You are on page 1of 352

‫تفسير سورة النفال‬

‫وهي مدنية‬

‫ت َبيْ ِنكُ ْم وََأطِيعُوا الَّ‬‫صلِحُوا ذَا َ‬


‫لّ وَأَ ْ‬‫ل ال ْنفَالُ لِّ وَالرّسُولِ فَا ّتقُوا ا َ‬ ‫ن النْفَالِ ُق ِ‬‫عِ‬ ‫حمَنِ الرّحِي ِم يَسْأَلُو َنكَ َ‬
‫بِسْمِ الِّ الرّ ْ‬ ‫‪4-1‬‬
‫عَليْهِ ْم آيَاتُهُ زَا َد ْتهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى َرّبهِ ْم يَ َت َوكّلُونَ *‬
‫لّ وَجَِلتْ قُلُوبُهُ ْم وَِإذَا تُِل َيتْ َ‬
‫ن كُ ْنتُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ * ِإنّمَا ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ ا ُ‬
‫وَرَسُولَهُ ِإ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫ق كَرِيمٌ‬
‫عنْدَ َرّبهِ ْم وَ َم ْغفِ َرةٌ وَرِ ْز ٌ‬
‫حقّا َلهُمْ دَرَجَاتٌ ِ‬
‫ن يُقِيمُونَ الصّل َة َومِمّا رَزَ ْقنَاهُ ْم ُي ْن ِفقُونَ * أُوَل ِئكَ هُمُ ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ َ‬
‫الّذِي َ‬

‫أول‬ ‫بدر‬ ‫النفال هي الغنائم التي ينفلها الّ لهذه المة من أموال الكفار‪ ،‬وكانت هذه اليات في هذه السورة قد نـزلت في قصة‬
‫غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين‪. ،‬فحصل بين بعض المسلمين فيها نـزاع‪ ،‬فسألوا رسول الّ صلى ال عليه وسلم عنها‪،‬‬

‫كيف تقسم وعلى من تقسم؟‬ ‫ن النْفَال‬


‫عِ‬‫يَسْأَلُو َنكَ َ‬ ‫فأنـزل الّ‬

‫لهم‪ :‬النفال ل ورسوله يضعانها حيث شاءا‪ ،‬فل اعتراض لكم على حكم الّ ورسوله‪ .،‬بل عليكم إذا حكم الّ ورسوله أن‬ ‫ُقلْ‬

‫بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‪..‬‬ ‫فَاتّقُوا الَّ‬ ‫ترضوا بحكمهما‪ ،‬وتسلموا المر لهما‪ .،‬وذلك داخل في قوله‬

‫أي‪ :‬أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر‪ ،‬بالتوادد والتحاب والتواصل‪..‬فبذلك تجتمع كلمتكم‪،‬‬ ‫وََأصْلِحُوا ذَاتَ َب ْينِكُمْ‬
‫ويزول ما يحصل ‪ -‬بسبب التقاطع ‪-‬من التخاصم‪ ،‬والتشاجر والتنازع‪.‬‬

‫ويدخل في إصلح ذات البين تحسين الخلق لهم‪ ،‬والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء‬

‫ل ورسوله‪.،‬كما‬
‫فإن اليمان يدعو إلى طاعة ا ّ‬ ‫ن كُ ْنتُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ‬
‫لّ وَرَسُولَهُ ِإ ْ‬
‫وََأطِيعُوا ا َ‬ ‫والتدابر‪.،‬والمر الجامع لذلك كله قوله‪:‬‬
‫ل ورسوله فليس بمؤمن‪.‬‬ ‫أن من لم يطع ا ّ‬

‫ومن نقصت طاعته لّ ورسوله‪ ،‬فذلك لنقص إيمانه‪،‬ولما كان اليمان قسمين‪ :‬إيمانا كامل يترتب عليه المدح والثناء‪ ،‬والفوز التام‪،‬‬

‫اللف واللم للستغراق لشرائع اليمان‪.‬‬ ‫ِإّنمَا ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ‬ ‫وإيمانا دون ذلك ذكر اليمان الكامل فقال‪:‬‬

‫ل تعالى النكفاف عن المحارم‪ ،‬فإن خوف الّ تعالى‬


‫أي‪ :‬خافت ورهبت‪ ،‬فأوجبت لهم خشية ا ّ‬ ‫لّ وَجَِلتْ قُلُوبُهُمْ‬
‫الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ ا ُ‬
‫أكبر علماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب‪.‬‬

‫ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم‪.،‬لن‬ ‫عَليْهِ ْم آيَاتُهُ زَا َد ْتهُمْ إِيمَانًا‬
‫وَِإذَا تُِل َيتْ َ‬
‫التدبر من أعمال القلوب‪ ،‬ولنه ل بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه‪ ،‬أو يتذكرون ما كانوا نسوه‪،‬أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير‪،‬‬
‫واشتياقا إلى كرامة ربهم‪،‬أو وجل من العقوبات‪ ،‬وازدجارا عن المعاصي‪ ،‬وكل هذا مما يزداد به اليمان‪.‬‬

‫أي‪ :‬يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم‬ ‫يَ َت َوكّلُونَ‬ ‫وحده ل شريك له‬ ‫علَى َرّبهِمْ‬
‫وَ َ‬
‫ل تعالى سيفعل ذلك‪.‬‬
‫الدينية والدنيوية‪ ،‬ويثقون بأن ا ّ‬

‫والتوكل هو الحامل للعمال كلها‪ ،‬فل توجد ول تكمل إل به‪.‬‬

‫من فرائض ونوافل‪ ،‬بأعمالها الظاهرة والباطنة‪ ،‬كحضور القلب فيها‪ ،‬الذي هو روح الصلة ولبها‪.،‬‬ ‫ن ُيقِيمُونَ الصّلةَ‬
‫الّذِي َ‬

‫النفقات الواجبة‪ ،‬كالزكوات‪ ،‬والكفارات‪ ،‬والنفقة على الزوجات والقارب‪ ،‬وما ملكت‬ ‫َو ِممّا رَ َز ْقنَاهُ ْم يُ ْن ِفقُونَ‬
‫أيمانهم‪.،‬والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير‪.‬‬
‫لنهم جمعوا بين السلم واليمان‪ ،‬بين العمال الباطنة‬ ‫حقّا‬
‫هُمُ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ َ‬ ‫الذين اتصفوا بتلك الصفات‬ ‫أُوَل ِئكَ‬
‫ل وحقوق عباده‪ .‬وقدم تعالى أعمال القلوب‪ ،‬لنها أصل لعمال الجوارح وأفضل‬ ‫والعمال الظاهرة‪ ،‬بين العلم والعمل‪ ،‬بين أداء حقوق ا ّ‬
‫منها‪.،‬وفيها دليل على أن اليمان‪ ،‬يزيد وينقص‪ ،‬فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها‪.‬‬

‫ل تعالى والتأمل لمعانيه‪.‬ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا‬


‫وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه‪.،‬وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب ا ّ‬

‫وهو ما أعد‬ ‫وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ‬ ‫لذنوبهم‬ ‫َومَ ْغفِ َرةٌ‬ ‫أي‪ :‬عالية بحسب علو أعمالهم‪.‬‬ ‫عنْدَ َرّبهِمْ‬
‫َلهُمْ دَرَجَاتٌ ِ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫الّ لهم في دار كرامته‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في اليمان ‪ -‬وإن دخل الجنة ‪ -‬فلن ينال ما نالوا من كرامة الّ التامة‪.‬‬

‫ن كَأَّنمَا‬‫حقّ َبعْ َدمَا تَ َبيّ َ‬


‫ن * يُجَادِلُو َنكَ فِي الْ َ‬
‫حقّ وَِإنّ فَرِيقًا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َلكَارِهُو َ‬‫ك بِالْ َ‬
‫ن َبيْ ِت َ‬
‫ك مِ ْ‬
‫جكَ َرّب َ‬ ‫كَمَا أَخْرَ َ‬ ‫‪8-5‬‬
‫حقّ‬
‫ن يُ ِ‬
‫ش ْوكَ ِة تَكُونُ َلكُ ْم َويُرِيدُ الُّ أَ ْ‬‫غيْرَ ذَاتِ ال ّ‬
‫يُسَاقُونَ إِلَى ا ْل َم ْوتِ وَهُ ْم َي ْنظُرُونَ * َوإِ ْذ يَعِ ُدكُمُ الُّ إِحْدَى الطّا ِئ َفتَيْنِ َأّنهَا َلكُ ْم َوتَوَدّونَ أَنّ َ‬

‫‪.‬‬ ‫ل وََل ْو كَ ِرهَ ا ْلمُجْ ِرمُونَ‬


‫ق وَ ُي ْبطِلَ ا ْلبَاطِ َ‬
‫حّ‬‫حقّ الْ َ‬
‫ق ِبكَِلمَاتِ ِه َو َي ْقطَعَ دَابِرَ ا ْلكَافِرِينَ * ِليُ ِ‬
‫حّ‬‫الْ َ‬

‫قدم تعالى ‪ -‬أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة ‪ -‬الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها‪ ،‬لن من قام بها استقامت أحواله وصلحت‬
‫أعماله‪ ،‬التي من أكبرها الجهاد في سبيله‪ .‬فكما أن إيمانهم هو اليمان الحقيقي‪ ،‬وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم الّ به‪.،‬كذلك أخرج الّ‬

‫بالحق الذي يحبه الّ تعالى‪ ،‬وقد قدره وقضاه‪.‬‬ ‫بدر‬ ‫رسوله صلى ال عليه وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في‬

‫وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال‪.‬‬

‫فحين تبين لهم أن ذلك واقع‪ ،‬جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى ال عليه وسلم في ذلك‪ ،‬ويكرهون لقاء عدوهم‪ ،‬كأنما يساقون‬
‫إلى الموت وهم ينظرون‪.‬‬

‫ل به ورضيه‪ .،‬فبهذه الحال ليس للجدال محل‬


‫والحال أن هذا ل ينبغي منهم‪ ،‬خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق‪ ،‬ومما أمر ا ّ‬
‫لن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس المر‪ .،‬فأما إذا وضح وبان‪ ،‬فليس إل النقياد والذعان‪.‬‬ ‫[فيها]‬

‫هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء‪ ،‬ول كرهوا لقاء عدوهم‪.،‬وكذلك الذين عاتبهم الّ‪ ،‬انقادوا للجهاد أشد‬
‫النقياد‪ ،‬وثبتهم الّ‪ ،‬وقيض لهم من السباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها‪.‬‬

‫وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام‪ ،‬قافلة كبيرة‪.،‬فلما سمعوا برجوعها من الشام‪،‬‬
‫ندب النبي صلى ال عليه وسلم الناس‪.،‬فخرج معه ثلثمائة‪ ،‬وبضعة عشر رجل معهم سبعون بعيرا‪ ،‬يعتقبون عليها‪ ،‬ويحملون عليها‬
‫ع ّدةٍ وافرة من السلح والخيل والرجال‪ ،‬يبلغ عددهم قريبا من‬
‫متاعهم‪.،‬فسمعت بخبرهم قريش‪ ،‬فخرجوا لمنع عيرهم‪ ،‬في عَدَ ٍد كثير و ُ‬
‫اللف‪.‬‬

‫فوعد الّ المؤمنين إحدى الطائفتين‪ ،‬إما أن يظفروا بالعير‪ ،‬أو بالنفير‪.،‬فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين‪ ،‬ولنها غير ذات شوكة‪.،‬ولكن‬
‫ل تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا‪.‬‬‫ا ّ‬

‫فينصر أهله‬ ‫حقّ ِبكَِلمَاتِهِ‬


‫حقّ الْ َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫َويُرِيدُ الُّ أَ ْ‬ ‫أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم‪.،‬‬

‫أي‪ :‬يستأصل أهل الباطل‪ ،‬ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم‪.‬‬ ‫َويَ ْقطَعَ دَابِرَ ا ْلكَافِرِينَ‬

‫بما يقيم من الدلة والشواهد‬ ‫َويُ ْبطِلَ ا ْلبَاطِلَ‬ ‫بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه‪.،‬‬ ‫حقّ‬
‫ِليُحِقّ الْ َ‬

‫ل بهم‪.‬‬
‫فل يبالي ا ّ‬ ‫وََل ْو كَرِهَ ا ْلمُجْرِمُونَ‬ ‫على بطلنه‬
‫ن بِهِ‬
‫طمَئِ ّ‬
‫جعََلهُ الُّ إِل بُشْرَى وَِل َت ْ‬ ‫ن * َومَا َ‬ ‫ف مِنَ ا ْلمَل ِئكَ ِة مُرْدِفِي َ‬
‫ستَجَابَ َلكُمْ َأنّي مُمِ ّدكُ ْم بِأَلْ ٍ‬ ‫ستَغِيثُونَ َرّبكُمْ فَا ْ‬‫إِ ْذ تَ ْ‬ ‫‪14 - 9‬‬
‫سمَا ِء مَاءً ِل ُيطَهّ َركُ ْم بِ ِه َويُذْهِبَ‬
‫عَليْكُ ْم مِنَ ال ّ‬ ‫حكِيمٌ * إِ ْذ ُيغَشّيكُمُ الّنعَاسَ َأمَنَ ًة ِمنْ ُه َويُنـزلُ َ‬ ‫عزِيزٌ َ‬ ‫عنْدِ الِّ إِنّ الَّ َ‬‫قُلُو ُبكُمْ َومَا النّصْرُ إِل مِنْ ِ‬
‫ن آ َمنُوا سَُأ ْلقِي فِي ُقلُوبِ‬ ‫ن وَِليَ ْر ِبطَ عَلَى قُلُوبِكُ ْم َويُ َثّبتَ بِهِ ال ْقدَامَ * إِ ْذ يُوحِي َرّبكَ ِإلَى ا ْلمَل ِئكَةِ َأنّي مَ َعكُمْ َف َثبّتُوا الّذِي َ‬ ‫ش ْيطَا ِ‬
‫ع ْنكُمْ رِجْزَ ال ّ‬
‫َ‬
‫لّ وَرَسُولَهُ فَإِنّ الَّ شَدِيدُ‬ ‫ن يُشَا ِققِ ا َ‬ ‫لّ وَرَسُولَ ُه َومَ ْ‬ ‫ل َبنَانٍ * َذِلكَ بَِأّنهُمْ شَاقّوا ا َ‬ ‫عنَاقِ وَاضْ ِربُوا ِم ْنهُمْ كُ ّ‬ ‫عبَ فَاضْ ِربُوا َف ْوقَ ال ْ‬ ‫ن كَفَرُوا الرّ ْ‬
‫الّذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫عذَابَ النّارِ‬


‫ا ْل ِعقَابِ * ذَِلكُمْ فَذُوقُو ُه وَأَنّ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬

‫ستَجَابَ َلكُمْ‬
‫فَا ْ‬ ‫أي‪ :‬اذكروا نعمة الّ عليكم‪ ،‬لما قارب التقاؤكم بعدوكم‪ ،‬استغثتم بربكم‪ ،‬وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم‬
‫وأغاثكم بعدة أمور‪.:‬‬

‫أي‪ :‬يردف بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫ف مِنَ ا ْلمَل ِئكَ ِة مُرْدِفِينَ‬


‫بِأَلْ ٍ‬ ‫منها‪ :‬أن الّ أمدكم‬

‫وإل‬ ‫ن بِهِ قُلُوبُكُمْ‬


‫طمَئِ ّ‬
‫وَِل َت ْ‬ ‫أي‪ :‬لتستبشر بذلك نفوسكم‪،‬‬ ‫إِل بُشْرَى‬ ‫أي‪ :‬إنـزال الملئكة‬ ‫جعَلَهُ الُّ‬
‫َومَا َ‬

‫ل يغالبه مغالب‪ ،‬بل هو القهار‪ ،‬الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة‬ ‫إِنّ الَّ عَزِيزٌ‬ ‫عدَ ٍد ول عُدَدٍ‪..‬‬
‫فالنصر بيد الّ‪ ،‬ليس بكثرة َ‬

‫حيث قدر المور بأسبابها‪ ،‬ووضع الشياء مواضعها‪.‬‬ ‫حكِيمٌ‬


‫َ‬ ‫العدد واللت ما بلغوا‪.‬‬

‫[أي] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل‪ ،‬ويكون‬ ‫ُيغَشّيكُمُ‬ ‫ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنـزل عليكم نعاسا‬

‫لكم وعلمة على النصر والطمأنينة‪.‬‬ ‫َأ َمنَةً‬

‫ومن ذلك‪ :‬أنه أنـزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث‪ ،‬وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه‪.‬‬

‫فإن الرض كانت سهلة دهسة‬ ‫َوُيثَّبتَ بِهِ القْدَامَ‬ ‫أي‪ :‬يثبتها فإن ثبات القلب‪ ،‬أصل ثبات البدن‪،‬‬ ‫وَِليَ ْر ِبطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ‬
‫فلما نـزل عليها المطر تلبدت‪ ،‬وثبتت به القدام‪.‬‬

‫أي‪ :‬ألقوا في قلوبهم‪،‬‬ ‫ن آ َمنُوا‬


‫َف َثبّتُوا الّذِي َ‬ ‫بالعون والنصر والتأييد‪،‬‬ ‫َأنّي مَ َعكُمْ‬ ‫ومن ذلك أن الّ أوحى إلى الملئكة‬
‫وألهموهم الجراءة على عدوهم‪ ،‬ورغبوهم في الجهاد وفضله‪.‬‬

‫الذي هو أعظم جند لكم عليهم‪،‬فإن الّ إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب‬ ‫عبَ‬‫ن َكفَرُوا الرّ ْ‬
‫سَُأ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِي َ‬
‫ل أكتافهم‪.‬‬
‫الكافرين‪ ،‬لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم ا ّ‬

‫أي‪ :‬مفصل‪.‬‬ ‫ل َبنَانٍ‬


‫وَاضْ ِربُوا ِمنْهُ ْم كُ ّ‬ ‫أي‪ :‬على الرقاب‬ ‫عنَاقِ‬
‫فَاضْ ِربُوا َف ْوقَ ال ْ‬

‫وهذا خطاب‪ ،‬إما للملئكة الذين أوحى ال إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر‪،‬أو للمؤمنين‬
‫يشجعهم الّ‪ ،‬ويعلمهم كيف يقتلون المشركين‪ ،‬وأنهم ل يرحمونهم‪،‬وذلك لنهم شاقوا ال ورسوله أي‪ :‬حاربوهما وبارزوهما بالعداوة‪.‬‬

‫ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم‪.‬‬ ‫لّ وَرَسُوَلهُ فَإِنّ الَّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ‬
‫ن يُشَا ِققِ ا َ‬
‫َومَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫عذَابَ النّارِ‬


‫وَأَنّ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫أيها المشاققون لّ ورسوله عذابا معجل‪.‬‬ ‫َفذُوقُوهُ‬ ‫العذاب المذكور‬ ‫َذِلكُمْ‬

‫وفي هذه القصة من آيات الّ العظيمة ما يدل على أن ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم رسول الّ حقا‪.‬‬
‫ل وعدهم وعدا‪ ،‬فأنجزهموه‪.‬‬
‫منها‪ :‬أن ا ّ‬

‫الية‪.‬‬ ‫لّ وَأُخْرَى كَافِ َر ٌة يَ َر ْونَهُ ْم ِمثَْليْهِمْ رَ ْأيَ ا ْل َعيْنِ‬


‫سبِيلِ ا ِ‬
‫َق ْد كَانَ َلكُ ْم آيَةٌ فِي ِف َئتَيْنِ ا ْل َتقَتَا ِفئَ ٌة ُتقَاتِلُ فِي َ‬ ‫ومنها‪ :‬ما قال الّ تعالى‪:‬‬

‫ل للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من السباب‪،‬وفيها العتناء العظيم بحال عباده المؤمنين‪ ،‬وتقييض السباب التي‬
‫ومنها‪ :‬إجابة دعوة ا ّ‬
‫بها ثبت إيمانهم‪ ،‬وثبتت أقدامهم‪ ،‬وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية‪.‬‬

‫ل بعبده أن يسهل عليه طاعته‪ ،‬وييسرها بأسباب داخلية وخارجية‪.‬‬


‫ومنها‪ :‬أن من لطف ا ّ‬

‫ن ُيوَلّهِ ْم َي ْومَئِذٍ ُدبُ َرهُ إِل مُتَحَرّفًا ِل ِقتَالٍ َأوْ‬


‫حفًا فَل ُتوَلّوهُمُ ال ْدبَا َر * َومَ ْ‬
‫ن َكفَرُوا زَ ْ‬
‫ن آ َمنُوا إِذَا َلقِيتُمُ الّذِي َ‬
‫يَا َأيّهَا الّذِي َ‬ ‫‪16 - 15‬‬

‫‪.‬‬ ‫ج َهنّمُ َو ِب ْئسَ ا ْلمَصِيرُ‬


‫لّ َومَأْوَاهُ َ‬
‫ب مِنَ ا ِ‬
‫ض ٍ‬
‫حيّزًا ِإلَى ِفئَةٍ َفقَ ْد بَا َء بِغَ َ‬
‫مُتَ َ‬

‫يأمر الّ تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة اليمانية‪ ،‬والقوة في أمره‪ ،‬والسعي في جلب السباب المقوية للقلوب والبدان‪،‬ونهاهم عن‬

‫أي‪ :‬في صف القتال‪ ،‬وتزاحف الرجال‪،‬‬ ‫حفًا‬


‫ن َكفَرُوا زَ ْ‬
‫ن آ َمنُوا إِذَا َلقِيتُمُ الّذِي َ‬
‫يَا َأيّهَا الّذِي َ‬ ‫الفرار إذا التقى الزحفان‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫بل اثبتوا لقتالهم‪ ،‬واصبروا على جلدهم‪ ،‬فإن في ذلك نصرة لدين الّ‪ ،‬وقوة‬ ‫فَل ُتوَلّوهُمُ ال ْدبَارَ‬ ‫واقتراب بعضهم من بعض‪،‬‬
‫لقلوب المؤمنين‪ ،‬وإرهابا للكافرين‪.‬‬

‫أي‪ :‬مقره‬ ‫لّ َومَأْوَاهُ‬


‫ب مِنَ ا ِ‬
‫ض ٍ‬
‫بِغَ َ‬ ‫أي‪ :‬رجع‬ ‫حيّزًا إِلَى ِفئَةٍ َفقَ ْد بَاءَ‬
‫ن ُيوَّلهِمْ َي ْومَئِذٍ ُدبُ َرهُ إِل مُتَحَرّفًا ِل ِقتَالٍ َأ ْو مُتَ َ‬
‫َومَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫ج َهنّ ُم وَ ِب ْئسَ ا ْلمَصِيرُ‬


‫َ‬

‫وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر‪ ،‬كما وردت بذلك الحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده‬
‫بهذا الوعيد الشديد‪.‬‬

‫ومفهوم الية‪ :‬أن المتحرف للقتال‪ ،‬وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى‪ ،‬ليكون أمكن له في القتال‪ ،‬وأنكى لعدوه‪ ،‬فإنه ل بأس بذلك‪،‬‬
‫لنه لم يول دبره فارا‪ ،‬وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه‪ ،‬أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته‪ ،‬أو ليخدعه بذلك‪ ،‬أو غير ذلك من‬
‫مقاصد المحاربين‪ ،‬وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار‪ ،‬فإن ذلك جائز‪،‬فإن كانت الفئة في العسكر‪ ،‬فالمر في هذا‬
‫واضح‪،‬وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر‬
‫آخر من عسكر المسلمين‪ ،‬فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز‪،‬ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن النهزام أحمد‬
‫عاقبة‪ ،‬وأبقى عليهم‪.‬‬

‫أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم‪ ،‬فيبعد ‪ -‬في هذه الحال ‪-‬أن تكون من الحوال المرخص فيها‪ ،‬لنه ‪ -‬على هذا ‪ -‬ل يتصور‬
‫الفرار المنهي عنه‪،‬وهذه الية مطلقة‪ ،‬وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد‪.‬‬

‫سمِيعٌ‬ ‫سنًا إِنّ الَّ َ‬ ‫ن ِمنْ ُه بَلءً حَ َ‬ ‫فََل ْم تَ ْقتُلُوهُ ْم وََلكِنّ الَّ َقتََلهُ ْم وَمَا َر َميْتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ َوَلكِنّ الَّ َرمَى وَِلُيبْلِيَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬ ‫‪19 - 17‬‬
‫عنْكُمْ ِف َئُتكُمْ‬
‫ن ُت ْغنِيَ َ‬
‫ن َتعُودُوا َنعُ ْد وَلَ ْ‬‫خيْرٌ َلكُ ْم وَإِ ْ‬ ‫ن َتنْ َتهُوا َفهُوَ َ‬
‫ح وَِإ ْ‬
‫ن تَسْ َتفْتِحُوا َفقَدْ جَا َءكُمُ ا ْلفَتْ ُ‬
‫ن كَيْدِ ا ْلكَافِرِينَ * ِإ ْ‬
‫لّ مُوهِ ُ‬
‫عَلِيمٌ * ذَِلكُ ْم وَأَنّ ا َ‬

‫‪.‬‬ ‫لّ مَعَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬


‫ت وَأَنّ ا َ‬
‫شيْئًا وََل ْو كَثُ َر ْ‬
‫َ‬

‫حيث‬ ‫وََلكِنّ الَّ َقتََلهُمْ‬ ‫بحولكم وقوتكم‬ ‫َفلَ ْم َتقْتُلُوهُمْ‬ ‫يقول تعالى ‪ -‬لما انهزم المشركون يوم بدر‪ ،‬وقتلهم المسلمون ‪-‬‬
‫أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره‪.‬‬

‫وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو الّ‪ ،‬ويناشده‬ ‫َومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َر َم ْيتَ وََلكِنّ الَّ َرمَى‬
‫في نصرته‪،‬ثم خرج منه‪ ،‬فأخذ حفنة من تراب‪ ،‬فرماها في وجوه المشركين‪ ،‬فأوصلها الّ إلى وجوههم‪،‬فما بقي منهم واحد إل وقد‬
‫أصاب وجهه وفمه وعينيه منها‪،‬فحينئذ انكسر حدهم‪ ،‬وفتر زندهم‪ ،‬وبان فيهم الفشل والضعف‪ ،‬فانهزموا‪.‬‬
‫وَِلُيبْلِيَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ‬ ‫يقول تعالى لنبيه‪ :‬لست بقوتك ‪ -‬حين رميت التراب ‪ -‬أوصلته إلى أعينهم‪ ،‬وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا‪.‬‬

‫أي‪ :‬إن الّ تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين‪ ،‬من دون مباشرة قتال‪،‬ولكن الّ أراد أن يمتحن‬ ‫سنًا‬
‫مِنْ ُه بَلءً حَ َ‬
‫المؤمنين‪ ،‬ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات‪ ،‬وأرفع المقامات‪ ،‬ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيل‪.‬‬

‫يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن‪ ،‬ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها‪،‬فيقدر على العباد‬ ‫علِيمٌ‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫إِنّ الَّ َ‬
‫أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده‪ ،‬ويجزي كل بحسب نيته وعمله‪.‬‬

‫أي‪ :‬مضعف كل مكر وكيد يكيدون به السلم وأهله‪،‬‬ ‫ن َكيْدِ ا ْلكَافِرِينَ‬


‫لّ مُوهِ ُ‬
‫وََأنّ ا َ‬ ‫النصر من الّ لكم‬ ‫َذِلكُمْ‬ ‫(‪)18‬‬
‫وجاعل مكرهم محيقا بهم‪.‬‬

‫أيها المشركون‪ ،‬أي‪ :‬تطلبوا من الّ أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين‪.‬‬ ‫ستَ ْفتِحُوا‬
‫ن تَ ْ‬
‫إِ ْ‬ ‫(‪)19‬‬

‫َف ُهوَ‬ ‫عن الستفتاح‬ ‫ن َتنْ َتهُوا‬


‫وَإِ ْ‬ ‫ل بكم من عقابه‪ ،‬ما كان نكال لكم وعبرة للمتقين‬
‫حين أوقع ا ّ‬ ‫َفقَدْ جَاءَكُمُ ا ْل َفتْحُ‬

‫في‬ ‫نَعُدْ‬ ‫إلى الستفتاح وقتال حزب ال المؤمنين‬ ‫وإن تعودوا‬ ‫لنه ربما أمهلتم‪ ،‬ولم يعجل لكم النقمة‪.‬‬ ‫خيْرٌ‬
‫َ‬
‫نصرهم عليكم‪.‬‬

‫أي‪ :‬أعوانكم وأنصاركم‪ ،‬الذين تحاربون وتقاتلون‪ ،‬معتمدين عليهم‪ ،‬شَيئا وأن ال مع الْمؤمنين‪.‬‬ ‫ع ْنكُمْ ِفئَ ُتكُمْ‬
‫ن تُ ْغنِيَ َ‬
‫وََل ْ‬

‫ومن كان الّ معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليل عدده‪ ،‬وهذه المعية التي أخبر الّ أنه يؤيد بها المؤمنين‪ ،‬تكون بحسب ما قاموا به‬
‫من أعمال اليمان‪.‬‬

‫فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الوقات‪ ،‬فليس ذلك إل تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب اليمان ومقتضاه‪ ،‬وإل فلو قاموا‬
‫ول أديل عليهم عدوهم أبدا‪.‬‬ ‫بما أمر الّ به من كل وجه‪ ،‬لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا]‬

‫سمِ ْعنَا وَهُ ْم ل‬


‫ن * وَل َتكُونُوا كَالّذِينَ قَالُوا َ‬
‫سمَعُو َ‬
‫ع ْن ُه وََأنْتُ ْم تَ ْ‬
‫لّ وَرَسُولَ ُه وَل َتوَّلوْا َ‬
‫ن آ َمنُوا َأطِيعُوا ا َ‬
‫يَا َأيّهَا الّذِي َ‬ ‫‪21 - 20‬‬

‫‪.‬‬ ‫يَسْ َمعُونَ‬

‫ن آ َمنُوا َأطِيعُوا الَّ‬


‫يَا َأّيهَا الّذِي َ‬ ‫لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين‪ ،‬أمرهم أن يقوموا بمقتضى اليمان الذي يدركون به معيته‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما‪.‬‬ ‫وَرَسُولَهُ‬

‫ما يتلى عليكم من كتاب الّ‪،‬‬ ‫وََأ ْنتُ ْم تَسْ َمعُونَ‬ ‫أي‪ :‬عن هذا المر الذي هو طاعة الّ‪ ،‬وطاعة رسوله‪.‬‬ ‫عنْهُ‬
‫وَل تَوَّلوْا َ‬
‫وأوامره‪ ،‬ووصاياه‪ ،‬ونصائحه‪،‬فتوليكم في هذه الحال من أقبح الحوال‪.‬‬

‫أي‪ :‬ل تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية التي ل حقيقة لها‪ ،‬فإنها حالة ل يرضاها‬ ‫س َمعُونَ‬
‫س ِمعْنَا وَهُ ْم ل يَ ْ‬
‫وَل تَكُونُوا كَالّذِينَ قَالُوا َ‬
‫الّ ول رسوله‪،‬فليس اليمان بالتمني والتحلي‪ ،‬ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته العمال‪.‬‬
‫س َم َعهُمْ َلتَوَّلوْا وَهُمْ‬
‫خيْرًا لسْ َمعَهُ ْم وََلوْ أَ ْ‬
‫ن * َوَلوْ عَلِمَ الُّ فِيهِمْ َ‬
‫ن ل َيعْقِلُو َ‬
‫عنْدَ الِّ الصّمّ ا ْلُبكْمُ الّذِي َ‬
‫إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ ِ‬ ‫‪23 - 22‬‬

‫‪.‬‬ ‫مُعْرِضُونَ‬

‫ا ْلُبكْمُ‬ ‫عن استماع الحق‬ ‫الصّمّ‬ ‫من لم تفد فيهم اليات والنذر‪،‬وهم‬ ‫عنْدَ الِّ‬
‫إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ ِ‬ ‫يقول تعالى‪:‬‬

‫الدواب‪ ،‬لن الّ‬ ‫ل من جميع‬ ‫ما ينفعهم‪ ،‬ويؤثرونه على ما يضرهم‪،‬فهؤلء شر عند ا ّ‬ ‫ن ل يَ ْعقِلُونَ‬
‫الّذِي َ‬ ‫عن النطق به‪.‬‬
‫أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة‪ ،‬ليستعملوها في طاعة الّ‪ ،‬فاستعملوها في معاصيه وعدموا ‪ -‬بذلك ‪ -‬الخير الكثير‪،‬فإنهم كانوا بصدد أن‬
‫يكونوا من خيار البرية‪.‬‬

‫ل عنهم‪ ،‬سمع المعنى المؤثر في القلب‪،‬وأما سمع‬ ‫فأبوا هذا الطريق‪ ،‬واختاروا لنفسهم أن يكونوا من شر البرية‪،‬والسمع الذي نفاه ا ّ‬
‫ل تعالى عليهم بما سمعوه من آياته‪،‬وإنما لم يسمعهم السماع النافع‪ ،‬لنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع‬
‫الحجة‪ ،‬فقد قامت حجة ا ّ‬
‫آياته‪.‬‬

‫وَهُ ْم مُعْرِضُونَ‬ ‫عن الطاعة‬ ‫َلتَوَّلوْا‬ ‫على الفرض والتقدير‬ ‫س َمعَهُمْ‬


‫س َمعَهُ ْم وََلوْ أَ ْ‬
‫خيْرًا ل ْ‬
‫علِمَ الُّ فِيهِمْ َ‬
‫وََلوْ َ‬
‫ل التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه‪،‬وهذا دليل على أن الّ تعالى ل يمنع اليمان والخير‪ ،‬إل لمن ل خير فيه‪ ،‬الذي ل يزكو لديه ول‬
‫يثمر عنده‪. .‬وله الحمد تعالى والحكمة في هذا‪.‬‬

‫ل َبيْنَ ا ْلمَ ْر ِء وَقَ ْلبِ ِه وََأنّهُ إَِليْهِ‬


‫لّ يَحُو ُ‬
‫حيِيكُ ْم وَاعَْلمُوا َأنّ ا َ‬
‫ستَجِيبُوا لِّ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ِلمَا يُ ْ‬
‫ن آ َمنُوا ا ْ‬
‫يَا َأيّهَا الّذِي َ‬ ‫‪25 - 24‬‬

‫‪.‬‬ ‫عَلمُوا أَنّ الَّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ‬


‫ن ظََلمُوا مِ ْنكُمْ خَاصّ ًة وَا ْ‬
‫تُحْشَرُونَ * وَاتّقُوا ِف ْتنَ ًة ل تُصِيبَنّ الّذِي َ‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه اليمان منهم وهو الستجابة لّ وللرسول‪ ،‬أي‪ :‬النقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة‬
‫إليه‪ ،‬والجتناب لما نهيا عنه‪ ،‬والنكفاف عنه والنهي عنه‪.‬‬

‫ل ورسوله إليه‪ ،‬وبيان لفائدته وحكمته‪ ،‬فإن حياة القلب والروح‬


‫وصف ملزم لكل ما دعا ا ّ‬ ‫إِذَا َدعَاكُمْ ِلمَا يُحْيِيكُمْ‬ ‫وقوله‪:‬‬
‫بعبودية الّ تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام‪.‬‬

‫ل أول ما يأتيكم‪،‬‬
‫فإياكم أن تردوا أمر ا ّ‬ ‫ل َبيْنَ ا ْلمَ ْر ِء وَقَ ْلبِهِ‬
‫لّ يَحُو ُ‬
‫وَاعَْلمُوا أَنّ ا َ‬ ‫ثم حذر عن عدم الستجابة لّ وللرسول فقال‪:‬‬
‫ل يحول بين المرء وقلبه‪ ،‬يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء‪.‬‬ ‫فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك‪ ،‬وتختلف قلوبكم‪ ،‬فإن ا ّ‬

‫فليكثر العبد من قول‪ :‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‪ ،‬يا مصرف القلوب‪ ،‬اصرف قلبي إلى طاعتك‪.‬‬

‫أي‪ :‬تجمعون ليوم ل ريب فيه‪ ،‬فيجازي المحسن بإحسانه‪ ،‬والمسيء بعصيانه‪.‬‬ ‫وََأنّهُ إَِليْ ِه تُحْشَرُونَ‬

‫بل تصيب فاعل الظلم وغيره‪،‬وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير‪ ،‬فإن عقوبته تعم‬ ‫ن ظََلمُوا مِ ْنكُمْ خَاصّةً‬
‫وَا ّتقُوا ِف ْتنَ ًة ل تُصِيبَنّ الّذِي َ‬
‫هذه الفتنة بالنهي عن المنكر‪ ،‬وقمع أهل الشر والفساد‪ ،‬وأن ل يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن‪.‬‬ ‫الفاعل وغيره‪،‬وتقوى‬

‫لمن تعرض لمساخطه‪ ،‬وجانب رضاه‪.‬‬ ‫وَاعَْلمُوا أَنّ الَّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ‬

‫س فَآوَا ُكمْ وََأّيدَكُ ْم ِبنَصْرِهِ‬


‫ن َيتَخَطّ َفكُمُ النّا ُ‬
‫ض تَخَافُونَ أَ ْ‬
‫ن فِي الرْ ِ‬
‫ضعَفُو َ‬
‫ستَ ْ‬
‫ل مُ ْ‬
‫وَاذْكُرُوا ِإذْ َأ ْنتُ ْم قَلِي ٌ‬ ‫‪26‬‬

‫‪.‬‬ ‫شكُرُونَ‬
‫طّيبَاتِ َلعَّلكُ ْم تَ ْ‬
‫وَ َر َز َقكُ ْم مِنَ ال ّ‬
‫يقول تعالى ممتنا على عباده في نصرهم بعد الذلة‪ ،‬وتكثيرهم بعد القلة‪ ،‬وإغنائهم بعد العيلة‪.‬‬

‫ن َيتَخَطّ َف ُكمُ‬
‫تَخَافُونَ أَ ْ‬ ‫أي‪ :‬مقهورون تحت حكم غيركم‬ ‫ن فِي الرْضِ‬
‫ضعَفُو َ‬
‫ستَ ْ‬
‫ل مُ ْ‬
‫وَاذْكُرُوا ِإذْ َأ ْنتُ ْم قَلِي ٌ‬

‫أي‪ :‬يأخذونكم‪.‬‬ ‫النّاسُ‬

‫فجعل لكم بلدا تأوون إليه‪ ،‬وانتصر من أعدائكم على أيديكم‪،‬‬ ‫طّيبَاتِ‬
‫فَآوَاكُمْ وََأّي َدكُ ْم ِبنَصْرِهِ َورَ َز َقكُ ْم مِنَ ال ّ‬
‫وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء‪.‬‬

‫الّ على منته العظيمة وإحسانه التام‪ ،‬بأن تعبدوه ول تشركوا به شيئا‪.‬‬ ‫ش ُكرُونَ‬
‫َلعَّلكُ ْم تَ ْ‬

‫ن آ َمنُوا ل تَخُونُوا الَّ وَالرّسُولَ َوتَخُونُوا َأمَانَا ِتكُمْ وََأ ْنتُ ْم تَعَْلمُونَ * وَاعَْلمُوا َأّنمَا‬
‫يَا َأيّهَا اّلذِي َ‬ ‫‪28 - 27‬‬

‫‪.‬‬ ‫ع ْندَهُ َأجْرٌ عَظِيمٌ‬


‫َأمْوَاُلكُمْ َوأَوْلدُكُ ْم ِف ْتنَةٌ وَأَنّ الَّ ِ‬

‫ل عليه من أوامره ونواهيه‪ ،‬فإن المانة قد عرضها الّ على‬‫يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم ا ّ‬
‫السماوات والرض والجبال‪ ،‬فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها النسان إنه كان ظلوما جهولفمن أدى‬
‫المانة استحق من الّ الثواب الجزيل‪ ،‬ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل‪ ،‬وصار خائنا لّ وللرسول‬
‫ولمانته‪ ،‬منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات‪ ،‬وأقبح الشيات‪ ،‬وهي الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات‬
‫وأتمها‪ ،‬وهي المانة‪.‬‬

‫ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته‪ ،‬أخبر‬ ‫ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولده‪ ،‬فربما حمله محبة‬
‫ل بهما عباده‪ ،‬وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها‪ ،‬وترد لمن استودعها‬
‫الّ تعالى أن الموال والولد فتنة يبتلي ا ّ‬

‫عنْدَهُ َأجْرٌ عَظِيمٌ‬


‫َوأَنّ الَّ ِ‬

‫فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ‪ ،‬فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة‪ ،‬فالعاقل يوازن بين الشياء‪ ،‬ويؤثر‬
‫أولها باليثار‪ ،‬وأحقها بالتقديم‪.‬‬

‫لّ ذُو الْ َفضْلِ‬


‫سّيئَا ِتكُمْ َو َيغْفِرْ َلكُمْ وَا ُ‬
‫ع ْنكُمْ َ‬
‫جعَلْ َلكُ ْم فُ ْرقَانًا َو ُيكَفّرْ َ‬
‫لّ يَ ْ‬
‫ن َتتّقُوا ا َ‬
‫ن آ َمنُوا إِ ْ‬
‫يَا َأيّهَا اّلذِي َ‬ ‫‪29‬‬

‫‪.‬‬ ‫ا ْلعَظِيمِ‬

‫امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة‪ ،‬وعلمة الفلح‪ ،‬وقد رتب الّ على التقوى من خير الدنيا والخرة شيئا‬
‫كثيرا‪،‬فذكر هنا أن من اتقى الّ حصل له أربعة أشياء‪ ،‬كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها‪:‬‬

‫الول‪ :‬الفرقان‪ :‬وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلل‪ ،‬والحق والباطل‪ ،‬والحلل‬
‫والحرام‪ ،‬وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪.‬‬

‫الثاني والثالث‪ :‬تكفير السيئات‪ ،‬ومغفرة الذنوب‪،‬وكل واحد منهما داخل في الخر عند الطلق وعند الجتماع‬
‫يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر‪ ،‬ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر‪.‬‬

‫لّ ذُو ا ْلفَضْلِ ا ْلعَظِيمِ‬


‫وَا ُ‬ ‫الرابع‪ :‬الجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه‪.‬‬
‫خيْرُ‬
‫َوِإذْ َي ْمكُ ُر ِبكَ اّلذِينَ َكفَرُوا ِليُ ْث ِبتُوكَ َأ ْو يَ ْقتُلُوكَ أَ ْو يُخْ ِرجُوكَ َو َي ْمكُرُونَ َو َيمْكُرُ الُّ وَالُّ َ‬ ‫‪30‬‬

‫‪.‬‬ ‫ا ْلمَاكِرِينَ‬

‫حين تشاور‬ ‫ِإ ْذ َي ْمكُرُ ِبكَ اّلذِينَ َكفَرُوا‬ ‫عليك‪.‬‬ ‫ل به‬


‫أذكر أيها الرسول‪ ،‬ما منّ ا ّ‬ ‫و‬ ‫أي‪:‬‬
‫المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه‪.‬‬

‫وإما أن يقتلوه فيستريحوا ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬من شره‪.‬‬

‫وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم‪.‬‬

‫فكلّ أبدى من هذه الراء رأيا رآه‪،‬فاتفق رأيهم على رأي‪ :‬رآه شريرهم أبو جهل لعنه الّ‪،‬وهو أن يأخذوا من كل‬
‫قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما‪ ،‬ويقتله الجميع قتلة رجل واحد‪ ،‬ليتفرق دمه في القبائل‪.‬فيرضى‬
‫قريش‪ ،‬فترصدوا للنبي صلى ال عليه وسلم في الليل‬ ‫بنو هاشم [ َثمّ] بديته‪ ،‬فل يقدرون على مقاومة سائر‬
‫ليوقعوا به إذا قام من فراشه‪.‬‬

‫ل أبصارهم عنه‪ ،‬حتى إذا‬


‫فجاءه الوحي من السماء‪ ،‬وخرج عليهم‪ ،‬فذرّ على رءوسهم التراب وخرج‪ ،‬وأعمى ا ّ‬
‫استبطؤوه جاءهم آت وقال‪ :‬خيبكم الّ‪ ،‬قد خرج محمد وذَرّ على رءوسكم التراب‪.‬‬

‫فنفض كل منهم التراب عن رأسه‪ ،‬ومنع الّ رسوله منهم‪ ،‬وأذن له في الهجرة إلى المدينة‪،‬فهاجر إليها‪ ،‬وأيده الّ‬
‫بأصحابه المهاجرين والنصار‪،‬ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة‪ ،‬وقهر أهلها‪،‬فأذعنوا له وصاروا تحت‬
‫حكمه‪ ،‬بعد أن خرج مستخفيا منهم‪ ،‬خائفا على نفسه‪.‬‬

‫فسبحان اللطيف بعبده الذي ل يغالبه مغالب‪.‬‬

‫س ِم ْعنَا لَ ْو نَشَاءُ َلقُ ْلنَا ِمثْلَ َهذَا إِنْ َهذَا إِل أَسَاطِي ُر‬
‫َوِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَا ُتنَا قَالُوا َقدْ َ‬ ‫وقوله‪:‬‬ ‫‪34 - 31‬‬
‫سمَاءِ َأ ِو ا ْئتِنَا ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ * َومَا‬
‫ك فََأمْطِرْ عََل ْينَا حِجَارَ ًة مِنَ ال ّ‬
‫عنْ ِد َ‬
‫ق مِنْ ِ‬ ‫ن كَانَ َهذَا هُوَ ا ْلحَ ّ‬
‫الوّلِينَ * وَِإذْ قَالُوا الّلهُمّ إِ ْ‬

‫س َتغْ ِفرُونَ *‬
‫لّ ُم َعذّ َبهُمْ وَهُ ْم يَ ْ‬
‫ت فِيهِمْ َومَا كَانَ ا ُ‬
‫كَانَ الُّ ِل ُي َعذّ َبهُمْ وََأنْ َ‬

‫‪.‬‬ ‫ن وََلكِنّ َأ ْكثَرَهُ ْم ل َيعَْلمُونَ‬


‫عنِ ا ْلمَسْجِدِ الْحَرَا ِم َومَا كَانُوا َأوِْليَا َءهُ إِنْ َأوِْليَاؤُهُ إِل ا ْلمُ ّتقُو َ‬
‫صدّونَ َ‬
‫لّ وَهُ ْم يَ ُ‬
‫َومَا َلهُمْ أَل يُعَ ّذ َبهُمُ ا ُ‬

‫الدالة على صدق ما جاء به الرسول‪.‬‬ ‫وَِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَاتُنَا‬ ‫يقول تعالى في بيان عناد المكذبين للرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫ل أن يأتوا بسورة‬
‫وهذا من عنادهم وظلمهم‪،‬وإل فقد تحداهم ا ّ‬ ‫س ِم ْعنَا َلوْ نَشَاءُ َلقُ ْلنَا مِثْلَ هَذَا ِإنْ هَذَا إِل أَسَاطِي ُر الوّلِينَ‬
‫قَالُوا قَدْ َ‬
‫من مثله‪ ،‬ويدعوا من استطاعوا من دون الّ‪ ،‬فلم يقدروا على ذلك‪ ،‬وتبين عجزهم‪.‬‬

‫ي ل يقرأ ول يكتب‪ ،‬ول رحل ليدرس‬


‫فهذا القول الصادر من هذا القائل مجرد دعوى‪ ،‬كذبه الواقع‪،‬وقد علم أنه صلى ال عليه وسلم ُأمّ ّ‬
‫من أخبار الولين‪ ،‬فأتى بهذا الكتاب الجليل الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬تنـزيل من حكيم حميد‪.‬‬

‫سمَاءِ َأ ِو ا ْئ ِتنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ‬


‫عَليْنَا حِجَا َر ًة مِنَ ال ّ‬
‫عنْ ِدكَ فََأ ْمطِرْ َ‬
‫ق مِنْ ِ‬
‫حّ‬‫ُهوَ الْ َ‬ ‫الذي يدعو إليه محمد‬ ‫ن كَانَ هَذَا‬
‫وَِإذْ قَالُوا الّلهُمّ ِإ ْ‬

‫قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم‪ ،‬والجهل بما ينبغي من الخطاب‪.‬‬
‫فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه‪ ،‬قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق‬
‫معه‪ :‬إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له‪ ،‬لكان أولى لهم وأستر لظلمهم‪.‬‬

‫الية‪ ،‬علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الغبياء‪ ،‬الجهلة الظالمون‪،‬فلو عاجلهم‬ ‫عنْ ِدكَ‬
‫ق مِنْ ِ‬
‫حّ‬‫ن كَانَ َهذَا ُهوَ الْ َ‬
‫الّلهُمّ إِ ْ‬ ‫فمنذ قالوا‪:‬‬

‫َومَا كَانَ الُّ ِلُيعَ ّذبَهُ ْم وََأ ْنتَ‬ ‫ل بالعقاب لما أبقى منهم باقية‪ ،‬ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اّ‬

‫فوجوده صلى ال عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب‪.‬‬ ‫فِيهِمْ‬

‫وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الشهاد‪ ،‬يدرون بقبحها‪ ،‬فكانوا يخافون من وقوعها فيهم‪ ،‬فيستغفرون الّ‬

‫لّ ُمعَذّ َبهُ ْم وَهُ ْم يَسْ َت ْغفِرُونَ‬


‫َومَا كَانَ ا ُ‬ ‫[تعالى فلهذا] قال تعالى‪:‬‬

‫أي‪ :‬أي شيء يمنعهم من عذاب‬ ‫َومَا َلهُمْ أَل ُيعَ ّذبَهُمُ الُّ‬ ‫فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم‪ ،‬بعد ما انعقدت أسبابه ثم قال‪:‬‬
‫الّ‪ ،‬وقد فعلوا ما يوجب ذلك‪ ،‬وهو صد الناس عن المسجد الحرام‪ ،‬خصوصا صدهم النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬الذين هم‬

‫يحتمل أن الضمير يعود إلى الّ‪ ،‬أي‪ :‬أولياء‬ ‫َأوِْليَاءَهُ‬ ‫أي‪ :‬المشركون‬ ‫َومَا كَانُوا‬ ‫أولى به منهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫وهم الذين آمنوا بالّ‬ ‫إِنْ َأوِْليَا ُؤهُ إِل ا ْلمُ ّتقُونَ‬ ‫الّ‪.‬ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام‪ ،‬أي‪ :‬وما كانوا أولى به من غيرهم‪.‬‬

‫عوْا لنفسهم أمرا غيرهم أولى‬


‫فلذلك ادّ َ‬ ‫وََلكِنّ َأ ْكثَرَهُ ْم ل َيعَْلمُونَ‬ ‫ورسوله‪ ،‬وأفردوا الّ بالتوحيد والعبادة‪ ،‬وأخلصوا له الدين‪.‬‬
‫به‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫عنْدَ ا ْل َب ْيتِ إِل ُمكَاءً َوتَصْ ِديَةً َفذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُ ْنتُ ْم تَ ْكفُرُونَ‬
‫َومَا كَانَ صَل ُتهُمْ ِ‬ ‫‪35‬‬

‫ل تعالى إنما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه‪ ،‬وتخلص له فيه العبادة‪،‬فالمؤمنون هم الذين قاموا بهذا المر‪،‬وأما هؤلء‬
‫يعني أن ا ّ‬

‫أي‪ :‬صفيرا وتصفيقا‪،‬‬ ‫إِل ُمكَاءً َوتَصْ ِديَةً‬ ‫المشركون الذين يصدون عنه‪ ،‬فما كان صلتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات‬
‫فعل الجهلة الغبياء‪ ،‬الذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم‪ ،‬ول معرفة بحقوقه‪ ،‬ول احترام لفضل البقاع وأشرفها‪،‬فإذا كانت هذه صلتهم‬
‫فيه‪ ،‬فكيف ببقية العبادات؟"‪.‬‬

‫فبأي‪ :‬شيء كانوا أولى بهذا البيت من المؤمنين الذين هم في صلتهم خاشعون‪ ،‬والذين هم عن اللغو معرضون‪ ،‬إلى آخر ما وصفهم الّ‬
‫به من الصفات الحميدة‪ ،‬والفعال السديدة‪.‬‬

‫جسٌ فَل يَقْ َربُوا‬


‫ن نَ َ‬
‫ن آ َمنُوا ِإنّمَا ا ْلمُشْرِكُو َ‬
‫يَا َأيّهَا الّذِي َ‬ ‫ل بيته الحرام‪ ،‬ومكنهم منه‪،‬وقال لهم بعد ما مكن لهم فيه‬
‫ل جرم أورثهم ا ّ‬

‫َفذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُ ْنتُ ْم تَ ْكفُرُونَ‬ ‫وقال هنا‬ ‫ا ْلمَسْجِدَ الْحَرَا َم َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا‬

‫ن َكفَرُوا‬
‫ن وَالّذِي َ‬‫سيُ ْن ِفقُو َنهَا ثُ ّم َتكُونُ عََل ْيهِمْ حَسْ َرةً ثُ ّم ُيغَْلبُو َ‬
‫سبِيلِ الِّ فَ َ‬
‫ن َكفَرُوا ُينْ ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ ِليَصُدّوا عَنْ َ‬
‫إِنّ الّذِي َ‬ ‫‪37 - 36‬‬
‫ج َهنّمَ أُوَل ِئكَ ُهمُ‬
‫جمِيعًا َفيَجْعََلهُ فِي َ‬ ‫ضهُ عَلَى بَعْضٍ َفيَ ْر ُكمَهُ َ‬ ‫ث بَعْ َ‬
‫خبِي َ‬
‫ب َويَجْعَلَ الْ َ‬ ‫طيّ ِ‬
‫خبِيثَ مِنَ ال ّ‬ ‫جهَنّ َم يُحْشَرُونَ * ِل َيمِيزَ الُّ الْ َ‬
‫إِلَى َ‬

‫‪.‬‬ ‫الْخَاسِرُونَ‬

‫يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم‪ ،‬ومبارزتهم لّ ولرسوله‪ ،‬وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته‪ ،‬وأن وبال مكرهم‬

‫أي‪ :‬ليبطلوا الحق‬ ‫سبِيلِ الِّ‬


‫عنْ َ‬
‫ن َكفَرُوا ُي ْن ِفقُونَ َأمْوَاَلهُمْ ِليَصُدّوا َ‬
‫إِنّ الّذِي َ‬ ‫سيعود عليهم‪ ،‬ول يحيق المكر السيئ إل بأهله‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وينصروا الباطل‪ ،‬ويبطل توحيد الرحمن‪ ،‬ويقوم دين عبادة الوثان‪.‬‬
‫أي‪ :‬فسيصدرون هذه النفقة‪ ،‬وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل‪ ،‬وشدة بغضهم للحق‪ ،‬ولكنها ستكون عليهم حسرة‪،‬‬ ‫سُي ْن ِفقُونَهَا‬
‫فَ َ‬

‫ج َهنّمَ‬
‫ن َكفَرُوا إِلَى َ‬
‫وَالّذِي َ‬ ‫أي‪ :‬ندامة وخزيا وذل ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا‪ ،‬ويعذبون في الخرة أشد العذاب‪ .‬ولهذا قال‪:‬‬

‫أي‪ :‬يجمعون إليها‪ ،‬ليذوقوا عذابها‪ ،‬وذلك لنها دار الخبث والخبثاء‪ ،‬والّ تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب‪ ،‬ويجعل‬ ‫يُحْشَرُونَ‬

‫جعَلَهُ‬
‫جمِيعًا َفيَ ْ‬
‫َفيَ ْر ُكمَهُ َ‬ ‫كل واحدة على حدة‪ ،‬وفي دار تخصه‪،‬فيجعل الخبيث بعضه على بعض‪ ،‬من العمال والموال والشخاص‪.‬‬

‫الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‪ ،‬أل ذلك هو الخسران المبين‪.‬‬ ‫ج َهنّمَ أُوَل ِئكَ ُهمُ الْخَاسِرُونَ‬
‫فِي َ‬

‫حتّى ل تَكُونَ‬
‫ن * وَقَاتِلُوهُمْ َ‬
‫سنّ ُة الوّلِي َ‬
‫ضتْ ُ‬
‫ن َيعُودُوا َفقَ ْد مَ َ‬
‫ف وَإِ ْ‬
‫ن َي ْنتَهُوا ُيغْفَرْ َلهُ ْم مَا قَدْ سََل َ‬
‫ن َكفَرُوا إِ ْ‬
‫قُلْ لِلّذِي َ‬ ‫‪40 - 38‬‬

‫‪.‬‬ ‫لّ مَوْلكُمْ ِنعْمَ ا ْل َموْلَى َو ِنعْمَ النّصِيرُ‬


‫ن تَوَّلوْا فَاعَْلمُوا َأنّ ا َ‬
‫ن بَصِي ٌر * وَِإ ْ‬
‫لّ ِبمَا َيعْمَلُو َ‬
‫ن ا ْن َت َهوْا فَإِنّ ا َ‬
‫ن كُلّهُ لِّ فَإِ ِ‬
‫ِف ْتنَ ٌة وَ َيكُونَ الدّي ُ‬

‫هذا من لطفه تعالى بعباده ل يمنعه كفر العباد ول استمرارهم في العناد‪ ،‬من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى‪ ،‬وينهاهم عما يهلكهم‬

‫عن كفرهم وذلك بالسلم لّ وحده ل شريك له‪.‬‬ ‫ن َي ْنتَهُوا‬


‫ن َكفَرُوا إِ ْ‬
‫قُلْ لِلّذِي َ‬ ‫من أسباب الغي والردى‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫بإهلك‬ ‫سنّ ُة الوّلِينَ‬


‫ضتْ ُ‬
‫َفقَ ْد مَ َ‬ ‫إلى كفرهم وعنادهم‬ ‫ن َيعُودُوا‬
‫وَإِ ْ‬ ‫منهم من الجرائم‬ ‫ُي ْغفَرْ َلهُمْ مَا َقدْ سَلَفَ‬
‫المم المكذبة‪ ،‬فلينتظروا ما حل بالمعاندين‪ ،‬فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‪،‬فهذا خطابه للمكذبين ‪ ،‬وأما خطابه للمؤمنين عندما‬

‫أي‪ :‬شرك وصد عن سبيل الّ‪ ،‬ويذعنوا لحكام السلم‪،‬‬ ‫حتّى ل تَكُونَ ِف ْتنَةٌ‬
‫وَقَاتِلُوهُمْ َ‬ ‫أمرهم بمعاملة الكافرين‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫فهذا المقصود من القتال والجهاد لعداء الدين‪ ،‬أن يدفع شرهم عن الدين‪ ،‬وأن يذب عن دين الّ الذي خلق‬ ‫ن كُلّهُ لِّ‬
‫َويَكُونَ الدّي ُ‬
‫الخلق له‪ ،‬حتى يكون هو العالي على سائر الديان‪.‬‬

‫ل تخفى عليه منهم خافية‪.‬‬ ‫ن بَصِيرٌ‬


‫لّ ِبمَا َي ْعمَلُو َ‬
‫فَإِنّ ا َ‬ ‫عن ما هم عليه من الظلم‬ ‫ن ا ْن َتهَوْا‬
‫َفإِ ِ‬

‫الذي يتولى عباده المؤمنين‪،‬‬ ‫لّ َموْلكُ ْم ِنعْمَ ا ْل َموْلَى‬


‫فَاعَْلمُوا َأنّ ا َ‬ ‫عن الطاعة وأوضعوا في الضاعة‬ ‫ن َتوَّلوْا‬
‫وَِإ ْ‬

‫الذي ينصرهم‪ ،‬فيدفع عنهم كيد الفجار‪،‬‬ ‫َونِعْمَ النّصِيرُ‬ ‫لهم منافعهم الدينية والدنيوية‪.‬‬ ‫ويوصل إليهم مصالحهم‪ ،‬وييسر‬
‫وتكالب الشرار‪.‬‬

‫ل موله وناصره فل خوف عليه‪ ،‬ومن كان الّ عليه فل عِزّ له ول قائمة له‪.‬‬
‫ومن كان ا ّ‬

‫السعدي الجزء العاشر من ‪ 41‬سورة النفال إلى التوبة‬


‫‪92‬‬

‫بمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ ِلّلهِ خُمُسَهُ وَ ِل لرّ سُولِ وَ لِذِي ا ْلقُرْببَى وَا ْلَي تَامَى‬
‫{ ‪ { }ْ 42 - 41‬وَاعْلَمُوا أَ نّمَا غَنِمْت ُ‬
‫ج ْمعَانِ‬
‫ن وَابْنِ السّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّ ِه َومَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا َيوْمَ ا ْلفُ ْرقَانِ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ‬
‫وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫س َفلَ مِ ْنكُ ْم وََلوْ‬
‫صوَى وَال ّركْبُ أَ ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْ ُتمْ بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا وَهُمْ بِا ْل ُع ْد َوةِ ا ْلقُ ْ‬
‫وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫َتوَاعَدْتُمْ لَاخْتََلفْتُمْ فِي ا ْلمِيعَا ِد وََلكِنْ لِ َي ْقضِيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّنَ ٍة وَيَحْيَا مَنْ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ}‬
‫حيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ َل َ‬
‫َ‬

‫شيْءٍ ْ} أي‪ :‬أخذتم من مال الكفار قهرا بحق‪ ،‬قليل كان أو‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَاعَْلمُوا أَ ّنمَا غَ ِنمْ ُتمْ مِنْ َ‬
‫خمُسَهُ ْ} أي‪ :‬وباقيه لكم أيها الغانمون‪ ،‬لنه أضاف الغنيمة إليهم‪ ،‬وأخرج منها‬
‫كثيرا‪ { .‬فَأَنّ ِللّهِ ُ‬
‫خمسها‪.‬فدل على أن الباقي لهم‪ ،‬يقسم على ما قسمه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ :‬للراجل‬
‫سهم‪ ،‬وللفارس سهمان لفرسه‪ ،‬وسهم له‪.‬‬

‫وأما هذا الخمس‪ ،‬فيقسم خمسة أسهم‪ ،‬سهم للّه ولرسوله‪ ،‬يصرف في مصالح المسلمين العامة‪ ،‬من‬
‫غير تعيين لمصلحة‪ ،‬لن اللّه جعله له ولرسوله‪ ،‬واللّه ورسوله غنيان عنه‪ ،‬فعلم أنه لعباد اللّه‪.‬فإذا‬
‫لم يعين اللّه له مصرفا‪ ،‬دل على أن مصرفه للمصالح العامة‪.‬‬

‫والخمس الثاني‪ :‬لذي القربى‪ ،‬وهم قرابة النبي صلى ال عليه وسلم من بني هاشم وبني‬
‫المطلب‪.‬وأضافه اللّه إلى القرابة دليل على أن العلة فيه مجرد القرابة‪ ،‬فيستوي فيه غنيهم‬
‫وفقيرهم‪ ،‬ذكرهم وأنثاهم‪.‬‬

‫والخمس الثالث لليتامى‪ ،‬وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار‪ ،‬جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة‬
‫بهم‪ ،‬حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم‪ ،‬وقد فقد من يقوم بمصالحهم‪.‬‬

‫والخمس الرابع للمساكين‪ ،‬أي‪ :‬المحتاجين الفقراء من صغار وكبار‪ ،‬ذكور وإناث‪.‬‬

‫والخمس الخامس لبن السبيل‪ ،‬وهو الغريب المنقطع به في غير بلده‪[ ،‬وبعض المفسرين يقول‬
‫إن خمس الغنيمة ل يخرج عن هذه الصناف ول يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك تبع‬
‫للمصلحة وهذا هو الولى] وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا لليمان فقال‪ { :‬إِنْ كُنْتُمْ‬
‫آمَنْتُمْ بِاللّ ِه َومَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا َيوْمَ ا ْلفُ ْرقَانِ ْ} وهو يوم { بدر ْ} الذي فرق اللّه به بين الحق‬
‫والباطل‪ .‬وأظهر الحق وأبطل الباطل‪.‬‬

‫ج ْمعَانِ ْ} جمع المسلمين‪ ،‬وجمع الكافرين‪،‬أي‪ :‬إن كان إيمانكم باللّه‪ ،‬وبالحق الذي‬
‫{ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ‬
‫أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان‪ ،‬الذي حصل فيه من اليات والبراهين‪ ،‬ما دل على أن ما جاء‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ ْ} ل يغالبه أحد إل غلبه‪.‬‬
‫به هو الحق‪ { .‬وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫{ ِإذْ أَنْتُمْ بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا ْ} أي‪ :‬بعدوة الوادي القريبة من المدينة‪ ،‬وهم بعدوته أي‪ :‬جانبه البعيدة من‬
‫المدينة‪ ،‬فقد جمعكم واد واحد‪.‬‬
‫سفَلَ مِ ْنكُمْ ْ} مما يلي ساحل البحر‪.‬‬
‫{ وَال ّر ْكبُ ْ} الذي خرجتم لطلبه‪ ،‬وأراد اللّه غيره { َأ ْ‬

‫{ وََلوْ َتوَاعَدْتُمْ ْ} أنتم وإياهم على هذا الوصف وبهذه الحال { لَاخْتََلفْتُمْ فِي ا ْلمِيعَادِ ْ} أي‪ :‬ل بد من‬
‫تقدم أو تأخر أو اختيار منزل‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬مما يعرض لكم أو لهم‪ ،‬يصدفكم عن ميعادكم‬

‫ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا ْ} أي‪ :‬مقدرا في الزل‪ ،‬ل بد‬
‫{ وََلكِنْ ْ} اللّه جمعكم على هذه الحال { لِ َي ْق ِ‬
‫من وقوعه‪.‬‬

‫{ لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّنَةٍ ْ} أي‪ :‬ليكون حجة وبينة للمعاند‪ ،‬فيختار الكفر على بصيرة وجزم‬
‫ببطلنه‪ ،‬فل يبقى له عذر عند اللّه‪.‬‬

‫حيّ عَنْ بَيّنَةٍ ْ} أي‪ :‬يزداد المؤمن بصيرة ويقينا‪ ،‬بما أرى اللّه الطائفتين من أدلة الحق‬
‫{ وَيَحْيَا مَنْ َ‬
‫وبراهينه‪ ،‬ما هو تذكرة لولي اللباب‪.‬‬

‫سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ} سميع لجميع الصوات‪ ،‬باختلف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪ ،‬عليم‬
‫{ وَإِنّ اللّهَ لَ َ‬
‫بالظواهر والضمائر والسرائر‪ ،‬والغيب والشهادة‪.‬‬

‫{ ‪ِ { }ْ 44 - 43‬إذْ يُرِي َكهُمُ اللّهُ فِي مَنَا ِمكَ قَلِيلًا وََلوْ أَرَا َكهُمْ كَثِيرًا َلفَشِلْ ُت ْم وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الَْأمْرِ‬
‫وََلكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ * وَإِذْ يُرِي ُكمُوهُمْ إِذِ الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِن ُكمْ قَلِيلًا وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي‬
‫ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ ْ}‬
‫أَعْيُ ِنهِمْ لِ َي ْق ِ‬

‫وكان اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليل‪ ،‬فبشر بذلك أصحابه‪ ،‬فاطمأنت قلوبهم‬
‫وتثبتت أفئدتهم‪.‬‬

‫ولو أراكهم ال إياهم كَثِيرًا فأخبرت بذلك أصحابك { َلفَشِلْ ُت ْم وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الَْأمْرِ ْ} فمنكم من يرى‬
‫القدام على قتالهم‪ ،‬ومنكم من ل يرى ذلك فوقع من الختلف والتنازع ما يوجب الفشل‪.‬‬

‫{ وََلكِنّ اللّهَ سَلّمَ ْ} فلطف بكم { إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ْ} أي‪ :‬بما فيها من ثبات وجزع‪ ،‬وصدق‬
‫وكذب‪،‬فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ‪ ،‬فأرى اللّه‬
‫المؤمنين عدوهم قليل في أعينهم‪ ،‬ويقللكم ‪ -‬يا معشر المؤمنين ‪ -‬في أعينهم‪،‬فكل من الطائفتين‬
‫ترى الخرى قليلة‪ ،‬لتقدم كل منهما على الخرى‪.‬‬
‫ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُولًا ْ} من نصر المؤمنين وخذلن الكافرين وقتل قادتهم ورؤساء‬
‫{ لِ َي ْق ِ‬
‫الضلل منهم‪ ،‬ولم يبق منهم أحد له اسم يذكر‪ ،‬فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى السلم‪،‬‬
‫فصار أيضا لطفا بالباقين‪ ،‬الذين مَنّ اللّه عليهم بالسلم‪.‬‬

‫{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ ْ} أي‪ :‬جميع أمور الخلئق ترجع إلى اللّه‪ ،‬فيميز الخبيث من الطيب‪،‬‬
‫ويحكم في الخلئق بحكمه العادل‪ ،‬الذي ل جور فيه ول ظلم‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 49 - 45‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ *‬
‫حكُ ْم وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ * وَلَا‬
‫وَأَطِيعُوا اللّ َه وَرَسُوَل ُه وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَ ْذ َهبَ رِي ُ‬
‫س وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَاللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ‬
‫َتكُونُوا كَالّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِهمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النّا ِ‬
‫س وَإِنّي جَارٌ َلكُمْ فََلمّا‬
‫عمَاَلهُ ْم َوقَالَ لَا غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّا ِ‬
‫مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَ َروْنَ إِنّي َأخَافُ اللّ َه وَاللّهُ‬
‫تَرَا َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَى َ‬
‫شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ * إِذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ غَرّ َهؤُلَاءِ دِي ُن ُه ْم َومَنْ يَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ‬
‫حكِيمٌ ْ}‬
‫فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َلقِيتُمْ فِئَةً ْ} أي‪ :‬طائفة من الكفار تقاتلكم‪.‬‬

‫{ فَاثْبُتُوا ْ} لقتالها‪ ،‬واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة‪ ،‬التي عاقبتها العز‬
‫والنصر‪.‬‬

‫واستعينوا على ذلك بالكثار من ذكر اللّه { َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ ْ} أي‪ :‬تدركون ما تطلبون من النتصار‬
‫على أعدائكم‪،‬فالصبر والثبات والكثار من ذكر اللّه من أكبر السباب للنصر‪.‬‬

‫{ وََأطِيعُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ ْ} في استعمال ما أمرا به‪ ،‬والمشي خلف ذلك في جميع الحوال‪.‬‬

‫ح ُكمْ ْ}‬
‫{ وَلَا تَنَازَعُوا ْ} تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها‪ { ،‬فَ َتفْشَلُوا ْ} أي‪ :‬تجبنوا { وَتَذْ َهبَ رِي ُ‬
‫أي‪ :‬تنحل عزائمكم‪ ،‬وتفرق قوتكم‪ ،‬ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله‪.‬‬

‫{ وَاصْبِرُوا ْ} نفوسكم على طاعة اللّه { إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ ْ} بالعون والنصر والتأييد‪ ،‬واخشعوا‬
‫لربكم واخضعوا له‪.‬‬
‫س وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬هذا‬
‫{ وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَا ِرهِمْ َبطَرًا وَرِئَاءَ النّا ِ‬
‫مقصدهم الذي خرجوا إليه‪ ،‬وهذا الذي أبرزهم من ديارهم لقصد الشر والبطر في الرض‪،‬‬
‫وليراهم الناس ويفخروا لديهم‪.‬‬

‫والمقصود العظم أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل اللّه من أراد سلوكه‪ { ،‬وَاللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطٌ‬
‫ْ} فلذلك أخبركم بمقاصدهم‪ ،‬وحذركم أن تشبهوا بهم‪ ،‬فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة‪.‬‬

‫فليكن قصدكم في خروجكم وجه اللّه تعالى وإعلء دين اللّه‪ ،‬والصد عن الطرق الموصلة إلى‬
‫سخط اللّه وعقابه‪ ،‬وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ ْ} حسّنها في قلوبهم وخدعهم‪َ { .‬وقَالَ لَا غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّاسِ‬
‫{ وَإِذْ زَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬
‫ْ} فإنكم في عَ َددٍ وعُدَدٍ وهيئة ل يقاومكم فيها محمد ومن معه‪.‬‬

‫{ وَإِنّي جَارٌ َلكُمْ ْ} من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته‪ ،‬لن إبليس قد تبدّى لقريش في صورة‬
‫سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي‪ ،‬وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم‪.‬‬

‫فقال لهم الشيطان‪ :‬أنا جار لكم‪ ،‬فاطمأنت نفوسهم وأتوا على حرد قادرين‪.‬‬

‫{ فََلمّا تَرَا َءتِ ا ْلفِئَتَانِ ْ} المسلمون والكافرون‪ ،‬فرأى الشيطان جبريل عليه السلم يزع الملئكة‬
‫عقِبَيْهِ ْ} أي‪ :‬ولى مدبرا‪َ { .‬وقَالَ ْ} لمن خدعهم وغرهم‪ { :‬إِنّي‬
‫خاف خوفا شديدا و { َن َكصَ عَلَى َ‬
‫بَرِيءٌ مِ ْنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَ َروْنَ ْ} أي‪ :‬أرى الملئكة الذين ل يدان لحد بقتالهم‪.‬‬

‫{ إِنّي َأخَافُ اللّهَ ْ} أي‪ :‬أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ْ}‬

‫ومن المحتمل أن يكون الشيطان‪ ،‬قد سول لهم‪ ،‬ووسوس في صدورهم أنه ل غالب لهم اليوم من‬
‫الناس‪ ،‬وأنه جار لهم‪،‬فلما أوردهم مواردهم‪ ،‬نكص عنهم‪ ،‬وتبرأ منهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬كمَ َثلِ‬
‫الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِ ْنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َفكَانَ‬
‫عَاقِبَ َت ُهمَا أَ ّن ُهمَا فِي النّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا َوذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ ْ}‬

‫{ ِإذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ ْ} أي‪ :‬شك وشبهة‪ ،‬من ضعفاء اليمان‪ ،‬للمؤمنين‬
‫حين أقدموا ‪ -‬مع قِلّتهم ‪ -‬على قتال المشركين مع كثرتهم‪.‬‬
‫{ غَرّ َهؤُلَاءِ دِي ُن ُهمْ ْ} أي‪ :‬أوردهم الدين الذي هم عليه هذه الموارد التي ل يدان لهم بها‪ ،‬ول‬
‫خفّاءُ عقول‪ ،‬الضعفاء‬
‫استطاعة لهم بها‪،‬يقولونه احتقارا لهم واستخفافا لعقولهم‪ ،‬وهم ‪ -‬واللّه ‪ -‬ال ِ‬
‫أحلما‪.‬‬

‫فإن اليمان يوجب لصاحبه القدام على المور الهائلة التي ل يقدم عليها الجيوش العظام‪،‬فإن‬
‫المؤمن المتوكل على اللّه‪ ،‬الذي يعلم أنه ما من حول ول قوة ول استطاعة لحد إل باللّه‬
‫تعالى‪،‬وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص بمثقال ذرة لم ينفعوه‪،‬ولو اجتمعوا على أن‬
‫يضروه لم يضروه إل بشيء قد كتبه اللّه عليه‪ ،‬وعلم أنه على الحق‪ ،‬وأن اللّه تعالى حكيم رحيم‬
‫في كل ما قدره وقضاه‪ ،‬فإنه ل يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة‪ ،‬وكان واثقا بربه‪ ،‬مطمئن‬
‫القلب ل فزعا ول جبانا‪. ،‬ولهذا قال { َومَنْ يَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ْ} ل يغالب قوته قوة‪.‬‬
‫حكِيمٌ ْ} فيما قضاه وأجراه‪.‬‬
‫{ َ‬

‫{ ‪ { }ْ 52 - 50‬وََلوْ تَرَى إِذْ يَ َت َوفّى الّذِينَ َكفَرُوا ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُونَ وُجُو َههُ ْم وَأَدْبَا َرهُ ْم وَذُوقُوا‬
‫ن وَالّذِينَ مِنْ‬
‫عوْ َ‬
‫عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ * ذَِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيكُ ْم وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ * كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫خذَهُمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِمْ إِنّ اللّهَ َق ِويّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ْ}‬
‫قَبِْلهِمْ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَأَ َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬ولو ترى الذين كفروا بآيات اللّه حين توفاهم الملئكة الموكلون بقبض أرواحهم وقد‬
‫ن وُجُو َههُ ْم وَأَدْبَا َرهُمْ ْ} يقولون لهم‪ :‬أخرجوا‬
‫اشتد بهم القلق وعظم كربهم‪ ،‬و { ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُو َ‬
‫أنفسكم‪ ،‬ونفوسهم متمنعة مستعصية على الخروج‪ ،‬لعلمها ما أمامها من العذاب الليم‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬وَذُوقُوا عَذَابَ ا ْلحَرِيق أي‪ :‬العذاب الشديد المحرق‪ ،‬ذلك العذاب حصل لكم‪ ،‬غير ظلم‬
‫ول جور من ربكم‪ ،‬وإنما هو بما قدمت أيديكم من المعاصي التي أثرت لكم ما أثرت‪ ،‬وهذه سنة‬
‫اللّه في الولين والخرين‪ ،‬فإن دأب هؤلء المكذبين أي‪ :‬سنتهم وما أجرى اللّه عليهم من الهلك‬
‫بذنوبهم‪.‬‬

‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ { من المم المكذبة‪َ }ْ .‬كفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ فََأخَذَ ُهمُ اللّهُ‬
‫عوْ َ‬
‫ْ} كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫خذٌ‬
‫شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { ل يعجزه أحد يريد أخذه ْ} مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا ُهوَ آ ِ‬
‫{ بالعقاب ْ} بِذُنُو ِبهِمْ إِنّ اللّهَ َق ِويّ َ‬
‫بِنَاصِيَ ِتهَا‬

‫سهِ ْم وَأَنّ‬
‫{ ‪َ { }ْ 54 - 53‬ذِلكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ َيكُ ُمغَيّرًا ِن ْعمَةً أَ ْن َع َمهَا عَلَى َقوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ كَذّبُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ فَأَ ْهَلكْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَأَغْ َرقْنَا‬
‫عوْ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫اللّهَ َ‬
‫ن َوكُلّ كَانُوا ظَاِلمِينَ ْ}‬
‫عوْ َ‬
‫آلَ فِرْ َ‬
‫{ ذَِلكَ ْ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالمم المكذبين وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم‪ ،‬بسبب‬
‫ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم‪،‬فإن ال لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا‪ ،‬بل‬
‫سهِمْ ْ} من الطاعة إلى المعصية‬
‫يبقيها ويزيدهم منها‪ ،‬إن ازدادوا له شكرا‪ { .‬حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا‪ ،‬فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم‪.‬‬

‫وللّه الحكمة في ذلك والعدل والحسان إلى عباده‪ ،‬حيث لم يعاقبهم إل بظلمهم‪ ،‬وحيث جذب‬
‫قلوب أوليائه إليه‪ ،‬بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره‪.‬‬

‫سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ} يسمع جميع ما نطق به الناطقون‪ ،‬سواء من أسر القول ومن جهر‬
‫{ وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫به‪،‬ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر‪ ،‬وتخفيه السرائر‪ ،‬فيجري على عباده من القدار ما اقتضاه‬
‫علمه وجرت به مشيئته‪.‬‬

‫عوْنَ ْ} أي‪ :‬فرعون وقومه { وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ ْ} حين جاءتهم‬
‫{ َكدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫{ فَأَ ْهَلكْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِمْ ْ} كل بحسب جرمه‪.‬‬

‫ن َو ُكلّ ْ} من المهلكين المعذبين { كَانُوا ظَاِلمِينَ ْ} لنفسهم‪ ،‬ساعين في هلكها‪،‬‬


‫عوْ َ‬
‫{ وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ‬
‫لم يظلمهم اللّه‪ ،‬ول أخذهم بغير جرم اقترفوه‪،‬فليحذر المخاطبون أن يشابهوهم في الظلم‪ ،‬فيحل‬
‫اللّه بهم من عقابه ما أحل بأولئك الفاسقين‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 57 - 55‬إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ عِنْدَ اللّهِ الّذِينَ َكفَرُوا َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * الّذِينَ عَا َه ْدتَ مِ ْنهُمْ ثُمّ‬
‫عهْدَ ُهمْ فِي ُكلّ مَ ّر ٍة وَهُمْ لَا يَ ّتقُونَ * فَِإمّا تَ ْث َقفَ ّنهُمْ فِي الْحَ ْربِ فَشَرّدْ ِبهِمْ مَنْ خَ ْل َفهُمْ َلعَّلهُمْ‬
‫يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫يَ ّذكّرُونَ ْ}‬

‫هؤلء الذين جمعوا هذه الخصال الثلث‪ :‬الكفر‪ ،‬وعدم اليمان‪ ،‬والخيانة‪ ،‬بحيث ل يثبتون على‬
‫عهد عاهدوه ول قول قالوه‪ ،‬هم شر الدواب عند ال فهم شر من الحمير والكلب وغيرها‪ ،‬لن‬
‫الخير معدوم منهم‪ ،‬والشر متوقع فيهم ‪ ،‬فإذهاب هؤلء ومحقهم هو المتعين‪ ،‬لئل يسري داؤهم‬
‫لغيرهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَِإمّا تَ ْثقَفَ ّنهُمْ فِي الْحَ ْربِ ْ} أي‪ :‬تجدنهم في حال المحاربة‪ ،‬بحيث ل يكون لهم‬
‫عهد وميثاق‪.‬‬

‫{ َفشَرّدْ ِبهِمْ مَنْ خَ ْل َفهُمْ ْ} أي‪ :‬نكل بهم غيرهم‪ ،‬وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [به] عبرة لمن‬
‫بعدهم { َلعَّل ُهمْ ْ} أي من خلفهم { َي ْذكُرُونَ ْ} صنيعهم‪ ،‬لئل يصيبهم ما أصابهم‪،‬وهذه من فوائد‬
‫العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي‪ ،‬أنها سبب لزدجار من لم يعمل المعاصي‪ ،‬بل وزجرا‬
‫لمن عملها أن ل يعاودها‪.‬‬
‫طيَ‬
‫عِ‬‫ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر ‪ -‬ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر ‪ -‬أنه إذا أُ ْ‬
‫عهدا ل يجوز خيانته وعقوبته‪.‬‬

‫حبّ ا ْلخَائِنِينَ ْ}‬


‫سوَاءٍ إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 58‬وَِإمّا َتخَافَنّ مِنْ َقوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَ ْيهِمْ عَلَى َ‬

‫أي‪ :‬وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة‪،‬بأن ظهر من قرائن‬
‫أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة‪.‬‬

‫سوَاءٍ ْ} أي‪:‬‬
‫{ فَانْ ِبذْ إِلَ ْيهِمْ ْ} عهدهم‪ ،‬أي‪ :‬ارمه عليهم‪ ،‬وأخبرهم أنه ل عهد بينك وبينهم‪ { .‬عَلَى َ‬
‫حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك‪ ،‬ول يحل لك أن تغدرهم‪ ،‬أو تسعى في شيء مما منعه موجب‬
‫العهد‪ ،‬حتى تخبرهم بذلك‪.‬‬

‫حبّ ا ْلخَائِنِينَ ْ} بل يبغضهم أشد البغض‪،‬فل بد من أمر بيّنٍ يبرئكم من الخيانة‪.‬‬


‫{ إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫ودلت الية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم‪ ،‬لنه لم يخف‬
‫سوَاءٍ ْ} وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم‪.‬‬
‫منهم‪ ،‬بل علم ذلك‪ ،‬ولعدم الفائدة ولقوله‪ { :‬عَلَى َ‬

‫خفْ منهم خيانة‪ ،‬بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك‪ ،‬أنه ل يجوز‬
‫ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم ُي َ‬
‫نبذ العهد إليهم‪ ،‬بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 59‬وَلَا َيحْسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُوا سَ َبقُوا إِ ّن ُهمْ لَا ُيعْجِزُونَ ْ}‬

‫أي‪ :‬ل يحسب الكافرون بربهم المكذبون بآياته‪ ،‬أنهم سبقوا اللّه وفاتوه‪ ،‬فإنهم ل يعجزونه‪ ،‬واللّه‬
‫لهم بالمرصاد‪.‬‬

‫وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة‪ ،‬التي من جملتها ابتلء عباده‬
‫المؤمنين وامتحانهم‪ ،‬وتزودهم من طاعته ومراضيه‪ ،‬ما يصلون به المنازل العالية‪ ،‬واتصافهم‬
‫بأخلق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها‪ ،‬فلهذا قال لعباده المؤمنين‪:‬‬

‫طعْتُمْ مِنْ ُق ّو ٍة َومِنْ رِبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَ ُدوّ اللّهِ وَعَ ُد ّوكُمْ‬
‫{ ‪ { }ْ 60‬وَأَعِدّوا َلهُمْ مَا اسْتَ َ‬
‫شيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُيوَفّ إِلَ ْيكُمْ وَأَنْتُمْ لَا‬
‫وَآخَرِينَ مِنْ دُو ِنهِمْ لَا َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُ ْم َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ َ‬
‫تُظَْلمُونَ ْ}‬
‫طعْتُمْ مِنْ ُق ّوةٍ ْ} أي‪:‬‬
‫أي { وَأَعِدّوا ْ} لعدائكم الكفار الساعين في هلككم وإبطال دينكم‪ { .‬مَا اسْتَ َ‬
‫كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع السلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم‪،‬‬
‫فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف السلحة واللت من المدافع والرشاشات‪،‬‬
‫والبنادق‪ ،‬والطيارات الجوية‪ ،‬والمراكب البرية والبحرية‪ ،‬والحصون والقلع والخنادق‪ ،‬وآلت‬
‫الدفاع‪ ،‬والرأْي‪ :‬والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم‪ ،‬و َتعَلّم ال ّر ْميِ‪،‬‬
‫والشجاعة والتدبير‪.‬‬

‫ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ { :‬أل إن القوة ال ّر ْميُ ْ} ومن ذلك‪ :‬الستعداد بالمراكب‬
‫المحتاج إليها عند القتال‪،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ رِبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ عَ ُدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُمْ ْ}‬
‫وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان‪ ،‬وهي إرهاب العداء‪ ،‬والحكم يدور مع علته‪.‬‬

‫فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها‪ ،‬كالسيارات البرية والهوائية‪ ،‬المعدة للقتال التي تكون‬
‫النكاية فيها أشد‪ ،‬كانت مأمورا بالستعداد بها‪ ،‬والسعي لتحصيلها‪،‬حتى إنها إذا لم توجد إل بتعلّم‬
‫الصناعة‪ ،‬وجب ذلك‪ ،‬لن ما ل يتم الواجب إل به‪ ،‬فهو واجب‬

‫وقوله‪ { :‬تُرْهِبُونَ بِهِ عَ ُدوّ اللّهِ وَعَ ُد ّوكُمْْ} ممن تعلمون أنهم أعداؤكم‪ {ْ .‬وَآخَرِينَ مِنْ دُو ِنهِمْ لَا‬
‫َتعَْلمُونَهُمُ} ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم ال به ْ{ اللّهُ َيعَْل ُمهُم}ْ فلذلك أمرهم‬
‫بالستعداد لهم‪،‬ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار‪.‬‬

‫شيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّه}ِ قليل كان أو كثيرا ْ { ُي َوفّ‬


‫ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك‪َ { :‬ومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ َ‬
‫إِلَ ْيكُمْ} أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة‪ ،‬حتى إن النفقة في سبيل اللّه‪ ،‬تضاعف إلى‬
‫سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪ ْ{.‬وَأَنْتُمْ لَا تُظَْلمُونَ} أي‪ :‬ل تنقصون من أجرها وثوابها شيئا‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * وَإِنْ‬


‫{ ‪ { }ْ 64 - 61‬وَإِنْ جَ َنحُوا لِلسّ ْلمِ فَاجْنَحْ َلهَا وَ َتوَ ّكلْ عَلَى اللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫حسْ َبكَ اللّهُ ُهوَ الّذِي أَيّ َدكَ بِ َنصْ ِرهِ وَبِا ْلمُ ْؤمِنِينَ * وَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبهِمْ َلوْ‬
‫يُرِيدُوا أَنْ َيخْدَعُوكَ فَإِنّ َ‬
‫حكِيمٌ * يَا أَ ّيهَا‬
‫جمِيعًا مَا أَّل ْفتَ بَيْنَ قُلُو ِبهِ ْم وََلكِنّ اللّهَ أَّلفَ بَيْ َنهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫أَ ْنفَ ْقتَ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫النّ ِبيّ حَسْ ُبكَ اللّ ُه َومَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ}‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَإِنْ جَ َنحُوا ْ} أي‪ :‬الكفار المحاربون‪ ،‬أي‪ :‬مالوا { لِلسّ ْلمِ ْ} أي‪ :‬الصلح وترك القتال‪.‬‬

‫{ فَاجْنَحْ َلهَا وَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ ْ} أي‪ :‬أجبهم إلى ما طلبوا متوكل على ربك‪ ،‬فإن في ذلك فوائد‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫منها‪ :‬أن طلب العافية مطلوب كل وقت‪ ،‬فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك‪ ،‬كان أولى لجابتهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن في ذلك إجماما لقواكم‪ ،‬واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر‪ ،‬إن احتيج لذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا‪ ،‬وتمكن كل من معرفة ما عليه الخر‪ ،‬فإن السلم‬
‫يعلو ول يعلى عليه‪.،‬فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فل بد أن يؤثره على غيره‬
‫من الديان‪ ،‬لحسنه في أوامره ونواهيه‪ ،‬وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم‪ ،‬وأنه ل جور فيه‬
‫ول ظلم بوجه‪ ،‬فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له‪.،‬فصار هذا السلم عونا للمسلمين على‬
‫الكافرين‪.،‬ول يخاف من السلم إل خصلة واحدة‪ ،‬وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع‬
‫المسلمين‪ ،‬وانتهاز الفرصة فيهم‪.،‬فأخبرهم اللّه أنه حسبهم وكافيهم خداعهم‪ ،‬وأن ذلك يعود عليهم‬
‫خدَعُوكَ فَإِنّ حَسْ َبكَ اللّهُ ْ} أي‪ :‬كافيك ما يؤذيك‪ ،‬وهو القائم‬
‫ضرره‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَ ْ‬
‫بمصالحك ومهماتك‪ ،‬فقد سبق [لك] من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك‪.‬‬

‫فلب { ُهوَ الّذِي أَيّ َدكَ بِ َنصْ ِر ِه وَبِا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} أي‪ :‬أعانك بمعونة سماوية‪ ،‬وهو النصر منه الذي ل‬
‫يقاومه شيء‪ ،‬ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك‪.‬‬

‫{ وَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبهِمْ ْ} فاجتمعوا وائتلفوا‪ ،‬وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم‪ ،‬ولم يكن هذا بسعي أحد‪،‬‬
‫ول بقوة غير قوة اللّه‪،‬فلو أنفقت ما في الرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك‬
‫النفرة والفرقة الشديدة { مَا أَّل ْفتَ بَيْنَ قُلُو ِبهِمْ ْ} لنه ل يقدر على تقليب القلوب إل اللّه تعالى‪.‬‬

‫حكِيمٌ ْ} ومن عزته أن ألف بين قلوبهم‪ ،‬وجمعها بعد الفرقة كما‬
‫{ وََلكِنّ اللّهَ أَّلفَ بَيْ َنهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫خوَانًا‬
‫عدَاءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ بِ ِن ْعمَتِهِ ِإ ْ‬
‫قال تعالى‪ { :‬وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ كُنْتُمْ أَ ْ‬
‫حفْ َرةٍ مِنَ النّارِ فَأَ ْنقَ َذكُمْ مِ ْنهَا ْ}‬
‫شفَا ُ‬
‫َوكُنْتُمْ عَلَى َ‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَسْ ُبكَ اللّهُ ْ} أي‪ :‬كافيك { َومَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} أي‪ :‬وكافي‬
‫أتباعك من المؤمنين‪.،‬وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله‪ ،‬بالكفاية والنصرة على‬
‫العداء‪.‬‬

‫فإذا أتوا بالسبب الذي هو اليمان والتباع‪ ،‬فلبد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا‪ ،‬وإنما‬
‫تتخلف الكفاية بتخلف شرطها‪.‬‬

‫ن صَابِرُونَ َيغْلِبُوا‬
‫{ ‪ { }ْ 66 - 65‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ إِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ عِشْرُو َ‬
‫خ ّففَ اللّهُ عَ ْن ُكمْ‬
‫ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَةٌ َيغْلِبُوا أَ ْلفًا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ * الْآنَ َ‬
‫مِائَتَيْ ِ‬
‫ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ َأ ْلفٌ َيغْلِبُوا أَ ْلفَيْنِ بِإِذْنِ‬
‫ضعْفًا فَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَةٌ صَابِ َرةٌ َيغْلِبُوا مِائَتَيْ ِ‬
‫وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ َ‬
‫اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ْ}‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ ْ} أي‪ :‬حثهم‬
‫وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم‪ ،‬من الترغيب في الجهاد ومقارعة العداء‪،‬‬
‫والترهيب من ضد ذلك‪ ،‬وذكر فضائل الشجاعة والصبر‪ ،‬وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وذكر مضار الجبن‪ ،‬وأنه من الخلق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة‪ ،‬وأن الشجاعة‬
‫بالمؤمنين أولى من غيرهم { إِنْ َتكُونُوا تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُونَ وَتَ ْرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَا‬
‫يَرْجُونَ ْ}‬

‫ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَةٌ َيغْلِبُوا أَ ْلفًا‬


‫عشْرُونَ صَابِرُونَ َيغْلِبُوا مِائَتَيْ ِ‬
‫{ إِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ ْ} أيها المؤمنون { ِ‬
‫مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا ْ} يكون الواحد بنسبة عشرة من الكفار‪.،‬وذلك بأن الكفار { َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ ْ} أي‪:‬‬
‫ل علم عندهم بما أعد اللّه للمجاهدين في سبيله‪ ،‬فهم يقاتلون لجل العلو في الرض والفساد‬
‫فيها‪.،‬وأنتم تفقهون المقصود من القتال‪ ،‬أنه لعلء كلمة اللّه وإظهار دينه‪ ،‬والذب عن كتاب اللّه‪،‬‬
‫وحصول الفوز الكبر عند اللّه‪.،‬وهذه كلها دواع للشجاعة والصبر والقدام على القتال‪.‬‬

‫ض ْعفًا ْ} فلذلك‬
‫خ ّففَ اللّهُ عَ ْنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُ ْم َ‬
‫ثم إن هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال‪ { :‬الْآنَ َ‬
‫ن وَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ أَ ْلفٌ‬
‫اقتضت رحمته وحكمته التخفيف‪ { .،‬فَإِنْ َيكُنْ مِ ْنكُمْ مِائَ ٌة صَابِ َرةٌ َيغْلِبُوا مِائَتَيْ ِ‬
‫َيغْلِبُوا أَ ْلفَيْنِ بِِإذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ْ} بعونه وتأييده‪.‬‬

‫وهذه اليات صورتها صورة الخبار عن المؤمنين‪ ،‬بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون‬
‫ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار‪ ،‬وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة‬
‫اليمانية‪.‬‬

‫ولكن معناها وحقيقتها المر وأن اللّه أمر المؤمنين ‪ -‬في أول المر ‪ -‬أن الواحد ل يجوز له أن‬
‫يفر من العشرة‪ ،‬والعشرة من المائة‪ ،‬والمائة من اللف‪.‬‬

‫ثم إن اللّه خفف ذلك‪ ،‬فصار ل يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار‪ ،‬فإن زادوا على مثليهم‬
‫جاز لهم الفرار‪ ،‬ولكن يرد على هذا أمران‪.:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنها بصورة الخبر‪ ،‬والصل في الخبر أن يكون على بابه‪ ،‬وأن المقصود بذلك المتنان‬
‫والخبار بالواقع‪..‬‬

‫والثاني‪ :‬تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر‪.‬‬
‫ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين‪ ،‬فإنه يجوز لهم الفرار‪ ،‬ولو أقل من مثليهم [إذا غلب على‬
‫ظنهم الضرر] كما تقتضيه الحكمة اللهية‪.‬‬

‫خفّفَ اللّهُ عَ ْنكُمْ ْ} إلى آخرها‪ ،‬دليل على أن هذا أمر لزم‬
‫ويجاب عن الول بأن قوله‪ { :‬الْآنَ َ‬
‫وأمر محتم‪ ،‬ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد‪ .،‬فهذا ظاهر في أنه أمر‪ ،‬وإن كان في صيغة الخبر‪..‬‬

‫وقد يقال‪ :‬إن في إتيانه بلفظ الخبر‪ ،‬نكتة بديعة ل توجد فيه إذا كان بلفظ المر‪.،‬وهي تقوية قلوب‬
‫المؤمنين‪ ،‬والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين‪..‬‬

‫ويجاب عن الثاني‪ :‬أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين‪ ،‬أنه حث على الصبر‪ ،‬وأنه ينبغي منكم أن‬
‫تفعلوا السباب الموجبة لذلك[فإذا فعلوها صارت السباب اليمانية والسباب المادية مبشرة‬
‫بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل]‬

‫{ ‪ { }ْ 69- 67‬مَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َيكُونَ َلهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَ ْرضِ تُرِيدُونَ عَ َرضَ الدّنْيَا‬
‫عظِيمٌ *‬
‫سكُمْ فِيمَا َأخَذْ ُتمْ عَذَابٌ َ‬
‫حكِيمٌ * َلوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ َلمَ ّ‬
‫وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِ َر َة وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ ْ}‬
‫َفكُلُوا ِممّا غَ ِنمْ ُتمْ حَلَالًا طَيّبًا وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬

‫هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم { بدر ْ} إذ أسروا المشركين وأبقوهم لجل الفداء‪.،‬‬
‫وكان رأي‪ :‬أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال‪ ،‬قتلهم واستئصالهم‪.‬‬

‫فقال تعالى‪ { :‬مَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َيكُونَ لَهُ أَسْ َرىَ حَتّى يُ ْثخِنَ فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬ما ينبغي ول يليق به‬
‫إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لخماد دينه‪ ،‬وأن ل يبقى على وجه‬
‫الرض من يعبد اللّه‪ ،‬أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لجل الفداء الذي يحصل منهم‪ ،‬وهو عرض‬
‫قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لبادتهم وإبطال شرهم‪.،‬فما دام لهم شر وصولة‪ ،‬فالوفق أن‬
‫ل يؤسروا‪..‬‬

‫فإذا أثخنوا‪ ،‬وبطل شرهم‪ ،‬واضمحل أمرهم‪ ،‬فحينئذ ل بأس بأخذ السرى منهم وإبقائهم‪.‬‬

‫يقول تعالى‪ { :‬تُرِيدُونَ ْ} بأخذكم الفداء وإبقائهم { عَ َرضَ الدّنْيَا ْ} أي‪ :‬ل لمصلحة تعود إلى دينكم‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِ َرةَ ْ} بإعزاز دينه‪ ،‬ونصر أوليائه‪ ،‬وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم‪ ،‬فيأمركم بما‬
‫يوصل إلى ذلك‪.‬‬
‫حكِيمٌ ْ} أي‪ :‬كامل العزة‪ ،‬ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل‪ ،‬لكنه‬
‫{ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫حكيم‪ ،‬يبتلي بعضكم ببعض‪.‬‬

‫{ َلوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَ َبقَ ْ} به القضاء والقدر‪ ،‬أنه قد أحل لكم الغنائم‪ ،‬وأن اللّه رفع عنكم ‪ -‬أيها‬
‫عظِيمٌ ْ} وفي الحديث‪ { :‬لو نزل عذاب يوم بدر‪ ،‬ما نجا‬
‫سكُمْ فِيمَا َأخَذْ ُتمْ عَذَابٌ َ‬
‫المة ‪ -‬العذاب { َلمَ ّ‬
‫منه إل عمر ْ}‬

‫{ َفكُلُوا ِممّا غَ ِنمْتُمْ حَلَالًا طَيّبًا ْ} وهذا من لطفه تعالى بهذه المة‪ ،‬أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لمة‬
‫قبلها‪.‬‬

‫غفُورٌ ْ} يغفر لمن‬


‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ ْ} في جميع أموركم ولزموها‪ ،‬شكرا لنعم اللّه عليكم‪ { .،‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫تاب إليه جميع الذنوب‪.،‬ويغفر لمن لم يشرك به شيئا جميع المعاصي‪.‬‬

‫{ َرحِيمٌ ْ} بكم‪ ،‬حيث أباح لكم الغنائم وجعلها حلل طيبا‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 71 - 70‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ ِلمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ َيعَْلمِ اللّهُ فِي قُلُو ِبكُمْ خَيْرًا ُيؤْ ِتكُمْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَ َتكَ َفقَدْ خَانُوا اللّهَ مِنْ قَ ْبلُ‬
‫خَيْرًا ِممّا ُأخِذَ مِ ْن ُك ْم وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫حكِيمٌ ْ}‬
‫فََأ ْمكَنَ مِ ْن ُه ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬

‫وهذه نزلت في أسارى يوم بدر‪ ،‬وكان في جملتهم العباس عم رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪،‬فلما طلب منه الفداء‪ ،‬ادّعى أنه مسلم قبل ذلك‪ ،‬فلم يسقطوا عنه الفداء‪،‬فأنزل اللّه تعالى جبرا‬
‫لخاطره ومن كان على مثل حاله‪.‬‬

‫{ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ ِلمَنْ فِي أَيْدِي ُكمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ َيعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُو ِبكُمْ خَيْرًا ُيؤْ ِتكُمْ خَيْرًا ِممّا ُأخِذَ‬
‫مِ ْنكُمْ ْ} أي‪ :‬من المال‪ ،‬بأن ييسر لكم من فضله‪ ،‬خيرا وأكثر مما أخذ منكم‪.‬‬

‫{ وَ َي ْغفِرْ َلكُمْ ْ} ذنوبكم‪ ،‬ويدخلكم الجنة وقد أنجز اللّه وعده للعباس وغيره‪ ،‬فحصل له ‪ -‬بعد ذلك‬
‫‪ -‬من المال شيء كثير‪،‬حتى إنه مرة لما قدم على النبي صلى ال عليه وسلم مال كثير‪ ،‬أتاه‬
‫العباس فأمره أن يأخذ منه بثوبه ما يطيق حمله‪ ،‬فأخذ منه ما كاد أن يعجز عن حمله‪.‬‬

‫{ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَ َتكَ ْ} في السعي لحربك ومنابذتك‪َ { ،‬فقَدْ خَانُوا اللّهَ مِنْ قَ ْبلُ فََأ ْمكَنَ مِ ْنهُمْ ْ}‬
‫حكِيمٌ ْ} أي‪ :‬عليم بكل‬
‫فليحذروا خيانتك‪ ،‬فإنه تعالى قادر عليهم وهم تحت قبضته‪ { ،‬وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫شيء‪ ،‬حكيم يضع الشياء مواضعها‪ ،‬ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الحكام الجليلة‬
‫الجميلة‪ ،‬وأن تكفل بكفايتكم شأن السرى وشرهم إن أرادوا خيانة‪.‬‬
‫سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ آ َووْا وَ َنصَرُوا‬
‫{ ‪ { }ْ 72‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَا َهدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫شيْءٍ حَتّى ُيهَاجِرُوا‬
‫ن وَلَايَ ِتهِمْ مِنْ َ‬
‫أُولَ ِئكَ َب ْعضُهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ ُيهَاجِرُوا مَا َلكُمْ مِ ْ‬
‫ق وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ‬
‫وَإِنِ اسْتَ ْنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ َفعَلَ ْيكُمُ ال ّنصْرُ إِلّا عَلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَا ٌ‬
‫ْ}‬

‫هذا عقد موالة ومحبة‪ ،‬عقدها اللّه بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه‪ ،‬وتركوا‬
‫أوطانهم للّه لجل الجهاد في سبيل اللّه‪،‬وبين النصار الذين آووا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم‪،‬فهؤلء بعضهم أولياء بعض‪ ،‬لكمال إيمانهم‬
‫وتمام اتصال بعضهم ببعض‪.‬‬

‫شيْءٍ حَتّى ُيهَاجِرُوا ْ} فإنهم قطعوا وليتكم‬


‫ن وَلَايَ ِتهِمْ مِنْ َ‬
‫{ وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ ُيهَاجِرُوا مَا َلكُمْ مِ ْ‬
‫بانفصالهم عنكم في وقت شدة الحاجة إلى الرجال‪،‬فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولية المؤمنين‬
‫شيء‪.‬لكنهم { وَإِنِ اسْتَ ْنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ ْ} أي‪ :‬لجل قتال من قاتلهم لجل دينهم { َفعَلَ ْيكُمُ ال ّنصْرُ‬
‫ْ} والقتال معهم‪،‬وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬إِلّا عَلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُمْ وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ ْ} أي‪ :‬عهد بترك القتال‪ ،‬فإنهم إذا أراد المؤمنون‬
‫المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم‪ ،‬فل تعينوهم عليهم‪ ،‬لجل ما بينكم وبينهم من الميثاق‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ْ} يعلم ما أنتم عليه من الحوال‪ ،‬فيشرع لكم من الحكام ما يليق بكم‪.‬‬

‫ض َوفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ}‬


‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ إِلّا َتفْعَلُوهُ َتكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 73‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َب ْع ُ‬

‫لما عقد الولية بين المؤمنين‪ ،‬أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض فل‬
‫يواليهم إل كافر مثلهم‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا َت ْفعَلُوهُ ْ} أي‪ :‬موالة المؤمنين ومعاداة الكافرين‪ ،‬بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم‬
‫كلهم‪ ،‬أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين‪.‬‬

‫{ َتكُنْ فِتْ َنةٌ فِي الْأَ ْرضِ َوفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ} فإنه يحصل بذلك من الشر ما ل ينحصر من اختلط الحق‬
‫بالباطل‪ ،‬والمؤمن بالكافر‪ ،‬وعدم كثير من العبادات الكبار‪ ،‬كالجهاد والهجرة‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض‪.‬‬
‫{ ‪ { }ْ 75 - 74‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ آ َووْا وَ َنصَرُوا أُولَ ِئكَ ُهمُ‬
‫حقّا َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ َب ْع ُد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا َم َعكُمْ فَأُولَ ِئكَ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ}‬
‫مِ ْنكُ ْم وَأُولُو الْأَ ْرحَامِ َب ْعضُهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬

‫اليات السابقات في ذكر عقد الموالة بين المؤمنين من المهاجرين والنصار‪.‬‬

‫وهذه اليات في بيان مدحهم وثوابهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫حقّا ْ} لنهم‬
‫وَالّذِينَ آ َووْا وَ َنصَرُوا أُولَ ِئكَ ْ} أي‪ :‬المؤمنون من المهاجرين والنصار { هُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ‬
‫صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالة بعضهم لبعض‪ ،‬وجهادهم لعدائهم من‬
‫الكفار والمنافقين‪.‬‬

‫{ َل ُهمْ َمغْفِ َرةٌ ْ} من اللّه تمحى بها سيئاتهم‪ ،‬وتضمحل بها زلتهم‪ { ،‬و ْ} لهم { رِ ْزقٌ كَرِيمٌ ْ} أي‪:‬‬
‫خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم‪.‬‬

‫وربما حصل لهم من الثواب المعجل ما تقر به أعينهم‪ ،‬وتطمئن به قلوبهم ‪ ،‬وكذلك من جاء بعد‬
‫هؤلء المهاجرين والنصار‪ ،‬ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللّه‪ { .‬فَأُولَ ِئكَ‬
‫مِ ْنكُمْ ْ} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم‬

‫فهذه الموالة اليمانية ‪ -‬وقد كانت في أول السلم ‪ -‬لها وقع كبير وشأن عظيم‪ ،‬حتى إن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم آخى بين المهاجرين والنصارأخوة خاصة‪ ،‬غير الخوة اليمانية العامة‪،‬‬
‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ْ} فل‬
‫وحتى كانوا يتوارثون بها‪ ،‬فأنزل اللّه { وَأُولُو الْأَ ْرحَامِ َب ْع ُ‬
‫يرثه إل أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض‪،‬فإن لم يكونوا‪ ،‬فأقرب قراباته من ذوي الرحام‪،‬‬
‫كما دل عليه عموم هذه الية الكريمة‪،‬وقوله‪ { :‬فِي كِتَابِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬في حكمه وشرعه‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ} ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما‬
‫{ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫يناسبها‪.‬‬

‫تم تفسير سورة النفال وللّه الحمد‪.‬‬

‫تفسير سورة براءة‬


‫ويقال‪ :‬سورة التوبة‪،‬‬
‫وهي مدنية‬
‫{ ‪ { }ْ 2 - 1‬بَرَا َءةٌ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَا َهدْتُمْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَ ْرضِ‬
‫شهُرٍ وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّ ِه وَأَنّ اللّهَ ُمخْزِي ا ْلكَافِرِينَ ْ}‬
‫أَرْ َبعَةَ َأ ْ‬

‫أي‪ :‬هذه براءة من اللّه ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين‪ ،‬أن لهم أربعة أشهر يسيحون‬
‫في الرض على اختيارهم‪ ،‬آمنين من المؤمنين‪ ،‬وبعد الربعة الشهر فل عهد لهم‪ ،‬ول ميثاق‪.‬‬

‫وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر‪ ،‬أو مقدر بأربعة أشهر فأقل‪ ،‬أما من كان له عهد مقدر‬
‫بزيادة على أربعة أشهر‪ ،‬فإن ال يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة‪ ،‬ولم يبدأ بنقض‬
‫العهد‪.‬‬

‫ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم‪ ،‬أنهم وإن كانوا آمنين‪ ،‬فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه‪ ،‬وأنه‬
‫من استمر منهم على شركه فإنه ل بد أن يخزيه‪ ،‬فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في السلم‪،‬‬
‫إل من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له‪.‬‬

‫ن وَرَسُولُهُ‬
‫{ ‪ { }ْ 3‬وَأَذَانٌ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ َيوْمَ الْحَجّ الَْأكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِي َ‬
‫فَإِنْ تُبْتُمْ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّ ِه وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ}‬

‫هذا ما وعد اللّه به المؤمنين‪ ،‬من نصر دينه وإعلء كلمته‪ ،‬وخذلن أعدائهم من المشركين الذين‬
‫أخرجوا الرسول ومن معه من مكة‪ ،‬من بيت اللّه الحرام‪ ،‬وأجلوهم‪ ،‬مما لهم التسلط عليه من‬
‫أرض الحجاز‪.‬‬

‫نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة‪ ،‬وأذل المشركين‪ ،‬وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على‬
‫تلك الديار‪.‬‬

‫فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الكبر‪ ،‬وهو يوم النحر‪ ،‬وقت اجتماع الناس مسلمهم‬
‫وكافرهم‪ ،‬من جميع جزيرة العرب‪ ،‬أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين‪ ،‬فليس لهم‬
‫عنده عهد وميثاق‪ ،‬فأينما وجدوا قتلوا‪ ،‬وقيل لهم‪ :‬ل تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا‪ ،‬وكان‬
‫ذلك سنة تسع من الهجرة‪.‬‬

‫وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‪ ،‬وأذن ببراءة ‪-‬يوم النحر‪ -‬ابن عم رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه‪.‬‬
‫ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة‪ ،‬ورهبهم من الستمرار على الشرك فقال‪ { :‬فَإِنْ تُبْتُمْ َف ُهوَ خَيْرٌ‬
‫َلكُ ْم وَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَاعَْلمُوا أَ ّن ُكمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّهِ ْ}‬

‫أي‪ :‬فائتيه‪ ،‬بل أنتم في قبضته‪ ،‬قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين‪ { .‬وَبَشّرِ الّذِينَ َكفَرُوا ِب َعذَابٍ‬
‫أَلِيمٍ ْ} أي‪ :‬مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والسر‪ ،‬والجلء‪ ،‬وفي الخرة‪ ،‬بالنار‪ ،‬وبئس القرار‪.‬‬

‫حدًا فَأَ ِتمّوا إِلَ ْيهِمْ‬


‫{ ‪ { }ْ 4‬إِلّا الّذِينَ عَاهَدْ ُتمْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ُثمّ لَمْ يَ ْن ُقصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَ ْي ُكمْ أَ َ‬
‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ}‬
‫عهْدَ ُهمْ إِلَى مُدّ ِتهِمْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫َ‬

‫أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين‪ { .‬إِلّا الّذِينَ عَا َهدْتُمْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ْ} واستمروا‬
‫على عهدهم‪ ،‬ولم يجر منهم ما يوجب النقض‪ ،‬فل نقصوكم شيئا‪ ،‬ول عاونوا عليكم أحدا‪ ،‬فهؤلء‬
‫أتموا لهم عهدهم إلى مدتهم‪ ،‬قَّلتْ‪ ،‬أو كثرت‪ ،‬لن السلم ل يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء‪.‬‬

‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ} الذين أدوا ما أمروا به‪ ،‬واتقوا الشرك والخيانة‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫{ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫المعاصي‪.‬‬

‫حصُرُوهُمْ وَا ْقعُدُوا‬


‫خذُوهُ ْم وَا ْ‬
‫جدْ ُتمُوهُ ْم وَ ُ‬
‫ث وَ َ‬
‫شهُرُ ا ْلحُرُمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫{ ‪ { }ْ 5‬فَإِذَا ا ْنسَلَخَ الْأَ ْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ ْ}‬
‫َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وََأقَامُوا الصّلَاةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ فَخَلّوا سَبِيَل ُهمْ إِنّ اللّهَ َ‬

‫شهُرُ الْحُ ُرمُ ْ} أي‪ :‬التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين‪ ،‬وهي‬
‫يقول تعالى { فَإِذَا ا ْنسَلَخَ الَْأ ْ‬
‫أشهر التسيير الربعة‪ ،‬وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها‪ ،‬فقد برئت منهم الذمة‪.‬‬

‫حصُرُوهُمْ ْ}‬
‫خذُوهُمْ ْ} أسرى { وَا ْ‬
‫ث وَجَدْ ُتمُو ُهمْ ْ} في أي مكان وزمان‪ { ،‬وَ ُ‬
‫{ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫أي‪ :‬ضيقوا عليهم‪ ،‬فل تدعوهم يتوسعون في بلد اللّه وأرضه‪ ،‬التي جعلها [ال] معبدا لعباده‪.‬‬

‫فهؤلء ليسوا أهل لسكناها‪ ،‬ول يستحقون منها شبرا‪ ،‬لن الرض أرض اللّه‪ ،‬وهم أعداؤه‬
‫المنابذون له ولرسله‪ ،‬المحاربون الذين يريدون أن يخلو الرض من دينه‪ ،‬ويأبى اللّه إل أن يتم‬
‫نوره ولو كره الكافرون‪.‬‬

‫{ وَا ْقعُدُوا َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ ْ} أي‪ :‬كل ثنية وموضع يمرون عليه‪ ،‬ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية‬
‫مجهودكم في ذلك‪ ،‬ول تزالوا على هذا المر حتى يتوبوا من شركهم‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬فَإِنْ تَابُوا ْ} من شركهم { وََأقَامُوا الصّلَاةَ ْ} أي‪ :‬أدوها بحقوقها { وَآتُوا ال ّزكَاةَ ْ}‬
‫لمستحقيها { َفخَلّوا سَبِيَلهُمْ ْ} أي‪ :‬اتركوهم‪ ،‬وليكونوا مثلكم‪ ،‬لهم ما لكم‪ ،‬وعليهم ما عليكم‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ ْ} يغفر الشرك فما دونه‪ ،‬للتائبين‪ ،‬ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة‪ ،‬ثم قبولها منهم‪.‬‬
‫{ إِنّ اللّهَ َ‬

‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على أن من امتنع من أداء الصلة أو الزكاة‪ ،‬فإنه يقاتل حتى يؤديهما‪ ،‬كما‬
‫استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‪.‬‬

‫سمَعَ كَلَامَ اللّهِ ُثمّ أَبِْلغْهُ مَ ْأمَنَهُ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ‬


‫{ ‪ { }ْ 6‬وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْ َتجَا َركَ فَأَجِ ْرهُ حَتّى يَ ْ‬
‫َقوْمٌ لَا َيعَْلمُونَ ْ}‬

‫خذُوهُمْ‬
‫جدْ ُتمُوهُ ْم وَ ُ‬
‫ث وَ َ‬
‫شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫لما كان ما تقدم من قوله { فَإِذَا ا ْنسَلَخَ الَْأ ْ‬
‫حصُرُوهُ ْم وَا ْقعُدُوا َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ ْ} أمرا عاما في جميع الحوال‪ ،‬وفي كل الشخاص منهم‪،‬‬
‫وَا ْ‬
‫ذكر تعالى‪ ،‬أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم جاز‪ ،‬بل وجب ذلك فقال‪ { :‬وَإِنْ َأحَدٌ مِنَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْ َتجَا َركَ ْ} أي‪ :‬طلب منك أن تجيره‪ ،‬وتمنعه من الضرر‪ ،‬لجل أن يسمع كلم اللّه‪،‬‬
‫وينظر حالة السلم‪.‬‬

‫سمَعَ كَلَامَ اللّهِ ْ} ثم إن أسلم‪ ،‬فذاك‪ ،‬وإل فأبلغه مأمنه‪ ،‬أي‪ :‬المحل الذي يأمن فيه‪،‬‬
‫{ فََأجِ ْرهُ حَتّى يَ ْ‬
‫والسبب في ذلك أن الكفار قوم ل يعلمون‪ ،‬فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم‪ ،‬إذا زال‬
‫اختاروا عليه السلم‪ ،‬فلذلك أمر اللّه رسوله‪ ،‬وأمته أسوته في الحكام‪ ،‬أن يجيروا من طلب أن‬
‫يسمع كلم اللّه‪.‬‬

‫وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬القائلين بأن القرآن كلم اللّه غير مخلوق‪،‬‬
‫لنه تعالى هو المتكلم به‪ ،‬وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها‪ ،‬وبطلن مذهب‬
‫المعتزلة ومن أخذ بقولهم‪ :‬أن القرآن مخلوق‪.‬‬

‫وكم من الدلة الدالة على بطلن هذا القول‪ ،‬ليس هذا محل ذكرها‪.‬‬

‫جدِ ا ْلحَرَامِ َفمَا‬


‫عهْدٌ عِنْدَ اللّ ِه وَعِنْدَ رَسُوِلهِ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْ ُتمْ عِنْدَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 7‬كَيْفَ َيكُونُ لِ ْلمُشْ ِركِينَ َ‬
‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ}‬
‫اسْ َتقَامُوا َل ُكمْ فَاسْ َتقِيمُوا َل ُهمْ إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫هذا بيان للحكمة الموجبة لن يتبرأ اللّه ورسوله من المشركين‪ ،‬فقال‪ { :‬كَ ْيفَ َيكُونُ لِ ْلمُشْ ِركِينَ‬
‫عهْدٌ عِ ْندَ اللّ ِه وَعِ ْندَ رَسُولِهِ ْ} هل قاموا بواجب اليمان‪ ،‬أم تركوا رسول اللّه والمؤمنين من‬
‫َ‬
‫أذيتهم؟ أما حاربوا الحق ونصروا الباطل؟‬

‫أما سعوا في الرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ اللّه منهم‪ ،‬وأن ل يكون لهم عهد عنده ول عند‬
‫رسوله‪.‬‬

‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ ْ} فإن لهم في العهد وخصوصا في هذا‬


‫{ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ ْ} من المشركين { عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫المكان الفاضل حرمة‪ ،‬أوجب أن يراعوا فيها‪.‬‬

‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ} ولهذا قال‪:‬‬


‫{ َفمَا اسْ َتقَامُوا َلكُمْ فَاسْ َتقِيمُوا َلهُمْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬

‫ظهَرُوا عَلَ ْيكُمْ لَا يَ ْرقُبُوا فِي ُكمْ إِلّا وَلَا ِذمّةً يُ ْرضُونَكُمْ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَتَأْبَى‬
‫{ ‪ { }ْ 11 - 8‬كَ ْيفَ وَإِنْ يَ ْ‬
‫سقُونَ * اشْتَ َروْا بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا َفصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ‬
‫قُلُو ُبهُ ْم وََأكْثَرُهُمْ فَا ِ‬
‫* لَا يَ ْرقُبُونَ فِي ُمؤْمِنٍ إِلّا وَلَا ِذمّ ًة وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وََأقَامُوا الصّلَا َة وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ‬
‫صلُ الْآيَاتِ ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ ْ}‬
‫ن وَنُ َف ّ‬
‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫فَإِ ْ‬

‫ظهَرُوا عَلَ ْيكُمْ ْ}‬


‫أي‪ { :‬كَ ْيفَ ْ} يكون للمشركين عند اللّه عهد وميثاق { و ْ} الحال أنهم { وَإِنْ يَ ْ‬
‫بالقدرة والسلطة‪ ،‬ل يرحموكم‪ ،‬و { لَا يَ ْرقُبُوا فِي ُكمْ إِلّا وَلَا ِذمّةً ْ} أي‪ :‬ل ذمة ول قرابة‪ ،‬ول يخافون‬
‫اللّه فيكم‪ ،‬بل يسومونكم سوء العذاب‪ ،‬فهذه حالكم معهم لو ظهروا‪.‬‬

‫ول يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم‪ ،‬فإنهم { يُ ْرضُو َنكُمْ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَتَأْبَى قُلُو ُبهُمْ ْ}‬
‫سقُونَ ْ} ل ديانة لهم‬
‫الميل والمحبة لكم‪ ،‬بل هم العداء حقا‪ ،‬المبغضون لكم صدقا‪ { ،‬وََأكْثَرُهُمْ فَا ِ‬
‫ول مروءة‪.‬‬

‫{ اشْتَ َروْا بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا ْ} أي‪ :‬اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا‪ .‬على اليمان باللّه‬
‫ورسوله‪ ،‬والنقياد ليات اللّه‪.‬‬

‫{ َفصَدّوا ْ} بأنفسهم‪ ،‬وصدوا غيرهم { عَنْ سَبِيلِهِ إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * لَا يَ ْرقُبُونَ فِي ُم ْؤمِنٍ‬
‫إِلّا وَلَا ِذمّةً ْ} أي‪ :‬لجل عداوتهم لليمان { إِلّا وَلَا ِذمّةً ْ} أي‪ :‬لجل عداوتهم لليمان وأهله‪.‬‬

‫فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لجله ويبغضونكم‪ ،‬هو اليمان‪ ،‬فذبوا عن دينكم‪ ،‬وانصروه‬
‫واتخذوا من عاداه لكم عدوا ومن نصره لكم وليا‪ ،‬واجعلوا الحكم يدور معه وجودا وعدما‪ ،‬ل‬
‫تجعلوا الولية والعداوة‪ ،‬طبيعية تميلون بهما‪ ،‬حيثما مال الهوى‪ ،‬وتتبعون فيهما النفس المارة‬
‫بالسوء‪ ،‬ولهذا‪ { :‬فَإِنْ تَابُوا ْ} عن شركهم‪ ،‬ورجعوا إلى اليمان { وََأقَامُوا الصّلَا َة وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ‬
‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ ْ} وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين لتكونوا عباد اللّه المخلصين‪ ،‬وبهذا‬
‫فَإِ ْ‬
‫يكون العبد عبدا حقيقة‪ .‬لما بين من أحكامه العظيمة ما بين‪ ،‬ووضح منها ما وضح‪ ،‬أحكاما‬
‫ح ْكمًا‪ ،‬وحكمة قال‪ { :‬وَ ُن َفصّلُ الْآيَاتِ ْ} أي‪ :‬نوضحها ونميزها { ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ ْ} فإليهم‬
‫ح َكمًا‪ ،‬و ُ‬
‫وِ‬
‫سياق الكلم‪ ،‬وبهم تعرف اليات والحكام‪ ،‬وبهم عرف دين السلم وشرائع الدين‪.‬‬

‫اللهم اجعلنا من القوم الذين يعلمون‪ ،‬ويعملون بما يعلمون‪ ،‬برحمتك وجودك وكرمك [وإحسانك يا‬
‫رب العالمين]‪.‬‬

‫طعَنُوا فِي دِي ِنكُمْ َفقَاتِلُوا أَ ِئمّةَ ا ْل ُكفْرِ إِ ّنهُمْ لَا‬


‫ع ْهدِهِمْ وَ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 15 - 12‬وَإِنْ َنكَثُوا أَ ْيمَا َنهُمْ مِنْ َبعْدِ َ‬
‫أَ ْيمَانَ َلهُمْ َلعَّل ُهمْ يَنْ َتهُونَ * أَلَا ُتقَاتِلُونَ َق ْومًا َنكَثُوا أَ ْيمَا َنهُ ْم وَ َهمّوا بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَ ُهمْ بَ َدءُوكُمْ َأ ّولَ‬
‫ش ْوهُ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ ُيعَذّ ْب ُهمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُ ْم وَ ُيخْزِهِمْ‬
‫خَ‬‫شوْ َنهُمْ فَاللّهُ َأحَقّ أَنْ تَ ْ‬
‫خَ‬‫مَ ّرةٍ أَتَ ْ‬
‫علَى مَنْ َيشَاءُ‬
‫ف صُدُورَ َقوْمٍ ُم ْؤمِنِينَ * وَيُذْ ِهبْ غَيْظَ قُلُو ِبهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ َ‬
‫ش ِ‬
‫وَيَ ْنصُرْكُمْ عَلَ ْيهِ ْم وَيَ ْ‬
‫حكِيمٌ ْ}‬
‫وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬

‫يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على‬
‫عهْدِ ِهمْ ْ} أي‪ :‬نقضوها وحلوها‪ ،‬فقاتلوكم أو أعانوا على‬
‫الوفاء‪ { :‬وَإِنْ َنكَثُوا أَ ْيمَا َنهُمْ مِنْ َب ْعدِ َ‬
‫طعَنُوا فِي دِي ِنكُمْ ْ} أي‪ :‬عابوه‪ ،‬وسخروا منه‪.‬‬
‫قتالكم‪ ،‬أو نقصوكم‪ { ،‬وَ َ‬

‫ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين‪ ،‬أو إلى القرآن‪َ { ،‬فقَاتِلُوا أَ ِئمّةَ ا ْل ُكفْرِ ْ} أي‪:‬‬
‫القادة فيه‪ ،‬الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن‪ ،‬الناصرين لدين الشيطان‪ ،‬وخصهم بالذكر لعظم‬
‫جنايتهم‪ ،‬ولن غيرهم تبع لهم‪ ،‬وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه‪ ،‬فإنه من‬
‫أئمة الكفر‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُهمْ لَا أَ ْيمَانَ َلهُمْ ْ} أي‪ :‬ل عهود ول مواثيق يلزمون على الوفاء بها‪ ،‬بل ل يزالون خائنين‪،‬‬
‫ناكثين للعهد‪ ،‬ل يوثق منهم‪.‬‬

‫{ َلعَّل ُهمْ ْ} في قتالكم إياهم { يَنْ َتهُونَ ْ} عن الطعن في دينكم‪ ،‬وربما دخلوا فيه‪ ،‬ثم حث على قتالهم‪،‬‬
‫وهيج المؤمنين بذكر الوصاف‪ ،‬التي صدرت من هؤلء العداء‪ ،‬والتي هم موصوفون بها‪،‬‬
‫المقتضية لقتالهم فقال‪ { :‬أَلَا ُتقَاتِلُونَ َق ْومًا َنكَثُوا أَ ْيمَا َن ُه ْم وَ َهمّوا بِِإخْرَاجِ الرّسُولِ ْ} الذي يجب‬
‫احترامه وتوقيره وتعظيمه؟ وهم هموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه وسعوا في ذلك ما أمكنهم‪{ ،‬‬
‫وَهُمْ َبدَءُوكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ ْ} حيث نقضوا العهد وأعانوا عليكم‪ ،‬وذلك حيث عاونت قريش ‪-‬وهم‬
‫معاهدون‪ -‬بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقاتلوا معهم‬
‫كما هو مذكور مبسوط في السيرة‪.‬‬

‫ش ْوهُ إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ ْ} فإنه أمركم بقتالهم‪ ،‬وأكد‬


‫حقّ أَنْ َتخْ َ‬
‫شوْ َنهُمْ ْ} في ترك قتالهم { فَاللّهُ أَ َ‬
‫{ أَ َتخْ َ‬
‫ذلك عليكم غاية التأكيد‪.‬‬

‫فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لمر اللّه‪ ،‬ول تخشوهم فتتركوا أمر اللّه‪ ،‬ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب‬
‫على قتالهم من الفوائد‪ ،‬وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬قَاتِلُو ُهمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ‬
‫بِأَيْدِيكُمْ ْ} بالقتل { وَيُخْزِ ِهمْ ْ} إذا نصركم اللّه عليهم‪ ،‬وهم العداء الذين يطلب خزيهم ويحرص‬
‫عليه‪ { ،‬وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِمْ ْ} هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها‪.‬‬

‫ن وَيُذْ ِهبْ غَيْظَ قُلُو ِبهِمْ ْ} فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما‬
‫ف صُدُورَ َقوْمٍ ُم ْؤمِنِي َ‬
‫ش ِ‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم‪ ،‬إذ يرون هؤلء العداء محاربين‬
‫للّه ولرسوله‪ ،‬ساعين في إطفاء نور اللّه‪ ،‬وزوال للغيظ الذي في قلوبهم‪ ،‬وهذا يدل على محبة اللّه‬
‫لعباده المؤمنين‪ ،‬واعتنائه بأحوالهم‪ ،‬حتى إنه جعل ‪-‬من جملة المقاصد الشرعية‪ -‬شفاء ما في‬
‫صدورهم وذهاب غيظهم‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ْ} من هؤلء المحاربين‪ ،‬بأن يوفقهم للدخول في السلم‪،‬‬
‫ويزينه في قلوبهم‪ ،‬و ُيكَرّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان‪.‬‬

‫حكِيمٌ ْ} يضع الشياء مواضعها‪ ،‬ويعلم من يصلح لليمان فيهديه‪ ،‬ومن ل يصلح‪،‬‬
‫{ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫فيبقيه في غيه وطغيانه‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 16‬أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْ َركُوا وََلمّا َيعَْلمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُوا مِ ْن ُك ْم وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلَا‬
‫ن وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ}‬
‫رَسُولِ ِه وَلَا ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬

‫حسِبْتُمْ أَنْ تُتْ َركُوا ْ} من دون ابتلء‬


‫يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد ما أمرهم بالجهاد‪َ { :‬أمْ َ‬
‫وامتحان‪ ،‬وأمر بما يبين به الصادق والكاذب‪.‬‬

‫{ وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِ ْنكُمْ ْ} أي‪ :‬علما يظهر مما في القوة إلى الخارج‪ ،‬ليترتب عليه‬
‫الثواب والعقاب‪ ،‬فيعلم الذين يجاهدون في سبيله‪ :‬لعلء كلمته { وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلَا‬
‫ن وَلِيجَةً ْ} أي‪ :‬وليا من الكافرين‪ ،‬بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء‪.‬‬
‫رَسُولِ ِه وَلَا ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود العظم‪ ،‬وهو أن يتميز الصادقون الذين ل يتحيزون‬
‫إل لدين اللّه‪ ،‬من الكاذبين الذين يزعمون اليمان وهم يتخذون الولئج والولياء من دون اللّه ول‬
‫رسوله ول المؤمنين‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ} أي‪ :‬يعلم ما يصير منكم ويصدر‪ ،‬فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم‬
‫عليه‪ ،‬ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها‪.‬‬

‫سهِمْ بِا ْلكُفْرِ أُولَ ِئكَ‬


‫{ ‪ { }ْ 18 - 17‬مَا كَانَ لِ ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ َي ْعمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫عمَاُلهُ ْم َوفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِ ّنمَا َي ْعمُرُ َمسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وََأقَامَ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫حَ ِب َ‬
‫الصّلَا َة وَآتَى ال ّزكَا َة وَلَمْ َيخْشَ إِلّا اللّهَ َفعَسَى أُولَ ِئكَ أَنْ َيكُونُوا مِنَ ا ْل ُمهْ َتدِينَ ْ}‬

‫يقول تعالى‪ { :‬مَا كَانَ ْ} أي‪ :‬ما ينبغي ول يليق { لِ ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ َي ْعمُرُوا مَسَاجِدَ اللّهِ ْ} بالعبادة‪،‬‬
‫والصلة‪ ،‬وغيرها من أنواع الطاعات‪ ،‬والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة‬
‫حالهم وفطرهم‪ ،‬وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل‪.‬‬

‫سهِمْ بِا ْل ُكفْرِ ْ} وعدم اليمان‪ ،‬الذي هو شرط لقبول العمال‪ ،‬فكيف‬
‫فإذا كانوا { شَا ِهدِينَ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫عمّارُ مساجد اللّه‪ ،‬والصل منهم مفقود‪ ،‬والعمال منهم باطلة؟"‪.‬‬
‫يزعمون أنهم ُ‬

‫عمَاُلهُمْ ْ} أي‪ :‬بطلت وضلت { َوفِي النّارِ ُهمْ خَاِلدُونَ ْ}‬


‫طتْ أَ ْ‬
‫ولهذا قال‪ { :‬أُولَ ِئكَ حَبِ َ‬

‫ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال‪ { :‬إِ ّنمَا َي ْعمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وََأقَامَ‬
‫الصّلَاةَ ْ} الواجبة والمستحبة‪ ،‬بالقيام بالظاهر منها والباطن‪.‬‬

‫{ وَآتَى ال ّزكَاةَ ْ} لهلها { وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللّهَ ْ} أي قصر خشيته على ربه‪ ،‬فكف عما حرم اللّه‪ ،‬ولم‬
‫يقصر بحقوق اللّه الواجبة‪.‬‬

‫فوصفهم باليمان النافع‪ ،‬وبالقيام بالعمال الصالحة التي ُأمّها الصلة والزكاة‪ ،‬وبخشية اللّه التي‬
‫هي أصل كل خير‪ ،‬فهؤلء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها‪ ،‬الذين هم أهلها‪.‬‬

‫{ َفعَسَى أُولَ ِئكَ أَنْ َيكُونُوا مِنَ ا ْل ُمهْتَدِينَ ْ} و { عسى ْ} من اللّه واجبة‪ .‬وأما من لم يؤمن باللّه ول‬
‫باليوم الخر‪ ،‬ول عنده خشية للّه‪ ،‬فهذا ليس من عمار مساجد اللّه‪ ،‬ول من أهلها الذين هم أهلها‪،‬‬
‫وإن زعم ذلك وادعاه‪.‬‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ َكمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر َوجَاهَدَ‬
‫عمَا َرةَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج وَ ِ‬
‫سقَايَةَ الْحَا ّ‬
‫جعَلْتُمْ ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 22 - 19‬أ َ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْ َتوُونَ عِ ْندَ اللّ ِه وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ * الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَا َهدُوا‬
‫ح َمةٍ‬
‫جةً عِنْدَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ * يُ َبشّرُهُمْ رَ ّب ُهمْ بِرَ ْ‬
‫عظَمُ دَرَ َ‬
‫سهِمْ أَ ْ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫عظِيمٌ }‬
‫ضوَانٍ َوجَنّاتٍ َل ُهمْ فِيهَا َنعِيمٌ ُمقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ أَجْرٌ َ‬
‫مِنْ ُه وَ ِر ْ‬

‫لما اختلف بعض المسلمين‪ ،‬أو بعض المسلمين وبعض المشركين‪ ،‬في تفضيل عمارة المسجد‬
‫الحرام‪ ،‬بالبناء والصلة والعبادة فيه وسقاية الحاج‪ ،‬على اليمان باللّه والجهاد في سبيله‪ ،‬أخبر‬
‫سقَايَةَ ا ْلحَاجّ } أي‪ :‬سقيهم الماء من زمزم كما هو‬
‫جعَلْ ُتمْ ِ‬
‫اللّه تعالى بالتفاوت بينهما‪ ،‬فقال‪ { :‬أَ َ‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ َكمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ‬
‫عمَا َرةَ ا ْلمَ ْ‬
‫المعروف إذا أطلق هذا السم‪ ،‬أنه المراد { وَ ِ‬
‫وَجَا َهدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْ َتوُونَ عِ ْندَ اللّهِ }‬

‫فالجهاد واليمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة‪ ،‬لن اليمان‬
‫أصل الدين‪ ،‬وبه تقبل العمال‪ ،‬وتزكو الخصال‪.‬‬

‫وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين‪ ،‬الذي به يحفظ الدين السلمي ويتسع‪ ،‬وينصر‬
‫الحق ويخذل الباطل‪.‬‬

‫وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج‪ ،‬فهي وإن كانت أعمال صالحة‪ ،‬فهي متوقفة على‬
‫اليمان‪ ،‬وليس فيها من المصالح ما في اليمان والجهاد‪ ،‬فلذلك قال‪ { :‬لَا يَسْ َتوُونَ عِنْدَ اللّ ِه وَاللّهُ لَا‬
‫َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬الذين وصفهم الظلم‪ ،‬الذين ل يصلحون لقبول شيء من الخير‪ ،‬بل ل‬
‫يليق بهم إل الشر‪.‬‬

‫ثم صرح بالفضل فقال‪ { :‬الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ } بالنفقة في‬
‫جةً عِنْدَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ }‬
‫عظَمُ دَرَ َ‬
‫سهِمْ } بالخروج بالنفس { أَ ْ‬
‫الجهاد وتجهيز الغزاة { وَأَ ْنفُ ِ‬
‫أي‪ :‬ل يفوز بالمطلوب ول ينجو من المرهوب‪ ،‬إل من اتصف بصفاتهم‪ ،‬وتخلق بأخلقهم‪.‬‬

‫ح َمةٍ مِنْهُ } أزال بها عنهم‬


‫{ يُ َبشّرُهُمْ رَ ّبهُمْ } جودا منه‪ ،‬وكرما وبرا بهم‪ ،‬واعتناء ومحبة لهم‪ { ،‬بِرَ ْ‬
‫الشرور‪ ،‬وأوصل إليهم [بها] كل خير‪ { .‬وَ ِرضْوَانٍ } منه تعالى عليهم‪ ،‬الذي هو أكبر نعيم الجنة‬
‫وأجله‪ ،‬فيحل عليهم رضوانه‪ ،‬فل يسخط عليهم أبدا‪.‬‬
‫{ َوجَنّاتٍ َل ُهمْ فِيهَا َنعِيمٌ ُمقِيمٌ } من كل ما اشتهته النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬مما ل يعلم وصفه ومقداره‬
‫إل اللّه تعالى‪ ،‬الذي منه أن اللّه أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة‪ ،‬ما بين كل درجتين كما بين‬
‫السماء والرض‪ ،‬ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم‪.‬‬

‫عظِيمٌ } ل‬
‫حوَلًا‪ { ،‬إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ َأجْرٌ َ‬
‫{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } ل ينتقلون عنها‪ ،‬ول يبغون عنها ِ‬
‫تستغرب كثرته على فضل اللّه‪ ،‬ول يتعجب من عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون‪.‬‬

‫خوَا َنكُمْ َأوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبّوا ا ْل ُكفْرَ عَلَى‬


‫{ ‪ { } 24 - 23‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا آبَا َءكُ ْم وَِإ ْ‬
‫جكُمْ‬
‫خوَا ُنكُ ْم وَأَ ْزوَا ُ‬
‫ن َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ * ُقلْ إِنْ كَانَ آبَا ُؤكُمْ وَأَبْنَا ُؤكُ ْم وَِإ ْ‬
‫الْإِيمَا ِ‬
‫حبّ إِلَ ْيكُمْ مِنَ اللّهِ‬
‫ضوْ َنهَا َأ َ‬
‫شوْنَ كَسَادَهَا َومَسَاكِنُ تَ ْر َ‬
‫وَعَشِيرَ ُتكُ ْم وََأ ْموَالٌ اقْتَ َرفْ ُتمُوهَا وَتِجَا َرةٌ َتخْ َ‬
‫سقِينَ }‬
‫جهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَ ّبصُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِر ِه وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬
‫وَرَسُولِ ِه وَ ِ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى اليمان‪ ،‬بأن توالوا من قام به‪ ،‬وتعادوا من لم‬
‫يقم به‪.‬‬

‫خوَا َنكُمْ } الذين هم أقرب الناس إليكم‪ ،‬وغيرهم من باب أولى وأحرى‪ ،‬فل‬
‫و { لَا تَتّخِذُوا آبَا َءكُ ْم وَإِ ْ‬
‫تتخذوهم { َأوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبّوا } أي‪ :‬اختاروا على وجه الرضا والمحبة { ا ْل ُكفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ }‬

‫{ َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } لنهم تجرؤوا على معاصي اللّه‪ ،‬واتخذوا أعداء اللّه‬
‫أولياء‪ ،‬وأصل الولية‪ :‬المحبة والنصرة‪ ،‬وذلك أن اتخاذهم أولياء‪ ،‬موجب لتقديم طاعتهم على‬
‫طاعة اللّه‪ ،‬ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله‪.‬‬

‫ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك‪ ،‬وهو أن محبة اللّه ورسوله‪ ،‬يتعين تقديمهما على محبة كل شيء‪،‬‬
‫خوَا ُنكُمْ‬
‫وجعل جميع الشياء تابعة لهما فقال‪ُ { :‬قلْ إِنْ كَانَ آبَا ُؤكُمْ } ومثلهم المهات { وَأَبْنَا ُؤكُ ْم وَإِ ْ‬
‫جكُ ْم وَعَشِيرَ ُت ُكمْ } أي‪ :‬قراباتكم عموما { وََأ ْموَالٌ اقْتَ َرفْ ُتمُوهَا } أي‪:‬‬
‫} في النسب والعشرة { وَأَ ْزوَا ُ‬
‫اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها‪ ،‬خصها بالذكر‪ ،‬لنها أرغب عند أهلها‪ ،‬وصاحبها أشد حرصا‬
‫عليها ممن تأتيه الموال من غير تعب ول َكدّ‪.‬‬

‫شوْنَ كَسَادَهَا } أي‪ :‬رخصها ونقصها‪ ،‬وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب‬
‫{ وَ ِتجَا َرةٌ تَخْ َ‬
‫من عروض التجارات‪ ،‬من الثمان‪ ،‬والواني‪ ،‬والسلحة‪ ،‬والمتعة‪ ،‬والحبوب‪ ،‬والحروث‪،‬‬
‫والنعام‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫حبّ‬
‫ضوْ َنهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لهوائكم‪ ،‬فإن كانت هذه الشياء { َأ َ‬
‫{ َومَسَاكِنُ تَ ْر َ‬
‫جهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة‪.‬‬
‫إِلَ ْيكُمْ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ِ‬
‫{ فَتَرَ ّبصُوا } أي‪ :‬انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ } الذي ل مرد له‪.‬‬

‫سقِينَ } أي‪ :‬الخارجين عن طاعة اللّه‪ ،‬المقدمين على محبة اللّه شيئا من‬
‫{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬
‫المذكورات‪.‬‬

‫وهذه الية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله‪ ،‬وعلى تقديمها على محبة كل‬
‫شيء‪ ،‬وعلى الوعيد الشديد والمقت الكيد‪ ،‬على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من‬
‫اللّه ورسوله‪ ،‬وجهاد في سبيله‪.‬‬

‫وعلمة ذلك‪ ،‬أنه إذا عرض عليه أمران‪ ،‬أحدهما يحبه اللّه ورسوله‪ ،‬وليس لنفسه فيها هوى‪،‬‬
‫والخر تحبه نفسه وتشتهيه‪ ،‬ولكنه ُي َف ّوتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله‪ ،‬أو ينقصه‪ ،‬فإنه إن قدم ما‬
‫تهواه نفسه‪ ،‬على ما يحبه اللّه‪ ،‬دل ذلك على أنه ظالم‪ ،‬تارك لما يجب عليه‪.‬‬

‫عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ فََلمْ ُتغْنِ عَ ْنكُمْ‬


‫{ ‪َ { } 27 - 25‬لقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َر ٍة وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ ِإذْ أَ ْ‬
‫سكِينَ َتهُ عَلَى رَسُولِ ِه وَعَلَى‬
‫شَيْئًا َوضَا َقتْ عَلَ ْي ُكمُ الْأَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َبتْ ُث ّم وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمّ أَنْ َزلَ اللّهُ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَأَنْ َزلَ جُنُودًا لَمْ تَ َروْهَا وَعَ ّذبَ الّذِينَ َكفَرُوا َوذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ * ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ َبعْدِ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫ذَِلكَ عَلَى مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ َ‬

‫يمتن تعالى على عباده المؤمنين‪ ،‬بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء‪ ،‬ومواضع‬
‫الحروب والهيجاء‪ ،‬حتى في يوم { حنين } الذي اشتدت عليهم فيه الزمة‪ ،‬ورأوا من التخاذل‬
‫والفرار‪ ،‬ما ضاقت عليهم به الرض على رحبها وسعتها‪.‬‬

‫وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم لما فتح مكة‪ ،‬سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه‪ ،‬فسار إليهم‬
‫صلى ال عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة‪ ،‬وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة‪ ،‬فكانوا اثني‬
‫عشر ألفا‪ ،‬والمشركون أربعة آلف‪ ،‬فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬لن نغلب‬
‫اليوم من قلة‪.‬‬

‫فلما التقوا هم وهوازن‪ ،‬حملوا على المسلمين حملة واحدة‪ ،‬فانهزموا ل يلوي أحد على أحد‪ ،‬ولم‬
‫يبق مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إل نحو مائة رجل‪ ،‬ثبتوا معه‪ ،‬وجعلوا يقاتلون‬
‫المشركين‪ ،‬وجعل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يركض بغلته نحو المشركين ويقول‪ { :‬أنا النبي ل‬
‫كذب‪ ،‬أنا ابن عبد المطلب }‬

‫ولما رأى من المسلمين ما رأى‪ ،‬أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في النصار وبقية‬
‫المسلمين‪ ،‬وكان رفيع الصوت‪ ،‬فناداهم‪ :‬يا أصحاب السمرة‪ ،‬يا أهل سورة البقرة‪.‬‬
‫فلما سمعوا صوته‪ ،‬عطفوا عطفة رجل واحد‪ ،‬فاجتلدوا مع المشركين‪ ،‬فهزم اللّه المشركين‪،‬‬
‫هزيمة شنيعة‪ ،‬واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم‪.‬‬

‫وذلك قوله تعالى { َلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َر ٍة وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ } وهو اسم للمكان الذي كانت‬
‫فيه الوقعة بين مكة والطائف‪.‬‬

‫عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ فََلمْ ُتغْنِ عَ ْنكُمْ شَيْئًا } أي‪ :‬لم تفدكم شيئا‪ ،‬قليل ول كثيرا { َوضَاقَتْ عَلَ ْيكُمُ‬
‫{ ِإذْ أَ ْ‬
‫الْأَ ْرضُ } بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم { ِبمَا رَحُ َبتْ } أي‪ :‬على رحبها وسعتها‪ُ { ،‬ثمّ‬
‫وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أي‪ :‬منهزمين‪.‬‬

‫سكِينَتَهُ عَلَى رَسُوِل ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } والسكينة ما يجعله اللّه في القلوب وقت‬
‫{ ُثمّ أَنْ َزلَ اللّهُ َ‬
‫القلقل والزلزل والمفظعات‪ ،‬مما يثبتها‪ ،‬ويسكنها ويجعلها مطمئنة‪ ،‬وهي من نعم اللّه العظيمة‬
‫على العباد‪.‬‬

‫{ وَأَنْ َزلَ جُنُودًا لَمْ تَ َروْهَا } وهم الملئكة‪ ،‬أنزلهم اللّه معونة للمسلمين يوم حنين‪ ،‬يثبتونهم‪،‬‬
‫ويبشرونهم بالنصر‪.‬‬

‫{ وَعَ ّذبَ الّذِينَ َكفَرُوا } بالهزيمة والقتل‪ ،‬واستيلء المسلمين على نسائهم وأولدهم وأموالهم‪.‬‬

‫{ وَ َذِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ } يعذبهم اللّه في الدنيا‪ ،‬ثم يردهم في الخرة إلى عذاب غليظ‪.‬‬

‫{ ُثمّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } فتاب اللّه على كثير ممن كانت الوقعة عليهم‪ ،‬وأتوا‬
‫إلى النبي صلى ال عليه وسلم مسلمين تائبين‪ ،‬فرد عليهم نساءهم‪ ،‬وأولدهم‪.‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ } أي‪ :‬ذو مغفرة واسعة‪ ،‬ورحمة عامة‪ ،‬يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين‪،‬‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة‪ ،‬والصفح عن جرائمهم‪ ،‬وقبول توباتهم‪ ،‬فل ييأسنّ أحد من‬
‫مغفرته ورحمته‪ ،‬ولو فعل من الذنوب والجرام ما فعل‪.‬‬

‫سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا وَإِنْ‬


‫{ ‪ { } 28‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَجَسٌ فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ َ‬
‫خفْتُمْ عَيَْلةً فَ َ‬
‫ِ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره { َنجَسٌ } أي‪:‬‬
‫خبثاء في عقائدهم وأعمالهم‪ ،‬وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة ل تنفع ول تضر‪ ،‬ول‬
‫تغني عنه شيئا؟"‪.‬‬
‫وأعمالهم ما بين محاربة للّه‪ ،‬وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل‪ ،‬ورد للحق‪ ،‬وعمل بالفساد في‬
‫الرض ل في الصلح‪ ،‬فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم‪.‬‬

‫سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة‪ ،‬حين حج بالناس أبو بكر‬
‫{ فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ‬
‫الصديق‪ ،‬وبعث النبي صلى ال عليه وسلم ابن عمه عليا‪ ،‬أن يؤذن يوم الحج الكبر بب { براءة }‬
‫فنادى أن ل يحج بعد العام مشرك‪ ،‬ول يطوف بالبيت عريان‪.‬‬

‫وليس المراد هنا‪ ،‬نجاسة البدن‪ ،‬فإن الكافر كغيره طاهر البدن‪ ،‬بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء‬
‫الكتابية ومباشرتها‪ ،‬ولم يأمر بغسل ما أصاب منها‪.‬‬

‫والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار‪ ،‬ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها‪َ ،‬تقَذّرَهْم من‬
‫النجاسات‪ ،‬وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية‪ ،‬بالشرك‪ ،‬فكما أن التوحيد واليمان‪ ،‬طهارة‪،‬‬
‫فالشرك نجاسة‪.‬‬

‫خفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيَْلةً } أي‪ :‬فقرا وحاجة‪ ،‬من منع المشركين من قربان‬
‫وقوله‪ { :‬وَإِنْ ِ‬
‫س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ‬
‫المسجد الحرام‪ ،‬بأن تنقطع السباب التي بينكم وبينهم من المور الدنيوية‪ { ،‬فَ َ‬
‫مِنْ َفضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب واحد‪ ،‬ومحل واحد‪ ،‬بل ل ينغلق باب إل وفتح غيره‬
‫أبواب كثيرة‪ ،‬فإن فضل اللّه واسع‪ ،‬وجوده عظيم‪ ،‬خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم‪ ،‬فإن‬
‫اللّه أكرم الكرمين‪.‬‬

‫وقد أنجز اللّه وعده‪ ،‬فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله‪ ،‬وبسط لهم من الرزاق ما كانوا به‬
‫من أكبر الغنياء والملوك‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِنْ شَاءَ } تعليق للغناء بالمشيئة‪ ،‬لن الغنى في الدنيا‪ ،‬ليس من لوازم اليمان‪ ،‬ول يدل‬
‫على محبة اللّه‪ ،‬فلهذا علقه اللّه بالمشيئة‪.‬‬

‫فإن اللّه يعطي الدنيا‪ ،‬من يحب‪ ،‬ومن ل يحب‪ ،‬ول يعطي اليمان والدين‪ ،‬إل من يحب‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬علمه‬


‫{ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ َ‬

‫واسع‪ ،‬يعلم من يليق به الغنى‪ ،‬ومن ل يليق‪ ،‬ويضع الشياء مواضعها وينزلها منازلها‪.‬‬
‫سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا } أن المشركين بعد ما‬
‫وتدل الية الكريمة‪ ،‬وهي قوله { فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ‬
‫كانوا‪ ،‬هم الملوك والرؤساء بالبيت‪ ،‬ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين‪ ،‬مع إقامتهم‬
‫في البيت‪ ،‬ومكة المكرمة‪ ،‬ثم نزلت هذه الية‪.‬‬

‫ولما مات النبي صلى ال عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز‪ ،‬فل يبقى فيها دينان‪ ،‬وكل هذا‬
‫سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا‬
‫لجل ُبعْ ِد كل كافر عن المسجد الحرام‪ ،‬فيدخل في قوله { فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ‬
‫}‬

‫{ ‪ { } 29‬قَاتِلُوا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَلَا بِالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَلَا ُيحَ ّرمُونَ مَا حَرّمَ اللّ ُه وَرَسُولُهُ وَلَا‬
‫حقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ حَتّى ُي ْعطُوا الْجِزْ َيةَ عَنْ يَدٍ وَهُ ْم صَاغِرُونَ }‬
‫يَدِينُونَ دِينَ الْ َ‬

‫هذه الية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من { الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَلَا بِالْ َيوْمِ الْآخِرِ }‬
‫إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم‪ .‬ول يحرمون ما حرم ال‪ ،‬فل يتبعون شرعه في تحريم‬
‫المحرمات‪ { ،‬وَلَا َيدِينُونَ دِينَ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬ل يدينون بالدين الصحيح‪ ،‬وإن زعموا أنهم على دين‪،‬‬
‫فإنه دين غير الحق‪ ،‬لنه إما بين دين مبدل‪ ،‬وهو الذي لم يشرعه اللّه أصل‪ ،‬وإما دين منسوخ قد‬
‫شرعه اللّه‪ ،‬ثم غيره بشريعة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز‪.‬‬

‫فأمره بقتال هؤلء وحث على ذلك‪ ،‬لنهم يدعون إلى ما هم عليه‪ ،‬ويحصل الضرر الكثير منهم‬
‫للناس‪ ،‬بسبب أنهم أهل كتاب‪.‬‬

‫وغيّى ذلك القتال { حَتّى ُيعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي‪ :‬المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم‪،‬‬
‫وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم‪ ،‬بين أظهر المسلمين‪ ،‬يؤخذ منهم كل عام‪ ،‬كلّ على حسب‬
‫حاله‪ ،‬من غني وفقير ومتوسط‪ ،‬كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره‪ ،‬من أمراء‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬عَنْ يَدٍ } أي‪ :‬حتى يبذلوها في حال ذلهم‪ ،‬وعدم اقتدارهم‪ ،‬ويعطونها بأيديهم‪ ،‬فل‬
‫يرسلون بها خادما ول غيره‪ ،‬بل ل تقبل إل من أيديهم‪ { ،‬وَ ُه ْم صَاغِرُونَ }‬

‫فإذا كانوا بهذه الحال‪ ،‬وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية‪ ،‬وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم‪،‬‬
‫وحال المن من شرهم وفتنتهم‪ ،‬واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم‬
‫وتكبرهم‪ ،‬ويوجب ذلهم وصغارهم‪ ،‬وجب على المام أو نائبه أن يعقدها لهم‪.‬‬

‫وإل بأن لم يفوا‪ ،‬ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‪ ،‬لم يجز إقرارهم بالجزية‪ ،‬بل يقاتلون‬
‫حتى يسلموا‪.‬‬
‫واستدل بهذه الية الجمهور الذين يقولون‪ :‬ل تؤخذ الجزية إل من أهل الكتاب‪ ،‬لن اللّه لم يذكر‬
‫أخذ الجزية إل منهم‪.‬‬

‫وأما غيرهم فلم يذكر إل قتالهم حتى يسلموا‪ ،‬وألحق بأهل الكتاب في أخد الجزية وإقرارهم في‬
‫ديار المسلمين‪ ،‬المجوس‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أخذ الجزية من مجوس هجر‪ ،‬ثم أخذها‬
‫أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬لن هذه الية نزلت بعد الفراغ‬
‫من قتال العرب المشركين‪ ،‬والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم‪ ،‬فيكون هذا القيد إخبارا‬
‫بالواقع‪ ،‬ل مفهوما له‪.‬‬

‫ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب‪ ،‬ولنه قد تواتر عن المسلمين‬
‫من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلث‪ :‬إما السلم‪ ،‬أو أداء الجزية‪،‬‬
‫أو السيف‪ ،‬من غير فرق بين كِتَا ِبيّ وغيره‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 33 - 30‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّ ِه َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى ا ْل َمسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَِلكَ َقوُْلهُمْ‬
‫بَِأ ْفوَا ِههِمْ ُيضَاهِئُونَ َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ قَاتََلهُمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ * اتّخَذُوا َأحْبَارَ ُه ْم وَرُهْبَا َنهُمْ‬
‫عمّا‬
‫حدًا لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ سُبْحَانَهُ َ‬
‫أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّ ِه وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْ َي َم َومَا ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْبُدُوا إَِلهًا وَا ِ‬
‫طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَى اللّهُ ِإلّا أَنْ يُتِمّ نُو َرهُ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ *‬
‫يُشْ ِركُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ ُي ْ‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }‬
‫حقّ لِ ُي ْ‬
‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ الْ َ‬
‫ُهوَ الّذِي أَ ْر َ‬

‫لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب‪ ،‬ذكر من أقوالهم الخبيثة‪ ،‬ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم‬
‫ولدينه على قتالهم‪ ،‬والجتهاد وبذل الوسع فيه فقال‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ } وهذه المقالة‬
‫وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم‪ ،‬فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما‬
‫أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه‪ ،‬وتنقصوا عظمته وجلله‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه‪ ،‬أنه لما سلط ال الملوك على بني إسرائيل‪،‬‬
‫حمَلَةَ التوراة‪ ،‬وجدوا‬
‫ومزقوهم كل ممزق‪ ،‬وقتلوا َ‬

‫عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لكثرها‪ ،‬فأملها عليهم من حفظه‪ ،‬واستنسخوها‪ ،‬فادعوا فيه هذه‬
‫الدعوى الشنيعة‪.‬‬

‫{ َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللّهِ } قال اللّه تعالى { ذَِلكَ } القول الذي قالوه‬
‫{ َقوُْلهُمْ بَِأ ْفوَا ِه ِهمْ } لم يقيموا عليه حجة ول برهانا‪.‬‬
‫ومن كان ل يبالي بما يقول‪ ،‬ل يستغرب عليه أي قول يقوله‪ ،‬فإنه ل دين ول عقل‪ ،‬يحجزه‪ ،‬عما‬
‫يريد من الكلم‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ُ { :‬يضَاهِئُونَ } أي‪ :‬يشابهون في قولهم هذا { َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬قول‬
‫المشركين الذين يقولون‪ { :‬الملئكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم‪ ،‬فتشابهت أقوالهم في البطلن‪.‬‬

‫{ قَاتََل ُهمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ } أي‪ :‬كيف يصرفون على الحق‪ ،‬الصرف الواضح المبين‪ ،‬إلى القول‬
‫الباطل المبين‪.‬‬

‫وهذا ‪-‬وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة‪ ،‬أن تتفق على قول‪ -‬يدل على بطلنه أدنى تفكر‬
‫وتسليط للعقل عليه‪ ،‬فإن لذلك سببا وهو أنهم‪ { :‬اتّخَذُوا َأحْبَارَ ُهمْ } وهم علماؤهم { وَرُهْبَا َنهُمْ } أي‪:‬‬
‫العُبّاد المتجردين للعبادة‪.‬‬

‫{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ } ُيحِلّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه‪ ،‬ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه‪،‬‬
‫ويشرعون لهم من الشرائع والقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها‪.‬‬

‫وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم‪ ،‬ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه‪،‬‬
‫وتقصد بالذبائح‪ ،‬والدعاء والستغاثة‪.‬‬

‫{ وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه‪ ،‬والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على‬
‫ألسنة رسله فما { ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْبُدُوا إَِلهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } فيخلصون له العبادة والطاعة‪،‬‬
‫ويخصونه بالمحبة والدعاء‪ ،‬فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا‪.‬‬

‫عمّا ُيشْ ِركُونَ } أي‪ :‬تنزه وتقدس‪ ،‬وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم‪،‬‬
‫{ سُبْحَا َنهُ } وتعالى { َ‬
‫فإنهم ينتقصونه في ذلك‪ ،‬ويصفونه بما ل يليق بجلله‪ ،‬واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن‬
‫كل ما نسب إليه‪ ،‬مما ينافي كماله المقدس‪.‬‬

‫فلما تبين أنه ل حجة لهم على ما قالوه‪ ،‬ول برهان لما أصّلوه‪ ،‬وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء‬
‫طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِمْ }‬
‫افتروه أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُ ْ‬

‫ونور اللّه‪ :‬دينه الذي أرسل به الرسل‪ ،‬وأنزل به الكتب‪ ،‬وسماه اللّه نورا‪ ،‬لنه يستنار به في‬
‫ظلمات الجهل والديان الباطلة‪ ،‬فإنه علم بالحق‪ ،‬وعمل بالحق‪ ،‬وما عداه فإنه بضده‪ ،‬فهؤلء‬
‫اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين‪ ،‬يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم‪ ،‬التي‬
‫ليس عليها دليل أصل‪.‬‬
‫{ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُ ِتمّ نُو َرهُ } لنه النور الباهر‪ ،‬الذي ل يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على‬
‫إطفائه أن يطفئوه‪ ،‬والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده‪ ،‬وقد تكفل بحفظه من كل من يريده‬
‫بسوء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُ ِتمّ نُو َرهُ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في رده‬
‫وإبطاله‪ ،‬فإن سعيهم ل يضر الحق شيئا‪.‬‬

‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى }‬


‫ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫الذي هو العلم النافع { وَدِينِ ا ْلحَقّ } الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى ال‬
‫عليه وسلم مشتمل على بيان الحق من الباطل في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله‪ ،‬وفي أحكامه‬
‫وأخباره‪ ،‬والمر بكل مصلحة نافعة للقلوب‪ ،‬والرواح والبدان من إخلص الدين للّه وحده‪،‬‬
‫ومحبة اللّه وعبادته‪ ،‬والمر بمكارم الخلق ومحاسن الشيم‪ ،‬والعمال الصالحة والداب النافعة‪،‬‬
‫والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الخلق والعمال السيئة المضرة للقلوب والبدان‬
‫والدنيا والخرة‪.‬‬

‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ } أي‪ :‬ليعليه على‬
‫فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق { لِيُ ْ‬
‫سائر الديان‪ ،‬بالحجة والبرهان‪ ،‬والسيف والسنان‪ ،‬وإن كره المشركون ذلك‪ ،‬وبغوا له الغوائل‪،‬‬
‫ومكروا مكرهم‪ ،‬فإن المكر السيئ ل يضر إل صاحبه‪ ،‬فوعد اللّه ل بد أن ينجزه‪ ،‬وما ضمنه لبد‬
‫أن يقوم به‪.‬‬

‫طلِ‬
‫{ ‪ { } 35 - 34‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَا ِر وَالرّهْبَانِ لَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ‬
‫ب وَا ْل ِفضّ َة وَلَا يُ ْنفِقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْ ُهمْ ِبعَذَابٍ‬
‫وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ‬
‫سكُمْ‬
‫ظهُورُهُمْ َهذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫جهَنّمَ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم َوجُنُو ُبهُمْ وَ ُ‬
‫حمَى عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ‬
‫أَلِيمٍ * َيوْمَ يُ ْ‬
‫فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْنِزُونَ }‬

‫هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الحبار والرهبان‪ ،‬أي‪ :‬العلماء والعباد‬
‫الذين يأكلون أموال الناس بالباطل‪ ،‬أي‪ :‬بغير حق‪ ،‬ويصدون عن سبيل اللّه‪ ،‬فإنهم إذا كانت لهم‬
‫رواتب من أموال الناس‪ ،‬أو بذل الناس لهم من أموالهم فإنه لجل علمهم وعبادتهم‪ ،‬ولجل هداهم‬
‫وهدايتهم‪ ،‬وهؤلء يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل اللّه‪ ،‬فيكون أخذهم لها على هذا الوجه‬
‫سحتا وظلما‪ ،‬فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إل ليدلوهم إلى الطريق المستقيم‪.‬‬

‫ومن أخذهم لموال الناس بغير حق‪ ،‬أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه‪،‬‬
‫فهؤلء الحبار والرهبان‪ ،‬ليحذر منهم هاتان الحالتان‪ :‬أخذهم لموال الناس بغير حق‪ ،‬وصدهم‬
‫الناس عن سبيل اللّه‪.‬‬
‫ب وَا ْل ِفضّةَ } أي‪ :‬يمسكونها { وَلَا يُ ْن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي‪ :‬طرق الخير‬
‫{ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ‬
‫الموصلة إلى اللّه‪ ،‬وهذا هو الكنز المحرم‪ ،‬أن يمسكها عن النفقة الواجبة‪ ،‬كأن يمنع منها الزكاة أو‬
‫النفقات الواجبة للزوجات‪ ،‬أو القارب‪ ،‬أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت‪.‬‬

‫{ فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ } ثم فسره بقوله‪:‬‬

‫جهَنّمَ } فيحمى كل دينار أو درهم على حدته‪.‬‬


‫حمَى عَلَ ْيهَا } أي‪ :‬على أموالهم‪ { ،‬فِي نَارِ َ‬
‫{ َيوْمَ يُ ْ‬

‫ظهُورُ ُهمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره‬
‫{ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم وَجُنُو ُبهُ ْم وَ ُ‬
‫سكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْ ُتمْ َتكْنِزُونَ } فما‬
‫خمسين ألف سنة‪ ،‬ويقال لهم توبيخا ولوما‪َ { :‬هذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز‪.‬‬

‫وذكر اللّه في هاتين اليتين‪ ،‬انحراف النسان في ماله‪ ،‬وذلك بأحد أمرين‪:‬‬

‫إما أن ينفقه في الباطل الذي ل يجدي عليه نفعا‪ ،‬بل ل يناله منه إل الضرر المحض‪ ،‬وذلك‬
‫كإخراج الموال في المعاصي والشهوات التي ل تعين على طاعة اللّه‪ ،‬وإخراجها للصد عن سبيل‬
‫اللّه‪.‬‬

‫وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات‪ ،‬و { النهي عن الشيء‪ ،‬أمر بضده }‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫شهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ َيوْمَ خَلَقَ ال ّ‬
‫شهُورِ عِ ْندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ‬
‫{ ‪ } 36‬وقوله‪ { :‬إِنّ عِ ّدةَ ال ّ‬
‫سكُ ْم َوقَاتِلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ كَافّةً َكمَا‬
‫وَالْأَ ْرضَ مِ ْنهَا أَرْ َب َعةٌ حُ ُرمٌ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَلَا َتظِْلمُوا فِيهِنّ أَ ْنفُ َ‬
‫ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَافّةً وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُتّقِينَ }‬

‫شهْرًا } وهي هذه‬


‫شهُورِ عِنْدَ اللّهِ } أي‪ :‬في قضائه وقدره‪ { .‬اثْنَا عَشَرَ َ‬
‫ع ّدةَ ال ّ‬
‫يقول تعالى { إِنّ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ }‬
‫الشهور المعروفة { فِي كِتَابِ اللّهِ } أي في حكمه القدري‪َ { ،‬يوْمَ خَلَقَ ال ّ‬
‫وأجرى ليلها ونهارها‪ ،‬وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الثني عشر [شهرا]‪.‬‬

‫{ مِ ْنهَا أَرْ َبعَةٌ حُ ُرمٌ } وهي‪ :‬رجب الفرد‪ ،‬وذو القعدة‪ ،‬وذو الحجة‪ ،‬والمحرم‪ ،‬وسميت حرما لزيادة‬
‫حرمتها‪ ،‬وتحريم القتال فيها‪.‬‬
‫سكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الثنى عشر شهرا‪ ،‬وأن اللّه تعالى بين‬
‫{ فَلَا تَظِْلمُوا فِيهِنّ أَ ْنفُ َ‬
‫أنه جعلها مقادير للعباد‪ ،‬وأن تعمر بطاعته‪ ،‬ويشكر اللّه تعالى على مِنّتِ ِه بها‪ ،‬وتقييضها لمصالح‬
‫العباد‪ ،‬فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها‪.‬‬

‫ويحتمل أن الضمير يعود إلى الربعة الحرم‪ ،‬وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها‪ ،‬خصوصا مع‬
‫النهي عن الظلم كل وقت‪ ،‬لزيادة تحريمها‪ ،‬وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها‪.‬‬

‫ومن ذلك النهي عن القتال فيها‪ ،‬على قول من قال‪ :‬إن القتال في الشهر الحرام لم ينسخ تحريمه‬
‫عمل بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها‪.‬‬

‫ومنهم من قال‪ :‬إن تحريم القتال فيها منسوخ‪ ،‬أخذا بعموم نحو قوله تعالى‪َ { :‬وقَاتِلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ‬
‫كَافّةً َكمَا ُيقَاتِلُونَكُمْ كَافّةً } أي‪ :‬قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين‪.‬‬

‫ول تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد‪ ،‬بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك‪ ،‬قد‬
‫اتخذوا أهل اليمان أعداء لهم‪ ،‬ل يألونهم من الشر شيئا‪.‬‬

‫ويحتمل أن { كَافّةً } حال من الواو فيكون معنى هذا‪ :‬وقاتلوا جميعكم المشركين‪ ،‬فيكون فيها‬
‫وجوب النفير على جميع المؤمنين‪.‬‬

‫وقد نسخت على هذا الحتمال بقوله‪َ { :‬ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً } الية‪ { .‬وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } بعونه ونصره وتأييده‪ ،‬فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام‬
‫بطاعته‪ ،‬خصوصا عند قتال الكفار‪ ،‬فإنه في هذه الحال‪ ،‬ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في‬
‫معاملة الكفار العداء المحاربين‪.‬‬

‫حلّونَهُ عَامًا وَيُحَ ّرمُونَهُ عَامًا‬


‫ضلّ ِبهِ الّذِينَ َكفَرُوا يُ ِ‬
‫{ ‪ { } 37‬إِ ّنمَا النّسِيءُ زِيَا َدةٌ فِي ا ْل ُكفْرِ ُي َ‬
‫عمَاِلهِ ْم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ‬
‫لِ ُيوَاطِئُوا عِ ّدةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَ ُيحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ َلهُمْ سُوءُ أَ ْ‬
‫}‬

‫النسيء‪ :‬هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الشهر الحرم‪ ،‬وكان من جملة بدعهم الباطلة‪،‬‬
‫أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال‪ ،‬في بعض أوقات الشهر الحرم‪ ،‬رأوا ‪-‬بآرائهم الفاسدة‪ -‬أن‬
‫يحافظوا على عدة الشهر الحرم‪ ،‬التي حرم اللّه القتال فيها‪ ،‬وأن يؤخروا بعض الشهر الحرم‪،‬‬
‫أو يقدموه‪ ،‬ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا‪ ،‬فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه‪ ،‬وجعلوا‬
‫الشهر الحلل حراما‪ ،‬فهذا ‪-‬كما أخبر اللّه عنهم‪ -‬أنه زيادة في كفرهم وضللهم‪ ،‬لما فيه من‬
‫المحاذير‪.‬‬

‫منها‪ :‬أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم‪ ،‬وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه‪ ،‬واللّه ورسوله بريئان منه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنهم قلبوا الدين‪ ،‬فجعلوا الحلل حراما‪ ،‬والحرام حلل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنهم َموّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده‪ ،‬ولبسوا عليهم دينهم‪ ،‬واستعملوا الخداع والحيلة‬
‫في دين اللّه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العوائد المخالفة للشرع مع الستمرار عليها‪ ،‬يزول قبحها عن النفوس‪ ،‬وربما ظن أنها‬
‫حلّونَهُ‬
‫ضلّ ِبهِ الّذِينَ َكفَرُوا يُ ِ‬
‫عوائد حسنة‪ ،‬فحصل من الغلط والضلل ما حصل‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ي َ‬
‫ع ّدةَ مَا حَرّمَ اللّهُ } أي‪ :‬ليوافقوها في العدد‪ ،‬فيحلوا ما حرم اللّه‪.‬‬
‫عَامًا وَيُحَ ّرمُونَهُ عَامًا لِ ُيوَاطِئُوا ِ‬

‫عمَاِلهِمْ } أي‪ :‬زينت لهم الشياطين العمال السيئة‪ ،‬فرأوها حسنة‪ ،‬بسبب العقيدة‬
‫{ زُيّنَ َلهُمْ سُوءُ أَ ْ‬
‫المزينة في قلوبهم‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ } أي‪ :‬الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم‪ ،‬فلو جاءتهم كل آية‪،‬‬
‫لم يؤمنوا‪.‬‬

‫{ ‪ } 39 - 38‬قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا َلكُمْ ِإذَا قِيلَ َلكُمُ ا ْنفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْ ُتمْ‬
‫إِلَى الْأَ ْرضِ أَ َرضِيتُمْ بِا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الْآخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الْآخِ َرةِ إِلّا قَلِيلٌ * إِلّا تَ ْنفِرُوا‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫عذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَ ْب ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُ ْم وَلَا َتضُرّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ُيعَذّ ْبكُمْ َ‬

‫اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة‪ ،‬نزلت في غزوة تبوك‪ ،‬إذ ندب النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫المسلمين إلى غزو الروم‪ ،‬وكان الوقت حارا‪ ،‬والزاد قليل‪ ،‬والمعيشة عسرة‪ ،‬فحصل من بعض‬
‫المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬

‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } أل تعملون بمقتضى اليمان‪ ،‬وداعي اليقين من المبادرة لمر اللّه‪،‬‬
‫والمسارعة إلى رضاه‪ ،‬وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم‪ ،‬فب { مَا َل ُكمْ إِذَا قِيلَ َل ُكمُ ا ْنفِرُوا فِي سَبِيلِ‬
‫اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬تكاسلتم‪ ،‬وملتم إلى الرض والدعة والسكون فيها‪.‬‬

‫{ أَ َرضِي ُتمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬ما حالكم إل حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال‬
‫بالخرة‪ ،‬فكأنه ما آمن بها‪.‬‬
‫{ َفمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } التي مالت بكم‪ ،‬وقدمتموها على الخرة { ِإلّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه‬
‫لكم عقول تَزِنُون بها المور‪ ،‬وأيها أحق باليثار؟‪.‬‬

‫أفليست الدنيا ‪-‬من أولها إلى آخرها‪ -‬ل نسبة لها في الخرة‪ .‬فما مقدار عمر النسان القصير جدا‬
‫من الدنيا حتى يجعله الغاية التي ل غاية وراءها‪ ،‬فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته ل يتعدى‬
‫حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالكدار‪ ،‬المشحونة بالخطار‪.‬‬

‫فبأي رَ ْأيٍ رأيتم إيثارها على الدار الخرة الجامعة لكل نعيم‪ ،‬التي فيها ما تشتهيه النفس وتلذ‬
‫العين‪ ،‬وأنتم فيها خالدون‪ ،‬فواللّه ما آثر الدنيا على الخرة من وقر اليمان في قلبه‪ ،‬ول من‬
‫جزل رأيه‪ ،‬ول من عُدّ من أولي اللباب‪ ،‬ثم توعدهم على عدم النفير فقال‪:‬‬

‫{ ِإلّا تَ ْنفِرُوا ُيعَذّ ْب ُكمْ عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا والخرة‪ ،‬فإن عدم النفير في حال الستنفار من كبائر‬
‫الذنوب الموجبة لشد العقاب‪ ،‬لما فيها من المضار الشديدة‪ ،‬فإن المتخلف‪ ،‬قد عصى اللّه تعالى‬
‫وارتكب لنهيه‪ ،‬ولم يساعد على نصر دين اللّه‪ ،‬ول ذب عن كتاب اللّه وشرعه‪ ،‬ول أعان إخوانه‬
‫المسلمين على عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم‪ ،‬وربما اقتدى به غيره من ضعفاء‬
‫اليمان‪ ،‬بل ربما َفتّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه‪ ،‬فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده اللّه‬
‫بالوعيد الشديد‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إلّا تَ ْنفِرُوا ُيعَذّ ْب ُكمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َر ُكمْ } ثم ل يكونوا أمثالكم {‬
‫وَلَا َتضُرّوهُ شَيْئًا } فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلء كلمته‪ ،‬فسواء امتثلتم لمر اللّه‪ ،‬أو‬
‫ألقيتموه‪ ،‬وراءكم ظهريا‪.‬‬

‫شيْءٍ قَدِيرٌ } ل يعجزه شيء أراده‪ ،‬ول يغالبه أحد‪.‬‬


‫{ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫{ ‪ِ { } 40‬إلّا تَ ْنصُرُوهُ َفقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ إِذْ أَخْ َرجَهُ الّذِينَ َكفَرُوا ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ ِإذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ إِذْ َيقُولُ‬
‫ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ‬
‫علَيْ ِه وَأَيّ َدهُ ِبجُنُودٍ َلمْ تَ َروْهَا وَ َ‬
‫سكِينَتَهُ َ‬
‫ِلصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫سفْلَى َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫َكفَرُوا ال ّ‬

‫أي‪ :‬إل تنصروا رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاللّه غني عنكم‪ ،‬ل تضرونه شيئا‪ ،‬فقد‬
‫نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْ َرجَهُ الّذِينَ َكفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله‪ ،‬وسعوا في ذلك‪،‬‬
‫وحرصوا أشد الحرص‪ ،‬فألجؤوه إلى أن يخرج‪.‬‬

‫{ ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ } أي‪ :‬هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‪ { .‬إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ } أي‪ :‬لما هربا من‬
‫مكة‪ ،‬لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة‪ ،‬فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب‪.‬‬
‫فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة‪ ،‬حين انتشر العداء من كل جانب يطلبونهما‬
‫ليقتلوهما‪ ،‬فأنزل اللّه عليهما من نصره ما ل يخطر على البال‪.‬‬

‫{ ِإذْ َيقُولُ } النبي صلى ال عليه وسلم { ِلصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه‪ { ،‬لَا تَحْزَنْ إِنّ‬
‫اللّهَ َمعَنَا } بعونه ونصره وتأييده‪.‬‬

‫سكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي‪ :‬الثبات والطمأنينة‪ ،‬والسكون المثبتة للفؤاد‪ ،‬ولهذا لما قلق صاحبه‬
‫{ فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ‬
‫سكنه وقال { ل تحزن إن اللّه معنا }‬

‫ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ‬


‫{ وَأَيّ َدهُ بِجُنُودٍ َلمْ تَ َروْهَا } وهي الملئكة الكرام‪ ،‬الذين جعلهم اللّه حرسا له‪ { ،‬وَ َ‬
‫سفْلَى } أي‪ :‬الساقطة المخذولة‪ ،‬فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين‪ ،‬في ظنهم‬
‫َكفَرُوا ال ّ‬
‫على قتل الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأخذه‪ ،‬حنقين عليه‪ ،‬فعملوا غاية مجهودهم في ذلك‪،‬‬
‫فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم‪ ،‬بل ول أدركوا شيئا منه‪.‬‬

‫ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه‪ ،‬وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع‪ ،‬فإن النصر على‬
‫قسمين‪ :‬نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا‪ ،‬وقصدوا‪ ،‬ويستولوا على‬
‫عدوهم ويظهروا عليهم‪.‬‬

‫والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر‪ ،‬فنصر اللّه إياه‪ ،‬أن يرد عنه عدوه‪ ،‬ويدافع‬
‫عنه‪ ،‬ولعل هذا النصر أنفع النصرين‪ ،‬ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من‬
‫هذا النوع‪.‬‬

‫وقوله { َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية‪ ،‬هي العالية على كلمة غيره‪،‬‬
‫سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي‬
‫حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } { إِنّا لَنَ ْنصُرُ رُ ُ‬
‫التي من جملتها قوله‪َ { :‬وكَانَ َ‬
‫شهَادُ } { وَإِنّ جُ ْندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر العالي على‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ َيقُومُ الْأَ ْ‬
‫سائر الديان‪ ،‬بالحجج الواضحة‪ ،‬واليات الباهرة والسلطان الناصر‪.‬‬

‫حكِيمٌ } يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وقد يؤخر‬


‫{ وَاللّهُ عَزِيزٌ } ل يغالبه مغالب‪ ،‬ول يفوته هارب‪َ { ،‬‬
‫نصر حزبه إلى وقت آخر‪ ،‬اقتضته الحكمة اللهية‪.‬‬

‫وفي هذه الية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه المة‪ ،‬وهي‬
‫الفوز بهذه المنقبة الجليلة‪ ،‬والصحبة الجميلة‪ ،‬وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الية‬
‫الكريمة‪ ،‬ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كافرا‪ ،‬لنه منكر‬
‫للقرآن الذي صرح بها‪.‬‬
‫وفيها فضيلة السكينة‪ ،‬وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش‬
‫بها الفئدة‪ ،‬وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه‪ ،‬وثقته بوعده الصادق‪ ،‬وبحسب إيمانه‬
‫وشجاعته‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬أن الحزن قد يعرض لخواص عباد ال الصديقين‪ ،‬مع أن الولى ‪-‬إذا نزل بالعبد‪ -‬أن‬
‫يسعى في ذهابه عنه‪ ،‬فإنه مضعف للقلب‪ ،‬موهن للعزيمة‪.‬‬

‫س ُكمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ‬


‫خفَافًا وَ ِثقَالًا وَجَا ِهدُوا بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَنْفُ ِ‬
‫{ ‪ { } 42 - 41‬ا ْنفِرُوا ِ‬
‫شقّ ُة وَسَ َيحِْلفُونَ‬
‫سفَرًا قَاصِدًا لَاتّ َبعُوكَ وََلكِنْ َبعُ َدتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ‬
‫كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * َلوْ كَانَ عَ َرضًا قَرِيبًا وَ َ‬
‫سهُ ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّن ُهمْ َلكَاذِبُونَ }‬
‫طعْنَا َلخَرَجْنَا َم َعكُمْ ُيهِْلكُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫بِاللّهِ َلوِ اسْتَ َ‬

‫خفَافًا وَ ِثقَالًا } أي‪ :‬في‬


‫يقول تعالى لعباده المؤمنين ‪-‬مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال‪ { :‬ا ْنفِرُوا ِ‬
‫العسر واليسر‪ ،‬والمنشط والمكره‪ ،‬والحر والبرد‪ ،‬وفي جميع الحوال‪.‬‬

‫سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي‪ :‬ابذلوا جهدكم في ذلك‪ ،‬واستفرغوا وسعكم في‬
‫{ َوجَاهِدُوا بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫المال والنفس‪ ،‬وفي هذا دليل على أنه ‪-‬كما يجب الجهاد في النفس‪ -‬يجب الجهاد في المال‪ ،‬حيث‬
‫اقتضت الحاجة ودعت لذلك‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي‪ :‬الجهاد في النفس والمال‪ ،‬خير لكم من التقاعد عن‬
‫ذلك‪ ،‬لن فيه رضا اللّه تعالى‪ ،‬والفوز بالدرجات العاليات عنده‪ ،‬والنصر لدين اللّه‪ ،‬والدخول في‬
‫جملة جنده وحزبه‪.‬‬

‫سفَرًا‬
‫لو كان خروجهم لطلب العرض القريب‪ ،‬أي‪ :‬منفعة دنيوية سهلة التناول { و } كان السفر { َ َ‬
‫شقّةُ } أي‪:‬‬
‫قَاصِدًا } أي‪ :‬قريبا سهل‪ { .‬لَاتّ َبعُوكَ } لعدم المشقة الكثيرة‪ { ،‬وََلكِنْ َبعُ َدتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫طالت عليهم المسافة‪ ،‬وصعب عليهم السفر‪ ،‬فلذلك تثاقلوا عنك‪ ،‬وليس هذا من أمارات العبودية‪،‬‬
‫بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال‪ ،‬القائم بالعبادة السهلة والشاقة‪ ،‬فهذا العبد للّه على كل‬
‫حال‪.‬‬

‫طعْنَا لَخَ َرجْنَا َم َعكُمْ } أي‪ :‬سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا‬
‫{ وَسَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلوِ اسْ َت َ‬
‫وأنهم ل يستطيعون ذلك‪.‬‬

‫سهُمْ } بالقعود والكذب والخبار بغير الواقع‪ { ،‬وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‬
‫{ ُيهِْلكُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫وهذا العتاب إنما هو للمنافقين‪ ،‬الذين تخلفوا عن النبي صلى ال عليه وسلم في { غزوة تبوك }‬
‫وأبدوا من العذار الكاذبة ما أبدوا‪ ،‬فعفا النبي صلى ال عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم‪ ،‬من‬
‫غير أن يمتحنهم‪ ،‬فيتبين له الصادق من الكاذب‪ ،‬ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم‬
‫فقال‪:‬‬

‫ن صَ َدقُوا وَ َتعْلَمَ ا ْلكَاذِبِينَ * لَا‬


‫عفَا اللّهُ عَ ْنكَ ِلمَ أَذِ ْنتَ َل ُهمْ حَتّى يَتَبَيّنَ َلكَ الّذِي َ‬
‫{ ‪َ { } 45 - 43‬‬
‫سهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ * إِ ّنمَا‬
‫يَسْتَأْذِ ُنكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ أَنْ ُيجَا ِهدُوا بَِأ ْموَاِلهِمْ وَأَنْفُ ِ‬
‫يَسْتَأْذِ ُنكَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ َفهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَ َردّدُونَ }‬

‫عفَا اللّهُ عَ ْنكَ } أي‪ :‬سامحك وغفر لك ما أجريت‪.‬‬


‫يقول تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم { َ‬

‫ن صَ َدقُوا وَ َتعْلَمَ ا ْلكَاذِبِينَ } بأن تمتحنهم‪ ،‬ليتبين‬


‫{ ِلمَ َأذِ ْنتَ َل ُهمْ } في التخلف { حَتّى يَتَبَيّنَ َلكَ الّذِي َ‬
‫لك الصادق من الكاذب‪ ،‬فتعذر من يستحق العذر ممن ل يستحق ذلك‪.‬‬

‫ثم أخبر أن المؤمنين باللّه واليوم الخر‪ ،‬ل يستأذنون في ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬لن ما‬
‫معهم من الرغبة في الخير واليمان‪ ،‬يحملهم على الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث‪،‬‬

‫فضل عن كونهم يستأذنون في تركه من غير عذر‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُتّقِينَ } فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه‪ ،‬ومن علمه بالمتقين‪ ،‬أنه أخبر‪ ،‬أن من‬
‫علماتهم‪ ،‬أنهم ل يستأذنون في ترك الجهاد‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا َيسْتَأْذِ ُنكَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ } أي‪ :‬ليس لهم إيمان تام‪ ،‬ول‬
‫يقين صادق‪ ،‬فلذلك قّلتْ رغبتهم في الخير‪ ،‬وجبنوا عن القتال‪ ،‬واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك‬
‫القتال‪َ { .‬فهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَ َردّدُونَ } أي‪ :‬ل يزالون في الشك والحيرة‪.‬‬

‫طهُ ْم َوقِيلَ ا ْق ُعدُوا‬


‫{ ‪ { } 48- 46‬وََلوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدّوا َلهُ عُ ّد ًة وََلكِنْ كَ ِرهَ اللّهُ انْ ِبعَا َثهُمْ فَثَبّ َ‬
‫ضعُوا خِلَاَلكُمْ يَ ْبغُو َنكُمُ ا ْلفِتْنَ َة َوفِيكُمْ‬
‫مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ * َلوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا خَبَالًا وَلََأ ْو َ‬
‫حقّ‬
‫ل َوقَلّبُوا َلكَ الُْأمُورَ حَتّى جَاءَ الْ َ‬
‫سمّاعُونَ َلهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ *َلقَدِ ابْ َت َغوُا ا ْلفِتْنَةَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫َ‬
‫ظهَرَ َأمْرُ اللّ ِه وَهُمْ كَارِهُونَ }‬
‫وَ َ‬

‫يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا‬
‫الخروج للجهاد بالكلية‪ ،‬وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة‪ ،‬فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا‬
‫بذل العبد وسعه‪ ،‬وسعى في أسباب الخروج‪ ،‬ثم منعه مانع شرعي‪ ،‬فهذا الذي يعذر‪.‬‬
‫ع ّدةً } أي‪ :‬لستعدوا وعملوا ما‬
‫عدّوا لَهُ ُ‬
‫{ و } أما هؤلء المنافقون فب { َلوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَ َ‬
‫يمكنهم من السباب‪ ،‬ولكن لما لم يعدوا له عدة‪ ،‬علم أنهم ما أرادوا الخروج‪.‬‬

‫طهُمْ } قدرا وقضاء‪ ،‬وإن كان قد أمرهم‬


‫{ وََلكِنْ كَ ِرهَ اللّهُ انْ ِبعَا َثهُمْ } معكم في الخروج للغزو { فَثَبّ َ‬
‫وحثهم على الخروج‪ ،‬وجعلهم مقتدرين عليه‪ ،‬ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم‪ ،‬بل خذلهم وثبطهم‬
‫{ َوقِيلَ ا ْقعُدُوا مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ } من النساء والمعذورين‪.‬‬

‫ثم ذكر الحكمة في ذلك فقال { َلوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا خَبَالًا } أي‪ :‬نقصا‪.‬‬

‫ضعُوا خِلَاَلكُمْ } أي‪ :‬ولسعوا في الفتنة والشر بينكم‪ ،‬وفرقوا جماعتكم المجتمعين‪ { ،‬يَ ْبغُو َنكُمُ‬
‫{ وَلََأ ْو َ‬
‫ا ْلفِتْنَةَ } أي‪ :‬هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم‪.‬‬

‫سمّاعُونَ َل ُهمْ } أي‪ :‬مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم‪ ،‬فإذا كانوا‬


‫{ َوفِيكُمْ } أناس ضعفاء العقول { َ‬
‫هم حريصين على خذلنكم‪ ،‬وإلقاء الشر بينكم‪ ،‬وتثبيطكم عن أعدائكم‪ ،‬وفيكم من يقبل منهم‬
‫ويستنصحهم‪ .‬فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين‪ ،‬والنقص الكثير منهم‪ ،‬فللّه أتم‬
‫الحكمة حيث ثبطهم ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم‪ ،‬ولطفا من أن يداخلهم ما‬
‫ل ينفعهم‪ ،‬بل يضرهم‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } فيعلم عباده كيف يحذرونهم‪ ،‬ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم‪.‬‬

‫ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال‪َ { :‬لقَدِ ابْ َت َغوُا ا ْلفِتْنَةَ مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬حين هاجرتم إلى‬
‫المدينة‪ ،‬بذلوا الجهد‪َ { ،‬وقَلّبُوا َلكَ الُْأمُورَ } أي‪ :‬أداروا الفكار‪ ،‬وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم‬
‫ظهَرَ َأمْرُ اللّ ِه وَ ُهمْ كَارِهُونَ } فبطل‬
‫ق َو َ‬
‫وخذلن دينكم‪ ،‬ولم يقصروا في ذلك‪ { ،‬حَتّى جَاءَ ا ْلحَ ّ‬
‫كيدهم واضمحل باطلهم‪ ،‬فحقيق بمثل هؤلء أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم‪ ،‬وأن ل يبالي‬
‫المؤمنين‪ ،‬بتخلفهم عنهم‪.‬‬

‫جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ }‬


‫سقَطُوا وَإِنّ َ‬
‫{ ‪َ { } 49‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ ا ْئذَنْ لِي وَلَا َتفْتِنّي أَلَا فِي ا ْلفِتْنَةِ َ‬

‫أي‪ :‬ومن هؤلء المنافقين من يستأذن في التخلف‪ ،‬ويعتذر بعذر آخر عجيب‪ ،‬فيقول‪ { :‬ا ْئذَنْ لِي }‬
‫في التخلف { وَلَا َتفْتِنّي } في الخروج‪ ،‬فإني إذا خرجت‪ ،‬فرأيت نساء بين الصفر ل أصبر‬
‫عنهن‪ ،‬كما قال ذلك { الجد بن قيس }‬

‫ومقصوده ‪-‬قبحه اللّه‪ -‬الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن‪ ،‬فإن في خروجي فتنة‬
‫وتعرضا للشر‪ ،‬وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر‪.‬‬
‫سقَطُوا } فإنه على تقدير صدق هذا القائل في‬
‫قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول‪َ { :‬ألَا فِي ا ْلفِتْنَةِ َ‬
‫قصده‪[ ،‬فإن] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة‪ ،‬وهي معصية اللّه ومعصية رسوله‪،‬‬
‫والتجرؤ على الثم الكبير‪ ،‬والوزر العظيم‪ ،‬وأما الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف‪ ،‬وهي‬
‫جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ‬
‫متوهمة‪ ،‬مع أن هذا القائل قصده التخلف ل غير‪ ،‬ولهذا توعدهم اللّه بقوله‪ { :‬وَإِنّ َ‬
‫بِا ْلكَافِرِينَ } ليس لهم عنها مفر ول مناص‪ ،‬ول فكاك‪ ،‬ول خلص‪.‬‬

‫سؤْهُ ْم وَإِنْ ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ َيقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا َأمْرَنَا مِنْ قَ ْبلُ‬
‫حسَنَةٌ َت ُ‬
‫{ ‪ { } 51 - 50‬إِنْ ُتصِ ْبكَ َ‬
‫وَيَ َتوَلّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ * ُقلْ لَنْ ُيصِيبَنَا إِلّا مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا ُهوَ َموْلَانَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }‬

‫يقول تعالى مبينا أن المنافقين هم العداء حقا‪ ،‬المبغضون للدين صرفا‪ { :‬إِنْ ُتصِ ْبكَ حَسَ َنةٌ }‬
‫سؤْ ُهمْ } أي‪ :‬تحزنهم وتغمهم‪.‬‬
‫كنصر وإدالة على العدو { تَ ُ‬

‫{ وَإِنْ ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ } كإدالة العدو عليك { َيقُولُوا } متبجحين بسلمتهم من الحضور معك‪.‬‬

‫خذْنَا َأمْرَنَا مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬قد حذرنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة‪.‬‬
‫{ َقدْ أَ َ‬

‫{ وَيَ َتوَّلوْا وَهُمْ فَ ِرحُونَ } فيفرحون بمصيبتك‪ ،‬وبعدم مشاركتهم إياك فيها‪ .‬قال تعالى رادا عليهم‬
‫في ذلك { ُقلْ لَنْ ُيصِيبَنَا إِلّا مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا } أي‪ :‬ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ‪.‬‬

‫{ ُهوَ َموْلَانَا } أي‪ :‬متولي أمورنا الدينية والدنيوية‪ ،‬فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من المر‬
‫شيء‪.‬‬

‫{ وَعَلَى اللّهِ } وحده { فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار‬
‫عنهم‪ ،‬ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم‪ ،‬فل خاب من توكل عليه‪ ،‬وأما من توكل على غيره‪ ،‬فإنه‬
‫مخذول غير مدرك لما أمل‪.‬‬

‫ن وَ َنحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِب َعذَابٍ مِنْ‬
‫{ ‪ُ { } 52‬قلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَا إِلّا ِإحْدَى ا ْلحُسْنَيَيْ ِ‬
‫عِنْ ِدهِ َأوْ بِأَ ْيدِينَا فَتَرَ ّبصُوا إِنّا َم َعكُمْ مُتَرَ ّبصُونَ }‬

‫أي‪ :‬قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر‪ :‬أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم ل تربصون بنا إل‬
‫أمرا فيه غاية نفعنا‪ ،‬وهو إحدى الحسنيين‪ ،‬إما الظفر بالعداء والنصر عليهم ونيل الثواب‬
‫الخروي والدنيوي‪ .‬وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق‪ ،‬وأرفع المنازل عند اللّه‪.‬‬
‫وأما تربصنا بكم ‪-‬يا معشر المنافقين‪ -‬فنحن نتربص بكم‪ ،‬أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده‪ ،‬ل‬
‫سبب لنا فيه‪ ،‬أو بأيدينا‪ ،‬بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم‪ { .‬فَتَرَ ّبصُوا } بنا الخير { إِنّا َم َعكُمْ مُتَرَ ّبصُونَ }‬
‫بكم الشر‪.‬‬

‫سقِينَ * َومَا مَ َن َعهُمْ أَنْ‬


‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا لَنْ يُ َتقَ ّبلَ مِ ْنكُمْ إِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ َق ْومًا فَا ِ‬
‫{ ‪ُ { } 54 - 53‬قلْ أَ ْنفِقُوا َ‬
‫ُتقْبَلَ مِ ْنهُمْ َن َفقَا ُتهُمْ إِلّا أَ ّنهُمْ كَفَرُوا بِاللّ ِه وَبِرَسُوِل ِه وَلَا يَأْتُونَ الصّلَاةَ إِلّا وَهُمْ ُكسَالَى وَلَا يُ ْن ِفقُونَ إِلّا وَ ُهمْ‬
‫كَارِهُونَ }‬

‫طوْعًا } من‬
‫يقول تعالى مبينا بطلن نفقات المنافقين‪ ،‬وذاكرا السبب في ذلك { ُقلْ } لهم { أَ ْنفِقُوا َ‬
‫أنفسكم { َأوْ كَرْهًا } على ذلك‪ ،‬بغير اختياركم‪ { .‬لَنْ يُ َتقَ ّبلَ مِ ْن ُكمْ } شيء من أعمالكم { إِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ‬
‫سقِينَ } خارجين عن طاعة اللّه‪ ،‬ثم بين صفة فسقهم وأعمالهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا مَ َن َعهُمْ أَنْ ُتقْ َبلَ‬
‫َق ْومًا فَا ِ‬
‫مِ ْنهُمْ َنفَقَا ُتهُمْ ِإلّا أَ ّنهُمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَبِرَسُولِهِ } والعمال كلها شرط قبولها اليمان‪ ،‬فهؤلء ل إيمان‬
‫لهم ول عمل صالح‪ ،‬حتى إن الصلة التي هي أفضل أعمال البدن‪ ،‬إذا قاموا إليها قاموا كسالى‪،‬‬
‫قال‪ { :‬وَلَا يَأْتُونَ الصّلَاةَ إِلّا وَهُمْ كُسَالَى } أي‪ :‬متثاقلون‪ ،‬ل يكادون يفعلونها من ثقلها عليهم‪.‬‬

‫{ وَلَا يُ ْن ِفقُونَ إِلّا وَ ُهمْ كَارِهُونَ } من غير انشراح صدر وثبات نفس‪ ،‬ففي هذا غاية الذم لمن فعل‬
‫مثل فعلهم‪ ،‬وأنه ينبغي للعبد أن ل يأتي الصلة إل وهو نشيط البدن والقلب إليها‪ ،‬ول ينفق إل‬
‫وهو منشرح الصدر ثابت القلب‪ ،‬يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده‪ ،‬ول يتشبه بالمنافقين‪.‬‬

‫{ ‪ { } 57 - 55‬فَلَا ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُمْ وَلَا َأوْلَادُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُهمْ ِبهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ‬
‫جدُونَ‬
‫حِلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ َلمِ ْنكُ ْم َومَا ُهمْ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ّنهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ * َلوْ يَ ِ‬
‫سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ * وَيَ ْ‬
‫أَ ْنفُ ُ‬
‫جمَحُونَ }‬
‫خلًا َلوَّلوْا إِلَيْ ِه وَهُمْ يَ ْ‬
‫مَلْجَأً َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ مُدّ َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬فل تعجبك أموال هؤلء المنافقين ول أولدهم‪ ،‬فإنه ل غبطة فيها‪ ،‬وأول بركاتها‬
‫عليهم أن قدموها على مراضى ربهم‪ ،‬وعصوا اللّه لجلها { إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُي َعذّ َبهُمْ ِبهَا فِي الْحَيَاةِ‬
‫الدّنْيَا } والمراد بالعذاب هنا‪ ،‬ما ينالهم من المشقة في تحصيلها‪ ،‬والسعي الشديد في ذلك‪ ،‬وهم‬
‫القلب فيها‪ ،‬وتعب البدن‪.‬‬

‫فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم‪ ،‬لم يكن لها نسبة إليها‪ ،‬فهي ‪-‬لما ألهتهم عن اللّه وذكره‪ -‬صارت‬
‫وبال عليهم حتى في الدنيا‪.‬‬
‫ومن وبالها العظيم الخطر‪ ،‬أن قلوبهم تتعلق بها‪ ،‬وإرادتهم ل تتعداها‪ ،‬فتكون منتهى مطلوبهم‬
‫وغاية مرغوبهم ول يبقى في قلوبهم للخرة نصيب‪ ،‬فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا { وَتَزْهَقَ‬
‫سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ }‬
‫أَ ْنفُ ُ‬

‫فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشقاء الدائم والحسرة الملزمة‪.‬‬

‫{ وَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ َلمِ ْنكُ ْم َومَا ُهمْ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ّنهُمْ } قصدهم في حلفهم هذا أنهم { َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ } أي‪:‬‬
‫يخافون الدوائر‪ ،‬وليس في قلوبهم شجاعة تحملهم على أن يبينوا أحوالهم‪ .‬فيخافون إن أظهروا‬
‫حالهم منكم‪ ،‬ويخافون أن تتبرأوا منهم‪ ،‬فيتخطفهم العداء من كل جانب‪.‬‬

‫وأما حال قوي القلب ثابت الجنان‪ ،‬فإنه يحمله ذلك على بيان حاله‪ ،‬حسنة كانت أو سيئة‪ ،‬ولكن‬
‫المنافقين خلع عليهم خلعة الجبن‪ ،‬وحلوا بحلية الكذب‪.‬‬

‫ثم ذكر شدة جبنهم فقال‪َ { :‬لوْ َيجِدُونَ مَلْجَأً } يلجأون إليه عندما تنزل بهم الشدائد‪َ { ،‬أوْ َمغَارَاتٍ }‬
‫جمَحُونَ‬
‫يدخلونها فيستقرون فيها { َأوْ ُمدّخَلًا } أي‪ :‬محل يدخلونه فيتحصنون فيه { َلوَّلوْا إِلَ ْي ِه وَهُمْ َي ْ‬
‫} أي‪ :‬يسرعون ويهرعون‪ ،‬فليس لهم ملكة‪ ،‬يقتدرون بها على الثبات‪.‬‬

‫طوْا مِ ْنهَا ِإذَا‬


‫{ ‪َ { } 59 - 58‬ومِ ْنهُمْ مَنْ يَ ْلمِ ُزكَ فِي الصّ َدقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِ ْنهَا َرضُوا وَإِنْ لَمْ ُيعْ َ‬
‫خطُونَ * وََلوْ أَ ّنهُمْ َرضُوا مَا آتَا ُهمُ اللّهُ وَرَسُولُ ُه َوقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ‬
‫هُمْ يَسْ َ‬
‫وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }‬

‫أي‪ :‬ومن هؤلء المنافقين من يعيبك في قسمة الصدقات‪ ،‬وينتقد عليك فيها‪ ،‬وليس انتقادهم فيها‬
‫عطُوا مِ ْنهَا‬
‫وعيبهم لقصد صحيح‪ ،‬ول لرأي رجيح‪ ،‬وإنما مقصودهم أن يعطوا منها‪ { .‬فَإِنْ أُ ْ‬
‫خطُونَ } وهذه حالة ل تنبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه‪،‬‬
‫طوْا مِ ْنهَا ِإذَا هُمْ يَسْ َ‬
‫َرضُوا وَإِنْ َلمْ ُيعْ َ‬
‫تابعا لهوى نفسه الدنيوي وغرضه الفاسد‪ ،‬بل الذي ينبغي أن يكون هواه تبعا لمرضاة ربه‪ ،‬كما‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ { :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به }‬

‫وقال هنا‪ { :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ َرضُوا مَا آتَا ُهمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ } أي‪ :‬أعطاهم من قليل وكثير‪َ { .‬وقَالُوا حَسْبُنَا‬
‫اللّهُ }‬

‫أي‪ :‬كافينا اللّه‪ ،‬فنرضى بما قسمه لنا‪ ،‬وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا‪ { :‬سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِنْ‬
‫َفضْلِ ِه وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } أي‪ :‬متضرعون في جلب منافعنا‪ ،‬ودفع مضارنا‪ ،‬لسلموا من‬
‫النفاق ولهدوا إلى اليمان والحوال العالية‪ ،‬ثم بين تعالى كيفية قسمة الصدقات الواجبة فقال‪:‬‬
‫ن وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا وَا ْل ُمؤَّلفَةِ قُلُو ُبهُمْ َوفِي ال ّرقَابِ‬
‫{ ‪ { } 60‬إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْلفُقَرَا ِء وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫وَا ْلغَا ِرمِينَ َوفِي سَبِيلِ اللّهِ وَاِبْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ } أي‪ :‬الزكوات الواجبة‪ ،‬بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد‪ ،‬ل‬
‫يخص بها أحد دون أحد‪.‬‬

‫أي‪ :‬إنما الصدقات لهؤلء المذكورين دون من عداهم‪ ،‬لنه حصرها فيهم‪ ،‬وهم ثمانية أصناف‪.‬‬

‫الول والثاني‪ :‬الفقراء والمساكين‪ ،‬وهم في هذا الموضع‪ ،‬صنفان متفاوتان‪ ،‬فالفقير أشد حاجة من‬
‫المسكين‪ ،‬لن اللّه بدأ بهم‪ ،‬ول يبدأ إل بالهم فالهم‪ ،‬ففسر الفقير بأنه الذي ل يجد شيئا‪ ،‬أو يجد‬
‫بعض كفايته دون نصفها‪.‬‬

‫والمسكين‪ :‬الذي يجد نصفها فأكثر‪ ،‬ول يجد تمام كفايته‪ ،‬لنه لو وجدها لكان غنيا‪ ،‬فيعطون من‬
‫الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬العاملون على الزكاة‪ ،‬وهم كل من له عمل وشغل فيها‪ ،‬من حافظ لها‪ ،‬أو جاب لها من‬
‫أهلها‪ ،‬أو راع‪ ،‬أو حامل لها‪ ،‬أو كاتب‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬فيعطون لجل عمالتهم‪ ،‬وهي أجرة لعمالهم‬
‫فيها‪.‬‬

‫والرابع‪ :‬المؤلفة قلوبهم‪ ،‬والمؤلف قلبه‪ :‬هو السيد المطاع في قومه‪ ،‬ممن يرجى إسلمه‪ ،‬أو يخشى‬
‫شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه‪ ،‬أو إسلم نظيره‪ ،‬أو جبايتها ممن ل يعطيها‪ ،‬فيعطى ما يحصل‬
‫به التأليف والمصلحة‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬الرقاب‪ ،‬وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم‪ ،‬فهم يسعون في تحصيل ما‬
‫يفك رقابهم‪ ،‬فيعانون على ذلك من الزكاة‪ ،‬وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في‬
‫هذا‪ ،‬بل أولى‪ ،‬ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلل‪ ،‬لدخوله في قوله‪ { :‬وفي‬
‫الرقاب }‬

‫السادس‪ :‬الغارمون‪ ،‬وهم قسمان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬الغارمون لصلح ذات البين‪ ،‬وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة‪ ،‬فيتوسط‬
‫الرجل للصلح بينهم بمال يبذله لحدهم أو لهم كلهم‪ ،‬فجعل له نصيب من الزكاة‪ ،‬ليكون أنشط‬
‫له وأقوى لعزمه‪ ،‬فيعطى ولو كان غنيا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬من غرم لنفسه ثم أعسر‪ ،‬فإنه يعطى ما ُي َوفّى به دينه‪.‬‬

‫والسابع‪ :‬الغازي في سبيل اللّه‪ ،‬وهم‪ :‬الغزاة المتطوعة‪ ،‬الذين ل ديوان لهم‪ ،‬فيعطون من الزكاة ما‬
‫يعينهم على غزوهم‪ ،‬من ثمن سلح‪ ،‬أو دابة‪ ،‬أو نفقة له ولعياله‪ ،‬ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه‪.‬‬

‫وقال كثير من الفقهاء‪ :‬إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم‪ ،‬أعطي من الزكاة‪ ،‬لن العلم‬
‫داخل في الجهاد في سبيل اللّه‪.‬‬

‫وقالوا أيضا‪ :‬يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه‪[ ،‬وفيه نظر] ‪.‬‬

‫والثامن‪ :‬ابن السبيل‪ ،‬وهو الغريب المنقطع به في غير بلده‪ ،‬فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى‬
‫بلده‪ ،‬فهؤلء الصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم‪.‬‬

‫حكِيمٌ } واعلم أن هذه‬


‫{ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ } فرضها وقدرها‪ ،‬تابعة لعلمه وحكمه { وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫الصناف الثمانية‪ ،‬ترجع إلى أمرين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬من يعطى لحاجته ونفعه‪ ،‬كالفقير‪ ،‬والمسكين‪ ،‬ونحوهما‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬من يعطى للحاجة إليه وانتفاع السلم به‪ ،‬فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الغنياء‪،‬‬
‫لسد الحاجات الخاصة والعامة للسلم والمسلمين‪ ،‬فلو أعطى الغنياء زكاة أموالهم على الوجه‬
‫الشرعي‪ ،‬لم يبق فقير من المسلمين‪ ،‬ولحصل من الموال ما يسد الثغور‪ ،‬ويجاهد به الكفار‬
‫وتحصل به جميع المصالح الدينية‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 63 - 61‬ومِ ْنهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِبيّ وَ َيقُولُونَ ُهوَ ُأذُنٌ ُقلْ أُذُنُ خَيْرٍ َلكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُيؤْمِنُ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ *يَحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ‬
‫حمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ ُي ْؤذُونَ َرسُولَ اللّهِ َلهُمْ َ‬
‫لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َر ْ‬
‫لِيُ ْرضُوكُمْ وَاللّ ُه وَرَسُولُهُ َأحَقّ أَنْ يُ ْرضُوهُ إِنْ كَانُوا ُم ْؤمِنِينَ * أََلمْ َيعَْلمُوا أَنّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللّهَ‬
‫جهَنّمَ خَاِلدًا فِيهَا ذَِلكَ الْخِ ْزيُ ا ْل َعظِيمُ }‬
‫وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ َ‬

‫أي‪ :‬ومن هؤلء المنافقين { الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِبيّ } بالقوال الردية‪ ،‬والعيب له ولدينه‪ { ،‬وَ َيقُولُونَ‬
‫ُهوَ أُذُنٌ } أي‪ :‬ل يبالون بما يقولون من الذية للنبي‪ ،‬ويقولون‪ :‬إذا بلغه عنا بعض ذلك‪ ،‬جئنا‬
‫نعتذر إليه‪ ،‬فيقبل منا‪ ،‬لنه أذن‪ ،‬أي‪ :‬يقبل كل ما يقال له‪ ،‬ل يميز بين صادق وكاذب‪ ،‬وقصدهم‬
‫‪-‬قبحهم اللّه‪ -‬فيما بينهم‪ ،‬أنهم غير مكترثين بذلك‪ ،‬ول مهتمين به‪ ،‬لنه إذا لم يبلغه فهذا مطلوبهم‪،‬‬
‫وإن بلغه اكتفوا بمجرد العتذار الباطل‪.‬‬
‫فأساءوا كل الساءة من أوجه كثيرة‪ ،‬أعظمها أذية نبيهم الذي جاء لهدايتهم‪ ،‬وإخراجهم من الشقاء‬
‫والهلك إلى الهدى والسعادة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬عدم اهتمامهم أيضا بذلك‪ ،‬وهو قدر زائد على مجرد الذية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬قدحهم في عقل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعدم إدراكه وتفريقه بين الصادق والكاذب‪،‬‬
‫وهو أكمل الخلق عقل‪ ،‬وأتمهم إدراكا‪ ،‬وأثقبهم رأيا وبصيرة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ُ { :‬قلْ أُذُنُ خَيْرٍ َلكُمْ‬
‫} أي‪ :‬يقبل من قال له خيرا وصدقا‪.‬‬

‫وأما إعراضه وعدم تعنيفه لكثير من المنافقين المعتذرين بالعذار الكذب‪ ،‬فلسعة خلقه‪ ،‬وعدم‬
‫اهتمامه بشأنهم ‪ ،‬وامتثاله لمر اللّه في قوله‪ { :‬سَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ ِإذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْي ِهمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ‬
‫فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ إِ ّنهُمْ ِرجْسٌ }‬

‫وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه‪ ،‬فقال عنه‪ُ { :‬ي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُي ْؤمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } الصادقين المصدقين‪،‬‬
‫ويعلم الصادق من الكاذب‪ ،‬وإن كان كثيرا ما يعرض عن الذين يعرف كذبهم وعدم صدقهم‪،‬‬
‫حمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُمْ } فإنهم به يهتدون‪ ،‬وبأخلقه يقتدون‪.‬‬
‫{ وَ َر ْ‬

‫وأما غير المؤمنين فإنهم لم يقبلوا هذه الرحمة بل ردوها‪ ،‬فخسروا دنياهم وآخرتهم‪ { ،‬وَالّذِينَ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا والخرة‪ ،‬ومن العذاب الليم أنه‬
‫ُيؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ } بالقول أو الفعل { َلهُمْ َ‬
‫يتحتم قتل مؤذيه وشاتمه‪.‬‬

‫{ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ لِيُ ْرضُوكُمْ } فيتبرأوا مما صدر منهم من الذية وغيرها‪ ،‬فغايتهم أن ترضوا‬
‫حقّ أَنْ يُ ْرضُوهُ إِنْ كَانُوا ُمؤْمِنِينَ } لن المؤمن ل يقدم شيئا على رضا‬
‫عليهم‪ { .‬وَاللّ ُه وَرَسُولُهُ أَ َ‬
‫ربه ورضا رسوله‪ ،‬فدل هذا على انتفاء إيمانهم حيث قدموا رضا غير اللّه ورسوله‪.‬‬

‫وهذا محادة للّه ومشاقة له‪ ،‬وقد توعد من حاده بقوله‪َ { :‬ألَمْ َيعَْلمُوا أَنّهُ مَنْ ُيحَا ِددِ اللّهَ وَرَسُولَهُ }‬
‫أي ‪ :‬يكون في حد وشق مبعد عن اللّه ورسوله بأن تهاون بأوامر اللّه‪ ،‬وتجرأ على محارمه‪.‬‬

‫جهَنّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَِلكَ الْخِ ْزيُ ا ْلعَظِيمُ } الذي ل خزي أشنع ول أفظع منه‪ ،‬حيث فاتهم‬
‫{ فَأَنّ لَهُ نَارَ َ‬
‫النعيم المقيم‪ ،‬وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا باللّه من أحوالهم‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِبهِمْ ُقلِ اسْ َتهْزِئُوا إِنّ اللّهَ‬
‫{ ‪َ { } 66 - 64‬يحْذَرُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ أَنْ تُنَ ّزلَ َ‬
‫مُخْرِجٌ مَا َتحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْ َت ُهمْ لَ َيقُولُنّ إِ ّنمَا كُنّا َنخُوضُ وَنَ ْلعَبُ ُقلْ أَبِاللّ ِه وَآيَاتِ ِه وَرَسُولِهِ كُنْ ُتمْ‬
‫تَسْ َتهْزِئُونَ * لَا َتعْتَذِرُوا َقدْ َكفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ إِنْ َن ْعفُ عَنْ طَا ِئفَةٍ مِ ْنكُمْ ُنعَ ّذبْ طَا ِئفَةً بِأَ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫مُجْ ِرمِينَ }‬

‫كانت هذه السورة الكريمة تسمى { الفاضحة } لنها بينت أسرار المنافقين‪ ،‬وهتكت أستارهم‪ ،‬فما‬
‫زال اللّه يقول‪ :‬ومنهم ومنهم‪ ،‬ويذكر أوصافهم‪ ،‬إل أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين‪ :‬إحداهما‪ :‬أن‬
‫اللّه سِتّيرٌ يحب الستر على عباده‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين‪ ،‬الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم‬
‫إلي يوم القيامة‪ ،‬فكان ذكر الوصف أعم وأنسب‪ ،‬حتى خافوا غاية الخوف‪.‬‬

‫جفُونَ فِي ا ْل َمدِينَةِ لَ ُنغْرِيَ ّنكَ‬


‫ض وَا ْلمُرْ ِ‬
‫ن وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َر ٌ‬
‫قال اللّه تعالى‪ { :‬لَئِنْ لَمْ يَنْ َتهِ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫ِبهِمْ ُثمّ لَا يُجَاوِرُو َنكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلًا * مَ ْلعُونِينَ أَيْ َنمَا ُث ِقفُوا ُأخِذُوا َوقُتّلُوا َتقْتِيلًا }‬

‫حذَرُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِبهِمْ } أي‪ :‬تخبرهم وتفضحهم‪،‬‬
‫وقال هنا { يَ ْ‬
‫وتبين أسرارهم‪ ،‬حتى تكون علنية لعباده‪ ،‬ويكونوا عبرة للمعتبرين‪.‬‬

‫{ ُقلِ اسْ َتهْزِئُوا } أي‪ :‬استمروا على ما أنتم عليه من الستهزاء والسخرية‪ { .‬إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَا‬
‫حذَرُونَ } وقد وفّى تعالى بوعده‪ ،‬فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم‪ ،‬وهتكت أستارهم‪.‬‬
‫تَ ْ‬

‫{ وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ } عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم‪ ،‬يقول طائفة منهم في غزوة تبوك {‬
‫ما رأينا مثل قرائنا هؤلء ‪-‬يعنون النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ -‬أرغب بطونا‪[ ،‬وأكذب‬
‫ألسنا] وأجبن عند اللقاء } ونحو ذلك‪.‬‬

‫ولما بلغهم أن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قد علم بكلمهم‪ ،‬جاءوا يعتذرون إليه ويقولون‪ { :‬إِ ّنمَا‬
‫ض وَنَ ْل َعبُ } أي‪ :‬نتكلم بكلم ل قصد لنا به‪ ،‬ول قصدنا الطعن والعيب‪.‬‬
‫كُنّا نَخُو ُ‬

‫قال اللّه تعالى ‪-‬مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك‪ُ { :-‬قلْ } لهم { أَبِاللّ ِه وَآيَا ِت ِه وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ‬
‫تَسْ َتهْزِئُونَ * لَا َتعْتَذِرُوا َقدْ َكفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ } فإن الستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج‬
‫عن الدين لن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه‪ ،‬وتعظيم دينه ورسله‪ ،‬والستهزاء بشيء من ذلك‬
‫مناف لهذا الصل‪ ،‬ومناقض له أشد المناقضة‪.‬‬

‫ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة‪ ،‬والرسول ل يزيدهم على قوله { أَبِاللّ ِه وَآيَا ِتهِ‬
‫وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ َتسْ َتهْزِئُونَ * لَا َتعْتَذِرُوا قَدْ َكفَرْتُمْ َب ْعدَ إِيمَا ِنكُمْ }‬
‫وقوله { إِنْ َن ْعفُ عَنْ طَا ِئفَةٍ مِ ْنكُمْ } لتوبتهم واستغفارهم وندمهم‪ُ { ،‬ن َع ّذبْ طَا ِئفَةً } منكم { بِأَ ّنهُمْ }‬
‫بسبب أنهم { كَانُوا مُجْ ِرمِينَ } مقيمين على كفرهم ونفاقهم‪.‬‬

‫وفي هذه اليات دليل على أن من أسر سريرة‪ ،‬خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه‪،‬‬
‫ويستهزئ به وبآياته ورسوله‪ ،‬فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها‪ ،‬ويعاقبه أشد العقوبة‪.‬‬

‫وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه أو سنة رسوله الثابتة عنه‪ ،‬أو سخر بذلك‪ ،‬أو تنقصه‪ ،‬أو‬
‫استهزأ بالرسول أو تنقصه‪ ،‬فإنه كافر باللّه العظيم‪ ،‬وأن التوبة مقبولة من كل ذنب‪ ،‬وإن كان‬
‫عظيما‪.‬‬

‫ضهُمْ مِنْ َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلمُ ْنكَرِ وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْل َمعْرُوفِ‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ َب ْع ُ‬
‫{ ‪ { } 68 - 67‬ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫ن وَا ْلمُنَافِقَاتِ‬
‫سقُونَ * وَعَدَ اللّهُ ا ْلمُنَا ِفقِي َ‬
‫وَيَقْ ِبضُونَ أَيْدِ َيهُمْ َنسُوا اللّهَ فَ َنسِ َيهُمْ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫عذَابٌ ُمقِيمٌ }‬
‫جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ِهيَ حَسْ ُبهُ ْم وََلعَ َنهُمُ اللّ ُه وََلهُمْ َ‬
‫وَا ْلكُفّارَ نَارَ َ‬

‫ضهُمْ مِنْ َب ْعضٍ } لنهم اشتركوا في النفاق‪ ،‬فاشتركوا في‬


‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ َب ْع ُ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫تولي بعضهم بعضا‪ ،‬وفي هذا قطع للمؤمنين من وليتهم‪.‬‬

‫ثم ذكر وصف المنافقين العام‪ ،‬الذي ل يخرج منه صغير منهم ول كبير‪ ،‬فقال‪ { :‬يَ ْأمُرُونَ بِا ْلمُ ْنكَرِ‬
‫} وهو الكفر والفسوق والعصيان‪.‬‬

‫{ وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْل َمعْرُوفِ } وهو اليمان‪ ،‬والخلق الفاضلة‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬والداب الحسنة‪.‬‬
‫{ وَ َيقْ ِبضُونَ أَ ْيدِ َيهُمْ } عن الصدقة وطرق الحسان‪ ،‬فوصفهم البخل‪.‬‬

‫{ َنسُوا اللّهَ } فل يذكرونه إل قليل‪ { ،‬فَ َنسِ َيهُمْ } من رحمته‪ ،‬فل يوفقهم لخير‪ ،‬ول يدخلهم الجنة‪،‬‬
‫بل يتركهم في الدرك السفل من النار‪ ،‬خالدين فيها مخلدين‪.‬‬

‫سقُونَ } حصر الفسق فيهم‪ ،‬لن فسقهم أعظم من فسق غيرهم‪ ،‬بدليل أن‬
‫{ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫عذابهم أشد من عذاب غيرهم‪ ،‬وأن المؤمنين قد ابتلوا بهم‪ ،‬إذ كانوا بين أظهرهم‪ ،‬والحتراز منهم‬
‫شديد‪.‬‬

‫جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ِهيَ حَسْ ُبهُمْ وََلعَ َنهُمُ اللّ ُه وََلهُمْ عَذَابٌ‬
‫ت وَا ْل ُكفّارَ نَارَ َ‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَا ِ‬
‫{ وَعَدَ اللّهُ ا ْلمُنَافِقِي َ‬
‫ُمقِيمٌ } جمع المنافقين والكفار في النار‪ ،‬واللعنة والخلود في ذلك‪ ،‬لجتماعهم في الدنيا على الكفر‪،‬‬
‫والمعاداة للّه ورسوله‪ ،‬والكفر بآياته‪.‬‬
‫{ ‪ { } 70 - 69‬كَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ كَانُوا أَشَدّ مِ ْنكُمْ ُق ّوةً وََأكْثَرَ َأ ْموَالًا وََأوْلَادًا فَاسْ َتمْ َتعُوا ِبخَلَا ِقهِمْ‬
‫طتْ‬
‫خضْتُمْ كَالّذِي خَاضُوا أُولَ ِئكَ حَ ِب َ‬
‫فَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبخَلَا ِقكُمْ َكمَا اسْ َتمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ بِخَلَا ِق ِه ْم وَ ُ‬
‫ح وَعَادٍ‬
‫عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ * أََلمْ يَأْ ِتهِمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ َقوْمِ نُو ٍ‬
‫أَ ْ‬
‫وَ َثمُو َد َو َقوْمِ إِبْرَاهِي َم وََأصْحَابِ مَدْيَنَ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَاتِ أَتَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ }‬
‫كَانُوا أَ ْنفُ َ‬

‫ح وَعَادٍ‬
‫يقول تعالى محذرا المنافقين أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من المم المكذبة‪َ { .‬قوْمِ نُو ٍ‬
‫وَ َثمُو َد َو َقوْمِ إِبْرَاهِي َم وََأصْحَابِ مَدْيَنَ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَاتِ } أي‪ :‬قرى قوم لوط‪.‬‬

‫فكلهم { أَتَ ْت ُهمْ رُسُُل ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي‪ :‬بالحق الواضح الجلي‪ ،‬المبين لحقائق الشياء‪ ،‬فكذبوا بها‪،‬‬
‫فجرى عليهم ما قص اللّه علينا‪ ،‬فأنتم أعمالكم شبيهة بأعمالهم‪ ،‬استمتعتم بخلقكم‪ ،‬أي‪ :‬بنصيبكم‬
‫من الدنيا فتناولتموه على وجه اللذة والشهوة معرضين عن المراد منه‪ ،‬واستعنتم به على معاصي‬
‫اللّه‪ ،‬ولم تتعد همتكم وإرادتكم ما خولتم من النعم كما فعل الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا‪،‬‬
‫أي‪ :‬وخضتم بالباطل والزور وجادلتم بالباطل لتدحضوا به الحق‪ ،‬فهذه أعمالهم وعلومهم‪ ،‬استمتاع‬
‫بالخلق وخوض بالباطل‪ ،‬فاستحقوا من العقوبة والهلك ما استحق من قبلهم ممن فعلوا كفعلهم‪،‬‬
‫وأما المؤمنون فهم وإن استمتعوا بنصيبهم وما خولوا من الدنيا‪ ،‬فإنه على وجه الستعانة به على‬
‫طاعة اللّه‪ ،‬وأما علومهم فهي علوم الرسل‪ ،‬وهي الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية‪،‬‬
‫والمجادلة بالحق لدحاض الباطل‪.‬‬

‫س ُهمْ يَظِْلمُونَ }‬
‫قوله { َفمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُمْ } إذ أوقع بهم من عقوبته ما أوقع‪ { .‬وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫حيث تجرأوا على معاصيه‪ ،‬وعصوا رسلهم‪ ،‬واتبعوا أمر كل جبار عنيد‪.‬‬

‫ف وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ‬


‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتُ َب ْع ُ‬
‫{ ‪ { } 72 - 71‬وَا ْل ُم ْؤمِنُو َ‬
‫ح ُمهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ‬
‫ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَيُطِيعُونَ اللّ َه وَرَسُوَلهُ أُولَ ِئكَ سَيَرْ َ‬
‫حكِيمٌ * وَعَدَ اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّ َبةً‬
‫َ‬
‫ضوَانٌ مِنَ اللّهِ َأكْبَرُ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ }‬
‫ن وَ ِر ْ‬
‫فِي جَنّاتِ عَدْ ٍ‬

‫لما ذكر أن المنافقين بعضهم أولياء بعض ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض‪ ،‬ووصفهم بضد‬
‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ‬
‫ما وصف به المنافقين‪ ،‬فقال‪ { :‬وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتُ } أي‪ :‬ذكورهم وإناثهم { َب ْع ُ‬
‫َب ْعضٍ } في المحبة والموالة‪ ،‬والنتماء والنصرة‪.‬‬
‫{ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ } وهو‪ :‬اسم جامع‪ ،‬لكل ما عرف حسنه‪ ،‬من العقائد الحسنة‪ ،‬والعمال‬
‫الصالحة‪ ،‬والخلق الفاضلة‪ ،‬وأول من يدخل في أمرهم أنفسهم‪ { ،‬وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ } وهو كل‬
‫ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة‪ ،‬والعمال الخبيثة‪ ،‬والخلق الرذيلة‪.‬‬

‫{ وَ ُيطِيعُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ } أي‪ :‬ل يزالون ملزمين لطاعة اللّه ورسوله على الدوام‪.‬‬

‫ح ُمهُمُ اللّهُ } أي‪ :‬يدخلهم في رحمته‪ ،‬ويشملهم بإحسانه‪.‬‬


‫{ أُولَ ِئكَ سَيَرْ َ‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬قوي قاهر‪ ،‬ومع قوته فهو حكيم‪ ،‬يضع كل شيء موضعه اللئق به‬
‫{ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫الذي يحمد على ما خلقه وأمر به‪.‬‬

‫ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال‪ { :‬وَعَدَ اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا‬
‫الْأَ ْنهَارُ } جامعة لكل نعيم وفرح‪ ،‬خالية من كل أذى وترح‪ ،‬تجري من تحت قصورها ودورها‬
‫وأشجارها النهار الغزيرة‪ ،‬المروية للبساتين النيقة‪ ،‬التي ل يعلم ما فيها من الخيرات والبركات‬
‫إل اللّه تعالى‪.‬‬

‫عدْنٍ } قد زخرفت وحسنت‬


‫حوَلًا { َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ َ‬
‫{ خَالِدِينَ فِيهَا } ل يبغون عنها ِ‬
‫وأعدت لعباد اللّه المتقين‪ ،‬قد طاب مرآها‪ ،‬وطاب منزلها ومقيلها‪ ،‬وجمعت من آلت المساكن‬
‫العالية ما ل يتمنى فوقه المتمنون‪ ،‬حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن‪،‬‬
‫يرى ظاهرها من باطنها‪ ،‬وباطنها من ظاهرها‪.‬‬

‫فهذه المساكن النيقة‪ ،‬التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس‪ ،‬وتنزع إليها القلوب‪ ،‬وتشتاق لها‬
‫الرواح‪ ،‬لنها في جنات عدن‪ ،‬أي‪ :‬إقامة ل يظعنون عنها‪ ،‬ول يتحولون منها‪.‬‬

‫ضوَانٌ مِنَ اللّهِ } يحله على أهل الجنة { َأكْبَرُ } مما هم فيه من النعيم‪ ،‬فإن نعيمهم لم يطب‬
‫{ وَ ِر ْ‬
‫إل برؤية ربهم ورضوانه عليهم‪ ،‬ولنه الغاية التي أمّها العابدون‪ ،‬والنهاية التي سعى نحوها‬
‫المحبون‪ ،‬فرضا رب الرض والسماوات‪ ،‬أكبر من نعيم الجنات‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } حيث حصلوا على كل مطلوب‪ ،‬وانتفى عنهم كل محذور‪ ،‬وحسنت‬
‫وطابت منهم جميع المور‪ ،‬فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده‪.‬‬

‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ‬


‫{ ‪ { } 74 - 73‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ جَاهِدِ ا ْلكُفّا َر وَا ْلمُنَا ِفقِينَ وَاغُْلظْ عَلَ ْيهِ ْم َومَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫* يَحِْلفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وََلقَدْ قَالُوا كَِلمَةَ ا ْلكُفْ ِر َو َكفَرُوا َبعْدَ ِإسْلَا ِمهِ ْم وَ َهمّوا ِبمَا لَمْ يَنَالُوا َومَا َن َقمُوا‬
‫عذَابًا أَلِيمًا‬
‫إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّ ُه وَرَسُولُهُ مِنْ َفضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا َيكُ خَيْرًا َلهُ ْم وَإِنْ يَ َتوَّلوْا ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ َ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ }‬
‫ن وَِل ّ‬
‫فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َومَا َل ُهمْ فِي الْأَ ْرضِ مِ ْ‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم { يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ جَا ِهدِ ا ْل ُكفّارَ وَا ْلمُنَافِقِينَ } أي‪ :‬بالغ في‬
‫جهادهم والغلظة عليهم حيث اقتضت الحال الغلظة عليهم‪.‬‬

‫وهذا الجهاد يدخل فيه الجهاد باليد‪ ،‬والجهاد بالحجة واللسان‪ ،‬فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد‬
‫باليد‪ ،‬واللسان والسيف والبيان‪.‬‬

‫ومن كان مذعنا للسلم بذمة أو عهد‪ ،‬فإنه يجاهد بالحجة والبرهان ويبين له محاسن السلم‪،‬‬
‫ومساوئ الشرك والكفر‪ ،‬فهذا ما لهم في الدنيا‪.‬‬

‫جهَنّمُ } أي‪ :‬مقرهم الذي ل يخرجون منها { وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬


‫{ و } أما في الخرة‪ ،‬فب { مَ ْأوَا ُهمْ َ‬

‫{ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وََلقَدْ قَالُوا كَِلمَةَ ا ْل ُكفْرِ } أي‪ :‬إذا قالوا قول كقول من قال منهم { ليخرجن‬
‫العز منها الذل } والكلم الذي يتكلم به الواحد بعد الواحد‪ ،‬في الستهزاء بالدين‪ ،‬وبالرسول‪.‬‬

‫فإذا بلغهم أن النبي صلى ال عليه وسلم قد بلغه شيء من ذلك‪ ،‬جاءوا إليه يحلفون باللّه ما قالوا‪.‬‬

‫قال تعالى مكذبا لهم { وََلقَدْ قَالُوا كَِلمَةَ ا ْلكُفْ ِر َو َكفَرُوا َبعْدَ ِإسْلَا ِمهِمْ } فإسلمهم السابق ‪-‬وإن كان‬
‫ظاهره أنه أخرجهم من دائرة الكفر ‪-‬فكلمهم الخير ينقض إسلمهم‪ ،‬ويدخلهم بالكفر‪.‬‬

‫{ وَ َهمّوا ِبمَا َلمْ يَنَالُوا } وذلك حين هموا بالفتك برسول اللّه صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك‪،‬‬
‫فقص اللّه عليه نبأهم‪ ،‬فأمر من يصدهم عن قصدهم‪.‬‬

‫{ و } الحال أنهم { مَا َن َقمُوا } وعابوا من رسول اللّه صلى ال عليه وسلم { إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ‬
‫وَرَسُولُهُ مِنْ َفضْلِهِ } بعد أن كانوا فقراء معوزين‪ ،‬وهذا من أعجب الشياء‪ ،‬أن يستهينوا بمن كان‬
‫سببا لخراجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬ومغنيا لهم بعد الفقر‪ ،‬وهل حقه عليهم إل أن يعظموه‪،‬‬
‫ويؤمنوا به ويجلوه؟" فاجتمع الداعي الديني وداعي المروءة النسانية‪.‬‬

‫ثم عرض عليهم التوبة فقال‪ { :‬فَإِنْ يَتُوبُوا َيكُ خَيْرًا َل ُهمْ } لن التوبة‪ ،‬أصل لسعادة الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{ وَإِنْ يَ َتوَّلوْا } عن التوبة والنابة { ُي َعذّ ْبهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } في الدنيا بما ينالهم‬
‫من الهم والغم والحزن على نصرة اللّه لدينه‪ ،‬وإعزار نبيه‪ ،‬وعدم حصولهم على مطلوبهم‪ ،‬وفي‬
‫الخرة‪ ،‬في عذاب السعير‪.‬‬
‫ن وَِليّ } يتولى أمورهم‪ ،‬ويحصل لهم المطلوب { وَلَا َنصِيرٍ } يدفع عنهم‬
‫{ َومَا َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ مِ ْ‬
‫المكروه‪ ،‬وإذا انقطعوا من ولية اللّه تعالى‪ ،‬فَثَمّ أصناف الشر والخسران‪ ،‬والشقاء والحرمان‪.‬‬

‫ن وَلَ َنكُونَنّ مِنَ الصّاِلحِينَ * فََلمّا‬


‫{ ‪َ { } 78 - 75‬ومِ ْنهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ َفضْلِهِ لَ َنصّ ّدقَ ّ‬
‫عقَ َبهُمْ ِنفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ إِلَى َيوْمِ يَ ْل َقوْنَهُ ِبمَا‬
‫آتَا ُهمْ مِنْ َفضْلِهِ َبخِلُوا بِ ِه وَ َتوَّلوْا وَهُمْ ُمعْ ِرضُونَ * فَأَ ْ‬
‫جوَا ُه ْم وَأَنّ اللّهَ عَلّامُ‬
‫أَخَْلفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ * أََلمْ َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ سِرّهُ ْم وَنَ ْ‬
‫ا ْلغُيُوبِ }‬

‫أي‪ :‬ومن هؤلء المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه { لَئِنْ آتَانَا مِنْ َفضْلِهِ } من الدنيا فبسطها‬
‫ن وَلَ َنكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ } فنصل الرحم‪ ،‬ونقري الضيف‪ ،‬ونعين على نوائب‬
‫لنا ووسعها { لَ َنصّ ّدقَ ّ‬
‫الحق‪ ،‬ونفعل الفعال الحسنة الصالحة‪.‬‬

‫{ فََلمّا آتَاهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } لم يفوا بما قالوا‪ ،‬بل { َبخِلُوا بِ ِه وَ َتوَّلوْا } عن الطاعة والنقياد { وَ ُهمْ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ } أي‪ :‬غير ملتفتين إلى الخير‪.‬‬

‫عقَ َبهُمْ ِنفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ } مستمرا { إِلَى َيوْمِ يَ ْل َقوْنَهُ ِبمَا‬
‫فلما لم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه‪ ،‬عاقبهم { فَأَ ْ‬
‫أَخَْلفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ }‬

‫فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع‪ ،‬أن يعاهد ربه‪ ،‬إن حصل مقصوده الفلني ليفعلن كذا‬
‫وكذا‪ ،‬ثم ل يفي بذلك‪ ،‬فإنه ربما عاقبه اللّه بالنفاق كما عاقب هؤلء‪.‬‬

‫وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين‪ { :‬آية المنافق ثلث‪ :‬إذا‬
‫حدث كذب‪ ،‬وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا وعد أخلف }‬

‫فهذا المنافق الذي وعد اللّه وعاهده‪ ،‬لئن أعطاه اللّه من فضله‪ ،‬ليصدقن وليكونن من الصالحين‪،‬‬
‫حدث فكذب‪ ،‬وعاهد فغدر‪ ،‬ووعد فأخلف‪.‬‬

‫جوَاهُ ْم وَأَنّ اللّهَ‬


‫ولهذا توعد من صدر منهم هذا الصنيع‪ ،‬بقوله‪َ { :‬ألَمْ َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ سِرّهُ ْم وَ َن ْ‬
‫عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ } وسيجازيهم على ما عملوا من العمال التي يعلمها اللّه تعالى‪ ،‬وهذه اليات نزلت‬
‫في رجل من المنافقين يقال له { ثعلبة } جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسأله أن يدعو اللّه‬
‫له‪ ،‬أن يعطيه ال من فضله‪ ،‬وأنه إن أعطاه‪ ،‬ليتصدقن‪ ،‬ويصل الرحم‪ ،‬ويعين على النوائب‪ ،‬فدعا‬
‫له النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان له غنم‪ ،‬فلم تزل تتنامى‪ ،‬حتى خرج بها عن المدينة‪ ،‬فكان ل‬
‫يحضر إل بعض الصلوات الخمس‪ ،‬ثم أبعد‪ ،‬فكان ل يحضر إل صلة الجمعة‪ ،‬ثم كثرت فأبعد‬
‫بها‪ ،‬فكان ل يحضر جمعة ول جماعة‪.‬‬
‫ففقده النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأخبر بحاله‪ ،‬فبعث من يأخذ الصدقات من أهلها‪ ،‬فمروا على‬
‫ثعلبة‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذه إل جزية‪ ،‬ما هذه إل أخت الجزية‪ ،‬فلما لم يعطهم جاءوا فأخبروا بذلك النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال‪ { :‬يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة } ثلثا‪.‬‬

‫فلما نزلت هذه الية فيه‪ ،‬وفي أمثاله‪ ،‬ذهب بها بعض أهله فبلغه إياها‪ ،‬فجاء بزكاته‪ ،‬فلم يقبلها‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم جاء بها لبي بكر بعد وفاة النبي صلى ال عليه وسلم فلم يقبلها‪ ،‬ثم‬
‫جاء بها بعد أبي بكر لعمر فلم يقبلها‪ ،‬فيقال‪ :‬إنه هلك في زمن عثمان‬

‫ج ْهدَهُمْ‬
‫جدُونَ إِلّا ُ‬
‫ت وَالّذِينَ لَا يَ ِ‬
‫طوّعِينَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فِي الصّ َدقَا ِ‬
‫{ ‪ { } 80 - 79‬الّذِينَ يَ ْلمِزُونَ ا ْلمُ ّ‬
‫فَيَسْخَرُونَ مِ ْنهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِ ْنهُمْ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأوْ لَا تَسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ‬
‫سقِينَ }‬
‫سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُهمْ ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬

‫وهذا أيضا من مخازي المنافقين‪ ،‬فكانوا ‪-‬قبحهم اللّه‪ -‬ل يدعون شيئا من أمور السلم والمسلمين‬
‫يرون لهم مقال‪ ،‬إل قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا‪ ،‬فلما حثّ اللّه ورسوله على الصدقة‪ ،‬بادر‬
‫المسلمون إلى ذلك‪ ،‬وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله‪ ،‬منهم المكثر‪ ،‬ومنهم المقل‪ ،‬فيلمزون‬
‫المكثر منهم‪ ،‬بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة‪ ،‬وقالوا للمقل الفقير‪ :‬إن اللّه غني عن صدقة هذا‪،‬‬
‫طوّعِينَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فِي الصّ َدقَاتِ‬
‫فأنزل اللّه تعالى‪ { :‬الّذِينَ يَ ْلمِزُونَ } أي‪ :‬يعيبون ويطعنون { ا ْلمُ ّ‬
‫} فيقولون‪ :‬مراءون‪ ،‬قصدهم الفخر والرياء‪.‬‬

‫ج ْهدَهُمْ } فيخرجون ما استطاعوا ويقولون‪ :‬اللّه غني عن‬


‫جدُونَ إِلّا ُ‬
‫{ و } يلمزون { الّذِينَ لَا يَ ِ‬
‫سخَرُونَ مِ ْن ُهمْ }‬
‫صدقاتهم { فَيَ ْ‬

‫‪ .‬فقابلهم ال على صنيعهم بأن { سَخِرَ اللّهُ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإنهم جمعوا في كلمهم هذا‬
‫بين عدة محاذير‪.‬‬

‫منها‪ :‬تتبعهم لحوال المؤمنين‪ ،‬وحرصهم على أن يجدوا مقال يقولونه فيهم‪ ،‬واللّه يقول‪ { :‬إِنّ‬
‫شةُ فِي الّذِينَ آمَنُوا َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫الّذِينَ ُيحِبّونَ أَنْ تَشِيعَ ا ْلفَاحِ َ‬

‫ومنها‪ :‬طعنهم بالمؤمنين لجل إيمانهم‪ ،‬كفر باللّه تعالى وبغض للدين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللمز محرم‪ ،‬بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا‪ ،‬وأما اللمز في أمر الطاعة‪،‬‬
‫فأقبح وأقبح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال الخير‪ ،‬فإن الذي ينبغي[هو] إعانته‪ ،‬وتنشيطه‬
‫على عمله‪ ،‬وهؤلء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم‪ ،‬وعابوهم عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن حكمهم على من أنفق مال كثيرا بأنه مراء‪ ،‬غلط فاحش‪ ،‬وحكم على الغيب‪ ،‬ورجم‬
‫بالظن‪ ،‬وأي شر أكبر من هذا؟!!‬

‫ومنها‪ :‬أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة‪" :‬اللّه غني عن صدقة هذا" كلم مقصوده باطل‪ ،‬فإن اللّه‬
‫غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير‪ ،‬بل وغني عن أهل السماوات والرض‪ ،‬ولكنه تعالى‬
‫أمر العباد بما هم مفتقرون إليه‪ ،‬فاللّه ‪-‬وإن كان غنيا عنهم‪ -‬فهم فقراء إليه { فمن يعمل مثقال‬
‫ذرة خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين‪ ،‬ولهذا كان جزاؤهم أن‬
‫سخر اللّه منهم‪ ،‬ولهم عذاب أليم‪.‬‬

‫{‪ { }80‬اسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ َأوْ لَا تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ سَ ْبعِينَ مَ ّرةً } على وجه المبالغة‪ ،‬وإل‪ ،‬فل‬
‫مفهوم لها‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ أَسْ َت ْغفَ ْرتَ َلهُمْ َأمْ لَمْ َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ لَنْ‬
‫سوَاءٌ َ‬
‫{ فَلَنْ َيغْفِرَ اللّهُ َلهُمْ } كما قال في الية الخرى { َ‬
‫َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ } ثم ذكر السبب المانع لمغفرة اللّه لهم فقال‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ }‬
‫والكافر ل ينفعه الستغفار ول العمل ما دام كافرا‪.‬‬

‫سقِينَ } أي‪ :‬الذين صار الفسق لهم وصفا‪ ،‬بحيث ل يختارون عليه سواه‬
‫{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬
‫ول يبغون به بدل‪ ،‬يأتيهم الحق الواضح فيردونه‪ ،‬فيعاقبهم اللّه تعالى بأن ل يوفقهم له بعد ذلك‪.‬‬

‫سهِمْ‬
‫خّلفُونَ ِب َم ْقعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّ ِه َوكَرِهُوا أَنْ ُيجَاهِدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫{ ‪ { } 83 - 81‬فَرِحَ ا ْلمُ َ‬
‫حكُوا قَلِيلًا‬
‫شدّ حَرّا َلوْ كَانُوا َي ْف َقهُونَ * فَلْ َيضْ َ‬
‫جهَنّمَ أَ َ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَالُوا لَا تَ ْنفِرُوا فِي ا ْلحَرّ ُقلْ نَارُ َ‬
‫ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَا ِئفَةٍ مِ ْنهُمْ فَاسْتَ ْأذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ َف ُقلْ‬
‫وَلْيَ ْبكُوا كَثِيرًا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * فَإِنْ َر َ‬
‫لَنْ تَخْ ُرجُوا َم ِعيَ أَ َبدًا وَلَنْ ُتقَاتِلُوا َم ِعيَ عَ ُدوّا إِ ّن ُكمْ َرضِيتُمْ بِا ْل ُقعُودِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُوا مَعَ الْخَاِلفِينَ }‬

‫يقول تعالى مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم وعدم مبالتهم بذلك‪ ،‬الدال على عدم اليمان‪ ،‬واختيار‬
‫الكفر على اليمان‪.‬‬

‫{ فَرِحَ ا ْلمُخَّلفُونَ ِب َم ْقعَدِ ِهمْ خِلَافَ رَسُولِ اللّهِ } وهذا قدر زائد على مجرد التخلف‪ ،‬فإن هذا تخلف‬
‫محرم‪ ،‬وزيادة رضا بفعل المعصية‪ ،‬وتبجح به‪.‬‬
‫سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وهذا بخلف المؤمنين الذين إذا تخلفوا‬
‫{ َوكَرِهُوا أَنْ ُيجَاهِدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫‪-‬ولو لعذر‪ -‬حزنوا على تخلفهم وتأسفوا غاية السف‪ ،‬ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في‬
‫سبيل اللّه‪ ،‬لما في قلوبهم من اليمان‪ ،‬ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره وامتنانه‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬المنافقون { لَا تَ ْنفِرُوا فِي ا ْلحَرّ } أي‪ :‬قالوا إن النفير مشقة علينا بسبب الحر‪،‬‬
‫فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة البدية التامة‪.‬‬

‫وحذروا من الحر الذي يقي منه الظلل‪ ،‬ويذهبه البكر والصال‪ ،‬على الحر الشديد الذي ل يقادر‬
‫قدره‪ ،‬وهو النار الحامية‪.‬‬

‫جهَنّمَ َأشَدّ حَرّا َلوْ كَانُوا َيفْ َقهُونَ } لما آثروا ما يفنى على ما يبقى‪ ،‬ولما فروا‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ نَارُ َ‬
‫من المشقة الخفيفة المنقضية‪ ،‬إلى المشقة الشديدة الدائمة‪.‬‬

‫حكُوا قَلِيلًا وَلْيَ ْبكُوا كَثِيرًا } أي‪ :‬فليتمتعوا في هذه الدار المنقضية‪ ،‬ويفرحوا‬
‫قال ال تعالى‪ { :‬فَلْ َيضْ َ‬
‫بلذاتها‪ ،‬ويلهوا بلعبها‪ ،‬فسيبكون كثيرا في عذاب أليم { جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } من الكفر‬
‫والنفاق‪ ،‬وعدم النقياد لوامر ربهم‪.‬‬

‫ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَا ِئفَةٍ مِ ْنهُمْ } وهم الذين تخلفوا من غير عذر‪ ،‬ولم يحزنوا على تخلفهم‬
‫{ فَإِنْ َر َ‬
‫{ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } لغير هذه الغزوة‪ ،‬إذا رأوا السهولة‪َ { .‬فقُلْ } لهم عقوبة { لَنْ تَخْ ُرجُوا َمعِيَ‬
‫ع ُدوّا } فسيغني اللّه عنكم‪.‬‬
‫أَبَدًا وَلَنْ ُتقَاتِلُوا َم ِعيَ َ‬

‫{ إِ ّن ُكمْ َرضِيتُمْ بِا ْل ُقعُودِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُوا مَعَ الْخَاِلفِينَ } وهذا كما قال تعالى { ونقلب أفئدتهم‬
‫وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } فإن المتثاقل المتخلف عن المأمور به عند انتهاز الفرصة‪،‬‬
‫ل يوفق له بعد ذلك‪ ،‬ويحال بينه وبينه‪.‬‬

‫وفيه أيضا تعزير لهم‪ ،‬فإنه إذا تقرر عند المسلمين أن هؤلء من الممنوعين من الخروج إلى‬
‫الجهاد لمعصيتهم‪ ،‬كان ذلك توبيخا لهم‪ ،‬وعارا عليهم ونكال أن يفعل أحد كفعلهم‪.‬‬

‫حدٍ مِ ْنهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا َتقُمْ عَلَى قَبْ ِرهِ إِ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه َومَاتُوا‬
‫صلّ عَلَى أَ َ‬
‫{ ‪ { } 84‬وَلَا ُت َ‬
‫سقُونَ }‬
‫وَهُمْ فَا ِ‬

‫صلّ عَلَى َأحَدٍ مِ ْنهُمْ مَاتَ أبدا } من المنافقين { وَلَا َتقُمْ عَلَى قَبْ ِرهِ } بعد الدفن‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَلَا ُت َ‬
‫لتدعو له‪ ،‬فإن صلته ووقوفه على قبورهم شفاعة منه لهم‪ ،‬وهم ل تنفع فيهم الشفاعة‪.‬‬
‫سقُونَ } ومن كان كافرا ومات على ذلك‪ ،‬فما تنفعه‬
‫{ إِ ّن ُهمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه َومَاتُوا وَ ُهمْ فَا ِ‬
‫شفاعة الشافعين‪ ،‬وفي ذلك عبرة لغيرهم‪ ،‬وزجر ونكال لهم‪ ،‬وهكذا كل من علم منه الكفر‬
‫والنفاق‪ ،‬فإنه ل يصلى عليه‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على مشروعية الصلة على المؤمنين‪ ،‬والوقوف عند قبورهم للدعاء لهم‪ ،‬كما‬
‫كان النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يفعل ذلك في المؤمنين‪ ،‬فإن تقييد النهي بالمنافقين يدل على أنه قد‬
‫كان متقررا في المؤمنين‪.‬‬

‫سهُ ْم وَ ُهمْ‬
‫{ ‪ { } 85‬وَلَا ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم وََأوْلَادُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيعَذّ َب ُهمْ ِبهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْ َهقَ أَ ْنفُ ُ‬
‫كَافِرُونَ }‬

‫أي‪ :‬ل تغتر بما أعطاهم اللّه في الدنيا من الموال والولد‪ ،‬فليس ذلك لكرامتهم عليه‪ ،‬وإنما ذلك‬
‫إهانة منه لهم‪ { .‬إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي الدّنْيَا } فيتعبون في تحصيلها‪ ،‬ويخافون من‬
‫زوالها‪ ،‬ول يتهنئون بها‪.‬‬

‫بل ل يزالون يعانون الشدائد والمشاق فيها‪ ،‬وتلهيهم عن اللّه والدار الخرة‪ ،‬حتى ينتقلوا من الدنيا‬
‫سهُ ْم وَ ُهمْ كَافِرُونَ } قد سلبهم حبها عن كل شيء‪ ،‬فماتوا وقلوبهم بها متعلقة‪ ،‬وأفئدتهم‬
‫{ وَتَزْ َهقَ أَ ْنفُ ُ‬
‫عليها متحرقة‪.‬‬

‫ط ْولِ مِ ْنهُمْ‬
‫{ ‪ { } 87 - 86‬وَإِذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّ ِه َوجَاهِدُوا مَعَ َرسُولِهِ اسْتَ ْأذَ َنكَ أُولُو ال ّ‬
‫ف وَطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َف ُهمْ لَا َي ْفقَهُونَ ْ}‬
‫خوَاِل ِ‬
‫َوقَالُوا ذَرْنَا َنكُنْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ * َرضُوا بِأَنْ َيكُونُوا َمعَ الْ َ‬

‫يقول تعالى في بيان استمرار المنافقين على التثاقل عن الطاعات‪ ،‬وأنها ل تؤثر فيهم السور‬
‫واليات‪ { :‬وَإِذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ ْ} يؤمرون فيها باليمان باللّه والجهاد في سبيل اللّه‪.‬‬

‫طوْلِ مِ ْنهُمْ ْ} يعني‪ :‬أولي الغنى والموال‪ ،‬الذين ل عذر لهم‪ ،‬وقد أمدهم اللّه‬
‫{ اسْتَأْذَ َنكَ ُأوْلُوا ال ّ‬
‫بأموال وبنين‪ ،‬أفل يشكرون اللّه ويحمدونه‪ ،‬ويقومون بما أوجبه عليهم‪ ،‬وسهل عليهم أمره‪ ،‬ولكن‬
‫أبوا إل التكاسل والستئذان في القعود { َوقَالُوا ذَرْنَا َنكُنْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ ْ}‬

‫خوَاِلفِ ْ} أي‪ :‬كيف رضوا لنفسهم أن يكونوا مع‬


‫{‪ }87‬قال تعالى { َرضُوا بِأَنْ َيكُونُوا مَعَ ا ْل َ‬
‫النساء المتخلفات عن الجهاد‪ ،‬هل معهم فقه أو عقل دلهم على ذلك؟ أم طبع ال على قلوبهم فل‬
‫تعي الخير‪ ،‬ول يكون فيها إرادة لفعل ما فيه الخير والفلح؟ فهم ل يفقهون مصالحهم‪ ،‬فلو فقهوا‬
‫حقيقة الفقه‪ ،‬لم يرضوا لنفسهم بهذه الحال التي تحطهم عن منازل الرجال‪.‬‬
‫سهِ ْم وَأُولَ ِئكَ َلهُمُ ا ْلخَيْرَاتُ‬
‫ل وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ جَاهَدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 89 - 88‬لكِنِ الرّسُو ُ‬
‫عدّ اللّهُ َلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ‬
‫وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * أَ َ‬
‫ْ}‬

‫يقول تعالى‪ :‬إذا تخلف هؤلء المنافقون عن الجهاد‪ ،‬فاللّه سيغني عنهم‪ ،‬وللّه عباد وخواص من‬
‫خلقه اختصهم بفضله يقومون بهذا المر‪ ،‬وهم { الرّسُولُ ْ} محمد صلى ال عليه وسلم‪ { ،‬وَالّذِينَ‬
‫سهِمْ ْ} غير متثاقلين ول كسلين‪ ،‬بل هم فرحون مستبشرون‪،‬‬
‫آمَنُوا َمعَهُ جَاهَدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَأُولَ ِئكَ َلهُمُ ا ْلخَيْرَاتُ ْ} الكثيرة في الدنيا والخرة‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ ْ} الذين ظفروا بأعلى‬
‫المطالب وأكمل الرغائب‪.‬‬

‫عدّ اللّهُ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ} فتبا لمن لم يرغب‬
‫{ أَ َ‬
‫بما رغبوا فيه‪ ،‬وخسر دينه ودنياه وأخراه‪ ،‬وهذا نظير قوله تعالى { ُقلْ آمِنُوا بِهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا إِنّ‬
‫الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مِنْ قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ سُجّدًا ْ} وقوله‪ { :‬فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلَاءِ َفقَدْ‬
‫َوكّلْنَا ِبهَا َق ْومًا لَيْسُوا ِبهَا ِبكَافِرِينَ ْ}‬

‫{ ‪ { }ْ 93 - 90‬وَجَاءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِ ُيؤْذَنَ َل ُه ْم َو َقعَدَ الّذِينَ َكذَبُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ سَ ُيصِيبُ‬
‫ضعَفَا ِء وَلَا عَلَى ا ْلمَ ْرضَى وَلَا عَلَى الّذِينَ لَا َيجِدُونَ مَا‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَى ال ّ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى‬
‫ل وَاللّهُ َ‬
‫حسِنِينَ مِنْ سَبِي ٍ‬
‫يُ ْنفِقُونَ حَرَجٌ ِإذَا َنصَحُوا لِلّ ِه وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫حمُِلكُمْ عَلَيْهِ َتوَّلوْا وَأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّد ْمعِ حَزَنًا َألّا‬
‫حمَِلهُمْ قُ ْلتَ لَا َأجِدُ مَا َأ ْ‬
‫الّذِينَ إِذَا مَا أَ َت ْوكَ لِ َت ْ‬
‫خوَاِلفِ‬
‫ك وَهُمْ أَغْنِيَاءُ َرضُوا بِأَنْ َيكُونُوا مَعَ الْ َ‬
‫جدُوا مَا يُ ْنفِقُونَ * إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُو َن َ‬
‫يَ ِ‬
‫وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ}‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَجَاءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِ ُيؤْذَنَ َلهُمْ ْ} أي‪ :‬جاء الذين تهاونوا‪ ،‬وقصروا منهم‬
‫في الخروج لجل أن يؤذن لهم في ترك الجهاد‪ ،‬غير مبالين في العتذار لجفائهم وعدم حيائهم‪،‬‬
‫وإتيانهم بسبب ما معهم من اليمان الضعيف‪.‬‬

‫وأما الذين كذبوا اللّه ورسوله منهم‪ ،‬فقعدوا وتركوا العتذار بالكلية‪ ،‬ويحتمل أن معنى قوله‪:‬‬
‫{ ا ْل ُم َعذّرُونَ ْ} أي‪ :‬الذين لهم عذر‪ ،‬أتوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليعذرهم‪ ،‬ومن عادته‬
‫أن يعذر من له عذر‪.‬‬

‫{ َو َقعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ ْ} في دعواهم اليمان‪ ،‬المقتضي للخروج‪ ،‬وعدم عملهم بذلك‪ ،‬ثم‬
‫توعدهم بقوله‪ { :‬سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ} في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫لما ذكر المعتذرين‪ ،‬وكانوا على قسمين‪ ،‬قسم معذور في الشرع‪ ،‬وقسم غير معذور‪ ،‬ذكر ذلك‬
‫بقوله‪:‬‬

‫ضعَفَاءِ ْ} في أبدانهم وأبصارهم‪ ،‬الذين ل قوة لهم على الخروج والقتال‪ { .‬وَلَا عَلَى‬
‫{ لَ ْيسَ عَلَى ال ّ‬
‫ا ْلمَ ْرضَى ْ}‬

‫وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي ل يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد‪ ،‬من عرج‪،‬‬
‫وعمى‪ ،‬وحمى‪ ،‬وذات الجنب‪ ،‬والفالج‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫{ وَلَا عَلَى الّذِينَ لَا َيجِدُونَ مَا يُ ْنفِقُونَ ْ} أي‪ :‬ل يجدون زادا‪ ،‬ول راحلة يتبلغون بها في سفرهم‪،‬‬
‫فهؤلء ليس عليهم حرج‪ ،‬بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله‪ ،‬بأن يكونوا صادقي اليمان‪ ،‬وأن يكون‬
‫من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا‪ ،‬وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب‬
‫والتشجيع على الجهاد‪.‬‬

‫{ مَا عَلَى ا ْل ُمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ْ} أي‪ :‬من سبيل يكون عليهم فيه تبعة‪ ،‬فإنهم ‪-‬بإحسانهم فيما عليهم‬
‫من حقوق اللّه وحقوق العباد‪ -‬أسقطوا توجه اللوم عليهم‪ ،‬وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه‪ ،‬سقط‬
‫عنه ما ل يقدر عليه‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية على قاعدة وهي‪ :‬أن من أحسن على غيره‪ ،‬في [نفسه] أو في ماله‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف‪ ،‬أنه غير ضامن لنه محسن‪ ،‬ول سبيل على المحسنين‪،‬‬
‫كما أنه يدل على أن غير المحسن ‪-‬وهو المسيء‪ -‬كالمفرط‪ ،‬أن عليه الضمان‪.‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ ْ} ومن مغفرته ورحمته‪ ،‬عفا عن العاجزين‪ ،‬وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫القادرين الفاعلين‪.‬‬

‫حمَِلهُمْ ْ} فلم يصادفوا عندك شيئا { قُ ْلتَ ْ} لهم معتذرا‪ { :‬لَا َأجِدُ مَا‬
‫{ وَلَا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَ َت ْوكَ لِ َت ْ‬
‫حمُِلكُمْ عَلَيْهِ َتوَّلوْا وَأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنًا أَلّا َيجِدُوا مَا يُ ْن ِفقُونَ ْ} فإنهم عاجزون باذلون‬
‫أَ ْ‬
‫لنفسهم‪ ،‬وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم‪.‬‬

‫فهؤلء ل حرج عليهم‪ ،‬وإذا سقط الحرج عنهم‪ ،‬عاد المر إلى أصله‪ ،‬وهو أن من نوى الخير‪،‬‬
‫س ْعيٌ فيما يقدر عليه‪ ،‬ثم لم يقدر‪ ،‬فإنه ينزل منزلة الفاعل التام‪.‬‬
‫واقترن بنيته الجازمة َ‬
‫{ إِ ّنمَا السّبِيلُ ْ} يتوجه واللوم يتناول الذين يستأذنوك وهم أغنياء قادرون على الخروج ل عذر‬
‫خوَاِلفِ ْ} كالنساء والطفال‬
‫لهم‪ ،‬فهؤلء { َرضُوا ْ} لنفسهم ومن دينهم { بِأَنْ َيكُونُوا مَعَ ا ْل َ‬
‫ونحوهم‪.‬‬

‫{ و ْ} إنما رضوا بهذه الحال لن اللّه طبع على قلوبهم أي‪ :‬ختم عليها‪ ،‬فل يدخلها خير‪ ،‬ول‬
‫يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية‪َ { ،‬فهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ} عقوبة لهم‪ ،‬على ما اقترفوا‪.‬‬

‫جعْتُمْ ِإلَ ْيهِمْ ُقلْ لَا َتعْتَذِرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكُمْ قَدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ‬
‫{ ‪َ { }ْ 96 - 94‬يعْتَذِرُونَ إِلَ ْي ُكمْ إِذَا َر َ‬
‫شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ‬
‫عمََل ُك ْم وَرَسُولُهُ ثُمّ تُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫أَخْبَا ِر ُك ْم وَسَيَرَى اللّهُ َ‬
‫جهَنّمُ‬
‫س َومَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫* سَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ ِإذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْي ِهمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ إِ ّنهُمْ ِرجْ ٌ‬
‫ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَ ْرضَى عَنِ‬
‫ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنْ تَ ْر َ‬
‫جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * يَحِْلفُونَ َلكُمْ لِتَ ْر َ‬
‫سقِينَ ْ}‬
‫ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬

‫جعْتُمْ‬
‫لما ذكر تخلف المنافقين الغنياء‪ ،‬وأنهم ل عذر لهم‪ ،‬أخبر أنهم سب { َيعْ َتذِرُونَ ِإلَ ْيكُمْ إِذَا رَ َ‬
‫إِلَ ْيهِمْ ْ} من غزاتكم‪.‬‬

‫{ ُقلْ ْ} لهم { لَا َتعْتَذِرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكُمْ ْ} أي‪ :‬لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب‪.‬‬

‫{ َقدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَا ِر ُكمْ ْ} وهو الصادق في قيله‪ ،‬فلم يبق للعتذار فائدة‪ ،‬لنهم يعتذرون بخلف‬
‫ما أخبر اللّه عنهم‪ ،‬ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب‬
‫الصدق‪.‬‬

‫عمََلكُ ْم وَرَسُولُهُ ْ} في الدنيا‪ ،‬لن العمل هو ميزان الصدق من الكذب‪ ،‬وأما مجرد‬
‫{ وَسَيَرَى اللّهُ َ‬
‫القوال‪ ،‬فل دللة فيها على شيء من ذلك‪.‬‬

‫شهَا َدةِ ْ} الذي ل تخفى عليه خافية‪ { ،‬فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ} من‬
‫{ ُثمّ تُرَدّونَ إِلَى عَاِلمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫خير وشر‪ ،‬ويجازيكم بعدله أو بفضله‪ ،‬من غير أن يظلمكم مثقال ذرة‪.‬‬
‫وأعلم أن المسيء المذنب له ثلث حالت‪ :‬إما [أن] يقبل قوله وعذره‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬ويعفى عنه‬
‫بحيث يبقى كأنه لم يذنب‪ .‬فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين‪ ،‬أن عذرهم غير مقبول‪،‬‬
‫وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة‪ ،‬وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على‬
‫ذنبهم‪ ،‬وإما أن يعرض عنهم‪ ،‬ول يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية‪ ،‬وهذه الحال الثالثة هي التي‬
‫أمر اللّه بها في حق المنافقين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬سَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ َل ُكمْ إِذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْيهِمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْنهُمْ‬
‫فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ ْ} أي‪ :‬ل توبخوهم‪ ،‬ول تجلدوهم أو تقتلوهم‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُهمْ رِجْسٌ ْ} أي‪ :‬إنهم قذر خبثاء‪ ،‬ليسوا بأهل لن يبالى بهم‪ ،‬وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم‪،‬‬
‫{ و ْ} تكفيهم عقوبة جهنم جزاء بما كانوا يكسبون‪.‬‬

‫ضوْا عَ ْنهُمْ ْ} أي‪ :‬ولهم أيضا هذا المقصد الخر منكم‪ ،‬غير مجرد‬
‫وقوله‪ { :‬يَحِْلفُونَ َلكُمْ لِتَ ْر َ‬
‫العراض‪ ،‬بل يحبون أن ترضوا عنهم‪ ،‬كأنهم ما فعلوا شيئا‪.‬‬

‫سقِينَ ْ} أي‪ :‬فل ينبغي لكم ‪-‬أيها المؤمنون‪-‬‬


‫ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَ ْرضَى عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫{ فَإِنْ تَ ْر َ‬
‫أن ترضوا عن من لم يرض اللّه عنه‪ ،‬بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه‪.‬‬

‫وتأمل كيف قال‪ { :‬فَإِنّ اللّهَ لَا يَ ْرضَى عَنِ ا ْلقَوْمِ ا ْلفَاسِقِينَ ْ} ولم يقل‪" :‬فإن اللّه ل يرضى عنهم"‬
‫ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح‪ ،‬وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم‪ ،‬فإن اللّه‬

‫يتوب عليهم‪ ،‬ويرضى عنهم‪.‬‬

‫وأما ما داموا فاسقين‪ ،‬فإن اللّه ل يرضى عليهم‪ ،‬لوجود المانع من رضاه‪ ،‬وهو خروجهم عن ما‬
‫رضيه اللّه لهم من اليمان والطاعة‪ ،‬إلى ما يغضبه من الشرك‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والمعاصي‪.‬‬

‫وحاصل ما ذكره اللّه أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد من غير عذر‪ ،‬إذا اعتذروا للمؤمنين‪،‬‬
‫وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم‪ ،‬فإن المنافقين يريدون بذلك أن تعرضوا عنهم‪ ،‬وترضوا‬
‫وتقبلوا عذرهم‪ ،‬فأما قبول العذر منهم والرضا عنهم‪ ،‬فل حبا ول كرامة لهم‪.‬‬

‫وأما العراض عنهم‪ ،‬فيعرض المؤمنون عنهم‪ ،‬إعراضهم عن المور الردية والرجس‪ ،‬وفي هذه‬
‫اليات‪ ،‬إثبات الكلم للّه تعالى في قوله‪َ { :‬قدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَا ِر ُكمْ } وإثبات الفعال الختيارية‬
‫عمََلكُ ْم وَرَسُولُهُ } أخبر أنه‬
‫للّه‪ ،‬الواقعة بمشيئته [تعالى] وقدرته في هذا‪ ،‬وفي قوله‪ { :‬وَسَيَرَى اللّهُ َ‬
‫سيراه بعد وقوعه‪ ،‬وفيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين‪ ،‬والغضب والسخط على الفاسقين‪.‬‬
‫حدُودَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ عَلَى َرسُولِ ِه وَاللّهُ‬
‫جدَرُ أَلّا َيعَْلمُوا ُ‬
‫{ ‪ { }ْ 99 - 97‬الْأَعْرَابُ َأشَدّ ُكفْرًا وَنِفَاقًا وَأَ ْ‬
‫سوْءِ‬
‫حكِيمٌ * َومِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُ ْنفِقُ َمغْ َرمًا وَيَتَرَ ّبصُ ِبكُمُ ال ّدوَائِرَ عَلَ ْيهِمْ دَائِ َرةُ ال ّ‬
‫عَلِيمٌ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ * َومِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُ ْنفِقُ قُرُبَاتٍ عِ ْندَ اللّهِ‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ ْ}‬
‫حمَتِهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫َوصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلَا إِ ّنهَا قُرْبَةٌ َلهُمْ سَ ُيدْخُِل ُهمُ اللّهُ فِي َر ْ‬

‫شدّ ُكفْرًا وَ ِنفَاقًا ْ} من الحاضرة الذين‬


‫يقول تعالى‪ { :‬الْأَعْرَابِ ْ} وهم سكان البادية والبراري { أَ َ‬
‫فيهم كفر ونفاق‪ ،‬وذلك لسباب كثيرة‪ :‬منها‪ :‬أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والعمال‬
‫والحكام‪ ،‬فهم أحرى { وََأجْدَرُ أَلّا َيعَْلمُوا حُدُودَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ } من أصول اليمان‬
‫وأحكام الوامر والنواهي‪ ،‬بخلف الحاضرة‪ ،‬فإنهم أقرب لن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على‬
‫رسوله‪ ،‬فيحدث لهم ‪-‬بسبب هذا العلم‪ -‬تصورات حسنة‪ ،‬وإرادات للخير‪ ،‬الذي يعلمون‪ ،‬ما ل‬
‫يكون في البادية‪.‬‬

‫وفيهم من لطافة الطبع والنقياد للداعي ما ليس في البادية‪ ،‬ويجالسون أهل اليمان‪ ،‬ويخالطونهم‬
‫أكثر من أهل البادية‪ ،‬فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية‪ ،‬وإن كان في البادية والحاضرة‪،‬‬
‫كفار ومنافقون‪ ،‬ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة‪ .‬ومن ذلك أن العراب أحرص على‬
‫الموال‪ ،‬وأشح فيها‪.‬‬

‫خذُ مَا يُ ْنفِقُ ْ} من الزكاة والنفقة في سبيل اللّه وغير ذلك‪َ { ،‬مغْ َرمًا ْ} أي‪:‬‬
‫{ ‪ }ْ 98‬فمنهم { مَنْ يَتّ ِ‬
‫يراها خسارة ونقصا‪ ،‬ل يحتسب فيها‪ ،‬ول يريد بها وجه اللّه‪ ،‬ول يكاد يؤديها إل كرها‪.‬‬

‫{وَيَتَرَ ّبصُ ِبكُمُ ال ّدوَائِرَ } أي‪ :‬من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم‪ ،‬أنهم يودون وينتظرون فيهم‬
‫دوائر الدهر‪ ،‬وفجائع الزمان‪ ،‬وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء‪.‬‬

‫وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم‪ ،‬ولهم العقبى الحسنة‪ { ،‬وَاللّهُ سميع عليم ْ} يعلم‬
‫نيات العباد‪ ،‬وما صدرت عنه العمال‪ ،‬من إخلص وغيره‪.‬‬

‫وليس العراب كلهم مذمومين‪ ،‬بل منهم { مَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ } فيسلم بذلك من الكفر‬
‫والنفاق ويعمل بمقتضى اليمان‪.‬‬

‫خذُ مَا يُ ْنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ } أي‪ :‬يحتسب نفقته‪ ،‬ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه و‬
‫{ وَيَتّ ِ‬
‫يجعلها وسيلة لب { صََلوَاتِ الرّسُولِ ْ} أي‪ :‬دعائه لهم‪ ،‬وتبريكه عليهم‪ ،‬قال تعالى مبينا لنفع‬
‫صلوات الرسول‪ { :‬أَلَا إِ ّنهَا قُرْبَةٌ َلهُمْ } تقربهم إلى اللّه‪ ،‬وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة‪.‬‬
‫حمَتِهِ } في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم‪ ،‬فيغفر السيئات العظيمة‬
‫{ سَيُ ْدخُِلهُمُ اللّهُ فِي َر ْ‬
‫لمن تاب إليه‪ ،‬ويعم عباده برحمته‪ ،‬التي وسعت كل شيء‪ ،‬ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم‬
‫فيها إلى الخيرات‪ ،‬ويحميهم فيها من المخالفات‪ ،‬ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن العراب كأهل الحاضرة‪ ،‬منهم الممدوح ومنهم المذموم‪ ،‬فلم يذمهم‬
‫اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم‪ ،‬إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه‪ ،‬وأنهم في مظنة ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الحوال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬فضيلة العلم‪ ،‬وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه‪ ،‬لن اللّه ذم العراب‪ ،‬وأخبر أنهم أشد‬
‫كفرا ونفاقا‪ ،‬وذكر السبب الموجب لذلك‪ ،‬وأنهم أجدر أن ل يعلموا حدود ما أنزل اللّه على‬
‫رسوله‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم‪ ،‬معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله‪ ،‬من أصول‬
‫الدين وفروعه‪ ،‬كمعرفة حدود اليمان‪ ،‬والسلم‪ ،‬والحسان‪ ،‬والتقوى‪ ،‬والفلح‪ ،‬والطاعة‪ ،‬والبر‪،‬‬
‫والصلة‪ ،‬والحسان‪ ،‬والكفر‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬والزنا‪ ،‬والخمر‪ ،‬والربا‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫فإن في معرفتها يتمكن من فعلها ‪-‬إن كانت مأمور بها‪ ،‬أو تركها إن كانت محظورة‪ -‬ومن المر‬
‫بها أو النهي عنها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق‪ ،‬منشرح الصدر‪ ،‬مطمئن النفس‪ ،‬ويحرص‬
‫أن تكون مغنما‪ ،‬ول تكون مغرما‪.‬‬

‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ‬


‫حسَانٍ َر ِ‬
‫ن وَالْأَ ْنصَا ِر وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُمْ بِإِ ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 100‬وَالسّا ِبقُونَ الَْأوّلُونَ مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِي َ‬
‫وَ َرضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي َتحْ َتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ}‬

‫السابقون هم الذين سبقوا هذة المة وبدروها إلى اليمان والهجرة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬وإقامة دين اللّه‪.‬‬

‫{ مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِينَ } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل من اللّه ورضوانا‪،‬‬
‫وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }‬

‫و من { الْأَ ْنصَارِ } ( الذين تبوأوا الدار واليمان‪[ ،‬من قبلهم] يحبون من هاجر إليهم‪ ،‬ول يجدون‬
‫في صدورهم حاجة مما أوتوا‪ ،‬ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )‬
‫{ وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُمْ بِِإحْسَانٍ } بالعتقادات والقوال والعمال‪ ،‬فهؤلء‪ ،‬هم الذين سلموا من الذم‪،‬‬
‫وحصل لهم نهاية المدح‪ ،‬وأفضل الكرامات من اللّه‪.‬‬

‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ } ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة‪ { ،‬وَ َرضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي‬
‫{ َر ِ‬
‫س ْقيِ الجنان‪ ،‬والحدائق الزاهية الزاهرة‪ ،‬والرياض‬
‫تَحْ َتهَا الْأَ ْنهَارُ } الجارية التي تساق إلى َ‬
‫الناضرة‪.‬‬

‫{ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا } ل يبغون عنها حول‪ ،‬ول يطلبون منها بدل‪ ،‬لنهم مهما تمنوه‪ ،‬أدركوه‪،‬‬
‫ومهما أرادوه‪ ،‬وجدوه‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ } الذي حصل لهم فيه‪ ،‬كل محبوب للنفوس‪ ،‬ولذة للرواح‪ ،‬ونعيم للقلوب‪،‬‬
‫وشهوة للبدان‪ ،‬واندفع عنهم كل محذور‪.‬‬

‫ن َومِنْ أَ ْهلِ ا ْلمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى ال ّنفَاقِ لَا َتعَْل ُمهُمْ‬


‫حوَْلكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَا ِفقُو َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 101‬ومِمّنْ َ‬
‫عذَابٍ عَظِيمٍ ْ}‬
‫نَحْنُ َنعَْل ُمهُمْ سَ ُنعَذّ ُبهُمْ مَرّتَيْنِ ثُمّ يُ َردّونَ ِإلَى َ‬

‫ن َومِنْ أَ ْهلِ ا ْلمَدِي َنةِ } أيضا منافقون { مَرَدُوا عَلَى‬


‫حوَْلكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَا ِفقُو َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬و ِممّنْ َ‬
‫ال ّنفَاقِ } أي‪ :‬تمرنوا عليه‪ ،‬واستمروا وازدادوا فيه طغيانا‪.‬‬

‫{ لَا َتعَْل ُمهُمْ } بأعيانهم فتعاقبهم‪ ،‬أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم‪ ،‬لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة‪.‬‬

‫{ َنحْنُ َنعَْل ُمهُمْ سَ ُن َعذّ ُبهُمْ مَرّتَيْنِ } يحتمل أن التثنية على بابها‪ ،‬وأن عذابهم عذاب في الدنيا‪ ،‬وعذاب‬
‫في الخرة‪.‬‬

‫ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ‪ ،‬والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر‪ ،‬وفي‬
‫الخرة عذاب النار وبئس القرار‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد سنغلظ عليهم العذاب‪ ،‬ونضاعفه عليهم ونكرره‪.‬‬

‫عمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا عَسَى اللّهُ أَنْ‬


‫{ ‪ { }ْ 103 - 102‬وَآخَرُونَ اعْتَ َرفُوا ِبذُنُو ِبهِمْ خََلطُوا َ‬
‫علَ ْيهِمْ إِنّ‬
‫صلّ َ‬
‫طهّرُهُ ْم وَتُ َزكّيهِمْ ِبهَا َو َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ صَ َدقَةً ُت َ‬
‫يَتُوبَ عَلَ ْي ِهمْ إِنّ اللّهَ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ}‬
‫سكَنٌ َلهُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫صَلَا َتكَ َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَآخَرُونَ } ممن بالمدينة ومن حولها‪ ،‬بل ومن سائر البلد السلمية‪ { ،‬اعْتَ َرفُوا‬
‫بِذُنُو ِبهِمْ } أي‪ :‬أقروا بها‪ ،‬وندموا عليها‪ ،‬وسعوا في التوبة منها‪ ،‬والتطهر من أدرانها‪.‬‬

‫عمَلًا صَاِلحًا وَآخَرَ سَيّئًا } ول يكون العمل صالحا إل إذا كان مع العبد أصل التوحيد‬
‫{ خَلَطُوا َ‬
‫واليمان‪ ،‬المخرج عن الكفر والشرك‪ ،‬الذي هو شرط لكل عمل صالح‪ ،‬فهؤلء خلطوا العمال‬
‫الصالحة‪ ،‬بالعمال السيئة‪ ،‬من التجرؤ على بعض المحرمات‪ ،‬والتقصير في بعض الواجبات‪ ،‬مع‬
‫عسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ } وتوبته على‬
‫العتراف بذلك والرجاء‪ ،‬بأن يغفر اللّه لهم‪ ،‬فهؤلء { َ‬
‫عبده نوعان‪:‬‬

‫الول‪ :‬التوفيق للتوبة‪ .‬والثاني‪ :‬قبولها بعد وقوعها منهم‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ } أي‪ :‬وصفه المغفرة والرحمة اللتان ل يخلو مخلوق منهما‪ ،‬بل ل بقاء‬
‫{ إِنّ اللّهَ َ‬
‫للعالم العلوي والسفلي إل بهما‪ ،‬فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة‪.‬‬

‫{ إن اللّه يمسك السماوات والرض أن تزول ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان‬
‫حليما غفورا } ‪.‬‬

‫ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالعمال السيئة‪ ،‬إذا تابوا إليه‬
‫وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل‪ ،‬فإنه يعفو عنهم‪ ،‬ويتجاوز عن سيئاتهم‪ ،‬فهذه الية‪ ،‬دلت على‬
‫أن المخلط المعترف النادم‪ ،‬الذي لم يتب توبة نصوحا‪ ،‬أنه تحت الخوف والرجاء‪ ،‬وهو إلى‬
‫السلمة أقرب‪.‬‬

‫وأما المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه‪ ،‬بل ل يزال مصرا على الذنوب‪ ،‬فإنه‬
‫يخاف عليه أشد الخوف‪.‬‬

‫خذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ‬


‫قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه‪ ،‬آمرا له بما يطهر المؤمنين‪ ،‬ويتمم إيمانهم‪ُ { :‬‬
‫طهّرُهُ ْم وَتُ َزكّيهِمْ ِبهَا } أي‪ :‬تطهرهم من الذنوب والخلق‬
‫صَ َدقَةً } وهي الزكاة المفروضة‪ُ { ،‬ت َ‬
‫الرذيلة‪.‬‬

‫{ وَتُ َزكّيهِمْ } أي‪ :‬تنميهم‪ ،‬وتزيد في أخلقهم الحسنة‪ ،‬وأعمالهم الصالحة‪ ،‬وتزيد في ثوابهم الدنيوي‬
‫والخروي‪ ،‬وتنمي أموالهم‪.‬‬

‫صلّ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬ادع لهم‪ ،‬أي‪ :‬للمؤمنين عموما وخصوصا عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم‪.‬‬
‫{ َو َ‬
‫سمِيعٌ } لدعائك‪ ،‬سمع إجابة‬
‫سكَنٌ َلهُمْ } أي‪ :‬طمأنينة لقلوبهم‪ ،‬واستبشار لهم‪ { ،‬وَاللّهُ َ‬
‫{ إِنّ صَلَا َتكَ َ‬
‫وقبول‪.‬‬

‫{ عَلِيمٌ } بأحوال العباد ونياتهم‪ ،‬فيجازي كل عامل بعمله‪ ،‬وعلى قدر نيته‪ ،‬فكان النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم يمتثل لمر اللّه‪ ،‬ويأمرهم بالصدقة‪ ،‬ويبعث عماله لجبايتها‪ ،‬فإذا أتاه أحد بصدقته دعا‬
‫له وبرّك‪.‬‬

‫ففي هذه الية‪ ،‬دللة على وجوب الزكاة‪ ،‬في جميع الموال‪ ،‬وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة‪ ،‬فإنها‬
‫أموال تنمى ويكتسب بها‪ ،‬فمن العدل أن يواسى منها الفقراء‪ ،‬بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة‪.‬‬

‫وما عدا أموال التجارة‪ ،‬فإن كان المال ينمى‪ ،‬كالحبوب‪ ،‬والثمار‪ ،‬والماشية المتخذة للنماء والدر‬
‫والنسل‪ ،‬فإنها تجب فيها الزكاة‪ ،‬وإل لم تجب فيها‪ ،‬لنها إذا كانت للقنية‪ ،‬لم تكن بمنزلة الموال‬
‫التي يتخذها النسان في العادة‪ ،‬مال يتمول‪ ،‬ويطلب منه المقاصد المالية‪ ،‬وإنما صرف عن المالية‬
‫بالقنية ونحوها‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬أن العبد ل يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله‪ ،‬وأنه ل يكفرها شيء سوى‬
‫أدائها‪ ،‬لن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬استحباب الدعاء من المام أو نائبه لمن أدى زكاته بالبركة‪ ،‬وأن ذلك ينبغي‪ ،‬أن يكون‬
‫جهرا‪ ،‬بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه‪.‬‬

‫ويؤخذ من المعنى‪ ،‬أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلم اللين‪ ،‬والدعاء له‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫مما يكون فيه طمأنينة‪ ،‬وسكون لقلبه‪ .‬وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عمل صالحا بالدعاء‬
‫له والثناء‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ت وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ‬


‫{ ‪ { }ْ 104‬أَلَمْ َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُهوَ َيقْ َبلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِد ِه وَيَ ْأخُذُ الصّ َدقَا ِ‬
‫الرّحِيمُ ْ}‬

‫أي‪ :‬أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه { َيقْبَلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ } التائبين من أي ذنب‬
‫كان‪ ،‬بل يفرح تعالى بتوبة عبده‪ ،‬إذا تاب أعظم فرح يقدر‪.‬‬

‫خذُ الصّ َدقَاتِ } منهم أي‪ :‬يقبلها‪ ،‬ويأخذها بيمينه‪ ،‬فيربيها لحدهم كما يربي الرجل فلوه‪ ،‬حتى‬
‫{ وَيَأْ ُ‬
‫تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم‪ ،‬فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك‪.‬‬
‫{ وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ } أي‪ :‬كثير التوبة على التائبين‪ ،‬فمن تاب إليه تاب عليه‪ ،‬ولو تكررت منه‬
‫[المعصية ] مرارا‪ .‬ول يمل اللّه من التوبة على عباده‪ ،‬حتى يملوا هم‪ ،‬ويأبوا إل النفار والشرود‬
‫عن بابه‪ ،‬وموالتهم عدوهم‪.‬‬

‫{ الرّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬وكتبها للذين يتقون‪ ،‬ويؤتون الزكاة‪ ،‬ويؤمنون بآياته‪،‬‬
‫ويتبعون رسوله‪.‬‬

‫عمََلكُ ْم وَرَسُولُ ُه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَسَتُ َردّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ‬
‫عمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 105‬وقُلِ ا ْ‬
‫شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ}‬
‫وَال ّ‬

‫عمَلُوا } ما ترون من العمال‪ ،‬واستمروا على باطلكم‪،‬‬


‫يقول تعالى‪َ { :‬و ُقلْ } لهؤلء المنافقين‪ { :‬ا ْ‬
‫فل تحسبوا أن ذلك‪ ،‬سيخفى‪.‬‬

‫عمََلكُمْ وَرَسُولُ ُه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬ل بد أن يتبين عملكم ويتضح‪ { ،‬وَسَتُ َردّونَ إِلَى‬
‫{ َفسَيَرَى اللّهُ َ‬
‫شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير وشر‪ ،‬ففي هذا التهديد والوعيد الشديد‬
‫عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه‪.‬‬

‫ويحتمل أن المعنى‪ :‬أنكم مهما عملتم من خير أوشر‪ ،‬فإن اللّه مطلع عليكم‪ ،‬وسيطلع رسوله‬
‫وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة‪.‬‬

‫حكِيمٌ ْ}‬
‫جوْنَ لَِأمْرِ اللّهِ ِإمّا ُيعَذّ ُب ُه ْم وَِإمّا يَتُوبُ عَلَ ْيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 106‬وَآخَرُونَ مُرْ َ‬

‫أي‪ { :‬وَآخَرُونَ } من المخلفين مؤخرون { لَِأمْرِ اللّهِ ِإمّا ُيعَذّ ُبهُ ْم وَِإمّا يَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ } ففي هذا‬
‫التخويف الشديد للمتخلفين‪ ،‬والحث لهم على التوبة والندم‪.‬‬

‫حكِيمٌ } يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وينزلها منازلها‪ ،‬فإن‬


‫{ وَاللّهُ عَلِيمٌ } بأحوال العباد ونياتهم { َ‬
‫اقتضت حكمته أن يغفر لهم ويتوب عليهم غفر لهم وتاب عليهم‪ ،‬وإن اقتضت حكمته أن يخذلهم‬
‫ول يوفقهم للتوبة‪ ،‬فعل ذلك‪.‬‬

‫ن وَإِ ْرصَادًا ِلمَنْ‬


‫{ ‪ { } 110 - 107‬وَالّذِينَ اتّخَذُوا َمسْجِدًا ضِرَارًا َوكُفْرًا وَ َتفْرِيقًا بَيْنَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ * لَا َتقُمْ فِيهِ‬
‫ل وَلَيَحِْلفُنّ إِنْ أَ َردْنَا إِلّا ا ْلحُسْنَى وَاللّهُ َي ْ‬
‫حَا َربَ اللّ َه وَرَسُولَهُ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫طهّرُوا وَاللّهُ‬
‫حقّ أَنْ َتقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَتَ َ‬
‫جدٌ أُسّسَ عَلَى ال ّتقْوَى مِنْ َأ ّولِ َيوْمٍ أَ َ‬
‫أَبَدًا َلمَسْ ِ‬
‫طهّرِينَ * َأ َفمَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ عَلَى َتقْوَى مِنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‬
‫حبّ ا ْل ُم ّ‬
‫يُ ِ‬
‫جهَنّمَ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَا ُن ُهمُ الّذِي بَ َنوْا‬
‫شفَا جُ ُرفٍ هَارٍ فَا ْنهَارَ ِبهِ فِي نَارِ َ‬
‫َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫علِيمٌ َ‬
‫رِيبَةً فِي قُلُو ِبهِمْ إِلّا أَنْ َتقَطّعَ قُلُو ُبهُ ْم وَاللّهُ َ‬

‫كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء‪ ،‬يريدون به المضارة‬
‫والمشاقة بين المؤمنين‪ ،‬ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله‪ ،‬يكون لهم حصنا عند‬
‫جدًا ضِرَارًا ْ} أي‪:‬‬
‫خذُوا مَسْ ِ‬
‫الحتياج إليه‪ ،‬فبين تعالى خزيهم‪ ،‬وأظهر سرهم فقال‪ { :‬وَالّذِينَ اتّ َ‬
‫مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه { َو ُكفْرًا ْ} أي‪ :‬قصدهم فيه الكفر‪ ،‬إذا قصد غيرهم‬
‫اليمان‪.‬‬

‫{ وَ َتفْرِيقًا بَيْنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} أي‪ :‬ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا‪ { ،‬وَإِ ْرصَادًا ْ} أي‪ :‬إعدادا { ِلمَنْ حَا َربَ‬
‫اللّ َه وَرَسُوَلهُ مِنْ قَ ْبلُ ْ} أي‪ :‬إعانة للمحاربين للّه ورسوله‪ ،‬الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم‪،‬‬
‫وذلك كأبي عامر الراهب‪ ،‬الذي كان من أهل المدينة‪ ،‬فلما قدم النبي صلى ال عليه وسلم وهاجر‬
‫إلى المدينة‪ ،‬كفر به‪ ،‬وكان متعبدا في الجاهلية‪ ،‬فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره‪ ،‬فهلك اللعين في الطريق‪ ،‬وكان‬
‫على وعد وممالة‪ ،‬هو والمنافقون‪ .‬فكان مما أعدوا له مسجد الضرار‪ ،‬فنزل الوحي بذلك‪ ،‬فبعث‬
‫إليه النبي صلى ال عليه وسلم من يهدمه ويحرقه‪ ،‬فهدم وحرق‪ ،‬وصار بعد ذلك مزبلة‪.‬‬

‫قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد { وَلَ َيحِْلفُنّ إِنْ أَرَدْنَا ْ} في بنائنا إياه‬
‫حسْنَى ْ} أي‪ :‬الحسان إلى الضعيف‪ ،‬والعاجز والضرير‪.‬‬
‫{ إِلّا الْ ُ‬

‫شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ ْ} فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم‪.‬‬


‫{ وَاللّهُ يَ ْ‬

‫{ لَا َتقُمْ فِيهِ أَ َبدًا ْ} أي‪ :‬ل تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا‪ .‬فاللّه يغنيك عنه‪ ،‬ولست‬
‫بمضطر إليه‪.‬‬

‫{ َل َمسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ال ّت ْقوَى مِنْ َأوّلِ َيوْمٍ ْ} ظهر فيه السلم في "قباء" وهو مسجد "قباء" أسس‬
‫على إخلص الدين للّه‪ ،‬وإقامة ذكره وشعائر دينه‪ ،‬وكان قديما في هذا عريقا فيه‪ ،‬فهذا المسجد‬
‫الفاضل { َأحَقّ أَنْ َتقُومَ فِيهِ ْ} وتتعبد‪ ،‬وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل‪ ،‬وأهله فضلء‪ ،‬ولهذا مدحهم‬
‫طهّرُوا ْ} من الذنوب‪ ،‬ويتطهروا من الوساخ‪ ،‬والنجاسات‬
‫اللّه بقوله‪ { :‬فِيهِ ِرجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَ َت َ‬
‫والحداث‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن من أحب شيئا ل بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب‪ ،‬فل بد أنهم كانوا حريصين‬
‫على التطهر من الذنوب والوساخ والحداث‪ ،‬ولهذا كانوا ممن سبق إسلمه‪ ،‬وكانوا مقيمين‬
‫للصلة‪ ،‬محافظين على الجهاد‪ ،‬مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإقامة شرائع الدين‪ ،‬وممن‬
‫كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله‪.‬‬

‫وسألهم النبي صلى ال عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الية في مدحهم عن طهارتهم‪ ،‬فأخبروه أنهم‬
‫يتبعون الحجارة الماء‪ ،‬فحمدهم على صنيعهم‪.‬‬

‫طهّرِينَ ْ} الطهارة المعنوية‪ ،‬كالتنزه من الشرك والخلق الرذيلة‪ ،‬والطهارة‬


‫حبّ ا ْل ُم ّ‬
‫{ وَاللّهُ يُ ِ‬
‫الحسية كإزالة النجاس ورفع الحداث‪.‬‬

‫ثم فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال‪َ { :‬أ َفمَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َت ْقوَى‬
‫مِنَ اللّهِ ْ} أي‪ :‬على نية صالحة وإخلص { وَ ِرضْوَانٌ ْ} بأن كان موافقا لمره‪ ،‬فجمع في عمله‬
‫شفَا ْ} أي‪ :‬على طرف { جُ ُرفٍ هَارٍ ْ}‬
‫بين الخلص والمتابعة‪ { ،‬خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ عَلَى َ‬
‫جهَنّ َم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ْ} لما فيه‬
‫أي‪ :‬بال‪ ،‬قد تداعى للنهدام‪ { ،‬فَا ْنهَارَ بِهِ فِي نَارِ َ‬
‫مصالح دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫{ لَا يَزَالُ بُنْيَا ُن ُهمُ الّذِي بَ َنوْا رِي َبةً فِي قُلُو ِبهِمْ ْ} أي‪ :‬شكا‪ ،‬وريبا ماكثا في قلوبهم‪ { ،‬إِلّا أَنْ َتقَطّعَ‬
‫قُلُو ُبهُمْ ْ} بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم‪ ،‬ويخافوه غاية الخوف‪ ،‬فبذلك يعفو اللّه عنهم‪،‬‬
‫وإل فبنيانهم ل يزيدهم إل ريبا إلى ريبهم‪ ،‬ونفاقا إلى نفاقهم‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ عَلِيمٌ ْ} بجميع الشياء‪ ،‬ظاهرها‪ ،‬وباطنها‪ ،‬خفيها وجليها‪ ،‬وبما أسره العباد‪ ،‬وأعلنوه‪.‬‬

‫حكِيمٌ ْ} ل يفعل ول يخلق ول يأمر ول ينهى إل ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد ‪.‬‬
‫{ َ‬

‫وفي هذه اليات فوائد عدة‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه‪ ،‬أنه محرم‪ ،‬وأنه يجب هدم‬
‫مسجد الضرار‪ ،‬الذي اطلع على مقصود أصحابه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العمل وإن كان فاضل تغيره النية‪ ،‬فينقلب منهيا عنه‪ ،‬كما قلبت نية أصحاب مسجد‬
‫الضرار عملهم إلى ما ترى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين‪ ،‬فإنها من المعاصي التي يتعين تركها‬
‫وإزالتها‪.‬‬
‫كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلفهم‪ ،‬يتعين اتباعها والمر بها والحث عليها‪ ،‬لن‬
‫اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه‪ ،‬كما يوجب ذلك الكفر‬
‫والمحاربة للّه ورسوله‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬النهي عن الصلة في أماكن المعصية‪ ،‬والبعد عنها‪ ،‬وعن قربها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المعصية تؤثر في البقاع‪ ،‬كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار‪ ،‬ونهي عن‬
‫القيام فيه‪ ،‬وكذلك الطاعة تؤثر في الماكن كما أثرت في مسجد " قباء" حتى قال اللّه فيه‪:‬‬

‫{ َل َمسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ال ّت ْقوَى مِنْ َأوّلِ َيوْمٍ َأحَقّ أَنْ َتقُومَ فِيهِ ْ} ‪.‬‬

‫ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره‪ ،‬حتى كان صلى ال عليه وسلم يزور قباء كل‬
‫سبت يصلي فيه‪ ،‬وحث على الصلة فيه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الية‪ ،‬أربع قواعد مهمة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫كل عمل فيه مضارة لمسلم‪ ،‬أو فيه معصية للّه‪ ،‬فإن المعاصي من فروع الكفر‪ ،‬أو فيه تفريق بين‬
‫المؤمنين‪ ،‬أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله‪ ،‬فإنه محرم ممنوع منه‪ ،‬وعكسه بعكسه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العمال الحسية الناشئة عن معصية ال ل تزال مبعدة لفاعلها عن ال بمنزلة الصرار‬
‫على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى‪ ،‬فمسجد النبي صلى ال عليه وسلم الذي‬
‫أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العمل المبني على الخلص والمتابعة‪ ،‬هو العمل المؤسس على التقوى‪ ،‬الموصل‬
‫لعامله إلى جنات النعيم‪.‬‬

‫والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلل‪ ،‬هو العمل المؤسس على شفا جرف هار‪،‬‬
‫فانهار به في نار جهنم‪ ،‬واللّه ل يهدي القوم الظالمين‪.‬‬

‫سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫{ ‪ { } 111‬إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ‬
‫ن َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَ ْبشِرُوا‬
‫ل وَا ْلقُرْآ ِ‬
‫حقّا فِي ال ّتوْرَا ِة وَالْإِنْجِي ِ‬
‫علَيْهِ َ‬
‫ن وَعْدًا َ‬
‫ن وَ ُيقْتَلُو َ‬
‫فَ َيقْتُلُو َ‬
‫بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َيعْتُمْ بِ ِه َوذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }‬
‫يخبر تعالى خبرا صدقا‪ ،‬ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة‪ ،‬ومعاوضة جسيمة‪ ،‬وهو أنه { اشْتَرَى ْ}‬
‫سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ ْ} فهي المثمن والسلعة المبيعة‪.‬‬
‫بنفسه الكريمة { مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ‬

‫{ بِأَنّ َلهُمُ ا ْلجَنّةَ ْ} التي فيها ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين من أنواع اللذات والفراح‪،‬‬
‫والمسرات‪ ،‬والحور الحسان‪ ،‬والمنازل النيقات‪.‬‬

‫وصفة العقد والمبايعة‪ ،‬بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه‪ ،‬لعلء كلمته وإظهار‬
‫دينه فب { ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ْ} فهذا العقد والمبايعة‪ ،‬قد صدرت من اللّه مؤكدة‬
‫بأنواع التأكيدات‪.‬‬

‫ل وَا ْلقُرْآنِ ْ} التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم‪،‬‬


‫حقّا فِي ال ّتوْرَا ِة وَالْإِنْجِي ِ‬
‫{ وَعْدًا عَلَيْهِ َ‬
‫وأعلها‪ ،‬وأكملها‪ ،‬وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم‪ ،‬وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق‪.‬‬

‫{ َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ْ} أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه‪ { ،‬بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي‬
‫بَا َيعْتُمْ بِهِ ْ} أي‪ :‬لتفرحوا بذلك‪ ،‬وليبشر بعضكم بعضا‪ ،‬ويحث بعضكم بعضا‪.‬‬

‫{ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ ْ} الذي ل فوز أكبر منه‪ ،‬ول أجل‪ ،‬لنه يتضمن السعادة البدية‪ ،‬والنعيم‬
‫المقيم‪ ،‬والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات‪ ،‬وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة‪،‬‬
‫فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلله‪ ،‬وإلى العوض‪ ،‬وهو أكبر العواض وأجلها‪،‬‬
‫جنات النعيم‪ ،‬وإلى الثمن المبذول فيها‪ ،‬وهو النفس‪ ،‬والمال‪ ،‬الذي هو أحب الشياء للنسان‪.‬‬

‫وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع‪ ،‬وهو أشرف الرسل‪ ،‬وبأي كتاب رقم‪ ،‬وهي كتب اللّه‬
‫الكبار المنزلة على أفضل الخلق‪.‬‬

‫جدُونَ الْآمِرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ‬


‫{ ‪ { } 112‬التّائِبُونَ ا ْلعَابِدُونَ الْحَا ِمدُونَ السّا ِئحُونَ الرّا ِكعُونَ السّا ِ‬
‫وَالنّاهُونَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَالْحَا ِفظُونَ ِلحُدُودِ اللّ ِه وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫كأنه قيل‪ :‬من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال‪ :‬هم‬
‫{ التّائِبُونَ ْ} أي‪ :‬الملزمون للتوبة في جميع الوقات عن جميع السيئات‪.‬‬

‫{ ا ْلعَا ِبدُونَ ْ} أي‪ :‬المتصفون بالعبودية للّه‪ ،‬والستمرار على طاعته من أداء الواجبات‬
‫والمستحبات في كل وقت‪ ،‬فبذلك يكون العبد من العابدين‪.‬‬
‫{ ا ْلحَامِدُونَ ْ} للّه في السراء والضراء‪ ،‬واليسر والعسر‪ ،‬المعترفون بما للّه عليهم من النعم‬
‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار‪.‬‬

‫{ السّائِحُونَ ْ} فسرت السياحة بالصيام‪ ،‬أو السياحة في طلب العلم‪ ،‬وفسرت بسياحة القلب في‬
‫معرفة اللّه ومحبته‪ ،‬والنابة إليه على الدوام‪ ،‬والصحيح أن المراد بالسياحة‪ :‬السفر في القربات‪،‬‬
‫كالحج‪ ،‬والعمرة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬وطلب العلم‪ ،‬وصلة القارب‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫{ الرّا ِكعُونَ السّاجِدُونَ ْ} أي‪ :‬المكثرون من الصلة‪ ،‬المشتملة على الركوع والسجود‪.‬‬

‫{ الْآمِرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ ْ} ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات‪.‬‬

‫{ وَالنّاهُونَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ ْ} وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه‪.‬‬

‫حدُودِ اللّهِ ْ} بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله‪ ،‬وما يدخل في الوامر‬
‫{ وَا ْلحَافِظُونَ لِ ُ‬
‫والنواهي والحكام‪ ،‬وما ل يدخل‪ ،‬الملزمون لها فعل وتركا‪.‬‬

‫{ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} لم يذكر ما يبشرهم به‪ ،‬ليعم جميع ما رتب على اليمان من ثواب الدنيا‬
‫والدين والخرة‪ ،‬فالبشارة متناولة لكل مؤمن‪.‬‬

‫وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين‪ ،‬وإيمانهم‪ ،‬قوة‪ ،‬وضعفا‪ ،‬وعمل بمقتضاه‪.‬‬

‫ن وََلوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ‬


‫ي وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْ َت ْغفِرُوا ِل ْلمُشْ ِركِي َ‬
‫{ ‪ { } 114 - 113‬مَا كَانَ لِلنّ ِب ّ‬
‫جحِيمِ * َومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّا عَنْ َموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إِيّاهُ‬
‫صحَابُ الْ َ‬
‫َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َل ُهمْ أَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لََأوّاهٌ حَلِيمٌ }‬

‫يعني‪ :‬ما يليق ول يحسن للنبي وللمؤمنين به { أَنْ يَسْ َت ْغفِرُوا لِ ْلمُشْ ِركِينَ ْ} أي‪ :‬لمن كفر به‪ ،‬وعبد‬
‫جحِيمِ ْ} فإن الستغفار لهم‬
‫معه غيره { وََلوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمْ أَ ّنهُمْ َأصْحَابُ الْ َ‬
‫في هذه الحال غلط غير مفيد‪ ،‬فل يليق بالنبي والمؤمنين‪ ،‬لنهم إذا ماتوا على الشرك‪ ،‬أو علم‬
‫أنهم يموتون عليه‪ ،‬فقد حقت عليهم كلمة العذاب‪ ،‬ووجب عليهم الخلود في النار‪ ،‬ولم تنفع فيهم‬
‫شفاعة الشافعين‪ ،‬ول استغفار المستغفرين‪.‬‬

‫وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه‪ ،‬عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه‪ ،‬ويوالوا من واله‬
‫اللّه‪ ،‬ويعادوا من عاداه اللّه‪ ،‬والستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك‪ ،‬مناقض‬
‫عدَهَا إِيّاهُ‬
‫له‪ ،‬ولئن وجد الستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلم لبيه فإنه { عَنْ َموْعِ َد ٍة وَ َ‬
‫حفِيّا ْ} وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه‪.‬‬
‫ْ} في قوله { سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ‬

‫فلما تبين لبراهيم أن أباه عدو للّه‪ ،‬سيموت على الكفر‪ ،‬ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير { تَبَرّأَ مِنْهُ ْ}‬
‫موافقة لربه وتأدبا معه‪.‬‬

‫{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لََأوّاهٌ ْ} أي‪ :‬رجّاع إلى اللّه في جميع المور‪ ،‬كثير الذكر والدعاء‪ ،‬والستغفار‬
‫والنابة إلى ربه‪.‬‬

‫{ حَلِيمٌ ْ} أي‪ :‬ذو رحمة بالخلق‪ ،‬وصفح عما يصدر منهم إليه‪ ،‬من الزلت‪ ،‬ل يستفزه جهل‬
‫جمَ ّنكَ ْ} وهو يقول له‪ { :‬سَلَامٌ عَلَ ْيكَ‬
‫الجاهلين‪ ،‬ول يقابل الجاني عليه بجرمه‪ ،‬فأبوه قال له‪ { :‬لَأَرْ ُ‬
‫سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي ْ}‬

‫فعليكم أن تقتدوا به‪ ،‬وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء { إِلّا َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لََأسْ َتغْفِرَنّ َلكَ ْ} كما‬
‫نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ ‪َ { } 116 - 115‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِلّ َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ هَدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ َلهُمْ مَا يَ ّتقُونَ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ‬
‫ن وَِليّ وَلَا‬
‫ت َومَا َل ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِي ُ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ * إِنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫َ‬
‫َنصِيرٍ }‬

‫يعني أن اللّه تعالى إذا منّ على قوم بالهداية‪ ،‬وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم‪ ،‬فإنه تعالى يتمم‬
‫عليهم إحسانه‪ ،‬ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه‪ ،‬وتدعو إليه ضرورتهم‪ ،‬فل يتركهم ضالين‪،‬‬
‫جاهلين بأمور دينهم‪ ،‬ففي هذا دليل على كمال رحمته‪ ،‬وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه‬
‫العباد‪ ،‬في أصول الدين وفروعه‪.‬‬

‫ضلّ َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ َهدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ َلهُمْ مَا يَ ّتقُونَ ْ} فإذا‬
‫ويحتمل أن المراد بذلك { َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُي ِ‬
‫بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له‪ ،‬عاقبهم بالضلل جزاء لهم على ردهم الحق المبين‪ ،‬والول‬
‫أولى‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ} فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ ،‬وبين لكم ما به‬
‫{ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫تنتفعون‪.‬‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ ْ} أي‪ :‬هو المالك لذلك‪ ،‬المدبر لعباده بالحياء‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ إِنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫والماتة وأنواع التدابير اللهية‪ ،‬فإذا كان ل يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني‬
‫المتعلق بإلهيته‪ ،‬ويترك عباده سدى مهملين‪ ،‬أو يدعهم ضالين جاهلين‪ ،‬وهو أعظم توليه لعباده؟"‪.‬‬

‫ي وَلَا َنصِيرٍ ْ} أي‪ :‬ولي يتولكم بجلب المنافع لكم‪ ،‬أو‬


‫ن وَِل ّ‬
‫فلهذا قال‪َ { :‬ومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫{ َنصِيرٍ ْ} يدفع عنكم المضار‪.‬‬

‫ن وَالْأَ ْنصَارِ الّذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَاعَةِ‬


‫ي وَا ْل ُمهَاجِرِي َ‬
‫{ ‪َ { } 118 - 117‬لقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّ ِب ّ‬
‫ا ْلعُسْ َرةِ مِنْ َبعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِ ْن ُهمْ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ إِنّهُ ِبهِمْ رَءُوفٌ َرحِيمٌ * وَعَلَى الثّلَا َثةِ‬
‫سهُ ْم وَظَنّوا أَنْ لَا مَ ْلجَأَ مِنَ‬
‫ت َوضَاقَتْ عَلَ ْيهِمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫الّذِينَ خُّلفُوا حَتّى إِذَا ضَا َقتْ عَلَ ْيهِمُ الْأَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َب ْ‬
‫اللّهِ إِلّا إِلَيْهِ ُثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }‬

‫ن وَالْأَ ْنصَارِ }‬
‫يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النّ ِبيّ صلى ال عليه وسلم { وَا ْل ُمهَاجِرِي َ‬
‫فغفر لهم الزلت‪ ،‬ووفر لهم الحسنات‪ ،‬ورقاهم إلى أعلى الدرجات‪ ،‬وذلك بسبب قيامهم بالعمال‬
‫عةِ ا ْلعُسْ َرةِ } أي‪ :‬خرجوا معه لقتال العداء في‬
‫الصعبة الشاقات‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬الّذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَا َ‬
‫وقعة "تبوك" وكانت في حر شديد‪ ،‬وضيق من الزاد والركوب‪ ،‬وكثرة عدو‪ ،‬مما يدعو إلى‬
‫التخلف‪.‬‬

‫فاستعانوا اللّه تعالى‪ ،‬وقاموا بذلك { مِنْ َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬تنقلب قلوبهم‪،‬‬
‫ويميلوا إلى الدعة والسكون‪ ،‬ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم‪ .‬وزَيْ ُغ القلب هو انحرافه عن‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬فإن كان النحراف في أصل الدين‪ ،‬كان كفرا‪ ،‬وإن كان في شرائعه‪ ،‬كان‬
‫بحسب تلك الشريعة‪ ،‬التي زاغ عنها‪ ،‬إما قصر عن فعلها‪ ،‬أو فعلها على غير الوجه الشرعي‪.‬‬

‫وقوله { ُثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬قبل توبتهم { إِنّهُ ِبهِمْ َرءُوفٌ َرحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنّ‬
‫عليهم بالتوبة‪ ،‬وقبلها منهم وثبتهم عليها‪.‬‬

‫{ و } كذلك لقد تاب ال { عَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُّلفُوا } عن الخروج مع المسلمين‪ ،‬في تلك الغزوة‪،‬‬
‫وهم‪" :‬كعب بن مالك" وصاحباه‪ ،‬وقصتهم مشهورة معروفة‪ ،‬في الصحاح والسنن‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما‪ ،‬و { ضَا َقتْ عَلَ ْي ِهمُ الْأَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َبتْ } أي‪ :‬على سعتها ورحبها‬
‫سهُمْ } التي هي أحب إليهم من كل شيء‪ ،‬فضاق عليهم الفضاء الواسع‪،‬‬
‫علَ ْيهِمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫{ َوضَا َقتْ َ‬
‫والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه‪ ،‬وذلك ل يكون إل من أمر مزعج‪ ،‬بلغ من الشدة‬
‫والمشقة ما ل يمكن التعبير عنه‪ ،‬وذلك لنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء‪.‬‬

‫{ وَظَنّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلّا إِلَيْهِ } أي‪ :‬تيقنوا وعرفوا بحالهم‪ ،‬أنه ل ينجي من الشدائد‪ ،‬ويلجأ‬
‫إليه‪ ،‬إل اللّه وحده ل شريك له‪ ،‬فانقطع تعلقهم بالمخلوقين‪ ،‬وتعلقوا باللّه ربهم‪ ،‬وفروا منه إليه‪،‬‬
‫فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة‪.‬‬

‫{ ُثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬أذن في توبتهم ووفقهم لها { لِيَتُوبُوا } أي‪ :‬لتقع منهم‪ ،‬فيتوب اللّه عليهم‪،‬‬
‫{ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ } أي‪ :‬كثير التوبة والعفو‪ ،‬والغفران عن الزلت والعصيان‪ { ،‬الرّحِيمِ }‬
‫وصفه الرحمة العظيمة التي ل تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين‪ ،‬في جميع اللحظات‪ ،‬ما‬
‫تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫وفي هذه اليات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات‪ ،‬وأعلى النهايات‪ ،‬فإن اللّه جعلها‬
‫نهاية خواص عباده‪ ،‬وامتن عليهم بها‪ ،‬حين عملوا العمال التي يحبها ويرضاها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬لطف ال بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العبادة الشاقة على النفس‪ ،‬لها فضل ومزية ليست لغيرها‪ ،‬وكلما عظمت المشقة عظم‬
‫الجر‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد‪ ،‬وأن من ل يبالي بالذنب ول يحرج إذا‬
‫فعله‪ ،‬فإن توبته مدخولة‪ ،‬وإن زعم أنها مقبولة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن علمة الخير وزوال الشدة‪ ،‬إذا تعلق القلب بال تعالى تعلقا تاما‪ ،‬وانقطع عن‬
‫المخلوقين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من لطف اللّه بالثلثة‪ ،‬أن وسمهم بوسم‪ ،‬ليس بعار عليهم فقال‪ { :‬خُّلفُوا } إشارة إلى أن‬
‫المؤمنين خلفوهم‪[ ،‬أو خلفوا عن من ُبتّ في قبول عذرهم‪ ،‬أو في رده] وأنهم لم يكن تخلفهم‬
‫رغبة عن الخير‪ ،‬ولهذا لم يقل‪" :‬تخلفوا"‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق‪ ،‬ولهذا أمر بالقتداء بهم فقال‪:‬‬

‫{ ‪ { } 119‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه َوكُونُوا مَعَ الصّا ِدقِينَ }‬
‫أي‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } باللّه‪ ،‬وبما أمر اللّه باليمان به‪ ،‬قوموا بما يقتضيه اليمان‪ ،‬وهو القيام‬
‫بتقوى اللّه تعالى‪ ،‬باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه‪.‬‬

‫{ َوكُونُوا مَعَ الصّا ِدقِينَ } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم‪ ،‬الذين أقوالهم صدق‪ ،‬وأعمالهم‪ ،‬وأحوالهم‬
‫ل تكون إل صدقا خلية من الكسل والفتور‪ ،‬سالمة من المقاصد السيئة‪ ،‬مشتملة على الخلص‬
‫والنية الصالحة‪ ،‬فإن الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدي إلى الجنة‪.‬‬

‫ن صِ ْد ُق ُهمْ } الية‪.‬‬
‫قال ال تعالى‪ { :‬هَذَا َيوْمُ يَ ْنفَعُ الصّا ِدقِي َ‬

‫حوَْلهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَّلفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ‬


‫{ ‪ { } 121 - 120‬مَا كَانَ لِأَ ْهلِ ا ْل َمدِينَ ِة َومَنْ َ‬
‫خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا‬
‫صبٌ وَلَا مَ ْ‬
‫ظمٌَأ وَلَا َن َ‬
‫سهِمْ عَنْ َنفْسِهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ لَا ُيصِي ُبهُمْ َ‬
‫وَلَا يَرْغَبُوا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫ع َملٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ‬
‫ع ُدوّ نَ ْيلًا إِلّا كُ ِتبَ َلهُمْ ِبهِ َ‬
‫يَطَئُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ َ‬
‫ن وَادِيًا إِلّا كُ ِتبَ َل ُهمْ لِيَجْزِ َي ُهمُ اللّهُ‬
‫طعُو َ‬
‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َر ًة وَلَا َيقْ َ‬
‫أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ * وَلَا يُ ْنفِقُونَ َن َفقَ ًة َ‬
‫حسَنَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫أَ ْ‬

‫يقول تعالى ‪-‬حاثا لهل المدينة المنورة من المهاجرين‪ ،‬والنصار‪ ،‬ومن حولهم من العراب‪،‬‬
‫حوَْلهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَّلفُوا عَنْ‬
‫الذين أسلموا فحسن إسلمهم‪ { :-‬مَا كَانَ لِأَ ْهلِ ا ْلمَدِي َن ِة َومَنْ َ‬
‫رَسُولِ اللّهِ } أي‪ :‬ما ينبغي لهم ذلك‪ ،‬ول يليق بأحوالهم‪.‬‬

‫سهِمْ } في بقائها وراحتها‪ ،‬وسكونه { عَنْ َنفْسِهِ } الكريمة الزكية‪ ،‬بل النبي صلى‬
‫{ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫ال عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم‪ ،‬فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫بنفسه ويقدمه عليها‪ ،‬فعلمة تعظيم الرسول صلى ال عليه وسلم ومحبته واليمان التام به‪ ،‬أن ل‬
‫يتخلفوا عنه‪ ،‬ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ } أي‪ :‬المجاهدين في سبيل‬
‫خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي‪ :‬مجاعة‪.‬‬
‫صبٌ } أي‪ :‬تعب ومشقة { وَلَا مَ ْ‬
‫ظمٌَأ وَلَا َن َ‬
‫اللّه { لَا ُيصِي ُبهُمْ َ‬

‫{ وَلَا َيطَئُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّار } من الخوض لديارهم‪ ،‬والستيلء على أوطانهم‪ { ،‬وَلَا يَنَالُونَ‬
‫ل صَالِحٌ } لن هذه‬
‫ع َم ٌ‬
‫مِنْ عَ ُدوّ نَيْلًا } كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال { إِلّا كُ ِتبَ َل ُهمْ بِهِ َ‬
‫آثار ناشئة عن أعمالهم‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر ال‪ ،‬وقيامهم بما عليهم من‬
‫حقه وحق خلقه‪ ،‬فهذه العمال آثار من آثار عملهم‪.‬‬

‫طعُونَ وَادِيًا } في ذهابهم إلى عدوهم { إِلّا كُ ِتبَ‬


‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َر ًة وَلَا َيقْ َ‬
‫ثم قال‪ { :‬وَلَا يُ ْن ِفقُونَ َن َفقَةً َ‬
‫َلهُمْ لِ َيجْزِ َيهُمُ اللّهُ َأحْسَنَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫ومن ذلك هذه العمال‪ ،‬إذا أخلصوا فيها للّه‪ ،‬ونصحوا فيها‪ ،‬ففي هذه اليات أشد ترغيب وتشويق‬
‫للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه‪ ،‬والحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات‪ ،‬وأن ذلك‬
‫لهم رفعة درجات‪ ،‬وأن الثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 122‬ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً فََلوْلَا َنفَرَ مِنْ ُكلّ فِ ْرقَةٍ مِ ْنهُمْ طَا ِئفَةٌ لِيَ َتفَ ّقهُوا فِي الدّينِ‬
‫حذَرُونَ }‬
‫جعُوا إِلَ ْيهِمْ َلعَّلهُمْ يَ ْ‬
‫وَلِيُنْذِرُوا َق ْو َمهُمْ إِذَا َر َ‬

‫يقول تعالى‪- :‬منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم‪َ { -‬ومَا كَانَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً } أي‪:‬‬
‫جميعا لقتال عدوهم‪ ،‬فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك‪ ،‬وتفوت به كثير من المصالح الخرى‪،‬‬
‫{ فََلوْلَا َنفَرَ مِنْ ُكلّ فِ ْرقَةٍ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من البلدان‪ ،‬والقبائل‪ ،‬والفخاذ { طَا ِئفَةٌ } تحصل بها الكفاية‬
‫والمقصود لكان أولى‪.‬‬

‫ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم‪ ،‬فقال‪ { :‬لِيَ َتفَ ّقهُوا‬
‫جعُوا إِلَ ْي ِهمْ } أي‪ .‬ليتعلموا العلم الشرعي‪،‬‬
‫ن وَلِيُنْذِرُوا َق ْو َمهُمْ ِإذَا رَ َ‬
‫} أي‪ :‬القاعدون { فِي الدّي ِ‬
‫ويعلموا معانيه‪ ،‬ويفقهوا أسراره‪ ،‬وليعلموا غيرهم‪ ،‬ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم‪.‬‬

‫ففي هذا فضيلة العلم‪ ،‬وخصوصا الفقه في الدين‪ ،‬وأنه أهم المور‪ ،‬وأن من تعلم علما‪ ،‬فعليه نشره‬
‫وبثه في العباد‪ ،‬ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم‪ ،‬من بركته وأجره‪ ،‬الذي ينمى له‪.‬‬

‫وأما اقتصار العالم على نفسه‪ ،‬وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وترك‬
‫تعليم الجهال ما ل يعلمون‪ ،‬فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته‬
‫أن يموت‪ ،‬فيموت علمه وثمرته‪ ،‬وهذا غاية الحرمان‪ ،‬لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما‪.‬‬

‫وفي هذه الية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف‪ ،‬لفائدة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن المسلمين ينبغي لهم أن‬
‫يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها‪ ،‬ويوفر وقته عليها‪ ،‬ويجتهد فيها‪ ،‬ول يلتفت‬
‫إلى غيرها‪ ،‬لتقوم مصالحهم‪ ،‬وتتم منافعهم‪ ،‬ولتكون وجهة جميعهم‪ ،‬ونهاية ما يقصدون قصدا‬
‫واحدا‪ ،‬وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم‪ ،‬ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب‪ ،‬فالعمال متباينة‪،‬‬
‫والقصد واحد‪ ،‬وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع المور‪.‬‬

‫جدُوا فِيكُمْ غِ ْلظَ ًة وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬


‫{ ‪ { } 123‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ وَلْيَ ِ‬
‫مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫وهذا أيضا إرشاد آخر‪ ،‬بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال‪ ،‬أرشدهم إلى أنهم يبدأون‬
‫بالقرب فالقرب من الكفار‪ ،‬والغلظة عليهم‪ ،‬والشدة في القتال‪ ،‬والشجاعة والثبات‪.‬‬

‫{ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } أي‪ :‬وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى‪،‬‬
‫فلزموا على تقوى اللّه‪ ،‬يعنكم وينصركم على عدوكم‪.‬‬

‫وهذا العموم في قوله‪ { :‬قَاتِلُوا الّذِينَ َيلُو َنكُمْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ } مخصوص بما إذا كانت المصلحة في‬
‫قتال غير الذين يلوننا‪ ،‬وأنواع المصالح كثيرة جدا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 126 - 124‬وَإِذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ َه ِذهِ إِيمَانًا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا‬
‫س ِه ْم َومَاتُوا‬
‫فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ْتهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْ ِ‬
‫ن وَلَا هُمْ َي ّذكّرُونَ }‬
‫وَهُمْ كَافِرُونَ * َأوَلَا يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ فِي ُكلّ عَامٍ مَ ّرةً َأوْ مَرّتَيْنِ ُثمّ لَا يَتُوبُو َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬مبينا حال المنافقين‪ ،‬وحال المؤمنين عند نزول القرآن‪ ،‬وتفاوت ما بين الفريقين‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬وَإِذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ } فيها المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬والخبر عن نفسه الكريمة‪ ،‬وعن المور‬
‫الغائبة‪ ،‬والحث على الجهاد‪.‬‬

‫{ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَ ْتهُ َه ِذهِ إِيمَانًا } أي‪ :‬حصل الستفهام‪ ،‬لمن حصل له اليمان بها من‬
‫الطائفتين‪.‬‬

‫قال تعالى ‪-‬مبينا الحال الواقعة‪ { :-‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا } بالعلم بها‪ ،‬وفهمها‪،‬‬
‫واعتقادها‪ ،‬والعمل بها‪ ،‬والرغبة في فعل الخير‪ ،‬والنكفاف عن فعل الشر‪.‬‬

‫{ وَ ُهمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي‪ :‬يبشر بعضهم بعضا بما من اللّه عليهم من آياته‪ ،‬والتوفيق لفهمها والعمل‬
‫بها‪ .‬وهذا دال على انشراح صدورهم ليات اللّه‪ ،‬وطمأنينة قلوبهم‪ ،‬وسرعة انقيادهم لما تحثهم‬
‫عليه‪.‬‬

‫س ِهمْ } أي‪ :‬مرضا إلى‬


‫{ وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } أي‪ :‬شك ونفاق { فَزَادَ ْتهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْ ِ‬
‫مرضهم‪ ،‬وشكا إلى شكهم‪ ،‬من حيث إنهم كفروا بها‪ ،‬وعاندوها وأعرضوا عنها‪ ،‬فازداد لذلك‬
‫مرضهم‪ ،‬وترامى بهم إلى الهلك { و } الطبع على قلوبهم‪ ،‬حتى { مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ }‬

‫وهذا عقوبة لهم‪ ،‬لنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله‪ ،‬فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه‪.‬‬
‫قال تعالى ‪-‬موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق‪َ { :-‬أوَلَا يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ‬
‫فِي ُكلّ عَامٍ مَ ّرةً َأوْ مَرّتَيْنِ } بما يصيبهم من البليا والمراض‪ ،‬وبما يبتلون من الوامر اللهية‬
‫التي يراد بها اختبارهم‪.‬‬

‫{ ُثمّ لَا يَتُوبُونَ } عما هم عليه من الشر { وَلَا هُمْ يَ ّذكّرُونَ } ما ينفعهم‪ ،‬فيفعلونه‪ ،‬وما يضرهم‪،‬‬
‫فيتركونه‪.‬‬

‫فال تعالى يبتليهم ‪-‬كما هي سنته في سائر المم‪ -‬بالسراء والضراء وبالوامر والنواهي ليرجعوا‬
‫إليه‪ ،‬ثم ل يتوبون ول هم يذكرون‪.‬‬

‫وفي هذه اليات دليل على أن اليمان يزيد وينقص‪ ،‬وأنه ينبغي للمؤمن‪ ،‬أن يتفقد إيمانه ويتعاهده‪،‬‬
‫فيجدده وينميه‪ ،‬ليكون دائما في صعود‪.‬‬

‫حدٍ ثُمّ ا ْنصَ َرفُوا‬


‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ َهلْ يَرَا ُكمْ مِنْ أَ َ‬
‫{ ‪ } 127‬وقوله ‪ { :‬وَِإذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ نَظَرَ َب ْع ُ‬
‫صَ َرفَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ }‬

‫يعني‪ :‬أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم‪ ،‬إذا نزلت سورة‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ } جازمين على ترك العمل بها‪،‬‬
‫ليؤمنوا بها‪ ،‬ويعملوا بمضمونها { َنظَرَ َب ْع ُ‬
‫ينتظرون الفرصة في الختفاء عن أعين المؤمنين‪ ،‬ويقولون‪َ { :‬هلْ يَرَاكُمْ مِنْ َأحَدٍ ثُمّ ا ْنصَ َرفُوا }‬
‫متسللين‪ ،‬وانقلبوا معرضين‪ ،‬فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم‪ ،‬فكما انصرفوا عن العمل‬
‫{ صَ َرفَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } أي‪ :‬صدها عن الحق وخذلها‪.‬‬

‫{ بِأَ ّن ُهمْ َقوْمٌ لَا َي ْفقَهُونَ } فقها ينفعهم‪ ،‬فإنهم لو فقهوا‪ ،‬لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها‪ ،‬وانقادوا‬
‫لمرها‪.‬‬

‫والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره‪ ،‬من شرائع اليمان‪ ،‬كما قال تعالى عنهم‪:‬‬
‫ح َكمَ ٌة َو ُذكِرَ فِيهَا ا ْلقِتَالُ رَأَ ْيتَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ نَظَرَ‬
‫{ فَِإذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ مُ ْ‬
‫شيّ عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َم ْوتِ }‬
‫ا ْل َمغْ ِ‬

‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْي ُكمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬
‫{ ‪َ { } 129 - 128‬لقَدْ جَا َءكُمْ َرسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫حسْ ِبيَ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ }‬
‫رَءُوفٌ َرحِيمٌ * فَإِنْ َتوَّلوْا َف ُقلْ َ‬
‫يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي المي الذي من أنفسهم‪ ،‬يعرفون حاله‪،‬‬
‫ويتمكنون من الخذ عنه‪ ،‬ول يأنفون عن النقياد له‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم في غاية النصح‬
‫لهم‪ ،‬والسعي في مصالحهم‪.‬‬

‫علَيْهِ مَا عَنِتّمْ } أي‪ :‬يشق عليه المر الذي يشق عليكم ويعنتكم‪.‬‬
‫{ عَزِيزٌ َ‬

‫{ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ } فيحب لكم الخير‪ ،‬ويسعى جهده في إيصاله إليكم‪ ،‬ويحرص على هدايتكم إلى‬
‫اليمان‪ ،‬ويكره لكم الشر‪ ،‬ويسعى جهده في تنفيركم عنه‪ { .‬بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ } أي‪ :‬شديد‬
‫الرأفة والرحمة بهم‪ ،‬أرحم بهم من والديهم‪.‬‬

‫ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق‪ ،‬وواجب على المة اليمان به‪ ،‬وتعظيمه‪ ،‬وتعزيره‪،‬‬
‫وتوقيره { فَإِنْ } آمنوا‪ ،‬فذلك حظهم وتوفيقهم‪ ،‬وإن { َتوَلّوا } عن اليمان والعمل‪ ،‬فامض على‬
‫حسْ ِبيَ اللّهُ } أي‪ :‬ال كافيّ في جميع ما أهمني‪ { ،‬لَا إِلَهَ إِلّا‬
‫سبيلك‪ ،‬ول تزل في دعوتك‪ ،‬وقل { َ‬
‫ُهوَ } أي‪ :‬ل معبود بحق سواه‪.‬‬

‫{ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ } أي‪ :‬اعتمدت ووثقت به‪ ،‬في جلب ما ينفع‪ ،‬ودفع ما يضر‪ { ،‬وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ‬
‫ا ْلعَظِيمِ } الذي هو أعظم المخلوقات‪ .‬وإذا كان رب العرش العظيم‪ ،‬الذي وسع المخلوقات‪ ،‬كان‬
‫ربا لما دونه من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أول وآخرا وظاهرا وباطنا‪.‬‬

‫تفسير سورة يونس‬


‫مكية‬

‫حكِيمِ * َأكَانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أَنْ َأوْحَيْنَا‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْ‬
‫صدْقٍ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ قَالَ ا ْلكَافِرُونَ إِنّ َهذَا‬
‫جلٍ مِ ْنهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أَنّ َلهُمْ َقدَ َم ِ‬
‫إِلَى رَ ُ‬
‫لَسَاحِرٌ مُبِينٌ }‬

‫حكِيمِ } وهو هذا القرآن‪ ،‬المشتمل على الحكمة والحكام‪،‬‬


‫يقول تعالى‪ { :‬الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬
‫الدالة آياته على الحقائق اليمانية والوامر والنواهي الشرعية‪ ،‬الذي على جميع المة تلقيه‬
‫بالرضا والقبول والنقياد‪.‬‬
‫جلٍ مِ ْنهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ }‬
‫ومع هذا فأعرض أكثرهم‪ ،‬فهم ل يعلمون‪ ،‬فتعجبوا { أَنْ َأوْحَيْنَا إِلَى رَ ُ‬
‫عذاب ال‪ ،‬وخوفهم نقم ال‪ ،‬وذكرهم بآيات ال‪.‬‬

‫صدْقٍ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ } أي‪ :‬لهم جزاء موفور وثواب‬


‫{ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا } إيمانا صادقا { أَنّ َلهُمْ قَدَ َم ِ‬
‫مذخور عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من العمال الصالحة الصادقة‪.‬‬

‫فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به‪ ،‬فب { قَالَ ا ْلكَافِرُونَ } عنه‪{ :‬‬
‫إِنّ َهذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬بين السحر‪ ،‬ل يخفى بزعمهم على أحد‪ ،‬وهذا من سفههم وعنادهم‪،‬‬
‫فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب‪ ،‬وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم‬
‫بمصالحهم‪.‬‬

‫كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم‪ ،‬الذي بعثه ال من أنفسهم‪ ،‬يعرفونه حق المعرفة‪ ،‬فردوا‬
‫دعوته‪ ،‬وحرصوا على إبطال دينه‪ ،‬وال متم نوره ولو كره الكافرون‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ‬
‫{ ‪ { } 4 - 3‬إِنّ رَ ّب ُكمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫جمِيعًا‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫شفِيعٍ إِلّا مِنْ َبعْدِ إِذْنِهِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ * إِلَ ْيهِ مَرْ ِ‬
‫يُدَبّرُ الَْأمْرَ مَا مِنْ َ‬
‫ط وَالّذِينَ َكفَرُوا‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫حقّا إِنّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫حمِي ٍم وَعَذَابٌ َألِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ }‬
‫َلهُمْ شَرَابٌ مِنْ َ‬

‫ت وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته‪ { :‬إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫أَيّامٍ } مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة‪ ،‬ولكن لما له في ذلك من الحكمة اللهية‪ ،‬ولنه‬
‫رفيق في أفعاله‪.‬‬

‫ومن جملة حكمته فيها‪ ،‬أنه خلقها بالحق وللحق‪ ،‬ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة‪.‬‬

‫{ ُثمّ } بعد خلق السماوات والرض { اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } استواء يليق بعظمته‪.‬‬

‫{ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الماتة والحياء‪ ،‬وإنزال الرزاق‪ ،‬ومداولة اليام‬
‫بين الناس‪ ،‬وكشف الضر عن المضرورين‪ ،‬وإجابة سؤال السائلين‪.‬‬

‫فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه‪ ،‬وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه‪.‬‬
‫شفِيعٍ إِلّا مِنْ َبعْدِ ِإذْنِهِ } فل يقدم أحد منهم على الشفاعة‪ ،‬ولو كان أفضل الخلق‪ ،‬حتى‬
‫{ مَا مِنْ َ‬
‫يأذن ال ول يأذن‪ ،‬إل لمن ارتضى‪ ،‬ول يرتضي إل أهل الخلص والتوحيد له‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } الذي هذا شأنه { اللّهُ رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬هو ال الذي له وصف اللهية الجامعة لصفات الكمال‪،‬‬
‫ووصف الربوبية الجامع لصفات الفعال‪.‬‬

‫{ فَاعْ ُبدُوهُ } أي‪ :‬أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية‪َ { ،‬أفَلَا تَ َذكّرُونَ } الدلة الدالة‬
‫على أنه وحده المعبود المحمود‪ ،‬ذو الجلل والكرام‪.‬‬

‫فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام‪ ،‬وحكمه الديني وهو شرعه‪ ،‬الذي مضمونه ومقصوده‬
‫عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬ذكر الحكم الجزائي‪ ،‬وهو مجازاته على العمال بعد الموت‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫جمِيعًا } أي‪ :‬سيجمعكم بعد موتكم‪ ،‬لميقات يوم معلوم‪.‬‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫{ إِلَ ْيهِ مَرْ ِ‬

‫{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته‪ ،‬والذي يرى ابتداءه بالخلق‪،‬‬
‫ثم ينكر إعادته للخلق‪ ،‬فهو فاقد العقل منكر لحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه‪ ،‬فهذا دليل‬
‫حقّا } أي‪ :‬وعده صادق ل بد‬
‫عقلي واضح على المعاد‪ .‬وقد ذكر الدليل النقلي فقال‪ { :‬وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫من إتمامه { لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم ال باليمان به‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بجوارحهم‪ ،‬من واجبات‪ ،‬ومستحبات‪ { ،‬بِا ْلقِسْطِ } أي‪ :‬بإيمانهم وأعمالهم‪،‬‬
‫{ وَ َ‬
‫جزاء قد بينه لعباده‪ ،‬وأخبر أنه ل تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين { وَالّذِينَ َكفَرُوا } بآيات‬
‫ال وكذبوا رسل ال‪.‬‬

‫حمِيمٍ } أي‪ :‬ماء حار‪ ،‬يشوي الوجوه‪ ،‬ويقطع المعاء‪ { .‬وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر‬
‫{ َل ُهمْ شَرَابٌ مِنْ َ‬
‫أصناف العذاب { ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ } أي‪ :‬بسبب كفرهم وظلمهم‪ ،‬وما ظلمهم ال ولكن أنفسهم‬
‫يظلمون‪.‬‬

‫شمْسَ ضِيَا ًء وَا ْلقَمَرَ نُورًا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُوا عَدَدَ السّنِينَ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫{ ‪ُ { } 6 - 5‬هوَ الّذِي َ‬
‫صلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ * إِنّ فِي اخْ ِتلَافِ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ‬
‫وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَِلكَ إِلّا بِا ْلحَقّ ُي َف ّ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ ّتقُونَ }‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َومَا خَلَقَ اللّهُ فِي ال ّ‬

‫لما قرر ربوبيته وإلهيته‪ ،‬ذكر الدلة العقلية الفقية الدالة على ذلك وعلى كماله‪ ،‬في أسمائه‬
‫وصفاته‪ ،‬من الشمس والقمر‪ ،‬والسماوات والرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف‬
‫المخلوقات‪ ،‬وأخبر أنها آيات { ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } و { ِل َقوْمٍ يَ ّتقُونَ }‬
‫فإن العلم يهدي إلى معرفة الدللة فيها‪ ،‬وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه‪ ،‬والتقوى تحدث‬
‫في القلب الرغبة في الخير‪ ،‬والرهبة من الشر‪ ،‬الناشئين عن الدلة والبراهين‪ ،‬وعن العلم واليقين‪.‬‬

‫وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة‪ ،‬دال على كمال قدرة ال تعالى‪ ،‬وعلمه‪،‬‬
‫وحياته‪ ،‬وقيوميته‪ ،‬وما فيها من الحكام والتقان والبداع والحسن‪ ،‬دال على كمال حكمة ال‪،‬‬
‫وحسن خلقه وسعة علمه‪ .‬وما فيها من أنواع المنافع والمصالح ‪-‬كجعل الشمس ضياء‪ ،‬والقمر‬
‫نورا‪ ،‬يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل‪ -‬يدل ذلك على رحمة ال تعالى‬
‫واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه‪ ،‬وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة ال وإرادته‬
‫النافذة‪.‬‬

‫وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود‪ ،‬ذو الجلل والكرام والوصاف العظام‪،‬‬
‫الذي ل تنبغي الرغبة والرهبة إل إليه‪ ،‬ول يصرف خالص الدعاء إل له‪ ،‬ل لغيره من المخلوقات‬
‫المربوبات‪ ،‬المفتقرات إلى ال في جميع شئونها‪.‬‬

‫وفي هذه اليات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات ال‪ ،‬والنظر فيها بعين العتبار‪ ،‬فإن‬
‫بذلك تنفتح البصيرة‪ ،‬ويزداد اليمان والعقل‪ ،‬وتقوى القريحة‪ ،‬وفي إهمال ذلك‪ ،‬تهاون بما أمر ال‬
‫به‪ ،‬وإغلق لزيادة اليمان‪ ،‬وجمود للذهن والقريحة‪.‬‬

‫طمَأَنّوا ِبهَا وَالّذِينَ ُهمْ عَنْ آيَاتِنَا‬


‫{ ‪ { } 8 - 7‬إِنّ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا وَ َرضُوا بِا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَا ْ‬
‫غَافِلُونَ * أُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمُ النّارُ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ }‬

‫يقول تعالى { إِنّ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا } أي‪ :‬ل يطمعون بلقاء ال‪ ،‬الذي هو أكبر ما طمع فيه‬
‫الطامعون‪ ،‬وأعلى ما أمله المؤملون‪ ،‬بل أعرضوا عن ذلك‪ ،‬وربما كذبوا به { وَ َرضُوا بِالْحَيَاةِ‬
‫الدّنْيَا } بدل عن الخرة‪.‬‬

‫طمَأَنّوا ِبهَا } أي‪ :‬ركنوا إليها‪ ،‬وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم‪ ،‬فسعوا لها وأكبوا على‬
‫{ وَا ْ‬
‫لذاتها وشهواتها‪ ،‬بأي طريق حصلت حصلوها‪ ،‬ومن أي وجه لحت ابتدروها‪ ،‬قد صرفوا إرادتهم‬
‫ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها‪.‬‬

‫فكأنهم خلقوا للبقاء فيها‪ ،‬وكأنها ليست دار ممر‪ ،‬يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها‬
‫يرحل الولون والخرون‪ ،‬وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } فل ينتفعون باليات القرآنية‪ ،‬ول باليات الفقية والنفسية‪،‬‬
‫والعراض عن الدليل مستلزم للعراض والغفلة‪ ،‬عن المدلول المقصود‪.‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ } الذين هذا وصفهم { مَ ْأوَا ُهمُ النّارُ } أي‪ :‬مقرهم ومسكنهم التي ل يرحلون عنها‪.‬‬

‫{ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } من الكفر والشرك وأنواع المعاصي‪ ،‬فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين‬
‫فقال‪:‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َيهْدِي ِهمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِت ِهمُ الْأَ ْنهَارُ‬
‫{ ‪ { } 10 - 9‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ‬
‫عوَاهُمْ أَنِ الْ َ‬
‫عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّل ُه ّم وَتَحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَلَا ٌم وَآخِرُ دَ ْ‬
‫فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * دَ ْ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬جمعوا بين اليمان‪ ،‬والقيام بموجبه‬


‫يقول تعالى { إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ومقتضاه من العمال الصالحة‪ ،‬المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح‪ ،‬على وجه‬
‫الخلص والمتابعة‪.‬‬

‫{ َي ْهدِيهِمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ } أي‪ :‬بسبب ما معهم من اليمان‪ ،‬يثيبهم ال أعظم الثواب‪ ،‬وهو الهداية‪،‬‬
‫فيعلمهم ما ينفعهم‪ ،‬ويمن عليهم بالعمال الناشئة عن الهداية‪ ،‬ويهديهم للنظر في آياته‪ ،‬ويهديهم في‬
‫هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم‪ ،‬وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل‬
‫إلى جنات النعيم‪ .،‬ولهذا قال‪ { :‬تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ } الجارية على الدوام { فِي جَنّاتِ‬
‫ال ّنعِيمِ } أضافها ال إلى النعيم‪ ،‬لشتمالها على النعيم التام‪ ،‬نعيم القلب بالفرح والسرور‪ ،‬والبهجة‬
‫والحبور‪ ،‬ورؤية الرحمن وسماع كلمه‪ ،‬والغتباط برضاه وقربه‪ ،‬ولقاء الحبة والخوان‪،‬‬
‫والتمتع بالجتماع بهم‪ ،‬وسماع الصوات المطربات‪ ،‬والنغمات المشجيات‪ ،‬والمناظر المفرحات‪.‬‬
‫ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب‪ ،‬والمناكح ونحو ذلك‪ ،‬مما ل تعلمه النفوس‪ ،‬ول خطر ببال‬
‫أحد‪ ،‬أو قدر أن يصفه الواصفون‪.‬‬

‫عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّل ُهمّ } أي عبادتهم فيها ل‪ ،‬أولها تسبيح ل وتنزيه له عن النقائض‪،‬‬
‫{ دَ ْ‬
‫وآخرها تحميد ل‪ ،‬فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء‪ ،‬وإنما بقي لهم أكمل اللذات‪ ،‬الذي هو‬
‫ألذ عليهم من المآكل اللذيذة‪ ،‬أل وهو ذكر ال الذي تطمئن به القلوب‪ ،‬وتفرح به الرواح‪ ،‬وهو‬
‫لهم بمنزلة ال ّنفَس‪ ،‬من دون كلفة ومشقة‪.‬‬

‫{ و } أما { َتحِيّ ُتهُمْ } فيما بينهم عند التلقي والتزاور‪ ،‬فهو السلم‪ ،‬أي‪ :‬كلم سالم من اللغو‬
‫عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ } إلى آخر الية‪،‬‬
‫والثم‪ ،‬موصوف بأنه { سَلَامٌ } وقد قيل في تفسير قوله { دَ ْ‬
‫أن أهل الجنة ‪-‬إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما‪ -‬قالوا سبحانك اللهم‪ ،‬فأحضر لهم في‬
‫الحال‪.‬‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫فإذا فرغوا قالوا‪ { :‬ا ْل َ‬

‫جُلهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ‬


‫ضيَ إِلَ ْي ِهمْ أَ َ‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِتعْجَاَلهُمْ بِالْخَيْرِ َل ُق ِ‬
‫{ ‪ { } 11‬وَلَوْ ُيعَ ّ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }‬
‫ِلقَاءَنَا فِي ُ‬

‫وهذا من لطفه وإحسانه بعباده‪ ،‬أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه‪ ،‬وبادرهم بالعقوبة على‬
‫ذلك‪ ،‬كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه { َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُلهُمْ } أي‪ :‬لمحقتهم العقوبة‪ ،‬ولكنه‬
‫تعالى يمهلهم ول يهملهم‪ ،‬ويعفو عن كثير من حقوقه‪ ،‬فلو يؤاخذ ال الناس بظلمهم ما ترك على‬
‫ظهرها من دابة‪.‬‬

‫ويدخل في هذا‪ ،‬أن العبد إذا غضب على أولده أو أهله أو ماله‪ ،‬ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت‬
‫منه لهلكوا‪ ،‬ولضره ذلك غاية الضرر‪ ،‬ولكنه تعالى حليم حكيم‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬فَنَذَرُ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا } أي‪ :‬ل يؤمنون بالخرة‪ ،‬فلذلك ل يستعدون لها‪ ،‬ول‬
‫طغْيَا ِن ِهمْ } أي‪ :‬باطلهم‪ ،‬الذي جاوزوا به الحق والحد‪.‬‬
‫يعلمون ما ينجيهم من عذاب ال‪ { ،‬فِي ُ‬

‫{ َي ْع َمهُونَ } يترددون حائرين‪ ،‬ل يهتدون السبيل‪ ،‬ول يوفقون لقوم دليل‪ ،‬وذلك عقوبة لهم على‬
‫ظلمهم‪ ،‬وكفرهم بآيات ال‪.‬‬

‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَنْ َلمْ‬


‫عدًا َأوْ قَا ِئمًا فََلمّا كَ َ‬
‫{ ‪ { } 12‬وَإِذَا مَسّ الْإِ ْنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ َأوْ قَا ِ‬
‫يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَسّهُ كَذَِلكَ زُيّنَ لِ ْل ُمسْ ِرفِينَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬

‫وهذا إخبار عن طبيعة النسان من حيث هو‪ ،‬وأنه إذا مسه ضر‪ ،‬من مرض أو مصيبة اجتهد في‬
‫الدعاء‪ ،‬وسأل ال في جميع أحواله‪ ،‬قائما وقاعدا ومضطجعا‪ ،‬وألح في الدعاء ليكشف ال عنه‬
‫ضره‪.‬‬

‫شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَنْ لَمْ َيدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَسّهُ } أي‪ :‬استمر في غفلته معرضا عن ربه‪،‬‬
‫{ فََلمّا كَ َ‬
‫كأنه ما جاءه ضره‪ ،‬فكشفه ال عنه‪ ،‬فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟" يطلب من ال قضاء غرضه‪،‬‬
‫فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه‪ ،‬وكأنه ليس عليه ل حق‪ .‬وهذا تزيين من الشيطان‪ ،‬زين له ما‬
‫كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر‪.‬‬

‫{ َكذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ } أي‪ :‬المتجاوزين للحد { مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫ت َومَا كَانُوا‬
‫{ ‪ { } 14 - 13‬وََلقَدْ أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُوا وَجَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَا ِ‬
‫جعَلْنَاكُمْ خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َبعْ ِدهِمْ لِنَ ْنظُرَ كَ ْيفَ‬
‫لِ ُي ْؤمِنُوا كَ َذِلكَ نَجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ * ثُمّ َ‬
‫َت ْعمَلُونَ }‬

‫يخبر تعالى أنه أهلك المم الماضية بظلمهم وكفرهم‪ ،‬بعد ما جاءتهم البينات على أيدي الرسل‬
‫وتبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا‪ .‬فأحل بهم عقابه الذي ل يرد عن كل مجرم متجرئ على‬
‫محارم ال‪ ،‬وهذه سنته في جميع المم‪.‬‬

‫جعَلْنَا ُكمْ } أيها المخاطبون { خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لِنَ ْنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } فإن أنتم‬
‫{ ُثمّ َ‬
‫اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات ال وصدقتم رسله‪ ،‬نجوتم في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم‪ ،‬أحل بكم ما أحل بهم‪ ،‬ومن أنذر فقد أعذر‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 17 - 15‬وَإِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا َأوْ‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي‬
‫بَدّ ْلهُ ُقلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُ َبدّلَهُ مِنْ تِ ْلقَاءِ َنفْسِي إِنْ أَتّ ِبعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫عمُرًا مِنْ قَبِْلهِ َأفَلَا‬
‫عظِيمٍ * ُقلْ َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ ِبهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫َت ْعقِلُونَ * َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ ْ}‬

‫يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنهم إذا تتلى عليهم آيات ال‬
‫القرآنية المبينة للحق‪ ،‬أعرضوا عنها‪ ،‬وطلبوا وجوه التعنت فقالوا‪ ،‬جراءة منهم وظلما‪ { :‬ا ْئتِ‬
‫ِبقُرْآنٍ غَيْرِ َهذَا َأوْ بَدّ ْلهُ ْ} فقبحهم ال‪ ،‬ما أجرأهم على ال‪ ،‬وأشدهم ظلما وردا لياته‪.‬‬

‫فإذا كان الرسول العظيم يأمره ال‪ ،‬أن يقول لهم‪ُ { :‬قلْ مَا َيكُونُ لِي ْ} أي‪ :‬ما ينبغي ول يليق { أَنْ‬
‫أُبَدَّلهُ مِنْ تِ ْلقَاءِ َنفْسِي ْ} فإني رسول محض‪ ،‬ليس لي من المر شيء‪ { ،‬إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ ْ}‬
‫عظِيمٍ ْ} فهذا‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫أي‪ :‬ليس لي غير ذلك‪ ،‬فإني عبد مأمور‪ { ،‬إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫قول خير الخلق وأدبه مع أوامر ربه ووحيه‪ ،‬فكيف بهؤلء السفهاء الضالين‪ ،‬الذين جمعوا بين‬
‫الجهل والضلل‪ ،‬والظلم والعناد‪ ،‬والتعنت والتعجيز لرب العالمين‪ ،‬أفل يخافون عذاب يوم‬
‫عظيم؟"‪.‬‬

‫فإن زعموا أن قصدهم أن يتبين لهم الحق باليات التي طلبوا فهم كذبة في ذلك‪ ،‬فإن ال قد بين‬
‫من اليات ما يؤمن على مثله البشر‪ ،‬وهو الذي يصرفها كيف يشاء‪ ،‬تابعا لحكمته الربانية‪،‬‬
‫ورحمته بعباده‪.‬‬
‫عمُرًا ْ} طويل { مِنْ قَبِْلهِ ْ} أي‪ :‬قبل‬
‫{ ُقلْ َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا َأدْرَاكُمْ ِبهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫تلوته‪ ،‬وقبل درايتكم به‪ ،‬وأنا ما خطر على بالي‪ ،‬ول وقع في ظني‪.‬‬

‫{ َأفَلَا َتعْقِلُونَ ْ} أني حيث لم أتقوله في مدة عمري‪ ،‬ول صدر مني ما يدل على ذلك‪ ،‬فكيف أتقوله‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وقد لبثت فيكم عمرا طويل تعرفون حقيقة حالي‪ ،‬بأني أمي ل أقرأ ول أكتب‪ ،‬ول‬
‫أدرس ول أتعلم من أحد؟"‬

‫فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء‪ ،‬وأعيا العلماء‪ ،‬فهل يمكن ‪-‬مع هذا‪ -‬أن يكون من تلقاء‬
‫نفسي‪ ،‬أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟‬

‫فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم‪ ،‬وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب‪ ،‬لجزمتم جزما ل يقبل الريب‬
‫بصدقه‪ ،‬وأنه الحق الذي ليس بعده إل الضلل‪ ،‬ولكن إذ أبيتم إل التكذيب والعناد‪ ،‬فأنتم ل شك‬
‫أنكم ظالمون‪.‬‬

‫{ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَا ِتهِ ْ} ؟!!‬

‫فلو كنت متقول لكنت أظلم الناس‪ ،‬وفاتني الفلح‪ ،‬ولم تخف عليكم حالي‪ ،‬ولكني جئتكم بآيات ال‪،‬‬
‫فكذبتم بها‪ ،‬فتعين فيكم الظلم‪ ،‬ول بد أن أمركم سيضمحل‪ ،‬ولن تنالوا الفلح‪ ،‬ما دمتم كذلك‪.‬‬

‫ودل قوله‪ { :‬قَالَ الّذِينَ لَا يَ ْرجُونَ ِلقَاءَنَا ْ} الية‪ ،‬أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم‬
‫هو عدم إيمانهم بلقاء ال وعدم رجائه‪ ،‬وأن من آمن بلقاء ال فل بد أن ينقاد لهذا الكتاب ويؤمن‬
‫به‪ ،‬لنه حسن القصد‪.‬‬

‫ش َفعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ ُقلْ‬


‫{ ‪ { }ْ 18‬وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُرّهُ ْم وَلَا يَ ْن َف ُعهُ ْم وَيَقُولُونَ َهؤُلَاءِ ُ‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ ْ}‬
‫ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَا َيعْلَمُ فِي ال ّ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَ َيعْبُدُونَ ْ} أي‪ :‬المشركون المكذبون لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫{ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُرّهُ ْم وَلَا يَ ْن َف ُعهُمْ ْ} أي‪ :‬ل تملك لهم مثقال ذرة من النفع ول تدفع عنهم‬
‫شيئا‪.‬‬
‫ش َفعَاؤُنَا عِ ْندَ اللّهِ ْ} أي‪ :‬يعبدونهم ليقربوهم إلى ال‪،‬‬
‫{ وَ َيقُولُونَ ْ} قول خاليا من البرهان‪َ { :‬هؤُلَاءِ ُ‬
‫ويشفعوا لهم عنده‪ ،‬وهذا قول من تلقاء أنفسهم‪ ،‬وكلم ابتكروه هم‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪-‬مبطل لهذا‬
‫ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬ال تعالى هو العالم‪،‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫القول‪ُ { :-‬قلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَا َيعْلَمُ فِي ال ّ‬
‫الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والرض‪ ،‬وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ول إله معه‪،‬‬
‫أفأنتم‪-‬يا معشر المشركين‪ -‬تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه‪،‬‬
‫وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم ال؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول‪ ،‬المتضمن أن هؤلء الضلل‬
‫الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول‪ ،‬فإنه يجزم بفساده‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ ْ} أي‪ :‬تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير‪ ،‬بل هو‬
‫وبطلنه‪ { :‬سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫ال الحد الفرد الصمد الذي ل إله في السماوات والرض إل هو‪ ،‬وكل معبود في العالم العلوي‬
‫والسفلي سواه‪ ،‬فإنه باطل عقل وشرعا وفطرة‪.‬‬

‫طلُ وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ ْ}‬


‫ق وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ‬
‫حّ‬‫{ ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ‬

‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ‬


‫ح َدةً فَاخْتََلفُوا وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُق ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 20 - 19‬ومَا كَانَ النّاسُ إِلّا ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫فِيمَا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ * وَ َيقُولُونَ َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ َفقُلْ إِ ّنمَا ا ْلغَ ْيبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ‬
‫مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ ْ}‬

‫ح َدةً ْ} متفقين على الدين الصحيح‪ ،‬ولكنهم اختلفوا‪ ،‬فبعث ال‬


‫أي‪َ { :‬ومَا كَانَ النّاسُ إِلّا ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫الرسل مبشرين ومنذرين‪ ،‬وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‪.‬‬

‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ ْ} بأن‬


‫{ وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ ْ} بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم‪َ { ،‬ل ُق ِ‬
‫ننجي المؤمنين‪ ،‬ونهلك الكافرين المكذبين‪ ،‬وصار هذا فارقا بينهم { فِيمَا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ ْ} ولكنه أراد‬
‫امتحانهم وابتلء بعضهم ببعض‪ ،‬ليتبين الصادق من الكاذب‪.‬‬

‫{ وَ َيقُولُونَ ْ} أي‪ :‬المكذبون المتعنتون‪َ { ،‬لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ ْ} يعنون‪ :‬آيات القتراح التي‬
‫يعينونها كقولهم‪َ { :‬لوْلَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ فَ َيكُونَ َمعَهُ نَذِيرًا ْ} اليات‪.‬‬

‫وكقولهم‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا ْ} اليات‪.‬‬

‫{ َف ُقلْ ْ} لهم إذا طلبوا منك آية { إِ ّنمَا ا ْلغَ ْيبُ لِلّهِ ْ} أي‪ :‬هو المحيط علما بأحوال العباد‪ ،‬فيدبرهم بما‬
‫يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة‪ ،‬وليس لحد تدبير في حكم ول دليل‪ ،‬ول غاية ول تعليل‪.‬‬
‫{ فَانْ َتظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ ْ} أي‪ :‬كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له‪ ،‬فانظروا لمن تكون‬
‫العاقبة‪.‬‬

‫حمَةً مِنْ َبعْ ِد ضَرّاءَ مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُمْ َمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرًا‬
‫{ ‪ { }ْ 21‬وَإِذَا أَ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬
‫إِنّ رُسُلَنَا َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ ْ}‬

‫حمَةً مِنْ َبعْدِ ضَرّاءَ مَسّ ْتهُمْ ْ} كالصحة بعد المرض‪ ،‬والغنى بعد‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬
‫الفقر‪ ،‬والمن بعد الخوف‪ ،‬نسوا ما أصابهم من الضراء‪ ،‬ولم يشكروا ال على الرخاء والرحمة‪،‬‬
‫بل استمروا في طغيانهم ومكرهم‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ِ { :‬إذَا َلهُمْ َمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ْ} أي يسعون بالباطل‪ ،‬ليبطلوا به الحق‪.‬‬

‫{ ُقلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرًا ْ} فإن المكر السيئ ل يحيق إل بأهله‪ ،‬فمقصودهم منعكس عليهم‪ ،‬ولم‬
‫يسلموا من التبعة‪ ،‬بل تكتب الملئكة عليهم ما يعملون‪ ،‬ويحصيه ال عليهم‪ ،‬ثم يجازيهم [ال] عليه‬
‫أوفر الجزاء‪.‬‬

‫ك وَجَرَيْنَ ِبهِمْ بِرِيحٍ‬


‫{ ‪ُ { }ْ 23 - 22‬هوَ الّذِي يُسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ حَتّى ِإذَا كُنْتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ‬
‫عوُا‬
‫ن وَظَنّوا أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ‬
‫صفٌ وَجَاءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِنْ ُكلّ َمكَا ٍ‬
‫طَيّ َب ٍة َوفَرِحُوا ِبهَا جَاءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬
‫اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَ ْنجَيْتَنَا مِنْ َه ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ * فََلمّا أَ ْنجَا ُهمْ إِذَا هُمْ يَ ْبغُونَ فِي‬
‫ج ُعكُمْ فَنُنَبّ ُئكُمْ‬
‫سكُمْ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ُثمّ إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬
‫حقّ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ}‬

‫لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء‪ ،‬واليسر بعد‬
‫العسر‪ ،‬ذكر حالة‪ ،‬تؤيد ذلك‪ ،‬وهي حالهم في البحر عند اشتداده‪ ،‬والخوف من عواقبه‪ ،‬فقال‪ُ { :‬هوَ‬
‫الّذِي ُيسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ْ} بما يسر لكم من السباب المسيرة لكم فيها‪ ،‬وهداكم إليها‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا كُنْ ُتمْ فِي ا ْلفُلْكِ ْ} أي‪ :‬السفن البحرية { وَجَرَيْنَ ِبهِمْ بِرِيحٍ طَيّ َبةٍ ْ} موافقة لما يهوونه‪ ،‬من‬
‫غير انزعاج ول مشقة‪.‬‬

‫صفٌ ْ} شديدة الهبوب‬


‫{ َوفَرِحُوا ِبهَا ْ} واطمأنوا إليها‪ ،‬فبينما هم كذلك‪ ،‬إذ { جَاءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬
‫ن وَظَنّوا أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ ْ} أي‪ :‬عرفوا أنه الهلك‪ ،‬فانقطع حينئذ‬
‫{ وَجَاءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِنْ ُكلّ َمكَا ٍ‬
‫عوُه مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ‬
‫تعلقهم بالمخلوقين‪ ،‬وعرفوا أنه ل ينجيهم من هذه الشدة إل ال وحده‪ ،‬فدَ َ‬
‫ووعدوا من أنفسهم على وجه اللزام‪ ،‬فقالوا‪ { :‬لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَ ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ ْ} { فََلمّا‬
‫أَنْجَاهُمْ ِإذَا ُهمْ يَ ْبغُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ْ} أي‪ :‬نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء‪ ،‬وما ألزموه‬
‫أنفسهم‪ ،‬فأشركوا بال‪ ،‬من اعترفوا بأنه ل ينجيهم من الشدائد‪ ،‬ول يدفع عنهم المضايق‪ ،‬فهل‬
‫أخلصوا ل العبادة في الرخاء‪ ،‬كما أخلصوها في الشدة؟!!‬

‫سكُمْ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ‬


‫ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫الدّنْيَا ْ} أي‪ :‬غاية ما تؤملون ببغيكم‪ ،‬وشرودكم عن الخلص ل‪ ،‬أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا‬
‫وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا‪ ،‬ويمضي جميعًا‪ ،‬ثم تنتقلون عنه بالرغم‪.‬‬

‫ج ُعكُمْ ْ} في يوم القيامة { فَنُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ} وفي هذا غاية التحذير لهم عن‬
‫{ ُثمّ إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬
‫الستمرار على عملهم‪.‬‬

‫سمَاءِ فَاخْ َتلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّاسُ‬
‫{ ‪ { }ْ 24‬إِ ّنمَا مَ َثلُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫ت وَظَنّ َأهُْلهَا أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَا أَتَاهَا َأمْرُنَا لَيْلًا َأوْ‬
‫وَالْأَ ْنعَامُ حَتّى ِإذَا َأخَ َذتِ الْأَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َن ْ‬
‫صلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ ْ}‬
‫حصِيدًا كَأَنْ لَمْ َتغْنَ بِالَْأمْسِ َكذَِلكَ ُنفَ ّ‬
‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫َنهَارًا فَ َ‬

‫وهذا المثل من أحسن المثلة‪ ،‬وهو مطابق لحالة الدنيا‪ ،‬فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك‬
‫يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا‪ ،‬فإذا استكمل وتم اضمحل‪ ،‬وزال عن صاحبه‪ ،‬أو زال صاحبه‬
‫عنه‪ ،‬فأصبح صفر اليدين منها‪ ،‬ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها‪.‬‬

‫سمَاءِ فَاخْ َتلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬نبت فيها من كل صنف‪ ،‬وزوج‬
‫فذلك { َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫بهيج { ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّاسُ ْ} كالحبوب والثمار { و ْ} مما تأكل { الْأَ ْنعَامِ ْ} كأنواع العشب‪ ،‬والكل‬
‫المختلف الصناف‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا َأخَ َذتِ الْأَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ ْ} أي‪ :‬تزخرفت في منظرها‪ ،‬واكتست في زينتها‪،‬‬
‫فصارت بهجة للناظرين‪ ،‬ونزهة للمتفرجين‪ ،‬وآية للمتبصرين‪ ،‬فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما‬
‫بين أخضر‪ ،‬وأصفر‪ ،‬وأبيض وغيره‪.‬‬

‫{ وَظَنّ أَهُْلهَا أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَا ْ} أي‪ :‬حصل معهم طمع‪ ،‬بأن ذلك سيستمر ويدوم‪ ،‬لوقوف‬
‫إرادتهم عنده‪ ،‬وانتهاء مطالبهم فيه‪.‬‬

‫حصِيدًا كَأَنْ َلمْ َتغْنَ بِالَْأمْسِ ْ} أي‪:‬‬


‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫فبينما هم في تلك الحالة { أَتَاهَا َأمْرُنَا لَ ْيلًا َأوْ َنهَارًا فَ َ‬
‫كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا‪ ،‬سواء بسواء‪.‬‬
‫صلُ الْآيَاتِ ْ} أي‪ :‬نبينها ونوضحها‪ ،‬بتقريب المعاني إلى الذهان‪ ،‬وضرب المثال‬
‫{ َكذَِلكَ ُنفَ ّ‬
‫{ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ ْ} أي‪ :‬يعملون أفكارهم فيما ينفعهم‪.‬‬

‫وأما الغافل المعرض‪ ،‬فهذا ل تنفعه اليات‪ ،‬ول يزيل عنه الشك البيان‪.‬‬

‫ولما ذكر ال حال الدنيا‪ ،‬وحاصل نعيمها‪ ،‬شوق إلى الدار الباقية فقال‪:‬‬

‫حسَنُوا‬
‫{ ‪ { }ْ 26 - 25‬وَاللّهُ َيدْعُو إِلَى دَارِ السّلَا ِم وَ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * لِلّذِينَ أَ ْ‬
‫ق ُوجُو َههُمْ قَتَ ٌر وَلَا ذِلّةٌ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ}‬
‫حسْنَى وَزِيَا َدةٌ وَلَا يَرْهَ ُ‬
‫الْ ُ‬

‫عم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلم‪ ،‬والحث على ذلك‪ ،‬والترغيب‪ ،‬وخص بالهداية من شاء‬
‫استخلصه واصطفاءه‪ ،‬فهذا فضله وإحسانه‪ ،‬وال يختص برحمته من يشاء‪ ،‬وذلك عدله وحكمته‪،‬‬
‫وليس لحد عليه حجة بعد البيان والرسل‪ ،‬وسمى ال الجنة "دار السلم" لسلمتها من جميع‬
‫الفات والنقائص‪ ،‬وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه‪ ،‬وحسنه من كل وجه‪.‬‬

‫ولما دعا إلى دار السلم‪ ،‬كأن النفوس تشوقت إلى العمال الموجبة لها الموصلة إليها‪ ،‬فأخبر‬
‫عنها بقوله‪ { :‬لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ ْ} أي‪ :‬للذين أحسنوا في عبادة الخالق‪ ،‬بأن عبدوه على‬
‫وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته‪ ،‬وقاموا بما قدروا عليه منها‪ ،‬وأحسنوا إلى عباد ال بما‬
‫يقدرون عليه من الحسان القولي والفعلي‪ ،‬من بذل الحسان المالي‪ ،‬والحسان البدني‪ ،‬والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتعليم الجاهلين‪ ،‬ونصيحة المعرضين‪ ،‬وغير ذلك من وجوه البر‬
‫والحسان‪.‬‬

‫فهؤلء الذين أحسنوا‪ ،‬لهم "الحسنى" وهي الجنة الكاملة في حسنها و "زيادة" وهي النظر إلى وجه‬
‫ال الكريم‪ ،‬وسماع كلمه‪ ،‬والفوز برضاه والبهجة بقربه‪ ،‬فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه‬
‫المتمنون‪ ،‬ويسأله السائلون‪.‬‬

‫ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال‪ { :‬وَلَا يَرْهَقُ وُجُو َههُمْ قَتَ ٌر وَلَا ذِلّةٌ ْ} أي‪ :‬ل ينالهم مكروه‪،‬‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬لن المكروه‪ ،‬إذا وقع بالنسان‪ ،‬تبين ذلك في وجهه‪ ،‬وتغير وتكدر‪.‬‬

‫وأما هؤلء ‪ -‬فهم كما قال ال عنهم ‪َ { -‬تعْ ِرفُ فِي وُجُو ِههِمْ َنضْ َرةَ ال ّنعِيم ْ} { أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ‬
‫الْجَنّةِ ْ} الملزمون لها { هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ} ل يحولون ول يزولون‪ ،‬ول يتغيرون‪.‬‬
‫{ ‪ { }ْ 27‬وَالّذِينَ كَسَبُوا السّيّئَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ ِبمِثِْلهَا وَتَرْ َه ُقهُمْ ِذلّةٌ مَا َلهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَ ّنمَا‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ}‬
‫طعًا مِنَ اللّ ْيلِ مُظِْلمًا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫ت وُجُو ُههُمْ ِق َ‬
‫أُغْشِ َي ْ‬

‫لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار‪ ،‬فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي‬
‫العمال السيئة المسخطة ل‪ ،‬من أنواع الكفر والتكذيب‪ ،‬وأصناف المعاصي‪ ،‬فجزاؤهم سيئة مثلها‬
‫أي‪ :‬جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلف أحوالهم‪.‬‬

‫{ وَتَرْ َه ُقهُمْ ْ} أي‪ :‬تغشاهم { ذِلّةٌ ْ} في قلوبهم وخوف من عذاب ال‪ ،‬ل يدفعه عنهم دافع ول‬
‫يعصمهم منه عاصم‪ ،‬وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم‪ ،‬فتكون سوادًا في الوجوه ‪.‬‬

‫طعًا مِنَ اللّ ْيلِ ُمظِْلمًا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ْ} فكم بين‬
‫غشِ َيتْ ُوجُو ُههُمْ قِ َ‬
‫{ كَأَ ّنمَا أُ ْ‬
‫الفريقين من الفرق‪ ،‬ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!‬

‫{ وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ وَوُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ تَظُنّ أَنْ ُيفْ َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ ْ} { ووُجُوهٌ‬
‫حكَةٌ مُسْتَ ْبشِ َر ٌة َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ ْ}‬
‫سفِ َرةٌ ضَا ِ‬
‫َي ْومَئِذٍ مُ ْ‬

‫جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ َأشْ َركُوا َمكَا َنكُمْ أَنْتُ ْم وَشُ َركَا ُؤكُمْ فَزَيّلْنَا بَيْ َن ُهمْ‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 30 - 28‬وَ َيوْمَ نَ ْ‬
‫شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبَادَ ِت ُكمْ َلغَافِلِينَ *‬
‫َوقَالَ شُ َركَاؤُ ُهمْ مَا كُنْتُمْ إِيّانَا َتعْ ُبدُونَ * َفكَفَى بِاللّهِ َ‬
‫ق َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ ْ}‬
‫حّ‬‫هُنَاِلكَ تَبْلُو ُكلّ َنفْسٍ مَا أَسَْل َفتْ وَرُدّوا إِلَى اللّهِ َموْلَاهُمُ الْ َ‬

‫جمِيعًا ْ} أي‪ :‬نجمع جميع الخلئق‪ ،‬لميعاد يوم معلوم‪ ،‬ونحضر‬


‫حشُرُهُمْ َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ نَ ْ‬
‫المشركين‪ ،‬وما كانوا يعبدون من دون ال‪.‬‬

‫{ ُثمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُوا َمكَا َنكُمْ أَنْتُمْ وَشُ َركَاؤُكُمْ ْ} أي‪ :‬الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم‬
‫وبينهم‪.‬‬

‫{ فَزَيّلْنَا بَيْ َن ُهمْ ْ} أي‪ :‬فرقنا بينهم‪ ،‬بالبعد البدني والقلبي‪ ،‬وحصلت بينهم العداوة الشديدة‪ ،‬بعد أن‬
‫بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد‪ ،‬فانقلبت تلك المحبة والولية بغضًا وعداوة‪.‬‬

‫وتبرأ شُ َركَاؤُهُمْ منهم وقالوا‪ { :‬مَا كُنْتُمْ إِيّانَا َتعْ ُبدُونَ ْ} فإننا ننزه ال أن يكون له شريك‪ ،‬أو نديد‪.‬‬
‫شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبَادَ ِتكُمْ َلغَافِلِينَ ْ} ما أمرناكم بها‪ ،‬ول دعوناكم لذلك‪،‬‬
‫{ َف َكفَى بِاللّهِ َ‬
‫عهَدْ إِلَ ْيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا‬
‫وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك‪ ،‬وهو الشيطان كما قال تعالى‪ { :‬أََلمْ أَ ْ‬
‫ع ُدوّ مُبِينٌ ْ} ‪.‬‬
‫َتعْبُدُوا الشّ ْيطَانَ إِنّهُ َلكُمْ َ‬

‫ت وَلِيّنَا‬
‫جمِيعًا ثُمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَا ِئ َكةِ أَ َهؤُلَاءِ إِيّا ُكمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَا َنكَ أَ ْن َ‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫وقال‪ { :‬وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْبُدُونَ ا ْلجِنّ َأكْثَرُهُمْ ِب ِهمْ ُم ْؤمِنُونَ ْ}‬

‫فالملئكة الكرام والنبياء والولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من‬
‫دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك‪ ،‬فحينئذ يتحسر المشركون حسرة ل‬
‫يمكن وصفها‪ ،‬ويعلمون مقدار ما قدموا من العمال‪ ،‬وما أسلفوا من رديء الخصال‪ ،‬ويتبين لهم‬
‫يومئذ أنهم كانوا كاذبين‪ ،‬وأنهم مفترون على ال‪ ،‬قد ضلت عبادتهم‪ ،‬واضمحلت معبوداتهم‪،‬‬
‫وتقطعت بهم السباب والوسائل‪.‬‬

‫ولهذا قال تعالى‪ { :‬هُنَاِلكَ ْ} أي‪ :‬في ذلك اليوم { تَبْلُو ُكلّ َنفْسٍ مَا َأسَْلفَتْ ْ} أي‪ :‬تتفقد أعمالها‬
‫وكسبها‪ ،‬وتتبعه بالجزاء‪ ،‬وتجازي بحسبه‪ ،‬إن خيرًا فخير‪ ،‬وإن شرًا فشر‪ ،‬وضل عنهم ما كانوا‬
‫يفترون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك وأن ما يعبدون من دون ال تنفعهم وتدفع عنهم‬
‫العذاب‪.‬‬

‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر َومَنْ ُيخْرِجُ‬


‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ أَمْ مَنْ َيمِْلكُ ال ّ‬
‫{ ‪ُ { }ْ 33 - 31‬قلْ مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫ي َومَنْ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ فَسَ َيقُولُونَ اللّهُ َف ُقلْ َأفَلَا * فَذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمُ‬
‫حّ‬‫ت وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ‬
‫الْ َ‬
‫سقُوا أَ ّن ُهمْ لَا‬
‫حقّتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ فَ َ‬
‫حقّ َفمَاذَا َب ْعدَ ا ْلحَقّ إِلّا الضّلَالُ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ * كَذَِلكَ َ‬
‫الْ َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ ْ}‬

‫أي‪ { :‬قل ْ} لهؤلء الذين أشركوا بال‪ ،‬ما لم ينزل به سلطانًا ‪ -‬محتجًا عليهم بما أقروا به من‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ ْ} بإنزال‬
‫توحيد الربوبية‪ ،‬على ما أنكروه من توحيد اللوهية‪ { -‬مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫الرزاق من السماء‪ ،‬وإخراج أنواعها من الرض‪ ،‬وتيسير أسبابها فيها؟‬

‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَارَ ْ} أي‪ :‬من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟‪ ،‬وخصهما بالذكر من باب‬
‫{ َأمّنْ َيمِْلكُ ال ّ‬
‫التنبيه على المفضول بالفاضل‪ ،‬ولكمال شرفهما ونفعهما‪.‬‬

‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ ْ} كإخراج أنواع الشجار والنبات من الحبوب والنوى‪ ،‬وإخراج‬
‫{ َومَنْ يُخْرِجُ الْ َ‬
‫حيّ ْ} عكس هذه‬
‫المؤمن من الكافر‪ ،‬والطائر من البيضة‪ ،‬ونحو ذلك‪ { ،‬وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ‬
‫المذكورات‪َ { ،‬ومَنْ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ ْ} في العالم العلوي والسفلي‪ ،‬وهذا شامل لجميع أنواع التدابير‬
‫اللهية‪ ،‬فإنك إذا سألتهم عن ذلك { َفسَ َيقُولُونَ اللّهُ ْ} لنهم يعترفون بجميع ذلك‪ ،‬وأن ال ل شريك‬
‫له في شيء من المذكورات‪.‬‬

‫{ َف ُقلْ ْ} لهم إلزامًا بالحجة { َأفَلَا تَ ّتقُونَ ْ} ال فتخلصون له العبادة وحده ل شريك له‪ ،‬وتخلعون ما‬
‫تعبدون من دونه من النداد والوثان‪.‬‬

‫{ َفذَِلكُمُ ْ} الذي وصف نفسه بما وصفها به { اللّهُ رَ ّبكُمْ ْ} أي‪ :‬المألوه المعبود المحمود‪ ،‬المربي‬
‫حقّ َفمَاذَا َبعْدَ ا ْلحَقّ إِلّا الضّلَالُ ْ}‬
‫جميع الخلق بالنعم وهو‪ { :‬الْ َ‬

‫فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الشياء‪ ،‬الذي ما بالعباد من نعمة إل منه‪ ،‬ول يأتي‬
‫بالحسنات إل هو‪ ،‬ول يدفع السيئات إل هو‪ ،‬ذو السماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة‬
‫والجلل والكرام‪.‬‬

‫{ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ ْ} عن عبادة من هذا وصفه‪ ،‬إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إل العدم‪ ،‬ول‬
‫يملك لنفسه نفعًا ول ضرًا‪ ،‬ول موتًا ول حياة ول نشورًا‪.‬‬

‫فليس له من الملك مثقال ذرة‪ ،‬ول شركة له بوجه من الوجوه‪ ،‬ول يشفع عند ال إل بإذنه‪ ،‬فتبا‬
‫لمن أشرك به‪ ،‬وويحًا لمن كفر به‪ ،‬لقد عدموا عقولهم‪ ،‬بعد أن عدموا أديانهم‪ ،‬بل فقدوا دنياهم‬
‫وأخراهم‪.‬‬

‫سقُوا أَ ّنهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ ْ} بعد ما أراهم‬


‫ح ّقتْ كَِل َمةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ َف َ‬
‫ولهذا قال تعالى عنهم‪َ { :‬كذَِلكَ َ‬
‫ال من اليات البينات والبراهين النيرات‪ ،‬ما فيه عبرة لولي اللباب‪ ،‬وموعظة للمتقين وهدى‬
‫للعالمين‪.‬‬

‫{ ‪ُ { }ْ 36 - 34‬قلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّى‬
‫حقّ‬
‫حقّ َأ َفمَنْ َيهْدِي ِإلَى ا ْلحَقّ أَ َ‬
‫حقّ ُقلِ اللّهُ َيهْدِي لِلْ َ‬
‫ُت ْؤ َفكُونَ * ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َيهْدِي إِلَى الْ َ‬
‫أَنْ يُتّبَعَ َأمْ مَنْ لَا َي ِهدّي إِلّا أَنْ ُيهْدَى َفمَا َل ُكمْ كَ ْيفَ * َومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُهُمْ ِإلّا ظَنّا إِنّ الظّنّ لَا ُيغْنِي مِنَ‬
‫حقّ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ ْ}‬
‫الْ َ‬

‫يقول تعالى ‪ -‬مبينًا عجز آلهة المشركين‪ ،‬وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع ال‪ُ { -‬قلْ‬
‫َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ْ} أي‪ :‬يبتديه { ُثمّ ُيعِي ُدهُ ْ} وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير‪،‬‬
‫أي‪ :‬ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده‪ ،‬وهي أضعف من ذلك وأعجز‪ُ { ،‬قلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ‬
‫ْ} من غير مشارك ول معاون له على ذلك‪.‬‬
‫{ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ ْ} أي‪ :‬تصرفون‪ ،‬وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالبتداء‪ ،‬والعادة إلى عبادة من ل‬
‫يخلق شيئًا وهم يخلقون‪.‬‬

‫{ ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئ ُكمْ مَنْ َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ ْ} ببيانه وإرشاده‪ ،‬أو بإلهامه وتوفيقه‪.‬‬

‫{ ُقلِ اللّهُ ْ} وحده { َيهْدِي لِ ْلحَقّ ْ} بالدلة والبراهين‪ ،‬وباللهام والتوفيق‪ ،‬والعانة إلى سلوك أقوم‬
‫طريق‪.‬‬

‫{ َأمّنْ لَا َيهِدّي ْ} أي‪ :‬ل يهتدي { إِلّا أَنْ ُي ْهدَى ْ} لعدم علمه‪ ،‬ولضلله‪ ،‬وهي شركاؤهم‪ ،‬التي ل‬
‫ح ُكمُونَ ْ} أي‪ :‬أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم‬
‫تهدي ول تهتدي إل أن تهدى { َفمَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ‬
‫الباطل‪ ،‬بصحة عبادة أحد مع ال‪ ،‬بعد ظهور الحجة والبرهان‪ ،‬أنه ل يستحق العبادة إل ال وحده‪.‬‬

‫فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع ال أوصافا معنوية‪ ،‬ول أوصافا فعلية‪ ،‬تقتضي أن‬
‫تعبد مع ال‪ ،‬بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلن إلهيتها‪ ،‬فلي شيء جعلت مع ال آلهة؟‬

‫فالجواب‪ :‬أن هذا من تزيين الشيطان للنسان‪ ،‬أقبح البهتان‪ ،‬وأضل الضلل‪ ،‬حتى اعتقد ذلك‬
‫وألفه‪ ،‬وظنه حقًا‪ ،‬وهو ل شيء‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ :‬وما يتبع الذين يدعون من دون ال شركاء أي‪ :‬ما يتبعون في الحقيقة شركاء ل‪ ،‬فإنه‬
‫حقّ شَيْئًا ْ}‬
‫ليس ل شريك أصل عقلًا ول نقلً‪ ،‬وإنما يتبعون الظن و { إِنّ الظّنّ لَا ُيغْنِي مِنَ الْ َ‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْ ُت ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ‬
‫سمَاءٌ َ‬
‫فسموها آلهة‪ ،‬وعبدوها مع ال‪ { ،‬إِنْ ِهيَ إِلّا َأ ْ‬
‫سُ ْلطَانٍ ْ} ‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ ْ} وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة‪.‬‬

‫صدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَ ْيهِ‬


‫{ ‪َ { }ْ 41 - 37‬ومَا كَانَ هَذَا ا ْلقُرْآنُ أَنْ ُيفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّهِ وََلكِنْ َت ْ‬
‫وَتَ ْفصِيلَ ا ْلكِتَابِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِثِْل ِه وَادْعُوا مَنِ‬
‫طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * َبلْ كَذّبُوا ِبمَا َلمْ يُحِيطُوا ِبعِ ْلمِ ِه وََلمّا يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ َكذَِلكَ‬
‫اسْ َت َ‬
‫كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ * َومِ ْنهُمْ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِهِ َومِنْهُمْ مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ ِبهِ‬
‫ل وَأَنَا بَرِيءٌ‬
‫ع َم ُ‬
‫عمَُل ُكمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫علَمُ بِا ْل ُمفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذّبُوكَ َف ُقلْ لِي َ‬
‫وَرَ ّبكَ أَ ْ‬
‫ِممّا َت ْعمَلُونَ ْ}‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ هَذَا ا ْلقُرْآنُ أَنْ ُيفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬غير ممكن ول متصور‪ ،‬أن‬
‫طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَلَا مِنْ‬
‫يفترى هذا القرآن على ال تعالى‪ ،‬لنه الكتاب العظيم الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَا ِ‬
‫حمِيدٍ ْ} وهو الكتاب الذي لو اجتمعت النس والجن على أن يأتوا بمثله ل‬
‫حكِيمٍ َ‬
‫خَ ْلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ َ‬
‫يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا‪ ،‬وهو كتاب ال الذي تكلم به ]رب العالمين[‪ ،‬فكيف‬
‫يقدر أحد من الخلق‪ ،‬أن يتكلم بمثله‪ ،‬أو بما يقاربه‪ ،‬والكلم تابع لعظمة المتكلم ووصفه؟"‪.‬‬

‫فإن كان أحد يماثل ال في عظمته‪ ،‬وأوصاف كماله‪ ،‬أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن‪ ،‬ولو تنزلنا‬
‫على الفرض والتقدير‪ ،‬فتقوله أحد على رب العالمين‪ ،‬لعاجله بالعقوبة‪ ،‬وبادره بالنكال‪.‬‬

‫{ وََلكِنْ ْ} ال أنزل هذا الكتاب‪ ،‬رحمة للعالمين‪ ،‬وحجة على العباد أجمعين‪.‬‬

‫أنزله { َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ َيدَيْهِ ْ} من كتب ال السماوية‪ ،‬بأن وافقها‪ ،‬وصدقها بما شهدت به‪،‬‬
‫وبشرت بنزوله‪ ،‬فوقع كما أخبرت‪.‬‬

‫{ وَ َت ْفصِيلَ ا ْلكِتَابِ ْ} للحلل والحرام‪ ،‬والحكام الدينية والقدرية‪ ،‬والخبارات الصادقة‪.‬‬

‫{ لَا رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ْ} أي‪ :‬ل شك ول مرية فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬بل هو الحق اليقين‪:‬‬
‫تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه‪.‬‬

‫ومن أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬المشتمل‬
‫على مكارم الخلق ومحاسن العمال‪.‬‬

‫{ َأمْ َيقُولُونَ ْ} أي‪ :‬المكذبون به عنادًا وبغيًا‪ { :‬افْتَرَاهُ ْ} محمد على ال‪ ،‬واختلقه‪ُ { ،‬قلْ ْ} لهم‬
‫‪-‬ملزما لهم بشيء‪ -‬إن قدروا عليه‪ ،‬أمكن ما ادعوه‪ ،‬وإل كان قولهم باطلً‪.‬‬

‫طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ْ} يعاونكم على التيان‬
‫{ فَأْتُوا بِسُو َرةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ‬
‫بسورة مثله‪ ،‬وهذا محال‪ ،‬ولو كان ممكنًا لدعوا قدرتهم على ذلك‪ ،‬ولتوا بمثله‪.‬‬

‫ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطل‪ ،‬ل حظ له من الحجة‪ ،‬والذي حملهم على التكذيب‬
‫بالقرآن المشتمل على الحق الذي ل حق فوقه‪ ،‬أنهم لم يحيطوا به علمًا‪.‬‬

‫فلو أحاطوا به علمًا وفهموه حق فهمه‪ ،‬لذعنوا بالتصديق به‪ ،‬وكذلك إلى الن لم يأتهم تأويله الذي‬
‫وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال‪ ،‬وهذا التكذيب الصادر منهم‪ ،‬من جنس تكذيب من‬
‫قبلهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬كذَِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ ْ} وهو الهلك‬
‫الذي لم يبق منهم أحدًا‪.‬‬

‫فليحذر هؤلء‪ ،‬أن يستمروا على تكذيبهم‪ ،‬فيحل بهم ما أحل بالمم المكذبين والقرون المهلكين‪.‬‬

‫وفي هذا دليل على التثبت في المور‪ ،‬وأنه ل ينبغي للنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده‪ ،‬قبل‬
‫أن يحيط به علمًا‪.‬‬

‫سدِينَ ْ}‬
‫{ َومِ ْنهُمْ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِهِ ْ} أي‪ :‬بالقرآن وما جاء به‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ بِ ِه وَرَ ّبكَ أَعْلَمُ بِا ْلمُفْ ِ‬
‫وهم الذين ل يؤمنون به على وجه العناد والظلم والفساد‪ ،‬فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كَذّبُوكَ ْ} فاستمر على دعوتك‪ ،‬وليس عليك من حسابهم من شيء‪ ،‬وما من حسابك عليهم‬
‫ل وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا َت ْعمَلُونَ‬
‫ع َم ُ‬
‫عمَُلكُمْ أَنْ ُتمْ بَرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫من شيء‪ ،‬لكل عمله‪َ { .‬فقُلْ لِي َ‬
‫ْ}‬

‫س ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ْ}‬


‫ل صَالِحًا فَلِ َنفْ ِ‬
‫ع ِم َ‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬مَنْ َ‬

‫سمِعُ الصّ ّم وََلوْ كَانُوا لَا َي ْعقِلُونَ * َومِ ْنهُمْ مَنْ‬


‫{ ‪َ { }ْ 44 - 42‬ومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْيكَ َأفَأَ ْنتَ تُ ْ‬
‫يَنْظُرُ ِإلَ ْيكَ َأفَأَ ْنتَ َت ْهدِي ا ْل ُع ْميَ وََلوْ كَانُوا لَا يُ ْبصِرُونَ * إِنّ اللّهَ لَا يَظِْلمُ النّاسَ شَيْئًا وََلكِنّ النّاسَ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ ْ}‬
‫أَ ْنفُ َ‬

‫يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول‪ ،‬ولما جاء به‪ ،‬و أن { منهم مَنْ يَسْ َت ِمعُونَ ْ} إلى النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقت قراءته للوحي‪ ،‬ل على وجه السترشاد‪ ،‬بل على وجه التفرج‬
‫والتكذيب وتطلب العثرات‪ ،‬وهذا استماع غير نافع‪ ،‬ول مُجدٍ على أهله خيرًا‪ ،‬ل جرم انسد عليهم‬
‫س ِمعُ الصّ ّم وََلوْ كَانُوا لَا َي ْعقِلُونَ ْ}‬
‫باب التوفيق‪ ،‬وحرموا من فائدة الستماع‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أفَأَ ْنتَ تُ ْ‬
‫وهذا الستفهام‪ ،‬بمعنى النفي المتقرر‪ ،‬أي‪ :‬ل تسمع الصم الذين ل يستمعون القول ولو جهرت به‪،‬‬
‫وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا‪.‬‬

‫فإذا كان من المحال إسماع الصم الذي ل يعقل للكلم‪ ،‬فهؤلء المكذبون‪ ،‬كذلك ممتنع إسماعك‬
‫إياهم‪ ،‬إسماعًا ينتفعون به‪.‬‬

‫وأما سماع الحجة‪ ،‬فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة ال البالغة‪ ،‬فهذا طريق عظيم من طرق العلم‬
‫قد انسد عليهم‪ ،‬وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير‪.‬‬
‫ثم ذكر انسداد الطريق الثاني‪ ،‬وهو‪ :‬طريق النظر فقال‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ مَنْ يَنْظُرُ ِإلَ ْيكَ ْ} فل يفيده نظره‬
‫إليك‪ ،‬ول سبر أحوالك شيئًا‪ ،‬فكما أنك ل تهدي العمي ولو كانوا ل يبصرون‪ ،‬فكذلك ل تهدي‬
‫هؤلء‪.‬‬

‫فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق‪،‬‬
‫فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق؟‬

‫ودل قوله‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ مَنْ يَ ْنظُرُ إِلَ ْيكَ ْ} الية‪ ،‬أن النظر إلى حالة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهديه‬
‫وأخلقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الدلة على صدقه وصحة ما جاء به‪ ،‬وأنه يكفي‬
‫البصير عن غيره من الدلة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ لَا َيظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا ْ} فل يزيد في سيئاتهم‪ ،‬ول ينقص من حسناتهم‪.‬‬

‫سهُمْ يَظِْلمُونَ ْ} يجيئهم الحق فل يقبلونه‪ ،‬فيعاقبهم ال بعد ذلك بالطبع على‬
‫{ وََلكِنّ النّاسَ أَ ْنفُ َ‬
‫قلوبهم‪ ،‬والختم على أسماعهم وأبصارهم‪.‬‬

‫عةً مِنَ ال ّنهَارِ يَ َتعَا َرفُونَ بَيْ َنهُمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ َكذّبُوا‬
‫{ ‪ { }ْ 45‬وَيَوْمَ َيحْشُ ُرهُمْ كَأَنْ َلمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَا َ‬
‫بِِلقَاءِ اللّهِ َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ ْ}‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬عن سرعة انقضاء الدنيا‪ ،‬وأن ال تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم ل ريب فيه‪،‬‬
‫كأنهم ما لبثوا إل ساعة من نهار‪ ،‬وكأنه ما مر عليهم نعيم ول بؤس‪ ،‬وهم يتعارفون بينهم‪،‬‬
‫كحالهم في الدنيا‪ ،‬ففي هذا اليوم يربح المتقون‪ ،‬ويخسر الذين كذبوا بلقاء ال وما كانوا مهتدين إلى‬
‫الصراط المستقيم والدين القويم‪ ،‬حيث فاتهم النعيم‪ ،‬واستحقوا دخول النار‪.‬‬

‫شهِيدٌ عَلَى مَا َي ْفعَلُونَ ْ}‬


‫ج ُعهُمْ ثُمّ اللّهُ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 46‬وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا مَ ْر ِ‬

‫أي‪ :‬ل تحزن أيها الرسول على هؤلء المكذبين‪ ،‬ول تستعجل لهم‪ ،‬فإنهم ل بد أن يصيبهم الذي‬
‫نعدهم من العذاب‪.‬‬

‫إما في الدنيا فتراه بعينك‪ ،‬وتقر به نفسك‪.‬‬


‫وإما في الخرة بعد الوفاة‪ ،‬فإن مرجعهم إلى ال‪ ،‬وسينبئهم بما كانوا يعملون‪ ،‬أحصاه ونسوه‪ ،‬وال‬
‫على كل شيء شهيد‪ ،‬ففيه الوعيد الشديد لهم‪ ،‬والتسلية للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه‪.‬‬

‫ظَلمُونَ *‬
‫ط وَ ُهمْ لَا يُ ْ‬
‫ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 49 - 47‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ َرسُوُلهُمْ ُق ِ‬
‫وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ لَا َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا وَلَا َن ْفعًا إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ ِل ُكلّ‬
‫جلٌ إِذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ ْ}‬
‫ُأمّةٍ َأ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ ْ} من المم الماضية { َرسُولٌ ْ} يدعوهم إلى توحيد ال ودينه‪.‬‬

‫{ فَِإذَا جَاءَ ْ} هم { رَسُوُلهُمْ ْ} باليات‪ ،‬صدقه بعضهم‪ ،‬وكذبه آخرون‪ ،‬فيقضي ال بينهم بالقسط‬
‫بنجاة المؤمنين‪ ،‬وإهلك المكذبين { وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ ْ} بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول وبيان‬
‫الحجة‪ ،‬أو يعذبوا بغير جرمهم‪ ،‬فليحذر المكذبون لك من مشابهة المم المهلكين‪ ،‬فيحل بهم ما حل‬
‫بأولئك‪.‬‬

‫عدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ْ} فإن هذا ظلم منهم‪ ،‬حيث‬
‫ول يستبطئوا العقوبة ويقولوا‪ { :‬مَتَى هَذَا ا ْلوَ ْ‬
‫طلبوه من النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه ليس له من المر شيء‪ ،‬وإنما عليه البلغ والبيان‬
‫للناس‪.‬‬

‫وأما حسابهم وإنزال العذاب عليهم‪ ،‬فمن ال تعالى‪ ،‬ينزله عليهم إذا جاء الجل الذي أجله فيه‪،‬‬
‫والوقت الذي قدره فيه‪ ،‬الموافق لحكمته اللهية‪.‬‬

‫فإذا جاء ذلك الوقت ل يستأخرون ساعة ول يستقدمون‪ ،‬فليحذر المكذبون من الستعجال بالعذاب‪،‬‬
‫فإنهم مستعجلون بعذاب ال الذي إذا نزل ل يرد بأسه عن القوم المجرمين‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫جلُ مِ ْنهُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ * أَ ُثمّ إِذَا‬


‫عذَابُهُ بَيَاتًا َأوْ َنهَارًا مَاذَا يَسْ َت ْع ِ‬
‫{ ‪ُ { }ْ 52 - 50‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ َ‬
‫جلُونَ * ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُوا ذُوقُوا عَذَابَ ا ْلخُلْدِ َهلْ تُجْ َزوْنَ‬
‫ن َوقَدْ كُنْتُمْ ِبهِ تَسْ َتعْ ِ‬
‫مَا َوقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآ َ‬
‫إِلّا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْكسِبُونَ ْ}‬

‫يقول تعالى‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ْ} وقت نومكم بالليل { َأوْ َنهَارًا ْ} في وقت غفلتكم‬
‫جلُ مِنْهُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ ْ} أي‪ :‬أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟‪.‬‬
‫{ مَاذَا يَسْ َتعْ ِ‬
‫{ أَ ُثمّ إِذَا مَا َوقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ْ} فإنه ل ينفع اليمان حين حلول عذاب ال‪ ،‬ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في‬
‫تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون‪ { ،‬الْآنَ ْ} تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ { َوقَدْ كُنْ ُتمْ بِهِ‬
‫تَسْ َتعْجِلُونَ ْ} فإن سنة ال في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب‪ ،‬فإذا وقع العذاب ل‬
‫ينفع نفسًا إيمانها‪ ،‬كما قال تعالى عن فرعون‪ ،‬لما أدركه الغرق { قَالَ آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي‬
‫آمَ َنتْ بِهِ بَنُو ِإسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ْ} وأنه يقال له‪ { :‬الن وقد عصيت قبل وكنت من‬
‫المفسدين ْ} ‪.‬‬

‫وقال تعالى‪ { :‬فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ ْ} وقال هنا‪{ :‬‬
‫أَثُمّ ِإذَا مَا َوقَعَ آمَنْ ُتمْ بِهِ‪ ،‬آلْآنَ ْ} تدعون اليمان { َوقَدْ كُنْتُمْ ِبهِ تَسْ َت ْعجِلُونَ ْ} فهذا ما عملت أيديكم‪،‬‬
‫وهذا ما استعجلتم به‪.‬‬

‫{ ُثمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُوا ْ} حين يوفون أعمالهم يوم القيامة‪ { :‬ذُوقُوا عَذَابَ ا ْلخُلْدِ ْ} أي‪ :‬العذاب الذي‬
‫تخلدون فيه‪ ،‬ول يفتر عنكم ساعة‪َ { .‬هلْ تُجْ َزوْنَ إِلّا ِبمَا كُنْتُمْ َتكْسِبُونَ ْ} من الكفر والتكذيب‬
‫والمعاصي‪.‬‬

‫‪ { }ْ 56 - 53‬وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ُقلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ َلحَقّ َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ * وََلوْ أَنّ ِل ُكلّ‬
‫ط وَهُمْ لَا‬
‫سِ‬‫ب َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ‬
‫َنفْسٍ ظََل َمتْ مَا فِي الْأَ ْرضِ لَافْتَ َدتْ بِ ِه وَأَسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫ق وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ * ُهوَ‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَ ّ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ أَلَا إِ ّ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫يُظَْلمُونَ * أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫جعُونَ ْ}‬
‫يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ْ} أي‪ :‬يستخبرك المكذبون على‬
‫وجه التعنت والعناد‪ ،‬ل على وجه التبين والرشاد‬

‫{ َأحَقّ ُهوَ ْ} أى‪ :‬أصحيح حشر العباد‪ ،‬وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد‪ ،‬وجزاء العباد بأعمالهم‪ ،‬إن‬
‫خيرًا فخير‪ ،‬وإن شرًا فشر؟‬

‫حقّ ْ} ل‬
‫{ ُقلْ ْ} لهم مقسمًا على صحته‪ ،‬مستدل عليه بالدليل الواضح والبرهان‪ { :‬إِي وَرَبّي إِنّهُ لَ َ‬
‫مرية فيه ول شبهة تعتريه‪.‬‬

‫{ َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ ْ} ل أن يبعثكم‪ ،‬فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا‪ ،‬كذلك يعيدكم مرة أخرى‬
‫ليجازيكم بأعمالكم‪.‬‬
‫{ و ْ} إذا كانت القيامة فب { َلوْ أَنّ ِل ُكلّ َنفْسٍ ظََل َمتْ ْ} بالكفر والمعاصي جميع { مَا فِي الْأَ ْرضِ ْ}‬
‫من ذهب وفضة وغيرهما‪ ،‬لتفتدي به من عذاب ال { لَافْ َت َدتْ بِهِ ْ} ولما نفعها ذلك‪ ،‬وإنما النفع‬
‫والضر والثواب والعقاب‪ ،‬على العمال الصالحة والسيئة‪.‬‬

‫{ وَأَسَرّوا ْ} [أي] الذين ظلموا { النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ ْ} ندموا على ما قدموا‪ ،‬ولت حين‬
‫سطِ ْ} أي‪ :‬العدل التام الذي ل ظلم ول جور فيه بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫مناص‪َ { ،‬و ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ ْ} يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري‪ ،‬وسيحكم فيهم بحكمه‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ} فلذلك ل يستعدون للقاء ال‪،‬‬
‫الجزائي‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬أَلَا إِ ّ‬
‫بل ربما لم يؤمنوا به‪ ،‬وقد تواترت عليه الدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية‪.‬‬

‫{ ُهوَ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ ْ} أي‪ :‬هو المتصرف بالحياء والماتة‪ ،‬وسائر أنواع التدبير ‪ ،‬ل شريك له‬
‫في ذلك‪.‬‬

‫جعُونَ ْ} يوم القيامة‪ ،‬فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها‪.‬‬


‫{ وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬

‫شفَاءٌ ِلمَا فِي الصّدُورِ وَ ُهدًى‬


‫{ ‪ { }ْ 58 - 57‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَاءَ ْتكُمْ َموْعِظَةٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ ِ‬
‫ج َمعُونَ ْ}‬
‫حمَتِهِ فَبِ َذِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ خَيْرٌ ِممّا َي ْ‬
‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * ُقلْ ِب َفضْلِ اللّهِ وَبِرَ ْ‬
‫وَرَ ْ‬

‫يقول تعالى ‪ -‬مرغبًا للخلق في القبال على هذا الكتاب الكريم‪ ،‬بذكر أوصافه الحسنة الضرورية‬
‫ظةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ ْ} أي‪ :‬تعظكم‪ ،‬وتنذركم عن العمال‬
‫للعباد فقال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَاءَ ْتكُمْ َموْعِ َ‬
‫الموجبة لسخط ال‪ ،‬المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها‪.‬‬

‫شفَاءٌ ِلمَا فِي الصّدُورِ ْ} وهو هذا القرآن‪ ،‬شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة‬
‫{ وَ ِ‬
‫عن النقياد للشرع وأمراض الشبهات‪ ،‬القادحة في العلم اليقيني‪ ،‬فإن ما فيه من المواعظ‬
‫والترغيب والترهيب‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة‪.‬‬

‫وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير‪ ،‬والرهبة من الشر‪ ،‬ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني‬
‫القرآن‪ ،‬أوجب ذلك تقديم مراد ال على مراد النفس‪ ،‬وصار ما يرضي ال أحب إلى العبد من‬
‫شهوة نفسه‪.‬‬

‫وكذلك ما فيه من البراهين والدلة التي صرفها ال غاية التصريف‪ ،‬وبينها أحسن بيان‪ ،‬مما يزيل‬
‫الشبه القادحة في الحق‪ ،‬ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين‪.‬‬
‫وإذا صح القلب من مرضه‪ ،‬ورفل بأثواب العافية‪ ،‬تبعته الجوارح كلها‪ ،‬فإنها تصلح بصلحه‪،‬‬
‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به‪.‬‬
‫وتفسد بفساده‪ { .‬وَهُدًى وَرَ ْ‬

‫والرحمة هي ما يحصل من الخير والحسان‪ ،‬والثواب العاجل والجل‪ ،‬لمن اهتدى به‪ ،‬فالهدى‬
‫أجل الوسائل‪ ،‬والرحمة أكمل المقاصد والرغائب‪ ،‬ولكن ل يهتدي به‪ ،‬ول يكون رحمة إل في حق‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫وإذا حصل الهدى‪ ،‬وحلت الرحمة الناشئة عنه‪ ،‬حصلت السعادة والفلح‪ ،‬والربح والنجاح‪ ،‬والفرح‬
‫والسرور‪.‬‬

‫ضلِ اللّهِ ْ} الذي هو القرآن‪ ،‬الذي هو أعظم نعمة‬


‫ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال‪ُ { :‬قلْ ِبفَ ْ‬
‫حمَ ِتهِ ْ} الدين واليمان‪ ،‬وعبادة ال ومحبته ومعرفته‪.‬‬
‫ومنة‪ ،‬وفضل تفضل ال به على عباده { وَبِرَ ْ‬
‫ج َمعُونَ ْ} من متاع الدنيا ولذاتها‪.‬‬
‫{ فَ ِبذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ خَيْرٌ ِممّا َي ْ‬

‫فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين‪ ،‬ل نسبة بينها‪ ،‬وبين جميع ما في الدنيا‪ ،‬مما هو مضمحل‬
‫زائل عن قريب‪.‬‬

‫وإنما أمر ال تعالى بالفرح بفضله ورحمته‪ ،‬لن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها‪ ،‬وشكرها‬
‫ل تعالى‪ ،‬وقوتها‪ ،‬وشدة الرغبة في العلم واليمان الداعي للزدياد منهما‪ ،‬وهذا فرح محمود‪،‬‬
‫بخلف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها‪ ،‬أو الفرح بالباطل‪ ،‬فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم‬
‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ ْ} ‪.‬‬
‫قارون له‪ { :‬لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬

‫وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل‪ { :‬فََلمّا‬
‫جَاءَ ْتهُمْ رُسُُل ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُوا ِبمَا عِنْ َدهُمْ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ ْ}‬

‫جعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ُقلْ آللّهُ أَذِنَ َل ُكمْ‬


‫{ ‪ُ { }ْ 60 - 59‬قلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ َل ُكمْ مِنْ رِزْقٍ َف َ‬
‫ضلٍ عَلَى‬
‫أَمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ * َومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ‬
‫شكُرُونَ ْ}‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا يَ ْ‬
‫النّا ِ‬

‫يقول تعالى ‪ -‬منكرًا على المشركين‪ ،‬الذين ابتدعوا تحريم ما أحل ال وتحليل ما حرمه ‪ُ { :-‬قلْ‬
‫أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ َلكُمْ مِنْ رِزْقٍ ْ} يعني أنواع الحيوانات المحللة‪ ،‬التي جعلها ال رزقا لهم‬
‫جعَلْ ُتمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ْ} قل لهم ‪ -‬موبخا على هذا القول الفاسد‪ { :-‬آللّهُ‬
‫ورحمة في حقهم‪ { .‬فَ َ‬
‫أَذِنَ َل ُكمْ أَمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ ْ} ومن المعلوم أن ال لم يأذن لهم‪ ،‬فعلم أنهم مفترون‪.‬‬
‫{ َومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ْ} أن يفعل ال بهم من النكال‪ ،‬ويحل بهم من‬
‫سوَ ّدةٌ ْ} ‪.‬‬
‫العقاب‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ َكذَبُوا عَلَى اللّ ِه وُجُو ُه ُهمْ مُ ْ‬

‫{ إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى النّاسِ ْ} كثير‪ ،‬وذو إحسان جزيل‪ ،‬وََلكِنّ أكثر الناس ل يشكرون‪ ،‬إما أن‬
‫ل يقوموا بشكرها‪ ،‬وإما أن يستعينوا بها على معاصيه‪ ،‬وإما أن يحرموا منها‪ ،‬ويردوا ما منّ ال‬
‫به على عباده‪ ،‬وقليل منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة‪ ،‬ويثني بها على ال‪ ،‬ويستعين بها على‬
‫طاعته‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية على أن الصل في جميع الطعمة الحل‪ ،‬إل ما ورد الشرع بتحريمه‪ ،‬لن ال‬
‫أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده‪.‬‬

‫شهُودًا إِذْ‬
‫ع َملٍ إِلّا كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫ن وَلَا َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬
‫ن َومَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآ ٍ‬
‫{ ‪َ { }ْ 61‬ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ‬
‫ك وَلَا‬
‫صغَرَ مِنْ ذَِل َ‬
‫سمَاءِ وَلَا َأ ْ‬
‫ض وَلَا فِي ال ّ‬
‫ُتفِيضُونَ فِي ِه َومَا َيعْ ُزبُ عَنْ رَ ّبكَ مِنْ مِ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫َأكْبَرَ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬عن عموم مشاهدته‪ ،‬واطلعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم‪ ،‬وسكناتهم‪ ،‬وفي‬
‫ضمن هذا‪ ،‬الدعوة لمراقبته على الدوام فقال‪َ { :‬ومَا َتكُونُ فِي شَأْنٍ ْ} أي‪ :‬حال من أحوالك الدينية‬
‫والدنيوية‪َ { .‬ومَا تَ ْتلُو مِ ْنهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ} أي‪ :‬وما تتلو من القرآن الذي أوحاه ال إليك‪.‬‬

‫شهُودًا إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ ْ} أي‪ :‬وقت‬


‫ع َملٍ ْ} صغير أو كبير { إِلّا كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫{ وَلَا َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬
‫شروعكم فيه‪ ،‬واستمراركم على العمل به‪.‬‬

‫فراقبوا ال في أعمالكم‪ ،‬وأدوها على وجه النصيحة‪ ،‬والجتهاد فيها‪ ،‬وإياكم‪ ،‬وما يكره ال تعالى‪،‬‬
‫فإنه مطلع عليكم‪ ،‬عالم بظواهركم وبواطنكم‪.‬‬

‫{ َومَا َيعْ ُزبُ عَنْ رَ ّبكَ ْ} أي‪ :‬ما يغيب عن علمه‪ ،‬وسمعه‪ ،‬وبصره ومشاهدته { مِنْ مِ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي‬
‫ك وَلَا َأكْبَرَ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ} أي‪ :‬قد أحاط به علمه‪،‬‬
‫صغَرَ مِنْ ذَِل َ‬
‫سمَا ِء وَلَا َأ ْ‬
‫ض وَلَا فِي ال ّ‬
‫الْأَ ْر ِ‬
‫وجرى به قلمه‪.‬‬

‫وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر‪ ،‬كثيرًا ما يقرن ال بينهما‪ ،‬وهما‪ :‬العلم المحيط بجميع‬
‫سمَاءِ‬
‫الشياء‪ ،‬وكتابته المحيطة بجميع الحوادث‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ إِنّ ذَِلكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ْ}‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ *‬
‫{ ‪ { }ْ 64 - 62‬أَلَا إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ لَا َ‬
‫َلهُمُ الْ ُبشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ لَا تَ ْبدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ}‬

‫يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه‪ ،‬ويذكر أعمالهم وأوصافهم‪ ،‬وثوابهم فقال‪ { :‬أَلَا إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ لَا‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ ْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والهوال‪.‬‬
‫َ‬

‫{ وَلَا ُهمْ َيحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا‪ ،‬لنهم لم يسلفوا إل صالح العمال‪ ،‬وإذا كانوا ل خوف عليهم‬
‫ول هم يحزنون‪ ،‬ثبت لهم المن والسعادة‪ ،‬والخير الكثير الذي ل يعلمه إل ال تعالى‪.‬‬

‫ثم ذكر وصفهم فقال‪ { :‬الّذِينَ آمَنُوا ْ} بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وبالقدر خيره‬
‫وشره‪ ،‬وصدقوا إيمانهم‪ ،‬باستعمال التقوى‪ ،‬بامتثال الوامر‪ ،‬واجتناب النواهي‪.‬‬

‫فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان ل [تعالى] وليًا‪ ،‬و { َلهُمُ الْ ُبشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ ْ}‬

‫أما البشارة في الدنيا‪ ،‬فهي‪ :‬الثناء الحسن‪ ،‬والمودة في قلوب المؤمنين‪ ،‬والرؤيا الصالحة‪ ،‬وما يراه‬
‫العبد من لطف ال به وتيسيره لحسن العمال والخلق‪ ،‬وصرفه عن مساوئ الخلق‪.‬‬

‫وأما في الخرة‪ ،‬فأولها البشارة عند قبض أرواحهم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ‬
‫اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ أَلّا َتخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ْ}‬

‫وفي القبر ما يبشر به من رضا ال تعالى والنعيم المقيم‪.‬‬

‫وفي الخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم‪ ،‬والنجاة من العذاب الليم‪.‬‬

‫{ لَا تَبْدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ْ} بل ما وعد ال فهو حق‪ ،‬ل يمكن تغييره ول تبديله‪ ،‬لنه الصادق في‬
‫قيله‪ ،‬الذي ل يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ْ} لنه اشتمل على النجاة من كل محذور‪ ،‬والظفر بكل مطلوب محبوب‪،‬‬
‫وحصر الفوز فيه‪ ،‬لنه ل فوز لغير أهل اليمان والتقوى‪.‬‬

‫والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب‪ ،‬رتبه ال في الدنيا والخرة‪ ،‬على اليمان والتقوى‪،‬‬
‫ولهذا أطلق ذلك‪ ،‬فلم يقيده‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ ْ}‬


‫جمِيعًا ُهوَ ال ّ‬
‫{ ‪ { }ْ 65‬وَلَا َيحْزُ ْنكَ َقوُْلهُمْ إِنّ ا ْلعِ ّزةَ ِللّهِ َ‬
‫أي‪ :‬ول يحزنك قول المكذبين فيك من القوال التي يتوصلون بها إلى القدح فيك‪ ،‬وفي دينك فإن‬
‫جمِيعًا ْ} يؤتيها من يشاء‪ ،‬ويمنعها ممن يشاء‪.‬‬
‫أقوالهم ل تعزهم‪ ،‬ول تضرك شيئًا‪ { .‬إِنّ ا ْلعِ ّزةَ لِلّهِ َ‬

‫جمِيعًا ْ} أي‪ :‬فليطلبها بطاعته‪ ،‬بدليل قوله بعده‪ { :‬إِلَيْهِ‬


‫قال تعالى‪ { :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ ا ْلعِ ّزةَ فَِللّهِ ا ْلعِ ّزةُ َ‬
‫ب وَا ْل َع َملُ الصّالِحُ يَ ْر َفعُهُ ْ}‬
‫صعَدُ ا ْلكَلِمُ الطّ ّي ُ‬
‫َي ْ‬

‫ومن المعلوم‪ ،‬أنك على طاعة ال‪ ،‬وأن العزة لك ولتباعك من ال { وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِهِ‬
‫وَلِ ْل ُمؤْمِنِينَ ْ}‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ ْ} أي‪ :‬سمعه قد أحاط بجميع الصوات‪ ،‬فل يخفى عليه شيء منها‪.‬‬
‫وقوله‪ُ { :‬هوَ ال ّ‬

‫وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر والبواطن‪ ،‬فل يعزب عنه مثقال ذرة‪ ،‬في السماوات والرض‪،‬‬
‫ول أصغر من ذلك ول أكبر‪.‬‬

‫وهو تعالى يسمع قولك‪ ،‬وقول أعدائك فيك‪ ،‬ويعلم ذلك تفصيل‪ ،‬فاكتف بعلم ال وكفايته‪ ،‬فمن يتق‬
‫ال‪ ،‬فهو حسبه‪.‬‬

‫ض َومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِ‬


‫ت َومَنْ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 67 - 66‬أَلَا إِنّ لِلّهِ مَنْ فِي ال ّ‬
‫سكُنُوا فِيهِ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْيلَ لِتَ ْ‬
‫ن وَإِنْ ُهمْ إِلّا َيخْ ُرصُونَ * ُهوَ الّذِي َ‬
‫اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّ ّ‬
‫س َمعُونَْ}‬
‫وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ ْ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أن له ما في السماوات والرض‪ ،‬خلقًا وملكًا وعبيدًا‪ ،‬يتصرف فيهم بما شاء من‬
‫أحكامه‪ ،‬فالجميع مماليك ل‪ ،‬مسخرون‪ ،‬مدبرون‪ ،‬ل يستحقون شيئًا من العبادة‪ ،‬وليسوا شركاء ل‬
‫بوجه الوجوه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا يَتّ ِبعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ ْ} الذي‬
‫ل يغني من الحق شيئًا { وَإِنْ ُهمْ إِلّا َيخْ ُرصُونَ ْ} في ذلك‪ ،‬خرص كذب وإفك وبهتان‪.‬‬

‫فإن كانوا صادقين في أنها شركاء ل‪ ،‬فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة‪،‬‬
‫فلن يستطيعوا‪ ،‬فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق‪ ،‬أو يملك شيئًا من المخلوقات‪ ،‬أو يدبر الليل‬
‫والنهار‪ ،‬الذي جعله ال قياما للناس؟‪.‬‬

‫سكُنُوا فِيهِ ْ} في النوم والراحة بسبب الظلمة‪ ،‬التي تغشى وجه‬


‫ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْيلَ لِتَ ْ‬
‫و { ُهوَ الّذِي َ‬
‫الرض‪ ،‬فلو استمر الضياء‪ ،‬لما قروا‪ ،‬ولما سكنوا‪.‬‬
‫{ و ْ} جعل ال { ال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا ْ} أي‪ :‬مضيئًا‪ ،‬يبصر به الخلق‪ ،‬فيتصرفون في معايشهم‪،‬‬
‫ومصالح دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫س َمعُونَ ْ} عن ال‪ ،‬سمع فهم‪ ،‬وقبول‪ ،‬واسترشاد‪ ،‬ل سمع تعنت وعناد‪،‬‬
‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ َي ْ‬
‫فإن في ذلك ليات‪ ،‬لقوم يسمعون‪ ،‬يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الله الحق‪ ،‬وأن إلهية‬
‫ما سواه باطلة‪ ،‬وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ إِنْ‬


‫{ ‪ { }ْ 70 - 68‬قَالُوا اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا سُبْحَانَهُ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫عِنْ َدكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ِبهَذَا أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ * ُقلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا‬
‫ج ُعهُمْ ُثمّ نُذِي ُقهُمُ ا ْل َعذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ ْ}‬
‫ُيفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ثُمّ ِإلَيْنَا مَرْ ِ‬

‫خذَ اللّهُ وَلَدًا ْ} فنزه نفسه عن ذلك‬


‫يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين { قَالُوا اتّ َ‬
‫بقوله‪ { :‬سُ ْبحَانَهُ ْ} أي‪ :‬تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا‪ ،‬ثم برهن على‬
‫ذلك‪ ،‬بعدة براهين‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬قوله‪ُ { :‬هوَ ا ْلغَ ِنيّ ْ} أي‪ :‬الغنى منحصر فيه‪ ،‬وأنواع الغنى مستغرقة فيه‪ ،‬فهو الغني الذي‬
‫له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه‪ ،‬فإذا كان غنيًا من كل وجه‪ ،‬فلي شيء يتخذ‬
‫الولد؟‬

‫ألحاجة منه إلى الولد‪ ،‬فهذا مناف لغناه فل يتخذ أحد ولدًا إل لنقص في غناه‪.‬‬

‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ ْ} وهذه كلمة جامعة عامة ل يخرج‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫البرهان الثاني‪ ،‬قوله‪ { :‬لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫عنها موجود من أهل السماوات والرض‪ ،‬الجميع مخلوقون عبيد مماليك‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد‪ ،‬فإن الولد من جنس والده‪ ،‬ل‬
‫يكون مخلوقًا ول مملوكًا‪ .‬فملكيته لما في السماوات والرض عمومًا‪ ،‬تنافي الولدة‪.‬‬

‫البرهان الثالث‪ ،‬قوله‪ { :‬إِنْ عِنْ َد ُكمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ ِبهَذَا ْ} أي‪ :‬هل عندكم من حجة وبرهان يدل على‬
‫أن ل ولدًا‪ ،‬فلو كان لهم دليل لبدوه‪ ،‬فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل‪ ،‬علم بطلن ما قالوه‪.‬‬
‫وأن ذلك قول بل علم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ ْ} فإن هذا من أعظم‬
‫المحرمات‪.‬‬
‫{ ُقلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفِْلحُونَ ْ} أي‪ :‬ل ينالون مطلوبهم‪ ،‬ول يحصل لهم‬
‫مقصودهم‪ ،‬وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم‪ ،‬في الدنيا‪ ،‬قليلً‪ ،‬ثم ينتقلون إلى ال‪ ،‬ويرجعون إليه‪،‬‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ ْ}‬
‫ظَل َمهُمُ اللّهُ وََلكِنْ أَ ْنفُ َ‬
‫فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‪َ { .‬ومَا َ‬

‫{ ‪ { }ْ 73 - 71‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ َمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي‬
‫غمّةً ثُمّ ا ْقضُوا إَِليّ‬
‫ج ِمعُوا َأمْ َركُ ْم وَشُ َركَا َءكُمْ ثُمّ لَا َيكُنْ َأمْ ُركُمْ عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫بِآيَاتِ اللّهِ َفعَلَى اللّهِ َت َوكّلْتُ فَأَ ْ‬
‫وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا عَلَى اللّ ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ‬
‫ف وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَا ْنظُرْ‬
‫جعَلْنَا ُهمْ خَلَا ِئ َ‬
‫ك وَ َ‬
‫ا ْلمُسِْلمِينَ * َفكَذّبُوهُ فَ َنجّيْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِ‬
‫كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ ْ}‬

‫يقول تعالى لنبيه‪ :‬واتل على قومك { نَبَأَ نُوحٍ ْ} في دعوته لقومه‪ ،‬حين دعاهم إلى ال مدة طويلة‪،‬‬
‫فمكث فيهم ألف سنة إل خمسين عامًا‪ ،‬فلم يزدهم دعاؤه إياهم إل طغيانًا‪ ،‬فتمللوا منه وسئموا‪،‬‬
‫وهو عليه الصلة والسلم غير متكاسل‪ ،‬ول متوان في دعوتهم‪ ،‬فقال لهم‪ { :‬يَا َقوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ‬
‫عَلَ ْيكُمْ َمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬إن كان مقامي عندكم‪ ،‬وتذكيري إياكم ما ينفعكم { بِآيَاتِ‬
‫اللّهِ ْ} الدلة الواضحة البينة‪ ،‬قد شق عليكم وعظم لديكم‪ ،‬وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق‪.‬‬
‫{ َفعَلَى اللّهِ َت َوكّلْتُ ْ} أي‪ :‬اعتمدت على ال‪ ،‬في دفع كل شر يراد بي‪ ،‬وبما أدعو إليه‪ ،‬فهذا‬
‫جندي‪ ،‬وعدتي‪ .‬وأنتم‪ ،‬فأتوا بما قدرتم عليه‪ ،‬من أنواع العَدَ َد والعُددَ‪.‬‬

‫ج ِمعُوا َأمْ َركُمْ ْ} كلكم‪ ،‬بحيث ل يتخلف منكم أحد‪ ،‬ول تدخروا من مجهودكم شيئًا‪.‬‬
‫{ فََأ ْ‬

‫{ و ْ} أحضروا { َشُ َركَا َء ُكمْ ْ} الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون ال رب العالمين‪.‬‬

‫غمّةً ْ} أي‪ :‬مشتبهًا خفيًا‪ ،‬بل ليكن ذلك ظاهرًا علنية‪.‬‬


‫علَ ْيكُمْ ُ‬
‫{ ُثمّ لَا َيكُنْ َأمْ ُركُمْ َ‬

‫{ ُثمّ ا ْقضُوا إَِليّ ْ} أي‪ :‬اقضوا علي بالعقوبة والسوء‪ ،‬الذي في إمكانكم‪ { ،‬وَلَا تُ ْنظِرُونِ ْ} أي‪ :‬ل‬
‫تمهلوني ساعة من نهار‪ .‬فهذا برهان قاطع‪ ،‬وآية عظيمة على صحة رسالته‪ ،‬وصدق ما جاء به‪،‬‬
‫حيث كان وحده ل عشيرة تحميه‪ ،‬ول جنود تؤويه‪.‬‬

‫وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم‪ ،‬وفساد دينهم‪ ،‬وعيب آلهتهم‪ .‬وقد حملوا من بغضه‪ ،‬وعداوته ما هو‬
‫أعظم من الجبال الرواسي‪ ،‬وهم أهل القدرة والسطوة‪ ،‬وهو يقول لهم‪ :‬اجتمعوا أنتم وشركاؤكم‬
‫ومن استطعتم‪ ،‬وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد‪ ،‬فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك‪ ،‬فلم يقدروا‬
‫على شيء من ذلك‪.‬‬
‫فعلم أنه الصادق حقًا‪ ،‬وهم الكاذبون فيما يدعون‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَإِنْ َتوَلّيْ ُتمْ ْ} عن ما دعوتكم إليه‪،‬‬
‫فل موجب لتوليكم‪ ،‬لنه تبين أنكم ل تولون عن باطل إلى حق‪ ،‬وإنما تولون عن حق قامت الدلة‬
‫على صحته‪ ،‬إلى باطل قامت الدلة على فساده‪.‬‬

‫ومع هذا { َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ َأجْرٍ ْ} على دعوتي‪ ،‬وعلى إجابتكم‪ ،‬فتقولوا‪ :‬هذا جاءنا ليأخذ أموالنا‪،‬‬
‫فتمتنعون لجل ذلك‪.‬‬

‫علَى اللّهِ ْ} أي‪ :‬ل أريد الثواب والجزاء إل منه‪ { ،‬و ْ} أيضا فإني ما أمرتكم بأمر‬
‫{ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ‬
‫وأخالفكم إلى ضده‪ ،‬بل { أمرت أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ْ} فأنا أول داخل‪ ،‬وأول فاعل لما أمرتكم‬
‫به‪.‬‬

‫ل ونهارًا‪ ،‬سرًا وجهارًا‪ ،‬فلم يزدهم دعاؤه إل فرارًا‪ { ،‬فَنَجّيْنَا ُه َومَنْ‬


‫{ َفكَذّبُوهُ ْ} بعد ما دعاهم لي ً‬
‫ح ِملْ فِيهَا مِنْ ُكلّ‬
‫َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ ْ} الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا‪ ،‬وقلنا له إذا فار التنور‪ :‬فب { ا ْ‬
‫ن وَأَهَْلكَ ِإلّا مَنْ سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْل َق ْولُ َومَنْ آمَنَ ْ} ففعل ذلك‪.‬‬
‫َزوْجَيْنِ اثْنَيْ ِ‬

‫فأمر ال السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الرض عيونًا‪ ،‬فالتقى الماء على أمر قد قدر‪:‬‬
‫جعَلْنَا ُهمْ خَلَا ِئفَ ْ} في الرض بعد إهلك‬
‫ح وَدُسُرٍ ْ} تجري بأعيننا‪ { ،‬وَ َ‬
‫علَى ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ‬
‫حمَلْنَاهُ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫المكذبين‪.‬‬

‫ثم بارك ال في ذريته‪ ،‬وجعل ذريته‪ ،‬هم الباقين‪ ،‬ونشرهم في أقطار الرض‪ { ،‬وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ‬
‫كَذّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} بعد ذلك البيان‪ ،‬وإقامة البرهان‪ { ،‬فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُنْذَرِينَ ْ} وهو‪ :‬الهلك‬
‫المخزي‪ ،‬واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم‪ ،‬ل تسمع فيهم إل لوما‪ ،‬ول ترى إل‬
‫قدحًا وذمًا‪.‬‬

‫فليحذر هؤلء المكذبون‪ ،‬أن يحل بهم ما حل بأولئك القوام المكذبين من الهلك‪ ،‬والخزي‪،‬‬
‫والنكال‪.‬‬

‫ِ{ ‪ { }ْ 74‬ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ ُرسُلًا إِلَى َق ْو ِمهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا كَذّبُوا ِبهِ مِنْ‬
‫قَ ْبلُ َكذَِلكَ نَطْ َبعُ عَلَى قُلُوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ ْ}‬

‫أي‪ُ { :‬ثمّ َبعَثْنَا ْ} من بعد نوح عليه السلم { رُسُلًا ِإلَى َق ْو ِمهِمْ ْ} المكذبين‪ ،‬يدعونهم إلى الهدى‪،‬‬
‫ويحذرونهم من أسباب الردى‪.‬‬
‫{ َفجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ ْ} أي‪ :‬كل نبي أيد دعوته‪ ،‬باليات الدالة على صحة ما جاء به‪.‬‬
‫{ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا َكذّبُوا بِهِ مِنْ قَ ْبلُ ْ} يعني‪ :‬أن ال تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول‪،‬‬
‫فبادروا بتكذيبه‪ ،‬طبع ال على قلوبهم‪ ،‬وحال بينهم وبين اليمان بعد أن كانوا متمكنين منه‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى‪ { :‬وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأوّلَ مَ ّرةٍ ْ}‬

‫ولهذا قال هنا‪ { :‬كَذَِلكَ َنطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ ْ} أي‪ :‬نختم عليها‪ ،‬فل يدخلها خير‪ ،‬وما ظلمهم‬
‫[ال]‪ ،‬ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم‪ ،‬وتكذيبهم الول‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 75‬ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َبعْ ِدهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ْ} إلى آخر القصة‬

‫أي‪ُ { :‬ثمّ َبعَثْنَا ْ} من بعد هؤلء الرسل‪ ،‬الذين أرسلهم ال إلى القوم المكذبين المهلكين‪.‬‬

‫{ مُوسَى ْ} بن عمران‪ ،‬كليم الرحمن‪ ،‬أحد أولي العزم من المرسلين‪ ،‬وأحد الكبار المقتدى بهم‪،‬‬
‫المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة‪.‬‬

‫عوْنَ َومَلَئِهِ ْ} أي‪ :‬كبار دولته‬


‫{ و ْ} جعلنا معه أخاه { هَارُونَ ْ} وزيرًا بعثناهما { إِلَى فِرْ َ‬
‫ورؤسائهم‪ ،‬لن عامتهم‪ ،‬تبع للرؤساء‪.‬‬

‫{ بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد ال‪ ،‬والنهي عن عبادة ما سوى ال تعالى‪،‬‬
‫{ فَاسْ َتكْبَرُوا ْ} عنها ظلمًا وعلوًا‪ ،‬بعد ما استيقنوها‪.‬‬

‫{ َوكَانُوا َق ْومًا ُمجْ ِرمِينَ ْ} أي‪ :‬وصفهم الجرام والتكذيب‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 76‬فََلمّا جَا َءهُمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِنْدِنَا ْ}‬

‫الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها‪ ،‬وهو من عند ال الذي خضعت لعظمته الرقاب‪ ،‬وهو رب‬
‫العالمين‪ ،‬المربي جميع خلقه بالنعم‪.‬‬

‫سحْرٌ مُبِينٌ ْ} لم‬


‫فلما جاءهم الحق من عند ال على يد موسى‪ ،‬ردوه فلم يقبلوه‪ ،‬و { قَالُوا إِنّ َهذَا لَ ِ‬
‫يكفهم ‪ -‬قبحهم ال ‪ -‬إعراضهم ول ردهم إياه‪ ،‬حتى جعلوه أبطل الباطل‪ ،‬وهو السحر‪ :‬الذي‬
‫حقيقته التمويه‪ ،‬بل جعلوه سحرًا مبينًا‪ ،‬ظاهرًا‪ ،‬وهو الحق المبين‪ .‬ولهذا { قَالَ ْ} لهم { مُوسَى ْ} ‪-‬‬
‫موبخا لهم عن ردهم الحق‪ ،‬الذي ل يرده إل أظلم الناس‪ { -:‬أَ َتقُولُونَ لِ ْلحَقّ َلمّا جَا َءكُمْ ْ} أي‪:‬‬
‫أتقولون إنه سحر مبين‪.‬‬
‫{ َأسِحْرٌ هَذَا ْ} أي‪ :‬فانظروا وصفه وما اشتمل عليه‪ ،‬فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحق‪ { .‬وَلَا ُيفْلِحُ‬
‫السّاحِرُونَ ْ} ل في الدنيا‪ ،‬ول في الخرة‪ ،‬فانظروا لمن تكون له العاقبة‪ ،‬ولمن له الفلح‪ ،‬وعلى‬
‫يديه النجاح‪ .‬وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلم هو الذي أفلح‪ ،‬وفاز بظفر‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬

‫عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ْ} أي‪:‬‬


‫{ ‪ { }ْ 78‬قَالُوا ْ} لموسى رادين لقوله بما ل يرده‪َ { :‬أجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ‬
‫أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا‪ ،‬من الشرك وعبادة غير ال‪ ،‬وتأمرنا بأن نعبد ال وحده ل‬
‫شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة‪ ،‬يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلم‪.‬‬

‫وقولهم ‪ { :‬وَ َتكُونَ َل ُكمَا ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء‪ ،‬ولتخرجونا‬
‫من أرضنا‪ .‬وهذا تمويه منهم‪ ،‬وترويج على جهالهم‪ ،‬وتهييج لعوامهم على معاداة موسى‪ ،‬وعدم‬
‫اليمان به‪.‬‬

‫وهذا ل يحتج به‪ ،‬من عرف الحقائق‪ ،‬وميز بين المور‪ ،‬فإن الحجج ل تدفع إل بالحجج‬
‫والبراهين‪.‬‬

‫وأما من جاء بالحق‪ ،‬فرد قوله بأمثال هذه المور‪ ،‬فإنها تدل على عجز موردها‪ ،‬عن التيان بما‬
‫يرد القول الذي جاء خصمه‪ ،‬لنه لو كان له حجة لوردها‪ ،‬ولم يلجأ إلى قوله‪ :‬قصدك كذا‪ ،‬أو‬
‫مرادك كذا‪ ،‬سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه‪ ،‬أم كاذبًا‪ ،‬مع أن موسى عليه‬
‫الصلة والسلم كل من عرف حاله‪ ،‬وما يدعو إليه‪ ،‬عرف أنه ليس له قصد في العلو في‬
‫الرض‪ ،‬وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين‪ ،‬هداية الخلق‪ ،‬وإرشادهم لما فيه نفعهم‪.‬‬

‫ولكن حقيقة المر‪ ،‬كما نطقوا به بقولهم‪َ { :‬ومَا نَحْنُ َل ُكمَا ِب ُمؤْمِنِينَ ْ} أي‪ :‬تكبرًا وعنادًا‪ ،‬ل لبطلن‬
‫ما جاء به موسى وهارون‪ ،‬ول لشتباه فيه‪ ،‬ول لغير ذلك من المعاني‪ ،‬سوى الظلم والعدوان‪،‬‬
‫وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون‪.‬‬

‫عوْنُ } معارضًا للحق‪ ،‬الذي جاء به موسى‪ ،‬ومغالطًا لملئه وقومه‪ { :‬ائْتُونِي‬
‫{ ‪َ { } 79‬وقَالَ فِرْ َ‬
‫ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي‪ :‬ماهر بالسحر‪ ،‬متقن له‪ .‬فأرسل في مدائن مصر‪ ،‬من أتاه بأنواع السحرة‪،‬‬
‫على اختلف أجناسهم وطبقاتهم‪.‬‬

‫{ فََلمّا جَاءَ السّحَ َرةُ } للمغالبة مع موسى { قَالَ َلهُمْ مُوسَى أَ ْلقُوا مَا أَنْتُمْ مُ ْلقُونَ } أي‪ :‬أي شيء‬
‫أردتم‪ ،‬ل أعين لكم شيئًا‪ ،‬وذلك لنه جازم بغلبته‪ ،‬غير مبال بهم‪ ،‬وبما جاءوا به‪.‬‬
‫{ فََلمّا أَ ْل َقوْا } حبالهم وعصيهم‪ ،‬إذا هي كأنها حيات تسعى‪ ،‬فب { قَالَ مُوسَى مَا جِئْ ُتمْ بِهِ‬
‫السّحْرُ } أي‪ :‬هذا السحر الحقيقي العظيم‪ ،‬ولكن مع عظمته { إِنّ اللّهَ سَيُبْطُِلهُ إِنّ اللّهَ لَا ُيصْلِحُ‬
‫سدِينَ } فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق‪ ،‬وأي فساد أعظم من هذا؟!!‬
‫ع َملَ ا ْلمُفْ ِ‬
‫َ‬

‫وهكذا كل مفسد عمل عملً‪ ،‬واحتال كيدًا‪ ،‬أو أتى بمكر‪ ،‬فإن عمله سيبطل ويضمحل‪ ،‬وإن حصل‬
‫لعمله روجان في وقت ما‪ ،‬فإن مآله الضمحلل والمحق‪.‬‬

‫وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه ال تعالى‪ ،‬وهي أعمال ووسائل نافعة‪ ،‬مأمور بها‪،‬‬
‫فإن ال يصلح أعمالهم ويرقيها‪ ،‬وينميها على الدوام‪ ،‬فألقى موسى عصاه‪ ،‬فتلقفت جميع ما‬
‫صنعوا‪ ،‬فبطل سحرهم‪ ،‬واضمحل باطلهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 82‬وَيُحِقّ اللّهُ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَا ِت ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق‪.‬‬
‫فتوعدهم فرعون بالصلب‪ ،‬وتقطيع اليدي والرجل‪ ،‬فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم‪.‬‬

‫وأما فرعون وملؤه‪ ،‬وأتباعهم‪ ،‬فلم يؤمن منهم أحد‪ ،‬بل استمروا في طغيانهم يعمهون‪.‬‬

‫ولهذا قال‪َ { :‬فمَا آمَنَ ِلمُوسَى إِلّا ذُرّيّةٌ مِنْ َقوْمِهِ } أي‪ :‬شباب من بني إسرائيل‪ ،‬صبروا على‬
‫الخوف‪ ،‬لما ثبت في قلوبهم اليمان‪.‬‬

‫عوْنَ َلعَالٍ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬له‬


‫ن َومَلَ ِئهِمْ أَنْ َيفْتِ َنهُمْ } عن دينهم { وَإِنّ فِرْ َ‬
‫عوْ َ‬
‫خوْفٍ مِنْ فِرْ َ‬
‫{ عَلَى َ‬
‫القهر والغلبة فيها‪ ،‬فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته‪.‬‬

‫{ و } خصوصًا { إِنّهُ } كان { َلمِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ } أي‪ :‬المتجاوزين للحد‪ ،‬في البغي والعدوان‪.‬‬

‫والحكمة ‪-‬وال أعلم‪ -‬بكونه ما آمن لموسى إل ذرية من قومه‪ ،‬أن الذرية والشباب‪ ،‬أقبل للحق‪،‬‬
‫وأسرع له انقيادًا‪ ،‬بخلف الشيوخ ونحوهم‪ ،‬ممن تربى على الكفر فإنهم ‪-‬بسبب ما مكث في‬
‫قلوبهم من العقائد الفاسدة‪ -‬أبعد من الحق من غيرهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 84‬وقَالَ مُوسَى } موصيًا لقومه بالصبر‪ ،‬ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال‪ { :‬يَا‬
‫َقوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ } فقوموا بوظيفة اليمان‪.‬‬

‫{ َفعَلَيْهِ َت َوكّلُوا إِنْ كُنْ ُتمْ مُسِْلمِينَ } أي‪ :‬اعتمدوا عليه‪ ،‬والجؤوا إليه واستنصروه‪.‬‬
‫جعَلْنَا فِتْنَةً لِ ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬ل‬
‫{ ‪ { } 85‬فَقَالُوا } ممتثلين لذلك { عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا لَا تَ ْ‬
‫تسلطهم علينا‪ ،‬فيفتنونا‪ ،‬أو يغلبونا‪ ،‬فيفتتنون بذلك‪ ،‬ويقولون‪ :‬لو كانوا على حق لما غلبوا‪.‬‬
‫حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } لنسلم من شرهم‪ ،‬ولنقيم [على] ديننا على وجه‬
‫{ ‪ { } 86‬وَنَجّنَا بِرَ ْ‬
‫نتمكن به من إقامة شرائعه‪ ،‬وإظهاره من غير معارض‪ ،‬ول منازع‪.‬‬

‫{ ‪ { } 87‬وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد المر على قومهما‪ ،‬من فرعون وقومه‪،‬‬
‫وحرصوا على فتنتهم عن دينهم‪.‬‬

‫{ أَنْ تَ َبوّآ ِل َقوْ ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتًا } أي‪ :‬مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا‪ ،‬يتمكنون ]به[ من الستخفاء‬
‫فيها‪.‬‬

‫جعَلُوا بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً } أي‪ :‬اجعلوها محل‪ ،‬تصلون فيها‪ ،‬حيث عجزتم عن إقامة الصلة في‬
‫{ وَا ْ‬
‫الكنائس‪ ،‬والبيع العامة‪.‬‬

‫{ وََأقِيمُوا الصّلَاةَ } فإنها معونة على جميع المور‪ { ،‬وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد‪ ،‬وإظهار‬
‫دينهم‪ ،‬فإن مع العسر يسرًا‪ ،‬إن مع العسر يسرًا‪ ،‬وحين اشتد الكرب‪ ،‬وضاق المر‪ ،‬فرجه ال‬
‫ووسعه‪.‬‬

‫فلما رأى موسى‪ ،‬القسوة والعراض من فرعون وملئه ‪ ،‬دعا عليهم وأمن هارون على دعائه‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬

‫ن َومَلََأهُ زِي َنةً } يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب‪ ،‬والبيوت‬


‫عوْ َ‬
‫{ ‪ { } 88‬رَبّنَا إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫المزخرفة‪ ،‬والمراكب الفاخرة‪ ،‬والخدام‪ { ،‬وََأ ْموَالًا } عظيمة { فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّوا عَنْ‬
‫سَبِيِلكَ } أي‪ :‬إن أموالهم لم يستعينوا بها إل على الضلل في سبيلك‪ ،‬فيضلون ويضلون‪.‬‬

‫طمِسْ عَلَى َأ ْموَاِلهِمْ } أي‪ :‬أتلفها عليهم‪ :‬إما بالهلك‪ ،‬وإما بجعلها حجارة‪ ،‬غير منتفع بها‪.‬‬
‫{ رَبّنَا ا ْ‬

‫شدُدْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } أي‪ :‬قسها { فَلَا ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ }‬
‫{ وَا ْ‬

‫قال ذلك‪ ،‬غضبًا عليهم‪ ،‬حيث تجرؤوا على محارم ال‪ ،‬وأفسدوا عباد ال‪ ،‬وصدوا عن سبيله‪،‬‬
‫ولكمال معرفته بربه بأن ال سيعاقبهم على ما فعلوا‪ ،‬بإغلق باب اليمان عليهم‪.‬‬
‫عوَ ُت ُكمَا } هذا دليل على أن موسى‪[ ،‬كان] يدعو‪ ،‬وهارون‬
‫{ ‪ { } 89‬قَالَ } ال تعالى { قَدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ‬
‫يؤمن على دعائه‪ ،‬وأن الذي يؤمن‪ ،‬يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء‪.‬‬

‫{ فَاسْ َتقِيمَا } على دينكما‪ ،‬واستمرا على دعوتكما‪ { ،‬وَلَا تَتّ ِبعَانّ سَبِيلَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬ل‬
‫تتبعان سبيل الجهال الضلل‪ ،‬المنحرفين عن الصراط المستقيم‪ ،‬المتبعين لطرق الجحيم‪ ،‬فأمر ال‬
‫موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلً‪ ،‬وأخبره أنهم يتبعون‪ ،‬وأرسل فرعون في المدائن حاشرين‬
‫جمِيعٌ‬
‫ن وَإِ ّنهُمْ لَنَا َلغَا ِئظُونَ وَإِنّا لَ َ‬
‫يقولون‪ { :‬إِنّ َهؤُلَاءِ } أي‪ :‬موسى وقومه‪ { :‬لَشِ ْر ِذمَةٌ قَلِيلُو َ‬
‫حَاذِرُونَ }‬

‫فجمع جنوده‪ ،‬قاصيهم ودانيهم‪ ،‬فأتبعهم بجنوده‪ ،‬بغيًا وعدوًا أي‪ :‬خروجهم باغين على موسى‬
‫وقومه‪ ،‬ومعتدين في الرض‪ ،‬وإذا اشتد البغي‪ ،‬واستحكم الذنب‪ ،‬فانتظر العقوبة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 90‬وَجَاوَزْنَا بِبَنِي ِإسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } وذلك أن ال أوحى إلى موسى‪ ،‬لما وصل البحر‪ ،‬أن‬
‫يضربه بعصاه‪ ،‬فضربه‪ ،‬فانفلق اثنى عشر طريقًا‪ ،‬وسلكه بنو إسرائيل‪ ،‬وساق فرعون وجنوده‬
‫خلفه داخلين‪.‬‬

‫فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر‪ ،‬وفرعون وجنوده داخلين فيه‪ ،‬أمر ال البحر‬
‫فالتطم على فرعون وجنوده‪ ،‬فأغرقهم‪ ،‬وبنو إسرائيل ينظرون‪.‬‬

‫حتى إذا أدرك فرعون الغرق‪ ،‬وجزم بهلكه { قَالَ آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنُو‬
‫إِسْرَائِيلَ } وهو ال الله الحق الذي ل إله إل هو { وَأَنَا مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ } أي‪ :‬المنقادين لدين ال‪،‬‬
‫ولما جاء به موسى‪.‬‬

‫{ ‪ } 91‬قال ال تعالى ‪ -‬مبينا أن هذا اليمان في هذه الحالة غير نافع له‪ { :-‬آلْآنَ } تؤمن‪ ،‬وتقر‬
‫عصَ ْيتَ قَ ْبلُ } أي‪ :‬بارزت بالمعاصي‪ ،‬والكفر والتكذيب { َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }‬
‫برسول ال { َوقَدْ َ‬
‫فل ينفعك اليمان كما جرت عادة ال‪ ،‬أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الضطرارية أنه ل‬
‫ينفعهم إيمانهم‪ ،‬لن إيمانهم‪ ،‬صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة‪ ،‬والذي ينفع‪ ،‬إنما هو‬
‫اليمان بالغيب‪.‬‬

‫{ ‪ { } 92‬فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آيَةً }‬


‫قال المفسرون‪ :‬إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم‪ ،‬من فرعون‪ ،‬كأنهم لم يصدقوا‬
‫بإغراقه‪ ،‬وشكوا في ذلك‪ ،‬فأمر ال البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه‪ ،‬ليكون لهم عبرة وآية‪.‬‬

‫{ وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَنْ آيَاتِنَا َلغَافِلُونَ } فلذلك تمر عليهم وتتكرر فل ينتفعون بها‪ ،‬لعدم إقبالهم‬
‫عليها‪.‬‬

‫وأما من له عقل وقلب حاضر‪ ،‬فإنه يرى من آيات ال ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به‬
‫الرسل‪.‬‬

‫{ ‪ { } 93‬وَلَقَدْ َبوّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُ َبوَّأ صِ ْدقٍ }‬

‫أي‪ :‬أنزلهم ال وأسكنهم في مساكن آل فرعون‪ ،‬وأورثهم أرضهم وديارهم‪.‬‬

‫{ وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } من المطاعم والمشارب وغيرهما { َفمَا اخْتََلفُوا } في الحق { حَتّى‬
‫جَاءَهُمُ ا ْلعِلْمُ } الموجب لجتماعهم وائتلفهم‪ ،‬ولكن بغى بعضهم على بعض‪ ،‬وصار لكثير منهم‬
‫أهوية وأغراض تخالف الحق‪ ،‬فحصل بينهم من الختلف شيء كثير‪.‬‬

‫{ إِنّ رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام‪،‬‬
‫وقدرته الشاملة‪ ،‬وهذا هو الداء‪ ،‬الذي يعرض لهل الدين الصحيح‪.‬‬

‫وهو‪ :‬أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية‪ ،‬سعى في التحريش بينهم‪ ،‬وإلقاء‬
‫العداوة والبغضاء‪ ،‬فحصل من الختلف ما هو موجب ذلك‪ ،‬ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض‪،‬‬
‫وعداوة بعضهم لبعض‪ ،‬ما هو قرة عين اللعين‪.‬‬

‫وإل فإذا كان ربهم واحدًا‪ ،‬ورسولهم واحدًا‪ ،‬ودينهم واحدًا‪ ،‬ومصالحهم العامة متفقة‪ ،‬فلي شيء‬
‫يختلفون اختلفًا يفرق شملهم‪ ،‬ويشتت أمرهم‪ ،‬ويحل رابطتهم ونظامهم‪ ،‬فيفوت من مصالحهم‬
‫الدينية والدنيوية ما يفوت‪ ،‬ويموت من دينهم‪ ،‬بسبب ذلك ما يموت؟‪.‬‬

‫فنسألك اللهم‪ ،‬لطفًا بعبادك المؤمنين‪ ،‬يجمع شملهم ويرأب صدعهم‪ ،‬ويرد قاصيهم على دانيهم‪ ،‬يا‬
‫ذا الجلل والكرام‪.‬‬

‫شكّ ِممّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ َلقَدْ‬
‫{ ‪ { } 95 - 94‬فَإِنْ كُ ْنتَ فِي َ‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ * وَلَا َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ‬
‫جَا َءكَ الْ َ‬
‫الْخَاسِرِينَ }‬

‫شكّ ِممّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ } هل هو صحيح‬


‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬فَإِنْ كُ ْنتَ فِي َ‬
‫أم غير صحيح؟‪.‬‬

‫{ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ } أي‪ :‬اسأل أهل الكتب المنصفين‪ ،‬والعلماء الراسخين‪،‬‬
‫فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به‪ ،‬وموافقته لما معهم‪ ،‬فإن قيل‪ :‬إن كثيرًا من أهل الكتاب‪،‬‬
‫من اليهود والنصارى‪ ،‬بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول ال وعاندوه‪ ،‬وردوا عليه‬
‫دعوته‪.‬‬

‫وال تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم‪ ،‬وجعل شهادتهم حجة لما جاء به‪ ،‬وبرهانًا على صدقه‪،‬‬
‫فكيف يكون ذلك؟‬

‫فالجواب عن هذا‪ ،‬من عدة أوجه‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة‪ ،‬أو أهل مذهب‪ ،‬أو بلد ونحوهم‪ ،‬فإنها إنما تتناول العدول‬
‫الصادقين منهم‪.‬‬

‫وأما من عداهم‪ ،‬فلو كانوا أكثر من غيرهم فل عبرة فيهم‪ ،‬لن الشهادة مبنية على العدالة‬
‫والصدق‪ ،‬وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين‪ ،‬كب "عبد ال بن سلم" [وأصحابه‬
‫وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخلفائه‪ ،‬ومن بعده] و "كعب الحبار"‬
‫وغيرهما‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى ال عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون‬
‫إليه‪.‬‬

‫فإذا كان موجودًا في التوراة‪ ،‬ما يوافق القرآن ويصدقه‪ ،‬ويشهد له بالصحة‪ ،‬فلو اتفقوا من أولهم‬
‫لخرهم على إنكار ذلك‪ ،‬لم يقدح بما جاء به الرسول‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ال تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه‪ ،‬وأظهر ذلك وأعلنه‬
‫على رءوس الشهاد‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره ال‪ ،‬لبدوه وأظهروه وبينوه‪ ،‬فلما لم يكن شيء من ذلك‪،‬‬
‫كان عدم رد المعادي‪ ،‬وإقرار المستجيب من أدل الدلة على صحة هذا القرآن وصدقه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ليس أكثر أهل الكتاب‪ ،‬رد دعوة الرسول‪ ،‬بل أكثرهم استجاب لها‪ ،‬وانقاد طوعًا‬
‫واختيارًا‪ ،‬فإن الرسول بعث وأكثر أهل الرض المتدينين أهل كتاب ‪.‬‬

‫فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة‪ ،‬حتى انقاد للسلم أكثر أهل الشام‪ ،‬ومصر‪ ،‬والعراق‪ ،‬وما جاورها‬
‫من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب‪ ،‬ولم يبق إل أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على‬
‫الحق‪ ،‬ومن تبعهم من العوام الجهلة‪ ،‬ومن تدين بدينهم اسمًا ل معنى‪ ،‬كالفرنج الذين حقيقة أمرهم‬
‫أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل‪ ،‬وإنما انتسبوا للدين المسيحي‪ ،‬ترويجًا لملكهم‪،‬‬
‫وتمويهًا لباطلهم‪ ،‬كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة‪.‬‬

‫حقّ } أي‪ :‬الذي ل شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال‪ { :‬مِنْ رَ ّبكَ فَلَا‬
‫وقوله‪َ { :‬لقَدْ جَا َءكَ الْ َ‬
‫صدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ }‬
‫َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } كقوله تعالى‪ { :‬كِتَابٌ أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكَ فَلَا َيكُنْ فِي َ‬

‫(‪ { )95‬وَلَا َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن ال نهى‬
‫عن شيئين‪ :‬الشك في هذا القرآن والمتراء فيه‪.‬‬

‫وأشد من ذلك‪ ،‬التكذيب به‪ ،‬وهو آيات ال البينات التي ل تقبل التكذيب بوجه‪ ،‬ورتب على هذا‬
‫الخسار‪ ،‬وهو عدم الربح أصلً‪ ،‬وذلك بفوات الثواب في الدنيا والخرة‪ ،‬وحصول العقاب في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬والنهي عن الشيء أمر بضده‪ ،‬فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن‪ ،‬وطمأنينة‬
‫القلب إليه‪ ،‬والقبال عليه‪ ،‬علمًا وعملً‪.‬‬

‫فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب‪ ،‬وأفضل الرغائب‪ ،‬وأتم المناقب‪،‬‬
‫وانتفى عنهم الخسار‪.‬‬

‫حقّتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ * وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّى يَ َروُا‬
‫{ ‪ { } 97 - 96‬إِنّ الّذِينَ َ‬
‫ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ }‬

‫ح ّقتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ } أي‪ :‬إنهم من الضالين الغاوين أهل النار‪ ،‬ل بد‬
‫يقول تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َ‬
‫أن يصيروا إلى ما قدره ال وقضاه‪ ،‬فل يؤمنون ولو جاءتهم كل آية‪ ،‬فل تزيدهم اليات إل‬
‫طغيانا‪ ،‬وغيا إلى غيهم‪.‬‬
‫وما ظلمهم ال‪ ،‬ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق‪ ،‬لما جاءهم أول مرة‪ ،‬فعاقبهم ال‪ ،‬بأن طبع على‬
‫قلوبهم وأسماعهم‪ ،‬وأبصارهم‪ ،‬فل يؤمنوا حتى يروا العذاب الليم‪ ،‬الذي وعدوا به‪.‬‬

‫فحينئذ يعلمون حق اليقين‪ ،‬أن ما هم عليه هو الضلل‪ ،‬وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق‪ .‬ولكن‬
‫في وقت ل يجدي عليهم إيمانهم شيئًا‪ ،‬فيومئذ ل ينفع الذين ظلموا معذرتهم‪ ،‬ول هم يستعتبون‪،‬‬
‫وأما اليات فإنها تنفع من له قلب‪ ،‬أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬

‫شفْنَا عَ ْن ُهمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ‬


‫{ ‪ { } 98‬فََلوْلَا كَا َنتْ قَرْيَةٌ آمَ َنتْ فَ َنفَ َعهَا إِيمَا ُنهَا إِلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا آمَنُوا كَ َ‬
‫فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }‬

‫يقول تعالى‪ { :‬فََلوْلَا كَا َنتْ قَرْ َيةٌ ْ} من قرى المكذبين { آمَ َنتْ ْ} حين رأت العذاب { فَ َن َف َعهَا إِيمَا ُنهَا ْ}‬
‫أي‪ :‬لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه‪ ،‬حين رأى العذاب‪ ،‬كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا‪،‬‬
‫ن َوقَدْ‬
‫ل وَأَنَا مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ْ} فقيل له { آلْآ َ‬
‫لما قال‪ { :‬آمَ ْنتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا الّذِي آمَ َنتْ ِبهِ بَنُو إِسْرَائِي َ‬
‫سدِينَ ْ}‬
‫ل َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْلمُفْ ِ‬
‫عصَ ْيتَ قَ ْب ُ‬
‫َ‬

‫وكما قال تعالى‪ { :‬فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َد ُه َو َكفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ‬
‫إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ ْ}‬

‫ل صَالِحًا فِيمَا تَ َر ْكتُ كَلّا ْ}‬


‫ع َم ُ‬
‫جعُونِ َلعَلّي أَ ْ‬
‫وقال تعالى‪ { :‬حَتّى إِذَا جَاءَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ ا ْر ِ‬

‫والحكمة في هذا ظاهرة‪ ،‬فإن اليمان الضطراري‪ ،‬ليس بإيمان حقيقة‪ ،‬ولو صرف عنه العذاب‬
‫والمر الذي اضطره إلى اليمان‪ ،‬لرجع إلى الكفران‪.‬‬

‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الْخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ‬


‫وقوله‪ { :‬إِلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا آمَنُوا ْ} بعدما رأوا العذاب‪ { ،‬كَ َ‬
‫الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} فهم مستثنون من العموم السابق‪.‬‬

‫ول بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة‪ ،‬لم تصل إلينا‪ ،‬ولم تدركها أفهامنا‪.‬‬

‫قال ال تعالى‪ { :‬وَإِنّ يُونُسَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ْ} إلى قوله‪ { :‬وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِا َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا‬
‫َفمَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} ولعل الحكمة في ذلك‪ ،‬أن غيرهم من المهلكين‪ ،‬لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‪.‬‬

‫وأما قوم يونس‪ ،‬فإن ال علم أن إيمانهم سيستمر‪[ ،‬بل قد استمر فعل وثبتوا عليه] وال أعلم‪.‬‬
‫جمِيعًا َأفَأَ ْنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّى‬
‫{ ‪ { } 100 - 99‬وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ كُّلهُمْ َ‬
‫جسَ عَلَى الّذِينَ لَا َيعْقِلُونَ }‬
‫ج َعلُ الرّ ْ‬
‫َيكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ * َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ ُت ْؤمِنَ إِلّا بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ ْ‬

‫جمِيعًا ْ}‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ كُّلهُمْ َ‬
‫بأن يلهمهم اليمان‪ ،‬ويوزع قلوبهم للتقوى‪ ،‬فقدرته صالحة لذلك‪ ،‬ولكنه اقتضت حكمته أن كان‬
‫بعضهم مؤمنين‪ ،‬وبعضهم كافرين‪.‬‬

‫{ َأفَأَ ْنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّى َيكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ ْ} أي‪ :‬ل تقدر على ذلك‪ ،‬وليس في إمكانك‪ ،‬ول قدرة‬
‫لغير ال [على] شيء من ذلك‪.‬‬

‫{ َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ ُت ْؤمِنَ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬بإرادته ومشيئته‪ ،‬وإذنه القدري الشرعي‪ ،‬فمن كان‬
‫من الخلق قابلً لذلك‪ ،‬يزكو عنده اليمان‪ ،‬وفقه وهداه‪.‬‬

‫ج َعلُ الرّجْسَ ْ} أي‪ :‬الشر والضلل { عَلَى الّذِينَ لَا َي ْعقِلُونَ ْ} عن ال أوامره ونواهيه‪ ،‬ول‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫يلقوا بال لنصائحه ومواعظه‪.‬‬

‫ض َومَا ُتغْنِي الْآيَاتُ وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ لَا‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ُ { } 103 - 101‬قلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي ال ّ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ * َف َهلْ يَنْتَظِرُونَ إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ُقلْ فَانْ َتظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ‬
‫حقّا عَلَيْنَا نُنْجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫* ثُمّ نُ َنجّي رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا كَذَِلكَ َ‬

‫يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والرض‪ ،‬والمراد بذلك‪ :‬نظر الفكر والعتبار‬
‫والتأمل‪ ،‬لما فيها‪ ،‬وما تحتوي عليه‪ ،‬والستبصار‪ ،‬فإن في ذلك ليات لقوم يؤمنون‪ ،‬وعبرًا لقوم‬
‫يوقنون‪ ،‬تدل على أن ال وحده‪ ،‬المعبود المحمود‪ ،‬ذو الجلل والكرام‪ ،‬والسماء والصفات‬
‫العظام‪.‬‬

‫{ َومَا ُتغْنِي الْآيَاتُ وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ ْ} فإنهم ل ينتفعون باليات لعراضهم وعنادهم‪.‬‬

‫{ َف َهلْ يَنْتَظِرُونَ إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} أي‪ :‬فهل ينتظر هؤلء الذين ل يؤمنون بآيات‬
‫ال‪ ،‬بعد وضوحها‪ { ،‬إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} أي‪ :‬من الهلك والعقاب‪ ،‬فإنهم صنعوا‬
‫كصنيعهم وسنة ال جارية في الولين والخرين‪.‬‬
‫{ ُقلْ فَانْتَظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْ َتظِرِينَ ْ} فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة‪ ،‬والنجاة في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وليست إل للرسل وأتباعهم‪.‬‬

‫سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا ْ} من مكاره الدنيا والخرة‪ ،‬وشدائدهما‪.‬‬


‫ولهذا قال‪ُ { :‬ثمّ نُنَجّي رُ ُ‬

‫حقّا عَلَيْنَا ْ} أوجبناه على أنفسنا { نُ ْنجِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ْ} وهذا من دفعه عن المؤمنين‪ ،‬فإن ال‬
‫{ َكذَِلكَ َ‬
‫يدافع عن الذين آمنوا فإنه ‪-‬بحسب ما مع العبد من اليمان‪ -‬تحصل له النجاة من المكاره‪.‬‬

‫شكّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ‬


‫{ ‪ُ { } 106 - 104‬قلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي َ‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا وَلَا‬
‫اللّ ِه وََلكِنْ أَعْ ُبدُ اللّهَ الّذِي يَ َت َوفّاكُ ْم وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ * وَأَنْ َأ ِق ْم وَ ْ‬
‫َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * وَلَا تَ ْدعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َف ُعكَ وَلَا َيضُ ّركَ فَإِنْ َفعَ ْلتَ فَإِ ّنكَ إِذًا مِنَ‬
‫الظّاِلمِينَ }‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬سيد المرسلين‪ ،‬وإمام المتقين وخير الموقنين‪ُ { :‬قلْ‬
‫شكّ مِنْ دِينِي ْ} أي‪ :‬في ريب واشتباه‪ ،‬فإني لست في شك منه‪ ،‬بل لدي‬
‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي َ‬
‫العلم اليقيني أنه الحق‪ ،‬وأن ما تدعون من دون ال باطل‪ ،‬ولي على ذلك‪ ،‬الدلة الواضحة‪،‬‬
‫والبراهين الساطعة‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فَلَا أَعْبُدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} من النداد‪ ،‬والصنام وغيرها‪ ،‬لنها ل تخلق‬
‫ول ترزق‪ ،‬ول تدبر شيئًا من المور‪ ،‬وإنما هي مخلوقة مسخرة‪ ،‬ليس فيها ما يقتضي عبادتها‪.‬‬

‫{ وََلكِنْ أَعْ ُبدُ اللّهَ الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ ْ} أي‪ :‬هو ال الذي خلقكم‪ ،‬وهو الذي يميتكم‪ ،‬ثم يبعثكم‪ ،‬ليجازيكم‬
‫بأعمالكم‪ ،‬فهو الذي يستحق أن يعبد‪ ،‬ويصلى له ويخضع ويسجد‪.‬‬

‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا ْ} أي‪ :‬أخلص أعمالك الظاهرة‬


‫{ وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَأَنْ َأ ِق ْم وَ ْ‬
‫والباطنة ل‪ ،‬وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا‪ ،‬أي‪ :‬مقبلً على ال‪ ،‬معرضًا عما سواه‪ { ،‬وَلَا َتكُونَنّ‬
‫مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ْ} ل في حالهم‪ ،‬ول تكن معهم‪.‬‬

‫ك وَلَا َيضُ ّركَ ْ} وهذا وصف لكل مخلوق‪ ،‬أنه ل ينفع‬


‫(‪ { )106‬وَلَا َت ْدعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْنفَ ُع َ‬
‫ول يضر‪ ،‬وإنما النافع الضار‪ ،‬هو ال تعالى‪.‬‬
‫{ فَإِنْ َفعَ ْلتَ ْ} بأن دعوت من دون ال‪ ،‬ما ل ينفعك ول يضرك { فَإِ ّنكَ ِإذًا مِنَ الظّاِلمِينَ ْ} أي‪:‬‬
‫عظِيمٌ ْ} فإذا‬
‫الضارين أنفسهم بإهلكها‪ ،‬وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى‪ { :‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫كان خير الخلق‪ ،‬لو دعا مع ال غيره‪ ،‬لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره؟!!‬

‫شفَ لَهُ إِلّا ُه َو وَإِنْ يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَا رَادّ ِلفَضْلِهِ ُيصِيبُ بِهِ‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَا كَا ِ‬
‫{ ‪ { } 107‬وَإِنْ َي ْمسَ ْ‬
‫مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }‬

‫هذا من أعظم الدلة على أن ال وحده المستحق للعبادة‪ ،‬فإنه النافع الضار‪ ،‬المعطي المانع‪ ،‬الذي‬
‫شفَ لَهُ إِلّا ُهوَ } لن الخلق‪ ،‬لو اجتمعوا على أن‬
‫إذا مس بضر‪ ،‬كفقر ومرض‪ ،‬ونحوها { فَلَا كَا ِ‬
‫ينفعوا بشيء‪ ،‬لم ينفعوا إل بما كتبه ال‪ ،‬ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا‪ ،‬لم يقدروا على شيء‬
‫من ضرره‪ ،‬إذا لم يرده ال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِنْ يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَا رَادّ ِلفَضْلِهِ } أي‪ :‬ل يقدر أحد من‬
‫سكَ َلهَا َومَا‬
‫حمَةٍ‪ ،‬فَلَا ُممْ ِ‬
‫الخلق‪ ،‬أن يرد فضله وإحسانه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ‬
‫سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ }‬
‫سكْ فَلَا مُرْ ِ‬
‫ُيمْ ِ‬

‫{ ُيصِيبُ بِهِ مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } أي‪ :‬يختص برحمته من شاء من خلقه‪ ،‬وال ذو الفضل العظيم‪،‬‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ } لجميع الزلت‪ ،‬الذي يوفق عبده لسباب مغفرته‪ ،‬ثم إذا فعلها العبد‪ ،‬غفر ال‬
‫ذنوبه‪ ،‬كبارها‪ ،‬وصغارها‪.‬‬

‫{ الرّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬ووصل جوده إلى جميع الموجودات‪ ،‬بحيث ل تستغنى‬
‫عن إحسانه‪ ،‬طرفة عين‪ ،‬فإذا عرف العبد بالدليل القاطع‪ ،‬أن ال‪ ،‬هو المنفرد بالنعم‪ ،‬وكشف النقم‪،‬‬
‫وإعطاء الحسنات‪ ،‬وكشف السيئات والكربات‪ ،‬وأن أحدًا من الخلق‪ ،‬ليس بيده من هذا شيء إل ما‬
‫أجراه ال على يده‪ ،‬جزم بأن ال هو الحق‪ ،‬وأن ما يدعون من دونه هو الباطل‪.‬‬

‫ولهذا ‪-‬لما بين الدليل الواضح قال بعده‪-:‬‬

‫{ ‪ُ { } 109 - 108‬قلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُمُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنِ اهْ َتدَى فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْسِهِ‬
‫حكُمَ اللّهُ‬
‫ك وَاصْبِرْ حَتّى يَ ْ‬
‫علَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ * وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ‬
‫علَ ْيهَا َومَا أَنَا َ‬
‫ضلّ َ‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫َومَنْ َ‬
‫وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ }‬

‫أي‪ُ { :‬قلْ } يا أيها الرسول‪ ،‬لما تبين البرهان { يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُمُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ } أي‪:‬‬
‫الخبر الصادق المؤيد بالبراهين‪ ،‬الذي ل شك فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬وهو واصل إليكم من ربكم‬
‫الذي من أعظم تربيته لكم‪ ،‬أن أنزل إليكم هذا القرآن الذي فيه تبيان لكل شيء‪ ،‬وفيه من أنواع‬
‫الحكام والمطالب اللهية والخلق المرضية‪ ،‬ما فيه أعظم تربية لكم‪ ،‬وإحسان منه إليكم‪ ،‬فقد‬
‫تبين الرشد من الغي‪ ،‬ولم يبق لحد شبهة‪.‬‬

‫{ َفمَنِ اهْتَدَى } بهدى ال بأن علم الحق وتفهمه‪ ،‬وآثره على غيره فلِ َنفْسِهِ وال تعالى غني عن‬
‫عباده‪ ،‬وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم‪.‬‬

‫ضلّ عَلَ ْيهَا }‬


‫ضلّ } عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق‪ ،‬أو عن العمل به‪ { ،‬فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫ن َ‬
‫{ َومَ ْ‬
‫ول يضر ال شيئًا‪ ،‬فل يضر إل نفسه‪.‬‬

‫{ َومَا أَنَا عَلَ ْي ُكمْ ِب َوكِيلٍ } فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها‪ ،‬وإنما أنا لكم نذير مبين‪ ،‬وال عليكم‬
‫وكيل‪ .‬فانظروا لنفسكم‪ ،‬ما دمتم في مدة المهال‪.‬‬

‫{ وَاتّبَعَ } أيها الرسول { مَا يُوحَى إِلَ ْيكَ } علمًا‪ ،‬وعملً‪ ،‬وحالً‪ ،‬ودعوة إليه‪ { ،‬وَاصْبِرْ } على‬
‫ذلك‪ ،‬فإن هذا أعلى أنواع الصبر‪ ،‬وإن عاقبته حميدة‪ ،‬فل تكسل‪ ،‬ول تضجر‪ ،‬بل دم على ذلك‪،‬‬
‫حكُمَ اللّهُ } بينك وبين من كذبك { وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ } فإن حكمه‪ ،‬مشتمل على‬
‫واثبت‪ { ،‬حَتّى َي ْ‬
‫العدل التام‪ ،‬والقسط الذي يحمد عليه‪.‬‬

‫وقد امتثل صلى ال عليه وسلم أمر ربه‪ ،‬وثبت على الصراط المستقيم‪ ،‬حتى أظهر ال دينه على‬
‫سائر الديان‪ ،‬ونصره على أعدائه بالسيف والسنان‪ ،‬بعد ما نصره [ال] عليهم‪ ،‬بالحجة والبرهان‪،‬‬
‫فلله الحمد‪ ،‬والثناء الحسن‪ ،‬كما ينبغي لجلله‪ ،‬وعظمته‪ ،‬وكماله وسعة إحسانه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة يونس‬


‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة هود عليه الصلة‬


‫والسلم [وهي] مكية‬

‫حكِيمٍ خَبِيرٍ *‬
‫ح ِك َمتْ آيَاُتهُ ثُمّ ُفصَّلتْ مِنْ لَدُنْ َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ * الر كِتَابٌ أُ ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 4 - 1‬بِ ْ‬
‫حسَنًا‬
‫أَلّا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ إِنّنِي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَ ْيهِ ُيمَ ّت ْعكُمْ مَتَاعًا َ‬
‫ضلٍ َفضْلَ ُه وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّي َأخَافُ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابَ َيوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى‬
‫سمّى وَ ُيؤْتِ ُكلّ ذِي َف ْ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫إِلَى أَ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫ج ُعكُ ْم وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫اللّهِ مَ ْر ِ‬

‫ح ِك َمتْ آيَاتُهُ } أي‪ :‬أتقنت وأحسنت‪ ،‬صادقة‬


‫يقول تعالى‪ :‬هذا { كِتَابٌ } عظيم‪ ،‬ونزل كريم‪ُ { ،‬أ ْ‬
‫أخبارها‪ ،‬عادلة أوامرها ونواهيها‪ ،‬فصيحة ألفاظه بهية معانيه‪.‬‬

‫حكِيمٍ } يضع الشياء‬


‫{ ُثمّ ُفصَّلتْ } أي‪ :‬ميزت وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان‪ { ،‬مِنْ َلدُنْ َ‬
‫مواضعها‪ ،‬وينزلها منازلها‪ ،‬ل يأمر ول ينهى إل بما تقتضيه حكمته‪ { ،‬خَبِيرٌ } مطلع على‬
‫الظواهر والبواطن‪.‬‬

‫{ ‪ } 2‬فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند ال الحكيم الخبير‪ ،‬فل تسأل بعد هذا‪ ،‬عن عظمته‬
‫وجللته واشتماله على كمال الحكمة‪ ،‬وسعة الرحمة ‪ .‬وإنما أنزل ال كتابه لب { أَنْ لَا َتعْبُدُوا إِلّا‬
‫اللّهَ } أي‪ :‬لجل إخلص الدين كله ل‪ ،‬وأن ل يشرك به أحد من خلقه‪.‬‬

‫{ إِنّنِي َلكُمْ } أيها الناس { مِنْهُ } أي‪ :‬من ال ربكم { َنذِيرٍ } لمن تجرأ على المعاصي بعقاب الدنيا‬
‫والخرة‪ { ،‬وَبَشِيرٌ } للمطيعين ل بثواب الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 3‬وَأَنِ اسْ َتغْفِرُوا رَ ّبكُمْ } عن ما صدر منكم من الذنوب { ُثمّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلون من‬
‫أعماركم‪ ،‬بالرجوع إليه‪ ،‬بالنابة والرجوع عما يكرهه ال إلى ما يحبه ويرضاه‪.‬‬

‫حسَنًا } أي‪ :‬يعطيكم من رزقه‪ ،‬ما‬


‫ثم ذكر ما يترتب على الستغفار والتوبة فقال‪ُ { :‬يمَ ّت ْعكُمْ مَتَاعًا َ‬
‫تتمتعون به وتنتفعون‪.‬‬

‫ضلٍ َفضْلَهُ } أي‪ :‬يعطي أهل‬


‫سمّى } أي‪ :‬إلى وقت وفاتكم { وَ ُيؤْتِ } منكم { ُكلّ ذِي َف ْ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫{ إِلَى َأ َ‬
‫الحسان والبر من فضله وبره‪ ،‬ما هو جزاء لحسانهم‪ ،‬من حصول ما يحبون‪ ،‬ودفع ما يكرهون‪.‬‬

‫عذَابَ‬
‫{ وَإِنْ َتوَّلوْا } عن ما دعوتكم إليه‪ ،‬بل أعرضتم عنه‪ ،‬وربما كذبتم به { فَإِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫َيوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يوم القيامة الذي يجمع ال فيه الولين والخرين‪ ،‬فيجازيهم بأعمالهم‪ ،‬إن خيرا‬
‫فخير‪ ،‬وإن شرا فشر‪.‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ } كالدليل على إحياء ال الموتى‪ ،‬فإنه قدير على كل شيء‬
‫وفي قوله‪ { :‬وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫‪ ،‬ومن جملة الشياء إحياء الموتى‪ ،‬وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين‪ ،‬فيجب وقوع ذلك عقل‬
‫ونقل‪.‬‬
‫ن َومَا‬
‫خفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ‬
‫ن صُدُورَ ُهمْ لِيَسْ َت ْ‬
‫{ ‪ { } 5‬أَلَا إِ ّنهُمْ يَثْنُو َ‬
‫ُيعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }‬

‫ن صُدُورَ ُهمْ } أي‪ :‬يميلونها‬


‫يخبر تعالى عن جهل المشركين‪ ،‬وشدة ضللهم‪ ،‬أنهم { يَثْنُو َ‬
‫خفُوا } من ال‪ ،‬فتقع صدورهم حاجبة لعلم ال بأحوالهم‪ ،‬وبصره لهيئاتهم‪.‬‬
‫{ لِ َيسْتَ ْ‬

‫قال تعالى ‪-‬مبينا خطأهم في هذا الظن‪ { -‬أَلَا حِينَ يَسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ } أي‪ :‬يتغطون بها‪ ،‬يعلمهم في‬
‫تلك الحال‪ ،‬التي هي من أخفى الشياء‪.‬‬

‫بل { َيعَْلمُ مَا يُسِرّونَ } من القوال والفعال { َومَا ُيعْلِنُونَ } منها‪ ،‬بل ما هو أبلغ من ذلك‪ ،‬وهو‪{ :‬‬
‫إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي‪ :‬بما فيها من الرادات‪ ،‬والوساوس‪ ،‬والفكار‪ ،‬التي لم ينطقوا بها‪،‬‬
‫سرا ول جهرا‪ ،‬فكيف تخفى عليه حالكم‪ ،‬إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه‪.‬‬

‫ويحتمل أن المعنى في هذا أن ال يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته‪ ،‬أنهم ‪-‬من‬
‫شدة إعراضهم‪ -‬يثنون صدورهم‪ ،‬أي‪ :‬يحدودبون حين يرون الرسول صلى ال عليه وسلم لئل‬
‫يراهم ويسمعهم دعوته‪ ،‬ويعظهم بما ينفعهم‪ ،‬فهل فوق هذا العراض شيء؟"‬

‫ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم‪ ،‬وأنهم ل يخفون عليه‪ ،‬وسيجازيهم بصنيعهم‪.‬‬

‫عهَا ُكلّ فِي كِتَابٍ‬


‫{ ‪َ { } 6‬ومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ‬
‫مُبِينٍ }‬

‫أي‪ :‬جميع ما دب على وجه الرض‪ ،‬من آدمي‪ ،‬أو حيوان بري أو بحري‪ ،‬فال تعالى قد تكفل‬
‫بأرزاقهم وأقواتهم‪ ،‬فرزقها على ال‪.‬‬

‫عهَا } أي‪ :‬يعلم مستقر هذه الدواب‪ ،‬وهو‪ :‬المكان الذي تقيم فيه وتستقر‬
‫{ وَ َيعْلَمُ ُمسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ‬
‫فيه‪ ،‬وتأوي إليه‪ ،‬ومستودعها‪ :‬المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها‪ ،‬وعوارض أحوالها‪.‬‬

‫{ ُكلّ } من تفاصيل أحوالها { فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع‬
‫الحوادث الواقعة‪ ،‬والتي تقع في السماوات والرض‪ .‬الجميع قد أحاط بها علم ال‪ ،‬وجرى بها‬
‫قلمه‪ ،‬ونفذت فيها مشيئته‪ ،‬ووسعها رزقه‪ ،‬فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها‪ ،‬وأحاط‬
‫علما بذواتها‪ ،‬وصفاتها‪.‬‬

‫شهُ عَلَى ا ْلمَاءِ لِيَبُْل َوكُمْ‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َوكَانَ عَرْ ُ‬
‫{ ‪ { } 8 - 7‬وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ‬
‫عمَلًا وَلَئِنْ قُ ْلتَ إِ ّنكُمْ مَ ْبعُوثُونَ مِنْ َبعْدِ ا ْل َم ْوتِ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا ِإلّا ِ‬
‫أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ‬
‫سهُ أَلَا َيوْمَ يَأْتِي ِهمْ لَيْسَ َمصْرُوفًا عَ ْن ُهمْ‬
‫* وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَى ُأمّةٍ َمعْدُو َدةٍ لَ َيقُولُنّ مَا َيحْبِ ُ‬
‫وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ }‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد وآخرها يوم الجمعة { و‬
‫يخبر تعالى أنه { خَلَقَ ال ّ‬
‫} حين خلق السماوات والرض { كَانَ عَرْشُهُ عَلَى ا ْلمَاءِ } فوق السماء السابعة‪.‬‬

‫فبعد أن خلق السماوات والرض استوى عليه‪ ،‬يدبر المور‪ ،‬ويصرفها كيف شاء من الحكام‬
‫عمَلًا } أي‪ :‬ليمتحنكم‪ ،‬إذ خلق لكم ما‬
‫القدرية‪ ،‬والحكام الشرعية‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَحْسَنُ َ‬
‫في السماوات والرض بأمره ونهيه‪ ،‬فينظر أيكم أحسن عمل‪.‬‬

‫قال الفضيل بن عياض رحمه ال‪" :‬أخلصه وأصوبه"‬

‫قيل يا أبا علي‪" :‬ما أخلصه وأصوبه" ؟‪.‬‬

‫فقال‪ :‬إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا‪ ،‬لم يقبل‪.‬‬

‫وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل‪ ،‬حتى يكون خالصا صوابا‪.‬‬

‫والخالص‪ :‬أن يكون لوجه ال‪ ،‬والصواب‪ :‬أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة‪ ،‬وهذا كما قال‬
‫ن وَالْإِنْسَ ِإلّا لِ َيعْبُدُونِ }‬
‫تعالى‪َ { :‬ومَا خََل ْقتُ الْجِ ّ‬

‫سمَاوَاتٍ َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫وقال تعالى‪ { :‬اللّهُ الّذِي خََلقَ سَبْعَ َ‬
‫شيْءٍ عِ ْلمًا } فال تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته‬
‫شيْءٍ قَدِي ٌر وَأَنّ اللّهَ قَدْ َأحَاطَ ِب ُكلّ َ‬
‫عَلَى ُكلّ َ‬
‫بأسمائه وصفاته‪ ،‬وأمرهم بذلك‪ ،‬فمن انقاد‪ ،‬وأدى ما أمر به‪ ،‬فهو من المفلحين‪ ،‬ومن أعرض عن‬
‫ذلك‪ ،‬فأولئك هم الخاسرون‪ ،‬ول بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم‪.‬‬

‫ولهذا ذكر ال تكذيب المشركين بالجزاء‪ ،‬فقال‪ { :‬وَلَئِنْ قُ ْلتَ إِ ّنكُمْ مَ ْبعُوثُونَ مِنْ َبعْدِ ا ْل َموْتِ لَ َيقُولَنّ‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ َهذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ }‬
‫أي‪ :‬ولئن قلت لهؤلء وأخبرتهم بالبعث بعد الموت‪ ،‬لم يصدقوك‪ ،‬بل كذبوك أشد التكذيب ‪،‬‬
‫وقدحوا فيما جئت به‪ ،‬وقالوا‪ { :‬إِنْ َهذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أل وهو الحق المبين‪.‬‬

‫{ وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَى ُأمّةٍ َمعْدُو َدةٍ } أي‪ :‬إلى وقت مقدر فتباطأوه‪ ،‬لقالوا من جهلهم‬
‫وظلمهم { مَا يَحْ ِبسُهُ } ومضمون هذا تكذيبهم به‪ ،‬فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجل على كذب‬
‫الرسول المخبر بوقوع العذاب‪ ،‬فما أبعد هذا الستدلل"‬

‫{ أَلَا َيوْمَ يَأْتِيهِمْ } العذاب { لَيْسَ َمصْرُوفًا عَ ْنهُمْ } فيتمكنون من النظر في أمرهم‪.‬‬

‫{ وَحَاقَ ِبهِمْ } أي‪ :‬نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } من العذاب‪ ،‬حيث تهاونوا به‪ ،‬حتى جزموا‬
‫بكذب من جاء به‪.‬‬

‫حمَةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنّهُ لَيَئُوسٌ َكفُورٌ * وَلَئِنْ َأ َذقْنَاهُ َن ْعمَاءَ‬
‫{ ‪ { } 10 - 9‬وَلَئِنْ أَ َذقْنَا الْإِنْسَانَ مِنّا َر ْ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ‬
‫ن صَبَرُوا وَ َ‬
‫َبعْ َد ضَرّاءَ َمسّتْهُ لَ َيقُولَنّ ذَ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي إِنّهُ َلفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلّا الّذِي َ‬
‫أُولَ ِئكَ َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ كَبِيرٌ }‬

‫يخبر تعالى عن طبيعة النسان‪ ،‬أنه جاهل ظالم بأن ال إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق‪،‬‬
‫والولد‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ثم نزعها منه‪ ،‬فإنه يستسلم لليأس‪ ،‬وينقاد للقنوط‪ ،‬فل يرجو ثواب ال‪ ،‬ول‬
‫يخطر بباله أن ال سيردها أو مثلها‪ ،‬أو خيرا منها عليه‪.‬‬

‫وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته‪ ،‬أنه يفرح ويبطر‪ ،‬ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير‪،‬‬
‫ويقول‪ { :‬ذَ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي إِنّهُ َلفَرِحٌ فَخُورٌ } أي‪ :‬فرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه‪ ،‬فخور‬
‫بنعم ال على عباد ال‪ ،‬وذلك يحمله على الشر والبطر والعجاب بالنفس‪ ،‬والتكبر على الخلق‪،‬‬
‫واحتقارهم وازدرائهم‪ ،‬وأي عيب أشد من هذا؟"‬

‫وهذه طبيعة النسان من حيث هو‪ ،‬إل من وفقه ال وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده‪ ،‬وهم‬
‫الذين صبروا أنفسهم عند الضراء فلم ييأسوا‪ ،‬وعند السراء فلم يبطروا‪ ،‬وعملوا الصالحات من‬
‫واجبات ومستحبات‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َمغْفِ َرةٌ } لذنوبهم‪ ،‬يزول بها عنهم كل محذور‪ { .‬وََأجْرٌ كَبِيرٌ } وهو‪ :‬الفوز بجنات‬
‫النعيم‪ ،‬التي فيها ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪.‬‬
‫صدْ ُركَ أَنْ َيقُولُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ‬
‫ك َوضَائِقٌ بِ ِه َ‬
‫{ ‪ { } 14 - 12‬فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ‬
‫شيْءٍ َوكِيلٌ * َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبعَشْرِ‬
‫كَنْزٌ َأوْ جَاءَ َمعَهُ مََلكٌ إِ ّنمَا أَ ْنتَ نَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫طعْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ * فَإِنْ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلكُمْ‬
‫سوَرٍ مِثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَ َ‬
‫ُ‬
‫فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِ ْلمِ اللّ ِه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ }‬

‫يقول تعالى ‪ -‬مسليا لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬عن تكذيب المكذبين‪ { :-‬فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ‬
‫صدْ ُركَ أَنْ َيقُولُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ } أي‪ :‬ل ينبغي هذا لمثلك‪ ،‬أن‬
‫ك َوضَائِقٌ بِ ِه َ‬
‫مَا يُوحَى إِلَ ْي َ‬
‫قولهم يؤثر فيك‪ ،‬ويصدك عما أنت عليه‪ ،‬فتترك بعض ما يوحى إليك‪ ،‬ويضيق صدرك لتعنتهم‬
‫بقولهم‪َ { :‬لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ جَاءَ َمعَهُ مََلكٌ } فإن هذا القول ناشئ من تعنت‪ ،‬وظلم‪ ،‬وعناد‪،‬‬
‫وضلل‪ ،‬وجهل بمواقع الحجج والدلة‪ ،‬فامض على أمرك‪ ،‬ول تصدك هذه القوال الركيكة التي‬
‫ل تصدر إل من سفيه ول يضق لذلك صدرك‪.‬‬

‫فهل أوردوا عليك حجة ل تستطيع حلها؟ أم قدحوا ببعض ما جئت به قدحا‪ ،‬يؤثر فيه وينقص‬
‫قدره‪ ،‬فيضيق صدرك لذلك؟!‬

‫شيْ ٍء َوكِيلٌ } فهو‬


‫أم عليك حسابهم‪ ،‬ومطالب بهدايتهم جبرا؟ { إِ ّنمَا أَ ْنتَ َنذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫الوكيل عليهم‪ ،‬يحفظ أعمالهم‪ ،‬ويجازيهم بها أتم الجزاء‪.‬‬

‫{ َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي‪ :‬افترى محمد هذا القرآن؟‬

‫طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ‬


‫ت وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ‬
‫سوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَا ٍ‬
‫فأجابهم بقوله‪ُ { :‬قلْ } لهم { فَأْتُوا ِبعَشْرِ ُ‬
‫كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } أنه قد افتراه ‪ ،‬فإنه ل فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلغة‪ ،‬وأنتم العداء حقا‪،‬‬
‫الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته‪ ،‬فإن كنتم صادقين‪ ،‬فأتوا بعشر سور مثله‬
‫مفتريات‪.‬‬

‫{ فَإِنْ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلكُمْ } على شيء من ذلكم { فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِلْمِ اللّهِ } [من عند ال] لقيام‬
‫الدليل والمقتضي‪ ،‬وانتفاء المعارض‪.‬‬

‫{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } أي‪ :‬واعلموا أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ أي‪ :‬هو وحده المستحق لللوهية والعبادة‪،‬‬
‫{ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ } أي‪ :‬منقادون للوهيته‪ ،‬مستسلمون لعبوديته‪ ،‬وفي هذه اليات إرشاد إلى أنه‬
‫ل ينبغي للداعي إلى ال أن يصده اعتراض المعترضين‪ ،‬ول قدح القادحين‪.‬‬
‫خصوصا إذا كان القدح ل مستند له‪ ،‬ول يقدح فيما دعا إليه‪ ،‬وأنه ل يضيق صدره‪ ،‬بل يطمئن‬
‫بذلك‪ ،‬ماضيا على أمره‪ ،‬مقبل على شأنه‪ ،‬وأنه ل يجب إجابة اقتراحات المقترحين للدلة التي‬
‫يختارونها‪ .‬بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض‪ ،‬على جميع المسائل والمطالب‪ .‬وفيها أن‬
‫هذا القرآن‪ ،‬معجز بنفسه‪ ،‬ل يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله‪ ،‬ول بعشر سور من مثله‪ ،‬بل ول‬
‫بسورة من مثله‪ ،‬لن العداء البلغاء الفصحاء‪ ،‬تحداهم ال بذلك‪ ،‬فلم يعارضوه‪ ،‬لعلمهم أنهم ل‬
‫قدرة فيهم على ذلك‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬أن مما يطلب فيه العلم‪ ،‬ول يكفي غلبة الظن‪ ،‬علم القرآن‪ ،‬وعلم التوحيد‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫{ فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِلْمِ اللّ ِه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ }‬

‫خسُونَ‬
‫عمَاَلهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْ َ‬
‫{ ‪ { } 16 - 15‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُن َوفّ إِلَ ْي ِهمْ أَ ْ‬
‫طلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫* أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َلهُمْ فِي الْآخِ َرةِ إِلّا النّا ُر َوحَبِطَ مَا صَ َنعُوا فِيهَا وَبَا ِ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا } أي‪ :‬كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا‪،‬‬
‫وعلى زينتها من النساء والبنين‪ ،‬والقناطير المقنطرة‪ ،‬من الذهب‪ ،‬والفضة‪ ،‬والخيل المسومة‪،‬‬
‫والنعام والحرث‪ .‬قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الشياء‪ ،‬ولم يجعل لدار القرار من‬
‫إرادته شيئا‪ ،‬فهذا ل يكون إل كافرا‪ ،‬لنه لو كان مؤمنا‪ ،‬لكان ما معه من اليمان يمنعه أن تكون‬
‫جميع إرادته للدار الدنيا‪ ،‬بل نفس إيمانه وما تيسر له من العمال أثر من آثار إرادته الدار‬
‫الخرة‪.‬‬

‫عمَاَل ُهمْ فِيهَا } أي‪ :‬نعطيهم ما قسم لهم‬


‫ولكن هذا الشقي‪ ،‬الذي كأنه خلق للدنيا وحدها { ُن َوفّ إِلَ ْيهِمْ أَ ْ‬
‫في أم الكتاب من ثواب الدنيا‪.‬‬

‫خسُونَ } أي‪ :‬ل ينقصون شيئا مما قدر لهم‪ ،‬ولكن هذا منتهى نعيمهم‪.‬‬
‫{ وَ ُهمْ فِيهَا لَا يُبْ َ‬

‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َل ُهمْ فِي الْآخِ َرةِ إِلّا النّارُ } خالدين فيها أبدا‪ ،‬ل يفتّر عنهم العذاب‪ ،‬وقد حرموا‬
‫جزيل الثواب‪.‬‬

‫{ وَحَ ِبطَ مَا صَ َنعُوا فِيهَا } أي‪ :‬في الدنيا‪ ،‬أي‪ :‬بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق‬
‫وأهله‪ ،‬وما عملوه من أعمال الخير التي ل أساس لها‪ ،‬ول وجود لشرطها‪ ،‬وهو اليمان‪.‬‬

‫حمَةً‬
‫{ ‪َ { } 17‬أ َفمَنْ كَانَ عَلَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّ ِه وَيَتْلُوهُ شَا ِهدٌ مِنْ ُه َومِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ِإمَامًا وَرَ ْ‬
‫أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه َومَنْ َي ْكفُرْ بِهِ مِنَ الَْأحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ فَلَا َتكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ‬
‫وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫يذكر تعالى‪ ،‬حال رسوله محمد صلى ال عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه‪،‬‬
‫وحججه الموقنين بذلك‪ ،‬وأنهم ل يوصف بهم غيرهم ول يكون أحد مثلهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬أ َفمَنْ كَانَ عَلَى‬
‫بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ } بالوحي الذي أنزل ال فيه المسائل المهمة‪ ،‬ودلئلها الظاهرة‪ ،‬فتيقن تلك البينة‪.‬‬

‫{ وَيَتْلُوهُ } أي‪ :‬يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر { شَا ِهدٌ مِنْهُ } وهو شاهد الفطرة المستقيمة‪،‬‬
‫والعقل الصحيح‪ ،‬حين شهد حقيقة ما أوحاه ال وشرعه‪ ،‬وعلم بعقله حسنه‪ ،‬فازداد بذلك إيمانا إلى‬
‫إيمانه‪.‬‬

‫حمَةً } لهم‪،‬‬
‫{ و } ثم شاهد ثالث وهو { كِتَابُ مُوسَى } التوراة التي جعلها ال { ِإمَامًا } للناس { وَرَ ْ‬
‫يشهد لهذا القرآن بالصدق‪ ،‬ويوافقه فيما جاء به من الحق‪.‬‬

‫أي‪ :‬أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد اليمان‪ ،‬وقامت لديه أدلة اليقين‪ ،‬كمن هو في‬
‫الظلمات والجهالت‪ ،‬ليس بخارج منها؟!‬

‫ل يستوون عند ال‪ ،‬ول عند عباد ال‪ { ،‬أُولَ ِئكَ } أي‪ :‬الذين وفقوا لقيام الدلة عندهم‪ُ { ،‬ي ْؤمِنُونَ }‬
‫بالقرآن حقيقة‪ ،‬فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{ َومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ } أي‪ :‬القرآن { مِنَ الَْأحْزَابِ } أي‪ :‬سائر طوائف أهل الرض‪ ،‬المتحزبة على رد‬
‫الحق‪ { ،‬فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ } ل بد من وروده إليها { فَلَا َتكُ فِي مِرْيَةٍ منه } أي‪ :‬في أدنى شك { إِنّهُ‬
‫ك وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ } إما جهل منهم وضلل‪ ،‬وإما ظلما وعنادا وبغيا‪،‬‬
‫حقّ مِنْ رَ ّب َ‬
‫الْ َ‬
‫وإل فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما‪ ،‬فل بد أن يؤمن به‪ ،‬لنه يرى ما يدعوه إلى اليمان من‬
‫كل وجه‪.‬‬

‫شهَادُ‬
‫{ ‪َ { } 22 - 18‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا أُولَ ِئكَ ُيعْ َرضُونَ عَلَى رَ ّبهِ ْم وَ َيقُولُ الْأَ ْ‬
‫صدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُو َنهَا‬
‫َهؤُلَاءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَ ّبهِمْ َألَا َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ * الّذِينَ َي ُ‬
‫عوَجًا وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ *أُولَ ِئكَ لَمْ َيكُونُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ َومَا كَانَ َل ُهمْ مِنْ دُونِ اللّهِ‬
‫ِ‬
‫سمْ َع َومَا كَانُوا يُ ْبصِرُونَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ‬
‫عفُ َلهُمُ ا ْلعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْ َتطِيعُونَ ال ّ‬
‫مِنْ َأوْلِيَاءَ ُيضَا َ‬
‫خسَرُونَ }‬
‫سهُ ْم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ * لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ ُهمُ الْأَ ْ‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫َ‬
‫يخبر تعالى أنه ل أحد { َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } ويدخل في هذا كل من كذب على ال‪،‬‬
‫بنسبة الشريك له‪ ،‬أو وصفه بما ل يليق بجلله‪ ،‬أو الخبار عنه‪ ،‬بما لم يقل‪ ،‬أو ادعاء النبوة‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك من الكذب على ال‪ ،‬فهؤلء أعظم الناس ظلما { أُولَ ِئكَ ُيعْ َرضُونَ عَلَى رَ ّبهِمْ } ليجازيهم‬
‫شهَادُ } أي‪ :‬الذين شهدوا عليهم بافترائهم‬
‫بظلمهم‪ ،‬فعندما يحكم عليهم بالعقاب الشديد { َيقُولُ الَْأ ْ‬
‫علَى الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬لعنة ل تنقطع‪ ،‬لن‬
‫وكذبهم‪َ { :‬هؤُلَاءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَ ّبهِمْ أَلَا َلعْ َنةُ اللّهِ َ‬
‫ظلمهم صار وصفا لهم ملزما‪ ،‬ل يقبل التخفيف‪.‬‬

‫ثم وصف ظلمهم فقال‪ { :‬الّذِينَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } فصدوا بأنفسهم عن سبيل ال‪ ،‬وهي سبيل‬
‫الرسل‪ ،‬التي دعوا الناس إليها‪ ،‬وصدوا غيرهم عنها‪ ،‬فصاروا أئمة يدعون إلى النار‪.‬‬

‫عوَجًا } أي‪ :‬يجتهدون في ميلها‪ ،‬وتشيينها‪ ،‬وتهجينها‪ ،‬لتصير عند‬


‫{ وَيَ ْبغُو َنهَا } أي‪ :‬سبيل ال { ِ‬
‫الناس غير مستقيمة‪ ،‬فيحسنون الباطل ويقبحون الحق‪ ،‬قبحهم ال { وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ }‬

‫{ أُولَ ِئكَ َلمْ َيكُونُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬ليسوا فائتين ال‪ ،‬لنهم تحت قبضته وفي سلطانه‪.‬‬

‫{ َومَا كَانَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َأوْلِيَاءَ } فيدفعون عنهم المكروه‪ ،‬أو يحصلون لهم ما ينفعهم‪ ،‬بل‬
‫تقطعت بهم السباب‪.‬‬

‫عفُ َلهُمُ ا ْل َعذَابُ } أي‪ :‬يغلظ ويزداد‪ ،‬لنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم‪.‬‬
‫{ ُيضَا َ‬

‫سمْعَ } أي‪ :‬من بغضهم للحق ونفورهم عنه‪ ،‬ما كانوا يستطيعون أن‬
‫{ مَا كَانُوا يَسْ َتطِيعُونَ ال ّ‬
‫حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ *‬
‫يسمعوا آيات ال سماعا ينتفعون به { َفمَا َل ُهمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ * كَأَ ّنهُمْ ُ‬
‫سوَ َرةٍ } { َومَا كَانُوا يُ ْبصِرُونَ } أي‪ :‬ينظرون نظر عبرة وتفكر‪ ،‬فيما ينفعهم‪ ،‬وإنما هم‬
‫فَ ّرتْ مِنْ َق ْ‬
‫كالصم البكم الذين ل يعقلون‪.‬‬

‫سهُمْ } حيث فوتوها أعظم الثواب‪ ،‬واستحقوا أشد العذاب‪َ { ،‬وضَلّ عَ ْنهُمْ‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َ‬
‫مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } أي‪ :‬اضمحل دينهم الذي يدعون إليه ويحسنونه‪ ،‬ولم تغن عنهم آلهتهم التي‬
‫يعبدون من دون ال لما جاء أمر ربك‪.‬‬

‫خسَرُونَ } حصر الخسار فيهم‪ ،‬بل جعل لهم‬


‫{ لَا جَرَمَ } أي‪ :‬حقا وصدقا { أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ هُمُ الْأَ ْ‬
‫منه أشده‪ ،‬لشدة حسرتهم وحرمانهم وما يعانون من المشقة والعذاب‪ ،‬نستجير بال من حالهم‪.‬‬

‫ولما ذكر حال الشقياء‪ ،‬ذكر أوصاف السعداء وما لهم عند ال من الثواب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫صحَابُ الْجَنّةِ هُمْ‬
‫ت وَأَخْبَتُوا إِلَى رَ ّبهِمْ أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬
‫{ ‪ { } 24 - 23‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫سمِيعِ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلًا َأفَلَا تَ َذكّرُونَ }‬
‫عمَى وَالَْأصَ ّم وَالْ َبصِي ِر وَال ّ‬
‫فِيهَا خَاِلدُونَ * مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ كَالْأَ ْ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم‪ ،‬أي‪ :‬صدقوا واعترفوا‪ ,‬لما أمر ال باليمان به‪ ،‬من‬
‫أصول الدين وقواعده‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } المشتملة على أعمال القلوب والجوارح‪ ،‬وأقوال اللسان‪ { .‬وََأخْبَتُوا إِلَى‬
‫{ وَ َ‬
‫رَ ّبهِمْ } أي‪ :‬خضعوا له‪ ،‬واستكانوا لعظمته‪ ،‬وذلوا لسلطانه‪ ،‬وأنابوا إليه بمحبته‪ ،‬وخوفه‪ ،‬ورجائه‪،‬‬
‫والتضرع إليه‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الذين جمعوا تلك الصفات { َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } لنهم لم يتركوا من الخير‬
‫مطلبا‪ ،‬إل أدركوه‪ ،‬ول خيرا‪ ،‬إل سبقوا إليه‪.‬‬

‫عمَى وَالَْأصَمّ } هؤلء الشقياء‪،‬‬


‫{ مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ } أي‪ :‬فريق الشقياء‪ ،‬وفريق السعداء‪ { .‬كَالْأَ ْ‬
‫سمِيعِ } مثل السعداء‪.‬‬
‫{ وَالْ َبصِي ِر وَال ّ‬

‫{ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلًا } ل يستوون مثل‪ ،‬بل بينهما من الفرق ما ل يأتي عليه الوصف‪َ { ،‬أفَلَا‬
‫تَ َذكّرُونَ } العمال‪ ،‬التي تنفعكم‪ ،‬فتفعلونها‪ ،‬والعمال التي تضركم‪ ،‬فتتركونها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 49 - 25‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ }‬

‫إلى آخر القصة أي‪ :‬ولقد أرسلنا رسولنا نوحا أول المرسلين إلى قومه يدعوهم إلى ال وينهاهم‬
‫عن الشرك فقال لهم‪ { :‬إِنّي َلكُمْ َنذِيرٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬بينت لكم ما أنذرتكم به‪ ،‬بيانا زال به الشكال‪.‬‬

‫{ أَنْ لَا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ } أي‪ :‬أخلصوا العبادة ل وحده‪ ،‬واتركوا كل ما يعبد من دون ال‪ { .‬إِنّي‬
‫أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ أَلِيمٍ } إن لم تقوموا بتوحيد ال وتطيعوني‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 27‬فقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ } أي‪ :‬الشراف والرؤساء‪ ،‬رادين لدعوة نوح عليه‬
‫السلم‪ ،‬كما جرت العادة لمثالهم‪ ،‬أنهم أول من رد دعوة المرسلين‪.‬‬
‫{ مَا نَرَاكَ ِإلّا بَشَرًا مِثْلَنَا } وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه‪ ،‬مع أنه في نفس المر هو الصواب‪،‬‬
‫الذي ل ينبغي غيره‪ ،‬لن البشر يتمكن البشر‪ ،‬أن يتلقوا عنه‪ ،‬ويراجعوه في كل أمر‪ ،‬بخلف‬
‫الملئكة‪.‬‬

‫{ َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ إِلّا الّذِينَ ُهمْ أَرَا ِذلُنَا } أي‪ :‬ما نرى اتبعك منا إل الراذل والسفلة‪ ،‬بزعمهم‪.‬‬

‫وهم في الحقيقة الشراف‪ ،‬وأهل العقول‪ ،‬الذين انقادوا للحق ولم يكونوا كالراذل‪ ،‬الذين يقال لهم‬
‫المل‪ ،‬الذين اتبعوا كل شيطان مريد‪ ،‬واتخذوا آلهة من الحجر والشجر‪ ،‬يتقربون إليها ويسجدون‬
‫لها‪ ،‬فهل ترى أرذل من هؤلء وأخس؟‪.‬‬

‫وقولهم‪ { :‬بَا ِديَ الرّ ْأيِ } أي‪ :‬إنما اتبعوك من غير تفكر وروية‪ ،‬بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك‪،‬‬
‫يعنون بذلك‪ ،‬أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم‪ ،‬ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة‬
‫العقول‪ ،‬وبمجرد ما يصل إلى أولي اللباب‪ ،‬يعرفونه ويتحققونه‪ ،‬ل كالمور الخفية‪ ،‬التي تحتاج‬
‫إلى تأمل‪ ،‬وفكر طويل‪.‬‬

‫ضلٍ } أي‪ :‬لستم أفضل منا فننقاد لكم‪َ { ،‬بلْ َنظُّنكُمْ كَاذِبِينَ } وكذبوا في‬
‫علَيْنَا مِنْ َف ْ‬
‫{ َومَا نَرَى َلكُمْ َ‬
‫قولهم هذا‪ ،‬فإنهم رأوا من اليات التي جعلها ال مؤيدة لنوح‪ ،‬ما يوجب لهم الجزم التام على‬
‫صدقه‪.‬‬

‫ولهذا { قَالَ } لهم نوح مجاوبا { يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي } أي‪ :‬على يقين وجزم‪،‬‬
‫يعني‪ ،‬وهو الرسول الكامل القدوة‪ ،‬الذي ينقاد له أولو اللباب‪ ،‬ويضمحل في جنب عقله‪ ،‬عقول‬
‫الفحول من الرجال‪ ,‬وهو الصادق حقا‪ ،‬فإذا قال‪ :‬إني على بينة من ربي‪ ،‬فحسبك بهذا القول‪،‬‬
‫شهادة له وتصديقا‪.‬‬

‫حمَةً مِنْ عِنْ ِدهِ } أي‪ :‬أوحى إلي وأرسلني‪ ،‬ومنّ علي بالهداية‪َ { ،‬ف ُعمّ َيتْ عَلَ ْيكُمْ } أي‪:‬‬
‫{ وَآتَانِي َر ْ‬
‫خفيت عليكم‪ ،‬وبها تثاقلتم‪.‬‬

‫{ أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا } أي‪ :‬أنكرهكم على ما تحققناه‪ ،‬وشككتم أنتم فيه؟ { وَأَنْتُمْ َلهَا كَارِهُونَ } حتى‬
‫حرصتم على رد ما جئت به‪ ،‬ليس ذلك ضارنا‪ ،‬وليس بقادح من يقيننا فيه‪ ،‬ول قولكم وافتراؤكم‬
‫علينا‪ ،‬صادا لنا عما كنا عليه‪.‬‬

‫وإنما غايته أن يكون صادا لكم أنتم‪ ،‬وموجبا لعدم انقيادكم للحق الذي تزعمون أنه باطل‪ ،‬فإذا‬
‫وصلت الحال إلى هذه الغاية‪ ،‬فل نقدر على إكراهكم‪ ،‬على ما أمر ال‪ ،‬ول إلزامكم‪ ،‬ما نفرتم‬
‫عنه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا وَأَنْتُمْ َلهَا كَارِهُونَ }‬
‫علَيْهِ } أي‪ :‬على دعوتي إياكم { مَا لَا } فستستثقلون المغرم‪.‬‬
‫{ وَيَا َقوْمِ لَا أَسْأَُلكُمْ َ‬

‫علَى اللّهِ } وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء‪ ،‬فقال لهم‪َ { :‬ومَا أَنَا بِطَا ِردِ‬
‫{ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا } أي‪ :‬ما ينبغي لي‪ ،‬ول يليق بي ذلك‪ ،‬بل أتلقاهم بالرحب والكرام‪ ،‬والعزاز‬
‫والعظام { إِ ّنهُمْ مُلَاقُو رَ ّبهِمْ } فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم‪.‬‬

‫جهَلُونَ } حيث تأمرونني‪ ،‬بطرد أولياء ال‪ ,‬وإبعادهم عني‪ .‬وحيث رددتم‬
‫{ وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ‬
‫الحق‪ ،‬لنهم أتباعه‪ ،‬وحيث استدللتم على بطلن الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم‬
‫من فضل‪.‬‬

‫{ وَيَا َقوْمِ مَنْ يَ ْنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ طَ َردْ ُتهُمْ } أي‪ :‬من يمنعني من عذابه‪ ،‬فإن طردهم موجب‬
‫للعذاب والنكال‪ ،‬الذي ل يمنعه من دون ال مانع‪.‬‬

‫{ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ } ما هو النفع لكم والصلح‪ ،‬وتدبرون المور‪.‬‬

‫{ وَلَا َأقُولُ َلكُمْ عِ ْندِي خَزَائِنُ اللّ ِه وَلَا أَعَْلمُ ا ْلغَ ْيبَ وَلَا َأقُولُ إِنّي مََلكٌ } أي‪ :‬غايتي أني رسول ال‬
‫إليكم‪ ،‬أبشركم‪ ،‬وأنذركم‪ ،‬وأما ما عدا ذلك‪ ،‬فليس بيدي من المر شيء‪ ،‬فليست خزائن ال عندي‪،‬‬
‫أدبرها أنا‪ ،‬وأعطي من أشاء‪ ،‬وأحرم من أشاء‪ { ،‬وَلَا أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ } فأخبركم بسرائركم وبواطنكم {‬
‫وَلَا َأقُولُ إِنّي مََلكٌ } والمعنى‪ :‬أني ل أدعي رتبة فوق رتبتي‪ ،‬ول منزلة سوى المنزلة‪ ،‬التي‬
‫أنزلني ال بها‪ ،‬ول أحكم على الناس‪ ،‬بظني‪.‬‬

‫{ وَلَا َأقُولُ لِلّذِينَ تَ ْزدَرِي أَعْيُ ُنكُمْ } أي‪ :‬ضعفاء المؤمنين‪ ،‬الذين يحتقرهم المل الذين كفروا { لَنْ‬
‫سهِمْ } فإن كانوا صادقين في إيمانهم‪ ،‬فلهم الخير الكثير‪ ،‬وإن‬
‫ُيؤْتِ َيهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫كانوا غير ذلك‪ ،‬فحسابهم على ال‪.‬‬

‫{ إِنّي ِإذًا } أي‪ :‬إن قلت لكم شيئا مما تقدم { َلمِنَ الظّاِلمِينَ } وهذا تأييس منه‪ ،‬عليه الصلة‬
‫والسلم لقومه‪ ،‬أن ينبذ فقراء المؤمنين‪ ,‬أو يمقتهم‪ ،‬وتقنيع لقومه‪ ،‬بالطرق المقنعة للمنصف‪.‬‬

‫فلما رأوه‪ ،‬ل ينكف عما كان عليه من دعوتهم‪ ،‬ولم يدركوا منه مطلوبهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا‬
‫فََأكْثَ ْرتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا } من العذاب { إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } فما أجهلهم وأضلهم‪ ،‬حيث‬
‫قالوا هذه المقالة‪ ،‬لنبيهم الناصح‪.‬‬

‫فهل قالوا‪ :‬إن كانوا صادقين‪ :‬يا نوح قد نصحتنا‪ ،‬وأشفقت علينا‪ ,‬ودعوتنا إلى أمر‪ ،‬لم يتبين لنا‪،‬‬
‫فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك‪ ،‬وإل فأنت مشكور في نصحك‪ .‬لكان هذا الجواب المنصف‪ ،‬الذي‬
‫قد دعي إلى أمر خفي عليه‪ ،‬ولكنهم في قولهم‪ ،‬كاذبون‪ ،‬وعلى نبيهم متجرئون‪ .‬ولم يردوا ما قاله‬
‫بأدنى شبهة‪ ،‬فضل عن أن يردوه بحجة‪.‬‬

‫ولهذا عدلوا ‪ -‬من جهلهم وظلمهم ‪ -‬إلى الستعجال بالعذاب‪ ،‬وتعجيز ال‪ ،‬ولهذا أجابهم نوح عليه‬
‫السلم بقوله‪ { :‬إِ ّنمَا يَأْتِيكُمْ ِبهِ اللّهُ إِنْ شَاءَ } أي‪ :‬إن اقتضت مشيئته وحكمته‪ ،‬أن ينزله بكم‪ ،‬فعل‬
‫ذلك‪َ { .‬ومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ } ل‪ ،‬وأنا ليس بيدي من المر شيء‪.‬‬

‫{ وَلَا يَ ْن َف ُعكُمْ ُنصْحِي إِنْ أَ َر ْدتُ أَنْ أَ ْنصَحَ َلكُمْ إِنْ كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ ُي ْغوِ َيكُمْ } أي‪ :‬إن إرادة ال‬
‫غالبة‪ ،‬فإنه إذا أراد أن يغويكم‪ ،‬لردكم الحق‪ ،‬فلو حرصت غاية مجهودي‪ ،‬ونصحت لكم أتم‬
‫النصح ‪ -‬وهو قد فعل عليه السلم ‪ -‬فليس ذلك بنافع لكم شيئا‪ُ { ،‬هوَ رَ ّب ُكمْ } يفعل بكم ما يشاء‪،‬‬
‫جعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬
‫ويحكم فيكم بما يريد { وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬

‫{ َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح‪ ،‬كما كان السياق في قصته مع قومه‪،‬‬
‫وأن المعنى‪ :‬أن قومه يقولون‪ :‬افترى على ال كذبا‪ ،‬وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من ال‪ ،‬وأن‬
‫ال أمره أن يقول‪ُ { :‬قلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا تُجْ ِرمُونَ } أي‪ :‬كل عليه وزره {‬
‫وَلَا تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى }‬

‫ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتكون هذه الية معترضة‪ ،‬في‬
‫أثناء قصة نوح وقومه‪ ،‬لنها من المور التي ل يعلمها إل النبياء‪ ،‬فلما شرع ال في قصها على‬
‫رسوله‪ ،‬وكانت من جملة اليات الدالة على صدقه ورسالته‪ ،‬ذكر تكذيب قومه له مع البيان التام‬
‫فقال‪َ { :‬أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي‪ :‬هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه‪ ،‬أي‪ :‬فهذا من أعجب‬
‫القوال وأبطلها‪ ،‬فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب‪ ،‬ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب‪،‬‬
‫فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله‪.‬‬

‫فإذا زعموا ‪ -‬مع هذا ‪ -‬أنه افتراه‪ ،‬علم أنهم معاندون‪ ،‬ولم يبق فائدة في حجاجهم‪ ،‬بل اللئق في‬
‫هذه الحال‪ ،‬العراض عنهم‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي } أي‪ :‬ذنبي وكذبي‪ { ،‬وَأَنَا‬
‫بَرِيءٌ ِممّا تُجْ ِرمُونَ } أي‪ :‬فلم تستلجون في تكذيبي‪.‬‬

‫حيَ إِلَى نُوحٍ أَنّهُ لَنْ ُي ْؤمِنَ مِنْ َق ْومِكَ إِلّا مَنْ َقدْ آمَنَ } أي‪ :‬قد قسوا‪ { ،‬فَلَا تَبْتَئِسْ ِبمَا‬
‫وقوله‪ { :‬وَأُو ِ‬
‫كَانُوا َي ْفعَلُونَ } أي‪ :‬فل تحزن‪ ،‬ول تبال بهم‪ ,‬وبأفعالهم‪ ،‬فإن ال قد مقتهم‪ ،‬وأحق عليهم عذابه‬
‫الذي ل يرد‪.‬‬
‫{ وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا } أي‪ :‬بحفظنا‪ ،‬ومرأى منا‪ ,‬وعلى مرضاتنا‪ { ،‬وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا } أي‪ :‬ل تراجعني في إهلكهم‪ { ،‬إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ } أي‪ :‬قد حق عليهم القول‪ ،‬ونفذ فيهم‬
‫القدر‪.‬‬

‫فامتثل أمر ربه‪ ،‬وجعل يصنع الفلك { َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ َقوْمِهِ } ورأوا ما يصنع { سَخِرُوا‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ‬
‫سخَرُونَ * فَ َ‬
‫سخَرُ مِ ْنكُمْ َكمَا تَ ْ‬
‫سخَرُوا مِنّا } الن { فَإِنّا نَ ْ‬
‫مِنْهُ قَالَ إِنْ تَ ْ‬
‫عذَابٌ مُقِيمٌ } نحن أم أنتم‪ .‬وقد علموا ذلك‪ ،‬حين حل بهم العقاب‪.‬‬
‫حلّ عَلَيْهِ َ‬
‫يُخْزِي ِه وَيَ ِ‬

‫{ حَتّى إِذَا جَاءَ َأمْرُنَا } أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم { َوفَارَ التّنّورُ } أي‪ :‬أنزل ال السماء‬
‫بالماء بالمنهمر‪ ،‬وفجر الرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة‪ ،‬وأبعد ما‬
‫يكون عن الماء‪ ،‬تفجرت فالتقى الماء على أمر‪ ،‬قد قدر‪.‬‬

‫ح ِملْ فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي‪ :‬من كل صنف من أصناف المخلوقات‪،‬‬
‫{ قُلْنَا } لنوح‪ { :‬ا ْ‬
‫ذكر وأنثى‪ ،‬لتبقى مادة سائر الجناس وأما بقية الصناف الزائدة عن الزوجين‪ ،‬فلن السفينة ل‬
‫تطيق حملها { وَأَهَْلكَ إِلّا مَنْ سَبَقَ عَلَ ْيهِ ا ْل َقوْلُ } ممن كان كافرا‪ ،‬كابنه الذي غرق‪.‬‬

‫{ َومَنْ آمَنَ } { و } الحال أنه { مَا آمَنَ َمعَهُ إِلّا قَلِيلٌ }‬

‫{ َوقَالَ } نوح لمن أمره ال أن يحملهم‪ { :‬ا ْركَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّهِ َمجْرَاهَا َومُرْسَاهَا } أي‪ :‬تجري‬
‫على اسم ال‪ ،‬وترسو على اسم ال‪ ،‬وتجري بتسخيره وأمره‪.‬‬

‫{ إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رَحِيمٌ } حيث غفر لنا ورحمنا‪ ،‬ونجانا من القوم الظالمين‪.‬‬

‫ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال‪ { :‬وَ ِهيَ تَجْرِي ِب ِهمْ } أي‪ :‬بنوح‪ ،‬ومن ركب معه { فِي َموْجٍ‬
‫كَالْجِبَالِ } وال حافظها وحافظ أهلها { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } لما ركب‪ ،‬ليركب معه { َوكَانَ } ابنه‬
‫{ فِي َمعْ ِزلٍ } عنهم‪ ،‬حين ركبوا‪ ،‬أي‪ :‬مبتعدا وأراد منه‪ ،‬أن يقرب ليركب‪ ،‬فقال له‪ { :‬يَا بُ َنيّ‬
‫ا ْر َكبْ َمعَنَا وَلَا َتكُنْ مَعَ ا ْلكَافِرِينَ } فيصيبك ما يصيبهم‪.‬‬

‫فب { قَالَ } ابنه‪ ،‬مكذبا لبيه أنه ل ينجو إل من ركب معه السفينة‪.‬‬

‫{ سَآوِي إِلَى جَ َبلٍ َي ْعصِمُنِي مِنَ ا ْلمَاءِ } أي‪ :‬سأرتقي جبل‪ ،‬أمتنع به من الماء‪ ،‬فب { قَالَ } نوح‪{ :‬‬
‫حمَ } فل يعصم أحدا‪ ،‬جبل ول غيره‪ ،‬ولو تسبب بغاية ما‬
‫لَا عَاصِمَ الْ َي ْومَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِلّا مَنْ رَ ِ‬
‫يمكنه من السباب‪ ،‬لما نجا إن لم ينجه ال‪ { .‬وَحَالَ بَيْ َن ُهمَا ا ْل َموْجُ َفكَانَ } البن { مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ }‬
‫فلما أغرقهم ال ونجى نوحا ومن معه { َوقِيلَ يَا أَ ْرضُ ا ْبَلعِي مَا َءكِ } الذي خرج منك‪ ،‬والذي‬
‫سمَاءُ َأقِْلعِي } فامتثلتا لمر ال‪ ،‬فابتلعت‬
‫نزل إليك‪ ،‬أي‪ :‬ابلعي الماء الذي على وجهك { وَيَا َ‬
‫ضيَ الَْأمْرُ } بهلك المكذبين ونجاة‬
‫الرض ماءها‪ ,‬وأقلعت السماء‪ ،‬فنضب الماء من الرض‪َ { ،‬و ُق ِ‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫{ وَاسْ َت َوتْ } السفينة { عَلَى ا ْلجُو ِديّ } أي‪ :‬أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل‪.‬‬

‫{ َوقِيلَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬أتبعوا بعد هلكهم لعنة وبعدا‪ ,‬وسحقا ل يزال معهم‪.‬‬

‫ح ِملْ‬
‫ن وَعْ َدكَ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬وقد قلت لي‪ :‬فب { ا ْ‬
‫{ وَنَادَى نُوحٌ رَبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِ ّ‬
‫ن وَأَهَْلكَ } ولن تخلف ما وعدتني به‪.‬‬
‫فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْ ِ‬

‫لعله عليه الصلة والسلم‪ ،‬حملته الشفقة‪ ،‬وأن ال وعده بنجاة أهله‪ ،‬ظن أن الوعد لعمومهم‪ ،‬من‬
‫آمن‪ ،‬ومن لم يؤمن‪ ،‬فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬ففوض المر لحكمة ال البالغة‪.‬‬

‫ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ } أي‪ :‬هذا‬


‫فب { قَالَ } ال له‪ { :‬إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ } الذين وعدتك بإنجائهم { إِنّهُ َ‬
‫الدعاء الذي دعوت به‪ ،‬لنجاة كافر‪ ,‬ل يؤمن بال ول رسوله‪.‬‬

‫{ فَلَا َتسْأَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ } أي‪ :‬ما ل تعلم عاقبته‪،‬ومآله‪ ،‬وهل يكون خيرا‪ ،‬أو غير خير‪.‬‬

‫ظكَ أَنْ َتكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي‪ :‬أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين‪ ،‬وتنجو به من‬
‫عُ‬‫{ إِنّي أَ ِ‬
‫صفات الجاهلين‪.‬‬

‫فحينئذ ندم نوح‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬ندامة شديدة‪ ،‬على ما صدر منه‪ ,‬و { قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ‬
‫حمْنِي َأكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }‬
‫أَسْأََلكَ مَا لَيْسَ لِي ِبهِ عِلْمٌ وَإِلّا َتغْفِرْ لِي وَتَرْ َ‬

‫فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين‪ ،‬ودل هذا على أن نوحا‪ ،‬عليه السلم‪،‬‬
‫لم يكن عنده علم‪ ،‬بأن سؤاله لربه‪ ،‬في نجاة ابنه محرم‪ ،‬داخل في قوله { وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ‬
‫ظََلمُوا إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ } بل تعارض عنده المران‪ ،‬وظن دخوله في قوله‪ { :‬وَأَهَْلكَ }‬

‫وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم‪ ،‬والمراجعة فيهم‪.‬‬

‫ك وَعَلَى ُأمَمٍ ِممّنْ َم َعكَ } من الدميين وغيرهم من‬


‫{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْ ِبطْ بِسَلَامٍ مِنّا وَبَ َركَاتٍ عَلَ ْي َ‬
‫الزواج التي حملها معه‪ ،‬فبارك ال في الجميع‪ ،‬حتى ملوا أقطار الرض ونواحيها‪.‬‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪ :‬هذا النجاء‪ ،‬ليس بمانع لنا من أن‬
‫سهُمْ مِنّا َ‬
‫{ وَُأمَمٌ سَ ُنمَ ّت ُعهُمْ } في الدنيا { ُثمّ َيمَ ّ‬
‫من كفر بعد ذلك‪ ،‬أحللنا به العقاب‪ ،‬وإن متعوا قليل‪ ،‬فسيؤخذون بعد ذلك‪.‬‬

‫قال ال لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة‪ ،‬التي ل يعلمها‬
‫إل من منّ عليه برسالته‪.‬‬

‫{ تِ ْلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهَا إِلَ ْيكَ مَا كُ ْنتَ َتعَْل ُمهَا أَ ْنتَ وَلَا َق ْو ُمكَ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا } فيقولوا‪ :‬إنه كان‬
‫يعلمها‪.‬‬

‫فاحمد ال‪ ،‬واشكره‪ ،‬واصبر على ما أنت عليه‪ ،‬من الدين القويم‪ ،‬والصراط المستقيم‪ ،‬والدعوة إلى‬
‫ال { إِنّ ا ْلعَاقِبَةَ لِ ْلمُ ّتقِينَ } الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي‪ ،‬فستكون لك العاقبة على قومك‪،‬‬
‫كما كانت لنوح على قومه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 60 - 50‬وَإِلَى عَادٍ َأخَاهُمْ هُودًا }‬

‫إلى آخر القصة أي‪ { :‬و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } وهم القبيلة المعروفة في الحقاف‪ ,‬من أرض‬
‫اليمن‪َ { ،‬أخَا ُهمْ } في النسب { هُودًا } ليتمكنوا من الخذ عنه والعلم بصدقه‪.‬‬

‫فب { قَالَ } لهم { يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا ُمفْتَرُونَ } أي‪ :‬أمرهم بعبادة‬
‫ال وحده‪ ،‬ونهاهم عما هم عليه‪ ،‬من عبادة غير ال‪ ،‬وأخبرهم أنهم قد افتروا على ال الكذب في‬
‫عبادتهم لغيره‪ ,‬وتجويزهم لذلك‪ ،‬ووضح لهم وجوب عبادة ال‪ ،‬وفساد عبادة ما سواه‪.‬‬

‫ثم ذكر عدم المانع لهم من النقياد فقال { يَا َقوْمِ لَا أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرًا } أي‪ :‬غرامة من أموالكم‪،‬‬
‫على ما دعوتكم إليه‪ ،‬فتقولوا‪ :‬هذا يريد أن يأخذ أموالنا‪ ،‬وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانا‪.‬‬

‫علَى الّذِي فَطَرَنِي َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } ما أدعوكم إليه‪ ،‬وأنه موجب لقبوله‪ ،‬منتف المانع‬
‫{ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ‬
‫عن رده‪.‬‬

‫{ وَيَا َقوْمِ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ } عما مضى منكم { ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه‪ ،‬بالتوبة النصوح‪،‬‬
‫والنابة إلى ال تعالى‪.‬‬

‫سمَاءَ عَلَ ْي ُكمْ مِدْرَارًا } بكثرة المطار التي تخصب بها الرض‪،‬‬
‫سلِ ال ّ‬
‫فإنكم إذا فعلتم ذلك { يُ ْر ِ‬
‫ويكثر خيرها‪.‬‬
‫{ وَيَزِ ْد ُكمْ ُق ّوةً إِلَى ُقوّ ِتكُمْ } فإنهم كانوا من أقوى الناس‪ ،‬ولهذا قالوا‪ { :‬من أشد منا قوة } ؟ ‪،‬‬
‫فوعدهم أنهم إن آمنوا‪ ،‬زادهم قوة إلى قوتهم‪.‬‬

‫{ وَلَا تَ َتوَّلوْا } عنه‪ ،‬أي‪ :‬عن ربكم { مُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬مستكبرين عن عبادته‪ ،‬متجرئين على‬
‫محارمه‪.‬‬

‫فب { قَالُوا } رادين لقوله‪ { :‬يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } إن كان قصدهم بالبينة البينة التي يقترحونها‪،‬‬
‫فهذه غير لزمة للحق‪ ،‬بل اللزم أن يأتي النبي بآية تدل على صحة ما جاء به‪ ،‬وإن كان قصدهم‬
‫أنه لم يأتهم ببينة‪ ،‬تشهد لما قاله بالصحة‪ ،‬فقد كذبوا في ذلك‪ ،‬فإنه ما جاء نبي لقومه‪ ،‬إل وبعث‬
‫ال على يديه‪ ،‬من اليات ما يؤمن على مثله البشر‪.‬‬

‫ولو لم يكن له آية‪ ،‬إل دعوته إياهم لخلص الدين ل‪ ،‬وحده ل شريك له‪ ،‬والمر بكل عمل‬
‫صالح‪ ،‬وخلق جميل‪ ،‬والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بال‪ ،‬والفواحش‪ ،‬والظلم‪ ،‬وأنواع‬
‫المنكرات‪ ،‬مع ما هو مشتمل عليه هود‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬من الصفات‪ ،‬التي ل تكون إل لخيار الخلق‬
‫وأصدقهم‪ ،‬لكفى بها آيات وأدلة‪ ،‬على صدقه‪.‬‬

‫بل أهل العقول‪ ،‬وأولو اللباب‪ ،‬يرون أن هذه الية‪ ،‬أكبر من مجرد الخوارق‪ ،‬التي يراها بعض‬
‫الناس‪ ،‬هي المعجزات فقط‪ .‬ومن آياته‪ ،‬وبيناته الدالة على صدقه‪ ،‬أنه شخص واحد‪ ،‬ليس له‬
‫أنصار ول أعوان‪ ،‬وهو يصرخ في قومه‪ ،‬ويناديهم‪ ،‬ويعجزهم‪ ،‬ويقول لهم‪ { :‬إِنّي َت َوكّلْتُ عَلَى‬
‫اللّهِ رَبّي وَرَ ّبكُمْ }‬

‫جمِيعًا ثُمّ لَا تُ ْنظِرُونِ } وهم‬


‫شهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ ِممّا تُشْ ِركُونَ * مِنْ دُونِهِ َفكِيدُونِي َ‬
‫شهِدُ اللّ َه وَا ْ‬
‫{ إِنّي ُأ ْ‬
‫العداء الذين لهم السطوة والغلبة‪ ،‬ويريدون إطفاء ما معه من النور‪ ،‬بأي طريق كان‪ ،‬وهو غير‬
‫مكترث منهم‪ ،‬ول مبال بهم‪ ،‬وهم عاجزون ل يقدرون أن ينالوه بشيء من السوء‪ ،‬إن في ذلك‬
‫ليات لقوم يعقلون‪.‬‬

‫وقولهم‪َ { :‬ومَا َنحْنُ بِتَا ِركِي آِلهَتِنَا عَنْ َقوِْلكَ } أي‪ :‬ل نترك عبادة آلهتنا لمجرد قولك‪ ،‬الذي ما‬
‫أقمت عليه بينة بزعمهم‪َ { ،‬ومَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ } وهذا تأييس منهم لنبيهم‪ ،‬هود عليه السلم‪ ,‬في‬
‫إيمانهم‪ ،‬وأنهم ل يزالون في كفرهم يعمهون‪.‬‬

‫{ إِنْ َنقُولُ } فيك { إِلّا اعْتَرَاكَ َب ْعضُ آِلهَتِنَا بِسُوءٍ } أي‪ :‬أصابتك بخبال وجنون‪ ،‬فصرت تهذي بما‬
‫ل يعقل‪ .‬فسبحان من طبع على قلوب الظالمين‪ ،‬كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق‪،‬‬
‫بهذه المرتبة‪ ،‬التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لول أن ال حكاها عنهم‪.‬‬
‫ولهذا بين هود‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ ،‬أنه واثق غاية الوثوق‪ ،‬أنه ل يصيبه منهم‪ ،‬ول من آلهتهم‬
‫جمِيعًا } أي‪:‬‬
‫ش َهدُوا أَنّي بَرِيءٌ ِممّا ُتشْ ِركُونَ مِنْ دُونِهِ َفكِيدُونِي َ‬
‫شهِدُ اللّ َه وَا ْ‬
‫أذى‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّي أُ ْ‬
‫اطلبوا لي الضرر كلكم‪ ،‬بكل طريق تتمكنون بها مني { ثُمّ لَا تُنْظِرُونِ } أي‪ :‬ل تمهلوني‪.‬‬

‫{ إِنّي َت َوكّ ْلتُ عَلَى اللّهِ } أي‪ :‬اعتمدت في أمري كله على ال { رَبّي وَرَ ّبكُمْ } أي‪ :‬هو خالق‬
‫الجميع‪ ،‬ومدبرنا وإياكم‪ ،‬وهو الذي ربانا‪.‬‬

‫{ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا ُهوَ آخِذٌ بِنَاصِيَ ِتهَا } فل تتحرك ول تسكن إل بإذنه‪ ،‬فلو اجتمعتم جميعا على‬
‫اليقاع بي‪ ،‬وال لم يسلطكم علي‪ ،‬لم تقدروا على ذلك‪ ،‬فإن سلطكم‪ ،‬فلحكمة أرادها‪.‬‬

‫فب { إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي‪ :‬على عدل‪ ،‬وقسط‪ ،‬وحكمة‪ ،‬وحمد في قضائه وقدره‪ ،‬في‬
‫شرعه وأمره‪ ،‬وفي جزائه وثوابه‪ ،‬وعقابه‪ ،‬ل تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم‪ ،‬التي يحمد‪،‬‬
‫ويثنى عليه بها‪.‬‬

‫{ فَإِنْ َتوَّلوْا } عما دعوتكم إليه { َفقَدْ أَبَْلغْ ُت ُكمْ مَا أُرْسِ ْلتُ بِهِ إِلَ ْيكُمْ } فلم يبق عليّ تبعة من شأنكم‪.‬‬

‫{ وَيَسْ َتخِْلفُ رَبّي َق ْومًا غَيْ َركُمْ } يقومون بعبادته‪ ،‬ول يشركون به شيئا‪ { ،‬وَلَا َتضُرّونَهُ شَيْئًا } فإن‬
‫ضرركم‪ ،‬إنما يعود عليكم‪ ،‬فال ل تضره معصية العاصين‪ .‬ول تنفعه طاعة المطيعين { من‬
‫حفِيظٌ } ]‪.‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } [ { إِنّ رَبّي عَلَى ُكلّ َ‬

‫جعَلَتْهُ‬
‫شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ إِلّا َ‬
‫{ وََلمّا جَاءَ َأمْرُنَا } أي‪ :‬عذابنا بإرسال الريح العقيم‪ ،‬التي { مَا َتذَرُ مِنْ َ‬
‫كَال ّرمِيمِ }‬

‫غلِيظٍ } أي‪ :‬عظيم شديد‪ ،‬أحله ال‬


‫عذَابٍ َ‬
‫حمَةٍ مِنّا وَنَجّيْنَاهُمْ مِنْ َ‬
‫{ َنجّيْنَا هُودًا وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ بِ َر ْ‬
‫بعاد‪ ،‬فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم‪.‬‬

‫جحَدُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ } ولهذا قالوا‬


‫{ وَتِ ْلكَ عَادٌ } الذين أوقع ال بهم ما أوقع‪ ،‬بظلم منهم لنهم { َ‬
‫صوْا رُسُلَهُ }‬
‫ع َ‬
‫لهود‪ { :‬ما جئتنا ببينة } فتبين بهذا أنهم متيقنون لدعوته‪ ،‬وإنما عاندوا وجحدوا { وَ َ‬
‫لن من عصى رسول‪ ،‬فقد عصى جميع المرسلين‪ ،‬لن دعوتهم واحدة‪.‬‬

‫{ وَاتّ َبعُوا َأمْرَ ُكلّ جَبّارٍ } أي‪ :‬متسلط على عباد ال بالجبروت‪ { ،‬عنيد } أي‪ :‬معاند ليات ال‪،‬‬
‫فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم‪ ،‬واتبعوا كل غاش لهم‪ ،‬يريد إهلكهم ل جرم أهلكهم ال‪.‬‬
‫{ وَأُتْ ِبعُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً } فكل وقت وجيل‪ ،‬إل ولنبائهم القبيحة‪ ،‬وأخبارهم الشنيعة‪ ،‬ذكر‬
‫يذكرون به‪ ،‬وذم يلحقهم { وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } لهم أيضا لعنة‪ { ،‬أَلَا إِنّ عَادًا َكفَرُوا رَ ّب ُهمْ } أي‪ :‬جحدوا‬
‫من خلقهم ورزقهم ورباهم‪ { .‬أَلَا ُبعْدًا ِلعَادٍ َقوْمِ هُودٍ } أي‪ :‬أبعدهم ال عن كل خير وقربهم من كل‬
‫شر‪.‬‬

‫{ ‪ { } 68 - 61‬وَإِلَى َثمُودَ أَخَاهُ ْم صَالِحًا }‬

‫إلى آخر قصتهم ‪ ،‬أي‪ { :‬و } أرسلنا { إِلَى َثمُودَ } وهم‪ :‬عاد الثانية‪ ،‬المعروفون‪ ،‬الذين يسكنون‬
‫الحجر‪ ،‬ووادي القرى‪ { ،‬أَخَاهُمْ } في النسب { صَاِلحًا } عبد ال ورسوله صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫يدعوهم إلى عبادة ال وحده‪ ،‬فب { قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ } أي‪ :‬وحدوه‪ ،‬وأخلصوا له الدين { مَا‬
‫َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ } ل من أهل السماء‪ ،‬ول من أهل الرض‪.‬‬

‫{ ُهوَ أَ ْنشََأكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬خلقكم فيها { وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا } أي‪ :‬استخلفكم فيها‪ ،‬وأنعم عليكم‬
‫بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬ومكنكم في الرض‪ ،‬تبنون‪ ،‬وتغرسون‪ ،‬وتزرعون‪ ،‬وتحرثون ما شئتم‪،‬‬
‫وتنتفعون بمنافعها‪ ،‬وتستغلون مصالحها‪ ،‬فكما أنه ل شريك له في جميع ذلك‪ ،‬فل تشركوا به في‬
‫عبادته‪.‬‬

‫{ فَاسْ َتغْفِرُوهُ } مما صدر منكم‪ ،‬من الكفر‪ ،‬والشرك‪ ،‬والمعاصي‪ ,‬وأقلعوا عنها‪ { ،‬ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ }‬
‫أي‪ :‬ارجعوا إليه بالتوبة النصوح‪ ،‬والنابة‪ { ،‬إِنّ رَبّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } أي‪ :‬قريب ممن دعاه دعاء‬
‫مسألة‪ ،‬أو دعاء عبادة‪ ،‬يجيبه بإعطائه سؤله‪ ،‬وقبول عبادته‪ ،‬وإثابته عليها‪ ،‬أجل الثواب‪ ،‬واعلم أن‬
‫قربه تعالى نوعان‪ :‬عام‪ ،‬وخاص‪ ،‬فالقرب العام‪ :‬قربه بعلمه‪ ،‬من جميع الخلق‪ ،‬وهو المذكور في‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ } والقرب الخاص‪ :‬قربه من عابديه‪ ،‬وسائليه‪،‬‬
‫ج ْد وَاقْتَ ِربْ }‬
‫ومحبيه‪ ،‬وهو المذكور في قوله تعالى { وَاسْ ُ‬

‫ع َوةَ الدّاعِ } وهذا‬


‫وفي هذه الية‪ ،‬وفي قوله تعالى‪ { :‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬
‫النوع‪ ،‬قرب يقتضي إلطافه تعالى‪ ،‬وإجابته لدعواتهم‪ ،‬وتحقيقه لمراداتهم‪ ،‬ولهذا يقرن‪ ،‬باسمه‬
‫"القريب" اسمه "المجيب"‬

‫فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلم‪ ،‬ورغبهم في الخلص ل وحده‪ ,‬ردوا عليه دعوته‪ ،‬وقابلوه‬
‫أشنع المقابلة‪.‬‬
‫جوّا قَ ْبلَ هَذَا } أي‪ :‬قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع‪ ،‬وهذا‬
‫{ قَالُوا يَا صَالِحُ َقدْ كُ ْنتَ فِينَا مَرْ ُ‬
‫شهادة منهم‪ ،‬لنبيهم صالح‪ ،‬أنه ما زال معروفا بمكارم الخلق ومحاسن الشيم‪ ،‬وأنه من خيار‬
‫قومه‪.‬‬

‫ولكنه‪ ،‬لما جاءهم بهذا المر‪ ،‬الذي ل يوافق أهواءهم الفاسدة‪ ,‬قالوا هذه المقالة‪ ،‬التي مضمونها‪،‬‬
‫أنك [قد] كنت كامل‪ ،‬والن أخلفت ظننا فيك‪ ،‬وصرت بحالة ل يرجى منك خير‪.‬‬

‫وذنبه‪ ،‬ما قالوه عنه‪ ،‬وهو قولهم‪ { :‬أَتَ ْنهَانَا أَنْ َنعْبُدَ مَا َيعْبُدُ آبَاؤُنَا } وبزعمهم أن هذا من أعظم‬
‫القدح في صالح‪ ،‬كيف قدح في عقولهم‪ ،‬وعقول آبائهم الضالين‪ ،‬وكيف ينهاهم عن عبادة‪ ،‬من ل‬
‫ينفع ول يضر‪ ،‬ول يغني شيئا من الحجار‪ ،‬والشجار ونحوها‪.‬‬

‫وأمرهم بإخلص الدين ل ربهم‪ ،‬الذي لم تزل نعمه عليهم تترى‪ ,‬وإحسانه عليهم دائما ينزل‪ ،‬الذي‬
‫ما بهم من نعمة‪ ،‬إل منه‪ ،‬ول يدفع عنهم السيئات إل هو‪.‬‬

‫شكّ ِممّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي‪ :‬ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه‪ ،‬شكا مؤثرا في‬
‫{ وَإِنّنَا َلفِي َ‬
‫قلوبنا الريب‪ ،‬وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه‪ ،‬لتبعوه‪ ،‬وهم كذبة في ذلك‪ ،‬ولهذا‬
‫بين كذبهم في قوله‪ { :‬قَالَ يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ عَلَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّي } أي‪ :‬برهان ويقين مني‬
‫حمَةً } أي‪ :‬منّ علي برسالته ووحيه‪ ،‬أي‪ :‬أفأتابعكم على ما أنتم عليه‪ ،‬وما‬
‫{ وَآتَانِي مِنْهُ َر ْ‬
‫تدعونني إليه؟‪.‬‬

‫خسِيرٍ } أي‪ :‬غير خسار وتباب‪ ،‬وضرر‪.‬‬


‫عصَيْتُهُ َفمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَ ْ‬
‫{ َفمَنْ يَ ْنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ َ‬

‫{ وَيَا َقوْمِ هَ ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ َل ُكمْ آيَةً } لها شرب من البئر يوما‪ ،‬ثم يشربون كلهم من ضرعها‪ ،‬ولهم‬
‫شرب يوم معلوم‪.‬‬

‫{ َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّهِ } أي‪ :‬ليس عليكم من مؤنتها وعلفها شيء‪ { ،‬وَلَا َتمَسّوهَا بِسُوءٍ }‬
‫خ َذكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ َف َعقَرُوهَا َفقَالَ } لهم صالح‪َ { :‬تمَ ّتعُوا فِي دَا ِركُمْ َثلَاثَةَ أَيّامٍ ذَِلكَ‬
‫أي‪ :‬بعقر { فَيَأْ ُ‬
‫وَعْدٌ غَيْرُ َمكْذُوبٍ } بل ل بد من وقوعه‪.‬‬

‫حمَةٍ مِنّا َومِنْ خِ ْزيِ َي ْومِئِذٍ }‬


‫{ فََلمّا جَاءَ َأمْرُنَا } بوقوع العذاب { نَجّيْنَا صَاِلحًا وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ بِرَ ْ‬
‫أي‪ :‬نجيناهم من العذاب والخزي والفضيحة‪.‬‬

‫{ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ } ومن قوته وعزته‪ ،‬أن أهلك المم الطاغية‪ ،‬ونجى الرسل وأتباعهم‪.‬‬
‫{ وََأخَذَ الّذِينَ ظََلمُوا الصّ ْيحَةُ } العظيمة فقطعت قلوبهم‪ { ،‬فََأصْبَحُوا فِي دِيَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ } أي‪:‬‬
‫خامدين ل حراك لهم‪.‬‬

‫{ كَأَنْ َلمْ َيغْ َنوْا فِيهَا } أي‪ :‬كأنهم لما جاءهم العذاب ما تمتعوا في ديارهم‪ ،‬ول أنسوا بها ول‬
‫تنعموا بها يوما من الدهر‪ ،‬قد فارقهم النعيم‪ ،‬وتناولهم العذاب السرمدي‪ ،‬الذي ينقطع‪ ،‬الذي كأنه لم‬
‫يزل‪.‬‬

‫{ أَلَا إِنّ َثمُودَ َكفَرُوا رَ ّبهُمْ } أي‪ :‬جحدوه بعد أن جاءتهم الية المبصرة‪ { ،‬أَلَا ُبعْدًا لِ َثمُودَ } فما‬
‫أشقاهم وأذلهم‪ ،‬نستجير بال من عذاب الدنيا وخزيها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 83 - 69‬وََلقَدْ جَا َءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْ ُبشْرَى }‬

‫إلى آخر القصة أي‪ { :‬وََلقَدْ جَا َءتْ ُرسُلُنَا } من الملئكة الكرام‪ ،‬رسولنا { إِبْرَاهِيمَ } الخليل‬
‫{ بِالْ ُبشْرَى } أي‪ :‬بالبشارة بالولد‪ ،‬حين أرسلهم ال لهلك قوم لوط‪ ،‬وأمرهم أن يمروا على‬
‫إبراهيم‪ ،‬فيبشروه بإسحاق‪ ،‬فلما دخلوا عليه { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ } أي‪ :‬سلموا عليه‪ ،‬ورد عليهم‬
‫السلم‪.‬‬

‫ففي هذا مشروعية السلم‪ ،‬وأنه لم يزل من ملة إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وأن السلم قبل الكلم‪ ،‬وأنه‬
‫ينبغي أن يكون الرد‪ ،‬أبلغ من البتداء‪ ,‬لن سلمهم بالجملة الفعلية‪ ،‬الدالة على التجدد‪ ،‬ورده‬
‫بالجملة السمية‪ ،‬الدالة على الثبوت والستمرار‪ ،‬وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم‬
‫العربية‪.‬‬

‫جلٍ حَنِيذٍ } أي‪ :‬بادر لبيته‪ ،‬فاستحضر لضيافه‬


‫{ َفمَا لَ ِبثَ } إبراهيم لما دخلوا عليه { أَنْ جَاءَ ِبعِ ْ‬
‫عجل مشويا على الرضف سمينا‪ ،‬فقربه إليهم فقال‪ :‬أل تأكلون؟‪.‬‬

‫{ فََلمّا رَأَى أَ ْيدِ َيهُمْ لَا َتصِلُ إِلَ ْيهِ } أي‪ :‬إلى تلك الضيافة { َنكِرَ ُه ْم وََأوْجَسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً } وظن أنهم‬
‫أتوه بشر ومكروه‪ ،‬وذلك قبل أن يعرف أمرهم‪.‬‬

‫خفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمِ لُوطٍ } أي‪ :‬إنا رسل ال‪ ,‬أرسلنا ال إلى إهلك قوم لوط‪.‬‬
‫فب { قَالُوا لَا َت َ‬

‫ح َكتْ } حين سمعت بحالهم‪ ،‬وما أرسلوا به‪ ،‬تعجبا‪.‬‬


‫وامرأة إبراهيم { قَا ِئمَةٌ } تخدم أضيافه { َفضَ ِ‬

‫ن وَرَاءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ } فتعجبت من ذلك‪.‬‬


‫ق َومِ ْ‬
‫سحَا َ‬
‫{ فَ َبشّرْنَاهَا بِإِ ْ‬
‫و { قَاَلتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُو ٌز وَهَذَا َبعْلِي شَ ْيخًا } فهذان مانعان من وجود الولد { إِنّ َهذَا‬
‫عجِيبٌ }‬
‫شيْءٌ َ‬
‫لَ َ‬

‫{ قَالُوا أَ َت ْعجَبِينَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ } فإن أمره ل عجب فيه‪ ،‬لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء‪ ،‬فل‬
‫يستغرب على قدرته شيء‪ ،‬وخصوصا فيما يدبره ويمضيه‪ ،‬لهل هذا البيت المبارك‪.‬‬

‫حمَةُ اللّ ِه وَبَ َركَاتُهُ عَلَ ْيكُمْ َأ ْهلَ الْبَ ْيتِ } أي‪ :‬ل تزال رحمته وإحسانه وبركاته‪ ،‬وهي‪ :‬الزيادة من‬
‫{ َر ْ‬
‫حمِيدٌ َمجِيدٌ } أي‪ :‬حميد‬
‫خيره وإحسانه‪ ،‬وحلول الخير اللهي على العبد { عَلَ ْي ُكمْ أَ ْهلَ الْبَ ْيتِ إِنّهُ َ‬
‫الصفات‪ ،‬لن صفاته صفات كمال‪ ،‬حميد الفعال لن أفعاله إحسان‪ ،‬وجود‪ ،‬وبر‪ ،‬وحكمة‪ ،‬وعدل‪،‬‬
‫وقسط‪.‬‬

‫مجيد‪ ،‬والمجد‪ :‬هو عظمة الصفات وسعتها‪ ،‬فله صفات الكمال‪ ،‬وله من كل صفة كمال أكملها‬
‫وأتمها وأعمها‪.‬‬

‫{ فََلمّا ذَ َهبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ال ّر ْوعُ } الذي أصابه من خيفة أضيافه { وَجَاءَتْهُ الْ ُبشْرَى } بالولد‪ ،‬التفت‬
‫حينئذ‪ ،‬إلى مجادلة الرسل في إهلك قوم لوط‪ ،‬وقال لهم‪ { :‬إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها‬
‫لننجينه وأهله إل امرأته }‬

‫{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي‪ :‬ذو خلق حسن وسعة صدر‪ ،‬وعدم غضب‪ ،‬عند جهل الجاهلين‪.‬‬

‫{ َأوّاهٌ } أي‪ :‬متضرع إلى ال في جميع الوقات‪ { ،‬مُنِيبٌ } أي‪ :‬رجّاع إلى ال بمعرفته ومحبته‪،‬‬
‫والقبال عليه‪ ,‬والعراض عمن سواه‪ ،‬فلذلك كان يجادل عمن حتّم ال بهلكهم‪.‬‬

‫فقيل له‪ { :‬يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْ ِرضْ عَنْ َهذَا } الجدال { إِنّهُ َقدْ جَاءَ َأمْرُ رَ ّبكَ } بهلكهم { وَإِ ّنهُمْ آتِي ِهمْ‬
‫عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } فل فائدة في جدالك‪.‬‬

‫{ وََلمّا جَا َءتْ رُسُلُنَا } أي‪ :‬الملئكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا { لُوطًا سِيءَ ِبهِمْ } أي‪ :‬شق‬
‫عصِيبٌ } أي‪ :‬شديد حرج‪ ،‬لنه علم أن قومه ل‬
‫عليه مجيئهم‪َ { ،‬وضَاقَ ِب ِهمْ ذَرْعًا َوقَالَ هَذَا َيوْمٌ َ‬
‫يتركونهم‪ ،‬لنهم في صور شباب‪ ،‬جرد‪ ،‬مرد‪ ,‬في غاية الكمال والجمال‪ ،‬ولهذا وقع ما خطر بباله‪.‬‬

‫فب { وَجَا َءهُ َق ْومُهُ ُيهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي‪ :‬يسرعون ويبادرون‪ ،‬يريدون أضيافه بالفاحشة‪ ،‬التي كانوا‬
‫يعملونها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي‪ :‬الفاحشة التي ما سبقهم عليها أحد‬
‫من العالمين‪.‬‬
‫طهَرُ َلكُمْ } من أضيافي‪ [ ،‬وهذا كما عرض لسليمان صلى ال عليه‬
‫{ قَالَ يَا َقوْمِ َهؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنّ َأ ْ‬
‫وسلم‪ ،‬على المرأتين أن يشق الولد المختصم فيه‪ ,‬لستخراج الحق ولعلمه أن بناته ممتنع منالهن‪،‬‬
‫ول حق لهم فيهن‪ .‬والمقصود العظم‪ ،‬دفع هذه الفاحشة الكبرى ]‬

‫{ فَا ّتقُوا اللّ َه وَلَا ُتخْزُونِ فِي ضَ ْيفِي } أي‪ :‬إما أن تراعوا تقوى ال‪ ,‬وإما أن تراعوني في ضيفي‪،‬‬
‫ول تخزون عندهم‪.‬‬

‫جلٌ َرشِيدٌ } فينهاكم‪ ،‬ويزجركم‪ ،‬وهذا دليل على مروجهم وانحللهم‪ ،‬من الخير‬
‫{ أَلَ ْيسَ مِ ْنكُمْ َر ُ‬
‫والمروءة‪.‬‬

‫ق وَإِ ّنكَ لَ َتعْلَمُ مَا نُرِيدُ } أي‪ :‬ل نريد إل‬


‫حّ‬‫فب { قَالُوا } له‪َ { :‬لقَدْ عَِل ْمتَ مَا لَنَا فِي بَنَا ِتكَ مِنْ َ‬
‫الرجال‪ ،‬ول لنا رغبة في النساء‪.‬‬

‫شدِيدٍ } كقبيلة‬
‫فاشتد قلق لوط عليه الصلة والسلم‪ ،‬و { قَالَ َلوْ أَنّ لِي ِبكُمْ ُق ّوةً َأوْ آوِي إِلَى ُركْنٍ َ‬
‫مانعة‪ ،‬لمنعتكم‪.‬‬

‫وهذا بحسب السباب المحسوسة‪ ،‬وإل فإنه يأوي إلى أقوى الركان وهو ال‪ ،‬الذي ل يقوم لقوته‬
‫أحد‪ ،‬ولهذا لما بلغ المر منتهاه واشتد الكرب‪.‬‬

‫سلُ رَ ّبكَ } أي‪ :‬أخبروه بحالهم ليطمئن قلبه‪ { ،‬لَنْ َيصِلُوا إِلَ ْيكَ } بسوء‪.‬‬
‫{ قَالُوا } له‪ { :‬إِنّا رُ ُ‬

‫ثم قال جبريل بجناحه‪ ،‬فطمس أعينهم‪ ،‬فانطلقوا يتوعدون لوطا بمجيء الصبح‪ ،‬وأمر الملئكة‬
‫لوطا‪ ،‬أن يسري بأهله { ِبقِطْعٍ مِنَ اللّ ْيلِ } أي‪ :‬بجانب منه قبل الفجر بكثير‪ ،‬ليتمكنوا من البعد عن‬
‫قريتهم‪.‬‬

‫حدٌ } أي‪ :‬بادروا بالخروج‪ ،‬وليكن همكم النجاة ول تلتفتوا إلى ما وراءكم‪.‬‬
‫{ وَلَا يَلْ َت ِفتْ مِ ْنكُمْ أَ َ‬

‫{ إِلّا امْرَأَ َتكَ إِنّهُ ُمصِي ُبهَا } من العذاب { مَا َأصَا َبهُمُ } لنها تشارك قومها في الثم‪ ،‬فتدلهم على‬
‫أضياف لوط‪ ،‬إذا نزل به أضياف‪.‬‬

‫{ إِنّ َموْعِدَهُمُ الصّبْحُ } فكأن لوطا‪ ،‬استعجل ذلك‪ ،‬فقيل له‪ { :‬أَلَ ْيسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ }‬

‫جعَلْنَا } ديارهم { عَالِ َيهَا سَافَِلهَا } أي‪ :‬قلبناها‬


‫{ فََلمّا جَاءَ َأمْرُنَا } بنزول العذاب‪ ،‬وإحلله فيهم { َ‬
‫عليهم { وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهَا حِجَا َرةً مِنْ سِجّيلٍ } أي‪ :‬من حجارة النار الشديدة الحرارة { مَ ْنضُودٍ }‬
‫أي‪ .‬متتابعة‪ ،‬تتبع من شذ عن القرية‪.‬‬
‫س ّومَةً عِ ْندَ رَ ّبكَ } أي‪ :‬معلمة‪ ،‬عليها علمة العذاب والغضب‪َ { ،‬ومَا ِهيَ مِنَ الظّاِلمِينَ } الذين‬
‫{ مُ َ‬
‫يشابهون لفعل قوم لوط { بِ َبعِيدٍ } فليحذر العباد‪ ،‬أن يفعلوا كفعلهم‪ ،‬لئل يصيبهم ما أصابهم‪.‬‬

‫شعَيْبًا }‬
‫{ ‪ { } 95 - 84‬وَإِلَى مَدْيَنَ َأخَاهُمْ ُ‬

‫إلى آخر القصة أي‪ { :‬و ْ} أرسلنا { إِلَى مَدْيَنَ ْ} القبيلة المعروفة‪ ،‬الذين يسكنون مدين في أدنى‬
‫شعَيْبًا ْ} لنهم يعرفونه‪ ،‬وليتمكنوا من الخذ عنه‪.‬‬
‫فلسطين‪َ { ،‬أخَا ُهمْْ} في النسب { ُ‬

‫فب { قَالَ ْ} لهم { يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ ْ} أي‪ :‬أخلصوا له العبادة‪ ،‬فإنهم كانوا‬
‫يشركون به‪ ،‬وكانوا ‪ -‬مع شركهم ‪ -‬يبخسون المكيال والميزان‪ ،‬ولهذا نهاهم عن ذلك فقال‪ { :‬وَلَا‬
‫تَ ْنقُصُوا ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ ْ} بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط‪.‬‬

‫{ إِنّي أَرَا ُكمْ بِخَيْرٍ ْ} أي‪ :‬بنعمة كثيرة‪ ،‬وصحة‪ ،‬وكثرة أموال وبنين‪ ,‬فاشكروا ال على ما أعطاكم‪،‬‬
‫ول تكفروا بنعمة ال‪ ،‬فيزيلها عنكم‪.‬‬

‫{ وَإِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ ُمحِيطٍ ْ} أي‪ :‬عذابا يحيط بكم‪ ,‬ول يبقي منكم باقية‪.‬‬

‫{ وَيَا َقوْمِ َأ ْوفُوا ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْطِ ْ} أي‪ :‬بالعدل الذي ترضون أن تعطوه‪ { ،‬وَلَا تَ ْبخَسُوا‬
‫النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ ْ} أي‪ :‬ل تنقصوا من أشياء الناس‪ ،‬فتسرقوها بأخذها‪ ،‬بنقص المكيال والميزان‪.‬‬

‫{ وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ ْ} فإن الستمرار على المعاصي‪ ،‬يفسد الديان‪ ،‬والعقائد‪ ،‬والدين‪،‬‬
‫والدنيا‪ ،‬ويهلك الحرث والنسل‪.‬‬

‫{ َبقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ َلكُمْ ْ} أي‪ :‬يكفيكم ما أبقى ال لكم من الخير‪ ،‬وما هو لكم‪ ،‬فل تطمعوا في أمر لكم‬
‫عنه غنية‪ ،‬وهو ضار لكم جدا‪.‬‬

‫حفِيظٍ ْ} أي‪ :‬لست بحافظ‬


‫{ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ْ} فاعملوا بمقتضى اليمان‪َ { ،‬ومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ ِب َ‬
‫لعمالكم‪ ،‬ووكيل عليها‪ ،‬وإنما الذي يحفظها ال تعالى‪ ،‬وأما أنا‪ ،‬فأبلغكم ما أرسلت به‪.‬‬

‫شعَ ْيبُ َأصَلَا ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَنْ نَتْ ُركَ مَا َيعْ ُبدُ آبَاؤُنَا ْ} أي‪ :‬قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم‪،‬‬
‫{ قَالُوا يَا ُ‬
‫والستبعاد لجابتهم له‪.‬‬
‫ومعنى كلمهم‪ :‬أنه ل موجب لنهيك لنا‪ ،‬إل أنك تصلي ل‪ ,‬وتتعبد له‪ ،‬أفإن كنت كذلك‪ ،‬أفيوجب‬
‫لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا‪ ،‬لقول ليس عليه دليل إل أنه موافق لك‪ ،‬فكيف نتبعك‪ ،‬ونترك آباءنا‬
‫القدمين أولي العقول واللباب؟!‬

‫وكذلك ل يوجب قولك لنا‪ { :‬أَنْ َن ْف َعلَ فِي َأ ْموَالِنَا ْ} ما قلت لنا‪ ،‬من وفاء الكيل‪ ،‬والميزان‪ ،‬وأداء‬
‫الحقوق الواجبة فيها‪ ،‬بل ل نزال نفعل فيها ما شئنا‪ ،‬لنها أموالنا‪ ،‬فليس لك فيها تصرف‪.‬‬

‫حلِيمُ الرّشِيدُ ْ} أي‪ :‬أئنك أنت الذي‪ ،‬الحلم والوقار‪ ،‬لك خلق‪،‬‬
‫ولهذا قالوا في تهكمهم‪ { :‬إِ ّنكَ لَأَ ْنتَ الْ َ‬
‫والرشد لك سجية‪ ،‬فل يصدر عنك إل رشد‪ ،‬ول تأمر إل برشد‪ ،‬ول تنهى إل عن غي‪ ،‬أي‪ :‬ليس‬
‫المر كذلك‪.‬‬

‫وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين‪ :‬بالسفه والغواية‪ ،‬أي‪ :‬أن المعنى‪ :‬كيف تكون أنت‬
‫الحليم الرشيد‪ ،‬وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟!!‬

‫وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم‪ ،‬وأن المر بعكسه‪ ,‬ليس كما ظنوه‪ ،‬بل المر كما قالوه‪.‬‬
‫إن صلته تأمره أن ينهاهم‪ ،‬عما كان يعبد آباؤهم الضالون‪ ،‬وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون‪،‬‬
‫فإن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬وأي فحشاء ومنكر‪ ،‬أكبر من عبادة غير ال‪ ،‬ومن منع‬
‫حقوق عباد ال‪ ،‬أو سرقتها بالمكاييل والموازين‪ ،‬وهو عليه الصلة والسلم الحليم الرشيد‪.‬‬

‫{ قَالَ ْ} لهم شعيب‪ { :‬يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي ْ} أي‪ :‬يقين وطمأنينة‪ ،‬في صحة ما‬
‫جئت به‪ { ،‬وَرَ َزقَنِي مِنْهُ رِ ْزقًا حَسَنًا ْ} أي‪ :‬أعطاني ال من أصناف المال ما أعطاني‪.‬‬

‫{ وَ ْ} أنا ل { أُرِيدُ أَنْ ُأخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَنْهُ ْ} فلست أريد أن أنهاكم عن البخس‪ ،‬في المكيال‪،‬‬
‫والميزان‪ ،‬وأفعله أنا‪ ،‬وحتى تتطرق إليّ التهمة في ذلك‪ .‬بل ما أنهاكم عن أمر إل وأنا أول مبتدر‬
‫لتركه‪.‬‬

‫ط ْعتُ ْ} أي‪ :‬ليس لي من المقاصد إل أن تصلح أحوالكم‪ ،‬وتستقيم‬


‫{ إِنْ أُرِيدُ إِلّا الِْإصْلَاحَ مَا اسْ َت َ‬
‫منافعكم‪ ،‬وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي‪ ،‬شيء بحسب استطاعتي‪.‬‬

‫ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس‪ ،‬دفع هذا بقوله‪َ { :‬ومَا َت ْوفِيقِي إِلّا بِاللّهِ ْ} أي‪ :‬وما يحصل لي‬
‫من التوفيق لفعل الخير‪ ،‬والنفكاك عن الشر إل بال تعالى‪ ،‬ل بحولي ول بقوتي‪.‬‬

‫{ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ ْ} أي‪ :‬اعتمدت في أموري‪ ،‬ووثقت في كفايته‪ { ،‬وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ} في أداء ما أمرني به‬
‫من أنواع العبادات‪ ،‬وفي [هذا] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات‪.‬‬
‫وبهذين المرين تستقيم أحوال العبد‪ ،‬وهما الستعانة بربه‪ ،‬والنابة إليه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فَاعْ ُب ْدهُ‬
‫وَ َتوَ ّكلْ عَلَيْهِ ْ} وقال‪ { :‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ ْ}‬

‫شقَاقِي ْ} أي‪ :‬ل تحملنكم مخالفتي ومشاقتي { أَنْ ُيصِي َبكُمُ ْ} من العقوبات‬
‫{ وَيَا َقوْمِ لَا يَجْ ِرمَ ّنكُمْ ِ‬
‫ح َومَا َقوْمُ لُوطٍ مِ ْنكُمْ بِ َبعِيدٍ ْ} ل في الدار ول‬
‫{ مِ ْثلُ مَا َأصَابَ َقوْمَ نُوحٍ َأوْ َقوْمَ هُودٍ َأوْ َقوْ َم صَالِ ٍ‬
‫في الزمان‪.‬‬

‫{ وَاسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ ْ} عما اقترفتم من الذنوب { ُثمّ تُوبُوا إِلَيْهِ ْ} فيما يستقبل من أعماركم‪ ،‬بالتوبة‬
‫النصوح‪ ،‬والنابة إليه بطاعته‪ ،‬وترك مخالفته‪.‬‬

‫{ إِنّ رَبّي َرحِي ٌم وَدُودٌ ْ} لمن تاب وأناب‪ ،‬يرحمه فيغفر له‪ ،‬ويتقبل توبته ويحبه‪ ،‬ومعنى الودود‪،‬‬
‫من أسمائه تعالى‪ ،‬أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه‪ ،‬فهو "فعول" بمعنى "فاعل" وبمعنى "مفعول"‬

‫شعَ ْيبُ مَا َن ْفقَهُ كَثِيرًا ِممّا َتقُولُ ْ} أي‪ :‬تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم‪ ،‬فقالوا‪ { :‬ما‬
‫{ قَالُوا يَا ُ‬
‫نفقه كثيرا مما تقول ْ} وذلك لبغضهم لما يقول‪ ,‬ونفرتهم عنه‪.‬‬

‫ضعِيفًا ْ} أي‪ :‬في نفسك‪ ،‬لست من الكبار والرؤساء بل من المستضعفين‪.‬‬


‫{ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا َ‬

‫ك َومَا أَ ْنتَ عَلَيْنَا ِبعَزِيزٍ ْ} أي‪ :‬ليس لك قدر في‬


‫جمْنَا َ‬
‫طكَ ْ} أي‪ :‬جماعتك وقبيلتك { لَرَ َ‬
‫{ وََلوْلَا رَ ْه ُ‬
‫صدورنا‪ ،‬ول احترام في أنفسنا‪ ،‬وإنما احترمنا قبيلتك‪ ،‬بتركنا إياك‪.‬‬

‫علَ ْيكُمْ مِنَ اللّهِ ْ} أي‪ :‬كيف تراعوني لجل‬


‫فب { قَالَ ْ} لهم مترققا لهم‪ { :‬يَا َقوْمِ أَرَهْطِي أَعَزّ َ‬
‫رهطي‪ ،‬ول تراعوني ل‪ ،‬فصار رهطي أعز عليكم من ال‪.‬‬

‫ظهْرِيّا ْ} أي‪ :‬نبذتم أمر ال‪ ،‬وراء ظهوركم‪ ،‬ولم تبالوا به‪ ،‬ول خفتم منه‪.‬‬
‫{ وَاتّخَذْ ُتمُوهُ وَرَا َءكُمْ ِ‬

‫{ إِنّ رَبّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ مُحِيطٌ ْ} ل يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الرض ول في السماء‪،‬‬
‫فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء‪.‬‬

‫عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ ْ} أي‪ :‬على حالتكم ودينكم‪.‬‬


‫{ و ْ} لما أعيوه وعجز عنهم قال‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْ‬

‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ْ} ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم‪ ،‬وقد علموا‬
‫{ إِنّي عَا ِملٌ َ‬
‫ذلك حين وقع عليهم العذاب‪.‬‬

‫{ وَارْ َتقِبُوا ْ} ما يحل بي { إِنّي َم َعكُمْ َرقِيبٌ ْ} ما يحل بكم‪.‬‬


‫حمَةٍ مِنّا وََأخَ َذتِ الّذِينَ‬
‫شعَيْبًا وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ بِرَ ْ‬
‫{ وََلمّا جَاءَ َأمْرُنَا ْ} بإهلك قوم شعيب { نَجّيْنَا ُ‬
‫حةُ فََأصْبَحُوا فِي دِيَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ ْ} ل تسمع لهم صوتا‪ ،‬ول ترى منهم حركة‪.‬‬
‫ظََلمُوا الصّيْ َ‬

‫{ كَأَنْ َلمْ َيغْ َنوْا فِيهَا ْ} أي‪ :‬كأنهم ما أقاموا في ديارهم‪ ،‬ول تنعموا فيها حين أتاهم العذاب‪.‬‬

‫{ أَلَا ُبعْدًا ِلمَدْيَنَ ْ} إذ أهلكها ال وأخزاها { َكمَا َبعِ َدتْ َثمُودُ ْ} أي‪ :‬قد اشتركت هاتان القبيلتان في‬
‫السحق والبعد والهلك‪.‬‬

‫وشعيب عليه السلم كان يسمى خطيب النبياء‪ ،‬لحسن مراجعته لقومه‪ ،‬وفي قصته من الفوائد‬
‫والعبر‪ ،‬شيء كثير‪.‬‬

‫منها‪ :‬أن الكفار‪ ،‬كما يعاقبون‪ ،‬ويخاطبون‪ ،‬بأصل السلم‪ ,‬فكذلك بشرائعه وفروعه‪ ،‬لن شعيبا‬
‫دعا قومه إلى التوحيد‪ ،‬وإلى إيفاء المكيال والميزان‪ ،‬وجعل الوعيد‪ ،‬مرتبا على مجموع ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن نقص المكاييل والموازين‪ ،‬من كبائر الذنوب‪ ,‬وتخشى العقوبة العاجلة‪ ،‬على من تعاطى‬
‫ذلك‪ ،‬وأن ذلك من سرقة أموال الناس‪ ،‬وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين‪ ،‬موجبة للوعيد‪،‬‬
‫فسرقتهم ‪ -‬على وجه القهر والغلبة ‪ -‬من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬فمن بخس أموال الناس‪ ،‬يريد زيادة ماله‪ ،‬عوقب بنقيض ذلك‪,‬‬
‫وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله‪ { :‬إِنّي أَرَاكُمْ ِبخَيْرٍ ْ} أي‪ :‬فل تسببوا إلى‬
‫زواله بفعلكم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن على العبد أن يقنع بما آتاه ال‪ ،‬ويقنع بالحلل عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن‬
‫المكاسب المحرمة‪ ،‬وأن ذلك خير له لقوله‪َ { :‬بقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ َلكُمْ ْ} ففي ذلك‪ ،‬من البركة‪ ،‬وزيادة‬
‫الرزق ما ليس في التكالب على السباب المحرمة من المحق‪ ،‬وضد البركة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ذلك‪ ،‬من لوازم اليمان وآثاره‪ ،‬فإنه رتب العمل به‪ ,‬على وجود اليمان‪ ،‬فدل على أنه‬
‫إذا لم يوجد العمل‪ ،‬فاليمان ناقص أو معدوم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الصلة‪ ،‬لم تزل مشروعة للنبياء المتقدمين‪ ،‬وأنها من أفضل العمال‪ ،‬حتى إنه متقرر‬
‫عند الكفار فضلها‪ ،‬وتقديمها على سائر العمال‪ ,‬وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬وهي ميزان‬
‫لليمان وشرائعه‪ ،‬فبإقامتها تكمل أحوال العبد‪ ،‬وبعدم إقامتها‪ ،‬تختل أحواله الدينية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المال الذي يرزقه ال النسان ‪ -‬وإن كان ال قد خوله إياه ‪ -‬فليس له أن يصنع فيه ما‬
‫يشاء‪ ،‬فإنه أمانة عنده‪ ،‬عليه أن يقيم حق ال فيه بأداء ما فيه من الحقوق‪ ،‬والمتناع من المكاسب‬
‫التي حرمها ال ورسوله‪ ،‬ل كما يزعمه الكفار‪ ،‬ومن أشبههم‪ ،‬أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما‬
‫يشاءون ويختارون‪ ،‬سواء وافق حكم ال‪ ،‬أو خالفه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به‪ ،‬وأول منته عما‬
‫ينهى غيره عنه‪ ،‬كما قال شعيب عليه السلم‪َ { :‬ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَاِلفَكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَا ُكمْ عَنْهُ ْ} ولقوله‬
‫تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا لَا َت ْفعَلُونَ * كبر مقتا عند ال أن تقولوا ما ل تفعلون ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم‪ ،‬إرادة الصلح بحسب القدرة والمكان‪ ،‬فيأتون بتحصيل‬
‫المصالح وتكميلها‪ ،‬أو بتحصيل ما يقدر عليه منها‪ ،‬وبدفع المفاسد وتقليلها‪ ،‬ويراعون المصالح‬
‫العامة على المصالح الخاصة‪.‬‬

‫وحقيقة المصلحة‪ ،‬هي التي تصلح بها أحوال العباد‪ ،‬وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من قام بما يقدر عليه من الصلح‪ ،‬لم يكن ملوما ول مذموما في عدم فعله‪ ،‬ما ل يقدر‬
‫عليه‪ ،‬فعلى العبد أن يقيم من الصلح في نفسه‪ ،‬وفي غيره‪ ،‬ما يقدر عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العبد ينبغي له أن ل يتكل على نفسه طرفة عين‪ ،‬بل ل يزال مستعينا بربه‪ ،‬متوكل‬
‫عليه‪ ،‬سائل له التوفيق‪ ،‬وإذا حصل له شيء من التوفيق‪ ،‬فلينسبه لموليه ومسديه‪ ،‬ول يعجب‬
‫ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ}‬
‫بنفسه لقوله‪َ { :‬ومَا َت ْوفِيقِي إِلّا بِاللّهِ عَلَيْهِ َت َوكّ ْل ُ‬

‫ومنها‪ :‬الترهيب بأخذات المم‪ ،‬وما جرى عليهم‪ ،‬وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع‬
‫العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر‪.‬‬

‫كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم ال به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه‪ ،‬ويعفى عنه فإن ال تعالى يحبه ويوده‪ ،‬ول‬
‫عبرة بقول من يقول‪" :‬إن التائب إذا تاب‪ ،‬فحسبه أن يغفر له‪ ,‬ويعود عليه العفو‪ ،‬وأما عود الود‬
‫والحب فإنه ل يعود" فإن ال قال‪ { :‬وَاسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَ ْيهِ إِنّ رَبّي رَحِي ٌم وَدُودٌ ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أن ال يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة‪ ،‬قد يعلمون بعضها‪ ,‬وقد ل يعلمون شيئا منها‪،‬‬
‫وربما دفع عنهم‪ ،‬بسبب قبيلتهم‪ ،‬أو أهل وطنهم الكفار‪ ،‬كما دفع ال عن شعيب رجم قومه بسبب‬
‫رهطه‪ ،‬وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن السلم والمسلمين‪ ،‬ل بأس بالسعي فيها‪ ،‬بل‬
‫ربما تعين ذلك‪ ،‬لن الصلح مطلوب على حسب القدرة والمكان‪.‬‬

‫فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولية الكفار‪ ،‬وعملوا على جعل الولية جمهورية يتمكن‬
‫فيها الفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية‪ ،‬لكان أولى‪ ،‬من استسلمهم لدولة تقضي على‬
‫حقوقهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وتحرص على إبادتها‪ ،‬وجعلهم عمَلَةً وخَ َدمًا لهم‪.‬‬

‫نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين‪ ،‬وهم الحكام‪ ،‬فهو المتعين‪ ،‬ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة‪،‬‬
‫فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫{ ‪ }ْ 101 - 96‬وقوله تعالى ‪ { :‬وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ْ}‬

‫إلى آخر القصة يقول تعالى‪ { :‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى ْ} بن عمران { بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما‬
‫جاء به‪ ،‬كالعصا‪ ،‬واليد ونحوهما‪ ،‬من اليات التي أجراها ال على يدي موسى عليه السلم‪.‬‬

‫{ وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ ْ} أي‪ :‬حجة ظاهرة بينة‪ ،‬ظهرت ظهور الشمس‪.‬‬

‫ن َومَلَئِهِ ْ} أي‪ :‬أشراف قومه لنهم المتبوعون‪ ،‬وغيرهم تبع لهم‪ ،‬فلم ينقادوا لما مع‬
‫عوْ َ‬
‫{ إِلَى فِرْ َ‬
‫موسى من اليات‪ ،‬التي أراهم إياها‪ ،‬كما تقدم بسطها في سورة العرف‪ ،‬ولكنهم { فَاتّ َبعُوا َأمْرَ‬
‫عوْنَ بِرَشِيدٍ ْ} بل هو ضال غاو‪ ،‬ل يأمر إل بما هو ضرر محض‪ ،‬ل جرم ‪-‬‬
‫عوْنَ َومَا َأمْرُ فِرْ َ‬
‫فِرْ َ‬
‫لما اتبعه قومه ‪ -‬أرداهم وأهلكهم‪.‬‬

‫{ َيقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَ ُهمُ النّا َر وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ * وَأُتْ ِبعُوا فِي هَ ِذهِ ْ} أي‪ :‬في الدنيا‬
‫{ َلعْ َن ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ْ} أي‪ :‬يلعنهم ال وملئكته‪ ,‬والناس أجمعون في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{ بِئْسَ ال ّرفْدُ ا ْلمَ ْرفُودُ ْ} أي‪ :‬بئس ما اجتمع لهم‪ ،‬وترادف عليهم‪ ,‬من عذاب ال‪ ،‬ولعنة الدنيا‬
‫والخرة‪.‬‬

‫ولما ذكر قصص هؤلء المم مع رسلهم‪ ،‬قال ال تعالى لرسوله‪ { :‬ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلقُرَى َن ُقصّهُ‬
‫عَلَ ْيكَ ْ} لتنذر به‪ ،‬ويكون آية على رسالتك‪ ،‬وموعظة وذكرى للمؤمنين‪.‬‬

‫حصِيدٌ ْ} قد تهدمت‬
‫{ مِ ْنهَا قَائِمٌ ْ} لم يتلف‪ ،‬بل بقي من آثار ديارهم‪ ،‬ما يدل عليهم‪ { ،‬وَ ْ} منها { َ‬
‫مساكنهم‪ ،‬واضمحلت منازلهم‪ ،‬فلم يبق لها أثر‪.‬‬
‫سهُمْ ْ} بالشرك والكفر‪ ،‬والعناد‪.‬‬
‫ظَلمْنَاهُمْ ْ} بأخذهم بأنواع العقوبات { وََلكِنْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ َومَا َ‬

‫شيْءٍ َلمّا جَاءَ َأمْرُ رَ ّبكَ ْ} وهكذا كل من‬


‫{ َفمَا أَغْ َنتْ عَ ْنهُمْ آِلهَ ُتهُمُ الّتِي َيدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َ‬
‫التجأ إلى غير ال‪ ،‬لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد‪.‬‬

‫{ َومَا زَادُو ُهمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ْ} أي‪ :‬خسار ودمار‪ ،‬بالضد مما خطر ببالهم‪.‬‬

‫شدِيدٌ ْ}‬
‫خذُ رَ ّبكَ إِذَا أَخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 102‬وكَذَِلكَ أَ ْ‬

‫أي‪ :‬يقصمهم بالعذاب ويبيدهم‪ ،‬ول ينفعهم‪ ،‬ما كانوا يدعون‪ ,‬من دون ال من شيء‪.‬‬

‫عذَابَ الْآخِ َرةِ ْ}‬


‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ ْ} المذكور‪ ،‬من أخذه للظالمين‪ ،‬بأنواع العقوبات‪ { ،‬لَآ َيةً ِلمَنْ خَافَ َ‬
‫أي‪ :‬لعبرة ودليل‪ ،‬على أن أهل الظلم والجرام‪ ،‬لهم العقوبة الدنيوية‪ ،‬والعقوبة الخروية‪ ،‬ثم انتقل‬
‫جمُوعٌ َلهُ النّاسُ ْ} أي‪ :‬جمعوا لجل ذلك اليوم‪،‬‬
‫من هذا‪ ،‬إلى وصف الخرة فقال‪ { :‬ذَِلكَ َيوْمٌ مَ ْ‬
‫للمجازاة‪ ،‬وليظهر لهم من عظمة ال وسلطانه وعدله العظيم‪ ،‬ما به يعرفونه حق المعرفة‪.‬‬

‫شهُودٌ ْ} أي‪ :‬يشهده ال وملئكته‪ ،‬وجميع المخلوقين‪.‬‬


‫{ وَذَِلكَ َي ْومٌ مَ ْ‬

‫جلٍ َمعْدُودٍ ْ} إذا انقضى أجل الدنيا وما قدر ال فيها‬


‫{ َومَا ُنؤَخّ ُرهُ ْ} أي‪ :‬إتيان يوم القيامة { إِلّا لَِأ َ‬
‫من الخلق‪ ،‬فحينئد ينقلهم إلى الدار الخرى‪ ،‬ويجري عليهم أحكامه الجزائية‪ ،‬كما أجرى عليهم في‬
‫الدنيا‪ ,‬أحكامه الشرعية‪.‬‬

‫{ َيوْمَ يَ ْأتِ ْ} ذلك اليوم‪ ،‬ويجتمع الخلق { لَا َتكَلّمُ َنفْسٌ إِلّا بِِإذْنِهِ ْ} حتى النبياء‪ ،‬والملئكة الكرام‪ ،‬ل‬
‫سعِيدٌ ْ} فالشقياء‪ ،‬هم الذين كفروا بال‪ ،‬وكذبوا‬
‫ش ِقيّ وَ َ‬
‫يشفعون إل بإذنه‪َ { ،‬فمِ ْنهُمْ ْ} أي‪ :‬الخلق { َ‬
‫رسله‪ ،‬وعصوا أمره‪ ،‬والسعداء‪ ،‬هم‪ :‬المؤمنون المتقون‪.‬‬

‫شقُوا ْ} أي‪ :‬حصلت لهم الشقاوة‪ ،‬والخزي والفضيحة‪َ { ،‬ففِي النّارِ ْ}‬
‫وأما جزاؤهم { فََأمّا الّذِينَ َ‬
‫شهِيقٌ ْ} وهو‬
‫منغمسون في عذابها‪ ،‬مشتد عليهم عقابها‪َ { ،‬لهُمْ فِيهَا ْ} من شدة ما هم فيه { َزفِي ٌر وَ َ‬
‫أشنع الصوات وأقبحها‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضُ إِلّا مَا شَاءَ رَ ّبكَ ْ}‬


‫سمَاوَا ُ‬
‫{ خَالِدِينَ فِيهَا ْ} أي‪ :‬في النار‪ ،‬التي هذا عذابها { مَا دَا َمتِ ال ّ‬
‫أي‪ :‬خالدين فيها أبدا‪ ،‬إل المدة التي شاء ال‪ ,‬أن ل يكونوا فيها‪ ،‬وذلك قبل دخولها‪ ،‬كما قاله‬
‫جمهور المفسرين‪ ،‬فالستثناء على هذا‪ ،‬راجع إلى ما قبل دخولها‪ ،‬فهم خالدون فيها جميع‬
‫الزمان‪ ،‬سوى الزمن الذي قبل الدخول فيها‪.‬‬

‫{ إِنّ رَ ّبكَ َفعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ ْ} فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته فعله‪ ،‬تبارك وتعالى‪ ،‬ل يرده أحد‬
‫عن مراده‪.‬‬

‫سعِدُوا ْ} أي‪ :‬حصلت لهم السعادة‪ ،‬والفلح‪ ،‬والفوز { َففِي الْجَنّةِ خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ‬
‫{ وََأمّا الّذِينَ ُ‬
‫جذُوذٍ ْ} أي‪ :‬ما أعطاهم‬
‫سمَاوَاتُ وَالْأَ ْرضُ ِإلّا مَا شَاءَ رَ ّبكَ ْ} ثم أكد ذلك بقوله‪ { :‬عَطَاءً غَيْرَ مَ ْ‬
‫ال ّ‬
‫ال من النعيم المقيم‪ ،‬واللذة العالية‪ ،‬فإنه دائم مستمر‪ ،‬غير منقطع بوقت من الوقات‪ ،‬نسأل ال‬
‫الكريم من فضله‪.‬‬

‫ل وَإِنّا َل ُم َوفّو ُهمْ‬


‫{ ‪ { }ْ 109‬فَلَا َتكُ فِي مِرْ َيةٍ ِممّا َيعْبُدُ َهؤُلَاءِ مَا َيعْ ُبدُونَ إِلّا َكمَا َيعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫َنصِي َبهُمْ غَيْرَ مَ ْنقُوصٍ ْ}‬

‫يقول ال تعالى‪ ،‬لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬فَلَا َتكُ فِي مِرْيَةٍ ِممّا َيعْ ُبدُ َهؤُلَاءِ ْ}‬
‫المشركون‪ ،‬أي‪ :‬ل تشك في حالهم‪ ،‬وأن ما هم عليه باطل‪ ,‬فليس لهم عليه دليل شرعي ول عقلي‪،‬‬
‫وإنما دليلهم وشبهتهم‪ ،‬أنهم { مَا َيعْبُدُونَ إِلّا َكمَا َيعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَ ْبلُ ْ}‬

‫ومن المعلوم أن هذا‪ ،‬ليس بشبهة‪ ،‬فضل عن أن يكون دليل‪ ،‬لن أقوال ما عدا النبياء‪ ،‬يحتج لها‬
‫ل يحتج بها‪ ،‬خصوصا أمثال هؤلء الضالين‪ ،‬الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم‪ ,‬في أصول الدين‪،‬‬
‫فإن أقوالهم‪ ،‬وإن اتفقوا عليها‪ ،‬فإنها خطأ وضلل‪.‬‬

‫{ وَإِنّا َل ُم َوفّوهُمْ َنصِي َبهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ْ} أي‪ :‬ل بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا‪ ،‬مما كتب لهم‪ ،‬وإن‬
‫كثر ذلك النصيب‪ ،‬أو راق في عينك‪ ,‬فإنه ل يدل على صلح حالهم‪ ،‬فإن ال يعطي الدنيا من‬
‫يحب‪ ،‬ومن ل يحب‪ ،‬ول يعطي اليمان والدين الصحيح‪ ،‬إل من يحب‪ .‬والحاصل أنه ل يغتر‬
‫باتفاق الضالين‪ ،‬على قول الضالين من آبائهم القدمين‪ ،‬ول على ما خولهم ال‪ ،‬وآتاهم من الدنيا‪.‬‬

‫ضيَ بَيْ َنهُمْ‬


‫{ ‪ { }ْ 113 - 110‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُق ِ‬
‫عمَاَلهُمْ إِنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْ َتقِمْ َكمَا‬
‫شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنّ كُلّا َلمّا لَ ُي َوفّيَ ّنهُمْ رَ ّبكَ أَ ْ‬
‫وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ‬
‫سكُمُ‬
‫ط َغوْا إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * وَلَا تَ ْركَنُوا إِلَى الّذِينَ ظََلمُوا فَ َتمَ ّ‬
‫ُأمِ ْرتَ َومَنْ تَابَ َم َعكَ وَلَا تَ ْ‬
‫النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َأوْلِيَاءَ ثُمّ لَا تُ ْنصَرُونَ ْ}‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه آتى موسى الكتاب‪ ،‬الذي هو التوراة‪ ،‬الموجب للتفاق على أوامره ونواهيه‪،‬‬
‫والجتماع‪ ،‬ولكن‪ ،‬مع هذا‪ ،‬فإن المنتسبين إليه‪ ،‬اختلفوا فيه اختلفا‪ ،‬أضر بعقائدهم‪ ،‬وبجامعتهم‬
‫الدينية‪.‬‬

‫{ وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ ْ} بتأخيرهم‪ ،‬وعدم معاجلتهم بالعذاب { َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ ْ} بإحلل العقوبة‬
‫بالظالم‪ ،‬ولكنه تعالى‪ ،‬اقتضت حكمته‪ ،‬أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة‪ ،‬وبقوا في شك منه‬
‫مريب‪.‬‬

‫وإذا كانت هذه حالهم‪ ،‬مع كتابهم‪ ،‬فمع القرآن الذي أوحاه ال إليك‪ ،‬غير مستغرب‪ ،‬من طائفة‬
‫اليهود‪ ،‬أن ل يؤمنوا به‪ ،‬وأن يكونوا في شك منه مريب‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ ْ} أي‪ :‬ل بد أن ال يقضي بينهم يوم القيامة‪ ،‬بحكمه العدل‪،‬‬


‫{ وَإِنّ كُلّا َلمّا لَ ُي َوفّيَ ّنهُمْ رَ ّبكَ أَ ْ‬
‫فيجازي كل بما يستحقه‪.‬‬

‫{ إِنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ْ} من خير وشر { خَبِيرٌ ْ} فل يخفى عليه شيء من أعمالهم‪ ،‬دقيقها وجليلها‪.‬‬

‫ثم لما أخبر بعدم استقامتهم‪ ،‬التي أوجبت اختلفهم وافتراقهم‪ ,‬أمر نبيه محمدا صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ومن معه‪ ،‬من المؤمنين‪ ،‬أن يستقيموا كما أمروا‪ ،‬فيسلكوا ما شرعه ال من الشرائع‪،‬‬
‫ويعتقدوا ما أخبر ال به من العقائد الصحيحة‪ ،‬ول يزيغوا عن ذلك يمنة ول يسرة‪ ،‬ويدوموا على‬
‫ذلك‪ ،‬ول يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده ال لهم من الستقامة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ْ} أي‪ :‬ل يخفى عليه من أعمالكم شيء‪ ,‬وسيجازيكم عليها‪ ،‬ففيه‬
‫ترغيب لسلوك الستقامة‪ ،‬وترهيب من ضدها‪ ،‬ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الستقامة‬
‫ظَلمُوا ْ} فإنكم‪ ،‬إذا ملتم إليهم‪ ،‬ووافقتموهم على‬
‫فقال‪ { :‬وَلَا تَ ْركَنُوا ْ} أي‪ :‬ل تميلوا { إِلَى الّذِينَ َ‬
‫سكُمُ النّارُ ْ} إن فعلتم ذلك { َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ‬
‫ظلمهم‪ ،‬أو رضيتم ما هم عليه من الظلم { فَ َتمَ ّ‬
‫مِنْ َأوْلِيَاءَ ْ} يمنعونكم من عذاب ال‪ ،‬ول يحصلون لكم شيئا‪ ،‬من ثواب ال‪.‬‬

‫{ ُثمّ لَا تُ ْنصَرُونَ ْ} أي‪ :‬ل يدفع عنكم العذاب إذا مسكم‪ ،‬ففي هذه الية‪ :‬التحذير من الركون إلى‬
‫كل ظالم‪ ،‬والمراد بالركون‪ ،‬الميل والنضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك‪ ،‬والرضا بما هو عليه‬
‫من الظلم‪.‬‬

‫وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة‪ ،‬فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل ال العافية من‬
‫الظلم‪.‬‬
‫{ ‪ { }ْ 115 - 114‬وََأقِمِ الصّلَاةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَا ِر وَزُلَفًا مِنَ اللّ ْيلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَِلكَ‬
‫ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ ْ}‬

‫يأمر تعالى بإقامة الصلة كاملة { طَ َر َفيِ ال ّنهَارِ ْ} أي‪ :‬أوله وآخره‪ ،‬ويدخل في هذا‪ ،‬صلة الفجر‪،‬‬
‫وصلتا الظهر والعصر‪ { ،‬وَزَُلفًا مِنَ اللّ ْيلِ ْ} ويدخل في ذلك‪ ،‬صلة المغرب والعشاء‪ ،‬ويتناول‬
‫ذلك قيام الليل‪ ،‬فإنها مما تزلف العبد‪ ،‬وتقربه إلى ال تعالى‪.‬‬

‫حسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ْ} أي‪ :‬فهذه الصلوات الخمس‪ ،‬وما ألحق بها من التطوعات من أكبر‬
‫{ إِنّ الْ َ‬
‫الحسنات‪ ،‬وهي‪ :‬مع أنها حسنات تقرب إلى ال‪ ،‬وتوجب الثواب‪ ،‬فإنها تذهب السيئات وتمحوها‪،‬‬
‫والمراد بذلك‪ :‬الصغائر‪ ،‬كما قيدتها الحاديث الصحيحة عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مثل‬
‫قوله‪" :‬الصلوات الخمس‪ ،‬والجمعة إلى الجمعة‪ ،‬ورمضان إلى رمضان‪ ،‬مكفرات لما بينهن ما‬
‫اجتنبت الكبائر"‪ ،‬بل كما قيدتها الية التي في سورة النساء‪ ،‬وهي قوله تعالى‪ { :‬إِنْ َتجْتَنِبُوا كَبَائِرَ‬
‫مَا تُ ْن َهوْنَ عَ ْنهُ ُن َكفّرْ عَ ْن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ وَنُدْخِ ْلكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ْ}‬

‫ذلك لعل الشارة‪ ،‬لكل ما تقدم‪ ،‬من لزوم الستقامة على الصراط المستقيم‪ ،‬وعدم مجاوزته‬
‫وتعديه‪ ،‬وعدم الركون إلى الذين ظلموا‪ ،‬والمر بإقامة الصلة‪ ،‬وبيان أن الحسنات يذهبن‬
‫السيئات‪ ،‬الجميع { ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ ْ} يفهمون بها ما أمرهم ال به‪ ،‬ونهاهم عنه‪ ،‬ويمتثلون لتلك‬
‫الوامر الحسنة المثمرة للخيرات‪ ،‬الدافعة للشرور والسيئات‪ ،‬ولكن تلك المور‪ ،‬تحتاج إلى‬
‫مجاهدة النفس‪ ،‬والصبر عليها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ وَاصْبِرْ ْ} أي‪ :‬احبس نفسك على طاعة ال‪ ،‬وعن معصيته‪ ،‬وإلزامها لذلك‪ ،‬واستمر ول تضجر‪.‬‬

‫{ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمحْسِنِينَ ْ} بل يتقبل ال عنهم أحسن الذي عملوا‪ ،‬ويجزيهم أجرهم‪،‬‬
‫بأحسن ما كانوا يعملون‪ ،‬وفي هذا ترغيب عظيم‪ ،‬للزوم الصبر‪ ،‬بتشويق النفس الضعيفة إلى‬
‫ثواب ال‪ ،‬كلما ونت وفترت‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 116‬فََلوْلَا كَانَ مِنَ ا ْلقُرُونِ مِنْ قَبِْلكُمْ أُولُو َبقِيّةٍ يَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلفَسَادِ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا قَلِيلًا ِممّنْ‬
‫أَنْجَيْنَا مِ ْن ُه ْم وَاتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُوا مَا أُتْ ِرفُوا فِي ِه َوكَانُوا مُجْ ِرمِينَ ْ}‬

‫لما ذكر تعالى‪ ،‬إهلك المم المكذبة للرسل‪ ،‬وأن أكثرهم منحرفون‪ ،‬حتى أهل الكتب اللهية‪،‬‬
‫وذلك كله يقضي على الديان بالذهاب والضمحلل‪ ،‬ذكر أنه لول أنه جعل في القرون الماضية‬
‫بقايا‪ ،‬من أهل الخير يدعون إلى الهدى‪ ،‬وينهون عن الفساد والردى‪ ،‬فحصل من نفعهم ما بقيت به‬
‫الديان‪ ،‬ولكنهم قليلون جدا‪.‬‬

‫وغاية المر‪ ،‬أنهم نجوا‪ ،‬باتباعهم المرسلين‪ ،‬وقيامهم بما قاموا به من دينهم‪ ،‬وبكون حجة ال‬
‫أجراها على أيديهم‪ ،‬ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة‬

‫{ و ْ} لكن { اتّ َبعَ الّذِينَ ظََلمُوا مَا أُتْ ِرفُوا فِيهِ ْ} أي‪ :‬اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف‪ ،‬ولم يبغوا‬
‫به بدل‪.‬‬

‫{ َوكَانُوا مُجْ ِرمِينَ ْ} أي‪ :‬ظالمين‪ ،‬باتباعهم ما أترفوا فيه‪ ،‬فلذلك حق عليهم العقاب‪ ،‬واستأصلهم‬
‫العذاب‪ .‬وفي هذا‪ ،‬حث لهذه المة‪ ،‬أن يكون فيهم بقايا مصلحون‪ ،‬لما أفسد الناس‪ ،‬قائمون بدين‬
‫ال‪ ،‬يدعون من ضل إلى الهدى‪ ،‬ويصبرون منهم على الذى‪ ،‬ويبصرونهم من العمى‪.‬‬

‫وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون‪ ،‬وصاحبها يكون‪ ,‬إماما في الدين‪ ،‬إذا جعل عمله‬
‫خالصا لرب العالمين‪.‬‬

‫{ ‪َ { }ْ 117‬ومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَى بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا ُمصْلِحُونَ ْ}‬

‫أي‪ :‬وما كان ال ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم‪ ،‬والحال أنهم مصلحون‪ ,‬أي‪ :‬مقيمون على‬
‫الصلح‪ ،‬مستمرون عليه‪ ،‬فما كان ال ليهلكهم‪ ،‬إل إذا ظلموا‪ ،‬وقامت عليهم حجة ال‪.‬‬

‫ويحتمل‪ ،‬أن المعنى‪ :‬وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق‪ ،‬إذا رجعوا وأصلحوا عملهم‪ ،‬فإن‬
‫ال يعفو عنهم‪ ،‬ويمحو ما تقدم من ظلمهم‪.‬‬

‫حمَ‬
‫ج َعلَ النّاسَ ُأمّةً وَاحِ َد ًة وَلَا يَزَالُونَ ُمخْتَِلفِينَ * إِلّا مَنْ رَ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 119 - 118‬وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لَ َ‬
‫ج َمعِينَ ْ}‬
‫جهَنّمَ مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫خَلقَهُ ْم وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لََأمْلَأَنّ َ‬
‫ك وَلِذَِلكَ َ‬
‫رَ ّب َ‬

‫يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين السلمي‪ ،‬فإن مشيئته غير‬
‫قاصرة‪ ،‬ول يمتنع عليه شيء‪ ،‬ولكنه اقتضت حكمته‪ ،‬أن ل يزالوا مختلفين‪ ،‬مخالفين للصراط‬
‫المستقيم‪ ,‬متبعين للسبل الموصلة إلى النار‪ ،‬كل يرى الحق‪ ،‬فيما قاله‪ ،‬والضلل في قول غيره‪.‬‬

‫حمَ رَ ّبكَ ْ} فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به‪ ،‬والتفاق عليه‪ ،‬فهؤلء سبقت لهم‪ ،‬سابقة‬
‫{ إِلّا مَنْ رَ ِ‬
‫السعادة‪ ،‬وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق اللهي‪.‬‬
‫وأما من عداهم‪ ،‬فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَلِذَِلكَ خََلقَهُمْ ْ} أي‪ :‬اقتضت حكمته‪ ،‬أنه خلقهم‪ ،‬ليكون منهم السعداء والشقياء‪،‬‬
‫والمتفقون والمختلفون‪ ،‬والفريق الذين هدى ال‪ ,‬والفريق الذين حقت عليهم الضللة‪ ،‬ليتبين للعباد‪،‬‬
‫عدله وحكمته‪ ،‬وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر‪ ،‬ولتقوم سوق الجهاد‬
‫والعبادات التي ل تتم ول تستقيم إل بالمتحان والبتلء‪.‬‬

‫ج َمعِينَ ْ} فل بد أن ييسر للنار أهل‪،‬‬


‫جهَنّمَ مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫{ وَ ْ} لنه { َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لََأمْلَأَنّ َ‬
‫يعملون بأعمالها الموصلة إليها‪.‬‬

‫حقّ‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ وَجَا َءكَ فِي هَ ِذهِ الْ َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 123 - 120‬وكُلّا َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّا عَامِلُونَ * وَانْ َتظِرُوا‬
‫ظ ٌة وَ ِذكْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * َوقُلْ لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ا ْ‬
‫َومَوْعِ َ‬
‫ض وَإِلَيْهِ يُ ْرجَعُ الَْأمْرُ كُلّهُ فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْي ِه َومَا رَ ّبكَ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫إِنّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ ْ}‬
‫ِبغَا ِفلٍ َ‬

‫لما ذكر في هذه السورة من أخبار النبياء‪ ،‬ما ذكر‪ ،‬ذكر الحكمة في ذكر ذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬وكُلّا َن ُقصّ‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ ْ} أي‪ :‬قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم‬
‫عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫من الرسل‪ ،‬فإن النفوس تأنس بالقتداء‪ ،‬وتنشط على العمال‪ ،‬وتريد المنافسة لغيرها‪ ,‬ويتأيد الحق‬
‫بذكر شواهده‪ ،‬وكثرة من قام به‪.‬‬

‫حقّ ْ} اليقين‪ ،‬فل شك فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬فالعلم بذلك من العلم‬


‫{ وَجَا َءكَ فِي هَ ِذهِ ْ} السورة { الْ َ‬
‫بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس‪.‬‬

‫{ َو َموْعِظَ ٌة َو ِذكْرَى ِل ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} أي‪ :‬يتعظون به‪ ،‬فيرتدعون عن المور المكروهة‪ ،‬ويتذكرون‬
‫المور المحبوبة ل فيفعلونها‪.‬‬

‫وأما من ليس من أهل اليمان‪ ،‬فل تنفعهم المواعظ‪ ،‬وأنواع التذكير‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و ُقلْ لِلّذِينَ لَا‬
‫عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ ْ} أي‪ :‬حالتكم التي أنتم عليها { إِنّا‬
‫ُي ْؤمِنُونَ ْ} بعد ما قامت عليهم اليات‪ { ،‬ا ْ‬
‫عَامِلُونَ ْ} على ما كنا عليه‪.‬‬

‫{ وَانْ َتظِرُوا ْ} ما يحل بنا { إِنّا مُنْتَظِرُونَ ْ} ما يحل بكم‪.‬‬

‫وقد فصل ال بين الفريقين‪ ،‬وأرى عباده‪ ،‬نصره لعباده المؤمنين‪ ,‬وقمعه لعداء ال المكذبين‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬ما غاب فيهما من الخفايا‪ ،‬والمور الغيبية‪.‬‬
‫{ وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬

‫{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الَْأمْرُ كُلّهُ ْ} من العمال والعمال‪ ،‬فيميز الخبيث من الطيب { فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْيهِ ْ}‬
‫أي‪ :‬قم بعبادته‪ ،‬وهي جميع ما أمر ال به مما تقدر عليه‪ ،‬وتوكل على ال في ذلك‪.‬‬

‫عمّا َت ْعمَلُونَ ْ} من الخير والشر‪ ،‬بل قد أحاط علمه بذلك‪ ،‬وجرى به قلمه‪،‬‬
‫{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫وسيجري عليه حكمه‪ ،‬وجزاؤه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة هود‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ال على محمد وسلم‪.‬‬

‫[ وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت في ‪ 21‬من شهر ربيع الخر ‪] 1347‬‬

‫‪+++‬المجلد الرابع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم الرب المنان لجامعه الفقير إلى ال‪:‬‬
‫عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر ال له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين‪+++.‬‬

‫تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلة والسلم‬


‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا َلعَّلكُمْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 3 - 1‬بِ ْ‬
‫ن وَإِنْ كُ ْنتَ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ‬
‫صصِ ِبمَا َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ هَذَا ا ْلقُرْآ َ‬
‫َت ْعقِلُونَ * َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ َأحْسَنَ ا ْلقَ َ‬
‫ا ْلغَافِلِينَ ْ}‬

‫يخبر تعالى أن آيات القرآن هي { آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ ْ} أي‪ :‬البين الواضحة ألفاظه ومعانيه‪.‬‬

‫ومن بيانه وإيضاحه‪ :‬أنه أنزله باللسان العربي‪ ،‬أشرف اللسنة‪ ،‬وأبينها‪[ ،‬المبين لكل ما يحتاجه‬
‫الناس من الحقائق النافعة ] وكل هذا اليضاح والتبيين { َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ ْ} أي‪ :‬لتعقلوا حدوده‬
‫وأصوله وفروعه‪ ،‬وأوامره ونواهيه‪.‬‬

‫فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها‪ ،‬أثمر ذلك عمل الجوارح والنقياد إليه‪ ،‬و‬
‫{ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ ْ} أي‪ :‬تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية‪ ،‬على أذهانكم‪ .،‬فتنتقلون من‬
‫حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل‪.‬‬
‫صصِ ْ} وذلك لصدقها وسلسة عبارتها ورونق معانيها‪ِ { ،‬بمَا َأوْحَيْنَا‬
‫{ َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْلقَ َ‬
‫إِلَ ْيكَ َهذَا ا ْلقُرْآنَ ْ} أي‪ :‬بما اشتمل عليه هذا القرآن الذي أوحيناه إليك‪ ،‬وفضلناك به على سائر‬
‫النبياء‪ ،‬وذاك محض منّة من ال وإحسان‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كُ ْنتَ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ ْ} أي‪ :‬ما كنت تدري ما الكتاب ول اليمان قبل أن يوحي ال‬
‫إليك‪ ،‬ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا‪.‬‬

‫ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص‪ ،‬وأنها أحسن القصص على الطلق‪ ،‬فل يوجد‬
‫من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن‪ ،‬ذكر قصه يوسف‪ ،‬وأبيه وإخوته‪ ،‬القصة‬
‫العجيبة الحسنة فقال‪:‬‬

‫س وَا ْل َقمَرَ َرأَيْ ُتهُمْ لِي‬


‫شمْ َ‬
‫حدَ عَشَرَ َك ْوكَبًا وَال ّ‬
‫سفُ لِأَبِيهِ يَا أَ َبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ أَ َ‬
‫{ ‪ِ { }ْ 6 - 4‬إذْ قَالَ يُو ُ‬
‫خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُوا َلكَ كَيْدًا إِنّ الشّ ْيطَانَ لِلْإِ ْنسَانِ عَ ُدوّ‬
‫صصْ ُرؤْيَاكَ عَلَى إِ ْ‬
‫سَاجِدِينَ* قَالَ يَا بُ َنيّ لَا َت ْق ُ‬
‫ك وَعَلَى آلِ َي ْعقُوبَ َكمَا‬
‫ث وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ‬
‫ك وَ ُيعَّل ُمكَ مِنْ تَ ْأوِيلِ الَْأحَادِي ِ‬
‫مُبِينٌ * َوكَذَِلكَ يَجْتَبِيكَ رَ ّب َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫علِيمٌ َ‬
‫سحَاقَ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫أَ َت ّمهَا عَلَى أَ َبوَ ْيكَ مِنْ قَ ْبلُ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬

‫واعلم أن ال ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب‪ ،‬ثم ذكر هذه القصة‬
‫وبسطها‪ ،‬وذكر ما جرى فيها‪ ،‬فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة‪ ،‬فمن أراد أن يكملها أو‬
‫يحسنها بما يذكر في السرائيليات التي ل يعرف لها سند ول ناقل وأغلبها كذب‪ ،‬فهو مستدرك‬
‫على ال‪ ،‬ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص‪ ،‬وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا‪ ،‬فإن تضاعيف‬
‫هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير‪ ،‬من الكاذيب والمور الشنيعة المناقضة لما قصه ال‬
‫تعالى بشيء كثير‪.‬‬

‫فعلى العبد أن يفهم عن ال ما قصه‪ ،‬ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ينقل‪.‬‬

‫سفُ لِأَبِيهِ ْ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلة والسلم‪:‬‬


‫فقوله تعالى‪ِ { :‬إذْ قَالَ يُو ُ‬
‫جدِينَ ْ} فكانت هذه الرؤيا‬
‫شمْسَ وَالْ َقمَرَ رَأَيْ ُتهُمْ لِي سَا ِ‬
‫عشَرَ َك ْوكَبًا وَال ّ‬
‫{ يَا أَ َبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ َأحَدَ َ‬
‫مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلم من الرتفاع في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫وهكذا إذا أراد ال أمرا من المور العظام قدم بين يديه مقدمة‪ ،‬توطئة له‪ ،‬وتسهيل لمره‪،‬‬
‫واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق‪ ،‬لطفا بعبده‪ ،‬وإحسانا إليه‪ ،‬فأوّلها يعقوب بأن الشمس‪:‬‬
‫أمه‪ ،‬والقمر‪ :‬أبوه‪ ،‬والكواكب‪ :‬إخوته‪ ،‬وأنه ستنتقل به الحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون‬
‫له‪ ،‬ويسجدون له إكراما وإعظاما‪ ،‬وأن ذلك ل يكون إل بأسباب تتقدمه من اجتباء ال له‪،‬‬
‫واصطفائه له‪ ،‬وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل‪ ،‬والتمكين في الرض‪.‬‬

‫وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب‪ ،‬الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ َيجْتَبِيكَ رَ ّبكَ ْ} أي‪ :‬يصطفيك ويختارك بما يمنّ به عليك من الوصاف الجليلة والمناقب‬
‫الجميلة‪ { .،‬وَ ُيعَّل ُمكَ مِنْ تَ ْأوِيلِ الَْأحَادِيثِ ْ} أي‪ :‬من تعبير الرؤيا‪ ،‬وبيان ما تئول إليه الحاديث‬
‫الصادقة‪ ،‬كالكتب السماوية ونحوها‪ { ،‬وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ ْ} في الدنيا والخرة‪ ،‬بأن يؤتيك في الدنيا‬
‫سحَاقَ ْ} حيث أنعم ال‬
‫حسنة‪ ،‬وفي الخرة حسنة‪َ { ،‬كمَا أَ َت ّمهَا عَلَى أَ َبوَ ْيكَ مِنْ قَ ْبلُ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫عليهما‪ ،‬بنعم عظيمة واسعة‪ ،‬دينية‪ ،‬ودنيوية‪.‬‬

‫حكِيمٌ ْ} أي‪ :‬علمه محيط بالشياء‪ ،‬وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر‬
‫{ إِنّ رَ ّبكَ عَلِيمٌ َ‬
‫وغيره‪ ،‬فيعطي كل ما تقتضيه حكمته وحمده‪ ،‬فإنه حكيم يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وينزلها‬
‫منازلها‪.‬‬

‫خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُوا َلكَ كَيْدًا ْ}‬


‫صصْ ُرؤْيَاكَ عَلَى ِإ ْ‬
‫ولما بان تعبيرها ليوسف‪ ،‬قال له أبوه‪ { :‬يَا بُ َنيّ لَا َت ْق ُ‬
‫أي‪ :‬حسدا من عند أنفسهم‪ ،‬أن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم‪.‬‬

‫ع ُدوّ مُبِينٌ ْ} ل يفتر عنه ليل ول نهارا‪ ،‬ول سرا ول جهارا‪ ،‬فالبعد عن‬
‫{ إِنّ الشّ ْيطَانَ لِلْإِنْسَانِ َ‬
‫السباب التي يتسلط بها على العبد أولى‪ ،‬فامتثل يوسف أمر أبيه‪ ،‬ولم يخبر إخوته بذلك‪ ،‬بل كتمها‬
‫عنهم‪.‬‬

‫حبّ إِلَى أَبِينَا‬


‫سفُ وَأَخُوهُ أَ َ‬
‫خوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ * ِإذْ قَالُوا لَيُو ُ‬
‫سفَ وَإِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 9 - 7‬لقَدْ كَانَ فِي يُو ُ‬
‫جهُ أَبِيكُمْ‬
‫خلُ َلكُ ْم وَ ْ‬
‫سفَ َأوِ اطْ َرحُوهُ أَ ْرضًا َي ْ‬
‫عصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُو ُ‬
‫مِنّا وَنَحْنُ ُ‬
‫وَ َتكُونُوا مِنْ َبعْ ِدهِ َق ْومًا صَالِحِينَ }‬

‫خوَتِهِ آيَاتٌ ْ} أي‪ :‬عبر وأدلة على كثير من المطالب الحسنة‪،‬‬


‫سفَ وَِإ ْ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬لقَدْ كَانَ فِي يُو ُ‬
‫{ لِلسّائِلِينَ ْ} أي‪ :‬لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال‪ ،‬فإن السائلين هم الذين ينتفعون‬
‫باليات والعبر‪ ،‬وأما المعرضون فل ينتفعون باليات‪ ،‬ول في القصص والبينات‪.‬‬
‫حبّ إِلَى أَبِينَا‬
‫ف وَأَخُوهُ ْ} بنيامين‪ ،‬أي‪ :‬شقيقه‪ ،‬وإل فكلهم إخوة‪َ { .‬أ َ‬
‫س ُ‬
‫{ ِإذْ قَالُوا ْ} فيما بينهم‪ { :‬لَيُو ُ‬
‫عصْبَةٌْ} أي‪ :‬جماعة‪ ،‬فكيف يفضلهما علينا بالمحبة والشفقة‪ { ،‬إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‬
‫مِنّا وَنَحْنُ ُ‬
‫ْ} أي‪ :‬لفي خطأ بيّن‪ ،‬حيث فضلهما علينا من غير موجب نراه‪ ،‬ول أمر نشاهده‪.‬‬

‫سفَ َأوِ اطْرَحُوهُ أَ ْرضًا ْ} أي‪ :‬غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة ل يتمكن من رؤيته فيها‪.‬‬
‫{ اقْتُلُوا يُو ُ‬

‫جهُ أَبِيكُمْ ْ} أي‪ :‬يتفرغ لكم‪ ،‬ويقبل عليكم بالشفقة‬


‫خلُ َلكُ ْم وَ ْ‬
‫فإنكم إذا فعلتم أحد هذين المرين { َي ْ‬
‫والمحبة‪ ،‬فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغل ل يتفرغ لكم‪ { ،‬وَ َتكُونُوا مِنْ َبعْ ِدهِ ْ} أي‪ :‬من بعد هذا‬
‫الصنيع { َق ْومًا صَاِلحِينَ ْ} أي‪ :‬تتوبون إلى ال‪ ،‬وتستغفرون من بعد ذنبكم‪.‬‬

‫فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيل لفعله‪ ،‬وإزالة لشناعته‪ ،‬وتنشيطا من‬
‫بعضهم لبعض‪.‬‬

‫جبّ يَلْ َتقِطْهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ إِنْ كُنْتُمْ‬


‫ف وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَابَةِ ا ْل ُ‬
‫س َ‬
‫{ ‪ { } 10‬قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ لَا َتقْتُلُوا يُو ُ‬
‫فَاعِلِينَ }‬

‫سفَ ْ} فإن قتله أعظم‬


‫أي‪ { :‬قَالَ قَا ِئلٌ ْ} من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده‪ { :‬لَا َتقْتُلُوا يُو ُ‬
‫إثما وأشنع‪ ،‬والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل‪ ،‬ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه {‬
‫جبّ ْ} وتتوعدوه على أنه ل يخبر بشأنكم‪ ،‬بل على أنه عبد مملوك آبق منكم‪ ،‬لجل أن‬
‫فِي غَيَا َبةِ ا ْل ُ‬
‫طهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ ْ} الذين يريدون مكانا بعيدا‪ ،‬فيحتفظون فيه‪.‬‬
‫{ يَلْ َتقِ ْ‬

‫وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف‪ ،‬وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية‪ ،‬فإن بعض الشر أهون من‬
‫بعض‪ ،‬والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل‪. ،‬فلما اتفقوا على هذا الرأي‪.‬‬

‫سفَ وَإِنّا َلهُ لَنَاصِحُونَ * أَ ْرسِلْهُ َمعَنَا غَدًا‬


‫{ ‪ { } 14 - 11‬قَالُوا يَا أَبَانَا مَا َلكَ لَا تَ ْأمَنّا عَلَى يُو ُ‬
‫يَرْتَ ْع وَيَ ْل َعبْ وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ * قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ َتذْهَبُوا بِ ِه وََأخَافُ أَنْ يَ ْأكُلَهُ الذّ ْئبُ وَأَنْ ُتمْ عَنْهُ‬
‫عصْبَةٌ إِنّا إِذًا َلخَاسِرُونَ }‬
‫ب وَنَحْنُ ُ‬
‫غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ َأكَلَهُ الذّ ْئ ُ‬

‫ف وَإِنّا لَهُ‬
‫س َ‬
‫أي‪ :‬قال إخوة يوسف‪ ،‬متوصلين إلى مقصدهم لبيهم‪ { :‬يَا أَبَانَا مَا َلكَ لَا تَ ْأمَنّا عَلَى يُو ُ‬
‫لَنَاصِحُونَ ْ} أي‪ :‬لي شيء يدخلك الخوف منا على يوسف‪ ،‬من غير سبب ول موجب؟ { وَ ْ}‬
‫الحال { إِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ْ} أي‪ :‬مشفقون عليه‪ ،‬نود له ما نود لنفسنا‪ ،‬وهذا يدل على أن يعقوب‬
‫عليه السلم ل يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها‪.‬‬
‫فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم‪ ،‬ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه‬
‫الذي يحبه أبوه له‪ ،‬ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم‪ ،‬فقالوا‪:‬‬

‫غدًا يَرْتَ ْع وَيَ ْل َعبْ ْ} أي‪ :‬يتنزه في البرية ويستأنس‪ { .‬وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ ْ} أي‪:‬‬
‫{ أَ ْرسِلْهُ َمعَنَا َ‬
‫سنراعيه‪ ،‬ونحفظه من أذى يريده‪.‬‬

‫فأجابهم بقوله‪ { :‬إِنّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ َتذْهَبُوا بِهِ ْ} أي‪ :‬مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق علي‪ ،‬لنني ل‬
‫أقدر على فراقه‪ ،‬ولو مدة يسيرة‪ ،‬فهذا مانع من إرساله { وَ ْ} مانع ثان‪ ،‬وهو أني { أَخَافُ أَنْ‬
‫يَ ْأكُلَهُ الذّ ْئبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ْ} أي‪ :‬في حال غفلتكم عنه‪ ،‬لنه صغير ل يمتنع من الذئب‪.‬‬

‫عصْبَةٌ ْ} أي‪ :‬جماعة‪ ،‬حريصون على حفظه‪ { ،‬إِنّا إِذًا َلخَاسِرُونَ ْ}‬
‫{ قَالُوا لَئِنْ َأكَلَهُ الذّ ْئبُ وَ َنحْنُ ُ‬
‫أي‪ :‬ل خير فينا ول نفع يرجى منا إن أكله الذئب وغلبنا عليه‪.‬‬

‫فلما مهدوا لبيهم السباب الداعية لرساله‪ ،‬وعدم الموانع‪ ،‬سمح حينئذ بإرساله معهم لجل أنسه‪.‬‬

‫ب وََأوْحَيْنَا إِلَ ْيهِ لَتُنَبّئَ ّنهُمْ بَِأمْرِ ِهمْ‬


‫ج ّ‬
‫جعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْ ُ‬
‫ج َمعُوا أَنْ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 18 - 15‬فََلمّا َذهَبُوا بِ ِه وَأَ ْ‬
‫سفَ‬
‫ق وَتَ َركْنَا يُو ُ‬
‫شعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَا ُهمْ عِشَاءً يَ ْبكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَ ِب ُ‬
‫هَذَا وَهُمْ لَا َي ْ‬
‫ب َومَا أَ ْنتَ ِب ُمؤْمِنٍ لَنَا وََلوْ كُنّا صَا ِدقِينَ * َوجَاءُوا عَلَى َقمِيصِهِ بِدَمٍ كَ ِذبٍ قَالَ‬
‫عِنْدَ مَتَاعِنَا فََأكَلَهُ الذّ ْئ ُ‬
‫صفُونَ }‬
‫جمِيلٌ وَاللّهُ ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَى مَا َت ِ‬
‫سكُمْ َأمْرًا َفصَبْرٌ َ‬
‫سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫َبلْ َ‬

‫أي‪ :‬لما ذهب إخوة يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه‪ ،‬وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب‪،‬‬
‫كما قال قائلهم السابق ذكره‪ ،‬وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه‪ ،‬فنفذوا فيه قدرتهم‪ ،‬وألقوه في‬
‫الجب‪ ،‬ثم إن ال لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال الحرجة‪ { ،‬لَتُنَبّئَ ّنهُمْ بَِأمْرِ ِهمْ َهذَا وَهُمْ‬
‫شعُرُونَ } أي‪ :‬سيكون منك معاتبة لهم‪ ،‬وإخبار عن أمرهم هذا‪ ،‬وهم ل يشعرون بذلك المر‪،‬‬
‫لَا يَ ْ‬
‫ففيه بشارة له‪ ،‬بأنه سينجو مما وقع فيه‪ ،‬وأن ال سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين‬
‫له في الرض‪.‬‬

‫{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَ ْبكُونَ } ليكون إتيانهم متأخرا عن عادتهم‪ ،‬وبكاؤهم دليل لهم‪ ،‬وقرينة على‬
‫صدقهم‪.‬‬

‫فقالوا ‪ -‬متعذرين بعذر كاذب ‪ { -‬يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا َنسْتَبِقُ } إما على القدام‪ ،‬أو بالرمي‬
‫سفَ عِ ْندَ مَتَاعِنَا } توفيرا له وراحة‪ { .‬فََأكَلَهُ الذّ ْئبُ } في حال غيبتنا عنه‬
‫والنضال‪ { ،‬وَتَ َركْنَا يُو ُ‬
‫في استباقنا { َومَا أَ ْنتَ ِب ُم ْؤمِنٍ لَنَا وََلوْ كُنّا صَا ِدقِينَ } أي‪ :‬تعذرنا بهذا العذر‪ ،‬والظاهر أنك ل‬
‫تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف‪ ،‬والرقة الشديدة عليه‪.‬‬
‫ولكن عدم تصديقك إيانا‪ ،‬ل يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي‪ ،‬وكل هذا‪ ،‬تأكيد لعذرهم‪ { .‬وَ } مما‬
‫أكدوا به قولهم‪ ،‬أنهم { جَاءُوا عَلَى َقمِيصِهِ بِ َدمٍ كَ ِذبٍ } زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب‪ ،‬فلم‬
‫سكُمْ َأمْرًا } أي‪ :‬زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا‬
‫سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫يصدقهم أبوهم بذلك‪ ،‬و { قَالَ } { َبلْ َ‬
‫في التفريق بيني وبينه‪ ،‬لنه رأى من القرائن والحوال [ ومن رؤيا يوسف التي قصّها عليه ] ما‬
‫دلّه على ما قال‪.‬‬

‫صفُونَ } أي‪ :‬أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها‪،‬‬


‫جمِيلٌ وَاللّهُ ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَى مَا َت ِ‬
‫{ َفصَبْرٌ َ‬
‫وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميل سالما من السخط والتّشكّي إلى الخلق‪ ،‬وأستعين ال‬
‫على ذلك‪ ،‬ل على حولي وقوتي‪ ،‬فوعد من نفسه هذا المر وشكى إلى خالقه في قوله‪ { :‬إِ ّنمَا‬
‫شكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } لن الشكوى إلى الخالق ل تنافي الصبر الجميل‪ ،‬لن النبي إذا وعد‬
‫أَ ْ‬
‫وفى‪.‬‬

‫{ ‪ { } 20 - 19‬وَجَا َءتْ سَيّا َرةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَ ُهمْ فَأَدْلَى دَ ْل َوهُ قَالَ يَا ُبشْرَى هَذَا غُلَا ٌم وَأَسَرّوهُ‬
‫ِبضَاعَ ًة وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ * وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ بَخْسٍ دَرَا ِهمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُوا فِيهِ مِنَ الزّا ِهدِينَ }‬

‫أي‪ :‬مكث يوسف في الجب ما مكث‪ ،‬حتى { جَا َءتْ سَيّا َرةٌ } أي‪ :‬قافلة تريد مصر‪ { ،‬فَأَ ْرسَلُوا‬
‫وَارِدَ ُهمْ } أي‪ :‬فرطهم ومقدمهم‪ ،‬الذي يعس لهم المياه‪ ،‬ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو‬
‫ذلك‪ { ،‬فَأَدْلَى } ذلك الوارد { دَ ْل َوهُ } فتعلق فيه يوسف عليه السلم وخرج‪ { .‬قَالَ يَا ُبشْرَى هَذَا‬
‫غُلَامٌ } أي‪ :‬استبشر وقال‪ :‬هذا غلم نفيس‪ { ،‬وَأَسَرّوهُ ِبضَاعَةً } وكان إخوته قريبا منه‪ ،‬فاشتراه‬
‫السيارة منهم‪ { ،‬بِ َثمَنٍ بَخْسٍ } أي‪ :‬قليل جدا‪ ،‬فسره بقوله‪ { :‬دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُوا فِيهِ مِنَ‬
‫الزّا ِهدِينَ }‬

‫لنه لم يكن لهم قصد إل تغييبه وإبعاده عن أبيه‪ ،‬ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه‪ ،‬والمعنى في‬
‫هذا‪ :‬أن السيارة لما وجدوه‪ ،‬عزموا أن يُسِرّوا أمره‪ ،‬ويجعلوه من جملة بضائعهم التي معهم‪ ،‬حتى‬
‫جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم‪ ،‬فاشتروه منهم بذلك الثمن‪ ،‬واستوثقوا منهم فيه لئل‬
‫يهرب‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 21‬وقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ ِمصْرَ لِامْرَأَتِهِ َأكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ عَسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا َوكَذَِلكَ‬
‫ض وَلِ ُنعَّلمَهُ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَى َأمْ ِر ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا‬
‫سفَ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫َمكّنّا لِيُو ُ‬
‫َيعَْلمُونَ }‬
‫أي‪ :‬لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها‪ ،‬فاشتراه عزيز مصر‪ ،‬فلما اشتراه‪ ،‬أعجب به‪،‬‬
‫عسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا } أي‪ :‬إما أن ينفعنا كنفع‬
‫ووصى عليه امرأته وقال‪َ { :‬أكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ َ‬
‫العبيد بأنواع الخدم‪ ،‬وإما أن نستمتع فيه استمتاعنا بأولدنا‪ ،‬ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد‪،‬‬
‫سفَ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر‪ ،‬ويكرمه هذا‬
‫{ َوكَذَِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ‬
‫الكرام‪ ،‬جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الرض من هذا الطريق‪.‬‬

‫{ وَلِ ُنعَّلمَهُ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ } إذا بقي ل شغل له ول همّ له سوى العلم صار ذلك من أسباب‬
‫تعلمه علما كثيرا‪ ،‬من علم الحكام‪ ،‬وعلم التعبير‪ ،‬وغير ذلك‪ { .‬وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَى َأمْ ِرهِ } أي‪ :‬أمره‬
‫تعالى نافذ‪ ،‬ل يبطله مبطل‪ ،‬ول يغلبه مغالب‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } فلذلك يجري منهم‬
‫ويصدر ما يصدر‪ ،‬في مغالبة أحكام ال القدرية‪ ،‬وهم أعجز وأضعف من ذلك‪.‬‬

‫حسِنِينَ }‬
‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫ش ّدهُ آتَيْنَاهُ ُ‬
‫{ ‪ { } 22‬وََلمّا بََلغَ أَ ُ‬

‫أي‪ { :‬وََلمّا بَلَغَ } يوسف { َأشُ ّدهُ } أي‪ :‬كمال قوته المعنوية والحسية‪ ،‬وصلح لن يتحمل الحمال‬
‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا } أي‪ :‬جعلناه نبيا رسول‪ ،‬وعالما ربانيا‪َ { ،‬وكَذَِلكَ‬
‫الثقيلة‪ ،‬من النبوة والرسالة‪ { .‬آتَيْنَاهُ ُ‬
‫نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ } في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها‪ ،‬وإلى عباد ال ببذل النفع والحسان‬
‫إليهم‪ ،‬نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم علما نافعا‪.‬‬

‫ودل هذا‪ ،‬على أن يوسف وفّى مقام الحسان‪ ،‬فأعطاه ال الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 29 - 23‬وَرَاوَدَتْهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَنْ َنفْسِهِ وَغَلّ َقتِ الْأَ ْبوَابَ َوقَاَلتْ هَ ْيتَ َلكَ قَالَ َمعَاذَ‬
‫حسَنَ مَ ْثوَايَ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ * وَلَقَدْ َه ّمتْ ِب ِه وَهَمّ ِبهَا َلوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‬
‫اللّهِ إِنّهُ رَبّي أَ ْ‬
‫ب َوقَ ّدتْ َقمِيصَهُ مِنْ‬
‫كَذَِلكَ لِ َنصْ ِرفَ عَنْهُ السّو َء وَا ْلفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْلمُخَْلصِينَ * وَاسْتَ َبقَا الْبَا َ‬
‫دُبُ ٍر وَأَ ْلفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَاَلتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهِْلكَ سُوءًا إِلّا أَنْ يُسْجَنَ َأوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ‬
‫ت وَ ُهوَ مِنَ‬
‫ش ِهدَ شَا ِهدٌ مِنْ أَهِْلهَا إِنْ كَانَ َقمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُ ُبلٍ َفصَ َد َق ْ‬
‫ِهيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ َنفْسِي وَ َ‬
‫ا ْلكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ َقمِيصُهُ ُقدّ مِنْ دُبُرٍ َف َكذَ َبتْ وَ ُهوَ مِنَ الصّا ِدقِينَ * فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ‬
‫سفُ أَعْ ِرضْ عَنْ َهذَا وَاسْ َت ْغفِرِي ِلذَنْ ِبكِ إِ ّنكِ كُ ْنتِ مِنَ‬
‫قَالَ إِنّهُ مِنْ كَيْ ِدكُنّ إِنّ كَيْ َدكُنّ عَظِيمٌ * يُو ُ‬
‫الْخَاطِئِينَ }‬

‫هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته‪ ،‬وصبره عليها أعظم أجرا‪ ،‬لنه صبر‬
‫اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة‪ ،‬لوقوع الفعل‪ ،‬فقدم محبة ال عليها‪ ،‬وأما محنته بإخوته‪ ،‬فصبره‬
‫صبر اضطرار‪ ،‬بمنزلة المراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إل‬
‫الصبر عليها‪ ،‬طائعا أو كارها‪ ،‬وذلك أن يوسف عليه الصلة والسلم بقي مكرما في بيت العزيز‪،‬‬
‫وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك‪ ،‬أن { رَاوَدَ ْتهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَنْ َنفْسِهِ }‬
‫أي‪ :‬هو غلمها‪ ،‬وتحت تدبيرها‪ ،‬والمسكن واحد‪ ،‬يتيسر إيقاع المر المكروه من غير إشعار أحد‪،‬‬
‫ول إحساس بشر‪.‬‬

‫{ وَ } زادت المصيبة‪ ،‬بأن { غَّل َقتِ الْأَ ْبوَابَ } وصار المحل خاليا‪ ،‬وهما آمنان من دخول أحد‬
‫عليهما‪ ،‬بسبب تغليق البواب‪ ،‬وقد دعته إلى نفسها { َوقَاَلتْ هَ ْيتَ َلكَ } أي‪ :‬افعل المر المكروه‬
‫وأقبل إليّ‪ ،‬ومع هذا فهو غريب‪ ،‬ل يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه‪ ،‬وهو‬
‫أسير تحت يدها‪ ،‬وهي سيدته‪ ،‬وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك‪ ،‬وهو شاب عزب‪ ،‬وقد‬
‫توعدته‪ ،‬إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن‪ ،‬أو العذاب الليم‪.‬‬

‫فصبر عن معصية ال‪ ،‬مع وجود الداعي القوي فيه‪ ،‬لنه قد هم فيها هما تركه ل‪ ،‬وقدم مراد ال‬
‫على مراد النفس المارة بالسوء‪ ،‬ورأى من برهان ربه ‪ -‬وهو ما معه من العلم واليمان‪،‬‬
‫الموجب لترك كل ما حرم ال ‪ -‬ما أوجب له البعد والنكفاف‪ ،‬عن هذه المعصية الكبيرة‪ ،‬و‬
‫{ قَالَ َمعَاذَ اللّهِ } أي‪ :‬أعوذ بال أن أفعل هذا الفعل القبيح‪ ،‬لنه مما يسخط ال ويبعد منه‪ ،‬ولنه‬
‫خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي‪.‬‬

‫فل يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة‪ ،‬وهذا من أعظم الظلم‪ ،‬والظالم ل يفلح‪ ،‬والحاصل أنه‬
‫جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى ال‪ ،‬ومراعاة حق سيده الذي أكرمه‪ ،‬وصيانة نفسه عن الظلم‬
‫الذي ل يفلح من تعاطاه‪ ،‬وكذلك ما منّ ال عليه من برهان اليمان الذي في قلبه‪ ،‬يقتضي منه‬
‫امتثال الوامر‪ ،‬واجتناب الزواجر‪ ،‬والجامع لذلك كله أن ال صرف عنه السوء والفحشاء‪ ،‬لنه‬
‫من عباده المخلصين له في عباداتهم‪ ،‬الذين أخلصهم ال واختارهم‪ ،‬واختصهم لنفسه‪ ،‬وأسدى‬
‫عليهم من النعم‪ ،‬وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه‪.‬‬

‫ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة‪ ،‬ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب‬
‫ليتخلص‪ ،‬ويهرب من الفتنة‪ ،‬فبادرت إليه‪ ،‬وتعلقت بثوبه‪ ،‬فشقت قميصه‪ ،‬فلما وصل إلى الباب في‬
‫تلك الحال‪ ،‬ألفيا سيدها‪ ،‬أي‪ :‬زوجها لدى الباب‪ ،‬فرأى أمرا شق عليه‪ ،‬فبادرت إلى الكذب‪ ،‬أن‬
‫المراودة قد كانت من يوسف‪ ،‬وقالت‪ { :‬مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهِْلكَ سُوءًا } ولم تقل "من فعل بأهلك‬
‫سوءا" تبرئة لها وتبرئة له أيضا من الفعل‪.‬‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪ :‬أو يعذب عذابا أليما‪.‬‬


‫وإنما النزاع عند الرادة والمراودة { إِلّا أَنْ ُيسْجَنَ َأوْ َ‬
‫فبرأ نفسه مما رمته به‪ ،‬وقال‪ِ { :‬هيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ َنفْسِي } فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد‬
‫منهما ولم يعلم أيهما‪.‬‬

‫ولكن ال تعالى جعل للحق والصدق علمات وأمارات تدل عليه‪ ،‬قد يعلمها العباد وقد ل‬
‫يعلمونها‪ ،‬فمنّ ال في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما‪ ،‬تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلم‪،‬‬
‫فانبعث شاهد من أهل بيتها‪ ،‬يشهد بقرينة من وجدت معه‪ ،‬فهو الصادق‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنْ كَانَ َقمِيصُهُ‬
‫ت وَ ُهوَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } لن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها‪ ،‬المراود لها‬
‫قُدّ مِنْ قُ ُبلٍ َفصَ َد َق ْ‬
‫المعالج‪ ،‬وأنها أرادت أن تدفعه عنها‪ ،‬فشقت قميصه من هذا الجانب‪.‬‬

‫ت وَ ُهوَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } لن ذلك يدل على هروبه منها‪ ،‬وأنها‬
‫{ وَإِنْ كَانَ َقمِيصُهُ ُقدّ مِنْ دُبُرٍ َفكَذَ َب ْ‬
‫هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب‪.‬‬

‫{ فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ ُقدّ مِنْ دُبُرٍ } عرف بذلك صدق يوسف وبراءته‪ ،‬وأنها هي الكاذبة‪.‬‬

‫عظِيمٌ } وهل أعظم من هذا الكيد‪ ،‬الذي برأت به‬


‫فقال لها سيدها‪ { :‬إِنّهُ مِنْ كَ ْي ِدكُنّ إِنّ كَيْ َدكُنّ َ‬
‫نفسها مما أرادت وفعلت‪ ،‬ورمت به نبي ال يوسف عليه السلم‪ ،‬ثم إن سيدها لما تحقق المر‪،‬‬
‫سفُ أَعْ ِرضْ عَنْ هَذَا } أي‪ :‬اترك الكلم فيه وتناسه ول تذكره لحد‪ ،‬طلبا للستر‬
‫قال ليوسف‪ { :‬يُو ُ‬
‫على أهله‪ { ،‬وَاسْ َت ْغفِرِي } أيتها المرأة { لِذَنْ ِبكِ إِ ّنكِ كُ ْنتِ مِنَ ا ْلخَاطِئِينَ } فأمر يوسف بالعراض‪،‬‬
‫وهي بالستغفار والتوبة‪.‬‬

‫ش َغ َفهَا حُبّا إِنّا‬


‫س َوةٌ فِي ا ْل َمدِينَةِ امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ تُرَا ِودُ فَتَاهَا عَنْ َنفْسِهِ قَدْ َ‬
‫{ ‪َ { } 35 - 30‬وقَالَ ِن ْ‬
‫ل وَاحِ َدةٍ‬
‫ن وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكًَأ وَآ َتتْ ُك ّ‬
‫س ِم َعتْ ِب َمكْرِهِنّ أَرْسََلتْ إِلَ ْيهِ ّ‬
‫لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *فََلمّا َ‬
‫ن َوقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا َهذَا بَشَرًا إِنْ‬
‫طعْنَ أَ ْيدِ َيهُ ّ‬
‫سكّينًا َوقَاَلتِ اخْرُجْ عَلَ ْيهِنّ فََلمّا رَأَيْ َنهُ َأكْبَرْنَ ُه َوقَ ّ‬
‫مِ ْنهُنّ ِ‬
‫هَذَا إِلّا مََلكٌ كَرِيمٌ * قَاَلتْ َفذَِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي فِي ِه وََلقَدْ رَاوَدُْتهُ عَنْ َنفْسِهِ فَاسْ َت ْعصَ َم وَلَئِنْ لَمْ َي ْف َعلْ مَا‬
‫حبّ إَِليّ ِممّا يَدْعُونَنِي إِلَيْ ِه وَإِلّا َتصْ ِرفْ‬
‫ن وَلَ َيكُونًا مِنَ الصّاغِرِينَ * قَالَ َربّ السّجْنُ أَ َ‬
‫سجَنَ ّ‬
‫آمُ ُرهُ لَيُ ْ‬
‫ن وََأكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْ َتجَابَ لَهُ رَبّهُ َفصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ ُهوَ‬
‫صبُ إِلَ ْيهِ ّ‬
‫عَنّي كَ ْيدَهُنّ َأ ْ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * ُثمّ بَدَا َلهُمْ مِنْ َبعْدِ مَا َرَأوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّى حِينٍ }‬
‫ال ّ‬

‫يعني‪ :‬أن الخبر اشتهر وشاع في البلد‪ ،‬وتحدث به النسوة فجعلن يلمنها‪ ،‬ويقلن‪ { :‬امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ‬
‫ش َغفَهَا حُبّا } أي‪ :‬هذا أمر مستقبح‪ ،‬هي امرأة كبيرة القدر‪ ،‬وزوجها كبير‬
‫تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ َنفْسِهِ قَدْ َ‬
‫القدر‪ ،‬ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن نفسه‪.،‬ومع هذا فإن حبه قد‬
‫بلغ من قلبها مبلغا عظيما‪.‬‬
‫ش َغ َفهَا حُبّا } أي‪ :‬وصل حبه إلى شغاف قلبها‪ ،‬وهو باطنه وسويداؤه‪ ،‬وهذا أعظم ما يكون‬
‫{ َقدْ َ‬
‫من الحب‪ { ،‬إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث وجدت منها هذه الحالة التي ل تنبغي منها‪ ،‬وهي‬
‫حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس‪ ،‬وكان هذا القول منهن مكرا‪ ،‬ليس المقصود به مجرد اللوم‬
‫لها والقدح فيها‪ ،‬وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلم إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز‬
‫س ِمعَتْ ِب َمكْرِهِنّ‬
‫لتحنق امرأة العزيز‪ ،‬وتريهن إياه ليعذرنها‪ ،‬ولهذا سماه مكرا‪ ،‬فقال‪ { :‬فََلمّا َ‬
‫أَرْسََلتْ إِلَ ْيهِنّ } تدعوهن إلى منزلها للضيافة‪.‬‬

‫{ وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكَأً } أي‪ :‬محل مهيأ بأنواع الفرش والوسائد‪ ،‬وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة‪،‬‬
‫وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في تلك الضيافة‪ ،‬طعام يحتاج إلى سكين‪ ،‬إما أترج‪ ،‬أو‬
‫سكّينًا } ليقطعن فيها ذلك الطعام { َوقَاَلتِ } ليوسف‪ { :‬اخْرُجْ‬
‫ح َدةٍ مِ ْنهُنّ ِ‬
‫ل وَا ِ‬
‫غيره‪ { ،‬وَآ َتتْ ُك ّ‬
‫عَلَ ْيهِنّ } في حالة جماله وبهائه‪.‬‬

‫طعْنَ }‬
‫{ فََلمّا رَأَيْ َنهُ َأكْبَرْنَهُ } أي‪ :‬أعظمنه في صدورهن‪ ،‬ورأين منظرا فائقا لم يشاهدن مثله‪َ { ،‬وقَ ّ‬
‫من الدهش { أَ ْيدِ َيهُنّ } بتلك السكاكين اللتي معهن‪َ { ،‬وقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ } أي‪ :‬تنزيها ل { مَا هَذَا‬
‫بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلّا مََلكٌ كَرِيمٌ } وذلك أن يوسف أعطي من الجمال الفائق والنور والبهاء‪ ،‬ما كان به‬
‫آية للناظرين‪ ،‬وعبرة للمتأملين‪.‬‬

‫فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر‪ ،‬وأعجبهن غاية‪ ،‬وظهر منهن من العذر لمرأة العزيز‪،‬‬
‫شيء كثير ‪ -‬أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد‬
‫غير مبالية‪ ،‬ولن اللوم انقطع عنها من النسوة‪ { :‬وََلقَدْ رَاوَدُْتهُ عَنْ َنفْسِهِ فَاسْ َت ْعصَمَ } أي‪ :‬امتنع‬
‫وهي مقيمة على مراودته‪ ،‬لم تزدها مرور الوقات إل قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا‪.‬‬

‫ن وَلَ َيكُونَ مِنَ الصّاغِرِينَ } لتلجئه بهذا‬


‫ولهذا قالت له بحضرتهن‪ { :‬وَلَئِنْ َلمْ َي ْفعَلْ مَا آمُ ُرهُ لَ ُيسْجَنَ ّ‬
‫الوعيد إلى حصول مقصودها منه‪ ،‬فعند ذلك اعتصم يوسف بربه‪ ،‬واستعان به على كيدهن و‬
‫حبّ إَِليّ ِممّا َيدْعُونَنِي إِلَ ْيهِ } وهذا يدل على أن النسوة‪ ،‬جعلن يشرن على‬
‫{ قَالَ َربّ السّجْنُ َأ َ‬
‫يوسف في مطاوعة سيدته‪ ،‬وجعلن يكدنه في ذلك‪.‬‬

‫فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد‪ { ،‬وَإِلّا َتصْ ِرفْ عَنّي‬
‫صبُ إِلَ ْيهِنّ } أي‪ :‬أمل إليهن‪ ،‬فإني ضعيف عاجز‪ ،‬إن لم تدفع عني السوء‪ { ،‬وََأكُنْ } إن‬
‫كَيْدَهُنّ َأ ْ‬
‫صبوت إليهن { مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن هذا جهل‪ ،‬لنه آثر لذة قليلة منغصة‪ ،‬على لذات متتابعات‬
‫وشهوات متنوعات في جنات النعيم‪ ،‬ومن آثر هذا على هذا‪ ،‬فمن أجهل منه؟" فإن العلم والعقل‬
‫يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين‪ ،‬ويؤثر ما كان محمود العاقبة‪.‬‬
‫{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ } حين دعاه { َفصَ َرفَ عَنْهُ كَيْ َدهُنّ } فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر‬
‫سمِيعُ } لدعاء الداعي‬
‫عليه من الوسائل‪ ،‬حتى أيسها‪ ،‬وصرف ال عنه كيدها‪ { ،‬إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫{ ا ْلعَلِيمُ } بنيته الصالحة‪ ،‬وبنيته الضعيفة المقتضية لمداده بمعونته ولطفه‪.‬‬

‫فهذا ما نجى ال به يوسف من هذه الفتنة الملمة والمحنة الشديدة‪.،‬وأما أسياده فإنه لما اشتهر‬
‫الخبر وبان‪ ،‬وصار الناس فيها بين عاذر ولئم وقادح‪.‬‬

‫سجُنُنّهُ حَتّى حِينٍ }‬


‫{ َبدَا َلهُمْ } أي‪ :‬ظهر لهم { مِنْ َب ْعدِ مَا رََأوُا الْآيَاتِ } الدالة على براءته‪ { ،‬لَيَ ْ‬
‫أي‪ :‬لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس‪ ،‬فإن الشيء إذا شاع لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه‪،‬‬
‫فإذا عدمت أسبابه نسي‪ ،‬فرأوا أن هذا مصلحة لهم‪ ،‬فأدخلوه في السجن‪.‬‬

‫خمْرًا َوقَالَ الْآخَرُ إِنّي‬


‫عصِرُ َ‬
‫حدُ ُهمَا إِنّي أَرَانِي أَ ْ‬
‫خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَ َ‬
‫{ ‪ { } 40 - 36‬وَ َد َ‬
‫ح ِملُ َفوْقَ رَ ْأسِي خُبْزًا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِي ُكمَا‬
‫أَرَانِي أَ ْ‬
‫عّلمَنِي رَبّي إِنّي تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْمٍ لَا‬
‫طعَامٌ تُرْ َزقَانِهِ إِلّا نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَنْ يَأْتِ َي ُكمَا ذَِل ُكمَا ِممّا َ‬
‫َ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ * وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَائِي إِبْرَاهِي َم وَِإسْحَا َ‬
‫شكُرُونَ * يَا‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا يَ ْ‬
‫ضلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّا ِ‬
‫شيْءٍ ذَِلكَ مِنْ َف ْ‬
‫أَنْ نُشْ ِركَ بِاللّهِ مِنْ َ‬
‫سمَاءً‬
‫حدُ ا ْل َقهّارُ * مَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا أَ ْ‬
‫صَاحِ َبيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُ َتفَ ّرقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ ا ْلوَا ِ‬
‫ح ْكمُ إِلّا لِلّهِ َأمَرَ أَلّا َتعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ ذَِلكَ‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُ ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْ ُ‬
‫َ‬
‫الدّينُ ا ْلقَيّ ُم وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ }‬

‫خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ } أي‪ :‬شابان‪،‬‬


‫أي‪ { :‬و } لما دخل يوسف السجن‪ ،‬كان في جملة من { دَ َ‬
‫عصِرُ‬
‫حدُ ُهمَا إِنّي أَرَانِي أَ ْ‬
‫فرأى كل واحد منهما رؤيا‪ ،‬فقصها على يوسف ليعبرها‪. ،‬فب { قَالَ أَ َ‬
‫ح ِملُ َفوْقَ رَأْسِي خُبْزًا } وذلك الخبز { تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِ ْنهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ‬
‫خمْرًا َوقَالَ الْآخَرُ إِنّي أَرَانِي َأ ْ‬
‫َ‬
‫حسِنِينَ } أي‪ :‬من أهل‬
‫} أي‪ :‬بتفسيره‪ ،‬وما يؤول إليه أمرهما‪ ،‬وقولهما‪ { :‬إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫الحسان إلى الخلق‪ ،‬فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا‪ ،‬كما أحسنت إلى غيرنا‪ ،‬فتوسل ليوسف‬
‫بإحسانه‪.‬‬

‫طعَامٌ تُرْ َزقَا ِنهِ إِلّا نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَنْ يَأْتِ َي ُكمَا } أي‪:‬‬
‫فب { قَالَ } لهما مجيبا لطلبتهما‪ { :‬لَا يَأْتِي ُكمَا َ‬
‫فلتطمئن قلوبكما‪ ،‬فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما‪ ،‬فل يأتيكما غداؤكما‪ ،‬أو عشاؤكما‪ ،‬أول ما‬
‫يجيء إليكما‪ ،‬إل نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما‪.‬‬

‫ولعل يوسف عليه الصلة والسلم قصد أن يدعوهما إلى اليمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما‬
‫إليه‪ ،‬ليكون أنجع لدعوته‪ ،‬وأقبل لهما‪.‬‬
‫ثم قال‪ { :‬ذَِل ُكمَا } التعبير الذي سأعبره لكما { ِممّا عَّلمَنِي رَبّي } أي‪ :‬هذا من علم ال علمنيه‬
‫وأحسن إليّ به‪ ،‬وذلك { إِنّي تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ } والترك كما‬
‫يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه‪ ،‬يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا‪.‬‬

‫فل يقال‪ :‬إن يوسف كان من قبل‪ ،‬على غير ملة إبراهيم‪.‬‬

‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ } ثم فسر تلك الملة بقوله‪ { :‬مَا كَانَ لَنَا } أي‪ :‬ما‬
‫{ وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَائِي إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫شيْءٍ } بل نفرد ال بالتوحيد‪ ،‬ونخلص له الدين والعبادة‪.‬‬
‫ينبغي ول يليق بنا { أَنْ نُشْ ِركَ بِاللّهِ مِنْ َ‬

‫ضلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ } أي‪ :‬هذا من أفضل مننه وإحسانه وفضله علينا‪ ،‬وعلى‬
‫{ ذَِلكَ مِنْ َف ْ‬
‫من هداه ال كما هدانا‪ ،‬فإنه ل أفضل من منة ال على العباد بالسلم والدين القويم‪ ،‬فمن قبله‬
‫وانقاد له فهو حظه‪ ،‬وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل‪.‬‬

‫شكُرُونَ } فلذلك تأتيهم المنة والحسان‪ ،‬فل يقبلونها ول يقومون ل بحقه‪،‬‬


‫{ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا يَ ْ‬
‫وفي هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما ل يخفى‪ ،‬فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه‬
‫بعين التعظيم والجلل ‪-‬وأنه محسن معلم‪ -‬ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها‪ ،‬كلها من فضل‬
‫ال وإحسانه‪ ،‬حيث منّ عليّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائه‪ ،‬فبهذا وصلت إلى ما رأيتما‪ ،‬فينبغي‬
‫لكما أن تسلكا ما سلكت‪.‬‬

‫ثم صرح لهما بالدعوة‪ ،‬فقال‪ { :‬يَا صَاحِ َبيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُ َتفَ ّرقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْلقَهّارُ }‬
‫أي‪ :‬أرباب عاجزة ضعيفة ل تنفع ول تضر‪ ،‬ول تعطي ول تمنع‪ ،‬وهي متفرقة ما بين أشجار‬
‫وأحجار وملئكة وأموات‪ ،‬وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون‪ ،‬أتلك { خَيْرٌ أَمِ‬
‫اللّهُ } الذي له صفات الكمال‪ { ،‬ا ْلوَاحِدُ } في ذاته وصفاته وأفعاله فل شريك له في شيء من ذلك‪.‬‬

‫{ ا ْلقَهّارُ } الذي انقادت الشياء لقهره وسلطانه‪ ،‬فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن { ما من دابة إل‬
‫هو آخذ بناصيتها } ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه خير من اللهة المتفرقة التي هي مجرد‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُمْ‬
‫سمَاءً َ‬
‫أسماء‪ ،‬ل كمال لها ول أفعال لديها‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬مَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا أَ ْ‬
‫وَآبَا ُؤكُمْ }‬

‫أي‪ :‬كسوتموها أسماء‪ ،‬سميتموها آلهة‪ ،‬وهي ل شيء‪ ،‬ول فيها من صفات اللوهية شيء‪ { ،‬مَا‬
‫أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ } بل أنزل ال السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلنها‪ ،‬وإذا لم ينزل‬
‫ال بها سلطانا‪ ،‬لم يكن طريق ول وسيلة ول دليل لها‪.‬‬
‫لن الحكم ل وحده‪ ،‬فهو الذي يأمر وينهى‪ ،‬ويشرع الشرائع‪ ،‬ويسن الحكام‪ ،‬وهو الذي أمركم‬
‫{ أن ل َتعْ ُبدُوا إِلّا إِيّاهُ َذِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ } أي‪ :‬المستقيم الموصل إلى كل خير‪ ،‬وما سواه من‬
‫الديان‪ ،‬فإنها غير مستقيمة‪ ،‬بل معوجة توصل إلى كل شر‪.‬‬

‫{ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } حقائق الشياء‪ ،‬وإل فإن الفرق بين عبادة ال وحده ل شريك له‪،‬‬
‫وبين الشرك به‪ ،‬أظهر الشياء وأبينها‪.‬‬

‫ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك‪ ،‬حصل منهم ما حصل من الشرك‪.،‬فيوسف عليه السلم دعا‬
‫صاحبي السجن لعبادة ال وحده‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬فيحتمل أنهما استجابا وانقادا‪ ،‬فتمت عليهما‬
‫النعمة‪ ،‬ويحتمل أنهما لم يزال على شركهما‪ ،‬فقامت عليهما ‪-‬بذلك‪ -‬الحجة‪ ،‬ثم إنه عليه السلم‬
‫شرع يعبر رؤياهما‪ ،‬بعد ما وعدهما ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ح ُد ُكمَا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا‪ ،‬فإنه يخرج من‬
‫{ ‪ { } 41‬يَا صَاحِ َبيِ السّجْنِ َأمّا أَ َ‬
‫خمْرًا } أي‪ :‬يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا‪ ،‬وذلك مستلزم لخروجه من‬
‫سقِي رَبّهُ َ‬
‫السجن { فَ َي ْ‬
‫السجن‪ { ،‬وََأمّا الْآخَرُ } وهو‪ :‬الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه‪.‬‬

‫{ فَ ُيصَْلبُ فَتَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْ رَ ْأسِهِ } فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير‪ ،‬بلحم رأسه وشحمه‪،‬‬
‫وما فيه من المخ‪ ،‬وأنه ل يقبر ويستر عن الطيور‪ ،‬بل يصلب ويجعل في محل‪ ،‬تتمكن الطيور‬
‫ضيَ الَْأمْرُ‬
‫من أكله‪ ،‬ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما‪ ،‬أنه ل بد من وقوعه فقال‪ُ { :‬ق ِ‬
‫الّذِي فِيهِ تَسْ َتفْتِيَانِ } أي‪ :‬تسألن عن تعبيره وتفسيره‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 42‬وقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مِ ْن ُهمَا ا ْذكُرْنِي عِنْدَ رَ ّبكَ فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ِذكْرَ رَبّهِ فَلَ ِبثَ فِي‬
‫السّجْنِ ِبضْعَ سِنِينَ }‬

‫أي‪َ { :‬وقَالَ } يوسف عليه السلم‪ { :‬لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مِ ْن ُهمَا } وهو‪ :‬الذي رأى أنه يعصر خمرا‪:‬‬
‫{ ا ْذكُرْنِي عِ ْندَ رَ ّبكَ } أي‪ :‬اذكر له شأني وقصتي‪ ،‬لعله يرقّ لي‪ ،‬فيخرجني مما أنا فيه‪ { ،‬فَأَ ْنسَاهُ‬
‫الشّ ْيطَانُ ِذكْرَ رَبّهِ } أي‪ :‬فأنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر ال تعالى‪ ،‬وذكر ما يقرب إليه‪ ،‬ومن‬
‫جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الحسان‪ ،‬وذلك ليتم ال أمره وقضاءه‪.‬‬

‫{ فَلَ ِبثَ فِي السّجْنِ ِبضْعَ سِنِينَ } والبضع من الثلث إلى التسع‪ ،‬ولهذا قيل‪ :‬إنه لبث سبع سنين‪،‬‬
‫ولما أراد ال أن يتم أمره‪ ،‬ويأذن بإخراج يوسف من السجن‪ ،‬قدر لذلك سببا لخراج يوسف‬
‫وارتفاع شأنه وإعلء قدره‪ ،‬وهو رؤيا الملك‪.‬‬
‫ف وَسَبْعَ سُنُْبلَاتٍ‬
‫عجَا ٌ‬
‫سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَبْعٌ ِ‬
‫{ ‪َ { } 49 - 43‬وقَالَ ا ْلمَِلكُ إِنّي أَرَى سَبْعَ َبقَرَاتٍ ِ‬
‫حلَامٍ‬
‫ضغَاثُ أَ ْ‬
‫خضْ ٍر وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ َأفْتُونِي فِي ُرؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِل ّرؤْيَا َتعْبُرُونَ * قَالُوا َأ ْ‬
‫ُ‬
‫َومَا َنحْنُ بِتَ ْأوِيلِ الْأَحْلَامِ ِبعَاِلمِينَ * َوقَالَ الّذِي نَجَا مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َب ْعدَ ُأمّةٍ أَنَا أُنَبّ ُئكُمْ بِتَ ْأوِيلِهِ فَأَ ْرسِلُونِي‬
‫خضْ ٍر وَأُخَرَ‬
‫ف وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ ُ‬
‫سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَ ْبعٌ عِجَا ٌ‬
‫سفُ أَ ّيهَا الصّدّيقُ َأفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ ِ‬
‫* يُو ُ‬
‫حصَدْ ُتمْ فَذَرُوهُ فِي‬
‫يَابِسَاتٍ َلعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ َلعَّلهُمْ َيعَْلمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ َدأَبًا َفمَا َ‬
‫شدَادٌ يَ ْأكُلْنَ مَا َق ّدمْتُمْ َلهُنّ إِلّا قَلِيلًا ِممّا‬
‫سُنْبُلِهِ إِلّا قَلِيلًا ِممّا تَ ْأكُلُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ سَبْعٌ ِ‬
‫س َوفِيهِ َي ْعصِرُونَ }‬
‫حصِنُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ عَامٌ فِيهِ ُيغَاثُ النّا ُ‬
‫تُ ْ‬

‫لما أراد ال تعالى أن يخرج يوسف من السجن‪ ،‬أرى ال الملك هذه الرؤيا العجيبة‪ ،‬الذي تأويلها‬
‫يتناول جميع المة‪ ،‬ليكون تأويلها على يد يوسف‪ ،‬فيظهر من فضله‪ ،‬ويبين من علمه ما يكون له‬
‫رفعة في الدارين‪ ،‬ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها‪،‬‬
‫لرتباط مصالحها به‪.‬‬

‫وذلك أنه رأى رؤيا هالته‪ ،‬فجمع لها علماء قومه وذوي الرأي منهم وقال‪ { :‬إِنّي أَرَى سَبْعَ َبقَرَاتٍ‬
‫عجَافٌ } وهذا من العجب‪ ،‬أن السبع العجاف‬
‫سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَ ْبعٌ } أي‪ :‬سبع من البقرات { ِ‬
‫ِ‬
‫الهزيلت اللتي سقطت قوتهن‪ ،‬يأكلن السبع السمان التي كنّ نهاية في القوة‪.‬‬

‫خضْرٍ } يأكلهن سبع سنبلت { يَا ِبسَاتٍ } { يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ َأفْتُونِي فِي‬
‫{ وَ } رأيت { سَبْعَ سُنُْبلَاتٍ ُ‬
‫ُرؤْيَايَ } لن تعبير الجميع واحد‪ ،‬وتأويله شيء واحد‪ { .‬إِنْ كُنْتُمْ لِل ّرؤْيَا َتعْبُرُونَ } فتحيروا‪ ،‬ولم‬
‫يعرفوا لها وجها‪.‬‬

‫ضغَاثُ َأحْلَامٍ } أي أحلم ل حاصل لها‪ ،‬ول لها تأويل‪.‬‬


‫و { قَالُوا َأ ْ‬

‫وهذا جزم منهم بما ل يعلمون‪ ،‬وتعذر منهم‪[ ،‬بما ليس بعذر] ثم قالوا‪َ { :‬ومَا َنحْنُ بِتَ ْأوِيلِ الَْأحْلَامِ‬
‫ِبعَاِلمِينَ } أي‪ :‬ل نعبر إل الرؤيا‪ ،‬وأما الحلم التي هي من الشيطان‪ ،‬أو من حديث النفس‪ ،‬فإنا ل‬
‫نعبرها‪.‬‬

‫فجمعوا بين الجهل والجزم‪ ،‬بأنها أضغات أحلم‪ ،‬والعجاب بالنفس‪ ،‬بحيث إنهم لم يقولوا‪ :‬ل نعلم‬
‫تأويلها‪ ،‬وهذا من المور التي ل تنبغي لهل الدين والحجا‪ ،‬وهذا أيضا من لطف ال بيوسف عليه‬
‫السلم‪ .‬فإنه لو عبرها ابتداء ‪ -‬قبل أن يعرضها على المل من قومه وعلمائهم‪ ،‬فيعجزوا عنها ‪-‬لم‬
‫يكن لها ذلك الموقع‪ ،‬ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب‪ ،‬وكان الملك مهتما لها غاية‪،‬‬
‫فعبرها يوسف‪ -‬وقعت عندهم موقعا عظيما‪ ،‬وهذا نظير إظهار ال فضل آدم على الملئكة بالعلم‪،‬‬
‫بعد أن سألهم فلم يعلموا‪ .‬ثم سأل آدم‪ ،‬فعلمهم أسماء كل شيء‪ ،‬فحصل بذلك زيادة فضله‪ ،‬وكما‬
‫يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى ال عليه وسلم في القيامة‪ ،‬أن يلهم ال الخلق أن يتشفعوا‬
‫بآدم‪ ،‬ثم بنوح‪ ،‬ثم إبراهيم‪ ،‬ثم موسى‪ ،‬ثم عيسى عليهم السلم‪ ،‬فيعتذرون عنها‪ ،‬ثم يأتون محمدا‬
‫صلى ال عليه وسلم فيقول‪" :‬أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع الخلق‪ ،‬وينال ذلك المقام المحمود‪،‬‬
‫الذي يغبطه به الولون والخرون‪.‬‬

‫فسبحان من خفيت ألطافه‪ ،‬ودقّت في إيصاله البر والحسان‪ ،‬إلى خواص أصفيائه وأوليائه‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِي َنجَا مِ ْن ُهمَا } أي‪ :‬من الفتيين‪ ،‬وهو‪ :‬الذي رأى أنه يعصر خمرا‪ ،‬وهو الذي أوصاه‬
‫يوسف أن يذكره عند ربه { وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ } أي‪ :‬وتذكر يوسف‪ ،‬وما جرى له في تعبيره‬
‫لرؤياهما‪ ،‬وما وصاه به‪ ،‬وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال‪ { :‬أَنَا أُنَبّ ُئكُمْ‬
‫بِتَ ْأوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } إلى يوسف لسأله عنها‪.‬‬

‫فأرسلوه‪ ،‬فجاء إليه‪ ،‬ولم يعنفه يوسف على نسيانه‪ ،‬بل استمع ما يسأله عنه‪ ،‬وأجابه عن ذلك فقال‪:‬‬
‫سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ‬
‫سفُ أَ ّيهَا الصّدّيقُ } أي‪ :‬كثير الصدق في أقواله وأفعاله‪َ { .‬أفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ ِ‬
‫{ يُو ُ‬
‫خضْ ٍر وَأُخَرَ يَا ِبسَاتٍ َلعَلّي أَ ْرجِعُ إِلَى النّاسِ َلعَّلهُمْ َيعَْلمُونَ } فإنهم‬
‫ف وَسَبْعِ سُنُْبلَاتٍ ُ‬
‫عجَا ٌ‬
‫سَبْعٌ ِ‬
‫متشوقون لتعبيرها‪ ،‬وقد أهمتهم‪.‬‬

‫فعبر يوسف‪ ،‬السبع البقرات السمان والسبع السنبلت الخضر‪ ،‬بأنهن سبع سنين مخصبات‪ ،‬والسبع‬
‫البقرات العجاف‪ ،‬والسبع السنبلت اليابسات‪ ،‬بأنهن سنين مجدبات‪ ،‬ولعل وجه ذلك ‪ -‬وال أعلم ‪-‬‬
‫أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه‪ ،‬وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع‬
‫والحروث‪ ،‬وحسن منظرها‪ ،‬وكثرت غللها‪ ،‬والجدب بالعكس من ذلك‪ .‬وكانت البقر هي التي‬
‫تحرث عليها الرض‪ ،‬وتسقى عليها الحروث في الغالب‪ ،‬والسنبلت هي أعظم القوات وأفضلها‪،‬‬
‫عبرها بذلك‪ ،‬لوجود المناسبة‪ ،‬فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والشارة لما يفعلونه‪ ،‬ويستعدون‬
‫به من التدبير في سني الخصب‪ ،‬إلى سني الجدب فقال‪ { :‬تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي‪:‬‬
‫متتابعات‪.‬‬

‫حصَدْتُمْ } من تلك الزروع { َفذَرُوهُ } أي‪ :‬اتركوه { فِي سُنْبُلِهِ } لنه أبقى له وأبعد من‬
‫{ َفمَا َ‬
‫اللتفات إليه { إِلّا قَلِيلًا ِممّا تَ ْأكُلُونَ } أي‪ :‬دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة‪ ،‬وليكن قليل‪،‬‬
‫ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه‪.‬‬

‫{ ُثمّ يَأْتِي مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } أي‪ :‬بعد تلك السنين السبع المخصبات‪ { .‬سَبْعٌ شِدَادٌ } أي‪ :‬مجدبات جدا {‬
‫حصِنُونَ } أي‪:‬‬
‫يَ ْأكُلْنَ مَا قَ ّدمْتُمْ َلهُنّ } أي‪ :‬يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا‪ { .‬إِلّا قَلِيلًا ِممّا ُت ْ‬
‫تمنعونه من التقديم لهن‪.‬‬
‫س َوفِيهِ َي ْعصِرُونَ } أي‪ :‬فيه‬
‫{ ُثمّ يَأْتِي مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } أي‪ :‬بعد السبع الشداد { عَامٌ فِيهِ ُيغَاثُ النّا ُ‬
‫تكثر المطار والسيول‪ ،‬وتكثر الغلت‪ ،‬وتزيد على أقواتهم‪ ،‬حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه‬
‫زيادة على أكلهم‪ ،‬ولعل استدلله على وجود هذا العام الخصب‪ ،‬مع أنه غير مصرح به في رؤيا‬
‫الملك‪ ،‬لنه فهم من التقدير بالسبع الشداد‪ ،‬أن العام الذي يليها يزول به شدتها‪.،‬ومن المعلوم أنه‬
‫ل يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات‪ ،‬إل بعام مخصب جدا‪ ،‬وإل لما كان للتقدير فائدة‪،‬‬
‫فلما رجع الرسول إلى الملك والناس‪ ،‬وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا‪ ،‬عجبوا من ذلك‪ ،‬وفرحوا بها‬
‫أشد الفرح‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 57 - 50‬وقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ فََلمّا جَا َءهُ الرّسُولُ قَالَ ا ْرجِعْ إِلَى رَ ّبكَ فَاسْأَ ْلهُ مَا بَالُ‬
‫سفَ عَنْ َنفْسِهِ‬
‫طعْنَ أَ ْيدِ َيهُنّ إِنّ رَبّي ِبكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْ ُبكُنّ ِإذْ رَاوَدْتُنّ يُو ُ‬
‫س َوةِ اللّاتِي قَ ّ‬
‫النّ ْ‬
‫حقّ أَنَا رَاوَدُْتهُ عَنْ َنفْسِهِ‬
‫حصَ الْ َ‬
‫صَ‬‫ح ْ‬
‫علَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَاَلتِ امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ الْآنَ َ‬
‫قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَِلمْنَا َ‬
‫ب وَأَنّ اللّهَ لَا َيهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * َومَا أُبَ ّرئُ‬
‫وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ * ذَِلكَ لِ َيعَْلمَ أَنّي لَمْ َأخُنْهُ بِا ْلغَ ْي ِ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * َوقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ‬
‫َنفْسِي إِنّ ال ّنفْسَ لََأمّا َرةٌ بِالسّوءِ إِلّا مَا َرحِمَ رَبّي إِنّ رَبّي َ‬
‫جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَ ْرضِ إِنّي‬
‫أَسْ َتخِْلصْهُ لِ َنفْسِي فََلمّا كَّلمَهُ قَالَ إِ ّنكَ الْ َيوْمَ َلدَيْنَا َمكِينٌ َأمِينٌ * قَالَ ا ْ‬
‫حمَتِنَا مَنْ نَشَا ُء وَلَا‬
‫سفَ فِي الْأَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ يَشَاءُ ُنصِيبُ بِ َر ْ‬
‫حفِيظٌ عَلِيمٌ * َوكَذَِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ‬
‫َ‬
‫ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ }‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬وقَالَ ا ْلمَِلكُ } لمن عنده { ائْتُونِي ِبهِ } أي‪ :‬بيوسف عليه السلم‪ ،‬بأن يخرجوه من‬
‫السجن ويحضروه إليه‪ ،‬فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك‪ ،‬امتنع عن المبادرة‬
‫إلى الخروج‪ ،‬حتى تتبين براءته التامة‪ ،‬وهذا من صبره وعقله ورأيه التام‪.‬‬

‫طعْنَ‬
‫س َوةِ اللّاتِي َق ّ‬
‫فب { قَالَ } للرسول‪ { :‬ا ْرجِعْ ِإلَى رَ ّبكَ } يعني به الملك‪ { .‬فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّ ْ‬
‫أَيْدِ َيهُنّ } أي‪ :‬اسأله ما شأنهن وقصتهن‪ ،‬فإن أمرهن ظاهر متضح { إِنّ رَبّي ِبكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ }‪.‬‬

‫سفَ عَنْ َنفْسِهِ } فهل رأيتن‬


‫فأحضرهن الملك‪ ،‬وقال‪ { :‬مَا خَطْ ُبكُنّ } أي‪ :‬شأنكن { إِذْ رَاوَدْتُنّ يُو ُ‬
‫منه ما يريب؟‬

‫فبرّأنه و { قُلْنَ حَاشَ ِللّهِ مَا عَِلمْنَا عَلَ ْيهِ مِنْ سُوءٍ } أي‪ :‬ل قليل ول كثير‪ ،‬فحينئذ زال السبب الذي‬
‫حصَ‬
‫صَ‬‫ح ْ‬
‫تنبني عليه التهمة‪ ،‬ولم يبق إل ما عند امرأة العزيز‪ ،‬فب { قَاَلتِ امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ الْآنَ َ‬
‫حقّ } أي‪ :‬تمحض وتبين‪ ،‬بعد ما كنا ندخل معه من السوء والتهمة‪ ،‬ما أوجب له السجن { أَنَا‬
‫الْ َ‬
‫رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِ ِه وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ } في أقواله وبراءته‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } القرار‪ ،‬الذي أقررت [أني راودت يوسف] { لِ َيعْلَمَ أَنّي َلمْ َأخُنْهُ بِا ْلغَ ْيبِ }‬

‫يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي‪ :‬ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف‪ ،‬أني لم أخنه‬
‫بالغيب‪ ،‬أي‪ :‬لم يجر منّي إل مجرد المراودة‪ ،‬ولم أفسد عليه فراشه‪ ،‬ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم‬
‫يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته‪ ،‬وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني‪ { .‬وَأَنّ‬
‫اللّهَ لَا َيهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } فإن كل خائن‪ ،‬ل بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه‪ ،‬ول بد أن‬
‫يتبين أمره‪.‬‬

‫ثم لما كان في هذا الكلم نوع تزكية لنفسها‪ ،‬وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف‪ ،‬استدركت‬
‫فقالت‪َ { :‬ومَا أُبَ ّرئُ َنفْسِي } أي‪ :‬من المراودة والهمّ‪ ،‬والحرص الشديد‪ ،‬والكيد في ذلك‪ { .‬إِنّ‬
‫ال ّنفْسَ لََأمّا َرةٌ بِالسّوءِ } أي‪ :‬لكثيرة المر لصاحبها بالسوء‪ ،‬أي‪ :‬الفاحشة‪ ،‬وسائرالذنوب‪ ،‬فإنها‬
‫مركب الشيطان‪ ،‬ومنها يدخل على النسان { إِلّا مَا َرحِمَ رَبّي } فنجاه من نفسه المارة‪ ،‬حتى‬
‫صارت نفسه مطمئنة إلى ربها‪ ،‬منقادة لداعي الهدى‪ ،‬متعاصية عن داعي الردى‪ ،‬فذلك ليس من‬
‫النفس‪ ،‬بل من فضل ال ورحمته بعبده‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ } أي‪ :‬هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي‪ ،‬إذا تاب وأناب‪،‬‬
‫{ إِنّ رَبّي َ‬
‫{ َرحِيمٌ } بقبول توبته‪ ،‬وتوفيقه للعمال الصالحة‪ .،‬وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة‬
‫العزيز‪ ،‬ل من قول يوسف‪ ،‬فإن السياق في كلمها‪ ،‬ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر‪.‬‬

‫فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة‪ ،‬أرسل إليه الملك وقال‪ { :‬ائْتُونِي بِهِ َأسْتَخِْلصْهُ لِ َنفْسِي‬
‫} أي‪ :‬أجعله خصيصة لي ومقربا لديّ فأتوه به مكرما محترما‪ { ،‬فََلمّا كَّلمَهُ } أعجبه كلمه‪ ،‬وزاد‬
‫موقعه عنده فقال له‪ { :‬إِ ّنكَ الْ َيوْمَ لَدَيْنَا } أي‪ :‬عندنا { َمكِينٌ َأمِينٌ } أي‪ :‬متمكن‪ ،‬أمين على‬
‫جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬على‬
‫السرار‪ ،‬فب { قَالَ } يوسف طلبا للمصلحة العامة‪ { :‬ا ْ‬
‫خزائن جبايات الرض وغللها‪ ،‬وكيل حافظا مدبرا‪.‬‬

‫حفِيظٌ عَلِيمٌ } أي‪ :‬حفيظ للذي أتوله‪ ،‬فل يضيع منه شيء في غير محله‪ ،‬وضابط للداخل‬
‫{ إِنّي َ‬
‫والخارج‪ ،‬عليم بكيفية التدبير والعطاء والمنع‪ ،‬والتصرف في جميع أنواع التصرفات‪ ،‬وليس ذلك‬
‫حرصا من يوسف على الولية‪ ،‬وإنما هو رغبة منه في النفع العام‪ ،‬وقد عرف من نفسه من‬
‫الكفاءة والمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه‪.‬‬
‫فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الرض‪ ،‬فجعله الملك على خزائن الرض ووله‬
‫إياها‪.‬‬

‫سفَ فِي الْأَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ‬


‫قال تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ } أي‪ :‬بهذه السباب والمقدمات المذكورة‪َ { ،‬مكّنّا لِيُو ُ‬
‫حمَتِنَا مَنْ َنشَاءُ } أي‪:‬‬
‫مِ ْنهَا حَ ْيثُ يَشَاءُ } في عيش رغد‪ ،‬ونعمة واسعة‪ ،‬وجاه عريض‪ُ { ،‬نصِيبُ بِرَ ْ‬
‫هذا من رحمة ال بيوسف التي أصابه بها وقدرها له‪ ،‬وليست مقصورة على نعمة الدنيا‪.‬‬

‫{ وَلَا ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } ويوسف عليه السلم من سادات المحسنين‪ ،‬فله في الدنيا حسنة وفي‬
‫الخرة حسنة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَأَجْرُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ } من أجر الدنيا { ِللّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ } أي‪:‬‬
‫لمن جمع بين التقوى واليمان‪ ،‬فبالتقوى تترك المور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها‪،‬‬
‫وباليمان التام يحصل تصديق القلب‪ ،‬بما أمر ال بالتصديق به‪ ،‬وتتبعه أعمال القلوب وأعمال‬
‫الجوارح‪ ،‬من الواجبات والمستحبات‪.‬‬

‫جهّزَ ُهمْ‬
‫علَيْهِ َفعَ َر َفهُ ْم وَهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ * وََلمّا َ‬
‫خلُوا َ‬
‫سفَ فَدَ َ‬
‫خ َوةُ يُو ُ‬
‫{ ‪ { } 68 - 58‬وَجَاءَ إِ ْ‬
‫جهَازِ ِهمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ َل ُكمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ‬
‫بِ َ‬
‫تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَ ْيلَ َلكُمْ عِنْدِي وَلَا َتقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَ ْنهُ أَبَا ُه وَإِنّا َلفَاعِلُونَ * َوقَالَ ِلفِتْيَانِهِ‬
‫جعُوا‬
‫جعُونَ * فََلمّا رَ َ‬
‫جعَلُوا ِبضَاعَ َتهُمْ فِي رِحَاِلهِمْ َلعَّلهُمْ َيعْ ِرفُو َنهَا إِذَا ا ْنقَلَبُوا إِلَى أَهِْل ِهمْ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫اْ‬
‫ل وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ * قَالَ َهلْ آمَ ُن ُكمْ‬
‫سلْ َمعَنَا أَخَانَا َنكْ َت ْ‬
‫إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُ ِنعَ مِنّا ا ْلكَ ْيلُ فَأَرْ ِ‬
‫عهُمْ‬
‫حمِينَ * وََلمّا فَ َتحُوا مَتَا َ‬
‫حمُ الرّا ِ‬
‫عَلَيْهِ إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَا ِفظًا وَ ُهوَ أَرْ َ‬
‫حفَظُ‬
‫وَجَدُوا ِبضَاعَ َتهُمْ ُر ّدتْ إِلَ ْيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَ ْبغِي َه ِذهِ ِبضَاعَتُنَا رُ ّدتْ إِلَيْنَا وَ َنمِيرُ أَهْلَنَا وَنَ ْ‬
‫أَخَانَا وَنَ ْزدَادُ كَ ْيلَ َبعِيرٍ ذَِلكَ كَ ْيلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسَِلهُ َم َعكُمْ حَتّى ُتؤْتُونِ َموْثِقًا مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي ِبهِ‬
‫ل َوكِيلٌ * َوقَالَ يَا بَ ِنيّ لَا تَ ْدخُلُوا مِنْ بَابٍ‬
‫إِلّا أَنْ ُيحَاطَ ِب ُكمْ فََلمّا آ َت ْوهُ َموْ ِثقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا َنقُو ُ‬
‫حكْمُ إِلّا ِللّهِ عَلَيْهِ َت َوكّلْتُ‬
‫شيْءٍ إِنِ ا ْل ُ‬
‫وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَ ْبوَابٍ مُ َتفَ ّرقَةٍ َومَا أُغْنِي عَ ْنكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ َ‬
‫وَعَلَيْهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ * وََلمّا َدخَلُوا مِنْ حَ ْيثُ َأمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ‬
‫جةً فِي َنفْسِ َي ْعقُوبَ َقضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ ِلمَا عَّلمْنَا ُه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ }‬
‫شيْءٍ إِلّا حَا َ‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬لما تولى يوسف عليه السلم خزائن الرض‪ ،‬دبرها أحسن تدبير‪ ،‬فزرع في أرض مصر‬
‫جميعها في السنين الخصبة‪ ،‬زروعا هائلة‪ ،‬واتخذ لها المحلت الكبار‪ ،‬وجبا من الطعمة شيئا‬
‫كثيرا وحفظه‪ ،‬وضبطه ضبطا تاما‪ ،‬فلما دخلت السنون المجدبة‪ ،‬وسرى الجدب‪ ،‬حتى وصل إلى‬
‫خ َوةُ‬
‫فلسطين‪ ،‬التي يقيم فيها يعقوب وبنوه‪ ،‬فأرسل يعقوب بنيه لجل الميرة إلى مصر‪َ { .‬وجَاءَ ِإ ْ‬
‫سفَ َفدَخَلُوا عَلَ ْيهِ َفعَ َر َفهُ ْم وَهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ } أي‪ :‬لم يعرفوه‪.‬‬
‫يُو ُ‬
‫جهَازِهِمْ } أي‪ :‬كال لهم كما كان يكيل لغيرهم‪ ،‬وكان من تدبيره الحسن أنه ل‬
‫جهّزَهُمْ ِب َ‬
‫{ وََلمّا َ‬
‫يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير‪ ،‬وكان قد سألهم عن حالهم‪ ،‬فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه‪،‬‬
‫وهو بنيامين‪.‬‬

‫فب { قَالَ } لهم‪ { :‬ائْتُونِي بِأَخٍ َلكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } ثم رغبهم في التيان به فقال‪ { :‬أَلَا تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي‬
‫ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ } في الضيافة والكرام‪.‬‬

‫ثم رهبهم بعدم التيان به‪ ،‬فقال‪ { :‬فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَ ْيلَ َل ُكمْ عِنْدِي وَلَا َتقْرَبُونِ } وذلك لعلمه‬
‫باضطرارهم إلى التيان إليه‪ ،‬وأن ذلك يحملهم على التيان به‪.‬‬

‫فب { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على أن يعقوب عليه السلم كان مولعا به ل يصبر عنه‪،‬‬
‫وكان يتسلى به بعد يوسف‪ ،‬فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم { وَإِنّا َلفَاعِلُونَ } لما أمرتنا‬
‫به‪.‬‬

‫جعَلُوا ِبضَاعَ َتهُمْ } أي‪ :‬الثمن الذي اشتروا به من‬


‫{ َوقَالَ } يوسف { ِلفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته‪ { :‬ا ْ‬
‫الميرة‪ { .‬فِي ِرحَاِلهِمْ َلعَّلهُمْ َيعْ ِرفُو َنهَا } أي‪ :‬بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم‪َ { ،‬لعَّل ُهمْ‬
‫جعُونَ } لجل التحرج من أخذها على ما قيل‪ ،‬والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم‬
‫يَرْ ِ‬
‫بالكيل لهم كيل وافيا‪ ،‬ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه ل يحسون بها‪ ،‬ول يشعرون لما يأتي‪،‬‬
‫فإن الحسان يوجب للنسان تمام الوفاء للمحسن‪.‬‬

‫سلْ َمعَنَا‬
‫جعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا ا ْلكَ ْيلُ } أي‪ :‬إن لم ترسل معنا أخانا‪ { ،‬فَأَرْ ِ‬
‫{ فََلمّا َر َ‬
‫أَخَانَا َنكْ َتلْ } أي‪ :‬ليكون ذلك سببا لكيلنا‪ ،‬ثم التزموا له بحفظه‪ ،‬فقالوا‪ { :‬وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ } من أن‬
‫يعرض له ما يكره‪.‬‬

‫{ قَالَ } لهم يعقوب عليه السلم‪َ { :‬هلْ آمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى َأخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬تقدم‬
‫منكم التزام‪ ،‬أكثر من هذا في حفظ يوسف‪ ،‬ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد‪ ،‬فل أثق‬
‫بالتزامكم وحفظكم‪ ،‬وإنما أثق بال تعالى‪.‬‬

‫حمِينَ } أي‪ :‬يعلم حالي‪ ،‬وأرجو أن يرحمني‪ ،‬فيحفظه ويرده‬


‫{ فَاللّهُ خَيْرٌ حَا ِفظًا وَ ُهوَ أَرْحَمُ الرّا ِ‬
‫علي‪ ،‬وكأنه في هذا الكلم قد لن لرساله معهم‪.‬‬

‫ع ُه ْم وَجَدُوا ِبضَاعَ َتهُمْ ُر ّدتْ إِلَ ْيهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما‬
‫ثم إنهم { وََلمّا فَ َتحُوا مَتَا َ‬
‫عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد‪ ،‬وأنه أراد أن يملكهم إياها‪ .‬فب { قَالُوا } لبيهم ‪ -‬ترغيبا‬
‫في إرسال أخيهم معهم ‪ { :-‬يَا أَبَانَا مَا نَ ْبغِي } أي‪ :‬أي شيء نطلب بعد هذا الكرام الجميل‪ ،‬حيث‬
‫وفّى لنا الكيل‪ ،‬ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن‪ ،‬المتضمن للخلص ومكارم الخلق؟‬

‫{ هَ ِذهِ ِبضَاعَتُنَا رُ ّدتْ إِلَيْنَا وَ َنمِيرُ َأهْلَنَا } أي‪ :‬إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا‪ ،‬فمرنا أهلنا‪،‬‬
‫حفَظُ َأخَانَا وَنَزْدَادُ كَ ْيلَ َبعِيرٍ } بإرساله معنا‪،‬‬
‫وأتينا لهم‪ ،‬بما هم مضطرون إليه من القوت‪ { ،‬وَنَ ْ‬
‫فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير‪ { ،‬ذَِلكَ كَ ْيلٌ يَسِيرٌ } أي‪ :‬سهل ل ينالك ضرر‪ ،‬لن المدة ل تطول‪،‬‬
‫والمصلحة قد تبينت‪.‬‬

‫فب { قَالَ } لهم يعقوب‪ { :‬لَنْ أُرْسِلَهُ َم َعكُمْ حَتّى ُتؤْتُونِ َموْ ِثقًا مِنْ اللّهِ } أي‪ :‬عهدا ثقيل‪ ،‬وتحلفون‬
‫بال { لَتَأْتُنّنِي ِبهِ إِلّا أَنْ ُيحَاطَ ِب ُكمْ } أي‪ :‬إل أن يأتيكم أمر ل قبل لكم به‪ ،‬ول تقدرون دفعه‪ { ،‬فََلمّا‬
‫ل َوكِيلٌ } أي‪ :‬تكفينا شهادته علينا وحفظه‬
‫آ َت ْوهُ َموْثِ َقهُمْ } على ما قال وأراد { قَالَ اللّهُ عَلَى مَا َنقُو ُ‬
‫وكفالته‪.‬‬

‫ح ٍد وَادْخُلُوا مِنْ أَ ْبوَابٍ‬


‫ب وَا ِ‬
‫ثم لما أرسله معهم وصاهم‪ ،‬إذا هم قدموا مصر‪ ،‬أن { لَا َتدْخُلُوا مِنْ بَا ٍ‬
‫مُ َتفَرّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم العين‪ ،‬لكثرتهم وبهاء منظرهم‪ ،‬لكونهم أبناء رجل واحد‪ ،‬وهذا‬
‫سبب‪.‬‬

‫ح ْكمُ إِلّا لِلّهِ }‬


‫شيْءٍ } فالمقدر ل بد أن يكون‪ { ،‬إِنِ الْ ُ‬
‫{ وَ } إل فب { مَا أُغْنِي عَ ْنكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ َ‬
‫أي‪ :‬القضاء قضاؤه‪ ،‬والمر أمره‪ ،‬فما قضاه وحكم به ل بد أن يقع‪ { ،‬عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ } أي‪ :‬اعتمدت‬
‫على ال‪ ،‬ل على ما وصيتكم به من السبب‪ { ،‬وَعَلَيْهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل‬
‫مطلوب‪ ،‬ويندفع كل مرهوب‪.‬‬

‫{ وََلمّا } ذهبوا و { َدخَلُوا مِنْ حَ ْيثُ َأمَرَ ُهمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ } ذلك الفعل { ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ‬
‫جةً فِي َنفْسِ َي ْعقُوبَ َقضَاهَا } وهو موجب الشفقة والمحبة للولد‪ ،‬فحصل له في ذلك‬
‫شيْءٍ إِلّا حَا َ‬
‫َ‬
‫نوع طمأنينة‪ ،‬وقضاء لما في خاطره‪.‬‬

‫وليس هذا قصورا في علمه‪ ،‬فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين‪ ،‬ولهذا قال عنه‪ { :‬وَإِنّهُ َلذُو‬
‫عّلمْنَاهُ } أي‪ :‬لتعليمنا إياه‪ ،‬ل بحوله وقوته أدركه‪ ،‬بل بفضل‬
‫عِلْمٍ } أي‪ :‬لصاحب علم عظيم { ِلمَا َ‬
‫ال وتعليمه‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } عواقب المور ودقائق الشياء وكذلك أهل العلم‬
‫منهم‪ ،‬يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير‪.‬‬

‫سفَ آوَى إِلَ ْيهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّي أَنَا َأخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ ِبمَا كَانُوا‬
‫{ ‪ { } 79 - 69‬وََلمّا َدخَلُوا عَلَى يُو ُ‬
‫حلِ أَخِيهِ ثُمّ َأذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّنكُمْ‬
‫سقَايَةَ فِي َر ْ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫جهَازِ ِهمْ َ‬
‫جهّزَهُمْ بِ َ‬
‫َي ْعمَلُونَ * فََلمّا َ‬
‫ح ْملُ َبعِيرٍ‬
‫ك وَِلمَنْ جَاءَ بِهِ ِ‬
‫لَسَا ِرقُونَ * قَالُوا وََأقْبَلُوا عَلَ ْيهِمْ مَاذَا َتفْقِدُونَ * قَالُوا َنفْقِدُ صُوَاعَ ا ْلمَِل ِ‬
‫ض َومَا كُنّا سَا ِرقِينَ * قَالُوا َفمَا جَزَا ُؤهُ‬
‫وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ عَِلمْتُمْ مَا جِئْنَا لِ ُنفْسِدَ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫جدَ فِي رَحِْلهِ َف ُهوَ جَزَا ُؤهُ كَذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ * فَ َبدَأَ‬
‫ن وُ ِ‬
‫إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَا ُؤهُ مَ ْ‬
‫خذَ أَخَاهُ فِي‬
‫سفَ مَا كَانَ لِيَأْ ُ‬
‫ن وِعَاءِ َأخِيهِ كَذَِلكَ ِكدْنَا لِيُو ُ‬
‫جهَا مِ ْ‬
‫بَِأوْعِيَ ِتهِمْ قَ ْبلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْ َر َ‬
‫علْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْ ِرقْ َفقَدْ‬
‫دِينِ ا ْلمَِلكِ ِإلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مَنْ نَشَا ُء َو َفوْقَ ُكلّ ذِي ِ‬
‫س ِه وَلَمْ يُبْ ِدهَا َلهُمْ قَالَ أَنْ ُتمْ شَرّ َمكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا‬
‫سفُ فِي َنفْ ِ‬
‫سَ َرقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ فََأسَرّهَا يُو ُ‬
‫َتصِفُونَ * قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا َفخُذْ أَحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ *‬
‫جدْنَا مَتَاعَنَا عِنْ َدهُ إِنّا إِذًا َلظَاِلمُونَ }‬
‫ن وَ َ‬
‫خذَ إِلّا مَ ْ‬
‫قَالَ َمعَاذَ اللّهِ أَنْ نَأْ ُ‬

‫أي‪ :‬لما دخل إخوة يوسف على يوسف { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي‪ :‬شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم‬
‫بالتيان به‪[ ،‬و] ضمه إليه‪ ،‬واختصه من بين إخوته‪ ،‬وأخبره بحقيقة الحال‪ ،‬و { قَالَ إِنّي أَنَا َأخُوكَ‬
‫فَلَا تَبْتَئِسْ } أي‪ :‬ل تحزن { ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فإن العاقبة خير لنا‪ ،‬ثم خبره بما يريد أن يصنع‬
‫ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي المر‪.‬‬

‫سقَايَةَ }‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫جهَازِ ِهمْ } أي‪ :‬كال لكل واحد من إخوته‪ ،‬ومن جملتهم أخوه هذا‪َ { .‬‬
‫جهّزَهُمْ بِ َ‬
‫{ فََلمّا َ‬
‫حلِ أَخِيهِ ثُمّ } أوعوا متاعهم‪ ،‬فلما انطلقوا ذاهبين‪،‬‬
‫وهو‪ :‬الناء الذي يشرب به‪ ،‬ويكال فيه { فِي رَ ْ‬
‫{ َأذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّن ُكمْ لَسَا ِرقُونَ } ولعل هذا المؤذن‪ ،‬لم يعلم بحقيقة الحال‪.‬‬

‫{ قَالُوا } أي‪ :‬إخوة يوسف { وََأقْبَلُوا عَلَ ْيهِمْ } لبعاد التهمة‪ ،‬فإن السارق ليس له همّ إل البعد‬
‫والنطلق عمن سرق منه‪ ،‬لتسلم له سرقته‪ ،‬وهؤلء جاءوا مقبلين إليهم‪ ،‬ليس لهم همّ إل إزالة‬
‫التهمة التي رموا بها عنهم‪ ،‬فقالوا في هذه الحال‪ { :‬مَاذَا َت ْفقِدُونَ } ولم يقولوا‪" :‬ما الذي سرقنا"‬
‫لجزمهم بأنهم براء من السرقة‪.‬‬

‫ح ْملُ َبعِيرٍ } أي‪ :‬أجرة له على وجدانه { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ }‬


‫ك وَِلمَنْ جَاءَ بِهِ ِ‬
‫صوَاعَ ا ْلمَِل ِ‬
‫{ قَالُوا َن ْفقِ ُد ُ‬
‫أي‪ :‬كفيل‪ ،‬وهذا يقوله المؤذن المتفقد‪.‬‬

‫سدَ فِي الْأَ ْرضِ } بجميع أنواع المعاصي‪َ { ،‬ومَا كُنّا سَا ِرقِينَ }‬
‫{ قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ عَِلمْتُمْ مَا جِئْنَا لِ ُنفْ ِ‬
‫فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الرض‪ ،‬وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ول‬
‫سارقين‪ ،‬لنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم‪ ،‬وأن هذا المر ل‬
‫يقع منهم بعلم من اتهموهم‪ ،‬وهذا أبلغ في نفي التهمة‪ ،‬من أن لو قالوا‪ { :‬تال لم نفسد في الرض‬
‫ولم نسرق }‪.‬‬

‫{ قَالُوا َفمَا جَزَا ُؤهُ } أي‪ :‬جزاء هذا الفعل { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } بأن كان معكم؟‬
‫{ قَالُوا جَزَا ُؤهُ مَنْ وُجِدَ فِي َرحْلِهِ َف ُهوَ } أي‪ :‬الموجود في رحله { جَزَا ُؤهُ } بأن يتملكه صاحب‬
‫السرقة‪ ،‬وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق‪،‬‬
‫ولهذا قالوا‪َ { :‬كذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ }‬

‫ل وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد‪ ،‬فلما‬
‫{ فَ َبدَأَ } المفتش { بَِأوْعِيَ ِتهِمْ قَ ْب َ‬
‫ن وِعَاءِ َأخِيهِ } ولم يقل "وجدها‪ ،‬أو سرقها أخوه" مراعاة‬
‫جهَا مِ ْ‬
‫لم يجد في أوعيتهم شيئا { اسْتَخْ َر َ‬
‫للحقيقة الواقعة‪.‬‬

‫فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده‪ ،‬على وجه ل يشعر به إخوته‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬كَذَِلكَ‬
‫سفَ } أي‪ :‬يسرنا له هذا الكيد‪ ،‬الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ لِيَ ْأخُذَ أَخَاهُ‬
‫كِدْنَا لِيُو ُ‬
‫فِي دِينِ ا ْلمَِلكِ } لنه ليس من دينه أن يتملك السارق‪ ،‬وإنما له عندهم‪ ،‬جزاء آخر‪ ،‬فلو ردت‬
‫الحكومة إلى دين الملك‪ ،‬لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده‪ ،‬ولكنه جعل الحكم منهم‪ ،‬ليتم له ما‬
‫أراد‪.‬‬

‫قال تعالى‪ { :‬نَ ْر َفعُ دَ َرجَاتٍ مَنْ َنشَاءُ } بالعلم النافع‪ ،‬ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها‪ ،‬كما‬
‫رفعنا درجات يوسف‪َ { ،‬و َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ } فكل عالم‪ ،‬فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي‬
‫العلم إلى عالم الغيب والشهادة‪.‬‬

‫فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ } هذا الخ‪ ،‬فليس هذا غريبا منه‪َ { .‬فقَدْ سَرَقَ أَخٌ‬
‫لَهُ مِنْ قَ ْبلُ } يعنون‪ :‬يوسف عليه السلم‪ ،‬ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما‬
‫ما يصدر من السرقة‪ ،‬وهما ليسا شقيقين لنا‪.‬‬

‫وفي هذا من الغض عليهما ما فيه‪ ،‬ولهذا‪ :‬أسرها يوسف في نفسه { وََلمْ يُبْدِهَا َلهُمْ } أي‪ :‬لم يقابلهم‬
‫على ما قالوه بما يكرهون‪ ،‬بل كظم الغيظ‪ ،‬وأس ّر المر في نفسه‪ .‬و { قَالَ } في نفسه { أَنْتُمْ شَرّ‬
‫َمكَانًا } حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه‪ { ،‬وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا َتصِفُونَ } منا‪ ،‬من وصفنا بالسرقة‪،‬‬
‫يعلم ال أنا براء منها‪ ،‬ثم سلكوا معه مسلك التملق‪ ،‬لعله يسمح لهم بأخيهم‪.‬‬

‫فب { قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَبًا شَ ْيخًا كَبِيرًا } أي‪ :‬وإنه ل يصبر عنه‪ ،‬وسيشق عليه فراقه‪،‬‬
‫{ َفخُذْ َأحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك‪.‬‬

‫فب { قَالَ } يوسف { َمعَاذَ اللّهِ أَنْ نَ ْأخُذَ إِلّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِ ْن َدهُ } أي‪ :‬هذا ظلم منا‪ ،‬لو أخذنا‬
‫البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده‪ ،‬ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من الكذب‪ { ،‬إِنّا ِإذًا }‬
‫أي‪ :‬إن أخذنا غير من وجد في رحله { َلظَاِلمُونَ } حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها‪.‬‬
‫خذَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫{ ‪ { } 83 - 80‬فََلمّا اسْتَيَْأسُوا مِنْهُ خََلصُوا َنجِيّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أََلمْ َتعَْلمُوا أَنّ أَبَاكُمْ َقدْ أَ َ‬
‫حكُمَ اللّهُ لِي‬
‫سفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَ ْرضَ حَتّى يَ ْأذَنَ لِي أَبِي َأوْ َي ْ‬
‫َموْثِقًا مِنَ اللّهِ َومِنْ قَ ْبلُ مَا فَرّطْ ُتمْ فِي يُو ُ‬
‫ش ِهدْنَا إِلّا ِبمَا عَِلمْنَا َومَا‬
‫ق َومَا َ‬
‫جعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنّ ابْ َنكَ سَرَ َ‬
‫وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ * ارْ ِ‬
‫كُنّا لِ ْلغَ ْيبِ حَافِظِينَ * وَاسَْألِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَا ْلعِيرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ * قَالَ َبلْ‬
‫حكِيمُ }‬
‫جمِيعًا إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫جمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي ِب ِهمْ َ‬
‫سكُمْ َأمْرًا َفصَبْرٌ َ‬
‫سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خََلصُوا َنجِيّا } أي‪ :‬اجتمعوا‬
‫وحدهم‪ ،‬ليس معهم غيرهم‪ ،‬وجعلوا يتناجون فيما بينهم‪ ،‬فب { قَالَ كَبِيرُ ُهمْ أَلَمْ َتعَْلمُوا أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ‬
‫خذَ عَلَ ْيكُمْ َموْ ِثقًا مِنَ اللّهِ } في حفظه‪ ،‬وأنكم تأتون به إل أن يحاط بكم { َومِنْ قَ ْبلُ مَا فَرّطْتُمْ فِي‬
‫أَ َ‬
‫سفَ } ‪ ،‬فاجتمع عليكم المران‪ ،‬تفريطكم في يوسف السابق‪ ،‬وعدم إتيانكم بأخيه باللحق‪ ،‬فليس‬
‫يُو ُ‬
‫لي وجه أواجه به أبي‪.‬‬

‫حكُمَ اللّهُ‬
‫{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَ ْرضَ } أي‪ :‬سأقيم في هذه الرض ول أزال بها { حَتّى يَ ْأذَنَ لِي أَبِي َأوْ َي ْ‬
‫لِي } أي‪ :‬يقدر لي المجيء وحدي‪ ،‬أو مع أخي { وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }‬

‫جعُوا إِلَى أَبِيكُمْ َفقُولُوا يَا أَبَانَا إِنّ ابْ َنكَ سَ َرقَ } أي‪ :‬وأخذ‬
‫ثم وصّاهم بما يقولون لبيهم‪ ،‬فقال‪ { :‬ا ْر ِ‬
‫بسرقته‪ ،‬ولم يحصل لنا أن نأتيك به‪ ،‬مع ما بذلنا من الجهد في ذلك‪ .‬والحال أنا ما شهدنا بشيء لم‬
‫نعلمه‪ ،‬وإنما شهدنا بما علمنا‪ ،‬لننا رأينا الصواع استخرج من رحله‪َ { ،‬ومَا كُنّا لِ ْلغَ ْيبِ حَا ِفظِينَ }‬
‫أي‪ :‬لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا‪ ،‬ولما أعطيناك عهودنا‬
‫ومواثيقنا‪ ،‬فلم نظن أن المر سيبلغ ما بلغ‪.‬‬

‫{ وَاسَْألِ } إن شككت في قولنا { ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَا ْلعِيرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا } فقد اطلعوا على ما‬
‫أخبرناك به { وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ } لم نكذب ولم نغير ولم نبدل‪ ،‬بل هذا الواقع‪.‬‬

‫فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر‪ ،‬اشتد حزنه وتضاعف كمده‪ ،‬واتهمهم أيضا في هذه‬
‫جمِيلٌ } أي‪ :‬ألجأ في‬
‫سكُمْ َأمْرًا َفصَبْرٌ َ‬
‫سوَّلتْ َل ُكمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫القضية‪ ،‬كما اتهمهم في الولى‪ ،‬و { قَالَ َبلْ َ‬
‫ذلك إلى الصبر الجميل‪ ،‬الذي ل يصحبه تسخط ول جزع‪ ،‬ول شكوى للخلق‪ ،‬ثم لجأ إلى حصول‬
‫جمِيعًا } أي‪:‬‬
‫عسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي ِبهِمْ َ‬
‫الفرج لما رأى أن المر اشتد‪ ،‬والكربة انتهت فقال‪َ { :‬‬
‫يوسف و "بنيامين" وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر‪.‬‬

‫{ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ } الذي يعلم حالي‪ ،‬واحتياجي إلى تفريجه ومنّته‪ ،‬واضطراري إلى إحسانه‪،‬‬
‫حكِيمُ } الذي جعل لكل شيء قدرا‪ ،‬ولكل أمر منتهى‪ ،‬بحسب ما اقتضته حكمته الربانية‪.‬‬
‫{ الْ َ‬
‫ضتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ َفهُوَ كَظِيمٌ *‬
‫سفَ وَابْ َي ّ‬
‫سفَى عَلَى يُو ُ‬
‫{ ‪ { } 86 - 84‬وَ َتوَلّى عَ ْنهُ ْم َوقَالَ يَا أَ َ‬
‫شكُو بَثّي وَحُزْنِي‬
‫سفَ حَتّى َتكُونَ حَ َرضًا َأوْ َتكُونَ مِنَ ا ْلهَاِلكِينَ * قَالَ إِ ّنمَا َأ ْ‬
‫قَالُوا تَاللّهِ َتفْتَأُ تَ ْذكُرُ يُو ُ‬
‫إِلَى اللّ ِه وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬وتولى يعقوب عليه الصلة والسلم عن أولده بعد ما أخبروه هذا الخبر‪ ،‬واشتد به السف‬
‫والسى‪ ،‬وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه‪ ،‬والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء‪ ،‬حيث‬
‫ابيضت عيناه من ذلك‪.‬‬

‫سفَ } أي‪ :‬ظهر منه‬


‫سفَى عَلَى يُو ُ‬
‫{ َف ُهوَ كَظِيمٌ } أي‪ :‬ممتلئ القلب من الحزن الشديد‪َ { ،‬وقَالَ يَا أَ َ‬
‫ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم‪ ،‬وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للولى‪ ،‬المصيبة‬
‫الولى‪.‬‬

‫سفَ } أي‪ :‬ل تزال تذكر يوسف في جميع‬


‫فقال له أولده متعجبين من حاله‪ { :‬تَاللّهِ َتفْتَأُ تَ ْذكُرُ يُو ُ‬
‫أحوالك‪ { .‬حَتّى َتكُونَ حَ َرضًا } أي‪ :‬فانيا ل حراك فيك ول قدرة على الكلم‪.‬‬

‫{ َأوْ َتكُونَ مِنَ ا ْلهَاِلكِينَ } أي‪ :‬ل تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا‪.‬‬

‫شكُو بَثّي } أي‪ :‬ما أبث من الكلم { وَحُزْنِي } الذي في قلبي { إِلَى اللّهِ }‬
‫{ قَالَ } يعقوب { إِ ّنمَا أَ ْ‬
‫وحده‪ ،‬ل إليكم ول إلى غيركم من الخلق‪ ،‬فقولوا ما شئتم { وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } من أنه‬
‫سيردهم علي ويقر عيني بالجتماع بهم‪.‬‬

‫ف وَأَخِي ِه وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ َروْحِ اللّهِ إِنّهُ لَا يَيْئَسُ‬


‫س َ‬
‫{ ‪ { } 88 - 87‬يَا بَ ِنيّ ا ْذهَبُوا فَ َتحَسّسُوا مِنْ يُو ُ‬
‫مِنْ َروْحِ اللّهِ إِلّا ا ْلقَوْمُ ا ْلكَافِرُونَ * فََلمّا دَخَلُوا عَلَ ْيهِ قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّ ّر وَجِئْنَا‬
‫ل وَ َتصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي ا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ }‬
‫بِ ِبضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْي َ‬

‫ف وَأَخِيهِ } أي‪ :‬احرصوا‬


‫س َ‬
‫أي‪ :‬قال يعقوب عليه السلم لبنيه‪ { :‬يَا بَ ِنيّ ا ْذهَبُوا فَ َتحَسّسُوا مِنْ يُو ُ‬
‫واجتهدوا على التفتيش عنهما { وَلَا تَيَْأسُوا مِنْ َروْحِ اللّهِ } فإن الرجاء يوجب للعبد السعي‬
‫والجتهاد فيما رجاه‪ ،‬والياس‪ :‬يوجب له التثاقل والتباطؤ‪ ،‬وأولى ما رجا العباد‪ ،‬فضل ال‬
‫وإحسانه ورحمته وروحه‪ { ،‬إِنّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ َروْحِ اللّهِ إِلّا ا ْل َقوْمُ ا ْلكَافِرُونَ } فإنهم لكفرهم‬
‫يستبعدون رحمته‪ ،‬ورحمته بعيدة منهم‪ ،‬فل تتشبهوا بالكافرين‪.‬‬

‫ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة ال وروحه‪ ،‬فذهبوا { فََلمّا دَخَلُوا عَلَ ْيهِ }‬
‫أي‪ :‬على يوسف { قَالُوا } متضرعين إليه‪ { :‬يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ َوجِئْنَا بِ ِبضَاعَةٍ‬
‫مُزْجَاةٍ فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْيلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا } أي‪ :‬قد اضطررنا نحن وأهلنا { َوجِئْنَا بِ ِبضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ }‬
‫أي‪ :‬مدفوعة مرغوب عنها لقلتها‪ ،‬وعدم وقوعها الموقع‪ { ،‬فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْيلَ } أي‪ :‬مع عدم وفاء‬
‫العرض‪ ،‬وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب‪ { .‬إِنّ اللّهَ يَجْزِي ا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ } بثواب الدنيا والخرة‪.‬‬

‫فلما انتهى المر‪ ،‬وبلغ أشده‪ ،‬رقّ لهم يوسف رقّة شديدة‪ ،‬وعرّفهم بنفسه‪ ،‬وعاتبهم‪.‬‬

‫سفُ‬
‫سفَ وََأخِيهِ ِإذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِ ّنكَ لَأَ ْنتَ يُو ُ‬
‫{ ‪ { } 92 - 89‬قَالَ َهلْ عَِلمْتُمْ مَا َفعَلْتُمْ بِيُو ُ‬
‫حسِنِينَ *‬
‫ق وَ َيصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ‬
‫سفُ وَ َهذَا َأخِي َقدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّ ِ‬
‫قَالَ أَنَا يُو ُ‬
‫قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ آثَ َركَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ َي ْغفِرُ اللّهُ َل ُك ْم وَ ُهوَ‬
‫حمِينَ }‬
‫حمُ الرّا ِ‬
‫أَرْ َ‬

‫ف وَأَخِيهِ } أما يوسف فظاهر فعلهم فيه‪ ،‬وأما أخوه‪ ،‬فلعله وال أعلم‬
‫س َ‬
‫{ قال َهلْ عَِلمْ ُتمْ مَا َفعَلْتُمْ بِيُو ُ‬
‫قولهم‪ { :‬إِنْ يَسْرِقْ َفقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ } أو أن الحادث الذي فرّق بينه وبين أبيه‪ ،‬هم السبب‬
‫فيه‪ ،‬والصل الموجب له‪ { .‬إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم‪ ،‬أو توبيخ لهم إذ فعلوا‬
‫فعل الجاهلين‪ ،‬مع أنه ل ينبغي ول يليق منهم‪.‬‬

‫ف وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنّ‬


‫س ُ‬
‫سفُ قَالَ أَنَا يُو ُ‬
‫فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف‪ ،‬فقالوا‪ { :‬أَئِ ّنكَ لَأَ ْنتَ يُو ُ‬
‫علَيْنَا } باليمان والتقوى والتمكين في الدنيا‪ ،‬وذلك بسبب الصبر والتقوى‪ { ،‬إِنّهُ مَنْ يَتّقِ‬
‫اللّهُ َ‬
‫وَ َيصْبِرْ } أي‪ :‬يتقي فعل ما حرم ال‪ ،‬ويصبر على اللم والمصائب‪ ،‬وعلى الوامر بامتثالها‬
‫{ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ } فإن هذا من الحسان‪ ،‬وال ل يضيع أجر من أحسن عمل‪.‬‬

‫{ قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ آثَ َركَ اللّهُ عَلَيْنَا } أي‪ :‬فضلك علينا بمكارم الخلق ومحاسن الشيم‪ ،‬وأسأنا إليك‬
‫غاية الساءة‪ ،‬وحرصنا على إيصال الذى إليك‪ ،‬والتبعيد لك عن أبيك‪ ،‬فآثرك ال تعالى ومكنك‬
‫مما تريد { وَإِنْ كُنّا لَخَاطِئِينَ } وهذا غاية العتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف‪.‬‬

‫علَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ } أي‪ :‬ل أثرب عليكم‬


‫فب { قَالَ } لهم يوسف عليه السلم‪ ،‬كرما وجودا‪ { :‬لَا تَثْرِيبَ َ‬
‫حمِينَ } فسمح لهم سماحا تاما‪ ،‬من غير تعيير لهم على‬
‫ول ألومكم { َي ْغفِرُ اللّهُ َلكُمْ وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬
‫ذكر الذنب السابق‪ ،‬ودعا لهم بالمغفرة والرحمة‪ ،‬وهذا نهاية الحسان‪ ،‬الذي ل يتأتى إل من‬
‫خواص الخلق وخيار المصطفين‪.‬‬

‫ج َمعِينَ *‬
‫{ ‪ { } 98 - 93‬ا ْذهَبُوا ِبقَمِيصِي هَذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَى َوجْهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهِْلكُمْ أَ ْ‬
‫سفَ َلوْلَا أَنْ ُتفَنّدُونِ * قَالُوا تَاللّهِ إِ ّنكَ َلفِي ضَلَاِلكَ‬
‫وََلمّا َفصََلتِ ا ْلعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّي لََأجِدُ رِيحَ يُو ُ‬
‫جهِهِ فَارْ َتدّ َبصِيرًا قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َل ُكمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا‬
‫ا ْلقَدِيمِ *فََلمّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَ ْلقَاهُ عَلَى وَ ْ‬
‫س ْوفَ َأسْ َت ْغفِرُ َل ُكمْ رَبّي إِنّهُ ُهوَ‬
‫َتعَْلمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْ َت ْغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ * قَالَ َ‬
‫ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }‬

‫أي‪ :‬قال يوسف عليه السلم لخوته‪ { :‬اذْهَبُوا ِب َقمِيصِي َهذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرًا }‬
‫لن كل داء يداوى بضده‪ ،‬فهذا القميص ‪ -‬لما كان فيه أثر ريح يوسف‪ ،‬الذي أودع قلب أبيه من‬
‫الحزن والشوق ما ال به عليم ‪ -‬أراد أن يشمه‪ ،‬فترجع إليه روحه‪ ،‬وتتراجع إليه نفسه‪ ،‬ويرجع‬
‫إليه بصره‪ ،‬ول في ذلك حكم وأسرار‪ ،‬ل يطلع عليها العباد‪ ،‬وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا‬
‫المر‪.‬‬

‫ج َمعِينَ } أي‪ :‬أولدكم وعشيرتكم وتوابعكم كلهم‪ ،‬ليحصل تمام اللقاء‪ ،‬ويزول‬
‫{ وَأْتُونِي بِأَهِْلكُمْ َأ ْ‬
‫عنكم نكد المعيشة‪ ،‬وضنك الرزق‪.‬‬

‫{ وََلمّا َفصََلتِ ا ْلعِيرُ } عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين‪ ،‬شمّ يعقوب ريح القميص‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سفَ َلوْلَا أَنْ ُتفَنّدُونِ } أي‪ :‬تسخرون مني‪ ،‬وتزعمون أن هذا الكلم‪ ،‬صدر مني‬
‫{ إِنّي لََأجِدُ رِيحَ يُو ُ‬
‫من غير شعور‪ ،‬لنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول‪.‬‬

‫فوقع ما ظنه بهم فقالوا‪ { :‬تَاللّهِ إِ ّنكَ َلفِي ضَلَاِلكَ ا ْلقَدِيمِ } أي‪ :‬ل تزال تائها في بحر الحبّ ل تدري‬
‫ما تقول‪.‬‬

‫{ فََلمّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ } بقرب الجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم‪ { ،‬أَ ْلقَاهُ } أي‪ :‬القميص { عَلَى‬
‫جهِهِ فَارْ َتدّ َبصِيرًا } أي‪ :‬رجع على حاله الولى بصيرا‪ ،‬بعد أن ابيضت عيناه من الحزن‪ ،‬فقال‬
‫وَ ْ‬
‫لمن حضره من أولده وأهله الذين كانوا يفندون رأيه‪ ،‬ويتعجبون منه منتصرا عليهم‪ ،‬متبجحا‬
‫بنعمة ال عليه‪ { :‬أَلَمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } حيث كنت مترجيا للقاء يوسف‪،‬‬
‫مترقبا لزوال الهم والغم والحزن‪.‬‬

‫فأقروا بذنبهم ونجعوا بذلك و { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْ َتغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ } حيث فعلنا معك ما‬
‫فعلنا‪.‬‬

‫سوْفَ َأسْ َتغْفِرُ َلكُمْ رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }‬


‫فب { قَالَ } مجيبا لطلبتهم‪ ،‬ومسرعا لجابتهم‪َ { :‬‬
‫أي‪ :‬ورجائي به أن يغفر لكم ويرحمكم‪ ،‬ويتغمدكم برحمته‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنه أخر الستغفار لهم إلى‬
‫وقت السحر الفاضل‪ ،‬ليكون أتمّ للستغفار‪ ،‬وأقرب للجابة‪.‬‬

‫سفَ آوَى إِلَيْهِ أَ َبوَيْ ِه َوقَالَ ا ْدخُلُوا ِمصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ‬
‫{ ‪ { } 100 - 99‬فََلمّا َدخَلُوا عَلَى يُو ُ‬
‫جعََلهَا رَبّي‬
‫سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ َهذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ‬
‫ش وَخَرّوا َلهُ ُ‬
‫* وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْ ِ‬
‫حقّا َوقَدْ َأحْسَنَ بِي إِذْ أَخْ َرجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ ِبكُمْ مِنَ الْبَ ْدوِ مِنْ َبعْدِ أَنْ نَ َزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ‬
‫َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫خوَتِي إِنّ رَبّي لَطِيفٌ ِلمَا يَشَاءُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ‬
‫إِ ْ‬

‫أي‪ { :‬فََلمّا } تجهز يعقوب وأولده وأهلهم أجمعون‪ ،‬وارتحلوا من بلدهم قاصدين الوصول إلى‬
‫سفَ آوَى إِلَيْهِ أَ َبوَيْهِ } أي‪ :‬ضمهما‬
‫يوسف في مصر وسكناها‪ ،‬فلما وصلوا إليه‪ ،‬و { دَخَلُوا عَلَى يُو ُ‬
‫إليه‪ ،‬واختصهما بقربه‪ ،‬وأبدى لهما من البر والكرام والتبجيل والعظام شيئا عظيما‪َ { ،‬وقَالَ }‬
‫لجميع أهله‪ { :‬ا ْدخُلُوا ِمصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ } من جميع المكاره والمخاوف‪ ،‬فدخلوا في هذه‬
‫الحال السارة‪ ،‬وزال عنهم النصب ونكد المعيشة‪ ،‬وحصل السرور والبهجة‪.‬‬

‫{ وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ } أي‪ :‬على سرير الملك‪ ،‬ومجلس العزيز‪ { ،‬وَخَرّوا لَهُ سُجّدًا } أي‪:‬‬
‫أبوه‪ ،‬وأمه وإخوته‪ ،‬سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والكرام‪َ { ،‬وقَالَ } لما رأى هذه الحال‪،‬‬
‫ورأى سجودهم له‪ { :‬يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس‬
‫حقّا } فلم يجعلها‬
‫جعََلهَا رَبّي َ‬
‫والقمر له ساجدين‪ ،‬فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت { قَدْ َ‬
‫أضغاث أحلم‪.‬‬

‫ن وَجَاءَ ِبكُمْ مِنَ الْ َب ْدوِ } وهذا من لطفه‬


‫{ َوقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { ِإذْ َأخْرَجَنِي مِنَ السّجْ ِ‬
‫وحسن خطابه عليه السلم‪ ،‬حيث ذكر حاله في السجن‪ ،‬ولم يذكر حاله في الجب‪ ،‬لتمام عفوه عن‬
‫إخوته‪ ،‬وأنه ل يذكر ذلك الذنب‪ ،‬وأن إتيانكم من البادية من إحسان ال إلي‪.‬‬

‫حسَنَ بِي } جعل الحسان‬


‫فلم يقل‪ :‬جاء بكم من الجوع والنصب‪ ،‬ول قال‪" :‬أحسن بكم" بل قال { أَ ْ‬
‫عائدا إليه‪ ،‬فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده‪ ،‬ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو‬
‫خوَتِي } فلم يقل "نزغ الشيطان إخوتي" بل كأن‬
‫الوهاب‪ { .‬مِنْ َبعْدِ أَنْ نَ َزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ ِإ ْ‬
‫الذنب والجهل‪ ،‬صدر من الطرفين‪ ،‬فالحمد ل الذي أخزى الشيطان ودحره‪ ،‬وجمعنا بعد تلك‬
‫الفرقة الشاقة‪.‬‬

‫{ إِنّ رَبّي َلطِيفٌ ِلمَا يَشَاءُ } يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث ل يشعر‪ ،‬ويوصله إلى‬
‫المنازل الرفيعة من أمور يكرهها‪ { ،‬إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر المور وبواطنها‪ ،‬وسرائر‬
‫حكِيمُ } في وضعه الشياء مواضعها‪ ،‬وسوقه المور إلى أوقاتها المقدرة‬
‫العباد وضمائرهم‪ { ،‬ا ْل َ‬
‫لها‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْنتَ‬


‫ك وَعَّلمْتَنِي مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 101‬ربّ َقدْ آتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْل ِ‬
‫حقْنِي بِالصّاِلحِينَ }‬
‫وَلِيّي فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َت َوفّنِي ُمسِْلمًا وَأَلْ ِ‬
‫لما أتم ال ليوسف ما أتم من التمكين في الرض والملك‪ ،‬وأقر عينه بأبويه وإخوته‪ ،‬وبعد العلم‬
‫العظيم الذي أعطاه ال إياه‪ ،‬قال مقرا بنعمة ال شاكرا لها داعيا بالثبات على السلم‪:‬‬

‫{ َربّ َقدْ آتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْلكِ } وذلك أنه كان على خزائن الرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك‬
‫{ وَعَّلمْتَنِي مِنْ تَ ْأوِيلِ الَْأحَادِيثِ } أي‪ :‬من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك‬
‫ت وَِليّ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َت َوفّنِي مُسِْلمًا } أي‪ :‬أدم عليّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْن َ‬
‫من العلم { فَاطِرَ ال ّ‬
‫حقْنِي‬
‫السلم وثبتني عليه حتى توفاني عليه‪ ،‬ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت‪ { ،‬وَأَلْ ِ‬
‫بِالصّالِحِينَ } من النبياء البرار والصفياء الخيار‪.‬‬

‫ج َمعُوا َأمْرَ ُه ْم وَهُمْ َي ْمكُرُونَ }‬


‫ك َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْيهِمْ ِإذْ َأ ْ‬
‫{ ‪ { } 102‬ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَ ْي َ‬

‫لما قص ال هذه القصة على محمد صلى ال عليه وسلم قال ال له‪ { :‬ذَِلكَ } النباء الذي أخبرناك‬
‫به { مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ } الذي لول إيحاؤنا إليك لما وصل إليك هذا الخبر الجليل‪ ،‬فإنك لم تكن‬
‫ج َمعُوا َأمْرَهُمْ } أي‪ :‬إخوة يوسف { وَ ُهمْ َي ْمكُرُونَ } به حين تعاقدوا على‬
‫حاضرا لديهم { إِذْ أَ ْ‬
‫التفريق بينه وبين أبيه‪ ،‬في حالة ل يطلع عليها إل ال تعالى‪ ،‬ول يمكن أحدا أن يصل إلى علمها‪،‬‬
‫إل بتعليم ال له إياها‪.‬‬

‫كما قال تعالى لما قص قصة موسى وما جرى له‪ ،‬ذكر الحال التي ل سبيل للخلق إلى علمها إل‬
‫بوحيه { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى المر وما كنت من الشاهدين } اليات‪،‬‬
‫فهذا أدل دليل على أن ما جاء به رسول ال حقا‪.‬‬

‫صتَ ِب ُم ْؤمِنِينَ * َومَا تَسْأَُل ُهمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ ُهوَ‬
‫س وََلوْ حَ َر ْ‬
‫{ ‪َ { } 107 - 103‬ومَا َأكْثَرُ النّا ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ *‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * َوكَأَيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي ال ّ‬
‫َومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُ ُهمْ بِاللّهِ إِلّا وَهُمْ مُشْ ِركُونَ * َأفََأمِنُوا أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ َأوْ تَأْتِ َيهُمُ‬
‫شعُرُونَ }‬
‫عةُ َبغْتَ ًة وَهُمْ لَا يَ ْ‬
‫السّا َ‬

‫صتَ } على إيمانهم‬


‫س وََلوْ حَ َر ْ‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪َ { :‬ومَا َأكْثَرُ النّا ِ‬
‫{ ِب ُم ْؤمِنِينَ } فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة‪ ،‬فل ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو‬
‫عدمت الموانع‪ ،‬بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم‪ ،‬ودفع الشر عنهم‪ ،‬من غير‬
‫أجر ول عوض‪ ،‬ولو أقاموا لهم من الشواهد واليات الدالت على صدقهم ما أقاموا‪ .‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ َومَا تَسْأَُل ُهمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ما ينفعهم ليفعلوه‪ ،‬وما يضرهم‬
‫ليتركوه‪.‬‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا } دالة لهم على توحيد ال‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َوكَأَيّنْ } أي‪ :‬وكم { مِنْ آيَةٍ فِي ال ّ‬
‫{ وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }‬

‫ومع هذا إن وجد منهم بعض اليمان فل { ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلّا وَ ُهمْ مُشْ ِركُونَ } فهم وإن أقروا‬
‫بربوبية ال تعالى‪ ،‬وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع المور‪ ،‬فإنهم يشركون في ألوهية ال‬
‫وتوحيده‪ ،‬فهؤلء الذين وصلوا إلى هذه الحال لم يبق عليهم إل أن يحل بهم العذاب‪ ،‬ويفجأهم‬
‫العقاب وهم آمنون‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ َأفََأمِنُوا } أي‪ :‬الفاعلون لتلك الفعال‪ ،‬المعرضون عن آيات ال { أَنْ تَأْتِ َيهُمْ غَاشِ َيةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ‬
‫شعُرُونَ }‬
‫} أي‪ :‬عذاب يغشاهم ويعمهم ويستأصلهم‪َ { ،‬أوْ تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً } أي‪ :‬فجأة { وَ ُهمْ لَا يَ ْ‬
‫أي‪ :‬فإنهم قد استوجبوا لذلك‪ ،‬فليتوبوا إلى ال‪ ،‬ويتركوا ما يكون سببا في عقابهم‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 109 - 108‬قلْ هَ ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى َبصِي َرةٍ أَنَا َومَنِ اتّ َبعَنِي وَسُبْحَانَ اللّ ِه َومَا‬
‫أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْيهِمْ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلقُرَى َأفََلمْ يَسِيرُوا فِي‬
‫الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم وَلَدَارُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا َأفَلَا َتعْقِلُونَ }‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ُ { :‬قلْ } للناس { هَ ِذهِ سَبِيلِي } أي‪ :‬طريقي التي أدعو‬
‫إليها‪ ،‬وهي السبيل الموصلة إلى ال وإلى دار كرامته‪ ،‬المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره‪،‬‬
‫وإخلص الدين ل وحده ل شريك له‪َ { ،‬أدْعُو إِلَى اللّهِ } أي‪ :‬أحثّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى‬
‫ربهم‪ ،‬وأرغّبهم في ذلك وأرهّبهم مما يبعدهم عنه‪.‬‬

‫ومع هذا فأنا { عَلَى َبصِي َرةٍ } من ديني‪ ،‬أي‪ :‬على علم ويقين من غير شك ول امتراء ول مرية‪.‬‬
‫{ وَ } كذلك { مَنِ اتّ َبعَنِي } يدعو إلى ال كما أدعو على بصيرة من أمره‪ { .‬وَسُبْحَانَ اللّهِ } عما‬
‫نسب إليه مما ل يليق بجلله‪ ،‬أو ينافي كماله‪.‬‬

‫{ َومَا أَنَا مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ } في جميع أموري‪ ،‬بل أعبد ال مخلصا له الدين‪.‬‬

‫سلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا } أي‪ :‬لم نرسل ملئكة ول غيرهم من أصناف‬
‫ثم قال تعالى { َومَا أَرْ َ‬
‫الخلق‪ ،‬فلي شيء يستغرب قومك رسالتك‪ ،‬ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل‪ ،‬فلك فيمن قبلك‬
‫من المرسلين أسوة حسنة { نُوحِي إِلَ ْي ِهمْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَى } أي‪ :‬ل من البادية‪ ،‬بل من أهل القرى‬
‫الذين هم أكمل عقول‪ ،‬وأصح آراء‪ ،‬وليتبين أمرهم ويتضح شأنهم‪.‬‬
‫{ َأفََلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ } إذا لم يصدقوا لقولك‪ { ،‬فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ }‬
‫كيف أهلكهم ال بتكذيبهم‪ ،‬فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه‪ ،‬فيصيبكم ما أصابهم‪ { ،‬وَلَدَارُ‬
‫الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬الجنة وما فيها من النعيم المقيم‪ { ،‬خَيْرٌ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا } ال في امتثال أوامره‪ ،‬واجتناب‬
‫نواهيه‪ ،‬فإن نعيم الدنيا منغص منكد‪ ،‬منقطع‪ ،‬ونعيم الخرة تام كامل‪ ،‬ل يفنى أبدا‪ ،‬بل هو على‬
‫الدوام في تزايد وتواصل‪ { ،‬عطاء غير مجذوذ } { َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } أي‪ :‬أفل تكون لكم عقول تؤثر‬
‫الذي هو خير على الدنى‪.‬‬

‫جيَ مَنْ نَشَاءُ‬


‫ل وَظَنّوا أَ ّنهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَ ُهمْ َنصْرُنَا فَنُ ّ‬
‫سُ‬‫{ ‪ { } 111 - 110‬حَتّى ِإذَا اسْتَيْئَسَ الرّ ُ‬
‫حدِيثًا‬
‫صهِمْ عِبْ َرةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ َ‬
‫ص ِ‬
‫وَلَا يُرَدّ بَ ْأسُنَا عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ * َلقَدْ كَانَ فِي َق َ‬
‫حمَةً ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫شيْ ٍء وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫ُيفْتَرَى وََلكِنْ َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْ ِه وَ َت ْفصِيلَ ُكلّ َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أنه يرسل الرسل الكرام‪ ،‬فيكذبهم القوم المجرمون اللئام‪ ،‬وأن ال تعالى يمهلهم‬
‫ليرجعوا إلى الحق‪ ،‬ول يزال ال يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل‪.‬‬

‫حتى إن الرسل ‪ -‬على كمال يقينهم‪ ،‬وشدة تصديقهم بوعد ال ووعيده ‪ -‬ربما أنه يخطر بقلوبهم‬
‫نوع من الياس‪ ،‬ونوع من ضعف العلم والتصديق‪ ،‬فإذا بلغ المر هذه الحال { جَاءَ ُهمْ َنصْرُنَا‬
‫جيَ مَنْ نَشَاءُ } وهم الرسل وأتباعهم‪ { ،‬وَلَا يُرَدّ بَ ْأسُنَا عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬ول يرد‬
‫فَنُ ّ‬
‫عذابنا‪ ،‬عمن اجترم‪ ،‬وتجرأ على ال { فما لهم من قوة ول ناصر }‬

‫صهِمْ } أي‪ :‬قصص النبياء والرسل مع قومهم‪ { ،‬عِبْ َرةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي‪:‬‬
‫ص ِ‬
‫{ َلقَدْ كَانَ فِي َق َ‬
‫يعتبرون بها‪ ،‬أهل الخير وأهل الشر‪ ،‬وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة‪،‬‬
‫ويعتبرون بها أيضا‪ ،‬ما ل من صفات الكمال والحكمة العظيمة‪ ،‬وأنه ال الذي ل تنبغي العبادة إل‬
‫له وحده ل شريك له‪.‬‬

‫حدِيثًا ُيفْتَرَى } أي‪ :‬ما كان هذا القرآن الذي قص ال به عليكم من أنباء الغيب ما‬
‫وقوله‪ { :‬مَا كَانَ َ‬
‫قص من الحاديث المفتراة المختلقة‪ { ،‬وََلكِنْ } كان { تصديق الّذِي بَيْنَ َيدَيْهِ } من الكتب السابقة‪،‬‬
‫شيْءٍ } يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه‪،‬‬
‫يوافقها ويشهد لها بالصحة‪ { ،‬وَ َتفْصِيلَ ُكلّ َ‬
‫ومن الدلة والبراهين‪.‬‬

‫حمَةٌ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فإنهم ‪ -‬بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره ‪-‬‬
‫{ وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫يحصل لهم الهدى‪ ،‬وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والجل تحصل لهم الرحمة‪.‬‬

‫فصل‬
‫في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال ال في أولها‬
‫خوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ } وقال في‬
‫ف وَإِ ْ‬
‫س َ‬
‫علَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْل َقصَصِ } وقال { َلقَدْ كَانَ فِي يُو ُ‬
‫{ َنحْنُ َن ُقصّ َ‬
‫صهِمْ عِبْ َرةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد‪.‬‬
‫ص ِ‬
‫آخرها { َلقَدْ كَانَ فِي َق َ‬

‫فمن ذلك‪ ،‬أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها‪ ،‬لما فيها من أنواع التنقلت‪ ،‬من‬
‫ق إلى‬
‫حال إلى حال‪ ،‬ومن محنة إلى محنة‪ ،‬ومن محنة إلى منحة ومنّة‪ ،‬ومن ذل إلى عز‪ ،‬ومن ر ّ‬
‫ملك‪ ،‬ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلف‪ ،‬ومن حزن إلى سرور‪ ،‬ومن رخاء إلى جدب‪ ،‬ومن‬
‫جدب إلى رخاء‪ ،‬ومن ضيق إلى سعة‪ ،‬ومن إنكار إلى إقرار‪ ،‬فتبارك من قصها فأحسنها‪،‬‬
‫ووضحها وبيّنها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن فيها أصل لتعبير الرؤيا‪ ،‬وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها ال من يشاء‬
‫من عباده‪ ،‬وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في السم والصفة‪ ،‬فإن رؤيا يوسف التي‬
‫رأى أن الشمس والقمر‪ ،‬وأحد عشر كوكبا له ساجدين‪ ،‬وجه المناسبة فيها‪ :‬أن هذه النوار هي‬
‫زينة السماء وجمالها‪ ،‬وبها منافعها‪ ،‬فكذلك النبياء والعلماء‪ ،‬زينة للرض وجمال‪ ،‬وبهم يهتدى‬
‫في الظلمات كما يهتدى بهذه النوار‪ ،‬ولن الصل أبوه وأمه‪ ،‬وإخوته هم الفرع‪ ،‬فمن المناسب أن‬
‫يكون الصل أعظم نورا وجرما‪ ،‬لما هو فرع عنه‪ .‬فلذلك كانت الشمس أمه‪ ،‬والقمر أباه‪،‬‬
‫والكواكب إخوته‪.‬‬

‫ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث‪ ،‬فلذلك كانت أمه‪ ،‬والقمر والكوا كب مذكرات‪ ،‬فكانت لبيه‬
‫وإخوته‪.،‬ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له‪ ،‬والمسجود [له] معظم محترم‪ ،‬فلذلك‬
‫دل ذلك على أن يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته‪.‬‬

‫ومن لزم ذلك أن يكون مجتبى مفضل في العلم والفضائل الموجبة لذلك‪ ،‬ولذلك قال له أبوه‪:‬‬
‫{ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الحاديث } ومن المناسبة في رؤيا الفتيين‪ ،‬أنه أول رؤيا‪،‬‬
‫الذي رأى أنه يعصر خمرا‪ ،‬أن الذي يعصر في العادة‪ ،‬يكون خادما لغيره‪ ،‬والعصر يقصد لغيره‪،‬‬
‫فلذلك أوّله بما يؤول إليه‪ ،‬أنه يسقي ربه‪ ،‬وذلك متضمن لخروجه من السجن‪.‬‬

‫وأوّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه‪ ،‬بأن جلدة رأسه ولحمه‪ ،‬وما في ذلك‬
‫من المخ‪ ،‬أنه هو الذي يحمله‪ ،‬وأنه سيبرز للطيور‪ ،‬بمحل تتمكن من الكل من رأسه‪ ،‬فرأى من‬
‫حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه‪ ،‬وذلك ل يكون إل بالصلب بعد‬
‫القتل‪.‬‬
‫وأوّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلت‪ ،‬بالسنين المخصبة‪ ،‬والسنين المجدبة‪ ،‬ووجه المناسبة أن‬
‫الملك‪ ،‬به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها‪ ،‬وبصلحه تصلح‪ ،‬وبفساده تفسد‪ ،‬وكذلك السنون بها‬
‫صلح أحوال الرعية‪ ،‬واستقامة أمر المعاش أو عدمه‪.‬‬

‫وأما البقر فإنها تحرث الرض عليها‪ ،‬ويستقى عليها الماء‪ ،‬وإذا أخصبت السنة سمنت‪ ،‬وإذا‬
‫أجدبت صارت عجافا‪ ،‬وكذلك السنابل في الخصب‪ ،‬تكثر وتخضر‪ ،‬وفي الجدب تقل وتيبس وهي‬
‫أفضل غلل الرض‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما فيها من الدلة على صحة نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حيث قصّ على قومه هذه‬
‫القصة الطويلة‪ ،‬وهو لم يقرأ كتب الولين ول دارس أحدا‪.‬‬

‫يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء‪ ،‬وهو أ ّميّ ل يخط ول يقرأ‪ ،‬وهي موافقة‪ ،‬لما في الكتب‬
‫السابقة‪ ،‬وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر‪ ،‬وكتمان ما تخشى مضرته‪ ،‬لقول يعقوب ليوسف { يا بني‬
‫خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُوا َلكَ كَيْدًا } ومنها‪ :‬أنه يجوز ذكر النسان بما يكره على‬
‫لَا َت ْقصُصْ ُرؤْيَاكَ عَلَى إِ ْ‬
‫وجه النصيحة لغيره لقوله‪ { :‬فَ َيكِيدُوا َلكَ كَيْدًا }‬

‫ومنها‪ :‬أن نعمة ال على العبد‪ ،‬نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه‪ ،‬وأنه ربما‬
‫شملتهم‪ ،‬وحصل لهم ما حصل له بسببه‪ ،‬كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف { َوكَذَِلكَ َيجْتَبِيكَ‬
‫ك وَعَلَى آلِ َي ْعقُوبَ } ولما تمت النعمة على‬
‫ك وَ ُيعَّلمُكَ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ‬
‫رَ ّب َ‬
‫يوسف‪ ،‬حصل لل يعقوب من العز والتمكين في الرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب‬
‫يوسف‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العدل مطلوب في كل المور‪ ،‬ل في معاملة السلطان رعيته ول فيما دونه‪ ،‬حتى في‬
‫معاملة الوالد لولده‪ ،‬في المحبة واليثار وغيره‪ ،‬وأن في الخلل بذلك يختل عليه المر‪ ،‬وتفسد‬
‫الحوال‪ ،‬ولهذا‪ ،‬لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته‪ ،‬جرى منهم ما جرى على‬
‫أنفسهم‪ ،‬وعلى أبيهم وأخيهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬الحذر من شؤم الذنوب‪ ،‬وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة‪ ،‬ول يتم لفاعله إل بعدة‬
‫جرائم‪ ،‬فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه‪ ،‬احتالوا لذلك بأنواع من الحيل‪ ،‬وكذبوا‬
‫عدة مرات‪ ،‬وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه‪ ،‬وفي إتيانهم عشاء يبكون‪ ،‬ول تستبعد‬
‫أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة‪ ،‬بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف‪ ،‬وكلما صار‬
‫البحث‪ ،‬حصل من الخبار بالكذب‪ ،‬والفتراء‪ ،‬ما حصل‪ ،‬وهذا شؤم الذنب‪ ،‬وآثاره التابعة‬
‫والسابقة واللحقة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية‪ ،‬ل بنقص البداية‪ ،‬فإن أولد يعقوب عليه السلم‬
‫جرى منهم ما جرى في أول المر‪ ،‬مما هو أكبر أسباب النقص واللوم‪ ،‬ثم انتهى أمرهم إلى‬
‫التوبة النصوح‪ ،‬والسماح التام من يوسف ومن أبيهم‪ ،‬والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة‪ ،‬وإذا سمح‬
‫العبد عن حقه‪ ،‬فال خير الراحمين‪.‬‬

‫سمَاعِيلَ‬
‫ولهذا ‪ -‬في أصح القوال ‪ -‬أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى‪ { :‬وََأوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ وَالَْأسْبَاطِ } وهم أولد يعقوب الثنا عشر وذريتهم‪ ،‬ومما يدل على ذلك أن في‬
‫وَإِسْحَا َ‬
‫رؤيا يوسف‪ ،‬أنه رآهم كواكب نيرة‪ ،‬والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات النبياء‪ ،‬فإن‬
‫لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما منّ ال به على يوسف عليه الصلة والسلم من العلم والحلم‪ ،‬ومكارم الخلق‪،‬‬
‫والدعوة إلى ال وإلى دينه‪ ،‬وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به‪ ،‬وتمم ذلك بأن ل يثرب‬
‫عليهم ول يعيرهم به‪.‬‬

‫ثم برّه العظيم بأبويه‪ ،‬وإحسانه لخوته‪ ،‬بل لعموم الخلق‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن بعض الشر أهون من بعض‪ ،‬وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما‪،‬‬
‫سفَ‬
‫فإن إخوة يوسف‪ ،‬لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا‪ ،‬وقال قائل منهم‪ { :‬لَا َتقْتُلُوا يُو ُ‬
‫جبّ } كان قوله أحسن منهم وأخف‪ ،‬وبسببه خف عن إخوته الثم الكبير‪.‬‬
‫وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَا َبةِ ا ْل ُ‬

‫ومنها‪ :‬أن الشيء إذا تداولته اليدي وصار من جملة الموال‪ ،‬ولم يعلم أنه كان على غير وجه‬
‫الشرع‪ ،‬أنه ل إثم على من باشره ببيع أو شراء‪ ،‬أو خدمة أو انتفاع‪ ،‬أو استعمال‪ ،‬فإن يوسف‬
‫عليه السلم باعه إخوته بيعا حراما ل يجوز‪ ،‬ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها‪ ،‬وبقي‬
‫عند سيده غلما رقيقا‪ ،‬وسماه ال شراء ‪ ،‬وكان عندهم بمنزلة الغلم الرقيق المكرم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة‪ ،‬والحذر أيضا من المحبة التي يخشى‬
‫ضررها‪ ،‬فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى‪ ،‬بسبب توحّدها بيوسف‪ ،‬وحبها الشديد له‪ ،‬الذي‬
‫ما تركها حتى راودته تلك المراودة‪ ،‬ثم كذبت عليه‪ ،‬فسجن بسببها مدة طويلة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الهمّ الذي همّ به يوسف بالمرأة ثم تركه ل‪ ،‬مما يقربه إلى ال زلفى‪ ،‬لن الهمّ داع من‬
‫دواعي النفس المارة بالسوء‪ ،‬وهو طبيعة لغلب الخلق‪ ،‬فلما قابل بينه وبين محبة ال وخشيته‪،‬‬
‫غلبت محبة ال وخشيته داعي النفس والهوى‪ .‬فكان ممن { خاف مقام ربه ونهى النفس عن‬
‫الهوى } ومن السبعة الذين يظلهم ال في ظل عرشه يوم ل ظل إل ظله‪ ،‬أحدهم‪" :‬رجل دعته‬
‫امرأة ذات منصب وجمال‪ ،‬فقال‪ :‬إني أخاف ال" وإنما الهم الذي يلم عليه العبد‪ ،‬الهم الذي‬
‫يساكنه‪ ،‬ويصير عزما‪ ،‬ربما اقترن به الفعل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من دخل اليمان قلبه‪ ،‬وكان مخلصا ل في جميع أموره فإن ال يدفع عنه ببرهان‬
‫إيمانه‪ ،‬وصدق إخلصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء ليمانه‬
‫وإخلصه لقوله‪ { .‬وَ َهمّ ِبهَا َلوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَِلكَ لِ َنصْرِفَ عَنْهُ السّو َء وَا ْلفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ‬
‫عِبَادِنَا ا ْل ُمخَْلصِينَ } على قراءة من قرأها بكسر اللم‪ ،‬ومن قرأها بالفتح‪ ،‬فإنه من إخلص ال‬
‫إياه‪ ،‬وهو متضمن لخلصه هو بنفسه‪ ،‬فلما أخلص عمله ل أخلصه ال‪ ،‬وخلصه من السوء‬
‫والفحشاء‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للعبد إذا رأى محل فيه فتنة وأسباب معصية‪ ،‬أن يفر منه ويهرب غاية ما‬
‫يمكنه‪ ،‬ليتمكن من التخلص من المعصية‪ ،‬لن يوسف عليه السلم ‪-‬لما راودته التي هو في بيتها‪-‬‬
‫فر هاربا‪ ،‬يطلب الباب ليتخلص من شرها‪ ،‬ومنها‪ :‬أن القرائن يعمل بها عند الشتباه‪ ،‬فلو تخاصم‬
‫رجل وامرأته في شيء من أواني الدار‪ ،‬فما يصلح للرجل فإنه للرجل‪ ،‬وما يصلح للمرأة فهو لها‪،‬‬
‫إذا لم يكن بينة‪ ،‬وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة‪ ،‬والعمل بالقافة في‬
‫الشباه والثر‪ ،‬من هذا الباب‪ ،‬فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة‪ ،‬وحكم بها في قد القميص‪ ،‬واستدل‬
‫بقدّه من دبره على صدق يوسف وكذبها‪.‬‬

‫ومما يدل على هذه القاعدة‪ ،‬أنه استدل بوجود الصّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة‪،‬‬
‫من غير بينة شهادة ول إقرار‪ ،‬فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق‪ ،‬خصوصا إذا كان‬
‫معروفا بالسرقة‪ ،‬فإنه يحكم عليه بالسرقة‪ ،‬وهذا أبلغ من الشهادة‪ ،‬وكذلك وجود الرجل يتقيأ‬
‫الخمر‪ ،‬أو وجود المرأة التي ل زوج لها ول سيد‪ ،‬حامل فإنه يقام بذلك الحد‪ ،‬ما لم يقم مانع منه‪،‬‬
‫شهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهِْلهَا }‬
‫ولهذا سمى ال هذا الحاكم شاهدا فقال‪ { :‬وَ َ‬

‫ومنها‪ :‬ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن‪.،‬فإن جماله الظاهر‪ ،‬أوجب للمرأة التي هو في‬
‫بيتها ما أوجب‪ ،‬وللنساء اللتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن { مَا َهذَا بَشَرًا‬
‫إِنْ َهذَا إِلّا مََلكٌ كَرِيمٌ } وأما جماله الباطن‪ ،‬فهو العفة العظيمة عن المعصية‪ ،‬مع وجود الدواعي‬
‫الكثيرة لوقوعها‪ ،‬وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته‪ ،‬ولهذا قالت امرأة العزيز‪ { :‬وََلقَدْ‬
‫حصَ ا ْلحَقّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِهِ وَإِنّهُ‬
‫حصْ َ‬
‫رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِهِ فَاسْ َت ْعصَمَ } وقالت بعد ذلك‪ { :‬الْآنَ َ‬
‫علَيْهِ مِنْ سُوءٍ }‬
‫َلمِنَ الصّا ِدقِينَ } وقالت النسوة‪ { :‬حَاشَ لِلّهِ مَا عَِلمْنَا َ‬
‫ومنها‪ :‬أن يوسف عليه السلم اختار السجن على المعصية‪ ،‬فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين‬
‫‪ -‬إما فعل معصية‪ ،‬وإما عقوبة دنيوية ‪ -‬أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب‬
‫للعقوبة الشديدة في الدنيا والخرة‪ ،‬ولهذا من علمات اليمان‪ ،‬أن يكره العبد أن يعود في الكفر‪،‬‬
‫بعد أن أنقذه ال منه‪ ،‬كما يكره أن يلقى في النار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى ال‪ ،‬ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية‪ ،‬ويتبرأ من‬
‫ن وََأكُنْ مِنَ‬
‫صبُ إِلَ ْيهِ ّ‬
‫حوله وقوته‪ ،‬لقول يوسف عليه السلم‪ { :‬وَإِلّا َتصْ ِرفْ عَنّي كَيْ َدهُنّ َأ ْ‬
‫الْجَاهِلِينَ }‬

‫ومنها‪ :‬أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير‪ ،‬وينهيانه عن الشر‪ ،‬وأن الجهل يدعو صاحبه‬
‫إلى موافقة هوى النفس‪ ،‬وإن كان معصية ضارا لصاحبه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه كما على العبد عبودية ل في الرخاء‪ ،‬فعليه عبودية له في الشدة‪ ،‬فبب "يوسف" عليه‬
‫السلم لم يزل يدعو إلى ال‪ ،‬فلما دخل السجن‪ ،‬استمر على ذلك‪ ،‬ودعا الفتيين إلى التوحيد‪،‬‬
‫ونهاهما عن الشرك‪ ،‬ومن فطنته عليه السلم أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته‪ ،‬حيث ظنا فيه الظن‬
‫حسِنِينَ } وأتياه لن يعبر لهما رؤياهما‪ ،‬فرآهما متشوفين‬
‫الحسن وقال له‪ { :‬إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫لتعبيرها عنده ‪ -‬رأى ذلك فرصة فانتهزها‪ ،‬فدعاهما إلى ال تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون‬
‫أنجح لمقصوده‪ ،‬وأقرب لحصول مطلوبه‪ ،‬وبين لهما أول‪ ،‬أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه‬
‫فيها من الكمال والعلم‪ ،‬إيمانه وتوحيده‪ ،‬وتركه ملة من ل يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬وهذا دعاء‬
‫لهما بالحال‪ ،‬ثم دعاهما بالمقال‪ ،‬وبين فساد الشرك وبرهن عليه‪ ،‬وحقيقة التوحيد وبرهن عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه يبدأ بالهم فالهم‪ ،‬وأنه إذا سئل المفتي‪ ،‬وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه‬
‫ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله‪ ،‬فإن هذا علمة على نصح المعلم وفطنته‪،‬‬
‫وحسن إرشاده وتعليمه‪ ،‬فإن يوسف ‪ -‬لما سأله الفتيان عن الرؤيا ‪ -‬قدم لهما قبل تعبيرها‬
‫دعوتهما إلى ال وحده ل شريك له‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من وقع في مكروه وشدة‪ ،‬ل بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه‪ ،‬أو الخبار‬
‫بحاله‪ ،‬وأن هذا ل يكون شكوى للمخلوق‪ ،‬فإن هذا من المور العادية التي جرى العرف باستعانة‬
‫الناس بعضهم ببعض‪ ،‬ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين‪ { :‬ا ْذكُرْنِي عِنْدَ رَ ّبكَ }‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الخلص التام في تعليمه وأن ل يجعل تعليمه وسيلة‬
‫لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع‪ ،‬وأن ل يمتنع من التعليم‪ ،‬أو ل ينصح فيه‪ ،‬إذا لم يفعل‬
‫السائل ما كلفه به المعلم‪ ،‬فإن يوسف عليه السلم قد قال‪ ،‬ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه‪،‬‬
‫فلم يذكره ونسي‪ ،‬فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى‪ ،‬وجاءه سائل مستفتيا عن‬
‫تلك الرؤيا‪ ،‬فلم يعنفه يوسف‪ ،‬ول وبخه‪ ،‬لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جوابا تاما من كل وجه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله‪ ،‬ويرشده إلى الطريق‬
‫التي ينتفع بها في دينه ودنياه‪ ،‬فإن هذا من كمال نصحه وفطنته‪ ،‬وحسن إرشاده‪ ،‬فإن يوسف عليه‬
‫السلم لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك‪ ،‬بل دلهم ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬على ما يصنعون في تلك السنين‬
‫المخصبات من كثرة الزرع‪ ،‬وكثرة جبايته‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل يلم النسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه‪ ،‬وطلب البراءة لها‪ ،‬بل يحمد على‬
‫ذلك‪ ،‬كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللتي قطعن‬
‫أيديهن‪ ،‬ومنها‪ :‬فضيلة العلم‪ ،‬علم الحكام والشرع‪ ،‬وعلم تعبير الرؤيا‪ ،‬وعلم التدبير والتربية؛‬
‫وأنه أفضل من الصورة الظاهرة‪ ،‬ولو بلغت في الحسن جمال يوسف‪ ،‬فإن يوسف ‪ -‬بسبب جماله‬
‫‪ -‬حصلت له تلك المحنة والسجن‪ ،‬وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الرض‪،‬‬
‫فإن كل خير في الدنيا والخرة من آثار العلم وموجباته‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن علم التعبير من العلوم الشرعية‪ ،‬وأنه يثاب النسان على تعلمه وتعليمه‪ ،‬وأن تعبير‬
‫ضيَ الَْأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْ َتفْتِيَانِ } وقال الملك‪َ { :‬أفْتُونِي‬
‫المرائي داخل في الفتوى‪ ،‬لقوله للفتيين‪ُ { :‬ق ِ‬
‫فِي ُرؤْيَايَ } وقال الفتى ليوسف‪َ { :‬أفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ } اليات‪.،‬فل يجوز القدام على تعبير‬
‫الرؤيا من غير علم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل بأس أن يخبر النسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل‪ ،‬إذا كان في‬
‫جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ‬
‫ذلك مصلحة‪ ،‬ولم يقصد به العبد الرياء‪ ،‬وسلم من الكذب‪ ،‬لقول يوسف‪ { :‬ا ْ‬
‫حفِيظٌ عَلِيمٌ } وكذلك ل تذم الولية‪ ،‬إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من‬
‫الْأَ ْرضِ إِنّي َ‬
‫حقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬وأنه ل بأس بطلبها‪ ،‬إذا كان أعظم كفاءة من غيره‪ ،‬وإنما الذي يذم‪ ،‬إذا‬
‫لم يكن فيه كفاية‪ ،‬أو كان موجودا غيره مثله‪ ،‬أو أعلى منه‪ ،‬أو لم يرد بها إقامة أمر ال‪ ،‬فبهذه‬
‫المور‪ ،‬ينهى عن طلبها‪ ،‬والتعرض لها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ال واسع الجود والكرم‪ ،‬يجود على عبده بخير الدنيا والخرة‪ ،‬وأن خير الخرة له‬
‫سببان‪ :‬اليمان والتقوى‪ ،‬وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها‪ ،‬وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه‪،‬‬
‫ويشوقها لثواب ال‪ ،‬ول يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها‪ ،‬وهي غير قادرة عليها‪ ،‬بل‬
‫يسليها بثواب ال الخروي‪ ،‬وفضله العظيم لقوله تعالى‪ { :‬وَلََأجْرُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا‬
‫يَ ّتقُونَ }‬
‫ومنها‪ :‬أن جباية الرزاق ‪ -‬إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم ‪ -‬ل بأس‬
‫بها‪ ،‬لن يوسف أمرهم بجباية الرزاق والطعمة في السنين المخصبات‪ ،‬للستعداد للسنين‬
‫المجدبة‪ ،‬وأن هذا غير مناقض للتوكل على ال‪ ،‬بل يتوكل العبد على ال‪ ،‬ويعمل بالسباب التي‬
‫تنفعه في دينه ودنياه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الرض‪ ،‬حتى كثرت عندهم الغلت جدا حتى صار‬
‫أهل القطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها‪ ،‬لعلمهم بوفورها فيها‪ ،‬وحتى إنه كان ل يكيل‬
‫لحد إل مقدار الحاجة الخاصة أو أقل‪ ،‬ل يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬مشروعية الضيافة‪ ،‬وأنها من سنن المرسلين‪ ،‬وإكرام الضيف لقول يوسف لخوته { أَلَا‬
‫تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ }‬

‫ومنها‪ :‬أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ول محرم‪ ،‬فإن يعقوب قال‬
‫لولده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة‪ ،‬ثم قال لهم بعد ما أتوه‪،‬‬
‫سكُمْ َأمْرًا } وقال لهم في الخ الخر‪َ { :‬هلْ آمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ‬
‫سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫وزعموا أن الذئب أكله { َبلْ َ‬
‫إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى َأخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ } ثم لما احتبسه يوسف عنده‪ ،‬وجاء إخوته لبيهم قال لهم‪َ { :‬بلْ‬
‫سكُمْ َأمْرًا } فهم في الخيرة ‪ -‬وإن لم يكونوا مفرطين ‪ -‬فقد جرى منهم ما أوجب‬
‫سوَّلتْ َلكُمْ أَ ْنفُ ُ‬
‫َ‬
‫لبيهم أن قال ما قال‪ ،‬من غير إثم عليه ول حرج‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن استعمال السباب الدافعة للعين أوغيرها من المكاره‪ ،‬أو الرافعة لها بعد نزولها‪ ،‬غير‬
‫ممنوع‪ ،‬بل جائز‪ ،‬وإن كان ل يقع شيء إل بقضاء وقدر‪ ،‬فإن السباب أيضا من القضاء والقدر‪،‬‬
‫ب وَاحِ ٍد وَا ْدخُلُوا مِنْ أَ ْبوَابٍ مُ َتفَ ّرقَةٍ }‬
‫خلُوا مِنْ بَا ٍ‬
‫لمر يعقوب حيث قال لبنيه‪ { :‬يَا بَ ِنيّ لَا تَدْ ُ‬

‫ومنها‪ :‬جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق‪ ،‬وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة‬
‫إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد‪ ،‬وإنما الممنوع‪ ،‬التحيل على إسقاط واجب‪ ،‬أو فعل محرم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره‪ ،‬بأمر ل يحب أن يطلع عليه‪ ،‬أن يستعمل المعاريض‬
‫القولية والفعلية المانعة له من الكذب‪ ،‬كما فعل يوسف حيث ألقى الصّواع في رحل أخيه‪ ،‬ثم‬
‫استخرجها منه‪ ،‬موهما أنه سارق‪ ،‬وليس فيه إل القرينة الموهمة لخوته‪ ،‬وقال بعد ذلك‪َ { :‬معَاذَ‬
‫جدْنَا مَتَاعَنَا عِنْ َدهُ } ولم يقل "من سرق متاعنا" وكذلك لم يقل "إنا وجدنا‬
‫ن وَ َ‬
‫خذَ إِلّا مَ ْ‬
‫اللّهِ أَنْ نَأْ ُ‬
‫متاعنا عنده" بل أتى بكلم عام يصلح له ولغيره‪ ،‬وليس في ذلك محذور‪ ،‬وإنما فيه إيهام أنه‬
‫سارق ليحصل المقصود الحاضر‪ ،‬وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الخ هذا اليهام بعد ما تبينت‬
‫الحال‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يجوز للنسان أن يشهد إل بما علمه‪ ،‬وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به‪،‬‬
‫شهِدْنَا إِلّا ِبمَا عَِلمْنَا }‬
‫وتطمئن إليه النفس لقولهم‪َ { :‬ومَا َ‬

‫ومنها‪ :‬هذه المحنة العظيمة التي امتحن ال بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلم‪ ،‬حيث قضى‬
‫بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف‪ ،‬الذي ل يقدر على فراقه ساعة واحدة‪ ،‬ويحزنه ذلك أشد الحزن‪،‬‬
‫فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة‪ ،‬ل تقصر عن خمس عشرة سنة‪ ،‬ويعقوب لم يفارق الحزن‬
‫ضتْ عَيْنَاهُ مِنَ ا ْلحُزْنِ َف ُهوَ كَظِيمٌ } ثم ازداد به المر شدة‪ ،‬حين صار‬
‫قلبه في هذه المدة { وَابْ َي ّ‬
‫الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف‪ ،‬هذا وهو صابر لمر ال‪ ،‬محتسب الجر من ال‪ ،‬قد‬
‫شكُو‬
‫وعد من نفسه الصبر الجميل‪ ،‬ول شك أنه وفى بما وعد به‪ ،‬ول ينافي ذلك‪ ،‬قوله‪ { :‬إِ ّنمَا أَ ْ‬
‫بَثّي َوحُزْنِي ِإلَى اللّهِ } فإن الشكوى إلى ال ل تنافي الصبر‪ ،‬وإنما الذي ينافيه‪ ،‬الشكوى إلى‬
‫المخلوقين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا‪ ،‬فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى‬
‫أنهى ما يكون‪ ،‬ثم حصل الضطرار لل يعقوب ومسهم الضر‪ ،‬أذن ال حينئذ بالفرج‪ ،‬فحصل‬
‫التلقي في أشد الوقات إليه حاجة واضطرارا‪ ،‬فتم بذلك الجر وحصل السرور‪ ،‬وعلم من ذلك‬
‫أن ال يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء‪ ،‬والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم‪ ،‬ويزداد ‪ -‬بذلك ‪-‬‬
‫إيمانهم ويقينهم وعرفانهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز إخبار النسان بما يجد‪ ،‬وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما‪ ،‬على غير وجه‬
‫التسخط‪ ،‬لن إخوة يوسف قالوا‪ { :‬يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ } ولم ينكر عليهم يوسف‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬فضيلة التقوى والصبر‪ ،‬وأن كل خير في الدنيا والخرة فمن آثار التقوى والصبر‪ ،‬وأن‬
‫عاقبة أهلهما‪ ،‬أحسن العواقب‪ ،‬لقوله‪ { :‬قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّقِ وَ َيصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي لمن أنعم ال عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال‪ ،‬أن يعترف بنعمة ال عليه‪،‬‬
‫وأن ل يزال ذاكرا حاله الولى‪ ،‬ليحدث لذلك شكرا كلما ذكرها‪ ،‬لقول يوسف عليه السلم‪َ { :‬وقَدْ‬
‫ن وَجَاءَ ِبكُمْ مِنَ الْ َب ْدوِ }‬
‫حسَنَ بِي إِذْ َأخْرَجَنِي مِنَ السّجْ ِ‬
‫أَ ْ‬

‫ومنها‪ :‬لطف ال العظيم بيوسف‪ ،‬حيث نقله في تلك الحوال‪ ،‬وأوصل إليه الشدائد والمحن‪،‬‬
‫ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى ال دائما في تثبيت إيمانه‪ ،‬ويعمل السباب الموجبة لذلك‪،‬‬
‫ويسأل ال حسن الخاتمة‪ ،‬وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلة والسلم‪َ { :‬ربّ َقدْ آتَيْتَنِي مِنَ‬
‫ت وَِليّ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ َت َوفّنِي‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ أَ ْن َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ك وَعَّلمْتَنِي مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ ال ّ‬
‫ا ْلمُ ْل ِ‬
‫حقْنِي بِالصّالِحِينَ }‬
‫مُسِْلمًا وَأَلْ ِ‬

‫فهذا ما يسر ال من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة‪ ،‬ول بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير‬
‫ذلك‪.‬‬

‫فنسأله تعالى علما نافعا وعمل متقبل‪ ،‬إنه جواد كريم‪.‬‬

‫تم تفسير سورة يوسف وأبيه وإخوته عليهم الصلة والسلم‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة الرعد‪,‬‬


‫وهي مدنية‪ ,‬وقيل‪ :‬مكية‬

‫ق وََلكِنّ‬
‫حّ‬‫حمَنِ الرّحِيمِ المر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ وَالّذِي أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ الْ َ‬
‫{ ‪ِ { } 1‬بسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫يخبر تعالى أن هذا القرآن هو آيات الكتاب الدالة على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين‬
‫وفروعه‪ ،‬وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق المبين‪ ،‬لن أخباره صدق‪ ،‬وأوامره‬
‫ونواهيه عدل‪ ،‬مؤيدة بالدلة والبراهين القاطعة‪ ،‬فمن أقبل عليه وعلى علمه‪ ،‬كان من أهل العلم‬
‫بالحق‪ ،‬الذي يوجب لهم علمهم العمل بما أحب ال‪.‬‬

‫{ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ } بهذا القرآن‪ ،‬إما جهل وإعراضا عنه وعدم اهتمام به‪ ،‬وإما عنادا‬
‫وظلما‪ ،‬فلذلك أكثر الناس غير منتفعين به‪ ،‬لعدم السبب الموجب للنتفاع‪.‬‬

‫شمْسَ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫ش وَ َ‬
‫ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْ ِ‬
‫سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ‬
‫{ ‪ { } 4 - 2‬اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ‬
‫صلُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ بِِلقَاءِ رَ ّبكُمْ تُوقِنُونَ * وَ ُهوَ الّذِي مَدّ‬
‫سمّى ُيدَبّرُ الَْأمْرَ ُي َف ّ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫وَا ْلقَمَرَ ُكلّ يَجْرِي لَِأ َ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ُيغْشِي اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ‬
‫سيَ وَأَ ْنهَارًا َومِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫ض وَ َ‬
‫الْأَ ْر َ‬
‫ع وَنَخِيلٌ‬
‫ب وَزَ ْر ٌ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ * َوفِي الْأَ ْرضِ قِطَعٌ مُ َتجَاوِرَاتٌ َوجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ‬
‫ضلُ َب ْع َ‬
‫سقَى ِبمَا ٍء وَاحِدٍ وَنُ َف ّ‬
‫صِ ْنوَانٌ وَغَيْ ُر صِ ْنوَانٍ يُ ْ‬
‫ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ }‬
‫يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير‪ ،‬والعظمة والسلطان الدال على أنه وحده المعبود الذي ل‬
‫سمَاوَاتِ } على عظمها واتساعها بقدرته العظيمة‪،‬‬
‫تنبغي العبادة إل له فقال‪ { :‬اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ‬
‫ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا } أي‪ :‬ليس لها عمد من تحتها‪ ،‬فإنه لو كان لها عمد‪ ،‬لرأيتموها { ُثمّ } بعد ما‬
‫{ ِبغَيْرِ َ‬
‫خلق السماوات والرض { اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات‪ ،‬استواء يليق‬
‫بجلله ويناسب كماله‪.‬‬

‫س وَا ْلقَمَرَ } لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم‪ُ { ،‬كلّ } من الشمس والقمر‬
‫شمْ َ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫سمّى } بسير منتظم‪ ،‬ل يفتران ول ينيان‪ ،‬حتى يجيء‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫{ َيجْرِي } بتدبير العزيز العليم‪ { ،‬لَ َ‬
‫الجل المسمى وهو طي ال هذا العالم‪ ،‬ونقلهم إلى الدار الخرة التي هي دار القرار‪ ،‬فعند ذلك‬
‫يطوي ال السماوات ويبدلها‪ ،‬ويغير الرض ويبدلها‪ .‬فتكور الشمس والقمر‪ ،‬ويجمع بينهما فيلقيان‬
‫في النار‪ ،‬ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة وليعلم الذين كفروا‬
‫أنهم كانوا كاذبين‪.‬‬

‫صلُ الْآيَاتِ } هذا جمع بين الخلق والمر‪ ،‬أي‪ :‬قد استوى ال العظيم على‬
‫وقوله { يُدَبّرُ الَْأمْرَ ُيفَ ّ‬
‫سرير الملك‪ ،‬يدبر المور في العالم العلوي والسفلي‪ ،‬فيخلق ويرزق‪ ،‬ويغني ويفقر‪ ،‬ويرفع أقواما‬
‫ويضع آخرين‪ ،‬ويعز ويذل‪ ،‬ويخفض ويرفع‪ ،‬ويقيل العثرات‪ ،‬ويفرج الكربات‪ ،‬وينفذ القدار في‬
‫أوقاتها التي سبق بها علمه‪ ،‬وجرى بها قلمه‪ ،‬ويرسل ملئكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره‪.‬‬

‫وينزل الكتب اللهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والوامر والنواهي‪،‬‬
‫ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها‪َ { ،‬لعَّلكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من اليات‬
‫الفقية واليات القرآنية‪ { ،‬بِِلقَاءِ رَ ّب ُكمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الدلة وبيانها ووضوحها‪ ،‬من أسباب‬
‫حصول اليقين في جميع المور اللهية‪ ،‬خصوصا في العقائد الكبار‪ ،‬كالبعث والنشور والخراج‬
‫من القبور‪.‬‬

‫وأيضا فقد علم أن ال تعالى حكيم ل يخلق الخلق سدى‪ ،‬ول يتركهم عبثا‪ ،‬فكما أنه أرسل رسله‬
‫وأنزل كتبه لمر العباد ونهيهم‪ ،‬فل بد أن ينقلهم إلى دار يحل فيها جزاؤه‪ ،‬فيجازي المحسنين‬
‫بأحسن الجزاء‪ ،‬ويجازي المسيئين بإساءتهم‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ الّذِي مَدّ الْأَ ْرضَ } أي‪ :‬خلقها للعباد‪ ،‬ووسعها وبارك فيها ومهدها للعباد‪ ،‬وأودع فيها من‬
‫سيَ } أي‪ :‬جبال عظاما‪ ،‬لئل تميد بالخلق‪ ،‬فإنه لول الجبال‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫مصالحهم ما أودع‪ { ،‬وَ َ‬
‫لمادت بأهلها‪ ،‬لنها على تيار ماء‪ ،‬ل ثبوت لها ول استقرار إل بالجبال الرواسي‪ ،‬التي جعلها ال‬
‫أوتادا لها‪.‬‬
‫{ و } جعل فيها { أَ ْنهَارًا } تسقي الدميين وبهائمهم وحروثهم‪ ،‬فأخرج بها من الشجار والزروع‬
‫ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي‪ :‬صنفين مما‬
‫والثمار خيرا كثيرا ولهذا قال‪َ { :‬ومِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ‬
‫يحتاج إليه العباد‪.‬‬

‫{ ُي ْغشِي اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ } فتظلم الفاق فيسكن كل حيوان إلى مأواه ويستريحون من التعب والنصب‬
‫في النهار‪ ،‬ثم إذا قضوا مأربهم من النوم غشي النهار الليل فإذا هم مصبحون منتشرون في‬
‫مصالحهم وأعمالهم في النهار‪.‬‬

‫{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ } على المطالب اللهية { ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ } فيها‪ ،‬وينظرون فيها نظر اعتبار‬
‫دالة على أن الذي خلقها ودبرها وصرفها‪ ،‬هو ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬ول معبود سواه‪ ،‬وأنه عالم‬
‫الغيب والشهادة‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬وأنه القادر على كل شيء‪ ،‬الحكيم في كل شيء المحمود على‬
‫ما خلقه وأمر به تبارك وتعالى‪.‬‬

‫ت وَجَنّاتٌ } فيها‬
‫ومن اليات على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل { فِي الْأَ ْرضِ ِقطَعٌ مُتَجَاوِرَا ٌ‬
‫ع وَنَخِيلٌ } وغير ذلك‪ ،‬والنخيل التي بعضها { صِ ْنوَانٌ } أي‪:‬‬
‫ب وَزَ ْر ٌ‬
‫أنواع الشجار { مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫سقَى‬
‫عدة أشجار في أصل واحد‪ { ،‬وَغَيْ ُر صِ ْنوَانٍ } بأن كان كل شجرة على حدتها‪ ،‬والجميع { ُي ْ‬
‫ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ } لونا وطعما ونفعا ولذة؛ فهذه‬
‫حدٍ } وأرضه واحدة { وَ ُن َفضّلُ َب ْع َ‬
‫ِبمَا ٍء وَا ِ‬
‫أرض طيبة تنبت الكل والعشب الكثير والشجار والزروع‪ ،‬وهذه أرض تلصقها ل تنبت كل ول‬
‫تمسك ماء‪ ،‬وهذه تمسك الماء ول تنبت الكل‪ ،‬وهذه تنبت الزرع والشجار ول تنبت الكل‪ ،‬وهذه‬
‫الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك‪.‬‬

‫فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ } أي‪ :‬لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم‪ ،‬وتقودهم إلى ما‬
‫يرشدهم ويعقلون عن ال وصاياه وأوامره ونواهيه‪ ،‬وأما أهل العراض‪ ،‬وأهل البلدة فهم في‬
‫ظلماتهم يعمهون‪ ،‬وفي غيهم يترددون‪ ،‬ل يهتدون إلى ربهم سبيل ول يعون له قيل‪.‬‬

‫جبٌ َقوُْلهُمْ أَئِذَا كُنّا تُرَابًا أَئِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَ ِئكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَ ّبهِمْ‬
‫جبْ َف َع َ‬
‫{ ‪ { } 5‬وَإِنْ َت ْع َ‬
‫وَأُولَ ِئكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }‬

‫جبْ } من عظمة ال تعالى وكثرة أدلة توحيده‪ ،‬فإن العجب ‪-‬مع‬


‫يحتمل أن معنى قوله { وَإِنْ َت ْع َ‬
‫خلْقٍ جَدِيدٍ } أي‪ :‬هذا بعيد‬
‫هذا‪ -‬إنكار المكذبين وتكذيبهم بالبعث‪ ،‬وقولهم { أَ ِئذَا كُنّا تُرَابًا أَئِنّا َلفِي َ‬
‫في غاية المتناع بزعمهم‪ ،‬أنهم بعد ما كانوا ترابا‪ ،‬أن ال يعيدهم‪ ،‬فإنهم ‪-‬من جهلهم‪ -‬قاسوا قدرة‬
‫الخالق بقدرة المخلوق‪.‬‬

‫فلما رأوا هذا ممتنعا في قدرة المخلوق ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق‪ ،‬ونسوا أن ال خلقهم‬
‫أول مرة ولم يكونوا شيئا‪.‬‬

‫ويحتمل أن معناه‪ :‬وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث‪ ،‬فإن ذلك من العجائب‪ ،‬فإن الذي توضح‬
‫له اليات‪ ،‬ويرى من الدلة القاطعة على البعث ما ل يقبل الشك والريب‪ ،‬ثم ينكر ذلك فإن قوله‬
‫من العجائب‪.‬‬

‫ولكن ذلك ل يستغرب على { الّذِينَ كَفَرُوا بِرَ ّبهِمْ } وجحدوا وحدانيته‪ ،‬وهي أظهر الشياء‬
‫وأجلها‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ الْأَغْلَالُ } المانعة لهم من الهدى { فِي أَعْنَا ِقهِمْ } حيث دعوا إلى اليمان فلم‬
‫يؤمنوا‪ ،‬وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا‪ ،‬فقلبت قلوبهم وأفئدتهم عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } ل يخرجون منها أبدا‪.‬‬
‫مرة‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬

‫{ ‪ { } 6‬وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِالسّيّئَةِ قَ ْبلَ ا ْلحَسَنَةِ َوقَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُلَاتُ وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َمغْفِ َرةٍ لِلنّاسِ‬
‫عَلَى ظُ ْل ِمهِ ْم وَإِنّ رَ ّبكَ َلشَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }‬

‫يخبر تعالى عن جهل المكذبين لرسوله المشركين به‪ ،‬الذين وعظوا فلم يتعظوا‪ ،‬وأقيمت عليهم‬
‫الدلة فلم ينقادوا لها‪ ،‬بل جاهروا بالنكار‪ ،‬واستدلوا بحلم [ال] الواحد القهار عنهم‪ ،‬وعدم‬
‫معاجلتهم بذنوبهم أنهم على حق‪ ،‬وجعلوا يستعجلون الرسول بالعذاب‪ ،‬ويقول قائلهم‪ { :‬اللهم إن‬
‫كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }‬

‫{ و } الحال أنه { َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْل ِهمُ ا ْلمَثُلَاتُ } أي‪ :‬وقائع ال وأيامه في المم المكذبين‪ ،‬أفل‬
‫يتفكرون في حالهم ويتركون جهلهم { وَإِنّ رَ ّبكَ َلذُو َمغْفِ َرةٍ لِلنّاسِ عَلَى ظُ ْل ِمهِمْ } أي‪ :‬ل يزال خيره‬
‫إليهم وإحسانه وبره وعفوه نازل إلى العباد‪ ،‬وهم ل يزال شرهم وعصيانهم إليه صاعدًا‪.‬‬

‫يعصونه فيدعوهم إلى بابه‪ ،‬ويجرمون فل يحرمهم خيره وإحسانه‪ ،‬فإن تابوا إليه فهو حبيبهم لنه‬
‫يحب التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم‪ ،‬يبتليهم بالمصائب‪ ،‬ليطهرهم من‬
‫المعايب { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال إن ال يغفر الذنوب‬
‫جميعا إنه هو الغفور الرحيم }‬

‫{ وَإِنّ رَ ّبكَ َلشَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } على من لم يزل مصرا على الذنوب‪ ،‬قد أبى التوبة والستغفار‬
‫واللتجاء إلى العزيز الغفار‪ ،‬فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم‪ ،‬فإن أخذه أليم شديد‪.‬‬
‫{ ‪ { } 7‬وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُنْذِ ٌر وَِل ُكلّ َقوْمٍ هَادٍ }‬

‫أي‪ :‬ويقترح الكفار عليك من اليات‪ ،‬التي يعينونها ويقولون‪َ { :‬لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ }‬
‫ويجعلون هذا القول منهم‪ ،‬عذرا لهم في عدم الجابة إلى الرسول‪ ،‬والحال أنه منذر ليس له من‬
‫المر شيء‪ ،‬وال هو الذي ينزل اليات‪.‬‬

‫وقد أيده بالدلة البينات التي ل تخفى على أولي اللباب‪ ،‬وبها يهتدي من قصده الحق‪ ،‬وأما الكافر‬
‫الذي ‪-‬من ظلمه وجهله‪ -‬يقترح على ال اليات فهذا اقتراح منه باطل وكذب وافتراء‬

‫فإنه لو جاءته أي آية كانت لم يؤمن ولم ينقد؛ لنه لم يمتنع من اليمان‪ ،‬لعدم ما يدله على صحته‬
‫وإنما ذلك لهوى نفسه واتباع شهوته { وَِل ُكلّ َقوْمٍ هَادٍ } أي‪ :‬داع يدعوهم إلى الهدى من الرسل‬
‫وأتباعهم‪ ،‬ومعهم من الدلة والبراهين ما يدل على صحة ما معهم من الهدى‪.‬‬

‫شيْءٍ عِنْ َدهُ ِب ِمقْدَارٍ‬


‫ح ِملُ ُكلّ أُنْثَى َومَا َتغِيضُ الْأَ ْرحَا ُم َومَا تَ ْزدَا ُد َو ُكلّ َ‬
‫{ ‪ { } 11 - 8‬اللّهُ َيعْلَمُ مَا َت ْ‬
‫جهَرَ بِ ِه َومَنْ ُهوَ‬
‫سوَاءٌ مِ ْن ُكمْ مَنْ أَسَرّ ا ْل َق ْولَ َومَنْ َ‬
‫شهَا َدةِ ا ْلكَبِيرُ ا ْلمُ َتعَالِ * َ‬
‫* عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ‬
‫ل وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ * َلهُ ُمعَقّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ‬
‫خفٍ بِاللّ ْي ِ‬
‫مُسْتَ ْ‬
‫سهِ ْم وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ ِب َقوْمٍ سُوءًا فَلَا مَ َردّ لَ ُه َومَا َلهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ‬
‫لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َقوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫وَالٍ }‬

‫ح ِملُ ُكلّ أُنْثَى }‬


‫يخبر تعالى بعموم علمه وسعة اطلعه وإحاطته بكل شيء فقال‪ { :‬اللّهُ َيعْلَمُ مَا َت ْ‬
‫من بني آدم وغيرهم‪َ { ،‬ومَا َتغِيضُ الْأَ ْرحَامُ } أي‪ :‬تنقص مما فيها إما أن يهلك الحمل أو يتضاءل‬
‫شيْءٍ عِنْ َدهُ ِب ِمقْدَارٍ } ل يتقدم‬
‫أو يضمحل { َومَا تَزْدَادُ } الرحام وتكبر الجنة التي فيها‪َ { ،‬و ُكلّ َ‬
‫عليه ول يتأخر ول يزيد ول ينقص إل بما تقتضيه حكمته وعلمه‪.‬‬

‫شهَا َدةِ ا ْلكَبِيرُ } في ذاته وأسمائه وصفاته { ا ْلمُ َتعَالِ } على جميع خلقه بذاته‬
‫فإنه { عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫وقدرته وقهره‪.‬‬

‫سوَاءٌ مِ ْنكُمْ } في علمه وسمعه وبصره‪.‬‬


‫{ َ‬

‫خفٍ بِاللّ ْيلِ } أي‪ :‬مستقر بمكان خفي فيه‪ { ،‬وَسَا ِربٌ‬
‫جهَرَ ِب ِه َومَنْ ُهوَ مُسْتَ ْ‬
‫ل َومَنْ َ‬
‫{ مَنْ َأسَرّ ا ْل َقوْ َ‬
‫بِال ّنهَارِ } أي‪ :‬داخل سربه في النهار والسرب هو ما يختفي فيه النسان إما جوف بيته أو غار أو‬
‫مغارة أو نحو ذلك‪.‬‬

‫{ ‪ { } 11‬لَه} أي‪ :‬للنسان { ُم َعقّبَاتٌ } من الملئكة يتعاقبون في الليل والنهار‪.‬‬


‫حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ } أي‪ :‬يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده‬
‫{ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ‬
‫بسوء‪ ،‬ويحفظون عليه أعماله‪ ،‬وهم ملزمون له دائما‪ ،‬فكما أن علم ال محيط به‪ ،‬فال قد أرسل‬
‫هؤلء الحفظة على العباد‪ ،‬بحيث ل تخفى أحوالهم ول أعمالهم‪ ،‬ول ينسى منها شيء‪ { ،‬إِنّ اللّهَ لَا‬
‫سهِمْ } بأن ينتقلوا من‬
‫ُيغَيّرُ مَا ِبقَوْمٍ } من النعمة والحسان ورغد العيش { حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫اليمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية‪ ،‬أو من شكر نعم ال إلى البطر بها فيسلبهم ال عند‬
‫ذلك إياها‪.‬‬

‫وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية‪ ،‬فانتقلوا إلى طاعة ال‪ ،‬غير ال عليهم ما كانوا فيه‬
‫من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة‪ { ،‬وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ ِبقَوْمٍ سُوءًا } أي‪ :‬عذابا وشدة‬
‫وأمرا يكرهونه‪ ،‬فإن إرادته ل بد أن تنفذ فيهم‪.‬‬

‫فبإنه { لَا مَرَدّ لَهُ } ول أحد يمنعهم منه‪َ { ،‬ومَا َلهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } يتولى أمورهم فيجلب لهم‬
‫المحبوب‪ ،‬ويدفع عنهم المكروه‪ ،‬فليحذروا من القامة على ما يكره ال خشية أن يحل بهم من‬
‫العقاب ما ل يرد عن القوم المجرمين‪.‬‬

‫شئُ السّحَابَ ال ّثقَالَ * وَيُسَبّحُ الرّعْدُ‬


‫ط َمعًا وَيُنْ ِ‬
‫خ ْوفًا وَ َ‬
‫{ ‪ُ { } 13 - 12‬هوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَ ْرقَ َ‬
‫صوَاعِقَ فَ ُيصِيبُ ِبهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ ُيجَادِلُونَ فِي اللّ ِه وَ ُهوَ‬
‫سلُ ال ّ‬
‫حمْ ِدهِ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ مِنْ خِيفَتِ ِه وَيُرْ ِ‬
‫بِ َ‬
‫شَدِيدُ ا ْل ِمحَالِ }‬

‫ط َمعًا } أي‪ :‬يخاف منه الصواعق والهدم وأنواع‬


‫خ ْوفًا وَ َ‬
‫يقول تعالى‪ُ { :‬هوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَ ْرقَ َ‬
‫الضرر‪ ،‬على بعض الثمار ونحوها ويطمع في خيره ونفعه‪،‬‬

‫شئُ السّحَابَ ال ّثقَالَ } بالمطر الغزير الذي به نفع العباد والبلد‪.‬‬


‫{ وَيُنْ ِ‬

‫حمْ ِدهِ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد‪ ،‬فهو خاضع لربه‬
‫{ وَيُسَبّحُ الرّعْدُ ِب َ‬
‫سلُ‬
‫مسبح بحمده‪ { ،‬و } تسبح { ا ْلمَلَا ِئكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي‪ :‬خشعا لربهم خائفين من سطوته‪ { ،‬وَيُرْ ِ‬
‫صوَاعِقَ } وهي هذه النار التي تخرج من السحاب‪ { ،‬فَ ُيصِيبُ ِبهَا مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب‬
‫ال ّ‬
‫ما شاءه وأراده وَ ُهوَ شَدِيدُ ا ْلمِحَالِ أي‪ :‬شديد الحول والقوة فل يريد شيئا إل فعله‪ ،‬ول يتعاصى‬
‫عليه شيء ول يفوته هارب‪.‬‬

‫فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد المطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم‪ ،‬وهو الذي يدبر‬
‫المور‪ ،‬وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها‪ ،‬وتزعج العباد وهو شديد القوة ‪ -‬فهو‬
‫الذي يستحق أن يعبد وحده ل شريك له‪.‬‬
‫ولهذا قال‪:‬‬

‫سطِ َكفّيْهِ إِلَى ا ْلمَاءِ‬


‫شيْءٍ إِلّا كَبَا ِ‬
‫ق وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْ َتجِيبُونَ َلهُمْ بِ َ‬
‫ع َوةُ ا ْلحَ ّ‬
‫{ ‪َ { } 14‬لهُ دَ ْ‬
‫لِيَبْلُغَ فَا ُه َومَا ُهوَ بِبَاِلغِ ِه َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ }‬

‫ع َوةُ ا ْلحَقّ } وهي‪ :‬عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وإخلص دعاء العبادة ودعاء‬
‫أي‪ :‬ل وحده { دَ ْ‬
‫المسألة له تعالى‪ ،‬أي‪ :‬هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء‪ ،‬والخوف‪ ،‬والرجاء‪ ،‬والحب‪،‬‬
‫والرغبة‪ ،‬والرهبة‪ ،‬والنابة؛ لن ألوهيته هي الحق‪ ،‬وألوهية غيره باطلة { وَالّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ‬
‫دُونِهِ } من الوثان والنداد التي جعلوها شركاء ل‪.‬‬

‫{ لَا يَسْتَجِيبُونَ َل ُهمْ } أي‪ :‬لمن يدعوها ويعبدها بشيء قليل ول كثير ل من أمور الدنيا ول من‬
‫أمور الخرة { ِإلّا كَبَاسِطِ كَفّيْهِ ِإلَى ا ْلمَاءِ } الذي ل تناله كفاه لبعده‪ { ،‬لِيَ ْبلُغَ } ببسط كفيه إلى الماء‬
‫{ فَاهُ } فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده‪ ،‬ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه‪ ،‬فل‬
‫يصل إليه‪.‬‬

‫كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة ل يستجيبون لهم بشيء ول ينفعونهم في أشد الوقات إليهم‬
‫حاجة لنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء‪ ،‬ل يملكون مثقال ذرة في الرض ول في السماء‪،‬‬
‫وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‪.‬‬

‫{ َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ } لبطلن ما يدعون من دون ال‪ ،‬فبطلت عباداتهم ودعاؤهم؛‬
‫لن الوسيلة تبطل ببطلن غايتها‪ ،‬ولما كان ال تعالى هو الملك الحق المبين‪ ،‬كانت عبادته حقّا‬
‫متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫وتشبيه دعاء الكافرين لغير ال بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن المثلة؛ فإن ذلك‬
‫تشبيه بأمر محال‪ ،‬فكما أن هذا محال‪ ،‬فالمشبه به محال‪ ،‬والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون‬
‫في نفي الشيء كما قال تعالى‪ { :‬إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ل تفتح لهم أبواب السماء‬
‫ول يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط }‬

‫طوْعًا َوكَرْهًا وَظِلَاُلهُمْ بِا ْلغُ ُد ّو وَالْآصَالِ }‬


‫ت وَالْأَ ْرضِ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سجُدُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 15‬وَلِلّهِ يَ ْ‬

‫طوْعًا َوكَرْهًا }‬
‫أي‪ :‬جميع ما احتوت عليه السماوات والرض كلها خاضعة لربها‪ ،‬تسجد له { َ‬
‫فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع اختيارا كالمؤمنين‪ ،‬والكره لمن يستكبر عن عبادة ربه‪،‬‬
‫وحاله وفطرته تكذبه في ذلك‪َ { ،‬وظِلَاُلهُمْ بِا ْلغُ ُد ّو وَالْآصَالِ } أي‪ :‬ويسجد له ظلل المخلوقات أول‬
‫النهار وآخره وسجود كل شيء بحسب حاله كما قال تعالى‪ { :‬وإن من شيء إل يسبح بحمده‬
‫ولكن ل تفقهون تسبيحهم }‬

‫فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها كان هو الله حقا المعبود المحمود حقا‬
‫وإلهية غيره باطلة‪ ،‬ولهذا ذكر بطلنها وبرهن عليه بقوله‪:‬‬

‫سهِمْ‬
‫خذْتُمْ مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ لَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ُقلِ اللّهُ ُقلْ َأفَاتّ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ُ { } 16‬قلْ مَنْ َربّ ال ّ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ شُ َركَاءَ‬
‫عمَى وَالْ َبصِيرُ أَمْ َهلْ َتسْ َتوِي الظُّلمَاتُ وَالنّورُ َأمْ َ‬
‫َن ْفعًا وَلَا ضَرّا ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الْأَ ْ‬
‫شيْءٍ وَ ُهوَ ا ْلوَاحِدُ ا ْلقَهّارُ }‬
‫خََلقُوا كَخَ ْلقِهِ فَتَشَا َبهَ ا ْلخَلْقُ عَلَ ْي ِهمْ ُقلِ اللّهُ خَالِقُ ُكلّ َ‬

‫أي‪ :‬قل لهؤلء المشركين به أوثانا وأندادا يحبونها كما يحبون ال‪ ،‬ويبذلون لها أنواع التقربات‬
‫والعبادات‪ :‬أفتاهت عقولكم حتى اتخذتم من دونه أولياء تتولونهم بالعبادة وليسوا بأهل لذلك؟‬

‫سهِمْ َنفْعًا وَلَا ضَرّا } وتتركون ولية من هو كامل السماء والصفات‪ ،‬المالك‬
‫فإنهم { لَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫للحياء والموات‪ ،‬الذي بيده الخلق والتدبير والنفع والضر؟‬

‫فما تستوي عبادة ال وحده‪ ،‬وعبادة المشركين به‪ ،‬كما ل يستوي العمى والبصير‪ ،‬وكما ل‬
‫تستوي الظلمات والنور‪.‬‬

‫فإن كان عندهم شك واشتباه‪ ،‬وجعلوا له شركاء زعموا أنهم خلقوا كخلقه وفعلوا كفعله‪ ،‬فأزلْ‬
‫عنهم هذا الشتباه واللبس بالبرهان الدال على توحد الله بالوحدانية‪ ،‬فقل لهم‪ { :‬اللّهُ خَالِقُ ُكلّ‬
‫شيْءٍ } فإنه من المحال أن يخلق شيء من الشياء نفسه‪.‬‬
‫َ‬

‫ومن المحال أيضا أن يوجد من دون خالق‪ ،‬فتعين أن لها إلها خالقا ل شريك له في خلقه لنه‬
‫الواحد القهار‪ ،‬فإنه ل توجد الوحدة والقهر إل ل وحده‪ ،‬فالمخلوقات وكل مخلوق فوقه مخلوق‬
‫يقهره ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه‪ ،‬حتى ينتهي القهر للواحد القهار‪ ،‬فالقهر والتوحيد‬
‫متلزمان متعينان ل وحده‪ ،‬فتبين بالدليل العقلي القاهر‪ ،‬أن ما يدعى من دون ال ليس له شيء‬
‫من خلق المخلوقات وبذلك كانت عبادته باطلة‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدًا رَابِيًا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ‬
‫{ ‪ { } 17‬أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫جفَاءً‬
‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫فِي النّارِ ابْ ِتغَاءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثُْلهُ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫وََأمّا مَا يَ ْنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الْأَ ْرضِ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ }‬
‫شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والرواح‪ ،‬بالماء الذي أنزله لحياة‬
‫الشباح‪ ،‬وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد‪ ،‬بما في المطر من النفع‬
‫العام الضروري‪ ،‬وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالودية التي تسيل فيها السيول‪ ،‬فواد كبير‬
‫يسع ماء كثيرا‪ ،‬كقلب كبير يسع علما كثيرا‪ ،‬وواد صغير يأخذ ماء قليل‪ ،‬كقلب صغير‪ ،‬يسع علما‬
‫قليل‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها‪ ،‬بالزبد الذي يعلو الماء‬
‫ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها‪ ،‬وأنها ل تزال فوق الماء طافية‬
‫مكدرة له حتى تذهب وتضمحل‪ ،‬ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة‪.‬‬

‫كذلك الشبهات والشهوات ل يزال القلب يكرهها‪ ،‬ويجاهدها بالبراهين الصادقة‪ ،‬والرادات‬
‫الجازمة‪ ،‬حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إل ما ينفع الناس من العلم‬
‫طلَ كَانَ زَهُوقًا } وقال هنا‪:‬‬
‫بالحق وإيثاره‪ ،‬والرغبة فيه‪ ،‬فالباطل يذهب ويمحقه الحق { إِنّ الْبَا ِ‬
‫{ َكذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلل‪.‬‬

‫جمِيعًا‬
‫{ ‪ِ { } 18‬للّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَ ّبهِمُ الْحُسْنَى وَالّذِينَ لَمْ َيسْتَجِيبُوا لَهُ َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ }‬
‫حسَابِ َومَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫َومِثْلَهُ َمعَهُ لَافْتَ َدوْا ِبهِ أُولَ ِئكَ َلهُمْ سُوءُ الْ ِ‬

‫لما بيّن تعالى الحق من الباطل ذكر أن الناس على قسمين‪ :‬مستجيب لربه‪ ،‬فذكر ثوابه‪ ،‬وغير‬
‫مستجيب فذكر عقابه فقال‪ِ { :‬للّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَ ّبهِمُ } أي‪ :‬انقادت قلوبهم للعلم واليمان وجوارحهم‬
‫للمر والنهي‪ ،‬وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم‪ ،‬فلهم { الْحُسْنَى } أي‪ :‬الحالة الحسنة‬
‫والثواب الحسن‪.‬‬

‫فلهم من الصفات أجلها ومن المناقب أفضلها ومن الثواب العاجل والجل ما ل عين رأت ول أذن‬
‫سمعت ول خطر على قلب بشر‪ { ،‬وَالّذِينَ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا لَهُ } بعد ما ضرب لهم المثال وبين لهم‬
‫جمِيعًا } من ذهب وفضة وغيرها‪،‬‬
‫الحق‪ ،‬لهم الحالة غير الحسنة‪ ،‬فب { َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫{ َومِثْلَهُ َمعَهُ لَافْتَ َدوْا بِهِ } من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم وأنى لهم ذلك؟"‬

‫{ أُولَ ِئكَ َل ُهمْ سُوءُ ا ْلحِسَابِ } وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه من عمل سيئ وما‬
‫ضيعوه من حقوق ال وحقوق عباده قد كتب ذلك وسطر عليهم وقالوا‪ { :‬يا ويلتنا ما لهذا الكتاب‬
‫ل يغادر صغيرة ول كبيرة إل أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ول يظلم ربك أحدا } { و } بعد‬
‫جهَنّمُ } الجامعة لكل عذاب‪ ،‬من الجوع الشديد‪ ،‬والعطش الوجيع‪،‬‬
‫هذا الحساب السيئ { َومَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫والنار الحامية والزقوم والزمهرير‪ ،‬والضريع وجميع ما ذكره ال من أصناف العذاب { وَبِئْسَ‬
‫ا ْل ِمهَادُ } أي‪ :‬المقر والمسكن مسكنهم‪.‬‬

‫عمَى إِ ّنمَا يَتَ َذكّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ‬


‫حقّ َكمَنْ ُهوَ أَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 24 - 19‬أ َفمَنْ َيعْلَمُ أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ الْ َ‬
‫صلَ‬
‫* الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَلَا يَ ْن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ * وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُو َ‬
‫ن صَبَرُوا ابْ ِتغَا َء َوجْهِ رَ ّبهِ ْم وََأقَامُوا الصّلَا َة وَأَ ْنفَقُوا‬
‫شوْنَ رَ ّبهُ ْم وَ َيخَافُونَ سُوءَ ا ْلحِسَابِ * وَالّذِي َ‬
‫وَيَخْ َ‬
‫عقْبَى الدّارِ * جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا‬
‫ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَانِيَ ًة وَيَدْ َرءُونَ بِا ْلحَسَ َنةِ السّيّ َئةَ أُولَ ِئكَ َلهُمْ ُ‬
‫جهِمْ وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ ُكلّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمْ ِبمَا‬
‫َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِ ْم وَأَ ْزوَا ِ‬
‫عقْبَى الدّارِ }‬
‫صَبَرْتُمْ فَ ِنعْمَ ُ‬

‫يقول تعالى‪ :‬مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم‪َ { :‬أ َفمَنْ َيعَْلمُ أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ا ْلحَقّ‬
‫عمَى } ل يعلم الحق ول يعمل به فبينهما من الفرق كما بين‬
‫} ففهم ذلك وعمل به‪َ { .‬كمَنْ ُهوَ أَ ْ‬
‫السماء والرض‪ ،‬فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حال وخير مآل فيؤثر طريقها‬
‫ويسلك خلف فريقها‪ ،‬ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬أولو العقول الرزينة‪ ،‬والراء الكاملة‪ ،‬الذين هم ُلبّ العالم‪،‬‬
‫وصفوة بني آدم‪ ،‬فإن سألت عن وصفهم‪ ،‬فل تجد أحسن من وصف ال لهم بقوله‪:‬‬

‫{ الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ } الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة‪،‬‬
‫فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها‪ ،‬والنصح فيها { و } من تمام الوفاء بها أنهم { لَا يَ ْنقُضُونَ‬
‫ا ْلمِيثَاقَ } أي‪ :‬العهد الذي عاهدوا عليه ال‪ ،‬فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود واليمان‬
‫والنذور‪ ،‬التي يعقدها العباد‪ .‬فل يكون العبد من أولي اللباب الذين لهم الثواب العظيم‪ ،‬إل بأدائها‬
‫كاملة‪ ،‬وعدم نقضها وبخسها‪.‬‬

‫صلَ } وهذا عام في كل ما أمر ال بوصله‪ ،‬من اليمان به‬


‫{ وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ ِبهِ أَنْ يُو َ‬
‫وبرسوله‪ ،‬ومحبته ومحبة رسوله‪ ،‬والنقياد لعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬ولطاعة رسوله‪.‬‬

‫ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم‪ ،‬ويصلون القارب والرحام‪،‬‬
‫بالحسان إليهم قول وفعل‪ ،‬ويصلون ما بينهم وبين الزواج والصحاب والمماليك‪ ،‬بأداء حقهم‬
‫كامل موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫والسبب الذي يجعل العبد واصل ما أمر ال به أن يوصل‪ ،‬خشية ال وخوف يوم الحساب‪ ،‬ولهذا‬
‫شوْنَ رَ ّبهُمْ } أي‪ :‬يخافونه‪،‬‬
‫قال‪ { :‬وَيَخْ َ‬
‫فيمنعهم خوفهم منه‪ ،‬ومن القدوم عليه يوم الحساب‪ ،‬أن يتجرؤوا على معاصي ال‪ ،‬أو يقصروا‬
‫في شيء مما أمر ال به خوفا من العقاب ورجاء للثواب‪.‬‬

‫ن صَبَرُوا } علىالمأمورات بالمتثال‪ ،‬وعن المنهيات بالنكفاف عنها والبعد منها‪ ،‬وعلى‬
‫{ وَالّذِي َ‬
‫أقدار ال المؤلمة بعدم تسخطها‪.‬‬

‫ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْ ِتغَا َء وَجْهِ رَ ّب ِهمْ } ل لغير ذلك من المقاصد والغراض‬
‫الفاسدة فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه‪ ،‬طلبا لمرضاة ربه‪ ،‬ورجاء للقرب‬
‫منه‪ ،‬والحظوة بثوابه‪ ،‬وهو الصبر الذي من خصائص أهل اليمان‪ ،‬وأما الصبر المشترك الذي‬
‫غايته التجلد ومنتهاه الفخر‪ ،‬فهذا يصدر من البر والفاجر‪ ،‬والمؤمن والكافر‪ ،‬فليس هو الممدوح‬
‫على الحقيقة‪.‬‬

‫{ وََأقَامُوا الصّلَاةَ } بأركانها وشروطها ومكملتها ظاهرا وباطنا‪ { ،‬وَأَ ْن َفقُوا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا‬
‫وَعَلَانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون‬
‫حسَنَةِ السّيّئَةَ } أي‪ :‬من أساء إليهم‬
‫حيث دعت الحاجة إلى النفقة‪ ،‬سرا وعلنية‪ { ،‬وَيَدْ َرءُونَ بِالْ َ‬
‫بقول أو فعل‪ ،‬لم يقابلوه بفعله‪ ،‬بل قابلوه بالحسان إليه‪.‬‬

‫فيعطون من حرمهم‪ ،‬ويعفون عمن ظلمهم‪ ،‬ويصلون من قطعهم‪ ،‬ويحسنون إلى من أساء إليهم‪،‬‬
‫وإذا كانوا يقابلون المسيء بالحسان‪ ،‬فما ظنك بغير المسيء؟!‬

‫عقْبَى الدّارِ } فسرها بقوله‪:‬‬


‫{ أُولَ ِئكَ } الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة { َلهُمْ ُ‬
‫{ جَنّاتِ عَدْنٍ } أي‪ :‬إقامة ل يزولون عنها‪ ،‬ول يبغون عنها حول؛ لنهم ل يرون فوقها غاية لما‬
‫اشتملت عليه من النعيم والسرور‪ ،‬الذي تنتهي إليه المطالب والغايات‪.‬‬

‫ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم { يَ ْدخُلُو َنهَا َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِمْ } من الذكور والناث‬
‫ج ِهمْ } أي الزوج أو الزوجة وكذلك النظراء والشباه‪ ،‬والصحاب والحباب‪ ،‬فإنهم من‬
‫{ وَأَ ْزوَا ِ‬
‫أزواجهم وذرياتهم‪ { ،‬وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْي ِهمْ مِنْ ُكلّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلمة وكرامة ال لهم‬
‫ويقولون‪ { :‬سَلَامٌ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬حلت عليكم السلمة والتحية من ال وحصلت لكم‪ ،‬وذلك متضمن‬
‫لزوال كل مكروه‪ ،‬ومستلزم لحصول كل محبوب‪.‬‬

‫{ ِبمَا صَبَرْ ُتمْ } أي‪ :‬صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية‪ ،‬والجنان الغالية‪ { ،‬فَ ِنعْمَ‬
‫عقْبَى الدّارِ }‬
‫ُ‬
‫فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة‪ ،‬أن يجاهدها‪ ،‬لعلها تأخذ من أوصاف أولي اللباب‬
‫بنصيب‪ ،‬لعلها تحظى بهذه الدار‪ ،‬التي هي منية النفوس‪ ،‬وسرور الرواح الجامعة لجميع اللذات‬
‫والفراح‪ ،‬فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون‪.‬‬

‫ل وَ ُيفْسِدُونَ‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَ َ‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَا ِق ِه وَيَقْ َ‬
‫{ ‪ { } 25‬وَالّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ أُولَ ِئكَ َل ُهمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ }‬

‫لما ذكر حال أهل الجنة ذكر أن أهل النار بعكس ما وصفهم به‪ ،‬فقال عنهم‪ { :‬والّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ } أي‪ :‬من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله‪ ،‬وغلظ عليهم‪ ،‬فلم يقابلوه‬
‫َ‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } فلم‬
‫بالنقياد والتسليم‪ ،‬بل قابلوه بالعراض والنقص‪ { ،‬وَ َيقْ َ‬
‫يصلوا ما بينهم وبين ربهم باليمان والعمل الصالح‪ ،‬ول وصلوا الرحام ول أدوا الحقوق‪ ،‬بل‬
‫أفسدوا في الرض بالكفر والمعاصي‪ ،‬والصد عن سبيل ال وابتغائها عوجا‪ { ،‬أُولَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْ َنةُ }‬
‫أي‪ :‬البعد والذم من ال وملئكته وعباده المؤمنين‪ { ،‬وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } وهي‪ :‬الجحيم بما فيها من‬
‫العذاب الليم‪.‬‬

‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ َوفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِ َرةِ إِلّا‬
‫{ ‪ { } 26‬اللّهُ يَبْ ُ‬
‫مَتَاعٌ }‬

‫أي‪ :‬هو وحده يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء ويقدره ويضيقه على من يشاء‪َ { ،‬وفَرِحُوا }‬
‫أي‪ :‬الكفار { بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا } فرحا أوجب لهم أن يطمئنوا بها‪ ،‬ويغفلوا عن الخرة وذلك لنقصان‬
‫عقولهم‪َ { ،‬ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِ َرةِ إِلّا مَتَاعٌ } أي‪ :‬شيء حقير يتمتع به قليل ويفارق أهله‬
‫وأصحابه ويعقبهم ويل طويل‪.‬‬

‫ضلّ مَنْ يَشَاءُ‬


‫علَيْهِ آ َيةٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫{ ‪ { } 29 - 27‬وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ َ‬
‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ * الّذِينَ‬
‫طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ بِ ِذكْرِ اللّهِ أَلَا بِ ِذكْرِ اللّهِ َت ْ‬
‫وَ َيهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الّذِينَ آمَنُوا وَتَ ْ‬
‫حسْنُ مَآبٍ }‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ طُوبَى َلهُ ْم وَ ُ‬
‫آمَنُوا وَ َ‬

‫يخبر تعالى أن الذين كفروا بآيات ال يتعنتون على رسول ال‪ ،‬ويقترحون ويقولون‪َ { :‬لوْلَا أُنْ ِزلَ‬
‫ضلّ مَنْ يَشَاءُ‬
‫عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ } وبزعمهم أنها لو جاءت لمنوا فأجابهم ال بقوله‪ُ { :‬قلْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫وَ َيهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي‪ :‬طلب رضوانه‪ ،‬فليست الهداية والضلل بأيديهم حتى يجعلوا ذلك‬
‫متوقفا على اليات‪ ،‬ومع ذلك فهم كاذبون‪ { ،‬ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا‬
‫عليهم كل شيء قبل ما كانوا ليؤمنوا إل أن يشاء ال ولكن أكثرهم يجهلون }‬
‫ول يلزم أن يأتي الرسول بالية التي يعينونها ويقترحونها‪ ،‬بل إذا جاءهم بآية تبين ما جاء به من‬
‫الحق‪ ،‬كفى ذلك وحصل المقصود‪ ،‬وكان أنفع لهم من طلبهم اليات التي يعينونها‪ ،‬فإنها لو‬
‫جاءتهم طبق ما اقترحوا فلم يؤمنوا بها لعاجلهم العذاب‪.‬‬

‫طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ بِ ِذكْرِ اللّهِ } أي‪ :‬يزول قلقها‬


‫ثم ذكر تعالى علمة المؤمنين فقال‪ { :‬الّذِينَ آمَنُوا وَتَ ْ‬
‫واضطرابها‪ ،‬وتحضرها أفراحها ولذاتها‪.‬‬

‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ } أي‪ :‬حقيق بها وحريّ أن ل تطمئن لشيء سوى ذكره‪ ،‬فإنه ل‬
‫{ َألَا بِ ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ‬
‫شيء ألذ للقلوب ول أشهى ول أحلى من محبة خالقها‪ ،‬والنس به ومعرفته‪ ،‬وعلى قدر معرفتها‬
‫بال ومحبتها له‪ ،‬يكون ذكرها له‪ ،‬هذا على القول بأن ذكر ال‪ ،‬ذكر العبد لربه‪ ،‬من تسبيح وتهليل‬
‫وتكبير وغير ذلك‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن المراد بذكر ال كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين‪ ،‬فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر‬
‫ال‪ :‬أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها‪ ،‬فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالدلة‬
‫والبراهين‪ ،‬وبذلك تطمئن القلوب‪ ،‬فإنها ل تطمئن القلوب إل باليقين والعلم‪ ،‬وذلك في كتاب ال‪،‬‬
‫مضمون على أتم الوجوه وأكملها‪ ،‬وأما ما سواه من الكتب التي ل ترجع إليه فل تطمئن بها‪ ،‬بل‬
‫ل تزال قلقة من تعارض الدلة وتضاد الحكام‪.‬‬

‫{ ولو كان من عند غير ال لوجدوا فيه اختلفا كثيرا } وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب ال‬
‫وتدبره‪ ،‬وتدبر غيره من أنواع العلوم‪ ،‬فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬آمنوا بقلوبهم بال وملئكته‪ ،‬وكتبه ورسله‬


‫ثم قال تعالى‪ { :‬الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫واليوم الخر‪ ،‬وصدقوا هذا اليمان بالعمال الصالحة‪ ،‬أعمال القلوب كمحبة ال وخشيته ورجائه‪،‬‬
‫وأعمال الجوارح كالصلة ونحوها‪،‬‬

‫{ طُوبَى َل ُه ْم وَحُسْنُ مَآبٍ } أي‪ :‬لهم حالة طيبة ومرجع حسن‪.‬‬

‫وذلك بما ينالون من رضوان ال وكرامته في الدنيا والخرة‪ ،‬وأن لهم كمال الراحة وتمام‬
‫الطمأنينة‪ ،‬ومن جملة ذلك شجرة طوبى التي في الجنة‪ ،‬التي يسير الراكب في ظلها مائة عام ما‬
‫يقطعها‪ ،‬كما وردت بها الحاديث الصحيحة‪.‬‬

‫ك وَ ُهمْ َي ْكفُرُونَ‬
‫{ ‪َ { } 30‬كذَِلكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي ُأمّةٍ َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهَا ُأ َممٌ لِتَتُْلوَ عَلَ ْيهِمُ الّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْي َ‬
‫حمَنِ ُقلْ ُهوَ رَبّي لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }‬
‫بِالرّ ْ‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬كَذَِلكَ أَ ْرسَلْنَاكَ } إلى قومك تدعوهم إلى الهدى‬
‫{ َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهَا ُأ َممٌ } أرسلنا فيهم رسلنا‪ ،‬فلست ببدع من الرسل حتى يستنكروا رسالتك‪،‬‬
‫ولست تقول من تلقاء نفسك‪ ،‬بل تتلو عليهم آيات ال التي أوحاها ال إليك ‪ ،‬التي تطهر القلوب‬
‫وتزكي النفوس‪.‬‬

‫والحال أن قومك يكفرون بالرحمن‪ ،‬فلم يقابلوا رحمته وإحسانه ‪-‬التي أعظمها أن أرسلناك إليهم‬
‫رسول وأنزلنا عليك كتابا‪ -‬بالقبول والشكر بل قابلوها بالنكار والرد‪ ،‬أفل يعتبرون بمن خل من‬
‫قبلهم من القرون المكذبة كيف أخذهم ال بذنوبهم‪ُ { ،‬قلْ ُهوَ رَبّي لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ } وهذا متضمن‬
‫للتوحيدين توحيد اللوهية وتوحيد الربوبية‪.‬‬

‫فهو ربي الذي رباني بنعمه منذ أوجدني‪ ،‬وهو إلهي الذي { عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ } في جميع أموري‬
‫{ وَإِلَ ْيهِ متاب } أي‪ :‬أرجع في جميع عباداتي وفي حاجاتي‪.‬‬

‫ط َعتْ بِهِ الْأَ ْرضُ َأوْ كُلّمَ بِهِ ا ْل َموْتَى َبلْ لِلّهِ الَْأمْرُ‬
‫{ ‪ { } 31‬وََلوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّ َرتْ بِهِ الْجِبَالُ َأوْ قُ ّ‬
‫جمِيعًا وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا ُتصِي ُبهُمْ ِبمَا‬
‫جمِيعًا َأفََلمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا أَنْ َلوْ يَشَاءُ اللّهُ َلهَدَى النّاسَ َ‬
‫َ‬
‫حلّ قَرِيبًا مِنْ دَا ِرهِمْ حَتّى يَأْ ِتيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لَا يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ }‬
‫صَ َنعُوا قَارِعَةٌ َأوْ تَ ُ‬

‫يقول تعالى مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة‪ { :‬وََلوْ أَنّ قُرْآنًا } من الكتب‬
‫ط َعتْ بِهِ الْأَ ْرضُ } جنانا وأنهارا { َأوْ كُلّمَ ِبهِ‬
‫اللهية { سُيّ َرتْ بِهِ ا ْلجِبَالُ } عن أماكنها { َأوْ قُ ّ‬
‫جمِيعًا } فيأتي باليات التي تقتضيها حكمته‪ ،‬فما بال‬
‫ا ْل َموْتَى } لكان هذا القرآن‪َ { .‬بلْ لِلّهِ الَْأمْرُ َ‬
‫المكذبين يقترحون من اليات ما يقترحون؟ فهل لهم أو لغيرهم من المر شيء؟‪.‬‬

‫جمِيعًا } فليعلموا أنه قادر على هدايتهم جميعا‬


‫{ َأفََلمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا أَنْ َلوْ َيشَاءُ اللّهُ َلهَدَى النّاسَ َ‬
‫ولكنه ل يشاء ذلك‪ ،‬بل يهدي من يشاء‪ ،‬ويضل من يشاء { وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا } على كفرهم‪،‬‬
‫ل يعتبرون ول يتعظون‪ ،‬وال تعالى يوالي عليهم القوارع التي تصيبهم في ديارهم أو تحل قريبا‬
‫ي وَعْدُ اللّهِ } الذي وعدهم به‪ ،‬لنزول العذاب المتصل‬
‫منها‪ ،‬وهم مصرون على كفرهم { حَتّى يَأْ ِت َ‬
‫الذي ل يمكن رفعه‪ { ،‬إِنّ اللّهَ لَا يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ } وهذا تهديد لهم وتخويف من نزول ما وعدهم ال‬
‫به على كفرهم وعنادهم وظلمهم‪.‬‬

‫عقَابِ }‬
‫خذْ ُت ُهمْ َف َكيْفَ كَانَ ِ‬
‫ن كَ َفرُوا ُث ّم َأ َ‬
‫ن قَبِْلكَ َفَأمَْليْتُ لِّلذِي َ‬
‫س ُتهْ ِزئَ ِب ُرسُلٍ مِ ْ‬
‫{ ‪ { } 32‬وََل َقدِ ا ْ‬

‫ن قَبِْلكَ } فلست أول رسول‬


‫س ُتهْ ِزئَ ِب ُرسُلٍ مِ ْ‬
‫يقول تعالى لرسوله ‪-‬مثبتا له ومسليا‪ { -‬وََل َقدِ ا ْ‬
‫ن كَ َفرُوا } برسلهم أي‪ :‬أمهلتهم مدة حتى ظنوا أنهم غير معذبين‪.‬‬
‫كذب وأوذي { َفَأمَْليْتُ لِّلذِي َ‬
‫ب } كان عقابا شديدا وعذابا أليما‪ ،‬فل يغتر‬
‫خ ْذ ُت ُهمْ } بأنواع العذاب { َف َك ْيفَ كَانَ عِقَا ِ‬
‫{ ُثمّ َأ َ‬
‫هؤلء الذين كذبوك واستهزؤوا بك بإمهالنا‪ ،‬فلهم أسوة فيمن قبلهم من المم‪ ،‬فليحذروا أن يفعل‬
‫بهم كما فعل بأولئك‪.‬‬

‫سمّو ُه ْم َأمْ‬
‫ش َركَاءَ قُلْ َ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ ُ‬
‫سبَتْ َو َ‬
‫س ِبمَا َك َ‬
‫ن هُ َو قَا ِئمٌ عَلَى كُلّ نَفْ ٍ‬
‫{ ‪َ { } 34 - 33‬أ َفمَ ْ‬
‫صدّوا عَنِ‬
‫ن لِّلذِينَ كَ َفرُوا َم ْكرُهُمْ َو ُ‬
‫ل بَلْ ُزيّ َ‬
‫ُت َن ّبئُونَهُ ِبمَا لَا َيعَْلمُ فِي ا ْلَأرْضِ َأمْ ِبظَاهِ ٍر مِنَ ا ْلقَوْ ِ‬
‫شقّ َومَا‬
‫خرَةِ َأ َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا وََل َعذَابُ الْآ ِ‬
‫ب فِي ا ْل َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫ن هَادٍ * َل ُهمْ َ‬
‫ن ُيضْلِلِ اللّهُ َفمَا لَ ُه مِ ْ‬
‫سبِيلِ َومَ ْ‬
‫ال ّ‬
‫ن اللّ ِه مِنْ وَاقٍ }‬
‫َل ُهمْ مِ َ‬

‫سبَتْ } بالجزاء العاجل والجل‪ ،‬بالعدل‬


‫س ِبمَا َك َ‬
‫ن هُ َو قَا ِئمٌ عَلَى كُلّ نَفْ ٍ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬أ َفمَ ْ‬
‫والقسط‪ ،‬وهو ال تبارك وتعالى كمن ليس كذلك؟‬

‫جعَلُوا لِلّ ِه شُ َركَاءَ } وهو ال الحد الفرد الصمد‪ ،‬الذي ل شريك له ول ند ول‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬و َ‬
‫سمّو ُه ْم } لتعلم حالهم { َأ ْم ُت َنبّئُو َنهُ ِبمَا لَا َيعَْلمُ فِي‬
‫نظير‪ { ،‬قُلْ } لهم إن كانوا صادقين‪َ { :‬‬
‫ا ْلَأرْضِ } فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة وهو ل يعلم له شريكا‪ ،‬علم بذلك بطلن دعوى‬
‫الشريك له‪ ،‬وأنكم بمنزلة الذي ُيعَّلمُ ال أن له شريكا وهو ل يعلمه‪ ،‬وهذا أبطل ما يكون؛ ولهذا‬
‫ن الْ َقوْلِ } أي‪ :‬غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى أنه بظاهر‬
‫قال‪َ { :‬أ ْم بِظَا ِهرٍ مِ َ‬
‫أقوالكم‪.‬‬

‫وأما في الحقيقة‪ ،‬فل إله إل ال‪ ،‬وليس أحد من الخلق يستحق شيئا من العبادة‪ ،‬ولكن { ُزيّنَ‬
‫صدّوا عَنِ‬
‫لِّلذِينَ كَ َفرُوا َم ْكرُهُ ْم } الذي مكروه وهو كفرهم وشركهم‪ ،‬وتكذيبهم ليات ال { َو ُ‬
‫سبِيلِ } أي‪ :‬عن الطريق المستقيمة الموصلة إلى ال وإلى دار كرامته‪َ { ،‬و َمنْ ُيضْلِلِ اللّهُ َفمَا‬
‫ال ّ‬
‫ن هَادٍ } لنه ليس لحد من المر شيء‪.‬‬
‫لَ ُه مِ ْ‬

‫خرَ ِة َأشَقّ } من عذاب الدنيا لشدته ودوامه‪َ { ،‬ومَا َل ُهمْ‬


‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا وََل َعذَابُ الْآ ِ‬
‫عذَابٌ فِي ا ْل َ‬
‫{ َل ُهمْ َ‬
‫ن اللّ ِه مِنْ وَاقٍ } يقيهم من عذاب ال‪ ،‬فعذابه إذا وجهه إليهم ل مانع منه‪.‬‬
‫مِ َ‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ ُأكُُلهَا دَا ِئمٌ َوظِّلهَا تِ ْلكَ عُ ْقبَى‬


‫ن َت ْ‬
‫ن َتجْرِي مِ ْ‬
‫عدَ ا ْل ُمتّقُو َ‬
‫جنّ ِة اّلتِي ُو ِ‬
‫{ ‪َ { } 35‬مثَلُ ا ْل َ‬
‫ع ْقبَى ا ْلكَا ِفرِينَ النّارُ }‬
‫اّلذِينَ اتّ َقوْا وَ ُ‬

‫ع َد ا ْل ُمتّقُونَ } الذين تركوا ما نهاهم ال عنه‪ ،‬ولم يقصروا فيما‬


‫جنّةِ اّلتِي وُ ِ‬
‫ل ا ْل َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬مثَ ُ‬
‫حتِهَا ا ْلَأ ْنهَارُ } أنهار العسل‪ ،‬وأنهار الخمر‪،‬‬
‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫أمرهم به‪ ،‬أي‪ :‬صفتها وحقيقتها { َت ْ‬
‫وأنهار اللبن‪ ،‬وأنهار الماء التي تجري في غير أخدود‪ ،‬فتسقى تلك البساتين والشجار فتحمل‬
‫من جميع أنواع الثمار‪.‬‬

‫ع ْقبَى اّلذِينَ اتّ َقوْا } أي‪ :‬عاقبتهم ومآلهم التي إليها‬


‫{ ُأكُُلهَا دَا ِئمٌ َوظِّلهَا } دائم أيضا‪ { ،‬تِ ْلكَ ُ‬
‫ن النّارُ } فكم بين الفريقين من الفرق المبين؟"‬
‫يصيرون‪َ { ،‬وعُ ْقبَى ا ْلكَافِرِي َ‬

‫ل ِإ ّنمَا‬
‫ب مَنْ ُي ْن ِكرُ َب ْعضَهُ قُ ْ‬
‫ن ا ْلَأحْزَا ِ‬
‫ن ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ َومِ َ‬
‫ن آ َت ْينَا ُهمُ ا ْل ِكتَابَ يَ ْف َرحُو َ‬
‫{ ‪ { } 36‬وَاّلذِي َ‬
‫ش ِركَ بِ ِه إَِليْ ِه َأدْعُو وَإَِليْ ِه مَآبِ }‬
‫ع ُبدَ اللّهَ وَلَا ُأ ْ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ُأ ِمرْتُ أَ ْ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَاّلذِينَ آ َت ْينَا ُهمُ ا ْل ِكتَابَ } أي‪ :‬مننا عليهم به وبمعرفته‪ { ،‬يَ ْف َرحُونَ ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ‬
‫} فيؤمنون به ويصدقونه‪ ،‬ويفرحون بموافقة الكتب بعضها لبعض‪ ،‬وتصديق بعضها بعضا‬
‫ن ُي ْن ِكرُ َبعْضَ ُه } أي‪ :‬ومن طوائف‬
‫حزَابِ مَ ْ‬
‫وهذه حال من آمن من أهل الكتابين‪َ { ،‬و ِمنَ ا ْلَأ ْ‬
‫الكفار المنحرفين عن الحق‪ ،‬من ينكر بعض هذا القرآن ول يصدقه‪.‬‬

‫{ فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } إنما أنت يا محمد منذر تدعوا إلى ال‪ { ،‬قُلْ‬
‫ع ُب َد اللّهَ وَلَا ُأشْ ِركَ ِبهِ } أي‪ :‬بإخلص الدين ل وحده‪ { ،‬إَِل ْيهِ َأدْعُو وَإَِليْ ِه مَآبِ }‬
‫ن أَ ْ‬
‫ِإ ّنمَا ُأ ِمرْتُ أَ ْ‬
‫أي‪ :‬مرجعي الذي أرجع به إليه فيجازيني بما قمت به من الدعوة إلى دينه والقيام بما أمرت‬
‫به‪.‬‬

‫ك مِنَ‬
‫ن ا ْلعِ ْلمِ مَا َل َ‬
‫ن ا ّت َبعْتَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َب ْع َدمَا جَا َءكَ مِ َ‬
‫ع َر ِبيّا وََلئِ ِ‬
‫ح ْكمًا َ‬
‫{ ‪َ { } 37‬و َكذَِلكَ َأ ْنزَ ْلنَاهُ ُ‬
‫اللّ ِه مِنْ وَِليّ وَلَا وَاقٍ }‬

‫أي‪ :‬ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب حكما‪ ،‬عربيا أي‪ :‬محكما متقنا‪ ،‬بأوضح اللسنة وأفصح‬
‫اللغات‪ ،‬لئل يقع فيه شك واشتباه‪ ،‬وليوجب أن يتبع وحده‪ ،‬ول يداهن فيه‪ ،‬ول يتبع ما يضاده‬
‫ويناقضه من أهواء الذين ل يعلمون‪.‬‬

‫ولهذا توعد رسوله ‪-‬مع أنه معصوم‪ -‬ليمتن عليه بعصمته ولتكون أمته أسوته في الحكام‬
‫فقال‪ { :‬وََل ِئنِ ا ّت َبعْتَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َب ْع َدمَا جَا َءكَ ِمنَ ا ْلعِ ْلمِ } البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم‪ { ،‬مَا‬
‫ي } يتولك فيحصل لك المر المحبوب‪ { ،‬وَلَا وَاقٍ } يقيك من المر‬
‫ن اللّ ِه مِنْ وَِل ّ‬
‫َلكَ مِ َ‬
‫المكروه‪.‬‬

‫ل أَنْ‬
‫جعَ ْلنَا َل ُهمْ َأزْوَاجًا َو ُذ ّريّةً َومَا كَانَ ِل َرسُو ٍ‬
‫{ ‪ { } 39 - 38‬وَلَ َقدْ َأ ْرسَ ْلنَا ُرسُلًا مِنْ َقبِْلكَ َو َ‬
‫ع ْندَ ُه ُأمّ ا ْل ِكتَابِ }‬
‫ل ِكتَابٌ * َي ْمحُوا اللّ ُه مَا َيشَاءُ َو ُي ْثبِتُ وَ ِ‬
‫ن اللّ ِه ِلكُلّ َأجَ ٍ‬
‫َي ْأتِيَ بِآيَ ٍة إِلّا ِبِإذْ ِ‬
‫أي‪ :‬لست أول رسول أرسل إلى الناس حتى يستغربوا رسالتك‪ { ،‬وَلَ َقدْ َأ ْرسَ ْلنَا ُرسُلًا مِنْ َقبِْلكَ‬
‫جعَ ْلنَا َل ُهمْ َأزْوَاجًا َو ُذ ّريّةً } فل يعيبك أعداؤك بأن يكون لك أزواج وذرية‪ ،‬كما كان لخوانك‬
‫َو َ‬
‫المرسلين‪ ،‬فلي شيء يقدحون فيك بذلك وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك؛ إل لجل‬
‫أغراضهم الفاسدة وأهوائهم؟ وإن طلبوا منك آية اقترحوها فليس لك من المر شيء‪.‬‬

‫ن ِلرَسُولٍ َأنْ َي ْأ ِتيَ بِآيَةٍ إِلّا ِبِإذْنِ اللّهِ } وال ل يأذن فيها إل في وقتها الذي قدره‬
‫{ َومَا كَا َ‬
‫ل ِكتَابٌ } ل يتقدم عليه ول يتأخر عنه‪ ،‬فليس استعجالهم باليات أو بالعذاب‬
‫وقضاه‪ِ { ،‬لكُلّ َأجَ ٍ‬
‫موجبا لن يقدم ال ما كتب أنه يؤخر مع أنه تعالى فعال لما يريد‪.‬‬

‫{ َي ْمحُوا اللّ ُه مَا َيشَاءُ } من القدار { َو ُي ْثبِتُ } ما يشاء منها‪ ،‬وهذا المحو والتغيير في غير ما‬
‫سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا ل يقع فيه تبديل ول تغيير لن ذلك محال على ال‪ ،‬أن يقع‬
‫ع ْندَهُ ُأ ّم ا ْل ِكتَابِ } أي‪ :‬اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه‬
‫في علمه نقص أو خلل ولهذا قال‪َ { :‬و ِ‬
‫سائر الشياء‪ ،‬فهو أصلها‪ ،‬وهي فروع له وشعب‪.‬‬

‫فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب‪ ،‬كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملئكة‪ ،‬ويجعل‬
‫ال لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا‪ ،‬ل تتعدى تلك السباب‪ ،‬ما رسم في اللوح المحفوظ‪ ،‬كما‬
‫جعل ال البر والصلة والحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق‪ ،‬وكما جعل المعاصي‬
‫سببا لمحق بركة الرزق والعمر‪ ،‬وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا‬
‫للسلمة‪ ،‬وجعل التعرض لذلك سببا للعطب‪ ،‬فهو الذي يدبر المور بحسب قدرته وإرادته‪ ،‬وما‬
‫يدبره منها ل يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ‪.‬‬

‫ك ا ْلبَلَاغُ َوعََل ْينَا‬


‫ك فَِإ ّنمَا عََل ْي َ‬
‫ك َبعْضَ اّلذِي َن ِعدُ ُهمْ أَ ْو َنتَ َو ّف َينّ َ‬
‫ن مَا ُن ِر َينّ َ‬
‫{ ‪ { } 41 - 40‬وَإِ ْ‬
‫ح ْكمِهِ وَ ُهوَ‬
‫ح ُكمُ لَا ُمعَقّبَ ِل ُ‬
‫ن َأطْرَا ِفهَا وَاللّهُ َي ْ‬
‫صهَا مِ ْ‬
‫حسَابُ * أَوََل ْم يَرَوْا َأنّا َن ْأتِي ا ْلَأرْضَ َننْ ُق ُ‬
‫ا ْل ِ‬
‫حسَابِ }‬
‫سَرِيعُ ا ْل ِ‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل تعجل عليهم بإصابة ما يوعدون به من‬
‫ك}‬
‫العذاب‪ ،‬فهم إن استمروا على طغيانهم وكفرهم فل بد أن يصيبهم ما وعدوا به‪ { ،‬إمَا ُن ِر َينّ َ‬
‫إياه في الدنيا فتقر بذلك عينك‪ { ،‬أو نتوفينك } قبل إصابتهم فليس ذلك شغل لك { َفإِ ّنمَا عََل ْيكَ‬
‫ا ْلبَلَاغُ } والتبيين للخلق‪.‬‬

‫حسَابُ } فنحاسب الخلق على ما قاموا به‪ ،‬مما عليهم‪ ،‬وضيعوه‪ ،‬ونثيبهم أو نعاقبهم‪.‬‬
‫{ وَعََل ْينَا ا ْل ِ‬
‫طرَا ِفهَا } قيل بإهلك‬
‫صهَا ِمنْ َأ ْ‬
‫ض َننْ ُق ُ‬
‫ثم قال متوعدا للمكذبين { َأوََلمْ َيرَوْا َأنّا َن ْأتِي ا ْلأَرْ َ‬
‫المكذبين واستئصال الظالمين‪ ،‬وقيل‪ :‬بفتح بلدان المشركين‪ ،‬ونقصهم في أموالهم وأبدانهم‪،‬‬
‫وقيل غير ذلك من القوال‪.‬‬

‫والظاهر ‪-‬وال أعلم‪ -‬أن المراد بذلك أن أراضي هؤلء المكذبين جعل ال يفتحها ويجتاحها‪،‬‬
‫ويحل القوارع بأطرافها‪ ،‬تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص‪ ،‬ويوقع ال بهم من القوارع ما ل‬
‫ح ْكمِ ِه } ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري‬
‫ح ُكمُ لَا ُمعَقّبَ ِل ُ‬
‫يرده أحد‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ َي ْ‬
‫والجزائي‪.‬‬

‫فهذه الحكام التي يحكم ال فيها‪ ،‬توجد في غاية الحكمة والتقان‪ ،‬ل خلل فيها ول نقص‪ ،‬بل‬
‫هي مبنية على القسط والعدل والحمد‪ ،‬فل يتعقبها أحد ول سبيل إلى القدح فيها‪ ،‬بخلف حكم‬
‫ب } أي‪ :‬فل يستعجلوا بالعذاب‬
‫حسَا ِ‬
‫سرِي ُع ا ْل ِ‬
‫غيره فإنه قد يوافق الصواب وقد ل يوافقه‪ { ،‬وَهُ َو َ‬
‫فإن كل ما هو آت‪ ،‬فهو قريب‪.‬‬

‫س َيعَْلمُ‬
‫ب كُلّ نَفْسٍ َو َ‬
‫جمِيعًا َيعَْلمُ مَا َتكْسِ ُ‬
‫ن َقبِْلهِمْ فَلِلّ ِه ا ْل َم ْكرُ َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 43 - 42‬و َقدْ َمكَرَ اّلذِي َ‬
‫شهِيدًا َب ْينِي َو َب ْي َن ُكمْ َومَنْ‬
‫ت ُمرْسَلًا قُلْ َكفَى بِاللّ ِه َ‬
‫ن كَ َفرُوا َلسْ َ‬
‫ل اّلذِي َ‬
‫ا ْلكُفّارُ ِلمَنْ عُ ْقبَى الدّارِ * َويَقُو ُ‬
‫ب}‬
‫ع ْندَهُ عِ ْلمُ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ِ‬

‫ن َقبِْلهِمْ } برسلهم وبالحق الذي جاءت به الرسل‪ ،‬فلم يغن‬


‫ن مِ ْ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬و َقدْ َمكَرَ اّلذِي َ‬
‫جمِيعًا } أي‪ :‬ل‬
‫عنهم مكرهم ولم يصنعوا شيئا فإنهم يحاربون ال ويبارزونه‪ { ،‬فَلِلّ ِه ا ْل َم ْكرُ َ‬
‫يقدر أحد أن يمكر مكرا إل بإذنه‪ ،‬وتحت قضائه وقدره‪،‬‬

‫ب كُلّ‬
‫فإذا كانوا يمكرون بدينه فإن مكرهم سيعود عليهم بالخيبة والندم‪ ،‬فإن ال { َيعَْلمُ مَا َت ْكسِ ُ‬
‫نَفْسٍ } أي‪ :‬هومها وإراداتها وأعمالها الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫والمكر ل بد أن يكون من كسبها فل يخفى على ال مكرهم‪ ،‬فيمتنع أن يمكروا مكرا يضر‬
‫س َيعْلَمُ ا ْلكُفّارُ ِل َمنْ عُ ْقبَى الدّارِ } أي‪ :‬ألهم أو لرسله؟ ومن المعلوم‬
‫الحق وأهله ويفيدهم شيئا‪َ { ،‬و َ‬
‫أن العاقبة للمتقين ل للكفر وأعماله‪.‬‬

‫ت ُمرْسَلًا } أي‪ :‬يكذبونك ويكذبون ما أرسلت به‪ { ،‬قُلْ } لهم ‪-‬إن‬


‫ن كَ َفرُوا َلسْ َ‬
‫ل اّلذِي َ‬
‫{ َويَقُو ُ‬
‫شهِيدًا َب ْينِي َو َب ْي َن ُكمْ } وشهادته بقوله وفعله وإقراره‪ ،‬أما‬
‫طلبوا على ذلك شهيدا‪ { :‬كَفَى بِاللّهِ َ‬
‫قوله فبما أوحاه ال إلى أصدق خلقه مما يثبت به رسالته‪.‬‬
‫وأما فعله فلن ال تعالى أيد رسوله ونصره نصرا خارجا عن قدرته وقدرة أصحابه وأتباعه‬
‫وهذا شهادة منه له بالفعل والتأييد‪.‬‬

‫وأما إقراره‪ ،‬فإنه أخبر الرسول عنه أنه رسوله‪ ،‬وأنه أمر الناس باتباعه‪ ،‬فمن اتبعه فله‬
‫رضوان ال وكرامته‪ ،‬ومن لم يتبعه فله النار والسخط وحل له ماله ودمه وال يقره على ذلك‪،‬‬
‫فلو تقول عليه بعض القاويل لعاجله بالعقوبة‪.‬‬

‫ب } وهذا شامل لكل علماء أهل الكتابين‪ ،‬فإنهم يشهدون للرسول من آمن‬
‫ع ْندَهُ عِ ْلمُ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫{ َومَنْ ِ‬
‫واتبع الحق‪ ،‬صرح بتلك الشهادة التي عليه‪ ،‬ومن كتم ذلك فإخبار ال عنه أن عنده شهادة أبلغ‬
‫من خبره‪ ،‬ولو لم يكن عنده شهادة لرد استشهاده بالبرهان‪ ،‬فسكوته يدل على أن عنده شهادة‬
‫مكتومة‪.‬‬

‫وإنما أمر ال باستشهاد أهل الكتاب لنهم أهل هذا الشأن‪ ،‬وكل أمر إنما يستشهد فيه أهله ومن‬
‫هم أعلم به من غيرهم‪ ،‬بخلف من هو أجنبي عنه‪ ،‬كالميين من مشركي العرب وغيرهم‪ ،‬فل‬
‫فائدة في استشهادهم لعدم خبرتهم ومعرفتهم وال أعلم‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الرعد ‪,‬‬


‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة إبراهيم عليه‬


‫الصلة والسلم‪,‬وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ َووَ ْيلٌ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫حمِيدِ * اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫شدِيدٍ * الّذِينَ َيسْتَحِبّونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآخِ َر ِة وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ َ‬
‫عوَجًا أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ }‬
‫وَيَ ْبغُو َنهَا ِ‬

‫يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم لنفع الخلق‪ ،‬ليخرج الناس من‬
‫ظلمات الجهل والكفر والخلق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم واليمان والخلق‬
‫الحسنة‪ ،‬وقوله‪ { :‬بِِإذْنِ رَ ّبهِمْ } أي‪ :‬ل يحصل منهم المراد المحبوب ل‪ ،‬إل بإرادة من ال‬
‫ومعونة‪ ،‬ففيه حث للعباد على الستعانة بربهم‪.‬‬
‫حمِيدِ } أي‪ :‬الموصل إليه‬
‫ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال‪ { :‬إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬
‫وإلى دار كرامته‪ ،‬المشتمل على العلم بالحق والعمل به‪ ،‬وفي ذكر { العزيز الحميد } بعد ذكر‬
‫الصراط الموصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعز ال قوي ولو لم يكن له أنصار إل‬
‫ال‪ ،‬محمود في أموره‪ ،‬حسن العاقبة‪.‬‬

‫وليدل ذلك على أن صراط ال من أكبر الدلة على ما ل من صفات الكمال‪ ،‬ونعوت الجلل‪ ،‬وأن‬
‫الذي نصبه لعباده‪ ،‬عزيز السلطان‪ ،‬حميد في أقواله وأفعاله وأحكامه‪ ،‬وأنه مألوه معبود بالعبادات‬
‫التي هي منازل الصراط المستقيم‪ ،‬وأنه كما أن له ملك السماوات والرض خلقا ورزقا وتدبيرا‪،‬‬
‫فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية‪ ،‬لنهم ملكه‪ ،‬ول يليق به أن يتركهم سدى‪ ،‬فلما بيّن الدليل‬
‫شدِيدٍ } ل يقدر قدره‪ ،‬ول‬
‫والبرهان توعد من لم ينقد لذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬ووَ ْيلٌ لِ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ َ‬
‫يوصف أمره‪ ،‬ثم وصفهم بأنهم { الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآخِ َرةِ } فرضوا بها واطمأنوا‪،‬‬
‫وغفلوا عن الدار الخرة‪.‬‬

‫{ وَ َيصُدّونَ } الناس { عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } التي نصبها لعباده وبينها في كتبه وعلى ألسنة رسله‪،‬‬
‫عوَجًا } أي‪:‬‬
‫فهؤلء قد نابذوا مولهم بالمعاداة والمحاربة‪ { ،‬وَيَ ْبغُو َنهَا } أي‪ :‬سبيل ال { ِ‬
‫يحرصون على تهجينها وتقبيحها‪ ،‬للتنفير عنها‪ ،‬ولكن يأبى ال إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الذين ذكر وصفهم { فِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ } لنهم ضلوا وأضلوا‪ ،‬وشاقوا ال ورسوله‬
‫وحاربوهما‪ ،‬فأي ضلل أبعد من هذا؟" وأما أهل اليمان فبعكس هؤلء يؤمنون بال وآياته‪،‬‬
‫ويستحبون الخرة على الدنيا ويدعون إلى سبيل ال ويحسنونها مهما أمكنهم‪ ،‬ويبينون استقامتها‪.‬‬

‫ضلّ اللّهُ مَنْ َيشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ‬


‫سلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسَانِ َق ْومِهِ لِيُبَيّنَ َلهُمْ فَ ُي ِ‬
‫{ ‪َ { } 4‬ومَا أَرْ َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬

‫وهذا من لطفه بعباده أنه ما أرسل رسول { إل بلسان قومه ليبين لهم } ما يحتاجون إليه‪،‬‬
‫ويتمكنون من تعلم ما أتى به‪ ،‬بخلف ما لو كانوا على غير لسانهم‪ ،‬فإنهم يحتاجون إلى أن‬
‫يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها‪ ،‬ثم يفهمون عنه‪ ،‬فإذا بين لهم الرسول ما أمروا به‪ ،‬ونهوا عنه‬
‫وقامت عليهم حجة ال { فيضل ال من يشاء } ممن لم ينقد للهدى‪ ،‬ويهدي من يشاء ممن اختصه‬
‫برحمته‪.‬‬

‫{ وهو العزيز الحكيم } الذي ‪-‬من عزته‪ -‬أنه انفرد بالهداية والضلل‪ ،‬وتقليب القلوب إلى ما‬
‫شاء‪ ،‬ومن حكمته أنه ل يضع هدايته ول إضلله إل بالمحل اللئق به‪.‬‬
‫ويستدل بهذه الية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلمه وكلم رسوله أمور‬
‫مطلوبة محبوبة ل لنه ل يتم معرفة ما أنزل على رسوله إل بها إل إذا كان الناس بحالة ل‬
‫يحتاجون إليها‪ ،‬وذلك إذا تمرنوا على العربية‪ ،‬ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد‬
‫اكتفوا المؤنة‪ ،‬وصلحوا لن يتلقوا عن ال وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي ال‬
‫عنهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 8 - 5‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ َأخْرِجْ َق ْو َمكَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَ َذكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ‬
‫شكُورٍ *وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ أَ ْنجَاكُمْ مِنْ‬
‫ل صَبّارٍ َ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُك ّ‬
‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ وَ ُيذَبّحُونَ أَبْنَا َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ نِسَا َءكُ ْم َوفِي ذَِلكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ‬
‫آلِ فِرْ َ‬
‫عذَابِي لَشَدِيدٌ * َوقَالَ مُوسَى إِنْ‬
‫شكَرْتُمْ لَأَزِيدَ ّنكُ ْم وَلَئِنْ َكفَرْتُمْ إِنّ َ‬
‫عَظِيمٌ * وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِنْ َ‬
‫حمِيدٌ }‬
‫جمِيعًا فَإِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ َ‬
‫َت ْكفُرُوا أَنْتُمْ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أنه أرسل موسى بآياته العظيمة الدالة على صدق ما جاء به وصحته‪ ،‬وأمره بما أمر‬
‫ال به رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم بل وبما أمر به جميع الرسل قومهم { أَنْ أَخْرِجْ َق ْو َمكَ‬
‫مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ } أي‪ :‬ظلمات الجهل والكفر وفروعه‪ ،‬إلى نور العلم واليمان وتوابعه‪.‬‬

‫{ وَ َذكّ ْرهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ } أي‪ :‬بنعمه عليهم وإحسانه إليهم‪ ،‬وبأيامه في المم المكذبين‪ ،‬ووقائعه‬
‫بالكافرين‪ ،‬ليشكروا نعمه وليحذروا عقابه‪ { ،‬إِنّ فِي ذَِلكَ } أي‪ :‬في أيام ال على العباد { ليات‬
‫شكُورٍ } أي‪ :‬صبار في الضراء والعسر والضيق‪ ،‬شكور على السراء والنعمة‪.‬‬
‫ِل ُكلّ صَبّارٍ َ‬

‫فإنه يستدل بأيامه على كمال قدرته وعميم إحسانه‪ ،‬وتمام عدله وحكمته‪ ،‬ولهذا امتثل موسى عليه‬
‫السلم أمر ربه‪ ،‬فذكرهم نعم ال فقال‪ { :‬ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬بقلوبكم وألسنتكم‪ِ { .‬إذْ‬
‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ } أي‪ :‬يولونكم { سُوءَ ا ْلعَذَابِ } أي‪ :‬أشده وفسر ذلك بقوله‪:‬‬
‫أَنْجَا ُكمْ مِنْ آلِ فِرْ َ‬
‫{ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَا َءكُمْ } أي‪ :‬يبقونهن فل يقتلونهن‪َ { ،‬وفِي ذَِلكُمْ } النجاء { بَلَاءٌ‬
‫عظِيمٌ } أي‪ :‬نعمة عظيمة‪ ،‬أو وفي ذلكم العذاب الذي ابتليتم به من فرعون وملئه ابتلء‬
‫مِنْ رَ ّبكُمْ َ‬
‫من ال عظيم لكم‪ ،‬لينظر هل تصبرون أم ل؟‬

‫شكَرْتُمْ لَأَزِيدَ ّنكُمْ } من‬


‫وقال لهم حاثا على شكر نعم ال‪ { :‬وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّب ُكمْ } أي‪ :‬أعلم ووعد‪ { ،‬لَئِنْ َ‬
‫نعمي { وَلَئِنْ َكفَرْتُمْ إِنّ عَذَابِي َلشَدِيدٌ } ومن ذلك أن يزيل عنهم النعمة التي أنعم بها عليهم‪.‬‬

‫والشكر‪ :‬هو اعتراف القلب بنعم ال والثناء على ال بها وصرفها في مرضاة ال تعالى‪ .‬وكفر‬
‫النعمة ضد ذلك‪.‬‬
‫جمِيعًا } فلن تضروا ال شيئا‪ { ،‬فَإِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ‬
‫{ َوقَالَ مُوسَى إِنْ َتكْفُرُوا أَنْتُمْ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫حمِيدٌ } فالطاعات ل تزيد في ملكه والمعاصي ل تنقصه‪ ،‬وهو كامل الغنى حميد في ذاته وأسمائه‬
‫َ‬
‫وصفاته وأفعاله‪ ،‬ليس له من الصفات إل كل صفة حمد وكمال‪ ،‬ول من السماء إل كل اسم‬
‫حسن‪ ،‬ول من الفعال إل كل فعل جميل‪.‬‬

‫{ ‪ { } 12 - 9‬أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا‬
‫شكّ‬
‫سلْتُمْ بِهِ وَإِنّا َلفِي َ‬
‫اللّهُ جَاءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَ َردّوا أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِه ِه ْم َوقَالُوا إِنّا كَفَرْنَا ِبمَا أُرْ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ يَدْعُوكُمْ لِ َيغْفِرَ َلكُمْ‬
‫شكّ فَاطِرِ ال ّ‬
‫سُلهُمْ َأفِي اللّهِ َ‬
‫ِممّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَاَلتْ رُ ُ‬
‫عمّا كَانَ َيعْبُدُ‬
‫سمّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ ِإلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ َتصُدّونَا َ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى َأ َ‬
‫سُلهُمْ إِنْ َنحْنُ إِلّا َبشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ عَلَى مَنْ َيشَاءُ‬
‫آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ *قَاَلتْ َلهُمْ رُ ُ‬
‫مِنْ عِبَا ِد ِه َومَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِ َي ُكمْ بِسُ ْلطَانٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * َومَا لَنَا أَلّا‬
‫نَ َت َوكّلَ عَلَى اللّهِ َوقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَ َنصْبِرَنّ عَلَى مَا آذَيْ ُتمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ }‬

‫يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالمم المكذبة حين جاءتهم الرسل‪ ،‬فكذبوهم‪ ،‬فعاقبهم بالعقاب‬
‫العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال‪ { :‬أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَ َثمُودَ } وقد‬
‫ذكر ال قصصهم في كتابه وبسطها‪ { ،‬وَالّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ لَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا اللّهُ } من كثرتهم وكون‬
‫أخبارهم اندرست‪.‬‬

‫سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي‪ :‬بالدلة الدالة على صدق ما جاءوا به‪ ،‬فلم يرسل ال‬
‫فهؤلء كلهم { جَاءَ ْتهُمْ رُ ُ‬
‫رسول إل آتاه من اليات ما يؤمن على مثله البشر‪ ،‬فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل‬
‫استكبروا عنها‪ { ،‬فَ َردّوا أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِههِمْ } أي‪ :‬لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما‬
‫صوَاعِقِ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ }‬
‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِن ِهمْ مِنَ ال ّ‬
‫يدل على اليمان كقوله { ي ْ‬

‫شكّ ِممّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي‪:‬‬


‫{ َوقَالُوا } صريحا لرسلهم‪ { :‬إِنّا َكفَرْنَا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِ ِه وَإِنّا َلفِي َ‬
‫موقع في الريبة‪ ،‬وقد كذبوا في ذلك وظلموا‪.‬‬

‫شكّ } أي‪ :‬فإنه أظهر الشياء وأجلها‪ ،‬فمن شك في ال‬


‫ولهذا { قَاَلتِ } لهم { رُسُُل ُهمْ َأفِي اللّهِ َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } الذي وجود الشياء مستند إلى وجوده‪ ،‬لم يكن عنده ثقة بشيء من‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ فَاطِرِ ال ّ‬
‫المعلومات‪ ،‬حتى المور المحسوسة‪ ،‬ولهذا خاطبتهم الرسل خطاب من ل يشك فيه ول يصلح‬
‫سمّى }‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫الريب فيه { يَدْعُوكُمْ } إلى منافعكم ومصالحكم { لِ َي ْغفِرَ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى َأ َ‬
‫أي‪ :‬ليثيبكم على الستجابة لدعوته بالثواب العاجل والجل‪ ،‬فلم يدعكم لينتفع بعبادتكم‪ ،‬بل النفع‬
‫عائد إليكم‪.‬‬
‫فردوا على رسلهم رد السفهاء الجاهلين { قَالُوا } لهم‪ { :‬إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي‪ :‬فكيف‬
‫عمّا كَانَ َيعْ ُبدُ آبَاؤُنَا } فكيف نترك رأي الباء‬
‫صدّونَا َ‬
‫تفضلوننا بالنبوة والرسالة‪ { ،‬تُرِيدُونَ أَنْ َت ُ‬
‫وسيرتهم لرأيكم؟ وكيف نطيعكم وأنتم بشر مثلنا؟‬

‫سلْطَانٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬بحجة وبينة ظاهرة‪ ،‬ومرادهم بينة يقترحونها هم‪ ،‬وإل فقد تقدم أن‬
‫{ فَأْتُونَا بِ ُ‬
‫رسلهم جاءتهم بالبينات‪.‬‬

‫{ قَاَلتْ َل ُهمْ رُسُُلهُمْ } مجيبين عن اقتراحهم واعتراضهم‪ { :‬إِنْ نَحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ } أي‪ :‬صحيح‬
‫وحقيقة أنا بشر مثلكم‪ { ،‬وََلكِنْ } ليس في ذلك ما يدفع ما جئنا به من الحق فإن { اللّهَ َيمُنّ عَلَى‬
‫مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } فإذا من ال علينا بوحيه ورسالته‪ ،‬فذلك فضله وإحسانه‪ ،‬وليس لحد أن‬
‫يحجر على ال فضله ويمنعه من تفضله‪.‬‬

‫فانظروا ما جئناكم به فإن كان حقا فاقبلوه وإن كان غير ذلك فردوه ول تجعلوا حالنا حجة لكم‬
‫على رد ما جئناكم به‪ ،‬وقولكم‪ { :‬فأتونا بسلطان مبين } فإن هذا ليس بأيدينا وليس لنا من المر‬
‫شيء‪.‬‬

‫{ َومَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِ َيكُمْ بِسُ ْلطَانٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ } فهو الذي إن شاء جاءكم به‪ ،‬وإن شاء لم يأتكم به‬
‫وهو ل يفعل إل ما هو مقتضى حكمته ورحمته‪ { ،‬وَعَلَى اللّهِ } ل على غيره { فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ‬
‫} فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم ودفع مضارهم لعلمهم بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم‬
‫إحسانه‪ ،‬ويثقون به في تيسير ذلك وبحسب ما معهم من اليمان يكون توكلهم‪.‬‬

‫فعلم بهذا وجوب التوكل‪ ،‬وأنه من لوازم اليمان‪ ،‬ومن العبادات الكبار التي يحبها ال ويرضاها‪،‬‬
‫علَى اللّ ِه َوقَدْ َهدَانَا سُُبلَنَا }‬
‫لتوقف سائر العبادات عليه‪َ { ،‬ومَا لَنَا أَلّا نَ َت َو ّكلَ َ‬

‫أي‪ :‬أي شيء يمنعنا من التوكل على ال والحال أننا على الحق والهدى‪ ،‬ومن كان على الحق‬
‫والهدى فإن هداه يوجب له تمام التوكل‪ ،‬وكذلك ما يعلم من أن ال متكفل بمعونة المهتدي وكفايته‪،‬‬
‫يدعو إلى ذلك‪ ،‬بخلف من لم يكن على الحق والهدى‪ ،‬فإنه ليس ضامنا على ال‪ ،‬فإن حاله‬
‫مناقضة لحال المتوكل‪.‬‬

‫وفي هذا كالشارة من الرسل عليهم الصلة والسلم لقومهم بآية عظيمة‪ ،‬وهو أن قومهم ‪-‬في‬
‫الغالب‪ -‬لهم القهر والغلبة عليهم‪ ،‬فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على ال‪ ،‬في دفع كيدكم ومكركم‪،‬‬
‫وجازمون بكفايته إياهم‪ ،‬وقد كفاهم ال شرهم مع حرصهم على إتلفهم وإطفاء ما معهم من الحق‪،‬‬
‫فيكون هذا كقول نوح لقومه‪ { :‬يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات ال فعلى ال‬
‫توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم‪ ،‬ثم ل يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ول تنظرون }‬
‫اليات‪.‬‬

‫وقول هود عليه السلم قال‪ { :‬إني أشهد ال واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني‬
‫جميعا ثم ل تنظرون }‬

‫{ وَلَ َنصْبِرَنّ عَلَى مَا آذَيْ ُتمُونَا } أي‪ :‬ولنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم ول نبالي بما‬
‫يأتينا منكم من الذى فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الذى‪ ،‬احتسابا للجر ونصحا لكم‬
‫لعل ال أن يهديكم مع كثرة التذكير‪.‬‬

‫{ وَعَلَى اللّهِ } وحده ل على غيره { فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ } فإن التوكل عليه مفتاح لكل خير‪.‬‬

‫واعلم أن الرسل عليهم الصلة والسلم توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب وهو التوكل‬
‫على ال في إقامة دينه ونصره‪ ،‬وهداية عبيده‪ ،‬وإزالة الضلل عنهم‪ ،‬وهذا أكمل ما يكون من‬
‫التوكل‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 17 - 13‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِ ُرسُِلهِمْ لَ ُنخْرِجَ ّن ُكمْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فََأوْحَى‬
‫ف وَعِيدِ *‬
‫سكِنَ ّنكُمُ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْ ِدهِمْ ذَِلكَ ِلمَنْ خَافَ َمقَامِي وَخَا َ‬
‫إِلَ ْيهِمْ رَ ّب ُهمْ لَ ُنهِْلكَنّ الظّاِلمِينَ * وَلَنُ ْ‬
‫سقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَ َتجَرّعُ ُه وَلَا َيكَادُ‬
‫جهَنّ ُم وَيُ ْ‬
‫ن وَرَائِهِ َ‬
‫وَاسْ َتفْتَحُوا وَخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ * مِ ْ‬
‫ت َومِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }‬
‫يُسِيغُ ُه وَيَأْتِيهِ ا ْل َموْتُ مِنْ ُكلّ َمكَانٍ َومَا ُهوَ ِبمَ ّي ٍ‬

‫لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك وعدم مللهم‪ ،‬ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال مع‬
‫قومهم فقال‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُِل ِهمْ } متوعدين لهم { لَ ُنخْرِجَ ّن ُكمْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي‬
‫مِلّتِنَا } وهذا أبلغ ما يكون من الرد‪ ،‬وليس بعد هذا فيهم مطمع‪ ،‬لنه ما كفاهم أن أعرضوا عن‬
‫الهدى بل توعدوهم بالخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم وزعموا أن الرسل ل حق لهم فيها‪،‬‬
‫وهذا من أعظم الظلم‪ ،‬فإن ال أخرج عباده إلى الرض‪ ،‬وأمرهم بعبادته‪ ،‬وسخر لهم الرض وما‬
‫عليها يستعينون بها على عبادته‪.‬‬

‫فمن استعان بذلك على عبادة ال حل له ذلك وخرج من التبعة‪ ،‬ومن استعان بذلك على الكفر‬
‫وأنواع المعاصي‪ ،‬لم يكن ذلك خالصا له‪ ،‬ولم يحل له‪ ،‬فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ليس لهم‬
‫شيء من الرض التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها‪ .‬وإن رجعنا إلى مجرد العادة فإن الرسل‬
‫من جملة أهل بلدهم‪ ،‬وأفراد منهم‪ ،‬فلي شيء يمنعونهم حقا لهم صريحا واضحا؟! هل هذا إل‬
‫من عدم الدين والمروءة بالكلية؟‬
‫ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ما بقي حينئذ إل أن يمضي ال أمره‪ ،‬وينصر‬
‫أولياءه‪ { ،‬فََأوْحَى إِلَ ْي ِهمْ رَ ّبهُمْ لَ ُنهِْلكَنّ الظّاِلمِينَ } بأنواع العقوبات‪.‬‬

‫سكِنَ ّن ُكمُ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ ذَِلكَ } أي‪ :‬العاقبة الحسنة التي جعلها ال للرسل ومن تبعهم جزاء‬
‫{ وَلَنُ ْ‬
‫ف وَعِيدِ } أي‪ :‬ما‬
‫{ ِلمَنْ خَافَ َمقَامِي } عليه في الدنيا وراقب ال مراقبة من يعلم أنه يراه‪ { ،‬وَخَا َ‬
‫توعدت به من عصاني فأوجب له ذلك النكفاف عما يكرهه ال والمبادرة إلى ما يحبه ال‪.‬‬

‫{ وَاسْ َتفْتَحُوا } أي‪ :‬الكفار أي‪ :‬هم الذين طلبوا واستعجلوا فتح ال وفرقانه بين أوليائه وأعدائه‬
‫فجاءهم ما استفتحوا به وإل فال حليم ل يعاجل من عصاه بالعقوبة‪َ { ،‬وخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ }‬
‫أي‪ :‬خسر في الدنيا والخرة من تجبر على ال وعلى الحق وعلى عباد ال واستكبر في الرض‬
‫وعاند الرسل وشاقهم‪.‬‬

‫جهَنّمُ } أي‪ :‬جهنم لهذا الجبار العنيد بالمرصاد‪ ،‬فل بد له من ورودها فيذاق حينئذ‬
‫ن وَرَائِهِ َ‬
‫{ مِ ْ‬
‫صدِيدٍ } في لونه وطعمه ورائحته الخبيثة‪ ،‬وهو في غاية‬
‫سقَى مِنْ مَا ٍء َ‬
‫العذاب الشديد‪ { ،‬وَيُ ْ‬
‫الحرارة‪.‬‬

‫{ يَ َتجَرّعُهُ } من العطش الشديد { وَلَا َيكَادُ ُيسِيغُهُ } فإنه إذا قرب إلى وجهه شواه وإذا وصل إلى‬
‫بطنه قطع ما أتى عليه من المعاء‪ { ،‬وَيَأْتِيهِ ا ْل َموْتُ مِنْ ُكلّ َمكَانٍ َومَا ُهوَ ِبمَ ّيتٍ } أي‪ :‬يأتيه‬
‫العذاب الشديد من كل نوع من أنواع العذاب‪ ،‬وكل نوع منه من شدته يبلغ إلى الموت ولكن ال‬
‫قضى أن ل يموتوا كما قال تعالى‪ { :‬ل يقضى عليهم فيموتوا ول يخفف عنهم من عذابها كذلك‬
‫نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها }‬

‫ن وَرَائِهِ } أي‪ :‬الجبار العنيد { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي‪ :‬قوي شديد ل يعلم وصفه وشدته إل ال‬
‫{ َومِ ْ‬
‫تعالى‪.‬‬

‫عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْتَ ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَاصِفٍ لَا َيقْدِرُونَ ِممّا‬
‫{ ‪ { } 18‬مَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ أَ ْ‬
‫شيْءٍ َذِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ }‬
‫كَسَبُوا عَلَى َ‬

‫يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها‪ :‬إما أن المراد بها العمال التي عملوها ل‪ ،‬بأنها في‬
‫ذهابها وبطلنها واضمحللها كاضمحلل الرماد‪ ،‬الذي هو أدق الشياء وأخفها‪ ،‬إذا اشتدت به‬
‫الريح في يوم عاصف شديد الهبوب‪ ،‬فإنه ل يبقى منه شيئا‪ ،‬ول يقدر منه على شيء يذهب‬
‫شيْءٍ } ول على مثقال ذرة منه لنه‬
‫ويضمحل‪ ،‬فكذلك أعمال الكفار { لَا َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُوا عَلَى َ‬
‫مبني على الكفر والتكذيب‪.‬‬
‫{ ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ } حيث بطل سعيهم واضمحل عملهم‪ ،‬وإما أن المراد بذلك أعمال الكفار‬
‫التي عملوها ليكيدوا بها الحق‪ ،‬فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم ولن يضروا‬
‫ال ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا‪.‬‬

‫حقّ إِنْ َيشَأْ يُذْهِ ْب ُك ْم وَيَ ْأتِ ِبخَلْقٍ جَدِيدٍ‬


‫ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 21 - 19‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خََلقَ ال ّ‬
‫ضعَفَاءُ ِللّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا‬
‫جمِيعًا َفقَالَ ال ّ‬
‫* َومَا ذَِلكَ عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا ِللّهِ َ‬
‫سوَاءٌ عَلَيْنَا َأجَزِعْنَا أَمْ‬
‫شيْءٍ قَالُوا َلوْ َهدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَاكُمْ َ‬
‫َف َهلْ أَنْ ُتمْ ُمغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ َ‬
‫صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ }‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ } أي‪ :‬ليعبده الخلق ويعرفوه‪ ،‬ويأمرهم‬
‫ينبه تعالى عباده بأنه { خَلَقَ ال ّ‬
‫وينهاهم وليستدلوا بهما وما فيهما على ما له من صفات الكمال‪ ،‬وليعلموا أن الذي خلق السماوات‬
‫والرض ‪-‬على عظمهما وسعتهما‪ -‬قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا‪ ،‬ليجازيهم بإحسانهم‬
‫وإساءتهم‪ ،‬وأن قدرته ومشيئته ل تقصر عن ذلك ولهذا قال‪ { :‬إِنْ يَشَأْ يُذْهِ ْب ُك ْم وَيَ ْأتِ ِبخَلْقٍ جَدِيدٍ }‬

‫يحتمل أن المعنى‪ :‬إن يشأ يذهبكم ويأت بقوم غيركم يكونون أطوع ل منكم‪ ،‬ويحتمل أن المراد‬
‫أنه‪ :‬إن يشأ يفنيكم ثم يعيدهم بالبعث خلقا جديدا‪ ،‬ويدل على هذا الحتمال ما ذكره بعده من أحوال‬
‫القيامة‪.‬‬

‫{ َومَا َذِلكَ عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ } أي‪ :‬بممتنع بل هو سهل عليه جدا‪ { ،‬ما خلقكم ول بعثكم إل كنفس‬
‫واحدة } { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }‬

‫جمِيعًا } حين ينفخ في الصور فيخرجون من الجداث إلى ربهم‬


‫{ وَبَرَزُوا } أي‪ :‬الخلئق { لِلّهِ َ‬
‫فيقفون في أرض مستوية قاع صفصف‪ ،‬ل ترى فيها عوجا ول أمتا‪ ،‬ويبرزون له ل يخفى [عليه]‬
‫منهم خافية‪ ،‬فإذا برزوا صاروا يتحاجون‪ ،‬وكل يدفع عن نفسه‪ ،‬ويدافع ما يقدر عليه‪ ،‬ولكن أني‬
‫لهم ذلك؟‬

‫ضعَفَاءُ } أي‪ :‬التابعون والمقلدون { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } وهم‪ :‬المتبوعون الذين هم قادة في‬
‫فيقول { ال ّ‬
‫الضلل‪ { :‬إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا } أي‪ :‬في الدنيا‪ ،‬أمرتمونا بالضلل‪ ،‬وزينتموه لنا فأغويتمونا‪َ { ،‬ف َهلْ‬
‫شيْءٍ } أي‪ :‬ولو مثقال ذرة‪ { ،‬قَالُوا } أي‪ :‬المتبوعون والرؤساء‬
‫أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ َ‬
‫علَيْنَا أَجَزِعْنَا }‬
‫سوَاءٌ َ‬
‫{ أغويناكم كما غوينا } و { َلوْ هَدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَا ُكمْ } فل يغني أحد أحدا‪َ { ،‬‬
‫من العذاب { َأ ْم صَبَرْنَا } عليه‪ { ،‬مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي‪ :‬من ملجأ نلجأ إليه‪ ،‬ول مهرب لنا من‬
‫عذاب ال‪.‬‬
‫ق َووَعَدْ ُتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا‬
‫{ ‪َ { } 23 - 22‬وقَالَ الشّيْطَانُ َلمّا ُقضِيَ الَْأمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ ا ْلحَ ّ‬
‫خ ُكمْ‬
‫سكُمْ مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَ ْنفُ َ‬
‫كَانَ لِي عَلَ ْيكُمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ إِلّا أَنْ دَ َ‬
‫خلَ الّذِينَ‬
‫خيّ إِنّي َكفَرْتُ ِبمَا أَشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ * وَأُ ْد ِ‬
‫َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫سلَامٌ }‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِِإذْنِ رَ ّبهِمْ َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا َ‬
‫آمَنُوا وَ َ‬

‫أي‪َ { :‬وقَالَ الشّ ْيطَانُ } الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم‪ ،‬مخاطبا لهل النار ومتبرئا‬
‫حقّ }‬
‫ضيَ الَْأمْرُ } ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار‪ { .‬إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُ ْم وَعْدَ الْ َ‬
‫منهم { َلمّا ُق ِ‬
‫على ألسنة رسله فلم تطيعوه‪ ،‬فلو أطعتموه لدركتم الفوز العظيم‪َ { ،‬ووَعَدْ ُتكُمْ } الخير { فَأَخَْلفْ ُتكُمْ }‬
‫أي‪ :‬لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الماني الباطلة‪.‬‬

‫عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي }‬


‫{ َومَا كَانَ لِي عَلَ ْيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي‪ :‬من حجة على تأييد قولي‪ِ { ،‬إلّا أَنْ دَ َ‬
‫أي‪ :‬هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم‪ ،‬فاستجبتم لي اتباعا لهوائكم‬
‫سكُمْ } فأنتم السبب وعليكم‬
‫وشهواتكم‪ ،‬فإذا كانت الحال بهذه الصورة { فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَ ْنفُ َ‬
‫خكُمْ } أي‪ :‬بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها { َومَا أَنْ ُتمْ‬
‫المدار في موجب العقاب‪ { ،‬مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ‬
‫خيّ } كل له قسط من العذاب‪.‬‬
‫ِب ُمصْرِ ِ‬

‫{ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَا َأشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬تبرأت من جعلكم لي شريكا مع ال فلست شريكا ل‬
‫ول تجب طاعتي‪ { ،‬إِنّ الظّاِلمِينَ } لنفسهم بطاعة الشيطان { َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } خالدين فيه أبدا‪.‬‬

‫وهذا من لطف ال بعباده ‪،‬أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على‬
‫النسان ومقاصده فيه‪ ،‬وأنه يقصد أن يدخله النيران‪ ،‬وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه أنه‬
‫يتبرأ منهم هذه البراءة‪ ،‬ويكفر بشركهم { ول ينبئك مثل خبير }‬

‫واعلم أن ال ذكر في هذه الية أنه ليس له سلطان‪ ،‬وقال في آية أخرى { إنما سلطانه على الذين‬
‫يتولونه والذين هم به مشركون } فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل‪ ،‬فليس له‬
‫حجة أصل على ما يدعو إليه‪ ،‬وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون‬
‫على المعاصي‪.‬‬

‫وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالغراء على المعاصي لوليائه يُؤزّهم إلى المعاصي أزّا‪،‬‬
‫وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالته واللتحاق بحزبه‪ ،‬ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا‬
‫وعلى ربهم يتوكلون‪.‬‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ }‬
‫خلَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ولما ذكر عقاب الظالمين ذكر ثواب الطائعين فقال‪ { :‬وَُأدْ ِ‬
‫أي‪ :‬قاموا بالدين‪ ،‬قول‪ ،‬وعمل‪ ،‬واعتقادا { جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } فيها من اللذات‬
‫والشهوات ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ { ،‬خَاِلدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَ ّبهِمْ }‬
‫أي‪ :‬ل بحولهم وقوتهم بل بحول ال وقوته { تَحِيّ ُت ُهمْ فِيهَا سَلَامٌ } أي‪ :‬يحيي بعضهم بعضا بالسلم‬
‫والتحية والكلم الطيب‪.‬‬

‫شجَ َرةٍ طَيّ َبةٍ َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ َوفَرْعُهَا فِي‬


‫{ ‪ { } 26 - 24‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا كَِلمَةً طَيّبَةً كَ َ‬
‫سمَاءِ * ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِِإذْنِ رَ ّبهَا وَ َيضْرِبُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ * َومَ َثلُ كَِلمَةٍ‬
‫ال ّ‬
‫خَبِي َثةٍ كَشَجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُ ّثتْ مِنْ َفوْقِ الْأَ ْرضِ مَا َلهَا مِنْ قَرَارٍ }‬

‫يقول تعالى‪ { :‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا كَِلمَةً طَيّبَة } " وهي شهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬وفروعها‬
‫سمَاءِ } وهي‬
‫عهَا } منتشر { فِي ال ّ‬
‫{ َكشَجَ َرةٍ طَيّبَةٍ } وهي النخلة { َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ } في الرض { َوفَرْ ُ‬
‫كثيرة النفع دائما‪ُ { ،‬تؤْتِي ُأكَُلهَا } أي‪ :‬ثمرتها { ُكلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ ّبهَا } فكذلك شجرة اليمان ‪،‬‬
‫أصلها ثابت في قلب المؤمن‪ ،‬علما واعتقادا‪ .‬وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والخلق‬
‫المرضية‪ ،‬والداب الحسنة في السماء دائما يصعد إلى ال منه من العمال والقوال التي تخرجها‬
‫شجرة اليمان ما ينتفع به المؤمن وينفع غيره‪ { ،‬وَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } ما‬
‫أمرهم به ونهاهم عنه‪ ،‬فإن في ضرب المثال تقريبا للمعاني المعقولة من المثال المحسوسة‪،‬‬
‫ويتبين المعنى الذي أراده ال غاية البيان‪ ،‬ويتضح غاية الوضوح‪ ،‬وهذا من رحمته وحسن تعليمه‪.‬‬
‫فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه‪ ،‬فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها‪ ،‬في قلب المؤمن‪.‬‬

‫ثم ذكر ضدها وهي كلمة الكفر وفروعها فقال‪َ { :‬ومَ َثلُ كَِلمَةٍ خَبِيثَةٍ َكشَجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ } المأكل‬
‫والمطعم وهي‪ :‬شجرة الحنظل ونحوها‪ { ،‬اجْتُ ّثتْ } هذه الشجرة { مِنْ َفوْقِ الْأَ ْرضِ مَا َلهَا مِنْ‬
‫قَرَارٍ } أي‪ :‬من ثبوت فل عروق تمسكها‪ ،‬ول ثمرة صالحة‪ ،‬تنتجها‪ ،‬بل إن وجد فيها ثمرة‪ ،‬فهي‬
‫ثمرة خبيثة‪ ،‬كذلك كلمة الكفر والمعاصي‪ ،‬ليس لها ثبوت نافع في القلب‪ ،‬ول تثمر إل كل قول‬
‫خبيث وعمل خبيث يستضر به صاحبه‪ ،‬ول ينتفع‪ ،‬فل يصعد إلى ال منه عمل صالح ول ينفع‬
‫نفسه‪ ،‬ول ينتفع به غيره‪.‬‬

‫ضلّ اللّهُ الظّاِلمِينَ‬


‫{ ‪ { } 27‬يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِا ْل َقوْلِ الثّا ِبتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َر ِة وَ ُي ِ‬
‫وَيَ ْف َعلُ اللّهُ مَا َيشَاءُ }‬

‫يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين‪ ،‬أي‪ :‬الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام‪ ،‬الذي‬
‫يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها‪ ،‬فيثبتهم ال في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى‬
‫اليقين‪ ،‬وعند عروض الشهوات بالرادة الجازمة على تقديم ما يحبه ال على هوى النفس‬
‫ومراداتها‪.‬‬

‫وفي الخرة عند الموت بالثبات على الدين السلمي والخاتمة الحسنة‪ ،‬وفي القبر عند سؤال‬
‫الملكين‪ ،‬للجواب الصحيح‪ ،‬إذا قيل للميت " من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " هداهم للجواب‬
‫الصحيح بأن يقول المؤمن‪ " :‬ال ربي والسلم ديني ومحمد نبيي "‬

‫ضلّ اللّهُ الظّاِلمِينَ } عن الصواب في الدنيا والخرة‪ ،‬وما ظلمهم ال ولكنهم ظلموا أنفسهم‪،‬‬
‫{ وَ ُي ِ‬
‫وفي هذه الية دللة على فتنة القبر وعذابه‪ ،‬ونعيمه‪ ،‬كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم في الفتنة‪ ،‬وصفتها‪ ،‬ونعيم القبر وعذابه‪.‬‬

‫جهَنّمَ‬
‫{ ‪ { } 30 - 28‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َبدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وََأحَلّوا َق ْومَهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ * َ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيلِهِ ُقلْ َتمَ ّتعُوا فَإِنّ َمصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ }‬
‫َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ * وَ َ‬

‫يقول تعالى ‪ -‬مبينا حال المكذبين لرسوله من كفار قريش وما آل إليه أمرهم‪َ { :‬ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ‬
‫بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا } ونعمة ال هي إرسال محمد صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬يدعوهم إلى إدراك‬
‫الخيرات في الدنيا والخرة وإلى النجاة من شرور الدنيا والخرة‪ ،‬فبدلوا هذه النعمة بردها‪،‬‬
‫والكفر بها والصد عنها بأنفسهم‪.‬‬

‫{ و } صدهم غيرهم حتى { َأحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ } وهي النار حيث تسببوا لضللهم‪ ،‬فصاروا‬
‫وبال على قومهم‪ ،‬من حيث يظن نفعهم‪ ،‬ومن ذلك أنهم زينوا لهم الخروج يوم " بدر " ليحاربوا‬
‫ال ورسوله‪ ،‬فجرى عليهم ما جرى‪ ،‬وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم في تلك الوقعة‪.‬‬

‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا }‬


‫جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا } أي‪ :‬يحيط بهم حرها من جميع جوانبهم { وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } { وَ َ‬
‫{ َ‬
‫أي‪ :‬نظراء وشركاء { لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيِلهِ } أي‪ :‬ليضلوا العباد عن سبيل ال بسبب ما جعلوا ل من‬
‫النداد ودعوهم إلى عبادتها‪ُ { ،‬قلْ } لهم متوعدا‪َ { :‬تمَ ّتعُوا } بكفركم وضللكم قليل‪ ،‬فليس ذلك‬
‫بنافعكم { فَإِنّ َمصِي َركُمْ إِلَى النّارِ } أي‪ :‬مآلكم ومقركم ومأواكم فيها وبئس المصير‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 31‬قلْ ِلعِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُوا ُيقِيمُوا الصّلَا َة وَيُنْ ِفقُوا ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ سِرّا وَعَلَانِ َيةً مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ‬
‫خلَالٌ }‬
‫َيوْمٌ لَا بَيْعٌ فِي ِه وَلَا ِ‬

‫أي‪ :‬قل لعبادي المؤمنين آمرا لهم بما فيه غاية صلحهم وأن ينتهزوا الفرصة‪ ،‬قبل أن ل يمكنهم‬
‫ذلك‪ُ { :‬يقِيمُوا الصّلَاة } ظاهرا وباطنا { وَيُ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ } أي‪ :‬من النعم التي أنعمنا بها عليهم‬
‫قليل أو كثيرا { سِرّا وَعَلَانِيَةً } وهذا يشمل النفقة الواجبة كالزكاة ونفقة من تجب [عليه] نفقته‪،‬‬
‫والمستحبة كالصدقات ونحوها‪.‬‬

‫{ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَيْعٌ فِي ِه وَلَا خِلَالٌ } أي‪ :‬ل ينفع فيه شيء ول سبيل إلى استدراك ما فات‬
‫ل بمعاوضة بيع وشراء ول بهبة خليل وصديق‪ ،‬فكل امرئ له شأن يغنيه‪ ،‬فليقدم العبد لنفسه‪،‬‬
‫ولينظر ما قدمه لغد‪ ،‬وليتفقد أعماله‪ ،‬ويحاسب نفسه‪ ،‬قبل الحساب الكبر‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ ِبهِ مِنَ‬


‫ض وَأَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫{ ‪ { } 34 - 32‬اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫سخّرَ َلكُمُ الْأَ ْنهَارَ * وَسَخّرَ َل ُكمُ‬
‫سخّرَ َلكُمُ ا ْلفُلْكَ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِر ِه وَ َ‬
‫ال ّثمَرَاتِ رِ ْزقًا َلكُ ْم وَ َ‬
‫سخّرَ َلكُمُ اللّ ْيلَ وَال ّنهَارَ *وَآتَاكُمْ مِنْ ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ وَإِنْ َتعُدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ لَا‬
‫ن وَ َ‬
‫س وَا ْل َقمَرَ دَائِبَيْ ِ‬
‫شمْ َ‬
‫ال ّ‬
‫حصُوهَا إِنّ الْإِ ْنسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }‬
‫تُ ْ‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } على اتساعهما وعظمهما‪ { ،‬وَأَنْ َزلَ مِنَ‬


‫يخبر تعالى‪ :‬أنه وحده { الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫سمَاءِ مَاءً } وهو‪ :‬المطر الذي ينزله ال من السحاب‪ { ،‬فََأخْرَجَ } بذلك الماء { مِنَ ال ّثمَرَاتِ }‬
‫ال ّ‬
‫المختلفة النواع { رِ ْزقًا َلكُمْ } ورزقا لنعامكم { وَسَخّرَ َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ } أي‪ :‬السفن والمراكب‪.‬‬

‫{ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِرهِ } فهو الذي يسر لكم صنعتها وأقدركم عليها‪ ،‬وحفظها على تيار الماء‬
‫لتحملكم‪ ،‬وتحمل تجاراتكم‪ ،‬وأمتعتكم إلى بلد تقصدونه‪.‬‬

‫سخّرَ َلكُمُ الْأَ ْنهَارَ } لتسقي حروثكم وأشجاركم وتشربوا منها‪.‬‬


‫{ وَ َ‬

‫س وَا ْل َقمَرَ دَائِبَيْنِ } ل يفتران‪ ،‬ول ينيان‪ ،‬يسعيان لمصالحكم‪ ،‬من حساب أزمنتكم‬
‫شمْ َ‬
‫سخّرَ َلكُمُ ال ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫سخّرَ َلكُمُ اللّ ْيلَ } لتسكنوا فيه { وَال ّنهَارِ }‬
‫ومصالح أبدانكم‪ ،‬وحيواناتكم‪ ،‬وزروعكم‪ ،‬وثماركم‪ { ،‬وَ َ‬
‫مبصرا لتبتغوا من فضله‪.‬‬

‫{ وَآتَا ُكمْ مِنْ ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ } أي‪ :‬أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم مما تسألونه إياه‬
‫بلسان الحال‪ ،‬أو بلسان المقال‪ ،‬من أنعام‪ ،‬وآلت‪ ،‬وصناعات وغير ذلك‪.‬‬

‫حصُوهَا } فضل عن قيامكم بشكرها { إِنّ الْإِنْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ } أي‪:‬‬


‫{ وَإِنْ َت ُعدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ لَا تُ ْ‬
‫هذه طبيعة النسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي مقصر في حقوق ربه كفّار لنعم‬
‫ال‪ ،‬ل يشكرها ول يعترف بها إل من هداه ال فشكر نعمه‪ ،‬وعرف حق ربه وقام به‪.‬‬
‫ففي هذه اليات من أصناف نعم ال على العباد شيء عظيم‪ ،‬مجمل ومفصل يدعو ال به العباد‬
‫إلى القيام بشكره‪ ،‬وذكره ويحثهم على ذلك‪ ،‬ويرغبهم في سؤاله ودعائه‪ ،‬آناء الليل والنهار‪ ،‬كما‬
‫أن نعمه تتكرر عليهم في جميع الوقات‪.‬‬

‫ج َعلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا }‬


‫{ ‪ { } 35‬وَِإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬

‫ج َعلْ َهذَا‬
‫أي‪ { :‬و } اذكر إبراهيم عليه الصلة والسلم في هذه الحالة الجميلة‪ ،‬إذ قَال‪َ { :‬ربّ ا ْ‬
‫الْبَلَدَ } أي‪ :‬الحرم { آمِنًا } فاستجاب ال دعاءه شرعا وقدرا‪ ،‬فحرمه ال في الشرع ويسر من‬
‫أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم‪ ،‬حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إل قصمه ال كما فعل بأصحاب‬
‫الفيل وغيرهم‪.‬‬

‫ولما دعا له بالمن دعا له ولبنيه بالمن فقال‪ { :‬وَاجْنُبْنِي وَبَ ِنيّ أَنْ َنعْبُدَ الَْأصْنَامَ } أي‪ :‬اجعلني‬
‫وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها واللمام بها‪ ،‬ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من‬
‫افتتن وابتلي بعبادتها فقال‪:‬‬

‫{ ‪َ { } 36‬ربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ }‬

‫أي‪ :‬ضلوا بسببها‪َ { ،‬فمَنْ تَ ِبعَنِي } على ما جئت به من التوحيد والخلص ل رب العالمين { فَإِنّهُ‬
‫مِنّي } لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من شفقة الخليل عليه الصلة والسلم حيث دعا‬
‫عصَانِي فَإِ ّنكَ َ‬
‫{ َومَنْ َ‬
‫للعاصين بالمغفرة والرحمة من ال وال تبارك وتعالى أرحم منه بعباده ل يعذب إل من تمرد‬
‫عليه‪.‬‬

‫سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِ ْندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ }‬
‫{ ‪ { } 37‬رَبّنَا إِنّي َأ ْ‬

‫وذلك أنه أتى بب "هاجر" أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلة والسلم وهو في الرضاع‪،‬‬
‫من الشام حتى وضعهما في مكة وهي ‪-‬إذ ذاك‪ -‬ليس فيها سكن‪ ،‬ول داع ول مجيب‪ ،‬فلما‬
‫سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي }‬
‫وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال ‪-‬متضرعا متوكل على ربه‪ { :‬رَبّنَا إِنّي أَ ْ‬
‫أي‪ :‬ل كل ذريتي لن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته‪،‬‬
‫وقوله‪ِ { :‬بوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ } أي‪ :‬لن أرض مكة ل تصلح للزراعة‪.‬‬
‫{ رَبّنَا لِ ُيقِيمُوا الصّلَاة } أي‪ :‬اجعلهم موحدين مقيمين الصلة لن إقامة الصلة من أخص وأفضل‬
‫ج َعلْ َأفْئِ َدةً مِنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬تحبهم‬
‫العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه‪ { ،‬فَا ْ‬
‫وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه‪.‬‬

‫فأجاب ال دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى ال عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين‬
‫السلمي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلة‪.‬‬

‫وافترض ال حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب‪ ،‬فهي‬
‫تحجه ول تقضي منه وطرا على الدوام‪ ،‬بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه‬
‫وتوقه‪ ،‬وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة‪.‬‬

‫شكُرُونَ } فأجاب ال دعاءه‪ ،‬فصار يجبي إليه ثمرات كل شيء‪،‬‬


‫{ وَارْ ُز ْقهُمْ مِنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّل ُهمْ يَ ْ‬
‫فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والرزاق تتوالى إليها من كل جانب‪.‬‬

‫خفِي َومَا ُنعْلِنُ }‬


‫{ ‪ { } 38‬رَبّنَا إِ ّنكَ َتعْلَمُ مَا ُن ْ‬

‫أي‪ :‬أنت أعلم بنا منا‪ ،‬فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا أن تيسر لنا من المور التي نعلمها والتي‬
‫شيْءٍ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا فِي‬
‫خفَى عَلَى اللّهِ مِنْ َ‬
‫ل نعلمها ما هو مقتضى علمك ورحمتك‪َ { ،‬ومَا َي ْ‬
‫سمَاءِ } ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إل الخير وكثرة الشكر ل رب العالمين‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫سحَاقَ }‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ ِإ ْ‬
‫{ ‪ { } 39‬الْ َ‬

‫فهبتهم من أكبر النعم‪ ،‬وكونهم على الكبر في حال الياس من الولد نعمة أخرى‪ ،‬وكونهم أنبياء‬
‫سمِيعُ الدّعَاءِ } أي‪ :‬لقريب الجابة ممن دعاه وقد دعوته فلم‬
‫صالحين أجل وأفضل‪ { ،‬إِنّ رَبّي َل َ‬
‫جعَلْنِي ُمقِيمَ الصّلَا ِة َومِنْ ذُرّيّتِي رَبّنَا وَ َتقَبّلْ‬
‫يخيب رجائي‪ ،‬ثم دعا لنفسه ولذريته‪ ،‬فقال‪َ { :‬ربّ ا ْ‬
‫ي وَلِ ْلمُ ْؤمِنِينَ َيوْمَ َيقُومُ الْحساب }فاستجاب ال له في ذلك كله إل أن‬
‫غفِرْ لِي وَلِوَاِل َد ّ‬
‫دُعَاءِ * رَبّنَا ا ْ‬
‫دعاءه لبيه إنما كان عن موعدة وعده إياه‪ ،‬فلما تبين له أنه عدو ل تبرأ منه‪.‬‬

‫عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ إِ ّنمَا ُيؤَخّرُ ُهمْ لِ َيوْمٍ‬


‫حسَبَنّ اللّهَ غَافِلًا َ‬
‫{ ‪ } 43 - 42‬ثم قال تعالى‪ { :‬وَلَا تَ ْ‬
‫سهِمْ لَا يَرْ َتدّ إِلَ ْيهِمْ طَ ْر ُفهُ ْم وََأفْئِدَ ُت ُهمْ َهوَاءٌ }‬
‫طعِينَ ُمقْ ِنعِي ُرءُو ِ‬
‫خصُ فِيهِ الْأَ ْبصَارُ * ُمهْ ِ‬
‫شَ‬‫تَ ْ‬

‫عمّا َي ْع َملُ‬
‫حسَبَنّ اللّهَ غَافِلًا َ‬
‫هذا وعيد شديد للظالمين‪ ،‬وتسلية للمظلومين‪ ،‬يقول تعالى‪ { :‬وَلَا تَ ْ‬
‫الظّاِلمُونَ } حيث أمهلهم وأدرّ عليهم الرزاق‪ ،‬وتركهم يتقلبون في البلد آمنين مطمئنين‪ ،‬فليس‬
‫في هذا ما يدل على حسن حالهم فإن ال يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما‪ ،‬حتى إذا أخذه لم يفلته‬
‫{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } والظلم ‪-‬هاهنا‪ -‬يشمل الظلم‬
‫خصُ فِيهِ الْأَ ْبصَارُ } أي‪ :‬ل تطرف‬
‫شَ‬‫فيما بين العبد وربه وظلمه لعباد ال‪ { .‬إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َيوْمٍ تَ ْ‬
‫من شدة ما ترى من الهوال وما أزعجها من القلقل‪.‬‬

‫طعِينَ } أي‪ :‬مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي ال للحساب ل‬
‫{ ُم ْه ِ‬
‫سهِمْ } أي‪ :‬رافعيها قد غُّلتْ أيديهم إلى الذقان‪،‬‬
‫امتناع لهم ول محيص ول ملجأ‪ُ { ،‬مقْ ِنعِي رُءُو ِ‬
‫فارتفعت لذلك رءوسهم‪ { ،‬لَا يَرْتَدّ إِلَ ْي ِهمْ طَ ْر ُفهُمْ وََأفْئِدَ ُتهُمْ َهوَاءٌ } أي‪ :‬أفئدتهم فارغة من قلوبهم قد‬
‫صعدت إلى الحناجر لكنها مملوءة من كل هم وغم وحزن وقلق‪.‬‬

‫جلٍ قَرِيبٍ‬
‫{ ‪ { } 46 - 44‬وَأَنْذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِيهِمُ ا ْلعَذَابُ فَ َيقُولُ الّذِينَ ظََلمُوا رَبّنَا َأخّرْنَا إِلَى أَ َ‬
‫سكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ‬
‫سمْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ مَا َلكُمْ مِنْ َزوَالٍ * وَ َ‬
‫سلَ َأوَلَمْ َتكُونُوا َأ ْق َ‬
‫ك وَنَتّبِعِ الرّ ُ‬
‫عوَ َت َ‬
‫جبْ دَ ْ‬
‫نُ ِ‬
‫سهُ ْم وَتَبَيّنَ َلكُمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِبهِ ْم َوضَرَبْنَا َلكُمُ الَْأمْثَالَ * َوقَدْ َمكَرُوا َمكْرَ ُه ْم وَعِنْدَ اللّهِ‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫َمكْرُهُ ْم وَإِنْ كَانَ َمكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وَأَنْذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِي ِهمُ ا ْلعَذَابُ } أي‪ :‬صف لهم‬
‫صفة تلك الحال وحذرهم من العمال الموجبة للعذاب الذي حين يأتي في شدائده وقلقله‪ { ،‬فَ َيقُولُ‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا } بالكفر والتكذيب وأنواع المعاصي نادمين على ما فعلوا سائلين للرجعة في غير‬
‫عوَ َتكَ } وال‬
‫جبْ دَ ْ‬
‫جلٍ قَرِيبٍ } أي‪ :‬ردّنا إلى الدنيا فإنا قد أبصرنا‪ { ،‬نُ ِ‬
‫وقتها‪ { ،‬رَبّنَا َأخّرْنَا إِلَى أَ َ‬
‫سلَ } وهذا كله لجل التخلص من العذاب الليم وإل فهم كذبة في‬
‫يدعو إلى دار السلم { وَنَتّبِعِ الرّ ُ‬
‫هذا الوعد { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }‬

‫سمْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ مَا َلكُمْ مِنْ َزوَالٍ } عن الدنيا وانتقال إلى‬
‫ولهذا يوبخون ويقال لهم‪َ { :‬أوَلَمْ َتكُونُوا َأقْ َ‬
‫الخرة‪ ،‬فها قد تبين حنثكم في إقسامكم‪ ،‬وكذبكم فيما تدعون‪ { ،‬و } ليس عملكم قاصر في الدنيا‬
‫سهُ ْم وَتَبَيّنَ َلكُمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِبهِمْ }‬
‫سكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الّذِينَ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫من أجل اليات البينات‪ ،‬بل { َ‬
‫من أنواع العقوبات؟ وكيف أحل ال بهم العقوبات‪ ،‬حين كذبوا باليات البينات‪ ،‬وضربنا لكم‬
‫المثال الواضحة التي ل تدع أدنى شك في القلب إل أزالته‪ ،‬فلم تنفع فيكم تلك اليات بل أعرضتم‬
‫ودمتم على باطلكم حتى صار ما صار‪ ،‬ووصلتم إلى هذا اليوم الذي ل ينفع فيه اعتذار من اعتذر‬
‫بباطل‪.‬‬

‫{ َوقَدْ َمكَرُوا } أي‪ :‬المكذبون للرسل { َمكْرَ ُهمْ } الذي وصلت إرادتهم وقدر لهم عليه‪ { ،‬وَعِنْدَ اللّهِ‬
‫َمكْرُهُمْ } أي‪ :‬هو محيط به علما وقدرة فإنه عاد مكرهم عليهم { ول يحيق المكر السيئ إل‬
‫بأهله }‬
‫{ وَإِنْ كَانَ َمكْرُ ُهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي‪ :‬ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق وبمن‬
‫جاء به ‪-‬من عظمه‪ -‬لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها‪ ،‬أي‪ { :‬مكروا مكرا كبارا } ل‬
‫يقادر قدره ولكن ال رد كيدهم في نحورهم‪.‬‬

‫ويدخل في هذا كل من مكر من المخالفين للرسل لينصر باطل‪ ،‬أو يبطل حقا‪ ،‬والقصد أن مكرهم‬
‫لم يغن عنهم شيئا‪ ،‬ولم يضروا ال شيئا وإنما ضروا أنفسهم‪.‬‬

‫ف وَعْ ِدهِ ُرسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ * َيوْمَ تُ َب ّدلُ الْأَ ْرضُ‬
‫{ ‪ { } 52 - 47‬فَلَا َتحْسَبَنّ اللّهَ مُخِْل َ‬
‫صفَادِ‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ * وَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ َي ْومَئِذٍ ُمقَرّنِينَ فِي الَْأ ْ‬
‫سمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫ض وَال ّ‬
‫غَيْرَ الْأَ ْر ِ‬
‫ن وَ َتغْشَى وُجُو َههُمُ النّارُ * لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َبتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ‬
‫* سَرَابِيُل ُهمْ مِنْ قَطِرَا ٍ‬
‫س وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِ َيعَْلمُوا أَ ّنمَا ُهوَ إَِل ٌه وَاحِدٌ وَلِيَ ّذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }‬
‫حسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنّا ِ‬
‫الْ ِ‬

‫ف وَعْ ِدهِ رُسَُلهُ } بنجاتهم ونجاة أتباعهم وسعادتهم وإهلك‬


‫حسَبَنّ اللّهَ مُخِْل َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬فَلَا تَ ْ‬
‫أعدائهم وخذلنهم في الدنيا وعقابهم في الخرة‪ ،‬فهذا ل بد من وقوعه لنه‪ ،‬وعد به الصادق قول‬
‫على ألسنة أصدق خلقه وهم الرسل‪ ،‬وهذا أعلى ما يكون من الخبار‪ ،‬خصوصا وهو مطابق‬
‫للحكمة اللهية‪ ،‬والسنن الربانية‪ ،‬وللعقول الصحيحة‪ ،‬وال تعالى ل يعجزه شيء فإنه { عَزِيزٌ ذُو‬
‫انْ ِتقَام }‬

‫أي‪ :‬إذا أراد أن ينتقم من أحد‪ ،‬فإنه ل يفوته ول يعجزه‪ ،‬وذلك في يوم القيامة‪َ { ،‬يوْمَ تُبَ ّدلُ الْأَ ْرضُ‬
‫سمَاوَاتُ } تبدل غير السماوات‪ ،‬وهذا التبديل تبديل صفات‪ ،‬ل تبديل ذات‪ ،‬فإن‬
‫ض وَال ّ‬
‫غَيْرَ الْأَ ْر ِ‬
‫الرض يوم القيامة تسوى وتمد كمد الديم ويلقى ما على ظهرها من جبل و َمعْلم‪ ،‬فتصير قاعا‬
‫صفصفا‪ ،‬ل ترى فيها عوجا ول أمتا‪ ،‬وتكون السماء كالمهل‪ ،‬من شدة أهوال ذلك اليوم ثم يطويها‬
‫ال ‪-‬تعالى‪ -‬بيمينه‪.‬‬

‫{ وَبَرَزُوا } أي‪ :‬الخلئق من قبورهم إلى يوم بعثهم‪ ،‬ونشورهم في محل ل يخفى منهم على ال‬
‫شيء‪ { ،‬لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ } أي‪ :‬المتفرد بعظمته وأسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة‪ ،‬وقهره لكل‬
‫العوالم فكلها تحت تصرفه وتدبيره‪ ،‬فل يتحرك منها متحرك‪ ،‬ول يسكن ساكن إل بإذنه‪.‬‬

‫{ وَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬الذين وصفهم الجرام وكثرة الذنوب‪َ { ،‬ي ْومَئِذٍ } في ذلك اليوم { ُمقَرّنِينَ‬
‫فِي الَْأصْفَادِ } أي‪ :‬يسلسل كل أهل عمل من المجرمين بسلسل من نار فيقادون إلى العذاب في‬
‫أذل صورة وأشنعها وأبشعها‪.‬‬
‫{ سَرَابِيُلهُمْ } أي‪ :‬ثيابهم { مِنْ قَطِرَانٍ } وذلك لشدة اشتعال النار فيهم وحرارتها ونتن ريحها‪،‬‬
‫{ وَ َتغْشَى وُجُو َههُمُ } التي هي أشرف ما في أبدانهم { النّارَ } أي‪ :‬تحيط بها وتصلها من كل‬
‫جانب‪ ،‬وغير الوجوه من باب أولى وأحرى‪ ،‬وليس هذا ظلما من ال لهم وإنما هو جزاء لما قدموا‬
‫وكسبوا‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َبتْ } من خير وشر بالعدل والقسط الذي‬
‫ل جور فيه بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫غفْلَةٍ ُمعْ ِرضُونَ }‬


‫{ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } كقوله تعالى‪ { :‬اقْتَ َربَ لِلنّاسِ حِسَا ُب ُه ْم وَهُمْ فِي َ‬
‫ويحتمل أن معناه‪ :‬سريع المحاسبة فيحاسب الخلق في ساعة واحدة‪ ،‬كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع‬
‫التدابير في لحظة واحدة ل يشغله شأن عن شأن وليس ذلك بعسير عليه‪.‬‬

‫فلما بين البيان المبين في هذا القرآن قال في مدحه‪ { :‬هَذَا بَلَاغٌ لِلنّاسِ } أي‪ :‬يتبلغون به ويتزودون‬
‫إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات‪ ،‬لما اشتمل عليه من الصول والفروع‪،‬‬
‫وجميع العلوم التي يحتاجها العباد‪.‬‬

‫{ وَلِيُنْذَرُوا ِبهِ } لما فيه من الترهيب من أعمال الشر وما أعد ال لهلها من العقاب‪ { ،‬وَلِ َيعَْلمُوا‬
‫أَ ّنمَا ُهوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } حيث صرف فيه من الدلة والبراهين على ألوهيته ووحدانيته‪ ،‬ما صار ذلك‬
‫حق اليقين‪ { ،‬وَلِيَ ّذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬العقول الكاملة ما ينفعهم فيفعلونه‪ ،‬وما يضرهم‬
‫فيتركونه‪ ،‬وبذلك صاروا أولي اللباب والبصائر‪.‬‬

‫إذ بالقرآن ازدادت معارفهم وآراؤهم‪ ،‬وتنورت أفكارهم لما أخذوه غضّا طريّا فإنه ل يدعو إل‬
‫إلى أعلى الخلق والعمال وأفضلها‪ ،‬ول يستدل على ذلك إل بأقوى الدلة وأبينها‪.‬‬

‫وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة‬
‫حميدة‪.‬‬

‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تم تفسير سورة إبراهيم الخليل‬


‫عليه الصلة والسلم‬
‫تفسير سورة الحجر‬
‫وهي مكية‬

‫ب َوقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُ َبمَا َي َودّ الّذِينَ َكفَرُوا‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَا ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ * َومَا أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْ َيةٍ إِلّا‬
‫َلوْ كَانُوا ُمسِْلمِينَ * ذَرْ ُهمْ يَ ْأكُلُوا وَيَ َتمَ ّتعُوا وَيُ ْل ِههِمُ الَْأ َملُ فَ َ‬
‫وََلهَا كِتَابٌ َمعْلُومٌ * مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ }‬

‫يقول تعالى معظما لكتابه مادحا له { تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ } أي‪ :‬اليات الدالة على أحسن المعاني‬
‫وأفضل المطالب‪َ { ،‬وقُرْآنٍ مُبِينٍ } للحقائق بأحسن لفظ وأوضحه وأدله على المقصود‪ ،‬وهذا مما‬
‫يوجب على الخلق النقياد إليه‪ ،‬والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول والفرح والسرور‪.‬‬

‫فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها والكفر بها‪ ،‬فإنه من المكذبين الضالين‪ ،‬الذين سيأتي عليهم‬
‫وقت يتمنون أنهم مسلمون‪ ،‬أي‪ :‬منقادون لحكامه وذلك حين ينكشف الغطاء وتظهر أوائل الخرة‬
‫ومقدمات الموت‪ ،‬فإنهم في أحوال الخرة كلها يتمنون أنهم مسلمون‪ ،‬وقد فات وقت المكان‪،‬‬
‫ولكنهم في هذه الدنيا مغترون‪.‬‬

‫فب { ذَرْهُمْ يَ ْأكُلُوا وَيَ َتمَ ّتعُوا } بلذاتهم { وَيُ ْل ِههِمُ الَْأ َملُ } أي‪ :‬يؤملون البقاء في الدنيا فيلهيهم عن‬
‫سوْفَ َيعَْلمُونَ } أن ما هم عليه باطل وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم ول يغتروا‬
‫الخرة‪َ { ،‬ف َ‬
‫بإمهال ال تعالى فإن هذه سنته في المم‪.‬‬

‫{ َومَا أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْ َيةٍ } كانت مستحقة للعذاب { إِلّا وََلهَا كِتَابٌ َمعْلُومٌ } مقدر لهلكها‪.‬‬

‫{ مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ } وإل فالذنوب ل بد من وقوع أثرها وإن تأخر‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 9 - 6‬وقَالُوا يَا أَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ * َلوْ مَا تَأْتِينَا بِا ْلمَلَا ِئكَةِ إِنْ كُ ْنتَ‬
‫ق َومَا كَانُوا ِإذًا مُنْظَرِينَ * إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ وَإِنّا لَهُ‬
‫حّ‬‫مِنَ الصّا ِدقِينَ * مَانُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ ِإلّا بِالْ َ‬
‫لَحَا ِفظُونَ }‬

‫أي‪ :‬وقال المكذبون لمحمد صلى ال عليه وسلم استهزاء وسخرية‪ { :‬يا أيها الذي نزل عليه الذكر‬
‫} على زعمك { إنك لمجنون } إذ تظن أنا سنتبعك ونترك ما وجدنا عليه آباءنا لمجرد قولك‪.‬‬
‫{ لو ما تأتينا بالملئكة } يشهدون لك بصحة ما جئت به { إن كنت من الصادقين } فلما لم تأت‬
‫بالملئكة فلست بصادق‪ ،‬وهذا من أعظم الظلم والجهل‪.‬‬

‫أما الظلم فظاهر فإن هذا تجرؤ على ال وتعنت بتعيين اليات التي لم يخترها وحصل المقصود‬
‫والبرهان بدونها من اليات الكثيرة الدالة على صحة ما جاء به‪ ،‬وأما الجهل‪ ،‬فإنهم جهلوا‬
‫مصلحتهم من مضرتهم‪ ،‬فليس في إنزال الملئكة‪ ،‬خير لهم بل ل ينزل ال الملئكة إل بالحق‬
‫الذي ل إمهال على من لم يتبعه وينقد له‪.‬‬

‫{ وما كانوا إذا } أي‪ :‬حين تنزل الملئكة‪ ،‬إن لم يؤمنوا‪ ،‬ولن يؤمنوا بب { منظرين } أي‪:‬‬
‫بمهملين‪ ،‬فصار طلبهم لنزال الملئكة تعجيل لنفسهم بالهلك والدمار‪ ،‬فإن اليمان ليس في‬
‫أيديهم وإنما هو بيد ال‪ { ،‬ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء‬
‫قبل ما كانوا ليؤمنوا إل أن يشاء ال ولكن أكثرهم يجهلون } ويكفيهم من اليات إن كانوا‬
‫صادقين‪ ،‬هذا القرآن العظيم ولهذا قال هنا‪ { :‬إنا نحن نزلنا الذكر } أي‪ :‬القرآن الذي فيه ذكرى‬
‫لكل شيء من المسائل والدلئل الواضحة‪ ،‬وفيه يتذكر من أراد التذكر‪ { ،‬وإنا له لحافظون } أي‪:‬‬
‫في حال إنزاله وبعد إنزاله‪ ،‬ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم‪ ،‬وبعد‬
‫إنزاله أودعه ال في قلب رسوله‪ ،‬واستودعه فيها ثم في قلوب أمته‪ ،‬وحفظ ال ألفاظه من التغيير‬
‫فيها والزيادة والنقص‪ ،‬ومعانيه من التبديل‪ ،‬فل يحرف محرف معنى من معانيه إل وقيض ال له‬
‫من يبين الحق المبين‪ ،‬وهذا من أعظم آيات ال ونعمه على عباده المؤمنين‪ ،‬ومن حفظه أن ال‬
‫يحفظ أهله من أعدائهم‪ ،‬ول يسلط عليهم عدوا يجتاحهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 13 - 10‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي شِيَعِ الَْأوّلِينَ * َومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ َرسُولٍ إِلّا كَانُوا ِبهِ‬
‫يَسْ َتهْزِئُونَ * كَذَِلكَ َنسُْلكُهُ فِي قُلُوبِ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ * لَا ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َوقَدْ خََلتْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ }‬

‫يقول تعالى لنبيه إذ كذبه المشركون‪ :‬لم يزل هذا دأب المم الخالية والقرون الماضية‪ { :‬ولقد‬
‫أرسلنا من قبلك في شيع الولين } أي‪ :‬فرقهم وجماعتهم رسل‪.‬‬

‫{ وما يأتيهم من رسول } يدعوهم إلى الحق والهدى { إل كانوا به يستهزئون }‬

‫{ كذلك نسلكه } أي‪ :‬ندخل التكذيب { في قلوب المجرمين } أي‪ :‬الذين وصفهم لظلم والبهت‪،‬‬
‫عاقبناهم لما اشتبهت قلوبهم بالكفر والتكذيب‪ ،‬تشابهت معاملتهم لنبيائهم ورسلهم بالستهزاء‬
‫والسخرية وعدم اليمان ولهذا قال‪ { :‬ل يؤمنون به وقد خلت سنة الولين } أي‪ :‬عادة ال فيهم‬
‫بإهلك من لم يؤمن بآيات ال‪.‬‬
‫سكّ َرتْ‬
‫سمَاءِ فَظَلّوا فِيهِ َيعْرُجُونَ * َلقَالُوا إِ ّنمَا ُ‬
‫{ ‪ { } 15 - 14‬وََلوْ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَابًا مِنَ ال ّ‬
‫أَ ْبصَارُنَا َبلْ نَحْنُ َقوْمٌ َمسْحُورُونَ }‬

‫أي‪ :‬ولو جاءتهم كل آية عظيمة لم يؤمنوا وكابروا { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } فصاروا‬
‫يعرجون فيه‪ ،‬ويشاهدونه عيانا بأنفسهم لقالوا من ظلمهم وعنادهم منكرين لهذه الية‪ { :‬إنما‬
‫سكرت أبصارنا } أي‪ :‬أصابها سكر وغشاوة حتى رأينا ما لم نر‪ { ،‬بل نحن قوم مسحورون }‬
‫أي‪ :‬ليس هذا بحقيقة‪ ،‬بل هذا سحر‪ ،‬وقوم وصلت بهم الحال إلى هذا النكار‪ ،‬فإنهم ل مطمع فيهم‬
‫ول رجاء‪ ،‬ثم ذكر اليات الدالت على ما جاءت به الرسل من الحق فقال‪:‬‬

‫حفِظْنَاهَا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ‬


‫سمَاءِ بُرُوجًا وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ * وَ َ‬
‫جعَلْنَا فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 20- 16‬وَلَقَدْ َ‬
‫سيَ وَأَنْبَتْنَا‬
‫شهَابٌ مُبِينٌ * وَالْأَ ْرضَ َمدَدْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ‬
‫سمْعَ فَأَتْ َبعَهُ ِ‬
‫رَجِيمٍ * إِلّا مَنِ اسْتَرَقَ ال ّ‬
‫ش َومَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَا ِزقِينَ }‬
‫جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِ َ‬
‫شيْءٍ َموْزُونٍ * وَ َ‬
‫فِيهَا مِنْ ُكلّ َ‬

‫يقول تعالى ‪-‬مبينا كمال اقتداره ورحمته بخلقه‪ { :-‬ولقد جعلنا في السماء بروجا } أي‪ :‬نجوما‬
‫كالبراج والعلم العظام يهتدى بها في ظلمات البر والبحر‪ { ،‬وزيناها للناظرين } فإنه لول‬
‫النجوم لما كان للسماء هذا المنظر البهي والهيئة العجيبة‪ ،‬وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها‬
‫والنظر في معانيها والستدلل بها على باريها‪.‬‬

‫{ وحفظناها من كل شيطان رجيم } إذا استرق السمع أتبعته الشهب الثواقب فبقيت السماء ظاهرها‬
‫مجمل بالنجوم النيرات وباطنها محروسا ممنوعا من الفات‪.‬‬

‫{ إل من استرق السمع } أي‪ :‬في بعض الوقات قد يسترق بعض الشياطين السمع بخفية‬
‫واختلس‪ { ،‬فأتبعه شهاب مبين } أي‪ :‬بين منير يقتله أو يخبله‪ .‬فربما أدركه الشهاب قبل أن‬
‫يوصلها الشيطان إلى وليه فينقطع خبر السماء عن الرض‪ ،‬وربما ألقاها إلى وليه قبل أن يدركه‬
‫الشهاب فيضمّها ويكذب معها مائة كذبة‪ ،‬ويستدل بتلك الكلمة التي سمعت من السماء‪.‬‬

‫{ والرض مددناها } أي‪ :‬وسعناها سعة يتمكن الدميون والحيوانات كلها على المتداد بأرجائها‬
‫والتناول من أرزاقها والسكون في نواحيها‪.‬‬

‫{ وألقينا فيها رواسي } أي‪ :‬جبال عظاما تحفظ الرض بإذن ال أن تميد وتثبتها أن تزول‬
‫{ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } أي‪ :‬نافع متقوم يضطر إليه العباد والبلد ما بين نخيل‬
‫وأعناب وأصناف الشجار وأنواع النبات‪.‬‬
‫{ وجعلنا لكم فيها معايش } من الحرث ومن الماشية ومن أنواع المكاسب والحرف‪ { .‬ومن لستم‬
‫له برازقين } أي‪ :‬أنعمنا عليكم بعبيد وإماء وأنعام لنفعكم ومصالحكم وليس عليكم رزقها‪ ،‬بل‬
‫خولكم ال إياها وتكفل بأرزاقها‪.‬‬

‫شيْءٍ إِلّا عِ ْندَنَا خَزَائُِن ُه َومَا نُنَزّلُهُ إِلّا ِبقَدَرٍ َمعْلُومٍ }‬


‫{ ‪ { } 21‬وَإِنْ مِنْ َ‬

‫أي‪ :‬جميع الرزاق وأصناف القدار ل يملكها أحد إل ال‪ ،‬فخزائنها بيده يعطي من يشاء‪ ،‬ويمنع‬
‫من يشاء‪ ،‬بحسب حكمته ورحمته الواسعة‪َ { ،‬ومَا نُنَزّلُهُ } أي‪ :‬المقدر من كل شيء من مطر‬
‫وغيره‪ { ،‬إِلّا ِبقَدَرٍ َمعْلُومٍ } فل يزيد على ما قدره ال ول ينقص منه‪.‬‬

‫سقَيْنَاكُمُوهُ َومَا أَنْ ُتمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }‬


‫سمَاءِ مَاءً فََأ ْ‬
‫{ ‪ { } 22‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ‬

‫أي‪ :‬وسخرنا الرياح‪ ،‬رياح الرحمة تلقح السحاب‪ ،‬كما يلقح الذكر النثى‪ ،‬فينشأ عن ذلك الماء‬
‫بإذن ال‪ ،‬فيسقيه ال العباد ومواشيهم وأرضهم‪ ،‬ويبقى في الرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم‬
‫ما هو مقتضى قدرته ورحمته‪َ { ،‬ومَا أَنْتُمْ لَهُ ِبخَازِنِينَ } أي‪ :‬ل قدرة لكم على خزنه وادخاره‪،‬‬
‫ولكن ال يخزنه لكم ويسلكه ينابيع في الرض رحمة بكم وإحسانا إليكم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 25 - 23‬وَإِنّا لَ َنحْنُ نُحْيِي وَ ُنمِيتُ وَنَحْنُ ا ْلوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَِلمْنَا ا ْلمُسْ َتقْ ِدمِينَ مِ ْنكُ ْم وََلقَدْ‬
‫حكِيمٌ عَلِيمٌ }‬
‫حشُرُهُمْ إِنّهُ َ‬
‫عَِلمْنَا ا ْلمُسْتَ ْأخِرِينَ * وَإِنّ رَ ّبكَ ُهوَ يَ ْ‬

‫أي‪ :‬هو وحده ل شريك له الذي يحيي الخلق من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ويميتهم‬
‫جعُونَ‬
‫لجالهم التي قدرها { وَنَحْنُ ا ْلوَارِثُونَ } كقوله‪ { :‬إِنّا َنحْنُ نَ ِرثُ الْأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫} وليس ذلك بعزيز ول ممتنع على ال فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق والمستأخرين منهم‬
‫ويعلم ما تنقص الرض منهم وما تفرق من أجزائهم‪ ،‬وهو الذي قدرته ل يعجزها معجز فيعيد‬
‫عباده خلقا جديدا ويحشرهم إليه‪.‬‬

‫حكِيمٌ } يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وينزلها منازلها‪ ،‬ويجازي كل عامل بعمله‪ ،‬إن خيرا فخير‪،‬‬
‫{ إِنّهُ َ‬
‫وإن شرا فشر‪.‬‬

‫حمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانّ خََلقْنَاهُ مِنْ قَ ْبلُ مِنْ‬


‫ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ‬
‫{ ‪ { } 44 - 26‬وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِ ْنسَانَ مِ ْ‬
‫سوّيْتُهُ‬
‫حمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا َ‬
‫ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ‬
‫سمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ إِنّي خَالِقٌ َبشَرًا مِ ْ‬
‫نَارِ ال ّ‬
‫ج َمعُونَ * إِلّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ َيكُونَ‬
‫سجَدَ ا ْلمَلَا ِئكَةُ كُّلهُمْ َأ ْ‬
‫جدِينَ * فَ َ‬
‫ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَ َقعُوا لَهُ سَا ِ‬
‫وَنَفَ ْ‬
‫سجُدَ لِ َبشَرٍ خََلقْتَهُ مِنْ‬
‫جدِينَ * قَالَ لَمْ َأكُنْ لِأَ ْ‬
‫مَعَ السّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا َلكَ أَلّا َتكُونَ مَعَ السّا ِ‬
‫حمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِ ْنهَا فَإِ ّنكَ رَجِيمٌ * وَإِنّ عَلَ ْيكَ الّلعْ َنةَ إِلَى َيوْمِ الدّينِ * قَالَ‬
‫صَ ْلصَالٍ مِنْ َ‬
‫َربّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ * قَالَ فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنْظَرِينَ * إِلَى َيوْمِ ا ْل َوقْتِ ا ْل َمعْلُومِ * قَالَ َربّ ِبمَا‬
‫ج َمعِينَ * إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ * قَالَ هَذَا‬
‫غوِيَنّهُمْ أَ ْ‬
‫ض وَلَأُ ْ‬
‫غوَيْتَنِي لَأُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫أَ ْ‬
‫جهَنّمَ‬
‫سلْطَانٌ إِلّا مَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ * وَإِنّ َ‬
‫صِرَاطٌ عََليّ مُسْ َتقِيمٌ * إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ ُ‬
‫ج َمعِينَ * َلهَا سَ ْبعَةُ أَ ْبوَابٍ ِل ُكلّ بَابٍ مِ ْنهُمْ جُزْءٌ َمقْسُومٌ }‬
‫َل َموْعِدُهُمْ أَ ْ‬

‫يذكر تعالى نعمته وإحسانه على أبينا آدم عليه السلم‪ ،‬وما جرى من عدوه إبليس‪ ،‬وفي ضمن‬
‫ذلك التحذير لنا من شره وفتنته فقال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ } أي آدم عليه السلم { مِنْ‬
‫حمَإٍ مَسْنُونٍ } أي‪ :‬من طين قد يبس بعد ما خمر حتى صار له صلصلة وصوت‪،‬‬
‫صَ ْلصَالٍ مِنْ َ‬
‫كصوت الفخار‪ ،‬والحمأ المسنون‪ :‬الطين المتغير لونه وريحه من طول مكثه‪.‬‬

‫سمُومِ } أي‪ :‬من‬


‫{ وَا ْلجَانّ } وهو‪ :‬أبو الجن أي‪ :‬إبليس { خََلقْنَاهُ مِنْ قَ ْبلُ } خلق آدم { مِنْ نَارِ ال ّ‬
‫ن صَ ْلصَالٍ مِنْ‬
‫النار الشديدة الحرارة‪ ،‬فلما أراد ال خلق آدم قال للملئكة‪ { :‬إِنّي خَالِقٌ َبشَرًا مِ ْ‬
‫جدِينَ } فامتثلوا أمر‬
‫ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي َفقَعُوا لَهُ سَا ِ‬
‫سوّيْتُهُ } جسدا تاما { وَنَفَ ْ‬
‫حمَإٍ مَسْنُونٍ فَِإذَا َ‬
‫َ‬
‫ربهم‪.‬‬

‫ج َمعُونَ } تأكيد بعد تأكيد ليدل على أنه لم يتخلف منهم أحد‪ ،‬وذلك تعظيما‬
‫{ َفسَجَدَ ا ْلمَلَا ِئكَةُ كُّلهُمْ َأ ْ‬
‫لمر ال وإكراما لدم حيث علم ما لم يعلموا‪.‬‬

‫جدِينَ } وهذه أول عداوته لدم وذريته‪ ،‬قال ال‪ { :‬يَا إِبْلِيسُ مَا‬
‫{ إِلّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ َيكُونَ مَعَ السّا ِ‬
‫حمَإٍ مَسْنُونٍ } فاستكبر‬
‫ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ‬
‫َلكَ أَلّا َتكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ قَالَ َلمْ َأكُنْ لَِأسْجُدَ لِبَشَرٍ خََلقْتَهُ مِ ْ‬
‫على أمر ال وأبدى العداوة لدم وذريته وأعجب بعنصره‪ ،‬وقال‪ :‬أنا خير من آدم‪.‬‬

‫{ قَالَ } ال معاقبا له على كفره واستكباره { فَاخْرُجْ مِ ْنهَا فَإِ ّنكَ َرجِيمٌ } أي‪ :‬مطرود مبعد من كل‬
‫خير‪ { ،‬وَإِنّ عَلَ ْيكَ الّلعْنَةَ } أي‪ :‬الذم والعيب‪ ،‬والبعد عن رحمة ال‪ { ،‬إِلَى َيوْمِ الدّينِ } ففيها وما‬
‫أشبهها دليل على أنه سيستمر على كفره وبعده من الخير‪.‬‬

‫{ قَالَ َربّ فَأَنْظِرْنِي } أي‪ :‬أمهلني { إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ قَالَ فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنْظَرِينَ إِلَى َيوْمِ ا ْل َو ْقتِ‬
‫ا ْل َمعْلُومِ } وليس إجابة ال لدعائه كرامة في حقه وإنما ذلك امتحان وابتلء من ال له وللعباد‬
‫ليتبين الصادق الذي يطيع موله دون عدوه ممن ليس كذلك‪ ،‬ولذلك حذرنا منه غاية التحذير‪،‬‬
‫وشرح لنا ما يريده منا‪.‬‬

‫غوَيْتَنِي لَأُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬أزين لهم الدنيا وأدعوهم إلى إيثارها على‬
‫{ قَالَ َربّ ِبمَا أَ ْ‬
‫ج َمعِينَ } أي‪ :‬أصدهم كلهم عن الصراط‬
‫غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫الخرى‪ ،‬حتى يكونوا منقادين لكل معصية‪ { .‬وَلَأُ ْ‬
‫المستقيم‪ { ،‬إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ } أي‪ :‬الذين أخلصتهم واجتبيتهم لخلصهم‪ ،‬وإيمانهم‬
‫وتوكلهم‪.‬‬

‫ي وإلى دار كرامتي‪.‬‬


‫قال ال تعالى‪ { :‬هَذَا صِرَاطٌ عََليّ مُسْ َتقِيمٌ } أي‪ :‬معتدل موصل إل ّ‬

‫علَ ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ } تميلهم به إلى ما تشاء من أنواع الضللت‪ ،‬بسبب عبوديتهم‬
‫{ إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ َ‬
‫لربهم وانقيادهم لوامره أعانهم ال وعصمهم من الشيطان‪.‬‬

‫{ إِلّا مَنِ اتّ َب َعكَ } فرضي بوليتك وطاعتك بدل من طاعة الرحمن‪ { ،‬مِنَ ا ْلغَاوِينَ } والغاوي‪ :‬ضد‬
‫الراشد فهو الذي عرف الحق وتركه‪ ،‬والضال‪ :‬الذي تركه من غير علم منه به‪.‬‬

‫ج َمعِينَ } أي‪ :‬إبليس وجنوده‪َ { ،‬لهَا سَ ْبعَةُ أَ ْبوَابٍ } كل باب أسفل من‬
‫جهَنّمَ َل َموْعِدُ ُهمْ َأ ْ‬
‫{ وَإِنّ َ‬
‫الخر‪ِ { ،‬ل ُكلّ بَابٍ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من أتباع إبليس { جُ ْزءٌ َمقْسُومٌ } بحسب أعمالهم‪ .‬قال ال تعالى‪:‬‬
‫ج َمعُونَ }‬
‫ن وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَ ْ‬
‫{ َفكُ ْبكِبُوا فِيهَا هُمْ وَا ْلغَاوُو َ‬

‫ولما ذكر تعالى ما أعد لعدائه أتباع إبليس من النكال والعذاب الشديد ذكر ما أعد لوليائه من‬
‫الفضل العظيم والنعيم المقيم فقال‪:‬‬

‫ت وَعُيُونٍ * ا ْدخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ‬


‫{ ‪ { } 50 - 45‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ‬
‫صبٌ َومَا ُهمْ مِ ْنهَا ِبمُخْ َرجِينَ * نَ ّبئْ عِبَادِي‬
‫سهُمْ فِيهَا َن َ‬
‫خوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُ َتقَابِلِينَ * لَا َي َم ّ‬
‫غلّ إِ ْ‬
‫مِنْ ِ‬
‫عذَابِي ُهوَ ا ْلعَذَابُ الْأَلِيمُ }‬
‫أَنّي أَنَا ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ * وَأَنّ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } الذين اتقوا طاعة الشيطان وما يدعوهم إليه من جميع الذنوب‬
‫ت وَعُيُونٍ } قد احتوت على جميع الشجار وأينعت فيها جميع الثمار اللذيذة‬
‫والعصيان { فِي جَنّا ٍ‬
‫في جميع الوقات‪.‬‬

‫ويقال لهم حال دخولها‪ { :‬ا ْدخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ } من الموت والنوم والنصب‪ ،‬واللغوب وانقطاع‬
‫شيء من النعيم الذي هم فيه أو نقصانه ومن المرض‪ ،‬والحزن والهم وسائر المكدرات‪ { ،‬وَنَزَعْنَا‬
‫غلّ } فتبقى قلوبهم سالمة من كل دغل وحسد متصافية متحابة { إخوانا على‬
‫صدُورِهِمْ مِنْ ِ‬
‫مَا فِي ُ‬
‫سرر متقابلين }‬

‫دل ذلك على تزاورهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم في كون كل منهم مقابل للخر ل‬
‫مستدبرا له متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر‪.‬‬

‫صبٌ } ل ظاهر ول باطن‪ ،‬وذلك لن ال ينشئهم نشأة وحياة كاملة ل تقبل شيئا‬
‫سهُمْ فِيهَا َن َ‬
‫{ لَا َيمَ ّ‬
‫من الفات‪َ { ،‬ومَا هُمْ مِ ْنهَا ِبمُخْ َرجِينَ } على سائر الوقات‪.‬‬

‫ولما ذكر ما يوجب الرغبة والرهبة من مفعولت ال من الجنة والنار‪ ،‬ذكر ما يوجب ذلك من‬
‫أوصافه تعالى فقال‪ { :‬نَ ّبئْ عِبَادِي } أي‪ :‬أخبرهم خبرا جازما مؤيدا بالدلة‪ { ،‬أَنّي أَنَا ا ْلغَفُورُ‬
‫سعَوا في السباب الموصلة لهم إلى رحمته‬
‫الرّحِيمُ } فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته‪ ،‬ومغفرته َ‬
‫وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها‪ ،‬لينالوا مغفرته‪.‬‬

‫عذَابِي ُهوَ‬
‫ومع هذا فل ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال المن والدلل‪ ،‬فنبئهم { وَأَنّ َ‬
‫ا ْلعَذَابُ الْأَلِيمُ } أي‪ :‬ل عذاب في الحقيقة إل عذاب ال الذي ل يقادر قدره ول يبلغ كنهه نعوذ به‬
‫من عذابه‪ ،‬فإنهم إذا عرفوا أنه { ل يعذب عذابه أحد ول يوثق وثاقه أحد } حذروا وأبعدوا عن‬
‫كل سبب يوجب لهم العقاب‪ ،‬فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء‪ ،‬والرغبة‬
‫والرهبة‪ ،‬فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه‪ ،‬أحدث له ذلك الرجاء والرغبة‪ ،‬وإذا‬
‫نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه‪ ،‬أحدث له الخوف والرهبة والقلع عنها‪.‬‬

‫ن ضَ ْيفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ َدخَلُوا عَلَيْهِ َفقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنّا مِ ْنكُ ْم وَجِلُونَ *‬
‫{ ‪ { } 56 - 51‬وَنَبّ ْئهُمْ عَ ْ‬
‫جلْ إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشّرْ ُتمُونَ عَلَى أَنْ مَسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ فَبِمَ تُ َبشّرُونَي * قَالُوا‬
‫قَالُوا لَا َتوْ َ‬
‫حمَةِ رَبّهِ إِلّا الضّالّونَ }‬
‫ل َومَنْ َيقْنَطُ مِنْ رَ ْ‬
‫بَشّرْنَاكَ بِا ْلحَقّ فَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْلقَانِطِينَ * قَا َ‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وَنَبّ ْئهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي‪ :‬عن تلك القصة‬
‫العجيبة فإن في قصك عليهم أنباء الرسل وما جرى لهم ما يوجب لهم العبرة والقتداء بهم‪،‬‬
‫خصوصا إبراهيم الخليل‪ ،‬الذي أمرنا ال أن نتبع ملته‪ ،‬وضيفه هم الملئكة الكرام أكرمه ال بأن‬
‫جعلهم أضيافه‪.‬‬
‫{ ِإذْ َدخَلُوا عَلَيْهِ َفقَالُوا سَلَامًا } أي‪ :‬سلموا عليه فرد عليهم { قَالَ إِنّا مِ ْنكُمْ وَجِلُونَ } أي‪ :‬خائفون‪،‬‬
‫لنه لما دخلوا عليه وحسبهم ضيوفا ذهب مسرعا إلى بيته فأحضر لهم ضيافتهم‪ ،‬عجل حنيذا‬
‫فقدمه إليهم‪ ،‬فلما رأى أيديهم ل تصل‪ ،‬إليه خاف منهم أن يكونوا لصوصا أو نحوهم‪.‬‬

‫جلْ إِنّا نُ َبشّ ُركَ ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ } وهو إسحاق عليه الصلة والسلم‪ ،‬تضمنت‬
‫فب { قَالُوا } له‪ { :‬لَا َتوْ َ‬
‫سحَاقَ نَبِيّا مِنَ‬
‫هذه البشارة بأنه ذكر ل أنثى عليم أي‪ :‬كثير العلم‪ ،‬وفي الية الخرى { وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ‬
‫الصّالِحِينَ }‬

‫فقال لهم متعجبا من هذه البشارة‪ { :‬أَبَشّرْ ُتمُونِي } بالولد { عَلَى أَنْ مَسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ } وصار نوع إياس‬
‫منه { فَبِمَ تُ َبشّرُونَ } أي‪ :‬على أي وجه تبشرون وقد عدمت السباب؟‬

‫حقّ } الذي ل شك فيه لن ال على كل شيء قدير‪ ،‬وأنتم بالخصوص ‪-‬يا أهل‬
‫{ قَالُوا َبشّرْنَاكَ بِالْ َ‬
‫هذا البيت‪ -‬رحمة ال وبركاته عليكم فل يستغرب فضل ال وإحسانه إليكم‪.‬‬

‫{ فَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْلقَانِطِينَ } الذين يستبعدون وجود الخير‪ ،‬بل ل تزال راجيا لفضل ال وإحسانه‪،‬‬
‫حمَةِ رَبّهِ إِلّا الضّالّونَ } الذين ل علم لهم‬
‫وبره وامتنانه‪ ،‬فأجابهم إبراهيم بقوله‪َ { :‬ومَنْ َيقْنَطُ مِنْ َر ْ‬
‫بربهم‪ ،‬وكمال اقتداره وأما من أنعم ال عليه بالهداية والعلم العظيم‪ ،‬فل سبيل إلى القنوط إليه لنه‬
‫يعرف من كثرة السباب والوسائل والطرق لرحمة ال شيئا كثيرا‪ ،‬ثم لما بشروه بهذه البشارة‪،‬‬
‫عرف أنهم مرسلون لمر مهم‪.‬‬

‫خطْ ُبكُمْ أَ ّيهَا ا ْلمُ ْرسَلُونَ * قَالُوا إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمٍ مُجْ ِرمِينَ * إِلّا آلَ‬
‫{ ‪ { } 77 - 57‬قَالَ َفمَا َ‬
‫ج َمعِينَ * إِلّا امْرَأَ َتهُ قَدّرْنَا إِ ّنهَا َلمِنَ ا ْلغَابِرِينَ * فََلمّا جَاءَ آلَ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلُونَ *‬
‫لُوطٍ إِنّا َلمُ َنجّوهُمْ َأ ْ‬
‫ق وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ *‬
‫حّ‬‫قَالَ إِ ّنكُمْ َقوْمٌ مُ ْنكَرُونَ * قَالُوا َبلْ جِئْنَاكَ ِبمَا كَانُوا فِيهِ َيمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْ َ‬
‫ل وَاتّبِعْ َأدْبَارَهُ ْم وَلَا يَلْ َت ِفتْ مِ ْنكُمْ َأحَ ٌد وَا ْمضُوا حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ * َو َقضَيْنَا‬
‫طعٍ مِنَ اللّ ْي ِ‬
‫فَأَسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِ ْ‬
‫إِلَيْهِ ذَِلكَ الَْأمْرَ أَنّ دَابِرَ َهؤُلَاءِ َمقْطُوعٌ ُمصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَ ْهلُ ا ْلمَدِي َنةِ يَسْتَ ْبشِرُونَ * قَالَ إِنّ َهؤُلَاءِ‬
‫ضَيْفِي فَلَا َت ْفضَحُونِ * وَاتّقُوا اللّهَ وَلَا ُتخْزُونِ * قَالُوا َأوَلَمْ نَ ْن َهكَ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ * قَالَ َهؤُلَاءِ بَنَاتِي‬
‫جعَلْنَا عَالِ َيهَا‬
‫سكْرَ ِتهِمْ َي ْع َمهُونَ * فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ مُشْ ِرقِينَ * فَ َ‬
‫إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * َل َعمْ ُركَ إِ ّنهُمْ َلفِي َ‬
‫سمِينَ * وَإِ ّنهَا لَبِسَبِيلٍ ُمقِيمٍ *‬
‫سجّيلٍ * إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ‬
‫حجَا َرةً مِنْ ِ‬
‫سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْي ِهمْ ِ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫أي‪ { :‬قَالَ } الخليل عليه السلم للملئكة‪َ { :‬فمَا خَطْ ُبكُمْ أَ ّيهَا ا ْلمُرْسَلُونَ } أي‪ :‬ما شأنكم ولي شيء‬
‫أرسلتم؟‬
‫{ قَالُوا إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمٍ ُمجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬كثر فسادهم وعظم شرهم‪ ،‬لنعذبهم ونعاقبهم‪ { ،‬إِلّا آلَ‬
‫لُوطٍ } أي‪ :‬إل لوطا وأهله { إِلّا امْرَأَتَهُ قَدّرْنَا إِ ّنهَا َلمِنَ ا ْلغَابِرِينَ } أي‪ :‬الباقين بالعذاب‪ ،‬وأما لوط‬
‫فسنخرجنه وأهله وننجيهم منها‪ ،‬فجعل إبراهيم يجادل الرسل في إهلكهم ويراجعهم‪ ،‬فقيل له‪ { :‬يا‬
‫إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } فذهبوا منه‪.‬‬

‫{ فََلمّا جَاءَ آلَ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلُونَ قَالَ } لهم لوط { إِ ّنكُمْ َقوْمٌ مُ ْنكَرُونَ } أي‪ :‬ل أعرفكم ول أدري من‬
‫أنتم‪.‬‬

‫{ قَالُوا َبلْ جِئْنَاكَ ِبمَا كَانُوا فِيهِ َيمْتَرُونَ } أي‪ :‬جئناك بعذابهم الذي كانوا يشكون فيه ويكذبونك‬
‫حين تعدهم به‪ { ،‬وَأَتَيْنَاكَ بِا ْلحَقّ } الذي ليس بالهزل { وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ } فيما قلنا لك‪.‬‬

‫{ فََأسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِطْعٍ مِنَ اللّ ْيلِ } أي‪ :‬في أثنائه حين تنام العيون ول يدري أحد عن مسراك‪ { ،‬وَلَا‬
‫يَلْ َتفِتْ مِ ْنكُمْ َأحَدٌ } أي‪ :‬بادروا وأسرعوا‪ { ،‬وَا ْمضُوا حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ } كأن معهم دليل يدلهم إلى أين‬
‫يتوجهون { َو َقضَيْنَا إِلَيْهِ ذَِلكَ } أي‪ :‬أخبرناه خبرا ل مثنوية فيه‪ { ،‬أَنّ دَابِرَ َهؤُلَاءِ َمقْطُوعٌ‬
‫ُمصْبِحِينَ } أي‪ :‬سيصبحهم العذاب الذي يجتاحهم ويستأصلهم‪ { ،‬وَجَاءَ أَ ْهلُ ا ْل َمدِينَةِ } أي‪ :‬المدينة‬
‫التي فيها قوم لوط { يَسْتَبْشِرُونَ } أي‪ :‬يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط وصباحة وجوههم‬
‫واقتدارهم عليهم‪ ،‬وذلك لقصدهم فعل الفاحشة فيهم‪ ،‬فجاءوا حتى وصلوا إلى بيت لوط فجعلوا‬
‫يعالجون لوطا على أضيافه‪ ،‬ولوط يستعيذ منهم ويقول‪ { :‬إِنّ َهؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا َتفْضَحُون وَا ّتقُوا‬
‫اللّ َه وَلَا ُتخْزُون } أي‪ :‬راقبوا ال أول ذلك وإن كان ليس فيكم خوف من ال فل تفضحون في‬
‫أضيافي‪ ،‬وتنتهكوا منهم المر الشنيع‪.‬‬

‫فب { قَالُوا } له جوابا عن قوله ول تخزون فقط‪َ { :‬أوََلمْ نَ ْن َهكَ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ } أن تضيفهم فنحن قد‬
‫أنذرناك‪ ،‬ومن أنذر فقد أعذر‪ ،‬فب { قَالَ } لهم لوط من شدة المر الذي أصابه‪َ { :‬هؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ‬
‫كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } فلم يبالوا بقوله ولهذا قال ال لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم { َل َعمْ ُركَ إِ ّنهُمْ َلفِي‬
‫سكْرَ ِتهِمْ َي ْع َمهُونَ } وهذه السكرة هي سكرة محبة الفاحشة التي ل يبالون معها بعذل ول لوم‪.‬‬
‫َ‬

‫فلما بينت له الرسل حالهم‪ ،‬زال عن لوط ما كان يجده من الضيق والكرب‪ ،‬فامتثل أمر ربه‬
‫حةُ مُشْ ِرقِينَ } أي‪ :‬وقت شروق الشمس‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ‬
‫وسرى بأهله ليل فنجوا‪ ،‬وأما أهل القرية { فَأَ َ‬
‫جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا } أي‪ :‬قلبنا عليهم مدينتهم‪ { ،‬وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ‬
‫حين كانت العقوبة عليهم أشد‪ { ،‬فَ َ‬
‫سجّيلٍ } تتبع فيها من شذ من البلد منهم‪.‬‬
‫حجَا َرةً مِنْ ِ‬
‫ِ‬
‫سمِينَ } أي‪ :‬المتأملين المتفكرين‪ ،‬الذين لهم فكر وروية وفراسة‪ ،‬يفهمون‬
‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ‬
‫بها ما أريد بذلك‪ ،‬من أن من تجرأ على معاصي ال‪ ،‬خصوصا هذه الفاحشة العظيمة‪ ،‬وأن ال‬
‫سيعاقبهم بأشنع العقوبات‪ ،‬كما تجرأوا على أشنع السيئات‪.‬‬

‫{ وَإِ ّنهَا } أي‪ :‬مدينة قوم لوط { لَ ِبسَبِيلٍ مُقِيمٍ } للسالكين‪ ،‬يعرفه كل من تردد في تلك الديار { إِنّ‬
‫فِي ذَِلكَ لَآيَةً لِ ْل ُمؤْمِنِينَ } وفي هذه القصة من العبر‪ :‬عنايته تعالى بخليله إبراهيم‪ ،‬فإن لوطا عليه‬
‫السلم من أتباعه‪ ،‬وممن آمن به فكأنه تلميذ له‪ ،‬فحين أراد ال إهلك قوم لوط حين استحقوا ذلك‪،‬‬
‫أمر رسله أن يمروا على إبراهيم عليه السلم كي يبشروه بالولد ويخبروه بما بعثوا له‪ ،‬حتى إنه‬
‫جادلهم عليه السلم في إهلكهم حتى أقنعوه‪ ،‬فطابت نفسه‪.‬‬

‫وكذلك لوط عليه السلم‪ ،‬لما كانوا أهل وطنه‪ ،‬فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدّر ال من‬
‫السباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم‪ ،‬حتى استبطأ إهلكهم لما قيل له‪ { :‬إن موعدهم الصبح‬
‫أليس الصبح بقريب } ومنها‪ :‬أن ال تعالى إذا أراد أن يهلك قرية [ازداد] شرهم وطغيانهم‪ ،‬فإذا‬
‫انتهى أوقع بهم من العقوبات ما يستحقونه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 79 - 78‬وَإِنْ كَانَ َأصْحَابُ الْأَ ْيكَةِ لَظَاِلمِينَ * فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُ ْم وَإِ ّن ُهمَا لَبِِإمَامٍ مُبِينٍ }‬

‫وهؤلء هم قوم شعيب‪ ،‬نعتهم ال وأضافهم إلى اليكة‪ ،‬وهو البستان كثير الشجار‪ ،‬ليذكر نعمته‬
‫عليهم‪ ،‬وأنهم ما قاموا بها بل جاءهم نبيهم شعيب‪ ،‬فدعاهم إلى التوحيد‪ ،‬وترك ظلم الناس في‬
‫المكاييل والموازين‪ ،‬وعاجلهم على ذلك على أشد المعالجة فاستمروا على ظلمهم في حق الخالق‪،‬‬
‫وفي حق الخلق‪ ،‬ولهذا وصفهم هنا بالظلم‪ { ،‬فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ } فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان‬
‫عذاب يوم عظيم‪ { .‬وَإِ ّن ُهمَا } أي‪ :‬ديار قوم لوط وأصحاب اليكة { لَبِِإمَامٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬لبطريق‬
‫واضح يمر بهم المسافرون كل وقت‪ ،‬فيبين من آثارهم ما هو مشاهد بالبصار فيعتبر بذلك أولوا‬
‫اللباب‪.‬‬

‫{ ‪ { } 84 - 80‬وََلقَدْ كَ ّذبَ َأصْحَابُ ا ْلحِجْرِ ا ْلمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا َفكَانُوا عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ *‬
‫َوكَانُوا يَ ْنحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ ُمصْبِحِينَ * َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا‬
‫َيكْسِبُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن أهل الحجر‪ ،‬وهم قوم صالح الذين كانوا يسكنون الحجر المعروف في أرض‬
‫الحجاز‪ ،‬أنهم كذبوا المرسلين أي‪ :‬كذبوا صالحا‪ ،‬ومن كذب رسول فقد كذب سائر الرسل‪ ،‬لتفاق‬
‫دعوتهم‪ ،‬وليس تكذيب بعضهم لشخصه بل لما جاء به من الحق الذي اشترك جميع الرسل‬
‫بالتيان به‪ { ،‬وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا } الدالة على صحة ما جاءهم به صالح من الحق التي من جملتها‪:‬‬
‫تلك الناقة التي هي من آيات ال العظيمة‪.‬‬

‫{ َفكَانُوا عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ } كبرا وتجبرا على ال‪َ { ،‬وكَانُوا } من كثرة إنعام ال عليهم { يَ ْنحِتُونَ‬
‫مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } من المخاوف مطمئنين في ديارهم‪ ،‬فلو شكروا النعمة وصدقوا نبيهم‬
‫صالحا عليه السلم لدرّ ال عليهم الرزاق‪ ،‬ولكرمهم بأنواع من الثواب العاجل والجل‪ ،‬ولكنهم‬
‫‪-‬لما كذبوا وعقروا الناقة‪ ،‬وعتوا عن أمر ربهم وقالوا‪ { :‬يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من‬
‫الصادقين }‬

‫{ فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ ُمصْ ِبحِينَ } فتقطعت قلوبهم في أجوافهم وأصبحوا في دارهم جاثمين هلكى‪ ،‬مع‬
‫ما يتبع ذلك من الخزي واللعنة المستمرة { َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } لن أمر ال إذا جاء‬
‫ل يرده كثرة جنود‪ ،‬ول قوة أنصار ول غزارة أموال‪.‬‬

‫صفَحِ‬
‫ق وَإِنّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَا ْ‬
‫حّ‬‫ت وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 86 - 85‬ومَا خََلقْنَا ال ّ‬
‫جمِيلَ * إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلخَلّاقُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫صفْحَ ا ْل َ‬
‫ال ّ‬

‫حقّ } الذي منه أن‬


‫أي‪ :‬ما خلقناهما عبثا وباطل كما يظن ذلك أعداء ال‪ ،‬بل ما خلقناهما { إِلّا بِالْ َ‬
‫يكونا بما فيهما دالتين على كمال خالقهما‪ ،‬واقتداره‪ ،‬وسعة رحمته وحكمته‪ ،‬وعلمه المحيط‪ ،‬وأنه‬
‫الذي ل تنبغي العبادة إل له وحده ل شريك له‪ { ،‬وَإِنّ السّاعَةَ لَآتِ َيةٌ } ل ريب فيها لخلق السماوات‬
‫جمِيلَ } وهو الصفح الذي ل أذية فيه بل يقابل‬
‫صفْحَ ا ْل َ‬
‫صفَحِ ال ّ‬
‫والرض أكبر من خلق الناس { فَا ْ‬
‫إساءة المسيء بالحسان‪ ،‬وذنبه بالغفران‪ ،‬لتنال من ربك جزيل الجر والثواب‪ ،‬فإن كل ما هو‬
‫آت فهو قريب‪ ،‬وقد ظهر لي معنى أحسن مما ذكرت هنا‪.‬‬

‫وهو‪ :‬أن المأمور به هو الصفح الجميل أي‪ :‬الحسن الذي قد سلم من الحقد والذية القولية‬
‫والفعلية‪ ،‬دون الصفح الذي ليس بجميل‪ ،‬وهو الصفح في غير محله‪ ،‬فل يصفح حيث اقتضى‬
‫المقام العقوبة‪ ،‬كعقوبة المعتدين الظالمين الذين ل ينفع فيهم إل العقوبة‪ ،‬وهذا هو المعنى‪.‬‬

‫{ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ الْخَلّاقُ } لكل مخلوق { ا ْلعَلِيمُ } بكل شيء‪ ،‬فل يعجزه أحد من جميع ما أحاط به‬
‫علمه وجرى عليه خلقه‪ ،‬وذلك سائر الموجودات‪.‬‬
‫{ ‪ { } 93 - 87‬وََلقَدْ آتَيْنَاكَ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي وَا ْلقُرْآنَ ا ْل َعظِيمَ * لَا َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِهِ‬
‫حكَ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * َو ُقلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ ا ْلمُبِينُ * َكمَا أَنْزَلْنَا‬
‫خ ِفضْ جَنَا َ‬
‫أَ ْزوَاجًا مِ ْنهُ ْم وَلَا َتحْزَنْ عَلَ ْيهِمْ وَا ْ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫ج َمعِينَ * َ‬
‫عضِينَ * َفوَرَ ّبكَ لَنَسْأَلَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫جعَلُوا ا ْلقُرْآنَ ِ‬
‫سمِينَ * الّذِينَ َ‬
‫عَلَى ا ْل ُمقْتَ ِ‬

‫يقول تعالى ممتنّا على رسوله { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } وهن ‪-‬على الصحيح‪ -‬السور‬
‫السبع الطوال‪ " :‬البقرة " و " آل عمران " و " النساء " و " المائدة " و " النعام " و " العراف " و‬
‫" النفال " مع " التوبة " أو أنها فاتحة الكتاب لنها سبع آيات‪ ،‬فيكون عطف { القرآن العظيم }‬
‫على ذلك من باب عطف العام على الخاص‪ ،‬لكثرة ما في المثاني من التوحيد‪ ،‬وعلوم الغيب‪،‬‬
‫والحكام الجليلة‪ ،‬وتثنيتها فيها‪.‬‬

‫وعلى القول بأن " الفاتحة " هي السبع المثاني معناها‪ :‬أنها سبع آيات‪ ،‬تثنى في كل ركعة‪ ،‬واذا‬
‫كان ال قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون‪،‬‬
‫وأعظم ما فرح به المؤمنون‪ { ،‬قل بفضل ال وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }‬
‫ولذلك قال بعده‪ { :‬ل تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أي‪ :‬ل تعجب إعجابا يحملك‬
‫على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتع بها المترفون‪ ،‬واغترّ بها الجاهلون‪ ،‬واستغن بما آتاك‬
‫ال من المثاني والقرآن العظيم‪ { ،‬ول تحزن عليهم } فإنهم ل خير فيهم يرجى‪ ،‬ول نفع يرتقب‪،‬‬
‫فلك في المؤمنين عنهم أحسن البدل وأفضل العوض‪ { ،‬واخفض جناحك للمؤمنين } أي‪ :‬ألن لهم‬
‫جانبك‪ ،‬وحسّن لهم خلقك‪ ،‬محبة وإكراما وتودّدا‪ { ،‬وقل إني أنا النذير المبين } أي‪ :‬قم بما عليك‬
‫من النذارة وأداء الرسالة والتبليغ للقريب والبعيد والعدو والصديق‪ ،‬فإنك إذا فعلت ذلك فليس عليك‬
‫من حسابهم من شيء‪ ،‬وما من حسابك عليهم من شيء‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬كما أنزلنا على المقتسمين } أي‪ :‬كما أنزلنا العقوبة على المقتسمين على بطلن ما جئت‬
‫به‪ ،‬الساعين لصد الناس عن سبيل ال‪.‬‬

‫{ الذين جعلوا القرآن عضين } أي‪ :‬أصنافا وأعضاء وأجزاء‪ ،‬يصرفونه بحسب ما يهوونه‪ ،‬فمنهم‬
‫من يقول‪ :‬سحر ومنهم من يقول‪ :‬كهانة ومنهم من يقول‪ :‬مفترى إلى غير ذلك من أقوال الكفرة‬
‫المكذبين به‪ ،‬الذين جعلوا قدحهم فيه ليصدوا الناس عن الهدى‪.‬‬

‫{ فوربك لنسألنهم أجمعين } أي‪ :‬جميع من قدح فيه وعابه وحرفه وبدله { عما كانوا يعملون }‬
‫وفي هذا أعظم ترهيب وزجر لهم عن القامة على ما كانوا عليه‬
‫ثم أمر ال رسوله ان ل يبالي بهم ول بغيرهم وأن يصدع بما أمر ال ويعلن بذلك لكل أحد ول‬
‫يعوقنه عن أمره عائق ول تصده أقوال المتهوكين‪ { ،‬وأعرض عن المشركين } أي‪ :‬ل تبال بهم‬
‫واترك مشاتمتهم ومسابتهم مقبل على شأنك‪ { ،‬إنا كفيناك المستهزئين } بك وبما جئت به وهذا‬
‫وعد من ال لرسوله‪ ،‬أن ل يضره المستهزئون‪ ،‬وأن يكفيه ال إياهم بما شاء من أنواع العقوبة‪.‬‬
‫وقد فعل تعالى فإنه ما تظاهر أحد بالستهزاء برسول ال صلى ال عليه وسلم وبما جاء به إل‬
‫أهلكه ال وقتله شر قتلة‪.‬‬

‫ثم ذكر وصفهم وأنهم كما يؤذونك يا رسول ال‪ ،‬فإنهم أيضا يؤذون ال ويجعلون معه { إلها‬
‫آخر } وهو ربهم وخالقهم ومدبرهم { فسوف يعلمون } غب أفعالهم إذا وردوا القيامة‪ { ،‬ولقد نعلم‬
‫أنك يضيق صدرك بما يقولون } لك من التكذيب والستهزاء‪ ،‬فنحن قادرون على استئصالهم‬
‫بالعذاب‪ ،‬والتعجيل لهم بما يستحقون‪ ،‬ولكن ال يمهلهم ول يهملهم‪.‬‬

‫فأنت يا محمد { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } أي‪ :‬أكثر من ذكر ال وتسبيحه وتحميده‬
‫والصلة فإن ذلك يوسع الصدر ويشرحه ويعينك على أمورك‪.‬‬

‫{ ‪ { } 99‬وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّى يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ }‬

‫{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي‪ :‬الموت أي‪ :‬استمر في جميع الوقات على التقرب إلى ال‬
‫بأنواع العبادات‪ ،‬فامتثل صلى ال عليه وسلم أمر ربه‪ ،‬فلم يزل دائبا في العبادة‪ ،‬حتى أتاه اليقين‬
‫من ربه صلى ال عليه وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحجر‬

‫تفسير سورة النحل وهي مكية‬

‫عمّا يُشْ ِركُونَ *‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ أَتَى َأمْرُ اللّهِ فَلَا َتسْ َتعْجِلُوهُ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْ‬
‫يُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ بِالرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ أَنْ أَ ْنذِرُوا أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَا ّتقُونِ }‬

‫يقول تعالى ‪-‬مقربا لما وعد به محققا لوقوعه‪ { -‬أَتَى َأمْرُ اللّهِ فَلَا تَسْ َتعْجِلُوهُ } فإنه آت‪ ،‬وما هو‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ } من نسبة الشريك والولد والصاحبة والكفء‬
‫آت‪ ،‬فإنه قريب‪ { ،‬سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَى َ‬
‫وغير ذلك مما نسبه إليه المشركون مما ل يليق بجلله‪ ،‬أو ينافي كماله‪ ،‬ولما نزه نفسه عما‬
‫وصفه به أعداؤه ذكر الوحي الذي ينزله على أنبيائه‪ ،‬مما يجب اتباعه في ذكر ما ينسب ل‪ ،‬من‬
‫صفات الكمال فقال‪ { :‬يُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ بِالرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ } أي‪ :‬بالوحي الذي به حياة الرواح { عَلَى‬
‫مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } ممن يعلمه صالحا‪ ،‬لتحمل رسالته‪.‬‬

‫وزبدة دعوة الرسل كلهم ومدارها على قوله‪ { :‬أَنْ أَ ْنذِرُوا أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا أَنَا فاتقون } أي‪ :‬على‬
‫معرفة ال تعالى وتوحده في صفات العظمة التي هي صفات اللوهية وعبادته وحده ل شريك له‬
‫فهي التي أنزل ال بها كتبه وأرسل رسله‪ ،‬وجعل الشرائع كلها تدعو إليها‪ ،‬وتحث وتجاهد من‬
‫حاربها وقام بضدها‪ ،‬ثم ذ كر الدلة والبراهين على ذلك فقال‪:‬‬

‫طفَةٍ فَِإذَا‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ * خَلَقَ الْإِ ْنسَانَ مِنْ نُ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ َتعَالَى َ‬
‫{ ‪ { } 9 - 3‬خَلَقَ ال ّ‬
‫جمَالٌ حِينَ‬
‫خصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَ ْنعَامَ خََلقَهَا َلكُمْ فِيهَا ِدفْ ٌء َومَنَافِ ُع َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ * وََلكُمْ فِيهَا َ‬
‫ُهوَ َ‬
‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ َتكُونُوا بَاِلغِيهِ إِلّا ِبشِقّ الْأَ ْنفُسِ إِنّ رَ ّبكُمْ لَرَءُوفٌ‬
‫ن وَحِينَ َتسْرَحُونَ *وَتَ ْ‬
‫تُرِيحُو َ‬
‫حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَ ًة وَيَخُْلقُ مَا لَا َتعَْلمُونَ * وَعَلَى اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ‬
‫ل وَالْ ِبغَالَ وَالْ َ‬
‫رَحِيمٌ * وَالْخَ ْي َ‬
‫ج َمعِينَ }‬
‫َومِ ْنهَا جَائِ ٌر وََلوْ شَاءَ َل َهدَاكُمْ َأ ْ‬

‫هذه السورة تسمى سورة النعم‪ ،‬فإن ال ذكر في أولها أصول النعم وقواعدها‪ ،‬وفي آخرها‬
‫متمماتها ومكملتها‪ ،‬فأخبر أنه خلق السماوات والرض بالحق‪ ،‬ليستدل بهما العباد على عظمة‬
‫خالقهما‪ ،‬وما له من نعوت الكمال ويعلموا أنه خلقهما مسكنا لعباده الذين يعبدونه‪ ،‬بما يأمرهم به‬
‫في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله‪ ،‬ولهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقال‪َ { :‬تعَالَى‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ } أي‪ :‬تنزه وتعاظم عن شركهم فإنه الله حقا‪ ،‬الذي ل تنبغي العبادة والحب والذل‬
‫َ‬
‫إل له تعالى‪ ،‬ولما ذكر خلق السماوات [والرض] ذكر خلق ما فيهما‪.‬‬

‫طفَةٍ } لم يزل يدبرها ويرقيها وينميها‬


‫وبدأ بأشرف ذلك وهو النسان فقال‪ { :‬خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ ُن ْ‬
‫حتى صارت بشرا تاما كامل العضاء الظاهرة والباطنة‪ ،‬قد غمره بنعمه الغزيرة‪ ،‬حتى إذا استتم‬
‫خصِيمٌ مُبِينٌ } يحتمل أن المراد‪ :‬فإذا هو خصيم لربه‪ ،‬يكفر به‪،‬‬
‫فخر بنفسه وأعجب بها { فَِإذَا ُهوَ َ‬
‫ويجادل رسله‪ ،‬ويكذب بآياته‪ .‬ونسي خلقه الول وما أنعم ال عليه به‪ ،‬من النعم فاستعان بها على‬
‫معاصيه‪ ،‬ويحتمل أن المعنى‪ :‬أن ال أنشأ الدمي من نطفة‪ ،‬ثم لم يزل ينقله من طور‪ ،‬إلى طور‬
‫حتى صار عاقل متكلما‪ ،‬ذا ذهن ورأي‪ :‬يخاصم ويجادل‪ ،‬فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه‬
‫الحال التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها‪.‬‬
‫{ وَالْأَ ْنعَامَ خََل َقهَا َلكُمْ } أي‪ :‬لجلكم‪ ،‬ولجل منافعكم ومصالحكم‪ ،‬من جملة منافعها العظيمة أن لكم‬
‫{ فِيهَا ِدفْءٌ } مما تتخذون من أصوافها وأوبارها‪ ،‬وأشعارها‪ ،‬وجلودها‪ ،‬من الثياب والفرش‬
‫والبيوت‪.‬‬

‫ن وَحِينَ‬
‫جمَالٌ حِينَ تُرِيحُو َ‬
‫{ وَ } لكم فيها { مَنَافِعُ } غير ذلك { َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ } { وََلكُمْ فِيهَا َ‬
‫تَسْ َرحُونَ } أي‪ :‬في وقت راحتها وسكونها ووقت حركتها وسرحها‪ ،‬وذلك أن جمالها ل يعود إليها‬
‫منه شيء فإنكم أنتم الذين تتجملون بها‪ ،‬كما تتجملون بثيابكم وأولدكم وأموالكم‪ ،‬وتعجبون بذلك‪{ ،‬‬
‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ } من الحمال الثقيلة‪ ،‬بل وتحملكم أنتم { إِلَى بَلَدٍ َلمْ َتكُونُوا بَاِلغِيهِ إِلّا ِبشِقّ الْأَ ْنفُسِ }‬
‫وَتَ ْ‬
‫ولكن ال ذللها لكم‪.‬‬

‫فمنها ما تركبونه‪ ،‬ومنها ما تحملون عليه ما تشاءون من الثقال إلى البلدان البعيدة والقطار‬
‫الشاسعة‪ { ،‬إِنّ رَ ّبكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } إذ سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه‪ ،‬فله الحمد كما‬
‫ينبغي لجلل وجهه‪ ،‬وعظيم سلطانه وسعة جوده وبره‪.‬‬

‫حمِيرَ } سخرناها لكم { لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً } أي‪ :‬تارة تستعملونها للضرورة في‬
‫ل وَالْ َ‬
‫{ وَا ْلخَ ْيلَ وَالْ ِبغَا َ‬
‫الركوب وتارة لجل الجمال والزينة‪ ،‬ولم يذكر الكل لن البغال والحمر محرم أكلها‪ ،‬والخيل ل‬
‫تستعمل ‪-‬في الغالب‪ -‬للكل‪ ،‬بل ينهى عن ذبحها لجل الكل خوفا من انقطاعها وإل فقد ثبت في‬
‫الصحيحين‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم أذن في لحوم الخيل‪.‬‬

‫خلُقُ مَا لَا َتعَْلمُونَ } مما يكون بعد نزول القرآن من الشياء‪ ،‬التي يركبها الخلق في البر‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫والبحر والجو‪ ،‬ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم‪ ،‬فإنه لم يذكرها بأعيانها‪ ،‬لن ال تعالى ل‬
‫يذكر في كتابه إل ما يعرفه العباد‪ ،‬أو يعرفون نظيره‪ ،‬وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو‬
‫ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه‪ ،‬فيذكر أصل جامعا يدخل فيه ما يعلمون وما ل يعلمون‪،‬‬
‫كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره‪ ،‬كالنخل والعناب والرمان‪ ،‬وأجمل ما ل‬
‫نعرف له نظيرا في قوله‪ { :‬فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َزوْجَان } فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب‬
‫كالخيل والبغال والحمير والبل والسفن‪ ،‬وأجمل الباقي في قوله‪ { :‬وَيَخُْلقُ مَا لَا َتعَْلمُونَ } ولما‬
‫ذكر تعالى الطريق الحسي‪ ،‬وأن ال قد جعل للعباد ما يقطعونه به من البل وغيرها ذكر الطريق‬
‫المعنوي الموصل إليه فقال‪:‬‬

‫{ وَعَلَى اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ } أي‪ :‬الصراط المستقيم‪ ،‬الذي هو أقرب الطرق وأخصرها موصل إلى‬
‫ال‪.‬‬
‫وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله وهو‪ :‬كل ما خالف الصراط المستقيم فهو قاطع عن ال‪،‬‬
‫موصل إلى دار الشقاء‪ ،‬فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم‪ ،‬وضل الغاوون عنه‪،‬‬
‫ج َمعِينَ } ولكنه هدى بعضا كرما وفضل‪ ،‬ولم يهد‬
‫وسلكوا الطرق الجائرة { وََلوْ شَاءَ َلهَدَاكُمْ أَ ْ‬
‫آخرين‪ ،‬حكمة منه وعدل‪.‬‬

‫شجَرٌ فِيهِ ُتسِيمُونَ * يُنْ ِبتُ‬


‫ب َومِنْهُ َ‬
‫سمَاءِ مَاءً َلكُمْ مِنْهُ شَرَا ٌ‬
‫{ ‪ُ { } 11 - 10‬هوَ الّذِي أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ب َومِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }‬
‫َلكُمْ ِبهِ الزّ ْرعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالْأَعْنَا َ‬

‫بذلك على كمال قدرة ال الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف ورحمته حيث جعل فيه‬
‫ماء غزيرا منه يشربون وتشرب مواشيهم ويسقون منه حروثهم فتخرج لهم الثمرات الكثيرة‬
‫والنعم الغزيرة‪.‬‬

‫سخّرَاتٌ بَِأمْ ِرهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ‬


‫س وَا ْل َقمَرَ وَالنّجُومُ مُ َ‬
‫شمْ َ‬
‫ل وَال ّنهَارَ وَال ّ‬
‫{ ‪ { } 12‬وَسَخّرَ َل ُكمُ اللّ ْي َ‬
‫ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ }‬

‫أي‪ :‬سخر لكم هذه الشياء لمنافعكم وأنواع مصالحكم بحيث ل تستغنون عنها أبدا‪ ،‬فبالليل تسكنون‬
‫وتنامون وتستريحون‪ ،‬وبالنهار تنتشرون في معايشكم ومنافع دينكم ودنياكم‪ ،‬وبالشمس والقمر من‬
‫الضياء والنور والشراق‪ ،‬وإصلح الشجار والثمار والنبات‪ ،‬وتجفيف الرطوبات‪ ،‬وإزالة البرودة‬
‫الضارة للرض‪ ،‬وللبدان‪ ،‬وغير ذلك من الضروريات والحاجيات التابعة لوجود الشمس والقمر‪.‬‬

‫وفيهما وفي النجوم من الزينة للسماء والهداية في ظلمات البر والبحر‪ ،‬ومعرفة الوقات وحساب‬
‫الزمنة ما تتنوع دللتها وتتصرف آياتها‪ ،‬ولهذا جمعها في قوله { إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ‬
‫} أي‪ :‬لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر والتفكر فيما هي مهيأة له مستعدة تعقل ما تراه‬
‫وتسمعه‪ ،‬ل كنظر الغافلين الذين حظهم من النظر حظ البهائم التي ل عقل لها‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 13‬ومَا ذَرَأَ َلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ مُخْ َتِلفًا أَ ْلوَانُهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً ِلقَوْمٍ َي ّذكّرُونَ }‬

‫أي‪ :‬فيما ذرأ ال ونشر للعباد من كل ما على وجه الرض‪ ،‬من حيوان وأشجار ونبات‪ ،‬وغير‬
‫ذلك‪ ،‬مما تختلف ألوانه‪ ،‬وتختلف منافعه‪ ،‬آية على كمال قدرة ال وعميم إحسانه‪ ،‬وسعة بره‪ ،‬وأنه‬
‫الذي ل تنبغي العبادة إل له وحده ل شريك له‪ِ { ،‬ل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ } أي‪ :‬يستحضرون في ذاكرتهم ما‬
‫ينفعهم من العلم النافع‪ ،‬ويتأملون ما دعاهم ال إلى التأمل فيه حتى يتذكروا بذلك ما هو دليل عليه‪.‬‬

‫حمًا طَرِيّا وَتَسْ َتخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا وَتَرَى‬


‫سخّرَ الْ َبحْرَ لِتَ ْأكُلُوا مِنْهُ َل ْ‬
‫{ ‪ { } 14‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫ا ْلفُ ْلكَ َموَاخِرَ فِي ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫حمًا طَرِيّا‬
‫أي‪ :‬هو وحده ل شريك له { الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ } وهيأه لمنافعكم المتنوعة‪ { .‬لِتَ ْأكُلُوا مِنْهُ َل ْ‬
‫} وهو السمك والحوت الذي يصطادونه منه‪ { ،‬وَتَسْ َتخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا } فتزيدكم جمال‬
‫وحسنا إلى حسنكم‪ { ،‬وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ } أي‪ :‬السفن والمراكب { َموَاخِرَ فِيهِ } أي‪ :‬تمخر في البحر‬
‫العجاج الهائل بمقدمها حتى تسلك فيه من قطر إلى آخر‪ ،‬تحمل المسافرين وأرزاقهم وأمتعتهم‬
‫وتجاراتهم التي يطلبون بها الرزاق وفضل ال عليهم‪.‬‬

‫شكُرُونَ } الذي يسر لكم هذه الشياء وهيأها وتثنون على ال الذي منّ بها‪ ،‬فلله تعالى‬
‫{ وََلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫الحمد والشكر والثناء‪ ،‬حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم فوق ما يطلبون‪ ،‬وأعلى ما‬
‫يتمنون‪ ،‬وآتاهم من كل ما سألوه‪ ،‬ل نحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه‪.‬‬

‫سيَ أَنْ َتمِيدَ ِب ُك ْم وَأَ ْنهَارًا وَسُبُلًا َلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ * وَعَلَامَاتٍ‬
‫{ ‪ { } 16 - 15‬وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْ َتدُونَ}‬

‫سيَ } وهي‪ :‬الجبال العظام لئل تميد بهم‬


‫أي‪ { :‬وَأَ ْلقَى } ال تعالى لجل عباده { فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫وتضطرب بالخلق فيتمكنون من حرث الرض والبناء والسير عليها‪ ،‬ومن رحمته تعالى أن جعل‬
‫فيها أنهارا‪ ،‬يسوقها من أرض بعيدة إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم وسقي مواشيهم وحروثهم‪،‬‬
‫أنهارا على وجه الرض‪ ،‬وأنهارا في بطنها يستخرجونها بحفرها‪ ،‬حتى يصلوا إليها فيستخرجونها‬
‫بما سخر ال لهم من الدوالي واللت ونحوها‪ ،‬ومن رحمته أن جعل في الرض سبل‪ ،‬أي‪ :‬طرقا‬
‫توصل إلى الديار المتنائية { َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ } السبيل إليها حتى إنك تجد أرضا مشتبكة بالجبال‬
‫مسلسلة فيها وقد جعل ال فيما بينها منافذ ومسالك للسالكين‪.‬‬

‫حصُوهَا إِنّ‬
‫{ ‪َ { } 23 - 17‬أ َفمَنْ َيخْلُقُ َكمَنْ لَا َيخْلُقُ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ * وَإِنْ َتعُدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ لَا ُت ْ‬
‫ن َومَا ُتعْلِنُونَ * وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيخُْلقُونَ شَيْئًا‬
‫اللّهَ َلغَفُورٌ رَحِيمٌ *وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا تُسِرّو َ‬
‫حدٌ فَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ‬
‫شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ * إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَا ِ‬
‫وَهُمْ ُيخَْلقُونَ * َأ ْموَاتٌ غَيْرُ َأحْيَا ٍء َومَا يَ ْ‬
‫حبّ‬
‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ إِنّهُ لَا يُ ِ‬
‫بِالْآخِ َرةِ قُلُو ُبهُمْ مُ ْنكِ َر ٌة وَ ُهمْ مُسْ َتكْبِرُونَ * لَا جَ َرمَ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا يُسِرّو َ‬
‫ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ }‬

‫لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة‪ ،‬وما أنعم به من النعم العميمة ذكر أنه ل يشبهه‬
‫أحد ول كفء له ول ند له فقال‪َ { :‬أ َفمَنْ َيخْلُقُ } جميع المخلوقات وهو الفعال لما يريد { َكمَنْ لَا‬
‫يَخُْلقُ } شيئا ل قليل ول كثيرا‪َ { ،‬أفَلَا تَ َذكّرُونَ } فتعرفون أن المنفرد بالخلق أحق بالعبادة كلها‪،‬‬
‫فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره فإنه واحد في إلهيته وتوحيده وعبادته‪.‬‬

‫وكما أنه ليس له مشارك إذ أنشأكم وأنشأ غيركم‪ ،‬فل تجعلوا له أندادا في عبادته بل أخلصوا له‬
‫حصُوهَا } فضل عن كونكم‬
‫الدين‪ { ،‬وَإِنْ َتعُدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ } عددا مجردا عن الشكر { لَا ُت ْ‬
‫تشكرونها‪ ،‬فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد النفاس واللحظات‪ ،‬من جميع أصناف‬
‫النعم مما يعرف العباد‪ ،‬ومما ل يعرفون وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى‪ { ،‬إِنّ اللّهَ‬
‫َل َغفُورٌ رَحِيمٌ } يرضى منكم باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير‪.‬‬

‫ن َومَا‬
‫وكما أن رحمته واسعة وجوده عميم ومغفرته شاملة للعباد فعلمه محيط بهم‪َ { ،‬يعَْلمُ مَا تُسِرّو َ‬
‫ُتعْلِنُونَ } بخلف من عبد من دونه‪ ،‬فإنهم { لَا َيخُْلقُونَ شَيْئًا } قليل ول كثيرا { وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }‬
‫فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى ال تعالى؟"‬

‫ومع هذا ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء ل علم‪ ،‬ول غيره { َأ ْموَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } فل تسمع‬
‫ول تبصر ول تعقل شيئا‪ ،‬أفتتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين‪ ،‬فتبا لعقول المشركين ما أضلها‬
‫وأفسدها‪ ،‬حيث ضلت في أظهر الشياء فسادا‪ ،‬وسووا بين الناقص من جميع الوجوه فل أوصاف‬
‫كمال‪ ،‬ول شيء من الفعال‪ ،‬وبين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال وله من تلك‬
‫الصفة أكملها وأعظمها‪ ،‬فله العلم المحيط بكل الشياء والقدرة العامة والرحمة الواسعة التي ملت‬
‫جميع العوالم‪ ،‬والحمد والمجد والكبرياء والعظمة‪ ،‬التي ل يقدر أحد من الخلق أن يحيط ببعض‬
‫أوصافه‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ إَِل ُه ُكمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ } وهو ال الحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفوا أحد‪.‬‬

‫فأهل اليمان والعقول أجلته قلوبهم وعظمته‪ ،‬وأحبته حبا عظيما‪ ،‬وصرفوا له كل ما استطاعوا‬
‫من القربات البدنية والمالية‪ ،‬وأعمال القلوب وأعمال الجوارح‪ ،‬وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى‬
‫وصفاته وأفعاله المقدسة‪ { ،‬فَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ قُلُو ُبهُمْ مُ ْنكِ َرةٌ } لهذا المر العظيم الذي ل‬
‫ينكره إل أعظم الخلق جهل وعنادا وهو‪ :‬توحيد ال { وَهُمْ مُسْ َتكْبِرُونَ } عن عبادته‪.‬‬
‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ } من العمال القبيحة { إِنّهُ لَا‬
‫{ لَا جَرَمَ } أي‪ :‬حقا ل بد { أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ‬
‫حبّ ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ } بل يبغضهم أشد البغض‪ ،‬وسيجازيهم من جنس عملهم { إن الذين يستكبرون‬
‫يُ ِ‬
‫عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }‬

‫حمِلُوا َأوْزَارَ ُهمْ كَامِلَةً‬


‫{ ‪ { } 29 - 24‬وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ * لِيَ ْ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * قَدْ َمكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَأَتَى‬
‫شعُرُونَ * ُثمّ َيوْمَ‬
‫س ْقفُ مِنْ َف ْو ِقهِمْ وَأَتَاهُمُ ا ْل َعذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ‬
‫علَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫اللّهُ بُنْيَا َن ُهمْ مِنَ ا ْل َقوَاعِدِ فَخَرّ َ‬
‫ا ْلقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ إِنّ ا ْلخِ ْزيَ الْ َيوْمَ‬
‫سهِمْ فَأَ ْل َقوُا السَّلمَ مَا كُنّا َن ْع َملُ مِنْ سُوءٍ‬
‫وَالسّوءَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ * الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئ َكةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬
‫جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ ْ}‬
‫بَلَى إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَ ْبوَابَ َ‬

‫يقول تعالى ‪-‬مخبرا عن شدة تكذيب المشركين بآيات ال‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ ْ} أي‪:‬‬
‫إذا سألوا عن القرآن والوحي الذي هو أكبر نعمة أنعم ال بها على العباد‪ ،‬فماذا قولكم به؟ وهل‬
‫تشكرون هذه النعمة وتعترفون بها أم تكفرون وتعاندون؟‬

‫فيكون جوابهم أقبح جواب وأسمجه‪ ،‬فيقولون عنه‪ :‬إنه { أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ ْ} أي‪ :‬كذب اختلقه محمد‬
‫على ال‪ ،‬وما هو إل قصص الولين التي يتناقلها الناس جيل بعد جيل‪ ،‬منها الصدق ومنها‬
‫الكذب‪ ،‬فقالوا هذه المقالة‪ ،‬ودعوا أتباعهم إليها‪ ،‬وحملوا وزرهم ووزر من انقاد لهم إلى يوم‬
‫القيامة‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬ومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ ْ} أي‪ :‬من أوزار المقلدين الذين ل علم عندهم إل‬
‫ما دعوهم إليه‪ ،‬فيحملون إثم ما دعوهم إليه‪ ،‬وأما الذين يعلمون فكلّ مستقلّ بجرمه‪ ،‬لنه عرف ما‬
‫عرفوا { أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ْ} أي‪ :‬بئس ما حملوا من الوزر المثقل لظهورهم‪ ،‬من وزرهم ووزر‬
‫من أضلوه‪.‬‬

‫{ َقدْ َمكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ ْ} برسلهم واحتالوا بأنواع الحيل على رد ما جاءوهم به وبنوا من مكرهم‬
‫قصورا هائلة‪ { ،‬فَأَتَى اللّهُ بُنْيَا َنهُمْ مِنَ ا ْلقَوَاعِدِ ْ} أي‪ :‬جاءها المر من أساسها وقاعدتها‪َ { ،‬فخَرّ‬
‫شعُرُونَ ْ}‬
‫سقْفُ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ْ} فصار ما بنوه عذابا عذبوا به‪ { ،‬وَأَتَاهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا َي ْ‬
‫عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ويقيهم العذاب فصار عذابهم فيما بنوه وأصّلوه‪.‬‬

‫وهذا من أحسن المثال في إبطال ال مكر أعدائه‪ .‬فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما‬
‫كذبوهم وجعلوا لهم أصول وقواعد من الباطل يرجعون إليها‪ ،‬ويردون بها ما جاءت [به] الرسل‪،‬‬
‫واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم‪ ،‬فصار مكرهم وبال عليهم‪ ،‬فصار‬
‫تدبيرهم فيه تدميرهم‪ ،‬وذلك لن مكرهم سيئ { ول يحيق المكر السيئ إل بأهله ْ} هذا في الدنيا‬
‫ولعذاب الخرة أخزى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ْ} أي‪ :‬يفضحهم على رءوس الخلئق‬
‫ويبين لهم كذبهم وافتراءهم على ال‪.‬‬

‫{ وَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَائِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ ُتشَاقّونَ فِي ِهمْ ْ} أي‪ :‬تحاربون وتعادون ال وحزبه لجلهم‬
‫وتزعمون أنهم شركاء ل‪ ،‬فإذا سألهم هذا السؤال لم يكن لهم جواب إل القرار بضللهم‪،‬‬
‫والعتراف بعنادهم فيقولون { ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ْ} { قَالَ الّذِينَ‬
‫أُوتُوا ا ْلعِلْمَ ْ} أي‪ :‬العلماء الربانيون { إِنّ ا ْلخِ ْزيَ الْ َيوْمَ ْ} أي‪ :‬يوم القيامة { وَالسّوءَ ْ} أي‪ :‬العذاب {‬
‫عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ْ} وفي هذا فضيلة أهل العلم‪ ،‬وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم‬
‫الشهاد‪ ،‬وأن لقولهم اعتبارا عند ال وعند خلقه‪ ،‬ثم ذكر ما يفعل بهم عند الوفاة وفي القيامة فقال‪:‬‬

‫سهِمْ ْ} أي‪ :‬تتوفاهم في هذه الحال التي كثر فيها ظلمهم وغيهم‬
‫{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وقد علم ما يلقى الظلمة في ذلك المقام من أنواع العذاب والخزي والهانة‪.‬‬

‫{ فَأَ ْل َقوُا السَّلمَ ْ} أي‪ :‬استسلموا وأنكروا ما كانوا يعبدونهم من دون ال وقالوا‪ { :‬مَا كُنّا َن ْع َملُ مِنْ‬
‫سُوءٍ ْ} فيقال لهم‪ { :‬بَلَى ْ} كنتم تعملون السوء فب { إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ْ} فل يفيدكم‬
‫الجحود شيئا‪ ،‬وهذا في بعض مواقف القيامة ينكرون ما كانوا عليه في الدنيا ظنا أنه ينفعهم‪ ،‬فإذا‬
‫شهدت عليهم جوارحهم وتبين ما كانوا عليه أقروا واعترفوا‪ ،‬ولهذا ل يدخلون النار حتى يعترفوا‬
‫بذنوبهم‪.‬‬

‫{ فادخلوا أبواب جهنم ْ} كلّ أهل عمل يدخلون من الباب اللئق بحالهم‪ { ،‬فَلَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ‬
‫ْ} نار جهنم فإنها مثوى الحسرة والندم‪ ،‬ومنزل الشقاء واللم ومحل الهموم والغموم‪ ،‬وموضع‬
‫السخط من الحي القيوم‪ ،‬ل يفتّر عنهم من عذابها‪ ،‬ول يرفع عنهم يوما من أليم عقابها‪ ،‬قد أعرض‬
‫عنهم الرب الرحيم‪ ،‬وأذاقهم العذاب العظيم‪.‬‬

‫حسَنَةٌ‬
‫{ ‪َ { }ْ 32 - 30‬وقِيلَ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلّذِينَ َأحْسَنُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َ‬
‫وَلَدَارُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ وَلَ ِنعْمَ دَارُ ا ْلمُتّقِينَ * جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َلهُمْ فِيهَا مَا‬
‫خلُوا الْجَنّةَ‬
‫يَشَاءُونَ كَ َذِلكَ يَجْزِي اللّهُ ا ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ تَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ طَيّبِينَ َيقُولُونَ سَلَامٌ عَلَ ْيكُمُ ادْ ُ‬
‫ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ}‬
‫لما ذكر ال قيل المكذبين بما أنزل ال‪ ،‬ذكر ما قاله المتقون‪ ،‬وأنهم اعترفوا وأقروا بأن ما أنزله‬
‫ال نعمة عظيمة‪ ،‬وخير عظيم امتن ال به على العباد‪ ،‬فقبلوا تلك النعمة‪ ،‬وتلقوها بالقبول‬
‫والنقياد‪ ،‬وشكروا ال عليها‪ ،‬فعلموها وعملوا لها { لِلّذِينَ أَحْسَنُوا ْ} في عبادة ال تعالى‪ ،‬وأحسنوا‬
‫إلى عباد ال فلهم { فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َنةً ْ} رزق واسع‪ ،‬وعيشه هنية‪ ،‬وطمأنينة قلب‪ ،‬وأمن‬
‫وسرور‪.‬‬

‫{ وَلَدَارُ الْآخِ َرةِ خَيْرٌ ْ} من هذه الدار وما فيها من أنواع اللذات والمشتهيات‪ ،‬فإن هذه نعيمها قليل‬
‫محشو بالفات منقطع‪ ،‬بخلف نعيم الخرة ولهذا قال‪ { :‬وَلَ ِنعْمَ دَارُ ا ْلمُ ّتقِينَ ْ} { جَنّاتُ عَدْنٍ‬
‫يَ ْدخُلُو َنهَا َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َلهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ْ} أي‪ :‬مهما تمنته أنفسهم وتعلقت به إرادتهم‬
‫حصل لهم على أكمل الوجوه وأتمها‪ ،‬فل يمكن أن يطلبوا نوعا من أنواع النعيم الذي فيه لذة‬
‫القلوب وسرور الرواح‪ ،‬إل وهو حاضر لديهم‪ ،‬ولهذا يعطي ال أهل الجنة كل ما تمنوه عليه‪،‬‬
‫حتى إنه يذكرهم أشياء من النعيم لم تخطر على قلوبهم‪.‬‬

‫فتبارك الذي ل نهاية لكرمه‪ ،‬ول حد لجوده الذي ليس كمثله شيء في صفات ذاته‪ ،‬وصفات أفعاله‬
‫وآثار تلك النعوت‪ ،‬وعظمة الملك والملكوت‪ { ،‬كَذَِلكَ َيجْزِي اللّهُ ا ْلمُتّقِينَ ْ} لسخط ال وعذابه بأداء‬
‫ما أوجبه عليهم من الفروض والواجبات المتعلقة بالقلب والبدن واللسان من حقه وحق عباده‪،‬‬
‫وترك ما نهاهم ال عنه‪.‬‬

‫{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ْ} مستمرين على تقواهم { طَيّبِينَ ْ} أي‪ :‬طاهرين مطهرين من كل نقص‬
‫ودنس يتطرق إليهم ويخل في إيمانهم‪ ،‬فطابت قلوبهم بمعرفة ال ومحبته وألسنتهم بذكره والثناء‬
‫عليه‪ ،‬وجوارحهم بطاعته والقبال عليه‪َ { ،‬يقُولُونَ سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمُ ْ} أي‪ :‬التحية الكاملة حاصلة لكم‬
‫والسلمة من كل آفة‪.‬‬

‫وقد سلمتم من كل ما تكرهون { ا ْدخُلُوا الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ْ} من اليمان بال والنقياد لمره‪،‬‬
‫فإن العمل هو السبب والمادة والصل في دخول الجنة والنجاة من النار‪ ،‬وذلك العمل حصل لهم‬
‫برحمة ال ومنته عليهم ل بحولهم وقوتهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { }ْ 34 - 33‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ َأمْرُ رَ ّبكَ كَذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ‬
‫عمِلُوا وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ * فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ‬
‫َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫يَسْ َتهْزِئُونَ ْ}‬
‫يقول تعالى‪ :‬هل ينظر هؤلء الذين جاءتهم اليات فلم يؤمنوا‪ ،‬وذكّروا فلم يتذكروا‪ { ،‬إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ‬
‫ا ْلمَلَا ِئكَةُ ْ} لقبض أرواحهم { َأوْ يَأْ ِتيَ َأمْرُ رَ ّبكَ ْ} بالعذاب الذي سيحل بهم فإنهم قد استحقوا وقوعه‬
‫فيهم‪َ { ،‬كذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} كذبوا وكفروا‪ ،‬ثم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب‪.‬‬

‫سهُمْ يَظِْلمُونَ ْ} فإنها مخلوقة لعبادة ال ليكون مآلها‬


‫ظَل َمهُمُ اللّهُ ْ} إذ عذبهم { وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ َومَا َ‬
‫إلى كرامة ال فظلموها وتركوا ما خلقت له‪ ،‬وعرضوها للهانة الدائمة والشقاء الملزم‪.‬‬

‫عمِلُوا ْ} أي‪ :‬عقوبات أعمالهم وآثارها‪ { ،‬وَحَاقَ ِبهِمْ ْ} أي‪ :‬نزل { مَا كَانُوا‬
‫{ فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ‬
‫بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ ْ} فإنهم كانوا إذا أخبرتهم رسلهم بالعذاب استهزأوا به‪ ،‬وسخروا ممن أخبر به فحل‬
‫بهم ذلك المر الذي سخروا منه‪.‬‬

‫شيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَ ّرمْنَا‬


‫{ ‪َ { }ْ 35‬وقَالَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَ َبدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ َ‬
‫سلِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ ْ}‬
‫شيْءٍ كَذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ َف َهلْ عَلَى الرّ ُ‬
‫مِنْ دُونِهِ مِنْ َ‬

‫أي‪ :‬احتج المشركون على شركهم بمشيئة ال‪ ،‬وأن ال لو شاء ما أشركوا‪ ،‬ول حرموا شيئا من‬
‫[النعام] التي أحلها كالبحيرة والوصيلة والحام ونحوها من دونه‪ ،‬وهذه حجة باطلة‪ ،‬فإنها لو كانت‬
‫حقا ما عاقب ال الذين من قبلهم حيث أشركوا به‪ ،‬فعاقبهم أشد العقاب‪ .‬فلو كان يحب ذلك منهم‬
‫لما عذبهم‪ ،‬وليس قصدهم بذلك إل رد الحق الذي جاءت به الرسل‪ ،‬وإل فعندهم علم أنه ل حجة‬
‫لهم على ال‪.‬‬

‫فإن ال أمرهم ونهاهم ومكنهم من القيام بما كلفهم وجعل لهم قوة ومشيئة تصدر عنها أفعالهم‪.‬‬
‫فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل‪ ،‬هذا وكل أحد يعلم بالحس قدرة النسان على كل‬
‫فعل يريده من غير أن ينازعه منازع‪ ،‬فجمعوا بين تكذيب ال وتكذيب رسله وتكذيب المور‬
‫سلِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ ْ} أي‪ :‬البين الظاهر الذي يصل إلى القلوب‪،‬‬
‫العقلية والحسية‪َ { ،‬ف َهلْ عَلَى الرّ ُ‬
‫ول يبقى لحد على ال حجة‪ ،‬فإذا بلغتهم الرسل أمر ربهم ونهيه‪ ،‬واحتجوا عليهم بالقدر‪ ،‬فليس‬
‫للرسل من المر شيء‪ ،‬وإنما حسابهم على ال عز وجل‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 37 - 36‬وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْ ُبدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ َفمِ ْنهُمْ مَنْ هَدَى‬
‫ح ّقتْ عَلَ ْيهِ الضّلَالَةُ َفسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ * إِنْ‬
‫اللّ ُه َومِ ْنهُمْ مَنْ َ‬
‫ضلّ َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ْ}‬
‫تَحْ ِرصْ عَلَى ُهدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ ُي ِ‬
‫يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع المم‪ ،‬وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إل وبعث ال فيها‬
‫رسول‪ ،‬وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد‪ ،‬وهو عبادة ال وحده ل شريك له { أَنِ‬
‫اُعْبُدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ْ} فانقسمت المم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها قسمين‪،‬‬
‫ح ّقتْ عَلَيْهِ الضّلَاَلةُ ْ} فاتبع‬
‫{ َفمِ ْنهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ ْ} فاتبعوا المرسلين علما وعمل‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َ‬
‫سبيل الغي‪.‬‬

‫{ َفسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ ْ} بأبدانكم وقلوبكم { فَا ْنظُروا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ ْ} فإنكم سترون من‬
‫ذلك العجائب‪ ،‬فل تجدون مكذبا إل كان عاقبته الهلك‪.‬‬

‫ضلّ ْ} ولو فعل كل‬


‫{ إِنْ تَحْ ِرصْ عَلَى هُدَاهُمْ ْ} وتبذل جهدك في ذلك { فَإِنّ اللّهَ لَا َي ْهدِي مَنْ ُي ِ‬
‫سبب لم يهده إل ال‪َ { ،‬ومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ْ} ينصرونهم من عذاب ال ويقونهم بأسه‪.‬‬

‫حقّا وََلكِنّ‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِن ِهمْ لَا يَ ْب َعثُ اللّهُ مَنْ َيمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ َ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 40 - 38‬وََأقْ َ‬
‫َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ * لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي يَخْتَِلفُونَ فِي ِه وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّن ُهمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِ ّنمَا‬
‫شيْءٍ ِإذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ َنقُولَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ ْ}‬
‫َقوْلُنَا لِ َ‬

‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ ْ} أي‪ :‬حلفوا أيمانا‬


‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫يخبر تعالى عن المشركين المكذبين لرسوله أنهم { َأقْ َ‬
‫مؤكدة مغلظة على تكذيب ال‪ ،‬وأن ال ل يبعث الموات‪ ،‬ول يقدر على إحيائهم بعد أن كانوا‬
‫حقّا ْ} ل‬
‫ترابا‪ ،‬قال تعالى مكذبا لهم‪ { :‬بَلَى ْ} سيبعثهم ويجمعهم ليوم ل ريب فيه { وَعْدًا عَلَ ْيهِ َ‬
‫يخلفه ول يغيره { وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ ْ} ومن جهلهم العظيم إنكارهم للبعث والجزاء‪ ،‬ثم‬
‫ذكر الحكمة في الجزاء والبعث فقال‪ { :‬لِيُبَيّنَ َلهُم الّذِي يَخْتَِلفُونَ فِيهِ ْ} من المسائل الكبار‬
‫والصغار‪ ،‬فيبين حقائقها ويوضحها‪.‬‬

‫{ وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ْ} حين يرون أعمالهم حسرات عليهم‪ ،‬وما نفعتهم آلهتهم‬
‫التي يدعون مع ال من شيء لما جاء أمر ربك‪ ،‬وحين يرون ما يعبدون حطبا لجهنم‪ ،‬وتكور‬
‫الشمس والقمر وتتناثر النجوم‪ ،‬ويتضح لمن يعبدها أنها عبيد مسخرات‪ ،‬وأنهن مفتقرات إلى ال‬
‫في جميع الحالت‪ ،‬وليس ذلك على ال بصعب‪ ،‬ول شديد فإنه إذا أراد شيئا قال له‪ :‬كن فيكون‪،‬‬
‫من غير منازعة ول امتناع‪ ،‬بل يكون على طبق ما أراده وشاءه‪.‬‬

‫حسَنَ ًة وَلَأَجْرُ الْآخِ َرةِ‬


‫ظِلمُوا لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ فِي الدّنْيَا َ‬
‫{ ‪ { }ْ 42 - 41‬وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا ُ‬
‫ن صَبَرُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ ْ}‬
‫َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ * الّذِي َ‬
‫يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين { الّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّهِ ْ} أي‪ :‬في سبيله وابتغاء مرضاته {‬
‫مِنْ َبعْدِ مَا ظُِلمُوا ْ} بالذية والمحنة من قومهم‪ ،‬الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك‪ ،‬فتركوا‬
‫الوطان والخلن‪ ،‬وانتقلوا عنها لجل طاعة الرحمن‪ ،‬فذكر لهم ثوابين‪ :‬ثوابا عاجل في الدنيا من‬
‫الرزق الواسع والعيش الهنيء‪ ،‬الذي رأوه عيانا بعد ما هاجروا‪ ،‬وانتصروا على أعدائهم‪،‬‬
‫وافتتحوا البلدان وغنموا منها الغنائم العظيمة‪ ،‬فتمولوا وآتاهم ال في الدنيا حسنة‪.‬‬

‫{ وَلََأجْرُ الْآخِ َرةِ ْ} الذي وعدهم ال على لسان رسوله { َأكْبَرُ ْ} من أجر الدنيا‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫عظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ‬
‫سهِمْ أَ ْ‬
‫{ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫ضوَانٍ وَجَنّاتٍ َل ُهمْ فِيهَا َنعِيمٌ ُمقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا إِنّ اللّهَ‬
‫حمَةٍ مِنْ ُه وَ ِر ْ‬
‫ا ْلفَائِزُونَ يُ َبشّرُهُمْ رَ ّب ُهمْ بِرَ ْ‬
‫عِنْ َدهُ َأجْرٌ عَظِيمٌ ْ} وقوله‪َ { :‬لوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ْ} أي‪ :‬لو كان لهم علم ويقين بما عند ال من الجر‬
‫والثواب لمن آمن به وهاجر في سبيله لم يتخلف عن ذلك أحد‪.‬‬

‫ثم ذكر وصف أوليائه فقال‪ { :‬الّذِينَ صَبَرُوا ْ} على أوامر ال وعن نواهيه‪ ،‬وعلى أقدار ال‬
‫المؤلمة‪ ،‬وعلى الذية فيه والمحن { وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ ْ} أي‪ :‬يعتمدون عليه في تنفيذ محابّه‪ ،‬ل‬
‫على أنفسهم‪ .‬وبذلك تنجح أمورهم وتستقيم أحوالهم‪ ،‬فإن الصبر والتوكل ملك المور كلها‪ ،‬فما‬
‫فات أحدا شيء من الخير إل لعدم صبره وبذل جهده فيما أريد منه‪ ،‬أو لعدم توكله واعتماده على‬
‫ال‪.‬‬

‫{ ‪َ { }ْ 44 - 43‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ ِإلّا رِجَالًا نُوحِي ِإلَ ْيهِمْ فَاسْأَلُوا َأ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ‬
‫ت وَالزّبُ ِر وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْي ِه ْم وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ ْ}‬
‫* بِالْبَيّنَا ِ‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا رِجَالًا ْ} أي‪ :‬لست ببدع‬
‫من الرسل‪ ،‬فلم نرسل قبلك ملئكة بل رجال كاملين ل نساء‪ { .‬نُوحِي إِلَ ْيهِمْ ْ} من الشرائع‬
‫والحكام ما هو من فضله وإحسانه على العبيد من غير أن يأتوا بشيء من قبل أنفسهم‪ { ،‬فَاسْأَلُوا‬
‫أَ ْهلَ ال ّذكْرِ ْ} أي‪ :‬الكتب السابقة { إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ ْ} نبأ الولين‪ ،‬وشككتم هل بعث ال رجال؟‬
‫فاسألوا أهل العلم بذلك الذين نزلت عليهم الزبر والبينات فعلموها وفهموها‪ ،‬فإنهم كلهم قد تقرر‬
‫عندهم أن ال ما بعث إل رجال يوحي إليهم من أهل القرى‪ ،‬وعموم هذه الية فيها مدح أهل‬
‫العلم‪ ،‬وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب ال المنزل‪ .‬فإن ال أمر من ل يعلم بالرجوع إليهم في جميع‬
‫الحوادث‪ ،‬وفي ضمنه تعديل لهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم‪ ،‬وأن بذلك يخرج الجاهل‬
‫من التبعة‪ ،‬فدل على أن ال ائتمنهم على وحيه وتنزيله‪ ،‬وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم‪،‬‬
‫والتصاف بصفات الكمال‪.‬‬

‫وأفضل أهل الذكر أهل هذا القرآن العظيم‪ ،‬فإنهم أهل الذكر على الحقيقة‪ ،‬وأولى من غيرهم بهذا‬
‫السم‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ ْ} أي‪ :‬القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من‬
‫أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة‪ { ،‬لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ ْ} وهذا شامل لتبيين ألفاظه‬
‫وتبيين معانيه‪ { ،‬وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ ْ} فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم‬
‫عليه‪.‬‬

‫سفَ اللّهُ ِب ِهمُ الْأَ ْرضَ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْل َعذَابُ مِنْ‬
‫خِ‬‫{ ‪َ { }ْ 47 - 45‬أفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُوا السّيّئَاتِ أَنْ يَ ْ‬
‫خ ّوفٍ فَإِنّ رَ ّبكُمْ‬
‫خذَ ُهمْ عَلَى تَ َ‬
‫شعُرُونَ * َأوْ يَ ْأخُ َذهُمْ فِي َتقَلّ ِبهِمْ َفمَا هُمْ ِب ُمعْجِزِينَ * َأوْ يَأْ ُ‬
‫حَ ْيثُ لَا َي ْ‬
‫لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ْ}‬
‫هذا تخويف من ال تعالى لهل الكفر والتكذيب وأنواع المعاصي‪ ،‬من أن يأخذهم بالعذاب على‬
‫غرّة وهم ل يشعرون‪ ،‬إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم‪ ،‬أو من أسفل منهم بالخسف وغيره‪ ،‬وإما‬
‫في حال تقلّبهم وشغلهم وعدم خطور العذاب ببالهم‪ ،‬وإما في حال تخوفهم من العذاب‪ ،‬فليسوا‬
‫بمعجزين ل في حالة من هذه الحوال‪ ،‬بل هم تحت قبضته ونواصيهم بيده ‪.‬‬

‫ولكنه رءوف رحيم ل يعاجل العاصين بالعقوبة‪ ،‬بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه‬
‫ويؤذون أولياءه‪ ،‬ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة‪ ،‬ويدعوهم إلى القلع من السيئات التي‬
‫تضرهم‪ ،‬ويعدهم بذلك أفضل الكرامات‪ ،‬ومغفرة ما صدر منهم من الذنوب‪ ،‬فليستح المجرم من‬
‫ربه أن تكون نعم ال عليه نازلة في جميع اللحظات ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الوقات‪،‬‬
‫وليعلم أن ال يمهل ول يهمل وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬فليتب إليه‪ ،‬وليرجع‬
‫في جميع أموره إليه فإنه رءوف رحيم‪ .‬فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة وبره العميم وسلوك‬
‫الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم‪ ،‬أل وهي تقواه والعمل بما يحبه ويرضاه‪.‬‬

‫سجّدًا لِلّهِ‬
‫شمَا ِئلِ ُ‬
‫ن وَال ّ‬
‫شيْءٍ يَ َتفَيّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْ َيمِي ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 50 - 48‬أوَلَمْ يَ َروْا ِإلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ دَابّ ٍة وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَهُمْ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ‬
‫جدُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلّهِ يَسْ ُ‬
‫* يَخَافُونَ رَ ّبهُمْ مِنْ َف ْوقِهِ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ ْ}‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َروْا ْ} أي‪ :‬الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله‪ { ،‬إِلَى مَا خََلقَ اللّهُ مِنْ‬
‫سجّدًا لِلّهِ ْ}‬
‫شمَا ِئلِ ُ‬
‫شيْءٍ ْ} أي‪ :‬إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها‪ { ،‬عَن الْ َيمِينِ ْ} وعن { ال ّ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلله‪ { ،‬وَ ُهمْ دَاخِرُونَ ْ} أي‪ :‬ذليلون تحت التسخير‬
‫والتدبير والقهر‪ ،‬ما منهم أحد إل وناصيته بيد ال وتدبيره عنده‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ دَابّةٍ ْ} من الحيوانات الناطقة والصامتة‪،‬‬
‫جدُ مَا فِي ال ّ‬
‫{ وَلِلّهِ يَسْ ُ‬
‫{ وَا ْلمَلَا ِئكَةِ ْ} الكرام خصهم بعد العموم لفضلهم وشرفهم وكثرة عبادتهم ولهذا قال‪ { :‬وَهُمْ لَا‬
‫يَسْ َتكْبِرُونَ ْ} أي‪ :‬عن عبادته على كثرتهم وعظمة أخلقهم وقوتهم كما قال تعالى‪ { :‬لَنْ يَسْتَ ْن ِكفَ‬
‫ا ْلمَسِيحُ أَنْ َيكُونَ عَ ْبدًا لِلّ ِه وَلَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ ْ} { َيخَافُونَ رَ ّبهُمْ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ْ} لما مدحهم بكثرة‬
‫الطاعة والخضوع ل‪ ،‬مدحهم بالخوف من ال الذي هو فوقهم بالذات والقهر‪ ،‬وكمال الوصاف‪،‬‬
‫فهم أذلء تحت قهره‪ { .‬وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ ْ} أي‪ :‬مهما أمرهم ال تعالى امتثلوا لمره‪ ،‬طوعا‬
‫واختيارا‪ ،‬وسجود المخلوقات ل تعالى قسمان‪ :‬سجود اضطرار ودللة على ما له من صفات‬
‫الكمال‪ ،‬وهذا عام لكل مخلوق من مؤمن وكافر وبر وفاجر وحيوان ناطق وغيره‪ ،‬وسجود اختيار‬
‫يختص بأوليائه وعباده المؤمنين من الملئكة وغيرهم [من المخلوقات]‪.‬‬

‫{ ‪َ { }ْ 55 - 51‬وقَالَ اللّهُ لَا تَتّخِذُوا إَِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ * وََلهُ مَا فِي‬
‫سكُمُ‬
‫ن وَاصِبًا َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ * َومَا ِبكُمْ مِنْ ِن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ُثمّ إِذَا مَ ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَلَهُ الدّي ُ‬
‫ال ّ‬
‫شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنكُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ * لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا‬
‫الضّرّ فَإِلَيْهِ َتجْأَرُونَ * ثُمّ ِإذَا كَ َ‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ }‬
‫آتَيْنَا ُهمْ فَ َتمَ ّتعُوا َف َ‬
‫يأمر تعالى بعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم والوحدانية فقال‪ { :‬لَا‬
‫خذُوا إَِلهَيْنِ اثْنَيْنِ } أي‪ :‬تجعلون له شريكا في إلهيته‪ ،‬وهو { إِ ّنمَا ُهوَ إَِل ٌه وَاحِدٌ } متوحد في‬
‫تَتّ ِ‬
‫الوصاف العظيمة متفرد بالفعال كلها‪ .‬فكما أنه الواحد في ذاته وأسمائه ونعوته وأفعاله‪،‬‬
‫فلتوحّدوه في عبادته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أي‪ :‬خافوني وامتثلوا أمري‪ ،‬واجتنبوا نهيي‬
‫من غير أن تشركوا بي شيئا من المخلوقات‪ ،‬فإنها كلها ل تعالى مملوكة‪.‬‬

‫ن وَاصِبًا } أي‪ :‬الدين والعبادة والذل في جميع الوقات ل‬


‫ض وَلَهُ الدّي ُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ وَلَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫وحده على الخلق أن يخلصوه ل وينصبغوا بعبوديته‪َ { .‬أ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ } من أهل الرض أو‬
‫أهل السماوات فإنهم ل يملكون لكم ضرا ول نفعا‪ ،‬وال المنفرد بالعطاء والحسان { َومَا ِبكُمْ مِنْ‬
‫س ُكمُ الضّرّ } من فقر ومرض‬
‫ِن ْعمَةٍ } ظاهرة وباطنة { َفمِنَ اللّهِ } ل أحد يشركه فيها‪ { ،‬ثُمّ إِذَا مَ ّ‬
‫وشدة { فَإِلَيْهِ َتجْأَرُونَ } أي‪ :‬تضجون بالدعاء والتضرع لعلمكم أنه ل يدفع الضر والشدة إل هو‪،‬‬
‫فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون‪ ،‬وصرف ما تكرهون‪ ،‬هو الذي ل تنبغي العبادة إل له وحده‪.‬‬
‫ولكن كثيرا من الناس يظلمون أنفسهم‪ ،‬ويجحدون نعمة ال عليهم إذا نجاهم من الشدة فصاروا في‬
‫حال الرخاء أشركوا به بعض مخلوقاته الفقيرة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ ِل َي ْكفُرُوا ِبمَا آتَيْنَا ُهمْ } أي‪ :‬أعطيناهم حيث نجيناهم من الشدة‪ ،‬وخلصناهم من المشقة‪ { ،‬فَ َتمَ ّتعُوا }‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ } عاقبة كفركم‪.‬‬
‫في دنياكم قليل { فَ َ‬
‫عمّا كُنْتُمْ َتفْتَرُونَ *‬
‫جعَلُونَ ِلمَا لَا َيعَْلمُونَ َنصِيبًا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ َ‬
‫{ ‪ { } 60 - 56‬وَيَ ْ‬
‫سوَدّا وَ ُهوَ‬
‫جهُهُ ُم ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫حدُ ُهمْ بِالْأُنْثَى َ‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ * وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ‬
‫وَيَ ْ‬
‫سكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ َيدُسّهُ فِي التّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا‬
‫كَظِيمٌ * يَ َتوَارَى مِنَ ا ْلقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ أَ ُيمْ ِ‬
‫حكِيمُ }‬
‫سوْ ِء وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫ح ُكمُونَ * لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ‬
‫يَ ْ‬
‫يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم وافترائهم على ال الكذب‪ ،‬وأنهم يجعلون لصنامهم التي‬
‫ل تعلم ول تنفع ول تضر ‪-‬نصيبا مما رزقهم ال وأنعم به عليهم‪ ،‬فاستعانوا برزقه على الشرك‬
‫ث وَالْأَ ْنعَامِ‬
‫جعَلُوا ِللّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ‬
‫به‪ ،‬وتقربوا به إلى أصنام منحوتة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫صلُ إِلَى اللّهِ } الية‪ { ،‬لَتُسْأَلُنّ‬
‫ع ِمهِ ْم وَهَذَا لِشُ َركَائِنَا َفمَا كَانَ لِشُ َركَا ِئهِمْ فَلَا َي ِ‬
‫َنصِيبًا َفقَالُوا َهذَا لِلّهِ بِزَ ْ‬
‫عمّا كُنْتُمْ َتفْتَرُونَ } ويقال‪ { :‬ءَاللّهُ أَذِنَ َلكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ * َومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ‬
‫َ‬
‫ا ْلكَ ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة‪.‬‬

‫جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ } حيث قالوا عن الملئكة العباد المقربين‪ :‬إنهم بنات ال { وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ‬
‫{ وَ َي ْ‬
‫} أي‪ :‬لنفسهم الذكور حتى إنهم يكرهون البنات كراهة شديدة‪ ،‬فكان أحدهم { وَِإذَا بُشّرَ َأحَ ُدهُم‬
‫سوَدّا } من الغم الذي أصابه { وَ ُهوَ كَظِيمٌ } أي‪ :‬كاظم على الحزن والسف‬
‫جهُهُ ُم ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫بِالْأُنْثَى َ‬
‫إذا بشّر بأنثى‪ ،‬وحتى إنه يفتضح عند أبناء جنسه ويتوارى منهم من سوء ما بشر به‪.‬‬

‫سكُهُ عَلَى هُونٍ } أي‪ :‬يتركها‬


‫ثم يعمل فكره ورأيه الفاسد فيما يصنع بتلك البنت التي بشّر بها { أَ ُي ْم ِ‬
‫من غير قتل على إهانة وذل { أَمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ } أي‪ :‬يدفنها وهي حية وهو الوأد الذي ذم ال‬
‫ح ُكمُونَ } إذ وصفوا ال بما ل يليق بجلله من نسبة الولد إليه‪.‬‬
‫به المشركين‪ { ،‬أَلَا سَاءَ مَا َي ْ‬

‫ثم لم يكفهم هذا حتى نسبوا له أردأ القسمين‪ ،‬وهو الناث اللتي يأنفون بأنفسهم عنها ويكرهونها‪،‬‬
‫فكيف ينسبونها ل تعالى؟! فبئس الحكم حكمهم‪.‬‬

‫ولما كان هذا من أمثال السوء التي نسبها إليه أعداؤه المشركون‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ‬
‫سوْءِ } أي‪ :‬المثل الناقص والعيب التام‪ { ،‬وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى } وهو كل صفة كمال‬
‫بِالْآخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ‬
‫وكل كمال في الوجود فال أحق به‪ ،‬من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه‪ ،‬وله المثل العلى في‬
‫قلوب أوليائه‪ ،‬وهو التعظيم والجلل والمحبة والنابة والمعرفة‪ { .‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر جميع‬
‫حكِيمُ } الذي يضع الشياء مواضعها فل يأمر ول‬
‫الشياء وانقادت له المخلوقات بأسرها‪ { ،‬الْ َ‬
‫يفعل‪ ،‬إل ما يحمد عليه ويثنى على كماله فيه‪.‬‬
‫سمّى‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫خذُ اللّهُ النّاسَ ِبظُ ْل ِمهِمْ مَا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّرُ ُهمْ إِلَى أَ َ‬
‫{ ‪ { } 61‬وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫فَإِذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ }‬
‫لما ذكر تعالى ما افتراه الظالمون عليه ذكر كمال حلمه وصبره فقال‪ { :‬وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ‬
‫بِظُ ْل ِمهِمْ } من غير زيادة ول نقص‪ { ،‬مَا تَ َركَ عَليها مِنْ دَابّةٍ } أي‪ :‬لهلك المباشرين للمعصية‬
‫وغيرهم‪ ،‬من أنواع الدواب والحيوانات فإن شؤم المعاصي يهلك به الحرث والنسل‪ { .‬وََلكِنْ‬
‫ُيؤَخّرُ ُهمْ } عن تعجيل العقوبة عليهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة { فَِإذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ لَا‬
‫يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ } فليحذروا ما داموا في وقت المهال قبل أن يجيء الوقت الذي‬
‫ل إمهال فيه‪.‬‬
‫صفُ أَلْسِنَ ُتهُمُ ا ْلكَ ِذبَ أَنّ َلهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنّ َلهُمُ‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْ َرهُونَ وَ َت ِ‬
‫{ ‪ { } 63 - 62‬وَيَ ْ‬
‫عمَاَلهُمْ َف ُه َو وَلِ ّيهُمُ‬
‫النّا َر وأَ ّنهُم ُمفْرَطُونَ * تَاللّهِ َلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫عذَابٌ أَلِيم }‬
‫الْ َيوْ َم وََلهُمْ َ‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُونَ } من البنات‪ ،‬ومن الوصاف القبيحة وهو‬
‫يخبر تعالى أن المشركين { وَ َي ْ‬
‫الشرك بصرف شيء من العبادات إلى بعض المخلوقات التي هي عبيد ل‪ ،‬فكما أنهم يكرهون‪،‬‬
‫ول يرضون أن يكون عبيدهم ‪-‬وهم مخلوقون من جنسهم‪ -‬شركاء لهم فيما رزقهم ال فكيف‬
‫يجعلون له شركاء من عبيده؟"‬

‫حسْنَى } أي‪ :‬أن لهم الحالة‬


‫صفُ أَلْسِنَ ُت ُهمُ ا ْلكَ ِذبَ أَنّ َل ُهمُ الْ ُ‬
‫{ وَ } هم مع هذه الساءة العظيمة { َت ِ‬
‫الحسنة في الدنيا والخرة‪ ،‬رد عليهم بقوله‪ { :‬لَا جَرَمَ أَنّ َلهُمُ النّا َر وَأَ ّنهُمْ ُمفْرَطُونَ } مقدمون إليها‬
‫ماكثون فيها غير خارجين منها أبدا‪.‬‬

‫بيّن تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم أنه ليس هو أول رسول كُذّب فقال [تعالى]‪ { :‬تَاللّهِ َلقَدْ‬
‫عمَاَلهُمْ } فكذبوا‬
‫أَرْسَلْنَا ِإلَى ُأ َممٍ مِنْ قَبِْلكَ } رسل يدعونهم إلى التوحيد‪ { ،‬فَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫الرسل‪ ،‬وزعموا أن ما هم عليه‪ ،‬هو الحق المنجي من كل مكروه وأن ما دعت إليه الرسل فهو‬
‫بخلف ذلك‪ ،‬فلما زين لهم الشيطان أعمالهم‪ ،‬صار وليهم في الدنيا‪ ،‬فأطاعوه واتبعوه وتولوه‪.‬‬

‫ع ُدوّ بِ ْئسَ لِلظّاِلمِينَ بَدَلًا } { وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في‬


‫{ َأفَتَتّخِذُونَ ُه َوذُرّيّتَهُ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَ ُهمْ َلكُمْ َ‬
‫الخرة حيث تولوا عن ولية الرحمن‪ ،‬ورضوا بولية الشيطان فاستحقوا لذلك عذاب الهوان‪.‬‬

‫س َمعُونَ }‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا ِبهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً ِل َقوْمٍ يَ ْ‬
‫{ ‪ { } 65‬وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫عن ال مواعظه وتذكيره فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود‪ ،‬الذي ل تنبغي العبادة إل له‬
‫وحده‪ ،‬لنه المنعم بإنزال المطر وإنبات جميع أصناف النبات‪ ،‬وعلى أنه على كل شيء قدير‪ ،‬وأن‬
‫الذي أحيا الرض بعد موتها قادر على إحياء الموات وأن الذي نشر هذا الحسان لذو رحمة‬
‫واسعة وجود عظيم‪.‬‬

‫ث وَدَمٍ لَبَنًا خَاِلصًا‬


‫سقِيكُمْ ِممّا فِي ُبطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَ ْر ٍ‬
‫{ ‪ { } 67 - 66‬وَإِنّ َلكُمْ فِي الْأَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً نُ ْ‬
‫حسَنًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً‬
‫سكَرًا وَرِ ْزقًا َ‬
‫ل وَالْأَعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ َ‬
‫سَا ِئغًا لِلشّارِبِينَ * َومِنْ َثمَرَاتِ النّخِي ِ‬
‫ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ }‬

‫أي‪ { :‬وَإِنّ َل ُكمْ فِي الْأَ ْنعَامِ } التي سخرها ال لمنافعكم { َلعِبْ َرةً } تستدلون بها على كمال قدرة ال‬
‫وسعة إحسانه حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم‪ ،‬فأخرج من بين ذلك لبنا‬
‫خالصا من الكدر سائغا للشاربين للذته ولنه يسقي ويغذي‪ ،‬فهل هذه إل قدرة إلهية ل أمور‬
‫طبيعية‪.‬‬

‫فأي شيء في الطبيعة يقلب العلف الذي تأكله البهيمة والشراب الذي تشربه من الماء العذب‬
‫والملح لبنا خالصا سائغا للشاربين؟‬

‫وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والعناب منافع للعباد‪ ،‬ومصالح من أنواع الرزق الحسن‬
‫الذي يأكله العباد طريّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها‪،‬‬
‫ومن السكر الذي كان حلل قبل ذلك‪ ،‬ثم إن ال نسخ حلّ المسكرات‪ ،‬وأعاض عنها بالطيبات من‬
‫النبذة‪ ،‬وأنواع الشربة اللذيذة المباحة‪.‬‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآية ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } عن ال كمال اقتداره حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب‪،‬‬
‫فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة وعلى شمول رحمته حيث عم بها عباده ويسرها لهم وأنه الله‬
‫المعبود وحده حيث إنه المنفرد بذلك‪.‬‬

‫حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ‬
‫{ ‪ { } 69 - 68‬وََأوْحَى رَ ّبكَ إِلَى النّ ْ‬
‫شفَاءٌ‬
‫* ثُمّ كُلِي مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ ُبطُو ِنهَا شَرَابٌ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ فِيهِ ِ‬
‫لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }‬

‫في خلق هذه النحلة الصغيرة‪ ،‬التي هداها ال هذه الهداية العجيبة‪ ،‬ويسر لها المراعي‪ ،‬ثم الرجوع‬
‫إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم ال لها‪ ،‬وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف‬
‫اللوان بحسب اختلف أرضها ومراعيها‪ ،‬فيه شفاء للناس من أمراض عديدة‪ .‬فهذا دليل على‬
‫كمال عناية ال تعالى‪ ،‬وتمام لطفه بعباده‪ ،‬وأنه الذي ل ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه‪.‬‬

‫علْمٍ شَيْئًا إِنّ اللّهَ‬


‫{ ‪ { } 70‬وَاللّهُ خََل َقكُمْ ُثمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِ ْنكُمْ مَنْ يُرَدّ ِإلَى أَ ْر َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َكيْ لَا َيعْلَمَ َبعْدَ ِ‬
‫عَلِيمٌ َقدِيرٌ }‬

‫يخبر تعالى أنه الذي خلق العباد ونقلهم في الخلقة‪ ،‬طورا بعد طور‪ ،‬ثم بعد أن يستكملوا آجالهم‬
‫يتوفاهم‪ ،‬ومنهم من يعمره حتى { يُ َردّ إِلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ } أي‪ :‬أخسه الذي يبلغ به النسان إلى‬
‫ضعف القوى الظاهرة والباطنة حتى العقل الذي هو جوهر النسان يزيد ضعفه حتى إنه ينسى ما‬
‫كان يعلمه‪ ،‬ويصير عقله كعقل الطفل ولهذا قال‪ِ { :‬لكَيلَا َيعْلَمَ َبعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }‬
‫أي‪ :‬قد أحاط علمه وقدرته بجميع الشياء ومن ذلك ما ينقل به الدمي من أطوار الخلقة‪ ،‬خلقا بعد‬
‫ج َعلَ مِنْ َبعْدِ‬
‫ض ْعفٍ ُق ّوةً ُثمّ َ‬
‫ج َعلَ مِنْ َبعْ ِد َ‬
‫ضعْفٍ ثُمّ َ‬
‫ن َ‬
‫خلق كما قال تعالى‪ { :‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مِ ْ‬
‫ض ْعفًا وَشَيْبَةً َيخْلُقُ مَا َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ }‬
‫ُق ّوةٍ َ‬

‫ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الرّزْقِ َفمَا الّذِينَ ُفضّلُوا بِرَادّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا‬
‫ضلَ َب ْع َ‬
‫{ ‪ { } 71‬وَاللّهُ َف ّ‬
‫جحَدُونَ }‬
‫سوَاءٌ َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ يَ ْ‬
‫مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ‬

‫وهذا من أدلة توحيده وقبح الشرك به‪ ،‬يقول تعالى‪ :‬كما أنكم مشتركون بأنكم مخلوقون مرزوقون‬
‫ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الرّ ْزقِ } فجعل منكم أحرارا لهم مال وثروة‪ ،‬ومنكم‬
‫ضلَ َب ْع َ‬
‫إل أنه تعالى { َف ّ‬
‫أرقاء لهم ل يملكون شيئا من الدنيا‪ ،‬فكما أن سادتهم الذين فضلهم ال عليهم بالرزق ليسوا‬
‫سوَاءٌ } ويرون هذا من المور الممتنعة‪ ،‬فكذلك من‬
‫{ بِرَادّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ‬
‫أشركتم بها مع ال‪ ،‬فإنها عبيد ليس لها من الملك مثقال ذرة‪ ،‬فكيف تجعلونها شركاء ل تعالى؟!‬

‫جحَدُونَ } فلو أقروا‬


‫هل هذا إل من أعظم الظلم والجحود لنعم ال؟" ولهذا قال‪َ { :‬أفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ يَ ْ‬
‫بالنعمة ونسبوها إلى من أولها‪ ،‬لما أشركوا به أحدا‪.‬‬

‫حفَ َد ًة وَرَ َز َقكُمْ مِنَ‬


‫جكُمْ بَنِينَ وَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا وَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫{ ‪ { } 72‬وَاللّهُ َ‬
‫ن وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ هُمْ َي ْكفُرُونَ }‬
‫طلِ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫الطّيّبَاتِ َأفَبِالْبَا ِ‬

‫يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده‪ ،‬حيث جعل لهم أزواجا ليسكنوا إليها‪ ،‬وجعل لهم من‬
‫أزواجهم أولدا تقرّ بهم أعينهم ويخدمونهم‪ ،‬ويقضون حوائجهم‪ ،‬وينتفعون بهم من وجوه كثيرة‪،‬‬
‫ورزقهم من الطيبات من جميع المآكل والمشارب‪ ،‬والنعم الظاهرة التي ل يقدر العباد أن‬
‫يحصوها‪.‬‬

‫ن وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ هُمْ َيكْفُرُونَ } أي‪ :‬أيؤمنون بالباطل الذي لم يكن شيئا مذكورا ثم‬
‫طلِ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫{ َأفَبِالْبَا ِ‬
‫أوجده ال وليس له من وجوده سوى العدم فل تخلق ول ترزق ول تدبر من المر شيئا‪ ،‬وهذا‬
‫عام لكل ما عبد من دون ال فإنها باطلة فكيف يتخذها المشركون من دون ال؟"‬

‫{ وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ ُهمْ َي ْكفُرُونَ } يجحدونها ويستعينون بها على معاصي ال والكفر به‪ ،‬هل هذا إل من‬
‫أظلم الظلم وأفجر الفجور وأسفه السفه؟"‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ شَيْئًا وَلَا‬


‫{ ‪ { } 76 - 73‬وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيمِْلكُ َلهُمْ رِ ْزقًا مِنَ ال ّ‬
‫يَسْ َتطِيعُونَ * فَلَا َتضْرِبُوا لِلّهِ الَْأمْثَالَ إِنّ اللّهَ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا َممْلُوكًا‬
‫حمْدُ لِلّهِ‬
‫جهْرًا َهلْ يَسْ َتوُونَ ا ْل َ‬
‫شيْ ٍء َومَنْ رَ َزقْنَاهُ مِنّا رِ ْزقًا حَسَنًا َف ُهوَ يُ ْنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَ َ‬
‫لَا َيقْدِرُ عَلَى َ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ َكلّ عَلَى‬
‫َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ * َوضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا َرجُلَيْنِ َأحَدُ ُهمَا أَ ْب َكمُ لَا َيقْدِرُ عَلَى َ‬
‫علَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‬
‫ل وَ ُهوَ َ‬
‫جهْهُ لَا يَ ْأتِ ِبخَيْرٍ َهلْ يَسْ َتوِي ُه َو َومَنْ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْد ِ‬
‫َموْلَاهُ أَيْ َنمَا ُي َو ّ‬

‫يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم أنهم يعبدون من دونه آلهة اتخذوها شركاء ل‪ ،‬والحال‬
‫أنهم ل يملكون لهم رزقا من السماوات والرض‪ ،‬فل ينزلون مطرا‪ ،‬ول رزقا ول ينبتون من‬
‫نبات الرض شيئا‪ ،‬ول يملكون مثقال ذرة في السماوات والرض ول يستطيعون لو أرادوا‪ ،‬فإن‬
‫غير المالك للشيء ربما كان له قوة واقتدار على ما ينفع من يتصل به‪ ،‬وهؤلء ل يملكون ول‬
‫يقدرون‪.‬‬

‫فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع ال‪ ،‬وشبهوها بمالك الرض والسماوات الذي له الملك كله‬
‫والحمد كله والقوة كلها؟"‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فَلَا َتضْرِبُوا لِلّهِ الَْأمْثَالَ } المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه { إِنّ اللّهَ َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ لَا‬
‫َتعَْلمُونَ } فعلينا أن ل نقول عليه بل علم وأن نسمع ما ضربه العليم من المثال فلهذا ضرب‬
‫تعالى مثلين له ولمن يعبد من دونه‪ ،‬أحدهما عبد مملوك أي‪ :‬رقيق ل يملك نفسه ول يملك من‬
‫المال والدنيا شيئا‪ ،‬والثاني حرّ غنيّ قد رزقه ال منه رزقا حسنا من جميع أصناف المال وهو‬
‫كريم محب للحسان‪ ،‬فهو ينفق منه سرا وجهرا‪ ،‬هل يستوي هذا وذاك؟! ل يستويان مع أنهما‬
‫مخلوقان‪ ،‬غير محال استواؤهما‪.‬‬

‫فإذا كانا ل يستويان‪ ،‬فكيف يستوي المخلوق العبد الذي ليس له ملك ول قدرة ول استطاعة‪ ،‬بل‬
‫هو فقير من جميع الوجوه بالرب الخالق المالك لجميع الممالك القادر على كل شيء؟"‬

‫حمْدُ لِلّهِ } فكأنه قيل‪ :‬إذا كان المر كذلك فلم‬


‫ولهذا حمد نفسه واختص بالحمد بأنواعه فقال‪ { :‬الْ َ‬
‫سوّى المشركون آلهتهم بال؟ قال‪َ { :‬بلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ } فلو علموا حقيقة العلم لم يتجرؤوا‬
‫على الشرك العظيم‪.‬‬

‫شيْءٍ } ل قليل ول‬


‫والمثل الثاني مثل { َرجُلَيْنِ َأحَدُ ُهمَا أَ ْب َكمُ } ل يسمع ول ينطق و { لَا َيقْدِرُ عَلَى َ‬
‫كثير { وَ ُهوَ َكلّ عَلَى َموْلَاهُ } أي‪ :‬يخدمه موله‪ ،‬ول يستطيع هو أن يخدم نفسه فهو ناقص من كل‬
‫وجه‪ ،‬فهل يستوي هذا ومن كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم‪ ،‬فأقواله عدل وأفعاله‬
‫مستقيمة‪ ،‬فكما أنهما ل يستويان فل يستوي من عبد من دون ال وهو ل يقدر على شيء من‬
‫مصالحه‪ ،‬فلول قيام ال بها لم يستطع شيئا منها‪ ،‬ول يكون كفوا وندا لمن ل يقول إل الحق‪ ،‬ول‬
‫يفعل إل ما يحمد عليه‪.‬‬
‫عةِ إِلّا كََلمْحِ الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ إِنّ اللّهَ‬
‫ض َومَا َأمْرُ السّا َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 77‬وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫عَلَى ُكلّ َ‬

‫أي‪ :‬هو تعالى المنفرد بغيب السماوات والرض‪ ،‬فل يعلم الخفايا والبواطن والسرار إل هو‪،‬‬
‫ومن ذلك علم الساعة فل يدري أحد متى تأتي إل ال‪ ،‬فإذا جاءت وتجلت لم تكن { إِلّا كََلمْحِ‬
‫الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ } من ذلك فيقوم الناس من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم وتفوت الفرص‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } فل يستغرب على قدرته الشاملة إحياؤه‬
‫لمن يريد المهال‪ { ،‬إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫للموتى‪.‬‬

‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ‬


‫ج َعلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫جكُمْ مِنْ ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ لَا َتعَْلمُونَ شَيْئًا وَ َ‬
‫{ ‪ { } 78‬وَاللّهُ أَخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫َلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫جكُمْ مِنْ ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ لَا َتعَْلمُونَ شَيْئًا } ول تقدرون على‬
‫أي‪ :‬هو المنفرد بهذه النعم حيث { أَخْ َر َ‬
‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ } خص هذه العضاء الثلثة‪ ،‬لشرفها وفضلها‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫شيء ثم إنه { َ‬
‫ولنها مفتاح لكل علم‪ ،‬فل وصل للعبد علم إل من أحد هذه البواب الثلثة وإل فسائر العضاء‬
‫والقوى الظاهرة والباطنة هو الذي أعطاهم إياها‪ ،‬وجعل ينميها فيهم شيئا فشيئا إلى أن يصل كل‬
‫أحد إلى الحالة اللئقة به‪ ،‬وذلك لجل أن يشكروا ال‪ ،‬باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في‬
‫طاعة ال‪ ،‬فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح المقابلة‪.‬‬

‫س ُكهُنّ إِلّا اللّهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ‬


‫سمَاءِ مَا ُيمْ ِ‬
‫جوّ ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 79‬ألَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ مُسَخّرَاتٍ فِي َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫أي‪ :‬لنهم المنتفعون بآيات ال المتفكرون فيما جعلت آية عليه‪ ،‬وأما غيرهم فإن نظرهم نظر لهو‬
‫وغفلة‪ ،‬ووجه الية فيها أن ال تعالى خلقها بخلقة تصلح للطيران‪ ،‬ثم سخر لها هذا الهواء اللطيف‬
‫ثم أودع فيها من قوة الحركة وما قدرت به على ذلك‪ ،‬وذلك دليل على كمال حكمته وعلمه الواسع‬
‫وعنايته الربانية بجميع مخلوقاته وكمال اقتداره‪ ،‬تبارك ال رب العالمين‪.‬‬

‫خفّو َنهَا َيوْمَ‬


‫ج َعلَ َل ُكمْ مِنْ جُلُودِ الْأَ ْنعَامِ بُيُوتًا تَسْ َت ِ‬
‫سكَنًا َو َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ بُيُو ِتكُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 83 - 80‬وَاللّهُ َ‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ ِممّا‬
‫شعَارِهَا أَثَاثًا َومَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللّهُ َ‬
‫صوَا ِفهَا وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ‬
‫ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ ِإقَامَ ِتكُمْ َومِنْ َأ ْ‬
‫َ‬
‫سكُمْ كَذَِلكَ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ ا ْلحَ ّر وَسَرَابِيلَ َتقِيكُمْ بَأْ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلجِبَالِ َأكْنَانًا وَ َ‬
‫ظلَالًا وَ َ‬
‫خََلقَ ِ‬
‫علَ ْيكُمْ َلعَّلكُمْ ُتسِْلمُونَ * فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ * َيعْ ِرفُونَ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُثمّ‬
‫يُتِمّ ِن ْعمَتَهُ َ‬
‫يُ ْنكِرُو َنهَا وََأكْثَرُهُمُ ا ْلكَافِرُونَ }‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ بُيُو ِتكُمْ‬
‫يذكر تعالى عباده نعمه‪ ،‬ويستدعي منهم شكرها والعتراف بها فقال‪ { :‬وَاللّهُ َ‬
‫سكَنًا } في الدور والقصور ونحوها تكنّكم من الحر والبرد وتستركم أنتم وأولدكم وأمتعتكم‪،‬‬
‫َ‬
‫وتتخذون فيها الغرف والبيوت التي هي لنواع منافعكم ومصالحكم وفيها حفظ لموالكم وحرمكم‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ مِنْ جُلُودِ الْأَ ْنعَامِ } إما من الجلد نفسه أو مما نبت‬
‫وغير ذلك من الفوائد المشاهدة‪َ { ،‬و َ‬
‫عليه‪ ،‬من صوف وشعر ووبر‪.‬‬

‫خفّو َنهَا } أي‪ :‬خفيفة الحمل تكون لكم في السفر والمنازل التي ل قصد لكم في‬
‫{ بُيُوتًا َتسْتَ ِ‬
‫استيطانها‪ ،‬فتقيكم من الحر والبرد والمطر‪ ،‬وتقي متاعكم من المطر‪ { ،‬و } جعل لكم { َومِنْ‬
‫شعَارِهَا أَثَاثًا } وهذا شامل لكل ما يتخذ منها من النية‬
‫صوَا ِفهَا } أي‪ :‬النعام { وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ‬
‫َأ ْ‬
‫والوعية والفرش واللبسة والجلة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫{ َومَتَاعًا إِلَى حِينٍ } أي‪ :‬تتمتعون بذلك في هذه الدنيا وتنتفعون بها‪ ،‬فهذا مما سخر ال العباد‬
‫لصنعته وعمله‪.‬‬

‫ج َعلَ َلكُمْ ِممّا خَلَقَ } أي‪ :‬من مخلوقاته التي ل صنعة لكم فيها‪ { ،‬ظِلَالًا } وذلك كأظلة‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلجِبَالِ َأكْنَانًا } أي‪ :‬مغارات تكنكم من الحر‬
‫الشجار والجبال والكام ونحوها‪ { ،‬وَ َ‬
‫والبرد والمطار والعداء‪.‬‬

‫ج َعلَ َل ُكمْ سَرَابِيلَ } أي‪ :‬ألبسة وثيابا { َتقِيكُمُ الْحَرّ } ولم يذكر ال البرد لنه قد تقدم أن هذه‬
‫{ َو َ‬
‫السورة أولها في أصول النعم وآخرها في مكملتها ومتمماتها‪ ،‬ووقاية البرد من أصول النعم فإنه‬
‫من الضرورة‪ ،‬وقد ذكره في أولها في قوله { َلكُمْ فِيهَا ِدفْ ٌء َومَنَافِعُ }‬

‫سكُمْ } أي‪ :‬وثيابا تقيكم وقت البأس والحرب من السلح‪ ،‬وذلك كالدروع‬
‫{ وَسَرَابِيلَ َتقِيكُمْ بَ ْأ َ‬
‫والزرد ونحوها‪ ،‬كذلك يتم نعمته عليكم حيث أسبغ عليكم من نعمه ما ل يدخل تحت الحصر‬
‫{ َلعَّل ُكمْ } إذا ذكرتم نعمة ال ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه { تُسِْلمُونَ } لعظمته وتنقادون‬
‫لمره‪ ،‬وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها‪ ،‬فكثرة النعم من السباب الجالبة من العباد مزيد‬
‫الشكر ‪ ،‬والثناء بها على ال تعالى‪ ،‬ولكن أبى الظالمون إل تمردا وعنادا‪.‬‬

‫ولهذا قال ال عنهم‪ { :‬فَإِنْ َتوَّلوْا } عن ال وعن طاعته بعد ما ُذكّروا بنعمه وآياته‪ { ،‬فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ‬
‫الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } أي‪ :‬ليس عليك من هدايتهم وتوفيقهم شيء بل أنت مطالب بالوعظ والتذكير‬
‫والنذار والتحذير‪ ،‬فإذا أديت ما عليك‪ ،‬فحسابهم على ال فإنهم يرون الحسان‪ ،‬ويعرفون نعمة‬
‫ال‪ ،‬ولكنهم ينكرونها ويجحدونها‪ { ،‬وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ } ل خير فيهم‪ ،‬وما ينفعهم توالي اليات‪،‬‬
‫لفساد مشاعرهم وسوء قصودهم وسيرون جزاء ال لكل جبار عنيد كفور للنعم متمرد على ال‬
‫وعلى رسله‪.‬‬

‫شهِيدًا ُثمّ لَا ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ َكفَرُوا وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ * وَِإذَا‬
‫{ ‪ { } 87 - 84‬وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمْ وَلَا هُمْ يُ ْنظَرُونَ * وَإِذَا رَأَى الّذِينَ أَشْ َركُوا شُ َركَاءَهُمْ‬
‫رَأَى الّذِينَ ظََلمُوا ا ْلعَذَابَ فَلَا ُي َ‬
‫قَالُوا رَبّنَا َهؤُلَاءِ شُ َركَاؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُو ِنكَ فَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولَ إِ ّنكُمْ َلكَاذِبُونَ * وَأَ ْل َقوْا إِلَى‬
‫اللّهِ َي ْومَئِذٍ السَّل َم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن حال الذين كفروا في يوم القيامة وأنه ل يقبل لهم عذر ول يرفع عنهم العقاب وأن‬
‫شركاءهم تتبرأ منهم ويقرون على أنفسهم بالكفر والفتراء على ال فقال‪ { :‬وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِنْ ُكلّ‬
‫شهِيدًا } يشهد عليهم بأعمالهم وماذا أجابوا به الداعي إلى الهدى وذلك الشهيد الذي يبعثه ال‬
‫ُأمّةٍ َ‬
‫أزكى الشهداء وأعدلهم وهم الرسل الذين إذا شهدوا تم عليهم الحكم‪.‬‬

‫فب { لَا ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُوا } في العتذار لن اعتذارهم بعد ما علم يقينا بطلن ما هم عليه‪،‬‬
‫اعتذار كاذب ل يفيدهم شيئا‪ ،‬وإن طلبوا أيضا الرجوع إلى الدنيا ليستدركوا لم يجابوا ولم يعتبوا‪،‬‬
‫بل يبادرهم العذاب الشديد الذي ل يخفف عنهم من غير إنظار ول إمهال من حين يرونه لنهم ل‬
‫حساب عليهم لنهم ل حسنات لهم وإنما تعد أعمالهم وتحصى ويوقفون عليها ويقرون بها‬
‫ويفتضحون‪.‬‬

‫{ وَِإذَا رَأَى الّذِينَ أَشْ َركُوا شُ َركَا َءهُمْ } يوم القيامة وعلموا بطلنها ولم يمكنهم النكار‪.‬‬

‫{ قَالُوا رَبّنَا َهؤُلَاءِ شُ َركَاؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُو ِنكَ } ليس عندها نفع ول شفع‪ ،‬فنوّهوا بأنفسهم‬
‫ببطلنها‪ ،‬وكفروا بها‪ ،‬وبدت البغضاء والعداوة بينهم وبينها‪ { ،‬فَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولَ } أي‪ :‬ردت‬
‫عليهم شركاؤهم قولهم‪ ،‬فقالت لهم‪ { :‬إِ ّن ُكمْ َلكَاذِبُونَ } حيث جعلتمونا شركاء ل‪ ،‬وعبدتمونا معه فلم‬
‫نأمركم بذلك‪ ،‬ول زعمنا أن فينا استحقاقا لللوهية فاللوم عليكم‪.‬‬

‫فحينئذ استسلموا ل‪ ،‬وخضعوا لحكمه وعلموا إنهم مستحقون للعذاب‪.‬‬

‫ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } فدخلوا النار وقد امتلت قلوبهم من مقت أنفسهم ومن حمد ربهم‬
‫{ َو َ‬
‫وأنه لم يعاقبهم إل بما كسبوا‪.‬‬

‫سدُونَ }‬
‫عذَابًا َفوْقَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُوا ُيفْ ِ‬
‫{ ‪ { } 88‬الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ِزدْنَاهُمْ َ‬
‫حيث كفروا بأنفسهم‪ ،‬وكذبوا بآيات ال‪ ،‬وحاربوا رسله‪ ،‬وصدوا الناس عن سبيل ال‪ ،‬وصاروا‬
‫دعاة إلى الضلل فاستحقوا مضاعفة العذاب‪ ،‬كما تضاعف جرمهم‪ ،‬وكما أفسدوا في أرض ال‪.‬‬

‫شهِيدًا عَلَى َهؤُلَا ِء وَنَزّلْنَا‬


‫سهِ ْم َوجِئْنَا ِبكَ َ‬
‫شهِيدًا عَلَ ْيهِمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫{ ‪ { } 89‬وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ فِي ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫ح َم ًة وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ }‬
‫شيْ ٍء وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ تِبْيَانًا ِل ُكلّ َ‬

‫شهِيدًا } ذكر ذلك أيضا هنا‪ ،‬وخص منهم هذا الرسول‬


‫لما ذكر فيما تقدم أنه يبعث { فِي ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫شهِيدًا عَلَى َهؤُلَاءِ } أي‪ :‬على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر‪ ،‬وهذا من‬
‫الكريم فقال‪ { :‬وَجِئْنَا ِبكَ َ‬
‫كمال عدل ال تعالى أن كل رسول يشهد على أمته لنه أعظم اطلعا من غيره على أعمال أمته‪،‬‬
‫وأعدل وأشفق من أن يشهد عليهم إل بما يستحقون‪.‬‬

‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ‬


‫علَى النّا ِ‬
‫شهَدَاءَ َ‬
‫سطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫وهذا كقوله تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫شهِيدًا }‬
‫َ‬

‫شهِيدًا َي ْومَئِذٍ َيوَدّ الّذِينَ‬


‫علَى َهؤُلَاءِ َ‬
‫شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ َ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬فكَ ْيفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ‬
‫شيْءٍ }‬
‫سوّى ِبهِمُ الْأَ ْرضُ } وقوله‪ { :‬وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ تِبْيَانًا ِل ُكلّ َ‬
‫صوُا الرّسُولَ َلوْ ُت َ‬
‫ع َ‬
‫َكفَرُوا وَ َ‬
‫في أصول الدين وفروعه‪ ،‬وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد‪ ،‬فهو مبين فيه أتم تبيين‬
‫بألفاظ واضحة ومعان جلية‪ ،‬حتى إنه تعالى يثني فيه المور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها‬
‫عليه كل وقت‪ ،‬وإعادتها في كل ساعة‪ ،‬ويعيدها ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة لتستقر في‬
‫القلوب فتثمر من الخير والبر بحسب ثبوتها في القلب‪ ،‬وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل‬
‫الواضح معاني كثيرة يكون اللفظ لها كالقاعدة والساس‪ ،‬واعتبر هذا بالية التي بعد هذه الية وما‬
‫فيها من أنواع الوامر والنواهي التي ل تحصى‪ ،‬فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء صار حجة‬
‫ال على العباد كلهم‪ .‬فانقطعت به حجة الظالمين وانتفع به المسلمون فصار هدى لهم يهتدون به‬
‫إلى أمر دينهم ودنياهم‪ ،‬ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والخرة‪ .‬فالهدى ما نالوه به من علم‬
‫نافع وعمل صالح‪.‬‬

‫والرحمة ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والخرة‪ ،‬كصلح القلب وبره وطمأنينته‪ ،‬وتمام العقل‬
‫الذي ل يتم إل بتربيته على معانيه التي هي أجل المعاني وأعلها‪ ،‬والعمال الكريمة والخلق‬
‫الفاضلة‪ ،‬والرزق الواسع والنصر على العداء بالقول والفعل ونيل رضا ال تعالى وكرامته‬
‫العظيمة التي ل يعلم ما فيها من النعيم المقيم إل الرب الرحيم‪.‬‬

‫ن وَإِيتَاءِ ذِي ا ْلقُرْبَى وَيَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َبغْيِ‬
‫{ ‪ { } 90‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَالْإِحْسَا ِ‬
‫ظكُمْ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ }‬
‫َيعِ ُ‬
‫فالعدل الذي أمر ال به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده‪ ،‬فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة‬
‫موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب ال عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه‬
‫وحق عباده‪ ،‬ويعامل الخلق بالعدل التام‪ ،‬فيؤدي كل وال ما عليه تحت وليته سواء في ذلك ولية‬
‫المامة الكبرى‪ ،‬وولية القضاء ونواب الخليفة‪ ،‬ونواب القاضي‪.‬‬

‫والعدل هو ما فرضه ال عليهم في كتابه‪ ،‬وعلى لسان رسوله‪ ،‬وأمرهم بسلوكه‪ ،‬ومن العدل في‬
‫المعاملت أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات‪ ،‬بإيفاء جميع ما عليك فل‬
‫تبخس لهم حقا ول تغشهم ول تخدعهم وتظلمهم‪ .‬فالعدل واجب‪ ،‬والحسان فضيلة مستحب وذلك‬
‫كنفع الناس بالمال والبدن والعلم‪ ،‬وغير ذلك من أنواع النفع حتى إنه يدخل فيه الحسان إلى‬
‫الحيوان البهيم المأكول وغيره‪.‬‬

‫وخص ال إيتاء ذي القربى ‪-‬وإن كان داخل في العموم‪ -‬لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم‪،‬‬
‫والحرص على ذلك‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك جميع القارب قريبهم وبعيدهم لكن كل ما كان أقرب كان أحق بالبر‪.‬‬

‫حشَاءِ } وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بال‬


‫وقوله‪ { :‬وَيَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ‬
‫والقتل بغير حق والزنا والسرقة والعجب والكبر واحتقار الخلق وغير ذلك من الفواحش‪.‬‬

‫ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية متعلق بحق ال تعالى‪.‬‬

‫وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء والموال والعراض‪.‬‬

‫فصارت هذه الية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إل دخل فيها‪ ،‬فهذه قاعدة‬
‫ترجع إليها سائر الجزئيات‪ ،‬فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى فهي مما‬
‫أمر ال به‪.‬‬

‫وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى ال عنه‪ .‬وبها يعلم حسن ما أمر‬
‫ال به وقبح ما نهى عنه‪ ،‬وبها يعتبر ما عند الناس من القوال وترد إليها سائر الحوال‪ ،‬فتبارك‬
‫من جعل في كلمه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الشياء‪.‬‬

‫ظكُمْ بِهِ } أي‪ :‬بما بينه لكم في كتابه بأمركم بما فيه غاية صلحكم ونهيكم عما فيه‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ي ِع ُ‬
‫مضرتكم‪.‬‬
‫{ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ } ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه‪ ،‬فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه عملتم بمقتضاه‬
‫فسعدتم سعادة ل شقاوة معها‪.‬‬

‫فلما أمر بما هو واجب في أصل الشرع أمر بوفاء ما أوجبه العبد على نفسه فقال‪:‬‬

‫جعَلْتُمُ اللّهَ‬
‫{ ‪ { } 92 - 91‬وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِ اللّهِ ِإذَا عَا َهدْتُ ْم وَلَا تَ ْن ُقضُوا الْأَ ْيمَانَ َب ْعدَ َت ْوكِيدِهَا َوقَدْ َ‬
‫ضتْ غَزَْلهَا مِنْ َبعْدِ ُق ّوةٍ أَ ْنكَاثًا تَتّخِذُونَ‬
‫عَلَ ْيكُمْ َكفِيلًا إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ * وَلَا َتكُونُوا كَالّتِي َنقَ َ‬
‫أَ ْيمَا َنكُمْ َدخَلًا بَيْ َنكُمْ أَنْ َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ ِب ِه وَلَيُبَيّنَنّ َلكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا‬
‫كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ }‬

‫وهذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه من العبادات والنذور واليمان التي عقدها إذا كان‬
‫الوفاء بها برا‪ ،‬ويشمل أيضا ما تعاقد عليه هو وغيره كالعهود بين المتعاقدين‪ ،‬وكالوعد الذي يعده‬
‫العبد لغيره ويؤكده على نفسه‪ ،‬فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة‪ ،‬ولهذا نهى ال عن‬
‫جعَلْتُمُ اللّهَ‬
‫نقضها فقال‪ { :‬وَلَا تَ ْن ُقضُوا الْأَ ْيمَانَ َبعْدَ َت ْوكِيدِهَا } بعقدها على اسم ال تعالى‪َ { :‬وقَدْ َ‬
‫عَلَ ْيكُمْ } أيها المتعاقدون { َكفِيلًا } فل يحل لكم أن ل تحكموا ما جعلتم ال عليكم كفيل فيكون ذلك‬
‫ترك تعظيم ال واستهانة به‪ ،‬وقد رضي الخر منك باليمين والتوكيد الذي جعلت ال فيه كفيل‪.‬‬
‫فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك فلتف له بما قلته وأكدته‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا َت ْفعَلُونَ } يجازي كل عامل بعمله على حسب نيته ومقصده‪.‬‬

‫{ وَلَا َتكُونُوا } في نقضكم للعهود بأسوأ المثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها‪ ،‬وذلك { كَالّتِي‬
‫} تغزل غزل قويا فإذا استحكم وتم ما أريد منه نقضته فجعلته { أَ ْنكَاثًا } فتعبت على الغزل ثم‬
‫على النقض‪ ،‬ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي‪ ،‬فكذلك من نقض ما‬
‫عاهد عليه فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة‪.‬‬

‫خذُونَ أَ ْيمَا َنكُمْ َدخَلًا بَيْ َنكُمْ أَنْ َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ } أي‪ :‬ل تنبغي هذه الحالة‬
‫وقوله‪ { :‬تَتّ ِ‬
‫منكم تعقدون اليمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص‪ ،‬فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على‬
‫الخر أتمها ل لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه‪ ،‬وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها‬
‫نقضها غير مبال بعهد ال ويمينه‪.‬‬

‫كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس‪ ،‬وتقديما لها على مراد ال منكم‪ ،‬وعلى المروءة النسانية‪،‬‬
‫والخلق المرضية لجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الخرى‪.‬‬
‫وهذا ابتلء من ال وامتحان يبتليكم ال به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق‬
‫الوفي من الفاجر الشقي‪.‬‬

‫{ وَلَيُبَيّنَنّ َل ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ } فيجازي كل بما عمل‪ ،‬ويخزي الغادر‪.‬‬

‫عمّا‬
‫ضلّ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنّ َ‬
‫ح َدةً وََلكِنْ ُي ِ‬
‫جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫{ ‪ { } 93‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬
‫كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬

‫أي‪َ { :‬لوْ شَاءَ اللّهُ } لجمع الناس على الهدى وجعلهم { ُأمّ ًة وَاحِ َدةً } ولكنه تعالى المنفرد بالهداية‬
‫والضلل‪ ،‬وهدايته وإضلله من أفعاله التابعة لعلمه وحكمته‪ ،‬يعطي الهداية من يستحقها فضل‪،‬‬
‫عمّا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير وشر فيجازيكم عليها أتم‬
‫ويمنعها من ل يستحقها عدل‪ { .‬وَلَتُسْأَلُنّ َ‬
‫الجزاء وأعدله‪.‬‬

‫{ ‪ { } 94‬وَلَا تَتّخِذُوا أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلًا بَيْ َنكُمْ فَتَ ِزلّ قَ َدمٌ َبعْدَ ثُبُو ِتهَا وَتَذُوقُوا السّوءَ ِبمَا صَ َددْتُمْ عَنْ سَبِيلِ‬
‫اللّ ِه وََلكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }‬

‫أي‪ { :‬وَلَا تَتّخِذُوا أَ ْيمَا َنكُمْ } وعهودكم ومواثيقكم تبعا لهوائكم متى شئتم وفيتم بها‪ ،‬ومتى شئتم‬
‫نقضتموها‪ ،‬فإنكم إذا فعلتم ذلك تزل أقدامكم بعد ثبوتها على الصراط المستقيم‪ { ،‬وَتَذُوقُوا السّوءَ }‬
‫صدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } حيث ضللتم وأضللتم غيركم‬
‫أي‪ :‬العذاب الذي يسوءكم ويحزنكم { ِبمَا َ‬
‫{ وََلكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } مضاعف‪.‬‬

‫{ ‪ { } 97 - 95‬وَلَا تَشْتَرُوا ِب َعهْدِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * مَا‬
‫ع ِملَ‬
‫ن صَبَرُوا َأجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * مَنْ َ‬
‫ق وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ‬
‫عِنْ َدكُمْ يَ ْنفَدُ َومَا عِ ْندَ اللّهِ بَا ٍ‬
‫صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَ ًة وَلَنَجْزِيَ ّن ُهمْ أَجْ َرهُمْ بَِأحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ‬
‫}‬

‫يحذر تعالى عباده من نقض العهود واليمان لجل متاع الدنيا وحطامها فقال‪ { :‬وَلَا َتشْتَرُوا ِب َعهْدِ‬
‫اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا } تنالونه بالنقض وعدم الوفاء { إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ } من الثواب العاجل والجل لمن آثر‬
‫رضاه‪ ،‬وأوفى بما عاهد عليه ال { ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ } من حطام الدنيا الزائلة { إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }‬

‫فآثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الذي عندكم ولو كثر جدا ل بد أن { يَ ْنفَدُ } ويفنى‪َ { ،‬ومَا عِنْدَ اللّهِ‬
‫بَاقٍ } ببقائه ل يفنى ول يزول‪ ،‬فليس بعاقل من آثر الفاني الخسيس على الباقي النفيس وهذا كقوله‬
‫تعالى‪َ { :‬بلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى } { َومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } وفي هذا‬
‫الحث والترغيب على الزهد في الدنيا‪ .‬خصوصا الزهد المتعين وهو الزهد فيما يكون ضررا على‬
‫العبد ويوجب له الشتغال عما أوجب ال عليه وتقديمه على حق ال فإن هذا الزهد واجب‪.‬‬

‫ومن الدواعي للزهد أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الخرة‪ ،‬فإنه يجد من الفرق‬
‫والتفاوت ما يدعوه إلى إيثار أعلى المرين [وليس الزهد الممدوح هو النقطاع للعبادات القاصرة‬
‫كالصلة والصيام والذكر ونحوها‪ ،‬بل ل يكون العبد زاهدا زهدا صحيحا حتى يقوم بما يقدر عليه‬
‫من الوامر الشرعية الظاهرة والباطنة‪ ،‬ومن الدعوة إلى ال وإلى دينه بالقول والفعل‪ ،‬فالزهد‬
‫الحقيقي هو الزهد فيما ل ينفع في الدين والدنيا‪ ،‬والرغبة والسعي في كل ما ينفع]‬

‫{ وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا } على طاعة ال‪ ،‬وعن معصيته‪ ،‬وفطموا نفوسهم عن الشهوات الدنيوية‬
‫المضرة يدينهم { أَجْ َرهُمْ بَِأحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى‬
‫أضعاف كثيرة فإن ال ل يضيع أجر من أحسن عمل‪ .‬ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا‬
‫ل صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ } فإن اليمان شرط في صحة‬
‫ع ِم َ‬
‫والخرة فقال‪ { :‬مَنْ َ‬
‫العمال الصالحة وقبولها‪ ،‬بل ل تسمى أعمال صالحة إل باليمان‪ ،‬واليمان مقتض لها‪ ،‬فإنه‬
‫التصديق الجازم المثمر لعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات‪ ،‬فمن جمع بين اليمان‬
‫والعمل الصالح { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً } وذلك بطمأنينة قلبه‪ ،‬وسكون نفسه‪ ،‬وعدم التفاته لما يشوش‬
‫عليه قلبه‪ ،‬ويرزقه ال رزقا حلل طيبا من حيث ل يحتسب‪ { .‬وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ } في الخرة { أَجْ َرهُمْ‬
‫حسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } من أصناف اللذات مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على‬
‫بِأَ ْ‬
‫قلب بشر‪ .‬فيؤتيه ال في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 100 - 98‬فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى‬
‫الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ * إِ ّنمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ هُمْ ِبهِ مُشْ ِركُونَ }‬

‫أي‪ :‬فإذا أردت القراءة لكتاب ال الذي هو أشرف الكتب وأجلها وفيه صلح القلوب والعلوم‬
‫الكثيرة فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد عند شروعه في المور الفاضلة‪ ،‬فيسعى في‬
‫صرفه عن مقاصدها ومعانيها‪.‬‬

‫فالطريق إلى السلمة من شره اللتجاء إلى ال‪ ،‬والستعاذة به من شره‪ ،‬فيقول القارئ‪ { :‬أعوذ‬
‫بال من الشيطان الرجيم } متدبرا لمعناها‪ ،‬معتمدا بقلبه على ال في صرفه عنه‪ ،‬مجتهدا في دفع‬
‫وساوسه وأفكاره الرديئة مجتهدا‪ ،‬على السبب القوى في دفعه‪ ،‬وهو التحلي بحلية اليمان‬
‫والتوكل‪.‬‬
‫فإن الشيطان { لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي‪ :‬تسلط { عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ } وحده ل شريك له‬
‫{ يَ َت َوكّلُونَ } فيدفع ال عن المؤمنين المتوكلين عليه شر الشيطان ول يبق له عليهم سبيل‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا سُلْطَاُنهُ } أي‪ :‬تسلطه { عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَهُ } أي‪ :‬يجعلونه لهم وليا‪ ،‬وذلك بتخليهم عن ولية‬
‫ال‪ ،‬ودخولهم في طاعة الشيطان‪ ،‬وانضمامهم لحزبه‪ ،‬فهم الذين جعلوا له ولية على أنفسهم‪،‬‬
‫فأزّهم إلى المعاصي أزّا وقادهم إلى النار َقوْدًا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 102 - 101‬وَإِذَا َبدّلْنَا آ َيةً َمكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُفْتَرٍ َبلْ َأكْثَرُهُمْ‬
‫لَا َيعَْلمُونَ * ُقلْ نَزّلَهُ رُوحُ ا ْلقُدُسِ مِنْ رَ ّبكَ بِا ْلحَقّ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُوا وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ }‬

‫يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم‪ ،‬وهو أن ال تعالى هو الحاكم‬
‫الحكيم‪ ،‬الذي يشرع الحكام‪ ،‬ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته‪ ،‬فإذا رأوه كذلك قدحوا في‬
‫الرسول وبما جاء به و { قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ ُمفْتَرٍ } قال ال تعالى‪َ { :‬بلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ } فهم جهال‬
‫ل علم لهم بربهم ول بشرعه‪ ،‬ومن المعلوم أن قدح الجاهل بل علم ل عبرة به‪ ،‬فإن القدح في‬
‫الشيء فرع عن العلم به‪ ،‬وما يشتمل عليه مما يوجب المدح أو القدح‪.‬‬

‫ولهذا ذكر تعالى حكمته في ذلك فقال‪ُ { :‬قلْ نَزَّلهُ رُوحُ ا ْلقُدُسِ } وهو جبريل الرسول المقدس‬
‫المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة‪.‬‬

‫{ بِا ْلحَقّ } أي‪ :‬نزوله بالحق وهو مشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه‪ ،‬فل سبيل لحد‬
‫أن يقدح فيه قدحا صحيحا‪ ،‬لنه إذا علم أنه الحق علم أن ما عارضه وناقضه باطل‪.‬‬

‫{ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُوا } عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت‪ ،‬فل يزال الحق يصل إلى‬
‫قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي‪ ،‬وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق‪،‬‬
‫وإذا شرع حكما [من الحكام] ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه‬
‫هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية‪.‬‬

‫{ وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ } أي‪ :‬يهديهم إلى حقائق الشياء ويبين لهم لحق من الباطل والهدى من‬
‫الضلل‪ ،‬ويبشرهم أن لهم أجرا حسنا‪ ،‬ماكثين فيه أبدا‪ .‬وأيضا فإنه كلما نزل شيئا فشيئا‪ ،‬كان‬
‫أعظم هداية وبشارة لهم مما لو أتاهم جملة واحدة وتفرق الفكر فيه بل ينزل ال حكما وبشارة‬
‫[أكثر] فإذا فهموه وعقلوه وعرفوا المراد منه وترووا منه أنزل نظيره وهكذا‪ .‬ولذلك بلغ الصحابة‬
‫رضي ال عنهم به مبلغا عظيما‪ ،‬وتغيرت أخلقهم وطبائعهم‪ ،‬وانتقلوا إلى أخلق وعوائد وأعمال‬
‫فاقوا بها الولين والخرين‪.‬‬
‫وكان أعلى وأولى لمن بعدهم أن يتربوا بعلومه ويتخلقوا بأخلقه‪ ،‬ويستضيئوا بنوره في ظلمات‬
‫الغي والجهالت ويجعلوه إمامهم في جميع الحالت‪ ،‬فبذلك تستقيم أمورهم الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫ج ِميّ وَ َهذَا‬
‫عَ‬‫حدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 105 - 103‬وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّن ُهمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الّذِي يُلْ ِ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * إِ ّنمَا َيفْتَرِي‬
‫لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مُبِينٌ * إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لَا َيهْدِيهِمُ اللّ ُه وََلهُمْ َ‬
‫ا ْلكَ ِذبَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن قيل المشركين المكذبين لرسوله { أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ } هذا الكتاب الذي جاء‬
‫به { بَشَرٌ } وذلك البشر الذي يشيرون إليه أعجمي اللسان { وَ َهذَا } القرآن { لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مُبِينٌ }‬
‫هل هذا القول ممكن؟ أو له حظ من الحتمال؟ ولكن الكاذب يكذب ول يفكر فيما يؤول إليه كذبه‪،‬‬
‫فيكون في قوله من التناقض والفساد ما يوجب رده بمجرد تصوره‪.‬‬

‫{ إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } الدالة دللة صريحة على الحق المبين فيردونها ول يقبلونها‪،‬‬
‫{ لَا َيهْدِيهِمُ اللّهُ } حيث جاءهم الهدى فردوه فعوقبوا بحرمانه وخذلن ال لهم‪ { .‬وََلهُمْ } في‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫الخرة { َ‬

‫{ إِ ّنمَا َيفْتَرِي ا ْلكَ ِذبَ } أي‪ :‬إنما يصدر افتراه الكذب من { الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } كالمعاندين‬
‫لرسوله من بعد ما جاءتهم البينات‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } أي‪ :‬الكذب منحصر فيهم وعليهم‬
‫أولى بأن يطلق من غيرهم‪ .‬وأما محمد صلى ال عليه وسلم المؤمن بآيات ال الخاضع لربه‬
‫فمحال أن يكذب على ال ويتقول عليه ما لم يقل‪ ،‬فأعداؤه رموه بالكذب الذي هو وصفهم‪ ،‬فأظهر‬
‫ال خزيهم وبين فضائحهم‪ ،‬فله تعالى الحمد‪.‬‬

‫ن وََلكِنْ مَنْ‬
‫طمَئِنّ بِالْإِيمَا ِ‬
‫{ ‪ { } 109 - 106‬مَنْ َكفَرَ بِاللّهِ مِنْ َبعْدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ‬
‫عظِيمٌ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْتَحَبّوا ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا‬
‫ضبٌ مِنَ اللّ ِه وََلهُمْ عَذَابٌ َ‬
‫غ َ‬
‫شَرَحَ بِا ْل ُكفْ ِر صَدْرًا َفعَلَ ْيهِمْ َ‬
‫س ْم ِعهِمْ‬
‫عَلَى الْآخِ َر ِة وَأَنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَ َ‬
‫وَأَ ْبصَارِهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ * لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن شناعة حال { مَنْ َكفَرَ بِاللّهِ مِنْ َبعْدِ إِيمَانِهِ } فعمى بعد ما أبصر ورجع إلى‬
‫الضلل بعد ما اهتدى‪ ،‬وشرح صدره بالكفر راضيا به مطمئنا أن لهم الغضب الشديد من الرب‬
‫الرحيم الذي إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وغضب عليهم كل شيء‪ { ،‬وََلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي‪:‬‬
‫في غاية الشدة مع أنه دائم أبدا‪.‬‬
‫و { ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمُ اسْ َتحَبّوا الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآخِ َرةِ } حيث ارتدوا على أدبارهم طمعا في شيء من‬
‫حطام الدنيا‪ ،‬ورغبة فيه وزهدا في خير الخرة‪ ،‬فلما اختاروا الكفر على اليمان منعهم ال الهداية‬
‫فلم يهدهم لن الكفر وصفهم‪ ،‬فطبع على قلوبهم فل يدخلها خير‪ ،‬وعلى سمعهم وعلى أبصارهم‬
‫فل ينفذ منها ما ينفعهم ويصل إلى قلوبهم‪ .‬فشملتهم الغفلة وأحاط بهم الخذلن‪ ،‬وحرموا رحمة ال‬
‫التي وسعت كل شيء‪ ،‬وذلك أنها أتتهم فردوها‪ ،‬وعرضت عليهم فلم يقبلوها‪.‬‬

‫{ لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الْآخِ َرةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة‬
‫وفاتهم النعيم المقيم وحصلوا على العذاب الليم‪.‬‬

‫وهذا بخلف من أكره على الكفر وأجبر عليه‪ ،‬وقلبه مطمئن باليمان؛ راغب فيه فإنه ل حرج‬
‫عليه ول إثم‪ ،‬ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الكراه عليها‪.‬‬

‫ودل ذلك على أن كلم المكره على الطلق أو العتاق أو البيع أو الشراء أو سائر العقود أنه ل‬
‫عبرة به‪ ،‬ول يترتب عليه حكم شرعي‪ ،‬لنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر إذا أكره عليها فغيرها‬
‫من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫{ ‪ { } 111 - 110‬ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ َبعْدِ مَا فُتِنُوا ُثمّ جَاهَدُوا َوصَبَرُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ‬
‫عمَِلتْ وَ ُهمْ لَا‬
‫سهَا وَ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫َبعْدِهَا َل َغفُورٌ رَحِيمٌ * َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ ُتجَا ِدلُ عَنْ َنفْ ِ‬
‫يُظَْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله‪،‬‬
‫وخلى دياره وأمواله طلبا لمرضاة ال‪ ،‬وفتن على دينه ليرجع إلى الكفر‪ ،‬فثبت على اليمان‪،‬‬
‫وتخلص ما معه من اليقين‪ ،‬ثم جاهد أعداء ال ليدخلهم في دين ال بلسانه ويده‪ ،‬وصبر على هذه‬
‫العبادات الشاقة على أكثر الناس‪.‬‬

‫فهذه أكبرالسباب التي تنال بها أعظم العطايا وأفضل المواهب‪ ،‬وهي مغفرة ال للذنوب صغارها‬
‫وكبارها المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه‪ ،‬ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم‬
‫واستقامت أمور دينهم ودنياهم‪ ،‬فلهم الرحمة من ال في يوم القيامة حين { تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ ُتجَا ِدلُ‬
‫ل يقول نفسي نفسي ل يهمه سوى نفسه‪ ،‬ففي ذلك اليوم يفتقر العبد إلى حصول‬
‫سهَا } ك ّ‬
‫عَنْ َنفْ ِ‬
‫مثقال ذرة من الخير‪.‬‬

‫عمَِلتْ } من خير وشر { وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ } فل يزاد في سيئاتهم ول ينقص‬


‫{ وَ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫من حسناتهم { فَالْ َيوْمَ لَا تُظَْلمُ َنفْسٌ شَيْئًا وَلَا ُتجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫غدًا مِنْ ُكلّ َمكَانٍ‬
‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَ َ‬
‫{ ‪َ { } 113 - 112‬وضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَا َنتْ آمِ َنةً مُ ْ‬
‫خ ْوفِ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ * وَلَقَدْ جَا َءهُمْ رَسُولٌ مِ ْنهُمْ‬
‫َفكَفَ َرتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْ َ‬
‫َفكَذّبُوهُ فَأَخَ َذهُمُ ا ْل َعذَابُ وَهُمْ ظَاِلمُونَ }‬

‫وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة ل يهاج فيها أحد‪ ،‬وتحترمها الجاهلية‬
‫الجهلء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه‪ ،‬فل يهيجه مع شدة الحمية فيهم‪ ،‬والنعرة العربية‬
‫فحصل لها من المن التام ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع‪.‬‬

‫كانت بلدة ليس فيها زرع ول شجر‪ ،‬ولكن يسر ال لها الرزق يأتيها من كل مكان‪ ،‬فجاءهم رسول‬
‫منهم يعرفون أمانته وصدقه‪ ،‬يدعوهم إلى أكمل المور‪ ،‬وينهاهم عن المور السيئة‪ ،‬فكذبوه‬
‫وكفروا بنعمة ال عليهم‪ ،‬فأذاقهم ال ضد ما كانوا فيه‪ ،‬وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد‪،‬‬
‫والخوف الذي هو ضد المن‪ ،‬وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم { وما ظلمهم ال ولكن‬
‫كانوا أنفسهم يظلمون }‬

‫شكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ *‬


‫{ ‪َ { } 118 - 114‬فكُلُوا ِممّا رَ َز َق ُكمُ اللّهُ حَلَالًا طَيّبًا وَا ْ‬
‫غ وَلَا عَادٍ فَإِنّ‬
‫ضطُرّ غَيْرَ بَا ٍ‬
‫إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وَلَحْمَ الْخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ َفمَنِ ا ْ‬
‫علَى اللّهِ‬
‫ل وَ َهذَا حَرَامٌ لِ َتفْتَرُوا َ‬
‫صفُ أَلْسِنَ ُتكُمُ ا ْلكَ ِذبَ َهذَا حَلَا ٌ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا َتقُولُوا ِلمَا َت ِ‬
‫اللّهَ َ‬
‫ل وََلهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ * وَعَلَى الّذِينَ‬
‫ا ْلكَ ِذبَ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِي ٌ‬
‫ظِلمُونَ }‬
‫سهُمْ يَ ْ‬
‫ل َومَا ظََلمْنَاهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫صصْنَا عَلَ ْيكَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫هَادُوا حَ ّرمْنَا مَا َق َ‬

‫يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم ال من الحيوانات والحبوب والثمار وغيرها‪ { .‬حَلَالًا طَيّبًا } أي‪:‬‬
‫حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث ل تكون مما حرم ال أو أثرا عن غصب ونحوه‪.‬‬
‫شكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ } بالعتراف بها بالقلب‬
‫فتمتعوا بما خلق ال لكم من غير إسراف ول َتعَدّ‪ { .‬وَا ْ‬
‫والثناء على ال بها وصرفها في طاعة ال‪ { .‬إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ } أي إن كنتم مخلصين له‬
‫العبادة‪ ،‬فل تشكروا إل إياه‪ ،‬ول تنسوا المنعم‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ } الشياء المضرة تنزيها لكم‪ ،‬وذلك‪ :‬كب { ا ْلمَيْتَةَ } ويدخل في ذلك كل ما كان‬
‫موته على غير ذكاة مشروعة‪ ،‬ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك‪.‬‬

‫{ والدم } المسفوح وأما ما يبقى في العروق واللحم فل يضر‪.‬‬

‫{ وََلحْمَ ا ْلخِنْزِيرِ } لقذارته وخبثه وذلك شامل للحمه وشحمه وجميع أجزائه‪َ { .‬ومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ‬
‫بِهِ } كالذي يذبح للصنام والقبور ونحوها لنه مقصود به الشرك‪.‬‬
‫ضطُرّ } إلى شيء من المحرمات ‪-‬بأن حملته الضرورة وخاف إن لم يأكل أن يهلك‪ -‬فل‬
‫{ َفمَنِ ا ْ‬
‫جناح عليه إذا لم يكن باغيا أو عاديا‪ ،‬أي‪ :‬إذا لم يرد أكل المحرم وهو غير مضطر‪ ،‬ول متعد‬
‫الحلل إلى الحرام‪ ،‬أو متجاوز لما زاد على قدر الضرورة‪ ،‬فهذا الذي حرمه ال من المباحات‪.‬‬

‫{ وَلَا َتقُولُوا ِلمَا َتصِفُ أَ ْلسِنَ ُتكُمُ ا ْلكَ ِذبَ َهذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } أي‪ :‬ل تحرموا وتحللوا من تلقاء‬
‫أنفسكم‪ ،‬كذبا وافتراء على ال وتقول عليه‪.‬‬

‫{ لِ َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ } ل في الدنيا ول في‬
‫الخرة‪ ،‬ول بد أن يظهر ال خزيهم وإن تمتعوا في الدنيا فإنه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ومصيرهم إلى النار‬
‫{ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }‬

‫فال تعالى ما حرم علينا إل الخبيثات تفضل منه‪ ،‬وصيانة عن كل مستقذر‪.‬‬

‫وأما الذين هادوا فحرم ال عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ظلمهم عقوبة لهم‪ ،‬كما قصه في سورة‬
‫ظفُرٍ َومِنَ الْ َبقَ ِر وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ‬
‫النعام في قوله‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ‬
‫حوَايَا َأوْ مَا اخْتَلَطَ ِب َعظْمٍ ذَِلكَ جَزَيْنَاهُمْ بِ َبغْ ِيهِ ْم وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ‬
‫ظهُورُ ُهمَا َأوِ الْ َ‬
‫حمََلتْ ُ‬
‫شحُومَ ُهمَا إِلّا مَا َ‬
‫ُ‬
‫}‬

‫ك وََأصْلَحُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ‬


‫جهَالَةٍ ُثمّ تَابُوا مِنْ َبعْدِ ذَِل َ‬
‫عمِلُوا السّوءَ ِب َ‬
‫{ ‪ُ { } 119‬ثمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ َ‬
‫َبعْدِهَا َل َغفُورٌ رَحِيمٌ }‬

‫وهذا حض منه لعباده على التوبة‪ ،‬ودعوة لهم إلى النابة‪ ،‬فأخبر أن من عمل سوءا بجهالة بعاقبة‬
‫ما تجني عليه‪ ،‬ولو كان متعمدا للذنب‪ ،‬فإنه ل بد أن ينقص ما في قلبه من العلم وقت مفارقة‬
‫الذنب‪ .‬فإذا تاب وأصلح بأن ترك الذنب وندم عليه وأصلح أعماله‪ ،‬فإن ال يغفر له ويرحمه‬
‫ويتقبل توبته ويعيده إلى حالته الولى أو أعلى منها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 123 - 120‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وََلمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * شَاكِرًا لِأَ ْن ُعمِهِ‬
‫اجْتَبَا ُه وَ َهدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَإِنّهُ فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ * ُثمّ‬
‫َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ }‬

‫يخبر تعالى عما فضل به خليله إبراهيم عليه الصلة والسلم‪ ،‬وخصه به من الفضائل العالية‬
‫والمناقب الكاملة فقال‪:‬‬
‫{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً } أي‪ :‬إماما جامعا لخصال الخير هاديا مهتديا‪ { .‬قَانِتًا لِلّهِ } أي‪ :‬مديما‬
‫لطاعة ربه مخلصا له الدين‪ { ،‬حَنِيفًا } مقبل على ال بالمحبة‪ ،‬والنابة والعبودية معرضا عمن‬
‫سواه‪ { .‬وََلمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } في قوله وعمله‪ ،‬وجميع أحواله لنه إمام الموحدين الحنفاء‪.‬‬

‫{ شَاكِرًا لِأَ ْن ُعمِهِ } أي‪ :‬آتاه ال في الدنيا حسنة‪ ،‬وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة‪ ،‬فقام بشكرها‪،‬‬
‫فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن { اجْتَبَاهُ } ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه‪،‬‬
‫وخيار عباده المقربين‪.‬‬

‫{ وَ َهدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } في علمه وعمله فعلم بالحق وآثره على غيره‪.‬‬

‫حسَنَةً } رزقا واسعا‪ ،‬وزوجة حسناء‪ ،‬وذرية صالحين‪ ،‬وأخلقا مرضية { وَإِنّهُ‬
‫{ وَآتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا َ‬
‫فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } الذين لهم المنازل العالية والقرب العظيم من ال تعالى‪.‬‬

‫ومن أعظم فضائله أن ال أوحى لسيد الخلق وأكملهم أن يتبع ملة إبراهيم‪ ،‬ويقتدي به هو وأمته‪.‬‬

‫حكُمُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا‬


‫ج ِعلَ السّ ْبتُ عَلَى الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ِه وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 124‬إِ ّنمَا ُ‬
‫فِيهِ َيخْتَِلفُونَ }‬

‫ج ِعلَ السّ ْبتُ } أي‪ :‬فرضا { عَلَى الّذِينَ اخْتََلفُوا فِيهِ } حين ضلوا عن يوم‬
‫يقول تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا ُ‬
‫الجمعة وهم اليهود فصار اختلفهم سببا لن يجب عليهم في السبت احترامه وتعظيمه‪ ،‬وإل‬
‫فالفضيلة الحقيقية ليوم الجمعة الذي هدى ال هذه المة إليه‪.‬‬

‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } فيبين لهم المحق من المبطل‬
‫{ وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َي ْ‬
‫والمستحق للثواب ممن استحق العقاب‬

‫حسَنَ ِة وَجَادِ ْلهُمْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ‬


‫ظةِ الْ َ‬
‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِ َ‬
‫{ ‪ { } 125‬ا ْدعُ إِلَى سَبِيلِ رَ ّبكَ بِالْ ِ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ }‬
‫ن َ‬
‫أَعْلَمُ ِبمَ ْ‬

‫أي‪ :‬ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع‬
‫ح ْكمَةِ } أي‪ :‬كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده‪.‬‬
‫والعمل الصالح { بِالْ ِ‬

‫ومن الحكمة الدعوة بالعلم ل بالجهل والبداءة بالهم فالهم‪ ،‬وبالقرب إلى الذهان والفهم‪ ،‬وبما‬
‫يكون قبوله أتم‪ ،‬وبالرفق واللين‪ ،‬فإن انقاد بالحكمة‪ ،‬وإل فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة‪،‬‬
‫وهو المر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب‪.‬‬
‫إما بما تشتمل عليه الوامر من المصالح وتعدادها‪ ،‬والنواهي من المضار وتعدادها‪ ،‬وإما بذكر‬
‫إكرام من قام بدين ال وإهانة من لم يقم به‪.‬‬

‫وإما بذكر ما أعد ال للطائعين من الثواب العاجل والجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل‬
‫والجل‪ ،‬فإن كان [المدعو] يرى أن ما هو عليه حق‪ .‬أو كان داعيه إلى الباطل‪ ،‬فيجادل بالتي هي‬
‫أحسن‪ ،‬وهي الطرق التي تكون أدعى لستجابته عقل ونقل‪.‬‬

‫ومن ذلك الحتجاج عليه بالدلة التي كان يعتقدها‪ ،‬فإنه أقرب إلى حصول المقصود‪ ،‬وأن ل تؤدي‬
‫المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها‪ ،‬ول تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها‬
‫هداية الخلق إلى الحق ل المغالبة ونحوها‪.‬‬

‫ضلّ عَنْ سَبِيلِهِ } علم السبب الذي أداه إلى الضلل‪ ،‬وعلم أعماله‬
‫ن َ‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَ ْ‬
‫المترتبة على ضللته وسيجازيه عليها‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ } علم أنهم يصلحون للهداية فهداهم ثم منّ عليهم فاجتباهم‪.‬‬

‫ن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ *‬


‫{ ‪ { } 128 - 126‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِ ْ‬
‫وَاصْبِرْ َومَا صَبْ ُركَ إِلّا بِاللّ ِه وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا َتكُ فِي ضَ ْيقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ * إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ‬
‫ا ّتقَوْا وَالّذِينَ هُمْ ُمحْسِنُونَ }‬

‫يقول تعالى ‪-‬مبيحا للعدل ونادبا للفضل والحسان‪ { -‬وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ } من أساء إليكم بالقول والفعل‬
‫{ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم‪.‬‬

‫ن صَبَرْتُمْ } عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم { َل ُهوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ } من الستيفاء وما عند‬
‫{ وَلَئِ ْ‬
‫ال خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى‪ { :‬فمن عفا وأصلح فأجره على ال }‬

‫ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى ال والستعانة بال على ذلك وعدم التكال على‬
‫علَ ْيهِمْ } إذا‬
‫النفس فقال‪ { :‬وَاصْبِ ْر َومَا صَبْ ُركَ إِلّا بِاللّهِ } هو الذي يعينك عليه ويثبتك‪ { .‬وَلَا تَحْزَنْ َ‬
‫دعوتهم فلم تر منهم قبول لدعوتك‪ ،‬فإن الحزن ل يجدي عليك شيئا‪ { .‬وَلَا َتكُ فِي ضَيْقٍ } أي‪:‬‬
‫شدة وحرج { ِممّا َي ْمكُرُونَ } فإن مكرهم عائد إليهم وأنت من المتقين المحسنين‪.‬‬

‫وال مع المتقين المحسنين‪ ،‬بعونه وتوفيقه وتسديده‪ ،‬وهم الذين اتقوا الكفر والمعاصي‪ ،‬وأحسنوا‬
‫في عبادة ال‪ ،‬بأن عبدوا ال كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم‪ ،‬والحسان إلى الخلق‬
‫ببذل النفع لهم من كل وجه‪.‬‬
‫نسأل ال أن يجعلنا من المتقين المحسنين‪.‬‬

‫تم تفسير سورة النحل والحمد ل‪.‬‬

‫جدِ‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ ِإلَى ا ْل َمسْ ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْلًا مِنَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫{ ‪ِ { } 1‬بسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ }‬
‫حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنّه ُهوَ ال ّ‬
‫الَْأ ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬

‫ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لن له الفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أن‬
‫جدِ الْحَرَامِ } الذي هو أجل‬
‫{ َأسْرَى ِبعَبْ ِدهِ } ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم { مِنَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫جدِ الَْأ ْقصَى } الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل النبياء‪.‬‬
‫المساجد على الطلق { ِإلَى ا ْل َمسْ ِ‬

‫فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته‪ ،‬وأراه ال من آياته ما ازداد به‬
‫هدى وبصيرة وثباتا وفرقانا‪ ،‬وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث يسره لليسرى في جميع‬
‫أموره وخوله نعما فاق بها الولين والخرين‪ ،‬وظاهر الية أن السراء كان في أول الليل وأنه‬
‫من نفس المسجد الحرام‪ ،‬لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ‪ ،‬فعلى هذا تكون‬
‫الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم‪ ،‬فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد‪،‬‬
‫وأن السراء بروحه وجسده معا وإل لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة‪.‬‬

‫وقد تكاثرت الحاديث الثابتة عن النبي صلى ال عليه وسلم في السراء‪ ،‬وذكر تفاصيل ما رأى‬
‫وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق‬
‫السماوات العلى ورأى الجنة والنار‪ ،‬والنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين‪ ،‬ثم ما‬
‫زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا بالفعل‪ ،‬وخمسين بالجر والثواب‪ ،‬وحاز‬
‫من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما ل يعلم مقداره إل ال عز وجل‪.‬‬

‫وذكره هنا وفي مقام النزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية لنه نال هذه المقامات الكبار‬
‫بتكميله لعبودية ربه‪.‬‬

‫حوْلَهُ } أي‪ :‬بكثرة الشجار والنهار والخصب الدائم‪.‬‬


‫وقوله‪ { :‬الّذِي بَا َركْنَا َ‬

‫ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة‪ ،‬وأنه يطلب شد‬
‫الرحل إليه للعبادة والصلة فيه وأن ال اختصه محل لكثير من أنبيائه وأصفيائه‪.‬‬
‫خذُوا مِنْ دُونِي َوكِيلًا * ذُرّيّةَ‬
‫جعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ أَلّا تَتّ ِ‬
‫{ ‪ { } 2-8‬وَآتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ وَ َ‬
‫شكُورًا * َو َقضَيْنَا ِإلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الْأَ ْرضِ‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ‬
‫مَنْ َ‬
‫شدِيدٍ َفجَاسُوا‬
‫ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَا َء وَعْدُ أُولَا ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ َ‬
‫مَرّتَيْ ِ‬
‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ‬
‫ن وَ َ‬
‫ل وَبَنِي َ‬
‫خِلَالَ الدّيَا ِر َوكَانَ وَعْدًا َم ْفعُولًا * ُثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْي ِه ْم وََأمْدَدْنَاكُمْ بَِأ ْموَا ٍ‬
‫سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا فَإِذَا جَا َء وَعْدُ الْآخِ َرةِ لِيَسُوءُوا وُجُو َهكُمْ‬
‫حسَنْتُمْ َأحْسَنْ ُتمْ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫َنفِيرًا * إِنْ أَ ْ‬
‫عدْتُمْ‬
‫ح َمكُ ْم وَإِنْ ُ‬
‫جدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُوا مَا عََلوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ يَرْ َ‬
‫وَلِيَدْخُلُوا ا ْلمَسْ ِ‬
‫حصِيرًا }‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫عُدْنَا وَ َ‬

‫كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ونبوة موسى صلى ال عليه وسلم وبين‬
‫كتابيهما وشريعتيهما لن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات‬
‫وأتباعهما أكثر المؤمنين‪،‬‬

‫جعَلْنَاهُ ُهدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يهتدون‬


‫ولهذا قال هنا‪ { :‬وَآتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } الذي هو التوراة { وَ َ‬
‫به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق‪.‬‬

‫خذُوا مِنْ دُونِي َوكِيلًا } أي‪ :‬وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك ليعبدوا ال وحده‬
‫{ َألّا تَتّ ِ‬
‫وينيبوا إليه ويتخذوه وحده وكيل ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم ول يتعلقوا بغيره من‬
‫المخلوقين الذين ل يملكون شيئا ول ينفعونهم بشيء‪.‬‬

‫شكُورًا‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي‪ :‬يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح‪ { ،‬إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ‬
‫{ ذُرّيّةَ مَنْ َ‬
‫} ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلم بقيامه بشكر ال واتصافه بذلك والحث لذريته أن‬
‫يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه‪ ،‬وأن يتذكروا نعمة ال عليهم إذ أبقاهم واستخلفهم في الرض‬
‫وأغرق غيرهم‪.‬‬

‫{ َو َقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ } أي‪ :‬تقدمنا وعهدنا إليهم وأخبرناهم في كتابهم أنهم ل بد أن يقع منهم‬
‫إفساد في الرض مرتين بعمل المعاصي والبطر لنعم ال والعلو في الرض والتكبر فيها وأنه إذا‬
‫وقع واحدة منهما سلط ال عليهم العداء وانتقم منهم وهذا تحذير لهم وإنذار لعلهم يرجعون‬
‫فيتذكرون‪.‬‬

‫{ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ أُولَا ُهمَا } أي‪ :‬أولى المرتين اللتين يفسدون فيهما‪ .‬أي‪ :‬إذا وقع منهم ذلك الفساد‬
‫{ َبعَثْنَا عَلَ ْي ُكمْ } بعثا قدريا وسلطنا عليكم تسليطا كونيا جزائيا { عِبَادًا لَنَا أُولِي بَ ْأسٍ شَدِيدٍ } أي‪:‬‬
‫ذوي شجاعة وعدد وعدة فنصرهم ال عليكم فقتلوكم وسبوا أولدكم ونهبوا أموالكم‪ ،‬وجاسوا خِلَالَ‬
‫ن وَعْدًا َم ْفعُولًا } ل بد من وقوعه‬
‫دياركم فهتكوا الدور ودخلوا المسجد الحرام وأفسدوه‪َ { .‬وكَا َ‬
‫لوجود سببه منهم‪.‬‬

‫واختلف المفسرون في تعيين هؤلء المسلطين إل أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار‪.‬‬

‫إما من أهل العراق أو الجزيرة أو غيرها سلطهم ال على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي‬
‫وتركوا كثيرا من شريعتهم وطغوا في الرض‪.‬‬

‫{ ُثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬على هؤلء الذين سلطوا عليكم فأجليتموهم من دياركم‪.‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرًا‬
‫{ وََأمْ َددْنَاكُمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ } أي‪ :‬أكثرنا أرزاقكم وكثرناكم وقويناكم عليهم‪ { ،‬وَ َ‬
‫} منهم وذلك بسبب إحسانكم وخضوعكم ل‪.‬‬

‫سكُمْ } لن النفع عائد إليكم حتى في الدنيا كما شاهدتم من انتصاركم على‬
‫حسَنْتُمْ َأحْسَنْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫{ إِنْ أَ ْ‬
‫أعدائكم‪ { .‬وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا } أي‪ :‬فلنفسكم يعود الضرر كما أراكم ال من تسليط العداء‪.‬‬

‫{ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬المرة الخرة التي تفسدون فيها في الرض سلطنا عليكم العداء‪.‬‬

‫{ لِ َيسُوءُوا وُجُو َهكُمْ } بانتصارهم عليكم وسبيكم وليدخلوا المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة‪،‬‬
‫والمراد بالمسجد مسجد بيت المقدس‪.‬‬

‫{ وَلِيُتَبّرُوا } أي‪ :‬يخربوا ويدمروا { مَا عََلوْا } عليه { تَتْبِيرًا } فيخربوا بيوتكم ومساجدكم‬
‫وحروثكم‪.‬‬

‫ح َمكُمْ } فيديل لكم الكرة عليهم‪ ،‬فرحمهم وجعل لهم الدولة‪ .‬وتوعدهم على‬
‫عسَى رَ ّب ُكمْ أَنْ يَ ْر َ‬
‫{ َ‬
‫عدْنَا } إلى عقوبتكم‪ ،‬فعادوا لذلك فسلط‬
‫المعاصي فقال‪ { :‬وَإِنْ عُدْ ُتمْ } إلى الفساد في الرض { ُ‬
‫ال عليهم رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم‬

‫جعَلْنَا‬
‫فانتقم ال به منهم‪ ،‬فهذا جزاء الدنيا وما عند ال من النكال أعظم وأشنع‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َ‬
‫حصِيرًا } يصلونها ويلزمونها ل يخرجون منها أبدا‪ .‬وفي هذه اليات التحذير‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫َ‬
‫لهذه المة من العمل بالمعاصي لئل يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل‪ ،‬فسنة ال واحدة ل تبدل ول‬
‫تغير‪.‬‬

‫ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة‪ ،‬عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم‬
‫وأنهم إذا أقاموا كتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬مكن لهم في الرض ونصرهم على أعدائهم‪.‬‬
‫{ ‪ { } 9-10‬إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآنَ َي ْهدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَ ُم وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ‬
‫أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ أَعْتَدْنَا َل ُهمْ عَذَابًا أَلِيمًا }‬

‫يخبر تعالى عن شرف القرآن وجللته وأنه { َيهْدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ } أي‪ :‬أعدل وأعلى من العقائد‬
‫والعمال والخلق‪ ،‬فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع‬
‫أموره‪.‬‬

‫{ وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ } من الواجبات والسنن‪ { ،‬أَنّ َلهُمْ َأجْرًا كَبِيرًا } أعده‬
‫ال لهم في دار كرامته ل يعلم وصفه إل هو‪.‬‬

‫عذَابًا أَلِيمًا } فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة وذكر‬


‫{ وَأَنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ َ‬
‫السباب التي تنال بها البشارة وهو اليمان والعمل الصالح والتي تستحق بها النذارة وهو ضد‬
‫ذلك‪.‬‬

‫عجُولًا }‬
‫{ ‪ { } 11‬وَيَ ْدعُ الْإِ ْنسَانُ بِالشّرّ دُعَا َءهُ بِا ْلخَيْ ِر َوكَانَ الْإِنْسَانُ َ‬

‫وهذا من جهل النسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولده وماله بالشر عند الغضب ويبادر‬
‫بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير‪ ،‬ولكن ال ‪-‬بلطفه ‪ -‬يستجيب له في الخير ول يستجيب‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْي ِهمْ أَجَُل ُهمْ }‬
‫له بالشر‪ { .‬وََلوْ ُيعَ ّ‬

‫جعَلْنَا آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً لِتَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ‬


‫ل وَ َ‬
‫حوْنَا آيَةَ اللّ ْي ِ‬
‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ َفمَ َ‬
‫جعَلْنَا اللّ ْي َ‬
‫{ ‪َ { } 12‬و َ‬
‫شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلًا }‬
‫ب َوكُلّ َ‬
‫ن وَا ْلحِسَا َ‬
‫رَ ّبكُ ْم وَلِ َتعَْلمُوا عَدَدَ السّنِي َ‬

‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ } أي‪ :‬دالتين على كمال قدرة ال وسعة رحمته وأنه‬
‫جعَلْنَا اللّ ْي َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫حوْنَا آ َيةَ اللّ ْيلِ } أي‪ :‬جعلناه مظلما للسكون فيه والراحة‪،‬‬
‫الذي ل تنبغي العبادة إل له‪َ { .‬فمَ َ‬
‫جعَلْنَا آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً } أي‪ :‬مضيئة { لِتَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّبكُمْ } في معايشكم وصنائعكم‬
‫{ َو َ‬
‫وتجاراتكم وأسفاركم‪.‬‬

‫{ وَلِ َتعَْلمُوا } بتوالي الليل والنهار واختلف القمر { عَ َددَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ } فتبنون عليها ما‬
‫تشاءون من مصالحكم‪.‬‬

‫شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلًا } أي‪ :‬بينا اليات وصرفناه لتتميز الشياء ويستبين الحق من الباطل‬
‫{ َو ُكلّ َ‬
‫شيْءٍ }‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬مَا فَرّطْنَا فِي ا ْلكِتَابِ مِنْ َ‬
‫{ ‪َ { } 13-14‬و ُكلّ إِ ْنسَانٍ أَلْ َزمْنَاهُ طَائِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورًا *‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا }‬
‫اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ‬

‫وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه‪ ،‬أي‪ :‬ما عمل من خير وشر‬
‫يجعله ال ملزما له ل يتعداه إلى غيره‪ ،‬فل يحاسب بعمل غيره ول يحاسب غيره بعمله‪.‬‬

‫{ وَ ُنخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورًا } فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا } وهذا من أعظم العدل والنصاف أن يقال‬
‫ويقال له‪ { :‬اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ‬
‫للعبد‪ :‬حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب‪.‬‬

‫علَ ْيهَا وَلَا تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى‬


‫ضلّ َ‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫س ِه َومَنْ َ‬
‫{ ‪ { } 15‬مَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْ ِ‬
‫َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّى نَ ْب َعثَ رَسُولًا }‬

‫أي‪ :‬هداية كل أحد وضلله لنفسه ل يحمل أحد ذنب أحد‪ ،‬ول يدفع عنه مثقال ذرة من الشر‪ ،‬وال‬
‫تعالى أعدل العادلين ل يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة‪.‬‬

‫وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة ال تعالى فإن ال تعالى ل يعذبه‪.‬‬

‫واستدل بهذه الية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين‪ ،‬ل يعذبهم ال حتى يبعث إليهم رسول‬
‫لنه منزه عن الظلم‪.‬‬

‫سقُوا فِيهَا َفحَقّ عَلَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ فَ َدمّرْنَاهَا‬


‫{ ‪ { } 16-17‬وَإِذَا أَ َردْنَا أَنْ ُنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ‬
‫تَ ْدمِيرًا * َوكَمْ أَهَْلكْنَا مِنَ ا ْلقُرُونِ مِنْ َب ْعدِ نُوحٍ َوكَفَى بِرَ ّبكَ ِبذُنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا }‬

‫يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمرا‬
‫علَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ } أي‪ :‬كلمة العذاب التي ل مرد لها‬
‫قدريا ففسقوا فيها واشتد طغيانهم‪َ { ،‬فحَقّ َ‬
‫{ َف َدمّرْنَاهَا تَ ْدمِيرًا }‬

‫وهؤلء أمم كثيرة أبادهم ال بالعذاب من بعد قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن عاقبهم‬
‫ال لما كثر بغيهم واشتد كفرهم أنزل [ال] بهم عقابه العظيم‪.‬‬

‫{ َو َكفَى بِرَ ّبكَ ِبذُنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا } فل يخافوا منه ظلما وأنه يعاقبهم على ما عملوه‪.‬‬

‫جهَنّمَ َيصْلَاهَا‬
‫جعَلْنَا لَهُ َ‬
‫{ ‪ { } 18-21‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ عَجّلْنَا َلهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَنْ نُرِيدُ ُثمّ َ‬
‫شكُورًا *‬
‫سعْ ُيهُمْ مَ ْ‬
‫سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ‬
‫سعَى َلهَا َ‬
‫مَ ْذمُومًا َمدْحُورًا * َومَنْ أَرَادَ الْآخِ َر َة وَ َ‬
‫ضهُمْ‬
‫ك َومَا كَانَ عَطَاءُ رَ ّبكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫كُلّا ُنمِدّ َهؤُلَا ِء وَ َهؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَ ّب َ‬
‫عَلَى َب ْعضٍ وَلَلْآخِ َرةُ َأكْبَرُ دَ َرجَاتٍ وََأكْبَرُ َت ْفضِيلًا }‬

‫يخبر تعالى أن { مَنْ كَانَ يُرِيدُ } الدنيا { العاجلة } المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى‪ ،‬ونسي‬
‫المبتدأ أو المنتهى أن ال يعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب [ال] له في‬
‫اللوح المحفوظ ولكنه متاع غير نافع ول دائم له‪.‬‬

‫جهَنّمَ َيصْلَاهَا } أي‪ :‬يباشر عذابها { مَ ْذمُومًا مَدْحُورًا } أي‪ :‬في حالة‬
‫ثم يجعل له في الخرة { َ‬
‫الخزي والفضيحة والذم من ال ومن خلقه‪ ،‬والبعد عن رحمة ال فيجمع له بين العذاب والفضيحة‪.‬‬

‫سعْ َيهَا } الذي دعت إليه الكتب‬


‫سعَى َلهَا َ‬
‫{ َومَنْ أَرَادَ الْآخِ َرةَ } فرضيها وآثرها على الدنيا { وَ َ‬
‫السماوية والثار النبوية فعمل بذلك على قدر إمكانه { وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ } بال وملئكته وكتبه ورسله‬
‫واليوم الخر‪.‬‬

‫شكُورًا } أي‪ :‬مقبول منمى مدخرا لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم‪.‬‬
‫سعْ ُيهُمْ مَ ْ‬
‫{ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ‬

‫ومع هذا فل يفوتهم نصيبهم من الدنيا فكل يمده ال منها لنه عطاؤه وإحسانه‪.‬‬

‫حظُورًا } أي‪ :‬ممنوعا من أحد بل جميع الخلق راتعون بفضله وإحسانه‪.‬‬


‫عطَاءُ رَ ّبكَ مَ ْ‬
‫{ َومَا كَانَ َ‬

‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ } في الدنيا بسعة الرزاق وقلتها‪ ،‬واليسر والعسر والعلم‬
‫{ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫والجهل والعقل والسفه وغير ذلك من المور التي فضل ال العباد بعضهم على بعض بها‪.‬‬

‫{ وَلَلْآخِ َرةُ َأكْبَرُ دَ َرجَاتٍ وََأكْبَرُ َت ْفضِيلًا } فل نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الخرة بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫فكم بين من هو في الغرف العاليات واللذات المتنوعات والسرور والخيرات والفراح ممن هو‬
‫يتقلب في الجحيم ويعذب بالعذاب الليم‪ ،‬وقد حل عليه سخط الرب الرحيم وكل من الدارين بين‬
‫أهلها من التفاوت ما ل يمكن أحدا عده‪.‬‬

‫ج َعلْ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ فَ َت ْقعُدَ مَ ْذمُومًا مَخْذُولًا }‬


‫{ ‪ { } 22‬لَا تَ ْ‬

‫أي‪ :‬ل تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة ول تشرك بال أحدا منهم فإن ذلك‬
‫داع للذم والخذلن‪ ،‬فال وملئكته ورسله قد نهوا عن الشرك وذموا من عمله أشد الذم ورتبوا‬
‫عليه من السماء المذمومة‪ ،‬والوصاف المقبوحة ما كان به متعاطيه‪ ،‬أشنع الخلق وصفا وأقبحهم‬
‫نعتا‪.‬‬
‫وله من الخذلن في أمر دينه ودنياه بحسب ما تركه من التعلق بربه‪ ،‬فمن تعلق بغيره فهو مخذول‬
‫قد وكل إلى من تعلق به ول أحد من الخلق ينفع أحدا إل بإذن ال‪ ،‬كما أن من جعل مع ال إلها‬
‫آخر له الذم والخذلن‪ ،‬فمن وحده وأخلص دينه ل وتعلق به دون غيره فإنه محمود معان في‬
‫جميع أحواله‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 23-24‬و َقضَى رَ ّبكَ أَلّا َتعْ ُبدُوا إِلّا إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا ِإمّا يَبُْلغَنّ عِ ْن َدكَ ا ْلكِبَرَ َأحَدُ ُهمَا َأوْ‬
‫حمَةِ‬
‫خفِضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ‬
‫ف وَلَا تَ ْنهَرْ ُهمَا َو ُقلْ َل ُهمَا َقوْلًا كَرِيمًا * وَا ْ‬
‫كِلَا ُهمَا فَلَا َت ُقلْ َل ُهمَا ُأ ّ‬
‫صغِيرًا }‬
‫ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ‬
‫َوقُلْ َربّ ا ْر َ‬

‫لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال‪َ { :‬و َقضَى رَ ّبكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا {‬
‫أَنْ لَا َتعْبُدُوا } أحدا من أهل الرض والسماوات الحياء والموات‪.‬‬

‫{ ِإلّا إِيّاهُ } لنه الواحد الحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال‪ ،‬وله من تلك الصفة أعظمها‬
‫على وجه ل يشبهه أحد من خلقه‪ ،‬وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق‬
‫الرازق المدبر لجميع المور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء‪.‬‬

‫ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال‪ { :‬وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي‪ :‬أحسنوا إليهما بجميع وجوه‬
‫الحسان القولي والفعلي لنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والحسان إليه والقرب ما‬
‫يقتضي تأكد الحق ووجوب البر‪.‬‬

‫{ ِإمّا يَ ْبُلغَنّ عِنْ َدكَ ا ْلكِبَرَ َأحَدُ ُهمَا َأوْ كِلَا ُهمَا } أي‪ :‬إذا وصل إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما‬
‫ويحتاجان من اللطف والحسان ما هو معروف‪ { .‬فَلَا َت ُقلْ َل ُهمَا ُأفّ } وهذا أدنى مراتب الذى نبه‬
‫به على ما سواه‪ ،‬والمعنى ل تؤذهما أدنى أذية‪.‬‬

‫{ وَلَا تَ ْنهَرْ ُهمَا } أي‪ :‬تزجرهما وتتكلم لهما كلما خشنا‪َ { ،‬و ُقلْ َل ُهمَا َقوْلًا كَرِيمًا } بلفظ يحبانه‬
‫وتأدب وتلطف بكلم لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما‪ ،‬وذلك يختلف باختلف‬
‫الحوال والعوائد والزمان‪.‬‬

‫حمَةِ } أي‪ :‬تواضع لهما ذل لهما ورحمة واحتسابا للجر ل‬


‫خفِضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ‬
‫{ وَا ْ‬
‫لجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما‪ ،‬ونحو ذلك من المقاصد التي ل يؤجر عليها العبد‪.‬‬

‫ح ْم ُهمَا } أي‪ :‬ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا‪ ،‬جزاء على تربيتهما إياك صغيرا‪.‬‬
‫{ َو ُقلْ َربّ ارْ َ‬
‫وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق‪ ،‬وكذلك من تولى تربية النسان في دينه ودنياه‬
‫تربية صالحة غير البوين فإن له على من رباه حق التربية‪.‬‬

‫غفُورًا }‬
‫سكُمْ إِنْ َتكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلَْأوّابِينَ َ‬
‫{ ‪ { } 25‬رَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبمَا فِي ُنفُو ِ‬

‫أي‪ :‬ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم من خير وشر وهو ل ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم‬
‫وإنما ينظر إلى قلوبكم وما فيها من الخير والشر‪.‬‬

‫{ إِنْ َتكُونُوا صَالِحِينَ } بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة ال ورغبتكم فيما يقربكم‬
‫إليه وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير ال‪.‬‬

‫غفُورًا } فمن اطلع ال على قلبه‬


‫{ فَإِنّهُ كَانَ لِلَْأوّابِينَ } أي‪ :‬الرجاعين إليه في جميع الوقات { َ‬
‫وعلم أنه ليس فيه إل النابة إليه ومحبته ومحبة ما يقرب إليه فإنه وإن جرى منه في بعض‬
‫الوقات ما هو مقتضى الطبائع البشرية فإن ال يعفو عنه ويغفر له المور العارضة غير‬
‫المستقرة‪.‬‬

‫ن وَابْنَ السّبِيلِ وَلَا تُبَذّرْ تَ ْبذِيرًا * إِنّ ا ْلمُ َبذّرِينَ كَانُوا‬


‫سكِي َ‬
‫حقّ ُه وَا ْلمِ ْ‬
‫{ ‪ { } 26-30‬وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ‬
‫حمَةٍ مِنْ رَ ّبكَ تَ ْرجُوهَا‬
‫ن َوكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ َكفُورًا * وَِإمّا ُتعْ ِرضَنّ عَ ْنهُمُ ابْ ِتغَاءَ رَ ْ‬
‫خوَانَ الشّيَاطِي ِ‬
‫إِ ْ‬
‫سطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُومًا‬
‫طهَا ُكلّ الْبَ ْ‬
‫ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَى عُ ُن ِقكَ وَلَا تَ ْبسُ ْ‬
‫َفقُلْ َلهُمْ َقوْلًا مَيْسُورًا * وَلَا َت ْ‬
‫سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا }‬
‫مَحْسُورًا * إِنّ رَ ّبكَ يَبْ ُ‬

‫حقّهُ } من البر والكرام الواجب والمسنون وذلك الحق يتفاوت‬


‫يقول تعالى‪ { :‬وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ‬
‫بتفاوت الحوال والقارب والحاجة وعدمها والزمنة‪.‬‬

‫سكِينَ } آته حقه من الزكاة ومن غيرها لتزول مسكنته { وَابْنَ السّبِيلِ } وهو الغريب‬
‫{ وَا ْلمِ ْ‬
‫المنقطع به عن بلده‪ ،‬فيعطي الجميع من المال على وجه ل يضر المعطي ول يكون زائدا على‬
‫المقدار اللئق فإن ذلك تبذير قد نهى ال عنه وأخبر‪:‬‬

‫خوَانَ الشّيَاطِينِ } لن الشيطان ل يدعو إل إلى كل خصلة ذميمة فيدعو‬


‫{ إِنّ ا ْلمُبَذّرِينَ كَانُوا ِإ ْ‬
‫النسان إلى البخل والمساك فإذا عصاه‪ ،‬دعاه إلى السراف والتبذير‪ .‬وال تعالى إنما يأمر بأعدل‬
‫المور وأقسطها ويمدح عليه‪ ،‬كما في قوله عن عباد الرحمن البرار { والذين إذا أنفقوا لم‬
‫يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }‬

‫ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً ِإلَى عُ ُن ِقكَ } كناية عن شدة المساك والبخل‪.‬‬


‫وقال هنا‪ { :‬وَلَا تَ ْ‬
‫سطِ } فتنفق فيما ل ينبغي‪ ،‬أو زيادة على ما ينبغي‪.‬‬
‫طهَا ُكلّ الْبَ ْ‬
‫{ وَلَا تَ ْبسُ ْ‬

‫{ فَ َت ْقعُدَ } إن فعلت ذلك { مَلُومًا } أي‪ :‬تلم على ما فعلت { َمحْسُورًا } أي‪ :‬حاسر اليد فارغها فل‬
‫بقي ما في يدك من المال ول خلفه مدح وثناء‪.‬‬

‫وهذا المر بإيتاء ذي القربى مع القدرة والغنى‪ ،‬فأما مع العدم أو تعسر النفقة الحاضرة فأمر‬
‫حمَةٍ مِنْ رَ ّبكَ تَ ْرجُوهَا } أي‪:‬‬
‫تعالى أن يردوا ردا جميل فقال‪ { :‬وَِإمّا ُتعْ ِرضَنّ عَ ْن ُهمُ ابْ ِتغَاءَ َر ْ‬
‫تعرض عن إعطائهم إلى وقت آخر ترجو فيه من ال تيسير المر‪.‬‬

‫{ َف ُقلْ َلهُمْ َقوْلًا مَيْسُورًا } أي‪ :‬لطيفا برفق ووعد بالجميل عند سنوح الفرصة واعتذار بعدم المكان‬
‫في الوقت الحاضر لينقلبوا عنك مطمئنة خواطرهم كما قال تعالى‪َ { :‬ق ْولٌ َمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ‬
‫ن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا َأذًى }‬
‫مِ ْ‬

‫وهذا أيضا من لطف ال تعالى بالعباد أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه لن انتظار ذلك عبادة‪،‬‬
‫وكذلك وعدهم بالصدقة والمعروف عند التيسر عبادة حاضرة لن الهم بفعل الحسنة حسنة‪ ،‬ولهذا‬
‫ينبغي للنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير وينوي فعل ما لم يقدر عليه ليثاب على ذلك ولعل‬
‫ال ييسر له [بسبب رجائه]‬

‫ثم أخبر تعالى أنه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدره ويضيقه على من يشاء حكمة منه‪،‬‬
‫{ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا } فيجزيهم على ما يعلمه صالحا لهم ويدبرهم بلطفه وكرمه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 31‬وَلَا َتقْتُلُوا َأوْلَا َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلَاقٍ َنحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُمْ إِنّ قَتَْلهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا }‬

‫وهذا من رحمته بعباده حيث كان أرحم بهم من والديهم‪ ،‬فنهى الوالدين أن يقتلوا أولدهم خوفا من‬
‫الفقر والملق وتكفل برزق الجميع‪.‬‬

‫وأخبر أن قتلهم كان خطأ كبيرا أي‪ :‬من أعظم كبائر الذنوب لزوال الرحمة من القلب والعقوق‬
‫العظيم والتجرؤ على قتل الطفال الذين لم يجر منهم ذنب ول معصية‪.‬‬

‫ش ًة وَسَاءَ سَبِيلًا }‬
‫{ ‪ { } 32‬وَلَا َتقْرَبُوا الزّنَا إِنّهُ كَانَ فَاحِ َ‬

‫والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله لن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه‬
‫فإن‪ " :‬من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " خصوصا هذا المر الذي في كثير من النفوس‬
‫أقوى داع إليه‪.‬‬
‫ووصف ال الزنى وقبحه بأنه { كَانَ فَاحِشَةً } أي‪ :‬إثما يستفحش في الشرع والعقل والفطر‬
‫لتضمنه التجري على الحرمة في حق ال وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها وإفساد الفراش‬
‫واختلط النساب وغير ذلك من المفاسد‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَسَاءَ سَبِيلًا } أي‪ :‬بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم‪.‬‬

‫جعَلْنَا ِلوَلِيّهِ سُلْطَانًا فَلَا‬


‫ق َومَنْ قُ ِتلَ مَظْلُومًا َفقَدْ َ‬
‫حّ‬‫{ ‪ { } 33‬وَلَا َتقْتُلُوا ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْ َ‬
‫يُسْ ِرفْ فِي ا ْلقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَ ْنصُورًا }‬

‫وهذا شامل لكل نفس { حَرّمَ اللّهُ } قتلها من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد ومسلم وكافر‬
‫له عهد‪.‬‬

‫حقّ } كالنفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة والباغي في حال‬
‫{ ِإلّا بِالْ َ‬
‫بغيه إذا لم يندفع إل بالقتل‪.‬‬

‫جعَلْنَا ِلوَلِيّهِ } وهو أقرب عصباته وورثته إليه { سُلْطَانًا‬


‫{ َومَنْ قُ ِتلَ مَظْلُومًا } أي‪ :‬بغير حق { َفقَدْ َ‬
‫} أي‪ :‬حجة ظاهرة على القصاص من القاتل‪ ،‬وجعلنا له أيضا تسلطا قدريا على ذلك‪ ،‬وذلك حين‬
‫تجتمع الشروط الموجبة للقصاص كالعمد العدوان والمكافأة‪.‬‬

‫{ فَلَا يُسْ ِرفْ } الولي { فِي ا ْلقَ ْتلِ إِنّهُ كَانَ مَ ْنصُورًا } والسراف مجاوزة الحد إما أن يمثل بالقاتل‬
‫أو يقتله بغير ما قتل به أو يقتل غير القاتل‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل إلى أن الحق في القتل للولي فل يقتص إل بإذنه وإن عفا سقط القصاص‪.‬‬

‫وأن ولي المقتول يعينه ال على القاتل ومن أعانه حتى يتمكن من قتله‪.‬‬

‫{ ‪ { } 34‬وَلَا َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ َأشُ ّد ُه وََأ ْوفُوا بِا ْل َعهْدِ إِنّ ا ْل َعهْدَ كَانَ‬
‫مَسْئُولًا }‬

‫وهذا من لطفه ورحمته تعالى باليتيم الذي فقد والده وهو صغير غير عارف بمصلحة نفسه ول‬
‫قائم بها أن أمر أولياءه بحفظه وحفظ ماله وإصلحه وأن ل يقربوه { ِإلّا بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ } من‬
‫التجارة فيه وعدم تعريضه للخطار‪ ،‬والحرص على تنميته‪ ،‬وذلك ممتد إلى أن { يَبُْلغَ } اليتيم‬
‫{ َأشُ ّدهُ } أي‪ :‬بلوغه وعقله ورشده‪ ،‬فإذا بلغ أشده زالت عنه الولية وصار ولي نفسه ودفع إليه‬
‫ماله‪.‬‬
‫شدًا فَا ْد َفعُوا إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ } { وََأ ْوفُوا بِا ْل َعهْدِ } الذي عاهدتم ال‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬فَإِنْ آنَسْ ُتمْ مِ ْنهُمْ رُ ْ‬
‫عليه والذي عاهدتم الخلق عليه‪ { .‬إِنّ ا ْل َعهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } أي‪ :‬مسئولين عن الوفاء به وعدمه‪ ،‬فإن‬
‫وفيتم فلكم الثواب الجزيل وإن لم تفوا فعليكم الثم العظيم‪.‬‬

‫سطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ ذَِلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَ ْأوِيلًا }‬


‫{ ‪ { } 35‬وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ إِذَا كِلْ ُت ْم وَزِنُوا بِا ْلقِ ْ‬

‫وهذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط من غير بخس ول نقص‪.‬‬

‫ويؤخذ من عموم المعنى النهي عن كل غش في ثمن أو مثمن أو معقود عليه والمر بالنصح‬
‫والصدق في المعاملة‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ خَيْرٌ } من عدمه { وََأحْسَنُ تَ ْأوِيلًا } أي‪ :‬أحسن عاقبة به يسلم العبد من التبعات وبه تنزل‬
‫البركة‪.‬‬

‫سمْ َع وَالْ َبصَ َر وَا ْلفُؤَادَ ُكلّ أُولَ ِئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }‬
‫{ ‪ { } 36‬وَلَا َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ ال ّ‬

‫أي‪ :‬ول تتبع ما ليس لك به علم‪ ،‬بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله‪ ،‬فل تظن ذلك يذهب ل لك ول‬
‫سمْ َع وَالْ َبصَ َر وَا ْل ُفؤَادَ ُكلّ أُولَ ِئكَ كَانَ عَ ْنهُ مَسْئُولًا } فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه‬
‫عليك‪ { ،‬إِنّ ال ّ‬
‫مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها ال لعبادته أن يعد للسؤال جوابا‪،‬‬
‫وذلك ل يكون إل باستعمالها بعبودية ال وإخلص الدين له وكفها عما يكرهه ال تعالى‪.‬‬

‫ض وَلَنْ تَبْلُغَ ا ْلجِبَالَ طُولًا * ُكلّ‬


‫{ ‪ { } 37-39‬وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا إِ ّنكَ لَنْ تَخْ ِرقَ الْأَ ْر َ‬
‫ج َعلْ مَعَ اللّهِ إَِلهًا‬
‫ح ْكمَ ِة وَلَا تَ ْ‬
‫ذَِلكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَ ّبكَ َمكْرُوهًا * ذَِلكَ ِممّا َأوْحَى إِلَ ْيكَ رَ ّبكَ مِنَ ا ْل ِ‬
‫جهَنّمَ مَلُومًا مَ ْدحُورًا }‬
‫آخَرَ فَتُ ْلقَى فِي َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا } أي‪ :‬كبرا وتيها وبطرا متكبرا على الحق ومتعاظما‬
‫على الخلق‪.‬‬

‫ض وَلَنْ تَبْلُغَ ا ْلجِبَالَ طُولًا } في تكبرك بل تكون حقيرا عند‬


‫{ إِ ّنكَ } في فعلك ذلك { لَنْ تَخْ ِرقَ الْأَ ْر َ‬
‫ال ومحتقرا عند الخلق مبغوضا ممقوتا قد اكتسبت أشر الخلق واكتسيت أرذلها من غير إدراك‬
‫لبعض ما تروم‪.‬‬
‫ج َعلْ َمعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ } والنهي‬
‫{ ُكلّ َذِلكَ } المذكور الذي نهى ال عنه فيما تقدم من قوله‪ { :‬وَلَا َت ْ‬
‫عن عقوق الوالدين وما عطف على ذلك { كَانَ سَيُّئهُ عِنْدَ رَ ّبكَ َمكْرُوهًا } أي‪ :‬كل ذلك يسوء‬
‫العاملين ويضرهم وال تعالى يكرهه ويأباه‪.‬‬

‫ح ْكمَةِ } فإن‬
‫{ ذَِلكَ } الذي بيناه ووضحناه من هذه الحكام الجليلة‪ِ { ،‬ممّا َأوْحَى إِلَ ْيكَ رَ ّبكَ مِنَ ا ْل ِ‬
‫الحكمة المر بمحاسن العمال ومكارم الخلق والنهي عن أراذل الخلق وأسوأ العمال‪.‬‬

‫وهذه العمال المذكورة في هذه اليات من الحكمة العالية التي أوحاها رب العالمين لسيد‬
‫المرسلين في أشرف الكتب ليأمر بها أفضل المم فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا‬
‫كثيرا‪.‬‬

‫ج َعلْ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ فَتُ ْلقَى فِي‬


‫ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير ال كما افتتحها بذلك فقال‪ { :‬وَلَا تَ ْ‬
‫جهَنّمَ } أي‪ :‬خالدا مخلدا فإنه من يشرك بال فقد حرم ال عليه الجنة ومأواه النار‪.‬‬
‫َ‬

‫{ مَلُومًا مَ ْدحُورًا } أي‪ :‬قد لحقتك اللئمة واللعنة والذم من ال وملئكته والناس أجمعين‪.‬‬

‫خذَ مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ إِنَاثًا إِ ّن ُكمْ لَ َتقُولُونَ َقوْلًا عَظِيمًا }‬


‫ن وَاتّ َ‬
‫{ ‪َ { } 40‬أفََأصْفَاكُمْ رَ ّبكُمْ بِالْبَنِي َ‬

‫صفَاكُمْ رَ ّبكُمْ بِالْبَنِينَ } أي‪:‬‬


‫وهذا إنكار شديد على من زعم أن ال اتخذ من خلقه بنات فقال‪َ { :‬أفََأ ْ‬
‫اختار لكم الصفوة والقسم الكامل واتخذ لنفسه من الملئكة إناثا حيث زعموا أن الملئكة بنات‬
‫ال‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُكمْ لَ َتقُولُونَ َقوْلًا عَظِيمًا } فيه أعظم الجرأة على ال حيث نسبتم له الولد المتضمن لحاجته‬
‫واستغناء بعض المخلوقات عنه وحكمتم له بأردأ القسمين‪ ،‬وهن الناث وهو الذي خلقكم‬
‫واصطفاكم بالذكور فتعالى ال عما يقول الظالمون علوا كبيرا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 41-44‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ لِيَ ّذكّرُوا َومَا يَزِيدُ ُهمْ إِلّا ُنفُورًا * ُقلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ‬
‫عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرًا * تُسَبّحُ َلهُ‬
‫َكمَا َيقُولُونَ إِذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫ح ُهمْ إِنّهُ‬
‫حمْ ِد ِه وََلكِنْ لَا َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫شيْءٍ إِلّا يُسَبّحُ ِب َ‬
‫ن وَإِنْ مِنْ َ‬
‫سمَاوَاتُ السّبْعُ وَالْأَ ْرضُ َومَنْ فِيهِ ّ‬
‫ال ّ‬
‫غفُورًا }‬
‫كَانَ حَلِيمًا َ‬
‫يخبر تعالى أنه صرف لعباده في هذا القرآن أي‪ :‬نوع الحكام ووضحها وأكثر من الدلة‬
‫والبراهين على ما دعا إليه‪ ،‬ووعظ وذكر لجل أن يتذكروا ما ينفعهم فيسلكوه وما يضرهم‬
‫فيدعوه‪.‬‬

‫ولكن أبى أكثر الناس إل نفورا عن آيات ال لبغضهم للحق ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل‬
‫حتى تعصبوا لباطلهم ولم يعيروا آيات ال لهم سمعا ول ألقوا لها بال‪.‬‬

‫ومن أعظم ما صرف فيه اليات والدلة التوحيد الذي هو أصل الصول‪ ،‬فأمر به ونهى عن‬
‫ضده وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئا كثيرا بحيث من أصغى إلى بعضها ل تدع في‬
‫قلبه شكا ول ريبا‪.‬‬

‫ومن الدلة على ذلك هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقال‪ُ { :‬قلْ } للمشركين الذين يجعلون مع‬
‫ال إلها آخر‪َ { :‬لوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ } أي‪ :‬على موجب زعمهم وافترائهم { ِإذًا لَابْ َت َغوْا‬
‫إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا } أي‪ :‬لتخذوا سبيل إلى ال بعبادته والنابة إليه والتقرب وابتغاء الوسيلة‪،‬‬
‫فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه إلها مع ال؟! هل هذا إل من أظلم‬
‫الظلم وأسفه السفه؟"‪.‬‬

‫فعلى هذا المعنى تكون هذه الية كقوله تعالى‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيدْعُونَ يَبْ َتغُونَ ِإلَى رَ ّب ِهمُ ا ْلوَسِيلَةَ‬
‫أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ }‬

‫حشُرُهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَ َيقُولُ أَأَنْ ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َهؤُلَاءِ َأمْ ُهمْ‬
‫وكقوله تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫خذَ مِنْ دُو ِنكَ مِنْ َأوْلِيَاءَ }‬
‫ضَلّوا السّبِيلَ قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ مَا كَانَ يَنْ َبغِي لَنَا أَنْ نَتّ ِ‬

‫ويحتمل أن المعنى في قوله‪ُ { :‬قلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا }‬
‫أي‪ :‬لطلبوا السبيل وسعوا في مغالبة ال تعالى‪ ،‬فإما أن يعلوا عليه فيكون من عل وقهر هو الرب‬
‫الله‪ ،‬فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم التي يعبدون من دون ال مقهورة مغلوبة ليس لها من‬
‫ن وَلَ ٍد َومَا كَانَ‬
‫خذَ اللّهُ مِ ْ‬
‫المر شيء فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى‪ { :‬مَا اتّ َ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ }‬
‫ق وََلعَلَا َب ْع ُ‬
‫َمعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا َلذَ َهبَ ُكلّ إِلَهٍ ِبمَا خَلَ َ‬

‫عمّا َيقُولُونَ } من الشرك به واتخاذ النداد‬


‫{ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى } أي‪ :‬تقدس وتنزه وعلت أوصافه { َ‬
‫معه { عُُلوّا كَبِيرًا } فعل قدره وعظم وجلت كبرياؤه التي ل تقادر أن يكون معه آلهة فقد ضل من‬
‫قال ذلك ضلل مبينا وظلم ظلما كبيرا‪.‬‬
‫لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة وصغرت لدى كبريائه السماوات السبع ومن فيهن‬
‫والرضون السبع ومن فيهن { والرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه }‬

‫وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي فقرا ذاتيا ل ينفك عن أحد منهم في وقت من الوقات‪.‬‬

‫هذا الفقر بجميع وجوهه فقر من جهة الخلق والرزق والتدبير‪ ،‬وفقر من جهة الضطرار إلى أن‬
‫يكون معبودهم ومحبوبهم الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫شيْءٍ } من حيوان ناطق وغير ناطق‬


‫ن وَإِنْ مِنْ َ‬
‫ض َومَنْ فِيهِ ّ‬
‫سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَالْأَ ْر ُ‬
‫{ ُتسَبّحُ لَهُ ال ّ‬
‫حمْ ِدهِ } بلسان الحال ولسان المقال‪ { .‬وََلكِنْ لَا‬
‫ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت { ِإلّا يُسَبّحُ ِب َ‬
‫حهُمْ } أي‪ :‬تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم بل يحيط بها علم الغيوب‪.‬‬
‫َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ‬

‫غفُورًا } حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قول تكاد السماوات والرض تتفطر‬
‫حلِيمًا َ‬
‫{ إِنّهُ كَانَ َ‬
‫منه وتخر له الجبال ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه ليتوبوا من هذا‬
‫الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم‪ ،‬فلول حلمه ومغفرته لسقطت السماوات‬
‫على الرض ولما ترك على ظهرها من دابة‪.‬‬

‫حجَابًا مَسْتُورًا *‬
‫ك وَبَيْنَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ ِ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن َ‬
‫{ ‪ { } 45-48‬وَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ َ‬
‫ح َد ُه وَّلوْا عَلَى‬
‫ن وَ ْ‬
‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َيفْ َقهُو ُه َوفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرًا وَإِذَا َذكَ ْرتَ رَ ّبكَ فِي ا ْلقُرْآ ِ‬
‫وَ َ‬
‫جوَى ِإذْ َيقُولُ الظّاِلمُونَ إِنْ‬
‫ك وَإِذْ هُمْ َن ْ‬
‫أَدْبَارِ ِهمْ ُنفُورًا * نَحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا يَسْ َت ِمعُونَ بِهِ ِإذْ يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْي َ‬
‫تَتّ ِبعُونَ ِإلّا رَجُلًا َمسْحُورًا * ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ َفضَلّوا فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ سَبِيلًا }‬

‫يخبر تعالى عن عقوبته للمكذبين بالحق الذين ردوه وأعرضوا عنه أنه يحول بينهم وبين اليمان‬
‫فقال‪:‬‬

‫{ وَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ } الذي فيه الوعظ والتذكير والهدى واليمان والخير والعلم الكثير‪.‬‬

‫حجَابًا مَسْتُورًا } يسترهم عن فهمه حقيقة وعن التحقق‬


‫ك وَبَيْنَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ ِ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن َ‬
‫{ َ‬
‫بحقائقه والنقياد إلى ما يدعو إليه من الخير‪.‬‬

‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً } أي‪ :‬أغطية وأغشية ل يفقهون معها القرآن بل يسمعونه سماعا تقوم‬
‫{ َو َ‬
‫به عليهم الحجة‪َ { ،‬وفِي آذَا ِنهِمْ َوقْرًا } أي‪ :‬صمما عن سماعه‪ { ،‬وَإِذَا َذكَ ْرتَ رَ ّبكَ فِي ا ْلقُرْآن }‬
‫داعيا لتوحيده ناهيا عن الشرك به‪.‬‬
‫{ وَّلوْا عَلَى أَدْبَا ِرهِمْ ُنفُورًا } من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ ِإذَا ُهمْ‬
‫ح َدهُ ا ْ‬
‫{ وَِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَ ْ‬
‫يَسْتَبْشِرُونَ }‬

‫{ َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا يَسْ َت ِمعُونَ بِهِ } أي‪ :‬إنما منعناهم من النتفاع عند سماع القرآن لننا نعلم أن‬
‫مقاصدهم سيئة يريدون أن يعثروا على أقل شيء ليقدحوا به‪ ،‬وليس استماعهم لجل السترشاد‬
‫وقبول الحق وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه‪ ،‬ومن كان بهذه الحالة لم يفده الستماع شيئا‬
‫جوَى } أي‪ :‬متناجين { إِذْ َيقُولُ الظّاِلمُونَ } في مناجاتهم‪{ :‬‬
‫ك وَإِذْ هُمْ َن ْ‬
‫ولهذا قال‪ِ { :‬إذْ يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْي َ‬
‫جلًا مَسْحُورًا } فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم وقد بنوها على أنه‬
‫إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا رَ ُ‬
‫مسحور فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال‪ ،‬وأنه يهذي ل يدري ما يقول‪.‬‬

‫قال تعالى‪ { :‬ا ْنظُرْ } متعجبا { كَ ْيفَ ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ } التي هي أضل المثال وأبعدها عن‬
‫الصواب { َفضَلّوا } في ذلك أو فصارت سببا لضللهم لنهم بنوا عليها أمرهم والمبني على فاسد‬
‫أفسد منه‪.‬‬

‫{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } أي‪ :‬ل يهتدون أي اهتداء فنصيبهم الضلل المحض والظلم الصرف‪.‬‬

‫خ ْلقًا جَدِيدًا * ُقلْ كُونُوا حِجَا َرةً َأوْ‬


‫عظَامًا وَ ُرفَاتًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ َ‬
‫{ ‪َ { } 49-52‬وقَالُوا أَئِذَا كُنّا ِ‬
‫حدِيدًا * َأوْ خَ ْلقًا ِممّا َيكْبُرُ فِي صُدُو ِركُمْ َفسَ َيقُولُونَ مَنْ ُيعِيدُنَا ُقلِ الّذِي َفطَ َركُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ فَسَيُ ْن ِغضُونَ‬
‫َ‬
‫حمْ ِدهِ‬
‫سهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى ُهوَ ُقلْ عَسَى أَنْ َيكُونَ قَرِيبًا * َيوْمَ َيدْعُوكُمْ فَتَسْ َتجِيبُونَ ِب َ‬
‫إِلَ ْيكَ رُءُو َ‬
‫وَتَظُنّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا قَلِيلًا }‬

‫عظَامًا وَ ُرفَاتًا }‬
‫يخبر تعالى عن قول المنكرين للبعث وتكذيبهم به واستبعادهم بقولهم‪ { :‬أَ ِئذَا كُنّا ِ‬
‫أي‪ :‬أجسادا بالية { أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَ ْلقًا جَدِيدًا } أي‪ :‬ل يكون ذلك وهو محال بزعمهم‪ ،‬فجهلوا أشد‬
‫الجهل حيث كذبوا رسل ال وجحدوا آيات ال وقاسوا قدرة خالق السماوات والرض بقدرتهم‬
‫الضعيفة العاجزة‪.‬‬

‫فلما رأوا أن هذا ممتنع عليهم ل يقدرون عليه جعلوا قدرة ال كذلك‪.‬‬

‫فسبحان من جعل خلقا من خلقه يزعمون أنهم أولو العقول واللباب مثال في جهل أظهر الشياء‬
‫وأجلها وأوضحها براهين وأعلها ليرى عباده أنه ما ثم إل توفيقه وإعانته أو الهلك والضلل‪.‬‬

‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ }‬


‫{ رَبّنَا لَا تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َب ْعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ رَ ْ‬
‫ولهذا أمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول لهؤلء المنكرين للبعث استبعادا‪ُ { :‬قلْ كُونُوا‬
‫حدِيدًا َأوْ خَ ْلقًا ِممّا َيكْبُرُ } أي‪ :‬يعظم { فِي صُدُو ِركُمْ } لتسلموا بذلك على زعمكم من أن‬
‫حجَا َرةً َأوْ َ‬
‫ِ‬
‫تنالكم قدرة ال أو تنفذ فيكم مشيئته‪ ،‬فإنكم غير معجزي ال في أي حالة تكونون وعلى أي وصف‬
‫تتحولون‪ ،‬وليس لكم في أنفسكم تدبير في حالة الحياة وبعد الممات‪.‬‬

‫فدعوا التدبير والتصريف لمن هو على كل شيء قدير وبكل شيء محيط‪.‬‬

‫{ َفسَ َيقُولُونَ } حين تقيم عليهم الحجة في البعث‪ { :‬مَنْ ُيعِيدُنَا ُقلِ الّذِي َفطَ َركُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } فكما‬
‫فطركم ولم تكونوا شيئا مذكورا فإنه سيعيدكم خلقا جديدا { َكمَا َبدَأْنَا َأ ّولَ خَ ْلقٍ ُنعِي ُدهُ }‬
‫سهُمْ } أي‪ :‬يهزونها إنكارا وتعجبا مما قلت‪ { ،‬وَ َيقُولُونَ مَتَى ُهوَ } أي‪:‬‬
‫{ َفسَيُ ْن ِغضُونَ إِلَ ْيكَ ُرءُو َ‬
‫متى وقت البعث الذي تزعمه على قولك؟ ل إقرار منهم لصل البعث بل ذلك سفه منهم وتعجيز‪.‬‬
‫{ ُقلْ عَسَى أَنْ َيكُونَ قَرِيبًا } فليس في تعيين وقته فائدة‪ ،‬وإنما الفائدة والمدار على تقريره‬
‫والقرار به وإثباته وإل فكل ما هو آت فإنه قريب‪.‬‬

‫حمْ ِدهِ } أي‪ :‬تنقادون لمره ول‬


‫{ َيوْمَ يَدْعُوكُمْ } للبعث والنشور وينفخ في الصور { فَتَسْ َتجِيبُونَ ِب َ‬
‫تستعصون عليه‪ .‬وقوله‪ { :‬بحمده } أي‪ :‬هو المحمود تعالى على فعله ويجزي به العباد إذا جمعهم‬
‫ليوم التناد‪.‬‬

‫{ وَ َتظُنّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا قَلِيلًا } من سرعة وقوعه وأن الذي مر عليكم من النعيم كأنه ما كان‪.‬‬

‫فهذا الذي يقول عنه المنكرون‪ { :‬متى هو } ؟ يندمون غاية الندم عند وروده ويقال لهم‪ { :‬هذا‬
‫الذي كنتم به تكذبون }‬

‫حسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ يَنْ َزغُ بَيْ َنهُمْ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ‬
‫{ ‪َ { } 53-55‬و ُقلْ ِلعِبَادِي َيقُولُوا الّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫علَ ْيهِ ْم َوكِيلًا *‬
‫ح ْمكُمْ َأوْ إِنْ يَشَأْ ُيعَذّ ْبكُ ْم َومَا أَرْسَلْنَاكَ َ‬
‫ع ُدوّا مُبِينًا * رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبكُمْ إِنْ يَشَأْ يَ ْر َ‬
‫لِلْإِنْسَانِ َ‬
‫ض وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا }‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ وََلقَدْ َفضّلْنَا َب ْعضَ النّبِيّينَ عَلَى َب ْع ٍ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫علَمُ ِبمَنْ فِي ال ّ‬
‫وَرَ ّبكَ أَ ْ‬

‫وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الخلق والعمال والقوال الموجبة للسعادة في الدنيا‬
‫والخرة فقال‪:‬‬

‫{ َو ُقلْ ِلعِبَادِي َيقُولُوا الّتِي ِهيَ َأحْسَنُ } وهذا أمر بكل كلم يقرب إلى ال من قراءة وذكر وعلم‬
‫وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلم حسن لطيف مع الخلق على اختلف مراتبهم ومنازلهم‪،‬‬
‫وأنه إذا دار المر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما‪.‬‬
‫والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِنّ الشّيْطَانَ يَنْ َزغُ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫فدواء هذا أن ل يطيعوه في القوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها‪ ،‬وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع‬
‫الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه فإنه يدعوهم { ليكونوا‬
‫من أصحاب السعير }‬

‫وأما إخوانهم فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم وسعى في العداوة فإن الحزم كل الحزم السعي‬
‫في ضد عدوهم وأن يقمعوا أنفسهم المارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون‬
‫ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم‪.‬‬

‫{ رَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبكُمْ } من أنفسكم فلذلك ل يريد لكم إل ما هو الخير ول يأمركم إل بما فيه مصلحة‬
‫لكم وقد تريدون شيئا والخير في عكسه‪.‬‬

‫ح ْمكُمْ َأوْ إِنْ يَشَأْ ُيعَذّ ْبكُمْ } فيوفق من شاء لسباب الرحمة ويخذل من شاء فيضل عنها‬
‫{ إِنْ يَشَأْ يَ ْر َ‬
‫فيستحق العذاب‪.‬‬

‫سلْنَاكَ عَلَ ْيهِ ْم َوكِيلًا } تدبر أمرهم وتقوم بمجازاتهم وإنما ال هو الوكيل وأنت مبلغ هاد‬
‫{ َومَا أَرْ َ‬
‫إلى صراط مستقيم‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } من جميع أصناف الخلئق فيعطي كل منهم ما‬


‫{ وَرَ ّبكَ أَعَْلمُ ِبمَنْ فِي ال ّ‬
‫يستحقه تقتضيه حكمته ويفضل بعضهم على بعض في جميع الخصال الحسية والمعنوية كما فضل‬
‫بعض النبيين المشتركين بوحيه على بعض بالفضائل والخصائص الراجعة إلى ما من به عليهم‬
‫من الوصاف الممدوحة والخلق المرضية والعمال الصالحة وكثرة التباع ونزول الكتب على‬
‫بعضهم المشتملة على الحكام الشرعية والعقائد المرضية‪ ،‬كما أنزل على داود زبورا وهو الكتاب‬
‫المعروف‪.‬‬

‫فإذا كان تعالى قد فضل بعضهم على بعض وآتى بعضهم كتبا فلم ينكر المكذبون لمحمد صلى ال‬
‫عليه وسلم ما أنزله ال عليه وما فضله به من النبوة والكتاب‪.‬‬

‫حوِيلًا * أُولَ ِئكَ‬


‫شفَ الضّرّ عَ ْنكُ ْم وَلَا تَ ْ‬
‫عمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا َيمِْلكُونَ كَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 56-57‬قلِ ادْعُوا الّذِينَ زَ َ‬
‫حمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ‬
‫ب وَيَرْجُونَ رَ ْ‬
‫الّذِينَ َيدْعُونَ يَبْ َتغُونَ ِإلَى رَ ّب ِهمُ ا ْلوَسِيلَةَ أَ ّيهُمْ َأقْ َر ُ‬
‫كَانَ مَحْذُورًا }‬
‫يقول تعالى‪ُ { :‬قلْ } للمشركين بال الذين اتخذوا من دونه أندادا يعبدونهم كما يعبدون ال‬
‫ويدعونهم كما يدعونه ملزما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين‪:‬‬

‫عمْتُمْ } آلهة من دون ال فانظروا هل ينفعونكم أو يدفعون عنكم الضر‪ ،‬فإنهم ل {‬


‫{ ادْعُوا الّذِينَ زَ َ‬
‫شفَ الضّرّ عَ ْن ُكمْ } من مرض أو فقر أو شدة ونحو ذلك فل يدفعونه بالكلية‪ { ،‬وَلَا }‬
‫َيمِْلكُونَ كَ ْ‬
‫يملكون أيضا تحويله من شخص إلى آخر من شدة إلى ما دونها‪.‬‬

‫فإذا كانوا بهذه الصفة فلي شيء تدعونهم من دون ال؟ فإنهم ل كمال لهم ول فعال نافعة‪،‬‬
‫فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل وسفه في الرأي‪.‬‬

‫ومن العجب أن السفه عند العتياد والممارسة وتلقيه عن الباء الضالين بالقبول يراه صاحبه هو‬
‫الرأي‪ :‬السديد والعقل المفيد‪.‬‬

‫ويرى إخلص الدين ل الواحد الحد الكامل المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة هو السفه‬
‫والمر المتعجب منه كما قال المشركون‪ { :‬أجعل اللهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }‬

‫ثم أخبر أيضا أن الذين يعبدونهم من دون ال في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالفتقار إلى ال‬
‫وابتغاء الوسيلة إليه فقال‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيدْعُونَ } من النبياء والصالحين والملئكة { يَبْ َتغُونَ إِلَى‬
‫رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيَلةَ أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ } أي‪ :‬يتنافسون في القرب من ربهم ويبذلون ما يقدرون عليه من‬
‫العمال الصالحة المقربة إلى ال تعالى وإلى رحمته‪ ،‬ويخافون عذابه فيجتنبون كل ما يوصل إلى‬
‫العذاب‪.‬‬

‫حذُورًا } أي‪ :‬هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه‪.‬‬
‫{ إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ كَانَ مَ ْ‬

‫وهذه المور الثلثة الخوف والرجاء والمحبة التي وصف ال بها هؤلء المقربين عنده هي‬
‫الصل والمادة في كل خير‪.‬‬

‫فمن تمت له تمت له أموره وإذا خل القلب منها ترحلت عنه الخيرات وأحاطت به الشرور‪.‬‬

‫وعلمة المحبة ما ذكره ال أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى ال وينافس في قربه بإخلص‬
‫العمال كلها ل والنصح فيها وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها‪ ،‬فمن زعم أنه يحب ال‬
‫بغير ذلك فهو كاذب‪.‬‬
‫شدِيدًا كَانَ ذَِلكَ فِي‬
‫عذَابًا َ‬
‫{ ‪ { } 58‬وَإِنْ مِنْ قَرْ َيةٍ إِلّا َنحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُمعَذّبُوهَا َ‬
‫ا ْلكِتَابِ مَسْطُورًا }‬

‫أي‪ :‬ما من قرية من القرى المكذبة للرسل إل ل بد أن يصيبهم هلك قبل يوم القيامة أو عذاب‬
‫شديد كتاب كتبه ال وقضاء أبرمه‪ ،‬ل بد من وقوعه‪ ،‬فليبادر المكذبون بالنابة إلى ال وتصديق‬
‫رسله قبل أن تتم عليهم كلمة العذاب‪ ،‬ويحق عليهم القول‪.‬‬

‫ن وَآتَيْنَا َثمُودَ النّاقَةَ مُ ْبصِ َرةً‬


‫سلَ بِالْآيَاتِ إِلّا أَنْ َك ّذبَ ِبهَا الَْأوّلُو َ‬
‫{ ‪َ { } 59-60‬ومَا مَ َنعَنَا أَنْ نُرْ ِ‬
‫جعَلْنَا ال ّرؤْيَا الّتِي‬
‫خوِيفًا * وَإِذْ قُلْنَا َلكَ إِنّ رَ ّبكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ َومَا َ‬
‫سلُ بِالْآيَاتِ إِلّا َت ْ‬
‫فَظََلمُوا ِبهَا َومَا نُرْ ِ‬
‫طغْيَانًا كَبِيرًا }‬
‫خ ّو ُفهُمْ َفمَا يَزِي ُدهُمْ إِلّا ُ‬
‫ن وَنُ َ‬
‫س وَالشّجَ َرةَ ا ْلمَ ْلعُونَةَ فِي ا ْلقُرْآ ِ‬
‫أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّا ِ‬

‫يذكر تعالى رحمته بعدم إنزاله اليات التي يقترح بها المكذبون‪ ،‬وأنه ما منعه أن يرسلها إل خوفا‬
‫من تكذيبهم لها‪ ،‬فإذا كذبوا بها عاجلهم العقاب وحل بهم من غير تأخير كما فعل بالولين الذين‬
‫كذبوا بها‪.‬‬

‫ومن أعظم اليات الية التي أرسلها ال إلى ثمود وهي الناقة العظيمة الباهرة التي كانت تصدر‬
‫عنها جميع القبيلة بأجمعها ومع ذلك كذبوا بها فأصابهم ما قص ال علينا في كتابه‪ ،‬وهؤلء كذلك‬
‫لو جاءتهم اليات الكبار لم يؤمنوا‪ ،‬فإنه ما منعهم من اليمان خفاء ما جاء به الرسول واشتباهه‬
‫هل هو حق أو باطل؟ فإنه قد جاء من البراهين الكثيرة ما دل على صحة ما جاء به الموجب‬
‫لهداية من طلب الهداية فغيرها مثلها فل بد أن يسلكوا بها ما سلكوا بغيرها فترك إنزالها والحالة‬
‫هذه خير لهم وأنفع‪.‬‬

‫خوِيفًا } أي‪ :‬لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة لليمان‬
‫سلُ بِالْآيَاتِ إِلّا تَ ْ‬
‫وقوله‪َ { :‬ومَا نُرْ ِ‬
‫الذي ل يحصل إل بها‪ ،‬بل المقصود منها التخويف والترهيب ليرتدعوا عن ما هم عليه‪.‬‬

‫{ وَِإذْ قُلْنَا َلكَ إِنّ رَ ّبكَ َأحَاطَ بِالنّاسِ } علما وقدرة فليس لهم ملجأ يلجأون إليه ول ملذ يلوذون به‬
‫عنه‪ ،‬وهذا كاف لمن له عقل في النكفاف عما يكرهه ال الذي أحاط بالناس‪.‬‬

‫جعَلْنَا ال ّرؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً } أكثر المفسرين على أنها ليلة السراء‪.‬‬
‫{ َومَا َ‬

‫{ وَالشّجَ َرةَ ا ْلمَ ْلعُونَةَ } التي ذكرت { فِي ا ْلقُرْآنِ } وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم‪.‬‬
‫والمعنى إذا كان هذان المران قد صارا فتنة للناس حتى استلج الكفار بكفرهم وازداد شرهم‬
‫وبعض من كان إيمانه ضعيفا رجع عنه بسبب أن ما أخبرهم به من المور التي كانت ليلة‬
‫السراء ومن السراء من المسجد الحرام إلى المسجد القصى كان خارقا للعادة‪.‬‬

‫والخبار بوجود شجرة تنبت في أصل الجحيم أيضا من الخوارق فهذا الذي أوجب لهم التكذيب‪.‬‬
‫فكيف لو شاهدوا اليات العظيمة والخوارق الجسيمة؟"‬

‫أليس ذلك أولى أن يزداد بسببه شرهم؟! فلذلك رحمهم ال وصرفها عنهم‪ ،‬ومن هنا تعلم أن عدم‬
‫التصريح في الكتاب والسنة بذكر المور العظيمة التي حدثت في الزمنة المتأخرة أولى وأحسن‬
‫لن المور التي لم يشاهد الناس لها نظيرا ربما ل تقبلها عقولهم لو أخبروا بها قبل وقوعها‪،‬‬
‫فيكون ذلك ريبا في قلوب بعض المؤمنين ومانعا يمنع من لم يدخل السلم ومنفرا عنه‪.‬‬

‫بل ذكر ال ألفاظا عامة تتناول جميع ما يكون‪.‬‬

‫طغْيَانًا كَبِيرًا } وهذا أبلغ ما يكون في التملي‬


‫خ ّوفُهُمْ } باليات { َفمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف { إِلّا ُ‬
‫{ وَ ُن َ‬
‫بالشر ومحبته وبغض الخير وعدم النقياد له‪.‬‬

‫سجُدُ ِلمَنْ خََل ْقتَ طِينًا * قَالَ‬


‫سجَدُوا إِلّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَ ْ‬
‫سجُدُوا لِآدَمَ فَ َ‬
‫{ ‪ { } 61-65‬وَإِذْ قُلْنَا ِل ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ‬
‫أَرَأَيْ َتكَ َهذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ لَئِنْ َأخّرْتَنِ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَأَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّتَهُ ِإلّا قَلِيلًا * قَالَ ا ْذ َهبْ َفمَنْ‬
‫ك وَأَجِْلبْ عَلَ ْي ِهمْ‬
‫صوْتِ َ‬
‫ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِب َ‬
‫جهَنّمَ جَزَا ُؤكُمْ جَزَاءً َموْفُورًا * وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ اسْ َت َ‬
‫تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ فَإِنّ َ‬
‫ل وَالْأَولَا ِد وَعِ ْدهُ ْم َومَا َيعِدُ ُهمُ الشّ ْيطَانُ إِلّا غُرُورًا * إِنّ عِبَادِي‬
‫جِلكَ وَشَا ِر ْكهُمْ فِي الَْأ ْموَا ِ‬
‫ك وَرَ ِ‬
‫بِخَيِْل َ‬
‫ن َوكَفَى بِرَ ّبكَ َوكِيلًا }‬
‫لَيْسَ َلكَ عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَا ٌ‬

‫ينبه تبارك وتعالى عباده على شدة عداوة الشيطان وحرصه على إضللهم وأنه لما خلق ال آدم‬
‫جدُ ِلمَنْ خََلقْتَ طِينًا } أي‪ :‬من طين وبزعمه أنه‬
‫استكبر عن السجود له و { قَالَ } متكبرا‪َ { :‬أأَسْ ُ‬
‫خير منه لنه خلق من نار‪ .‬وقد تقدم فساد هذا القياس الباطل من عدة أوجه‪.‬‬

‫فلما تبين لبليس تفضيل ال لدم { قَالَ } مخاطبا ل‪ { :‬أَ َرأَيْ َتكَ هَذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ‬
‫إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَأَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّتَهُ } أي‪ :‬لستأصلنهم بالضلل ولغوينهم { إِلّا قَلِيلًا } عرف الخبيث‬
‫أنه ل بد أن يكون منهم من يعاديه ويعصيه‪.‬‬

‫جهَنّمَ جَزَا ُؤكُمْ جَزَاءً‬


‫فقال ال له‪ { :‬ا ْذ َهبْ َفمَنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ } واختارك على ربه ووليه الحق‪ { ،‬فَإِنّ َ‬
‫َم ْوفُورًا } أي‪ :‬مدخرا لكم موفرا جزاء أعمالكم‪.‬‬
‫صوْ ِتكَ }‬
‫ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِب َ‬
‫ثم أمره ال أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضللهم فقال‪ { :‬وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ اسْ َت َ‬
‫ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية‪.‬‬

‫{ وََأجِْلبْ عَلَ ْيهِمْ ِبخَيِْلكَ وَرَجِِلكَ } ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية ال فهو من خيل‬
‫الشيطان ورجله‪.‬‬

‫والمقصود أن ال ابتلى العباد بهذا العدو المبين الداعي لهم إلى معصية ال بأقواله وأفعاله‪.‬‬

‫ل وَالْأَولَادِ } وذلك شامل لكل معصية تعلقت بأموالهم وأولدهم من منع‬


‫{ وَشَا ِر ْكهُمْ فِي الَْأ ْموَا ِ‬
‫الزكاة والكفارات والحقوق الواجبة‪ ،‬وعدم تأديب الولد وتربيتهم على الخير وترك الشر وأخذ‬
‫الموال بغير حقها أو وضعها بغير حقها أو استعمال المكاسب الردية‪.‬‬

‫بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الموال والولد ترك التسمية عند‬
‫الطعام والشراب والجماع‪ ،‬وأنه إذا لم يسم ال في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد فيه الحديث‪.‬‬

‫{ وَعِ ْدهُمْ } الوعود المزخرفة التي ل حقيقة لها ولهذا قال‪َ { :‬ومَا َيعِدُهُمُ الشّ ْيطَانُ إِلّا غُرُورًا } أي‪:‬‬
‫باطل مضمحل كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الجر لنهم يظنون أنهم‬
‫على الحق‪ ،‬وقال تعالى‪ { :‬الشّيْطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ وَيَ ْأمُرُكُمْ بِا ْلفَحْشَا ِء وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َم ْغفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْلًا }‬

‫ولما أخبر عما يريد الشيطان أن يفعل بالعباد وذكر ما يعتصم به من فتنته وهو عبودية ال والقيام‬
‫باليمان والتوكل فقال‪ { :‬إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ } أي‪ :‬تسلط وإغواء بل ال يدفع عنهم‬
‫‪-‬بقيامهم بعبوديته‪ -‬كل شر ويحفظهم من الشيطان الرجيم ويقوم بكفايتهم‪َ { .‬وكَفَى بِرَ ّبكَ َوكِيلًا }‬
‫لمن توكل عليه وأدى ما أمر به‪.‬‬

‫{ ‪ { } 66-69‬رَ ّبكُمُ الّذِي يُزْجِي َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ فِي الْ َبحْرِ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ كَانَ ِبكُمْ رَحِيمًا *وَِإذَا‬
‫ضلّ مَنْ َتدْعُونَ إِلّا إِيّاهُ فََلمّا َنجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْ َرضْ ُت ْم َوكَانَ الْإِنْسَانُ َكفُورًا‬
‫سكُمُ الضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ‬
‫مَ ّ‬
‫سلَ عَلَ ْي ُكمْ حَاصِبًا ُثمّ لَا َتجِدُوا َلكُ ْم َوكِيلًا * َأمْ َأمِنْتُمْ أَنْ‬
‫سفَ ِبكُمْ جَا ِنبَ الْبَرّ َأوْ يُرْ ِ‬
‫* َأفََأمِنْتُمْ أَنْ يَخْ ِ‬
‫صفًا مِنَ الرّيحِ فَ ُيغْ ِر َقكُمْ ِبمَا َكفَرْتُمْ ثُمّ لَا تَجِدُوا َل ُكمْ عَلَيْنَا بِهِ‬
‫سلَ عَلَ ْيكُمْ قَا ِ‬
‫ُيعِي َدكُمْ فِيهِ تَا َرةً أُخْرَى فَيُ ْر ِ‬
‫تَبِيعًا }‬

‫يذكر تعالى نعمته على العباد بما سخر لهم من الفلك والسفن والمراكب وألهمهم كيفية صنعتها‪،‬‬
‫وسخر لها البحر الملتطم يحملها على ظهره لينتفع العباد بها في الركوب والحمل للمتعة‬
‫والتجارة‪ .‬وهذا من رحمته بعباده فإنه لم يزل بهم رحيما رؤوفا يؤتيهم من كل ما تعلقت به‬
‫إرادتهم ومنافعهم‪.‬‬
‫ومن رحمته الدالة على أنه وحده المعبود دون ما سواه أنهم إذا مسهم الضر في البحر فخافوا من‬
‫الهلك لتراكم المواج ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون ال في حال الرخاء من الحياء‬
‫والموات‪ ،‬فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الوقات لعلمهم أنهم ضعفاء عاجزون عن‬
‫كشف الضر وصرخوا بدعوة فاطر الرض والسماوات الذي تستغيث به في شدائدها جميع‬
‫المخلوقات وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال‪.‬‬

‫فلما كشف ال عنهم الضر ونجاهم إلى البر ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل وأشركوا به من ل‬
‫ينفع ول يضر ول يعطي ول يمنع وأعرضوا عن الخلص لربهم ومليكهم‪ ،‬وهذا من جهل‬
‫النسان وكفره فإن النسان كفور للنعم‪ ،‬إل من هدى ال فمن عليه بالعقل السليم واهتدى إلى‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬فإنه يعلم أن الذي يكشف الشدائد وينجي من الهوال هو الذي يستحق أن يفرد‬
‫وتخلص له سائر العمال في الشدة والرخاء واليسر والعسر‪.‬‬

‫وأما من خذل ووكل إلى عقله الضعيف فإنه لم يلحظ وقت الشدة إل مصلحته الحاضرة وإنجاءه‬
‫في تلك الحال‪.‬‬

‫فلما حصلت له النجاة وزالت عنه المشقة ظن بجهله أنه قد أعجز ال ولم يخطر بقلبه شيء من‬
‫العواقب الدنيوية فضل عن أمور الخرة‪.‬‬

‫سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا } أي‪ :‬فهو‬


‫سفَ ِبكُمْ جَا ِنبَ الْبَرّ َأوْ يُرْ ِ‬
‫ولهذا ذكرهم ال بقوله‪َ { :‬أفََأمِنْ ُتمْ أَنْ َيخْ ِ‬
‫على كل شيء قدير إن شاء أنزل عليكم عذابا من أسفل منكم بالخسف أو من فوقكم بالحاصب‬
‫وهو العذاب الذي يحصبهم فيصبحوا هالكين‪ ،‬فل تظنوا أن الهلك ل يكون إل في البحر‪.‬‬

‫صفًا مِنَ‬
‫سلَ عَلَ ْيكُمْ قَا ِ‬
‫وإن ظننتم ذلك فأنتم آمنون من { أَنْ ُيعِي َدكُمْ } في البحر { تَا َرةً ُأخْرَى فَيُرْ ِ‬
‫الرّيحِ } أي‪ :‬ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه‪.‬‬

‫{ فَ ُيغْ ِر َقكُمْ ِبمَا َكفَرْتُمْ ُثمّ لَا َتجِدُوا َلكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } أي‪ :‬تبعة ومطالبة فإن ال لم يظلمكم مثقال‬
‫ذرة‪.‬‬

‫حمَلْنَاهُمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ وَرَ َزقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َوفَضّلْنَا ُهمْ عَلَى‬
‫{ ‪ { } 70‬وََلقَدْ كَ ّرمْنَا بَنِي آدَ َم وَ َ‬
‫كَثِيرٍ ِممّنْ خََلقْنَا َت ْفضِيلًا }‬

‫وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي ل يقادر قدره حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الكرام‪،‬‬
‫فكرمهم بالعلم والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب‪ ،‬وجعل منهم الولياء والصفياء وأنعم عليهم‬
‫بالنعم الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫حمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ } على الركاب من البل والبغال والحمير والمراكب البرية‪ { .‬وَ } في‬
‫{ َو َ‬
‫{ الْبَحْرِ } في السفن والمراكب { وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } من المآكل والمشارب والملبس‬
‫والمناكح‪ .‬فما من طيب تتعلق به حوائجهم إل وقد أكرمهم ال به ويسره لهم غاية التيسير‪.‬‬

‫{ َو َفضّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ِممّنْ خََلقْنَا َتفْضِيلًا } بما خصهم به من المناقب وفضلهم به من الفضائل‬
‫التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات‪.‬‬

‫أفل يقومون بشكر من أولى النعم ودفع النقم ول تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة‬
‫ربهم بل ربما استعانوا بها على معاصيه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 71-72‬يوْمَ َندْعُوا ُكلّ أُنَاسٍ بِِإمَا ِمهِمْ َفمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِ َيمِي ِنهِ فَأُولَ ِئكَ َيقْرَءُونَ كِتَا َبهُ ْم وَلَا‬
‫عمَى وََأضَلّ سَبِيلًا }‬
‫عمَى َف ُهوَ فِي الْآخِ َرةِ أَ ْ‬
‫يُظَْلمُونَ فَتِيلًا * َومَنْ كَانَ فِي هَ ِذهِ أَ ْ‬

‫يخبر تعالى عن حال الخلق يوم القيامة‪ ،‬وأنه يدعو كل أناس‪ ،‬ومعهم إمامهم وهاديهم إلى الرشد‪،‬‬
‫وهم الرسل ونوابهم‪ ،‬فتعرض كل أمة‪ ،‬ويحضرها رسولهم الذي دعاهم‪ ،‬وتعرض أعمالهم على‬
‫الكتاب الذي يدعو إليه الرسول‪ ،‬هل هي موافقة له أم ل؟ فينقسمون بهذا قسمين‪َ { :‬فمَنْ أُو ِتيَ‬
‫كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ } لكونه اتبع إمامه‪ ،‬الهادي إلى صراط مستقيم‪ ،‬واهتدى بكتابه‪ ،‬فكثرت حسناته‪ ،‬وقلت‬
‫سيئاته { فَأُولَ ِئكَ َيقْرَءُونَ كِتَا َبهُمْ } قراءة سرور وبهجة‪ ،‬على ما يرون فيها مما يفرحهم ويسرهم‪.‬‬
‫{ وَلَا ُيظَْلمُونَ فَتِيلًا } مما عملوه من الحسنات‪.‬‬

‫عمَى } عن الحق فلم يقبله‪ ،‬ولم ينقد له‪ ،‬بل اتبع الضلل‪َ { .‬ف ُهوَ فِي‬
‫{ َومَنْ كَانَ فِي هَ ِذهِ } الدنيا { أَ ْ‬
‫ضلّ سَبِيلًا } فإن الجزاء من‬
‫عمَى } عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا‪ { ،‬وََأ َ‬
‫الْآخِ َرةِ أَ ْ‬
‫جنس العمل‪ ،‬كما تدين تدان‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها‪ ،‬هل عملت به أم ل؟‬

‫وأنهم ل يؤاخذون بشرع نبي لم يؤمروا باتباعه‪ ،‬وأن ال ل يعذب أحدًا إل بعد قيام الحجة عليه‬
‫ومخالفته لها‪.‬‬

‫وأن أهل الخير‪ ،‬يعطون كتبهم بأيمانهم‪ ،‬ويحصل لهم من الفرح والسرور شيء عظيم‪ ،‬وأن أهل‬
‫الشر بعكس ذلك‪ ،‬لنهم ل يقدرون على قراءة كتبهم‪ ،‬من شدة غمهم وحزنهم وثبورهم‪.‬‬

‫خذُوكَ خَلِيلًا‬
‫{ ‪ { } 73-77‬وَإِنْ كَادُوا لَ َيفْتِنُو َنكَ عَنِ الّذِي َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ لِ َتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْ َر ُه وَِإذًا لَاتّ َ‬
‫ضعْفَ ا ْل َممَاتِ ُثمّ لَا‬
‫ضعْفَ ا ْلحَيَا ِة َو ِ‬
‫ك ِ‬
‫* وََلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ كِ ْدتَ تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لََأ َذقْنَا َ‬
‫جدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَ َيسْ َتفِزّو َنكَ مِنَ الْأَ ْرضِ لِ ُيخْرِجُوكَ مِ ْنهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَا َفكَ إِلّا‬
‫تَ ِ‬
‫حوِيلًا }‬
‫جدُ لِسُنّتِنَا َت ْ‬
‫سلِنَا وَلَا تَ ِ‬
‫قَلِيلًا * سُنّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنْ رُ ُ‬

‫يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم وحفظه له من أعدائه الحريصين على‬
‫فتنته بكل طريق‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنْ كَادُوا لَ َيفْتِنُو َنكَ عَنِ الّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ لِ َتفْتَ ِريَ عَلَيْنَا } أي‪ :‬قد كادوا‬
‫لك أمرًا لم يدركوه‪ ،‬وتحيلوا لك‪ ،‬على أن تفتري على ال غير الذي أنزلنا إليك‪ ،‬فتجيء بما يوافق‬
‫أهواءهم‪ ،‬وتدع ما أنزل ال إليك‪.‬‬

‫خذُوكَ خَلِيلًا } أي حبيبًا صفيًا‪ ،‬أعز عليهم من أحبابهم‪ ،‬لما جبلك‬


‫{ وَِإذَا } لو فعلت ما يهوون { لَاتّ َ‬
‫ال عليه من مكارم الخلق‪ ،‬ومحاسن الداب‪ ،‬المحببة للقريب والبعيد‪ ،‬والصديق والعدو‪.‬‬

‫ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة‪ ،‬إل للحق الذي جئت به ل لذاتك‪ ،‬كما قال ال تعالى‬
‫جحَدُونَ }‬
‫ك وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ‬
‫{ َقدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُمْ لَا ُيكَذّبُو َن َ‬

‫{ وَ } مع هذا فب { َلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ } على الحق‪ ،‬وامتننا عليك بعدم الجابة لداعيهم‪َ { ،‬لقَدْ كِ ْدتَ‬
‫تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } من كثرة المعالجة‪ ،‬ومحبتك لهدايتهم‪.‬‬

‫{ إذًا } لو ركنت إليهم بما يهوون { لذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } أي لصبناك بعذاب‬
‫مضاعف ‪ ،‬في الحياة الدنيا والخرة ‪ ،‬وذلك لكمال نعمة ال عليك ‪ ،‬وكمال معرفتك‪.‬‬

‫{ ُثمّ لَا َتجِدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا } ينقذك مما يحل بك من العذاب‪ ،‬ولكن ال تعالى عصمك من أسباب‬
‫الشر‪ ،‬ومن البشر فثبتك وهداك الصراط المستقيم‪ ،‬ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه‪ ،‬فله عليك أتم‬
‫نعمة وأبلغ منحة‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْ َتفِزّونَكَ مِنَ الْأَ ْرضِ لِ ُيخْرِجُوكَ مِ ْنهَا } أي‪ :‬من بغضهم لمقامك بين أظهرهم‪ ،‬قد‬
‫كادوا أن يخرجوك من الرض‪ ،‬ويجلوك منها‪.‬‬

‫ولو فعلوا ذلك‪ ،‬لم يلبثوا بعدك فيها إل قليل‪ ،‬حتى تحل بهم العقوبة‪ ،‬كما هي سنة ال التي ل‬
‫تحول ول تبدل في جميع المم‪ ،‬كل أمة كذبت رسولها وأخرجته‪ ،‬عاجلها ال بالعقوبة‪.‬‬

‫ولما مكر به الذين كفروا وأخرجوه‪ ،‬لم يلبثوا إل قليل‪ ،‬حتى أوقع ال بهم بب " بدر " وقتل‬
‫صناديدهم‪ ،‬وفض بيضتهم‪ ،‬فله الحمد‪.‬‬
‫وفي هذه اليات‪ ،‬دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت ال إياه‪ ،‬وأنه ينبغي له أن ل يزال متملقًا‬
‫لربه‪ ،‬أن يثبته على اليمان‪ ،‬ساعيا في كل سبب موصل إلى ذلك لن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وهو أكمل الخلق‪ ،‬قال ال له‪ { :‬وََلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ ِك ْدتَ تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } فكيف بغيره؟"‬
‫وفيها تذكير ال لرسوله منته عليه‪ ،‬وعصمته من الشر‪ ،‬فدل ذلك على أن ال يحب من عباده أن‬
‫يتفطنوا لنعامه عليهم ‪-‬عند وجود أسباب الشر ‪ -‬بالعصمة منه‪ ،‬والثبات على اليمان‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬أنه بحسب علو مرتبة العبد‪ ،‬وتواتر النعم عليه من ال يعظم إثمه‪ ،‬ويتضاعف جرمه‪ ،‬إذا‬
‫ضعْفَ‬
‫فعل ما يلم عليه‪ ،‬لن ال ذكر رسوله لو فعل ‪ -‬وحاشاه من ذلك ‪ -‬بقوله‪ِ { :‬إذًا لََأ َذقْنَاكَ ِ‬
‫جدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا }‬
‫ض ْعفَ ا ْل َممَاتِ ُثمّ لَا تَ ِ‬
‫الْحَيَا ِة َو ِ‬

‫وفيها‪ :‬أن ال إذا أراد إهلك أمة‪ ،‬تضاعف جرمها‪ ،‬وعظم وكبر‪ ،‬فيحق عليها القول من ال فيوقع‬
‫بها العقاب‪ ،‬كما هي سنته في المم إذا أخرجوا رسولهم‪.‬‬

‫غسَقِ اللّ ْيلِ َوقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ‬


‫شمْسِ إِلَى َ‬
‫{ ‪َ { } 78-81‬أقِمِ الصّلَاةَ لِدُلُوكِ ال ّ‬
‫حمُودًا * َو ُقلْ َربّ َأدْخِلْنِي‬
‫شهُودًا * َومِنَ اللّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافَِلةً َلكَ عَسَى أَنْ يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَامًا َم ْ‬
‫مَ ْ‬
‫ق وَزَ َهقَ‬
‫ج َعلْ لِي مِنْ لَدُ ْنكَ سُلْطَانًا َنصِيرًا * َو ُقلْ جَاءَ ا ْلحَ ّ‬
‫ق وَا ْ‬
‫ج صِ ْد ٍ‬
‫ق وَأَخْ ِرجْنِي مُخْرَ َ‬
‫ل صِ ْد ٍ‬
‫خَ‬‫مُدْ َ‬
‫طلَ كَانَ زَهُوقًا }‬
‫طلُ إِنّ الْبَا ِ‬
‫الْبَا ِ‬

‫يأمر تعالى نبيه محمدًا صلى ال عليه وسلم بإقامة الصلة تامة‪ ،‬ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬في أوقاتها‪.‬‬
‫شمْسِ } أي‪ :‬ميلنها إلى الفق الغربي بعد الزوال‪ ،‬فيدخل في ذلك صلة الظهر وصلة‬
‫{ ِلدُلُوكِ ال ّ‬
‫العصر‪.‬‬

‫غسَقِ اللّ ْيلِ } أي‪ :‬ظلمته‪ ،‬فدخل في ذلك صلة المغرب وصلة العشاء‪َ { .‬وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ }‬
‫{ ِإلَى َ‬
‫أي‪ :‬صلة الفجر‪ ،‬وسميت قرآنا‪ ،‬لمشروعية إطالة القرآن فيها أطول من غيرها‪ ،‬ولفضل القراءة‬
‫فيها حيث شهدها ال‪ ،‬وملئكة الليل وملئكة والنهار‪.‬‬

‫ففي هذه الية‪ ،‬ذكر الوقات الخمسة‪ ،‬للصلوات المكتوبات‪ ،‬وأن الصلوات الموقعة فيه فرائض‬
‫لتخصيصها بالمر‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬أن الوقت شرط لصحة الصلة‪ ،‬وأنه سبب لوجوبها‪ ،‬لن ال أمر بإقامتها لهذه الوقات‪.‬‬

‫وأن الظهر والعصر يجمعان‪ ،‬والمغرب والعشاء كذلك‪ ،‬للعذر‪ ،‬لن ال جمع وقتهما جميعًا‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬فضيلة صلة الفجر‪ ،‬وفضيلة إطالة القراءة فيها‪ ،‬وأن القراءة فيها‪ ،‬ركن لن العبادة إذا‬
‫سميت ببعض أجزائها‪ ،‬دل على فرضية ذلك‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬ومِنَ اللّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ ِبهِ } أي‪ :‬صل به في سائر أوقاته‪ { .‬نَافَِلةً َلكَ } أي‪ :‬لتكون صلة الليل‬
‫زيادة لك في علو القدر‪ ،‬ورفع الدرجات‪ ،‬بخلف غيرك‪ ،‬فإنها تكون كفارة لسيئاته‪.‬‬

‫ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين‪ ،‬بخلف صلة الليل‪،‬‬
‫فإنها فرض عليك بالخصوص‪ ،‬ولكرامتك على ال‪ ،‬أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك‪ ،‬وليكثر‬
‫ثوابك‪ ،‬وتنال بذلك المقام المحمود‪ ،‬وهو المقام الذي يحمده فيه الولون والخرون‪ ،‬مقام الشفاعة‬
‫العظمى‪ ،‬حين يتشفع الخلئق بآدم‪ ،‬ثم بنوح‪ ،‬ثم إبراهيم‪ ،‬ثم موسى‪ ،‬ثم عيسى‪ ،‬وكلهم يعتذر‬
‫ويتأخر عنها‪ ،‬حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم‪ ،‬ليرحمهم ال من هول الموقف وكربه‪ ،‬فيشفع عند ربه‬
‫فيشفعه‪ ،‬ويقيمه مقامًا يغبطه به الولون والخرون‪ ،‬وتكون له المنة على جميع الخلق‪.‬‬

‫صدْقٍ } أي‪ :‬اجعل مداخلي ومخارجي‬


‫ج ِ‬
‫ق وََأخْرِجْنِي مُخْرَ َ‬
‫خلَ صِدْ ٍ‬
‫وقوله‪َ { :‬و ُقلْ َربّ َأدْخِلْنِي مُ ْد َ‬
‫كلها في طاعتك وعلى مرضاتك‪ ،‬وذلك لتضمنها الخلص وموافقتها المر‪.‬‬

‫ج َعلْ لِي مِنْ َلدُ ْنكَ سُ ْلطَانًا َنصِيرًا } أي‪ :‬حجة ظاهرة‪ ،‬وبرهانًا قاطعًا على جميع ما آتيه وما‬
‫{ وَا ْ‬
‫أذره‪.‬‬

‫وهذا أعلى حالة ينزلها ال العبد‪ ،‬أن تكون أحواله كلها خيرًا ومقربة له إلى ربه‪ ،‬وأن يكون له‬
‫‪-‬على كل حالة من أحواله‪ -‬دليلً ظاهرًا‪ ،‬وذلك متضمن للعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬للعلم‬
‫بالمسائل والدلئل‪.‬‬

‫طلُ } والحق هو ما أوحاه ال إلى رسوله محمد صلى ال عليه‬


‫وقوله‪َ { :‬و ُقلْ جَاءَ ا ْلحَقّ وَزَهَقَ الْبَا ِ‬
‫وسلم‪ ،‬فأمره ال أن يقول ويعلن‪ ،‬قد جاء الحق الذي ل يقوم له شيء‪ ،‬وزهق الباطل أي‪ :‬اضمحل‬
‫وتلشى‪.‬‬

‫طلَ كَانَ زَهُوقًا } أي‪ :‬هذا وصف الباطل‪ ،‬ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله‬
‫{ إِنّ الْبَا ِ‬
‫الحق فعند مجيء الحق يضمحل الباطل‪ ،‬فل يبقى له حراك‪.‬‬

‫ولهذا ل يروج الباطل إل في الزمان والمكنه الخالية من العلم بآيات ال وبيناته‪.‬‬

‫ن وَلَا يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِلّا خَسَارًا }‬


‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫شفَاءٌ وَرَ ْ‬
‫{ وقوله‪ { } 82 :‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة‪ ،‬وليس ذلك لكل أحد‪ ،‬وإنما ذلك للمؤمنين به‪ ،‬المصدقين‬
‫بآياته‪ ،‬العاملين به‪ ،‬وأما الظالمون بعدم التصديق به أو عدم العمل به‪ ،‬فل تزيدهم آياته إل‬
‫خسارًا‪ ،‬إذ به تقوم عليهم الحجة‪ ،‬فالشفاء الذي تضمنه القرآن عام لشفاء القلوب‪ ،‬من الشبه‪،‬‬
‫والجهالة‪ ،‬والراء الفاسدة‪ ،‬والنحراف السيئ‪ ،‬والقصود السيئة‬

‫فإنه مشتمل على العلم اليقيني‪ ،‬الذي تزول به كل شبهة وجهالة‪ ،‬والوعظ والتذكير‪ ،‬الذي يزول به‬
‫كل شهوة تخالف أمر ال‪ ،‬ولشفاء البدان من آلمها وأسقامها‪.‬‬

‫وأما الرحمة‪ ،‬فإن ما فيه من السباب والوسائل التي يحث عليها‪ ،‬متى فعلها العبد فاز بالرحمة‬
‫والسعادة البدية‪ ،‬والثواب العاجل والجل‪.‬‬

‫ض وَنَأَى بِجَانِ ِب ِه وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوسًا }‬


‫{ ‪ { } 83‬وَِإذَا أَ ْن َعمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْ َر َ‬

‫هذه طبيعة النسان من حيث هو‪ ،‬إل من هداه ال‪ ،‬فإن النسان‪ -‬عند إنعام ال عليه ‪ -‬يفرح‬
‫بالنعم ويبطر بها‪ ،‬ويعرض وينأى بجانبه عن ربه‪ ،‬فل يشكره ول يذكره‪.‬‬

‫{ وَِإذَا مَسّهُ الشّرّ } كالمرض ونحوه { كَانَ يَئُوسًا } من الخير قد قطع ربه رجاءه‪ ،‬وظن أن ما هو‬
‫فيه دائم أبدًا‪.‬‬

‫وأما من هداه ال فإنه‪ -‬عند النعم ‪-‬يخضع لربه‪ ،‬ويشكر نعمته‪ ،‬وعند الضراء يتضرع‪ ،‬ويرجو‬
‫من ال عافيته‪ ،‬وإزالة ما يقع فيه‪ ،‬وبذلك يخف عليه البلء‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 84‬قلْ ُكلّ َي ْع َملُ عَلَى شَاكِلَ ِتهِ فَرَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَنْ ُهوَ أَ ْهدَى سَبِيلًا }‬

‫أي‪ُ { :‬قلْ ُكلّ } من الناس { َي ْع َملُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أي‪ :‬على ما يليق به من الحوال‪ ،‬إن كان من‬
‫الصفوة البرار‪ ،‬لم يشاكلهم إل عملهم لرب العالمين‪ .‬ومن كان من غيرهم من المخذولين‪ ،‬لم‬
‫يناسبهم إل العمل للمخلوقين‪ ،‬ولم يوافقهم إل ما وافق أغراضهم‪.‬‬

‫{ فَرَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبمَنْ ُهوَ أَهْدَى سَبِيلًا } فيعلم من يصلح للهداية‪ ،‬فيهديه ومن ل يصلح لها فيخذله ول‬
‫يهديه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 85‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي َومَا أُوتِيتُمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا }‬
‫وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل‪ ،‬التي ل يقصد بها إل التعنت والتعجيز‪ ،‬ويدع السؤال عن‬
‫المهم‪ ،‬فيسألون عن الروح التي هي من المور الخفية‪ ،‬التي ل يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد‪،‬‬
‫وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد‪.‬‬

‫ولهذا أمر ال رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله‪ُ { :‬قلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي } أي‪ :‬من جملة‬
‫مخلوقاته‪ ،‬التي أمرها أن تكون فكانت‪ ،‬فليس في السؤال عنها كبير فائدة‪ ،‬مع عدم علمكم بغيرها‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر‪ ،‬الولى بالسائل غيره أن يعرض عن‬
‫جوابه‪ ،‬ويدله على ما يحتاج إليه‪ ،‬ويرشده إلى ما ينفعه‪.‬‬

‫حمَةً مِنْ‬
‫{ ‪ { } 86-87‬وَلَئِنْ شِئْنَا لَ َنذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ ُثمّ لَا َتجِدُ َلكَ ِبهِ عَلَيْنَا َوكِيلًا *إِلّا َر ْ‬
‫رَ ّبكَ إِنّ َفضْلَهُ كَانَ عَلَ ْيكَ كَبِيرًا }‬

‫يخبر تعالى أن القرآن والوحي الذي أوحاه إلى رسوله‪ ،‬رحمة منه عليه وعلى عباده‪ ،‬وهو أكبر‬
‫النعم على الطلق على رسوله‪ ،‬فإن فضل ال عليه كبير‪ ،‬ل يقادر قدره‪.‬‬

‫فالذي تفضل به عليك‪ ،‬قادر على أن يذهب به‪ ،‬ثم ل تجد رادًا يرده‪ ،‬ول وكيل بتوجه عند ال‬
‫فيه‪.‬‬

‫فلتغتبط به‪ ،‬وتقر به عينك‪ ،‬ول يحزنك تكذيب المكذبين‪ ،‬واستهزاء الضالين‪ ،‬فإنهم عرضت عليهم‬
‫أجل النعم‪ ،‬فردوها لهوانهم على ال وخذلنه لهم‪.‬‬

‫علَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ َهذَا ا ْلقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ ِبمِثِْل ِه وََلوْ كَانَ‬
‫س وَالْجِنّ َ‬
‫{ ‪ُ { } 88‬قلْ لَئِنِ اجْ َت َم َعتِ الْإِنْ ُ‬
‫ظهِيرًا }‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫َب ْع ُ‬

‫وهذا دليل قاطع‪ ،‬وبرهان ساطع‪ ،‬على صحة ما جاء به الرسول وصدقه‪ ،‬حيث تحدى ال النس‬
‫والجن أن يأتوا بمثله‪ ،‬وأخبر أنهم ل يأتون بمثله‪ ،‬ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه‪.‬‬

‫ووقع كما أخبر ال‪ ،‬فإن دواعي أعدائه المكذبين به‪ ،‬متوفرة على رد ما جاء به بأي‪ :‬وجه كان‪،‬‬
‫وهم أهل اللسان والفصاحة‪ ،‬فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه‪.‬‬

‫فعلم بذلك‪ ،‬أنهم أذعنوا غاية الذعان‪ ،‬طوعًا وكرهًا‪ ،‬وعجزوا عن معارضته‪.‬‬
‫وكيف يقدر المخلوق من تراب‪ ،‬الناقص من جميع الوجوه‪ ،‬الذي ليس له علم ول قدرة ول إرادة‬
‫ول مشيئة ول كلم ول كمال إل من ربه‪ ،‬أن يعارض كلم رب الرض والسماوات‪ ،‬المطلع‬
‫على سائر الخفيات‪ ،‬الذي له الكمال المطلق‪ ،‬والحمد المطلق‪ ،‬والمجد العظيم‪ ،‬الذي لو أن البحر‬
‫يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا‪ ،‬والشجار كلها أقلم‪ ،‬لنفذ المداد‪ ،‬وفنيت القلم‪ ،‬ولم تنفد كلمات‬
‫ال‪.‬‬

‫فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلً ل في أوصافه فكلمه من أوصافه‪ ،‬التي ل يماثله فيها‬
‫أحد‪ ،‬فليس كمثله شيء‪ ،‬في ذاته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله تبارك وتعالى‪.‬‬

‫فتبًا لمن اشتبه عليه كلم الخالق بكلم المخلوق‪ ،‬وزعم أن محمدًا صلى ال عليه وسلم افتراه على‬
‫ال واختلقه من نفسه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 89-96‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَى َأكْثَرُ النّاسِ إِلّا ُكفُورًا * َوقَالُوا‬
‫لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّرَ الْأَ ْنهَارَ‬
‫سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا * َأوْ َيكُونَ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِ َ‬
‫سمَاءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫خِلَاَلهَا َتفْجِيرًا * َأوْ تُ ْ‬
‫سمَا ِء وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْ َرؤُهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ‬
‫َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ زُخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ‬
‫رَبّي َهلْ كُ ْنتُ إِلّا بَشَرًا رَسُولًا * َومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَاءَ ُهمُ ا ْلهُدَى ِإلّا أَنْ قَالُوا أَ َب َعثَ اللّهُ‬
‫سمَاءِ مََلكًا َرسُولًا‬
‫طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِمْ مِنَ ال ّ‬
‫بَشَرًا َرسُولًا * ُقلْ َلوْ كَانَ فِي الْأَ ْرضِ مَلَا ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ‬
‫شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا }‬
‫* ُقلْ كَفَى بِاللّهِ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ } أي‪ :‬نوعنا فيه المواعظ والمثال‪،‬‬
‫وثنينا فيه المعاني التي يضطر إليها العباد‪ ،‬لجل أن يتذكروا ويتقوا‪ ،‬فلم يتذكر إل القليل منهم‪،‬‬
‫الذين سبقت لهم من ال سابقة السعادة‪ ،‬وأعانهم ال بتوفيقه‪ ،‬وأما أكثر الناس فأبوا إل كفورًا لهذه‬
‫النعمة التي هي أكبر من جميع النعم‪ ،‬وجعلوا يتعنتون عليه [باقتراح] آيات غير آياته‪،‬‬
‫يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة‪.‬‬

‫فيقولون لرسول ال صلى ال عليه وسلم الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية‪:‬‬
‫{ لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا } أي‪ :‬أنهارًا جارية‪.‬‬

‫{ َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ وَعِ َنبٍ } فتستغنى بها عن المشي في السواق والذهاب والمجيء‪.‬‬

‫سفًا } أي‪ :‬قطعًا من العذاب‪َ { ،‬أوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا }‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا ِك َ‬
‫سمَاءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫{ َأوْ ُت ْ‬
‫أي‪ :‬جميعًا‪ ،‬أو مقابلة ومعاينة‪ ،‬يشهدون لك بما جئت به‪.‬‬
‫سمَاءِ } رقيًا‬
‫{ َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ زُخْ ُرفٍ } أي‪ :‬مزخرف بالذهب وغيره { َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ‬
‫حسيًا‪ { ،‬و } ومع هذا فب { وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْرَ ُؤهُ }‬

‫ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات؛ وكلم أسفه الناس وأظلمهم‪ ،‬المتضمنة لرد الحق وسوء الدب‬
‫مع ال‪ ،‬وأن الرسول صلى ال عليه وسلم هو الذي يأتي باليات‪ ،‬أمره ال أن ينزهه فقال‪ُ { :‬قلْ‬
‫سُ ْبحَانَ رَبّي } عما تقولون علوًا كبيرًا‪ ،‬وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لهوائهم الفاسدة‪،‬‬
‫وآرائهم الضالة‪َ { .‬هلْ كُ ْنتُ إِلّا َبشَرًا رَسُولًا } ليس بيده شيء من المر‪.‬‬

‫وهذا السبب الذي منع أكثر الناس من اليمان‪ ،‬حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم‬
‫بشرًا‪.‬‬

‫وهذا من رحمته بهم‪ ،‬أن أرسل إليهم بشرًا منهم‪ ،‬فإنهم ل يطيقون التلقي من الملئكة‪.‬‬

‫طمَئِنّينَ } يثبتون على رؤية الملئكة والتلقي عنهم؛ { لَنَزّلْنَا‬


‫فلو { كَانَ فِي الْأَ ْرضِ مَلَا ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ‬
‫سمَاءِ مََلكًا رَسُولًا } ليمكنهم التلقي عنه‪.‬‬
‫عَلَ ْيهِمْ مِنَ ال ّ‬

‫شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا } فمن شهادته لرسوله ما أيده به‬
‫{ ُقلْ َكفَى بِاللّهِ َ‬
‫من المعجزات‪ ،‬وما أنزل عليه من اليات‪ ،‬ونصره على من عاداه وناوأه‪.‬‬

‫فلو تقول عليه بعض القاويل‪ ،‬لخذ منه باليمين‪ ،‬ثم لقطع منه الوتين‪ ،‬فإنه خبير بصير‪ ،‬ل تخفى‬
‫عليه من أحوال العباد خافية‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 100 - 97‬ومَنْ َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْ َتدِي َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ َتجِدَ َلهُمْ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُ ُهمْ‬
‫سعِيرًا * ذَِلكَ‬
‫جهَنّمُ كُّلمَا خَ َبتْ زِدْنَا ُهمْ َ‬
‫صمّا مَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫عمْيًا وَ ُب ْكمًا َو ُ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَى وُجُو ِههِمْ ُ‬
‫جدِيدًا * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ‬
‫جَزَاؤُ ُهمْ بِأَ ّنهُمْ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا َوقَالُوا أَ ِئذَا كُنّا عِظَامًا وَ ُرفَاتًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَ ْلقًا َ‬
‫ج َعلَ َلهُمْ أَجَلًا لَا رَ ْيبَ فِيهِ فَأَبَى‬
‫علَى أَنْ يَخُْلقَ مِثَْلهُ ْم وَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ قَادِرٌ َ‬
‫اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫ق َوكَانَ‬
‫سكْتُمْ خَشْ َيةَ الْإِ ْنفَا ِ‬
‫حمَةِ رَبّي ِإذًا لََأمْ َ‬
‫الظّاِلمُونَ إِلّا ُكفُورًا * ُقلْ َلوْ أَنْتُمْ َتمِْلكُونَ خَزَائِنَ رَ ْ‬
‫الْإِنْسَانُ قَتُورًا }‬

‫يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والضلل‪ ،‬فمن يهده‪ ،‬فييسره لليسرى ويجنبه العسرى‪ ،‬فهو‬
‫المهتدي على الحقيقة‪ ،‬ومن يضلله‪ ،‬فيخذله‪ ،‬ويكله إلى نفسه‪ ،‬فل هادي له من دون ال‪ ،‬وليس له‬
‫ولي ينصره من عذاب ال‪ ،‬حين يحشرهم ال على وجوههم خزيًا عميًا وبكمًا‪ ،‬ل يبصرون ول‬
‫ينطقون‪.‬‬
‫جهَنّمُ } التي جمعت كل هم وغم وعذاب‪.‬‬
‫{ مَ ْأوَا ُهمْ } أي‪ :‬مقرهم ودارهم { َ‬

‫سعِيرًا } أي‪ :‬سعرناها بهم ل يفتر عنهم العذاب‪ ،‬ول‬


‫{ كُّلمَا خَ َبتْ } أي‪ :‬تهيأت للنطفاء { زِدْنَاهُمْ َ‬
‫يقضى عليهم فيموتوا‪ ،‬ول يخفف عنهم من عذابها‪ ،‬ولم يظلمهم ال تعالى‪ ،‬بل جازاهم بما كفروا‬
‫بآياته وأنكروا البعث الذي أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب وعجزوا ربهم وأنكروا تمام قدرته‪.‬‬

‫جدِيدًا } أي‪ :‬ل يكون هذا لنه في غاية البعد‬


‫{ َوقَالُوا أَئِذَا كُنّا عِظَامًا وَ ُرفَاتًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَ ْلقًا َ‬
‫عن عقولهم الفاسدة‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } وهي أكبر من خلق الناس‪ { .‬قَادِرٌ عَلَى أَنْ‬
‫{ َأوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫يَخُْلقَ مِثَْلهُمْ } بلى‪ ،‬إنه على ذلك قدير‪.‬‬

‫جلًا لَا رَ ْيبَ فِيهِ } ول شك‪ ،‬وإل فلو شاء لجاءهم به بغتة‪ ،‬ومع‬
‫جعَل } َ لذلك { أَ َ‬
‫{ و } لكنه قد { َو َ‬
‫إقامته الحجج والدلة على البعث‪.‬‬

‫{ فَأَبَى الظّاِلمُونَ إِلّا ُكفُورًا } ظلمًا منهم وافتراء‪.‬‬

‫خشْيَةَ الْإِ ْنفَاقِ } أي‪:‬‬


‫سكْ ُتمْ َ‬
‫حمَةِ رَبّي } التي ل تنفذ ول تبيد‪ِ { .‬إذًا لََأمْ َ‬
‫{ ُقلْ َلوْ أَنْ ُتمْ َتمِْلكُونَ خَزَائِنَ َر ْ‬
‫خشية أن ينفد ما تنفقون منه‪ ،‬مع أنه من المحال أن تنفد خزائن ال ‪ ،‬ولكن النسان مطبوع على‬
‫الشح والبخل‪.‬‬

‫{ ‪ { } 104 - 101‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسَْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَا َءهُمْ َفقَالَ لَهُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ‬
‫عوْنُ إِنّي لََأظُ ّنكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا َربّ ال ّ‬
‫فِرْ َ‬
‫جمِيعًا‬
‫عوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ َيسْ َتفِزّهُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ فَأَغْ َرقْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ َ‬
‫َبصَائِرَ وَإِنّي لََأظُ ّنكَ يَا فِرْ َ‬
‫سكُنُوا الْأَ ْرضَ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الْآخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفًا }‬
‫* َوقُلْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬

‫أي‪ :‬لست أيها الرسول المؤيد باليات‪ ،‬أول رسول كذبه الناس‪ ،‬فلقد أرسلنا قبلك موسى ابن‬
‫عمران الكليم‪ ،‬إلى فرعون وقومه‪ ،‬وآتيناه { ِتسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } كل واحدة منها تكفي لمن قصده‬
‫اتباع الحق‪ ،‬كالحية‪ ،‬والعصا‪ ،‬والطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪ ،‬والرجز‪ ،‬وفلق‬
‫البحر‪.‬‬

‫عوْنُ } مع هذه اليات‬


‫فإن شككت في شيء من ذلك { فَاسَْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ِإذْ جَاءَهُمْ َفقَالَ لَهُ فِرْ َ‬
‫{ إِنّي لََأظُ ّنكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا }‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫فب { قَالَ } له موسى { َلقَدْ عَِل ْمتَ } يا فرعون { مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ } اليات { ِإلّا َربّ ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ َبصَائِرَ } منه لعباده‪ ،‬فليس قولك هذا بالحقيقة‪ ،‬وإنما قلت ذلك ترويجًا على قومك‪،‬‬
‫واستخفافًا لهم‪.‬‬

‫عوْنُ مَثْبُورًا } أي‪ :‬ممقوتًا‪ ،‬ملقى في العذاب‪ ،‬لك الويل والذم واللعنة‪.‬‬
‫{ وَإِنّي لَأَظُ ّنكَ يَا فِرْ َ‬

‫{ فَأَرَادَ } فرعون { أَنْ يَسْ َتفِزّهُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ } أن‪ :‬يجليهم ويخرجهم منها‪ { .‬فَأَغْ َرقْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ‬
‫جمِيعًا } وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم‪.‬‬
‫َ‬

‫سكُنُوا الْأَ ْرضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفًا }‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬وقُلْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫أي‪ :‬جميعًا ليجازى كل عامل بعمله‪.‬‬

‫ل َومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا مُبَشّرًا وَنَذِيرًا }‬


‫{ ‪ { } 105‬وَبِا ْلحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَ َز َ‬

‫أي‪ :‬وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم‪ ،‬لمر العباد ونهيهم‪ ،‬وثوابهم وعقابهم‪ { ،‬وَبِا ْلحَقّ نَ َزلَ } أي‪:‬‬
‫سلْنَاكَ إِلّا مُبَشّرًا } من أطاع ال بالثواب‬
‫بالصدق والعدل والحفظ من كل شيطان رجيم { َومَا أَرْ َ‬
‫العاجل والجل { وَنَذِيرًا } لمن عصى ال بالعقاب العاجل والجل‪ ،‬ويلزم من ذلك بيان ما بشر به‬
‫وأنذر‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 106-109‬وقُرْآنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ عَلَى ُم ْكثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * ُقلْ آمِنُوا بِهِ َأوْ لَا‬
‫سجّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا‬
‫ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ مِنْ قَبِْلهِ إِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ ِللْأَ ْذقَانِ ُ‬
‫خشُوعًا }‬
‫ن وَيَزِيدُ ُهمْ ُ‬
‫ن وَعْدُ رَبّنَا َل َم ْفعُولًا * وَيَخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ يَ ْبكُو َ‬
‫إِنْ كَا َ‬

‫أي‪ :‬وأنزلنا هذا القرآن مفرقًا‪ ،‬فارقًا بين الهدى والضلل‪ ،‬والحق والباطل‪ { .‬لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ‬
‫عَلَى ُمكْثٍ } أي‪ :‬على مهل‪ ،‬ليتدبروه ويتفكروا في معانيه‪ ،‬ويستخرجوا علومه‪.‬‬

‫{ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } أي‪ :‬شيئًا فشيئًا‪ ،‬مفرقًا في ثلث وعشرين سنة‪.‬‬

‫{ ول يأتونك بمثل إل جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } فإذا تبين أنه الحق‪ ،‬الذي ل شك فيه ول‬
‫ريب‪ ،‬بوجه من الوجوه فب‪ُ { :‬قلْ } لمن كذب به وأعرض عنه‪ { :‬آمِنُوا بِهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا } فليس‬
‫ل حاجة فيكم‪ ،‬ولستم بضاريه شيئًا‪ ،‬وإنما ضرر ذلك عليكم‪ ،‬فإن ل عبادًا غيركم‪ ،‬وهم الذين‬
‫سجّدًا } أي‪ :‬يتأثرون به غاية التأثر‪،‬‬
‫علَ ْيهِمْ يَخِرّونَ لِلَْأ ْذقَانِ ُ‬
‫آتاهم ال العلم النافع‪ { :‬إِذَا يُتْلَى َ‬
‫ويخضعون له‪.‬‬
‫ن وَعْدُ رَبّنَا }‬
‫{ وَ َيقُولُونَ سُ ْبحَانَ رَبّنَا } عما ل يليق بجلله‪ ،‬مما نسبه إليه المشركون‪ { .‬إِنْ كَا َ‬
‫بالبعث والجزاء بالعمال { َل َم ْفعُولًا } ل خلف فيه ول شك‪.‬‬

‫{ وَ َيخِرّونَ ِللْأَ ْذقَانِ } أي‪ :‬على وجوههم { يَ ْبكُونَ وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعًا }‬

‫وهؤلء كالذين من ال عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد ال ابن سلم وغيره‪ ،‬ممن أمن في‬
‫وقت النبي صلى ال عليه وسلم وبعد ذلك‪.‬‬

‫جهَرْ‬
‫حسْنَى وَلَا َت ْ‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فََلهُ الْأَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 110-111‬قلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا الرّ ْ‬
‫خ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي َلمْ يَتّ ِ‬
‫ِبصَلَا ِتكَ وَلَا ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ َذِلكَ سَبِيلًا * َو ُقلِ الْ َ‬
‫ل َوكَبّ ْرهُ َتكْبِيرًا }‬
‫فِي ا ْلمُ ْلكِ وََلمْ َيكُنْ لَ ُه وَِليّ مِنَ ال ّذ ّ‬

‫سمَاءُ‬
‫حمَنَ } أي‪ :‬أيهما شئتم‪ { .‬أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَ ْ‬
‫بقول تعالى لعباده‪ { :‬ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا الرّ ْ‬
‫حسْنَى } أي‪ :‬ليس له اسم غير حسن‪ ،‬أي‪ :‬حتى ينهى عن دعائه به‪ ،‬أي‪ :‬اسم دعوتموه به‪،‬‬
‫الْ ُ‬
‫حصل به المقصود‪ ،‬والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب‪ ،‬مما يناسب ذلك السم‪.‬‬

‫جهَرْ ِبصَلَا ِتكَ } أي‪ :‬قراءتك { وَلَا ُتخَا ِفتْ ِبهَا } فإن في كل من المرين محذورًا‪ .‬أما‬
‫{ وَلَا َت ْ‬
‫الجهر‪ ،‬فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه‪ ،‬وسبوا من جاء به‪.‬‬

‫وأما المخافتة‪ ،‬فإنه ل يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الخفاء { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَِلكَ } أي‪ :‬بين‬
‫الجهر والخفات { سَبِيلًا } أي‪ :‬تتوسط فيما بينهما‪.‬‬

‫ح ْمدُ لِلّهِ } له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه‪ ،‬المنزه عن كل آفة ونقص‪.‬‬
‫{ َو ُقلِ الْ َ‬

‫خ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْلكِ } بل الملك كله ل الواحد القهار‪ ،‬فالعالم العلوي‬
‫{ الّذِي لَمْ يَتّ ِ‬
‫والسفلي‪ ،‬كلهم مملوكون ل‪ ،‬ليس لحد من الملك شيء‪.‬‬

‫{ وََلمْ َيكُنْ لَ ُه وَِليّ مِنَ ال ّذلّ } أي‪ :‬ل يتولى أحدًا من خلقه ليتعزز به ويعاونه‪ ،‬فإنه الغني الحميد‪،‬‬
‫الذي ل يحتاج إلى أحد من المخلوقات‪ ،‬في الرض ول في السماوات‪ ،‬ولكنه يتخذ أولياء إحسانًا‬
‫منه إليهم ورحمة بهم { ال ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }‬

‫{ َوكَبّ ْرهُ َتكْبِيرًا } أي‪ :‬عظمه وأجله بالخبار بأوصافه العظيمة‪ ،‬وبالثناء عليه‪ ،‬بأسمائه الحسنى‪،‬‬
‫وبتجميده بأفعاله المقدسة‪ ،‬وبتعظيمه وإجلله بعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وإخلص الدين كله له‪.‬‬
‫تم تفسير سورة السراء ول الحمد والمنة والثناء الحسن على يد جامعه عبد الرحمن بن ناصر‬
‫بن عبد ال بن سعدي غفر ال له ولوالديه ولجميع المسلمين أمين وصلى ال على محمد وسلم‬
‫تسليمًا وذلك في ‪ 7‬جمادى الولى سنة ‪.1344‬‬

‫المجلد الخامس من تيسير الكريم الرحمن من تفسير كلم المنان لجامعه الفقير إلى ال عبد‬
‫الرحمن بن ناصر السعدي‪.‬‬

‫تفسير سورة الكهف‬


‫وهي مكية‬

‫عوَجَا *‬
‫ج َعلْ َلهُ ِ‬
‫ب وَلَمْ َي ْ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَى عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَا َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-6‬بِ ْ‬
‫شدِيدًا مِنْ َلدُنْ ُه وَيُبَشّرَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَجْرًا حَسَنًا *‬
‫قَ ّيمًا لِيُنْذِرَ بَ ْأسًا َ‬
‫خذَ اللّ ُه وَلَدًا *مَا َلهُمْ بِهِ مِنْ عِ ْل ٍم وَلَا لِآبَا ِئهِمْ كَبُ َرتْ كَِلمَةً‬
‫مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّ َ‬
‫حدِيثِ‬
‫سكَ عَلَى آثَارِ ِهمْ إِنْ َلمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهَذَا الْ َ‬
‫خعٌ َنفْ َ‬
‫تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ إِنْ َيقُولُونَ إِلّا َكذِبًا * فََلعَّلكَ بَا ِ‬
‫سفًا }‬
‫أَ َ‬

‫الحمد ل هو الثناء عليه بصفاته‪ ،‬التي هي كلها صفات كمال‪ ،‬وبنعمه الظاهرة والباطنة‪ ،‬الدينية‬
‫والدنيوية‪ ،‬وأجل نعمه على الطلق‪ ،‬إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله‪ ،‬محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم فحمد نفسه‪ ،‬وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم‪ ،‬وإنزال‬
‫الكتاب عليهم‪ ،‬ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين‪ ،‬على أنه الكامل من جميع الوجوه‪ ،‬وهما‬
‫نفي العوج عنه‪ ،‬وإثبات أنه قيم مستقيم‪ ،‬فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب‪ ،‬ول في‬
‫أوامره ونواهيه ظلم ول عبث‪ ،‬وإثبات الستقامة‪ ،‬يقتضي أنه ل يخبر ول يأمر إل بأجل‬
‫الخبارات وهي الخبار‪ ،‬التي تمل القلوب معرفة وإيمانا وعقل‪ ،‬كالخبار بأسماء ال وصفاته‬
‫وأفعاله‪ ،‬ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة‪ ،‬وأن أوامره ونواهيه‪ ،‬تزكي النفوس‪ ،‬وتطهرها وتنميها‬
‫وتكملها‪ ،‬لشتمالها على كمال العدل والقسط‪ ،‬والخلص‪ ،‬والعبودية ل رب العالمين وحده ل‬
‫شريك له‪ .‬وحقيق بكتاب موصوف‪ .‬بما ذكر‪ ،‬أن يحمد ال نفسه على إنزاله‪ ،‬وأن يتمدح إلى عباده‬
‫به‪.‬‬

‫شدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي‪ :‬لينذر بهذا القرآن الكريم‪ ،‬عقابه الذي عنده‪ ،‬أي‪ :‬قدره‬
‫وقوله { لِيُنْذِرَ بَأْسًا َ‬
‫وقضاه‪ ،‬على من خالف أمره‪ ،‬وهذا يشمل عقاب الدنيا وعقاب الخرة‪ ،‬وهذا أيضا‪ ،‬من نعمه أن‬
‫خوف عباده‪ ،‬وأنذرهم ما يضرهم ويهلكهم‪.‬‬
‫كما قال تعالى ‪-‬لما ذكر في هذا القرآن وصف النار‪ -‬قال‪ { :‬ذلك يخوف ال به عباده يا عباد‬
‫فاتقون } فمن رحمته بعباده‪ ،‬أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره‪ ،‬وبينها لهم‪ ،‬وبين‬
‫لهم السباب الموصلة إليها‪.‬‬

‫{ وَيُبَشّرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي‪ :‬وأنزل ال على عبده الكتاب‪،‬‬
‫ليبشر المؤمنين به‪ ،‬وبرسله وكتبه‪ ،‬الذين كمل إيمانهم‪ ،‬فأوجب لهم عمل الصالحات‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫حسَنًا }‬
‫العمال الصالحة‪ ،‬من واجب ومستحب‪ ،‬التي جمعت الخلص والمتابعة‪ { ،‬أَنّ َلهُمْ َأجْرًا َ‬
‫وهو الثواب الذي رتبه ال على اليمان والعمل الصالح‪ ،‬وأعظمه وأجله‪ ،‬الفوز برضا ال ودخول‬
‫الجنة‪ ،‬التي فيها ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ .‬وفي وصفه بالحسن‪،‬‬
‫دللة على أنه ل مكدر فيه ول منغص بوجه من الوجوه‪ ،‬إذ لو وجد فيه شيء من ذلك لم يكن‬
‫حسنه تاما‪.‬‬

‫ومع ذلك فهذا الجر الحسن { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } ل يزول عنهم‪ ،‬ول يزولون عنه‪ ،‬بل نعيمهم في‬
‫كل وقت متزايد‪ ،‬وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر العمال الموجبة للمبشر به‪ ،‬وهو أن هذا‬
‫القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح‪ ،‬موصل لما تستبشر به النفوس‪ ،‬وتفرح به الرواح‪.‬‬

‫{ وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا } من اليهود والنصارى‪ ،‬والمشركين‪ ،‬الذين قالوا هذه المقالة‬
‫الشنيعة‪ ،‬فإنهم لم يقولوها عن علم و[ل] يقين‪ ،‬ل علم منهم‪ ،‬ول علم من آبائهم الذين قلدوهم‬
‫واتبعوهم‪ ،‬بل إن يتبعون إل الظن وما تهوى النفس { كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ } أي‪:‬‬
‫عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها‪ ،‬وأي شناعة أعظم من وصفه بالتخاذ للولد الذي يقتضي‬
‫نقصه‪ ،‬ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية واللهية‪ ،‬والكذب عليه؟" { َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى‬
‫عَلَى اللّهِ َكذِبًا } ولهذا قال هنا‪ { :‬إِنْ َيقُولُونَ إِلّا كَذِبًا } أي‪ :‬كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء‪،‬‬
‫وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج‪ ،‬والنتقال من شيء إلى أبطل منه‪ ،‬فأخبر أول‪ :‬أنه { مَا َل ُهمْ‬
‫بِهِ مِنْ عِ ْل ٍم وَلَا لِآبَا ِئهِمْ } والقول على ال بل علم‪ ،‬ل شك في منعه وبطلنه‪ ،‬ثم أخبر ثانيا‪ ،‬أنه‬
‫قول قبيح شنيع فقال‪ { :‬كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫الكذب المنافي للصدق‪.‬‬

‫ولما كان النبي صلى ال عليه وسلم حريصا على هداية الخلق‪ ،‬ساعيا في ذلك أعظم السعي‪ ،‬فكان‬
‫صلى ال عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين‪ ،‬ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين‪ ،‬شفقة‬
‫منه صلى ال عليه وسلم عليهم‪ ،‬ورحمة بهم‪ ،‬أرشده ال أن ل يشغل نفسه بالسف على هؤلء‪،‬‬
‫الذين ل يؤمنون بهذا القرآن‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪ { :‬لعلك باخع نفسك أن ل يكونوا مؤمنين‬
‫سكَ } أي‪ :‬مهلكها‪ ،‬غما‬
‫خعٌ َنفْ َ‬
‫} وقال { فل تذهب نفسك عليهم حسرات } وهنا قال { فََلعَّلكَ بَا ِ‬
‫وأسفا عليهم‪ ،‬وذلك أن أجرك قد وجب على ال‪ ،‬وهؤلء لو علم ال فيهم خيرا لهداهم‪ ،‬ولكنه علم‬
‫أنهم ل يصلحون إل للنار‪ ،‬فلذلك خذلهم‪ ،‬فلم يهتدوا‪ ،‬فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم‪ ،‬ليس فيه‬
‫فائدة لك‪ .‬وفي هذه الية ونحوها عبرة‪ ،‬فإن المأمور بدعاء الخلق إلى ال‪ ،‬عليه التبليغ والسعي‬
‫بكل سبب يوصل إلى الهداية‪ ،‬وسد طرق الضلل والغواية بغاية ما يمكنه‪ ،‬مع التوكل على ال‬
‫في ذلك‪ ،‬فإن اهتدوا فبها ونعمت‪ ،‬وإل فل يحزن ول يأسف‪ ،‬فإن ذلك مضعف للنفس‪ ،‬هادم‬
‫للقوى‪ ،‬ليس فيه فائدة‪ ،‬بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه‪ ،‬وما عدا ذلك‪ ،‬فهو خارج‬
‫عن قدرته‪ ،‬وإذا كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول ال له‪ { :‬إنك ل تهدي من أحببت } وموسى‬
‫عليه السلم يقول‪ { :‬رب إني ل أملك إل نفسي وأخي } الية‪ ،‬فمن عداهم من باب أولى وأحرى‪،‬‬
‫قال تعالى‪ { :‬فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر }‬

‫عمَلًا * وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَ ْيهَا‬


‫جعَلْنَا مَا عَلَى الْأَ ْرضِ زِينَةً َلهَا لِنَبُْلوَ ُهمْ أَ ّيهُمْ َأحْسَنُ َ‬
‫{ ‪ { } 7-8‬إِنّا َ‬
‫صعِيدًا جُرُزًا }‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أنه جعل جميع ما على وجه الرض‪ ،‬من مآكل لذيذة‪ ،‬ومشارب‪ ،‬ومساكن طيبة‪،‬‬
‫وأشجار‪ ،‬وأنهار‪ ،‬وزروع‪ ،‬وثمار‪ ،‬ومناظر بهيجة‪ ،‬ورياض أنيقة‪ ،‬وأصوات شجية‪ ،‬وصور‬
‫مليحة‪ ،‬وذهب وفضة‪ ،‬وخيل وإبل ونحوها‪ ،‬الجميع جعله ال زينة لهذه الدار‪ ،‬فتنة واختبارا‪.‬‬
‫عمَلًا } أي‪ :‬أخلصه وأصوبه‪ ،‬ومع ذلك سيجعل ال جميع هذه المذكورات‪،‬‬
‫{ لِنَ ْبُلوَهُمْ أَ ّيهُمْ أَحْسَنُ َ‬
‫فانية مضمحلة‪ ،‬وزائلة منقضية‪.‬‬

‫وستعود الرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها‪ ،‬وانقطعت أنهارها‪ ،‬واندرست أثارها‪ ،‬وزال‬
‫نعيمها‪ ،‬هذه حقيقة الدنيا‪ ،‬قد جلها ال لنا كأنها رأي عين‪ ،‬وحذرنا من الغترار بها‪ ،‬ورغبنا في‬
‫دار يدوم نعيمها‪ ،‬ويسعد مقيمها‪ ،‬كل ذلك رحمة بنا‪ ،‬فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها‪ ،‬من نظر إلى‬
‫ظاهر الدنيا‪ ،‬دون باطنها‪ ،‬فصحبوا الدنيا صحبة البهائم‪ ،‬وتمتعوا بها تمتع السوائم‪ ،‬ل ينظرون في‬
‫حق ربهم‪ ،‬ول يهتمون لمعرفته‪ ،‬بل همهم تناول الشهوات‪ ،‬من أي وجه حصلت‪ ،‬وعلى أي حالة‬
‫اتفقت‪ ،‬فهؤلء إذا حضر أحدهم الموت‪ ،‬قلق لخراب ذاته‪ ،‬وفوات لذاته‪ ،‬ل لما قدمت يداه من‬
‫التفريط والسيئات‪.‬‬

‫وأما من نظر إلى باطن الدنيا‪ ،‬وعلم المقصود منها ومنه‪ ،‬فإنه يتناول منها‪ ،‬ما يستعين به على ما‬
‫خلق له‪ ،‬وانتهز الفرصة في عمره الشريف‪ ،‬فجعل الدنيا منزل عبور‪ ،‬ل محل حبور‪ ،‬وشقة سفر‪،‬‬
‫ل منزل إقامة‪ ،‬فبذل جهده في معرفة ربه‪ ،‬وتنفيذ أوامره‪ ،‬وإحسان العمل‪ ،‬فهذا بأحسن المنازل‬
‫عند ال‪ ،‬وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم‪ ،‬وسرور وتكريم‪ ،‬فنظر إلى باطن الدنيا‪ ،‬حين نظر‬
‫المغتر إلى ظاهرها‪ ،‬وعمل لخرته‪ ،‬حين عمل البطال لدنياه‪ ،‬فشتان ما بين الفريقين‪ ،‬وما أبعد‬
‫الفرق بين الطائفتين"‬

‫{ ‪ { } 9-12‬أَمْ حَسِ ْبتَ أَنّ َأصْحَابَ ا ْل َك ْهفِ وَال ّرقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ َأوَى ا ْلفِتْيَةُ إِلَى‬
‫شدًا * َفضَرَبْنَا عَلَى آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ‬
‫ح َم ًة وَهَ ّيئْ لَنَا مِنْ َأمْرِنَا رَ َ‬
‫ا ْل َك ْهفِ َفقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ لَدُ ْنكَ رَ ْ‬
‫حصَى ِلمَا لَبِثُوا َأ َمدًا }‬
‫عدَدًا * ُثمّ َبعَثْنَا ُهمْ لِ َنعْلَمَ َأيّ الْحِزْبَيْنِ َأ ْ‬
‫سِنِينَ َ‬

‫وهذا الستفهام بمعنى النفي‪ ،‬والنهي‪ .‬أي‪ :‬ل تظن أن قصة أصحاب الكهف‪ ،‬وما جرى لهم‪،‬‬
‫غريبة على آيات ال‪ ،‬وبديعة في حكمته‪ ،‬وأنه ل نظير لها‪ ،‬ول مجانس لها‪ ،‬بل ل تعالى من‬
‫اليات العجيبة الغريبة ما هو كثير‪ ،‬من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها‪ ،‬فلم يزل ال‬
‫يري عباده من اليات في الفاق وفي أنفسهم‪ ،‬ما يتبين به الحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضلل‪،‬‬
‫وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب‪ ،‬بل هي من آيات ال‬
‫العجيبة‪ ،‬وإنما المراد‪ ،‬أن جنسها كثير جدا‪ ،‬فالوقوف معها وحدها‪ ،‬في مقام العجب والستغراب‪،‬‬
‫نقص في العلم والعقل‪ ،‬بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات ال‪ ،‬التي دعا ال العباد إلى التفكير‬
‫فيها‪ ،‬فإنها مفتاح اليمان‪ ،‬وطريق العلم واليقان‪ .‬وأضافهم إلى الكهف‪ ،‬الذي هو الغار في الجبل‪،‬‬
‫الرقيم‪ ،‬أي‪ :‬الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم‪ ،‬لملزمتهم له دهرا طويل‪.‬‬

‫ثم ذكر قصتهم مجملة‪ ،‬وفصلها بعد ذلك فقال‪ِ { :‬إذْ َأوَى ا ْلفِتْيَةُ } أي‪ :‬الشباب‪ { ،‬إِلَى ا ْل َك ْهفِ }‬
‫حمَةً } أي تثبتنا‬
‫يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم‪َ { ،‬فقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ َلدُ ْنكَ رَ ْ‬
‫شدًا } أي‪ :‬يسر لنا كل سبب موصل‬
‫بها وتحفظنا من الشر‪ ،‬وتوفقنا للخير { وَهَ ّيئْ لَنَا مِنْ َأمْرِنَا رَ َ‬
‫إلى الرشد‪ ،‬وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا‪ ،‬فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة‪ ،‬إلى محل يمكن‬
‫الستخفاء فيه‪ ،‬وبين تضرعهم وسؤالهم ل تيسير أمورهم‪ ،‬وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى‬
‫الخلق‪ ،‬فلذلك استجاب ال دعاءهم‪ ،‬وقيض لهم ما لم يكن في حسابهم‪ ،‬قال‪َ { :‬فضَرَبْنَا عَلَى آذَا ِنهِمْ‬
‫عدَدًا } وهي ثلث مائة سنة وتسع سنين‪ ،‬وفي النوم المذكور‬
‫فِي ا ْل َكهْفِ } أي أنمناهم { سِنِينَ َ‬
‫حفظ لقلوبهم من الضطراب والخوف‪ ،‬وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة‪.‬‬

‫حصَى ِلمَا لَبِثُوا َأمَدًا } أي‪ :‬لنعلم أيهم أحصى‬


‫{ ُثمّ َبعَثْنَاهُمْ } أي‪ :‬من نومهم { لِ َنعْلَمَ َأيّ الْحِزْبَيْنِ َأ ْ‬
‫لمقدار مدتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْ َن ُهمْ } الية‪ ،‬وفي العلم بمقدار لبثهم‪،‬‬
‫ضبط للحساب‪ ،‬ومعرفة لكمال قدرة ال تعالى وحكمته ورحمته‪ ،‬فلو استمروا على نومهم‪ ،‬لم‬
‫يحصل الطلع على شيء من ذلك من قصتهم‪.‬‬

‫حقّ إِ ّنهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَ ّبهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَ َبطْنَا عَلَى‬
‫{ ‪ { } 13-14‬نَحْنُ َنقُصّ عَلَ ْيكَ نَبَأَ ُهمْ بِالْ َ‬
‫ططًا }‬
‫عوَ مِنْ دُونِهِ إَِلهًا َلقَدْ قُلْنَا إِذًا شَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَنْ َندْ ُ‬
‫قُلُو ِبهِمْ إِذْ قَامُوا َفقَالُوا رَبّنَا َربّ ال ّ‬
‫هذا شروع في تفصيل قصتهم‪ ،‬وأن ال يقصها على نبيه بالحق والصدق‪ ،‬الذي ما فيه شك ول‬
‫شبهة بوجه من الوجوه‪ { ،‬إِ ّن ُهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَ ّب ِهمْ } وهذا من جموع القلة‪ ،‬يدل ذلك على أنهم دون‬
‫العشرة‪ { ،‬آمَنُوا } بال وحده ل شريك له من دون قومهم‪ ،‬فشكر ال لهم إيمانهم‪ ،‬فزادهم هدى‪،‬‬
‫أي‪ :‬بسبب أصل اهتدائهم إلى اليمان‪ ،‬زادهم ال من الهدى‪ ،‬الذي هو العلم النافع‪ ،‬والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬ويزيد ال الذين اهتدوا هدى }‬

‫{ وَرَ َبطْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ } أي صبرناهم وثبتناهم‪ ،‬وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة‪،‬‬
‫وهذا من لطفه تعالى بهم وبره‪ ،‬أن وفقهم لليمان والهدى‪ ،‬والصبر والثبات‪ ،‬والطمأنينة‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬الذي خلقنا ورزقنا‪ ،‬ودبرنا وربانا‪ ،‬هو خالق‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ِإذْ قَامُوا َفقَالُوا رَبّنَا َربّ ال ّ‬
‫السماوات والرض‪ ،‬المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬ل تلك الوثان والصنام‪ ،‬التي ل‬
‫تخلق ول ترزق‪ ،‬ول تملك نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا‪ ،‬فاستدلوا بتوحيد‬
‫عوَ مِنْ دُونِهِ إَِلهًا } أي‪ :‬من سائر المخلوقات‬
‫الربوبية على توحيد اللهية‪ ،‬ولهذا قالوا‪ { :‬لَنْ نَدْ ُ‬
‫{ َلقَدْ قُلْنَا إِذًا } أي‪ :‬إن دعونا معه آلهة‪ ،‬بعد ما علمنا أنه الرب الله الذي ل تجوز ول تنبغي‬
‫شطَطًا } أي‪ :‬ميل عظيما عن الحق‪ ،‬وطريقا بعيدة عن الصواب‪ ،‬فجمعوا بين‬
‫العبادة‪ ،‬إل له { َ‬
‫القرار بتوحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد اللهية‪ ،‬والتزام ذلك‪ ،‬وبيان أنه الحق وما سواه باطل‪ ،‬وهذا دليل‬
‫على كمال معرفتهم بربهم‪ ،‬وزيادة الهدى من ال لهم‪.‬‬

‫سلْطَانٍ بَيّنٍ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى‬


‫{ ‪َ { } 15‬هؤُلَاءِ َق ْومُنَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آِل َهةً َلوْلَا يَأْتُونَ عَلَ ْيهِمْ بِ ُ‬
‫عَلَى اللّهِ َكذِبًا }‬

‫لما ذكروا ما من ال به عليهم من اليمان والهدى‪ ،‬والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم‪ ،‬من اتخاذ‬
‫اللهة من دون ال‪ ،‬فمقتوهم‪ ،‬وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم‪ ،‬بل في غاية الجهل‬
‫والضلل فقالوا‪َ { :‬لوْلَا يَأْتُونَ عَلَ ْيهِمْ ِبسُلْطَانٍ بَيّنٍ } أي‪ :‬بحجة وبرهان‪ ،‬على ما هم عليه من‬
‫الباطل‪ ،‬ول يستطيعون سبيل إلى ذلك‪ ،‬وإنما ذلك افتراء منهم على ال وكذب عليه‪ ،‬وهذا أعظم‬
‫الظلم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا }‬

‫حمَتِ ِه وَ ُيهَ ّيئْ‬


‫{ ‪ { } 16‬وَِإذِ اعْتَزَلْ ُتمُوهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ إِلّا اللّهَ فَ ْأوُوا إِلَى ا ْل َكهْفِ يَنْشُرْ َلكُمْ رَ ّبكُمْ مِنْ َر ْ‬
‫َلكُمْ مِنْ َأمْ ِركُمْ مِرفَقًا }‬

‫أي‪ :‬قال بعضهم لبعض‪ ،‬إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم‪ ،‬فلم يبق إل النجاء من‬
‫شرهم‪ ،‬والتسبب بالسباب المفضية لذلك‪ ،‬لنهم ل سبيل لهم إلى قتالهم‪ ،‬ول بقائهم بين أظهرهم‪،‬‬
‫وهم على غير دينهم‪ { ،‬فَ ْأوُوا إِلَى ا ْل َك ْهفِ } أي‪ :‬انضموا إليه واختفوا فيه { يَنْشُرْ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ مِنْ‬
‫حمَتِهِ وَ ُيهَيّئْ َلكُمْ مِنْ َأمْ ِركُمْ مِرفَقًا } وفيما تقدم‪ ،‬أخبر أنهم دعوه بقولهم { ربنا آتنا من لدنك‬
‫رَ ْ‬
‫رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا } فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم‪ ،‬واللتجاء إلى ال في‬
‫صلح أمرهم‪ ،‬ودعائه بذلك‪ ،‬وبين الثقة بال أنه سيفعل ذلك‪ ،‬ل جرم أن ال نشر لهم من رحمته‪،‬‬
‫وهيأ لهم من أمرهم مرفقا‪ ،‬فحفظ أديانهم وأبدانهم‪ ،‬وجعلهم من آياته على خلقه‪ ،‬ونشر لهم من‬
‫الثناء الحسن‪ ،‬ما هو من رحمته بهم‪ ،‬ويسر لهم كل سبب‪ ،‬حتى المحل الذي ناموا فيه‪ ،‬كان على‬
‫غاية ما يمكن من الصيانة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ضهُمْ ذَاتَ‬
‫ن وَِإذَا غَرَ َبتْ َتقْرِ ُ‬
‫طَل َعتْ تَزَاوَرُ عَنْ َك ْه ِفهِمْ ذَاتَ الْ َيمِي ِ‬
‫شمْسَ ِإذَا َ‬
‫{ ‪ { } 17-18‬وَتَرَى ال ّ‬
‫جدَ لَ ُه وَلِيّا‬
‫ج َوةٍ مِنْهُ ذَِلكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ مَنْ َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَ ِد َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ تَ ِ‬
‫ل وَهُمْ فِي فَ ْ‬
‫شمَا ِ‬
‫ال ّ‬
‫سطٌ ذِرَاعَ ْيهِ‬
‫ل َوكَلْ ُبهُمْ بَا ِ‬
‫شمَا ِ‬
‫ن وَذَاتَ ال ّ‬
‫مُرْشِدًا * وَتَحْسَ ُبهُمْ أَ ْيقَاظًا وَهُمْ ُرقُودٌ وَنُقَلّ ُبهُمْ ذَاتَ الْ َيمِي ِ‬
‫بِا ْل َوصِيدِ َلوِ اطَّل ْعتَ عَلَ ْيهِمْ َلوَلّ ْيتَ مِ ْنهُمْ فِرَارًا وََلمُلِ ْئتَ مِ ْنهُمْ رُعْبًا }‬

‫أي‪ :‬حفظهم ال من الشمس فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس تميل عنه يمينا‪ ،‬وعند غروبها تميل‬
‫ج َوةٍ مِنْهُ } أي‪ :‬من الكهف أي‪ :‬مكان‬
‫عنه شمال‪ ،‬فل ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها‪ { ،‬وَ ُهمْ فِي فَ ْ‬
‫متسع‪ ،‬وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم‪ ،‬ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيق‪ ،‬خصوصا مع‬
‫طول المكث‪ ،‬وذلك من آيات ال الدالة على قدرته ورحمته بهم‪ ،‬وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في‬
‫هذه المور‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مَنْ َي ْهدِ اللّهُ َفهُوَ ا ْل ُمهْتَدِ } أي‪ :‬ل سبيل إلى نيل الهداية إل من ال‪ ،‬فهو‬
‫جدَ لَهُ وَلِيّا مُ ْرشِدًا } أي‪ :‬ل تجد من يتوله‬
‫الهادي المرشد لمصالح الدارين‪َ { ،‬ومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ تَ ِ‬
‫ويدبره‪ ،‬على ما فيه صلحه‪ ،‬ول يرشده إلى الخير والفلح‪ ،‬لن ال قد حكم عليه بالضلل‪ ،‬ول‬
‫راد لحكمه‪.‬‬

‫{ وَ َتحْسَ ُبهُمْ أَ ْيقَاظًا وَهُمْ ُرقُودٌ } أي‪ :‬تحسبهم أيها الناظر إليهم [كأنهم] أيقاظ‪ ،‬والحال أنهم نيام‪ ،‬قال‬
‫المفسرون‪ :‬وذلك لن أعينهم منفتحة‪ ،‬لئل تفسد‪ ،‬فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا‪ ،‬وهم رقود‪،‬‬
‫شمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لبدانهم‪ ،‬لن الرض من طبيعتها‪،‬‬
‫{ وَ ُنقَلّ ُبهُمْ ذَاتَ الْ َيمِينِ وَذَاتَ ال ّ‬
‫أكل الجسام المتصلة بها‪ ،‬فكان من قدر ال‪ ،‬أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمال‪ ،‬بقدر ما ل تفسد‬
‫الرض أجسامهم‪ ،‬وال تعالى قادر على حفظهم من الرض‪ ،‬من غير تقليب‪ ،‬ولكنه تعالى حكيم‪،‬‬
‫أراد أن تجري سنته في الكون‪ ،‬ويربط السباب بمسبباتها‪.‬‬

‫{ َوكَلْ ُبهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِا ْل َوصِيدِ } أي‪ :‬الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف‪ ،‬أصابه ما أصابهم‬
‫من النوم وقت حراسته‪ ،‬فكان باسطا ذراعيه بالوصيد‪ ،‬أي‪ :‬الباب‪ ،‬أو فنائه‪ ،‬هذا حفظهم من‬
‫الرض‪ .‬وأما حفظهم من الدميين‪ ،‬فأخبر أنه حماهم بالرعب‪ ،‬الذي نشره ال عليهم‪ ،‬فلو اطلع‬
‫عليهم أحد‪ ،‬لمتل قلبه رعبا‪ ،‬وولى منهم فرارا‪ ،‬وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة‪،‬‬
‫وهم لم يعثر عليهم أحد‪ ،‬مع قربهم من المدينة جدا‪ ،‬والدليل على قربهم‪ ،‬أنهم لما استيقظوا‪،‬‬
‫أرسلوا أحدهم‪ ،‬يشتري لهم طعاما من المدينة‪ ،‬وبقوا في انتظاره‪ ،‬فدل ذلك على شدة قربهم منها‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 19-20‬وكَذَِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْ َن ُهمْ قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ َكمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ‬
‫طعَامًا فَلْيَأْ ِتكُمْ‬
‫قَالُوا رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثْتُمْ فَا ْبعَثُوا َأحَ َدكُمْ ِبوَ ِرقِكُمْ هَ ِذهِ إِلَى ا ْل َمدِينَةِ فَلْيَ ْنظُرْ أَ ّيهَا أَ ْزكَى َ‬
‫جمُوكُمْ َأوْ ُيعِيدُوكُمْ فِي مِلّ ِتهِمْ‬
‫ظهَرُوا عَلَ ْيكُمْ يَ ْر ُ‬
‫شعِرَنّ ِبكُمْ أَحَدًا * إِ ّنهُمْ إِنْ يَ ْ‬
‫ف وَلَا يُ ْ‬
‫ط ْ‬
‫بِرِزْقٍ مِ ْن ُه وَلْيَتَلَ ّ‬
‫وَلَنْ ُتفْلِحُوا إِذًا أَ َبدًا }‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وكذلك بعثناهم } أي‪ :‬من نومهم الطويل { ليتساءلوا بينهم } أي‪ :‬ليتباحثوا للوقوف‬
‫على الحقيقة من مدة لبثهم‪.‬‬

‫{ قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ } وهذا مبني على ظن القائل‪ ،‬وكأنهم وقع‬
‫عندهم اشتباه‪ .‬في طول مدتهم‪ ،‬فلهذا { قَالُوا رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثْتُمْ } فردوا العلم إلى المحيط علمه‬
‫بكل شيء‪ ،‬جملة وتفصيل‪ ،‬ولعل ال تعالى ‪-‬بعد ذلك‪ -‬أطلعهم على مدة لبثهم‪ ،‬لنه بعثهم‬
‫ليتساءلوا بينهم‪ ،‬وأخبر أنهم تساءلوا‪ ،‬وتكلموا بمبلغ ما عندهم‪ ،‬وصار آخر أمرهم‪ ،‬الشتباه‪ ،‬فل‬
‫بد أن يكون قد أخبرهم يقينا‪ ،‬علمنا ذلك من حكمته في بعثهم‪ ،‬وأنه ل يفعل ذلك عبثا‪ .‬ومن رحمته‬
‫بمن طلب علم الحقيقة في المور المطلوب علمها‪ ،‬وسعى لذلك ما أمكنه‪ ،‬فإن ال يوضح له ذلك‪،‬‬
‫عةَ لَا رَ ْيبَ‬
‫ق وَأَنّ السّا َ‬
‫حّ‬‫وبما ذكر فيما بعده من قوله‪َ { .‬وكَذَِلكَ أَعْثَرْنَا عَلَ ْيهِمْ لِ َيعَْلمُوا أَنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫فِيهَا } فلول أنه حصل العلم بحالهم‪ ،‬لم يكونوا دليل على ما ذكر‪ ،‬ثم إنهم لما تساءلوا بينهم‪،‬‬
‫وجرى منهم ما أخبر ال به‪ ،‬أرسلوا أحدهم بورقهم‪ ،‬أي‪ :‬بالدراهم‪ ،‬التي كانت معهم‪ ،‬ليشتري لهم‬
‫طعاما يأكلونه‪ ،‬من المدينة التي خرجوا منها‪ ،‬وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه‪ ،‬أي‪ :‬أطيبه‬
‫وألذه‪ ،‬وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه‪ ،‬وأن يختفي في ذلك‪ ،‬ويخفي حال إخوانه‪ ،‬ول يشعرن‬
‫بهم أحدا‪ .‬وذكروا المحذور من اطلع غيرهم عليهم‪ ،‬وظهورهم عليهم‪ ،‬أنهم بين أمرين‪ ،‬إما‬
‫الرجم بالحجارة‪ ،‬فيقتلونهم أشنع قتلة‪ ،‬لحنقهم عليهم وعلى دينهم‪ ،‬وإما أن يفتنوهم عن دينهم‪،‬‬
‫ويردوهم في ملتم‪ ،‬وفي هذه الحال‪ ،‬ل يفلحون أبدا‪ ،‬بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم‪ ،‬وقد‬
‫دلت هاتان اليتان‪ ،‬على عدة فوائد‪.‬‬

‫منها‪ :‬الحث على العلم‪ ،‬وعلى المباحثة فيه‪ ،‬لكون ال بعثهم لجل ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬الدب فيمن اشتبه عليه العلم‪ ،‬أن يرده إلى عالمه‪ ،‬وأن يقف عند حده‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬صحة الوكالة في البيع والشراء‪ ،‬وصحة الشركة في ذلك‪.‬‬


‫ومنها‪ :‬جواز أكل الطيبات‪ ،‬والمطاعم اللذيذة‪ ،‬إذا لم تخرج إلى حد السراف المنهي عنه لقوله‬
‫طعَامًا فَلْيَأْ ِتكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } وخصوصا إذا كان النسان ل يلئمه إل ذلك ولعل‬
‫{ فَلْيَ ْنظُرْ أَ ّيهَا أَ ْزكَى َ‬
‫هذا عمدة كثير من المفسرين‪ ،‬القائلين بأن هؤلء أولد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الطعمة‪ ،‬التي‬
‫جرت عادة الغنياء الكبار بتناولها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬الحث على التحرز‪ ،‬والستخفاء‪ ،‬والبعد عن مواقع الفتن في الدين‪ ،‬واستعمال الكتمان في‬
‫ذلك على النسان وعلى إخوانه في الدين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬شدة رغبة هؤلء الفتية في الدين‪ ،‬وفرارهم من كل فتنة‪ ،‬في دينهم وتركهم أوطانهم في‬
‫ال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد‪ ،‬الداعية لبغضه‪ ،‬وتركه‪ ،‬وأن هذه‬
‫الطريقة‪ ،‬هي طريقة المؤمنين المتقدمين‪ ،‬والمتأخرين لقولهم‪ { :‬وَلَنْ ُتفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا }‬

‫ق وَأَنّ السّاعَةَ لَا رَ ْيبَ فِيهَا ِإذْ يَتَنَازَعُونَ‬


‫ن وَعْدَ اللّهِ حَ ّ‬
‫{ ‪َ { } 21‬وكَذَِلكَ أَعْثَرْنَا عَلَ ْيهِمْ لِ َيعَْلمُوا أَ ّ‬
‫خذَنّ عَلَ ْيهِمْ‬
‫علَمُ ِبهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى َأمْرِهِمْ لَنَتّ ِ‬
‫بَيْ َنهُمْ َأمْرَ ُهمْ َفقَالُوا ابْنُوا عَلَ ْي ِهمْ بُنْيَانًا رَ ّبهُمْ أَ ْ‬
‫جدًا }‬
‫مَسْ ِ‬

‫يخبر ال تعالى‪ ،‬أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف‪ ،‬وذلك ‪-‬وال أعلم‪ -‬بعدما استيقظوا‪،‬‬
‫وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما‪ ،‬وأمروه بالستخفاء والخفاء‪ ،‬فأراد ال أمرا فيه صلح للناس‪،‬‬
‫وزيادة أجر لهم‪ ،‬وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات ال‪ ،‬المشاهدة بالعيان‪ ،‬على أن وعد ال‬
‫حق ل شك فيه ول مرية ول بعد‪ ،‬بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم‪ ،‬فمن مثبت للوعد والجزاء‪،‬‬
‫ومن ناف لذلك‪ ،‬فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين‪ ،‬وحجة على الجاحدين‪ ،‬وصار لهم‬
‫أجر هذه القضية‪ ،‬وشهر ال أمرهم‪ ،‬ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم‪.‬‬

‫و { َفقَالُوا ابْنُوا عَلَ ْي ِهمْ بُنْيَانًا } ال أعلم بحالهم ومآلهم‪ ،‬وقال من غلب على أمرهم‪ ،‬وهم الذين لهم‬
‫المر‪:‬‬

‫سجِدًا } أي‪ :‬نعبد ال تعالى فيه‪ ،‬ونتذكر به أحوالهم‪ ،‬وما جرى لهم‪ ،‬وهذه الحالة‬
‫{ لَنَتّخِذَنّ عَلَ ْيهِمْ مَ ْ‬
‫محظورة‪ ،‬نهى عنها النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذم فاعليها‪ ،‬ول يدل ذكرها هنا على عدم ذمها‪،‬‬
‫فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم‪ ،‬وأن هؤلء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا‪:‬‬
‫ابنوا عليهم مسجدا‪ ،‬بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم‪ ،‬وحذرهم من الطلع عليهم‪،‬‬
‫فوصلت الحال إلى ما ترى‪.‬‬
‫وفي هذه القصة‪ ،‬دليل على أن من فر بدينه من الفتن‪ ،‬سلمه ال منها‪ .‬وأن من حرص على‬
‫العافية عافاه ال ومن أوى إلى ال‪ ،‬آواه ال‪ ،‬وجعله هداية لغيره‪ ،‬ومن تحمل الذل في سبيله‬
‫وابتغاء مرضاته‪ ،‬كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث ل يحتسب { وما عند ال خير‬
‫للبرار }‬

‫ب وَ َيقُولُونَ سَ ْبعَةٌ‬
‫جمًا بِا ْلغَ ْي ِ‬
‫سهُمْ كَلْ ُب ُهمْ رَ ْ‬
‫سةٌ سَادِ ُ‬
‫خمْ َ‬
‫{ ‪ { } 22‬سَ َيقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَا ِب ُع ُهمْ كَلْ ُبهُ ْم وَ َيقُولُونَ َ‬
‫وَثَامِ ُنهُمْ كَلْ ُبهُمْ ُقلْ رَبّي أَعْلَمُ ِبعِدّ ِت ِهمْ مَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا قَلِيلٌ فَلَا ُتمَارِ فِي ِهمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا َتسْ َتفْتِ‬
‫فِيهِمْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا }‬

‫يخبر تعالى عن اختلف أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف‪ ،‬اختلفا صادرا عن رجمهم‬
‫بالغيب‪ ،‬وتقولهم بما ل يعلمون‪ ،‬وأنهم فيهم على ثلثة أقوال‪:‬‬

‫منهم‪ :‬من يقول‪ :‬ثلثة‪ ،‬رابعهم كلبهم‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬خمسة‪ ،‬سادسهم كلبهم‪ .‬وهذان القولن‪،‬‬
‫ذكر ال بعدهما‪ ،‬أن هذا رجم منهم بالغيب‪ ،‬فدل على بطلنهما‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬سبعة‪ ،‬وثامنهم كلبهم‪ ،‬وهذا ‪-‬وال أعلم‪ -‬الصواب‪ ،‬لن ال أبطل الولين ولم‬
‫يبطله‪ ،‬فدل على صحته‪ ،‬وهذا من الختلف الذي ل فائدة تحته‪ ،‬ول يحصل بمعرفة عددهم‬
‫مصلحة للناس‪ ،‬دينية ول دنيوية‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬

‫{ ُقلْ رَبّي أَعْلَمُ ِبعِدّ ِتهِمْ مَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا قَلِيلٌ } وهم الذين أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم‪ { .‬فَلَا‬
‫ُتمَارِ } أي‪ :‬تجادل وتحاج { فيهم إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي‪ :‬مبنيا على العلم واليقين‪ ،‬ويكون أيضا فيه‬
‫فائدة‪ ،‬وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب‪ ،‬أو التي ل فائدة فيها‪ ،‬إما أن يكون الخصم‬
‫معاندا‪ ،‬أو تكون المسألة ل أهمية فيها‪ ،‬ول تحصل فائدة دينية بمعرفتها‪ ،‬كعدد أصحاب الكهف‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإن في كثرة المناقشات فيها‪ ،‬والبحوث المتسلسلة‪ ،‬تضييعا للزمان‪ ،‬وتأثيرا في مودة‬
‫القلوب بغير فائدة‪.‬‬

‫حدًا } وذلك لن‬


‫{ وَلَا َتسْ َتفْتِ فِيهِمْ } أي‪ :‬في شأن أهل الكهف { مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من أهل الكتاب { أَ َ‬
‫مبنى كلمهم فيهم على الرجم بالغيب والظن‪ ،‬الذي ل يغني من الحق شيئا‪ ،‬ففيها دليل على المنع‬
‫من استفتاء من ل يصلح للفتوى‪ ،‬إما لقصوره في المر المستفتى فيه‪ ،‬أو لكونه ل يبالي بما تكلم‬
‫به‪ ،‬وليس عنده ورع يحجزه‪ ،‬وإذا نهي عن استفتاء هذا الجنس‪ ،‬فنهيه هو عن الفتوى‪ ،‬من باب‬
‫أولى وأحرى‪.‬‬
‫وفي الية أيضا‪ ،‬دليل على أن الشخص‪ ،‬قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء‪ ،‬دون آخر‪.‬‬
‫فيستفتى فيما هو أهل له‪ ،‬بخلف غيره‪ ،‬لن ال لم ينه عن استفتائهم مطلقا‪ ،‬إنما نهى عن‬
‫استفتائهم في قصة أصحاب الكهف‪ ،‬وما أشبهها‪.‬‬

‫ت َو ُقلْ‬
‫علٌ ذَِلكَ غَدًا * إِلّا أَنْ َيشَاءَ اللّ ُه وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ إِذَا نَسِي َ‬
‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫{ ‪ { } 23-24‬وَلَا َتقُولَنّ ِل َ‬
‫شدًا }‬
‫عَسَى أَنْ َيهْدِيَنِ رَبّي لَِأقْ َربَ مِنْ َهذَا رَ َ‬

‫هذا النهي كغيره‪ ،‬وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل ال عليه وسلم‪ ،‬فإن الخطاب عام‬
‫للمكلفين‪ ،‬فنهى ال أن يقول العبد في المور المستقبلة‪ { ،‬إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه‬
‫بمشيئة ال‪ ،‬وذلك لما فيه من المحذور‪ ،‬وهو‪ :‬الكلم على الغيب المستقبل‪ ،‬الذي ل يدري‪ ،‬هل‬
‫يفعله أم ل؟ وهل تكون أم ل؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلل‪ ،‬وذلك محذور محظور‪،‬‬
‫لن المشيئة كلها ل { وما تشاءون إل أن يشاء ال رب العالمين } ولما في ذكر مشيئة ال‪ ،‬من‬
‫تيسير المر وتسهيله‪ ،‬وحصول البركة فيه‪ ،‬والستعانة من العبد لربه‪ ،‬ولما كان العبد بشرا‪ ،‬ل بد‬
‫أن يسهو فيترك ذكر المشيئة‪ ،‬أمره ال أن يستثني بعد ذلك‪ ،‬إذا ذكر‪ ،‬ليحصل المطلوب‪ ،‬وينفع‬
‫المحذور‪ ،‬ويؤخذ من عموم قوله‪ { :‬وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ إِذَا َنسِيتَ } المر بذكر ال عند النسيان‪ ،‬فإنه‬
‫يزيله‪ ،‬ويذكر العبد ما سها عنه‪ ،‬وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر ال‪ ،‬أن يذكر ربه‪ ،‬ول يكونن‬
‫من الغافلين‪ ،‬ولما كان العبد مفتقرا إلى ال في توفيقه للصابة‪ ،‬وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله‪،‬‬
‫عسَى أَنْ َيهْدِيَنِ رَبّي لَِأقْ َربَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فأمره أن يدعو ال ويرجوه‪،‬‬
‫أمره ال أن يقول‪َ { :‬‬
‫ويثق به أن يهديه لقرب الطرق الموصلة إلى الرشد‪ .‬وحري بعبد‪ ،‬تكون هذه حاله‪ ،‬ثم يبذل‬
‫جهده‪ ،‬ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد‪ ،‬أن يوفق لذلك‪ ،‬وأن تأتيه المعونة من ربه‪ ،‬وأن‬
‫يسدده في جميع أموره‪.‬‬

‫سعًا * ُقلِ اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثُوا لَهُ غَ ْيبُ‬


‫{ ‪ { } 25-26‬وَلَبِثُوا فِي َك ْه ِفهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِ ْ‬
‫ح ْكمِهِ َأحَدًا }‬
‫ي وَلَا يُشْ ِركُ فِي ُ‬
‫ن وَِل ّ‬
‫سمِعْ مَا َل ُهمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْبصِرْ ِب ِه وَأَ ْ‬
‫ال ّ‬

‫لما نهاه ال عن استفتاء أهل الكتاب‪ ،‬في شأن أهل الكهف‪ ،‬لعدم علمهم بذلك‪ ،‬وكان ال عالم‬
‫الغيب والشهادة‪ ،‬العالم بكل شيء‪ ،‬أخبره بمدة لبثهم‪ ،‬وأن علم ذلك عنده وحده‪ ،‬فإنه من غيب‬
‫السماوات والرض‪ ،‬وغيبها مختص به‪ ،‬فما أخبر به عنها على ألسنة رسله‪ ،‬فهو الحق اليقين‪،‬‬
‫الذي ل يشك فيه‪ ،‬وما ل يطلع رسله عليه‪ ،‬فإن أحدا من الخلق‪ ،‬ل يعلمه‪.‬‬

‫س ِمعْ } تعجب من كمال سمعه وبصره‪ ،‬وإحاطتهما بالمسموعات‬


‫وقوله‪ { :‬أَ ْبصِرْ بِ ِه وَأَ ْ‬
‫والمبصرات‪ ،‬بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات‪ .‬ثم أخبر عن انفراده بالولية العامة‬
‫والخاصة‪ ،‬فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون‪ ،‬الولي لعباده المؤمنين‪ ،‬يخرجهم من الظلمات‬
‫ن وَِليّ } أي‪ :‬هو‬
‫إلى النور وييسرهم لليسرى‪ ،‬ويجنبهم العسرى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مَا َل ُهمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ‬
‫الذي تولى أصحاب الكهف‪ ،‬بلطفه وكرمه‪ ،‬ولم يكلهم إلى أحد من الخلق‪.‬‬

‫ح ْكمِهِ َأحَدًا } وهذا يشمل الحكم الكوني القدري‪ ،‬والحكم الشرعي الديني‪ ،‬فإنه‬
‫{ وَلَا ُيشْ ِركُ فِي ُ‬
‫الحاكم في خلقه‪ ،‬قضاء وقدرا‪ ،‬وخلقا وتدبيرا‪ ،‬والحاكم فيهم‪ ،‬بأمره ونهيه‪ ،‬وثوابه وعقابه‪.‬‬

‫ولما أخبر أنه تعالى‪ ،‬له غيب السماوات والرض‪ ،‬فليس لمخلوق إليها طريق‪ ،‬إل عن الطريق‬
‫التي يخبر بها عباده‪ ،‬وكان هذا القرآن‪ ،‬قد اشتمل على كثير من الغيوب‪ ،‬أمر تعالى بالقبال عليه‬
‫فقال‪:‬‬

‫حدًا }‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنْ كِتَابِ رَ ّبكَ لَا مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ ِه وَلَنْ َتجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ‬
‫{ ‪ { } 27‬وَا ْتلُ مَا أُو ِ‬

‫التلوة‪ :‬هي التباع‪ ،‬أي‪ :‬اتبع ما أوحى ال إليك بمعرفة معانيه وفهمها‪ ،‬وتصديق أخباره‪ ،‬وامتثال‬
‫أوامره ونواهيه‪ ،‬فإنه الكتاب الجليل‪ ،‬الذي ل مبدل لكلماته‪ ،‬أي‪ :‬ل تغير ول تبدل لصدقها وعدلها‪،‬‬
‫وبلوغها من الحسن فوق كل غاية { وتمت كلمة ربك صدقا وعدل } فلتمامها‪ ،‬استحال عليها‬
‫التغيير والتبديل‪ ،‬فلو كانت ناقصة‪ ،‬لعرض لها ذلك أو شيء منه‪ ،‬وفي هذا تعظيم للقرآن‪ ،‬في‬
‫ضمنه الترغيب على القبال عليه‪.‬‬

‫حدًا } أي‪ :‬لن تجد من دون ربك‪ ،‬ملجأ تلجأ إليه‪ ،‬ول معاذا تعوذ به‪ ،‬فإذا‬
‫{ وَلَنْ َتجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ‬
‫تعين أنه وحده الملجأ في كل المور‪ ،‬تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه‪ ،‬في السراء‬
‫والضراء‪ ،‬المفتقر إليه في جميع الحوال‪ ،‬المسئول في جميع المطالب‪.‬‬

‫جهَهُ وَلَا َت ْعدُ عَيْنَاكَ‬


‫ن وَ ْ‬
‫شيّ يُرِيدُو َ‬
‫سكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫{ ‪ { } 28‬وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫غفَلْنَا قَلْ َبهُ عَنْ ِذكْرِنَا وَاتّبَعَ َهوَا ُه َوكَانَ َأمْ ُرهُ فُ ُرطًا }‬
‫عَ ْنهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَ ْ‬

‫يأمر تعالى نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وغيره أسوته‪ ،‬في الوامر والنواهي ‪-‬أن يصبر‬
‫شيّ } أي‪ :‬أول النهار وآخره‬
‫نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين { الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫يريدون بذلك وجه ال‪ ،‬فوصفهم بالعبادة والخلص فيها‪ ،‬ففيها المر بصحبة الخيار‪ ،‬ومجاهدة‬
‫النفس على صحبتهم‪ ،‬ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد‪ ،‬ما ل يحصى‪.‬‬

‫{ وَلَا َت ْعدُ عَيْنَاكَ عَ ْنهُمْ } أي‪ :‬ل تجاوزهم بصرك‪ ،‬وترفع عنهم نظرك‪.‬‬
‫{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } فإن هذا ضار غير نافع‪ ،‬وقاطع عن المصالح الدينية‪ ،‬فإن ذلك يوجب‬
‫تعلق القلب بالدنيا‪ ،‬فتصير الفكار والهواجس فيها‪ ،‬وتزول من القلب الرغبة في الخرة‪ ،‬فإن زينة‬
‫الدنيا تروق للناظر‪ ،‬وتسحر العقل‪ ،‬فيغفل القلب عن ذكر ال‪ ،‬ويقبل على اللذات والشهوات‪،‬‬
‫فيضيع وقته‪ ،‬وينفرط أمره‪ ،‬فيخسر الخسارة البدية‪ ،‬والندامة السرمدية‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَا ُتطِعْ مَنْ‬
‫غفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ِذكْرِنَا } غفل عن ال‪ ،‬فعاقبه بأن أغفله عن ذكره‪.‬‬
‫أَ ْ‬

‫{ وَاتّبَعَ َهوَاهُ } أي‪ :‬صار تبعا لهواه‪ ،‬حيث ما اشتهت نفسه فعله‪ ،‬وسعى في إدراكه‪ ،‬ولو كان فيه‬
‫هلكه وخسرانه‪ ،‬فهو قد اتخذ إلهه هواه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله ال‬
‫على علم } الية‪َ { .‬وكَانَ َأمْ ُرهُ } أي‪ :‬مصالح دينه ودنياه { فُ ُرطًا } أي‪ :‬ضائعة معطلة‪ .‬فهذا قد‬
‫نهى ال عن طاعته‪ ،‬لن طاعته تدعو إلى القتداء به‪ ،‬ولنه ل يدعو إل لما هو متصف به‪،‬‬
‫ودلت الية‪ ،‬على أن الذي ينبغي أن يطاع‪ ،‬ويكون إماما للناس‪ ،‬من امتل قلبه بمحبة ال‪ ،‬وفاض‬
‫ذلك على لسانه‪ ،‬فلهج بذكر ال‪ ،‬واتبع مراضي ربه‪ ،‬فقدمها على هواه‪ ،‬فحفظ بذلك ما حفظ من‬
‫وقته‪ ،‬وصلحت أحواله‪ ،‬واستقامت أفعاله‪ ،‬ودعا الناس إلى ما من ال به عليه‪ ،‬فحقيق بذلك‪ ،‬أن‬
‫يتبع ويجعل إماما‪ ،‬والصبر المذكور في هذه الية‪ ،‬هو الصبر على طاعة ال‪ ،‬الذي هو أعلى‬
‫أنواع الصبر‪ ،‬وبتمامه تتم باقي القسام‪ .‬وفي الية‪ ،‬استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي‬
‫النهار‪ ،‬لن ال مدحهم بفعله‪ ،‬وكل فعل مدح ال فاعله‪ ،‬دل ذلك على أن ال يحبه‪ ،‬وإذا كان يحبه‬
‫فإنه يأمر به‪ ،‬ويرغب فيه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 29-31‬و ُقلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِنْ َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارًا‬
‫شوِي ا ْلوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَا َءتْ مُرْتَ َفقًا *‬
‫أَحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا وَإِنْ يَسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ‬
‫عدْنٍ‬
‫عمَلًا * أُولَ ِئكَ َل ُهمْ جَنّاتُ َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ إِنّا لَا ُنضِيعُ َأجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ‬
‫إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫خضْرًا مِنْ سُ ْندُسٍ‬
‫تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ ُيحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ َذ َهبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا ُ‬
‫وَإِسْتَبْرَقٍ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ ِن ْعمَ ال ّثوَابُ َوحَسُ َنتْ مُرْ َتفَقًا }‬

‫أي‪ :‬قل للناس يا محمد‪ :‬هو الحق من ربكم أي‪ :‬قد تبين الهدى من الضلل‪ ،‬والرشد من الغي‪،‬‬
‫وصفات أهل السعادة‪ ،‬وصفات أهل الشقاوة‪ ،‬وذلك بما بينه ال على لسان رسوله‪ ،‬فإذا بان‬
‫واتضح‪ ،‬ولم يبق فيه شبهة‪.‬‬

‫ن َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ } أي‪ :‬لم يبق إل سلوك أحد الطريقين‪ ،‬بحسب توفيق العبد‪،‬‬
‫{ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِ ْ‬
‫وعدم توفيقه‪ ،‬وقد أعطاه ال مشيئة بها يقدر على اليمان والكفر‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬فمن آمن فقد‬
‫وفق للصواب‪ ،‬ومن كفر فقد قامت عليه الحجة‪ ،‬وليس بمكره على اليمان‪ ،‬كما قال تعالى { ل‬
‫إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله‪ { :‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }‬
‫الذن في كل المرين‪ ،‬وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام‪ ،‬كما ليس فيها‬
‫ترك قتال الكافرين‪ .‬ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال‪ { :‬إِنّا أَعْ َتدْنَا لِلظّاِلمِينَ } بالكفر والفسوق‬
‫والعصيان { نَارًا َأحَاطَ ِب ِهمْ سُرَا ِد ُقهَا } أي‪ :‬سورها المحيط بها‪ ،‬فليس لهم منفذ ول طريق ول‬
‫مخلص منها‪ ،‬تصلهم النار الحامية‪.‬‬

‫{ وَإِنْ َيسْ َتغِيثُوا } أي‪ :‬يطلبوا الشراب‪ ،‬ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد‪.‬‬

‫{ ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ } أي‪ :‬كالرصاص المذاب‪ ،‬أو كعكر الزيت‪ ،‬من شدة حرارته‪.‬‬

‫شوِي ا ْلوُجُوهَ } أي‪ :‬فكيف بالمعاء والبطون‪ ،‬كما قال تعالى { يصهر به ما في بطونهم‬
‫{ َي ْ‬
‫والجلود ولهم مقامع من حديد }‬

‫{ بِ ْئسَ الشّرَابُ } الذي يراد ليطفئ العطش‪ ،‬ويدفع بعض العذاب‪ ،‬فيكون زيادة في عذابهم‪ ،‬وشدة‬
‫عقابهم‪.‬‬

‫{ وَسَا َءتْ } النار { مُرْ َت َفقًا } وهذا ذم لحالة النار‪ ،‬أنها ساءت المحل‪ ،‬الذي يرتفق به‪ ،‬فإنها ليست‬
‫فيها ارتفاق‪ ،‬وإنما فيها العذاب العظيم الشاق‪ ،‬الذي ل يفتر عنهم ساعة‪ ،‬وهم فيه مبلسون قد أيسوا‬
‫من كل خير‪ ،‬ونسيهم الرحيم في العذاب‪ ،‬كما نسوه‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬جمعوا بين اليمان بال‬


‫ثم ذكر الفريق الثاني فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر والقدر خيره وشره‪ ،‬وعمل الصالحات من الواجبات‬
‫عمَلًا } وإحسان العمل‪ :‬أن يريد العبد العمل لوجه ال‪،‬‬
‫حسَنَ َ‬
‫والمستحبات { إِنّا لَا ُنضِيعُ َأجْرَ مَنْ أَ ْ‬
‫متبعا في ذلك شرع ال‪ .‬فهذا العمل ل يضيعه ال‪ ،‬ول شيئا منه‪ ،‬بل يحفظه للعاملين‪ ،‬ويوفيهم من‬
‫الجر‪ ،‬بحسب عملهم وفضله وإحسانه‪ ،‬وذكر أجرهم بقوله‪ { :‬أُولَ ِئكَ َل ُهمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ‬
‫خضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُ ّتكِئِينَ‬
‫ب وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا ُ‬
‫تَحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِنْ ذَ َه ٍ‬
‫فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ }‬

‫أي‪ :‬أولئك الموصوفون باليمان والعمل الصالح‪ ،‬لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها‪،‬‬
‫فأجنت من فيها‪ ،‬وكثرت أنهارها‪ ،‬فصارت تجري من تحت تلك الشجار النيقة‪ ،‬والمنازل‬
‫الرفيعة‪ ،‬وحليتهم فيها الذهب‪ ،‬ولباسهم فيها الحرير الخضر من السندس‪ ،‬وهو الغليظ من الديباج‪،‬‬
‫والستبرق‪ ،‬وهو ما رق منه‪ .‬متكئين فيها على الرائك‪ ،‬وهي السرر المزينة‪ ،‬المجملة بالثياب‬
‫الفاخرة فإنها ل تسمى أريكة حتى تكون كذلك‪ ،‬وفي اتكائهم على الرائك‪ ،‬ما يدل على كمال‬
‫الراحة‪ ،‬وزوال النصب والتعب‪ ،‬وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون‪ ،‬وتمام ذلك الخلود الدائم‬
‫والقامة البدية‪ ،‬فهذه الدار الجليلة { ِنعْمَ ال ّثوَابُ } للعاملين { َوحَسُ َنتْ مُرْ َتفَقًا } يرتفقون بها‪،‬‬
‫ويتمتعون بما فيها‪ ،‬مما تشتهيه النفس وتلذ العين‪ ،‬من الحبرة والسرور‪ ،‬والفرح الدائم‪ ،‬واللذات‬
‫المتواترة‪ ،‬والنعم المتوافرة‪ ،‬وأي مرتفق أحسن من دار‪ ،‬أدنى أهلها‪ ،‬يسير في ملكه ونعيمه‬
‫وقصوره وبساتينه ألفي سنة‪ ،‬ول يرى فوق ما هو فيه من النعيم‪ ،‬قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه‪،‬‬
‫وزيد من المطالب‪ ،‬ما قصرت عنه الماني‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه‬
‫وحسنه‪ ،‬فنسأل ال الكريم‪ ،‬أن ل يحرمنا خير ما عنده من الحسان‪ ،‬بشر ما عندنا من التقصير‬
‫والعصيان‪.‬‬

‫ودلت الية الكريمة وما أشبهها‪ ،‬على أن الحلية‪ ،‬عامة للذكور والناث‪ ،‬كما ورد في الحاديث‬
‫الصحيحة لنه أطلقها في قوله { يُحَّلوْنَ } وكذلك الحرير ونحوه‪.‬‬

‫جعَلْنَا‬
‫ل وَ َ‬
‫خٍ‬‫ح َففْنَا ُهمَا بِ َن ْ‬
‫ب وَ َ‬
‫جعَلْنَا لَِأحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫{ ‪ { } 32-34‬وَاضْ ِربْ َل ُهمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ َ‬
‫بَيْ َن ُهمَا زَرْعًا * كِلْتَا ا ْلجَنّتَيْنِ آ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا َوفَجّرْنَا خِلَاَل ُهمَا َنهَرًا َوكَانَ لَهُ َثمَرٌ }‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ :‬اضرب للناس مثل هذين الرجلين‪ ،‬الشاكر لنعمة ال‪،‬‬
‫والكافر لها‪ ،‬وما صدر من كل منهما‪ ،‬من القوال والفعال‪ ،‬وما حصل بسبب ذلك من العقاب‬
‫العاجل والجل‪ ،‬والثواب‪ ،‬ليعتبروا بحالهما‪ ،‬ويتعظوا بما حصل عليهما‪ ،‬وليس معرفة أعيان‬
‫الرجلين‪ ،‬وفي أي‪ :‬زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة‪ ،‬فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط‪،‬‬
‫والتعرض لما سوى ذلك من التكلف‪ .‬فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة ال الجليلة‪ ،‬جعل ال له‬
‫جنتين‪ ،‬أي‪ :‬بستانين حسنين‪ ،‬من أعناب‪.‬‬

‫خلٍ } أي‪ :‬في هاتين الجنتين من كل الثمرات‪ ،‬وخصوصا أشرف الشجار‪ ،‬العنب‬
‫حفَفْنَا ُهمَا بِنَ ْ‬
‫{ َو َ‬
‫والنخل‪ ،‬فالعنب في وسطها‪ ،‬والنخل قد حف بذلك‪ ،‬ودار به‪ ،‬فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه‪،‬‬
‫وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح‪ ،‬التي تكمل بها الثمار‪ ،‬وتنضج وتتجوهر‪ ،‬ومع ذلك جعل‬
‫بين تلك الشجار زرعا‪ ،‬فلم يبق عليهما إل أن يقال‪ :‬كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء‬
‫يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كل من الجنتين آتت أكلها‪ ،‬أي‪ :‬ثمرها وزرعها ضعفين‪ ،‬أي‪ :‬متضاعفا‬
‫{ و } أنها { لم َتظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي‪ :‬لم تنقص من أكلها أدنى شيء‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فالنهار في‬
‫جوانبهما سارحة‪ ،‬كثيرة غزيرة‪.‬‬

‫{ َوكَانَ لَهُ } أي‪ :‬لذلك الرجل { َثمَرٌ } أي‪ :‬عظيم كما يفيده التنكير‪ ،‬أي‪ :‬قد استكملت جنتاه‬
‫ثمارهما‪ ،‬وارجحنت أشجارهما‪ ،‬ولم تعرض لهما آفة أو نقص‪ ،‬فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في‬
‫الحرث‪ ،‬ولهذا اغتر هذا الرجل بهما‪ ،‬وتبجح وافتخر‪ ،‬ونسي آخرته‪.‬‬
‫خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَالِمٌ‬
‫{ ‪َ { } 34-36‬فقَالَ ِلصَاحِ ِب ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا * وَ َد َ‬
‫لِ َنفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَنْ تَبِيدَ هَ ِذهِ أَ َبدًا * َومَا أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِنْ رُ ِد ْدتُ ِإلَى رَبّي لََأجِدَنّ خَيْرًا‬
‫مِ ْنهَا مُنْقَلَبًا }‬

‫أي‪ :‬فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن‪ ،‬وهما يتحاوران‪ ،‬أي‪ :‬يتراجعان بينهما في بعض‬
‫الماجريات المعتادة‪ ،‬مفتخرا عليه‪ { :‬أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا } فخر بكثرة ماله‪ ،‬وعزة‬
‫أنصاره من عبيد‪ ،‬وخدم‪ ،‬وأقارب‪ ،‬وهذا جهل منه‪ ،‬وإل فأي‪ :‬افتخار بأمر خارجي ليس فيه‬
‫فضيلة نفسية‪ ،‬ول صفة معنوية‪ ،‬وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالماني‪ ،‬التي ل حقائق تحتها‪ ،‬ثم‬
‫لم يكفه هذا الفتخار على صاحبه‪ ،‬حتى حكم‪ ،‬بجهله وظلمه‪ ،‬وظن لما دخل جنته‪ ،‬فب { قَالَ مَا‬
‫أَظُنّ أَنْ تَبِيدَ } أي‪ :‬تنقطع وتضمحل { هَ ِذهِ أَ َبدًا } فاطمأن إلى هذه الدنيا‪ ،‬ورضى بها‪ ،‬وأنكر‬
‫عةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِنْ رُ ِد ْدتُ إِلَى رَبّي } على ضرب المثل { لََأجِدَنّ خَيْرًا‬
‫البعث‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا َأظُنّ السّا َ‬
‫مِ ْنهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين‪ ،‬وهذا ل يخلو من أمرين‪ :‬إما أن يكون عالما‬
‫بحقيقة الحال‪ ،‬فيكون كلمه هذا على وجه التهكم والستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره‪ ،‬وإما أن‬
‫يكون هذا ظنه في الحقيقة‪ ،‬فيكون من أجهل الناس‪ ،‬وأبخسهم حظا من العقل‪ ،‬فأي‪ :‬تلزم بين‬
‫عطاء الدنيا وعطاء الخرة‪ ،‬حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الخرة‪ ،‬بل‬
‫الغالب‪ ،‬أن ال تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه‪ ،‬ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في‬
‫الخرة نصيب‪ ،‬والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال‪ ،‬ولكنه قال هذا الكلم‪ ،‬على وجه التهكم‬
‫خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَالِمٌ لِ َنفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم‪ ،‬في حال‬
‫والستهزاء‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وَدَ َ‬
‫دخوله‪ ،‬الذي جرى منه‪ ،‬من القول ما جرى‪ ،‬يدل على تمرده وعناده‪.‬‬

‫سوّاكَ‬
‫طفَةٍ ثُمّ َ‬
‫{ ‪ { } 37-39‬قَالَ لَ ُه صَاحِ ُب ُه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ َأ َكفَ ْرتَ بِالّذِي خََل َقكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ ُن ْ‬
‫رَجُلًا * َلكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي وَلَا ُأشْ ِركُ بِرَبّي َأحَدًاوََلوْلَا ِإذْ َدخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا ُق ّوةَ إِلّا‬
‫بِاللّهِ }‬

‫أي‪ :‬قال له صاحبه المؤمن‪ ،‬ناصحا له‪ ،‬ومذكرا له حاله الولى‪ ،‬التي أوجده ال فيها في الدنيا‬
‫سوّاكَ َرجُلًا } فهو الذي أنعم عليك بنعمة اليجاد والمداد‪ ،‬وواصل‬
‫طفَةٍ ُثمّ َ‬
‫{ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ مِنْ نُ ْ‬
‫عليك النعم‪ ،‬ونقلك من طور إلى طور‪ ،‬حتى سواك رجل‪ ،‬كامل العضاء والجوارح المحسوسة‪،‬‬
‫والمعقولة‪ ،‬وبذلك يسر لك السباب‪ ،‬وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا‪ ،‬فلم تحصل لك الدنيا بحولك‬
‫وقوتك‪ ،‬بل بفضل ال تعالى عليك‪ ،‬فكيف يليق بك أن تكفر بال الذي خلقك من تراب‪ ،‬ثم من‬
‫نطفة ثم سواك رجل‪ ،‬وتجحد نعمته‪ ،‬وتزعم أنه ل يبعثك‪ ،‬وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من‬
‫جنتك؟! هذا مما ل ينبغي ول يليق‪ .‬ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره‬
‫وطغيانه‪ ،‬قال مخبرا عن نفسه‪ ،‬على وجه الشكر لربه‪ ،‬والعلن بدينه‪ ،‬عند ورود المجادلت‬
‫حدًا } فأقر بربوبية لربه‪ ،‬وانفراده فيها‪ ،‬والتزم‬
‫والشبه‪َ { :‬لكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي وَلَا أُشْ ِركُ بِرَبّي أَ َ‬
‫طاعته وعبادته‪ ،‬وأنه ل يشرك به أحدا من المخلوقين‪ ،‬ثم أخبره أن نعمة ال عليه باليمان‬
‫والسلم‪ ،‬ولو مع قلة ماله وولد‪ ،‬أنها هي النعمة الحقيقية‪ ،‬وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة‬
‫عليه والنكال‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫سلَ‬
‫ك وَيُرْ ِ‬
‫{ ‪ { } 39-44‬إِنْ تَرَنِ أَنَا َأ َقلّ مِ ْنكَ مَالًا َووَلَدًا * َفعَسَى رَبّي أَنْ ُيؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنّ ِت َ‬
‫غوْرًا فَلَنْ َتسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا *‬
‫صعِيدًا زََلقًا * َأوْ ُيصْبِحَ مَاؤُهَا َ‬
‫سمَاءِ فَ ُتصْبِحَ َ‬
‫حسْبَانًا مِنَ ال ّ‬
‫عَلَ ْيهَا ُ‬
‫شهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ‬
‫وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ َكفّيْهِ عَلَى مَا أَ ْنفَقَ فِيهَا وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫حدًا * وَلَمْ َتكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ َومَا كَانَ مُنْ َتصِرًا * هُنَاِلكَ ا ْلوَلَايَةُ لِلّهِ‬
‫أُشْ ِركْ بِرَبّي أَ َ‬
‫عقْبًا }‬
‫حقّ ُهوَ خَيْرٌ َثوَابًا وَخَيْرٌ ُ‬
‫الْ َ‬

‫أي‪ :‬قال للكافر صاحبه المؤمن‪ :‬أنت ‪-‬وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك‪ ،‬ورأيتني أقل منك‬
‫مال وولدا ‪-‬فإن ما عند ال‪ ،‬خير وأبقى‪ ،‬وما يرجى من خيره وإحسانه‪ ،‬أفضل من جميع الدنيا‪،‬‬
‫التي يتنافس فيها المتنافسون‪.‬‬

‫سلَ عَلَ ْيهَا } أي‪ :‬على جنتك التي طغيت بها وغرتك‬
‫ك وَيُرْ ِ‬
‫{ َفعَسَى رَبّي أَنْ ُيؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنّ ِت َ‬
‫صعِيدًا زََلقًا }‬
‫سمَاءِ } أي‪ :‬عذابا‪ ،‬بمطر عظيم أو غيره‪ { ،‬فَ ُتصْبِحَ } بسبب ذلك { َ‬
‫{ حُسْبَانًا مِنَ ال ّ‬
‫أي‪ :‬قد اقتلعت أشجارها‪ ،‬وتلفت ثمارها‪ ،‬وغرق زرعها‪ ،‬وزال نفعها‪.‬‬

‫غوْرًا } أي‪ :‬غائرا في الرض { فَلَنْ تَسْ َتطِيعَ َلهُ طَلَبًا }‬


‫{ َأوْ ُيصْبِحَ مَاؤُهَا } الذي مادتها منه { َ‬
‫أي‪ :‬غائرا ل يستطاع الوصول إليه بالمعاول ول بغيرها‪ ،‬وإنما دعا على جنته المؤمن‪ ،‬غضبا‬
‫لربه‪ ،‬لكونها غرته وأطغته‪ ،‬واطمأن إليها‪ ،‬لعله ينيب‪ ،‬ويراجع رشده‪ ،‬ويبصر في أمره‪.‬‬

‫فاستجاب ال دعاءه { وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ } أي‪ :‬أصابه عذاب‪ ،‬أحاط به‪ ،‬واستهلكه‪ ،‬فلم يبق منه شيء‪،‬‬
‫والحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره‪ ،‬وثماره‪ ،‬وزرعه‪ ،‬فندم كل الندامة‪ ،‬واشتد لذلك أسفه‪،‬‬
‫علَى مَا أَ ْنفَقَ فِيهَا } أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها‪ ،‬حيث اضمحلت‬
‫{ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ كَفّيْهِ َ‬
‫وتلشت‪ ،‬فلم يبق لها عوض‪ ،‬وندم أيضا على شركه‪ ،‬وشره‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ‬
‫حدًا }‬
‫أُشْ ِركْ بِرَبّي أَ َ‬

‫قال ال تعالى‪ { :‬وَلَمْ َتكُنْ َلهُ فِئَةٌ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ مُنْ َتصِرًا } أي‪ :‬لما نزل العذاب‬
‫بجنته‪ ،‬ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه‪ { :‬أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا } فلم يدفعوا‬
‫عنه من العذاب شيئا‪ ،‬أشد ما كان إليهم حاجة‪ ،‬وما كان بنفس منتصرا‪ ،‬وكيف ينتصر‪ ،‬أي‪ :‬يكون‬
‫له أنصارا على قضاء ال وقدره الذي إذا أمضاه وقدره‪ ،‬لو اجتمع أهل السماء والرض على‬
‫إزالة شيء منه‪ ،‬لم يقدروا؟"‬

‫ول يستبعد من رحمة ال ولطفه‪ ،‬أن صاحب هذه الجنة‪ ،‬التي أحيط بها‪ ،‬تحسنت حاله‪ ،‬ورزقه ال‬
‫النابة إليه‪ ،‬وراجع رشده‪ ،‬وذهب تمرده وطغيانه‪ ،‬بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه‪ ،‬وأن ال‬
‫أذهب عنه ما يطغيه‪ ،‬وعاقبه في الدنيا‪ ،‬وإذا أراد ال بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا‪ .‬وفضل‬
‫ال ل تحيط به الوهام والعقول‪ ،‬ول ينكره إل ظالم جهول‪.‬‬

‫عقْبًا } أي‪ :‬في تلك الحال التي أجرى ال فيها‬


‫حقّ ُهوَ خَيْرٌ َثوَابًا وَخَيْرٌ ُ‬
‫{ هُنَاِلكَ ا ْلوَلَايَةُ لِلّهِ الْ َ‬
‫العقوبة على من طغى‪ ،‬وآثر الحياة الدنيا‪ ،‬والكرامة لمن آمن‪ ،‬وعمل صالحا‪ ،‬وشكر ال‪ ،‬ودعا‬
‫غيره لذلك‪ ،‬تبين وتوضح أن الولية ل الحق‪ ،‬فمن كان مؤمنا به تقيا‪ ،‬كان له وليا‪ ،‬فأكرمه بأنواع‬
‫الكرامات‪ ،‬ودفع عنه الشرور والمثلت‪ ،‬ومن لم يؤمن بربه ويتوله‪ ،‬خسر دينه ودنياه‪ ،‬فثوابه‬
‫الدنيوي والخروي‪ ،‬خير ثواب يرجى ويؤمل‪ ،‬ففي هذه القصة العظيمة‪ ،‬اعتبار بحال الذي أنعم‬
‫ال عليه نعما دنيوية‪ ،‬فألهته عن آخرته وأطغته‪ ،‬وعصى ال فيها‪ ،‬أن مآلها النقطاع‬
‫والضمحلل‪ ،‬وأنه وإن تمتع بها قليل‪ ،‬فإنه يحرمها طويل‪ ،‬وأن العبد ينبغي له ‪-‬إذا أعجبه شيء‬
‫من ماله أو ولده‪ -‬أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها‪ ،‬وأن يقول‪ { :‬ما شاء ال‪ ،‬ل قوة إل بال‬
‫} ليكون شاكرا ل متسببا لبقاء نعمته عليه‪ ،‬لقوله‪ { :‬وََلوْلَا إِذْ دَخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا ُق ّوةَ‬
‫إِلّا بِاللّهِ } وفيها‪ :‬الرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها‪ ،‬بما عند ال من الخير لقوله‪ { :‬إِنْ‬
‫تَرَن أَنَا َأ َقلّ مِ ْنكَ مَالًا َووَلَدًا َفعَسَى رَبّي أَنْ ُيؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنّ ِتكَ } وفيها أن المال والولد ل‬
‫ينفعان‪ ،‬إن لم يعينا على طاعة ال كما قال تعالى‪ { :‬وما أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا‬
‫زلفى إل من آمن وعمل صالحا } وفيه الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره‬
‫وخسرانه‪ ،‬خصوصا إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين‪ ،‬وفخر عليهم‪ ،‬وفيها أن ولية ال‬
‫وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء‪ ،‬ووجد العاملون أجرهم فب { هُنَاِلكَ‬
‫عقْبًا } أي‪ :‬عاقبة ومآل‪.‬‬
‫حقّ ُهوَ خَيْرٌ َثوَابًا وَخَيْرٌ ُ‬
‫ا ْلوَلَايَةُ لِلّهِ الْ َ‬

‫سمَاءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ‬


‫{ ‪ { } 45-46‬وَاضْ ِربْ َل ُهمْ مَ َثلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫ل وَالْبَنُونَ زِي َنةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا‬
‫شيْءٍ ُمقْتَدِرًا *ا ْلمَا ُ‬
‫فََأصْبَحَ هَشِيمًا َتذْرُوهُ الرّيَاحُ َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِ ْندَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ َأمَلًا }‬

‫يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم أصل‪ ،‬ولمن قام بوراثته بعده تبعا‪ :‬اضرب للناس مثل‬
‫الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور‪ ،‬ويعرفوا ظاهرها وباطنها‪ ،‬فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية‪،‬‬
‫ويؤثروا أيهما أولى باليثار‪ .‬وأن مثل هذه الحياة الدنيا‪ ،‬كمثل المطر‪ ،‬ينزل على الرض‪ ،‬فيختلط‬
‫نباتها‪ ،‬تنبت من كل زوج بهيج‪ ،‬فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين‪ ،‬وتفرح المتفرجين‪ ،‬وتأخذ‬
‫بعيون الغافلين‪ ،‬إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح‪ ،‬فذهب ذلك النبات الناضر‪ ،‬والزهر الزاهر‪،‬‬
‫والمنظر البهي‪ ،‬فأصبحت الرض غبراء ترابا‪ ،‬قد انحرف عنها النظر‪ ،‬وصدف عنها البصر‪،‬‬
‫وأوحشت القلب‪ ،‬كذلك هذه الدنيا‪ ،‬بينما صاحبها قد أعجب بشبابه‪ ،‬وفاق فيها على أقرانه وأترابه‪،‬‬
‫وحصل درهمها ودينارها‪ ،‬واقتطف من لذته أزهارها‪ ،‬وخاض في الشهوات في جميع أوقاته‪،‬‬
‫وظن أنه ل يزال فيها سائر أيامه‪ ،‬إذ أصابه الموت أو التلف لماله‪ ،‬فذهب عنه سروره‪ ،‬وزالت‬
‫لذته وحبوره‪ ،‬واستوحش قلبه من اللم وفارق شبابه وقوته وماله‪ ،‬وانفرد بصالح‪ ،‬أو سيئ‬
‫أعماله‪ ،‬هنالك يعض الظالم على يديه‪ ،‬حين يعلم حقيقة ما هو عليه‪ ،‬ويتمنى العود إلى الدنيا‪ ،‬ل‬
‫ليستكمل الشهوات‪ ،‬بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلت‪ ،‬بالتوبة والعمال الصالحات‪ ،‬فالعاقل‬
‫الجازم الموفق‪ ،‬يعرض على نفسه هذه الحالة‪ ،‬ويقول لنفسه‪ :‬قدري أنك قد مت‪ ،‬ول بد أن تموتي‪،‬‬
‫فأي‪ :‬الحالتين تختارين؟ الغترار بزخرف هذه الدار‪ ،‬والتمتع بها كتمتع النعام السارحة‪ ،‬أم‬
‫العمل‪ ،‬لدار أكلها دائم وظلها‪ ،‬وفيها ما تشتهيه النفس وتلذ العين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من‬
‫خذلنه‪ ،‬وربحه من خسرانه‪ ،‬ولهذا أخبر تعالى أن المال والبنين‪ ،‬زينة الحياة الدنيا‪ ،‬أي‪ :‬ليس‬
‫وراء ذلك شيء‪ ،‬وأن الذي يبقى للنسان وينفعه ويسره‪ ،‬الباقيات الصالحات‪ ،‬وهذا يشمل جميع‬
‫الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق ال‪ ،‬وحقوق عباده‪ ،‬من صلة‪ ،‬وزكاة‪ ،‬وصدقة‪ ،‬وحج‪،‬‬
‫وعمرة‪ ،‬وتسبيح‪ ،‬وتحميد‪ ،‬وتهليل‪ ،‬وتكبير‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وطلب علم نافع‪ ،‬وأمر بمعروف‪ ،‬ونهي عن‬
‫منكر‪ ،‬وصلة رحم‪ ،‬وبر والدين‪ ،‬وقيام بحق الزوجات‪ ،‬والمماليك‪ ،‬والبهائم‪ ،‬وجميع وجوه الحسان‬
‫إلى الخلق‪ ،‬كل هذا من الباقيات الصالحات‪ ،‬فهذه خير عند ال ثوابا وخير أمل‪ ،‬فثوابها يبقى‪،‬‬
‫ويتضاعف على الباد‪ ،‬ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة‪ ،‬فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها‬
‫المتنافسون‪ ،‬ويستبق إليها العاملون‪ ،‬ويجد في تحصيلها المجتهدون‪ ،‬وتأمل كيف لما ضرب ال‬
‫مثل الدنيا وحالها واضمحللها ذكر أن الذي فيها نوعان‪ :‬نوع من زينتها‪ ،‬يتمتع به قليل‪ ،‬ثم يزول‬
‫بل فائدة تعود لصاحبه‪ ،‬بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على‬
‫الدوام‪ ،‬وهي الباقيات الصالحات‪.‬‬

‫ل وَتَرَى الْأَ ْرضَ بَارِ َزةً وَحَشَرْنَا ُهمْ فَلَمْ ُنغَادِرْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا *‬
‫{ ‪ { } 47-49‬وَ َيوْمَ نُسَيّرُ ا ْلجِبَا َ‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ َموْعِدًا *‬
‫عمْ ُتمْ أَلّنْ َن ْ‬
‫صفّا َلقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ َبلْ زَ َ‬
‫ك َ‬
‫وَعُ ِرضُوا عَلَى رَ ّب َ‬
‫شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِرُ‬
‫َووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ ُم ْ‬
‫حدًا }‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ‬
‫جدُوا مَا َ‬
‫حصَاهَا َووَ َ‬
‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً إِلّا أَ ْ‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى عن حال يوم القيامة‪ ،‬وما فيه من الهوال المقلقة‪ ،‬والشدائد المزعجة فقال‪ { :‬وَ َيوْمَ‬
‫نُسَيّرُ ا ْلجِبَالَ } أي‪ :‬يزيلها عن أماكنها‪ ،‬يجعلها كثيبا‪ ،‬ثم يجعلها كالعهن المنفوش‪ ،‬ثم تضمحل‬
‫وتتلشى‪ ،‬وتكون هباء منبثا‪ ،‬وتبرز الرض فتصير قاعا صفصفا‪ ،‬ل عوج فيه ول أمتا‪ ،‬ويحشر‬
‫ال جميع الخلق على تلك الرض‪ ،‬فل يغادر منهم أحدا‪ ،‬بل يجمع الولين والخرين‪ ،‬من بطون‬
‫الفلوات‪ ،‬وقعور البحار‪ ،‬ويجمعهم بعدما تفرقوا‪ ،‬ويعيدهم بعد ما تمزقوا‪ ،‬خلقا جديدا‪ ،‬فيعرضون‬
‫عليه صفا ليستعرضهم وينظر في أعمالهم‪ ،‬ويحكم فيهم بحكمه العدل‪ ،‬الذي ل جور فيه ول ظلم‪،‬‬
‫ويقول لهم‪ { :‬لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } أي‪ :‬بل مال‪ ،‬ول أهل‪ ،‬ول عشيرة‪ ،‬ما معهم إل‬
‫العمال‪ ،‬التي عملوها‪ ،‬والمكاسب في الخير والشر‪ ،‬التي كسبوها كما قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا‬
‫ش َفعَا َءكُمُ الّذِينَ‬
‫ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَى َم َعكُمْ ُ‬
‫خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ‬
‫خَلقْنَاكُمْ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُمْ مَا َ‬
‫فُرَادَى َكمَا َ‬
‫عمْتُمْ أَلّنْ‬
‫عمْتُمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَاءُ } وقال هنا‪ ،‬مخاطبا للمنكرين للبعث‪ ،‬وقد شاهدوه عيانا‪َ { :‬بلْ زَ َ‬
‫زَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ َموْعِدًا } أي‪ :‬أنكرتم الجزاء على العمال‪ ،‬ووعد ال ووعيده‪ ،‬فها قد رأيتموه وذقتموه‪،‬‬
‫نَ ْ‬
‫فحينئذ تحضر كتب العمال التي كتبتها الملئكة الكرام فتطير لها القلوب‪ ،‬وتعظم من وقعها‬
‫الكروب‪ ،‬وتكاد لها الصم الصلب تذوب‪ ،‬ويشفق منها المجرمون‪ ،‬فإذا رأوها مسطرة عليهم‬
‫صغِي َر ًة وَلَا‬
‫أعمالهم‪ ،‬محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬قالوا‪ { :‬يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ‬
‫حصَاهَا } أي‪ :‬ل يترك خطيئة صغيرة ول كبيرة‪ ،‬إل وهي مكتوبة فيه‪ ،‬محفوظة لم‬
‫كَبِي َرةً إِلّا َأ ْ‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا } ل يقدرون على‬
‫ينس منها عمل سر ول علنية‪ ،‬ول ليل ول نهار‪َ { ،‬ووَجَدُوا مَا َ‬
‫إنكاره { وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ أَحَدًا } فحينئذ يجازون بها‪ ،‬ويقررون بها‪ ،‬ويخزون‪ ،‬ويحق عليهم العذاب‪،‬‬
‫ذلك بما قدمت أيديهم وأن ال ليس بظلم للعبيد‪ ،‬بل هم غير خارجين عن عدله وفضله‪.‬‬

‫سقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ‬


‫جدُوا إِلّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ َففَ َ‬
‫جدُوا لِآدَمَ فَسَ َ‬
‫{ ‪ { } 50‬وَِإذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ اسْ ُ‬
‫خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ بَدَلًا }‬
‫َأفَتَتّ ِ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬عن عداوة إبليس لدم وذريته‪ ،‬وأن ال أمر الملئكة بالسجود لدم‪ ،‬إكراما وتعظيما‪،‬‬
‫سجُدُ ِلمَنْ‬
‫وامتثال لمر ال‪ ،‬فامتثلوا ذلك { ِإلّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ } وقال‪ { :‬أَأَ ْ‬
‫خََل ْقتَ طِينًا } وقال‪ { :‬أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } فتبين بهذا عداوته ل ولبيكم ولكم‪ ،‬فكيف تتخذونه وذريته‬
‫أي‪ :‬الشياطين { َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ بَدَلًا } أي‪ :‬بئس ما اختاروا لنفسهم‬
‫من ولية الشيطان‪ ،‬الذي ل يأمرهم إل بالفحشاء والمنكر عن ولية الرحمن‪ ،‬الذي كل السعادة‬
‫والفلح والسرور في وليته‪ .‬وفي هذه الية‪ ،‬الحث على اتخاذ الشيطان عدوا‪ ،‬والغراء بذلك‪،‬‬
‫وذكر السبب الموجب لذلك‪ ،‬وأنه ل يفعل ذلك إل ظالم‪ ،‬وأي‪ :‬ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه‬
‫الحقيقي وليا‪ ،‬وترك الولي الحميد؟"‪.‬‬

‫جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ ِإلَى النّو ِر وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ‬


‫قال تعالى‪ { :‬اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْ ِر ُ‬
‫خذُوا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ‬
‫الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ } وقال تعالى‪ { :‬إِ ّن ُهمُ اتّ َ‬
‫دُونِ اللّهِ }‬
‫سهِ ْم َومَا كُ ْنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ‬
‫ض وَلَا خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خلْقَ ال ّ‬
‫ش َهدْ ُتهُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 51-52‬مَا أَ ْ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ َموْبِقًا }‬
‫عوْهُمْ فََلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلهُ ْم وَ َ‬
‫عمْتُمْ فَدَ َ‬
‫عضُدًا * وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُوا شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ زَ َ‬
‫َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬ما أشهدت الشياطين [وهؤلء المضلين]‪ ،‬خلق السماوات والرض ول خلق أنفسهم‬
‫أي‪ :‬ما أحضرتهم ذلك‪ ،‬ول شاورتهم عليه‪ ،‬فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد‬
‫بالخلق والتدبير‪ ،‬والحكمة والتقدير‪ ،‬هو ال‪ ،‬خالق الشياء كلها‪ ،‬المتصرف فيها بحكمته‪ ،‬فكيف‬
‫يجعل له شركاء من الشياطين‪ ،‬يوالون ويطاعون‪ ،‬كما يطاع ال‪ ،‬وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا‪،‬‬
‫عضُدًا } أي‪ :‬معاونين‪ ،‬مظاهرين‬
‫ولم يعاونوا ال تعالى؟! ولهذا قال‪َ { :‬ومَا كُ ْنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ل على شأن من الشئون‪ ،‬أي‪ :‬ما ينبغي ول يليق بال‪ ،‬أن يجعل لهم قسطا من التدبير‪ ،‬لنهم‬
‫ساعون في إضلل الخلق والعداوة لربهم‪ ،‬فاللئق أن يقصيهم ول يدنيهم‪.‬‬

‫ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا‪ ،‬وأبطل هذا الشرك غاية البطال‪ ،‬وحكم بجهل صاحبه‬
‫وسفهه‪ ،‬أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة‪ ،‬وأن ال يقول لهم‪ { :‬نَادُوا شُ َركَا ِئيَ } بزعمكم‬
‫أي‪ :‬على موجب زعمكم الفاسد‪ ،‬وإل فبالحقيقة ليس ل شريك في الرض‪ ،‬ول في السماء‪ ،‬أي‪:‬‬
‫عوْ ُهمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُوا َلهُمْ } لن الحكم والملك يومئذ‬
‫نادوهم‪ ،‬لينفعوكم‪ ،‬ويخلصوكم من الشدائد‪ { ،‬فَدَ َ‬
‫ل‪ ،‬ل أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ول لغيره‪.‬‬

‫جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬بين المشركين وشركائهم { َموْبِقًا } أي‪ ،‬مهلكا‪ ،‬يفرق بينهم وبينهم‪ ،‬ويبعد‬
‫{ َو َ‬
‫بعضهم من بعض‪ ،‬ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم‪ ،‬وكفرهم بهم‪ ،‬وتبريهم منهم‪ ،‬كما قال‬
‫عدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }‬
‫تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَ ْ‬

‫{ ‪ { } 53‬وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّنهُمْ ُموَا ِقعُوهَا وَلَمْ َيجِدُوا عَ ْنهَا َمصْ ِرفًا }‬

‫أي‪ :‬لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل‪ ،‬وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم‪،‬‬
‫وحقت كلمة العذاب على المجرمين‪ ،‬فرأوا جهنم قبل دخولها‪ ،‬فانزعجوا واشتد قلقهم لظنهم أنهم‬
‫مواقعوها‪ ،‬وهذا الظن قال المفسرون‪ :‬إنه بمعنى اليقين‪ ،‬فأيقنوا أنهم داخلوها { وَلَمْ َيجِدُوا عَ ْنهَا‬
‫َمصْ ِرفًا } أي‪ :‬معدل يعدلون إليه‪ ،‬ول شافع لهم من دون إذنه‪ ،‬وفي هذا من التخويف والترهيب‪،‬‬
‫ما ترعد له الفئدة والقلوب‪.‬‬

‫شيْءٍ جَ َدلًا }‬
‫ل َوكَانَ الْإِنْسَانُ َأكْثَرَ َ‬
‫{ ‪ { } 54‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ ُكلّ مَ َث ٍ‬

‫يخبر ال تعالى عن عظمة القرآن‪ ،‬وجللته‪ ،‬وعمومه‪ ،‬وأنه صرف فيه من كل مثل‪ ،‬أي‪ :‬من كل‬
‫طريق موصل إلى العلوم النافعة‪ ،‬والسعادة البدية‪ ،‬وكل طريق يعصم من الشر والهلك‪ ،‬ففيه‬
‫أمثال الحلل والحرام‪ ،‬وجزاء العمال‪ ،‬والترغيب والترهيب‪ ،‬والخبار الصادقة النافعة للقلوب‪،‬‬
‫اعتقادا‪ ،‬وطمأنينة‪ ،‬ونورا‪ ،‬وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالنقياد والطاعة‪ ،‬وعدم‬
‫المنازعة له في أمر من المور‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين‪،‬‬
‫جدَلًا } أي‪:‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫حقّ } ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ الْإِنْسَانُ َأكْثَرَ َ‬
‫حضُوا بِهِ الْ َ‬
‫ويجادلون بالباطل { لِ ُيدْ ِ‬
‫مجادلة ومنازعة فيه‪ ،‬مع أن ذلك‪ ،‬غير لئق بهم‪ ،‬ول عدل منهم‪ ،‬والذي أوجب له ذلك وعدم‬
‫اليمان بال‪ ،‬إنما هو الظلم والعناد‪ ،‬ل لقصور في بيانه وحجته‪ ،‬وبرهانه‪ ،‬وإل فلو جاءهم‬
‫العذاب‪ ،‬وجاءهم ما جاء قبلهم‪ ،‬لم تكن هذه حالهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ ‪َ { } 55‬ومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَاءَ ُهمُ ا ْلهُدَى وَيَسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُهمْ إِلّا أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ َأوْ‬
‫يَأْتِ َيهُمُ ا ْل َعذَابُ قُبُلًا }‬

‫أي‪ :‬ما منع الناس من اليمان‪ ،‬والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق‪ ،‬بين الهدى والضلل‪،‬‬
‫والحق والباطل‪ ،‬قد وصل إليهم‪ ،‬وقامت عليهم حجة ال‪ ،‬فلم يمنعهم عدم البيان‪ ،‬بل منعهم الظلم‬
‫والعدوان‪ ،‬عن اليمان‪ ،‬فلم يبق إل أن تأتيهم سنة ال‪ ،‬وعادته في الولين من أنهم إذا لم يؤمنوا‪،‬‬
‫عوجلوا بالعذاب‪ ،‬أو يرون العذاب قد أقبل عليهم‪ ،‬ورأوه مقابلة ومعاينة‪ ،‬أي‪ :‬فليخافوا من ذلك‪،‬‬
‫وليتوبوا من كفرهم‪ ،‬قبل أن يكون العذاب الذي ل مرد له‪.‬‬

‫حضُوا بِهِ‬
‫طلِ لِ ُيدْ ِ‬
‫ن َومُنْذِرِينَ وَيُجَا ِدلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِالْبَا ِ‬
‫سلُ ا ْلمُ ْرسَلِينَ إِلّا مُبَشّرِي َ‬
‫{ ‪َ { } 56‬ومَا نُرْ ِ‬
‫خذُوا آيَاتِي َومَا أُنْذِرُوا هُ ُزوًا }‬
‫ق وَاتّ َ‬
‫حّ‬‫الْ َ‬

‫أي‪ :‬لم نرسل الرسل عبثا‪ ،‬ول ليتخذهم الناس أربابا‪ ،‬ول ليدعوا إلى أنفسهم‪ ،‬بل أرسلناهم يدعون‬
‫الناس إلى كل خير‪ ،‬وينهون عن كل شر‪ ،‬ويبشرونهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والجل‪،‬‬
‫وينذرونهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والجل‪ ،‬فقامت بذلك حجة ال على العباد‪ ،‬ومع ذلك‬
‫يأبى الظالمون الكافرون‪ ،‬إل المجادلة بالباطل‪ ،‬ليدحضوا به الحق‪ ،‬فسعوا في نصر الباطل مهما‬
‫أمكنهم‪ ،‬وفي دحض الحق وإبطاله‪ ،‬واستهزءوا برسل ال وآياته‪ ،‬وفرحوا بما عندهم من العلم‪،‬‬
‫ويأبى ال إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون‪ ،‬ويظهر الحق على الباطل { بل نقذف بالحق على‬
‫الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } ومن حكمة ال ورحمته‪ ،‬أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق‬
‫بالباطل‪ ،‬من أعظم السباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته‪ ،‬وتبين الباطل وفساده‪،‬‬
‫فبضدها تتبين الشياء‪.‬‬

‫جعَلْنَا عَلَى‬
‫سيَ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ إِنّا َ‬
‫{ ‪َ { } 57-59‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا وَنَ ِ‬
‫عهُمْ إِلَى ا ْل ُهدَى فَلَنْ َيهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَ ّبكَ ا ْل َغفُورُ‬
‫قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َي ْف َقهُو ُه َوفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرًا وَإِنْ َتدْ ُ‬
‫جلَ َلهُمُ ا ْل َعذَابَ َبلْ َل ُهمْ َموْعِدٌ لَنْ َيجِدُوا مِنْ دُونِهِ َموْئِلًا* وَتِ ْلكَ‬
‫خذُهُمْ ِبمَا َكسَبُوا َلعَ ّ‬
‫حمَةِ َلوْ ُيؤَا ِ‬
‫ذُو الرّ ْ‬
‫جعَلْنَا ِل َمهِْل ِكهِمْ َموْعِدًا }‬
‫ا ْلقُرَى َأهَْلكْنَاهُمْ َلمّا ظََلمُوا وَ َ‬

‫يخبر تعالى أنه ل أعظم ظلما‪ ،‬ول أكبر جرما‪ ،‬من عبد ذكر بآيات ال وبين له الحق من الباطل‪،‬‬
‫والهدى من الضلل‪ ،‬وخوف ورهب ورغب‪ ،‬فأعرض عنها‪ ،‬فلم يتذكر بما ذكر به‪ ،‬ولم يرجع‬
‫عما كان عليه‪ ،‬ونسى ما قدمت يداه من الذنوب‪ ،‬ولم يراقب علم الغيوب‪ ،‬فهذا أعظم ظلما من‬
‫المعرض الذي لم تأته آيات ال ولم يذكر بها‪ ،‬وإن كان ظالما‪ ،‬فإنه أخف ظلما من هذا‪ ،‬لكون‬
‫العاصي على بصيرة وعلم‪ ،‬أعظم ممن ليس كذلك‪ ،‬ولكن ال تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن‬
‫آياته‪ ،‬ونسيانه لذنوبه‪ ،‬ورضاه لنفسه‪ ،‬حالة الشر مع علمه بها‪ ،‬أن سد عليه أبواب الهداية بأن‬
‫جعل على قلبه أكنة‪ ،‬أي‪ :‬أغطية محكمة تمنعه أن يفقه اليات وإن سمعتها‪ ،‬فليس في إمكانها الفقه‬
‫الذي يصل إلى القلب‪َ { ،‬وفِي آذَا ِنهِمْ َوقْرًا } أي‪ :‬صمما يمنعهم من وصول اليات‪ ،‬ومن سماعها‬
‫عهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى فَلَنْ َيهْتَدُوا‬
‫على وجه النتفاع وإذا كانوا بهذه الحالة‪ ،‬فليس لهدايتهم سبيل‪ { ،‬وَإِنْ َتدْ ُ‬
‫إِذًا أَبَدًا } لن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما‪ ،‬وأما هؤلء‪ ،‬الذين أبصروا ثم‬
‫عموا‪ ،‬ورأوا طريق الحق فتركوه‪ ،‬وطريق الضلل فسلكوه‪ ،‬وعاقبهم ال بإقفال القلوب والطبع‬
‫عليها‪ ،‬فليس في هدايتهم حيلة ول طريق وفي هذه الية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه‪،‬‬
‫أن يحال بينهم وبينه‪ ،‬ول يتمكن منه بعد ذلك‪ ،‬ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته‪ ،‬وأنه يغفر الذنوب‪ ،‬ويتوب ال على من يتوب‪ ،‬فيتغمده‬
‫برحمته‪ ،‬ويشمله بإحسانه‪ ،‬وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب‪ ،‬لعجل لهم العذاب‪،‬‬
‫ولكنه تعالى حليم ل يعجل بالعقوبة‪ ،‬بل يمهل ول يهمل‪ ،‬والذنوب ل بد من وقوع آثارها‪ ،‬وإن‬
‫تأخرت عنها مدة طويلة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ َبلْ َل ُهمْ َموْعِدٌ لَنْ َيجِدُوا مِنْ دُونِهِ َموْئِلًا } أي‪ :‬لهم موعد‪ ،‬يجازون فيه بأعمالهم‪ ،‬ل بد لهم منه‪،‬‬
‫ول مندوحة لهم عنه‪ ،‬ول ملجأ‪ ،‬ول محيد عنه‪ ،‬وهذه سنته في الولين والخرين‪ ،‬أن ل يعاجلهم‬
‫بالعقاب‪ ،‬بل يستدعيهم إلى التوبة والنابة‪ ،‬فإن تابوا وأنابوا‪ ،‬غفر لهم ورحمهم‪ ،‬وأزال عنهم‬
‫العقاب‪ ،‬وإل‪ ،‬فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم‪ ،‬وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم‪ ،‬أنزل بهم‬
‫جعَلْنَا ِل َمهِْل ِكهِمْ‬
‫بأسه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَتِ ْلكَ ا ْلقُرَى َأهَْلكْنَاهُمْ َلمّا ظََلمُوا } أي‪ :‬بظلمهم‪ ،‬ل بظلم منا { َو َ‬
‫َموْعِدًا } أي‪ :‬وقتا مقدرا‪ ،‬ل يتقدمون عنه ول يتأخرون‪.‬‬
‫حقُبًا * فََلمّا بََلغَا‬
‫ضيَ ُ‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ َأوْ َأ ْم ِ‬
‫{ ‪ { } 60-82‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَ ْ‬
‫غدَاءَنَا َلقَدْ َلقِينَا‬
‫جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا نَسِيَا حُو َت ُهمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبًا * فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ آتِنَا َ‬
‫مَ ْ‬
‫سفَرِنَا هَذَا َنصَبًا * قَالَ أَرَأَ ْيتَ إِذْ َأوَيْنَا إِلَى الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَا أَ ْنسَانِيهُ إِلّا‬
‫مِنْ َ‬
‫صصًا‬
‫الشّ ْيطَانُ أَنْ َأ ْذكُ َرهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْ َتدّا عَلَى آثَارِ ِهمَا َق َ‬
‫حمَةً مِنْ عِ ْندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِ ْلمًا * قَالَ َلهُ مُوسَى َهلْ أَتّ ِب ُعكَ‬
‫* َفوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ َر ْ‬
‫عَلَى أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ ُرشْدًا * قَالَ إِ ّنكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ َم ِعيَ صَبْرًا * َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ عَلَى مَا َلمْ‬
‫عصِي َلكَ َأمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَا‬
‫حطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّ ُه صَابِرًا وَلَا أَ ْ‬
‫تُ ِ‬
‫سفِينَةِ خَ َر َقهَا } إلى قوله‬
‫ح ِدثَ َلكَ مِنْهُ ِذكْرًا * فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا َركِبَا فِي ال ّ‬
‫شيْءٍ حَتّى أُ ْ‬
‫تَسْأَلْنِي عَنْ َ‬
‫سطِعْ عَلَ ْي ِه صَبْرًا ْ}‬
‫‪ { :‬ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا لَمْ تَ ْ‬

‫يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلم‪ ،‬وشدة رغبته في الخير وطلب العلم‪ ،‬أنه قال لفتاه ‪ -‬أي‪:‬‬
‫خادمه الذي يلزمه في حضره وسفره‪ ،‬وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه ال بعد ذلك‪ { -:‬لَا أَبْرَحُ‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ ْ} أي‪ :‬ل أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة‪ ،‬ولحقتني المشقة‪ ،‬حتى‬
‫حَتّى أَبْلُغَ مَ ْ‬
‫أصل إلى مجمع البحرين‪ ،‬وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد ال العالمين‪،‬‬
‫حقُبًا ْ} أي‪ :‬مسافة طويلة‪ ،‬المعنى‪ :‬أن الشوق‬
‫ضيَ ُ‬
‫عنده من العلم‪ ،‬ما ليس عندك‪َ { ،‬أوْ َأ ْم ِ‬
‫والرغبة‪ ،‬حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة‪ ،‬وهذا عزم منه جازم‪ ،‬فلذلك أمضاه‪.‬‬

‫جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا نَسِيَا حُو َت ُهمَا ْ} وكان معهما حوت يتزودان منه‬
‫{ فََلمّا بََلغَا ْ} أي‪ :‬هو وفتاه { َم ْ‬
‫ويأكلن‪ ،‬وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته‪ ،‬فاتخذ ذلك الحوت سبيله‪ ،‬أي‪:‬‬
‫طريقه في البحر سربا وهذا من اليات‪.‬‬

‫قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه‪ ،‬لما وصل إلى ذلك المكان‪ ،‬أصابه بلل‬
‫البحر‪ ،‬فانسرب بإذن ال في البحر‪ ،‬وصار مع حيواناته حيا‪.‬‬

‫سفَرِنَا هَذَا‬
‫فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين‪ ،‬قال موسى لفتاه‪ { :‬آتِنَا غَدَاءَنَا َلقَدْ َلقِينَا مِنْ َ‬
‫َنصَبًا ْ} أي‪ :‬لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط‪ ،‬وإل فالسفر الطويل الذي وصل به إلى مجمع‬
‫البحرين لم يجدا مس التعب فيه‪ ،‬وهذا من اليات والعلمات الدالة لموسى‪ ،‬على وجود مطلبه‪،‬‬
‫وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان‪ ،‬سهل لهما الطريق‪ ،‬فلما تجاوزا غايتهما‬
‫وجدا مس التعب‪ ،‬فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة‪ ،‬قال له فتاه‪ { :‬أَرَأَ ْيتَ إِذْ َأوَيْنَا ِإلَى الصّخْ َرةِ‬
‫فَإِنّي َنسِيتُ الْحُوتَ ْ}‬
‫أي‪ :‬ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه‬
‫إل الشيطان ْ} لنه السبب في ذلك { وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ} أي‪ :‬لما انسرب في البحر‬
‫ودخل فيه‪ ،‬كان ذلك من العجائب‪.‬‬

‫قال المفسرون‪ :‬كان ذلك المسلك للحوت سربا‪ ،‬ولموسى وفتاه عجبا‪ ،‬فلما قال له الفتى هذا القول‪،‬‬
‫وكان عند موسى وعد من ال أنه إذا فقد الحوت‪ ،‬وجد الخضر‪ ،‬فقال موسى‪ { :‬ذَِلكَ مَا كُنّا نَ ْبغِ ْ}‬
‫صصًا ْ} أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان‬
‫أي‪ :‬نطلب { فَارْتَدّا ْ} أي‪ :‬رجعا { عَلَى آثَارِ ِهمَا َق َ‬
‫الذي نسيا فيه الحوت فلما وصل إليه‪ ،‬وجدا عبدا من عبادنا‪ ،‬وهو الخضر‪ ،‬وكان عبدا صالحا‪ ،‬ل‬
‫نبيا على الصحيح‪.‬‬

‫آتيناه [رحمة من عندنا أي‪ :‬أعطاه ال رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَّلمْنَاهُ ْ}]‬
‫ع ْلمًا‪ ،‬وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى‪ ،‬وإن كان موسى‬
‫{ مِنْ َلدُنّا ْ} [أي‪ :‬من عندنا] ِ‬
‫عليه السلم أعلم منه بأكثر الشياء‪ ،‬وخصوصا في العلوم اليمانية‪ ،‬والصولية‪ ،‬لنه من أولي‬
‫العزم من المرسلين‪ ،‬الذين فضلهم ال على سائر الخلق‪ ،‬بالعلم‪ ،‬والعمل‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فلما اجتمع‬
‫به موسى قال له على وجه الدب والمشاورة‪ ،‬والخبار عن مطلبه‪.‬‬

‫شدًا ْ} أي‪ :‬هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك ال‪ ،‬ما‬
‫{ َهلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَى أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُ ْ‬
‫به أسترشد وأهتدي‪ ،‬وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر‪ ،‬قد أعطاه ال من اللهام‬
‫والكرامة‪ ،‬ما به يحصل له الطلع على بواطن كثير من الشياء التي خفيت‪ ،‬حتى على موسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬فقال الخضر لموسى‪ :‬ل أمتنع من ذلك‪ ،‬ولكنك { لَنْ تَسْتَطِيعَ َم ِعيَ صَبْرًا ْ} أي‪ :‬ل‬
‫تقدر على اتباعي وملزمتي‪ ،‬لنك ترى ما ل تقدر على الصبر عليه من المور التي ظاهرها‬
‫المنكر‪ ،‬وباطنها غير ذلك‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ} أي‪ :‬كيف تصبر‬
‫على أمر‪،‬ما أحطت بباطنه وظاهره ول علمت المقصود منه ومآله؟‬

‫عصِي َلكَ َأمْرًا ْ} وهذا عزم منه‪ ،‬قبل أن يوجد‬


‫فقال موسى‪ { :‬سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ صَابِرًا وَلَا أَ ْ‬
‫الشيء الممتحن به‪ ،‬والعزم شيء‪ ،‬ووجود الصبر شيء آخر‪ ،‬فلذلك ما صبر موسى عليه السلم‬
‫حين وقع المر‪.‬‬

‫شيْءٍ حَتّى ُأحْ ِدثَ َلكَ مِنْهُ ِذكْرًا ْ} أي‪ :‬ل‬


‫فحينئذ قال له الخضر‪ { :‬فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَا َتسْأَلْنِي عَنْ َ‬
‫تبتدئني بسؤال منك وإنكار‪ ،‬حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله‪ ،‬في الوقت الذي ينبغي إخبارك به‪،‬‬
‫فنهاه عن سؤاله‪ ،‬ووعده أن يوقفه على حقيقة المر‪.‬‬
‫سفِينَةِ خَ َر َقهَا ْ} أي‪ :‬اقتلع الخضر منها لوحا‪ ،‬وكان له مقصود في‬
‫{ فَا ْنطََلقَا حَتّى إِذَا َركِبَا فِي ال ّ‬
‫ذلك‪ ،‬سيبينه‪ ،‬فلم يصبر موسى عليه السلم‪ ،‬لن ظاهره أنه منكر‪ ،‬لنه عيب للسفينة‪ ،‬وسبب‬
‫لغرق أهلها‪ ،‬ولهذا قال موسى‪ { :‬أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْ ِرقَ أَهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ِإمْرًا ْ} أي‪ :‬عظيما شنيعا‪،‬‬
‫ي صَبْرًا ْ} أي‪:‬‬
‫وهذا من عدم صبره عليه السلم‪ ،‬فقال له الخضر‪ { :‬أََلمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَنْ َتسْتَطِيعَ َم ِع َ‬
‫ت وَلَا تُرْ ِهقْنِي مِنْ‬
‫فوقع كما أخبرتك‪ ،‬وكان هذا من موسى نسيانا فقال‪ { :‬لَا ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا نَسِي ُ‬
‫َأمْرِي عُسْرًا ْ} أي‪ :‬ل تعسر علي المر‪ ،‬واسمح لي‪ ،‬فإن ذلك وقع على وجه النسيان‪ ،‬فل‬
‫تؤاخذني في أول مرة‪ .‬فجمع بين القرار به والعذر منه‪ ،‬وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة‬
‫على صاحبك‪ ،‬فسمح عنه الخضر‪.‬‬

‫{ فَا ْنطََلقَا حَتّى إِذَا َلقِيَا غُلَامًا ْ} أي‪ :‬صغيرا { َفقَتَلَهُ ْ} الخضر‪ ،‬فاشتد بموسى الغضب‪ ،‬وأخذته‬
‫الحمية الدينية‪ ،‬حين قتل غلما صغيرا لم يذنب‪ { .‬قَالَ َأقَتَ ْلتَ َنفْسًا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا‬
‫ُنكْرًا ْ} وأي‪ :‬نكر مثل قتل الصغير‪ ،‬الذي ليس عليه ذنب‪ ،‬ولم يقتل أحد؟! وكانت الولى من‬
‫موسى نسيانا‪ ،‬وهذه غير نسيان‪ ،‬ولكن عدم صبر‪ ،‬فقال له الخضر معاتبا ومذكرا‪ { :‬أَلَمْ َأ ُقلْ َلكَ‬
‫ي صَبْرًا ْ}‬
‫إِ ّنكَ لَنْ تَسْ َتطِيعَ َم ِع َ‬

‫شيْءٍ ْ} بعد هذه المرة { فَلَا ُتصَاحِبْنِي ْ} أي‪ :‬فأنت معذور بذلك‪،‬‬
‫فقال [له] موسى‪ { :‬إِنْ سَأَلْ ُتكَ عَنْ َ‬
‫عذْرًا ْ} أي‪ :‬أعذرت مني‪ ،‬ولم تقصر‪.‬‬
‫وبترك صحبتي { قَدْ بََل ْغتَ مِنْ َلدُنّي ُ‬

‫ط َعمَا أَهَْلهَا ْ} أي‪ :‬استضافاهم‪ ،‬فلم يضيفوهما { َفوَجَدَا فِيهَا‬


‫{ فَا ْنطََلقَا حَتّى إِذَا أَتَيَا أَ ْهلَ قَرْيَةٍ اسْتَ ْ‬
‫جدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَ ْن َقضّ ْ} أي‪ :‬قد عاب واستهدم { فََأقَامَهُ ْ} الخضر أي‪ :‬بناه وأعاده جديدا‪ .‬فقال له‬
‫ِ‬
‫خ ْذتَ عَلَيْهِ َأجْرًا ْ} أي‪ :‬أهل هذه القرية‪ ،‬لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم‪،‬‬
‫موسى‪َ { :‬لوْ شِ ْئتَ لَاتّ َ‬
‫وأنت تبنيه من دون أجرة‪ ،‬وأنت تقدر عليها؟‪ .‬فحينئذ لم يف موسى عليه السلم بما قال‪ ،‬واستعذر‬
‫الخضر منه‪ ،‬فقال له‪ { :‬هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ ْ} فإنك شرطت ذلك على نفسك‪ ،‬فلم يبق الن عذر‪،‬‬
‫ول موضع للصحبة‪ { ،‬سَأُنَبّ ُئكَ بِتَ ْأوِيلِ مَا َلمْ تَسْ َتطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ} أي‪ :‬سأخبرك بما أنكرت عليّ‪،‬‬
‫وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب‪ ،‬وما يئول إليه المر‪.‬‬

‫سفِينَةُ ْ} التي خرقتها { َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} يقتضي ذلك الرقة عليهم‪،‬‬
‫{ َأمّا ال ّ‬
‫غصْبًا ْ} أي‪ :‬كان مرورهم‬
‫سفِينَةٍ َ‬
‫خذُ ُكلّ َ‬
‫ن وَرَاءَ ُهمْ مَِلكٌ يَأْ ُ‬
‫والرأفة بهم‪ { .‬فَأَرَ ْدتُ أَنْ أَعِي َبهَا َوكَا َ‬
‫على ذلك الملك الظالم‪ ،‬فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما‪ ،‬فأردت‬
‫أن أخرقها ليكون فيها عيب‪ ،‬فتسلم من ذلك الظالم‪.‬‬

‫طغْيَانًا َو ُكفْرًا ْ} وكان ذلك‬


‫{ وََأمّا ا ْلغُلَامُ ْ} الذي قتلته { َفكَانَ أَ َبوَاهُ ُمؤْمِنَيْنِ َفخَشِينَا أَنْ يُ ْر ِهقَ ُهمَا ُ‬
‫الغلم قد قدر عليه أنه لو بلغ لرهق أبويه طغيانا وكفرا‪ ،‬أي‪ :‬لحملهما على الطغيان والكفر‪ ،‬إما‬
‫لجل محبتهما إياه‪ ،‬أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك‪ ،‬أي‪ :‬فقتلته‪ ،‬لطلعي على ذلك‪ ،‬سلمة‬
‫لدين أبويه المؤمنين‪ ،‬وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟" وهو وإن كان فيه إساءة إليهما‪،‬‬
‫وقطع لذريتهما‪ ،‬فإن ال تعالى سيعطيهما من الذرية‪ ،‬ما هو خير منه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَأَ َردْنَا أَنْ‬
‫حمًا ْ} أي‪ :‬ولدا صالحا‪ ،‬زكيا‪ ،‬واصل لرحمه‪ ،‬فإن الغلم‬
‫يُبْدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرًا مِنْهُ َزكَا ًة وََأقْ َربَ ُر ْ‬
‫الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان‪.‬‬

‫{ وََأمّا ا ْلجِدَارُ ْ} الذي أقمته { َفكَانَ ِلغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِي َن ِة َوكَانَ َتحْتَهُ كَنْزٌ َل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا‬
‫صَالِحًا ْ} أي‪ :‬حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما‪ ،‬لكونهما صغيرين عدما أباهما‪ ،‬وحفظهما ال‬
‫أيضا بصلح والدهما‪.‬‬

‫{ فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَنْ يَبُْلغَا َأشُدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنْ َز ُهمَا ْ} أي‪ :‬فلهذا هدمت الجدار‪ ،‬واستخرجت ما تحته‬
‫من كنزهما‪ ،‬وأعدته مجانا‪.‬‬

‫حمَةً مِنْ رَ ّبكَ ْ} أي‪ :‬هذا الذي فعلته رحمة من ال‪ ،‬آتاها ال عبده الخضر { َومَا َفعَلْتُهُ عَنْ‬
‫{ َر ْ‬
‫َأمْرِي ْ} أي‪ :‬أتيت شيئا من قبل نفسي‪ ،‬ومجرد إرادتي‪ ،‬وإنما ذلك من رحمة ال وأمره‪.‬‬

‫طعْ عَلَيْ ِه صَبْرًا ْ} وفي هذه القصة العجيبة الجليلة‪ ،‬من‬


‫{ ذَِلكَ ْ} الذي فسرته لك { تَ ْأوِيلُ مَا لَمْ َتسْ ِ‬
‫الفوائد والحكام والقواعد شيء كثير‪ ،‬ننبه على بعضه بعون ال‪ .‬فمنها فضيلة العلم‪ ،‬والرحلة في‬
‫طلبه‪ ،‬وأنه أهم المور‪ ،‬فإن موسى عليه السلم رحل مسافة طويلة‪ ،‬ولقي النصب في طلبه‪،‬‬
‫وترك القعود عند بني إسرائيل‪ ،‬لتعليمهم وإرشادهم‪ ،‬واختار السفر لزيادة العلم على ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬البداءة بالهم فالهم‪ ،‬فإن زيادة العلم وعلم النسان أهم من ترك ذلك‪ ،‬والشتغال بالتعليم‬
‫من دون تزود من العلم‪ ،‬والجمع بين المرين أكمل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن‪ ،‬وطلب الراحة‪ ،‬كما فعل موسى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه‪ ،‬إذا اقتضت المصلحة الخبار بمطلبه‪ ،‬وأين‬
‫يريده‪ ،‬فإنه أكمل من كتمه‪ ،‬فإن في إظهاره فوائد من الستعداد له عدته‪ ،‬وإتيان المر على‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ‬
‫بصيرة‪ ،‬وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة‪ ،‬كما قال موسى‪ { :‬لَا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَ ْ‬
‫حقُبًا ْ}‬
‫َأوْ َأ ْمضِيَ ُ‬

‫وكما أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه‪ ،‬مع أن عادته التورية‪،‬‬
‫وذلك تبع للمصلحة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان‪ ،‬على وجه التسويل والتزيين‪ ،‬وإن كان الكل بقضاء ال‬
‫وقدره‪ ،‬لقول فتى موسى‪َ { :‬ومَا أَنْسَانِيهُ إِلّا الشّيْطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َرهُ ْ}‬

‫ومنها‪ :‬جواز إخبار النسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس‪ ،‬من نصب أو جوع‪ ،‬أو عطش‪ ،‬إذا‬
‫سفَرِنَا َهذَا َنصَبًا ْ}‬
‫لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا‪ ،‬لقول موسى‪َ { :‬لقَدْ َلقِينَا مِنْ َ‬

‫ومنها‪ :‬استحباب كون خادم النسان‪ ،‬ذكيا فطنا كيسا‪ ،‬ليتم له أمره الذي يريده‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬استحباب إطعام النسان خادمه من مأكله‪ ،‬وأكلهما جميعا‪ ،‬لن ظاهر قوله‪ { :‬آتِنَا غَدَاءَنَا ْ}‬
‫إضافة إلى الجميع‪ ،‬أنه أكل هو وهو جميعا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به‪ ،‬وأن الموافق لمر ال‪ ،‬يعان ما‬
‫سفَرِنَا هَذَا َنصَبًا ْ} والشارة إلى السفر المجاوز‪ ،‬لمجمع‬
‫ل يعان غيره لقوله‪َ { :‬لقَدْ َلقِينَا مِنْ َ‬
‫البحرين‪ ،‬وأما الول‪ ،‬فلم يشتك منه التعب‪ ،‬مع طوله‪ ،‬لنه هو السفرعلى الحقيقة‪ .‬وأما الخير‪،‬‬
‫فالظاهر أنه بعض يوم‪ ،‬لنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة‪ ،‬فالظاهر أنهم باتوا عندها‪ ،‬ثم‬
‫ساروا من الغد‪ ،‬حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ} فحينئذ تذكر أنه نسيه‬
‫في الموضع الذي إليه منتهى قصده‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ذلك العبد الذي لقياه‪ ،‬ليس نبيا‪ ،‬بل عبدا صالحا‪ ،‬لنه وصفه بالعبودية‪ ،‬وذكر منة ال‬
‫عليه بالرحمة والعلم‪ ،‬ولم يذكر رسالته ول نبوته‪ ،‬ولو كان نبيا‪ ،‬لذكر ذلك كما ذكره غيره‪.‬‬

‫وأما قوله في آخر القصة‪َ { :‬ومَا َفعَلُْتهُ عَنْ َأمْرِي ْ} فإنه ل يدل على أنه نبي وإنما يدل على‬
‫ضعِيهِ ْ} {‬
‫اللهام والتحديث‪ ،‬كما يكون لغير النبياء‪ ،‬كما قال تعالى { وََأوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَ ْر ِ‬
‫حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا ْ}‬
‫وََأوْحَى رَ ّبكَ ِإلَى النّ ْ‬

‫ومنها‪ :‬أن العلم الذي يعلمه ال [لعباده] نوعان‪:‬‬

‫علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده‪ .‬ونوع علم لدني‪ ،‬يهبه ال لمن يمن عليه من عباده لقوله‬
‫{ وَعَّلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِ ْلمًا ْ}‬

‫ومنها‪ :‬التأدب مع المعلم‪ ،‬وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب‪ ،‬لقول موسى عليه السلم‪:‬‬

‫شدًا ْ} فأخرج الكلم بصورة الملطفة والمشاورة‪ ،‬وأنك‬


‫{ َهلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَى أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُ ْ‬
‫هل تأذن لي في ذلك أم ل‪ ،‬وإقراره بأنه يتعلم منه‪ ،‬بخلف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر‪ ،‬الذي ل‬
‫يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه‪ ،‬بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه‪ ،‬بل ربما ظن أنه يعلم معلمه‪ ،‬وهو‬
‫جاهل جدا‪ ،‬فالذل للمعلم‪ ،‬وإظهار الحاجة إلى تعليمه‪ ،‬من أنفع شيء للمتعلم‪.‬‬

‫ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه‪ ،‬فإن موسى ‪-‬بل شك‪ -‬أفضل من الخضر‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه‪ ،‬ممن مهر فيه‪ ،‬وإن كان دونه في العلم‬
‫بدرجات كثيرة‪.‬‬

‫فإن موسى عليه السلم من أولي العزم من المرسلين‪ ،‬الذين منحهم ال وأعطاهم من العلم ما لم‬
‫يعط سواهم‪ ،‬ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر‪ ،‬ما ليس عنده‪ ،‬فلهذا حرص على التعلم‬
‫منه‪.‬‬

‫فعلى هذا‪ ،‬ل ينبغي للفقيه المحدث‪ ،‬إذا كان قاصرا في علم النحو‪ ،‬أو الصرف‪ ،‬أو نحوه من‬
‫العلوم‪ ،‬أن ل يتعلمه ممن مهر فيه‪ ،‬وإن لم يكن محدثا ول فقيها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬إضافة العلم وغيره من الفضائل ل تعالى‪ ،‬والقرار بذلك‪ ،‬وشكر ال عليها لقوله‪ُ { :‬تعَّلمَنِ‬
‫ِممّا عُّل ْمتَ ْ} أي‪ :‬مما علمك ال تعالى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العلم النافع‪ ،‬هو العلم المرشد إلى الخير‪ ،‬فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق‬
‫الخير‪ ،‬وتحذير عن طريق الشر‪ ،‬أو وسيلة لذلك‪ ،‬فإنه من العلم النافع‪ ،‬وما سوى ذلك‪ ،‬فإما أن‬
‫يكون ضارا‪ ،‬أو ليس فيه فائدة لقوله‪ { :‬أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُشْدًا ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم‪ ،‬وحسن الثبات على ذلك‪ ،‬أنه يفوته‬
‫بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن ل صبر له ل يدرك العلم‪ ،‬ومن استعمل الصبر ولزمه‪،‬‬
‫أدرك به كل أمر سعى فيه‪ ،‬لقول الخضر ‪-‬يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الخذ عنه‪-‬‬
‫إنه ل يصبر معه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن السبب الكبير لحصول الصبر‪ ،‬إحاطة النسان علما وخبرة‪ ،‬بذلك المر‪ ،‬الذي أمر‬
‫بالصبر عليه‪ ،‬وإل فالذي ل يدريه‪ ،‬أو ل يدري غايته ول نتيجته‪ ،‬ول فائدته وثمرته ليس عنده‬
‫حطْ بِهِ خُبْرًا ْ} فجعل الموجب لعدم صبره‪ ،‬وعدم‬
‫علَى مَا َلمْ تُ ِ‬
‫سبب الصبر لقوله‪َ { :‬وكَ ْيفَ َتصْبِرُ َ‬
‫إحاطته خبرا بالمر‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬المر بالتأني والتثبت‪ ،‬وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء‪ ،‬حتى يعرف ما يراد منه وما‬
‫هو المقصود‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تعليق المور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة‪ ،‬وأن ل يقول النسان للشيء‪ :‬إني‬
‫فاعل ذلك في المستقبل‪ ،‬إل أن يقول { إِنْ شَاءَ اللّهُ ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أن العزم على فعل الشيء‪ ،‬ليس بمنزلة فعله‪ ،‬فإن موسى قال‪ { :‬سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ‬
‫صَابِرًا ْ} فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك البتداء في السؤال عن بعض‬
‫الشياء‪ ،‬حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها‪ ،‬فإن المصلحة تتبع‪ ،‬كما إذا كان فهمه قاصرا‪ ،‬أو‬
‫نهاه عن الدقيق في سؤال الشياء التي غيرها أهم منها‪ ،‬أو ل يدركها ذهنه‪ ،‬أو يسأل سؤال‪ ،‬ل‬
‫يتعلق في موضع البحث‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز ركوب البحر‪ ،‬في غير الحالة التي يخاف منها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ل في حق ال‪ ،‬ول في حقوق العباد لقوله‪ { :‬لَا ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا‬
‫نَسِيتُ ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للنسان أن يأخذ من أخلق الناس ومعاملتهم‪ ،‬العفو منها‪ ،‬وما سمحت به‬
‫أنفسهم‪ ،‬ول ينبغي له أن يكلفهم ما ل يطيقون‪ ،‬أو يشق عليهم ويرهقهم‪ ،‬فإن هذا مدعاة إلى النفور‬
‫منه والسآمة‪ ،‬بل يأخذ المتيسر ليتيسر له المر‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المور تجري أحكامها على ظاهرها‪ ،‬وتعلق بها الحكام الدنيوية‪ ،‬في الموال‪ ،‬والدماء‬
‫وغيرها‪ ،‬فإن موسى عليه السلم‪ ،‬أنكر على الخضر خرقه السفينة‪ ،‬وقتل الغلم‪ ،‬وأن هذه المور‬
‫ظاهرها‪ ،‬أنها من المنكر‪ ،‬وموسى عليه السلم ل يسعه السكوت عنها‪ ،‬في غير هذه الحال‪ ،‬التي‬
‫صحب عليها الخضر‪ ،‬فاستعجل عليه السلم‪ ،‬وبادر إلى الحكم في حالتها العامة‪ ،‬ولم يلتفت إلى‬
‫هذا العارض‪ ،‬الذي يوجب عليه الصبر‪ ،‬وعدم المبادرة إلى النكار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر‬
‫المصلحتين‪ ،‬بتفويت أدناهما‪ ،‬فإن قتل الغلم شر‪ ،‬ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما‪ ،‬أعظم‬
‫شرا منه‪ ،‬وبقاء الغلم من دون قتل وعصمته‪ ،‬وإن كان يظن أنه خير‪ ،‬فالخير ببقاء دين أبويه‪،‬‬
‫وإيمانهما خير من ذلك‪ ،‬فلذلك قتله الخضر‪ ،‬وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد‪ ،‬ما ل يدخل‬
‫تحت الحصر‪ ،‬فتزاحم المصالح والمفاسد كلها‪ ،‬داخل في هذا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل النسان في مال غيره‪ ،‬إذا كان على وجه المصلحة‬
‫وإزالة المفسدة‪ ،‬أنه يجوز‪ ،‬ولو بل إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلف بعض مال الغير " كما‬
‫خرق الخضر السفينة لتعيب‪ ،‬فتسلم من غصب الملك الظالم‪ .‬فعلى هذا لو وقع حرق‪ ،‬أو غرق‪،‬‬
‫أو نحوهما‪ ،‬في دار إنسان أو ماله‪ ،‬وكان إتلف بعض المال‪ ،‬أو هدم بعض الدار‪ ،‬فيه سلمة‬
‫للباقي‪ ،‬جاز للنسان بل شرع له ذلك‪ ،‬حفظا لمال الغير‪ ،‬وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير‪،‬‬
‫ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز‪ ،‬ولو من غير إذن‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العمل يجوز في البحر‪ ،‬كما يجوز في البر لقوله‪َ { :‬ي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} ولم ينكر عليهم‬
‫عملهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المسكين قد يكون له مال ل يبلغ كفايته‪ ،‬ول يخرج بذلك عن اسم المسكنة‪ ،‬لن ال‬
‫أخبر أن هؤلء المساكين‪ ،‬لهم سفينة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلم { َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ُنكْرًا ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { ِبغَيْرِ َنفْسٍ ْ}‬

‫ومنها‪ :‬أن العبد الصالح يحفظه ال في نفسه‪ ،‬وفي ذريته‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن خدمة الصالحين‪ ،‬أو من يتعلق بهم‪ ،‬أفضل من غيرها‪ ،‬لنه علل استخراج كنزهما‪،‬‬
‫وإقامة جدارهما‪ ،‬أن أباهما صالح‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬استعمال الدب مع ال تعالى في اللفاظ‪ ،‬فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله‬
‫شدّ ُهمَا‬
‫{ فَأَ َر ْدتُ أَنْ أَعِي َبهَا ْ} وأما الخير‪ ،‬فأضافه إلى ال تعالى لقوله‪ { :‬فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَنْ يَبُْلغَا أَ ُ‬
‫شفِينِ ْ}‬
‫ح َمةً مِنْ رَ ّبكَ ْ} كما قال إبراهيم عليه السلم { وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ‬
‫وَيَسْتَخْ ِرجَا كَنْزَ ُهمَا رَ ْ‬
‫شدًا ْ} مع أن الكل‬
‫وقالت الجن‪ { :‬وَأَنّا لَا َندْرِي أَشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِب ِهمْ رَ ّبهُمْ رَ َ‬
‫بقضاء ال وقدره‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للصاحب أن ل يفارق صاحبه في حالة من الحوال‪ ،‬ويترك صحبته‪ ،‬حتى‬
‫يعتبه‪ ،‬ويعذر منه‪ ،‬كما فعل الخضر مع موسى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن موافقة الصاحب لصاحبه‪ ،‬في غير المور المحذورة‪ ،‬مدعاة وسبب لبقاء الصحبة‬
‫وتأكدها‪ ،‬كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها ال وجعلها على يد هذا العبد‬
‫الصالح‪ ،‬ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته‪ ،‬وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا‪،‬‬
‫وهي صلح دينه‪ ،‬كما في قضية الغلم‪ ،‬أو وهي صلح دنياه كما في قضية السفينة‪ ،‬فأراهم‬
‫نموذجا من لطفه وكرمه‪ ،‬ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 83-88‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنْ ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُو عَلَ ْي ُكمْ مِنْهُ ِذكْرًا * إِنّا َمكّنّا لَهُ فِي الْأَ ْرضِ‬
‫حمِئَةٍ‬
‫جدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ‬
‫س وَ َ‬
‫شمْ ِ‬
‫شيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتّى إِذَا بَلَغَ َمغْ ِربَ ال ّ‬
‫وَآتَيْنَاهُ مِنْ ُكلّ َ‬
‫خذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ َأمّا مَنْ ظَلَمَ‬
‫ب وَِإمّا أَنْ تَتّ ِ‬
‫َووَجَدَ عِ ْندَهَا َق ْومًا قُلْنَا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّا أَنْ ُتعَ ّذ َ‬
‫ل صَالِحًا فََلهُ جَزَاءً ا ْلحُسْنَى‬
‫ع ِم َ‬
‫ن وَ َ‬
‫عذَابًا ُنكْرًا * وََأمّا مَنْ آمَ َ‬
‫س ْوفَ ُن َعذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ إِلَى رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ‬
‫فَ َ‬
‫وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا ُيسْرًا ْ}‬

‫كان أهل الكتاب أو المشركون‪ ،‬سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قصة ذي القرنين‪،‬‬
‫فأمره ال أن يقول‪ { :‬سَأَتْلُو عَلَ ْيكُمْ مِنْهُ ِذكْرًا ْ} فيه نبأ مفيد‪ ،‬وخطاب عجيب‪.‬‬

‫أي‪ :‬سأتلوا عليكم من أحواله‪ ،‬ما يتذكر فيه‪ ،‬ويكون عبرة‪ ،‬وأما ما سوى ذلك من أحواله‪ ،‬فلم يتله‬
‫عليهم‪.‬‬

‫{ إِنّا َمكّنّا َلهُ فِي الْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬ملكه ال تعالى‪ ،‬ومكنه من النفوذ في أقطار الرض‪ ،‬وانقيادهم له‪.‬‬
‫شيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ} أي‪ :‬أعطاه ال من السباب الموصلة له لما وصل إليه‪،‬‬
‫{ وَآتَيْنَاهُ مِنْ ُكلّ َ‬
‫ما به يستعين على قهر البلدان‪ ،‬وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران‪ ،‬وعمل بتلك السباب التي‬
‫أعطاه ال إياها‪ ،‬أي‪ :‬استعملها على وجهها‪ ،‬فليس كل من عنده شيء من السباب يسلكه‪ ،‬ول كل‬
‫أحد يكون قادرا على السبب‪ ،‬فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به‪ ،‬حصل المقصود‪،‬‬
‫وإن عدما أو أحدهما لم يحصل‪.‬‬

‫وهذه السباب التي أعطاه ال إياها‪ ،‬لم يخبرنا ال ول رسوله بها‪ ،‬ولم تتناقلها الخبار على وجه‬
‫يفيد العلم‪ ،‬فلهذا‪ ،‬ل يسعنا غير السكوت عنها‪ ،‬وعدم اللتفات لما يذكره النقلة للسرائيليات‬
‫ونحوها‪ ،‬ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة‪ ،‬داخلية وخارجية‪ ،‬بها صار له جند عظيم‪،‬‬
‫ذو عدد وعدد ونظام‪ ،‬وبه تمكن من قهر العداء‪ ،‬ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الرض‬
‫ومغاربها‪ ،‬وأنحائها‪ ،‬فأعطاه ال‪ ،‬ما بلغ به مغرب الشمس‪ ،‬حتى رأى الشمس في مرأى العين‪،‬‬
‫كأنها تغرب في عين حمئة‪ ،‬أي‪ :‬سوداء‪ ،‬وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي‬
‫ماء‪ ،‬رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الرتفاع‪ ،‬ووجد عندها‪ ،‬أي‪ :‬عند مغربها‬
‫ب وَِإمّا أَنْ تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ} أي‪ :‬إما أن تعذبهم بقتل‪ ،‬أو‬
‫قوما‪ { .‬قُلْنَا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّا أَنْ ُتعَ ّذ َ‬
‫ضرب‪ ،‬أو أسر ونحوه‪ ،‬وإما أن تحسن إليهم‪ ،‬فخير بين المرين‪ ،‬لن الظاهر أنهم كفار أو فساق‪،‬‬
‫أو فيهم شيء من ذلك‪ ،‬لنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق‪ ،‬لم يرخص في تعذيبهم‪ ،‬فكان عند ذي‬
‫القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء‪ ،‬لتوفيق ال له لذلك‪ ،‬فقال‪ :‬سأجعلهم‬
‫عذَابًا ُنكْرًا ْ} أي‪ :‬تحصل له‬
‫س ْوفَ ُن َعذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ ِإلَى رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ‬
‫قسمين‪َ { :‬أمّا مَنْ ظَلَمَ ْ} بالكفر { فَ َ‬
‫العقوبتان‪ ،‬عقوبة الدنيا‪ ،‬وعقوبة الخرة‪.‬‬

‫ل صَالِحًا فََلهُ جَزَاءً ا ْلحُسْنَى ْ} أي‪ :‬فله الجنة والحالة الحسنة عند ال جزاء‬
‫ع ِم َ‬
‫ن وَ َ‬
‫{ وََأمّا مَنْ آمَ َ‬
‫يوم القيامة‪ { ،‬وَسَ َنقُولُ َلهُ مِنْ َأمْرِنَا يُسْرًا ْ} أي‪ :‬وسنحسن إليه‪ ،‬ونلطف له بالقول‪ ،‬ونيسر له‬
‫المعاملة‪ ،‬وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الولياء‪ ،‬العادلين العالمين‪ ،‬حيث وافق‬
‫مرضاة ال في معاملة كل أحد‪ ،‬بما يليق بحاله‪.‬‬

‫ج َعلْ َلهُمْ مِنْ‬


‫س وَجَ َدهَا تَطُْلعُ عَلَى َقوْمٍ لَمْ َن ْ‬
‫شمْ ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 89-98‬ثُمّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتّى ِإذَا بَلَغَ َمطْلِعَ ال ّ‬
‫ن وَجَدَ مِنْ‬
‫ك َوقَدْ َأحَطْنَا ِبمَا َلدَيْهِ خُبْرًا * ُثمّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتّى ِإذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْ ِ‬
‫دُو ِنهَا سِتْرًا * كَذَِل َ‬
‫دُو ِن ِهمَا َق ْومًا لَا َيكَادُونَ َيفْ َقهُونَ َقوْلًا * قَالُوا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَ ْأجُوجَ َومَأْجُوجَ ُمفْسِدُونَ فِي الْأَ ْرضِ‬
‫ج َعلَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ سَدّا * قَالَ مَا َمكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي ِبقُ ّوةٍ‬
‫ج َعلُ َلكَ خَ ْرجًا عَلَى أَنْ تَ ْ‬
‫َف َهلْ َن ْ‬
‫ج َعلْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ َر ْدمًا * آتُونِي زُبَرَ ا ْلحَدِيدِ حَتّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ قَالَ ا ْنفُخُوا حَتّى ِإذَا‬
‫أَ ْ‬
‫ظهَرُو ُه َومَا اسْتَطَاعُوا َلهُ َنقْبًا * قَالَ‬
‫جعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَ ْيهِ قِطْرًا * َفمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَ ْ‬
‫َ‬
‫حقّا ْ}‬
‫ن وَعْدُ رَبّي َ‬
‫جعََلهُ َدكّا َء َوكَا َ‬
‫حمَةٌ مِنْ رَبّي فَِإذَا جَا َء وَعْدُ رَبّي َ‬
‫هَذَا رَ ْ‬

‫أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا‪ ،‬قاصدا مطلعها‪ ،‬متبعا للسباب‪ ،‬التي أعطاه ال‪،‬‬
‫ج َعلْ َلهُمْ مِنْ دُو ِنهَا سِتْرًا ْ} أي‪ :‬وجدها‬
‫فوصل إلى مطلع الشمس فب { وَجَ َدهَا تَطُْلعُ عَلَى َقوْمٍ لَمْ َن ْ‬
‫تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس‪ ،‬إما لعدم استعدادهم في المساكن‪ ،‬وذلك لزيادة همجيتهم‬
‫وتوحشهم‪ ،‬وعدم تمدنهم‪ ،‬وإما لكون الشمس دائمة عندهم‪ ،‬ل تغرب عنهم غروبا يذكر‪ ،‬كما يوجد‬
‫ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي‪ ،‬فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الرض‪ ،‬فضل عن‬
‫ك َوقَدْ‬
‫وصولهم إليه إياه بأبدانهم‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فكل هذا بتقدير ال له‪ ،‬وعلمه به ولهذا قال { كَذَِل َ‬
‫حطْنَا ِبمَا لَدَ ْيهِ خُبَرًا ْ} أي‪ :‬أحطنا بما عنده من الخير والسباب العظيمة وعلمنا معه‪ ،‬حيثما توجه‬
‫أَ َ‬
‫وسار‪.‬‬

‫{ ُثمّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتّى ِإذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ ْ} قال المفسرون‪ :‬ذهب متوجها من المشرق‪ ،‬قاصدا‬
‫للشمال‪ ،‬فوصل إلى ما بين السدين‪ ،‬وهما سدان‪ ،‬كانا سلسل جبال معروفين في ذلك الزمان‪ ،‬سدا‬
‫بين يأجوج ومأجوج وبين الناس‪ ،‬وجد من دون السدين قوما‪ ،‬ل يكادون يفقهون قول‪ ،‬لعجمة‬
‫ألسنتهم‪ ،‬واستعجام أذهانهم وقلوبهم‪ ،‬وقد أعطى ال ذا القرنين من السباب العلمية‪ ،‬ما فقه به‬
‫ألسنة أولئك القوم وفقههم‪ ،‬وراجعهم‪ ،‬وراجعوه‪ ،‬فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج‪ ،‬وهما أمتان‬
‫ج َومَأْجُوجَ ُمفْسِدُونَ فِي الْأَ ْرضِ ْ} بالقتل وأخذ الموال‬
‫عظيمتان من بني آدم فقالوا‪ { :‬إِنّ يَأْجُو َ‬
‫ج َعلَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ سَدّا ْ} ودل ذلك على‬
‫ج َعلُ َلكَ خَرْجًا ْ} أي جعل { عَلَى أَنْ تَ ْ‬
‫وغير ذلك‪َ { .‬ف َهلْ نَ ْ‬
‫عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد‪ ،‬وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه‪ ،‬فبذلوا له أجرة‪ ،‬ليفعل‬
‫ذلك‪ ،‬وذكروا له السبب الداعي‪ ،‬وهو‪ :‬إفسادهم في الرض‪ ،‬فلم يكن ذو القرنين ذا طمع‪ ،‬ول‬
‫رغبة في الدنيا‪ ،‬ول تاركا لصلح أحوال الرعية‪ ،‬بل كان قصده الصلح‪ ،‬فلذلك أجاب طلبتهم‬
‫لما فيها من المصلحة‪ ،‬ولم يأخذ منهم أجرة‪ ،‬وشكر ربه على تمكينه واقتداره‪ ،‬فقال لهم‪ { :‬مَا‬
‫َمكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ ْ} أي‪ :‬مما تبذلون لي وتعطوني‪ ،‬وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم‬
‫ج َعلْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ رَ ْدمًا ْ} أي‪ :‬مانعا من عبورهم عليكم‪.‬‬
‫بأيديكم { َأ ْ‬

‫{ آتُونِي زُبَرَ ا ْلحَدِيدِ ْ} أي‪ :‬قطع الحديد‪ ،‬فأعطوه ذلك‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ ْ} أي‪ :‬الجبلين اللذين بني بينهما السد { قَالَ ا ْنفُخُوا ْ} النار أي‪:‬‬
‫أوقدوها إيقادا عظيما‪ ،‬واستعملوا لها المنافيخ لتشتد‪ ،‬فتذيب النحاس‪ ،‬فلما ذاب النحاس‪ ،‬الذي يريد‬
‫أن يلصقه بين زبر الحديد { قَالَ آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَيْهِ ِقطْرًا ْ} أي‪ :‬نحاسا مذابا‪ ،‬فأفرغ عليه القطر‪،‬‬
‫فاستحكم السد استحكاما هائل‪ ،‬وامتنع من وراءه من الناس‪ ،‬من ضرر يأجوج ومأجوج‪.‬‬

‫ظهَرُوهُ َومَا اسْ َتطَاعُوا لَهُ َنقْبًا ْ} أي‪ :‬فما لهم استطاعة‪ ،‬ول قدرة على الصعود‬
‫{ َفمَا اسْطَاعُوا أَنْ َي ْ‬
‫عليه لرتفاعه‪ ،‬ول على نقبه لحكامه وقوته‪.‬‬

‫حمَةٌ مِنْ رَبّي ْ}‬


‫فلما فعل هذا الفعل الجميل والثر الجليل‪ ،‬أضاف النعمة إلى موليها وقال‪ { :‬هَذَا َر ْ‬
‫أي‪ :‬من فضله وإحسانه عليّ‪ ،‬وهذه حال الخلفاء الصالحين‪ ،‬إذا من ال عليهم بالنعم الجليلة‪ ،‬ازداد‬
‫شكرهم وإقرارهم‪ ،‬واعترافهم بنعمة ال كما قال سليمان عليه السلم‪ ،‬لما حضر عنده عرش ملكة‬
‫شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ ْ} بخلف أهل التجبر‬
‫ضلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أََأ ْ‬
‫سبأ مع البعد العظيم‪ ،‬قال‪ { :‬هَذَا مِنْ َف ْ‬
‫والتكبر والعلو في الرض فإن النعم الكبار‪ ،‬تزيدهم أشرا وبطرا‪.‬‬

‫كما قال قارون ‪-‬لما آتاه ال من الكنوز‪ ،‬ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة‪ -‬قال‪ { :‬إِ ّنمَا‬
‫أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِ ْندِي ْ}‬

‫جعََلهُ ْ} أي‪ :‬ذلك السد المحكم المتقن‬


‫وقوله‪ { :‬فَإِذَا جَا َء وَعْدُ رَبّي ْ} أي‪ :‬لخروج يأجوج ومأجوج { َ‬
‫حقّا ْ}‬
‫ن وَعْدُ رَبّي َ‬
‫{ َدكّاءَ ْ} أي‪ :‬دكه فانهدم‪ ،‬واستوى هو والرض { َوكَا َ‬

‫ضهُمْ َي ْومَئِذٍ َيمُوجُ فِي َب ْعضٍ ْ}‬


‫{ ‪ { }ْ 99‬وَتَ َركْنَا َب ْع َ‬
‫يحتمل أن الضمير‪ ،‬يعود إلى يأجوج ومأجوج‪ ،‬وأنهم إذا خرجوا على الناس ‪-‬من كثرتهم‬
‫حتْ يَ ْأجُوجُ َومَأْجُوجُ‬
‫واستيعابهم للرض كلها‪ -‬يموج بعضهم ببعض‪ ،‬كما قال تعالى { حَتّى ِإذَا فُتِ َ‬
‫ح َدبٍ يَنْسِلُونَ ْ} ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلئق يوم القيامة‪ ،‬وأنهم يجتمعون‬
‫وَهُمْ مِنْ ُكلّ َ‬
‫فيه فيكثرون ويموج بعضهم ببعض‪ ،‬من الهوال والزلزل العظام‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬ونفخ في‬
‫الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن‬
‫ذكري وكانوا ل يستطيعون سمعا ْ} أي‪ :‬إذا نفخ إسرافيل في الصور‪ ،‬أعاد ال الرواح إلى‬
‫الجساد‪ ،‬ثم حشرهم وجمعهم لموقف القيامة‪ ،‬الولين منهم والخرين‪ ،‬والكافرين والمؤمنين‪،‬‬
‫ليسألوا ويحاسبوا ويجزون بأعمالهم‪ ،‬فأما الكافرون ‪-‬على اختلفهم‪ -‬فإن جهنم جزاؤهم‪ ،‬خالدين‬
‫فيها أبدا‪.‬‬

‫جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ لِ ْلكَافِرِينَ عَ ْرضًا ْ}‬


‫{ ‪ }ْ 100‬ولهذا قال‪ { :‬وَعَ َرضْنَا َ‬

‫كما قال تعالى‪ { :‬وبرزت الجحيم للغاوين ْ} أي‪ :‬عرضت لهم لتكون مأواهم ومنزلهم‪ ،‬وليتمتعوا‬
‫بأغللها وسعيرها‪ ،‬وحميمها‪ ،‬وزمهريرها‪ ،‬وليذوقوا من العقاب‪ ،‬ما تبكم له القلوب‪ ،‬وتصم‬
‫الذان‪ ،‬وهذا آثار أعمالهم‪ ،‬وجزاء أفعالهم‪ ،‬فإنهم في الدنيا ‪ { " 101 ".‬كَا َنتْ أَعْيُ ُنهُمْ فِي غِطَاءٍ‬
‫عَنْ ِذكْرِي ْ} أي‪ :‬معرضين عن الذكر الحكيم‪ ،‬والقرآن الكريم‪ ،‬وقالوا‪ { :‬قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا‬
‫تَدْعُونَا إِلَيْهِ ْ} وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات ال النافعة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَعَلَى‬
‫غشَا َوةٌ ْ}‬
‫أَ ْبصَارِهِمْ ِ‬

‫س ْمعًا ْ} أي‪ :‬ل يقدرون على سمع آيات ال الموصلة إلى اليمان‪ ،‬لبغضهم‬
‫{ َوكَانُوا لَا يَسْ َتطِيعُونَ َ‬
‫القرآن والرسول‪ ،‬فإن المبغض ل يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلم من أبغضه‪ ،‬فإذا انحجبت عنهم‬
‫طرق العلم والخير‪ ،‬فليس لهم سمع ول بصر‪ ،‬ول عقل نافع فقد كفروا بال وجحدوا آياته‪،‬‬
‫وكذبوا رسله‪ ،‬فاستحقوا جهنم‪ ،‬وساءت مصيرا‪.‬‬

‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ نُزُلًا‬


‫سبَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ يَتّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي َأوْلِيَاءَ إِنّا أَعْ َتدْنَا َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 102‬أفَحَ ِ‬
‫ْ}‬

‫وهذا برهان وبيان‪ ،‬لبطلن دعوى المشركين الكافرين‪ ،‬الذين اتخذوا بعض النبياء والولياء‪،‬‬
‫شركاء ل يعبدونهم‪ ،‬ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء‪ ،‬ينجونهم من عذاب ال‪ ،‬وينيلونهم ثوابه‪،‬‬
‫وهم قد كفروا بال وبرسله‪.‬‬
‫سبَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ‬
‫حِ‬‫يقول ال لهم على وجه الستفهام والنكار المتقرر بطلنه في العقول‪َ { :‬أفَ َ‬
‫خذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي َأوْلِيَاءَ ْ} أي‪ :‬ل يكون ذلك ول يوالي ولي ال معاديا ل أبدا‪ ،‬فإن الولياء‬
‫يَتّ ِ‬
‫موافقون ل في محبته ورضاه‪ ،‬وسخطه وبغضه‪ ،‬فيكون على هذا المعنى مشابها لقوله تعالى‬
‫ت وَلِيّنَا مِنْ‬
‫جمِيعًا ُثمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ َأ َهؤُلَاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ أَ ْن َ‬
‫{ وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ َ‬
‫دُو ِنهِمْ ْ}‬

‫فمن زعم أنه يتخذ ولي ال وليا له‪ ،‬وهو معاد ل‪ ،‬فهو كاذب‪ ،‬ويحتمل ‪-‬وهو الظاهر‪ -‬أن‬
‫المعنى‪ :‬أفحسب الكفار بال‪ ،‬المنابذون لرسله‪ ،‬أن يتخذوا من دون ال أولياء ينصرونهم‪،‬‬
‫وينفعونهم من دون ال‪ ،‬ويدفعون عنهم الذى؟ هذا حسبان باطل‪ ،‬وظن فاسد‪ ،‬فإن جميع‬
‫المخلوقين‪ ،‬ليس بيدهم من النفع والضر‪ ،‬شيء‪ ،‬ويكون هذا‪ ،‬كقوله تعالى‪ُ { :‬قلِ ادْعُوا الّذِينَ‬
‫حوِيلًا ْ} { وَلَا َيمِْلكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ‬
‫شفَ الضّرّ عَ ْن ُك ْم وَلَا تَ ْ‬
‫عمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا َيمِْلكُونَ َك ْ‬
‫زَ َ‬
‫شفَاعَةَ ْ} ونحو ذلك من اليات التي يذكر ال فيها‪ ،‬أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫ضال خائب الرجاء‪ ،‬غير نائل لبعض مقصوده‪.‬‬

‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ نُزُلًا ْ} أي ضيافة وقرى‪ ،‬فبئس النزل نزلهم‪ ،‬وبئست جهنم‪ ،‬ضيافتهم‪.‬‬
‫{ إِنّا أَعْتَدْنَا َ‬

‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ‬


‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫عمَالًا * الّذِي َ‬
‫{ ‪ُ { }ْ 103-106‬قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُمْ بِالَْأخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫عمَاُلهُمْ فَلَا ُنقِيمُ َلهُمْ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫حسِنُونَ صُ ْنعًا * أُولَ ِئكَ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ وَلِقَائِهِ َفحَبِ َ‬
‫حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫سلِي هُ ُزوًا ْ}‬
‫جهَنّمُ ِبمَا َكفَرُوا وَاتّخَذُوا آيَاتِي وَرُ ُ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنًا * ذَِلكَ جَزَاؤُهُمْ َ‬

‫أي‪ :‬قل يا محمد‪ ،‬للناس ‪-‬على وجه التحذير والنذار‪ :-‬هل أخبركم بأخسر الناس أعمال على‬
‫الطلق؟‬

‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ْ} أي‪ :‬بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل‪ ،‬يحسبون أنهم‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫{ الّذِي َ‬
‫محسنون في صنعه‪ ،‬فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة‪ ،‬وأنها محادة ل ورسله ومعاداة؟"‬
‫فمن هم هؤلء الذين خسرت أعمالهم‪،‬فب { فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ أل ذلك هو‬
‫الخسران المبين ْ}‬

‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِ ْم وَِلقَائِهِ ْ} أي‪ :‬جحدوا اليات القرآنية واليات العيانية‪ ،‬الدالة على‬
‫وجوب اليمان به‪ ،‬وملئكته‪ ،‬ورسله‪ ،‬وكتبه‪ ،‬واليوم الخر‪.‬‬
‫عمَاُلهُمْ فَلَا ُنقِيمُ َلهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنًا ْ} لن الوزن فائدته‪ ،‬مقابلة‬
‫طتْ ْ} بسبب ذلك { أَ ْ‬
‫{ َفحَبِ َ‬
‫الحسنات بالسيئات‪ ،‬والنظر في الراجح منها والمرجوح‪ ،‬وهؤلء ل حسنات لهم لعدم شرطها‪،‬‬
‫ضمًا ْ}‬
‫ظ ْلمًا وَلَا َه ْ‬
‫ت وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَا يَخَافُ ُ‬
‫وهو اليمان‪ ،‬كما قال تعالى { َومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَا ِ‬
‫لكن تعد أعمالهم وتحصى‪ ،‬ويقررون بها‪ ،‬ويخزون بها على رءوس الشهاد‪ ،‬ثم يعذبون عليها‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬ذَِلكَ جَزَاؤُ ُهمْ ْ} أي‪ :‬حبوط أعمالهم‪ ،‬وأنه ل يقام لهم يوم القيامة‪ { ،‬وَزْنًا ْ} لحقارتهم‬
‫وخستهم‪ ،‬بكفرهم بآيات ال‪ ،‬واتخاذهم آياته ورسله‪ ،‬هزوا يستهزئون بها‪ ،‬ويسخرون منها‪ ،‬مع‬
‫أن الواجب في آيات ال ورسله‪ ،‬اليمان التام بها‪ ،‬والتعظيم لها‪ ،‬والقيام بها أتم القيام‪ ،‬وهؤلء‬
‫عكسوا القضية‪ ،‬فانعكس أمرهم‪ ،‬وتعسوا‪ ،‬وانتكسوا في العذاب‪ .‬ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم‪،‬‬
‫بين أعمال المؤمنين ومآلهم فقال‪:‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ‬
‫{ ‪ { }ْ 107-108‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حوَلًا ْ}‬
‫فِيهَا لَا يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ‬

‫أي‪ :‬إن الذين آمنوا بقلوبهم‪ ،‬وعملوا الصالحات بجوارحهم‪ ،‬وشمل هذا الوصف جميع الدين‪،‬‬
‫عقائده‪ ،‬وأعماله‪ ،‬أصوله‪ ،‬وفروعه الظاهرة‪ ،‬والباطنة‪ ،‬فهؤلء ‪-‬على اختلف طبقاتهم من اليمان‬
‫والعمل الصالح ‪-‬لهم جنات الفردوس‪.‬‬

‫يحتمل أن المراد بجنات الفردوس‪ ،‬أعلى الجنة‪ ،‬وأوسطها‪ ،‬وأفضلها‪ ،‬وأن هذا الثواب‪ ،‬لمن كمل‬
‫فيه اليمان والعمل الصالح‪ ،‬والنبياء والمقربون‪.‬‬

‫ويحتمل أن يراد بها‪ ،‬جميع منازل الجنان‪ ،‬فيشمل هذا الثواب‪ ،‬جميع طبقات أهل اليمان‪ ،‬من‬
‫المقربين‪ ،‬والبرار‪ ،‬والمقتصدين‪ ،‬كل بحسب حاله‪ ،‬وهذا أولى المعنيين لعمومه‪ ،‬ولذكر الجنة‬
‫بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس‪ ،‬ولن الفردوس يطلق على البستان‪ ،‬المحتوي على الكرم‪ ،‬أو‬
‫الشجار الملتفة‪ ،‬وهذا صادق على جميع الجنة‪ ،‬فجنة الفردوس نزل‪ ،‬وضيافة لهل اليمان‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬وأي‪ :‬ضيافة أجل وأكبر‪ ،‬وأعظم من هذه الضيافة‪ ،‬المحتوية على كل نعيم‪،‬‬
‫للقلوب‪ ،‬والرواح‪ ،‬والبدان‪ ،‬وفيها ما تشتهيه النفس‪ .‬وتلذ العين‪ ،‬من المنازل النيقة‪ ،‬والرياض‬
‫الناضرة‪ ،‬والشجار المثمرة‪ .،‬والطيور المغردة المشجية‪ ،‬والمآكل اللذيذة‪ ،‬والمشارب الشهية‪،‬‬
‫والنساء الحسان‪ ،‬والخدم‪ ،‬والولدان‪ ،‬والنهار السارحة‪ ،‬والمناظر الرائقة‪ ،‬والجمال الحسي‬
‫والمعنوي‪ ،‬والنعمة الدائمة‪ ،‬وأعلى ذلك وأفضله وأجله‪ ،‬التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه‪،‬‬
‫الذي هو أكبر نعيم الجنان‪ ،‬والتمتع برؤية وجهه الكريم‪ ،‬وسماع كلم الرءوف الرحيم‪ ،‬فلله تلك‬
‫الضيافة‪ ،‬ما أجلها وأجملها‪ ،‬وأدومها وأكملها"‪ ،‬وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من‬
‫الخلئق‪ ،‬أو تخطر على القلوب‪ ،‬فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم‪،‬‬
‫لطارت إليها قلوبهم بالشواق‪ ،‬ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق‪ ،‬ولساروا إليها زرافات ووحدانا‪،‬‬
‫ولم يؤثروا عليها دنيا فانية‪ ،‬ولذات منغصة متلشية‪ ،‬ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة‪،‬‬
‫يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلف مؤلفة‪ ،‬ولكن الغفلة شملت‪ ،‬واليمان ضعف‪،‬‬
‫والعلم قل‪ ،‬والرادة نفذت فكان‪ ،‬ما كان‪ ،‬فل حول ول قوة إل بال العلي العظيم‪.‬‬

‫وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا ْ} هذا هو تمام النعيم‪ ،‬إن فيها النعيم الكامل‪ ،‬ومن تمامه أنه ل ينقطع { لَا‬
‫حوَلًا ْ} أي‪ :‬تحول ول انتقال‪ ،‬لنهم ل يرون إل ما يعجبهم ويبهجهم‪ ،‬ويسرهم‬
‫يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ‬
‫ويفرحهم‪ ،‬ول يرون نعيما فوق ما هم فيه‪.‬‬

‫{ ‪ُ { }ْ 109‬قلْ َلوْ كَانَ الْ َبحْرُ مِدَادًا ِلكَِلمَاتِ رَبّي لَ َنفِدَ الْبَحْرُ قَ ْبلَ أَنْ تَ ْنفَدَ كَِلمَاتُ رَبّي وََلوْ جِئْنَا‬
‫ِبمِثْلِهِ مَ َددًا ْ}‬

‫أي‪ :‬قل لهم مخبرا عن عظمة الباري‪ ،‬وسعة صفاته‪ ،‬وأنها ل يحيط العباد بشيء منها‪َ { :‬لوْ كَانَ‬
‫الْبَحْرُ ْ} أي‪ :‬هذه البحر الموجودة في العالم { ِمدَادًا ِلكَِلمَاتِ رَبّي ْ} أي‪ :‬وأشجار الدنيا من أولها‬
‫إلى آخرها‪ ،‬من أشجار البلدان والبراري‪ ،‬والبحار‪ ،‬أقلم‪ { ،‬لَ َنفِدَ الْبَحْرُ ْ} وتكسرت القلم { قَ ْبلَ‬
‫أَنْ تَ ْنفَدَ كَِلمَاتُ رَبّي ْ} وهذا شيء عظيم‪ ،‬ل يحيط به أحد‪.‬‬

‫وفي الية الخرى { ولو أن ما في الرض من شجرة أقلم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما‬
‫نفدت كلمات ال إن ال عزيز حكيم ْ} وهذا من باب تقريب المعنى إلى الذهان‪ ،‬لن هذه الشياء‬
‫مخلوقة‪ ،‬وجميع المخلوقات‪ ،‬منقضية منتهية‪ ،‬وأما كلم ال‪ ،‬فإنه من جملة صفاته‪ ،‬وصفاته غير‬
‫مخلوقة‪ ،‬ول لها حد ول منتهى‪ ،‬فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فال فوق ذلك‪ ،‬وهكذا سائر‬
‫صفات ال تعالى‪ ،‬كعلمه‪ ،‬وحكمته‪ ،‬وقدرته‪ ،‬ورحمته‪ ،‬فلو جمع علم الخلئق من الولين‬
‫والخرين‪ ،‬أهل السماوات وأهل الرض‪ ،‬لكان بالنسبة إلى علم العظيم‪ ،‬أقل من نسبة عصفور‬
‫وقع على حافة البحر‪ ،‬فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته‪ ،‬ذلك بأن ال‪ ،‬له الصفات‬
‫العظيمة الواسعة الكاملة‪ ،‬وأن إلى ربك المنتهى‪.‬‬

‫{ ‪ُ { }ْ 110‬قلْ إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى ِإَليّ أَ ّنمَا ِإَل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ َفمَنْ كَانَ يَ ْرجُو ِلقَاءَ رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ‬
‫عمَلًا صَالِحًا وَلَا ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا ْ}‬
‫َ‬
‫أي‪ُ { :‬قلْ ْ} يا محمد للكفار وغيرهم‪ { :‬إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ ْ} أي‪ :‬لست بإله‪ ،‬ول لي شركة في‬
‫الملك‪ ،‬ول علم بالغيب‪ ،‬ول عندي خزائن ال‪ { ،‬إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ ْ} عبد من عبيد ربي‪ { ،‬يُوحَى‬
‫إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ ْ} أي‪ :‬فضلت عليكم بالوحي‪ ،‬الذي يوحيه ال إلي‪ ،‬الذي أجله الخبار لكم‪:‬‬
‫أنما إلهكم إله واحد‪ ،‬أي‪ :‬ل شريك له‪ ،‬ول أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره‪ ،‬وأدعوكم إلى‬
‫العمل الذي يقربكم منه‪ ،‬وينيلكم ثوابه‪ ،‬ويدفع عنكم عقابه‪ .‬ولهذا قال‪َ { :‬فمَنْ كَانَ يَرْجُوا ِلقَاءَ رَبّهِ‬
‫عمَلًا صَاِلحًا ْ} وهو الموافق لشرع ال‪ ،‬من واجب ومستحب‪ { ،‬وَلَا ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا‬
‫فَلْ َي ْع َملْ َ‬
‫ْ} أي‪ :‬ل يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه ال تعالى‪ ،‬فهذا الذي جمع بين الخلص والمتابعة‪،‬‬
‫هو الذي ينال ما يرجو ويطلب‪ ،‬وأما من عدا ذلك‪ ،‬فإنه خاسر في دنياه وأخراه‪ ،‬وقد فاته القرب‬
‫من موله‪ ،‬ونيل رضاه‪.‬‬

‫آخر تفسير سورة الكهف‪ ،‬ول الحمد‪.‬‬

You might also like