وهي معصية اللّه ومعصية رسوله،
والتجرؤ على الثم الكبير ،والوزر العظيم ،وأما الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف ،وهي
جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ
متوهمة ،مع أن هذا القائل قصده التخلف ل غير ،ولهذا توعدهم اللّه بقوله { :وَإِنّ َ
بِا ْلكَافِرِينَ } ليس لهم عنها مفر ول مناص ،ول فكاك ،ول خلص.
سؤْهُ ْم وَإِنْ ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ َيقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا َأمْرَنَا مِنْ قَ ْبلُ
حسَنَةٌ َت ُ
{ { } 51 - 50إِنْ ُتصِ ْبكَ َ
وَيَ َتوَلّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ * ُقلْ لَنْ ُيصِيبَنَا إِلّا مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا ُهوَ َموْلَانَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }
يقول تعالى مبينا أن المنافقين هم العداء حقا ،المبغضون للدين صرفا { :إِنْ ُتصِ ْبكَ حَسَ َنةٌ }
سؤْ ُهمْ } أي :تحزنهم وتغمهم.
كنصر وإدالة على العدو { تَ ُ
{ وَإِنْ ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ } كإدالة العدو عليك { َيقُولُوا } متبجحين بسلمتهم من الحضور معك.
خذْنَا َأمْرَنَا مِنْ قَ ْبلُ } أي :قد حذرنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة.
{ َقدْ أَ َ
{ وَيَ َتوَّلوْا وَهُمْ فَ ِرحُونَ } فيفرحون بمصيبتك ،وبعدم مشاركتهم إياك فيها .قال تعالى رادا عليهم
في ذلك { ُقلْ لَنْ ُيصِيبَنَا إِلّا مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا } أي :ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ.
{ ُهوَ َموْلَانَا } أي :متولي أمورنا الدينية والدنيوية ،فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من المر
شيء.
{ وَعَلَى اللّهِ } وحده { فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي :يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار
عنهم ،ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم ،فل خاب من توكل عليه ،وأما من توكل على غيره ،فإنه
مخذول غير مدرك لما أمل.
ن وَ َنحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِب َعذَابٍ مِنْ
{ ُ { } 52قلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَا إِلّا ِإحْدَى ا ْلحُسْنَيَيْ ِ
عِنْ ِدهِ َأوْ بِأَ ْيدِينَا فَتَرَ ّبصُوا إِنّا َم َعكُمْ مُتَرَ ّبصُونَ }
أي :قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر :أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم ل تربصون بنا إل
أمرا فيه غاية نفعنا ،وهو إحدى الحسنيين ،إما الظفر بالعداء والنصر عليهم ونيل الثواب
الخروي والدنيوي .وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق ،وأرفع المنازل عند اللّه.
وأما تربصنا بكم -يا معشر المنافقين -فنحن نتربص بكم ،أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده ،ل
سبب لنا فيه ،أو بأيدينا ،بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم { .فَتَرَ ّبصُوا } بنا الخير { إِنّا َم َعكُمْ مُتَرَ ّبصُونَ }
بكم الشر.
طوْعًا } من
يقول تعالى مبينا بطلن نفقات المنافقين ،وذاكرا السبب في ذلك { ُقلْ } لهم { أَ ْنفِقُوا َ
أنفسكم { َأوْ كَرْهًا } على ذلك ،بغير اختياركم { .لَنْ يُ َتقَ ّبلَ مِ ْن ُكمْ } شيء من أعمالكم { إِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ
سقِينَ } خارجين عن طاعة اللّه ،ثم بين صفة فسقهم وأعمالهم ،فقالَ { :ومَا مَ َن َعهُمْ أَنْ ُتقْ َبلَ
َق ْومًا فَا ِ
مِ ْنهُمْ َنفَقَا ُتهُمْ ِإلّا أَ ّنهُمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَبِرَسُولِهِ } والعمال كلها شرط قبولها اليمان ،فهؤلء ل إيمان
لهم ول عمل صالح ،حتى إن الصلة التي هي أفضل أعمال البدن ،إذا قاموا إليها قاموا كسالى،
قال { :وَلَا يَأْتُونَ الصّلَاةَ إِلّا وَهُمْ كُسَالَى } أي :متثاقلون ،ل يكادون يفعلونها من ثقلها عليهم.
{ وَلَا يُ ْن ِفقُونَ إِلّا وَ ُهمْ كَارِهُونَ } من غير انشراح صدر وثبات نفس ،ففي هذا غاية الذم لمن فعل
مثل فعلهم ،وأنه ينبغي للعبد أن ل يأتي الصلة إل وهو نشيط البدن والقلب إليها ،ول ينفق إل
وهو منشرح الصدر ثابت القلب ،يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده ،ول يتشبه بالمنافقين.
{ { } 57 - 55فَلَا ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُمْ وَلَا َأوْلَادُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُهمْ ِبهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ
جدُونَ
حِلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ َلمِ ْنكُ ْم َومَا ُهمْ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ّنهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ * َلوْ يَ ِ
سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ * وَيَ ْ
أَ ْنفُ ُ
جمَحُونَ }
خلًا َلوَّلوْا إِلَيْ ِه وَهُمْ يَ ْ
مَلْجَأً َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ مُدّ َ
يقول تعالى :فل تعجبك أموال هؤلء المنافقين ول أولدهم ،فإنه ل غبطة فيها ،وأول بركاتها
عليهم أن قدموها على مراضى ربهم ،وعصوا اللّه لجلها { إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُي َعذّ َبهُمْ ِبهَا فِي الْحَيَاةِ
الدّنْيَا } والمراد بالعذاب هنا ،ما ينالهم من المشقة في تحصيلها ،والسعي الشديد في ذلك ،وهم
القلب فيها ،وتعب البدن.
فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم ،لم يكن لها نسبة إليها ،فهي -لما ألهتهم عن اللّه وذكره -صارت
وبال عليهم حتى في الدنيا.
ومن وبالها العظيم الخطر ،أن قلوبهم تتعلق بها ،وإرادتهم ل تتعداها ،فتكون منتهى مطلوبهم
وغاية مرغوبهم ول يبقى في قلوبهم للخرة نصيب ،فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا { وَتَزْهَقَ
سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ }
أَ ْنفُ ُ
فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشقاء الدائم والحسرة الملزمة.
{ وَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ َلمِ ْنكُ ْم َومَا ُهمْ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ّنهُمْ } قصدهم في حلفهم هذا أنهم { َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ } أي:
يخافون الدوائر ،وليس في قلوبهم شجاعة تحملهم على أن يبينوا أحوالهم .فيخافون إن أظهروا
حالهم منكم ،ويخافون أن تتبرأوا منهم ،فيتخطفهم العداء من كل جانب.
وأما حال قوي القلب ثابت الجنان ،فإنه يحمله ذلك على بيان حاله ،حسنة كانت أو سيئة ،ولكن
المنافقين خلع عليهم خلعة الجبن ،وحلوا بحلية الكذب.
ثم ذكر شدة جبنهم فقالَ { :لوْ َيجِدُونَ مَلْجَأً } يلجأون إليه عندما تنزل بهم الشدائدَ { ،أوْ َمغَارَاتٍ }
جمَحُونَ
يدخلونها فيستقرون فيها { َأوْ ُمدّخَلًا } أي :محل يدخلونه فيتحصنون فيه { َلوَّلوْا إِلَ ْي ِه وَهُمْ َي ْ
} أي :يسرعون ويهرعون ،فليس لهم ملكة ،يقتدرون بها على الثبات.
أي :ومن هؤلء المنافقين من يعيبك في قسمة الصدقات ،وينتقد عليك فيها ،وليس انتقادهم فيها
عطُوا مِ ْنهَا
وعيبهم لقصد صحيح ،ول لرأي رجيح ،وإنما مقصودهم أن يعطوا منها { .فَإِنْ أُ ْ
خطُونَ } وهذه حالة ل تنبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه،
طوْا مِ ْنهَا ِإذَا هُمْ يَسْ َ
َرضُوا وَإِنْ َلمْ ُيعْ َ
تابعا لهوى نفسه الدنيوي وغرضه الفاسد ،بل الذي ينبغي أن يكون هواه تبعا لمرضاة ربه ،كما
قال النبي صلى ال عليه وسلم { :ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به }
وقال هنا { :وََلوْ أَ ّنهُمْ َرضُوا مَا آتَا ُهمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ } أي :أعطاهم من قليل وكثيرَ { .وقَالُوا حَسْبُنَا
اللّهُ }
أي :كافينا اللّه ،فنرضى بما قسمه لنا ،وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا { :سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِنْ
َفضْلِ ِه وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } أي :متضرعون في جلب منافعنا ،ودفع مضارنا ،لسلموا من
النفاق ولهدوا إلى اليمان والحوال العالية ،ثم بين تعالى كيفية قسمة الصدقات الواجبة فقال:
ن وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا وَا ْل ُمؤَّلفَةِ قُلُو ُبهُمْ َوفِي ال ّرقَابِ
{ { } 60إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْلفُقَرَا ِء وَا ْلمَسَاكِي ِ
حكِيمٌ }
وَا ْلغَا ِرمِينَ َوفِي سَبِيلِ اللّهِ وَاِبْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
يقول تعالى { :إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ } أي :الزكوات الواجبة ،بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد ،ل
يخص بها أحد دون أحد.
أي :إنما الصدقات لهؤلء المذكورين دون من عداهم ،لنه حصرها فيهم ،وهم ثمانية أصناف.
الول والثاني :الفقراء والمساكين ،وهم في هذا الموضع ،صنفان متفاوتان ،فالفقير أشد حاجة من
المسكين ،لن اللّه بدأ بهم ،ول يبدأ إل بالهم فالهم ،ففسر الفقير بأنه الذي ل يجد شيئا ،أو يجد
بعض كفايته دون نصفها.
والمسكين :الذي يجد نصفها فأكثر ،ول يجد تمام كفايته ،لنه لو وجدها لكان غنيا ،فيعطون من
الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم.
والثالث :العاملون على الزكاة ،وهم كل من له عمل وشغل فيها ،من حافظ لها ،أو جاب لها من
أهلها ،أو راع ،أو حامل لها ،أو كاتب ،أو نحو ذلك ،فيعطون لجل عمالتهم ،وهي أجرة لعمالهم
فيها.
والرابع :المؤلفة قلوبهم ،والمؤلف قلبه :هو السيد المطاع في قومه ،ممن يرجى إسلمه ،أو يخشى
شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه ،أو إسلم نظيره ،أو جبايتها ممن ل يعطيها ،فيعطى ما يحصل
به التأليف والمصلحة.
الخامس :الرقاب ،وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم ،فهم يسعون في تحصيل ما
يفك رقابهم ،فيعانون على ذلك من الزكاة ،وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في
هذا ،بل أولى ،ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلل ،لدخوله في قوله { :وفي
الرقاب }
أحدهما :الغارمون لصلح ذات البين ،وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة ،فيتوسط
الرجل للصلح بينهم بمال يبذله لحدهم أو لهم كلهم ،فجعل له نصيب من الزكاة ،ليكون أنشط
له وأقوى لعزمه ،فيعطى ولو كان غنيا.
والثاني :من غرم لنفسه ثم أعسر ،فإنه يعطى ما ُي َوفّى به دينه.
والسابع :الغازي في سبيل اللّه ،وهم :الغزاة المتطوعة ،الذين ل ديوان لهم ،فيعطون من الزكاة ما
يعينهم على غزوهم ،من ثمن سلح ،أو دابة ،أو نفقة له ولعياله ،ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه.
وقال كثير من الفقهاء :إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم ،أعطي من الزكاة ،لن العلم
داخل في الجهاد في سبيل اللّه.
وقالوا أيضا :يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه[ ،وفيه نظر] .
والثامن :ابن السبيل ،وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ،فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى
بلده ،فهؤلء الصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم.
والثاني :من يعطى للحاجة إليه وانتفاع السلم به ،فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الغنياء،
لسد الحاجات الخاصة والعامة للسلم والمسلمين ،فلو أعطى الغنياء زكاة أموالهم على الوجه
الشرعي ،لم يبق فقير من المسلمين ،ولحصل من الموال ما يسد الثغور ،ويجاهد به الكفار
وتحصل به جميع المصالح الدينية.
{ َ { } 63 - 61ومِ ْنهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِبيّ وَ َيقُولُونَ ُهوَ ُأذُنٌ ُقلْ أُذُنُ خَيْرٍ َلكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُيؤْمِنُ
عذَابٌ أَلِيمٌ *يَحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ
حمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ ُي ْؤذُونَ َرسُولَ اللّهِ َلهُمْ َ
لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َر ْ
لِيُ ْرضُوكُمْ وَاللّ ُه وَرَسُولُهُ َأحَقّ أَنْ يُ ْرضُوهُ إِنْ كَانُوا ُم ْؤمِنِينَ * أََلمْ َيعَْلمُوا أَنّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللّهَ
جهَنّمَ خَاِلدًا فِيهَا ذَِلكَ الْخِ ْزيُ ا ْل َعظِيمُ }
وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ َ
أي :ومن هؤلء المنافقين { الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِبيّ } بالقوال الردية ،والعيب له ولدينه { ،وَ َيقُولُونَ
ُهوَ أُذُنٌ } أي :ل يبالون بما يقولون من الذية للنبي ،ويقولون :إذا بلغه عنا بعض ذلك ،جئنا
نعتذر إليه ،فيقبل منا ،لنه أذن ،أي :يقبل كل ما يقال له ،ل يميز بين صادق وكاذب ،وقصدهم
-قبحهم اللّه -فيما بينهم ،أنهم غير مكترثين بذلك ،ول مهتمين به ،لنه إذا لم يبلغه فهذا مطلوبهم،
وإن بلغه اكتفوا بمجرد العتذار الباطل.
فأساءوا كل الساءة من أوجه كثيرة ،أعظمها أذية نبيهم الذي جاء لهدايتهم ،وإخراجهم من الشقاء
والهلك إلى الهدى والسعادة.
ومنها :عدم اهتمامهم أيضا بذلك ،وهو قدر زائد على مجرد الذية.
ومنها :قدحهم في عقل النبي صلى ال عليه وسلم ،وعدم إدراكه وتفريقه بين الصادق والكاذب،
وهو أكمل الخلق عقل ،وأتمهم إدراكا ،وأثقبهم رأيا وبصيرة ،ولهذا قال تعالىُ { :قلْ أُذُنُ خَيْرٍ َلكُمْ
} أي :يقبل من قال له خيرا وصدقا.
وأما إعراضه وعدم تعنيفه لكثير من المنافقين المعتذرين بالعذار الكذب ،فلسعة خلقه ،وعدم
اهتمامه بشأنهم ،وامتثاله لمر اللّه في قوله { :سَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ ِإذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْي ِهمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ
فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ إِ ّنهُمْ ِرجْسٌ }
وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه ،فقال عنهُ { :ي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُي ْؤمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } الصادقين المصدقين،
ويعلم الصادق من الكاذب ،وإن كان كثيرا ما يعرض عن الذين يعرف كذبهم وعدم صدقهم،
حمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُمْ } فإنهم به يهتدون ،وبأخلقه يقتدون.
{ وَ َر ْ
وأما غير المؤمنين فإنهم لم يقبلوا هذه الرحمة بل ردوها ،فخسروا دنياهم وآخرتهم { ،وَالّذِينَ
عذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا والخرة ،ومن العذاب الليم أنه
ُيؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ } بالقول أو الفعل { َلهُمْ َ
يتحتم قتل مؤذيه وشاتمه.
{ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ لِيُ ْرضُوكُمْ } فيتبرأوا مما صدر منهم من الذية وغيرها ،فغايتهم أن ترضوا
حقّ أَنْ يُ ْرضُوهُ إِنْ كَانُوا ُمؤْمِنِينَ } لن المؤمن ل يقدم شيئا على رضا
عليهم { .وَاللّ ُه وَرَسُولُهُ أَ َ
ربه ورضا رسوله ،فدل هذا على انتفاء إيمانهم حيث قدموا رضا غير اللّه ورسوله.
وهذا محادة للّه ومشاقة له ،وقد توعد من حاده بقولهَ { :ألَمْ َيعَْلمُوا أَنّهُ مَنْ ُيحَا ِددِ اللّهَ وَرَسُولَهُ }
أي :يكون في حد وشق مبعد عن اللّه ورسوله بأن تهاون بأوامر اللّه ،وتجرأ على محارمه.
جهَنّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَِلكَ الْخِ ْزيُ ا ْلعَظِيمُ } الذي ل خزي أشنع ول أفظع منه ،حيث فاتهم
{ فَأَنّ لَهُ نَارَ َ
النعيم المقيم ،وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا باللّه من أحوالهم.
علَ ْيهِمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِبهِمْ ُقلِ اسْ َتهْزِئُوا إِنّ اللّهَ
{ َ { } 66 - 64يحْذَرُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ أَنْ تُنَ ّزلَ َ
مُخْرِجٌ مَا َتحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْ َت ُهمْ لَ َيقُولُنّ إِ ّنمَا كُنّا َنخُوضُ وَنَ ْلعَبُ ُقلْ أَبِاللّ ِه وَآيَاتِ ِه وَرَسُولِهِ كُنْ ُتمْ
تَسْ َتهْزِئُونَ * لَا َتعْتَذِرُوا َقدْ َكفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ إِنْ َن ْعفُ عَنْ طَا ِئفَةٍ مِ ْنكُمْ ُنعَ ّذبْ طَا ِئفَةً بِأَ ّنهُمْ كَانُوا
مُجْ ِرمِينَ }
كانت هذه السورة الكريمة تسمى { الفاضحة } لنها بينت أسرار المنافقين ،وهتكت أستارهم ،فما
زال اللّه يقول :ومنهم ومنهم ،ويذكر أوصافهم ،إل أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين :إحداهما :أن
اللّه سِتّيرٌ يحب الستر على عباده.
والثانية :أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين ،الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم
إلي يوم القيامة ،فكان ذكر الوصف أعم وأنسب ،حتى خافوا غاية الخوف.
حذَرُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِبهِمْ } أي :تخبرهم وتفضحهم،
وقال هنا { يَ ْ
وتبين أسرارهم ،حتى تكون علنية لعباده ،ويكونوا عبرة للمعتبرين.
{ ُقلِ اسْ َتهْزِئُوا } أي :استمروا على ما أنتم عليه من الستهزاء والسخرية { .إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَا
حذَرُونَ } وقد وفّى تعالى بوعده ،فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم ،وهتكت أستارهم.
تَ ْ
{ وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ } عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم ،يقول طائفة منهم في غزوة تبوك {
ما رأينا مثل قرائنا هؤلء -يعنون النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه -أرغب بطونا[ ،وأكذب
ألسنا] وأجبن عند اللقاء } ونحو ذلك.
ولما بلغهم أن النبي صلى ال عليه وسلم ،قد علم بكلمهم ،جاءوا يعتذرون إليه ويقولون { :إِ ّنمَا
ض وَنَ ْل َعبُ } أي :نتكلم بكلم ل قصد لنا به ،ول قصدنا الطعن والعيب.
كُنّا نَخُو ُ
قال اللّه تعالى -مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلكُ { :-قلْ } لهم { أَبِاللّ ِه وَآيَا ِت ِه وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْ َتهْزِئُونَ * لَا َتعْتَذِرُوا َقدْ َكفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ } فإن الستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج
عن الدين لن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه ،وتعظيم دينه ورسله ،والستهزاء بشيء من ذلك
مناف لهذا الصل ،ومناقض له أشد المناقضة.
ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة ،والرسول ل يزيدهم على قوله { أَبِاللّ ِه وَآيَا ِتهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ َتسْ َتهْزِئُونَ * لَا َتعْتَذِرُوا قَدْ َكفَرْتُمْ َب ْعدَ إِيمَا ِنكُمْ }
وقوله { إِنْ َن ْعفُ عَنْ طَا ِئفَةٍ مِ ْنكُمْ } لتوبتهم واستغفارهم وندمهمُ { ،ن َع ّذبْ طَا ِئفَةً } منكم { بِأَ ّنهُمْ }
بسبب أنهم { كَانُوا مُجْ ِرمِينَ } مقيمين على كفرهم ونفاقهم.
وفي هذه اليات دليل على أن من أسر سريرة ،خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه،
ويستهزئ به وبآياته ورسوله ،فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ،ويعاقبه أشد العقوبة.
وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه أو سنة رسوله الثابتة عنه ،أو سخر بذلك ،أو تنقصه ،أو
استهزأ بالرسول أو تنقصه ،فإنه كافر باللّه العظيم ،وأن التوبة مقبولة من كل ذنب ،وإن كان
عظيما.
ضهُمْ مِنْ َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلمُ ْنكَرِ وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْل َمعْرُوفِ
ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ َب ْع ُ
{ { } 68 - 67ا ْلمُنَا ِفقُو َ
ن وَا ْلمُنَافِقَاتِ
سقُونَ * وَعَدَ اللّهُ ا ْلمُنَا ِفقِي َ
وَيَقْ ِبضُونَ أَيْدِ َيهُمْ َنسُوا اللّهَ فَ َنسِ َيهُمْ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُهمُ ا ْلفَا ِ
عذَابٌ ُمقِيمٌ }
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ِهيَ حَسْ ُبهُ ْم وََلعَ َنهُمُ اللّ ُه وََلهُمْ َ
وَا ْلكُفّارَ نَارَ َ
ثم ذكر وصف المنافقين العام ،الذي ل يخرج منه صغير منهم ول كبير ،فقال { :يَ ْأمُرُونَ بِا ْلمُ ْنكَرِ
} وهو الكفر والفسوق والعصيان.
{ وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْل َمعْرُوفِ } وهو اليمان ،والخلق الفاضلة ،والعمال الصالحة ،والداب الحسنة.
{ وَ َيقْ ِبضُونَ أَ ْيدِ َيهُمْ } عن الصدقة وطرق الحسان ،فوصفهم البخل.
{ َنسُوا اللّهَ } فل يذكرونه إل قليل { ،فَ َنسِ َيهُمْ } من رحمته ،فل يوفقهم لخير ،ول يدخلهم الجنة،
بل يتركهم في الدرك السفل من النار ،خالدين فيها مخلدين.
سقُونَ } حصر الفسق فيهم ،لن فسقهم أعظم من فسق غيرهم ،بدليل أن
{ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُهمُ ا ْلفَا ِ
عذابهم أشد من عذاب غيرهم ،وأن المؤمنين قد ابتلوا بهم ،إذ كانوا بين أظهرهم ،والحتراز منهم
شديد.
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ِهيَ حَسْ ُبهُمْ وََلعَ َنهُمُ اللّ ُه وََلهُمْ عَذَابٌ
ت وَا ْل ُكفّارَ نَارَ َ
ن وَا ْلمُنَا ِفقَا ِ
{ وَعَدَ اللّهُ ا ْلمُنَافِقِي َ
ُمقِيمٌ } جمع المنافقين والكفار في النار ،واللعنة والخلود في ذلك ،لجتماعهم في الدنيا على الكفر،
والمعاداة للّه ورسوله ،والكفر بآياته.
{ { } 70 - 69كَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ كَانُوا أَشَدّ مِ ْنكُمْ ُق ّوةً وََأكْثَرَ َأ ْموَالًا وََأوْلَادًا فَاسْ َتمْ َتعُوا ِبخَلَا ِقهِمْ
طتْ
خضْتُمْ كَالّذِي خَاضُوا أُولَ ِئكَ حَ ِب َ
فَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبخَلَا ِقكُمْ َكمَا اسْ َتمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ بِخَلَا ِق ِه ْم وَ ُ
ح وَعَادٍ
عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ * أََلمْ يَأْ ِتهِمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ َقوْمِ نُو ٍ
أَ ْ
وَ َثمُو َد َو َقوْمِ إِبْرَاهِي َم وََأصْحَابِ مَدْيَنَ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَاتِ أَتَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ
سهُمْ يَظِْلمُونَ }
كَانُوا أَ ْنفُ َ
ح وَعَادٍ
يقول تعالى محذرا المنافقين أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من المم المكذبةَ { .قوْمِ نُو ٍ
وَ َثمُو َد َو َقوْمِ إِبْرَاهِي َم وََأصْحَابِ مَدْيَنَ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَاتِ } أي :قرى قوم لوط.
فكلهم { أَتَ ْت ُهمْ رُسُُل ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي :بالحق الواضح الجلي ،المبين لحقائق الشياء ،فكذبوا بها،
فجرى عليهم ما قص اللّه علينا ،فأنتم أعمالكم شبيهة بأعمالهم ،استمتعتم بخلقكم ،أي :بنصيبكم
من الدنيا فتناولتموه على وجه اللذة والشهوة معرضين عن المراد منه ،واستعنتم به على معاصي
اللّه ،ولم تتعد همتكم وإرادتكم ما خولتم من النعم كما فعل الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا،
أي :وخضتم بالباطل والزور وجادلتم بالباطل لتدحضوا به الحق ،فهذه أعمالهم وعلومهم ،استمتاع
بالخلق وخوض بالباطل ،فاستحقوا من العقوبة والهلك ما استحق من قبلهم ممن فعلوا كفعلهم،
وأما المؤمنون فهم وإن استمتعوا بنصيبهم وما خولوا من الدنيا ،فإنه على وجه الستعانة به على
طاعة اللّه ،وأما علومهم فهي علوم الرسل ،وهي الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية،
والمجادلة بالحق لدحاض الباطل.
س ُهمْ يَظِْلمُونَ }
قوله { َفمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُمْ } إذ أوقع بهم من عقوبته ما أوقع { .وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ
حيث تجرأوا على معاصيه ،وعصوا رسلهم ،واتبعوا أمر كل جبار عنيد.
لما ذكر أن المنافقين بعضهم أولياء بعض ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ،ووصفهم بضد
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ
ما وصف به المنافقين ،فقال { :وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتُ } أي :ذكورهم وإناثهم { َب ْع ُ
َب ْعضٍ } في المحبة والموالة ،والنتماء والنصرة.
{ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ } وهو :اسم جامع ،لكل ما عرف حسنه ،من العقائد الحسنة ،والعمال
الصالحة ،والخلق الفاضلة ،وأول من يدخل في أمرهم أنفسهم { ،وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ } وهو كل
ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة ،والعمال الخبيثة ،والخلق الرذيلة.
{ وَ ُيطِيعُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ } أي :ل يزالون ملزمين لطاعة اللّه ورسوله على الدوام.
حكِيمٌ } أي :قوي قاهر ،ومع قوته فهو حكيم ،يضع كل شيء موضعه اللئق به
{ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
الذي يحمد على ما خلقه وأمر به.
ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال { :وَعَدَ اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا
الْأَ ْنهَارُ } جامعة لكل نعيم وفرح ،خالية من كل أذى وترح ،تجري من تحت قصورها ودورها
وأشجارها النهار الغزيرة ،المروية للبساتين النيقة ،التي ل يعلم ما فيها من الخيرات والبركات
إل اللّه تعالى.
فهذه المساكن النيقة ،التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس ،وتنزع إليها القلوب ،وتشتاق لها
الرواح ،لنها في جنات عدن ،أي :إقامة ل يظعنون عنها ،ول يتحولون منها.
ضوَانٌ مِنَ اللّهِ } يحله على أهل الجنة { َأكْبَرُ } مما هم فيه من النعيم ،فإن نعيمهم لم يطب
{ وَ ِر ْ
إل برؤية ربهم ورضوانه عليهم ،ولنه الغاية التي أمّها العابدون ،والنهاية التي سعى نحوها
المحبون ،فرضا رب الرض والسماوات ،أكبر من نعيم الجنات.
{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } حيث حصلوا على كل مطلوب ،وانتفى عنهم كل محذور ،وحسنت
وطابت منهم جميع المور ،فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده.
يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم { يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ جَا ِهدِ ا ْل ُكفّارَ وَا ْلمُنَافِقِينَ } أي :بالغ في
جهادهم والغلظة عليهم حيث اقتضت الحال الغلظة عليهم.
وهذا الجهاد يدخل فيه الجهاد باليد ،والجهاد بالحجة واللسان ،فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد
باليد ،واللسان والسيف والبيان.
ومن كان مذعنا للسلم بذمة أو عهد ،فإنه يجاهد بالحجة والبرهان ويبين له محاسن السلم،
ومساوئ الشرك والكفر ،فهذا ما لهم في الدنيا.
{ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وََلقَدْ قَالُوا كَِلمَةَ ا ْل ُكفْرِ } أي :إذا قالوا قول كقول من قال منهم { ليخرجن
العز منها الذل } والكلم الذي يتكلم به الواحد بعد الواحد ،في الستهزاء بالدين ،وبالرسول.
فإذا بلغهم أن النبي صلى ال عليه وسلم قد بلغه شيء من ذلك ،جاءوا إليه يحلفون باللّه ما قالوا.
قال تعالى مكذبا لهم { وََلقَدْ قَالُوا كَِلمَةَ ا ْلكُفْ ِر َو َكفَرُوا َبعْدَ ِإسْلَا ِمهِمْ } فإسلمهم السابق -وإن كان
ظاهره أنه أخرجهم من دائرة الكفر -فكلمهم الخير ينقض إسلمهم ،ويدخلهم بالكفر.
{ وَ َهمّوا ِبمَا َلمْ يَنَالُوا } وذلك حين هموا بالفتك برسول اللّه صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك،
فقص اللّه عليه نبأهم ،فأمر من يصدهم عن قصدهم.
{ و } الحال أنهم { مَا َن َقمُوا } وعابوا من رسول اللّه صلى ال عليه وسلم { إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ َفضْلِهِ } بعد أن كانوا فقراء معوزين ،وهذا من أعجب الشياء ،أن يستهينوا بمن كان
سببا لخراجهم من الظلمات إلى النور ،ومغنيا لهم بعد الفقر ،وهل حقه عليهم إل أن يعظموه،
ويؤمنوا به ويجلوه؟" فاجتمع الداعي الديني وداعي المروءة النسانية.
ثم عرض عليهم التوبة فقال { :فَإِنْ يَتُوبُوا َيكُ خَيْرًا َل ُهمْ } لن التوبة ،أصل لسعادة الدنيا والخرة.
{ وَإِنْ يَ َتوَّلوْا } عن التوبة والنابة { ُي َعذّ ْبهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } في الدنيا بما ينالهم
من الهم والغم والحزن على نصرة اللّه لدينه ،وإعزار نبيه ،وعدم حصولهم على مطلوبهم ،وفي
الخرة ،في عذاب السعير.
ن وَِليّ } يتولى أمورهم ،ويحصل لهم المطلوب { وَلَا َنصِيرٍ } يدفع عنهم
{ َومَا َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ مِ ْ
المكروه ،وإذا انقطعوا من ولية اللّه تعالى ،فَثَمّ أصناف الشر والخسران ،والشقاء والحرمان.
أي :ومن هؤلء المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه { لَئِنْ آتَانَا مِنْ َفضْلِهِ } من الدنيا فبسطها
ن وَلَ َنكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ } فنصل الرحم ،ونقري الضيف ،ونعين على نوائب
لنا ووسعها { لَ َنصّ ّدقَ ّ
الحق ،ونفعل الفعال الحسنة الصالحة.
{ فََلمّا آتَاهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } لم يفوا بما قالوا ،بل { َبخِلُوا بِ ِه وَ َتوَّلوْا } عن الطاعة والنقياد { وَ ُهمْ
ُمعْ ِرضُونَ } أي :غير ملتفتين إلى الخير.
عقَ َبهُمْ ِنفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ } مستمرا { إِلَى َيوْمِ يَ ْل َقوْنَهُ ِبمَا
فلما لم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه ،عاقبهم { فَأَ ْ
أَخَْلفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ }
فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع ،أن يعاهد ربه ،إن حصل مقصوده الفلني ليفعلن كذا
وكذا ،ثم ل يفي بذلك ،فإنه ربما عاقبه اللّه بالنفاق كما عاقب هؤلء.
وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين { :آية المنافق ثلث :إذا
حدث كذب ،وإذا عاهد غدر ،وإذا وعد أخلف }
فهذا المنافق الذي وعد اللّه وعاهده ،لئن أعطاه اللّه من فضله ،ليصدقن وليكونن من الصالحين،
حدث فكذب ،وعاهد فغدر ،ووعد فأخلف.
فلما نزلت هذه الية فيه ،وفي أمثاله ،ذهب بها بعض أهله فبلغه إياها ،فجاء بزكاته ،فلم يقبلها
النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم جاء بها لبي بكر بعد وفاة النبي صلى ال عليه وسلم فلم يقبلها ،ثم
جاء بها بعد أبي بكر لعمر فلم يقبلها ،فيقال :إنه هلك في زمن عثمان
ج ْهدَهُمْ
جدُونَ إِلّا ُ
ت وَالّذِينَ لَا يَ ِ
طوّعِينَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فِي الصّ َدقَا ِ
{ { } 80 - 79الّذِينَ يَ ْلمِزُونَ ا ْلمُ ّ
فَيَسْخَرُونَ مِ ْنهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِ ْنهُمْ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأوْ لَا تَسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ
سقِينَ }
سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُهمْ ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
وهذا أيضا من مخازي المنافقين ،فكانوا -قبحهم اللّه -ل يدعون شيئا من أمور السلم والمسلمين
يرون لهم مقال ،إل قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا ،فلما حثّ اللّه ورسوله على الصدقة ،بادر
المسلمون إلى ذلك ،وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله ،منهم المكثر ،ومنهم المقل ،فيلمزون
المكثر منهم ،بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة ،وقالوا للمقل الفقير :إن اللّه غني عن صدقة هذا،
طوّعِينَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فِي الصّ َدقَاتِ
فأنزل اللّه تعالى { :الّذِينَ يَ ْلمِزُونَ } أي :يعيبون ويطعنون { ا ْلمُ ّ
} فيقولون :مراءون ،قصدهم الفخر والرياء.
.فقابلهم ال على صنيعهم بأن { سَخِرَ اللّهُ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإنهم جمعوا في كلمهم هذا
بين عدة محاذير.
منها :تتبعهم لحوال المؤمنين ،وحرصهم على أن يجدوا مقال يقولونه فيهم ،واللّه يقول { :إِنّ
شةُ فِي الّذِينَ آمَنُوا َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
الّذِينَ ُيحِبّونَ أَنْ تَشِيعَ ا ْلفَاحِ َ
ومنها :طعنهم بالمؤمنين لجل إيمانهم ،كفر باللّه تعالى وبغض للدين.
ومنها :أن اللمز محرم ،بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا ،وأما اللمز في أمر الطاعة،
فأقبح وأقبح.
ومنها :أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال الخير ،فإن الذي ينبغي[هو] إعانته ،وتنشيطه
على عمله ،وهؤلء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم ،وعابوهم عليه.
ومنها :أن حكمهم على من أنفق مال كثيرا بأنه مراء ،غلط فاحش ،وحكم على الغيب ،ورجم
بالظن ،وأي شر أكبر من هذا؟!!
ومنها :أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة" :اللّه غني عن صدقة هذا" كلم مقصوده باطل ،فإن اللّه
غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير ،بل وغني عن أهل السماوات والرض ،ولكنه تعالى
أمر العباد بما هم مفتقرون إليه ،فاللّه -وإن كان غنيا عنهم -فهم فقراء إليه { فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين ،ولهذا كان جزاؤهم أن
سخر اللّه منهم ،ولهم عذاب أليم.
{ { }80اسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ َأوْ لَا تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ سَ ْبعِينَ مَ ّرةً } على وجه المبالغة ،وإل ،فل
مفهوم لها.
علَ ْيهِمْ أَسْ َت ْغفَ ْرتَ َلهُمْ َأمْ لَمْ َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ لَنْ
سوَاءٌ َ
{ فَلَنْ َيغْفِرَ اللّهُ َلهُمْ } كما قال في الية الخرى { َ
َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ } ثم ذكر السبب المانع لمغفرة اللّه لهم فقال { :ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ }
والكافر ل ينفعه الستغفار ول العمل ما دام كافرا.
سقِينَ } أي :الذين صار الفسق لهم وصفا ،بحيث ل يختارون عليه سواه
{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
ول يبغون به بدل ،يأتيهم الحق الواضح فيردونه ،فيعاقبهم اللّه تعالى بأن ل يوفقهم له بعد ذلك.
سهِمْ
خّلفُونَ ِب َم ْقعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّ ِه َوكَرِهُوا أَنْ ُيجَاهِدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
{ { } 83 - 81فَرِحَ ا ْلمُ َ
حكُوا قَلِيلًا
شدّ حَرّا َلوْ كَانُوا َي ْف َقهُونَ * فَلْ َيضْ َ
جهَنّمَ أَ َ
فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَالُوا لَا تَ ْنفِرُوا فِي ا ْلحَرّ ُقلْ نَارُ َ
ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَا ِئفَةٍ مِ ْنهُمْ فَاسْتَ ْأذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ َف ُقلْ
وَلْيَ ْبكُوا كَثِيرًا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * فَإِنْ َر َ
لَنْ تَخْ ُرجُوا َم ِعيَ أَ َبدًا وَلَنْ ُتقَاتِلُوا َم ِعيَ عَ ُدوّا إِ ّن ُكمْ َرضِيتُمْ بِا ْل ُقعُودِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُوا مَعَ الْخَاِلفِينَ }
يقول تعالى مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم وعدم مبالتهم بذلك ،الدال على عدم اليمان ،واختيار
الكفر على اليمان.
{ فَرِحَ ا ْلمُخَّلفُونَ ِب َم ْقعَدِ ِهمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّهِ } وهذا قدر زائد على مجرد التخلف ،فإن هذا تخلف
محرم ،وزيادة رضا بفعل المعصية ،وتبجح به.
سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وهذا بخلف المؤمنين الذين إذا تخلفوا
{ َوكَرِهُوا أَنْ ُيجَاهِدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
-ولو لعذر -حزنوا على تخلفهم وتأسفوا غاية السف ،ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في
سبيل اللّه ،لما في قلوبهم من اليمان ،ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره وامتنانه.
{ َوقَالُوا } أي :المنافقون { لَا تَ ْنفِرُوا فِي ا ْلحَرّ } أي :قالوا إن النفير مشقة علينا بسبب الحر،
فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة البدية التامة.
وحذروا من الحر الذي يقي منه الظلل ،ويذهبه البكر والصال ،على الحر الشديد الذي ل يقادر
قدره ،وهو النار الحامية.
جهَنّمَ َأشَدّ حَرّا َلوْ كَانُوا َيفْ َقهُونَ } لما آثروا ما يفنى على ما يبقى ،ولما فروا
ولهذا قالُ { :قلْ نَارُ َ
من المشقة الخفيفة المنقضية ،إلى المشقة الشديدة الدائمة.
حكُوا قَلِيلًا وَلْيَ ْبكُوا كَثِيرًا } أي :فليتمتعوا في هذه الدار المنقضية ،ويفرحوا
قال ال تعالى { :فَلْ َيضْ َ
بلذاتها ،ويلهوا بلعبها ،فسيبكون كثيرا في عذاب أليم { جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } من الكفر
والنفاق ،وعدم النقياد لوامر ربهم.
ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَا ِئفَةٍ مِ ْنهُمْ } وهم الذين تخلفوا من غير عذر ،ولم يحزنوا على تخلفهم
{ فَإِنْ َر َ
{ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } لغير هذه الغزوة ،إذا رأوا السهولةَ { .فقُلْ } لهم عقوبة { لَنْ تَخْ ُرجُوا َمعِيَ
ع ُدوّا } فسيغني اللّه عنكم.
أَبَدًا وَلَنْ ُتقَاتِلُوا َم ِعيَ َ
{ إِ ّن ُكمْ َرضِيتُمْ بِا ْل ُقعُودِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُوا مَعَ الْخَاِلفِينَ } وهذا كما قال تعالى { ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } فإن المتثاقل المتخلف عن المأمور به عند انتهاز الفرصة،
ل يوفق له بعد ذلك ،ويحال بينه وبينه.
وفيه أيضا تعزير لهم ،فإنه إذا تقرر عند المسلمين أن هؤلء من الممنوعين من الخروج إلى
الجهاد لمعصيتهم ،كان ذلك توبيخا لهم ،وعارا عليهم ونكال أن يفعل أحد كفعلهم.
حدٍ مِ ْنهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا َتقُمْ عَلَى قَبْ ِرهِ إِ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه َومَاتُوا
صلّ عَلَى أَ َ
{ { } 84وَلَا ُت َ
سقُونَ }
وَهُمْ فَا ِ
صلّ عَلَى َأحَدٍ مِ ْنهُمْ مَاتَ أبدا } من المنافقين { وَلَا َتقُمْ عَلَى قَبْ ِرهِ } بعد الدفن
يقول تعالى { :وَلَا ُت َ
لتدعو له ،فإن صلته ووقوفه على قبورهم شفاعة منه لهم ،وهم ل تنفع فيهم الشفاعة.
سقُونَ } ومن كان كافرا ومات على ذلك ،فما تنفعه
{ إِ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه َومَاتُوا وَ ُهمْ فَا ِ
شفاعة الشافعين ،وفي ذلك عبرة لغيرهم ،وزجر ونكال لهم ،وهكذا كل من علم منه الكفر
والنفاق ،فإنه ل يصلى عليه.
وفي هذه الية دليل على مشروعية الصلة على المؤمنين ،والوقوف عند قبورهم للدعاء لهم ،كما
كان النبي صلى ال عليه وسلم ،يفعل ذلك في المؤمنين ،فإن تقييد النهي بالمنافقين يدل على أنه قد
كان متقررا في المؤمنين.
سهُ ْم وَ ُهمْ
{ { } 85وَلَا ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم وََأوْلَادُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيعَذّ َب ُهمْ ِبهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْ َهقَ أَ ْنفُ ُ
كَافِرُونَ }
أي :ل تغتر بما أعطاهم اللّه في الدنيا من الموال والولد ،فليس ذلك لكرامتهم عليه ،وإنما ذلك
إهانة منه لهم { .إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي الدّنْيَا } فيتعبون في تحصيلها ،ويخافون من
زوالها ،ول يتهنئون بها.
بل ل يزالون يعانون الشدائد والمشاق فيها ،وتلهيهم عن اللّه والدار الخرة ،حتى ينتقلوا من الدنيا
سهُ ْم وَ ُهمْ كَافِرُونَ } قد سلبهم حبها عن كل شيء ،فماتوا وقلوبهم بها متعلقة ،وأفئدتهم
{ وَتَزْ َهقَ أَ ْنفُ ُ
عليها متحرقة.
ط ْولِ مِ ْنهُمْ
{ { } 87 - 86وَإِذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّ ِه َوجَاهِدُوا مَعَ َرسُولِهِ اسْتَ ْأذَ َنكَ أُولُو ال ّ
ف وَطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َف ُهمْ لَا َي ْفقَهُونَ ْ}
خوَاِل ِ
َوقَالُوا ذَرْنَا َنكُنْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ * َرضُوا بِأَنْ َيكُونُوا َمعَ الْ َ
يقول تعالى في بيان استمرار المنافقين على التثاقل عن الطاعات ،وأنها ل تؤثر فيهم السور
واليات { :وَإِذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ ْ} يؤمرون فيها باليمان باللّه والجهاد في سبيل اللّه.
طوْلِ مِ ْنهُمْ ْ} يعني :أولي الغنى والموال ،الذين ل عذر لهم ،وقد أمدهم اللّه
{ اسْتَأْذَ َنكَ ُأوْلُوا ال ّ
بأموال وبنين ،أفل يشكرون اللّه ويحمدونه ،ويقومون بما أوجبه عليهم ،وسهل عليهم أمره ،ولكن
أبوا إل التكاسل والستئذان في القعود { َوقَالُوا ذَرْنَا َنكُنْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ ْ}
يقول تعالى :إذا تخلف هؤلء المنافقون عن الجهاد ،فاللّه سيغني عنهم ،وللّه عباد وخواص من
خلقه اختصهم بفضله يقومون بهذا المر ،وهم { الرّسُولُ ْ} محمد صلى ال عليه وسلم { ،وَالّذِينَ
سهِمْ ْ} غير متثاقلين ول كسلين ،بل هم فرحون مستبشرون،
آمَنُوا َمعَهُ جَاهَدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
{ وَأُولَ ِئكَ َلهُمُ ا ْلخَيْرَاتُ ْ} الكثيرة في الدنيا والخرة { ،وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ ْ} الذين ظفروا بأعلى
المطالب وأكمل الرغائب.
عدّ اللّهُ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ} فتبا لمن لم يرغب
{ أَ َ
بما رغبوا فيه ،وخسر دينه ودنياه وأخراه ،وهذا نظير قوله تعالى { ُقلْ آمِنُوا بِهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا إِنّ
الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مِنْ قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ سُجّدًا ْ} وقوله { :فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلَاءِ َفقَدْ
َوكّلْنَا ِبهَا َق ْومًا لَيْسُوا ِبهَا ِبكَافِرِينَ ْ}
{ { }ْ 93 - 90وَجَاءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِ ُيؤْذَنَ َل ُه ْم َو َقعَدَ الّذِينَ َكذَبُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ سَ ُيصِيبُ
ضعَفَا ِء وَلَا عَلَى ا ْلمَ ْرضَى وَلَا عَلَى الّذِينَ لَا َيجِدُونَ مَا
الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَى ال ّ
غفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى
ل وَاللّهُ َ
حسِنِينَ مِنْ سَبِي ٍ
يُ ْنفِقُونَ حَرَجٌ ِإذَا َنصَحُوا لِلّ ِه وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ
حمُِلكُمْ عَلَيْهِ َتوَّلوْا وَأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّد ْمعِ حَزَنًا َألّا
حمَِلهُمْ قُ ْلتَ لَا َأجِدُ مَا َأ ْ
الّذِينَ إِذَا مَا أَ َت ْوكَ لِ َت ْ
خوَاِلفِ
ك وَهُمْ أَغْنِيَاءُ َرضُوا بِأَنْ َيكُونُوا مَعَ الْ َ
جدُوا مَا يُ ْنفِقُونَ * إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُو َن َ
يَ ِ
وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ}
يقول تعالى { :وَجَاءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِ ُيؤْذَنَ َلهُمْ ْ} أي :جاء الذين تهاونوا ،وقصروا منهم
في الخروج لجل أن يؤذن لهم في ترك الجهاد ،غير مبالين في العتذار لجفائهم وعدم حيائهم،
وإتيانهم بسبب ما معهم من اليمان الضعيف.
وأما الذين كذبوا اللّه ورسوله منهم ،فقعدوا وتركوا العتذار بالكلية ،ويحتمل أن معنى قوله:
{ ا ْل ُم َعذّرُونَ ْ} أي :الذين لهم عذر ،أتوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليعذرهم ،ومن عادته
أن يعذر من له عذر.
{ َو َقعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ ْ} في دعواهم اليمان ،المقتضي للخروج ،وعدم عملهم بذلك ،ثم
توعدهم بقوله { :سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ} في الدنيا والخرة.
لما ذكر المعتذرين ،وكانوا على قسمين ،قسم معذور في الشرع ،وقسم غير معذور ،ذكر ذلك
بقوله:
ضعَفَاءِ ْ} في أبدانهم وأبصارهم ،الذين ل قوة لهم على الخروج والقتال { .وَلَا عَلَى
{ لَ ْيسَ عَلَى ال ّ
ا ْلمَ ْرضَى ْ}
وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي ل يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد ،من عرج،
وعمى ،وحمى ،وذات الجنب ،والفالج ،وغير ذلك.
{ وَلَا عَلَى الّذِينَ لَا َيجِدُونَ مَا يُ ْنفِقُونَ ْ} أي :ل يجدون زادا ،ول راحلة يتبلغون بها في سفرهم،
فهؤلء ليس عليهم حرج ،بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله ،بأن يكونوا صادقي اليمان ،وأن يكون
من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا ،وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب
والتشجيع على الجهاد.
{ مَا عَلَى ا ْل ُمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ْ} أي :من سبيل يكون عليهم فيه تبعة ،فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم
من حقوق اللّه وحقوق العباد -أسقطوا توجه اللوم عليهم ،وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه ،سقط
عنه ما ل يقدر عليه.
ويستدل بهذه الية على قاعدة وهي :أن من أحسن على غيره ،في [نفسه] أو في ماله ،ونحو
ذلك ،ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف ،أنه غير ضامن لنه محسن ،ول سبيل على المحسنين،
كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء -كالمفرط ،أن عليه الضمان.
غفُورٌ َرحِيمٌ ْ} ومن مغفرته ورحمته ،عفا عن العاجزين ،وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب
{ وَاللّهُ َ
القادرين الفاعلين.
حمَِلهُمْ ْ} فلم يصادفوا عندك شيئا { قُ ْلتَ ْ} لهم معتذرا { :لَا َأجِدُ مَا
{ وَلَا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَ َت ْوكَ لِ َت ْ
حمُِلكُمْ عَلَيْهِ َتوَّلوْا وَأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنًا أَلّا َيجِدُوا مَا يُ ْن ِفقُونَ ْ} فإنهم عاجزون باذلون
أَ ْ
لنفسهم ،وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم.
فهؤلء ل حرج عليهم ،وإذا سقط الحرج عنهم ،عاد المر إلى أصله ،وهو أن من نوى الخير،
س ْعيٌ فيما يقدر عليه ،ثم لم يقدر ،فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.
واقترن بنيته الجازمة َ
{ إِ ّنمَا السّبِيلُ ْ} يتوجه واللوم يتناول الذين يستأذنوك وهم أغنياء قادرون على الخروج ل عذر
خوَاِلفِ ْ} كالنساء والطفال
لهم ،فهؤلء { َرضُوا ْ} لنفسهم ومن دينهم { بِأَنْ َيكُونُوا مَعَ ا ْل َ
ونحوهم.
{ و ْ} إنما رضوا بهذه الحال لن اللّه طبع على قلوبهم أي :ختم عليها ،فل يدخلها خير ،ول
يحسون بمصالحهم الدينية والدنيويةَ { ،فهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ} عقوبة لهم ،على ما اقترفوا.
جعْتُمْ ِإلَ ْيهِمْ ُقلْ لَا َتعْتَذِرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكُمْ قَدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ
{ َ { }ْ 96 - 94يعْتَذِرُونَ إِلَ ْي ُكمْ إِذَا َر َ
شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ
عمََل ُك ْم وَرَسُولُهُ ثُمّ تُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
أَخْبَا ِر ُك ْم وَسَيَرَى اللّهُ َ
جهَنّمُ
س َومَ ْأوَاهُمْ َ
* سَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ ِإذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْي ِهمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ إِ ّنهُمْ ِرجْ ٌ
ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَ ْرضَى عَنِ
ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنْ تَ ْر َ
جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * يَحِْلفُونَ َلكُمْ لِتَ ْر َ
سقِينَ ْ}
ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ
جعْتُمْ
لما ذكر تخلف المنافقين الغنياء ،وأنهم ل عذر لهم ،أخبر أنهم سب { َيعْ َتذِرُونَ ِإلَ ْيكُمْ إِذَا رَ َ
إِلَ ْيهِمْ ْ} من غزاتكم.
{ ُقلْ ْ} لهم { لَا َتعْتَذِرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكُمْ ْ} أي :لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب.
{ َقدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَا ِر ُكمْ ْ} وهو الصادق في قيله ،فلم يبق للعتذار فائدة ،لنهم يعتذرون بخلف
ما أخبر اللّه عنهم ،ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب
الصدق.
عمََلكُ ْم وَرَسُولُهُ ْ} في الدنيا ،لن العمل هو ميزان الصدق من الكذب ،وأما مجرد
{ وَسَيَرَى اللّهُ َ
القوال ،فل دللة فيها على شيء من ذلك.
شهَا َدةِ ْ} الذي ل تخفى عليه خافية { ،فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ} من
{ ُثمّ تُرَدّونَ إِلَى عَاِلمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
خير وشر ،ويجازيكم بعدله أو بفضله ،من غير أن يظلمكم مثقال ذرة.
وأعلم أن المسيء المذنب له ثلث حالت :إما [أن] يقبل قوله وعذره ،ظاهرا وباطنا ،ويعفى عنه
بحيث يبقى كأنه لم يذنب .فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين ،أن عذرهم غير مقبول،
وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة ،وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على
ذنبهم ،وإما أن يعرض عنهم ،ول يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية ،وهذه الحال الثالثة هي التي
أمر اللّه بها في حق المنافقين ،ولهذا قال { :سَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ َل ُكمْ إِذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْيهِمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْنهُمْ
فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ ْ} أي :ل توبخوهم ،ول تجلدوهم أو تقتلوهم.
{ إِ ّن ُهمْ رِجْسٌ ْ} أي :إنهم قذر خبثاء ،ليسوا بأهل لن يبالى بهم ،وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم،
{ و ْ} تكفيهم عقوبة جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.
ضوْا عَ ْنهُمْ ْ} أي :ولهم أيضا هذا المقصد الخر منكم ،غير مجرد
وقوله { :يَحِْلفُونَ َلكُمْ لِتَ ْر َ
العراض ،بل يحبون أن ترضوا عنهم ،كأنهم ما فعلوا شيئا.
وتأمل كيف قال { :فَإِنّ اللّهَ لَا يَ ْرضَى عَنِ ا ْلقَوْمِ ا ْلفَاسِقِينَ ْ} ولم يقل" :فإن اللّه ل يرضى عنهم"
ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح ،وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم ،فإن اللّه
وأما ما داموا فاسقين ،فإن اللّه ل يرضى عليهم ،لوجود المانع من رضاه ،وهو خروجهم عن ما
رضيه اللّه لهم من اليمان والطاعة ،إلى ما يغضبه من الشرك ،والنفاق ،والمعاصي.
وحاصل ما ذكره اللّه أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد من غير عذر ،إذا اعتذروا للمؤمنين،
وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم ،فإن المنافقين يريدون بذلك أن تعرضوا عنهم ،وترضوا
وتقبلوا عذرهم ،فأما قبول العذر منهم والرضا عنهم ،فل حبا ول كرامة لهم.
وأما العراض عنهم ،فيعرض المؤمنون عنهم ،إعراضهم عن المور الردية والرجس ،وفي هذه
اليات ،إثبات الكلم للّه تعالى في قولهَ { :قدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَا ِر ُكمْ } وإثبات الفعال الختيارية
عمََلكُ ْم وَرَسُولُهُ } أخبر أنه
للّه ،الواقعة بمشيئته [تعالى] وقدرته في هذا ،وفي قوله { :وَسَيَرَى اللّهُ َ
سيراه بعد وقوعه ،وفيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين ،والغضب والسخط على الفاسقين.
حدُودَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ عَلَى َرسُولِ ِه وَاللّهُ
جدَرُ أَلّا َيعَْلمُوا ُ
{ { }ْ 99 - 97الْأَعْرَابُ َأشَدّ ُكفْرًا وَنِفَاقًا وَأَ ْ
سوْءِ
حكِيمٌ * َومِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُ ْنفِقُ َمغْ َرمًا وَيَتَرَ ّبصُ ِبكُمُ ال ّدوَائِرَ عَلَ ْيهِمْ دَائِ َرةُ ال ّ
عَلِيمٌ َ
سمِيعٌ عَلِيمٌ * َومِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُ ْنفِقُ قُرُبَاتٍ عِ ْندَ اللّهِ
وَاللّهُ َ
غفُورٌ َرحِيمٌ ْ}
حمَتِهِ إِنّ اللّهَ َ
َوصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلَا إِ ّنهَا قُرْبَةٌ َلهُمْ سَ ُيدْخُِل ُهمُ اللّهُ فِي َر ْ
وفيهم من لطافة الطبع والنقياد للداعي ما ليس في البادية ،ويجالسون أهل اليمان ،ويخالطونهم
أكثر من أهل البادية ،فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية ،وإن كان في البادية والحاضرة،
كفار ومنافقون ،ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة .ومن ذلك أن العراب أحرص على
الموال ،وأشح فيها.
خذُ مَا يُ ْنفِقُ ْ} من الزكاة والنفقة في سبيل اللّه وغير ذلكَ { ،مغْ َرمًا ْ} أي:
{ }ْ 98فمنهم { مَنْ يَتّ ِ
يراها خسارة ونقصا ،ل يحتسب فيها ،ول يريد بها وجه اللّه ،ول يكاد يؤديها إل كرها.
{وَيَتَرَ ّبصُ ِبكُمُ ال ّدوَائِرَ } أي :من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم ،أنهم يودون وينتظرون فيهم
دوائر الدهر ،وفجائع الزمان ،وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء.
وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم ،ولهم العقبى الحسنة { ،وَاللّهُ سميع عليم ْ} يعلم
نيات العباد ،وما صدرت عنه العمال ،من إخلص وغيره.
وليس العراب كلهم مذمومين ،بل منهم { مَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ } فيسلم بذلك من الكفر
والنفاق ويعمل بمقتضى اليمان.
خذُ مَا يُ ْنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ } أي :يحتسب نفقته ،ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه و
{ وَيَتّ ِ
يجعلها وسيلة لب { صََلوَاتِ الرّسُولِ ْ} أي :دعائه لهم ،وتبريكه عليهم ،قال تعالى مبينا لنفع
صلوات الرسول { :أَلَا إِ ّنهَا قُرْبَةٌ َلهُمْ } تقربهم إلى اللّه ،وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة.
حمَتِهِ } في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم ،فيغفر السيئات العظيمة
{ سَيُ ْدخُِلهُمُ اللّهُ فِي َر ْ
لمن تاب إليه ،ويعم عباده برحمته ،التي وسعت كل شيء ،ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم
فيها إلى الخيرات ،ويحميهم فيها من المخالفات ،ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات.
وفي هذه الية دليل على أن العراب كأهل الحاضرة ،منهم الممدوح ومنهم المذموم ،فلم يذمهم
اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم ،إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه ،وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها :أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الحوال.
ومنها :فضيلة العلم ،وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه ،لن اللّه ذم العراب ،وأخبر أنهم أشد
كفرا ونفاقا ،وذكر السبب الموجب لذلك ،وأنهم أجدر أن ل يعلموا حدود ما أنزل اللّه على
رسوله.
ومنها :أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم ،معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله ،من أصول
الدين وفروعه ،كمعرفة حدود اليمان ،والسلم ،والحسان ،والتقوى ،والفلح ،والطاعة ،والبر،
والصلة ،والحسان ،والكفر ،والنفاق ،والفسوق ،والعصيان ،والزنا ،والخمر ،والربا ،ونحو ذلك.
فإن في معرفتها يتمكن من فعلها -إن كانت مأمور بها ،أو تركها إن كانت محظورة -ومن المر
بها أو النهي عنها.
ومنها :أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق ،منشرح الصدر ،مطمئن النفس ،ويحرص
أن تكون مغنما ،ول تكون مغرما.
السابقون هم الذين سبقوا هذة المة وبدروها إلى اليمان والهجرة ،والجهاد ،وإقامة دين اللّه.
{ مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِينَ } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل من اللّه ورضوانا،
وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }
و من { الْأَ ْنصَارِ } ( الذين تبوأوا الدار واليمان[ ،من قبلهم] يحبون من هاجر إليهم ،ول يجدون
في صدورهم حاجة مما أوتوا ،ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )
{ وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُمْ بِِإحْسَانٍ } بالعتقادات والقوال والعمال ،فهؤلء ،هم الذين سلموا من الذم،
وحصل لهم نهاية المدح ،وأفضل الكرامات من اللّه.
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ } ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة { ،وَ َرضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي
{ َر ِ
س ْقيِ الجنان ،والحدائق الزاهية الزاهرة ،والرياض
تَحْ َتهَا الْأَ ْنهَارُ } الجارية التي تساق إلى َ
الناضرة.
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا } ل يبغون عنها حول ،ول يطلبون منها بدل ،لنهم مهما تمنوه ،أدركوه،
ومهما أرادوه ،وجدوه.
{ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ } الذي حصل لهم فيه ،كل محبوب للنفوس ،ولذة للرواح ،ونعيم للقلوب،
وشهوة للبدان ،واندفع عنهم كل محذور.
{ لَا َتعَْل ُمهُمْ } بأعيانهم فتعاقبهم ،أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم ،لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة.
{ َنحْنُ َنعَْل ُمهُمْ سَ ُن َعذّ ُبهُمْ مَرّتَيْنِ } يحتمل أن التثنية على بابها ،وأن عذابهم عذاب في الدنيا ،وعذاب
في الخرة.
ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ،والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر ،وفي
الخرة عذاب النار وبئس القرار.
ويحتمل أن المراد سنغلظ عليهم العذاب ،ونضاعفه عليهم ونكرره.
عمَلًا صَاِلحًا وَآخَرَ سَيّئًا } ول يكون العمل صالحا إل إذا كان مع العبد أصل التوحيد
{ خَلَطُوا َ
واليمان ،المخرج عن الكفر والشرك ،الذي هو شرط لكل عمل صالح ،فهؤلء خلطوا العمال
الصالحة ،بالعمال السيئة ،من التجرؤ على بعض المحرمات ،والتقصير في بعض الواجبات ،مع
عسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ } وتوبته على
العتراف بذلك والرجاء ،بأن يغفر اللّه لهم ،فهؤلء { َ
عبده نوعان:
غفُورٌ رَحِيمٌ } أي :وصفه المغفرة والرحمة اللتان ل يخلو مخلوق منهما ،بل ل بقاء
{ إِنّ اللّهَ َ
للعالم العلوي والسفلي إل بهما ،فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
{ إن اللّه يمسك السماوات والرض أن تزول ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان
حليما غفورا } .
ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالعمال السيئة ،إذا تابوا إليه
وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل ،فإنه يعفو عنهم ،ويتجاوز عن سيئاتهم ،فهذه الية ،دلت على
أن المخلط المعترف النادم ،الذي لم يتب توبة نصوحا ،أنه تحت الخوف والرجاء ،وهو إلى
السلمة أقرب.
وأما المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه ،بل ل يزال مصرا على الذنوب ،فإنه
يخاف عليه أشد الخوف.
{ وَتُ َزكّيهِمْ } أي :تنميهم ،وتزيد في أخلقهم الحسنة ،وأعمالهم الصالحة ،وتزيد في ثوابهم الدنيوي
والخروي ،وتنمي أموالهم.
صلّ عَلَ ْيهِمْ } أي :ادع لهم ،أي :للمؤمنين عموما وخصوصا عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم.
{ َو َ
سمِيعٌ } لدعائك ،سمع إجابة
سكَنٌ َلهُمْ } أي :طمأنينة لقلوبهم ،واستبشار لهم { ،وَاللّهُ َ
{ إِنّ صَلَا َتكَ َ
وقبول.
{ عَلِيمٌ } بأحوال العباد ونياتهم ،فيجازي كل عامل بعمله ،وعلى قدر نيته ،فكان النبي صلى ال
عليه وسلم يمتثل لمر اللّه ،ويأمرهم بالصدقة ،ويبعث عماله لجبايتها ،فإذا أتاه أحد بصدقته دعا
له وبرّك.
ففي هذه الية ،دللة على وجوب الزكاة ،في جميع الموال ،وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة ،فإنها
أموال تنمى ويكتسب بها ،فمن العدل أن يواسى منها الفقراء ،بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة.
وما عدا أموال التجارة ،فإن كان المال ينمى ،كالحبوب ،والثمار ،والماشية المتخذة للنماء والدر
والنسل ،فإنها تجب فيها الزكاة ،وإل لم تجب فيها ،لنها إذا كانت للقنية ،لم تكن بمنزلة الموال
التي يتخذها النسان في العادة ،مال يتمول ،ويطلب منه المقاصد المالية ،وإنما صرف عن المالية
بالقنية ونحوها.
وفيها :أن العبد ل يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله ،وأنه ل يكفرها شيء سوى
أدائها ،لن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها.
وفيها :استحباب الدعاء من المام أو نائبه لمن أدى زكاته بالبركة ،وأن ذلك ينبغي ،أن يكون
جهرا ،بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه.
ويؤخذ من المعنى ،أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلم اللين ،والدعاء له ،ونحو ذلك
مما يكون فيه طمأنينة ،وسكون لقلبه .وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عمل صالحا بالدعاء
له والثناء ،ونحو ذلك.
أي :أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه { َيقْبَلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ } التائبين من أي ذنب
كان ،بل يفرح تعالى بتوبة عبده ،إذا تاب أعظم فرح يقدر.
خذُ الصّ َدقَاتِ } منهم أي :يقبلها ،ويأخذها بيمينه ،فيربيها لحدهم كما يربي الرجل فلوه ،حتى
{ وَيَأْ ُ
تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم ،فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك.
{ وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ } أي :كثير التوبة على التائبين ،فمن تاب إليه تاب عليه ،ولو تكررت منه
[المعصية ] مرارا .ول يمل اللّه من التوبة على عباده ،حتى يملوا هم ،ويأبوا إل النفار والشرود
عن بابه ،وموالتهم عدوهم.
{ الرّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء ،وكتبها للذين يتقون ،ويؤتون الزكاة ،ويؤمنون بآياته،
ويتبعون رسوله.
عمََلكُ ْم وَرَسُولُ ُه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَسَتُ َردّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ
عمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ َ
{ َ { }ْ 105وقُلِ ا ْ
شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ}
وَال ّ
عمََلكُمْ وَرَسُولُ ُه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي :ل بد أن يتبين عملكم ويتضح { ،وَسَتُ َردّونَ إِلَى
{ َفسَيَرَى اللّهُ َ
شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير وشر ،ففي هذا التهديد والوعيد الشديد
عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه.
ويحتمل أن المعنى :أنكم مهما عملتم من خير أوشر ،فإن اللّه مطلع عليكم ،وسيطلع رسوله
وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة.
حكِيمٌ ْ}
جوْنَ لَِأمْرِ اللّهِ ِإمّا ُيعَذّ ُب ُه ْم وَِإمّا يَتُوبُ عَلَ ْيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
{ { }ْ 106وَآخَرُونَ مُرْ َ
أي { :وَآخَرُونَ } من المخلفين مؤخرون { لَِأمْرِ اللّهِ ِإمّا ُيعَذّ ُبهُ ْم وَِإمّا يَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ } ففي هذا
التخويف الشديد للمتخلفين ،والحث لهم على التوبة والندم.
كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ،يريدون به المضارة
والمشاقة بين المؤمنين ،ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله ،يكون لهم حصنا عند
جدًا ضِرَارًا ْ} أي:
خذُوا مَسْ ِ
الحتياج إليه ،فبين تعالى خزيهم ،وأظهر سرهم فقال { :وَالّذِينَ اتّ َ
مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه { َو ُكفْرًا ْ} أي :قصدهم فيه الكفر ،إذا قصد غيرهم
اليمان.
{ وَ َتفْرِيقًا بَيْنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} أي :ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا { ،وَإِ ْرصَادًا ْ} أي :إعدادا { ِلمَنْ حَا َربَ
اللّ َه وَرَسُوَلهُ مِنْ قَ ْبلُ ْ} أي :إعانة للمحاربين للّه ورسوله ،الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم،
وذلك كأبي عامر الراهب ،الذي كان من أهل المدينة ،فلما قدم النبي صلى ال عليه وسلم وهاجر
إلى المدينة ،كفر به ،وكان متعبدا في الجاهلية ،فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب
رسول اللّه صلى ال عليه وسلم.
فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره ،فهلك اللعين في الطريق ،وكان
على وعد وممالة ،هو والمنافقون .فكان مما أعدوا له مسجد الضرار ،فنزل الوحي بذلك ،فبعث
إليه النبي صلى ال عليه وسلم من يهدمه ويحرقه ،فهدم وحرق ،وصار بعد ذلك مزبلة.
قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد { وَلَ َيحِْلفُنّ إِنْ أَرَدْنَا ْ} في بنائنا إياه
حسْنَى ْ} أي :الحسان إلى الضعيف ،والعاجز والضرير.
{ إِلّا الْ ُ
{ لَا َتقُمْ فِيهِ أَ َبدًا ْ} أي :ل تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا .فاللّه يغنيك عنه ،ولست
بمضطر إليه.
{ َل َمسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ال ّت ْقوَى مِنْ َأوّلِ َيوْمٍ ْ} ظهر فيه السلم في "قباء" وهو مسجد "قباء" أسس
على إخلص الدين للّه ،وإقامة ذكره وشعائر دينه ،وكان قديما في هذا عريقا فيه ،فهذا المسجد
الفاضل { َأحَقّ أَنْ َتقُومَ فِيهِ ْ} وتتعبد ،وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل ،وأهله فضلء ،ولهذا مدحهم
طهّرُوا ْ} من الذنوب ،ويتطهروا من الوساخ ،والنجاسات
اللّه بقوله { :فِيهِ ِرجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَ َت َ
والحداث.
ومن المعلوم أن من أحب شيئا ل بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب ،فل بد أنهم كانوا حريصين
على التطهر من الذنوب والوساخ والحداث ،ولهذا كانوا ممن سبق إسلمه ،وكانوا مقيمين
للصلة ،محافظين على الجهاد ،مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ،وإقامة شرائع الدين ،وممن
كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله.
وسألهم النبي صلى ال عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الية في مدحهم عن طهارتهم ،فأخبروه أنهم
يتبعون الحجارة الماء ،فحمدهم على صنيعهم.
ثم فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقالَ { :أ َفمَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َت ْقوَى
مِنَ اللّهِ ْ} أي :على نية صالحة وإخلص { وَ ِرضْوَانٌ ْ} بأن كان موافقا لمره ،فجمع في عمله
شفَا ْ} أي :على طرف { جُ ُرفٍ هَارٍ ْ}
بين الخلص والمتابعة { ،خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ عَلَى َ
جهَنّ َم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ْ} لما فيه
أي :بال ،قد تداعى للنهدام { ،فَا ْنهَارَ بِهِ فِي نَارِ َ
مصالح دينهم ودنياهم.
{ لَا يَزَالُ بُنْيَا ُن ُهمُ الّذِي بَ َنوْا رِي َبةً فِي قُلُو ِبهِمْ ْ} أي :شكا ،وريبا ماكثا في قلوبهم { ،إِلّا أَنْ َتقَطّعَ
قُلُو ُبهُمْ ْ} بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم ،ويخافوه غاية الخوف ،فبذلك يعفو اللّه عنهم،
وإل فبنيانهم ل يزيدهم إل ريبا إلى ريبهم ،ونفاقا إلى نفاقهم.
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ ْ} بجميع الشياء ،ظاهرها ،وباطنها ،خفيها وجليها ،وبما أسره العباد ،وأعلنوه.
حكِيمٌ ْ} ل يفعل ول يخلق ول يأمر ول ينهى إل ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد .
{ َ
منها :أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه ،أنه محرم ،وأنه يجب هدم
مسجد الضرار ،الذي اطلع على مقصود أصحابه.
ومنها :أن العمل وإن كان فاضل تغيره النية ،فينقلب منهيا عنه ،كما قلبت نية أصحاب مسجد
الضرار عملهم إلى ما ترى.
ومنها :أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ،فإنها من المعاصي التي يتعين تركها
وإزالتها.
كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلفهم ،يتعين اتباعها والمر بها والحث عليها ،لن
اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه ،كما يوجب ذلك الكفر
والمحاربة للّه ورسوله.
ومنها :أن المعصية تؤثر في البقاع ،كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ،ونهي عن
القيام فيه ،وكذلك الطاعة تؤثر في الماكن كما أثرت في مسجد " قباء" حتى قال اللّه فيه:
{ َل َمسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ال ّت ْقوَى مِنْ َأوّلِ َيوْمٍ َأحَقّ أَنْ َتقُومَ فِيهِ ْ} .
ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره ،حتى كان صلى ال عليه وسلم يزور قباء كل
سبت يصلي فيه ،وحث على الصلة فيه.
ومنها :أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الية ،أربع قواعد مهمة ،وهي:
كل عمل فيه مضارة لمسلم ،أو فيه معصية للّه ،فإن المعاصي من فروع الكفر ،أو فيه تفريق بين
المؤمنين ،أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله ،فإنه محرم ممنوع منه ،وعكسه بعكسه.
ومنها :أن العمال الحسية الناشئة عن معصية ال ل تزال مبعدة لفاعلها عن ال بمنزلة الصرار
على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات.
ومنها :أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى ،فمسجد النبي صلى ال عليه وسلم الذي
أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى.
ومنها :أن العمل المبني على الخلص والمتابعة ،هو العمل المؤسس على التقوى ،الموصل
لعامله إلى جنات النعيم.
والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلل ،هو العمل المؤسس على شفا جرف هار،
فانهار به في نار جهنم ،واللّه ل يهدي القوم الظالمين.
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
{ { } 111إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ
ن َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَ ْبشِرُوا
ل وَا ْلقُرْآ ِ
حقّا فِي ال ّتوْرَا ِة وَالْإِنْجِي ِ
علَيْهِ َ
ن وَعْدًا َ
ن وَ ُيقْتَلُو َ
فَ َيقْتُلُو َ
بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َيعْتُمْ بِ ِه َوذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }
يخبر تعالى خبرا صدقا ،ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة ،ومعاوضة جسيمة ،وهو أنه { اشْتَرَى ْ}
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ ْ} فهي المثمن والسلعة المبيعة.
بنفسه الكريمة { مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ
{ بِأَنّ َلهُمُ ا ْلجَنّةَ ْ} التي فيها ما تشتهيه النفس ،وتلذ العين من أنواع اللذات والفراح،
والمسرات ،والحور الحسان ،والمنازل النيقات.
وصفة العقد والمبايعة ،بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه ،لعلء كلمته وإظهار
دينه فب { ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ْ} فهذا العقد والمبايعة ،قد صدرت من اللّه مؤكدة
بأنواع التأكيدات.
{ َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ْ} أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه { ،بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي
بَا َيعْتُمْ بِهِ ْ} أي :لتفرحوا بذلك ،وليبشر بعضكم بعضا ،ويحث بعضكم بعضا.
{ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ ْ} الذي ل فوز أكبر منه ،ول أجل ،لنه يتضمن السعادة البدية ،والنعيم
المقيم ،والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات ،وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة،
فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلله ،وإلى العوض ،وهو أكبر العواض وأجلها،
جنات النعيم ،وإلى الثمن المبذول فيها ،وهو النفس ،والمال ،الذي هو أحب الشياء للنسان.
وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ،وهو أشرف الرسل ،وبأي كتاب رقم ،وهي كتب اللّه
الكبار المنزلة على أفضل الخلق.
كأنه قيل :من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال :هم
{ التّائِبُونَ ْ} أي :الملزمون للتوبة في جميع الوقات عن جميع السيئات.
{ ا ْلعَا ِبدُونَ ْ} أي :المتصفون بالعبودية للّه ،والستمرار على طاعته من أداء الواجبات
والمستحبات في كل وقت ،فبذلك يكون العبد من العابدين.
{ ا ْلحَامِدُونَ ْ} للّه في السراء والضراء ،واليسر والعسر ،المعترفون بما للّه عليهم من النعم
الظاهرة والباطنة ،المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار.
{ السّائِحُونَ ْ} فسرت السياحة بالصيام ،أو السياحة في طلب العلم ،وفسرت بسياحة القلب في
معرفة اللّه ومحبته ،والنابة إليه على الدوام ،والصحيح أن المراد بالسياحة :السفر في القربات،
كالحج ،والعمرة ،والجهاد ،وطلب العلم ،وصلة القارب ،ونحو ذلك.
{ الرّا ِكعُونَ السّاجِدُونَ ْ} أي :المكثرون من الصلة ،المشتملة على الركوع والسجود.
{ وَالنّاهُونَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ ْ} وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه.
حدُودِ اللّهِ ْ} بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله ،وما يدخل في الوامر
{ وَا ْلحَافِظُونَ لِ ُ
والنواهي والحكام ،وما ل يدخل ،الملزمون لها فعل وتركا.
{ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} لم يذكر ما يبشرهم به ،ليعم جميع ما رتب على اليمان من ثواب الدنيا
والدين والخرة ،فالبشارة متناولة لكل مؤمن.
وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ،وإيمانهم ،قوة ،وضعفا ،وعمل بمقتضاه.
يعني :ما يليق ول يحسن للنبي وللمؤمنين به { أَنْ يَسْ َت ْغفِرُوا لِ ْلمُشْ ِركِينَ ْ} أي :لمن كفر به ،وعبد
جحِيمِ ْ} فإن الستغفار لهم
معه غيره { وََلوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمْ أَ ّنهُمْ َأصْحَابُ الْ َ
في هذه الحال غلط غير مفيد ،فل يليق بالنبي والمؤمنين ،لنهم إذا ماتوا على الشرك ،أو علم
أنهم يموتون عليه ،فقد حقت عليهم كلمة العذاب ،ووجب عليهم الخلود في النار ،ولم تنفع فيهم
شفاعة الشافعين ،ول استغفار المستغفرين.
وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه ،عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه ،ويوالوا من واله
اللّه ،ويعادوا من عاداه اللّه ،والستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك ،مناقض
عدَهَا إِيّاهُ
له ،ولئن وجد الستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلم لبيه فإنه { عَنْ َموْعِ َد ٍة وَ َ
حفِيّا ْ} وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه.
ْ} في قوله { سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ
فلما تبين لبراهيم أن أباه عدو للّه ،سيموت على الكفر ،ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير { تَبَرّأَ مِنْهُ ْ}
موافقة لربه وتأدبا معه.
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لََأوّاهٌ ْ} أي :رجّاع إلى اللّه في جميع المور ،كثير الذكر والدعاء ،والستغفار
والنابة إلى ربه.
{ حَلِيمٌ ْ} أي :ذو رحمة بالخلق ،وصفح عما يصدر منهم إليه ،من الزلت ،ل يستفزه جهل
جمَ ّنكَ ْ} وهو يقول له { :سَلَامٌ عَلَ ْيكَ
الجاهلين ،ول يقابل الجاني عليه بجرمه ،فأبوه قال له { :لَأَرْ ُ
سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي ْ}
فعليكم أن تقتدوا به ،وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء { إِلّا َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لََأسْ َتغْفِرَنّ َلكَ ْ} كما
نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها ،ولهذا قال:
{ َ { } 116 - 115ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِلّ َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ هَدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ َلهُمْ مَا يَ ّتقُونَ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ
ن وَِليّ وَلَا
ت َومَا َل ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِي ُ
شيْءٍ عَلِيمٌ * إِنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
َ
َنصِيرٍ }
يعني أن اللّه تعالى إذا منّ على قوم بالهداية ،وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم ،فإنه تعالى يتمم
عليهم إحسانه ،ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه ،وتدعو إليه ضرورتهم ،فل يتركهم ضالين،
جاهلين بأمور دينهم ،ففي هذا دليل على كمال رحمته ،وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه
العباد ،في أصول الدين وفروعه.
ضلّ َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ َهدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ َلهُمْ مَا يَ ّتقُونَ ْ} فإذا
ويحتمل أن المراد بذلك { َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُي ِ
بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له ،عاقبهم بالضلل جزاء لهم على ردهم الحق المبين ،والول
أولى.
شيْءٍ عَلِيمٌ ْ} فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون ،وبين لكم ما به
{ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
تنتفعون.
ت وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ ْ} أي :هو المالك لذلك ،المدبر لعباده بالحياء
سمَاوَا ِ
{ إِنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
والماتة وأنواع التدابير اللهية ،فإذا كان ل يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني
المتعلق بإلهيته ،ويترك عباده سدى مهملين ،أو يدعهم ضالين جاهلين ،وهو أعظم توليه لعباده؟".
ن وَالْأَ ْنصَارِ }
يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النّ ِبيّ صلى ال عليه وسلم { وَا ْل ُمهَاجِرِي َ
فغفر لهم الزلت ،ووفر لهم الحسنات ،ورقاهم إلى أعلى الدرجات ،وذلك بسبب قيامهم بالعمال
عةِ ا ْلعُسْ َرةِ } أي :خرجوا معه لقتال العداء في
الصعبة الشاقات ،ولهذا قال { :الّذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَا َ
وقعة "تبوك" وكانت في حر شديد ،وضيق من الزاد والركوب ،وكثرة عدو ،مما يدعو إلى
التخلف.
فاستعانوا اللّه تعالى ،وقاموا بذلك { مِنْ َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِ ْنهُمْ } أي :تنقلب قلوبهم،
ويميلوا إلى الدعة والسكون ،ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم .وزَيْ ُغ القلب هو انحرافه عن
الصراط المستقيم ،فإن كان النحراف في أصل الدين ،كان كفرا ،وإن كان في شرائعه ،كان
بحسب تلك الشريعة ،التي زاغ عنها ،إما قصر عن فعلها ،أو فعلها على غير الوجه الشرعي.
وقوله { ُثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ } أي :قبل توبتهم { إِنّهُ ِبهِمْ َرءُوفٌ َرحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنّ
عليهم بالتوبة ،وقبلها منهم وثبتهم عليها.
{ و } كذلك لقد تاب ال { عَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُّلفُوا } عن الخروج مع المسلمين ،في تلك الغزوة،
وهم" :كعب بن مالك" وصاحباه ،وقصتهم مشهورة معروفة ،في الصحاح والسنن.
{ حَتّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما ،و { ضَا َقتْ عَلَ ْي ِهمُ الْأَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َبتْ } أي :على سعتها ورحبها
سهُمْ } التي هي أحب إليهم من كل شيء ،فضاق عليهم الفضاء الواسع،
علَ ْيهِمْ أَ ْنفُ ُ
{ َوضَا َقتْ َ
والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه ،وذلك ل يكون إل من أمر مزعج ،بلغ من الشدة
والمشقة ما ل يمكن التعبير عنه ،وذلك لنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء.
{ وَظَنّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلّا إِلَيْهِ } أي :تيقنوا وعرفوا بحالهم ،أنه ل ينجي من الشدائد ،ويلجأ
إليه ،إل اللّه وحده ل شريك له ،فانقطع تعلقهم بالمخلوقين ،وتعلقوا باللّه ربهم ،وفروا منه إليه،
فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.
{ ُثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ } أي :أذن في توبتهم ووفقهم لها { لِيَتُوبُوا } أي :لتقع منهم ،فيتوب اللّه عليهم،
{ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ } أي :كثير التوبة والعفو ،والغفران عن الزلت والعصيان { ،الرّحِيمِ }
وصفه الرحمة العظيمة التي ل تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين ،في جميع اللحظات ،ما
تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية.
وفي هذه اليات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات ،وأعلى النهايات ،فإن اللّه جعلها
نهاية خواص عباده ،وامتن عليهم بها ،حين عملوا العمال التي يحبها ويرضاها.
ومنها :أن العبادة الشاقة على النفس ،لها فضل ومزية ليست لغيرها ،وكلما عظمت المشقة عظم
الجر.
ومنها :أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد ،وأن من ل يبالي بالذنب ول يحرج إذا
فعله ،فإن توبته مدخولة ،وإن زعم أنها مقبولة.
ومنها :أن علمة الخير وزوال الشدة ،إذا تعلق القلب بال تعالى تعلقا تاما ،وانقطع عن
المخلوقين.
ومنها :أن من لطف اللّه بالثلثة ،أن وسمهم بوسم ،ليس بعار عليهم فقال { :خُّلفُوا } إشارة إلى أن
المؤمنين خلفوهم[ ،أو خلفوا عن من ُبتّ في قبول عذرهم ،أو في رده] وأنهم لم يكن تخلفهم
رغبة عن الخير ،ولهذا لم يقل" :تخلفوا".
ومنها :أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق ،ولهذا أمر بالقتداء بهم فقال:
{ { } 119يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه َوكُونُوا مَعَ الصّا ِدقِينَ }
أي { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } باللّه ،وبما أمر اللّه باليمان به ،قوموا بما يقتضيه اليمان ،وهو القيام
بتقوى اللّه تعالى ،باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه.
{ َوكُونُوا مَعَ الصّا ِدقِينَ } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ،الذين أقوالهم صدق ،وأعمالهم ،وأحوالهم
ل تكون إل صدقا خلية من الكسل والفتور ،سالمة من المقاصد السيئة ،مشتملة على الخلص
والنية الصالحة ،فإن الصدق يهدي إلى البر ،وإن البر يهدي إلى الجنة.
ن صِ ْد ُق ُهمْ } الية.
قال ال تعالى { :هَذَا َيوْمُ يَ ْنفَعُ الصّا ِدقِي َ
يقول تعالى -حاثا لهل المدينة المنورة من المهاجرين ،والنصار ،ومن حولهم من العراب،
حوَْلهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَّلفُوا عَنْ
الذين أسلموا فحسن إسلمهم { :-مَا كَانَ لِأَ ْهلِ ا ْلمَدِي َن ِة َومَنْ َ
رَسُولِ اللّهِ } أي :ما ينبغي لهم ذلك ،ول يليق بأحوالهم.
سهِمْ } في بقائها وراحتها ،وسكونه { عَنْ َنفْسِهِ } الكريمة الزكية ،بل النبي صلى
{ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَ ْنفُ ِ
ال عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ،فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى ال عليه وسلم،
بنفسه ويقدمه عليها ،فعلمة تعظيم الرسول صلى ال عليه وسلم ومحبته واليمان التام به ،أن ل
يتخلفوا عنه ،ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال { :ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ } أي :المجاهدين في سبيل
خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي :مجاعة.
صبٌ } أي :تعب ومشقة { وَلَا مَ ْ
ظمٌَأ وَلَا َن َ
اللّه { لَا ُيصِي ُبهُمْ َ
{ وَلَا َيطَئُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّار } من الخوض لديارهم ،والستيلء على أوطانهم { ،وَلَا يَنَالُونَ
ل صَالِحٌ } لن هذه
ع َم ٌ
مِنْ عَ ُدوّ نَيْلًا } كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال { إِلّا كُ ِتبَ َل ُهمْ بِهِ َ
آثار ناشئة عن أعمالهم.
{ إِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر ال ،وقيامهم بما عليهم من
حقه وحق خلقه ،فهذه العمال آثار من آثار عملهم.
{ َ { } 122ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً فََلوْلَا َنفَرَ مِنْ ُكلّ فِ ْرقَةٍ مِ ْنهُمْ طَا ِئفَةٌ لِيَ َتفَ ّقهُوا فِي الدّينِ
حذَرُونَ }
جعُوا إِلَ ْيهِمْ َلعَّلهُمْ يَ ْ
وَلِيُنْذِرُوا َق ْو َمهُمْ إِذَا َر َ
يقول تعالى- :منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهمَ { -ومَا كَانَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً } أي:
جميعا لقتال عدوهم ،فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك ،وتفوت به كثير من المصالح الخرى،
{ فََلوْلَا َنفَرَ مِنْ ُكلّ فِ ْرقَةٍ مِ ْنهُمْ } أي :من البلدان ،والقبائل ،والفخاذ { طَا ِئفَةٌ } تحصل بها الكفاية
والمقصود لكان أولى.
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم ،فقال { :لِيَ َتفَ ّقهُوا
جعُوا إِلَ ْي ِهمْ } أي .ليتعلموا العلم الشرعي،
ن وَلِيُنْذِرُوا َق ْو َمهُمْ ِإذَا رَ َ
} أي :القاعدون { فِي الدّي ِ
ويعلموا معانيه ،ويفقهوا أسراره ،وليعلموا غيرهم ،ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم ،وخصوصا الفقه في الدين ،وأنه أهم المور ،وأن من تعلم علما ،فعليه نشره
وبثه في العباد ،ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم ،من بركته وأجره ،الذي ينمى له.
وأما اقتصار العالم على نفسه ،وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ،وترك
تعليم الجهال ما ل يعلمون ،فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته
أن يموت ،فيموت علمه وثمرته ،وهذا غاية الحرمان ،لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما.
وفي هذه الية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف ،لفائدة مهمة ،وهي :أن المسلمين ينبغي لهم أن
يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ،ويوفر وقته عليها ،ويجتهد فيها ،ول يلتفت
إلى غيرها ،لتقوم مصالحهم ،وتتم منافعهم ،ولتكون وجهة جميعهم ،ونهاية ما يقصدون قصدا
واحدا ،وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم ،ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب ،فالعمال متباينة،
والقصد واحد ،وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع المور.
{ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } أي :وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى،
فلزموا على تقوى اللّه ،يعنكم وينصركم على عدوكم.
وهذا العموم في قوله { :قَاتِلُوا الّذِينَ َيلُو َنكُمْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ } مخصوص بما إذا كانت المصلحة في
قتال غير الذين يلوننا ،وأنواع المصالح كثيرة جدا.
{ { } 126 - 124وَإِذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ َه ِذهِ إِيمَانًا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا
س ِه ْم َومَاتُوا
فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ْتهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْ ِ
ن وَلَا هُمْ َي ّذكّرُونَ }
وَهُمْ كَافِرُونَ * َأوَلَا يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ فِي ُكلّ عَامٍ مَ ّرةً َأوْ مَرّتَيْنِ ُثمّ لَا يَتُوبُو َ
يقول تعالى :مبينا حال المنافقين ،وحال المؤمنين عند نزول القرآن ،وتفاوت ما بين الفريقين،
فقال { :وَإِذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ } فيها المر ،والنهي ،والخبر عن نفسه الكريمة ،وعن المور
الغائبة ،والحث على الجهاد.
{ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَ ْتهُ َه ِذهِ إِيمَانًا } أي :حصل الستفهام ،لمن حصل له اليمان بها من
الطائفتين.
قال تعالى -مبينا الحال الواقعة { :-فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا } بالعلم بها ،وفهمها،
واعتقادها ،والعمل بها ،والرغبة في فعل الخير ،والنكفاف عن فعل الشر.
{ وَ ُهمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي :يبشر بعضهم بعضا بما من اللّه عليهم من آياته ،والتوفيق لفهمها والعمل
بها .وهذا دال على انشراح صدورهم ليات اللّه ،وطمأنينة قلوبهم ،وسرعة انقيادهم لما تحثهم
عليه.
وهذا عقوبة لهم ،لنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله ،فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.
قال تعالى -موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاقَ { :-أوَلَا يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ
فِي ُكلّ عَامٍ مَ ّرةً َأوْ مَرّتَيْنِ } بما يصيبهم من البليا والمراض ،وبما يبتلون من الوامر اللهية
التي يراد بها اختبارهم.
{ ُثمّ لَا يَتُوبُونَ } عما هم عليه من الشر { وَلَا هُمْ يَ ّذكّرُونَ } ما ينفعهم ،فيفعلونه ،وما يضرهم،
فيتركونه.
فال تعالى يبتليهم -كما هي سنته في سائر المم -بالسراء والضراء وبالوامر والنواهي ليرجعوا
إليه ،ثم ل يتوبون ول هم يذكرون.
وفي هذه اليات دليل على أن اليمان يزيد وينقص ،وأنه ينبغي للمؤمن ،أن يتفقد إيمانه ويتعاهده،
فيجدده وينميه ،ليكون دائما في صعود.
يعني :أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ،إذا نزلت سورة
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ } جازمين على ترك العمل بها،
ليؤمنوا بها ،ويعملوا بمضمونها { َنظَرَ َب ْع ُ
ينتظرون الفرصة في الختفاء عن أعين المؤمنين ،ويقولونَ { :هلْ يَرَاكُمْ مِنْ َأحَدٍ ثُمّ ا ْنصَ َرفُوا }
متسللين ،وانقلبوا معرضين ،فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم ،فكما انصرفوا عن العمل
{ صَ َرفَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } أي :صدها عن الحق وخذلها.
{ بِأَ ّن ُهمْ َقوْمٌ لَا َي ْفقَهُونَ } فقها ينفعهم ،فإنهم لو فقهوا ،لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها ،وانقادوا
لمرها.
والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره ،من شرائع اليمان ،كما قال تعالى عنهم:
ح َكمَ ٌة َو ُذكِرَ فِيهَا ا ْلقِتَالُ رَأَ ْيتَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ نَظَرَ
{ فَِإذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ مُ ْ
شيّ عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َم ْوتِ }
ا ْل َمغْ ِ
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْي ُكمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ
{ َ { } 129 - 128لقَدْ جَا َءكُمْ َرسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ
حسْ ِبيَ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ }
رَءُوفٌ َرحِيمٌ * فَإِنْ َتوَّلوْا َف ُقلْ َ
يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي المي الذي من أنفسهم ،يعرفون حاله،
ويتمكنون من الخذ عنه ،ول يأنفون عن النقياد له ،وهو صلى ال عليه وسلم في غاية النصح
لهم ،والسعي في مصالحهم.
علَيْهِ مَا عَنِتّمْ } أي :يشق عليه المر الذي يشق عليكم ويعنتكم.
{ عَزِيزٌ َ
{ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ } فيحب لكم الخير ،ويسعى جهده في إيصاله إليكم ،ويحرص على هدايتكم إلى
اليمان ،ويكره لكم الشر ،ويسعى جهده في تنفيركم عنه { .بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ } أي :شديد
الرأفة والرحمة بهم ،أرحم بهم من والديهم.
ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق ،وواجب على المة اليمان به ،وتعظيمه ،وتعزيره،
وتوقيره { فَإِنْ } آمنوا ،فذلك حظهم وتوفيقهم ،وإن { َتوَلّوا } عن اليمان والعمل ،فامض على
حسْ ِبيَ اللّهُ } أي :ال كافيّ في جميع ما أهمني { ،لَا إِلَهَ إِلّا
سبيلك ،ول تزل في دعوتك ،وقل { َ
ُهوَ } أي :ل معبود بحق سواه.
{ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ } أي :اعتمدت ووثقت به ،في جلب ما ينفع ،ودفع ما يضر { ،وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ
ا ْلعَظِيمِ } الذي هو أعظم المخلوقات .وإذا كان رب العرش العظيم ،الذي وسع المخلوقات ،كان
ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.
تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أول وآخرا وظاهرا وباطنا.
فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به ،فب { قَالَ ا ْلكَافِرُونَ } عنه{ :
إِنّ َهذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } أي :بين السحر ،ل يخفى بزعمهم على أحد ،وهذا من سفههم وعنادهم،
فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب ،وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم
بمصالحهم.
كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم ،الذي بعثه ال من أنفسهم ،يعرفونه حق المعرفة ،فردوا
دعوته ،وحرصوا على إبطال دينه ،وال متم نوره ولو كره الكافرون.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ
{ { } 4 - 3إِنّ رَ ّب ُكمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ
جمِيعًا
ج ُعكُمْ َ
شفِيعٍ إِلّا مِنْ َبعْدِ إِذْنِهِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ * إِلَ ْيهِ مَرْ ِ
يُدَبّرُ الَْأمْرَ مَا مِنْ َ
ط وَالّذِينَ َكفَرُوا
عمِلُوا الصّالِحَاتِ بِا ْلقِسْ ِ
حقّا إِنّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
وَعْدَ اللّهِ َ
حمِي ٍم وَعَذَابٌ َألِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ }
َلهُمْ شَرَابٌ مِنْ َ
ومن جملة حكمته فيها ،أنه خلقها بالحق وللحق ،ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.
{ ُثمّ } بعد خلق السماوات والرض { اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } استواء يليق بعظمته.
{ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الماتة والحياء ،وإنزال الرزاق ،ومداولة اليام
بين الناس ،وكشف الضر عن المضرورين ،وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه ،وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه.
شفِيعٍ إِلّا مِنْ َبعْدِ ِإذْنِهِ } فل يقدم أحد منهم على الشفاعة ،ولو كان أفضل الخلق ،حتى
{ مَا مِنْ َ
يأذن ال ول يأذن ،إل لمن ارتضى ،ول يرتضي إل أهل الخلص والتوحيد له.
{ ذَِلكُمْ } الذي هذا شأنه { اللّهُ رَ ّبكُمْ } أي :هو ال الذي له وصف اللهية الجامعة لصفات الكمال،
ووصف الربوبية الجامع لصفات الفعال.
{ فَاعْ ُبدُوهُ } أي :أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبوديةَ { ،أفَلَا تَ َذكّرُونَ } الدلة الدالة
على أنه وحده المعبود المحمود ،ذو الجلل والكرام.
فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام ،وحكمه الديني وهو شرعه ،الذي مضمونه ومقصوده
عبادته وحده ل شريك له ،ذكر الحكم الجزائي ،وهو مجازاته على العمال بعد الموت ،فقال:
جمِيعًا } أي :سيجمعكم بعد موتكم ،لميقات يوم معلوم.
ج ُعكُمْ َ
{ إِلَ ْيهِ مَرْ ِ
{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته ،والذي يرى ابتداءه بالخلق،
ثم ينكر إعادته للخلق ،فهو فاقد العقل منكر لحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه ،فهذا دليل
حقّا } أي :وعده صادق ل بد
عقلي واضح على المعاد .وقد ذكر الدليل النقلي فقال { :وَعْدَ اللّهِ َ
من إتمامه { لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم ال باليمان به.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بجوارحهم ،من واجبات ،ومستحبات { ،بِا ْلقِسْطِ } أي :بإيمانهم وأعمالهم،
{ وَ َ
جزاء قد بينه لعباده ،وأخبر أنه ل تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين { وَالّذِينَ َكفَرُوا } بآيات
ال وكذبوا رسل ال.
حمِيمٍ } أي :ماء حار ،يشوي الوجوه ،ويقطع المعاء { .وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر
{ َل ُهمْ شَرَابٌ مِنْ َ
أصناف العذاب { ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ } أي :بسبب كفرهم وظلمهم ،وما ظلمهم ال ولكن أنفسهم
يظلمون.
شمْسَ ضِيَا ًء وَا ْلقَمَرَ نُورًا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُوا عَدَدَ السّنِينَ
ج َعلَ ال ّ
{ ُ { } 6 - 5هوَ الّذِي َ
صلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ * إِنّ فِي اخْ ِتلَافِ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ
وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَِلكَ إِلّا بِا ْلحَقّ ُي َف ّ
ت وَالْأَ ْرضِ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ ّتقُونَ }
سمَاوَا ِ
َومَا خَلَقَ اللّهُ فِي ال ّ
لما قرر ربوبيته وإلهيته ،ذكر الدلة العقلية الفقية الدالة على ذلك وعلى كماله ،في أسمائه
وصفاته ،من الشمس والقمر ،والسماوات والرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف
المخلوقات ،وأخبر أنها آيات { ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } و { ِل َقوْمٍ يَ ّتقُونَ }
فإن العلم يهدي إلى معرفة الدللة فيها ،وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه ،والتقوى تحدث
في القلب الرغبة في الخير ،والرهبة من الشر ،الناشئين عن الدلة والبراهين ،وعن العلم واليقين.
وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة ،دال على كمال قدرة ال تعالى ،وعلمه،
وحياته ،وقيوميته ،وما فيها من الحكام والتقان والبداع والحسن ،دال على كمال حكمة ال،
وحسن خلقه وسعة علمه .وما فيها من أنواع المنافع والمصالح -كجعل الشمس ضياء ،والقمر
نورا ،يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل -يدل ذلك على رحمة ال تعالى
واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه ،وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة ال وإرادته
النافذة.
وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود ،ذو الجلل والكرام والوصاف العظام،
الذي ل تنبغي الرغبة والرهبة إل إليه ،ول يصرف خالص الدعاء إل له ،ل لغيره من المخلوقات
المربوبات ،المفتقرات إلى ال في جميع شئونها.
وفي هذه اليات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات ال ،والنظر فيها بعين العتبار ،فإن
بذلك تنفتح البصيرة ،ويزداد اليمان والعقل ،وتقوى القريحة ،وفي إهمال ذلك ،تهاون بما أمر ال
به ،وإغلق لزيادة اليمان ،وجمود للذهن والقريحة.
يقول تعالى { إِنّ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا } أي :ل يطمعون بلقاء ال ،الذي هو أكبر ما طمع فيه
الطامعون ،وأعلى ما أمله المؤملون ،بل أعرضوا عن ذلك ،وربما كذبوا به { وَ َرضُوا بِالْحَيَاةِ
الدّنْيَا } بدل عن الخرة.
طمَأَنّوا ِبهَا } أي :ركنوا إليها ،وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم ،فسعوا لها وأكبوا على
{ وَا ْ
لذاتها وشهواتها ،بأي طريق حصلت حصلوها ،ومن أي وجه لحت ابتدروها ،قد صرفوا إرادتهم
ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها.
فكأنهم خلقوا للبقاء فيها ،وكأنها ليست دار ممر ،يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها
يرحل الولون والخرون ،وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.
{ وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } فل ينتفعون باليات القرآنية ،ول باليات الفقية والنفسية،
والعراض عن الدليل مستلزم للعراض والغفلة ،عن المدلول المقصود.
{ أُولَ ِئكَ } الذين هذا وصفهم { مَ ْأوَا ُهمُ النّارُ } أي :مقرهم ومسكنهم التي ل يرحلون عنها.
{ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } من الكفر والشرك وأنواع المعاصي ،فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين
فقال:
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َيهْدِي ِهمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِت ِهمُ الْأَ ْنهَارُ
{ { } 10 - 9إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ
عوَاهُمْ أَنِ الْ َ
عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّل ُه ّم وَتَحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَلَا ٌم وَآخِرُ دَ ْ
فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * دَ ْ
ا ْلعَاَلمِينَ }
{ َي ْهدِيهِمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ } أي :بسبب ما معهم من اليمان ،يثيبهم ال أعظم الثواب ،وهو الهداية،
فيعلمهم ما ينفعهم ،ويمن عليهم بالعمال الناشئة عن الهداية ،ويهديهم للنظر في آياته ،ويهديهم في
هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم ،وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل
إلى جنات النعيم .،ولهذا قال { :تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ } الجارية على الدوام { فِي جَنّاتِ
ال ّنعِيمِ } أضافها ال إلى النعيم ،لشتمالها على النعيم التام ،نعيم القلب بالفرح والسرور ،والبهجة
والحبور ،ورؤية الرحمن وسماع كلمه ،والغتباط برضاه وقربه ،ولقاء الحبة والخوان،
والتمتع بالجتماع بهم ،وسماع الصوات المطربات ،والنغمات المشجيات ،والمناظر المفرحات.
ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب ،والمناكح ونحو ذلك ،مما ل تعلمه النفوس ،ول خطر ببال
أحد ،أو قدر أن يصفه الواصفون.
عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّل ُهمّ } أي عبادتهم فيها ل ،أولها تسبيح ل وتنزيه له عن النقائض،
{ دَ ْ
وآخرها تحميد ل ،فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء ،وإنما بقي لهم أكمل اللذات ،الذي هو
ألذ عليهم من المآكل اللذيذة ،أل وهو ذكر ال الذي تطمئن به القلوب ،وتفرح به الرواح ،وهو
لهم بمنزلة ال ّنفَس ،من دون كلفة ومشقة.
{ و } أما { َتحِيّ ُتهُمْ } فيما بينهم عند التلقي والتزاور ،فهو السلم ،أي :كلم سالم من اللغو
عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ } إلى آخر الية،
والثم ،موصوف بأنه { سَلَامٌ } وقد قيل في تفسير قوله { دَ ْ
أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما -قالوا سبحانك اللهم ،فأحضر لهم في
الحال.
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
فإذا فرغوا قالوا { :ا ْل َ
وهذا من لطفه وإحسانه بعباده ،أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه ،وبادرهم بالعقوبة على
ذلك ،كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه { َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُلهُمْ } أي :لمحقتهم العقوبة ،ولكنه
تعالى يمهلهم ول يهملهم ،ويعفو عن كثير من حقوقه ،فلو يؤاخذ ال الناس بظلمهم ما ترك على
ظهرها من دابة.
ويدخل في هذا ،أن العبد إذا غضب على أولده أو أهله أو ماله ،ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت
منه لهلكوا ،ولضره ذلك غاية الضرر ،ولكنه تعالى حليم حكيم.
وقوله { :فَنَذَرُ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا } أي :ل يؤمنون بالخرة ،فلذلك ل يستعدون لها ،ول
طغْيَا ِن ِهمْ } أي :باطلهم ،الذي جاوزوا به الحق والحد.
يعلمون ما ينجيهم من عذاب ال { ،فِي ُ
{ َي ْع َمهُونَ } يترددون حائرين ،ل يهتدون السبيل ،ول يوفقون لقوم دليل ،وذلك عقوبة لهم على
ظلمهم ،وكفرهم بآيات ال.
وهذا إخبار عن طبيعة النسان من حيث هو ،وأنه إذا مسه ضر ،من مرض أو مصيبة اجتهد في
الدعاء ،وسأل ال في جميع أحواله ،قائما وقاعدا ومضطجعا ،وألح في الدعاء ليكشف ال عنه
ضره.
شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَنْ لَمْ َيدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَسّهُ } أي :استمر في غفلته معرضا عن ربه،
{ فََلمّا كَ َ
كأنه ما جاءه ضره ،فكشفه ال عنه ،فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟" يطلب من ال قضاء غرضه،
فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه ،وكأنه ليس عليه ل حق .وهذا تزيين من الشيطان ،زين له ما
كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.
{ َكذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ } أي :المتجاوزين للحد { مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
ت َومَا كَانُوا
{ { } 14 - 13وََلقَدْ أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُوا وَجَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَا ِ
جعَلْنَاكُمْ خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َبعْ ِدهِمْ لِنَ ْنظُرَ كَ ْيفَ
لِ ُي ْؤمِنُوا كَ َذِلكَ نَجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ * ثُمّ َ
َت ْعمَلُونَ }
يخبر تعالى أنه أهلك المم الماضية بظلمهم وكفرهم ،بعد ما جاءتهم البينات على أيدي الرسل
وتبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا .فأحل بهم عقابه الذي ل يرد عن كل مجرم متجرئ على
محارم ال ،وهذه سنته في جميع المم.
جعَلْنَا ُكمْ } أيها المخاطبون { خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لِنَ ْنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } فإن أنتم
{ ُثمّ َ
اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات ال وصدقتم رسله ،نجوتم في الدنيا والخرة.
وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم ،أحل بكم ما أحل بهم ،ومن أنذر فقد أعذر.
{ { }ْ 17 - 15وَإِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا َأوْ
عصَ ْيتُ رَبّي
بَدّ ْلهُ ُقلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُ َبدّلَهُ مِنْ تِ ْلقَاءِ َنفْسِي إِنْ أَتّ ِبعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
عمُرًا مِنْ قَبِْلهِ َأفَلَا
عظِيمٍ * ُقلْ َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ ِبهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
عَذَابَ َيوْمٍ َ
َت ْعقِلُونَ * َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ ْ}
يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم ،وأنهم إذا تتلى عليهم آيات ال
القرآنية المبينة للحق ،أعرضوا عنها ،وطلبوا وجوه التعنت فقالوا ،جراءة منهم وظلما { :ا ْئتِ
ِبقُرْآنٍ غَيْرِ َهذَا َأوْ بَدّ ْلهُ ْ} فقبحهم ال ،ما أجرأهم على ال ،وأشدهم ظلما وردا لياته.
فإذا كان الرسول العظيم يأمره ال ،أن يقول لهمُ { :قلْ مَا َيكُونُ لِي ْ} أي :ما ينبغي ول يليق { أَنْ
أُبَدَّلهُ مِنْ تِ ْلقَاءِ َنفْسِي ْ} فإني رسول محض ،ليس لي من المر شيء { ،إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ ْ}
عظِيمٍ ْ} فهذا
عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ َ
أي :ليس لي غير ذلك ،فإني عبد مأمور { ،إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
قول خير الخلق وأدبه مع أوامر ربه ووحيه ،فكيف بهؤلء السفهاء الضالين ،الذين جمعوا بين
الجهل والضلل ،والظلم والعناد ،والتعنت والتعجيز لرب العالمين ،أفل يخافون عذاب يوم
عظيم؟".
فإن زعموا أن قصدهم أن يتبين لهم الحق باليات التي طلبوا فهم كذبة في ذلك ،فإن ال قد بين
من اليات ما يؤمن على مثله البشر ،وهو الذي يصرفها كيف يشاء ،تابعا لحكمته الربانية،
ورحمته بعباده.
عمُرًا ْ} طويل { مِنْ قَبِْلهِ ْ} أي :قبل
{ ُقلْ َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا َأدْرَاكُمْ ِبهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
تلوته ،وقبل درايتكم به ،وأنا ما خطر على بالي ،ول وقع في ظني.
{ َأفَلَا َتعْقِلُونَ ْ} أني حيث لم أتقوله في مدة عمري ،ول صدر مني ما يدل على ذلك ،فكيف أتقوله
بعد ذلك ،وقد لبثت فيكم عمرا طويل تعرفون حقيقة حالي ،بأني أمي ل أقرأ ول أكتب ،ول
أدرس ول أتعلم من أحد؟"
فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء ،وأعيا العلماء ،فهل يمكن -مع هذا -أن يكون من تلقاء
نفسي ،أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟
فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم ،وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب ،لجزمتم جزما ل يقبل الريب
بصدقه ،وأنه الحق الذي ليس بعده إل الضلل ،ولكن إذ أبيتم إل التكذيب والعناد ،فأنتم ل شك
أنكم ظالمون.
{ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَا ِتهِ ْ} ؟!!
فلو كنت متقول لكنت أظلم الناس ،وفاتني الفلح ،ولم تخف عليكم حالي ،ولكني جئتكم بآيات ال،
فكذبتم بها ،فتعين فيكم الظلم ،ول بد أن أمركم سيضمحل ،ولن تنالوا الفلح ،ما دمتم كذلك.
ودل قوله { :قَالَ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا ْ} الية ،أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم
هو عدم إيمانهم بلقاء ال وعدم رجائه ،وأن من آمن بلقاء ال فل بد أن ينقاد لهذا الكتاب ويؤمن
به ،لنه حسن القصد.
يقول تعالى { :وَ َيعْبُدُونَ ْ} أي :المشركون المكذبون لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
{ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُرّهُ ْم وَلَا يَ ْن َف ُعهُمْ ْ} أي :ل تملك لهم مثقال ذرة من النفع ول تدفع عنهم
شيئا.
ش َفعَاؤُنَا عِ ْندَ اللّهِ ْ} أي :يعبدونهم ليقربوهم إلى ال،
{ وَ َيقُولُونَ ْ} قول خاليا من البرهانَ { :هؤُلَاءِ ُ
ويشفعوا لهم عنده ،وهذا قول من تلقاء أنفسهم ،وكلم ابتكروه هم ،ولهذا قال تعالى -مبطل لهذا
ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي :ال تعالى هو العالم،
سمَاوَا ِ
القولُ { :-قلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَا َيعْلَمُ فِي ال ّ
الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والرض ،وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ول إله معه،
أفأنتم-يا معشر المشركين -تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه،
وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم ال؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول ،المتضمن أن هؤلء الضلل
الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول ،فإنه يجزم بفساده
عمّا ُيشْ ِركُونَ ْ} أي :تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير ،بل هو
وبطلنه { :سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ
ال الحد الفرد الصمد الذي ل إله في السماوات والرض إل هو ،وكل معبود في العالم العلوي
والسفلي سواه ،فإنه باطل عقل وشرعا وفطرة.
{ وَ َيقُولُونَ ْ} أي :المكذبون المتعنتونَ { ،لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ ْ} يعنون :آيات القتراح التي
يعينونها كقولهمَ { :لوْلَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ فَ َيكُونَ َمعَهُ نَذِيرًا ْ} اليات.
وكقولهمَ { :وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا ْ} اليات.
{ َف ُقلْ ْ} لهم إذا طلبوا منك آية { إِ ّنمَا ا ْلغَ ْيبُ لِلّهِ ْ} أي :هو المحيط علما بأحوال العباد ،فيدبرهم بما
يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة ،وليس لحد تدبير في حكم ول دليل ،ول غاية ول تعليل.
{ فَانْ َتظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ ْ} أي :كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له ،فانظروا لمن تكون
العاقبة.
حمَةً مِنْ َبعْ ِد ضَرّاءَ مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُمْ َمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرًا
{ { }ْ 21وَإِذَا أَ َذقْنَا النّاسَ َر ْ
إِنّ رُسُلَنَا َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ ْ}
حمَةً مِنْ َبعْدِ ضَرّاءَ مَسّ ْتهُمْ ْ} كالصحة بعد المرض ،والغنى بعد
يقول تعالى { :وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ
الفقر ،والمن بعد الخوف ،نسوا ما أصابهم من الضراء ،ولم يشكروا ال على الرخاء والرحمة،
بل استمروا في طغيانهم ومكرهم.
ولهذا قالِ { :إذَا َلهُمْ َمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ْ} أي يسعون بالباطل ،ليبطلوا به الحق.
{ ُقلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرًا ْ} فإن المكر السيئ ل يحيق إل بأهله ،فمقصودهم منعكس عليهم ،ولم
يسلموا من التبعة ،بل تكتب الملئكة عليهم ما يعملون ،ويحصيه ال عليهم ،ثم يجازيهم [ال] عليه
أوفر الجزاء.
لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء ،واليسر بعد
العسر ،ذكر حالة ،تؤيد ذلك ،وهي حالهم في البحر عند اشتداده ،والخوف من عواقبه ،فقالُ { :هوَ
الّذِي ُيسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ْ} بما يسر لكم من السباب المسيرة لكم فيها ،وهداكم إليها.
{ حَتّى إِذَا كُنْ ُتمْ فِي ا ْلفُلْكِ ْ} أي :السفن البحرية { وَجَرَيْنَ ِبهِمْ بِرِيحٍ طَيّ َبةٍ ْ} موافقة لما يهوونه ،من
غير انزعاج ول مشقة.
ج ُعكُمْ ْ} في يوم القيامة { فَنُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ} وفي هذا غاية التحذير لهم عن
{ ُثمّ إِلَيْنَا مَ ْر ِ
الستمرار على عملهم.
سمَاءِ فَاخْ َتلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّاسُ
{ { }ْ 24إِ ّنمَا مَ َثلُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
ت وَظَنّ َأهُْلهَا أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَا أَتَاهَا َأمْرُنَا لَيْلًا َأوْ
وَالْأَ ْنعَامُ حَتّى ِإذَا َأخَ َذتِ الْأَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َن ْ
صلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ ْ}
حصِيدًا كَأَنْ لَمْ َتغْنَ بِالَْأمْسِ َكذَِلكَ ُنفَ ّ
جعَلْنَاهَا َ
َنهَارًا فَ َ
وهذا المثل من أحسن المثلة ،وهو مطابق لحالة الدنيا ،فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك
يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا ،فإذا استكمل وتم اضمحل ،وزال عن صاحبه ،أو زال صاحبه
عنه ،فأصبح صفر اليدين منها ،ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.
سمَاءِ فَاخْ َتلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ ْ} أي :نبت فيها من كل صنف ،وزوج
فذلك { َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
بهيج { ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّاسُ ْ} كالحبوب والثمار { و ْ} مما تأكل { الْأَ ْنعَامِ ْ} كأنواع العشب ،والكل
المختلف الصناف.
{ حَتّى إِذَا َأخَ َذتِ الْأَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ ْ} أي :تزخرفت في منظرها ،واكتست في زينتها،
فصارت بهجة للناظرين ،ونزهة للمتفرجين ،وآية للمتبصرين ،فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما
بين أخضر ،وأصفر ،وأبيض وغيره.
{ وَظَنّ أَهُْلهَا أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَا ْ} أي :حصل معهم طمع ،بأن ذلك سيستمر ويدوم ،لوقوف
إرادتهم عنده ،وانتهاء مطالبهم فيه.
وأما الغافل المعرض ،فهذا ل تنفعه اليات ،ول يزيل عنه الشك البيان.
ولما ذكر ال حال الدنيا ،وحاصل نعيمها ،شوق إلى الدار الباقية فقال:
حسَنُوا
{ { }ْ 26 - 25وَاللّهُ َيدْعُو إِلَى دَارِ السّلَا ِم وَ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * لِلّذِينَ أَ ْ
ق ُوجُو َههُمْ قَتَ ٌر وَلَا ذِلّةٌ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ}
حسْنَى وَزِيَا َدةٌ وَلَا يَرْهَ ُ
الْ ُ
عم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلم ،والحث على ذلك ،والترغيب ،وخص بالهداية من شاء
استخلصه واصطفاءه ،فهذا فضله وإحسانه ،وال يختص برحمته من يشاء ،وذلك عدله وحكمته،
وليس لحد عليه حجة بعد البيان والرسل ،وسمى ال الجنة "دار السلم" لسلمتها من جميع
الفات والنقائص ،وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه ،وحسنه من كل وجه.
ولما دعا إلى دار السلم ،كأن النفوس تشوقت إلى العمال الموجبة لها الموصلة إليها ،فأخبر
عنها بقوله { :لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ ْ} أي :للذين أحسنوا في عبادة الخالق ،بأن عبدوه على
وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته ،وقاموا بما قدروا عليه منها ،وأحسنوا إلى عباد ال بما
يقدرون عليه من الحسان القولي والفعلي ،من بذل الحسان المالي ،والحسان البدني ،والمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتعليم الجاهلين ،ونصيحة المعرضين ،وغير ذلك من وجوه البر
والحسان.
فهؤلء الذين أحسنوا ،لهم "الحسنى" وهي الجنة الكاملة في حسنها و "زيادة" وهي النظر إلى وجه
ال الكريم ،وسماع كلمه ،والفوز برضاه والبهجة بقربه ،فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه
المتمنون ،ويسأله السائلون.
ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال { :وَلَا يَرْهَقُ وُجُو َههُمْ قَتَ ٌر وَلَا ذِلّةٌ ْ} أي :ل ينالهم مكروه،
بوجه من الوجوه ،لن المكروه ،إذا وقع بالنسان ،تبين ذلك في وجهه ،وتغير وتكدر.
وأما هؤلء -فهم كما قال ال عنهم َ { -تعْ ِرفُ فِي وُجُو ِههِمْ َنضْ َرةَ ال ّنعِيم ْ} { أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ
الْجَنّةِ ْ} الملزمون لها { هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ} ل يحولون ول يزولون ،ول يتغيرون.
{ { }ْ 27وَالّذِينَ كَسَبُوا السّيّئَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ ِبمِثِْلهَا وَتَرْ َه ُقهُمْ ِذلّةٌ مَا َلهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَ ّنمَا
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ}
طعًا مِنَ اللّ ْيلِ مُظِْلمًا أُولَ ِئكَ َأ ْ
ت وُجُو ُههُمْ ِق َ
أُغْشِ َي ْ
لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار ،فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي
العمال السيئة المسخطة ل ،من أنواع الكفر والتكذيب ،وأصناف المعاصي ،فجزاؤهم سيئة مثلها
أي :جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلف أحوالهم.
{ وَتَرْ َه ُقهُمْ ْ} أي :تغشاهم { ذِلّةٌ ْ} في قلوبهم وخوف من عذاب ال ،ل يدفعه عنهم دافع ول
يعصمهم منه عاصم ،وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم ،فتكون سوادًا في الوجوه .
طعًا مِنَ اللّ ْيلِ ُمظِْلمًا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ} فكم بين
غشِ َيتْ ُوجُو ُههُمْ قِ َ
{ كَأَ ّنمَا أُ ْ
الفريقين من الفرق ،ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!
{ وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ وَوُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ تَظُنّ أَنْ ُيفْ َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ ْ} { ووُجُوهٌ
حكَةٌ مُسْتَ ْبشِ َر ٌة َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ ْ}
سفِ َرةٌ ضَا ِ
َي ْومَئِذٍ مُ ْ
جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ َأشْ َركُوا َمكَا َنكُمْ أَنْتُ ْم وَشُ َركَا ُؤكُمْ فَزَيّلْنَا بَيْ َن ُهمْ
حشُرُهُمْ َ
{ { }ْ 30 - 28وَ َيوْمَ نَ ْ
شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبَادَ ِت ُكمْ َلغَافِلِينَ *
َوقَالَ شُ َركَاؤُ ُهمْ مَا كُنْتُمْ إِيّانَا َتعْ ُبدُونَ * َفكَفَى بِاللّهِ َ
ق َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ ْ}
حّهُنَاِلكَ تَبْلُو ُكلّ َنفْسٍ مَا أَسَْل َفتْ وَرُدّوا إِلَى اللّهِ َموْلَاهُمُ الْ َ
{ ُثمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُوا َمكَا َنكُمْ أَنْتُمْ وَشُ َركَاؤُكُمْ ْ} أي :الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم
وبينهم.
{ فَزَيّلْنَا بَيْ َن ُهمْ ْ} أي :فرقنا بينهم ،بالبعد البدني والقلبي ،وحصلت بينهم العداوة الشديدة ،بعد أن
بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد ،فانقلبت تلك المحبة والولية بغضًا وعداوة.
وتبرأ شُ َركَاؤُهُمْ منهم وقالوا { :مَا كُنْتُمْ إِيّانَا َتعْ ُبدُونَ ْ} فإننا ننزه ال أن يكون له شريك ،أو نديد.
شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبَادَ ِتكُمْ َلغَافِلِينَ ْ} ما أمرناكم بها ،ول دعوناكم لذلك،
{ َف َكفَى بِاللّهِ َ
عهَدْ إِلَ ْيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا
وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك ،وهو الشيطان كما قال تعالى { :أََلمْ أَ ْ
ع ُدوّ مُبِينٌ ْ} .
َتعْبُدُوا الشّ ْيطَانَ إِنّهُ َلكُمْ َ
ت وَلِيّنَا
جمِيعًا ثُمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَا ِئ َكةِ أَ َهؤُلَاءِ إِيّا ُكمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَا َنكَ أَ ْن َ
حشُرُهُمْ َ
وقال { :وَ َيوْمَ يَ ْ
مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْبُدُونَ ا ْلجِنّ َأكْثَرُهُمْ ِب ِهمْ ُم ْؤمِنُونَ ْ}
فالملئكة الكرام والنبياء والولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من
دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك ،فحينئذ يتحسر المشركون حسرة ل
يمكن وصفها ،ويعلمون مقدار ما قدموا من العمال ،وما أسلفوا من رديء الخصال ،ويتبين لهم
يومئذ أنهم كانوا كاذبين ،وأنهم مفترون على ال ،قد ضلت عبادتهم ،واضمحلت معبوداتهم،
وتقطعت بهم السباب والوسائل.
ولهذا قال تعالى { :هُنَاِلكَ ْ} أي :في ذلك اليوم { تَبْلُو ُكلّ َنفْسٍ مَا َأسَْلفَتْ ْ} أي :تتفقد أعمالها
وكسبها ،وتتبعه بالجزاء ،وتجازي بحسبه ،إن خيرًا فخير ،وإن شرًا فشر ،وضل عنهم ما كانوا
يفترون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك وأن ما يعبدون من دون ال تنفعهم وتدفع عنهم
العذاب.
أي { :قل ْ} لهؤلء الذين أشركوا بال ،ما لم ينزل به سلطانًا -محتجًا عليهم بما أقروا به من
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ ْ} بإنزال
توحيد الربوبية ،على ما أنكروه من توحيد اللوهية { -مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ
الرزاق من السماء ،وإخراج أنواعها من الرض ،وتيسير أسبابها فيها؟
سمْ َع وَالْأَ ْبصَارَ ْ} أي :من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟ ،وخصهما بالذكر من باب
{ َأمّنْ َيمِْلكُ ال ّ
التنبيه على المفضول بالفاضل ،ولكمال شرفهما ونفعهما.
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ ْ} كإخراج أنواع الشجار والنبات من الحبوب والنوى ،وإخراج
{ َومَنْ يُخْرِجُ الْ َ
حيّ ْ} عكس هذه
المؤمن من الكافر ،والطائر من البيضة ،ونحو ذلك { ،وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ
المذكوراتَ { ،ومَنْ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ ْ} في العالم العلوي والسفلي ،وهذا شامل لجميع أنواع التدابير
اللهية ،فإنك إذا سألتهم عن ذلك { َفسَ َيقُولُونَ اللّهُ ْ} لنهم يعترفون بجميع ذلك ،وأن ال ل شريك
له في شيء من المذكورات.
{ َف ُقلْ ْ} لهم إلزامًا بالحجة { َأفَلَا تَ ّتقُونَ ْ} ال فتخلصون له العبادة وحده ل شريك له ،وتخلعون ما
تعبدون من دونه من النداد والوثان.
{ َفذَِلكُمُ ْ} الذي وصف نفسه بما وصفها به { اللّهُ رَ ّبكُمْ ْ} أي :المألوه المعبود المحمود ،المربي
حقّ َفمَاذَا َبعْدَ ا ْلحَقّ إِلّا الضّلَالُ ْ}
جميع الخلق بالنعم وهو { :الْ َ
فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الشياء ،الذي ما بالعباد من نعمة إل منه ،ول يأتي
بالحسنات إل هو ،ول يدفع السيئات إل هو ،ذو السماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة
والجلل والكرام.
{ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ ْ} عن عبادة من هذا وصفه ،إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إل العدم ،ول
يملك لنفسه نفعًا ول ضرًا ،ول موتًا ول حياة ول نشورًا.
فليس له من الملك مثقال ذرة ،ول شركة له بوجه من الوجوه ،ول يشفع عند ال إل بإذنه ،فتبا
لمن أشرك به ،وويحًا لمن كفر به ،لقد عدموا عقولهم ،بعد أن عدموا أديانهم ،بل فقدوا دنياهم
وأخراهم.
{ ُ { }ْ 36 - 34قلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّى
حقّ
حقّ َأ َفمَنْ َيهْدِي ِإلَى ا ْلحَقّ أَ َ
حقّ ُقلِ اللّهُ َيهْدِي لِلْ َ
ُت ْؤ َفكُونَ * ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َيهْدِي إِلَى الْ َ
أَنْ يُتّبَعَ َأمْ مَنْ لَا َي ِهدّي إِلّا أَنْ ُيهْدَى َفمَا َل ُكمْ كَ ْيفَ * َومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُهُمْ ِإلّا ظَنّا إِنّ الظّنّ لَا ُيغْنِي مِنَ
حقّ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ ْ}
الْ َ
يقول تعالى -مبينًا عجز آلهة المشركين ،وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع الُ { -قلْ
َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ْ} أي :يبتديه { ُثمّ ُيعِي ُدهُ ْ} وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير،
أي :ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده ،وهي أضعف من ذلك وأعجزُ { ،قلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ
ْ} من غير مشارك ول معاون له على ذلك.
{ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ ْ} أي :تصرفون ،وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالبتداء ،والعادة إلى عبادة من ل
يخلق شيئًا وهم يخلقون.
{ ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئ ُكمْ مَنْ َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ ْ} ببيانه وإرشاده ،أو بإلهامه وتوفيقه.
{ ُقلِ اللّهُ ْ} وحده { َيهْدِي لِ ْلحَقّ ْ} بالدلة والبراهين ،وباللهام والتوفيق ،والعانة إلى سلوك أقوم
طريق.
{ َأمّنْ لَا َيهِدّي ْ} أي :ل يهتدي { إِلّا أَنْ ُي ْهدَى ْ} لعدم علمه ،ولضلله ،وهي شركاؤهم ،التي ل
ح ُكمُونَ ْ} أي :أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم
تهدي ول تهتدي إل أن تهدى { َفمَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ
الباطل ،بصحة عبادة أحد مع ال ،بعد ظهور الحجة والبرهان ،أنه ل يستحق العبادة إل ال وحده.
فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع ال أوصافا معنوية ،ول أوصافا فعلية ،تقتضي أن
تعبد مع ال ،بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلن إلهيتها ،فلي شيء جعلت مع ال آلهة؟
فالجواب :أن هذا من تزيين الشيطان للنسان ،أقبح البهتان ،وأضل الضلل ،حتى اعتقد ذلك
وألفه ،وظنه حقًا ،وهو ل شيء.
ولهذا قال :وما يتبع الذين يدعون من دون ال شركاء أي :ما يتبعون في الحقيقة شركاء ل ،فإنه
حقّ شَيْئًا ْ}
ليس ل شريك أصل عقلًا ول نقلً ،وإنما يتبعون الظن و { إِنّ الظّنّ لَا ُيغْنِي مِنَ الْ َ
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْ ُت ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ
سمَاءٌ َ
فسموها آلهة ،وعبدوها مع ال { ،إِنْ ِهيَ إِلّا َأ ْ
سُ ْلطَانٍ ْ} .
{ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ ْ} وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.
فإن كان أحد يماثل ال في عظمته ،وأوصاف كماله ،أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن ،ولو تنزلنا
على الفرض والتقدير ،فتقوله أحد على رب العالمين ،لعاجله بالعقوبة ،وبادره بالنكال.
{ وََلكِنْ ْ} ال أنزل هذا الكتاب ،رحمة للعالمين ،وحجة على العباد أجمعين.
أنزله { َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ َيدَيْهِ ْ} من كتب ال السماوية ،بأن وافقها ،وصدقها بما شهدت به،
وبشرت بنزوله ،فوقع كما أخبرت.
{ لَا رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ْ} أي :ل شك ول مرية فيه بوجه من الوجوه ،بل هو الحق اليقين:
تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه.
ومن أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية والدنيوية ،المشتمل
على مكارم الخلق ومحاسن العمال.
{ َأمْ َيقُولُونَ ْ} أي :المكذبون به عنادًا وبغيًا { :افْتَرَاهُ ْ} محمد على ال ،واختلقهُ { ،قلْ ْ} لهم
-ملزما لهم بشيء -إن قدروا عليه ،أمكن ما ادعوه ،وإل كان قولهم باطلً.
طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ْ} يعاونكم على التيان
{ فَأْتُوا بِسُو َرةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ
بسورة مثله ،وهذا محال ،ولو كان ممكنًا لدعوا قدرتهم على ذلك ،ولتوا بمثله.
ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطل ،ل حظ له من الحجة ،والذي حملهم على التكذيب
بالقرآن المشتمل على الحق الذي ل حق فوقه ،أنهم لم يحيطوا به علمًا.
فلو أحاطوا به علمًا وفهموه حق فهمه ،لذعنوا بالتصديق به ،وكذلك إلى الن لم يأتهم تأويله الذي
وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال ،وهذا التكذيب الصادر منهم ،من جنس تكذيب من
قبلهم ،ولهذا قالَ { :كذَِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ ْ} وهو الهلك
الذي لم يبق منهم أحدًا.
فليحذر هؤلء ،أن يستمروا على تكذيبهم ،فيحل بهم ما أحل بالمم المكذبين والقرون المهلكين.
وفي هذا دليل على التثبت في المور ،وأنه ل ينبغي للنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده ،قبل
أن يحيط به علمًا.
سدِينَ ْ}
{ َومِ ْنهُمْ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِهِ ْ} أي :بالقرآن وما جاء بهَ { ،ومِ ْنهُمْ مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ بِ ِه وَرَ ّبكَ أَعْلَمُ بِا ْلمُفْ ِ
وهم الذين ل يؤمنون به على وجه العناد والظلم والفساد ،فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب.
{ وَإِنْ كَذّبُوكَ ْ} فاستمر على دعوتك ،وليس عليك من حسابهم من شيء ،وما من حسابك عليهم
ل وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا َت ْعمَلُونَ
ع َم ُ
عمَُلكُمْ أَنْ ُتمْ بَرِيئُونَ ِممّا أَ ْ
عمَلِي وََلكُمْ َ
من شيء ،لكل عملهَ { .فقُلْ لِي َ
ْ}
يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول ،ولما جاء به ،و أن { منهم مَنْ يَسْ َت ِمعُونَ ْ} إلى النبي
صلى ال عليه وسلم ،وقت قراءته للوحي ،ل على وجه السترشاد ،بل على وجه التفرج
والتكذيب وتطلب العثرات ،وهذا استماع غير نافع ،ول مُجدٍ على أهله خيرًا ،ل جرم انسد عليهم
س ِمعُ الصّ ّم وََلوْ كَانُوا لَا َي ْعقِلُونَ ْ}
باب التوفيق ،وحرموا من فائدة الستماع ،ولهذا قالَ { :أفَأَ ْنتَ تُ ْ
وهذا الستفهام ،بمعنى النفي المتقرر ،أي :ل تسمع الصم الذين ل يستمعون القول ولو جهرت به،
وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا.
فإذا كان من المحال إسماع الصم الذي ل يعقل للكلم ،فهؤلء المكذبون ،كذلك ممتنع إسماعك
إياهم ،إسماعًا ينتفعون به.
وأما سماع الحجة ،فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة ال البالغة ،فهذا طريق عظيم من طرق العلم
قد انسد عليهم ،وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير.
ثم ذكر انسداد الطريق الثاني ،وهو :طريق النظر فقالَ { :ومِ ْنهُمْ مَنْ يَنْظُرُ ِإلَ ْيكَ ْ} فل يفيده نظره
إليك ،ول سبر أحوالك شيئًا ،فكما أنك ل تهدي العمي ولو كانوا ل يبصرون ،فكذلك ل تهدي
هؤلء.
فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق،
فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق؟
ودل قولهَ { :ومِ ْنهُمْ مَنْ يَ ْنظُرُ إِلَ ْيكَ ْ} الية ،أن النظر إلى حالة النبي صلى ال عليه وسلم ،وهديه
وأخلقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الدلة على صدقه وصحة ما جاء به ،وأنه يكفي
البصير عن غيره من الدلة.
وقوله { :إِنّ اللّهَ لَا َيظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا ْ} فل يزيد في سيئاتهم ،ول ينقص من حسناتهم.
سهُمْ يَظِْلمُونَ ْ} يجيئهم الحق فل يقبلونه ،فيعاقبهم ال بعد ذلك بالطبع على
{ وََلكِنّ النّاسَ أَ ْنفُ َ
قلوبهم ،والختم على أسماعهم وأبصارهم.
عةً مِنَ ال ّنهَارِ يَ َتعَا َرفُونَ بَيْ َنهُمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ َكذّبُوا
{ { }ْ 45وَيَوْمَ َيحْشُ ُرهُمْ كَأَنْ َلمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَا َ
بِِلقَاءِ اللّهِ َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ ْ}
يخبر تعالى ،عن سرعة انقضاء الدنيا ،وأن ال تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم ل ريب فيه،
كأنهم ما لبثوا إل ساعة من نهار ،وكأنه ما مر عليهم نعيم ول بؤس ،وهم يتعارفون بينهم،
كحالهم في الدنيا ،ففي هذا اليوم يربح المتقون ،ويخسر الذين كذبوا بلقاء ال وما كانوا مهتدين إلى
الصراط المستقيم والدين القويم ،حيث فاتهم النعيم ،واستحقوا دخول النار.
أي :ل تحزن أيها الرسول على هؤلء المكذبين ،ول تستعجل لهم ،فإنهم ل بد أن يصيبهم الذي
نعدهم من العذاب.
ظَلمُونَ *
ط وَ ُهمْ لَا يُ ْ
ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِسْ ِ
{ { }ْ 49 - 47وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ َرسُوُلهُمْ ُق ِ
وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ لَا َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا وَلَا َن ْفعًا إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ ِل ُكلّ
جلٌ إِذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ ْ}
ُأمّةٍ َأ َ
يقول تعالى { :وَِل ُكلّ ُأمّةٍ ْ} من المم الماضية { َرسُولٌ ْ} يدعوهم إلى توحيد ال ودينه.
{ فَِإذَا جَاءَ ْ} هم { رَسُوُلهُمْ ْ} باليات ،صدقه بعضهم ،وكذبه آخرون ،فيقضي ال بينهم بالقسط
بنجاة المؤمنين ،وإهلك المكذبين { وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ ْ} بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول وبيان
الحجة ،أو يعذبوا بغير جرمهم ،فليحذر المكذبون لك من مشابهة المم المهلكين ،فيحل بهم ما حل
بأولئك.
عدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ْ} فإن هذا ظلم منهم ،حيث
ول يستبطئوا العقوبة ويقولوا { :مَتَى هَذَا ا ْلوَ ْ
طلبوه من النبي صلى ال عليه وسلم ،فإنه ليس له من المر شيء ،وإنما عليه البلغ والبيان
للناس.
وأما حسابهم وإنزال العذاب عليهم ،فمن ال تعالى ،ينزله عليهم إذا جاء الجل الذي أجله فيه،
والوقت الذي قدره فيه ،الموافق لحكمته اللهية.
فإذا جاء ذلك الوقت ل يستأخرون ساعة ول يستقدمون ،فليحذر المكذبون من الستعجال بالعذاب،
فإنهم مستعجلون بعذاب ال الذي إذا نزل ل يرد بأسه عن القوم المجرمين ،ولهذا قال:
يقول تعالىُ { :قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ْ} وقت نومكم بالليل { َأوْ َنهَارًا ْ} في وقت غفلتكم
جلُ مِنْهُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ ْ} أي :أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟.
{ مَاذَا يَسْ َتعْ ِ
{ أَ ُثمّ إِذَا مَا َوقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ْ} فإنه ل ينفع اليمان حين حلول عذاب ال ،ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في
تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون { ،الْآنَ ْ} تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ { َوقَدْ كُنْ ُتمْ بِهِ
تَسْ َتعْجِلُونَ ْ} فإن سنة ال في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب ،فإذا وقع العذاب ل
ينفع نفسًا إيمانها ،كما قال تعالى عن فرعون ،لما أدركه الغرق { قَالَ آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي
آمَ َنتْ بِهِ بَنُو ِإسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ْ} وأنه يقال له { :الن وقد عصيت قبل وكنت من
المفسدين ْ} .
وقال تعالى { :فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ ْ} وقال هنا{ :
أَثُمّ ِإذَا مَا َوقَعَ آمَنْ ُتمْ بِهِ ،آلْآنَ ْ} تدعون اليمان { َوقَدْ كُنْتُمْ ِبهِ تَسْ َت ْعجِلُونَ ْ} فهذا ما عملت أيديكم،
وهذا ما استعجلتم به.
{ ُثمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُوا ْ} حين يوفون أعمالهم يوم القيامة { :ذُوقُوا عَذَابَ ا ْلخُلْدِ ْ} أي :العذاب الذي
تخلدون فيه ،ول يفتر عنكم ساعةَ { .هلْ تُجْ َزوْنَ إِلّا ِبمَا كُنْتُمْ َتكْسِبُونَ ْ} من الكفر والتكذيب
والمعاصي.
{ }ْ 56 - 53وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ُقلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ َلحَقّ َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ * وََلوْ أَنّ ِل ُكلّ
ط وَهُمْ لَا
سِب َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ
َنفْسٍ ظََل َمتْ مَا فِي الْأَ ْرضِ لَافْتَ َدتْ بِ ِه وَأَسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ
ق وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ * ُهوَ
ن وَعْدَ اللّهِ حَ ّ
ت وَالْأَ ْرضِ أَلَا إِ ّ
سمَاوَا ِ
يُظَْلمُونَ * أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
جعُونَ ْ}
يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْ َ
يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم { :وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ْ} أي :يستخبرك المكذبون على
وجه التعنت والعناد ،ل على وجه التبين والرشاد
{ َأحَقّ ُهوَ ْ} أى :أصحيح حشر العباد ،وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد ،وجزاء العباد بأعمالهم ،إن
خيرًا فخير ،وإن شرًا فشر؟
حقّ ْ} ل
{ ُقلْ ْ} لهم مقسمًا على صحته ،مستدل عليه بالدليل الواضح والبرهان { :إِي وَرَبّي إِنّهُ لَ َ
مرية فيه ول شبهة تعتريه.
{ َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ ْ} ل أن يبعثكم ،فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا ،كذلك يعيدكم مرة أخرى
ليجازيكم بأعمالكم.
{ و ْ} إذا كانت القيامة فب { َلوْ أَنّ ِل ُكلّ َنفْسٍ ظََل َمتْ ْ} بالكفر والمعاصي جميع { مَا فِي الْأَ ْرضِ ْ}
من ذهب وفضة وغيرهما ،لتفتدي به من عذاب ال { لَافْ َت َدتْ بِهِ ْ} ولما نفعها ذلك ،وإنما النفع
والضر والثواب والعقاب ،على العمال الصالحة والسيئة.
{ وَأَسَرّوا ْ} [أي] الذين ظلموا { النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ ْ} ندموا على ما قدموا ،ولت حين
سطِ ْ} أي :العدل التام الذي ل ظلم ول جور فيه بوجه من الوجوه.
مناصَ { ،و ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ
ت وَالْأَ ْرضِ ْ} يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري ،وسيحكم فيهم بحكمه
سمَاوَا ِ
{ أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ} فلذلك ل يستعدون للقاء ال،
الجزائي .ولهذا قال { :أَلَا إِ ّ
بل ربما لم يؤمنوا به ،وقد تواترت عليه الدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.
{ ُهوَ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ ْ} أي :هو المتصرف بالحياء والماتة ،وسائر أنواع التدبير ،ل شريك له
في ذلك.
يقول تعالى -مرغبًا للخلق في القبال على هذا الكتاب الكريم ،بذكر أوصافه الحسنة الضرورية
ظةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ ْ} أي :تعظكم ،وتنذركم عن العمال
للعباد فقال { :يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَاءَ ْتكُمْ َموْعِ َ
الموجبة لسخط ال ،المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.
شفَاءٌ ِلمَا فِي الصّدُورِ ْ} وهو هذا القرآن ،شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة
{ وَ ِ
عن النقياد للشرع وأمراض الشبهات ،القادحة في العلم اليقيني ،فإن ما فيه من المواعظ
والترغيب والترهيب ،والوعد والوعيد ،مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير ،والرهبة من الشر ،ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني
القرآن ،أوجب ذلك تقديم مراد ال على مراد النفس ،وصار ما يرضي ال أحب إلى العبد من
شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والدلة التي صرفها ال غاية التصريف ،وبينها أحسن بيان ،مما يزيل
الشبه القادحة في الحق ،ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه ،ورفل بأثواب العافية ،تبعته الجوارح كلها ،فإنها تصلح بصلحه،
حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.
وتفسد بفساده { .وَهُدًى وَرَ ْ
والرحمة هي ما يحصل من الخير والحسان ،والثواب العاجل والجل ،لمن اهتدى به ،فالهدى
أجل الوسائل ،والرحمة أكمل المقاصد والرغائب ،ولكن ل يهتدي به ،ول يكون رحمة إل في حق
المؤمنين.
وإذا حصل الهدى ،وحلت الرحمة الناشئة عنه ،حصلت السعادة والفلح ،والربح والنجاح ،والفرح
والسرور.
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين ،ل نسبة بينها ،وبين جميع ما في الدنيا ،مما هو مضمحل
زائل عن قريب.
وإنما أمر ال تعالى بالفرح بفضله ورحمته ،لن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها ،وشكرها
ل تعالى ،وقوتها ،وشدة الرغبة في العلم واليمان الداعي للزدياد منهما ،وهذا فرح محمود،
بخلف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها ،أو الفرح بالباطل ،فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم
حبّ ا ْلفَرِحِينَ ْ} .
قارون له { :لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ
وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل { :فََلمّا
جَاءَ ْتهُمْ رُسُُل ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُوا ِبمَا عِنْ َدهُمْ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ ْ}
يقول تعالى -منكرًا على المشركين ،الذين ابتدعوا تحريم ما أحل ال وتحليل ما حرمه ُ { :-قلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ َلكُمْ مِنْ رِزْقٍ ْ} يعني أنواع الحيوانات المحللة ،التي جعلها ال رزقا لهم
جعَلْ ُتمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ْ} قل لهم -موبخا على هذا القول الفاسد { :-آللّهُ
ورحمة في حقهم { .فَ َ
أَذِنَ َل ُكمْ أَمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ ْ} ومن المعلوم أن ال لم يأذن لهم ،فعلم أنهم مفترون.
{ َومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ْ} أن يفعل ال بهم من النكال ،ويحل بهم من
سوَ ّدةٌ ْ} .
العقاب ،قال تعالى { :وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ َكذَبُوا عَلَى اللّ ِه وُجُو ُه ُهمْ مُ ْ
{ إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى النّاسِ ْ} كثير ،وذو إحسان جزيل ،وََلكِنّ أكثر الناس ل يشكرون ،إما أن
ل يقوموا بشكرها ،وإما أن يستعينوا بها على معاصيه ،وإما أن يحرموا منها ،ويردوا ما منّ ال
به على عباده ،وقليل منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة ،ويثني بها على ال ،ويستعين بها على
طاعته.
ويستدل بهذه الية على أن الصل في جميع الطعمة الحل ،إل ما ورد الشرع بتحريمه ،لن ال
أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده.
شهُودًا إِذْ
ع َملٍ إِلّا كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ
ن وَلَا َت ْعمَلُونَ مِنْ َ
ن َومَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآ ٍ
{ َ { }ْ 61ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ
ك وَلَا
صغَرَ مِنْ ذَِل َ
سمَاءِ وَلَا َأ ْ
ض وَلَا فِي ال ّ
ُتفِيضُونَ فِي ِه َومَا َيعْ ُزبُ عَنْ رَ ّبكَ مِنْ مِ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الْأَ ْر ِ
َأكْبَرَ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}
يخبر تعالى ،عن عموم مشاهدته ،واطلعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم ،وسكناتهم ،وفي
ضمن هذا ،الدعوة لمراقبته على الدوام فقالَ { :ومَا َتكُونُ فِي شَأْنٍ ْ} أي :حال من أحوالك الدينية
والدنيويةَ { .ومَا تَ ْتلُو مِ ْنهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ} أي :وما تتلو من القرآن الذي أوحاه ال إليك.
فراقبوا ال في أعمالكم ،وأدوها على وجه النصيحة ،والجتهاد فيها ،وإياكم ،وما يكره ال تعالى،
فإنه مطلع عليكم ،عالم بظواهركم وبواطنكم.
{ َومَا َيعْ ُزبُ عَنْ رَ ّبكَ ْ} أي :ما يغيب عن علمه ،وسمعه ،وبصره ومشاهدته { مِنْ مِ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي
ك وَلَا َأكْبَرَ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ} أي :قد أحاط به علمه،
صغَرَ مِنْ ذَِل َ
سمَا ِء وَلَا َأ ْ
ض وَلَا فِي ال ّ
الْأَ ْر ِ
وجرى به قلمه.
وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر ،كثيرًا ما يقرن ال بينهما ،وهما :العلم المحيط بجميع
سمَاءِ
الشياء ،وكتابته المحيطة بجميع الحوادث ،كقوله تعالى { :أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
وَالْأَ ْرضِ إِنّ ذَِلكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ْ}
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ *
{ { }ْ 64 - 62أَلَا إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ لَا َ
َلهُمُ الْ ُبشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ لَا تَ ْبدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ}
يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه ،ويذكر أعمالهم وأوصافهم ،وثوابهم فقال { :أَلَا إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ لَا
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ ْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والهوال.
َ
{ وَلَا ُهمْ َيحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا ،لنهم لم يسلفوا إل صالح العمال ،وإذا كانوا ل خوف عليهم
ول هم يحزنون ،ثبت لهم المن والسعادة ،والخير الكثير الذي ل يعلمه إل ال تعالى.
ثم ذكر وصفهم فقال { :الّذِينَ آمَنُوا ْ} بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وبالقدر خيره
وشره ،وصدقوا إيمانهم ،باستعمال التقوى ،بامتثال الوامر ،واجتناب النواهي.
فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان ل [تعالى] وليًا ،و { َلهُمُ الْ ُبشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ ْ}
أما البشارة في الدنيا ،فهي :الثناء الحسن ،والمودة في قلوب المؤمنين ،والرؤيا الصالحة ،وما يراه
العبد من لطف ال به وتيسيره لحسن العمال والخلق ،وصرفه عن مساوئ الخلق.
وأما في الخرة ،فأولها البشارة عند قبض أرواحهم ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ
اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ أَلّا َتخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ْ}
وفي الخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم ،والنجاة من العذاب الليم.
{ لَا تَبْدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ْ} بل ما وعد ال فهو حق ،ل يمكن تغييره ول تبديله ،لنه الصادق في
قيله ،الذي ل يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.
{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ} لنه اشتمل على النجاة من كل محذور ،والظفر بكل مطلوب محبوب،
وحصر الفوز فيه ،لنه ل فوز لغير أهل اليمان والتقوى.
والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب ،رتبه ال في الدنيا والخرة ،على اليمان والتقوى،
ولهذا أطلق ذلك ،فلم يقيده.
ومن المعلوم ،أنك على طاعة ال ،وأن العزة لك ولتباعك من ال { وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِهِ
وَلِ ْل ُمؤْمِنِينَ ْ}
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ ْ} أي :سمعه قد أحاط بجميع الصوات ،فل يخفى عليه شيء منها.
وقولهُ { :هوَ ال ّ
وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر والبواطن ،فل يعزب عنه مثقال ذرة ،في السماوات والرض،
ول أصغر من ذلك ول أكبر.
وهو تعالى يسمع قولك ،وقول أعدائك فيك ،ويعلم ذلك تفصيل ،فاكتف بعلم ال وكفايته ،فمن يتق
ال ،فهو حسبه.
يخبر تعالى :أن له ما في السماوات والرض ،خلقًا وملكًا وعبيدًا ،يتصرف فيهم بما شاء من
أحكامه ،فالجميع مماليك ل ،مسخرون ،مدبرون ،ل يستحقون شيئًا من العبادة ،وليسوا شركاء ل
بوجه الوجوه ،ولهذا قالَ { :ومَا يَتّ ِبعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ ْ} الذي
ل يغني من الحق شيئًا { وَإِنْ ُهمْ إِلّا َيخْ ُرصُونَ ْ} في ذلك ،خرص كذب وإفك وبهتان.
فإن كانوا صادقين في أنها شركاء ل ،فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة،
فلن يستطيعوا ،فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق ،أو يملك شيئًا من المخلوقات ،أو يدبر الليل
والنهار ،الذي جعله ال قياما للناس؟.
س َمعُونَ ْ} عن ال ،سمع فهم ،وقبول ،واسترشاد ،ل سمع تعنت وعناد،
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ َي ْ
فإن في ذلك ليات ،لقوم يسمعون ،يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الله الحق ،وأن إلهية
ما سواه باطلة ،وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.
أحدها :قولهُ { :هوَ ا ْلغَ ِنيّ ْ} أي :الغنى منحصر فيه ،وأنواع الغنى مستغرقة فيه ،فهو الغني الذي
له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه ،فإذا كان غنيًا من كل وجه ،فلي شيء يتخذ
الولد؟
ألحاجة منه إلى الولد ،فهذا مناف لغناه فل يتخذ أحد ولدًا إل لنقص في غناه.
ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد ،فإن الولد من جنس والده ،ل
يكون مخلوقًا ول مملوكًا .فملكيته لما في السماوات والرض عمومًا ،تنافي الولدة.
البرهان الثالث ،قوله { :إِنْ عِنْ َد ُكمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ ِبهَذَا ْ} أي :هل عندكم من حجة وبرهان يدل على
أن ل ولدًا ،فلو كان لهم دليل لبدوه ،فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل ،علم بطلن ما قالوه.
وأن ذلك قول بل علم ،ولهذا قال { :أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ ْ} فإن هذا من أعظم
المحرمات.
{ ُقلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفِْلحُونَ ْ} أي :ل ينالون مطلوبهم ،ول يحصل لهم
مقصودهم ،وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم ،في الدنيا ،قليلً ،ثم ينتقلون إلى ال ،ويرجعون إليه،
سهُمْ يَظِْلمُونَ ْ}
ظَل َمهُمُ اللّهُ وََلكِنْ أَ ْنفُ َ
فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرونَ { .ومَا َ
{ { }ْ 73 - 71وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ َمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي
غمّةً ثُمّ ا ْقضُوا إَِليّ
ج ِمعُوا َأمْ َركُ ْم وَشُ َركَا َءكُمْ ثُمّ لَا َيكُنْ َأمْ ُركُمْ عَلَ ْيكُمْ ُ
بِآيَاتِ اللّهِ َفعَلَى اللّهِ َت َوكّلْتُ فَأَ ْ
وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا عَلَى اللّ ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ
ف وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَا ْنظُرْ
جعَلْنَا ُهمْ خَلَا ِئ َ
ك وَ َ
ا ْلمُسِْلمِينَ * َفكَذّبُوهُ فَ َنجّيْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِ
كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ ْ}
يقول تعالى لنبيه :واتل على قومك { نَبَأَ نُوحٍ ْ} في دعوته لقومه ،حين دعاهم إلى ال مدة طويلة،
فمكث فيهم ألف سنة إل خمسين عامًا ،فلم يزدهم دعاؤه إياهم إل طغيانًا ،فتمللوا منه وسئموا،
وهو عليه الصلة والسلم غير متكاسل ،ول متوان في دعوتهم ،فقال لهم { :يَا َقوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ
عَلَ ْيكُمْ َمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ ْ} أي :إن كان مقامي عندكم ،وتذكيري إياكم ما ينفعكم { بِآيَاتِ
اللّهِ ْ} الدلة الواضحة البينة ،قد شق عليكم وعظم لديكم ،وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق.
{ َفعَلَى اللّهِ َت َوكّلْتُ ْ} أي :اعتمدت على ال ،في دفع كل شر يراد بي ،وبما أدعو إليه ،فهذا
جندي ،وعدتي .وأنتم ،فأتوا بما قدرتم عليه ،من أنواع العَدَ َد والعُددَ.
ج ِمعُوا َأمْ َركُمْ ْ} كلكم ،بحيث ل يتخلف منكم أحد ،ول تدخروا من مجهودكم شيئًا.
{ فََأ ْ
{ و ْ} أحضروا { َشُ َركَا َء ُكمْ ْ} الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون ال رب العالمين.
{ ُثمّ ا ْقضُوا إَِليّ ْ} أي :اقضوا علي بالعقوبة والسوء ،الذي في إمكانكم { ،وَلَا تُ ْنظِرُونِ ْ} أي :ل
تمهلوني ساعة من نهار .فهذا برهان قاطع ،وآية عظيمة على صحة رسالته ،وصدق ما جاء به،
حيث كان وحده ل عشيرة تحميه ،ول جنود تؤويه.
وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم ،وفساد دينهم ،وعيب آلهتهم .وقد حملوا من بغضه ،وعداوته ما هو
أعظم من الجبال الرواسي ،وهم أهل القدرة والسطوة ،وهو يقول لهم :اجتمعوا أنتم وشركاؤكم
ومن استطعتم ،وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد ،فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك ،فلم يقدروا
على شيء من ذلك.
فعلم أنه الصادق حقًا ،وهم الكاذبون فيما يدعون ،ولهذا قال { :فَإِنْ َتوَلّيْ ُتمْ ْ} عن ما دعوتكم إليه،
فل موجب لتوليكم ،لنه تبين أنكم ل تولون عن باطل إلى حق ،وإنما تولون عن حق قامت الدلة
على صحته ،إلى باطل قامت الدلة على فساده.
ومع هذا { َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ َأجْرٍ ْ} على دعوتي ،وعلى إجابتكم ،فتقولوا :هذا جاءنا ليأخذ أموالنا،
فتمتنعون لجل ذلك.
علَى اللّهِ ْ} أي :ل أريد الثواب والجزاء إل منه { ،و ْ} أيضا فإني ما أمرتكم بأمر
{ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ
وأخالفكم إلى ضده ،بل { أمرت أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ْ} فأنا أول داخل ،وأول فاعل لما أمرتكم
به.
فأمر ال السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الرض عيونًا ،فالتقى الماء على أمر قد قدر:
جعَلْنَا ُهمْ خَلَا ِئفَ ْ} في الرض بعد إهلك
ح وَدُسُرٍ ْ} تجري بأعيننا { ،وَ َ
علَى ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ
حمَلْنَاهُ َ
{ وَ َ
المكذبين.
ثم بارك ال في ذريته ،وجعل ذريته ،هم الباقين ،ونشرهم في أقطار الرض { ،وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ
كَذّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} بعد ذلك البيان ،وإقامة البرهان { ،فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُنْذَرِينَ ْ} وهو :الهلك
المخزي ،واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم ،ل تسمع فيهم إل لوما ،ول ترى إل
قدحًا وذمًا.
فليحذر هؤلء المكذبون ،أن يحل بهم ما حل بأولئك القوام المكذبين من الهلك ،والخزي،
والنكال.
ِ{ { }ْ 74ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ ُرسُلًا إِلَى َق ْو ِمهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا كَذّبُوا ِبهِ مِنْ
قَ ْبلُ َكذَِلكَ نَطْ َبعُ عَلَى قُلُوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ ْ}
أيُ { :ثمّ َبعَثْنَا ْ} من بعد نوح عليه السلم { رُسُلًا ِإلَى َق ْو ِمهِمْ ْ} المكذبين ،يدعونهم إلى الهدى،
ويحذرونهم من أسباب الردى.
{ َفجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ ْ} أي :كل نبي أيد دعوته ،باليات الدالة على صحة ما جاء به.
{ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا َكذّبُوا بِهِ مِنْ قَ ْبلُ ْ} يعني :أن ال تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول،
فبادروا بتكذيبه ،طبع ال على قلوبهم ،وحال بينهم وبين اليمان بعد أن كانوا متمكنين منه ،كما
قال تعالى { :وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأوّلَ مَ ّرةٍ ْ}
ولهذا قال هنا { :كَذَِلكَ َنطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ ْ} أي :نختم عليها ،فل يدخلها خير ،وما ظلمهم
[ال] ،ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم ،وتكذيبهم الول.
{ { }ْ 75ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َبعْ ِدهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ْ} إلى آخر القصة
أيُ { :ثمّ َبعَثْنَا ْ} من بعد هؤلء الرسل ،الذين أرسلهم ال إلى القوم المكذبين المهلكين.
{ مُوسَى ْ} بن عمران ،كليم الرحمن ،أحد أولي العزم من المرسلين ،وأحد الكبار المقتدى بهم،
المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة.
{ بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد ال ،والنهي عن عبادة ما سوى ال تعالى،
{ فَاسْ َتكْبَرُوا ْ} عنها ظلمًا وعلوًا ،بعد ما استيقنوها.
الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها ،وهو من عند ال الذي خضعت لعظمته الرقاب ،وهو رب
العالمين ،المربي جميع خلقه بالنعم.
وقولهم { :وَ َتكُونَ َل ُكمَا ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي :وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء ،ولتخرجونا
من أرضنا .وهذا تمويه منهم ،وترويج على جهالهم ،وتهييج لعوامهم على معاداة موسى ،وعدم
اليمان به.
وهذا ل يحتج به ،من عرف الحقائق ،وميز بين المور ،فإن الحجج ل تدفع إل بالحجج
والبراهين.
وأما من جاء بالحق ،فرد قوله بأمثال هذه المور ،فإنها تدل على عجز موردها ،عن التيان بما
يرد القول الذي جاء خصمه ،لنه لو كان له حجة لوردها ،ولم يلجأ إلى قوله :قصدك كذا ،أو
مرادك كذا ،سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه ،أم كاذبًا ،مع أن موسى عليه
الصلة والسلم كل من عرف حاله ،وما يدعو إليه ،عرف أنه ليس له قصد في العلو في
الرض ،وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين ،هداية الخلق ،وإرشادهم لما فيه نفعهم.
ولكن حقيقة المر ،كما نطقوا به بقولهمَ { :ومَا نَحْنُ َل ُكمَا ِب ُمؤْمِنِينَ ْ} أي :تكبرًا وعنادًا ،ل لبطلن
ما جاء به موسى وهارون ،ول لشتباه فيه ،ول لغير ذلك من المعاني ،سوى الظلم والعدوان،
وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.
عوْنُ } معارضًا للحق ،الذي جاء به موسى ،ومغالطًا لملئه وقومه { :ائْتُونِي
{ َ { } 79وقَالَ فِرْ َ
ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي :ماهر بالسحر ،متقن له .فأرسل في مدائن مصر ،من أتاه بأنواع السحرة،
على اختلف أجناسهم وطبقاتهم.
{ فََلمّا جَاءَ السّحَ َرةُ } للمغالبة مع موسى { قَالَ َلهُمْ مُوسَى أَ ْلقُوا مَا أَنْتُمْ مُ ْلقُونَ } أي :أي شيء
أردتم ،ل أعين لكم شيئًا ،وذلك لنه جازم بغلبته ،غير مبال بهم ،وبما جاءوا به.
{ فََلمّا أَ ْل َقوْا } حبالهم وعصيهم ،إذا هي كأنها حيات تسعى ،فب { قَالَ مُوسَى مَا جِئْ ُتمْ بِهِ
السّحْرُ } أي :هذا السحر الحقيقي العظيم ،ولكن مع عظمته { إِنّ اللّهَ سَيُبْطُِلهُ إِنّ اللّهَ لَا ُيصْلِحُ
سدِينَ } فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق ،وأي فساد أعظم من هذا؟!!
ع َملَ ا ْلمُفْ ِ
َ
وهكذا كل مفسد عمل عملً ،واحتال كيدًا ،أو أتى بمكر ،فإن عمله سيبطل ويضمحل ،وإن حصل
لعمله روجان في وقت ما ،فإن مآله الضمحلل والمحق.
وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه ال تعالى ،وهي أعمال ووسائل نافعة ،مأمور بها،
فإن ال يصلح أعمالهم ويرقيها ،وينميها على الدوام ،فألقى موسى عصاه ،فتلقفت جميع ما
صنعوا ،فبطل سحرهم ،واضمحل باطلهم.
{ { } 82وَيُحِقّ اللّهُ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَا ِت ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق.
فتوعدهم فرعون بالصلب ،وتقطيع اليدي والرجل ،فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم.
وأما فرعون وملؤه ،وأتباعهم ،فلم يؤمن منهم أحد ،بل استمروا في طغيانهم يعمهون.
ولهذا قالَ { :فمَا آمَنَ ِلمُوسَى إِلّا ذُرّيّةٌ مِنْ َقوْمِهِ } أي :شباب من بني إسرائيل ،صبروا على
الخوف ،لما ثبت في قلوبهم اليمان.
{ و } خصوصًا { إِنّهُ } كان { َلمِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ } أي :المتجاوزين للحد ،في البغي والعدوان.
والحكمة -وال أعلم -بكونه ما آمن لموسى إل ذرية من قومه ،أن الذرية والشباب ،أقبل للحق،
وأسرع له انقيادًا ،بخلف الشيوخ ونحوهم ،ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في
قلوبهم من العقائد الفاسدة -أبعد من الحق من غيرهم.
{ َ { } 84وقَالَ مُوسَى } موصيًا لقومه بالصبر ،ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال { :يَا
َقوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ } فقوموا بوظيفة اليمان.
{ َفعَلَيْهِ َت َوكّلُوا إِنْ كُنْ ُتمْ مُسِْلمِينَ } أي :اعتمدوا عليه ،والجؤوا إليه واستنصروه.
جعَلْنَا فِتْنَةً لِ ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ } أي :ل
{ { } 85فَقَالُوا } ممتثلين لذلك { عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا لَا تَ ْ
تسلطهم علينا ،فيفتنونا ،أو يغلبونا ،فيفتتنون بذلك ،ويقولون :لو كانوا على حق لما غلبوا.
حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } لنسلم من شرهم ،ولنقيم [على] ديننا على وجه
{ { } 86وَنَجّنَا بِرَ ْ
نتمكن به من إقامة شرائعه ،وإظهاره من غير معارض ،ول منازع.
{ { } 87وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد المر على قومهما ،من فرعون وقومه،
وحرصوا على فتنتهم عن دينهم.
{ أَنْ تَ َبوّآ ِل َقوْ ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتًا } أي :مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا ،يتمكنون ]به[ من الستخفاء
فيها.
جعَلُوا بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً } أي :اجعلوها محل ،تصلون فيها ،حيث عجزتم عن إقامة الصلة في
{ وَا ْ
الكنائس ،والبيع العامة.
{ وََأقِيمُوا الصّلَاةَ } فإنها معونة على جميع المور { ،وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد ،وإظهار
دينهم ،فإن مع العسر يسرًا ،إن مع العسر يسرًا ،وحين اشتد الكرب ،وضاق المر ،فرجه ال
ووسعه.
فلما رأى موسى ،القسوة والعراض من فرعون وملئه ،دعا عليهم وأمن هارون على دعائه،
فقال:
طمِسْ عَلَى َأ ْموَاِلهِمْ } أي :أتلفها عليهم :إما بالهلك ،وإما بجعلها حجارة ،غير منتفع بها.
{ رَبّنَا ا ْ
شدُدْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } أي :قسها { فَلَا ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ }
{ وَا ْ
قال ذلك ،غضبًا عليهم ،حيث تجرؤوا على محارم ال ،وأفسدوا عباد ال ،وصدوا عن سبيله،
ولكمال معرفته بربه بأن ال سيعاقبهم على ما فعلوا ،بإغلق باب اليمان عليهم.
عوَ ُت ُكمَا } هذا دليل على أن موسى[ ،كان] يدعو ،وهارون
{ { } 89قَالَ } ال تعالى { قَدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ
يؤمن على دعائه ،وأن الذي يؤمن ،يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء.
{ فَاسْ َتقِيمَا } على دينكما ،واستمرا على دعوتكما { ،وَلَا تَتّ ِبعَانّ سَبِيلَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ } أي :ل
تتبعان سبيل الجهال الضلل ،المنحرفين عن الصراط المستقيم ،المتبعين لطرق الجحيم ،فأمر ال
موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلً ،وأخبره أنهم يتبعون ،وأرسل فرعون في المدائن حاشرين
جمِيعٌ
ن وَإِ ّنهُمْ لَنَا َلغَا ِئظُونَ وَإِنّا لَ َ
يقولون { :إِنّ َهؤُلَاءِ } أي :موسى وقومه { :لَشِ ْر ِذمَةٌ قَلِيلُو َ
حَاذِرُونَ }
فجمع جنوده ،قاصيهم ودانيهم ،فأتبعهم بجنوده ،بغيًا وعدوًا أي :خروجهم باغين على موسى
وقومه ،ومعتدين في الرض ،وإذا اشتد البغي ،واستحكم الذنب ،فانتظر العقوبة.
{ { } 90وَجَاوَزْنَا بِبَنِي ِإسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } وذلك أن ال أوحى إلى موسى ،لما وصل البحر ،أن
يضربه بعصاه ،فضربه ،فانفلق اثنى عشر طريقًا ،وسلكه بنو إسرائيل ،وساق فرعون وجنوده
خلفه داخلين.
فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر ،وفرعون وجنوده داخلين فيه ،أمر ال البحر
فالتطم على فرعون وجنوده ،فأغرقهم ،وبنو إسرائيل ينظرون.
حتى إذا أدرك فرعون الغرق ،وجزم بهلكه { قَالَ آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ } وهو ال الله الحق الذي ل إله إل هو { وَأَنَا مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ } أي :المنقادين لدين ال،
ولما جاء به موسى.
{ } 91قال ال تعالى -مبينا أن هذا اليمان في هذه الحالة غير نافع له { :-آلْآنَ } تؤمن ،وتقر
عصَ ْيتَ قَ ْبلُ } أي :بارزت بالمعاصي ،والكفر والتكذيب { َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }
برسول ال { َوقَدْ َ
فل ينفعك اليمان كما جرت عادة ال ،أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الضطرارية أنه ل
ينفعهم إيمانهم ،لن إيمانهم ،صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة ،والذي ينفع ،إنما هو
اليمان بالغيب.
{ وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَنْ آيَاتِنَا َلغَافِلُونَ } فلذلك تمر عليهم وتتكرر فل ينتفعون بها ،لعدم إقبالهم
عليها.
وأما من له عقل وقلب حاضر ،فإنه يرى من آيات ال ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به
الرسل.
{ وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } من المطاعم والمشارب وغيرهما { َفمَا اخْتََلفُوا } في الحق { حَتّى
جَاءَهُمُ ا ْلعِلْمُ } الموجب لجتماعهم وائتلفهم ،ولكن بغى بعضهم على بعض ،وصار لكثير منهم
أهوية وأغراض تخالف الحق ،فحصل بينهم من الختلف شيء كثير.
{ إِنّ رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام،
وقدرته الشاملة ،وهذا هو الداء ،الذي يعرض لهل الدين الصحيح.
وهو :أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية ،سعى في التحريش بينهم ،وإلقاء
العداوة والبغضاء ،فحصل من الختلف ما هو موجب ذلك ،ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض،
وعداوة بعضهم لبعض ،ما هو قرة عين اللعين.
وإل فإذا كان ربهم واحدًا ،ورسولهم واحدًا ،ودينهم واحدًا ،ومصالحهم العامة متفقة ،فلي شيء
يختلفون اختلفًا يفرق شملهم ،ويشتت أمرهم ،ويحل رابطتهم ونظامهم ،فيفوت من مصالحهم
الدينية والدنيوية ما يفوت ،ويموت من دينهم ،بسبب ذلك ما يموت؟.
فنسألك اللهم ،لطفًا بعبادك المؤمنين ،يجمع شملهم ويرأب صدعهم ،ويرد قاصيهم على دانيهم ،يا
ذا الجلل والكرام.
شكّ ِممّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ َلقَدْ
{ { } 95 - 94فَإِنْ كُ ْنتَ فِي َ
حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ * وَلَا َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ
جَا َءكَ الْ َ
الْخَاسِرِينَ }
{ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ } أي :اسأل أهل الكتب المنصفين ،والعلماء الراسخين،
فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به ،وموافقته لما معهم ،فإن قيل :إن كثيرًا من أهل الكتاب،
من اليهود والنصارى ،بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول ال وعاندوه ،وردوا عليه
دعوته.
وال تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم ،وجعل شهادتهم حجة لما جاء به ،وبرهانًا على صدقه،
فكيف يكون ذلك؟
منها :أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة ،أو أهل مذهب ،أو بلد ونحوهم ،فإنها إنما تتناول العدول
الصادقين منهم.
وأما من عداهم ،فلو كانوا أكثر من غيرهم فل عبرة فيهم ،لن الشهادة مبنية على العدالة
والصدق ،وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين ،كب "عبد ال بن سلم" [وأصحابه
وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى ال عليه وسلم ،وخلفائه ،ومن بعده] و "كعب الحبار"
وغيرهما.
ومنها :أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى ال عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون
إليه.
فإذا كان موجودًا في التوراة ،ما يوافق القرآن ويصدقه ،ويشهد له بالصحة ،فلو اتفقوا من أولهم
لخرهم على إنكار ذلك ،لم يقدح بما جاء به الرسول.
ومنها :أن ال تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه ،وأظهر ذلك وأعلنه
على رءوس الشهاد.
ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى ال عليه
وسلم ،فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره ال ،لبدوه وأظهروه وبينوه ،فلما لم يكن شيء من ذلك،
كان عدم رد المعادي ،وإقرار المستجيب من أدل الدلة على صحة هذا القرآن وصدقه.
ومنها :أنه ليس أكثر أهل الكتاب ،رد دعوة الرسول ،بل أكثرهم استجاب لها ،وانقاد طوعًا
واختيارًا ،فإن الرسول بعث وأكثر أهل الرض المتدينين أهل كتاب .
فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة ،حتى انقاد للسلم أكثر أهل الشام ،ومصر ،والعراق ،وما جاورها
من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب ،ولم يبق إل أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على
الحق ،ومن تبعهم من العوام الجهلة ،ومن تدين بدينهم اسمًا ل معنى ،كالفرنج الذين حقيقة أمرهم
أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل ،وإنما انتسبوا للدين المسيحي ،ترويجًا لملكهم،
وتمويهًا لباطلهم ،كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة.
حقّ } أي :الذي ل شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال { :مِنْ رَ ّبكَ فَلَا
وقولهَ { :لقَدْ جَا َءكَ الْ َ
صدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ }
َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } كقوله تعالى { :كِتَابٌ أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكَ فَلَا َيكُنْ فِي َ
( { )95وَلَا َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن ال نهى
عن شيئين :الشك في هذا القرآن والمتراء فيه.
وأشد من ذلك ،التكذيب به ،وهو آيات ال البينات التي ل تقبل التكذيب بوجه ،ورتب على هذا
الخسار ،وهو عدم الربح أصلً ،وذلك بفوات الثواب في الدنيا والخرة ،وحصول العقاب في
الدنيا والخرة ،والنهي عن الشيء أمر بضده ،فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن ،وطمأنينة
القلب إليه ،والقبال عليه ،علمًا وعملً.
فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب ،وأفضل الرغائب ،وأتم المناقب،
وانتفى عنهم الخسار.
حقّتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ * وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّى يَ َروُا
{ { } 97 - 96إِنّ الّذِينَ َ
ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ }
ح ّقتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ } أي :إنهم من الضالين الغاوين أهل النار ،ل بد
يقول تعالى { :إِنّ الّذِينَ َ
أن يصيروا إلى ما قدره ال وقضاه ،فل يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ،فل تزيدهم اليات إل
طغيانا ،وغيا إلى غيهم.
وما ظلمهم ال ،ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق ،لما جاءهم أول مرة ،فعاقبهم ال ،بأن طبع على
قلوبهم وأسماعهم ،وأبصارهم ،فل يؤمنوا حتى يروا العذاب الليم ،الذي وعدوا به.
فحينئذ يعلمون حق اليقين ،أن ما هم عليه هو الضلل ،وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق .ولكن
في وقت ل يجدي عليهم إيمانهم شيئًا ،فيومئذ ل ينفع الذين ظلموا معذرتهم ،ول هم يستعتبون،
وأما اليات فإنها تنفع من له قلب ،أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول تعالى { :فََلوْلَا كَا َنتْ قَرْ َيةٌ ْ} من قرى المكذبين { آمَ َنتْ ْ} حين رأت العذاب { فَ َن َف َعهَا إِيمَا ُنهَا ْ}
أي :لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه ،حين رأى العذاب ،كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا،
ن َوقَدْ
ل وَأَنَا مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ْ} فقيل له { آلْآ َ
لما قال { :آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا الّذِي آمَ َنتْ ِبهِ بَنُو إِسْرَائِي َ
سدِينَ ْ}
ل َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْلمُفْ ِ
عصَ ْيتَ قَ ْب ُ
َ
وكما قال تعالى { :فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َد ُه َو َكفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ
إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ ْ}
والحكمة في هذا ظاهرة ،فإن اليمان الضطراري ،ليس بإيمان حقيقة ،ولو صرف عنه العذاب
والمر الذي اضطره إلى اليمان ،لرجع إلى الكفران.
ول بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة ،لم تصل إلينا ،ولم تدركها أفهامنا.
قال ال تعالى { :وَإِنّ يُونُسَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ْ} إلى قوله { :وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِا َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا
َفمَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} ولعل الحكمة في ذلك ،أن غيرهم من المهلكين ،لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
وأما قوم يونس ،فإن ال علم أن إيمانهم سيستمر[ ،بل قد استمر فعل وثبتوا عليه] وال أعلم.
جمِيعًا َأفَأَ ْنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّى
{ { } 100 - 99وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ كُّلهُمْ َ
جسَ عَلَى الّذِينَ لَا َيعْقِلُونَ }
ج َعلُ الرّ ْ
َيكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ * َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ ُت ْؤمِنَ إِلّا بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ ْ
جمِيعًا ْ}
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ كُّلهُمْ َ
بأن يلهمهم اليمان ،ويوزع قلوبهم للتقوى ،فقدرته صالحة لذلك ،ولكنه اقتضت حكمته أن كان
بعضهم مؤمنين ،وبعضهم كافرين.
{ َأفَأَ ْنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّى َيكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ ْ} أي :ل تقدر على ذلك ،وليس في إمكانك ،ول قدرة
لغير ال [على] شيء من ذلك.
{ َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ ُت ْؤمِنَ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ ْ} أي :بإرادته ومشيئته ،وإذنه القدري الشرعي ،فمن كان
من الخلق قابلً لذلك ،يزكو عنده اليمان ،وفقه وهداه.
ج َعلُ الرّجْسَ ْ} أي :الشر والضلل { عَلَى الّذِينَ لَا َي ْعقِلُونَ ْ} عن ال أوامره ونواهيه ،ول
{ وَيَ ْ
يلقوا بال لنصائحه ومواعظه.
يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والرض ،والمراد بذلك :نظر الفكر والعتبار
والتأمل ،لما فيها ،وما تحتوي عليه ،والستبصار ،فإن في ذلك ليات لقوم يؤمنون ،وعبرًا لقوم
يوقنون ،تدل على أن ال وحده ،المعبود المحمود ،ذو الجلل والكرام ،والسماء والصفات
العظام.
{ َومَا ُتغْنِي الْآيَاتُ وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ ْ} فإنهم ل ينتفعون باليات لعراضهم وعنادهم.
{ َف َهلْ يَنْتَظِرُونَ إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} أي :فهل ينتظر هؤلء الذين ل يؤمنون بآيات
ال ،بعد وضوحها { ،إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} أي :من الهلك والعقاب ،فإنهم صنعوا
كصنيعهم وسنة ال جارية في الولين والخرين.
{ ُقلْ فَانْتَظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْ َتظِرِينَ ْ} فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة ،والنجاة في الدنيا
والخرة ،وليست إل للرسل وأتباعهم.
حقّا عَلَيْنَا ْ} أوجبناه على أنفسنا { نُ ْنجِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} وهذا من دفعه عن المؤمنين ،فإن ال
{ َكذَِلكَ َ
يدافع عن الذين آمنوا فإنه -بحسب ما مع العبد من اليمان -تحصل له النجاة من المكاره.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم ،سيد المرسلين ،وإمام المتقين وخير الموقنينُ { :قلْ
شكّ مِنْ دِينِي ْ} أي :في ريب واشتباه ،فإني لست في شك منه ،بل لدي
يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي َ
العلم اليقيني أنه الحق ،وأن ما تدعون من دون ال باطل ،ولي على ذلك ،الدلة الواضحة،
والبراهين الساطعة.
ولهذا قال { :فَلَا أَعْبُدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} من النداد ،والصنام وغيرها ،لنها ل تخلق
ول ترزق ،ول تدبر شيئًا من المور ،وإنما هي مخلوقة مسخرة ،ليس فيها ما يقتضي عبادتها.
{ وََلكِنْ أَعْ ُبدُ اللّهَ الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ ْ} أي :هو ال الذي خلقكم ،وهو الذي يميتكم ،ثم يبعثكم ،ليجازيكم
بأعمالكم ،فهو الذي يستحق أن يعبد ،ويصلى له ويخضع ويسجد.
شفَ لَهُ إِلّا ُه َو وَإِنْ يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَا رَادّ ِلفَضْلِهِ ُيصِيبُ بِهِ
سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَا كَا ِ
{ { } 107وَإِنْ َي ْمسَ ْ
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }
هذا من أعظم الدلة على أن ال وحده المستحق للعبادة ،فإنه النافع الضار ،المعطي المانع ،الذي
شفَ لَهُ إِلّا ُهوَ } لن الخلق ،لو اجتمعوا على أن
إذا مس بضر ،كفقر ومرض ،ونحوها { فَلَا كَا ِ
ينفعوا بشيء ،لم ينفعوا إل بما كتبه ال ،ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا ،لم يقدروا على شيء
من ضرره ،إذا لم يرده ال ،ولهذا قال { :وَإِنْ يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَا رَادّ ِلفَضْلِهِ } أي :ل يقدر أحد من
سكَ َلهَا َومَا
حمَةٍ ،فَلَا ُممْ ِ
الخلق ،أن يرد فضله وإحسانه ،كما قال تعالى { :مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ
سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ }
سكْ فَلَا مُرْ ِ
ُيمْ ِ
{ ُيصِيبُ بِهِ مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } أي :يختص برحمته من شاء من خلقه ،وال ذو الفضل العظيم،
{ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ } لجميع الزلت ،الذي يوفق عبده لسباب مغفرته ،ثم إذا فعلها العبد ،غفر ال
ذنوبه ،كبارها ،وصغارها.
{ الرّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء ،ووصل جوده إلى جميع الموجودات ،بحيث ل تستغنى
عن إحسانه ،طرفة عين ،فإذا عرف العبد بالدليل القاطع ،أن ال ،هو المنفرد بالنعم ،وكشف النقم،
وإعطاء الحسنات ،وكشف السيئات والكربات ،وأن أحدًا من الخلق ،ليس بيده من هذا شيء إل ما
أجراه ال على يده ،جزم بأن ال هو الحق ،وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.
{ ُ { } 109 - 108قلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُمُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنِ اهْ َتدَى فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْسِهِ
حكُمَ اللّهُ
ك وَاصْبِرْ حَتّى يَ ْ
علَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ * وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ
علَ ْيهَا َومَا أَنَا َ
ضلّ َ
ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ
َومَنْ َ
وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ }
أيُ { :قلْ } يا أيها الرسول ،لما تبين البرهان { يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُمُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ } أي:
الخبر الصادق المؤيد بالبراهين ،الذي ل شك فيه بوجه من الوجوه ،وهو واصل إليكم من ربكم
الذي من أعظم تربيته لكم ،أن أنزل إليكم هذا القرآن الذي فيه تبيان لكل شيء ،وفيه من أنواع
الحكام والمطالب اللهية والخلق المرضية ،ما فيه أعظم تربية لكم ،وإحسان منه إليكم ،فقد
تبين الرشد من الغي ،ولم يبق لحد شبهة.
{ َفمَنِ اهْتَدَى } بهدى ال بأن علم الحق وتفهمه ،وآثره على غيره فلِ َنفْسِهِ وال تعالى غني عن
عباده ،وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم.
{ َومَا أَنَا عَلَ ْي ُكمْ ِب َوكِيلٍ } فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها ،وإنما أنا لكم نذير مبين ،وال عليكم
وكيل .فانظروا لنفسكم ،ما دمتم في مدة المهال.
{ وَاتّبَعَ } أيها الرسول { مَا يُوحَى إِلَ ْيكَ } علمًا ،وعملً ،وحالً ،ودعوة إليه { ،وَاصْبِرْ } على
ذلك ،فإن هذا أعلى أنواع الصبر ،وإن عاقبته حميدة ،فل تكسل ،ول تضجر ،بل دم على ذلك،
حكُمَ اللّهُ } بينك وبين من كذبك { وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ } فإن حكمه ،مشتمل على
واثبت { ،حَتّى َي ْ
العدل التام ،والقسط الذي يحمد عليه.
وقد امتثل صلى ال عليه وسلم أمر ربه ،وثبت على الصراط المستقيم ،حتى أظهر ال دينه على
سائر الديان ،ونصره على أعدائه بالسيف والسنان ،بعد ما نصره [ال] عليهم ،بالحجة والبرهان،
فلله الحمد ،والثناء الحسن ،كما ينبغي لجلله ،وعظمته ،وكماله وسعة إحسانه.
حكِيمٍ خَبِيرٍ *
ح ِك َمتْ آيَاُتهُ ثُمّ ُفصَّلتْ مِنْ لَدُنْ َ
حمَنِ الرّحِيمِ * الر كِتَابٌ أُ ْ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 4 - 1بِ ْ
حسَنًا
أَلّا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ إِنّنِي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَ ْيهِ ُيمَ ّت ْعكُمْ مَتَاعًا َ
ضلٍ َفضْلَ ُه وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّي َأخَافُ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابَ َيوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى
سمّى وَ ُيؤْتِ ُكلّ ذِي َف ْ
جلٍ مُ َ
إِلَى أَ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ }
ج ُعكُ ْم وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
اللّهِ مَ ْر ِ
{ } 2فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند ال الحكيم الخبير ،فل تسأل بعد هذا ،عن عظمته
وجللته واشتماله على كمال الحكمة ،وسعة الرحمة .وإنما أنزل ال كتابه لب { أَنْ لَا َتعْبُدُوا إِلّا
اللّهَ } أي :لجل إخلص الدين كله ل ،وأن ل يشرك به أحد من خلقه.
{ إِنّنِي َلكُمْ } أيها الناس { مِنْهُ } أي :من ال ربكم { َنذِيرٍ } لمن تجرأ على المعاصي بعقاب الدنيا
والخرة { ،وَبَشِيرٌ } للمطيعين ل بثواب الدنيا والخرة.
{ { } 3وَأَنِ اسْ َتغْفِرُوا رَ ّبكُمْ } عن ما صدر منكم من الذنوب { ُثمّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلون من
أعماركم ،بالرجوع إليه ،بالنابة والرجوع عما يكرهه ال إلى ما يحبه ويرضاه.
عذَابَ
{ وَإِنْ َتوَّلوْا } عن ما دعوتكم إليه ،بل أعرضتم عنه ،وربما كذبتم به { فَإِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
َيوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يوم القيامة الذي يجمع ال فيه الولين والخرين ،فيجازيهم بأعمالهم ،إن خيرا
فخير ،وإن شرا فشر.
شيْءٍ َقدِيرٌ } كالدليل على إحياء ال الموتى ،فإنه قدير على كل شيء
وفي قوله { :وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
،ومن جملة الشياء إحياء الموتى ،وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين ،فيجب وقوع ذلك عقل
ونقل.
ن َومَا
خفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ
ن صُدُورَ ُهمْ لِيَسْ َت ْ
{ { } 5أَلَا إِ ّنهُمْ يَثْنُو َ
ُيعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
قال تعالى -مبينا خطأهم في هذا الظن { -أَلَا حِينَ يَسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ } أي :يتغطون بها ،يعلمهم في
تلك الحال ،التي هي من أخفى الشياء.
بل { َيعَْلمُ مَا يُسِرّونَ } من القوال والفعال { َومَا ُيعْلِنُونَ } منها ،بل ما هو أبلغ من ذلك ،وهو{ :
إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي :بما فيها من الرادات ،والوساوس ،والفكار ،التي لم ينطقوا بها،
سرا ول جهرا ،فكيف تخفى عليه حالكم ،إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه.
ويحتمل أن المعنى في هذا أن ال يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته ،أنهم -من
شدة إعراضهم -يثنون صدورهم ،أي :يحدودبون حين يرون الرسول صلى ال عليه وسلم لئل
يراهم ويسمعهم دعوته ،ويعظهم بما ينفعهم ،فهل فوق هذا العراض شيء؟"
ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم ،وأنهم ل يخفون عليه ،وسيجازيهم بصنيعهم.
أي :جميع ما دب على وجه الرض ،من آدمي ،أو حيوان بري أو بحري ،فال تعالى قد تكفل
بأرزاقهم وأقواتهم ،فرزقها على ال.
عهَا } أي :يعلم مستقر هذه الدواب ،وهو :المكان الذي تقيم فيه وتستقر
{ وَ َيعْلَمُ ُمسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
فيه ،وتأوي إليه ،ومستودعها :المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها ،وعوارض أحوالها.
{ ُكلّ } من تفاصيل أحوالها { فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي :في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع
الحوادث الواقعة ،والتي تقع في السماوات والرض .الجميع قد أحاط بها علم ال ،وجرى بها
قلمه ،ونفذت فيها مشيئته ،ووسعها رزقه ،فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها ،وأحاط
علما بذواتها ،وصفاتها.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد وآخرها يوم الجمعة { و
يخبر تعالى أنه { خَلَقَ ال ّ
} حين خلق السماوات والرض { كَانَ عَرْشُهُ عَلَى ا ْلمَاءِ } فوق السماء السابعة.
فبعد أن خلق السماوات والرض استوى عليه ،يدبر المور ،ويصرفها كيف شاء من الحكام
عمَلًا } أي :ليمتحنكم ،إذ خلق لكم ما
القدرية ،والحكام الشرعية .ولهذا قال { :لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَحْسَنُ َ
في السماوات والرض بأمره ونهيه ،فينظر أيكم أحسن عمل.
فقال :إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا ،لم يقبل.
وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ،حتى يكون خالصا صوابا.
والخالص :أن يكون لوجه ال ،والصواب :أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة ،وهذا كما قال
ن وَالْإِنْسَ ِإلّا لِ َيعْبُدُونِ }
تعالىَ { :ومَا خََل ْقتُ الْجِ ّ
سمَاوَاتٍ َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ
وقال تعالى { :اللّهُ الّذِي خََلقَ سَبْعَ َ
شيْءٍ عِ ْلمًا } فال تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته
شيْءٍ قَدِي ٌر وَأَنّ اللّهَ قَدْ َأحَاطَ ِب ُكلّ َ
عَلَى ُكلّ َ
بأسمائه وصفاته ،وأمرهم بذلك ،فمن انقاد ،وأدى ما أمر به ،فهو من المفلحين ،ومن أعرض عن
ذلك ،فأولئك هم الخاسرون ،ول بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم.
ولهذا ذكر ال تكذيب المشركين بالجزاء ،فقال { :وَلَئِنْ قُ ْلتَ إِ ّنكُمْ مَ ْبعُوثُونَ مِنْ َبعْدِ ا ْل َموْتِ لَ َيقُولَنّ
الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ َهذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ }
أي :ولئن قلت لهؤلء وأخبرتهم بالبعث بعد الموت ،لم يصدقوك ،بل كذبوك أشد التكذيب ،
وقدحوا فيما جئت به ،وقالوا { :إِنْ َهذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أل وهو الحق المبين.
{ وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَى ُأمّةٍ َمعْدُو َدةٍ } أي :إلى وقت مقدر فتباطأوه ،لقالوا من جهلهم
وظلمهم { مَا يَحْ ِبسُهُ } ومضمون هذا تكذيبهم به ،فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجل على كذب
الرسول المخبر بوقوع العذاب ،فما أبعد هذا الستدلل"
{ أَلَا َيوْمَ يَأْتِيهِمْ } العذاب { لَيْسَ َمصْرُوفًا عَ ْنهُمْ } فيتمكنون من النظر في أمرهم.
{ وَحَاقَ ِبهِمْ } أي :نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } من العذاب ،حيث تهاونوا به ،حتى جزموا
بكذب من جاء به.
حمَةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنّهُ لَيَئُوسٌ َكفُورٌ * وَلَئِنْ َأ َذقْنَاهُ َن ْعمَاءَ
{ { } 10 - 9وَلَئِنْ أَ َذقْنَا الْإِنْسَانَ مِنّا َر ْ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ
ن صَبَرُوا وَ َ
َبعْ َد ضَرّاءَ َمسّتْهُ لَ َيقُولَنّ ذَ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي إِنّهُ َلفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلّا الّذِي َ
أُولَ ِئكَ َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ كَبِيرٌ }
يخبر تعالى عن طبيعة النسان ،أنه جاهل ظالم بأن ال إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق،
والولد ،ونحو ذلك ،ثم نزعها منه ،فإنه يستسلم لليأس ،وينقاد للقنوط ،فل يرجو ثواب ال ،ول
يخطر بباله أن ال سيردها أو مثلها ،أو خيرا منها عليه.
وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته ،أنه يفرح ويبطر ،ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير،
ويقول { :ذَ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي إِنّهُ َلفَرِحٌ فَخُورٌ } أي :فرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه ،فخور
بنعم ال على عباد ال ،وذلك يحمله على الشر والبطر والعجاب بالنفس ،والتكبر على الخلق،
واحتقارهم وازدرائهم ،وأي عيب أشد من هذا؟"
وهذه طبيعة النسان من حيث هو ،إل من وفقه ال وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده ،وهم
الذين صبروا أنفسهم عند الضراء فلم ييأسوا ،وعند السراء فلم يبطروا ،وعملوا الصالحات من
واجبات ومستحبات.
{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َمغْفِ َرةٌ } لذنوبهم ،يزول بها عنهم كل محذور { .وََأجْرٌ كَبِيرٌ } وهو :الفوز بجنات
النعيم ،التي فيها ما تشتهيه النفس ،وتلذ العين.
صدْ ُركَ أَنْ َيقُولُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ
ك َوضَائِقٌ بِ ِه َ
{ { } 14 - 12فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ
شيْءٍ َوكِيلٌ * َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبعَشْرِ
كَنْزٌ َأوْ جَاءَ َمعَهُ مََلكٌ إِ ّنمَا أَ ْنتَ نَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
طعْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ * فَإِنْ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلكُمْ
سوَرٍ مِثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَ َ
ُ
فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِ ْلمِ اللّ ِه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ }
يقول تعالى -مسليا لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم ،عن تكذيب المكذبين { :-فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ
صدْ ُركَ أَنْ َيقُولُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ } أي :ل ينبغي هذا لمثلك ،أن
ك َوضَائِقٌ بِ ِه َ
مَا يُوحَى إِلَ ْي َ
قولهم يؤثر فيك ،ويصدك عما أنت عليه ،فتترك بعض ما يوحى إليك ،ويضيق صدرك لتعنتهم
بقولهمَ { :لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ جَاءَ َمعَهُ مََلكٌ } فإن هذا القول ناشئ من تعنت ،وظلم ،وعناد،
وضلل ،وجهل بمواقع الحجج والدلة ،فامض على أمرك ،ول تصدك هذه القوال الركيكة التي
ل تصدر إل من سفيه ول يضق لذلك صدرك.
فهل أوردوا عليك حجة ل تستطيع حلها؟ أم قدحوا ببعض ما جئت به قدحا ،يؤثر فيه وينقص
قدره ،فيضيق صدرك لذلك؟!
{ فَإِنْ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلكُمْ } على شيء من ذلكم { فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِلْمِ اللّهِ } [من عند ال] لقيام
الدليل والمقتضي ،وانتفاء المعارض.
{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } أي :واعلموا أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ أي :هو وحده المستحق لللوهية والعبادة،
{ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ } أي :منقادون للوهيته ،مستسلمون لعبوديته ،وفي هذه اليات إرشاد إلى أنه
ل ينبغي للداعي إلى ال أن يصده اعتراض المعترضين ،ول قدح القادحين.
خصوصا إذا كان القدح ل مستند له ،ول يقدح فيما دعا إليه ،وأنه ل يضيق صدره ،بل يطمئن
بذلك ،ماضيا على أمره ،مقبل على شأنه ،وأنه ل يجب إجابة اقتراحات المقترحين للدلة التي
يختارونها .بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض ،على جميع المسائل والمطالب .وفيها أن
هذا القرآن ،معجز بنفسه ،ل يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله ،ول بعشر سور من مثله ،بل ول
بسورة من مثله ،لن العداء البلغاء الفصحاء ،تحداهم ال بذلك ،فلم يعارضوه ،لعلمهم أنهم ل
قدرة فيهم على ذلك.
وفيها :أن مما يطلب فيه العلم ،ول يكفي غلبة الظن ،علم القرآن ،وعلم التوحيد ،لقوله تعالى:
{ فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِلْمِ اللّ ِه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ }
خسُونَ
عمَاَلهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْ َ
{ { } 16 - 15مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُن َوفّ إِلَ ْي ِهمْ أَ ْ
طلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
* أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َلهُمْ فِي الْآخِ َرةِ إِلّا النّا ُر َوحَبِطَ مَا صَ َنعُوا فِيهَا وَبَا ِ
يقول تعالى { :مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا } أي :كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا،
وعلى زينتها من النساء والبنين ،والقناطير المقنطرة ،من الذهب ،والفضة ،والخيل المسومة،
والنعام والحرث .قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الشياء ،ولم يجعل لدار القرار من
إرادته شيئا ،فهذا ل يكون إل كافرا ،لنه لو كان مؤمنا ،لكان ما معه من اليمان يمنعه أن تكون
جميع إرادته للدار الدنيا ،بل نفس إيمانه وما تيسر له من العمال أثر من آثار إرادته الدار
الخرة.
خسُونَ } أي :ل ينقصون شيئا مما قدر لهم ،ولكن هذا منتهى نعيمهم.
{ وَ ُهمْ فِيهَا لَا يُبْ َ
{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َل ُهمْ فِي الْآخِ َرةِ إِلّا النّارُ } خالدين فيها أبدا ،ل يفتّر عنهم العذاب ،وقد حرموا
جزيل الثواب.
{ وَحَ ِبطَ مَا صَ َنعُوا فِيهَا } أي :في الدنيا ،أي :بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق
وأهله ،وما عملوه من أعمال الخير التي ل أساس لها ،ول وجود لشرطها ،وهو اليمان.
حمَةً
{ َ { } 17أ َفمَنْ كَانَ عَلَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّ ِه وَيَتْلُوهُ شَا ِهدٌ مِنْ ُه َومِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ِإمَامًا وَرَ ْ
أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه َومَنْ َي ْكفُرْ بِهِ مِنَ الَْأحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ فَلَا َتكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ
وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ }
يذكر تعالى ،حال رسوله محمد صلى ال عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه،
وحججه الموقنين بذلك ،وأنهم ل يوصف بهم غيرهم ول يكون أحد مثلهم ،فقالَ { :أ َفمَنْ كَانَ عَلَى
بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ } بالوحي الذي أنزل ال فيه المسائل المهمة ،ودلئلها الظاهرة ،فتيقن تلك البينة.
{ وَيَتْلُوهُ } أي :يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر { شَا ِهدٌ مِنْهُ } وهو شاهد الفطرة المستقيمة،
والعقل الصحيح ،حين شهد حقيقة ما أوحاه ال وشرعه ،وعلم بعقله حسنه ،فازداد بذلك إيمانا إلى
إيمانه.
حمَةً } لهم،
{ و } ثم شاهد ثالث وهو { كِتَابُ مُوسَى } التوراة التي جعلها ال { ِإمَامًا } للناس { وَرَ ْ
يشهد لهذا القرآن بالصدق ،ويوافقه فيما جاء به من الحق.
أي :أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد اليمان ،وقامت لديه أدلة اليقين ،كمن هو في
الظلمات والجهالت ،ليس بخارج منها؟!
ل يستوون عند ال ،ول عند عباد ال { ،أُولَ ِئكَ } أي :الذين وفقوا لقيام الدلة عندهمُ { ،ي ْؤمِنُونَ }
بالقرآن حقيقة ،فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والخرة.
{ َومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ } أي :القرآن { مِنَ الَْأحْزَابِ } أي :سائر طوائف أهل الرض ،المتحزبة على رد
الحق { ،فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ } ل بد من وروده إليها { فَلَا َتكُ فِي مِرْيَةٍ منه } أي :في أدنى شك { إِنّهُ
ك وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ } إما جهل منهم وضلل ،وإما ظلما وعنادا وبغيا،
حقّ مِنْ رَ ّب َ
الْ َ
وإل فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما ،فل بد أن يؤمن به ،لنه يرى ما يدعوه إلى اليمان من
كل وجه.
شهَادُ
{ َ { } 22 - 18ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا أُولَ ِئكَ ُيعْ َرضُونَ عَلَى رَ ّبهِ ْم وَ َيقُولُ الْأَ ْ
صدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُو َنهَا
َهؤُلَاءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَ ّبهِمْ َألَا َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ * الّذِينَ َي ُ
عوَجًا وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ *أُولَ ِئكَ لَمْ َيكُونُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ َومَا كَانَ َل ُهمْ مِنْ دُونِ اللّهِ
ِ
سمْ َع َومَا كَانُوا يُ ْبصِرُونَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ
عفُ َلهُمُ ا ْلعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْ َتطِيعُونَ ال ّ
مِنْ َأوْلِيَاءَ ُيضَا َ
خسَرُونَ }
سهُ ْم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ * لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ ُهمُ الْأَ ْ
خسِرُوا أَ ْنفُ َ
َ
يخبر تعالى أنه ل أحد { َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } ويدخل في هذا كل من كذب على ال،
بنسبة الشريك له ،أو وصفه بما ل يليق بجلله ،أو الخبار عنه ،بما لم يقل ،أو ادعاء النبوة ،أو
غير ذلك من الكذب على ال ،فهؤلء أعظم الناس ظلما { أُولَ ِئكَ ُيعْ َرضُونَ عَلَى رَ ّبهِمْ } ليجازيهم
شهَادُ } أي :الذين شهدوا عليهم بافترائهم
بظلمهم ،فعندما يحكم عليهم بالعقاب الشديد { َيقُولُ الَْأ ْ
علَى الظّاِلمِينَ } أي :لعنة ل تنقطع ،لن
وكذبهمَ { :هؤُلَاءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَ ّبهِمْ أَلَا َلعْ َنةُ اللّهِ َ
ظلمهم صار وصفا لهم ملزما ،ل يقبل التخفيف.
ثم وصف ظلمهم فقال { :الّذِينَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } فصدوا بأنفسهم عن سبيل ال ،وهي سبيل
الرسل ،التي دعوا الناس إليها ،وصدوا غيرهم عنها ،فصاروا أئمة يدعون إلى النار.
{ أُولَ ِئكَ َلمْ َيكُونُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ } أي :ليسوا فائتين ال ،لنهم تحت قبضته وفي سلطانه.
{ َومَا كَانَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َأوْلِيَاءَ } فيدفعون عنهم المكروه ،أو يحصلون لهم ما ينفعهم ،بل
تقطعت بهم السباب.
عفُ َلهُمُ ا ْل َعذَابُ } أي :يغلظ ويزداد ،لنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم.
{ ُيضَا َ
سمْعَ } أي :من بغضهم للحق ونفورهم عنه ،ما كانوا يستطيعون أن
{ مَا كَانُوا يَسْ َتطِيعُونَ ال ّ
حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ *
يسمعوا آيات ال سماعا ينتفعون به { َفمَا َل ُهمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ * كَأَ ّنهُمْ ُ
سوَ َرةٍ } { َومَا كَانُوا يُ ْبصِرُونَ } أي :ينظرون نظر عبرة وتفكر ،فيما ينفعهم ،وإنما هم
فَ ّرتْ مِنْ َق ْ
كالصم البكم الذين ل يعقلون.
سهُمْ } حيث فوتوها أعظم الثواب ،واستحقوا أشد العذابَ { ،وضَلّ عَ ْنهُمْ
خسِرُوا أَ ْنفُ َ
{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َ
مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } أي :اضمحل دينهم الذي يدعون إليه ويحسنونه ،ولم تغن عنهم آلهتهم التي
يعبدون من دون ال لما جاء أمر ربك.
ولما ذكر حال الشقياء ،ذكر أوصاف السعداء وما لهم عند ال من الثواب ،فقال:
صحَابُ الْجَنّةِ هُمْ
ت وَأَخْبَتُوا إِلَى رَ ّبهِمْ أُولَ ِئكَ َأ ْ
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
{ { } 24 - 23إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
سمِيعِ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلًا َأفَلَا تَ َذكّرُونَ }
عمَى وَالَْأصَ ّم وَالْ َبصِي ِر وَال ّ
فِيهَا خَاِلدُونَ * مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ كَالْأَ ْ
يقول تعالى { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم ،أي :صدقوا واعترفوا ,لما أمر ال باليمان به ،من
أصول الدين وقواعده.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } المشتملة على أعمال القلوب والجوارح ،وأقوال اللسان { .وََأخْبَتُوا إِلَى
{ وَ َ
رَ ّبهِمْ } أي :خضعوا له ،واستكانوا لعظمته ،وذلوا لسلطانه ،وأنابوا إليه بمحبته ،وخوفه ،ورجائه،
والتضرع إليه.
{ أُولَ ِئكَ } الذين جمعوا تلك الصفات { َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } لنهم لم يتركوا من الخير
مطلبا ،إل أدركوه ،ول خيرا ،إل سبقوا إليه.
{ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلًا } ل يستوون مثل ،بل بينهما من الفرق ما ل يأتي عليه الوصفَ { ،أفَلَا
تَ َذكّرُونَ } العمال ،التي تنفعكم ،فتفعلونها ،والعمال التي تضركم ،فتتركونها.
إلى آخر القصة أي :ولقد أرسلنا رسولنا نوحا أول المرسلين إلى قومه يدعوهم إلى ال وينهاهم
عن الشرك فقال لهم { :إِنّي َلكُمْ َنذِيرٌ مُبِينٌ } أي :بينت لكم ما أنذرتكم به ،بيانا زال به الشكال.
{ أَنْ لَا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ } أي :أخلصوا العبادة ل وحده ،واتركوا كل ما يعبد من دون ال { .إِنّي
أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ أَلِيمٍ } إن لم تقوموا بتوحيد ال وتطيعوني.
{ َ { } 27فقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ } أي :الشراف والرؤساء ،رادين لدعوة نوح عليه
السلم ،كما جرت العادة لمثالهم ،أنهم أول من رد دعوة المرسلين.
{ مَا نَرَاكَ ِإلّا بَشَرًا مِثْلَنَا } وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه ،مع أنه في نفس المر هو الصواب،
الذي ل ينبغي غيره ،لن البشر يتمكن البشر ،أن يتلقوا عنه ،ويراجعوه في كل أمر ،بخلف
الملئكة.
{ َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ إِلّا الّذِينَ ُهمْ أَرَا ِذلُنَا } أي :ما نرى اتبعك منا إل الراذل والسفلة ،بزعمهم.
وهم في الحقيقة الشراف ،وأهل العقول ،الذين انقادوا للحق ولم يكونوا كالراذل ،الذين يقال لهم
المل ،الذين اتبعوا كل شيطان مريد ،واتخذوا آلهة من الحجر والشجر ،يتقربون إليها ويسجدون
لها ،فهل ترى أرذل من هؤلء وأخس؟.
وقولهم { :بَا ِديَ الرّ ْأيِ } أي :إنما اتبعوك من غير تفكر وروية ،بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك،
يعنون بذلك ،أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ،ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة
العقول ،وبمجرد ما يصل إلى أولي اللباب ،يعرفونه ويتحققونه ،ل كالمور الخفية ،التي تحتاج
إلى تأمل ،وفكر طويل.
ضلٍ } أي :لستم أفضل منا فننقاد لكمَ { ،بلْ َنظُّنكُمْ كَاذِبِينَ } وكذبوا في
علَيْنَا مِنْ َف ْ
{ َومَا نَرَى َلكُمْ َ
قولهم هذا ،فإنهم رأوا من اليات التي جعلها ال مؤيدة لنوح ،ما يوجب لهم الجزم التام على
صدقه.
ولهذا { قَالَ } لهم نوح مجاوبا { يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي } أي :على يقين وجزم،
يعني ،وهو الرسول الكامل القدوة ،الذي ينقاد له أولو اللباب ،ويضمحل في جنب عقله ،عقول
الفحول من الرجال ,وهو الصادق حقا ،فإذا قال :إني على بينة من ربي ،فحسبك بهذا القول،
شهادة له وتصديقا.
حمَةً مِنْ عِنْ ِدهِ } أي :أوحى إلي وأرسلني ،ومنّ علي بالهدايةَ { ،ف ُعمّ َيتْ عَلَ ْيكُمْ } أي:
{ وَآتَانِي َر ْ
خفيت عليكم ،وبها تثاقلتم.
{ أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا } أي :أنكرهكم على ما تحققناه ،وشككتم أنتم فيه؟ { وَأَنْتُمْ َلهَا كَارِهُونَ } حتى
حرصتم على رد ما جئت به ،ليس ذلك ضارنا ،وليس بقادح من يقيننا فيه ،ول قولكم وافتراؤكم
علينا ،صادا لنا عما كنا عليه.
وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم ،وموجبا لعدم انقيادكم للحق الذي تزعمون أنه باطل ،فإذا
وصلت الحال إلى هذه الغاية ،فل نقدر على إكراهكم ،على ما أمر ال ،ول إلزامكم ،ما نفرتم
عنه ،ولهذا قال { :أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا وَأَنْتُمْ َلهَا كَارِهُونَ }
علَيْهِ } أي :على دعوتي إياكم { مَا لَا } فستستثقلون المغرم.
{ وَيَا َقوْمِ لَا أَسْأَُلكُمْ َ
علَى اللّهِ } وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء ،فقال لهمَ { :ومَا أَنَا بِطَا ِردِ
{ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ
الّذِينَ آمَنُوا } أي :ما ينبغي لي ،ول يليق بي ذلك ،بل أتلقاهم بالرحب والكرام ،والعزاز
والعظام { إِ ّنهُمْ مُلَاقُو رَ ّبهِمْ } فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم.
جهَلُونَ } حيث تأمرونني ،بطرد أولياء ال ,وإبعادهم عني .وحيث رددتم
{ وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ
الحق ،لنهم أتباعه ،وحيث استدللتم على بطلن الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم
من فضل.
{ وَيَا َقوْمِ مَنْ يَ ْنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ طَ َردْ ُتهُمْ } أي :من يمنعني من عذابه ،فإن طردهم موجب
للعذاب والنكال ،الذي ل يمنعه من دون ال مانع.
{ وَلَا َأقُولُ َلكُمْ عِ ْندِي خَزَائِنُ اللّ ِه وَلَا أَعَْلمُ ا ْلغَ ْيبَ وَلَا َأقُولُ إِنّي مََلكٌ } أي :غايتي أني رسول ال
إليكم ،أبشركم ،وأنذركم ،وأما ما عدا ذلك ،فليس بيدي من المر شيء ،فليست خزائن ال عندي،
أدبرها أنا ،وأعطي من أشاء ،وأحرم من أشاء { ،وَلَا أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ } فأخبركم بسرائركم وبواطنكم {
وَلَا َأقُولُ إِنّي مََلكٌ } والمعنى :أني ل أدعي رتبة فوق رتبتي ،ول منزلة سوى المنزلة ،التي
أنزلني ال بها ،ول أحكم على الناس ،بظني.
{ وَلَا َأقُولُ لِلّذِينَ تَ ْزدَرِي أَعْيُ ُنكُمْ } أي :ضعفاء المؤمنين ،الذين يحتقرهم المل الذين كفروا { لَنْ
سهِمْ } فإن كانوا صادقين في إيمانهم ،فلهم الخير الكثير ،وإن
ُيؤْتِ َيهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا فِي أَ ْنفُ ِ
كانوا غير ذلك ،فحسابهم على ال.
{ إِنّي ِإذًا } أي :إن قلت لكم شيئا مما تقدم { َلمِنَ الظّاِلمِينَ } وهذا تأييس منه ،عليه الصلة
والسلم لقومه ،أن ينبذ فقراء المؤمنين ,أو يمقتهم ،وتقنيع لقومه ،بالطرق المقنعة للمنصف.
فلما رأوه ،ل ينكف عما كان عليه من دعوتهم ،ولم يدركوا منه مطلوبهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا
فََأكْثَ ْرتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا } من العذاب { إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } فما أجهلهم وأضلهم ،حيث
قالوا هذه المقالة ،لنبيهم الناصح.
فهل قالوا :إن كانوا صادقين :يا نوح قد نصحتنا ،وأشفقت علينا ,ودعوتنا إلى أمر ،لم يتبين لنا،
فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك ،وإل فأنت مشكور في نصحك .لكان هذا الجواب المنصف ،الذي
قد دعي إلى أمر خفي عليه ،ولكنهم في قولهم ،كاذبون ،وعلى نبيهم متجرئون .ولم يردوا ما قاله
بأدنى شبهة ،فضل عن أن يردوه بحجة.
ولهذا عدلوا -من جهلهم وظلمهم -إلى الستعجال بالعذاب ،وتعجيز ال ،ولهذا أجابهم نوح عليه
السلم بقوله { :إِ ّنمَا يَأْتِيكُمْ ِبهِ اللّهُ إِنْ شَاءَ } أي :إن اقتضت مشيئته وحكمته ،أن ينزله بكم ،فعل
ذلكَ { .ومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ } ل ،وأنا ليس بيدي من المر شيء.
{ وَلَا يَ ْن َف ُعكُمْ ُنصْحِي إِنْ أَ َر ْدتُ أَنْ أَ ْنصَحَ َلكُمْ إِنْ كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ ُي ْغوِ َيكُمْ } أي :إن إرادة ال
غالبة ،فإنه إذا أراد أن يغويكم ،لردكم الحق ،فلو حرصت غاية مجهودي ،ونصحت لكم أتم
النصح -وهو قد فعل عليه السلم -فليس ذلك بنافع لكم شيئاُ { ،هوَ رَ ّب ُكمْ } يفعل بكم ما يشاء،
جعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم.
ويحكم فيكم بما يريد { وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
{ َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح ،كما كان السياق في قصته مع قومه،
وأن المعنى :أن قومه يقولون :افترى على ال كذبا ،وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من ال ،وأن
ال أمره أن يقولُ { :قلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا تُجْ ِرمُونَ } أي :كل عليه وزره {
وَلَا تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلى ال عليه وسلم ،وتكون هذه الية معترضة ،في
أثناء قصة نوح وقومه ،لنها من المور التي ل يعلمها إل النبياء ،فلما شرع ال في قصها على
رسوله ،وكانت من جملة اليات الدالة على صدقه ورسالته ،ذكر تكذيب قومه له مع البيان التام
فقالَ { :أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي :هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه ،أي :فهذا من أعجب
القوال وأبطلها ،فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب ،ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب،
فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
فإذا زعموا -مع هذا -أنه افتراه ،علم أنهم معاندون ،ولم يبق فائدة في حجاجهم ،بل اللئق في
هذه الحال ،العراض عنهم ،ولهذا قالُ { :قلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي } أي :ذنبي وكذبي { ،وَأَنَا
بَرِيءٌ ِممّا تُجْ ِرمُونَ } أي :فلم تستلجون في تكذيبي.
حيَ إِلَى نُوحٍ أَنّهُ لَنْ ُي ْؤمِنَ مِنْ َق ْومِكَ إِلّا مَنْ َقدْ آمَنَ } أي :قد قسوا { ،فَلَا تَبْتَئِسْ ِبمَا
وقوله { :وَأُو ِ
كَانُوا َي ْفعَلُونَ } أي :فل تحزن ،ول تبال بهم ,وبأفعالهم ،فإن ال قد مقتهم ،وأحق عليهم عذابه
الذي ل يرد.
{ وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا } أي :بحفظنا ،ومرأى منا ,وعلى مرضاتنا { ،وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي
الّذِينَ ظََلمُوا } أي :ل تراجعني في إهلكهم { ،إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ } أي :قد حق عليهم القول ،ونفذ فيهم
القدر.
فامتثل أمر ربه ،وجعل يصنع الفلك { َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ َقوْمِهِ } ورأوا ما يصنع { سَخِرُوا
س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ
سخَرُونَ * فَ َ
سخَرُ مِ ْنكُمْ َكمَا تَ ْ
سخَرُوا مِنّا } الن { فَإِنّا نَ ْ
مِنْهُ قَالَ إِنْ تَ ْ
عذَابٌ مُقِيمٌ } نحن أم أنتم .وقد علموا ذلك ،حين حل بهم العقاب.
حلّ عَلَيْهِ َ
يُخْزِي ِه وَيَ ِ
{ حَتّى إِذَا جَاءَ َأمْرُنَا } أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم { َوفَارَ التّنّورُ } أي :أنزل ال السماء
بالماء بالمنهمر ،وفجر الرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة ،وأبعد ما
يكون عن الماء ،تفجرت فالتقى الماء على أمر ،قد قدر.
ح ِملْ فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي :من كل صنف من أصناف المخلوقات،
{ قُلْنَا } لنوح { :ا ْ
ذكر وأنثى ،لتبقى مادة سائر الجناس وأما بقية الصناف الزائدة عن الزوجين ،فلن السفينة ل
تطيق حملها { وَأَهَْلكَ إِلّا مَنْ سَبَقَ عَلَ ْيهِ ا ْل َقوْلُ } ممن كان كافرا ،كابنه الذي غرق.
{ َوقَالَ } نوح لمن أمره ال أن يحملهم { :ا ْركَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّهِ َمجْرَاهَا َومُرْسَاهَا } أي :تجري
على اسم ال ،وترسو على اسم ال ،وتجري بتسخيره وأمره.
{ إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رَحِيمٌ } حيث غفر لنا ورحمنا ،ونجانا من القوم الظالمين.
ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال { :وَ ِهيَ تَجْرِي ِب ِهمْ } أي :بنوح ،ومن ركب معه { فِي َموْجٍ
كَالْجِبَالِ } وال حافظها وحافظ أهلها { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } لما ركب ،ليركب معه { َوكَانَ } ابنه
{ فِي َمعْ ِزلٍ } عنهم ،حين ركبوا ،أي :مبتعدا وأراد منه ،أن يقرب ليركب ،فقال له { :يَا بُ َنيّ
ا ْر َكبْ َمعَنَا وَلَا َتكُنْ مَعَ ا ْلكَافِرِينَ } فيصيبك ما يصيبهم.
فب { قَالَ } ابنه ،مكذبا لبيه أنه ل ينجو إل من ركب معه السفينة.
{ سَآوِي إِلَى جَ َبلٍ َي ْعصِمُنِي مِنَ ا ْلمَاءِ } أي :سأرتقي جبل ،أمتنع به من الماء ،فب { قَالَ } نوح{ :
حمَ } فل يعصم أحدا ،جبل ول غيره ،ولو تسبب بغاية ما
لَا عَاصِمَ الْ َي ْومَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِلّا مَنْ رَ ِ
يمكنه من السباب ،لما نجا إن لم ينجه ال { .وَحَالَ بَيْ َن ُهمَا ا ْل َموْجُ َفكَانَ } البن { مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ }
فلما أغرقهم ال ونجى نوحا ومن معه { َوقِيلَ يَا أَ ْرضُ ا ْبَلعِي مَا َءكِ } الذي خرج منك ،والذي
سمَاءُ َأقِْلعِي } فامتثلتا لمر ال ،فابتلعت
نزل إليك ،أي :ابلعي الماء الذي على وجهك { وَيَا َ
ضيَ الَْأمْرُ } بهلك المكذبين ونجاة
الرض ماءها ,وأقلعت السماء ،فنضب الماء من الرضَ { ،و ُق ِ
المؤمنين.
{ وَاسْ َت َوتْ } السفينة { عَلَى ا ْلجُو ِديّ } أي :أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل.
{ َوقِيلَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } أي :أتبعوا بعد هلكهم لعنة وبعدا ,وسحقا ل يزال معهم.
ح ِملْ
ن وَعْ َدكَ ا ْلحَقّ } أي :وقد قلت لي :فب { ا ْ
{ وَنَادَى نُوحٌ رَبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِ ّ
ن وَأَهَْلكَ } ولن تخلف ما وعدتني به.
فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْ ِ
لعله عليه الصلة والسلم ،حملته الشفقة ،وأن ال وعده بنجاة أهله ،ظن أن الوعد لعمومهم ،من
آمن ،ومن لم يؤمن ،فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء ،ومع هذا ،ففوض المر لحكمة ال البالغة.
{ فَلَا َتسْأَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ } أي :ما ل تعلم عاقبته،ومآله ،وهل يكون خيرا ،أو غير خير.
ظكَ أَنْ َتكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي :أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين ،وتنجو به من
عُ{ إِنّي أَ ِ
صفات الجاهلين.
فحينئذ ندم نوح ،عليه السلم ،ندامة شديدة ،على ما صدر منه ,و { قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ
حمْنِي َأكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
أَسْأََلكَ مَا لَيْسَ لِي ِبهِ عِلْمٌ وَإِلّا َتغْفِرْ لِي وَتَرْ َ
فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين ،ودل هذا على أن نوحا ،عليه السلم،
لم يكن عنده علم ،بأن سؤاله لربه ،في نجاة ابنه محرم ،داخل في قوله { وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ
ظََلمُوا إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ } بل تعارض عنده المران ،وظن دخوله في قوله { :وَأَهَْلكَ }
وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم ،والمراجعة فيهم.
قال ال لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة ،التي ل يعلمها
إل من منّ عليه برسالته.
{ تِ ْلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهَا إِلَ ْيكَ مَا كُ ْنتَ َتعَْل ُمهَا أَ ْنتَ وَلَا َق ْو ُمكَ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا } فيقولوا :إنه كان
يعلمها.
فاحمد ال ،واشكره ،واصبر على ما أنت عليه ،من الدين القويم ،والصراط المستقيم ،والدعوة إلى
ال { إِنّ ا ْلعَاقِبَةَ لِ ْلمُ ّتقِينَ } الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي ،فستكون لك العاقبة على قومك،
كما كانت لنوح على قومه.
إلى آخر القصة أي { :و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } وهم القبيلة المعروفة في الحقاف ,من أرض
اليمنَ { ،أخَا ُهمْ } في النسب { هُودًا } ليتمكنوا من الخذ عنه والعلم بصدقه.
فب { قَالَ } لهم { يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا ُمفْتَرُونَ } أي :أمرهم بعبادة
ال وحده ،ونهاهم عما هم عليه ،من عبادة غير ال ،وأخبرهم أنهم قد افتروا على ال الكذب في
عبادتهم لغيره ,وتجويزهم لذلك ،ووضح لهم وجوب عبادة ال ،وفساد عبادة ما سواه.
ثم ذكر عدم المانع لهم من النقياد فقال { يَا َقوْمِ لَا أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرًا } أي :غرامة من أموالكم،
على ما دعوتكم إليه ،فتقولوا :هذا يريد أن يأخذ أموالنا ،وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانا.
علَى الّذِي فَطَرَنِي َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } ما أدعوكم إليه ،وأنه موجب لقبوله ،منتف المانع
{ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ
عن رده.
{ وَيَا َقوْمِ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ } عما مضى منكم { ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه ،بالتوبة النصوح،
والنابة إلى ال تعالى.
سمَاءَ عَلَ ْي ُكمْ مِدْرَارًا } بكثرة المطار التي تخصب بها الرض،
سلِ ال ّ
فإنكم إذا فعلتم ذلك { يُ ْر ِ
ويكثر خيرها.
{ وَيَزِ ْد ُكمْ ُق ّوةً إِلَى ُقوّ ِتكُمْ } فإنهم كانوا من أقوى الناس ،ولهذا قالوا { :من أشد منا قوة } ؟ ،
فوعدهم أنهم إن آمنوا ،زادهم قوة إلى قوتهم.
{ وَلَا تَ َتوَّلوْا } عنه ،أي :عن ربكم { مُجْ ِرمِينَ } أي :مستكبرين عن عبادته ،متجرئين على
محارمه.
فب { قَالُوا } رادين لقوله { :يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } إن كان قصدهم بالبينة البينة التي يقترحونها،
فهذه غير لزمة للحق ،بل اللزم أن يأتي النبي بآية تدل على صحة ما جاء به ،وإن كان قصدهم
أنه لم يأتهم ببينة ،تشهد لما قاله بالصحة ،فقد كذبوا في ذلك ،فإنه ما جاء نبي لقومه ،إل وبعث
ال على يديه ،من اليات ما يؤمن على مثله البشر.
ولو لم يكن له آية ،إل دعوته إياهم لخلص الدين ل ،وحده ل شريك له ،والمر بكل عمل
صالح ،وخلق جميل ،والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بال ،والفواحش ،والظلم ،وأنواع
المنكرات ،مع ما هو مشتمل عليه هود ،عليه السلم ،من الصفات ،التي ل تكون إل لخيار الخلق
وأصدقهم ،لكفى بها آيات وأدلة ،على صدقه.
بل أهل العقول ،وأولو اللباب ،يرون أن هذه الية ،أكبر من مجرد الخوارق ،التي يراها بعض
الناس ،هي المعجزات فقط .ومن آياته ،وبيناته الدالة على صدقه ،أنه شخص واحد ،ليس له
أنصار ول أعوان ،وهو يصرخ في قومه ،ويناديهم ،ويعجزهم ،ويقول لهم { :إِنّي َت َوكّلْتُ عَلَى
اللّهِ رَبّي وَرَ ّبكُمْ }
وقولهمَ { :ومَا َنحْنُ بِتَا ِركِي آِلهَتِنَا عَنْ َقوِْلكَ } أي :ل نترك عبادة آلهتنا لمجرد قولك ،الذي ما
أقمت عليه بينة بزعمهمَ { ،ومَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ } وهذا تأييس منهم لنبيهم ،هود عليه السلم ,في
إيمانهم ،وأنهم ل يزالون في كفرهم يعمهون.
{ إِنْ َنقُولُ } فيك { إِلّا اعْتَرَاكَ َب ْعضُ آِلهَتِنَا بِسُوءٍ } أي :أصابتك بخبال وجنون ،فصرت تهذي بما
ل يعقل .فسبحان من طبع على قلوب الظالمين ،كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق،
بهذه المرتبة ،التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لول أن ال حكاها عنهم.
ولهذا بين هود ،عليه الصلة والسلم ،أنه واثق غاية الوثوق ،أنه ل يصيبه منهم ،ول من آلهتهم
جمِيعًا } أي:
ش َهدُوا أَنّي بَرِيءٌ ِممّا ُتشْ ِركُونَ مِنْ دُونِهِ َفكِيدُونِي َ
شهِدُ اللّ َه وَا ْ
أذى ،فقال { :إِنّي أُ ْ
اطلبوا لي الضرر كلكم ،بكل طريق تتمكنون بها مني { ثُمّ لَا تُنْظِرُونِ } أي :ل تمهلوني.
{ إِنّي َت َوكّ ْلتُ عَلَى اللّهِ } أي :اعتمدت في أمري كله على ال { رَبّي وَرَ ّبكُمْ } أي :هو خالق
الجميع ،ومدبرنا وإياكم ،وهو الذي ربانا.
{ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا ُهوَ آخِذٌ بِنَاصِيَ ِتهَا } فل تتحرك ول تسكن إل بإذنه ،فلو اجتمعتم جميعا على
اليقاع بي ،وال لم يسلطكم علي ،لم تقدروا على ذلك ،فإن سلطكم ،فلحكمة أرادها.
فب { إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :على عدل ،وقسط ،وحكمة ،وحمد في قضائه وقدره ،في
شرعه وأمره ،وفي جزائه وثوابه ،وعقابه ،ل تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم ،التي يحمد،
ويثنى عليه بها.
{ فَإِنْ َتوَّلوْا } عما دعوتكم إليه { َفقَدْ أَبَْلغْ ُت ُكمْ مَا أُرْسِ ْلتُ بِهِ إِلَ ْيكُمْ } فلم يبق عليّ تبعة من شأنكم.
{ وَيَسْ َتخِْلفُ رَبّي َق ْومًا غَيْ َركُمْ } يقومون بعبادته ،ول يشركون به شيئا { ،وَلَا َتضُرّونَهُ شَيْئًا } فإن
ضرركم ،إنما يعود عليكم ،فال ل تضره معصية العاصين .ول تنفعه طاعة المطيعين { من
حفِيظٌ } ].
شيْءٍ َ
عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } [ { إِنّ رَبّي عَلَى ُكلّ َ
جعَلَتْهُ
شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ إِلّا َ
{ وََلمّا جَاءَ َأمْرُنَا } أي :عذابنا بإرسال الريح العقيم ،التي { مَا َتذَرُ مِنْ َ
كَال ّرمِيمِ }
{ وَاتّ َبعُوا َأمْرَ ُكلّ جَبّارٍ } أي :متسلط على عباد ال بالجبروت { ،عنيد } أي :معاند ليات ال،
فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم ،واتبعوا كل غاش لهم ،يريد إهلكهم ل جرم أهلكهم ال.
{ وَأُتْ ِبعُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً } فكل وقت وجيل ،إل ولنبائهم القبيحة ،وأخبارهم الشنيعة ،ذكر
يذكرون به ،وذم يلحقهم { وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } لهم أيضا لعنة { ،أَلَا إِنّ عَادًا َكفَرُوا رَ ّب ُهمْ } أي :جحدوا
من خلقهم ورزقهم ورباهم { .أَلَا ُبعْدًا ِلعَادٍ َقوْمِ هُودٍ } أي :أبعدهم ال عن كل خير وقربهم من كل
شر.
إلى آخر قصتهم ،أي { :و } أرسلنا { إِلَى َثمُودَ } وهم :عاد الثانية ،المعروفون ،الذين يسكنون
الحجر ،ووادي القرى { ،أَخَاهُمْ } في النسب { صَاِلحًا } عبد ال ورسوله صلى ال عليه وسلم،
يدعوهم إلى عبادة ال وحده ،فب { قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ } أي :وحدوه ،وأخلصوا له الدين { مَا
َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ } ل من أهل السماء ،ول من أهل الرض.
{ ُهوَ أَ ْنشََأكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ } أي :خلقكم فيها { وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا } أي :استخلفكم فيها ،وأنعم عليكم
بالنعم الظاهرة والباطنة ،ومكنكم في الرض ،تبنون ،وتغرسون ،وتزرعون ،وتحرثون ما شئتم،
وتنتفعون بمنافعها ،وتستغلون مصالحها ،فكما أنه ل شريك له في جميع ذلك ،فل تشركوا به في
عبادته.
{ فَاسْ َتغْفِرُوهُ } مما صدر منكم ،من الكفر ،والشرك ،والمعاصي ,وأقلعوا عنها { ،ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ }
أي :ارجعوا إليه بالتوبة النصوح ،والنابة { ،إِنّ رَبّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } أي :قريب ممن دعاه دعاء
مسألة ،أو دعاء عبادة ،يجيبه بإعطائه سؤله ،وقبول عبادته ،وإثابته عليها ،أجل الثواب ،واعلم أن
قربه تعالى نوعان :عام ،وخاص ،فالقرب العام :قربه بعلمه ،من جميع الخلق ،وهو المذكور في
قوله تعالى { :وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ } والقرب الخاص :قربه من عابديه ،وسائليه،
ج ْد وَاقْتَ ِربْ }
ومحبيه ،وهو المذكور في قوله تعالى { وَاسْ ُ
فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلم ،ورغبهم في الخلص ل وحده ,ردوا عليه دعوته ،وقابلوه
أشنع المقابلة.
جوّا قَ ْبلَ هَذَا } أي :قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع ،وهذا
{ قَالُوا يَا صَالِحُ َقدْ كُ ْنتَ فِينَا مَرْ ُ
شهادة منهم ،لنبيهم صالح ،أنه ما زال معروفا بمكارم الخلق ومحاسن الشيم ،وأنه من خيار
قومه.
ولكنه ،لما جاءهم بهذا المر ،الذي ل يوافق أهواءهم الفاسدة ,قالوا هذه المقالة ،التي مضمونها،
أنك [قد] كنت كامل ،والن أخلفت ظننا فيك ،وصرت بحالة ل يرجى منك خير.
وذنبه ،ما قالوه عنه ،وهو قولهم { :أَتَ ْنهَانَا أَنْ َنعْبُدَ مَا َيعْبُدُ آبَاؤُنَا } وبزعمهم أن هذا من أعظم
القدح في صالح ،كيف قدح في عقولهم ،وعقول آبائهم الضالين ،وكيف ينهاهم عن عبادة ،من ل
ينفع ول يضر ،ول يغني شيئا من الحجار ،والشجار ونحوها.
وأمرهم بإخلص الدين ل ربهم ،الذي لم تزل نعمه عليهم تترى ,وإحسانه عليهم دائما ينزل ،الذي
ما بهم من نعمة ،إل منه ،ول يدفع عنهم السيئات إل هو.
شكّ ِممّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي :ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه ،شكا مؤثرا في
{ وَإِنّنَا َلفِي َ
قلوبنا الريب ،وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه ،لتبعوه ،وهم كذبة في ذلك ،ولهذا
بين كذبهم في قوله { :قَالَ يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ عَلَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّي } أي :برهان ويقين مني
حمَةً } أي :منّ علي برسالته ووحيه ،أي :أفأتابعكم على ما أنتم عليه ،وما
{ وَآتَانِي مِنْهُ َر ْ
تدعونني إليه؟.
{ وَيَا َقوْمِ هَ ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ َل ُكمْ آيَةً } لها شرب من البئر يوما ،ثم يشربون كلهم من ضرعها ،ولهم
شرب يوم معلوم.
{ َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّهِ } أي :ليس عليكم من مؤنتها وعلفها شيء { ،وَلَا َتمَسّوهَا بِسُوءٍ }
خ َذكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ َف َعقَرُوهَا َفقَالَ } لهم صالحَ { :تمَ ّتعُوا فِي دَا ِركُمْ َثلَاثَةَ أَيّامٍ ذَِلكَ
أي :بعقر { فَيَأْ ُ
وَعْدٌ غَيْرُ َمكْذُوبٍ } بل ل بد من وقوعه.
{ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ } ومن قوته وعزته ،أن أهلك المم الطاغية ،ونجى الرسل وأتباعهم.
{ وََأخَذَ الّذِينَ ظََلمُوا الصّ ْيحَةُ } العظيمة فقطعت قلوبهم { ،فََأصْبَحُوا فِي دِيَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ } أي:
خامدين ل حراك لهم.
{ كَأَنْ َلمْ َيغْ َنوْا فِيهَا } أي :كأنهم لما جاءهم العذاب ما تمتعوا في ديارهم ،ول أنسوا بها ول
تنعموا بها يوما من الدهر ،قد فارقهم النعيم ،وتناولهم العذاب السرمدي ،الذي ينقطع ،الذي كأنه لم
يزل.
{ أَلَا إِنّ َثمُودَ َكفَرُوا رَ ّبهُمْ } أي :جحدوه بعد أن جاءتهم الية المبصرة { ،أَلَا ُبعْدًا لِ َثمُودَ } فما
أشقاهم وأذلهم ،نستجير بال من عذاب الدنيا وخزيها.
إلى آخر القصة أي { :وََلقَدْ جَا َءتْ ُرسُلُنَا } من الملئكة الكرام ،رسولنا { إِبْرَاهِيمَ } الخليل
{ بِالْ ُبشْرَى } أي :بالبشارة بالولد ،حين أرسلهم ال لهلك قوم لوط ،وأمرهم أن يمروا على
إبراهيم ،فيبشروه بإسحاق ،فلما دخلوا عليه { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } أي :سلموا عليه ،ورد عليهم
السلم.
ففي هذا مشروعية السلم ،وأنه لم يزل من ملة إبراهيم عليه السلم ،وأن السلم قبل الكلم ،وأنه
ينبغي أن يكون الرد ،أبلغ من البتداء ,لن سلمهم بالجملة الفعلية ،الدالة على التجدد ،ورده
بالجملة السمية ،الدالة على الثبوت والستمرار ،وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم
العربية.
{ فََلمّا رَأَى أَ ْيدِ َيهُمْ لَا َتصِلُ إِلَ ْيهِ } أي :إلى تلك الضيافة { َنكِرَ ُه ْم وََأوْجَسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً } وظن أنهم
أتوه بشر ومكروه ،وذلك قبل أن يعرف أمرهم.
خفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمِ لُوطٍ } أي :إنا رسل ال ,أرسلنا ال إلى إهلك قوم لوط.
فب { قَالُوا لَا َت َ
{ قَالُوا أَ َت ْعجَبِينَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ } فإن أمره ل عجب فيه ،لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء ،فل
يستغرب على قدرته شيء ،وخصوصا فيما يدبره ويمضيه ،لهل هذا البيت المبارك.
حمَةُ اللّ ِه وَبَ َركَاتُهُ عَلَ ْيكُمْ َأ ْهلَ الْبَ ْيتِ } أي :ل تزال رحمته وإحسانه وبركاته ،وهي :الزيادة من
{ َر ْ
حمِيدٌ َمجِيدٌ } أي :حميد
خيره وإحسانه ،وحلول الخير اللهي على العبد { عَلَ ْي ُكمْ أَ ْهلَ الْبَ ْيتِ إِنّهُ َ
الصفات ،لن صفاته صفات كمال ،حميد الفعال لن أفعاله إحسان ،وجود ،وبر ،وحكمة ،وعدل،
وقسط.
مجيد ،والمجد :هو عظمة الصفات وسعتها ،فله صفات الكمال ،وله من كل صفة كمال أكملها
وأتمها وأعمها.
{ فََلمّا ذَ َهبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ال ّر ْوعُ } الذي أصابه من خيفة أضيافه { وَجَاءَتْهُ الْ ُبشْرَى } بالولد ،التفت
حينئذ ،إلى مجادلة الرسل في إهلك قوم لوط ،وقال لهم { :إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها
لننجينه وأهله إل امرأته }
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي :ذو خلق حسن وسعة صدر ،وعدم غضب ،عند جهل الجاهلين.
{ َأوّاهٌ } أي :متضرع إلى ال في جميع الوقات { ،مُنِيبٌ } أي :رجّاع إلى ال بمعرفته ومحبته،
والقبال عليه ,والعراض عمن سواه ،فلذلك كان يجادل عمن حتّم ال بهلكهم.
فقيل له { :يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْ ِرضْ عَنْ َهذَا } الجدال { إِنّهُ َقدْ جَاءَ َأمْرُ رَ ّبكَ } بهلكهم { وَإِ ّنهُمْ آتِي ِهمْ
عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } فل فائدة في جدالك.
{ وََلمّا جَا َءتْ رُسُلُنَا } أي :الملئكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا { لُوطًا سِيءَ ِبهِمْ } أي :شق
عصِيبٌ } أي :شديد حرج ،لنه علم أن قومه ل
عليه مجيئهمَ { ،وضَاقَ ِب ِهمْ ذَرْعًا َوقَالَ هَذَا َيوْمٌ َ
يتركونهم ،لنهم في صور شباب ،جرد ،مرد ,في غاية الكمال والجمال ،ولهذا وقع ما خطر بباله.
فب { وَجَا َءهُ َق ْومُهُ ُيهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي :يسرعون ويبادرون ،يريدون أضيافه بالفاحشة ،التي كانوا
يعملونها ،ولهذا قال { :ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي :الفاحشة التي ما سبقهم عليها أحد
من العالمين.
طهَرُ َلكُمْ } من أضيافي [ ،وهذا كما عرض لسليمان صلى ال عليه
{ قَالَ يَا َقوْمِ َهؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنّ َأ ْ
وسلم ،على المرأتين أن يشق الولد المختصم فيه ,لستخراج الحق ولعلمه أن بناته ممتنع منالهن،
ول حق لهم فيهن .والمقصود العظم ،دفع هذه الفاحشة الكبرى ]
{ فَا ّتقُوا اللّ َه وَلَا ُتخْزُونِ فِي ضَ ْيفِي } أي :إما أن تراعوا تقوى ال ,وإما أن تراعوني في ضيفي،
ول تخزون عندهم.
جلٌ َرشِيدٌ } فينهاكم ،ويزجركم ،وهذا دليل على مروجهم وانحللهم ،من الخير
{ أَلَ ْيسَ مِ ْنكُمْ َر ُ
والمروءة.
شدِيدٍ } كقبيلة
فاشتد قلق لوط عليه الصلة والسلم ،و { قَالَ َلوْ أَنّ لِي ِبكُمْ ُق ّوةً َأوْ آوِي إِلَى ُركْنٍ َ
مانعة ،لمنعتكم.
وهذا بحسب السباب المحسوسة ،وإل فإنه يأوي إلى أقوى الركان وهو ال ،الذي ل يقوم لقوته
أحد ،ولهذا لما بلغ المر منتهاه واشتد الكرب.
سلُ رَ ّبكَ } أي :أخبروه بحالهم ليطمئن قلبه { ،لَنْ َيصِلُوا إِلَ ْيكَ } بسوء.
{ قَالُوا } له { :إِنّا رُ ُ
ثم قال جبريل بجناحه ،فطمس أعينهم ،فانطلقوا يتوعدون لوطا بمجيء الصبح ،وأمر الملئكة
لوطا ،أن يسري بأهله { ِبقِطْعٍ مِنَ اللّ ْيلِ } أي :بجانب منه قبل الفجر بكثير ،ليتمكنوا من البعد عن
قريتهم.
حدٌ } أي :بادروا بالخروج ،وليكن همكم النجاة ول تلتفتوا إلى ما وراءكم.
{ وَلَا يَلْ َت ِفتْ مِ ْنكُمْ أَ َ
{ إِلّا امْرَأَ َتكَ إِنّهُ ُمصِي ُبهَا } من العذاب { مَا َأصَا َبهُمُ } لنها تشارك قومها في الثم ،فتدلهم على
أضياف لوط ،إذا نزل به أضياف.
{ إِنّ َموْعِدَهُمُ الصّبْحُ } فكأن لوطا ،استعجل ذلك ،فقيل له { :أَلَ ْيسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ }
شعَيْبًا }
{ { } 95 - 84وَإِلَى مَدْيَنَ َأخَاهُمْ ُ
إلى آخر القصة أي { :و ْ} أرسلنا { إِلَى مَدْيَنَ ْ} القبيلة المعروفة ،الذين يسكنون مدين في أدنى
شعَيْبًا ْ} لنهم يعرفونه ،وليتمكنوا من الخذ عنه.
فلسطينَ { ،أخَا ُهمْْ} في النسب { ُ
فب { قَالَ ْ} لهم { يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ ْ} أي :أخلصوا له العبادة ،فإنهم كانوا
يشركون به ،وكانوا -مع شركهم -يبخسون المكيال والميزان ،ولهذا نهاهم عن ذلك فقال { :وَلَا
تَ ْنقُصُوا ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ ْ} بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط.
{ إِنّي أَرَا ُكمْ بِخَيْرٍ ْ} أي :بنعمة كثيرة ،وصحة ،وكثرة أموال وبنين ,فاشكروا ال على ما أعطاكم،
ول تكفروا بنعمة ال ،فيزيلها عنكم.
{ وَإِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ ُمحِيطٍ ْ} أي :عذابا يحيط بكم ,ول يبقي منكم باقية.
{ وَيَا َقوْمِ َأ ْوفُوا ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْطِ ْ} أي :بالعدل الذي ترضون أن تعطوه { ،وَلَا تَ ْبخَسُوا
النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ ْ} أي :ل تنقصوا من أشياء الناس ،فتسرقوها بأخذها ،بنقص المكيال والميزان.
{ وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ ْ} فإن الستمرار على المعاصي ،يفسد الديان ،والعقائد ،والدين،
والدنيا ،ويهلك الحرث والنسل.
{ َبقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ َلكُمْ ْ} أي :يكفيكم ما أبقى ال لكم من الخير ،وما هو لكم ،فل تطمعوا في أمر لكم
عنه غنية ،وهو ضار لكم جدا.
شعَ ْيبُ َأصَلَا ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَنْ نَتْ ُركَ مَا َيعْ ُبدُ آبَاؤُنَا ْ} أي :قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم،
{ قَالُوا يَا ُ
والستبعاد لجابتهم له.
ومعنى كلمهم :أنه ل موجب لنهيك لنا ،إل أنك تصلي ل ,وتتعبد له ،أفإن كنت كذلك ،أفيوجب
لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ،لقول ليس عليه دليل إل أنه موافق لك ،فكيف نتبعك ،ونترك آباءنا
القدمين أولي العقول واللباب؟!
وكذلك ل يوجب قولك لنا { :أَنْ َن ْف َعلَ فِي َأ ْموَالِنَا ْ} ما قلت لنا ،من وفاء الكيل ،والميزان ،وأداء
الحقوق الواجبة فيها ،بل ل نزال نفعل فيها ما شئنا ،لنها أموالنا ،فليس لك فيها تصرف.
حلِيمُ الرّشِيدُ ْ} أي :أئنك أنت الذي ،الحلم والوقار ،لك خلق،
ولهذا قالوا في تهكمهم { :إِ ّنكَ لَأَ ْنتَ الْ َ
والرشد لك سجية ،فل يصدر عنك إل رشد ،ول تأمر إل برشد ،ول تنهى إل عن غي ،أي :ليس
المر كذلك.
وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين :بالسفه والغواية ،أي :أن المعنى :كيف تكون أنت
الحليم الرشيد ،وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟!!
وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم ،وأن المر بعكسه ,ليس كما ظنوه ،بل المر كما قالوه.
إن صلته تأمره أن ينهاهم ،عما كان يعبد آباؤهم الضالون ،وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون،
فإن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،وأي فحشاء ومنكر ،أكبر من عبادة غير ال ،ومن منع
حقوق عباد ال ،أو سرقتها بالمكاييل والموازين ،وهو عليه الصلة والسلم الحليم الرشيد.
{ قَالَ ْ} لهم شعيب { :يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي ْ} أي :يقين وطمأنينة ،في صحة ما
جئت به { ،وَرَ َزقَنِي مِنْهُ رِ ْزقًا حَسَنًا ْ} أي :أعطاني ال من أصناف المال ما أعطاني.
{ وَ ْ} أنا ل { أُرِيدُ أَنْ ُأخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَنْهُ ْ} فلست أريد أن أنهاكم عن البخس ،في المكيال،
والميزان ،وأفعله أنا ،وحتى تتطرق إليّ التهمة في ذلك .بل ما أنهاكم عن أمر إل وأنا أول مبتدر
لتركه.
ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس ،دفع هذا بقولهَ { :ومَا َت ْوفِيقِي إِلّا بِاللّهِ ْ} أي :وما يحصل لي
من التوفيق لفعل الخير ،والنفكاك عن الشر إل بال تعالى ،ل بحولي ول بقوتي.
{ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ ْ} أي :اعتمدت في أموري ،ووثقت في كفايته { ،وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ} في أداء ما أمرني به
من أنواع العبادات ،وفي [هذا] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات.
وبهذين المرين تستقيم أحوال العبد ،وهما الستعانة بربه ،والنابة إليه ،كما قال تعالى { :فَاعْ ُب ْدهُ
وَ َتوَ ّكلْ عَلَيْهِ ْ} وقال { :إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ ْ}
شقَاقِي ْ} أي :ل تحملنكم مخالفتي ومشاقتي { أَنْ ُيصِي َبكُمُ ْ} من العقوبات
{ وَيَا َقوْمِ لَا يَجْ ِرمَ ّنكُمْ ِ
ح َومَا َقوْمُ لُوطٍ مِ ْنكُمْ بِ َبعِيدٍ ْ} ل في الدار ول
{ مِ ْثلُ مَا َأصَابَ َقوْمَ نُوحٍ َأوْ َقوْمَ هُودٍ َأوْ َقوْ َم صَالِ ٍ
في الزمان.
{ وَاسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ ْ} عما اقترفتم من الذنوب { ُثمّ تُوبُوا إِلَيْهِ ْ} فيما يستقبل من أعماركم ،بالتوبة
النصوح ،والنابة إليه بطاعته ،وترك مخالفته.
{ إِنّ رَبّي َرحِي ٌم وَدُودٌ ْ} لمن تاب وأناب ،يرحمه فيغفر له ،ويتقبل توبته ويحبه ،ومعنى الودود،
من أسمائه تعالى ،أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه ،فهو "فعول" بمعنى "فاعل" وبمعنى "مفعول"
شعَ ْيبُ مَا َن ْفقَهُ كَثِيرًا ِممّا َتقُولُ ْ} أي :تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم ،فقالوا { :ما
{ قَالُوا يَا ُ
نفقه كثيرا مما تقول ْ} وذلك لبغضهم لما يقول ,ونفرتهم عنه.
ظهْرِيّا ْ} أي :نبذتم أمر ال ،وراء ظهوركم ،ولم تبالوا به ،ول خفتم منه.
{ وَاتّخَذْ ُتمُوهُ وَرَا َءكُمْ ِ
{ إِنّ رَبّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ مُحِيطٌ ْ} ل يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الرض ول في السماء،
فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء.
س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ْ} ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم ،وقد علموا
{ إِنّي عَا ِملٌ َ
ذلك حين وقع عليهم العذاب.
{ كَأَنْ َلمْ َيغْ َنوْا فِيهَا ْ} أي :كأنهم ما أقاموا في ديارهم ،ول تنعموا فيها حين أتاهم العذاب.
{ أَلَا ُبعْدًا ِلمَدْيَنَ ْ} إذ أهلكها ال وأخزاها { َكمَا َبعِ َدتْ َثمُودُ ْ} أي :قد اشتركت هاتان القبيلتان في
السحق والبعد والهلك.
وشعيب عليه السلم كان يسمى خطيب النبياء ،لحسن مراجعته لقومه ،وفي قصته من الفوائد
والعبر ،شيء كثير.
منها :أن الكفار ،كما يعاقبون ،ويخاطبون ،بأصل السلم ,فكذلك بشرائعه وفروعه ،لن شعيبا
دعا قومه إلى التوحيد ،وإلى إيفاء المكيال والميزان ،وجعل الوعيد ،مرتبا على مجموع ذلك.
ومنها :أن نقص المكاييل والموازين ،من كبائر الذنوب ,وتخشى العقوبة العاجلة ،على من تعاطى
ذلك ،وأن ذلك من سرقة أموال الناس ،وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين ،موجبة للوعيد،
فسرقتهم -على وجه القهر والغلبة -من باب أولى وأحرى.
ومنها :أن الجزاء من جنس العمل ،فمن بخس أموال الناس ،يريد زيادة ماله ،عوقب بنقيض ذلك,
وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله { :إِنّي أَرَاكُمْ ِبخَيْرٍ ْ} أي :فل تسببوا إلى
زواله بفعلكم.
ومنها :أن على العبد أن يقنع بما آتاه ال ،ويقنع بالحلل عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن
المكاسب المحرمة ،وأن ذلك خير له لقولهَ { :بقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ َلكُمْ ْ} ففي ذلك ،من البركة ،وزيادة
الرزق ما ليس في التكالب على السباب المحرمة من المحق ،وضد البركة.
ومنها :أن ذلك ،من لوازم اليمان وآثاره ،فإنه رتب العمل به ,على وجود اليمان ،فدل على أنه
إذا لم يوجد العمل ،فاليمان ناقص أو معدوم.
ومنها :أن الصلة ،لم تزل مشروعة للنبياء المتقدمين ،وأنها من أفضل العمال ،حتى إنه متقرر
عند الكفار فضلها ،وتقديمها على سائر العمال ,وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ،وهي ميزان
لليمان وشرائعه ،فبإقامتها تكمل أحوال العبد ،وبعدم إقامتها ،تختل أحواله الدينية.
ومنها :أن المال الذي يرزقه ال النسان -وإن كان ال قد خوله إياه -فليس له أن يصنع فيه ما
يشاء ،فإنه أمانة عنده ،عليه أن يقيم حق ال فيه بأداء ما فيه من الحقوق ،والمتناع من المكاسب
التي حرمها ال ورسوله ،ل كما يزعمه الكفار ،ومن أشبههم ،أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما
يشاءون ويختارون ،سواء وافق حكم ال ،أو خالفه.
ومنها :أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به ،وأول منته عما
ينهى غيره عنه ،كما قال شعيب عليه السلمَ { :ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَاِلفَكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَا ُكمْ عَنْهُ ْ} ولقوله
تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا لَا َت ْفعَلُونَ * كبر مقتا عند ال أن تقولوا ما ل تفعلون ْ}
ومنها :أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم ،إرادة الصلح بحسب القدرة والمكان ،فيأتون بتحصيل
المصالح وتكميلها ،أو بتحصيل ما يقدر عليه منها ،وبدفع المفاسد وتقليلها ،ويراعون المصالح
العامة على المصالح الخاصة.
وحقيقة المصلحة ،هي التي تصلح بها أحوال العباد ،وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية.
ومنها :أن من قام بما يقدر عليه من الصلح ،لم يكن ملوما ول مذموما في عدم فعله ،ما ل يقدر
عليه ،فعلى العبد أن يقيم من الصلح في نفسه ،وفي غيره ،ما يقدر عليه.
ومنها :أن العبد ينبغي له أن ل يتكل على نفسه طرفة عين ،بل ل يزال مستعينا بربه ،متوكل
عليه ،سائل له التوفيق ،وإذا حصل له شيء من التوفيق ،فلينسبه لموليه ومسديه ،ول يعجب
ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ}
بنفسه لقولهَ { :ومَا َت ْوفِيقِي إِلّا بِاللّهِ عَلَيْهِ َت َوكّ ْل ُ
ومنها :الترهيب بأخذات المم ،وما جرى عليهم ،وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع
العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر.
كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم ال به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى.
ومنها :أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ،ويعفى عنه فإن ال تعالى يحبه ويوده ،ول
عبرة بقول من يقول" :إن التائب إذا تاب ،فحسبه أن يغفر له ,ويعود عليه العفو ،وأما عود الود
والحب فإنه ل يعود" فإن ال قال { :وَاسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَ ْيهِ إِنّ رَبّي رَحِي ٌم وَدُودٌ ْ}
ومنها :أن ال يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ،قد يعلمون بعضها ,وقد ل يعلمون شيئا منها،
وربما دفع عنهم ،بسبب قبيلتهم ،أو أهل وطنهم الكفار ،كما دفع ال عن شعيب رجم قومه بسبب
رهطه ،وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن السلم والمسلمين ،ل بأس بالسعي فيها ،بل
ربما تعين ذلك ،لن الصلح مطلوب على حسب القدرة والمكان.
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولية الكفار ،وعملوا على جعل الولية جمهورية يتمكن
فيها الفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ،لكان أولى ،من استسلمهم لدولة تقضي على
حقوقهم الدينية والدنيوية ،وتحرص على إبادتها ،وجعلهم عمَلَةً وخَ َدمًا لهم.
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين ،وهم الحكام ،فهو المتعين ،ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة،
فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة ،وال أعلم.
{ }ْ 101 - 96وقوله تعالى { :وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ْ}
إلى آخر القصة يقول تعالى { :وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى ْ} بن عمران { بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما
جاء به ،كالعصا ،واليد ونحوهما ،من اليات التي أجراها ال على يدي موسى عليه السلم.
{ وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ ْ} أي :حجة ظاهرة بينة ،ظهرت ظهور الشمس.
ن َومَلَئِهِ ْ} أي :أشراف قومه لنهم المتبوعون ،وغيرهم تبع لهم ،فلم ينقادوا لما مع
عوْ َ
{ إِلَى فِرْ َ
موسى من اليات ،التي أراهم إياها ،كما تقدم بسطها في سورة العرف ،ولكنهم { فَاتّ َبعُوا َأمْرَ
عوْنَ بِرَشِيدٍ ْ} بل هو ضال غاو ،ل يأمر إل بما هو ضرر محض ،ل جرم -
عوْنَ َومَا َأمْرُ فِرْ َ
فِرْ َ
لما اتبعه قومه -أرداهم وأهلكهم.
{ َيقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَ ُهمُ النّا َر وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ * وَأُتْ ِبعُوا فِي هَ ِذهِ ْ} أي :في الدنيا
{ َلعْ َن ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ْ} أي :يلعنهم ال وملئكته ,والناس أجمعون في الدنيا والخرة.
{ بِئْسَ ال ّرفْدُ ا ْلمَ ْرفُودُ ْ} أي :بئس ما اجتمع لهم ،وترادف عليهم ,من عذاب ال ،ولعنة الدنيا
والخرة.
ولما ذكر قصص هؤلء المم مع رسلهم ،قال ال تعالى لرسوله { :ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلقُرَى َن ُقصّهُ
عَلَ ْيكَ ْ} لتنذر به ،ويكون آية على رسالتك ،وموعظة وذكرى للمؤمنين.
حصِيدٌ ْ} قد تهدمت
{ مِ ْنهَا قَائِمٌ ْ} لم يتلف ،بل بقي من آثار ديارهم ،ما يدل عليهم { ،وَ ْ} منها { َ
مساكنهم ،واضمحلت منازلهم ،فلم يبق لها أثر.
سهُمْ ْ} بالشرك والكفر ،والعناد.
ظَلمْنَاهُمْ ْ} بأخذهم بأنواع العقوبات { وََلكِنْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ
{ َومَا َ
{ َومَا زَادُو ُهمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ْ} أي :خسار ودمار ،بالضد مما خطر ببالهم.
شدِيدٌ ْ}
خذُ رَ ّبكَ إِذَا أَخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ
{ َ { }ْ 102وكَذَِلكَ أَ ْ
أي :يقصمهم بالعذاب ويبيدهم ،ول ينفعهم ،ما كانوا يدعون ,من دون ال من شيء.
{ َيوْمَ يَ ْأتِ ْ} ذلك اليوم ،ويجتمع الخلق { لَا َتكَلّمُ َنفْسٌ إِلّا بِِإذْنِهِ ْ} حتى النبياء ،والملئكة الكرام ،ل
سعِيدٌ ْ} فالشقياء ،هم الذين كفروا بال ،وكذبوا
ش ِقيّ وَ َ
يشفعون إل بإذنهَ { ،فمِ ْنهُمْ ْ} أي :الخلق { َ
رسله ،وعصوا أمره ،والسعداء ،هم :المؤمنون المتقون.
شقُوا ْ} أي :حصلت لهم الشقاوة ،والخزي والفضيحةَ { ،ففِي النّارِ ْ}
وأما جزاؤهم { فََأمّا الّذِينَ َ
شهِيقٌ ْ} وهو
منغمسون في عذابها ،مشتد عليهم عقابهاَ { ،لهُمْ فِيهَا ْ} من شدة ما هم فيه { َزفِي ٌر وَ َ
أشنع الصوات وأقبحها.
{ إِنّ رَ ّبكَ َفعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ ْ} فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته فعله ،تبارك وتعالى ،ل يرده أحد
عن مراده.
سعِدُوا ْ} أي :حصلت لهم السعادة ،والفلح ،والفوز { َففِي الْجَنّةِ خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ
{ وََأمّا الّذِينَ ُ
جذُوذٍ ْ} أي :ما أعطاهم
سمَاوَاتُ وَالْأَ ْرضُ ِإلّا مَا شَاءَ رَ ّبكَ ْ} ثم أكد ذلك بقوله { :عَطَاءً غَيْرَ مَ ْ
ال ّ
ال من النعيم المقيم ،واللذة العالية ،فإنه دائم مستمر ،غير منقطع بوقت من الوقات ،نسأل ال
الكريم من فضله.
يقول ال تعالى ،لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم { :فَلَا َتكُ فِي مِرْيَةٍ ِممّا َيعْ ُبدُ َهؤُلَاءِ ْ}
المشركون ،أي :ل تشك في حالهم ،وأن ما هم عليه باطل ,فليس لهم عليه دليل شرعي ول عقلي،
وإنما دليلهم وشبهتهم ،أنهم { مَا َيعْبُدُونَ إِلّا َكمَا َيعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَ ْبلُ ْ}
ومن المعلوم أن هذا ،ليس بشبهة ،فضل عن أن يكون دليل ،لن أقوال ما عدا النبياء ،يحتج لها
ل يحتج بها ،خصوصا أمثال هؤلء الضالين ،الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم ,في أصول الدين،
فإن أقوالهم ،وإن اتفقوا عليها ،فإنها خطأ وضلل.
{ وَإِنّا َل ُم َوفّوهُمْ َنصِي َبهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ْ} أي :ل بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا ،مما كتب لهم ،وإن
كثر ذلك النصيب ،أو راق في عينك ,فإنه ل يدل على صلح حالهم ،فإن ال يعطي الدنيا من
يحب ،ومن ل يحب ،ول يعطي اليمان والدين الصحيح ،إل من يحب .والحاصل أنه ل يغتر
باتفاق الضالين ،على قول الضالين من آبائهم القدمين ،ول على ما خولهم ال ،وآتاهم من الدنيا.
{ وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ ْ} بتأخيرهم ،وعدم معاجلتهم بالعذاب { َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ ْ} بإحلل العقوبة
بالظالم ،ولكنه تعالى ،اقتضت حكمته ،أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة ،وبقوا في شك منه
مريب.
وإذا كانت هذه حالهم ،مع كتابهم ،فمع القرآن الذي أوحاه ال إليك ،غير مستغرب ،من طائفة
اليهود ،أن ل يؤمنوا به ،وأن يكونوا في شك منه مريب.
{ إِنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ْ} من خير وشر { خَبِيرٌ ْ} فل يخفى عليه شيء من أعمالهم ،دقيقها وجليلها.
ثم لما أخبر بعدم استقامتهم ،التي أوجبت اختلفهم وافتراقهم ,أمر نبيه محمدا صلى ال عليه
وسلم ،ومن معه ،من المؤمنين ،أن يستقيموا كما أمروا ،فيسلكوا ما شرعه ال من الشرائع،
ويعتقدوا ما أخبر ال به من العقائد الصحيحة ،ول يزيغوا عن ذلك يمنة ول يسرة ،ويدوموا على
ذلك ،ول يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده ال لهم من الستقامة.
وقوله { :إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ْ} أي :ل يخفى عليه من أعمالكم شيء ,وسيجازيكم عليها ،ففيه
ترغيب لسلوك الستقامة ،وترهيب من ضدها ،ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الستقامة
ظَلمُوا ْ} فإنكم ،إذا ملتم إليهم ،ووافقتموهم على
فقال { :وَلَا تَ ْركَنُوا ْ} أي :ل تميلوا { إِلَى الّذِينَ َ
سكُمُ النّارُ ْ} إن فعلتم ذلك { َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ
ظلمهم ،أو رضيتم ما هم عليه من الظلم { فَ َتمَ ّ
مِنْ َأوْلِيَاءَ ْ} يمنعونكم من عذاب ال ،ول يحصلون لكم شيئا ،من ثواب ال.
{ ُثمّ لَا تُ ْنصَرُونَ ْ} أي :ل يدفع عنكم العذاب إذا مسكم ،ففي هذه الية :التحذير من الركون إلى
كل ظالم ،والمراد بالركون ،الميل والنضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك ،والرضا بما هو عليه
من الظلم.
وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة ،فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل ال العافية من
الظلم.
{ { }ْ 115 - 114وََأقِمِ الصّلَاةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَا ِر وَزُلَفًا مِنَ اللّ ْيلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَِلكَ
ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ ْ}
يأمر تعالى بإقامة الصلة كاملة { طَ َر َفيِ ال ّنهَارِ ْ} أي :أوله وآخره ،ويدخل في هذا ،صلة الفجر،
وصلتا الظهر والعصر { ،وَزَُلفًا مِنَ اللّ ْيلِ ْ} ويدخل في ذلك ،صلة المغرب والعشاء ،ويتناول
ذلك قيام الليل ،فإنها مما تزلف العبد ،وتقربه إلى ال تعالى.
حسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ْ} أي :فهذه الصلوات الخمس ،وما ألحق بها من التطوعات من أكبر
{ إِنّ الْ َ
الحسنات ،وهي :مع أنها حسنات تقرب إلى ال ،وتوجب الثواب ،فإنها تذهب السيئات وتمحوها،
والمراد بذلك :الصغائر ،كما قيدتها الحاديث الصحيحة عن النبي صلى ال عليه وسلم ،مثل
قوله" :الصلوات الخمس ،والجمعة إلى الجمعة ،ورمضان إلى رمضان ،مكفرات لما بينهن ما
اجتنبت الكبائر" ،بل كما قيدتها الية التي في سورة النساء ،وهي قوله تعالى { :إِنْ َتجْتَنِبُوا كَبَائِرَ
مَا تُ ْن َهوْنَ عَ ْنهُ ُن َكفّرْ عَ ْن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ وَنُدْخِ ْلكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ْ}
ذلك لعل الشارة ،لكل ما تقدم ،من لزوم الستقامة على الصراط المستقيم ،وعدم مجاوزته
وتعديه ،وعدم الركون إلى الذين ظلموا ،والمر بإقامة الصلة ،وبيان أن الحسنات يذهبن
السيئات ،الجميع { ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ ْ} يفهمون بها ما أمرهم ال به ،ونهاهم عنه ،ويمتثلون لتلك
الوامر الحسنة المثمرة للخيرات ،الدافعة للشرور والسيئات ،ولكن تلك المور ،تحتاج إلى
مجاهدة النفس ،والصبر عليها ،ولهذا قال:
{ وَاصْبِرْ ْ} أي :احبس نفسك على طاعة ال ،وعن معصيته ،وإلزامها لذلك ،واستمر ول تضجر.
{ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمحْسِنِينَ ْ} بل يتقبل ال عنهم أحسن الذي عملوا ،ويجزيهم أجرهم،
بأحسن ما كانوا يعملون ،وفي هذا ترغيب عظيم ،للزوم الصبر ،بتشويق النفس الضعيفة إلى
ثواب ال ،كلما ونت وفترت.
{ { }ْ 116فََلوْلَا كَانَ مِنَ ا ْلقُرُونِ مِنْ قَبِْلكُمْ أُولُو َبقِيّةٍ يَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلفَسَادِ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا قَلِيلًا ِممّنْ
أَنْجَيْنَا مِ ْن ُه ْم وَاتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُوا مَا أُتْ ِرفُوا فِي ِه َوكَانُوا مُجْ ِرمِينَ ْ}
لما ذكر تعالى ،إهلك المم المكذبة للرسل ،وأن أكثرهم منحرفون ،حتى أهل الكتب اللهية،
وذلك كله يقضي على الديان بالذهاب والضمحلل ،ذكر أنه لول أنه جعل في القرون الماضية
بقايا ،من أهل الخير يدعون إلى الهدى ،وينهون عن الفساد والردى ،فحصل من نفعهم ما بقيت به
الديان ،ولكنهم قليلون جدا.
وغاية المر ،أنهم نجوا ،باتباعهم المرسلين ،وقيامهم بما قاموا به من دينهم ،وبكون حجة ال
أجراها على أيديهم ،ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة
{ و ْ} لكن { اتّ َبعَ الّذِينَ ظََلمُوا مَا أُتْ ِرفُوا فِيهِ ْ} أي :اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف ،ولم يبغوا
به بدل.
{ َوكَانُوا مُجْ ِرمِينَ ْ} أي :ظالمين ،باتباعهم ما أترفوا فيه ،فلذلك حق عليهم العقاب ،واستأصلهم
العذاب .وفي هذا ،حث لهذه المة ،أن يكون فيهم بقايا مصلحون ،لما أفسد الناس ،قائمون بدين
ال ،يدعون من ضل إلى الهدى ،ويصبرون منهم على الذى ،ويبصرونهم من العمى.
وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون ،وصاحبها يكون ,إماما في الدين ،إذا جعل عمله
خالصا لرب العالمين.
أي :وما كان ال ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم ،والحال أنهم مصلحون ,أي :مقيمون على
الصلح ،مستمرون عليه ،فما كان ال ليهلكهم ،إل إذا ظلموا ،وقامت عليهم حجة ال.
ويحتمل ،أن المعنى :وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق ،إذا رجعوا وأصلحوا عملهم ،فإن
ال يعفو عنهم ،ويمحو ما تقدم من ظلمهم.
حمَ
ج َعلَ النّاسَ ُأمّةً وَاحِ َد ًة وَلَا يَزَالُونَ ُمخْتَِلفِينَ * إِلّا مَنْ رَ ِ
{ { }ْ 119 - 118وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لَ َ
ج َمعِينَ ْ}
جهَنّمَ مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ أَ ْ
خَلقَهُ ْم وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لََأمْلَأَنّ َ
ك وَلِذَِلكَ َ
رَ ّب َ
يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين السلمي ،فإن مشيئته غير
قاصرة ،ول يمتنع عليه شيء ،ولكنه اقتضت حكمته ،أن ل يزالوا مختلفين ،مخالفين للصراط
المستقيم ,متبعين للسبل الموصلة إلى النار ،كل يرى الحق ،فيما قاله ،والضلل في قول غيره.
حمَ رَ ّبكَ ْ} فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به ،والتفاق عليه ،فهؤلء سبقت لهم ،سابقة
{ إِلّا مَنْ رَ ِ
السعادة ،وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق اللهي.
وأما من عداهم ،فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله { :وَلِذَِلكَ خََلقَهُمْ ْ} أي :اقتضت حكمته ،أنه خلقهم ،ليكون منهم السعداء والشقياء،
والمتفقون والمختلفون ،والفريق الذين هدى ال ,والفريق الذين حقت عليهم الضللة ،ليتبين للعباد،
عدله وحكمته ،وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر ،ولتقوم سوق الجهاد
والعبادات التي ل تتم ول تستقيم إل بالمتحان والبتلء.
حقّ
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ وَجَا َءكَ فِي هَ ِذهِ الْ َ
{ َ { }ْ 123 - 120وكُلّا َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّا عَامِلُونَ * وَانْ َتظِرُوا
ظ ٌة وَ ِذكْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * َوقُلْ لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ا ْ
َومَوْعِ َ
ض وَإِلَيْهِ يُ ْرجَعُ الَْأمْرُ كُلّهُ فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْي ِه َومَا رَ ّبكَ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
إِنّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
عمّا َت ْعمَلُونَ ْ}
ِبغَا ِفلٍ َ
لما ذكر في هذه السورة من أخبار النبياء ،ما ذكر ،ذكر الحكمة في ذكر ذلك ،فقالَ { :وكُلّا َن ُقصّ
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ ْ} أي :قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم
عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
من الرسل ،فإن النفوس تأنس بالقتداء ،وتنشط على العمال ،وتريد المنافسة لغيرها ,ويتأيد الحق
بذكر شواهده ،وكثرة من قام به.
{ َو َموْعِظَ ٌة َو ِذكْرَى ِل ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} أي :يتعظون به ،فيرتدعون عن المور المكروهة ،ويتذكرون
المور المحبوبة ل فيفعلونها.
وأما من ليس من أهل اليمان ،فل تنفعهم المواعظ ،وأنواع التذكير ،ولهذا قالَ { :و ُقلْ لِلّذِينَ لَا
عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ ْ} أي :حالتكم التي أنتم عليها { إِنّا
ُي ْؤمِنُونَ ْ} بعد ما قامت عليهم اليات { ،ا ْ
عَامِلُونَ ْ} على ما كنا عليه.
وقد فصل ال بين الفريقين ،وأرى عباده ،نصره لعباده المؤمنين ,وقمعه لعداء ال المكذبين.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ْ} أي :ما غاب فيهما من الخفايا ،والمور الغيبية.
{ وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الَْأمْرُ كُلّهُ ْ} من العمال والعمال ،فيميز الخبيث من الطيب { فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْيهِ ْ}
أي :قم بعبادته ،وهي جميع ما أمر ال به مما تقدر عليه ،وتوكل على ال في ذلك.
عمّا َت ْعمَلُونَ ْ} من الخير والشر ،بل قد أحاط علمه بذلك ،وجرى به قلمه،
{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
وسيجري عليه حكمه ،وجزاؤه.
تم تفسير سورة هود ،والحمد ل رب العالمين ،وصلى ال على محمد وسلم.
[ وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت في 21من شهر ربيع الخر ] 1347
+++المجلد الرابع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم الرب المنان لجامعه الفقير إلى ال:
عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر ال له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين+++.
حمَنِ الرّحِيمِ الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا َلعَّلكُمْ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { }ْ 3 - 1بِ ْ
ن وَإِنْ كُ ْنتَ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ
صصِ ِبمَا َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ هَذَا ا ْلقُرْآ َ
َت ْعقِلُونَ * َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ َأحْسَنَ ا ْلقَ َ
ا ْلغَافِلِينَ ْ}
يخبر تعالى أن آيات القرآن هي { آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ ْ} أي :البين الواضحة ألفاظه ومعانيه.
ومن بيانه وإيضاحه :أنه أنزله باللسان العربي ،أشرف اللسنة ،وأبينها[ ،المبين لكل ما يحتاجه
الناس من الحقائق النافعة ] وكل هذا اليضاح والتبيين { َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ ْ} أي :لتعقلوا حدوده
وأصوله وفروعه ،وأوامره ونواهيه.
فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها ،أثمر ذلك عمل الجوارح والنقياد إليه ،و
{ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ ْ} أي :تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية ،على أذهانكم .،فتنتقلون من
حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل.
صصِ ْ} وذلك لصدقها وسلسة عبارتها ورونق معانيهاِ { ،بمَا َأوْحَيْنَا
{ َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْلقَ َ
إِلَ ْيكَ َهذَا ا ْلقُرْآنَ ْ} أي :بما اشتمل عليه هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ،وفضلناك به على سائر
النبياء ،وذاك محض منّة من ال وإحسان.
{ وَإِنْ كُ ْنتَ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ ْ} أي :ما كنت تدري ما الكتاب ول اليمان قبل أن يوحي ال
إليك ،ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.
ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص ،وأنها أحسن القصص على الطلق ،فل يوجد
من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن ،ذكر قصه يوسف ،وأبيه وإخوته ،القصة
العجيبة الحسنة فقال:
واعلم أن ال ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب ،ثم ذكر هذه القصة
وبسطها ،وذكر ما جرى فيها ،فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة ،فمن أراد أن يكملها أو
يحسنها بما يذكر في السرائيليات التي ل يعرف لها سند ول ناقل وأغلبها كذب ،فهو مستدرك
على ال ،ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص ،وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا ،فإن تضاعيف
هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير ،من الكاذيب والمور الشنيعة المناقضة لما قصه ال
تعالى بشيء كثير.
فعلى العبد أن يفهم عن ال ما قصه ،ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى ال عليه وسلم
ينقل.
وهكذا إذا أراد ال أمرا من المور العظام قدم بين يديه مقدمة ،توطئة له ،وتسهيل لمره،
واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق ،لطفا بعبده ،وإحسانا إليه ،فأوّلها يعقوب بأن الشمس:
أمه ،والقمر :أبوه ،والكواكب :إخوته ،وأنه ستنتقل به الحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون
له ،ويسجدون له إكراما وإعظاما ،وأن ذلك ل يكون إل بأسباب تتقدمه من اجتباء ال له،
واصطفائه له ،وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل ،والتمكين في الرض.
وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب ،الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها ،ولهذا قال:
{ َوكَذَِلكَ َيجْتَبِيكَ رَ ّبكَ ْ} أي :يصطفيك ويختارك بما يمنّ به عليك من الوصاف الجليلة والمناقب
الجميلة { .،وَ ُيعَّل ُمكَ مِنْ تَ ْأوِيلِ الَْأحَادِيثِ ْ} أي :من تعبير الرؤيا ،وبيان ما تئول إليه الحاديث
الصادقة ،كالكتب السماوية ونحوها { ،وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ ْ} في الدنيا والخرة ،بأن يؤتيك في الدنيا
سحَاقَ ْ} حيث أنعم ال
حسنة ،وفي الخرة حسنةَ { ،كمَا أَ َت ّمهَا عَلَى أَ َبوَ ْيكَ مِنْ قَ ْبلُ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
عليهما ،بنعم عظيمة واسعة ،دينية ،ودنيوية.
حكِيمٌ ْ} أي :علمه محيط بالشياء ،وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر
{ إِنّ رَ ّبكَ عَلِيمٌ َ
وغيره ،فيعطي كل ما تقتضيه حكمته وحمده ،فإنه حكيم يضع الشياء مواضعها ،وينزلها
منازلها.
ع ُدوّ مُبِينٌ ْ} ل يفتر عنه ليل ول نهارا ،ول سرا ول جهارا ،فالبعد عن
{ إِنّ الشّ ْيطَانَ لِلْإِنْسَانِ َ
السباب التي يتسلط بها على العبد أولى ،فامتثل يوسف أمر أبيه ،ولم يخبر إخوته بذلك ،بل كتمها
عنهم.
سفَ َأوِ اطْرَحُوهُ أَ ْرضًا ْ} أي :غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة ل يتمكن من رؤيته فيها.
{ اقْتُلُوا يُو ُ
فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيل لفعله ،وإزالة لشناعته ،وتنشيطا من
بعضهم لبعض.
وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف ،وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية ،فإن بعض الشر أهون من
بعض ،والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل. ،فلما اتفقوا على هذا الرأي.
ف وَإِنّا لَهُ
س َ
أي :قال إخوة يوسف ،متوصلين إلى مقصدهم لبيهم { :يَا أَبَانَا مَا َلكَ لَا تَ ْأمَنّا عَلَى يُو ُ
لَنَاصِحُونَ ْ} أي :لي شيء يدخلك الخوف منا على يوسف ،من غير سبب ول موجب؟ { وَ ْ}
الحال { إِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ْ} أي :مشفقون عليه ،نود له ما نود لنفسنا ،وهذا يدل على أن يعقوب
عليه السلم ل يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها.
فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم ،ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه
الذي يحبه أبوه له ،ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم ،فقالوا:
غدًا يَرْتَ ْع وَيَ ْل َعبْ ْ} أي :يتنزه في البرية ويستأنس { .وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ ْ} أي:
{ أَ ْرسِلْهُ َمعَنَا َ
سنراعيه ،ونحفظه من أذى يريده.
فأجابهم بقوله { :إِنّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ َتذْهَبُوا بِهِ ْ} أي :مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق علي ،لنني ل
أقدر على فراقه ،ولو مدة يسيرة ،فهذا مانع من إرساله { وَ ْ} مانع ثان ،وهو أني { أَخَافُ أَنْ
يَ ْأكُلَهُ الذّ ْئبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ْ} أي :في حال غفلتكم عنه ،لنه صغير ل يمتنع من الذئب.
عصْبَةٌ ْ} أي :جماعة ،حريصون على حفظه { ،إِنّا إِذًا َلخَاسِرُونَ ْ}
{ قَالُوا لَئِنْ َأكَلَهُ الذّ ْئبُ وَ َنحْنُ ُ
أي :ل خير فينا ول نفع يرجى منا إن أكله الذئب وغلبنا عليه.
فلما مهدوا لبيهم السباب الداعية لرساله ،وعدم الموانع ،سمح حينئذ بإرساله معهم لجل أنسه.
أي :لما ذهب إخوة يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه ،وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب،
كما قال قائلهم السابق ذكره ،وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه ،فنفذوا فيه قدرتهم ،وألقوه في
الجب ،ثم إن ال لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال الحرجة { ،لَتُنَبّئَ ّنهُمْ بَِأمْرِ ِهمْ َهذَا وَهُمْ
شعُرُونَ } أي :سيكون منك معاتبة لهم ،وإخبار عن أمرهم هذا ،وهم ل يشعرون بذلك المر،
لَا يَ ْ
ففيه بشارة له ،بأنه سينجو مما وقع فيه ،وأن ال سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين
له في الرض.
{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَ ْبكُونَ } ليكون إتيانهم متأخرا عن عادتهم ،وبكاؤهم دليل لهم ،وقرينة على
صدقهم.
فقالوا -متعذرين بعذر كاذب { -يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا َنسْتَبِقُ } إما على القدام ،أو بالرمي
سفَ عِ ْندَ مَتَاعِنَا } توفيرا له وراحة { .فََأكَلَهُ الذّ ْئبُ } في حال غيبتنا عنه
والنضال { ،وَتَ َركْنَا يُو ُ
في استباقنا { َومَا أَ ْنتَ ِب ُم ْؤمِنٍ لَنَا وََلوْ كُنّا صَا ِدقِينَ } أي :تعذرنا بهذا العذر ،والظاهر أنك ل
تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف ،والرقة الشديدة عليه.
ولكن عدم تصديقك إيانا ،ل يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي ،وكل هذا ،تأكيد لعذرهم { .وَ } مما
أكدوا به قولهم ،أنهم { جَاءُوا عَلَى َقمِيصِهِ بِ َدمٍ كَ ِذبٍ } زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب ،فلم
سكُمْ َأمْرًا } أي :زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا
سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ
يصدقهم أبوهم بذلك ،و { قَالَ } { َبلْ َ
في التفريق بيني وبينه ،لنه رأى من القرائن والحوال [ ومن رؤيا يوسف التي قصّها عليه ] ما
دلّه على ما قال.
{ { } 20 - 19وَجَا َءتْ سَيّا َرةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَ ُهمْ فَأَدْلَى دَ ْل َوهُ قَالَ يَا ُبشْرَى هَذَا غُلَا ٌم وَأَسَرّوهُ
ِبضَاعَ ًة وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ * وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ بَخْسٍ دَرَا ِهمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُوا فِيهِ مِنَ الزّا ِهدِينَ }
أي :مكث يوسف في الجب ما مكث ،حتى { جَا َءتْ سَيّا َرةٌ } أي :قافلة تريد مصر { ،فَأَ ْرسَلُوا
وَارِدَ ُهمْ } أي :فرطهم ومقدمهم ،الذي يعس لهم المياه ،ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو
ذلك { ،فَأَدْلَى } ذلك الوارد { دَ ْل َوهُ } فتعلق فيه يوسف عليه السلم وخرج { .قَالَ يَا ُبشْرَى هَذَا
غُلَامٌ } أي :استبشر وقال :هذا غلم نفيس { ،وَأَسَرّوهُ ِبضَاعَةً } وكان إخوته قريبا منه ،فاشتراه
السيارة منهم { ،بِ َثمَنٍ بَخْسٍ } أي :قليل جدا ،فسره بقوله { :دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُوا فِيهِ مِنَ
الزّا ِهدِينَ }
لنه لم يكن لهم قصد إل تغييبه وإبعاده عن أبيه ،ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه ،والمعنى في
هذا :أن السيارة لما وجدوه ،عزموا أن يُسِرّوا أمره ،ويجعلوه من جملة بضائعهم التي معهم ،حتى
جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم ،فاشتروه منهم بذلك الثمن ،واستوثقوا منهم فيه لئل
يهرب ،وال أعلم.
{ َ { } 21وقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ ِمصْرَ لِامْرَأَتِهِ َأكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ عَسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا َوكَذَِلكَ
ض وَلِ ُنعَّلمَهُ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَى َأمْ ِر ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا
سفَ فِي الْأَ ْر ِ
َمكّنّا لِيُو ُ
َيعَْلمُونَ }
أي :لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها ،فاشتراه عزيز مصر ،فلما اشتراه ،أعجب به،
عسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا } أي :إما أن ينفعنا كنفع
ووصى عليه امرأته وقالَ { :أكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ َ
العبيد بأنواع الخدم ،وإما أن نستمتع فيه استمتاعنا بأولدنا ،ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد،
سفَ فِي الْأَ ْرضِ } أي :كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر ،ويكرمه هذا
{ َوكَذَِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
الكرام ،جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الرض من هذا الطريق.
{ وَلِ ُنعَّلمَهُ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ } إذا بقي ل شغل له ول همّ له سوى العلم صار ذلك من أسباب
تعلمه علما كثيرا ،من علم الحكام ،وعلم التعبير ،وغير ذلك { .وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَى َأمْ ِرهِ } أي :أمره
تعالى نافذ ،ل يبطله مبطل ،ول يغلبه مغالب { ،وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } فلذلك يجري منهم
ويصدر ما يصدر ،في مغالبة أحكام ال القدرية ،وهم أعجز وأضعف من ذلك.
حسِنِينَ }
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
ش ّدهُ آتَيْنَاهُ ُ
{ { } 22وََلمّا بََلغَ أَ ُ
أي { :وََلمّا بَلَغَ } يوسف { َأشُ ّدهُ } أي :كمال قوته المعنوية والحسية ،وصلح لن يتحمل الحمال
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا } أي :جعلناه نبيا رسول ،وعالما ربانياَ { ،وكَذَِلكَ
الثقيلة ،من النبوة والرسالة { .آتَيْنَاهُ ُ
نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ } في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها ،وإلى عباد ال ببذل النفع والحسان
إليهم ،نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم علما نافعا.
ودل هذا ،على أن يوسف وفّى مقام الحسان ،فأعطاه ال الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.
{ { } 29 - 23وَرَاوَدَتْهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَنْ َنفْسِهِ وَغَلّ َقتِ الْأَ ْبوَابَ َوقَاَلتْ هَ ْيتَ َلكَ قَالَ َمعَاذَ
حسَنَ مَ ْثوَايَ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ * وَلَقَدْ َه ّمتْ ِب ِه وَهَمّ ِبهَا َلوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ
اللّهِ إِنّهُ رَبّي أَ ْ
ب َوقَ ّدتْ َقمِيصَهُ مِنْ
كَذَِلكَ لِ َنصْ ِرفَ عَنْهُ السّو َء وَا ْلفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْلمُخَْلصِينَ * وَاسْتَ َبقَا الْبَا َ
دُبُ ٍر وَأَ ْلفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَاَلتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهِْلكَ سُوءًا إِلّا أَنْ يُسْجَنَ َأوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ
ت وَ ُهوَ مِنَ
ش ِهدَ شَا ِهدٌ مِنْ أَهِْلهَا إِنْ كَانَ َقمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُ ُبلٍ َفصَ َد َق ْ
ِهيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ َنفْسِي وَ َ
ا ْلكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ َقمِيصُهُ ُقدّ مِنْ دُبُرٍ َف َكذَ َبتْ وَ ُهوَ مِنَ الصّا ِدقِينَ * فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ
سفُ أَعْ ِرضْ عَنْ َهذَا وَاسْ َت ْغفِرِي ِلذَنْ ِبكِ إِ ّنكِ كُ ْنتِ مِنَ
قَالَ إِنّهُ مِنْ كَيْ ِدكُنّ إِنّ كَيْ َدكُنّ عَظِيمٌ * يُو ُ
الْخَاطِئِينَ }
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ،وصبره عليها أعظم أجرا ،لنه صبر
اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة ،لوقوع الفعل ،فقدم محبة ال عليها ،وأما محنته بإخوته ،فصبره
صبر اضطرار ،بمنزلة المراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إل
الصبر عليها ،طائعا أو كارها ،وذلك أن يوسف عليه الصلة والسلم بقي مكرما في بيت العزيز،
وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ،أن { رَاوَدَ ْتهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَنْ َنفْسِهِ }
أي :هو غلمها ،وتحت تدبيرها ،والمسكن واحد ،يتيسر إيقاع المر المكروه من غير إشعار أحد،
ول إحساس بشر.
{ وَ } زادت المصيبة ،بأن { غَّل َقتِ الْأَ ْبوَابَ } وصار المحل خاليا ،وهما آمنان من دخول أحد
عليهما ،بسبب تغليق البواب ،وقد دعته إلى نفسها { َوقَاَلتْ هَ ْيتَ َلكَ } أي :افعل المر المكروه
وأقبل إليّ ،ومع هذا فهو غريب ،ل يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ،وهو
أسير تحت يدها ،وهي سيدته ،وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ،وهو شاب عزب ،وقد
توعدته ،إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ،أو العذاب الليم.
فصبر عن معصية ال ،مع وجود الداعي القوي فيه ،لنه قد هم فيها هما تركه ل ،وقدم مراد ال
على مراد النفس المارة بالسوء ،ورأى من برهان ربه -وهو ما معه من العلم واليمان،
الموجب لترك كل ما حرم ال -ما أوجب له البعد والنكفاف ،عن هذه المعصية الكبيرة ،و
{ قَالَ َمعَاذَ اللّهِ } أي :أعوذ بال أن أفعل هذا الفعل القبيح ،لنه مما يسخط ال ويبعد منه ،ولنه
خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي.
فل يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ،وهذا من أعظم الظلم ،والظالم ل يفلح ،والحاصل أنه
جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى ال ،ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ،وصيانة نفسه عن الظلم
الذي ل يفلح من تعاطاه ،وكذلك ما منّ ال عليه من برهان اليمان الذي في قلبه ،يقتضي منه
امتثال الوامر ،واجتناب الزواجر ،والجامع لذلك كله أن ال صرف عنه السوء والفحشاء ،لنه
من عباده المخلصين له في عباداتهم ،الذين أخلصهم ال واختارهم ،واختصهم لنفسه ،وأسدى
عليهم من النعم ،وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.
ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة ،ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب
ليتخلص ،ويهرب من الفتنة ،فبادرت إليه ،وتعلقت بثوبه ،فشقت قميصه ،فلما وصل إلى الباب في
تلك الحال ،ألفيا سيدها ،أي :زوجها لدى الباب ،فرأى أمرا شق عليه ،فبادرت إلى الكذب ،أن
المراودة قد كانت من يوسف ،وقالت { :مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهِْلكَ سُوءًا } ولم تقل "من فعل بأهلك
سوءا" تبرئة لها وتبرئة له أيضا من الفعل.
ولكن ال تعالى جعل للحق والصدق علمات وأمارات تدل عليه ،قد يعلمها العباد وقد ل
يعلمونها ،فمنّ ال في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما ،تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلم،
فانبعث شاهد من أهل بيتها ،يشهد بقرينة من وجدت معه ،فهو الصادق ،فقال { :إِنْ كَانَ َقمِيصُهُ
ت وَ ُهوَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } لن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها ،المراود لها
قُدّ مِنْ قُ ُبلٍ َفصَ َد َق ْ
المعالج ،وأنها أرادت أن تدفعه عنها ،فشقت قميصه من هذا الجانب.
ت وَ ُهوَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } لن ذلك يدل على هروبه منها ،وأنها
{ وَإِنْ كَانَ َقمِيصُهُ ُقدّ مِنْ دُبُرٍ َفكَذَ َب ْ
هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب.
{ فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ ُقدّ مِنْ دُبُرٍ } عرف بذلك صدق يوسف وبراءته ،وأنها هي الكاذبة.
يعني :أن الخبر اشتهر وشاع في البلد ،وتحدث به النسوة فجعلن يلمنها ،ويقلن { :امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ
ش َغفَهَا حُبّا } أي :هذا أمر مستقبح ،هي امرأة كبيرة القدر ،وزوجها كبير
تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ َنفْسِهِ قَدْ َ
القدر ،ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن نفسه.،ومع هذا فإن حبه قد
بلغ من قلبها مبلغا عظيما.
ش َغ َفهَا حُبّا } أي :وصل حبه إلى شغاف قلبها ،وهو باطنه وسويداؤه ،وهذا أعظم ما يكون
{ َقدْ َ
من الحب { ،إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث وجدت منها هذه الحالة التي ل تنبغي منها ،وهي
حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس ،وكان هذا القول منهن مكرا ،ليس المقصود به مجرد اللوم
لها والقدح فيها ،وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلم إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز
س ِمعَتْ ِب َمكْرِهِنّ
لتحنق امرأة العزيز ،وتريهن إياه ليعذرنها ،ولهذا سماه مكرا ،فقال { :فََلمّا َ
أَرْسََلتْ إِلَ ْيهِنّ } تدعوهن إلى منزلها للضيافة.
{ وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكَأً } أي :محل مهيأ بأنواع الفرش والوسائد ،وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة،
وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في تلك الضيافة ،طعام يحتاج إلى سكين ،إما أترج ،أو
سكّينًا } ليقطعن فيها ذلك الطعام { َوقَاَلتِ } ليوسف { :اخْرُجْ
ح َدةٍ مِ ْنهُنّ ِ
ل وَا ِ
غيره { ،وَآ َتتْ ُك ّ
عَلَ ْيهِنّ } في حالة جماله وبهائه.
طعْنَ }
{ فََلمّا رَأَيْ َنهُ َأكْبَرْنَهُ } أي :أعظمنه في صدورهن ،ورأين منظرا فائقا لم يشاهدن مثلهَ { ،وقَ ّ
من الدهش { أَ ْيدِ َيهُنّ } بتلك السكاكين اللتي معهنَ { ،وقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ } أي :تنزيها ل { مَا هَذَا
بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلّا مََلكٌ كَرِيمٌ } وذلك أن يوسف أعطي من الجمال الفائق والنور والبهاء ،ما كان به
آية للناظرين ،وعبرة للمتأملين.
فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر ،وأعجبهن غاية ،وظهر منهن من العذر لمرأة العزيز،
شيء كثير -أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد
غير مبالية ،ولن اللوم انقطع عنها من النسوة { :وََلقَدْ رَاوَدُْتهُ عَنْ َنفْسِهِ فَاسْ َت ْعصَمَ } أي :امتنع
وهي مقيمة على مراودته ،لم تزدها مرور الوقات إل قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا.
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد { ،وَإِلّا َتصْ ِرفْ عَنّي
صبُ إِلَ ْيهِنّ } أي :أمل إليهن ،فإني ضعيف عاجز ،إن لم تدفع عني السوء { ،وََأكُنْ } إن
كَيْدَهُنّ َأ ْ
صبوت إليهن { مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن هذا جهل ،لنه آثر لذة قليلة منغصة ،على لذات متتابعات
وشهوات متنوعات في جنات النعيم ،ومن آثر هذا على هذا ،فمن أجهل منه؟" فإن العلم والعقل
يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين ،ويؤثر ما كان محمود العاقبة.
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ } حين دعاه { َفصَ َرفَ عَنْهُ كَيْ َدهُنّ } فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر
سمِيعُ } لدعاء الداعي
عليه من الوسائل ،حتى أيسها ،وصرف ال عنه كيدها { ،إِنّهُ ُهوَ ال ّ
{ ا ْلعَلِيمُ } بنيته الصالحة ،وبنيته الضعيفة المقتضية لمداده بمعونته ولطفه.
فهذا ما نجى ال به يوسف من هذه الفتنة الملمة والمحنة الشديدة.،وأما أسياده فإنه لما اشتهر
الخبر وبان ،وصار الناس فيها بين عاذر ولئم وقادح.
طعَامٌ تُرْ َزقَا ِنهِ إِلّا نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَنْ يَأْتِ َي ُكمَا } أي:
فب { قَالَ } لهما مجيبا لطلبتهما { :لَا يَأْتِي ُكمَا َ
فلتطمئن قلوبكما ،فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما ،فل يأتيكما غداؤكما ،أو عشاؤكما ،أول ما
يجيء إليكما ،إل نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما.
ولعل يوسف عليه الصلة والسلم قصد أن يدعوهما إلى اليمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما
إليه ،ليكون أنجع لدعوته ،وأقبل لهما.
ثم قال { :ذَِل ُكمَا } التعبير الذي سأعبره لكما { ِممّا عَّلمَنِي رَبّي } أي :هذا من علم ال علمنيه
وأحسن إليّ به ،وذلك { إِنّي تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ } والترك كما
يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه ،يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا.
فل يقال :إن يوسف كان من قبل ،على غير ملة إبراهيم.
سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ } ثم فسر تلك الملة بقوله { :مَا كَانَ لَنَا } أي :ما
{ وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَائِي إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
شيْءٍ } بل نفرد ال بالتوحيد ،ونخلص له الدين والعبادة.
ينبغي ول يليق بنا { أَنْ نُشْ ِركَ بِاللّهِ مِنْ َ
ضلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ } أي :هذا من أفضل مننه وإحسانه وفضله علينا ،وعلى
{ ذَِلكَ مِنْ َف ْ
من هداه ال كما هدانا ،فإنه ل أفضل من منة ال على العباد بالسلم والدين القويم ،فمن قبله
وانقاد له فهو حظه ،وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل.
ثم صرح لهما بالدعوة ،فقال { :يَا صَاحِ َبيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُ َتفَ ّرقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْلقَهّارُ }
أي :أرباب عاجزة ضعيفة ل تنفع ول تضر ،ول تعطي ول تمنع ،وهي متفرقة ما بين أشجار
وأحجار وملئكة وأموات ،وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون ،أتلك { خَيْرٌ أَمِ
اللّهُ } الذي له صفات الكمال { ،ا ْلوَاحِدُ } في ذاته وصفاته وأفعاله فل شريك له في شيء من ذلك.
{ ا ْلقَهّارُ } الذي انقادت الشياء لقهره وسلطانه ،فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن { ما من دابة إل
هو آخذ بناصيتها } ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه خير من اللهة المتفرقة التي هي مجرد
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُمْ
سمَاءً َ
أسماء ،ل كمال لها ول أفعال لديها .ولهذا قال { :مَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا أَ ْ
وَآبَا ُؤكُمْ }
أي :كسوتموها أسماء ،سميتموها آلهة ،وهي ل شيء ،ول فيها من صفات اللوهية شيء { ،مَا
أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ } بل أنزل ال السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلنها ،وإذا لم ينزل
ال بها سلطانا ،لم يكن طريق ول وسيلة ول دليل لها.
لن الحكم ل وحده ،فهو الذي يأمر وينهى ،ويشرع الشرائع ،ويسن الحكام ،وهو الذي أمركم
{ أن ل َتعْ ُبدُوا إِلّا إِيّاهُ َذِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ } أي :المستقيم الموصل إلى كل خير ،وما سواه من
الديان ،فإنها غير مستقيمة ،بل معوجة توصل إلى كل شر.
{ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } حقائق الشياء ،وإل فإن الفرق بين عبادة ال وحده ل شريك له،
وبين الشرك به ،أظهر الشياء وأبينها.
ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك ،حصل منهم ما حصل من الشرك.،فيوسف عليه السلم دعا
صاحبي السجن لعبادة ال وحده ،وإخلص الدين له ،فيحتمل أنهما استجابا وانقادا ،فتمت عليهما
النعمة ،ويحتمل أنهما لم يزال على شركهما ،فقامت عليهما -بذلك -الحجة ،ثم إنه عليه السلم
شرع يعبر رؤياهما ،بعد ما وعدهما ذلك ،فقال:
ح ُد ُكمَا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ،فإنه يخرج من
{ { } 41يَا صَاحِ َبيِ السّجْنِ َأمّا أَ َ
خمْرًا } أي :يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا ،وذلك مستلزم لخروجه من
سقِي رَبّهُ َ
السجن { فَ َي ْ
السجن { ،وََأمّا الْآخَرُ } وهو :الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه.
{ فَ ُيصَْلبُ فَتَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْ رَ ْأسِهِ } فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير ،بلحم رأسه وشحمه،
وما فيه من المخ ،وأنه ل يقبر ويستر عن الطيور ،بل يصلب ويجعل في محل ،تتمكن الطيور
ضيَ الَْأمْرُ
من أكله ،ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما ،أنه ل بد من وقوعه فقالُ { :ق ِ
الّذِي فِيهِ تَسْ َتفْتِيَانِ } أي :تسألن عن تعبيره وتفسيره.
{ َ { } 42وقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مِ ْن ُهمَا ا ْذكُرْنِي عِنْدَ رَ ّبكَ فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ِذكْرَ رَبّهِ فَلَ ِبثَ فِي
السّجْنِ ِبضْعَ سِنِينَ }
أيَ { :وقَالَ } يوسف عليه السلم { :لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مِ ْن ُهمَا } وهو :الذي رأى أنه يعصر خمرا:
{ ا ْذكُرْنِي عِ ْندَ رَ ّبكَ } أي :اذكر له شأني وقصتي ،لعله يرقّ لي ،فيخرجني مما أنا فيه { ،فَأَ ْنسَاهُ
الشّ ْيطَانُ ِذكْرَ رَبّهِ } أي :فأنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر ال تعالى ،وذكر ما يقرب إليه ،ومن
جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الحسان ،وذلك ليتم ال أمره وقضاءه.
{ فَلَ ِبثَ فِي السّجْنِ ِبضْعَ سِنِينَ } والبضع من الثلث إلى التسع ،ولهذا قيل :إنه لبث سبع سنين،
ولما أراد ال أن يتم أمره ،ويأذن بإخراج يوسف من السجن ،قدر لذلك سببا لخراج يوسف
وارتفاع شأنه وإعلء قدره ،وهو رؤيا الملك.
ف وَسَبْعَ سُنُْبلَاتٍ
عجَا ٌ
سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَبْعٌ ِ
{ َ { } 49 - 43وقَالَ ا ْلمَِلكُ إِنّي أَرَى سَبْعَ َبقَرَاتٍ ِ
حلَامٍ
ضغَاثُ أَ ْ
خضْ ٍر وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ َأفْتُونِي فِي ُرؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِل ّرؤْيَا َتعْبُرُونَ * قَالُوا َأ ْ
ُ
َومَا َنحْنُ بِتَ ْأوِيلِ الْأَحْلَامِ ِبعَاِلمِينَ * َوقَالَ الّذِي نَجَا مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َب ْعدَ ُأمّةٍ أَنَا أُنَبّ ُئكُمْ بِتَ ْأوِيلِهِ فَأَ ْرسِلُونِي
خضْ ٍر وَأُخَرَ
ف وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ ُ
سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَ ْبعٌ عِجَا ٌ
سفُ أَ ّيهَا الصّدّيقُ َأفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ ِ
* يُو ُ
حصَدْ ُتمْ فَذَرُوهُ فِي
يَابِسَاتٍ َلعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ َلعَّلهُمْ َيعَْلمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ َدأَبًا َفمَا َ
شدَادٌ يَ ْأكُلْنَ مَا َق ّدمْتُمْ َلهُنّ إِلّا قَلِيلًا ِممّا
سُنْبُلِهِ إِلّا قَلِيلًا ِممّا تَ ْأكُلُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ سَبْعٌ ِ
س َوفِيهِ َي ْعصِرُونَ }
حصِنُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ عَامٌ فِيهِ ُيغَاثُ النّا ُ
تُ ْ
لما أراد ال تعالى أن يخرج يوسف من السجن ،أرى ال الملك هذه الرؤيا العجيبة ،الذي تأويلها
يتناول جميع المة ،ليكون تأويلها على يد يوسف ،فيظهر من فضله ،ويبين من علمه ما يكون له
رفعة في الدارين ،ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها،
لرتباط مصالحها به.
وذلك أنه رأى رؤيا هالته ،فجمع لها علماء قومه وذوي الرأي منهم وقال { :إِنّي أَرَى سَبْعَ َبقَرَاتٍ
عجَافٌ } وهذا من العجب ،أن السبع العجاف
سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَ ْبعٌ } أي :سبع من البقرات { ِ
ِ
الهزيلت اللتي سقطت قوتهن ،يأكلن السبع السمان التي كنّ نهاية في القوة.
خضْرٍ } يأكلهن سبع سنبلت { يَا ِبسَاتٍ } { يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ َأفْتُونِي فِي
{ وَ } رأيت { سَبْعَ سُنُْبلَاتٍ ُ
ُرؤْيَايَ } لن تعبير الجميع واحد ،وتأويله شيء واحد { .إِنْ كُنْتُمْ لِل ّرؤْيَا َتعْبُرُونَ } فتحيروا ،ولم
يعرفوا لها وجها.
وهذا جزم منهم بما ل يعلمون ،وتعذر منهم[ ،بما ليس بعذر] ثم قالواَ { :ومَا َنحْنُ بِتَ ْأوِيلِ الَْأحْلَامِ
ِبعَاِلمِينَ } أي :ل نعبر إل الرؤيا ،وأما الحلم التي هي من الشيطان ،أو من حديث النفس ،فإنا ل
نعبرها.
فجمعوا بين الجهل والجزم ،بأنها أضغات أحلم ،والعجاب بالنفس ،بحيث إنهم لم يقولوا :ل نعلم
تأويلها ،وهذا من المور التي ل تنبغي لهل الدين والحجا ،وهذا أيضا من لطف ال بيوسف عليه
السلم .فإنه لو عبرها ابتداء -قبل أن يعرضها على المل من قومه وعلمائهم ،فيعجزوا عنها -لم
يكن لها ذلك الموقع ،ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب ،وكان الملك مهتما لها غاية،
فعبرها يوسف -وقعت عندهم موقعا عظيما ،وهذا نظير إظهار ال فضل آدم على الملئكة بالعلم،
بعد أن سألهم فلم يعلموا .ثم سأل آدم ،فعلمهم أسماء كل شيء ،فحصل بذلك زيادة فضله ،وكما
يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى ال عليه وسلم في القيامة ،أن يلهم ال الخلق أن يتشفعوا
بآدم ،ثم بنوح ،ثم إبراهيم ،ثم موسى ،ثم عيسى عليهم السلم ،فيعتذرون عنها ،ثم يأتون محمدا
صلى ال عليه وسلم فيقول" :أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع الخلق ،وينال ذلك المقام المحمود،
الذي يغبطه به الولون والخرون.
فسبحان من خفيت ألطافه ،ودقّت في إيصاله البر والحسان ،إلى خواص أصفيائه وأوليائه.
{ َوقَالَ الّذِي َنجَا مِ ْن ُهمَا } أي :من الفتيين ،وهو :الذي رأى أنه يعصر خمرا ،وهو الذي أوصاه
يوسف أن يذكره عند ربه { وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ } أي :وتذكر يوسف ،وما جرى له في تعبيره
لرؤياهما ،وما وصاه به ،وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال { :أَنَا أُنَبّ ُئكُمْ
بِتَ ْأوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } إلى يوسف لسأله عنها.
فأرسلوه ،فجاء إليه ،ولم يعنفه يوسف على نسيانه ،بل استمع ما يسأله عنه ،وأجابه عن ذلك فقال:
سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ
سفُ أَ ّيهَا الصّدّيقُ } أي :كثير الصدق في أقواله وأفعالهَ { .أفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ ِ
{ يُو ُ
خضْ ٍر وَأُخَرَ يَا ِبسَاتٍ َلعَلّي أَ ْرجِعُ إِلَى النّاسِ َلعَّلهُمْ َيعَْلمُونَ } فإنهم
ف وَسَبْعِ سُنُْبلَاتٍ ُ
عجَا ٌ
سَبْعٌ ِ
متشوقون لتعبيرها ،وقد أهمتهم.
فعبر يوسف ،السبع البقرات السمان والسبع السنبلت الخضر ،بأنهن سبع سنين مخصبات ،والسبع
البقرات العجاف ،والسبع السنبلت اليابسات ،بأنهن سنين مجدبات ،ولعل وجه ذلك -وال أعلم -
أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه ،وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع
والحروث ،وحسن منظرها ،وكثرت غللها ،والجدب بالعكس من ذلك .وكانت البقر هي التي
تحرث عليها الرض ،وتسقى عليها الحروث في الغالب ،والسنبلت هي أعظم القوات وأفضلها،
عبرها بذلك ،لوجود المناسبة ،فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والشارة لما يفعلونه ،ويستعدون
به من التدبير في سني الخصب ،إلى سني الجدب فقال { :تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي:
متتابعات.
حصَدْتُمْ } من تلك الزروع { َفذَرُوهُ } أي :اتركوه { فِي سُنْبُلِهِ } لنه أبقى له وأبعد من
{ َفمَا َ
اللتفات إليه { إِلّا قَلِيلًا ِممّا تَ ْأكُلُونَ } أي :دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة ،وليكن قليل،
ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.
{ ُثمّ يَأْتِي مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } أي :بعد تلك السنين السبع المخصبات { .سَبْعٌ شِدَادٌ } أي :مجدبات جدا {
حصِنُونَ } أي:
يَ ْأكُلْنَ مَا قَ ّدمْتُمْ َلهُنّ } أي :يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا { .إِلّا قَلِيلًا ِممّا ُت ْ
تمنعونه من التقديم لهن.
س َوفِيهِ َي ْعصِرُونَ } أي :فيه
{ ُثمّ يَأْتِي مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } أي :بعد السبع الشداد { عَامٌ فِيهِ ُيغَاثُ النّا ُ
تكثر المطار والسيول ،وتكثر الغلت ،وتزيد على أقواتهم ،حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه
زيادة على أكلهم ،ولعل استدلله على وجود هذا العام الخصب ،مع أنه غير مصرح به في رؤيا
الملك ،لنه فهم من التقدير بالسبع الشداد ،أن العام الذي يليها يزول به شدتها.،ومن المعلوم أنه
ل يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات ،إل بعام مخصب جدا ،وإل لما كان للتقدير فائدة،
فلما رجع الرسول إلى الملك والناس ،وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا ،عجبوا من ذلك ،وفرحوا بها
أشد الفرح.
{ َ { } 57 - 50وقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ فََلمّا جَا َءهُ الرّسُولُ قَالَ ا ْرجِعْ إِلَى رَ ّبكَ فَاسْأَ ْلهُ مَا بَالُ
سفَ عَنْ َنفْسِهِ
طعْنَ أَ ْيدِ َيهُنّ إِنّ رَبّي ِبكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْ ُبكُنّ ِإذْ رَاوَدْتُنّ يُو ُ
س َوةِ اللّاتِي قَ ّ
النّ ْ
حقّ أَنَا رَاوَدُْتهُ عَنْ َنفْسِهِ
حصَ الْ َ
صَح ْ
علَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَاَلتِ امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ الْآنَ َ
قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَِلمْنَا َ
ب وَأَنّ اللّهَ لَا َيهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * َومَا أُبَ ّرئُ
وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ * ذَِلكَ لِ َيعَْلمَ أَنّي لَمْ َأخُنْهُ بِا ْلغَ ْي ِ
غفُورٌ رَحِيمٌ * َوقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ
َنفْسِي إِنّ ال ّنفْسَ لََأمّا َرةٌ بِالسّوءِ إِلّا مَا َرحِمَ رَبّي إِنّ رَبّي َ
جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَ ْرضِ إِنّي
أَسْ َتخِْلصْهُ لِ َنفْسِي فََلمّا كَّلمَهُ قَالَ إِ ّنكَ الْ َيوْمَ َلدَيْنَا َمكِينٌ َأمِينٌ * قَالَ ا ْ
حمَتِنَا مَنْ نَشَا ُء وَلَا
سفَ فِي الْأَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ يَشَاءُ ُنصِيبُ بِ َر ْ
حفِيظٌ عَلِيمٌ * َوكَذَِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
َ
ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ }
يقول تعالىَ { :وقَالَ ا ْلمَِلكُ } لمن عنده { ائْتُونِي ِبهِ } أي :بيوسف عليه السلم ،بأن يخرجوه من
السجن ويحضروه إليه ،فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك ،امتنع عن المبادرة
إلى الخروج ،حتى تتبين براءته التامة ،وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
طعْنَ
س َوةِ اللّاتِي َق ّ
فب { قَالَ } للرسول { :ا ْرجِعْ ِإلَى رَ ّبكَ } يعني به الملك { .فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّ ْ
أَيْدِ َيهُنّ } أي :اسأله ما شأنهن وقصتهن ،فإن أمرهن ظاهر متضح { إِنّ رَبّي ِبكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ }.
فبرّأنه و { قُلْنَ حَاشَ ِللّهِ مَا عَِلمْنَا عَلَ ْيهِ مِنْ سُوءٍ } أي :ل قليل ول كثير ،فحينئذ زال السبب الذي
حصَ
صَح ْ
تنبني عليه التهمة ،ولم يبق إل ما عند امرأة العزيز ،فب { قَاَلتِ امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ الْآنَ َ
حقّ } أي :تمحض وتبين ،بعد ما كنا ندخل معه من السوء والتهمة ،ما أوجب له السجن { أَنَا
الْ َ
رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِ ِه وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ } في أقواله وبراءته.
{ ذَِلكَ } القرار ،الذي أقررت [أني راودت يوسف] { لِ َيعْلَمَ أَنّي َلمْ َأخُنْهُ بِا ْلغَ ْيبِ }
يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي :ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف ،أني لم أخنه
بالغيب ،أي :لم يجر منّي إل مجرد المراودة ،ولم أفسد عليه فراشه ،ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم
يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته ،وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني { .وَأَنّ
اللّهَ لَا َيهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } فإن كل خائن ،ل بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه ،ول بد أن
يتبين أمره.
ثم لما كان في هذا الكلم نوع تزكية لنفسها ،وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف ،استدركت
فقالتَ { :ومَا أُبَ ّرئُ َنفْسِي } أي :من المراودة والهمّ ،والحرص الشديد ،والكيد في ذلك { .إِنّ
ال ّنفْسَ لََأمّا َرةٌ بِالسّوءِ } أي :لكثيرة المر لصاحبها بالسوء ،أي :الفاحشة ،وسائرالذنوب ،فإنها
مركب الشيطان ،ومنها يدخل على النسان { إِلّا مَا َرحِمَ رَبّي } فنجاه من نفسه المارة ،حتى
صارت نفسه مطمئنة إلى ربها ،منقادة لداعي الهدى ،متعاصية عن داعي الردى ،فذلك ليس من
النفس ،بل من فضل ال ورحمته بعبده.
غفُورٌ رَحِيمٌ } أي :هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي ،إذا تاب وأناب،
{ إِنّ رَبّي َ
{ َرحِيمٌ } بقبول توبته ،وتوفيقه للعمال الصالحة .،وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة
العزيز ،ل من قول يوسف ،فإن السياق في كلمها ،ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر.
فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة ،أرسل إليه الملك وقال { :ائْتُونِي بِهِ َأسْتَخِْلصْهُ لِ َنفْسِي
} أي :أجعله خصيصة لي ومقربا لديّ فأتوه به مكرما محترما { ،فََلمّا كَّلمَهُ } أعجبه كلمه ،وزاد
موقعه عنده فقال له { :إِ ّنكَ الْ َيوْمَ لَدَيْنَا } أي :عندنا { َمكِينٌ َأمِينٌ } أي :متمكن ،أمين على
جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَ ْرضِ } أي :على
السرار ،فب { قَالَ } يوسف طلبا للمصلحة العامة { :ا ْ
خزائن جبايات الرض وغللها ،وكيل حافظا مدبرا.
حفِيظٌ عَلِيمٌ } أي :حفيظ للذي أتوله ،فل يضيع منه شيء في غير محله ،وضابط للداخل
{ إِنّي َ
والخارج ،عليم بكيفية التدبير والعطاء والمنع ،والتصرف في جميع أنواع التصرفات ،وليس ذلك
حرصا من يوسف على الولية ،وإنما هو رغبة منه في النفع العام ،وقد عرف من نفسه من
الكفاءة والمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه.
فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الرض ،فجعله الملك على خزائن الرض ووله
إياها.
{ وَلَا ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } ويوسف عليه السلم من سادات المحسنين ،فله في الدنيا حسنة وفي
الخرة حسنة ،ولهذا قال { :وَلَأَجْرُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ } من أجر الدنيا { ِللّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ } أي:
لمن جمع بين التقوى واليمان ،فبالتقوى تترك المور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها،
وباليمان التام يحصل تصديق القلب ،بما أمر ال بالتصديق به ،وتتبعه أعمال القلوب وأعمال
الجوارح ،من الواجبات والمستحبات.
جهّزَ ُهمْ
علَيْهِ َفعَ َر َفهُ ْم وَهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ * وََلمّا َ
خلُوا َ
سفَ فَدَ َ
خ َوةُ يُو ُ
{ { } 68 - 58وَجَاءَ إِ ْ
جهَازِ ِهمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ َل ُكمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ
بِ َ
تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَ ْيلَ َلكُمْ عِنْدِي وَلَا َتقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَ ْنهُ أَبَا ُه وَإِنّا َلفَاعِلُونَ * َوقَالَ ِلفِتْيَانِهِ
جعُوا
جعُونَ * فََلمّا رَ َ
جعَلُوا ِبضَاعَ َتهُمْ فِي رِحَاِلهِمْ َلعَّلهُمْ َيعْ ِرفُو َنهَا إِذَا ا ْنقَلَبُوا إِلَى أَهِْل ِهمْ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
اْ
ل وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ * قَالَ َهلْ آمَ ُن ُكمْ
سلْ َمعَنَا أَخَانَا َنكْ َت ْ
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُ ِنعَ مِنّا ا ْلكَ ْيلُ فَأَرْ ِ
عهُمْ
حمِينَ * وََلمّا فَ َتحُوا مَتَا َ
حمُ الرّا ِ
عَلَيْهِ إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَا ِفظًا وَ ُهوَ أَرْ َ
حفَظُ
وَجَدُوا ِبضَاعَ َتهُمْ ُر ّدتْ إِلَ ْيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَ ْبغِي َه ِذهِ ِبضَاعَتُنَا رُ ّدتْ إِلَيْنَا وَ َنمِيرُ أَهْلَنَا وَنَ ْ
أَخَانَا وَنَ ْزدَادُ كَ ْيلَ َبعِيرٍ ذَِلكَ كَ ْيلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسَِلهُ َم َعكُمْ حَتّى ُتؤْتُونِ َموْثِقًا مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي ِبهِ
ل َوكِيلٌ * َوقَالَ يَا بَ ِنيّ لَا تَ ْدخُلُوا مِنْ بَابٍ
إِلّا أَنْ ُيحَاطَ ِب ُكمْ فََلمّا آ َت ْوهُ َموْ ِثقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا َنقُو ُ
حكْمُ إِلّا ِللّهِ عَلَيْهِ َت َوكّلْتُ
شيْءٍ إِنِ ا ْل ُ
وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَ ْبوَابٍ مُ َتفَ ّرقَةٍ َومَا أُغْنِي عَ ْنكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ َ
وَعَلَيْهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ * وََلمّا َدخَلُوا مِنْ حَ ْيثُ َأمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ
جةً فِي َنفْسِ َي ْعقُوبَ َقضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ ِلمَا عَّلمْنَا ُه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ }
شيْءٍ إِلّا حَا َ
َ
أي :لما تولى يوسف عليه السلم خزائن الرض ،دبرها أحسن تدبير ،فزرع في أرض مصر
جميعها في السنين الخصبة ،زروعا هائلة ،واتخذ لها المحلت الكبار ،وجبا من الطعمة شيئا
كثيرا وحفظه ،وضبطه ضبطا تاما ،فلما دخلت السنون المجدبة ،وسرى الجدب ،حتى وصل إلى
خ َوةُ
فلسطين ،التي يقيم فيها يعقوب وبنوه ،فأرسل يعقوب بنيه لجل الميرة إلى مصرَ { .وجَاءَ ِإ ْ
سفَ َفدَخَلُوا عَلَ ْيهِ َفعَ َر َفهُ ْم وَهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ } أي :لم يعرفوه.
يُو ُ
جهَازِهِمْ } أي :كال لهم كما كان يكيل لغيرهم ،وكان من تدبيره الحسن أنه ل
جهّزَهُمْ ِب َ
{ وََلمّا َ
يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير ،وكان قد سألهم عن حالهم ،فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه،
وهو بنيامين.
فب { قَالَ } لهم { :ائْتُونِي بِأَخٍ َلكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في التيان به فقال { :أَلَا تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي
ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ } في الضيافة والكرام.
ثم رهبهم بعدم التيان به ،فقال { :فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَ ْيلَ َل ُكمْ عِنْدِي وَلَا َتقْرَبُونِ } وذلك لعلمه
باضطرارهم إلى التيان إليه ،وأن ذلك يحملهم على التيان به.
فب { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على أن يعقوب عليه السلم كان مولعا به ل يصبر عنه،
وكان يتسلى به بعد يوسف ،فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم { وَإِنّا َلفَاعِلُونَ } لما أمرتنا
به.
سلْ َمعَنَا
جعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا ا ْلكَ ْيلُ } أي :إن لم ترسل معنا أخانا { ،فَأَرْ ِ
{ فََلمّا َر َ
أَخَانَا َنكْ َتلْ } أي :ليكون ذلك سببا لكيلنا ،ثم التزموا له بحفظه ،فقالوا { :وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ } من أن
يعرض له ما يكره.
{ قَالَ } لهم يعقوب عليه السلمَ { :هلْ آمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى َأخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ } أي :تقدم
منكم التزام ،أكثر من هذا في حفظ يوسف ،ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد ،فل أثق
بالتزامكم وحفظكم ،وإنما أثق بال تعالى.
ع ُه ْم وَجَدُوا ِبضَاعَ َتهُمْ ُر ّدتْ إِلَ ْيهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما
ثم إنهم { وََلمّا فَ َتحُوا مَتَا َ
عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد ،وأنه أراد أن يملكهم إياها .فب { قَالُوا } لبيهم -ترغيبا
في إرسال أخيهم معهم { :-يَا أَبَانَا مَا نَ ْبغِي } أي :أي شيء نطلب بعد هذا الكرام الجميل ،حيث
وفّى لنا الكيل ،ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن ،المتضمن للخلص ومكارم الخلق؟
{ هَ ِذهِ ِبضَاعَتُنَا رُ ّدتْ إِلَيْنَا وَ َنمِيرُ َأهْلَنَا } أي :إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا ،فمرنا أهلنا،
حفَظُ َأخَانَا وَنَزْدَادُ كَ ْيلَ َبعِيرٍ } بإرساله معنا،
وأتينا لهم ،بما هم مضطرون إليه من القوت { ،وَنَ ْ
فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير { ،ذَِلكَ كَ ْيلٌ يَسِيرٌ } أي :سهل ل ينالك ضرر ،لن المدة ل تطول،
والمصلحة قد تبينت.
فب { قَالَ } لهم يعقوب { :لَنْ أُرْسِلَهُ َم َعكُمْ حَتّى ُتؤْتُونِ َموْ ِثقًا مِنْ اللّهِ } أي :عهدا ثقيل ،وتحلفون
بال { لَتَأْتُنّنِي ِبهِ إِلّا أَنْ ُيحَاطَ ِب ُكمْ } أي :إل أن يأتيكم أمر ل قبل لكم به ،ول تقدرون دفعه { ،فََلمّا
ل َوكِيلٌ } أي :تكفينا شهادته علينا وحفظه
آ َت ْوهُ َموْثِ َقهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللّهُ عَلَى مَا َنقُو ُ
وكفالته.
{ وََلمّا } ذهبوا و { َدخَلُوا مِنْ حَ ْيثُ َأمَرَ ُهمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ } ذلك الفعل { ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ
جةً فِي َنفْسِ َي ْعقُوبَ َقضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للولد ،فحصل له في ذلك
شيْءٍ إِلّا حَا َ
َ
نوع طمأنينة ،وقضاء لما في خاطره.
وليس هذا قصورا في علمه ،فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين ،ولهذا قال عنه { :وَإِنّهُ َلذُو
عّلمْنَاهُ } أي :لتعليمنا إياه ،ل بحوله وقوته أدركه ،بل بفضل
عِلْمٍ } أي :لصاحب علم عظيم { ِلمَا َ
ال وتعليمه { ،وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } عواقب المور ودقائق الشياء وكذلك أهل العلم
منهم ،يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.
سفَ آوَى إِلَ ْيهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّي أَنَا َأخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ ِبمَا كَانُوا
{ { } 79 - 69وََلمّا َدخَلُوا عَلَى يُو ُ
حلِ أَخِيهِ ثُمّ َأذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّنكُمْ
سقَايَةَ فِي َر ْ
ج َعلَ ال ّ
جهَازِ ِهمْ َ
جهّزَهُمْ بِ َ
َي ْعمَلُونَ * فََلمّا َ
ح ْملُ َبعِيرٍ
ك وَِلمَنْ جَاءَ بِهِ ِ
لَسَا ِرقُونَ * قَالُوا وََأقْبَلُوا عَلَ ْيهِمْ مَاذَا َتفْقِدُونَ * قَالُوا َنفْقِدُ صُوَاعَ ا ْلمَِل ِ
ض َومَا كُنّا سَا ِرقِينَ * قَالُوا َفمَا جَزَا ُؤهُ
وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ عَِلمْتُمْ مَا جِئْنَا لِ ُنفْسِدَ فِي الْأَ ْر ِ
جدَ فِي رَحِْلهِ َف ُهوَ جَزَا ُؤهُ كَذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ * فَ َبدَأَ
ن وُ ِ
إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَا ُؤهُ مَ ْ
خذَ أَخَاهُ فِي
سفَ مَا كَانَ لِيَأْ ُ
ن وِعَاءِ َأخِيهِ كَذَِلكَ ِكدْنَا لِيُو ُ
جهَا مِ ْ
بَِأوْعِيَ ِتهِمْ قَ ْبلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْ َر َ
علْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْ ِرقْ َفقَدْ
دِينِ ا ْلمَِلكِ ِإلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مَنْ نَشَا ُء َو َفوْقَ ُكلّ ذِي ِ
س ِه وَلَمْ يُبْ ِدهَا َلهُمْ قَالَ أَنْ ُتمْ شَرّ َمكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا
سفُ فِي َنفْ ِ
سَ َرقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ فََأسَرّهَا يُو ُ
َتصِفُونَ * قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا َفخُذْ أَحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ *
جدْنَا مَتَاعَنَا عِنْ َدهُ إِنّا إِذًا َلظَاِلمُونَ }
ن وَ َ
خذَ إِلّا مَ ْ
قَالَ َمعَاذَ اللّهِ أَنْ نَأْ ُ
أي :لما دخل إخوة يوسف على يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي :شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم
بالتيان به[ ،و] ضمه إليه ،واختصه من بين إخوته ،وأخبره بحقيقة الحال ،و { قَالَ إِنّي أَنَا َأخُوكَ
فَلَا تَبْتَئِسْ } أي :ل تحزن { ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا ،ثم خبره بما يريد أن يصنع
ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي المر.
سقَايَةَ }
ج َعلَ ال ّ
جهَازِ ِهمْ } أي :كال لكل واحد من إخوته ،ومن جملتهم أخوه هذاَ { .
جهّزَهُمْ بِ َ
{ فََلمّا َ
حلِ أَخِيهِ ثُمّ } أوعوا متاعهم ،فلما انطلقوا ذاهبين،
وهو :الناء الذي يشرب به ،ويكال فيه { فِي رَ ْ
{ َأذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّن ُكمْ لَسَا ِرقُونَ } ولعل هذا المؤذن ،لم يعلم بحقيقة الحال.
{ قَالُوا } أي :إخوة يوسف { وََأقْبَلُوا عَلَ ْيهِمْ } لبعاد التهمة ،فإن السارق ليس له همّ إل البعد
والنطلق عمن سرق منه ،لتسلم له سرقته ،وهؤلء جاءوا مقبلين إليهم ،ليس لهم همّ إل إزالة
التهمة التي رموا بها عنهم ،فقالوا في هذه الحال { :مَاذَا َت ْفقِدُونَ } ولم يقولوا" :ما الذي سرقنا"
لجزمهم بأنهم براء من السرقة.
سدَ فِي الْأَ ْرضِ } بجميع أنواع المعاصيَ { ،ومَا كُنّا سَا ِرقِينَ }
{ قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ عَِلمْتُمْ مَا جِئْنَا لِ ُنفْ ِ
فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الرض ،وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ول
سارقين ،لنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم ،وأن هذا المر ل
يقع منهم بعلم من اتهموهم ،وهذا أبلغ في نفي التهمة ،من أن لو قالوا { :تال لم نفسد في الرض
ولم نسرق }.
{ قَالُوا َفمَا جَزَا ُؤهُ } أي :جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟
{ قَالُوا جَزَا ُؤهُ مَنْ وُجِدَ فِي َرحْلِهِ َف ُهوَ } أي :الموجود في رحله { جَزَا ُؤهُ } بأن يتملكه صاحب
السرقة ،وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق،
ولهذا قالواَ { :كذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ }
ل وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد ،فلما
{ فَ َبدَأَ } المفتش { بَِأوْعِيَ ِتهِمْ قَ ْب َ
ن وِعَاءِ َأخِيهِ } ولم يقل "وجدها ،أو سرقها أخوه" مراعاة
جهَا مِ ْ
لم يجد في أوعيتهم شيئا { اسْتَخْ َر َ
للحقيقة الواقعة.
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ،على وجه ل يشعر به إخوته ،قال تعالى { :كَذَِلكَ
سفَ } أي :يسرنا له هذا الكيد ،الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ لِيَ ْأخُذَ أَخَاهُ
كِدْنَا لِيُو ُ
فِي دِينِ ا ْلمَِلكِ } لنه ليس من دينه أن يتملك السارق ،وإنما له عندهم ،جزاء آخر ،فلو ردت
الحكومة إلى دين الملك ،لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ،ولكنه جعل الحكم منهم ،ليتم له ما
أراد.
قال تعالى { :نَ ْر َفعُ دَ َرجَاتٍ مَنْ َنشَاءُ } بالعلم النافع ،ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ،كما
رفعنا درجات يوسفَ { ،و َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ } فكل عالم ،فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي
العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ } هذا الخ ،فليس هذا غريبا منهَ { .فقَدْ سَرَقَ أَخٌ
لَهُ مِنْ قَ ْبلُ } يعنون :يوسف عليه السلم ،ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما
ما يصدر من السرقة ،وهما ليسا شقيقين لنا.
وفي هذا من الغض عليهما ما فيه ،ولهذا :أسرها يوسف في نفسه { وََلمْ يُبْدِهَا َلهُمْ } أي :لم يقابلهم
على ما قالوه بما يكرهون ،بل كظم الغيظ ،وأس ّر المر في نفسه .و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرّ
َمكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه { ،وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا َتصِفُونَ } منا ،من وصفنا بالسرقة،
يعلم ال أنا براء منها ،ثم سلكوا معه مسلك التملق ،لعله يسمح لهم بأخيهم.
فب { قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَبًا شَ ْيخًا كَبِيرًا } أي :وإنه ل يصبر عنه ،وسيشق عليه فراقه،
{ َفخُذْ َأحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك.
فب { قَالَ } يوسف { َمعَاذَ اللّهِ أَنْ نَ ْأخُذَ إِلّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِ ْن َدهُ } أي :هذا ظلم منا ،لو أخذنا
البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده ،ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من الكذب { ،إِنّا ِإذًا }
أي :إن أخذنا غير من وجد في رحله { َلظَاِلمُونَ } حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.
خذَ عَلَ ْيكُمْ
{ { } 83 - 80فََلمّا اسْتَيَْأسُوا مِنْهُ خََلصُوا َنجِيّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أََلمْ َتعَْلمُوا أَنّ أَبَاكُمْ َقدْ أَ َ
حكُمَ اللّهُ لِي
سفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَ ْرضَ حَتّى يَ ْأذَنَ لِي أَبِي َأوْ َي ْ
َموْثِقًا مِنَ اللّهِ َومِنْ قَ ْبلُ مَا فَرّطْ ُتمْ فِي يُو ُ
ش ِهدْنَا إِلّا ِبمَا عَِلمْنَا َومَا
ق َومَا َ
جعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنّ ابْ َنكَ سَرَ َ
وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ * ارْ ِ
كُنّا لِ ْلغَ ْيبِ حَافِظِينَ * وَاسَْألِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَا ْلعِيرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ * قَالَ َبلْ
حكِيمُ }
جمِيعًا إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
جمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي ِب ِهمْ َ
سكُمْ َأمْرًا َفصَبْرٌ َ
سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ
َ
أي :فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خََلصُوا َنجِيّا } أي :اجتمعوا
وحدهم ،ليس معهم غيرهم ،وجعلوا يتناجون فيما بينهم ،فب { قَالَ كَبِيرُ ُهمْ أَلَمْ َتعَْلمُوا أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ
خذَ عَلَ ْيكُمْ َموْ ِثقًا مِنَ اللّهِ } في حفظه ،وأنكم تأتون به إل أن يحاط بكم { َومِنْ قَ ْبلُ مَا فَرّطْتُمْ فِي
أَ َ
سفَ } ،فاجتمع عليكم المران ،تفريطكم في يوسف السابق ،وعدم إتيانكم بأخيه باللحق ،فليس
يُو ُ
لي وجه أواجه به أبي.
حكُمَ اللّهُ
{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَ ْرضَ } أي :سأقيم في هذه الرض ول أزال بها { حَتّى يَ ْأذَنَ لِي أَبِي َأوْ َي ْ
لِي } أي :يقدر لي المجيء وحدي ،أو مع أخي { وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }
جعُوا إِلَى أَبِيكُمْ َفقُولُوا يَا أَبَانَا إِنّ ابْ َنكَ سَ َرقَ } أي :وأخذ
ثم وصّاهم بما يقولون لبيهم ،فقال { :ا ْر ِ
بسرقته ،ولم يحصل لنا أن نأتيك به ،مع ما بذلنا من الجهد في ذلك .والحال أنا ما شهدنا بشيء لم
نعلمه ،وإنما شهدنا بما علمنا ،لننا رأينا الصواع استخرج من رحلهَ { ،ومَا كُنّا لِ ْلغَ ْيبِ حَا ِفظِينَ }
أي :لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا ،ولما أعطيناك عهودنا
ومواثيقنا ،فلم نظن أن المر سيبلغ ما بلغ.
{ وَاسَْألِ } إن شككت في قولنا { ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَا ْلعِيرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا } فقد اطلعوا على ما
أخبرناك به { وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ } لم نكذب ولم نغير ولم نبدل ،بل هذا الواقع.
فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر ،اشتد حزنه وتضاعف كمده ،واتهمهم أيضا في هذه
جمِيلٌ } أي :ألجأ في
سكُمْ َأمْرًا َفصَبْرٌ َ
سوَّلتْ َل ُكمْ أَ ْنفُ ُ
القضية ،كما اتهمهم في الولى ،و { قَالَ َبلْ َ
ذلك إلى الصبر الجميل ،الذي ل يصحبه تسخط ول جزع ،ول شكوى للخلق ،ثم لجأ إلى حصول
جمِيعًا } أي:
عسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي ِبهِمْ َ
الفرج لما رأى أن المر اشتد ،والكربة انتهت فقالَ { :
يوسف و "بنيامين" وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.
{ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ } الذي يعلم حالي ،واحتياجي إلى تفريجه ومنّته ،واضطراري إلى إحسانه،
حكِيمُ } الذي جعل لكل شيء قدرا ،ولكل أمر منتهى ،بحسب ما اقتضته حكمته الربانية.
{ الْ َ
ضتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ َفهُوَ كَظِيمٌ *
سفَ وَابْ َي ّ
سفَى عَلَى يُو ُ
{ { } 86 - 84وَ َتوَلّى عَ ْنهُ ْم َوقَالَ يَا أَ َ
شكُو بَثّي وَحُزْنِي
سفَ حَتّى َتكُونَ حَ َرضًا َأوْ َتكُونَ مِنَ ا ْلهَاِلكِينَ * قَالَ إِ ّنمَا َأ ْ
قَالُوا تَاللّهِ َتفْتَأُ تَ ْذكُرُ يُو ُ
إِلَى اللّ ِه وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ }
أي :وتولى يعقوب عليه الصلة والسلم عن أولده بعد ما أخبروه هذا الخبر ،واشتد به السف
والسى ،وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه ،والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء ،حيث
ابيضت عيناه من ذلك.
{ َأوْ َتكُونَ مِنَ ا ْلهَاِلكِينَ } أي :ل تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا.
شكُو بَثّي } أي :ما أبث من الكلم { وَحُزْنِي } الذي في قلبي { إِلَى اللّهِ }
{ قَالَ } يعقوب { إِ ّنمَا أَ ْ
وحده ،ل إليكم ول إلى غيركم من الخلق ،فقولوا ما شئتم { وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } من أنه
سيردهم علي ويقر عيني بالجتماع بهم.
ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة ال وروحه ،فذهبوا { فََلمّا دَخَلُوا عَلَ ْيهِ }
أي :على يوسف { قَالُوا } متضرعين إليه { :يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ َوجِئْنَا بِ ِبضَاعَةٍ
مُزْجَاةٍ فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْيلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا } أي :قد اضطررنا نحن وأهلنا { َوجِئْنَا بِ ِبضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ }
أي :مدفوعة مرغوب عنها لقلتها ،وعدم وقوعها الموقع { ،فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْيلَ } أي :مع عدم وفاء
العرض ،وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب { .إِنّ اللّهَ يَجْزِي ا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ } بثواب الدنيا والخرة.
فلما انتهى المر ،وبلغ أشده ،رقّ لهم يوسف رقّة شديدة ،وعرّفهم بنفسه ،وعاتبهم.
سفُ
سفَ وََأخِيهِ ِإذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِ ّنكَ لَأَ ْنتَ يُو ُ
{ { } 92 - 89قَالَ َهلْ عَِلمْتُمْ مَا َفعَلْتُمْ بِيُو ُ
حسِنِينَ *
ق وَ َيصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ
سفُ وَ َهذَا َأخِي َقدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّ ِ
قَالَ أَنَا يُو ُ
قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ آثَ َركَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ َي ْغفِرُ اللّهُ َل ُك ْم وَ ُهوَ
حمِينَ }
حمُ الرّا ِ
أَرْ َ
ف وَأَخِيهِ } أما يوسف فظاهر فعلهم فيه ،وأما أخوه ،فلعله وال أعلم
س َ
{ قال َهلْ عَِلمْ ُتمْ مَا َفعَلْتُمْ بِيُو ُ
قولهم { :إِنْ يَسْرِقْ َفقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ } أو أن الحادث الذي فرّق بينه وبين أبيه ،هم السبب
فيه ،والصل الموجب له { .إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم ،أو توبيخ لهم إذ فعلوا
فعل الجاهلين ،مع أنه ل ينبغي ول يليق منهم.
{ قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ آثَ َركَ اللّهُ عَلَيْنَا } أي :فضلك علينا بمكارم الخلق ومحاسن الشيم ،وأسأنا إليك
غاية الساءة ،وحرصنا على إيصال الذى إليك ،والتبعيد لك عن أبيك ،فآثرك ال تعالى ومكنك
مما تريد { وَإِنْ كُنّا لَخَاطِئِينَ } وهذا غاية العتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.
ج َمعِينَ *
{ { } 98 - 93ا ْذهَبُوا ِبقَمِيصِي هَذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَى َوجْهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهِْلكُمْ أَ ْ
سفَ َلوْلَا أَنْ ُتفَنّدُونِ * قَالُوا تَاللّهِ إِ ّنكَ َلفِي ضَلَاِلكَ
وََلمّا َفصََلتِ ا ْلعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّي لََأجِدُ رِيحَ يُو ُ
جهِهِ فَارْ َتدّ َبصِيرًا قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َل ُكمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا
ا ْلقَدِيمِ *فََلمّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَ ْلقَاهُ عَلَى وَ ْ
س ْوفَ َأسْ َت ْغفِرُ َل ُكمْ رَبّي إِنّهُ ُهوَ
َتعَْلمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْ َت ْغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ * قَالَ َ
ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }
أي :قال يوسف عليه السلم لخوته { :اذْهَبُوا ِب َقمِيصِي َهذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرًا }
لن كل داء يداوى بضده ،فهذا القميص -لما كان فيه أثر ريح يوسف ،الذي أودع قلب أبيه من
الحزن والشوق ما ال به عليم -أراد أن يشمه ،فترجع إليه روحه ،وتتراجع إليه نفسه ،ويرجع
إليه بصره ،ول في ذلك حكم وأسرار ،ل يطلع عليها العباد ،وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا
المر.
ج َمعِينَ } أي :أولدكم وعشيرتكم وتوابعكم كلهم ،ليحصل تمام اللقاء ،ويزول
{ وَأْتُونِي بِأَهِْلكُمْ َأ ْ
عنكم نكد المعيشة ،وضنك الرزق.
{ وََلمّا َفصََلتِ ا ْلعِيرُ } عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين ،شمّ يعقوب ريح القميص ،فقال:
سفَ َلوْلَا أَنْ ُتفَنّدُونِ } أي :تسخرون مني ،وتزعمون أن هذا الكلم ،صدر مني
{ إِنّي لََأجِدُ رِيحَ يُو ُ
من غير شعور ،لنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.
فوقع ما ظنه بهم فقالوا { :تَاللّهِ إِ ّنكَ َلفِي ضَلَاِلكَ ا ْلقَدِيمِ } أي :ل تزال تائها في بحر الحبّ ل تدري
ما تقول.
{ فََلمّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ } بقرب الجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم { ،أَ ْلقَاهُ } أي :القميص { عَلَى
جهِهِ فَارْ َتدّ َبصِيرًا } أي :رجع على حاله الولى بصيرا ،بعد أن ابيضت عيناه من الحزن ،فقال
وَ ْ
لمن حضره من أولده وأهله الذين كانوا يفندون رأيه ،ويتعجبون منه منتصرا عليهم ،متبجحا
بنعمة ال عليه { :أَلَمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } حيث كنت مترجيا للقاء يوسف،
مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.
فأقروا بذنبهم ونجعوا بذلك و { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْ َتغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ } حيث فعلنا معك ما
فعلنا.
سفَ آوَى إِلَيْهِ أَ َبوَيْ ِه َوقَالَ ا ْدخُلُوا ِمصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ
{ { } 100 - 99فََلمّا َدخَلُوا عَلَى يُو ُ
جعََلهَا رَبّي
سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ َهذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ
ش وَخَرّوا َلهُ ُ
* وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْ ِ
حقّا َوقَدْ َأحْسَنَ بِي إِذْ أَخْ َرجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ ِبكُمْ مِنَ الْبَ ْدوِ مِنْ َبعْدِ أَنْ نَ َزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ
َ
حكِيمُ }
خوَتِي إِنّ رَبّي لَطِيفٌ ِلمَا يَشَاءُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ
إِ ْ
أي { :فََلمّا } تجهز يعقوب وأولده وأهلهم أجمعون ،وارتحلوا من بلدهم قاصدين الوصول إلى
سفَ آوَى إِلَيْهِ أَ َبوَيْهِ } أي :ضمهما
يوسف في مصر وسكناها ،فلما وصلوا إليه ،و { دَخَلُوا عَلَى يُو ُ
إليه ،واختصهما بقربه ،وأبدى لهما من البر والكرام والتبجيل والعظام شيئا عظيماَ { ،وقَالَ }
لجميع أهله { :ا ْدخُلُوا ِمصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ } من جميع المكاره والمخاوف ،فدخلوا في هذه
الحال السارة ،وزال عنهم النصب ونكد المعيشة ،وحصل السرور والبهجة.
{ وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ } أي :على سرير الملك ،ومجلس العزيز { ،وَخَرّوا لَهُ سُجّدًا } أي:
أبوه ،وأمه وإخوته ،سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والكرامَ { ،وقَالَ } لما رأى هذه الحال،
ورأى سجودهم له { :يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس
حقّا } فلم يجعلها
جعََلهَا رَبّي َ
والقمر له ساجدين ،فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت { قَدْ َ
أضغاث أحلم.
{ إِنّ رَبّي َلطِيفٌ ِلمَا يَشَاءُ } يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث ل يشعر ،ويوصله إلى
المنازل الرفيعة من أمور يكرهها { ،إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر المور وبواطنها ،وسرائر
حكِيمُ } في وضعه الشياء مواضعها ،وسوقه المور إلى أوقاتها المقدرة
العباد وضمائرهم { ،ا ْل َ
لها.
{ َربّ َقدْ آتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْلكِ } وذلك أنه كان على خزائن الرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك
{ وَعَّلمْتَنِي مِنْ تَ ْأوِيلِ الَْأحَادِيثِ } أي :من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك
ت وَِليّ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َت َوفّنِي مُسِْلمًا } أي :أدم عليّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْن َ
من العلم { فَاطِرَ ال ّ
حقْنِي
السلم وثبتني عليه حتى توفاني عليه ،ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت { ،وَأَلْ ِ
بِالصّالِحِينَ } من النبياء البرار والصفياء الخيار.
لما قص ال هذه القصة على محمد صلى ال عليه وسلم قال ال له { :ذَِلكَ } النباء الذي أخبرناك
به { مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ } الذي لول إيحاؤنا إليك لما وصل إليك هذا الخبر الجليل ،فإنك لم تكن
ج َمعُوا َأمْرَهُمْ } أي :إخوة يوسف { وَ ُهمْ َي ْمكُرُونَ } به حين تعاقدوا على
حاضرا لديهم { إِذْ أَ ْ
التفريق بينه وبين أبيه ،في حالة ل يطلع عليها إل ال تعالى ،ول يمكن أحدا أن يصل إلى علمها،
إل بتعليم ال له إياها.
كما قال تعالى لما قص قصة موسى وما جرى له ،ذكر الحال التي ل سبيل للخلق إلى علمها إل
بوحيه { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى المر وما كنت من الشاهدين } اليات،
فهذا أدل دليل على أن ما جاء به رسول ال حقا.
صتَ ِب ُم ْؤمِنِينَ * َومَا تَسْأَُل ُهمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ ُهوَ
س وََلوْ حَ َر ْ
{ َ { } 107 - 103ومَا َأكْثَرُ النّا ِ
ت وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ *
سمَاوَا ِ
إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * َوكَأَيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي ال ّ
َومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُ ُهمْ بِاللّهِ إِلّا وَهُمْ مُشْ ِركُونَ * َأفََأمِنُوا أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ َأوْ تَأْتِ َيهُمُ
شعُرُونَ }
عةُ َبغْتَ ًة وَهُمْ لَا يَ ْ
السّا َ
{ َومَا تَسْأَُل ُهمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ما ينفعهم ليفعلوه ،وما يضرهم
ليتركوه.
ت وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا } دالة لهم على توحيد ال
سمَاوَا ِ
{ َوكَأَيّنْ } أي :وكم { مِنْ آيَةٍ فِي ال ّ
{ وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }
ومع هذا إن وجد منهم بعض اليمان فل { ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلّا وَ ُهمْ مُشْ ِركُونَ } فهم وإن أقروا
بربوبية ال تعالى ،وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع المور ،فإنهم يشركون في ألوهية ال
وتوحيده ،فهؤلء الذين وصلوا إلى هذه الحال لم يبق عليهم إل أن يحل بهم العذاب ،ويفجأهم
العقاب وهم آمنون ،ولهذا قال:
{ َأفََأمِنُوا } أي :الفاعلون لتلك الفعال ،المعرضون عن آيات ال { أَنْ تَأْتِ َيهُمْ غَاشِ َيةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ
شعُرُونَ }
} أي :عذاب يغشاهم ويعمهم ويستأصلهمَ { ،أوْ تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً } أي :فجأة { وَ ُهمْ لَا يَ ْ
أي :فإنهم قد استوجبوا لذلك ،فليتوبوا إلى ال ،ويتركوا ما يكون سببا في عقابهم.
{ ُ { } 109 - 108قلْ هَ ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى َبصِي َرةٍ أَنَا َومَنِ اتّ َبعَنِي وَسُبْحَانَ اللّ ِه َومَا
أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْيهِمْ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلقُرَى َأفََلمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم وَلَدَارُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا َأفَلَا َتعْقِلُونَ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلمُ { :قلْ } للناس { هَ ِذهِ سَبِيلِي } أي :طريقي التي أدعو
إليها ،وهي السبيل الموصلة إلى ال وإلى دار كرامته ،المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره،
وإخلص الدين ل وحده ل شريك لهَ { ،أدْعُو إِلَى اللّهِ } أي :أحثّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى
ربهم ،وأرغّبهم في ذلك وأرهّبهم مما يبعدهم عنه.
ومع هذا فأنا { عَلَى َبصِي َرةٍ } من ديني ،أي :على علم ويقين من غير شك ول امتراء ول مرية.
{ وَ } كذلك { مَنِ اتّ َبعَنِي } يدعو إلى ال كما أدعو على بصيرة من أمره { .وَسُبْحَانَ اللّهِ } عما
نسب إليه مما ل يليق بجلله ،أو ينافي كماله.
{ َومَا أَنَا مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ } في جميع أموري ،بل أعبد ال مخلصا له الدين.
سلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا } أي :لم نرسل ملئكة ول غيرهم من أصناف
ثم قال تعالى { َومَا أَرْ َ
الخلق ،فلي شيء يستغرب قومك رسالتك ،ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل ،فلك فيمن قبلك
من المرسلين أسوة حسنة { نُوحِي إِلَ ْي ِهمْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَى } أي :ل من البادية ،بل من أهل القرى
الذين هم أكمل عقول ،وأصح آراء ،وليتبين أمرهم ويتضح شأنهم.
{ َأفََلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ } إذا لم يصدقوا لقولك { ،فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ }
كيف أهلكهم ال بتكذيبهم ،فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه ،فيصيبكم ما أصابهم { ،وَلَدَارُ
الْآخِ َرةِ } أي :الجنة وما فيها من النعيم المقيم { ،خَيْرٌ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا } ال في امتثال أوامره ،واجتناب
نواهيه ،فإن نعيم الدنيا منغص منكد ،منقطع ،ونعيم الخرة تام كامل ،ل يفنى أبدا ،بل هو على
الدوام في تزايد وتواصل { ،عطاء غير مجذوذ } { َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } أي :أفل تكون لكم عقول تؤثر
الذي هو خير على الدنى.
يخبر تعالى :أنه يرسل الرسل الكرام ،فيكذبهم القوم المجرمون اللئام ،وأن ال تعالى يمهلهم
ليرجعوا إلى الحق ،ول يزال ال يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل.
حتى إن الرسل -على كمال يقينهم ،وشدة تصديقهم بوعد ال ووعيده -ربما أنه يخطر بقلوبهم
نوع من الياس ،ونوع من ضعف العلم والتصديق ،فإذا بلغ المر هذه الحال { جَاءَ ُهمْ َنصْرُنَا
جيَ مَنْ نَشَاءُ } وهم الرسل وأتباعهم { ،وَلَا يُرَدّ بَ ْأسُنَا عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي :ول يرد
فَنُ ّ
عذابنا ،عمن اجترم ،وتجرأ على ال { فما لهم من قوة ول ناصر }
صهِمْ } أي :قصص النبياء والرسل مع قومهم { ،عِبْ َرةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي:
ص ِ
{ َلقَدْ كَانَ فِي َق َ
يعتبرون بها ،أهل الخير وأهل الشر ،وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة،
ويعتبرون بها أيضا ،ما ل من صفات الكمال والحكمة العظيمة ،وأنه ال الذي ل تنبغي العبادة إل
له وحده ل شريك له.
حدِيثًا ُيفْتَرَى } أي :ما كان هذا القرآن الذي قص ال به عليكم من أنباء الغيب ما
وقوله { :مَا كَانَ َ
قص من الحاديث المفتراة المختلقة { ،وََلكِنْ } كان { تصديق الّذِي بَيْنَ َيدَيْهِ } من الكتب السابقة،
شيْءٍ } يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه،
يوافقها ويشهد لها بالصحة { ،وَ َتفْصِيلَ ُكلّ َ
ومن الدلة والبراهين.
حمَةٌ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فإنهم -بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره -
{ وَ ُهدًى وَرَ ْ
يحصل لهم الهدى ،وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والجل تحصل لهم الرحمة.
فصل
في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال ال في أولها
خوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ } وقال في
ف وَإِ ْ
س َ
علَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْل َقصَصِ } وقال { َلقَدْ كَانَ فِي يُو ُ
{ َنحْنُ َن ُقصّ َ
صهِمْ عِبْ َرةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد.
ص ِ
آخرها { َلقَدْ كَانَ فِي َق َ
فمن ذلك ،أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها ،لما فيها من أنواع التنقلت ،من
ق إلى
حال إلى حال ،ومن محنة إلى محنة ،ومن محنة إلى منحة ومنّة ،ومن ذل إلى عز ،ومن ر ّ
ملك ،ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلف ،ومن حزن إلى سرور ،ومن رخاء إلى جدب ،ومن
جدب إلى رخاء ،ومن ضيق إلى سعة ،ومن إنكار إلى إقرار ،فتبارك من قصها فأحسنها،
ووضحها وبيّنها.
ومنها :أن فيها أصل لتعبير الرؤيا ،وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها ال من يشاء
من عباده ،وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في السم والصفة ،فإن رؤيا يوسف التي
رأى أن الشمس والقمر ،وأحد عشر كوكبا له ساجدين ،وجه المناسبة فيها :أن هذه النوار هي
زينة السماء وجمالها ،وبها منافعها ،فكذلك النبياء والعلماء ،زينة للرض وجمال ،وبهم يهتدى
في الظلمات كما يهتدى بهذه النوار ،ولن الصل أبوه وأمه ،وإخوته هم الفرع ،فمن المناسب أن
يكون الصل أعظم نورا وجرما ،لما هو فرع عنه .فلذلك كانت الشمس أمه ،والقمر أباه،
والكواكب إخوته.
ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث ،فلذلك كانت أمه ،والقمر والكوا كب مذكرات ،فكانت لبيه
وإخوته.،ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له ،والمسجود [له] معظم محترم ،فلذلك
دل ذلك على أن يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته.
ومن لزم ذلك أن يكون مجتبى مفضل في العلم والفضائل الموجبة لذلك ،ولذلك قال له أبوه:
{ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الحاديث } ومن المناسبة في رؤيا الفتيين ،أنه أول رؤيا،
الذي رأى أنه يعصر خمرا ،أن الذي يعصر في العادة ،يكون خادما لغيره ،والعصر يقصد لغيره،
فلذلك أوّله بما يؤول إليه ،أنه يسقي ربه ،وذلك متضمن لخروجه من السجن.
وأوّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ،بأن جلدة رأسه ولحمه ،وما في ذلك
من المخ ،أنه هو الذي يحمله ،وأنه سيبرز للطيور ،بمحل تتمكن من الكل من رأسه ،فرأى من
حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه ،وذلك ل يكون إل بالصلب بعد
القتل.
وأوّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلت ،بالسنين المخصبة ،والسنين المجدبة ،ووجه المناسبة أن
الملك ،به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها ،وبصلحه تصلح ،وبفساده تفسد ،وكذلك السنون بها
صلح أحوال الرعية ،واستقامة أمر المعاش أو عدمه.
وأما البقر فإنها تحرث الرض عليها ،ويستقى عليها الماء ،وإذا أخصبت السنة سمنت ،وإذا
أجدبت صارت عجافا ،وكذلك السنابل في الخصب ،تكثر وتخضر ،وفي الجدب تقل وتيبس وهي
أفضل غلل الرض.
ومنها :ما فيها من الدلة على صحة نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ،حيث قصّ على قومه هذه
القصة الطويلة ،وهو لم يقرأ كتب الولين ول دارس أحدا.
يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء ،وهو أ ّميّ ل يخط ول يقرأ ،وهي موافقة ،لما في الكتب
السابقة ،وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون.
ومنها :أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر ،وكتمان ما تخشى مضرته ،لقول يعقوب ليوسف { يا بني
خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُوا َلكَ كَيْدًا } ومنها :أنه يجوز ذكر النسان بما يكره على
لَا َت ْقصُصْ ُرؤْيَاكَ عَلَى إِ ْ
وجه النصيحة لغيره لقوله { :فَ َيكِيدُوا َلكَ كَيْدًا }
ومنها :أن نعمة ال على العبد ،نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه ،وأنه ربما
شملتهم ،وحصل لهم ما حصل له بسببه ،كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف { َوكَذَِلكَ َيجْتَبِيكَ
ك وَعَلَى آلِ َي ْعقُوبَ } ولما تمت النعمة على
ك وَ ُيعَّلمُكَ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ
رَ ّب َ
يوسف ،حصل لل يعقوب من العز والتمكين في الرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب
يوسف.
ومنها :أن العدل مطلوب في كل المور ،ل في معاملة السلطان رعيته ول فيما دونه ،حتى في
معاملة الوالد لولده ،في المحبة واليثار وغيره ،وأن في الخلل بذلك يختل عليه المر ،وتفسد
الحوال ،ولهذا ،لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته ،جرى منهم ما جرى على
أنفسهم ،وعلى أبيهم وأخيهم.
ومنها :الحذر من شؤم الذنوب ،وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة ،ول يتم لفاعله إل بعدة
جرائم ،فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه ،احتالوا لذلك بأنواع من الحيل ،وكذبوا
عدة مرات ،وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه ،وفي إتيانهم عشاء يبكون ،ول تستبعد
أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة ،بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف ،وكلما صار
البحث ،حصل من الخبار بالكذب ،والفتراء ،ما حصل ،وهذا شؤم الذنب ،وآثاره التابعة
والسابقة واللحقة.
ومنها :أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية ،ل بنقص البداية ،فإن أولد يعقوب عليه السلم
جرى منهم ما جرى في أول المر ،مما هو أكبر أسباب النقص واللوم ،ثم انتهى أمرهم إلى
التوبة النصوح ،والسماح التام من يوسف ومن أبيهم ،والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ،وإذا سمح
العبد عن حقه ،فال خير الراحمين.
سمَاعِيلَ
ولهذا -في أصح القوال -أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى { :وََأوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَْأسْبَاطِ } وهم أولد يعقوب الثنا عشر وذريتهم ،ومما يدل على ذلك أن في
وَإِسْحَا َ
رؤيا يوسف ،أنه رآهم كواكب نيرة ،والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات النبياء ،فإن
لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة.
ومنها :ما منّ ال به على يوسف عليه الصلة والسلم من العلم والحلم ،ومكارم الخلق،
والدعوة إلى ال وإلى دينه ،وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به ،وتمم ذلك بأن ل يثرب
عليهم ول يعيرهم به.
ومنها :أن بعض الشر أهون من بعض ،وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما،
سفَ
فإن إخوة يوسف ،لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا ،وقال قائل منهم { :لَا َتقْتُلُوا يُو ُ
جبّ } كان قوله أحسن منهم وأخف ،وبسببه خف عن إخوته الثم الكبير.
وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَا َبةِ ا ْل ُ
ومنها :أن الشيء إذا تداولته اليدي وصار من جملة الموال ،ولم يعلم أنه كان على غير وجه
الشرع ،أنه ل إثم على من باشره ببيع أو شراء ،أو خدمة أو انتفاع ،أو استعمال ،فإن يوسف
عليه السلم باعه إخوته بيعا حراما ل يجوز ،ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها ،وبقي
عند سيده غلما رقيقا ،وسماه ال شراء ،وكان عندهم بمنزلة الغلم الرقيق المكرم.
ومنها :الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة ،والحذر أيضا من المحبة التي يخشى
ضررها ،فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى ،بسبب توحّدها بيوسف ،وحبها الشديد له ،الذي
ما تركها حتى راودته تلك المراودة ،ثم كذبت عليه ،فسجن بسببها مدة طويلة.
ومنها :أن الهمّ الذي همّ به يوسف بالمرأة ثم تركه ل ،مما يقربه إلى ال زلفى ،لن الهمّ داع من
دواعي النفس المارة بالسوء ،وهو طبيعة لغلب الخلق ،فلما قابل بينه وبين محبة ال وخشيته،
غلبت محبة ال وخشيته داعي النفس والهوى .فكان ممن { خاف مقام ربه ونهى النفس عن
الهوى } ومن السبعة الذين يظلهم ال في ظل عرشه يوم ل ظل إل ظله ،أحدهم" :رجل دعته
امرأة ذات منصب وجمال ،فقال :إني أخاف ال" وإنما الهم الذي يلم عليه العبد ،الهم الذي
يساكنه ،ويصير عزما ،ربما اقترن به الفعل.
ومنها :أن من دخل اليمان قلبه ،وكان مخلصا ل في جميع أموره فإن ال يدفع عنه ببرهان
إيمانه ،وصدق إخلصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء ليمانه
وإخلصه لقوله { .وَ َهمّ ِبهَا َلوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَِلكَ لِ َنصْرِفَ عَنْهُ السّو َء وَا ْلفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ
عِبَادِنَا ا ْل ُمخَْلصِينَ } على قراءة من قرأها بكسر اللم ،ومن قرأها بالفتح ،فإنه من إخلص ال
إياه ،وهو متضمن لخلصه هو بنفسه ،فلما أخلص عمله ل أخلصه ال ،وخلصه من السوء
والفحشاء.
ومنها :أنه ينبغي للعبد إذا رأى محل فيه فتنة وأسباب معصية ،أن يفر منه ويهرب غاية ما
يمكنه ،ليتمكن من التخلص من المعصية ،لن يوسف عليه السلم -لما راودته التي هو في بيتها-
فر هاربا ،يطلب الباب ليتخلص من شرها ،ومنها :أن القرائن يعمل بها عند الشتباه ،فلو تخاصم
رجل وامرأته في شيء من أواني الدار ،فما يصلح للرجل فإنه للرجل ،وما يصلح للمرأة فهو لها،
إذا لم يكن بينة ،وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة ،والعمل بالقافة في
الشباه والثر ،من هذا الباب ،فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة ،وحكم بها في قد القميص ،واستدل
بقدّه من دبره على صدق يوسف وكذبها.
ومما يدل على هذه القاعدة ،أنه استدل بوجود الصّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة،
من غير بينة شهادة ول إقرار ،فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق ،خصوصا إذا كان
معروفا بالسرقة ،فإنه يحكم عليه بالسرقة ،وهذا أبلغ من الشهادة ،وكذلك وجود الرجل يتقيأ
الخمر ،أو وجود المرأة التي ل زوج لها ول سيد ،حامل فإنه يقام بذلك الحد ،ما لم يقم مانع منه،
شهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهِْلهَا }
ولهذا سمى ال هذا الحاكم شاهدا فقال { :وَ َ
ومنها :ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن.،فإن جماله الظاهر ،أوجب للمرأة التي هو في
بيتها ما أوجب ،وللنساء اللتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن { مَا َهذَا بَشَرًا
إِنْ َهذَا إِلّا مََلكٌ كَرِيمٌ } وأما جماله الباطن ،فهو العفة العظيمة عن المعصية ،مع وجود الدواعي
الكثيرة لوقوعها ،وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته ،ولهذا قالت امرأة العزيز { :وََلقَدْ
حصَ ا ْلحَقّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِهِ وَإِنّهُ
حصْ َ
رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِهِ فَاسْ َت ْعصَمَ } وقالت بعد ذلك { :الْآنَ َ
علَيْهِ مِنْ سُوءٍ }
َلمِنَ الصّا ِدقِينَ } وقالت النسوة { :حَاشَ لِلّهِ مَا عَِلمْنَا َ
ومنها :أن يوسف عليه السلم اختار السجن على المعصية ،فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين
-إما فعل معصية ،وإما عقوبة دنيوية -أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب
للعقوبة الشديدة في الدنيا والخرة ،ولهذا من علمات اليمان ،أن يكره العبد أن يعود في الكفر،
بعد أن أنقذه ال منه ،كما يكره أن يلقى في النار.
ومنها :أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى ال ،ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية ،ويتبرأ من
ن وََأكُنْ مِنَ
صبُ إِلَ ْيهِ ّ
حوله وقوته ،لقول يوسف عليه السلم { :وَإِلّا َتصْ ِرفْ عَنّي كَيْ َدهُنّ َأ ْ
الْجَاهِلِينَ }
ومنها :أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير ،وينهيانه عن الشر ،وأن الجهل يدعو صاحبه
إلى موافقة هوى النفس ،وإن كان معصية ضارا لصاحبه.
ومنها :أنه كما على العبد عبودية ل في الرخاء ،فعليه عبودية له في الشدة ،فبب "يوسف" عليه
السلم لم يزل يدعو إلى ال ،فلما دخل السجن ،استمر على ذلك ،ودعا الفتيين إلى التوحيد،
ونهاهما عن الشرك ،ومن فطنته عليه السلم أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته ،حيث ظنا فيه الظن
حسِنِينَ } وأتياه لن يعبر لهما رؤياهما ،فرآهما متشوفين
الحسن وقال له { :إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ
لتعبيرها عنده -رأى ذلك فرصة فانتهزها ،فدعاهما إلى ال تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون
أنجح لمقصوده ،وأقرب لحصول مطلوبه ،وبين لهما أول ،أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه
فيها من الكمال والعلم ،إيمانه وتوحيده ،وتركه ملة من ل يؤمن بال واليوم الخر ،وهذا دعاء
لهما بالحال ،ثم دعاهما بالمقال ،وبين فساد الشرك وبرهن عليه ،وحقيقة التوحيد وبرهن عليه.
ومنها :أنه يبدأ بالهم فالهم ،وأنه إذا سئل المفتي ،وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه
ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ،فإن هذا علمة على نصح المعلم وفطنته،
وحسن إرشاده وتعليمه ،فإن يوسف -لما سأله الفتيان عن الرؤيا -قدم لهما قبل تعبيرها
دعوتهما إلى ال وحده ل شريك له.
ومنها :أن من وقع في مكروه وشدة ،ل بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه ،أو الخبار
بحاله ،وأن هذا ل يكون شكوى للمخلوق ،فإن هذا من المور العادية التي جرى العرف باستعانة
الناس بعضهم ببعض ،ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين { :ا ْذكُرْنِي عِنْدَ رَ ّبكَ }
ومنها :أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الخلص التام في تعليمه وأن ل يجعل تعليمه وسيلة
لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع ،وأن ل يمتنع من التعليم ،أو ل ينصح فيه ،إذا لم يفعل
السائل ما كلفه به المعلم ،فإن يوسف عليه السلم قد قال ،ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه،
فلم يذكره ونسي ،فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى ،وجاءه سائل مستفتيا عن
تلك الرؤيا ،فلم يعنفه يوسف ،ول وبخه ،لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جوابا تاما من كل وجه.
ومنها :أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله ،ويرشده إلى الطريق
التي ينتفع بها في دينه ودنياه ،فإن هذا من كمال نصحه وفطنته ،وحسن إرشاده ،فإن يوسف عليه
السلم لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك ،بل دلهم -مع ذلك -على ما يصنعون في تلك السنين
المخصبات من كثرة الزرع ،وكثرة جبايته.
ومنها :أنه ل يلم النسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه ،وطلب البراءة لها ،بل يحمد على
ذلك ،كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللتي قطعن
أيديهن ،ومنها :فضيلة العلم ،علم الحكام والشرع ،وعلم تعبير الرؤيا ،وعلم التدبير والتربية؛
وأنه أفضل من الصورة الظاهرة ،ولو بلغت في الحسن جمال يوسف ،فإن يوسف -بسبب جماله
-حصلت له تلك المحنة والسجن ،وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الرض،
فإن كل خير في الدنيا والخرة من آثار العلم وموجباته.
ومنها :أن علم التعبير من العلوم الشرعية ،وأنه يثاب النسان على تعلمه وتعليمه ،وأن تعبير
ضيَ الَْأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْ َتفْتِيَانِ } وقال الملكَ { :أفْتُونِي
المرائي داخل في الفتوى ،لقوله للفتيينُ { :ق ِ
فِي ُرؤْيَايَ } وقال الفتى ليوسفَ { :أفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ } اليات.،فل يجوز القدام على تعبير
الرؤيا من غير علم.
ومنها :أنه ل بأس أن يخبر النسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل ،إذا كان في
جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
ذلك مصلحة ،ولم يقصد به العبد الرياء ،وسلم من الكذب ،لقول يوسف { :ا ْ
حفِيظٌ عَلِيمٌ } وكذلك ل تذم الولية ،إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من
الْأَ ْرضِ إِنّي َ
حقوق ال وحقوق عباده ،وأنه ل بأس بطلبها ،إذا كان أعظم كفاءة من غيره ،وإنما الذي يذم ،إذا
لم يكن فيه كفاية ،أو كان موجودا غيره مثله ،أو أعلى منه ،أو لم يرد بها إقامة أمر ال ،فبهذه
المور ،ينهى عن طلبها ،والتعرض لها.
ومنها :أن ال واسع الجود والكرم ،يجود على عبده بخير الدنيا والخرة ،وأن خير الخرة له
سببان :اليمان والتقوى ،وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها ،وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه،
ويشوقها لثواب ال ،ول يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها ،وهي غير قادرة عليها ،بل
يسليها بثواب ال الخروي ،وفضله العظيم لقوله تعالى { :وَلََأجْرُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا
يَ ّتقُونَ }
ومنها :أن جباية الرزاق -إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم -ل بأس
بها ،لن يوسف أمرهم بجباية الرزاق والطعمة في السنين المخصبات ،للستعداد للسنين
المجدبة ،وأن هذا غير مناقض للتوكل على ال ،بل يتوكل العبد على ال ،ويعمل بالسباب التي
تنفعه في دينه ودنياه.
ومنها :حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الرض ،حتى كثرت عندهم الغلت جدا حتى صار
أهل القطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها ،لعلمهم بوفورها فيها ،وحتى إنه كان ل يكيل
لحد إل مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ،ل يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله.
ومنها :مشروعية الضيافة ،وأنها من سنن المرسلين ،وإكرام الضيف لقول يوسف لخوته { أَلَا
تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ }
ومنها :أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ول محرم ،فإن يعقوب قال
لولده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة ،ثم قال لهم بعد ما أتوه،
سكُمْ َأمْرًا } وقال لهم في الخ الخرَ { :هلْ آمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ
سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ
وزعموا أن الذئب أكله { َبلْ َ
إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى َأخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ } ثم لما احتبسه يوسف عنده ،وجاء إخوته لبيهم قال لهمَ { :بلْ
سكُمْ َأمْرًا } فهم في الخيرة -وإن لم يكونوا مفرطين -فقد جرى منهم ما أوجب
سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ
َ
لبيهم أن قال ما قال ،من غير إثم عليه ول حرج.
ومنها :أن استعمال السباب الدافعة للعين أوغيرها من المكاره ،أو الرافعة لها بعد نزولها ،غير
ممنوع ،بل جائز ،وإن كان ل يقع شيء إل بقضاء وقدر ،فإن السباب أيضا من القضاء والقدر،
ب وَاحِ ٍد وَا ْدخُلُوا مِنْ أَ ْبوَابٍ مُ َتفَ ّرقَةٍ }
خلُوا مِنْ بَا ٍ
لمر يعقوب حيث قال لبنيه { :يَا بَ ِنيّ لَا تَدْ ُ
ومنها :جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ،وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة
إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد ،وإنما الممنوع ،التحيل على إسقاط واجب ،أو فعل محرم.
ومنها :أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره ،بأمر ل يحب أن يطلع عليه ،أن يستعمل المعاريض
القولية والفعلية المانعة له من الكذب ،كما فعل يوسف حيث ألقى الصّواع في رحل أخيه ،ثم
استخرجها منه ،موهما أنه سارق ،وليس فيه إل القرينة الموهمة لخوته ،وقال بعد ذلكَ { :معَاذَ
جدْنَا مَتَاعَنَا عِنْ َدهُ } ولم يقل "من سرق متاعنا" وكذلك لم يقل "إنا وجدنا
ن وَ َ
خذَ إِلّا مَ ْ
اللّهِ أَنْ نَأْ ُ
متاعنا عنده" بل أتى بكلم عام يصلح له ولغيره ،وليس في ذلك محذور ،وإنما فيه إيهام أنه
سارق ليحصل المقصود الحاضر ،وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الخ هذا اليهام بعد ما تبينت
الحال.
ومنها :أنه ل يجوز للنسان أن يشهد إل بما علمه ،وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به،
شهِدْنَا إِلّا ِبمَا عَِلمْنَا }
وتطمئن إليه النفس لقولهمَ { :ومَا َ
ومنها :هذه المحنة العظيمة التي امتحن ال بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلم ،حيث قضى
بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف ،الذي ل يقدر على فراقه ساعة واحدة ،ويحزنه ذلك أشد الحزن،
فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة ،ل تقصر عن خمس عشرة سنة ،ويعقوب لم يفارق الحزن
ضتْ عَيْنَاهُ مِنَ ا ْلحُزْنِ َف ُهوَ كَظِيمٌ } ثم ازداد به المر شدة ،حين صار
قلبه في هذه المدة { وَابْ َي ّ
الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف ،هذا وهو صابر لمر ال ،محتسب الجر من ال ،قد
شكُو
وعد من نفسه الصبر الجميل ،ول شك أنه وفى بما وعد به ،ول ينافي ذلك ،قوله { :إِ ّنمَا أَ ْ
بَثّي َوحُزْنِي ِإلَى اللّهِ } فإن الشكوى إلى ال ل تنافي الصبر ،وإنما الذي ينافيه ،الشكوى إلى
المخلوقين.
ومنها :أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا ،فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى
أنهى ما يكون ،ثم حصل الضطرار لل يعقوب ومسهم الضر ،أذن ال حينئذ بالفرج ،فحصل
التلقي في أشد الوقات إليه حاجة واضطرارا ،فتم بذلك الجر وحصل السرور ،وعلم من ذلك
أن ال يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء ،والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم ،ويزداد -بذلك -
إيمانهم ويقينهم وعرفانهم.
ومنها :جواز إخبار النسان بما يجد ،وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما ،على غير وجه
التسخط ،لن إخوة يوسف قالوا { :يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ } ولم ينكر عليهم يوسف.
ومنها :فضيلة التقوى والصبر ،وأن كل خير في الدنيا والخرة فمن آثار التقوى والصبر ،وأن
عاقبة أهلهما ،أحسن العواقب ،لقوله { :قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّقِ وَ َيصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ
حسِنِينَ }
ا ْلمُ ْ
ومنها :أنه ينبغي لمن أنعم ال عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال ،أن يعترف بنعمة ال عليه،
وأن ل يزال ذاكرا حاله الولى ،ليحدث لذلك شكرا كلما ذكرها ،لقول يوسف عليه السلمَ { :وقَدْ
ن وَجَاءَ ِبكُمْ مِنَ الْ َب ْدوِ }
حسَنَ بِي إِذْ َأخْرَجَنِي مِنَ السّجْ ِ
أَ ْ
ومنها :لطف ال العظيم بيوسف ،حيث نقله في تلك الحوال ،وأوصل إليه الشدائد والمحن،
ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات.
ومنها :أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى ال دائما في تثبيت إيمانه ،ويعمل السباب الموجبة لذلك،
ويسأل ال حسن الخاتمة ،وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلة والسلمَ { :ربّ َقدْ آتَيْتَنِي مِنَ
ت وَِليّ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َت َوفّنِي
ت وَالْأَ ْرضِ أَ ْن َ
سمَاوَا ِ
ك وَعَّلمْتَنِي مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ ال ّ
ا ْلمُ ْل ِ
حقْنِي بِالصّالِحِينَ }
مُسِْلمًا وَأَلْ ِ
فهذا ما يسر ال من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة ،ول بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير
ذلك.
تم تفسير سورة يوسف وأبيه وإخوته عليهم الصلة والسلم ،والحمد ل رب العالمين.
ق وََلكِنّ
حّحمَنِ الرّحِيمِ المر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ وَالّذِي أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ الْ َ
{ ِ { } 1بسْمِ اللّهِ الرّ ْ
َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ }
يخبر تعالى أن هذا القرآن هو آيات الكتاب الدالة على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين
وفروعه ،وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق المبين ،لن أخباره صدق ،وأوامره
ونواهيه عدل ،مؤيدة بالدلة والبراهين القاطعة ،فمن أقبل عليه وعلى علمه ،كان من أهل العلم
بالحق ،الذي يوجب لهم علمهم العمل بما أحب ال.
{ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ } بهذا القرآن ،إما جهل وإعراضا عنه وعدم اهتمام به ،وإما عنادا
وظلما ،فلذلك أكثر الناس غير منتفعين به ،لعدم السبب الموجب للنتفاع.
شمْسَ
سخّرَ ال ّ
ش وَ َ
ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْ ِ
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
{ { } 4 - 2اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ
صلُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ بِِلقَاءِ رَ ّبكُمْ تُوقِنُونَ * وَ ُهوَ الّذِي مَدّ
سمّى ُيدَبّرُ الَْأمْرَ ُي َف ّ
جلٍ مُ َ
وَا ْلقَمَرَ ُكلّ يَجْرِي لَِأ َ
ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ُيغْشِي اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ
سيَ وَأَ ْنهَارًا َومِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ض وَ َ
الْأَ ْر َ
ع وَنَخِيلٌ
ب وَزَ ْر ٌ
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ * َوفِي الْأَ ْرضِ قِطَعٌ مُ َتجَاوِرَاتٌ َوجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَا ٍ
ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ
ضلُ َب ْع َ
سقَى ِبمَا ٍء وَاحِدٍ وَنُ َف ّ
صِ ْنوَانٌ وَغَيْ ُر صِ ْنوَانٍ يُ ْ
ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ }
يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير ،والعظمة والسلطان الدال على أنه وحده المعبود الذي ل
سمَاوَاتِ } على عظمها واتساعها بقدرته العظيمة،
تنبغي العبادة إل له فقال { :اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ
ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا } أي :ليس لها عمد من تحتها ،فإنه لو كان لها عمد ،لرأيتموها { ُثمّ } بعد ما
{ ِبغَيْرِ َ
خلق السماوات والرض { اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات ،استواء يليق
بجلله ويناسب كماله.
س وَا ْلقَمَرَ } لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهمُ { ،كلّ } من الشمس والقمر
شمْ َ
سخّرَ ال ّ
{ وَ َ
سمّى } بسير منتظم ،ل يفتران ول ينيان ،حتى يجيء
جلٍ مُ َ
{ َيجْرِي } بتدبير العزيز العليم { ،لَ َ
الجل المسمى وهو طي ال هذا العالم ،ونقلهم إلى الدار الخرة التي هي دار القرار ،فعند ذلك
يطوي ال السماوات ويبدلها ،ويغير الرض ويبدلها .فتكور الشمس والقمر ،ويجمع بينهما فيلقيان
في النار ،ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة وليعلم الذين كفروا
أنهم كانوا كاذبين.
صلُ الْآيَاتِ } هذا جمع بين الخلق والمر ،أي :قد استوى ال العظيم على
وقوله { يُدَبّرُ الَْأمْرَ ُيفَ ّ
سرير الملك ،يدبر المور في العالم العلوي والسفلي ،فيخلق ويرزق ،ويغني ويفقر ،ويرفع أقواما
ويضع آخرين ،ويعز ويذل ،ويخفض ويرفع ،ويقيل العثرات ،ويفرج الكربات ،وينفذ القدار في
أوقاتها التي سبق بها علمه ،وجرى بها قلمه ،ويرسل ملئكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره.
وينزل الكتب اللهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والوامر والنواهي،
ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزهاَ { ،لعَّلكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من اليات
الفقية واليات القرآنية { ،بِِلقَاءِ رَ ّب ُكمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الدلة وبيانها ووضوحها ،من أسباب
حصول اليقين في جميع المور اللهية ،خصوصا في العقائد الكبار ،كالبعث والنشور والخراج
من القبور.
وأيضا فقد علم أن ال تعالى حكيم ل يخلق الخلق سدى ،ول يتركهم عبثا ،فكما أنه أرسل رسله
وأنزل كتبه لمر العباد ونهيهم ،فل بد أن ينقلهم إلى دار يحل فيها جزاؤه ،فيجازي المحسنين
بأحسن الجزاء ،ويجازي المسيئين بإساءتهم.
{ وَ ُهوَ الّذِي مَدّ الْأَ ْرضَ } أي :خلقها للعباد ،ووسعها وبارك فيها ومهدها للعباد ،وأودع فيها من
سيَ } أي :جبال عظاما ،لئل تميد بالخلق ،فإنه لول الجبال
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
مصالحهم ما أودع { ،وَ َ
لمادت بأهلها ،لنها على تيار ماء ،ل ثبوت لها ول استقرار إل بالجبال الرواسي ،التي جعلها ال
أوتادا لها.
{ و } جعل فيها { أَ ْنهَارًا } تسقي الدميين وبهائمهم وحروثهم ،فأخرج بها من الشجار والزروع
ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي :صنفين مما
والثمار خيرا كثيرا ولهذا قالَ { :ومِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ
يحتاج إليه العباد.
{ ُي ْغشِي اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ } فتظلم الفاق فيسكن كل حيوان إلى مأواه ويستريحون من التعب والنصب
في النهار ،ثم إذا قضوا مأربهم من النوم غشي النهار الليل فإذا هم مصبحون منتشرون في
مصالحهم وأعمالهم في النهار.
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ } على المطالب اللهية { ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ } فيها ،وينظرون فيها نظر اعتبار
دالة على أن الذي خلقها ودبرها وصرفها ،هو ال الذي ل إله إل هو ،ول معبود سواه ،وأنه عالم
الغيب والشهادة ،الرحمن الرحيم ،وأنه القادر على كل شيء ،الحكيم في كل شيء المحمود على
ما خلقه وأمر به تبارك وتعالى.
ت وَجَنّاتٌ } فيها
ومن اليات على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل { فِي الْأَ ْرضِ ِقطَعٌ مُتَجَاوِرَا ٌ
ع وَنَخِيلٌ } وغير ذلك ،والنخيل التي بعضها { صِ ْنوَانٌ } أي:
ب وَزَ ْر ٌ
أنواع الشجار { مِنْ أَعْنَا ٍ
سقَى
عدة أشجار في أصل واحد { ،وَغَيْ ُر صِ ْنوَانٍ } بأن كان كل شجرة على حدتها ،والجميع { ُي ْ
ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ } لونا وطعما ونفعا ولذة؛ فهذه
حدٍ } وأرضه واحدة { وَ ُن َفضّلُ َب ْع َ
ِبمَا ٍء وَا ِ
أرض طيبة تنبت الكل والعشب الكثير والشجار والزروع ،وهذه أرض تلصقها ل تنبت كل ول
تمسك ماء ،وهذه تمسك الماء ول تنبت الكل ،وهذه تنبت الزرع والشجار ول تنبت الكل ،وهذه
الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ } أي :لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ،وتقودهم إلى ما
يرشدهم ويعقلون عن ال وصاياه وأوامره ونواهيه ،وأما أهل العراض ،وأهل البلدة فهم في
ظلماتهم يعمهون ،وفي غيهم يترددون ،ل يهتدون إلى ربهم سبيل ول يعون له قيل.
جبٌ َقوُْلهُمْ أَئِذَا كُنّا تُرَابًا أَئِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَ ِئكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَ ّبهِمْ
جبْ َف َع َ
{ { } 5وَإِنْ َت ْع َ
وَأُولَ ِئكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
فلما رأوا هذا ممتنعا في قدرة المخلوق ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق ،ونسوا أن ال خلقهم
أول مرة ولم يكونوا شيئا.
ويحتمل أن معناه :وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث ،فإن ذلك من العجائب ،فإن الذي توضح
له اليات ،ويرى من الدلة القاطعة على البعث ما ل يقبل الشك والريب ،ثم ينكر ذلك فإن قوله
من العجائب.
ولكن ذلك ل يستغرب على { الّذِينَ كَفَرُوا بِرَ ّبهِمْ } وجحدوا وحدانيته ،وهي أظهر الشياء
وأجلها { ،وَأُولَ ِئكَ الْأَغْلَالُ } المانعة لهم من الهدى { فِي أَعْنَا ِقهِمْ } حيث دعوا إلى اليمان فلم
يؤمنوا ،وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا ،فقلبت قلوبهم وأفئدتهم عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول
صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } ل يخرجون منها أبدا.
مرة { ،وَأُولَ ِئكَ َأ ْ
{ { } 6وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِالسّيّئَةِ قَ ْبلَ ا ْلحَسَنَةِ َوقَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُلَاتُ وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َمغْفِ َرةٍ لِلنّاسِ
عَلَى ظُ ْل ِمهِ ْم وَإِنّ رَ ّبكَ َلشَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }
يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله المشركين به ،الذين وعظوا فلم يتعظوا ،وأقيمت عليهم
الدلة فلم ينقادوا لها ،بل جاهروا بالنكار ،واستدلوا بحلم [ال] الواحد القهار عنهم ،وعدم
معاجلتهم بذنوبهم أنهم على حق ،وجعلوا يستعجلون الرسول بالعذاب ،ويقول قائلهم { :اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }
{ و } الحال أنه { َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْل ِهمُ ا ْلمَثُلَاتُ } أي :وقائع ال وأيامه في المم المكذبين ،أفل
يتفكرون في حالهم ويتركون جهلهم { وَإِنّ رَ ّبكَ َلذُو َمغْفِ َرةٍ لِلنّاسِ عَلَى ظُ ْل ِمهِمْ } أي :ل يزال خيره
إليهم وإحسانه وبره وعفوه نازل إلى العباد ،وهم ل يزال شرهم وعصيانهم إليه صاعدًا.
يعصونه فيدعوهم إلى بابه ،ويجرمون فل يحرمهم خيره وإحسانه ،فإن تابوا إليه فهو حبيبهم لنه
يحب التوابين ،ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم ،يبتليهم بالمصائب ،ليطهرهم من
المعايب { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال إن ال يغفر الذنوب
جميعا إنه هو الغفور الرحيم }
{ وَإِنّ رَ ّبكَ َلشَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } على من لم يزل مصرا على الذنوب ،قد أبى التوبة والستغفار
واللتجاء إلى العزيز الغفار ،فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم ،فإن أخذه أليم شديد.
{ { } 7وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُنْذِ ٌر وَِل ُكلّ َقوْمٍ هَادٍ }
أي :ويقترح الكفار عليك من اليات ،التي يعينونها ويقولونَ { :لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ }
ويجعلون هذا القول منهم ،عذرا لهم في عدم الجابة إلى الرسول ،والحال أنه منذر ليس له من
المر شيء ،وال هو الذي ينزل اليات.
وقد أيده بالدلة البينات التي ل تخفى على أولي اللباب ،وبها يهتدي من قصده الحق ،وأما الكافر
الذي -من ظلمه وجهله -يقترح على ال اليات فهذا اقتراح منه باطل وكذب وافتراء
فإنه لو جاءته أي آية كانت لم يؤمن ولم ينقد؛ لنه لم يمتنع من اليمان ،لعدم ما يدله على صحته
وإنما ذلك لهوى نفسه واتباع شهوته { وَِل ُكلّ َقوْمٍ هَادٍ } أي :داع يدعوهم إلى الهدى من الرسل
وأتباعهم ،ومعهم من الدلة والبراهين ما يدل على صحة ما معهم من الهدى.
شهَا َدةِ ا ْلكَبِيرُ } في ذاته وأسمائه وصفاته { ا ْلمُ َتعَالِ } على جميع خلقه بذاته
فإنه { عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
وقدرته وقهره.
خفٍ بِاللّ ْيلِ } أي :مستقر بمكان خفي فيه { ،وَسَا ِربٌ
جهَرَ ِب ِه َومَنْ ُهوَ مُسْتَ ْ
ل َومَنْ َ
{ مَنْ َأسَرّ ا ْل َقوْ َ
بِال ّنهَارِ } أي :داخل سربه في النهار والسرب هو ما يختفي فيه النسان إما جوف بيته أو غار أو
مغارة أو نحو ذلك.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية ،فانتقلوا إلى طاعة ال ،غير ال عليهم ما كانوا فيه
من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة { ،وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ ِبقَوْمٍ سُوءًا } أي :عذابا وشدة
وأمرا يكرهونه ،فإن إرادته ل بد أن تنفذ فيهم.
فبإنه { لَا مَرَدّ لَهُ } ول أحد يمنعهم منهَ { ،ومَا َلهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } يتولى أمورهم فيجلب لهم
المحبوب ،ويدفع عنهم المكروه ،فليحذروا من القامة على ما يكره ال خشية أن يحل بهم من
العقاب ما ل يرد عن القوم المجرمين.
حمْ ِدهِ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد ،فهو خاضع لربه
{ وَيُسَبّحُ الرّعْدُ ِب َ
سلُ
مسبح بحمده { ،و } تسبح { ا ْلمَلَا ِئكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي :خشعا لربهم خائفين من سطوته { ،وَيُرْ ِ
صوَاعِقَ } وهي هذه النار التي تخرج من السحاب { ،فَ ُيصِيبُ ِبهَا مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب
ال ّ
ما شاءه وأراده وَ ُهوَ شَدِيدُ ا ْلمِحَالِ أي :شديد الحول والقوة فل يريد شيئا إل فعله ،ول يتعاصى
عليه شيء ول يفوته هارب.
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد المطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم ،وهو الذي يدبر
المور ،وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها ،وتزعج العباد وهو شديد القوة -فهو
الذي يستحق أن يعبد وحده ل شريك له.
ولهذا قال:
ع َوةُ ا ْلحَقّ } وهي :عبادته وحده ل شريك له ،وإخلص دعاء العبادة ودعاء
أي :ل وحده { دَ ْ
المسألة له تعالى ،أي :هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء ،والخوف ،والرجاء ،والحب،
والرغبة ،والرهبة ،والنابة؛ لن ألوهيته هي الحق ،وألوهية غيره باطلة { وَالّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ } من الوثان والنداد التي جعلوها شركاء ل.
{ لَا يَسْتَجِيبُونَ َل ُهمْ } أي :لمن يدعوها ويعبدها بشيء قليل ول كثير ل من أمور الدنيا ول من
أمور الخرة { ِإلّا كَبَاسِطِ كَفّيْهِ ِإلَى ا ْلمَاءِ } الذي ل تناله كفاه لبعده { ،لِيَ ْبلُغَ } ببسط كفيه إلى الماء
{ فَاهُ } فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده ،ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه ،فل
يصل إليه.
كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة ل يستجيبون لهم بشيء ول ينفعونهم في أشد الوقات إليهم
حاجة لنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء ،ل يملكون مثقال ذرة في الرض ول في السماء،
وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير.
{ َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ } لبطلن ما يدعون من دون ال ،فبطلت عباداتهم ودعاؤهم؛
لن الوسيلة تبطل ببطلن غايتها ،ولما كان ال تعالى هو الملك الحق المبين ،كانت عبادته حقّا
متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والخرة.
وتشبيه دعاء الكافرين لغير ال بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن المثلة؛ فإن ذلك
تشبيه بأمر محال ،فكما أن هذا محال ،فالمشبه به محال ،والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون
في نفي الشيء كما قال تعالى { :إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ل تفتح لهم أبواب السماء
ول يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط }
طوْعًا َوكَرْهًا }
أي :جميع ما احتوت عليه السماوات والرض كلها خاضعة لربها ،تسجد له { َ
فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع اختيارا كالمؤمنين ،والكره لمن يستكبر عن عبادة ربه،
وحاله وفطرته تكذبه في ذلكَ { ،وظِلَاُلهُمْ بِا ْلغُ ُد ّو وَالْآصَالِ } أي :ويسجد له ظلل المخلوقات أول
النهار وآخره وسجود كل شيء بحسب حاله كما قال تعالى { :وإن من شيء إل يسبح بحمده
ولكن ل تفقهون تسبيحهم }
فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها كان هو الله حقا المعبود المحمود حقا
وإلهية غيره باطلة ،ولهذا ذكر بطلنها وبرهن عليه بقوله:
سهِمْ
خذْتُمْ مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ لَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ
ت وَالْأَ ْرضِ ُقلِ اللّهُ ُقلْ َأفَاتّ َ
سمَاوَا ِ
{ ُ { } 16قلْ مَنْ َربّ ال ّ
جعَلُوا لِلّهِ شُ َركَاءَ
عمَى وَالْ َبصِيرُ أَمْ َهلْ َتسْ َتوِي الظُّلمَاتُ وَالنّورُ َأمْ َ
َن ْفعًا وَلَا ضَرّا ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الْأَ ْ
شيْءٍ وَ ُهوَ ا ْلوَاحِدُ ا ْلقَهّارُ }
خََلقُوا كَخَ ْلقِهِ فَتَشَا َبهَ ا ْلخَلْقُ عَلَ ْي ِهمْ ُقلِ اللّهُ خَالِقُ ُكلّ َ
أي :قل لهؤلء المشركين به أوثانا وأندادا يحبونها كما يحبون ال ،ويبذلون لها أنواع التقربات
والعبادات :أفتاهت عقولكم حتى اتخذتم من دونه أولياء تتولونهم بالعبادة وليسوا بأهل لذلك؟
سهِمْ َنفْعًا وَلَا ضَرّا } وتتركون ولية من هو كامل السماء والصفات ،المالك
فإنهم { لَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ
للحياء والموات ،الذي بيده الخلق والتدبير والنفع والضر؟
فما تستوي عبادة ال وحده ،وعبادة المشركين به ،كما ل يستوي العمى والبصير ،وكما ل
تستوي الظلمات والنور.
فإن كان عندهم شك واشتباه ،وجعلوا له شركاء زعموا أنهم خلقوا كخلقه وفعلوا كفعله ،فأزلْ
عنهم هذا الشتباه واللبس بالبرهان الدال على توحد الله بالوحدانية ،فقل لهم { :اللّهُ خَالِقُ ُكلّ
شيْءٍ } فإنه من المحال أن يخلق شيء من الشياء نفسه.
َ
ومن المحال أيضا أن يوجد من دون خالق ،فتعين أن لها إلها خالقا ل شريك له في خلقه لنه
الواحد القهار ،فإنه ل توجد الوحدة والقهر إل ل وحده ،فالمخلوقات وكل مخلوق فوقه مخلوق
يقهره ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه ،حتى ينتهي القهر للواحد القهار ،فالقهر والتوحيد
متلزمان متعينان ل وحده ،فتبين بالدليل العقلي القاهر ،أن ما يدعى من دون ال ليس له شيء
من خلق المخلوقات وبذلك كانت عبادته باطلة.
سمَاءِ مَاءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدًا رَابِيًا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ
{ { } 17أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
جفَاءً
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّفِي النّارِ ابْ ِتغَاءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثُْلهُ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
وََأمّا مَا يَ ْنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الْأَ ْرضِ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ }
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والرواح ،بالماء الذي أنزله لحياة
الشباح ،وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد ،بما في المطر من النفع
العام الضروري ،وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالودية التي تسيل فيها السيول ،فواد كبير
يسع ماء كثيرا ،كقلب كبير يسع علما كثيرا ،وواد صغير يأخذ ماء قليل ،كقلب صغير ،يسع علما
قليل ،وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها ،بالزبد الذي يعلو الماء
ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ،وأنها ل تزال فوق الماء طافية
مكدرة له حتى تذهب وتضمحل ،ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة.
كذلك الشبهات والشهوات ل يزال القلب يكرهها ،ويجاهدها بالبراهين الصادقة ،والرادات
الجازمة ،حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إل ما ينفع الناس من العلم
طلَ كَانَ زَهُوقًا } وقال هنا:
بالحق وإيثاره ،والرغبة فيه ،فالباطل يذهب ويمحقه الحق { إِنّ الْبَا ِ
{ َكذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلل.
جمِيعًا
{ ِ { } 18للّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَ ّبهِمُ الْحُسْنَى وَالّذِينَ لَمْ َيسْتَجِيبُوا لَهُ َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ
جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ }
حسَابِ َومَ ْأوَاهُمْ َ
َومِثْلَهُ َمعَهُ لَافْتَ َدوْا ِبهِ أُولَ ِئكَ َلهُمْ سُوءُ الْ ِ
لما بيّن تعالى الحق من الباطل ذكر أن الناس على قسمين :مستجيب لربه ،فذكر ثوابه ،وغير
مستجيب فذكر عقابه فقالِ { :للّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَ ّبهِمُ } أي :انقادت قلوبهم للعلم واليمان وجوارحهم
للمر والنهي ،وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم ،فلهم { الْحُسْنَى } أي :الحالة الحسنة
والثواب الحسن.
فلهم من الصفات أجلها ومن المناقب أفضلها ومن الثواب العاجل والجل ما ل عين رأت ول أذن
سمعت ول خطر على قلب بشر { ،وَالّذِينَ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا لَهُ } بعد ما ضرب لهم المثال وبين لهم
جمِيعًا } من ذهب وفضة وغيرها،
الحق ،لهم الحالة غير الحسنة ،فب { َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ
{ َومِثْلَهُ َمعَهُ لَافْتَ َدوْا بِهِ } من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم وأنى لهم ذلك؟"
{ أُولَ ِئكَ َل ُهمْ سُوءُ ا ْلحِسَابِ } وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه من عمل سيئ وما
ضيعوه من حقوق ال وحقوق عباده قد كتب ذلك وسطر عليهم وقالوا { :يا ويلتنا ما لهذا الكتاب
ل يغادر صغيرة ول كبيرة إل أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ول يظلم ربك أحدا } { و } بعد
جهَنّمُ } الجامعة لكل عذاب ،من الجوع الشديد ،والعطش الوجيع،
هذا الحساب السيئ { َومَ ْأوَاهُمْ َ
والنار الحامية والزقوم والزمهرير ،والضريع وجميع ما ذكره ال من أصناف العذاب { وَبِئْسَ
ا ْل ِمهَادُ } أي :المقر والمسكن مسكنهم.
يقول تعالى :مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهمَ { :أ َفمَنْ َيعَْلمُ أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ا ْلحَقّ
عمَى } ل يعلم الحق ول يعمل به فبينهما من الفرق كما بين
} ففهم ذلك وعمل بهَ { .كمَنْ ُهوَ أَ ْ
السماء والرض ،فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حال وخير مآل فيؤثر طريقها
ويسلك خلف فريقها ،ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره.
{ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي :أولو العقول الرزينة ،والراء الكاملة ،الذين هم ُلبّ العالم،
وصفوة بني آدم ،فإن سألت عن وصفهم ،فل تجد أحسن من وصف ال لهم بقوله:
{ الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ } الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة،
فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها ،والنصح فيها { و } من تمام الوفاء بها أنهم { لَا يَ ْنقُضُونَ
ا ْلمِيثَاقَ } أي :العهد الذي عاهدوا عليه ال ،فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود واليمان
والنذور ،التي يعقدها العباد .فل يكون العبد من أولي اللباب الذين لهم الثواب العظيم ،إل بأدائها
كاملة ،وعدم نقضها وبخسها.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم ،ويصلون القارب والرحام،
بالحسان إليهم قول وفعل ،ويصلون ما بينهم وبين الزواج والصحاب والمماليك ،بأداء حقهم
كامل موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصل ما أمر ال به أن يوصل ،خشية ال وخوف يوم الحساب ،ولهذا
شوْنَ رَ ّبهُمْ } أي :يخافونه،
قال { :وَيَخْ َ
فيمنعهم خوفهم منه ،ومن القدوم عليه يوم الحساب ،أن يتجرؤوا على معاصي ال ،أو يقصروا
في شيء مما أمر ال به خوفا من العقاب ورجاء للثواب.
ن صَبَرُوا } علىالمأمورات بالمتثال ،وعن المنهيات بالنكفاف عنها والبعد منها ،وعلى
{ وَالّذِي َ
أقدار ال المؤلمة بعدم تسخطها.
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْ ِتغَا َء وَجْهِ رَ ّب ِهمْ } ل لغير ذلك من المقاصد والغراض
الفاسدة فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه ،طلبا لمرضاة ربه ،ورجاء للقرب
منه ،والحظوة بثوابه ،وهو الصبر الذي من خصائص أهل اليمان ،وأما الصبر المشترك الذي
غايته التجلد ومنتهاه الفخر ،فهذا يصدر من البر والفاجر ،والمؤمن والكافر ،فليس هو الممدوح
على الحقيقة.
{ وََأقَامُوا الصّلَاةَ } بأركانها وشروطها ومكملتها ظاهرا وباطنا { ،وَأَ ْن َفقُوا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا
وَعَلَانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون
حسَنَةِ السّيّئَةَ } أي :من أساء إليهم
حيث دعت الحاجة إلى النفقة ،سرا وعلنية { ،وَيَدْ َرءُونَ بِالْ َ
بقول أو فعل ،لم يقابلوه بفعله ،بل قابلوه بالحسان إليه.
فيعطون من حرمهم ،ويعفون عمن ظلمهم ،ويصلون من قطعهم ،ويحسنون إلى من أساء إليهم،
وإذا كانوا يقابلون المسيء بالحسان ،فما ظنك بغير المسيء؟!
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم { يَ ْدخُلُو َنهَا َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِمْ } من الذكور والناث
ج ِهمْ } أي الزوج أو الزوجة وكذلك النظراء والشباه ،والصحاب والحباب ،فإنهم من
{ وَأَ ْزوَا ِ
أزواجهم وذرياتهم { ،وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْي ِهمْ مِنْ ُكلّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلمة وكرامة ال لهم
ويقولون { :سَلَامٌ عَلَ ْيكُمْ } أي :حلت عليكم السلمة والتحية من ال وحصلت لكم ،وذلك متضمن
لزوال كل مكروه ،ومستلزم لحصول كل محبوب.
{ ِبمَا صَبَرْ ُتمْ } أي :صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية ،والجنان الغالية { ،فَ ِنعْمَ
عقْبَى الدّارِ }
ُ
فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة ،أن يجاهدها ،لعلها تأخذ من أوصاف أولي اللباب
بنصيب ،لعلها تحظى بهذه الدار ،التي هي منية النفوس ،وسرور الرواح الجامعة لجميع اللذات
والفراح ،فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.
ل وَ ُيفْسِدُونَ
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَ َ
عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَا ِق ِه وَيَقْ َ
{ { } 25وَالّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ
فِي الْأَ ْرضِ أُولَ ِئكَ َل ُهمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ }
لما ذكر حال أهل الجنة ذكر أن أهل النار بعكس ما وصفهم به ،فقال عنهم { :والّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ
عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ } أي :من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله ،وغلظ عليهم ،فلم يقابلوه
َ
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } فلم
بالنقياد والتسليم ،بل قابلوه بالعراض والنقص { ،وَ َيقْ َ
يصلوا ما بينهم وبين ربهم باليمان والعمل الصالح ،ول وصلوا الرحام ول أدوا الحقوق ،بل
أفسدوا في الرض بالكفر والمعاصي ،والصد عن سبيل ال وابتغائها عوجا { ،أُولَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْ َنةُ }
أي :البعد والذم من ال وملئكته وعباده المؤمنين { ،وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } وهي :الجحيم بما فيها من
العذاب الليم.
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ َوفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِ َرةِ إِلّا
{ { } 26اللّهُ يَبْ ُ
مَتَاعٌ }
أي :هو وحده يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء ويقدره ويضيقه على من يشاءَ { ،وفَرِحُوا }
أي :الكفار { بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا } فرحا أوجب لهم أن يطمئنوا بها ،ويغفلوا عن الخرة وذلك لنقصان
عقولهمَ { ،ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِ َرةِ إِلّا مَتَاعٌ } أي :شيء حقير يتمتع به قليل ويفارق أهله
وأصحابه ويعقبهم ويل طويل.
يخبر تعالى أن الذين كفروا بآيات ال يتعنتون على رسول ال ،ويقترحون ويقولونَ { :لوْلَا أُنْ ِزلَ
ضلّ مَنْ يَشَاءُ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ } وبزعمهم أنها لو جاءت لمنوا فأجابهم ال بقولهُ { :قلْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
وَ َيهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي :طلب رضوانه ،فليست الهداية والضلل بأيديهم حتى يجعلوا ذلك
متوقفا على اليات ،ومع ذلك فهم كاذبون { ،ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا
عليهم كل شيء قبل ما كانوا ليؤمنوا إل أن يشاء ال ولكن أكثرهم يجهلون }
ول يلزم أن يأتي الرسول بالية التي يعينونها ويقترحونها ،بل إذا جاءهم بآية تبين ما جاء به من
الحق ،كفى ذلك وحصل المقصود ،وكان أنفع لهم من طلبهم اليات التي يعينونها ،فإنها لو
جاءتهم طبق ما اقترحوا فلم يؤمنوا بها لعاجلهم العذاب.
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ } أي :حقيق بها وحريّ أن ل تطمئن لشيء سوى ذكره ،فإنه ل
{ َألَا بِ ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ
شيء ألذ للقلوب ول أشهى ول أحلى من محبة خالقها ،والنس به ومعرفته ،وعلى قدر معرفتها
بال ومحبتها له ،يكون ذكرها له ،هذا على القول بأن ذكر ال ،ذكر العبد لربه ،من تسبيح وتهليل
وتكبير وغير ذلك.
وقيل :إن المراد بذكر ال كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين ،فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر
ال :أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها ،فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالدلة
والبراهين ،وبذلك تطمئن القلوب ،فإنها ل تطمئن القلوب إل باليقين والعلم ،وذلك في كتاب ال،
مضمون على أتم الوجوه وأكملها ،وأما ما سواه من الكتب التي ل ترجع إليه فل تطمئن بها ،بل
ل تزال قلقة من تعارض الدلة وتضاد الحكام.
{ ولو كان من عند غير ال لوجدوا فيه اختلفا كثيرا } وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب ال
وتدبره ،وتدبر غيره من أنواع العلوم ،فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما.
وذلك بما ينالون من رضوان ال وكرامته في الدنيا والخرة ،وأن لهم كمال الراحة وتمام
الطمأنينة ،ومن جملة ذلك شجرة طوبى التي في الجنة ،التي يسير الراكب في ظلها مائة عام ما
يقطعها ،كما وردت بها الحاديث الصحيحة.
ك وَ ُهمْ َي ْكفُرُونَ
{ َ { } 30كذَِلكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي ُأمّةٍ َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهَا ُأ َممٌ لِتَتُْلوَ عَلَ ْيهِمُ الّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْي َ
حمَنِ ُقلْ ُهوَ رَبّي لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }
بِالرّ ْ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :كَذَِلكَ أَ ْرسَلْنَاكَ } إلى قومك تدعوهم إلى الهدى
{ َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهَا ُأ َممٌ } أرسلنا فيهم رسلنا ،فلست ببدع من الرسل حتى يستنكروا رسالتك،
ولست تقول من تلقاء نفسك ،بل تتلو عليهم آيات ال التي أوحاها ال إليك ،التي تطهر القلوب
وتزكي النفوس.
والحال أن قومك يكفرون بالرحمن ،فلم يقابلوا رحمته وإحسانه -التي أعظمها أن أرسلناك إليهم
رسول وأنزلنا عليك كتابا -بالقبول والشكر بل قابلوها بالنكار والرد ،أفل يعتبرون بمن خل من
قبلهم من القرون المكذبة كيف أخذهم ال بذنوبهمُ { ،قلْ ُهوَ رَبّي لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ } وهذا متضمن
للتوحيدين توحيد اللوهية وتوحيد الربوبية.
فهو ربي الذي رباني بنعمه منذ أوجدني ،وهو إلهي الذي { عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ } في جميع أموري
{ وَإِلَ ْيهِ متاب } أي :أرجع في جميع عباداتي وفي حاجاتي.
ط َعتْ بِهِ الْأَ ْرضُ َأوْ كُلّمَ بِهِ ا ْل َموْتَى َبلْ لِلّهِ الَْأمْرُ
{ { } 31وََلوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّ َرتْ بِهِ الْجِبَالُ َأوْ قُ ّ
جمِيعًا وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا ُتصِي ُبهُمْ ِبمَا
جمِيعًا َأفََلمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا أَنْ َلوْ يَشَاءُ اللّهُ َلهَدَى النّاسَ َ
َ
حلّ قَرِيبًا مِنْ دَا ِرهِمْ حَتّى يَأْ ِتيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لَا يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ }
صَ َنعُوا قَارِعَةٌ َأوْ تَ ُ
يقول تعالى مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة { :وََلوْ أَنّ قُرْآنًا } من الكتب
ط َعتْ بِهِ الْأَ ْرضُ } جنانا وأنهارا { َأوْ كُلّمَ ِبهِ
اللهية { سُيّ َرتْ بِهِ ا ْلجِبَالُ } عن أماكنها { َأوْ قُ ّ
جمِيعًا } فيأتي باليات التي تقتضيها حكمته ،فما بال
ا ْل َموْتَى } لكان هذا القرآنَ { .بلْ لِلّهِ الَْأمْرُ َ
المكذبين يقترحون من اليات ما يقترحون؟ فهل لهم أو لغيرهم من المر شيء؟.
عقَابِ }
خذْ ُت ُهمْ َف َكيْفَ كَانَ ِ
ن كَ َفرُوا ُث ّم َأ َ
ن قَبِْلكَ َفَأمَْليْتُ لِّلذِي َ
س ُتهْ ِزئَ ِب ُرسُلٍ مِ ْ
{ { } 32وََل َقدِ ا ْ
سمّو ُه ْم َأمْ
ش َركَاءَ قُلْ َ
جعَلُوا لِلّهِ ُ
سبَتْ َو َ
س ِبمَا َك َ
ن هُ َو قَا ِئمٌ عَلَى كُلّ نَفْ ٍ
{ َ { } 34 - 33أ َفمَ ْ
صدّوا عَنِ
ن لِّلذِينَ كَ َفرُوا َم ْكرُهُمْ َو ُ
ل بَلْ ُزيّ َ
ُت َن ّبئُونَهُ ِبمَا لَا َيعَْلمُ فِي ا ْلَأرْضِ َأمْ ِبظَاهِ ٍر مِنَ ا ْلقَوْ ِ
شقّ َومَا
خرَةِ َأ َ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا وََل َعذَابُ الْآ ِ
ب فِي ا ْل َ
عذَا ٌ
ن هَادٍ * َل ُهمْ َ
ن ُيضْلِلِ اللّهُ َفمَا لَ ُه مِ ْ
سبِيلِ َومَ ْ
ال ّ
ن اللّ ِه مِنْ وَاقٍ }
َل ُهمْ مِ َ
جعَلُوا لِلّ ِه شُ َركَاءَ } وهو ال الحد الفرد الصمد ،الذي ل شريك له ول ند ول
ولهذا قالَ { :و َ
سمّو ُه ْم } لتعلم حالهم { َأ ْم ُت َنبّئُو َنهُ ِبمَا لَا َيعَْلمُ فِي
نظير { ،قُلْ } لهم إن كانوا صادقينَ { :
ا ْلَأرْضِ } فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة وهو ل يعلم له شريكا ،علم بذلك بطلن دعوى
الشريك له ،وأنكم بمنزلة الذي ُيعَّلمُ ال أن له شريكا وهو ل يعلمه ،وهذا أبطل ما يكون؛ ولهذا
ن الْ َقوْلِ } أي :غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى أنه بظاهر
قالَ { :أ ْم بِظَا ِهرٍ مِ َ
أقوالكم.
وأما في الحقيقة ،فل إله إل ال ،وليس أحد من الخلق يستحق شيئا من العبادة ،ولكن { ُزيّنَ
صدّوا عَنِ
لِّلذِينَ كَ َفرُوا َم ْكرُهُ ْم } الذي مكروه وهو كفرهم وشركهم ،وتكذيبهم ليات ال { َو ُ
سبِيلِ } أي :عن الطريق المستقيمة الموصلة إلى ال وإلى دار كرامتهَ { ،و َمنْ ُيضْلِلِ اللّهُ َفمَا
ال ّ
ن هَادٍ } لنه ليس لحد من المر شيء.
لَ ُه مِ ْ
ل ِإ ّنمَا
ب مَنْ ُي ْن ِكرُ َب ْعضَهُ قُ ْ
ن ا ْلَأحْزَا ِ
ن ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ َومِ َ
ن آ َت ْينَا ُهمُ ا ْل ِكتَابَ يَ ْف َرحُو َ
{ { } 36وَاّلذِي َ
ش ِركَ بِ ِه إَِليْ ِه َأدْعُو وَإَِليْ ِه مَآبِ }
ع ُبدَ اللّهَ وَلَا ُأ ْ
ن أَ ْ
ُأ ِمرْتُ أَ ْ
يقول تعالى { :وَاّلذِينَ آ َت ْينَا ُهمُ ا ْل ِكتَابَ } أي :مننا عليهم به وبمعرفته { ،يَ ْف َرحُونَ ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ
} فيؤمنون به ويصدقونه ،ويفرحون بموافقة الكتب بعضها لبعض ،وتصديق بعضها بعضا
ن ُي ْن ِكرُ َبعْضَ ُه } أي :ومن طوائف
حزَابِ مَ ْ
وهذه حال من آمن من أهل الكتابينَ { ،و ِمنَ ا ْلَأ ْ
الكفار المنحرفين عن الحق ،من ينكر بعض هذا القرآن ول يصدقه.
{ فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } إنما أنت يا محمد منذر تدعوا إلى ال { ،قُلْ
ع ُب َد اللّهَ وَلَا ُأشْ ِركَ ِبهِ } أي :بإخلص الدين ل وحده { ،إَِل ْيهِ َأدْعُو وَإَِليْ ِه مَآبِ }
ن أَ ْ
ِإ ّنمَا ُأ ِمرْتُ أَ ْ
أي :مرجعي الذي أرجع به إليه فيجازيني بما قمت به من الدعوة إلى دينه والقيام بما أمرت
به.
ك مِنَ
ن ا ْلعِ ْلمِ مَا َل َ
ن ا ّت َبعْتَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َب ْع َدمَا جَا َءكَ مِ َ
ع َر ِبيّا وََلئِ ِ
ح ْكمًا َ
{ َ { } 37و َكذَِلكَ َأ ْنزَ ْلنَاهُ ُ
اللّ ِه مِنْ وَِليّ وَلَا وَاقٍ }
أي :ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب حكما ،عربيا أي :محكما متقنا ،بأوضح اللسنة وأفصح
اللغات ،لئل يقع فيه شك واشتباه ،وليوجب أن يتبع وحده ،ول يداهن فيه ،ول يتبع ما يضاده
ويناقضه من أهواء الذين ل يعلمون.
ولهذا توعد رسوله -مع أنه معصوم -ليمتن عليه بعصمته ولتكون أمته أسوته في الحكام
فقال { :وََل ِئنِ ا ّت َبعْتَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َب ْع َدمَا جَا َءكَ ِمنَ ا ْلعِ ْلمِ } البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم { ،مَا
ي } يتولك فيحصل لك المر المحبوب { ،وَلَا وَاقٍ } يقيك من المر
ن اللّ ِه مِنْ وَِل ّ
َلكَ مِ َ
المكروه.
ل أَنْ
جعَ ْلنَا َل ُهمْ َأزْوَاجًا َو ُذ ّريّةً َومَا كَانَ ِل َرسُو ٍ
{ { } 39 - 38وَلَ َقدْ َأ ْرسَ ْلنَا ُرسُلًا مِنْ َقبِْلكَ َو َ
ع ْندَ ُه ُأمّ ا ْل ِكتَابِ }
ل ِكتَابٌ * َي ْمحُوا اللّ ُه مَا َيشَاءُ َو ُي ْثبِتُ وَ ِ
ن اللّ ِه ِلكُلّ َأجَ ٍ
َي ْأتِيَ بِآيَ ٍة إِلّا ِبِإذْ ِ
أي :لست أول رسول أرسل إلى الناس حتى يستغربوا رسالتك { ،وَلَ َقدْ َأ ْرسَ ْلنَا ُرسُلًا مِنْ َقبِْلكَ
جعَ ْلنَا َل ُهمْ َأزْوَاجًا َو ُذ ّريّةً } فل يعيبك أعداؤك بأن يكون لك أزواج وذرية ،كما كان لخوانك
َو َ
المرسلين ،فلي شيء يقدحون فيك بذلك وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك؛ إل لجل
أغراضهم الفاسدة وأهوائهم؟ وإن طلبوا منك آية اقترحوها فليس لك من المر شيء.
ن ِلرَسُولٍ َأنْ َي ْأ ِتيَ بِآيَةٍ إِلّا ِبِإذْنِ اللّهِ } وال ل يأذن فيها إل في وقتها الذي قدره
{ َومَا كَا َ
ل ِكتَابٌ } ل يتقدم عليه ول يتأخر عنه ،فليس استعجالهم باليات أو بالعذاب
وقضاهِ { ،لكُلّ َأجَ ٍ
موجبا لن يقدم ال ما كتب أنه يؤخر مع أنه تعالى فعال لما يريد.
{ َي ْمحُوا اللّ ُه مَا َيشَاءُ } من القدار { َو ُي ْثبِتُ } ما يشاء منها ،وهذا المحو والتغيير في غير ما
سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا ل يقع فيه تبديل ول تغيير لن ذلك محال على ال ،أن يقع
ع ْندَهُ ُأ ّم ا ْل ِكتَابِ } أي :اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه
في علمه نقص أو خلل ولهذا قالَ { :و ِ
سائر الشياء ،فهو أصلها ،وهي فروع له وشعب.
فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب ،كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملئكة ،ويجعل
ال لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا ،ل تتعدى تلك السباب ،ما رسم في اللوح المحفوظ ،كما
جعل ال البر والصلة والحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق ،وكما جعل المعاصي
سببا لمحق بركة الرزق والعمر ،وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا
للسلمة ،وجعل التعرض لذلك سببا للعطب ،فهو الذي يدبر المور بحسب قدرته وإرادته ،وما
يدبره منها ل يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم :ل تعجل عليهم بإصابة ما يوعدون به من
ك}
العذاب ،فهم إن استمروا على طغيانهم وكفرهم فل بد أن يصيبهم ما وعدوا به { ،إمَا ُن ِر َينّ َ
إياه في الدنيا فتقر بذلك عينك { ،أو نتوفينك } قبل إصابتهم فليس ذلك شغل لك { َفإِ ّنمَا عََل ْيكَ
ا ْلبَلَاغُ } والتبيين للخلق.
حسَابُ } فنحاسب الخلق على ما قاموا به ،مما عليهم ،وضيعوه ،ونثيبهم أو نعاقبهم.
{ وَعََل ْينَا ا ْل ِ
طرَا ِفهَا } قيل بإهلك
صهَا ِمنْ َأ ْ
ض َننْ ُق ُ
ثم قال متوعدا للمكذبين { َأوََلمْ َيرَوْا َأنّا َن ْأتِي ا ْلأَرْ َ
المكذبين واستئصال الظالمين ،وقيل :بفتح بلدان المشركين ،ونقصهم في أموالهم وأبدانهم،
وقيل غير ذلك من القوال.
والظاهر -وال أعلم -أن المراد بذلك أن أراضي هؤلء المكذبين جعل ال يفتحها ويجتاحها،
ويحل القوارع بأطرافها ،تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص ،ويوقع ال بهم من القوارع ما ل
ح ْكمِ ِه } ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري
ح ُكمُ لَا ُمعَقّبَ ِل ُ
يرده أحد ،ولهذا قال { :وَاللّهُ َي ْ
والجزائي.
فهذه الحكام التي يحكم ال فيها ،توجد في غاية الحكمة والتقان ،ل خلل فيها ول نقص ،بل
هي مبنية على القسط والعدل والحمد ،فل يتعقبها أحد ول سبيل إلى القدح فيها ،بخلف حكم
ب } أي :فل يستعجلوا بالعذاب
حسَا ِ
سرِي ُع ا ْل ِ
غيره فإنه قد يوافق الصواب وقد ل يوافقه { ،وَهُ َو َ
فإن كل ما هو آت ،فهو قريب.
س َيعَْلمُ
ب كُلّ نَفْسٍ َو َ
جمِيعًا َيعَْلمُ مَا َتكْسِ ُ
ن َقبِْلهِمْ فَلِلّ ِه ا ْل َم ْكرُ َ
ن مِ ْ
{ َ { } 43 - 42و َقدْ َمكَرَ اّلذِي َ
شهِيدًا َب ْينِي َو َب ْي َن ُكمْ َومَنْ
ت ُمرْسَلًا قُلْ َكفَى بِاللّ ِه َ
ن كَ َفرُوا َلسْ َ
ل اّلذِي َ
ا ْلكُفّارُ ِلمَنْ عُ ْقبَى الدّارِ * َويَقُو ُ
ب}
ع ْندَهُ عِ ْلمُ ا ْل ِكتَا ِ
ِ
ب كُلّ
فإذا كانوا يمكرون بدينه فإن مكرهم سيعود عليهم بالخيبة والندم ،فإن ال { َيعَْلمُ مَا َت ْكسِ ُ
نَفْسٍ } أي :هومها وإراداتها وأعمالها الظاهرة والباطنة.
والمكر ل بد أن يكون من كسبها فل يخفى على ال مكرهم ،فيمتنع أن يمكروا مكرا يضر
س َيعْلَمُ ا ْلكُفّارُ ِل َمنْ عُ ْقبَى الدّارِ } أي :ألهم أو لرسله؟ ومن المعلوم
الحق وأهله ويفيدهم شيئاَ { ،و َ
أن العاقبة للمتقين ل للكفر وأعماله.
وأما إقراره ،فإنه أخبر الرسول عنه أنه رسوله ،وأنه أمر الناس باتباعه ،فمن اتبعه فله
رضوان ال وكرامته ،ومن لم يتبعه فله النار والسخط وحل له ماله ودمه وال يقره على ذلك،
فلو تقول عليه بعض القاويل لعاجله بالعقوبة.
ب } وهذا شامل لكل علماء أهل الكتابين ،فإنهم يشهدون للرسول من آمن
ع ْندَهُ عِ ْلمُ ا ْل ِكتَا ِ
{ َومَنْ ِ
واتبع الحق ،صرح بتلك الشهادة التي عليه ،ومن كتم ذلك فإخبار ال عنه أن عنده شهادة أبلغ
من خبره ،ولو لم يكن عنده شهادة لرد استشهاده بالبرهان ،فسكوته يدل على أن عنده شهادة
مكتومة.
وإنما أمر ال باستشهاد أهل الكتاب لنهم أهل هذا الشأن ،وكل أمر إنما يستشهد فيه أهله ومن
هم أعلم به من غيرهم ،بخلف من هو أجنبي عنه ،كالميين من مشركي العرب وغيرهم ،فل
فائدة في استشهادهم لعدم خبرتهم ومعرفتهم وال أعلم.
حمَنِ الرّحِيمِ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 3 - 1بِ ْ
ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ َووَ ْيلٌ
سمَاوَا ِ
حمِيدِ * اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ
بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ
شدِيدٍ * الّذِينَ َيسْتَحِبّونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآخِ َر ِة وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ
لِ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ َ
عوَجًا أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ }
وَيَ ْبغُو َنهَا ِ
يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم لنفع الخلق ،ليخرج الناس من
ظلمات الجهل والكفر والخلق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم واليمان والخلق
الحسنة ،وقوله { :بِِإذْنِ رَ ّبهِمْ } أي :ل يحصل منهم المراد المحبوب ل ،إل بإرادة من ال
ومعونة ،ففيه حث للعباد على الستعانة بربهم.
حمِيدِ } أي :الموصل إليه
ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال { :إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ
وإلى دار كرامته ،المشتمل على العلم بالحق والعمل به ،وفي ذكر { العزيز الحميد } بعد ذكر
الصراط الموصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعز ال قوي ولو لم يكن له أنصار إل
ال ،محمود في أموره ،حسن العاقبة.
وليدل ذلك على أن صراط ال من أكبر الدلة على ما ل من صفات الكمال ،ونعوت الجلل ،وأن
الذي نصبه لعباده ،عزيز السلطان ،حميد في أقواله وأفعاله وأحكامه ،وأنه مألوه معبود بالعبادات
التي هي منازل الصراط المستقيم ،وأنه كما أن له ملك السماوات والرض خلقا ورزقا وتدبيرا،
فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية ،لنهم ملكه ،ول يليق به أن يتركهم سدى ،فلما بيّن الدليل
شدِيدٍ } ل يقدر قدره ،ول
والبرهان توعد من لم ينقد لذلك ،فقالَ { :ووَ ْيلٌ لِ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ َ
يوصف أمره ،ثم وصفهم بأنهم { الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآخِ َرةِ } فرضوا بها واطمأنوا،
وغفلوا عن الدار الخرة.
{ وَ َيصُدّونَ } الناس { عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } التي نصبها لعباده وبينها في كتبه وعلى ألسنة رسله،
عوَجًا } أي:
فهؤلء قد نابذوا مولهم بالمعاداة والمحاربة { ،وَيَ ْبغُو َنهَا } أي :سبيل ال { ِ
يحرصون على تهجينها وتقبيحها ،للتنفير عنها ،ولكن يأبى ال إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
{ أُولَ ِئكَ } الذين ذكر وصفهم { فِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ } لنهم ضلوا وأضلوا ،وشاقوا ال ورسوله
وحاربوهما ،فأي ضلل أبعد من هذا؟" وأما أهل اليمان فبعكس هؤلء يؤمنون بال وآياته،
ويستحبون الخرة على الدنيا ويدعون إلى سبيل ال ويحسنونها مهما أمكنهم ،ويبينون استقامتها.
وهذا من لطفه بعباده أنه ما أرسل رسول { إل بلسان قومه ليبين لهم } ما يحتاجون إليه،
ويتمكنون من تعلم ما أتى به ،بخلف ما لو كانوا على غير لسانهم ،فإنهم يحتاجون إلى أن
يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها ،ثم يفهمون عنه ،فإذا بين لهم الرسول ما أمروا به ،ونهوا عنه
وقامت عليهم حجة ال { فيضل ال من يشاء } ممن لم ينقد للهدى ،ويهدي من يشاء ممن اختصه
برحمته.
{ وهو العزيز الحكيم } الذي -من عزته -أنه انفرد بالهداية والضلل ،وتقليب القلوب إلى ما
شاء ،ومن حكمته أنه ل يضع هدايته ول إضلله إل بالمحل اللئق به.
ويستدل بهذه الية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلمه وكلم رسوله أمور
مطلوبة محبوبة ل لنه ل يتم معرفة ما أنزل على رسوله إل بها إل إذا كان الناس بحالة ل
يحتاجون إليها ،وذلك إذا تمرنوا على العربية ،ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد
اكتفوا المؤنة ،وصلحوا لن يتلقوا عن ال وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي ال
عنهم.
{ { } 8 - 5وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ َأخْرِجْ َق ْو َمكَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَ َذكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ
شكُورٍ *وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ أَ ْنجَاكُمْ مِنْ
ل صَبّارٍ َ
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُك ّ
عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ وَ ُيذَبّحُونَ أَبْنَا َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ نِسَا َءكُ ْم َوفِي ذَِلكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ
آلِ فِرْ َ
عذَابِي لَشَدِيدٌ * َوقَالَ مُوسَى إِنْ
شكَرْتُمْ لَأَزِيدَ ّنكُ ْم وَلَئِنْ َكفَرْتُمْ إِنّ َ
عَظِيمٌ * وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِنْ َ
حمِيدٌ }
جمِيعًا فَإِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ َ
َت ْكفُرُوا أَنْتُمْ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ
يخبر تعالى :أنه أرسل موسى بآياته العظيمة الدالة على صدق ما جاء به وصحته ،وأمره بما أمر
ال به رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم بل وبما أمر به جميع الرسل قومهم { أَنْ أَخْرِجْ َق ْو َمكَ
مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ } أي :ظلمات الجهل والكفر وفروعه ،إلى نور العلم واليمان وتوابعه.
{ وَ َذكّ ْرهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ } أي :بنعمه عليهم وإحسانه إليهم ،وبأيامه في المم المكذبين ،ووقائعه
بالكافرين ،ليشكروا نعمه وليحذروا عقابه { ،إِنّ فِي ذَِلكَ } أي :في أيام ال على العباد { ليات
شكُورٍ } أي :صبار في الضراء والعسر والضيق ،شكور على السراء والنعمة.
ِل ُكلّ صَبّارٍ َ
فإنه يستدل بأيامه على كمال قدرته وعميم إحسانه ،وتمام عدله وحكمته ،ولهذا امتثل موسى عليه
السلم أمر ربه ،فذكرهم نعم ال فقال { :ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } أي :بقلوبكم وألسنتكمِ { .إذْ
عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ } أي :يولونكم { سُوءَ ا ْلعَذَابِ } أي :أشده وفسر ذلك بقوله:
أَنْجَا ُكمْ مِنْ آلِ فِرْ َ
{ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَا َءكُمْ } أي :يبقونهن فل يقتلونهنَ { ،وفِي ذَِلكُمْ } النجاء { بَلَاءٌ
عظِيمٌ } أي :نعمة عظيمة ،أو وفي ذلكم العذاب الذي ابتليتم به من فرعون وملئه ابتلء
مِنْ رَ ّبكُمْ َ
من ال عظيم لكم ،لينظر هل تصبرون أم ل؟
والشكر :هو اعتراف القلب بنعم ال والثناء على ال بها وصرفها في مرضاة ال تعالى .وكفر
النعمة ضد ذلك.
جمِيعًا } فلن تضروا ال شيئا { ،فَإِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ
{ َوقَالَ مُوسَى إِنْ َتكْفُرُوا أَنْتُمْ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ
حمِيدٌ } فالطاعات ل تزيد في ملكه والمعاصي ل تنقصه ،وهو كامل الغنى حميد في ذاته وأسمائه
َ
وصفاته وأفعاله ،ليس له من الصفات إل كل صفة حمد وكمال ،ول من السماء إل كل اسم
حسن ،ول من الفعال إل كل فعل جميل.
{ { } 12 - 9أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا
شكّ
سلْتُمْ بِهِ وَإِنّا َلفِي َ
اللّهُ جَاءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَ َردّوا أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِه ِه ْم َوقَالُوا إِنّا كَفَرْنَا ِبمَا أُرْ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ يَدْعُوكُمْ لِ َيغْفِرَ َلكُمْ
شكّ فَاطِرِ ال ّ
سُلهُمْ َأفِي اللّهِ َ
ِممّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَاَلتْ رُ ُ
عمّا كَانَ َيعْبُدُ
سمّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ ِإلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ َتصُدّونَا َ
جلٍ مُ َ
مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى َأ َ
سُلهُمْ إِنْ َنحْنُ إِلّا َبشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ عَلَى مَنْ َيشَاءُ
آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ *قَاَلتْ َلهُمْ رُ ُ
مِنْ عِبَا ِد ِه َومَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِ َي ُكمْ بِسُ ْلطَانٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * َومَا لَنَا أَلّا
نَ َت َوكّلَ عَلَى اللّهِ َوقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَ َنصْبِرَنّ عَلَى مَا آذَيْ ُتمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ }
يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالمم المكذبة حين جاءتهم الرسل ،فكذبوهم ،فعاقبهم بالعقاب
العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال { :أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَ َثمُودَ } وقد
ذكر ال قصصهم في كتابه وبسطها { ،وَالّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ لَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا اللّهُ } من كثرتهم وكون
أخبارهم اندرست.
سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي :بالدلة الدالة على صدق ما جاءوا به ،فلم يرسل ال
فهؤلء كلهم { جَاءَ ْتهُمْ رُ ُ
رسول إل آتاه من اليات ما يؤمن على مثله البشر ،فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل
استكبروا عنها { ،فَ َردّوا أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِههِمْ } أي :لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما
صوَاعِقِ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ }
جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِن ِهمْ مِنَ ال ّ
يدل على اليمان كقوله { ي ْ
سلْطَانٍ مُبِينٍ } أي :بحجة وبينة ظاهرة ،ومرادهم بينة يقترحونها هم ،وإل فقد تقدم أن
{ فَأْتُونَا بِ ُ
رسلهم جاءتهم بالبينات.
{ قَاَلتْ َل ُهمْ رُسُُلهُمْ } مجيبين عن اقتراحهم واعتراضهم { :إِنْ نَحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ } أي :صحيح
وحقيقة أنا بشر مثلكم { ،وََلكِنْ } ليس في ذلك ما يدفع ما جئنا به من الحق فإن { اللّهَ َيمُنّ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } فإذا من ال علينا بوحيه ورسالته ،فذلك فضله وإحسانه ،وليس لحد أن
يحجر على ال فضله ويمنعه من تفضله.
فانظروا ما جئناكم به فإن كان حقا فاقبلوه وإن كان غير ذلك فردوه ول تجعلوا حالنا حجة لكم
على رد ما جئناكم به ،وقولكم { :فأتونا بسلطان مبين } فإن هذا ليس بأيدينا وليس لنا من المر
شيء.
{ َومَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِ َيكُمْ بِسُ ْلطَانٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ } فهو الذي إن شاء جاءكم به ،وإن شاء لم يأتكم به
وهو ل يفعل إل ما هو مقتضى حكمته ورحمته { ،وَعَلَى اللّهِ } ل على غيره { فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ
} فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم ودفع مضارهم لعلمهم بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم
إحسانه ،ويثقون به في تيسير ذلك وبحسب ما معهم من اليمان يكون توكلهم.
فعلم بهذا وجوب التوكل ،وأنه من لوازم اليمان ،ومن العبادات الكبار التي يحبها ال ويرضاها،
علَى اللّ ِه َوقَدْ َهدَانَا سُُبلَنَا }
لتوقف سائر العبادات عليهَ { ،ومَا لَنَا أَلّا نَ َت َو ّكلَ َ
أي :أي شيء يمنعنا من التوكل على ال والحال أننا على الحق والهدى ،ومن كان على الحق
والهدى فإن هداه يوجب له تمام التوكل ،وكذلك ما يعلم من أن ال متكفل بمعونة المهتدي وكفايته،
يدعو إلى ذلك ،بخلف من لم يكن على الحق والهدى ،فإنه ليس ضامنا على ال ،فإن حاله
مناقضة لحال المتوكل.
وفي هذا كالشارة من الرسل عليهم الصلة والسلم لقومهم بآية عظيمة ،وهو أن قومهم -في
الغالب -لهم القهر والغلبة عليهم ،فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على ال ،في دفع كيدكم ومكركم،
وجازمون بكفايته إياهم ،وقد كفاهم ال شرهم مع حرصهم على إتلفهم وإطفاء ما معهم من الحق،
فيكون هذا كقول نوح لقومه { :يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات ال فعلى ال
توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ،ثم ل يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ول تنظرون }
اليات.
وقول هود عليه السلم قال { :إني أشهد ال واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني
جميعا ثم ل تنظرون }
{ وَلَ َنصْبِرَنّ عَلَى مَا آذَيْ ُتمُونَا } أي :ولنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم ول نبالي بما
يأتينا منكم من الذى فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الذى ،احتسابا للجر ونصحا لكم
لعل ال أن يهديكم مع كثرة التذكير.
{ وَعَلَى اللّهِ } وحده ل على غيره { فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ } فإن التوكل عليه مفتاح لكل خير.
واعلم أن الرسل عليهم الصلة والسلم توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب وهو التوكل
على ال في إقامة دينه ونصره ،وهداية عبيده ،وإزالة الضلل عنهم ،وهذا أكمل ما يكون من
التوكل.
{ َ { } 17 - 13وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِ ُرسُِلهِمْ لَ ُنخْرِجَ ّن ُكمْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فََأوْحَى
ف وَعِيدِ *
سكِنَ ّنكُمُ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْ ِدهِمْ ذَِلكَ ِلمَنْ خَافَ َمقَامِي وَخَا َ
إِلَ ْيهِمْ رَ ّب ُهمْ لَ ُنهِْلكَنّ الظّاِلمِينَ * وَلَنُ ْ
سقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَ َتجَرّعُ ُه وَلَا َيكَادُ
جهَنّ ُم وَيُ ْ
ن وَرَائِهِ َ
وَاسْ َتفْتَحُوا وَخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ * مِ ْ
ت َومِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
يُسِيغُ ُه وَيَأْتِيهِ ا ْل َموْتُ مِنْ ُكلّ َمكَانٍ َومَا ُهوَ ِبمَ ّي ٍ
لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك وعدم مللهم ،ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال مع
قومهم فقالَ { :وقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُِل ِهمْ } متوعدين لهم { لَ ُنخْرِجَ ّن ُكمْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي
مِلّتِنَا } وهذا أبلغ ما يكون من الرد ،وليس بعد هذا فيهم مطمع ،لنه ما كفاهم أن أعرضوا عن
الهدى بل توعدوهم بالخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم وزعموا أن الرسل ل حق لهم فيها،
وهذا من أعظم الظلم ،فإن ال أخرج عباده إلى الرض ،وأمرهم بعبادته ،وسخر لهم الرض وما
عليها يستعينون بها على عبادته.
فمن استعان بذلك على عبادة ال حل له ذلك وخرج من التبعة ،ومن استعان بذلك على الكفر
وأنواع المعاصي ،لم يكن ذلك خالصا له ،ولم يحل له ،فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ليس لهم
شيء من الرض التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها .وإن رجعنا إلى مجرد العادة فإن الرسل
من جملة أهل بلدهم ،وأفراد منهم ،فلي شيء يمنعونهم حقا لهم صريحا واضحا؟! هل هذا إل
من عدم الدين والمروءة بالكلية؟
ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ما بقي حينئذ إل أن يمضي ال أمره ،وينصر
أولياءه { ،فََأوْحَى إِلَ ْي ِهمْ رَ ّبهُمْ لَ ُنهِْلكَنّ الظّاِلمِينَ } بأنواع العقوبات.
سكِنَ ّن ُكمُ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ ذَِلكَ } أي :العاقبة الحسنة التي جعلها ال للرسل ومن تبعهم جزاء
{ وَلَنُ ْ
ف وَعِيدِ } أي :ما
{ ِلمَنْ خَافَ َمقَامِي } عليه في الدنيا وراقب ال مراقبة من يعلم أنه يراه { ،وَخَا َ
توعدت به من عصاني فأوجب له ذلك النكفاف عما يكرهه ال والمبادرة إلى ما يحبه ال.
{ وَاسْ َتفْتَحُوا } أي :الكفار أي :هم الذين طلبوا واستعجلوا فتح ال وفرقانه بين أوليائه وأعدائه
فجاءهم ما استفتحوا به وإل فال حليم ل يعاجل من عصاه بالعقوبةَ { ،وخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ }
أي :خسر في الدنيا والخرة من تجبر على ال وعلى الحق وعلى عباد ال واستكبر في الرض
وعاند الرسل وشاقهم.
جهَنّمُ } أي :جهنم لهذا الجبار العنيد بالمرصاد ،فل بد له من ورودها فيذاق حينئذ
ن وَرَائِهِ َ
{ مِ ْ
صدِيدٍ } في لونه وطعمه ورائحته الخبيثة ،وهو في غاية
سقَى مِنْ مَا ٍء َ
العذاب الشديد { ،وَيُ ْ
الحرارة.
{ يَ َتجَرّعُهُ } من العطش الشديد { وَلَا َيكَادُ ُيسِيغُهُ } فإنه إذا قرب إلى وجهه شواه وإذا وصل إلى
بطنه قطع ما أتى عليه من المعاء { ،وَيَأْتِيهِ ا ْل َموْتُ مِنْ ُكلّ َمكَانٍ َومَا ُهوَ ِبمَ ّيتٍ } أي :يأتيه
العذاب الشديد من كل نوع من أنواع العذاب ،وكل نوع منه من شدته يبلغ إلى الموت ولكن ال
قضى أن ل يموتوا كما قال تعالى { :ل يقضى عليهم فيموتوا ول يخفف عنهم من عذابها كذلك
نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها }
ن وَرَائِهِ } أي :الجبار العنيد { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي :قوي شديد ل يعلم وصفه وشدته إل ال
{ َومِ ْ
تعالى.
عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْتَ ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَاصِفٍ لَا َيقْدِرُونَ ِممّا
{ { } 18مَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ أَ ْ
شيْءٍ َذِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ }
كَسَبُوا عَلَى َ
يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها :إما أن المراد بها العمال التي عملوها ل ،بأنها في
ذهابها وبطلنها واضمحللها كاضمحلل الرماد ،الذي هو أدق الشياء وأخفها ،إذا اشتدت به
الريح في يوم عاصف شديد الهبوب ،فإنه ل يبقى منه شيئا ،ول يقدر منه على شيء يذهب
شيْءٍ } ول على مثقال ذرة منه لنه
ويضمحل ،فكذلك أعمال الكفار { لَا َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُوا عَلَى َ
مبني على الكفر والتكذيب.
{ ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ } حيث بطل سعيهم واضمحل عملهم ،وإما أن المراد بذلك أعمال الكفار
التي عملوها ليكيدوا بها الحق ،فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم ولن يضروا
ال ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ } أي :ليعبده الخلق ويعرفوه ،ويأمرهم
ينبه تعالى عباده بأنه { خَلَقَ ال ّ
وينهاهم وليستدلوا بهما وما فيهما على ما له من صفات الكمال ،وليعلموا أن الذي خلق السماوات
والرض -على عظمهما وسعتهما -قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا ،ليجازيهم بإحسانهم
وإساءتهم ،وأن قدرته ومشيئته ل تقصر عن ذلك ولهذا قال { :إِنْ يَشَأْ يُذْهِ ْب ُك ْم وَيَ ْأتِ ِبخَلْقٍ جَدِيدٍ }
يحتمل أن المعنى :إن يشأ يذهبكم ويأت بقوم غيركم يكونون أطوع ل منكم ،ويحتمل أن المراد
أنه :إن يشأ يفنيكم ثم يعيدهم بالبعث خلقا جديدا ،ويدل على هذا الحتمال ما ذكره بعده من أحوال
القيامة.
{ َومَا َذِلكَ عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ } أي :بممتنع بل هو سهل عليه جدا { ،ما خلقكم ول بعثكم إل كنفس
واحدة } { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }
ضعَفَاءُ } أي :التابعون والمقلدون { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } وهم :المتبوعون الذين هم قادة في
فيقول { ال ّ
الضلل { :إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا } أي :في الدنيا ،أمرتمونا بالضلل ،وزينتموه لنا فأغويتموناَ { ،ف َهلْ
شيْءٍ } أي :ولو مثقال ذرة { ،قَالُوا } أي :المتبوعون والرؤساء
أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ َ
علَيْنَا أَجَزِعْنَا }
سوَاءٌ َ
{ أغويناكم كما غوينا } و { َلوْ هَدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَا ُكمْ } فل يغني أحد أحداَ { ،
من العذاب { َأ ْم صَبَرْنَا } عليه { ،مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي :من ملجأ نلجأ إليه ،ول مهرب لنا من
عذاب ال.
ق َووَعَدْ ُتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا
{ َ { } 23 - 22وقَالَ الشّيْطَانُ َلمّا ُقضِيَ الَْأمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ ا ْلحَ ّ
خ ُكمْ
سكُمْ مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَ ْنفُ َ
كَانَ لِي عَلَ ْيكُمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ إِلّا أَنْ دَ َ
خلَ الّذِينَ
خيّ إِنّي َكفَرْتُ ِبمَا أَشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ * وَأُ ْد ِ
َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمصْرِ ِ
سلَامٌ }
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِِإذْنِ رَ ّبهِمْ َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا َ
آمَنُوا وَ َ
أيَ { :وقَالَ الشّ ْيطَانُ } الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم ،مخاطبا لهل النار ومتبرئا
حقّ }
ضيَ الَْأمْرُ } ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار { .إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُ ْم وَعْدَ الْ َ
منهم { َلمّا ُق ِ
على ألسنة رسله فلم تطيعوه ،فلو أطعتموه لدركتم الفوز العظيمَ { ،ووَعَدْ ُتكُمْ } الخير { فَأَخَْلفْ ُتكُمْ }
أي :لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الماني الباطلة.
{ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَا َأشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ } أي :تبرأت من جعلكم لي شريكا مع ال فلست شريكا ل
ول تجب طاعتي { ،إِنّ الظّاِلمِينَ } لنفسهم بطاعة الشيطان { َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } خالدين فيه أبدا.
وهذا من لطف ال بعباده ،أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على
النسان ومقاصده فيه ،وأنه يقصد أن يدخله النيران ،وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه أنه
يتبرأ منهم هذه البراءة ،ويكفر بشركهم { ول ينبئك مثل خبير }
واعلم أن ال ذكر في هذه الية أنه ليس له سلطان ،وقال في آية أخرى { إنما سلطانه على الذين
يتولونه والذين هم به مشركون } فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل ،فليس له
حجة أصل على ما يدعو إليه ،وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون
على المعاصي.
وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالغراء على المعاصي لوليائه يُؤزّهم إلى المعاصي أزّا،
وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالته واللتحاق بحزبه ،ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا
وعلى ربهم يتوكلون.
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ }
خلَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ولما ذكر عقاب الظالمين ذكر ثواب الطائعين فقال { :وَُأدْ ِ
أي :قاموا بالدين ،قول ،وعمل ،واعتقادا { جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } فيها من اللذات
والشهوات ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر { ،خَاِلدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَ ّبهِمْ }
أي :ل بحولهم وقوتهم بل بحول ال وقوته { تَحِيّ ُت ُهمْ فِيهَا سَلَامٌ } أي :يحيي بعضهم بعضا بالسلم
والتحية والكلم الطيب.
يقول تعالى { :أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا كَِلمَةً طَيّبَة } " وهي شهادة أن ل إله إل ال ،وفروعها
سمَاءِ } وهي
عهَا } منتشر { فِي ال ّ
{ َكشَجَ َرةٍ طَيّبَةٍ } وهي النخلة { َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ } في الرض { َوفَرْ ُ
كثيرة النفع دائماُ { ،تؤْتِي ُأكَُلهَا } أي :ثمرتها { ُكلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ ّبهَا } فكذلك شجرة اليمان ،
أصلها ثابت في قلب المؤمن ،علما واعتقادا .وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والخلق
المرضية ،والداب الحسنة في السماء دائما يصعد إلى ال منه من العمال والقوال التي تخرجها
شجرة اليمان ما ينتفع به المؤمن وينفع غيره { ،وَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } ما
أمرهم به ونهاهم عنه ،فإن في ضرب المثال تقريبا للمعاني المعقولة من المثال المحسوسة،
ويتبين المعنى الذي أراده ال غاية البيان ،ويتضح غاية الوضوح ،وهذا من رحمته وحسن تعليمه.
فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه ،فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها ،في قلب المؤمن.
ثم ذكر ضدها وهي كلمة الكفر وفروعها فقالَ { :ومَ َثلُ كَِلمَةٍ خَبِيثَةٍ َكشَجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ } المأكل
والمطعم وهي :شجرة الحنظل ونحوها { ،اجْتُ ّثتْ } هذه الشجرة { مِنْ َفوْقِ الْأَ ْرضِ مَا َلهَا مِنْ
قَرَارٍ } أي :من ثبوت فل عروق تمسكها ،ول ثمرة صالحة ،تنتجها ،بل إن وجد فيها ثمرة ،فهي
ثمرة خبيثة ،كذلك كلمة الكفر والمعاصي ،ليس لها ثبوت نافع في القلب ،ول تثمر إل كل قول
خبيث وعمل خبيث يستضر به صاحبه ،ول ينتفع ،فل يصعد إلى ال منه عمل صالح ول ينفع
نفسه ،ول ينتفع به غيره.
يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين ،أي :الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام ،الذي
يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها ،فيثبتهم ال في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى
اليقين ،وعند عروض الشهوات بالرادة الجازمة على تقديم ما يحبه ال على هوى النفس
ومراداتها.
وفي الخرة عند الموت بالثبات على الدين السلمي والخاتمة الحسنة ،وفي القبر عند سؤال
الملكين ،للجواب الصحيح ،إذا قيل للميت " من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " هداهم للجواب
الصحيح بأن يقول المؤمن " :ال ربي والسلم ديني ومحمد نبيي "
ضلّ اللّهُ الظّاِلمِينَ } عن الصواب في الدنيا والخرة ،وما ظلمهم ال ولكنهم ظلموا أنفسهم،
{ وَ ُي ِ
وفي هذه الية دللة على فتنة القبر وعذابه ،ونعيمه ،كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى
ال عليه وسلم في الفتنة ،وصفتها ،ونعيم القبر وعذابه.
جهَنّمَ
{ { } 30 - 28أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َبدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وََأحَلّوا َق ْومَهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ * َ
جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيلِهِ ُقلْ َتمَ ّتعُوا فَإِنّ َمصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ }
َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ * وَ َ
يقول تعالى -مبينا حال المكذبين لرسوله من كفار قريش وما آل إليه أمرهمَ { :ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ
بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا } ونعمة ال هي إرسال محمد صلى ال عليه وسلم إليهم ،يدعوهم إلى إدراك
الخيرات في الدنيا والخرة وإلى النجاة من شرور الدنيا والخرة ،فبدلوا هذه النعمة بردها،
والكفر بها والصد عنها بأنفسهم.
{ و } صدهم غيرهم حتى { َأحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ } وهي النار حيث تسببوا لضللهم ،فصاروا
وبال على قومهم ،من حيث يظن نفعهم ،ومن ذلك أنهم زينوا لهم الخروج يوم " بدر " ليحاربوا
ال ورسوله ،فجرى عليهم ما جرى ،وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم في تلك الوقعة.
{ ُ { } 31قلْ ِلعِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُوا ُيقِيمُوا الصّلَا َة وَيُنْ ِفقُوا ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ سِرّا وَعَلَانِ َيةً مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ
خلَالٌ }
َيوْمٌ لَا بَيْعٌ فِي ِه وَلَا ِ
أي :قل لعبادي المؤمنين آمرا لهم بما فيه غاية صلحهم وأن ينتهزوا الفرصة ،قبل أن ل يمكنهم
ذلكُ { :يقِيمُوا الصّلَاة } ظاهرا وباطنا { وَيُ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ } أي :من النعم التي أنعمنا بها عليهم
قليل أو كثيرا { سِرّا وَعَلَانِيَةً } وهذا يشمل النفقة الواجبة كالزكاة ونفقة من تجب [عليه] نفقته،
والمستحبة كالصدقات ونحوها.
{ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَيْعٌ فِي ِه وَلَا خِلَالٌ } أي :ل ينفع فيه شيء ول سبيل إلى استدراك ما فات
ل بمعاوضة بيع وشراء ول بهبة خليل وصديق ،فكل امرئ له شأن يغنيه ،فليقدم العبد لنفسه،
ولينظر ما قدمه لغد ،وليتفقد أعماله ،ويحاسب نفسه ،قبل الحساب الكبر.
{ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِرهِ } فهو الذي يسر لكم صنعتها وأقدركم عليها ،وحفظها على تيار الماء
لتحملكم ،وتحمل تجاراتكم ،وأمتعتكم إلى بلد تقصدونه.
س وَا ْل َقمَرَ دَائِبَيْنِ } ل يفتران ،ول ينيان ،يسعيان لمصالحكم ،من حساب أزمنتكم
شمْ َ
سخّرَ َلكُمُ ال ّ
{ وَ َ
سخّرَ َلكُمُ اللّ ْيلَ } لتسكنوا فيه { وَال ّنهَارِ }
ومصالح أبدانكم ،وحيواناتكم ،وزروعكم ،وثماركم { ،وَ َ
مبصرا لتبتغوا من فضله.
{ وَآتَا ُكمْ مِنْ ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ } أي :أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم مما تسألونه إياه
بلسان الحال ،أو بلسان المقال ،من أنعام ،وآلت ،وصناعات وغير ذلك.
ج َعلْ َهذَا
أي { :و } اذكر إبراهيم عليه الصلة والسلم في هذه الحالة الجميلة ،إذ قَالَ { :ربّ ا ْ
الْبَلَدَ } أي :الحرم { آمِنًا } فاستجاب ال دعاءه شرعا وقدرا ،فحرمه ال في الشرع ويسر من
أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم ،حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إل قصمه ال كما فعل بأصحاب
الفيل وغيرهم.
ولما دعا له بالمن دعا له ولبنيه بالمن فقال { :وَاجْنُبْنِي وَبَ ِنيّ أَنْ َنعْبُدَ الَْأصْنَامَ } أي :اجعلني
وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها واللمام بها ،ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من
افتتن وابتلي بعبادتها فقال:
أي :ضلوا بسببهاَ { ،فمَنْ تَ ِبعَنِي } على ما جئت به من التوحيد والخلص ل رب العالمين { فَإِنّهُ
مِنّي } لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم.
غفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من شفقة الخليل عليه الصلة والسلم حيث دعا
عصَانِي فَإِ ّنكَ َ
{ َومَنْ َ
للعاصين بالمغفرة والرحمة من ال وال تبارك وتعالى أرحم منه بعباده ل يعذب إل من تمرد
عليه.
سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِ ْندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ }
{ { } 37رَبّنَا إِنّي َأ ْ
وذلك أنه أتى بب "هاجر" أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلة والسلم وهو في الرضاع،
من الشام حتى وضعهما في مكة وهي -إذ ذاك -ليس فيها سكن ،ول داع ول مجيب ،فلما
سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي }
وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال -متضرعا متوكل على ربه { :رَبّنَا إِنّي أَ ْ
أي :ل كل ذريتي لن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته،
وقولهِ { :بوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ } أي :لن أرض مكة ل تصلح للزراعة.
{ رَبّنَا لِ ُيقِيمُوا الصّلَاة } أي :اجعلهم موحدين مقيمين الصلة لن إقامة الصلة من أخص وأفضل
ج َعلْ َأفْئِ َدةً مِنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ } أي :تحبهم
العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه { ،فَا ْ
وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب ال دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى ال عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين
السلمي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلة.
وافترض ال حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب ،فهي
تحجه ول تقضي منه وطرا على الدوام ،بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه
وتوقه ،وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
أي :أنت أعلم بنا منا ،فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا أن تيسر لنا من المور التي نعلمها والتي
شيْءٍ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا فِي
خفَى عَلَى اللّهِ مِنْ َ
ل نعلمها ما هو مقتضى علمك ورحمتكَ { ،ومَا َي ْ
سمَاءِ } ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إل الخير وكثرة الشكر ل رب العالمين.
ال ّ
سحَاقَ }
سمَاعِيلَ وَإِ ْ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ ِإ ْ
{ { } 39الْ َ
فهبتهم من أكبر النعم ،وكونهم على الكبر في حال الياس من الولد نعمة أخرى ،وكونهم أنبياء
سمِيعُ الدّعَاءِ } أي :لقريب الجابة ممن دعاه وقد دعوته فلم
صالحين أجل وأفضل { ،إِنّ رَبّي َل َ
جعَلْنِي ُمقِيمَ الصّلَا ِة َومِنْ ذُرّيّتِي رَبّنَا وَ َتقَبّلْ
يخيب رجائي ،ثم دعا لنفسه ولذريته ،فقالَ { :ربّ ا ْ
ي وَلِ ْلمُ ْؤمِنِينَ َيوْمَ َيقُومُ الْحساب }فاستجاب ال له في ذلك كله إل أن
غفِرْ لِي وَلِوَاِل َد ّ
دُعَاءِ * رَبّنَا ا ْ
دعاءه لبيه إنما كان عن موعدة وعده إياه ،فلما تبين له أنه عدو ل تبرأ منه.
عمّا َي ْع َملُ
حسَبَنّ اللّهَ غَافِلًا َ
هذا وعيد شديد للظالمين ،وتسلية للمظلومين ،يقول تعالى { :وَلَا تَ ْ
الظّاِلمُونَ } حيث أمهلهم وأدرّ عليهم الرزاق ،وتركهم يتقلبون في البلد آمنين مطمئنين ،فليس
في هذا ما يدل على حسن حالهم فإن ال يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما ،حتى إذا أخذه لم يفلته
{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } والظلم -هاهنا -يشمل الظلم
خصُ فِيهِ الْأَ ْبصَارُ } أي :ل تطرف
شَفيما بين العبد وربه وظلمه لعباد ال { .إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َيوْمٍ تَ ْ
من شدة ما ترى من الهوال وما أزعجها من القلقل.
طعِينَ } أي :مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي ال للحساب ل
{ ُم ْه ِ
سهِمْ } أي :رافعيها قد غُّلتْ أيديهم إلى الذقان،
امتناع لهم ول محيص ول ملجأُ { ،مقْ ِنعِي رُءُو ِ
فارتفعت لذلك رءوسهم { ،لَا يَرْتَدّ إِلَ ْي ِهمْ طَ ْر ُفهُمْ وََأفْئِدَ ُتهُمْ َهوَاءٌ } أي :أفئدتهم فارغة من قلوبهم قد
صعدت إلى الحناجر لكنها مملوءة من كل هم وغم وحزن وقلق.
جلٍ قَرِيبٍ
{ { } 46 - 44وَأَنْذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِيهِمُ ا ْلعَذَابُ فَ َيقُولُ الّذِينَ ظََلمُوا رَبّنَا َأخّرْنَا إِلَى أَ َ
سكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ
سمْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ مَا َلكُمْ مِنْ َزوَالٍ * وَ َ
سلَ َأوَلَمْ َتكُونُوا َأ ْق َ
ك وَنَتّبِعِ الرّ ُ
عوَ َت َ
جبْ دَ ْ
نُ ِ
سهُ ْم وَتَبَيّنَ َلكُمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِبهِ ْم َوضَرَبْنَا َلكُمُ الَْأمْثَالَ * َوقَدْ َمكَرُوا َمكْرَ ُه ْم وَعِنْدَ اللّهِ
الّذِينَ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ
َمكْرُهُ ْم وَإِنْ كَانَ َمكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :وَأَنْذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِي ِهمُ ا ْلعَذَابُ } أي :صف لهم
صفة تلك الحال وحذرهم من العمال الموجبة للعذاب الذي حين يأتي في شدائده وقلقله { ،فَ َيقُولُ
الّذِينَ ظََلمُوا } بالكفر والتكذيب وأنواع المعاصي نادمين على ما فعلوا سائلين للرجعة في غير
عوَ َتكَ } وال
جبْ دَ ْ
جلٍ قَرِيبٍ } أي :ردّنا إلى الدنيا فإنا قد أبصرنا { ،نُ ِ
وقتها { ،رَبّنَا َأخّرْنَا إِلَى أَ َ
سلَ } وهذا كله لجل التخلص من العذاب الليم وإل فهم كذبة في
يدعو إلى دار السلم { وَنَتّبِعِ الرّ ُ
هذا الوعد { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }
سمْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ مَا َلكُمْ مِنْ َزوَالٍ } عن الدنيا وانتقال إلى
ولهذا يوبخون ويقال لهمَ { :أوَلَمْ َتكُونُوا َأقْ َ
الخرة ،فها قد تبين حنثكم في إقسامكم ،وكذبكم فيما تدعون { ،و } ليس عملكم قاصر في الدنيا
سهُ ْم وَتَبَيّنَ َلكُمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِبهِمْ }
سكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الّذِينَ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ
من أجل اليات البينات ،بل { َ
من أنواع العقوبات؟ وكيف أحل ال بهم العقوبات ،حين كذبوا باليات البينات ،وضربنا لكم
المثال الواضحة التي ل تدع أدنى شك في القلب إل أزالته ،فلم تنفع فيكم تلك اليات بل أعرضتم
ودمتم على باطلكم حتى صار ما صار ،ووصلتم إلى هذا اليوم الذي ل ينفع فيه اعتذار من اعتذر
بباطل.
{ َوقَدْ َمكَرُوا } أي :المكذبون للرسل { َمكْرَ ُهمْ } الذي وصلت إرادتهم وقدر لهم عليه { ،وَعِنْدَ اللّهِ
َمكْرُهُمْ } أي :هو محيط به علما وقدرة فإنه عاد مكرهم عليهم { ول يحيق المكر السيئ إل
بأهله }
{ وَإِنْ كَانَ َمكْرُ ُهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي :ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق وبمن
جاء به -من عظمه -لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها ،أي { :مكروا مكرا كبارا } ل
يقادر قدره ولكن ال رد كيدهم في نحورهم.
ويدخل في هذا كل من مكر من المخالفين للرسل لينصر باطل ،أو يبطل حقا ،والقصد أن مكرهم
لم يغن عنهم شيئا ،ولم يضروا ال شيئا وإنما ضروا أنفسهم.
ف وَعْ ِدهِ ُرسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ * َيوْمَ تُ َب ّدلُ الْأَ ْرضُ
{ { } 52 - 47فَلَا َتحْسَبَنّ اللّهَ مُخِْل َ
صفَادِ
حدِ ا ْل َقهّارِ * وَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ َي ْومَئِذٍ ُمقَرّنِينَ فِي الَْأ ْ
سمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلّهِ ا ْلوَا ِ
ض وَال ّ
غَيْرَ الْأَ ْر ِ
ن وَ َتغْشَى وُجُو َههُمُ النّارُ * لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َبتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ
* سَرَابِيُل ُهمْ مِنْ قَطِرَا ٍ
س وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِ َيعَْلمُوا أَ ّنمَا ُهوَ إَِل ٌه وَاحِدٌ وَلِيَ ّذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }
حسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنّا ِ
الْ ِ
أي :إذا أراد أن ينتقم من أحد ،فإنه ل يفوته ول يعجزه ،وذلك في يوم القيامةَ { ،يوْمَ تُبَ ّدلُ الْأَ ْرضُ
سمَاوَاتُ } تبدل غير السماوات ،وهذا التبديل تبديل صفات ،ل تبديل ذات ،فإن
ض وَال ّ
غَيْرَ الْأَ ْر ِ
الرض يوم القيامة تسوى وتمد كمد الديم ويلقى ما على ظهرها من جبل و َمعْلم ،فتصير قاعا
صفصفا ،ل ترى فيها عوجا ول أمتا ،وتكون السماء كالمهل ،من شدة أهوال ذلك اليوم ثم يطويها
ال -تعالى -بيمينه.
{ وَبَرَزُوا } أي :الخلئق من قبورهم إلى يوم بعثهم ،ونشورهم في محل ل يخفى منهم على ال
شيء { ،لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ } أي :المتفرد بعظمته وأسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة ،وقهره لكل
العوالم فكلها تحت تصرفه وتدبيره ،فل يتحرك منها متحرك ،ول يسكن ساكن إل بإذنه.
{ وَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي :الذين وصفهم الجرام وكثرة الذنوبَ { ،ي ْومَئِذٍ } في ذلك اليوم { ُمقَرّنِينَ
فِي الَْأصْفَادِ } أي :يسلسل كل أهل عمل من المجرمين بسلسل من نار فيقادون إلى العذاب في
أذل صورة وأشنعها وأبشعها.
{ سَرَابِيُلهُمْ } أي :ثيابهم { مِنْ قَطِرَانٍ } وذلك لشدة اشتعال النار فيهم وحرارتها ونتن ريحها،
{ وَ َتغْشَى وُجُو َههُمُ } التي هي أشرف ما في أبدانهم { النّارَ } أي :تحيط بها وتصلها من كل
جانب ،وغير الوجوه من باب أولى وأحرى ،وليس هذا ظلما من ال لهم وإنما هو جزاء لما قدموا
وكسبوا ،ولهذا قال تعالى { :لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َبتْ } من خير وشر بالعدل والقسط الذي
ل جور فيه بوجه من الوجوه.
فلما بين البيان المبين في هذا القرآن قال في مدحه { :هَذَا بَلَاغٌ لِلنّاسِ } أي :يتبلغون به ويتزودون
إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات ،لما اشتمل عليه من الصول والفروع،
وجميع العلوم التي يحتاجها العباد.
{ وَلِيُنْذَرُوا ِبهِ } لما فيه من الترهيب من أعمال الشر وما أعد ال لهلها من العقاب { ،وَلِ َيعَْلمُوا
أَ ّنمَا ُهوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } حيث صرف فيه من الدلة والبراهين على ألوهيته ووحدانيته ،ما صار ذلك
حق اليقين { ،وَلِيَ ّذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي :العقول الكاملة ما ينفعهم فيفعلونه ،وما يضرهم
فيتركونه ،وبذلك صاروا أولي اللباب والبصائر.
إذ بالقرآن ازدادت معارفهم وآراؤهم ،وتنورت أفكارهم لما أخذوه غضّا طريّا فإنه ل يدعو إل
إلى أعلى الخلق والعمال وأفضلها ،ول يستدل على ذلك إل بأقوى الدلة وأبينها.
وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة
حميدة.
والحمد ل رب العالمين.
يقول تعالى معظما لكتابه مادحا له { تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ } أي :اليات الدالة على أحسن المعاني
وأفضل المطالبَ { ،وقُرْآنٍ مُبِينٍ } للحقائق بأحسن لفظ وأوضحه وأدله على المقصود ،وهذا مما
يوجب على الخلق النقياد إليه ،والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول والفرح والسرور.
فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها والكفر بها ،فإنه من المكذبين الضالين ،الذين سيأتي عليهم
وقت يتمنون أنهم مسلمون ،أي :منقادون لحكامه وذلك حين ينكشف الغطاء وتظهر أوائل الخرة
ومقدمات الموت ،فإنهم في أحوال الخرة كلها يتمنون أنهم مسلمون ،وقد فات وقت المكان،
ولكنهم في هذه الدنيا مغترون.
فب { ذَرْهُمْ يَ ْأكُلُوا وَيَ َتمَ ّتعُوا } بلذاتهم { وَيُ ْل ِههِمُ الَْأ َملُ } أي :يؤملون البقاء في الدنيا فيلهيهم عن
سوْفَ َيعَْلمُونَ } أن ما هم عليه باطل وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم ول يغتروا
الخرةَ { ،ف َ
بإمهال ال تعالى فإن هذه سنته في المم.
{ َومَا أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْ َيةٍ } كانت مستحقة للعذاب { إِلّا وََلهَا كِتَابٌ َمعْلُومٌ } مقدر لهلكها.
{ مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ } وإل فالذنوب ل بد من وقوع أثرها وإن تأخر.
{ َ { } 9 - 6وقَالُوا يَا أَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ * َلوْ مَا تَأْتِينَا بِا ْلمَلَا ِئكَةِ إِنْ كُ ْنتَ
ق َومَا كَانُوا ِإذًا مُنْظَرِينَ * إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ وَإِنّا لَهُ
حّمِنَ الصّا ِدقِينَ * مَانُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ ِإلّا بِالْ َ
لَحَا ِفظُونَ }
أي :وقال المكذبون لمحمد صلى ال عليه وسلم استهزاء وسخرية { :يا أيها الذي نزل عليه الذكر
} على زعمك { إنك لمجنون } إذ تظن أنا سنتبعك ونترك ما وجدنا عليه آباءنا لمجرد قولك.
{ لو ما تأتينا بالملئكة } يشهدون لك بصحة ما جئت به { إن كنت من الصادقين } فلما لم تأت
بالملئكة فلست بصادق ،وهذا من أعظم الظلم والجهل.
أما الظلم فظاهر فإن هذا تجرؤ على ال وتعنت بتعيين اليات التي لم يخترها وحصل المقصود
والبرهان بدونها من اليات الكثيرة الدالة على صحة ما جاء به ،وأما الجهل ،فإنهم جهلوا
مصلحتهم من مضرتهم ،فليس في إنزال الملئكة ،خير لهم بل ل ينزل ال الملئكة إل بالحق
الذي ل إمهال على من لم يتبعه وينقد له.
{ وما كانوا إذا } أي :حين تنزل الملئكة ،إن لم يؤمنوا ،ولن يؤمنوا بب { منظرين } أي:
بمهملين ،فصار طلبهم لنزال الملئكة تعجيل لنفسهم بالهلك والدمار ،فإن اليمان ليس في
أيديهم وإنما هو بيد ال { ،ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء
قبل ما كانوا ليؤمنوا إل أن يشاء ال ولكن أكثرهم يجهلون } ويكفيهم من اليات إن كانوا
صادقين ،هذا القرآن العظيم ولهذا قال هنا { :إنا نحن نزلنا الذكر } أي :القرآن الذي فيه ذكرى
لكل شيء من المسائل والدلئل الواضحة ،وفيه يتذكر من أراد التذكر { ،وإنا له لحافظون } أي:
في حال إنزاله وبعد إنزاله ،ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم ،وبعد
إنزاله أودعه ال في قلب رسوله ،واستودعه فيها ثم في قلوب أمته ،وحفظ ال ألفاظه من التغيير
فيها والزيادة والنقص ،ومعانيه من التبديل ،فل يحرف محرف معنى من معانيه إل وقيض ال له
من يبين الحق المبين ،وهذا من أعظم آيات ال ونعمه على عباده المؤمنين ،ومن حفظه أن ال
يحفظ أهله من أعدائهم ،ول يسلط عليهم عدوا يجتاحهم.
{ { } 13 - 10وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي شِيَعِ الَْأوّلِينَ * َومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ َرسُولٍ إِلّا كَانُوا ِبهِ
يَسْ َتهْزِئُونَ * كَذَِلكَ َنسُْلكُهُ فِي قُلُوبِ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ * لَا ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َوقَدْ خََلتْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ }
يقول تعالى لنبيه إذ كذبه المشركون :لم يزل هذا دأب المم الخالية والقرون الماضية { :ولقد
أرسلنا من قبلك في شيع الولين } أي :فرقهم وجماعتهم رسل.
{ كذلك نسلكه } أي :ندخل التكذيب { في قلوب المجرمين } أي :الذين وصفهم لظلم والبهت،
عاقبناهم لما اشتبهت قلوبهم بالكفر والتكذيب ،تشابهت معاملتهم لنبيائهم ورسلهم بالستهزاء
والسخرية وعدم اليمان ولهذا قال { :ل يؤمنون به وقد خلت سنة الولين } أي :عادة ال فيهم
بإهلك من لم يؤمن بآيات ال.
سكّ َرتْ
سمَاءِ فَظَلّوا فِيهِ َيعْرُجُونَ * َلقَالُوا إِ ّنمَا ُ
{ { } 15 - 14وََلوْ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَابًا مِنَ ال ّ
أَ ْبصَارُنَا َبلْ نَحْنُ َقوْمٌ َمسْحُورُونَ }
أي :ولو جاءتهم كل آية عظيمة لم يؤمنوا وكابروا { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } فصاروا
يعرجون فيه ،ويشاهدونه عيانا بأنفسهم لقالوا من ظلمهم وعنادهم منكرين لهذه الية { :إنما
سكرت أبصارنا } أي :أصابها سكر وغشاوة حتى رأينا ما لم نر { ،بل نحن قوم مسحورون }
أي :ليس هذا بحقيقة ،بل هذا سحر ،وقوم وصلت بهم الحال إلى هذا النكار ،فإنهم ل مطمع فيهم
ول رجاء ،ثم ذكر اليات الدالت على ما جاءت به الرسل من الحق فقال:
يقول تعالى -مبينا كمال اقتداره ورحمته بخلقه { :-ولقد جعلنا في السماء بروجا } أي :نجوما
كالبراج والعلم العظام يهتدى بها في ظلمات البر والبحر { ،وزيناها للناظرين } فإنه لول
النجوم لما كان للسماء هذا المنظر البهي والهيئة العجيبة ،وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها
والنظر في معانيها والستدلل بها على باريها.
{ وحفظناها من كل شيطان رجيم } إذا استرق السمع أتبعته الشهب الثواقب فبقيت السماء ظاهرها
مجمل بالنجوم النيرات وباطنها محروسا ممنوعا من الفات.
{ إل من استرق السمع } أي :في بعض الوقات قد يسترق بعض الشياطين السمع بخفية
واختلس { ،فأتبعه شهاب مبين } أي :بين منير يقتله أو يخبله .فربما أدركه الشهاب قبل أن
يوصلها الشيطان إلى وليه فينقطع خبر السماء عن الرض ،وربما ألقاها إلى وليه قبل أن يدركه
الشهاب فيضمّها ويكذب معها مائة كذبة ،ويستدل بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
{ والرض مددناها } أي :وسعناها سعة يتمكن الدميون والحيوانات كلها على المتداد بأرجائها
والتناول من أرزاقها والسكون في نواحيها.
{ وألقينا فيها رواسي } أي :جبال عظاما تحفظ الرض بإذن ال أن تميد وتثبتها أن تزول
{ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } أي :نافع متقوم يضطر إليه العباد والبلد ما بين نخيل
وأعناب وأصناف الشجار وأنواع النبات.
{ وجعلنا لكم فيها معايش } من الحرث ومن الماشية ومن أنواع المكاسب والحرف { .ومن لستم
له برازقين } أي :أنعمنا عليكم بعبيد وإماء وأنعام لنفعكم ومصالحكم وليس عليكم رزقها ،بل
خولكم ال إياها وتكفل بأرزاقها.
أي :جميع الرزاق وأصناف القدار ل يملكها أحد إل ال ،فخزائنها بيده يعطي من يشاء ،ويمنع
من يشاء ،بحسب حكمته ورحمته الواسعةَ { ،ومَا نُنَزّلُهُ } أي :المقدر من كل شيء من مطر
وغيره { ،إِلّا ِبقَدَرٍ َمعْلُومٍ } فل يزيد على ما قدره ال ول ينقص منه.
أي :وسخرنا الرياح ،رياح الرحمة تلقح السحاب ،كما يلقح الذكر النثى ،فينشأ عن ذلك الماء
بإذن ال ،فيسقيه ال العباد ومواشيهم وأرضهم ،ويبقى في الرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم
ما هو مقتضى قدرته ورحمتهَ { ،ومَا أَنْتُمْ لَهُ ِبخَازِنِينَ } أي :ل قدرة لكم على خزنه وادخاره،
ولكن ال يخزنه لكم ويسلكه ينابيع في الرض رحمة بكم وإحسانا إليكم.
{ { } 25 - 23وَإِنّا لَ َنحْنُ نُحْيِي وَ ُنمِيتُ وَنَحْنُ ا ْلوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَِلمْنَا ا ْلمُسْ َتقْ ِدمِينَ مِ ْنكُ ْم وََلقَدْ
حكِيمٌ عَلِيمٌ }
حشُرُهُمْ إِنّهُ َ
عَِلمْنَا ا ْلمُسْتَ ْأخِرِينَ * وَإِنّ رَ ّبكَ ُهوَ يَ ْ
أي :هو وحده ل شريك له الذي يحيي الخلق من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ويميتهم
جعُونَ
لجالهم التي قدرها { وَنَحْنُ ا ْلوَارِثُونَ } كقوله { :إِنّا َنحْنُ نَ ِرثُ الْأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُ ْر َ
} وليس ذلك بعزيز ول ممتنع على ال فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق والمستأخرين منهم
ويعلم ما تنقص الرض منهم وما تفرق من أجزائهم ،وهو الذي قدرته ل يعجزها معجز فيعيد
عباده خلقا جديدا ويحشرهم إليه.
حكِيمٌ } يضع الشياء مواضعها ،وينزلها منازلها ،ويجازي كل عامل بعمله ،إن خيرا فخير،
{ إِنّهُ َ
وإن شرا فشر.
يذكر تعالى نعمته وإحسانه على أبينا آدم عليه السلم ،وما جرى من عدوه إبليس ،وفي ضمن
ذلك التحذير لنا من شره وفتنته فقال تعالى { :وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ } أي آدم عليه السلم { مِنْ
حمَإٍ مَسْنُونٍ } أي :من طين قد يبس بعد ما خمر حتى صار له صلصلة وصوت،
صَ ْلصَالٍ مِنْ َ
كصوت الفخار ،والحمأ المسنون :الطين المتغير لونه وريحه من طول مكثه.
ج َمعُونَ } تأكيد بعد تأكيد ليدل على أنه لم يتخلف منهم أحد ،وذلك تعظيما
{ َفسَجَدَ ا ْلمَلَا ِئكَةُ كُّلهُمْ َأ ْ
لمر ال وإكراما لدم حيث علم ما لم يعلموا.
جدِينَ } وهذه أول عداوته لدم وذريته ،قال ال { :يَا إِبْلِيسُ مَا
{ إِلّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ َيكُونَ مَعَ السّا ِ
حمَإٍ مَسْنُونٍ } فاستكبر
ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ
َلكَ أَلّا َتكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ قَالَ َلمْ َأكُنْ لَِأسْجُدَ لِبَشَرٍ خََلقْتَهُ مِ ْ
على أمر ال وأبدى العداوة لدم وذريته وأعجب بعنصره ،وقال :أنا خير من آدم.
{ قَالَ } ال معاقبا له على كفره واستكباره { فَاخْرُجْ مِ ْنهَا فَإِ ّنكَ َرجِيمٌ } أي :مطرود مبعد من كل
خير { ،وَإِنّ عَلَ ْيكَ الّلعْنَةَ } أي :الذم والعيب ،والبعد عن رحمة ال { ،إِلَى َيوْمِ الدّينِ } ففيها وما
أشبهها دليل على أنه سيستمر على كفره وبعده من الخير.
{ قَالَ َربّ فَأَنْظِرْنِي } أي :أمهلني { إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ قَالَ فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنْظَرِينَ إِلَى َيوْمِ ا ْل َو ْقتِ
ا ْل َمعْلُومِ } وليس إجابة ال لدعائه كرامة في حقه وإنما ذلك امتحان وابتلء من ال له وللعباد
ليتبين الصادق الذي يطيع موله دون عدوه ممن ليس كذلك ،ولذلك حذرنا منه غاية التحذير،
وشرح لنا ما يريده منا.
غوَيْتَنِي لَأُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي :أزين لهم الدنيا وأدعوهم إلى إيثارها على
{ قَالَ َربّ ِبمَا أَ ْ
ج َمعِينَ } أي :أصدهم كلهم عن الصراط
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
الخرى ،حتى يكونوا منقادين لكل معصية { .وَلَأُ ْ
المستقيم { ،إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ } أي :الذين أخلصتهم واجتبيتهم لخلصهم ،وإيمانهم
وتوكلهم.
علَ ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ } تميلهم به إلى ما تشاء من أنواع الضللت ،بسبب عبوديتهم
{ إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ َ
لربهم وانقيادهم لوامره أعانهم ال وعصمهم من الشيطان.
{ إِلّا مَنِ اتّ َب َعكَ } فرضي بوليتك وطاعتك بدل من طاعة الرحمن { ،مِنَ ا ْلغَاوِينَ } والغاوي :ضد
الراشد فهو الذي عرف الحق وتركه ،والضال :الذي تركه من غير علم منه به.
ج َمعِينَ } أي :إبليس وجنودهَ { ،لهَا سَ ْبعَةُ أَ ْبوَابٍ } كل باب أسفل من
جهَنّمَ َل َموْعِدُ ُهمْ َأ ْ
{ وَإِنّ َ
الخرِ { ،ل ُكلّ بَابٍ مِ ْنهُمْ } أي :من أتباع إبليس { جُ ْزءٌ َمقْسُومٌ } بحسب أعمالهم .قال ال تعالى:
ج َمعُونَ }
ن وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَ ْ
{ َفكُ ْبكِبُوا فِيهَا هُمْ وَا ْلغَاوُو َ
ولما ذكر تعالى ما أعد لعدائه أتباع إبليس من النكال والعذاب الشديد ذكر ما أعد لوليائه من
الفضل العظيم والنعيم المقيم فقال:
يقول تعالى { :إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } الذين اتقوا طاعة الشيطان وما يدعوهم إليه من جميع الذنوب
ت وَعُيُونٍ } قد احتوت على جميع الشجار وأينعت فيها جميع الثمار اللذيذة
والعصيان { فِي جَنّا ٍ
في جميع الوقات.
ويقال لهم حال دخولها { :ا ْدخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ } من الموت والنوم والنصب ،واللغوب وانقطاع
شيء من النعيم الذي هم فيه أو نقصانه ومن المرض ،والحزن والهم وسائر المكدرات { ،وَنَزَعْنَا
غلّ } فتبقى قلوبهم سالمة من كل دغل وحسد متصافية متحابة { إخوانا على
صدُورِهِمْ مِنْ ِ
مَا فِي ُ
سرر متقابلين }
دل ذلك على تزاورهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم في كون كل منهم مقابل للخر ل
مستدبرا له متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر.
صبٌ } ل ظاهر ول باطن ،وذلك لن ال ينشئهم نشأة وحياة كاملة ل تقبل شيئا
سهُمْ فِيهَا َن َ
{ لَا َيمَ ّ
من الفاتَ { ،ومَا هُمْ مِ ْنهَا ِبمُخْ َرجِينَ } على سائر الوقات.
ولما ذكر ما يوجب الرغبة والرهبة من مفعولت ال من الجنة والنار ،ذكر ما يوجب ذلك من
أوصافه تعالى فقال { :نَ ّبئْ عِبَادِي } أي :أخبرهم خبرا جازما مؤيدا بالدلة { ،أَنّي أَنَا ا ْلغَفُورُ
سعَوا في السباب الموصلة لهم إلى رحمته
الرّحِيمُ } فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ،ومغفرته َ
وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها ،لينالوا مغفرته.
عذَابِي ُهوَ
ومع هذا فل ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال المن والدلل ،فنبئهم { وَأَنّ َ
ا ْلعَذَابُ الْأَلِيمُ } أي :ل عذاب في الحقيقة إل عذاب ال الذي ل يقادر قدره ول يبلغ كنهه نعوذ به
من عذابه ،فإنهم إذا عرفوا أنه { ل يعذب عذابه أحد ول يوثق وثاقه أحد } حذروا وأبعدوا عن
كل سبب يوجب لهم العقاب ،فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء ،والرغبة
والرهبة ،فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه ،أحدث له ذلك الرجاء والرغبة ،وإذا
نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه ،أحدث له الخوف والرهبة والقلع عنها.
ن ضَ ْيفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ َدخَلُوا عَلَيْهِ َفقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنّا مِ ْنكُ ْم وَجِلُونَ *
{ { } 56 - 51وَنَبّ ْئهُمْ عَ ْ
جلْ إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشّرْ ُتمُونَ عَلَى أَنْ مَسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ فَبِمَ تُ َبشّرُونَي * قَالُوا
قَالُوا لَا َتوْ َ
حمَةِ رَبّهِ إِلّا الضّالّونَ }
ل َومَنْ َيقْنَطُ مِنْ رَ ْ
بَشّرْنَاكَ بِا ْلحَقّ فَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْلقَانِطِينَ * قَا َ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :وَنَبّ ْئهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي :عن تلك القصة
العجيبة فإن في قصك عليهم أنباء الرسل وما جرى لهم ما يوجب لهم العبرة والقتداء بهم،
خصوصا إبراهيم الخليل ،الذي أمرنا ال أن نتبع ملته ،وضيفه هم الملئكة الكرام أكرمه ال بأن
جعلهم أضيافه.
{ ِإذْ َدخَلُوا عَلَيْهِ َفقَالُوا سَلَامًا } أي :سلموا عليه فرد عليهم { قَالَ إِنّا مِ ْنكُمْ وَجِلُونَ } أي :خائفون،
لنه لما دخلوا عليه وحسبهم ضيوفا ذهب مسرعا إلى بيته فأحضر لهم ضيافتهم ،عجل حنيذا
فقدمه إليهم ،فلما رأى أيديهم ل تصل ،إليه خاف منهم أن يكونوا لصوصا أو نحوهم.
جلْ إِنّا نُ َبشّ ُركَ ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ } وهو إسحاق عليه الصلة والسلم ،تضمنت
فب { قَالُوا } له { :لَا َتوْ َ
سحَاقَ نَبِيّا مِنَ
هذه البشارة بأنه ذكر ل أنثى عليم أي :كثير العلم ،وفي الية الخرى { وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ
الصّالِحِينَ }
فقال لهم متعجبا من هذه البشارة { :أَبَشّرْ ُتمُونِي } بالولد { عَلَى أَنْ مَسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ } وصار نوع إياس
منه { فَبِمَ تُ َبشّرُونَ } أي :على أي وجه تبشرون وقد عدمت السباب؟
حقّ } الذي ل شك فيه لن ال على كل شيء قدير ،وأنتم بالخصوص -يا أهل
{ قَالُوا َبشّرْنَاكَ بِالْ َ
هذا البيت -رحمة ال وبركاته عليكم فل يستغرب فضل ال وإحسانه إليكم.
{ فَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْلقَانِطِينَ } الذين يستبعدون وجود الخير ،بل ل تزال راجيا لفضل ال وإحسانه،
حمَةِ رَبّهِ إِلّا الضّالّونَ } الذين ل علم لهم
وبره وامتنانه ،فأجابهم إبراهيم بقولهَ { :ومَنْ َيقْنَطُ مِنْ َر ْ
بربهم ،وكمال اقتداره وأما من أنعم ال عليه بالهداية والعلم العظيم ،فل سبيل إلى القنوط إليه لنه
يعرف من كثرة السباب والوسائل والطرق لرحمة ال شيئا كثيرا ،ثم لما بشروه بهذه البشارة،
عرف أنهم مرسلون لمر مهم.
خطْ ُبكُمْ أَ ّيهَا ا ْلمُ ْرسَلُونَ * قَالُوا إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمٍ مُجْ ِرمِينَ * إِلّا آلَ
{ { } 77 - 57قَالَ َفمَا َ
ج َمعِينَ * إِلّا امْرَأَ َتهُ قَدّرْنَا إِ ّنهَا َلمِنَ ا ْلغَابِرِينَ * فََلمّا جَاءَ آلَ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلُونَ *
لُوطٍ إِنّا َلمُ َنجّوهُمْ َأ ْ
ق وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ *
حّقَالَ إِ ّنكُمْ َقوْمٌ مُ ْنكَرُونَ * قَالُوا َبلْ جِئْنَاكَ ِبمَا كَانُوا فِيهِ َيمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْ َ
ل وَاتّبِعْ َأدْبَارَهُ ْم وَلَا يَلْ َت ِفتْ مِ ْنكُمْ َأحَ ٌد وَا ْمضُوا حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ * َو َقضَيْنَا
طعٍ مِنَ اللّ ْي ِ
فَأَسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِ ْ
إِلَيْهِ ذَِلكَ الَْأمْرَ أَنّ دَابِرَ َهؤُلَاءِ َمقْطُوعٌ ُمصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَ ْهلُ ا ْلمَدِي َنةِ يَسْتَ ْبشِرُونَ * قَالَ إِنّ َهؤُلَاءِ
ضَيْفِي فَلَا َت ْفضَحُونِ * وَاتّقُوا اللّهَ وَلَا ُتخْزُونِ * قَالُوا َأوَلَمْ نَ ْن َهكَ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ * قَالَ َهؤُلَاءِ بَنَاتِي
جعَلْنَا عَالِ َيهَا
سكْرَ ِتهِمْ َي ْع َمهُونَ * فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ مُشْ ِرقِينَ * فَ َ
إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * َل َعمْ ُركَ إِ ّنهُمْ َلفِي َ
سمِينَ * وَإِ ّنهَا لَبِسَبِيلٍ ُمقِيمٍ *
سجّيلٍ * إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ
حجَا َرةً مِنْ ِ
سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْي ِهمْ ِ
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }
أي { :قَالَ } الخليل عليه السلم للملئكةَ { :فمَا خَطْ ُبكُمْ أَ ّيهَا ا ْلمُرْسَلُونَ } أي :ما شأنكم ولي شيء
أرسلتم؟
{ قَالُوا إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمٍ ُمجْ ِرمِينَ } أي :كثر فسادهم وعظم شرهم ،لنعذبهم ونعاقبهم { ،إِلّا آلَ
لُوطٍ } أي :إل لوطا وأهله { إِلّا امْرَأَتَهُ قَدّرْنَا إِ ّنهَا َلمِنَ ا ْلغَابِرِينَ } أي :الباقين بالعذاب ،وأما لوط
فسنخرجنه وأهله وننجيهم منها ،فجعل إبراهيم يجادل الرسل في إهلكهم ويراجعهم ،فقيل له { :يا
إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } فذهبوا منه.
{ فََلمّا جَاءَ آلَ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلُونَ قَالَ } لهم لوط { إِ ّنكُمْ َقوْمٌ مُ ْنكَرُونَ } أي :ل أعرفكم ول أدري من
أنتم.
{ قَالُوا َبلْ جِئْنَاكَ ِبمَا كَانُوا فِيهِ َيمْتَرُونَ } أي :جئناك بعذابهم الذي كانوا يشكون فيه ويكذبونك
حين تعدهم به { ،وَأَتَيْنَاكَ بِا ْلحَقّ } الذي ليس بالهزل { وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ } فيما قلنا لك.
{ فََأسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِطْعٍ مِنَ اللّ ْيلِ } أي :في أثنائه حين تنام العيون ول يدري أحد عن مسراك { ،وَلَا
يَلْ َتفِتْ مِ ْنكُمْ َأحَدٌ } أي :بادروا وأسرعوا { ،وَا ْمضُوا حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ } كأن معهم دليل يدلهم إلى أين
يتوجهون { َو َقضَيْنَا إِلَيْهِ ذَِلكَ } أي :أخبرناه خبرا ل مثنوية فيه { ،أَنّ دَابِرَ َهؤُلَاءِ َمقْطُوعٌ
ُمصْبِحِينَ } أي :سيصبحهم العذاب الذي يجتاحهم ويستأصلهم { ،وَجَاءَ أَ ْهلُ ا ْل َمدِينَةِ } أي :المدينة
التي فيها قوم لوط { يَسْتَبْشِرُونَ } أي :يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط وصباحة وجوههم
واقتدارهم عليهم ،وذلك لقصدهم فعل الفاحشة فيهم ،فجاءوا حتى وصلوا إلى بيت لوط فجعلوا
يعالجون لوطا على أضيافه ،ولوط يستعيذ منهم ويقول { :إِنّ َهؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا َتفْضَحُون وَا ّتقُوا
اللّ َه وَلَا ُتخْزُون } أي :راقبوا ال أول ذلك وإن كان ليس فيكم خوف من ال فل تفضحون في
أضيافي ،وتنتهكوا منهم المر الشنيع.
فب { قَالُوا } له جوابا عن قوله ول تخزون فقطَ { :أوََلمْ نَ ْن َهكَ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ } أن تضيفهم فنحن قد
أنذرناك ،ومن أنذر فقد أعذر ،فب { قَالَ } لهم لوط من شدة المر الذي أصابهَ { :هؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } فلم يبالوا بقوله ولهذا قال ال لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم { َل َعمْ ُركَ إِ ّنهُمْ َلفِي
سكْرَ ِتهِمْ َي ْع َمهُونَ } وهذه السكرة هي سكرة محبة الفاحشة التي ل يبالون معها بعذل ول لوم.
َ
فلما بينت له الرسل حالهم ،زال عن لوط ما كان يجده من الضيق والكرب ،فامتثل أمر ربه
حةُ مُشْ ِرقِينَ } أي :وقت شروق الشمس
خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ
وسرى بأهله ليل فنجوا ،وأما أهل القرية { فَأَ َ
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا } أي :قلبنا عليهم مدينتهم { ،وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ
حين كانت العقوبة عليهم أشد { ،فَ َ
سجّيلٍ } تتبع فيها من شذ من البلد منهم.
حجَا َرةً مِنْ ِ
ِ
سمِينَ } أي :المتأملين المتفكرين ،الذين لهم فكر وروية وفراسة ،يفهمون
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ
بها ما أريد بذلك ،من أن من تجرأ على معاصي ال ،خصوصا هذه الفاحشة العظيمة ،وأن ال
سيعاقبهم بأشنع العقوبات ،كما تجرأوا على أشنع السيئات.
{ وَإِ ّنهَا } أي :مدينة قوم لوط { لَ ِبسَبِيلٍ مُقِيمٍ } للسالكين ،يعرفه كل من تردد في تلك الديار { إِنّ
فِي ذَِلكَ لَآيَةً لِ ْل ُمؤْمِنِينَ } وفي هذه القصة من العبر :عنايته تعالى بخليله إبراهيم ،فإن لوطا عليه
السلم من أتباعه ،وممن آمن به فكأنه تلميذ له ،فحين أراد ال إهلك قوم لوط حين استحقوا ذلك،
أمر رسله أن يمروا على إبراهيم عليه السلم كي يبشروه بالولد ويخبروه بما بعثوا له ،حتى إنه
جادلهم عليه السلم في إهلكهم حتى أقنعوه ،فطابت نفسه.
وكذلك لوط عليه السلم ،لما كانوا أهل وطنه ،فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدّر ال من
السباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم ،حتى استبطأ إهلكهم لما قيل له { :إن موعدهم الصبح
أليس الصبح بقريب } ومنها :أن ال تعالى إذا أراد أن يهلك قرية [ازداد] شرهم وطغيانهم ،فإذا
انتهى أوقع بهم من العقوبات ما يستحقونه.
{ { } 79 - 78وَإِنْ كَانَ َأصْحَابُ الْأَ ْيكَةِ لَظَاِلمِينَ * فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُ ْم وَإِ ّن ُهمَا لَبِِإمَامٍ مُبِينٍ }
وهؤلء هم قوم شعيب ،نعتهم ال وأضافهم إلى اليكة ،وهو البستان كثير الشجار ،ليذكر نعمته
عليهم ،وأنهم ما قاموا بها بل جاءهم نبيهم شعيب ،فدعاهم إلى التوحيد ،وترك ظلم الناس في
المكاييل والموازين ،وعاجلهم على ذلك على أشد المعالجة فاستمروا على ظلمهم في حق الخالق،
وفي حق الخلق ،ولهذا وصفهم هنا بالظلم { ،فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ } فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان
عذاب يوم عظيم { .وَإِ ّن ُهمَا } أي :ديار قوم لوط وأصحاب اليكة { لَبِِإمَامٍ مُبِينٍ } أي :لبطريق
واضح يمر بهم المسافرون كل وقت ،فيبين من آثارهم ما هو مشاهد بالبصار فيعتبر بذلك أولوا
اللباب.
{ { } 84 - 80وََلقَدْ كَ ّذبَ َأصْحَابُ ا ْلحِجْرِ ا ْلمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا َفكَانُوا عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ *
َوكَانُوا يَ ْنحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ ُمصْبِحِينَ * َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا
َيكْسِبُونَ }
يخبر تعالى عن أهل الحجر ،وهم قوم صالح الذين كانوا يسكنون الحجر المعروف في أرض
الحجاز ،أنهم كذبوا المرسلين أي :كذبوا صالحا ،ومن كذب رسول فقد كذب سائر الرسل ،لتفاق
دعوتهم ،وليس تكذيب بعضهم لشخصه بل لما جاء به من الحق الذي اشترك جميع الرسل
بالتيان به { ،وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا } الدالة على صحة ما جاءهم به صالح من الحق التي من جملتها:
تلك الناقة التي هي من آيات ال العظيمة.
{ َفكَانُوا عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ } كبرا وتجبرا على الَ { ،وكَانُوا } من كثرة إنعام ال عليهم { يَ ْنحِتُونَ
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } من المخاوف مطمئنين في ديارهم ،فلو شكروا النعمة وصدقوا نبيهم
صالحا عليه السلم لدرّ ال عليهم الرزاق ،ولكرمهم بأنواع من الثواب العاجل والجل ،ولكنهم
-لما كذبوا وعقروا الناقة ،وعتوا عن أمر ربهم وقالوا { :يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من
الصادقين }
{ فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ ُمصْ ِبحِينَ } فتقطعت قلوبهم في أجوافهم وأصبحوا في دارهم جاثمين هلكى ،مع
ما يتبع ذلك من الخزي واللعنة المستمرة { َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } لن أمر ال إذا جاء
ل يرده كثرة جنود ،ول قوة أنصار ول غزارة أموال.
صفَحِ
ق وَإِنّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَا ْ
حّت وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ
سمَاوَا ِ
{ َ { } 86 - 85ومَا خََلقْنَا ال ّ
جمِيلَ * إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلخَلّاقُ ا ْلعَلِيمُ }
صفْحَ ا ْل َ
ال ّ
وهو :أن المأمور به هو الصفح الجميل أي :الحسن الذي قد سلم من الحقد والذية القولية
والفعلية ،دون الصفح الذي ليس بجميل ،وهو الصفح في غير محله ،فل يصفح حيث اقتضى
المقام العقوبة ،كعقوبة المعتدين الظالمين الذين ل ينفع فيهم إل العقوبة ،وهذا هو المعنى.
{ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ الْخَلّاقُ } لكل مخلوق { ا ْلعَلِيمُ } بكل شيء ،فل يعجزه أحد من جميع ما أحاط به
علمه وجرى عليه خلقه ،وذلك سائر الموجودات.
{ { } 93 - 87وََلقَدْ آتَيْنَاكَ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي وَا ْلقُرْآنَ ا ْل َعظِيمَ * لَا َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِهِ
حكَ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * َو ُقلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ ا ْلمُبِينُ * َكمَا أَنْزَلْنَا
خ ِفضْ جَنَا َ
أَ ْزوَاجًا مِ ْنهُ ْم وَلَا َتحْزَنْ عَلَ ْيهِمْ وَا ْ
عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
ج َمعِينَ * َ
عضِينَ * َفوَرَ ّبكَ لَنَسْأَلَ ّنهُمْ أَ ْ
جعَلُوا ا ْلقُرْآنَ ِ
سمِينَ * الّذِينَ َ
عَلَى ا ْل ُمقْتَ ِ
يقول تعالى ممتنّا على رسوله { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } وهن -على الصحيح -السور
السبع الطوال " :البقرة " و " آل عمران " و " النساء " و " المائدة " و " النعام " و " العراف " و
" النفال " مع " التوبة " أو أنها فاتحة الكتاب لنها سبع آيات ،فيكون عطف { القرآن العظيم }
على ذلك من باب عطف العام على الخاص ،لكثرة ما في المثاني من التوحيد ،وعلوم الغيب،
والحكام الجليلة ،وتثنيتها فيها.
وعلى القول بأن " الفاتحة " هي السبع المثاني معناها :أنها سبع آيات ،تثنى في كل ركعة ،واذا
كان ال قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون،
وأعظم ما فرح به المؤمنون { ،قل بفضل ال وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }
ولذلك قال بعده { :ل تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أي :ل تعجب إعجابا يحملك
على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتع بها المترفون ،واغترّ بها الجاهلون ،واستغن بما آتاك
ال من المثاني والقرآن العظيم { ،ول تحزن عليهم } فإنهم ل خير فيهم يرجى ،ول نفع يرتقب،
فلك في المؤمنين عنهم أحسن البدل وأفضل العوض { ،واخفض جناحك للمؤمنين } أي :ألن لهم
جانبك ،وحسّن لهم خلقك ،محبة وإكراما وتودّدا { ،وقل إني أنا النذير المبين } أي :قم بما عليك
من النذارة وأداء الرسالة والتبليغ للقريب والبعيد والعدو والصديق ،فإنك إذا فعلت ذلك فليس عليك
من حسابهم من شيء ،وما من حسابك عليهم من شيء.
وقوله { :كما أنزلنا على المقتسمين } أي :كما أنزلنا العقوبة على المقتسمين على بطلن ما جئت
به ،الساعين لصد الناس عن سبيل ال.
{ الذين جعلوا القرآن عضين } أي :أصنافا وأعضاء وأجزاء ،يصرفونه بحسب ما يهوونه ،فمنهم
من يقول :سحر ومنهم من يقول :كهانة ومنهم من يقول :مفترى إلى غير ذلك من أقوال الكفرة
المكذبين به ،الذين جعلوا قدحهم فيه ليصدوا الناس عن الهدى.
{ فوربك لنسألنهم أجمعين } أي :جميع من قدح فيه وعابه وحرفه وبدله { عما كانوا يعملون }
وفي هذا أعظم ترهيب وزجر لهم عن القامة على ما كانوا عليه
ثم أمر ال رسوله ان ل يبالي بهم ول بغيرهم وأن يصدع بما أمر ال ويعلن بذلك لكل أحد ول
يعوقنه عن أمره عائق ول تصده أقوال المتهوكين { ،وأعرض عن المشركين } أي :ل تبال بهم
واترك مشاتمتهم ومسابتهم مقبل على شأنك { ،إنا كفيناك المستهزئين } بك وبما جئت به وهذا
وعد من ال لرسوله ،أن ل يضره المستهزئون ،وأن يكفيه ال إياهم بما شاء من أنواع العقوبة.
وقد فعل تعالى فإنه ما تظاهر أحد بالستهزاء برسول ال صلى ال عليه وسلم وبما جاء به إل
أهلكه ال وقتله شر قتلة.
ثم ذكر وصفهم وأنهم كما يؤذونك يا رسول ال ،فإنهم أيضا يؤذون ال ويجعلون معه { إلها
آخر } وهو ربهم وخالقهم ومدبرهم { فسوف يعلمون } غب أفعالهم إذا وردوا القيامة { ،ولقد نعلم
أنك يضيق صدرك بما يقولون } لك من التكذيب والستهزاء ،فنحن قادرون على استئصالهم
بالعذاب ،والتعجيل لهم بما يستحقون ،ولكن ال يمهلهم ول يهملهم.
فأنت يا محمد { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } أي :أكثر من ذكر ال وتسبيحه وتحميده
والصلة فإن ذلك يوسع الصدر ويشرحه ويعينك على أمورك.
{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي :الموت أي :استمر في جميع الوقات على التقرب إلى ال
بأنواع العبادات ،فامتثل صلى ال عليه وسلم أمر ربه ،فلم يزل دائبا في العبادة ،حتى أتاه اليقين
من ربه صلى ال عليه وسلم تسليما كثيرا.
يقول تعالى -مقربا لما وعد به محققا لوقوعه { -أَتَى َأمْرُ اللّهِ فَلَا تَسْ َتعْجِلُوهُ } فإنه آت ،وما هو
عمّا يُشْ ِركُونَ } من نسبة الشريك والولد والصاحبة والكفء
آت ،فإنه قريب { ،سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَى َ
وغير ذلك مما نسبه إليه المشركون مما ل يليق بجلله ،أو ينافي كماله ،ولما نزه نفسه عما
وصفه به أعداؤه ذكر الوحي الذي ينزله على أنبيائه ،مما يجب اتباعه في ذكر ما ينسب ل ،من
صفات الكمال فقال { :يُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ بِالرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ } أي :بالوحي الذي به حياة الرواح { عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } ممن يعلمه صالحا ،لتحمل رسالته.
وزبدة دعوة الرسل كلهم ومدارها على قوله { :أَنْ أَ ْنذِرُوا أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا أَنَا فاتقون } أي :على
معرفة ال تعالى وتوحده في صفات العظمة التي هي صفات اللوهية وعبادته وحده ل شريك له
فهي التي أنزل ال بها كتبه وأرسل رسله ،وجعل الشرائع كلها تدعو إليها ،وتحث وتجاهد من
حاربها وقام بضدها ،ثم ذ كر الدلة والبراهين على ذلك فقال:
طفَةٍ فَِإذَا
عمّا يُشْ ِركُونَ * خَلَقَ الْإِ ْنسَانَ مِنْ نُ ْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ َتعَالَى َ
{ { } 9 - 3خَلَقَ ال ّ
جمَالٌ حِينَ
خصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَ ْنعَامَ خََلقَهَا َلكُمْ فِيهَا ِدفْ ٌء َومَنَافِ ُع َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ * وََلكُمْ فِيهَا َ
ُهوَ َ
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ َتكُونُوا بَاِلغِيهِ إِلّا ِبشِقّ الْأَ ْنفُسِ إِنّ رَ ّبكُمْ لَرَءُوفٌ
ن وَحِينَ َتسْرَحُونَ *وَتَ ْ
تُرِيحُو َ
حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَ ًة وَيَخُْلقُ مَا لَا َتعَْلمُونَ * وَعَلَى اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ
ل وَالْ ِبغَالَ وَالْ َ
رَحِيمٌ * وَالْخَ ْي َ
ج َمعِينَ }
َومِ ْنهَا جَائِ ٌر وََلوْ شَاءَ َل َهدَاكُمْ َأ ْ
هذه السورة تسمى سورة النعم ،فإن ال ذكر في أولها أصول النعم وقواعدها ،وفي آخرها
متمماتها ومكملتها ،فأخبر أنه خلق السماوات والرض بالحق ،ليستدل بهما العباد على عظمة
خالقهما ،وما له من نعوت الكمال ويعلموا أنه خلقهما مسكنا لعباده الذين يعبدونه ،بما يأمرهم به
في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله ،ولهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقالَ { :تعَالَى
عمّا يُشْ ِركُونَ } أي :تنزه وتعاظم عن شركهم فإنه الله حقا ،الذي ل تنبغي العبادة والحب والذل
َ
إل له تعالى ،ولما ذكر خلق السماوات [والرض] ذكر خلق ما فيهما.
ن وَحِينَ
جمَالٌ حِينَ تُرِيحُو َ
{ وَ } لكم فيها { مَنَافِعُ } غير ذلك { َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ } { وََلكُمْ فِيهَا َ
تَسْ َرحُونَ } أي :في وقت راحتها وسكونها ووقت حركتها وسرحها ،وذلك أن جمالها ل يعود إليها
منه شيء فإنكم أنتم الذين تتجملون بها ،كما تتجملون بثيابكم وأولدكم وأموالكم ،وتعجبون بذلك{ ،
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ } من الحمال الثقيلة ،بل وتحملكم أنتم { إِلَى بَلَدٍ َلمْ َتكُونُوا بَاِلغِيهِ إِلّا ِبشِقّ الْأَ ْنفُسِ }
وَتَ ْ
ولكن ال ذللها لكم.
فمنها ما تركبونه ،ومنها ما تحملون عليه ما تشاءون من الثقال إلى البلدان البعيدة والقطار
الشاسعة { ،إِنّ رَ ّبكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } إذ سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه ،فله الحمد كما
ينبغي لجلل وجهه ،وعظيم سلطانه وسعة جوده وبره.
حمِيرَ } سخرناها لكم { لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً } أي :تارة تستعملونها للضرورة في
ل وَالْ َ
{ وَا ْلخَ ْيلَ وَالْ ِبغَا َ
الركوب وتارة لجل الجمال والزينة ،ولم يذكر الكل لن البغال والحمر محرم أكلها ،والخيل ل
تستعمل -في الغالب -للكل ،بل ينهى عن ذبحها لجل الكل خوفا من انقطاعها وإل فقد ثبت في
الصحيحين ،أن النبي صلى ال عليه وسلم أذن في لحوم الخيل.
خلُقُ مَا لَا َتعَْلمُونَ } مما يكون بعد نزول القرآن من الشياء ،التي يركبها الخلق في البر
{ وَيَ ْ
والبحر والجو ،ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم ،فإنه لم يذكرها بأعيانها ،لن ال تعالى ل
يذكر في كتابه إل ما يعرفه العباد ،أو يعرفون نظيره ،وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو
ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه ،فيذكر أصل جامعا يدخل فيه ما يعلمون وما ل يعلمون،
كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ،كالنخل والعناب والرمان ،وأجمل ما ل
نعرف له نظيرا في قوله { :فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َزوْجَان } فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب
كالخيل والبغال والحمير والبل والسفن ،وأجمل الباقي في قوله { :وَيَخُْلقُ مَا لَا َتعَْلمُونَ } ولما
ذكر تعالى الطريق الحسي ،وأن ال قد جعل للعباد ما يقطعونه به من البل وغيرها ذكر الطريق
المعنوي الموصل إليه فقال:
{ وَعَلَى اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ } أي :الصراط المستقيم ،الذي هو أقرب الطرق وأخصرها موصل إلى
ال.
وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله وهو :كل ما خالف الصراط المستقيم فهو قاطع عن ال،
موصل إلى دار الشقاء ،فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم ،وضل الغاوون عنه،
ج َمعِينَ } ولكنه هدى بعضا كرما وفضل ،ولم يهد
وسلكوا الطرق الجائرة { وََلوْ شَاءَ َلهَدَاكُمْ أَ ْ
آخرين ،حكمة منه وعدل.
بذلك على كمال قدرة ال الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف ورحمته حيث جعل فيه
ماء غزيرا منه يشربون وتشرب مواشيهم ويسقون منه حروثهم فتخرج لهم الثمرات الكثيرة
والنعم الغزيرة.
أي :سخر لكم هذه الشياء لمنافعكم وأنواع مصالحكم بحيث ل تستغنون عنها أبدا ،فبالليل تسكنون
وتنامون وتستريحون ،وبالنهار تنتشرون في معايشكم ومنافع دينكم ودنياكم ،وبالشمس والقمر من
الضياء والنور والشراق ،وإصلح الشجار والثمار والنبات ،وتجفيف الرطوبات ،وإزالة البرودة
الضارة للرض ،وللبدان ،وغير ذلك من الضروريات والحاجيات التابعة لوجود الشمس والقمر.
وفيهما وفي النجوم من الزينة للسماء والهداية في ظلمات البر والبحر ،ومعرفة الوقات وحساب
الزمنة ما تتنوع دللتها وتتصرف آياتها ،ولهذا جمعها في قوله { إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ
} أي :لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر والتفكر فيما هي مهيأة له مستعدة تعقل ما تراه
وتسمعه ،ل كنظر الغافلين الذين حظهم من النظر حظ البهائم التي ل عقل لها.
{ َ { } 13ومَا ذَرَأَ َلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ مُخْ َتِلفًا أَ ْلوَانُهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً ِلقَوْمٍ َي ّذكّرُونَ }
أي :فيما ذرأ ال ونشر للعباد من كل ما على وجه الرض ،من حيوان وأشجار ونبات ،وغير
ذلك ،مما تختلف ألوانه ،وتختلف منافعه ،آية على كمال قدرة ال وعميم إحسانه ،وسعة بره ،وأنه
الذي ل تنبغي العبادة إل له وحده ل شريك لهِ { ،ل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ } أي :يستحضرون في ذاكرتهم ما
ينفعهم من العلم النافع ،ويتأملون ما دعاهم ال إلى التأمل فيه حتى يتذكروا بذلك ما هو دليل عليه.
حمًا طَرِيّا
أي :هو وحده ل شريك له { الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ } وهيأه لمنافعكم المتنوعة { .لِتَ ْأكُلُوا مِنْهُ َل ْ
} وهو السمك والحوت الذي يصطادونه منه { ،وَتَسْ َتخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا } فتزيدكم جمال
وحسنا إلى حسنكم { ،وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ } أي :السفن والمراكب { َموَاخِرَ فِيهِ } أي :تمخر في البحر
العجاج الهائل بمقدمها حتى تسلك فيه من قطر إلى آخر ،تحمل المسافرين وأرزاقهم وأمتعتهم
وتجاراتهم التي يطلبون بها الرزاق وفضل ال عليهم.
شكُرُونَ } الذي يسر لكم هذه الشياء وهيأها وتثنون على ال الذي منّ بها ،فلله تعالى
{ وََلعَّلكُمْ َت ْ
الحمد والشكر والثناء ،حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم فوق ما يطلبون ،وأعلى ما
يتمنون ،وآتاهم من كل ما سألوه ،ل نحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه.
سيَ أَنْ َتمِيدَ ِب ُك ْم وَأَ ْنهَارًا وَسُبُلًا َلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ * وَعَلَامَاتٍ
{ { } 16 - 15وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ
وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْ َتدُونَ}
حصُوهَا إِنّ
{ َ { } 23 - 17أ َفمَنْ َيخْلُقُ َكمَنْ لَا َيخْلُقُ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ * وَإِنْ َتعُدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ لَا ُت ْ
ن َومَا ُتعْلِنُونَ * وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيخُْلقُونَ شَيْئًا
اللّهَ َلغَفُورٌ رَحِيمٌ *وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا تُسِرّو َ
حدٌ فَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ
شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ * إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَا ِ
وَهُمْ ُيخَْلقُونَ * َأ ْموَاتٌ غَيْرُ َأحْيَا ٍء َومَا يَ ْ
حبّ
ن َومَا ُيعْلِنُونَ إِنّهُ لَا يُ ِ
بِالْآخِ َرةِ قُلُو ُبهُمْ مُ ْنكِ َر ٌة وَ ُهمْ مُسْ َتكْبِرُونَ * لَا جَ َرمَ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا يُسِرّو َ
ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ }
لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة ،وما أنعم به من النعم العميمة ذكر أنه ل يشبهه
أحد ول كفء له ول ند له فقالَ { :أ َفمَنْ َيخْلُقُ } جميع المخلوقات وهو الفعال لما يريد { َكمَنْ لَا
يَخُْلقُ } شيئا ل قليل ول كثيراَ { ،أفَلَا تَ َذكّرُونَ } فتعرفون أن المنفرد بالخلق أحق بالعبادة كلها،
فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره فإنه واحد في إلهيته وتوحيده وعبادته.
وكما أنه ليس له مشارك إذ أنشأكم وأنشأ غيركم ،فل تجعلوا له أندادا في عبادته بل أخلصوا له
حصُوهَا } فضل عن كونكم
الدين { ،وَإِنْ َتعُدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ } عددا مجردا عن الشكر { لَا ُت ْ
تشكرونها ،فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد النفاس واللحظات ،من جميع أصناف
النعم مما يعرف العباد ،ومما ل يعرفون وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى { ،إِنّ اللّهَ
َل َغفُورٌ رَحِيمٌ } يرضى منكم باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير.
ن َومَا
وكما أن رحمته واسعة وجوده عميم ومغفرته شاملة للعباد فعلمه محيط بهمَ { ،يعَْلمُ مَا تُسِرّو َ
ُتعْلِنُونَ } بخلف من عبد من دونه ،فإنهم { لَا َيخُْلقُونَ شَيْئًا } قليل ول كثيرا { وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }
فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى ال تعالى؟"
ومع هذا ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء ل علم ،ول غيره { َأ ْموَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } فل تسمع
ول تبصر ول تعقل شيئا ،أفتتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين ،فتبا لعقول المشركين ما أضلها
وأفسدها ،حيث ضلت في أظهر الشياء فسادا ،وسووا بين الناقص من جميع الوجوه فل أوصاف
كمال ،ول شيء من الفعال ،وبين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال وله من تلك
الصفة أكملها وأعظمها ،فله العلم المحيط بكل الشياء والقدرة العامة والرحمة الواسعة التي ملت
جميع العوالم ،والحمد والمجد والكبرياء والعظمة ،التي ل يقدر أحد من الخلق أن يحيط ببعض
أوصافه ،ولهذا قال:
{ إَِل ُه ُكمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ } وهو ال الحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفوا أحد.
فأهل اليمان والعقول أجلته قلوبهم وعظمته ،وأحبته حبا عظيما ،وصرفوا له كل ما استطاعوا
من القربات البدنية والمالية ،وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ،وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى
وصفاته وأفعاله المقدسة { ،فَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ قُلُو ُبهُمْ مُ ْنكِ َرةٌ } لهذا المر العظيم الذي ل
ينكره إل أعظم الخلق جهل وعنادا وهو :توحيد ال { وَهُمْ مُسْ َتكْبِرُونَ } عن عبادته.
ن َومَا ُيعْلِنُونَ } من العمال القبيحة { إِنّهُ لَا
{ لَا جَرَمَ } أي :حقا ل بد { أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ
حبّ ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ } بل يبغضهم أشد البغض ،وسيجازيهم من جنس عملهم { إن الذين يستكبرون
يُ ِ
عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }
يقول تعالى -مخبرا عن شدة تكذيب المشركين بآيات ال { :وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ ْ} أي:
إذا سألوا عن القرآن والوحي الذي هو أكبر نعمة أنعم ال بها على العباد ،فماذا قولكم به؟ وهل
تشكرون هذه النعمة وتعترفون بها أم تكفرون وتعاندون؟
فيكون جوابهم أقبح جواب وأسمجه ،فيقولون عنه :إنه { أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ ْ} أي :كذب اختلقه محمد
على ال ،وما هو إل قصص الولين التي يتناقلها الناس جيل بعد جيل ،منها الصدق ومنها
الكذب ،فقالوا هذه المقالة ،ودعوا أتباعهم إليها ،وحملوا وزرهم ووزر من انقاد لهم إلى يوم
القيامة.
وقولهَ { :ومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ ْ} أي :من أوزار المقلدين الذين ل علم عندهم إل
ما دعوهم إليه ،فيحملون إثم ما دعوهم إليه ،وأما الذين يعلمون فكلّ مستقلّ بجرمه ،لنه عرف ما
عرفوا { أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ْ} أي :بئس ما حملوا من الوزر المثقل لظهورهم ،من وزرهم ووزر
من أضلوه.
{ َقدْ َمكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ ْ} برسلهم واحتالوا بأنواع الحيل على رد ما جاءوهم به وبنوا من مكرهم
قصورا هائلة { ،فَأَتَى اللّهُ بُنْيَا َنهُمْ مِنَ ا ْلقَوَاعِدِ ْ} أي :جاءها المر من أساسها وقاعدتهاَ { ،فخَرّ
شعُرُونَ ْ}
سقْفُ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ْ} فصار ما بنوه عذابا عذبوا به { ،وَأَتَاهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا َي ْ
عَلَ ْيهِمُ ال ّ
وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ويقيهم العذاب فصار عذابهم فيما بنوه وأصّلوه.
وهذا من أحسن المثال في إبطال ال مكر أعدائه .فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما
كذبوهم وجعلوا لهم أصول وقواعد من الباطل يرجعون إليها ،ويردون بها ما جاءت [به] الرسل،
واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم ،فصار مكرهم وبال عليهم ،فصار
تدبيرهم فيه تدميرهم ،وذلك لن مكرهم سيئ { ول يحيق المكر السيئ إل بأهله ْ} هذا في الدنيا
ولعذاب الخرة أخزى ،ولهذا قال { :ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ْ} أي :يفضحهم على رءوس الخلئق
ويبين لهم كذبهم وافتراءهم على ال.
{ وَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَائِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ ُتشَاقّونَ فِي ِهمْ ْ} أي :تحاربون وتعادون ال وحزبه لجلهم
وتزعمون أنهم شركاء ل ،فإذا سألهم هذا السؤال لم يكن لهم جواب إل القرار بضللهم،
والعتراف بعنادهم فيقولون { ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ْ} { قَالَ الّذِينَ
أُوتُوا ا ْلعِلْمَ ْ} أي :العلماء الربانيون { إِنّ ا ْلخِ ْزيَ الْ َيوْمَ ْ} أي :يوم القيامة { وَالسّوءَ ْ} أي :العذاب {
عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ْ} وفي هذا فضيلة أهل العلم ،وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم
الشهاد ،وأن لقولهم اعتبارا عند ال وعند خلقه ،ثم ذكر ما يفعل بهم عند الوفاة وفي القيامة فقال:
سهِمْ ْ} أي :تتوفاهم في هذه الحال التي كثر فيها ظلمهم وغيهم
{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
وقد علم ما يلقى الظلمة في ذلك المقام من أنواع العذاب والخزي والهانة.
{ فَأَ ْل َقوُا السَّلمَ ْ} أي :استسلموا وأنكروا ما كانوا يعبدونهم من دون ال وقالوا { :مَا كُنّا َن ْع َملُ مِنْ
سُوءٍ ْ} فيقال لهم { :بَلَى ْ} كنتم تعملون السوء فب { إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ْ} فل يفيدكم
الجحود شيئا ،وهذا في بعض مواقف القيامة ينكرون ما كانوا عليه في الدنيا ظنا أنه ينفعهم ،فإذا
شهدت عليهم جوارحهم وتبين ما كانوا عليه أقروا واعترفوا ،ولهذا ل يدخلون النار حتى يعترفوا
بذنوبهم.
{ فادخلوا أبواب جهنم ْ} كلّ أهل عمل يدخلون من الباب اللئق بحالهم { ،فَلَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ
ْ} نار جهنم فإنها مثوى الحسرة والندم ،ومنزل الشقاء واللم ومحل الهموم والغموم ،وموضع
السخط من الحي القيوم ،ل يفتّر عنهم من عذابها ،ول يرفع عنهم يوما من أليم عقابها ،قد أعرض
عنهم الرب الرحيم ،وأذاقهم العذاب العظيم.
حسَنَةٌ
{ َ { }ْ 32 - 30وقِيلَ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلّذِينَ َأحْسَنُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َ
وَلَدَارُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ وَلَ ِنعْمَ دَارُ ا ْلمُتّقِينَ * جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َلهُمْ فِيهَا مَا
خلُوا الْجَنّةَ
يَشَاءُونَ كَ َذِلكَ يَجْزِي اللّهُ ا ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ تَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ طَيّبِينَ َيقُولُونَ سَلَامٌ عَلَ ْيكُمُ ادْ ُ
ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ}
لما ذكر ال قيل المكذبين بما أنزل ال ،ذكر ما قاله المتقون ،وأنهم اعترفوا وأقروا بأن ما أنزله
ال نعمة عظيمة ،وخير عظيم امتن ال به على العباد ،فقبلوا تلك النعمة ،وتلقوها بالقبول
والنقياد ،وشكروا ال عليها ،فعلموها وعملوا لها { لِلّذِينَ أَحْسَنُوا ْ} في عبادة ال تعالى ،وأحسنوا
إلى عباد ال فلهم { فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َنةً ْ} رزق واسع ،وعيشه هنية ،وطمأنينة قلب ،وأمن
وسرور.
{ وَلَدَارُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ ْ} من هذه الدار وما فيها من أنواع اللذات والمشتهيات ،فإن هذه نعيمها قليل
محشو بالفات منقطع ،بخلف نعيم الخرة ولهذا قال { :وَلَ ِنعْمَ دَارُ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ} { جَنّاتُ عَدْنٍ
يَ ْدخُلُو َنهَا َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َلهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ْ} أي :مهما تمنته أنفسهم وتعلقت به إرادتهم
حصل لهم على أكمل الوجوه وأتمها ،فل يمكن أن يطلبوا نوعا من أنواع النعيم الذي فيه لذة
القلوب وسرور الرواح ،إل وهو حاضر لديهم ،ولهذا يعطي ال أهل الجنة كل ما تمنوه عليه،
حتى إنه يذكرهم أشياء من النعيم لم تخطر على قلوبهم.
فتبارك الذي ل نهاية لكرمه ،ول حد لجوده الذي ليس كمثله شيء في صفات ذاته ،وصفات أفعاله
وآثار تلك النعوت ،وعظمة الملك والملكوت { ،كَذَِلكَ َيجْزِي اللّهُ ا ْلمُتّقِينَ ْ} لسخط ال وعذابه بأداء
ما أوجبه عليهم من الفروض والواجبات المتعلقة بالقلب والبدن واللسان من حقه وحق عباده،
وترك ما نهاهم ال عنه.
{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ْ} مستمرين على تقواهم { طَيّبِينَ ْ} أي :طاهرين مطهرين من كل نقص
ودنس يتطرق إليهم ويخل في إيمانهم ،فطابت قلوبهم بمعرفة ال ومحبته وألسنتهم بذكره والثناء
عليه ،وجوارحهم بطاعته والقبال عليهَ { ،يقُولُونَ سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمُ ْ} أي :التحية الكاملة حاصلة لكم
والسلمة من كل آفة.
وقد سلمتم من كل ما تكرهون { ا ْدخُلُوا الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ} من اليمان بال والنقياد لمره،
فإن العمل هو السبب والمادة والصل في دخول الجنة والنجاة من النار ،وذلك العمل حصل لهم
برحمة ال ومنته عليهم ل بحولهم وقوتهم.
{ َ { }ْ 34 - 33هلْ يَ ْنظُرُونَ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ َأمْرُ رَ ّبكَ كَذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ
عمِلُوا وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ
سهُمْ يَظِْلمُونَ * فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ
َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ
يَسْ َتهْزِئُونَ ْ}
يقول تعالى :هل ينظر هؤلء الذين جاءتهم اليات فلم يؤمنوا ،وذكّروا فلم يتذكروا { ،إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ
ا ْلمَلَا ِئكَةُ ْ} لقبض أرواحهم { َأوْ يَأْ ِتيَ َأمْرُ رَ ّبكَ ْ} بالعذاب الذي سيحل بهم فإنهم قد استحقوا وقوعه
فيهمَ { ،كذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} كذبوا وكفروا ،ثم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب.
عمِلُوا ْ} أي :عقوبات أعمالهم وآثارها { ،وَحَاقَ ِبهِمْ ْ} أي :نزل { مَا كَانُوا
{ فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ
بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ ْ} فإنهم كانوا إذا أخبرتهم رسلهم بالعذاب استهزأوا به ،وسخروا ممن أخبر به فحل
بهم ذلك المر الذي سخروا منه.
أي :احتج المشركون على شركهم بمشيئة ال ،وأن ال لو شاء ما أشركوا ،ول حرموا شيئا من
[النعام] التي أحلها كالبحيرة والوصيلة والحام ونحوها من دونه ،وهذه حجة باطلة ،فإنها لو كانت
حقا ما عاقب ال الذين من قبلهم حيث أشركوا به ،فعاقبهم أشد العقاب .فلو كان يحب ذلك منهم
لما عذبهم ،وليس قصدهم بذلك إل رد الحق الذي جاءت به الرسل ،وإل فعندهم علم أنه ل حجة
لهم على ال.
فإن ال أمرهم ونهاهم ومكنهم من القيام بما كلفهم وجعل لهم قوة ومشيئة تصدر عنها أفعالهم.
فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل ،هذا وكل أحد يعلم بالحس قدرة النسان على كل
فعل يريده من غير أن ينازعه منازع ،فجمعوا بين تكذيب ال وتكذيب رسله وتكذيب المور
سلِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ ْ} أي :البين الظاهر الذي يصل إلى القلوب،
العقلية والحسيةَ { ،ف َهلْ عَلَى الرّ ُ
ول يبقى لحد على ال حجة ،فإذا بلغتهم الرسل أمر ربهم ونهيه ،واحتجوا عليهم بالقدر ،فليس
للرسل من المر شيء ،وإنما حسابهم على ال عز وجل.
{ { }ْ 37 - 36وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْ ُبدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ َفمِ ْنهُمْ مَنْ هَدَى
ح ّقتْ عَلَ ْيهِ الضّلَالَةُ َفسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ * إِنْ
اللّ ُه َومِ ْنهُمْ مَنْ َ
ضلّ َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ْ}
تَحْ ِرصْ عَلَى ُهدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ ُي ِ
يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع المم ،وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إل وبعث ال فيها
رسول ،وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد ،وهو عبادة ال وحده ل شريك له { أَنِ
اُعْبُدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ْ} فانقسمت المم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها قسمين،
ح ّقتْ عَلَيْهِ الضّلَاَلةُ ْ} فاتبع
{ َفمِ ْنهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ ْ} فاتبعوا المرسلين علما وعملَ { ،ومِ ْنهُمْ مَنْ َ
سبيل الغي.
{ َفسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ ْ} بأبدانكم وقلوبكم { فَا ْنظُروا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ ْ} فإنكم سترون من
ذلك العجائب ،فل تجدون مكذبا إل كان عاقبته الهلك.
حقّا وََلكِنّ
جهْدَ أَ ْيمَا ِن ِهمْ لَا يَ ْب َعثُ اللّهُ مَنْ َيمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ َ
سمُوا بِاللّهِ َ
{ { }ْ 40 - 38وََأقْ َ
َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ * لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي يَخْتَِلفُونَ فِي ِه وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّن ُهمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِ ّنمَا
شيْءٍ ِإذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ َنقُولَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ ْ}
َقوْلُنَا لِ َ
{ وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ْ} حين يرون أعمالهم حسرات عليهم ،وما نفعتهم آلهتهم
التي يدعون مع ال من شيء لما جاء أمر ربك ،وحين يرون ما يعبدون حطبا لجهنم ،وتكور
الشمس والقمر وتتناثر النجوم ،ويتضح لمن يعبدها أنها عبيد مسخرات ،وأنهن مفتقرات إلى ال
في جميع الحالت ،وليس ذلك على ال بصعب ،ول شديد فإنه إذا أراد شيئا قال له :كن فيكون،
من غير منازعة ول امتناع ،بل يكون على طبق ما أراده وشاءه.
{ وَلََأجْرُ الْآخِ َرةِ ْ} الذي وعدهم ال على لسان رسوله { َأكْبَرُ ْ} من أجر الدنيا ،كما قال تعالى:
عظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ
سهِمْ أَ ْ
{ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
ضوَانٍ وَجَنّاتٍ َل ُهمْ فِيهَا َنعِيمٌ ُمقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا إِنّ اللّهَ
حمَةٍ مِنْ ُه وَ ِر ْ
ا ْلفَائِزُونَ يُ َبشّرُهُمْ رَ ّب ُهمْ بِرَ ْ
عِنْ َدهُ َأجْرٌ عَظِيمٌ ْ} وقولهَ { :لوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ْ} أي :لو كان لهم علم ويقين بما عند ال من الجر
والثواب لمن آمن به وهاجر في سبيله لم يتخلف عن ذلك أحد.
ثم ذكر وصف أوليائه فقال { :الّذِينَ صَبَرُوا ْ} على أوامر ال وعن نواهيه ،وعلى أقدار ال
المؤلمة ،وعلى الذية فيه والمحن { وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ ْ} أي :يعتمدون عليه في تنفيذ محابّه ،ل
على أنفسهم .وبذلك تنجح أمورهم وتستقيم أحوالهم ،فإن الصبر والتوكل ملك المور كلها ،فما
فات أحدا شيء من الخير إل لعدم صبره وبذل جهده فيما أريد منه ،أو لعدم توكله واعتماده على
ال.
{ َ { }ْ 44 - 43ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ ِإلّا رِجَالًا نُوحِي ِإلَ ْيهِمْ فَاسْأَلُوا َأ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ
ت وَالزّبُ ِر وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْي ِه ْم وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ ْ}
* بِالْبَيّنَا ِ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلمَ { :ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا رِجَالًا ْ} أي :لست ببدع
من الرسل ،فلم نرسل قبلك ملئكة بل رجال كاملين ل نساء { .نُوحِي إِلَ ْيهِمْ ْ} من الشرائع
والحكام ما هو من فضله وإحسانه على العبيد من غير أن يأتوا بشيء من قبل أنفسهم { ،فَاسْأَلُوا
أَ ْهلَ ال ّذكْرِ ْ} أي :الكتب السابقة { إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ ْ} نبأ الولين ،وشككتم هل بعث ال رجال؟
فاسألوا أهل العلم بذلك الذين نزلت عليهم الزبر والبينات فعلموها وفهموها ،فإنهم كلهم قد تقرر
عندهم أن ال ما بعث إل رجال يوحي إليهم من أهل القرى ،وعموم هذه الية فيها مدح أهل
العلم ،وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب ال المنزل .فإن ال أمر من ل يعلم بالرجوع إليهم في جميع
الحوادث ،وفي ضمنه تعديل لهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم ،وأن بذلك يخرج الجاهل
من التبعة ،فدل على أن ال ائتمنهم على وحيه وتنزيله ،وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم،
والتصاف بصفات الكمال.
وأفضل أهل الذكر أهل هذا القرآن العظيم ،فإنهم أهل الذكر على الحقيقة ،وأولى من غيرهم بهذا
السم ،ولهذا قال تعالى { :وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ ْ} أي :القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من
أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة { ،لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ ْ} وهذا شامل لتبيين ألفاظه
وتبيين معانيه { ،وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ ْ} فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم
عليه.
سفَ اللّهُ ِب ِهمُ الْأَ ْرضَ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْل َعذَابُ مِنْ
خِ{ َ { }ْ 47 - 45أفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُوا السّيّئَاتِ أَنْ يَ ْ
خ ّوفٍ فَإِنّ رَ ّبكُمْ
خذَ ُهمْ عَلَى تَ َ
شعُرُونَ * َأوْ يَ ْأخُ َذهُمْ فِي َتقَلّ ِبهِمْ َفمَا هُمْ ِب ُمعْجِزِينَ * َأوْ يَأْ ُ
حَ ْيثُ لَا َي ْ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ْ}
هذا تخويف من ال تعالى لهل الكفر والتكذيب وأنواع المعاصي ،من أن يأخذهم بالعذاب على
غرّة وهم ل يشعرون ،إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم ،أو من أسفل منهم بالخسف وغيره ،وإما
في حال تقلّبهم وشغلهم وعدم خطور العذاب ببالهم ،وإما في حال تخوفهم من العذاب ،فليسوا
بمعجزين ل في حالة من هذه الحوال ،بل هم تحت قبضته ونواصيهم بيده .
ولكنه رءوف رحيم ل يعاجل العاصين بالعقوبة ،بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه
ويؤذون أولياءه ،ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة ،ويدعوهم إلى القلع من السيئات التي
تضرهم ،ويعدهم بذلك أفضل الكرامات ،ومغفرة ما صدر منهم من الذنوب ،فليستح المجرم من
ربه أن تكون نعم ال عليه نازلة في جميع اللحظات ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الوقات،
وليعلم أن ال يمهل ول يهمل وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر ،فليتب إليه ،وليرجع
في جميع أموره إليه فإنه رءوف رحيم .فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة وبره العميم وسلوك
الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم ،أل وهي تقواه والعمل بما يحبه ويرضاه.
سجّدًا لِلّهِ
شمَا ِئلِ ُ
ن وَال ّ
شيْءٍ يَ َتفَيّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْ َيمِي ِ
{ َ { }ْ 50 - 48أوَلَمْ يَ َروْا ِإلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ َ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ دَابّ ٍة وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَهُمْ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ
جدُ مَا فِي ال ّ
وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلّهِ يَسْ ُ
* يَخَافُونَ رَ ّبهُمْ مِنْ َف ْوقِهِ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ ْ}
يقول تعالىَ { :أوَلَمْ يَ َروْا ْ} أي :الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله { ،إِلَى مَا خََلقَ اللّهُ مِنْ
سجّدًا لِلّهِ ْ}
شمَا ِئلِ ُ
شيْءٍ ْ} أي :إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها { ،عَن الْ َيمِينِ ْ} وعن { ال ّ
َ
أي :كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلله { ،وَ ُهمْ دَاخِرُونَ ْ} أي :ذليلون تحت التسخير
والتدبير والقهر ،ما منهم أحد إل وناصيته بيد ال وتدبيره عنده.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ دَابّةٍ ْ} من الحيوانات الناطقة والصامتة،
جدُ مَا فِي ال ّ
{ وَلِلّهِ يَسْ ُ
{ وَا ْلمَلَا ِئكَةِ ْ} الكرام خصهم بعد العموم لفضلهم وشرفهم وكثرة عبادتهم ولهذا قال { :وَهُمْ لَا
يَسْ َتكْبِرُونَ ْ} أي :عن عبادته على كثرتهم وعظمة أخلقهم وقوتهم كما قال تعالى { :لَنْ يَسْتَ ْن ِكفَ
ا ْلمَسِيحُ أَنْ َيكُونَ عَ ْبدًا لِلّ ِه وَلَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ ْ} { َيخَافُونَ رَ ّبهُمْ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ْ} لما مدحهم بكثرة
الطاعة والخضوع ل ،مدحهم بالخوف من ال الذي هو فوقهم بالذات والقهر ،وكمال الوصاف،
فهم أذلء تحت قهره { .وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ ْ} أي :مهما أمرهم ال تعالى امتثلوا لمره ،طوعا
واختيارا ،وسجود المخلوقات ل تعالى قسمان :سجود اضطرار ودللة على ما له من صفات
الكمال ،وهذا عام لكل مخلوق من مؤمن وكافر وبر وفاجر وحيوان ناطق وغيره ،وسجود اختيار
يختص بأوليائه وعباده المؤمنين من الملئكة وغيرهم [من المخلوقات].
{ َ { }ْ 55 - 51وقَالَ اللّهُ لَا تَتّخِذُوا إَِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ * وََلهُ مَا فِي
سكُمُ
ن وَاصِبًا َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ * َومَا ِبكُمْ مِنْ ِن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ُثمّ إِذَا مَ ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَلَهُ الدّي ُ
ال ّ
شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنكُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ * لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا
الضّرّ فَإِلَيْهِ َتجْأَرُونَ * ثُمّ ِإذَا كَ َ
سوْفَ َتعَْلمُونَ }
آتَيْنَا ُهمْ فَ َتمَ ّتعُوا َف َ
يأمر تعالى بعبادته وحده ل شريك له ،ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم والوحدانية فقال { :لَا
خذُوا إَِلهَيْنِ اثْنَيْنِ } أي :تجعلون له شريكا في إلهيته ،وهو { إِ ّنمَا ُهوَ إَِل ٌه وَاحِدٌ } متوحد في
تَتّ ِ
الوصاف العظيمة متفرد بالفعال كلها .فكما أنه الواحد في ذاته وأسمائه ونعوته وأفعاله،
فلتوحّدوه في عبادته ،ولهذا قال { :فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أي :خافوني وامتثلوا أمري ،واجتنبوا نهيي
من غير أن تشركوا بي شيئا من المخلوقات ،فإنها كلها ل تعالى مملوكة.
{ ِل َي ْكفُرُوا ِبمَا آتَيْنَا ُهمْ } أي :أعطيناهم حيث نجيناهم من الشدة ،وخلصناهم من المشقة { ،فَ َتمَ ّتعُوا }
س ْوفَ َتعَْلمُونَ } عاقبة كفركم.
في دنياكم قليل { فَ َ
عمّا كُنْتُمْ َتفْتَرُونَ *
جعَلُونَ ِلمَا لَا َيعَْلمُونَ َنصِيبًا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ َ
{ { } 60 - 56وَيَ ْ
سوَدّا وَ ُهوَ
جهُهُ ُم ْ
ل وَ ْ
ظّحدُ ُهمْ بِالْأُنْثَى َ
جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ * وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ
وَيَ ْ
سكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ َيدُسّهُ فِي التّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا
كَظِيمٌ * يَ َتوَارَى مِنَ ا ْلقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ أَ ُيمْ ِ
حكِيمُ }
سوْ ِء وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ح ُكمُونَ * لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ
يَ ْ
يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم وافترائهم على ال الكذب ،وأنهم يجعلون لصنامهم التي
ل تعلم ول تنفع ول تضر -نصيبا مما رزقهم ال وأنعم به عليهم ،فاستعانوا برزقه على الشرك
ث وَالْأَ ْنعَامِ
جعَلُوا ِللّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ
به ،وتقربوا به إلى أصنام منحوتة ،كما قال تعالىَ { :و َ
صلُ إِلَى اللّهِ } الية { ،لَتُسْأَلُنّ
ع ِمهِ ْم وَهَذَا لِشُ َركَائِنَا َفمَا كَانَ لِشُ َركَا ِئهِمْ فَلَا َي ِ
َنصِيبًا َفقَالُوا َهذَا لِلّهِ بِزَ ْ
عمّا كُنْتُمْ َتفْتَرُونَ } ويقال { :ءَاللّهُ أَذِنَ َلكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ * َومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ
َ
ا ْلكَ ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.
جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ } حيث قالوا عن الملئكة العباد المقربين :إنهم بنات ال { وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ
{ وَ َي ْ
} أي :لنفسهم الذكور حتى إنهم يكرهون البنات كراهة شديدة ،فكان أحدهم { وَِإذَا بُشّرَ َأحَ ُدهُم
سوَدّا } من الغم الذي أصابه { وَ ُهوَ كَظِيمٌ } أي :كاظم على الحزن والسف
جهُهُ ُم ْ
ل وَ ْ
ظّبِالْأُنْثَى َ
إذا بشّر بأنثى ،وحتى إنه يفتضح عند أبناء جنسه ويتوارى منهم من سوء ما بشر به.
ثم لم يكفهم هذا حتى نسبوا له أردأ القسمين ،وهو الناث اللتي يأنفون بأنفسهم عنها ويكرهونها،
فكيف ينسبونها ل تعالى؟! فبئس الحكم حكمهم.
ولما كان هذا من أمثال السوء التي نسبها إليه أعداؤه المشركون ،قال تعالى { :لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ
سوْءِ } أي :المثل الناقص والعيب التام { ،وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى } وهو كل صفة كمال
بِالْآخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ
وكل كمال في الوجود فال أحق به ،من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه ،وله المثل العلى في
قلوب أوليائه ،وهو التعظيم والجلل والمحبة والنابة والمعرفة { .وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر جميع
حكِيمُ } الذي يضع الشياء مواضعها فل يأمر ول
الشياء وانقادت له المخلوقات بأسرها { ،الْ َ
يفعل ،إل ما يحمد عليه ويثنى على كماله فيه.
سمّى
جلٍ مُ َ
خذُ اللّهُ النّاسَ ِبظُ ْل ِمهِمْ مَا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّرُ ُهمْ إِلَى أَ َ
{ { } 61وََلوْ ُيؤَا ِ
فَإِذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ }
لما ذكر تعالى ما افتراه الظالمون عليه ذكر كمال حلمه وصبره فقال { :وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ
بِظُ ْل ِمهِمْ } من غير زيادة ول نقص { ،مَا تَ َركَ عَليها مِنْ دَابّةٍ } أي :لهلك المباشرين للمعصية
وغيرهم ،من أنواع الدواب والحيوانات فإن شؤم المعاصي يهلك به الحرث والنسل { .وََلكِنْ
ُيؤَخّرُ ُهمْ } عن تعجيل العقوبة عليهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة { فَِإذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ لَا
يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ } فليحذروا ما داموا في وقت المهال قبل أن يجيء الوقت الذي
ل إمهال فيه.
صفُ أَلْسِنَ ُتهُمُ ا ْلكَ ِذبَ أَنّ َلهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنّ َلهُمُ
جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْ َرهُونَ وَ َت ِ
{ { } 63 - 62وَيَ ْ
عمَاَلهُمْ َف ُه َو وَلِ ّيهُمُ
النّا َر وأَ ّنهُم ُمفْرَطُونَ * تَاللّهِ َلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
عذَابٌ أَلِيم }
الْ َيوْ َم وََلهُمْ َ
جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُونَ } من البنات ،ومن الوصاف القبيحة وهو
يخبر تعالى أن المشركين { وَ َي ْ
الشرك بصرف شيء من العبادات إلى بعض المخلوقات التي هي عبيد ل ،فكما أنهم يكرهون،
ول يرضون أن يكون عبيدهم -وهم مخلوقون من جنسهم -شركاء لهم فيما رزقهم ال فكيف
يجعلون له شركاء من عبيده؟"
بيّن تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم أنه ليس هو أول رسول كُذّب فقال [تعالى] { :تَاللّهِ َلقَدْ
عمَاَلهُمْ } فكذبوا
أَرْسَلْنَا ِإلَى ُأ َممٍ مِنْ قَبِْلكَ } رسل يدعونهم إلى التوحيد { ،فَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
الرسل ،وزعموا أن ما هم عليه ،هو الحق المنجي من كل مكروه وأن ما دعت إليه الرسل فهو
بخلف ذلك ،فلما زين لهم الشيطان أعمالهم ،صار وليهم في الدنيا ،فأطاعوه واتبعوه وتولوه.
س َمعُونَ }
سمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا ِبهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً ِل َقوْمٍ يَ ْ
{ { } 65وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
عن ال مواعظه وتذكيره فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود ،الذي ل تنبغي العبادة إل له
وحده ،لنه المنعم بإنزال المطر وإنبات جميع أصناف النبات ،وعلى أنه على كل شيء قدير ،وأن
الذي أحيا الرض بعد موتها قادر على إحياء الموات وأن الذي نشر هذا الحسان لذو رحمة
واسعة وجود عظيم.
أي { :وَإِنّ َل ُكمْ فِي الْأَ ْنعَامِ } التي سخرها ال لمنافعكم { َلعِبْ َرةً } تستدلون بها على كمال قدرة ال
وسعة إحسانه حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم ،فأخرج من بين ذلك لبنا
خالصا من الكدر سائغا للشاربين للذته ولنه يسقي ويغذي ،فهل هذه إل قدرة إلهية ل أمور
طبيعية.
فأي شيء في الطبيعة يقلب العلف الذي تأكله البهيمة والشراب الذي تشربه من الماء العذب
والملح لبنا خالصا سائغا للشاربين؟
وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والعناب منافع للعباد ،ومصالح من أنواع الرزق الحسن
الذي يأكله العباد طريّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها،
ومن السكر الذي كان حلل قبل ذلك ،ثم إن ال نسخ حلّ المسكرات ،وأعاض عنها بالطيبات من
النبذة ،وأنواع الشربة اللذيذة المباحة.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآية ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } عن ال كمال اقتداره حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب،
فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة وعلى شمول رحمته حيث عم بها عباده ويسرها لهم وأنه الله
المعبود وحده حيث إنه المنفرد بذلك.
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ
{ { } 69 - 68وََأوْحَى رَ ّبكَ إِلَى النّ ْ
شفَاءٌ
* ثُمّ كُلِي مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ ُبطُو ِنهَا شَرَابٌ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ فِيهِ ِ
لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }
في خلق هذه النحلة الصغيرة ،التي هداها ال هذه الهداية العجيبة ،ويسر لها المراعي ،ثم الرجوع
إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم ال لها ،وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف
اللوان بحسب اختلف أرضها ومراعيها ،فيه شفاء للناس من أمراض عديدة .فهذا دليل على
كمال عناية ال تعالى ،وتمام لطفه بعباده ،وأنه الذي ل ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه.
يخبر تعالى أنه الذي خلق العباد ونقلهم في الخلقة ،طورا بعد طور ،ثم بعد أن يستكملوا آجالهم
يتوفاهم ،ومنهم من يعمره حتى { يُ َردّ إِلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ } أي :أخسه الذي يبلغ به النسان إلى
ضعف القوى الظاهرة والباطنة حتى العقل الذي هو جوهر النسان يزيد ضعفه حتى إنه ينسى ما
كان يعلمه ،ويصير عقله كعقل الطفل ولهذا قالِ { :لكَيلَا َيعْلَمَ َبعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }
أي :قد أحاط علمه وقدرته بجميع الشياء ومن ذلك ما ينقل به الدمي من أطوار الخلقة ،خلقا بعد
ج َعلَ مِنْ َبعْدِ
ض ْعفٍ ُق ّوةً ُثمّ َ
ج َعلَ مِنْ َبعْ ِد َ
ضعْفٍ ثُمّ َ
ن َ
خلق كما قال تعالى { :اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مِ ْ
ض ْعفًا وَشَيْبَةً َيخْلُقُ مَا َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ }
ُق ّوةٍ َ
ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الرّزْقِ َفمَا الّذِينَ ُفضّلُوا بِرَادّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا
ضلَ َب ْع َ
{ { } 71وَاللّهُ َف ّ
جحَدُونَ }
سوَاءٌ َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ يَ ْ
مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ
وهذا من أدلة توحيده وقبح الشرك به ،يقول تعالى :كما أنكم مشتركون بأنكم مخلوقون مرزوقون
ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الرّ ْزقِ } فجعل منكم أحرارا لهم مال وثروة ،ومنكم
ضلَ َب ْع َ
إل أنه تعالى { َف ّ
أرقاء لهم ل يملكون شيئا من الدنيا ،فكما أن سادتهم الذين فضلهم ال عليهم بالرزق ليسوا
سوَاءٌ } ويرون هذا من المور الممتنعة ،فكذلك من
{ بِرَادّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ
أشركتم بها مع ال ،فإنها عبيد ليس لها من الملك مثقال ذرة ،فكيف تجعلونها شركاء ل تعالى؟!
يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده ،حيث جعل لهم أزواجا ليسكنوا إليها ،وجعل لهم من
أزواجهم أولدا تقرّ بهم أعينهم ويخدمونهم ،ويقضون حوائجهم ،وينتفعون بهم من وجوه كثيرة،
ورزقهم من الطيبات من جميع المآكل والمشارب ،والنعم الظاهرة التي ل يقدر العباد أن
يحصوها.
ن وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ هُمْ َيكْفُرُونَ } أي :أيؤمنون بالباطل الذي لم يكن شيئا مذكورا ثم
طلِ ُي ْؤمِنُو َ
{ َأفَبِالْبَا ِ
أوجده ال وليس له من وجوده سوى العدم فل تخلق ول ترزق ول تدبر من المر شيئا ،وهذا
عام لكل ما عبد من دون ال فإنها باطلة فكيف يتخذها المشركون من دون ال؟"
{ وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ ُهمْ َي ْكفُرُونَ } يجحدونها ويستعينون بها على معاصي ال والكفر به ،هل هذا إل من
أظلم الظلم وأفجر الفجور وأسفه السفه؟"
يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم أنهم يعبدون من دونه آلهة اتخذوها شركاء ل ،والحال
أنهم ل يملكون لهم رزقا من السماوات والرض ،فل ينزلون مطرا ،ول رزقا ول ينبتون من
نبات الرض شيئا ،ول يملكون مثقال ذرة في السماوات والرض ول يستطيعون لو أرادوا ،فإن
غير المالك للشيء ربما كان له قوة واقتدار على ما ينفع من يتصل به ،وهؤلء ل يملكون ول
يقدرون.
فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع ال ،وشبهوها بمالك الرض والسماوات الذي له الملك كله
والحمد كله والقوة كلها؟"
ولهذا قال { :فَلَا َتضْرِبُوا لِلّهِ الَْأمْثَالَ } المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه { إِنّ اللّهَ َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ لَا
َتعَْلمُونَ } فعلينا أن ل نقول عليه بل علم وأن نسمع ما ضربه العليم من المثال فلهذا ضرب
تعالى مثلين له ولمن يعبد من دونه ،أحدهما عبد مملوك أي :رقيق ل يملك نفسه ول يملك من
المال والدنيا شيئا ،والثاني حرّ غنيّ قد رزقه ال منه رزقا حسنا من جميع أصناف المال وهو
كريم محب للحسان ،فهو ينفق منه سرا وجهرا ،هل يستوي هذا وذاك؟! ل يستويان مع أنهما
مخلوقان ،غير محال استواؤهما.
فإذا كانا ل يستويان ،فكيف يستوي المخلوق العبد الذي ليس له ملك ول قدرة ول استطاعة ،بل
هو فقير من جميع الوجوه بالرب الخالق المالك لجميع الممالك القادر على كل شيء؟"
أي :هو تعالى المنفرد بغيب السماوات والرض ،فل يعلم الخفايا والبواطن والسرار إل هو،
ومن ذلك علم الساعة فل يدري أحد متى تأتي إل ال ،فإذا جاءت وتجلت لم تكن { إِلّا كََلمْحِ
الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ } من ذلك فيقوم الناس من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم وتفوت الفرص
شيْءٍ قَدِيرٌ } فل يستغرب على قدرته الشاملة إحياؤه
لمن يريد المهال { ،إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
للموتى.
جكُمْ مِنْ ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ لَا َتعَْلمُونَ شَيْئًا } ول تقدرون على
أي :هو المنفرد بهذه النعم حيث { أَخْ َر َ
سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ } خص هذه العضاء الثلثة ،لشرفها وفضلها
ج َعلَ َلكُمُ ال ّ
شيء ثم إنه { َ
ولنها مفتاح لكل علم ،فل وصل للعبد علم إل من أحد هذه البواب الثلثة وإل فسائر العضاء
والقوى الظاهرة والباطنة هو الذي أعطاهم إياها ،وجعل ينميها فيهم شيئا فشيئا إلى أن يصل كل
أحد إلى الحالة اللئقة به ،وذلك لجل أن يشكروا ال ،باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في
طاعة ال ،فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح المقابلة.
أي :لنهم المنتفعون بآيات ال المتفكرون فيما جعلت آية عليه ،وأما غيرهم فإن نظرهم نظر لهو
وغفلة ،ووجه الية فيها أن ال تعالى خلقها بخلقة تصلح للطيران ،ثم سخر لها هذا الهواء اللطيف
ثم أودع فيها من قوة الحركة وما قدرت به على ذلك ،وذلك دليل على كمال حكمته وعلمه الواسع
وعنايته الربانية بجميع مخلوقاته وكمال اقتداره ،تبارك ال رب العالمين.
خفّو َنهَا } أي :خفيفة الحمل تكون لكم في السفر والمنازل التي ل قصد لكم في
{ بُيُوتًا َتسْتَ ِ
استيطانها ،فتقيكم من الحر والبرد والمطر ،وتقي متاعكم من المطر { ،و } جعل لكم { َومِنْ
شعَارِهَا أَثَاثًا } وهذا شامل لكل ما يتخذ منها من النية
صوَا ِفهَا } أي :النعام { وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ
َأ ْ
والوعية والفرش واللبسة والجلة ،وغير ذلك.
{ َومَتَاعًا إِلَى حِينٍ } أي :تتمتعون بذلك في هذه الدنيا وتنتفعون بها ،فهذا مما سخر ال العباد
لصنعته وعمله.
ج َعلَ َلكُمْ ِممّا خَلَقَ } أي :من مخلوقاته التي ل صنعة لكم فيها { ،ظِلَالًا } وذلك كأظلة
{ وَاللّهُ َ
ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلجِبَالِ َأكْنَانًا } أي :مغارات تكنكم من الحر
الشجار والجبال والكام ونحوها { ،وَ َ
والبرد والمطار والعداء.
ج َعلَ َل ُكمْ سَرَابِيلَ } أي :ألبسة وثيابا { َتقِيكُمُ الْحَرّ } ولم يذكر ال البرد لنه قد تقدم أن هذه
{ َو َ
السورة أولها في أصول النعم وآخرها في مكملتها ومتمماتها ،ووقاية البرد من أصول النعم فإنه
من الضرورة ،وقد ذكره في أولها في قوله { َلكُمْ فِيهَا ِدفْ ٌء َومَنَافِعُ }
سكُمْ } أي :وثيابا تقيكم وقت البأس والحرب من السلح ،وذلك كالدروع
{ وَسَرَابِيلَ َتقِيكُمْ بَ ْأ َ
والزرد ونحوها ،كذلك يتم نعمته عليكم حيث أسبغ عليكم من نعمه ما ل يدخل تحت الحصر
{ َلعَّل ُكمْ } إذا ذكرتم نعمة ال ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه { تُسِْلمُونَ } لعظمته وتنقادون
لمره ،وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها ،فكثرة النعم من السباب الجالبة من العباد مزيد
الشكر ،والثناء بها على ال تعالى ،ولكن أبى الظالمون إل تمردا وعنادا.
ولهذا قال ال عنهم { :فَإِنْ َتوَّلوْا } عن ال وعن طاعته بعد ما ُذكّروا بنعمه وآياته { ،فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ
الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } أي :ليس عليك من هدايتهم وتوفيقهم شيء بل أنت مطالب بالوعظ والتذكير
والنذار والتحذير ،فإذا أديت ما عليك ،فحسابهم على ال فإنهم يرون الحسان ،ويعرفون نعمة
ال ،ولكنهم ينكرونها ويجحدونها { ،وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ } ل خير فيهم ،وما ينفعهم توالي اليات،
لفساد مشاعرهم وسوء قصودهم وسيرون جزاء ال لكل جبار عنيد كفور للنعم متمرد على ال
وعلى رسله.
شهِيدًا ُثمّ لَا ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ َكفَرُوا وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ * وَِإذَا
{ { } 87 - 84وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ
خفّفُ عَ ْنهُمْ وَلَا هُمْ يُ ْنظَرُونَ * وَإِذَا رَأَى الّذِينَ أَشْ َركُوا شُ َركَاءَهُمْ
رَأَى الّذِينَ ظََلمُوا ا ْلعَذَابَ فَلَا ُي َ
قَالُوا رَبّنَا َهؤُلَاءِ شُ َركَاؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُو ِنكَ فَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولَ إِ ّنكُمْ َلكَاذِبُونَ * وَأَ ْل َقوْا إِلَى
اللّهِ َي ْومَئِذٍ السَّل َم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }
يخبر تعالى عن حال الذين كفروا في يوم القيامة وأنه ل يقبل لهم عذر ول يرفع عنهم العقاب وأن
شركاءهم تتبرأ منهم ويقرون على أنفسهم بالكفر والفتراء على ال فقال { :وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِنْ ُكلّ
شهِيدًا } يشهد عليهم بأعمالهم وماذا أجابوا به الداعي إلى الهدى وذلك الشهيد الذي يبعثه ال
ُأمّةٍ َ
أزكى الشهداء وأعدلهم وهم الرسل الذين إذا شهدوا تم عليهم الحكم.
فب { لَا ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُوا } في العتذار لن اعتذارهم بعد ما علم يقينا بطلن ما هم عليه،
اعتذار كاذب ل يفيدهم شيئا ،وإن طلبوا أيضا الرجوع إلى الدنيا ليستدركوا لم يجابوا ولم يعتبوا،
بل يبادرهم العذاب الشديد الذي ل يخفف عنهم من غير إنظار ول إمهال من حين يرونه لنهم ل
حساب عليهم لنهم ل حسنات لهم وإنما تعد أعمالهم وتحصى ويوقفون عليها ويقرون بها
ويفتضحون.
{ وَِإذَا رَأَى الّذِينَ أَشْ َركُوا شُ َركَا َءهُمْ } يوم القيامة وعلموا بطلنها ولم يمكنهم النكار.
{ قَالُوا رَبّنَا َهؤُلَاءِ شُ َركَاؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُو ِنكَ } ليس عندها نفع ول شفع ،فنوّهوا بأنفسهم
ببطلنها ،وكفروا بها ،وبدت البغضاء والعداوة بينهم وبينها { ،فَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولَ } أي :ردت
عليهم شركاؤهم قولهم ،فقالت لهم { :إِ ّن ُكمْ َلكَاذِبُونَ } حيث جعلتمونا شركاء ل ،وعبدتمونا معه فلم
نأمركم بذلك ،ول زعمنا أن فينا استحقاقا لللوهية فاللوم عليكم.
ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } فدخلوا النار وقد امتلت قلوبهم من مقت أنفسهم ومن حمد ربهم
{ َو َ
وأنه لم يعاقبهم إل بما كسبوا.
سدُونَ }
عذَابًا َفوْقَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُوا ُيفْ ِ
{ { } 88الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ِزدْنَاهُمْ َ
حيث كفروا بأنفسهم ،وكذبوا بآيات ال ،وحاربوا رسله ،وصدوا الناس عن سبيل ال ،وصاروا
دعاة إلى الضلل فاستحقوا مضاعفة العذاب ،كما تضاعف جرمهم ،وكما أفسدوا في أرض ال.
والرحمة ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والخرة ،كصلح القلب وبره وطمأنينته ،وتمام العقل
الذي ل يتم إل بتربيته على معانيه التي هي أجل المعاني وأعلها ،والعمال الكريمة والخلق
الفاضلة ،والرزق الواسع والنصر على العداء بالقول والفعل ونيل رضا ال تعالى وكرامته
العظيمة التي ل يعلم ما فيها من النعيم المقيم إل الرب الرحيم.
ن وَإِيتَاءِ ذِي ا ْلقُرْبَى وَيَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َبغْيِ
{ { } 90إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَالْإِحْسَا ِ
ظكُمْ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ }
َيعِ ُ
فالعدل الذي أمر ال به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده ،فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة
موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب ال عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه
وحق عباده ،ويعامل الخلق بالعدل التام ،فيؤدي كل وال ما عليه تحت وليته سواء في ذلك ولية
المامة الكبرى ،وولية القضاء ونواب الخليفة ،ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه ال عليهم في كتابه ،وعلى لسان رسوله ،وأمرهم بسلوكه ،ومن العدل في
المعاملت أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات ،بإيفاء جميع ما عليك فل
تبخس لهم حقا ول تغشهم ول تخدعهم وتظلمهم .فالعدل واجب ،والحسان فضيلة مستحب وذلك
كنفع الناس بالمال والبدن والعلم ،وغير ذلك من أنواع النفع حتى إنه يدخل فيه الحسان إلى
الحيوان البهيم المأكول وغيره.
وخص ال إيتاء ذي القربى -وإن كان داخل في العموم -لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم،
والحرص على ذلك.
ويدخل في ذلك جميع القارب قريبهم وبعيدهم لكن كل ما كان أقرب كان أحق بالبر.
فصارت هذه الية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إل دخل فيها ،فهذه قاعدة
ترجع إليها سائر الجزئيات ،فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى فهي مما
أمر ال به.
وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى ال عنه .وبها يعلم حسن ما أمر
ال به وقبح ما نهى عنه ،وبها يعتبر ما عند الناس من القوال وترد إليها سائر الحوال ،فتبارك
من جعل في كلمه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الشياء.
ظكُمْ بِهِ } أي :بما بينه لكم في كتابه بأمركم بما فيه غاية صلحكم ونهيكم عما فيه
ولهذا قالَ { :ي ِع ُ
مضرتكم.
{ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ } ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه ،فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه عملتم بمقتضاه
فسعدتم سعادة ل شقاوة معها.
فلما أمر بما هو واجب في أصل الشرع أمر بوفاء ما أوجبه العبد على نفسه فقال:
جعَلْتُمُ اللّهَ
{ { } 92 - 91وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِ اللّهِ ِإذَا عَا َهدْتُ ْم وَلَا تَ ْن ُقضُوا الْأَ ْيمَانَ َب ْعدَ َت ْوكِيدِهَا َوقَدْ َ
ضتْ غَزَْلهَا مِنْ َبعْدِ ُق ّوةٍ أَ ْنكَاثًا تَتّخِذُونَ
عَلَ ْيكُمْ َكفِيلًا إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ * وَلَا َتكُونُوا كَالّتِي َنقَ َ
أَ ْيمَا َنكُمْ َدخَلًا بَيْ َنكُمْ أَنْ َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ ِب ِه وَلَيُبَيّنَنّ َلكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ }
وهذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه من العبادات والنذور واليمان التي عقدها إذا كان
الوفاء بها برا ،ويشمل أيضا ما تعاقد عليه هو وغيره كالعهود بين المتعاقدين ،وكالوعد الذي يعده
العبد لغيره ويؤكده على نفسه ،فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة ،ولهذا نهى ال عن
جعَلْتُمُ اللّهَ
نقضها فقال { :وَلَا تَ ْن ُقضُوا الْأَ ْيمَانَ َبعْدَ َت ْوكِيدِهَا } بعقدها على اسم ال تعالىَ { :وقَدْ َ
عَلَ ْيكُمْ } أيها المتعاقدون { َكفِيلًا } فل يحل لكم أن ل تحكموا ما جعلتم ال عليكم كفيل فيكون ذلك
ترك تعظيم ال واستهانة به ،وقد رضي الخر منك باليمين والتوكيد الذي جعلت ال فيه كفيل.
فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك فلتف له بما قلته وأكدته.
{ إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا َت ْفعَلُونَ } يجازي كل عامل بعمله على حسب نيته ومقصده.
{ وَلَا َتكُونُوا } في نقضكم للعهود بأسوأ المثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها ،وذلك { كَالّتِي
} تغزل غزل قويا فإذا استحكم وتم ما أريد منه نقضته فجعلته { أَ ْنكَاثًا } فتعبت على الغزل ثم
على النقض ،ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي ،فكذلك من نقض ما
عاهد عليه فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة.
خذُونَ أَ ْيمَا َنكُمْ َدخَلًا بَيْ َنكُمْ أَنْ َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ } أي :ل تنبغي هذه الحالة
وقوله { :تَتّ ِ
منكم تعقدون اليمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص ،فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على
الخر أتمها ل لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه ،وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها
نقضها غير مبال بعهد ال ويمينه.
كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ،وتقديما لها على مراد ال منكم ،وعلى المروءة النسانية،
والخلق المرضية لجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الخرى.
وهذا ابتلء من ال وامتحان يبتليكم ال به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق
الوفي من الفاجر الشقي.
{ وَلَيُبَيّنَنّ َل ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ } فيجازي كل بما عمل ،ويخزي الغادر.
عمّا
ضلّ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنّ َ
ح َدةً وََلكِنْ ُي ِ
جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ
{ { } 93وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ
كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }
أيَ { :لوْ شَاءَ اللّهُ } لجمع الناس على الهدى وجعلهم { ُأمّ ًة وَاحِ َدةً } ولكنه تعالى المنفرد بالهداية
والضلل ،وهدايته وإضلله من أفعاله التابعة لعلمه وحكمته ،يعطي الهداية من يستحقها فضل،
عمّا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير وشر فيجازيكم عليها أتم
ويمنعها من ل يستحقها عدل { .وَلَتُسْأَلُنّ َ
الجزاء وأعدله.
{ { } 94وَلَا تَتّخِذُوا أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلًا بَيْ َنكُمْ فَتَ ِزلّ قَ َدمٌ َبعْدَ ثُبُو ِتهَا وَتَذُوقُوا السّوءَ ِبمَا صَ َددْتُمْ عَنْ سَبِيلِ
اللّ ِه وََلكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
أي { :وَلَا تَتّخِذُوا أَ ْيمَا َنكُمْ } وعهودكم ومواثيقكم تبعا لهوائكم متى شئتم وفيتم بها ،ومتى شئتم
نقضتموها ،فإنكم إذا فعلتم ذلك تزل أقدامكم بعد ثبوتها على الصراط المستقيم { ،وَتَذُوقُوا السّوءَ }
صدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } حيث ضللتم وأضللتم غيركم
أي :العذاب الذي يسوءكم ويحزنكم { ِبمَا َ
{ وََلكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } مضاعف.
{ { } 97 - 95وَلَا تَشْتَرُوا ِب َعهْدِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * مَا
ع ِملَ
ن صَبَرُوا َأجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * مَنْ َ
ق وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ
عِنْ َدكُمْ يَ ْنفَدُ َومَا عِ ْندَ اللّهِ بَا ٍ
صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَ ًة وَلَنَجْزِيَ ّن ُهمْ أَجْ َرهُمْ بَِأحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ
}
يحذر تعالى عباده من نقض العهود واليمان لجل متاع الدنيا وحطامها فقال { :وَلَا َتشْتَرُوا ِب َعهْدِ
اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا } تنالونه بالنقض وعدم الوفاء { إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ } من الثواب العاجل والجل لمن آثر
رضاه ،وأوفى بما عاهد عليه ال { ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ } من حطام الدنيا الزائلة { إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }
فآثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الذي عندكم ولو كثر جدا ل بد أن { يَ ْنفَدُ } ويفنىَ { ،ومَا عِنْدَ اللّهِ
بَاقٍ } ببقائه ل يفنى ول يزول ،فليس بعاقل من آثر الفاني الخسيس على الباقي النفيس وهذا كقوله
تعالىَ { :بلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى } { َومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } وفي هذا
الحث والترغيب على الزهد في الدنيا .خصوصا الزهد المتعين وهو الزهد فيما يكون ضررا على
العبد ويوجب له الشتغال عما أوجب ال عليه وتقديمه على حق ال فإن هذا الزهد واجب.
ومن الدواعي للزهد أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الخرة ،فإنه يجد من الفرق
والتفاوت ما يدعوه إلى إيثار أعلى المرين [وليس الزهد الممدوح هو النقطاع للعبادات القاصرة
كالصلة والصيام والذكر ونحوها ،بل ل يكون العبد زاهدا زهدا صحيحا حتى يقوم بما يقدر عليه
من الوامر الشرعية الظاهرة والباطنة ،ومن الدعوة إلى ال وإلى دينه بالقول والفعل ،فالزهد
الحقيقي هو الزهد فيما ل ينفع في الدين والدنيا ،والرغبة والسعي في كل ما ينفع]
{ وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا } على طاعة ال ،وعن معصيته ،وفطموا نفوسهم عن الشهوات الدنيوية
المضرة يدينهم { أَجْ َرهُمْ بَِأحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة فإن ال ل يضيع أجر من أحسن عمل .ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا
ل صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ } فإن اليمان شرط في صحة
ع ِم َ
والخرة فقال { :مَنْ َ
العمال الصالحة وقبولها ،بل ل تسمى أعمال صالحة إل باليمان ،واليمان مقتض لها ،فإنه
التصديق الجازم المثمر لعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات ،فمن جمع بين اليمان
والعمل الصالح { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً } وذلك بطمأنينة قلبه ،وسكون نفسه ،وعدم التفاته لما يشوش
عليه قلبه ،ويرزقه ال رزقا حلل طيبا من حيث ل يحتسب { .وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ } في الخرة { أَجْ َرهُمْ
حسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } من أصناف اللذات مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على
بِأَ ْ
قلب بشر .فيؤتيه ال في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة.
{ { } 100 - 98فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى
الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ * إِ ّنمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ هُمْ ِبهِ مُشْ ِركُونَ }
أي :فإذا أردت القراءة لكتاب ال الذي هو أشرف الكتب وأجلها وفيه صلح القلوب والعلوم
الكثيرة فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد عند شروعه في المور الفاضلة ،فيسعى في
صرفه عن مقاصدها ومعانيها.
فالطريق إلى السلمة من شره اللتجاء إلى ال ،والستعاذة به من شره ،فيقول القارئ { :أعوذ
بال من الشيطان الرجيم } متدبرا لمعناها ،معتمدا بقلبه على ال في صرفه عنه ،مجتهدا في دفع
وساوسه وأفكاره الرديئة مجتهدا ،على السبب القوى في دفعه ،وهو التحلي بحلية اليمان
والتوكل.
فإن الشيطان { لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي :تسلط { عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ } وحده ل شريك له
{ يَ َت َوكّلُونَ } فيدفع ال عن المؤمنين المتوكلين عليه شر الشيطان ول يبق له عليهم سبيل.
{ إِ ّنمَا سُلْطَاُنهُ } أي :تسلطه { عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَهُ } أي :يجعلونه لهم وليا ،وذلك بتخليهم عن ولية
ال ،ودخولهم في طاعة الشيطان ،وانضمامهم لحزبه ،فهم الذين جعلوا له ولية على أنفسهم،
فأزّهم إلى المعاصي أزّا وقادهم إلى النار َقوْدًا.
{ { } 102 - 101وَإِذَا َبدّلْنَا آ َيةً َمكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُفْتَرٍ َبلْ َأكْثَرُهُمْ
لَا َيعَْلمُونَ * ُقلْ نَزّلَهُ رُوحُ ا ْلقُدُسِ مِنْ رَ ّبكَ بِا ْلحَقّ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُوا وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ }
يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم ،وهو أن ال تعالى هو الحاكم
الحكيم ،الذي يشرع الحكام ،ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته ،فإذا رأوه كذلك قدحوا في
الرسول وبما جاء به و { قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ ُمفْتَرٍ } قال ال تعالىَ { :بلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ } فهم جهال
ل علم لهم بربهم ول بشرعه ،ومن المعلوم أن قدح الجاهل بل علم ل عبرة به ،فإن القدح في
الشيء فرع عن العلم به ،وما يشتمل عليه مما يوجب المدح أو القدح.
ولهذا ذكر تعالى حكمته في ذلك فقالُ { :قلْ نَزَّلهُ رُوحُ ا ْلقُدُسِ } وهو جبريل الرسول المقدس
المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة.
{ بِا ْلحَقّ } أي :نزوله بالحق وهو مشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه ،فل سبيل لحد
أن يقدح فيه قدحا صحيحا ،لنه إذا علم أنه الحق علم أن ما عارضه وناقضه باطل.
{ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُوا } عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت ،فل يزال الحق يصل إلى
قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي ،وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق،
وإذا شرع حكما [من الحكام] ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه
هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية.
{ وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ } أي :يهديهم إلى حقائق الشياء ويبين لهم لحق من الباطل والهدى من
الضلل ،ويبشرهم أن لهم أجرا حسنا ،ماكثين فيه أبدا .وأيضا فإنه كلما نزل شيئا فشيئا ،كان
أعظم هداية وبشارة لهم مما لو أتاهم جملة واحدة وتفرق الفكر فيه بل ينزل ال حكما وبشارة
[أكثر] فإذا فهموه وعقلوه وعرفوا المراد منه وترووا منه أنزل نظيره وهكذا .ولذلك بلغ الصحابة
رضي ال عنهم به مبلغا عظيما ،وتغيرت أخلقهم وطبائعهم ،وانتقلوا إلى أخلق وعوائد وأعمال
فاقوا بها الولين والخرين.
وكان أعلى وأولى لمن بعدهم أن يتربوا بعلومه ويتخلقوا بأخلقه ،ويستضيئوا بنوره في ظلمات
الغي والجهالت ويجعلوه إمامهم في جميع الحالت ،فبذلك تستقيم أمورهم الدينية والدنيوية.
ج ِميّ وَ َهذَا
عَحدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ
{ { } 105 - 103وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّن ُهمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الّذِي يُلْ ِ
عذَابٌ أَلِيمٌ * إِ ّنمَا َيفْتَرِي
لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مُبِينٌ * إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لَا َيهْدِيهِمُ اللّ ُه وََلهُمْ َ
ا ْلكَ ِذبَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ }
يخبر تعالى عن قيل المشركين المكذبين لرسوله { أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ } هذا الكتاب الذي جاء
به { بَشَرٌ } وذلك البشر الذي يشيرون إليه أعجمي اللسان { وَ َهذَا } القرآن { لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مُبِينٌ }
هل هذا القول ممكن؟ أو له حظ من الحتمال؟ ولكن الكاذب يكذب ول يفكر فيما يؤول إليه كذبه،
فيكون في قوله من التناقض والفساد ما يوجب رده بمجرد تصوره.
{ إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } الدالة دللة صريحة على الحق المبين فيردونها ول يقبلونها،
{ لَا َيهْدِيهِمُ اللّهُ } حيث جاءهم الهدى فردوه فعوقبوا بحرمانه وخذلن ال لهم { .وََلهُمْ } في
عذَابٌ أَلِيمٌ }
الخرة { َ
{ إِ ّنمَا َيفْتَرِي ا ْلكَ ِذبَ } أي :إنما يصدر افتراه الكذب من { الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } كالمعاندين
لرسوله من بعد ما جاءتهم البينات { ،وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } أي :الكذب منحصر فيهم وعليهم
أولى بأن يطلق من غيرهم .وأما محمد صلى ال عليه وسلم المؤمن بآيات ال الخاضع لربه
فمحال أن يكذب على ال ويتقول عليه ما لم يقل ،فأعداؤه رموه بالكذب الذي هو وصفهم ،فأظهر
ال خزيهم وبين فضائحهم ،فله تعالى الحمد.
ن وََلكِنْ مَنْ
طمَئِنّ بِالْإِيمَا ِ
{ { } 109 - 106مَنْ َكفَرَ بِاللّهِ مِنْ َبعْدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ
عظِيمٌ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْتَحَبّوا ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا
ضبٌ مِنَ اللّ ِه وََلهُمْ عَذَابٌ َ
غ َ
شَرَحَ بِا ْل ُكفْ ِر صَدْرًا َفعَلَ ْيهِمْ َ
س ْم ِعهِمْ
عَلَى الْآخِ َر ِة وَأَنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَ َ
وَأَ ْبصَارِهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ * لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
يخبر تعالى عن شناعة حال { مَنْ َكفَرَ بِاللّهِ مِنْ َبعْدِ إِيمَانِهِ } فعمى بعد ما أبصر ورجع إلى
الضلل بعد ما اهتدى ،وشرح صدره بالكفر راضيا به مطمئنا أن لهم الغضب الشديد من الرب
الرحيم الذي إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وغضب عليهم كل شيء { ،وََلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي:
في غاية الشدة مع أنه دائم أبدا.
و { ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمُ اسْ َتحَبّوا الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآخِ َرةِ } حيث ارتدوا على أدبارهم طمعا في شيء من
حطام الدنيا ،ورغبة فيه وزهدا في خير الخرة ،فلما اختاروا الكفر على اليمان منعهم ال الهداية
فلم يهدهم لن الكفر وصفهم ،فطبع على قلوبهم فل يدخلها خير ،وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
فل ينفذ منها ما ينفعهم ويصل إلى قلوبهم .فشملتهم الغفلة وأحاط بهم الخذلن ،وحرموا رحمة ال
التي وسعت كل شيء ،وذلك أنها أتتهم فردوها ،وعرضت عليهم فلم يقبلوها.
{ لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة
وفاتهم النعيم المقيم وحصلوا على العذاب الليم.
وهذا بخلف من أكره على الكفر وأجبر عليه ،وقلبه مطمئن باليمان؛ راغب فيه فإنه ل حرج
عليه ول إثم ،ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الكراه عليها.
ودل ذلك على أن كلم المكره على الطلق أو العتاق أو البيع أو الشراء أو سائر العقود أنه ل
عبرة به ،ول يترتب عليه حكم شرعي ،لنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر إذا أكره عليها فغيرها
من باب أولى وأحرى.
{ { } 111 - 110ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ َبعْدِ مَا فُتِنُوا ُثمّ جَاهَدُوا َوصَبَرُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ
عمَِلتْ وَ ُهمْ لَا
سهَا وَ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا َ
َبعْدِهَا َل َغفُورٌ رَحِيمٌ * َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ ُتجَا ِدلُ عَنْ َنفْ ِ
يُظَْلمُونَ }
أي :ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله،
وخلى دياره وأمواله طلبا لمرضاة ال ،وفتن على دينه ليرجع إلى الكفر ،فثبت على اليمان،
وتخلص ما معه من اليقين ،ثم جاهد أعداء ال ليدخلهم في دين ال بلسانه ويده ،وصبر على هذه
العبادات الشاقة على أكثر الناس.
فهذه أكبرالسباب التي تنال بها أعظم العطايا وأفضل المواهب ،وهي مغفرة ال للذنوب صغارها
وكبارها المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه ،ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم
واستقامت أمور دينهم ودنياهم ،فلهم الرحمة من ال في يوم القيامة حين { تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ ُتجَا ِدلُ
ل يقول نفسي نفسي ل يهمه سوى نفسه ،ففي ذلك اليوم يفتقر العبد إلى حصول
سهَا } ك ّ
عَنْ َنفْ ِ
مثقال ذرة من الخير.
وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة ل يهاج فيها أحد ،وتحترمها الجاهلية
الجهلء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه ،فل يهيجه مع شدة الحمية فيهم ،والنعرة العربية
فحصل لها من المن التام ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع.
كانت بلدة ليس فيها زرع ول شجر ،ولكن يسر ال لها الرزق يأتيها من كل مكان ،فجاءهم رسول
منهم يعرفون أمانته وصدقه ،يدعوهم إلى أكمل المور ،وينهاهم عن المور السيئة ،فكذبوه
وكفروا بنعمة ال عليهم ،فأذاقهم ال ضد ما كانوا فيه ،وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد،
والخوف الذي هو ضد المن ،وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم { وما ظلمهم ال ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون }
يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم ال من الحيوانات والحبوب والثمار وغيرها { .حَلَالًا طَيّبًا } أي:
حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث ل تكون مما حرم ال أو أثرا عن غصب ونحوه.
شكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ } بالعتراف بها بالقلب
فتمتعوا بما خلق ال لكم من غير إسراف ول َتعَدّ { .وَا ْ
والثناء على ال بها وصرفها في طاعة ال { .إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ } أي إن كنتم مخلصين له
العبادة ،فل تشكروا إل إياه ،ول تنسوا المنعم.
{ إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ } الشياء المضرة تنزيها لكم ،وذلك :كب { ا ْلمَيْتَةَ } ويدخل في ذلك كل ما كان
موته على غير ذكاة مشروعة ،ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك.
{ وََلحْمَ ا ْلخِنْزِيرِ } لقذارته وخبثه وذلك شامل للحمه وشحمه وجميع أجزائهَ { .ومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ
بِهِ } كالذي يذبح للصنام والقبور ونحوها لنه مقصود به الشرك.
ضطُرّ } إلى شيء من المحرمات -بأن حملته الضرورة وخاف إن لم يأكل أن يهلك -فل
{ َفمَنِ ا ْ
جناح عليه إذا لم يكن باغيا أو عاديا ،أي :إذا لم يرد أكل المحرم وهو غير مضطر ،ول متعد
الحلل إلى الحرام ،أو متجاوز لما زاد على قدر الضرورة ،فهذا الذي حرمه ال من المباحات.
{ وَلَا َتقُولُوا ِلمَا َتصِفُ أَ ْلسِنَ ُتكُمُ ا ْلكَ ِذبَ َهذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } أي :ل تحرموا وتحللوا من تلقاء
أنفسكم ،كذبا وافتراء على ال وتقول عليه.
{ لِ َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ } ل في الدنيا ول في
الخرة ،ول بد أن يظهر ال خزيهم وإن تمتعوا في الدنيا فإنه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ومصيرهم إلى النار
{ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وأما الذين هادوا فحرم ال عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ظلمهم عقوبة لهم ،كما قصه في سورة
ظفُرٍ َومِنَ الْ َبقَ ِر وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ
النعام في قوله { :وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ
حوَايَا َأوْ مَا اخْتَلَطَ ِب َعظْمٍ ذَِلكَ جَزَيْنَاهُمْ بِ َبغْ ِيهِ ْم وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ
ظهُورُ ُهمَا َأوِ الْ َ
حمََلتْ ُ
شحُومَ ُهمَا إِلّا مَا َ
ُ
}
وهذا حض منه لعباده على التوبة ،ودعوة لهم إلى النابة ،فأخبر أن من عمل سوءا بجهالة بعاقبة
ما تجني عليه ،ولو كان متعمدا للذنب ،فإنه ل بد أن ينقص ما في قلبه من العلم وقت مفارقة
الذنب .فإذا تاب وأصلح بأن ترك الذنب وندم عليه وأصلح أعماله ،فإن ال يغفر له ويرحمه
ويتقبل توبته ويعيده إلى حالته الولى أو أعلى منها.
{ { } 123 - 120إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وََلمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * شَاكِرًا لِأَ ْن ُعمِهِ
اجْتَبَا ُه وَ َهدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَإِنّهُ فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ * ُثمّ
َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ }
يخبر تعالى عما فضل به خليله إبراهيم عليه الصلة والسلم ،وخصه به من الفضائل العالية
والمناقب الكاملة فقال:
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً } أي :إماما جامعا لخصال الخير هاديا مهتديا { .قَانِتًا لِلّهِ } أي :مديما
لطاعة ربه مخلصا له الدين { ،حَنِيفًا } مقبل على ال بالمحبة ،والنابة والعبودية معرضا عمن
سواه { .وََلمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } في قوله وعمله ،وجميع أحواله لنه إمام الموحدين الحنفاء.
{ شَاكِرًا لِأَ ْن ُعمِهِ } أي :آتاه ال في الدنيا حسنة ،وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة ،فقام بشكرها،
فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن { اجْتَبَاهُ } ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه،
وخيار عباده المقربين.
{ وَ َهدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } في علمه وعمله فعلم بالحق وآثره على غيره.
حسَنَةً } رزقا واسعا ،وزوجة حسناء ،وذرية صالحين ،وأخلقا مرضية { وَإِنّهُ
{ وَآتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا َ
فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } الذين لهم المنازل العالية والقرب العظيم من ال تعالى.
ومن أعظم فضائله أن ال أوحى لسيد الخلق وأكملهم أن يتبع ملة إبراهيم ،ويقتدي به هو وأمته.
ج ِعلَ السّ ْبتُ } أي :فرضا { عَلَى الّذِينَ اخْتََلفُوا فِيهِ } حين ضلوا عن يوم
يقول تعالى { :إِ ّنمَا ُ
الجمعة وهم اليهود فصار اختلفهم سببا لن يجب عليهم في السبت احترامه وتعظيمه ،وإل
فالفضيلة الحقيقية ليوم الجمعة الذي هدى ال هذه المة إليه.
حكُمُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } فيبين لهم المحق من المبطل
{ وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َي ْ
والمستحق للثواب ممن استحق العقاب
أي :ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع
ح ْكمَةِ } أي :كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده.
والعمل الصالح { بِالْ ِ
ومن الحكمة الدعوة بالعلم ل بالجهل والبداءة بالهم فالهم ،وبالقرب إلى الذهان والفهم ،وبما
يكون قبوله أتم ،وبالرفق واللين ،فإن انقاد بالحكمة ،وإل فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة،
وهو المر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
إما بما تشتمل عليه الوامر من المصالح وتعدادها ،والنواهي من المضار وتعدادها ،وإما بذكر
إكرام من قام بدين ال وإهانة من لم يقم به.
وإما بذكر ما أعد ال للطائعين من الثواب العاجل والجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل
والجل ،فإن كان [المدعو] يرى أن ما هو عليه حق .أو كان داعيه إلى الباطل ،فيجادل بالتي هي
أحسن ،وهي الطرق التي تكون أدعى لستجابته عقل ونقل.
ومن ذلك الحتجاج عليه بالدلة التي كان يعتقدها ،فإنه أقرب إلى حصول المقصود ،وأن ل تؤدي
المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ،ول تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها
هداية الخلق إلى الحق ل المغالبة ونحوها.
ضلّ عَنْ سَبِيلِهِ } علم السبب الذي أداه إلى الضلل ،وعلم أعماله
ن َ
وقوله { :إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَ ْ
المترتبة على ضللته وسيجازيه عليها.
{ وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ } علم أنهم يصلحون للهداية فهداهم ثم منّ عليهم فاجتباهم.
يقول تعالى -مبيحا للعدل ونادبا للفضل والحسان { -وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ } من أساء إليكم بالقول والفعل
{ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم.
ن صَبَرْتُمْ } عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم { َل ُهوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ } من الستيفاء وما عند
{ وَلَئِ ْ
ال خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى { :فمن عفا وأصلح فأجره على ال }
ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى ال والستعانة بال على ذلك وعدم التكال على
علَ ْيهِمْ } إذا
النفس فقال { :وَاصْبِ ْر َومَا صَبْ ُركَ إِلّا بِاللّهِ } هو الذي يعينك عليه ويثبتك { .وَلَا تَحْزَنْ َ
دعوتهم فلم تر منهم قبول لدعوتك ،فإن الحزن ل يجدي عليك شيئا { .وَلَا َتكُ فِي ضَيْقٍ } أي:
شدة وحرج { ِممّا َي ْمكُرُونَ } فإن مكرهم عائد إليهم وأنت من المتقين المحسنين.
وال مع المتقين المحسنين ،بعونه وتوفيقه وتسديده ،وهم الذين اتقوا الكفر والمعاصي ،وأحسنوا
في عبادة ال ،بأن عبدوا ال كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم ،والحسان إلى الخلق
ببذل النفع لهم من كل وجه.
نسأل ال أن يجعلنا من المتقين المحسنين.
جدِ
جدِ ا ْلحَرَامِ ِإلَى ا ْل َمسْ ِ
حمَنِ الرّحِيمِ سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْلًا مِنَ ا ْلمَسْ ِ
{ ِ { } 1بسْمِ اللّهِ الرّ ْ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }
حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنّه ُهوَ ال ّ
الَْأ ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لن له الفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أن
جدِ الْحَرَامِ } الذي هو أجل
{ َأسْرَى ِبعَبْ ِدهِ } ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم { مِنَ ا ْلمَسْ ِ
جدِ الَْأ ْقصَى } الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل النبياء.
المساجد على الطلق { ِإلَى ا ْل َمسْ ِ
فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته ،وأراه ال من آياته ما ازداد به
هدى وبصيرة وثباتا وفرقانا ،وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث يسره لليسرى في جميع
أموره وخوله نعما فاق بها الولين والخرين ،وظاهر الية أن السراء كان في أول الليل وأنه
من نفس المسجد الحرام ،لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ ،فعلى هذا تكون
الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم ،فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد،
وأن السراء بروحه وجسده معا وإل لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة.
وقد تكاثرت الحاديث الثابتة عن النبي صلى ال عليه وسلم في السراء ،وذكر تفاصيل ما رأى
وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق
السماوات العلى ورأى الجنة والنار ،والنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين ،ثم ما
زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا بالفعل ،وخمسين بالجر والثواب ،وحاز
من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما ل يعلم مقداره إل ال عز وجل.
وذكره هنا وفي مقام النزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية لنه نال هذه المقامات الكبار
بتكميله لعبودية ربه.
ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة ،وأنه يطلب شد
الرحل إليه للعبادة والصلة فيه وأن ال اختصه محل لكثير من أنبيائه وأصفيائه.
خذُوا مِنْ دُونِي َوكِيلًا * ذُرّيّةَ
جعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ أَلّا تَتّ ِ
{ { } 2-8وَآتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ وَ َ
شكُورًا * َو َقضَيْنَا ِإلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الْأَ ْرضِ
حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ
مَنْ َ
شدِيدٍ َفجَاسُوا
ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَا َء وَعْدُ أُولَا ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ َ
مَرّتَيْ ِ
جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ
ن وَ َ
ل وَبَنِي َ
خِلَالَ الدّيَا ِر َوكَانَ وَعْدًا َم ْفعُولًا * ُثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْي ِه ْم وََأمْدَدْنَاكُمْ بَِأ ْموَا ٍ
سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا فَإِذَا جَا َء وَعْدُ الْآخِ َرةِ لِيَسُوءُوا وُجُو َهكُمْ
حسَنْتُمْ َأحْسَنْ ُتمْ لِأَ ْنفُ ِ
َنفِيرًا * إِنْ أَ ْ
عدْتُمْ
ح َمكُ ْم وَإِنْ ُ
جدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُوا مَا عََلوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ يَرْ َ
وَلِيَدْخُلُوا ا ْلمَسْ ِ
حصِيرًا }
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ
جعَلْنَا َ
عُدْنَا وَ َ
كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ونبوة موسى صلى ال عليه وسلم وبين
كتابيهما وشريعتيهما لن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات
وأتباعهما أكثر المؤمنين،
خذُوا مِنْ دُونِي َوكِيلًا } أي :وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك ليعبدوا ال وحده
{ َألّا تَتّ ِ
وينيبوا إليه ويتخذوه وحده وكيل ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم ول يتعلقوا بغيره من
المخلوقين الذين ل يملكون شيئا ول ينفعونهم بشيء.
شكُورًا
حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي :يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح { ،إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ
{ ذُرّيّةَ مَنْ َ
} ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلم بقيامه بشكر ال واتصافه بذلك والحث لذريته أن
يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه ،وأن يتذكروا نعمة ال عليهم إذ أبقاهم واستخلفهم في الرض
وأغرق غيرهم.
{ َو َقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ } أي :تقدمنا وعهدنا إليهم وأخبرناهم في كتابهم أنهم ل بد أن يقع منهم
إفساد في الرض مرتين بعمل المعاصي والبطر لنعم ال والعلو في الرض والتكبر فيها وأنه إذا
وقع واحدة منهما سلط ال عليهم العداء وانتقم منهم وهذا تحذير لهم وإنذار لعلهم يرجعون
فيتذكرون.
{ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ أُولَا ُهمَا } أي :أولى المرتين اللتين يفسدون فيهما .أي :إذا وقع منهم ذلك الفساد
{ َبعَثْنَا عَلَ ْي ُكمْ } بعثا قدريا وسلطنا عليكم تسليطا كونيا جزائيا { عِبَادًا لَنَا أُولِي بَ ْأسٍ شَدِيدٍ } أي:
ذوي شجاعة وعدد وعدة فنصرهم ال عليكم فقتلوكم وسبوا أولدكم ونهبوا أموالكم ،وجاسوا خِلَالَ
ن وَعْدًا َم ْفعُولًا } ل بد من وقوعه
دياركم فهتكوا الدور ودخلوا المسجد الحرام وأفسدوهَ { .وكَا َ
لوجود سببه منهم.
واختلف المفسرون في تعيين هؤلء المسلطين إل أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار.
إما من أهل العراق أو الجزيرة أو غيرها سلطهم ال على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي
وتركوا كثيرا من شريعتهم وطغوا في الرض.
{ ُثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ } أي :على هؤلء الذين سلطوا عليكم فأجليتموهم من دياركم.
جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرًا
{ وََأمْ َددْنَاكُمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ } أي :أكثرنا أرزاقكم وكثرناكم وقويناكم عليهم { ،وَ َ
} منهم وذلك بسبب إحسانكم وخضوعكم ل.
سكُمْ } لن النفع عائد إليكم حتى في الدنيا كما شاهدتم من انتصاركم على
حسَنْتُمْ َأحْسَنْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ
{ إِنْ أَ ْ
أعدائكم { .وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا } أي :فلنفسكم يعود الضرر كما أراكم ال من تسليط العداء.
{ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الْآخِ َرةِ } أي :المرة الخرة التي تفسدون فيها في الرض سلطنا عليكم العداء.
{ لِ َيسُوءُوا وُجُو َهكُمْ } بانتصارهم عليكم وسبيكم وليدخلوا المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة،
والمراد بالمسجد مسجد بيت المقدس.
{ وَلِيُتَبّرُوا } أي :يخربوا ويدمروا { مَا عََلوْا } عليه { تَتْبِيرًا } فيخربوا بيوتكم ومساجدكم
وحروثكم.
ح َمكُمْ } فيديل لكم الكرة عليهم ،فرحمهم وجعل لهم الدولة .وتوعدهم على
عسَى رَ ّب ُكمْ أَنْ يَ ْر َ
{ َ
عدْنَا } إلى عقوبتكم ،فعادوا لذلك فسلط
المعاصي فقال { :وَإِنْ عُدْ ُتمْ } إلى الفساد في الرض { ُ
ال عليهم رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم
جعَلْنَا
فانتقم ال به منهم ،فهذا جزاء الدنيا وما عند ال من النكال أعظم وأشنع ،ولهذا قال { :وَ َ
حصِيرًا } يصلونها ويلزمونها ل يخرجون منها أبدا .وفي هذه اليات التحذير
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ
َ
لهذه المة من العمل بالمعاصي لئل يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل ،فسنة ال واحدة ل تبدل ول
تغير.
ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة ،عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم
وأنهم إذا أقاموا كتاب ال وسنة رسوله ،مكن لهم في الرض ونصرهم على أعدائهم.
{ { } 9-10إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآنَ َي ْهدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَ ُم وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ
أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ أَعْتَدْنَا َل ُهمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
يخبر تعالى عن شرف القرآن وجللته وأنه { َيهْدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ } أي :أعدل وأعلى من العقائد
والعمال والخلق ،فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع
أموره.
{ وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ } من الواجبات والسنن { ،أَنّ َلهُمْ َأجْرًا كَبِيرًا } أعده
ال لهم في دار كرامته ل يعلم وصفه إل هو.
عجُولًا }
{ { } 11وَيَ ْدعُ الْإِ ْنسَانُ بِالشّرّ دُعَا َءهُ بِا ْلخَيْ ِر َوكَانَ الْإِنْسَانُ َ
وهذا من جهل النسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولده وماله بالشر عند الغضب ويبادر
بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير ،ولكن ال -بلطفه -يستجيب له في الخير ول يستجيب
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْي ِهمْ أَجَُل ُهمْ }
له بالشر { .وََلوْ ُيعَ ّ
ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ } أي :دالتين على كمال قدرة ال وسعة رحمته وأنه
جعَلْنَا اللّ ْي َ
يقول تعالى { :وَ َ
حوْنَا آ َيةَ اللّ ْيلِ } أي :جعلناه مظلما للسكون فيه والراحة،
الذي ل تنبغي العبادة إل لهَ { .فمَ َ
جعَلْنَا آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً } أي :مضيئة { لِتَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّبكُمْ } في معايشكم وصنائعكم
{ َو َ
وتجاراتكم وأسفاركم.
{ وَلِ َتعَْلمُوا } بتوالي الليل والنهار واختلف القمر { عَ َددَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ } فتبنون عليها ما
تشاءون من مصالحكم.
شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلًا } أي :بينا اليات وصرفناه لتتميز الشياء ويستبين الحق من الباطل
{ َو ُكلّ َ
شيْءٍ }
كما قال تعالى { :مَا فَرّطْنَا فِي ا ْلكِتَابِ مِنْ َ
{ َ { } 13-14و ُكلّ إِ ْنسَانٍ أَلْ َزمْنَاهُ طَائِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورًا *
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا }
اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ
وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه ،أي :ما عمل من خير وشر
يجعله ال ملزما له ل يتعداه إلى غيره ،فل يحاسب بعمل غيره ول يحاسب غيره بعمله.
{ وَ ُنخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورًا } فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا } وهذا من أعظم العدل والنصاف أن يقال
ويقال له { :اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ
للعبد :حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
أي :هداية كل أحد وضلله لنفسه ل يحمل أحد ذنب أحد ،ول يدفع عنه مثقال ذرة من الشر ،وال
تعالى أعدل العادلين ل يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.
واستدل بهذه الية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين ،ل يعذبهم ال حتى يبعث إليهم رسول
لنه منزه عن الظلم.
يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمرا
علَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ } أي :كلمة العذاب التي ل مرد لها
قدريا ففسقوا فيها واشتد طغيانهمَ { ،فحَقّ َ
{ َف َدمّرْنَاهَا تَ ْدمِيرًا }
وهؤلء أمم كثيرة أبادهم ال بالعذاب من بعد قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن عاقبهم
ال لما كثر بغيهم واشتد كفرهم أنزل [ال] بهم عقابه العظيم.
{ َو َكفَى بِرَ ّبكَ ِبذُنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا } فل يخافوا منه ظلما وأنه يعاقبهم على ما عملوه.
جهَنّمَ َيصْلَاهَا
جعَلْنَا لَهُ َ
{ { } 18-21مَنْ كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ عَجّلْنَا َلهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَنْ نُرِيدُ ُثمّ َ
شكُورًا *
سعْ ُيهُمْ مَ ْ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
سعَى َلهَا َ
مَ ْذمُومًا َمدْحُورًا * َومَنْ أَرَادَ الْآخِ َر َة وَ َ
ضهُمْ
ك َومَا كَانَ عَطَاءُ رَ ّبكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ
كُلّا ُنمِدّ َهؤُلَا ِء وَ َهؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَ ّب َ
عَلَى َب ْعضٍ وَلَلْآخِ َرةُ َأكْبَرُ دَ َرجَاتٍ وََأكْبَرُ َت ْفضِيلًا }
يخبر تعالى أن { مَنْ كَانَ يُرِيدُ } الدنيا { العاجلة } المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ،ونسي
المبتدأ أو المنتهى أن ال يعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب [ال] له في
اللوح المحفوظ ولكنه متاع غير نافع ول دائم له.
جهَنّمَ َيصْلَاهَا } أي :يباشر عذابها { مَ ْذمُومًا مَدْحُورًا } أي :في حالة
ثم يجعل له في الخرة { َ
الخزي والفضيحة والذم من ال ومن خلقه ،والبعد عن رحمة ال فيجمع له بين العذاب والفضيحة.
شكُورًا } أي :مقبول منمى مدخرا لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم.
سعْ ُيهُمْ مَ ْ
{ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
ومع هذا فل يفوتهم نصيبهم من الدنيا فكل يمده ال منها لنه عطاؤه وإحسانه.
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ } في الدنيا بسعة الرزاق وقلتها ،واليسر والعسر والعلم
{ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ
والجهل والعقل والسفه وغير ذلك من المور التي فضل ال العباد بعضهم على بعض بها.
{ وَلَلْآخِ َرةُ َأكْبَرُ دَ َرجَاتٍ وََأكْبَرُ َت ْفضِيلًا } فل نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الخرة بوجه من الوجوه.
فكم بين من هو في الغرف العاليات واللذات المتنوعات والسرور والخيرات والفراح ممن هو
يتقلب في الجحيم ويعذب بالعذاب الليم ،وقد حل عليه سخط الرب الرحيم وكل من الدارين بين
أهلها من التفاوت ما ل يمكن أحدا عده.
أي :ل تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة ول تشرك بال أحدا منهم فإن ذلك
داع للذم والخذلن ،فال وملئكته ورسله قد نهوا عن الشرك وذموا من عمله أشد الذم ورتبوا
عليه من السماء المذمومة ،والوصاف المقبوحة ما كان به متعاطيه ،أشنع الخلق وصفا وأقبحهم
نعتا.
وله من الخذلن في أمر دينه ودنياه بحسب ما تركه من التعلق بربه ،فمن تعلق بغيره فهو مخذول
قد وكل إلى من تعلق به ول أحد من الخلق ينفع أحدا إل بإذن ال ،كما أن من جعل مع ال إلها
آخر له الذم والخذلن ،فمن وحده وأخلص دينه ل وتعلق به دون غيره فإنه محمود معان في
جميع أحواله.
{ َ { } 23-24و َقضَى رَ ّبكَ أَلّا َتعْ ُبدُوا إِلّا إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا ِإمّا يَبُْلغَنّ عِ ْن َدكَ ا ْلكِبَرَ َأحَدُ ُهمَا َأوْ
حمَةِ
خفِضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ
ف وَلَا تَ ْنهَرْ ُهمَا َو ُقلْ َل ُهمَا َقوْلًا كَرِيمًا * وَا ْ
كِلَا ُهمَا فَلَا َت ُقلْ َل ُهمَا ُأ ّ
صغِيرًا }
ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ
َوقُلْ َربّ ا ْر َ
لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقالَ { :و َقضَى رَ ّبكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا {
أَنْ لَا َتعْبُدُوا } أحدا من أهل الرض والسماوات الحياء والموات.
{ ِإلّا إِيّاهُ } لنه الواحد الحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال ،وله من تلك الصفة أعظمها
على وجه ل يشبهه أحد من خلقه ،وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق
الرازق المدبر لجميع المور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء.
ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال { :وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي :أحسنوا إليهما بجميع وجوه
الحسان القولي والفعلي لنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والحسان إليه والقرب ما
يقتضي تأكد الحق ووجوب البر.
{ ِإمّا يَ ْبُلغَنّ عِنْ َدكَ ا ْلكِبَرَ َأحَدُ ُهمَا َأوْ كِلَا ُهمَا } أي :إذا وصل إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما
ويحتاجان من اللطف والحسان ما هو معروف { .فَلَا َت ُقلْ َل ُهمَا ُأفّ } وهذا أدنى مراتب الذى نبه
به على ما سواه ،والمعنى ل تؤذهما أدنى أذية.
{ وَلَا تَ ْنهَرْ ُهمَا } أي :تزجرهما وتتكلم لهما كلما خشناَ { ،و ُقلْ َل ُهمَا َقوْلًا كَرِيمًا } بلفظ يحبانه
وتأدب وتلطف بكلم لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما ،وذلك يختلف باختلف
الحوال والعوائد والزمان.
ح ْم ُهمَا } أي :ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا ،جزاء على تربيتهما إياك صغيرا.
{ َو ُقلْ َربّ ارْ َ
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق ،وكذلك من تولى تربية النسان في دينه ودنياه
تربية صالحة غير البوين فإن له على من رباه حق التربية.
غفُورًا }
سكُمْ إِنْ َتكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلَْأوّابِينَ َ
{ { } 25رَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبمَا فِي ُنفُو ِ
أي :ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم من خير وشر وهو ل ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم
وإنما ينظر إلى قلوبكم وما فيها من الخير والشر.
{ إِنْ َتكُونُوا صَالِحِينَ } بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة ال ورغبتكم فيما يقربكم
إليه وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير ال.
سكِينَ } آته حقه من الزكاة ومن غيرها لتزول مسكنته { وَابْنَ السّبِيلِ } وهو الغريب
{ وَا ْلمِ ْ
المنقطع به عن بلده ،فيعطي الجميع من المال على وجه ل يضر المعطي ول يكون زائدا على
المقدار اللئق فإن ذلك تبذير قد نهى ال عنه وأخبر:
{ فَ َت ْقعُدَ } إن فعلت ذلك { مَلُومًا } أي :تلم على ما فعلت { َمحْسُورًا } أي :حاسر اليد فارغها فل
بقي ما في يدك من المال ول خلفه مدح وثناء.
وهذا المر بإيتاء ذي القربى مع القدرة والغنى ،فأما مع العدم أو تعسر النفقة الحاضرة فأمر
حمَةٍ مِنْ رَ ّبكَ تَ ْرجُوهَا } أي:
تعالى أن يردوا ردا جميل فقال { :وَِإمّا ُتعْ ِرضَنّ عَ ْن ُهمُ ابْ ِتغَاءَ َر ْ
تعرض عن إعطائهم إلى وقت آخر ترجو فيه من ال تيسير المر.
{ َف ُقلْ َلهُمْ َقوْلًا مَيْسُورًا } أي :لطيفا برفق ووعد بالجميل عند سنوح الفرصة واعتذار بعدم المكان
في الوقت الحاضر لينقلبوا عنك مطمئنة خواطرهم كما قال تعالىَ { :ق ْولٌ َمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ
ن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا َأذًى }
مِ ْ
وهذا أيضا من لطف ال تعالى بالعباد أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه لن انتظار ذلك عبادة،
وكذلك وعدهم بالصدقة والمعروف عند التيسر عبادة حاضرة لن الهم بفعل الحسنة حسنة ،ولهذا
ينبغي للنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير وينوي فعل ما لم يقدر عليه ليثاب على ذلك ولعل
ال ييسر له [بسبب رجائه]
ثم أخبر تعالى أنه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدره ويضيقه على من يشاء حكمة منه،
{ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا } فيجزيهم على ما يعلمه صالحا لهم ويدبرهم بلطفه وكرمه.
{ { } 31وَلَا َتقْتُلُوا َأوْلَا َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلَاقٍ َنحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُمْ إِنّ قَتَْلهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا }
وهذا من رحمته بعباده حيث كان أرحم بهم من والديهم ،فنهى الوالدين أن يقتلوا أولدهم خوفا من
الفقر والملق وتكفل برزق الجميع.
وأخبر أن قتلهم كان خطأ كبيرا أي :من أعظم كبائر الذنوب لزوال الرحمة من القلب والعقوق
العظيم والتجرؤ على قتل الطفال الذين لم يجر منهم ذنب ول معصية.
ش ًة وَسَاءَ سَبِيلًا }
{ { } 32وَلَا َتقْرَبُوا الزّنَا إِنّهُ كَانَ فَاحِ َ
والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله لن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه
فإن " :من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " خصوصا هذا المر الذي في كثير من النفوس
أقوى داع إليه.
ووصف ال الزنى وقبحه بأنه { كَانَ فَاحِشَةً } أي :إثما يستفحش في الشرع والعقل والفطر
لتضمنه التجري على الحرمة في حق ال وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها وإفساد الفراش
واختلط النساب وغير ذلك من المفاسد.
وقوله { :وَسَاءَ سَبِيلًا } أي :بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم.
وهذا شامل لكل نفس { حَرّمَ اللّهُ } قتلها من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد ومسلم وكافر
له عهد.
حقّ } كالنفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة والباغي في حال
{ ِإلّا بِالْ َ
بغيه إذا لم يندفع إل بالقتل.
{ فَلَا يُسْ ِرفْ } الولي { فِي ا ْلقَ ْتلِ إِنّهُ كَانَ مَ ْنصُورًا } والسراف مجاوزة الحد إما أن يمثل بالقاتل
أو يقتله بغير ما قتل به أو يقتل غير القاتل.
وفي هذه الية دليل إلى أن الحق في القتل للولي فل يقتص إل بإذنه وإن عفا سقط القصاص.
وأن ولي المقتول يعينه ال على القاتل ومن أعانه حتى يتمكن من قتله.
{ { } 34وَلَا َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ َأشُ ّد ُه وََأ ْوفُوا بِا ْل َعهْدِ إِنّ ا ْل َعهْدَ كَانَ
مَسْئُولًا }
وهذا من لطفه ورحمته تعالى باليتيم الذي فقد والده وهو صغير غير عارف بمصلحة نفسه ول
قائم بها أن أمر أولياءه بحفظه وحفظ ماله وإصلحه وأن ل يقربوه { ِإلّا بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ } من
التجارة فيه وعدم تعريضه للخطار ،والحرص على تنميته ،وذلك ممتد إلى أن { يَبُْلغَ } اليتيم
{ َأشُ ّدهُ } أي :بلوغه وعقله ورشده ،فإذا بلغ أشده زالت عنه الولية وصار ولي نفسه ودفع إليه
ماله.
شدًا فَا ْد َفعُوا إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ } { وََأ ْوفُوا بِا ْل َعهْدِ } الذي عاهدتم ال
كما قال تعالى { :فَإِنْ آنَسْ ُتمْ مِ ْنهُمْ رُ ْ
عليه والذي عاهدتم الخلق عليه { .إِنّ ا ْل َعهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } أي :مسئولين عن الوفاء به وعدمه ،فإن
وفيتم فلكم الثواب الجزيل وإن لم تفوا فعليكم الثم العظيم.
وهذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط من غير بخس ول نقص.
ويؤخذ من عموم المعنى النهي عن كل غش في ثمن أو مثمن أو معقود عليه والمر بالنصح
والصدق في المعاملة.
{ ذَِلكَ خَيْرٌ } من عدمه { وََأحْسَنُ تَ ْأوِيلًا } أي :أحسن عاقبة به يسلم العبد من التبعات وبه تنزل
البركة.
سمْ َع وَالْ َبصَ َر وَا ْلفُؤَادَ ُكلّ أُولَ ِئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
{ { } 36وَلَا َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ ال ّ
أي :ول تتبع ما ليس لك به علم ،بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله ،فل تظن ذلك يذهب ل لك ول
سمْ َع وَالْ َبصَ َر وَا ْل ُفؤَادَ ُكلّ أُولَ ِئكَ كَانَ عَ ْنهُ مَسْئُولًا } فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه
عليك { ،إِنّ ال ّ
مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها ال لعبادته أن يعد للسؤال جوابا،
وذلك ل يكون إل باستعمالها بعبودية ال وإخلص الدين له وكفها عما يكرهه ال تعالى.
يقول تعالى { :وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا } أي :كبرا وتيها وبطرا متكبرا على الحق ومتعاظما
على الخلق.
ح ْكمَةِ } فإن
{ ذَِلكَ } الذي بيناه ووضحناه من هذه الحكام الجليلةِ { ،ممّا َأوْحَى إِلَ ْيكَ رَ ّبكَ مِنَ ا ْل ِ
الحكمة المر بمحاسن العمال ومكارم الخلق والنهي عن أراذل الخلق وأسوأ العمال.
وهذه العمال المذكورة في هذه اليات من الحكمة العالية التي أوحاها رب العالمين لسيد
المرسلين في أشرف الكتب ليأمر بها أفضل المم فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا
كثيرا.
{ مَلُومًا مَ ْدحُورًا } أي :قد لحقتك اللئمة واللعنة والذم من ال وملئكته والناس أجمعين.
{ إِ ّن ُكمْ لَ َتقُولُونَ َقوْلًا عَظِيمًا } فيه أعظم الجرأة على ال حيث نسبتم له الولد المتضمن لحاجته
واستغناء بعض المخلوقات عنه وحكمتم له بأردأ القسمين ،وهن الناث وهو الذي خلقكم
واصطفاكم بالذكور فتعالى ال عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
{ { } 41-44وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ لِيَ ّذكّرُوا َومَا يَزِيدُ ُهمْ إِلّا ُنفُورًا * ُقلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ
عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرًا * تُسَبّحُ َلهُ
َكمَا َيقُولُونَ إِذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى َ
ح ُهمْ إِنّهُ
حمْ ِد ِه وََلكِنْ لَا َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ
شيْءٍ إِلّا يُسَبّحُ ِب َ
ن وَإِنْ مِنْ َ
سمَاوَاتُ السّبْعُ وَالْأَ ْرضُ َومَنْ فِيهِ ّ
ال ّ
غفُورًا }
كَانَ حَلِيمًا َ
يخبر تعالى أنه صرف لعباده في هذا القرآن أي :نوع الحكام ووضحها وأكثر من الدلة
والبراهين على ما دعا إليه ،ووعظ وذكر لجل أن يتذكروا ما ينفعهم فيسلكوه وما يضرهم
فيدعوه.
ولكن أبى أكثر الناس إل نفورا عن آيات ال لبغضهم للحق ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل
حتى تعصبوا لباطلهم ولم يعيروا آيات ال لهم سمعا ول ألقوا لها بال.
ومن أعظم ما صرف فيه اليات والدلة التوحيد الذي هو أصل الصول ،فأمر به ونهى عن
ضده وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئا كثيرا بحيث من أصغى إلى بعضها ل تدع في
قلبه شكا ول ريبا.
ومن الدلة على ذلك هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقالُ { :قلْ } للمشركين الذين يجعلون مع
ال إلها آخرَ { :لوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ } أي :على موجب زعمهم وافترائهم { ِإذًا لَابْ َت َغوْا
إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا } أي :لتخذوا سبيل إلى ال بعبادته والنابة إليه والتقرب وابتغاء الوسيلة،
فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه إلها مع ال؟! هل هذا إل من أظلم
الظلم وأسفه السفه؟".
فعلى هذا المعنى تكون هذه الية كقوله تعالى { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيدْعُونَ يَبْ َتغُونَ ِإلَى رَ ّب ِهمُ ا ْلوَسِيلَةَ
أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ }
حشُرُهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَ َيقُولُ أَأَنْ ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َهؤُلَاءِ َأمْ ُهمْ
وكقوله تعالى { :وَ َيوْمَ يَ ْ
خذَ مِنْ دُو ِنكَ مِنْ َأوْلِيَاءَ }
ضَلّوا السّبِيلَ قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ مَا كَانَ يَنْ َبغِي لَنَا أَنْ نَتّ ِ
ويحتمل أن المعنى في قولهُ { :قلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا }
أي :لطلبوا السبيل وسعوا في مغالبة ال تعالى ،فإما أن يعلوا عليه فيكون من عل وقهر هو الرب
الله ،فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم التي يعبدون من دون ال مقهورة مغلوبة ليس لها من
ن وَلَ ٍد َومَا كَانَ
خذَ اللّهُ مِ ْ
المر شيء فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى { :مَا اتّ َ
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ }
ق وََلعَلَا َب ْع ُ
َمعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا َلذَ َهبَ ُكلّ إِلَهٍ ِبمَا خَلَ َ
وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي فقرا ذاتيا ل ينفك عن أحد منهم في وقت من الوقات.
هذا الفقر بجميع وجوهه فقر من جهة الخلق والرزق والتدبير ،وفقر من جهة الضطرار إلى أن
يكون معبودهم ومحبوبهم الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون ،ولهذا قال:
غفُورًا } حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قول تكاد السماوات والرض تتفطر
حلِيمًا َ
{ إِنّهُ كَانَ َ
منه وتخر له الجبال ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه ليتوبوا من هذا
الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم ،فلول حلمه ومغفرته لسقطت السماوات
على الرض ولما ترك على ظهرها من دابة.
حجَابًا مَسْتُورًا *
ك وَبَيْنَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ ِ
جعَلْنَا بَيْ َن َ
{ { } 45-48وَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ َ
ح َد ُه وَّلوْا عَلَى
ن وَ ْ
جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َيفْ َقهُو ُه َوفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرًا وَإِذَا َذكَ ْرتَ رَ ّبكَ فِي ا ْلقُرْآ ِ
وَ َ
جوَى ِإذْ َيقُولُ الظّاِلمُونَ إِنْ
ك وَإِذْ هُمْ َن ْ
أَدْبَارِ ِهمْ ُنفُورًا * نَحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا يَسْ َت ِمعُونَ بِهِ ِإذْ يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْي َ
تَتّ ِبعُونَ ِإلّا رَجُلًا َمسْحُورًا * ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ َفضَلّوا فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ سَبِيلًا }
يخبر تعالى عن عقوبته للمكذبين بالحق الذين ردوه وأعرضوا عنه أنه يحول بينهم وبين اليمان
فقال:
{ وَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ } الذي فيه الوعظ والتذكير والهدى واليمان والخير والعلم الكثير.
جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً } أي :أغطية وأغشية ل يفقهون معها القرآن بل يسمعونه سماعا تقوم
{ َو َ
به عليهم الحجةَ { ،وفِي آذَا ِنهِمْ َوقْرًا } أي :صمما عن سماعه { ،وَإِذَا َذكَ ْرتَ رَ ّبكَ فِي ا ْلقُرْآن }
داعيا لتوحيده ناهيا عن الشرك به.
{ وَّلوْا عَلَى أَدْبَا ِرهِمْ ُنفُورًا } من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل ،كما قال تعالى:
شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ ِإذَا ُهمْ
ح َدهُ ا ْ
{ وَِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَ ْ
يَسْتَبْشِرُونَ }
{ َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا يَسْ َت ِمعُونَ بِهِ } أي :إنما منعناهم من النتفاع عند سماع القرآن لننا نعلم أن
مقاصدهم سيئة يريدون أن يعثروا على أقل شيء ليقدحوا به ،وليس استماعهم لجل السترشاد
وقبول الحق وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه ،ومن كان بهذه الحالة لم يفده الستماع شيئا
جوَى } أي :متناجين { إِذْ َيقُولُ الظّاِلمُونَ } في مناجاتهم{ :
ك وَإِذْ هُمْ َن ْ
ولهذا قالِ { :إذْ يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْي َ
جلًا مَسْحُورًا } فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم وقد بنوها على أنه
إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا رَ ُ
مسحور فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال ،وأنه يهذي ل يدري ما يقول.
قال تعالى { :ا ْنظُرْ } متعجبا { كَ ْيفَ ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ } التي هي أضل المثال وأبعدها عن
الصواب { َفضَلّوا } في ذلك أو فصارت سببا لضللهم لنهم بنوا عليها أمرهم والمبني على فاسد
أفسد منه.
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } أي :ل يهتدون أي اهتداء فنصيبهم الضلل المحض والظلم الصرف.
عظَامًا وَ ُرفَاتًا }
يخبر تعالى عن قول المنكرين للبعث وتكذيبهم به واستبعادهم بقولهم { :أَ ِئذَا كُنّا ِ
أي :أجسادا بالية { أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَ ْلقًا جَدِيدًا } أي :ل يكون ذلك وهو محال بزعمهم ،فجهلوا أشد
الجهل حيث كذبوا رسل ال وجحدوا آيات ال وقاسوا قدرة خالق السماوات والرض بقدرتهم
الضعيفة العاجزة.
فلما رأوا أن هذا ممتنع عليهم ل يقدرون عليه جعلوا قدرة ال كذلك.
فسبحان من جعل خلقا من خلقه يزعمون أنهم أولو العقول واللباب مثال في جهل أظهر الشياء
وأجلها وأوضحها براهين وأعلها ليرى عباده أنه ما ثم إل توفيقه وإعانته أو الهلك والضلل.
فدعوا التدبير والتصريف لمن هو على كل شيء قدير وبكل شيء محيط.
{ َفسَ َيقُولُونَ } حين تقيم عليهم الحجة في البعث { :مَنْ ُيعِيدُنَا ُقلِ الّذِي َفطَ َركُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } فكما
فطركم ولم تكونوا شيئا مذكورا فإنه سيعيدكم خلقا جديدا { َكمَا َبدَأْنَا َأ ّولَ خَ ْلقٍ ُنعِي ُدهُ }
سهُمْ } أي :يهزونها إنكارا وتعجبا مما قلت { ،وَ َيقُولُونَ مَتَى ُهوَ } أي:
{ َفسَيُ ْن ِغضُونَ إِلَ ْيكَ ُرءُو َ
متى وقت البعث الذي تزعمه على قولك؟ ل إقرار منهم لصل البعث بل ذلك سفه منهم وتعجيز.
{ ُقلْ عَسَى أَنْ َيكُونَ قَرِيبًا } فليس في تعيين وقته فائدة ،وإنما الفائدة والمدار على تقريره
والقرار به وإثباته وإل فكل ما هو آت فإنه قريب.
{ وَ َتظُنّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا قَلِيلًا } من سرعة وقوعه وأن الذي مر عليكم من النعيم كأنه ما كان.
فهذا الذي يقول عنه المنكرون { :متى هو } ؟ يندمون غاية الندم عند وروده ويقال لهم { :هذا
الذي كنتم به تكذبون }
حسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ يَنْ َزغُ بَيْ َنهُمْ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ
{ َ { } 53-55و ُقلْ ِلعِبَادِي َيقُولُوا الّتِي ِهيَ أَ ْ
علَ ْيهِ ْم َوكِيلًا *
ح ْمكُمْ َأوْ إِنْ يَشَأْ ُيعَذّ ْبكُ ْم َومَا أَرْسَلْنَاكَ َ
ع ُدوّا مُبِينًا * رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبكُمْ إِنْ يَشَأْ يَ ْر َ
لِلْإِنْسَانِ َ
ض وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا }
ت وَالْأَ ْرضِ وََلقَدْ َفضّلْنَا َب ْعضَ النّبِيّينَ عَلَى َب ْع ٍ
سمَاوَا ِ
علَمُ ِبمَنْ فِي ال ّ
وَرَ ّبكَ أَ ْ
وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الخلق والعمال والقوال الموجبة للسعادة في الدنيا
والخرة فقال:
{ َو ُقلْ ِلعِبَادِي َيقُولُوا الّتِي ِهيَ َأحْسَنُ } وهذا أمر بكل كلم يقرب إلى ال من قراءة وذكر وعلم
وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلم حسن لطيف مع الخلق على اختلف مراتبهم ومنازلهم،
وأنه إذا دار المر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما.
والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره.
وقوله { :إِنّ الشّيْطَانَ يَنْ َزغُ بَيْ َنهُمْ } أي :يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم.
فدواء هذا أن ل يطيعوه في القوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها ،وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع
الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه فإنه يدعوهم { ليكونوا
من أصحاب السعير }
وأما إخوانهم فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم وسعى في العداوة فإن الحزم كل الحزم السعي
في ضد عدوهم وأن يقمعوا أنفسهم المارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون
ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم.
{ رَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبكُمْ } من أنفسكم فلذلك ل يريد لكم إل ما هو الخير ول يأمركم إل بما فيه مصلحة
لكم وقد تريدون شيئا والخير في عكسه.
ح ْمكُمْ َأوْ إِنْ يَشَأْ ُيعَذّ ْبكُمْ } فيوفق من شاء لسباب الرحمة ويخذل من شاء فيضل عنها
{ إِنْ يَشَأْ يَ ْر َ
فيستحق العذاب.
سلْنَاكَ عَلَ ْيهِ ْم َوكِيلًا } تدبر أمرهم وتقوم بمجازاتهم وإنما ال هو الوكيل وأنت مبلغ هاد
{ َومَا أَرْ َ
إلى صراط مستقيم.
فإذا كان تعالى قد فضل بعضهم على بعض وآتى بعضهم كتبا فلم ينكر المكذبون لمحمد صلى ال
عليه وسلم ما أنزله ال عليه وما فضله به من النبوة والكتاب.
فإذا كانوا بهذه الصفة فلي شيء تدعونهم من دون ال؟ فإنهم ل كمال لهم ول فعال نافعة،
فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل وسفه في الرأي.
ومن العجب أن السفه عند العتياد والممارسة وتلقيه عن الباء الضالين بالقبول يراه صاحبه هو
الرأي :السديد والعقل المفيد.
ويرى إخلص الدين ل الواحد الحد الكامل المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة هو السفه
والمر المتعجب منه كما قال المشركون { :أجعل اللهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }
ثم أخبر أيضا أن الذين يعبدونهم من دون ال في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالفتقار إلى ال
وابتغاء الوسيلة إليه فقال { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيدْعُونَ } من النبياء والصالحين والملئكة { يَبْ َتغُونَ إِلَى
رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيَلةَ أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ } أي :يتنافسون في القرب من ربهم ويبذلون ما يقدرون عليه من
العمال الصالحة المقربة إلى ال تعالى وإلى رحمته ،ويخافون عذابه فيجتنبون كل ما يوصل إلى
العذاب.
حذُورًا } أي :هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه.
{ إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ كَانَ مَ ْ
وهذه المور الثلثة الخوف والرجاء والمحبة التي وصف ال بها هؤلء المقربين عنده هي
الصل والمادة في كل خير.
فمن تمت له تمت له أموره وإذا خل القلب منها ترحلت عنه الخيرات وأحاطت به الشرور.
وعلمة المحبة ما ذكره ال أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى ال وينافس في قربه بإخلص
العمال كلها ل والنصح فيها وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها ،فمن زعم أنه يحب ال
بغير ذلك فهو كاذب.
شدِيدًا كَانَ ذَِلكَ فِي
عذَابًا َ
{ { } 58وَإِنْ مِنْ قَرْ َيةٍ إِلّا َنحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُمعَذّبُوهَا َ
ا ْلكِتَابِ مَسْطُورًا }
أي :ما من قرية من القرى المكذبة للرسل إل ل بد أن يصيبهم هلك قبل يوم القيامة أو عذاب
شديد كتاب كتبه ال وقضاء أبرمه ،ل بد من وقوعه ،فليبادر المكذبون بالنابة إلى ال وتصديق
رسله قبل أن تتم عليهم كلمة العذاب ،ويحق عليهم القول.
يذكر تعالى رحمته بعدم إنزاله اليات التي يقترح بها المكذبون ،وأنه ما منعه أن يرسلها إل خوفا
من تكذيبهم لها ،فإذا كذبوا بها عاجلهم العقاب وحل بهم من غير تأخير كما فعل بالولين الذين
كذبوا بها.
ومن أعظم اليات الية التي أرسلها ال إلى ثمود وهي الناقة العظيمة الباهرة التي كانت تصدر
عنها جميع القبيلة بأجمعها ومع ذلك كذبوا بها فأصابهم ما قص ال علينا في كتابه ،وهؤلء كذلك
لو جاءتهم اليات الكبار لم يؤمنوا ،فإنه ما منعهم من اليمان خفاء ما جاء به الرسول واشتباهه
هل هو حق أو باطل؟ فإنه قد جاء من البراهين الكثيرة ما دل على صحة ما جاء به الموجب
لهداية من طلب الهداية فغيرها مثلها فل بد أن يسلكوا بها ما سلكوا بغيرها فترك إنزالها والحالة
هذه خير لهم وأنفع.
خوِيفًا } أي :لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة لليمان
سلُ بِالْآيَاتِ إِلّا تَ ْ
وقولهَ { :ومَا نُرْ ِ
الذي ل يحصل إل بها ،بل المقصود منها التخويف والترهيب ليرتدعوا عن ما هم عليه.
{ وَِإذْ قُلْنَا َلكَ إِنّ رَ ّبكَ َأحَاطَ بِالنّاسِ } علما وقدرة فليس لهم ملجأ يلجأون إليه ول ملذ يلوذون به
عنه ،وهذا كاف لمن له عقل في النكفاف عما يكرهه ال الذي أحاط بالناس.
جعَلْنَا ال ّرؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً } أكثر المفسرين على أنها ليلة السراء.
{ َومَا َ
{ وَالشّجَ َرةَ ا ْلمَ ْلعُونَةَ } التي ذكرت { فِي ا ْلقُرْآنِ } وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم.
والمعنى إذا كان هذان المران قد صارا فتنة للناس حتى استلج الكفار بكفرهم وازداد شرهم
وبعض من كان إيمانه ضعيفا رجع عنه بسبب أن ما أخبرهم به من المور التي كانت ليلة
السراء ومن السراء من المسجد الحرام إلى المسجد القصى كان خارقا للعادة.
والخبار بوجود شجرة تنبت في أصل الجحيم أيضا من الخوارق فهذا الذي أوجب لهم التكذيب.
فكيف لو شاهدوا اليات العظيمة والخوارق الجسيمة؟"
أليس ذلك أولى أن يزداد بسببه شرهم؟! فلذلك رحمهم ال وصرفها عنهم ،ومن هنا تعلم أن عدم
التصريح في الكتاب والسنة بذكر المور العظيمة التي حدثت في الزمنة المتأخرة أولى وأحسن
لن المور التي لم يشاهد الناس لها نظيرا ربما ل تقبلها عقولهم لو أخبروا بها قبل وقوعها،
فيكون ذلك ريبا في قلوب بعض المؤمنين ومانعا يمنع من لم يدخل السلم ومنفرا عنه.
ينبه تبارك وتعالى عباده على شدة عداوة الشيطان وحرصه على إضللهم وأنه لما خلق ال آدم
جدُ ِلمَنْ خََلقْتَ طِينًا } أي :من طين وبزعمه أنه
استكبر عن السجود له و { قَالَ } متكبراَ { :أأَسْ ُ
خير منه لنه خلق من نار .وقد تقدم فساد هذا القياس الباطل من عدة أوجه.
فلما تبين لبليس تفضيل ال لدم { قَالَ } مخاطبا ل { :أَ َرأَيْ َتكَ هَذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ
إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَأَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّتَهُ } أي :لستأصلنهم بالضلل ولغوينهم { إِلّا قَلِيلًا } عرف الخبيث
أنه ل بد أن يكون منهم من يعاديه ويعصيه.
{ وََأجِْلبْ عَلَ ْيهِمْ ِبخَيِْلكَ وَرَجِِلكَ } ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية ال فهو من خيل
الشيطان ورجله.
والمقصود أن ال ابتلى العباد بهذا العدو المبين الداعي لهم إلى معصية ال بأقواله وأفعاله.
بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الموال والولد ترك التسمية عند
الطعام والشراب والجماع ،وأنه إذا لم يسم ال في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد فيه الحديث.
{ وَعِ ْدهُمْ } الوعود المزخرفة التي ل حقيقة لها ولهذا قالَ { :ومَا َيعِدُهُمُ الشّ ْيطَانُ إِلّا غُرُورًا } أي:
باطل مضمحل كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الجر لنهم يظنون أنهم
على الحق ،وقال تعالى { :الشّيْطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ وَيَ ْأمُرُكُمْ بِا ْلفَحْشَا ِء وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َم ْغفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْلًا }
ولما أخبر عما يريد الشيطان أن يفعل بالعباد وذكر ما يعتصم به من فتنته وهو عبودية ال والقيام
باليمان والتوكل فقال { :إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ } أي :تسلط وإغواء بل ال يدفع عنهم
-بقيامهم بعبوديته -كل شر ويحفظهم من الشيطان الرجيم ويقوم بكفايتهمَ { .وكَفَى بِرَ ّبكَ َوكِيلًا }
لمن توكل عليه وأدى ما أمر به.
{ { } 66-69رَ ّبكُمُ الّذِي يُزْجِي َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ فِي الْ َبحْرِ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ كَانَ ِبكُمْ رَحِيمًا *وَِإذَا
ضلّ مَنْ َتدْعُونَ إِلّا إِيّاهُ فََلمّا َنجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْ َرضْ ُت ْم َوكَانَ الْإِنْسَانُ َكفُورًا
سكُمُ الضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
مَ ّ
سلَ عَلَ ْي ُكمْ حَاصِبًا ُثمّ لَا َتجِدُوا َلكُ ْم َوكِيلًا * َأمْ َأمِنْتُمْ أَنْ
سفَ ِبكُمْ جَا ِنبَ الْبَرّ َأوْ يُرْ ِ
* َأفََأمِنْتُمْ أَنْ يَخْ ِ
صفًا مِنَ الرّيحِ فَ ُيغْ ِر َقكُمْ ِبمَا َكفَرْتُمْ ثُمّ لَا تَجِدُوا َل ُكمْ عَلَيْنَا بِهِ
سلَ عَلَ ْيكُمْ قَا ِ
ُيعِي َدكُمْ فِيهِ تَا َرةً أُخْرَى فَيُ ْر ِ
تَبِيعًا }
يذكر تعالى نعمته على العباد بما سخر لهم من الفلك والسفن والمراكب وألهمهم كيفية صنعتها،
وسخر لها البحر الملتطم يحملها على ظهره لينتفع العباد بها في الركوب والحمل للمتعة
والتجارة .وهذا من رحمته بعباده فإنه لم يزل بهم رحيما رؤوفا يؤتيهم من كل ما تعلقت به
إرادتهم ومنافعهم.
ومن رحمته الدالة على أنه وحده المعبود دون ما سواه أنهم إذا مسهم الضر في البحر فخافوا من
الهلك لتراكم المواج ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون ال في حال الرخاء من الحياء
والموات ،فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الوقات لعلمهم أنهم ضعفاء عاجزون عن
كشف الضر وصرخوا بدعوة فاطر الرض والسماوات الذي تستغيث به في شدائدها جميع
المخلوقات وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال.
فلما كشف ال عنهم الضر ونجاهم إلى البر ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل وأشركوا به من ل
ينفع ول يضر ول يعطي ول يمنع وأعرضوا عن الخلص لربهم ومليكهم ،وهذا من جهل
النسان وكفره فإن النسان كفور للنعم ،إل من هدى ال فمن عليه بالعقل السليم واهتدى إلى
الصراط المستقيم ،فإنه يعلم أن الذي يكشف الشدائد وينجي من الهوال هو الذي يستحق أن يفرد
وتخلص له سائر العمال في الشدة والرخاء واليسر والعسر.
وأما من خذل ووكل إلى عقله الضعيف فإنه لم يلحظ وقت الشدة إل مصلحته الحاضرة وإنجاءه
في تلك الحال.
فلما حصلت له النجاة وزالت عنه المشقة ظن بجهله أنه قد أعجز ال ولم يخطر بقلبه شيء من
العواقب الدنيوية فضل عن أمور الخرة.
صفًا مِنَ
سلَ عَلَ ْيكُمْ قَا ِ
وإن ظننتم ذلك فأنتم آمنون من { أَنْ ُيعِي َدكُمْ } في البحر { تَا َرةً ُأخْرَى فَيُرْ ِ
الرّيحِ } أي :ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه.
{ فَ ُيغْ ِر َقكُمْ ِبمَا َكفَرْتُمْ ُثمّ لَا َتجِدُوا َلكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } أي :تبعة ومطالبة فإن ال لم يظلمكم مثقال
ذرة.
حمَلْنَاهُمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ وَرَ َزقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َوفَضّلْنَا ُهمْ عَلَى
{ { } 70وََلقَدْ كَ ّرمْنَا بَنِي آدَ َم وَ َ
كَثِيرٍ ِممّنْ خََلقْنَا َت ْفضِيلًا }
وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي ل يقادر قدره حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الكرام،
فكرمهم بالعلم والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ،وجعل منهم الولياء والصفياء وأنعم عليهم
بالنعم الظاهرة والباطنة.
حمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ } على الركاب من البل والبغال والحمير والمراكب البرية { .وَ } في
{ َو َ
{ الْبَحْرِ } في السفن والمراكب { وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } من المآكل والمشارب والملبس
والمناكح .فما من طيب تتعلق به حوائجهم إل وقد أكرمهم ال به ويسره لهم غاية التيسير.
{ َو َفضّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ِممّنْ خََلقْنَا َتفْضِيلًا } بما خصهم به من المناقب وفضلهم به من الفضائل
التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات.
أفل يقومون بشكر من أولى النعم ودفع النقم ول تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة
ربهم بل ربما استعانوا بها على معاصيه.
{ َ { } 71-72يوْمَ َندْعُوا ُكلّ أُنَاسٍ بِِإمَا ِمهِمْ َفمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِ َيمِي ِنهِ فَأُولَ ِئكَ َيقْرَءُونَ كِتَا َبهُ ْم وَلَا
عمَى وََأضَلّ سَبِيلًا }
عمَى َف ُهوَ فِي الْآخِ َرةِ أَ ْ
يُظَْلمُونَ فَتِيلًا * َومَنْ كَانَ فِي هَ ِذهِ أَ ْ
يخبر تعالى عن حال الخلق يوم القيامة ،وأنه يدعو كل أناس ،ومعهم إمامهم وهاديهم إلى الرشد،
وهم الرسل ونوابهم ،فتعرض كل أمة ،ويحضرها رسولهم الذي دعاهم ،وتعرض أعمالهم على
الكتاب الذي يدعو إليه الرسول ،هل هي موافقة له أم ل؟ فينقسمون بهذا قسمينَ { :فمَنْ أُو ِتيَ
كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ } لكونه اتبع إمامه ،الهادي إلى صراط مستقيم ،واهتدى بكتابه ،فكثرت حسناته ،وقلت
سيئاته { فَأُولَ ِئكَ َيقْرَءُونَ كِتَا َبهُمْ } قراءة سرور وبهجة ،على ما يرون فيها مما يفرحهم ويسرهم.
{ وَلَا ُيظَْلمُونَ فَتِيلًا } مما عملوه من الحسنات.
عمَى } عن الحق فلم يقبله ،ولم ينقد له ،بل اتبع الضللَ { .ف ُهوَ فِي
{ َومَنْ كَانَ فِي هَ ِذهِ } الدنيا { أَ ْ
ضلّ سَبِيلًا } فإن الجزاء من
عمَى } عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا { ،وََأ َ
الْآخِ َرةِ أَ ْ
جنس العمل ،كما تدين تدان.
وفي هذه الية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها ،هل عملت به أم ل؟
وأنهم ل يؤاخذون بشرع نبي لم يؤمروا باتباعه ،وأن ال ل يعذب أحدًا إل بعد قيام الحجة عليه
ومخالفته لها.
وأن أهل الخير ،يعطون كتبهم بأيمانهم ،ويحصل لهم من الفرح والسرور شيء عظيم ،وأن أهل
الشر بعكس ذلك ،لنهم ل يقدرون على قراءة كتبهم ،من شدة غمهم وحزنهم وثبورهم.
خذُوكَ خَلِيلًا
{ { } 73-77وَإِنْ كَادُوا لَ َيفْتِنُو َنكَ عَنِ الّذِي َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ لِ َتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْ َر ُه وَِإذًا لَاتّ َ
ضعْفَ ا ْل َممَاتِ ُثمّ لَا
ضعْفَ ا ْلحَيَا ِة َو ِ
ك ِ
* وََلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ كِ ْدتَ تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لََأ َذقْنَا َ
جدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَ َيسْ َتفِزّو َنكَ مِنَ الْأَ ْرضِ لِ ُيخْرِجُوكَ مِ ْنهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَا َفكَ إِلّا
تَ ِ
حوِيلًا }
جدُ لِسُنّتِنَا َت ْ
سلِنَا وَلَا تَ ِ
قَلِيلًا * سُنّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنْ رُ ُ
يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم وحفظه له من أعدائه الحريصين على
فتنته بكل طريق ،فقال { :وَإِنْ كَادُوا لَ َيفْتِنُو َنكَ عَنِ الّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ لِ َتفْتَ ِريَ عَلَيْنَا } أي :قد كادوا
لك أمرًا لم يدركوه ،وتحيلوا لك ،على أن تفتري على ال غير الذي أنزلنا إليك ،فتجيء بما يوافق
أهواءهم ،وتدع ما أنزل ال إليك.
ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة ،إل للحق الذي جئت به ل لذاتك ،كما قال ال تعالى
جحَدُونَ }
ك وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ
{ َقدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُمْ لَا ُيكَذّبُو َن َ
{ وَ } مع هذا فب { َلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ } على الحق ،وامتننا عليك بعدم الجابة لداعيهمَ { ،لقَدْ كِ ْدتَ
تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } من كثرة المعالجة ،ومحبتك لهدايتهم.
{ إذًا } لو ركنت إليهم بما يهوون { لذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } أي لصبناك بعذاب
مضاعف ،في الحياة الدنيا والخرة ،وذلك لكمال نعمة ال عليك ،وكمال معرفتك.
{ ُثمّ لَا َتجِدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا } ينقذك مما يحل بك من العذاب ،ولكن ال تعالى عصمك من أسباب
الشر ،ومن البشر فثبتك وهداك الصراط المستقيم ،ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه ،فله عليك أتم
نعمة وأبلغ منحة.
{ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْ َتفِزّونَكَ مِنَ الْأَ ْرضِ لِ ُيخْرِجُوكَ مِ ْنهَا } أي :من بغضهم لمقامك بين أظهرهم ،قد
كادوا أن يخرجوك من الرض ،ويجلوك منها.
ولو فعلوا ذلك ،لم يلبثوا بعدك فيها إل قليل ،حتى تحل بهم العقوبة ،كما هي سنة ال التي ل
تحول ول تبدل في جميع المم ،كل أمة كذبت رسولها وأخرجته ،عاجلها ال بالعقوبة.
ولما مكر به الذين كفروا وأخرجوه ،لم يلبثوا إل قليل ،حتى أوقع ال بهم بب " بدر " وقتل
صناديدهم ،وفض بيضتهم ،فله الحمد.
وفي هذه اليات ،دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت ال إياه ،وأنه ينبغي له أن ل يزال متملقًا
لربه ،أن يثبته على اليمان ،ساعيا في كل سبب موصل إلى ذلك لن النبي صلى ال عليه وسلم
وهو أكمل الخلق ،قال ال له { :وََلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ ِك ْدتَ تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } فكيف بغيره؟"
وفيها تذكير ال لرسوله منته عليه ،وعصمته من الشر ،فدل ذلك على أن ال يحب من عباده أن
يتفطنوا لنعامه عليهم -عند وجود أسباب الشر -بالعصمة منه ،والثبات على اليمان.
وفيها :أنه بحسب علو مرتبة العبد ،وتواتر النعم عليه من ال يعظم إثمه ،ويتضاعف جرمه ،إذا
ضعْفَ
فعل ما يلم عليه ،لن ال ذكر رسوله لو فعل -وحاشاه من ذلك -بقولهِ { :إذًا لََأ َذقْنَاكَ ِ
جدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا }
ض ْعفَ ا ْل َممَاتِ ُثمّ لَا تَ ِ
الْحَيَا ِة َو ِ
وفيها :أن ال إذا أراد إهلك أمة ،تضاعف جرمها ،وعظم وكبر ،فيحق عليها القول من ال فيوقع
بها العقاب ،كما هي سنته في المم إذا أخرجوا رسولهم.
يأمر تعالى نبيه محمدًا صلى ال عليه وسلم بإقامة الصلة تامة ،ظاهرًا وباطنًا ،في أوقاتها.
شمْسِ } أي :ميلنها إلى الفق الغربي بعد الزوال ،فيدخل في ذلك صلة الظهر وصلة
{ ِلدُلُوكِ ال ّ
العصر.
غسَقِ اللّ ْيلِ } أي :ظلمته ،فدخل في ذلك صلة المغرب وصلة العشاءَ { .وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ }
{ ِإلَى َ
أي :صلة الفجر ،وسميت قرآنا ،لمشروعية إطالة القرآن فيها أطول من غيرها ،ولفضل القراءة
فيها حيث شهدها ال ،وملئكة الليل وملئكة والنهار.
ففي هذه الية ،ذكر الوقات الخمسة ،للصلوات المكتوبات ،وأن الصلوات الموقعة فيه فرائض
لتخصيصها بالمر.
وفيها :أن الوقت شرط لصحة الصلة ،وأنه سبب لوجوبها ،لن ال أمر بإقامتها لهذه الوقات.
وأن الظهر والعصر يجمعان ،والمغرب والعشاء كذلك ،للعذر ،لن ال جمع وقتهما جميعًا.
وفيه :فضيلة صلة الفجر ،وفضيلة إطالة القراءة فيها ،وأن القراءة فيها ،ركن لن العبادة إذا
سميت ببعض أجزائها ،دل على فرضية ذلك.
وقولهَ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ ِبهِ } أي :صل به في سائر أوقاته { .نَافَِلةً َلكَ } أي :لتكون صلة الليل
زيادة لك في علو القدر ،ورفع الدرجات ،بخلف غيرك ،فإنها تكون كفارة لسيئاته.
ويحتمل أن يكون المعنى :أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين ،بخلف صلة الليل،
فإنها فرض عليك بالخصوص ،ولكرامتك على ال ،أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك ،وليكثر
ثوابك ،وتنال بذلك المقام المحمود ،وهو المقام الذي يحمده فيه الولون والخرون ،مقام الشفاعة
العظمى ،حين يتشفع الخلئق بآدم ،ثم بنوح ،ثم إبراهيم ،ثم موسى ،ثم عيسى ،وكلهم يعتذر
ويتأخر عنها ،حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ،ليرحمهم ال من هول الموقف وكربه ،فيشفع عند ربه
فيشفعه ،ويقيمه مقامًا يغبطه به الولون والخرون ،وتكون له المنة على جميع الخلق.
ج َعلْ لِي مِنْ َلدُ ْنكَ سُ ْلطَانًا َنصِيرًا } أي :حجة ظاهرة ،وبرهانًا قاطعًا على جميع ما آتيه وما
{ وَا ْ
أذره.
وهذا أعلى حالة ينزلها ال العبد ،أن تكون أحواله كلها خيرًا ومقربة له إلى ربه ،وأن يكون له
-على كل حالة من أحواله -دليلً ظاهرًا ،وذلك متضمن للعلم النافع ،والعمل الصالح ،للعلم
بالمسائل والدلئل.
طلَ كَانَ زَهُوقًا } أي :هذا وصف الباطل ،ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله
{ إِنّ الْبَا ِ
الحق فعند مجيء الحق يضمحل الباطل ،فل يبقى له حراك.
فإنه مشتمل على العلم اليقيني ،الذي تزول به كل شبهة وجهالة ،والوعظ والتذكير ،الذي يزول به
كل شهوة تخالف أمر ال ،ولشفاء البدان من آلمها وأسقامها.
وأما الرحمة ،فإن ما فيه من السباب والوسائل التي يحث عليها ،متى فعلها العبد فاز بالرحمة
والسعادة البدية ،والثواب العاجل والجل.
هذه طبيعة النسان من حيث هو ،إل من هداه ال ،فإن النسان -عند إنعام ال عليه -يفرح
بالنعم ويبطر بها ،ويعرض وينأى بجانبه عن ربه ،فل يشكره ول يذكره.
{ وَِإذَا مَسّهُ الشّرّ } كالمرض ونحوه { كَانَ يَئُوسًا } من الخير قد قطع ربه رجاءه ،وظن أن ما هو
فيه دائم أبدًا.
وأما من هداه ال فإنه -عند النعم -يخضع لربه ،ويشكر نعمته ،وعند الضراء يتضرع ،ويرجو
من ال عافيته ،وإزالة ما يقع فيه ،وبذلك يخف عليه البلء.
{ ُ { } 84قلْ ُكلّ َي ْع َملُ عَلَى شَاكِلَ ِتهِ فَرَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَنْ ُهوَ أَ ْهدَى سَبِيلًا }
أيُ { :قلْ ُكلّ } من الناس { َي ْع َملُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أي :على ما يليق به من الحوال ،إن كان من
الصفوة البرار ،لم يشاكلهم إل عملهم لرب العالمين .ومن كان من غيرهم من المخذولين ،لم
يناسبهم إل العمل للمخلوقين ،ولم يوافقهم إل ما وافق أغراضهم.
{ فَرَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبمَنْ ُهوَ أَهْدَى سَبِيلًا } فيعلم من يصلح للهداية ،فيهديه ومن ل يصلح لها فيخذله ول
يهديه.
{ { } 85وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي َومَا أُوتِيتُمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا }
وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل ،التي ل يقصد بها إل التعنت والتعجيز ،ويدع السؤال عن
المهم ،فيسألون عن الروح التي هي من المور الخفية ،التي ل يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد،
وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.
ولهذا أمر ال رسوله أن يجيب سؤالهم بقولهُ { :قلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي } أي :من جملة
مخلوقاته ،التي أمرها أن تكون فكانت ،فليس في السؤال عنها كبير فائدة ،مع عدم علمكم بغيرها.
وفي هذه الية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر ،الولى بالسائل غيره أن يعرض عن
جوابه ،ويدله على ما يحتاج إليه ،ويرشده إلى ما ينفعه.
حمَةً مِنْ
{ { } 86-87وَلَئِنْ شِئْنَا لَ َنذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ ُثمّ لَا َتجِدُ َلكَ ِبهِ عَلَيْنَا َوكِيلًا *إِلّا َر ْ
رَ ّبكَ إِنّ َفضْلَهُ كَانَ عَلَ ْيكَ كَبِيرًا }
يخبر تعالى أن القرآن والوحي الذي أوحاه إلى رسوله ،رحمة منه عليه وعلى عباده ،وهو أكبر
النعم على الطلق على رسوله ،فإن فضل ال عليه كبير ،ل يقادر قدره.
فالذي تفضل به عليك ،قادر على أن يذهب به ،ثم ل تجد رادًا يرده ،ول وكيل بتوجه عند ال
فيه.
فلتغتبط به ،وتقر به عينك ،ول يحزنك تكذيب المكذبين ،واستهزاء الضالين ،فإنهم عرضت عليهم
أجل النعم ،فردوها لهوانهم على ال وخذلنه لهم.
علَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ َهذَا ا ْلقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ ِبمِثِْل ِه وََلوْ كَانَ
س وَالْجِنّ َ
{ ُ { } 88قلْ لَئِنِ اجْ َت َم َعتِ الْإِنْ ُ
ظهِيرًا }
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
َب ْع ُ
وهذا دليل قاطع ،وبرهان ساطع ،على صحة ما جاء به الرسول وصدقه ،حيث تحدى ال النس
والجن أن يأتوا بمثله ،وأخبر أنهم ل يأتون بمثله ،ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.
ووقع كما أخبر ال ،فإن دواعي أعدائه المكذبين به ،متوفرة على رد ما جاء به بأي :وجه كان،
وهم أهل اللسان والفصاحة ،فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه.
فعلم بذلك ،أنهم أذعنوا غاية الذعان ،طوعًا وكرهًا ،وعجزوا عن معارضته.
وكيف يقدر المخلوق من تراب ،الناقص من جميع الوجوه ،الذي ليس له علم ول قدرة ول إرادة
ول مشيئة ول كلم ول كمال إل من ربه ،أن يعارض كلم رب الرض والسماوات ،المطلع
على سائر الخفيات ،الذي له الكمال المطلق ،والحمد المطلق ،والمجد العظيم ،الذي لو أن البحر
يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا ،والشجار كلها أقلم ،لنفذ المداد ،وفنيت القلم ،ولم تنفد كلمات
ال.
فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلً ل في أوصافه فكلمه من أوصافه ،التي ل يماثله فيها
أحد ،فليس كمثله شيء ،في ذاته ،وأسمائه ،وصفاته ،وأفعاله تبارك وتعالى.
فتبًا لمن اشتبه عليه كلم الخالق بكلم المخلوق ،وزعم أن محمدًا صلى ال عليه وسلم افتراه على
ال واختلقه من نفسه.
{ { } 89-96وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَى َأكْثَرُ النّاسِ إِلّا ُكفُورًا * َوقَالُوا
لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّرَ الْأَ ْنهَارَ
سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا * َأوْ َيكُونَ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِ َ
سمَاءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
خِلَاَلهَا َتفْجِيرًا * َأوْ تُ ْ
سمَا ِء وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْ َرؤُهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ
َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ زُخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ
رَبّي َهلْ كُ ْنتُ إِلّا بَشَرًا رَسُولًا * َومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَاءَ ُهمُ ا ْلهُدَى ِإلّا أَنْ قَالُوا أَ َب َعثَ اللّهُ
سمَاءِ مََلكًا َرسُولًا
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِمْ مِنَ ال ّ
بَشَرًا َرسُولًا * ُقلْ َلوْ كَانَ فِي الْأَ ْرضِ مَلَا ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا }
* ُقلْ كَفَى بِاللّهِ َ
يقول تعالى { :وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ } أي :نوعنا فيه المواعظ والمثال،
وثنينا فيه المعاني التي يضطر إليها العباد ،لجل أن يتذكروا ويتقوا ،فلم يتذكر إل القليل منهم،
الذين سبقت لهم من ال سابقة السعادة ،وأعانهم ال بتوفيقه ،وأما أكثر الناس فأبوا إل كفورًا لهذه
النعمة التي هي أكبر من جميع النعم ،وجعلوا يتعنتون عليه [باقتراح] آيات غير آياته،
يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة.
فيقولون لرسول ال صلى ال عليه وسلم الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية:
{ لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا } أي :أنهارًا جارية.
{ َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ وَعِ َنبٍ } فتستغنى بها عن المشي في السواق والذهاب والمجيء.
سفًا } أي :قطعًا من العذابَ { ،أوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا }
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِك َ
سمَاءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
{ َأوْ ُت ْ
أي :جميعًا ،أو مقابلة ومعاينة ،يشهدون لك بما جئت به.
سمَاءِ } رقيًا
{ َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ زُخْ ُرفٍ } أي :مزخرف بالذهب وغيره { َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ
حسيًا { ،و } ومع هذا فب { وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْرَ ُؤهُ }
ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات؛ وكلم أسفه الناس وأظلمهم ،المتضمنة لرد الحق وسوء الدب
مع ال ،وأن الرسول صلى ال عليه وسلم هو الذي يأتي باليات ،أمره ال أن ينزهه فقالُ { :قلْ
سُ ْبحَانَ رَبّي } عما تقولون علوًا كبيرًا ،وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لهوائهم الفاسدة،
وآرائهم الضالةَ { .هلْ كُ ْنتُ إِلّا َبشَرًا رَسُولًا } ليس بيده شيء من المر.
وهذا السبب الذي منع أكثر الناس من اليمان ،حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم
بشرًا.
وهذا من رحمته بهم ،أن أرسل إليهم بشرًا منهم ،فإنهم ل يطيقون التلقي من الملئكة.
شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا } فمن شهادته لرسوله ما أيده به
{ ُقلْ َكفَى بِاللّهِ َ
من المعجزات ،وما أنزل عليه من اليات ،ونصره على من عاداه وناوأه.
فلو تقول عليه بعض القاويل ،لخذ منه باليمين ،ثم لقطع منه الوتين ،فإنه خبير بصير ،ل تخفى
عليه من أحوال العباد خافية.
{ َ { } 100 - 97ومَنْ َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْ َتدِي َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ َتجِدَ َلهُمْ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُ ُهمْ
سعِيرًا * ذَِلكَ
جهَنّمُ كُّلمَا خَ َبتْ زِدْنَا ُهمْ َ
صمّا مَ ْأوَاهُمْ َ
عمْيًا وَ ُب ْكمًا َو ُ
َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَى وُجُو ِههِمْ ُ
جدِيدًا * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ
جَزَاؤُ ُهمْ بِأَ ّنهُمْ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا َوقَالُوا أَ ِئذَا كُنّا عِظَامًا وَ ُرفَاتًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَ ْلقًا َ
ج َعلَ َلهُمْ أَجَلًا لَا رَ ْيبَ فِيهِ فَأَبَى
علَى أَنْ يَخُْلقَ مِثَْلهُ ْم وَ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ قَادِرٌ َ
اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
ق َوكَانَ
سكْتُمْ خَشْ َيةَ الْإِ ْنفَا ِ
حمَةِ رَبّي ِإذًا لََأمْ َ
الظّاِلمُونَ إِلّا ُكفُورًا * ُقلْ َلوْ أَنْتُمْ َتمِْلكُونَ خَزَائِنَ رَ ْ
الْإِنْسَانُ قَتُورًا }
يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والضلل ،فمن يهده ،فييسره لليسرى ويجنبه العسرى ،فهو
المهتدي على الحقيقة ،ومن يضلله ،فيخذله ،ويكله إلى نفسه ،فل هادي له من دون ال ،وليس له
ولي ينصره من عذاب ال ،حين يحشرهم ال على وجوههم خزيًا عميًا وبكمًا ،ل يبصرون ول
ينطقون.
جهَنّمُ } التي جمعت كل هم وغم وعذاب.
{ مَ ْأوَا ُهمْ } أي :مقرهم ودارهم { َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } وهي أكبر من خلق الناس { .قَادِرٌ عَلَى أَنْ
{ َأوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
يَخُْلقَ مِثَْلهُمْ } بلى ،إنه على ذلك قدير.
جلًا لَا رَ ْيبَ فِيهِ } ول شك ،وإل فلو شاء لجاءهم به بغتة ،ومع
جعَل } َ لذلك { أَ َ
{ و } لكنه قد { َو َ
إقامته الحجج والدلة على البعث.
{ { } 104 - 101وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسَْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَا َءهُمْ َفقَالَ لَهُ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ
عوْنُ إِنّي لََأظُ ّنكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا َربّ ال ّ
فِرْ َ
جمِيعًا
عوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ َيسْ َتفِزّهُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ فَأَغْ َرقْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ َ
َبصَائِرَ وَإِنّي لََأظُ ّنكَ يَا فِرْ َ
سكُنُوا الْأَ ْرضَ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الْآخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفًا }
* َوقُلْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
أي :لست أيها الرسول المؤيد باليات ،أول رسول كذبه الناس ،فلقد أرسلنا قبلك موسى ابن
عمران الكليم ،إلى فرعون وقومه ،وآتيناه { ِتسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } كل واحدة منها تكفي لمن قصده
اتباع الحق ،كالحية ،والعصا ،والطوفان ،والجراد ،والقمل ،والضفادع ،والدم ،والرجز ،وفلق
البحر.
عوْنُ مَثْبُورًا } أي :ممقوتًا ،ملقى في العذاب ،لك الويل والذم واللعنة.
{ وَإِنّي لَأَظُ ّنكَ يَا فِرْ َ
{ فَأَرَادَ } فرعون { أَنْ يَسْ َتفِزّهُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ } أن :يجليهم ويخرجهم منها { .فَأَغْ َرقْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ
جمِيعًا } وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم.
َ
سكُنُوا الْأَ ْرضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفًا }
ولهذا قالَ { :وقُلْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ
أي :جميعًا ليجازى كل عامل بعمله.
أي :وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم ،لمر العباد ونهيهم ،وثوابهم وعقابهم { ،وَبِا ْلحَقّ نَ َزلَ } أي:
سلْنَاكَ إِلّا مُبَشّرًا } من أطاع ال بالثواب
بالصدق والعدل والحفظ من كل شيطان رجيم { َومَا أَرْ َ
العاجل والجل { وَنَذِيرًا } لمن عصى ال بالعقاب العاجل والجل ،ويلزم من ذلك بيان ما بشر به
وأنذر.
{ َ { } 106-109وقُرْآنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ عَلَى ُم ْكثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * ُقلْ آمِنُوا بِهِ َأوْ لَا
سجّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا
ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ مِنْ قَبِْلهِ إِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ ِللْأَ ْذقَانِ ُ
خشُوعًا }
ن وَيَزِيدُ ُهمْ ُ
ن وَعْدُ رَبّنَا َل َم ْفعُولًا * وَيَخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ يَ ْبكُو َ
إِنْ كَا َ
أي :وأنزلنا هذا القرآن مفرقًا ،فارقًا بين الهدى والضلل ،والحق والباطل { .لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ
عَلَى ُمكْثٍ } أي :على مهل ،ليتدبروه ويتفكروا في معانيه ،ويستخرجوا علومه.
{ ول يأتونك بمثل إل جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } فإذا تبين أنه الحق ،الذي ل شك فيه ول
ريب ،بوجه من الوجوه فبُ { :قلْ } لمن كذب به وأعرض عنه { :آمِنُوا بِهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا } فليس
ل حاجة فيكم ،ولستم بضاريه شيئًا ،وإنما ضرر ذلك عليكم ،فإن ل عبادًا غيركم ،وهم الذين
سجّدًا } أي :يتأثرون به غاية التأثر،
علَ ْيهِمْ يَخِرّونَ لِلَْأ ْذقَانِ ُ
آتاهم ال العلم النافع { :إِذَا يُتْلَى َ
ويخضعون له.
ن وَعْدُ رَبّنَا }
{ وَ َيقُولُونَ سُ ْبحَانَ رَبّنَا } عما ل يليق بجلله ،مما نسبه إليه المشركون { .إِنْ كَا َ
بالبعث والجزاء بالعمال { َل َم ْفعُولًا } ل خلف فيه ول شك.
{ وَ َيخِرّونَ ِللْأَ ْذقَانِ } أي :على وجوههم { يَ ْبكُونَ وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعًا }
وهؤلء كالذين من ال عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد ال ابن سلم وغيره ،ممن أمن في
وقت النبي صلى ال عليه وسلم وبعد ذلك.
جهَرْ
حسْنَى وَلَا َت ْ
سمَاءُ الْ ُ
حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فََلهُ الْأَ ْ
{ ُ { } 110-111قلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا الرّ ْ
خ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ
ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي َلمْ يَتّ ِ
ِبصَلَا ِتكَ وَلَا ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ َذِلكَ سَبِيلًا * َو ُقلِ الْ َ
ل َوكَبّ ْرهُ َتكْبِيرًا }
فِي ا ْلمُ ْلكِ وََلمْ َيكُنْ لَ ُه وَِليّ مِنَ ال ّذ ّ
سمَاءُ
حمَنَ } أي :أيهما شئتم { .أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَ ْ
بقول تعالى لعباده { :ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا الرّ ْ
حسْنَى } أي :ليس له اسم غير حسن ،أي :حتى ينهى عن دعائه به ،أي :اسم دعوتموه به،
الْ ُ
حصل به المقصود ،والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب ،مما يناسب ذلك السم.
جهَرْ ِبصَلَا ِتكَ } أي :قراءتك { وَلَا ُتخَا ِفتْ ِبهَا } فإن في كل من المرين محذورًا .أما
{ وَلَا َت ْ
الجهر ،فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه ،وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة ،فإنه ل يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الخفاء { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَِلكَ } أي :بين
الجهر والخفات { سَبِيلًا } أي :تتوسط فيما بينهما.
ح ْمدُ لِلّهِ } له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه ،المنزه عن كل آفة ونقص.
{ َو ُقلِ الْ َ
خ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْلكِ } بل الملك كله ل الواحد القهار ،فالعالم العلوي
{ الّذِي لَمْ يَتّ ِ
والسفلي ،كلهم مملوكون ل ،ليس لحد من الملك شيء.
{ وََلمْ َيكُنْ لَ ُه وَِليّ مِنَ ال ّذلّ } أي :ل يتولى أحدًا من خلقه ليتعزز به ويعاونه ،فإنه الغني الحميد،
الذي ل يحتاج إلى أحد من المخلوقات ،في الرض ول في السماوات ،ولكنه يتخذ أولياء إحسانًا
منه إليهم ورحمة بهم { ال ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }
{ َوكَبّ ْرهُ َتكْبِيرًا } أي :عظمه وأجله بالخبار بأوصافه العظيمة ،وبالثناء عليه ،بأسمائه الحسنى،
وبتجميده بأفعاله المقدسة ،وبتعظيمه وإجلله بعبادته وحده ل شريك له ،وإخلص الدين كله له.
تم تفسير سورة السراء ول الحمد والمنة والثناء الحسن على يد جامعه عبد الرحمن بن ناصر
بن عبد ال بن سعدي غفر ال له ولوالديه ولجميع المسلمين أمين وصلى ال على محمد وسلم
تسليمًا وذلك في 7جمادى الولى سنة .1344
المجلد الخامس من تيسير الكريم الرحمن من تفسير كلم المنان لجامعه الفقير إلى ال عبد
الرحمن بن ناصر السعدي.
عوَجَا *
ج َعلْ َلهُ ِ
ب وَلَمْ َي ْ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَى عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَا َ
حمَنِ الرّحِيمِ الْ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-6بِ ْ
شدِيدًا مِنْ َلدُنْ ُه وَيُبَشّرَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَجْرًا حَسَنًا *
قَ ّيمًا لِيُنْذِرَ بَ ْأسًا َ
خذَ اللّ ُه وَلَدًا *مَا َلهُمْ بِهِ مِنْ عِ ْل ٍم وَلَا لِآبَا ِئهِمْ كَبُ َرتْ كَِلمَةً
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّ َ
حدِيثِ
سكَ عَلَى آثَارِ ِهمْ إِنْ َلمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهَذَا الْ َ
خعٌ َنفْ َ
تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ إِنْ َيقُولُونَ إِلّا َكذِبًا * فََلعَّلكَ بَا ِ
سفًا }
أَ َ
الحمد ل هو الثناء عليه بصفاته ،التي هي كلها صفات كمال ،وبنعمه الظاهرة والباطنة ،الدينية
والدنيوية ،وأجل نعمه على الطلق ،إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله ،محمد صلى ال
عليه وسلم فحمد نفسه ،وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم ،وإنزال
الكتاب عليهم ،ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين ،على أنه الكامل من جميع الوجوه ،وهما
نفي العوج عنه ،وإثبات أنه قيم مستقيم ،فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب ،ول في
أوامره ونواهيه ظلم ول عبث ،وإثبات الستقامة ،يقتضي أنه ل يخبر ول يأمر إل بأجل
الخبارات وهي الخبار ،التي تمل القلوب معرفة وإيمانا وعقل ،كالخبار بأسماء ال وصفاته
وأفعاله ،ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة ،وأن أوامره ونواهيه ،تزكي النفوس ،وتطهرها وتنميها
وتكملها ،لشتمالها على كمال العدل والقسط ،والخلص ،والعبودية ل رب العالمين وحده ل
شريك له .وحقيق بكتاب موصوف .بما ذكر ،أن يحمد ال نفسه على إنزاله ،وأن يتمدح إلى عباده
به.
شدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي :لينذر بهذا القرآن الكريم ،عقابه الذي عنده ،أي :قدره
وقوله { لِيُنْذِرَ بَأْسًا َ
وقضاه ،على من خالف أمره ،وهذا يشمل عقاب الدنيا وعقاب الخرة ،وهذا أيضا ،من نعمه أن
خوف عباده ،وأنذرهم ما يضرهم ويهلكهم.
كما قال تعالى -لما ذكر في هذا القرآن وصف النار -قال { :ذلك يخوف ال به عباده يا عباد
فاتقون } فمن رحمته بعباده ،أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره ،وبينها لهم ،وبين
لهم السباب الموصلة إليها.
{ وَيُبَشّرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي :وأنزل ال على عبده الكتاب،
ليبشر المؤمنين به ،وبرسله وكتبه ،الذين كمل إيمانهم ،فأوجب لهم عمل الصالحات ،وهي:
حسَنًا }
العمال الصالحة ،من واجب ومستحب ،التي جمعت الخلص والمتابعة { ،أَنّ َلهُمْ َأجْرًا َ
وهو الثواب الذي رتبه ال على اليمان والعمل الصالح ،وأعظمه وأجله ،الفوز برضا ال ودخول
الجنة ،التي فيها ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر .وفي وصفه بالحسن،
دللة على أنه ل مكدر فيه ول منغص بوجه من الوجوه ،إذ لو وجد فيه شيء من ذلك لم يكن
حسنه تاما.
ومع ذلك فهذا الجر الحسن { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } ل يزول عنهم ،ول يزولون عنه ،بل نعيمهم في
كل وقت متزايد ،وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر العمال الموجبة للمبشر به ،وهو أن هذا
القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح ،موصل لما تستبشر به النفوس ،وتفرح به الرواح.
{ وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا } من اليهود والنصارى ،والمشركين ،الذين قالوا هذه المقالة
الشنيعة ،فإنهم لم يقولوها عن علم و[ل] يقين ،ل علم منهم ،ول علم من آبائهم الذين قلدوهم
واتبعوهم ،بل إن يتبعون إل الظن وما تهوى النفس { كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ } أي:
عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها ،وأي شناعة أعظم من وصفه بالتخاذ للولد الذي يقتضي
نقصه ،ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية واللهية ،والكذب عليه؟" { َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى
عَلَى اللّهِ َكذِبًا } ولهذا قال هنا { :إِنْ َيقُولُونَ إِلّا كَذِبًا } أي :كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء،
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج ،والنتقال من شيء إلى أبطل منه ،فأخبر أول :أنه { مَا َل ُهمْ
بِهِ مِنْ عِ ْل ٍم وَلَا لِآبَا ِئهِمْ } والقول على ال بل علم ،ل شك في منعه وبطلنه ،ثم أخبر ثانيا ،أنه
قول قبيح شنيع فقال { :كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح ،وهو:
الكذب المنافي للصدق.
ولما كان النبي صلى ال عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ،ساعيا في ذلك أعظم السعي ،فكان
صلى ال عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين ،ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين ،شفقة
منه صلى ال عليه وسلم عليهم ،ورحمة بهم ،أرشده ال أن ل يشغل نفسه بالسف على هؤلء،
الذين ل يؤمنون بهذا القرآن ،كما قال في الية الخرى { :لعلك باخع نفسك أن ل يكونوا مؤمنين
سكَ } أي :مهلكها ،غما
خعٌ َنفْ َ
} وقال { فل تذهب نفسك عليهم حسرات } وهنا قال { فََلعَّلكَ بَا ِ
وأسفا عليهم ،وذلك أن أجرك قد وجب على ال ،وهؤلء لو علم ال فيهم خيرا لهداهم ،ولكنه علم
أنهم ل يصلحون إل للنار ،فلذلك خذلهم ،فلم يهتدوا ،فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم ،ليس فيه
فائدة لك .وفي هذه الية ونحوها عبرة ،فإن المأمور بدعاء الخلق إلى ال ،عليه التبليغ والسعي
بكل سبب يوصل إلى الهداية ،وسد طرق الضلل والغواية بغاية ما يمكنه ،مع التوكل على ال
في ذلك ،فإن اهتدوا فبها ونعمت ،وإل فل يحزن ول يأسف ،فإن ذلك مضعف للنفس ،هادم
للقوى ،ليس فيه فائدة ،بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه ،وما عدا ذلك ،فهو خارج
عن قدرته ،وإذا كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول ال له { :إنك ل تهدي من أحببت } وموسى
عليه السلم يقول { :رب إني ل أملك إل نفسي وأخي } الية ،فمن عداهم من باب أولى وأحرى،
قال تعالى { :فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر }
يخبر تعالى :أنه جعل جميع ما على وجه الرض ،من مآكل لذيذة ،ومشارب ،ومساكن طيبة،
وأشجار ،وأنهار ،وزروع ،وثمار ،ومناظر بهيجة ،ورياض أنيقة ،وأصوات شجية ،وصور
مليحة ،وذهب وفضة ،وخيل وإبل ونحوها ،الجميع جعله ال زينة لهذه الدار ،فتنة واختبارا.
عمَلًا } أي :أخلصه وأصوبه ،ومع ذلك سيجعل ال جميع هذه المذكورات،
{ لِنَ ْبُلوَهُمْ أَ ّيهُمْ أَحْسَنُ َ
فانية مضمحلة ،وزائلة منقضية.
وستعود الرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها ،وانقطعت أنهارها ،واندرست أثارها ،وزال
نعيمها ،هذه حقيقة الدنيا ،قد جلها ال لنا كأنها رأي عين ،وحذرنا من الغترار بها ،ورغبنا في
دار يدوم نعيمها ،ويسعد مقيمها ،كل ذلك رحمة بنا ،فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها ،من نظر إلى
ظاهر الدنيا ،دون باطنها ،فصحبوا الدنيا صحبة البهائم ،وتمتعوا بها تمتع السوائم ،ل ينظرون في
حق ربهم ،ول يهتمون لمعرفته ،بل همهم تناول الشهوات ،من أي وجه حصلت ،وعلى أي حالة
اتفقت ،فهؤلء إذا حضر أحدهم الموت ،قلق لخراب ذاته ،وفوات لذاته ،ل لما قدمت يداه من
التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا ،وعلم المقصود منها ومنه ،فإنه يتناول منها ،ما يستعين به على ما
خلق له ،وانتهز الفرصة في عمره الشريف ،فجعل الدنيا منزل عبور ،ل محل حبور ،وشقة سفر،
ل منزل إقامة ،فبذل جهده في معرفة ربه ،وتنفيذ أوامره ،وإحسان العمل ،فهذا بأحسن المنازل
عند ال ،وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم ،وسرور وتكريم ،فنظر إلى باطن الدنيا ،حين نظر
المغتر إلى ظاهرها ،وعمل لخرته ،حين عمل البطال لدنياه ،فشتان ما بين الفريقين ،وما أبعد
الفرق بين الطائفتين"
{ { } 9-12أَمْ حَسِ ْبتَ أَنّ َأصْحَابَ ا ْل َك ْهفِ وَال ّرقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ َأوَى ا ْلفِتْيَةُ إِلَى
شدًا * َفضَرَبْنَا عَلَى آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ
ح َم ًة وَهَ ّيئْ لَنَا مِنْ َأمْرِنَا رَ َ
ا ْل َك ْهفِ َفقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ لَدُ ْنكَ رَ ْ
حصَى ِلمَا لَبِثُوا َأ َمدًا }
عدَدًا * ُثمّ َبعَثْنَا ُهمْ لِ َنعْلَمَ َأيّ الْحِزْبَيْنِ َأ ْ
سِنِينَ َ
وهذا الستفهام بمعنى النفي ،والنهي .أي :ل تظن أن قصة أصحاب الكهف ،وما جرى لهم،
غريبة على آيات ال ،وبديعة في حكمته ،وأنه ل نظير لها ،ول مجانس لها ،بل ل تعالى من
اليات العجيبة الغريبة ما هو كثير ،من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها ،فلم يزل ال
يري عباده من اليات في الفاق وفي أنفسهم ،ما يتبين به الحق من الباطل ،والهدى من الضلل،
وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب ،بل هي من آيات ال
العجيبة ،وإنما المراد ،أن جنسها كثير جدا ،فالوقوف معها وحدها ،في مقام العجب والستغراب،
نقص في العلم والعقل ،بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات ال ،التي دعا ال العباد إلى التفكير
فيها ،فإنها مفتاح اليمان ،وطريق العلم واليقان .وأضافهم إلى الكهف ،الذي هو الغار في الجبل،
الرقيم ،أي :الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم ،لملزمتهم له دهرا طويل.
ثم ذكر قصتهم مجملة ،وفصلها بعد ذلك فقالِ { :إذْ َأوَى ا ْلفِتْيَةُ } أي :الشباب { ،إِلَى ا ْل َك ْهفِ }
حمَةً } أي تثبتنا
يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهمَ { ،فقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ َلدُ ْنكَ رَ ْ
شدًا } أي :يسر لنا كل سبب موصل
بها وتحفظنا من الشر ،وتوفقنا للخير { وَهَ ّيئْ لَنَا مِنْ َأمْرِنَا رَ َ
إلى الرشد ،وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا ،فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة ،إلى محل يمكن
الستخفاء فيه ،وبين تضرعهم وسؤالهم ل تيسير أمورهم ،وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى
الخلق ،فلذلك استجاب ال دعاءهم ،وقيض لهم ما لم يكن في حسابهم ،قالَ { :فضَرَبْنَا عَلَى آذَا ِنهِمْ
عدَدًا } وهي ثلث مائة سنة وتسع سنين ،وفي النوم المذكور
فِي ا ْل َكهْفِ } أي أنمناهم { سِنِينَ َ
حفظ لقلوبهم من الضطراب والخوف ،وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.
حقّ إِ ّنهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَ ّبهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَ َبطْنَا عَلَى
{ { } 13-14نَحْنُ َنقُصّ عَلَ ْيكَ نَبَأَ ُهمْ بِالْ َ
ططًا }
عوَ مِنْ دُونِهِ إَِلهًا َلقَدْ قُلْنَا إِذًا شَ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَنْ َندْ ُ
قُلُو ِبهِمْ إِذْ قَامُوا َفقَالُوا رَبّنَا َربّ ال ّ
هذا شروع في تفصيل قصتهم ،وأن ال يقصها على نبيه بالحق والصدق ،الذي ما فيه شك ول
شبهة بوجه من الوجوه { ،إِ ّن ُهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَ ّب ِهمْ } وهذا من جموع القلة ،يدل ذلك على أنهم دون
العشرة { ،آمَنُوا } بال وحده ل شريك له من دون قومهم ،فشكر ال لهم إيمانهم ،فزادهم هدى،
أي :بسبب أصل اهتدائهم إلى اليمان ،زادهم ال من الهدى ،الذي هو العلم النافع ،والعمل
الصالح ،كما قال تعالى { :ويزيد ال الذين اهتدوا هدى }
{ وَرَ َبطْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ } أي صبرناهم وثبتناهم ،وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة،
وهذا من لطفه تعالى بهم وبره ،أن وفقهم لليمان والهدى ،والصبر والثبات ،والطمأنينة.
ت وَالْأَ ْرضِ } أي :الذي خلقنا ورزقنا ،ودبرنا وربانا ،هو خالق
سمَاوَا ِ
{ ِإذْ قَامُوا َفقَالُوا رَبّنَا َربّ ال ّ
السماوات والرض ،المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة ،ل تلك الوثان والصنام ،التي ل
تخلق ول ترزق ،ول تملك نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول نشورا ،فاستدلوا بتوحيد
عوَ مِنْ دُونِهِ إَِلهًا } أي :من سائر المخلوقات
الربوبية على توحيد اللهية ،ولهذا قالوا { :لَنْ نَدْ ُ
{ َلقَدْ قُلْنَا إِذًا } أي :إن دعونا معه آلهة ،بعد ما علمنا أنه الرب الله الذي ل تجوز ول تنبغي
شطَطًا } أي :ميل عظيما عن الحق ،وطريقا بعيدة عن الصواب ،فجمعوا بين
العبادة ،إل له { َ
القرار بتوحيد الربوبية ،وتوحيد اللهية ،والتزام ذلك ،وبيان أنه الحق وما سواه باطل ،وهذا دليل
على كمال معرفتهم بربهم ،وزيادة الهدى من ال لهم.
لما ذكروا ما من ال به عليهم من اليمان والهدى ،والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم ،من اتخاذ
اللهة من دون ال ،فمقتوهم ،وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم ،بل في غاية الجهل
والضلل فقالواَ { :لوْلَا يَأْتُونَ عَلَ ْيهِمْ ِبسُلْطَانٍ بَيّنٍ } أي :بحجة وبرهان ،على ما هم عليه من
الباطل ،ول يستطيعون سبيل إلى ذلك ،وإنما ذلك افتراء منهم على ال وكذب عليه ،وهذا أعظم
الظلم ،ولهذا قالَ { :فمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا }
أي :قال بعضهم لبعض ،إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم ،فلم يبق إل النجاء من
شرهم ،والتسبب بالسباب المفضية لذلك ،لنهم ل سبيل لهم إلى قتالهم ،ول بقائهم بين أظهرهم،
وهم على غير دينهم { ،فَ ْأوُوا إِلَى ا ْل َك ْهفِ } أي :انضموا إليه واختفوا فيه { يَنْشُرْ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ مِنْ
حمَتِهِ وَ ُيهَيّئْ َلكُمْ مِنْ َأمْ ِركُمْ مِرفَقًا } وفيما تقدم ،أخبر أنهم دعوه بقولهم { ربنا آتنا من لدنك
رَ ْ
رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا } فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم ،واللتجاء إلى ال في
صلح أمرهم ،ودعائه بذلك ،وبين الثقة بال أنه سيفعل ذلك ،ل جرم أن ال نشر لهم من رحمته،
وهيأ لهم من أمرهم مرفقا ،فحفظ أديانهم وأبدانهم ،وجعلهم من آياته على خلقه ،ونشر لهم من
الثناء الحسن ،ما هو من رحمته بهم ،ويسر لهم كل سبب ،حتى المحل الذي ناموا فيه ،كان على
غاية ما يمكن من الصيانة ،ولهذا قال:
ضهُمْ ذَاتَ
ن وَِإذَا غَرَ َبتْ َتقْرِ ُ
طَل َعتْ تَزَاوَرُ عَنْ َك ْه ِفهِمْ ذَاتَ الْ َيمِي ِ
شمْسَ ِإذَا َ
{ { } 17-18وَتَرَى ال ّ
جدَ لَ ُه وَلِيّا
ج َوةٍ مِنْهُ ذَِلكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ مَنْ َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَ ِد َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ تَ ِ
ل وَهُمْ فِي فَ ْ
شمَا ِ
ال ّ
سطٌ ذِرَاعَ ْيهِ
ل َوكَلْ ُبهُمْ بَا ِ
شمَا ِ
ن وَذَاتَ ال ّ
مُرْشِدًا * وَتَحْسَ ُبهُمْ أَ ْيقَاظًا وَهُمْ ُرقُودٌ وَنُقَلّ ُبهُمْ ذَاتَ الْ َيمِي ِ
بِا ْل َوصِيدِ َلوِ اطَّل ْعتَ عَلَ ْيهِمْ َلوَلّ ْيتَ مِ ْنهُمْ فِرَارًا وََلمُلِ ْئتَ مِ ْنهُمْ رُعْبًا }
أي :حفظهم ال من الشمس فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس تميل عنه يمينا ،وعند غروبها تميل
ج َوةٍ مِنْهُ } أي :من الكهف أي :مكان
عنه شمال ،فل ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها { ،وَ ُهمْ فِي فَ ْ
متسع ،وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم ،ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيق ،خصوصا مع
طول المكث ،وذلك من آيات ال الدالة على قدرته ورحمته بهم ،وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في
هذه المور ،ولهذا قال { :مَنْ َي ْهدِ اللّهُ َفهُوَ ا ْل ُمهْتَدِ } أي :ل سبيل إلى نيل الهداية إل من ال ،فهو
جدَ لَهُ وَلِيّا مُ ْرشِدًا } أي :ل تجد من يتوله
الهادي المرشد لمصالح الدارينَ { ،ومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ تَ ِ
ويدبره ،على ما فيه صلحه ،ول يرشده إلى الخير والفلح ،لن ال قد حكم عليه بالضلل ،ول
راد لحكمه.
{ وَ َتحْسَ ُبهُمْ أَ ْيقَاظًا وَهُمْ ُرقُودٌ } أي :تحسبهم أيها الناظر إليهم [كأنهم] أيقاظ ،والحال أنهم نيام ،قال
المفسرون :وذلك لن أعينهم منفتحة ،لئل تفسد ،فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا ،وهم رقود،
شمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لبدانهم ،لن الرض من طبيعتها،
{ وَ ُنقَلّ ُبهُمْ ذَاتَ الْ َيمِينِ وَذَاتَ ال ّ
أكل الجسام المتصلة بها ،فكان من قدر ال ،أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمال ،بقدر ما ل تفسد
الرض أجسامهم ،وال تعالى قادر على حفظهم من الرض ،من غير تقليب ،ولكنه تعالى حكيم،
أراد أن تجري سنته في الكون ،ويربط السباب بمسبباتها.
{ َوكَلْ ُبهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِا ْل َوصِيدِ } أي :الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف ،أصابه ما أصابهم
من النوم وقت حراسته ،فكان باسطا ذراعيه بالوصيد ،أي :الباب ،أو فنائه ،هذا حفظهم من
الرض .وأما حفظهم من الدميين ،فأخبر أنه حماهم بالرعب ،الذي نشره ال عليهم ،فلو اطلع
عليهم أحد ،لمتل قلبه رعبا ،وولى منهم فرارا ،وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة،
وهم لم يعثر عليهم أحد ،مع قربهم من المدينة جدا ،والدليل على قربهم ،أنهم لما استيقظوا،
أرسلوا أحدهم ،يشتري لهم طعاما من المدينة ،وبقوا في انتظاره ،فدل ذلك على شدة قربهم منها.
{ َ { } 19-20وكَذَِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْ َن ُهمْ قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ َكمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ
طعَامًا فَلْيَأْ ِتكُمْ
قَالُوا رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثْتُمْ فَا ْبعَثُوا َأحَ َدكُمْ ِبوَ ِرقِكُمْ هَ ِذهِ إِلَى ا ْل َمدِينَةِ فَلْيَ ْنظُرْ أَ ّيهَا أَ ْزكَى َ
جمُوكُمْ َأوْ ُيعِيدُوكُمْ فِي مِلّ ِتهِمْ
ظهَرُوا عَلَ ْيكُمْ يَ ْر ُ
شعِرَنّ ِبكُمْ أَحَدًا * إِ ّنهُمْ إِنْ يَ ْ
ف وَلَا يُ ْ
ط ْ
بِرِزْقٍ مِ ْن ُه وَلْيَتَلَ ّ
وَلَنْ ُتفْلِحُوا إِذًا أَ َبدًا }
يقول تعالى { :وكذلك بعثناهم } أي :من نومهم الطويل { ليتساءلوا بينهم } أي :ليتباحثوا للوقوف
على الحقيقة من مدة لبثهم.
{ قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ } وهذا مبني على ظن القائل ،وكأنهم وقع
عندهم اشتباه .في طول مدتهم ،فلهذا { قَالُوا رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثْتُمْ } فردوا العلم إلى المحيط علمه
بكل شيء ،جملة وتفصيل ،ولعل ال تعالى -بعد ذلك -أطلعهم على مدة لبثهم ،لنه بعثهم
ليتساءلوا بينهم ،وأخبر أنهم تساءلوا ،وتكلموا بمبلغ ما عندهم ،وصار آخر أمرهم ،الشتباه ،فل
بد أن يكون قد أخبرهم يقينا ،علمنا ذلك من حكمته في بعثهم ،وأنه ل يفعل ذلك عبثا .ومن رحمته
بمن طلب علم الحقيقة في المور المطلوب علمها ،وسعى لذلك ما أمكنه ،فإن ال يوضح له ذلك،
عةَ لَا رَ ْيبَ
ق وَأَنّ السّا َ
حّوبما ذكر فيما بعده من قولهَ { .وكَذَِلكَ أَعْثَرْنَا عَلَ ْيهِمْ لِ َيعَْلمُوا أَنّ وَعْدَ اللّهِ َ
فِيهَا } فلول أنه حصل العلم بحالهم ،لم يكونوا دليل على ما ذكر ،ثم إنهم لما تساءلوا بينهم،
وجرى منهم ما أخبر ال به ،أرسلوا أحدهم بورقهم ،أي :بالدراهم ،التي كانت معهم ،ليشتري لهم
طعاما يأكلونه ،من المدينة التي خرجوا منها ،وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه ،أي :أطيبه
وألذه ،وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه ،وأن يختفي في ذلك ،ويخفي حال إخوانه ،ول يشعرن
بهم أحدا .وذكروا المحذور من اطلع غيرهم عليهم ،وظهورهم عليهم ،أنهم بين أمرين ،إما
الرجم بالحجارة ،فيقتلونهم أشنع قتلة ،لحنقهم عليهم وعلى دينهم ،وإما أن يفتنوهم عن دينهم،
ويردوهم في ملتم ،وفي هذه الحال ،ل يفلحون أبدا ،بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم ،وقد
دلت هاتان اليتان ،على عدة فوائد.
منها :الحث على العلم ،وعلى المباحثة فيه ،لكون ال بعثهم لجل ذلك.
ومنها :الدب فيمن اشتبه عليه العلم ،أن يرده إلى عالمه ،وأن يقف عند حده.
ومنها :الحث على التحرز ،والستخفاء ،والبعد عن مواقع الفتن في الدين ،واستعمال الكتمان في
ذلك على النسان وعلى إخوانه في الدين.
ومنها :شدة رغبة هؤلء الفتية في الدين ،وفرارهم من كل فتنة ،في دينهم وتركهم أوطانهم في
ال.
ومنها :ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد ،الداعية لبغضه ،وتركه ،وأن هذه
الطريقة ،هي طريقة المؤمنين المتقدمين ،والمتأخرين لقولهم { :وَلَنْ ُتفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا }
يخبر ال تعالى ،أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف ،وذلك -وال أعلم -بعدما استيقظوا،
وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما ،وأمروه بالستخفاء والخفاء ،فأراد ال أمرا فيه صلح للناس،
وزيادة أجر لهم ،وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات ال ،المشاهدة بالعيان ،على أن وعد ال
حق ل شك فيه ول مرية ول بعد ،بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم ،فمن مثبت للوعد والجزاء،
ومن ناف لذلك ،فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين ،وحجة على الجاحدين ،وصار لهم
أجر هذه القضية ،وشهر ال أمرهم ،ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.
و { َفقَالُوا ابْنُوا عَلَ ْي ِهمْ بُنْيَانًا } ال أعلم بحالهم ومآلهم ،وقال من غلب على أمرهم ،وهم الذين لهم
المر:
سجِدًا } أي :نعبد ال تعالى فيه ،ونتذكر به أحوالهم ،وما جرى لهم ،وهذه الحالة
{ لَنَتّخِذَنّ عَلَ ْيهِمْ مَ ْ
محظورة ،نهى عنها النبي صلى ال عليه وسلم ،وذم فاعليها ،ول يدل ذكرها هنا على عدم ذمها،
فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم ،وأن هؤلء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا:
ابنوا عليهم مسجدا ،بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم ،وحذرهم من الطلع عليهم،
فوصلت الحال إلى ما ترى.
وفي هذه القصة ،دليل على أن من فر بدينه من الفتن ،سلمه ال منها .وأن من حرص على
العافية عافاه ال ومن أوى إلى ال ،آواه ال ،وجعله هداية لغيره ،ومن تحمل الذل في سبيله
وابتغاء مرضاته ،كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث ل يحتسب { وما عند ال خير
للبرار }
ب وَ َيقُولُونَ سَ ْبعَةٌ
جمًا بِا ْلغَ ْي ِ
سهُمْ كَلْ ُب ُهمْ رَ ْ
سةٌ سَادِ ُ
خمْ َ
{ { } 22سَ َيقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَا ِب ُع ُهمْ كَلْ ُبهُ ْم وَ َيقُولُونَ َ
وَثَامِ ُنهُمْ كَلْ ُبهُمْ ُقلْ رَبّي أَعْلَمُ ِبعِدّ ِت ِهمْ مَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا قَلِيلٌ فَلَا ُتمَارِ فِي ِهمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا َتسْ َتفْتِ
فِيهِمْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا }
يخبر تعالى عن اختلف أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف ،اختلفا صادرا عن رجمهم
بالغيب ،وتقولهم بما ل يعلمون ،وأنهم فيهم على ثلثة أقوال:
منهم :من يقول :ثلثة ،رابعهم كلبهم ،ومنهم من يقول :خمسة ،سادسهم كلبهم .وهذان القولن،
ذكر ال بعدهما ،أن هذا رجم منهم بالغيب ،فدل على بطلنهما.
ومنهم من يقول :سبعة ،وثامنهم كلبهم ،وهذا -وال أعلم -الصواب ،لن ال أبطل الولين ولم
يبطله ،فدل على صحته ،وهذا من الختلف الذي ل فائدة تحته ،ول يحصل بمعرفة عددهم
مصلحة للناس ،دينية ول دنيوية ،ولهذا قال تعالى:
{ ُقلْ رَبّي أَعْلَمُ ِبعِدّ ِتهِمْ مَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا قَلِيلٌ } وهم الذين أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم { .فَلَا
ُتمَارِ } أي :تجادل وتحاج { فيهم إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي :مبنيا على العلم واليقين ،ويكون أيضا فيه
فائدة ،وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب ،أو التي ل فائدة فيها ،إما أن يكون الخصم
معاندا ،أو تكون المسألة ل أهمية فيها ،ول تحصل فائدة دينية بمعرفتها ،كعدد أصحاب الكهف
ونحو ذلك ،فإن في كثرة المناقشات فيها ،والبحوث المتسلسلة ،تضييعا للزمان ،وتأثيرا في مودة
القلوب بغير فائدة.
ت َو ُقلْ
علٌ ذَِلكَ غَدًا * إِلّا أَنْ َيشَاءَ اللّ ُه وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ إِذَا نَسِي َ
شيْءٍ إِنّي فَا ِ
{ { } 23-24وَلَا َتقُولَنّ ِل َ
شدًا }
عَسَى أَنْ َيهْدِيَنِ رَبّي لَِأقْ َربَ مِنْ َهذَا رَ َ
هذا النهي كغيره ،وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل ال عليه وسلم ،فإن الخطاب عام
للمكلفين ،فنهى ال أن يقول العبد في المور المستقبلة { ،إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه
بمشيئة ال ،وذلك لما فيه من المحذور ،وهو :الكلم على الغيب المستقبل ،الذي ل يدري ،هل
يفعله أم ل؟ وهل تكون أم ل؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلل ،وذلك محذور محظور،
لن المشيئة كلها ل { وما تشاءون إل أن يشاء ال رب العالمين } ولما في ذكر مشيئة ال ،من
تيسير المر وتسهيله ،وحصول البركة فيه ،والستعانة من العبد لربه ،ولما كان العبد بشرا ،ل بد
أن يسهو فيترك ذكر المشيئة ،أمره ال أن يستثني بعد ذلك ،إذا ذكر ،ليحصل المطلوب ،وينفع
المحذور ،ويؤخذ من عموم قوله { :وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ إِذَا َنسِيتَ } المر بذكر ال عند النسيان ،فإنه
يزيله ،ويذكر العبد ما سها عنه ،وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر ال ،أن يذكر ربه ،ول يكونن
من الغافلين ،ولما كان العبد مفتقرا إلى ال في توفيقه للصابة ،وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله،
عسَى أَنْ َيهْدِيَنِ رَبّي لَِأقْ َربَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فأمره أن يدعو ال ويرجوه،
أمره ال أن يقولَ { :
ويثق به أن يهديه لقرب الطرق الموصلة إلى الرشد .وحري بعبد ،تكون هذه حاله ،ثم يبذل
جهده ،ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد ،أن يوفق لذلك ،وأن تأتيه المعونة من ربه ،وأن
يسدده في جميع أموره.
لما نهاه ال عن استفتاء أهل الكتاب ،في شأن أهل الكهف ،لعدم علمهم بذلك ،وكان ال عالم
الغيب والشهادة ،العالم بكل شيء ،أخبره بمدة لبثهم ،وأن علم ذلك عنده وحده ،فإنه من غيب
السماوات والرض ،وغيبها مختص به ،فما أخبر به عنها على ألسنة رسله ،فهو الحق اليقين،
الذي ل يشك فيه ،وما ل يطلع رسله عليه ،فإن أحدا من الخلق ،ل يعلمه.
ح ْكمِهِ َأحَدًا } وهذا يشمل الحكم الكوني القدري ،والحكم الشرعي الديني ،فإنه
{ وَلَا ُيشْ ِركُ فِي ُ
الحاكم في خلقه ،قضاء وقدرا ،وخلقا وتدبيرا ،والحاكم فيهم ،بأمره ونهيه ،وثوابه وعقابه.
ولما أخبر أنه تعالى ،له غيب السماوات والرض ،فليس لمخلوق إليها طريق ،إل عن الطريق
التي يخبر بها عباده ،وكان هذا القرآن ،قد اشتمل على كثير من الغيوب ،أمر تعالى بالقبال عليه
فقال:
حدًا }
حيَ إِلَ ْيكَ مِنْ كِتَابِ رَ ّبكَ لَا مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ ِه وَلَنْ َتجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ
{ { } 27وَا ْتلُ مَا أُو ِ
التلوة :هي التباع ،أي :اتبع ما أوحى ال إليك بمعرفة معانيه وفهمها ،وتصديق أخباره ،وامتثال
أوامره ونواهيه ،فإنه الكتاب الجليل ،الذي ل مبدل لكلماته ،أي :ل تغير ول تبدل لصدقها وعدلها،
وبلوغها من الحسن فوق كل غاية { وتمت كلمة ربك صدقا وعدل } فلتمامها ،استحال عليها
التغيير والتبديل ،فلو كانت ناقصة ،لعرض لها ذلك أو شيء منه ،وفي هذا تعظيم للقرآن ،في
ضمنه الترغيب على القبال عليه.
حدًا } أي :لن تجد من دون ربك ،ملجأ تلجأ إليه ،ول معاذا تعوذ به ،فإذا
{ وَلَنْ َتجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ
تعين أنه وحده الملجأ في كل المور ،تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه ،في السراء
والضراء ،المفتقر إليه في جميع الحوال ،المسئول في جميع المطالب.
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم ،وغيره أسوته ،في الوامر والنواهي -أن يصبر
شيّ } أي :أول النهار وآخره
نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين { الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ
يريدون بذلك وجه ال ،فوصفهم بالعبادة والخلص فيها ،ففيها المر بصحبة الخيار ،ومجاهدة
النفس على صحبتهم ،ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد ،ما ل يحصى.
{ وَلَا َت ْعدُ عَيْنَاكَ عَ ْنهُمْ } أي :ل تجاوزهم بصرك ،وترفع عنهم نظرك.
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } فإن هذا ضار غير نافع ،وقاطع عن المصالح الدينية ،فإن ذلك يوجب
تعلق القلب بالدنيا ،فتصير الفكار والهواجس فيها ،وتزول من القلب الرغبة في الخرة ،فإن زينة
الدنيا تروق للناظر ،وتسحر العقل ،فيغفل القلب عن ذكر ال ،ويقبل على اللذات والشهوات،
فيضيع وقته ،وينفرط أمره ،فيخسر الخسارة البدية ،والندامة السرمدية ،ولهذا قال { :وَلَا ُتطِعْ مَنْ
غفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ِذكْرِنَا } غفل عن ال ،فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
أَ ْ
{ وَاتّبَعَ َهوَاهُ } أي :صار تبعا لهواه ،حيث ما اشتهت نفسه فعله ،وسعى في إدراكه ،ولو كان فيه
هلكه وخسرانه ،فهو قد اتخذ إلهه هواه ،كما قال تعالى { :أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله ال
على علم } اليةَ { .وكَانَ َأمْ ُرهُ } أي :مصالح دينه ودنياه { فُ ُرطًا } أي :ضائعة معطلة .فهذا قد
نهى ال عن طاعته ،لن طاعته تدعو إلى القتداء به ،ولنه ل يدعو إل لما هو متصف به،
ودلت الية ،على أن الذي ينبغي أن يطاع ،ويكون إماما للناس ،من امتل قلبه بمحبة ال ،وفاض
ذلك على لسانه ،فلهج بذكر ال ،واتبع مراضي ربه ،فقدمها على هواه ،فحفظ بذلك ما حفظ من
وقته ،وصلحت أحواله ،واستقامت أفعاله ،ودعا الناس إلى ما من ال به عليه ،فحقيق بذلك ،أن
يتبع ويجعل إماما ،والصبر المذكور في هذه الية ،هو الصبر على طاعة ال ،الذي هو أعلى
أنواع الصبر ،وبتمامه تتم باقي القسام .وفي الية ،استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي
النهار ،لن ال مدحهم بفعله ،وكل فعل مدح ال فاعله ،دل ذلك على أن ال يحبه ،وإذا كان يحبه
فإنه يأمر به ،ويرغب فيه.
{ َ { } 29-31و ُقلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِنْ َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارًا
شوِي ا ْلوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَا َءتْ مُرْتَ َفقًا *
أَحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا وَإِنْ يَسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
عدْنٍ
عمَلًا * أُولَ ِئكَ َل ُهمْ جَنّاتُ َ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ إِنّا لَا ُنضِيعُ َأجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ
إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
خضْرًا مِنْ سُ ْندُسٍ
تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ ُيحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ َذ َهبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا ُ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ ِن ْعمَ ال ّثوَابُ َوحَسُ َنتْ مُرْ َتفَقًا }
أي :قل للناس يا محمد :هو الحق من ربكم أي :قد تبين الهدى من الضلل ،والرشد من الغي،
وصفات أهل السعادة ،وصفات أهل الشقاوة ،وذلك بما بينه ال على لسان رسوله ،فإذا بان
واتضح ،ولم يبق فيه شبهة.
ن َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ } أي :لم يبق إل سلوك أحد الطريقين ،بحسب توفيق العبد،
{ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِ ْ
وعدم توفيقه ،وقد أعطاه ال مشيئة بها يقدر على اليمان والكفر ،والخير والشر ،فمن آمن فقد
وفق للصواب ،ومن كفر فقد قامت عليه الحجة ،وليس بمكره على اليمان ،كما قال تعالى { ل
إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله { :فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }
الذن في كل المرين ،وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام ،كما ليس فيها
ترك قتال الكافرين .ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال { :إِنّا أَعْ َتدْنَا لِلظّاِلمِينَ } بالكفر والفسوق
والعصيان { نَارًا َأحَاطَ ِب ِهمْ سُرَا ِد ُقهَا } أي :سورها المحيط بها ،فليس لهم منفذ ول طريق ول
مخلص منها ،تصلهم النار الحامية.
{ وَإِنْ َيسْ َتغِيثُوا } أي :يطلبوا الشراب ،ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد.
{ ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ } أي :كالرصاص المذاب ،أو كعكر الزيت ،من شدة حرارته.
شوِي ا ْلوُجُوهَ } أي :فكيف بالمعاء والبطون ،كما قال تعالى { يصهر به ما في بطونهم
{ َي ْ
والجلود ولهم مقامع من حديد }
{ بِ ْئسَ الشّرَابُ } الذي يراد ليطفئ العطش ،ويدفع بعض العذاب ،فيكون زيادة في عذابهم ،وشدة
عقابهم.
{ وَسَا َءتْ } النار { مُرْ َت َفقًا } وهذا ذم لحالة النار ،أنها ساءت المحل ،الذي يرتفق به ،فإنها ليست
فيها ارتفاق ،وإنما فيها العذاب العظيم الشاق ،الذي ل يفتر عنهم ساعة ،وهم فيه مبلسون قد أيسوا
من كل خير ،ونسيهم الرحيم في العذاب ،كما نسوه.
أي :أولئك الموصوفون باليمان والعمل الصالح ،لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها،
فأجنت من فيها ،وكثرت أنهارها ،فصارت تجري من تحت تلك الشجار النيقة ،والمنازل
الرفيعة ،وحليتهم فيها الذهب ،ولباسهم فيها الحرير الخضر من السندس ،وهو الغليظ من الديباج،
والستبرق ،وهو ما رق منه .متكئين فيها على الرائك ،وهي السرر المزينة ،المجملة بالثياب
الفاخرة فإنها ل تسمى أريكة حتى تكون كذلك ،وفي اتكائهم على الرائك ،ما يدل على كمال
الراحة ،وزوال النصب والتعب ،وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون ،وتمام ذلك الخلود الدائم
والقامة البدية ،فهذه الدار الجليلة { ِنعْمَ ال ّثوَابُ } للعاملين { َوحَسُ َنتْ مُرْ َتفَقًا } يرتفقون بها،
ويتمتعون بما فيها ،مما تشتهيه النفس وتلذ العين ،من الحبرة والسرور ،والفرح الدائم ،واللذات
المتواترة ،والنعم المتوافرة ،وأي مرتفق أحسن من دار ،أدنى أهلها ،يسير في ملكه ونعيمه
وقصوره وبساتينه ألفي سنة ،ول يرى فوق ما هو فيه من النعيم ،قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه،
وزيد من المطالب ،ما قصرت عنه الماني ،ومع ذلك ،فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه
وحسنه ،فنسأل ال الكريم ،أن ل يحرمنا خير ما عنده من الحسان ،بشر ما عندنا من التقصير
والعصيان.
ودلت الية الكريمة وما أشبهها ،على أن الحلية ،عامة للذكور والناث ،كما ورد في الحاديث
الصحيحة لنه أطلقها في قوله { يُحَّلوْنَ } وكذلك الحرير ونحوه.
جعَلْنَا
ل وَ َ
خٍح َففْنَا ُهمَا بِ َن ْ
ب وَ َ
جعَلْنَا لَِأحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَا ٍ
{ { } 32-34وَاضْ ِربْ َل ُهمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ َ
بَيْ َن ُهمَا زَرْعًا * كِلْتَا ا ْلجَنّتَيْنِ آ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا َوفَجّرْنَا خِلَاَل ُهمَا َنهَرًا َوكَانَ لَهُ َثمَرٌ }
يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم :اضرب للناس مثل هذين الرجلين ،الشاكر لنعمة ال،
والكافر لها ،وما صدر من كل منهما ،من القوال والفعال ،وما حصل بسبب ذلك من العقاب
العاجل والجل ،والثواب ،ليعتبروا بحالهما ،ويتعظوا بما حصل عليهما ،وليس معرفة أعيان
الرجلين ،وفي أي :زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة ،فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط،
والتعرض لما سوى ذلك من التكلف .فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة ال الجليلة ،جعل ال له
جنتين ،أي :بستانين حسنين ،من أعناب.
خلٍ } أي :في هاتين الجنتين من كل الثمرات ،وخصوصا أشرف الشجار ،العنب
حفَفْنَا ُهمَا بِنَ ْ
{ َو َ
والنخل ،فالعنب في وسطها ،والنخل قد حف بذلك ،ودار به ،فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه،
وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح ،التي تكمل بها الثمار ،وتنضج وتتجوهر ،ومع ذلك جعل
بين تلك الشجار زرعا ،فلم يبق عليهما إل أن يقال :كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء
يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كل من الجنتين آتت أكلها ،أي :ثمرها وزرعها ضعفين ،أي :متضاعفا
{ و } أنها { لم َتظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي :لم تنقص من أكلها أدنى شيء ،ومع ذلك ،فالنهار في
جوانبهما سارحة ،كثيرة غزيرة.
{ َوكَانَ لَهُ } أي :لذلك الرجل { َثمَرٌ } أي :عظيم كما يفيده التنكير ،أي :قد استكملت جنتاه
ثمارهما ،وارجحنت أشجارهما ،ولم تعرض لهما آفة أو نقص ،فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في
الحرث ،ولهذا اغتر هذا الرجل بهما ،وتبجح وافتخر ،ونسي آخرته.
خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَالِمٌ
{ َ { } 34-36فقَالَ ِلصَاحِ ِب ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا * وَ َد َ
لِ َنفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَنْ تَبِيدَ هَ ِذهِ أَ َبدًا * َومَا أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِنْ رُ ِد ْدتُ ِإلَى رَبّي لََأجِدَنّ خَيْرًا
مِ ْنهَا مُنْقَلَبًا }
أي :فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن ،وهما يتحاوران ،أي :يتراجعان بينهما في بعض
الماجريات المعتادة ،مفتخرا عليه { :أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا } فخر بكثرة ماله ،وعزة
أنصاره من عبيد ،وخدم ،وأقارب ،وهذا جهل منه ،وإل فأي :افتخار بأمر خارجي ليس فيه
فضيلة نفسية ،ول صفة معنوية ،وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالماني ،التي ل حقائق تحتها ،ثم
لم يكفه هذا الفتخار على صاحبه ،حتى حكم ،بجهله وظلمه ،وظن لما دخل جنته ،فب { قَالَ مَا
أَظُنّ أَنْ تَبِيدَ } أي :تنقطع وتضمحل { هَ ِذهِ أَ َبدًا } فاطمأن إلى هذه الدنيا ،ورضى بها ،وأنكر
عةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِنْ رُ ِد ْدتُ إِلَى رَبّي } على ضرب المثل { لََأجِدَنّ خَيْرًا
البعث ،فقالَ { :ومَا َأظُنّ السّا َ
مِ ْنهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين ،وهذا ل يخلو من أمرين :إما أن يكون عالما
بحقيقة الحال ،فيكون كلمه هذا على وجه التهكم والستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره ،وإما أن
يكون هذا ظنه في الحقيقة ،فيكون من أجهل الناس ،وأبخسهم حظا من العقل ،فأي :تلزم بين
عطاء الدنيا وعطاء الخرة ،حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الخرة ،بل
الغالب ،أن ال تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ،ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في
الخرة نصيب ،والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال ،ولكنه قال هذا الكلم ،على وجه التهكم
خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَالِمٌ لِ َنفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم ،في حال
والستهزاء ،بدليل قوله { :وَدَ َ
دخوله ،الذي جرى منه ،من القول ما جرى ،يدل على تمرده وعناده.
سوّاكَ
طفَةٍ ثُمّ َ
{ { } 37-39قَالَ لَ ُه صَاحِ ُب ُه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ َأ َكفَ ْرتَ بِالّذِي خََل َقكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ ُن ْ
رَجُلًا * َلكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي وَلَا ُأشْ ِركُ بِرَبّي َأحَدًاوََلوْلَا ِإذْ َدخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا ُق ّوةَ إِلّا
بِاللّهِ }
أي :قال له صاحبه المؤمن ،ناصحا له ،ومذكرا له حاله الولى ،التي أوجده ال فيها في الدنيا
سوّاكَ َرجُلًا } فهو الذي أنعم عليك بنعمة اليجاد والمداد ،وواصل
طفَةٍ ُثمّ َ
{ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ مِنْ نُ ْ
عليك النعم ،ونقلك من طور إلى طور ،حتى سواك رجل ،كامل العضاء والجوارح المحسوسة،
والمعقولة ،وبذلك يسر لك السباب ،وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا ،فلم تحصل لك الدنيا بحولك
وقوتك ،بل بفضل ال تعالى عليك ،فكيف يليق بك أن تكفر بال الذي خلقك من تراب ،ثم من
نطفة ثم سواك رجل ،وتجحد نعمته ،وتزعم أنه ل يبعثك ،وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من
جنتك؟! هذا مما ل ينبغي ول يليق .ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره
وطغيانه ،قال مخبرا عن نفسه ،على وجه الشكر لربه ،والعلن بدينه ،عند ورود المجادلت
حدًا } فأقر بربوبية لربه ،وانفراده فيها ،والتزم
والشبهَ { :لكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي وَلَا أُشْ ِركُ بِرَبّي أَ َ
طاعته وعبادته ،وأنه ل يشرك به أحدا من المخلوقين ،ثم أخبره أن نعمة ال عليه باليمان
والسلم ،ولو مع قلة ماله وولد ،أنها هي النعمة الحقيقية ،وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة
عليه والنكال ،فقال:
سلَ
ك وَيُرْ ِ
{ { } 39-44إِنْ تَرَنِ أَنَا َأ َقلّ مِ ْنكَ مَالًا َووَلَدًا * َفعَسَى رَبّي أَنْ ُيؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنّ ِت َ
غوْرًا فَلَنْ َتسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا *
صعِيدًا زََلقًا * َأوْ ُيصْبِحَ مَاؤُهَا َ
سمَاءِ فَ ُتصْبِحَ َ
حسْبَانًا مِنَ ال ّ
عَلَ ْيهَا ُ
شهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ َكفّيْهِ عَلَى مَا أَ ْنفَقَ فِيهَا وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ
حدًا * وَلَمْ َتكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ َومَا كَانَ مُنْ َتصِرًا * هُنَاِلكَ ا ْلوَلَايَةُ لِلّهِ
أُشْ ِركْ بِرَبّي أَ َ
عقْبًا }
حقّ ُهوَ خَيْرٌ َثوَابًا وَخَيْرٌ ُ
الْ َ
أي :قال للكافر صاحبه المؤمن :أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك ،ورأيتني أقل منك
مال وولدا -فإن ما عند ال ،خير وأبقى ،وما يرجى من خيره وإحسانه ،أفضل من جميع الدنيا،
التي يتنافس فيها المتنافسون.
سلَ عَلَ ْيهَا } أي :على جنتك التي طغيت بها وغرتك
ك وَيُرْ ِ
{ َفعَسَى رَبّي أَنْ ُيؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنّ ِت َ
صعِيدًا زََلقًا }
سمَاءِ } أي :عذابا ،بمطر عظيم أو غيره { ،فَ ُتصْبِحَ } بسبب ذلك { َ
{ حُسْبَانًا مِنَ ال ّ
أي :قد اقتلعت أشجارها ،وتلفت ثمارها ،وغرق زرعها ،وزال نفعها.
فاستجاب ال دعاءه { وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ } أي :أصابه عذاب ،أحاط به ،واستهلكه ،فلم يبق منه شيء،
والحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره ،وثماره ،وزرعه ،فندم كل الندامة ،واشتد لذلك أسفه،
علَى مَا أَ ْنفَقَ فِيهَا } أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها ،حيث اضمحلت
{ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ كَفّيْهِ َ
وتلشت ،فلم يبق لها عوض ،وندم أيضا على شركه ،وشره ،ولهذا قال { :وَ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
حدًا }
أُشْ ِركْ بِرَبّي أَ َ
قال ال تعالى { :وَلَمْ َتكُنْ َلهُ فِئَةٌ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ مُنْ َتصِرًا } أي :لما نزل العذاب
بجنته ،ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه { :أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا } فلم يدفعوا
عنه من العذاب شيئا ،أشد ما كان إليهم حاجة ،وما كان بنفس منتصرا ،وكيف ينتصر ،أي :يكون
له أنصارا على قضاء ال وقدره الذي إذا أمضاه وقدره ،لو اجتمع أهل السماء والرض على
إزالة شيء منه ،لم يقدروا؟"
ول يستبعد من رحمة ال ولطفه ،أن صاحب هذه الجنة ،التي أحيط بها ،تحسنت حاله ،ورزقه ال
النابة إليه ،وراجع رشده ،وذهب تمرده وطغيانه ،بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه ،وأن ال
أذهب عنه ما يطغيه ،وعاقبه في الدنيا ،وإذا أراد ال بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا .وفضل
ال ل تحيط به الوهام والعقول ،ول ينكره إل ظالم جهول.
يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم أصل ،ولمن قام بوراثته بعده تبعا :اضرب للناس مثل
الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور ،ويعرفوا ظاهرها وباطنها ،فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية،
ويؤثروا أيهما أولى باليثار .وأن مثل هذه الحياة الدنيا ،كمثل المطر ،ينزل على الرض ،فيختلط
نباتها ،تنبت من كل زوج بهيج ،فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين ،وتفرح المتفرجين ،وتأخذ
بعيون الغافلين ،إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح ،فذهب ذلك النبات الناضر ،والزهر الزاهر،
والمنظر البهي ،فأصبحت الرض غبراء ترابا ،قد انحرف عنها النظر ،وصدف عنها البصر،
وأوحشت القلب ،كذلك هذه الدنيا ،بينما صاحبها قد أعجب بشبابه ،وفاق فيها على أقرانه وأترابه،
وحصل درهمها ودينارها ،واقتطف من لذته أزهارها ،وخاض في الشهوات في جميع أوقاته،
وظن أنه ل يزال فيها سائر أيامه ،إذ أصابه الموت أو التلف لماله ،فذهب عنه سروره ،وزالت
لذته وحبوره ،واستوحش قلبه من اللم وفارق شبابه وقوته وماله ،وانفرد بصالح ،أو سيئ
أعماله ،هنالك يعض الظالم على يديه ،حين يعلم حقيقة ما هو عليه ،ويتمنى العود إلى الدنيا ،ل
ليستكمل الشهوات ،بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلت ،بالتوبة والعمال الصالحات ،فالعاقل
الجازم الموفق ،يعرض على نفسه هذه الحالة ،ويقول لنفسه :قدري أنك قد مت ،ول بد أن تموتي،
فأي :الحالتين تختارين؟ الغترار بزخرف هذه الدار ،والتمتع بها كتمتع النعام السارحة ،أم
العمل ،لدار أكلها دائم وظلها ،وفيها ما تشتهيه النفس وتلذ العين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من
خذلنه ،وربحه من خسرانه ،ولهذا أخبر تعالى أن المال والبنين ،زينة الحياة الدنيا ،أي :ليس
وراء ذلك شيء ،وأن الذي يبقى للنسان وينفعه ويسره ،الباقيات الصالحات ،وهذا يشمل جميع
الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق ال ،وحقوق عباده ،من صلة ،وزكاة ،وصدقة ،وحج،
وعمرة ،وتسبيح ،وتحميد ،وتهليل ،وتكبير ،وقراءة ،وطلب علم نافع ،وأمر بمعروف ،ونهي عن
منكر ،وصلة رحم ،وبر والدين ،وقيام بحق الزوجات ،والمماليك ،والبهائم ،وجميع وجوه الحسان
إلى الخلق ،كل هذا من الباقيات الصالحات ،فهذه خير عند ال ثوابا وخير أمل ،فثوابها يبقى،
ويتضاعف على الباد ،ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة ،فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها
المتنافسون ،ويستبق إليها العاملون ،ويجد في تحصيلها المجتهدون ،وتأمل كيف لما ضرب ال
مثل الدنيا وحالها واضمحللها ذكر أن الذي فيها نوعان :نوع من زينتها ،يتمتع به قليل ،ثم يزول
بل فائدة تعود لصاحبه ،بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على
الدوام ،وهي الباقيات الصالحات.
ل وَتَرَى الْأَ ْرضَ بَارِ َزةً وَحَشَرْنَا ُهمْ فَلَمْ ُنغَادِرْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا *
{ { } 47-49وَ َيوْمَ نُسَيّرُ ا ْلجِبَا َ
ج َعلَ َل ُكمْ َموْعِدًا *
عمْ ُتمْ أَلّنْ َن ْ
صفّا َلقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ َبلْ زَ َ
ك َ
وَعُ ِرضُوا عَلَى رَ ّب َ
شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِرُ
َووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ ُم ْ
حدًا }
عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ
جدُوا مَا َ
حصَاهَا َووَ َ
صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً إِلّا أَ ْ
َ
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة ،وما فيه من الهوال المقلقة ،والشدائد المزعجة فقال { :وَ َيوْمَ
نُسَيّرُ ا ْلجِبَالَ } أي :يزيلها عن أماكنها ،يجعلها كثيبا ،ثم يجعلها كالعهن المنفوش ،ثم تضمحل
وتتلشى ،وتكون هباء منبثا ،وتبرز الرض فتصير قاعا صفصفا ،ل عوج فيه ول أمتا ،ويحشر
ال جميع الخلق على تلك الرض ،فل يغادر منهم أحدا ،بل يجمع الولين والخرين ،من بطون
الفلوات ،وقعور البحار ،ويجمعهم بعدما تفرقوا ،ويعيدهم بعد ما تمزقوا ،خلقا جديدا ،فيعرضون
عليه صفا ليستعرضهم وينظر في أعمالهم ،ويحكم فيهم بحكمه العدل ،الذي ل جور فيه ول ظلم،
ويقول لهم { :لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } أي :بل مال ،ول أهل ،ول عشيرة ،ما معهم إل
العمال ،التي عملوها ،والمكاسب في الخير والشر ،التي كسبوها كما قال تعالى { :وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا
ش َفعَا َءكُمُ الّذِينَ
ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَى َم َعكُمْ ُ
خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ
خَلقْنَاكُمْ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُمْ مَا َ
فُرَادَى َكمَا َ
عمْتُمْ أَلّنْ
عمْتُمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَاءُ } وقال هنا ،مخاطبا للمنكرين للبعث ،وقد شاهدوه عياناَ { :بلْ زَ َ
زَ َ
ج َعلَ َلكُمْ َموْعِدًا } أي :أنكرتم الجزاء على العمال ،ووعد ال ووعيده ،فها قد رأيتموه وذقتموه،
نَ ْ
فحينئذ تحضر كتب العمال التي كتبتها الملئكة الكرام فتطير لها القلوب ،وتعظم من وقعها
الكروب ،وتكاد لها الصم الصلب تذوب ،ويشفق منها المجرمون ،فإذا رأوها مسطرة عليهم
صغِي َر ًة وَلَا
أعمالهم ،محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم ،قالوا { :يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ
حصَاهَا } أي :ل يترك خطيئة صغيرة ول كبيرة ،إل وهي مكتوبة فيه ،محفوظة لم
كَبِي َرةً إِلّا َأ ْ
عمِلُوا حَاضِرًا } ل يقدرون على
ينس منها عمل سر ول علنية ،ول ليل ول نهارَ { ،ووَجَدُوا مَا َ
إنكاره { وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ أَحَدًا } فحينئذ يجازون بها ،ويقررون بها ،ويخزون ،ويحق عليهم العذاب،
ذلك بما قدمت أيديهم وأن ال ليس بظلم للعبيد ،بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.
يخبر تعالى ،عن عداوة إبليس لدم وذريته ،وأن ال أمر الملئكة بالسجود لدم ،إكراما وتعظيما،
سجُدُ ِلمَنْ
وامتثال لمر ال ،فامتثلوا ذلك { ِإلّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ } وقال { :أَأَ ْ
خََل ْقتَ طِينًا } وقال { :أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } فتبين بهذا عداوته ل ولبيكم ولكم ،فكيف تتخذونه وذريته
أي :الشياطين { َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ بَدَلًا } أي :بئس ما اختاروا لنفسهم
من ولية الشيطان ،الذي ل يأمرهم إل بالفحشاء والمنكر عن ولية الرحمن ،الذي كل السعادة
والفلح والسرور في وليته .وفي هذه الية ،الحث على اتخاذ الشيطان عدوا ،والغراء بذلك،
وذكر السبب الموجب لذلك ،وأنه ل يفعل ذلك إل ظالم ،وأي :ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه
الحقيقي وليا ،وترك الولي الحميد؟".
يقول تعالى :ما أشهدت الشياطين [وهؤلء المضلين] ،خلق السماوات والرض ول خلق أنفسهم
أي :ما أحضرتهم ذلك ،ول شاورتهم عليه ،فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد
بالخلق والتدبير ،والحكمة والتقدير ،هو ال ،خالق الشياء كلها ،المتصرف فيها بحكمته ،فكيف
يجعل له شركاء من الشياطين ،يوالون ويطاعون ،كما يطاع ال ،وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا،
عضُدًا } أي :معاونين ،مظاهرين
ولم يعاونوا ال تعالى؟! ولهذا قالَ { :ومَا كُ ْنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ل على شأن من الشئون ،أي :ما ينبغي ول يليق بال ،أن يجعل لهم قسطا من التدبير ،لنهم
ساعون في إضلل الخلق والعداوة لربهم ،فاللئق أن يقصيهم ول يدنيهم.
ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا ،وأبطل هذا الشرك غاية البطال ،وحكم بجهل صاحبه
وسفهه ،أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة ،وأن ال يقول لهم { :نَادُوا شُ َركَا ِئيَ } بزعمكم
أي :على موجب زعمكم الفاسد ،وإل فبالحقيقة ليس ل شريك في الرض ،ول في السماء ،أي:
عوْ ُهمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُوا َلهُمْ } لن الحكم والملك يومئذ
نادوهم ،لينفعوكم ،ويخلصوكم من الشدائد { ،فَدَ َ
ل ،ل أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ول لغيره.
جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ } أي :بين المشركين وشركائهم { َموْبِقًا } أي ،مهلكا ،يفرق بينهم وبينهم ،ويبعد
{ َو َ
بعضهم من بعض ،ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم ،وكفرهم بهم ،وتبريهم منهم ،كما قال
عدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }
تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَ ْ
{ { } 53وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّنهُمْ ُموَا ِقعُوهَا وَلَمْ َيجِدُوا عَ ْنهَا َمصْ ِرفًا }
أي :لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل ،وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم،
وحقت كلمة العذاب على المجرمين ،فرأوا جهنم قبل دخولها ،فانزعجوا واشتد قلقهم لظنهم أنهم
مواقعوها ،وهذا الظن قال المفسرون :إنه بمعنى اليقين ،فأيقنوا أنهم داخلوها { وَلَمْ َيجِدُوا عَ ْنهَا
َمصْ ِرفًا } أي :معدل يعدلون إليه ،ول شافع لهم من دون إذنه ،وفي هذا من التخويف والترهيب،
ما ترعد له الفئدة والقلوب.
شيْءٍ جَ َدلًا }
ل َوكَانَ الْإِنْسَانُ َأكْثَرَ َ
{ { } 54وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ ُكلّ مَ َث ٍ
يخبر ال تعالى عن عظمة القرآن ،وجللته ،وعمومه ،وأنه صرف فيه من كل مثل ،أي :من كل
طريق موصل إلى العلوم النافعة ،والسعادة البدية ،وكل طريق يعصم من الشر والهلك ،ففيه
أمثال الحلل والحرام ،وجزاء العمال ،والترغيب والترهيب ،والخبار الصادقة النافعة للقلوب،
اعتقادا ،وطمأنينة ،ونورا ،وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالنقياد والطاعة ،وعدم
المنازعة له في أمر من المور ،ومع ذلك ،كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين،
جدَلًا } أي:
شيْءٍ َ
حقّ } ولهذا قالَ { :وكَانَ الْإِنْسَانُ َأكْثَرَ َ
حضُوا بِهِ الْ َ
ويجادلون بالباطل { لِ ُيدْ ِ
مجادلة ومنازعة فيه ،مع أن ذلك ،غير لئق بهم ،ول عدل منهم ،والذي أوجب له ذلك وعدم
اليمان بال ،إنما هو الظلم والعناد ،ل لقصور في بيانه وحجته ،وبرهانه ،وإل فلو جاءهم
العذاب ،وجاءهم ما جاء قبلهم ،لم تكن هذه حالهم ،ولهذا قال:
{ َ { } 55ومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَاءَ ُهمُ ا ْلهُدَى وَيَسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُهمْ إِلّا أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ َأوْ
يَأْتِ َيهُمُ ا ْل َعذَابُ قُبُلًا }
أي :ما منع الناس من اليمان ،والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق ،بين الهدى والضلل،
والحق والباطل ،قد وصل إليهم ،وقامت عليهم حجة ال ،فلم يمنعهم عدم البيان ،بل منعهم الظلم
والعدوان ،عن اليمان ،فلم يبق إل أن تأتيهم سنة ال ،وعادته في الولين من أنهم إذا لم يؤمنوا،
عوجلوا بالعذاب ،أو يرون العذاب قد أقبل عليهم ،ورأوه مقابلة ومعاينة ،أي :فليخافوا من ذلك،
وليتوبوا من كفرهم ،قبل أن يكون العذاب الذي ل مرد له.
حضُوا بِهِ
طلِ لِ ُيدْ ِ
ن َومُنْذِرِينَ وَيُجَا ِدلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِالْبَا ِ
سلُ ا ْلمُ ْرسَلِينَ إِلّا مُبَشّرِي َ
{ َ { } 56ومَا نُرْ ِ
خذُوا آيَاتِي َومَا أُنْذِرُوا هُ ُزوًا }
ق وَاتّ َ
حّالْ َ
أي :لم نرسل الرسل عبثا ،ول ليتخذهم الناس أربابا ،ول ليدعوا إلى أنفسهم ،بل أرسلناهم يدعون
الناس إلى كل خير ،وينهون عن كل شر ،ويبشرونهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والجل،
وينذرونهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والجل ،فقامت بذلك حجة ال على العباد ،ومع ذلك
يأبى الظالمون الكافرون ،إل المجادلة بالباطل ،ليدحضوا به الحق ،فسعوا في نصر الباطل مهما
أمكنهم ،وفي دحض الحق وإبطاله ،واستهزءوا برسل ال وآياته ،وفرحوا بما عندهم من العلم،
ويأبى ال إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون ،ويظهر الحق على الباطل { بل نقذف بالحق على
الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } ومن حكمة ال ورحمته ،أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق
بالباطل ،من أعظم السباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته ،وتبين الباطل وفساده،
فبضدها تتبين الشياء.
جعَلْنَا عَلَى
سيَ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ إِنّا َ
{ َ { } 57-59ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا وَنَ ِ
عهُمْ إِلَى ا ْل ُهدَى فَلَنْ َيهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَ ّبكَ ا ْل َغفُورُ
قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َي ْف َقهُو ُه َوفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرًا وَإِنْ َتدْ ُ
جلَ َلهُمُ ا ْل َعذَابَ َبلْ َل ُهمْ َموْعِدٌ لَنْ َيجِدُوا مِنْ دُونِهِ َموْئِلًا* وَتِ ْلكَ
خذُهُمْ ِبمَا َكسَبُوا َلعَ ّ
حمَةِ َلوْ ُيؤَا ِ
ذُو الرّ ْ
جعَلْنَا ِل َمهِْل ِكهِمْ َموْعِدًا }
ا ْلقُرَى َأهَْلكْنَاهُمْ َلمّا ظََلمُوا وَ َ
يخبر تعالى أنه ل أعظم ظلما ،ول أكبر جرما ،من عبد ذكر بآيات ال وبين له الحق من الباطل،
والهدى من الضلل ،وخوف ورهب ورغب ،فأعرض عنها ،فلم يتذكر بما ذكر به ،ولم يرجع
عما كان عليه ،ونسى ما قدمت يداه من الذنوب ،ولم يراقب علم الغيوب ،فهذا أعظم ظلما من
المعرض الذي لم تأته آيات ال ولم يذكر بها ،وإن كان ظالما ،فإنه أخف ظلما من هذا ،لكون
العاصي على بصيرة وعلم ،أعظم ممن ليس كذلك ،ولكن ال تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن
آياته ،ونسيانه لذنوبه ،ورضاه لنفسه ،حالة الشر مع علمه بها ،أن سد عليه أبواب الهداية بأن
جعل على قلبه أكنة ،أي :أغطية محكمة تمنعه أن يفقه اليات وإن سمعتها ،فليس في إمكانها الفقه
الذي يصل إلى القلبَ { ،وفِي آذَا ِنهِمْ َوقْرًا } أي :صمما يمنعهم من وصول اليات ،ومن سماعها
عهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى فَلَنْ َيهْتَدُوا
على وجه النتفاع وإذا كانوا بهذه الحالة ،فليس لهدايتهم سبيل { ،وَإِنْ َتدْ ُ
إِذًا أَبَدًا } لن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما ،وأما هؤلء ،الذين أبصروا ثم
عموا ،ورأوا طريق الحق فتركوه ،وطريق الضلل فسلكوه ،وعاقبهم ال بإقفال القلوب والطبع
عليها ،فليس في هدايتهم حيلة ول طريق وفي هذه الية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه،
أن يحال بينهم وبينه ،ول يتمكن منه بعد ذلك ،ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.
ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته ،وأنه يغفر الذنوب ،ويتوب ال على من يتوب ،فيتغمده
برحمته ،ويشمله بإحسانه ،وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب ،لعجل لهم العذاب،
ولكنه تعالى حليم ل يعجل بالعقوبة ،بل يمهل ول يهمل ،والذنوب ل بد من وقوع آثارها ،وإن
تأخرت عنها مدة طويلة ،ولهذا قال:
{ َبلْ َل ُهمْ َموْعِدٌ لَنْ َيجِدُوا مِنْ دُونِهِ َموْئِلًا } أي :لهم موعد ،يجازون فيه بأعمالهم ،ل بد لهم منه،
ول مندوحة لهم عنه ،ول ملجأ ،ول محيد عنه ،وهذه سنته في الولين والخرين ،أن ل يعاجلهم
بالعقاب ،بل يستدعيهم إلى التوبة والنابة ،فإن تابوا وأنابوا ،غفر لهم ورحمهم ،وأزال عنهم
العقاب ،وإل ،فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم ،وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم ،أنزل بهم
جعَلْنَا ِل َمهِْل ِكهِمْ
بأسه ،ولهذا قال { :وَتِ ْلكَ ا ْلقُرَى َأهَْلكْنَاهُمْ َلمّا ظََلمُوا } أي :بظلمهم ،ل بظلم منا { َو َ
َموْعِدًا } أي :وقتا مقدرا ،ل يتقدمون عنه ول يتأخرون.
حقُبًا * فََلمّا بََلغَا
ضيَ ُ
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ َأوْ َأ ْم ِ
{ { } 60-82وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَ ْ
غدَاءَنَا َلقَدْ َلقِينَا
جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا نَسِيَا حُو َت ُهمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبًا * فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ آتِنَا َ
مَ ْ
سفَرِنَا هَذَا َنصَبًا * قَالَ أَرَأَ ْيتَ إِذْ َأوَيْنَا إِلَى الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَا أَ ْنسَانِيهُ إِلّا
مِنْ َ
صصًا
الشّ ْيطَانُ أَنْ َأ ْذكُ َرهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْ َتدّا عَلَى آثَارِ ِهمَا َق َ
حمَةً مِنْ عِ ْندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِ ْلمًا * قَالَ َلهُ مُوسَى َهلْ أَتّ ِب ُعكَ
* َفوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ َر ْ
عَلَى أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ ُرشْدًا * قَالَ إِ ّنكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ َم ِعيَ صَبْرًا * َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ عَلَى مَا َلمْ
عصِي َلكَ َأمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَا
حطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّ ُه صَابِرًا وَلَا أَ ْ
تُ ِ
سفِينَةِ خَ َر َقهَا } إلى قوله
ح ِدثَ َلكَ مِنْهُ ِذكْرًا * فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا َركِبَا فِي ال ّ
شيْءٍ حَتّى أُ ْ
تَسْأَلْنِي عَنْ َ
سطِعْ عَلَ ْي ِه صَبْرًا ْ}
{ :ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا لَمْ تَ ْ
يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلم ،وشدة رغبته في الخير وطلب العلم ،أنه قال لفتاه -أي:
خادمه الذي يلزمه في حضره وسفره ،وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه ال بعد ذلك { -:لَا أَبْرَحُ
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ ْ} أي :ل أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة ،ولحقتني المشقة ،حتى
حَتّى أَبْلُغَ مَ ْ
أصل إلى مجمع البحرين ،وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد ال العالمين،
حقُبًا ْ} أي :مسافة طويلة ،المعنى :أن الشوق
ضيَ ُ
عنده من العلم ،ما ليس عندكَ { ،أوْ َأ ْم ِ
والرغبة ،حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة ،وهذا عزم منه جازم ،فلذلك أمضاه.
جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا نَسِيَا حُو َت ُهمَا ْ} وكان معهما حوت يتزودان منه
{ فََلمّا بََلغَا ْ} أي :هو وفتاه { َم ْ
ويأكلن ،وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته ،فاتخذ ذلك الحوت سبيله ،أي:
طريقه في البحر سربا وهذا من اليات.
قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه ،لما وصل إلى ذلك المكان ،أصابه بلل
البحر ،فانسرب بإذن ال في البحر ،وصار مع حيواناته حيا.
سفَرِنَا هَذَا
فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين ،قال موسى لفتاه { :آتِنَا غَدَاءَنَا َلقَدْ َلقِينَا مِنْ َ
َنصَبًا ْ} أي :لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط ،وإل فالسفر الطويل الذي وصل به إلى مجمع
البحرين لم يجدا مس التعب فيه ،وهذا من اليات والعلمات الدالة لموسى ،على وجود مطلبه،
وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان ،سهل لهما الطريق ،فلما تجاوزا غايتهما
وجدا مس التعب ،فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة ،قال له فتاه { :أَرَأَ ْيتَ إِذْ َأوَيْنَا ِإلَى الصّخْ َرةِ
فَإِنّي َنسِيتُ الْحُوتَ ْ}
أي :ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه
إل الشيطان ْ} لنه السبب في ذلك { وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ} أي :لما انسرب في البحر
ودخل فيه ،كان ذلك من العجائب.
قال المفسرون :كان ذلك المسلك للحوت سربا ،ولموسى وفتاه عجبا ،فلما قال له الفتى هذا القول،
وكان عند موسى وعد من ال أنه إذا فقد الحوت ،وجد الخضر ،فقال موسى { :ذَِلكَ مَا كُنّا نَ ْبغِ ْ}
صصًا ْ} أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان
أي :نطلب { فَارْتَدّا ْ} أي :رجعا { عَلَى آثَارِ ِهمَا َق َ
الذي نسيا فيه الحوت فلما وصل إليه ،وجدا عبدا من عبادنا ،وهو الخضر ،وكان عبدا صالحا ،ل
نبيا على الصحيح.
آتيناه [رحمة من عندنا أي :أعطاه ال رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَّلمْنَاهُ ْ}]
ع ْلمًا ،وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى ،وإن كان موسى
{ مِنْ َلدُنّا ْ} [أي :من عندنا] ِ
عليه السلم أعلم منه بأكثر الشياء ،وخصوصا في العلوم اليمانية ،والصولية ،لنه من أولي
العزم من المرسلين ،الذين فضلهم ال على سائر الخلق ،بالعلم ،والعمل ،وغير ذلك ،فلما اجتمع
به موسى قال له على وجه الدب والمشاورة ،والخبار عن مطلبه.
شدًا ْ} أي :هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك ال ،ما
{ َهلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَى أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُ ْ
به أسترشد وأهتدي ،وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر ،قد أعطاه ال من اللهام
والكرامة ،ما به يحصل له الطلع على بواطن كثير من الشياء التي خفيت ،حتى على موسى
عليه السلم ،فقال الخضر لموسى :ل أمتنع من ذلك ،ولكنك { لَنْ تَسْتَطِيعَ َم ِعيَ صَبْرًا ْ} أي :ل
تقدر على اتباعي وملزمتي ،لنك ترى ما ل تقدر على الصبر عليه من المور التي ظاهرها
المنكر ،وباطنها غير ذلك ،ولهذا قالَ { :وكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ} أي :كيف تصبر
على أمر،ما أحطت بباطنه وظاهره ول علمت المقصود منه ومآله؟
{ فَا ْنطََلقَا حَتّى إِذَا َلقِيَا غُلَامًا ْ} أي :صغيرا { َفقَتَلَهُ ْ} الخضر ،فاشتد بموسى الغضب ،وأخذته
الحمية الدينية ،حين قتل غلما صغيرا لم يذنب { .قَالَ َأقَتَ ْلتَ َنفْسًا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا
ُنكْرًا ْ} وأي :نكر مثل قتل الصغير ،الذي ليس عليه ذنب ،ولم يقتل أحد؟! وكانت الولى من
موسى نسيانا ،وهذه غير نسيان ،ولكن عدم صبر ،فقال له الخضر معاتبا ومذكرا { :أَلَمْ َأ ُقلْ َلكَ
ي صَبْرًا ْ}
إِ ّنكَ لَنْ تَسْ َتطِيعَ َم ِع َ
شيْءٍ ْ} بعد هذه المرة { فَلَا ُتصَاحِبْنِي ْ} أي :فأنت معذور بذلك،
فقال [له] موسى { :إِنْ سَأَلْ ُتكَ عَنْ َ
عذْرًا ْ} أي :أعذرت مني ،ولم تقصر.
وبترك صحبتي { قَدْ بََل ْغتَ مِنْ َلدُنّي ُ
سفِينَةُ ْ} التي خرقتها { َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} يقتضي ذلك الرقة عليهم،
{ َأمّا ال ّ
غصْبًا ْ} أي :كان مرورهم
سفِينَةٍ َ
خذُ ُكلّ َ
ن وَرَاءَ ُهمْ مَِلكٌ يَأْ ُ
والرأفة بهم { .فَأَرَ ْدتُ أَنْ أَعِي َبهَا َوكَا َ
على ذلك الملك الظالم ،فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما ،فأردت
أن أخرقها ليكون فيها عيب ،فتسلم من ذلك الظالم.
{ وََأمّا ا ْلجِدَارُ ْ} الذي أقمته { َفكَانَ ِلغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِي َن ِة َوكَانَ َتحْتَهُ كَنْزٌ َل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا
صَالِحًا ْ} أي :حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ،لكونهما صغيرين عدما أباهما ،وحفظهما ال
أيضا بصلح والدهما.
{ فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَنْ يَبُْلغَا َأشُدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنْ َز ُهمَا ْ} أي :فلهذا هدمت الجدار ،واستخرجت ما تحته
من كنزهما ،وأعدته مجانا.
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ ْ} أي :هذا الذي فعلته رحمة من ال ،آتاها ال عبده الخضر { َومَا َفعَلْتُهُ عَنْ
{ َر ْ
َأمْرِي ْ} أي :أتيت شيئا من قبل نفسي ،ومجرد إرادتي ،وإنما ذلك من رحمة ال وأمره.
ومنها :البداءة بالهم فالهم ،فإن زيادة العلم وعلم النسان أهم من ترك ذلك ،والشتغال بالتعليم
من دون تزود من العلم ،والجمع بين المرين أكمل.
ومنها :جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن ،وطلب الراحة ،كما فعل موسى.
ومنها :أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ،إذا اقتضت المصلحة الخبار بمطلبه ،وأين
يريده ،فإنه أكمل من كتمه ،فإن في إظهاره فوائد من الستعداد له عدته ،وإتيان المر على
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ
بصيرة ،وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة ،كما قال موسى { :لَا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَ ْ
حقُبًا ْ}
َأوْ َأ ْمضِيَ ُ
وكما أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه ،مع أن عادته التورية،
وذلك تبع للمصلحة.
ومنها :إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ،على وجه التسويل والتزيين ،وإن كان الكل بقضاء ال
وقدره ،لقول فتى موسىَ { :ومَا أَنْسَانِيهُ إِلّا الشّيْطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َرهُ ْ}
ومنها :جواز إخبار النسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ،من نصب أو جوع ،أو عطش ،إذا
سفَرِنَا َهذَا َنصَبًا ْ}
لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا ،لقول موسىَ { :لقَدْ َلقِينَا مِنْ َ
ومنها :استحباب كون خادم النسان ،ذكيا فطنا كيسا ،ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها :استحباب إطعام النسان خادمه من مأكله ،وأكلهما جميعا ،لن ظاهر قوله { :آتِنَا غَدَاءَنَا ْ}
إضافة إلى الجميع ،أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها :أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ،وأن الموافق لمر ال ،يعان ما
سفَرِنَا هَذَا َنصَبًا ْ} والشارة إلى السفر المجاوز ،لمجمع
ل يعان غيره لقولهَ { :لقَدْ َلقِينَا مِنْ َ
البحرين ،وأما الول ،فلم يشتك منه التعب ،مع طوله ،لنه هو السفرعلى الحقيقة .وأما الخير،
فالظاهر أنه بعض يوم ،لنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة ،فالظاهر أنهم باتوا عندها ،ثم
ساروا من الغد ،حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ} فحينئذ تذكر أنه نسيه
في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها :أن ذلك العبد الذي لقياه ،ليس نبيا ،بل عبدا صالحا ،لنه وصفه بالعبودية ،وذكر منة ال
عليه بالرحمة والعلم ،ولم يذكر رسالته ول نبوته ،ولو كان نبيا ،لذكر ذلك كما ذكره غيره.
وأما قوله في آخر القصةَ { :ومَا َفعَلُْتهُ عَنْ َأمْرِي ْ} فإنه ل يدل على أنه نبي وإنما يدل على
ضعِيهِ ْ} {
اللهام والتحديث ،كما يكون لغير النبياء ،كما قال تعالى { وََأوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَ ْر ِ
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا ْ}
وََأوْحَى رَ ّبكَ ِإلَى النّ ْ
علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده .ونوع علم لدني ،يهبه ال لمن يمن عليه من عباده لقوله
{ وَعَّلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِ ْلمًا ْ}
ومنها :التأدب مع المعلم ،وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ،لقول موسى عليه السلم:
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ،فإن موسى -بل شك -أفضل من الخضر.
ومنها :تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ،ممن مهر فيه ،وإن كان دونه في العلم
بدرجات كثيرة.
فإن موسى عليه السلم من أولي العزم من المرسلين ،الذين منحهم ال وأعطاهم من العلم ما لم
يعط سواهم ،ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ،ما ليس عنده ،فلهذا حرص على التعلم
منه.
فعلى هذا ،ل ينبغي للفقيه المحدث ،إذا كان قاصرا في علم النحو ،أو الصرف ،أو نحوه من
العلوم ،أن ل يتعلمه ممن مهر فيه ،وإن لم يكن محدثا ول فقيها.
ومنها :إضافة العلم وغيره من الفضائل ل تعالى ،والقرار بذلك ،وشكر ال عليها لقولهُ { :تعَّلمَنِ
ِممّا عُّل ْمتَ ْ} أي :مما علمك ال تعالى.
ومنها :أن العلم النافع ،هو العلم المرشد إلى الخير ،فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق
الخير ،وتحذير عن طريق الشر ،أو وسيلة لذلك ،فإنه من العلم النافع ،وما سوى ذلك ،فإما أن
يكون ضارا ،أو ليس فيه فائدة لقوله { :أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُشْدًا ْ}
ومنها :أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ،وحسن الثبات على ذلك ،أنه يفوته
بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن ل صبر له ل يدرك العلم ،ومن استعمل الصبر ولزمه،
أدرك به كل أمر سعى فيه ،لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الخذ عنه-
إنه ل يصبر معه.
ومنها :أن السبب الكبير لحصول الصبر ،إحاطة النسان علما وخبرة ،بذلك المر ،الذي أمر
بالصبر عليه ،وإل فالذي ل يدريه ،أو ل يدري غايته ول نتيجته ،ول فائدته وثمرته ليس عنده
حطْ بِهِ خُبْرًا ْ} فجعل الموجب لعدم صبره ،وعدم
علَى مَا َلمْ تُ ِ
سبب الصبر لقولهَ { :وكَ ْيفَ َتصْبِرُ َ
إحاطته خبرا بالمر.
ومنها :المر بالتأني والتثبت ،وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ،حتى يعرف ما يراد منه وما
هو المقصود.
ومنها :تعليق المور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ،وأن ل يقول النسان للشيء :إني
فاعل ذلك في المستقبل ،إل أن يقول { إِنْ شَاءَ اللّهُ ْ}
ومنها :أن العزم على فعل الشيء ،ليس بمنزلة فعله ،فإن موسى قال { :سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ
صَابِرًا ْ} فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها :أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك البتداء في السؤال عن بعض
الشياء ،حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ،فإن المصلحة تتبع ،كما إذا كان فهمه قاصرا ،أو
نهاه عن الدقيق في سؤال الشياء التي غيرها أهم منها ،أو ل يدركها ذهنه ،أو يسأل سؤال ،ل
يتعلق في موضع البحث.
ومنها :جواز ركوب البحر ،في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها :أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ل في حق ال ،ول في حقوق العباد لقوله { :لَا ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا
نَسِيتُ ْ}
ومنها :أنه ينبغي للنسان أن يأخذ من أخلق الناس ومعاملتهم ،العفو منها ،وما سمحت به
أنفسهم ،ول ينبغي له أن يكلفهم ما ل يطيقون ،أو يشق عليهم ويرهقهم ،فإن هذا مدعاة إلى النفور
منه والسآمة ،بل يأخذ المتيسر ليتيسر له المر.
ومنها :أن المور تجري أحكامها على ظاهرها ،وتعلق بها الحكام الدنيوية ،في الموال ،والدماء
وغيرها ،فإن موسى عليه السلم ،أنكر على الخضر خرقه السفينة ،وقتل الغلم ،وأن هذه المور
ظاهرها ،أنها من المنكر ،وموسى عليه السلم ل يسعه السكوت عنها ،في غير هذه الحال ،التي
صحب عليها الخضر ،فاستعجل عليه السلم ،وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ،ولم يلتفت إلى
هذا العارض ،الذي يوجب عليه الصبر ،وعدم المبادرة إلى النكار.
ومنها :القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر
المصلحتين ،بتفويت أدناهما ،فإن قتل الغلم شر ،ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما ،أعظم
شرا منه ،وبقاء الغلم من دون قتل وعصمته ،وإن كان يظن أنه خير ،فالخير ببقاء دين أبويه،
وإيمانهما خير من ذلك ،فلذلك قتله الخضر ،وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ،ما ل يدخل
تحت الحصر ،فتزاحم المصالح والمفاسد كلها ،داخل في هذا.
ومنها :القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل النسان في مال غيره ،إذا كان على وجه المصلحة
وإزالة المفسدة ،أنه يجوز ،ولو بل إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلف بعض مال الغير " كما
خرق الخضر السفينة لتعيب ،فتسلم من غصب الملك الظالم .فعلى هذا لو وقع حرق ،أو غرق،
أو نحوهما ،في دار إنسان أو ماله ،وكان إتلف بعض المال ،أو هدم بعض الدار ،فيه سلمة
للباقي ،جاز للنسان بل شرع له ذلك ،حفظا لمال الغير ،وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير،
ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ،ولو من غير إذن.
ومنها :أن العمل يجوز في البحر ،كما يجوز في البر لقولهَ { :ي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} ولم ينكر عليهم
عملهم.
ومنها :أن المسكين قد يكون له مال ل يبلغ كفايته ،ول يخرج بذلك عن اسم المسكنة ،لن ال
أخبر أن هؤلء المساكين ،لهم سفينة.
ومنها :أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلم { َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ُنكْرًا ْ}
ومنها :أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { ِبغَيْرِ َنفْسٍ ْ}
ومنها :أن خدمة الصالحين ،أو من يتعلق بهم ،أفضل من غيرها ،لنه علل استخراج كنزهما،
وإقامة جدارهما ،أن أباهما صالح.
ومنها :استعمال الدب مع ال تعالى في اللفاظ ،فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله
شدّ ُهمَا
{ فَأَ َر ْدتُ أَنْ أَعِي َبهَا ْ} وأما الخير ،فأضافه إلى ال تعالى لقوله { :فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَنْ يَبُْلغَا أَ ُ
شفِينِ ْ}
ح َمةً مِنْ رَ ّبكَ ْ} كما قال إبراهيم عليه السلم { وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ
وَيَسْتَخْ ِرجَا كَنْزَ ُهمَا رَ ْ
شدًا ْ} مع أن الكل
وقالت الجن { :وَأَنّا لَا َندْرِي أَشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِب ِهمْ رَ ّبهُمْ رَ َ
بقضاء ال وقدره.
ومنها :أنه ينبغي للصاحب أن ل يفارق صاحبه في حالة من الحوال ،ويترك صحبته ،حتى
يعتبه ،ويعذر منه ،كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها :أن موافقة الصاحب لصاحبه ،في غير المور المحذورة ،مدعاة وسبب لبقاء الصحبة
وتأكدها ،كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها :أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها ال وجعلها على يد هذا العبد
الصالح ،ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته ،وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا،
وهي صلح دينه ،كما في قضية الغلم ،أو وهي صلح دنياه كما في قضية السفينة ،فأراهم
نموذجا من لطفه وكرمه ،ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.
{ { }ْ 83-88وَيَسْأَلُو َنكَ عَنْ ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُو عَلَ ْي ُكمْ مِنْهُ ِذكْرًا * إِنّا َمكّنّا لَهُ فِي الْأَ ْرضِ
حمِئَةٍ
جدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ
س وَ َ
شمْ ِ
شيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتّى إِذَا بَلَغَ َمغْ ِربَ ال ّ
وَآتَيْنَاهُ مِنْ ُكلّ َ
خذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ َأمّا مَنْ ظَلَمَ
ب وَِإمّا أَنْ تَتّ ِ
َووَجَدَ عِ ْندَهَا َق ْومًا قُلْنَا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّا أَنْ ُتعَ ّذ َ
ل صَالِحًا فََلهُ جَزَاءً ا ْلحُسْنَى
ع ِم َ
ن وَ َ
عذَابًا ُنكْرًا * وََأمّا مَنْ آمَ َ
س ْوفَ ُن َعذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ إِلَى رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ
فَ َ
وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا ُيسْرًا ْ}
كان أهل الكتاب أو المشركون ،سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قصة ذي القرنين،
فأمره ال أن يقول { :سَأَتْلُو عَلَ ْيكُمْ مِنْهُ ِذكْرًا ْ} فيه نبأ مفيد ،وخطاب عجيب.
أي :سأتلوا عليكم من أحواله ،ما يتذكر فيه ،ويكون عبرة ،وأما ما سوى ذلك من أحواله ،فلم يتله
عليهم.
{ إِنّا َمكّنّا َلهُ فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي :ملكه ال تعالى ،ومكنه من النفوذ في أقطار الرض ،وانقيادهم له.
شيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ} أي :أعطاه ال من السباب الموصلة له لما وصل إليه،
{ وَآتَيْنَاهُ مِنْ ُكلّ َ
ما به يستعين على قهر البلدان ،وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران ،وعمل بتلك السباب التي
أعطاه ال إياها ،أي :استعملها على وجهها ،فليس كل من عنده شيء من السباب يسلكه ،ول كل
أحد يكون قادرا على السبب ،فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به ،حصل المقصود،
وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.
وهذه السباب التي أعطاه ال إياها ،لم يخبرنا ال ول رسوله بها ،ولم تتناقلها الخبار على وجه
يفيد العلم ،فلهذا ،ل يسعنا غير السكوت عنها ،وعدم اللتفات لما يذكره النقلة للسرائيليات
ونحوها ،ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة ،داخلية وخارجية ،بها صار له جند عظيم،
ذو عدد وعدد ونظام ،وبه تمكن من قهر العداء ،ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الرض
ومغاربها ،وأنحائها ،فأعطاه ال ،ما بلغ به مغرب الشمس ،حتى رأى الشمس في مرأى العين،
كأنها تغرب في عين حمئة ،أي :سوداء ،وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي
ماء ،رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الرتفاع ،ووجد عندها ،أي :عند مغربها
ب وَِإمّا أَنْ تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ} أي :إما أن تعذبهم بقتل ،أو
قوما { .قُلْنَا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّا أَنْ ُتعَ ّذ َ
ضرب ،أو أسر ونحوه ،وإما أن تحسن إليهم ،فخير بين المرين ،لن الظاهر أنهم كفار أو فساق،
أو فيهم شيء من ذلك ،لنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق ،لم يرخص في تعذيبهم ،فكان عند ذي
القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء ،لتوفيق ال له لذلك ،فقال :سأجعلهم
عذَابًا ُنكْرًا ْ} أي :تحصل له
س ْوفَ ُن َعذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ ِإلَى رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ
قسمينَ { :أمّا مَنْ ظَلَمَ ْ} بالكفر { فَ َ
العقوبتان ،عقوبة الدنيا ،وعقوبة الخرة.
ل صَالِحًا فََلهُ جَزَاءً ا ْلحُسْنَى ْ} أي :فله الجنة والحالة الحسنة عند ال جزاء
ع ِم َ
ن وَ َ
{ وََأمّا مَنْ آمَ َ
يوم القيامة { ،وَسَ َنقُولُ َلهُ مِنْ َأمْرِنَا يُسْرًا ْ} أي :وسنحسن إليه ،ونلطف له بالقول ،ونيسر له
المعاملة ،وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الولياء ،العادلين العالمين ،حيث وافق
مرضاة ال في معاملة كل أحد ،بما يليق بحاله.
أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا ،قاصدا مطلعها ،متبعا للسباب ،التي أعطاه ال،
ج َعلْ َلهُمْ مِنْ دُو ِنهَا سِتْرًا ْ} أي :وجدها
فوصل إلى مطلع الشمس فب { وَجَ َدهَا تَطُْلعُ عَلَى َقوْمٍ لَمْ َن ْ
تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس ،إما لعدم استعدادهم في المساكن ،وذلك لزيادة همجيتهم
وتوحشهم ،وعدم تمدنهم ،وإما لكون الشمس دائمة عندهم ،ل تغرب عنهم غروبا يذكر ،كما يوجد
ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي ،فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الرض ،فضل عن
ك َوقَدْ
وصولهم إليه إياه بأبدانهم ،ومع هذا ،فكل هذا بتقدير ال له ،وعلمه به ولهذا قال { كَذَِل َ
حطْنَا ِبمَا لَدَ ْيهِ خُبَرًا ْ} أي :أحطنا بما عنده من الخير والسباب العظيمة وعلمنا معه ،حيثما توجه
أَ َ
وسار.
{ ُثمّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتّى ِإذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ ْ} قال المفسرون :ذهب متوجها من المشرق ،قاصدا
للشمال ،فوصل إلى ما بين السدين ،وهما سدان ،كانا سلسل جبال معروفين في ذلك الزمان ،سدا
بين يأجوج ومأجوج وبين الناس ،وجد من دون السدين قوما ،ل يكادون يفقهون قول ،لعجمة
ألسنتهم ،واستعجام أذهانهم وقلوبهم ،وقد أعطى ال ذا القرنين من السباب العلمية ،ما فقه به
ألسنة أولئك القوم وفقههم ،وراجعهم ،وراجعوه ،فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ،وهما أمتان
ج َومَأْجُوجَ ُمفْسِدُونَ فِي الْأَ ْرضِ ْ} بالقتل وأخذ الموال
عظيمتان من بني آدم فقالوا { :إِنّ يَأْجُو َ
ج َعلَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ سَدّا ْ} ودل ذلك على
ج َعلُ َلكَ خَرْجًا ْ} أي جعل { عَلَى أَنْ تَ ْ
وغير ذلكَ { .ف َهلْ نَ ْ
عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد ،وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه ،فبذلوا له أجرة ،ليفعل
ذلك ،وذكروا له السبب الداعي ،وهو :إفسادهم في الرض ،فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ،ول
رغبة في الدنيا ،ول تاركا لصلح أحوال الرعية ،بل كان قصده الصلح ،فلذلك أجاب طلبتهم
لما فيها من المصلحة ،ولم يأخذ منهم أجرة ،وشكر ربه على تمكينه واقتداره ،فقال لهم { :مَا
َمكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ ْ} أي :مما تبذلون لي وتعطوني ،وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم
ج َعلْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ رَ ْدمًا ْ} أي :مانعا من عبورهم عليكم.
بأيديكم { َأ ْ
{ حَتّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ ْ} أي :الجبلين اللذين بني بينهما السد { قَالَ ا ْنفُخُوا ْ} النار أي:
أوقدوها إيقادا عظيما ،واستعملوا لها المنافيخ لتشتد ،فتذيب النحاس ،فلما ذاب النحاس ،الذي يريد
أن يلصقه بين زبر الحديد { قَالَ آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَيْهِ ِقطْرًا ْ} أي :نحاسا مذابا ،فأفرغ عليه القطر،
فاستحكم السد استحكاما هائل ،وامتنع من وراءه من الناس ،من ضرر يأجوج ومأجوج.
ظهَرُوهُ َومَا اسْ َتطَاعُوا لَهُ َنقْبًا ْ} أي :فما لهم استطاعة ،ول قدرة على الصعود
{ َفمَا اسْطَاعُوا أَنْ َي ْ
عليه لرتفاعه ،ول على نقبه لحكامه وقوته.
كما قال قارون -لما آتاه ال من الكنوز ،ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة -قال { :إِ ّنمَا
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِ ْندِي ْ}
كما قال تعالى { :وبرزت الجحيم للغاوين ْ} أي :عرضت لهم لتكون مأواهم ومنزلهم ،وليتمتعوا
بأغللها وسعيرها ،وحميمها ،وزمهريرها ،وليذوقوا من العقاب ،ما تبكم له القلوب ،وتصم
الذان ،وهذا آثار أعمالهم ،وجزاء أفعالهم ،فإنهم في الدنيا { " 101 ".كَا َنتْ أَعْيُ ُنهُمْ فِي غِطَاءٍ
عَنْ ِذكْرِي ْ} أي :معرضين عن الذكر الحكيم ،والقرآن الكريم ،وقالوا { :قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ ْ} وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات ال النافعة ،كما قال تعالى { :وَعَلَى
غشَا َوةٌ ْ}
أَ ْبصَارِهِمْ ِ
س ْمعًا ْ} أي :ل يقدرون على سمع آيات ال الموصلة إلى اليمان ،لبغضهم
{ َوكَانُوا لَا يَسْ َتطِيعُونَ َ
القرآن والرسول ،فإن المبغض ل يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلم من أبغضه ،فإذا انحجبت عنهم
طرق العلم والخير ،فليس لهم سمع ول بصر ،ول عقل نافع فقد كفروا بال وجحدوا آياته،
وكذبوا رسله ،فاستحقوا جهنم ،وساءت مصيرا.
وهذا برهان وبيان ،لبطلن دعوى المشركين الكافرين ،الذين اتخذوا بعض النبياء والولياء،
شركاء ل يعبدونهم ،ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء ،ينجونهم من عذاب ال ،وينيلونهم ثوابه،
وهم قد كفروا بال وبرسله.
سبَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ
حِيقول ال لهم على وجه الستفهام والنكار المتقرر بطلنه في العقولَ { :أفَ َ
خذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي َأوْلِيَاءَ ْ} أي :ل يكون ذلك ول يوالي ولي ال معاديا ل أبدا ،فإن الولياء
يَتّ ِ
موافقون ل في محبته ورضاه ،وسخطه وبغضه ،فيكون على هذا المعنى مشابها لقوله تعالى
ت وَلِيّنَا مِنْ
جمِيعًا ُثمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ َأ َهؤُلَاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ أَ ْن َ
{ وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ َ
دُو ِنهِمْ ْ}
فمن زعم أنه يتخذ ولي ال وليا له ،وهو معاد ل ،فهو كاذب ،ويحتمل -وهو الظاهر -أن
المعنى :أفحسب الكفار بال ،المنابذون لرسله ،أن يتخذوا من دون ال أولياء ينصرونهم،
وينفعونهم من دون ال ،ويدفعون عنهم الذى؟ هذا حسبان باطل ،وظن فاسد ،فإن جميع
المخلوقين ،ليس بيدهم من النفع والضر ،شيء ،ويكون هذا ،كقوله تعالىُ { :قلِ ادْعُوا الّذِينَ
حوِيلًا ْ} { وَلَا َيمِْلكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
شفَ الضّرّ عَ ْن ُك ْم وَلَا تَ ْ
عمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا َيمِْلكُونَ َك ْ
زَ َ
شفَاعَةَ ْ} ونحو ذلك من اليات التي يذكر ال فيها ،أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه،
ال ّ
ضال خائب الرجاء ،غير نائل لبعض مقصوده.
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ نُزُلًا ْ} أي ضيافة وقرى ،فبئس النزل نزلهم ،وبئست جهنم ،ضيافتهم.
{ إِنّا أَعْتَدْنَا َ
أي :قل يا محمد ،للناس -على وجه التحذير والنذار :-هل أخبركم بأخسر الناس أعمال على
الطلق؟
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ْ} أي :بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل ،يحسبون أنهم
ضلّ َ
ن َ
{ الّذِي َ
محسنون في صنعه ،فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة ،وأنها محادة ل ورسله ومعاداة؟"
فمن هم هؤلء الذين خسرت أعمالهم،فب { فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ أل ذلك هو
الخسران المبين ْ}
{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِ ْم وَِلقَائِهِ ْ} أي :جحدوا اليات القرآنية واليات العيانية ،الدالة على
وجوب اليمان به ،وملئكته ،ورسله ،وكتبه ،واليوم الخر.
عمَاُلهُمْ فَلَا ُنقِيمُ َلهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنًا ْ} لن الوزن فائدته ،مقابلة
طتْ ْ} بسبب ذلك { أَ ْ
{ َفحَبِ َ
الحسنات بالسيئات ،والنظر في الراجح منها والمرجوح ،وهؤلء ل حسنات لهم لعدم شرطها،
ضمًا ْ}
ظ ْلمًا وَلَا َه ْ
ت وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَا يَخَافُ ُ
وهو اليمان ،كما قال تعالى { َومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَا ِ
لكن تعد أعمالهم وتحصى ،ويقررون بها ،ويخزون بها على رءوس الشهاد ،ثم يعذبون عليها،
ولهذا قال { :ذَِلكَ جَزَاؤُ ُهمْ ْ} أي :حبوط أعمالهم ،وأنه ل يقام لهم يوم القيامة { ،وَزْنًا ْ} لحقارتهم
وخستهم ،بكفرهم بآيات ال ،واتخاذهم آياته ورسله ،هزوا يستهزئون بها ،ويسخرون منها ،مع
أن الواجب في آيات ال ورسله ،اليمان التام بها ،والتعظيم لها ،والقيام بها أتم القيام ،وهؤلء
عكسوا القضية ،فانعكس أمرهم ،وتعسوا ،وانتكسوا في العذاب .ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم،
بين أعمال المؤمنين ومآلهم فقال:
عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ
{ { }ْ 107-108إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
حوَلًا ْ}
فِيهَا لَا يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ
أي :إن الذين آمنوا بقلوبهم ،وعملوا الصالحات بجوارحهم ،وشمل هذا الوصف جميع الدين،
عقائده ،وأعماله ،أصوله ،وفروعه الظاهرة ،والباطنة ،فهؤلء -على اختلف طبقاتهم من اليمان
والعمل الصالح -لهم جنات الفردوس.
يحتمل أن المراد بجنات الفردوس ،أعلى الجنة ،وأوسطها ،وأفضلها ،وأن هذا الثواب ،لمن كمل
فيه اليمان والعمل الصالح ،والنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها ،جميع منازل الجنان ،فيشمل هذا الثواب ،جميع طبقات أهل اليمان ،من
المقربين ،والبرار ،والمقتصدين ،كل بحسب حاله ،وهذا أولى المعنيين لعمومه ،ولذكر الجنة
بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس ،ولن الفردوس يطلق على البستان ،المحتوي على الكرم ،أو
الشجار الملتفة ،وهذا صادق على جميع الجنة ،فجنة الفردوس نزل ،وضيافة لهل اليمان
والعمل الصالح ،وأي :ضيافة أجل وأكبر ،وأعظم من هذه الضيافة ،المحتوية على كل نعيم،
للقلوب ،والرواح ،والبدان ،وفيها ما تشتهيه النفس .وتلذ العين ،من المنازل النيقة ،والرياض
الناضرة ،والشجار المثمرة .،والطيور المغردة المشجية ،والمآكل اللذيذة ،والمشارب الشهية،
والنساء الحسان ،والخدم ،والولدان ،والنهار السارحة ،والمناظر الرائقة ،والجمال الحسي
والمعنوي ،والنعمة الدائمة ،وأعلى ذلك وأفضله وأجله ،التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه،
الذي هو أكبر نعيم الجنان ،والتمتع برؤية وجهه الكريم ،وسماع كلم الرءوف الرحيم ،فلله تلك
الضيافة ،ما أجلها وأجملها ،وأدومها وأكملها" ،وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من
الخلئق ،أو تخطر على القلوب ،فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم،
لطارت إليها قلوبهم بالشواق ،ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق ،ولساروا إليها زرافات ووحدانا،
ولم يؤثروا عليها دنيا فانية ،ولذات منغصة متلشية ،ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة،
يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلف مؤلفة ،ولكن الغفلة شملت ،واليمان ضعف،
والعلم قل ،والرادة نفذت فكان ،ما كان ،فل حول ول قوة إل بال العلي العظيم.
وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا ْ} هذا هو تمام النعيم ،إن فيها النعيم الكامل ،ومن تمامه أنه ل ينقطع { لَا
حوَلًا ْ} أي :تحول ول انتقال ،لنهم ل يرون إل ما يعجبهم ويبهجهم ،ويسرهم
يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ
ويفرحهم ،ول يرون نعيما فوق ما هم فيه.
{ ُ { }ْ 109قلْ َلوْ كَانَ الْ َبحْرُ مِدَادًا ِلكَِلمَاتِ رَبّي لَ َنفِدَ الْبَحْرُ قَ ْبلَ أَنْ تَ ْنفَدَ كَِلمَاتُ رَبّي وََلوْ جِئْنَا
ِبمِثْلِهِ مَ َددًا ْ}
أي :قل لهم مخبرا عن عظمة الباري ،وسعة صفاته ،وأنها ل يحيط العباد بشيء منهاَ { :لوْ كَانَ
الْبَحْرُ ْ} أي :هذه البحر الموجودة في العالم { ِمدَادًا ِلكَِلمَاتِ رَبّي ْ} أي :وأشجار الدنيا من أولها
إلى آخرها ،من أشجار البلدان والبراري ،والبحار ،أقلم { ،لَ َنفِدَ الْبَحْرُ ْ} وتكسرت القلم { قَ ْبلَ
أَنْ تَ ْنفَدَ كَِلمَاتُ رَبّي ْ} وهذا شيء عظيم ،ل يحيط به أحد.
وفي الية الخرى { ولو أن ما في الرض من شجرة أقلم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما
نفدت كلمات ال إن ال عزيز حكيم ْ} وهذا من باب تقريب المعنى إلى الذهان ،لن هذه الشياء
مخلوقة ،وجميع المخلوقات ،منقضية منتهية ،وأما كلم ال ،فإنه من جملة صفاته ،وصفاته غير
مخلوقة ،ول لها حد ول منتهى ،فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فال فوق ذلك ،وهكذا سائر
صفات ال تعالى ،كعلمه ،وحكمته ،وقدرته ،ورحمته ،فلو جمع علم الخلئق من الولين
والخرين ،أهل السماوات وأهل الرض ،لكان بالنسبة إلى علم العظيم ،أقل من نسبة عصفور
وقع على حافة البحر ،فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته ،ذلك بأن ال ،له الصفات
العظيمة الواسعة الكاملة ،وأن إلى ربك المنتهى.
{ ُ { }ْ 110قلْ إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى ِإَليّ أَ ّنمَا ِإَل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ َفمَنْ كَانَ يَ ْرجُو ِلقَاءَ رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ
عمَلًا صَالِحًا وَلَا ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا ْ}
َ
أيُ { :قلْ ْ} يا محمد للكفار وغيرهم { :إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ ْ} أي :لست بإله ،ول لي شركة في
الملك ،ول علم بالغيب ،ول عندي خزائن ال { ،إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ ْ} عبد من عبيد ربي { ،يُوحَى
إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ ْ} أي :فضلت عليكم بالوحي ،الذي يوحيه ال إلي ،الذي أجله الخبار لكم:
أنما إلهكم إله واحد ،أي :ل شريك له ،ول أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره ،وأدعوكم إلى
العمل الذي يقربكم منه ،وينيلكم ثوابه ،ويدفع عنكم عقابه .ولهذا قالَ { :فمَنْ كَانَ يَرْجُوا ِلقَاءَ رَبّهِ
عمَلًا صَاِلحًا ْ} وهو الموافق لشرع ال ،من واجب ومستحب { ،وَلَا ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا
فَلْ َي ْع َملْ َ
ْ} أي :ل يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه ال تعالى ،فهذا الذي جمع بين الخلص والمتابعة،
هو الذي ينال ما يرجو ويطلب ،وأما من عدا ذلك ،فإنه خاسر في دنياه وأخراه ،وقد فاته القرب
من موله ،ونيل رضاه.