You are on page 1of 371

‫تفسير سورة مريم‬

‫وهي مدنية‬

‫بِ كه يعص * ذِ كْرُ رَحْمَةِ رَبّبكَ عَببْدَهُ زَكَ ِر يّا * إِذْ نَادَى رَبّبهُ‬
‫{ ‪ِ { }ْ 6 - 1‬بسْمِ ال لّهِ البرّحْمَنِ البرّحِي م‬
‫شقِيّا * وَإِنّي‬
‫خفِيّا * قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَا ِئكَ َربّ َ‬
‫نِدَاءً َ‬
‫ك وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ‬
‫ن وَرَائِي َوكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َف َهبْ لِي مِنْ َلدُ ْن َ‬
‫خ ْفتُ ا ْل َموَالِيَ مِ ْ‬
‫ِ‬
‫جعَلْهُ َربّ َرضِيّا ْ}‬
‫َي ْعقُوبَ وَا ْ‬

‫حمَةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّا ْ} سنقصه عليك‪ ،‬ونفصله تفصيل يعرف به حالة نبيه‬
‫أي‪ :‬هذا { ِذكْرُ رَ ْ‬
‫زكريا‪ ،‬وآثاره الصالحة‪ ،‬ومناقبه الجميلة‪ ،‬فإن في قصها عبرة للمعتبرين‪ ،‬وأسوة للمقتدين‪ ،‬ولن‬
‫في تفصيل رحمته لوليائه‪ ،‬وبأي‪ :‬سبب حصلت لهم‪ ،‬مما يدعو إلى محبة ال تعالى‪ ،‬والكثار من‬
‫ذكره ومعرفته‪ ،‬والسبب الموصل إليه‪ .‬وذلك أن ال تعالى اجتبى واصطفى زكريا عليه السلم‬
‫لرسالته‪ ،‬وخصه بوحيه‪ ،‬فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين‪ ،‬ودعا العباد إلى ربه‪ ،‬وعلمهم ما‬
‫علمه ال‪ ،‬ونصح لهم في حياته وبعد مماته‪ ،‬كإخوانه من المرسلين ومن اتبعهم‪ ،‬فلما رأى من‬
‫نفسه الضعف‪ ،‬وخاف أن يموت‪ ،‬ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم‪،‬‬
‫شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن‪ ،‬وناداه نداء خفيا‪ ،‬ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلصا‪ ،‬فقال‪{ :‬‬
‫َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي ْ}‬

‫أي‪ :‬وهى وضعف‪ ،‬وإذا ضعف العظم‪ ،‬الذي هو عماد البدن‪ ،‬ضعف غيره‪ { ،‬وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبًا‬
‫ْ} لن الشيب دليل الضعف والكبر‪ ،‬ورسول الموت ورائده‪ ،‬ونذيره‪ ،‬فتوسل إلى ال تعالى بضعفه‬
‫وعجزه‪ ،‬وهذا من أحب الوسائل إلى ال‪ ،‬لنه يدل على التبري من الحول والقوة‪ ،‬وتعلق القلب‬
‫بحول ال وقوته‪.‬‬

‫شقِيّا ْ} أي‪ :‬لم تكن يا رب تردني خائبا ول محروما من الجابة‪ ،‬بل لم‬
‫{ وَلَمْ َأكُنْ بِدُعَا ِئكَ َربّ َ‬
‫تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا‪ ،‬ولم تزل ألطافك تتوالى علي‪ ،‬وإحسانك واصل إلي‪ ،‬وهذا توسل‬
‫إلى ال بإنعامه عليه‪ ،‬وإجابة دعواته السابقة‪ ،‬فسأل الذي أحسن سابقا‪ ،‬أن يتمم إحسانه لحقا‪.‬‬

‫ن وَرَائِي ْ} أي‪ :‬وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي‪ ،‬أن‬
‫خ ْفتُ ا ْل َموَاِليَ مِ ْ‬
‫{ وَإِنّي ِ‬
‫ل يقوموا بدينك حق القيام‪ ،‬ول يدعوا عبادك إليك‪ ،‬وظاهر هذا‪ ،‬أنه لم ير فيهم أحدا فيه لياقة‬
‫للمامة في الدين‪ ،‬وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلم ونصحه‪ ،‬وأن طلبه للولد‪ ،‬ليس كطلب غيره‪،‬‬
‫قصده مجرد المصلحة الدنيوية‪ ،‬وإنما قصده مصلحة الدين‪ ،‬والخوف من ضياعه‪ ،‬ورأى غيره‬
‫غير صالح لذلك‪ ،‬وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين‪ ،‬ومعدن الرسالة‪ ،‬ومظنة للخير‪ ،‬فدعا‬
‫ال أن يرزقه ولدا‪ ،‬يقوم بالدين من بعده‪ ،‬واشتكى أن امرأته عاقر‪ ،‬أي ليست تلد أصل‪ ،‬وأنه قد‬
‫ك وَلِيّا ْ} وهذه‬
‫بلغ من الكبر عتيا‪ ،‬أي‪ :‬عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد‪َ { .‬ف َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْن َ‬
‫الولية‪ ،‬ولية الدين‪ ،‬وميراث النبوة والعلم والعمل‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ‬
‫جعَلْهُ َربّ َرضِيّا ْ}‬
‫وَا ْ‬

‫أي‪ :‬عبدا صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك‪ ،‬والحاصل أنه سأل ال ولدا‪ ،‬ذكرا‪ ،‬صالحا‪ ،‬يبق بعد‬
‫موته‪ ،‬ويكون وليا من بعده‪ ،‬ويكون نبيا مرضيا عند ال وعند خلقه‪ ،‬وهذا أفضل ما يكون من‬
‫الولد‪ ،‬ومن رحمة ال بعبده‪ ،‬أن يرزقه ولدا صالحا‪ ،‬جامعا لمكارم الخلق ومحامد الشيم‪.‬‬
‫فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال‪:‬‬

‫سمِيّا * قَالَ َربّ أَنّى‬


‫ج َعلْ َلهُ مِنْ قَ ْبلُ َ‬
‫سمُهُ َيحْيَى َلمْ نَ ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 11 - 7‬يَا َزكَرِيّا إِنّا نُ َبشّ ُركَ ِبغُلَامٍ ا ْ‬
‫عَليّ هَيّنٌ‬
‫َيكُونُ لِي غُلَا ٌم َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا * قَالَ َكذَِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ َ‬
‫سوِيّا‬
‫ج َعلْ لِي آيَةً قَالَ آيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ َ‬
‫ل وَلَمْ َتكُ شَيْئًا * قَالَ َربّ ا ْ‬
‫َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫علَى َق ْومِهِ مِنَ ا ْل ِمحْرَابِ فََأوْحَى إِلَ ْيهِمْ أَنْ سَبّحُوا ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا ْ}‬
‫* فَخَرَجَ َ‬

‫أي‪ :‬بشره ال تعالى على يد الملئكة ببب " يحيى " وسماه ال له " يحيى " وكان اسما موافقا‬
‫لمسماه‪ :‬يحيا حياة حسية‪ ،‬فتتم به المنة‪ ،‬ويحيا حياة معنوية‪ ،‬وهي حياة القلب والروح‪ ،‬بالوحي‬
‫سمِيّا ْ} أي‪ :‬لم يسم هذا السم قبله أحد‪ ،‬ويحتمل أن المعنى‪:‬‬
‫ج َعلْ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ َ‬
‫والعلم والدين‪ { .‬لَمْ َن ْ‬
‫لم نجعل له من قبل مثيل ومساميا‪ ،‬فيكون ذلك بشارة بكماله‪ ،‬واتصافه بالصفات الحميدة‪ ،‬وأنه‬
‫فاق من قبله‪ ،‬ولكن على هذا الحتمال‪ ،‬هذا العموم ل بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم وموسى‬
‫ونوح عليهم السلم‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬ممن هو أفضل من يحيى قطعا‪ ،‬فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا‬
‫غلَامٌ ْ}‬
‫المولود الذي طلبه استغرب وتعجب وقال‪َ { :‬ربّ أَنّى َيكُونُ لِي ُ‬

‫والحال أن المانع من وجود الولد‪ ،‬موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه‪ ،‬لم يستحضر هذا‬
‫المانع لقوة الوارد في قلبه‪ ،‬وشدة الحرص العظيم على الولد‪ ،‬وفي هذه الحال‪ ،‬حين قبلت دعوته‪،‬‬
‫عَليّ هَيّنٌ ْ}‬
‫تعجب من ذلك‪ ،‬فأجابه ال بقوله‪َ { :‬كذَِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ َ‬

‫أي‪ :‬المر مستغرب في العادة‪ ،‬وفي سنة ال في الخليقة‪ ،‬ولكن قدرة ال تعالى صالحة ليجاد‬
‫الشياء بدون أسبابها فذلك هين عليه‪ ،‬ليس بأصعب من إيجاده قبل ولم يكن شيئا‪.‬‬

‫ج َعلْ لِي آ َيةً ْ} أي‪ :‬يطمئن بها قلبي‪ ،‬وليس هذا شكا في خبر ال‪ ،‬وإنما هو‪ ،‬كما قال‬
‫{ قَالَ َربّ ا ْ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي ْ}‬
‫حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِ َي ْ‬
‫الخليل عليه السلم‪َ { :‬ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُ ْ‬
‫فطلب زيادة العلم‪ ،‬والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين‪ ،‬فأجابه ال إلى طلبته رحمة به‪ ،‬فب‬
‫سوِيّا ْ} وفي الية الخرى { ثَلَاثَةَ أَيّامٍ إِلّا َرمْزًا ْ} والمعنى‬
‫{ قَالَ آيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ َ‬
‫واحد‪ ،‬لنه تارة يعبر بالليالي‪ ،‬وتارة باليام ومؤداها واحد‪ ،‬وهذا من اليات العجيبة‪ ،‬فإن منعه‬
‫من الكلم مدة ثلثة أيام‪ ،‬وعجزه عنه من غير خرس ول آفة‪ ،‬بل كان سويا‪ ،‬ل نقص فيه‪ ،‬من‬
‫الدلة على قدرة ال الخارقة للعوائد‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬ممنوع من الكلم الذي يتعلق بالدميين وخطابهم‪.،‬‬
‫وأما التسبيح والتهليل‪ ،‬والذكر ونحوه‪ ،‬فغير ممنوع منه‪ ،‬ولهذا قال في الية الخرى‪ { :‬وَا ْذكُرْ‬
‫ي وَالْإِ ْبكَارِ ْ} فاطمأن قلبه‪ ،‬واستبشر بهذه البشارة العظيمة‪ ،‬وامتثل لمر‬
‫شّ‬‫رَ ّبكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ‬
‫ال له بالشكر بعبادته وذكره‪ ،‬فعكف في محرابه‪ ،‬وخرج على قومه منه فأوحى إليهم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫بالشارة والرمز { أَنْ سَبّحُوا ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا ْ} لن البشارة بب " يحيى " في حق الجميع‪ ،‬مصلحة‬
‫دينية‪.‬‬

‫ح ْك َم صَبِيّا * وَحَنَانًا مِنْ َلدُنّا وَ َزكَاةً َوكَانَ َتقِيّا‬


‫{ ‪ { }ْ 15 - 12‬يَا َيحْيَى خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ وَآتَيْنَاهُ الْ ُ‬
‫ت وَ َيوْمَ يُ ْب َعثُ حَيّا ْ}‬
‫عصِيّا * وَسَلَامٌ عَلَ ْيهِ َيوْ َم وُلِدَ وَيَوْمَ َيمُو ُ‬
‫* وَبَرّا ِبوَالِدَيْهِ وَلَمْ َيكُنْ جَبّارًا َ‬

‫دل الكلم السابق على ولدة يحيى‪ ،‬وشبابه‪ ،‬وتربيته‪ ،‬فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب أمره‬
‫ال أن يأخذ الكتاب بقوة‪ ،‬أي‪ :‬بجد واجتهاد‪ ،‬وذلك بالجتهاد في حفظ ألفاظه‪ ،‬وفهم معانيه‪ ،‬والعمل‬
‫بأوامره ونواهيه‪ ،‬هذا تمام أخذ الكتاب بقوة‪ ،‬فامتثل أمر ربه‪ ،‬وأقبل على الكتاب‪ ،‬فحفظه وفهمه‪،‬‬
‫حكْ َم صَبِيّا ْ} أي‪:‬‬
‫وجعل ال فيه من الذكاء والفطنة‪ ،‬ما ل يوجد في غيره ولهذا قال‪ { :‬وَآتَيْنَاهُ ا ْل ُ‬
‫معرفة أحكام ال والحكم بها‪ ،‬وهو في حال صغره وصباه‪.‬‬

‫{ و ْ} آتيناه أيضا { حَنَانًا مِنْ لَدُنّا ْ} أي‪ :‬رحمة ورأفة‪ ،‬تيسرت بها أموره‪ ،‬وصلحت بها أحواله‪،‬‬
‫واستقامت بها أفعاله‪.‬‬

‫{ وَ َزكَاةً ْ} أي‪ :‬طهارة من الفات والذنوب‪ ،‬فطهر قلبه وتزكى عقله‪ ،‬وذلك يتضمن زوال‬
‫الوصاف المذمومة‪ ،‬والخلق الرديئة‪ ،‬وزيادة الخلق الحسنة‪ ،‬والوصاف المحمودة‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪َ { :‬وكَانَ َتقِيّا ْ} أي‪ :‬فاعل للمأمور‪ ،‬تاركا للمحظور‪ ،‬ومن كان مؤمنا تقيا كان ل وليا‪ ،‬وكان‬
‫من أهل الجنة التي أعدت للمتقين‪ ،‬وحصل له من الثواب الدنيوي والخروي‪ ،‬ما رتبه ال على‬
‫التقوى‪.‬‬

‫{ و ْ} كان أيضا { بَرّا ِبوَالِدَيْهِ ْ} أي‪ :‬لم يكن عاقا‪ ،‬ول مسيئا إلى أبويه‪ ،‬بل كان محسنا إليهما‬
‫بالقول والفعل‪.‬‬

‫عصِيّا ْ} أي‪ :‬لم يكن متجبرا متكبرا عن عبادة ال‪ ،‬ول مترفعا على عباد ال‪،‬‬
‫{ وَلَمْ َيكُنْ جَبّارًا َ‬
‫ول على والديه‪ ،‬بل كان متواضعا‪ ،‬متذلل‪ ،‬مطيعا‪ ،‬أوابا ل على الدوام‪ ،‬فجمع بين القيام بحق ال‪،‬‬
‫وحق خلقه‪ ،‬ولهذا حصلت له السلمة من ال‪ ،‬في جميع أحواله‪ ،‬مبادئها وعواقبها‪ ،‬فلذا قال‪:‬‬
‫{ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ َيوْ َم وُلِ َد وَ َيوْمَ َيمُوتُ وَ َيوْمَ يُ ْب َعثُ حَيّا ْ} وذلك يقتضي سلمته من الشيطان‪ ،‬والشر‪،‬‬
‫والعقاب في هذه الحوال الثلثة وما بينها‪ ،‬وأنه سالم من النار والهوال‪ ،‬ومن أهل دار السلم‪،‬‬
‫فصلوات ال وسلمه عليه وعلى والده وعلى سائر المرسلين‪ ،‬وجعلنا من أتباعهم‪ ،‬إنه جواد‬
‫كريم‪.‬‬

‫خ َذتْ مِنْ دُو ِنهِمْ‬


‫{ ‪ { }ْ 21 - 16‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مَرْيَمَ ِإذِ انْتَبَ َذتْ مِنْ أَ ْهِلهَا َمكَانًا شَ ْرقِيّا * فَاتّ َ‬
‫حمَنِ مِ ْنكَ إِنْ كُ ْنتَ َتقِيّا *‬
‫سوِيّا * قَاَلتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ‬
‫حجَابًا فَأَرْسَلْنَا ِإلَ ْيهَا رُوحَنَا فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرًا َ‬
‫ِ‬
‫سسْنِي بَشَ ٌر وَلَمْ َأكُ‬
‫قَالَ إِ ّنمَا أَنَا رَسُولُ رَ ّبكِ لِأَ َهبَ َلكِ غُلَامًا َزكِيّا * قَاَلتْ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم وَلَمْ َيمْ َ‬
‫حمَةً مِنّا َوكَانَ َأمْرًا َم ْقضِيّا ْ}‬
‫س وَرَ ْ‬
‫جعََلهُ آيَةً لِلنّا ِ‬
‫ن وَلِنَ ْ‬
‫َبغِيّا * قَالَ كَذَِلكِ قَالَ رَ ّبكِ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ‬

‫لما ذكر قصة زكريا ويحيى‪ ،‬وكانت من اليات العجيبة‪ ،‬انتقل منها إلى ما هو أعجب منها‪،‬‬
‫تدريجا من الدنى إلى العلى فقال‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ ْ} الكريم { مَرْيَمَ ْ} عليها السلم‪ ،‬وهذا من‬
‫أعظم فضائلها‪ ،‬أن تذكر في الكتاب العظيم‪ ،‬الذي يتلوه المسلمون في مشارق الرض ومغاربها‪،‬‬
‫تذكر فيه بأحسن الذكر‪ ،‬وأفضل الثناء‪ ،‬جزاء لعملها الفاضل‪ ،‬وسعيها الكامل‪ ،‬أي‪ :‬واذكر في‬
‫الكتاب مريم‪ ،‬في حالها الحسنة‪ ،‬حين { انْتَبَ َذتْ ْ} أي‪ :‬تباعدت عن أهلها { َمكَانًا شَ ْرقِيّا ْ} أي‪ :‬مما‬
‫يلي الشرق عنهم‪.‬‬

‫{ فَاتّخَ َذتْ مِنْ دُو ِنهِمْ حِجَابًا ْ} أي‪ :‬سترا ومانعا‪ ،‬وهذا التباعد منها‪ ،‬واتخاذ الحجاب‪ ،‬لتعتزل‪،‬‬
‫وتنفرد بعبادة ربها‪ ،‬وتقنت له في حالة الخلص والخضوع والذل ل تعالى‪ ،‬وذلك امتثال منها‬
‫طفَاكِ عَلَى نِسَاءِ‬
‫ك وَاصْ َ‬
‫طهّ َر ِ‬
‫ك وَ َ‬
‫طفَا ِ‬
‫لقوله تعالى‪ { :‬وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَا ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫سجُدِي وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ ْ} وقوله‪ { :‬فَأَرْسَلْنَا إِلَ ْيهَا رُوحَنَا ْ}‬
‫ك وَا ْ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ* يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَ ّب ِ‬
‫سوِيّا ْ} أي‪ :‬كامل من الرجال‪ ،‬في صورة جميلة‪،‬‬
‫وهو‪ :‬جبريل عليه السلم { فَ َتمَ ّثلَ َلهَا َبشَرًا َ‬
‫وهيئة حسنة‪ ،‬ل عيب فيه ول نقص‪ ،‬لكونها ل تحتمل رؤيته على ما هو عليه‪ ،‬فلما رأته في هذه‬
‫الحال‪ ،‬وهي معتزلة عن أهلها‪ ،‬منفردة عن الناس‪ ،‬قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها وهم‬
‫أهلها‪ ،‬خافت أن يكون رجل قد تعرض لها بسوء‪ ،‬وطمع فيها‪ ،‬فاعتصمت بربها‪ ،‬واستعاذت منه‬
‫حمَنِ مِ ْنكَ ْ} أي‪ .‬ألتجئ به وأعتصم برحمته‪ ،‬أن تنالني بسوء‪ { .‬إِنْ‬
‫فقالت له‪ { :‬إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ‬
‫كُ ْنتَ َتقِيّا ْ} أي‪ :‬إن كنت تخاف ال‪ ،‬وتعمل بتقواه‪ ،‬فاترك التعرض لي‪ ،‬فجمعت بين العتصام‬
‫بربها‪ ،‬وبين تخويفه وترهيبه‪ ،‬وأمره بلزوم التقوى‪ ،‬وهي في تلك الحالة الخالية‪ ،‬والشباب‪ ،‬والبعد‬
‫عن الناس‪ ،‬وهو في ذلك الجمال الباهر‪ ،‬والبشرية الكاملة السوية‪ ،‬ولم ينطق لها بسوء‪ ،‬أو‬
‫يتعرض لها‪ ،‬وإنما ذلك خوف منها‪ ،‬وهذا أبلغ ما يكون من العفة‪ ،‬والبعد عن الشر وأسبابه‪.‬‬
‫وهذه العفة ‪ -‬خصوصا مع اجتماع الدواعي‪ ،‬وعدم المانع ‪ -‬من أفضل العمال‪.‬‬

‫جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ْ}‬


‫حصَ َنتْ فَرْ َ‬
‫عمْرَانَ الّتِي أَ ْ‬
‫ولذلك أثنى ال عليها فقال‪َ { :‬ومَرْيَمَ ابْنَة ِ‬
‫جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَا آ َيةً لِ ْلعَاَلمِينَ ْ} فأعاضها ال بعفتها‪،‬‬
‫جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ َ‬
‫حصَ َنتْ فَرْ َ‬
‫{ وَالّتِي أَ ْ‬
‫ولدا من آيات ال‪ ،‬ورسول من رسله‪.‬‬

‫فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة‪ ،‬قال‪ { :‬إِ ّنمَا أَنَا رَسُولُ رَ ّبكِ ْ} أي‪ :‬إنما وظيفتي وشغلي‪،‬‬
‫تنفيذ رسالة ربي فيك { لِأَ َهبَ َلكِ غُلَامًا َزكِيّا ْ} وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه‪ ،‬فإن الزكاء‬
‫يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة‪ ،‬واتصافه بالخصال الحميدة‪ ،‬فتعجبت من وجود الولد من‬
‫غير أب‪ ،‬فقالت‪ { :‬أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَ ٌر وََلمْ َأكُ َبغِيّا ْ} والولد ل يوجد إل بذلك؟"‪.‬‬

‫جعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ ْ} تدل على كمال قدرة ال تعالى‪ ،‬وعلى أن‬
‫ن وَلِ َن ْ‬
‫{ قَالَ كَذَِلكِ قَالَ رَ ّبكِ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ‬
‫السباب جميعها‪ ،‬ل تستقل بالتأثير‪ ،‬وإنما تأثيرها بتقدير ال‪ ،‬فيري عباده خرق العوائد في بعض‬
‫ح َمةً مِنّا ْ} أي‪:‬‬
‫السباب العادية‪ ،‬لئل يقفوا مع السباب‪ ،‬ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها { وَرَ ْ‬
‫ولنجعله رحمة منا به‪ ،‬وبوالدته‪ ،‬وبالناس‪.‬‬

‫أما رحمة ال به‪ ،‬فلما خصه ال بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم‪ ،‬وأما رحمته‬
‫بوالدته‪ ،‬فلما حصل لها من الفخر‪ ،‬والثناء الحسن‪ ،‬والمنافع العظيمة‪ .‬وأما رحمته بالناس‪ ،‬فإن‬
‫أكبر نعمه عليهم‪ ،‬أن بعث فيهم رسول‪ ،‬يتلو عليهم آياته‪ ،‬ويزكيهم‪ ،‬ويعلمهم الكتاب والحكمة‪،‬‬
‫فيؤمنون به‪ ،‬ويطيعونه‪ ،‬وتحصل لهم سعادة الدنيا والخرة‪َ { ،‬وكَانَ ْ} أي‪ :‬وجود عيسى عليه‬
‫السلم على هذه الحاله { َأمْرًا َم ْقضِيّا ْ} قضاء سابقا‪ ،‬فل بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء‪ ،‬فنفخ‬
‫جبريل عليه السلم في جيبها‪.‬‬

‫ج ْذعِ النّخَْلةِ قَاَلتْ يَا‬


‫حمَلَ ْتهُ فَانْتَبَ َذتْ بِهِ َمكَانًا َقصِيّا * فََأجَاءَهَا ا ْلمَخَاضُ إِلَى ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 26 - 22‬فَ َ‬
‫ج َعلَ رَ ّبكِ تَحْ َتكِ سَرِيّا *‬
‫لَيْتَنِي ِمتّ قَ ْبلَ َهذَا َوكُ ْنتُ َنسْيًا مَنْسِيّا * فَنَادَاهَا مِنْ َتحْ ِتهَا أَلّا تَحْزَنِي قَدْ َ‬
‫ج ْذعِ النّخَْلةِ تُسَاقِطْ عَلَ ْيكِ رُطَبًا جَنِيّا * َفكُلِي وَاشْرَبِي َوقَرّي عَيْنًا فَِإمّا تَرَيِنّ مِنَ‬
‫وَهُزّي إِلَ ْيكِ بِ ِ‬
‫ص ْومًا فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنْسِيّا ْ}‬
‫ن َ‬
‫حمَ ِ‬
‫الْبَشَرِ َأحَدًا َفقُولِي إِنّي َنذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬

‫أي‪ :‬لما حملت بعيسى عليه السلم‪ ،‬خافت من الفضيحة‪ ،‬فتباعدت عن الناس { َمكَانًا َقصِيّا ْ} فلما‬
‫قرب ولدها‪ ،‬ألجأها المخاض إلى جذع نخلة‪ ،‬فلما آلمها وجع الولدة‪ ،‬ووجع النفراد عن الطعام‬
‫والشراب‪ ،‬ووجع قلبها من قالة الناس‪ ،‬وخافت عدم صبرها‪ ،‬تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث‪،‬‬
‫وكانت نسيا منسيا فل تذكر‪ .‬وهذا التمني بناء على ذلك المزعج‪ ،‬وليس في هذه المنية خير لها‬
‫ول مصلحة‪ ،‬وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل‪.‬‬

‫فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها وناداها من تحتها‪ ،‬لعله في مكان أنزل من مكانها‪ ،‬وقال‬
‫ج َعلَ رَ ّبكِ َتحْ َتكِ سَرِيّا ْ} أي‪ :‬نهرا تشربين‬
‫لها‪ :‬ل تحزني‪ ،‬أي‪ :‬ل تجزعي ول تهتمي‪ ،‬فبب { قَدْ َ‬
‫منه‪.‬‬

‫{ وَهُزّي إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّخْلَةِ ُتسَاقِطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبًا جَنِيّا ْ} أي‪ :‬طريا لذيذا نافعا { َفكُلِي ْ} من التمر‪،‬‬
‫{ وَاشْرَبِي ْ} من النهر { َوقَرّي عَيْنًا ْ} بعيسى‪ ،‬فهذا طمأنينتها من جهة السلمة من ألم الولدة‪،‬‬
‫وحصول المأكل والمشرب والهني‪.‬‬

‫وأما من جهة قالة الناس‪ ،‬فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر‪ ،‬أن تقول على وجه الشارة‪ { :‬إِنّي‬
‫صوْمًا ْ} أي‪ :‬سكوتا { فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنْسِيّا ْ} أي‪ :‬ل تخاطبيهم بكلم‪ ،‬لتستريحي‬
‫حمَنِ َ‬
‫نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬
‫من قولهم وكلمهم‪ .‬وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة‪ ،‬وإنما لم تؤمر‬
‫بخطابهم في نفي ذلك عن نفسها لن الناس ل يصدقونها‪ ،‬ول فيه فائدة‪ ،‬وليكون تبرئتها بكلم‬
‫عيسى في المهد‪ ،‬أعظم شاهد على براءتها‪. ،‬فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج‪ ،‬ودعواها أنه‬
‫من غير أحد‪ ،‬من أكبر الدعاوى‪ ،‬التي لو أقيم عدة من الشهود‪ ،‬لم تصدق بذلك‪ ،‬فجعلت بينة هذا‬
‫الخارق للعادة‪ ،‬أمرا من جنسه‪ ،‬وهو كلم عيسى في حال صغره جدا‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬

‫ختَ هَارُونَ مَا‬


‫حمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ َلقَدْ جِ ْئتِ شَيْئًا فَرِيّا * يَا أُ ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 33 - 27‬فَأَ َتتْ بِهِ َق ْو َمهَا تَ ْ‬
‫سوْ ٍء َومَا كَا َنتْ ُأ ّمكِ َبغِيّا * فَأَشَا َرتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي ا ْل َمهْ ِد صَبِيّا‬
‫كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ‬
‫جعَلَنِي مُبَا َركًا أَيْنَ مَا كُ ْنتُ وََأوْصَانِي بِالصّلَاةِ‬
‫جعَلَنِي نَبِيّا * وَ َ‬
‫ب وَ َ‬
‫* قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَا َ‬
‫شقِيّا * وَالسّلَامُ عََليّ َيوْمَ وُلِ ْدتُ وَيَوْمَ‬
‫جعَلْنِي جَبّارًا َ‬
‫وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا * وَبَرّا ِبوَاِلدَتِي وَلَمْ يَ ْ‬
‫ت وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا ْ}‬
‫َأمُو ُ‬

‫أي‪ :‬فلما تعلت مريم من نفاسها‪ ،‬أتت بعيسى قومها تحمله‪ ،‬وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها‪،‬‬
‫فأتت غير مبالية ول مكترثة‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬لقَدْ جِ ْئتِ شَيْئًا فًريّا ْ} أي‪ :‬عظيما وخيما‪ ،‬وأرادوا بذلك‬
‫البغاء حاشاها من ذلك‪.‬‬

‫ختَ هَارُونَ ْ} الظاهر‪ ،‬أنه أخ لها حقيقي‪ ،‬فنسبوها إليه‪ ،‬وكانوا يسمون بأسماء النبياء وليس‬
‫{ يَا أُ ْ‬
‫سوْ ٍء َومَا كَا َنتْ‬
‫هو هارون بن عمران أخا موسى‪ ،‬لن بينهما قرونا كثيرة { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ‬
‫ُأ ّمكِ َبغِيّا ْ} أي‪ :‬لم يكن أبواك إل صالحين سالمين من الشر‪ ،‬وخصوصا هذا الشر‪ ،‬الذي يشيرون‬
‫إليه‪ ،‬وقصدهم‪ :‬فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟‪ .‬وذلك أن الذرية ‪ -‬في‬
‫الغالب ‪ -‬بعضها من بعض‪ ،‬في الصلح وضده‪ ،‬فتعجبوا ‪ -‬بحسب ما قام بقلوبهم ‪ -‬كيف وقع‬
‫منها‪ ،‬فأشارت لهم إليه‪ ،‬أي‪ :‬كلموه‪.‬‬

‫حمَنِ صَ ْومًا‬
‫وإنما أشارت لذلك‪ ،‬لنها أمرت عند مخاطبة الناس لها‪ ،‬أن‪ ،‬تقول‪ { :‬إِنّي نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬
‫فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنْسِيّا ْ} فلما أشارت إليهم بتكليمه‪ ،‬تعجبوا من ذلك وقالوا‪ { :‬كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي‬
‫ا ْل َمهْ ِد صَبِيّا ْ} لن ذلك لم تجر به عادة‪ ،‬ول حصل من أحد في ذلك السن‪. .‬‬

‫جعَلَنِي نَبِيّا ْ}‬


‫ب وَ َ‬
‫فحينئذ قال عيسى عليه السلم‪ ،‬وهو في المهد صبي‪ { :‬إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَا َ‬
‫فخاطبهم بوصفه بالعبودية‪ ،‬وأنه ليس فيه صفة يستحق بها أن يكون إلها‪ ،‬أو ابنا للله‪ ،‬تعالى ال‬
‫عن قول النصارى المخالفين لعيسى في قوله { إِنّي عَبْدُ اللّهِ ْ} ومدعون موافقته‪.‬‬

‫جعَلَنِي نَبِيّا ْ} فأخبرهم بأنه عبد ال‪ ،‬وأن ال‬


‫{ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ ْ} أي‪ :‬قضى أن يؤتيني الكتب { وَ َ‬
‫جعَلَنِي‬
‫علمه الكتاب‪ ،‬وجعله من جملة أنبيائه‪ ،‬فهذا من كماله لنفسه‪ ،‬ثم ذكر تكميله لغيره فقال‪ { :‬وَ َ‬
‫مُبَا َركًا أَيْنَ مَا كُ ْنتُ ْ} أي‪ :‬في أي‪ :‬مكان‪ ،‬وأي‪ :‬زمان‪ ،‬فالبركة جعلها ال فيّ من تعليم الخير‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬والنهي عن الشر‪ ،‬والدعوة إلى ال في أقواله وأفعاله‪ ،‬فكل من جالسه‪ ،‬أو اجتمع به‪،‬‬
‫نالته بركته‪ ،‬وسعد به مصاحبه‪.‬‬

‫{ وََأ ْوصَانِي بِالصّلَا ِة وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا ْ} أي‪ :‬أوصاني بالقيام بحقوقه‪ ،‬التي من أعظمها الصلة‪،‬‬
‫وحقوق عباده‪ ،‬التي أجلها الزكاة‪ ،‬مدة حياتي‪ ،‬أي‪ :‬فأنا ممتثل لوصية ربي‪ ،‬عامل عليها‪ ،‬منفذ لها‪،‬‬
‫ووصاني أيضا‪ ،‬أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الحسان‪ ،‬وأقوم بما ينبغي له‪ ،‬لشرفها وفضلها‪،‬‬
‫ولكونها والدة لها حق الولدة وتوابعها‪.‬‬

‫شقِيّا ْ} في دنياي أو أخراي‪ ،‬فلم‬


‫جعَلْنِي جَبّارًا ْ} أي‪ :‬متكبرا على ال‪ ،‬مترفعا على عباده { َ‬
‫{ وَلَمْ يَ ْ‬
‫يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذلل‪ ،‬متواضعا لعباد ال‪ ،‬سعيدا في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬أنا ومن اتبعني‪.‬‬

‫ت وَ َيوْمَ َأمُوتُ وَيَوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا ْ}‬


‫فلما تم له الكمال‪ ،‬ومحامد الخصال قال‪ { :‬وَالسّلَامُ عََليّ َيوْ َم وُلِ ْد ُ‬
‫أي‪ :‬من فضل ربي وكرمه‪ ،‬حصلت لي السلمة يوم ولدتي‪ ،‬ويوم موتي‪ ،‬ويوم بعثي‪ ،‬من الشر‬
‫والشيطان والعقوبة‪ ،‬وذلك يقتضي سلمته من الهوال‪ ،‬ودار الفجار‪ ،‬وأنه من أهل دار السلم‪،‬‬
‫فهذه معجزة عظيمة‪ ،‬وبرهان باهر‪ ،‬على أنه رسول ال‪ ،‬وعبد ال حقا‪.‬‬
‫خذَ مِنْ‬
‫حقّ الّذِي فِيهِ َيمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلّهِ أَنْ يَتّ ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 36 - 34‬ذِلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ َق ْولَ الْ َ‬
‫وَلَدٍ سُ ْبحَانَهُ ِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ * وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ‬
‫مُسْ َتقِيمٌ ْ}‬

‫أي‪ :‬ذلك الموصوف بتلك الصفات‪ ،‬عيسى بن مريم‪ ،‬من غير شك ول مرية‪ ،‬بل قول الحق‪،‬‬
‫وكلم ال‪ ،‬الذي ل أصدق منه قيل‪ ،‬ول أحسن منه حديثا‪ ،‬فهذا الخبر اليقيني‪ ،‬عن عيسى عليه‬
‫السلم‪ ،‬وما قيل فيه مما يخالف هذا‪ ،‬فإنه مقطوع ببطلنه‪.،‬وغايته أن يكون شكا من قائله ل علم‬
‫له به‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬الّذِي فِيهِ َيمْتَرُونَ ْ} أي‪ :‬يشكون فيمارون بشكهم‪ ،‬ويجادلون بخرصهم‪ ،‬فمن‬
‫قائل عنه‪ :‬إنه ال‪ ،‬أو ابن ال‪ ،‬أو ثالث ثلثة‪ ،‬تعالى ال عن إفكهم وتقولهم علوا كبيرا‪.‬‬

‫ن وَلَدٍ ْ} أي‪ :‬ما ينبغي ول يليق‪ ،‬لن ذلك من المور المستحيلة‪ ،‬لنه‬
‫خذَ مِ ْ‬
‫فبب { مَا كَانَ لِلّهِ أَنْ يَتّ ِ‬
‫الغني الحميد‪ ،‬المالك لجميع الممالك‪ ،‬فكيف يتخذ من عباده ومماليكه‪ ،‬ولدا؟! { سُ ْبحَانَهُ ْ} أي‪ :‬تنزه‬
‫وتقدس عن الولد والنقص‪ { ،‬إِذَا َقضَى َأمْرًا ْ} أي‪ :‬من المور الصغار والكبار‪ ،‬لم يمتنع‪ ،‬عليه‬
‫ولم يستصعب { فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ ْ} فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي‪،‬‬
‫فكيف يكون له ولد؟"‪.‬وإذا كان إذا أراد شيئا قال له‪ { :‬كُن فَ َيكُونُ ْ} فكيف يستبعد إيجاده عيسى من‬
‫غير أب؟!‪.‬‬

‫ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ ْ} الذي خلقنا‪ ،‬وصورنا‪،‬‬
‫ونفذ فينا تدبيره‪ ،‬وصرفنا تقديره‪.‬‬

‫{ فَاعْ ُبدُوهُ ْ} أي‪ :‬أخلصوا له العبادة‪ ،‬واجتهدوا في النابة‪ ،‬وفي هذا القرار بتوحيد الربوبية‪،‬‬
‫وتوحيد اللهية‪ ،‬والستدلل بالول على الثاني‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ ْ} أي‪ :‬طريق‬
‫معتدل‪ ،‬موصل إلى ال‪ ،‬لكونه طريق الرسل وأتباعهم‪ ،‬وما عدا هذا‪ ،‬فإنه من طرق الغي‬
‫والضلل‪.‬‬

‫سمِعْ ِب ِهمْ‬
‫شهَدِ َيوْمٍ عَظِيمٍ * أَ ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 38 - 37‬فَاخْ َتَلفَ الَْأحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا مِنْ مَ ْ‬
‫وَأَ ْبصِرْ َيوْمَ يَأْتُونَنَا َلكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ْ}‬

‫لما بين تعالى حال عيسى بن مريم الذي ل يشك فيها ول يمترى‪ ،‬أخبر أن الحزاب‪ ،‬أي‪ :‬فرق‬
‫الضلل‪ ،‬من اليهود والنصارى وغيرهم‪ ،‬على اختلف طبقاتهم اختلفوا في عيسى عليه السلم‪،‬‬
‫فمن غال فيه وجاف‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬إنه ال‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إنه ابن ال‪.‬ومنهم من قال‪ :‬إنه ثالث‬
‫ثلثة‪.‬ومنهم من لم يجعله رسول‪ ،‬بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود‪..‬وكل هؤلء أقوالهم باطلة‪،‬‬
‫وآراؤهم فاسدة‪ ،‬مبنية على الشك والعناد‪ ،‬والدلة الفاسدة‪ ،‬والشبه الكاسدة‪ ،‬وكل هؤلء مستحقون‬
‫للوعيد الشديد‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا ْ} بال ورسله وكتبه‪ ،‬ويدخل فيهم اليهود‬
‫عظِيمٍ ْ} أي‪ :‬مشهد يوم القيامة‪ ،‬الذي‬
‫ش َهدِ َيوْمٍ َ‬
‫والنصارى‪ ،‬القائلون بعيسى قول الكفر‪ { .‬مِنْ مَ ْ‬
‫يشهده الولون والخرون‪ ،‬أهل السماوات وأهل الرض‪ ،‬الخالق والمخلوق‪ ،‬الممتلئ بالزلزل‬
‫والهوال‪ ،‬المشتمل على الجزاء بالعمال‪ ،‬فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون‪ ،‬وما كانوا‬
‫يكتمون‪.‬‬

‫سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ َيوْمَ يَأْتُونَنَا ْ} أي‪ :‬ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم!‪ .‬فيقرون بكفرهم‬
‫{ َأ ْ‬
‫وشركهم وأقوالهم‪ ،‬ويقولون‪ { :‬ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ْ} ففي‬
‫القيامة‪ ،‬يستيقنون حقيقة ما هم عليه‪.‬‬

‫{ َلكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ْ} وليس لهم عذر في هذا الضلل‪ ،‬لنهم بين معاند ضال‬
‫على بصيرة‪ ،‬عارف بالحق‪ ،‬صادف عنه‪ ،‬وبين ضال عن طريق الحق‪ ،‬متمكن من معرفة الحق‬
‫والصواب‪ ،‬ولكنه راض بضلله وما هو عليه من سوء أعماله‪ ،‬غير ساع في معرفة الحق من‬
‫الباطل‪ ،‬وتأمل كيف قال‪َ { :‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا ْ} بعد قوله { فَاخْتََلفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ ْ} ولم يقل "‬
‫فويل لهم " ليعود الضمير إلى الحزاب‪ ،‬لن من الحزاب المختلفين‪ ،‬طائفة أصابت الصواب‪،‬‬
‫ووافقت الحق‪ ،‬فقالت في عيسى‪ " :‬إنه عبد ال ورسوله " فآمنوا به‪ ،‬واتبعوه‪ ،‬فهؤله مؤمنون‪،‬‬
‫غير داخلين في هذا الوعيد‪ ،‬فلهذا خص ال بالوعيد الكافرين‪.‬‬

‫غفْلَ ٍة وَهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * إِنّا َنحْنُ‬


‫ضيَ الَْأمْرُ وَهُمْ فِي َ‬
‫{ ‪ { }ْ 40 - 39‬وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ ا ْلحَسْ َرةِ ِإذْ ُق ِ‬
‫جعُونَ ْ}‬
‫نَ ِرثُ الْأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬

‫النذار هو‪ :‬العلم بالمخوف على وجه الترهيب‪ ،‬والخبار بصفاته‪ ،‬وأحق ما ينذر به ويخوف‬
‫به العباد‪ ،‬يوم الحسرة حين يقضى المر‪ ،‬فيجمع الولون والخرون في موقف واحد‪ ،‬ويسألون‬
‫عن أعمالهم‪.،‬فمن آمن بال‪ ،‬واتبع رسله‪ ،‬سعد سعادة ل يشقى بعدها‪.،‬ومن لم يؤمن بال ويتبع‬
‫رسله شقي شقاوة ل سعادة بعدها‪ ،‬وخسر نفسه وأهله‪ .،‬فحينئذ يتحسر‪ ،‬ويندم ندامة تتقطع منها‬
‫القلوب‪ ،‬وتنصدع منها الفئدة‪ ،‬وأي‪ :‬حسرة أعظم من فوات رضا ال وجنته‪ ،‬واستحقاق سخطه‬
‫والنار‪ ،‬على وجه ل يتمكن من الرجوع‪ ،‬ليستأنف العمل‪ ،‬ول سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى‬
‫الدنيا؟! فهذا قدامهم‪ ،‬والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا المر العظيم ل يخطر بقلوبهم‪ ،‬ولو‬
‫خطر فعلى سبيل الغفلة‪ ،‬قد عمتهم الغفلة‪ ،‬وشملتهم السكرة‪ ،‬فهم ل يؤمنون بال‪ ،‬ول يتبعون‬
‫رسله‪ ،‬قد ألهتهم دنياهم‪ ،‬وحالت بينهم وبين اليمان شهواتهم المنقضية الفانية‪.‬‬
‫فالدنيا وما فيها‪ ،‬من أولها إلى آخرها‪ ،‬ستذهب عن أهلها‪ ،‬ويذهبون عنها‪ ،‬وسيرث ال الرض‬
‫ومن عليها‪ ،‬ويرجعهم إليه‪ ،‬فيجازيهم بما عملوا فيها‪ ،‬وما خسروا فيها أو ربحوا‪ ،‬فمن فعل خيرا‬
‫فليحمد ال‪ ،‬ومن وجد غير ذلك‪ ،‬فل يلومن إل نفسه‪.‬‬

‫ن صِدّيقًا نَبِيّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَ َبتِ لِمَ َتعْبُدُ مَا‬
‫{ ‪ { }ْ 50 - 41‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَا َ‬
‫سمَعُ وَلَا يُ ْبصِ ُر وَلَا ُيغْنِي عَ ْنكَ شَيْئًا * يَا أَ َبتِ إِنّي َقدْ جَاءَنِي مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلمْ يَأْ ِتكَ فَاتّ ِبعْنِي َأهْ ِدكَ‬
‫لَا يَ ْ‬
‫عصِيّا * يَا أَ َبتِ إِنّي أَخَافُ أَنْ‬
‫حمَنِ َ‬
‫سوِيّا * يَا أَ َبتِ لَا َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ‬
‫صِرَاطًا َ‬
‫غبٌ أَ ْنتَ عَنْ آِلهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ َلمْ تَنْتَهِ‬
‫حمَنِ فَ َتكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّا * قَالَ أَرَا ِ‬
‫سكَ عَذَابٌ مِنَ الرّ ْ‬
‫َيمَ ّ‬
‫حفِيّا * وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا‬
‫ك وَا ْهجُرْنِي مَلِيّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَ ْيكَ سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ‬
‫جمَ ّن َ‬
‫لَأَرْ ُ‬
‫شقِيّا * فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ‬
‫تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَأَدْعُو رَبّي عَسَى أَلّا َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ‬
‫جعَلْنَا َلهُمْ لِسَانَ‬
‫حمَتِنَا وَ َ‬
‫جعَلْنَا نَبِيّا * َووَهَبْنَا َلهُمْ مِنْ َر ْ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ َوكُلّا َ‬
‫دُونِ اللّ ِه وَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَا َ‬
‫صِدْقٍ عَلِيّا ْ}‬

‫أجل الكتب وأفضلها وأعلها‪ ،‬هذا الكتاب المبين‪ ،‬والذكر الحكيم‪ ،‬فإن ذكر فيه الخبار‪ ،‬كانت‬
‫أصدق الخبار وأحقها‪ ،‬وإن ذكر فيه المر والنهي‪ ،‬كانت أجل الوامر والنواهي‪ ،‬وأعدلها‬
‫وأقسطها‪ ،‬وإن ذكر فيه الجزاء والوعد والوعيد‪ ،‬كان أصدق النباء وأحقها وأدلها على الحكمة‬
‫والعدل والفضل‪ .،‬وإن ذكر فيه النبياء والمرسلون‪ ،‬كان المذكور فيه‪ ،‬أكمل من غيره وأفضل‪،‬‬
‫ولهذا كثيرا ما يبدئ ويعيد في قصص النبياء‪ ،‬الذين فضلهم على غيرهم‪ ،‬ورفع قدرهم‪ ،‬وأعلى‬
‫أمرهم‪ ،‬بسبب ما قاموا به‪ ،‬من عبادة ال ومحبته‪ ،‬والنابة إليه‪ ،‬والقيام بحقوقه‪ ،‬وحقوق العباد‪،‬‬
‫ودعوة الخلق إلى ال‪ ،‬والصبر على ذلك‪ ،‬والمقامات الفاخرة‪ ،‬والمنازل العالية‪ .،‬فذكر ال في هذه‬
‫السورة جملة من النبياء‪ ،‬يأمر ال رسوله أن يذكرهم‪ ،‬لن في ذكرهم إظهار الثناء على ال‬
‫وعليهم‪ ،‬وبيان فضله وإحسانه إليهم‪ .،‬وفيه الحث على اليمان بهم ومحبتهم‪ ،‬والقتداء بهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقًا نَبِيّا ْ} جمع ال له بين الصديقية والنبوة‪.‬‬

‫فالصديق‪ :‬كثير الصدق‪ ،‬فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله‪ ،‬المصدق بكل ما أمر بالتصديق‬
‫به‪.،‬وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب‪ ،‬المؤثر فيه‪ ،‬الموجب لليقين‪ ،‬والعمل الصالح‬
‫الكامل‪ .،‬وإبراهيم عليه السلم‪ ،‬هو أفضل النبياء كلهم بعد محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو الب‬
‫الثالث للطوائف الفاضلة‪ ،‬وهو الذي جعل ال في ذريته النبوة والكتاب‪ ،‬وهو الذي دعا الخلق إلى‬
‫ال‪ ،‬وصبر على ما ناله من العذاب العظيم‪ ،‬فدعا القريب والبعيد‪ ،‬واجتهد في دعوة أبيه‪ ،‬مهما‬
‫أمكنه‪ ،‬وذكر ال مراجعته إياه‪ ،‬فقال‪ { :‬إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ْ} مهجنا له عبادة الوثان‪ { :‬يَا أَ َبتِ لِمَ َتعْبُدُ مَا‬
‫سمَعُ وَلَا يُ ْبصِ ُر وَلَا ُيغْنِي عَ ْنكَ شَيْئًا ْ} أي‪ :‬لم تعبد أصناما‪ ،‬ناقصة في ذاتها‪ ،‬وفي أفعالها‪ ،‬فل‬
‫لَا يَ ْ‬
‫تسمع‪ ،‬ول تبصر‪ ،‬ول تملك لعابدها نفعا ول ضرا‪ ،‬بل ل تملك لنفسها شيئا من النفع‪ ،‬ول تقدر‬
‫على شيء من الدفع‪ ،‬فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقل‬
‫وشرعا‪ .‬ودل بتنبيهه وإشارته‪ ،‬أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال‪ ،‬الذي ل ينال العباد‬
‫نعمة إل منه‪ ،‬ول يدفع عنهم نقمة إل هو‪ ،‬وهو ال تعالى‪.‬‬

‫{ يَا أَ َبتِ إِنّي َقدْ جَاءَنِي مِنَ ا ْلعِ ْلمِ مَا لَمْ يَأْ ِتكَ ْ} أي‪ :‬يا أبت ل تحقرني وتقول‪ :‬إني ابنك‪ ،‬وإن عندك‬
‫ما ليس عندي‪ ،‬بل قد أعطاني ال من العلم ما لم يعطك‪ ،‬والمقصود من هذا قوله‪ { :‬فَاتّ ِبعْنِي أَ ْه ِدكَ‬
‫سوِيّا ْ} أي‪ :‬مستقيما معتدل‪ ،‬وهو‪ :‬عبادة ال وحده ل شريك له‪ ،‬وطاعته في جميع‬
‫صِرَاطًا َ‬
‫الحوال‪.،‬وفي هذا من لطف الخطاب ولينه‪ ،‬ما ل يخفى‪ ،‬فإنه لم يقل‪ " :‬يا أبت أنا عالم‪ ،‬وأنت‬
‫جاهل " أو " ليس عندك من العلم شيء " وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما‪ ،‬وأن‬
‫الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك‪ ،‬فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها‪.‬‬

‫عهَدْ‬
‫{ يَا أَ َبتِ لَا َتعْبُدِ الشّيْطَانَ ْ} لن من عبد غير ال‪ ،‬فقد عبد الشيطان‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬أَلَمْ أَ ْ‬
‫إِلَ ْيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا َتعْبُدُوا الشّيْطَانَ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ ْ}‬

‫عصِيّا ْ} فمن اتبع خطواته‪ ،‬فقد اتخذه وليا وكان عاصيا ل بمنزلة‬
‫حمَنِ َ‬
‫{ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ‬
‫الشيطان‪ .‬وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن‪ ،‬إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من‬
‫رحمة ال‪ ،‬وتغلق عليه أبوابها‪.،‬كما أن الطاعة أكبر السباب لنيل رحمته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬يَا أَ َبتِ‬
‫حمَنِ ْ} أي‪ :‬بسبب إصرارك على الكفر‪ ،‬وتماديك في الطغيان {‬
‫عذَابٌ مِنَ الرّ ْ‬
‫سكَ َ‬
‫إِنّي أَخَافُ أَنْ َيمَ ّ‬
‫ن وَلِيّا ْ} أي‪ :‬في الدنيا والخرة‪ ،‬فتنزل بمنازله الذميمة‪ ،‬وترتع في مراتعه الوخيمة‪،‬‬
‫فَ َتكُونَ لِلشّيْطَا ِ‬
‫‪.‬فتدرج الخليل عليه السلم بدعوة أبيه‪ ،‬بالسهل فالسهل‪ ،‬فأخبره بعلمه‪ ،‬وأن ذلك موجب لتباعك‬
‫إياي‪ ،‬وأنك إن أطعتني‪ ،‬اهتديت إلى صراط مستقيم‪ ،‬ثم نهاه عن عبادة الشيطان‪ ،‬وأخبره بما فيها‬
‫من المضار‪ ،‬ثم حذره عقاب ال ونقمته إن أقام على حاله‪ ،‬وأنه يكون وليا للشيطان‪ ،‬فلم ينجع هذا‬
‫غبٌ أَ ْنتَ عَنْ آِلهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ْ} فتبجح‬
‫الدعاء بذلك الشقي‪ ،‬وأجاب بجواب جاهل وقال‪ { :‬أَرَا ِ‬
‫بآلهته [التي هي] من الحجر والصنام‪ ،‬ولم إبراهيم عن رغبته عنها‪ ،‬وهذا من الجهل المفرط‪،‬‬
‫والكفر الوخيم‪ ،‬يتمدح بعبادة الوثان‪ ،‬ويدعو إليها‪.‬‬

‫جمَ ّنكَ ْ} أي‪ :‬قتل بالحجارة‬


‫{ لَئِنْ لَمْ تَنْ َتهِ ْ} أي‪ :‬عن شتم آلهتي‪ ،‬ودعوتي إلى عبادة ال { لَأَرْ ُ‬
‫{ وَا ْهجُرْنِي مَلِيّا ْ} أي‪ :‬ل تكلمني زمانا طويل‪ ،‬فأجابه الخليل جواب عباد الرحمن عند خطاب‬
‫الجاهلين‪ ،‬ولم يشتمه‪ ،‬بل صبر‪ ،‬ولم يقابل أباه بما يكره‪ ،‬وقال‪ { :‬سَلَامٌ عَلَ ْيكَ ْ} أي‪ :‬ستسلم من‬
‫حفِيّا ْ} أي‪ :‬ل أزال أدعو‬
‫خطابي إياك بالشتم والسب وبما تكره‪ { ،‬سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ‬
‫حفِيّا ْ}‬
‫ال لك بالهداية والمغفرة‪ ،‬بأن يهديك للسلم‪ ،‬الذي تحصل به المغفرة‪ ،‬فبب { إِنّهُ كَانَ بِي َ‬
‫أي‪ :‬رحيما رءوفا بحالي‪ ،‬معتنيا بي‪ ،‬فلم يزل يستغفر ال له رجاء أن يهديه ال‪ ،‬فلما تبين له أنه‬
‫عدو ل‪ ،‬وأنه ل يفيد فيه شيئا‪ ،‬ترك الستغفار له‪ ،‬وتبرأ منه‪.‬‬

‫وقد أمرنا ال باتباع ملة إبراهيم‪ ،‬فمن اتباع ملته‪ ،‬سلوك طريقه في الدعوة إلى ال‪ ،‬بطريق العلم‬
‫والحكمة واللين والسهولة‪ ،‬والنتقال من مرتبة إلى مرتبة والصبر على ذلك‪ ،‬وعدم السآمة منه‪،‬‬
‫والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل‪ ،‬ومقابلة ذلك بالصفح والعفو‪ ،‬بل‬
‫بالحسان القولي والفعلي‪.‬‬

‫فلما أيس من قومه وأبيه قال‪ { :‬وَأَعْتَزُِلكُمْ َومَا َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬أنتم وأصنامكم { وَأَدْعُو‬
‫شقِيّا ْ} أي‪ :‬عسى‬
‫رَبّي ْ} وهذا شامل لدعاء العبادة‪ ،‬ودعاء المسألة { عَسَى أن ل َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ‬
‫ال أن يسعدني بإجابة دعائي‪ ،‬وقبول أعمالي‪. ،‬وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم‪ ،‬فاتبعوا‬
‫أهواءهم‪ ،‬فلم تنجع فيهم المواعظ‪ ،‬فأصروا في طغيانهم يعمهون‪ ،‬أن يشتغل بإصلح نفسه‪،‬‬
‫ويرجو القبول من ربه‪ ،‬ويعتزل الشر وأهله‪.‬‬

‫ولما كان مفارقة النسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه‪ ،‬من أشق شيء على النفس‪ ،‬لمور كثيرة‬
‫معروفة‪ ،‬ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر‪ ،‬وكان من ترك شيئا ل عوضه ال خيرا منه‪،‬‬
‫سحَاقَ‬
‫واعتزل إبراهيم قومه‪ ،‬قال ال في حقه‪ { :‬فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَهَبْنَا َلهُ إِ ْ‬
‫جعَلْنَا نَبِيّا ْ} فحصل له هبة هؤلء الصالحين المرسلين إلى‬
‫وَ َيعْقُوبَ َوكُلّا ْ} من إسحاق ويعقوب { َ‬
‫الناس‪ ،‬الذين خصهم ال بوحيه‪ ،‬واختارهم لرسالته‪ ،‬واصطفاهم من العالمين‪.‬‬

‫حمَتِنَا ْ} وهذا يشمل جميع ما وهب ال لهم من‬


‫{ َووَهَبْنَا َلهُمْ ْ} أي‪ :‬لبراهيم وابنيه { مِنْ َر ْ‬
‫الرحمة‪ ،‬من العلوم النافعة‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬والذرية الكثيرة المنتشرة‪ ،‬الذين قد كثر فيهم‬
‫علِيّا ْ} وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم‪ ،‬لن‬
‫جعَلْنَا َلهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ َ‬
‫النبياء والصالحون‪ { .‬وَ َ‬
‫ال وعد كل محسن‪ ،‬أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه‪ ،‬وهؤلء من أئمة المحسنين‪ ،‬فنشر ال‬
‫الثناء الحسن الصادق غير الكاذب‪ ،‬العالي غير الخفي‪ ،‬فذكرهم مل الخافقين‪ ،‬والثناء عليهم‬
‫ومحبتهم‪ ،‬امتلت بها القلوب‪ ،‬وفاضت بها اللسنة‪ ،‬فصاروا قدوة للمقتدين‪ ،‬وأئمة للمهتدين‪.،‬ول‬
‫تزال أذكارهم في سائر العصور‪ ،‬متجددة‪ ،‬وذلك فضل ال يؤتيه من يشاء‪ ،‬وال ذو الفضل‬
‫العظيم‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 53 - 51‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَى إِنّهُ كَانَ مُخَْلصًا َوكَانَ رَسُولًا نَبِيّا *وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ‬
‫حمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّا }‬
‫ن َوقَرّبْنَاهُ َنجِيّا * َووَهَبْنَا لَهُ مِنْ َر ْ‬
‫الطّورِ الْأَ ْيمَ ِ‬
‫أي‪ :‬واذكر في هذا القرآن العظيم موسى بن عمران‪ ،‬على وجه التبجيل له والتعظيم‪ ،‬والتعريف‬
‫بمقامه الكريم‪ ،‬وأخلقه الكاملة‪ { ،‬إِنّهُ كَانَ مُخَْلصًا } قرئ بفتح اللم‪ ،‬على معنى أن ال تعالى‬
‫اختاره واستخلصه‪ ،‬واصطفاه على العالمين‪ .‬وقرئ بكسرها‪ ،‬على معنى أنه كان مخلص ل‬
‫تعالى‪ ،‬في جميع أعماله‪ ،‬وأقواله‪ ،‬ونياته‪ ،‬فوصفه الخلص في جميع أحواله‪ ،‬والمعنيان‬
‫متلزمان‪ ،‬فإن ال أخلصه لخلصه‪ ،‬وإخلصه‪ ،‬موجب لستخلصه‪ ،‬وأجل حالة يوصف بها‬
‫العبد‪ ،‬الخلص منه‪ ،‬والستخلص من ربه‪َ { .‬وكَانَ رَسُولًا نَبِيّا } أي‪ :‬جمع ال له بين الرسالة‬
‫والنبوة‪ ،‬فالرسالة تقتضي تبليغ كلم المرسل‪ ،‬وتبليغ جميع ما جاء به من الشرع‪ ،‬دقه وجله‪.‬‬
‫والنبوة تقتضي إيحاء ال إليه وتخصيصه بإنزال الوحي إليه‪ ،‬فالنبوة بينه وبين ربه‪ ،‬والرسالة بينه‬
‫وبين الخلق‪ ،‬بل خصه ال من أنواع الوحي‪ ،‬بأجل أنواعه وأفضلها‪ ،‬وهو‪ :‬تكليمه تعالى وتقريبه‬
‫مناجيا ل تعالى‪ ،‬وبهذا اختص من بين النبياء‪ ،‬بأنه كليم الرحمن‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ‬
‫الطّورِ الْأَ ْيمَنِ } أي‪ :‬اليمن من موسى في وقت‪.‬مسيره‪ ،‬أو اليمن‪ :‬أي‪ :‬البرك من اليمن‬
‫حوَْلهَا } { َوقَرّبْنَاهُ نَجِيّا‬
‫والبركة‪ .‬ويدل على هذا المعنى قوله تعالى‪ { :‬أَنْ بُو ِركَ مَنْ فِي النّا ِر َومَنْ َ‬
‫} والفرق بين النداء والنجاء‪ ،‬أن النداء هو الصوت الرفيع‪ ،‬والنجاء ما دون ذلك‪ ،‬وفي هذه إثبات‬
‫الكلم ل تعالى وأنواعه‪ ،‬من النداء‪ ،‬والنجاء‪ ،‬كما هو مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬خلفا لمن‬
‫أنكر ذلك‪ ،‬من الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬ومن نحا نحوهم‪.‬‬

‫حمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّا } هذا من أكبر فضائل موسى وإحسانه‪ ،‬ونصحه‬
‫وقوله‪َ { :‬ووَهَبْنَا لَهُ مِنْ َر ْ‬
‫لخيه هارون‪ ،‬أنه سأل ربه أن يشركه في أمره‪ ،‬وأن يجعله رسول مثله‪ ،‬فاستجاب ال له ذلك‪،‬‬
‫ووهب له من رحمته أخاه هارون نبيا‪ .‬فنبوة هارون تابعة لنبوة موسى عليهما السلم‪ ،‬فساعده‬
‫على أمره‪ ،‬وأعانه عليه‪.‬‬

‫ن صَادِقَ ا ْلوَعْدِ َوكَانَ َرسُولًا نَبِيّا * َوكَانَ‬


‫سمَاعِيلَ إِنّهُ كَا َ‬
‫{ ‪ { } 55 - 54‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِ ْ‬
‫يَ ْأمُرُ أَهْلَهُ بِالصّلَاةِ وَال ّزكَاةِ َوكَانَ عِنْدَ رَبّهِ مَ ْرضِيّا }‬

‫أي‪ :‬واذكر في القرآن الكريم‪ ،‬هذا النبي العظيم‪ ،‬الذي خرج منه الشعب العربي‪ ،‬أفضل الشعوب‬
‫وأجلها‪ ،‬الذي منهم سيد ولد آدم‪.‬‬

‫ن صَا ِدقَ ا ْلوَعْدِ } أي‪ :‬ل يعد وعدا إل وفى به‪ .‬وهذا شامل للوعد الذي يعقده مع ال أو‬
‫{ إِنّهُ كَا َ‬
‫جدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ‬
‫مع العباد‪ ،‬ولهذا لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه [له] وقال‪ { :‬سَتَ ِ‬
‫الصّابِرِينَ } وفى بذلك ومكن أباه من الذبح‪ ،‬الذي هو أكبر مصيبة تصيب النسان‪ ،‬ثم وصفه‬
‫بالرسالة والنبوة‪ ،‬التي [هي] أكبر منن ال على عبده‪ ،‬وأهلها من الطبقة العليا من الخلق‪.‬‬
‫{ َوكَانَ يَ ْأمُرُ أَهَْلهُ بِالصّلَا ِة وَال ّزكَاةِ } أي‪ :‬كان مقيما لمر ال على أهله‪ ،‬فيأمرهم بالصلة‬
‫المتضمنة للخلص للمعبود‪ ،‬وبالزكاة المتضمنة للحسان إلى العبيد‪ ،‬فكمل نفسه‪ ،‬وكمل غيره‪،‬‬
‫وخصوصا أخص الناس عنده وهم أهله‪ ،‬لنهم أحق بدعوته من غيرهم‪َ { .‬وكَانَ عِنْدَ رَبّهِ‬
‫مَ ْرضِيّا } وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه واجتهاده فيما يرضيه‪ ،‬ارتضاه ال وجعله من خواص‬
‫عباده وأوليائه المقربين‪ ،‬فرضي ال عنه‪ ،‬ورضي [هو] عن ربه‪.‬‬

‫ن صِدّيقًا نَبِيّا * وَ َر َفعْنَاهُ َمكَانًا عَلِيّا }‬


‫{ ‪ { } 57 - 56‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنّهُ كَا َ‬

‫أي‪ :‬اذكر في الكتب على وجه التعظيم والجلل‪ ،‬والوصف بصفات الكمال‪ { .‬إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ‬
‫صِدّيقًا نَبِيّا } جمع ال له بين الصديقية‪ ،‬الجامعة للتصديق التام‪ ،‬والعلم الكامل‪ ،‬واليقين الثابت‪،‬‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬وبين اصطفائه لوحيه‪ ،‬واختياره لرسالته‪.‬‬

‫{ وَ َر َفعْنَاهُ َمكَانًا عَلِيّا } أي‪ :‬رفع ال ذكره في العالمين‪ ،‬ومنزلته بين المقربين‪ ،‬فكان عالي الذكر‪،‬‬
‫عالي المنزلة‪.‬‬

‫ح َومِنْ ذُرّيّةِ‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُو ٍ‬
‫{ ‪ { } 58‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مِنَ النّبِيّينَ مِنْ ذُرّيّةِ آدَمَ َومِمّنْ َ‬
‫سجّدًا وَ ُبكِيّا }‬
‫حمَنِ خَرّوا ُ‬
‫ل َو ِممّنْ َهدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُ الرّ ْ‬
‫إِبْرَاهِي َم وَإِسْرَائِي َ‬

‫لما ذكر هؤلء النبياء المكرمين‪ ،‬وخواص المرسلين‪ ،‬وذكر فضائلهم ومراتبهم قال‪ { :‬أُولَ ِئكَ‬
‫الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ } أي‪ :‬أنعم ال عليهم نعمة ل تلحق‪ ،‬ومنة ل تسبق‪ ،‬من النبوة‬
‫والرسالة‪ ،‬وهم الذين أمرنا أن ندعو ال أن يهدينا صراط الذين أنعمت عليهم‪ ،‬وأن من أطاع ال‪،‬‬
‫حمَلْنَا مَعَ‬
‫كان { مَعَ الّذِينَ أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ } الية‪ .‬وأن بعضهم { مِنْ ذُرّيّةِ آدَمَ َومِمّنْ َ‬
‫نُوحٍ } أي‪ :‬من ذريته { َومِنْ ذُرّيّةِ إِبْرَاهِي َم وَإِسْرَائِيلَ } فهذه خير بيوت العالم‪ ،‬اصطفاهم ال‪،‬‬
‫واختارهم‪ ،‬واجتباهم‪ .،‬وكان حالهم عند تلوة آيات الرحمن عليهم‪ ،‬المتضمنة للخبار بالغيوب‬
‫وصفات علم الغيوب‪ ،‬والخبار باليوم الخر‪ ،‬والوعد والوعيد‪.‬‬

‫سجّدًا وَ ُبكِيّا } أي‪ :‬خضعوا ليات ال‪ ،‬وخشعوا لها‪ ،‬وأثرت في قلوبهم من اليمان‬
‫{ خَرّوا ُ‬
‫والرغبة والرهبة‪ ،‬ما أوجب لهم البكاء والنابة‪ ،‬والسجود لربهم‪ ،‬ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا‬
‫آيات ال خروا عليها صما وعميانا‪.‬‬
‫وفي إضافة اليات إلى اسمه { الرحمن } دللة على أن آياته‪ ،‬من رحمته بعباده وإحسانه إليهم‬
‫حيث هداهم بها إلى الحق‪ ،‬وبصرهم من العمى‪ ،‬وأنقذهم من الضللة‪ ،‬وعلمهم من الجهالة‪.‬‬

‫س ْوفَ يَ ْلقَوْنَ غَيّا *‬


‫ش َهوَاتِ فَ َ‬
‫خَلفَ مِنْ َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُوا الصّلَاةَ وَاتّ َبعُوا ال ّ‬
‫{ ‪ { } 63 - 59‬فَ َ‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّ َة وَلَا ُيظَْلمُونَ شَيْئًا * جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ‬
‫ن وَ َ‬
‫ب وَآمَ َ‬
‫إِلّا مَنْ تَا َ‬
‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا ِإلّا سَلَامًا وََلهُمْ رِ ْز ُقهُمْ فِيهَا ُبكْ َرةً‬
‫ن وَعْ ُدهُ مَأْتِيّا * لَا يَ ْ‬
‫حمَنُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ إِنّهُ كَا َ‬
‫الرّ ْ‬
‫وَعَشِيّا * تِ ْلكَ ا ْلجَنّةُ الّتِي نُو ِرثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ َتقِيّا }‬

‫لما ذكر تعالى هؤلء النبياء المخلصون المتبعون لمراضي ربهم‪ ،‬المنيبون إليه‪ ،‬ذكر من أتى‬
‫بعدهم‪ ،‬وبدلوا ما أمروا به‪ ،‬وأنه خلف من بعدهم خلف‪ ،‬رجعوا إلى الخلف والوراء‪ ،‬فأضاعوا‬
‫الصلة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها‪ ،‬فتهاونوا بها وضيعوها‪ ،‬وإذا ضيعوا الصلة التي‬
‫هي عماد الدين‪ ،‬وميزان اليمان والخلص لرب العالمين‪ ،‬التي هي آكد العمال‪ ،‬وأفضل‬
‫الخصال‪ ،‬كانوا لما سواها من دينهم أضيع‪ ،‬وله أرفض‪ ،‬والسبب الداعي لذلك‪ ،‬أنهم اتبعوا شهوات‬
‫أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها‪ ،‬مقدمة لها على حقوق ال‪.،‬فنشأ من ذلك التضييع‬
‫لحقوقه‪ ،‬والقبال على شهوات أنفسهم‪ ،‬مهما لحت لهم‪ ،‬حصلوها‪ ،‬وعلى أي‪ :‬وجه اتفقت‬
‫تناولوها‪.‬‬

‫سوْفَ يَ ْل َقوْنَ غَيّا } أي‪ :‬عذابا مضاعفا شديدا‪ ،‬ثم استثنى تعالى فقال‪ { :‬إِلّا مَنْ تَابَ } عن‬
‫{ َف َ‬
‫الشرك والبدع والمعاصي‪ ،‬فأقلع عنها وندم عليها‪ ،‬وعزم عزما جازما أن ل يعاودها‪ { ،‬وَآمَنَ }‬
‫ل صَالِحًا } وهو العمل الذي شرعه ال على‬
‫عمِ َ‬
‫بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ { ،‬وَ َ‬
‫ألسنة رسله‪ ،‬إذا قصد به وجهه‪ { ،‬فَأُولَ ِئكَ } الذي جمعوا بين التوبة واليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪،‬‬
‫{ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ } المشتملة على النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم‪ ،‬وجوار الرب الكريم‪ { ،‬وَلَا ُيظَْلمُونَ‬
‫شَيْئًا } من أعمالهم‪ ،‬بل يجدونها كاملة‪ ،‬موفرة أجورها‪ ،‬مضاعفا عددها‪.‬‬

‫ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخلولها‪ ،‬ليست كسائر الجنات‪ ،‬وإنما هي جنات عدن‪ ،‬أي‪ :‬جنات‬
‫إقامة‪ ،‬ل ظعن فيها‪ ،‬ول حول ول زوال‪ ،‬وذلك لسعتها‪ ،‬وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور‪،‬‬
‫والبهجة والحبور‪.‬‬

‫حمَنُ } لن‬
‫حمَنُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ } أي‪ :‬التي وعدها الرحمن‪ ،‬أضافها إلى اسمه { الرّ ْ‬
‫{ الّتِي وَعَدَ الرّ ْ‬
‫فيها من الرحمة والحسان‪ ،‬ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب [بشر]‪ .‬وسماها‬
‫حمَةِ اللّهِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وأيضا ففي‬
‫ت وُجُو ُههُمْ َففِي رَ ْ‬
‫ض ْ‬
‫تعالى رحمته‪ ،‬فقال‪ { :‬وََأمّا الّذِينَ ابْ َي ّ‬
‫إضافتها إلى رحمته‪ ،‬ما يدل على استمرار سرورها‪ ،‬وأنها باقية ببقاء رحمته‪ ،‬التي هي أثرها‬
‫وموجبها‪ ،‬والعباد في هذه الية‪ ،‬المراد‪ :‬عباد إلهيته‪ ،‬الذين عبدوه‪ ،‬والتزموا شرائعه‪ ،‬فصارت‬
‫حمَنِ } ونحوه‪ ،‬بخلف عباده المماليك فقط‪ ،‬الذين لم‬
‫العبودية وصفا لهم كقوله‪ { :‬وَعِبَادُ الرّ ْ‬
‫يعبدوه‪ ،‬فهؤلء وإن كانوا عبيدا لربوبيته‪ ،‬لنه خلقهم ورزقهم‪ ،‬ودبرهم‪ ،‬فليسوا داخلين في عبيد‬
‫إلهيته العبودية الختيارية‪ ،‬التي يمدح صاحبها‪ ،‬وإنما عبوديتهم عبودية اضطرار‪ ،‬ل مدح لهم‬
‫فيها‪.‬‬

‫حمَنُ } فيكون المعنى على هذا‪ ،‬أن ال‬


‫وقوله‪ { :‬بِا ْلغَ ْيبِ } يحتمل أن تكون متعلقه ب { وَعَدَ الرّ ْ‬
‫وعدهم إياها وعدا غائبا‪ ،‬لم يشاهدوه ولم يروه فآمنوا بها‪ ،‬وصدقوا غيبها‪ ،‬وسعوا لها سعيها‪ ،‬مع‬
‫أنهم لم يروها‪ ،‬فكيف لو رأوها‪ ،‬لكانوا أشد لها طلبا‪ ،‬وأعظم فيها رغبة‪ ،‬وأكثر لها سعيا‪ ،‬ويكون‬
‫في هذا‪ ،‬مدح له بإيمانهم بالغيب‪ ،‬الذي هو اليمان النافع‪ .‬ويحتمل أن تكون متعلقة بعباده‪ ،‬أي‪:‬‬
‫الذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه‪ ،‬فهذه عبادتهم ولم يروه‪ ،‬فلو رأوه‪ ،‬لكانوا أشد له‬
‫عبادة‪ ،‬وأعظم إنابة‪ ،‬وأكثر حبا‪ ،‬وأجل شوقا‪ ،‬ويحتمل أيضا‪ ،‬أن المعنى‪ :‬هذه الجنات التي وعدها‬
‫الرحمن عباده‪ ،‬من المور التي ل تدركها الوصاف‪ ،‬ول يعلمها أحد إل ال‪ ،‬ففيه من التشويق‬
‫لها‪ ،‬والوصف المجمل‪ ،‬ما يهيج النفوس‪ ،‬ويزعج الساكن إلى طلبها‪ ،‬فيكون هذا مثل قوله‪ { :‬فَلَا‬
‫خفِيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } والمعاني كلها صحيحة ثابتة‪ ،‬ولكن‬
‫َتعْلَمُ َنفْسٌ مَا ُأ ْ‬
‫ن وَعْ ُدهُ مَأْتِيّا } لبد من وقوعه‪ ،‬فإنه ل يخلف الميعاد‪،‬‬
‫الحتمال الول أولى‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬إِنّهُ كَا َ‬
‫وهو أصدق القائلين‪.‬‬

‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا } أي‪ :‬كلما لغيا ل فائدة فيه‪ ،‬ول ما يؤثم‪ ،‬فل يسمعون فيها شتما‪ ،‬ول‬
‫{ لَا يَ ْ‬
‫سلَامًا } أي‪ :‬إل القوال السالمة من كل عيب‪،‬‬
‫عيبا‪ ،‬ول قول فيه معصية ل‪ ،‬أو قول مكدرا‪ { ،‬إِلّا َ‬
‫من ذكر ل‪ ،‬وتحية‪ ،‬وكلم سرور‪ ،‬وبشارة‪ ،‬ومطارحة الحاديث الحسنة بين الخوان‪ ،‬وسماع‬
‫خطاب الرحمن‪ ،‬والصوات الشجية‪ ،‬من الحور والملئكة والولدان‪ ،‬والنغمات المطربة‪ ،‬واللفاظ‬
‫الرخيمة‪ ،‬لن الدار‪ ،‬دار السلم‪ ،‬فليس فيها إل السلم التام في جميع الوجوه‪ { .‬وََلهُمْ رِ ْز ُق ُهمْ فِيهَا‬
‫ُبكْ َرةً وَعَشِيّا } أي‪ :‬أرزاقهم من المآكل والمشارب‪ ،‬وأنواع اللذات‪ ،‬مستمرة حيثما طلبوا‪ ،‬وفي أي‪:‬‬
‫وقت رغبوا‪ ،‬ومن تمامها ولذاتها وحسنها‪ ،‬أن تكون في أوقات معلومة‪.‬‬

‫{ ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا } ليعظم وقعها ويتم نفعها‪ ،‬فتلك الجنة التي وصفناها بما ذكر { الّتِي نُو ِرثُ مِنْ‬
‫عِبَادِنَا مَنْ كَانَ َتقِيّا } أي‪ :‬نورثها المتقين‪ ،‬ونجعلها منزلهم الدائم‪ ،‬الذي ل يظعنون عنه‪ ،‬ول‬
‫سمَاوَاتُ‬
‫ضهَا ال ّ‬
‫يبغون عنه حول‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَسَارِعُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ‬
‫وَالْأَ ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫خ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ َذِلكَ َومَا كَانَ رَ ّبكَ‬
‫{ ‪َ { } 65 - 64‬ومَا نَتَنَ ّزلُ إِلّا بَِأمْرِ رَ ّبكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا َومَا َ‬
‫سمِيّا }‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْ ُب ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ َهلْ َتعْلَمُ َلهُ َ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫نَسِيّا * َربّ ال ّ‬

‫استبطأ النبي صلى ال عليه وسلم جبريل عليه السلم مرة في نزوله إليه فقال له‪ " :‬لو تأتينا أكثر‬
‫مما تأتينا " ‪-‬تشوقا إليه‪ ،‬وتوحشا لفراقه‪ ،‬وليطمئن قلبه بنزوله‪ -‬فأنزل ال تعالى على لسان‬
‫جبريل‪َ { :‬ومَا نَتَنَ ّزلُ إِلّا بَِأمْرِ رَ ّبكَ } أي‪ :‬ليس لنا من المر شيء‪ ،‬إن أمرنا‪ ،‬ابتدرنا أمره‪ ،‬ولم‬
‫نعص له أمرا‪ ،‬كما قال عنهم‪ { :‬لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } فنحن عبيد‬
‫مأمورون‪َ { ،‬لهُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذَِلكَ } أي‪ :‬له المور الماضية والمستقبلة‬
‫والحاضرة‪ ،‬في الزمان والمكان‪ ،‬فإذا تبين أن المر كله ل‪ ،‬وأننا عبيد مدبرون‪ ،‬فيبقى المر دائرا‬
‫بين‪ " :‬هل تقتضيه الحكمة اللهية فينفذه؟ أم ل تقتضيه فيؤخره " ؟ ولهذا قال‪َ { :‬ومَا كَانَ رَ ّبكَ‬
‫ك َومَا قَلَى } بل لم يزل معتنيا‬
‫عكَ رَ ّب َ‬
‫نَسِيّا } أي‪ :‬لم يكن لينساك ويهملك‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬مَا وَدّ َ‬
‫بأمورك‪ ،‬مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة‪ ،‬وتدابيره الجميلة‪.‬‬

‫أي‪ :‬فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد‪ ،‬فل يحزنك ذلك ول يهمك‪ ،‬واعلم أن ال هو الذي أراد‬
‫ذلك‪ ،‬لما له من الحكمة فيه‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } فربوبيته للسماوات‬


‫ثم علل إحاطة علمه‪ ،‬وعدم نسيانه‪ ،‬بأنه { َربّ ال ّ‬
‫والرض‪ ،‬وكونهما على أحسن نظام وأكمله‪ ،‬ليس فيه غفلة ول إهمال‪ ،‬ول سدى‪ ،‬ول باطل‪،‬‬
‫برهان قاطع على علمه الشامل‪ ،‬فل تشغل نفسك بذلك‪ ،‬بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله‪،‬‬
‫وهو‪ :‬عبادته وحده ل شريك له‪ { ،‬وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَتِهِ } أي‪ :‬اصبر نفسك عليها وجاهدها‪ ،‬وقم‬
‫عليها أتم القيام وأكملها بحسب قدرتك‪ ،‬وفي الشتغال بعبادة ال تسلية للعابد عن جميع التعلقات‬
‫والمشتهيات‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَلَا َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِهِ أَ ْزوَاجًا مِ ْنهُمْ زَهْ َرةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا‬
‫سمِيّا } أي‪:‬‬
‫لِ َنفْتِ َنهُمْ فِيهِ } إلى أن قال‪ { :‬وَ ْأمُرْ أَهَْلكَ بِالصّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَ ْيهَا } الية‪َ { .‬هلْ َتعْلَمُ َلهُ َ‬
‫هل تعلم ل مساميا ومشابها ومماثل من المخلوقين‪ .‬وهذا استفهام بمعنى النفي‪ ،‬المعلوم بالعقل‪.‬‬
‫أي‪ :‬ل تعلم له مساميا ول مشابها‪ ،‬لنه الرب‪ ،‬وغيره مربوب‪ ،‬الخالق‪ ،‬وغيره مخلوق‪ ،‬الغني من‬
‫جميع الوجوه‪ ،‬وغيره فقير بالذات من كل وجه‪ ،‬الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه‪،‬‬
‫وغيره ناقص ليس فيه من الكمال إل ما أعطاه ال تعالى‪ ،‬فهذا برهان قاطع على أن ال هو‬
‫المستحق لفراده بالعبودية‪ ،‬وأن عبادته حق‪ ،‬وعبادة ما سواه باطل‪ ،‬فلهذا أمر بعبادته وحده‪،‬‬
‫والصطبار لها‪ ،‬وعلل ذلك بكماله وانفراده بالعظمة والسماء الحسنى‪.‬‬
‫س ْوفَ أُخْرَجُ حَيّا * َأوَلَا َي ْذكُرُ الْإِنْسَانُ أَنّا خََلقْنَاهُ مِنْ‬
‫{ ‪ { } 67 - 66‬وَ َيقُولُ الْإِنْسَانُ أَ ِئذَا مَا ِمتّ لَ َ‬
‫قَ ْبلُ وََلمْ َيكُ شَيْئًا }‬

‫المراد بالنسان هاهنا‪ ،‬كل منكر للبعث‪ ،‬مستبعد لوقوعه‪ ،‬فيقول ‪-‬مستفهما على وجه النفي والعناد‬
‫سوْفَ ُأخْرَجُ حَيّا } أي‪ :‬كيف يعيدني ال حيا بعد الموت‪ ،‬وبعد ما كنت‬
‫والكفر‪ { -‬أَئِذَا مَا ِمتّ َل َ‬
‫رميما؟" هذا ل يكون ول يتصور‪ ،‬وهذا بحسب عقله الفاسد ومقصده السيء‪ ،‬وعناده لرسل ال‬
‫وكتبه‪ ،‬فلو نظر أدنى نظر‪ ،‬وتأمل أدنى تأمل‪ ،‬لرأى استبعاده للبعث‪ ،‬في غاية السخافة‪ ،‬ولهذا ذكر‬
‫تعالى برهانا قاطعا‪ ،‬ودليل واضحا‪ ،‬يعرفه كل أحد على إمكان البعث فقال‪َ { :‬أوَلَا يَ ْذكُرُ الْإِ ْنسَانُ‬
‫ل وَلَمْ َيكُ شَيْئًا } أي‪ :‬أو ل يلفت نظره‪ ،‬ويستذكر حالته الولى‪ ،‬وأن ال خلقه أول‬
‫خَلقْنَاهُ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫أَنّا َ‬
‫مرة‪ ،‬ولم يك شيئا‪ ،‬فمن قدر على خلقه من العدم‪ ،‬ولم يكن شيئا‪ ،‬مذكورا‪ ،‬أليس بقادر على إنشائه‬
‫خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ‬
‫بعد ما تمزق‪ ،‬وجمعه بعد ما تفرق؟ وهذا كقوله‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي يَ ْبدَأُ الْ َ‬
‫}‬

‫وفي قوله‪َ { :‬أوَلَا يَ ْذكُرُ الْإِ ْنسَانُ } دعوة للنظر‪ ،‬بالدليل العقلي‪ ،‬بألطف خطاب‪ ،‬وأن إنكار من أنكر‬
‫ذلك‪ ،‬مبني على غفلة منه عن حاله الولى‪ ،‬وإل فلو تذكرها وأحضرها في ذهنه‪ ،‬لم ينكر ذلك‪.‬‬

‫جهَنّمَ جِثِيّا * ثُمّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ‬


‫حوْلَ َ‬
‫حضِرَ ّنهُمْ َ‬
‫حشُرَ ّنهُ ْم وَالشّيَاطِينَ ثُمّ لَ ُن ْ‬
‫{ ‪َ { } 70 - 68‬فوَرَ ّبكَ لَنَ ْ‬
‫حمَنِ عِتِيّا * ُثمّ لَ َنحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ ُهمْ َأوْلَى ِبهَا صِلِيّا }‬
‫ُكلّ شِيعَةٍ أَ ّيهُمْ أَشَدّ عَلَى الرّ ْ‬

‫أقسم ال تعالى وهو أصدق القائلين ‪ -‬بربوبيته‪ ،‬ليحشرن هؤلء المنكرين للبعث‪ ،‬هم وشياطينهم‬
‫جهَنّمَ جِثِيّا } أي‪ :‬جاثين على ركبهم من شدة‬
‫ح ْولَ َ‬
‫حضِرَ ّنهُمْ َ‬
‫فيجمعهم لميقات يوم معلوم‪ُ { ،‬ثمّ لَنُ ْ‬
‫الهوال‪ ،‬وكثرة الزلزال‪ ،‬وفظاعة الحوال‪ ،‬منتظرين لحكم الكبير المتعال‪ ،‬ولهذا ذكر حكمه فيهم‬
‫حمَنِ عِتِيّا } أي‪ :‬ثم لننزعن من كل طائفة‬
‫شدّ عَلَى الرّ ْ‬
‫فقال‪ُ { :‬ثمّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ ُكلّ شِيعَةٍ أَ ّيهُمْ أَ َ‬
‫وفرقة من الظالمين المشتركين في الظلم والكفر والعتو أشدهم عتوا‪ ،‬وأعظمهم ظلما‪ ،‬وأكبرهم‬
‫كفرا‪ ،‬فيقدمهم إلى العذاب‪ ،‬ثم هكذا يقدم إلى العذاب‪ ،‬الغلظ إثما‪ ،‬فالغلظ وهم في تلك الحال‬
‫ضعْفًا‬
‫متلعنون‪ ،‬يلعن بعضهم بعضا‪ ،‬ويقول أخراهم لولهم‪ { :‬رَبّنَا َهؤُلَاءِ َأضَلّونَا فَآ ِتهِمْ عَذَابًا ِ‬
‫ضلٍ }‬
‫ف وََلكِنْ لَا َتعَْلمُونَ* َوقَاَلتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ َفمَا كَانَ َلكُمْ عَلَيْنَا مِنْ َف ْ‬
‫ضعْ ٌ‬
‫ل ِ‬
‫مِنَ النّارِ قَالَ ِل ُك ّ‬
‫وكل هذا تابع لعدله وحكمته وعلمه الواسع‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ثُمّ لَ َنحْنُ أَعَْلمُ بِالّذِينَ هُمْ َأوْلَى ِبهَا صِلِيّا }‬
‫أي‪ :‬علمنا محيط بمن هو أولى صليا بالنار‪ ،‬قد علمناهم‪ ،‬وعلمنا أعمالهم واستحقاقها وقسطها من‬
‫العذاب‪.‬‬
‫{ ‪ { } 72 - 71‬وَإِنْ مِ ْنكُمْ إِلّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَ ّبكَ حَ ْتمًا َم ْقضِيّا * ثُمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَوْا وَنَذَرُ‬
‫الظّاِلمِينَ فِيهَا جِثِيّا }‬

‫وهذا خطاب لسائر الخلئق‪ ،‬برهم وفاجرهم‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬أنه ما منهم من أحد‪ ،‬إل سيرد‬
‫النار‪ ،‬حكما حتمه ال على نفسه‪ ،‬وأوعد به عباده‪ ،‬فل بد من نفوذه‪ ،‬ول محيد عن وقوعه‪.‬‬

‫واختلف في معنى الورود‪ ،‬فقيل‪ :‬ورودها‪ ،‬حضورها للخلئق كلهم‪ ،‬حتى يحصل النزعاج من‬
‫كل أحد‪ ،‬ثم بعد‪ ،‬ينجي ال المتقين‪ .‬وقيل‪ :‬ورودها‪ ،‬دخولها‪ ،‬فتكون على المؤمنين بردا وسلما‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الورود‪ ،‬هو المرور على الصراط‪ ،‬الذي هو على متن جهنم‪ ،‬فيمر الناس على قدر‬
‫أعمالهم‪ ،‬فمنهم من يمر كلمح البصر‪ ،‬وكالريح‪ ،‬وكأجاويد الخيل‪ ،‬وكأجاويد الركاب‪ ،‬ومنهم من‬
‫يسعى‪ ،‬ومنهم من يمشي مشيا‪ ،‬ومنهم من يزحف زحفا‪ ،‬ومنهم من يخطف فيلقى في النار‪ ،‬كل‬
‫بحسب تقواه‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ثمّ نُنَجّي الّذِينَ ا ّت َقوْا } ال تعالى بفعل المأمور‪ ،‬واجتناب المحظور‬
‫{ وَنَذَرُ الظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِيهَا جِثِيّا } وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم‪ ،‬وجب لهم‬
‫الخلود‪ ،‬وحق عليهم العذاب‪ ،‬وتقطعت بهم السباب‪.‬‬

‫{ ‪ { } 74 - 73‬وَإِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا َأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ َمقَامًا‬
‫وَأَحْسَنُ َندِيّا * َوكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ ُهمْ َأحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا }‬

‫أي‪ :‬وإذا تتلى على هؤلء الكفار آياتنا بينات‪ ،‬أي‪ :‬واضحات الدللة على وحدانية ال وصدق‬
‫رسله‪ ،‬توجب لمن سمعها صدق اليمان وشدة اليقان‪ ،‬قابلوها بضد ما يجب لها‪ ،‬واستهزءوا بها‬
‫وبمن آمن بها‪ ،‬واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا‪ ،‬على أنهم خير من المؤمنين‪ ،‬فقالوا معارضين‬
‫للحق‪َ { :‬أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ } أي‪ :‬نحن والمؤمنون { خَيْرٌ َمقَامًا } أي‪ :‬في الدنيا‪ ،‬من كثرة الموال‬
‫والولد‪ ،‬وتوفر الشهوات { وَأَحْسَنُ نَدِيّا } أي مجلسا‪ .‬أي‪ :‬فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة‪،‬‬
‫أنهم أكثر مال وأولدا‪ ،‬وقد حصلت لهم أكثر مطالبهم من الدنيا‪ ،‬ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة‬
‫مزوقة‪.‬‬

‫والمؤمنون بخلف هذه الحال‪ ،‬فهم خير من المؤمنين‪ ،‬وهذا دليل في غاية الفساد‪ ،‬وهو من باب‬
‫قلب الحقائق‪ ،‬وإل فكثرة الموال والولد‪ ،‬وحسن المنظر‪ ،‬كثيرا ما يكون سببا لهلك صاحبه‪،‬‬
‫حسَنُ أَثَاثًا } أي‪ :‬متاعا‪ ،‬من‬
‫وشقائه‪ ،‬وشره‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَ ْ‬
‫أوان وفرش‪ ،‬وبيوت‪ ،‬وزخارف‪ ،‬وأحسن رئيا‪ ،‬أي‪ :‬أحسن مرأى ومنظرا‪ ،‬من غضارة العيش‪،‬‬
‫وسرور اللذات‪ ،‬وحسن الصور‪ ،‬فإذا كان هؤلء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا‪ ،‬ولم يمنعهم ذلك‬
‫من حلول العقاب بهم‪ ،‬فكيف يكون هؤلء‪ ،‬وهم أقل منهم وأذل‪ ،‬معتصمين من العذاب { َأ ُكفّا ُركُمْ‬
‫خَيْرٌ مِنْ أُولَ ِئكُمْ أَمْ َل ُكمْ بَرَا َءةٌ فِي الزّبُرِ } ؟ وعلم من هذا‪ ،‬أن الستدلل على خير الخرة بخير‬
‫الدنيا من أفسد الدلة‪ ،‬وأنه من طرق الكفار‪.‬‬

‫حمَنُ مَدّا حَتّى ِإذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ ِإمّا ا ْل َعذَابَ‬


‫{ ‪ُ { } 75‬قلْ مَنْ كَانَ فِي الضّلَالَةِ فَلْ َيمْدُدْ َلهُ الرّ ْ‬
‫ضعَفُ جُ ْندًا }‬
‫وَِإمّا السّاعَةَ َفسَ َيعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ شَرّ َمكَانًا وََأ ْ‬

‫لما ذكر دليلهم الباطل‪ ،‬الدال على شدة عنادهم‪ ،‬وقوة ضللهم‪ ،‬أخبر هنا‪ ،‬أن من كان في‬
‫الضللة‪ ،‬بأن رضيها لنفسه‪ ،‬وسعى فيها‪ ،‬فإن ال يمده منها‪ ،‬ويزيده فيها حبا‪ ،‬عقوبة له على‬
‫اختيارها على الهدى‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } { وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }‬
‫لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬

‫حسَنُ نَدِيّا } { مَا يُوعَدُونَ ِإمّا‬


‫{ حَتّى إِذَا رََأوْا } أي‪ :‬القائلون‪َ { :‬أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ َمقَامًا وَأَ ْ‬
‫ا ْلعَذَابَ } بقتل أو غيره { وَِإمّا السّاعَةَ } التي هي باب الجزاء على العمال { َفسَ َيعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ‬
‫ضعَفُ جُنْدًا } أي‪ :‬فحينئذ يتبين لهم بطلن دعواهم‪ ،‬وأنها دعوى مضمحلة‪ ،‬ويتيقنون‬
‫شَرّ َمكَانًا وََأ ْ‬
‫ض َعفُ جُنْدًا } ولكن ل يفيدهم هذا العلم شيئا‪ ،‬لنه ل يمكنهم الرجوع إلى‬
‫أنهم أهل الشر‪ { ،‬وََأ ْ‬
‫الدنيا‪ ،‬فيعملون غير عملهم الول‪.‬‬

‫{ ‪ { } 76‬وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَ َدوْا ُهدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِ ْندَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدّا }‬

‫لما ذكر أنه يمد للظالمين في ضللهم‪ ،‬ذكر أنه يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته‪،‬‬
‫والهدى يشمل العلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪ .‬فكل من سلك طريقا في العلم واليمان والعمل الصالح‬
‫زاده ال منه‪ ،‬وسهله عليه ويسره له‪ ،‬ووهب له أمورا أخر‪ ،‬ل تدخل تحت كسبه‪ ،‬وفي هذا دليل‬
‫على زيادة اليمان ونقصه‪ ،‬كما قاله السلف الصالح‪ ،‬ويدل عليه قوله تعالى { وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا‬
‫إِيمَانًا } { وَإِذَا تُلِ َيتْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتُهُ زَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا }‬

‫ويدل عليه أيضا الواقع‪ ،‬فإن اليمان قول القلب واللسان‪ ،‬وعمل القلب واللسان والجوارح‪،‬‬
‫والمؤمنون متفاوتون في هذه المور‪ ،‬أعظم تفاوت‪ ،‬ثم قال‪ { :‬وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ } أي‪ :‬العمال‬
‫الباقية‪ ،‬التي ل تنقطع إذا انقطع غيرها‪ ،‬ول تضمحل‪ ،‬هي الصالحات منها‪ ،‬من صلة‪ ،‬وزكاة‪،‬‬
‫وصوم‪ ،‬وحج‪ ،‬وعمرة‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وتسبيح‪ ،‬وتكبير‪ ،‬وتحميد‪ ،‬وتهليل‪ ،‬وإحسان إلى المخلوقين‪،‬‬
‫وأعمال قلبية وبدنية‪ .‬فهذه العمال { خَيْرٌ عِنْدَ رَ ّبكَ َثوَابًا َوخَيْر مَرَدّا } أي‪ :‬خير عند ال‪ ،‬ثوابها‬
‫وأجرها‪ ،‬وكثير للعاملين نفعها وردها‪ ،‬وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه‪ ،‬فإنه ما‬
‫ثم غير الباقيات الصالحات‪ ،‬عمل ينفع‪ ،‬ول يبقى لصاحبه ثوابه ول ينجع‪ ،‬ومناسبة ذكر الباقيات‬
‫الصالحات‪-‬وال أعلم‪ -‬أنه لما ذكر أن الظالمين جعلوا أحوال الدنيا من المال والولد‪ ،‬وحسن‬
‫المقام ونحو ذلك‪ ،‬علمة لحسن حال صاحبها‪ ،‬أخبر هنا أن المر‪ ،‬ليس كما زعموا‪ ،‬بل العمل‬
‫الذي هو عنوان السعادة ومنشور الفلح‪ ،‬هو العمل بما يحبه ال ويرضاه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 82 - 77‬أفَرَأَ ْيتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا َوقَالَ لَأُوتَيَنّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطّلَعَ ا ْلغَ ْيبَ أَمِ اتّخَذَ عِنْدَ‬
‫ل وَيَأْتِينَا فَرْدًا *‬
‫ل وَ َنمُدّ َلهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ مَدّا * وَنَرِثُهُ مَا َيقُو ُ‬
‫ع ْهدًا * كَلّا سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُو ُ‬
‫حمَنِ َ‬
‫الرّ ْ‬
‫وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آِلهَةً لِ َيكُونُوا َلهُمْ عِزّا * كَلّا سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِت ِه ْم وَ َيكُونُونَ عَلَ ْيهِ ْم ضِدّا }‬

‫أي‪ :‬أفل تتعجب من حالة هذا الكافر‪ ،‬الذي جمع بين كفره بآيات ال ودعواه الكبيرة‪ ،‬أنه سيؤتى‬
‫في الخرة مال وولدا‪ ،‬أي‪ :‬يكون من أهل الجنة‪ ،‬هذا من أعجب المور‪ ،‬فلو كان مؤمنا بال‬
‫وادعى هذه الدعوى‪ ،‬لسهل المر‪.‬‬

‫وهذه الية ‪-‬وإن كانت نازلة في كافر معين‪ -‬فإنها تشمل كل كافر‪ ،‬زعم أنه على الحق‪ ،‬وأنه من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬قال ال‪ ،‬توبيخا له وتكذيبا‪َ { :‬أطّلَعَ ا ْلغَ ْيبَ } أي‪ :‬أحاط علمه بالغيب‪ ،‬حتى علم ما‬
‫ع ْهدًا } أنه‬
‫حمَنِ َ‬
‫يكون‪ ،‬وأن من جملة ما يكون‪ ،‬أنه يؤتى يوم القيامة مال وولدا؟ { َأمِ اتّخَذَ عِ ْندَ الرّ ْ‬
‫نائل ما قاله‪ ،‬أي‪ :‬لم يكن شيء من ذلك‪ ،‬فعلم أنه متقول‪ ،‬قائل ما ل علم له به‪ .‬وهذا التقسيم‬
‫والترديد‪ ،‬في غاية ما يكون من اللزام وإقامة الحجة؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند ال‬
‫في الخرة‪ ،‬ل يخلو‪ :‬إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة‪ ،‬وقد علم أن هذا ل‬
‫وحده‪ ،‬فل أحد يعلم شيئا من المستقبلت الغيبية‪ ،‬إل من أطلعه ال عليه من رسله‪.‬‬

‫وإما أن يكون متخذا عهدا عند ال‪ ،‬باليمان به‪ ،‬واتباع رسله‪ ،‬الذين عهد ال لهله‪ ،‬وأوزع أنهم‬
‫أهل الخرة‪ ،‬والناجون الفائزون‪ .‬فإذا انتفى هذان المران‪ ،‬علم بذلك بطلن الدعوى‪ ،‬ولهذا قال‬
‫تعالى‪ { :‬كَلّا } أي‪ :‬ليس المر كما زعم‪ ،‬فليس للقائل اطلع على الغيب‪ ،‬لنه كافر‪ ،‬ليس عنده‬
‫من علم الرسائل شيء‪ ،‬ول اتخذ عند الرحمن عهدا‪ ،‬لكفره وعدم إيمانه‪ ،‬ولكنه يستحق ضد ما‬
‫تقوله‪ ،‬وأن قوله مكتوب‪ ،‬محفوظ‪ ،‬ليجازى عليه ويعاقب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُولُ وَ َنمُدّ َلهُ‬
‫مِنَ ا ْلعَذَابِ مَدّا } أي‪ :‬نزيده من أنواع العقوبات‪ ،‬كما ازداد من الغي والضلل‪.‬‬

‫{ وَنَرِثُهُ مَا َيقُولُ } أي‪ :‬نرثه ماله وولده‪ ،‬فينتقل من الدنيا فردا‪ ،‬بل مال ول أهل ول أنصار ول‬
‫أعوان { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } فيرى من وخيم العذاب وأليم العقاب‪ ،‬ما هو جزاء أمثاله من الظالمين‪.‬‬
‫جلْ عَلَ ْي ِهمْ إِ ّنمَا َنعُدّ‬
‫{ ‪ { } 84 - 83‬أََلمْ تَرَ أَنّا أَ ْرسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّهُمْ أَزّا * فَلَا َتعْ َ‬
‫عدّا }‬
‫َلهُمْ َ‬

‫وهذا من عقوبة الكافرين أنهم ‪-‬لما لم يعتصموا بال‪ ،‬ولم يتمسكوا بحبل ال‪ ،‬بل أشركوا به ووالوا‬
‫أعداءه‪ ،‬من الشياطين‪ -‬سلطهم عليهم‪ ،‬وقيضهم لهم‪ ،‬فجعلت الشياطين تؤزهم إلى المعاصي أزا‪،‬‬
‫وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا‪ ،‬فيوسوسون لهم‪ ،‬ويوحون إليهم‪ ،‬ويزينون لهم الباطل‪ ،‬ويقبحون لهم‬
‫الحق‪ ،‬فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشربها‪ ،‬فيسعى فيه سعي المحق في حقه‪ ،‬فينصره بجهده‬
‫ويحارب عنه‪ ،‬ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل‪ ،‬وهذا كله‪ ،‬جزاء له على توليه من وليه وتوليه‬
‫لعدوه‪ ،‬جعل له عليه سلطان‪ ،‬وإل فلو آمن بال‪ ،‬وتوكل عليه‪ ،‬لم يكن له عليه سلطان‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫سلْطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَهُ‬


‫{ إِنّهُ لَيْسَ َلهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ* إِ ّنمَا ُ‬
‫وَالّذِينَ ُهمْ بِهِ ُمشْ ِركُونَ }‬

‫عدّا } أي أن لهم‬
‫جلْ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬على هؤلء الكفار المستعجلين بالعذاب { إِ ّنمَا َن ُعدّ َلهُمْ َ‬
‫{ فَلَا َت ْع َ‬
‫أياما معدودة ل يتقدمون عنها ول يتأخرون‪ ،‬نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر ال‪ ،‬فإذا لم‬
‫ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتدر‪.‬‬

‫جهَنّمَ وِرْدًا * لَا‬


‫حمَنِ َوفْدًا * وَنَسُوقُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ إِلَى َ‬
‫{ ‪َ { } 87 - 85‬يوْمَ َنحْشُرُ ا ْلمُ ّتقِينَ إِلَى الرّ ْ‬
‫عهْدًا }‬
‫حمَنِ َ‬
‫شفَاعَةَ إِلّا مَنِ اتّخَذَ عِ ْندَ الرّ ْ‬
‫َيمِْلكُونَ ال ّ‬

‫يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين المتقين‪ ،‬والمجرمين‪ ،‬وأن المتقين له ‪-‬باتقاء الشرك والبدع‬
‫والمعاصي‪ -‬يحشرهم إلى موقف القيامة مكرمين‪ ،‬مبجلين معظمين‪ ،‬وأن مآلهم الرحمن‪ ،‬وقصدهم‬
‫المنان‪ ،‬وفودا إليه‪ ،‬والوافد لبد أن يكون في قلبه من الرجاء‪ ،‬وحسن الظن بالوافد [إليه] ما هو‬
‫معلوم‪ ،‬فالمتقون يفدون إلى الرحمن‪ ،‬راجين منه رحمته وعميم إحسانه‪ ،‬والفوز بعطاياه في دار‬
‫رضوانه‪ ،‬وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه‪ ،‬واتباع مراضيه‪ ،‬وأن ال عهد إليهم بذلك الثواب‬
‫على ألسنة رسله فتوجهوا إلى ربهم مطمئنين به‪ ،‬واثقين بفضله‪.‬‬

‫وأما المجرمون‪ ،‬فإنهم يساقون إلى جهنم وردا‪ ،‬أي‪ :‬عطاشا‪ ،‬وهذا أبشع ما يكون من الحالت‪،‬‬
‫سوقهم على وجه الذل والصغار إلى أعظم سجن وأفظع عقوبة‪ ،‬وهو جهنم‪ ،‬في حال ظمئهم‬
‫ونصبهم يستغيثون فل يغاثون‪ ،‬ويدعون فل يستجاب لهم‪ ،‬ويستشفعون فل يشفع لهم‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬‬
‫شفَاعَةَ } أي‪ :‬ليست الشفاعة ملكهم‪ ،‬ول لهم منها شيء‪ ،‬وإنما هي ل تعالى { ُقلْ لِلّهِ‬
‫لَا َيمِْلكُونَ ال ّ‬
‫جمِيعًا } وقد أخبر أنه ل تنفعهم شفاعة الشافعين‪ ،‬لنهم لم يتخذوا عنده عهدا باليمان به‬
‫شفَاعَةُ َ‬
‫ال ّ‬
‫وبرسله‪ ،‬وإل فمن اتخذ عنده عهدا فآمن به وبرسله واتبعهم‪ ،‬فإنه ممن ارتضاه ال‪ ،‬وتحصل له‬
‫ش َفعُونَ إِلّا ِلمَنِ ارْ َتضَى } وسمى ال اليمان به واتباع رسله عهدا‪،‬‬
‫الشفاعة كما قال تعالى‪ { :‬وَلَا يَ ْ‬
‫لنه عهد في كتبه وعلى ألسنة رسله‪ ،‬بالجزاء الجميل لمن اتبعهم‪.‬‬

‫سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْهُ‬


‫ن وََلدًا * َلقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا * َتكَادُ ال ّ‬
‫حمَ ُ‬
‫خذَ الرّ ْ‬
‫{ ‪َ { } 95 - 88‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫حمَنِ أَنْ يَتّخِ َذ وََلدًا *‬
‫حمَنِ وَلَدًا * َومَا يَنْ َبغِي لِلرّ ْ‬
‫عوْا لِلرّ ْ‬
‫وَتَنْشَقّ الْأَ ْرضُ وَ َتخِرّ الْجِبَالُ هَدّا * أَنْ دَ َ‬
‫عدّا * َوكُّلهُمْ آتِيهِ‬
‫حصَاهُ ْم وَعَدّهُمْ َ‬
‫حمَنِ عَ ْبدًا * َلقَدْ َأ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ إِلّا آتِي الرّ ْ‬
‫إِنْ ُكلّ مَنْ فِي ال ّ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فَرْدًا }‬

‫وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين‪ ،‬الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا‪ ،‬كقول‬
‫النصارى‪ :‬المسيح ابن ال‪ ،‬واليهود‪ :‬عزير ابن ال‪ ،‬والمشركين‪ :‬الملئكة بنات ال‪ ،‬تعالى ال عن‬
‫قولهم علوا كبيرا‪.‬‬

‫{ َلقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا ِإدّا } أي‪ :‬عظيما وخيما‪.‬‬

‫سمَاوَاتُ } على عظمتها وصلبتها { يَ َتفَطّرْنَ مِنْهُ } أي‪ :‬من هذا القول‬
‫من عظيم أمره أنه { َتكَادُ ال ّ‬
‫شقّ الْأَ ْرضُ } منه‪ ،‬أي‪ :‬تتصدع وتنفطر { وَتَخِرّ ا ْلجِبَالُ هَدّا } أي‪ :‬تندك الجبال‪.‬‬
‫{ وَتَنْ َ‬

‫حمَنِ } أي‪ :‬من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات‪ ،‬أن يكون منها ما‬
‫عوْا لِلرّ ْ‬
‫{ أَنْ دَ َ‬
‫حمَنِ أَنْ يَتّخِ َذ وَلَدًا } وذلك لن اتخاذه‬
‫ذكر‪ .‬والحال أنه‪ { :‬مَا يَنْ َبغِي } أي‪ :‬ل يليق ول يكون { لِلرّ ْ‬
‫الولد‪ ،‬يدل على نقصه واحتياجه‪ ،‬وهو الغني الحميد‪ .‬والولد أيضا‪ ،‬من جنس والده‪ ،‬وال تعالى ل‬
‫شبيه له ول مثل ول سمي‪.‬‬

‫حمَنِ عَبْدًا } أي‪ :‬ذليل منقادا‪ ،‬غير متعاص ول‬


‫ت وَالْأَ ْرضِ إِلّا آتِي الرّ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ إِنْ ُكلّ مَنْ فِي ال ّ‬
‫ممتنع‪ ،‬الملئكة‪ ،‬والنس‪ ،‬والجن وغيرهم‪ ،‬الجميع مماليك‪ ،‬متصرف فيهم‪ ،‬ليس لهم من الملك‬
‫شيء‪ ،‬ول من التدبير شيء‪ ،‬فكيف يكون له ولد‪ ،‬وهذا شأنه وعظمة ملكه؟"‪.‬‬

‫حصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّا } أي‪ :‬لقد أحاط علمه بالخلئق كلهم‪ ،‬أهل السماوات والرض‪،‬‬
‫{ َلقَدْ أَ ْ‬
‫وأحصاهم وأحصى أعمالهم‪ ،‬فل يضل ول ينسى‪ ،‬ول تخفى عليه خافية‪.‬‬
‫{ َوكُّلهُمْ آتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فَ ْردًا } أي‪ :‬ل أولد‪ ،‬ول مال‪ ،‬ول أنصار‪ ،‬ليس معه إل عمله‪ ،‬فيجازيه‬
‫ال ويوفيه حسابه‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَى َكمَا‬
‫خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ }‬

‫ن وُدّا }‬
‫حمَ ُ‬
‫ج َعلُ َلهُمُ الرّ ْ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ سَيَ ْ‬
‫{ ‪ { } 96‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬

‫هذا من نعمه على عباده‪ ،‬الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح‪ ،‬أن وعدهم أنه يجعل لهم ودا‪،‬‬
‫أي‪ :‬محبة وودادا في قلوب أوليائه‪ ،‬وأهل السماء والرض‪ ،‬وإذا كان لهم في القلوب ود تيسر لهم‬
‫كثير من أمورهم وحصل لهم من الخيرات والدعوات والرشاد والقبول والمامة ما حصل‪ ،‬ولهذا‬
‫ورد في الحديث الصحيح‪ " :‬إن ال إذا أحب عبدا‪ ،‬نادى جبريل‪ :‬إني أحب فلنا فأحبه‪ ،‬فيحبه‬
‫جبريل‪ ،‬ثم ينادي في أهل السماء‪ :‬إن ال يحب فلنا فأحبوه‪ ،‬فيحبه أهل السماء‪ ،‬ثم يوضع له‬
‫القبول في الرض " وإنما جعل ال لهم ودا‪،‬لنهم ودوه‪ ،‬فوددهم إلى أوليائه وأحبابه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 98 - 97‬فَإِ ّنمَا يَسّرْنَاهُ بِِلسَا ِنكَ لِتُبَشّرَ ِبهِ ا ْلمُ ّتقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ َق ْومًا لُدّا * َوكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مِنْ‬
‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزًا }‬
‫حسّ مِ ْنهُمْ مِنْ َأحَدٍ َأوْ تَ ْ‬
‫قَرْنٍ َهلْ تُ ِ‬

‫يخبر تعالى عن نعمته تعالى‪ ،‬وأن ال يسر هذا القرآن الكريم بلسان الرسول محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬يسر ألفاظه ومعانيه‪ ،‬ليحصل المقصود منه والنتفاع به‪ { ،‬لِتُبَشّرَ ِبهِ ا ْلمُ ّتقِينَ } بالترغيب‬
‫في المبشر به من الثواب العاجل والجل‪ ،‬وذكر السباب الموجبة للبشارة‪ { ،‬وَتُنْذِرَ بِهِ َقوْمًا ُلدّا }‬
‫أي‪ :‬شديدين في باطلهم‪ ،‬أقوياء في كفرهم‪ ،‬فتنذرهم‪ .‬فتقوم عليهم الحجة‪ ،‬وتتبين لهم المحجة‪،‬‬
‫فيهلك من هلك عن بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن بينة‪ .‬ثم توعدهم بإهلك المكذبين قبلهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬وكَمْ‬
‫أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ } من قوم نوح‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وغيرهم من المعاندين المكذبين‪،‬‬
‫لما استمروا في ظغيانهم‪ ،‬أهلكهم ال فليس لهم من باقية‪.‬‬

‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزًا } والركز‪ :‬الصوت الخفي‪ ،‬أي‪ :‬لم يبق منهم عين‬
‫{ َهلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مِنْ أَحَدٍ َأوْ تَ ْ‬
‫ول أثر‪ ،‬بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين‪ ،‬وأسمارهم عظة للمتعظين‪.‬‬

‫تم تفسير سورة مريم‪ ،‬ول الحمد والشكر‪.‬‬

‫تفسير سورة طه‬


‫وهي مكية‬
‫شقَى * إِلّا تَ ْذكِ َرةً ِلمَنْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫حمَنُ عَلَى ا ْلعَرْشِ اسْ َتوَى * لَهُ مَا فِي‬
‫سمَاوَاتِ ا ْلعُلَا * الرّ ْ‬
‫ض وَال ّ‬
‫خشَى * تَنْزِيلًا ِممّنْ خََلقَ الْأَ ْر َ‬
‫يَ ْ‬
‫خفَى‬
‫جهَرْ بِا ْل َق ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ‬
‫حتَ الثّرَى * وَإِنْ تَ ْ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا َومَا َت ْ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫سمَاءُ الْحُسْنَى }‬
‫* اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ لَهُ الْأَ ْ‬

‫{ طه } من جملة الحروف المقطعة‪ ،‬المفتتح بها كثير من السور‪ ،‬وليست اسما للنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫شقَى } أي‪ :‬ليس المقصود بالوحي‪ ،‬وإنزال القرآن عليك‪ ،‬وشرع‬


‫{ مَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ‬
‫الشريعة‪ ،‬لتشقى بذلك‪ ،‬ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين‪ ،‬وتعجز عنه قوى العاملين‪.‬‬
‫وإنما الوحي والقرآن والشرع‪ ،‬شرعه الرحيم الرحمن‪ ،‬وجعله موصل للسعادة والفلح والفوز‪،‬‬
‫وسهله غاية التسهيل‪ ،‬ويسر كل طرقه وأبوابه‪ ،‬وجعله غذاء للقلوب والرواح‪ ،‬وراحة للبدان‪،‬‬
‫فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والذعان‪ ،‬لعلمها بما احتوى عليه من الخير في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ إِلّا تَ ْذكِ َرةً ِلمَنْ َيخْشَى } إل ليتذكر به من يخشى ال تعالى‪ ،‬فيتذكر ما فيه من الترغيب إلى أجل‬
‫المطالب‪ ،‬فيعمل بذلك‪ ،‬ومن الترهيب عن الشقاء والخسران‪ ،‬فيرهب منه‪ ،‬ويتذكر به الحكام‬
‫الحسنة الشرعية المفصلة‪ ،‬التي كان مستقرا في عقله حسنها مجمل‪ ،‬فوافق التفصيل ما يجده في‬
‫فطرته وعقله‪ ،‬ولهذا سماه ال { َت ْذكِ َرةً } والتذكرة لشيء كان موجودا‪ ،‬إل أن صاحبه غافل عنه‪،‬‬
‫أو غير مستحضر لتفصيله‪ ،‬وخص بالتذكرة { مَن َيخْشَى } لن غيره ل ينتفع به‪ ،‬وكيف ينتفع به‬
‫من لم يؤمن بجنة ول نار‪ ،‬ول في قلبه من خشية ال مثقال ذرة؟ هذا ما ل يكون‪ { ،‬سَ َي ّذكّرُ مَنْ‬
‫شقَى* الّذِي َيصْلَى النّارَ ا ْلكُبْرَى } ثم ذكر جللة هذا القرآن العظيم‪ ،‬وأنه‬
‫خشَى* وَيَتَجَنّ ُبهَا الْأَ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫تنزيل خالق الرض والسماوات‪ ،‬المدبر لجميع المخلوقات‪ ،‬أي‪ :‬فاقبلوا تنزيله بغاية الذعان‬
‫والمحبة والتسليم‪ ،‬وعظموه نهاية التعظيم‪.‬‬

‫وكثيرا ما يقرن بين الخلق والمر‪ ،‬كما في هذه الية‪ ،‬وكما في قوله‪ { :‬أَلَا لَهُ ا ْلخَلْقُ وَالَْأمْرُ } وفي‬
‫سمَاوَاتٍ َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ } وذلك أنه الخالق‬
‫قوله‪ { :‬اللّهُ الّذِي خََلقَ سَبْعَ َ‬
‫المر الناهي‪ ،‬فكما أنه ل خالق سواه‪ ،‬فليس على الخلق إلزام ول أمر ول نهي إل من خالقهم‪،‬‬
‫وأيضا فإن خلقه للخلق فيه التدبير القدري الكوني‪ ،‬وأمره فيه التدبير الشرعي الديني‪ ،‬فكما أن‬
‫الخلق ل يخرج عن الحكمة‪ ،‬فلم يخلق شيئا عبثا‪ ،‬فكذلك ل يأمر ول ينهى إل بما هو عدل وحكمة‬
‫وإحسان‪ .‬فلما بين أنه الخالق المدبر‪ ،‬المر الناهي‪ ،‬أخبر عن عظمته وكبريائه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حمَنُ عَلَى ا ْلعَرْشِ } الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها‪ { ،‬اسْ َتوَى } استواء يليق‬
‫{ الرّ ْ‬
‫بجلله‪ ،‬ويناسب عظمته وجماله‪ ،‬فاستوى على العرش‪ ،‬واحتوى على الملك‪.‬‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } من ملك وإنسي وجني‪ ،‬وحيوان‪ ،‬وجماد‪،‬‬


‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫{ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫حتَ الثّرَى } أي‪ :‬الرض‪ ،‬فالجميع ملك ل تعالى‪ ،‬عبيد مدبرون‪ ،‬مسخرون تحت‬
‫ونبات‪َ { ،‬ومَا َت ْ‬
‫قضائه وتدبيره‪ ،‬ليس لهم من الملك شيء‪ ،‬ول يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا ول موتا ول حياة‬
‫ول نشورا‪.‬‬

‫خفَى } من السر‪ ،‬الذي في القلب‪ ،‬ولم ينطق‬


‫جهَرْ بِا ْلقَ ْولِ فَإِنّهُ َيعَْلمُ السّرّ } الكلم الخفي { وَأَ ْ‬
‫{ وَإِنْ َت ْ‬
‫به‪ .‬أو السر‪ :‬ما خطر على القلب‪ { .‬وأخفى } ما لم يخطر‪ .‬يعلم تعالى أنه يخطر في وقته‪ ،‬وعلى‬
‫صفته‪ ،‬المعنى‪ :‬أن علمه تعالى محيط بجميع الشياء‪ ،‬دقيقها‪ ،‬وجليلها‪ ،‬خفيها‪ ،‬وظاهرها‪ ،‬فسواء‬
‫جهرت بقولك أو أسررته‪ ،‬فالكل سواء‪ ،‬بالنسبة لعلمه تعالى‪.‬‬

‫فلما قرر كماله المطلق‪ ،‬بعموم خلقه‪ ،‬وعموم أمره ونهيه‪ ،‬وعموم رحمته‪ ،‬وسعة عظمته‪ ،‬وعلوه‬
‫على عرشه‪ ،‬وعموم ملكه‪ ،‬وعموم علمه‪ ،‬نتج من ذلك‪ ،‬أنه المستحق للعبادة‪ ،‬وأن عبادته هي‬
‫الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة‪ ،‬وعبادة غيره باطلة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫{ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } أي‪ :‬ل معبود بحق‪ ،‬ول مألوه بالحب والذل‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬والمحبة‬
‫والنابة والدعاء‪ ،‬وإل هو‪.‬‬

‫حسْنَى } أي‪ :‬له السماء الكثيرة الكاملة الحسنى‪ ،‬من حسنها أنها كلها أسماء دالة‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫{ َلهُ الْأَ ْ‬
‫على المدح‪ ،‬فليس فيها اسم ل يدل على المدح والحمد‪ ،‬ومن حسنها أنها ليست أعلما محضة‪،‬‬
‫وإنما هي أسماء وأوصاف‪ ،‬ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة‪ ،‬وأن له من كل صفة‬
‫أكملها وأعمها وأجلها‪ ،‬ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها‪ ،‬لنها وسيلة مقربة إليه يحبها‪،‬‬
‫ويحب من يحبها‪ ،‬ويحب من يحفظها‪ ،‬ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫سمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا }‬
‫{ وَلِلّهِ الْأَ ْ‬

‫ستُ نَارًا َلعَلّي‬


‫حدِيثُ مُوسَى * ِإذْ رَأَى نَارًا َفقَالَ لِأَهْلِهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آ َن ْ‬
‫{ ‪ { } 12 - 9‬وَ َهلْ أَتَاكَ َ‬
‫آتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبقَبَسٍ َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى * فََلمّا أَتَاهَا نُو ِديَ يَا مُوسَى * إِنّي أَنَا رَ ّبكَ فَاخَْلعْ َنعْلَ ْيكَ‬
‫طوًى }‬
‫إِ ّنكَ بِا ْلوَادِي ا ْل ُمقَدّسِ ُ‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم على وجه الستفهام التقريري والتعظيم لهذه القصة‬
‫حدِيثُ مُوسَى } في حاله التي هي مبدأ سعادته‪ ،‬ومنشأ نبوته‪ ،‬أنه رأى‬
‫والتفخيم لها‪َ { :‬هلْ أَتَاكَ َ‬
‫نارا من بعيد‪ ،‬وكان قد ضل الطريق‪ ،‬وأصابه البرد‪ ،‬ولم يكن عنده ما يتدفأ به في سفره‪.‬‬

‫ستُ } أي‪ :‬أبصرت { نَارًا } وكان ذلك في جانب الطور اليمن‪َ { ،‬لعَلّي‬
‫{ َفقَالَ لِأَهْلِهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آ َن ْ‬
‫آتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبقَبَسٍ } تصطلون به { َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى } أي‪ :‬من يهديني الطريق‪ .‬وكان مطلبه‪،‬‬
‫النور الحسي والهداية الحسية‪ ،‬فوجد ثم النور المعنوي‪ ،‬نور الوحي‪ ،‬الذي تستنير به الرواح‬
‫والقلوب‪ ،‬والهداية الحقيقية‪ ،‬هداية الصراط المستقيم‪ ،‬الموصلة إلى جنات النعيم‪ ،‬فحصل له أمر لم‬
‫يكن في حسابه‪ ،‬ول خطر بباله‪.‬‬

‫{ فََلمّا أَتَاهَا } أي‪ :‬النار التي آنسها من بعيد‪ ،‬وكانت ‪-‬في الحقيقة‪ -‬نورا‪ ،‬وهي نار تحرق‬
‫وتشرق‪ ،‬ويدل على ذلك قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬حجابه النور أو النار‪ ،‬لو كشفه لحرقت‬
‫سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره " فلما وصل إليها نودي منها‪ ،‬أي‪ :‬ناداه ال‪ ،‬كما قال‪:‬‬
‫ن َوقَرّبْنَاهُ َنجِيّا }‬
‫{ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ الْأَ ْيمَ ِ‬

‫طوًى } أخبره أنه ربه‪ ،‬وأمره أن يستعد ويتهيأ‬


‫{ إِنّي أَنَا رَ ّبكَ فَاخْلَعْ َنعْلَ ْيكَ إِ ّنكَ بِا ْلوَادِ ا ْل ُمقَدّسِ ُ‬
‫لمناجاته‪ ،‬ويهتم لذلك‪ ،‬ويلقي نعليه‪ ،‬لنه بالوادي المقدس المطهر المعظم‪ ،‬ولو لم يكن من تقديسه‪،‬‬
‫إل أن ال اختاره لمناجاته كليمه موسى لكفى‪ ،‬وقد قال كثير من المفسرين‪ " :‬إن ال أمره أن يلقي‬
‫نعليه‪ ،‬لنهما من جلد حمار " فال أعلم بذلك‪.‬‬

‫{ وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ } أي‪ :‬تخيرتك واصطفيتك من الناس‪ ،‬وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم ال بها عليه‪،‬‬
‫تقتضي من الشكر ما يليق بها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاسْ َتمِعْ ِلمَا يُوحَى } أي‪ :‬ألق سمعك للذي أوحي‬
‫إليك‪ ،‬فإنه حقيق بذلك‪ ،‬لنه أصل الدين ومبدأه‪ ،‬وعماد الدعوة السلمية‪ ،‬ثم بين الذي يوحيه إليه‬
‫بقوله‪ { :‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا } أي‪ :‬ال المستحق اللوهية المتصف بها‪ ،‬لنه الكامل في‬
‫أسمائه وصفاته‪ ،‬المنفرد بأفعاله‪ ،‬الذي ل شريك له ول مثيل ول كفو ول سمي‪ { ،‬فَاعْبُدْنِي }‬
‫بجميع أنواع العبادة‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬أصولها وفروعها‪ ،‬ثم خص الصلة بالذكر وإن كانت‬
‫داخلة في العبادة‪ ،‬لفضلها وشرفها‪ ،‬وتضمنها عبودية القلب واللسان والجوارح‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬لِ ِذكْرِي } اللم للتعليل أي‪ :‬أقم الصلة لجل ذكرك إياي‪ ،‬لن ذكره تعالى أجل المقاصد‪،‬‬
‫وهو عبودية القلب‪ ،‬وبه سعادته‪ ،‬فالقلب المعطل عن ذكر ال‪ ،‬معطل عن كل خير‪ ،‬وقد خرب كل‬
‫الخراب‪ ،‬فشرع ال للعباد أنواع العبادات‪ ،‬التي المقصود منها إقامة ذكره‪ ،‬وخصوصا الصلة‪.‬‬
‫حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ‬
‫ب وََأقِمِ الصّلَاةَ إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫قال ال تعالى‪ { :‬ا ْتلُ مَا أُو ِ‬
‫وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ } أي‪ :‬ما فيها من ذكر ال أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬وهذا النوع يقال‬
‫له توحيد اللوهية‪ ،‬وتوحيد العبادة‪ ،‬فاللوهية وصفه تعالى‪ ،‬والعبودية وصف عبده‪.‬‬

‫خفِيهَا } أي‪ :‬عن نفسي كما في بعض القراءات‪،‬‬


‫{ إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ } أي‪ :‬ل بد من وقوعها { َأكَادُ ُأ ْ‬
‫علْمُ السّاعَةِ }‬
‫كقوله تعالى‪َ { :‬يسْأََلكَ الناس عَنِ السّاعَةِ ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ ال } وقال‪ { :‬وَعِنْ َدهُ ِ‬
‫فعلمها قد أخفاه عن الخلئق كلهم‪ ،‬فل يعلمها ملك مقرب‪ ،‬ول نبي مرسل‪ ،‬والحكمة في إتيان‬
‫سعَى } من الخير والشر‪ ،‬فهي الباب لدار الجزاء { لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ‬
‫الساعة { لِ ُتجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا َت ْ‬
‫عمِلُوا وَيَجْ ِزيَ الّذِينَ َأحْسَنُوا بِا ْلحُسْنَى }‬
‫أَسَاءُوا ِبمَا َ‬

‫{ ‪ { } 16‬فَلَا َيصُدّ ّنكَ عَ ْنهَا مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ ِبهَا وَاتّبَعَ َهوَاهُ فَتَرْدَى }‬

‫أي‪ :‬فل يصدك ويشغلك عن اليمان بالساعة‪ ،‬والجزاء‪ ،‬والعمل لذلك‪ ،‬من كان كافرا بها‪ ،‬غير‬
‫معتقد لوقوعها‪.‬‬

‫يسعى في الشك فيها والتشكيك‪ ،‬ويجادل فيها بالباطل‪ ،‬ويقيم من الشبه ما يقدر عليه‪ ،‬متبعا في ذلك‬
‫هواه‪ ،‬ليس قصده الوصول إلى الحق‪ ،‬وإنما قصاراه اتباع هواه‪ ،‬فإياك أن تصغي إلى من هذه‬
‫حاله‪ ،‬أو تقبل شيئا من أقواله وأعماله الصادرة عن اليمان بها والسعي لها سعيها‪ ،‬وإنما حذر ال‬
‫تعالى عمن هذه حاله لنه من أخوف ما يكون على المؤمن بوسوسته وتدجيله وكون النفوس‬
‫مجبولة على التشبه‪ ،‬والقتداء بأبناء الجنس‪ ،‬وفي هذا تنبيه وإشارة إلى التحذير عن كل داع إلى‬
‫باطل‪ ،‬يصد عن اليمان الواجب‪ ،‬أو عن كماله‪ ،‬أو يوقع الشبهة في القلب‪ ،‬وعن النظر في الكتب‬
‫المشتملة على ذلك‪ ،‬وذكر في هذا اليمان به‪ ،‬وعبادته‪ ،‬واليمان باليوم الخر‪ ،‬لن هذه المور‬
‫الثلثة أصول اليمان‪ ،‬وركن الدين‪ ،‬وإذا تمت تم أمر الدين‪ ،‬ونقصه أو فقده بنقصها‪ ،‬أو نقص‬
‫شيء منها‪ .‬وهذه نظير قوله تعالى في الخبار عن ميزان سعادة الفرق‪ ،‬الذين أوتوا‬

‫الكتاب وشقاوتهم‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئون وَال ّنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ‬
‫علَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ }‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫ل صَالِحًا فَلَا َ‬
‫عمِ َ‬
‫الْآخِرِ وَ َ‬

‫وقوله‪ { :‬فَتَرْدَى } أي‪ :‬تهلك وتشقى‪ ،‬إن اتبعت طريق من يصد عنها‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬

‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَى غَ َنمِي‬


‫{ ‪َ { } 23 - 17‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يَا مُوسَى * قَالَ ِهيَ َ‬
‫خفْ‬
‫سعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا َت َ‬
‫وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَى * قَالَ أَ ْل ِقهَا يَا مُوسَى * فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ َت ْ‬
‫حكَ َتخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى *‬
‫ضمُمْ يَ َدكَ إِلَى جَنَا ِ‬
‫سَ ُنعِي ُدهَا سِيرَ َتهَا الْأُولَى * وَا ْ‬
‫لِنُرِ َيكَ مِنْ آيَاتِنَا ا ْلكُبْرَى }‬

‫لما بين ال لموسى أصل اليمان‪ ،‬أراد أن يبين له ويريه من آياته ما يطمئن به قلبه‪ ،‬وتقر به‬
‫عينه‪ ،‬ويقوي إيمانه‪ ،‬بتأييد ال له على عدوه فقال‪َ { :‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يَا مُوسَى } هذا‪ ،‬مع علمه‬
‫تعالى‪ ،‬ولكن لزيادة الهتمام في هذا الموضع‪ ،‬أخرج الكلم بطريق الستفهام‪ ،‬فقال موسى‪:‬‬

‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَى غَ َنمِي } ذكر فيها هاتين المنفعتين‪ ،‬منفعة لجنس‬
‫{ ِهيَ َ‬
‫الدمي‪ ،‬وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه‪ ،‬فيحصل فيها معونة‪ .‬ومنفعة للبهائم‪ ،‬وهو أنه كان‬
‫يرعى الغنم‪ ،‬فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه‪ ،‬هش بها‪ ،‬أي‪ :‬ضرب الشجر‪ ،‬ليتساقط ورقه‪،‬‬
‫فيرعاه الغنم‪.‬‬

‫هذا الخلق الحسن من موسى عليه السلم‪ ،‬الذي من آثاره‪ ،‬حسن رعاية الحيوان البهيم‪ ،‬والحسان‬
‫إليه دل على عناية من ال له واصطفاء‪ ،‬وتخصيص تقتضيه رحمة ال وحكمته‪.‬‬

‫{ وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ } أي‪ :‬مقاصد { ُأخْرَى } غير هذين المرين‪ .‬ومن أدب موسى عليه السلم‪ ،‬أن‬
‫ال لما سأله عما في يمينه‪ ،‬وكان السؤال محتمل عن السؤال عن عينها‪ ،‬أو منفعتها أجابه بعينها‪،‬‬
‫سعَى }‬
‫ومنفعتها فقال ال له‪ { :‬أَ ْل ِقهَا يَا مُوسَى* فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ‬

‫انقلبت بإذن ال ثعبانا عظيما‪ ،‬فولى موسى هاربا خائفا‪ ،‬ولم يعقب‪ ،‬وفي وصفها بأنها تسعى‪،‬‬
‫إزالة لوهم يمكن وجوده‪ ،‬وهو أن يظن أنها تخييل ل حقيقة‪ ،‬فكونها تسعى يزيل هذا الوهم‪.‬‬

‫خفْ } أي‪ :‬ليس عليك منها بأس‪ { .‬سَ ُنعِيدُهَا سِيرَ َتهَا الْأُولَى } أي‪:‬‬
‫فقال ال لموسى‪ { :‬خُذْهَا وَلَا تَ َ‬
‫هيئتها وصفتها‪ ،‬إذ كانت عصا‪ ،‬فامتثل موسى أمر ال إيمانا به وتسليما‪ ،‬فأخذها‪ ،‬فعادت عصاه‬
‫التي كان يعرفها هذه ‪-‬آية‪ ،‬ثم ذكر الية الخرى فقال‪:‬‬

‫حكَ } أي‪ :‬أدخل يدك في جيبك‪ ،‬وضم عليك عضدك‪ ،‬الذي هو جناح‬
‫ضمُمْ َي َدكَ إِلَى جَنَا ِ‬
‫{ وَا ْ‬
‫النسان { َتخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي‪ :‬بياضا ساطعا‪ ،‬من غير عيب ول برص { آ َيةً أُخْرَى‬
‫}‬

‫سقِينَ }‬
‫عوْنَ َومَلَئِهِ إِ ّن ُهمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ‬
‫قال ال‪ { :‬فَذَا ِنكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَ ّبكَ إِلَى فِرْ َ‬
‫{ لِنُرِ َيكَ مِنْ آيَاتِنَا ا ْلكُبْرَى } أي‪ :‬فعلنا ما ذكرنا‪ ،‬من انقلب العصا حية تسعى‪ ،‬ومن خروج اليد‬
‫بيضاء للناظرين‪ ،‬لجل أن نريك من آياتنا الكبرى‪ ،‬الدالة على صحة رسالتك وحقيقة ما جئت به‪،‬‬
‫فيطمئن قلبك ويزداد علمك‪ ،‬وتثق بوعد ال لك بالحفظ والنصرة‪ ،‬ولتكون حجة وبرهانا لمن‬
‫أرسلت إليهم‪.‬‬

‫طغَى * قَالَ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِي َأمْرِي‬


‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫{ ‪ { } 36 - 24‬اذْ َهبْ إِلَى فِرْ َ‬
‫ج َعلْ لِي وَزِيرًا مِنْ َأهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْ ُددْ بِهِ‬
‫عقْ َدةً مِنْ لِسَانِي * َي ْف َقهُوا َقوْلِي * وَا ْ‬
‫* وَاحُْللْ ُ‬
‫حكَ كَثِيرًا * وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرًا * إِ ّنكَ كُ ْنتَ بِنَا َبصِيرًا * قَالَ‬
‫أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي * َكيْ نُسَبّ َ‬
‫سؤَْلكَ يَا مُوسَى }‬
‫قَدْ أُوتِيتَ ُ‬

‫لما أوحى ال إلى موسى‪ ،‬ونبأه‪ ،‬وأراه اليات الباهرات‪ ،‬أرسله إلى فرعون‪ ،‬ملك مصر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫طغَى } أي‪ :‬تمرد وزاد على الحد في الكفر والفساد والعلو في الرض‪،‬‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫{ اذْ َهبْ إِلَى فِرْ َ‬
‫والقهر للضعفاء‪ ،‬حتى إنه ادعى الربوبية واللوهية ‪-‬قبحه ال‪ -‬أي‪ :‬وطغيانه سبب لهلكه‪ ،‬ولكن‬
‫من رحمة ال وحكمته وعدله‪ ،‬أنه ل يعذب أحدا‪ ،‬إل بعد قيام الحجة بالرسل‪ ،‬فحينئذ علم موسى‬
‫عليه السلم أنه تحمل حمل عظيما‪ ،‬حيث أرسل إلى هذا الجبار العنيد‪ ،‬الذي ليس له منازع في‬
‫مصر من الخلق‪ ،‬وموسى عليه السلم‪ ،‬وحده‪ ،‬وقد جرى منه ما جرى من القتل‪ ،‬فامتثل أمر ربه‪،‬‬
‫وتلقاه بالنشراح والقبول‪ ،‬وسأله المعونة وتيسير السباب‪ ،‬التي [هي] من تمام الدعوة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } أي‪ :‬وسعه وأفسحه‪ ،‬لتحمل الذى القولي والفعلي‪ ،‬ول يتكدر قلبي‬
‫بذلك‪ ،‬ول يضيق صدري‪ ،‬فإن الصدر إذا ضاق‪ ،‬لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم‪.‬‬

‫حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َلهُ ْم وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا غَلِيظَ ا ْلقَ ْلبِ‬
‫قال ال لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬فَ ِبمَا َر ْ‬
‫حوِْلكَ } وعسى الخلق يقبلون الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم‪.‬‬
‫لَا ْن َفضّوا مِنْ َ‬

‫{ وَيَسّرْ لِي َأمْرِي } أي‪ :‬سهل علي كل أمر أسلكه وكل طريق أقصده في سبيلك‪ ،‬وهون علي ما‬
‫أمامي من الشدائد‪ ،‬ومن تيسير المر أن ييسر للداعي أن يأتي جميع المور من أبوابها‪ ،‬ويخاطب‬
‫كل أحد بما يناسب له‪ ،‬ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله‪.‬‬

‫عقْ َدةً مِنْ لِسَانِي* َيفْ َقهُوا َقوْلِي } وكان في لسانه ثقل ل يكاد يفهم عنه الكلم‪ ،‬كما قال‬
‫{ وَاحُْللْ ُ‬
‫المفسرون‪ ،‬كما قال ال عنه أنه قال‪ { :‬وََأخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي لِسَانًا } فسأل ال أن يحل‬
‫منه عقدة‪ ،‬يفقهوا ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة والمراجعة والبيان عن المعاني‪.‬‬
‫ج َعلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي } أي‪ :‬معينا يعاونني‪ ،‬ويؤازرني‪ ،‬ويساعدني على من أرسلت إليهم‪،‬‬
‫{ وَا ْ‬
‫وسأل أن يكون من أهله‪ ،‬لنه من باب البر‪ ،‬وأحق ببر النسان قرابته‪ ،‬ثم عينه بسؤاله فقال‪:‬‬
‫عضُ َدكَ بَِأخِيكَ‬
‫شدّ َ‬
‫شدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي‪ :‬قوني به‪ ،‬وشد به ظهري‪ ،‬قال ال‪ { :‬سَنَ ُ‬
‫{ هَارُونَ َأخِي* ا ْ‬
‫ج َعلُ َل ُكمَا سُلْطَانًا }‬
‫وَنَ ْ‬

‫{ وَأَشْ ِر ْكهُ فِي َأمْرِي } أي‪ :‬في النبوة‪ ،‬بأن تجعله نبيا رسول‪ ،‬كما جعلتني‪.‬‬

‫حكَ كَثِيرًا* وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرًا } علم عليه الصلة والسلم‪ ،‬أن‬
‫ثم ذكر الفائدة في ذلك فقال‪َ { :‬كيْ ُنسَبّ َ‬
‫مدار العبادات كلها والدين‪ ،‬على ذكر ال‪ ،‬فسأل ال أن يجعل أخاه معه‪ ،‬يتساعدان ويتعاونان على‬
‫البر والتقوى‪ ،‬فيكثر منهما ذكر ال من التسبيح والتهليل‪ ،‬وغيره من أنواع العبادات‪.‬‬

‫{ إِ ّنكَ كُ ْنتَ بِنَا َبصِيرًا } تعلم حالنا وضعفنا وعجزنا وافتقارنا إليك في كل المور‪ ،‬وأنت أبصر بنا‬
‫من أنفسنا وأرحم‪ ،‬فمن علينا بما سألناك‪ ،‬وأجب لنا فيما دعوناك‪.‬‬

‫سؤَْلكَ يَا مُوسَى } أي‪ :‬أعطيت جميع ما طلبت‪ ،‬فسنشرح صدرك‪ ،‬ونيسر‬
‫فقال ال‪َ { :‬قدْ أُوتِيتَ ُ‬
‫أمرك‪ ،‬ونحل عقدة من لسانك‪ ،‬يفقهوا قولك‪ ،‬ونشد عضدك بأخيك هارون‪ { ،‬ونجعل لكما سلطانا‬
‫فل يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون }‬

‫وهذا السؤال من موسى عليه السلم‪ ،‬يدل على كمال معرفته بال‪ ،‬وكمال فطنته ومعرفته للمور‪،‬‬
‫وكمال نصحه‪ ،‬وذلك أن الداعي إلى ال‪ ،‬المرشد للخلق‪ ،‬خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد‬
‫والتكبر والطغيان يحتاج إلى سعة صدر‪ ،‬وحلم تام‪ ،‬على ما يصيبه من الذى‪ ،‬ولسان فصيح‪،‬‬
‫يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده‪ ،‬بل الفصاحة والبلغة لصاحب هذا المقام‪ ،‬من ألزم ما‬
‫يكون‪ ،‬لكثرة المراجعات والمراوضات‪ ،‬ولحاجته لتحسين الحق‪ ،‬وتزيينه بما يقدر عليه‪ ،‬ليحببه‬
‫إلى النفوس‪ ،‬وإلى تقبيح الباطل وتهجينه‪ ،‬لينفر عنه‪ ،‬ويحتاج مع ذلك أيضا‪ ،‬أن يتيسر له أمره‪،‬‬
‫فيأتي البيوت من أبوابها‪ ،‬ويدعو إلى سبيل ال بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬والمجادلة بالتي هي‬
‫أحسن‪ ،‬يعامل الناس كل بحسب حاله‪ ،‬وتمام ذلك‪ ،‬أن يكون لمن هذه صفته‪ ،‬أعوان ووزراء‪،‬‬
‫يساعدونه على مطلوبه‪ ،‬لن الصوات إذا كثرت‪ ،‬ل بد أن تؤثر‪ ،‬فلذلك سأل عليه الصلة‬
‫والسلم هذه المور فأعطيها‪.‬‬

‫وإذا نظرت إلى حالة النبياء المرسلين إلى الخلق‪ ،‬رأيتهم بهذه الحال‪ ،‬بحسب أحوالهم خصوصا‪،‬‬
‫خاتمهم وأفضلهم محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال‪ ،‬وله من‬
‫شرح الصدر‪ ،‬وتيسير المر‪ ،‬وفصاحة اللسان‪ ،‬وحسن التعبير والبيان‪ ،‬والعوان على الحق من‬
‫الصحابة‪ ،‬فمن بعدهم‪ ،‬ما ليس لغيره‪.‬‬
‫{ ‪ { } 41 - 37‬وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَى *إِذْ َأوْحَيْنَا إِلَى ُأ ّمكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي‬
‫حلِ يَ ْأخُ ْذهُ عَ ُدوّ لِي وَعَ ُدوّ لَهُ وَأَلْقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مِنّي‬
‫التّابُوتِ فَا ْق ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلُْي ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫جعْنَاكَ إِلَى ُأ ّمكَ َكيْ َتقَرّ‬
‫وَلِ ُتصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * ِإذْ َتمْشِي ُأخْ ُتكَ فَتَقُولُ َهلْ أَدُّلكُمْ عَلَى مَنْ َي ْكفُلُهُ فَ َر َ‬
‫ن َوقَتَ ْلتَ َنفْسًا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْل َغ ّم َوفَتَنّاكَ فُتُونًا فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ ثُمّ جِ ْئتَ‬
‫عَيْ ُنهَا وَلَا تَحْزَ َ‬
‫عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }‬

‫لما ذكر منته على عبده ورسوله‪ ،‬موسى بن عمران‪ ،‬في الدين‪ ،‬والوحي‪ ،‬والرسالة‪ ،‬وإجابة‬
‫سؤاله‪ ،‬ذكر نعمته عليه‪ ،‬وقت التربية‪ ،‬والتنقلت في أطواره فقال‪ { :‬وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً ُأخْرَى }‬
‫حيث ألهمنا أمك أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع‪ ،‬خوفا من فرعون‪ ،‬لنه أمر بذبح أبناء بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬فأخفته أمه‪ ،‬وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت‪ ،‬ثم قذفته في اليم‪ ،‬أي‪ :‬شط نيل‬
‫مصر‪ ،‬فأمر ال اليم‪ ،‬أن يلقيه في الساحل‪ ،‬وقيض أن يأخذه‪ ،‬أعدى العداء ل ولموسى‪ ،‬ويتربى‬
‫في أولده‪ ،‬ويكون قرة عين لمن رآه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَأَ ْلقَيْتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مِنّي } فكل من رآه أحبه {‬
‫ل وأكمل‪،‬‬
‫وَلِ ُتصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلءتي‪ ،‬وأي نظر وكفالة أج ّ‬
‫من ولية البر الرحيم‪ ،‬القادر على إيصال مصالح عبده‪ ،‬ودفع المضار عنه؟! فل ينتقل من حالة‬
‫إلى حالة‪ ،‬إل وال تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحة موسى‪ ،‬ومن حسن تدبيره‪ ،‬أن موسى لما‬
‫وقع في يد عدوه‪ ،‬قلقت أمه قلقا شديدا‪ ،‬وأصبح فؤادها فارغا‪ ،‬وكادت تخبر به‪ ،‬لول أن ال ثبتها‬
‫وربط على قلبها‪ ،‬ففي هذه الحالة‪ ،‬حرم ال على موسى المراضع‪ ،‬فل يقبل ثدي امرأة قط‪ ،‬ليكون‬
‫مآله إلى أمه فترضعه‪ ،‬ويكون عندها‪ ،‬مطمئنة ساكنة‪ ،‬قريرة العين‪ ،‬فجعلوا يعرضون عليه‬
‫المراضع‪ ،‬فل يقبل ثديا‪.‬‬

‫فجاءت أخت موسى‪ ،‬فقالت لهم‪ { :‬هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }‬

‫ن َوقَتَ ْلتَ َنفْسًا } وهو القبطي لما دخل المدينة وقت‬


‫جعْنَاكَ إِلَى ُأ ّمكَ َكيْ َتقَرّ عَيْ ُنهَا وَلَا تَحْزَ َ‬
‫{ فَ َر َ‬
‫غفلة من أهلها‪ ،‬وجد رجلين يقتتلن‪ ،‬واحد من شيعة موسى‪ ،‬والخر من عدوه قبطي { فاستغاثه‬
‫الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } فدعا ال وسأله المغفرة‪ ،‬فغفر‬
‫له‪ ،‬ثم فر هاربا لما سمع أن المل طلبوه‪ ،‬يريدون قتله‪.‬‬

‫فنجاه ال من الغم من عقوبة الذنب‪ ،‬ومن القتل‪َ { ،‬وفَتَنّاكَ فُتُونًا } أي‪ :‬اختبرناك‪ ،‬وبلوناك‪،‬‬
‫فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك‪ ،‬وأطوارك‪ ،‬حتى وصلت إلى ما وصلت إليه‪،‬‬
‫{ فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي َأ ْهلِ َمدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه‪ ،‬حين أرادوا قتله‪ ،‬فتوجه إلى‬
‫مدين‪ ،‬ووصل إليها‪ ،‬وتزوج هناك‪ ،‬ومكث عشر سنين‪ ،‬أو ثمان سنين‪ { ،‬ثُمّ جِ ْئتَ عَلَى قَدَرٍ يَا‬
‫مُوسَى } أي‪ :‬جئت مجيئا قد مضى به القدر‪ ،‬وعلمه ال وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا‬
‫المكان‪ ،‬ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ول تدبير منا‪ ،‬وهذا يدل على كمال اعتناء ال بكليمه‬
‫موسى عليه السلم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي } أي‪ :‬أجريت عليك صنائعي ونعمي‪ ،‬وحسن‬
‫عوائدي‪ ،‬وتربيتي‪ ،‬لتكون لنفسي حبيبا مختصا‪ ،‬وتبلغ في ذلك مبلغا ل يناله أحد من الخلق‪ ،‬إل‬
‫النادر منهم‪ ،‬وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين‪ ،‬وأراد أن يبلغ من الكمال‬
‫المطلوب له ما يبلغ‪ ،‬يبذل غاية جهده‪ ،‬ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك‪ ،‬فما ظنك بصنائع‬
‫الرب القادر الكريم‪ ،‬وما تحسبه يفعل بمن أراده لنفسه‪ ،‬واصطفاه من خلقه؟"‬

‫طغَى *‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫{ ‪ { } 46 - 42‬اذْ َهبْ أَ ْنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ِذكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْ َ‬
‫طغَى * قَالَ لَا‬
‫َفقُولَا لَهُ َقوْلًا لَيّنًا َلعَلّهُ يَ َت َذكّرُ َأوْ يَخْشَى * قَالَا رَبّنَا إِنّنَا نَخَافُ أَنْ َيفْرُطَ عَلَيْنَا َأوْ أَنْ يَ ْ‬
‫سمَ ُع وَأَرَى }‬
‫تَخَافَا إِنّنِي َم َع ُكمَا أَ ْ‬

‫ت وََأخُوكَ }‬
‫لما امتن ال على موسى بما امتن به‪ ،‬من النعم الدينية والدنيوية قال له‪ { :‬ا ْذ َهبْ أَ ْن َ‬
‫هارون { بِآيَاتِي } أي‪ :‬اليات التي مني‪ ،‬الدالة على الحق وحسنه‪ ،‬وقبح الباطل‪ ،‬كاليد‪ ،‬والعصا‬
‫ونحوها‪ ،‬في تسع آيات إلى فرعون وملئه‪ { ،‬وَلَا تَنِيَا فِي ِذكْرِي } أي‪ :‬ل تفترا‪ ،‬ول تكسل‪ ،‬عن‬
‫حكَ كَثِيرًا وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرًا }‬
‫مداومة ذكري بل استمرّا عليه‪ ،‬والزماه كما وعدتما بذلك { َكيْ ُنسَبّ َ‬
‫فإن ذكر ال فيه معونة على جميع المور‪ ،‬يسهلها‪ ،‬ويخفف حملها‪.‬‬

‫طغَى } أي‪ :‬جاوز الحد‪ ،‬في كفره وطغيانه‪ ،‬وظلمه وعدوانه‪.‬‬


‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫{ اذْهَبَا إِلَى فِرْ َ‬

‫{ َفقُولَا لَهُ َقوْلًا لَيّنًا } أي‪ :‬سهل لطيفا‪ ،‬برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ول صلف‪ ،‬ول‬
‫غلظة في المقال‪ ،‬أو فظاظة في الفعال‪َ { ،‬لعَلّهُ } بسبب القول اللين { يَتَ َذكّرُ } ما ينفعه فيأتيه‪،‬‬
‫{ َأوْ َيخْشَى } ما يضره فيتركه‪ ،‬فإن القول اللين داع لذلك‪ ،‬والقول الغليظ منفر عن صاحبه‪ ،‬وقد‬
‫فسر القول اللين في قوله‪َ { :‬فقُلْ َهلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى* وَأَهْدِ َيكَ ِإلَى رَ ّبكَ فَ َتخْشَى } فإن في هذا‬
‫الكلم‪ ،‬من لطف القول وسهولته‪ ،‬وعدم بشاعته ما ل يخفى على المتأمل‪ ،‬فإنه أتى بب " هل "‬
‫الدالة على العرض والمشاورة‪ ،‬التي ل يشمئز منها أحد‪ ،‬ودعاه إلى التزكي والتطهر من الدناس‪،‬‬
‫التي أصلها‪ ،‬التطهر من الشرك‪ ،‬الذي يقبله كل عقل سليم‪ ،‬ولم يقل " أزكيك " بل قال‪ " :‬تزكى "‬
‫أنت بنفسك‪ ،‬ثم دعاه إلى سبيل ربه‪ ،‬الذي رباه‪ ،‬وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬التي ينبغي‬
‫مقابلتها بشكرها‪ ،‬وذكرها فقال‪ { :‬وَأَهْدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ فَ َتخْشَى } فلما لم يقبل هذا الكلم اللين الذي‬
‫يأخذ حسنه بالقلوب‪ ،‬علم أنه ل ينجع فيه تذكير‪ ،‬فأخذه ال أخذ عزيز مقتدر‪.‬‬
‫{ قَالَا رَبّنَا إِنّنَا نَخَافُ أَنْ َيفْرُطَ عَلَيْنَا } أي‪ :‬يبادرنا بالعقوبة واليقاع بنا‪ ،‬قبل أن تبلغه رسالتك‪،‬‬
‫طغَى } أي‪ :‬يتمرد عن الحق‪ ،‬ويطغى بملكه وسلطانه وجنده وأعوانه‪.‬‬
‫ونقيم عليه الحجة { َأوْ أَنْ َي ْ‬

‫سمَ ُع وَأَرَى } أي‪ :‬أنتما بحفظي ورعايتي‪ ،‬أسمع‬


‫{ قَالَ لَا َتخَافَا } أن يفرط عليكما { إِنّنِي َم َع ُكمَا أَ ْ‬
‫أقوالكما‪ ،‬وأرى جميع أحوالكما‪ ،‬فل تخافا منه‪ ،‬فزال الخوف عنهما‪ ،‬واطمأنت قلوبهما بوعد‬
‫ربهما‪.‬‬

‫ل وَلَا ُتعَذّ ْبهُمْ َقدْ جِئْنَاكَ بِآ َيةٍ‬


‫سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫{ ‪ { } 48 - 47‬فَأْتِيَاهُ َفقُولَا إِنّا رَسُولَا رَ ّبكَ فَأَرْ ِ‬
‫ب وَ َتوَلّى }‬
‫حيَ إِلَيْنَا أَنّ ا ْلعَذَابَ عَلَى مَنْ كَ ّذ َ‬
‫ك وَالسّلَامُ عَلَى مَنِ اتّ َبعَ ا ْلهُدَى * إِنّا قَدْ أُو ِ‬
‫مِنْ رَ ّب َ‬

‫أي‪ :‬فأتياه بهذين المرين‪ ،‬دعوته إلى السلم‪ ،‬وتخليص هذا الشعب الشريف بني إسرائيل ‪-‬من‬
‫قيده وتعبيده لهم‪ ،‬ليتحرروا ويملكوا أمرهم‪ ،‬ويقيم فيهم موسى شرع ال ودينه‪.‬‬

‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَ َزعَ يَ َدهُ فَإِذَا‬


‫{ َقدْ جِئْنَاكَ بِآ َيةٍ } تدل على صدقنا { فَأَ ْلقَى } موسى { َ‬
‫ِهيَ بَ ْيضَاءُ لِلنّاظِرِينَ } إلى آخر ما ذكر ال عنهما‪.‬‬

‫{ وَالسّلَامُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ ا ْلهُدَى } أي‪ :‬من اتبع الصراط المستقيم‪ ،‬واهتدى بالشرع المبين‪ ،‬حصلت‬
‫له السلمة في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ب وَ َتوَلّى }‬
‫حيَ إِلَيْنَا } أي‪ :‬خبر من عند ال‪ ،‬ل من عند أنفسنا { أَنّ ا ْلعَذَابَ عَلَى مَنْ كَ ّذ َ‬
‫{ إِنّا قَدْ أُو ِ‬
‫أي‪ :‬كذب بأخبار ال‪ ،‬وأخبار رسله‪ ،‬وتولى عن النقياد لهم واتباعهم‪ ،‬وهذا فيه الترغيب لفرعون‬
‫باليمان والتصديق واتباعهما‪ ،‬والترهيب من ضد ذلك‪ ،‬ولكن لم يفد فيه هذا الوعظ والتذكير‪،‬‬
‫فأنكر ربه‪ ،‬وكفر‪ ،‬وجادل في ذلك ظلما وعنادا‪.‬‬

‫شيْءٍ خَ ْلقَهُ ثُمّ هَدَى * قَالَ‬


‫عطَى ُكلّ َ‬
‫{ ‪ { } 55 - 49‬قَالَ َفمَنْ رَ ّب ُكمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبّنَا الّذِي أَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ‬
‫ضلّ رَبّي وَلَا يَنْسَى * الّذِي َ‬
‫َفمَا بَالُ ا ْلقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لَا َي ِ‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ أَ ْزوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتّى * كُلُوا‬
‫الْأَ ْرضَ َمهْدًا وَسََلكَ َل ُكمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ج ُكمْ تَا َرةً‬
‫عوْا أَ ْنعَا َمكُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي الّنهَى * مِ ْنهَا خََلقْنَاكُ ْم َوفِيهَا ُنعِي ُدكُ ْم َومِ ْنهَا ُنخْرِ ُ‬
‫وَارْ َ‬
‫أُخْرَى }‬

‫أي‪ :‬قال فرعون لموسى على وجه النكار‪َ { :‬فمَنْ رَ ّب ُكمَا يَا مُوسَى } فأجاب موسى بجواب شاف‬
‫خ ْلقَهُ ثُمّ َهدَى } أي‪ :‬ربنا الذي خلق جميع‬
‫شيْءٍ َ‬
‫كاف واضح‪ ،‬فقال‪ { :‬رَبّنَا الّذِي أَعْطَى ُكلّ َ‬
‫المخلوقات‪ ،‬وأعطى كل مخلوق خلقه اللئق به‪ ،‬الدال على حسن صنعه من خلقه‪ ،‬من كبر الجسم‬
‫وصغره وتوسطه‪ ،‬وجميع صفاته‪ُ { ،‬ثمّ َهدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له‪ ،‬وهذه الهداية العامة‬
‫المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق‪ ،‬تجده يسعى لما خلق له من المنافع‪ ،‬وفي دفع المضار‬
‫عنه‪ ،‬حتى إن ال تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل‪ ،‬ما يتمكن به على ذلك‪.‬‬

‫شيْءٍ خََلقَهُ } فالذي خلق المخلوقات‪ ،‬وأعطاها خلقها الحسن‪،‬‬


‫وهذا كقوله تعالى‪ { :‬الّذِي َأحْسَنَ ُكلّ َ‬
‫الذي ل تقترح العقول فوق حسنه‪ ،‬وهداها لمصالحها‪ ،‬هو الرب على الحقيقة‪ ،‬فإنكاره إنكار‬
‫لعظم الشياء وجودا‪ ،‬وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب‪ ،‬فلو قدر أن النسان‪ ،‬أنكر من المور‬
‫المعلومة ما أنكر‪ ،‬كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك‪ ،‬ولهذا لما لم يمكن فرعون‪ ،‬أن يعاند‬
‫هذا الدليل القاطع‪ ،‬عدل إلى المشاغبة‪ ،‬وحاد عن المقصود فقال لموسى‪َ { :‬فمَا بَالُ ا ْلقُرُونِ‬
‫الْأُولَى } أي‪ :‬ما شأنهم‪ ،‬وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال‪ ،‬وقد سبقونا إلى النكار والكفر‪،‬‬
‫ضلّ رَبّي وَلَا يَ ْنسَى‬
‫والظلم‪ ،‬والعناد‪ ،‬ولنا فيهم أسوة؟ فقال موسى‪ { :‬عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لَا َي ِ‬
‫} أي‪ :‬قد أحصى أعمالهم من خير وشر‪ ،‬وكتبه في كتاب‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪ ،‬وأحاط به علما‬
‫وخبرا‪ ،‬فل يضل عن شيء منها‪ ،‬ول ينسى ما علمه منها‪.‬‬

‫ومضمون ذلك‪ ،‬أنهم قدموا إلى ما قدموا‪ ،‬ولقوا أعمالهم‪ ،‬وسيجازون عليها‪ ،‬فل معنى لسؤالك‬
‫واستفهامك يا فرعون عنهم‪ ،‬فتلك أمة قد خلت‪ ،‬لها ما كسبت‪،‬ولكم ما كسبتم‪ ،‬فإن كان الدليل الذي‬
‫أوردناه عليك‪ ،‬واليات التي أريناكها‪ ،‬قد تحققت صدقها ويقينها‪ ،‬وهو الواقع‪ ،‬فانقد إلى الحق‪،‬‬
‫ودع عنك الكفر والظلم‪ ،‬وكثرة الجدال بالباطل‪ ،‬وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة‪،‬‬
‫فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق‪ ،‬فرد الدليل بالدليل‪ ،‬والبرهان بالبرهان‪ ،‬ولن تجد لذلك‬
‫سبيل‪ ،‬ما دام الملوان‪.‬‬

‫س ُهمْ‬
‫حدُوا ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ‬
‫كيف وقد أخبر ال عنه‪ ،‬أنه جحدها مع استيقانها‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَجَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َبصَائِرَ } فعلم‬
‫ظُ ْلمًا وَعُُلوّا } وقال موسى‪َ { :‬لقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا َربّ ال ّ‬
‫أنه ظالم في جداله‪ ،‬قصده العلو في الرض‪.‬‬

‫ج َعلَ‬
‫ثم استطرد في هذا الدليل القاطع‪ ،‬بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري‪ ،‬فقال‪ { :‬الّذِي َ‬
‫َلكُمُ الْأَ ْرضَ َمهْدًا } أي‪ :‬فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها‪ ،‬والقرار‪ ،‬والبناء‪ ،‬والغراس‪،‬‬
‫وإثارتها للزدراع وغيره‪ ،‬وذللها لذلك‪ ،‬ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم‪.‬‬

‫{ وَسََلكَ َل ُكمْ فِيهَا سُبُلًا } أي‪ :‬نفذ لكم الطرق الموصلة‪ ،‬من أرض إلى أرض‪ ،‬ومن قطر إلى قطر‪،‬‬
‫حتى كان الدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الرض بأسهل ما يكون‪ ،‬وينتفعون بأسفارهم‪،‬‬
‫أكثر مما ينتفعون بإقامتهم‪.‬‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ أَ ْزوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتّى } أي‪ :‬أنزل المطر { فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ‬
‫{ وَأَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫َبعْدَ َموْ ِتهَا } وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلف أنواعها‪ ،‬وتشتت أشكالها‪ ،‬وتباين‬
‫أحوالها‪ ،‬فساقه‪ ،‬وقدره‪ ،‬ويسره‪ ،‬رزقا لنا ولنعامنا‪ ،‬ولول ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان‪،‬‬
‫عوْا أَ ْنعَا َمكُمْ } وسياقها على وجه المتنان‪ ،‬ليدل ذلك على أن الصل في‬
‫ولهذا قال‪ { :‬كُلُوا وَارْ َ‬
‫جميع النوابت الباحة‪ ،‬فل يحرم منهم إل ما كان مضرا‪ ،‬كالسموم ونحوه‪.‬‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي الّنهَى } أي‪ :‬لذوي العقول الرزينة‪ ،‬والفكار المستقيمة على فضل ال‬
‫وإحسانه‪ ،‬ورحمته‪ ،‬وسعة جوده‪ ،‬وتمام عنايته‪ ،‬وعلى أنه الرب المعبود‪ ،‬المالك المحمود‪ ،‬الذي ل‬
‫يستحق العبادة سواه‪ ،‬ول الحمد والمدح والثناء‪ ،‬إل من امتن بهذه النعم‪ ،‬وعلى أنه على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬فكما أحيا الرض بعد موتها‪ ،‬إن ذلك لمحيي الموتى‪.‬‬

‫وخص ال أولي النهى بذلك‪ ،‬لنهم المنتفعون بها‪ ،‬الناظرون إليها نظر اعتبار‪ ،‬وأما من عداهم‪،‬‬
‫فإنهم بمنزلة البهائم السارحة‪ ،‬والنعام السائمة‪ ،‬ل ينظرون إليها نظر اعتبار‪ ،‬ول تنفذ بصائرهم‬
‫إلى المقصود منها‪ ،‬بل حظهم‪ ،‬حظ البهائم‪ ،‬يأكلون ويشربون‪ ،‬وقلوبهم لهية‪ ،‬وأجسامهم معرضة‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }‬
‫{ َوكَأَيّنْ مِنْ آ َيةٍ فِي ال ّ‬

‫ولما ذكر كرم الرض‪ ،‬وحسن شكرها لما ينزله ال عليها من المطر‪ ،‬وأنها بإذن ربها‪ ،‬تخرج‬
‫النبات المختلف النواع‪ ،‬أخبر أنه خلقنا منها‪ ،‬وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها‪ ،‬ومنها يخرجنا تارة‬
‫أخرى‪ ،‬فكما أوجدنا منها من العدم‪ ،‬وقد علمنا ذلك وتحققناه‪ ،‬فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا‪،‬‬
‫ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها‪.‬‬

‫وهذان دليلن على العادة عقليان واضحان‪ :‬إخراج النبات من الرض بعد موتها‪ ،‬وإخراج‬
‫المكلفين منها في إيجادهم‪.‬‬

‫سحْ ِركَ يَا‬


‫{ ‪ { } 61 - 56‬وََلقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُّلهَا َفكَ ّذبَ وَأَبَى * قَالَ َأجِئْتَنَا لِتُخْ ِرجَنَا مِنْ أَ ْرضِنَا بِ ِ‬
‫سوًى * قَالَ‬
‫ن وَلَا أَ ْنتَ َمكَانًا ُ‬
‫ج َعلْ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكَ َموْعِدًا لَا ُنخِْلفُهُ نَحْ ُ‬
‫مُوسَى * فَلَنَأْتِيَ ّنكَ ِبسِحْرٍ مِثِْلهِ فَا ْ‬
‫جمَعَ كَ ْي َدهُ ثُمّ أَتَى * قَالَ َلهُمْ مُوسَى‬
‫عوْنُ فَ َ‬
‫ضحًى * فَ َتوَلّى فِرْ َ‬
‫س ُ‬
‫حشَرَ النّا ُ‬
‫َموْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّي َن ِة وَأَنْ يُ ْ‬
‫ب َوقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }‬
‫وَيَْلكُمْ لَا َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَيُسْحِ َت ُكمْ ِبعَذَا ٍ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه أرى فرعون من اليات والعبر والقواطع‪ ،‬جميع أنواعها العيانية‪ ،‬والفقية‬
‫والنفسية‪ ،‬فما استقام ول ارعوى‪ ،‬وإنما كذب وتولى‪ ،‬كذب الخبر‪ ،‬وتولى عن المر والنهي‪،‬‬
‫وجعل الحق باطل‪ ،‬والباطل حقا‪ ،‬وجادل بالباطل ليضل الناس‪ ،‬فقال‪َ { :‬أجِئْتَنَا لِ ُتخْرِجَنَا مِنْ أَ ْرضِنَا‬
‫سحْ ِركَ } زعم أن هذه اليات التي أراه إياها موسى‪ ،‬سحر وتمويه‪ ،‬المقصود منها إخراجهم من‬
‫بِ ِ‬
‫أرضهم‪ ،‬والستيلء عليها‪ ،‬ليكون كلمه مؤثرا في قلوب قومه‪ ،‬فإن الطباع تميل إلى أوطانها‪،‬‬
‫ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها‪.‬‬

‫فأخبرهم أن موسى هذا قصده‪ ،‬ليبغضوه‪ ،‬ويسعوا في محاربته‪ ،‬فلنأتينك بسحر مثل سحرك‬
‫سوًى } أي‪ :‬مستو علمنا وعلمك به‪ ،‬أو‬
‫ن وَلَا أَ ْنتَ َمكَانًا ُ‬
‫فأمهلنا‪ ،‬واجعل لنا { َموْعِدًا لَا نُخِْلفُهُ َنحْ ُ‬
‫مكانا مستويا معتدل ليتمكن من رؤية ما فيه‪.‬‬

‫فقال موسى‪َ { :‬موْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّينَةِ } وهو عيدهم‪ ،‬الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم‪ { ،‬وَأَنْ‬
‫س ضُحًى } أي‪ :‬يجمعون كلهم في وقت الضحى‪ ،‬وإنما سأل موسى ذلك‪ ،‬لن يوم‬
‫حشَرَ النّا ُ‬
‫يُ ْ‬
‫الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة الجتماع‪ ،‬ورؤية الشياء على حقائقها‪ ،‬ما ل‬
‫جمَعَ كَيْ َدهُ } أي‪ :‬جميع ما يقدر عليه‪ ،‬مما يكيد به موسى‪،‬‬
‫عوْنُ فَ َ‬
‫يحصل في غيره‪ { ،‬فَ َتوَلّى فِرْ َ‬
‫فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم‪ ،‬وكان السحر إذ ذاك‪ ،‬متوفرا‪ ،‬وعلمه‬
‫علما مرغوبا فيه‪ ،‬فجمع خلقا كثيرا من السحرة‪ ،‬ثم أتى كل منهما للموعد‪ ،‬واجتمع الناس للموعد‪.‬‬

‫فكان الجمع حافل‪ ،‬حضره الرجال والنساء‪ ،‬والمل‪ ،‬والشراف‪ ،‬والعوام‪ ،‬والصغار‪ ،‬والكبار‪،‬‬
‫وحضوا الناس على الجتماع‪ ،‬وقالوا للناس‪َ { :‬هلْ أَنْ ُتمْ مُجْ َت ِمعُونَ* َلعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَ َرةَ إِنْ كَانُوا هُمُ‬
‫ا ْلغَالِبِينَ } فحين اجتمعوا من جميع البلدان‪ ،‬وعظهم موسى عليه السلم‪ ،‬وأقام عليهم الحجة‪ ،‬وقال‬
‫لهم‪ { :‬وَيَْلكُمْ لَا َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَيُسْحِ َت ُكمْ ِبعَذَابٍ } أي‪ :‬ل تنصروا ما أنتم عليه من الباطل‬
‫بسحركم وتغالبون الحق‪ ،‬وتفترون على ال الكذب‪ ،‬فيستأصلكم بعذاب من عنده‪ ،‬ويخيب سعيكم‬
‫وافتراؤكم‪ ،‬فل تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملئه‪ ،‬ول تسلمون من عذاب‬
‫ال‪ ،‬وكلم الحق ل بد أن يؤثر في القلوب‪.‬‬

‫ل جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلم موسى‪ ،‬وارتبكوا‪ ،‬ولعل من جملة‬
‫نزاعهم‪ ،‬الشتباه في موسى‪ ،‬هل هو على الحق أم ل؟ ولكن هم إلى الن‪ ،‬ما تم أمرهم‪ ،‬ليقضي‬
‫حيّ عَنْ بَيّنَةٍ } فحينئذ أسروا فيما بينهم‬
‫ال أمرا كان مفعول‪ { ،‬لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّ َن ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ‬
‫النجوى‪ ،‬وأنهم يتفقون على مقالة واحدة‪ ،‬لينجحوا في مقالهم وفعالهم‪ ،‬وليتمسك الناس بدينهم‪،‬‬
‫ضكُمْ‬
‫والنجوى التي أسروها فسرها بقوله‪ { :‬قَالُوا إِنْ َهذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْ ِرجَاكُمْ مِنْ أَ ْر ِ‬
‫سحْرِ ِهمَا وَيَذْهَبَا ِبطَرِيقَ ِتكُمُ ا ْلمُثْلَى } كمقالة فرعون السابقة‪ ،‬فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون‬
‫بِ ِ‬
‫والسحرة على هذه المقالة من غير قصد‪ ،‬وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته‪ ،‬التي صمم عليها‬
‫وأظهرها للناس‪ ،‬وزادوا على قول فرعون أن قالوا‪ { :‬وَيَ ْذهَبَا بِطَرِيقَ ِتكُمُ ا ْلمُثْلَى } أي‪ :‬طريقة‬
‫السحر حسدكم عليها‪ ،‬وأراد أن يظهر عليكم‪ ،‬ليكون له الفخر والصيت والشهرة‪ ،‬ويكون هو‬
‫المقصود بهذا العلم‪ ،‬الذي أشغلتم زمانكم فيه‪ ،‬ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه‪ ،‬وما يتبع ذلك‬
‫من الرياسة‪ ،‬وهذا حض من بعضهم على بعض على الجتهاد في مغالبته‪ ،‬ولهذا قالوا‪:‬‬

‫ج ِمعُوا كَ ْي َدكُمْ } أي‪ :‬أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه‪ ،‬متناصرين‪ ،‬متفقا رأيكم‬
‫{ فََأ ْ‬
‫صفّا } ليكون أمكن لعملكم‪ ،‬وأهيب لكم في القلوب‪ ،‬ولئل يترك بعضكم بعض‬
‫وكلمتكم‪ { ،‬ثُمّ ائْتُوا َ‬
‫مقدوره من العمل‪ ،‬واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره‪ ،‬فإنه المفلح الفائز‪ ،‬فهذا يوم له‬
‫ما بعده من اليام‬

‫فلله درهم ما أصلبهم في باطلهم‪ ،‬وأشدهم فيه‪ ،‬حيث أتوا بكل سبب‪ ،‬ووسيلة وممكن‪ ،‬ومكيدة‬
‫يكيدون بها الحق‪ ،‬ويأبى ال إل أن يتم نوره‪ ،‬ويظهر الحق على الباطل‪.،‬فلما تمت مكيدتهم‪،‬‬
‫وانحصر مقصدهم‪ ،‬ولم يبق إل العمل { قَالُوا يَا مُوسَى ِإمّا أَنْ تُ ْل ِقيَ } عصاك { وَِإمّا أَنْ َنكُونَ َأوّلَ‬
‫مَنْ أَ ْلقَى } خيروه‪ ،‬موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي‪ :‬حالة كانت‪ ،‬فقال لهم موسى‪:‬‬
‫عصِ ّيهُمْ ُيخَ ّيلُ إِلَيْهِ } أي‪ :‬إلى موسى { مِنْ‬
‫{ َبلْ أَ ْلقُوا } فألقوا حبالهم وعصيهم‪ { ،‬فَإِذَا حِبَاُلهُ ْم وَ ِ‬
‫سعَى } أي‪ :‬أنها حيات تسعى فلما خيل إلى موسى ذلك‪.‬‬
‫سحْرِهِمْ } البليغ { أَ ّنهَا َت ْ‬
‫ِ‬

‫{ َأ ْوجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } كما هو مقتضى الطبيعة البشرية‪ ،‬وإل فهو جازم بوعد ال‬
‫ونصره‪.‬‬

‫خفْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ الْأَعْلَى } عليهم‪ ،‬أي‪ :‬ستعلو عليهم وتقهرهم‪ ،‬ويذلوا‬
‫{ قُلْنَا } له تثبيتا وتطمينا‪ { :‬لَا تَ َ‬
‫لك ويخضعوا‪.‬‬

‫{ وَأَ ْلقِ مَا فِي َيمِي ِنكَ } أي‪ :‬عصاك { تَ ْل َقفْ مَا صَ َنعُوا إِ ّنمَا صَ َنعُوا كَيْدُ سَاحِ ٍر وَلَا ُيفْلِحُ السّاحِرُ‬
‫حَ ْيثُ أَتَى } أي‪ :‬كيدهم ومكرهم‪ ،‬ليس بمثمر لهم ول ناجح‪ ،‬فإنه من كيد السحرة‪ ،‬الذين يموهون‬
‫على الناس‪ ،‬ويلبسون الباطل‪ ،‬ويخيلون أنهم على الحق‪ ،‬فألقى موسى عصاه‪ ،‬فتلقفت ما صنعوا‬
‫كله وأكلته‪ ،‬والناس ينظرون لذلك الصنيع‪ ،‬فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر‪ ،‬وأنه من‬
‫ال‪ ،‬فبادروا لليمان‪.‬‬

‫{ فَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ ساجدين* قَالُوا آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َربّ مُوسَى وَهَارُونَ } فوقع الحق وظهر‬
‫وسطع‪ ،‬وبطل السحر والمكر والكيد‪ ،‬في ذلك المجمع العظيم‪.‬‬

‫فصارت بينة ورحمة للمؤمنين‪ ،‬وحجة على المعاندين فب { قَالَ } فرعون للسحرة‪ { :‬آمَنْتُمْ َلهُ قَ ْبلَ‬
‫أَنْ آذَنَ َلكُمْ } أي‪ :‬كيف أقدمتم على اليمان من دون مراجعة مني ول إذن؟‬
‫استغرب ذلك منهم‪ ،‬لدبهم معه‪ ،‬وذلهم‪ ،‬وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم‪ ،‬وجعل هذا من‬
‫ذاك‪.‬‬

‫ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان‪ ،‬واستخف عقول قومه‪ ،‬وأظهر لهم أن هذه‬
‫الغلبة من موسى للسحرة‪ ،‬ليس لن الذي معه الحق‪ ،‬بل لنه تمال هو والسحرة‪ ،‬ومكروا‪ ،‬ودبروا‬
‫خفّ َق ْومَهُ‬
‫أن يخرجوا فرعون وقومه من بلدهم‪ ،‬فقبل قومه هذا المكر منه‪ ،‬وظنوه صدقا { فَاسْتَ َ‬
‫سقِينَ } مع أن هذه المقالة التي قالها‪ ،‬ل تدخل عقل من له أدنى مسكة‬
‫فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ‬
‫من عقل ومعرفة بالواقع‪ ،‬فإن موسى أتى من مدين وحيدا‪ ،‬وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة‬
‫ول غيرهم‪ ،‬بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه‪ ،‬وأراهم اليات‪ ،‬فأراد فرعون أن يعارض ما جاء‬
‫به موسى فسعى ما أمكنه‪ ،‬وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم‪.‬‬

‫فجاءوا إليه‪ ،‬ووعدهم الجر والمنزلة عند الغلبة‪ ،‬وهم حرصوا غاية الحرص‪ ،‬وكادوا أشد الكيد‪،‬‬
‫على غلبتهم لموسى‪ ،‬وكان منهم ما كان‪ ،‬فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم‬
‫طعَنّ‬
‫وموسى واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال‪ ،‬ثم توعد فرعون السحرة فقال‪ { :‬فلَُأ َق ّ‬
‫أَيْدِ َيكُمْ وَأَرْجَُلكُمْ مِنْ خِلَافٍ }‬

‫كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد‪ ،‬يقطع يده اليمنى‪ ،‬ورجله اليسرى‪ { ،‬وَلَُأصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ‬
‫شدّ عَذَابًا وَأَ ْبقَى } يعني بزعمه هو أو‬
‫خلِ } أي‪ :‬لجل أن تشتهروا وتختزوا‪ { ،‬وَلَ َتعَْلمُنّ أَيّنَا أَ َ‬
‫النّ ْ‬
‫ال‪ ،‬وأنه أشد عذابا من ال وأبقى‪ ،‬قلبا للحقائق‪ ،‬وترهيبا لمن ل عقل له‪.‬‬

‫ولهذا لما عرف السحرة الحق‪ ،‬ورزقهم ال من العقل ما يدركون به الحقائق‪ ،‬أجابوه بقولهم‪:‬‬

‫{ لَنْ ُنؤْثِ َركَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ } أي‪ :‬لن نختارك وما وعدتنا به من الجر والتقريب‪ ،‬على‬
‫ما أرانا ال من اليات البينات الدالت على أن ال هو الرب المعبود وحده‪ ،‬المعظم المبجل وحده‪،‬‬
‫وأن ما سواه باطل‪ ،‬ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا‪ ،‬هذا ل يكون { فَا ْقضِ مَا أَ ْنتَ قَاضٍ } مما‬
‫أوعدتنا به من القطع‪ ،‬والصلب‪ ،‬والعذاب‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا َت ْقضِي هَ ِذهِ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا } أي‪ :‬إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬ينقضي‬
‫ويزول ول يضرنا‪ ،‬بخلف عذاب ال‪ ،‬لمن استمر على كفره‪ ،‬فإنه دائم عظيم‪.‬‬

‫عذَابًا وَأَ ْبقَى } وفي هذا الكلم‪ ،‬من السحرة‪ ،‬دليل‬


‫وهذا كأنه جواب منهم لقوله‪ { :‬وَلَ َتعَْلمُنّ أَيّنَا َأشَدّ َ‬
‫على أنه ينبغي للعاقل‪ ،‬أن يوازن بين لذات الدنيا‪ ،‬ولذات الخرة‪ ،‬وبين عذاب الدنيا‪ ،‬وعذاب‬
‫الخرة‪.‬‬
‫خطَايَانَا } أي‪ :‬كفرنا ومعاصينا‪ ،‬فإن اليمان مكفر للسيئات‪ ،‬والتوبة تجب‬
‫{ إِنّا آمَنّا بِرَبّنَا لِ َي ْغفِرَ لَنَا َ‬
‫ما قبلها‪ ،‬وقولهم‪َ { ،‬ومَا َأكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ } الذي عارضنا به الحق‪ ،‬هذا دليل على أنهم‬
‫غير مختارين في عملهم المتقدم‪ ،‬وإنما أكرههم فرعون إكراها‪.‬‬

‫والظاهر ‪-‬وال أعلم‪ -‬أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله‪ { :‬وَيَْلكُمْ لَا َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِبًا‬
‫فَيُسْحِ َت ُكمْ ِبعَذَابٍ } أثر معهم‪ ،‬ووقع منهم موقعا كبيرا‪ ،‬ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلم والموعظة‪ ،‬ثم‬
‫إن فرعون ألزمهم ذلك‪ ،‬وأكرههم على المكر الذي أجروه‪ ،‬ولهذا تكلموا بكلمه السابق قبل‬
‫سحْرِ ِهمَا } فجروا على‬
‫ضكُمْ بِ ِ‬
‫إتيانهم‪ ،‬حيث قالوا‪ { :‬إِنْ َهذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ ُيخْرِجَاكُمْ مِنْ أَ ْر ِ‬
‫ما سنه لهم‪ ،‬وأكرههم عليه‪ ،‬ولعل هذه النكتة‪ ،‬التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق‬
‫بالباطل وفعلهم‪ ،‬ما فعلوا على وجه الغماض‪ ،‬هي التي أثرت معهم‪ ،‬ورحمهم ال بسببها‪ ،‬ووفقهم‬
‫لليمان والتوبة‪ { ،‬وال خير } مما وعدتنا من الجر والمنزلة والجاه‪ ،‬وأبقى ثوابا وإحسانا ل ما‬
‫شدّ عَذَابًا وَأَ ْبقَى } يريد أنه أشد عذابا وأبقى‪ .‬وجميع ما أتى من‬
‫يقول فرعون‪ { :‬وَلَ َتعَْلمُنّ أَيّنَا أَ َ‬
‫قصص موسى مع فرعون‪ ،‬يذكر ال فيه إذا أتى على قصة السحرة‪ ،‬أن فرعون توعدهم بالقطع‬
‫والصلب‪ ،‬ولم يذكر أنه فعل ذلك‪ ،‬ولم يأت في ذلك حديث صحيح‪ ،‬والجزم بوقوعه‪ ،‬أو عدمه‪،‬‬
‫يتوقف على الدليل‪ ،‬وال أعلم بذلك وغيره‪ ،‬ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره‪ ،‬دليل على وقوعه‪،‬‬
‫ولنه لو لم يقع لذكره ال‪ ،‬ولتفاق الناقلين على ذلك‪.‬‬

‫جهَنّمَ لَا َيمُوتُ فِيهَا وَلَا َيحْيَا * َومَنْ يَأْتِهِ ُم ْؤمِنًا‬


‫{ ‪ { } 76 - 74‬إِنّهُ مَنْ يَ ْأتِ رَبّهُ مُجْ ِرمًا فَإِنّ َلهُ َ‬
‫ع ِملَ الصّالِحَاتِ فَأُولَ ِئكَ َلهُمُ الدّرَجَاتُ * جَنّاتُ عَدْنٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَذَِلكَ‬
‫قَدْ َ‬
‫جَزَاءُ مَنْ تَ َزكّى }‬

‫يخبر تعالى أن من أتاه‪ ،‬وقدم عليه مجرما ‪-‬أي‪ :‬وصفه الجرم من كل وجه‪ ،‬وذلك يستلزم الكفر‪-‬‬
‫واستمر على ذلك حتى مات‪ ،‬فإن له نار جهنم‪ ،‬الشديد نكالها‪ ،‬العظيمة أغللها‪ ،‬البعيد قعرها‪،‬‬
‫الليم حرها وقرها‪ ،‬التي فيها من العقاب ما يذيب الكباد والقلوب‪ ،‬ومن شدة ذلك أن المعذب فيها‬
‫ل يموت ول يحيا‪ ،‬ل يموت فيستريح‪ ،‬ول يحيا حياة يتلذذ بها‪ ،‬وإنما حياته محشوة بعذاب القلب‬
‫والروح والبدن‪ ،‬الذي ل يقدر قدره‪ ،‬ول يفتر عنه ساعة‪ ،‬يستغيث فل يغاث‪ ،‬ويدعو فل يستجاب‬
‫له‪.‬‬

‫نعم إذا استغاث‪ ،‬أغيث بماء كالمهل يشوي الوجوه‪ ،‬وإذا دعا‪ ،‬أجيب بب { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ‬
‫}‬
‫ع ِملَ الصّالِحَاتِ } الواجبة والمستحبة‪،‬‬
‫ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله‪ ،‬متبعا لكتبه { َقدْ َ‬
‫{ فَأُولَ ِئكَ َلهُمُ الدّ َرجَاتُ ا ْلعُلَا } أي‪ :‬المنازل العاليات‪ ،‬وفي الغرف المزخرفات‪ ،‬واللذات‬
‫المتواصلت‪ ،‬والنهار السارحات‪ ،‬والخلود الدائم‪ ،‬والسرور العظيم‪ ،‬فيما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫{ وَذَِلكَ } الثواب‪ { ،‬جَزَاءُ مَنْ تَ َزكّى } أي‪ :‬تطهر من الشرك والكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬إما أن‬
‫ل يفعلها بالكلية‪ ،‬أو يتوب مما فعله منها‪ ،‬وزكى أيضا نفسه‪ ،‬ونماها باليمان والعمل الصالح‪ ،‬فإن‬
‫للتزكية معنيين‪ ،‬التنقية‪ ،‬وإزالة الخبث‪ ،‬والزيادة بحصول الخير‪ ،‬وسميت الزكاة زكاة‪ ،‬لهذين‬
‫المرين‪.‬‬

‫{ ‪ { } 79 - 77‬وََلقَدْ َأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي فَاضْ ِربْ َل ُهمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا‬
‫عوْنُ‬
‫عوْنُ بِجُنُو ِدهِ َفغَشِ َيهُمْ مِنَ الْ َيمّ مَا غَشِ َيهُمْ * وََأضَلّ فِرْ َ‬
‫تَخَافُ دَ َركًا وَلَا َتخْشَى * فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ‬
‫َق ْومَهُ َومَا هَدَى }‬

‫لما ظهر موسى بالبراهين على فرعون وقومه‪ ،‬مكث في مصر يدعوهم إلى السلم‪ ،‬ويسعى في‬
‫تخليص بني إسرائيل من فرعون وعذابه‪ ،‬وفرعون في عتو ونفور‪ ،‬وأمره شديد على بني‬
‫إسرائيل ويريه ال من اليات والعبر‪ ،‬ما قصه ال علينا في القرآن‪ ،‬وبنو إسرائيل ل يقدرون أن‬
‫يظهروا إيمانهم ويعلنوه‪ ،‬قد اتخذوا بيوتهم مساجد‪ ،‬وصبروا على فرعون وأذاه‪ ،‬فأراد ال تعالى‬
‫أن ينجيهم من عدوهم‪ ،‬ويمكن لهم في الرض ليعبدوه جهرا‪ ،‬ويقيموا أمره‪ ،‬فأوحى إلى نبيه‬
‫موسى أن سر أو سيروا أول الليل‪ ،‬ليتمادوا في الرض‪ ،‬وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه‪،‬‬
‫فخرجوا أول الليل‪ ،‬جميع بني إسرائيل هم ونساؤهم وذريتهم‪ ،‬فلما أصبح أهل مصر إذا ليس فيها‬
‫منهم داع ول مجيب‪ ،‬فحنق عليهم عدوهم فرعون‪ ،‬وأرسل في المدائن‪ ،‬من يجمع له الناس‬
‫ويحضهم على الخروج في أثر بني إسرائيل ليوقع بهم وينفذ غيظه‪ ،‬وال غالب على أمره‪،‬‬
‫فتكاملت جنود فرعون فسار بهم يتبع بني إسرائيل‪ ،‬فأتبعوهم مشرقين‪ { ،‬فلما تراءى الجمعان قال‬
‫أصحاب موسى إنا لمدركون } وقلقوا وخافوا‪ ،‬البحر أمامهم‪ ،‬وفرعون من ورائهم‪ ،‬قد امتل عليهم‬
‫غيظا وحنقا‪ ،‬وموسى مطمئن القلب‪ ،‬ساكن البال‪ ،‬قد وثق بوعد ربه‪ ،‬فقال‪ { :‬كَلّا إِنّ َم ِعيَ رَبّي‬
‫سَ َيهْدِينِ } فأوحى ال إليه أن يضرب البحر بعصاه‪ ،‬فضربه‪ ،‬فانفرق اثني عشر طريقا‪ ،‬وصار‬
‫الماء كالجبال العالية‪ ،‬عن يمين الطرق ويسارها‪ ،‬وأيبس ال طرقهم التي انفرق عنها الماء‪،‬‬
‫وأمرهم ال أن ل يخافوا من إدراك فرعون‪ ،‬ول يخشوا من الغرق في البحر‪ ،‬فسلكوا في تلك‬
‫الطرق‪.‬‬
‫فجاء فرعون وجنوده‪ ،‬فسلكوا وراءهم‪ ،‬حتى إذا تكامل قوم موسى خارجين وقوم فرعون داخلين‪،‬‬
‫أمر ال البحر فالتطم عليهم‪ ،‬وغشيهم من اليم ما غشيهم‪ ،‬وغرقوا كلهم‪ ،‬ولم ينجح منهم أحد‪ ،‬وبنو‬
‫إسرائيل ينظرون إلى عدوهم‪ ،‬قد أقر ال أعينهم بهلكه‬

‫عوْنُ َق ْومَهُ }‬
‫وهذا عاقبة الكفر والضلل‪ ،‬وعدم الهتداء بهدي ال‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وََأضَلّ فِرْ َ‬
‫بما زين لهم من الكفر‪ ،‬وتهجين ما أتى به موسى‪ ،‬واستخفافه إياهم‪ ،‬وما هداهم في وقت من‬
‫الوقات‪ ،‬فأوردهم موارد الغي والضلل‪ ،‬ثم أوردهم مورد العذاب والنكال‪.‬‬

‫{ ‪ { } 82 - 80‬يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ َقدْ أَنْجَيْنَا ُكمْ مِنْ عَ ُد ّوكُ ْم َووَاعَدْنَاكُمْ جَا ِنبَ الطّورِ الْأَ ْيمَنَ وَنَزّلْنَا‬
‫غضَبِي َومَنْ َيحِْللْ‬
‫حلّ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫ط َغوْا فِيهِ فَيَ ِ‬
‫ن وَالسّ ْلوَى * كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَلَا تَ ْ‬
‫عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا ثُمّ اهْتَدَى }‬
‫ن وَ َ‬
‫ب وَآمَ َ‬
‫غضَبِي َفقَدْ َهوَى * وَإِنّي َل َغفّارٌ ِلمَنْ تَا َ‬
‫عَلَيْهِ َ‬

‫يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهلك عدوهم‪ ،‬ومواعدته لموسى عليه السلم‬
‫بجانب الطور اليمن‪ ،‬لينزل عليه الكتاب‪ ،‬الذي فيه الحكام الجليلة‪ ،‬والخبار الجميلة‪ ،‬فتتم عليهم‬
‫النعمة الدينية‪ ،‬بعد النعمة الدنيوية‪ ،‬ويذكر منته أيضا عليهم في التيه‪ ،‬بإنزال المن والسلوى‪،‬‬
‫والرزق الرغد الهني الذي يحصل لهم بل مشقة‪ ،‬وأنه قال لهم‪:‬‬

‫ط َغوْا فِيهِ }‬
‫{ كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ } أي‪ :‬واشكروه على ما أسدى إليكم من النعم { وَلَا َت ْ‬
‫أي‪ :‬في رزقه‪ ،‬فتستعملونه في معاصيه‪ ،‬وتبطرون النعمة‪ ،‬فإنكم إن فعلتم ذلك‪ ،‬حل عليكم غضبي‬
‫غضَبِي َفقَدْ َهوَى } أي‪ :‬ردى وهلك‪ ،‬وخاب‬
‫أي‪ :‬غضبت عليكم‪ ،‬ثم عذبتكم‪َ { ،‬ومَنْ َيحِْللْ عَلَيْهِ َ‬
‫وخسر‪ ،‬لنه عدم الرضا والحسان‪ ،‬وحل عليه الغضب والخسران‪.‬‬

‫ومع هذا‪ ،‬فالتوبة معروضة‪ ،‬ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وَإِنّي َل َغفّارٌ }‬
‫أي‪ :‬كثير المغفرة والرحمة‪ ،‬لمن تاب من الكفر والبدعة والفسوق‪ ،‬وآمن بال وملئكته وكتبه‬
‫ورسله واليوم الخر‪ ،‬وعمل صالحا من أعمال القلب والبدن‪ ،‬وأقوال اللسان‪.‬‬

‫{ ُثمّ اهْ َتدَى } أي‪ :‬سلك الصراط المستقيم‪ ،‬وتابع الرسول الكريم‪ ،‬واقتدى بالدين القويم‪ ،‬فهذا يغفر‬
‫ال أوزاره‪ ،‬ويعفو عما تقدم من ذنبه وإصراره‪ ،‬لنه أتى بالسبب الكبر‪ ،‬للمغفرة والرحمة‪ ،‬بل‬
‫السباب كلها منحصرة في هذه الشياء فإن التوبة تجب ما قبلها‪ ،‬واليمان والسلم يهدم ما قبله‪،‬‬
‫والعمل الصالح الذي هو الحسنات‪ ،‬يذهب السيئات‪ ،‬وسلوك طرق الهداية بجميع أنواعها‪ ،‬من تعلم‬
‫علم‪ ،‬وتدبر آية أو حديث‪ ،‬حتى يتبين له معنى من المعاني يهتدي به‪ ،‬ودعوة إلى دين الحق‪ ،‬ورد‬
‫بدعة أو كفر أو ضللة‪ ،‬وجهاد‪ ،‬وهجرة‪ ،‬وغير ذلك من جزئيات الهداية‪ ،‬كلها مكفرات للذنوب‬
‫محصلت لغاية المطلوب‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 86 - 83‬ومَا أَعْجََلكَ عَنْ َقوْ ِمكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِ ْلتُ إِلَ ْيكَ َربّ‬
‫غضْبَانَ‬
‫جعَ مُوسَى إِلَى َق ْومِهِ َ‬
‫لِتَ ْرضَى * قَالَ فَإِنّا َقدْ فَتَنّا َق ْو َمكَ مِنْ َب ْع ِدكَ وََأضَلّهُمُ السّامِ ِريّ * فَرَ َ‬
‫ضبٌ مِنْ‬
‫غ َ‬
‫حلّ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫سفًا قَالَ يَا َقوْمِ أَلَمْ َيعِ ْدكُمْ رَ ّب ُك ْم وَعْدًا حَسَنًا َأ َفطَالَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َعهْدُ َأمْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ َي ِ‬
‫أَ ِ‬
‫رَ ّبكُمْ فََأخَْلفْتُمْ َموْعِدِي }‬

‫كان ال تعالى‪ ،‬قد واعد موسى أن يأتيه لينزل عليه التوراة ثلثين ليلة‪ ،‬فأتمها بعشر‪ ،‬فلما تم‬
‫الميقات‪ ،‬بادر موسى عليه السلم إلى الحضور للموعد شوقا لربه‪ ،‬وحرصا على موعوده‪ ،‬فقال‬
‫ال له‪َ { :‬ومَا أَعْجََلكَ عَنْ َق ْو ِمكَ يَا مُوسَى } أي‪ :‬ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتى تقدم‬
‫علَى أَثَرِي } أي‪ :‬قريبا مني‪ ،‬وسيصلون في أثري والذي عجلني إليك‬
‫أنت وهم؟ قال‪ { :‬هُمْ أُولَاءِ َ‬
‫يا رب طلبا لقربك ومسارعة في رضاك‪ ،‬وشوقا إليك‪ ،‬فقال ال له‪ { :‬فَإِنّا قَدْ فَتَنّا َق ْو َمكَ مِنْ‬
‫َبعْ ِدكَ } أي‪ :‬بعبادتهم للعجل‪ ،‬ابتليناهم‪ ،‬واختبرناهم‪ ،‬فلم يصبروا‪ ،‬وحين وصلت إليهم المحنة‪،‬‬
‫كفروا { وََأضَّلهُمُ السّامِ ِريّ }‬

‫خوَارٌ َفقَالُوا } لهم { هَذَا إَِل ُهكُ ْم وَإِلَهُ مُوسَى } فنسيه‬


‫عجْلًا جَسَدًا } وصاغه فصار { لَهُ ُ‬
‫{ فََأخْرَجَ َلهُمْ ِ‬
‫موسى‪ ،‬فافتتن به بنو إسرائيل‪ ،‬فعبدوه‪ ،‬ونهاهم هارون فلم ينتهوا‪.‬‬

‫فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف‪ ،‬أي‪ :‬ممتلئ غيظا وحنقا وغما‪ ،‬قال لهم موبخا‬
‫ومقبحا لفعلهم‪ { :‬يَا َقوْمِ أََلمْ َيعِ ْدكُمْ رَ ّبكُ ْم وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراة‪َ { ،‬أ َفطَالَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل َعهْدُ }‬
‫أي‪ :‬المدة‪ ،‬فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟ هذا قول كثير من المفسرين‪ ،‬ويحتمل أن معناه‪:‬‬
‫أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة‪ ،‬فلم يكن لكم بالنبوة علم ول أثر‪ ،‬واندرست آثارها‪ ،‬فلم تقفوا‬
‫منها على خبر‪ ،‬فانمحت آثارها لبعد العهد بها‪ ،‬فعبدتم غير ال‪ ،‬لغلبة الجهل‪ ،‬وعدم العلم بآثار‬
‫الرسالة؟ أي‪ :‬ليس المر كذلك‪ ،‬بل النبوة بين أظهركم‪ ،‬والعلم قائم‪ ،‬والعذر غير مقبول؟ أم أردتم‬
‫بفعلكم‪ ،‬أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أي‪ :‬فتعرضتم لسبابه واقتحمتم موجب عذابه‪ ،‬وهذا هو‬
‫الواقع‪ { ،‬فََأخَْلفْتُمْ َموْعِدِي } حين أمرتكم بالستقامة‪ ،‬ووصيت بكم هارون‪ ،‬فلم ترقبوا غائبا‪ ،‬ولم‬
‫تحترموا حاضرا‪.‬‬

‫حمّلْنَا َأوْزَارًا مِنْ زِينَةِ ا ْل َقوْمِ َفقَ َذفْنَاهَا َفكَذَِلكَ‬


‫{ ‪ { } 89 - 87‬قَالُوا مَا َأخَْلفْنَا َموْعِ َدكَ ِبمَ ْلكِنَا وََلكِنّا ُ‬
‫أَ ْلقَى السّامِ ِريّ *‬
‫سيَ * َأفَلَا يَ َروْنَ أَلّا يَ ْرجِعُ إِلَ ْي ِهمْ‬
‫خوَارٌ َفقَالُوا هَذَا ِإَل ُهكُ ْم وَإِلَهُ مُوسَى فَنَ ِ‬
‫سدًا لَهُ ُ‬
‫فَأَخْرَجَ َل ُهمْ عِجْلًا جَ َ‬
‫َقوْلًا وَلَا َيمِْلكُ َل ُه ْم ضَرّا وَلَا َن ْفعًا }‬

‫أي‪ :‬قالوا له‪ :‬ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا‪ ،‬وملك منا لنفسنا‪ ،‬ولكن السبب الداعي لذلك‪ ،‬أننا‬
‫تأثمنا من زينة القوم التي عندنا‪ ،‬وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط‪ ،‬فخرجوا وهو‬
‫معهم وألقوه‪ ،‬وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع‪.‬‬

‫وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول‪ ،‬فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره‪ ،‬وأنه‬
‫إذا ألقاها على شيء حيي‪ ،‬فتنة وامتحانا‪ ،‬فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل‪،‬‬
‫فتحرك العجل‪ ،‬وصار له خوار وصوت‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن موسى ذهب يطلب ربه‪ ،‬وهو هاهنا فنسيه‪،‬‬
‫وهذا من بلدتهم‪ ،‬وسخافة عقولهم‪ ،‬حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار‪ ،‬بعد أن كان‬
‫جمادا‪ ،‬فظنوه إله الرض والسماوات‪.‬‬

‫{ َأفَلَا يَ َروْنَ } أن العجل { لّا يَ ْرجِعُ إِلَ ْيهِمْ َقوْلًا } أي‪ :‬ل يتكلم ويراجعهم ويراجعونه‪ ،‬ول يملك لهم‬
‫ضرا ول نفعا‪ ،‬فالعادم للكمال والكلم والفعال ل يستحق أن يعبد وهو أنقص من عابديه‪ ،‬فإنهم‬
‫يتكلمون ويقدرون على بعض الشياء‪ ،‬من النفع والدفع‪ ،‬بإقدار ال لهم‪.‬‬

‫حمَنُ فَاتّ ِبعُونِي‬


‫{ ‪ { } 94 - 90‬وََلقَدْ قَالَ َلهُمْ هَارُونُ مِنْ قَ ْبلُ يَا َقوْمِ إِ ّنمَا فُتِنْ ُتمْ بِ ِه وَإِنّ رَ ّب ُكمُ الرّ ْ‬
‫وَأَطِيعُوا َأمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَ ْيهِ عَا ِكفِينَ حَتّى يَ ْرجِعَ ِإلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَ َن َعكَ ِإذْ‬
‫خشِيتُ‬
‫خذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنّي َ‬
‫رَأَيْ َتهُ ْم ضَلّوا * أَلّا تَتّ ِبعَنِي َأ َف َعصَ ْيتَ َأمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمّ لَا تَأْ ُ‬
‫ل وَلَمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي }‬
‫أَنْ َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِي َ‬

‫أي‪ :‬إن اتخاذهم العجل‪ ،‬ليسوا معذورين فيه‪ ،‬فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل‬
‫عبادته‪ ،‬فإن هارون قد نهاهم عنه‪ ،‬وأخبرهم أنه فتنة‪ ،‬وأن ربهم الرحمن‪ ،‬الذي منه النعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬الدافع للنقم وأنه أمرهم أن يتبعوه‪ ،‬ويعتزلوا العجل‪ ،‬فأبوا وقالوا‪ { :‬لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ‬
‫عَا ِكفِينَ حَتّى يَ ْرجِعَ ِإلَيْنَا مُوسَى }‬

‫فأقبل موسى على أخيه لئما له‪ ،‬وقال‪ { :‬يَا هَارُونُ مَا مَ َن َعكَ إِذْ رَأَيْ َت ُه ْم ضَلّوا* أَلّا تَتّ ِبعَنِ }‬
‫فتخبرني لبادر للرجوع إليهم؟ { َأ َف َعصَ ْيتَ َأمْرِي } في قولي { اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِحْ وَلَا تَتّبِعْ‬
‫سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }‬
‫فأخذ موسى برأس هارون ولحيته‪ ،‬يجره من الغضب والعتب عليه‪ ،‬فقال هارون‪ { :‬يَا ابْنَ أُمّ }‬
‫خشِيتُ أَنْ َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي‬
‫ترقيق له‪ ،‬وإل فهو شقيقه { لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنّي َ‬
‫ل وَلَمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي } فإنك أمرتني أن أخلفك فيهم‪ ،‬فلو تبعتك‪ ،‬لتركت ما أمرتني بلزومه‬
‫إِسْرَائِي َ‬
‫وخشيت لئمتك‪ ،‬و { أَنْ َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } حيث تركتهم‪ ،‬وليس عندهم راع ول‬
‫خليفة‪ ،‬فإن هذا يفرقهم ويشتت شملهم‪ ،‬فل تجعلني مع القوم الظالمين‪ ،‬ول تشمت فينا العداء‪،‬‬
‫غفِرْ لِي وَلَِأخِي وََأدْخِلْنَا‬
‫فندم موسى على ما صنع بأخيه‪ ،‬وهو غير مستحق لذلك فب { قَالَ َربّ ا ْ‬
‫حمِينَ }‬
‫ك وَأَ ْنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬
‫حمَ ِت َ‬
‫فِي َر ْ‬

‫ثم أقبل على السامري فب‬

‫ضتُ قَ ْبضَةً‬
‫خطْ ُبكَ يَا سَامِ ِريّ * قَالَ َبصُ ْرتُ ِبمَا لَمْ يَ ْبصُرُوا بِهِ َفقَ َب ْ‬
‫{ ‪ } 97 - 95‬فب { قَالَ َفمَا َ‬
‫سوَّلتْ لِي َنفْسِي * قَالَ فَاذْ َهبْ فَإِنّ َلكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ َتقُولَ لَا مِسَاسَ‬
‫مِنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْ ُتهَا َوكَذَِلكَ َ‬
‫سفًا }‬
‫سفَنّهُ فِي الْيَمّ نَ ْ‬
‫وَإِنّ َلكَ َموْعِدًا لَنْ ُتخَْلفَ ُه وَانْظُرْ إِلَى إَِل ِهكَ الّذِي ظَ ْلتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَ ُنحَ ّرقَنّهُ ُثمّ لَنَنْ ِ‬

‫أي‪ :‬ما شأنك يا سامري‪ ،‬حيث فعلت ما فعلت؟‪ ،‬فقال‪َ { :‬بصُ ْرتُ ِبمَا لَمْ يَ ْبصُرُوا ِبهِ } وهو جبريل‬
‫عليه السلم على فرس رآه وقت خروجهم من البحر‪ ،‬وغرق فرعون وجنوده على ما قاله‬
‫سوَّلتْ لِي َنفْسِي }‬
‫المفسرون‪ ،‬فقبضت قبضة من أثر حافر فرسه‪ ،‬فنبذتها على العجل‪َ { ،‬وكَذَِلكَ َ‬
‫أن أقبضها‪ ،‬ثم أنبذها‪ ،‬فكان ما كان‪ ،‬فقال له موسى‪ { :‬فَاذْ َهبْ } أي‪ :‬تباعد عني واستأخر مني‬
‫{ فَإِنّ َلكَ فِي ا ْلحَيَاةِ أَنْ َتقُولَ لَا ِمسَاسَ } أي‪ :‬تعاقب في الحياة عقوبة‪ ،‬ل يدنو منك أحد‪ ،‬ول‬
‫يمسك أحد‪ ،‬حتى إن من أراد القرب منك‪ ،‬قلت له‪ :‬ل تمسني‪ ،‬ول تقرب مني‪ ،‬عقوبة على ذلك‪،‬‬
‫حيث مس ما لم يمسه غيره‪ ،‬وأجرى ما لم يجره أحد‪ { ،‬وَإِنّ َلكَ َموْعِدًا لَنْ ُتخَْلفَهُ } فتجازى‬
‫بعملك‪ ،‬من خير وشر‪ { ،‬وَانْظُرْ إِلَى إَِل ِهكَ الّذِي ظَ ْلتَ عَلَ ْيهِ عَا ِكفًا } أي‪ :‬العجل { لَنُحَ ّرقَنّهُ ثُمّ‬
‫سفًا } ففعل موسى ذلك‪ ،‬فلو كان إلها‪ ،‬لمتنع ممن يريده بأذى ويسعى له‬
‫سفَنّهُ فِي الْيَمّ نَ ْ‬
‫لَنَنْ ِ‬
‫بالتلف‪ ،‬وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل‪ ،‬فأراد موسى عليه السلم إتلفه وهم‬
‫ينظرون‪ ،‬على وجه ل تمكن إعادته بالحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه‪ ،‬ليزول ما في قلوبهم‬
‫من حبه‪ ،‬كما زال شخصه‪ ،‬ولن في إبقائه محنة‪ ،‬لن في النفوس أقوى داع إلى الباطل‪ ،‬فلما‬
‫تبين لهم بطلنه‪ ،‬أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده ل شريك له‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫شيْءٍ عِ ْلمًا }‬
‫{ ‪ { } 98‬إِ ّنمَا إَِل ُهكُمُ اللّهُ الّذِي لَا إِلَهَ إِلّا ُه َو وَسِعَ ُكلّ َ‬
‫أي‪ :‬ل معبود إل وجهه الكريم‪ ،‬فل يؤله‪ ،‬ول يحب‪ ،‬ول يرجى ول يخاف‪ ،‬ول يدعى إل هو‪،‬‬
‫لنه الكامل الذي له السماء الحسنى‪ ،‬والصفات العلى‪ ،‬المحيط علمه بجميع الشياء‪ ،‬الذي ما من‬
‫نعمة بالعباد إل منه‪ ،‬ول يدفع السوء إل هو‪ ،‬فل إله إل هو‪ ،‬ول معبود سواه‪.‬‬

‫ق َوقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنّا ِذكْرًا * مَنْ‬


‫{ ‪ { } 101 - 99‬كَذَِلكَ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا َقدْ سَ َب َ‬
‫حمْلًا }‬
‫ح ِملُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وِزْرًا * خَالِدِينَ فِي ِه وَسَاءَ َل ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ِ‬
‫أَعْ َرضَ عَنْهُ فَإِنّهُ يَ ْ‬

‫يمتن ال تعالى على نبيه صلى ال عليه وسلم بما قصه عليه من أنباء السابقين‪ ،‬وأخبار السالفين‪،‬‬
‫كهذه القصة العظيمة‪ ،‬وما فيها من الحكام وغيرها‪ ،‬التي ل ينكرها أحد من أهل الكتاب‪ ،‬فأنت لم‬
‫تدرس أخبار الولين‪ ،‬ولم تتعلم ممن دراها‪ ،‬فإخبارك بالحق اليقين من أخبارهم‪ ،‬دليل على أنك‬
‫رسول ال حقا‪ ،‬وما جئت به صدق‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنّا } أي‪ :‬عطية نفيسة‪ ،‬ومنحة‬
‫جزيلة من عندنا‪ِ { .‬ذكْرًا } وهو هذا القرآن الكريم‪ ،‬ذكر للخبار السابقة واللحقة‪ ،‬وذكر يتذكر به‬
‫ما ل تعالى من السماء والصفات الكاملة‪ ،‬ويتذكر به أحكام المر والنهي‪ ،‬وأحكام الجزاء‪ ،‬وهذا‬
‫مما يدل على أن القرآن مشتمل على أحسن ما يكون من الحكام‪ ،‬التي تشهد العقول والفطر‬
‫بحسنها وكمالها‪ ،‬ويذكر هذا القرآن ما أودع ال فيها‪ ،‬وإذا كان القرآن ذكرا للرسول ولمته‪،‬‬
‫فيجب تلقيه بالقبول والتسليم والنقياد والتعظيم‪ ،‬وأن يهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم‪ ،‬وأن‬
‫يقبلوا عليه بالتعلم والتعليم‪.‬‬

‫وأما مقابلته بالعراض‪ ،‬أو ما هو أعظم منه من النكار‪ ،‬فإنه كفر لهذه النعمة‪ ،‬ومن فعل ذلك‪،‬‬
‫فهو مستحق للعقوبة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مَنْ أَعْ َرضَ عَنْهُ } فلم يؤمن به‪ ،‬أو تهاون بأوامره ونواهيه‪ ،‬أو‬
‫ح ِملُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وِزْرًا } وهو ذنبه‪ ،‬الذي بسببه أعرض عن القرآن‪،‬‬
‫بتعلم معانيه الواجبة { فَإِنّهُ َي ْ‬
‫وأوله الكفر والهجران‪ { ،‬خَالِدِينَ فِيهِ } أي‪ :‬في وزرهم‪ ،‬لن العذاب هو نفس العمال‪ ،‬تنقلب‬
‫عذابا على أصحابها‪ ،‬بحسب صغرها وكبرها‪.‬‬

‫حمْلًا } أي‪ :‬بئس الحمل الذي يحملونه‪ ،‬والعذاب الذي يعذبونه يوم القيامة‪،‬‬
‫{ وَسَاءَ َلهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ِ‬
‫ثم استطرد‪ ،‬فذكر أحوال يوم القيامة وأهواله فقال‪:‬‬

‫{ ‪َ { } 104 - 102‬يوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ وَ َنحْشُرُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ َي ْومَئِذٍ زُ ْرقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْ َنهُمْ إِنْ‬
‫لَبِثْتُمْ ِإلّا عَشْرًا * َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا َيقُولُونَ إِذْ َيقُولُ َأمْثَُلهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا َي ْومًا }‬

‫أي‪ :‬إذا نفخ في الصور وخرج الناس من قبورهم‪ ،‬كل على حسب حاله‪ ،‬فالمتقون يحشرون إلى‬
‫الرحمن وفدا‪ ،‬والمجرمون يحشرون زرقا ألوانهم من الخوف والقلق والعطش‪ ،‬يتناجون بينهم‪،‬‬
‫ويتخافتون في قصر مدة الدنيا‪ ،‬وسرعة الخرة‪ ،‬فيقول بعضهم‪ :‬ما لبثتم إل عشرة أيام‪ ،‬ويقول‬
‫بعضهم غير ذلك‪ ،‬وال يعلم تخافتهم‪ ،‬ويسمع ما يقولون { ِإذْ َيقُولُ َأمْثَُلهُمْ طَرِيقَةً } أي‪ :‬أعدلهم‬
‫وأقربهم إلى التقدير { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا َي ْومًا }‬

‫والمقصود من هذا‪ ،‬الندم العظيم‪ ،‬كيف ضيعوا الوقات القصيرة‪ ،‬وقطعوها ساهين لهين‪،‬‬
‫معرضين عما ينفعهم‪ ،‬مقبلين على ما يضرهم‪ ،‬فها قد حضر الجزاء‪ ،‬وحق الوعيد‪ ،‬فلم يبق إل‬
‫الندم‪ ،‬والدعاء بالويل والثبور‪.‬‬

‫كما قال تعالى‪ { :‬قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ عَ َددَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ فَاسَْألِ‬
‫ا ْلعَادّينَ* قَالَ إِنْ لَبِثْ ُتمْ إِلّا قَلِيلًا َلوْ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }‬

‫ص ْفصَفًا * لَا‬
‫سفًا * فَ َيذَرُهَا قَاعًا َ‬
‫س ُفهَا رَبّي َن ْ‬
‫{ ‪ { } 112 - 105‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ َف ُقلْ يَنْ ِ‬
‫سمَعُ‬
‫حمَنِ فَلَا َت ْ‬
‫صوَاتُ لِلرّ ْ‬
‫ش َعتِ الَْأ ْ‬
‫عوَجَ َل ُه وَخَ َ‬
‫عيَ لَا ِ‬
‫عوَجًا وَلَا َأمْتًا * َي ْومَئِذٍ يَتّ ِبعُونَ الدّا ِ‬
‫تَرَى فِيهَا ِ‬
‫ن وَ َرضِيَ لَهُ َقوْلًا * َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا‬
‫حمَ ُ‬
‫شفَاعَةُ إِلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّ ْ‬
‫إِلّا َهمْسًا * َي ْومَئِذٍ لَا تَ ْنفَعُ ال ّ‬
‫ح َملَ ظُ ْلمًا * َومَنْ َي ْع َملْ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومِ َوقَدْ خَابَ مَنْ َ‬
‫ع ْلمًا * وَعَ َنتِ ا ْل ُوجُوهُ لِ ْل َ‬
‫خَ ْل َفهُ ْم وَلَا ُيحِيطُونَ بِهِ ِ‬
‫ضمًا }‬
‫ت وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَا َيخَافُ ظُ ْلمًا وَلَا َه ْ‬
‫مِنَ الصّالِحَا ِ‬

‫يخبر تعالى عن أهوال القيامة‪ ،‬وما فيها من الزلزل والقلقل‪ ،‬فقال‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْجِبَالِ }‬
‫سفًا } أي‪ :‬يزيلها‬
‫س ُفهَا رَبّي نَ ْ‬
‫أي‪ :‬ماذا يصنع بها يوم القيامة‪ ،‬وهل تبقى بحالها أم ل؟ { َفقُلْ يَنْ ِ‬
‫ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل‪ ،‬ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا‪ ،‬فتضمحل وتتلشى‪،‬‬
‫عوَجًا‪ ،‬هذا من‬
‫ويسويها بالرض‪ ،‬ويجعل الرض قاعا صفصفا‪ ،‬مستويا ل يرى فيه أيها الناظر ِ‬
‫تمام استوائها { وَلَا َأمْتًا } أي‪ :‬أودية وأماكن منخفضة‪ ،‬أو مرتفعة فتبرز الرض‪ ،‬وتتسع للخلئق‪،‬‬
‫ويمدها ال مد الديم‪ ،‬فيكونون في موقف واحد‪ ،‬يسمعهم الداعي‪ ،‬وينفذهم البصر‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫عيَ } وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها‪ ،‬يدعوهم الداعي إلى‬
‫{ َي ْومَئِذٍ يَتّ ِبعُونَ الدّا ِ‬
‫الحضور والجتماع للموقف‪ ،‬فيتبعونه مهطعين إليه‪ ،‬ل يلتفتون عنه‪ ،‬ول يعرجون يمنة ول‬
‫عوَجَ َلهُ } أي‪ :‬ل عوج لدعوة الداعي‪ ،‬بل تكون دعوته حقا وصدقا‪ ،‬لجميع‬
‫يسرة‪ ،‬وقوله‪ { :‬لَا ِ‬
‫الخلق‪ ،‬يسمعهم جميعهم‪ ،‬ويصيح بهم أجمعين‪ ،‬فيحضرون لموقف القيامة‪ ،‬خاشعة أصواتهم‬
‫سمَعُ إِلّا َهمْسًا } أي‪ :‬إل وطء القدام‪ ،‬أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط‪،‬‬
‫للرحمن‪ { ،‬فَلَا تَ ْ‬
‫يملكهم الخشوع والسكون والنصات‪ ،‬انتظارا لحكم الرحمن فيهم‪ ،‬وتعنو وجوههم‪ ،‬أي‪ :‬تذل‬
‫وتخضع‪ ،‬فترى في ذلك الموقف العظيم‪ ،‬الغنياء والفقراء‪ ،‬والرجال والنساء‪ ،‬والحرار والرقاء‪،‬‬
‫والملوك والسوقة‪ ،‬ساكتين منصتين‪ ،‬خاشعة أبصارهم‪ ،‬خاضعة رقابهم‪ ،‬جاثين على ركبهم‪ ،‬عانية‬
‫وجوههم‪ ،‬ل يدرون ماذا ينفصل كل منهم به‪ ،‬ول ماذا يفعل به‪ ،‬قد اشتغل كل بنفسه وشأنه‪ ،‬عن‬
‫أبيه وأخيه‪ ،‬وصديقه وحبيبه { ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْن ُهمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ } فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل‬
‫الديان‪ ،‬ويجازي المحسن بإحسانه‪ ،‬والمسيء بالحرمان‪.‬‬

‫والمل بالرب الكريم‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬أن يرى الخلئق منه‪ ،‬من الفضل والحسان‪ ،‬والعفو‬
‫والصفح والغفران‪ ،‬ما ل تعبر عنه اللسنة‪ ،‬ول تتصوره الفكار‪ ،‬ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع‬
‫الخلق لما يشاهدونه [فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة] فإن قيل‪ :‬من أين لكم هذا المل؟‬
‫وإن شئت قلت‪ :‬من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟‬

‫قلنا‪ :‬لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه‪ ،‬ومن سعة جوده‪ ،‬الذي عم جميع البرايا‪ ،‬ومما نشاهده في‬
‫أنفسنا وفي غيرنا‪ ،‬من النعم المتواترة في هذه الدار‪ ،‬وخصوصا في فصل القيامة‪ ،‬فإن قوله‪:‬‬
‫حمَنِ }‬
‫حقّ لِلرّ ْ‬
‫حمَنُ } مع قوله { ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ الْ َ‬
‫حمَنِ } { إِلّا مَنْ َأذِنَ لَهُ الرّ ْ‬
‫صوَاتُ لِلرّ ْ‬
‫ش َعتِ الَْأ ْ‬
‫خَ‬‫{ وَ َ‬
‫مع قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ل مائة رحمة أنزل لعباده رحمة‪ ،‬بها يتراحمون ويتعاطفون‪،‬‬
‫حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه ‪-‬أي‪ -:‬من الرحمة المودعة في قلبها‪ ،‬فإذا‬
‫كان يوم القيامة‪ ،‬ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة‪ ،‬فرحم بها العباد "‬

‫مع قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل أرحم بعباده من الوالدة بولدها " فقل ما شئت عن رحمته‪،‬‬
‫فإنها فوق ما تقول‪ ،‬وتصور ما شئت‪ ،‬فإنها فوق ذلك‪ ،‬فسبحان من رحم في عدله وعقوبته‪ ،‬كما‬
‫رحم في فضله وإحسانه ومثوبته‪ ،‬وتعالى من وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬وعم كرمه كل حي‪ ،‬وجل‬
‫من غني عن عباده‪ ،‬رحيم بهم‪ ،‬وهم مفتقرون إليه على الدوام‪ ،‬في جميع أحوالهم‪ ،‬فل غنى لهم‬
‫عنه طرفة عين‪.‬‬

‫ن وَ َرضِيَ لَهُ َقوْلًا } أي‪ :‬ل يشفع أحد عنده‬


‫حمَ ُ‬
‫شفَاعَةُ إِلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّ ْ‬
‫وقوله‪َ { :‬ي ْومَئِذٍ لَا تَ ْنفَعُ ال ّ‬
‫من الخلق‪ ،‬إل إذا أذن في الشفاعة ول يأذن إل لمن رضي قوله‪ ،‬أي‪ :‬شفاعته‪ ،‬من النبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬وعباده المقربين‪ ،‬فيمن ارتضى قوله وعمله‪ ،‬وهو المؤمن المخلص‪ ،‬فإذا اختل واحد‬
‫من هذه المور‪ ،‬فل سبيل لحد إلى شفاعة من أحد‪.‬‬

‫وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين‪:‬‬

‫ظالمين بكفرهم وشرهم‪ ،‬فهؤلء ل ينالهم إل الخيبة والحرمان‪ ،‬والعذاب الليم في جهنم‪ ،‬وسخط‬
‫الديان‪.‬‬
‫والقسم الثاني‪ :‬من آمن اليمان المأمور به‪ ،‬وعمل صالحا من واجب ومسنون { فَلَا َيخَافُ ظُ ْلمًا }‬
‫ضمًا } أي‪ :‬نقصا من حسناته‪ ،‬بل تغفر ذنوبه‪ ،‬وتطهر عيوبه‪،‬‬
‫أي‪ :‬زيادة في سيئاته { وَلَا َه ْ‬
‫عظِيمًا }‬
‫ع ْفهَا وَ ُي ْؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا َ‬
‫حسَنَةً ُيضَا ِ‬
‫وتضاعف حسناته‪ { ،‬وَإِنْ َتكُ َ‬

‫{ ‪َ { } 113‬وكَذَِلكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا َوصَ ّرفْنَا فِيهِ مِنَ ا ْلوَعِيدِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ َأوْ ُيحْ ِدثُ َل ُهمْ ِذكْرًا }‬

‫أي‪ :‬وكذلك أنزلنا هذا الكتاب‪ ،‬باللسان الفاضل العربي‪ ،‬الذي تفهمونه وتفقهونه‪ ،‬ول يخفى عليكم‬
‫لفظه‪ ،‬ول معناه‪.‬‬

‫{ َوصَ ّرفْنَا فِيهِ مِنَ ا ْلوَعِيدِ } أي‪ :‬نوعناها أنواعا كثيرة‪ ،‬تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل‬
‫والنتقام‪ ،‬وتارة بذكر المثلت التي أحلها بالمم السابقة‪ ،‬وأمر أن تعتبر بها المم اللحقة‪ ،‬وتارة‬
‫بذكر آثار الذنوب‪ ،‬وما تكسبه من العيوب‪ ،‬وتارة بذكر أهوال القيامة‪ ،‬وما فيها من المزعجات‬
‫والمقلقات‪ ،‬وتارة بذكر جهنم وما فيها من أنوع العقاب وأصناف العذاب‪ ،‬كل هذا رحمة بالعباد‪،‬‬
‫ح ِدثُ َلهُمْ ِذكْرًا } فيعملون من‬
‫لعلهم يتقون ال فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم‪َ { ،‬أوْ يُ ْ‬
‫الطاعات والخير ما ينفعهم‪ ،‬فكونه عربيا‪ ،‬وكونه مصرفا فيه [من] الوعيد‪ ،‬أكبر سبب‪ ،‬وأعظم‬
‫داع للتقوى والعمل الصالح‪ ،‬فلو كان غير عربي‪ ،‬أو غير مصرف فيه‪ ،‬لم يكن له هذا الثر‪.‬‬

‫ك وَحْيُ ُه َو ُقلْ َربّ‬


‫جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ ُيقْضَى إِلَ ْي َ‬
‫ق وَلَا َت ْع َ‬
‫{ ‪ { } 114‬فَ َتعَالَى اللّهُ ا ْلمَِلكُ ا ْلحَ ّ‬
‫زِدْنِي عِ ْلمًا }‬

‫لما ذكر تعالى حكمه الجزائي في عباده‪ ،‬وحكمه المري الديني‪ ،‬الذي أنزله في كتابه‪ ،‬وكان هذا‬
‫من آثار ملكه قال‪ { :‬فَ َتعَالَى اللّهُ } أي‪ :‬جل وارتفع وتقدس عن كل نقص وآفة‪ { ،‬ا ْلمُ ْلكُ } الذي‬
‫الملك وصفه‪ ،‬والخلق كلهم مماليك له‪ ،‬وأحكام الملك القدرية والشرعية‪ ،‬نافذة فيهم‪.‬‬

‫{ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬وجوده وملكه وكماله حق‪ ،‬فصفات الكمال‪ ،‬ل تكون حقيقة إل لذي الجلل‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪ :‬الملك‪ ،‬فإن غيره من الخلق‪ ،‬وإن كان له ملك في بعض الوقات‪ ،‬على بعض الشياء‪ ،‬فإنه‬
‫ملك قاصر باطل يزول‪ ،‬وأما الرب‪ ،‬فل يزال ول يزول ملكا حيا قيوما جليل‪.‬‬

‫ك وَحْيُهُ } أي‪ :‬ل تبادر بتلقف القرآن حين يتلوه عليك‬


‫جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ ُيقْضَى إِلَ ْي َ‬
‫{ وَلَا َت ْع َ‬
‫جبريل‪ ،‬واصبر حتى يفرغ منه‪ ،‬فإذا فرغ منه فاقرأه‪ ،‬فإن ال قد ضمن لك جمعه في صدرك‬
‫ج ْمعَ ُه َوقُرْآنَهُ فَِإذَا قَرَأْنَاهُ‬
‫جلَ ِبهِ إِنّ عَلَيْنَا َ‬
‫وقراءتك إياه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَا تُحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ‬
‫فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ولما كانت عجلته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬على تلقف الوحي‬
‫ومبادرته إليه‪ ،‬تدل على محبته التامة للعلم وحرصه عليه‪ ،‬أمره ال تعالى أن يسأله زيادة العلم‪،‬‬
‫فإن العلم خير‪ ،‬وكثرة الخير مطلوبة‪ ،‬وهي من ال‪ ،‬والطريق إليها الجتهاد‪ ،‬والشوق للعلم‪،‬‬
‫وسؤال ال‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬والفتقار إليه في كل وقت‪.‬‬

‫ويؤخذ من هذه الية الكريمة‪ ،‬الدب في تلقي العلم‪ ،‬وأن المستمع للعلم ينبغي له أن يتأنى ويصبر‬
‫حتى يفرغ المملي والمعلم من كلمه المتصل بعضه ببعض‪ ،‬فإذا فرغ منه سأل إن كان عنده‬
‫سؤال‪ ،‬ول يبادر بالسؤال وقطع كلم ملقي العلم‪ ،‬فإنه سبب للحرمان‪ ،‬وكذلك المسئول‪ ،‬ينبغي له‬
‫أن يستملي سؤال السائل‪ ،‬ويعرف المقصود منه قبل الجواب‪ ،‬فإن ذلك سبب لصابة الصواب‪.‬‬

‫ي وَلَمْ َنجِدْ َلهُ عَ ْزمًا }‬


‫سَ‬‫ع ِهدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَ ْبلُ فَنَ ِ‬
‫{ ‪ { } 115‬وَلَقَدْ َ‬

‫أي‪ :‬ولقد وصينا آدم وأمرناه‪ ،‬وعهدنا إليه عهدا ليقوم به‪ ،‬فالتزمه‪ ،‬وأذعن له وانقاد‪ ،‬وعزم على‬
‫القيام به‪ ،‬ومع ذلك نسي ما أمر به‪ ،‬وانتقضت عزيمته المحكمة‪ ،‬فجرى عليه ما جرى‪ ،‬فصار‬
‫عبرة لذريته‪ ،‬وصارت طبائعهم مثل طبيعته‪ ،‬نسي آدم فنسيت ذريته‪ ،‬وخطئ فخطئوا‪ ،‬ولم يثبت‬
‫على العزم المؤكد‪ ،‬وهم كذلك‪ ،‬وبادر بالتوبة من خطيئته‪ ،‬وأقر بها واعترف‪ ،‬فغفرت له‪ ،‬ومن‬
‫يشابه أباه فما ظلم‪.‬‬

‫ثم ذكر تفصيل ما أجمله فقال‪:‬‬

‫سجُدُوا لِآدَمَ َفسَجَدُوا ِإلّا إِبْلِيسَ أَبَى * َفقُلْنَا يَا آدَمُ إِنّ هَذَا‬
‫{ ‪ { } 122 - 116‬وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ‬
‫شقَى * إِنّ َلكَ أَلّا َتجُوعَ فِيهَا وَلَا َتعْرَى * وَأَ ّنكَ لَا‬
‫جكَ فَلَا ُيخْرِجَ ّن ُكمَا مِنَ ا ْلجَنّةِ فَتَ ْ‬
‫ك وَلِ َزوْ ِ‬
‫عَ ُدوّ َل َ‬
‫شجَ َرةِ الْخُ ْل ِد َومُ ْلكٍ لَا يَبْلَى‬
‫سوَسَ إِلَ ْيهِ الشّ ْيطَانُ قَالَ يَا آدَمُ َهلْ َأدُّلكَ عَلَى َ‬
‫ظمَأُ فِيهَا وَلَا َتضْحَى * َفوَ ْ‬
‫تَ ْ‬
‫عصَى آدَمُ رَبّهُ َف َغوَى *‬
‫ن وَرَقِ الْجَنّ ِة وَ َ‬
‫صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِ ْ‬
‫خ ِ‬
‫ط ِفقَا َي ْ‬
‫سوْآ ُت ُهمَا وَ َ‬
‫* فََأكَلَا مِ ْنهَا فَبَ َدتْ َل ُهمَا َ‬
‫ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَ ْي ِه وَهَدَى }‬

‫أي‪ :‬لما أكمل خلق آدم بيده‪ ،‬وعلمه السماء‪ ،‬وفضله‪ ،‬وكرمه‪ ،‬أمر الملئكة بالسجود له‪ ،‬إكراما‬
‫وتعظيما وإجلل‪ ،‬فبادروا بالسجود ممتثلين‪ ،‬وكان بينهم إبليس‪ ،‬فاستكبر عن أمر ربه‪ ،‬وامتنع من‬
‫السجود لدم وقال‪ { :‬أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ } فتبينت حينئذ‪ ،‬عداوته البليغة‬
‫لدم وزوجه‪ ،‬لما كان عدوا ل‪ ،‬وظهر من حسده‪ ،‬ما كان سبب العداوة‪ ،‬فحذر ال آدم وزوجه‬
‫شقَى } إذا أخرجت منها‪ ،‬فإن لك فيها الرزق الهني‪،‬‬
‫منه‪ ،‬وقال { لَا ُيخْرِجَ ّن ُكمَا مِنَ ا ْلجَنّةِ فَتَ ْ‬
‫والراحة التامة‪.‬‬
‫ظمَأُ فِيهَا وَلَا َتضْحَى } أي‪ :‬تصيبك الشمس بحرها‪،‬‬
‫{ إِنّ َلكَ أَلّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا َتعْرَى وَأَ ّنكَ لَا تَ ْ‬
‫فضمن له استمرار الطعام والشراب‪ ،‬والكسوة‪ ،‬والماء‪ ،‬وعدم التعب والنصب‪ ،‬ولكنه نهاه عن أكل‬
‫شجرة معينة فقال‪ { :‬وَلَا َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ } فلم يزل الشيطان يسول لهما‪،‬‬
‫شجَ َرةِ الْخُ ْلدِ } أي‪ :‬الشجرة التي من أكل منها خلد‬
‫ويزين أكل الشجرة‪ ،‬ويقول‪َ { :‬هلْ َأدُّلكَ عَلَى َ‬
‫في الجنة‪َ { .‬ومُ ْلكٍ لَا يَبْلَى } أي‪ :‬ل ينقطع إذا أكلت منها‪ ،‬فأتاه بصورة ناصح‪ ،‬وتلطف له في‬
‫الكلم‪ ،‬فاغتر به آدم‪ ،‬وأكل من الشجرة فسقط في أيديهما‪ ،‬وسقطت كسوتهما‪ ،‬واتضحت‬
‫معصيتهما‪ ،‬وبدا لكل منهما سوأة الخر‪ ،‬بعد أن كانا مستورين‪ ،‬وجعل يخصفان على أنفسهما من‬
‫ورق أشجار الجنة ليستترا بذلك‪ ،‬وأصابهما من الخجل ما ال به عليم‪.‬‬

‫ظَلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َت ْغفِرْ لَنَا‬


‫عصَى آ َدمُ رَبّهُ َف َغوَى } فبادرا إلى التوبة والنابة‪ ،‬وقال‪ { :‬رَبّنَا َ‬
‫{ وَ َ‬
‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فاجتباه ربه‪ ،‬واختاره‪ ،‬ويسر له التوبة { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } فكان‬
‫وَتَرْ َ‬
‫بعد التوبة أحسن منه قبلها‪ ،‬ورجع كيد العدو عليه‪ ،‬وبطل مكره‪ ،‬فتمت النعمة عليه وعلى ذريته‪،‬‬
‫ووجب عليهم القيام بها والعتراف‪ ،‬وأن يكونوا على حذر من هذا العدو المرابط الملزم لهم‪،‬‬
‫س ُهمَا‬
‫ليل ونهارا { يَا بَنِي آدَمَ لَا َيفْتِنَ ّنكُمُ الشّ ْيطَانُ َكمَا أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُمْ مِنَ الْجَنّةِ يَنْ ِزعُ عَ ْن ُهمَا لِبَا َ‬
‫جعَلْنَا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَاءَ لِلّذِينَ لَا‬
‫سوْآ ِت ِهمَا إِنّهُ يَرَاكُمْ ُه َو َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْيثُ لَا تَ َروْ َنهُمْ إِنّا َ‬
‫لِيُرِ َي ُهمَا َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي ُهدًى َفمَنِ اتّبَعَ‬
‫جمِيعًا َب ْع ُ‬
‫{ ‪ { } 127 - 123‬قَالَ اهْ ِبطَا مِ ْنهَا َ‬
‫شقَى * َومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَ ْنكًا وَنَحْشُ ُرهُ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ‬
‫ضلّ وَلَا يَ ْ‬
‫هُدَايَ فَلَا َي ِ‬
‫عمَى َوقَدْ كُ ْنتُ َبصِيرًا * قَالَ كَذَِلكَ أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا فَنَسِي َتهَا َوكَذَِلكَ الْ َيوْمَ‬
‫حشَرْتَنِي أَ ْ‬
‫عمَى * قَالَ َربّ ِلمَ َ‬
‫أَ ْ‬
‫تُنْسَى * َوكَذَِلكَ نَجْزِي مَنْ أَسْ َرفَ وَلَمْ ُي ْؤمِنْ بِآيَاتِ رَبّ ِه وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ أَشَدّ وَأَبْقَى }‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه أمر آدم وإبليس أن يهبطا إلى الرض‪ ،‬وأن يتخذوا [آدم وبنوه] الشيطان عدوا‬
‫لهم‪ ،‬فيأخذوا الحذر منه‪ ،‬ويعدوا له عدته ويحاربوه‪ ،‬وأنه سينزل عليهم كتبا‪ ،‬ويرسل إليهم رسل‬
‫يبينون لهم الطريق المستقيم الموصلة إليه وإلى جنته‪ ،‬ويحذرونهم من هذا العدو المبين‪ ،‬وأنهم أي‪:‬‬
‫وقت جاءهم ذلك الهدى‪ ،‬الذي هو الكتب والرسل‪ ،‬فإن من اتبعه اتبع ما أمر به‪ ،‬واجتنب ما نهي‬
‫عنه‪ ،‬فإنه ل يضل في الدنيا ول في الخرة‪ ،‬ول يشقى فيهما‪ ،‬بل قد هدي إلى صراط مستقيم‪ ،‬في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وله السعادة والمن في الخرة‪.‬‬
‫علَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى‪ ،‬بقوله‪َ { :‬فمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا َ‬
‫يَحْزَنُونَ } واتباع الهدى‪ ،‬بتصديق الخبر‪ ،‬وعدم معارضته بالشبه‪ ،‬وامتثال المر بأن ل يعارضه‬
‫بشهوة‪.‬‬

‫{ َومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي } أي‪ :‬كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية‪ ،‬وأن يتركه على‬
‫وجه العراض عنه‪ ،‬أو ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬بأن يكون على وجه النكار له‪ ،‬والكفر به { فَإِنّ‬
‫ش ًة ضَ ْنكًا } أي‪ :‬فإن جزاءه‪ ،‬أن نجعل معيشته ضيقة مشقة‪ ،‬ول يكون ذلك إل عذابا‪.‬‬
‫لَهُ َمعِي َ‬

‫وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر‪ ،‬وأنه يضيق عليه قبره‪ ،‬ويحصر فيه ويعذب‪ ،‬جزاء‬
‫لعراضه عن ذكر ربه‪ ،‬وهذه إحدى اليات الدالة على عذاب القبر‪ .‬والثانية قوله تعالى‪ { :‬وََلوْ‬
‫سطُو أَيْدِيهِمْ } الية‪ .‬والثالثة قوله‪ { :‬وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ مِنَ‬
‫ت وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَا ِ‬
‫غمَرَاتِ ا ْل َم ْو ِ‬
‫تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫ا ْلعَذَابِ الَْأدْنَى دُونَ ا ْلعَذَابِ الَْأكْبَرِ } والرابعة قوله عن آل فرعون‪ { :‬النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا غُ ُدوّا‬
‫وَعَشِيّا } الية‪.‬‬

‫والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف‪ ،‬وقصرها على ذلك ‪-‬وال أعلم‪ -‬آخر‬
‫الية‪ ،‬وأن ال ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة‪ .‬وبعض المفسرين‪ ،‬يرى أن المعيشة الضنك‪،‬‬
‫عامة في دار الدنيا‪ ،‬بما يصيب المعرض عن ذكر ربه‪ ،‬من الهموم والغموم واللم‪ ،‬التي هي‬
‫عذاب معجل‪ ،‬وفي دار البرزخ‪ ،‬وفي الدار الخرة‪ ،‬لطلق المعيشة الضنك‪ ،‬وعدم تقييدها‪.‬‬
‫عمَى } البصر على الصحيح‪ ،‬كما قال‬
‫حشُ ُرهُ } أي‪ :‬هذا المعرض عن ذكر ربه { َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَ ْ‬
‫{ وَنَ ْ‬
‫صمّا }‬
‫عمْيًا وَ ُب ْكمًا َو ُ‬
‫تعالى‪ { :‬وَنَحْشُ ُرهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَى وُجُو ِه ِهمْ ُ‬

‫عمَى َوقَدْ كُ ْنتُ‬


‫حشَرْتَنِي أَ ْ‬
‫قال على وجه الذل والمراجعة والتألم والضجر من هذه الحالة‪َ { :‬ربّ ِلمَ َ‬
‫} في دار الدنيا { َبصِيرًا } فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة‪.‬‬

‫{ قَالَ كَذَِلكَ أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا فَنَسِي َتهَا } بإعراضك عنها { َوكَذَِلكَ الْ َي ْومَ تُنْسَى } أي‪ :‬تترك في العذاب‪،‬‬
‫فأجيب‪ ،‬بأن هذا هو عين عملك‪ ،‬والجزاء من جنس العمل‪ ،‬فكما عميت عن ذكر ربك‪ ،‬وعشيت‬
‫عنه ونسيته ونسيت حظك منه‪ ،‬أعمى ال بصرك في الخرة‪ ،‬فحشرت إلى النار أعمى‪ ،‬أصم‪،‬‬
‫أبكم‪ ،‬وأعرض عنك‪ ،‬ونسيك في العذاب‪.‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ } أي‪ :‬هذا الجزاء { نَجْزِي } ه { مَنْ َأسْ َرفَ } بأن تعدى الحدود‪ ،‬وارتكب المحارم‬
‫وجاوز ما أذن له { وَلَمْ ُي ْؤمِنْ بِآيَاتِ رَبّهِ } الدالة على جميع مطالب اليمان دللة واضحة‬
‫صريحة‪ ،‬فال لم يظلمه ولم يضع العقوبة في غير محلها‪ ،‬وإنما السبب إسرافه وعدم إيمانه‪.‬‬
‫شدّ } من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة { وَأَ ْبقَى } لكونه ل ينقطع‪ ،‬بخلف‬
‫{ وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ أَ َ‬
‫عذاب الدنيا فإنه منقطع‪ ،‬فالواجب الخوف والحذر من عذاب الخرة‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 128‬أفَلَمْ َيهْدِ َلهُمْ كَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنَ ا ْلقُرُونِ َيمْشُونَ فِي مَسَاكِ ِنهِمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي‬
‫الّنهَى }‬

‫أي‪ :‬أفلم يهد هؤلء المكذبين المعرضين‪ ،‬ويدلهم على سلوك طريق الرشاد‪ ،‬وتجنب طريق الغي‬
‫والفساد‪ ،‬ما أحل ال بالمكذبين قبلهم‪ ،‬من القرون الخالية‪ ،‬والمم المتتابعة‪ ،‬الذين يعرفون‬
‫قصصهم‪ ،‬ويتناقلون أسمارهم‪ ،‬وينظرون بأعينهم‪ ،‬مساكنهم من بعدهم‪ ،‬كقوم هود وصالح ولوط‬
‫وغيرهم‪ ،‬وأنهم لما كذبوا رسلنا‪ ،‬وأعرضوا عن كتبنا‪ ،‬أصبناهم بالعذاب الليم؟‬

‫فما الذي يؤمن هؤلء‪ ،‬أن يحل بهم‪ ،‬ما حل بأولئك؟ { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في‬
‫الزبر* أم يقولون نحن جميع منتصر } ل شيء من هذا كله‪ ،‬فليس هؤلء الكفار‪ ،‬خيرا من‬
‫أولئك‪ ،‬حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم‪ ،‬بل هم شر منهم‪ ،‬لنهم كفروا بأشرف الرسل وخير‬
‫الكتب‪ ،‬وليس لهم براءة مزبورة وعهد عند ال‪ ،‬وليسوا كما يقولون أن جمعهم ينفعهم ويدفع‬
‫عنهم‪ ،‬بل هم أذل وأحقر من ذلك‪ ،‬فإهلك القرون الماضية بذنوبهم‪ ،‬من أسباب الهداية‪ ،‬لكونها‬
‫من اليات الدالة على صحة رسالة الرسل الذين جاءوهم‪ ،‬وبطلن ما هم عليه‪ ،‬ولكن ما كل أحد‬
‫ينتفع باليات‪ ،‬إنما ينتفع بها أولو النهى‪ ،‬أي‪ :‬العقول السليمة‪ ،‬والفطر المستقيمة‪ ،‬واللباب التي‬
‫تزجر أصحابها عما ل ينبغي‪.‬‬

‫سمّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ‬


‫جلٌ مُ َ‬
‫{ ‪ { } 129-130‬وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ َلكَانَ لِزَامًا وَأَ َ‬
‫ح وََأطْرَافَ ال ّنهَارِ َلعَّلكَ‬
‫س َوقَ ْبلَ غُرُو ِبهَا َومِنْ آنَاءِ اللّ ْيلِ فَسَبّ ْ‬
‫شمْ ِ‬
‫ح ْمدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ ال ّ‬
‫وَسَبّحْ بِ َ‬
‫تَ ْرضَى }‬

‫هذا تسلية للرسول‪ ،‬وتصبير له عن المبادرة إلى إهلك المكذبين المعرضين‪ ،‬وأن كفرهم وتكذيبهم‬
‫سبب صالح لحلول العذاب بهم‪ ،‬ولزومه لهم‪ ،‬لن ال جعل العقوبات سببا وناشئا عن الذنوب‪،‬‬
‫ملزما لها‪ ،‬وهؤلء قد أتوا بالسبب‪ ،‬ولكن الذي أخره عنهم كلمة ربك‪ ،‬المتضمنة لمهالهم‬
‫وتأخيرهم‪ ،‬وضرب الجل المسمى‪ ،‬فالجل المسمى ونفوذ كلمة ال‪ ،‬هو الذي أخر عنهم العقوبة‬
‫إلى إبان وقتها‪ ،‬ولعلهم يراجعون أمر ال‪ ،‬فيتوب عليهم‪ ،‬ويرفع عنهم العقوبة‪ ،‬إذا لم تحق عليهم‬
‫الكلمة‪.‬‬
‫ولهذا أمر ال رسوله بالصبر على أذيتهم بالقول‪ ،‬وأمره أن يتعوض عن ذلك‪ ،‬ويستعين عليه‬
‫بالتسبيح بحمد ربه‪ ،‬في هذه الوقات الفاضلة‪ ،‬قبل طلوع الشمس وغروبها‪ ،‬وفي أطراف النهار‪،‬‬
‫أوله وآخره‪ ،‬عموم بعد خصوص‪ ،‬وأوقات الليل وساعاته‪ ،‬لعلك إن فعلت ذلك‪ ،‬ترضى بما يعطيك‬
‫ربك من الثواب العاجل والجل‪ ،‬وليطمئن قلبك‪ ،‬وتقر عينك بعبادة ربك‪ ،‬وتتسلى بها عن أذيتهم‪،‬‬
‫فيخف حينئذ عليك الصبر‪.‬‬

‫{ ‪ { } 131‬وَلَا َت ُمدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِهِ أَ ْزوَاجًا مِ ْنهُمْ زَهْ َرةَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا لِ َنفْتِ َنهُمْ فِي ِه وَرِزْقُ‬
‫رَ ّبكَ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى }‬

‫أي‪ :‬ل تمد عينيك معجبا‪ ،‬ول تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها‪ ،‬من المآكل‬
‫والمشارب اللذيذة‪ ،‬والملبس الفاخرة‪ ،‬والبيوت المزخرفة‪ ،‬والنساء المجملة‪ ،‬فإن ذلك كله زهرة‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬تبتهج بها نفوس المغترين‪ ،‬وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين‪ ،‬ويتمتع بها ‪ -‬بقطع‬
‫النظر عن الخرة ‪ -‬القوم الظالمون‪ ،‬ثم تذهب سريعا‪ ،‬وتمضي جميعا‪ ،‬وتقتل محبيها وعشاقها‪،‬‬
‫فيندمون حيث ل تنفع الندامة‪ ،‬ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة‪ ،‬وإنما جعلها ال فتنة‬
‫جعَلْنَا مَا‬
‫واختبارا‪ ،‬ليعلم من يقف عندها ويغتر بها‪ ،‬ومن هو أحسن عمل‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إِنّا َ‬
‫صعِيدًا جُرُزًا }‬
‫عمَلًا* وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَ ْيهَا َ‬
‫عَلَى الْأَ ْرضِ زِينَةً َلهَا لِنَبُْلوَ ُهمْ أَ ّيهُمْ َأحْسَنُ َ‬

‫{ وَرِزْقُ رَ ّبكَ } العاجل من العلم واليمان‪ ،‬وحقائق العمال الصالحة‪ ،‬والجل من النعيم المقيم‪،‬‬
‫والعيش السليم في جوار الرب الرحيم { خير } مما متعنا به أزواجا‪ ،‬في ذاته وصفاته { وَأَ ْبقَى }‬
‫لكونه ل ينقطع‪ ،‬أكلها دائم وظلها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬بلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَبْقَى }‬

‫وفي هذه الية‪ ،‬إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحا إلى زينة الدنيا‪ ،‬وإقبال عليها‪ ،‬أن‬
‫يذكرها ما أمامها من رزق ربه‪ ،‬وأن يوازن بين هذا وهذا‪.‬‬

‫ك وَا ْلعَاقِبَةُ لِل ّتقْوَى }‬


‫{ ‪ { } 132‬وَ ْأمُرْ َأهَْلكَ بِالصّلَا ِة وَاصْطَبِرْ عَلَ ْيهَا لَا َنسْأَُلكَ رِ ْزقًا نَحْنُ نَرْ ُز ُق َ‬

‫أي‪ :‬حث أهلك على الصلة‪ ،‬وأزعجهم إليها من فرض ونفل‪ .‬والمر بالشيء‪ ،‬أمر بجميع ما ل‬
‫يتم إل به‪ ،‬فيكون أمرا بتعليمهم‪ ،‬ما يصلح الصلة ويفسدها ويكملها‪.‬‬

‫علَ ْيهَا } أي‪ :‬على الصلة بإقامتها‪ ،‬بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها‪ ،‬فإن ذلك‬
‫{ وَاصْطَبِرْ َ‬
‫مشق على النفس‪ ،‬ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك‪ ،‬والصبر معها دائما‪ ،‬فإن العبد إذا أقام‬
‫صلته على الوجه المأمور به‪ ،‬كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم‪ ،‬وإذا ضيعها كان لما سواها‬
‫أضيع‪ ،‬ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق‪ ،‬وأن ل يشغله الهتمام به عن إقامة دينه‪ ،‬فقال‪ { :‬نَحْنُ‬
‫نَرْ ُز ُقكَ } أي‪ :‬رزقك علينا قد تكفلنا به‪ ،‬كما تكفلنا بأرزاق الخلئق كلهم‪ ،‬فكيف بمن قام بأمرنا‪،‬‬
‫واشتغل بذكرنا؟! ورزق ال عام للمتقي وغيره‪ ،‬فينبغي الهتمام بما يجلب السعادة البدية‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫التقوى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَا ْلعَاقِبَةُ } في الدنيا والخرة { لِل ّت ْقوَى } التي هي فعل المأمور وترك‬
‫المنهي‪ ،‬فمن قام بها‪ ،‬كان له العاقبة‪ ،‬كما قال تعالى { وَا ْلعَاقِبَةُ ِل ْلمُتّقِينَ }‬

‫حفِ الْأُولَى * وََلوْ أَنّا‬


‫{ ‪َ { } 133-135‬وقَالُوا َلوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبّهِ َأوَلَمْ تَأْ ِتهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّ ُ‬
‫ل وَنَخْزَى *‬
‫أَهَْلكْنَا ُهمْ ِبعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ َلقَالُوا رَبّنَا َلوْلَا أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتّبِعَ آيَا ِتكَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَ ِذ ّ‬
‫س ِويّ َومَنِ اهْ َتدَى }‬
‫صحَابُ الصّرَاطِ ال ّ‬
‫ُقلْ ُكلّ مُتَرَ ّبصٌ فَتَرَ ّبصُوا َفسَ َتعَْلمُونَ مَنْ َأ ْ‬

‫أي‪ :‬قال المكذبون للرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل يأتينا بآية من ربه؟ يعنون آيات القتراح‬
‫كقولهم‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا* َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ‬
‫سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا ِك َ‬
‫سمَاءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّرَ الْأَ ْنهَارَ خِلَاَلهَا َتفْجِيرًا* َأوْ ُت ْ‬
‫وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا }‬

‫وهذا تعنت منهم وعناد وظلم‪ ،‬فإنهم‪ ،‬هم والرسول‪ ،‬بشر عبيد ل‪ ،‬فل يليق منهم القتراح بحسب‬
‫أهوائهم‪ ،‬وإنما الذي ينزلها ويختار منها ما يختار بحسب حكمته‪ ،‬هو ال‪.‬‬

‫ولن قولهم‪َ { :‬لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آيَاتٌ مِنْ رَبّهِ } يقتضي أنه لم يأتهم بآية على صدقه‪ ،‬ول بينة على‬
‫حقه‪ ،‬وهذا كذب وافتراء‪ ،‬فإنه أتى من المعجزات الباهرات‪ ،‬واليات القاهرات‪ ،‬ما يحصل ببعضه‬
‫المقصود‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أوَلَمْ تَأْ ِتهِمْ } إن كانوا صادقين في قولهم‪ ،‬وأنهم يطلبون الحق بدليله‪ { ،‬بَيّنَةُ‬
‫حفِ الْأُولَى } أي‪ :‬هذا القرآن العظيم‪ ،‬المصدق لما في الصحف الولى‪ ،‬من التوراة‬
‫مَا فِي الصّ ُ‬
‫والنجيل‪ ،‬والكتب السابقة المطابق لها‪ ،‬المخبر بما أخبرت به‪ ،‬وتصديقه أيضا مذكور فيها‪،‬‬
‫ومبشر بالرسول بها‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪َ { :‬أوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ إِنّ فِي‬
‫حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فاليات تنفع المؤمنين‪ ،‬ويزداد بها إيمانهم وإيقانهم‪ ،‬وأما‬
‫ذَِلكَ لَ َر ْ‬
‫ح ّقتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ‬
‫المعرضون عنها المعارضون لها‪ ،‬فل يؤمنون بها‪ ،‬ول ينتفعون بها‪ { ،‬إِنّ الّذِينَ َ‬
‫رَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ* وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ }‬

‫وإنما الفائدة في سوقها إليهم ومخاطبتهم بها‪ ،‬لتقوم عليهم حجة ال‪ ،‬ولئل يقولوا حين ينزل بهم‬
‫ل وَنَخْزَى } بالعقوبة‪ ،‬فها قد جاءكم‬
‫العذاب‪َ { :‬لوْلَا أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتّبِعَ آيَا ِتكَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَ ِذ ّ‬
‫رسولي ومعه آياتي وبراهيني‪ ،‬فإن كنتم كما تقولون‪ ،‬فصدقوه‪.‬‬
‫قل يا محمد مخاطبا للمكذبين لك الذين يقولون تربصوا به ريب المنون { ُقلْ ُكلّ مُتَرَ ّبصٌ }‬
‫حسْنَيَيْنِ } أي‪:‬‬
‫حدَى الْ ُ‬
‫فتربصوا بي الموت‪ ،‬وأنا أتربص بكم العذاب { ُقلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَا ِإلّا إِ ْ‬
‫الظفر أو الشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِبعَذَابٍ مِنْ عِ ْن ِدهِ َأوْ بِأَيْدِينَا } { فَتَرَ ّبصُوا‬
‫س ِويّ } أي‪ :‬المستقيم‪َ { ،‬ومَنِ اهْتَدَى } بسلوكه‪ ،‬أنا أم أنتم؟ فإن‬
‫فَسَ َتعَْلمُونَ مَنْ َأصْحَابُ الصّرَاطِ ال ّ‬
‫صاحبه هو الفائز الراشد‪ ،‬الناجي المفلح‪ ،‬ومن حاد عنه خاسر خائب معذب‪ ،‬وقد علم أن الرسول‬
‫هو الذي بهذه الحالة‪ ،‬وأعداؤه بخلفه‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫تفسير سورة النبياء عليهم‬


‫السلم‪ ،‬وهي مكية‬

‫غفْلَةٍ ُمعْ ِرضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ‬


‫حسَا ُبهُ ْم وَهُمْ فِي َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ اقْتَ َربَ لِلنّاسِ ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 4 - 1‬بِ ْ‬
‫جوَى الّذِينَ ظََلمُوا َهلْ‬
‫مِنْ ِذكْرٍ مِنْ رَ ّبهِمْ مُحْ َدثٍ إِلّا اسْ َت َمعُوهُ وَ ُهمْ يَ ْلعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُو ُبهُمْ وَأَسَرّوا النّ ْ‬
‫سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ وَ ُهوَ‬
‫هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْل ُكمْ َأفَتَأْتُونَ السّحْ َر وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ * قَالَ رَبّي َيعَْلمُ ا ْل َقوْلَ فِي ال ّ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫ال ّ‬

‫هذا تعجب من حالة الناس‪ ،‬وأنه ل ينجع فيهم تذكير‪ ،‬ول يرعون إلى نذير‪ ،‬وأنهم قد قرب‬
‫حسابهم‪ ،‬ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة‪ ،‬والحال أنهم في غفلة معرضون‪ ،‬أي‪ :‬غفلة‬
‫عما خلقوا له‪ ،‬وإعراض عما زجروا به‪ .‬كأنهم للدنيا خلقوا‪ ،‬وللتمتع بها ولدوا‪ ،‬وأن ال تعالى ل‬
‫يزال يجدد لهم التذكير والوعظ‪ ،‬ول يزالون في غفلتهم وإعراضهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ‬
‫ِذكْرٍ مِنْ رَ ّبهِمْ مُحْ َدثٍ } يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم‪ ،‬ويرهبهم منه { إِلّا اسْ َت َمعُوهُ }‬
‫سماعا‪ ،‬تقوم عليهم به الحجة‪ { ،‬وَهُمْ يَ ْلعَبُونَ لَاهِ َيةً* قُلُو ُبهُمْ } أي‪ :‬قلوبهم غافلة معرضة لهية‬
‫بمطالبها الدنيوية‪ ،‬وأبدانهم لعبة‪ ،‬قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل‪ ،‬والقوال الردية‪،‬‬
‫مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة‪ ،‬تقبل قلوبهم على أمر ال ونهيه‪ ،‬وتستمعه‬
‫استماعا‪ ،‬تفقه المراد منه‪ ،‬وتسعى جوارحهم‪ ،‬في عبادة ربهم‪ ،‬التي خلقوا لجلها‪ ،‬ويجعلون القيامة‬
‫والحساب والجزاء منهم على بال‪ ،‬فبذلك يتم لهم أمرهم‪ ،‬وتستقيم أحوالهم‪ ،‬وتزكوا أعمالهم‪ ،‬وفي‬
‫معنى قوله‪ { :‬اقْتَ َربَ لِلنّاسِ حِسَا ُبهُمْ } قولن‪ :‬أحدهما أن هذه المة هي آخر المم‪ ،‬ورسولها آخر‬
‫الرسل‪ ،‬وعلى أمته تقوم الساعة‪ ،‬فقد قرب الحساب منها بالنسبة لما قبلها من المم‪ ،‬لقوله صلى‬
‫ال عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين " وقرن بين إصبعيه‪ ،‬السبابة والتي تليها‪.‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬أن المراد بقرب الحساب الموت‪ ،‬وأن من مات‪ ،‬قامت قيامته‪ ،‬ودخل في دار‬
‫الجزاء على العمال‪ ،‬وأن هذا تعجب من كل غافل معرض‪ ،‬ل يدري متى يفجأه الموت‪ ،‬صباحا‬
‫أو مساء‪ ،‬فهذه حالة الناس كلهم‪ ،‬إل من أدركته العناية الربانية‪ ،‬فاستعد للموت وما بعده‪.‬‬

‫ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون على وجه العناد‪ ،‬ومقابلة الحق بالباطل‪ ،‬وأنهم تناجوا‪،‬‬
‫وتواطأوا فيما بينهم‪ ،‬أن يقولوا في الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إنه بشر مثلكم‪ ،‬فما الذي فضله‬
‫عليكم‪ ،‬وخصه من بينكم‪ ،‬فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه‪ ،‬لكان قوله من جنس قوله‪ ،‬ولكنه يريد‬
‫أن يتفضل عليكم‪ ،‬ويرأس فيكم‪ ،‬فل تطيعوه‪ ،‬ول تصدقوه‪ ،‬وأنه ساحر‪ ،‬وما جاء به من القرآن‬
‫سحر‪ ،‬فانفروا عنه‪ ،‬ونفروا الناس‪ ،‬وقولوا‪َ { :‬أفَتَأْتُونَ السّحْ َر وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ } هذا وهم يعلمون‬
‫أنه رسول ال حقا بما شاهدوا من اليات الباهرة ما لم يشاهد غيرهم‪ ،‬ولكن حملهم على ذلك‬
‫الشقاء والظلم والعناد‪ ،‬وال تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به‪ ،‬وسيجازيهم عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬قَالَ‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬في جميع ما احتوت عليه‬
‫رَبّي َيعَْلمُ ا ْل َقوْلَ } أي‪ :‬الخفي والجلي { فِي ال ّ‬
‫سمِيعُ } لسائر الصوات‪ ،‬باختلف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات { ا ْلعَلِيمُ } بما‬
‫أقطارهما { وَ ُهوَ ال ّ‬
‫في الضمائر‪ ،‬وأكنته السرائر‪.‬‬

‫سلَ الَْأوّلُونَ * مَا‬


‫ضغَاثُ َأحْلَامٍ َبلِ افْتَرَاهُ َبلْ ُهوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ َكمَا أُ ْر ِ‬
‫{ ‪َ { } 6 - 5‬بلْ قَالُوا َأ ْ‬
‫آمَ َنتْ قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهَْلكْنَاهَا َأ َف ُهمْ ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبما جاء به من القرآن العظيم‪ ،‬وأنهم‬
‫سفهوه وقالوا فيه القاويل الباطلة المختلفة‪ ،‬فتارة يقولون‪ { :‬أضغاث أحلم } بمنزلة كلم النائم‬
‫الهاذي‪ ،‬الذي ل يحس بما يقول‪ ،‬وتارة يقولون‪ { :‬افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه‪ ،‬وتارة‬
‫يقولون‪ :‬إنه شاعر وما جاء به شعر‪.‬‬

‫وكل من له أدنى معرفة بالواقع‪ ،‬من حالة الرسول‪ ،‬ونظر في هذا الذي جاء به‪ ،‬جزم جزما ل‬
‫يقبل الشك‪ ،‬أنه أجل الكلم وأعله‪ ،‬وأنه من عند ال‪ ،‬وأن أحدا من البشر ل يقدر على التيان‬
‫بمثل بعضه‪ ،‬كما تحدى ال أعداءه بذلك‪ ،‬ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته‪ ،‬فلم‬
‫يقدروا على شيء من معارضته‪ ،‬وهم يعلمون ذلك وإل فما الذي أقامهم وأقعدهم وأقض‬
‫مضاجعهم وبلبل ألسنتهم إل الحق الذي ل يقوم له شيء‪ ،‬وإنما يقولون هذه القوال فيه ‪ -‬حيث لم‬
‫يؤمنوا به ‪ -‬تنفيرا عنه لمن لم يعرفه‪ ،‬وهو أكبر اليات المستمرة‪ ،‬الدالة على صحة ما جاء به‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم وصدقه‪ ،‬وهو كاف شاف‪ ،‬فمن طلب دليل غيره‪ ،‬أو اقترح آية من‬
‫اليات سواه‪ ،‬فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلء المعاندين الذين كذبوه وطلبوا من اليات القتراح ما‬
‫هو أضر شيء عليهم‪ ،‬وليس لهم فيها مصلحة‪ ،‬لنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله‪،‬‬
‫فقد تبين دليله بدونها‪ ،‬وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لنفسهم‪ ،‬إن لم يأت بما طلبوا فإنهم‬
‫بهذه الحالة ‪ -‬على فرض إتيان ما طلبوا من اليات ‪ -‬ل يؤمنون قطعا‪ ،‬فلو جاءتهم كل آية‪ ،‬ل‬
‫يؤمنون حتى يروا العذاب الليم‪.‬‬

‫سلَ الَْأوّلُونَ } أي‪ :‬كناقة صالح‪ ،‬وعصا موسى‪ ،‬ونحو‬


‫ولهذا قال ال عنهم‪ { :‬فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ َكمَا أُ ْر ِ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫قال ال‪ { :‬مَا آمَ َنتْ قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْ َيةٍ أَهَْلكْنَاهَا } أي‪ :‬بهذه اليات المقترحة‪ ،‬وإنما سنته تقتضي أن‬
‫من طلبها‪ ،‬ثم حصلت له‪ ،‬فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة‪ .‬فالولون ما آمنوا بها‪ ،‬أفيؤمن هؤلء بها؟‬
‫ما الذي فضلهم على أولئك‪ ،‬وما الخير الذي فيهم‪ ،‬يقتضي اليمان عند وجودها؟ وهذا الستفهام‬
‫بمعنى النفي‪ ،‬أي‪ :‬ل يكون ذلك منهم أبدا‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 9 - 7‬ومَا أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْي ِهمْ فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ * َومَا‬
‫طعَامَ َومَا كَانُوا خَالِدِينَ * ُث ّم صَ َدقْنَا ُهمُ ا ْلوَعْدَ فَأَ ْنجَيْنَاهُ ْم َومَنْ نَشَاءُ‬
‫جسَدًا لَا يَ ْأكُلُونَ ال ّ‬
‫جعَلْنَا ُهمْ َ‬
‫َ‬
‫وَأَهَْلكْنَا ا ْلمُسْ ِرفِينَ }‬

‫هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين‪ :‬هل كان ملكا‪ ،‬ل يحتاج إلى طعام وشراب‪ ،‬وتصرف‬
‫في السواق‪ ،‬وهل كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك‪ ،‬دل على أنه ليس برسول‪.‬‬

‫وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل‪ ،‬تشابهوا في الكفر‪ ،‬فتشابهت أقوالهم‪ ،‬فأجاب تعالى‬
‫عن هذه الشبه لهؤلء المكذبين للرسول‪ ،‬المقرين بإثبات الرسل قبله ‪ -‬ولو لم يكن إل إبراهيم‬
‫عليه السلم‪ ،‬الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف‪ ،‬والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته ‪-‬‬
‫بأن الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كلهم من البشر‪ ،‬الذين يأكلون الطعام‪ ،‬ويمشون في‬
‫السواق‪ ،‬وتطرأ عليهم العوارض البشرية‪ ،‬من الموت وغيره‪ ،‬وأن ال أرسلهم إلى قومهم‬
‫وأممهم‪ ،‬فصدقهم من صدقهم‪ ،‬وكذبهم من كذبهم‪ ،‬وأن ال صدقهم ما وعدهم به من النجاة‪،‬‬
‫والسعادة لهم ولتباعهم‪ ،‬وأهلك المسرفين المكذبين لهم‪.‬‬

‫فما بال محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته‪ ،‬وهي موجودة في‬
‫إخوانه المرسلين‪ ،‬الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح‪ ،‬وأنهم إن‬
‫أقروا برسول من البشر‪ ،‬ولن يقروا برسول من غير البشر‪ ،‬إن شبههم باطلة‪ ،‬قد أبطلوها هم‬
‫بإقرارهم بفسادها‪ ،‬وتناقضهم بها‪ ،‬فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا‪ ،‬وأنه ل‬
‫يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا‪ ،‬ل يأكل الطعام‪ ،‬فقد أجاب [ال] تعالى عن هذه الشبهة بقوله‪:‬‬
‫جعَلْنَاهُ‬
‫جعَلْنَاهُ مََلكًا لَ َ‬
‫ضيَ الَْأمْرُ ُثمّ لَا يُ ْنظَرُونَ* وَلَوْ َ‬
‫ك وََلوْ أَنْزَلْنَا مََلكًا َل ُق ِ‬
‫{ َوقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ مََل ٌ‬
‫رَجُلًا وَلَلَ َبسْنَا عَلَ ْيهِمْ مَا يَلْ ِبسُونَ }‬

‫طمَئِنّينَ‬
‫وأن البشر ل طاقة لهم بتلقي الوحي من الملئكة { ُقلْ َلوْ كَانَ فِي الْأَ ْرضِ مَلَا ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ‬
‫سمَاءِ مََلكًا َرسُولًا } فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين‬
‫لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِمْ مِنَ ال ّ‬
‫{ فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ } من الكتب السالفة‪ ،‬كأهل التوراة والنجيل‪ ،‬يخبرونكم بما عندهم من العلم‪،‬‬
‫وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم‪.‬‬

‫وهذه الية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لهل الذكر وهم أهل العلم‪،‬‬
‫فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين‪ ،‬أصوله وفروعه‪ ،‬إذا لم يكن عند النسان علم منها‪ ،‬أن‬
‫يسأل من يعلمها‪ ،‬ففيه المر بالتعلم والسؤال لهل العلم‪ ،‬ولم يؤمر بسؤالهم‪ ،‬إل لنه يجب عليهم‬
‫التعليم والجابة عما علموه‪.‬‬

‫وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم‪ ،‬نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم‪ ،‬ونهي له‬
‫أن يتصدى لذلك‪ ،‬وفي هذه الية دليل على أن النساء ليس منهن نبية‪ ،‬ل مريم ول غيرها‪ ،‬لقوله {‬
‫إِلّا ِرجَالًا }‬

‫{ ‪َ { } 10‬لقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ كِتَابًا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ }‬

‫لقد أنزلنا إليكم ‪ -‬أيها المرسل إليهم‪ ،‬محمد بن عبد ال بن عبد المطلب ‪ -‬كتابا جليل‪ ،‬وقرآنا مبينا‬
‫{ فِيهِ ِذكْ ُركُمْ } أي‪ :‬شرفكم وفخركم وارتفاعكم‪ ،‬إن تذكرتم به ما فيه من الخبار الصادقة‬
‫فاعتقدتموها‪ ،‬وامتثلتم ما فيه من الوامر‪ ،‬واجتنبتم ما فيه من النواهي‪ ،‬ارتفع قدركم‪ ،‬وعظم‬
‫أمركم‪َ { ،‬أفَلَا َتعْقِلُونَ } ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف ل ترضون ول تعملون على ما فيه ذكركم‬
‫وشرفكم في الدنيا والخرة‪ ،‬فلو كان لكم عقل‪ ،‬لسلكتم هذا السبيل‪ ،‬فلما لم تسلكوه‪ ،‬وسلكتم غيره‬
‫من الطرق‪ ،‬التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والخرة وشقاوتكم فيهما‪ ،‬علم أنه ليس لكم معقول‬
‫صحيح‪ ،‬ول رأي رجيح‪.‬‬

‫وهذه الية‪ ،‬مصداقها ما وقع‪ ،‬فإن المؤمنين بالرسول‪ ،‬الذين تذكروا بالقرآن‪ ،‬من الصحابة‪ ،‬فمن‬
‫بعدهم‪ ،‬حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر‪ ،‬والصيت العظيم‪ ،‬والشرف على الملوك‪ ،‬ما هو أمر‬
‫معلوم لكل أحد‪ ،‬كما أنه معلوم ما حصل‪ ،‬لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا‪ ،‬ولم يهتد به ويتزك به‪،‬‬
‫من المقت والضعة‪ ،‬والتدسية‪ ،‬والشقاوة‪ ،‬فل سبيل إلى سعادة الدنيا والخرة إل بالتذكر بهذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫صمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَا َنتْ ظَاِل َم ًة وَأَنْشَأْنَا َبعْ َدهَا َق ْومًا آخَرِينَ * فََلمّا أَحَسّوا‬
‫{ ‪َ { }ْ 15 - 11‬وكَمْ َق َ‬
‫جعُوا إِلَى مَا أُتْ ِرفْتُمْ فِي ِه َومَسَاكِ ِنكُمْ َلعَّلكُمْ ُتسْأَلُونَ *‬
‫بَأْسَنَا ِإذَا ُهمْ مِ ْنهَا يَ ْر ُكضُونَ * لَا تَ ْر ُكضُوا وَارْ ِ‬
‫حصِيدًا خَامِدِينَ ْ}‬
‫جعَلْنَاهُمْ َ‬
‫عوَا ُهمْ حَتّى َ‬
‫قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ * َفمَا زَاَلتْ تِ ْلكَ دَ ْ‬

‫يقول تعالى ‪ -‬محذرا لهؤلء الظالمين‪ ،‬المكذبين للرسول‪ ،‬بما فعل بالمم المكذبة لغيره من الرسل‬
‫صمْنَا ْ} أي‪ :‬أهلكنا بعذاب مستأصل { مِنْ قَرْ َيةٍ ْ} تلفت عن آخرها { وَأَنْشَأْنَا َبعْ َدهَا َق ْومًا‬
‫‪َ { -‬وكَمْ َق َ‬
‫آخَرِينَ ْ} وأن هؤلء المهلكين‪ ،‬لما أحسوا بعذاب ال وعقابه‪ ،‬وباشرهم نزوله‪ ،‬لم يمكن لهم‬
‫الرجوع ول طريق لهم إلى النزوع وإنما ضربوا الرض بأرجلهم‪ ،‬ندما وقلقا‪ ،‬وتحسرا على ما‬
‫جعُوا إِلَى مَا أُتْ ِرفْتُمْ فِيهِ‬
‫فعلوا وهروبا من وقوعه‪ ،‬فقيل لهم على وجه التهكم بهم‪ { :‬لَا تَ ْر ُكضُوا وَارْ ِ‬
‫َومَسَاكِ ِنكُمْ َلعَّلكُمْ ُتسْأَلُونَ ْ} أي‪ :‬ل يفيدكم الركوض والندم‪ ،‬ولكن إن كان لكم اقتدار‪ ،‬فارجعوا إلى‬
‫ما أترفتم فيه‪ ،‬من اللذات‪ ،‬والمشتهيات‪ ،‬ومساكنكم المزخرفات‪ ،‬ودنياكم التي غرتكم وألهتكم‪ ،‬حتى‬
‫جاءكم أمر ال‪ .‬فكونوا فيها متمكنين‪ ،‬وللذاتها جانين‪ ،‬وفي منازلكم مطمئنين معظمين‪ ،‬لعلكم أن‬
‫تكونوا مقصودين في أموركم‪ ،‬كما كنتم سابقا‪ ،‬مسئولين من مطالب الدنيا‪ ،‬كحالتكم الولى‪،‬‬
‫وهيهات‪ ،‬أين الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت‪ ،‬وحل بهم العقاب والمقت‪ ،‬وذهب عنهم عزهم‪،‬‬
‫وشرفهم ودنياهم‪ ،‬وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟‪.‬‬

‫عوَاهُمْ ْ}‬
‫ولهذا { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ* َفمَا زَاَلتْ تِ ْلكَ دَ ْ‬

‫أي‪ :‬الدعاء بالويل والثبور‪ ،‬والندم‪ ،‬والقرار على أنفسهم بالظلم وأن ال عادل فيما أحل بهم‪.‬‬
‫حصِيدًا خَامِدِينَ ْ} أي‪ :‬بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم‪ ،‬قد خمدت منهم‬
‫جعَلْنَا ُهمْ َ‬
‫{ حَتّى َ‬
‫الحركات‪ ،‬وسكنت منهم الصوات‪ ،‬فاحذروا ‪ -‬أيها المخاطبون ‪ -‬أن تستمروا على تكذيب أشرف‬
‫الرسل فيحل بكم كما حل بأولئك‪.‬‬

‫سمَا َء وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا لَاعِبِينَ * َلوْ أَ َردْنَا أَنْ نَتّخِذَ َل ْهوًا لَاتّخَذْنَاهُ‬
‫{ ‪َ { }ْ 17 - 16‬ومَا خََلقْنَا ال ّ‬
‫مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فَاعِلِينَ ْ}‬

‫يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات والرض عبثا‪ ،‬ول لعبا من غير فائدة‪ ،‬بل خلقها بالحق وللحق‪،‬‬
‫ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم‪ ،‬المدبر الحكيم‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬الذي له الكمال كله‪،‬‬
‫والحمد كله‪ ،‬والعزة كلها‪ ،‬الصادق في قيله‪ ،‬الصادقة رسله‪ ،‬فيما تخبر عنه‪ ،‬وأن القادر على‬
‫خلقهما مع سعتهما وعظمهما‪ ،‬قادر على إعادة الجساد بعد موتها‪ ،‬ليجازي المحسن بإحسانه‪،‬‬
‫والمسيء بإساءته‪.‬‬
‫خذْنَاهُ مِنْ لَدُنّا ْ} أي‪ :‬من عندنا { إِنْ‬
‫{ َلوْ أَ َردْنَا أَنْ نَتّخِذَ َل ْهوًا ْ} على الفرض والتقدير المحال { لَاتّ َ‬
‫كُنّا فَاعِلِينَ ْ} ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو‪ ،‬لن ذلك نقص ومثل سوء‪ ،‬ل نحب أن نريه‬
‫إياكم‪ ،‬فالسماوات والرض اللذان بمرأى منكم على الدوام‪ ،‬ل يمكن أن يكون القصد منهما العبث‬
‫واللهو‪ ،‬كل هذا تنزل مع العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة‪ ،‬فسبحان الحليم الرحيم‪،‬‬
‫الحكيم في تنزيله الشياء منازلها‪.‬‬

‫صفُونَ *‬
‫ق وََلكُمُ ا ْلوَيْلُ ِممّا َت ِ‬
‫طلِ فَيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِ ٌ‬
‫حقّ عَلَى الْبَا ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 20 - 18‬بلْ َنقْ ِذفُ بِالْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَنْ عِنْ َدهُ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَلَا يَسْ َتحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ‬
‫وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫ل وَال ّنهَارَ لَا َيفْتُرُونَ ْ}‬
‫اللّ ْي َ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ،‬وإن كل باطل قيل وجودل به‪ ،‬فإن ال ينزل‬
‫من الحق والعلم والبيان‪ ،‬ما يدمغه‪ ،‬فيضمحل‪ ،‬ويتبين لكل أحد بطلنه { فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ ْ} أي‪:‬‬
‫مضمحل‪ ،‬فانٍ‪ ،‬وهذا عام في جميع المسائل الدينية‪ ،‬ل يورد مبطل‪ ،‬شبهة‪ ،‬عقلية ول نقلية‪ ،‬في‬
‫إحقاق باطل‪ ،‬أو رد حق‪ ،‬إل وفي أدلة ال‪ ،‬من القواطع العقلية والنقلية‪ ،‬ما يذهب ذلك القول‬
‫الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلنه لكل أحد‪.‬‬

‫وهذا يتبين باستقراء المسائل‪ ،‬مسألة مسألة‪ ،‬فإنك تجدها كذلك‪ ،‬ثم قال‪ { :‬وََلكُمْ ْ} أيها الواصفون‬
‫ال‪ ،‬بما ل يليق به‪ ،‬من اتخاذ الولد والصاحبة‪ ،‬ومن النداد والشركاء‪ ،‬حظكم من ذلك‪ ،‬ونصيبكم‬
‫الذي تدركون به { ا ْلوَ ْيلُ ْ} والندامة والخسران‪.‬‬

‫ليس لكم مما قلتم فائدة‪ ،‬ول يرجع عليكم بعائدة تؤملونها‪ ،‬وتعملون لجلها‪ ،‬وتسعون في الوصول‬
‫إليها‪ ،‬إل عكس مقصودكم‪ ،‬وهو الخيبة والحرمان‪ ،‬ثم أخبر أنه له ملك السماوات والرض وما‬
‫بينهما‪ ،‬فالكل عبيده ومماليكه‪ ،‬فليس لحد منهم ملك ول قسط من الملك‪ ،‬ول معاونة عليه‪ ،‬ول‬
‫يشفع إل بإذن ال‪ ،‬فكيف يتخذ من هؤلء آلهة وكيف يجعل ل منها ولد؟! فتعالى وتقدس‪ ،‬المالك‬
‫العظيم‪ ،‬الذي خضعت له الرقاب‪ ،‬وذلت له الصعاب‪ ،‬وخشعت له الملئكة المقربون‪ ،‬وأذعنوا له‬
‫بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَنْ عِ ْن َدهُ ْ} أي من الملئكة { لَا يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ‬
‫حسِرُونَ ْ} أي‪ :‬ل يملون ول يسأمونها‪ ،‬لشدة رغبتهم‪ ،‬وكمال محبتهم‪ ،‬وقوة أبدانهم‪.‬‬
‫عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَ ْ‬

‫ل وَال ّنهَارَ لَا َيفْتُرُونَ ْ} أي‪ :‬مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس‬
‫{ ُيسَبّحُونَ اللّ ْي َ‬
‫في أوقاتهم وقت فارغ ول خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة‪ ،‬وفي هذا من بيان عظمته‬
‫وجللة سلطانه وكمال علمه وحكمته‪ ،‬ما يوجب أن ل يعبد إل هو‪ ،‬ول تصرف العبادة لغيره‪.‬‬
‫سدَتَا‬
‫خذُوا آِلهَةً مِنَ الْأَ ْرضِ هُمْ يُ ْنشِرُونَ * َلوْ كَانَ فِي ِهمَا آِلهَةٌ إِلّا اللّهُ َلفَ َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 25 - 21‬أمِ اتّ َ‬
‫عمّا َي ْف َعلُ وَ ُهمْ يُسْأَلُونَ * َأمِ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ‬
‫عمّا َيصِفُونَ * لَا يُسَْألُ َ‬
‫فَسُبْحَانَ اللّهِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ‬
‫ي وَ ِذكْرُ مَنْ قَبْلِي َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ا ْلحَقّ َف ُهمْ‬
‫آِلهَةً ُقلْ هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ َهذَا ِذكْرُ مَنْ َم ِع َ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ * َومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ َرسُولٍ إِلّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا أَنَا فَاعْ ُبدُونِ ْ}‬

‫لما بيّن تعالى كمال اقتداره وعظمته‪ ،‬وخضوع كل شيء له‪ ،‬أنكر على المشركين الذين اتخذوا‬
‫من دون ال آلهة من الرض‪ ،‬في غاية العجز وعدم القدرة { هُمْ يُنْشِرُونَ ْ} استفهام بمعنى النفي‪،‬‬
‫أي‪ :‬ل يقدرون على نشرهم وحشرهم‪ ،‬يفسرها قوله تعالى‪ { :‬وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آِل َهةً لَا َيخُْلقُونَ‬
‫سهِمْ ضَرّا وَلَا َنفْعًا وَلَا َيمِْلكُونَ َموْتًا وَلَا حَيَا ًة وَلَا نُشُورًا ْ}‬
‫شَيْئًا وَ ُهمْ يُخَْلقُونَ * وَلَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫حضَرُونَ ْ}‬
‫{ وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آِل َهةً َلعَّلهُمْ يُ ْنصَرُونَ* لَا يَسْ َتطِيعُونَ َنصْرَ ُه ْم وَهُمْ َلهُمْ جُنْدٌ مُ ْ‬
‫فالمشرك يعبد المخلوق‪ ،‬الذي ل ينفع ول يضر‪ ،‬ويدع الخلص ل‪ ،‬الذي له الكمال كله وبيده‬
‫المر والنفع والضر‪ ،‬وهذا من عدم توفيقه‪ ،‬وسوء حظه‪ ،‬وتوفر جهله‪ ،‬وشدة ظلمه‪ ،‬فإنه ل يصلح‬
‫الوجود‪ ،‬إل على إله واحد‪ ،‬كما أنه لم يوجد‪ ،‬إل برب واحد‪.‬‬

‫ولهذا قال‪َ { :‬لوْ كَانَ فِي ِهمَا ْ} أي‪ :‬في السماوات والرض { آِلهَةٌ إِلّا اللّهُ َلفَسَدَتَا ْ} في ذاتهما‪ ،‬وفسد‬
‫من فيهما من المخلوقات‪.‬‬

‫وبيان ذلك‪ :‬أن العالم العلوي والسفلي‪ ،‬على ما يرى‪ ،‬في أكمل ما يكون من الصلح والنتظام‪،‬‬
‫الذي ما فيه خلل ول عيب‪ ،‬ول ممانعة‪ ،‬ول معارضة‪ ،‬فدل ذلك‪ ،‬على أن مدبره واحد‪ ،‬وربه‬
‫واحد‪ ،‬وإلهه واحد‪ ،‬فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك‪ ،‬لختل نظامه‪ ،‬وتقوضت أركانه‬
‫فإنهما يتمانعان ويتعارضان‪ ،‬وإذا أراد أحدهما تدبير شيء‪ ،‬وأراد الخر عدمه‪ ،‬فإنه محال وجود‬
‫مرادهما معا‪ ،‬ووجود مراد أحدهما دون الخر‪ ،‬يدل على عجز الخر‪ ،‬وعدم اقتداره واتفاقهما‬
‫على مراد واحد في جميع المور‪ ،‬غير ممكن‪ ،‬فإذًا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده‪ ،‬من‬
‫غير ممانع ول مدافع‪ ،‬هو ال الواحد القهار‪ ،‬ولهذا ذكر ال دليل التمانع في قوله‪ { :‬مَا اتّخَذَ اللّهُ‬
‫عمّا‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ سُ ْبحَانَ اللّهِ َ‬
‫ق وََلعَلَا َب ْع ُ‬
‫ن وَلَ ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا َلذَ َهبَ ُكلّ إِلَهٍ ِبمَا خَلَ َ‬
‫مِ ْ‬
‫َيصِفُونَ ْ}‬

‫ومنه ‪ -‬على أحد التأويلين ‪ -‬قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي‬
‫عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرًا ْ} ولهذا قال هنا‪ { :‬فَسُ ْبحَانَ اللّهِ ْ} أي‪ :‬تنزه‬
‫ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا* سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫وتقدس عن كل نقص لكماله وحده‪َ { ،‬ربّ ا ْلعَرْشِ ْ} الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها‪،‬‬
‫صفُونَ ْ} أي‪ :‬الجاحدون الكافرون‪ ،‬من اتخاذ‬
‫عمّا َي ِ‬
‫وأعظمها‪ ،‬فربوبية ما دونه من باب أولى‪َ { ،‬‬
‫الولد والصاحبة‪ ،‬وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫عمّا َي ْفعَلُ ْ} لعظمته وعزته‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬ل يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه‪ ،‬ل‬
‫{ لَا يُسَْألُ َ‬
‫بقول‪ ،‬ول بفعل‪ ،‬ولكمال حكمته ووضعه الشياء مواضعها‪ ،‬وإتقانها‪ ،‬أحسن كل شيء يقدره‬
‫العقل‪ ،‬فل يتوجه إليه سؤال‪ ،‬لن خلقه ليس فيه خلل ول إخلل‪.‬‬

‫{ وَ ُهمْ ْ} أي‪ :‬المخلوقين كلهم { يُسْأَلُونَ ْ} عن أفعالهم وأقوالهم‪ ،‬لعجزهم وفقرهم‪ ،‬ولكونهم عبيدا‪،‬‬
‫قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم‪ ،‬ول في غيرهم‪ ،‬مثقال‬
‫ذرة‪.‬‬

‫ثم رجع إلى تهجين حال المشركين‪ ،‬وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعا‪َ { :‬أمِ‬
‫خذُوا مِنْ دُونِهِ آِلهَةً ُقلْ هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ ْ} أي‪ :‬حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه‪ ،‬ولن‬
‫اتّ َ‬
‫يجدوا لذلك سبيل‪ ،‬بل قد قامت الدلة القطعية على بطلنه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬هَذَا ِذكْرُ مَنْ َم ِعيَ وَ ِذكْرُ‬
‫مَنْ قَبْلِي ْ} أي‪ :‬قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم‪ ،‬من إبطال الشرك‪ ،‬فهذا كتاب‬
‫ال الذي فيه ذكر كل شيء‪ ،‬بأدلته العقلية والنقلية‪ ،‬وهذه الكتب السابقة كلها‪ ،‬براهين وأدلة لما‬
‫قلت‪.‬‬

‫ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلن ما ذهبوا إليه‪ ،‬علم أنه ل برهان لهم‪ ،‬لن‬
‫البرهان القاطع‪ ،‬يجزم أنه ل معارض له‪ ،‬وإل لم يكن قطعيا‪ ،‬وإن وجد في معارضات‪ ،‬فإنها شبه‬
‫ل تغني من الحق شيئا‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬بلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ا ْلحَقّ ْ} أي‪ :‬وإنما أقاموا على ما هم عليه‪ ،‬تقليدا لسلفهم يجادلون‬
‫بغير علم ول هدى‪ ،‬وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه‪ ،‬وإنما ذلك‪ ،‬لعراضهم عنه‪ ،‬وإل‬
‫فلو التفتوا إليه أدنى التفات‪ ،‬لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ولهذا قال‪َ { :‬فهُمْ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ ْ}‬

‫ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين‪ ،‬وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة‪ ،‬بيّنها أتم تبيين‬
‫في قوله‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِلّا نُوحِي إِلَ ْيهِ أَنّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ْ} فكل الرسل‬
‫الذين من قبلك مع كتبهم‪ ،‬زبدة رسالتهم وأصلها‪ ،‬المر بعبادة ال وحده ل شريك له‪ ،‬وبيان أنه‬
‫الله الحق المعبود‪ ،‬وأن عبادة ما سواه باطلة‪.‬‬
‫ن وََلدًا سُ ْبحَانَهُ َبلْ عِبَادٌ ُمكْ َرمُونَ * لَا َيسْ ِبقُونَهُ بِا ْل َق ْولِ وَ ُهمْ‬
‫حمَ ُ‬
‫خذَ الرّ ْ‬
‫{ ‪َ { }ْ 29 - 26‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫ش َفعُونَ إِلّا ِلمَنِ ارْ َتضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ‬
‫بَِأمْ ِرهِ َي ْعمَلُونَ * َيعَْلمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم وَلَا يَ ْ‬
‫جهَنّمَ كَذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ ْ}‬
‫شفِقُونَ * َومَنْ َيقُلْ مِ ْنهُمْ إِنّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ َفذَِلكَ نَجْزِيهِ َ‬
‫مُ ْ‬

‫يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول‪ ،‬وأنهم زعموا ‪ -‬قبحهم ال ‪ -‬أن ال اتخذ ولدا‬
‫فقالوا‪ :‬الملئكة بنات ال‪ ،‬تعالى ال عن قولهم‪ ،‬وأخبر عن وصف الملئكة‪ ،‬بأنهم عبيد مربوبون‬
‫مدبرون‪ ،‬ليس لهم من المر شيء‪ ،‬وإنما هم مكرمون عند ال‪ ،‬قد أكرمهم ال‪ ،‬وصيرهم من عبيد‬
‫كرامته ورحمته‪ ،‬وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل‪ ،‬وأنهم في غاية الدب‬
‫مع ال‪ ،‬والمتثال لوامره‪.‬‬

‫فب { لَا يَسْ ِبقُونَهُ بِا ْلقَ ْولِ ْ} أي‪ :‬ل يقولون قول مما يتعلق بتدبير المملكة‪ ،‬حتى يقول ال‪ ،‬لكمال‬
‫أدبهم‪ ،‬وعلمهم بكمال حكمته وعلمه‪.‬‬

‫{ وَ ُهمْ بَِأمْ ِرهِ َي ْعمَلُونَ ْ} أي‪ :‬مهما أمرهم‪ ،‬امتثلوا لمره‪ ،‬ومهما دبرهم عليه‪ ،‬فعلوه‪ ،‬فل يعصونه‬
‫طرفة عين‪ ،‬ول يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر ال‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فال قد أحاط بهم‬
‫علمه‪ ،‬فعلم { مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ ْ} أي‪ :‬أمورهم الماضية والمستقبلة‪ ،‬فل خروج لهم عن‬
‫علمه‪ ،‬كما ل خروج لهم عن أمره وتدبيره‪.‬‬

‫ومن جزئيات وصفهم‪ ،‬بأنهم ل يسبقونه بالقول‪ ،‬أنهم ل يشفعون لحد بدون إذنه ورضاه‪ ،‬فإذا أذن‬
‫لهم‪ ،‬وارتضى من يشفعون فيه‪ ،‬شفعوا فيه‪ ،‬ولكنه تعالى ل يرضى من القول والعمل‪ ،‬إل ما كان‬
‫خالصا لوجهه‪ ،‬متبعا فيه الرسول‪ ،‬وهذه الية من أدلة إثبات الشفاعة‪ ،‬وأن الملئكة يشفعون‪.‬‬

‫ش ِفقُونَ ْ} أي‪ :‬خائفون وجلون‪ ،‬قد خضعوا لجلله‪ ،‬وعنت وجوههم لعزه‬
‫خشْيَتِهِ مُ ْ‬
‫{ وَ ُهمْ مِنْ َ‬
‫وجماله‪.‬‬

‫فلما بين أنه ل حق لهم في اللوهية‪ ،‬ول يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات‬
‫المقتضية لذلك‪ ،‬ذكر أيضا أنه ل حظ لهم‪ ،‬ول بمجرد الدعوى‪ ،‬وأن من قال منهم‪ { :‬إِنّي إَِلهٌ مِنْ‬
‫جهَنّمَ كَذَِلكَ َنجْزِي الظّاِلمِينَ ْ} وأي ظلم أعظم‬
‫دُونِهِ ْ} على سبيل الفرض والتنزل { فَذَِلكَ َنجْزِيهِ َ‬
‫من ادعاء المخلوق الناقص‪ ،‬الفقير إلى ال من جميع الوجوه مشاركة ال في خصائص اللهية‬
‫والربوبية؟"‬
‫جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ ُكلّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ كَانَتَا رَ ْتقًا َففَتَقْنَا ُهمَا وَ َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 30‬أوَلَمْ يَرَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنّ ال ّ‬
‫حيّ َأفَلَا ُي ْؤمِنُونَ ْ}‬
‫شيْءٍ َ‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬أولم ينظر هؤلء الذين كفروا بربهم‪ ،‬وجحدوا الخلص له في العبودية‪ ،‬ما يدلهم دللة‬
‫مشاهدة‪ ،‬على أنه الرب المحمود الكريم المعبود‪ ،‬فيشاهدون السماء والرض فيجدونهما رتقا‪ ،‬هذه‬
‫ليس فيها سحاب ول مطر‪ ،‬وهذه هامدة ميتة‪ ،‬ل نبات فيها‪ ،‬ففتقناهما‪ :‬السماء بالمطر‪ ،‬والرض‬
‫بالنبات‪ ،‬أليس الذي أوجد في السماء السحاب‪ ،‬بعد أن كان الجو صافيا ل قزعة فيه‪ ،‬وأودع فيه‬
‫الماء الغزير‪ ،‬ثم ساقه إلى بلد ميت; قد اغبرت أرجاؤه‪ ،‬وقحط عنه ماؤه‪ ،‬فأمطره فيها‪ ،‬فاهتزت‪،‬‬
‫وتحركت‪ ،‬وربت‪ ،‬وأنبتت من كل زوج بهيج‪ ،‬مختلف النواع‪ ،‬متعدد المنافع‪[ ،‬أليس ذلك] دليل‬
‫على أنه الحق‪ ،‬وما سواه باطل‪ ،‬وأنه محيي الموتى‪ ،‬وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال‪َ { :‬أفَلَا‬
‫ُي ْؤمِنُونَ ْ} أي‪ :‬إيمانا صحيحا‪ ،‬ما فيه شك ول شرك‪ .‬ثم عدد تعالى الدلة الفقية فقال‪:‬‬

‫جعَلْنَا فِيهَا ِفجَاجًا سُبُلًا َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ *‬


‫سيَ أَنْ َتمِيدَ ِبهِ ْم وَ َ‬
‫جعَلْنَا فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫{ ‪ { }ْ 33 - 31‬وَ َ‬
‫شمْسَ‬
‫حفُوظًا وَ ُهمْ عَنْ آيَا ِتهَا ُمعْرِضُونَ * وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ اللّ ْيلَ وَال ّنهَارَ وَال ّ‬
‫س ْقفًا َم ْ‬
‫سمَاءَ َ‬
‫جعَلْنَا ال ّ‬
‫وَ َ‬
‫وَا ْلقَمَرَ ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ ْ}‬

‫أي‪ :‬ومن الدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته‪ ،‬أنه لما كانت الرض ل تستقر إل‬
‫بالجبال‪ ،‬أرساها بها وأوتدها‪ ،‬لئل تميد بالعباد‪ ،‬أي‪ :‬لئل تضطرب‪ ،‬فل يتمكن العباد من السكون‬
‫فيها‪ ،‬ول حرثها‪ ،‬ول الستقرار بها‪ ،‬فأرساها بالجبال‪ ،‬فحصل بسبب ذلك‪ ،‬من المصالح والمنافع‪،‬‬
‫ما حصل‪ ،‬ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض‪ ،‬قد تتصل اتصال كثيرا جدا‪ ،‬فلو بقيت‬
‫بحالها‪ ،‬جبال شامخات‪ ،‬وقلل باذخات‪ ،‬لتعطل التصال بين كثير من البلدان‪.‬‬

‫فمن حكمة ال ورحمته‪ ،‬أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبل‪ ،‬أي‪ :‬طرقا سهلة ل حزنة‪ ،‬لعلهم‬
‫يهتدون إلى الوصول‪ ،‬إلى مطالبهم من البلدان‪ ،‬ولعلهم يهتدون بالستدلل بذلك على وحدانية‬
‫المنان‪.‬‬

‫سكُ‬
‫حفُوظًا ْ} من السقوط { إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫سقْفًا ْ} للرض التي أنتم عليها { َم ْ‬
‫سمَاءَ َ‬
‫جعَلْنَا ال ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ أَنْ تَزُولَا ْ} محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫{ وَ ُهمْ عَنْ آيَا ِتهَا ُمعْ ِرضُونَ ْ} أي‪ :‬غافلون لهون‪ ،‬وهذا عام في جميع آيات السماء‪ ،‬من علوها‪،‬‬
‫وسعتها‪ ،‬وعظمتها‪ ،‬ولونها الحسن‪ ،‬وإتقانها العجيب‪ ،‬وغير ذلك من المشاهد فيها‪ ،‬من الكواكب‬
‫الثوابت والسيارات‪ ،‬وشمسها‪ ،‬وقمرها النيرات‪ ،‬المتولد عنهما‪ ،‬الليل والنهار‪ ،‬وكونهما دائما في‬
‫فلكهما سابحين‪ ،‬وكذلك النجوم‪ ،‬فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد‪ ،‬والفصول‪،‬‬
‫ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملتهم‪ ،‬ويستريحون في ليلهم‪ ،‬ويهدأون ويسكنون وينتشرون في‬
‫نهارهم‪ ،‬ويسعون في معايشهم‪ ،‬كل هذه المور إذا تدبرها اللبيب‪ ،‬وأمعن فيها النظر‪ ،‬جزم حزما‬
‫ل شك فيه‪ ،‬أن ال جعلها مؤقتة في وقت معلوم‪ ،‬إلى أجل محتوم‪ ،‬يقضي العباد منها مآربهم‪،‬‬
‫وتقوم بها منافعهم‪ ،‬وليستمتعوا وينتفعوا‪ ،‬ثم بعد هذا‪ ،‬ستزول وتضمحل‪ ،‬ويفنيها الذي أوجدها‪،‬‬
‫ويسكنها الذي حركها‪ ،‬وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار‪ ،‬يجدون فيها جزاء أعمالهم‪ ،‬كامل‬
‫موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار‪ ،‬وأنها منزل سفر‪ ،‬ل محل‬
‫إقامة‪.‬‬

‫جعَلْنَا لِ َبشَرٍ مِنْ قَبِْلكَ ا ْلخُلْدَ َأفَإِنْ ِمتّ َفهُمُ الْخَاِلدُونَ * ُكلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َموْتِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 35 - 34‬ومَا َ‬
‫جعُونَ ْ}‬
‫وَنَبْلُوكُمْ بِالشّ ّروَالْخَيْرِ فِتْ َن ًة وَإِلَيْنَا تُرْ َ‬

‫لما كان أعداء الرسول يقولون تربصوا به ريب المنون‪ .‬قال ال تعالى‪ :‬هذا طريق مسلوك‪،‬‬
‫خلْدِ ْ} في الدنيا‪ ،‬فإذا مت‪ ،‬فسبيل أمثالك‪،‬‬
‫ومعبد منهوك‪ ،‬فلم نجعل لبشر { مِنْ قَبِْلكَ ْ} يا محمد { الْ ُ‬
‫من الرسل والنبياء‪ ،‬والولياء‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫{ َأفَإِنْ ِمتّ َفهُمُ الْخَاِلدُونَ ْ} أي‪ :‬فهل إذا مت خلدوا بعدك‪ ،‬فليهنهم الخلود إذًا إن كان‪ ،‬وليس المر‬
‫كذلك‪ ،‬بل كل من عليها فان‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬كلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ ْ} وهذا يشمل سائر نفوس‬
‫الخلئق‪ ،‬وإن هذا كأس ل بد من شربه وإن طال بالعبد المدى‪ ،‬وعمّر سنين‪ ،‬ولكن ال تعالى‬
‫أوجد عباده في الدنيا‪ ،‬وأمرهم‪ ،‬ونهاهم‪ ،‬وابتلهم بالخير والشر‪ ،‬بالغنى والفقر‪ ،‬والعز والذل‬
‫والحياة والموت‪ ،‬فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عمل‪ ،‬ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو‪،‬‬
‫جعُونَ ْ} فنجازيكم بأعمالكم‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر { َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ ْ}‬
‫{ وَإِلَيْنَا تُ ْر َ‬
‫وهذه الية‪ ،‬تدل على بطلن قول من يقول ببقاء الخضر‪ ،‬وأنه مخلد في الدنيا‪ ،‬فهو قول‪ ،‬ل دليل‬
‫عليه‪ ،‬ومناقض للدلة الشرعية‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 41 - 36‬وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتّخِذُو َنكَ إِلّا هُ ُزوًا َأهَذَا الّذِي يَ ْذكُرُ آِلهَ َتكُ ْم وَهُمْ ِب ِذكْرِ‬
‫جلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا َتسْ َتعْجِلُونِ * وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا‬
‫خلِقَ الْإِ ْنسَانُ مِنْ عَ َ‬
‫حمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * ُ‬
‫الرّ ْ‬
‫ظهُورِهِمْ‬
‫ن وُجُو ِههِمُ النّا َر وَلَا عَنْ ُ‬
‫ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * َلوْ َيعْلَمُ الّذِينَ َكفَرُوا حِينَ لَا َيكُفّونَ عَ ْ‬
‫وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ * َبلْ تَأْتِيهِمْ َبغْ َتةً فَتَ ْبهَ ُتهُمْ فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ رَدّهَا وَلَا هُمْ يُ ْنظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ‬
‫سلٍ مِنْ قَبِْلكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِ ْنهُمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ ْ}‬
‫بِرُ ُ‬
‫وهذا من شدة كفرهم‪ ،‬فإن المشركين إذا رأوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬استهزأوا به‬
‫وقالوا‪ { :‬أَ َهذَا الّذِي َي ْذكُرُ آِلهَ َتكُمْ ْ} أي‪ :‬هذا المحتقر بزعمهم‪ ،‬الذي يسب آلهتكم ويذمها‪ ،‬ويقع فيها‪،‬‬
‫أي‪ :‬فل تبالوا به‪ ،‬ول تحتفلوا به‪.‬‬

‫هذا استهزاؤهم واحتقارهم له‪ ،‬بما هو من كماله‪ ،‬فإنه الكمل الفضل الذي من فضائله ومكارمه‪،‬‬
‫إخلص العبادة ل‪ ،‬وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه‪ ،‬وذكر محله ومكانته‪ ،‬ولكن محل الزدراء‬
‫والستهزاء‪ ،‬هؤلء الكفار‪ ،‬الذين جمعوا كل خلق ذميم‪ ،‬ولو لم يكن إل كفرهم بالرب وجحدهم‬
‫لرسله فصاروا بذلك‪ ،‬من أخس الخلق وأرذلهم‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فذكرهم للرحمن‪ ،‬الذي هو أعلى‬
‫حالتهم‪ ،‬كافرون بها‪ ،‬لنهم ل يذكرونه ول يؤمنون به إل وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك‪،‬‬
‫حمَنِ‬
‫حمَنِ ُهمْ كَافِرُونَ ْ} وفي ذكر اسمه { الرّ ْ‬
‫فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال‪ { :‬وَ ُهمْ بِ ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫ْ} هنا‪ ،‬بيان لقباحة حالهم‪ ،‬وأنهم كيف قابلوا الرحمن ‪ -‬مسدي النعم كلها‪ ،‬ودافع النقم الذي ما‬
‫بالعباد من نعمة إل منه‪ ،‬ول يدفع السوء إل إياه ‪ -‬بالكفر والشرك‪.‬‬

‫جلٍ ْ} أي‪ :‬خلق عجول‪ ،‬يبادر الشياء‪ ،‬ويستعجل بوقوعها‪ ،‬فالمؤمنون‪،‬‬


‫عَ‬‫{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ َ‬
‫يستعجلون عقوبة ال للكافرين‪ ،‬ويتباطئونها‪ ،‬والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب‪ ،‬تكذيبا‬
‫وعنادا‪ ،‬ويقولون‪ { :‬مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ْ} وال تعالى‪ ،‬يمهل ول يهمل ويحلم‪ ،‬ويجعل‬
‫لهم أجل مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَُلهُمْ لَا يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا َيسْ َتقْ ِدمُونَ ْ} ولهذا قال‪ { :‬سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ْ}‬
‫أي‪ :‬في انتقامي ممن كفر بي وعصاني { فَلَا َتسْ َتعْجِلُونِ ْ} ذلك‪ ،‬وكذلك الذين كفروا يقولون‪:‬‬
‫{ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ْ} قالوا هذا القول‪ ،‬اغترارا‪ ،‬ولما يحق عليهم العقاب‪ ،‬وينزل‬
‫بهم العذاب‪.‬‬

‫فب { َلوْ َيعَْلمُ الّذِينَ َكفَرُوا ْ} حالهم الشنيعة حين ل يكفون عن وجوههم النار ول عن ظهورهم‪ ،‬إذ‬
‫قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان { وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ ْ} أي‪ :‬ل ينصرهم غيرهم‪،‬‬
‫فل نصروا ول انتصروا‪.‬‬

‫{ َبلْ تَأْتِيهِمْ ْ} النار { َبغْتَةً فَتَ ْبهَ ُتهُمْ ْ} من النزعاج والذعر والخوف العظيم‪.‬‬

‫{ فَلَا َيسْتَطِيعُونَ رَدّهَا ْ} إذ هم أذل وأضعف من ذلك‪.‬‬

‫{ وَلَا ُهمْ يُ ْنظَرُونَ ْ} أي‪ :‬يمهلون‪ ،‬فيؤخر عنهم العذاب‪ .‬فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة‪ ،‬لما‬
‫استعجلوا بالعذاب‪ ،‬ولخافوه أشد الخوف‪ ،‬ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم‪ ،‬قالوا ما قالوا‪ ،‬ولما ذكر‬
‫استهزاءهم برسوله بقولهم‪ { :‬أَ َهذَا الّذِي َي ْذكُرُ آِلهَ َتكُمْ ْ} سله بأن هذا دأب المم السالفة مع رسلهم‬
‫سلٍ مِنْ قَبِْلكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِ ْنهُمْ ْ} أي‪ :‬نزل بهم { مَا كَانُوا بِهِ‬
‫فقال‪ { :‬وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِ ُر ُ‬
‫يَسْ َتهْزِئُونَ ْ} أي‪ :‬نزل بهم العذاب‪ ،‬وتقطعت عنهم السباب‪ ،‬فليحذر هؤلء‪ ،‬أن يصيبهم ما أصاب‬
‫أولئك المكذبين‪.‬‬

‫حمَنِ َبلْ ُهمْ عَنْ ِذكْرِ رَ ّبهِمْ ُمعْ ِرضُونَ * َأمْ‬


‫ل وَال ّنهَارِ مِنَ الرّ ْ‬
‫{ ‪ُ { }ْ 44 - 42‬قلْ مَنْ َيكَْل ُؤكُمْ بِاللّ ْي ِ‬
‫سهِ ْم وَلَا هُمْ مِنّا ُيصْحَبُونَ * َبلْ مَ ّتعْنَا َهؤُلَاءِ‬
‫َلهُمْ آِلهَةٌ َتمْ َن ُعهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ َنصْرَ أَ ْنفُ ِ‬
‫صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا َأ َفهُمُ ا ْلغَالِبُونَ ْ}‬
‫وَآبَاءَ ُهمْ حَتّى طَالَ عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُرُ َأفَلَا يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي الْأَ ْرضَ نَ ْن ُق ُ‬

‫يقول تعالى ‪ -‬ذاكرا عجز هؤلء‪ ،‬الذين اتخذوا من دونه آلهة‪ ،‬وأنهم محتاجون مضطرون إلى‬
‫ربهم الرحمن‪ ،‬الذي رحمته‪ ،‬شملت البر والفاجر‪ ،‬في ليلهم ونهارهم ‪ -‬فقال‪ُ { :‬قلْ مَنْ َيكَْلؤُكُمْ ْ}‬
‫أي‪ :‬يحرسكم ويحفظكم { بِاللّ ْيلِ ْ} إذ كنتم نائمين على فرشكم‪ ،‬وذهبت حواسكم { وَال ّنهَارِ ْ} وقت‬
‫حمَنِ ْ} أي‪ :‬بدله غيره‪ ،‬أي‪ :‬هل يحفظكم أحد غيره؟ ل حافظ إل هو‪.‬‬
‫انتشاركم وغفلتكم { مِنَ الرّ ْ‬

‫{ َبلْ ُهمْ عَنْ ِذكْرِ رَ ّبهِمْ ُمعْ ِرضُونَ ْ} فلهذا أشركوا به‪ ،‬وإل فلو أقبلوا على ذكر ربهم‪ ،‬وتلقوا‬
‫نصائحه‪ ،‬لهدوا لرشدهم‪ ،‬ووفقوا في أمرهم‪.‬‬

‫{ َأمْ َلهُمْ آِلهَةٌ َتمْ َن ُعهُمْ مِنْ دُونِنَا ْ} أي‪ :‬إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم‪ ،‬من يقدر على منعهم من‬
‫ذلك السوء‪ ،‬والشر النازل بهم؟؟‬

‫سهِ ْم وَلَا ُهمْ مِنّا ُيصْحَبُونَ ْ} أي‪ :‬ل يعانون على أمورهم من جهتنا‪ ،‬وإذا‬
‫{ لَا يَسْتَطِيعُونَ َنصْرَ أَ ْنفُ ِ‬
‫لم يعانوا من ال‪ ،‬فهم مخذولون في أمورهم‪ ،‬ل يستطيعون جلب منفعة‪ ،‬ول دفع مضرة‪.‬‬

‫والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله‪َ { :‬بلْ مَ ّتعْنَا َهؤُلَا ِء وَآبَا َءهُمْ حَتّى طَالَ‬
‫عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُرُ ْ} أي‪ :‬أمددناهم بالموال والبنين‪ ،‬وأطلنا أعمارهم‪ ،‬فاشتغلوا بالتمتع بها‪ ،‬ولهوا بها‪،‬‬
‫عما له خلقوا‪ ،‬وطال عليهم المد‪ ،‬فقست قلوبهم‪ ،‬وعظم طغيانهم‪ ،‬وتغلظ كفرانهم‪ ،‬فلو لفتوا‬
‫أنظارهم إلى من عن يمينهم‪ ،‬وعن يسارهم من الرض‪ ،‬لم يجدوا إل هالكا ولم يسمعوا إل صوت‬
‫ناعية‪ ،‬ولم يحسوا إل بقرون متتابعة على الهلك‪ ،‬وقد نصب الموت في كل طريق لقتناص‬
‫صهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَا ْ} أي‪ :‬بموت أهلها‬
‫النفوس الشراك‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أفَلَا يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي الْأَ ْرضَ نَ ْن ُق ُ‬
‫وفنائهم‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يرث ال الرض ومن عليها وهو خير الوارثين‪ ،‬فلو رأوا هذه الحالة لم‬
‫يغتروا ويستمروا على ما هم عليه‪.‬‬
‫{ َأ َف ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ ْ} الذين بوسعهم‪ ،‬الخروج عن قدر ال؟ وبطاقتهم المتناع عن الموت؟ فهل هذا‬
‫وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم‪ ،‬أذعنوا‪ ،‬وذلوا‪ ،‬ولم‬
‫يظهر منهم أدنى ممانعة؟‬

‫سمَعُ الصّمّ الدّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسّ ْتهُمْ‬


‫ي وَلَا يَ ْ‬
‫حِ‬‫{ ‪ُ { }ْ 46 - 45‬قلْ إِ ّنمَا أُنْذِ ُر ُكمْ بِا ْلوَ ْ‬
‫عذَابِ رَ ّبكَ لَ َيقُولُنّ يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ ْ}‬
‫َنفْحَةٌ مِنْ َ‬

‫حيِ ْ} أي‪ :‬إنما أنا رسول‪ ،‬ل آتيكم بشيء من‬


‫أي‪ُ { :‬قلْ ْ} يا محمد‪ ،‬للناس كلهم‪ { :‬إِ ّنمَا أُ ْنذِ ُركُمْ بِا ْل َو ْ‬
‫عندي‪ ،‬ول عندي خزائن ال‪ ،‬ول أعلم الغيب‪ ،‬ول أقول إني ملك‪ ،‬وإنما أنذركم بما أوحاه ال‬
‫إلي‪ ،‬فإن استجبتم‪ ،‬فقد استجبتم ل‪ ،‬وسيثيبكم على ذلك‪ ،‬وإن أعرضتم وعارضتم‪ ،‬فليس بيدي من‬
‫المر شيء‪ ،‬وإنما المر ل‪ ،‬والتقدير كله ل‪.‬‬

‫سمَعُ الصّمّ الدّعَاءَ ْ} أي‪ :‬الصم ل يسمع صوتا‪ ،‬لن سمعه قد فسد وتعطل‪ ،‬وشرط السماع‬
‫{ وَلَا َي ْ‬
‫مع الصوت‪ ،‬أن يوجد محل قابل لذلك‪ ،‬كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والرواح‪ ،‬وللفقه عن ال‪،‬‬
‫ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى‪ ،‬كان بالنسبة للهدى واليمان‪ ،‬بمنزلة الصم‪ ،‬بالنسبة‬
‫إلى الصوات فهؤلء المشركون‪ ،‬صم عن الهدى‪ ،‬فل يستغرب عدم اهتدائهم‪ ،‬خصوصا في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬التي لم يأتهم العذاب‪ ،‬ول مسهم ألمه‪.‬‬

‫عذَابِ رَ ّبكَ ْ} أي‪ :‬ولو جزءا يسيرا ول يسير من عذابه‪ { ،‬لَ َيقُولُنّ يَا وَيْلَنَا إِنّا‬
‫فلو مسهم { َنفْحَةٌ مِنْ َ‬
‫كُنّا ظَاِلمِينَ ْ} أي‪ :‬لم يكن قولهم إل الدعاء بالويل والثبور‪ ،‬والندم‪ ،‬والعتراف بظلمهم وكفرهم‬
‫واستحقاقهم للعذاب‪.‬‬

‫سطَ لِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ فَلَا ُتظْلَمُ َنفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْ َدلٍ‬
‫{ ‪ { }ْ 47‬وَنَضَعُ ا ْل َموَازِينَ ا ْلقِ ْ‬
‫أَتَيْنَا ِبهَا َوكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ}‬

‫يخبر تعالى عن حكمه العدل‪ ،‬وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة‪ ،‬وأنه يضع لهم‬
‫الموازين العادلة‪ ،‬التي يبين فيها مثاقيل الذر‪ ،‬الذي توزن بها الحسنات والسيئات‪ { ،‬فَلَا ُتظْلَمُ َنفْسٌ‬
‫ْ} مسلمة أو كافرة { شَيْئًا ْ} بأن تنقص من حسناتها‪ ،‬أو يزاد في سيئاتها‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كَانَ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْ َدلٍ ْ} التي هي أصغر الشياء وأحقرها‪ ،‬من خير أو شر { أَتَيْنَا ِبهَا ْ}‬
‫وأحضرناها‪ ،‬ليجازى بها صاحبها‪ ،‬كقوله‪َ { :‬فمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرًا يَ َرهُ* َومَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ‬
‫ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ ْ}‬
‫عمِلُوا‬
‫جدُوا مَا َ‬
‫حصَاهَا وَوَ َ‬
‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً إِلّا أَ ْ‬
‫وقالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ‬
‫حَاضِرًا ْ}‬

‫{ َو َكفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ} يعني بذلك نفسه الكريمة‪ ،‬فكفى به حاسبا‪ ،‬أي‪ :‬عالما بأعمال العباد‪ ،‬حافظا‬
‫لها‪ ،‬مثبتا لها في الكتاب‪ ،‬عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها‪ ،‬موصل للعمال‬
‫جزاءها‪.‬‬

‫شوْنَ رَ ّبهُمْ‬
‫{ ‪ { }ْ 50 - 48‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ ا ْلفُ ْرقَانَ وَضِيَا ًء َو ِذكْرًا لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ َيخْ َ‬
‫ش ِفقُونَ * وَهَذَا ِذكْرٌ مُبَا َركٌ أَنْزَلْنَاهُ َأفَأَنْ ُتمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ ْ}‬
‫عةِ مُ ْ‬
‫بِا ْلغَ ْيبِ وَ ُهمْ مِنَ السّا َ‬

‫كثيرا ما يجمع تعالى‪ ،‬بين هذين الكتابين الجليلين‪ ،‬اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما‪ ،‬ول أعظم‬
‫ذكرا‪ ،‬ول أبرك‪ ،‬ول أعظم هدى وبيانا‪[ ،‬وهما التوراة والقرآن] فأخبر أنه آتى موسى أصل‪،‬‬
‫وهارون تبعا { ا ْلفُ ْرقَانَ ْ} وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل‪ ،‬والهدى والضلل‪ ،‬وأنها‬
‫{ ضِيَاءً ْ} أي‪ :‬نور يهتدي به المهتدون‪ ،‬ويأتم به السالكون‪ ،‬وتعرف به الحكام‪ ،‬ويميز به بين‬
‫الحلل والحرام‪ ،‬وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية‪ { ،‬وَ ِذكْرًا لِ ْلمُتّقِينَ ْ} يتذكرون به‪ ،‬ما‬
‫ينفعهم‪ ،‬وما يضرهم‪ ،‬ويتذكر به الخير والشر‪ ،‬وخص { المتقين ْ} بالذكر‪ ،‬لنهم المنتفعون بذلك‪،‬‬
‫علما وعمل‪.‬‬

‫شوْنَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَ ْيبِ ْ} أي‪ :‬يخشونه في حال غيبتهم‪ ،‬وعدم مشاهدة‬
‫ثم فسر المتقين فقال‪ { :‬الّذِينَ َيخْ َ‬
‫عةِ‬
‫الناس لهم‪ ،‬فمع المشاهدة أولى‪ ،‬فيتورعون عما حرم‪ ،‬ويقومون بما ألزم‪ { ،‬وَ ُهمْ مِنَ السّا َ‬
‫شفِقُونَ ْ} أي‪ :‬خائفون وجلون‪ ،‬لكمال معرفتهم بربهم‪ ،‬فجمعوا بين الحسان والخوف‪ ،‬والعطف‬
‫مُ ْ‬
‫هنا من باب عطف الصفات المتغايرات‪ ،‬الواردة على شيء واحد وموصوف واحد‪.‬‬

‫{ وَ َهذَا ْ} أي‪ :‬القرآن { ِذكْرٌ مُبَا َركٌ أَنْزَلْنَاهُ ْ} فوصفه بوصفين جليلين‪ ،‬كونه ذكرا يتذكر به جميع‬
‫المطالب‪ ،‬من معرفة ال بأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ومن صفات الرسل والولياء وأحوالهم‪ ،‬ومن‬
‫أحكام الشرع من العبادات والمعاملت وغيرها‪ ،‬ومن أحكام الجزاء والجنة والنار‪ ،‬فيتذكر به‬
‫المسائل والدلئل العقلية والنقلية‪ ،‬وسماه ذكرا‪ ،‬لنه يذكر ما ركزه ال في العقول والفطر‪ ،‬من‬
‫التصديق بالخبار الصادقة‪ ،‬والمر بالحسن عقل‪ ،‬والنهي عن القبيح عقل‪ ،‬وكونه { مباركا ْ}‬
‫يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها‪ ،‬ول شيء أعظم بركة من هذا القرآن‪ ،‬فإن كل خير‬
‫ونعمة‪ ،‬وزيادة دينية أو دنيوية‪ ،‬أو أخروية‪ ،‬فإنها بسببه‪ ،‬وأثر عن العمل به‪ ،‬فإذا كان ذكرا‬
‫مباركا‪ ،‬وجب تلقيه بالقبول والنقياد‪ ،‬والتسليم‪ ،‬وشكر ال على هذه المنحة الجليلة‪ ،‬والقيام بها‪،‬‬
‫واستخراج بركته‪ ،‬بتعلم ألفاظه ومعانيه‪ ،‬وأما مقابلته بضد هذه الحالة‪ ،‬من العراض عنه‪،‬‬
‫والضراب عنه‪ ،‬صفحا وإنكاره‪ ،‬وعدم اليمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم‪،‬‬
‫ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال‪َ { :‬أفَأَنْ ُتمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ ْ}‬

‫ل َوكُنّا بِهِ عَاِلمِينَ ْ} إلى آخر هذه القصة‪،‬‬


‫{ ‪ { }ْ 73 - 51‬وََلقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ ُرشْ َدهُ مِنْ قَ ْب ُ‬

‫وهو قوله‪ { :‬وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ْ} لما ذكر‬
‫تعالى موسى ومحمدا صلى ال عليهما وسلم‪ ،‬وكتابيهما قال‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْ َدهُ مِنْ قَ ْبلُ ْ}‬
‫أي‪ :‬من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما‪ ،‬فأراه ال ملكوت السماوات والرض‪ ،‬وأعطاه‬
‫من الرشد‪ ،‬الذي كمل به نفسه‪ ،‬ودعا الناس إليه‪ ،‬ما لم يؤته أحدا من العالمين‪ ،‬غير محمد‪،‬‬
‫وأضاف الرشد إليه‪ ،‬لكونه رشدا‪ ،‬بحسب حاله‪ ،‬وعلو مرتبته‪ ،‬وإل فكل مؤمن‪ ،‬له من الرشد‪،‬‬
‫بحسب ما معه من اليمان‪َ { .‬وكُنّا ِبهِ عَاِلمِينَ ْ} أي‪ :‬أعطيناه رشده‪ ،‬واختصصناه بالرسالة والخلة‪،‬‬
‫واصطفيناه في الدنيا والخرة‪ ،‬لعلمنا أنه أهل لذلك‪ ،‬وكفء له‪ ،‬لزكائه وذكائه‪ ،‬ولهذا ذكر محاجته‬
‫لقومه‪ ،‬ونهيهم عن الشرك‪ ،‬وتكسير الصنام‪ ،‬وإلزامهم بالحجة‪ ،‬فقال‪ { :‬إِذْ قَالَ لِأَبِي ِه َو َقوْمِهِ مَا هَ ِذهِ‬
‫ال ّتمَاثِيلُ ْ} التي مثلتموها‪ ،‬ونحتموها بأيديكم‪ ،‬على صور بعض المخلوقات { الّتِي أَنْ ُتمْ َلهَا عَا ِكفُونَ‬
‫ْ} مقيمون على عبادتها‪ ،‬ملزمون لذلك‪ ،‬فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم‪ ،‬التي‬
‫ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها‪ ،‬ونحتموها بأيديكم‪ ،‬فهذا من أكبر‬
‫العجائب‪ ،‬تعبدون ما تنحتون‪.‬‬

‫جدْنَا آبَاءَنَا ْ} كذلك‬


‫فأجابوا بغير حجة‪ ،‬جواب العاجز‪ ،‬الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا‪ { :‬وَ َ‬
‫يفعلون‪ ،‬فسلكنا سبيلهم‪ ،‬وتبعناهم على عبادتها‪ ،‬ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل‬
‫ليس بحجة‪ ،‬ول تجوز به القدوة‪ ،‬خصوصا‪ ،‬في أصل الدين‪ ،‬وتوحيد رب العالمين‪ ،‬ولهذا قال لهم‬
‫إبراهيم مضلل للجميع‪َ { :‬لقَدْ كُنْتُمْ أَنْ ُت ْم وَآبَا ُؤكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ْ} أي‪ :‬ضلل بين واضح‪ ،‬وأي‬
‫ضلل‪ ،‬أبلغ من ضللهم في الشرك‪ ،‬وترك التوحيد؟" أي‪ :‬فليس ما قلتم‪ ،‬يصلح للتمسك به‪ ،‬وقد‬
‫اشتركتم وإياهم في الضلل الواضح‪ ،‬البين لكل أحد‪.‬‬

‫{ قَالُوا ْ} على وجه الستغراب لقوله‪ ،‬والستعظام لما قال‪ ،‬وكيف بادأهم بتسفيههم‪ ،‬وتسفيه آبائهم‪:‬‬
‫{ َأجِئْتَنَا بِا ْلحَقّ َأمْ أَ ْنتَ مِنَ اللّاعِبِينَ ْ} أي‪ :‬هذا القول الذي قلته‪ ،‬والذي جئتنا به‪ ،‬هل هو حق وجد؟‬
‫أم كلمك لنا‪ ،‬كلم لعب مستهزئ‪ ،‬ل يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا‪ ،‬وإنما رددوا الكلم بين‬
‫المرين‪ ،‬لنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد‪ ،‬أن الكلم الذي جاء به إبراهيم‪ ،‬كلم‬
‫سفيه ل يعقل ما يقول‪ ،‬فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم‪ ،‬وقلة عقولهم فقال‪ { :‬بَل رَ ّبكُمْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ الّذِي فَطَرَهُنّ وَأَنَا عَلَى ذَِلكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ْ} فجمع لهم بين الدليل العقلي‪،‬‬
‫َربّ ال ّ‬
‫والدليل السمعي‪.‬‬
‫أما الدليل العقلي‪ ،‬فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلء الذين جادلهم إبراهيم‪ ،‬أن ال وحده‪ ،‬الخالق‬
‫لجميع المخلوقات‪ ،‬من بني آدم‪ ،‬والملئكة‪ ،‬والجن‪ ،‬والبهائم‪ ،‬والسماوات‪ ،‬والرض‪ ،‬المدبر لهن‪،‬‬
‫بجميع أنواع التدبير‪ ،‬فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه‪ ،‬ودخل في ذلك‪ ،‬جميع ما عبد‬
‫من دون ال‪.‬‬

‫أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز‪ ،‬أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه‪ ،‬ل يملك نفعا‪ ،‬ول‬
‫ضرا‪ ،‬ول موتا‪ ،‬ول حياة‪ ،‬ول نشورا‪ ،‬ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟‬

‫أما الدليل السمعي‪ :‬فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فإن ما جاءوا به معصوم ل‬
‫يغلط ول يخبر بغير الحق‪ ،‬ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال‬
‫إبراهيم‪ { :‬وَأَنَا عَلَى َذِلكُمْ ْ} أي‪ :‬أن ال وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل { مِنَ الشّاهِدِينَ ْ}‬
‫وأي شهادة بعد شهادة ال أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل‬
‫الرحمن‪.‬‬

‫ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها‬
‫وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال‪ { :‬وَتَاللّهِ لََأكِيدَنّ َأصْنَا َمكُمْ ْ} أي أكسرها على وجه‬
‫الكيد { َبعْدَ أَنْ ُتوَلّوا مُدْبِرِينَ ْ} عنها إلى عيد من أعيادهم‪ ،‬فلما تولوا مدبرين‪ ،‬ذهب إليها بخفية‬
‫جعََلهُمْ جُذَاذًا ْ} أي كسرا وقطعا‪ ،‬وكانت مجموعة في بيت واحد‪ ،‬فكسرها كلها‪ { ،‬إِلّا كَبِيرًا َل ُهمْ‬
‫{ َف َ‬
‫ْ} أي إل صنمهم الكبير‪ ،‬فإنه تركه لمقصد سيبينه‪ ،‬وتأمل هذا الحتراز العجيب‪ ،‬فإن كل ممقوت‬
‫عند ال‪ ،‬ل يطلق عليه ألفاظ التعظيم‪ ،‬إل على وجه إضافته لصحابه‪ ،‬كما كان النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الرض المشركين يقول‪ " :‬إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم "‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ولم يقل " إلى العظيم " وهنا قال تعالى‪ { :‬إِلّا كَبِيرًا َل ُهمْ ْ} ولم يقل " كبيرا من أصنامهم‬
‫" فهذا ينبغي التنبيه له‪ ،‬والحتراز من تعظيم ما حقره ال‪ ،‬إل إذا أضيف إلى من عظمه‪.‬‬

‫جعُونَ ْ} أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لجل أن يرجعوا إليه‪،‬‬


‫وقوله‪َ { :‬لعَّلهُمْ إِلَ ْيهِ يَرْ ِ‬
‫سهِمْ ْ}‬
‫جعُوا إِلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫ويستملوا حجته‪ ،‬ويلتفتوا إليها‪ ،‬ول يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها‪ { :‬فَرَ َ‬

‫فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الهانة والخزي { قَالُوا مَنْ َف َعلَ هَذَا بِآِلهَتِنَا إِنّهُ َلمِنَ الظّاِلمِينَ ْ}‬
‫فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه‬
‫س ِمعْنَا فَتًى‬
‫ومن عدله وتوحيده‪ ،‬وإنما الظالم من اتخذها آلهة‪ ،‬وقد رأى ما يفعل بها { قَالُوا َ‬
‫يَ ْذكُرُ ُهمْ ْ} أي‪ :‬يعيبهم ويذمهم‪ ،‬ومن هذا شأنه ل بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه‬
‫يذكر أنه سيكيدها { ُيقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ْ} فلما تحققوا أنه إبراهيم { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ ْ} أي‪ :‬بإبراهيم‬
‫شهَدُونَ ْ} أي‪ :‬يحضرون ما يصنع بمن‬
‫{ عَلَى أَعْيُنِ النّاسِ ْ} أي بمرأى منهم ومسمع { َلعَّل ُهمْ يَ ْ‬
‫كسر آلهتهم‪ ،‬وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق‬
‫حشَرَ النّاسُ‬
‫وتقوم عليهم الحجة‪ ،‬كما قال موسى حين واعد فرعون‪َ { :‬موْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّينَ ِة وَأَنْ يُ ْ‬
‫ضُحًى ْ}‬

‫فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له‪ { :‬أَأَ ْنتَ َفعَ ْلتَ َهذَا ْ} أي‪ :‬التكسير { بِآِلهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ‬
‫ْ} ؟ وهذا استفهام تقرير‪ ،‬أي‪ :‬فما الذي جرأك‪ ،‬وما الذي أوجب لك القدام على هذا المر؟‪.‬‬

‫فقال إبراهيم والناس شاهدون‪َ { :‬بلْ َفعَلَهُ كَبِي ُرهُمْ َهذَا ْ} أي‪ :‬كسرها غضبا عليها‪ ،‬لما عبدت معه‪،‬‬
‫وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده‪ ،‬وهذا الكلم من إبراهيم‪ ،‬المقصد منه إلزام‬
‫طقُونَ ْ} وأراد الصنام المكسرة‬
‫الخصم وإقامة الحجة عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَ ْن ِ‬
‫اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر‪ ،‬اسألوه لي شيء كسرها‪ ،‬إن كان عندهم نطق‪،‬‬
‫فسيجيبونكم إلى ذلك‪ ،‬وأنا وأنتم‪ ،‬وكل أحد يدري أنها ل تنطق ول تتكلم‪ ،‬ول تنفع ول تضر‪ ،‬بل‬
‫ول تنصر نفسها ممن يريدها بأذى‪.‬‬

‫س ِهمْ ْ} أي‪ :‬ثايت عليهم عقولهم‪ ،‬ورجعت إليهم أحلمهم‪ ،‬وعلموا أنهم ضالون في‬
‫جعُوا إِلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫{ فَ َر َ‬
‫عبادتها‪ ،‬وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك‪َ { ،‬فقَالُوا إِ ّن ُكمْ أَنْتُمُ الظّاِلمُونَ ْ} فحصل بذلك المقصود‪،‬‬
‫ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم‪ ،‬ولكن لم يستمروا على هذه‬
‫سهِمْ ْ} أي‪ :‬انقلب المر عليهم‪ ،‬وانتكست عقولهم وضلت‬
‫الحالة‪ ،‬ولكن { ُنكِسُوا عَلَى ُرءُو ِ‬
‫طقُونَ ْ} فكيف تهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن‬
‫أحلمهم‪ ،‬فقالوا لبراهيم‪َ { :‬لقَدْ عَِل ْمتَ مَا َهؤُلَاءِ يَ ْن ِ‬
‫نسألها وأنت تعلم أنها ل تنطق؟ ‪.‬‬

‫فقال إبراهيم ‪ -‬موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الشهاد‪ ،‬ومبينا عدم استحقاق آلهتهم‬
‫للعبادة‪َ { :-‬أفَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َف ُعكُمْ شَيْئًا وَلَا َيضُ ّركُمْ ْ} فل نفع ول دفع‪.‬‬

‫{ ُأفّ َلكُمْ وَِلمَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} أي‪ :‬ما أضلكم وأخسر صفقتكم‪ ،‬وما أخسكم‪ ،‬أنتم وما عبدتم‬
‫من دون ال‪ ،‬إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال‪ ،‬فلما عدمتم العقل‪ ،‬وارتكبتم الجهل والضلل على‬
‫بصيرة‪ ،‬صارت البهائم‪ ،‬أحسن حال منكم‪.‬‬

‫فحينئذ لما أفحمهم‪ ،‬ولم يبينوا حجة‪ ،‬استعملوا قوتهم في معاقبته‪ ،‬فب { قَالُوا حَ ّرقُوهُ وَا ْنصُرُوا‬
‫آِلهَ َتكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ْ} أي‪ :‬اقتلوه أشنع القتلت‪ ،‬بالحراق‪ ،‬غضبا للهتكم‪ ،‬ونصرة لها‪ .‬فتعسا‬
‫لهم تعسا‪ ،‬حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم‪ ،‬واتخذوه إلها‪ ،‬فانتصر ال لخليله لما‬
‫ألقوه في النار وقال لها‪ { :‬كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ْ} فكانت عليه بردا وسلما‪ ،‬لم ينله فيها‬
‫أذى‪ ،‬ول أحس بمكروه‪.‬‬
‫جعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ْ} أي‪ :‬في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫{ وَأَرَادُوا ِبهِ كَيْدًا ْ} حيث عزموا على إحراقه‪َ { ،‬ف َ‬
‫كما جعل ال خليله وأتباعه‪ ،‬هم الرابحين المفلحين‪.‬‬

‫{ وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطًا ْ} وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إل لوط عليه السلم قيل‪ :‬إنه ابن أخيه‪ ،‬فنجاه‬
‫ال‪ ،‬وهاجر { إِلَى الْأَ ْرضِ الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا لِ ْلعَاَلمِينَ ْ} أي‪ :‬الشام‪ ،‬فغادر قومه في " بابل " من‬
‫حكِيمُ ْ} ومن بركة الشام‪ ،‬أن كثيرا‬
‫أرض العراق‪َ { ،‬وقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ ِإلَى رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫من النبياء كانوا فيها‪ ،‬وأن ال اختارها‪ ،‬مهاجرا لخليله‪ ،‬وفيها أحد بيوته الثلثة المقدسة‪ ،‬وهو‬
‫بيت المقدس‪.‬‬

‫ق وَ َيعْقُوبَ ْ} ابن إسحاق { نَافَِلةً ْ} بعدما كبر‪ ،‬وكانت‬


‫{ َووَهَبْنَا لَهُ ْ} حين اعتزل قومه { ِإسْحَا َ‬
‫ن وَرَاءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ ْ} ويعقوب‪ ،‬هو إسرائيل‪،‬‬
‫زوجته عاقرا‪ ،‬فبشرته الملئكة بإسحاق‪َ { ،‬ومِ ْ‬
‫الذي كانت منه المة العظيمة‪ ،‬وإسماعيل بن إبراهيم‪ ،‬الذي كانت منه المة الفاضلة العربية‪ ،‬ومن‬
‫جعَلْنَا صَاِلحِينَ ْ} أي‪:‬‬
‫ذريته‪ ،‬سيد الولين والخرين‪َ { .‬وكُلَا ْ} من إبراهيم وإسحاق ويعقوب { َ‬
‫قائمين بحقوقه‪ ،‬وحقوق عباده‪ ،‬ومن صلحهم‪ ،‬أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره‪ ،‬وهذا من أكبر نعم‬
‫ال على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون‪ ،‬ويمشي خلفه السالكون‪ ،‬وذلك لما صبروا‪،‬‬
‫وكانوا بآيات ال يوقنون‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬يهْدُونَ بَِأمْرِنَا ْ} أي‪ :‬يهدون الناس بديننا‪ ،‬ل يأمرون بأهواء أنفسهم‪ ،‬بل بأمر ال ودينه‪،‬‬
‫واتباع مرضاته‪ ،‬ول يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر ال‪.‬‬

‫{ وََأوْحَيْنَا ِإلَ ْيهِمْ ِف ْعلَ الْخَيْرَاتِ ْ} يفعلونها ويدعون الناس إليها‪ ،‬وهذا شامل لجميع الخيرات كلها‪،‬‬
‫من حقوق ال‪ ،‬وحقوق العباد‪.‬‬

‫{ وَِإقَامَ الصّلَاةِ وَإِيتَاءَ ال ّزكَاةِ ْ} هذا من باب عطف الخاص على العام‪ ،‬لشرف هاتين العبادتين‬
‫وفضلهما‪ ،‬ولن من كملهما كما أمر‪ ،‬كان قائما بدينه‪ ،‬ومن ضيعهما‪ ،‬كان لما سواهما أضيع‪،‬‬
‫ولن الصلة أفضل العمال‪ ،‬التي فيها حقه‪ ،‬والزكاة أفضل العمال‪ ،‬التي فيها الحسان لخلقه‪.‬‬

‫{ َوكَانُوا لَنَا ْ} أي‪ :‬ل لغيرنا { عَابِدِينَ ْ} أي‪ :‬مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في‬
‫أكثر أوقاتهم‪ ،‬فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم‪ ،‬فاتصفوا بما أمر ال به الخلق‪ ،‬وخلقهم لجله‪.‬‬

‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ َت ْع َملُ ا ْلخَبَا ِئثَ إِ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫{ ‪ { }ْ 75 - 74‬وَلُوطًا آتَيْنَاهُ ُ‬
‫حمَتِنَا إِنّهُ مِنَ الصّاِلحِينَ ْ}‬
‫سقِينَ * وََأدْخَلْنَاهُ فِي رَ ْ‬
‫سوْءٍ فَا ِ‬
‫َقوْمَ َ‬
‫هذا ثناء من ال على رسوله (لوط) عليه السلم بالعلم الشرعي‪ ،‬والحكم بين الناس‪ ،‬بالصواب‬
‫والسداد‪ ،‬وأن ال أرسله إلى قومه‪ ،‬يدعوهم إلى عبادة ال‪ ،‬وينهاهم عما هم عليه من الفواحش‪،‬‬
‫سوْءٍ‬
‫فلبث يدعوهم‪ ،‬فلم يستجيبوا له‪ ،‬فقلب ال عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لنهم { َقوْمَ َ‬
‫سقِينَ ْ} كذبوا الداعي‪ ،‬وتوعدوه بالخراج‪ ،‬ونجى ال لوطا وأهله‪ ،‬فأمره أن يسري بهم ليل‪،‬‬
‫فَا ِ‬
‫ليبعدوا عن القرية‪ ،‬فسروا ونجوا‪ ،‬من فضل ال عليهم ومنته‪.‬‬

‫حمَتِنَا ْ} التي من دخلها‪ ،‬كان من المنين‪ ،‬من جميع المخاوف‪ ،‬النائلين كل خير‬
‫{ وَأَ ْدخَلْنَاهُ فِي رَ ْ‬
‫وسعادة‪ ،‬وبر‪ ،‬وسرور‪ ،‬وثناء‪ ،‬وذلك لنه من الصالحين‪ ،‬الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم‪،‬‬
‫وأصلح ال فاسدهم‪ ،‬والصلح هو السبب لدخول العبد برحمة ال‪ ،‬كما أن الفساد‪ ،‬سبب لحرمانه‬
‫الرحمة والخير‪ ،‬وأعظم الناس صلحا‪ ،‬النبياء عليهم السلم ولهذا يصفهم بالصلح‪ ،‬وقال سليمان‬
‫حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّالِحِينَ ْ}‬
‫خلْنِي بِ َر ْ‬
‫عليه السلم‪ { :‬وَأَدْ ِ‬

‫{ ‪ { }ْ 77 - 76‬وَنُوحًا ِإذْ نَادَى مِنْ قَ ْبلُ فَاسْ َتجَبْنَا لَهُ فَ َنجّيْنَا ُه وَأَهْلَهُ مِنَ ا ْلكَ ْربِ ا ْل َعظِيمِ *‬
‫ج َمعِينَ ْ}‬
‫سوْءٍ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ أَ ْ‬
‫وَ َنصَرْنَاهُ مِنَ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا إِ ّن ُهمْ كَانُوا َقوْمَ َ‬

‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا‪ ،‬نوحا عليه السلم‪ ،‬مثنيا مادحا‪ ،‬حين أرسله ال إلى قومه‪ ،‬فلبث فيهم‬
‫ألف سنة‪ ،‬إل خمسين عاما‪ ،‬يدعوهم إلى عبادة ال‪ ،‬وينهاهم عن الشرك به‪ ،‬ويبدي فيهم ويعيد‪،‬‬
‫ويدعوهم سرا وجهارا‪ ،‬وليل ونهارا‪ ،‬فلما رآهم ل ينجع فيهم الوعظ‪ ،‬ول يفيد لديهم الزجر‪ ،‬نادى‬
‫ك وَلَا يَِلدُوا‬
‫ربه وقال‪َ { :‬ربّ لَا َتذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا* إِ ّنكَ إِنْ تَذَ ْرهُمْ ُيضِلّوا عِبَا َد َ‬
‫إِلّا فَاجِرًا َكفّارًا ْ} فاستجاب ال له‪ ،‬فأغرقهم‪ ،‬ولم يبق منهم أحدا‪ ،‬ونجى ال نوحا وأهله‪ ،‬ومن معه‬
‫من المؤمنين‪ ،‬في الفلك المشحون‪ ،‬وجعل ذريته هم الباقين‪ ،‬ونصرهم ال على قومه المستهزئين‪.‬‬

‫ح ْك ِمهِمْ‬
‫شتْ فِيهِ غَ َنمُ ا ْل َقوْ ِم َوكُنّا لِ ُ‬
‫ح ُكمَانِ فِي ا ْلحَ ْرثِ إِذْ َنفَ َ‬
‫سلَ ْيمَانَ إِذْ َي ْ‬
‫{ ‪ { }ْ 82 - 78‬وَدَاوُ َد وَ ُ‬
‫سخّرْنَا مَعَ دَاوُدَ ا ْلجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْ َر َوكُنّا‬
‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا وَ َ‬
‫ن َوكُلّا آتَيْنَا ُ‬
‫شَا ِهدِينَ * َف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَا َ‬
‫س ُكمْ َف َهلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَ ْيمَانَ الرّيحَ‬
‫حصِ َنكُمْ مِنْ بَأْ ِ‬
‫فَاعِلِينَ * وَعَّلمْنَا ُه صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ َلكُمْ لِ ُت ْ‬
‫شيْءٍ عَاِلمِينَ * َومِنَ الشّيَاطِينِ مَنْ‬
‫عَاصِفَةً َتجْرِي بَِأمْ ِرهِ إِلَى الْأَ ْرضِ الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا َوكُنّا ِب ُكلّ َ‬
‫ك َوكُنّا َلهُمْ حَا ِفظِينَ }‬
‫عمَلًا دُونَ ذَِل َ‬
‫َيغُوصُونَ لَ ُه وَ َي ْعمَلُونَ َ‬

‫أي‪ :‬واذكر هذين النبيين الكريمين " داود " و " سليمان " مثنيا مبجل‪ ،‬إذ آتاهما ال العلم الواسع‬
‫شتْ فِيهِ غَ َنمُ ا ْل َقوْمِ } أي‪ :‬إذ تحاكم‬
‫ح ُكمَانِ فِي ا ْلحَ ْرثِ إِذْ َنفَ َ‬
‫والحكم بين العباد‪ ،‬بدليل قوله‪ِ { :‬إذْ يَ ْ‬
‫إليهما صاحب حرث‪ ،‬نفشت فيه غنم القوم الخرين‪ ،‬أي‪ :‬رعت ليل‪ ،‬فأكلت ما في أشجاره‪،‬‬
‫ورعت زرعه‪ ،‬فقضى فيه داود عليه السلم‪ ،‬بأن الغنم تكون لصاحب الحرث‪ ،‬نظرا إلى تفريط‬
‫أصحابها‪ ،‬فعاقبهم بهذه العقوبة‪ ،‬وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب‪ ،‬بأن أصحاب الغنم‬
‫يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث‪،‬‬
‫حتى يعود إلى حاله الولى‪ ،‬فإذا عاد إلى حاله‪ ،‬ترادا ورجع كل منهما بما له‪ ،‬وكان هذا من كمال‬
‫فهمه وفطنته عليه السلم ولهذا قال‪َ { :‬ف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَانَ } أي‪ :‬فهمناه هذه القضية‪ ،‬ول يدل ذلك‪،‬‬
‫أن داود لم يفهمه ال في غيرها‪ ،‬ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله‪َ { :‬وكُلَا } من داود وسليمان‬
‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك‪ ،‬وليس‬
‫{ آتَيْنَا ُ‬
‫بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده‪.‬‬

‫ن وَالطّيْرَ } وذلك أنه كان‬


‫ثم ذكر ما خص به كل منهما فقال‪ { :‬وَسَخّرْنَا َمعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبّحْ َ‬
‫من أعبد الناس وأكثرهم ل ذكرا وتسبيحا وتمجيدا‪ ،‬وكان قد أعطاه [ال] من حسن الصوت ورقته‬
‫ورخامته‪ ،‬ما لم يؤته أحدا من الخلق‪ ،‬فكان إذا سبح وأثنى على ال‪ ،‬جاوبته الجبال الصم والطيور‬
‫البهم‪ ،‬وهذا فضل ال عليه وإحسانه فلهذا قال‪َ { :‬وكُنّا فَاعِلِينَ }‬

‫{ وَعَّلمْنَا ُه صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ َلكُمْ } أي‪ :‬علم ال داود عليه السلم‪ ،‬صنعة الدروع‪ ،‬فهو أول من صنعها‬
‫وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده‪ ،‬فألن ال له الحديد‪ ،‬وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها‬
‫س ُكمْ } أي‪ :‬هي وقاية لكم‪ ،‬وحفظ عند الحرب‪ ،‬واشتداد البأس‪.‬‬
‫حصِ َنكُمْ مِنْ بَأْ ِ‬
‫كبيرة‪ { ،‬لِ ُت ْ‬

‫ج َعلَ‬
‫{ َف َهلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } نعمة ال عليكم‪ ،‬حيث أجراها على يد عبده داود‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫س ُكمْ كَذَِلكَ يُ ِتمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّل ُكمْ تُسِْلمُونَ }‬
‫َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ الْحَ ّر وَسَرَابِيلَ َتقِيكُمْ بَأْ َ‬

‫يحتمل أن تعليم ال لداود صنعة الدروع وإلنتها أمر خارق للعادة‪ ،‬وأن يكون ‪ -‬كما قاله‬
‫المفسرون‪ :-‬إن ال ألن له الحديد‪ ،‬حتى كان يعمله كالعجين والطين‪ ،‬من دون إذابة له على‬
‫النار‪ ،‬ويحتمل أن تعليم ال له‪ ،‬على جاري العادة‪ ،‬وأن إلنة الحديد له‪ ،‬بما علمه ال من السباب‬
‫المعروفة الن‪ ،‬لذابتها‪ ،‬وهذا هو الظاهر‪ ،‬لن ال امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها‪ ،‬ولول‬
‫أن صنعته من المور التي جعلها ال مقدورة للعباد‪ ،‬لم يمتن عليهم بذلك‪ ،‬ويذكر فائدتها‪ ،‬لن‬
‫الدروع التي صنع داود عليه السلم‪ ،‬متعذر أن يكون المراد أعيانها‪ ،‬وإنما المنة بالجنس‪،‬‬
‫والحتمال الذي ذكره المفسرون‪ ،‬ل دليل عليه إل قوله‪ { :‬وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ } وليس فيه أن اللنة‬
‫من دون سبب‪ ،‬وال أعلم بذلك‪.‬‬

‫صفَةً } أي‪ :‬سريعة في مرورها‪َ { ،‬تجْرِي بَِأمْ ِرهِ } حيث‬


‫{ وَلِسُلَ ْيمَانَ الرّيحَ } أي‪ :‬سخرناها { عَا ِ‬
‫دبرت امتثلت أمره‪ ،‬غدوها شهر ورواحها شهر { إِلَى الْأَ ْرضِ الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا } وهي أرض‬
‫الشام‪ ،‬حيث كان مقره‪ ،‬فيذهب على الريح شرقا وغربا‪ ،‬ويكون مأواها ورجوعها إلى الرض‬
‫شيْءٍ عَاِلمِينَ } قد أحاط علمنا بجميع الشياء‪ ،‬وعلمنا من داود وسليمان‪ ،‬ما‬
‫المباركة‪َ { ،‬وكُنّا ِب ُكلّ َ‬
‫أوصلناهما به إلى ما ذكرنا‪.‬‬

‫عمَلًا دُونَ ذَِلكَ } وهذا أيضا من خصائص سليمان‬


‫{ َومِنَ الشّيَاطِينِ مَنْ َيغُوصُونَ َل ُه وَ َي ْعمَلُونَ َ‬
‫عليه السلم‪ ،‬أن ال سخر له الشياطين والعفاريت‪ ،‬وسلطه على تسخيرهم في العمال‪ ،‬التي ل‬
‫يقدر على كثير منها غيرهم‪ ،‬فكان منهم من يغوص له في البحر‪ ،‬ويستخرج الدر‪ ،‬واللؤلؤ‪ ،‬وغير‬
‫ب َوقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } وسخر طائفة‬
‫جوَا ِ‬
‫جفَانٍ كَا ْل َ‬
‫ب وَ َتمَاثِيلَ وَ ِ‬
‫ذلك‪ ،‬ومنهم من يعمل له { مَحَارِي َ‬
‫منهم‪ ،‬لبناء بيت المقدس‪ ،‬ومات‪ ،‬وهم على عمله‪ ،‬وبقوا بعده سنة‪ ،‬حتى علموا موته‪ ،‬كما سيأتي‬
‫إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫{ َوكُنّا َلهُمْ حَافِظِينَ } أي‪ :‬ل يقدرون على المتناع منه وعصيانه‪ ،‬بل حفظهم ال له‪ ،‬بقوته‬
‫وعزته‪ ،‬وسلطانه‪.‬‬

‫حمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا َلهُ‬


‫{ ‪ { } 84 - 83‬وَأَيّوبَ ِإذْ نَادَى رَبّهُ أَنّي مَسّ ِنيَ الضّ ّر وَأَ ْنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬
‫حمَةً مِنْ عِنْدِنَا َو ِذكْرَى ِل ْلعَابِدِينَ }‬
‫ن ضُ ّر وَآتَيْنَاهُ أَهَْل ُه َومِثَْلهُمْ َم َعهُمْ َر ْ‬
‫شفْنَا مَا ِبهِ مِ ْ‬
‫َفكَ َ‬

‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا‪ ،‬أيوب ‪ -‬مثنيا معظما له‪ ،‬رافعا لقدره ‪ -‬حين ابتله‪ ،‬ببلء شديد‪،‬‬
‫فوجده صابرا راضيا عنه‪ ،‬وذلك أن الشيطان سلط على جسده‪ ،‬ابتلء من ال‪ ،‬وامتحانا فنفخ في‬
‫جسده‪ ،‬فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة‪ ،‬واشتد به البلء‪ ،‬ومات أهله‪ ،‬وذهب ماله‪ ،‬فنادى‬
‫حمِينَ } فتوسل إلى ال بالخبار عن حال نفسه‪،‬‬
‫حمُ الرّا ِ‬
‫ربه‪ :‬رب { أَنّي مَسّ ِنيَ الضّ ّر وَأَ ْنتَ أَرْ َ‬
‫وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ‪ ،‬وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب ال له‪ ،‬وقال له‪ { :‬ا ْر ُكضْ‬
‫سلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل‬
‫بِرِجِْلكَ هَذَا ُمغْتَ َ‬
‫منها وشرب‪ ،‬فأذهب ال عنه ما به من الذى‪ { ،‬وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } أي‪ :‬رددنا عليه أهله وماله‪.‬‬

‫حمَةً مِنْ عِنْدِنَا } به‪ ،‬حيث‬


‫{ َومِثَْلهُمْ َم َعهُمْ } بأن منحه ال العافية من الهل والمال شيئا كثيرا‪ { ،‬رَ ْ‬
‫صبر ورضي‪ ،‬فأثابه ال ثوابا عاجل قبل ثواب الخرة‪.‬‬

‫{ وَ ِذكْرَى لِ ْلعَا ِبدِينَ } أي‪ :‬جعلناه عبرة للعابدين‪ ،‬الذين ينتفعون بالعبر‪ ،‬فإذا رأوا ما أصابه من‬
‫البلء‪ ،‬ثم ما أثابه ال بعد زواله‪ ،‬ونظروا السبب‪ ،‬وجدوه الصبر‪ ،‬ولهذا أثنى ال عليه به في‬
‫قوله‪ { :‬إِنّا وَجَدْنَا ُه صَابِرًا ِنعْمَ ا ْلعَبْدُ إِنّهُ َأوّابٌ } فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر‪.‬‬
‫حمَتِنَا إِ ّنهُمْ‬
‫س وَذَا ا ْل ِكفْلِ ُكلّ مِنَ الصّابِرِينَ * وَأَ ْدخَلْنَاهُمْ فِي َر ْ‬
‫ل وَإِدْرِي َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫{ ‪ { } 86 - 85‬وَإِ ْ‬
‫مِنَ الصّالِحِينَ }‬

‫أي‪ :‬واذكر عبادنا المصطفين‪ ،‬وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر‪ ،‬وأثن عليهم أبلغ الثناء‪ ،‬إسماعيل‬
‫بن إبراهيم‪ ،‬وإدريس‪ ،‬وذا الكفل‪ ،‬نبيين من أنبياء بني إسرائيل { ُكلّ } من هؤلء المذكورين { مِنَ‬
‫الصّابِرِينَ } والصبر‪ :‬هو حبس النفس ومنعها‪ ،‬مما تميل بطبعها إليه‪ ،‬وهذا يشمل أنواع الصبر‬
‫الثلثة‪ :‬الصبر على طاعة ال والصبر عن معصية ال‪ ،‬والصبر على أقدار ال المؤلمة‪ ،‬فل‬
‫يستحق العبد اسم الصبر التام‪ ،‬حتى يوفي هذه الثلثة حقها‪ .‬فهؤلء النبياء‪ ،‬عليهم الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬قد وصفهم ال بالصبر‪ ،‬فدل أنهم وفوها حقها‪ ،‬وقاموا بها كما ينبغي‪ ،‬ووصفهم أيضا‬
‫بالصلح‪ ،‬وهو يشمل صلح القلب‪ ،‬بمعرفة ال ومحبته‪ ،‬والنابة إليه كل وقت‪ ،‬وصلح اللسان‪،‬‬
‫بأن يكون رطبا من ذكر ال‪ ،‬وصلح الجوارح‪ ،‬باشتغالها بطاعة ال وكفها عن المعاصي‪.‬‬
‫فبصبرهم وصلحهم‪ ،‬أدخلهم ال برحمته‪ ،‬وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين‪ ،‬وأثابهم الثواب‬
‫العاجل والجل‪ ،‬ولو لم يكن من ثوابهم‪ ،‬إل أن ال تعالى نوه بذكرهم في العالمين‪ ،‬وجعل لهم‬
‫لسان صدق في الخرين‪ ،‬لكفى بذلك شرفا وفضل‪.‬‬

‫{ ‪ { } 88 - 87‬وَذَا النّونِ ِإذْ َذ َهبَ ُمغَاضِبًا َفظَنّ أَنْ لَنْ َنقْدِرَ عَلَ ْيهِ فَنَادَى فِي الظُّلمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ‬
‫إِلّا أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ * فَاسْ َتجَبْنَا َل ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَمّ َوكَذَِلكَ نُنْجِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو‪ :‬يونس‪ ،‬أي‪ :‬صاحب النون‪ ،‬وهي الحوت‪ ،‬بالذكر‬
‫الجميل‪ ،‬والثناء الحسن‪ ،‬فإن ال تعالى أرسله إلى قومه‪ ،‬فدعاهم‪ ،‬فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول‬
‫العذاب بأمد سماه لهم‪.‬‬

‫[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا‪ ،‬فعجوا إلى ال‪ ،‬وضجوا وتابوا‪ ،‬فرفع ال عنهم العذاب كما قال‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الْخِ ْزيِ‬
‫تعالى‪ { :‬فََلوْلَا كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَا إِيمَا ُنهَا إِلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا آمَنُوا كَ َ‬
‫فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال‪ { :‬وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِا َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا َفمَ ّتعْنَاهُمْ‬
‫إِلَى حِينٍ } وهذه المة العظيمة‪ ،‬الذين آمنوا بدعوة يونس‪ ،‬من أكبر فضائله‪ .‬ولكنه عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬ذهب مغاضبا‪ ،‬وأبق عن ربه لذنب من الذنوب‪ ،‬التي لم يذكرها ال لنا في كتابه‪ ،‬ول‬
‫حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله‪ { :‬إِذْ أَبَقَ إِلَى ا ْلفُ ْلكِ } { وَ ُهوَ مُلِيمٌ } أي‪ :‬فاعل ما يلم عليه] والظاهر‬
‫أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره ال بذلك‪ ،‬ظن أن ال ل‬
‫يقدر عليه‪ ،‬أي‪ :‬يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت ال تعالى‪ ،‬ول مانع من عروض‬
‫هذا الظن للكمل من الخلق على وجه ل يستقر‪ ،‬ول يستمر عليه‪ ،‬فركب في السفينة مع أناس‪،‬‬
‫فاقترعوا‪ ،‬من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم‪ ،‬فأصابت القرعة يونس‪،‬‬
‫فالتقمه الحوت‪ ،‬وذهب به إلى ظلمات البحار‪ ،‬فنادى في تلك الظلمات‪ { :‬لَا إِلَهَ إِلّا أَ ْنتَ سُبْحَا َنكَ‬
‫إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ } فأقر ل تعالى بكمال اللوهية‪ ،‬ونزهه عن كل نقص‪ ،‬وعيب وآفة‪،‬‬
‫واعترف بظلم نفسه وجنايته‪.‬‬

‫قال ال تعالى‪ { :‬فََلوْلَا أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ* لَلَ ِبثَ فِي بَطْ ِنهِ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } ولهذا قال هنا‪:‬‬
‫{ فَاسْتَجَبْنَا َل ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَمّ } أي‪ :‬الشدة التي وقع فيها‪.‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ نُ ْنجِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وهذا وعد وبشارة‪ ،‬لكل مؤمن وقع في شدة وغم‪ ،‬أن ال تعالى سينجيه‬
‫منها‪ ،‬ويكشف عنه ويخفف‪ ،‬ليمانه كما فعل بب " يونس " عليه السلم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 90 - 89‬وَ َزكَرِيّا إِذْ نَادَى رَبّهُ َربّ لَا َتذَرْنِي فَرْدًا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ‬
‫جهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ وَ َيدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا‬
‫َووَهَبْنَا لَهُ َيحْيَى وََأصْلَحْنَا لَهُ َزوْ َ‬
‫شعِينَ }‬
‫َوكَانُوا لَنَا خَا ِ‬

‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا زكريا‪ ،‬منوها بذكره‪ ،‬ناشرا لمناقبه وفضائله‪ ،‬التي من جملتها‪ ،‬هذه‬
‫المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق‪ ،‬ورحمة ال إياه‪ ،‬وأنه { نَادَى رَبّهُ َربّ لَا َتذَرْنِي فَ ْردًا }‬
‫خ ْفتُ‬
‫شقِيّا* وَإِنّي ِ‬
‫ظمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبًا وَلَمْ َأكُنْ بِدُعَا ِئكَ َربّ َ‬
‫أي‪ { :‬قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ‬
‫ك وَلِيّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ‬
‫ن وَرَائِي َوكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َف َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْن َ‬
‫ا ْل َموَاِليَ مِ ْ‬
‫جعَلْهُ َربّ َرضِيّا }‬
‫وَا ْ‬

‫من هذه اليات علمنا أن قوله { َربّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا } أنه لما تقارب أجله‪ ،‬خاف أن ل يقوم أحد‬
‫بعده مقامه في الدعوة إلى ال‪ ،‬والنصح لعباد ال‪ ،‬وأن يكون في وقته فردا‪ ،‬ول يخلف من يشفعه‬
‫ويعينه‪ ،‬على ما قام به‪ { ،‬وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ } أي‪ :‬خير الباقين‪ ،‬وخير من خلفني بخير‪ ،‬وأنت‬
‫أرحم بعبادك مني‪ ،‬ولكني أريد ما يطمئن به قلبي‪ ،‬وتسكن له نفسي‪ ،‬ويجري في موازيني ثوابه‪.‬‬

‫{ فَاسْتَجَبْنَا َل ُه َووَهَبْنَا لَهُ َيحْيَى } النبي الكريم‪ ،‬الذي لم يجعل ال له من قبل سميا‪.‬‬

‫جهُ } بعدما كانت عاقرا‪ ،‬ل يصلح رحمها للولدة فأصلح ال رحمها للحمل‪،‬‬
‫{ وََأصْلَحْنَا لَهُ َزوْ َ‬
‫لجل نبيه زكريا‪ ،‬وهذا من فوائد الجليس‪ ،‬والقرين الصالح‪ ،‬أنه مبارك على قرينه‪ ،‬فصار يحيى‬
‫مشتركا بين الوالدين‪.‬‬
‫ولما ذكر هؤلء النبياء والمرسلين‪ ،‬كل على انفراده‪ ،‬أثنى عليهم عموما فقال‪ { :‬إِ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي‪ :‬يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة‪ ،‬ويكملونها على الوجه‬
‫اللئق الذي ينبغي ول يتركون فضيلة يقدرون عليها‪ ،‬إل انتهزوا الفرصة فيها‪ { ،‬وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا‬
‫وَرَهَبًا } أي‪ :‬يسألوننا المور المرغوب فيها‪ ،‬من مصالح الدنيا والخرة‪ ،‬ويتعوذون بنا من المور‬
‫المرهوب منها‪ ،‬من مضار الدارين‪ ،‬وهم راغبون راهبون ل غافلون‪ ،‬لهون ول مدلون‪َ { ،‬وكَانُوا‬
‫شعِينَ } أي‪ :‬خاضعين متذللين متضرعين‪ ،‬وهذا لكمال معرفتهم بربهم‪.‬‬
‫لَنَا خَا ِ‬

‫جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَا آيَةً لِ ْلعَاَلمِينَ * إِنّ‬


‫جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا َو َ‬
‫حصَ َنتْ فَرْ َ‬
‫{ ‪ { } 94 - 91‬وَالّتِي أَ ْ‬
‫جعُونَ * َفمَنْ َي ْعمَلْ‬
‫طعُوا َأمْرَ ُهمْ بَيْ َنهُمْ ُكلّ إِلَيْنَا رَا ِ‬
‫ح َد ًة وَأَنَا رَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُونِ * وَتَقَ ّ‬
‫هَ ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫سعْ ِي ِه وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ }‬
‫ت وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَا ُكفْرَانَ لِ َ‬
‫مِنَ الصّالِحَا ِ‬

‫حصَنَتْ‬
‫أي‪ :‬واذكر مريم‪ ،‬عليها السلم‪ ،‬مثنيا عليها مبينا لقدرها‪ ،‬شاهرا لشرفها فقال‪ { :‬وَالّتِي َأ ْ‬
‫جهَا } أي‪ :‬حفظته من الحرام وقربانه‪ ،‬بل ومن الحلل‪ ،‬فلم تتزوج لشتغالها بالعبادة‪،‬‬
‫فَرْ َ‬
‫واستغراق وقتها بالخدمة لربها‪.‬‬

‫حمَنِ مِ ْنكَ إِنْ‬


‫وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن { قَاَلتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ‬
‫كُ ْنتَ َتقِيّا } فجازاها ال من جنس عملها‪ ،‬ورزقها ولدا من غير أب‪ ،‬بل نفخ فيها جبريل عليه‬
‫السلم‪ ،‬فحملت بإذن ال‪.‬‬

‫جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَا آيَةً لِ ْلعَاَلمِينَ } حيث حملت به‪ ،‬ووضعته من دون مسيس أحد‪ ،‬وحيث تكلم في‬
‫{ َو َ‬
‫المهد‪ ،‬وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة‪ ،‬وأجرى ال على يديه من‬
‫الخوارق والمعجزات ما هو معلوم‪ ،‬فكانت وابنها آية للعالمين‪ ،‬يتحدث بها جيل بعد جيل‪ ،‬ويعتبر‬
‫بها المعتبرون‪.‬‬

‫ح َدةً } أي‪ :‬هؤلء‬


‫ولما ذكر النبياء عليهم السلم‪ ،‬قال مخاطبا للناس‪ { :‬إِنّ هَ ِذهِ ُأمّ ُت ُكمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫الرسل المذكورون هم أمتكم وائمتكم الذين بهم تأتمون‪ ،‬وبهديهم تقتدون‪ ،‬كلهم على دين واحد‪،‬‬
‫وصراط واحد‪ ،‬والرب أيضا واحد‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬وَأَنَا رَ ّب ُكمْ } الذي خلقتكم‪ ،‬وربيتكم بنعمتي‪ ،‬في الدين والدنيا‪ ،‬فإذا كان الرب واحدا‪،‬‬
‫والنبي واحدا‪ ،‬والدين واحدا‪ ،‬وهو عبادة ال‪ ،‬وحده ل شريك له‪ ،‬بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم‬
‫والواجب عليكم‪ ،‬القيام بها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاعْبُدُونِ } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء‪ ،‬ترتيب‬
‫المسبب على سببه‪.‬‬
‫وكان اللئق‪ ،‬الجتماع على هذا المر‪ ،‬وعدم التفرق فيه‪ ،‬ولكن البغي والعتداء‪ ،‬أبيا إل الفتراق‬
‫طعُوا َأمْرَهُمْ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬تفرق الحزاب المنتسبون لتباع النبياء فرقا‪،‬‬
‫والتقطع‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َتقَ ّ‬
‫وتشتتوا‪ ،‬كل يدعي أن الحق معه‪ ،‬والباطل مع الفريق الخر و { ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ }‬

‫وقد علم أن المصيب منهم‪ ،‬من كان سالكا للدين القويم‪ ،‬والصراط المستقيم‪ ،‬مؤتما بالنبياء‬
‫وسيظهر هذا‪ ،‬إذا انكشف الغطاء‪ ،‬وبرح الخفاء‪ ،‬وحشر ال الناس لفصل القضاء‪ ،‬فحينئذ يتبين‬
‫جعُونَ } أي‪:‬‬
‫الصادق من الكاذب‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬كلّ } من الفرق المتفرقة وغيرهم { إِلَيْنَا رَا ِ‬
‫فنجازيهم أتم الجزاء‪.‬‬

‫ثم فصل جزاءه فيهم‪ ،‬منطوقا ومفهوما‪ ،‬فقال‪َ { :‬فمَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬العمال التي‬
‫سعْيِهِ‬
‫شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب { وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ } بال وبرسله‪ ،‬وما جاءوا به { فَلَا ُكفْرَانَ لِ َ‬
‫} أي‪ :‬ل نضيع سعيه ول نبطله‪ ،‬بل نضاعفه له أضعافا كثيرة‪.‬‬

‫{ وَإِنّا َلهُ كَاتِبُونَ } أي‪ :‬مثبتون له في اللوح المحفوظ‪ ،‬وفي الصحف التي مع الحفظة‪ .‬أي‪ :‬ومن‬
‫لم يعمل من الصالحات‪ ،‬أو عملها وهو ليس بمؤمن‪ ،‬فإنه محروم‪ ،‬خاسر في دينه‪ ،‬ودنياه‪.‬‬

‫جعُونَ }‬
‫{ ‪َ { } 95‬وحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهَْلكْنَاهَا أَ ّنهُمْ لَا يَرْ ِ‬

‫أي‪ :‬يمتنع على القرى المهلكة المعذبة‪ ،‬الرجوع إلى الدنيا‪ ،‬ليستدركوا ما فرطوا فيه فل سبيل إلى‬
‫الرجوع لمن أهلك وعذب‪ ،‬فليحذر المخاطبون‪ ،‬أن يستمروا على ما يوجب الهلك فيقع بهم‪ ،‬فل‬
‫يمكن رفعه‪ ،‬وليقلعوا وقت المكان والدراك‪.‬‬

‫ج وَ ُهمْ مِنْ ُكلّ حَ َدبٍ يَ ْنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ ا ْلوَعْدُ‬


‫حتْ يَ ْأجُوجُ َومَأْجُو ُ‬
‫{ ‪ { } 97 - 96‬حَتّى ِإذَا فُتِ َ‬
‫غفْلَةٍ مِنْ َهذَا َبلْ كُنّا ظَاِلمِينَ }‬
‫صةٌ أَ ْبصَارُ الّذِينَ َكفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي َ‬
‫خ َ‬
‫حقّ فَإِذَا ِهيَ شَا ِ‬
‫الْ َ‬

‫هذا تحذير من ال للناس‪ ،‬أن يقيموا على الكفر والمعاصي‪ ،‬وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج‪،‬‬
‫وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم‪ ،‬وقد سد عليهم ذو القرنين‪ ،‬لما شكي إليه إفسادهم في الرض‪،‬‬
‫وفي آخر الزمان‪ ،‬ينفتح السد عنهم‪ ،‬فيخرجون إلى الناس في هذه الحالة والوصف‪ ،‬الذي ذكره ال‬
‫من كل من مكان مرتفع‪ ،‬وهو الحدب ينسلون أي‪ :‬يسرعون‪ .‬وفي هذا دللة على كثرتهم الباهرة‪،‬‬
‫وإسراعهم في الرض‪ ،‬إما بذواتهم‪ ،‬وإما بما خلق ال لهم من السباب التي تقرب لهم البعيد‪،‬‬
‫وتسهل عليهم الصعب‪ ،‬وأنهم يقهرون الناس‪ ،‬ويعلون عليهم في الدنيا‪ ،‬وأنه ل يد لحد بقتالهم‪.‬‬

‫{ وَاقْتَ َربَ ا ْلوَعْدُ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬يوم القيامة الذي وعد ال بإتيانه‪ ،‬ووعده حق وصدق‪ ،‬ففي ذلك اليوم‬
‫ترى أبصار الكفار شاخصة‪ ،‬من شدة الفزاع والهوال المزعجة‪ ،‬والقلقل المفظعة‪ ،‬وما كانوا‬
‫يعرفون من جناياتهم وذنوبهم‪ ،‬وأنهم يدعون بالويل والثبور‪ ،‬والندم والحسرة‪ ،‬على ما فات‬
‫غفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اليوم العظيم‪ ،‬فلم نزل فيها مستغرقين‪ ،‬وفي لهو الدنيا‬
‫ويقولون لب ‪َ { :‬قدْ كُنّا فِي َ‬
‫متمتعين‪ ،‬حتى أتانا اليقين‪ ،‬ووردنا القيامة‪ ،‬فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة‪ ،‬لماتوا‪َ { .‬بلْ‬
‫كُنّا ظَاِلمِينَ } اعترفوا بظلمهم‪ ،‬وعدل ال فيهم‪ ،‬فحينئذ يؤمر بهم إلى النار‪ ،‬هم وما كانوا يعبدون‪،‬‬
‫ولهذا قال‪:‬‬

‫جهَنّمَ أَنْ ُتمْ َلهَا وَارِدُونَ * َلوْ كَانَ َهؤُلَاءِ‬


‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫{ ‪ { } 103 - 98‬إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫س َمعُونَ * إِنّ الّذِينَ سَ َب َقتْ َلهُمْ مِنّا‬
‫آِلهَةً مَا وَرَدُوهَا َوكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ * َلهُمْ فِيهَا َزفِي ٌر وَ ُهمْ فِيهَا لَا يَ ْ‬
‫سهُمْ خَالِدُونَ * لَا َيحْزُ ُنهُمُ‬
‫سهَا وَ ُهمْ فِي مَا اشْ َت َهتْ أَ ْنفُ ُ‬
‫س َمعُونَ حَسِي َ‬
‫حسْنَى أُولَ ِئكَ عَ ْنهَا مُ ْبعَدُونَ *لَا َي ْ‬
‫الْ ُ‬
‫ا ْلفَزَعُ الَْأكْبَ ُر وَتَتََلقّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ هَذَا َي ْو ُمكُمُ الّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }‬

‫جهَنّمَ } أي‪ :‬وقودها وحطبها { أَنْتُمْ َلهَا وَارِدُونَ‬


‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫أي‪ :‬إنكم أيها العابدون مع ال آلهة غيره { َ‬
‫} وأصنامكم‪.‬‬

‫والحكمة في دخول الصنام النار‪ ،‬وهي جماد‪ ،‬ل تعقل‪ ،‬وليس عليها ذنب‪ ،‬بيان كذب من اتخذها‬
‫آلهة‪ ،‬وليزداد عذابهم‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬لوْ كَانَ َهؤُلَاءِ آِلهَةً مَا وَرَدُوهَا } وهذا كقوله تعالى‪ { :‬لِيُبَيّنَ َلهُمُ‬
‫الّذِي َيخْتَِلفُونَ فِيهِ وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } وكل من العابدين والمعبودين فيها‪،‬‬
‫خالدون‪ ،‬ل يخرجون منها‪ ،‬ول ينتقلون عنها‪.‬‬

‫س َمعُونَ } صم بكم عمي‪ ،‬أول يسمعون من‬


‫{ َل ُهمْ فِيهَا َزفِيرٌ } من شدة العذاب { وَهُمْ فِيهَا لَا يَ ْ‬
‫الصوات غير صوتها‪ ،‬لشدة غليانها‪ ،‬واشتداد زفيرها وتغيظها‪.‬‬

‫ودخول آلهة المشركين النار‪ ،‬إنما هو الصنام‪ ،‬أو من عبد‪ ،‬وهو راض بعبادته‪.‬‬

‫وأما المسيح‪ ،‬وعزير‪ ،‬والملئكة ونحوهم‪ ،‬ممن عبد من الولياء‪ ،‬فإنهم ل يعذبون فيها‪ ،‬ويدخلون‬
‫في قوله‪ { :‬إِنّ الّذِينَ سَ َب َقتْ َلهُمْ مِنّا ا ْلحُسْنَى } أي‪ :‬سبقت لهم سابقة السعادة في علم ال‪ ،‬وفي‬
‫اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والعمال الصالحة‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ عَ ْنهَا } أي‪ :‬عن النار { مُ ْبعَدُونَ } فل يدخلونها‪ ،‬ول يكونون قريبا منها‪ ،‬بل يبعدون عنها‪،‬‬
‫سهُمْ خَالِدُونَ }‬
‫غاية البعد‪ ،‬حتى ل يسمعوا حسيسها‪ ،‬ول يروا شخصها‪ { ،‬وَهُمْ فِي مَا اشْ َت َهتْ أَ ْنفُ ُ‬
‫من المآكل‪ ،‬والمشارب‪ ،‬والمناكح والمناظر‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على‬
‫قلب بشر‪ ،‬مستمر لهم ذلك‪ ،‬يزداد حسنه على الحقاب‪.‬‬
‫{ لَا يَحْزُ ُنهُمُ ا ْلفَزَعُ الَْأكْبَرُ } أي‪ :‬ل يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع‪ ،‬وذلك يوم القيامة‪ ،‬حين تقرب‬
‫النار‪ ،‬تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك المر وهؤلء ل يحزنهم‪ ،‬لعلمهم بما‬
‫يقدمون عليه وأن ال قد أمنهم مما يخافون‪.‬‬

‫{ وَتَتََلقّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ } إذا بعثوا من قبورهم‪ ،‬وأتوا على النجائب وفدا‪ ،‬لنشورهم‪ ،‬مهنئين لهم قائلين‪:‬‬
‫{ هَذَا َي ْو ُمكُمُ الّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فليهنكم ما وعدكم ال‪ ،‬وليعظم استبشاركم‪ ،‬بما أمامكم من‬
‫الكرامة‪ ،‬وليكثر فرحكم وسروركم‪ ،‬بما أمنكم ال من المخاوف والمكاره‪.‬‬

‫خلْقٍ ُنعِي ُدهُ وَعْدًا عَلَيْنَا‬


‫جلّ لِ ْلكُ ُتبِ َكمَا بَدَأْنَا َأ ّولَ َ‬
‫طيّ السّ ِ‬
‫سمَاءَ كَ َ‬
‫طوِي ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 105 - 104‬يوْمَ َن ْ‬
‫إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ * وََلقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِنْ َبعْدِ ال ّذكْرِ أَنّ الْأَ ْرضَ يَرِ ُثهَا عِبَا ِديَ الصّالِحُونَ }‬

‫يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات ‪ -‬على عظمها واتساعها ‪ -‬كما يطوي الكاتب للسجل‬
‫أي‪ :‬الورقة المكتوب فيها‪ ،‬فتنثر نجومها‪ ،‬ويكور شمسها وقمرها‪ ،‬وتزول عن أماكنها { َكمَا َبدَأْنَا‬
‫َأ ّولَ خَلْقٍ ُنعِي ُدهُ } أي‪ :‬إعادتنا للخلق‪ ،‬مثل ابتدائنا لخلقهم‪ ،‬فكما ابتدأنا خلقهم‪ ،‬ولم يكونوا شيئا‪،‬‬
‫كذلك نعيدهم بعد موتهم‪.‬‬

‫{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا‪ ،‬لكمال قدرته‪ ،‬وأنه ل تمتنع منه الشياء‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ } وهو الكتاب المزبور‪ ،‬والمراد‪ :‬الكتب المنزلة‪ ،‬كالتوراة ونحوها { مِنْ‬
‫َبعْدِ ال ّذكْرِ } أي‪ :‬كتبناه في الكتب المنزلة‪ ،‬بعد ما كتبنا في الكتاب السابق‪ ،‬الذي هو اللوح‬
‫المحفوظ‪ ،‬وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك‪ { :‬أَنّ الْأَ ْرضَ }‬
‫أي‪ :‬أرض الجنة { يَرِ ُثهَا عِبَا ِديَ الصّالِحُونَ } الذين قاموا بالمأمورات‪ ،‬واجتنبوا المنهيات‪ ،‬فهم‬
‫ع َدهُ وََأوْرَثَنَا الْأَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَ ْ‬
‫الذين يورثهم ال الجنات‪ ،‬كقول أهل الجنة‪ { :‬ا ْل َ‬
‫مِنَ الْجَنّةِ حَ ْيثُ َنشَاءُ }‬

‫ويحتمل أن المراد‪ :‬الستخلف في الرض‪ ،‬وأن الصالحين يمكن ال لهم في الرض‪ ،‬ويوليهم‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َكمَا‬
‫عليها كقوله تعالى‪ { :‬وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُمْ وَ َ‬
‫اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } الية‪.‬‬

‫حمَةً لِ ْلعَاَلمِينَ * ُقلْ إِ ّنمَا‬


‫{ ‪ { } 112 - 106‬إِنّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا ِل َقوْمٍ عَابِدِينَ * َومَا أَ ْرسَلْنَاكَ إِلّا َر ْ‬
‫سوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي‬
‫يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ َفهَلْ أَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ * فَإِنْ َتوَّلوْا َفقُلْ آذَنْ ُتكُمْ عَلَى َ‬
‫جهْرَ مِنَ ا ْلقَ ْولِ وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ * وَإِنْ َأدْرِي َلعَلّهُ فِتْ َنةٌ‬
‫َأقَرِيبٌ أَمْ َبعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنّهُ َيعَْلمُ الْ َ‬
‫حمَنُ ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَى مَا َتصِفُونَ }‬
‫ق وَرَبّنَا الرّ ْ‬
‫حّ‬‫ح ُكمْ بِالْ َ‬
‫َلكُ ْم َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ َربّ ا ْ‬
‫يثني ال تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء‪ ،‬وأنه ل يستغنى‬
‫عنه فقال‪ { :‬إِنّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا ِل َقوْمٍ عَابِدِينَ } أي‪ :‬يتبلغون به في الوصول إلى ربهم‪ ،‬وإلى دار‬
‫كرامته‪ ،‬فوصلهم إلى أجل المطالب‪ ،‬وأفضل الرغائب‪ .‬وليس للعابدين‪ ،‬الذين هم أشرف الخلق‪،‬‬
‫وراءه غاية‪ ،‬لنه الكفيل بمعرفة ربهم‪ ،‬بأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وبالخبار بالغيوب الصادقة‪،‬‬
‫وبالدعوة لحقائق اليمان‪ ،‬وشواهد اليقان‪ ،‬المبين للمأمورات كلها‪ ،‬والمنهيات جميعا‪ ،‬المعرف‬
‫بعيوب النفس والعمل‪ ،‬والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله‪ ،‬والتحذير من طرق‬
‫الشيطان‪ ،‬وبيان مداخله على النسان‪ ،‬فمن لم يغنه القرآن‪ ،‬فل أغناه ال‪ ،‬ومن ل يكفيه‪ ،‬فل كفاه‬
‫ال‪.‬‬

‫حمَةً لِ ْلعَاَلمِينَ } فهو رحمته‬


‫ثم أثنى على رسوله‪ ،‬الذي جاء بالقرآن فقال‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا َر ْ‬
‫المهداة لعباده‪ ،‬فالمؤمنون به‪ ،‬قبلوا هذه الرحمة‪ ،‬وشكروها‪ ،‬وقاموا بها‪ ،‬وغيرهم كفرها‪ ،‬وبدلوا‬
‫نعمة ال كفرا‪ ،‬وأبوا رحمة ال ونعمته‪.‬‬

‫{ ُقلْ } يا محمد { إِ ّنمَا يُوحَى ِإَليّ أَ ّنمَا ِإَل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ } الذي ل يستحق العبادة إل هو‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ } أي‪ :‬منقادون لعبوديته مستسلمون للوهيته‪ ،‬فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما‬
‫منّ عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن‪.‬‬

‫{ فَإِنْ َتوَّلوْا } عن النقياد لعبودية ربهم‪ ،‬فحذرهم حلول المثلت‪ ،‬ونزول العقوبة‪.‬‬

‫سوَاءٍ } أي علمي وعلمكم بذلك مستو‪ ،‬فل تقولوا ‪-‬‬


‫{ َف ُقلْ آذَنْ ُت ُكمْ } أي‪ :‬أعلمتكم بالعقوبة { عَلَى َ‬
‫إذا أنزل بكم العذاب‪ { :‬مَا جَاءَنَا مِنْ َبشِي ٍر وَلَا نَذِيرٍ } بل الن‪ ،‬استوى علمي وعلمكم‪ ،‬لما‬
‫أنذرتكم‪ ،‬وحذرتكم‪ ،‬وأعلمتكم بمآل الكفر‪ ،‬ولم أكتم عنكم شيئا‪.‬‬

‫{ وَإِنْ َأدْرِي َأقَرِيبٌ أَمْ َبعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي‪ :‬من العذاب لن علمه عند ال‪ ،‬وهو بيده‪ ،‬ليس لي‬
‫من المر شيء‪.‬‬

‫{ وَإِنْ َأدْرِي َلعَلّهُ فِتْ َنةٌ َلكُ ْم َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي‪ :‬لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم‪،‬‬
‫وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين‪ ،‬ثم يكون أعظم لعقوبتكم‪.‬‬

‫حكُمْ بِا ْلحَقّ } أي‪ :‬بيننا وبين القوم الكافرين‪ ،‬فاستجاب ال هذا الدعاء‪ ،‬وحكم بينهم في‬
‫{ قَالَ َربّ ا ْ‬
‫الدنيا قبل الخرة‪ ،‬بما عاقب ال به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها‪.‬‬

‫صفُونَ } أي‪ :‬نسأل ربنا الرحمن‪ ،‬ونستعين به على ما‬


‫حمَنُ ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَى مَا َت ِ‬
‫{ وَرَبّنَا الرّ ْ‬
‫تصفون‪ ،‬من قولكم سنظهر عليكم‪ ،‬وسيضمحل دينكم‪ ،‬فنحن في هذا‪ ،‬ل نعجب بأنفسنا‪ ،‬ول نتكل‬
‫على حولنا وقوتنا‪ ،‬وإنما نستعين بالرحمن‪ ،‬الذي‬
‫ناصية كل مخلوق بيده‪ ،‬ونرجوه أن يتم ما استعناه به من رحمته‪ ،‬وقد فعل‪ ،‬ول الحمد‪.‬‬

‫تفسير سورة الحج قيل‪:‬‬


‫مكية‪ ،‬وقيل‪ :‬مدنية‬

‫عظِيمٌ *‬
‫شيْءٌ َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُمْ إِنّ زَلْ َزلَةَ السّاعَةِ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْ‬
‫سكَارَى َومَا‬
‫حمَْلهَا وَتَرَى النّاسَ ُ‬
‫ح ْملٍ َ‬
‫ض َعتْ وَ َتضَعُ ُكلّ ذَاتِ َ‬
‫عمّا أَ ْر َ‬
‫ضعَةٍ َ‬
‫َيوْمَ تَ َروْ َنهَا تَذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ‬
‫عذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ }‬
‫سكَارَى وََلكِنّ َ‬
‫هُمْ بِ ُ‬

‫يخاطب ال الناس كافة‪ ،‬بأن يتقوا ربهم‪ ،‬الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬فحقيق بهم أن‬
‫يتقوه‪ ،‬بترك الشرك والفسوق والعصيان‪ ،‬ويمتثلوا أوامره‪ ،‬مهما استطاعوا‪.‬‬

‫ثم ذكر ما يعينهم على التقوى‪ ،‬ويحذرهم من تركها‪ ،‬وهو الخبار بأهوال القيامة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫شيْءٌ عَظِيمٌ } ل يقدر قدره‪ ،‬ول يبلغ كنهه‪ ،‬ذلك بأنها إذا وقعت الساعة‪،‬‬
‫{ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ َ‬
‫رجفت الرض وارتجت‪ ،‬وزلزلت زلزالها‪ ،‬وتصدعت الجبال‪ ،‬واندكت‪ ،‬وكانت كثيبا مهيل‪ ،‬ثم‬
‫كانت هباء منبثا‪ ،‬ثم انقسم الناس ثلثة أزواج‪.‬‬

‫فهناك تنفطر السماء‪ ،‬وتكور الشمس والقمر‪ ،‬وتنتثر النجوم‪ ،‬ويكون من القلقل والبلبل ما‬
‫تنصدع له القلوب‪ ،‬وتجل منه الفئدة‪ ،‬وتشيب منه الولدان‪ ،‬وتذوب له الصم الصلب‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ض َعتْ } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها‪،‬‬
‫عمّا أَ ْر َ‬
‫ضعَةٍ َ‬
‫{ َيوْمَ تَ َروْ َنهَا َتذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ‬
‫خصوصا في هذه الحال‪ ،‬التي ل يعيش إل بها‪.‬‬

‫سكَارَى }‬
‫سكَارَى َومَا هُمْ ِب ُ‬
‫حمَْلهَا } من شدة الفزع والهول‪ { ،‬وَتَرَى النّاسَ ُ‬
‫ح ْملٍ َ‬
‫{ وَ َتضَعُ ُكلّ ذَاتِ َ‬
‫أي‪ :‬تحسبهم ‪-‬أيها الرائي لهم‪ -‬سكارى من الخمر‪ ،‬وليسوا سكارى‪.‬‬

‫عذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ } فلذلك أذهب عقولهم‪ ،‬وفرغ قلوبهم‪ ،‬وملها من الفزع‪ ،‬وبلغت القلوب‬
‫{ وََلكِنّ َ‬
‫الحناجر‪ ،‬وشخصت البصار‪ ،‬وفي ذلك اليوم‪ ،‬ل يجزي والد عن ولده‪ ،‬ول مولود هو جاز عن‬
‫والده شيئا‪.‬‬

‫ويومئذ { َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ* وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ* َوصَاحِبَ ِت ِه وَبَنِيهِ* ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }‬
‫وهناك { يعض الظالم على يديه‪ ،‬يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيل يا ويلتي ليتني لم أتخذ‬
‫فلنا خليل } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه‪ ،‬وتنصب الموازين‪ ،‬التي يوزن بها مثاقيل الذر‪،‬‬
‫من الخير والشر‪ ،‬وتنشر صحائف العمال وما فيها من جميع العمال والقوال والنيات‪ ،‬من‬
‫صغير وكبير‪ ،‬وينصب الصراط على متن جهنم‪ ،‬وتزلف الجنة للمتقين‪ ،‬وبرزت الجحيم للغاوين‪.‬‬
‫{ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا‬
‫هنالك ثبورا } ويقال لهم‪ { :‬لَا تَدْعُوا الْ َيوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وإذا نادوا ربهم‬
‫ليخرجهم منها‪ ،‬قال‪ { :‬اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ } قد غضب عليهم الرب الرحيم‪ ،‬وحضرهم‬
‫العذاب الليم‪ ،‬وأيسوا من كل خير‪ ،‬ووجدوا أعمالهم كلها‪ ،‬لم يفقدوا منها نقيرا ول قطميرا‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬والمتقون في روضات الجنات يحبرون‪ ،‬وفي أنواع اللذات يتفكهون‪ ،‬وفيما اشتهت أنفسهم‬
‫خالدون‪ ،‬فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه‪ ،‬أن يعد له عدته‪ ،‬وأن ل يلهيه المل‪،‬‬
‫فيترك العمل‪ ،‬وأن تكون تقوى ال شعاره‪ ،‬وخوفه دثاره‪ ،‬ومحبة ال‪ ،‬وذكره‪ ،‬روح أعماله‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 4 - 3‬ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَيَتّبِعُ ُكلّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُ ِتبَ عَلَيْهِ أَنّهُ‬
‫سعِيرِ }‬
‫مَنْ َتوَلّاهُ فَأَنّهُ ُيضِلّ ُه وَ َيهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ ال ّ‬

‫أي‪ :‬ومن الناس طائفة وفرقة‪ ،‬سلكوا طريق الضلل‪ ،‬وجعلوا يجادلون بالباطل الحق‪ ،‬يريدون‬
‫إحقاق الباطل وإبطال الحق‪ ،‬والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء‪ ،‬وغاية ما‬
‫عندهم‪ ،‬تقليد أئمة الضلل‪ ،‬من كل شيطان مريد‪ ،‬متمرد على ال وعلى رسله‪ ،‬معاند لهم‪ ،‬قد شاق‬
‫ال ورسوله‪ ،‬وصار من الئمة الذين يدعون إلى النار‪.‬‬

‫{ كُ ِتبَ عَلَيْهِ } أي‪ :‬قدر على هذا الشيطان المريد { أَنّهُ مَنْ َتوَلّاهُ } أي‪ :‬اتبعه { فَأَنّهُ ُيضِلّهُ } عن‬
‫سعِيرِ } وهذا نائب إبليس حقا‪ ،‬فإن ال قال‬
‫الحق‪ ،‬ويجنبه الصراط المستقيم { وَ َيهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ ال ّ‬
‫سعِيرِ } فهذا الذي يجادل في ال‪ ،‬قد جمع بين‬
‫عنه { إِ ّنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫ضلله بنفسه‪ ،‬وتصديه إلى إضلل الناس‪ ،‬وهو متبع‪ ،‬ومقلد لكل شيطان مريد‪ ،‬ظلمات بعضها‬
‫فوق بعض‪ ،‬ويدخل في هذا‪ ،‬جمهور أهل الكفر والبدع‪ ،‬فإن أكثرهم مقلدة‪ ،‬يجادلون بغير علم‪.‬‬

‫طفَةٍ ُثمّ مِنْ‬


‫{ ‪ { } 7 - 5‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ مِنَ الْ َب ْعثِ فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ مِنْ نُ ْ‬
‫سمّى ثُمّ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫ضغَةٍ ُمخَّلقَ ٍة وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ لِنُبَيّنَ َل ُك ْم وَنُقِرّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَ َ‬
‫عََلقَةٍ ثُمّ مِنْ ُم ْ‬
‫ش ّدكُ ْم َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َردّ إِلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِلكَيْلَا َيعَْلمَ مِنْ َبعْدِ‬
‫طفْلًا ُثمّ لِتَبُْلغُوا أَ ُ‬
‫جكُمْ ِ‬
‫نُخْ ِر ُ‬
‫ت وَرَ َبتْ وَأَنْبَ َتتْ مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ‬
‫عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَ ْرضَ هَامِ َدةً فَِإذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّز ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ‬
‫*ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ وَأَنّهُ يُحْيِي ا ْل َموْتَى وَأَنّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫فِيهَا وَأَنّ اللّهَ يَ ْب َعثُ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ }‬
‫يقول تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ مِنَ الْ َب ْعثِ } أي‪ :‬شك واشتباه‪ ،‬وعدم علم بوقوعه‪،‬‬
‫مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم‪ ،‬وتصدقوا رسله في ذلك‪ ،‬ولكن إذا أبيتم إل الريب‪ ،‬فهاكم‬
‫دليلين عقليين تشاهدونهما‪ ،‬كل واحد منهما‪ ،‬يدل دللة قطعية على ما شككتم فيه‪ ،‬ويزيل عن‬
‫قلوبكم الريب‪.‬‬

‫خَلقْنَاكُمْ مِنْ‬
‫أحدهما‪ :‬الستدلل بابتداء خلق النسان‪ ،‬وأن الذي ابتدأه سيعيده‪ ،‬فقال فيه‪ { :‬فَإِنّا َ‬
‫طفَةٍ } أي‪ :‬مني‪ ،‬وهذا ابتداء أول‬
‫تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلم‪ { ،‬ثُمّ مِنْ ُن ْ‬
‫ضغَةٍ } أي‪ :‬ينتقل‬
‫التخليق‪ُ { ،‬ثمّ مِنْ عََلقَةٍ } أي‪ :‬تنقلب تلك النطفة‪ ،‬بإذن ال دما أحمر‪ { ،‬ثُمّ مِنْ ُم ْ‬
‫الدم مضغة‪ ،‬أي‪ :‬قطعة لحم‪ ،‬بقدر ما يمضغ‪ ،‬وتلك المضغة تارة تكون { مُخَّلقَةٍ } أي‪ :‬مصور‬
‫منها خلق الدمي‪ { ،‬وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ } تارة‪ ،‬بأن تقذفها الرحام قبل تخليقها‪ { ،‬لِنُبَيّنَ َلكُمْ } أصل‬
‫نشأتكم‪ ،‬مع قدرته تعالى‪ ،‬على تكميل خلقه في لحظة واحدة‪ ،‬ولكن ليبين لنا كمال حكمته‪ ،‬وعظيم‬
‫قدرته‪ ،‬وسعة رحمته‪.‬‬

‫سمّى } أي ‪ :‬ونقر‪ ،‬أي‪ :‬نبقي في الرحام من الحمل‪ ،‬الذي‬


‫جلٍ مُ َ‬
‫{ وَ ُنقِرّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى َأ َ‬
‫ج ُكمْ } من بطون‬
‫لم تقذفه الرحام‪ ،‬ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى‪ ،‬وهو مدة الحمل‪ { .‬ثُمّ ُنخْرِ ُ‬
‫طفْلًا } ل تعلمون شيئا‪ ،‬وليس لكم قدرة‪ ،‬وسخرنا لكم المهات‪ ،‬وأجرينا لكم في ثديها‬
‫أمهاتكم { ِ‬
‫الرزق‪ ،‬ثم تنتقلون طورا بعد طور‪ ،‬حتى تبلغوا أشدكم‪ ،‬وهو كمال القوة والعقل‪.‬‬

‫{ َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى } من قبل أن يبلغ سن الشد‪ ،‬ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر‪ ،‬أي‪:‬‬
‫أخسه وأرذله‪ ،‬وهو سن الهرم والتخريف‪ ،‬الذي به يزول العقل‪ ،‬ويضمحل‪ ،‬كما زالت باقي القوة‪،‬‬
‫وضعفت‪.‬‬

‫علْمٍ شَيْئًا } أي‪ :‬لجل أن ل يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك‪،‬‬
‫{ ِلكَيْلَا َيعْلَمَ مِنْ َبعْدِ ِ‬
‫وذلك لضعف عقله‪ ،‬فقوة الدمي محفوفة بضعفين‪ ،‬ضعف الطفولية ونقصها‪ ،‬وضعف الهرم‬
‫ج َعلَ مِنْ َبعْدِ‬
‫ض ْعفٍ ُق ّوةً ُثمّ َ‬
‫ج َعلَ مِنْ َبعْ ِد َ‬
‫ضعْفٍ ثُمّ َ‬
‫ن َ‬
‫ونقصه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مِ ْ‬
‫ض ْعفًا وَشَيْبَةً َيخْلُقُ مَا َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ } والدليل الثاني‪ ،‬إحياء الرض بعد موتها‪ ،‬فقال‬
‫ُق ّوةٍ َ‬
‫ال فيه‪ { :‬وَتَرَى الْأَ ْرضَ هَامِ َدةً } أي‪ :‬خاشعة مغبرة ل نبات فيها‪ ،‬ول خضر‪ { ،‬فَِإذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا‬
‫ا ْلمَاءَ اهْتَ ّزتْ } أي‪ :‬تحركت بالنبات { وَرَ َبتْ } أي‪ :‬ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها‪،‬‬
‫{ وَأَنْبَ َتتْ مِنْ ُكلّ َزوْجٍ } أي‪ :‬صنف من أصناف النبات { َبهِيجٍ } أي‪ :‬يبهج الناظرين‪ ،‬ويسر‬
‫المتأملين‪ ،‬فهذان الدليلن القاطعان‪ ،‬يدلن على هذه المطالب الخمسة‪ ،‬وهي هذه‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } الذي أنشأ الدمي من ما وصف لكم‪ ،‬وأحيا الرض بعد موتها‪ { ،‬بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ }‬
‫أي‪ :‬الرب المعبود‪ ،‬الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬وعبادته هي الحق‪ ،‬وعبادة غيره باطلة‪ { ،‬وَأَنّهُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } كما‬
‫يُحْيِي ا ْل َموْتَى } كما ابتدأ الخلق‪ ،‬وكما أحيا الرض بعد موتها‪ { ،‬وَأَنّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫أشهدكم من بديع قدرته وعظيم صنعته ما أشهدكم‪.‬‬

‫{ وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا } فل وجه لستبعادها‪ { ،‬وَأَنّ اللّهَ يَ ْب َعثُ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ } فيجازيكم‬
‫بأعمالكم حسنها وسيئها‪.‬‬

‫طفِهِ‬
‫{ ‪َ { } 9 - 8‬ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَا ِنيَ عِ ْ‬
‫عذَابَ الْحَرِيقِ }‬
‫ي وَنُذِيقُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬
‫لِ ُي ِ‬

‫المجادلة المتقدمة للمقلد‪ ،‬وهذه المجادلة للشيطان المريد‪ ،‬الداعي إلى البدع‪ ،‬فأخبر أنه { ُيجَا ِدلُ فِي‬
‫اللّهِ } أي‪ :‬يجادل رسل ال وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق‪ِ { ،‬بغَيْرِ عِ ْلمٍ } صحيح { وَلَا هُدًى }‬
‫أي‪ :‬غير متبع في جداله هذا من يهديه‪ ،‬ل عقل مرشد‪ ،‬ول متبوع مهتد‪ { ،‬وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي‪:‬‬
‫واضح بين‪ ،‬أي‪ :‬فل له حجة عقلية ول نقلية ‪ ،‬إن هي إل شبهات‪ ،‬يوحيها إليه الشيطان { وَإِنّ‬
‫طفِهِ } أي‪ :‬لوي جانبه وعنقه‪ ،‬وهذا‬
‫ع ْ‬
‫الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَا ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ } ومع هذا { ثَا ِنيَ ِ‬
‫كناية عن كبره عن الحق‪ ،‬واحتقاره للخلق‪ ،‬فقد فرح بما معه من العلم غير النافع‪ ،‬واحتقر أهل‬
‫ضلّ } الناس‪ ،‬أي‪ :‬ليكون من دعاة الضلل‪ ،‬ويدخل تحت هذا‬
‫الحق وما معهم من الحق‪ { ،‬لِ ُي ِ‬
‫جميع أئمة الكفر والضلل‪ ،‬ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والخروية فقال‪ { :‬لَهُ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ } أي‪:‬‬
‫يفتضح هذا في الدنيا قبل الخرة‪ ،‬وهذا من آيات ال العجيبة‪ ،‬فإنك ل تجد داعيا من دعاة الكفر‬
‫والضلل‪ ،‬إل وله من المقت بين العالمين‪ ،‬واللعنة‪ ،‬والبغض‪ ،‬والذم‪ ،‬ما هو حقيق به‪ ،‬وكل بحسب‬
‫حاله‪.‬‬

‫{ وَنُذِيقُهُ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ } أي‪ :‬نذيقه حرها الشديد‪ ،‬وسعيرها البليغ‪ ،‬وذلك بما قدمت‬
‫ظلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }‬
‫يداه‪ { ،‬وَأّن اللّهَ لَيْسَ بِ َ‬

‫طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَ ْتهُ‬


‫{ ‪َ { } 13 - 11‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَا َبهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫خسْرَانُ ا ْلمُبِينُ * َيدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا‬
‫خسِرَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةَ ذَِلكَ ُهوَ الْ ُ‬
‫جهِهِ َ‬
‫فِتْنَةٌ ا ْنقََلبَ عَلَى َو ْ‬
‫ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِنْ َن ْفعِهِ لَبِ ْئسَ ا ْل َموْلَى وَلَبِئْسَ‬
‫َيضُ ّرهُ َومَا لَا يَ ْن َفعُهُ ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ * َيدْعُو َلمَ ْ‬
‫ا ْلعَشِيرُ }‬

‫أي‪ :‬ومن الناس من هو ضعيف اليمان‪ ،‬لم يدخل اليمان قلبه‪ ،‬ولم تخالطه بشاشته‪ ،‬بل دخل فيه‪،‬‬
‫طمَأَنّ بِهِ } أي‪ :‬إن استمر‬
‫إما خوفا‪ ،‬وإما عادة على وجه ل يثبت عند المحن‪ { ،‬فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫رزقه رغدا‪ ،‬ولم يحصل له من المكاره شيء‪ ،‬اطمأن بذلك الخير‪ ،‬ل بإيمانه‪ .‬فهذا‪ ،‬ربما أن ال‬
‫يعافيه‪ ،‬ول يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه‪ { ،‬وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } من حصول مكروه‪،‬‬
‫خسِرَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةَ } أما في الدنيا‪،‬‬
‫جهِهِ } أي‪ :‬ارتد عن دينه‪َ { ،‬‬
‫أو زوال محبوب { ا ْنقََلبَ عَلَى وَ ْ‬
‫فإنه ل يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله‪ ،‬وعوضا عما يظن إدراكه‪ ،‬فخاب‬
‫سعيه‪ ،‬ولم يحصل له إل ما قسم له‪ ،‬وأما الخرة‪ ،‬فظاهر‪ ،‬حرم الجنة التي عرضها السماوات‬
‫والرض‪ ،‬واستحق النار‪ { ،‬ذَِلكَ ُهوَ الْخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ } أي‪ :‬الواضح البين‪.‬‬

‫{ َيدْعُو } هذا الراجع على وجهه { مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُ ّرهُ َومَا لَا يَ ْن َفعُهُ } وهذا صفة كل مدعو‬
‫ومعبود من دون ال‪ ،‬فإنه ل يملك لنفسه ول لغيره نفعا ول ضرا‪ { ،‬ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ }‬
‫الذي قد بلغ في البعد إلى حد النهاية‪ ،‬حيث أعرض عن عبادة النافع الضار‪ ،‬الغني المغني ‪ ،‬وأقبل‬
‫على عبادة مخلوق مثله أو دونه‪ ،‬ليس بيده من المر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده‬
‫ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِنْ َن ْفعِهِ } فإن ضرره في العقل والبدن والدنيا‬
‫أقرب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬يَدْعُو َلمَ ْ‬
‫والخرة معلوم { لَبِ ْئسَ ا ْل َموْلَى } أي‪ :‬هذا المعبود { وَلَبِئْسَ ا ْلعَشِيرُ } أي‪ :‬القرين الملزم على‬
‫صحبته‪ ،‬فإن المقصود من المولى والعشير‪ ،‬حصول النفع‪ ،‬ودفع الضرر‪ ،‬فإذا لم يحصل شيء من‬
‫هذا‪ ،‬فإنه مذموم ملوم‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ إِنّ اللّهَ‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫{ ‪ { } 14‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬
‫َي ْفعَلُ مَا يُرِيدُ }‬

‫لما ذكر تعالى المجادل بالباطل‪ ،‬وأنه على قسمين‪ ،‬مقلد‪ ،‬وداع‪ ،‬ذكر أن المتسمي باليمان أيضا‬
‫على قسمين‪ ،‬قسم لم يدخل اليمان قلبه كما تقدم‪ ،‬والقسم الثاني‪ :‬المؤمن حقيقة‪ ،‬صدق ما معه من‬
‫اليمان بالعمال الصالحة‪ ،‬فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها النهار‪ ،‬وسميت‬
‫الجنة جنة‪ ،‬لشتمالها على المنازل والقصور والشجار والنوابت التي تجن من فيها‪ ،‬ويستتر بها‬
‫من كثرتها‪ { ،‬إِنّ اللّهَ َي ْفعَلُ مَا يُرِيدُ } فما أراده تعالى فعله من غير ممانع ول معارض‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪ ،‬إيصال أهل الجنة إليها‪ ،‬جعلنا ال منهم بمنه وكرمه‪.‬‬

‫طعْ‬
‫سمَاءِ ثُمّ لِ َيقْ َ‬
‫{ ‪ { } 15‬مَنْ كَانَ َيظُنّ أَنْ لَنْ يَ ْنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ فَلْ َيمْ ُددْ بِسَ َببٍ إِلَى ال ّ‬
‫فَلْيَنْظُرْ َهلْ ُيذْهِبَنّ كَ ْي ُدهُ مَا َيغِيظُ }‬

‫أي‪ :‬من كان يظن أن ال ل ينصر رسوله‪ ،‬وأن دينه سيضمحل‪ ،‬فإن النصر من ال ينزل من‬
‫سمَاءِ } وليرقى إليها { ثُمّ لِ َيقْطَعْ } النصر‬
‫السماء { فَلْ َيمْ ُددْ } ذلك الظان { ِبسَ َببٍ } أي‪ :‬حبل { ِإلَى ال ّ‬
‫النازل عليه من السماء‬
‫{ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ ُيذْهِبَنّ كَيْ ُدهُ } أي‪ :‬ما يكيد به الرسول‪ ،‬ويعمله من محاربته‪ ،‬والحرص على إبطال‬
‫دينه‪ ،‬ما يغيظه من ظهور دينه‪ ،‬وهذا استفهام بمعنى النفي [وأنه]‪ ،‬ل يقدر على شفاء غيظه بما‬
‫يعمله من السباب‪.‬‬

‫ومعنى هذه الية الكريمة‪ :‬يا أيها المعادي للرسول محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الساعي في إطفاء‬
‫دينه‪ ،‬الذي يظن بجهله‪ ،‬أن سعيه سيفيده شيئا‪ ،‬اعلم أنك مهما فعلت من السباب‪ ،‬وسعيت في كيد‬
‫الرسول‪ ،‬فإن ذلك ل يذهب غيظك‪ ،‬ول يشفي كمدك‪ ،‬فليس لك قدرة في ذلك‪ ،‬ولكن سنشير عليك‬
‫برأي‪ ،‬تتمكن به من شفاء غيظك‪ ،‬ومن قطع النصر عن الرسول ‪-‬إن كان ممكنا‪ -‬ائت المر مع‬
‫بابه‪ ،‬وارتق إليه بأسبابه‪ ،‬اعمد إلى حبل من ليف أو غيره‪ ،‬ثم علقه في السماء‪ ،‬ثم اصعد به حتى‬
‫تصل إلى البواب التي ينزل منها النصر‪ ،‬فسدها وأغلقها واقطعها‪ ،‬فبهذه الحال تشفي غيظك‪،‬‬
‫فهذا هو الرأي‪ :‬والمكيدة‪ ،‬وأما ما سوى هذه الحال فل يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك‪ ،‬ولو‬
‫ساعدك من ساعدك من الخلق‪ .‬وهذه الية الكريمة‪ ،‬فيها من الوعد والبشارة بنصر ال لدينه‬
‫ولرسوله وعباده المؤمنين ما ل يخفى‪ ،‬ومن تأييس الكافرين‪ ،‬الذين يريدون أن يطفئوا نور ال‬
‫بأفواههم‪ ،‬وال متم نوره‪ ،‬ولو كره الكافرون‪ ،‬أي‪ :‬وسعوا مهما أمكنهم‪.‬‬

‫ت وَأَنّ اللّهَ َي ْهدِي مَنْ يُرِيدُ }‬


‫{ ‪َ { } 16‬وكَذَِلكَ أَنْ َزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬

‫أي‪ :‬وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا‪ ،‬جعلناه آيات بينات واضحات‪ ،‬دالت على جميع‬
‫المطالب والمسائل النافعة‪ ،‬ولكن الهداية بيد ال‪ ،‬فمن أراد ال هدايته‪ ،‬اهتدى بهذا القرآن‪ ،‬وجعله‬
‫إماما له وقدوة‪ ،‬واستضاء بنوره‪ ،‬ومن لم يرد ال هدايته‪ ،‬فلو جاءته كل آية ما آمن‪ ،‬ولم ينفعه‬
‫القرآن شيئا‪ ،‬بل يكون حجة عليه‪.‬‬

‫ن وَال ّنصَارَى وَا ْل َمجُوسَ وَالّذِينَ أَشْ َركُوا‬


‫{ ‪ { } 24 - 17‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئِي َ‬
‫شهِيدٌ * أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي‬
‫شيْءٍ َ‬
‫علَى ُكلّ َ‬
‫صلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫إِنّ اللّهَ َيفْ ِ‬
‫ب َوكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ‬
‫س وَا ْل َقمَ ُر وَالنّجُو ُم وَا ْلجِبَالُ وَالشّجَ ُر وَال ّدوَا ّ‬
‫شمْ ُ‬
‫ض وَال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫صمَانِ‬
‫خ ْ‬
‫َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ َومَنْ ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ ُمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَاءُ * هَذَانِ َ‬
‫صمُوا فِي رَ ّبهِم } إلى قوله‪:‬‬
‫اخْ َت َ‬

‫حمِيدِ } يخبر تعالى عن طوائف أهل الرض‪ ،‬من الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬من‬
‫{ وَ ُهدُوا إِلَى صِرَاطِ ا ْل َ‬
‫المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين‪ ،‬ومن المجوس‪ ،‬ومن المشركين أن ال سيجمعهم جميعهم‬
‫ليوم القيامة‪ ،‬ويفصل بينهم بحكمه العدل‪ ،‬ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها‪ ،‬ولهذا‬
‫صمُوا‬
‫صمَانِ اخْ َت َ‬
‫خ ْ‬
‫شهِيدٌ } ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله‪ { :‬هَذَانِ َ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫فِي رَ ّب ِهمْ } كل يدعي أنه المحق‪.‬‬
‫{ فَالّذِينَ َكفَرُوا } يشمل كل كافر‪ ،‬من اليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬والمجوس‪ ،‬والصابئين‪ ،‬والمشركين‪.‬‬

‫ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي‪ :‬يجعل لهم ثياب من قطران‪ ،‬وتشعل فيها النار‪ ،‬ليعمهم العذاب‬
‫{ ُق ّ‬
‫من جميع جوانبهم‪.‬‬

‫حمِيمُ } الماء الحار جدا‪ ،‬يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم‬


‫سهِمُ ا ْل َ‬
‫صبّ مِنْ َفوْقِ ُرءُو ِ‬
‫{ ُي َ‬
‫حدِيدٍ } بيد الملئكة الغلظ الشداد‪،‬‬
‫والمعاء‪ ،‬من شدة حره‪ ،‬وعظيم أمره‪ { ،‬وََلهُمْ َمقَامِعُ مِنْ َ‬
‫تضربهم فيها وتقمعهم‪ { ،‬كُّلمَا أَرَادُوا أَنْ َيخْرُجُوا مِ ْنهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيهَا } فل يفتر عنهم‬
‫العذاب‪ ،‬ول هم ينظرون‪ ،‬ويقال لهم توبيخا‪ { :‬ذُوقُوا عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ } أي‪ :‬المحرق للقلوب‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } ومعلوم‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫والبدان ‪ { ،‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬
‫أن هذا الوصف ل يصدق على غير المسلمين‪ ،‬الذين آمنوا بجميع الكتب‪ ،‬وجميع الرسل‪ { ،‬يُحَّلوْنَ‬
‫فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ َذ َهبٍ } أي‪ :‬يسورون في أيديهم‪ ،‬رجالهم ونساؤهم أساور الذهب‪.‬‬

‫س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكولت اللذيذات المشتمل عليها‪ ،‬لفظ الجنات‪،‬‬
‫{ وَلِبَا ُ‬
‫وذكر النهار السارحات‪ ،‬أنهار الماء واللبن والعسل والخمر‪ ،‬وأنواع اللباس‪ ،‬والحلي الفاخر‪،‬‬
‫وذلك بسبب أنهم { ُهدُوا إِلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َقوْلِ } الذي أفضله وأطيبه كلمة الخلص‪ ،‬ثم سائر‬
‫حمِيدِ } أي‪:‬‬
‫القوال الطيبة التي فيها ذكر ال‪ ،‬أو إحسان إلى عباد ال‪ { ،‬وَ ُهدُوا إِلَى صِرَاطِ ا ْل َ‬
‫الصراط المحمود‪ ،‬وذلك‪ ،‬لن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد‪ ،‬وحسن المأمور به‪،‬‬
‫وقبح المنهي عنه‪ ،‬وهو الدين الذي ل إفراط فيه ول تفريط‪ ،‬المشتمل على العلم النافع والعمل‬
‫الصالح‪ .‬أو‪ :‬وهدوا إلى صراط ال الحميد‪ ،‬لن ال كثيرا ما يضيف الصراط إليه‪ ،‬لنه يوصل‬
‫صاحبه إلى ال‪ ،‬وفي ذكر { الحميد } هنا‪ ،‬ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم‪ ،‬ولهذا‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي َهدَانَا ِلهَذَا َومَا كُنّا لِ َنهْ َت ِديَ َلوْلَا أَنْ َهدَانَا اللّهُ } واعترض تعالى‬
‫يقولون في الجنة‪ { :‬ا ْل َ‬
‫بين هذه اليات بذكر سجود المخلوقات له‪ ،‬جميع من في السماوات والرض‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪،‬‬
‫والنجوم‪ ،‬والجبال‪ ،‬والشجر‪ ،‬والدواب‪ ،‬الذي يشمل الحيوانات كلها‪ ،‬وكثير من الناس‪ ،‬وهم‬
‫المؤمنون‪َ { ،‬وكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَابُ } أي‪ :‬وجب وكتب‪ ،‬لكفره وعدم إيمانه‪ ،‬فلم يوفقه لليمان‪،‬‬
‫لن ال أهانه‪َ { ،‬ومَنْ ُيهِنِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ ُمكْرِمٍ } ول راد لما أراد‪ ،‬ول معارض لمشيئته‪ ،‬فإذا‬
‫كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها‪ ،‬خاضعة لعظمته‪ ،‬مستكينة لعزته‪ ،‬عانية لسلطانه‪ ،‬دل على أنه‬
‫وحده‪ ،‬الرب المعبود‪ ،‬والملك المحمود‪ ،‬وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه‪ ،‬فقد ضل ضلل بعيدا‪،‬‬
‫وخسر خسرانا مبينا‪.‬‬

‫سوَاءً‬
‫جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ َ‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ الّذِي َ‬
‫{ ‪ { } 25‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَ ْ‬
‫ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَادِي َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُ ْلمٍ نُ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }‬
‫يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم‪ ،‬وأنهم جمعوا بين الكفر بال ورسوله‪،‬‬
‫وبين الصد عن سبيل ال ومنع الناس من اليمان‪ ،‬والصد أيضا عن المسجد الحرام‪ ،‬الذي ليس‬
‫ملكا لهم ول لبائهم‪ ،‬بل الناس فيه سواء‪ ،‬المقيم فيه‪ ،‬والطارئ إليه‪ ،‬بل صدوا عنه أفضل الخلق‬
‫محمدا وأصحابه‪ ،‬والحال أن هذا المسجد الحرام‪ ،‬من حرمته واحترامه وعظمته‪ ،‬أن من يرد فيه‬
‫بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‪.‬‬

‫فمجرد إرادة الظلم واللحاد في الحرم‪ ،‬موجب للعذاب‪ ،‬وإن كان غيره ل يعاقب العبد عليه إل‬
‫بعمل الظلم‪ ،‬فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم‪ ،‬من الكفر والشرك‪ ،‬والصد عن سبيله‪ ،‬ومنع من‬
‫يريده بزيارة‪ ،‬فما ظنكم أن يفعل ال بهم؟"‬

‫وفي هذه الية الكريمة‪ ،‬وجوب احترام الحرم‪ ،‬وشدة تعظيمه‪ ،‬والتحذير من إرادة المعاصي فيه‬
‫وفعلها‪.‬‬

‫طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ‬


‫{ ‪ { } 29 - 26‬وَإِذْ َبوّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَنْ لَا ُتشْ ِركْ بِي شَيْئًا وَ َ‬
‫ن وَال ّركّعِ السّجُودِ * وَأَذّنْ فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ يَأْتُوكَ ِرجَالًا وَعَلَى ُكلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ ُكلّ فَجّ‬
‫وَا ْلقَائِمِي َ‬
‫شهَدُوا مَنَافِعَ َلهُمْ وَيَ ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَ َز َق ُهمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ‬
‫عمِيقٍ * لِ َي ْ‬
‫َ‬
‫ط ّوفُوا بِالْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }‬
‫ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْلفَقِيرَ * ُثمّ لْ َي ْقضُوا َتفَ َثهُ ْم وَلْيُوفُوا ُنذُورَهُ ْم وَلْيَ ّ‬
‫َفكُلُوا مِ ْنهَا وََأ ْ‬

‫يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجللته وعظمة بانيه‪ ،‬وهو خليل الرحمن‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِذْ َبوّأْنَا‬
‫لِإِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ } أي‪ :‬هيأناه له‪ ،‬وأنزلناه إياه‪ ،‬وجعل قسما من ذريته من سكانه‪ ،‬وأمره ال‬
‫ببنيانه‪ ،‬فبناه على تقوى ال‪ ،‬وأسسه على طاعة ال‪ ،‬وبناه هو وابنه إسماعيل‪ ،‬وأمره أن ل يشرك‬
‫به شيئا‪ ،‬بأن يخلص ل أعماله‪ ،‬ويبنيه على اسم ال‪.‬‬

‫طهّرْ بَيْ ِتيَ } أي‪ :‬من الشرك والمعاصي‪ ،‬ومن النجاس والدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه‪،‬‬
‫{ َو َ‬
‫لشرفه‪ ،‬وفضله‪ ،‬ولتعظم محبته في القلوب‪ ،‬وتنصب إليه الفئدة من كل جانب‪ ،‬وليكون أعظم‬
‫لتطهيره وتعظيمه‪ ،‬لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده‪ ،‬المقيمين لعبادة من العبادات من‬
‫ذكر‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وتعلم علم وتعليمه‪ ،‬وغير ذلك من أنواع القرب‪ { ،‬وَال ّركّعِ السّجُودِ } أي‪ :‬المصلين‪،‬‬
‫أي‪ :‬طهره لهؤلء الفضلء‪ ،‬الذين همهم طاعة مولهم وخدمته‪ ،‬والتقرب إليه عند بيته‪ ،‬فهؤلء‬
‫لهم الحق‪ ،‬ولهم الكرام‪ ،‬ومن إكرامهم تطهير البيت لجلهم‪ ،‬ويدخل في تطهيره‪ ،‬تطهيره من‬
‫الصوات اللغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين‪ ،‬بالصلة والطواف‪ ،‬وقدم الطواف على‬
‫العتكاف والصلة‪ ،‬لختصاصه بهذا البيت‪ ،‬ثم العتكاف‪ ،‬لختصاصه بجنس المساجد‪.‬‬
‫{ وََأذّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجّ } أي‪ :‬أعلمهم به‪ ،‬وادعهم إليه‪ ،‬وبلغ دانيهم وقاصيهم‪ ،‬فرضه وفضيلته‪،‬‬
‫فإنك إذا دعوتهم‪ ،‬أتوك حجاجا وعمارا‪ ،‬رجال‪ ،‬أي‪ :‬مشاة على أرجلهم من الشوق‪ { ،‬وَعَلَى ُكلّ‬
‫ضَامِرٍ } أي‪ :‬ناقة ضامر‪ ،‬تقطع المهامه والمفاوز‪ ،‬وتواصل السير‪ ،‬حتى تأتي إلى أشرف‬
‫عمِيقٍ } أي‪ :‬من كل بلد بعيد‪ ،‬وقد فعل الخليل عليه السلم‪ ،‬ثم من بعده ابنه‬
‫الماكن‪ { ،‬مِنْ ُكلّ فَجّ َ‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدعيا الناس إلى حج هذا البيت‪ ،‬وأبديا في ذلك وأعادا‪ ،‬وقد حصل ما‬
‫وعد ال به‪ ،‬أتاه الناس رجال وركبانا من مشارق الرض ومغاربها‪ ،‬ثم ذكر فوائد زيارة بيت ال‬
‫ش َهدُوا مَنَافِعَ َلهُمْ } أي‪ :‬لينالوا ببيت ال منافع دينية‪ ،‬من العبادات‬
‫الحرام‪ ،‬مرغبا فيه فقال‪ { :‬لِيَ ْ‬
‫الفاضلة‪ ،‬والعبادات التي ل تكون إل فيه‪ ،‬ومنافع دنيوية‪ ،‬من التكسب‪ ،‬وحصول الرباح الدنيوية‪،‬‬
‫وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه‪ { ،‬وَيَ ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ‬
‫الْأَ ْنعَامِ } وهذا من المنافع الدينية والدنيوية‪ ،‬أي‪ :‬ليذكروا اسم ال عند ذبح الهدايا‪ ،‬شكرا ل على ما‬
‫ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْل َفقِيرَ } أي‪ :‬شديد الفقر ‪،‬‬
‫رزقهم منها‪ ،‬ويسرها لهم‪ ،‬فإذا ذبحتموها { َفكُلُوا مِ ْنهَا وَأَ ْ‬
‫{ ُثمّ لْ َي ْقضُوا َتفَ َثهُمْ } أي‪ :‬يقضوا نسكهم‪ ،‬ويزيلوا الوسخ والذى‪ ،‬الذي لحقهم في حال الحرام‪،‬‬
‫ط ّوفُوا بِالْبَ ْيتِ‬
‫{ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } التي أوجبوها على أنفسهم‪ ،‬من الحج‪ ،‬والعمرة والهدايا‪ { ،‬وَلْيَ ّ‬
‫ا ْلعَتِيقِ } أي‪ :‬القديم‪ ،‬أفضل المساجد على الطلق‪ ،‬المعتق‪ :‬من تسلط الجبابرة عليه‪ .‬وهذا أمر‬
‫بالطواف‪ ،‬خصوصا بعد المر بالمناسك عموما‪ ،‬لفضله‪ ،‬وشرفه‪ ،‬ولكونه المقصود‪ ،‬وما قبله‬
‫وسائل إليه‪.‬‬

‫ولعله ‪-‬وال أعلم أيضا‪ -‬لفائدة أخرى‪ ،‬وهو‪ :‬أن الطواف مشروع كل وقت‪ ،‬وسواء كان تابعا‬
‫لنسك‪ ،‬أم مستقل بنفسه‪.‬‬

‫ك َومَنْ ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َف ُهوَ خَيْرٌ َلهُ عِنْدَ رَبّ ِه وَأُحِّلتْ َلكُمُ الْأَ ْنعَامُ إِلّا مَا يُتْلَى‬
‫{ ‪ { } 31 - 30‬ذَِل َ‬
‫عَلَ ْيكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الَْأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا َقوْلَ الزّورِ *حُ َنفَاءَ لِلّهِ غَيْرَ ُمشْ ِركِينَ بِ ِه َومَنْ يُشْ ِركْ‬
‫سحِيقٍ }‬
‫طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ الرّيحُ فِي َمكَانٍ َ‬
‫خَ‬‫سمَاءِ فَتَ ْ‬
‫بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ‬

‫{ ذَِلكَ } الذي ذكرنا لكم من تلكم الحكام‪ ،‬وما فيها من تعظيم حرمات ال وإجللها وتكريمها‪ ،‬لن‬
‫تعظيم حرمات ال‪ ،‬من المور المحبوبة ل‪ ،‬المقربة إليه‪ ،‬التي من عظمها وأجلها‪ ،‬أثابه ال ثوابا‬
‫جزيل‪ ،‬وكانت خيرا له في دينه‪ ،‬ودنياه وأخراه عند ربه‪.‬‬

‫وحرمات ال‪ :‬كل ماله حرمة‪ ،‬وأمر باحترامه‪ ،‬بعبادة أو غيرها‪ ،‬كالمناسك كلها‪ ،‬وكالحرم‬
‫والحرام‪ ،‬وكالهدايا‪ ،‬وكالعبادات التي أمر ال العباد بالقيام بها‪ ،‬فتعظيمها إجللها بالقلب‪،‬‬
‫ومحبتها‪ ،‬وتكميل العبودية فيها‪ ،‬غير متهاون‪ ،‬ول متكاسل‪ ،‬ول متثاقل‪ ،‬ثم ذكر منته وإحسانه بما‬
‫أحله لعباده‪ ،‬من بهيمة النعام‪ ،‬من إبل وبقر وغنم‪ ،‬وشرعها من جملة المناسك‪ ،‬التي يتقرب بها‬
‫إليه‪ ،‬فعظمت منته فيها من الوجهين‪ِ { ،‬إلّا مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } في القرآن تحريمه من قوله‪ { :‬حُ ّر َمتْ‬
‫عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َت ُة وَالدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } الية‪ ،‬ولكن الذي من رحمته بعباده‪ ،‬أن حرمه عليهم‪ ،‬ومنعهم‬
‫جسَ } أي‪ :‬الخبث‬
‫منه‪ ،‬تزكية لهم‪ ،‬وتطهيرا من الشرك به وقول الزور‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاجْتَنِبُوا الرّ ْ‬
‫القذر { مِنَ الَْأوْثَانِ } أي‪ :‬النداد‪ ،‬التي جعلتموها آلهة مع ال‪ ،‬فإنها أكبر أنواع الرجس‪ ،‬والظاهر‬
‫أن { من } هنا ليست لبيان الجنس‪ ،‬كما قاله كثير من المفسرين‪ ،‬وإنما هي للتبعيض‪ ،‬وأن الرجس‬
‫عام في جميع المنهيات المحرمات‪ ،‬فيكون منهيا عنها عموما‪ ،‬وعن الوثان التي هي بعضها‬
‫خصوصا‪ { ،‬وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ } أي‪ :‬جميع القوال المحرمات‪ ،‬فإنها من قول الزور الذي هو‬
‫الكذب‪ ،‬ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاهم عن الشرك والرجس وقول الزور‪.‬‬

‫أمرهم أن يكونوا { حُ َنفَاءَ ِللّهِ } أي‪ :‬مقبلين عليه وعلى عبادته‪ ،‬معرضين عما سواه‪.‬‬

‫طفُهُ‬
‫سمَاءِ } أي‪ :‬سقط منها { فَ َتخْ َ‬
‫{ غَيْرَ مُشْ ِركِينَ بِ ِه َومَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ } فمثله { َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ‬
‫الطّيْرُ } بسرعة { َأوْ َت ْهوِي ِبهِ الرّيحُ فِي َمكَانٍ سَحِيقٍ } أي‪ :‬بعيد‪ ،‬كذلك المشرك‪ ،‬فاليمان بمنزلة‬
‫السماء‪ ،‬محفوظة مرفوعة‪.‬‬

‫ومن ترك اليمان‪ ،‬بمنزلة الساقط من السماء‪ ،‬عرضة للفات والبليات‪ ،‬فإما أن تخطفه الطير‬
‫فتقطعه أعضاء‪ ،‬كذلك المشرك إذا ترك العتصام باليمان تخطفته الشياطين من كل جانب‪،‬‬
‫ومزقوه‪ ،‬وأذهبوا عليه دينه ودنياه‪.‬‬

‫جلٍ‬
‫شعَائِرَ اللّهِ فَإِ ّنهَا مِنْ َت ْقوَى ا ْلقُلُوبِ * َلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى َأ َ‬
‫ك َومَنْ ُيعَظّمْ َ‬
‫{ ‪ { } 33 - 32‬ذَِل َ‬
‫سمّى ُثمّ مَحِّلهَا إِلَى الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }‬
‫مُ َ‬

‫أي‪ :‬ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره‪ ،‬والمراد بالشعائر‪ :‬أعلم الدين الظاهرة‪،‬‬
‫شعَائِرِ اللّهِ } ومنها الهدايا والقربان‬
‫صفَا وَا ْلمَ ْروَةَ مِنْ َ‬
‫ومنها المناسك كلها‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إِنّ ال ّ‬
‫للبيت‪ ،‬وتقدم أن معنى تعظيمها‪ ،‬إجللها‪ ،‬والقيام بها‪ ،‬وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد‪،‬‬
‫ومنها الهدايا‪ ،‬فتعظيمها‪ ،‬باستحسانها واستسمانها‪ ،‬وأن تكون مكملة من كل وجه‪ ،‬فتعظيم شعائر‬
‫ال صادر من تقوى القلوب‪ ،‬فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه‪ ،‬لن تعظيمها‪ ،‬تابع‬
‫لتعظيم ال وإجلله‪.‬‬

‫سمّى } هذا في الهدايا المسوقة‪ ،‬من البدن‬


‫جلٍ ُم َ‬
‫{ َل ُكمْ فِيهَا } أي‪[ :‬في] الهدايا { مَنَافِعُ إِلَى َأ َ‬
‫سمّى }‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫ونحوها‪ ،‬ينتفع بها أربابها‪ ،‬بالركوب‪ ،‬والحلب ونحو ذلك‪ ،‬مما ل يضرها { إِلَى أَ َ‬
‫مقدر‪ ،‬موقت وهو ذبحها إذا وصلت مَحِّلهَا وهو الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ‪ ،‬أي‪ :‬الحرم كله " منى " وغيرها‪،‬‬
‫فإذا ذبحت‪ ،‬أكلوا منها وأهدوا‪ ،‬وأطعموا البائس الفقير‪.‬‬
‫علَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ فَإَِل ُهكُمْ‬
‫سمَ اللّهِ َ‬
‫سكًا لِيَ ْذكُرُوا ا ْ‬
‫جعَلْنَا مَنْ َ‬
‫{ ‪ { } 35 - 34‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫إِلَ ٌه وَاحِدٌ فََلهُ أَسِْلمُوا وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ * الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّهُ وَجَِلتْ قُلُو ُبهُ ْم وَالصّابِرِينَ عَلَى مَا‬
‫َأصَا َبهُ ْم وَا ْل ُمقِيمِي الصّلَا ِة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ }‬

‫أي‪ :‬ولكل أمة من المم السالفة جعلنا منسكا‪ ،‬أي‪ :‬فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها‪ ،‬ولننظر‬
‫أيكم أحسن عمل‪ ،‬والحكمة في جعل ال لكل أمة منسكا‪ ،‬لقامة ذكره‪ ،‬واللتفات لشكره‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬لِيَ ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ فَإَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ } وإن اختلفت أجناس‬
‫الشرائع‪ ،‬فكلها متفقة على هذا الصل‪ ،‬وهو ألوهية ال‪ ،‬وإفراده بالعبودية‪ ،‬وترك الشرك به ولهذا‬
‫قال‪ { :‬فَلَهُ َأسِْلمُوا } أي‪ :‬انقادوا واستسلموا له ل لغيره‪ ،‬فإن السلم له طريق إلى الوصول إلى‬
‫دار السلم‪ { .‬وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ } بخير الدنيا والخرة‪ ،‬والمخبت‪ :‬الخاضع لربه‪ ،‬المستسلم لمره‪،‬‬
‫المتواضع لعباده ‪ ،‬ثم ذكر صفات المخبتين فقال‪ { :‬الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ } أي‪ :‬خوفا‬
‫وتعظيما‪ ،‬فتركوا لذلك المحرمات‪ ،‬لخوفهم ووجلهم من ال وحده‪ { ،‬وَالصّابِرِينَ عَلَى مَا َأصَا َبهُمْ }‬
‫من البأساء والضراء‪ ،‬وأنواع الذى‪ ،‬فل يجري منهم التسخط لشيء من ذلك‪ ،‬بل صبروا ابتغاء‬
‫وجه ربهم‪ ،‬محتسبين ثوابه‪ ،‬مرتقبين أجره‪ { ،‬وَا ْل ُمقِيمِي الصّلَاةِ } أي‪ :‬الذين جعلوها قائمة مستقيمة‬
‫كاملة‪ ،‬بأن أدوا اللزم فيها والمستحب‪ ،‬وعبوديتها الظاهرة والباطنة‪َ { ،‬و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ }‬
‫وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة‪ ،‬كالزكاة‪ ،‬والكفارة‪ ،‬والنفقة على الزوجات والمماليك‪،‬‬
‫والقارب‪ ،‬والنفقات المستحبة‪ ،‬كالصدقات بجميع وجوهها‪ ،‬وأتي بب { من } المفيدة للتبعيض‪،‬‬
‫ليعلم سهولة ما أمر ال به ورغب فيه‪ ،‬وأنه جزء يسير مما رزق ال‪ ،‬ليس للعبد في تحصيله‬
‫قدرة‪ ،‬لول تيسير ال له ورزقه إياه‪ .‬فيا أيها المرزوق من فضل ال‪ ،‬أنفق مما رزقك ال‪ ،‬ينفق‬
‫ال عليك‪ ،‬ويزدك من فضله‪.‬‬

‫صوَافّ‬
‫سمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا َ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َلكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَا ْذكُرُوا ا ْ‬
‫جعَلْنَاهَا َلكُمْ مِنْ َ‬
‫{ ‪ { } 37 - 36‬وَالْبُدْنَ َ‬
‫شكُرُونَ * لَنْ‬
‫سخّرْنَاهَا َل ُكمْ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫ط ِعمُوا ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ كَذَِلكَ َ‬
‫فَإِذَا وَجَ َبتْ جُنُو ُبهَا َفكُلُوا مِ ْنهَا وَأَ ْ‬
‫سخّرَهَا َلكُمْ لِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا َهدَاكُمْ‬
‫يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَلَا ِدمَاؤُهَا وََلكِنْ يَنَاُلهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ كَذَِلكَ َ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫وَبَشّرِ ا ْلمُ ْ‬

‫هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلم الدين الظاهرة‪ .‬وتقدم أن ال أخبر أن من عظم‬
‫شعائره‪ ،‬فإن ذلك من تقوى القلوب‪ ،‬وهنا أخبر أن من جملة شعائره‪ ،‬البدن‪ ،‬أي‪ :‬البل‪ ،‬والبقر‪،‬‬
‫على أحد القولين‪ ،‬فتعظم وتستسمن‪ ،‬وتستحسن‪َ { ،‬لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي‪ :‬المهدي وغيره‪ ،‬من الكل‪،‬‬
‫والصدقة‪ ،‬والنتفاع‪ ،‬والثواب‪ ،‬والجر‪ { ،‬فَا ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا } أي‪ :‬عند ذبحها قولوا " بسم ال‬
‫صوَافّ } أي‪ :‬قائمات‪ ،‬بأن تقام على قوائمها الربع‪ ،‬ثم تعقل يدها اليسرى‪ ،‬ثم‬
‫"س واذبحوها‪َ { ،‬‬
‫تنحر‪.‬‬
‫{ فَِإذَا وَجَ َبتْ جُنُو ُبهَا } أي‪ :‬سقطت في الرض جنوبها‪ ،‬حين تسلخ‪ ،‬ثم يسقط الجزار جنوبها على‬
‫الرض‪ ،‬فحينئذ قد استعدت لن يؤكل منها‪َ { ،‬فكُلُوا مِ ْنهَا } وهذا خطاب للمهدي‪ ،‬فيجوز له الكل‬
‫ط ِعمُوا ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ } أي‪ :‬الفقير الذي ل يسأل‪ ،‬تقنعا‪ ،‬وتعففا‪ ،‬والفقير الذي يسأل‪،‬‬
‫من هديه‪ { ،‬وََأ ْ‬
‫فكل منهما له حق فيهما‪.‬‬

‫شكُرُونَ } ال على تسخيرها‪ ،‬فإنه لول تسخيره لها‪ ،‬لم‬


‫سخّرْنَاهَا َلكُمْ } أي‪ :‬البدن { َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫{ َكذَِلكَ َ‬
‫يكن لكم بها طاقة‪ ،‬ولكنه ذللها لكم وسخرها‪ ،‬رحمة بكم وإحسانا إليكم‪ ،‬فاحمدوه‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬لَنْ يَنَالَ اللّهَ لُحُو ُمهَا وَلَا ِدمَاؤُهَا } أي‪ :‬ليس المقصود منها ذبحها فقط‪ .‬ول ينال ال من‬
‫لحومها ول دمائها شيء‪ ،‬لكونه الغني الحميد‪ ،‬وإنما يناله الخلص فيها‪ ،‬والحتساب‪ ،‬والنية‬
‫الصالحة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنْ يَنَالُهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ } ففي هذا حث وترغيب على الخلص في‬
‫النحر‪ ،‬وأن يكون القصد وجه ال وحده‪ ،‬ل فخرا ول رياء‪ ،‬ول سمعة‪ ،‬ول مجرد عادة‪ ،‬وهكذا‬
‫سائر العبادات‪ ،‬إن لم يقترن بها الخلص وتقوى ال‪ ،‬كانت كالقشور الذي ل لب فيه‪ ،‬والجسد‬
‫الذي ل روح فيه‪.‬‬

‫سخّرَهَا َلكُمْ لِ ُتكَبّرُوا اللّهَ } أي‪ :‬تعظموه وتجلوه‪ { ،‬عَلَى مَا َهدَاكُمْ } أي‪ :‬مقابلة لهدايته‬
‫{ َكذَِلكَ َ‬
‫إياكم‪ ،‬فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد‪ ،‬وأعلى التعظيم‪ { ،‬وَبَشّرِ ا ْلمُحْسِنِينَ } بعبادة ال بأن‬
‫يعبدوا ال‪ ،‬كأنهم يرونه‪ ،‬فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه‪ ،‬معتقدين وقت عبادتهم اطلعه‬
‫عليهم‪ ،‬ورؤيته إياهم‪ ،‬والمحسنين لعباد ال‪ ،‬بجميع وجوه الحسان من نفع مال‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو جاه‪،‬‬
‫أو نصح‪ ،‬أو أمر بمعروف‪ ،‬أو نهي عن منكر‪ ،‬أو كلمة طيبة ونحو ذلك‪ ،‬فالمحسنون لهم البشارة‬
‫من ال‪ ،‬بسعادة الدنيا والخرة وسيحسن ال إليهم‪ ،‬كما أحسنوا في عبادته ولعباده { َهلْ جَزَاءُ‬
‫حسَانِ إِلّا الِْإحْسَانُ } { ِللّذِينَ َأحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ }‬
‫الْإِ ْ‬

‫خوّانٍ َكفُورٍ }‬
‫حبّ ُكلّ َ‬
‫{ ‪ { } 38‬إِنّ اللّهَ ُيدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫هذا إخبار ووعد وبشارة من ال‪ ،‬للذين آمنوا‪ ،‬أن ال يدافع عنهم كل مكروه‪ ،‬ويدفع عنهم كل شر‬
‫‪-‬بسبب إيمانهم‪ -‬من شر الكفار‪ ،‬وشر وسوسة الشيطان‪ ،‬وشرور أنفسهم‪ ،‬وسيئات أعمالهم‪،‬‬
‫ويحمل عنهم عند نزول المكاره‪ ،‬ما ل يتحملون‪ ،‬فيخفف عنهم غاية التخفيف‪ .‬كل مؤمن له من‬
‫هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪.‬‬

‫خوّانٍ } أي‪ :‬خائن في أمانته التي حمله ال إياها‪ ،‬فيبخس حقوق ال عليه‪،‬‬
‫حبّ ُكلّ َ‬
‫{ إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬
‫ويخونها‪ ،‬ويخون الخلق‪.‬‬
‫{ َكفُورٌ } لنعم ال‪ ،‬يوالي عليه الحسان‪ ،‬ويتوالى منه الكفر والعصيان‪ ،‬فهذا ل يحبه ال‪ ،‬بل‬
‫يبغضه ويمقته‪ ،‬وسيجازيه على كفره وخيانته‪ ،‬ومفهوم الية‪ ،‬أن ال يحب كل أمين قائم بأمانته‪،‬‬
‫شكور لموله‪.‬‬

‫{ ‪ { } 41 - 39‬أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ظُِلمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ * الّذِينَ أُخْ ِرجُوا‬
‫صوَامِعُ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َل ُه ّد َمتْ َ‬
‫حقّ إِلّا أَنْ َيقُولُوا رَبّنَا اللّ ُه وََلوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫مِنْ دِيَارِ ِهمْ ِبغَيْرِ َ‬
‫جدُ يُ ْذكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ *‬
‫ت َومَسَا ِ‬
‫وَبِيَ ٌع َوصَلَوَا ٌ‬
‫الّذِينَ إِنْ َمكّنّاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َأقَامُوا الصّلَا َة وَآ َتوُا ال ّزكَا َة وََأمَرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ وَ َنهَوْا عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَلِلّهِ‬
‫عَاقِبَةُ الُْأمُورِ }‬

‫كان المسلمون في أول السلم ممنوعين من قتال الكفار‪ ،‬ومأمورين بالصبر عليهم‪ ،‬لحكمة إلهية‪،‬‬
‫فلما هاجروا إلى المدينة‪ ،‬وأوذوا‪ ،‬وحصل لهم منعة وقوة‪ ،‬أذن لهم بالقتال‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬أُذِنَ لِلّذِينَ‬
‫ُيقَاتَلُونَ } يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين‪ ،‬فأذن ال لهم بقتال الذين يقاتلون‪ ،‬وإنما أذن لهم‪،‬‬
‫لنهم ظلموا‪ ،‬بمنعهم من دينهم‪ ،‬وأذيتهم عليه‪ ،‬وإخراجهم من ديارهم‪.‬‬

‫{ وَإِنّ اللّهَ عَلَى َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ } فليستنصروه‪ ،‬وليستعينوا به‪ ،‬ثم ذكر صفة ظلمهم فقال‪ { :‬الّذِينَ‬
‫حقّ إِلّا } أن ذنبهم الذي نقم‬
‫أُخْ ِرجُوا مِنْ دِيَارِ ِهمْ } أي‪ :‬ألجئوا إلى الخروج بالذية والفتنة { ِبغَيْرِ َ‬
‫منهم أعداؤهم { أَنْ َيقُولُوا رَبّنَا اللّهُ } أي‪ :‬إل أنهم وحدوا ال‪ ،‬وعبدوه مخلصين له الدين‪ ،‬فإن كان‬
‫حمِيدِ } وهذا يدل‬
‫هذا ذنبا‪ ،‬فهو ذنبهم كقوله تعالى‪َ { :‬ومَا َن َقمُوا مِ ْنهُمْ إِلّا أَنْ ُي ْؤمِنُوا بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬
‫على حكمة الجهاد‪ ،‬وأن المقصود منه إقامة دين ال‪ ،‬وذب الكفار المؤذين للمؤمنين‪ ،‬البادئين لهم‬
‫بالعتداء‪ ،‬عن ظلمهم واعتدائهم‪ ،‬والتمكن من عبادة ال‪ ،‬وإقامة الشرائع الظاهرة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ } فيدفع ال بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين‪َ { ،‬ل ُه ّد َمتْ‬
‫{ وََلوْلَا َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫صوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ } أي‪ :‬لهدمت هذه المعابد الكبار‪ ،‬لطوائف أهل الكتاب‪ ،‬معابد‬
‫َ‬
‫سمُ اللّهِ كَثِيرًا } تقام‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬والمساجد للمسلمين‪ُ { ،‬ي ْذكَرَ فِيهَا } أي‪ :‬في هذه المعابد { ا ْ‬
‫فيها الصلوات‪ ،‬وتتلى فيها كتب ال‪ ،‬ويذكر فيها اسم ال بأنواع الذكر‪ ،‬فلول دفع ال الناس بعضهم‬
‫ببعض‪ ،‬لستولى الكفار على المسلمين‪ ،‬فخربوا معابدهم‪ ،‬وفتنوهم عن دينهم‪ ،‬فدل هذا‪ ،‬أن الجهاد‬
‫مشروع‪ ،‬لجل دفع الصائل والمؤذي‪ ،‬ومقصود لغيره‪ ،‬ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها‬
‫الطمأنينة بعبادة ال‪ ،‬وعمرت مساجدها‪ ،‬وأقيمت فيها شعائر الدين كلها‪ ،‬من فضائل المجاهدين‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ‬
‫وببركتهم‪ ،‬دفع ال عنها الكافرين‪ ،‬قال ال تعالى‪ { :‬وََلوْلَا َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫ض وََلكِنّ اللّهَ ذُو َفضْلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫الْأَ ْر ُ‬
‫فإن قلت‪ :‬نرى الن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب‪ ،‬مع أنها كثير منها إمارة صغيرة‪ ،‬وحكومة‬
‫غير منظمة‪ ،‬مع أنهم ل يدان لهم بقتال من جاورهم من الفرنج‪ ،‬بل نرى المساجد التي تحت‬
‫وليتهم وسيطرتهم عامرة‪ ،‬وأهلها آمنون مطمئنون‪ ،‬مع قدرة ولتهم من الكفار على هدمها‪ ،‬وال‬
‫أخبر أنه لول دفع ال الناس بعضهم ببعض‪ ،‬لهدمت هذه المعابد‪ ،‬ونحن ل نشاهد دفعا‪.‬‬

‫أجيب بأن هذا السؤال والستشكال‪ ،‬داخل في عموم هذه الية وفرد من أفرادها‪ ،‬فإن من عرف‬
‫أحوال الدول الن ونظامها‪ ،‬وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت وليتها‪ ،‬وداخل في حكمها‪ ،‬تعتبره‬
‫عضوا من أعضاء المملكة‪ ،‬وجزء من أجزاء الحكومة‪ ،‬سواء كانت تلك المة مقتدرة بعددها أو‬
‫عددها‪ ،‬أو مالها‪ ،‬أو عملها‪ ،‬أو خدمتها‪ ،‬فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب‪ ،‬الدينية والدنيوية‪،‬‬
‫وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها‪ ،‬وتفقد بعض أركانها‪ ،‬فيقوم من أمر الدين بهذا السبب‬
‫ما يقوم‪ ،‬خصوصا المساجد‪ ،‬فإنها ‪-‬ول الحمد‪ -‬في غاية النتظام‪ ،‬حتى في عواصم الدول الكبار‪.‬‬

‫وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة‪ ،‬نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين‪ ،‬مع وجود التحاسد‬
‫والتباغض بين دول النصارى‪ ،‬الذي أخبر ال أنه ل يزال إلى يوم القيامة‪ ،‬فتبقى الحكومة‬
‫المسلمة‪ ،‬التي ل تقدر تدافع عن نفسها‪ ،‬سالمة من [كثير] ضررهم‪ ،‬لقيام الحسد عندهم‪ ،‬فل يقدر‬
‫أحدهم أن يمد يده عليها‪ ،‬خوفا من احتمائها بالخر‪ ،‬مع أن ال تعالى ل بد أن يري عباده من‬
‫نصر السلم والمسلمين‪ ،‬ما قد وعد به في كتابه‪.‬‬

‫وقد ظهرت ‪-‬ول الحمد‪ -‬أسبابه [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ‬
‫العمل] فنحمده ونسأله أن يتم نعمته‪ ،‬ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع‪ { :‬وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ‬
‫مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ } أي‪ :‬يقوم بنصر دينه‪ ،‬مخلصا له في ذلك‪ ،‬يقاتل في سبيله‪ ،‬لتكون كلمة ال هي‬
‫العليا‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ } أي‪ :‬كامل القوة‪ ،‬عزيز ل يرام‪ ،‬قد قهر الخلئق‪ ،‬وأخذ بنواصيهم‪،‬‬
‫فأبشروا‪ ،‬يا معشر المسلمين‪ ،‬فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم‪ ،‬وقوي عدد عدوكم وعدتهم فإن‬
‫ركنكم القوي العزيز‪ ،‬ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون‪ ،‬فاعملوا بالسباب المأمور بها‪،‬‬
‫ثم اطلبوا منه نصركم‪ ،‬فل بد أن ينصركم‪.‬‬

‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ } وقوموا‪ ،‬أيها المسلمون‪ ،‬بحق‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي‬
‫اليمان والعمل الصالح‪ ،‬فقد { وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُمْ وَ َ‬
‫خ ْو ِفهِمْ‬
‫الْأَ ْرضِ َكمَا اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ وَلَ ُيمَكّنَنّ َلهُمْ دِي َنهُمُ الّذِي ارْ َتضَى َلهُ ْم وَلَيُبَدّلَ ّن ُهمْ مِنْ َبعْدِ َ‬
‫َأمْنًا َيعْبُدُونَنِي لَا يُشْ ِركُونَ بِي شَيْئًا }‬
‫ثم ذكر علمة من ينصره‪ ،‬وبها يعرف‪ ،‬أن من ادعى أنه ينصر ال وينصر دينه‪ ،‬ولم يتصف‬
‫بهذا الوصف‪ ،‬فهو كاذب فقال‪ { :‬الّذِينَ إِنْ َمكّنّاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬ملكناهم إياها‪ ،‬وجعلناهم‬
‫المتسلطين عليها‪ ،‬من غير منازع ينازعهم‪ ،‬ول معارض‪َ { ،‬أقَامُوا الصّلَاةَ } في أوقاتها‪،‬‬
‫وحدودها‪ ،‬وأركانها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬في الجمعة والجماعات‪.‬‬

‫{ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } التي عليهم خصوصا‪ ،‬وعلى رعيتهم عموما‪ ،‬آتوها أهلها‪ ،‬الذين هم أهلها‪،‬‬
‫{ وََأمَرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقل‪ ،‬من حقوق ال‪ ،‬وحقوق‬
‫الدميين‪ { ،‬وَ َن َهوْا عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ } كل منكر شرعا وعقل‪ ،‬معروف قبحه‪ ،‬والمر بالشيء والنهي‬
‫عنه يدخل فيه ما ل يتم إل به‪ ،‬فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم‪ ،‬أجبروا الناس‬
‫على التعلم والتعليم‪ ،‬وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا‪ ،‬أو غير مقدر‪ ،‬كأنواع التعزير‪،‬‬
‫قاموا بذلك‪ ،‬وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له‪ ،‬لزم ذلك‪ ،‬ونحو ذلك مما ل يتم المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر إل به‪.‬‬

‫{ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الُْأمُورِ } أي‪ :‬جميع المور‪ ،‬ترجع إلى ال‪ ،‬وقد أخبر أن العاقبة للتقوى‪ ،‬فمن سلطه‬
‫ال على العباد من الملوك‪ ،‬وقام بأمر ال‪ ،‬كانت له العاقبة الحميدة‪ ،‬والحالة الرشيدة‪ ،‬ومن تسلط‬
‫عليهم بالجبروت‪ ،‬وأقام فيهم هوى نفسه‪ ،‬فإنه وإن حصل له ملك موقت‪ ،‬فإن عاقبته غير حميدة‪،‬‬
‫فوليته مشئومة‪ ،‬وعاقبته مذمومة‪.‬‬

‫ح وَعَا ٌد وَ َثمُودُ * َو َقوْمُ إِبْرَاهِي َم َو َقوْمُ لُوطٍ‬


‫{ ‪ { } 46 - 42‬وَإِنْ ُيكَذّبُوكَ َفقَدْ كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُو ٍ‬
‫خذْ ُتهُمْ َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ * َفكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ‬
‫ن َوكُ ّذبَ مُوسَى فََأمْلَ ْيتُ لِ ْلكَافِرِينَ ُثمّ أَ َ‬
‫* وََأصْحَابُ مَدْيَ َ‬
‫شهَا وَبِئْرٍ ُمعَطّلَةٍ َوقَصْرٍ مَشِيدٍ * َأفَلَمْ يَسِيرُوا فِي‬
‫أَهَْلكْنَاهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ َف ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫س َمعُونَ ِبهَا فَإِ ّنهَا لَا َت ْعمَى الْأَ ْبصَا ُر وََلكِنْ َت ْعمَى‬
‫الْأَ ْرضِ فَ َتكُونَ َل ُهمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَا َأوْ آذَانٌ يَ ْ‬
‫ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ }‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬وإن يكذبك هؤلء المشركون فلست بأول رسول‬
‫ح وَعَا ٌد وَ َثمُودُ* َو َقوْمُ إِبْرَاهِيمَ‬
‫كذب‪ ،‬وليسوا بأول أمة كذبت رسولها { َفقَدْ َكذّ َبتْ قَبَْل ُهمْ َقوْمُ نُو ٍ‬
‫َوقَوْمُ لُوطٍ* وََأصْحَابُ مَدْيَنَ } أي‪ :‬قوم شعيب‪.‬‬

‫{ َوكُ ّذبَ مُوسَى فََأمْلَ ْيتُ ِل ْلكَافِرِينَ } المكذبين‪ ،‬فلم أعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬بل أمهلتهم‪ ،‬حتى استمروا في‬
‫طغيانهم يعمهون‪ ،‬وفي كفرهم وشرهم يزدادون‪ُ { ،‬ثمّ َأخَذْ ُتهُمْ } بالعذاب أخذ عزيز مقتدر { َفكَ ْيفَ‬
‫كَانَ َنكِيرِ } أي‪ :‬إنكاري عليهم كفرهم‪ ،‬وتكذيبهم كيف حاله‪ ،‬كان أشد العقوبات‪ ،‬وأفظع المثلت‪،‬‬
‫فمنهم من أغرقه‪ ،‬ومنهم من أخذته الصيحة‪ ،‬ومنهم من أهلك بالريح العقيم‪ ،‬ومنهم من خسف به‬
‫الرض‪ ،‬ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة‪ ،‬فليعتبر بهم هؤلء المكذبون‪ ،‬أن يصيبهم ما‬
‫أصابهم‪ ،‬فإنهم ليسوا خيرا منهم‪ ،‬ول كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من ال‪ ،‬وكم من المعذبين‬
‫المهلكين أمثال هؤلء كثير‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ } أي‪ :‬وكم من قرية { أَهَْلكْنَاهَا }‬
‫بالعذاب الشديد‪ ،‬والخزي الدنيوي‪ { ،‬وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ } بكفرها بال وتكذيبها لرسله‪ ،‬لم يكن عقوبتنا‬
‫شهَا } أي‪ :‬فديارهم متهدمة‪ ،‬قصورها‪ ،‬وجدرانها‪ ،‬قد سقطت‬
‫لها ظلما منا‪َ { ،‬ف ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫عروشها‪ ،‬فأصبحت خرابا بعد أن كانت عامرة‪ ،‬وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها آنسة‪ { ،‬وَبِئْرٍ‬
‫ُمعَطّلَ ٍة َو َقصْرٍ مَشِيدٍ } أي‪ :‬وكم من بئر‪ ،‬قد كان يزدحم عليه الخلق‪ ،‬لشربهم‪ ،‬وشرب مواشيهم‪،‬‬
‫ففقد أهله‪ ،‬وعدم منه الوارد والصادر‪ ،‬وكم من قصر‪ ،‬تعب عليه أهله‪ ،‬فشيدوه‪ ،‬ورفعوه‪،‬‬
‫وحصنوه‪ ،‬وزخرفوه‪ ،‬فحين جاءهم أمر ال‪ ،‬لم يغن عنهم شيئا‪ ،‬وأصبح خاليا من أهله‪ ،‬قد صاروا‬
‫عبرة لمن اعتبر‪ ،‬ومثال لمن فكر ونظر‪.‬‬

‫ولهذا دعا ال عباده إلى السير في الرض‪ ،‬لينظروا‪ ،‬ويعتبروا فقال‪َ { :‬أفََلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ }‬
‫بأبدانهم وقلوبهم { فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَا } آيات ال ويتأملون بها مواقع عبره‪َ { ،‬أوْ آذَانٌ‬
‫س َمعُونَ ِبهَا } أخبار المم الماضين‪ ،‬وأنباء القرون المعذبين‪ ،‬وإل فمجرد نظر العين‪ ،‬وسماع‬
‫يَ ْ‬
‫الذن‪ ،‬وسير البدن الخالي من التفكر والعتبار‪ ،‬غير مفيد‪ ،‬ول موصل إلى المطلوب‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ فَإِ ّنهَا لَا َت ْعمَى الْأَ ْبصَا ُر وََلكِنْ َت ْعمَى ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } أي‪ :‬هذا العمى الضار في الدين‪،‬‬
‫عمى القلب عن الحق‪ ،‬حتى ل يشاهده كما ل يشاهد العمى المرئيات‪ ،‬وأما عمى البصر‪ ،‬فغايته‬
‫بلغة‪ ،‬ومنفعة دنيوية‪.‬‬

‫ب وَلَنْ ُيخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َد ُه وَإِنّ َي ْومًا عِنْدَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ِممّا‬
‫{ ‪ { } 48 - 47‬وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬
‫َتعُدّونَ * َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ ثُمّ َأخَذْ ُتهَا وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫أي‪ :‬يستعجلك هؤلء المكذبون بالعذاب‪ ،‬لجهلهم‪ ،‬وظلمهم‪ ،‬وعنادهم‪ ،‬وتعجيزا ل‪ ،‬وتكذيبا لرسله‪،‬‬
‫ولن يخلف ال وعده‪ ،‬فما وعدهم به من العذاب‪ ،‬لبد من وقوعه‪ ،‬ول يمنعهم منه مانع‪ ،‬وأما‬
‫عجلته‪ ،‬والمبادرة فيه‪ ،‬فليس ذلك إليك يا محمد‪ ،‬ول يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا‪ .‬فإن أمامهم‬
‫يوم القيامة‪ ،‬الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم‪ ،‬ويجازون بأعمالهم‪ ،‬ويقع بهم العذاب الدائم الليم‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَإِنّ َي ْومًا عِنْدَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ِممّا َتعُدّونَ } من طوله‪ ،‬وشدته‪ ،‬وهو له‪ ،‬فسواء‬
‫أصابهم عذاب في الدنيا‪ ،‬أم تأخر عنهم العذاب‪ ،‬فإن هذا اليوم‪ ،‬ل بد أن يدركهم‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد‪ :‬أن ال حليم‪ ،‬ولو استعجلوا العذاب‪ ،‬فإن يوما عنده كألف سنة مما تعدون‪،‬‬
‫فالمدة‪ ،‬وإن تطاولتموها‪ ،‬واستبطأتم فيها نزول العذاب‪ ،‬فإن ال يمهل المدد الطويلة ول يهمل‪،‬‬
‫حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه لم يفلتهم‪.‬‬
‫{ َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا } أي‪ :‬أمهلتها مدة طويلة { وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ } أي‪ :‬مع ظلمهم‪ ،‬فلم يكن‬
‫مبادرتهم بالظلم‪ ،‬موجبا لمبادرتنا بالعقوبة‪ُ { ،‬ثمّ َأخَذْ ُتهَا } بالعذاب { وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬مع‬
‫عذابها في الدنيا‪ ،‬سترجع إلى ال‪ ،‬فيعذبها بذنوبها‪ ،‬فليحذر هؤلء الظالمون من حلول عقاب ال‪،‬‬
‫ول يغتروا بالمهال‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُمْ‬


‫{ ‪ُ { } 51 - 49‬قلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا أَنَا َلكُمْ َنذِيرٌ مُبِينٌ * فَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫س َعوْا فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ }‬
‫َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ َ‬

‫يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى ال عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا‪ ،‬بأنه رسول ال‬
‫حقا‪ ،‬مبشرا للمؤمنين بثواب ال‪ ،‬منذرا للكافرين والظالمين من عقابه‪ ،‬وقوله‪ { :‬مُبِينٌ } أي‪ :‬بين‬
‫النذار‪ ،‬وهو التخويف مع العلم بالمخوف‪ ،‬وذلك لنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما‬
‫أنذرهم به‪ ،‬ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال‪ { :‬فَالّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بجوارحهم { في جنات النعيم } أي‪ :‬الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من‬
‫{ وَ َ‬
‫المآكل والمشارب والمناكح والصور والصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع كلمه‬
‫{ والذين كفروا } أي‪ :‬جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك أصحاب الجحيم أي‪:‬‬
‫الملزمون لها‪ ،‬المصاحبون لها في كل أوقاتهم‪ ،‬فل يخفف عنهم من عذابها ول يفتر عنهم لحظة‬
‫من عقابها‪.‬‬

‫ل وَلَا نَ ِبيّ إِلّا ِإذَا َتمَنّى َأ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ‬
‫{ ‪َ { } 57 - 52‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ َرسُو ٍ‬
‫ج َعلَ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْ َنةً‬
‫حكِيمٌ * لِيَ ْ‬
‫ح ِكمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫فَيَنْسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ ُثمّ يُ ْ‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ * وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ‬
‫ض وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ‬
‫لِلّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َر ٌ‬
‫أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَ ُي ْؤمِنُوا بِهِ فَ ُتخْ ِبتَ لَهُ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ اللّهَ َلهَادِي الّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ *‬
‫عقِيمٍ * ا ْلمُ ْلكُ‬
‫عذَابُ َيوْمٍ َ‬
‫وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً َأوْ يَأْتِ َيهُمْ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * وَالّذِينَ كَفَرُوا َوكَذّبُوا‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ فَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َي ْومَئِذٍ لِلّهِ َي ْ‬
‫بِآيَاتِنَا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ }‬

‫يخبر تعالى بحكمته البالغة‪ ،‬واختياره لعباده‪ ،‬وأن ال ما أرسل قبل محمد { مِنْ َرسُولٍ وَلَا نَ ِبيّ إِلّا‬
‫إِذَا َتمَنّى } أي‪ :‬قرأ قراءته‪ ،‬التي يذكر بها الناس‪ ،‬ويأمرهم وينهاهم‪َ { ،‬أ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ }‬
‫أي‪ :‬في قراءته‪ ،‬من طرقه ومكايده‪ ،‬ما هو مناقض لتلك القراءة‪ ،‬مع أن ال تعالى قد عصم الرسل‬
‫بما يبلغون عن ال‪ ،‬وحفظ وحيه أن يشتبه‪ ،‬أو يختلط بغيره‪ .‬ولكن هذا اللقاء من الشيطان‪ ،‬غير‬
‫مستقر ول مستمر‪ ،‬وإنما هو عارض يعرض‪ ،‬ثم يزول‪ ،‬وللعوارض أحكام‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَيَ ْنسَخُ‬
‫حكِمُ اللّهُ آيَا ِتهِ }‬
‫اللّهُ مَا ُي ْلقِي الشّ ْيطَانُ } أي‪ :‬يزيله ويذهبه ويبطله‪ ،‬ويبين أنه ليس من آياته‪ ،‬و { ُي ْ‬
‫أي‪ :‬يتقنها‪ ،‬ويحررها‪ ،‬ويحفظها‪ ،‬فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان‪ { ،‬وَاللّهُ عَزِيزٌ } أي‪:‬‬
‫حكِيمٌ } يضع الشياء‬
‫كامل القوة والقتدار‪ ،‬فبكمال قوته‪ ،‬يحفظ وحيه‪ ،‬ويزيل ما تلقيه الشياطين‪َ { ،‬‬
‫ج َعلَ‬
‫مواضعها‪ ،‬فمن كمال حكمته‪ ،‬مكن الشياطين من اللقاء المذكور‪ ،‬ليحصل ما ذكره بقوله‪ { :‬لِ َي ْ‬
‫مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً } لطائفتين من الناس‪ ،‬ل يبالي ال بهم‪ ،‬وهم الذين { فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ }‬
‫أي‪ :‬ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم‪ ،‬فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ عليها‪ ،‬فإذا سمعوا‬
‫ما ألقاه الشيطان‪ ،‬داخلهم الريب والشك‪ ،‬فصار فتنة لهم‪.‬‬

‫{ وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُمْ } أي‪ :‬الغليظة‪ ،‬التي ل يؤثر فيها زجر ول تذكير‪ ،‬ول تفهم عن ال وعن‬
‫رسوله لقسوتها‪ ،‬فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان‪ ،‬جعلوه حجة لهم على باطلهم‪ ،‬وجادلوا به وشاقوا‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ } أي‪ :‬مشاقة ل‪ ،‬ومعاندة للحق‪ ،‬ومخالفة‬
‫ال ورسوله‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ‬
‫له‪ ،‬بعيد من الصواب‪ ،‬فما يلقيه الشيطان‪ ،‬يكون فتنة لهؤلء الطائفتين‪ ،‬فيظهر به ما في قلوبهم‪،‬‬
‫من الخبث الكامن فيها ‪ ،‬وأما الطائفة الثالثة‪ ،‬فإنه يكون رحمة في حقها‪ ،‬وهم المذكورون بقوله‪{ :‬‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ } لن ال منحهم من العلم‪ ،‬ما به يعرفون الحق من‬
‫وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ أَنّهُ الْ َ‬
‫الباطل‪ ،‬والرشد من الغي‪ ،‬فيميزون بين المرين‪ ،‬الحق المستقر‪ ،‬الذي يحكمه ال‪ ،‬والباطل‬
‫العارض الذي ينسخه ال‪ ،‬بما على كل منهما من الشواهد‪ ،‬وليعلموا أن ال حكيم‪ ،‬يقيض بعض‬
‫أنواع البتلء‪ ،‬ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة‪ { ،‬فَ ُي ْؤمِنُوا بِهِ } بسبب ذلك‪ ،‬ويزداد‬
‫إيمانهم عند دفع المعارض والشبه‪.‬‬

‫{ فَ ُتخْ ِبتَ لَهُ قُلُو ُبهُمْ } أي‪ :‬تخشع وتخضع‪ ،‬وتسلم لحكمته‪ ،‬وهذا من هدايته إياهم‪ { ،‬وَإِنّ اللّهَ َلهَادِي‬
‫الّذِينَ آمَنُوا } بسبب إيمانهم { ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } علم بالحق‪ ،‬وعمل بمقتضاه‪ ،‬فيثبت ال الذين‬
‫آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬وهذا النوع من تثبيت ال لعبده‪.‬‬

‫وهذه اليات‪ ،‬فيها بيان أن للرسول صلى ال عليه وسلم أسوة بإخوانه المرسلين‪ ،‬لما وقع منه عند‬
‫ت وَا ْلعُزّى َومَنَاةَ الثّالِثَةَ الُْأخْرَى }‬
‫قراءته صلى ال عليه وسلم‪ { :‬والنجم } فلما بلغ { َأفَرَأَيْ ُتمُ اللّا َ‬
‫ألقى الشيطان في قراءته‪ " :‬تلك الغرانيق العلى‪ ،‬وإن شفاعتهن لترتجى " فحصل بذلك للرسول‬
‫حزن وللناس فتنة‪ ،‬كما ذكر ال‪ ،‬فأنزل ال هذه اليات‪.‬‬

‫{ ‪ { } 57 - 55‬وَل يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً َأوْ يَأْتِ َي ُهمْ عَذَابُ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * وَالّذِينَ‬
‫حكُمُ بَيْ َنهُمْ فَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫عقِيمٍ * ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ ِللّهِ َي ْ‬
‫َيوْمٍ َ‬
‫عذَابٌ ُمهِينٌ }‬
‫َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ َ‬

‫يخبر تعالى عن حالة الكفار‪ ،‬وأنهم ل يزالون في شك مما جئتهم به يا محمد‪ ،‬لعنادهم‪،‬‬
‫وإعراضهم‪ ،‬وأنهم ل يبرحون مستمرين على هذه الحال { حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً } أي‪ :‬مفاجأة {‬
‫عقِيمٍ } أي‪ :‬ل خير فيه‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ ،‬فإذا جاءتهم الساعة‪ ،‬أو أتاهم ذلك‬
‫َأوْ يَأْتِ َيهُمْ عَذَابُ َيوْمٍ َ‬
‫اليوم‪ ،‬علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‪ ،‬وندموا حيث ل ينفعهم الندم‪ ،‬وأبلسوا وأيسوا من كل‬
‫خير‪ ،‬وودوا لو آمنوا بالرسول واتخذوا معه سبيل‪ ،‬ففي هذا تحذيرهم من إقامتهم على مريتهم‬
‫وفريتهم‪.‬‬

‫ح ُكمُ بَيْ َنهُمْ } بحكمه العدل‪ ،‬وقضائه‬


‫{ ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ } أي‪ :‬يوم القيامة { لِلّهِ } تعالى‪ ،‬ل لغيره‪ { ،‬يَ ْ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } ليصدقوا بذلك إيمانهم‬
‫الفصل‪ { ،‬فَالّذِينَ آمَنُوا } بال ورسله‪ ،‬وما جاءوا به { وَ َ‬
‫{ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ } نعيم القلب والروح والبدن‪ ،‬مما ل يصفه الواصفون‪ ،‬ول تدركه العقول‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا } بال ورسله وكذبوا بآياته الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها‪ ،‬أو عاندوها‪،‬‬
‫{ فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } لهم‪ ،‬من شدته‪ ،‬وألمه‪ ،‬وبلوغه للفئدة كما استهانوا برسله وآياته‪،‬‬
‫أهانهم ال بالعذاب‪.‬‬

‫حسَنًا وَإِنّ‬
‫{ ‪ { } 59 - 58‬وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوا َأوْ مَاتُوا لَيَرْ ُزقَ ّنهُمُ اللّهُ رِ ْزقًا َ‬
‫ضوْنَ ُه وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ حَلِيمٌ }‬
‫اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ * لَ ُيدْخِلَ ّن ُهمْ مُ ْدخَلًا يَ ْر َ‬

‫هذه بشارة كبرى‪ ،‬لمن هاجر في سبيل ال‪ ،‬فخرج من داره ووطنه وأولده وماله‪ ،‬ابتغاء وجه‬
‫ال‪ ،‬ونصرة لدين ال‪ ،‬فهذا قد وجب أجره على ال‪ ،‬سواء مات على فراشه‪ ،‬أو قتل مجاهدا في‬
‫سبيل ال‪ { ،‬لَيَرْ ُزقَ ّن ُهمُ اللّهُ رِ ْزقًا حَسَنًا } في البرزخ‪ ،‬وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح‬
‫والريحان‪ ،‬والحسن والحسان‪ ،‬ونعيم القلب والبدن‪ ،‬ويحتمل أن المعنى أن المهاجر في سبيل ال‪،‬‬
‫قد تكفل برزقه في الدنيا‪ ،‬رزقا واسعا حسنا‪ ،‬سواء علم ال منه أنه يموت على فراشه‪ ،‬أو يقتل‬
‫شهيدا‪ ،‬فكلهم مضمون له الرزق‪ ،‬فل يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله‪ ،‬سيفتقر ويحتاج‪ ،‬فإن‬
‫رازقه هو خير الرازقين‪ ،‬وقد وقع كما أخبر‪ ،‬فإن المهاجرين السابقين‪ ،‬تركوا ديارهم وأبناءهم‬
‫وأموالهم‪ ،‬نصرة لدين ال‪ ،‬فلم يلبثوا إل يسيرا‪ ،‬حتى فتح ال عليهم البلد‪ ،‬ومكنهم من العباد‬
‫فاجتبوا من أموالها‪ ،‬ما كانوا به من أغنى الناس‪ ،‬ويكون على هذا القول‪ ،‬قوله‪ { :‬لَيُ ْدخِلَ ّنهُمْ ُمدْخَلًا‬
‫ضوْنَهُ } إما ما يفتحه ال عليهم من البلدان‪ ،‬خصوصا فتح مكة المشرفة‪ ،‬فإنهم دخلوها في حالة‬
‫يَ ْر َ‬
‫الرضا والسرور‪ ،‬وإما المراد به رزق الخرة‪ ،‬وأن ذلك دخول الجنة‪ ،‬فتكون الية جمعت بين‬
‫الرزقين‪ ،‬رزق الدنيا‪ ،‬ورزق الخرة‪ ،‬واللفظ صالح لذلك كله‪ ،‬والمعنى صحيح‪ ،‬فل مانع من‬
‫إرادة الجميع { وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ } بالمور‪ ،‬ظاهرها‪ ،‬وباطنها‪ ،‬متقدمها‪ ،‬ومتأخرها‪ { ،‬حَلِيمٌ } يعصيه‬
‫الخلئق‪ ،‬ويبارزونه بالعظائم‪ ،‬وهو ل يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره‪ ،‬بل يواصل لهم رزقه‪،‬‬
‫ويسدي إليهم فضله‪.‬‬

‫غفُورٌ }‬
‫ك َومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ ِبهِ ثُمّ ُب ِغيَ عَلَيْهِ لَيَ ْنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ َل َعفُوّ َ‬
‫{ ‪ { } 60‬ذَِل َ‬
‫ذلك بأن من جني عليه وظلم‪ ،‬فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته‪ ،‬فإن فعل ذلك‪ ،‬فليس عليه‬
‫سبيل‪ ،‬وليس بملوم‪ ،‬فإن بغي عليه بعد هذا‪ ،‬فإن ال ينصره‪ ،‬لنه مظلوم‪ ،‬فل يجوز أن يبغي‬
‫عليه‪ ،‬بسبب أنه استوفى حقه‪ ،‬وإذا كان المجازي غيره‪ ،‬بإساءته إذا ظلم بعد ذلك‪ ،‬نصره ال‪،‬‬
‫فالذي بالصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم وجني عليه‪ ،‬فالنصر إليه أقرب‪.‬‬

‫غفُورٌ } أي‪ :‬يعفو عن المذنبين‪ ،‬فل يعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬ويغفر ذنوبهم فيزيلها‪ ،‬ويزيل‬
‫{ إِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ‬
‫آثارها عنهم‪ ،‬فال هذا وصفه المستقر اللزم الذاتي‪ ،‬ومعاملته لعباده في جميع الوقات بالعفو‬
‫والمغفرة‪ ،‬فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم‪ ،‬أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم ال كما‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ }‬
‫تعاملون عباده { َفمَنْ َ‬

‫سمِيعٌ َبصِيرٌ‬
‫{ ‪ { } 62 - 61‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ }‬
‫طُ‬‫ق وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ‬
‫حّ‬‫* ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ‬

‫ذلك الذي شرع لكم تلك الحكام الحسنة العادلة‪ ،‬هو حسن التصرف‪ ،‬في تقديره وتدبيره‪ ،‬الذي‬
‫{ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ } أي‪ :‬يدخل هذا على هذا‪ ،‬وهذا على هذا‪ ،‬فيأتي بالليل بعد النهار‪،‬‬
‫وبالنهار بعد الليل‪ ،‬ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الخر‪ ،‬ثم بالعكس‪ ،‬فيترتب على ذلك‪ ،‬قيام‬
‫الفصول‪ ،‬ومصالح الليل والنهار‪ ،‬والشمس والقمر‪ ،‬التي هي من أجل نعمه على العباد‪ ،‬وهي من‬
‫سمِيعٌ } يسمع ضجيج الصوات‪ ،‬باختلف‪ ،‬اللغات‪ ،‬على تفنن‬
‫الضروريات لهم‪ { .‬وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫سوَاءٌ‬
‫الحاجات‪َ { ،‬بصِيرٌ } يرى دبيب النملة السوداء‪ ،‬تحت الصخرة الصماء‪ ،‬في الليلة الظلماء { َ‬
‫خفٍ بِاللّ ْيلِ وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ }‬
‫جهَرَ بِ ِه َومَنْ ُهوَ مُسْ َت ْ‬
‫ل َومَنْ َ‬
‫مِ ْنكُمْ مَنْ أَسَرّ ا ْلقَ ْو َ‬

‫حقّ } أي‪ :‬الثابت‪ ،‬الذي ل يزال ول يزول‪،‬‬


‫{ ذَِلكَ } صاحب الحكم والحكام { بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ‬
‫الول الذي ليس قبله شيء‪ ،‬الخر الذي ليس بعده شيء‪ ،‬كامل السماء والصفات‪ ،‬صادق الوعد‪،‬‬
‫الذي وعده حق ولقاؤه حق‪ ،‬ودينه حق‪ ،‬وعبادته هي الحق‪ ،‬النافعة الباقية على الدوام‪.‬‬

‫طلُ }‬
‫{ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الصنام والنداد‪ ،‬من الحيوانات والجمادات‪ُ { ،‬هوَ الْبَا ِ‬
‫الذي‪ ،‬هو باطل في نفسه‪ ،‬وعبادته باطلة‪ ،‬لنها متعلقة بمضمحل فان‪ ،‬فتبطل تبعا لغايتها‬
‫ومقصودها‪ { ،‬وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ } العلي في ذاته‪ ،‬فهو عال على جميع المخلوقات وفي‬
‫قدره‪ ،‬فهو كامل الصفات‪ ،‬وفي قهره لجميع المخلوقات‪ ،‬الكبير في ذاته‪ ،‬وفي أسمائه‪ ،‬وفي‬
‫صفاته‪ ،‬الذي من عظمته وكبريائه‪ ،‬أن الرض قبضته يوم القيامة‪ ،‬والسماوات مطويات بيمينه‪،‬‬
‫ومن كبريائه‪ ،‬أن كرسيه وسع السماوات والرض‪ ،‬ومن عظمته وكبريائه‪ ،‬أن نواصي العباد بيده‪،‬‬
‫فل يتصرفون إل بمشيئته‪ ،‬ول يتحركون ويسكنون إل بإرادته‪.‬‬
‫وحقيقة الكبرياء التي ل يعلمها إل هو‪ ،‬ل ملك مقرب‪ ،‬ول نبي مرسل‪ ،‬أنها كل صفة كمال‬
‫وجلل وكبرياء وعظمة‪ ،‬فهي ثابتة له‪ ،‬وله من تلك الصفة أجلها وأكملها‪ ،‬ومن كبريائه‪ ،‬أن‬
‫العبادات كلها‪ ،‬الصادرة من أهل السماوات والرض‪ ،‬كلها المقصود منها‪ ،‬تكبيره وتعظيمه‪،‬‬
‫وإجلله وإكرامه‪ ،‬ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار‪ ،‬كالصلة وغيرها‪.‬‬

‫خضَ ّرةً إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ‬


‫سمَاءِ مَاءً فَ ُتصْبِحُ الْأَ ْرضُ مُ ْ‬
‫{ ‪ { } 64 - 63‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫حمِيدُ }‬
‫ض وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي ال ّ‬

‫هذا حث منه تعالى‪ ،‬وترغيب في النظر بآياته الدالت على وحدانيته‪ ،‬وكماله فقال‪ { :‬أَلَمْ تَرَ }‬
‫سمَاءِ مَاءً } وهو‪ :‬المطر‪ ،‬فينزل على‬
‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك { أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫أرض خاشعة مجدبة‪ ،‬قد أغبرت أرجاؤها‪ ،‬ويبس ما فيها‪ ،‬من شجر ونبات‪ ،‬فتصبح مخضرة قد‬
‫اكتست من كل زوج كريم‪ ،‬وصار لها بذلك منظر بهيج‪ ،‬إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها‬
‫لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ } اللطيف الذي يدرك بواطن الشياء‪ ،‬وخفياتها‪ ،‬وسرائرها‪ ،‬الذي يسوق إلى‬
‫عبده الخير‪ ،‬ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد‪ ،‬ومن لطفه‪ ،‬أنه يري عبده‪ ،‬عزته في‬
‫انتقامه وكمال اقتداره‪ ،‬ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلك‪ ،‬ومن لطفه‪ ،‬أنه يعلم مواقع‬
‫القطر من الرض‪ ،‬وبذور الرض في باطنها‪ ،‬فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر‪ ،‬الذي خفي على‬
‫علم الخلئق فينبت منه أنواع النبات‪ { ،‬خَبِيرٌ } بسرائر المور‪ ،‬وخبايا الصدور‪ ،‬وخفايا المور‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وما في الْأَ ْرضِ } خلقا وعبيدا‪ ،‬يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره‪،‬‬
‫{ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫ليس لحد غيره من المر شيء‪.‬‬

‫{ وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ } بذاته الذي له الغنى المطلق التام‪ ،‬من جميع الوجوه‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه ل‬
‫يحتاج إلى أحد من خلقه‪ ،‬ول يواليهم من ذلة‪ ،‬ول يتكثر بهم من قلة‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه ما اتخذ‬
‫صاحبة ول ولدا‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه صمد‪ ،‬ل يأكل ول يشرب‪ ،‬ول يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬فهو يطعم ول يطعم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أن الخلق كلهم مفتقرون إليه‪ ،‬في إيجادهم‪،‬‬
‫وإعدادهم وإمدادهم‪ ،‬وفي دينهم ودنياهم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في‬
‫الرض‪ ،‬الحياء منهم والموات‪ ،‬في صعيد واحد‪ ،‬فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته‪ ،‬فأعطاهم فوق‬
‫أمانيهم‪ ،‬ما نقص ذلك من ملكه شيء‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أن يده سحاء بالخير والبركات‪ ،‬الليل والنهار‪،‬‬
‫لم يزل إفضاله على النفاس‪ ،‬ومن غناه وكرمه‪ ،‬ما أودعه في دار كرامته‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول‬
‫أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫حمِيدِ } أي‪ :‬المحمود في ذاته‪ ،‬وفي أسمائه‪ ،‬لكونها حسنى‪ ،‬وفي صفاته‪ ،‬لكونها كلها صفات‬
‫{ الْ َ‬
‫كمال‪ ،‬وفي أفعاله‪ ،‬لكونها دائرة بين العدل والحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه‪ ،‬لكونه ل‬
‫يأمر إل بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة‪ ،‬ول ينهى إل عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة‪ ،‬الذي‬
‫له الحمد‪ ،‬الذي يمل ما في السماوات والرض‪ ،‬وما بينهما‪ ،‬وما شاء بعدها‪ ،‬الذي ل يحصي‬
‫العباد ثناء على حمده‪ ،‬بل هو كما أثنى على نفسه‪ ،‬وفوق ما يثني عليه عباده‪ ،‬وهو المحمود على‬
‫توفيق من يوفقه‪ ،‬وخذلن من يخذله‪ ،‬وهو الغني في حمده‪ ،‬الحميد في غناه‪.‬‬

‫حرِ ِبَأمْرِهِ‬
‫جرِي فِي ا ْل َب ْ‬
‫ك َت ْ‬
‫سخّرَ َل ُكمْ مَا فِي ا ْلَأرْضِ وَالْفُ ْل َ‬
‫ن اللّ َه َ‬
‫{ ‪ { } 66 - 65‬أََل ْم تَ َر أَ ّ‬
‫حيَا ُكمْ‬
‫ض إِلّا ِبِإ ْذنِهِ ِإنّ اللّ َه بِالنّاسِ َلرَءُوفٌ َرحِيمٌ * وَهُ َو اّلذِي َأ ْ‬
‫سمَاءَ َأنْ تَقَعَ عَلَى ا ْلَأرْ ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫َو ُي ْم ِ‬
‫ن َلكَفُو ٌر }‬
‫ن ا ْلِإ ْنسَا َ‬
‫حيِي ُكمْ إِ ّ‬
‫ُثمّ ُيمِيتُ ُكمْ ُثمّ ُي ْ‬

‫خرَ َل ُكمْ مَا‬


‫سّ‬‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة‪ ،‬وأياديه الواسعة‪ ،‬و { َأنّ اللّهَ َ‬
‫ض } من حيوانات‪ ،‬ونبات‪ ،‬وجمادات‪ ،‬فجميع ما في الرض‪ ،‬مسخر لبني آدم‪،‬‬
‫فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫حيواناتها‪ ،‬لركوبه‪ ،‬وحمله‪ ،‬وأعماله‪ ،‬وأكله‪ ،‬وأنواع انتفاعه‪ ،‬وأشجارها‪ ،‬وثمارها‪ ،‬يقتاتها‪ ،‬وقد‬
‫سلط على غرسها واستغللها‪ ،‬ومعادنها‪ ،‬يستخرجها‪ ،‬وينتفع بها‪ { ،‬وَالْفُ ْلكِ } أي‪ :‬وسخر لكم‬
‫حرِ ِبَأمْرِ ِه } تحملكم‪ ،‬وتحمل تجاراتكم‪ ،‬وتوصلكم من محل‬
‫جرِي فِي ا ْل َب ْ‬
‫الفلك‪ ،‬وهي السفن { َت ْ‬
‫ن تَقَعَ‬
‫سمَا َء أَ ْ‬
‫إلى محل‪ ،‬وتستخرجون من البحر حلية تلبسونها‪ ،‬ومن رحمته بكم أنه { يمسك ال ّ‬
‫ض } فلول رحمته وقدرته‪ ،‬لسقطت السماء على الرض‪ ،‬فتلف ما عليها‪ ،‬وهلك من‬
‫عَلَى ا ْلَأرْ ِ‬
‫ن َب ْعدِهِ ِإنّهُ‬
‫حدٍ مِ ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫س َك ُهمَا مِ ْ‬
‫ن زَاَلتَا ِإنْ َأ ْم َ‬
‫ن َتزُولَا وََلئِ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ أَ ْ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫ن اللّ َه ُي ْم ِ‬
‫فيها { إِ ّ‬
‫كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }‬

‫{ ِإنّ اللّهَ بِالنّاسِ َلرَءُوفٌ َرحِيمٌ } أرحم بهم من والديهم‪ ،‬ومن أنفسهم‪ ،‬ولهذا يريد لهم الخير‪،‬‬
‫ويريدون لها الشر والضر‪ ،‬ومن رحمته‪ ،‬أن سخر لهم ما سخر من هذه الشياء‪.‬‬

‫حيِي ُكمْ } بعد موتكم‪،‬‬


‫حيَاكُمْ } أوجدكم من العدم { ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ } بعد أن أحياكم‪ُ { ،‬ثمّ ُي ْ‬
‫{ وَهُ َو اّلذِي َأ ْ‬
‫ليجازي المحسن بإحسانه‪ ،‬والمسيء بإساءته‪ِ { ،‬إنّ ا ْلِإ ْنسَانَ } أي‪ :‬جنسه‪ ،‬إل من عصمه ال‬
‫{ َلكَفُورٌ } لنعم ال‪ ،‬كفور بال‪ ،‬ل يعترف بإحسانه‪ ،‬بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه‪.‬‬

‫ع ّنكَ فِي ا ْلَأمْرِ وَا ْدعُ إِلَى َر ّبكَ ِإ ّنكَ‬


‫سكُوهُ فَلَا ُينَازِ ُ‬
‫سكًا ُهمْ نَا ِ‬
‫جعَ ْلنَا َمنْ َ‬
‫ل ُأمّ ٍة َ‬
‫{ ‪ِ { } 70 - 67‬لكُ ّ‬
‫حكُمُ َب ْي َن ُكمْ يَ ْو َم الْ ِقيَامَةِ فِيمَا‬
‫ن * اللّ ُه َي ْ‬
‫ل اللّ ُه أَعَْلمُ ِبمَا َت ْعمَلُو َ‬
‫ن جَادَلُوكَ فَقُ ِ‬
‫ستَقِيمٍ * وَإِ ْ‬
‫َلعَلَى ُهدًى ُم ْ‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ ِإنّ ذَِلكَ فِي ِكتَابٍ ِإنّ ذَِلكَ عَلَى‬
‫ختَلِفُونَ * أََلمْ َتعَْلمْ َأنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫ُك ْنتُمْ فِي ِه َت ْ‬
‫اللّ ِه َيسِيرٌ }‬

‫سكًا } أي‪ :‬معبدا وعبادة‪ ،‬قد تختلف في بعض المور‪ ،‬مع‬


‫يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { َم ْن َ‬
‫عةً َو ِم ْنهَاجًا وَلَ ْو شَاءَ اللّهُ‬
‫شرْ َ‬
‫جعَ ْلنَا ِم ْنكُمْ ِ‬
‫ل َ‬
‫اتفاقها على العدل والحكمة‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ { :‬لكُ ّ‬
‫سكُوهُ } أي‪ :‬عاملون عليه‪ ،‬بحسب‬
‫ن ِل َيبْلُ َو ُكمْ فِي مَا آتَا ُكمْ } الية‪ُ { ،‬ه ْم نَا ِ‬
‫حدَةً وََلكِ ْ‬
‫جعََلكُمْ ُأمّةً وَا ِ‬
‫َل َ‬
‫أحوالهم‪ ،‬فل اعتراض على شريعة من الشرائع‪ ،‬خصوصا من الميين‪ ،‬أهل الشرك والجهل‬
‫المبين‪ ،‬فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها‪ ،‬وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم‪،‬‬
‫ع ّنكَ فِي ا ْلَأمْ ِر } أي‪ :‬ل ينازعك المكذبون لك‪،‬‬
‫وترك العتراض‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَلَا ُينَازِ ُ‬
‫ويعترضون على بعض ما جئتهم به‪ ،‬بعقولهم الفاسدة‪ ،‬مثل منازعتهم في حل الميتة‪ ،‬بقياسهم‬
‫الفاسد‪ ،‬يقولون‪ " :‬تأكلون ما قتلتم‪ ،‬ول تأكلون ما قتل ال " وكقولهم { ِإ ّنمَا ا ْل َبيْ ُع ِمثْلُ ال ّربَا }‬
‫ونحو ذلك من اعتراضاتهم‪ ،‬التي ل يلزم الجواب عن أعيانها‪ ،‬وهم منكرون لصل الرسالة‪،‬‬
‫وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها‪ ،‬بل لكل مقام مقال‪ ،‬فصاحب هذا العتراض‪ ،‬المنكر‬
‫لرسالة الرسول‪ ،‬إذا زعم أنه يجادل ليسترشد‪ ،‬يقال له‪ :‬الكلم معك في إثبات الرسالة وعدمها‪،‬‬
‫وإل فالقتصار على هذه‪ ،‬دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز‪ ،‬ولهذا أمر ال رسوله أن يدعو‬
‫إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬ويمضي على ذلك‪ ،‬سواء اعترض المعترضون أم ل‪،‬‬
‫ستَقِيمٍ } أي‪ :‬معتدل موصل‬
‫وأنه ل ينبغي أن يثنيك عن الدعوة شيء‪ ،‬لنك { على ُهدًى ُم ْ‬
‫للمقصود‪ ،‬متضمن علم الحق والعمل به‪ ،‬فأنت على ثقة من أمرك‪ ،‬ويقين من دينك‪ ،‬فيوجب‬
‫ذلك لك الصلبة والمضي لما أمرك به ربك‪ ،‬ولست على أمر مشكوك فيه‪ ،‬أو حديث مفترى‪،‬‬
‫فتقف مع الناس ومع أهوائهم‪ ،‬وآرائهم‪ ،‬ويوقفك اعتراضهم‪ ،‬ونظير هذا قوله تعالى‪َ { :‬فتَ َوكّلْ‬
‫ك َلعَلَى ُهدًى ُمسْتَقِيمٍ } إرشاد لجوبة‬
‫ن } مع أن في قوله‪ِ { :‬إ ّن َ‬
‫حقّ ا ْل ُمبِي ِ‬
‫عَلَى اللّهِ ِإ ّنكَ عَلَى ا ْل َ‬
‫المعترضين على جزئيات الشرع‪ ،‬بالعقل الصحيح‪ ،‬فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول‪،‬‬
‫والهدى‪ :‬ما تحصل به الهداية‪ ،‬من مسائل الصول والفروع‪ ،‬وهي المسائل التي يعرف حسنها‬
‫وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة السليمة‪ ،‬وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات‪.‬‬

‫ل اللّ ُه أَعَْلمُ ِبمَا‬


‫ن جَادَلُوكَ فَقُ ِ‬
‫ولهذا أمره ال بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِ ْ‬
‫ن } أي‪ :‬هو عالم بمقاصدكم ونياتكم‪ ،‬فمجازيكم عليها في يوم القيامة الذي يحكم ال بينكم‬
‫َت ْعمَلُو َ‬
‫فيما كنتم فيه تختلفون‪ ،‬فمن وافق الصراط المستقيم‪ ،‬فهو من أهل النعيم‪ ،‬ومن زاغ عنه‪ ،‬فهو‬
‫من أهل الجحيم‪ ،‬ومن تمام حكمه‪ ،‬أن يكون حكما بعلم‪ ،‬فلذلك ذكر إحاطة علمه‪ ،‬وإحاطة كتابه‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ } ل يخفى عليه منها خافية‪ ،‬من ظواهر‬
‫ن اللّ َه َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫فقال‪ { :‬أََلمْ َتعَْلمْ أَ ّ‬
‫المور وبواطنها‪ ،‬خفيها وجليها‪ ،‬متقدمها ومتأخرها‪ ،‬أن ذلك العلم المحيط بما في السماء‬
‫والرض قد أثبته ال في كتاب‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪ ،‬حين خلق ال القلم‪ ،‬قال له‪ " :‬اكتب "‬
‫قال‪ :‬ما أكتب؟ قال‪ " :‬اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‬

‫{ ِإنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } وإن كان تصوره عندكم ل يحاط به‪ ،‬فال تعالى يسير عليه أن‬
‫يحيط علما بجميع الشياء‪ ،‬وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع‪.‬‬

‫س َل ُهمْ بِهِ عِ ْلمٌ َومَا‬


‫ن اللّ ِه مَا َلمْ ُي َنزّلْ بِ ِه سُ ْلطَانًا َومَا َليْ َ‬
‫ن مِنْ دُو ِ‬
‫{ ‪َ { } 72 - 71‬و َي ْع ُبدُو َ‬
‫ن كَ َفرُوا ا ْل ُم ْن َكرَ‬
‫ن نَصِيرٍ * وَِإذَا ُتتْلَى عََل ْي ِهمْ آيَا ُتنَا َب ّينَاتٍ َت ْعرِفُ فِي ُوجُوهِ اّلذِي َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫لِلظّالِمِي َ‬
‫عدَهَا اللّهُ اّلذِينَ‬
‫ن بِاّلذِينَ َيتْلُونَ عََل ْي ِهمْ آيَا ِتنَا قُلْ َأ َفُأنَ ّب ُئ ُكمْ ِبشَرّ ِمنْ ذَِل ُكمُ النّارُ َو َ‬
‫سطُو َ‬
‫َيكَادُونَ َي ْ‬
‫كَ َفرُوا َو ِبئْسَ ا ْل َمصِي ُر }‬

‫يذكر تعالى حالة المشركين به‪ ،‬العادلين به غيره‪ ،‬وأن حالهم أقبح الحالت‪ ،‬وأنه ل مستند لهم‬
‫على ما فعلوه‪ ،‬فليس لهم به علم‪ ،‬وإنما هو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين‪ ،‬وقد يكون النسان‬
‫ل علم عنده بما فعله‪ ،‬وهو ‪-‬في نفس المر‪ -‬له حجة ما علمها‪ ،‬فأخبر هنا‪ ،‬أن ال لم ينزل‬
‫في ذلك سلطانا‪ ،‬أي‪ :‬حجة تدل علي وتجوزه‪ ،‬بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده‬
‫ن مِنْ َنصِيرٍ } ينصرهم‬
‫وبطلنه‪ ،‬ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقال‪َ { :‬ومَا لِلظّاِلمِي َ‬
‫من عذاب ال إذا نزل بهم وحل‪ .‬وهل لهؤلء الذين ل علم لهم بما هم عليه قصد في اتباع‬
‫اليات والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله‪ { :‬وَِإذَا‬
‫ُتتْلَى عََل ْي ِهمْ آيَا ُتنَا } التي هي آيات ال الجليلة‪ ،‬المستلزمة لبيان الحق من الباطل‪ ،‬لم يلتفتوا‬
‫إليها‪ ،‬ولم يرفعوا بها رأسا‪ ،‬بل { َت ْعرِفُ فِي ُوجُو ِه اّلذِينَ َك َفرُوا ا ْل ُم ْن َكرَ } من بغضها وكراهتها‪،‬‬
‫ن َيسْطُونَ بِاّلذِينَ َيتْلُونَ عََل ْي ِهمْ آيَا ِتنَا } أي‪:‬‬
‫ترى وجوههم معبسة‪ ،‬وأبشارهم مكفهرة‪َ { ،‬يكَادُو َ‬
‫يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ‪ ،‬من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته‪ ،‬فهذه الحالة‬
‫من الكفار بئس الحالة‪ ،‬وشرها بئس الشر‪ ،‬ولكن ثم ما هو شر منها‪ ،‬حالتهم التي يؤولون‬
‫ن كَ َفرُوا َو ِبئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫عدَهَا اللّهُ اّلذِي َ‬
‫إليها‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬قُلْ َأ َفُأنَ ّب ُئ ُكمْ ِبشَ ّر مِنْ ذَِل ُكمُ النّارُ وَ َ‬
‫فهذه شرها طويل عريض‪ ،‬ومكروهها وآلمها تزداد على الدوام‪.‬‬

‫خُلقُوا‬
‫س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا لَهُ إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَ ْ‬
‫{ ‪ { } 74 - 73‬يَا أَ ّيهَا النّا ُ‬
‫ب وَا ْلمَطْلُوبُ * مَا‬
‫ض ُعفَ الطّاِل ُ‬
‫ذُبَابًا وََلوِ اجْ َت َمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْ ُه َ‬
‫حقّ قَدْ ِرهِ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ }‬
‫قَدَرُوا اللّهَ َ‬
‫هذا مثل ضربه ال لقبح عبادة الوثان‪ ،‬وبيان نقصان عقول من عبدها‪ ،‬وضعف الجميع‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَا النّاسُ } هذا خطاب للمؤمنين والكفار‪ ،‬المؤمنون يزدادون علما وبصيرة‪ ،‬والكافرون تقوم‬
‫عليهم الحجة‪ { ،‬ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا َلهُ } أي‪ :‬ألقوا إليه أسماعكم‪ ،‬وتفهموا ما احتوى عليه‪ ،‬ول‬
‫يصادف منكم قلوبا لهية‪ ،‬وأسماعا معرضة‪ ،‬بل ألقوا إليه القلوب والسماع‪ ،‬وهو هذا‪ { :‬إِنّ‬
‫الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } شمل كل ما يدعى من دون ال‪ { ،‬لَنْ َيخُْلقُوا ذُبَابًا } الذي هو من‬
‫أحقر المخلوقات وأخسها‪ ،‬فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف‪ ،‬فما فوقه من باب أولى‪،‬‬
‫{ وََلوِ اجْ َت َمعُوا لَهُ } بل أبلغ من ذلك لو { يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْهُ } وهذا غاية ما‬
‫ضعُفَ الطّاِلبُ } الذي هو المعبود من دون ال { وَا ْلمَطْلُوبُ } الذي هو‬
‫يصير من العجز‪َ { .‬‬
‫الذباب‪ ،‬فكل منهما ضعيف‪ ،‬وأضعف منهما‪ ،‬من يتعلق بهذا الضعيف‪ ،‬وينزله منزلة رب‬
‫العالمين‪.‬‬

‫فهذا ما قدر { اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ } حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه‪ ،‬بالغني القوي من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬سوى من ل يملك لنفسه‪ ،‬ول لغيره نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا‪ ،‬بمن‬
‫هو النافع الضار‪ ،‬المعطي المانع‪ ،‬مالك الملك‪ ،‬والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ } أي‪ :‬كامل القوة‪ ،‬كامل العزة‪ ،‬من كمال قوته وعزته‪ ،‬أن نواصي الخلق‬
‫بيديه‪ ،‬وأنه ل يتحرك متحرك‪ ،‬ول يسكن ساكن‪ ،‬إل بإرادته ومشيئته‪ ،‬فما شاء ال كان وما لم يشأ‬
‫لم يكن‪ ،‬ومن كمال قوته‪ ،‬أنه يمسك السماوات والرض أن تزول‪ ،‬ومن كمال قوته‪ ،‬أنه يبعث‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬أولهم وآخرهم‪ ،‬بصيحة واحدة‪ ،‬ومن كمال قوته‪ ،‬أنه أهلك الجبابرة والمم العاتية‪،‬‬
‫بشيء يسير‪ ،‬وسوط من عذابه‪.‬‬

‫سمِيعٌ َبصِيرٌ * َيعْلَمُ مَا بَيْنَ‬


‫طفِي مِنَ ا ْلمَلَا ِئ َكةِ رُسُلًا َومِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫{ ‪ { } 76 - 75‬اللّهُ َيصْ َ‬
‫أَيْدِيهِمْ َومَا خَ ْل َفهُ ْم وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ الُْأمُورُ }‬

‫لما بين تعالى كماله وضعف الصنام‪ ،‬وأنه المعبود حقا‪ ،‬بين حالة الرسل‪ ،‬وتميزهم عن الخلق بما‬
‫طفِي مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ ُرسُلًا َومِنَ النّاسِ } أي‪ :‬يختار ويجتبي‬
‫تميزوا به من الفضائل فقال‪ { :‬اللّهُ َيصْ َ‬
‫من الملئكة رسل‪ ،‬ومن الناس رسل‪ ،‬يكونون أزكى ذلك النوع‪ ،‬وأجمعه لصفات المجد‪ ،‬وأحقه‬
‫بالصطفاء‪ ،‬فالرسل ل يكونون إل صفوة الخلق على الطلق‪ ،‬والذي اختارهم واصطفاهم ليس‬
‫جاهل بحقائق الشياء‪ ،‬أو يعلم شيئا دون شيء‪ ،‬وإنما المصطفى لهم‪ ،‬السميع‪ ،‬البصير‪ ،‬الذي قد‬
‫أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الشياء‪ ،‬فاختياره إياهم‪ ،‬عن علم منه‪ ،‬أنهم أهل لذلك‪ ،‬وأن‬
‫ج َعلُ رِسَالَ َتهُ }‬
‫الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى‪ { :‬اللّهُ أَعْلَمُ حَ ْيثُ يَ ْ‬
‫{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ } أي‪ :‬هو يرسل الرسل‪ ،‬يدعون الناس إلى ال‪ ،‬فمنهم المجيب‪ ،‬ومنهم‬
‫الراد لدعوتهم‪ ،‬ومنهم العامل‪ ،‬ومنهم الناكل‪ ،‬فهذا وظيفة الرسل‪ ،‬وأما الجزاء على تلك العمال‪،‬‬
‫فمصيرها إلى ال‪ ،‬فل تعدم منه فضل أو عدل‪.‬‬

‫جدُوا وَاعْبُدُوا رَ ّبكُ ْم وَا ْفعَلُوا الْخَيْرَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ‬


‫{ ‪ { } 78 - 77‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْر َكعُوا وَاسْ ُ‬
‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‬
‫جهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَاكُ ْم َومَا َ‬
‫* وَجَا ِهدُوا فِي اللّهِ حَقّ ِ‬
‫ش َهدَاءَ عَلَى النّاسِ‬
‫شهِيدًا عَلَ ْي ُك ْم وَ َتكُونُوا ُ‬
‫سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ َوفِي َهذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ‬
‫ُهوَ َ‬
‫صمُوا بِاللّهِ ُهوَ َموْلَاكُمْ فَ ِن ْعمَ ا ْل َموْلَى وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ }‬
‫فََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ وَاعْ َت ِ‬

‫يأمر تعالى‪ ،‬عباده المؤمنين بالصلة‪ ،‬وخص منها الركوع والسجود‪ ،‬لفضلهما وركنيتهما‪ ،‬وعبادته‬
‫التي هي قرة العيون‪ ،‬وسلوة القلب المحزون‪ ،‬وأن ربوبيته وإحسانه على العباد‪ ،‬يقتضي منهم أن‬
‫يخلصوا له العبادة‪ ،‬ويأمرهم بفعل الخير عموما‪.‬‬

‫وعلق تعالى الفلح على هذه المور فقال‪َ { :‬لعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } أي‪ :‬تفوزون بالمطلوب المرغوب‪،‬‬
‫وتنجون من المكروه المرهوب‪ ،‬فل طريق للفلح سوى الخلص في عبادة الخالق‪ ،‬والسعي في‬
‫نفع عبيده‪ ،‬فمن وفق لذلك‪ ،‬فله القدح المعلى‪ ،‬من السعادة والنجاح والفلح‪.‬‬

‫جهَا ِدهِ } والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب‪ ،‬فالجهاد في‬
‫{ وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ ِ‬
‫ال حق جهاده‪ ،‬هو القيام التام بأمر ال‪ ،‬ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك‪ ،‬من‬
‫نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫{ ُهوَ اجْتَبَاكُمْ } أي‪ :‬اختاركم ‪-‬يا معشر المسلمين‪ -‬من بين الناس‪ ،‬واختار لكم الدين‪ ،‬ورضيه‬
‫لكم‪ ،‬واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل‪ ،‬فقابلوا هذه المنحة العظيمة‪ ،‬بالقيام بالجهاد فيه حق‬
‫جهَا ِدهِ } ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف‬
‫القيام‪ ،‬ولما كان قوله‪ { :‬وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ ِ‬
‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي‪:‬‬
‫ما ل يطاق‪ ،‬أو تكليف ما يشق‪ ،‬احترز منه بقوله‪َ { :‬ومَا َ‬
‫مشقة وعسر‪ ،‬بل يسره غاية التيسير‪ ،‬وسهله بغاية السهولة‪ ،‬فأول ما أمر وألزم إل بما هو سهل‬
‫على النفوس‪ ،‬ل يثقلها ول يؤودها‪ ،‬ثم إذا عرض بعض السباب الموجبة للتخفيف‪ ،‬خفف ما أمر‬
‫به‪ ،‬إما بإسقاطه‪ ،‬أو إسقاط بعضه‪ .‬ويؤخذ من هذه الية‪ ،‬قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب‬
‫التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من الحكام الفرعية‪ ،‬شيء كثير‬
‫معروف في كتب الحكام‪.‬‬
‫{ مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } أي‪ :‬هذه الملة المذكورة‪ ،‬والوامر المزبورة‪ ،‬ملة أبيكم إبراهيم‪ ،‬التي ما زال‬
‫عليها‪ ،‬فالزموها واستمسكوا بها‪.‬‬

‫سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬في الكتب السابقة‪ ،‬مذكورون ومشهورون‪َ { ،‬وفِي َهذَا } أي‪:‬‬
‫{ ُهوَ َ‬
‫شهِيدًا‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬وهذا الشرع‪ .‬أي‪ :‬ما زال هذا السم لكم قديما وحديثا‪ { ،‬لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ } لكونكم خير أمة أخرجت للناس‪،‬‬
‫عَلَ ْيكُمْ } بأعمالكم خيرها وشرها { وَ َتكُونُوا ُ‬
‫أمة وسطا عدل خيارا‪ ،‬تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم‪ ،‬وتشهدون على المم أن رسلهم بلغتهم‬
‫بما أخبركم ال به في كتابه‪ { ،‬فََأقِيمُوا الصّلَاةَ } بأركانها وشروطها وحدودها‪ ،‬وجميع لوازمها‪،‬‬
‫صمُوا بِاللّهِ } أي‪ :‬امتنعوا‬
‫{ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } المفروضة لمستحقيها شكرا ل على ما أولكم‪ { ،‬وَاعْ َت َ‬
‫به وتوكلوا عليه في ذلك‪ ،‬ول تتكلوا على حولكم وقوتكم‪ُ { ،‬هوَ َموْلَاكُمْ } الذي يتولى أموركم‪،‬‬
‫فيدبركم بحسن تدبيره‪ ،‬ويصرفكم على أحسن تقديره‪ { ،‬فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَى وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ } أي‪ :‬نعم‬
‫المولى لمن توله‪ ،‬فحصل له مطلوبه { وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ } لمن استنصره فدفع عنه المكروه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحج‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة المؤمنون‬

‫وهي مكية‬

‫شعُونَ *‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلَا ِتهِمْ خَا ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫جهِمْ حَافِظُونَ * إِلّا‬
‫وَالّذِينَ ُهمْ عَنِ الّل ْغوِ ُمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ‬
‫جهِ ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ‬
‫عَلَى أَ ْزوَا ِ‬
‫عهْ ِدهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صََلوَا ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ * أُولَ ِئكَ ُهمُ‬
‫* وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ‬
‫ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }‬

‫هذا تنويه من ال‪ ،‬بذكر عباده المؤمنين‪ ،‬وذكر فلحهم وسعادتهم‪ ،‬وبأي‪ :‬شيء وصلوا إلى ذلك‪،‬‬
‫وفي ضمن ذلك‪ ،‬الحث على التصاف بصفاتهم‪ ،‬والترغيب فيها‪ .‬فليزن العبد نفسه وغيره على‬
‫هذه اليات‪ ،‬يعرف بذلك ما معه وما مع غيره من اليمان‪ ،‬زيادة ونقصا‪ ،‬كثرة وقلة‪ ،‬فقوله { َقدْ‬
‫َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬قد فازوا وسعدوا ونجحوا‪ ،‬وأدركوا كل ما يرام المؤمنون الذين آمنوا بال‬
‫شعُونَ }‬
‫وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم { فِي صَلَا ِت ِهمْ خَا ِ‬

‫والخشوع في الصلة‪ :‬هو حضور القلب بين يدي ال تعالى‪ ،‬مستحضرا لقربه‪ ،‬فيسكن لذلك قلبه‪،‬‬
‫وتطمئن نفسه‪ ،‬وتسكن حركاته‪ ،‬ويقل التفاته‪ ،‬متأدبا بين يدي ربه‪ ،‬مستحضرا جميع ما يقوله‬
‫ويفعله في صلته‪ ،‬من أول صلته إلى آخرها‪ ،‬فتنتفي بذلك الوساوس والفكار الردية‪ ،‬وهذا روح‬
‫الصلة‪ ،‬والمقصود منها‪ ،‬وهو الذي يكتب للعبد‪ ،‬فالصلة التي ل خشوع فيها ول حضور قلب‪،‬‬
‫وإن كانت مجزئة مثابا عليها‪ ،‬فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ هُمْ عَنِ الّل ْغوِ } وهو الكلم الذي ل خير فيه ول فائدة‪ُ { ،‬معْ ِرضُونَ } رغبة عنه‪ ،‬وتنزيها‬
‫لنفسهم‪ ،‬وترفعا عنه‪ ،‬وإذا مروا باللغو مروا كراما‪ ،‬وإذا كانوا معرضين عن اللغو‪ ،‬فإعراضهم‬
‫عن المحرم من باب أولى وأحرى‪ ،‬وإذا ملك العبد لسانه وخزنه ‪-‬إل في الخير‪ -‬كان مالكا‬
‫لمره‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال‪ " :‬أل أخبرك‬
‫بملك ذلك كله؟ " قلت‪ :‬بلى يا رسول ال‪ ،‬فأخذ بلسان نفسه وقال‪ " :‬كف عليك هذا " فالمؤمنون‬
‫من صفاتهم الحميدة‪ ،‬كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ } أي مؤدون لزكاة أموالهم‪ ،‬على اختلف أجناس الموال‪ ،‬مزكين‬
‫لنفسهم من أدناس الخلق ومساوئ العمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها‪ ،‬فأحسنوا في‬
‫عبادة الخالق‪ ،‬في الخشوع في الصلة‪ ،‬وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة‪.‬‬

‫ج ِهمْ حَا ِفظُونَ } عن الزنا‪ ،‬ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك‪ ،‬كالنظر‬
‫{ وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ‬
‫ج ِه ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } من‬
‫واللمس ونحوهما‪ .‬فحفظوا فروجهم من كل أحد { إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ‬
‫الماء المملوكات { فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } بقربهما‪ ،‬لن ال تعالى أحلهما‪.‬‬

‫{ َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ } غير الزوجة والسرية { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ } الذين تعدوا ما أحل ال إلى‬
‫ما حرمه‪ ،‬المتجرئون على محارم ال‪ .‬وعموم هذه الية‪ ،‬يدل على تحريم نكاح المتعة‪ ،‬فإنها‬
‫ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها‪ ،‬ول مملوكة‪ ،‬وتحريم نكاح المحلل لذلك‪.‬‬

‫ويدل قوله { أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } أنه يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه‪ ،‬فلو كان‬
‫له بعضها لم تحل‪ ،‬لنها ليست مما ملكت يمينه‪ ،‬بل هي ملك له ولغيره‪ ،‬فكما أنه ل يجوز أن‬
‫يشترك في المرأة الحرة زوجان‪ ،‬فل يجوز أن يشترك في المة المملوكة سيدان‪.‬‬
‫عهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي‪ :‬مراعون لها‪ ،‬ضابطون‪ ،‬حافظون‪ ،‬حريصون على‬
‫{ وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ‬
‫القيام بها وتنفيذها‪ ،‬وهذا عام في جميع المانات التي هي حق ل‪ ،‬والتي هي حق للعباد‪ ،‬قال‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫علَى ال ّ‬
‫تعالى‪ { :‬إِنّا عَ َرضْنَا الَْأمَانَةَ َ‬
‫حمََلهَا الْإِنْسَانُ } فجميع ما أوجبه ال على عبده أمانة‪ ،‬على العبد حفظها بالقيام التام بها‪ ،‬وكذلك‬
‫وَ َ‬
‫يدخل في ذلك أمانات الدميين‪ ،‬كأمانات الموال والسرار ونحوهما‪ ،‬فعلى العبد مراعاة المرين‪،‬‬
‫وأداء المانتين { إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ ُتؤَدّوا الَْأمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا }‬

‫وكذلك العهد‪ ،‬يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم والذي بينهم وبين العباد‪ ،‬وهي اللتزامات‬
‫والعقود‪ ،‬التي يعقدها العبد‪ ،‬فعليه مراعاتها والوفاء بها‪ ،‬ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها ‪،‬‬
‫{ وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صََلوَا ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ } أي‪ :‬يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها‬
‫وأركانها‪ ،‬فمدحهم بالخشوع بالصلة‪ ،‬وبالمحافظة عليها‪ ،‬لنه ل يتم أمرهم إل بالمرين‪ ،‬فمن‬
‫يداوم على الصلة من غير خشوع‪ ،‬أو على الخشوع من دون محافظة عليها‪ ،‬فإنه مذموم ناقص‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الموصوفون بتلك الصفات { هم ا ْلوَارِثُونَ* الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ } الذي هو أعلى‬
‫الجنة ووسطها وأفضلها‪ ،‬لنهم حلوا من صفات الخير أعلها وذروتها‪ ،‬أو المراد بذلك جميع‬
‫الجنة‪ ،‬ليدخل بذلك عموم المؤمنين‪ ،‬على درجاتهم و مراتبهم كل بحسب حاله‪ { ،‬هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‬
‫} ل يظعنون عنها‪ ،‬ول يبغون عنها حول لشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه‪ ،‬من غير‬
‫مكدر ول منغص‪.‬‬

‫طفَةً فِي قَرَارٍ َمكِينٍ * ثُمّ‬


‫جعَلْنَاهُ نُ ْ‬
‫{ ‪ { } 16 - 12‬وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِ ْنسَانَ مِنْ سُلَاَلةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمّ َ‬
‫حمًا ُثمّ أَنْشَأْنَاهُ خَ ْلقًا‬
‫سوْنَا ا ْلعِظَامَ لَ ْ‬
‫عظَامًا َفكَ َ‬
‫ضغَةَ ِ‬
‫ضغَةً فَخََلقْنَا ا ْل ُم ْ‬
‫طفَةَ عََلقَةً فَخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُم ْ‬
‫خََلقْنَا النّ ْ‬
‫آخَرَ فَتَبَا َركَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَاِلقِينَ * ُثمّ إِ ّنكُمْ َبعْدَ ذَِلكَ َلمَيّتُونَ * ثُمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ }‬

‫ذكر ال في هذه اليات أطوار الدمي وتنقلته‪ ،‬من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه‪ ،‬فذكر‬
‫ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلم‪ ،‬وأنه { مِنْ سُلَاَلةٍ مِنْ طِينٍ } أي‪ :‬قد سلت‪ ،‬وأخذت‬
‫من جميع الرض‪ ،‬ولذلك جاء بنوه على قدر الرض‪ ،‬منهم الطيب والخبيث‪ ،‬وبين ذلك‪ ،‬والسهل‬
‫والحزن‪ ،‬وبين ذلك‪.‬‬

‫طفَةً } تخرج من بين الصلب والترائب‪ ،‬فتستقر { فِي قَرَارٍ‬


‫جعَلْنَاهُ } أي‪ :‬جنس الدميين { ُن ْ‬
‫{ ُثمّ َ‬
‫َمكِينٍ } وهو الرحم‪ ،‬محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك‪.‬‬
‫طفَةَ } التي قد استقرت قبل { عََلقَةً } أي‪ :‬دما أحمر‪ ،‬بعد مضي أربعين يوما من‬
‫{ ُثمّ خََلقْنَا النّ ْ‬
‫ضغَةً } أي‪ :‬قطعة لحم صغيرة‪ ،‬بقدر ما يمضغ من‬
‫النطفة‪ { ،‬فخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ } بعد أربعين يوما { ُم ْ‬
‫صغرها‪.‬‬

‫سوْنَا‬
‫عظَامًا } صلبة‪ ،‬قد تخللت اللحم‪ ،‬بحسب حاجة البدن إليها‪َ { ،‬فكَ َ‬
‫ضغَةَ } اللينة { ِ‬
‫{ َفخََلقْنَا ا ْل ُم ْ‬
‫حمًا } أي‪ :‬جعلنا اللحم‪ ،‬كسوة للعظام‪ ،‬كما جعلنا العظام‪ ،‬عمادا للحم‪ ،‬وذلك في الربعين‬
‫ا ْلعِظَامَ لَ ْ‬
‫الثالثة‪ { ،‬ثُمّ أَ ْنشَأْنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ } نفخ فيه الروح‪ ،‬فانتقل من كونه جمادا‪ ،‬إلى أن صار حيوانا‪،‬‬
‫{ فَتَبَا َركَ اللّهُ } أي‪ :‬تعالى وتعاظم وكثر خيره { َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ } { الذي أحسن كل شيء خلقه‬
‫وبدأ خلق النسان من طين ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه‬
‫وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليل ما تشكرون } فخلقه كله حسن‪ ،‬والنسان من أحسن‬
‫مخلوقاته‪ ،‬بل هو أحسنها على الطلق‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬لقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي َأحْسَنِ َت ْقوِيمٍ }‬
‫ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها‪.‬‬

‫{ ُثمّ إِ ّنكُمْ َب ْعدَ ذَِلكَ } الخلق‪ ،‬ونفخ الروح { َلمَيّتُونَ } في أحد أطواركم وتنقلتكم { ثُمّ إِ ّن ُكمْ َيوْمَ‬
‫سبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى*‬
‫حَ‬‫ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ } فتجازون بأعمالكم‪ ،‬حسنها وسيئها‪ .‬قال تعالى‪ { :‬أَيَ ْ‬
‫ج َعلَ مِنْهُ ال ّز ْوجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى* أَلَيْسَ‬
‫سوّى* فَ َ‬
‫طفَةً مِنْ مَ ِنيّ ُيمْنَى* ُثمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ‬
‫أَلَمْ َيكُ ُن ْ‬
‫ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى }‬

‫سمَاءِ‬
‫ق َومَا كُنّا عَنِ ا ْلخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 20 - 17‬وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ سَ ْبعَ طَرَا ِئ َ‬
‫ض وَإِنّا عَلَى ذَهَابٍ ِبهِ َلقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا َل ُكمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ‬
‫سكَنّاهُ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْ‬
‫ن َوصِبْغٍ‬
‫شجَ َرةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْ ُبتُ بِالدّهْ ِ‬
‫وَأَعْنَابٍ َل ُكمْ فِيهَا َفوَاكِهُ كَثِي َرةٌ َومِنْهَا تَ ْأكُلُونَ * وَ َ‬
‫لِلْآكِلِينَ }‬

‫لما ذكر تعالى خلق الدمي‪ ،‬ذكر سكنه‪ ،‬وتوفر النعم عليه من كل وجه فقال‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ }‬
‫سقفا للبلد‪ ،‬ومصلحة للعباد { سَبْعَ طَرَائِقَ } أي‪ :‬سبع سماوات طباقا‪ ،‬كل طبقة فوق الخرى‪ ،‬قد‬
‫زينت بالنجوم والشمس والقمر‪ ،‬وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودع‪َ { ،‬ومَا كُنّا عَنِ ا ْلخَلْقِ‬
‫غَافِلِينَ } فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق‪ ،‬فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا‪ ،‬فل نغفل مخلوقا ول ننساه‪،‬‬
‫ول نخلق خلقا فنضيعه‪ ,‬ول نغفل عن السماء فتقع على الرض‪ ،‬ول ننسى ذرة في لجج البحار‬
‫وجوانب الفلوات‪ ،‬ول دابة إل سقنا إليها رزقها { َومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا‬
‫عهَا } وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله‪ { :‬أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‬
‫وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ‬
‫وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ } { بَلَى وَ ُهوَ الْخَلّاقُ ا ْلعَلِيمُ } لن خلق المخلوقات‪ ،‬من أقوى الدلة العقلية‪،‬‬
‫على علم خالقها وحكمته‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً } يكون رزقا لكم ولنعامكم بقدر ما يكفيكم‪ ،‬فل ينقصه‪ ،‬بحيث ل يكفي‬
‫{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫الرض والشجار‪ ،‬فل يحصل منه المقصود‪ ،‬ول يزيده زيادة ل تحتمل‪ ،‬بحيث يتلف المساكن‪،‬‬
‫ول تعيش معه النباتات والشجار‪ ،‬بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من‬
‫سكَنّاهُ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬أنزلناه عليها‪ ،‬فسكن واستقر‪ ،‬وأخرج بقدرة منزله‪ ،‬جميع‬
‫دوامه‪ { ،‬فَأَ ْ‬
‫الزواج النباتية‪ ،‬وأسكنه أيضا معدا في خزائن الرض‪ ،‬بحيث لم يذهب نازل‪ ،‬حتى ل يوصل‬
‫إليه‪ ،‬ول يبلغ قعره‪ { ،‬وَإِنّا عَلَى َذهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ } إما بأن ل ننزله‪ ،‬أو ننزله‪ ،‬فيذهب نازل ل‬
‫يوصل إليه‪ ،‬أو ل يوجد منه المقصود منه‪ ،‬وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته‪ ،‬ويقدروا‬
‫غوْرًا َفمَنْ يَأْتِي ُكمْ‬
‫عدمها‪ ،‬ماذا يحصل به من الضرر‪ ،‬كقوله تعالى‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَاؤُكُمْ َ‬
‫ِبمَاءٍ َمعِينٍ }‬

‫ل وَأَعْنَابٍ } خص تعالى هذين‬


‫{ فَأَ ْنشَأْنَا َلكُمْ ِبهِ } أي‪ :‬بذلك الماء { جَنّاتٍ } أي‪ :‬بساتين { مِنْ نَخِي ٍ‬
‫النوعين‪ ،‬مع أنه ينشئ منه غيرهما من الشجار‪ ،‬لفضلهما ومنافعهما‪ ،‬التي فاقت بها الشجار‪،‬‬
‫ولهذا ذكر العام في قوله‪َ { :‬ل ُكمُ فيها } أي‪ :‬في تلك الجنات { َفوَاكِهُ كَثِي َر ٌة َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ } من‬
‫شجَ َرةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ } وهي شجرة الزيتون‪،‬‬
‫تين‪ ،‬وأترج‪ ،‬ورمان‪ ،‬وتفاح وغيرها ‪ { ،‬وَ َ‬
‫أي‪ :‬جنسها‪ ،‬خصت بالذكر‪ ،‬لن مكانها خاص في أرض الشام‪ ،‬ولمنافعها‪ ،‬التي ذكر بعضها في‬
‫ن َوصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } أي‪ :‬فيها الزيت‪ ،‬الذي هو دهن‪ ،‬يستعمل استعماله من‬
‫قوله‪ { :‬تَنْ ُبتُ بِالدّهْ ِ‬
‫الستصباح به‪ ،‬واصطباغ الكلين‪ ،‬أي‪ :‬يجعل إداما للكلين‪ ،‬وغير ذلك من المنافع‪.‬‬

‫سقِيكُمْ ِممّا فِي ُبطُو ِنهَا وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َر ٌة َومِ ْنهَا‬
‫{ ‪ { } 22 - 21‬وَإِنّ َلكُمْ فِي الْأَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً نُ ْ‬
‫حمَلُونَ }‬
‫تَ ْأكُلُونَ * وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ‬

‫أي‪ :‬ومن نعمه عليكم‪ ،‬أن سخر لكم النعام‪ ،‬البل والبقر‪ ،‬والغنم‪ ،‬فيها عبرة للمعتبرين‪ ،‬ومنافع‬
‫سقِيكُمْ ِممّا فِي بُطُو ِنهَا } من لبن‪ ،‬يخرج من بين فرث ودم‪ ،‬خالص سائغ للشاربين‪،‬‬
‫للمنتفعين { نُ ْ‬
‫{ وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َرةٌ } من أصوافها‪ ،‬وأوبارها‪ ،‬وأشعارها‪ ،‬وجعل لكم من جلود النعام بيوتا‬
‫تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم { َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ } أفضل المآكل من لحم وشحم‪.‬‬

‫حمَلُونَ } أي‪ :‬جعلها سفنا لكم في البر‪ ،‬تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم‬
‫{ وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ ُت ْ‬
‫تكونوا بالغيه إل بشق النفس‪ ،‬كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم‪ ،‬وتحمل متاعكم‪ ،‬قليل [كان]‬
‫أو كثيرا‪ ،‬فالذي أنعم بهذه النعم‪ ،‬وصنف أنواع الحسان‪ ،‬وأدر علينا من خيره المدرار‪ ،‬هو الذي‬
‫يستحق كمال الشكر‪ ،‬وكمال الثناء‪ ،‬والجتهاد في عبوديته‪ ،‬وأن ل يستعان بنعمه على معاصيه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 30 - 23‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا‬
‫تَ ّتقُونَ } إلى آخرالقصة‬

‫وهي قوله { إن في ذلك ليات وإن كنا لمبتلين } يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه‬
‫السلم‪ ،‬أول رسول أرسله لهل الرض‪ ،‬فأرسله إلى قومه‪ ،‬وهم يعبدون الصنام‪ ،‬فأمرهم بعبادة‬
‫ال وحده‪ ،‬فقال‪ { :‬يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ } أي‪ :‬أخلصوا له العبادة‪ ،‬لن العبادة ل تصح إل بإخلصها‪.‬‬
‫{ مَا َل ُكمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } فيه إبطال ألوهية غير ال‪ ،‬وإثبات اللهية ل تعالى‪ ،‬لنه الخالق الرازق‪،‬‬
‫الذي له الكمال كله‪ ،‬وغيره بخلف ذلك‪َ { .‬أفَلَا تَ ّتقُونَ } ما أنتم عليه من عبادة الوثان والصنام‪،‬‬
‫التي صورت على صور قوم صالحين‪ ،‬فعبدوها مع ال‪ ،‬فاستمر على ذلك‪ ،‬يدعوهم سرا وجهارا‪،‬‬
‫وليل ونهارا‪ ،‬ألف سنة إل خمسين عاما‪ ،‬وهم ل يزدادون إل عتوا ونفورا‪.‬‬

‫{ َفقَالَ ا ْلمَلَأُ } من قومه الشراف والسادة المتبوعون ‪-‬على وجه المعارضة لنبيهم نوح‪ ،‬والتحذير‬
‫ضلَ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬ما هذا إل بشر مثلكم‪ ،‬قصده‬
‫من اتباعه ‪ { :-‬مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَ َتفَ ّ‬
‫حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة‪ ،‬ليكون متبوعا‪ ،‬وإل فما الذي يفضله عليكم‪ ،‬وهو من‬
‫جنسكم؟ وهذه المعارضة ل زالت موجودة في مكذبي الرسل‪ ،‬وقد أجاب ال عنها بجواب شاف‪،‬‬
‫على ألسنة رسله كما في قوله‪ { :‬قالوا } أي‪ :‬لرسلهم { إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ َتصُدّونَا‬
‫سلْطَانٍ مُبِينٍ* قَاَلتْ َلهُمْ رُسُُلهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ‬
‫عمّا كَانَ َيعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِ ُ‬
‫َ‬
‫عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } فأخبروا أن هذا فضل ال ومنته‪ ،‬فليس لكم أن تحجروا على ال‪،‬‬
‫وتمنعوه من إيصال فضله علينا‪.‬‬

‫وقالوا هنا‪ { :‬ولو شاء ال لنزل ملئكة } وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة‪ ،‬فإنه وإن كان لو‬
‫شاء لنزل ملئكة‪ ،‬فإنه حكيم رحيم‪ ،‬حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس‬
‫الدميين‪ ،‬لن الملك ل قدرة لهم على مخاطبته‪ ،‬ول يمكن أن يكون إل بصورة رجل‪ ،‬ثم يعود‬
‫اللبس عليهم كما كان‪.‬‬

‫س ِمعْنَا ِبهَذَا } أي بإرسال الرسول { فِي آبَائِنَا الَْأوّلِينَ } وأي حجة في عدم سماعهم‬
‫وقولهم‪ { :‬مَا َ‬
‫إرسال رسول في آبائهم الولين؟ لنهم لم يحيطوا علما بما تقدم‪ ،‬فل يجعلوا جهلهم حجة لهم‪،‬‬
‫وعلى تقدير أنه لم يرسل فيهم رسول‪ ،‬فإما أن يكونوا على الهدى‪ ،‬فل حاجة لرسال الرسول إذ‬
‫ذاك‪ ،‬وإما أن يكونوا على غيره‪ ،‬فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم‪ ،‬ول‬
‫شعروا بها‪ ،‬ول يجعلوا عدم الحسان على غيرهم سببا لكفرهم للحسان إليهم‪.‬‬

‫جلٌ ِبهِ جِنّةٌ } أي‪ :‬مجنون { فَتَرَ ّبصُوا بِهِ } أي‪ :‬انتظروا به { حَتّى حِينٍ } إلى أن‬
‫{ إِنْ ُهوَ إِلّا رَ ُ‬
‫يأتيه الموت‪.‬‬

‫وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم‪ ،‬دالة على شدة كفرهم وعنادهم‪ ،‬وعلى أنهم في‬
‫غاية الجهل والضلل‪ ،‬فإنها ل تصلح للمعارضة بوجه من الوجوه‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬بل هي في نفسها‬
‫ضلَ عَلَ ْيكُمْ } أثبتوا أن له عقل‬
‫متناقضة متعارضة‪ .‬فقوله‪ { :‬مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَ َتفَ ّ‬
‫يكيدهم به‪ ،‬ليعلوهم ويسودهم‪ ،‬ويحتاج ‪-‬مع هذا‪ -‬أن يحذر منه لئل يغتر به‪ ،‬فكيف يلتئم مع‬
‫جلٌ ِبهِ جِنّةٌ } وهل هذا إل من مشبه ضال‪ ،‬منقلب عليه المر‪ ،‬قصده الدفع‬
‫قولهم‪ { :‬إِنْ ُهوَ إِلّا رَ ُ‬
‫بأي‪ :‬طريق اتفق له‪ ،‬غير عالم بما يقول؟"‪.‬‬

‫ويأبى ال إل أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله‪.‬‬

‫فلما رأى نوح أنه ل يفيدهم دعاؤه إل فرارا { قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا َكذّبُونِ } فاستنصر ربه‬
‫علَى الْأَ ْرضِ مِنَ‬
‫عليهم‪ ،‬غضبا ل‪ ،‬حيث ضيعوا أمره‪ ،‬وكذبوا رسوله وقال‪َ { :‬ربّ لَا تَذَرْ َ‬
‫ك وَلَا يَِلدُوا إِلّا فَاجِرًا كَفّارًا } قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ نَادَانَا‬
‫ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا* إِ ّنكَ إِنْ تَذَرْ ُهمْ ُيضِلّوا عِبَا َد َ‬
‫نُوحٌ فَلَ ِنعْمَ ا ْلمُجِيبُونَ }‬

‫{ فََأوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند استجابتنا له‪ ،‬سببا ووسيلة للنجاة‪ ،‬قبل وقوع أسبابه‪ { ،‬أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ } أي‪:‬‬
‫السفينة { بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا } أي‪ :‬بأمرنا لك ومعونتنا‪ ،‬وأنت في حفظنا وكلءتنا بحيث نراك‬
‫ونسمعك‪.‬‬

‫{ فَِإذَا جَاءَ َأمْرُنَا } بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { َوفَارَ التّنّورُ } أي‪ :‬فارت الرض‪ ،‬وتفجرت‬
‫عيونا‪ ،‬حتى محل النار‪ ،‬الذي لم تجر العادة إل ببعده عن الماء‪ { ،‬فَاسُْلكْ فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجَيْنِ‬
‫اثْنَيْنِ } أي‪ :‬أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات‪ ،‬ذكرا وأنثى‪ ،‬تبقى مادة النسل لسائر‬
‫الحيوانات‪ ،‬التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الرض‪ { ،‬وَأَهَْلكَ } أي‪ :‬أدخلهم { إِلّا مَنْ‬
‫سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْل َق ْولُ } كابنه‪ { ،‬وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُوا } أي‪ :‬ل تدعني أن أنجيهم‪ ،‬فإن القضاء‬
‫والقدر‪ ،‬قد حتم أنهم مغرقون‪.‬‬

‫ت َومَنْ َم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ } أي‪ :‬علوتم عليها‪ ،‬واستقلت بكم في تيار المواج‪،‬‬
‫{ فَِإذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَ ْن َ‬
‫ولجج اليم‪ ،‬فاحمدوا ال على النجاة والسلمة‪ .‬فقل الحمد ل الذي نجانا من القوم الظالمين‪ ،‬وهذا‬
‫تعليم منه له ولمن معه‪ ،‬أن يقولوا هذا شكرا له وحمدا على نجاتهم من القوم الظالمين في عملهم‬
‫وعذابهم‪.‬‬

‫{ َو ُقلْ َربّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَا َركًا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ } أي‪ :‬وبقيت عليكم نعمة أخرى‪ ،‬فادعوا ال‬
‫فيها‪ ،‬وهي أن ييسر ال لكم منزل مباركا‪ ،‬فاستجاب ال دعاءه‪ ،‬قال ال‪َ { :‬و ُقضِيَ الَْأمْ ُر وَاسْ َت َوتْ‬
‫ي َوقِيلَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } إلى أن قال‪ { :‬قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنّا وَبَ َركَاتٍ عَلَ ْيكَ‬
‫عَلَى الْجُو ِد ّ‬
‫وَعَلَى ُأ َممٍ ِممّنْ َم َعكَ } الية‪.‬‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ } أي‪ :‬في هذه القصة { لَآيَاتٍ } تدل على أن ال وحده المعبود‪ ،‬وعلى أن رسوله‬
‫نوحا صادق‪ ،‬وأن قومه كاذبون‪ ،‬وعلى رحمة ال بعباده‪ ،‬حيث حملهم في صلب أبيهم نوح‪ ،‬في‬
‫الفلك لما غرق أهل الرض‪.‬‬

‫والفلك أيضا من آيات ال‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ تَ َركْنَاهَا آيَةً َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } ولهذا جمعها هنا لنها‬
‫تدل على عدة آيات ومطالب‪ { .‬وَإِنْ كُنّا َلمُبْتَلِينَ }‬

‫{ ‪ { } 41 - 31‬ثُمّ أَنْشَأْنَا مِنْ َبعْ ِدهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ َرسُولًا مِ ْنهُمْ أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا‬
‫َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ * َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِِلقَاءِ الْآخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي‬
‫طعْ ُتمْ بَشَرًا‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا مَا َهذَا إِلّا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْ ُه وَيَشْ َربُ ِممّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَ َ‬
‫مِثَْلكُمْ إِ ّنكُمْ إِذًا َلخَاسِرُونَ * أَ َي ِع ُدكُمْ أَ ّنكُمْ إِذَا مِتّمْ َوكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَ ّنكُمْ مُخْرَجُونَ * هَ ْيهَاتَ‬
‫جلٌ‬
‫ت وَنَحْيَا َومَا َنحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ * إِنْ ُهوَ إِلّا َر ُ‬
‫هَ ْيهَاتَ ِلمَا تُوعَدُونَ * إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ‬
‫عمّا قَلِيلٍ‬
‫افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َومَا َنحْنُ لَهُ ِب ُمؤْمِنِينَ * قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا كَذّبُونِ * قَالَ َ‬
‫جعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }‬
‫حةُ بِا ْلحَقّ َف َ‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ‬
‫لَ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ * فَأَ َ‬

‫لما ذكر نوحا وقومه‪ ،‬وكيف أهلكهم قال‪ُ { :‬ثمّ أَنْشَأْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } الظاهر أنهم " ثمود‬
‫" قوم صالح عليه السلم‪ ،‬لن هذه القصة تشبه قصتهم‪.‬‬

‫{ فَأَ ْرسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِ ْنهُمْ } من جنسهم‪ ،‬يعرفون نسبه وحسبه وصدقه‪ ،‬ليكون ذلك أسرع‬
‫لنقيادهم‪ ،‬إذا كان منهم‪ ،‬وأبعد عن اشمئزازهم‪ ،‬فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم { أَنِ اعْ ُبدُوا‬
‫اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة‪ ،‬وهي أول دعوة يدعون بها أممهم‪ ،‬المر‬
‫بعبادة ال‪ ،‬والخبار أنه المستحق لذلك‪ ،‬والنهي عن عبادة ما سواه‪ ،‬والخبار ببطلن ذلك وفساده‪،‬‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬أفَلَا تَ ّتقُونَ } ربكم‪ ،‬فتجتنبوا هذه الوثان والصنام‪.‬‬
‫{ َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ الّذِينَ كَفَرُوا َوكَذّبُوا بِِلقَاءِ الْآخِ َرةِ وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي‪ :‬قال‬
‫الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة‪ ،‬وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا‪ ،‬معارضة لنبيهم‪،‬‬
‫وتكذيبا وتحذيرا منه‪ { :‬مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ } أي‪ :‬من جنسكم { يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْ ُه وَيَشْ َربُ‬
‫ِممّا تَشْرَبُونَ } فما الذي يفضله عليكم؟ فهل كان ملكا ل يأكل الطعام‪ ،‬ول يشرب الشراب ‪،‬‬
‫طعْتُمْ َبشَرًا مِثَْلكُمْ إِ ّنكُمْ إِذًا َلخَاسِرُونَ } أي‪ :‬إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا‪ ،‬وهو مثلكم‬
‫{ وَلَئِنْ َأ َ‬
‫إنكم لمسلوبو العقل‪ ،‬نادمون على ما فعلتم‪ .‬وهذا من العجب‪ ،‬فإن الخسارة والندامة حقيقة لمن لم‬
‫يتابعه ولم ينقد له‪ .‬والجهل والسفه العظيم لمن تكبر عن النقياد لبشر‪ ،‬خصه ال بوحيه‪ ،‬وفضله‬
‫برسالته‪ ،‬وابتلي بعبادة الشجر والحجر‪.‬‬

‫سعُرٍ َأؤُ ْل ِقيَ ال ّذكْرُ عَلَيْهِ مِنْ‬


‫ل وَ ُ‬
‫حدًا نَتّ ِبعُهُ إِنّا ِإذًا َلفِي ضَلَا ٍ‬
‫وهذا نظير قولهم‪ { :‬قَالُوا أَ َبشَرًا مِنّا وَا ِ‬
‫بَيْنِنَا َبلْ ُهوَ كَذّابٌ أَشِرٌ } فلما أنكروا رسالته وردوها‪ ،‬أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت‪،‬‬
‫والمجازاة على العمال فقالوا‪ { :‬أَ َي ِع ُدكُمْ أَ ّنكُمْ إِذَا مِتّ ْم َوكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَ ّن ُكمْ مُخْ َرجُونَ* هَ ْيهَاتَ‬
‫هَ ْيهَاتَ ِلمَا تُوعَدُونَ } أي‪ :‬بعيد بعيد ما يعدكم به‪ ،‬من البعث‪ ،‬بعد أن تمزقتم وكنتم ترابا وعظاما‪،‬‬
‫فنظروا نظرا قاصرا‪ ،‬ورأوا هذا بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن‪ ،‬فقاسوا قدرة الخالق بقدرهم‪،‬‬
‫تعالى ال‪ .‬فأنكروا قدرته على إحياء الموتى‪ ،‬وعجزوه غاية التعجيز‪ ،‬ونسوا خلقهم أول مرة‪ ،‬وأن‬
‫الذي أنشأهم من العدم‪ ،‬فإعادته لهم بعد البلى أهون عليه‪ ،‬وكلهما هين لديه‪ ،‬فلم ل ينكرون أول‬
‫خلقهم‪ ،‬ويكابرون المحسوسات‪ ،‬ويقولون‪ :‬إننا لم نزل موجودين‪ ،‬حتى يسلم لهم إنكارهم للبعث‪،‬‬
‫وينتقلوا معهم إلى الحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟‪.‬‬

‫وهنا دليل آخر‪ ،‬وهو‪ :‬أن الذي أحيا الرض بعد موتها‪ ،‬إن ذلك لمحيي الموتى‪ ،‬إنه على كل شيء‬
‫عجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُ ْنذِرٌ‬
‫قدير‪ ،‬وثم دليل آخر‪ ،‬وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله‪َ { :‬بلْ َ‬
‫جعٌ َبعِيدٌ } فقال في جوابهم‪ { :‬قَدْ‬
‫عجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا ذَِلكَ رَ ْ‬
‫شيْءٌ َ‬
‫مِ ْنهُمْ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا َ‬
‫حفِيظٌ }‬
‫عَِلمْنَا مَا تَ ْن ُقصُ الْأَ ْرضُ مِ ْنهُمْ } أي في البلى‪ { ،‬وَعِنْدَنَا كِتَابٌ َ‬

‫{ إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَنَحْيَا } أي‪ :‬يموت أناس‪ ،‬ويحيا أناس { َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ }‬

‫جلٌ ِبهِ جِنّةٌ } فلهذا أتى بما أتى به‪ ،‬من توحيد ال‪ ،‬وإثبات المعاد { فَتَرَ ّبصُوا بِهِ‬
‫{ إِنْ ُهوَ إِلّا رَ ُ‬
‫حَتّى حِينٍ } أي‪ :‬ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره‪ ،‬احتراما له‪ ،‬ولنه مجنون غير مؤاخذ بما‬
‫يتكلم به‪ ،‬أي‪ :‬فلم يبق بزعمهم الباطل مجادلة معه‪ ،‬لصحة ما جاء به‪ ،‬فإنهم قد عرفوا بطلنه‪،‬‬
‫وإنما بقي الكلم‪ ،‬هل يوقعون به أم ل؟‪ ،‬فبزعمهم أن عقولهم الرزينة‪ ،‬اقتضت البقاء عليه‪،‬‬
‫وترك اليقاع به‪ ،‬مع قيام الموجب‪ ،‬فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟" ولهذا لما اشتد كفرهم‪ ،‬ولم‬
‫ينفع فيهم النذار‪ ،‬دعا عليهم نبيهم فقال‪َ { :‬ربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا كَذّبُونِ } أي‪ :‬بإهلكهم‪ ،‬وخزيهم‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّ ْيحَةُ‬
‫عمّا قَلِيلٍ لَ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ فَأَ َ‬
‫الدنيوي‪ ،‬قبل الخرة‪ { .‬قَالَ } ال مجيبا لدعوته‪َ { :‬‬
‫حقّ } ل بالظلم والجور‪ ،‬بل بالعدل وظلمهم‪ ،‬أخذتهم الصيحة‪ ،‬فأهلكتهم عن آخرهم‪.‬‬
‫بِالْ َ‬

‫جعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } أي‪ :‬هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي‪ ،‬وقال في الية‬
‫{ َف َ‬
‫الخرى { إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِه ْم صَيْحَ ًة وَاحِ َدةً َفكَانُوا َكهَشِيمِ ا ْلمُحْتَظِرِ }‬

‫{ فَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬أتبعوا مع عذابهم‪ ،‬البعد واللعنة والذم من العالمين { َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ‬
‫سمَاءُ وَالْأَ ْرضُ َومَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }‬
‫ال ّ‬

‫{ ‪ { } 44 - 42‬ثُمّ أَنْشَأْنَا مِنْ َبعْ ِدهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ *‬
‫جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ فَ ُبعْدًا‬
‫ضهُمْ َب ْعضًا َو َ‬
‫ثُمّ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ُكلّ مَا جَاءَ ُأمّةً رَسُوُلهَا كَذّبُوهُ فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ‬
‫ِلقَوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫أي‪ :‬ثم أنشأنا من بعد هؤلء المكذبين المعاندين قرونا آخرين‪ ،‬كل أمة في وقت مسمى‪ ،‬وأجل‬
‫محدود‪ ،‬ل تتقدم عنه ول تتأخر‪ ،‬وأرسلنا إليهم رسل متتابعة‪ ،‬لعلهم يؤمنون وينيبون‪ ،‬فلم يزل‬
‫الكفر والتكذيب دأب المم العصاة‪ ،‬والكفرة البغاة‪ ،‬كلما جاء أمة رسولها كذبوه‪ ،‬مع أن كل رسول‬
‫يأتي من اليات ما يؤمن على مثله البشر‪ ،‬بل مجرد دعوة الرسل وشرعهم‪ ،‬يدل على حقيه ما‬
‫ضهُمْ َب ْعضًا } بالهلك‪ ،‬فلم يبق منهم باقية‪ ،‬وتعطلت مساكنهم من بعدهم‬
‫جاءوا به‪ { ،‬فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ‬
‫جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ } يتحدث بهم من بعدهم‪ ،‬ويكونون عبرة للمتقين‪ ،‬ونكال للمكذبين‪ ،‬وخزيا‬
‫{ وَ َ‬
‫عليهم مقرونا بعذابهم‪ { .‬فَ ُبعْدًا ِل َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ } ما أشقاهم" وتعسا لهم‪ ،‬ما أخسر صفقتهم"‪.‬‬

‫ن َومَلَئِهِ‬
‫عوْ َ‬
‫سلْطَانٍ مُبِينٍ * ِإلَى فِرْ َ‬
‫{ ‪ { } 49 - 45‬ثُمّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ ُ‬
‫فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا عَالِينَ * َفقَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ لِ َبشَرَيْنِ مِثْلِنَا َو َق ْومُ ُهمَا لَنَا عَا ِبدُونَ * َفكَذّبُو ُهمَا َفكَانُوا‬
‫مِنَ ا ْل ُمهَْلكِينَ * وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ }‬

‫مر عليّ منذ زمان طويل كلم لبعض العلماء ل يحضرني الن اسمه‪ ،‬وهو أنه بعد بعث موسى‬
‫ونزول التوراة‪ ،‬رفع ال العذاب عن المم‪ ،‬أي‪ :‬عذاب الستئصال‪ ،‬وشرع للمكذبين المعاندين‬
‫الجهاد‪ ،‬ولم أدر من أين أخذه‪ ،‬فلما تدبرت هذه اليات‪ ،‬مع اليات التي في سورة القصص‪ ،‬تبين‬
‫لي وجهه‪ ،‬أما هذه اليات‪ ،‬فلن ال ذكر المم المهلكة المتتابعة على الهلك‪ ،‬ثم أخبر أنه أرسل‬
‫موسى بعدهم‪ ،‬وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس‪ ،‬ول يرد على هذا‪ ،‬إهلك فرعون‪ ،‬فإنه قبل‬
‫نزول التوراة‪ ،‬وأما اليات التي في سورة القصص‪ ،‬فهي صريحة جدا‪ ،‬فإنه لما ذكر هلك‬
‫س وَهُدًى‬
‫فرعون قال‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِ مَا أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الْأُولَى َبصَائِرَ لِلنّا ِ‬
‫حمَةً َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ } فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلك المم الباغية‪ ،‬وأخبر أنه أنزله‬
‫وَرَ ْ‬
‫بصائر للناس وهدى ورحمة‪ ،‬ولعل من هذا‪ ،‬ما ذكر ال في سورة " يونس " من قولة‪ { :‬ثم بعثنا‬
‫من بعده } أي‪ :‬من بعد نوح { رسل إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به‬
‫من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين* ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } اليات وال أعلم‪.‬‬

‫فقوله‪ { :‬ثُمّ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى } بن عمران‪ ،‬كليم الرحمن { وََأخَاهُ هَارُونَ } حين سأل ربه أن يشركه‬
‫في أمره فأجاب سؤله‪.‬‬

‫{ بِآيَاتِنَا } الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به { وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬حجة بينة‪ ،‬من قوتها‪ ،‬أن‬
‫تقهر القلوب‪ ،‬وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين‪ ،‬وتقوم الحجة البينة على المعاندين‪،‬‬
‫وهذا كقوله { وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ِتسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند‬
‫عوْنُ إِنّي لَأَظُ ّنكَ يَا مُوسَى‬
‫{ فَاسَْألْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَ ُهمْ } أي‪ :‬بتلك اليات البينات { َفقَالَ له فِرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َبصَائِرَ‬
‫مَسْحُورًا } فب { قال } موسى { قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ ِإلّا َربّ ال ّ‬
‫سهُمْ ظُ ْلمًا وَعُُلوّا } وقال‬
‫جحَدُوا ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ‬
‫عوْنُ مَثْبُورًا } وقال تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫وَإِنّي لََأظُ ّنكَ يَا فِرْ َ‬
‫عوْنَ َومَلَئِهِ } كب " هامان "‬
‫هنا‪ { :‬ثُمّ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ* إِلَى فِرْ َ‬
‫وغيره من رؤسائهم‪ { ،‬فَاسْ َتكْبَرُوا } أي‪ :‬تكبروا عن اليمان بال‪ ،‬واستكبروا على أنبيائه‪،‬‬
‫{ َوكَانُوا َق ْومًا عَالِينَ } أي‪ :‬وصفهم العلو‪ ،‬والقهر‪ ،‬والفساد في الرض‪ ،‬فلهذا صدر منهم‬
‫الستكبار‪ ،‬ذلك غير مستكثر منهم‪.‬‬

‫{ َفقَالُوا } كبرا وتيها‪ ،‬وتحذيرا لضعفاء العقول‪ ،‬وتمويها‪ { :‬أَ ُن ْؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } كما قاله من‬
‫قبلهم سواء بسواء‪ ،‬تشابهت قلوبهم في الكفر‪ ،‬فتشابهت أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬وجحدوا منة ال عليهما‬
‫بالرسالة‪.‬‬

‫{ َو َق ْو ُم ُهمَا } أي‪ :‬بنو إسرائيل { لَنَا عَابِدُونَ } أي‪ :‬معبدون بالعمال والشغال الشاقة‪ ،‬كما قال‬
‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ‬
‫تعالى‪ { :‬وَإِذْ َنجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْ َ‬
‫َوفِي َذِلكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَظِيمٌ }‬

‫فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟" وكيف يكون هؤلء رؤساء علينا؟" ونظير قولهم‪ ،‬قول‬
‫ك وَاتّ َب َعكَ الْأَرْذَلُونَ } { َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ إِلّا الّذِينَ ُهمْ أَرَا ِذلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ } من‬
‫قوم نوح‪ { :‬أَ ُن ْؤمِنُ َل َ‬
‫المعلوم أن هذا ل يصلح لدفع الحق‪ ،‬وأنه تكذيب ومعاندة‪.‬‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬فكَذّبُو ُهمَا َفكَانُوا مِنَ ا ْل ُمهَْلكِينَ } في الغرق في البحر‪ ،‬وبنو إسرائيل ينظرون‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى } بعدما أهلك ال فرعون‪ ،‬وخلص الشعب السرائيلي مع موسى‪ ،‬وتمكن حينئذ‬
‫من إقامة أمر ال فيهم‪ ،‬وإظهار شعائره‪ ،‬وعده ال أن ينزل عليه التوراة أربعين ليلة‪ ،‬فذهب‬
‫شيْءٍ }‬
‫ظ ًة وَ َتفْصِيلًا ِل ُكلّ َ‬
‫شيْءٍ َموْعِ َ‬
‫لميقات ربه‪ ،‬قال ال تعالى { َوكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَ ْلوَاحِ مِنْ ُكلّ َ‬
‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬لعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ } أي‪ :‬بمعرفة تفاصيل المر والنهي‪ ،‬والثواب والعقاب‪ ،‬ويعرفون‬
‫ربهم بأسمائه وصفاته‪.‬‬

‫جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَ ًة وَآوَيْنَا ُهمَا إِلَى رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ َومَعِينٍ }‬
‫{ ‪ { } 50‬وَ َ‬

‫أي‪ :‬وامتننا على عيسى ابن مريم‪ ،‬وجعلناه وأمه من آيات ال العجيبة‪ ،‬حيث حملته وولدته من‬
‫غير أب‪ ،‬وتكلم في المهد صبيا‪ ،‬وأجرى ال على يديه من اليات ما أجرى‪ { ،‬وَآوَيْنَا ُهمَا إِلَى رَ ْب َوةٍ‬
‫} أي‪ :‬مكان مرتفع‪ ،‬وهذا ‪-‬وال أعلم‪ -‬وقت وضعها‪ { ،‬ذَاتِ قَرَارٍ } أي‪ :‬مستقر وراحة‬
‫ج َعلَ رَ ّبكِ تَحْ َتكِ } أي‪ :‬تحت المكان الذي أنت فيه‪،‬‬
‫{ َو َمعِينٍ } أي‪ :‬ماء جار‪ ،‬بدليل قوله‪َ { :‬قدْ َ‬
‫لرتفاعه‪ { ،‬سَرِيّا } أي‪ :‬نهرا وهو المعين { وَهُزّي إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّخْلَةِ ُتسَاقِطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبًا جَنِيّا*‬
‫َفكُلِي وَاشْرَبِي َوقَرّي عَيْنًا }‬

‫علِيمٌ * وَإِنّ‬
‫عمَلُوا صَالِحًا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ‬
‫ت وَا ْ‬
‫سلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَا ِ‬
‫{ ‪ { } 56 - 51‬يَا أَ ّيهَا الرّ ُ‬
‫طعُوا َأمْ َرهُمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ‬
‫ح َد ًة وَأَنَا رَ ّبكُمْ فَا ّتقُونِ * فَ َتقَ ّ‬
‫هَ ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫ل وَبَنِينَ * نُسَا ِرعُ َل ُهمْ فِي‬
‫غمْرَ ِتهِمْ حَتّى حِينٍ * أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّ ُهمْ بِهِ مِنْ مَا ٍ‬
‫* فَذَرْ ُهمْ فِي َ‬
‫شعُرُونَ }‬
‫الْخَيْرَاتِ بَل لَا َي ْ‬

‫هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات‪ ،‬التي هي الرزق الطيب الحلل‪ ،‬وشكر ال‪ ،‬بالعمل‬
‫الصالح‪ ،‬الذي به يصلح القلب والبدن‪ ،‬والدنيا والخرة‪ .‬ويخبرهم أنه بما يعملون عليم‪ ،‬فكل عمل‬
‫عملوه‪ ،‬وكل سعي اكتسبوه‪ ،‬فإن ال يعلمه‪ ،‬وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله‪ ،‬فدل هذا على أن‬
‫الرسل كلهم‪ ،‬متفقون على إباحة الطيبات من المآكل‪ ،‬وتحريم الخبائث منها‪ ،‬وأنهم متفقون على‬
‫كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات‪ ،‬واختلفت بها الشرائع‪ ،‬فإنها كلها عمل‬
‫صالح‪ ،‬ولكن تتفاوت بتفاوت الزمنة‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬العمال الصالحة‪ ،‬التي هي صلح في جميع الزمنة‪ ،‬قد اتفقت عليها النبياء والشرائع‪،‬‬
‫كالمر بتوحيد ال‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬ومحبته‪ ،‬وخوفه‪ ،‬ورجائه‪ ،‬والبر‪ ،‬والصدق‪ ،‬والوفاء‬
‫بالعهد‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬والحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى‪ ،‬والحنو‬
‫والحسان إلى الخلق‪ ،‬ونحو ذلك من العمال الصالحة‪ ،‬ولهذا كان أهل العلم‪ ،‬والكتب السابقة‪،‬‬
‫والعقل‪ ،‬حين بعث ال محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به‪،‬‬
‫وينهى عنه‪ ،‬كما جرى لهرقل وغيره‪ ،‬فإنه إذا أمر بما أمر به النبياء‪ ،‬الذين من قبله‪ ،‬ونهى عما‬
‫نهوا عنه‪ ،‬دل على أنه من جنسهم‪ ،‬بخلف الكذاب‪ ،‬فل بد أن يأمر بالشر‪ ،‬وينهى عن الخير‪.‬‬

‫ولهذا قال تعالى للرسل‪ { :‬وَإِنّ َه ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ أمّةً } أي‪ :‬جماعتكم ‪-‬يا معشر الرسل‪ -‬جماعة { وَاحِ َدةً‬
‫} متفقة على دين واحد‪ ،‬وربكم واحد‪.‬‬

‫{ فَا ّتقُونِ } بامتثال أوامري‪ ،‬واجتناب زواجري‪ .‬وقد أمر ال المؤمنين بما أمر به المرسلين‪ ،‬لنهم‬
‫شكُرُوا لِلّهِ‬
‫بهم يقتدون‪ ،‬وخلفهم يسلكون‪ ،‬فقال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ‬
‫إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ } فالواجب من كل المنتسبين إلى النبياء وغيرهم‪ ،‬أن يمتثلوا هذا‪ ،‬ويعملوا‬
‫طعُوا َأمْرَ ُهمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرًا } أي‪:‬‬
‫به‪ ،‬ولكن أبى الظالمون المفترقون إل عصيانا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ َتقَ ّ‬
‫تقطع المنتسبون إلى اتباع النبياء { َأمْرُهُمْ } أي‪ :‬دينهم { بَيْ َن ُهمْ زُبُرًا } أي‪ :‬قطعا { ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا‬
‫لَدَ ْيهِمْ } أي‪ :‬بما عندهم من العلم والدين { فَ ِرحُونَ } يزعمون أنهم المحقون‪ ،‬وغيرهم على غير‬
‫الحق‪ ،‬مع أن المحق منهم‪ ،‬من كان على طريق الرسل‪ ،‬من أكل الطيبات‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وما‬
‫عداهم فإنهم مبطلون‪.‬‬

‫غمْرَ ِتهِمْ } أي‪ :‬في وسط جهلهم بالحق‪ ،‬ودعواهم أنهم هم المحقون‪ { .‬حَتّى حِينٍ }‬
‫{ َفذَرْهُمْ فِي َ‬
‫أي‪ :‬إلى أن ينزل العذاب بهم‪ ،‬فإنهم ل ينفع فيهم وعظ‪ ،‬ول يفيدهم زجر‪ ،‬وكيف يفيد من يزعم أنه‬
‫على الحق‪ ،‬ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟‪.‬‬

‫{ أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ ِبهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ُنسَا ِرعُ َل ُهمْ فِي الْخَيْرَاتِ } أي‪ :‬أيظنون أن زيادتنا إياهم‬
‫بالموال والولد‪ ،‬دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة‪ ،‬وأن لهم خير الدنيا والخرة؟ وهذا‬
‫مقدم لهم‪ ،‬ليس المر كذلك‪.‬‬

‫شعُرُونَ } أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم‪ ،‬ليزدادوا إثما‪ ،‬وليتوفر عقابهم في‬
‫{ بَل لَا َي ْ‬
‫الخرة‪ ،‬وليغتبطوا بما أوتوا { حَتّى إِذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً }‬

‫شفِقُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ *‬


‫خشْيَةِ رَ ّبهِمْ مُ ْ‬
‫{ ‪ { } 62 - 57‬إِنّ الّذِينَ ُهمْ مِنْ َ‬
‫جعُونَ *‬
‫وَالّذِينَ ُهمْ بِرَ ّبهِمْ لَا يُشْ ِركُونَ * وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آ َتوْا َوقُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ أَ ّنهُمْ إِلَى رَ ّبهِمْ رَا ِ‬
‫س َعهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَ ْنطِقُ‬
‫ت وَهُمْ َلهَا سَا ِبقُونَ * وَلَا ُنكَّلفُ َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬
‫أُولَ ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَا ِ‬
‫ق وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ }‬
‫حّ‬‫بِالْ َ‬
‫لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الساءة والمن‪ ،‬الذين يزعمون أن عطاء ال إياهم في الدنيا دليل‬
‫على خيرهم وفضلهم‪ ،‬ذكر الذين جمعوا بين الحسان والخوف‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ‬
‫ش ِفقُونَ } أي‪ :‬وجلون‪ ،‬مشفقة قلوبهم كل ذلك من خشية ربهم‪ ،‬خوفا أن يضع عليهم عدله‪،‬‬
‫رَ ّبهِمْ مُ ْ‬
‫فل يبقى لهم حسنة‪ ،‬وسوء ظن بأنفسهم‪ ،‬أن ل يكونوا قد قاموا بحق ال تعالى‪ ،‬وخوفا على‬
‫إيمانهم من الزوال‪ ،‬ومعرفة منهم بربهم‪ ،‬وما يستحقه من الجلل والكرام‪ ،‬وخوفهم وإشفاقهم‬
‫يوجب لهم الكف عما يوجب المر المخوف من الذنوب‪ ،‬والتقصير في الواجبات‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَ ّب ِهمْ ُي ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا‪ ،‬ويتفكرون أيضا في‬
‫اليات القرآنية ويتدبرونها‪ ،‬فيبين لهم من معاني القرآن وجللته واتفاقه‪ ،‬وعدم اختلفه وتناقضه‪،‬‬
‫وما يدعو إليه من معرفة ال وخوفه ورجائه‪ ،‬وأحوال الجزاء‪ ،‬فيحدث لهم بذلك من تفاصيل‬
‫اليمان‪ ،‬ما ل يعبر عنه اللسان‪.‬‬

‫ض وَاخْتِلَافِ اللّ ْيلِ‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫ويتفكرون أيضا في اليات الفقية‪ ،‬كما في قوله‪ { :‬إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬
‫وَال ّنهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } إلى آخر اليات‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ هُمْ بِرَ ّبهِمْ لَا ُيشْ ِركُونَ } أي‪ :‬ل شركا جليا‪ ،‬كاتخاذ غير ال معبودا‪ ،‬يدعوه ويرجوه ول‬
‫شركا خفيا‪ ،‬كالرياء ونحوه‪ ،‬بل هم مخلصون ل‪ ،‬في أقوالهم وأعمالهم وسائر أحوالهم‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آ َتوْا } أي‪ :‬يعطون من أنفسهم مما أمروا به‪ ،‬ما آتوا من كل ما يقدرون عليه‪،‬‬
‫من صلة‪ ،‬وزكاة‪ ،‬وحج‪ ،‬وصدقة‪ ،‬وغير ذلك‪ { ،‬و } مع هذا { قُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ } أي‪ :‬خائفة { أَ ّن ُهمْ‬
‫جعُونَ } أي‪ :‬خائفة عند عرض أعمالها عليه‪ ،‬والوقوف بين يديه‪ ،‬أن تكون أعمالهم‬
‫إِلَى رَ ّبهِمْ رَا ِ‬
‫غير منجية من عذاب ال‪ ،‬لعلمهم بربهم‪ ،‬وما يستحقه من أصناف العبادات‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ } أي‪ :‬في ميدان التسارع في أفعال الخير‪ ،‬همهم ما يقربهم إلى‬
‫ال‪ ،‬وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه‪ ،‬فكل خير سمعوا به‪ ،‬أو سنحت لهم الفرصة إليه‪،‬‬
‫انتهزوه وبادروه‪ ،‬قد نظروا إلى أولياء ال وأصفيائه‪ ،‬أمامهم‪ ،‬ويمنة‪ ،‬ويسرة‪ ،‬يسارعون في كل‬
‫خير‪ ،‬وينافسون في الزلفى عند ربهم‪ ،‬فنافسوهم‪ .‬ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده‬
‫وتشميره‪ ،‬وقد ل يسبق لتقصيره‪ ،‬أخبر تعالى أن هؤلء من القسم السابقين فقال‪:‬‬

‫{ وَ ُهمْ َلهَا } أي‪ :‬للخيرات { سَا ِبقُونَ } قد بلغوا ذروتها‪ ،‬وتباروا هم والرعيل الول‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬قد‬
‫سبقت لهم من ال سابقة السعادة‪ ،‬أنهم سابقون‪.‬‬
‫ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات وسبقهم إليها‪ ،‬ربما وهم واهم أن المطلوب منهم ومن غيرهم‬
‫س َعهَا } أي‪ :‬بقدر ما تسعه‪،‬‬
‫أمر غير مقدور أو متعسر‪ ،‬أخبر تعالى أنه ل يكلف { َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬
‫ويفضل من قوتها عنه‪ ،‬ليس مما يستوعب قوتها‪ ،‬رحمة منه وحكمة‪ ،‬لتيسير طريق الوصول إليه‪،‬‬
‫طقُ بِا ْلحَقّ } وهو الكتاب الول‪ ،‬الذي‬
‫ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه‪ { .‬وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْ ِ‬
‫فيه كل شيء‪ ،‬وهو يطابق كل واقع يكون‪ ،‬فلذلك كان حقا‪ { ،‬وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُونَ } أي ل ينقص من‬
‫إحسانهم‪ ،‬ول يزداد في عقوبتهم وعصيانهم‪.‬‬

‫عمَالٌ مِنْ دُونِ ذَِلكَ ُهمْ َلهَا عَامِلُونَ * حَتّى‬


‫غمْ َرةٍ مِنْ هَذَا وََلهُمْ أَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 67 - 63‬بلْ قُلُو ُبهُمْ فِي َ‬
‫إِذَا أَخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ بِا ْلعَذَابِ ِإذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا َتجْأَرُوا الْ َيوْمَ إِ ّن ُكمْ مِنّا لَا تُ ْنصَرُونَ * قَدْ كَا َنتْ‬
‫عقَا ِبكُمْ تَ ْن ِكصُونَ * مُسْ َتكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا َتهْجُرُونَ }‬
‫آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ َفكُنْتُمْ عَلَى أَ ْ‬

‫يخبر تعالى أن قلوب المكذبين في غمرة من هذا‪ ،‬أي‪ :‬وسط غمرة من الجهل والظلم‪ ،‬والغفلة‬
‫والعراض‪ ،‬تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن‪ ،‬فل يهتدون به‪ ،‬ول يصل إلى قلوبهم منه شيء‪.‬‬
‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ‬
‫ك وَبَيْنَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ حِجَابًا َمسْتُورًا* َو َ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن َ‬
‫{ وَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ َ‬
‫َأكِنّةً أَنْ َي ْف َقهُو ُه َوفِي آذَا ِنهِمْ َوقْرًا } فلما كانت قلوبهم في غمرة منه‪ ،‬عملوا بحسب هذا الحال‪ ،‬من‬
‫عمَالٌ مِنْ دُونِ } هذه‬
‫العمال الكفرية‪ ،‬والمعاندة للشرع‪ ،‬ما هو موجب لعقابهم‪ { ،‬و } لكن { َل ُهمْ أَ ْ‬
‫العمال { هُمْ َلهَا عَامِلُونَ } أي‪ :‬فل يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم‪ ،‬فإن ال يمهلهم ليعملوا هذه‬
‫العمال‪ ،‬التي بقيت عليهم مما كتب عليهم‪ ،‬فإذا عملوها واستوفوها‪ ،‬انتقلوا بشر حالة إلى غضب‬
‫ال وعقابه‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا َأخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ } أي‪ :‬متنعميهم‪ ،‬الذين ما اعتادوا إل الترف والرفاهية والنعيم‪ ،‬ولم‬
‫تحصل لهم المكاره‪ ،‬فإذا أخذناهم { بِا ْل َعذَابِ } ووجدوا مسه { ِإذَا ُهمْ يَجْأَرُونَ } يصرخون‬
‫ويتوجعون‪ ،‬لنه أصابهم أمر خالف ما هم عليه‪ ،‬ويستغيثون‪ ,‬فيقال لهم‪ { :‬لَا تَجْأَرُوا الْ َيوْمَ إِ ّن ُكمْ مِنّا‬
‫لَا تُ ْنصَرُونَ } وإذا لم تأتهم النصرة من ال‪ ،‬وانقطع عنهم الغوث من جانبه‪ ،‬لم يستطيعوا نصر‬
‫أنفسهم‪ ،‬ولم ينصرهم أحد‪.‬‬

‫فكأنه قيل‪ :‬ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ قال‪ { :‬قَدْ كَا َنتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } لتؤمنوا بها‬
‫عقَا ِبكُمْ تَ ْن ِكصُونَ } أي‪ :‬راجعين القهقري إلى‬
‫وتقبلوا عليها‪ ،‬فلم تفعلوا ذلك‪ ،‬بل { كُنْتُمْ عَلَى أَ ْ‬
‫الخلف‪ ،‬وذلك لن باتباعهم القرآن يتقدمون‪ ،‬وبالعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل‬
‫سافلين‪ { .‬مُسْ َتكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا َتهْجُرُونَ } قال المفسرون معناه‪ :‬مستكبرين به‪ ،‬الضمير يعود إلى‬
‫البيت‪ ،‬المعهود عند المخاطبين‪ ،‬أو الحرم‪ ،‬أي‪ :‬متكبرين على الناس بسببه‪ ،‬تقولون‪ :‬نحن أهل‬
‫الحرم‪ ،‬فنحن أفضل من غيرنا وأعلى‪ { ،‬سَامِرًا } أي‪ :‬جماعة يتحدثون بالليل حول البيت‬
‫{ َت ْهجُرُونَ } [أي‪ :‬تقولون الكلم الهجر الذي هو القبيح في] هذا القرآن‪.‬‬

‫فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن‪ ،‬العراض عنه‪ ،‬ويوصي بعضهم بعضا بذلك { َوقَالَ الّذِينَ‬
‫ن وَا ْل َغوْا فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ } وقال ال عنهم‪َ { :‬أ َفمِنْ هَذَا ا ْلحَدِيثِ‬
‫س َمعُوا ِلهَذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫َكفَرُوا لَا َت ْ‬
‫حكُونَ وَلَا تَ ْبكُونَ* وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } { أَمْ َيقُولُونَ َتقَوّلَهُ }‬
‫َتعْجَبُونَ* وَ َتضْ َ‬

‫فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل‪ ،‬ل جرم حقت عليهم العقوبة‪ ،‬ولما وقعوا فيها‪ ،‬لم يكن لهم ناصر‬
‫ينصرهم‪ ،‬ول مغيث ينقذهم‪ ،‬ويوبخون عند ذلك بهذه العمال الساقطة‬
‫{ َأفََلمْ يَدّبّرُوا ا ْل َق ْولَ } أي‪ :‬أفل يتفكرن في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه‪ ،‬أي‪ :‬فإنهم لو تدبروه‪،‬‬
‫لوجب لهم اليمان‪ ،‬ولمنعهم من الكفر‪ ،‬ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه‪ ،‬ودل‬
‫هذا على أن تدبر القرآن‪ ،‬يدعو إلى كل خير‪ ،‬ويعصم من كل شر‪ ،‬والذي منعهم من تدبره أن‬
‫على قلوبهم أقفالها‪.‬‬

‫{ َأمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَ ْأتِ آبَاءَ ُهمُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬أو منعهم من اليمان‪ ،‬أنه جاءهم رسول وكتاب‪ ،‬ما‬
‫جاء آبائهم الولين‪ ،‬فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين‪ ،‬وعارضوا كل ما خالف ذلك‪ ،‬ولهذا‬
‫قالوا‪ ،‬هم ومن أشبههم من الكفار‪ ،‬ما أخبر ال عنهم‪َ { :‬وكَذَِلكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ‬
‫نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا إِنّا َوجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى آثَارِهِمْ ُمقْتَدُونَ } فأجابهم بقوله‪ { :‬قَالَ‬
‫َأوََلوْ جِئْ ُتكُمْ بَِأهْدَى ِممّا وَجَدْ ُتمْ عَلَيْهِ آبَا َء ُكمْ } فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق‪ ،‬فأجابوا بحقيقة‬
‫أمرهم { قَالُوا إِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ }‬

‫وقوله‪ { :‬أَمْ لَمْ َيعْ ِرفُوا رَسُوَلهُمْ َفهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ } أي‪ :‬أو منعهم من اتباع الحق‪ ،‬أن رسولهم محمدا‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬غير معروف عندهم‪ ،‬فهم منكرون له؟ يقولون‪ :‬ل نعرفه‪ ،‬ول نعرف‬
‫صدقه‪ ،‬دعونا حتى ننظر حاله ونسأل عنه من له به خبرة‪ ،‬أي‪ :‬لم يكن المر كذلك‪ ،‬فإنهم‬
‫يعرفون الرسول صلى ال عليه وسلم معرفة تامة‪ ،‬صغيرهم وكبيرهم يعرفون منه كل خلق‬
‫جميل‪ ،‬ويعرفون صدقه وأمانته‪ ،‬حتى كانوا يسمونه قبل البعثة " المين " فلم ل يصدقونه‪ ،‬حين‬
‫جاءهم بالحق العظيم‪ ،‬والصدق المبين؟‪.‬‬

‫{ َأمْ َيقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ } أي‪ :‬جنون‪ ،‬فلهذا قال ما قال‪ ،‬والمجنون غير مسموع منه‪ ،‬ول عبرة‬
‫بكلمه‪ ،‬لنه يهذي بالباطل والكلم السخيف‪.‬‬
‫حقّ } أي‪ :‬بالمر الثابت‪ ،‬الذي هو صدق‬
‫قال ال في الرد عليهم في هذه المقالة‪َ { :‬بلْ جَاءَ ُهمْ بِالْ َ‬
‫وعدل‪ ،‬ل اختلف فيه ول تناقض‪ ،‬فكيف يكون من جاء به‪ ،‬به جنة؟! وهل يكون إل في أعلى‬
‫درج الكمال‪ ،‬من العلم والعقل ومكارم الخلق‪ ،‬وأيضا فإن في هذا النتقال مما تقدم‪ ،‬أي‪ :‬بل‬
‫الحقيقة التي منعتهم من اليمان أنه جاءهم بالحق { وََأكْثَرُهُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ } وأعظم الحق الذي‬
‫جاءهم به إخلص العبادة ل وحده‪ ،‬وترك ما يعبد من دون ال‪ ،‬وقد علم كراهتهم لهذا المر‬
‫وتعجبهم منه‪ ،‬فكون الرسول أتى بالحق‪ ،‬وكونهم كارهين للحق بالصل‪ ،‬هو الذي أوجب لهم‬
‫التكذيب بالحق ل شكا ول تكذيبا للرسول‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فَإِ ّنهُمْ لَا ُي َكذّبُو َنكَ وََلكِنّ الظّاِلمِينَ‬
‫حدُونَ } فإن قيل‪ :‬لم لم يكن الحق موافقا لهوائهم لجل أن يؤمنوا و يسرعوا‬
‫بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ‬
‫سمَاوَاتُ وَالْأَ ْرضُ }‬
‫النقياد؟ أجاب تعالى بقوله‪ { :‬وََلوِ اتّ َبعَ ا ْلحَقّ َأ ْهوَاءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ‬
‫ووجه ذلك أن أهواءهم متعلقة بالظلم والكفر والفساد من الخلق والعمال‪ ،‬فلو اتبع الحق‬
‫أهواءهم لفسدت السماوات والرض‪ ،‬لفساد التصرف والتدبير المبني على الظلم وعدم العدل‪،‬‬
‫فالسماوات والرض ما استقامتا إل بالحق والعدل { َبلْ أَتَيْنَا ُهمْ بذكرهم } أي‪ :‬بهذا القرآن المذكر‬
‫لهم بكل خير‪ ،‬الذي به فخرهم وشرفهم‪ ,‬حين يقومون به‪ ،‬ويكونون به سادة الناس‪.‬‬

‫{ َفهُمْ عَنْ ِذكْرِ ِهمْ ُمعْ ِرضُونَ } شقاوة منهم‪ ،‬وعدم توفيق { نسوا ال فنسيهم } (نسوا ال فأنساهم‬
‫أنفسهم) فالقرآن ومن جاء به‪ ،‬أعظم نعمة ساقها ال إليهم‪ ,‬فلم يقابلوها إل بالرد والعراض‪ ،‬فهل‬
‫بعد هذا الحرمان حرمان؟ وهل يكون وراءه إل نهاية الخسران؟‪.‬‬

‫{ ‪ { } 72‬أَمْ َتسْأَُلهُمْ خَرْجًا َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ }‬

‫أي‪ :‬أو منعهم من اتباعك يا محمد‪ ،‬أنك تسألهم على الجابة أجرا { َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ }‬
‫يتكلفون من اتباعك‪ ،‬بسبب ما تأخذ منهم من الجر والخراج‪ ،‬ليس المر كذلك{ َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ‬
‫وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ} وهذا كما قال النبياء لممهم‪ { :‬يا قوم ل أسألكم عليه أجرا إن أجري إل‬
‫على ال }أي‪ :‬ليسوا يدعون الخلق طمعا فيما يصيبهم منهم من الموال‪ ،‬وإنما يدعون نصحا لهم‪،‬‬
‫وتحصيل لمصالحهم‪ ،‬بل كان الرسل أنصح للخلق من أنفسهم‪ ،‬فجزاهم ال عن أممهم خير‬
‫الجزاء‪ ،‬ورزقنا القتداء بهم في جميع الحوال‪.‬‬

‫{ ‪ { } 74 - 73‬وَإِ ّنكَ لَتَدْعُو ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * وَإِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ عَنِ الصّرَاطِ‬
‫لَنَاكِبُونَ }‬
‫ذكر ال تعالى في هذه اليات الكريمات‪ ،‬كل سبب موجب لليمان‪ ،‬وذكر الموانع‪ ،‬وبين فسادها‪،‬‬
‫واحدا بعد واحد‪ ،‬فذكر من الموانع أن قلوبهم في غمرة‪ ،‬وأنهم لم يدبروا القول‪ ،‬وأنهم اقتدوا‬
‫بآبائهم‪ ،‬وأنهم قالوا‪ :‬برسولهم جنة‪ ،‬كما تقدم الكلم عليها‪ ،‬وذكر من المور الموجبة ليمانهم‪،‬‬
‫تدبر القرآن‪ ،‬وتلقي نعمة ال بالقبول‪ ،‬ومعرفة حال الرسول محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكمال‬
‫صدقه وأمانته‪ ،‬وأنه ل يسألهم عليه أجرا‪ ،‬وإنما سعيه لنفعهم ومصلحتهم‪ ،‬وأن الذي يدعوهم إليه‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬سهل على العاملين لستقامته‪ ،‬موصل إلى المقصود‪ ،‬من قرب حنيفية سمحة‪،‬‬
‫حنيفية في التوحيد‪ ،‬سمحة في العمل‪ ،‬فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم‪ ،‬موجب لمن يريد الحق‬
‫أن يتبعك‪ ،‬لنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه‪ ،‬وموافقته للمصالح‪ ،‬فأين يذهبون إن لم يتابعوك؟‬
‫فإنهم ليس عندهم ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك‪ ،‬لنهم { عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } متجنبون‬
‫منحرفون‪ ،‬عن الطريق الموصل إلى ال‪ ،‬وإلى دار كرامته‪ ،‬ليس في أيديهم إل ضللت‬
‫وجهالت‪.‬‬

‫وهكذا كل من خالف الحق‪ ،‬ل بد أن يكون منحرفا في جميع أموره‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فَإِنْ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا‬
‫ضلّ ِممّنَ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ ُهدًى مِنَ اللّهِ }‬
‫َلكَ فَاعْلَمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَهُ ْم َومَنْ َأ َ‬

‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ * وََلقَدْ‬


‫ن ضُرّ لَلَجّوا فِي ُ‬
‫شفْنَا مَا ِب ِهمْ مِ ْ‬
‫حمْنَا ُه ْم َوكَ َ‬
‫{ ‪ { } 77 - 75‬وََلوْ رَ ِ‬
‫شدِيدٍ ِإذَا‬
‫خذْنَاهُمْ بِا ْلعَذَابِ َفمَا اسْ َتكَانُوا لِرَ ّبهِ ْم َومَا يَ َتضَرّعُونَ * حَتّى ِإذَا فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ َ‬
‫أَ َ‬
‫هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }‬

‫هذا بيان لشدة تمردهم وعنادهم‪ ،‬وأنهم إذا أصابهم الضر‪ ،‬دعوا ال أن يكشف عنهم ليؤمنوا‪ ،‬أو‬
‫ابتلهم بذلك ليرجعوا إليه‪ .‬إن ال إذا كشف الضر عنهم لجوا‪ ،‬أي‪ :‬استمروا في طغيانهم يعمهون‪،‬‬
‫أي‪ :‬يجولون في كفرهم‪ ،‬حائرين مترددين‪.‬‬

‫كما ذكر ال حالهم عند ركوب الفلك‪ ،‬وأنهم يدعون مخلصين له الدين‪ ،‬وينسون ما يشركون به‪،‬‬
‫فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الرض بالشرك وغيره‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ َأخَذْنَا ُهمْ بِا ْلعَذَابِ } قال المفسرون‪ :‬المراد بذلك‪ :‬الجوع الذي أصابهم سبع سنين‪ ،‬وأن ال‬
‫ابتلهم بذلك‪ ،‬ليرجعوا إليه بالذل والستسلم‪ ،‬فلم ينجع فيهم‪ ،‬ول نجح منهم أحد‪َ { ،‬فمَا اسْ َتكَانُوا‬
‫لِرَ ّبهِمْ } أي‪ :‬خضعوا وذلوا { َومَا يَ َتضَرّعُونَ } إليه ويفتقرون‪ ،‬بل مر عليهم ذلك ثم زال‪ ،‬كأنه لم‬
‫يصبهم‪ ،‬لم يزالوا في غيهم وكفرهم‪ ،‬ولكن وراءهم العذاب الذي ل يرد‪ ،‬وهو قوله‪ { :‬حَتّى ِإذَا‬
‫شدِيدٍ } كالقتل يوم بدر وغيره‪ِ { ،‬إذَا ُهمْ فِيهِ مُبِْلسُونَ } آيسون من كل‬
‫فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ َ‬
‫خير‪ ،‬قد حضرهم الشر وأسبابه‪ ،‬فليحذروا قبل نزول عذاب ال الشديد‪ ،‬الذي ل يرد‪ ،‬بخلف‬
‫مجرد العذاب‪ ،‬فإنه ربما أقلع عنهم‪ ،‬كالعقوبات الدنيوية‪ ،‬التي يؤدب ال بها عباده‪ .‬قال تعالى‬
‫عمِلُوا َلعَّلهُمْ‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬
‫فيها‪َ { :‬‬
‫جعُونَ }‬
‫يَرْ ِ‬

‫شكُرُونَ * وَ ُهوَ الّذِي‬


‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا َت ْ‬
‫{ ‪ { } 80 - 78‬وَ ُهوَ الّذِي أَ ْنشَأَ َلكُمُ ال ّ‬
‫ل وَال ّنهَارِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ‬
‫حشَرُونَ * وَ ُهوَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وََلهُ اخْتِلَافُ اللّ ْي ِ‬
‫ض وَإِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫}‬

‫يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية لهم إلى شكره‪ ،‬والقيام بحقه فقال‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي أَ ْنشَأَ َلكُمُ‬
‫سمْعَ } لتدركوا به المسموعات‪ ،‬فتنتفعوا في دينكم ودنياكم‪ { ،‬وَالْأَ ْبصَارَ } لتدركوا بها‬
‫ال ّ‬
‫المبصرات‪ ،‬فتنتفعوا بها في مصالحكم‪.‬‬

‫{ وَالَْأفْئِ َدةَ } أي‪ :‬العقول التي تدركون بها الشياء‪ ،‬وتتميزون بها عن البهائم‪ ،‬فلو عدمتم السمع‪،‬‬
‫والبصار‪ ،‬والعقول‪ ،‬بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم‬
‫وكمالكم؟ أفل تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم‪ ،‬فتقومون بتوحيده وطاعته؟‪ .‬ولكنكم‪ ،‬قليل‬
‫شكركم‪ ،‬مع توالي النعم عليكم‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ } تعالى { الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬بثكم في أقطارها‪ ،‬وجهاتها‪ ،‬وسلطكم على‬
‫استخراج مصالحها ومنافعها‪ ،‬وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكم‪ { ،‬وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ } بعد موتكم‪،‬‬
‫فيجازيكم بما عملتم في الرض‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬وتحدث الرض التي كنتم فيها بأخبارها { وَ ُهوَ }‬
‫تعالى وحده { الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي‪ :‬المتصرف في الحياة والموت‪ ،‬هو ال وحده‪ { ،‬وَلَهُ‬
‫ل وَال ّنهَارِ } أي‪ :‬تعاقبهما وتناوبهما‪ ،‬فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا‪ ،‬من إله غير ال‬
‫اخْتِلَافُ اللّ ْي ِ‬
‫يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا‪ ،‬من إله غير ال يأتيكم بضياء أفل‬
‫تبصرون؟‪( .‬ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)‪.‬‬

‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬أفَلَا َت ْعقِلُونَ } فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم‪ ،‬السمع‪ ،‬والبصار‪ ،‬والفئدة‪،‬‬
‫والذي نشركم في الرض وحده‪ ،‬والذي يحيي ويميت وحده‪ ،‬والذي يتصرف بالليل والنهار وحده‪,‬‬
‫أن ذلك موجب لكم‪ ،‬أن تخلصوا له العبادة وحده ل شريك له‪ ،‬وتتركوا عبادة من ل ينفع ول‬
‫يضر‪ ،‬ول يتصرف بشيء‪ ،‬بل هو عاجز من كل وجه‪ ،‬فلو كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك‪.‬‬
‫{ ‪َ { } 83 - 81‬بلْ قَالُوا مِ ْثلَ مَا قَالَ الَْأوّلُونَ * قَالُوا أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ‬
‫ن وَآبَاؤُنَا َهذَا مِنْ قَ ْبلُ إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ }‬
‫* َلقَ ْد وُعِدْنَا َنحْ ُ‬

‫أي‪ :‬بل سلك هؤلء المكذبون مسلك الولين من المكذبين بالبعث‪ ،‬واستبعدوه غاية الستبعاد‬
‫عظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ } أي‪ :‬هذا ل يتصور‪ ،‬ول يدخل العقل‪،‬‬
‫وقالوا‪ { :‬أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِ‬
‫بزعمهم‪.‬‬

‫ن وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬ما زلنا نوعد بأن البعث كائن‪ ،‬نحن وآباؤنا‪ ،‬ولم نره‪،‬‬
‫عدْنَا نَحْ ُ‬
‫{ َلقَ ْد وُ ِ‬
‫ولم يأت بعد‪ { ،‬إِنْ َهذَا إِلّا َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬قصصهم وأسمارهم‪ ،‬التي يتحدث بها وتلهى‪،‬‬
‫وإل فليس لها حقيقة‪ ،‬وكذبوا ‪-‬قبحهم ال‪ -‬فإن ال أراهم‪ ،‬من آياته أكبر من البعث‪ ،‬ومثله‪،‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ }‬
‫{ َلخَلْقُ ال ّ‬

‫سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي ا ْل ِعظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ } اليات { وَتَرَى الْأَ ْرضَ هَامِ َدةً‬
‫{ َوضَ َربَ لَنَا مَثَلًا وَنَ ِ‬
‫فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّزتْ وَرَ َبتْ } اليات‪.‬‬

‫ض َومَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * سَ َيقُولُونَ ِللّهِ ُقلْ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ *‬
‫{ ‪ُ { } 89 - 84‬قلْ ِلمَنِ الْأَ ْر ُ‬
‫سمَاوَاتِ السّبْ ِع وَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ * سَ َيقُولُونَ لِلّهِ ُقلْ َأفَلَا تَ ّتقُونَ * ُقلْ مَنْ بِيَ ِدهِ‬
‫ُقلْ مَنْ َربّ ال ّ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ يُجِي ُر وَلَا ُيجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * سَ َيقُولُونَ لِلّهِ ُقلْ فَأَنّى تُسْحَرُونَ }‬
‫مََلكُوتُ ُكلّ َ‬

‫أي‪ :‬قل لهؤلء المكذبين بالبعث‪ ،‬العادلين بال غيره‪ ،‬محتجا عليهم بما أثبتوه‪ ،‬وأقروا به‪ ،‬من‬
‫توحيد الربوبية‪ ،‬وانفراد ال بها‪ ،‬على ما أنكروه من توحيد اللهية والعبادة‪ ،‬وبما أثبتوه من خلق‬
‫المخلوقات العظيمة‪ ،‬على ما أنكروه من إعادة الموتى‪ ،‬الذي هو أسهل من ذلك‪.‬‬

‫{ ِلمَنِ الْأَ ْرضُ َومَنْ فِيهَا } أي‪ :‬من هو الخالق للرض ومن عليها‪ ،‬من حيوان‪ ،‬ونبات وجماد‬
‫وبحار وأنهار وجبال‪ ،‬المالك لذلك‪ ،‬المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك‪ ،‬ل بد أن يقولوا‪ :‬ال‬
‫وحده‪ .‬فقل لهم إذا أقروا بذلك‪َ { :‬أفَلَا تَ َذكّرُونَ } أي‪ :‬أفل ترجعون إلى ما ذكركم ال به‪ ،‬مما هو‬
‫معلوم عندكم‪ ،‬مستقر في فطركم‪ ،‬قد يغيبه العراض في بعض الوقات‪ .‬والحقيقة أنكم إن رجعتم‬
‫إلى ذاكرتكم‪ ,‬بمجرد التأمل‪ ،‬علمتم أن مالك ذلك‪ ،‬هو المعبود وحده‪ ،‬وأن إلهية من هو مملوك‬
‫سمَاوَاتِ السّبْعِ } وما فيها‬
‫أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فقال‪ُ { :‬قلْ مَنْ َربّ ال ّ‬
‫من النيرات‪ ،‬والكواكب السيارات‪ ،‬والثوابت { وَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ } الذي هو أعلى المخلوقات‬
‫وأوسعها وأعظمها‪ ،‬فمن الذي خلق ذلك ودبره‪ ،‬وصرفه بأنواع التدبير؟ { سَ َيقُولُونَ لِلّهِ } أي‪:‬‬
‫سيقرون بأن ال رب ذلك كله‪ .‬قل لهم حين يقرون بذلك‪َ { :‬أفَلَا تَ ّتقُونَ } عبادة المخلوقات العاجزة‪،‬‬
‫وتتقون الرب العظيم‪ ،‬كامل القدرة‪ ،‬عظيم السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب‪ ،‬من قوله‪َ { :‬أفَلَا‬
‫تذكرون } { أفل تَ ّتقُونَ } والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب‪ ،‬ما ل يخفى ثم انتقل إلى إقرارهم‬
‫شيْءٍ } أي‪ :‬ملك كل شيء‪ ،‬من العالم‬
‫بما هو أعم من ذلك كله فقال‪ُ { :‬قلْ مَنْ بِيَ ِدهِ مََلكُوتُ ُكلّ َ‬
‫العلوي‪ ،‬والعالم السفلي‪ ،‬ما نبصره‪ ،‬وما ل نبصره؟‪ .‬و " الملكوت "ب صيغة مبالغة بمعنى الملك‪.‬‬
‫{ وَ ُهوَ ُيجِيرُ } عباده من الشر‪ ،‬ويدفع عنهم المكاره‪ ،‬ويحفظهم مما يضرهم‪ { ،‬وَلَا يُجَارُ عَلَ ْيهِ }‬
‫أي‪ :‬ل يقدر أحد أن يجير على ال‪ .‬ول يدفع الشر الذي قدره ال‪ .‬بل ول يشفع أحد عنده إل بإذنه‬
‫‪ { ،‬سَ َيقُولُونَ لِلّهِ } أي‪ :‬سيقرون أن ال المالك لكل شيء‪ ،‬المجير‪ ،‬الذي ل يجار عليه‪.‬‬

‫سحَرُونَ } أي‪ :‬فأين تذهب عقولكم‪ ،‬حيث عبدتم‬


‫{ ُقلْ } لهم حين يقرون بذلك‪ ،‬ملزما لهم‪ { ،‬فَأَنّى تُ ْ‬
‫من علمتم أنهم ل ملك لهم‪ ،‬ول قسط من الملك‪ ،‬وأنهم عاجزون من جميع الوجوه‪ ،‬وتركتم‬
‫الخلص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع المور‪ ،‬فالعقول التي دلتكم على هذا‪ ،‬ل تكون إل‬
‫مسحورة‪ ،‬وهي ‪ -‬بل شك‪ -‬قد سحرها الشيطان‪ ،‬بما زين لهم‪ ،‬وحسن لهم‪ ،‬وقلب الحقائق لهم‪،‬‬
‫فسحر عقولهم‪ ،‬كما سحرت السحرة أعين الناس‪.‬‬

‫ن وََل ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَهٍ ِإذًا‬


‫خذَ اللّهُ مِ ْ‬
‫ق وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ * مَا اتّ َ‬
‫حّ‬‫{ ‪َ { } 92 - 90‬بلْ أَتَيْنَا ُهمْ بِالْ َ‬
‫شهَا َدةِ‬
‫ب وَال ّ‬
‫صفُونَ * عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫عمّا َي ِ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬
‫ق وََلعَلَا َب ْع ُ‬
‫لَذَ َهبَ ُكلّ إِلَهٍ ِبمَا خََل َ‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ }‬
‫فَ َتعَالَى َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬بل أتينا هؤلء المكذبين بالحق‪ ،‬المتضمن للصدق في الخبار‪ ،‬العدل في المر‬
‫والنهي‪ ،‬فما بالهم ل يعترفون به‪ ،‬وهو أحق أن يتبع؟ وليس عندهم ما يعوضهم عنه‪ ،‬إل الكذب‬
‫والظلم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‬

‫ن وَلَدٍ َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ ِإلَهٍ } كذب يعرف بخبر ال‪ ،‬وخبر رسله‪ ،‬ويعرف بالعقل‬
‫{ مَا اتّخَذَ اللّهُ مِ ْ‬
‫الصحيح‪ ،‬ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي‪ ،‬على امتناع إلهين فقال‪ { :‬إِذًا } أي‪ :‬لو كان معه‬
‫آلهة كما يقولون { لَ َذ َهبَ ُكلّ إَِلهٍ ِبمَا خََلقَ } أي‪ :‬لنفرد كل واحد من اللهين بمخلوقاته‪ ,‬واستقل‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ } فالغالب يكون هو الله‪،‬‬
‫بها‪ ،‬ولحرص على ممانعة الخر ومغالبته‪ { ،‬وََلعَلَا َب ْع ُ‬
‫وإل فمع التمانع ل يمكن وجود العالم‪ ،‬ول يتصور أن ينتظم هذا النتظام المدهش للعقول‪ ،‬واعتبر‬
‫ذلك بالشمس والقمر‪ ،‬والكواكب الثابتة‪ ،‬والسيارة‪ ،‬فإنها منذ خلقت‪ ،‬وهي تجري على نظام واحد‪،‬‬
‫وترتيب واحد‪ ،‬كلها مسخرة بالقدرة‪ ،‬مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم‪ ،‬ليست مقصورة على‬
‫مصلحة أحد دون أحد‪ ،‬ولن ترى فيها خلل ول تناقضا‪ ،‬ول معارضة في أدنى تصرف‪ ،‬فهل‬
‫يتصور أن يكون ذلك‪ ،‬تقدير إلهين ربين؟"‬
‫صفُونَ } قد نطقت بلسان حالها‪ ،‬وأفهمت ببديع أشكالها‪ ،‬أن المدبر لها إله واحد‬
‫عمّا َي ِ‬
‫{ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬
‫كامل السماء والصفات‪ ،‬قد افتقرت إليه جميع المخلوقات‪ ،‬في ربوبيته لها‪ ،‬وفي إلهيته لها‪ ،‬فكما‬
‫ل وجود لها ول دوام إل بربوبيته‪ ،‬كذلك‪ ،‬ل صلح لها ول قوام إل بعبادته وإفراده بالطاعة‪،‬‬
‫ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك‪ ،‬وهو علمه المحيط‪ ،‬فقال‪ { :‬عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ } أي‪:‬‬
‫شهَا َدةِ } وهو ما‬
‫الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا‪ ،‬من الواجبات والمستحيلت والممكنات‪ { ،‬وَال ّ‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ } به‪ ،‬من ل علم عنده‪ ،‬إل ما علمه‬
‫نشاهد من ذلك { فَ َتعَالَى } أي‪ :‬ارتفع وعظم‪َ { ،‬‬
‫ال‬

‫جعَلْنِي فِي ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ * وَإِنّا‬


‫عدُونَ * َربّ فَلَا تَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 95 - 93‬قلْ َربّ ِإمّا تُرِيَنّي مَا يُو َ‬
‫عَلَى أَنْ نُرِ َيكَ مَا َنعِدُ ُهمْ َلقَادِرُونَ }‬

‫لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة‪ ،‬فلم يلتفتوا لها‪ ،‬ولم يذعنوا لها‪ ،‬حق عليهم العذاب‪،‬‬
‫ووعدوا بنزوله‪ ،‬وأرشد ال رسوله أن يقول‪ُ { :‬قلْ َربّ ِإمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ } أي‪ :‬أي وقت‬
‫جعَلْنِي فِي ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬اعصمني وارحمني‪،‬‬
‫أريتني عذابهم‪ ،‬وأحضرتني ذلك { َربّ فَلَا َت ْ‬
‫مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنقم‪ ،‬واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم‪ ،‬لن العقوبة‬
‫العامة تعم ‪-‬عند نزولها‪ -‬العاصي وغيره ‪ ،‬قال ال في تقريب عذابهم‪ { :‬وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِ َيكَ مَا‬
‫َنعِدُ ُهمْ َلقَادِرُونَ } ولكن إن أخرناه فلحكمة‪ ،‬وإل‪ ،‬فقدرتنا صالحة ليقاعه فيهم‪.‬‬

‫صفُونَ * َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ مِنْ‬


‫حسَنُ السّيّ َئةَ نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َي ِ‬
‫{ ‪ { } 98 - 96‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫حضُرُونِ }‬
‫َهمَزَاتِ الشّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ َي ْ‬

‫هذا من مكارم الخلق‪ ،‬التي أمر ال رسوله بها فقال‪ { :‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ } أي‪ :‬إذا‬
‫أساء إليك أعداؤك‪ ،‬بالقول والفعل‪ ،‬فل تقابلهم بالساءة‪ ،‬مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل‬
‫إساءته‪ ،‬ولكن ادفع إساءتهم إليك بالحسان منك إليهم‪ ،‬فإن ذلك فضل منك على المسيء‪ ،‬ومن‬
‫مصالح ذلك‪ ،‬أنه تخف الساءة عنك‪ ،‬في الحال‪ ،‬وفي المستقبل‪ ،‬وأنه أدعى لجلب المسيء إلى‬
‫الحق‪ ،‬وأقرب إلى ندمه وأسفه‪ ،‬ورجوعه بالتوبة عما فعل‪ ،‬وليتصف العافي بصفة الحسان‪،‬‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ‬
‫ويقهر بذلك عدوه الشيطان‪ ،‬وليستوجب الثواب من الرب‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫حمِيمٌ* َومَا‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫عَلَى اللّهِ } وقال تعالى‪ { :‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫عظِيمٍ }‬
‫ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ َ‬
‫يَُلقّاهَا } أي‪ :‬ما يوفق لهذا الخلق الجميل { إِلّا الّذِي َ‬
‫صفُونَ } أي‪ :‬بما يقولون من القوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق‪ ،‬قد‬
‫وقوله‪ { :‬نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َي ِ‬
‫أحاط علمنا بذلك‪ ،‬وقد حلمنا عنهم‪ ،‬وأمهلناهم‪ ،‬وصبرنا عليهم‪ ،‬والحق لنا‪ ،‬وتكذيبهم لنا‪ ،‬فأنت ‪-‬يا‬
‫محمد‪ -‬ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون‪ ،‬وتقابلهم بالحسان‪ ،‬هذه وظيفة العبد في مقابلة‬
‫المسيء من البشر‪ ،‬وأما المسيء من الشياطين‪ ،‬فإنه ل يفيد فيه الحسان‪ ،‬ول يدعو حزبه إل‬
‫ليكونوا من أصحاب السعير‪ ،‬فالوظيفة في مقابلته‪ ،‬أن يسترشد بما أرشد ال إليه رسوله فقال‪:‬‬
‫{ َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ } أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي { مِنْ َهمَزَاتِ‬
‫حضُرُونِ } أي‪ :‬أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم‬
‫الشّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ يَ ْ‬
‫وهمزهم ومسهم‪ ،‬ومن الشر الذي بسبب حضورهم ووسوستهم‪ ،‬وهذه استعاذة من مادة الشر كله‬
‫وأصله‪ ،‬ويدخل فيها‪ ،‬الستعاذة من جميع نزغات الشيطان‪ ،‬ومن مسه ووسوسته‪ ،‬فإذا أعاذ ال‬
‫عبده من هذا الشر‪ ،‬وأجاب دعاءه‪ ،‬سلم من كل شر‪ ،‬ووفق لكل خير‪.‬‬

‫ل صَالِحًا فِيمَا‬
‫ع َم ُ‬
‫جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 100 - 99‬حَتّى ِإذَا جَاءَ َأحَدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ ا ْر ِ‬
‫تَ َر ْكتُ كَلّا إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَائُِلهَا َومِنْ وَرَا ِئهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن حال من حضره الموت‪ ،‬من المفرطين الظالمين‪ ،‬أنه يندم في تلك الحال‪ ،‬إذا رأى‬
‫مآله‪ ،‬وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا‪ ،‬ل للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك‬
‫ل صَالِحًا فِيمَا تَ َر ْكتُ } من العمل‪ ،‬وفرطت في جنب ال‪ { .‬كَلّا } أي‪ :‬ل رجعة‬
‫ع َم ُ‬
‫يقول‪َ { :‬لعَلّي أَ ْ‬
‫له ول إمهال‪ ،‬قد قضى ال أنهم إليها ل يرجعون‪ { ،‬إِ ّنهَا } أي‪ :‬مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى‬
‫الدنيا { كَِلمَةٌ ُهوَ قَائُِلهَا } أي‪ :‬مجرد قول باللسان‪ ،‬ل يفيد صاحبه إل الحسرة والندم‪ ،‬وهو أيضا‬
‫غير صادق في ذلك‪ ،‬فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه‪.‬‬

‫ن وَرَا ِئهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } أي‪ :‬من أمامهم وبين أيديهم برزخ‪ ،‬وهو الحاجز بين‬
‫{ َومِ ْ‬
‫الشيئين‪ ،‬فهو هنا‪ :‬الحاجز بين الدنيا والخرة‪ ،‬وفي هذا البرزخ‪ ،‬يتنعم المطيعون‪ ،‬ويعذب‬
‫العاصون‪ ،‬من موتهم إلى يوم يبعثون‪ ،‬أي‪ :‬فليعدوا له عدته‪ ،‬وليأخذوا له أهبته‪.‬‬

‫{ ‪ { } 114 - 101‬فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * َفمَنْ َثقَُلتْ‬
‫جهَنّمَ خَالِدُونَ‬
‫سهُمْ فِي َ‬
‫خفّتْ َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَنْ َ‬
‫* تَ ْلفَحُ وُجُو َههُمُ النّا ُر وَ ُهمْ فِيهَا كَالِحُونَ *أََلمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ َفكُنْ ُتمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ * قَالُوا رَبّنَا‬
‫عدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا‬
‫ش ْقوَتُنَا َوكُنّا َق ْومًا ضَالّينَ * رَبّنَا َأخْرِجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ ُ‬
‫غَلَ َبتْ عَلَيْنَا ِ‬
‫حمْنَا وَأَ ْنتَ خَيْرُ‬
‫فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ * إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي َيقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا وَا ْر َ‬
‫حكُونَ * إِنّي جَزَيْ ُتهُمُ الْ َيوْمَ ِبمَا‬
‫س ْوكُمْ ِذكْرِي َوكُنْتُمْ مِ ْنهُمْ َتضْ َ‬
‫سخْرِيّا حَتّى أَنْ َ‬
‫حمِينَ * فَاتّخَذْ ُتمُو ُهمْ ِ‬
‫الرّا ِ‬
‫صَبَرُوا أَ ّن ُهمْ ُهمُ ا ْلفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ عَ َددَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ‬
‫فَاسَْألِ ا ْلعَادّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا قَلِيلًا َلوْ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن هول يوم القيامة‪ ،‬وما في ذلك اليوم‪ ،‬من المزعجات والمقلقات‪ ،‬وأنه إذا نفخ في‬
‫الصور نفخة البعث‪ ،‬فحشر الناس أجمعون‪ ،‬لميقات يوم معلوم‪ ،‬أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم‬
‫أنسابهم‪ ،‬التي هي أقوى السباب‪ ،‬فغير النساب من باب أولى‪ ،‬وأنه ل يسأل أحد أحدا عن حاله‪،‬‬
‫لشتغاله بنفسه‪ ،‬فل يدري هل ينجو نجاة ل شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة ل سعادة بعدها؟ قال‬
‫تعالى‪َ { :‬يوْمَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ* وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ* َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ* ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ‬
‫ُيغْنِيهِ }‬

‫وفي القيامة مواضع‪ ،‬يشتد كربها‪ ،‬ويعظم وقعها‪ ،‬كالميزان الذي يميز به أعمال العبد‪ ،‬وينظر فيه‬
‫بالعدل ما له وما عليه‪ ،‬وتبين فيه مثاقيل الذر‪ ،‬من الخير والشر‪َ { ،‬فمَنْ َثقُلَتْ َموَازِينُهُ } بأن‬
‫رجحت حسناته على سيئاته { فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } لنجاتهم من النار‪ ،‬واستحقاقهم الجنة‪ ،‬وفوزهم‬
‫خ ّفتْ َموَازِينُهُ } بأن رجحت سيئاته على حسناته‪ ،‬وأحاطت بها خطيئاته‬
‫بالثناء الجميل ‪َ { ،‬ومَنْ َ‬
‫سهُمْ } كل خسارة‪ ،‬غير هذه الخسارة‪ ،‬فإنها ‪-‬بالنسبة إليها‪ -‬سهلة‪ ،‬ولكن‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ َ‬
‫هذه خسارة صعبة‪ ،‬ل يجبر مصابها‪ ،‬ول يستدرك فائتها‪ ،‬خسارة أبدية‪ ،‬وشقاوة سرمدية‪ ،‬قد خسر‬
‫نفسه الشريفة‪ ،‬التي يتمكن بها من السعادة البدية ففوتها هذا النعيم المقيم‪ ،‬في جوار الرب الكريم‪.‬‬

‫جهَنّمَ خَاِلدُونَ } ل يخرجون منها أبد البدين‪ ،‬وهذا الوعيد‪ ،‬إنما هو كما ذكرنا‪ ،‬لمن أحاطت‬
‫{ فِي َ‬
‫خطيئاته بحسناته‪ ،‬ول يكون ذلك إل كافرا‪ ،‬فعلى هذا‪ ،‬ل يحاسب محاسبة من توزن حسناته‬
‫وسيئاته‪ ،‬فإنهم ل حسنات لهم‪ ،‬ولكن تعد أعمالهم وتحصى‪ ،‬فيوقفون عليها‪ ،‬ويقررون بها‪،‬‬
‫ويخزون بها‪ ،‬وأما من معه أصل اليمان‪ ،‬ولكن عظمت سيئاته‪ ،‬فرجحت على حسناته‪ ،‬فإنه وإن‬
‫دخل النار‪ ،‬ل يخلد فيها‪ ،‬كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬

‫ح وُجُو َههُمُ النّارُ } أي‪ :‬تغشاهم من جميع جوانبهم‪،‬‬


‫ثم ذكر تعالى‪ ،‬سوء مصير الكافرين فقال‪ { :‬تَ ْلفَ ُ‬
‫حتى تصيب أعضاءهم الشريفة‪ ،‬ويتقطع لهبها عن وجوههم‪ { ،‬وَ ُهمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قد عبست‬
‫وجوههم‪ ،‬وقلصت شفاههم‪ ،‬من شدة ما هم فيه‪ ،‬وعظيم ما يلقونه ‪ ،‬فيقال لهم ‪ -‬توبيخا ولوما ‪:-‬‬
‫{ أََلمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } تدعون بها‪ ،‬لتؤمنوا‪ ،‬وتعرض عليكم لتنظروا‪َ { ،‬فكُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ }‬
‫ظلما منكم وعنادا‪ ،‬وهي آيات بينات‪ ،‬دالت على الحق والباطل‪ ،‬مبينات للمحق والمبطل ‪ ،‬فحينئذ‬
‫ش ْقوَتُنَا } أي‪ :‬غلبت علينا الشقاوة‬
‫أقروا بظلمهم‪ ،‬حيث ل ينفع القرار { قَالُوا رَبّنَا غَلَ َبتْ عَلَيْنَا ِ‬
‫الناشئة عن الظلم والعراض عن الحق‪ ،‬والقبال على ما يضر‪ ،‬وترك ما ينفع‪َ { ،‬وكُنّا َق ْومًا‬
‫ضَالّينَ } في عملهم‪ ،‬وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون‪ ،‬أي‪ :‬فعلنا في الدنيا فعل التائه‪ ،‬الضال‬
‫سعِيرِ }‬
‫سمَعُ َأوْ َن ْع ِقلُ مَا كُنّا فِي َأصْحَابِ ال ّ‬
‫السفيه‪ ،‬كما قالوا في الية الخرى‪َ { :‬وقَالُوا َلوْ كُنّا نَ ْ‬
‫{ رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ } وهم كاذبون في وعدهم هذا‪ ،‬فإنهم كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَ ْنهُ } ولم يبق ال لهم حجة‪ ،‬بل قطع أعذارهم‪ ،‬وعمرهم في الدنيا‪ ،‬ما‬
‫يتذكر فيه [من] المتذكر‪ ،‬ويرتدع فيه المجرم‪ ،‬فقال ال جوابا لسؤالهم‪ { :‬اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ }‬
‫وهذا القول ‪ -‬نسأله تعالى العافية‪ -‬أعظم قول على الطلق يسمعه المجرمون في التخييب‪،‬‬
‫والتوبيخ‪ ،‬والذل‪ ،‬والخسار‪ ،‬والتأييس من كل خير‪ ،‬والبشرى بكل شر‪ ،‬وهذا الكلم والغضب من‬
‫الرب الرحيم‪ ،‬أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم ‪ ،‬ثم ذكر الحال التي أوصلتهم إلى‬
‫غفِرْ لَنَا‬
‫العذاب‪ ،‬وقطعت عنهم الرحمة فقال‪ { :‬إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي َيقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَا ْ‬
‫حمِينَ } فجمعوا بين اليمان المقتضي لعماله الصالحة‪ ،‬والدعاء لربهم‬
‫حمْنَا وَأَ ْنتَ خَيْرُ الرّا ِ‬
‫وَارْ َ‬
‫بالمغفرة والرحمة‪ ،‬والتوسل إليه بربوبيته‪ ،‬ومنته عليهم باليمان‪ ،‬والخبار بسعة رحمته‪ ،‬وعموم‬
‫إحسانه‪ ،‬وفي ضمنه‪ ،‬ما يدل على خضوعهم وخشوعهم‪ ،‬وانكسارهم لربهم‪ ،‬وخوفهم ورجائهم‪.‬‬

‫فهؤلء سادات الناس وفضلئهم‪ { ،‬فَاتّخَذْ ُتمُوهُمْ } أيها الكفرة النذال ناقصو العقول والحلم‬
‫س ْوكُمْ ِذكْرِي َوكُنْتُمْ مِ ْنهُمْ‬
‫{ سِخْرِيّا } تهزءون بهم وتحتقرونهم‪ ،‬حتى اشتغلتم بذلك السفه‪ { .‬حَتّى أَنْ َ‬
‫حكُونَ } وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر‪ ،‬اشتغالهم بالستهزاء بهم‪ ،‬كما أن نسيانهم للذكر‪،‬‬
‫َتضْ َ‬
‫يحثهم على الستهزاء‪ ،‬فكل من المرين يمد الخر‪ ،‬فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!‬

‫{ إِنّي جَزَيْ ُتهُمُ الْ َيوْمَ ِبمَا صَبَرُوا } على طاعتي‪ ،‬وعلى أذاكم‪ ،‬حتى وصلوا إلي‪ { .‬أَ ّن ُهمْ هُمُ‬
‫ا ْلفَائِزُونَ } بالنعيم المقيم‪ ،‬والنجاة من الجحيم‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪ { :‬فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُوا مِنَ‬
‫حكُونَ } اليات‪.‬‬
‫ضَ‬‫ا ْل ُكفّارِ َي ْ‬

‫{ قَالَ } لهم على وجه اللوم‪ ،‬وأنهم سفهاء الحلم‪ ،‬حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة كل شر‬
‫أوصلهم إلى غضبه وعقوبته‪ ،‬ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون [من] الخير‪ ،‬الذي يوصلهم إلى‬
‫السعادة الدائمة ورضوان ربهم‪.‬‬

‫عدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ } كلمهم هذا‪ ،‬مبني على‬
‫{ َكمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫استقصارهم جدا‪ ،‬لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك‪ ،‬لكنه ل يفيد مقداره‪ ،‬ول يعينه‪ ،‬فلهذا قالوا‪:‬‬
‫{ فَاسَْألِ ا ْلعَادّينَ } أي‪ :‬الضابطين لعدده ‪ ،‬وأما هم ففي شغل شاغل وعذاب مذهل‪ ،‬عن معرفة‬
‫عدده‪ ،‬فقال لهم‪ { :‬إِنْ لَبِثْ ُتمْ إِلّا قَلِيلًا } سواء عينتم عدده‪ ،‬أم ل { َلوْ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }‬
‫حقّ‬
‫جعُونَ * فَ َتعَالَى اللّهُ ا ْلمَِلكُ الْ َ‬
‫{ ‪َ { } 116 - 115‬أ َفحَسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَ ّنكُمْ ِإلَيْنَا لَا تُرْ َ‬
‫لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلكَرِيمِ }‬

‫أي‪َ { :‬أ َفحَسِبْ ُتمْ } أيها الخلق { أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثًا } أي‪ :‬سدى وباطل‪ ،‬تأكلون وتشربون وتمرحون‪،‬‬
‫وتتمتعون بلذات الدنيا‪ ،‬ونترككم ل نأمركم‪ ،‬و[ل] ننهاكم ول نثيبكم‪ ،‬ول نعاقبكم؟ ولهذا قال‪:‬‬
‫جعُونَ } ل يخطر هذا ببالكم ‪ { ،‬فَ َتعَالَى اللّهُ } أي‪ :‬تعاظم وانتفع عن هذا الظن‬
‫{ وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَا تُ ْر َ‬
‫حقّ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلكَرِيمِ } فكونه‬
‫الباطل‪ ،‬الذي يرجع إلى القدح في حكمته‪ { .‬ا ْلمَِلكُ الْ َ‬
‫ملكا للخلق كلهم حقا‪ ،‬في صدقه‪ ،‬ووعده‪ ،‬ووعيده‪ ،‬مألوها معبودا‪ ،‬لما له من الكمال { َربّ‬
‫ا ْلعَرْشِ الكريم } فما دونه من باب أولى‪ ،‬يمنع أن يخلقكم عبثا‪.‬‬

‫حسَابُهُ عِ ْندَ رَبّهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ‬


‫{ ‪َ { } 118 - 117‬ومَنْ يَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ لَا بُ ْرهَانَ لَهُ ِبهِ فَإِ ّنمَا ِ‬
‫حمِينَ }‬
‫غفِرْ وَارْحَ ْم وَأَ ْنتَ خَيْرُ الرّا ِ‬
‫ا ْلكَافِرُونَ * َوقُلْ َربّ ا ْ‬

‫أي‪ :‬ومن دعا مع ال آلهة غيره‪ ،‬بل بينة من أمره ول برهان يدل على ما ذهب إليه‪ ،‬وهذا قيد‬
‫ملزم‪ ،‬فكل من دعا غير ال‪ ،‬فليس له برهان على ذلك‪ ،‬بل دلت البراهين على بطلن ما ذهب‬
‫إليه‪ ،‬فأعرض عنها ظلما وعنادا‪ ،‬فهذا سيقدم على ربه‪ ،‬فيجازيه بأعماله‪ ،‬ول ينيله من الفلح‬
‫شيئا‪ ،‬لنه كافر‪ { ،‬إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ } فكفرهم منعهم من الفلح‪.‬‬

‫غفِرْ } لنا حتى تنجينا من المكروه‪ ،‬وارحمنا‪،‬‬


‫{ َو ُقلْ } داعيا لربك مخلصا له الدين { َربّ ا ْ‬
‫حمِينَ } فكل راحم للعبد‪ ،‬فال خير له منه‪ ،‬أرحم‬
‫لتوصلنا برحمتك إلى كل خير { وَأَ ْنتَ خَيْرُ الرّا ِ‬
‫بعبده من الوالدة بولدها‪ ،‬وأرحم به من نفسه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة المؤمنين‪ ،‬من فضل ال وإحسانه‪.‬‬

‫تفسير سورة النور‬


‫وهي مدنية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ سُو َرةٌ أَنْزَلْنَاهَا َوفَ َرضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيّنَاتٍ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ‬
‫{ ‪ { } 1‬بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫}‬
‫أي‪ :‬هذه { سُو َرةٌ ْ} عظيمة القدر { أَنْزَلْنَاهَا ْ} رحمة منا بالعباد‪ ،‬وحفظناها من كل شيطان‬
‫{ َوفَ َرضْنَاهَا ْ} أي‪ :‬قدرنا فيها ما قدرنا‪ ،‬من الحدود والشهادات وغيرها‪ { ،‬وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ‬
‫بَيّنَاتٍ ْ} أي‪ :‬أحكاما جليلة‪ ،‬وأوامر وزواجر‪ ،‬وحكما عظيمة { َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ ْ} حين نبين لكم‪،‬‬
‫ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ .‬ثم شرع في بيان تلك الحكام المشار إليها‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫خ ْذكُمْ ِب ِهمَا رَ ْأفَةٌ فِي دِينِ‬


‫حدٍ مِ ْن ُهمَا مِا َئةَ جَ ْل َد ٍة وَلَا تَأْ ُ‬
‫ل وَا ِ‬
‫{ ‪ { } 3 - 2‬الزّانِ َي ُة وَالزّانِي فَاجْلِدُوا ُك ّ‬
‫شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَا ِئفَةٌ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ * الزّانِي لَا يَ ْنكِحُ إلّا‬
‫اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر وَلْيَ ْ‬
‫ك َوحُرّمَ ذَِلكَ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ }‬
‫حهَا إِلّا زَانٍ َأوْ مُشْ ِر ٌ‬
‫زَانِيَةً َأوْ مُشْ ِر َك ًة وَالزّانِيَةُ لَا يَ ْن ِك ُ‬

‫هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين‪ ،‬أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة‪ ،‬وأما الثيب‪ ،‬فقد دلت السنة‬
‫الصحيحة المشهورة‪ ،‬أن حده الرجم‪ ،‬ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة [بهما] في دين ال‪ ،‬تمنعنا من‬
‫إقامة الحد عليهم‪ ،‬سواء رأفة طبيعية‪ ،‬أو لجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك‪ ،‬وأن اليمان موجب‬
‫لنتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر ال‪ ،‬فرحمته حقيقة‪ ،‬بإقامة حد ال عليه‪ ،‬فنحن وإن‬
‫رحمناه لجريان القدر عليه‪ ،‬فل نرحمه من هذا الجانب‪ ،‬وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين‬
‫طائفة‪ ،‬أي‪ :‬جماعة من المؤمنين‪ ،‬ليشتهر ويحصل بذلك الخزي والرتداع‪ ،‬وليشاهدوا الحد فعل‪،‬‬
‫فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل‪ ،‬مما يقوى بها العلم‪ ،‬ويستقر به الفهم‪ ،‬ويكون أقرب لصابة‬
‫الصواب‪ ،‬فل يزاد فيه ول ينقص‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫هذا بيان لرذيلة الزنا‪ ،‬وأنه يدنس عرض صاحبه‪ ،‬وعرض من قارنه ومازجه‪ ،‬ما ل يفعله بقية‬
‫الذنوب‪ ،‬فأخبر أن الزاني ل يقدم على نكاحه من النساء‪ ،‬إل أنثى زانية‪ ،‬تناسب حاله حالها‪ ،‬أو‬
‫مشركة بال‪ ،‬ل تؤمن ببعث ول جزاء‪ ،‬ول تلتزم أمر ال‪ ،‬والزانية كذلك‪ ،‬ل ينكحها إل زان أو‬
‫مشرك { وَحُرّمَ َذِلكَ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} أي‪ :‬حرم عليهم أن ينكحوا زانيا‪ ،‬أو ينكحوا زانية‪.‬‬

‫ومعنى الية‪ :‬أن من اتصف بالزنا‪ ،‬من رجل أو امرأة‪ ،‬ولم يتب من ذلك‪ ،‬أن المقدم على نكاحه‪،‬‬
‫مع تحريم ال لذلك‪ ،‬ل يخلو إما أن ل يكون ملتزما لحكم ال ورسوله‪ ،‬فذاك ل يكون إل مشركا‪،‬‬
‫وإما أن يكون ملتزما لحكم ال ورسوله‪ ،‬فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه‪ ،‬فإن هذا النكاح زنا‪،‬‬
‫والناكح زان مسافح‪ ،‬فلو كان مؤمنا بال حقا‪ ،‬لم يقدم على ذلك‪ ،‬وهذا دليل صريح على تحريم‬
‫نكاح الزانية حتى تتوب‪ ،‬وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب‪ ،‬فإن مقارنة الزوج لزوجته‪ ،‬والزوجة‬
‫جهُمْ ْ} أي‪:‬‬
‫لزوجها‪ ،‬أشد القترانات والزدواجات‪ ،‬وقد قال تعالى‪ { :‬احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ‬
‫قرناءهم‪ ،‬فحرم ال ذلك‪ ،‬لما فيه من الشر العظيم‪ ،‬وفيه من قلة الغيرة‪ ،‬وإلحاق الولد‪ ،‬الذين‬
‫ليسوا من الزوج‪ ،‬وكون الزاني ل يعفها بسبب اشتغاله بغيرها‪ ،‬مما بعضه كاف للتحريم وفي هذا‬
‫دليل أن الزاني ليس مؤمنا‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو‬
‫مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا‪ ،‬فل يطلق عليه اسم المدح‪ ،‬الذي هو اليمان المطلق‪.‬‬

‫شهَدَاءَ فَاجِْلدُوهُمْ َثمَانِينَ جَلْ َد ًة وَلَا َتقْبَلُوا‬


‫حصَنَاتِ ُثمّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْ َب َعةِ ُ‬
‫{ ‪ { } 5 - 4‬وَالّذِينَ يَ ْرمُونَ ا ْل ُم ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫ك وََأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫سقُونَ * إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ َب ْعدِ ذَِل َ‬
‫شهَا َدةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫َلهُمْ َ‬

‫لما عظم تعالى أمر الزاني بوجوب جلده‪ ،‬وكذا رجمه إن كان محصنا‪ ،‬وأنه ل تجوز مقارنته‪،‬‬
‫ول مخالطته على وجه ل يسلم فيه العبد من الشر‪ ،‬بين تعالى تعظيم القدام على العراض‬
‫حصَنَاتِ ْ} أي‪ :‬النساء الحرار العفائف‪ ،‬وكذاك الرجال‪،‬‬
‫بالرمي بالزنا فقال‪ { :‬وَالّذِينَ يَ ْرمُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫ل فرق بين المرين‪ ،‬والمراد بالرمي الرمي بالزنا‪ ،‬بدليل السياق‪ { ،‬ثُمّ َلمْ يَأْتُوا ْ} على ما رموا به‬
‫شهَدَاءَ ْ} أي‪ :‬رجال عدول‪ ،‬يشهدون بذلك صريحا‪ { ،‬فَاجْلِدُو ُهمْ َثمَانِينَ جَ ْل َدةً ْ} بسوط‬
‫{ بِأَرْ َبعَةِ ُ‬
‫متوسط‪ ،‬يؤلم فيه‪ ،‬ول يبالغ بذلك حتى يتلفه‪ ،‬لن القصد التأديب ل التلف‪ ،‬وفي هذا تقدير حد‬
‫القذف‪ ،‬ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا‪ ،‬وأما قذف غير المحصن‪،‬‬
‫فإنه يوجب التعزير‪.‬‬

‫شهَا َدةً أَبَدًا ْ} أي‪ :‬لهم عقوبة أخرى‪ ،‬وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة‪ ،‬ولو حد‬
‫{ وَلَا َتقْبَلُوا َلهُمْ َ‬
‫سقُونَ ْ} أي‪ :‬الخارجون عن طاعة ال‪ ،‬الذين‬
‫على القذف‪ ،‬حتى يتوب كما يأتي‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬
‫قد كثر شرهم‪ ،‬وذلك لنتهاك ما حرم ال‪ ،‬وانتهاك عرض أخيه‪ ،‬وتسليط الناس على الكلم بما‬
‫تكلم به‪ ،‬وإزالة الخوة التي عقدها ال بين أهل اليمان‪ ،‬ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‪،‬‬
‫وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ ْ} فالتوبة في هذا الموضع‪ ،‬أن‬


‫ك وََأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫وقوله‪ { :‬إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ َبعْدِ ذَِل َ‬
‫يكذب القاذف نفسه‪ ،‬ويقر أنه كاذب فيما قال‪ ،‬وهو واجب عليه‪ ،‬أن يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه‪،‬‬
‫حيث لم يأت بأربعة شهداء‪ ،‬فإذا تاب القاذف وأصلح عمله وبدل إساءته إحسانا‪ ،‬زال عنه الفسق‪،‬‬
‫وكذلك تقبل شهادته على الصحيح‪ ،‬فإن ال غفور رحيم يغفر الذنوب جميعا‪ ،‬لمن تاب وأناب‪،‬‬
‫وإنما يجلد القاذف‪ ،‬إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا‪ ،‬فإن كان زوجا‪ ،‬فقد ذكر بقوله‪:‬‬
‫شهَا َدةُ َأحَدِ ِهمْ أَرْبَعُ‬
‫سهُمْ فَ َ‬
‫شهَدَاءُ إِلّا أَ ْنفُ ُ‬
‫ج ُه ْم وَلَمْ َيكُنْ َل ُهمْ ُ‬
‫{ ‪ { } 10 - 6‬وَالّذِينَ يَ ْرمُونَ أَ ْزوَا َ‬
‫شهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ * وَالْخَا ِمسَةُ أَنّ َلعْ َنةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَ ْنهَا‬
‫َ‬
‫ضبَ اللّهِ عَلَ ْيهَا إِنْ كَانَ مِنَ‬
‫غ َ‬
‫شهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ * وَالْخَا ِمسَةَ أَنّ َ‬
‫شهَدَ أَرْبَعَ َ‬
‫ا ْلعَذَابَ أَنْ َت ْ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫حمَتُ ُه وَأَنّ اللّهَ َتوّابٌ َ‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫الصّا ِدقِينَ * وََلوْلَا َف ْ‬

‫وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته‪ ،‬دارئة عنه الحد‪ ،‬لن الغالب‪ ،‬أن الزوج ل يقدم على‬
‫رمي زوجته‪ ،‬التي يدنسه ما يدنسها إل إذا كان صادقا‪ ،‬ولن له في ذلك حقا‪ ،‬وخوفا من إلحاق‬
‫جهُمْ ْ}‬
‫أولد ليسوا منه به‪ ،‬ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال‪ { :‬وَالّذِينَ يَ ْرمُونَ أَ ْزوَا َ‬
‫أي‪ :‬الحرائر ل المملوكات‪.‬‬

‫سهُمْ ْ} بأن لم يقيموا شهداء‪ ،‬على ما رموهم به {‬


‫شهَدَاءُ إِلّا أَ ْنفُ ُ‬
‫{ وَلَمْ َيكُنْ َلهُمْ ْ} على رميهم بذلك { ُ‬
‫شهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ ْ} سماها شهادة‪ ،‬لنها نائبة مناب الشهود‪ ،‬بأن‬
‫شهَا َدةُ َأحَ ِدهِمْ أَرْبَعُ َ‬
‫فَ َ‬
‫يقول‪ " :‬أشهد بال إني لمن الصادقين فيما رميتها به "‪.‬‬

‫{ وَا ْلخَامِسَةُ أَنّ َلعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ ْ} أي‪ :‬يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة‪،‬‬
‫مؤكدا تلك الشهادات‪ ،‬بأن يدعو على نفسه‪ ،‬باللعنة إن كان كاذبا‪ ،‬فإذا تم لعانه‪ ،‬سقط عنه حد‬
‫القذف‪ ،‬ظاهر اليات‪ ،‬ولو سمى الرجل الذي رماها به‪ ،‬فإنه يسقط حقه تبعا لها‪ .‬وهل يقام عليها‬
‫الحد‪ ،‬بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولن للعلماء‪ ،‬الذي يدل عليه الدليل‪ ،‬أنه يقام‬
‫شهَدَ ْ} إلى آخره‪ ،‬فلول أن العذاب وهو الحد قد‬
‫عليها الحد‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وَيَدْرَأُ عَ ْنهَا ا ْل َعذَابَ أَنْ تَ ْ‬
‫وجب بلعانه‪ ،‬لم يكن لعانها دارئا له‪.‬‬

‫ويدرأ عنها‪ ،‬أي‪ :‬يدفع عنها العذاب‪ ،‬إذ قابلت شهادات الزوج‪ ،‬بشهادات من جنسها‪.‬‬

‫شهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ ْ} وتزيد في الخامسة‪ ،‬مؤكدة لذلك‪ ،‬أن تدعو على‬
‫شهَدَ أَرْ َبعَ َ‬
‫{ أَنْ تَ ْ‬
‫نفسها بالغضب‪ ،‬فإذا تم اللعان بينهما‪ ،‬فرق بينهما إلى البد‪ ،‬وانتفى الولد الملعن عليه‪ ،‬وظاهر‬
‫اليات يدل على اشتراط هذه اللفاظ عند اللعان‪ ،‬منه ومنها‪ ،‬واشتراط الترتيب فيها‪ ،‬وأن ل ينقص‬
‫منها شيء‪ ،‬ول يبدل شيء بشيء‪ ،‬وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته‪ ،‬ل بالعكس‪ ،‬وأن‬
‫الشبه في الولد مع اللعان ل عبرة به‪ ،‬كما ل يعتبر مع الفراش‪ ،‬وإنما يعتبر الشبه حيث ل مرجح‬
‫إل هو‪.‬‬
‫حكِيمٌ ْ} وجواب الشرط محذوف‪ ،‬يدل عليه سياق‬
‫حمَتُ ُه وَأَنّ اللّهَ َتوّابٌ َ‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫{ وََلوْلَا َف ْ‬
‫الكلم أي‪ :‬لحل بأحد المتلعنين الكاذب منهما‪ ،‬ما دعا به على نفسه‪ ،‬ومن رحمته وفضله‪ ،‬ثبوت‬
‫هذا الحكم الخاص بالزوجين‪ ،‬لشدة الحاجة إليه‪ ،‬وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته‪ ،‬وفظاعة القذف‬
‫به‪ ،‬وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها‪.‬‬

‫عصْبَةٌ مِ ْنكُمْ لَا َتحْسَبُوهُ شَرّا َلكُمْ َبلْ ُهوَ خَيْرٌ َلكُم } إلى‬
‫{ ‪ { } 26 - 11‬إِنّ الّذِينَ جَاءُوا بِالِْإ ْفكِ ُ‬
‫آخر اليات‬

‫وهو قوله‪َ { :‬لهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم‪ ،‬تعظيم الرمي بالزنا عموما‪ ،‬صار ذلك‬
‫كأنه مقدمة لهذه القصة‪ ،‬التي وقعت على أشرف النساء‪ ،‬أم المؤمنين رضي ال عنها‪ ،‬وهذه‬
‫اليات‪ ،‬نزلت في قصة الفك المشهورة‪ ،‬الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد‪.‬‬

‫وحاصلها أن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في بعض غزواته‪ ،‬ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت‬
‫الصديق‪ ،‬فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها‪ ،‬فلم يفقدوها‪ ،‬ثم استقل الجيش‬
‫راحل‪ ،‬وجاءت مكانهم‪ ،‬وعلمت أنهم إذا فقدوها‪ ،‬رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم‪ ،‬وكان‬
‫صفوان بن المعطل السلمي‪ ،‬من أفاضل الصحابة رضي ال عنه‪ ،‬قد عرس في أخريات القوم‬
‫ونام‪ ،‬فرأى عائشة رضي ال عنها فعرفها‪ ،‬فأناخ راحلته‪ ،‬فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه‪،‬‬
‫ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة‪ ،‬فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال‪ ،‬أشاع ما أشاع‪ ،‬ووشى‬
‫الحديث‪ ،‬وتلقفته اللسن‪ ،‬حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين‪ ،‬وصاروا يتناقلون هذا الكلم‪ ،‬وانحبس‬
‫الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة‪ ،‬فحزنت‬
‫حزنا شديدا‪ ،‬فأنزل ال تعالى براءتها في هذه اليات‪ ،‬ووعظ ال المؤمنين‪ ،‬وأعظم ذلك‪ ،‬ووصاهم‬
‫بالوصايا النافعة‪ .‬فقوله تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ جَاءُوا بِالِْإ ْفكِ } أي‪ :‬الكذب الشنيع‪ ،‬وهو رمي أم‬
‫عصْبَةٌ مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين‪ ،‬منهم المؤمن الصادق‬
‫المؤمنين { ُ‬
‫[في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] ومنهم المنافق‪.‬‬

‫{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّا َلكُمْ َبلْ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها‪ ،‬والتنويه‬
‫بذكرها‪ ،‬حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولما تضمن من بيان‬
‫اليات المضطر إليها العباد‪ ،‬التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬فكل هذا خير عظيم‪ ،‬لول‬
‫مقالة أهل الفك لم يحصل ذلك‪ ،‬وإذا أراد ال أمرا جعل له سببا‪ ،‬ولذلك جعل الخطاب عاما مع‬
‫المؤمنين كلهم‪ ،‬وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم‪ ،‬ففيه أن المؤمنين في توادهم‬
‫وتراحمهم وتعاطفهم‪ ،‬واجتماعهم على مصالحهم‪ ،‬كالجسد الواحد‪ ،‬والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد‬
‫بعضه بعضا‪ ،‬فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه‪ ،‬فليكره من كل أحد‪ ،‬أن يقدح في أخيه‬
‫المؤمن‪ ،‬الذي بمنزلة نفسه‪ ،‬وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة‪ ،‬فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه‪.‬‬

‫سبَ مِنَ الْإِثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالفك‪ ،‬وأنهم سيعاقبون على ما‬
‫{ ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ مَا اكْ َت َ‬
‫قالوا من ذلك‪ ،‬وقد حد النبي صلى ال عليه وسلم منهم جماعة‪ { ،‬وَالّذِي َتوَلّى كِبْ َرهُ } أي‪ :‬معظم‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ } أل وهو‬
‫الفك‪ ،‬وهو المنافق الخبيث‪ ،‬عبد ال بن أبي بن سلول ‪-‬لعنه ال‪ { -‬لَهُ َ‬
‫الخلود في الدرك السفل من النار‪.‬‬

‫س ِمعْ ُتمُوهُ ظَنّ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتُ‬


‫ثم أرشد ال عباده عند سماع مثل هذا الكلم فقال‪َ { :‬لوْلَا ِإذْ َ‬
‫سهِمْ خَيْرًا } أي‪ :‬ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا‪ ،‬وهو السلمة مما رموا به‪ ،‬وأن ما معهم‬
‫بِأَ ْنفُ ِ‬
‫من اليمان المعلوم‪ ،‬يدفع ما قيل فيهم من الفك الباطل‪َ { ،‬وقَالُوا } بسبب ذلك الظن { سُ ْبحَا َنكَ }‬
‫أي‪ :‬تنزيها لك من كل سوء‪ ،‬وعن أن تبتلي أصفياءك بالمور الشنيعة‪َ { ،‬هذَا ِإ ْفكٌ مُبِينٌ } أي‪:‬‬
‫كذب وبهت‪ ،‬من أعظم الشياء‪ ،‬وأبينها‪ .‬فهذا من الظن الواجب‪ ،‬حين سماع المؤمن عن أخيه‬
‫المؤمن‪ ،‬مثل هذا الكلم‪ ،‬أن يبرئه بلسانه‪ ،‬ويكذب القائل لذلك‪.‬‬

‫ش َهدَاءَ } أي‪ :‬هل جاء الرامون على ما رموا به‪ ،‬بأربعة شهداء أي‪:‬‬
‫{ َلوْلَا جَاءُوا عَلَ ْيهِ بِأَرْ َبعَةِ ُ‬
‫ش َهدَاءِ فَأُولَ ِئكَ عِنْدَ اللّهِ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } وإن كانوا في أنفسهم قد‬
‫عدول مرضيين‪ { .‬فَإِذْ َلمْ يَأْتُوا بِال ّ‬
‫تيقنوا ذلك‪ ،‬فإنهم كاذبون في حكم ال‪ ،‬لن ال حرم عليهم التكلم بذلك‪ ،‬من دون أربعة شهود‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬فَأُولَ ِئكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ } ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله‪ ،‬من تعظيم‬
‫حرمة عرض المسلم‪ ،‬بحيث ل يجوز القدام على رميه‪ ،‬من دون نصاب الشهادة بالصدق‪.‬‬

‫حمَتُهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } بحيث شملكم إحسانه فيهما‪ ،‬في أمر دينكم‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫{ وََلوْلَا َف ْ‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ } لستحقاقكم‬
‫سكُمْ فِيمَا َأ َفضْتُمْ } أي‪ :‬خضتم { فِيهِ } من شأن الفك { َ‬
‫ودنياكم‪َ { ،‬لمَ ّ‬
‫ذلك بما قلتم‪ ،‬ولكن من فضل ال عليكم ورحمته‪ ،‬أن شرع لكم التوبة‪ ،‬وجعل العقوبة مطهرة‬
‫للذنوب‪.‬‬

‫{ ِإذْ تََل ّقوْنَهُ بِأَلْسِنَ ِتكُمْ } أي‪ :‬تلقفونه‪ ،‬ويلقيه بعضكم إلى بعض‪ ،‬وتستوشون حديثه‪ ،‬وهو قول باطل‪.‬‬
‫{ وَ َتقُولُونَ بَِأ ْفوَا ِهكُمْ مَا لَيْسَ َلكُمْ ِبهِ عِلْمٌ } والمران محظوران‪ ،‬التكلم بالباطل‪ ،‬والقول بل علم‪،‬‬
‫{ وَ َتحْسَبُونَهُ هَيّنًا } فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه‪ ،‬وتطهروا بعد ذلك‪،‬‬
‫عظِيمٌ } وهذا فيه الزجر البليغ‪ ،‬عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها‪،‬‬
‫{ وَ ُهوَ عِ ْندَ اللّهِ َ‬
‫فإن العبد ل يفيده حسبانه شيئا‪ ،‬ول يخفف من عقوبة الذنب‪ ،‬بل يضاعف الذنب‪ ،‬ويسهل عليه‬
‫مواقعته مرة أخرى‪.‬‬
‫س ِمعْ ُتمُوهُ } أي‪ :‬وهل إذ سمعتم ‪-‬أيها المؤمنون‪ -‬كلم أهل الفك { قُلْتُمْ } منكرين‬
‫{ وَلوْلَا ِإذْ َ‬
‫لذلك‪ ،‬معظمين لمره‪ { :‬مَا َيكُونُ لَنَا أَنْ نَ َتكَلّمَ ِبهَذَا } أي‪ :‬ما ينبغي لنا‪ ،‬وما يليق بنا الكلم‪ ،‬بهذا‬
‫الفك المبين‪ ،‬لن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { هَذَا ُبهْتَانٌ } أي‪ :‬كذب عظيم‪.‬‬
‫ظكُمُ اللّهُ أَنْ َتعُودُوا ِلمِثْلِهِ } أي‪ :‬لنظيره‪ ،‬من رمي المؤمنين بالفجور‪ ،‬فال يعظكم وينصحكم‬
‫{ َي ِع ُ‬
‫عن ذلك‪ ،‬ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها بالقبول والذعان‪ ،‬والتسليم‬
‫ظكُمْ بِهِ } { إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } دل ذلك على أن‬
‫والشكر له‪ ،‬على ما بين لنا { إِنّ اللّهَ ِن ِعمّا َي ِع ُ‬
‫اليمان الصادق‪ ،‬يمنع صاحبه من القدام على المحرمات‪ { .‬وَيُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الْآيَاتِ } المشتملة على‬
‫بيان الحكام‪ ،‬والوعظ‪ ،‬والزجر‪ ،‬والترغيب‪ ،‬والترهيب‪ ،‬يوضحها لكم توضيحا جليا‪ { .‬وَاللّهُ عَلِيمٌ‬
‫} أي‪ :‬كامل العلم عام الحكمة‪ ،‬فمن علمه وحكمته‪ ،‬أن علمكم من علمه‪ ،‬وإن كان ذلك راجعا‬
‫لمصالحكم في كل وقت‪.‬‬

‫شةُ } أي‪ :‬المور الشنيعة المستقبحة المستعظمة‪ ،‬فيحبون أن‬


‫{ إِنّ الّذِينَ ُيحِبّونَ أَنْ تَشِيعَ ا ْلفَاحِ َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪ :‬موجع للقلب والبدن‪ ،‬وذلك لغشه لخوانه‬
‫تشتهر الفاحشة { فِي الّذِينَ آمَنُوا َلهُمْ َ‬
‫المسلمين‪ ،‬ومحبة الشر لهم‪ ،‬وجراءته على أعراضهم‪ ،‬فإذا كان هذا الوعيد‪ ،‬لمجرد محبة أن تشيع‬
‫الفاحشة‪ ،‬واستحلء ذلك بالقلب‪ ،‬فكيف بما هو أعظم من ذلك‪ ،‬من إظهاره‪ ،‬ونقله؟" وسواء كانت‬
‫الفاحشة‪ ،‬صادرة أو غير صادرة‪.‬‬

‫وكل هذا من رحمة ال بعباده المؤمنين‪ ،‬وصيانة أعراضهم‪ ،‬كما صان دماءهم وأموالهم‪ ،‬وأمرهم‬
‫بما يقتضي المصافاة‪ ،‬وأن يحب أحدهم لخيه ما يحب لنفسه‪ ،‬ويكره له ما يكره لنفسه‪ { .‬وَاللّهُ‬
‫َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ } فلذلك علمكم‪ ،‬وبين لكم ما تجهلونه‪.‬‬

‫حمَتُهُ } عليكم { وَأَنّ اللّهَ رَءُوفٌ َرحِيمٌ‬


‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُكمْ } قد أحاط بكم من كل جانب { وَرَ ْ‬
‫{ وََلوْلَا َف ْ‬
‫} لما بين لكم هذه الحكام والمواعظ‪ ،‬والحكم الجليلة‪ ،‬ولما أمهل من خالف أمره‪ ،‬ولكن فضله‬
‫ورحمته‪ ،‬وأن ذلك وصفه اللزم آثر لكم من الخير الدنيوي والخروي‪ ،‬ما لن تحصوه‪ ،‬أو تعدوه‪.‬‬

‫ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه‪ ،‬نهى عن الذنوب عموما فقال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّ ِبعُوا‬
‫طوَاتِ الشّيْطَانِ } أي‪ :‬طرقه ووساوسه‪.‬‬
‫خُ‬‫ُ‬

‫وخطوات الشيطان‪ ،‬يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب‪ ،‬واللسان والبدن‪ .‬ومن حكمته‬
‫تعالى‪ ،‬أن بين الحكم‪ ،‬وهو‪ :‬النهي عن اتباع خطوات الشيطان‪ .‬والحكمة وهو بيان ما في المنهي‬
‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ فَإِنّهُ } أي‪ :‬الشيطان‬
‫خُ‬‫عنه‪ ،‬من الشر المقتضي‪ ،‬والداعي لتركه فقال‪َ { :‬ومَنْ يَتّبِعْ ُ‬
‫حشَاءِ } أي‪ :‬ما تستفحشه العقول والشرائع‪ ،‬من الذنوب العظيمة‪ ،‬مع ميل بعض النفوس‬
‫{ يَ ْأمُرُ بِا ْلفَ ْ‬
‫إليه‪ { .‬وَا ْلمُ ْنكَرِ } وهو ما تنكره العقول ول تعرفه‪ .‬فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان‪ ،‬ل‬
‫تخرج عن ذلك‪ ،‬فنهي ال عنها للعباد‪ ،‬نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه‪ ،‬لن ذلك صيانة لهم‬
‫عن التدنس بالرذائل والقبائح‪ ،‬فمن إحسانه عليهم‪ ،‬أن نهاهم عنها‪ ،‬كما نهاهم عن أكل السموم‬
‫حدٍ أَبَدًا } أي‪ :‬ما تطهر من‬
‫حمَُتهُ مَا َزكَى مِ ْنكُمْ مِنْ أَ َ‬
‫القاتلة ونحوها‪ { ،‬وََلوْلَا َفضْلُ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم وَرَ ْ‬
‫اتباع خطوات الشيطان‪ ،‬لن الشيطان يسعى‪ ،‬هو وجنده‪ ،‬في الدعوة إليها وتحسينها‪ ،‬والنفس ميالة‬
‫إلى السوء أمارة به‪ ،‬والنقص مستول على العبد من جميع جهاته‪ ،‬واليمان غير قوي‪ ،‬فلو خلي‬
‫وهذه الدواعي‪ ،‬ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات‪ ،‬فإن الزكاء‬
‫يتضمن الطهارة والنماء‪ ،‬ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى‪.‬‬

‫وكان من دعاء النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬اللهم آت نفسي تقواها‪ ،‬وزكها أنت خير من زكاها‪،‬‬
‫أنت وليها ومولها " ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنّ اللّهَ يُ َزكّي مَنْ يَشَاءُ } من يعلم منه أن يزكى بالتزكية‪،‬‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ }‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ َ‬

‫سعَةِ أَنْ ُيؤْتُوا أُولِي ا ْلقُرْبَى وَا ْلمَسَاكِينَ‬


‫ضلِ مِ ْنكُمْ وَال ّ‬
‫{ وَلَا يَأْ َتلِ } أي‪ :‬ل يحلف { أُولُو ا ْل َف ْ‬
‫صفَحُوا } كان من جملة الخائضين في الفك " مسطح بن‬
‫وَا ْل ُمهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلْ َي ْعفُوا وَلْ َي ْ‬
‫أثاثة " وهو قريب لبي بكر الصديق رضي ال عنه‪ ،‬وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل‬
‫ال‪ ،‬فحلف أبو بكر أن ل ينفق عليه‪ ،‬لقوله الذي قال‪.‬‬

‫فنزلت هذه الية‪ ،‬ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه‪ ،‬ويحثه على العفو والصفح‪،‬‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم‬
‫ويعده بمغفرة ال إن غفر له‪ ،‬فقال‪َ { :‬ألَا تُحِبّونَ أَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫عبيده‪ ،‬بالعفو والصفح‪ ،‬عاملكم بذلك‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ -‬لما سمع هذه الية‪ :-‬بلى‪ ،‬وال إني لحب‬
‫أن يغفر ال لي‪ ،‬فرجع النفقة إلى مسطح‪ ،‬وفي هذه الية دليل على النفقة على القريب‪ ،‬وأنه ل‬
‫تترك النفقة والحسان بمعصية النسان‪ ،‬والحث على العفو والصفح‪ ،‬ولو جرى عليه ما جرى من‬
‫أهل الجرائم‪.‬‬

‫حصَنَاتِ } أي‪ :‬العفائف‬


‫ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ يَ ْرمُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫عن الفجور { ا ْلغَافِلَاتِ } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ُلعِنُوا فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } واللعنة‬
‫ل تكون إل على ذنب كبير‪.‬‬

‫عظِيمٌ } وهذا زيادة على اللعنة‪ ،‬أبعدهم‬


‫وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { وََلهُمْ عَذَابٌ َ‬
‫عن رحمته‪ ،‬وأحل بهم شدة نقمته‪.‬‬

‫ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ َألْسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فكل‬
‫وذلك العذاب يوم القيامة { َيوْمَ تَ ْ‬
‫جارحة تشهد عليهم بما عملته‪ ،‬ينطقها الذي أنطق كل شيء‪ ،‬فل يمكنه النكار‪ ،‬ولقد عدل في‬
‫العباد‪ ،‬من جعل شهودهم من أنفسهم‪َ { ،‬ي ْومَئِذٍ ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َنهُمُ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬جزاءهم على‬
‫أعمالهم‪ ،‬الجزاء الحق‪ ،‬الذي بالعدل والقسط‪ ،‬يجدون جزاءها موفرا‪ ،‬لم يفقدوا منها شيئا‪،‬‬
‫عمِلُوا‬
‫حصَاهَا َووَجَدُوا مَا َ‬
‫صغِي َر ًة وَلَا كَبِي َرةً إِلّا َأ ْ‬
‫{ وَ َيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ َهذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ‬
‫حَاضِرًا وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ َأحَدًا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم‪ ،‬أن ال هو الحق المبين‪ ،‬فيعلمون‬
‫انحصار الحق المبين في ال تعالى‪.‬‬

‫فأوصافه العظيمة حق‪ ،‬وأفعاله هي الحق‪ ،‬وعبادته هي الحق‪ ،‬ولقاؤه حق‪ ،‬ووعده ووعيده‪،‬‬
‫وحكمه الديني والجزائي حق‪ ،‬ورسله حق‪ ،‬فل ثم حق‪ ،‬إل في ال وما من ال‪.‬‬

‫ن وَالْخَبِيثُونَ لِ ْلخَبِيثَاتِ } أي‪ :‬كل خبيث من الرجال والنساء‪ ،‬والكلمات والفعال‪،‬‬


‫{ الْخَبِيثَاتُ لِ ْلخَبِيثِي َ‬
‫مناسب للخبيث‪ ،‬وموافق له‪ ،‬ومقترن به‪ ،‬ومشاكل له‪ ،‬وكل طيب من الرجال والنساء‪ ،‬والكلمات‬
‫والفعال‪ ،‬مناسب للطيب‪ ،‬وموافق له‪ ،‬ومقترن به‪ ،‬ومشاكل له‪ ،‬فهذه كلمة عامة وحصر‪ ،‬ل‬
‫يخرج منه شيء‪ ،‬من أعظم مفرداته‪ ،‬أن النبياء ‪-‬خصوصا أولي العزم منهم‪ ،‬خصوصا سيدهم‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الطلق ل يناسبهم إل كل‬
‫طيب من النساء‪ ،‬فالقدح في عائشة رضي ال عنها بهذا المر قدح في النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وهو المقصود بهذا الفك‪ ،‬من قصد المنافقين‪ ،‬فمجرد كونها زوجة للرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫يعلم أنها ل تكون إل طيبة طاهرة من هذا المر القبيح‪.‬‬

‫فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن‪ ،‬حبيبة رسول رب العالمين‪ ،‬التي لم‬
‫ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها‪ ،‬ثم صرح بذلك‪ ،‬بحيث ل يبقى‬
‫لمبطل مقال‪ ،‬ول لشك وشبهة مجال‪ ،‬فقال‪ { :‬أُولَ ِئكَ مُبَرّءُونَ ِممّا َيقُولُونَ } والشارة إلى عائشة‬
‫رضي ال عنها أصل‪ ،‬وللمؤمنات المحصنات الغافلت تبعا { َل ُهمْ َم ْغفِرَةٌ } تستغرق الذنوب‬
‫{ وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ } في الجنة صادر من الرب الكريم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 29 - 27‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَّلمُوا عَلَى‬
‫أَهِْلهَا ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ * فَإِنْ لَمْ َتجِدُوا فِيهَا َأحَدًا فَلَا تَ ْدخُلُوهَا حَتّى ُيؤْذَنَ َل ُك ْم وَإِنْ قِيلَ‬
‫جعُوا ُهوَ أَ ْزكَى َلكُ ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا‬
‫جعُوا فَارْ ِ‬
‫َلكُمُ ا ْر ِ‬
‫ن َومَا َتكْ ُتمُونَ }‬
‫سكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ َلكُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫غَيْرَ مَ ْ‬

‫يرشد الباري عباده المؤمنين‪ ،‬أن ل يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان‪ ،‬فإن في ذلك عدة‬
‫مفاسد‪ :‬منها ما ذكره الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حيث قال " إنما جعل الستئذان من أجل‬
‫البصر " فبسبب الخلل به‪ ،‬يقع البصر على العورات التي داخل البيوت‪ ،‬فإن البيت للنسان في‬
‫ستر عورة ما وراءه‪ ،‬بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك يوجب الريبة من الداخل‪ ،‬ويتهم بالشر سرقة أو غيرها‪ ،‬لن الدخول خفية‪ ،‬يدل‬
‫على الشر‪ ،‬ومنع ال المؤمنين من دخول غير بيوتهم حَتّى يَسْتَأْنِسُوا أي‪ :‬يستأذنوا‪ .‬سمي الستئذان‬
‫استئناسا‪ ،‬لن به يحصل الستئناس‪ ،‬وبعدمه تحصل الوحشة‪ { ،‬وَتُسَّلمُوا عَلَى أَهِْلهَا } وصفة ذلك‪،‬‬
‫ما جاء في الحديث‪ " :‬السلم عليكم‪ ،‬أأدخل "؟‬

‫{ ذَِلكُمْ } أي‪ :‬الستئذان المذكور { خَيْرٌ َلكُمْ َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } لشتماله على عدة مصالح‪ ،‬وهو من‬
‫مكارم الخلق الواجبة‪ ،‬فإن أذن‪ ،‬دخل المستأذن‪.‬‬

‫جعُوا } أي‪ :‬فل‬


‫جعُوا فَارْ ِ‬
‫حدًا فَلَا َتدْخُلُوهَا حَتّى ُيؤْذَنَ َلكُ ْم وَإِنْ قِيلَ َلكُمُ ارْ ِ‬
‫{ فَإِنْ لَمْ َتجِدُوا فِيهَا أَ َ‬
‫تمتنعوا من الرجوع‪ ،‬ول تغضبوا منه‪ ،‬فإن صاحب المنزل‪ ،‬لم يمنعكم حقا واجبا لكم‪ ،‬وإنما هو‬
‫متبرع‪ ،‬فإن شاء أذن أو منع‪ ،‬فأنتم ل يأخذ أحدكم الكبر والشمئزاز من هذه الحال‪ُ { ،‬هوَ أَ ْزكَى‬
‫َلكُمْ } أي‪ :‬أشد لتطهيركم من السيئات‪ ،‬وتنميتكم بالحسنات‪ { .‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ } فيجازي كل‬
‫عامل بعمله‪ ،‬من كثرة وقلة‪ ،‬وحسن وعدمه‪ ،‬هذا الحكم في البيوت المسكونة‪ ،‬سواء كان فيها متاع‬
‫للنسان أم ل‪ ،‬وفي البيوت غير المسكونة‪ ،‬التي ل متاع فيها للنسان‪ ،‬وأما البيوت التي ليس فيها‬
‫أهلها‪ ،‬وفيها متاع النسان المحتاج للدخول إليه‪ ،‬وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه‪ ،‬وذلك كبيوت‬
‫الكراء وغيرها‪ ،‬فقد ذكرها بقوله‪:‬‬

‫{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ } أي‪ :‬حرج وإثم‪ ،‬دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة‪،‬‬
‫سكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ َل ُكمْ } وهذا من احترازات القرآن‬
‫أنه محرم‪ ،‬وفيه حرج { أَنْ تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَ ْ‬
‫العجيبة‪ ،‬فإن قوله‪ { :‬لَا تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ } لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للنسان‪ ،‬أخرج‬
‫منه تعالى البيوت التي ليست ملكه‪ ،‬وفيها متاعه‪ ،‬وليس فيها ساكن‪ ،‬فأسقط الحرج في الدخول‬
‫إليها‪ { ،‬وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا َتكْ ُتمُونَ } أحوالكم الظاهرة والخفية‪ ،‬وعلم مصالحكم‪ ،‬فلذلك شرع‬
‫لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون‪ ،‬من الحكام الشرعية‪.‬‬

‫جهُمْ ذَِلكَ أَ ْزكَى َلهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا‬


‫حفَظُوا فُرُو َ‬
‫{ ‪ُ { } 30‬قلْ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ َي ُغضّوا مِنْ أَ ْبصَارِ ِه ْم وَيَ ْ‬
‫َيصْ َنعُونَ }‬

‫أي‪ :‬أرشد المؤمنين‪ ،‬وقل لهم‪ :‬الذين معهم إيمان‪ ،‬يمنعهم من وقوع ما يخل باليمان‪َ { :‬ي ُغضّوا‬
‫مِنْ أَ ْبصَارِهِمْ } عن النظر إلى العورات وإلى النساء الجنبيات‪ ،‬وإلى المردان‪ ،‬الذين يخاف‬
‫بالنظر إليهم الفتنة‪ ،‬وإلى زينة الدنيا التي تفتن‪ ،‬وتوقع في المحذور‪.‬‬

‫جهُمْ } عن الوطء الحرام‪ ،‬في قبل أو دبر‪ ،‬أو ما دون ذلك‪ ،‬وعن التمكين من‬
‫حفَظُوا فُرُو َ‬
‫{ وَ َي ْ‬
‫مسها‪ ،‬والنظر إليها‪ { .‬ذَِلكَ } الحفظ للبصار والفروج { أَ ْزكَى َلهُمْ } أطهر وأطيب‪ ،‬وأنمى‬
‫لعمالهم‪ ،‬فإن من حفظ فرجه وبصره‪ ،‬طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش‪ ،‬وزكت‬
‫أعماله‪ ،‬بسبب ترك المحرم‪ ،‬الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه‪ ،‬فمن ترك شيئا ل‪ ،‬عوضه ال‬
‫خيرا منه‪ ،‬ومن غض بصره عن المحرم‪ ،‬أنار ال بصيرته‪ ،‬ولن العبد إذا حفظ فرجه وبصره‬
‫عن الحرام ومقدماته‪ ،‬مع داعي الشهوة‪ ،‬كان حفظه لغيره أبلغ‪ ،‬ولهذا سماه ال حفظا‪ ،‬فالشيء‬
‫المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه‪ ،‬وعمل السباب الموجبة لحفظه‪ ،‬لم ينحفظ‪،‬‬
‫كذلك البصر والفرج‪ ،‬إن لم يجتهد العبد في حفظهما‪ ،‬أوقعاه في بليا ومحن‪ ،‬وتأمل كيف أمر‬
‫بحفظ الفرج مطلقا‪ ،‬لنه ل يباح في حالة من الحوال‪ ،‬وأما البصر فقال‪َ { :‬ي ُغضّوا مِنْ أَ ْبصَارِهِمْ‬
‫} أتى بأداة " من " الدالة على التبعيض‪ ،‬فإنه يجوز النظر في بعض الحوال لحاجة‪ ،‬كنظر الشاهد‬
‫والعامل والخاطب‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم‪ ،‬ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من‬
‫المحرمات‪.‬‬

‫ظهَرَ‬
‫ن وَلَا يُ ْبدِينَ زِينَ َتهُنّ إِلّا مَا َ‬
‫جهُ ّ‬
‫حفَظْنَ فُرُو َ‬
‫ن وَيَ ْ‬
‫ضضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِ ّ‬
‫{ ‪َ { } 31‬و ُقلْ لِ ْل ُم ْؤمِنَاتِ َي ْغ ُ‬
‫ن وَلَا يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ إِلّا لِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ آبَا ِئهِنّ َأوْ آبَاءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ‬
‫خمُرِهِنّ عَلَى جُيُو ِبهِ ّ‬
‫مِ ْنهَا وَلْ َيضْرِبْنَ ِب ُ‬
‫خوَا ِتهِنّ َأوْ نِسَا ِئهِنّ َأوْ مَا مََل َكتْ‬
‫خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي أَ َ‬
‫خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي إِ ْ‬
‫أَبْنَا ِئهِنّ َأوْ أَبْنَاءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ إِ ْ‬
‫عوْرَاتِ النّسَاءِ‬
‫ظهَرُوا عَلَى َ‬
‫ط ْفلِ الّذِينَ َلمْ يَ ْ‬
‫أَ ْيمَا ُنهُنّ َأوِ التّا ِبعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ َأوِ ال ّ‬
‫جمِيعًا أَ ّيهَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َلعَّلكُمْ‬
‫ن وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ َ‬
‫خفِينَ مِنْ زِينَ ِتهِ ّ‬
‫وَلَا َيضْرِبْنَ بِأَرْجُِلهِنّ لِ ُيعَْلمَ مَا يُ ْ‬
‫ُتفْلِحُونَ }‬

‫لما أمر المؤمنين بغض البصار وحفظ الفروج‪ ،‬أمر المؤمنات بذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬و ُقلْ لِ ْل ُم ْؤمِنَاتِ‬
‫ضضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِنّ } عن النظر إلى العورات والرجال‪ ،‬بشهوة ونحو ذلك من النظر‬
‫َي ْغ ُ‬
‫جهُنّ } من التمكين من جماعها‪ ،‬أو مسها‪ ،‬أو النظر المحرم إليها‪ { .‬وَلَا‬
‫حفَظْنَ فُرُو َ‬
‫الممنوع‪ { ،‬وَ َي ْ‬
‫يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ } كالثياب الجميلة والحلي‪ ،‬وجميع البدن كله من الزينة‪ ،‬ولما كانت الثياب الظاهرة‪،‬‬
‫ظهَرَ مِ ْنهَا } أي‪ :‬الثياب الظاهرة‪ ،‬التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن‬
‫ل بد لها منها‪ ،‬قال‪ { :‬إِلّا مَا َ‬
‫خمُرِهِنّ عَلَى جُيُو ِبهِنّ } وهذا لكمال الستتار‪ ،‬ويدل‬
‫في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها‪ { ،‬وَلْ َيضْرِبْنَ بِ ُ‬
‫ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها‪ ،‬يدخل فيها جميع البدن‪ ،‬كما ذكرنا‪ .‬ثم كرر النهي عن‬
‫إبداء زينتهن‪ ،‬ليستثني منه قوله‪ { :‬إِلّا لِ ُبعُولَ ِتهِنّ } أي‪ :‬أزواجهن { َأوْ آبَا ِئهِنّ َأوْ آبَاءِ ُبعُولَتِهِنّ }‬
‫يشمل الب بنفسه‪ ،‬والجد وإن عل‪ { ،‬أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن } ويدخل فيه البناء وأبناء‬
‫خوَا ِتهِنّ َأوْ‬
‫خوَا ِنهِنّ } أشقاء‪ ،‬أو لب‪ ،‬أو لم‪َ { .‬أوْ بَنِي َأ َ‬
‫خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي ِإ ْ‬
‫البعولة مهما نزلوا { َأوْ ِإ ْ‬
‫نِسَا ِئهِنّ } أي‪ :‬يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا‪ ،‬ويحتمل أن الضافة تقتضي‬
‫الجنسية‪ ،‬أي‪ :‬النساء المسلمات‪ ،‬اللتي من جنسكم‪ ،‬ففيه دليل لمن قال‪ :‬إن المسلمة ل يجوز أن‬
‫تنظر إليها الذمية‪.‬‬

‫{ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ } فيجوز للمملوك إذا كان كله للنثى‪ ،‬أن ينظر لسيدته‪ ،‬ما دامت مالكة له‬
‫كله‪ ،‬فإن زال الملك أو بعضه‪ ،‬لم يجز النظر‪َ { .‬أوِ التّا ِبعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ } أي‪ :‬أو‬
‫الذين يتبعونكم‪ ،‬ويتعلقون بكم‪ ،‬من الرجال الذين ل إربة لهم في هذه الشهوة‪ ،‬كالمعتوه الذي ل‬
‫يدري ما هنالك‪ ،‬وكالعنين الذي لم يبق له شهوة‪ ،‬ل في فرجه‪ ،‬ول في قلبه‪ ،‬فإن هذا ل محذور‬
‫من نظره‪.‬‬

‫عوْرَاتِ النّسَاءِ } أي‪ :‬الطفال الذين دون التمييز‪ ،‬فإنه يجوز‬


‫ظهَرُوا عَلَى َ‬
‫ط ْفلِ الّذِينَ َلمْ يَ ْ‬
‫{ َأوِ ال ّ‬
‫نظرهم للنساء الجانب‪ ،‬وعلل تعالى ذلك‪ ،‬بأنهم لم يظهروا على عورات النساء‪ ،‬أي‪ :‬ليس لهم‬
‫علم بذلك‪ ،‬ول وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا‪ ،‬أن المميز تستتر منه المرأة‪ ،‬لنه يظهر على‬
‫عورات النساء‪.‬‬

‫خفِينَ مِنْ زِينَ ِتهِنّ } أي‪ :‬ل يضربن الرض بأرجلهن‪ ،‬ليصوت‬
‫{ وَلَا َيضْرِبْنَ بِأَ ْرجُِلهِنّ لِ ُيعْلَمَ مَا ُي ْ‬
‫ما عليهن من حلي‪ ،‬كخلخل وغيرها‪ ،‬فتعلم زينتها بسببه‪ ،‬فيكون وسيلة إلى الفتنة‪.‬‬

‫ويؤخذ من هذا ونحوه‪ ،‬قاعدة سد الوسائل‪ ،‬وأن المر إذا كان مباحا‪ ،‬ولكنه يفضي إلى محرم‪ ،‬أو‬
‫يخاف من وقوعه‪ ،‬فإنه يمنع منه‪ ،‬فالضرب بالرجل في الرض‪ ،‬الصل أنه مباح‪ ،‬ولكن لما كان‬
‫وسيلة لعلم الزينة‪ ،‬منع منه‪.‬‬

‫ولما أمر تعالى بهذه الوامر الحسنة‪ ،‬ووصى بالوصايا المستحسنة‪ ،‬وكان ل بد من وقوع تقصير‬
‫جمِيعًا أَيّهَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } لن‬
‫من المؤمن بذلك‪ ،‬أمر ال تعالى بالتوبة‪ ،‬فقال‪ { :‬وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ َ‬
‫المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلح‪ ،‬فقال‪َ { :‬لعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } فل سبيل إلى‬
‫الفلح إل بالتوبة‪ ،‬وهي الرجوع مما يكرهه ال‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬إلى‪ :‬ما يحبه ظاهرا وباطنا‪ ،‬ودل‬
‫هذا‪ ،‬أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة‪ ،‬لن ال خاطب المؤمنين جميعا‪ ،‬وفيه الحث على الخلص‬
‫بالتوبة في قوله‪ { :‬وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ } أي‪ :‬ل لمقصد غير وجهه‪ ،‬من سلمة من آفات الدنيا‪ ،‬أو‬
‫رياء وسمعة‪ ،‬أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 33 - 32‬وَأَ ْنكِحُوا الْأَيَامَى مِ ْنكُ ْم وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبَا ِدكُ ْم وَِإمَا ِئكُمْ إِنْ َيكُونُوا ُفقَرَاءَ ُيغْ ِنهِمُ‬
‫جدُونَ ِنكَاحًا حَتّى ُيغْنِ َيهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ‬
‫اللّهُ مِنْ َفضِْل ِه وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْ َيسْ َتعْ ِففِ الّذِينَ لَا يَ ِ‬
‫وَالّذِينَ يَبْ َتغُونَ ا ْلكِتَابَ ِممّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ َفكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَِلمْتُمْ فِي ِهمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي‬
‫حصّنًا لِتَبْ َتغُوا عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَنْ ُيكْرِههّنّ‬
‫آتَاكُمْ وَلَا ُتكْ ِرهُوا فَتَيَا ِت ُكمْ عَلَى الْ ِبغَاءِ إِنْ أَ َردْنَ َت َ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ }‬
‫فَإِنّ اللّهَ مِنْ َبعْدِ ِإكْرَا ِههِنّ َ‬

‫يأمر تعالى الولياء والسياد‪ ،‬بإنكاح من تحت وليتهم من اليامى وهم‪ :‬من ل أزواج لهم‪ ،‬من‬
‫رجال‪ ،‬ونساء ثيب‪ ،‬وأبكار‪ ،‬فيجب على القريب وولي اليتيم‪ ،‬أن يزوج من يحتاج للزواج‪ ،‬ممن‬
‫تجب نفقته عليه‪ ،‬وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم‪ ،‬كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب‬
‫أولى‪.‬‬

‫{ وَالصّاِلحِينَ مِنْ عِبَا ِدكُمْ وَِإمَائِكُمْ } يحتمل أن المراد بالصالحين‪ ،‬صلح الدين‪ ،‬وأن الصالح من‬
‫العبيد والماء ‪-‬وهو الذي ل يكون فاجرا زانيا‪ -‬مأمور سيده بإنكاحه‪ ،‬جزاء له على صلحه‪،‬‬
‫وترغيبا له فيه‪ ،‬ولن الفاسد بالزنا‪ ،‬منهي عن تزوجه‪ ،‬فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة‪ ،‬أن‬
‫نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب‪ ،‬ويكون التخصيص بالصلح في العبيد والماء دون‬
‫الحرار‪ ،‬لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة‪ ،‬ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج‬
‫المحتاجون إليه من العبيد والماء‪ ،‬يؤيد هذا المعنى‪ ،‬أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه‪ ،‬قبل‬
‫حاجته إلى الزواج‪ .‬ول يبعد إرادة المعنيين كليهما‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِنْ َيكُونُوا فُقَرَاءَ } أي‪ :‬الزواج والمتزوجين { ُيغْ ِنهِمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ } فل يمنعكم ما‬
‫تتوهمون‪ ،‬من أنه إذا تزوج‪ ،‬افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه‪ ،‬وفيه حث على التزوج‪ ،‬ووعد‬
‫للمتزوج بالغنى بعد الفقر‪ { .‬وَاللّ ُه وَاسِعٌ } كثير الخير عظيم الفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحق فضله‬
‫الديني والدنيوي أو أحدهما‪ ،‬ممن ل يستحق‪ ،‬فيعطي كل ما علمه واقتضاه حكمه‪.‬‬

‫{ وَلْيَسْ َت ْع ِففِ الّذِينَ لَا يَجِدُونَ ِنكَاحًا حَتّى ُيغْنِ َيهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ } هذا حكم العاجز عن النكاح‪ ،‬أمره‬
‫ال أن يستعفف‪ ،‬أن يكف عن المحرم‪ ،‬ويفعل السباب التي تكفه عنه‪ ،‬من صرف دواعي قلبه‬
‫بالفكار التي تخطر بإيقاعه فيه‪ ،‬ويفعل أيضا‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يا معشر‬
‫الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله‪:‬‬
‫{ الّذِينَ لَا َيجِدُونَ ِنكَاحًا } أي‪ :‬ل يقدرون نكاحا‪ ،‬إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم‪ ،‬أو امتناعهم‬
‫من تزويجهم [وليس لهم] من قدرة على إجبارهم على ذلك‪ ،‬وهذا التقدير‪ ،‬أحسن من تقدير من‬
‫قدر " ل يجدون مهر نكاح " وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف‪ ،‬فإن في ذلك محذورين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬الحذف في الكلم‪ ،‬والصل عدم الحذف‪.‬‬

‫والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالن‪ ،‬حالة غنى بماله‪ ،‬وحالة عدم‪ ،‬فيخرج العبيد‬
‫والماء ومن إنكاحه على وليه‪ ،‬كما ذكرنا‪.‬‬
‫{ حَتّى ُيغْنِ َيهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ } وعد للمستعفف أن ال سيغنيه وييسر له أمره‪ ،‬وأمر له بانتظار‬
‫الفرج‪ ،‬لئل يشق عليه ما هو فيه‪.‬‬

‫وقوله { وَالّذِينَ يَبْ َتغُونَ ا ْلكِتَابَ ِممّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ َفكَاتِبُو ُهمْ إِنْ عَِلمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أي‪ :‬من ابتغى‬
‫وطلب منكم الكتابة‪ ،‬وأن يشتري نفسه‪ ،‬من عبيد وإماء‪ ،‬فأجيبوه إلى ما طلب‪ ،‬وكاتبوه‪ { ،‬إِنْ‬
‫عَِلمْتُمْ فِيهِمْ } أي‪ :‬في الطالبين للكتابة { خَيْرًا } أي‪ :‬قدرة على التكسب‪ ،‬وصلحا في دينه‪ ،‬لن‬
‫في الكتابة تحصيل المصلحتين‪ ،‬مصلحة العتق والحرية‪ ،‬ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء‬
‫نفسه‪ .‬وربما جد واجتهد‪ ،‬وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما ل يحصل في رقه‪ ،‬فل يكون‬
‫ضرر على السيد في كتابته‪ ،‬مع حصول عظيم المنفعة للعبد‪ ،‬فلذلك أمر ال بالكتابة على هذا‬
‫الوجه أمر إيجاب‪ ،‬كما هو الظاهر‪ ،‬أو أمر استحباب على القول الخر‪ ،‬وأمر بمعاونتهم على‬
‫كتابتهم‪ ،‬لكونهم محتاجين لذلك‪ ،‬بسبب أنهم ل مال لهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَآتُو ُهمْ مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي آتَا ُكمْ }‬
‫يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه‪ ،‬أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها‪ ،‬وأمر الناس‬
‫بمعونتهم‪.‬‬

‫ولهذا جعل ال للمكاتبين قسطا من الزكاة‪ ،‬ورغب في إعطائه بقوله‪ { :‬مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي آتَاكُمْ }‬
‫أي‪ :‬فكما أن المال مال ال‪ ،‬وإنما الذي بأيديكم عطية من ال لكم ومحض منه‪ ،‬فأحسنوا لعباد ال‪،‬‬
‫كما أحسن ال إليكم‪.‬‬

‫ومفهوم الية الكريمة‪ ،‬أن العبد إذا لم يطلب الكتابة‪ ،‬ل يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته‪ ،‬وأنه إذا لم‬
‫يعلم منه خيرا‪ ،‬بأن علم منه عكسه‪ ،‬إما أنه يعلم أنه ل كسب له‪ ،‬فيكون بسبب ذلك كل على‬
‫الناس‪ ،‬ضائعا‪ ،‬وإما أن يخاف إذا أعتق‪ ،‬وصار في حرية نفسه‪ ،‬أن يتمكن من الفساد‪ ،‬فهذا ل‬
‫يؤمر بكتابته‪ ،‬بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَلَا ُتكْرِهُوا فَتَيَا ِتكُمْ } أي‪ :‬إماءكم { عَلَى الْ ِبغَاءِ } أي‪ :‬أن تكون زانية { إِنْ أَرَدْنَ‬
‫حصّنًا } لنه ل يتصور إكراهها إل بهذه الحال‪ ،‬وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا‪ ،‬يجب‬
‫تَ َ‬
‫على سيدها منعها من ذلك‪ ،‬وإنما هذا نهى لما كانوا يستعملونه في الجاهلية‪ ،‬من كون السيد يجبر‬
‫أمته على البغاء‪ ،‬ليأخذ منها أجرة ذلك‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لِتَبْ َتغُوا عَ َرضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } فل يليق بكم أن‬
‫تكون إماؤكم خيرا منكم‪ ،‬وأعف عن الزنا‪ ،‬وأنتم تفعلون بهن ذلك‪ ،‬لجل عرض الحياة‪ ،‬متاع قليل‬
‫يعرض ثم يزول‪.‬‬

‫فكسبكم النزاهة‪ ،‬والنظافة‪ ،‬والمروءة ‪-‬بقطع النظر عن ثواب الخرة وعقابها‪ -‬أفضل من كسبكم‬
‫العرض القليل‪ ،‬الذي يكسبكم الرذالة والخسة‪.‬‬
‫غفُورٌ‬
‫ثم دعا من جرى منه الكراه إلى التوبة‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَنْ ُيكْرِههّنّ فَإِنّ اللّهَ مِنْ َبعْدِ ِإكْرَا ِههِنّ َ‬
‫رَحِيمٌ } فليتب إلى ال‪ ،‬وليقلع عما صدر منه مما يغضبه‪ ،‬فإذا فعل ذلك‪ ،‬غفر ال ذنوبه‪ ،‬ورحمه‬
‫كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب‪ ،‬وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها‪.‬‬

‫ت َومَثَلًا مِنَ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُ ْم َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ }‬


‫{ ‪ { } 34‬وََلقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ آيَاتٍ مُبَيّنَا ٍ‬

‫هذا تعظيم وتفخيم لهذه اليات‪ ،‬التي تلها على عباده‪ ،‬ليعرفوا قدرها‪ ،‬ويقوموا بحقها فقال‪:‬‬
‫{ وََلقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ آيَاتٍ مُبَيّنَاتٍ } أي‪ :‬واضحات الدللة‪ ،‬على كل أمر تحتاجون إليه‪ ،‬من الصول‬
‫والفروع‪ ،‬بحيث ل يبقى فيها إشكال ول شبهة‪ { ،‬و } أنزلنا إليكم أيضا { مثل مِنَ الّذِينَ خََلوْا مِنْ‬
‫قَبِْلكُمْ } من أخبار الولين‪ ،‬الصالح منهم والطالح‪ ،‬وصفة أعمالهم‪ ،‬وما جرى لهم وجرى عليهم‬
‫تعتبرونه مثال ومعتبرا‪ ،‬لمن فعل مثل أفعالهم أن يجازى مثل ما جوزوا‪.‬‬

‫{ َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } أي‪ :‬وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين‪ ،‬من الوعد والوعيد‪ ،‬والترغيب والترهيب‪،‬‬
‫يتعظ بها المتقون‪ ،‬فينكفون عما يكره ال إلى ما يحبه ال‪.‬‬

‫جةٍ‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَا َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 35‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫شجَ َرةٍ مُبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَ ْرقِيّ ٍة وَلَا غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا ُيضِيءُ‬
‫الزّجَاجَةُ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِنْ َ‬
‫سهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ ِب ُكلّ‬
‫وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫َ‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } الحسي والمعنوي‪ ،‬وذلك أنه تعالى بذاته نور‪ ،‬وحجابه ‪-‬الذي‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫لول لطفه‪ ،‬لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‪ -‬نور‪ ،‬وبه استنار العرش‪،‬‬
‫والكرسي‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والنور‪ ،‬وبه استنارت الجنة‪ .‬وكذلك النور المعنوي يرجع إلى ال‪،‬‬
‫فكتابه نور‪ ،‬وشرعه نور‪ ،‬واليمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور‪ .‬فلول نوره‬
‫تعالى‪ ،‬لتراكمت الظلمات‪ ،‬ولهذا‪ :‬كل محل‪ ،‬يفقد نوره فثم الظلمة والحصر‪ { ،‬مَ َثلُ نُو ِرهِ } الذي‬
‫شكَاةٍ } أي‪ :‬كوة { فِيهَا ِمصْبَاحٌ }‬
‫يهدي إليه‪ ،‬وهو نور اليمان والقرآن في قلوب المؤمنين‪َ { ،‬كمِ ْ‬
‫جةٍ الزّجَاجَةُ } من صفائها‬
‫لن الكوة تجمع نور المصباح بحيث ل يتفرق ذلك { ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَا َ‬
‫وبهائها { كَأَ ّنهَا َك ْوكَبٌ دُ ّريّ } أي‪ :‬مضيء إضاءة الدر‪ { .‬يُوقَدُ } ذلك المصباح‪ ،‬الذي في تلك‬
‫شجَ َرةٍ مُبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ } أي‪ :‬يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما‬
‫الزجاجة الدرية { مِنْ َ‬
‫يكون‪ { ،‬لَا شَ ْرقِيّةٍ } فقط‪ ،‬فل تصيبها الشمس آخر النهار‪ { ،‬وَلَا غَرْبِيّةٍ } فقط‪ ،‬فل تصيبها الشمس‬
‫[أول] النهار‪ ،‬وإذا انتفى عنها المران‪ ،‬كانت متوسطة من الرض‪ ،‬كزيتون الشام‪ ،‬تصيبها‬
‫الشمس أول النهار وآخره‪ ،‬فتحسن وتطيب‪ ،‬ويكون أصفى لزيتها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬يكَادُ زَيْ ُتهَا } من‬
‫سهُ نَارٌ } فإذا مسته النار‪ ،‬أضاء إضاءة بليغة { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي‪:‬‬
‫صفائه { ُيضِي ُء وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ‬
‫نور النار‪ ،‬ونور الزيت‪.‬‬

‫ووجه هذا المثل الذي ضربه ال‪ ،‬وتطبيقه على حالة المؤمن‪ ،‬ونور ال في قلبه‪ ،‬أن فطرته التي‬
‫فطر عليها‪ ،‬بمنزلة الزيت الصافي‪ ،‬ففطرته صافية‪ ،‬مستعدة للتعاليم اللهية‪ ،‬والعمل المشروع‪،‬‬
‫فإذا وصل إليه العلم واليمان‪ ،‬اشتعل ذلك النور في قلبه‪ ،‬بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك‬
‫المصباح‪ ،‬وهو صافي القلب من سوء القصد‪ ،‬وسوء الفهم عن ال‪ ،‬إذا وصل إليه اليمان‪ ،‬أضاء‬
‫إضاءة عظيمة‪ ،‬لصفائه من الكدورات‪ ،‬وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية‪ ،‬فيجتمع له نور‬
‫الفطرة‪ ،‬ونور اليمان‪ ،‬ونور العلم‪ ،‬وصفاء المعرفة‪ ،‬نور على نوره‪.‬‬

‫ولما كان هذا من نور ال تعالى‪ ،‬وليس كل أحد يصلح له ذلك‪ ،‬قال‪َ { :‬يهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَنْ يَشَاءُ }‬
‫ممن يعلم زكاءه وطهارته‪ ،‬وأنه يزكي معه وينمو‪ { .‬وَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ } ليعقلوا عنه‬
‫ويفهموا‪ ،‬لطفا منه بهم‪ ،‬وإحسانا إليهم‪ ،‬وليتضح الحق من الباطل‪ ،‬فإن المثال تقرب المعاني‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } فعلمه محيط بجميع‬
‫المعقولة من المحسوسة‪ ،‬فيعلمها العباد علما واضحا‪ { ،‬وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫الشياء‪ ،‬فلتعلموا أن ضربه المثال‪ ،‬ضرب من يعلم حقائق الشياء وتفاصيلها‪ ،‬وأنها مصلحة‬
‫للعباد‪ ،‬فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها‪ ،‬ل بالعتراض عليها‪ ،‬ول بمعارضتها‪ ،‬فإنه يعلم وأنتم ل‬
‫تعلمون‪.‬‬

‫ولما كان نور اليمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد‪ ،‬ذكرها منوها بها فقال‪:‬‬
‫س ُمهُ يُسَبّحُ َلهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُد ّو وَالْآصَالِ‬
‫{ ‪ { } 38 - 36‬فِي بُيُوتٍ َأذِنَ اللّهُ أَنْ تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫*رِجَالٌ لَا تُ ْلهِيهِمْ تِجَا َر ٌة وَلَا بَيْعٌ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه وَِإقَامِ الصّلَا ِة وَإِيتَاءِ ال ّزكَاةِ يَخَافُونَ َي ْومًا تَ َتقَّلبُ فِيهِ‬
‫عمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ َفضِْل ِه وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ‬
‫حسَنَ مَا َ‬
‫ب وَالْأَ ْبصَارُ * لِيَجْزِ َي ُهمُ اللّهُ أَ ْ‬
‫ا ْلقُلُو ُ‬
‫حسَابٍ }‬
‫ِ‬

‫أي‪ :‬يتعبد ل { فِي بُيُوتٍ } عظيمة فاضلة‪ ،‬هي أحب البقاع إليه‪ ،‬وهي المساجد‪ { .‬أَذِنَ اللّهُ } أي‪:‬‬
‫س ُمهُ } هذان مجموع أحكام المساجد‪ ،‬فيدخل في رفعها‪،‬‬
‫أمر ووصى { أَنْ تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫بناؤها‪ ،‬وكنسها‪ ،‬وتنظيفها من النجاسة والذى‪ ،‬وصونها من المجانين والصبيان الذين ل‬
‫يتحرزون عن النجاسة‪ ،‬وعن الكافر‪ ،‬وأن تصان عن اللغو فيها‪ ،‬ورفع الصوات بغير ذكر ال‪.‬‬

‫سمُهُ } يدخل في ذلك الصلة كلها‪ ،‬فرضها‪ ،‬ونفلها‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬والتسبيح‪،‬‬
‫{ وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫والتهليل‪ ،‬وغيره من أنواع الذكر‪ ،‬وتعلم العلم وتعليمه‪ ،‬والمذاكرة فيها‪ ،‬والعتكاف‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من العبادات التي تفعل في المساجد‪ ،‬ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين‪ :‬عمارة بنيان‪،‬‬
‫وصيانة لها‪ ،‬وعمارة بذكر اسم ال‪ ،‬من الصلة وغيرها‪ ،‬وهذا أشرف القسمين‪ ،‬ولهذا شرعت‬
‫الصلوات الخمس والجمعة في المساجد‪ ،‬وجوبا عند أكثر العلماء‪ ،‬أو استحبابا عند آخرين‪ .‬ثم مدح‬
‫تعالى عمارها بالعبادة فقال‪ { :‬يُسَبّحُ َلهُ } إخلصا { بِا ْل ُغ ُدوّ } أول النهار { وَالْآصَالِ } آخره‬
‫{ ِرجَالٌ } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى ال وسهولته‪ .‬ويدخل في ذلك‪،‬‬
‫التسبيح في الصلة وغيرها‪ ،‬ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح‬
‫والمساء‪ .‬أي‪ :‬يسبح فيها ال‪ ،‬رجال‪ ،‬وأي‪ :‬رجال‪ ،‬ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا‪ ،‬ذات لذات‪ ،‬ول‬
‫تجارة ومكاسب‪ ،‬مشغلة عنه‪ { ،‬لَا تُ ْلهِيهِمْ تِجَا َرةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض‪ ،‬فيكون‬
‫قوله‪ { :‬وَلَا بَ ْيعٌ } من باب عطف الخاص على العام‪ ،‬لكثرة الشتغال بالبيع على غيره‪ ،‬فهؤلء‬
‫الرجال‪ ،‬وإن اتجروا‪ ،‬وباعوا‪ ،‬واشتروا‪ ،‬فإن ذلك‪ ،‬ل محذور فيه‪ .‬لكنه ل تلهيهم تلك‪ ،‬بأن‬
‫يقدموها ويؤثروها على { ِذكْرِ اللّهِ وَِإقَامِ الصّلَا ِة وَإِيتَاءِ ال ّزكَاةِ } بل جعلوا طاعة ال وعبادته غاية‬
‫مرادهم‪ ،‬ونهاية مقصدهم‪ ،‬فما حال بينهم وبينها رفضوه‪.‬‬

‫ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس‪ ،‬وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها‪ ،‬ويشق‬
‫عليها تركه في الغالب‪ ،‬وتتكلف من تقديم حق ال على ذلك‪ ،‬ذكر ما يدعوها إلى ذلك ‪-‬ترغيبا‬
‫وترهيبا‪ -‬فقال‪َ { :‬يخَافُونَ َي ْومًا تَ َتقَّلبُ فِيهِ ا ْلقُلُوبُ وَالْأَ ْبصَارُ } من شدة هوله وإزعاجه للقلوب‬
‫حسَنَ‬
‫والبدان‪ ،‬فلذلك خافوا ذلك اليوم‪ ،‬فسهل عليهم العمل‪ ،‬وترك ما يشغل عنه‪ { ،‬لِيَجْزِ َي ُهمُ اللّهُ أَ ْ‬
‫عمِلُوا } والمراد بأحسن ما عملوا‪ :‬أعمالهم الحسنة الصالحة‪ ،‬لنها أحسن ما عملوا‪ ،‬لنهم‬
‫مَا َ‬
‫يعملون المباحات وغيرها‪ ،‬فالثواب ل يكون إل على العمل الحسن‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬لِ ُي َكفّرَ اللّهُ‬
‫حسَنِ ما كَانُوا َي ْعمَلُونَ } { وَيَزِي ُدهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } زيادة‬
‫عمِلُوا وَيَجْزِ َيهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫سوَأَ الّذِي َ‬
‫عَ ْنهُمْ َأ ْ‬
‫حسَابٍ } بل يعطيه من الجر ما‬
‫كثيرة عن الجزاء المقابل لعمالهم‪ { ،‬وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫ل يبلغه عمله‪ ،‬بل ول تبلغه أمنيته‪ ،‬ويعطيه من الجر بل عد ول كيل‪ ،‬وهذا كناية عن كثرته‬
‫جدا‪.‬‬

‫ج ْدهُ‬
‫ظمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَا َءهُ َلمْ يَ ِ‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫{ ‪ { } 40 - 39‬وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ‬
‫جيّ َيغْشَاهُ َموْجٌ‬
‫شَيْئًا َووَجَدَ اللّهَ عِ ْن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ * َأوْ كَظُُلمَاتٍ فِي بَحْرٍ ُل ّ‬
‫ضهَا َفوْقَ َب ْعضٍ إِذَا أَخْرَجَ َي َدهُ لَمْ َيكَدْ يَرَاهَا َومَنْ َلمْ‬
‫مِنْ َف ْوقِهِ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ سَحَابٌ ظُُلمَاتٌ َب ْع ُ‬
‫ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورًا َفمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }‬
‫يَ ْ‬

‫هذان مثلن‪ ،‬ضربهما ال لعمال الكفار في بطلنها وذهابها سدى وتحسر عامليها منها فقال‪:‬‬
‫عمَاُل ُهمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ } أي‪ :‬بقاع‪ ،‬ل شجر فيه ول نبت‪.‬‬
‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا } بربهم وكذبوا رسله { أَ ْ‬

‫ظمْآنُ مَاءً } شديد العطش‪ ،‬الذي يتوهم ما ل يتوهم غيره‪ ،‬بسبب ما معه من العطش‪،‬‬
‫{ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫وهذا حسبان باطل‪ ،‬فيقصده ليزيل ظمأه‪ { ،‬حَتّى ِإذَا جَا َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئًا } فندم ندما شديدا‪ ،‬وازداد‬
‫ما به من الظمأ‪ ،‬بسبب انقطاع رجائه‪ ،‬كذلك أعمال الكفار‪ ،‬بمنزلة السراب‪ ،‬ترى ويظنها الجاهل‬
‫الذي ل يدري المور‪ ،‬أعمال نافعة‪ ،‬فيغره صورتها‪ ،‬ويخلبه خيالها‪ ،‬ويحسبها هو أيضا أعمال‬
‫نافعة لهواه‪ ،‬وهو أيضا محتاج إليها بل مضطر إليها‪ ،‬كاحتياج الظمآن للماء‪ ،‬حتى إذ قدم على‬
‫أعماله يوم الجزاء‪ ،‬وجدها ضائعة‪ ،‬ولم يجدها شيئا‪ ،‬والحال إنه لم يذهب‪ ،‬ل له ول عليه‪ ،‬بل‬
‫حسَابَهُ } لم يخف عليه من عمله نقير ول قطمير‪ ،‬ولن يعدم منه قليل ول‬
‫{ وجد اللّهَ عِنْ َدهُ َف َوفّاهُ ِ‬
‫حسَابِ } فل يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد‪ ،‬فإنه ل بد من إتيانه‪ ،‬ومثلها ال‬
‫كثيرا‪ { ،‬وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫بالسراب الذي بقيعة‪ ،‬أي‪ :‬ل شجر فيه ول نبات‪ ،‬وهذا مثال لقلوبهم‪ ،‬ل خير فيها ول بر‪ ،‬فتزكو‬
‫فيها العمال وذلك للسبب المانع‪ ،‬وهو الكفر‪.‬‬

‫جيّ } بعيد قعره‪ ،‬طويل مداه { َي ْغشَاهُ‬


‫والمثل الثاني‪ ،‬لبطلن أعمال الكفار { كَظُُلمَاتٍ فِي بَحْرٍ ُل ّ‬
‫ضهَا َفوْقَ َب ْعضٍ } ظلمة البحر اللجي‪ ،‬ثم فوقه‬
‫سحَابٌ ظُُلمَاتٌ َب ْع ُ‬
‫َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ َ‬
‫ظلمة المواج المتراكمة‪ ،‬ثم فوق ذلك‪ ،‬ظلمة السحب المدلهمة‪ ،‬ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم‪،‬‬
‫فاشتدت الظلمة جدا‪ ،‬بحيث أن الكائن في تلك الحال { إِذَا أَخْرَجَ َي َدهُ لَمْ َيكَدْ يَرَاهَا } مع قربها إليه‪،‬‬
‫فكيف بغيرها‪ ،‬كذلك الكفار‪ ،‬تراكمت على قلوبهم الظلمات‪ ،‬ظلمة الطبيعة‪ ،‬التي ل خير فيها‪،‬‬
‫وفوقها ظلمة الكفر‪ ،‬وفوق ذلك‪ ،‬ظلمة الجهل‪ ،‬وفوق ذلك‪ ،‬ظلمة العمال الصادرة عما ذكر‪ ،‬فبقوا‬
‫في الظلمة متحيرين‪ ،‬وفي غمرتهم يعمهون‪ ،‬وعن الصراط المستقيم مدبرين‪ ،‬وفي طرق الغي‬
‫ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورًا‬
‫والضلل يترددون‪ ،‬وهذا لن ال تعالى خذلهم‪ ،‬فلم يعطهم من نوره‪َ { ،‬ومَنْ َلمْ يَ ْ‬
‫َفمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } لن نفسه ظالمة جاهلة‪ ،‬فليس فيها من الخير والنور‪ ،‬إل ما أعطاها مولها‪،‬‬
‫ومنحها ربها‪ .‬يحتمل أن هذين المثالين‪ ،‬لعمال جميع الكفار‪ ،‬كل منهما‪ ،‬منطبق عليها‪ ،‬وعددهما‬
‫لتعدد الوصاف‪ ،‬ويحتمل أن كل مثال‪ ،‬لطائفة وفرقة‪ .‬فالول‪ ،‬للمتبوعين‪ ،‬والثاني‪ ،‬للتابعين‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬

‫ض وَالطّيْ ُر صَافّاتٍ ُكلّ قَدْ عَِلمَ‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 42 - 41‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ َلهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫علِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ * وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫صَلَاتَ ُه وَتَسْبِيحَ ُه وَاللّهُ َ‬

‫نبه تعالى عباده على عظمته‪ ،‬وكمال سلطانه‪ ،‬وافتقار جميع المخلوقات له في ربوبيتها‪ ،‬وعبادتها‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } من حيوان وجماد { وَالطّيْ ُر صَافّاتٍ }‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫فقال‪َ { :‬ألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ ُيسَبّحُ لَهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫أي‪ :‬صافات أجنحتها‪ ،‬في جو السماء‪ ،‬تسبح ربها‪ُ { .‬كلّ } من هذه المخلوقات { َقدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ‬
‫حهُ } أي‪ :‬كل له صلة وعبادة بحسب حاله اللئقة به‪ ،‬وقد ألهمه ال تلك الصلة والتسبيح‪،‬‬
‫وَتَسْبِي َ‬
‫إما بواسطة الرسل‪ ،‬كالجن والنس والملئكة‪ ،‬وإما بإلهام منه تعالى‪ ،‬كسائر المخلوقات غير ذلك‪،‬‬
‫وهذا الحتمال أرجح‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ } أي‪ :‬علم جميع أفعالها‪ ،‬فلم يخف‬
‫عليه منها شيء‪ ،‬وسيجازيهم بذلك‪ ،‬فيكون على هذا‪ ،‬قد جمع بين علمه بأعمالها‪ ،‬وذلك بتعليمه‪،‬‬
‫وبين علمه بأعمالهم المتضمن للجزاء‪.‬‬

‫ويحتمل أن الضمير في قوله‪ { :‬قَدْ عَِل َم صَلَاتَ ُه وَتَسْبِيحَهُ } يعود إلى ال‪ ،‬وأن ال تعالى قد علم‬
‫عباداتهم‪ ،‬وإن لم تعلموا ‪-‬أيها العباد‪ -‬منها‪ ،‬إل ما أطلعكم ال عليه‪ .‬وهذه الية كقوله تعالى‪:‬‬
‫ح ْم ِدهِ وََلكِنْ لَا َتفْ َقهُونَ‬
‫شيْءٍ إِلّا ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫ن وَإِنْ مِنْ َ‬
‫ض َومَنْ فِيهِ ّ‬
‫سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَالْأَ ْر ُ‬
‫{ ُتسَبّحُ لَهُ ال ّ‬
‫غفُورًا } فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه ‪-‬من جهة العبادة والتوحيد‪ -‬بين‬
‫حهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ‬
‫تَسْبِي َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } خالقهما‬
‫افتقارهم‪ ،‬من جهة الملك والتربية والتدبير فقال‪ { :‬وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ورازقهما‪ ،‬والمتصرف فيهما‪ ،‬في حكمه الشرعي [والقدري] في هذه الدار‪ ،‬وفي حكمه الجزائي‪،‬‬
‫بدار القرار‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬مرجع الخلق ومآلهم‪ ،‬ليجازيهم بأعمالهم‪.‬‬

‫جعَلُهُ ُركَامًا فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ يَخْرُجُ‬


‫سحَابًا ثُمّ ُيؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 44 - 43‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي َ‬
‫سمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَ َردٍ فَ ُيصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَا ُء وَ َيصْ ِرفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ‬
‫مِنْ خِلَاِل ِه وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ‬
‫ل وَال ّنهَارَ إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ }‬
‫َيكَادُ سَنَا بَ ْرقِهِ يَ ْذ َهبُ بِالْأَ ْبصَارِ * ُيقَلّبُ اللّهُ اللّ ْي َ‬

‫سحَابًا } قطعا متفرقة { ُثمّ‬


‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك‪ ،‬عظيم قدرة ال‪ ،‬وكيف { يُزْجِي } أي‪ :‬يسوق { َ‬
‫ُيؤَّلفُ } بين تلك القطع‪ ،‬فيجعله سحابا متراكما‪ ،‬مثل الجبال‪.‬‬

‫{ فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ } أي‪ :‬الوابل والمطر‪ ،‬يخرج من خلل السحاب‪ ،‬نقطا متفرقة‪ ،‬ليحصل بها النتفاع‬
‫من دون ضرر‪ ،‬فتمتلئ بذلك الغدران‪ ،‬وتتدفق الخلجان‪ ،‬وتسيل الودية‪ ،‬وتنبت الرض من كل‬
‫زوج كريم‪ ،‬وتارة ينزل ال من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه‪.‬‬

‫{ فَ ُيصِيبُ بِهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيصْ ِرفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه حكمه القدري‪ ،‬وحكمته التي‬
‫يحمد عليها‪َ { ،‬يكَادُ سَنَا بَ ْرقِهِ } أي‪ :‬يكاد ضوء برق ذلك السحاب‪ ،‬من شدته { َيذْ َهبُ بِالْأَ ْبصَارِ }‬
‫أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين‪ ،‬وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر‪،‬‬
‫كامل القدرة‪ ،‬نافذ المشيئة‪ ،‬واسع الرحمة؟‪.‬‬

‫{ ُيقَّلبُ اللّهُ اللّ ْيلَ وَال ّنهَارَ } من حر إلى برد‪ ،‬ومن برد إلى حر‪ ،‬من ليل إلى نهار‪ ،‬ومن نهار إلى‬
‫ليل‪ ،‬ويديل اليام بين عباده‪ { ،‬إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ } أي‪ :‬لذوي البصائر‪ ،‬والعقول‬
‫النافذة للمور المطلوبة منها‪ ،‬كما تنفذ البصار إلى المور المشاهدة الحسية‪ .‬فالبصير ينظر إلى‬
‫هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها‪ ،‬والمعرض الجاهل نظره إليها نظر‬
‫غفلة‪ ،‬بمنزلة نظر البهائم‪.‬‬
‫خلَقَ ُكلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َي ْمشِي عَلَى َبطْنِ ِه َومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ‬
‫{ ‪ { } 45‬وَاللّهُ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫َومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى أَرْ َبعٍ يَخُْلقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬

‫ينبه عباده على ما يشاهدونه‪ ،‬أنه خلق جميع الدواب التي على وجه الرض‪ { ،‬مِنْ مَاءٍ } أي‪:‬‬
‫حيّ }‬
‫شيْءٍ َ‬
‫جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ ُكلّ َ‬
‫مادتها كلها الماء‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَ َ‬

‫فالحيوانات التي تتوالد‪ ،‬مادتها ماء النطفة‪ ،‬حين يلقح الذكر النثى‪ .‬والحيوانات التي تتولد من‬
‫الرض‪ ،‬ل تتولد إل من الرطوبات المائية‪ ،‬كالحشرات ل يوجد منها شيء‪ ،‬يتولد من غير ماء‬
‫أبدا‪ ،‬فالمادة واحدة‪ ،‬ولكن الخلقة مختلفة من وجوه كثيرة‪َ { ،‬فمِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى بَطْ ِنهِ } كالحية‬
‫جلَيْنِ } كالدميين‪ ،‬وكثير من الطيور‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى‬
‫ونحوها‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى رِ ْ‬
‫أَرْبَعٍ } كبهيمة النعام ونحوها‪ .‬فاختلفها ‪-‬مع أن الصل واحد‪ -‬يدل على نفوذ مشيئة ال‪،‬‬
‫وعموم قدرته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬يَخُْلقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } أي‪ :‬من المخلوقات‪ ،‬على ما يشاؤه من الصفات‪،‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } كما أنزل المطر على الرض‪ ،‬وهو لقاح واحد‪ ،‬والم واحدة‪،‬‬
‫{ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ت وَجَنّاتٌ مِنْ‬
‫وهي الرض‪ ،‬والولد مختلفو الصناف والوصاف { َوفِي الْأَ ْرضِ ِقطَعٌ مُتَجَاوِرَا ٌ‬
‫ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ‬
‫ضلُ َب ْع َ‬
‫ح ٍد وَ ُنفَ ّ‬
‫سقَى ِبمَا ٍء وَا ِ‬
‫ن وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ُي ْ‬
‫ل صِ ْنوَا ٌ‬
‫ع وَنَخِي ٌ‬
‫أَعْنَابٍ وَزَرْ ٌ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }‬

‫ت وَاللّهُ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‬


‫{ ‪َ { } 46‬لقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيّنَا ٍ‬

‫أي‪ :‬لقد رحمنا عبادنا‪ ،‬وأنزلنا إليهم آيات بينات‪ ،‬أي‪ :‬واضحات الدللة‪ ،‬على جميع المقاصد‬
‫الشرعية‪ ،‬والداب المحمودة‪ ،‬والمعارف الرشيدة‪ ،‬فاتضحت بذلك السبل‪ ،‬وتبين الرشد من الغي‪،‬‬
‫والهدى من الضلل‪ ،‬فلم يبق أدنى شبهة لمبطل يتعلق بها‪ ،‬ول أدنى إشكال لمريد الصواب‪ ،‬لنها‬
‫تنزيل من كمل علمه‪ ،‬وكملت رحمته‪ ،‬وكمل بيانه‪ ،‬فليس بعد بيانه بيان { لِ َيهِْلكَ } بعد ذلك { مَنْ‬
‫حيّ عَنْ بَيّ َنةٍ } { وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ } ممن سبقت لهم سابقة الحسنى‪،‬‬
‫هََلكَ عَنْ بَيّ َن ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ‬
‫وقدم الصدق‪ { ،‬إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي‪ :‬طريق واضح مختصر‪ ،‬موصل إليه‪ ،‬وإلى دار كرامته‪،‬‬
‫متضمن العلم بالحق وإيثاره والعمل به‪ .‬عمم البيان التام لجميع الخلق‪ ،‬وخصص بالهداية من‬
‫يشاء‪ ،‬فهذا فضله وإحسانه‪ ،‬وما فضل الكريم بممنون وذاك عدله‪ ،‬وقطع الحجة للمحتج‪ ،‬وال أعلم‬
‫حيث يجعل مواقع إحسانه‪.‬‬
‫طعْنَا ثُمّ يَ َتوَلّى فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ مِنْ َبعْدِ َذِلكَ َومَا‬
‫{ ‪ { } 50 - 47‬وَ َيقُولُونَ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالرّسُولِ وََأ َ‬
‫حكُمَ بَيْ َنهُمْ ِإذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ ُمعْ ِرضُونَ * وَإِنْ َيكُنْ‬
‫أُولَ ِئكَ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ‬
‫َلهُمُ ا ْلحَقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * َأفِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ َأمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ َيحِيفَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ‬
‫وَرَسُولُهُ َبلْ أُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن حالة الظالمين‪ ،‬ممن في قلبه مرض وضعف إيمان‪ ،‬أو نفاق وريب وضعف علم‪،‬‬
‫أنهم يقولون بألسنتهم‪ ،‬ويلتزمون اليمان بال والطاعة‪ ،‬ثم ل يقومون بما قالوا‪ ،‬ويتولى فريق منهم‬
‫عن الطاعة توليا عظيما‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وَ ُهمْ ُمعْ ِرضُونَ } فإن المتولي‪ ،‬قد يكون له نية عود‬
‫ورجوع إلى ما تولى عنه‪ ،‬وهذا المتولي معرض‪ ،‬ل التفات له‪ ،‬ول نظر لما تولى عنه‪ ،‬وتجد‬
‫هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي اليمان والطاعة ل وهو ضعيف اليمان‪ ،‬وتجده ل يقوم‬
‫بكثير من العبادات‪ ،‬خصوصا‪ :‬العبادات التي تشق على كثير من النفوس‪ ،‬كالزكوات‪ ،‬والنفقات‬
‫الواجبة والمستحبة‪ ،‬والجهاد في سبيل ال‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫حكُمَ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬إذا صار بينهم وبين أحد حكومة‪ ،‬ودعوا إلى حكم‬
‫{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ‬
‫ال ورسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ ُمعْ ِرضُونَ } يريدون أحكام الجاهلية‪ ،‬ويفضلون أحكام القوانين غير‬
‫الشرعية على الحكام الشرعية‪ ،‬لعلمهم أن الحق عليهم‪ ،‬وأن الشرع ل يحكم إل بما يطابق‬
‫حقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ } أي‪ :‬إلى حكم الشرع { مُذْعِنِينَ } وليس ذلك لجل أنه‬
‫الواقع‪ { ،‬وَإِنْ َيكُنْ َل ُهمُ الْ َ‬
‫حكم شرعي‪ ،‬وإنما ذلك لجل موافقة أهوائهم‪ ،‬فليسوا ممدوحين في هذه الحال‪ ،‬ولو أتوا إليه‬
‫مذعنين‪ ،‬لن العبد حقيقة‪ ،‬من يتبع الحق فيما يحب ويكره‪ ،‬وفيما يسره ويحزنه‪ ،‬وأما الذي يتبع‬
‫الشرع عند موافقة هواه‪ ،‬وينبذه عند مخالفته‪ ،‬ويقدم الهوى على الشرع‪ ،‬فليس بعبد على الحقيقة‪،‬‬
‫قال ال في لومهم على العراض عن الحكم الشرعي‪َ { :‬أفِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } أي‪ :‬علة‪ ،‬أخرجت‬
‫القلب عن صحته وأزالت حاسته‪ ،‬فصار بمنزلة المريض‪ ،‬الذي يعرض عما ينفعه‪ ،‬ويقبل على ما‬
‫يضره‪،‬‬

‫{ َأمِ ارْتَابُوا } أي‪ :‬شكوا‪ ،‬وقلقت قلوبهم من حكم ال ورسوله‪ ،‬واتهموه أنه ل يحكم بالحق‪ { ،‬أَمْ‬
‫يَخَافُونَ أَنْ َيحِيفَ اللّهُ عَلَ ْي ِه ْم وَرَسُولُهُ } أي‪ :‬يحكم عليهم حكما ظالما جائرا‪ ،‬وإنما هذا وصفهم‬
‫{ َبلْ أُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ }‬

‫ح ْكمًا‬
‫وأما حكم ال ورسوله‪ ،‬ففي غاية العدالة والقسط‪ ،‬وموافقة الحكمة‪َ { .‬ومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّهِ ُ‬
‫ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وفي هذه اليات‪ ،‬دليل على أن اليمان‪ ،‬ليس هو مجرد القول حتى يقترن به‬
‫العمل‪ ،‬ولهذا نفى اليمان عمن تولى عن الطاعة‪ ،‬ووجوب النقياد لحكم ال ورسوله في كل حال‪،‬‬
‫وأن من ينقد له دل على مرض في قلبه‪ ،‬وريب في إيمانه‪ ،‬وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام‬
‫الشريعة‪ ،‬وأن يظن بها خلف العدل والحكمة‪.‬‬

‫ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي‪ ،‬ذكر حالة المؤمنين الممدوحين‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫س ِمعْنَا‬
‫حكُمَ بَيْ َنهُمْ أَنْ َيقُولُوا َ‬
‫{ ‪ { } 52 - 51‬إِ ّنمَا كَانَ َق ْولَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ‬
‫طعْنَا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَيَخْشَ اللّ َه وَيَ ّتقْهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ }‬
‫وَأَ َ‬

‫أي‪ { :‬إِ ّنمَا كَانَ َق ْولَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } حقيقة‪ ،‬الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى ال‬
‫طعْنَا } أي‪ :‬سمعنا حكم‬
‫س ِمعْنَا وََأ َ‬
‫ورسوله ليحكم بينهم‪ ،‬سواء وافق أهواءهم أو خالفها‪ { ،‬أَنْ َيقُولُوا َ‬
‫ال ورسوله‪ ،‬وأجبنا من دعانا إليه‪ ،‬وأطعنا طاعة تامة‪ ،‬سالمة من الحرج‪.‬‬

‫{ وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } حصر الفلح فيهم‪ ،‬لن الفلح‪ :‬الفوز بالمطلوب‪ ،‬والنجاة من المكروه‪،‬‬
‫ول يفلح إل من حكم ال ورسوله‪ ،‬وأطاع ال ورسوله‪ .‬ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم‬
‫خصوصا‪ ،‬ذكر فضلها عموما‪ ،‬في جميع الحوال‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ } فيصدق‬
‫خشَ اللّهَ } أي‪ :‬يخافه خوفا مقرونا بمعرفة‪ ،‬فيترك ما نهى عنه‪،‬‬
‫خبرهما ويمتثل أمرهما‪ { ،‬وَيَ ْ‬
‫ويكف نفسه عما تهوى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَيَ ّتقْهِ } بترك المحظور‪ ،‬لن التقوى ‪-‬عند الطلق‪ -‬يدخل‬
‫فيها‪ ،‬فعل المأمور‪ ،‬وترك المنهي عنه‪ ،‬وعند اقترانها بالبر أو الطاعة ‪ -‬كما في هذا الموضع ‪-‬‬
‫تفسر بتوقي عذاب ال‪ ،‬بترك معاصيه‪ { ،‬فَأُولَ ِئكَ } الذين جمعوا بين طاعة ال وطاعة رسوله‪،‬‬
‫وخشية ال وتقواه‪ { ،‬هُمُ ا ْلفَائِزُونَ } بنجاتهم من العذاب‪ ،‬لتركهم أسبابه‪ ،‬ووصولهم إلى الثواب‪،‬‬
‫لفعلهم أسبابه‪ ،‬فالفوز محصور فيهم‪ ،‬وأما من لم يتصف بوصفهم‪ ،‬فإنه يفوته من الفوز بحسب ما‬
‫قصر عنه من هذه الوصاف الحميدة‪ ،‬واشتملت هذه الية‪ ،‬على الحق المشترك بين ال وبين‬
‫رسوله‪ ،‬وهو‪ :‬الطاعة المستلزمة لليمان‪ ،‬والحق المختص بال‪ ،‬وهو‪ :‬الخشية والتقوى‪ ،‬وبقي‬
‫الحق الثالث المختص بالرسول‪ ،‬وهو التعزير والتوقير‪ ،‬كما جمع بين الحقوق الثلثة في سورة‬
‫الفتح في قوله‪ { :‬لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ُتعَزّرُوهُ وَ ُت َوقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً وََأصِيلًا }‬

‫سمُوا طَاعَةٌ َمعْرُوفَةٌ إِنّ‬


‫جهْدَ أَ ْيمَا ِن ِهمْ لَئِنْ َأمَرْ َتهُمْ لَ َيخْرُجُنّ ُقلْ لَا ُتقْ ِ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫{ ‪ { } 54 - 53‬وََأقْ َ‬
‫ل وَعَلَ ْيكُمْ مَا‬
‫ح ّم َ‬
‫اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ * ُقلْ أَطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيهِ مَا ُ‬
‫حمّلْ ُت ْم وَإِنْ تُطِيعُوهُ َتهْتَدُوا َومَا عَلَى الرّسُولِ ِإلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ }‬
‫ُ‬

‫يخبر تعالى عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى ال عليه وسلم في الجهاد من المنافقين‪ ،‬ومن‬
‫في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بال‪ { ،‬لَئِنْ َأمَرْ َتهُمْ ْ} فيما يستقبل‪ ،‬أو لئن نصصت‬
‫سمُوا ْ}‬
‫عليهم حين خرجت { لَ َيخْرُجُنّ ْ} والمعنى الول أولى‪ .‬قال ال ‪-‬رادا عليهم‪ُ { :-‬قلْ لَا ُتقْ ِ‬
‫أي‪ :‬ل نحتاج إلى إقسامكم ول إلى أعذاركم‪ ،‬فإن ال قد نبأنا من أخباركم‪ ،‬وطاعتكم معروفة‪ ،‬ل‬
‫تخفى علينا‪ ،‬قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل من غير عذر‪ ،‬فل وجه لعذركم وقسمكم‪ ،‬إنما‬
‫يحتاج إلى ذلك‪ ،‬من كان أمره محتمل‪ ،‬وحاله مشتبهة‪ ،‬فهذا ربما يفيده العذر براءة‪ ،‬وأما أنتم فكل‬
‫ولما‪ ،‬وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم حلول بأس ال ونقمته‪ ،‬ولهذا توعدهم بقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ} فيجازيكم عليها أتم الجزاء‪ ،‬هذه حالهم في نفس المر‪ ،‬وأما الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬فوظيفته أن يأمركم وينهاكم‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ َأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ فَإِنْ ْ} امتثلوا‪،‬‬
‫ح ّملَ ْ} من الرسالة‪ ،‬وقد أداها‪.‬‬
‫كان حظكم وسعادتكم وإن { َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَيْهِ مَا ُ‬

‫حمّلْتُمْ ْ} من الطاعة‪ ،‬وقد بانت حالكم وظهرت‪ ،‬فبان ضللكم وغيكم واستحقاقكم‬
‫{ وَعَلَ ْيكُمْ مَا ُ‬
‫العذاب‪ { .‬وَإِنْ ُتطِيعُوهُ َتهْ َتدُوا ْ} إلى الصراط المستقيم‪ ،‬قول وعمل‪ ،‬فل سبيل لكم إلى الهداية إل‬
‫بطاعته‪ ،‬وبدون ذلك‪ ،‬ل يمكن‪ ،‬بل هو محال‪.‬‬

‫{ َومَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ ْ} أي‪ :‬تبليغكم البين الذي ل يبقي لحد شكا ول شبهة‪ ،‬وقد‬
‫فعل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بلغ البلغ المبين‪ ،‬وإنما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو ال تعالى‪،‬‬
‫فالرسول ليس له من المر شيء‪ ،‬وقد قام بوظيفته‪.‬‬

‫خِلفَنّهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َكمَا اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ‬


‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَيَسْتَ ْ‬
‫{ ‪ { } 55‬وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْن ُك ْم وَ َ‬
‫خ ْو ِفهِمْ َأمْنًا َيعْ ُبدُونَنِي لَا ُيشْ ِركُونَ‬
‫مِنْ قَبِْلهِ ْم وَلَ ُي َمكّنَنّ َلهُمْ دِي َنهُمُ الّذِي ارْ َتضَى َل ُه ْم وَلَيُبَدّلَ ّنهُمْ مِنْ َب ْعدِ َ‬
‫سقُونَ }‬
‫بِي شَيْئًا َومَنْ كَفَرَ َبعْدَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬

‫هذا من أوعاده الصادقة‪ ،‬التي شوهد تأويلها ومخبرها‪ ،‬فإنه وعد من قام باليمان والعمل الصالح‬
‫من هذه المة‪ ،‬أن يستخلفهم في الرض‪ ،‬يكونون هم الخلفاء فيها‪ ،‬المتصرفين في تدبيرها‪ ،‬وأنه‬
‫يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‪ ،‬وهو دين السلم‪ ،‬الذي فاق الديان كلها‪ ،‬ارتضاه لهذه المة‪،‬‬
‫لفضلها وشرفها ونعمته عليها‪ ،‬بأن يتمكنوا من إقامته‪ ،‬وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة‪ ،‬في‬
‫أنفسهم وفي غيرهم‪ ،‬لكون غيرهم من أهل الديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين‪ ،‬وأنه يبدلهم من‬
‫بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم ل يتمكن من إظهار دينه‪ ،‬وما هو عليه إل بأذى كثير من‬
‫الكفار‪ ،‬وكون جماعة المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم‪ ،‬وقد رماهم أهل الرض عن قوس‬
‫واحدة‪ ،‬وبغوا لهم الغوائل‪.‬‬

‫فوعدهم ال هذه المور وقت نزول الية‪ ،‬وهي لم تشاهد الستخلف في الرض والتمكين فيها‪،‬‬
‫والتمكين من إقامة الدين السلمي‪ ،‬والمن التام‪ ،‬بحيث يعبدون ال ول يشركون به شيئا‪ ،‬ول‬
‫يخافون أحدا إل ال‪ ،‬فقام صدر هذه المة‪ ،‬من اليمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم‪،‬‬
‫فمكنهم من البلد والعباد‪ ،‬وفتحت مشارق الرض ومغاربها‪ ،‬وحصل المن التام والتمكين التام‪،‬‬
‫فهذا من آيات ال العجيبة الباهرة‪ ،‬ول يزال المر إلى قيام الساعة‪ ،‬مهما قاموا باليمان والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬فل بد أن يوجد ما وعدهم ال‪ ،‬وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين‪ ،‬ويديلهم في بعض‬
‫الحيان‪ ،‬بسبب إخلل المسلمين باليمان والعمل الصالح‪.‬‬

‫سقُونَ ْ}‬
‫{ َومَنْ َكفَرَ َب ْعدَ ذَِلكَ ْ} التمكين والسلطنة التامة لكم‪ ،‬يا معشر المسلمين‪ { ،‬فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫الذين خرجوا عن طاعة ال‪ ،‬وفسدوا‪ ،‬فلم يصلحوا لصالح‪ ،‬ولم يكن فيهم أهلية للخير‪ ،‬لن الذي‬
‫يترك اليمان في حال عزه وقهره‪ ،‬وعدم وجود السباب المانعة منه‪ ،‬يدل على فساد نيته‪ ،‬وخبث‬
‫طويته‪ ،‬لنه ل داعي له لترك الدين إل ذلك‪ .‬ودلت هذه الية‪ ،‬أن ال قد مكن من قبلنا‪ ،‬واستخلفهم‬
‫في الرض‪ ،‬كما قال موسى لقومه‪ { :‬وَيَسْ َتخِْل َفكُمْ فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ ْ} وقال تعالى‪{ :‬‬
‫جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ * وَ ُنمَكّنَ َلهُمْ فِي‬
‫جعََلهُمْ أَ ِئمّ ًة وَنَ ْ‬
‫ض وَنَ ْ‬
‫ض ِعفُوا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫وَنُرِيدُ أَنْ َنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫الْأَ ْرضِ }‬

‫حمُونَ * لَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ‬


‫{ ‪ { } 57 - 56‬وََأقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬
‫ض َومَ ْأوَاهُمُ النّا ُر وَلَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫َكفَرُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْر ِ‬

‫يأمر تعالى بإقامة الصلة‪ ،‬بأركانها وشروطها وآدابها‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬وبإيتاء الزكاة من الموال‬
‫التي استخلف ال عليها العباد‪ ،‬وأعطاهم إياها‪ ،‬بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم‪ ،‬ممن ذكرهم ال‬
‫لمصرف الزكاة‪ ،‬فهذان أكبر الطاعات وأجلهما‪ ،‬جامعتان لحقه وحق خلقه‪ ،‬للخلص للمعبود‪،‬‬
‫وللحسان إلى العبيد‪ ،‬ثم عطف عليهما المر العام‪ ،‬فقال‪ { :‬وََأطِيعُوا الرّسُولَ ْ} وذلك بامتثال‬
‫طعِ الرّسُولَ َفقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } { َلعَّلكُمْ } حين تقومون بذلك‬
‫أوامره واجتناب نواهيه { مَنْ يُ ِ‬
‫حمُونَ } فمن أراد الرحمة‪ ،‬فهذا طريقها‪ ،‬ومن رجاها من دون إقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪،‬‬
‫{ تُ ْر َ‬
‫وإطاعة الرسول‪ ،‬فهو متمن كاذب‪ ،‬وقد منته نفسه الماني الكاذبة‪.‬‬
‫{ لَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ } فل يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا‪ ،‬فإن ال‪،‬‬
‫وإن أمهلهم فإنه ل يهملهم { ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا ُثمّ َنضْطَرّ ُهمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }‬

‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬ومَأْوَا ُهمُ النّا ُر وَلَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬بئس المآل‪ ،‬مآل الكافرين‪ ،‬مآل الشر‬
‫والحسرة والعقوبة البدية‪.‬‬

‫{ ‪ { } 58‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَ ْأذِ ْنكُمُ الّذِينَ مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ وَالّذِينَ َلمْ يَبُْلغُوا الْحُُلمَ مِ ْنكُمْ ثَلَاثَ‬
‫عوْرَاتٍ‬
‫ظهِي َر ِة َومِنْ َبعْ ِد صَلَاةِ ا ْل ِعشَاءِ ثَلَاثُ َ‬
‫ضعُونَ ثِيَا َبكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫ل صَلَاةِ ا ْلفَجْ ِر َوحِينَ َت َ‬
‫مَرّاتٍ مِنْ قَ ْب ِ‬
‫ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ‬
‫طوّافُونَ عَلَ ْيكُمْ َب ْع ُ‬
‫َلكُمْ لَيْسَ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ َبعْ َدهُنّ َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫ت وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫الْآيَا ِ‬

‫أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم‪ ،‬والذين لم يبلغوا الحلم منهم‪ .‬قد ذكر ال حكمته وأنه ثلث‬
‫عورات للمستأذن عليهم‪ ،‬وقت نومهم بالليل بعد العشاء‪ ،‬وعند انتباههم قبل صلة الفجر‪ ،‬فهذا‬
‫‪-‬في الغالب‪ -‬أن النائم يستعمل للنوم في الليل ثوبا غير ثوبه المعتاد‪ ،‬وأما نوم النهار‪ ،‬فلما كان‬
‫ظهِي َرةِ }‬
‫ضعُونَ ثِيَا َبكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫في الغالب قليل‪ ،‬قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة‪ ،‬قيده بقوله‪ { :‬وَحِينَ َت َ‬
‫أي‪ :‬للقائلة‪ ،‬وسط النهار‪.‬‬

‫ففي ثلثة هذه الحوال‪ ،‬يكون المماليك والولد الصغار كغيرهم‪ ،‬ل يمكنون من الدخول إل بإذن‪،‬‬
‫وأما ما عدا هذه الحوال الثلثة فقال‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ َبعْدَهُنّ } أي‪ :‬ليسوا كغيرهم‪،‬‬
‫ضكُمْ‬
‫طوّافُونَ عَلَ ْيكُمْ َب ْع ُ‬
‫فإنهم يحتاج إليهم دائما‪ ،‬فيشق الستئذان منهم في كل وقت‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬‬
‫عَلَى َب ْعضٍ } أي‪ :‬يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم‪.‬‬

‫{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الْآيَاتِ } بيانا مقرونا بحكمته‪ ،‬ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه‬
‫حكِيمٌ ْ} له العلم المحيط بالواجبات والمستحيلت والممكنات‪،‬‬
‫وحكمته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه‪ ،‬فأعطى كل مخلوق خلقه اللئق به‪ ،‬وأعطى كل حكم‬
‫شرعي حكمه اللئق به‪ ،‬ومنه هذه الحكام التي بينها وبين مآخذها وحسنها‪.‬‬

‫طفَالُ مِ ْن ُكمُ الْحُُلمَ ْ}‬


‫{ ‪ { }ْ 59‬وَإِذَا بَلَغَ الْأَ ْ‬

‫وهو إنزال المني يقظة أو مناما‪ { ،‬فَلْيَسْتَ ْأذِنُوا َكمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} أي‪ :‬في سائر الوقات‪،‬‬
‫والذين من قبلهم‪ ،‬هم الذين ذكرهم ال بقوله‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ حَتّى‬
‫تَسْتَأْنِسُوا ْ} الية‪.‬‬
‫حكِيمٌ ْ}‬
‫{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ اليَاتِ ْ} ويوضحها‪ ،‬ويفصل أحكامها { وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬

‫وفي هاتين اليتين فوائد‪ ،‬منها‪ :‬أن السيد وولي الصغير‪ ،‬مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت‬
‫وليتهم من الولد‪ ،‬العلم والداب الشرعية‪ ،‬لن ال وجه الخطاب إليهم بقوله‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫آمَنُوا لِيَسْتَ ْأذِ ْنكُمُ الّذِينَ مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُ ْم وَالّذِينَ َلمْ يَبُْلغُوا الْحُُلمَ ْ} الية‪ ،‬ول يمكن ذلك‪ ،‬إل بالتعليم‬
‫والتأديب‪ ،‬ولقوله‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ َبعْدَهُنّ ْ}‬

‫ومنها‪ :‬المر بحفظ العورات‪ ،‬والحتياط لذلك من كل وجه‪ ،‬وأن المحل والمكان‪ ،‬الذي هو مظنة‬
‫لرؤية عورة النسان فيه‪ ،‬أنه منهي عن الغتسال فيه والستنجاء‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز كشف العورة لحاجة‪ ،‬كالحاجة عند النوم‪ ،‬وعند البول والغائط‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المسلمين كانوا معتادين للقيلولة وسط النهار‪ ،‬كما اعتادوا نوم الليل‪ ،‬لن ال خاطبهم‬
‫ببيان حالهم الموجودة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الصغير الذي دون البلوغ‪ ،‬ل يجوز أن يمكن من رؤية العورة‪ ،‬ول يجوز أن ترى‬
‫عورته‪ ،‬لن ال لم يأمر باستئذانهم‪ ،‬إل عن أمر ما يجوز‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المملوك أيضا‪ ،‬ل يجوز أن يرى عورة سيده‪ ،‬كما أن سيده ل يجوز أن يرى عورته‪،‬‬
‫كما ذكرنا في الصغير‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهم‪ ،‬ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي‪ ،‬أن يقرن بالحكم‪،‬‬
‫بيان مأخذه ووجهه‪ ،‬ول يلقيه مجردا عن الدليل والتعليل‪ ،‬لن ال ‪ -‬لما بين الحكم المذكور‪ -‬علله‬
‫عوْرَاتٍ َل ُكمْ ْ}‬
‫بقوله‪ { :‬ثَلَاثُ َ‬

‫ومنها‪ :‬أن الصغير والعبد‪ ،‬مخاطبان‪ ،‬كما أن وليهما مخاطب لقوله‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ‬
‫َبعْدَهُنّ ْ}‬

‫طوّافُونَ عَلَ ْي ُكمْ ْ} مع‬


‫ومنها‪ :‬أن ريق الصبي طاهر‪ ،‬ولو كان بعد نجاسة‪ ،‬كالقيء‪ ،‬لقوله تعالى‪َ { :‬‬
‫قول النبي صلى ال عليه وسلم حين سئل عن الهرة‪ " :‬إنها ليست بنجس‪ ،‬إنها من الطوافين عليكم‬
‫والطوافات "‬

‫ومنها‪ :‬جواز استخدام النسان من تحت يده‪ ،‬من الطفال على وجه معتاد‪ ،‬ل يشق على الطفل‬
‫طوّافُونَ عَلَ ْيكُمْ ْ}‬
‫لقوله‪َ { :‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الحكم المذكور المفصل‪ ،‬إنما هو لما دون البلوغ‪ ،‬فأما ما بعد البلوغ‪ ،‬فليس إل‬
‫الستئذان‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن البلوغ يحصل بالنزال فكل حكم شرعي رتب على البلوغ‪ ،‬حصل بالنزال‪ ،‬وهذا‬
‫مجمع عليه‪ ،‬وإنما الخلف‪ ،‬هل يحصل البلوغ بالسن‪ ،‬أو النبات للعانة‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫ضعْنَ ثِيَا َبهُنّ غَيْرَ‬


‫{ ‪ { }ْ 60‬وَالْ َقوَاعِدُ مِنَ النّسَاءِ اللّاتِي لَا يَ ْرجُونَ ِنكَاحًا فَلَيْسَ عَلَ ْيهِنّ جُنَاحٌ أَنْ َي َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ ْ}‬
‫ن وَاللّهُ َ‬
‫مُتَبَرّجَاتٍ بِزِينَ ٍة وَأَنْ َيسْ َتعْ ِففْنَ خَيْرٌ َلهُ ّ‬

‫وَا ْلقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاءِ أي‪ :‬اللتي قعدن عن الستمتاع والشهوة { اللّاتِي لَا يَ ْرجُونَ ِنكَاحًا ْ} أي‪ :‬ل‬
‫يطمعن في النكاح‪ ،‬ول يطمع فيهن‪ ،‬وذلك لكونها عجوزا ل تشتهى‪ ،‬أو دميمة الخلقة ل تشتهي‬
‫ضعْنَ ثِيَا َبهُنّ ْ} أي‪ :‬الثياب الظاهرة‪،‬‬
‫ول تشتهى { فَلَيْسَ عَلَ ْيهِنّ جُنَاحٌ ْ} أي‪ :‬حرج وإثم { أَنْ َي َ‬
‫خمُ ِرهِنّ عَلَى جُيُو ِبهِنّ ْ} فهؤلء‪ ،‬يجوز‬
‫كالخمار ونحوه‪ ،‬الذي قال ال فيه للنساء‪ { :‬وَلْ َيضْرِبْنَ بِ ُ‬
‫لهن أن يكشفن وجوههن لمن المحذور منها وعليها‪ ،‬ولما كان نفي الحرج عنهن في وضع‬
‫الثياب‪ ،‬ربما توهم منه جواز استعمالها لكل شيء‪ ،‬دفع هذا الحتراز بقوله‪ { :‬غَيْرَ مُتَبَرّجَاتٍ‬
‫بِزِينَةٍ ْ} أي‪ :‬غير مظهرات للناس زينة‪ ،‬من تجمل بثياب ظاهرة‪ ،‬وتستر وجهها‪ ،‬ومن ضرب‬
‫الرض برجلها‪ ،‬ليعلم ما تخفي من زينتها‪ ،‬لن مجرد الزينة على النثى‪ ،‬ولو مع تسترها‪ ،‬ولو‬
‫كانت ل تشتهى يفتن فيها‪ ،‬ويوقع الناظر إليها في الحرج { وَأَنْ َيسْ َتعْ ِففْنَ خَيْرٌ َلهُنّ ْ}‬

‫والستعفاف‪ :‬طلب العفة‪ ،‬بفعل السباب المقتضية لذلك‪ ،‬من تزوج وترك لما يخشى منه الفتنة‪،‬‬
‫سمِيعٌ ْ} لجميع الصوات { عَلِيمٌ ْ} بالنيات والمقاصد‪ ،‬فليحذرن من كل قول وقصد فاسد‪،‬‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫وليعلمن أن ال يجازي على ذلك‪.‬‬

‫ج وَلَا عَلَى‬
‫ج وَلَا عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ‬
‫ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ‬
‫عمَى حَرَ ٌ‬
‫{ ‪ { }ْ 61‬لَيْسَ عَلَى الْأَ ْ‬
‫خوَا ِتكُمْ‬
‫خوَا ِنكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ َ‬
‫سكُمْ أَنْ تَ ْأكُلُوا مِنْ بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَا ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ إِ ْ‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫خوَاِلكُمْ َأوْ بُيُوتِ خَالَا ِتكُمْ َأوْ مَا مََلكْتُمْ َمفَاتِحَهُ َأوْ‬
‫عمّا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ َأ ْ‬
‫عمَا ِمكُمْ َأوْ بُيُوتِ َ‬
‫َأوْ بُيُوتِ أَ ْ‬
‫سكُمْ تَحِيّةً مِنْ‬
‫جمِيعًا َأوْ أَشْتَاتًا فَِإذَا َدخَلْتُمْ بُيُوتًا َفسَّلمُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫صَدِي ِقكُمْ لَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَ ْأكُلُوا َ‬
‫عِنْدِ اللّهِ مُبَا َركَةً طَيّبَةً كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ ْ}‬

‫يخبر تعالى عن منته على عباده‪ ،‬وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير‪،‬‬
‫ج وَلَا عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ ْ} أي‪ :‬ليس على‬
‫ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ‬
‫عمَى حَرَ ٌ‬
‫فقال‪ { :‬لَ ْيسَ عَلَى الْأَ ْ‬
‫هؤلء جناح‪ ،‬في ترك المور الواجبة‪ ،‬التي تتوقف على واحد منها‪ ،‬وذلك كالجهاد ونحوه‪ ،‬مما‬
‫يتوقف على بصر العمى‪ ،‬أو سلمة العرج‪ ،‬أو صحة للمريض‪ ،‬ولهذا المعنى العام الذي‬
‫سكُمْ ْ} أي‪ :‬حرج { أَنْ تَ ْأكُلُوا‬
‫ذكرناه‪ ،‬أطلق الكلم في ذلك‪ ،‬ولم يقيد‪ ،‬كما قيد قوله‪ { :‬وَلَا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫مِنْ بُيُو ِتكُمْ ْ} أي‪ :‬بيوت أولدكم‪ ،‬وهذا موافق للحديث الثابت‪ " :‬أنت ومالك لبيك " والحديث‬
‫الخر‪ " :‬إن أطيب ما أكلتم من كسبكم‪ ،‬وإن أولدكم من كسبكم " وليس المراد من قوله‪ { :‬مِنْ‬
‫بُيُو ِتكُمْ ْ} بيت النسان نفسه‪ ،‬فإن هذا من باب تحصيل الحاصل‪ ،‬الذي ينزه عنه كلم ال‪ ،‬ولنه‬
‫نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الثم من هؤلء المذكورين‪ ،‬وأما بيت النسان نفسه فليس فيه‬
‫أدنى توهم‪.‬‬

‫عمَا ِمكُمْ َأوْ بُيُوتِ‬


‫خوَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ ْ‬
‫خوَا ِنكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ َ‬
‫{ َأوْ بُيُوتِ آبَا ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ إِ ْ‬
‫خوَاِلكُمْ َأوْ بُيُوتِ خَالَا ِتكُمْ ْ} وهؤلء معروفون‪َ { ،‬أوْ مَا مََلكْتُمْ َمفَاتِحَهُ ْ} أي‪:‬‬
‫عمّا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ َأ ْ‬
‫َ‬
‫البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة‪ ،‬أو ولية ونحو ذلك‪ ،‬وأما تفسيرها بالمملوك‪ ،‬فليس‬
‫بوجيه‪ ،‬لوجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن المملوك ل يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال‪ " :‬ما ملكتموه " أو "‬
‫ما ملكت أيمانكم " لنهم مالكون له جملة‪ ،‬ل لمفاتحه فقط‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن بيوت المماليك‪ ،‬غير خارجة عن بيت النسان نفسه‪ ،‬لن المملوك وما ملكه لسيده‪،‬‬
‫فل وجه لنفي الحرج عنه‪.‬‬

‫{ َأ ْو صَدِي ِقكُمْ ْ} وهذا الحرج المنفي عن الكل من هذه البيوت كل ذلك‪ ،‬إذا كان بدون إذن‪،‬‬
‫والحكمة فيه معلومة من السياق‪ ،‬فإن هؤلء المسمين قد جرت العادة والعرف‪ ،‬بالمسامحة في‬
‫الكل منها‪ ،‬لجل القرابة القريبة‪ ،‬أو التصرف التام‪ ،‬أو الصداقة‪ ،‬فلو قدر في أحد من هؤلء عدم‬
‫المسامحة والشح في الكل المذكور‪ ،‬لم يجز الكل‪ ،‬ولم يرتفع الحرج‪ ،‬نظرا للحكمة والمعنى‪.‬‬

‫جمِيعًا َأوْ أَشْتَاتًا ْ} فكل ذلك جائز‪ ،‬أكل أهل البيت الواحد‬
‫وقوله‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَ ْأكُلُوا َ‬
‫جميعا‪ ،‬أو أكل كل واحد منهم وحده‪ ،‬وهذا نفي للحرج‪ ،‬ل نفي للفضيلة وإل فالفضل الجتماع‬
‫على الطعام‪.‬‬

‫{ فَِإذَا َدخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ} نكرة في سياق الشرط‪ ،‬يشمل بيت النسان وبيت غيره‪ ،‬سواء كان في البيت‬
‫سكُمْ ْ} أي‪ :‬فليسلم بعضكم على بعض‪ ،‬لن‬
‫ساكن أم ل‪ ،‬فإذا دخلها النسان { فَسَّلمُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫المسلمين كأنهم شخص واحد‪ ،‬من تواددهم‪ ،‬وتراحمهم‪ ،‬وتعاطفهم‪ ،‬فالسلم مشروع لدخول سائر‬
‫البيوت‪ ،‬من غير فرق بين بيت وبيت‪ ،‬والستئذان تقدم أن فيه تفصيل في أحكامه‪ ،‬ثم مدح هذا‬
‫السلم فقال‪َ { :‬تحِيّةً مِنْ عِ ْندِ اللّهِ مُبَا َركَةً طَيّ َبةً ْ} أي‪ :‬سلمكم بقولكم‪ " :‬السلم عليكم ورحمة ال‬
‫وبركاته " أو " السلم علينا وعلى عباد ال الصالحين " إذ تدخلون البيوت‪َ { ،‬تحِيّةً مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ْ}‬
‫أي‪ :‬قد شرعها لكم‪ ،‬وجعلها تحيتكم‪ { ،‬مُبَا َركَةً ْ} لشتمالها على السلمة من النقص‪ ،‬وحصول‬
‫الرحمة والبركة والنماء والزيادة‪ { ،‬طَيّ َبةً ْ} لنها من الكلم الطيب المحبوب عند ال‪ ،‬الذي فيه‬
‫طيبة نفس للمحيا‪ ،‬ومحبة وجلب مودة‪.‬‬

‫لما بين لنا هذه الحكام الجليلة قال‪:‬‬

‫{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ اليَاتِ ْ} الدالت على أحكامه الشرعية وحكمها‪َ { ،‬لعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ ْ} عنه‬
‫فتفهمونها‪ ،‬وتعقلونها بقلوبكم‪ ،‬ولتكونوا من أهل العقول واللباب الرزينة‪ ،‬فإن معرفة أحكامه‬
‫الشرعية على وجهها‪ ،‬يزيد في العقل‪ ،‬وينمو به اللب‪ ،‬لكون معانيها أجل المعاني‪ ،‬وآدابها أجل‬
‫الداب‪ ،‬ولن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬فكما استعمل عقله للعقل عن ربه‪ ،‬وللتفكر في آياته التي‬
‫دعاه إليها‪ ،‬زاده من ذلك‪.‬‬

‫وفي هذه اليات دليل على قاعدة عامة كلية وهي‪ :‬أن " العرف والعادة مخصص لللفاظ‪،‬‬
‫كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الصل‪ ،‬أن النسان ممنوع من تناول طعام غيره‪ ،‬مع أن ال أباح‬
‫الكل من بيوت هؤلء‪ ،‬للعرف والعادة‪ ،‬فكل مسألة تتوقف على الذن من مالك الشيء‪ ،‬إذا علم‬
‫إذنه بالقول أو العرف‪ ،‬جاز القدام عليه‪.‬‬

‫وفيها دليل على أن الب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما ل يضره‪ ،‬لن ال سمى بيته‬
‫بيتا للنسان‪.‬‬

‫وفيها دليل على أن المتصرف في بيت النسان‪ ،‬كزوجته‪ ،‬وأخته ونحوهما‪ ،‬يجوز لهما الكل‬
‫عادة‪ ،‬وإطعام السائل المعتاد‪.‬‬

‫وفيها دليل‪ ،‬على جواز المشاركة في الطعام‪ ،‬سواء أكلوا مجتمعين‪ ،‬أو متفرقين‪ ،‬ولو أفضى ذلك‬
‫إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 64 - 62‬إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِذَا كَانُوا َمعَهُ عَلَى َأمْرٍ جَامِعٍ َلمْ‬
‫يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَ ْأذِنُو َنكَ أُولَ ِئكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ فَِإذَا اسْتَ ْأذَنُوكَ لِ َب ْعضِ‬
‫جعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْ َن ُكمْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * لَا َت ْ‬
‫شَأْ ِنهِمْ فَ ْأذَنْ ِلمَنْ شِ ْئتَ مِ ْنهُ ْم وَاسْ َتغْفِرْ َلهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫حذَرِ الّذِينَ يُخَاِلفُونَ عَنْ َأمْ ِرهِ أَنْ‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا َقدْ َيعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِ ْنكُمْ ِلوَاذًا فَلْيَ ْ‬
‫كَدُعَاءِ َب ْع ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َقدْ َيعْلَمُ مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ُتصِي َبهُمْ فِتْنَةٌ َأوْ ُيصِي َبهُمْ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ}‬
‫عمِلُوا وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫جعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّ ُئ ُهمْ ِبمَا َ‬
‫وَ َيوْمَ يُرْ َ‬
‫هذا إرشاد من ال لعباده المؤمنين‪ ،‬أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى ال عليه وسلم على أمر‬
‫جامع‪ ،‬أي‪ :‬من ضرورته أو من مصلحته‪ ،‬أن يكونوا فيه جميعا‪ ،‬كالجهاد‪ ،‬والمشاورة‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫من المور التي يشترك فيها المؤمنون‪ ،‬فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم‪،‬‬
‫فالمؤمن بال ورسوله حقا‪ ،‬ل يذهب لمر من المور‪ ،‬ل يرجع لهله‪ ،‬ول يذهب لبعض الحوائج‬
‫التي يشذ بها عنهم‪ ،‬إل بإذن من الرسول أو نائبه من بعده‪ ،‬فجعل موجب اليمان‪ ،‬عدم الذهاب إل‬
‫بإذن‪ ،‬ومدحهم على فعلهم هذا وأدبهم مع رسوله وولي المر منهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيسْتَأْذِنُو َنكَ‬
‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ ْ} ولكن هل يأذن لهم أم ل؟ ذكر لذنه لهم شرطين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن يكون لشأن من شئونهم‪ ،‬وشغل من أشغالهم‪ ،‬فأما من يستأذن من غير عذر‪ ،‬فل يؤذن‬
‫له‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن يشاء الذن فتقتضيه المصلحة‪ ،‬من دون مضرة بالذن‪ ،‬قال‪ { :‬فَِإذَا اسْتَ ْأذَنُوكَ لِ َب ْعضِ‬
‫شَأْ ِنهِمْ فَ ْأذَنْ ِلمَنْ شِ ْئتَ مِ ْنهُمْ ْ} فإذا كان له عذر واستأذن‪ ،‬فإن كان في قعوده وعدم ذهابه مصلحة‬
‫برأيه‪ ،‬أو شجاعته‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬لم يأذن له‪ ،‬ومع هذا إذا استأذن‪ ،‬وأذن له بشرطيه‪ ،‬أمر ال‬
‫رسوله أن يستغفر له‪ ،‬لما عسى أن يكون مقصرا في الستئذان‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاسْ َت ْغفِرْ َلهُم اللّهَ إِنّ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ ْ} يغفر لهم الذنوب ويرحمهم‪ ،‬بأن جوز لهم الستئذان مع العذر‪.‬‬
‫اللّهَ َ‬

‫ضكُمْ َب ْعضًا ْ} أي‪ :‬ل تجعلوا دعاء الرسول إياكم‬


‫جعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْ َنكُمْ كَدُعَاءِ َب ْع ِ‬
‫{ لَا تَ ْ‬
‫ودعائكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا‪ ،‬فإذا دعاكم فأجيبوه وجوبا‪ ،‬حتى إنه تجب إجابة الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم في حال الصلة‪ ،‬وليس أحد إذا قال قول يجب على المة قبول قوله والعمل‬
‫به‪ ،‬إل الرسول‪ ،‬لعصمته‪ ،‬وكوننا مخاطبين باتباعه‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ‬
‫وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُمْ ِلمَا ُيحْيِيكُمْ ْ} وكذلك ل تجعلوا دعاءكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا‪ ،‬فل‬
‫تقولوا‪ " :‬يا محمد " عند ندائكم‪ ،‬أو " يا محمد بن عبد ال " كما يقول ذلك بعضكم لبعض‪ ،‬بل من‬
‫شرفه وفضله وتميزه صلى ال عليه وسلم عن غيره‪ ،‬أن يقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬يا نبي ال‪.‬‬

‫{ َقدْ َيعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِ ْنكُمْ ِلوَاذًا ْ} لما مدح المؤمنين بال ورسوله‪ ،‬الذين إذا كانوا معه على‬
‫أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه‪ ،‬توعد من لم يفعل ذلك وذهب من غير استئذان‪ ،‬فهو وإن خفي‬
‫عليكم بذهابه على وجه خفي‪ ،‬وهو المراد بقوله‪ { :‬يَ َتسَلّلُونَ مِ ْنكُمْ ِلوَاذًا ْ} أي‪ :‬يلوذون وقت تسللهم‬
‫وانطلقهم بشيء يحجبهم عن العيون‪ ،‬فال يعلمهم‪ ،‬وسيجازيهم على ذلك أتم الجزاء‪ ،‬ولهذا‬
‫حذَرِ الّذِينَ يُخَاِلفُونَ عَنْ َأمْ ِرهِ ْ} أي‪ :‬يذهبون إلى بعض شئونهم عن أمر ال‬
‫توعدهم بقوله‪ { :‬فَلْيَ ْ‬
‫ورسوله‪ ،‬فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شئونه؟" وإنما ترك أمر ال من دون شغل له‪ { .‬أَنْ‬
‫ُتصِي َبهُمْ فِتْنَةٌ ْ} أي‪ :‬شرك وشر { َأوْ ُيصِي َبهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ}‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ْ} ملكا وعبيدا‪ ،‬يتصرف فيهم بحكمه القدري‪ ،‬وحكمه‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫الشرعي‪َ { .‬قدْ َيعْلَمُ مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ ْ} أي‪ :‬قد أحاط علمه بما أنتم عليه‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬وعلم جميع‬
‫أعمالكم‪ ،‬أحصاها علمه‪ ،‬وجرى بها قلمه‪ ،‬وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون‪.‬‬

‫عمِلُوا ْ} يخبرهم بجميع أعمالهم‪ ،‬دقيقها‬


‫جعُونَ ِإلَيْهِ ْ} في يوم القيامة { فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫{ وَ َيوْمَ يُ ْر َ‬
‫وجليلها‪ ،‬إخبارا مطابقا لما وقع منهم‪ ،‬ويستشهد عليهم أعضاءهم‪ ،‬فل يعدمون منه فضل أو عدل‪.‬‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ ْ}‬
‫ولما قيد علمه بأعمالهم‪ ،‬ذكر العموم بعد الخصوص‪ ،‬فقال‪ { :‬وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬

‫تفسير سورة الفرقان‬


‫وهي مكية عند الجمهور‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ‬
‫ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫{ ‪ { }ْ 2 - 1‬تَبَا َركَ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ عَلَى عَبْ ِدهِ لِ َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِينَ َنذِيرًا * الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شيْءٍ َفقَدّ َرهُ َتقْدِيرًا ْ}‬
‫خلَقَ ُكلّ َ‬
‫ك وَ َ‬
‫خ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْل ِ‬
‫وَالْأَ ْرضِ وََلمْ يَتّ ِ‬

‫هذا بيان لعظمته الكاملة وتفرده [بالوحدانية] من كل وجه وكثرة خيراته وإحسانه فقال‪ { :‬تَبَا َركَ ْ}‬
‫أي‪ :‬تعاظم وكملت أوصافه وكثرت خيراته الذي من أعظم خيراته ونعمه أن نزل هذا القرآن‬
‫الفارق بين الحلل والحرام والهدى والضلل وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪ { ،‬عَلَى عَ ْب ِدهِ ْ} محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية وفاق جميع المرسلين‪ { ،‬لِ َيكُونَ ْ} ذلك النزال‬
‫للفرقان على عبده { لِ ْلعَاَلمِينَ َنذِيرًا ْ} ينذرهم بأس ال ونقمه ويبين لهم مواقع رضا ال من‬
‫سخطه‪ ،‬حتى إن من قبل نذارته وعمل بها كان من الناجين في الدنيا والخرة الذين حصلت لهم‬
‫السعادة البدية والملك السرمدي‪ ،‬فهل فوق هذه النعمة وهذا الفضل والحسان شيء؟ فتبارك الذي‬
‫هذا من بعض إحسانه وبركاته‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ْ} أى‪ :‬له التصرف فيهما وحده‪ ،‬وجميع من فيهما مماليك وعبيد‬
‫{ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫خ ْذ وَلَدًا وََلمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ‬
‫له مذعنون لعظمته خاضعون لربوبيته‪ ،‬فقراء إلى رحمته الذي { َلمْ يَتّ ِ‬
‫فِي ا ْلمُ ْلكِ ْ} وكيف يكون له ولد أو شريك وهو المالك وغيره مملوك‪ ،‬وهو القاهر وغيره مقهور‬
‫وهو الغني بذاته من جميع الوجوه‪ ،‬والمخلوقون مفتقرون إليه فقرا ذاتيا من جميع الوجوه؟"‬

‫وكيف يكون له شريك في الملك ونواصي العباد كلهم بيديه‪ ،‬فل يتحركون أو يسكنون ول‬
‫يتصرفون إل بإذنه فتعالى ال عن ذلك علوا كبيرا‪ ،‬فلم يقدره حق قدره من قال فيه ذلك ولهذا‬
‫شيْءٍ ْ} شمل العالم العلوي والعالم السفلي من حيواناته ونباتاته وجماداته‪،‬‬
‫قال‪ { :‬وَخََلقَ ُكلّ َ‬
‫{ َفقَدّ َرهُ َتقْدِيرًا ْ} أي‪ :‬أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق وما تقتضيه حكمته من‬
‫ذلك‪ ،‬بحيث صار كل مخلوق ل يتصور العقل الصحيح أن يكون بخلف شكله وصورته‬
‫المشاهدة‪ ،‬بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد ل يناسبه غير محله الذي هو فيه‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫عطَى ُكلّ‬
‫سوّى وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَى ْ} وقال تعالى‪ { :‬رَبّنَا الّذِي أَ ْ‬
‫سمَ رَ ّبكَ الْأَعْلَى الّذِي خَلَقَ فَ َ‬
‫{ سَبّحِ ا ْ‬
‫شيْءٍ خَ ْلقَهُ ثُمّ هَدَى ْ} ولما بين كماله وعظمته وكثرة إحسانه كان ذلك مقتضيا لن يكون وحده‬
‫َ‬
‫المحبوب المألوه المعظم المفرد بالخلص وحده ل شريك له ناسب أن يذكر بطلن عبادة ما‬
‫سواه فقال‪:‬‬

‫سهِ ْم ضَرّا وَلَا َن ْفعًا وَلَا‬


‫{ ‪ { }ْ 3‬وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آِلهَةً لَا يَخُْلقُونَ شَيْئًا وَ ُهمْ يُخَْلقُونَ وَلَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫َيمِْلكُونَ َموْتًا وَلَا حَيَا ًة وَلَا ُنشُورًا ْ}‬

‫أي‪ :‬من أعجب العجائب وأدل الدليل على سفههم ونقص عقولهم‪ ،‬بل أدل على ظلمهم وجراءتهم‬
‫على ربهم أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة‪ ،‬في كمال العجز أنها ل تقدر على خلق شيء بل هم‬
‫سهِمْ ضَرّا وَلَا َنفْعًا ْ} أي‪ :‬ل قليل ول‬
‫مخلوقون‪ ،‬بل بعضهم مما عملته أيديهم‪ { .‬وَلَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫كثيرا‪ ،‬لنه نكرة في سياق النفي‪.‬‬

‫{ وَلَا َيمِْلكُونَ َموْتًا وَلَا حَيَا ًة وَلَا نُشُورًا ْ} أي‪ :‬بعثا بعد الموت‪ ،‬فأعظم أحكام العقل بطلن إلهيتها‬
‫وفسادها وفساد عقل من اتخذها آلهة وشركاء للخالق لسائر المخلوقات من غير مشاركة له في‬
‫ذلك‪ ،‬الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي يحيي ويميت ويبعث من في القبور ويجمعهم‬
‫ليوم النشور‪ ،‬وقد جعل لهم دارين دار الشقاء والخزي والنكال لمن اتخذ معه آلهة أخرى‪ ،‬ودار‬
‫الفوز والسعادة والنعيم المقيم لمن اتخذه وحده معبودا‪.‬‬

‫ولما قرر بالدليل القاطع الواضح صحة التوحيد وبطلن ضده قرر صحة الرسالة وبطلن قول‬
‫من عارضها واعترضها فقال‪:‬‬

‫{ ‪َ { }ْ 6 - 4‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا ِإ ْفكٌ افْتَرَا ُه وَأَعَانَهُ عَلَ ْيهِ َقوْمٌ آخَرُونَ َفقَدْ جَاءُوا ظُ ْلمًا‬
‫وَزُورًا * َوقَالُوا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَى عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا * ُقلْ أَنْزَلَهُ الّذِي َيعْلَمُ السّرّ‬
‫غفُورًا َرحِيمًا ْ}‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ إِنّهُ كَانَ َ‬
‫فِي ال ّ‬
‫أي‪ :‬وقال الكافرون بال الذي أوجب لهم كفرهم أن قالوا في القرآن والرسول‪ :‬إن هذا القرآن‬
‫كذب كذبه محمد وإفك افتراه على ال وأعانه على ذلك قوم آخرون‪.‬‬

‫فرد ال عليهم ذلك بأن هذا مكابرة منهم وإقدام على الظلم والزور‪ ،‬الذي ل يمكن أن يدخل عقل‬
‫أحد وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى ال عليه وسلم وكمال صدقه وأمانته وبره التام‬
‫وأنه ل يمكنه‪ ،‬ل هو ول سائر الخلق أن يأتوا بهذا القرآن الذي هو أجل الكلم وأعله وأنه لم‬
‫يجتمع بأحد يعينه على ذلك فقد جاءوا بهذا القول ظلما وزورا‪.‬‬

‫ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا‪ :‬هذا الذي جاء به محمد { َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا ْ} أي‪ :‬هذا‬
‫علَيْهِ‬
‫قصص الولين وأساطيرهم التي تتلقاها الفواه وينقلها كل أحد استنسخها محمد { َف ِهيَ ُتمْلَى َ‬
‫ُبكْ َرةً وََأصِيلًا ْ} وهذا القول منهم فيه عدة عظائم‪:‬‬

‫منها‪ :‬رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكلم وأعظمه وأجله ‪ -‬بأنه كذب وافتراء‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه‬
‫للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته‪ ،‬وهي الكلم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها‪ ،‬أنه ل يكتب ول يجتمع بمن يكتب له‬
‫وقد زعموا ذلك‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ْ} أي‪ :‬أنزله من‬


‫فلذلك رد عليهم ذلك بقوله‪ُ { :‬قلْ أَنْزَلَهُ الّذِي َيعْلَمُ السّرّ فِي ال ّ‬
‫أحاط علمه بما في السماوات وما في الرض‪ ،‬من الغيب والشهادة والجهر والسر كقوله‪ { :‬وَإِنّهُ‬
‫لَتَنْزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ نَ َزلَ ِبهِ الرّوحُ الَْأمِينُ عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ ْ}‬

‫ووجه إقامة الحجة عليهم أن الذي أنزله‪ ،‬هو المحيط علمه بكل شيء‪ ،‬فيستحيل ويمتنع أن يقول‬
‫مخلوق ويتقول عليه هذا القرآن‪ ،‬ويقول‪ :‬هو من عند ال وما هو من عنده ويستحل دماء من‬
‫خالفه وأموالهم‪ ،‬ويزعم أن ال قال له ذلك‪ ،‬وال يعلم كل شيء ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على‬
‫أعدائه‪ ،‬ويمكنه من رقابهم وبلدهم فل يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن‪ ،‬إل بعد إنكار علم ال‪،‬‬
‫وهذا ل تقول به طائفة من بني آدم سوى الفلسفة الدهرية‪.‬‬

‫وأيضا فإن ذكر علمه تعالى العام ينبههم‪ :‬ويحضهم على تدبر القرآن‪ ،‬وأنهم لو تدبروا لرأوا فيه‬
‫من علمه وأحكامه ما يدل دللة قاطعة على أنه ل يكون إل من عالم الغيب والشهادة‪ ،‬ومع‬
‫إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف ال بهم‪ ،‬أنه لم يدعهم وظلمهم بل دعاهم إلى التوبة والنابة‬
‫غفُورًا ْ} أي‪ :‬وصفه‬
‫إليه ووعدهم بالمغفرة والرحمة‪ ،‬إن هم تابوا ورجعوا فقال‪ { :‬إِنّهُ كَانَ َ‬
‫المغفرة لهل الجرائم والذنوب‪ ،‬إذا فعلوا أسباب المغفرة وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها‪.‬‬
‫{ َرحِيمًا ْ} بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها‪ ،‬وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي‬
‫وحيث محا ما سلف من سيئاتهم وحيث قبل حسناتهم وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده والمقبل‬
‫عليه بعد إعراضه إلى حالة المطيعين المنيبين إليه‪.‬‬

‫سوَاقِ َلوْلَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ‬


‫طعَا َم وَ َيمْشِي فِي الَْأ ْ‬
‫{ ‪َ { }ْ 14 - 7‬وقَالُوا مَالِ هَذَا الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ‬
‫فَ َيكُونَ َمعَهُ َنذِيرًا * َأوْ يُ ْلقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ َتكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَ ْأ ُكلُ مِ ْنهَا َوقَالَ الظّاِلمُونَ إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا‬
‫رَجُلًا َمسْحُورًا * ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ َفضَلّوا فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَا َركَ الّذِي إِنْ شَاءَ‬
‫ج َعلْ َلكَ ُقصُورًا * َبلْ كَذّبُوا بِالسّاعَةِ‬
‫ج َعلَ َلكَ خَيْرًا مِنْ ذَِلكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَيَ ْ‬
‫َ‬
‫س ِمعُوا َلهَا َتغَيّظًا وَ َزفِيرًا * وَإِذَا أُ ْلقُوا‬
‫سعِيرًا * إِذَا َرأَ ْتهُمْ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ َ‬
‫وَأَعْتَدْنَا ِلمَنْ كَ ّذبَ بِالسّاعَةِ َ‬
‫حدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ْ}‬
‫عوْا هُنَاِلكَ ثُبُورًا * لَا َتدْعُوا الْ َيوْمَ ثُبُورًا وَا ِ‬
‫مِ ْنهَا َمكَانًا ضَ ّيقًا ُمقَرّنِينَ دَ َ‬

‫هذا من مقالة المكذبين للرسول الذين قدحوا بها في رسالته‪ ،‬وهو أنهم اعترضوا بأنه هل كان‬
‫ملكا أو مليكا‪ ،‬أو يساعده ملك فقالوا‪ { :‬مَالِ هَذَا الرّسُولِ } أي‪ :‬ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟ تهكما‬
‫منهم واستهزاء‪.‬‬

‫طعَامَ } وهذا من خصائص البشر فهل كان ملكا ل يأكل الطعام‪ ،‬ول يحتاج إلى ما يحتاج‬
‫{ يَ ْأ ُكلُ ال ّ‬
‫سوَاقِ } للبيع والشراء وهذا ‪-‬بزعمهم‪ -‬ل يليق بمن يكون رسول‪ ،‬مع‬
‫إليه البشر‪ { ،‬وَ َيمْشِي فِي الْأَ ْ‬
‫سوَاقِ }‬
‫طعَا َم وَ َيمْشُونَ فِي الَْأ ْ‬
‫أن ال قال‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا إِ ّنهُمْ لَيَ ْأكُلُونَ ال ّ‬

‫{ َلوْلَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ } أي‪ :‬هل أنزل معه ملك يساعده ويعاونه‪ { ،‬فَ َيكُونَ َمعَهُ نَذِيرًا } وبزعمهم‬
‫أنه غير كاف للرسالة ول بطوقه وقدرته القيام بها‪.‬‬

‫{ َأوْ يُ ْلقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي‪ :‬مال مجموع من غير تعب‪َ { ،‬أوْ َتكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَ ْأ ُكلُ مِ ْنهَا } فيستغني‬
‫بذلك عن مشيه في السواق لطلب الرزق‪.‬‬

‫سحُورًا } هذا‬
‫{ َوقَالَ الظّاِلمُونَ } حملهم على القول ظلمهم ل اشتباه منهم‪ { ،‬إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا رَجُلًا مَ ْ‬
‫وقد علموا كمال عقله وحسن حديثه‪ ،‬وسلمته من جميع المطاعن‪ .‬ولما كانت هذه القوال منهم‬
‫ف ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ } وهي‪ :‬أنه هل كان ملكا وزالت عنه‬
‫عجيبة جدا قال تعالى‪ { :‬انْظُرْ كَيْ َ‬
‫خصائص البشر؟ أو معه ملك لنه غير قادر على ما قال‪ ،‬أو أنزل عليه كنز‪ ،‬أو جعلت له جنة‬
‫تغنيه عن المشي في السواق أو أنه كان مسحورا‪.‬‬

‫{ َفضَلّوا فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ سَبِيلًا } قالوا أقوال متناقضة كلها جهل وضلل وسفه‪ ،‬ليس في شيء منها‬
‫هداية بل ول في شيء منها أدنى شبهة تقدح في الرسالة‪ ،‬فبمجرد النظر إليها وتصورها يجزم‬
‫العاقل ببطلنها ويكفيه عن ردها‪ ،‬ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها وتدبرها والنظر‪ :‬هل توجب‬
‫التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق؟ ولهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيك خيرا كثيرا‬
‫ج َعلَ َلكَ خَيْرًا مِنْ ذَِلكَ } أي‪ :‬خيرا مما قالوا‪ ،‬ثم فسره‬
‫في الدنيا فقال‪ { :‬تَبَا َركَ الّذِي إِنْ شَاءَ َ‬
‫ج َعلْ َلكَ ُقصُورًا } مرتفعة مزخرفة‪ ،‬فقدرته ومشيئته ل‬
‫بقوله‪ { :‬جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَيَ ْ‬
‫تقصر عن ذلك ولكنه تعالى ‪-‬لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد والحقارة‪ -‬أعطى منها أولياءه‬
‫ورسله ما اقتضته حكمته منها‪ ،‬واقتراح أعدائهم بأنهم هل رزقوا منها رزقا كثيرا جدا ظلم‬
‫وجراءة‪.‬‬

‫ولما كانت تلك القوال التي قالوها معلومة الفساد أخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحق‪ ،‬ول‬
‫لتباع البرهان وإنما صدرت منهم تعنتا وظلما وتكذيبا بالحق‪ ،‬فقالوا ما بقلوبهم من ذلك ولهذا‬
‫عةِ } والمكذب المتعنت الذي ليس له قصد في اتباع الحق‪ ،‬ل سبيل إلى‬
‫قال‪َ { :‬بلْ كَذّبُوا بِالسّا َ‬
‫هدايته ول حيلة في مجادلته وإنما له حيلة واحدة وهي نزول العذاب به‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وَأَعْتَدْنَا ِلمَنْ‬
‫سعِيرًا } أي‪ :‬نارا عظيمة قد اشتد سعيرها‪ ،‬وتغيظت على أهلها واشتد زفيرها‪.‬‬
‫عةِ َ‬
‫كَ ّذبَ بِالسّا َ‬

‫س ِمعُوا َلهَا َتغَيّظًا } عليهم‬


‫{ ِإذَا رَأَ ْتهُمْ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } أي‪ :‬قبل وصولهم ووصولها إليهم‪َ { ،‬‬
‫{ وَ َزفِيرًا } تقلق منهم الفئدة وتتصدع القلوب‪ ،‬ويكاد الواحد منهم يموت خوفا منها وذعرا قد‬
‫غضبت عليهم لغضب خالقها وقد زاد لهبها لزيادة كفرهم وشرهم‪.‬‬

‫{ وَإِذَا أُ ْلقُوا مِ ْنهَا َمكَانًا ضَ ّيقًا ُمقَرّنِينَ } أي‪ :‬وقت عذابهم وهم في وسطها‪ ،‬جمع في مكان بين‬
‫ضيق المكان وتزاحم السكان وتقرينهم بالسلسل والغلل‪ ،‬فإذا وصلوا لذلك المكان النحس‬
‫عوْا هُنَاِلكَ ثُبُورًا } دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة‬
‫وحبسوا في أشر حبس { دَ َ‬
‫وعلموا أنهم ظالمون معتدون‪ ،‬قد عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل‪ ،‬وليس ذلك‬
‫الدعاء والستغاثة بنافعة لهم ول مغنية من عذاب ال‪ ،‬بل يقال لهم‪ { :‬لَا تَدْعُوا الْ َيوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا‬
‫وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } أي‪ :‬لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه ما أفادكم إل الهم والغم والحزن‪.‬‬

‫لما بين جزاء الظالمين ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال‪:‬‬


‫{ ‪ُ { }ْ 16 - 15‬قلْ أَذَِلكَ خَيْرٌ َأمْ جَنّةُ الْخُ ْلدِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ كَا َنتْ َل ُهمْ جَزَا ًء َو َمصِيرًا * َلهُمْ‬
‫ك وَعْدًا َمسْئُولًا ْ}‬
‫فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَ ّب َ‬

‫أي‪ :‬قل لهم ‪-‬مبينا لسفاهة رأيهم واختيارهم الضار على النافع‪َ { :-‬أذَِلكَ } الذي وصفت لكم من‬
‫العذاب { خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ ا ْلخُلْدِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ } التي زادها تقوى ال فمن قام بالتقوى فال قد‬
‫وعده إياها‪ { ،‬كَا َنتْ َلهُمْ جَزَاءً } على تقواهم { َو َمصِيرًا } موئل يرجعون إليها‪ ،‬ويستقرون فيها‬
‫ويخلدون دائما أبدا‪.‬‬

‫{ َل ُهمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } أي‪ :‬يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم‪ ،‬من المطاعم والمشارب اللذيذة‬
‫والملبس الفاخرة والنساء الجميلت والقصور العاليات والجنات والحدائق المرجحنة والفواكه‬
‫التي تسر ناظريها وآكليها‪ ،‬من حسنها وتنوعها وكثرة أصنافها والنهار التي تجري في رياض‬
‫الجنة وبساتينها‪ ،‬حيث شاءوا يصرفونها ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن وأنهارا من لبن لم‬
‫يتغير طعمه وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وروائح طيبة‪ ،‬ومساكن‬
‫مزخرفة‪ ،‬وأصوات شجية تأخذ من حسنها بالقلوب ومزاورة الخوان‪ ،‬والتمتع بلقاء الحباب‪،‬‬
‫وأعلى من ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم وسماع كلمه‪ ،‬والحظوة بقربه والسعادة‬
‫برضاه والمن من سخطه واستمرار هذا النعيم ودوامه وزيادته على ممر الوقات وتعاقب النات‬
‫{ كَانَ } دخولها والوصول إليها { عَلَى رَ ّبكَ وَعْدًا مَسْئُولًا } يسأله إياها‪ ،‬عباده المتقون بلسان‬
‫حالهم ولسان مقالهم‪ ،‬فأي الدارين المذكورتين خير وأولى باليثار؟ وأي‪ :‬العاملين عمال دار‬
‫الشقاء أو عمال دار السعادة أولى بالفضل والعقل والفخر يا أولي اللباب؟‬

‫لقد وضح الحق واستنار السبيل فلم يبق للمفرط عذر في تركه الدليل‪ ،‬فنرجوك يا من قضيت على‬
‫أقوام بالشقاء وأقوام بالسعادة أن تجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة‪ ،‬ونستغيث بك اللهم من‬
‫حالة الشقياء ونسألك المعافاة منها‪.‬‬

‫حشُرُهُمْ َومَا َيعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَ َيقُولُ أَأَنْ ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َهؤُلَاءِ أَمْ ُهمْ‬
‫{ ‪ { }ْ 20 - 17‬وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫خذَ مِنْ دُو ِنكَ مِنْ َأوْلِيَا َء وََلكِنْ مَ ّتعْ َتهُ ْم وَآبَاءَهُمْ‬
‫ضَلّوا السّبِيلَ * قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ مَا كَانَ يَنْ َبغِي لَنَا أَنْ نَتّ ِ‬
‫ن صَ ْرفًا وَلَا َنصْرًا َومَنْ‬
‫حَتّى نَسُوا ال ّذكْ َر َوكَانُوا َق ْومًا بُورًا * َفقَدْ كَذّبُوكُمْ ِبمَا َتقُولُونَ َفمَا َتسْتَطِيعُو َ‬
‫طعَامَ وَ َيمْشُونَ فِي‬
‫يَظِْلمْ مِ ْنكُمْ ُن ِذقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا * َومَا أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ إِلّا إِ ّنهُمْ لَيَ ْأكُلُونَ ال ّ‬
‫ن َوكَانَ رَ ّبكَ َبصِيرًا ْ}‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ فِتْنَةً أَ َتصْبِرُو َ‬
‫جعَلْنَا َب ْع َ‬
‫سوَاقِ وَ َ‬
‫الْأَ ْ‬
‫يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة وتبريهم منهم‪ ،‬وبطلن سعيهم فقال‪ { :‬وَ َيوْمَ‬
‫حشُرُهُمْ } أي‪ :‬المكذبين المشركين { َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَ َيقُولُ } ال مخاطبا للمعبودين‬
‫يَ ْ‬
‫على وجه التقريع لمن عبدهم‪ { :‬أَأَنْ ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َهؤُلَاءِ أَمْ ُه ْم ضَلّوا السّبِيلَ } هل أمرتموهم‬
‫بعبادتكم وزينتم لهم ذلك أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟‬

‫{ قَالُوا سُبْحَا َنكَ } نزهوا ال عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك‪ { ،‬مَا كَانَ يَنْ َبغِي لَنَا }‬
‫أي‪ :‬ل يليق بنا ول يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتولهم ونعبدهم وندعوهم‪ ،‬فإذا كنا‬
‫محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك‪ ،‬فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا ل يكون‬
‫أو‪ ،‬سبحانك عن { أَنْ نَتّخِذَ مِنْ دُو ِنكَ مِنْ َأوْلِيَاءَ } وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه‬
‫السلم‪ { :‬وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إَِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ‬
‫سُ ْبحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِنْ كُ ْنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي وَلَا أَعْلَمُ‬
‫سكَ إِ ّنكَ أَ ْنتَ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ مَا قُ ْلتُ َل ُهمْ إِلّا مَا َأمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ }‬
‫مَا فِي َنفْ ِ‬
‫الية‪.‬‬

‫جمِيعًا ُثمّ َنقُولُ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ َأ َهؤُلَاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ أَ ْنتَ‬
‫وقال تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ َنحْشُرُ ُهمْ َ‬
‫وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْبُدُونَ الْجِنّ َأكْثَرُهُمْ ِب ِهمْ ُم ْؤمِنُونَ } { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَاءً‬
‫َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِت ِهمْ كَافِرِينَ } فلما نزهوا أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير ال أو يكونوا أضلوهم ذكروا‬
‫السبب الموجب لضلل المشركين فقالوا‪ { :‬وََلكِنْ مَ ّتعْ َتهُ ْم وَآبَاءَهُمْ } في لذات الدنيا وشهواتها‬
‫ومطالبها النفسية‪ { ،‬حَتّى نَسُوا ال ّذكْرَ } اشتغال في لذات الدنيا وإكبابا على شهواتها‪ ،‬فحافظوا على‬
‫دنياهم وضيعوا دينهم { َوكَانُوا َق ْومًا بُورًا } أي‪ :‬بائرين ل خير فيهم ول يصلحون لصالح ل‬
‫يصلحون إل للهلك والبوار‪ ،‬فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا الذي صرفهم‬
‫عن الهدى‪ ،‬وعدم المقتضي للهدى وهو أنهم ل خير فيهم‪ ،‬فإذا عدم المقتضي ووجد المانع فل‬
‫تشاء من شر وهلك‪ ،‬إل وجدته فيهم‪ ،‬فلما تبرؤوا منهم قال ال توبيخا وتقريعا للعابدين { َفقَدْ‬
‫كَذّبُوكُمْ ِبمَا َتقُولُونَ } إنهم أمروكم بعبادتهم ورضوا فعلكم‪ ،‬وأنهم شفعاء لكم عند ربكم‪ ،‬كذبوكم في‬
‫ذلك الزعم وصاروا من أكبر أعدائكم فحق عليكم العذاب‪َ { ،‬فمَا تَسْ َتطِيعُونَ صَ ْرفًا } للعذاب عنكم‬
‫بفعلكم أو بفداء أو غير ذلك‪ { ،‬وَلَا َنصْرًا } لعجزكم وعدم ناصركم‪ .‬هذا حكم الضالين المقلدين‬
‫الجاهلين كما رأيت أسوأ حكم‪ ،‬وأشر مصير‪.‬‬

‫وأما المعاند منهم الذي عرف الحق وصدف عنه فقال في حقه‪َ { :‬ومَنْ َيظْلِمْ مِ ْنكُمْ } بترك الحق‬
‫عذَابًا كَبِيرًا } ل يقادر قدره ول يبلغ أمره‪.‬‬
‫ظلما وعنادا { ُن ِذقْهُ َ‬
‫سوَاقِ } { َومَا‬
‫طعَامَ وَ َيمْشِي فِي الْأَ ْ‬
‫ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين‪ { :‬مَالِ َهذَا الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ‬
‫سوَاقِ } فما جعلناهم جسدا ل‬
‫طعَا َم وَ َيمْشُونَ في الَْأ ْ‬
‫أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا إِ ّن ُهمْ لَيَ ْأكُلُونَ ال ّ‬
‫يأكلون الطعام وما جعلناهم ملئكة‪ ،‬فلك فيهم أسوة‪ ،‬وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من ال‬
‫جعَلْنَا َب ْعضَكُمْ لِ َب ْعضٍ فِتْ َنةً } الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من‬
‫تعالى كما قال‪ { :‬وَ َ‬
‫العاصين والرسل فتناهم بدعوة الخلق‪ ،‬والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني‪ ،‬وهكذا سائر‬
‫أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والبتلء والختبار‪.‬‬

‫والقصد من تلك الفتنة { أَ َتصْبِرُونَ } فتقومون بما هو وظيفتكم اللزمة الراتبة فيثيبكم مولكم أم‬
‫ل تصبرون فتستحقون المعاقبة؟‬

‫{ َوكَانَ رَ ّبكَ َبصِيرًا } يعلم أحوالكم‪ ،‬ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم‬
‫أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر‪.‬‬

‫ن لِقَا َءنَا َلوْلَا ُأ ْنزِلَ عََل ْينَا ا ْلمَلَائِكَ ُة َأوْ َنرَى َر ّبنَا َل َقدِ‬
‫{ ‪َ { } 23 - 21‬وقَالَ اّلذِينَ لَا َي ْرجُو َ‬
‫ج ِرمِينَ‬
‫شرَى يَ ْو َم ِئذٍ لِ ْل ُم ْ‬
‫عُتوّا َكبِيرًا * يَ ْو َم يَرَ ْونَ ا ْلمَلَا ِئكَ َة لَا ُب ْ‬
‫عتَوْا ُ‬
‫س ِهمْ وَ َ‬
‫س َتكْ َبرُوا فِي َأنْ ُف ِ‬
‫اْ‬
‫ل َفجَعَ ْلنَا ُه َهبَاءً َم ْنثُورًا }‬
‫عمَ ٍ‬
‫عمِلُوا مِنْ َ‬
‫حجُورًا * َو َقدِ ْمنَا إِلَى مَا َ‬
‫جرًا َم ْ‬
‫حْ‬‫َويَقُولُونَ ِ‬

‫أي‪ :‬قال المكذبون للرسول المكذبون بوعد ال ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ول‬
‫رجاء لقاء الخالق‪.‬‬

‫{ َلوْلَا ُأ ْنزِلَ عََل ْينَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ َنرَى َر ّبنَا } أي‪ :‬هل نزلت الملئكة تشهد لك بالرسالة وتؤيدك‬
‫عليها أو تنزل رسل مستقلين‪ ،‬أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول‪ :‬هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا‬
‫معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلو والعتو‪.‬‬

‫سهِمْ } حيث اقترحوا هذا القتراح وتجرأوا هذه الجرأة‪ ،‬فمن أنتم يا فقراء‬
‫س َت ْكبَرُوا فِي َأ ْن ُف ِ‬
‫{ َل َقدِ ا ْ‬
‫ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية ال وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر‬
‫أعظم من هذا؟‪.‬‬

‫عتُوّا َكبِيرًا } أي‪ :‬قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة‪ ،‬فقلوبهم أشد من الحجار‬
‫ع َتوْا ُ‬
‫{ وَ َ‬
‫وأصلب من الحديد ل تلين للحق‪ ،‬ول تصغى للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ول تذكير‬
‫ول اتبعوا الحق حين جاءهم النذير‪ ،‬بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات ال البينات‬
‫بالعراض والتكذيب والمعارضة‪ ،‬فأي عتو أكبر من هذا العتو؟" ولذلك بطلت أعمالهم‬
‫واضمحلت‪ ،‬وخسروا أشد الخسران‪ ،‬وحرموا غاية الحرمان‪.‬‬

‫ج ِرمِينَ } وذلك أنهم ل يرونها‬


‫ن ا ْلمَلَا ِئكَةَ } التي اقترحوا نزولها { لَا ُبشْرَى يَ ْو َم ِئذٍ لِ ْل ُم ْ‬
‫{ َي ْومَ َيرَوْ َ‬
‫مع استمرارهم على جرمهم وعنادهم إل لعقوبتهم وحلول البأس بهم‪ ،‬فأول ذلك عند الموت إذا‬
‫ت وَا ْلمَلَائِكَةُ‬
‫غ َمرَاتِ ا ْلمَوْ ِ‬
‫ن فِي َ‬
‫تنزلت عليهم الملئكة قال ال تعالى‪ { :‬وَلَ ْو َترَى ِإذِ الظّاِلمُو َ‬
‫حقّ‬
‫غ ْيرَ ا ْل َ‬
‫ن ِبمَا ُك ْن ُتمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ َ‬
‫ب ا ْلهُو ِ‬
‫عذَا َ‬
‫جزَوْنَ َ‬
‫سكُمُ ا ْل َي ْومَ ُت ْ‬
‫خ ِرجُوا َأنْ ُف َ‬
‫بَاسِطُو َأ ْيدِي ِهمْ َأ ْ‬
‫س َت ْكبِرُونَ } ثم في القبر حيث يأتيهم منكر ونكير فيسألهم عن ربهم ونبيهم‬
‫عنْ آيَا ِتهِ َت ْ‬
‫َو ُك ْن ُتمْ َ‬
‫ودينهم فل يجيبون جوابا ينجيهم فيحلون بهم النقمة‪ ،‬وتزول عنهم بهم الرحمة‪ ،‬ثم يوم القيامة‬
‫حين تسوقهم الملئكة إلى النار ثم يسلمونهم لخزنة جهنم الذين يتولون عذابهم ويباشرون‬
‫عقابهم‪ ،‬فهذا الذي اقترحوه وهذا الذي طلبوه إن استمروا على إجرامهم ل بد أن يروه ويلقوه‪،‬‬
‫وحينئذ يتعوذون من الملئكة ويفرون ولكن ل مفر لهم‪.‬‬

‫ن َأقْطَارِ‬
‫طعْ ُتمْ َأنْ َتنْ ُفذُوا مِ ْ‬
‫س َت َ‬
‫حجُورًا } { يَا َم ْعشَ َر ا ْلجِنّ وَا ْلِإنْسِ ِإنِ ا ْ‬
‫جرًا َم ْ‬
‫حْ‬‫ن ِ‬
‫{ َويَقُولُو َ‬
‫ن إِلّا ِبسُ ْلطَانٍ }‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ فَانْ ُفذُوا لَا َتنْ ُفذُو َ‬
‫ال ّ‬

‫ل } أي‪ :‬أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها‪،‬‬


‫عمَ ٍ‬
‫عمِلُوا مِنْ َ‬
‫{ َو َقدِ ْمنَا إِلَى مَا َ‬
‫جعَ ْلنَاهُ َهبَا ًء َم ْنثُورًا } أي باطل مضمحل قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك‬
‫{ َف َ‬
‫لفقده اليمان وصدوره عن مكذب ل ورسله‪ ،‬فالعمل الذي يقبله ال‪ ،‬ما صدر عن المؤمن‬
‫المخلص المصدق للرسل المتبع لهم فيه‪.‬‬

‫حسَنُ مَقِيلًا }‬
‫خ ْيرٌ ُمسْتَ َقرّا وََأ ْ‬
‫جنّةِ َي ْو َم ِئذٍ َ‬
‫ب ا ْل َ‬
‫صحَا ُ‬
‫{ ‪َ { } 24‬أ ْ‬

‫جنّ ِة } الذين آمنوا بال وعملوا صالحا‬


‫صحَابُ ا ْل َ‬
‫أي‪ :‬في ذلك اليوم الهائل كثير البلبل { َأ ْ‬
‫ن مَقِيلًا } أي‪ :‬مستقرهم في الجنة وراحتهم‬
‫حسَ ُ‬
‫ستَ َقرّا } من أهل النار { وََأ ْ‬
‫خ ْيرٌ ُم ْ‬
‫واتقوا ربهم { َ‬
‫التي هي القيلولة‪ ،‬هو المستقر النافع والراحة التامة لشتمال ذلك على تمام النعيم الذي ل‬
‫يشوبه كدر‪ ،‬بخلف أصحاب النار فإن جهنم ساءت مستقرا ومقيل وهذا من باب استعمال‬
‫أفعل التفضيل‪ ،‬فيما ليس في الطرف الخر منه شيء لنه ل خير في مقيل أهل النار‬
‫ن}‬
‫خيْرٌ َأمّا ُيشْ ِركُو َ‬
‫ومستقرهم كقوله‪ { :‬آللّ ُه َ‬
‫حقّ‬
‫ك يَ ْو َم ِئذٍ ا ْل َ‬
‫سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ َو ُنزّلَ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة َت ْنزِيلًا * ا ْلمُ ْل ُ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 25‬ويَ ْومَ َتشَ ّققُ ال ّ‬
‫خذْتُ‬
‫ل يَا َل ْي َتنِي ا ّت َ‬
‫ض الظّالِمُ عَلَى َي َديْهِ َيقُو ُ‬
‫عسِيرًا * َويَ ْومَ َيعَ ّ‬
‫لِل ّرحْمَنِ َوكَانَ يَ ْومًا عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫عنِ ال ّذ ْكرِ َب ْعدَ ِإذْ جَا َءنِي‬
‫خذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَ َقدْ َأضَّلنِي َ‬
‫سبِيلًا * يَا َويَْلتَى َل ْي َتنِي َلمْ َأ ّت ِ‬
‫ل َ‬
‫مَعَ ال ّرسُو ِ‬
‫خذُولًا }‬
‫ن َ‬
‫ن لِ ْلِإ ْنسَا ِ‬
‫شيْطَا ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫َوكَا َ‬

‫يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب‪ ،‬ومزعجات القلوب فقال‪:‬‬
‫سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ } وذلك الغمام الذي ينزل ال فيه‪ ،‬ينزل من فوق السماوات‬
‫{ َويَ ْومَ َتشَ ّققُ ال ّ‬
‫فتنفطر له السماوات وتشقق وتنزل ملئكة كل سماء فيقفون صفا صفا‪ ،‬إما صفا واحدا محيطا‬
‫بالخلئق‪ ،‬وإما كل سماء يكونون صفا ثم السماء التي تليها صفا وهكذا‪.‬‬

‫القصد أن الملئكة ‪-‬على كثرتهم وقوتهم‪ -‬ينزلون محيطين بالخلق مذعنين لمر ربهم ل يتكلم‬
‫منهم أحد إل بإذن من ال‪ ،‬فما ظنك بالدمي الضعيف خصوصا الذي بارز مالكه بالعظائم‪،‬‬
‫وأقدم على مساخطه ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم يتب منها‪ ،‬فيحكم فيه الملك الحق بالحكم‬
‫عسِيرًا } لصعوبته‬
‫الذي ل يجور ول يظلم مثقال ذرة ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ َي ْومًا عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ َ‬
‫الشديدة وتعسر أموره عليه‪ ،‬بخلف المؤمن فإنه يسير عليه خفيف الحمل‪.‬‬

‫ج َهنّمَ ِو ْردًا }‬
‫ن إِلَى َ‬
‫ق ا ْل ُمجْ ِرمِي َ‬
‫حمَنِ َو ْفدًا َو َنسُو ُ‬
‫حشُرُ ا ْل ُمتّقِينَ إِلَى ال ّر ْ‬
‫{ َي ْومَ َن ْ‬

‫حمَنِ } ل يبقى لحد من المخلوقين ملك ول‬


‫حقّ لِل ّر ْ‬
‫ك يَ ْو َم ِئذٍ } أي‪ :‬يوم القيامة { ا ْل َ‬
‫وقوله‪ { :‬ا ْلمُ ْل ُ‬
‫صورة ملك‪ ،‬كما كانوا في الدنيا‪ ،‬بل قد تساوت الملوك ورعاياهم والحرار والعبيد والشراف‬
‫وغيرهم‪ ،‬ومما يرتاح له القلب‪ ،‬وتطمئن به النفس وينشرح له الصدر أن أضاف الملك في يوم‬
‫القيامة لسمه " الرحمن " الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي وملت الكائنات‬
‫وعمرت بها الدنيا والخرة‪ ،‬وتم بها كل ناقص وزال بها كل نقص‪ ،‬وغلبت السماء الدالة‬
‫عليه السماء الدالة على الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته‪ ،‬فلها السبق والغلبة‪ ،‬وخلق هذا‬
‫الدمي الضعيف وشرفه وكرمه ليتم عليه نعمته‪ ،‬وليتغمده برحمته‪ ،‬وقد حضروا في موقف‬
‫الذل والخضوع والستكانة بين يديه ينتظرون ما يحكم فيهم وما يجري عليهم وهو أرحم بهم‬
‫من أنفسهم ووالديهم فما ظنك بما يعاملهم به‪ ،‬ول يهلك على ال إل هالك ول يخرج من‬
‫رحمته إل من غلبت عليه الشقاوة وحقت عليه كلمة العذاب‪.‬‬

‫ض الظّالِ ُم } بشركه وكفره وتكذيبه للرسل { عَلَى َي َديْهِ } تأسفا وتحسرا وحزنا‬
‫{ َويَ ْومَ َيعَ ّ‬
‫سبِيلًا } أي طريقا باليمان به وتصديقه واتباعه‪.‬‬
‫ل َ‬
‫ت مَعَ ال ّرسُو ِ‬
‫ل يَا َل ْي َتنِي ا ّتخَذْ ُ‬
‫وأسفا‪ { .‬يَقُو ُ‬
‫خذْ فُلَانًا } وهو الشيطان النسي أو الجني‪ { ،‬خَلِيلًا } أي‪ :‬حبيبا مصافيا‬
‫{ يَا َويَْلتَى َل ْي َتنِي َلمْ َأ ّت ِ‬
‫عاديت أنصح الناس لي‪ ،‬وأبرهم بي وأرفقهم بي‪ ،‬وواليت أعدى عدو لي الذي لم تفدني وليته‬
‫إل الشقاء والخسار والخزي والبوار‪.‬‬

‫ن ال ّذ ْكرِ َب ْعدَ ِإذْ جَا َءنِي } حيث زين له ما هو عليه من الضلل بخدعه‬
‫{ َل َقدْ َأضَّلنِي عَ ِ‬
‫خذُولًا } يزين له الباطل ويقبح له الحق‪ ،‬ويعده الماني ثم‬
‫ن لِ ْلِإ ْنسَانِ َ‬
‫ش ْيطَا ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫وتسويله‪َ { .‬وكَا َ‬
‫يتخلى عنه ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي المر‪ ،‬وفرغ ال من حساب الخلق‬
‫ن لِي‬
‫ع ْدتُ ُكمْ َفَأخْلَ ْف ُتكُمْ َومَا كَا َ‬
‫حقّ وَ َو َ‬
‫عدَ ا ْل َ‬
‫ع َد ُكمْ َو ْ‬
‫ن اللّهَ وَ َ‬
‫ضيَ ا ْلَأ ْمرُ إِ ّ‬
‫ن َلمّا قُ ِ‬
‫شيْطَا ُ‬
‫{ َوقَالَ ال ّ‬
‫خكُمْ َومَا‬
‫ص ِر ِ‬
‫س ُكمْ مَا َأنَا ِبمُ ْ‬
‫ج ْبتُ ْم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا َأنْ ُف َ‬
‫س َت َ‬
‫ن إِلّا َأنْ َدعَ ْو ُت ُكمْ فَا ْ‬
‫ن سُ ْلطَا ٍ‬
‫عََل ْي ُكمْ مِ ْ‬
‫ش َركْ ُتمُونِ ِمنْ َقبْلُ } الية‪ .‬فلينظر العبد لنفسه وقت المكان‬
‫ص ِرخِيّ ِإنّي كَ َفرْتُ ِبمَا َأ ْ‬
‫َأ ْن ُتمْ ِبمُ ْ‬
‫وليتدارك الممكن قبل أن ل يمكن‪ ،‬وليوال من وليته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته‬
‫وتضره صداقته‪ .‬وال الموفق‪.‬‬

‫جعَ ْلنَا‬
‫ن َم ْهجُورًا * َو َكذَِلكَ َ‬
‫خذُوا َهذَا الْ ُقرْآ َ‬
‫ن قَ ْومِي ا ّت َ‬
‫ب إِ ّ‬
‫{ ‪َ { } 31 - 30‬وقَالَ ال ّرسُولُ يَا رَ ّ‬
‫ج ِرمِينَ َوكَفَى ِب َر ّبكَ هَا ِديًا َو َنصِيرًا }‬
‫عدُوّا ِمنَ ا ْل ُم ْ‬
‫ِلكُلّ َن ِبيّ َ‬

‫{ َوقَالَ ال ّرسُولُ } مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به‪ ،‬ومتأسفا على ذلك منهم‪{ :‬‬
‫ن َم ْهجُورًا } أي‪ :‬قد‬
‫خذُوا َهذَا الْ ُقرْآ َ‬
‫يَا رَبّ ِإنّ قَ ْومِي } الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم‪ { ،‬ا ّت َ‬
‫أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم النقياد لحكمه والقبال على أحكامه‪،‬‬
‫والمشي خلفه‪ ،‬قال ال مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤلء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم‬
‫ن } أي‪ :‬من الذين ل يصلحون للخير ول‬
‫ن ا ْل ُمجْ ِرمِي َ‬
‫عدُوّا مِ َ‬
‫ل َن ِبيّ َ‬
‫جعَ ْلنَا ِلكُ ّ‬
‫فقال‪َ { :‬و َكذَِلكَ َ‬
‫يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل‪.‬‬

‫من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما لن‬
‫معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلل وأن يتبين ما يفعل ال بأهل‬
‫الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة‪ ،‬فل تحزن عليهم ول تذهب نفسك عليهم حسرات‬
‫{ َوكَفَى ِب َر ّبكَ هَا ِديًا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك‪َ { .‬و َنصِيرًا }‬
‫ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه‪.‬‬

‫ت بِ ِه فُؤَا َدكَ‬
‫حدَةً َكذَِلكَ ِل ُن َثبّ َ‬
‫جمَْلةً وَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 33 - 32‬وقَالَ اّلذِينَ كَ َفرُوا َلوْلَا ُنزّلَ عََليْهِ ا ْل ُقرْآنُ ُ‬
‫َو َرتّ ْلنَاهُ َت ْرتِيلًا *‬
‫}‬ ‫ن تَ ْفسِيرًا‬
‫حسَ َ‬
‫حقّ وََأ ْ‬
‫ج ْئنَاكَ بِا ْل َ‬
‫وَلَا َي ْأتُو َنكَ ِب َمثَلٍ إِلّا ِ‬

‫جمْلَةً‬
‫هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا‪ { :‬لَوْلَا ُنزّلَ عََل ْيهِ الْ ُقرْآنُ ُ‬
‫حدَ ًة } أي‪ :‬كما أنزلت الكتب قبله‪ ،‬وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على‬
‫وَا ِ‬
‫ك } لنه كلما‬
‫ت بِهِ فُؤَا َد َ‬
‫هذا الوجه أكمل وأحسن‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬كذَِلكَ } أنزلناه متفرقا { ِل ُن َثبّ َ‬
‫نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول‬
‫القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازل قبل ذلك ثم‬
‫تذكره عند حلول سببه‪.‬‬

‫{ َو َرتّ ْلنَا ُه َت ْرتِيلًا } أي‪ :‬مهلناه ودرجناك فيه تدريجا‪ .‬وهذا كله يدل على اعتناء ال بكتابه‬
‫القرآن وبرسوله محمد صلى ال عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول‬
‫ومصالحه الدينية‪.‬‬

‫حقّ‬
‫ج ْئنَاكَ بِا ْل َ‬
‫ل } يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك‪ { ،‬إِلّا ِ‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَلَا َي ْأتُو َنكَ ِب َمثَ ٍ‬
‫ن تَ ْفسِيرًا } أي‪ :‬أنزلنا عليك قرآنا جامعا للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في‬
‫حسَ َ‬
‫وََأ ْ‬
‫ألفاظه‪ ،‬فمعانيه كلها حق وصدق ل يشوبها باطل ول شبهة بوجه من الوجوه‪ ،‬وألفاظه وحدوده‬
‫للشياء أوضح ألفاظا وأحسن تفسيرا مبين للمعاني بيانا كامل‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث ومعلم‪ ،‬وواعظ أن يقتدي بربه‬
‫في تدبيره حال رسوله‪ ،‬كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما حدث موجب أو حصل موسم‪ ،‬أتى‬
‫بما يناسب ذلك من اليات القرآنية والحاديث النبوية والمواعظ الموافقة لذلك‪.‬‬

‫وفيه رد على المتكلفين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيرا من نصوص القرآن محمولة‬
‫على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها‪ ،‬فإذا ‪-‬على قولهم‪ -‬ل يكون القرآن أحسن‬
‫تفسيرا من غيره‪ ،‬وإنما التفسير الحسن ‪-‬على زعمهم‪ -‬تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني‬
‫تحريفا‪.‬‬

‫سبِيلًا }‬
‫شرّ َمكَانًا وََأضَلّ َ‬
‫ج َهنّمَ أُوَل ِئكَ َ‬
‫شرُونَ عَلَى ُوجُو ِه ِهمْ إِلَى َ‬
‫حَ‬‫{ ‪ { } 34‬اّلذِينَ ُي ْ‬

‫حشَرُونَ عَلَى‬
‫يخبر تعالى عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله وسوء مآلهم‪ ،‬وأنهم { ُي ْ‬
‫ج َه ّنمَ } الجامعة‬
‫ُوجُو ِه ِهمْ } أشنع مرأى‪ ،‬وأفظع منظر تسحبهم ملئكة العذاب ويجرونهم { إِلَى َ‬
‫شرّ َمكَانًا } ممن آمن بال وصدق رسله‪،‬‬
‫لكل عذاب وعقوبة‪ { .‬أُوَل ِئكَ } الذين بهذه الحالة { َ‬
‫سبِيلًا } وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف الخر منه شيء‬
‫{ وََأضَلّ َ‬
‫فإن المؤمنين حسن مكانهم ومستقرهم‪ ،‬واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي الخرة‬
‫إلى الوصول إلى جنات النعيم‪.‬‬

‫جعَ ْلنَا َم َعهُ َأخَا ُه هَارُونَ َوزِيرًا * فَقُ ْلنَا اذْ َهبَا إِلَى‬
‫{ ‪ { } 40 - 35‬وَلَ َقدْ آ َت ْينَا مُوسَى ا ْل ِكتَابَ َو َ‬
‫جعَ ْلنَا ُهمْ‬
‫غ َر ْقنَا ُهمْ َو َ‬
‫ح َلمّا َك ّذبُوا ال ّرسُلَ أَ ْ‬
‫الْقَ ْو ِم اّلذِينَ َك ّذبُوا بِآيَا ِتنَا َف َدمّ ْرنَا ُهمْ َت ْدمِيرًا * َوقَ ْومَ نُو ٍ‬
‫ن ذَِلكَ َكثِيرًا‬
‫صحَابَ الرّسّ َوقُرُونًا َبيْ َ‬
‫عذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا َو َثمُودَ وََأ ْ‬
‫ع َت ْدنَا لِلظّاِلمِينَ َ‬
‫لِلنّاسِ آيَ ًة وَأَ ْ‬
‫ت َمطَرَ السّ ْوءِ‬
‫ض َر ْبنَا لَ ُه ا ْلَأ ْمثَالَ َوكُلّا َتّب ْرنَا َت ْتبِيرًا * وَلَ َق ْد َأتَوْا عَلَى الْ َق ْريَ ِة اّلتِي ُأ ْمطِرَ ْ‬
‫* َوكُلّا َ‬
‫ن ُنشُورًا }‬
‫َأفَلَمْ َيكُونُوا يَرَ ْو َنهَا بَلْ كَانُوا لَا َي ْرجُو َ‬

‫أشار تعالى إلى هذه القصص وقد بسطها في آيات أخر ليحذر المخاطبين من استمرارهم على‬
‫تكذيب رسولهم فيصيبهم ما أصاب هؤلء المم الذين قريبا منهم ويعرفون قصصهم بما‬
‫استفاض واشتهر عنهم‪.‬‬

‫ومنهم من يرون آثارهم عيانا كقوم صالح في الحجر وكالقرية التي أمطرت مطر السوء‬
‫بحجارة من سجيل يمرون عليهم مصبحين وبالليل في أسفارهم‪ ،‬فإن أولئك المم ليسوا شرا‬
‫ن أُوَل ِئكُمْ َأ ْم َل ُكمْ َبرَاءَ ٌة فِي ال ّز ُبرِ }‬
‫خ ْيرٌ مِ ْ‬
‫منهم ورسلهم ليسوا خيرا من رسول هؤلء { َأكُفّا ُركُمْ َ‬
‫ولكن الذي منع هؤلء من اليمان ‪-‬مع ما شاهدوا من اليات‪ -‬أنهم كانوا ل يرجون بعثا ول‬
‫نشورا‪ ،‬فل يرجون لقاء ربهم ول يخشون نكاله فلذلك استمروا على عنادهم‪ ،‬وإل فقد جاءهم‬
‫من اليات ما ل يبقي معه شك ول شبهة ول إشكال ول ارتياب‪.‬‬

‫ن كَادَ‬
‫ك إِلّا ُهزُوًا أَ َهذَا اّلذِي َبعَثَ اللّ ُه رَسُولًا * إِ ْ‬
‫ن َي ّتخِذُو َن َ‬
‫ك إِ ْ‬
‫{ ‪ { } 44 - 41‬وَِإذَا رَأَ ْو َ‬
‫سبِيلًا *‬
‫ن َأضَلّ َ‬
‫ن ا ْل َعذَابَ مَ ْ‬
‫ن َيرَوْ َ‬
‫صبَ ْرنَا عََل ْيهَا َوسَ ْوفَ َيعَْلمُونَ حِي َ‬
‫ن َ‬
‫ن آِل َه ِتنَا لَوْلَا أَ ْ‬
‫َل ُيضِلّنَا عَ ْ‬
‫ن أَ ْو َيعْقِلُونَ‬
‫س َمعُو َ‬
‫ن َأ ْكثَرَ ُهمْ َي ْ‬
‫ب أَ ّ‬
‫حسَ ُ‬
‫خذَ إَِلهَ ُه هَوَاهُ َأ َفَأنْتَ َتكُونُ عََليْهِ َوكِيلًا * َأمْ َت ْ‬
‫ن ا ّت َ‬
‫َأرََأيْتَ مَ ِ‬
‫}‬ ‫سبِيلًا‬
‫ل َ‬
‫ن ُهمْ إِلّا كَا ْلَأ ْنعَامِ بَلْ ُهمْ َأضَ ّ‬
‫إِ ْ‬

‫أي‪ :‬وإذا رآك يا محمد هؤلء المكذبون لك المعاندون ليات [ال] المستكبرون في الرض‬
‫استهزءوا بك واحتقروك وقالوا ‪-‬على وجه الحتقار والستصغار‪ { -‬أَ َهذَا اّلذِي َبعَثَ اللّهُ‬
‫رَسُولًا } أي‪ :‬غير مناسب ول لئق أن يبعث ال هذا الرجل‪ ،‬وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم‬
‫وقلبهم الحقائق فإن كلمهم هذا يفهم أن الرسول ‪-‬حاشاه‪ -‬في غاية الخسة والحقارة وأنه لو‬
‫كانت الرسالة لغيره لكان أنسب‪.‬‬

‫عظِي ٍم } فهذا الكلم ل يصدر إل من‬


‫{ َوقَالُوا َلوْلَا ُنزّلَ َهذَا الْ ُقرْآنُ عَلَى َرجُلٍ ِمنَ الْ َق ْر َي َتيْنِ َ‬
‫أجهل الناس وأضلهم‪ ،‬أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل‪ ،‬قصده ترويج ما معه من الباطل‬
‫بالقدح بالحق وبمن جاء به‪ ،‬وإل فمن تدبر أحوال محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم وجده‬
‫رجل العالم وهمامهم ومقدمهم في العقل والعلم واللب والرزانة‪ ،‬ومكارم الخلق ومحاسن‬
‫الشيم والعفة والشجاعة والكرم وكل خلق فاضل‪ ،‬وأن المحتقر له والشانئ له قد جمع من‬
‫السفه والجهل والضلل والتناقض والظلم والعدوان ما ل يجمعه غيره‪ ،‬وحسبه جهل وضلل‬
‫أن يقدح بهذا الرسول العظيم والهمام الكريم‪.‬‬

‫والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول ولهذا‬
‫عنْ آِل َه ِتنَا } بأن يجعل اللهة إلها واحدا { لَوْلَا أَنْ‬
‫ن كَادَ } هذا الرجل { َل ُيضِّلنَا َ‬
‫قالوا‪ { :‬إِ ْ‬
‫صبَ ْرنَا عََل ْيهَا } لضلنا زعموا ‪-‬قبحهم ال‪ -‬أن الضلل هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من‬
‫َ‬
‫ص ِبرُوا عَلَى آِل َه ِت ُكمْ }‬
‫الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه‪ { .‬وَا ْنطَلَقَ ا ْلمََلُأ ِم ْنهُمْ َأنِ ا ْمشُوا وَا ْ‬

‫صبَ ْرنَا عََل ْيهَا } والصبر يحمد في المواضع كلها‪ ،‬إل في هذا الموضع‬
‫ن َ‬
‫وهنا قالوا‪ { :‬لَوْلَا أَ ْ‬
‫فإنه صبر على أسباب الغضب وعلى الستكثار من حطب جهنم‪ .‬وأما المؤمنون فهم كما قال‬
‫ص ْبرِ } ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون‬
‫ال عنهم‪َ { :‬وتَوَاصَوْا بِا ْلحَقّ َوتَوَاصَوْا بِال ّ‬
‫والرسول ضال وقد تقرر أنهم ل حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت { حِينَ‬
‫سبِيلًا } { َو َي ْومَ َيعَضّ الظّاِلمُ عَلَى َي َديْهِ‬
‫ن } هو { َأضَلّ َ‬
‫ن ا ْل َعذَابَ } يعلمون علما حقيقيا { مَ ْ‬
‫َيرَوْ َ‬
‫سبِيلًا } اليات‪.‬‬
‫ل َ‬
‫خذْتُ مَ َع الرّسُو ِ‬
‫ل يَا َل ْي َتنِي ا ّت َ‬
‫يَقُو ُ‬

‫خذَ إَِلهَهُ‬
‫ن ا ّت َ‬
‫وهل فوق ضلل من جعل إلهه معبوده [هواه] فما هويه فعله فلهذا قال‪َ { :‬أرََأيْتَ مَ ِ‬
‫هَوَاهُ } أل تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضلل؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟‬

‫{ َأ َفَأنْتَ َتكُونُ عََليْهِ َوكِيلًا } أي‪ :‬لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر‪ ،‬وقد قمت‬
‫بوظيفتك وحسابه على ال‪.‬‬

‫ثم سجل تعالى على ضللهم البليغ بأن سلبهم العقول والسماع وشبههم في ضللهم بالنعام‬
‫السائمة التي ل تسمع إل دعاء ونداء‪ ،‬صم بكم عمي فهم ل يعقلون بل هم أضل من النعام‬
‫لن النعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هلكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من‬
‫هؤلء‪ ،‬فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضلل أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو‬
‫أهدى منه‪.‬‬

‫شمْسَ عََليْهِ‬
‫جعَ ْلنَا ال ّ‬
‫جعَلَ ُه سَا ِكنًا ُثمّ َ‬
‫{ ‪ { } 46 - 45‬أََل ْم تَ َر إِلَى َر ّبكَ َكيْفَ َم ّد الظّلّ وََلوْ شَا َء َل َ‬
‫ضنَاهُ إَِل ْينَا َق ْبضًا َيسِيرًا }‬
‫دَلِيلًا * ُثمّ َقبَ ْ‬

‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته‪ ،‬أنه مد على العباد الظل‬
‫شمْسَ عََليْ ِه } أي‪ :‬على الظل { دَلِيلًا } فلول وجود‬
‫جعَ ْلنَا ال ّ‬
‫وذلك قبل طلوع الشمس { ُثمّ َ‬
‫الشمس لما عرف الظل فإن الضد يعرف بضده‪.‬‬

‫ضنَا ُه إَِل ْينَا َقبْضًا َيسِيرًا } فكلما ارتفعت الشمس تقلص الظل شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يذهب‬
‫{ ُثمّ َق َب ْ‬
‫بالكلية فتوالي الظل والشمس على الخلق الذي يشاهدونه عيانا وما يترتب على ذلك من‬
‫اختلف الليل والنهار وتعاقبهما وتعاقب الفصول‪ ،‬وحصول المصالح الكثيرة بسبب ذلك‪ -‬من‬
‫أدل دليل على قدرة ال وعظمته وكمال رحمته وعنايته بعباده وأنه وحده المعبود المحمود‬
‫المحبوب المعظم‪ ،‬ذو الجلل والكرام‪.‬‬

‫ل ال ّنهَارَ ُنشُورًا }‬
‫جعَ َ‬
‫سبَاتًا َو َ‬
‫ل َل ُكمُ الّليْلَ ِلبَاسًا وَالنّ ْومَ ُ‬
‫جعَ َ‬
‫{ ‪ { } 47‬وَ ُهوَ اّلذِي َ‬

‫أي‪ :‬من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم‪ ،‬حتى تستقروا فيه‬
‫وتهدؤوا بالنوم وتسبت حركاتكم أي‪ :‬تنقطع عند النوم‪ ،‬فلول الليل لما سكن العباد ول استمروا‬
‫في تصرفهم فضرهم ذلك غاية الضرر‪ ،‬ولو استمر أيضا الظلم لتعطلت عليهم معايشهم‬
‫ومصالحهم‪ ،‬ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم فيقوم بذلك‬
‫ما يقوم من المصالح‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً‬
‫ح َمتِهِ وََأ ْنزَلْنَا ِمنَ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 50 - 48‬وَهُ َو اّلذِي َأ ْرسَلَ ال ّريَاحَ ُبشْرًا َب ْينَ َي َديْ َر ْ‬
‫صرّ ْفنَا ُه َب ْينَ ُهمْ‬
‫ي بِهِ بَ ْل َدةً َم ْيتًا َو ُنسْ ِقيَهُ ِممّا خَلَ ْقنَا َأ ْنعَامًا وََأنَاسِيّ َكثِيرًا * وَلَ َقدْ َ‬
‫حيِ َ‬
‫طهُورًا * ِل ُن ْ‬
‫َ‬
‫ِل َي ّذكّرُوا َفأَبَى َأ ْك َثرُ النّاسِ إِلّا كُفُورًا }‬
‫أي‪ :‬هو وحده الذي رحم عباده وأدر عليهم رزقه بأن أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته‬
‫وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته بإذن آمرها والمتصرف فيها‬
‫ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة‪.‬‬

‫طهُورًا } يطهر من الحدث والخبث ويطهر من الغش والدناس‪ ،‬وفيه‬


‫سمَاءِ مَا ًء َ‬
‫{ وََأ ْنزَ ْلنَا ِمنَ ال ّ‬
‫بركة من بركته أنه أنزله ليحيي به بلدة ميتا فتختلف أصناف النوابت والشجار فيها مما يأ كل‬
‫سيّ َكثِيرًا } أي‪ :‬نسقيكموه أنتم وأنعامكم‪ ،‬أليس‬
‫الناس والنعام‪َ { .‬و ُنسْ ِقيَ ُه ِممّا خَلَ ْقنَا َأ ْنعَامًا وََأنَا ِ‬
‫الذي أرسل الرياح المبشرات وجعلها في عملها متنوعات‪ ،‬وأنزل من السماء ماء طهورا‬
‫مباركا فيه رزق العباد ورزق بهائمهم‪ ،‬هو الذي يستحق أن يعبد وحده ول يشرك معه غيره؟‬

‫ولما ذكر تعالى هذه اليات العيانية المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه ويشكروه ويذكروه مع‬
‫ذلك أبي أكثر الخلق إل كفورا‪ ،‬لفساد أخلقهم وطبائعهم‪.‬‬

‫جهَادًا‬
‫ل قَ ْريَ ٍة َنذِيرًا * فَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِينَ َوجَا ِهدْ ُهمْ بِ ِه ِ‬
‫ش ْئنَا َل َب َعثْنَا فِي كُ ّ‬
‫{ ‪ { } 52 - 51‬وَلَ ْو ِ‬
‫َكبِيرًا }‬

‫يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا‪ ،‬أي‪ :‬رسول ينذرهم‬
‫ويحذرهم فمشيئته غير قاصرة عن ذلك‪ ،‬ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد ‪-‬يا‬
‫محمد‪ -‬أن أرسلك إلى جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم‪.‬‬

‫ن } في ترك شيء مما أرسلت به بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت به‪.‬‬


‫{ فَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫جهَادًا َكبِيرًا } أي‪ :‬ل تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل‬
‫{ َوجَا ِهدْهُمْ } بالقرآن { ِ‬
‫إل بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ وسعك‪ ،‬ول‬
‫تيأس من هدايتهم ول تترك إبلغهم لهوائهم‪.‬‬

‫ل َب ْينَ ُهمَا َب ْر َزخًا‬


‫جعَ َ‬
‫ب فُرَاتٌ وَ َهذَا مِلْحٌ ُأجَاجٌ َو َ‬
‫عذْ ٌ‬
‫ن َهذَا َ‬
‫ج ا ْل َبحْ َريْ ِ‬
‫{ ‪ { } 53‬وَ ُهوَ اّلذِي َمرَ َ‬
‫حجُورًا }‬
‫جرًا َم ْ‬
‫حْ‬‫َو ِ‬

‫أي‪ :‬وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان البحر العذب وهي النهار السارحة على وجه‬
‫ل َب ْينَ ُهمَا َب ْر َزخًا }‬
‫جعَ َ‬
‫الرض والبحر الملح وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعباد‪َ { ،‬و َ‬
‫جرًا‬
‫حْ‬‫أي‪ :‬حاجزا يحجز من اختلط أحدهما بالخر فتذهب المنفعة المقصودة منها { َو ِ‬
‫حجُورًا } أي‪ :‬حاجزا حصينا‪.‬‬
‫َم ْ‬

‫ن رَ ّبكَ َقدِيرًا }‬
‫صهْرًا َوكَا َ‬
‫جعَلَ ُه َنسَبًا َو ِ‬
‫{ ‪ { } 54‬وَ ُهوَ اّلذِي خََلقَ ِمنَ ا ْلمَا ِء َبشَرًا َف َ‬

‫أي‪ :‬وهو ال وحده ل شريك له الذي خلق الدمي من ماء مهين‪ ،‬ثم نشر منه ذرية كثيرة‬
‫وجعلهم أنسابا وأصهارا متفرقين ومجتمعين‪ ،‬والمادة كلها من ذلك الماء المهين‪ ،‬فهذا يدل على‬
‫كمال اقتداره لقوله‪َ { :‬وكَانَ َر ّبكَ َقدِيرًا } ويدل على أن عبادته هي الحق وعبادة غيره باطلة‬
‫لقوله‪:‬‬

‫ظهِيرًا }‬
‫ن ا ْلكَافِرُ عَلَى َربّهِ َ‬
‫ضرّ ُهمْ َوكَا َ‬
‫ن دُونِ اللّهِ مَا لَا َينْ َف ُع ُهمْ وَلَا يَ ُ‬
‫ن مِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 55‬و َي ْع ُبدُو َ‬

‫أي‪ :‬يعبدون أصناما وأمواتا ل تضر ول تنفع ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر والعطاء‬
‫والمنع مع أن الواجب عليهم أن يكونوا مقتدين بإرشادات ربهم ذابين عن دينه‪ ،‬ولكنهم عكسوا‬
‫القضية‪.‬‬

‫ظهِيرًا } فالباطل الذي هو الوثان والندادأعداء ل‪ ،‬فالكافر عاونها‬


‫{ َوكَانَ ا ْلكَا ِفرُ عَلَى َربّ ِه َ‬
‫وظاهرها على ربها وصار عدوا لربه مبارزا له في العداوة والحرب‪ ،‬هذا وهو الذي خلقه‬
‫ورزقه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬وليس يخرج عن ملكه وسلطانه وقبضته وال لم‬
‫يقطع عنه إحسانه وبره وهو ‪-‬بجهله‪ -‬مستمر على هذه المعاداة والمبارزة‪.‬‬

‫ن شَاءَ َأنْ‬
‫ن َأجْ ٍر إِلّا مَ ْ‬
‫سأَُلكُمْ عََليْ ِه مِ ْ‬
‫ل مَا َأ ْ‬
‫{ ‪َ { } 60 - 56‬ومَا َأ ْرسَ ْلنَاكَ إِلّا ُم َبشّرًا َو َنذِيرًا * قُ ْ‬
‫عبَادِهِ‬
‫ح ْمدِهِ َوكَفَى بِ ِه ِبذُنُوبِ ِ‬
‫سبّحْ ِب َ‬
‫حيّ اّلذِي لَا َيمُوتُ َو َ‬
‫سبِيلًا * َوتَ َوكّلْ عَلَى ا ْل َ‬
‫َي ّتخِ َذ إِلَى َربّهِ َ‬
‫حمَنُ‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ ال ّر ْ‬
‫ستّةِ َأيّامٍ ُثمّ ا ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ َومَا َب ْي َن ُهمَا فِي ِ‬
‫خبِيرًا * اّلذِي خََلقَ ال ّ‬
‫َ‬
‫سجُدُ ِلمَا َت ْأمُ ُرنَا َوزَادَ ُهمْ‬
‫ن َأ َن ْ‬
‫حمَ ُ‬
‫حمَنِ قَالُوا َومَا ال ّر ْ‬
‫سجُدُوا لِل ّر ْ‬
‫ل َل ُهمُ ا ْ‬
‫خبِيرًا * وَِإذَا قِي َ‬
‫سأَلْ ِبهِ َ‬
‫فَا ْ‬
‫نُفُورًا }‬

‫يخبر تعالى‪ :‬أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم مسيطرا على الخلق ول جعله‬
‫ملكا ول عنده خزائن الشياء‪ ،‬وإنما أرسله { ُم َبشّرًا } يبشر من أطاع ال بالثواب العاجل‬
‫والجل‪َ { ،‬و َنذِيرًا } ينذر من عصى ال بالعقاب العاجل والجل وذلك مستلزم لتبيين ما به‬
‫البشارة وما تحصل به النذارة من الوامر والنواهي‪ ،‬وإنك ‪-‬يا محمد‪ -‬ل تسألهم على إبلغهم‬
‫خذَ‬
‫ن َي ّت ِ‬
‫ن شَاءَ أَ ْ‬
‫القرآن والهدى أجرا حتى يمنعهم ذلك من اتباعك ويتكلفون من الغرامة‪ { ،‬إِلّا مَ ْ‬
‫سبِيلًا } أي‪ :‬إل من شاء أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإن رغبتكم فيه‬
‫إِلَى َربّهِ َ‬
‫فلست أجبركم عليه وليس أيضا أجرا لي عليكم وإنما هو راجع لمصلحتكم وسلوككم للسبيل‬
‫حيّ } الذي له‬
‫الموصلة إلى ربكم‪ ،‬ثم أمره أن يتوكل عليه ويستعين به فقال‪َ { :‬و َت َوكّلْ عَلَى ا ْل َ‬
‫حمْدِ ِه } أي‪ :‬اعبده وتوكل عليه في المور‬
‫ح ِب َ‬
‫سبّ ْ‬
‫الحياة الكاملة المطلقة { اّلذِي لَا َيمُوتُ َو َ‬
‫خبِيرًا } يعلمها ويجازي عليها‪.‬‬
‫عبَادِهِ َ‬
‫المتعلقة بك والمتعلقة بالخلق‪َ { .‬وكَفَى بِ ِه ِبذُنُوبِ ِ‬

‫فأنت ليس عليك من هداهم شيء وليس عليك حفظ أعمالهم‪ ،‬وإنما ذلك كله بيد ال { اّلذِي خََلقَ‬
‫ستَوَى } بعد ذلك { عَلَى ا ْل َعرْشِ } الذي هو‬
‫ستّ ِة َأيّامٍ ُثمّ ا ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ َومَا َب ْي َنهُمَا فِي ِ‬
‫ال ّ‬
‫حمَنِ } استوى على عرشه الذي وسع‬
‫سقف المخلوقات وأعلها وأوسعها وأجملها { ال ّر ْ‬
‫السماوات والرض باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع‬
‫المخلوقات‪ ،‬بأوسع الصفات‪ .‬فأثبت بهذه الية خلقه للمخلوقات واطلعه على ظاهرهم وباطنهم‬
‫وعلوه فوق العرش ومباينته إياهم‪.‬‬

‫خبِيرًا } يعني بذلك نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلله‪ ،‬وقد‬
‫سأَلْ بِ ِه َ‬
‫{ فَا ْ‬
‫أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا‬
‫جدُوا‬
‫سُ‬‫لجلله‪ ،‬واستكبر عن عبادته الكافرون واستنكفوا عن ذلك ولهذا قال‪ { :‬وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ْ‬
‫ن } أي‪ :‬وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم‪ { .‬قَالُوا } جحدا‬
‫لِل ّرحْمَ ِ‬
‫ن } بزعمهم الفاسد أنهم ل يعرفون الرحمن‪ ،‬وجعلوا من جملة قوادحهم في‬
‫حمَ ُ‬
‫وكفرا { َومَا الرّ ْ‬
‫الرسول أن قالوا‪ :‬ينهانا عن اتخاذ آلهة مع ال وهو يدعو معه إلها آخر يقول‪ " :‬يا رحمن "‬
‫سنَى‬
‫حْ‬‫سمَاءُ ا ْل ُ‬
‫ن َأيّا مَا َتدْعُوا فَلَ ُه ا ْلَأ ْ‬
‫ونحو ذلك كما قال تعالى‪ { :‬قُلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ا ْدعُوا ال ّرحْمَ َ‬
‫} فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله‪ ،‬فكل واحد منها دل على صفة كمال‪.‬‬

‫جدُ ِلمَا َت ْأ ُم ُرنَا } أي‪ :‬لمجرد أمرك إيانا‪ .‬وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول‬
‫سُ‬‫{ َأ َن ْ‬
‫واستكبارهم عن طاعته‪َ { ،‬وزَادَ ُهمْ } دعوتهم إلى السجود للرحمن { نُفُورًا } هربا من الحق‬
‫إلى الباطل وزيادة كفر وشقاء‪.‬‬

‫جعَلَ فِيهَا سِرَاجًا َوقَ َمرًا ُمنِيرًا * وَ ُهوَ‬


‫سمَاءِ ُبرُوجًا َو َ‬
‫جعَلَ فِي ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 62 - 61‬تبَا َركَ اّلذِي َ‬
‫شكُورًا }‬
‫ن َي ّذكّرَ َأوْ َأرَادَ ُ‬
‫ن َأرَادَ أَ ْ‬
‫جعَلَ الّليْلَ وَال ّنهَارَ خِلْفَ ًة ِلمَ ْ‬
‫اّلذِي َ‬
‫كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله‪َ { :‬تبَا َركَ } ثلث مرات لن معناها كما تقدم أنها تدل‬
‫على عظمة الباري وكثرة أوصافه‪ ،‬وكثرة خيراته وإحسانه‪ .‬وهذه السورة فيها من الستدلل‬
‫على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإحاطة ملكه في الحكام‬
‫المرية والحكام الجزائية وكمال حكمته‪ .‬وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة‬
‫جعَلَ‬
‫خيراته الدينية والدنيوية ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال‪َ { :‬تبَا َركَ اّلذِي َ‬
‫سمَا ِء ُبرُوجًا } وهي النجوم عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة‬
‫فِي ال ّ‬
‫وهي بمنزلة البروج والقلع للمدن في حفظها‪ ،‬كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة‬
‫فإنها رجوم للشياطين‪.‬‬

‫جعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } فيه النور والحرارة وهو الشمس‪َ { .‬و َق َمرًا ُمنِيرًا } فيه النور ل الحرارة‬
‫{ َو َ‬
‫وهذا من أدلة عظمته‪ ،‬وكثرة إحسانه‪ ،‬فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال‬
‫العظيم دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها‪ ،‬وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل‬
‫على كثرة خيراته‪.‬‬

‫جعَلَ الّليْلَ وَال ّنهَارَ خِلْفَ ًة } أي‪ :‬يذهب أحدهما فيخلفه الخر‪ ،‬هكذا أبدا ل يجتمعان‬
‫{ وَهُ َو اّلذِي َ‬
‫شكُورًا } أي‪ :‬لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر‬
‫ن َيذّ ّكرَ َأوْ َأرَادَ ُ‬
‫ن َأرَا َد أَ ْ‬
‫ول يرتفعان‪ِ { ،‬لمَ ْ‬
‫ويستدل بهما على كثير من المطالب اللهية ويشكر ال على ذلك‪ ،‬ولمن أراد أن يذكر ال‬
‫ويشكره وله ورد من الليل أو النهار‪ ،‬فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في الخر‪ ،‬وأيضا فإن‬
‫القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة‬
‫والقبض والبسط والقبال والعراض‪ ،‬فجعل ال الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران‬
‫ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر ل في وقت آخر‪ ،‬ولن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل‬
‫والنهار‪ ،‬فكما تكررت الوقات أحدث للعبد همة غير همته التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد‬
‫في تذكرها وشكرها‪ ،‬فوظائف الطاعات بمنزلة سقي اليمان الذي يمده فلول ذلك لذوى غرس‬
‫اليمان ويبس‪ .‬فلله أتم حمد وأكمله على ذلك‪.‬‬

‫ثم ذكر من جملة كثرة خيره منته على عباده الصالحين وتوفيقهم للعمال الصالحات التي‬
‫أكسبتهم المنازل العاليات في غرف الجنات فقال‪:‬‬

‫ن قَالُوا‬
‫ط َبهُ ُم ا ْلجَاهِلُو َ‬
‫ض هَ ْونًا وَِإذَا خَا َ‬
‫ن َي ْمشُونَ عَلَى ا ْلأَرْ ِ‬
‫حمَنِ اّلذِي َ‬
‫عبَادُ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ { } 77 - 63‬وَ ِ‬
‫ج َه ّنمَ إِنّ‬
‫عذَابَ َ‬
‫عنّا َ‬
‫ص ِرفْ َ‬
‫ن َر ّبنَا ا ْ‬
‫ن يَقُولُو َ‬
‫جدًا َو ِقيَامًا * وَاّلذِي َ‬
‫سّ‬‫ن َيبِيتُونَ ِل َر ّب ِهمْ ُ‬
‫سَلَامًا * وَاّلذِي َ‬
‫إلى آخر السورة الكريمة‪.‬‬ ‫ستَ َقرّا َومُقَامًا }‬
‫غرَامًا * ِإ ّنهَا سَاءَتْ ُم ْ‬
‫عذَا َبهَا كَانَ َ‬
‫َ‬

‫العبودية ل نوعان‪ :‬عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم‪ ،‬برهم‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ إِلّا آتِي‬
‫ن كُلّ َمنْ فِي ال ّ‬
‫وفاجرهم‪ ،‬فكلهم عبيد ل مربوبون مدبرون { إِ ْ‬
‫ع ْبدًا } وعبودية للوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد‬
‫ال ّرحْمَنِ َ‬
‫هنا ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب‬
‫رحمته‪ ،‬فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت‪ ،‬فوصفهم بأنهم { َي ْمشُونَ عَلَى‬
‫ا ْلَأرْضِ هَ ْونًا } أي‪ :‬ساكنين متواضعين ل والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع‬
‫ن } أي‪ :‬خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا‬
‫ط َب ُهمُ ا ْلجَاهِلُو َ‬
‫ل ولعباده‪ { .‬وَِإذَا خَا َ‬
‫الوصف‪ { ،‬قَالُوا سَلَامًا } أي‪ :‬خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الثم ويسلمون من مقابلة‬
‫الجاهل بجهله‪ .‬وهذا مدح لهم‪ ،‬بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالحسان والعفو عن الجاهل‬
‫ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال‪.‬‬

‫سجّدًا َو ِقيَامًا } أي‪ :‬يكثرون من صلة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين‬
‫{ وَاّلذِينَ َيبِيتُونَ ِل َر ّب ِهمْ ُ‬
‫ط َمعًا َو ِممّا َر َزقْنَا ُهمْ‬
‫خ ْوفًا َو َ‬
‫ن َر ّبهُمْ َ‬
‫ن ا ْل َمضَاجِعِ َيدْعُو َ‬
‫جنُو ُبهُمْ عَ ِ‬
‫له كما قال تعالى‪َ { :‬ت َتجَافَى ُ‬
‫ن}‬
‫جزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُو َ‬
‫ن َ‬
‫عيُ ٍ‬
‫س مَا ُأخْ ِفيَ َل ُه ْم مِنْ ُقرّ ِة أَ ْ‬
‫ُينْفِقُونَ فَلَا َتعَْلمُ نَفْ ٌ‬

‫ج َه ّنمَ } أي‪ :‬ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما‬


‫ب َ‬
‫عذَا َ‬
‫عنّا َ‬
‫صرِفْ َ‬
‫{ وَاّلذِينَ يَقُولُونَ َر ّبنَا ا ْ‬
‫غرَامًا } أي‪ :‬ملزما لهلها بمنزلة ملزمة‬
‫عذَا َبهَا كَانَ َ‬
‫وقع منا مما هو مقتض للعذاب‪ِ { .‬إنّ َ‬
‫الغريم لغريمه‪.‬‬

‫ستَ َقرّا َومُقَامًا } وهذا منهم على وجه التضرع لربهم‪ ،‬وبيان شدة حاجتهم إليه‬
‫ت ُم ْ‬
‫{ ِإ ّنهَا سَاءَ ْ‬
‫وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب‪ ،‬وليتذكروا منة ال عليهم‪ ،‬فإن صرف الشدة بحسب‬
‫شدتها وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها‪.‬‬

‫سرِفُوا } بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا‬


‫{ وَاّلذِينَ ِإذَا َأنْفَقُوا } النفقات الواجبة والمستحبة { َلمْ ُي ْ‬
‫في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة‪ { ،‬وََل ْم يَ ْق ُترُوا } فيدخلوا في باب البخل والشح { َوكَانَ‬
‫ن ذَِلكَ } بين السراف والتقتير { قَوَامًا } يبذلون في الواجبات من الزكوات‬
‫} إنفاقهم { َبيْ َ‬
‫والكفارات والنفقات الواجبة‪ ،‬وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ول ضرار‬
‫وهذا من عدلهم واقتصادهم‪.‬‬
‫خرَ } بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه‬
‫{ وَاّلذِينَ لَا َيدْعُونَ مَ َع اللّ ِه إَِلهًا آ َ‬
‫معرضين عما سواه‪.‬‬

‫ح ّرمَ اللّهُ } وهي نفس المسلم والكافر المعاهد‪ { ،‬إِلّا بِا ْلحَقّ } كقتل‬
‫ن النّفْسَ اّلتِي َ‬
‫{ وَلَا يَ ْقتُلُو َ‬
‫النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله‪.‬‬

‫ن يَ ْفعَلْ ذَِلكَ‬
‫ت َأ ْيمَا ُن ُهمْ } { َومَ ْ‬
‫ج ِهمْ أ ْو مَا مََلكَ ْ‬
‫ن } بل يحفظون فروجهم { إِلّا عَلَى َأزْوَا ِ‬
‫{ وَلَا َي ْزنُو َ‬
‫} أي‪ :‬الشرك بال أو قتل النفس التي حرم ال بغير حق أو الزنا فسوف { يَ ْلقَ َأثَامًا } ثم فسره‬
‫عفْ َلهُ ا ْل َعذَابُ َي ْومَ الْ ِقيَامَةِ َو َيخُْلدْ فِي ِه } أي‪ :‬في العذاب { ُمهَانًا } فالوعيد بالخلود‬
‫بقوله‪ُ { :‬يضَا َ‬
‫لمن فعلها كلها ثابت ل شك فيه وكذا لمن أشرك بال‪ ،‬وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل‬
‫واحد من هذه الثلثة لكونها إما شرك وإما من أكبر الكبائر‪.‬‬

‫وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه ل يتناوله الخلود لنه قد دلت النصوص القرآنية‬
‫والسنة النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ول يخلد فيها مؤمن ولو فعل من‬
‫المعاصي ما فعل‪ ،‬ونص تعالى على هذه الثلثة لنها من أكبر الكبائر‪ :‬فالشرك فيه فساد‬
‫الديان‪ ،‬والقتل فيه فساد البدان والزنا فيه فساد العراض‪.‬‬

‫ن تَابَ } عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من‬
‫{ إِلّا مَ ْ‬
‫ن } بال إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي‬
‫فعلها وعزم عزما جازما أن ل يعود‪ { ،‬وَآمَ َ‬
‫عمَلًا صَاِلحًا } مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه ال‪.‬‬
‫عمِلَ َ‬
‫وفعل الطاعات { وَ َ‬

‫ت } أي‪ :‬تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل‬


‫حسَنَا ٍ‬
‫سيّئَا ِت ِهمْ َ‬
‫{ َفأُوَل ِئكَ ُي َبدّلُ اللّ ُه َ‬
‫السيئات تتبدل حسنات‪ ،‬فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي‬
‫عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الية‪.‬‬

‫وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه ال ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة‬
‫حسنة فقال‪ : :‬يا رب إن لي سيئات ل أراها هاهنا " وال أعلم‪.‬‬

‫{ َوكَانَ اللّهُ غَفُورًا } لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة { َرحِيمًا } بعباده حيث دعاهم إلى التوبة‬
‫بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم‪.‬‬

‫عمِلَ صَاِلحًا َفِإنّهُ َيتُوبُ إِلَى اللّ ِه َمتَابًا } أي‪ :‬فليعلم أن توبته في غاية الكمال لنها‬
‫ن تَابَ وَ َ‬
‫{ َومَ ْ‬
‫رجوع إلى الطريق الموصل إلى ال الذي هو عين سعادة العبد وفلحه فليخلص فيها‬
‫وليخلصها من شوائب الغراض الفاسدة‪ ،‬فالمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة وإيقاعها‬
‫على أفضل الوجوه وأجلها ليقدم على من تاب إليه فيوفيه أجره بحسب كمالها‪.‬‬

‫شهَدُونَ الزّو َر } أي‪ :‬ل يحضرون الزور أي‪ :‬القول والفعل المحرم‪ ،‬فيجتنبون‬
‫{ وَاّلذِينَ لَا َي ْ‬
‫جميع المجالس المشتملة على القوال المحرمة أو الفعال المحرمة‪ ،‬كالخوض في آيات ال‬
‫والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر‬
‫وفرش الحرير‪ ،‬والصور ونحو ذلك‪ ،‬وإذا كانوا ل يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن‬
‫ل يقولوه ويفعلوه‪.‬‬

‫وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الية بالولوية‪ { ،‬وَِإذَا َمرّوا بِالّلغْ ِو } وهو‬
‫الكلم الذي ل خير فيه ول فيه فائدة دينية ول دنيوية ككلم السفهاء ونحوهم { َمرّوا ِكرَامًا }‬
‫أي‪ :‬نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإن كان ل إثم فيه فإنه‬
‫سفه ونقص للنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬وَِإذَا َمرّوا بِالّلغْ ِو } إشارة إلى أنهم ل يقصدون حضوره ول سماعه‪ ،‬ولكن عند‬
‫المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه‪.‬‬

‫صمّا‬
‫{ وَاّلذِينَ ِإذَا ُذكّرُوا بِآيَاتِ َر ّبهِ ْم } التي أمرهم باستماعها والهتداء بها‪َ { ،‬ل ْم َيخِرّوا عََل ْيهَا ُ‬
‫ع ْميَانًا } أي لم يقابلوها بالعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها‬
‫َو ُ‬
‫كما يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق‪ ،‬وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى‪ِ { :‬إ ّنمَا‬
‫س َت ْكبِرُونَ } يقابلونها‬
‫ح ْمدِ َربّ ِهمْ وَ ُهمْ لَا َي ْ‬
‫س ّبحُوا ِب َ‬
‫جدًا َو َ‬
‫سّ‬‫ن ِإذَا ُذ ّكرُوا ِبهَا خَرّوا ُ‬
‫ن بِآيَاتِنَا اّلذِي َ‬
‫يُ ْؤمِ ُ‬
‫بالقبول والفتقار إليها والنقياد والتسليم لها‪ ،‬وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها‬
‫إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا‪.‬‬

‫جنَا } أي‪ :‬قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات‪،‬‬


‫ن َأزْوَا ِ‬
‫ب َلنَا مِ ْ‬
‫{ وَاّلذِينَ يَقُولُونَ َر ّبنَا هَ ْ‬
‫ع ُينٍ } أي‪ :‬تقر بهم أعيننا‪.‬‬
‫{ َو ُذرّيّا ِتنَا قُرّ َة أَ ْ‬

‫وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم ل تقر أعينهم حتى يروهم‬
‫مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لزواجهم وذرياتهم في صلحهم فإنه دعاء‬
‫ب َلنَا } بل دعاؤهم يعود‬
‫لنفسهم لن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا‪ { :‬هَ ْ‬
‫إلى نفع عموم المسلمين لن بصلح من ذكر يكون سببا لصلح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع‬
‫بهم‪.‬‬
‫جعَ ْلنَا لِ ْل ُمتّقِينَ ِإمَامًا } أي‪ :‬أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية‪ ،‬درجة الصديقين والكمل‬
‫{ وَا ْ‬
‫من عباد ال الصالحين وهي درجة المامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم‬
‫وأفعالهم يقتدى بأفعالهم‪ ،‬ويطمئن لقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما ل يتم إل به‪ ،‬وهذه الدرجة ‪-‬درجة المامة في‬
‫ص َبرُوا‬
‫ن ِبَأمْ ِرنَا َلمّا َ‬
‫جعَ ْلنَاهم َأ ِئمّ ًة َي ْهدُو َ‬
‫الدين‪ -‬ل تتم إل بالصبر واليقين كما قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا يُوقِنُونَ } فهذا الدعاء يستلزم من العمال والصبر على طاعة ال وعن معصيته‬
‫وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين‪ ،‬خيرا كثيرا وعطاء‬
‫جزيل وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم بالمنازل‬
‫ص َبرُوا } أي‪ :‬المنازل الرفيعة والمساكن النيقة‬
‫ك ُيجْزَ ْونَ ا ْل ُغ ْرفَةَ ِبمَا َ‬
‫العاليات فقال‪ { :‬أُوَل ِئ َ‬
‫الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه العين وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالى‪:‬‬
‫ص َب ْرتُمْ َف ِن ْعمَ عُ ْقبَى الدّارِ } ولهذا قال هنا‬
‫ل بَابٍ سَلَامٌ عََل ْي ُكمْ ِبمَا َ‬
‫{ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َي ْدخُلُونَ عََل ْيهِمْ ِمنْ كُ ّ‬
‫حيّةً َوسَلَامًا } من ربهم ومن ملئكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون‬
‫{ َويُلَقّ ْونَ فِيهَا َت ِ‬
‫من جميع المنغصات والمكدرات‪.‬‬

‫والحاصل‪ :‬أن ال وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن الدب والحلم وسعة‬
‫الخلق والعفو عن الجاهلين والعراض عنهم ومقابلة إساءتهم بالحسان وقيام الليل والخلص‬
‫فيه‪ ،‬والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها وإخراج الواجب والمستحب في‬
‫النفقات والقتصاد في ذلك ‪ -‬وإذا كانوا مقتصدين في النفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه‬
‫أو الفراط‪ ،‬فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى‪ -‬والسلمة من كبائر الذنوب‬
‫والتصاف بالخلص ل في عبادته والعفة عن الدماء والعراض والتوبة عند صدور شيء‬
‫من ذلك‪ ،‬وأنهم ل يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية ول يفعلونها بأنفسهم‬
‫وأنهم يتنزهون من اللغو والفعال الردية التي ل خير فيها‪ ،‬وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم‬
‫وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي‪ ،‬وأنهم يقابلون آيات ال بالقبول لها والتفهم‬
‫لمعانيها والعمل بها‪ ،‬والجتهاد في تنفيذ أحكامها‪ ،‬وأنهم يدعون ال تعالى بأكمل الدعاء‪ ،‬في‬
‫الدعاء الذي ينتفعون به‪ ،‬وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صلح أزواجهم‬
‫وذريتهم‪ ،‬ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم ووعظهم ونصحهم لن من حرص على شيء‬
‫ودعا ال فيه ل بد أن يكون متسببا فيه‪ ،‬وأنهم دعوا ال ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي‬
‫درجة المامة والصديقية‪.‬‬
‫فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب‪ ،‬وأزكى تلك النفوس وأطهر‬
‫تلك القلوب وأصفى هؤلء الصفوة وأتقى هؤلء السادة"‬

‫ول‪ ،‬فضل ال عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم‪ ،‬ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل‪.‬‬

‫ول‪ ،‬منة ال على عباده أن بين لهم أوصافهم‪ ،‬ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم‪ ،‬وأوضح‬
‫لهم أجورهم‪ ،‬ليشتاقوا إلى التصاف بأوصافهم‪ ،‬ويبذلوا جهدهم في ذلك‪ ،‬ويسألوا الذي من‬
‫عليهم وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان‪ ،‬وفي كل وقت وأوان‪ ،‬أن يهديهم كما هداهم‬
‫ويتولهم بتربيته الخاصة كما تولهم‪.‬‬

‫فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث‪ ،‬ول حول ول قوة إل بك‪ ،‬ل‬
‫نملك لنفسنا نفعا ول ضرا ول نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا‪ ،‬فإنا‬
‫ضعفاء عاجزون من كل وجه‪.‬‬

‫نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة‪ ،‬فل نثق يا ربنا‬
‫إل برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة‬
‫وصرفت عنا من النقم‪ ،‬فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فل خاب من سألك‬
‫ورجاك‪.‬‬

‫ولما كان ال تعالى قد أضاف هؤلء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم‬
‫ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم ل يدخل في العبودية؟‬

‫فأخبر تعالى أنه ل يبالي ول يعبأ بغير هؤلء وأنه لول دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء‬
‫ف َيكُونُ‬
‫المسألة ما عبأ بكم ول أحبكم فقال‪ { :‬قُلْ مَا َي ْع َبأُ ِب ُكمْ َربّي لَوْلَا دُعَا ُؤ ُكمْ فَ َقدْ َك ّذ ْب ُتمْ فَسَ ْو َ‬
‫ِلزَامًا} أي‪ :‬عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم ال بينكم وبين عباده المؤمنين‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الفرقان‪،‬‬


‫فلله الحمد والثناء والشكر أبدا‪.‬‬

‫سورة الشعراء‬

‫‪1‬‬
‫" طسم "( )‬
‫(طسم) سبق الكلم على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ك آيَاتُ ا ْل ِكتَابِ ا ْلمُبِينِ "( )‬
‫" تِ ْل َ‬
‫هذه آيات القرآن الموضّح لكل شيء الفاصل بين الهدى والضلل‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ل يَكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ "( )‬
‫سكَ َأ ّ‬
‫ك بَاخِ ٌع َنفْ َ‬
‫" َلعَّل َ‬
‫لعلك ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬من شدة حرصك على هدايتهم ُمهْلِك نفسك ؛ لنهم لم يصدّقوا بك ولم يعملوا بهديك ‪ ،‬فل تفعل ذلك‪.‬‬

‫ن "( )‬ ‫ضعِي َ‬ ‫‪4‬‬


‫عنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫سمَا ِء آيَةً َفظَّلتْ أَ ْ‬
‫عَليْهِ ْم مِنَ ال ّ‬
‫ن نَشَأْ ُننَزّلْ َ‬
‫" ِإ ْ‬
‫إن نشأ ننزل على المكذبين من قومك من الماء معجزة مخوّفة لهم تلجئهم إلى اليمان ‪ ،‬فتصير أعناقهم خاضعة ذليلة ‪ ،‬ولكننا لم نشأ‬
‫ذلك; فإن اليمان النافع هو اليمان بالغيب اختيارًا‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫عنْ ُه ُمعْرِضِينَ "( )‬
‫ل كَانُوا َ‬
‫ن مُحْ َدثٍ ِإ ّ‬
‫حمَ ِ‬
‫" َومَا يَ ْأتِيهِ ْم مِنْ ِذكْ ٍر مِنَ الرّ ْ‬
‫وما يجيء هؤلء المشركين المكذبين مِن ِذكْرٍ من الرحمن مُحْدَث إنزاله ‪ ،‬شيئًا بعد شيء ‪ ،‬يأمرهم وينهاهم ‪ ،‬ويذكرهم بالدين الحق إل‬
‫أعرضوا عنه‪ ,‬ولم يقبلوه‪.‬‬

‫ن "( )‬ ‫‪6‬‬
‫سيَ ْأتِيهِمْ َأنْبَا ُء مَا كَانُوا بِ ِه يَسْ َتهْ ِزئُو َ‬
‫" َفقَ ْد كَ ّذبُوا فَ َ‬
‫فقد كذّبوا بالقرآن واستهزؤوا به‪ ,‬فسيأتيهم أخبار المر الذي كانوا يستهزئون به ويسخرون منه‪ ,‬وسيحلّ بهم العذاب جزاء تمردهم على‬
‫ربهم‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ج كَرِيمٍ "( )‬
‫ن كُلّ َز ْو ٍ‬
‫ض كَمْ َأ ْن َبتْنَا فِيهَا مِ ْ‬
‫" َأوََل ْم يَرَوْا إِلَى الَْرْ ِ‬

‫‪8‬‬
‫ن "( )‬
‫ك لَيَ ًة َومَا كَانَ َأ ْكثَرُهُ ْم مُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫" ِإنّ فِي َذِل َ‬

‫‪9‬‬
‫" وَإِنّ َرّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِي ُم "( )‬
‫أكذبوا ولم ينظروا إلى الرض التي أنبتنا فيها من كل نوع حسن نافع من النبات‪ ,‬ل يقدر على إنباته إل رب العالمين؟ إن في إخراج‬
‫النبات من الرض لَدللة واضحة على كمال قدرة ال‪ ,‬وما كان أكثر القوم مؤمنين‪ .‬وإن ربك لهو العزيز على كل مخلوق‪ ,‬الرحيم الذي‬
‫وسعت رحمته كل شيء‪.‬‬

‫)‬‫" وَإِ ْذ نَادَى َرّب َك مُوسَى أَ ِن ا ْئتِ اْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ "(‪10‬‬
‫ن "(‪)11‬‬ ‫ل َيتّقُو َ‬
‫عوْنَ َأ َ‬
‫" َقوْمَ فِ ْر َ‬
‫واذكر ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬لقومك إذ نادى ربك موسى‪ :‬أن ائت القوم الظالمين‪ ,‬قوم فرعون ‪ ,‬وقل لهم‪ :‬أل يخافون عقاب ال تعالى ‪,‬‬
‫ويتركون ما هم عليه من الكفر والضلل؟‬

‫)‬ ‫" قَالَ َربّ ِإنّي أَخَافُ َأ ْن يُكَ ّذبُونِ "(‪12‬‬


‫)‬‫" َويَضِيقُ َصدْرِي َولَ َي ْنطَِلقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُو َن "(‪13‬‬
‫ن يَ ْقتُلُونِ "(‪)14‬‬ ‫علَيّ َذ ْنبٌ َفأَخَافُ َأ ْ‬
‫" وََلهُمْ َ‬
‫قال موسى‪ :‬رب إني أخاف أن يكذبوني في الرسالة‪ ,‬ويمل صدري الغ ّم لتكذيبهم إياي ‪ ,‬ول ينطلق لساني بالدعوة فأرسِلْ جبريل بالوحي‬
‫إلى أخي هارون ؛ ليعاونني‪ .‬ولهم علي ذنب في قتل رجل منهم‪ ,‬وهو القبطي‪ ,‬فأخاف أن يقتلوني به‪.‬‬

‫" قَا َل كَلّ فَاذْ َهبَا بِآيَاتِنَا ِإنّا َمعَكُ ْم مُسَْت ِمعُو َن "(‪15‬‬
‫)‬

‫عوْنَ َفقُولَ ِإنّا رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ "(‪)16‬‬ ‫" فَ ْأ ِتيَا فِرْ َ‬

‫ل َم َعنَا َبنِي إِسْرَائِيلَ "(‪)17‬‬ ‫" َأنْ أَرْسِ ْ‬


‫ل لن يقتلوك‪ ,‬وقد أجبت طلبك في هارون‪ ,‬فاذهبا بالمعجزات الدالة على صدقكما ‪ ,‬إنا معكم بالعلم والحفظ والنصرة‬
‫قال ال لموسى‪ :‬ك ّ‬
‫مستمعون‪ .‬فأ ِتيَا فرعون فقول له‪ :‬إنا مرسَلن إليك وإلى قومك من رب العالمين‪ :‬أن اترك بني إسرائيل ؛ ليذهبوا معنا‪.‬‬

‫)‬‫" قَالَ أَلَ ْم نُ َرّبكَ فِينَا وَلِيدًا وََلِب ْثتَ فِينَا مِنْ ُعمُ ِركَ ِسنِي َن "(‪18‬‬
‫ن "(‪)19‬‬ ‫ت مِنَ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫" وَ َفعَ ْلتَ َفعَْل َتكَ اّلتِي َفعَ ْلتَ وََأ ْن َ‬
‫عمُرك وارتكبت جناي ًة بقتلك رجلً من‬
‫قال فرعون لموسى ممتنًا عليه‪ :‬ألم نُ َربّك في منازلنا صغيرًا ‪ ,‬ومكثت في رعايتنا سنين من ُ‬
‫قومي حين ضربته ودفعته‪ ,‬وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي؟‬
‫ن "(‪)20‬‬ ‫ضال ِّي َ‬‫ن ال َّ‬ ‫م َ‬‫ل فَعَلْتُهَا إِذ ًا وَأَنَا ِ‬‫" قَا َ‬
‫ن "(‪)21‬‬
‫سل ِي َ‬
‫مْر َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬
‫م َ‬ ‫َ‬
‫جعَلن ِي ِ‬‫ما وَ َ‬ ‫ْ‬
‫حك ً‬ ‫ب ل ِي َربِّي ُ‬ ‫م فَوَهَ َ‬ ‫ُ‬
‫خفْتُك ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫م ل َ َّ‬
‫منْك ُ ْ‬
‫ت ِ‬ ‫" فَفََرْر ُ‬
‫ة ت َمنُّها ع َل َ َ َ‬ ‫" وَتِل ْ َ‬
‫ل "(‪)22‬‬ ‫سَرائِي َ‬
‫ت بَنِي إ ِ ْ‬‫ن ع َبَّد ْ َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫م ٌ ُ َ‬ ‫ك نِعْ َ‬
‫ت قبل أن يوحي‬ ‫ت ما ذكر َ‬
‫قال موسى مجيبًا لفرعون‪ :‬فعل ُ‬
‫الله إلي ‪ ,‬ويبعثني رسوًل ‪ ,‬فخرجت من بينكم فاًّرا إلى‬
‫مد ‪,‬‬ ‫ت من غير ع َ ْ‬‫ما خفت أن تقتلوني بما فعل ُ‬‫"مدين" ‪ ,‬ل َّ‬
‫فوهب لي ربي تفضًل منه النبوة والعلم‪ ,‬وجعلني من‬
‫ي‪,‬‬‫المرسلين‪ .‬وتلك التربية في بيتك تَعُدُّها نعمة منك عل َّ‬
‫وقد جعلت بني إسرائيل عبيدًا تذبح أبناءهم وتستحيي‬
‫نساءهم؟‬
‫ن "(‪)23‬‬ ‫ب الْعَال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ما َر ُّ‬
‫ن وَ َ‬ ‫" قَا َ‬
‫ل ِفْرع َوْ ُ‬
‫قال فرعون لموسى‪ :‬وما رب العالمين الذي تدَّعي أنك‬
‫رسوله؟‬
‫َْ‬ ‫ل َر ُّ‬
‫ن "(‪)24‬‬
‫موقِنِي َ‬ ‫ن كُنْت ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ما إ ِ ْ‬
‫ما بَيْنَهُ َ‬ ‫ت وَالْر ِ‬
‫ض وَ َ‬ ‫ماوَا ِ‬ ‫ب ال َّ‬
‫س َ‬ ‫" قَا َ‬
‫قال موسى‪ :‬هو مالك ومدبر السموات والرض وما بينهما‬
‫منوا‪.‬‬
‫‪ ,‬إن كنتم موقنين بذلك ‪ ,‬فآ ِ‬
‫ل ل ِمن حول َ َ‬
‫ن "(‪)25‬‬
‫معُو َ‬ ‫ه أَل ت َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫" قَا َ َ ْ َ ْ ُ‬
‫من أشراف قومه‪ :‬أل تسمعون‬
‫قال فرعون لمن حوله ِ‬
‫مقالة موسى العجيبة بوجود رب سواي؟‬
‫َ‬
‫م اْلوَّل ِي َ‬
‫ن "(‪)26‬‬ ‫م وََر ُّ‬
‫ب آبَائِك ُ ُ‬ ‫ل َربُّك ُ ْ‬
‫" قَا َ‬
‫قال موسى‪ :‬الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلقكم‬
‫من هو مخلوق‬ ‫وخلق أباءكم الولين‪ ,‬فكيف تعبدون َ‬
‫مثلكم‪ ,‬وله آباء قد فنوا كآبائكم؟‬
‫َ‬
‫ن "(‪)27‬‬
‫جنُو ٌ‬
‫م ْ‬ ‫ل إِلَيْك ُ ْ‬
‫م لَ َ‬ ‫م ال ّذِي أُْر ِ‬
‫س َ‬ ‫سولَك ُ ُ‬ ‫ل إ ِ َّ‬
‫ن َر ُ‬ ‫" قَا َ‬
‫قال فرعون لخاصته يستثير غضبهم ؛ لتكذيب موسى إياه‪:‬‬
‫ما ل‬
‫إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‪ ,‬يتكلم كل ً‬
‫قل!‬
‫يُعْ َ‬
‫م تَعْقِلُو َ‬
‫ن "(‪)28‬‬ ‫ن كُنْت ُ ْ‬
‫ما إ ِ ْ‬
‫ما بَيْنَهُ َ‬
‫ب وَ َ‬ ‫ق وَال ْ َ‬
‫مغْرِ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫م ْ‬
‫شرِ ِ‬ ‫ل َر ُّ‬
‫" قَا َ‬
‫قال موسى‪ :‬رب المشرق والمغرب وما بينهما وما يكون‬
‫فيهما من نور وظلمة‪ ,‬وهذا يستوجب اليمان به وحده إن‬
‫كنتم من أهل العقل والتدبر!‬
‫ن "(‪)29‬‬
‫جونِي َ‬
‫س ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬ ‫ت إِلَهًا غَيْرِي َل َ ْ‬
‫جعَلَن َّ َ‬ ‫خذ ْ َ‬ ‫ل لَئ ِ ِ‬
‫ن ات َّ َ‬ ‫" قَا َ‬
‫قال فرعون لموسى مهددًا له‪ :‬لئن اتخذت إلهًا غيري‬
‫من سجنت‪.‬‬
‫لسجننك مع َ‬
‫" قَا َ َ‬
‫ن "(‪)30‬‬
‫مبِي ٍ‬
‫يءٍ ُ‬
‫ش ْ‬ ‫ل أوَلَوْ ِ‬
‫جئْت ُ َ‬
‫ك بِ َ‬
‫قال موسى‪ :‬أتجعلني من المسجونين‪ ,‬ولو جئتك ببرهان‬
‫قاطع يتبين منه صدقي؟‬
‫" قَا َ ْ‬
‫ن "(‪)31‬‬ ‫ن ال َّ‬
‫صادِقِي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن كُن ْ َ‬
‫ت ِ‬ ‫ل فَأ ِ‬
‫ت بِهِ إ ِ ْ‬
‫قال فرعون‪ :‬فأت به إن كنت من الصادقين في دعواك‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)32‬‬‫مبِي ٌ‬
‫ن ُ‬ ‫صاه ُ فَإِذ َا ه ِ َ‬
‫ي ثُعْبَا ٌ‬ ‫" فَألْقَى ع َ َ‬
‫ضاءُ ل ِلن ّاظِرِي َ‬
‫ن "(‪)33‬‬ ‫َ‬ ‫ي بَي ْ َ‬ ‫َ‬
‫" وَنََزع َ يَدَه ُ فإِذ َا ه ِ َ‬
‫فألقى موسى عصاه فتحولت ثعبانًا حقيقيًا‪ ,‬ليس تمويهًا‬
‫من جيبه فإذا هي بيضاء‬ ‫كما يفعل السحرة‪ ,‬وأخرج يده ِ‬
‫كالثلج من غير برص ‪ ,‬تَبْهَر الناظرين‪.‬‬
‫م "(‪)34‬‬ ‫حر عَل ِي ٌ‬ ‫ن هَذ َا ل َ َ‬
‫سا ِ‬ ‫حول َ ُ‬
‫ه إ َّ‬ ‫مَل ِ َ‬
‫ل ل ِل ْ َ‬
‫" قَا َ‬
‫ن "(‪)35‬‬ ‫رو‬‫م‬ ‫خر ْجك ُم ِ من أ َرضك ُم ٌبسحره فَماذ َا تأ ْ‬ ‫َ‬
‫َ ُ ُ َ‬ ‫" يُرِي ُ ْ ُ ِ َ ْ ِ ْ ْ ِ ْ ِ ِ ْ ِ ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫د‬
‫قال فرعون لشراف قومه خشية أن يؤمنوا‪ :‬إن موسى‬
‫لَساحر ماهر ‪ ,‬يريد أن يخرجكم بسحره من أرضكم ‪ ,‬فأي‬
‫شيء تشيرون به في شأنه أتبع رأيكم فيه؟‬
‫ن "(‪)36‬‬
‫شرِي َ‬
‫حا ِ‬
‫ن َ‬ ‫ث فِي ال ْ َ‬
‫مد َائِ ِ‬ ‫خاه ُ وَابْعَ ْ‬ ‫وَأ َ َ‬ ‫ه‬
‫ج ْ‬
‫َ‬
‫" قَالُوا أْر ِ‬
‫حارٍ عَل ِيم ٍ "(‪)37‬‬‫س َّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ك بِك ُ ِّ‬‫" يَأْتُو َ‬

‫ل في‬‫س ْ‬
‫خر أمر موسى وهارون‪ ,‬وأر ِ‬ ‫قال له قومه‪ :‬أ ِّ‬
‫من أجاد‬ ‫المدائن جندًا جامعين للسحرة‪ ,‬يأتوك بك ِّ‬
‫ل َ‬
‫السحر ‪ ,‬وتفوَّق في معرفته‪.‬‬
‫معْلُوم ٍ "(‪)38‬‬
‫ت يَوْم ٍ َ‬ ‫ميقَا ِ‬ ‫حَرة ُ ل ِ ِ‬ ‫معَ ال َّ‬
‫س َ‬ ‫ج ِ‬‫" فَ ُ‬
‫ن "(‪)39‬‬ ‫ل ل ِلنَّاس هَ ْ َ‬ ‫َ‬
‫معُو َ‬ ‫جت َ ِ‬
‫م ْ‬
‫م ُ‬‫ل أنْت ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫" وَقِ‬
‫حدِّد لهم وقت معلوم ‪ ,‬هو وقت الضحى‬ ‫جمع السحرة ‪ ,‬و ُ‬ ‫فَ ُ‬
‫من يوم الزينة الذي يتفرغون فيه من أشغالهم ‪,‬‬
‫ح َّ‬
‫ث الناس‬ ‫ويجتمعون ويتزيَّنون؛ وذلك للجتماع بموسى‪ .‬و ُ‬
‫على الجتماع; أمًل في أن تكون الغلبة للسحرة‪.‬‬
‫َ‬
‫م الْغَال ِبِي َ‬
‫ن "(‪)40‬‬ ‫ن كَانُوا هُ ُ‬
‫حَرة َ إ ِ ْ‬ ‫" لَعَل ّنَا نَتَّبِعُ ال َّ‬
‫س َ‬
‫إننا نطمع أن تكون الغلبة للسحرة ‪ ,‬فنثبت على ديننا‪.‬‬
‫ن الْغَال ِبِي َ‬
‫ن "(‪)41‬‬ ‫ن كُنَّا ن َ ْ‬
‫ح ُ‬ ‫جًرا إ ِ ْ‬ ‫ن أَئِ َّ‬
‫ن لَنَا َل َ ْ‬ ‫حَرة ُ قَالُوا ل ِ ِفْرع َوْ َ‬ ‫جاءَ ال َّ‬
‫س َ‬ ‫" فَل َ َّ‬
‫ما َ‬
‫من مال‬
‫فلما جاء السحرة فرعون قالوا له‪ :‬أإن لنا لجًرا ِ‬
‫ن كنا نحن الغالبين لموسى؟‬
‫أو جاه ‪ ,‬إ ْ‬
‫ن "(‪)42‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مقََّربِي َ‬ ‫م إِذ ًا ل َ ِ‬
‫م َ‬ ‫م وَإِنَّك ُ ْ‬ ‫" قَا َ‬
‫ل نَعَ ْ‬
‫من أجر ‪ ,‬وإنكم‬
‫قال فرعون‪ :‬نعم لكم عندي ما طلبتم ِ‬
‫حينئذ لمن المقربين لديَّ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ملْقُو َ‬
‫ن "(‪)43‬‬ ‫م ُ‬ ‫سى ألْقُوا َ‬
‫ما أنْت ُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ل لَهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫" قَا َ‬
‫قال موسى للسحرة مريدًا إبطال سحرهم وإظهار أن ما‬
‫جاء به ليس سحًرا‪ :‬ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر‪.‬‬
‫َ‬
‫ن الْغَال ِبُو َ‬
‫ن "(‪)44‬‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَقَالُوا بِعَِّزةِ فِْرعَوْ َ‬
‫ن إِنَّا لَن َ ْ‬ ‫صيَّهُ ْ‬
‫ع ِ‬ ‫حبَالَهُ ْ‬
‫م وَ ِ‬ ‫" فَألْقَوْا ِ‬
‫خيِّل للناس أنها حيَّات تسعى‪,‬‬
‫فألَقوا حبالهم وعصيَّهم‪ ,‬و ُ‬
‫وأقسموا بعزة فرعون قائلين‪ :‬إننا لنحن الغالبون‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما يَأفِكُو َ‬
‫ن "(‪)45‬‬ ‫ي تَلْقَ ُ‬
‫ف َ‬ ‫صاه ُ فَإِذ َا ه ِ َ‬
‫سى ع َ َ‬ ‫" فَألْقَى ُ‬
‫مو َ‬
‫فألقى موسى عصاه‪ ,‬فإذا هي حية عظيمة‪ ,‬تبتلع ما صدر‬
‫منهم من إفك وتزوير‪.‬‬
‫ُ‬
‫ن "(‪)46‬‬
‫جدِي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫حَرة ُ َ‬‫س َ‬‫ي ال َّ‬ ‫" فَألْقِ َ‬
‫ن "(‪)47‬‬
‫مي َ‬‫ب الْعَال َ ِ‬
‫منَّا بَِر ِّ‬
‫" قَالُوا آ َ‬
‫ن "(‪)48‬‬ ‫سى وَهَاُرو َ‬ ‫مو َ‬ ‫ب ُ‬‫" َر ِّ‬
‫فلما شاهدوا ذلك ‪ ,‬وعلموا أنه ليس من تمويه السحرة‪,‬‬
‫آمنوا بالله وسجدوا له ‪ ,‬وقالوا‪ :‬آمنَّا برب العالمين رب‬
‫موسى وهارون‪.‬‬
‫ف تَعل َمون َلُقَط ّع َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل آمنْت ُم ل َه قَب َ َ‬
‫ن أيْدِيَك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ِ َ ّ‬ ‫سوْ َ ْ ُ َ‬ ‫حَر فَل َ َ‬
‫س ْ‬
‫م ال ِّ‬ ‫م ال ّذِي ع َل ّ َ‬
‫مك ُ ُ‬ ‫ه لَكَبِيُرك ُ ُ‬
‫م إِن َّ ُ‬ ‫ن لَك ُ ْ‬ ‫ن آذ َ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫" قَا َ َ ْ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)49‬‬ ‫معِي َ‬‫ج َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ‬
‫صل ِبَن ّك ْ‬
‫ف وَل َ‬ ‫خَل ٍ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫جلَك ُ ْ‬
‫وَأْر ُ‬
‫قال فرعون للسحرة مستنكًرا‪ :‬آمنتم لموسى بغير إذن‬
‫ن فِعْل موسى سحر‪ :‬إنه لكبيركم‬‫ما أ َّ‬
‫وقال موه ً‬ ‫مني ‪,‬‬
‫َّ‬
‫الذي علمكم السحر ‪ ,‬فلسوف تعلمون ما ينزل بكم من‬
‫ن أيديكم وأرجلكم من خلف‪ :‬بقطع اليد‬ ‫عقاب‪ :‬لقطع َّ‬
‫اليمنى والرجل اليسرى أو عكس ذلك ‪ ,‬ولصلبنَّكم‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫ن "(‪)50‬‬ ‫ضيَْر إِنَّا إِلَى َرب ِّنَا ُ‬
‫منْقَل ِبُو َ‬ ‫" قَالُوا َل َ‬
‫ن "(‪)51‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن كُنَّا أَوَّ َ‬
‫ل ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫خطَايَانَا أ ْ‬
‫ن يَغْفَِر لَنَا َربُّنَا َ‬ ‫َ‬
‫" إِنَّا نَط ْ َ‬
‫معُ أ ْ‬
‫قال السحرة لفرعون‪ :‬ل ضرر علينا فيما يلحقنا من‬
‫عقاب الدنيا‪ ,‬إنا راجعون إلى ربنا فيعطينا النعيم المقيم‪.‬‬
‫إنا نرجو أن يغفر لنا ربنا خطايانا من الشرك وغيره;‬
‫لكوننا أول المؤمنين في قومك‪.‬‬
‫" وأَوحينَا إلَى موسى أ َ َ‬
‫متَّبَعُو َ‬
‫ن "(‪)52‬‬ ‫سرِ بِعِبَادِي إِنَّك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫نأ ْ‬‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َ ْ ِ‬
‫سْر ليًل بمن آمن‬ ‫َ‬
‫وأوحى الله إلى موسى عليه السلم‪ :‬أ ْ‬
‫ن ِ‬
‫من بني إسرائيل؛ لن فرعون وجنوده متبعوكم حتى ل‬
‫يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)53‬‬
‫شرِي َ‬
‫حا ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن فِي ال ْ َ‬
‫مدَائ ِ ِ‬ ‫ل فِْرعَوْ ُ‬ ‫" فَأْر َ‬
‫س َ‬
‫فأرسل فرعون جنده‪ -‬حين بلغه مسير بني إسرائيل‪-‬‬
‫يجمعون جيشه من مدائن مملكته‪.‬‬
‫ة قَل ِيلُو َ‬
‫ن "(‪)54‬‬ ‫م ٌ‬
‫شْرذِ َ‬ ‫هؤَُلءِ ل َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫" إ ِ َّ‬
‫ن "(‪)55‬‬ ‫َ‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫َائِظ‬ ‫غ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫" وَإ ِ ّ ُ ْ َ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫ن "(‪)56‬‬ ‫ج ِ ٌ َ ُ َ‬
‫رو‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫حا‬ ‫ع‬ ‫مي‬ ‫" وَإِنَّا ل َ َ‬
‫قال فرعون‪ :‬إن بني اسرائيل الذين فُّروا مع موسى‬
‫لَطائفة حقيرة قليلة العدد ‪ ,‬وإنهم لمالئون صدورنا غيظًا؛‬
‫حيث خالفوا ديننا‪ ,‬وخرجوا بغير إذننا‪ ,‬وإنا لجميع متيقظون‬
‫مستعدون لهم‪.‬‬
‫ن "(‪)57‬‬
‫ت وَع ُيُو ٍ‬ ‫جنَّا ٍ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جنَاهُ ْ‬ ‫" فَأ َ ْ‬
‫خَر ْ‬
‫مقَام ٍ كَرِيم ٍ "(‪)58‬‬ ‫" وَكُنُوزٍ َو َ‬
‫ل "(‪)59‬‬‫سَرائِي َ‬ ‫إ‬ ‫نِي‬ ‫ب‬ ‫َا‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫رثْن‬ ‫" كَذَل ِ َ َ‬
‫ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك وَأ ْ َ‬
‫و‬
‫فأخرج الله فرعون وقومه من أرض "مصر" ذات‬
‫البساتين وعيون الماء وخزائن المال والمنازل الحسان‪.‬‬
‫وكما أخرجناهم ‪ ,‬جعلنا هذه الديار من بعدهم لبني‬
‫إسرائيل‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)60‬‬ ‫م ْ‬
‫شرِقِي َ‬ ‫" فَأتْبَعُوهُ ْ‬
‫م ُ‬
‫من معه وقت شروق‬
‫فلحق فرعون وجنده موسى و َ‬
‫الشمس‪.‬‬
‫ما تراءَى ال ْجمعان قَا َ َ‬
‫سى إِنَّا ل َ ُ‬
‫مدَْركُو َ‬
‫ن "(‪)61‬‬ ‫مو َ‬
‫ب ُ‬
‫حا ُ‬
‫ص َ‬
‫لأ ْ‬ ‫َ ْ َ ِ‬ ‫" فَل َ َّ َ َ‬
‫فلما رأى كل واحد من الفريقين الخر قال أصحاب‬
‫مدْرِكنا ومهلكنا‪.‬‬
‫معَ فرعون ُ‬
‫ج ْ‬ ‫موسى‪ :‬إ َّ‬
‫ن َ‬
‫ن "(‪)62‬‬
‫سيَهْدِي ِ‬
‫ي َربِّي َ‬
‫معِ َ‬ ‫ل كََّل إ ِ َّ‬
‫ن َ‬ ‫" قَا َ‬
‫َ‬
‫قال موسى لهم‪ :‬ك ّل ليس المر كما ذكرتم فلن تُدَْركوا;‬
‫إن معي ربي بالنصر ‪ ,‬سيهديني لما فيه نجاتي ونجاتكم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ن ك ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق كَالط ّوْد ِ الْعَظِيمِ‬
‫ل فِْر ٍ‬ ‫حَر فَانْفَلَقَ فَكَا َ‬
‫ك الْب َ ْ‬
‫صا َ‬
‫ب بِعَ َ‬
‫ضرِ ْ‬
‫نا ْ‬
‫سى أ ِ‬ ‫حيْنَا إِلَى ُ‬
‫مو َ‬ ‫" فَأوْ َ‬
‫"(‪)63‬‬
‫فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ‪ ,‬فضرب ‪,‬‬
‫فانفلق البحر إلى اثني عشر طريًقا بعدد قبائل بني‬
‫إسرائيل ‪ ,‬فكانت كل قطعة انفصلت من البحر كالجبل‬
‫العظيم‪.‬‬

‫ن "(‪)64‬‬ ‫خرِي َ‬‫م اْل َ‬‫" وَأَْزلَفْنَا ث َ َّ‬


‫ن "(‪)65‬‬ ‫" وأَنجينا موسى ومن مع َ‬
‫معِي َ‬
‫ج َ‬
‫هأ ْ‬ ‫َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َ ْ َ َْ ُ َ‬
‫ن "(‪)66‬‬ ‫خرِي َ‬‫م أَغَْرقْنَا اْل َ‬ ‫" ث ُ َّ‬
‫وقَّربْنا هناك فرعون وقومه حتى دخلوا البحر‪ ,‬وأنجينا‬
‫من معه أجمعين‪ .‬فاستمر البحر على انفلقه‬ ‫موسى و َ‬
‫حتى عبروا إلى البر ‪ ,‬ثم أغرقنا فرعون ومن معه بإطباق‬
‫البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه‪.‬‬
‫ة وما كَا َ‬
‫ن "(‪)67‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن أكْثَُرهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫ك َلي َ ً َ َ‬ ‫" إ ِ َّ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬
‫إن في ذلك الذي حدث لَعبرة عجيبة دالة على قدرة الله ‪,‬‬
‫وما صار أكثر أتباع فرعون مؤمنين مع هذه العلمة‬
‫الباهرة‪.‬‬

‫م "(‪)68‬‬ ‫ك لَهُوَ الْعَزِيُز الَّر ِ‬


‫حي ُ‬ ‫ن َرب َّ َ‬
‫" وَإ ِ َّ‬
‫وإن ربك لهو العزيز الرحيم‪ ,‬بعزته أهلك الكافرين‬
‫من معه أجمعين‪.‬‬‫جى موسى و َ‬ ‫المكذبين ‪ ,‬وبرحمته ن َّ‬
‫َ‬
‫م "(‪)69‬‬ ‫ل ع َلَيْهِ ْ‬
‫م نَبَأ إِبَْراهِي َ‬ ‫" وَات ْ ُ‬
‫ن "(‪)70‬‬
‫ما تَعْبُدُو َ‬ ‫َ‬
‫" إِذ ْ قَال ِلبِيهِ وَقوْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مهِ َ‬
‫واقصص على الكافرين ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬خبر إبراهيم حين‬
‫قال لبيه وقومه‪ :‬أي شيء تعبدونه؟‬
‫" قَالُوا نَعْبُد ُ أ َصنَاما فَنَظ َ ُّ‬
‫ل لَهَا عَاكِفِي َ‬
‫ن "(‪)71‬‬ ‫ْ ً‬
‫ما ‪ ,‬فنَعْكُف على عبادتها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نعبد أصنا ً‬
‫معُونَك ُ ْ‬
‫م إِذ ْ تَدْع ُو َ‬
‫ن "(‪)72‬‬ ‫س َ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫" قَا َ‬
‫ل هَ ْ‬
‫" أَو ينفَعونك ُ َ‬
‫ضُّرو َ‬
‫ن "(‪)73‬‬ ‫م أو ْ ي َ ُ‬
‫ْ َْ ُ َ ْ‬
‫قال إبراهيم منبهًا على فساد مذهبهم‪ :‬هل يسمعون‬
‫دّمون لكم نفعًا إذا عبدتموهم ‪,‬‬
‫دعاءكم إذ تدعونهم‪ ,‬أو يق ِ‬
‫أو يصيبونكم بضر إذا تركتم عبادتهم؟‬

‫ك يَفْعَلُو َ‬
‫ن "(‪)74‬‬ ‫جدْنَا آبَاءَنَا كَذَل ِ َ‬ ‫" قَالُوا ب َ ْ‬
‫ل وَ َ‬
‫قالوا‪ :‬ل يكون منهم شيء من ذلك ‪ ,‬ولكننا وجدنا آباءنا‬
‫َ‬
‫يعبدونهم‪ ,‬فقل ّدناهم فيما كانوا يفعلون‪.‬‬
‫قَا َ َ َ‬
‫ن "(‪)75‬‬ ‫م تَعْبُدُو َ‬ ‫ما كُنْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل أفََرأيْت ُ ْ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)76‬‬ ‫مو َ‬ ‫م اْلقْ َد َ ُ‬ ‫م وَآبَاؤ ُك ُ ُ‬ ‫أنْت ُ ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)77‬‬ ‫مي َ‬‫ب الْعَال َ ِ‬ ‫م عَدُوٌّ لِي إ ِ ّل َر َّ‬ ‫فَ َإِنَّهُ ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)78‬‬ ‫خلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِي ِ‬ ‫ال ّذِي َ‬
‫َ‬
‫"‬
‫ن "(‪)79‬‬ ‫سقِي ِ‬ ‫منِي وَي َ ْ‬ ‫َوال ّذِي هُوَ يُطعِ ُ‬
‫ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)80‬‬ ‫في ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ت فَهُوَ ي َ ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫مرِ ْ‬ ‫وَإ ِ َذ َا َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)81‬‬ ‫حيِي ِ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫ميتُنِي ث ُ َّ‬ ‫َوال ّذِي ي ُ ِ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)82‬‬
‫دّي ِ‬ ‫خطِيئَتِي يَوْ َ‬
‫م ال ِ‬ ‫ن يَغْفَِر لِي َ‬ ‫معُ أ ْ‬ ‫َوال ّذِي أط ْ َ‬ ‫"‬
‫قال إبراهيم‪ :‬أفأبصرتم بتدبر ما كنتم تعبدون من الصنام‬
‫التي ل تسمع ول تنفع ول تضر ‪ ,‬أنتم وآباؤكم القدمون‬
‫من قبلكم؟ فإن ما تعبدونهم من دون الله أعداء لي ‪,‬‬
‫لكن رب العالمين ومالك أمرهم هو وحده الذي أعبده‪ .‬هو‬
‫الذي خلقني في أحسن صورة فهو يرشدني إلى مصالح‬
‫ي بالطعام والشراب ‪,‬‬‫الدنيا والخرة وهو الذي ينعم عل َّ‬
‫شفيني ويعافيني منه ‪ ,‬وهو‬‫وإذا أصابني مرض فهو الذي ي َ ْ‬
‫الذي يميتني في الدينا بقبض روحي‪ ,‬ثم يحييني يوم‬
‫القيامة‪ ,‬ل يقدر على ذلك أحد سواه‪ ,‬والذي أطمع أن‬
‫يتجاوز عن ذنبي يوم الجزاء‪.‬‬

‫ن "(‪)83‬‬
‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬ ‫ما وَأَل ْ ِ‬
‫حقْنِي بِال َّ‬ ‫حك ْ ً‬
‫ب لِي ُ‬
‫ب هَ ْ‬
‫" َر ِّ‬
‫ب امنحني العلم والفهم ‪,‬‬
‫قال إبراهيم داعيًا ربه‪ :‬ر ِّ‬
‫وألحقني بالصالحين ‪ ,‬واجمع بيني وبينهم في الجنة‪.‬‬
‫ن "(‪)84‬‬ ‫ق فِي اْل ِ‬
‫خرِي َ‬ ‫صد ْ ٍ‬
‫ن ِ‬
‫سا َ‬ ‫جعَ ْ‬
‫ل ل ِي ل ِ َ‬ ‫" وَا ْ‬
‫واجعل لي ثناء حسنًا وذكًرا جميًل في الذين يأتون بعدي‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫جنَّةِ النَّعِيم ِ "(‪)85‬‬
‫ن وََرثَةِ َ‬ ‫جعَلْن ِي ِ‬
‫م ْ‬ ‫" وَا ْ‬
‫واجعلني من عبادك الذين تورثهم نعيم الجنة‪.‬‬
‫َ‬
‫ضال ِّي َ‬
‫ن "(‪)86‬‬ ‫ن ال َّ‬
‫م َ‬ ‫" وَاغْفِْر ِلبِي إِن َّ ُ‬
‫ه كَا َ‬
‫ن ِ‬
‫واصفح لبي عن شركه بك ‪ ,‬ول تعاقبه عليه‪ ,‬إنه كان‬
‫ممن ضل عن سبيل الهدى فكفر بك‪ .‬وهذا قبل أن يتبين‬
‫لبراهيم أن أباه عدو لله‪ ,‬فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ‬
‫منه‪.‬‬
‫ن "(‪)87‬‬ ‫م يُبْعَثُو َ‬ ‫خزِنِي يَوْ َ‬ ‫" وََل ت ُ ْ‬
‫ن "(‪)88‬‬ ‫ل وََل بَنُو َ‬ ‫ما ٌ‬ ‫م َل يَنْفَعُ َ‬ ‫و َ‬
‫" يَ َْ‬
‫ْ‬ ‫ل من أَتى الل َّ‬ ‫" إِ ّ‬
‫سل ِيم ٍ "(‪)89‬‬‫ب َ‬ ‫ٍ‬ ‫َل‬ ‫ق‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ول تُلْحق بي الذل ‪ ,‬يوم يخرج الناس من القبور للحساب‬
‫والجزاء ‪ ,‬يوم ل ينفع المال والبنون أحدًا من العباد ‪ ,‬إل‬
‫من أتى الله بقلب سليم من الكفر والنفاق والرذيلة‪.‬‬ ‫َ‬
‫متَّقِي َ‬
‫ن "(‪)90‬‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫جن َّ ُ‬ ‫" وَأُْزلِفَ ِ‬
‫ت ال ْ َ‬
‫وقُّرِبت الجنة للذين اجتنبوا الكفر والمعاصي ‪ ,‬وأقبلوا‬
‫على الله بالطاعة‪.‬‬

‫ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حيم ل ِلْغَاوين "(‪)91‬‬


‫َ ُ ِّ َ‬ ‫ت ال ْج ِ‬
‫" وبرز ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ضلوا عن الهدى ‪ ,‬وتجَّرؤوا‪,‬‬ ‫وأظهرت النار للكافرين الذين َ‬
‫على محارم الله وكذَّبوا رسله‪.‬‬
‫ل لَه َ‬
‫ن "(‪)92‬‬ ‫م تَعْبُدُو َ‬‫ما كُنْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م أ َي ْ َ‬ ‫" وَقِي َ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن "(‪)93‬‬
‫صُرو َ‬
‫م أوْ يَنْت َ ِ‬‫صُرونَك ُ ْ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ن دُو ِ‬
‫م ْ‬
‫" ِ‬
‫من دون‬
‫خا‪ :‬أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها ِ‬
‫وقيل لهم توبي ً‬
‫الله ‪ ,‬وتزعمون أنها تشفع لكم اليوم؟ هل ينصرونكم‪,‬‬
‫فيدفعون العذاب عنكم‪ ,‬أو ينتصرون بدفع العذاب عن‬
‫أنفسهم؟ ل شيء من ذلك‪.‬‬
‫م وَالْغَاوُو َ‬
‫ن "(‪)94‬‬ ‫" فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُ ْ‬
‫ن "(‪)95‬‬ ‫َ‬
‫معُو َ‬ ‫ج َ‬
‫سأ ْ‬ ‫جنُود ُ إِبْل ِي َ‬
‫" وَ ُ‬
‫معوا وألُقوا في جهنم ‪ ,‬هم والذين أضلوهم وأعوان‬ ‫ج ِ‬
‫ف ُ‬
‫إبليس الذين زيَّنوا لهم الشر‪ ,‬لم يُْفلِت منهم أحد‪.‬‬
‫ن "(‪)96‬‬ ‫مو َ‬ ‫ص ُ‬‫خت َ ِ‬
‫م فِيهَا ي َ ْ‬ ‫قَالُوا وَهُ ْ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)97‬‬
‫مبِي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫ن كن ّا لفِي َ‬ ‫ُ‬ ‫تَالل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)98‬‬ ‫مي َ‬‫ب الْعَال َ ِ‬ ‫م َبَِر ِّ‬ ‫سوِّ َيك ُ ْ‬ ‫إِذ ْ ن ُ َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)99‬‬ ‫مو‬ ‫جر‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ُ ْ ِ ُ َ‬ ‫ما أ َ َ ِ‬
‫إ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ضل‬ ‫وَ َ‬ ‫"‬
‫من‬
‫قالوا معترفين بخطئهم ‪ ,‬وهم يتنازعون في جهنم مع َ‬
‫أضلوهم ‪ ,‬تالله إننا كنا في الدنيا في ضلل واضح ل خفاء‬
‫فيه; إذ نسويكم برب العالمين المستحق للعبادة وحده‪.‬‬
‫وما أوقعنا في هذا المصير السيِّئ إل المجرمون الذين‬
‫دعونا إلى عبادة غير الله فاتبعناهم‪.‬‬
‫ن "(‪)100‬‬
‫شافِعِي َ‬‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ما لَنَا ِ‬
‫" فَ َ‬
‫ميم ٍ "(‪)101‬‬‫ح ِ‬
‫ق َ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫د‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫ل‬‫" وَ َ‬
‫ٍ‬
‫صدُق‬ ‫فل أحد َ يشفع لنا ‪ ,‬ويخل ِّصنا من العذاب ‪ ,‬ول َ‬
‫من ي َ ْ‬
‫في مودتنا ويشفق علينا‪.‬‬
‫ن "(‪)102‬‬
‫منِي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫" فَلَوْ أ َ َّ‬
‫ن لَنَا كََّرة ً فَنَكُو َ‬
‫فليت ل رجعة إلى الدنيا‪ ,‬فنصير من جملة المؤمنين‬
‫الناجين‪.‬‬
‫ة وما كَا َ‬
‫ن "(‪)103‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن أكْثَُرهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫ك َلي َ ً َ َ‬ ‫ن فِي ذَل ِ َ‬ ‫" إ ِ َّ‬
‫م "(‪)104‬‬ ‫ُ‬ ‫حي‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫رب‬ ‫َ‬
‫" وَإ ِ َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫إن في نبأ إبراهيم السابق لَعبرة لِمن يعتبر‪ ,‬وما صار أكثر‬
‫الذين سمعوا هذا النبأ مؤمنين‪ .‬وإن ربك لهو العزيز القادر‬
‫على النتقام من المكذبين‪ ,‬الرحيم بعباده المؤمنين‪.‬‬
‫ن "(‪)105‬‬ ‫سل ِي َ‬‫مْر َ‬ ‫م نُوٍح ال ْ ُ‬ ‫ت قَوْ ُ‬ ‫كَذَّب َ ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)106‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إِذ ْ قَا َ‬
‫ح أل تَت ّقُو َ‬ ‫م نُو ٌ‬ ‫خوهُ ْ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ل لهُ ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)107‬‬ ‫مي ٌ‬ ‫ل أَ ِ‬‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ْ‬ ‫إِن ِّي لَك ُ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)108‬‬ ‫ه وَأطِيعُو ِ‬ ‫فَاتَّقُوا الل ّ َ‬ ‫"‬
‫من أ َجر إ َ‬ ‫وما أ َ َ‬
‫ن "(‪)109‬‬ ‫ب الْعَال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫جرِيَ إ ِ ّل ع َلَى َر ِّ‬‫نأ ْ‬‫م ع َلَيْهِ ِ ْ ْ ٍ ِ ْ‬ ‫سألُك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)110‬‬ ‫ه وَأطِيعُو ِ‬ ‫فَاتَّقُوا الل ّ َ‬ ‫"‬
‫كَذَّبت قوم نوح رسالة نبيهم ‪ ,‬فكانوا بهذا مكذبين لجميع‬
‫الرسل; لن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل‪ .‬إذ‬
‫قال لهم أخوهم نوح‪ :‬أل تتقون الله بترك عبادة غيره؟‬
‫إني لكم رسول أمين فيما أبلغكم ‪ ,‬فاجعلوا اليمان وقاية‬
‫لكم من عذاب الله وأطيعوني فيما آمركم به من عبادته‬
‫وحده‪ .‬وما أطلب منكم أجًرا على تبليغ الرسالة ‪ ,‬ما‬
‫أجري إل على رب العالمين ‪ ,‬المتصرف في خلقه ‪,‬‬
‫فاحذروا عقابه‪ ,‬وأطيعوني بامتثال أوامره ‪ ,‬واجتناب‬
‫نواهيه‪.‬‬
‫ك اْلَْرذ َلُو َ‬
‫ن "(‪)111‬‬ ‫ك وَاتَّبَعَ َ‬
‫ن لَ َ‬ ‫" قَالُوا أَنُؤ ْ ِ‬
‫م ُ‬
‫قال له قومه‪ :‬كيف نصدِّقك ونتبعك‪ ,‬والذين اتبعوك أراذل‬
‫الناس وأسافلهم؟‬
‫ملُو َ‬
‫ن "(‪)112‬‬ ‫ما كَانُوا يَعْ َ‬ ‫عل ْ ِ‬
‫مي ب ِ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫" قَا َ‬
‫ل وَ َ‬
‫فأجابهم نوح عليه السلم بقوله‪ :‬لست مكلًفا بمعرفة‬
‫أعمالهم‪ ,‬إنما كُلفت أن أدعوهم إلى اليمان‪ .‬والعتبار‬
‫حرف والصنائع‪.‬‬‫باليمان ل بالحسب والنسب وال ِ‬
‫ن "(‪)113‬‬ ‫م إ ِ َّل ع َلَى َربِّي لَوْ ت َ ْ‬
‫شعُُرو َ‬ ‫سابُهُ ْ‬
‫ح َ‬
‫ن ِ‬
‫" إِ ْ‬
‫ما حسابهم للجزاء على أعمالهم وبواطنهم إل على ربي‬
‫َ‬
‫المط ّلِع على السرائر‪ .‬لو كنتم تشعرون بذلك لما قلتم‬
‫هذا الكلم‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)114‬‬
‫منِي َ‬ ‫ما أنَا ب َِطَارِد ِ ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫" وَ َ‬
‫ن "(‪)115‬‬ ‫ّ‬ ‫"إ َ‬
‫ن أنَا إ ِل نَذِيٌر ُ‬
‫مبِي ٌ‬ ‫ِ ْ‬
‫وما أنا بطارد الذين يؤمنون بدعوتي‪ ,‬مهما تكن حالهم؛‬
‫تلبية لرغبتكم كي تؤمنوا بي ما أنا إل نذير بيِّن النذار‪.‬‬
‫ن "(‪)116‬‬
‫مي َ‬
‫جو ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫مْر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ح لَتَكُون َ َّ‬
‫ن ِ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م تَنْتَهِ يَا نُو ُ‬ ‫" قَالُوا لَئ ِ ْ‬
‫عدل قوم نوح عن المحاورة إلى التهديد‪ ,‬فقالوا له‪ :‬لئن‬
‫ن المقتولين رميًا‬
‫م َ‬ ‫لم ترجع‪ -‬يا نوح‪ -‬عن دعوتك لتكون َّ‬
‫ن ِ‬
‫بالحجارة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ب إ ِ َّ‬
‫ن "(‪)117‬‬ ‫مي كَذ ّبُو ِ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫ل َر ِّ‬ ‫" قَا َ‬
‫ن "(‪)118‬‬
‫َ‬ ‫منِي‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ن‬
‫َ َ ْ َ َ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ِي‬ ‫جن‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫َ ِ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫حا‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬‫َ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫نِي‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫" فَافْ‬
‫فلما سمع نوح قولهم هذا دعا ربه بقوله‪ :‬رب إن قومي‬
‫ما تُهلك به‬
‫أصروا على تكذيبي ‪ ,‬فاحكم بيني وبينهم حك ً‬
‫من معي من‬ ‫من جحد توحيدك وكذَّب رسولك ‪ ,‬ونجني و َ‬ ‫َ‬
‫المؤمنين مما تعذب به الكافرين‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)119‬‬
‫حو ِ‬
‫ش ُ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ه فِي الْفُل ْ ِ‬
‫معَ ُ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫" فَأن ْ َ‬
‫جيْنَاه ُ وَ َ‬
‫من معه في السفينة المملوءة بصنوف‬ ‫فأنجيناه و َ‬
‫المخلوقات التي حملها معه‪.‬‬
‫" ثُ َ َ‬
‫م أغَْرقْنَا بَعْد ُ الْبَاقِي َ‬
‫ن "(‪)120‬‬ ‫ّ‬
‫ثم أغرقنا بعد إنجاء نوح ومن معه الباقين ‪ ,‬الذين لم‬
‫من قومه وردُّوا عليه النصيحة‪.‬‬
‫يؤمنوا ِ‬
‫ن "(‪)121‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أَكْثَُر ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ما كَا َ‬ ‫ك َلي َ ً‬
‫ة وَ َ‬ ‫" إ ِ َّ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬
‫إن في نبأ نوح وما كان من إنجاء المؤمنين وإهلك‬
‫المكذبين لَعلمة وعبرة ً عظيمة لمن بعدهم‪ ,‬وما كان أكثر‬
‫الذين سمعوا هذه القصة مؤمنين بالله وبرسوله وشرعه‪.‬‬
‫م "(‪)122‬‬ ‫ك لَهُوَ الْعَزِيُز الَّر ِ‬
‫حي ُ‬ ‫ن َرب َّ َ‬
‫" وَإ ِ َّ‬

‫وإن ربك لهو العزيز في انتقامه ممن كفر به وخالف‬


‫أمره‪ ,‬الرحيم بالتائب منهم أن يعاتبه بعد توبته‪.‬‬
‫ن "(‪)123‬‬
‫سل ِي َ‬
‫مْر َ‬ ‫" كَذَّب َ ْ‬
‫ت ع َاد ٌ ال ْ ُ‬
‫كذَّبت قبيلة عاد رسولهم هودًا‪ -‬عليه السلم‪ -‬فكانوا بهذا‬
‫ذّبين لجميع الرسل؛ لتحاد دعوتهم في أصولها وغايتها‪.‬‬ ‫مك ِ‬
‫َ‬ ‫م أَ ُ‬
‫ن "(‪)124‬‬ ‫م هُود ٌ أَل تَتَّقُو َ‬ ‫خوهُ ْ‬ ‫ل لَهُ ْ‬ ‫إِذ ْ قَا َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)125‬‬ ‫مي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫إِن ِّي ل َ‬ ‫"‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)126‬‬ ‫ه وَأطِيعُو ِ‬ ‫فَاتَّقُوا الل َ‬
‫ّ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وما أ َ َ‬
‫ن "(‪)127‬‬
‫مي َ‬
‫ب العَال ِ‬
‫جرِيَ إ ِل ع َلى َر ِّ‬‫نأ ْ‬ ‫جرٍ إ ِ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ع َليْهِ ِ‬ ‫سألُك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫"‬
‫إذ قال لهم أخوهم هود‪ :‬أل تخشون الله فتخلصوا له‬
‫سل إليكم لهدايتكم وإرشادكم ‪ ,‬حفيظ‬ ‫العبادة؟ إني مر َ‬
‫على رسالة الله ‪ ,‬أبل ِّغها لكم كما أمرني ربي ‪ ,‬فخافوا‬
‫عقاب الله وأطيعوني فيما جئتكم به من عند الله وما‬
‫أطلب منكم على إرشادكم إلى التوحيد أيَّ نوع من أنواع‬
‫الجر ‪ ,‬ما أجري إل على رب العالمين‪.‬‬
‫ن "(‪)128‬‬ ‫ن بِك ُ ِّ‬ ‫َ‬
‫ة تَعْبَثُو َ‬ ‫ل رِيٍع آي َ ً‬ ‫" أتَبْنُو َ‬
‫َ‬
‫خلُدُو َ‬
‫ن "(‪)129‬‬ ‫م تَ ْ‬ ‫صانِعَ لَعَل ّك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫خذ ُو َ‬ ‫" وَتَت َّ ِ‬
‫ن "(‪)130‬‬ ‫ِ َ‬‫ي‬ ‫ار‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫جب‬
‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫شت‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ط‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫شت‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫" وَإِذ َا‬
‫أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عاليًا تشرفون منه‬
‫ن المارة؟ وذلك عبث وإسراف ل يعود‬ ‫م َ‬‫فتسخرون ِ‬
‫عليكم بفائدة في الدين أو الدنيا‪ ,‬وتتخذون قصوًرا منيعة‬
‫وحصونًا مشيَّدة ‪ ,‬كأنكم تخلدون في الدنيا ول تموتون ‪,‬‬
‫وإذا بطشتم بأحد من الخلق قتًل أو ضربًا ‪ ,‬فعلتم ذلك‬
‫قاهرين ظالمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫فَاتَقُوا َ‬
‫ن "(‪)131‬‬ ‫ه وَأطِيعُو ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫ّ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)132‬‬
‫مو َ‬‫ما تَعْل ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مد ّك ْ‬‫وَاتَّقُوا ال ّذِي أ َ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)133‬‬ ‫م بِأنْعَام ٍ وَبَنِي َ‬ ‫مدَّك ُ ْ‬ ‫أ َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)134‬‬ ‫و‬ ‫ُي‬ ‫ع‬
‫َ َ ّ ٍ َ ُ ٍ‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫جن‬ ‫و‬ ‫"‬
‫فخافوا الله ‪ ,‬وامتثلوا ما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم ‪,‬‬
‫واخشوا الله الذي أعطاكم من أنواع النعم ما ل خفاء فيه‬
‫عليكم ‪ ,‬أعطاكم النعام‪ :‬من البل والبقر والغنم ‪,‬‬
‫وأعطاكم الولد‪ ،‬وأعطاكم البساتين المثمرة‪ ,‬وف َّ‬
‫جر لكم‬
‫الماء من العيون الجارية‪.‬‬
‫ب يَوْم ٍ عَظِيم ٍ "(‪)135‬‬ ‫ف ع َلَيْك ُ ْ‬
‫م عَذ َا َ‬ ‫" إِن ِّي أ َ َ‬
‫خا ُ‬
‫سلم‪ -‬محذًرا لهم‪ :‬إني أخاف إن أصررتم‬ ‫قال هود‪ -‬عليه ال َّ‬
‫على ما أنتم عليه من التكذيب والظلم وكُْفر النِّعم ‪ ,‬أن‬
‫ينزل الله بكم عذابًا في يوم تعظم شدته من هول عذابه‪.‬‬
‫ن الْوَا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)136‬‬
‫عظِي َ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫م لَ ْ‬
‫م تَك ُ ْ‬ ‫تأ ْ‬‫سوَاءٌ ع َلَيْنَا أوَع َظ ْ َ‬
‫" قَالُوا َ‬
‫قالوا َله‪ :‬يستوي عندنا تخويفك وتركه‪ ,‬فلن نؤمن لك‪.‬‬
‫َ‬
‫خلُقُ اْلوَّل ِي َ‬
‫ن "(‪)137‬‬ ‫ن هَذ َا إ ِ ّل ُ‬ ‫" إِ ْ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)138‬‬ ‫معَذ ّبِي َ‬‫ن بِ ُ‬‫ح ُ‬‫ما ن َ ْ‬
‫" وَ َ‬
‫وقالوا‪ :‬ما هذا الذي نحن عليه إل دين الولين وعاداتهم ‪,‬‬
‫حذَّْرتنا منه من‬
‫وما نحن بمعذبين على ما نفعل مما َ‬
‫العذاب‪.‬‬
‫ة وما كَا َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)139‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن أكْثَُرهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫ك َلي َ ً َ َ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬ ‫" فَكَذَّبُوه ُ فَأهْلَكْنَاهُ ْ‬
‫م إ ِ َّ‬
‫م "(‪)140‬‬ ‫و الْعَزِيُز الَّر ِ‬
‫حي ُ‬ ‫ك لَهُ َ‬
‫ن َرب َّ َ‬
‫" وَإ ِ َّ‬

‫مُّروا على تكذيبه ‪ ,‬فأهلكهم الله بريح باردة شديدة‪.‬‬


‫فاست َ‬
‫إن في ذلك الهلك لَعبرة لمن بعدهم‪ ,‬وما كان أكثر‬
‫الذين سمعوا قصتهم مؤمنين بك‪ .‬وإن ربك لهو العزيز‬
‫الغالب على ما يريده من إهلك المكذبين‪ ,‬الرحيم‬
‫بالمؤمنين‪.‬‬
‫ن "(‪)141‬‬
‫سل ِي َ‬ ‫مود ُ ال ْ ُ‬
‫مْر َ‬ ‫" كَذَّب َ ْ‬
‫ت ثَ ُ‬
‫كذَّبت قبيلة ثمود أخاهم صال ً‬
‫حا في رسالته ودعوته إلى‬
‫توحيد الله ‪ ,‬فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع الرسل; لنهم‬
‫جميعًا يدعون إلى توحيد الله‪.‬‬
‫خوهُم صال ِ َ‬ ‫م أَ ُ‬
‫ن "(‪)142‬‬ ‫ح أَل تَتَّقُو َ‬ ‫ْ َ ٌ‬ ‫ل لَهُ ْ‬ ‫إِذ ْ قَا َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)143‬‬ ‫َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫إِن ِّي لَك ُ‬
‫مي ٌ‬ ‫لأ ِ‬ ‫م َر ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫"‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)144‬‬ ‫ه وَأطِيعُو ِ‬ ‫فَاتَّقُوا الل ّ َ‬ ‫"‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وما أ َ َ‬
‫ن "(‪)145‬‬ ‫ب الْعَال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫جرِيَ إ ِ ّل ع َلَى َر ِّ‬
‫نأ ْ‬ ‫جر إ ِ ْ‬
‫نأ ْ ٍ‬ ‫م ْ‬‫م ع َلَيْهِ ِ‬ ‫سألُك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫"‬
‫إذ قال لهم أخوهم صالح‪ :‬أل تخشون عقاب الله ‪,‬‬
‫سل من الله إليكم‪ ,‬حفيظ على‬ ‫فتُفرِدونه بالعبادة؟ إني مر َ‬
‫هذه الرسالة كما تلقيتها عن الله ‪ ,‬فاحذروا عقابه تعالى‪,‬‬
‫وامتثلوا ما دعوتكم إليه‪ .‬وما أطلب منكم على نصحي‬
‫وإرشادي لكم أي جزاء ‪ ,‬ما جزائي إل على رب العالمين‪.‬‬
‫َ‬
‫ما هَا هُنَا "(‪)146‬‬ ‫ن فِي َ‬ ‫أتُتَْركُو َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)147‬‬ ‫ت وَع ُيُو ٍ‬ ‫جنَّا ٍ‬‫فِي َ‬ ‫"‬
‫م "(‪)148‬‬ ‫ٌ‬ ‫ضي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ل‬
‫ٍ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫وَُزُرو ٍ َ‬
‫و‬ ‫ع‬ ‫"‬
‫ن "(‪)149‬‬
‫َ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ار‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫وت‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫جب‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫حتُو َ‬‫وَتَن ْ ِ‬ ‫"‬
‫أيترككم ربكم فيما أنتم فيه من النعيم مستقرين في هذه‬
‫الدنيا آمنين من العذاب والزوال والموت؟ في حدائق‬
‫مثمرة وعيون جارية وزروع كثيرة ونخل ثمرها يانع لين‬
‫شرين‬ ‫َ‬
‫نضيج ‪ ,‬وتنحتون من الجبال بيوتًا ماهرين بنحتها‪ ,‬أ ِ‬
‫بَطِرين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)150‬‬ ‫ه وَأطِيعُو ِ‬ ‫" فَاتَّقُوا الل ّ َ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)151‬‬ ‫سرِفِي َ‬ ‫م ْ‬‫مَر ال ْ ُ‬ ‫" وَ ََل تُطِيعُوا أ ْ‬
‫َ‬ ‫ن فِي اْل َ‬
‫ن "(‪)152‬‬
‫حو َ‬
‫صل ِ ُ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ض‬
‫ْ ِ َ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫سدُو‬‫ن يُفْ ِ‬‫" ال ّذِي َ‬
‫فخافوا عقوبة الله‪ ,‬واقبلوا نصحي ‪ ,‬ول تنقادوا لمر‬
‫المسرفين على أنفسهم المتمادين في معصية الله الذين‬
‫دأبوا على الفساد في الرض إفسادًا ل إصلح فيه‪.‬‬
‫" قَالُوا إن َّ َ‬
‫ن "(‪)153‬‬ ‫حرِي َ‬ ‫س َّ‬‫م َ‬‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬
‫ت ِ‬‫ما َ أن ْ َ‬ ‫ِ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت إ ِ ّل ب َ َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)154‬‬ ‫ن ال َّ‬
‫صادِقِي َ‬ ‫م َ‬
‫ت ِ‬‫ن كُن ْ َ‬
‫ت بِآيَةٍ إ ِ ْ‬ ‫مثْلنَا فَأ ِ‬ ‫شٌر ِ‬ ‫ما أن ْ َ‬
‫" َ‬
‫سحروا‬
‫قالت ثمود لنبيها صالح‪ :‬ما أنت إل من الذين ُ‬
‫حًرا كثيًرا ‪ ,‬حتى غلب السحر على عقلك‪ .‬ما أنت إل‬‫س ْ‬
‫ِ‬
‫فرد مماثل لنا في البشرية من بني آدم ‪ ,‬فكيف تتميز‬
‫علينا بالرسالة؟ فأت بحجة واضحة تدل على ثبوت‬
‫رسالتك‪ ,‬إن كنت صادقًا في دعواك أن الله أرسلك إلينا‪.‬‬
‫معْلُوم ٍ "(‪)155‬‬
‫ب يَوْم ٍ َ‬
‫شْر ُ‬
‫م ِ‬ ‫ب وَلَك ُ ْ‬ ‫شْر ٌ‬ ‫ة لَهَا ِ‬
‫ل هَذِهِ نَاقَ ٌ‬ ‫" قَا َ‬
‫ب يَوْم ٍ عَظِيم ٍ "(‪)156‬‬ ‫م عَذ َا ُ‬ ‫خذ َك ُْ‬‫سوءٍ فَيَأ ْ ُ‬
‫ِ ُ‬ ‫ب‬ ‫َا‬ ‫ه‬ ‫ُ‬
‫سو‬ ‫" وََل َ ّ‬
‫م‬‫َ‬ ‫ت‬
‫قال لهم صالح‪ -‬وقد أتاهم بناقة أخرجها الله له من‬
‫الصخرة‪ :-‬هذه ناقة الله لها نصيب من الماء في يوم‬
‫معلوم ‪ ,‬ولكم نصيب منه في يوم آخر‪ .‬ليس لكم أن‬
‫تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها ‪ ,‬ول هي تشرب في‬
‫اليوم الذي هو نصيبكم ‪ ,‬ول تنالوها بشيء مما يسوءها‬
‫ب يومٍ‬‫ب أو قتل أو نحو ذلك ‪ ,‬فيهلككم الله بعذا ِ‬
‫ضْر ٍ‬
‫ك َ‬
‫تعظم شدته‪ ,‬بسبب ما يقع فيه من الهول والشدة‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)157‬‬
‫مي َ‬
‫حوا نَاد ِ ِ‬ ‫" فَعَقَُروهَا فَأ ْ‬
‫صب َ ُ‬
‫فنحروا الناقة‪ ,‬فأصبحوا متحسرين على ما فعلوا ل َ َّ‬
‫ما‬
‫أيقنوا بالعذاب ‪ ,‬فلم ينفعهم ندمهم‪.‬‬
‫ن "(‪)158‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫م ُ‬
‫ة وما كَا َ‬
‫ن أكْثَُرهُ ْ‬
‫َ‬ ‫ك َلي َ ً َ َ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬ ‫م الْعَذ َا ُ‬
‫ب إ ِ َّ‬ ‫" فَأ َ َ‬
‫خذَهُ ُ‬
‫فنزل بهم عذاب الله الذي توعدهم به صالح عليه السلم‬
‫‪ ,‬فأهلكهم‪ .‬إن في إهلك ثمود لَعبرة لمن اعتبر بهذا‬
‫المصير‪ ,‬وما كان أكثرهم مؤمنين‪.‬‬
‫م "(‪)159‬‬ ‫و الْعَزِيُز الَّر ِ‬
‫حي ُ‬ ‫ك لَهُ َ‬
‫ن َرب َّ َ‬
‫" وَإ ِ َّ‬

‫وإن ربك لهو العزيز القاهر المنتقم من أعدائه المكذبين ‪,‬‬


‫الرحيم بمن آمن من خلقه‪.‬‬
‫ن "(‪)160‬‬
‫سل ِي َ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫مْر َ‬ ‫م لُو ٍ‬ ‫" كَذَّب َ ْ‬
‫ت قَوْ ُ‬
‫كَذَّبت قوم لوط برسالته‪ ,‬فكانوا بهذا مكذبين لسائر رسل‬
‫الله؛ لن ما جاؤوا به من التوحيد وأصول الشرائع واحد‪.‬‬
‫هم لُو ٌ َ‬ ‫م أَ ُ‬
‫ن "(‪)161‬‬ ‫ط أَل تَتَّقُو َ‬ ‫خو ُ ْ‬ ‫ل لَهُ ْ‬ ‫إِذ ْ قَا َ‬ ‫"‬
‫َ‬
‫ن "(‪)162‬‬ ‫ِ ٌ‬‫مي‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ٌ‬ ‫سو‬ ‫إن ِّي ل َ ْ َ ُ‬
‫ر‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫"‬
‫ن "(‪)163‬‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ط‬ ‫ِفَاتَّقُوا الل َّه وأ َ‬ ‫"‬
‫ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ‬
‫َ‬ ‫من أ َجر إ َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)164‬‬ ‫ب الْعَال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫جرِيَ إ ِ ّل ع َلَى َر ِّ‬‫نأ ْ‬ ‫م ع َلَيْهِ ِ ْ ْ ٍ ِ ْ‬ ‫سألُك ُ ْ‬‫ما أ ْ‬ ‫وَ َ‬ ‫"‬
‫إذ قال لهم أخوهم لوط‪ :‬أل تخافون عذاب الله؟ إني‬
‫رسول من ربكم ‪ ,‬أمين على تبليغ رسالته إليكم ‪,‬‬
‫فاحذروا عقاب الله على تكذيبكم رسوله ‪ ,‬واتبعوني فيما‬
‫دعوتكم إليه ‪ ,‬وما أسألكم على دعوتي لهدايتكم أيَّ أجر ‪,‬‬
‫ما أجري إل على رب العالمين‪.‬‬
‫َ ْ‬
‫ن "(‪)165‬‬ ‫مي َ‬‫ن الْعَال َ ِ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬‫ن الذ ُّكَْرا َ‬
‫" أتَأتُو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)166‬‬ ‫م قَوْ ٌ‬
‫م ع َادُو َ‬ ‫ل أنْت ُ ْ‬ ‫جك ُ ْ‬
‫م بَ ْ‬ ‫ن أْزوَا ِ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬‫م َربُّك ُ ْ‬‫خلَقَ لَك ُ ْ‬
‫ما َ‬ ‫" وَتَذَُرو َ‬
‫ن َ‬
‫من بني آدم ‪ ,‬وتتركون ما خلق الله‬
‫أتنكحون الذكور ِ‬
‫من أزواجكم؟ بل أنتم قوم ‪ -‬بهذه‬ ‫لستمتاعكم وتناسلكم ِ‬
‫المعصية‪ -‬متجاوزون ما أباحه الله لكم من الحلل إلى‬
‫الحرام‪.‬‬
‫ن "(‪)167‬‬
‫جي َ‬
‫خَر ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ط لَتَكُون َ َّ‬
‫ن ِ‬ ‫م تَنْتَهِ يَا لُو ُ‬
‫ن لَ ْ‬
‫" قَالُوا لَئ ِ ْ‬
‫قال قوم لوط‪ :‬لئن لم تترك يا لوط نَهْيَنا عن إتيان الذكور‬
‫وتقبيح فعله ‪ ,‬لتكونن من المطرودين من بلدنا‪.‬‬

‫ن الْقَال ِي َ‬
‫ن "(‪)168‬‬ ‫م َ‬ ‫مل ِك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫" قَا َ‬
‫ل إِن ِّي لِعَ َ‬
‫قال لوط لهم‪ :‬إني لِعملكم الذي تعملونه من إتيان الذكور‬
‫‪ ,‬لَمن المبغضين له بغ ً‬
‫ضا شديدًا‪.‬‬
‫ملُو َ‬
‫ن "(‪)169‬‬ ‫ما يَعْ َ‬ ‫جنِي وَأَهْل ِي ِ‬
‫م َّ‬ ‫ب ن َ ِّ‬
‫" َر ِّ‬

‫ثم دعا لوط ربه حينما يئس من استجابتهم له قائًل‪ :‬ر ِّ‬
‫ب‬
‫من هذه المعصية‬ ‫أنقذني وأنقذ أهلي مما يعمله قومي ِ‬
‫من عقوبتك التي ستصيبهم‪.‬‬
‫القبيحة‪ ,‬و ِ‬
‫جيناه وأَهْل َ َ‬
‫ن "(‪)170‬‬‫معِي َ‬‫ج َ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫" فَ َن َ َّ ْ َ ُ َ‬
‫ن "(‪)171‬‬ ‫ي‬
‫ِ ِ َ‬‫ر‬‫َاب‬ ‫غ‬‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫زا‬ ‫" إ ِ ّل عَ ُ‬
‫جو ً‬
‫فنجيناه وأهل بيته والمستجيبين لدعوته أجمعين إل عجوًزا‬
‫من أهله ‪ ,‬وهي امرأته ‪ ,‬لم تشاركهم في اليمان ‪ ,‬فكانت‬
‫من الباقين في العذاب والهلك‪.‬‬
‫ن "(‪)172‬‬ ‫مْرنَا اْل َ‬
‫خرِي َ‬ ‫م د َ َّ‬‫" ث ُ َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)173‬‬
‫منْذ َرِي َ‬
‫مطُر ال ُ‬ ‫مطًرا فَ َ‬
‫ساءَ َ‬ ‫م َ‬‫مطَْرنَا ع َلَيْهِ ْ‬ ‫" وَأ ْ‬
‫من عداهم من الكفرة أشد َّ إهلك ‪ ,‬وأنزلنا‬ ‫ثم أهلكنا َ‬
‫ح مطُر‬‫قب ُ َ‬
‫عليهم حجارة من السماء كالمطر أهلكتهم‪ ,‬ف َ‬
‫من أنذرهم رسلهم ولم يستجيبوا لهم؛ فقد أُنزل بهم أشدُّ‬
‫أنواع الهلك والتدمير‪.‬‬
‫ة وما كَا َ‬
‫ن "(‪)174‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن أكْثَُرهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫ك َلي َ ً َ َ‬ ‫" إ ِ َّ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬

‫إن في ذلك العقاب الذي نزل بقوم لوط لَعبرة وموعظة‪,‬‬


‫يتعظ بها المكذبون‪ .‬وما كان أكثرهم مؤمنين‪.‬‬
‫م "(‪)175‬‬ ‫ك لَهُوَ الْعَزِيُز الَّر ِ‬
‫حي ُ‬ ‫ن َرب َّ َ‬
‫" وَإ ِ َّ‬

‫وإن ربك لهو العزيز الغالب الذي يقهر المكذبين‪ ,‬الرحيم‬


‫بعباده المؤمنين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)176‬‬ ‫سل ِي َ‬‫مْر َ‬‫ب اْليْكَةِ ال ْ ُ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬‫بأ ْ‬ ‫كَذ َّ َ‬ ‫"‬
‫َ‬
‫ن "(‪)177‬‬ ‫ب أَل تَتَّقُو َ‬ ‫شعَي ْ ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫ل لَهُ ْ‬ ‫إِذ ْ قَا َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)178‬‬ ‫مي‬ ‫ل أَ‬ ‫ٌ‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫إن ِّي ل َ‬ ‫"‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن "(‪)179‬‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ط‬‫ِفَاتَّقُوا الل َّه وأ َ‬ ‫"‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫من أ َجر إ َ‬ ‫وما أ َ َ‬
‫ن "(‪)180‬‬ ‫ب الْعَال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫جرِيَ إ ِ ّل ع َلَى َر ِّ‬
‫نأ ْ‬ ‫م ع َلَيْهِ ِ ْ ْ ٍ ِ ْ‬ ‫سألُك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫"‬
‫كذَّب أصحاب الرض ذات الشجر الملتف رسولهم شعيبًا‬
‫في رسالته ‪ ,‬فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع الرسالت‪ .‬إذ قال‬
‫لهم شعيب‪ :‬أل تخافون عقاب الله على معاصيكم؟ إني‬
‫ن الله لهدايتكم ‪ ,‬حفيظ على ما أوحى الله‬‫م َ‬
‫سل إليكم ِ‬ ‫مر َ‬
‫ي من الرسالة‪ ,‬فخافوا عقاب الله‪ ,‬اتبعوا ما دعوتكم‬ ‫به إل َّ‬
‫من هداية الله؛ لترشدوا‪ ,‬وما أطلب منكم على‬ ‫إليه ِ‬
‫دعائي لكم إلى اليمان بالله أيَّ جزاء ‪ ,‬ما جزائي إل على‬
‫رب العالمين‪.‬‬
‫ن "(‪)181‬‬ ‫سرِي َ‬‫خ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬‫ل وََل تَكُونُوا ِ‬ ‫" أَوْفُوا الْكَي ْ َ‬
‫ستَقِيم ِ "(‪)182‬‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫س ال ُ‬ ‫َ‬ ‫" وَزِنُوا بِالْقِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫سطا ِ‬
‫ن "(‪)183‬‬
‫سدِي َ‬
‫مفْ ِ‬
‫ض ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫سأ ْ‬ ‫َ‬ ‫" وََل تَب ْ َ‬
‫م وَل تَعْثَوْا فِي الْر ِ‬ ‫شيَاءَهُ ْ‬ ‫سوا الن ّا َ‬ ‫خ ُ‬
‫قال لهم شعيب‪ -‬وقد كانوا يُنِْقصون الكيل والميزان‪:-‬‬
‫أت ُّ‬
‫موا الكيل للناس وافيًا لهم ‪ ,‬ول تكونوا ممن يُنِْقصون‬
‫الناس حقوقهم‪ ,‬وَزِنوا بالميزان العدل المستقيم ‪ ,‬ول‬
‫من حقوقهم في كيل أو وزن أو غير‬ ‫تنقصوا الناس شيئًا ِ‬
‫ذلك ‪ ,‬ول تكثروا في الرض الفساد ‪ ,‬بالشرك والقتل‬
‫وتخويف الناس‪ ,‬وارتكاب المعاصي‪.‬‬‫َ‬
‫والنهب‬
‫َ‬ ‫خلَقَك ُم وال ْجبل ّ َ َ‬
‫ة اْلوَّل ِي َ‬
‫ن "(‪)184‬‬ ‫ْ َ ِ ِ‬ ‫" وَاتَّقُوا ال ّذِي َ‬
‫واحذروا عقوبة الله الذي خلقكم وخلق المم المتقدمة‬
‫عليكم‪.‬‬
‫" قَالُوا إن َّ َ‬
‫ن "(‪)185‬‬ ‫حرِي َ‬ ‫س َّ‬‫م َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ما َأن ْ َ‬ ‫ِ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)186‬‬ ‫ي‬
‫ِِ َ‬‫ب‬ ‫ذ‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِ َ‬‫م‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ت إِ ّ َ ٌ ِ َ َ ِ ْ َ ّ‬
‫ن‬‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫مثْل‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ما أن ْ َ‬
‫" وَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)187‬‬ ‫ي‬‫ق‬ ‫د‬
‫ّ ِ ِ َ‬‫صا‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ت‬
‫ِ ْ ْ َ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ّ َ‬‫س‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ِ َ‬‫م‬ ‫ًا‬ ‫ف‬ ‫س‬ ‫ك‬
‫َْ ِ َ‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ي‬ ‫َل‬ ‫ع‬ ‫ط‬ ‫" فَأ ْ ِ‬
‫ق‬ ‫س‬
‫ن الذين أصابهم السحر‬‫م َ‬
‫قالوا‪ :‬إنما أنت‪ -‬يا شعيب‪ِ -‬‬
‫إصابة شديدة ‪ ,‬فذهب بعقولهم ‪ ,‬وما أنت إل واحد مثلنا‬
‫في البشرية ‪ ,‬فكيف تختص دوننا بالرسالة؟ وإن أكبر ظننا‬
‫أنك من الكاذبين فيما تدَّعيه من الرسالة‪ .‬فإن كنت‬
‫صادقًا في دعوى النبوة ‪ ,‬فادع الله أن يسقط علينا قطع‬
‫عذاب من السماء تستأصلنا‪.‬‬
‫َ‬
‫ملُو َ‬
‫ن "(‪)188‬‬ ‫ما تَعْ َ‬ ‫ل َربِّي أع ْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫" قَا َ‬
‫ن الشرك‬
‫م َ‬
‫قال لهم شعب‪ :‬ربي أعلم بما تعملونه ِ‬
‫والمعاصي ‪ ,‬وبما تستوجبونه من العقاب‪.‬‬
‫َُ‬
‫ب يَوْم ٍ عَظِيم ٍ "(‪)189‬‬
‫ن عَذ َا َ‬ ‫ب يَوْم ِ الظ ّل ّةِ إِن َّ ُ‬
‫ه كَا َ‬ ‫" فَكَذَّبُوه ُ فَأ َ َ‬
‫خذَهُ ْ‬
‫م عَذ َا ُ‬
‫مُّروا على تكذيبه ‪ ,‬فأصابهم الحر الشديد ‪ ,‬وصاروا‬ ‫فاست َ‬
‫يبحثون عن ملذ يستظلون به ‪ ,‬فأظلتهم سحابة ‪ ,‬وجدوا‬
‫ما ‪ ,‬فلما اجتمعوا تحتها ‪ ,‬التهبت عليهم ناًرا‬
‫لها بردًا ونسي ً‬
‫فأحرقتهم ‪ ,‬فكان هلكهم جميعًا في يوم شديد الهول‪.‬‬
‫ة وما كَا َ‬
‫ن "(‪)190‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن أكْثَُرهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫ك َلي َ ً َ َ‬ ‫" إ ِ َّ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬

‫إن في ذلك العقاب الذي نزل بهم ‪ ,‬لَدللة واضحة على‬


‫قدرة الله في مؤاخذة المكذبين ‪ ,‬وعبرة لمن يعتبر ‪ ,‬وما‬
‫كان أكثرهم مؤمنين متعظين بذلك‪.‬‬
‫م "(‪)191‬‬ ‫ك لَهُوَ الْعَزِيُز الَّر ِ‬
‫حي ُ‬ ‫ن َرب َّ َ‬
‫" وَإ ِ َّ‬

‫وإن ربك ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬لهو العزيز في نقمته ممن انتقم‬


‫منه من أعدائه ‪ ,‬الكريم بعباده الموحدين‪.‬‬
‫ن "(‪)192‬‬ ‫مي َ‬ ‫ب الْعَال َ ِ‬ ‫ل َر ِّ‬ ‫ه لَتَنْزِي ُ‬ ‫وَإِن َّ ُ‬ ‫"‬
‫ح اْل َ‬ ‫ُ‬
‫ن "(‪)193‬‬ ‫ُ‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫رو‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫نََز َ ِ‬
‫ب‬ ‫ل‬ ‫"‬
‫ن "(‪)194‬‬ ‫ي‬ ‫ر‬
‫ُ ِ َ‬‫ِ‬ ‫ذ‬‫ْ‬ ‫من‬‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ِت‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ع َلَى‬ ‫"‬
‫ن "(‪)195‬‬ ‫ٍ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫مب‬
‫ُ‬ ‫ي‬
‫َ ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫رب‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫بِل ِ َ ٍ‬
‫سا‬ ‫"‬
‫ت فيه هنا القصص الصادقة ‪,‬‬ ‫وإن هذا القرآن الذي ذ ُكَِر ْ‬
‫من خالق الخلق‪ ,‬ومالك المر كله ‪ ,‬نزل به جبريل‬ ‫لَمنَّزل ِ‬
‫المين‪ ,‬فتله عليك ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬حتى وعيته بقلبك‬
‫من رسل الله الذين يخوِّفون قومهم‬ ‫حفظًا وفه ً‬
‫ما؛ لتكون ِ‬
‫عقاب الله ‪ ,‬فتنذر بهذا التنزيل النس والجن أجمعين‪.‬‬
‫نزل به جبريل عليك بلغة عربية واضحة المعنى ‪ ,‬ظاهرة‬
‫الدللة ‪ ,‬فيما يحتاجون إليه في إصلح شؤون دينهم‬
‫ودنياهم‪.‬‬
‫َ‬
‫ه لَفِي ُزبُرِ اْلوَّل ِي َ‬
‫ن "(‪)196‬‬ ‫" وَإِن َّ ُ‬

‫ن ذِكَْر هذا القرآن لَمثب ٌ‬


‫ت في كتب النبياء السابقين‪ ,‬قد‬ ‫وإ َّ‬
‫صدَّقَتْه‪.‬‬ ‫ب َ َّ‬
‫ت به و َ‬
‫شَر ْ‬
‫" أَول َم يك ُن لَهم آي ً َ‬
‫سَرائِي َ‬
‫ل "(‪)197‬‬ ‫ه ع ُل َ َ‬
‫ماءُ بَنِي إ ِ ْ‬ ‫ن يَعْل َ َ‬
‫م ُ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ ْ َ‬
‫ف هؤلء‪ -‬في الدللة على أنك رسول الله‪ ,‬وأن‬ ‫أو لم يَك ْ ِ‬
‫من‬ ‫عل ْ ُ‬
‫م علماء بني إسرائيل صحة تلك ‪ ,‬و َ‬ ‫القرآن حق‪ِ -‬‬
‫آمن منهم كعبد الله بن سلم؟‬
‫ن "(‪)198‬‬ ‫مي َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ض اْلَع ْ َ‬ ‫وَلَوْ نَََّزلْنَاه ُ ع َلَى بَعْ ِ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)199‬‬ ‫منِي َ‬ ‫ْ‬
‫مؤ ِ‬ ‫ما كَانُوا بِهِ ُ‬ ‫م َ‬‫فَقََرأه ُ ع َلَيْهِ ْ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)200‬‬ ‫مي‬
‫ُ ْ ِ ِ َ‬ ‫جر‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫سلَكْنَا ُ ِ‬
‫ف‬ ‫ه‬ ‫ك َ‬ ‫كَذَل ِ َ‬ ‫"‬
‫ب اْل َ‬ ‫ْ‬
‫م "(‪)201‬‬
‫َ‬ ‫ِي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫َا‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫َل يُؤ ْ ِ ُ َ ِ ِ َ ّ َ َ ْ‬
‫رو‬ ‫ي‬ ‫ى‬‫َ‬ ‫حت‬ ‫ه‬‫ب‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫من‬ ‫"‬
‫ولو نََّزلنا القرآن على بعض الذين ل يتكلمون بالعربية‪,‬‬
‫فقرأه على كفار قريش قراءة عربية صحيحة‪ ,‬لكفروا به‬
‫ضا ‪ ,‬وانتحلوا لجحودهم عذًرا‪ .‬كذلك أدخلنا في قلوب‬ ‫أي ً‬
‫المجرمين جحود القرآن ‪ ,‬وصار متمكنًا فيها؛ وذلك بسبب‬
‫ظلمهم وإجرامهم ‪ ,‬فل سبيل إلى أن يتغيروا ع َّ‬
‫ما هم عليه‬
‫من إنكار القرآن ‪ ,‬حتى يعاينوا العذاب الشديد الذي‬
‫عدوا به‪.‬‬
‫وُ ِ‬
‫م َل ي َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ن "(‪)202‬‬
‫شعُُرو َ‬ ‫ة وَهُ ْ‬ ‫" فَيَأتِيَهُ ْ‬
‫م بَغْت َ ً‬
‫ن "(‪)203‬‬ ‫َ‬
‫منْظُرو َ‬ ‫ن ُ‬‫ح ُ‬‫ل نَ ْ‬ ‫ُ‬
‫" فَيَقُولوا هَ ْ‬
‫فينزل بهم العذاب فجأة ‪ ,‬وهم ل يعلمون قبل ذلك‬
‫بمجيئه‪ ,‬فيقولون عند مفاجأتهم به تح ُّ‬
‫سًرا على ما فاتهم‬
‫خرون؛ لنتوب إلى الله‬ ‫مؤ َّ‬
‫مهَلون ُ‬ ‫م ْ‬
‫من اليمان‪ :‬هل نحن ُ‬
‫من شركنا ‪ ,‬ونستدرك ما فاتنا؟‬‫ِ‬
‫َ‬
‫جلُو َ‬
‫ن "(‪)204‬‬ ‫" أفَبِعَذ َابِنَا ي َ ْ‬
‫ستَعْ ِ‬
‫أَغََّر هؤلء إمهالي ‪ ,‬فيستعجلون نزول العذاب عليهم من‬
‫السماء؟‬
‫َ َ‬
‫ن "(‪)205‬‬‫سنِي َ‬
‫م ِ‬‫متَّعْنَاهُ ْ‬
‫ن َ‬‫ت إِ ْ‬‫" أفََرأي ْ َ‬
‫ن "(‪)206‬‬ ‫َ‬
‫ما كانُوا يُوعَدُو َ‬ ‫م َ‬ ‫جاءَهُ ْ‬‫م َ‬ ‫" ث ُ َّ‬

‫متَّعناهم بالحياة سنين طويلة‬


‫أفعلمت ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬إن َ‬
‫بتأخير آجالهم ‪ ,‬ثم نزل بهم العذاب الموعود؟‬
‫َ‬
‫متَّعُو َ‬
‫ن "(‪)207‬‬ ‫ما كَانُوا ي ُ َ‬ ‫ما أغْنَى ع َنْهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫" َ‬
‫ما أغنى عنهم تمتعهم بطول العمر ‪ ,‬وطيب العيش ‪ ,‬إذا‬
‫لم يتوبوا من شركهم؟ فعذاب الله واقع بهم عاجًل أم‬
‫آجًل‪.‬‬
‫َ‬
‫ن "(‪)208‬‬ ‫ن قَْريَةٍ إ ِ ّل لَهَا ُ‬
‫منْذُِرو َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما أَهْلَكْنَا ِ‬
‫" وَ َ‬
‫ن "(‪)209‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما كن ّا ظال ِ ِ‬ ‫" ذِكَْرى وَ َ‬
‫من قرية من القرى في الم جميعًا‪ ,‬إل بعد أن‬ ‫وما أهلكنا ِ‬
‫نرسل إليهم رسًل ينذرونهم‪ ,‬تذكرة لهم وتنبيهًا على ما‬
‫فيه نجاتهم‪ ,‬وما كنا ظالمين فنعذب أمة قبل أن نرسل‬
‫إليها رسوًل‪.‬‬
‫ن "(‪)210‬‬ ‫ت بِهِ ال َّ‬‫ما تَنََّزل َ ْ‬
‫شيَاطِي ُ‬ ‫" وَ َ‬
‫ن "(‪)211‬‬
‫ستَطِيعُو َ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫َ‬
‫ما يَنْبَغِي لهُ ْ‬ ‫" وَ َ‬
‫ن "(‪)212‬‬ ‫معُْزولُو َ‬‫مِع ل َ َ‬‫س ْ‬‫ن ال َّ‬‫م عَ ِ‬ ‫" إِنَّهُ ْ‬
‫ت بالقرآن على محمد الشياطين‪ -‬كما يزعم‬‫وما تَنََّزل َ ْ‬
‫الكفرة‪ -‬ول يصح منهم ذلك ‪ ,‬وما يستطيعونه؛ لنهم عن‬
‫استماع القرآن من السماء محجوبون مرجومون بالشهب‪.‬‬
‫من ال ْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫معَذ ّبِي َ‬
‫ن "(‪)213‬‬ ‫ن ِ َ‬ ‫معَ الل ّهِ إِلَهًا آ َ‬
‫خَر فَتَكُو َ‬ ‫" فََل تَدْع ُ َ‬
‫فل تعبد مع الله معبودًا غيره‪ ,‬فينزل بك من العذاب ما‬
‫نزل بهؤلء الذين عبدوا مع الله غيره‪.‬‬
‫شيرت َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ك اْلقَْربِي َ‬
‫ن "(‪)214‬‬ ‫" وَأنْذِْر ع َ ِ َ‬
‫من‬
‫من قومك ‪ِ ,‬‬
‫ذّر ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬القرب فالقرب ِ‬
‫وح ِ‬
‫عذابنا ‪ ,‬أن ينزل بهم‪.‬‬
‫ن "(‪)215‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن اتَّبَعَ َ‬
‫ك ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬
‫ك لِ َ‬ ‫جنَا َ‬
‫ض َ‬
‫خ ِف ْ‬
‫" وَا ْ‬
‫ن جانبك وكلمك تواضعًا ورحمة لمن ظهر لك منه‬ ‫َ‬
‫وأل ِ ْ‬
‫إجابة دعوتك‪.‬‬
‫ملُو َ‬
‫ن "(‪)216‬‬ ‫م َّ‬
‫ما تَعْ َ‬ ‫ل إِن ِّي بَرِيءٌ ِ‬ ‫صوْ َ‬
‫ك فَقُ ْ‬ ‫" فَإ ِ ْ‬
‫ن عَ َ‬
‫فإن خالفوا أمرك ولم يتبعوك ‪ ,‬فتبَّرأ من أعمالهم ‪ ,‬وما‬
‫هم عليه من الشرك والضلل‪.‬‬
‫ل ع َلَى الْعَزِيزِ الَّر ِ‬
‫حيم ِ "(‪)217‬‬ ‫وَتَوَك َّ ْ‬ ‫"‬
‫م "(‪)218‬‬ ‫ن تَقُو ُ‬ ‫حي َ‬
‫ك ِ‬ ‫الَّذِي يََرا َ‬ ‫"‬
‫ن "(‪)219‬‬ ‫جدِي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ك فِي ال َّ‬ ‫وَتَقَلُّب َ َ‬ ‫"‬
‫م "(‪)220‬‬ ‫ميعُ الْعَل ِي ُ‬ ‫ه هُوَ ال َّ‬
‫س ِ‬ ‫إِن َّ ُ‬ ‫"‬
‫ض أمرك إلى الله العزيز الذي ل يغالَب‪ ,‬الرحيم الذي‬ ‫وفَوِّ ْ‬
‫ل يخذل أولياءه ‪ ,‬وهو الذي يراك حين تقوم للصلة‪,‬‬
‫ُ‬
‫وحدك في جوف الليل ‪ ,‬ويرى تقل ّبك مع الساجدين في‬
‫سا‪ ,‬إنه‪ -‬سبحانه‪-‬‬
‫ما وراكعًا وساجدًا وجال ً‬
‫صلتهم معك قائ ً‬
‫هو السميع لتلوتك وذكرك‪ ,‬العليم بنيتك وعملك‪.‬‬
‫ل ال َّ‬ ‫" هَ ْ ُ‬
‫ن "(‪)221‬‬
‫شيَاطِي ُ‬ ‫ن تَنََّز ُ‬‫م ْ‬ ‫م ع َلَى َ‬ ‫ل أنَبِّئُك ُ ْ‬
‫ك أثِيم ٍ "(‪)222‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫" تَنََّز ُ‬
‫ل أف ا ٍ‬ ‫ل ع َلى ك ِ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)223‬‬ ‫و‬
‫ُِ َ‬ ‫ب‬ ‫ذ‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ ُ ْ‬ ‫ر‬ ‫ثَ‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ع‬
‫ّ ْ َ َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫" يُلْقُو َ‬
‫من تنَّزل الشياطين؟ تنزل‬ ‫هل أخبركم‪ -‬أيها الناس‪ -‬على َ‬
‫على كل كذَّاب كثير الثام من الكهنة‪ ,‬ي َ ْ‬
‫ستَرِقُ الشياطين‬
‫السمع‪ ,‬يتخطفونه من المل العلى‪ ,‬فيلقونه إلى الكهان‪,‬‬
‫ن الفسقة‪ ,‬وأكثر هؤلء كاذبون‪,‬‬ ‫م َ‬
‫من جرى مجراهم ِ‬ ‫و َ‬
‫من مائة كذبة‪.‬‬‫صدُقَ أحدهم في كلمة‪ ,‬فيزيد فيها أكثر ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن "(‪)224‬‬ ‫م الْغَاوُو َ‬ ‫شعََراءُ يَتَّبِعُهُ ُ‬ ‫" وال ُّ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)225‬‬
‫مو َ‬
‫ل وَاد ٍ يَهِي ُ‬ ‫ُ‬
‫م فِي ك ِّ‬ ‫م تََر أن ّهُ ْ‬ ‫" أل َ ْ‬
‫ن "(‪)226‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ل يَفْعَلو َ‬ ‫ن َ‬‫م يَقُولو َ‬ ‫" وَأن ّهُ ْ‬
‫والشعراء يقوم شعرهم على الباطل والكذب‪ ,‬ويجاريهم‬
‫من أمثالهم‪ .‬ألم تر ‪ -‬أيها النبي ‪ -‬أنهم‬
‫الضالون الزائغون ِ‬
‫من‬ ‫يذهبون كالهائم على وجهه‪ ,‬يخوضون في كل فن ِ‬
‫فنون الكذب والزور وتمزيق العراض والطعن في‬
‫النساب وتجريح النساء العفائف ‪ ,‬وأنهم يقولون ما ل‬
‫يفعلون‪ ,‬يبالغون في مدح أهل الباطل‪ ,‬وينتقصون أهل‬
‫الحق؟‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ن ظَل َ ُ‬
‫موا‬ ‫م ال ّذِي َ‬
‫سيَعْل َ ُ‬ ‫ما ظُل ِ ُ‬
‫موا وَ َ‬ ‫ن بَعْد ِ َ‬
‫م ْ‬
‫صُروا ِ‬ ‫ت وَذ َكَُروا الل ّ َ‬
‫ه كَثِيًرا وَانْت َ َ‬ ‫حا ِ‬ ‫ملُوا ال َّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫منُوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫" إ ِ ّل ال ّذِي َ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)227‬‬ ‫ب يَنْقَل ِبُو َ‬‫منْقَل َ ٍ‬
‫أيَّ ُ‬
‫استثنى الله من الشعراءِ الشعراءَ الذين اهتدَوْا باليمان‬
‫من ذِكْر الله فقالوا الشعر في‬ ‫وعملوا الصالحات‪ ,‬وأكثروا ِ‬
‫ل ذكره‪ ,‬والدفاع عن‬ ‫َ‬ ‫توحيد الله ‪ -‬سبحانه‪ -‬والثناء ‪ ,‬عليه ج ّ‬
‫رسوله محمد صلى الله عليه وسلم‪ ,‬وتكلموا بالحكمة‬
‫والموعظة‪ ,‬الداب الحسنة ‪ ,‬وانتصروا للسلم ‪ ,‬يهجون‬
‫من يهجوه أو يهجو رسوله‪ ,‬ردًّا على الشعراء الكافرين‪.‬‬ ‫َ‬
‫وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ‪,‬‬
‫وظلموا غيرهم بغمط حقوقهم‪ ,‬أو العتداء عليهم‪ ,‬أو‬
‫بالتُّهم الباطلة‪ ,‬أي مرجع من مراجع الشر والهلك‬
‫يرجعون إليه؟ إنَّه منقلب سوء‪ ,‬نسأل الله السلمة‬
‫والعافية‪.‬‬
‫سورة النمل‬

‫ن "( )‬ ‫ب ُمبِي ٍ‬
‫ن َو ِكتَا ٍ‬ ‫‪1‬‬
‫" طس تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلقُرْآ ِ‬
‫"طس" سبق الكلم على الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة‪ .‬هذه آيات القرآن‪ ،‬وهي آيات الكتاب العزيز‪ ،‬بينة المعنى‪ ,‬واضحة‬
‫الدللة‪ ,‬على ما فيه من العلوم والحكم والشرائع‪ .‬فالقرآن هو الكتاب‪ ،‬جمع ال له بين السمين‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫" هُدًى َوبُشْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ "( )‬

‫‪3‬‬
‫لةَ َوُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ وَهُ ْم بِالْخِ َرةِ ُه ْم يُو ِقنُونَ "( )‬
‫ن ُيقِيمُونَ الصّ َ‬
‫" الّذِي َ‬
‫وهي آيات ترشد إلى طريق الفوز في الدنيا والخرة‪ ,‬وتبشر بحسن الثواب للمؤمنين الذين صَدّقوا بها‪ ,‬واهت َدوْا بهديها‪ ,‬الذين يقيمون‬
‫الصلوات الخمس كاملة الركان‪ ,‬مسوفية الشروط‪ ,‬ويؤدون الزكاة المفروضة لمستحقيها‪ ,‬وهم يوقنون بالحياة الخرة‪ ,‬وما فيها مِن ثواب‬
‫وعقاب‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫عمَاَلهُمْ َفهُ ْم َيعْ َمهُونَ "( )‬
‫ن بِالْخِرَةِ َزّينّا َلهُمْ أَ ْ‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫" ِإنّ الّذِي َ‬

‫ن "(‪)5‬‬
‫ب وَهُمْ فِي الْخِ َرةِ هُمُ الَْخْسَرُو َ‬
‫" أُوَل ِئكَ الّذِينَ َلهُمْ سُوءُ ا ْلعَذَا ِ‬
‫سنّا لهم أعمالهم السيئة‪ ,‬فرأوها حسنة‪ ,‬فهم يترددون فيها متحيّرين‪ .‬أولئك الذين لهم‬
‫إن الذين ل يُصَدّقون بالدار الخرة‪ ,‬ول يعملون لها ح ّ‬
‫العذاب السيّئ في الدنيا قتلً وأَسْرَا وذلً وهزيمةً‪ ,‬وهم في الخرة أشد الناس خسرانًا‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫حكِيمٍ عَلِيمٍ "( )‬
‫ن مِنْ لَ ُدنْ َ‬
‫" وَِإّنكَ َلتَُلقّى ا ْلقُرْآ َ‬
‫وإنك ‪-‬أيها الرسول‪ -‬لتتلقى القرآن من عند ال‪ ,‬الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا‪.‬‬

‫ن "( )‬ ‫صطَلُو َ‬‫‪7‬‬


‫شهَابٍ َق َبسٍ َلعَّلكُ ْم تَ ْ‬
‫خبَرٍ َأ ْو آتِيكُ ْم بِ ِ‬
‫ت نَارًا سَآتِيكُ ْم مِ ْنهَا بِ َ‬
‫س ُ‬
‫ل مُوسَى لَِهْلِهِ ِإنّي آنَ ْ‬
‫" إِذْ قَا َ‬
‫ت نارًا سآتيكم منها بخبر يدلنا على الطريق‪ ,‬أو آتيكم‬
‫اذكر قصة موسى حين قال لهله في مسيره من "مدين" إلى "مصر"‪ :‬إني أبصَ ْر ُ‬
‫بشعلة نار; كي تستدفئوا بها من البرد‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫سبْحَانَ الِّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ "( )‬
‫ح ْوَلهَا وَ ُ‬
‫ك مَنْ فِي النّا ِر َومَنْ َ‬
‫ن بُو ِر َ‬
‫" فََلمّا جَاءَهَا نُودِيَ َأ ْ‬

‫‪9‬‬
‫حكِي ُم "( )‬
‫" يَا مُوسَى ِإنّهُ َأنَا الُّ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬

‫)‬‫" وَأَْلقِ عَصَاكَ َفَلمّا رَآهَا تَ ْهتَ ّز كَأَّنهَا جَا ّن وَلّى مُ ْدبِرًا وَلَ ْم ُي َعقّ ْب يَا مُوسَى َل تَخَفْ ِإنّي َل يَخَافُ لَ َديّ اْلمُرْسَلُو َن "(‪10‬‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ "(‪)11‬‬ ‫سنًا بَعْدَ سُوءٍ فَِإنّي َ‬‫ن ظَلَ َم ثُ ّم بَدّلَ حُ ْ‬
‫ل مَ ْ‬‫" ِإ ّ‬

‫سقِينَ "(‪)12‬‬‫ن وَ َق ْومِهِ ِإنّهُ ْم كَانُوا َقوْمًا فَا ِ‬


‫عوْ َ‬
‫غيْرِ سُوءٍ فِي تِسْ ِع آيَاتٍ إِلَى فِرْ َ‬
‫ك تَخْ ُرجْ َبيْضَا َء مِنْ َ‬ ‫جيْ ِب َ‬
‫ل يَ َدكَ فِي َ‬ ‫خْ‬‫" وَأَدْ ِ‬
‫فلما جاء موسى النارَ ناداه ال وأخبره أن هذا مكانٌ قدّسه ال وباركه فجعله موضعًا لتكليم موسى وإرساله‪ ,‬وأن ال بارك مَن في النار‬
‫ومَن حولها مِنَ الملئكة‪ ,‬وتنزيهًا ل رب الخلئق عما ل يليق به‪ .‬يا موسى إنه أنا ال المستحق للعبادة وحدي‪ ,‬العزيز الغالب في انتقامي‬
‫من أعدائي‪ ,‬الحكيم في تدبير خلقي‪ .‬وألق عصاك فألقاها فصارت حية‪ ,‬فلما رأها تتحرك في خفة تَحَ ّركَ الحية السريعة ولّى هاربًا ولم‬
‫يرجع إليها‪ ,‬فطمأنه ال بقوله‪ :‬يا موسى ل تَخَفْ‪ ,‬إني ل يخاف لديّ من أرسلتهم برسالتي‪ ,‬لكن مَن تجاوز الح ّد بذنب‪ ,‬ثم تاب فبدّل حُسْن‬
‫التوبة بعد قبح الذنب‪ ,‬فإني غفور له رحيم به‪ ,‬فل ييئس أحدٌ من رحمة ال ومغفرته‪ .‬وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء كالثلج من غير‬
‫بَرَص في جملة تسع معجزات‪ ،‬وهي مع اليد‪ :‬العصا‪ ،‬والسنون‪ ،‬ونقص الثمرات‪ ،‬والطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬وال ُقمّل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم؛‬
‫لتأييدك في رسالتك إلى فرعون وقومه‪ ,‬إنهم كانوا قومًا خارجين عن أمر ال كافرين به‪.‬‬

‫)‬ ‫‪13‬‬
‫" فََلمّا جَا َء ْتهُمْ آيَا ُتنَا مُبْصِ َرةً قَالُوا هَذَا سِحْ ٌر ُمبِينٌ "(‬
‫ح بيّن‪.‬‬
‫فلما جاءتهم هذه المعجزات ظاهرة بيّنة يبصر بها مَن نظر إليها حقيقةَ ما دلت عليه‪ ,‬قالوا‪ :‬هذا سح ٌر واض ٌ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)14‬‬ ‫سدِي َ‬ ‫ة ال ْ ُ‬
‫مفْ ِ‬ ‫ن ع َاقِب َ ُ‬ ‫ما وَع ُلُوًّا فَانْظُْر كَي ْ َ‬
‫ف كَا َ‬ ‫م ظُل ْ ً‬ ‫سهُ ْ‬‫ستَيْقَنَتْهَا أنْفُ ُ‬ ‫حدُوا بِهَا وَا ْ‬ ‫ج َ‬
‫" وَ َ‬
‫وكذَّبوا بالمعجزات التسع الواضحة الدللة على صدق‬
‫موسى في نبوته وصدق دعوته‪ ,‬وأنكروا بألسنتهم أن‬
‫تكون من عند الله‪ ,‬وقد استيقنوها في قلوبهم اعتداءً على‬
‫الحق وتكبًرا على العتراف به‪ ,‬فانظر ‪-‬أيها الرسول‪ -‬كيف‬
‫كان مصير الذين كفروا بآيات الله وأفسدوا في الرض‪ ,‬إذ‬
‫أغرقهم الله في البحر؟ وفي ذلك عبرة لمن يعتبر‪.‬‬
‫ن "(‪)15‬‬ ‫عبَادِهِ ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫منِي َ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫مد ُ ل ِلَّهِ الَّذِي فَ َّ‬
‫ضلَنَا ع َلَى كَثِيرٍ ِ‬ ‫ما وَقَاَل ال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫عل ْ ً‬
‫ن ِ‬ ‫سلَي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫" وَلَقَد ْ آتَيْنَا دَاوُد َ وَ ُ‬
‫ما فعمل به‪ ,‬وقال‪ :‬الحمد لله‬‫ولقد آتينا داود وسليمان عل ً‬
‫ضلنا بهذا على كثير من عباده المؤمنين‪ .‬وفي الية‬‫الذي ف َّ‬
‫دليل على شرف العلم‪ ,‬وارتفاع أهله‪.‬‬
‫َ‬
‫منْطِقَ الط ّيْرِ وَأُوتِينَا ِ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ن هَذ َا لَهُوَ الْفَ ْ‬
‫ض ُ‬ ‫يءٍ إ ِ َّ‬ ‫ن ك ُ ِّ‬
‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬ ‫س ع ُل ِّ ْ‬
‫منَا َ‬ ‫ل يَا أيُّهَا النَّا ُ‬
‫ن دَاوُد َ وَقَا َ‬ ‫سلَي ْ َ‬
‫ما ُ‬ ‫ث ُ‬
‫" وَوَرِ َ‬
‫ن "(‪)16‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مبِي ُ‬
‫وورث سليمان أباه داود في النبوة والعلم والملك‪ ,‬وقال‬
‫سليمان لقومه‪ :‬يا أيها الناس عُل ِّمنا وفُهِّمنا كلم الطير‪,‬‬
‫من كل شيء تدعو إليه الحاجة‪ ,‬إن هذا الذي‬ ‫ُ‬
‫وأعطينا ِ‬
‫ميِّزنا‬
‫أعطانا الله تعالى إياه لهو الفضل الواضح الذي ي ُ َ‬
‫من سوانا‪.‬‬ ‫على َ‬
‫َ‬
‫ن "(‪)17‬‬ ‫س وَالط ّيْرِ فَهُ ْ‬
‫م يُوَزع ُو َ‬ ‫ْ‬
‫ن وَالِن ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ِ‬
‫ج ِّ‬ ‫م َ‬
‫جنُودُه ُ ِ‬
‫ن ُ‬ ‫سلَي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫شَر ل ِ ُ‬
‫ح ِ‬
‫" وَ ُ‬
‫مع لسليمان جنوده من الجن والنس والطير في‬ ‫ج ِ‬
‫و ُ‬
‫ملين‪ ,‬بل كان‬
‫مسيرة لهم‪ ,‬فهم على كثرتهم لم يكونوا مه َ‬
‫على كل جنس من يَُرد ُّ أولهم على آخرهم; كي يقفوا‬
‫جميعًا منتظمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جنُودُهُ‬
‫ن وَ ُ‬ ‫سلَي ْ َ‬
‫ما ُ‬ ‫من َّك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫حط ِ َ‬ ‫م َل ي َ ْ‬‫ساكِنَك ُ ْ‬ ‫خلُوا َ‬
‫م َ‬ ‫ل اد ْ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫مل َ ٌ‬
‫ة يَا أيُّهَا الن َّ ْ‬ ‫ت نَ ْ‬‫ل قَال َ ْ‬‫م ِ‬‫حتَّى إِذ َا أتَوْا ع َلَى وَادِي الن َّ ْ‬ ‫" َ‬
‫ن "(‪)18‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫م َل ي َ ْ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫م َ‬
‫ل‬ ‫ي وع َلَى والِديَ وأ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك الَّتِي أ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل رب أَوزع ْنِي أ َن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫" فَت‬
‫ن أعْ َ‬‫َ َ ّ َ ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫َل‬ ‫ع‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫مت‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫نِ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫شك‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ِه‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ْ ْ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫حك‬
‫ِ‬ ‫ضا‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫س‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫َ‬
‫ن "(‪)19‬‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬‫ك ال َّ‬‫عبَاد ِ َ‬ ‫ك فِي ِ‬ ‫متِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫خلْن ِي بَِر ْ‬ ‫ضاه ُ وَأَد ْ ِ‬ ‫حا تَْر َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫َ‬
‫حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة‪ :‬يا أيها النمل ادخلوا‬
‫مساكنكم ل يهلكنَّكم سليمان وجنوده‪ ,‬وهم ل يعلمون‬
‫بذلك‪ .‬فتبسم ضاحكًا من قول هذه النملة لفهمها واهتدائها‬
‫إلى تحذير النمل‪ ,‬واستشعر نعمة الله عليه‪ ,‬فتو َّ‬
‫جه إليه‬
‫مني‪ ,‬ووفقني‪ ,‬أن أشكر نعمتك التي أنعمت‬ ‫ب ألْهِ ْ‬
‫داعيًا‪ :‬ر ِّ‬
‫حا ترضاه مني‪,‬‬ ‫ي وعلى والديَّ‪ ,‬وأن أعمل عمًل صال ً‬ ‫عل َّ‬
‫وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين‬
‫الذين ارتضيت أعمالهم‪.‬‬

‫ن الْغَائِبِي َ‬
‫ن "(‪)20‬‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫م كَا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ي َل أَرى الْهُدْهُد َ أ ْ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫" وَت َ َفقَّد َ الطَّيَْر فَقَا َ‬
‫ل َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن "(‪)21‬‬ ‫مبِي ٍ‬‫ن ُ‬ ‫سلطا ٍ‬ ‫ه أوْ ليَأتِيَن ِّي ب ِ ُ‬
‫حن ّ ُ‬ ‫شدِيدًا أوْ لذْب َ َ‬ ‫" َلعَذِّبَن َّ ُ‬
‫ه عَذ َابًا َ‬
‫وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له وحال ما غاب‬
‫منها‪ ,‬وكان عنده هدهد متميز معروف فلم يجده‪ ,‬فقال‪:‬‬
‫ستَره ساتر عني‪ ,‬أم‬ ‫ما لي ل أرى الهدهد الذي أعهده؟ أ َ‬
‫أنه كان من الغائبين عني‪ ,‬فلم أره لغيبته؟ فلما ظهر أنه‬
‫غائب قال‪ :‬لعذب َّ‬
‫ن هذا الهدهد عذابًا شديدًا لغيابه تأديبًا‬
‫له‪ ,‬أو لذبحنَّه عقوبة على ما فعل حيث أخل بما سخر له‪,‬‬
‫أو ليأتينِّي بحجة ظاهرة‪ ,‬فيها عذر لغيبته‪.‬‬
‫ح ْ‬ ‫ث غَير بعِيد ٍ فَقَا َ َ‬
‫ن "(‪)22‬‬
‫سبَإ ٍ بِنَبَإ ٍ يَقِي ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫جئْت ُ َ‬
‫ك ِ‬ ‫ط بِهِ وَ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م تُ ِ‬ ‫ت بِ َ‬
‫حط ُ‬
‫لأ َ‬ ‫مك َ َ ْ َ َ‬
‫" فَ َ‬
‫فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد ثم حضر فعاتبه سليمان على‬
‫ُ‬
‫مغيبه وتخل ّفه‪ ,‬فقال له الهدهد‪ :‬علمت ما لم تعلمه من‬
‫المر على وجه الحاطة‪ ,‬وجئتك من مدينة "سبأ" بـ‬
‫"اليمن" بخبر خطير الشأن‪ ,‬وأنا على يقين منه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫" إن ِّي وجدت ا َ‬
‫م "(‪)23‬‬ ‫يءٍ وَلَهَا عَْر ٌ‬
‫ش عَظِي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن ك ُ ِّ‬
‫ل َ‬ ‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫مل ِكُهُ ْ‬
‫م وَأوتِي َ ْ‬ ‫مَرأة ً ت َ ْ‬
‫َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫إني وجدت امرأةً تحكم أهل "سبأ"‪ ,‬وأوتيت من كل شيء‬
‫من أسباب الدنيا‪ ,‬ولها سرير عظيم القدر‪ ,‬تجلس عليه‬
‫لدارة ملكها‪.‬‬
‫شيطَا َ‬ ‫َ‬
‫ل فَهُ ْ‬
‫م‬ ‫ن ال َّ‬
‫سبِي ِ‬ ‫صدَّهُ ْ‬
‫م عَ ِ‬ ‫مالَهُ ْ‬
‫م فَ َ‬ ‫ن أع ْ َ‬
‫ُ‬ ‫م ال َّ ْ‬
‫ن لَهُ ُ‬
‫ن الل ّهِ وََزي َّ َ‬
‫ن دُو ِ‬
‫م ْ‬
‫س ِ‬
‫م ِ‬
‫ن ل ِل َّ‬
‫ش ْ‬ ‫جدُو َ‬
‫س ُ‬ ‫جدْتُهَا وَقَوْ َ‬
‫مهَا ي َ ْ‬ ‫" وَ َ‬
‫ن "(‪)24‬‬ ‫َل يَهْتَدُو َ‬
‫وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس معرضين عن عبادة‬
‫سن لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي كانوا‬ ‫الله‪ ,‬وح َّ‬
‫يعملونها‪ ,‬فصرفهم عن اليمان بالله وتوحيده‪ ,‬فهم ل‬
‫يهتدون إلى الله وتوحيده وعبادته وحده‪.‬‬
‫َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ن "(‪)25‬‬
‫ما تُعْل ِنُو َ‬
‫ن وَ َ‬
‫خفُو َ‬
‫ما ت ُ ْ‬ ‫ض وَيَعْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫ت وَالْر ِ‬
‫ماوَا ِ‬ ‫بءَ فِي ال َّ‬
‫س َ‬ ‫خ ْ‬‫ج ال ْ َ‬ ‫جدُوا ل ِل ّهِ ال ّذِي ي ُ ْ‬
‫خرِ ُ‬
‫َ‬
‫" أ ّل ي َ ْ‬
‫س ُ‬
‫َ‬
‫ش الْعَظِيم ِ "(‪)26‬‬ ‫ب الْعَْر ِ‬ ‫ه إ ِ ّل هُوَ َر ُّ‬‫ه َل إِل َ َ‬‫" الل ّ ُ‬
‫سن لهم الشيطان ذلك; لئل يسجدوا لله الذي يُخرج‬ ‫ح َّ‬
‫المخبوء المستور في السموات والرض من المطر‬
‫والنبات وغير ذلك‪ ,‬ويعلم ما تُسُّرون وما تظهرون‪ .‬الله‬
‫الذي ل معبود يستحق العبادة سواه‪ ,‬رب العرش العظيم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)27‬‬ ‫ن الْكَاذِبِي َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫م كُن ْ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫سنَنْظ ُر أصدَقْ َ‬ ‫ل َ‬‫" قَا َ‬
‫" اذْهب بكتاب ُي ه َذ َا فَأ َ‬
‫ن "(‪)28‬‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫ر‬‫ي‬ ‫َا‬ ‫ذ‬ ‫ما‬ ‫ر‬‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ان‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َن‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ّ‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ه‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ِ َِ ِ‬
‫َْ ِ ُ َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫ِ ِ ِ ِْ ْ ّ َ َ‬
‫قال سليمان للهدهد‪ :‬سنتأمل فيما جئتنا به من الخبر‬
‫أصدقت في ذلك أم كنت من الكاذبين فيه؟ اذهب بكتابي‬
‫هذا إلى أهل "سبأ" فأعطهم إياه‪ ,‬ثم تن َّ‬
‫ح عنهم قريبًا منهم‬
‫بحيث تسمع كلمهم‪ ,‬فتأمل ما يتردد بينهم من الكلم‪.‬‬
‫ي إِل َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫" قَال َت يَا أَيُّها ال ْ ُ‬
‫ب كَرِي ٌ‬
‫م "(‪)29‬‬ ‫ي كِتَا ٌ‬ ‫مَل إِن ِّي ألْقِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ذهب الهدهد وألقى الكتاب إلى الملكة فقرأته‪ ,‬فجمعت‬
‫أشراف قومها‪ ,‬وسمعها تقول لهم‪ :‬إني وصل إل َّ‬
‫ي كتاب‬
‫جليل المقدار من شخص عظيم الشأن‪.‬‬
‫َ‬
‫ن الَّر ِ‬
‫حيم ِ "(‪)30‬‬ ‫م ِ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الَّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫ن وَإِن َّ ُ‬
‫ه بِ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫سلَي ْ َ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫" إِن َّ َ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)31‬‬ ‫مي‬
‫ُ ْ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ونِي‬ ‫ت‬ ‫أ‬
‫ّ َ ُ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ي‬ ‫َل‬ ‫ع‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫" أ ّل َ ْ‬
‫ع‬‫ت‬
‫ثم بيَّنت ما فيه فقالت‪ :‬إنه من سليمان‪ ,‬وإنه مفتتح بـ‬
‫"بسم الله الرحمن الرحيم" أل تتكبروا ول تتعاظموا عما‬
‫دعوتكم إليه‪ ,‬وأقْبِلوا إل َّ‬
‫ي منقادين لله بالوحدانية والطاعة‬
‫مسلمين له‪.‬‬
‫ن "(‪)32‬‬ ‫حتَّى ت َ ْ‬ ‫" قَال َت يا أَيُها ال ْمَل ُ أَفْتُونِي فِي أ َمري ما كُن ْت قَاطِع ً َ‬
‫شهَدُو ِ‬ ‫مًرا َ‬
‫ةأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َّ‬
‫ي في هذا المر‪ ,‬ما كنت‬‫قالت‪ :‬يا أيها الشراف أشيروا عل َّ‬
‫لفصل في أمر إل بمحضركم ومشورتكم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ْ‬ ‫ح ُ ُ ُ‬
‫ن "(‪)33‬‬
‫مرِي َ‬ ‫ك فَانْظُرِي َ‬
‫ماذ َا تَأ ُ‬ ‫مُر إِلَي ْ ِ‬
‫شدِيد ٍ وَاْل ْ‬ ‫ن أولو قُوَّةٍ وَأولو بَأ ٍ‬
‫س َ‬ ‫" قَالُوا ن َ ْ‬
‫قالوا مجيبين لها‪ :‬نحن أصحاب قوة في العدد والعُدَّة‬
‫وأصحاب النجدة والشجاعة في شدة الحرب‪ ,‬والمر‬
‫ت صاحبة الرأي‪ ,‬فتأملي ماذا تأمريننا به؟‬
‫ك‪ ,‬وأن ِ‬
‫موكول إلي ِ‬
‫فنحن سامعون لمرك مطيعون لك‪.‬‬
‫َ‬
‫ك يَفْعَلُو َ‬
‫ن "(‪)34‬‬ ‫عَّزة َ أَهْل ِهَا أَذِل ّ ً‬
‫ة وَكَذَل ِ َ‬ ‫جعَلُوا أ َ ِ‬‫سدُوهَا وَ َ‬
‫خلُوا قَري ً َ‬
‫ة أف ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ك إِذ َا د َ َ‬‫ملُو َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫" قَال َ ْ‬
‫ت إ ِ َّ‬
‫ن "(‪)35‬‬ ‫سلو َ‬ ‫ُ‬ ‫مْر َ‬ ‫ْ‬
‫جعُ ال ُ‬ ‫م يَْر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م بِهَدِي ّةٍ فنَاظَِرة ٌ ب ِ َ‬ ‫َ‬
‫ة إِليْهِ ْ‬ ‫َ‬
‫سل ٌ‬ ‫مْر ِ‬ ‫" وَإِن ِّي ُ‬
‫قالت محذرة ً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة‪ ,‬ومبيِّنة‬
‫لهم سوء مغبَّة القتال‪ :‬إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم‬
‫ة عنوة ً وقهًرا خَّربوها وصيَّروا أعَّزة أهلها أذلة‪ ,‬وقتلوا‬
‫قري ً‬
‫وأسروا‪ ,‬وهذه عادتهم المستمرة الثابتة لحمل الناس على‬
‫أن يهابوهم‪ .‬وإني مرسلة إلى سليمان وقومه بهديَّة‬
‫مشتملة على نفائس الموال أصانعه بها‪ ,‬ومنتظرة ما‬
‫َ‬
‫يرجع به الرسل‪.‬‬
‫ما آتَاك ُم ب ْ َ‬
‫ن "(‪)36‬‬
‫حو َ‬ ‫م بِهَدِيَّتِك ُ ْ‬
‫م تَفَْر ُ‬ ‫ل أنْت ُ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫م َّ‬
‫خيٌْر ِ‬ ‫ي الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ل فَ َ‬
‫ما آتَانِ َ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ل أَت ُ ِ‬
‫مدُّونَن ِي ب ِ َ‬ ‫ن قَا َ‬ ‫سلَي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫جاءَ ُ‬ ‫" فَل َ َّ‬
‫ما َ‬
‫ما جاء رسول الملكة بالهديَّة إلى سليمان‪ ,‬قال‬ ‫فل َّ‬
‫َ‬
‫مستنكًرا ذلك متحدثًا بأنْعُم ِ الله عليه‪ :‬أتمدونني بما ٍ‬
‫ل‬
‫ة لي؟ فما أعطاني الله من النبوة والملك والموال‬ ‫تَْرضي ً‬
‫الكثيرة خير وأفضل مما أعطاكم‪ ،‬بل أنتم الذين تفرحون‬
‫بالهدية التي تُهدى إليكم; لنكم أهل مفاخرة بالدنيا‬
‫ومكاثرة بها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن "(‪)37‬‬
‫صاِغُرو َ‬
‫م َ‬ ‫منْهَا أَذِل ّ ً‬
‫ة وَهُ ْ‬ ‫جنَّهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫م بِهَا وَلَن ُ ْ‬
‫خرِ َ‬ ‫ل لَهُ ْ‬
‫جنُودٍ َل قِب َ َ‬ ‫م فَلَنَأتِيَنَّهُ ْ‬
‫م بِ ُ‬ ‫جعْ إِلَيْهِ ْ‬
‫" اْر ِ‬
‫وقال سليمان عليه السلم لرسول أهل "سبأ"‪ :‬ارجع‬
‫إليهم‪ ,‬فوالله لنأتينَّهم بجنود ل طاقة لهم بمقاومتها‬
‫من أرضهم أذلة‪,‬هم صاغرون‬ ‫ومقابلتها‪ ,‬ولنخرجنَّهم ِ‬
‫مهانون‪ ,‬إن لم ينقادوا لدين الله وحده‪ ,‬ويتركوا عبادة من‬
‫سواه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫شها قَب َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ل يا أَيُها ال ْ ُ َ‬
‫ن "(‪)38‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬
‫ن يَأتُون ِي ُ‬
‫لأ ْ‬ ‫مَل أيُّك ُ ْ‬
‫م يَأتِين ِي بِعَْر ِ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫" قَا َ َ ّ َ‬
‫س َّ‬
‫خرهم الله له من الجن‬ ‫قال سليمان مخاطبًا من َ‬
‫والنس‪ :‬أيُّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني‬
‫منقادين طائعين؟‬
‫ك وَإِن ِّي ع َلَيْهِ لَقَوِيٌّ أ َ ِ‬
‫م َ‬ ‫ك بهِ قَب َ َ‬ ‫عفْريت من ال ْج َ‬
‫ن "(‪)39‬‬
‫مي ٌ‬ ‫مقَا ِ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ن تَقُو َ‬
‫لأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ن أنَا آتِي َ ِ‬
‫ِ ِّ‬ ‫ٌ ِ َ‬ ‫" قَا َ‬
‫ل ِ‬
‫قال مارد قويُّ شديد من الجن‪ :‬أنا آتيك به قبل أن تقوم‬
‫مله‪ ,‬أمين على ما‬‫ح ْ‬‫من مجلسك هذا‪ ,‬وإني لقويٌّ على َ‬
‫فيه‪ ,‬آتي به كما هو ل أُنِقص منه شيئًا ول أبدله‪.‬‬
‫ك فَل َ َّ‬‫ك طَْرفُ َ‬ ‫ن يَْرتَد َّ إِلَي ْ َ‬ ‫ه قَب َ َ‬ ‫ب أَنَا آتِي َ‬ ‫" قَا َ َ‬
‫ل هَذ َا‬‫عنْدَه ُ قَا َ‬ ‫قًّرا ِ‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ما َرآه ُ ُ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ك بِ ِ ْ‬ ‫ن الْكِتَا ِ‬‫م َ‬ ‫عل ْ ٌ‬
‫م ِ‬ ‫ل ال ّذِي ِ‬
‫عنْدَه ُ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م "(‬‫ي كَرِي ٌ‬ ‫ن َربِّي غَن ِ ٌّ‬ ‫ن كَفََر فَإ ِ َّ‬ ‫م ْ‬ ‫شكُُر ل ِن َ ْف ِ‬
‫سهِ وَ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫شكََر فَإِن َّ َ‬‫ن َ‬‫م ْ‬‫م أكْفُُر وَ َ‬‫شكُُر أ ْ‬ ‫ل َربِّي ل ِيَبْلُوَن ِي أأ ْ‬
‫ض ِ‬‫ن فَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫‪)40‬‬
‫قال الذي عنده علم من الكتاب‪ :‬أنا آتيك بهذا العرش قبل‬
‫ت للنظر في شيء‪ .‬فأذن له‬ ‫ارتداد أجفانك إذا تحَّرك َ ْ‬
‫سليمان فدعا الله‪ ,‬فأتى بالعرش‪ .‬فلما رآه سليمان‬
‫من فضل ربي الذي‬ ‫حاضًرا لديه ثابتًا عنده قال‪ :‬هذا ِ‬
‫خلقني وخلق الكون كله؛ ليختبرني‪ :‬أأشكر بذلك اعترافًا‬
‫ي أم أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله‬ ‫بنعمته تعالى عل َّ‬
‫ن نَْفعَ ذلك يرجع إليه‪ ,‬ومن جحد النعمة‬ ‫على نعمه فإ َّ‬
‫وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره‪ ,‬كريم يعم بخيره‬
‫في الدنيا الشاكر والكافر‪ ,‬ثم يحاسبهم ويجازيهم في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن َل يَهْتَدُو َ‬
‫ن "( ‪)41‬‬ ‫ن ال ّذِي َ‬
‫م َ‬ ‫شهَا نَنْظُْر أتَهْتَدِي أ ْ‬
‫م تَكُو ُ‬
‫ن ِ‬ ‫ل نَكُِّروا لَهَا عَْر َ‬
‫" قَا َ‬
‫قال سليمان لمن عنده‪ :‬غيِّروا سرير ملكها الذي تجلس‬
‫عليه إلى حال تنكره إذا رأته; لنرى أتهتدي إلى معرفته أم‬
‫تكون من الذين ل يهتدون؟‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل أَهَكَذ َا عَْر ُ‬
‫ن "(‪)42‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ن قَبْل ِهَا وَكُنَّا ُ‬
‫م ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه هُوَ وَأوتِينَا الْعِل ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫ت كَأن َّ ُ‬
‫ك قَال َ ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ت قِي َ‬
‫جاءَ ْ‬ ‫" فَل َ َّ‬
‫ما َ‬
‫فلما جاءت ملكة "سبأ" إلى سليمان في مجلسه قيل لها‪:‬‬
‫أهكذا عرشك؟ قالت‪ :‬إنه يشبهه‪ .‬فظهر لسليمان أنها‬
‫أصابت في جوابها‪ ,‬وقد علمت قدرة الله وصحة نبوة‬
‫سليمان عليه السلم‪ ,‬فقال‪ :‬وأوتينا العلم بالله وبقدرته‬
‫من قبلها‪ ,‬وكنا منقادين لمر الله متبعين لدين السلم‪.‬‬‫ِ‬
‫َ‬
‫ن قَوْم ٍ كَافِرِي َ‬
‫ن "(‪)43‬‬ ‫م ْ‬ ‫ن الل ّهِ إِنَّهَا كَان َ ْ‬
‫ت ِ‬ ‫ن دُو ِ‬
‫م ْ‬
‫ت تَعْبُد ُ ِ‬ ‫صدَّهَا َ‬
‫ما كَان َ ْ‬ ‫" وَ َ‬
‫من دون الله‬
‫منَعَها عن عبادة الله وحده ما كانت تعبده ِ‬
‫و َ‬
‫تعالى‪ ,‬إنها كانت كافرة ونشأت بين قوم كافرين‪,‬‬
‫واستمرت على دينهم‪ ,‬وإل فلها من الذكاء والفطنة ما‬
‫تعرف به الحق من الباطل‪ ,‬ولكن العقائد الباطلة تُذهب‬
‫بصيرة القلب‪.‬‬
‫َ‬
‫ن قَوَارِيَر قَال َ ْ‬
‫ت‬ ‫مَّرد ٌ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ح ُ‬
‫صْر ٌ‬ ‫ل إِن َّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ساقَيْهَا قَا َ‬
‫ن َ‬ ‫ت عَ ْ‬ ‫شفَ ْ‬ ‫ة َوك َ َ‬
‫َ‬
‫ه ل ُ َّ‬
‫ج ً‬ ‫سبَت ْ ُ‬‫ح ِ‬
‫ه َ‬‫ما َرأت ْ ُ‬ ‫ح فَل َ َّ‬ ‫خل ِي ال َّ‬
‫صْر َ‬ ‫ل لَهَا اد ْ ُ‬
‫" قِي َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)44‬‬ ‫مي َ‬‫ب العَال ِ‬ ‫ن ل ِلهِ َر ِّ‬ ‫ما َ‬ ‫سلي ْ َ‬ ‫معَ ُ‬‫ت َ‬ ‫سل َ ْ‬
‫م ُ‬ ‫سي وَأ ْ‬ ‫ت نَفْ ِ‬
‫م ُ‬‫ب إِن ِّي ظَل َ ْ‬
‫َر ِّ‬
‫من زجاج تحته ماء‪,‬‬‫قيل لها‪ :‬ادخلي القصر‪ ,‬وكان صحنه ِ‬
‫فلما رأته ظنته ماء تتردد أمواجه‪ ,‬وكشفت عن ساقيها‬
‫لتخوض الماء‪ ,‬فقال لها سليمان‪ :‬إنه صحن أملس من‬
‫زجاج صاف والماء تحته‪ .‬فأدركت عظمة ملك سليمان‪,‬‬
‫وقالت‪ :‬رب إني ظلمت نفسي بما كنت عليه من الشرك‪,‬‬
‫وانقدت متابعة لسليمان داخلة في دين رب العالمين‬
‫َ‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫َ‬ ‫مود َ أ َ َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)45‬‬
‫مو َ‬
‫ص ُ‬
‫خت َ ِ‬ ‫م فَرِيقَا ِ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫ن اع ْبُدُوا الل ّ َ‬
‫ه فَإِذ َا هُ ْ‬ ‫حا أ ِ‬
‫صال ِ ً‬
‫م َ‬
‫خاهُ ْ‬ ‫سلْنَا إِلَى ثَ ُ‬
‫" وَلَقَد ْ أْر َ‬
‫حا‪ :‬أن و ِّ‬
‫حدوا الله‪ ,‬ول‬ ‫ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صال ً‬
‫ح داعيًا إلى توحيد‬
‫تجعلوا معه إلهًا آخر‪ ,‬فلما أتاهم صال ٌ‬
‫الله وعبادته وحده صار قومه فريقين‪ :‬أحدهما مؤمن به‪,‬‬
‫والخر كافر بدعوته‪ ,‬وكل منهم يزعم أن الحق معه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)46‬‬
‫مو َ‬
‫ح ُ‬ ‫ه لَعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُْر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫سنَةِ لَوَْل ت َ ْ‬
‫ستَغْفُِرو َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫سيِّئَةِ قَب ْ َ‬ ‫جلُو َ‬
‫ن بِال َّ‬ ‫ستَعْ ِ‬ ‫ل يَا قَوْم ِ ل ِ َ‬
‫م تَ ْ‬ ‫" قَا َ‬
‫م تبادرون الكفر وعمل‬‫قال صالح للفريق الكافر‪ :‬ل ِ َ‬
‫السيئات الذي يجلب لكم العذاب‪ ,‬وتؤخرون اليمان وفِعْل‬
‫الحسنات الذي يجلب لكم الثواب؟ هل تطلبون المغفرة‬
‫من الله ابتداء‪ ,‬وتتوبون إليه؛ رجاء أن ترحموا‪.‬‬
‫عنْد اللَّهِ ب ْ َ‬ ‫" قَالُوا اطَّيَّْرنَا ب ِ َ‬
‫ن "(‪)47‬‬ ‫م قَوْ ٌ‬
‫م تُفْتَنُو َ‬ ‫ل أنْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫م ِ َ‬‫ل طَائُِرك ُ ْ‬ ‫معَ َ‬
‫ك قَا َ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ك وَب ِ َ‬
‫منا بك وبمن معك ممن دخل في‬ ‫قال قوم صالح له‪ :‬تَشاءَ ْ‬
‫من خير أو شر فهو‬ ‫دينك‪ ,‬قال لهم صالح‪ :‬ما أصابكم الله ِ‬
‫ختَبرون‬
‫مقدِّره عليكم ومجازيكم به‪ ,‬بل أنتم قوم ت ُ ْ‬
‫بالسراء والضراء والخير والشر‪.‬‬
‫َْ‬
‫ن "(‪)48‬‬
‫حو َ‬ ‫ض وََل ي ُ ْ‬
‫صل ِ ُ‬ ‫ن فِي الْر ِ‬
‫سدُو َ‬
‫ط يُفْ ِ‬
‫ة َرهْ ٍ‬
‫سعَ ُ‬ ‫ن فِي ال ْ َ‬
‫مدِينَةِ تِ ْ‬ ‫" وَكَا َ‬
‫جر" الواقعة في شمال‬
‫ح ْ‬
‫وكان في مدينة صالح ‪-‬وهي "ال ِ‬
‫غرب جزيرة العرب‪ -‬تسعة رجال‪ ,‬شأنهم الفساد في‬
‫الرض‪ ,‬الذي ل يخالطه شيء من الصلح‪.‬‬
‫شهدنَا مهل ِ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك أهْلِهِ وَإِن َّا ل َ َ‬
‫صادِقُو َ‬
‫ن "(‪)49‬‬ ‫ما َ ِ ْ َ ْ‬ ‫م لَنَقُول َ َّ‬
‫ن ل ِوَل ِي ِّهِ َ‬ ‫ه وَأهْل َ ُ‬
‫ه ث ُ َّ‬ ‫موا بِالل ّهِ لَنُبَي ِّتَن َّ ُ‬ ‫" قَالُوا تَقَا َ‬
‫س ُ‬
‫قال هؤلء التسعة بعضهم لبعض‪ :‬تقاسموا بالله بأن يحلف‬
‫حا بغتة في الليل فنقتله‬
‫ن صال ً‬ ‫كل واحد للخرين‪ :‬لنأتي َّ‬
‫من قرابته‪ :‬ما حضرنا‬ ‫ي الدم ِ‬‫ن لول ِ ّ‬ ‫ونقتل أهله‪ ,‬ثم لنقول َ َّ‬
‫قتلهم‪ ,‬وإنا لصادقون فيما قلناه‪.‬‬
‫ن "(‪)50‬‬ ‫م َل ي َ ْ‬
‫شعُُرو َ‬ ‫مكًْرا وَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫مكَْرنَا َ‬
‫مكًْرا وَ َ‬
‫مكَُروا َ‬
‫" وَ َ‬
‫ودبَّروا هذه الحيلة لهلك صالح وأهله مكًرا منهم‪ ,‬فنصرنا‬
‫حا عليه السلم‪ ,‬وأخذناهم بالعقوبة على ِغَّرة‪,‬‬
‫نبينا صال ً‬
‫وهم ل يتوقعون كيدنا لهم جزاءً على كيدهم‪.‬‬
‫مرنَاهُم وقَومه َ‬ ‫ة مكْره ِ َ‬
‫ن "(‪)51‬‬
‫معِي َ‬
‫ج َ‬
‫مأ ْ‬‫ْ َ ْ َ ُ ْ‬ ‫م أنَّا د َ َّ ْ‬
‫ن ع َاقِب َ ُ َ ِ ْ‬ ‫" فَانْظُْر كَي ْ َ‬
‫ف كَا َ‬
‫فانظر ‪-‬أيها الرسول‪ -‬نظرة اعتبار إلى عاقبة غَدْر هؤلء‬
‫الرهط بنبيهم صالح؟ أنا أهلكناهم وقومهم أجمعين‪.‬‬
‫ن "(‪)52‬‬ ‫ة لِقَوْم ٍ يَعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ك َلي َ ً‬ ‫ما ظَل َ ُ‬
‫موا إ ِ َّ‬
‫ن فِي ذَل ِ َ‬ ‫ة بِ َ‬
‫خاوِي َ ً‬
‫م َ‬ ‫" فَتِل ْ َ‬
‫ك بُيُوتُهُ ْ‬
‫فتلك مساكنهم خالية ليس فيها منهم أحد‪ ,‬أهلكهم الله;‬
‫بسبب ظلمهم لنفسهم بالشرك‪ ,‬وتكذيب نبيهم‪ .‬إن في‬
‫ذلك التدمير والهلك لَعظة لقوم يعلمون ما فعلناه بهم‪,‬‬
‫وهذه سنتنا فيمن يكذب المرسلين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫منُوا وَكَانُوا يَتَّقُو َ‬
‫ن "(‪)53‬‬ ‫جيْنَا ال ّذِي َ‬
‫نآ َ‬ ‫" وَأن ْ َ‬
‫حا والمؤمنين به‪,‬‬
‫ل بثمود من الهلك صال ً‬ ‫وأنجينا مما ح َّ‬
‫الذين كانوا يتقون بإيمانهم عذاب الله‪.‬‬
‫ش َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ن "(‪)54‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م تُب ْ ِ‬
‫ة وَأنْت ُ ْ‬ ‫ن الْفَا ِ‬
‫ح َ‬ ‫مهِ أتَأتُو َ‬‫ل لِقَوْ ِ‬‫" وَلُوطًا إِذ ْ قَا َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن "(‪)55‬‬
‫جهَلو َ‬
‫م تَ ْ‬ ‫َ‬
‫م قوْ ٌ‬ ‫ْ‬
‫ساءِ ب َل أنْت ُ ْ‬ ‫ن الن ِّ َ‬
‫ن دُو ِ‬‫م ْ‬ ‫شهْوَة ً ِ‬ ‫َ‬
‫جال َ‬ ‫ن الّرِ َ‬‫م لَتَأتُو َ‬‫" أئِنَّك ُ ْ‬
‫واذكر لوطًا إذ قال لقومه‪ :‬أتأتون الفعلة المتناهية في‬
‫القبح‪ ,‬وأنتم تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال في‬
‫ضا عن النساء؟ بل أنتم قوم تجهلون‬ ‫أدبارهم للشهوة عو ً‬
‫حقَّ الله عليكم‪ ,‬فخالفتم بذلك أمره‪ ,‬وع َصيْتُم رسوله‬
‫بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين‪.‬‬
‫حشَ َة وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ ْ} إلى آخر القصة‪.‬‬
‫{ ‪ { }ْ 58 - 54‬وَلُوطًا ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَا ِ‬

‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا لوطا ونبأه الفاضل حين قال لقومه ‪-‬داعيا إلى ال وناصحا‪ { :-‬أَتَأْتُونَ‬
‫شةَ ْ} أي‪ :‬الفعلة الشنعاء التي تستفحشها العقول والفطر وتستقبحها الشرائع { وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ‬
‫ا ْلفَاحِ َ‬
‫ْ} ذلك وتعلمون قبحه فعاندتم وارتكبتم ذلك ظلما منكم وجرأة على ال‪.‬‬

‫ش ْهوَةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ ْ} أي‪ :‬كيف توصلتم إلى‬


‫ثم فسر تلك الفاحشة فقال‪ { :‬أَئِ ّن ُكمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ‬
‫هذه الحال‪ ،‬صارت شهوتكم للرجال‪ ،‬وأدبارهم محل الغائط والنجو والخبث‪ ،‬وتركتم ما خلق ال‬
‫لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها وأنتم انقلب عليكم المر‬
‫جهَلُونَ ْ} متجاوزون لحدود ال متجرئون على‬
‫فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن { َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ َت ْ‬
‫محارمه‪.‬‬

‫جوَابَ َق ْومِهِ ْ} قبول ول انزجار ول تذكر وادكار‪ ،‬إنما كان جوابهم المعارضة‬
‫{ َفمَا كَانَ َ‬
‫والمناقضة والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم المين بالجلء عن وطنه والتشريد عن بلده‪ .‬فما‬
‫كان جواب قومه { إِلّا أَنْ قَالُوا أَخْ ِرجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَ ِت ُكمْ ْ}‬

‫طهّرُونَ ْ} أي‪:‬‬
‫فكأنه قيل‪ :‬ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم الخراج‪ ،‬فقالوا‪ { :‬إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور‪ .‬فقبحهم ال جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات‪ ،‬ولم‬
‫يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى وصلوا إلى إخراجه‪ ،‬والبلء موكل بالمنطق فهم‬
‫طهّرُونَ ْ}‬
‫قالوا‪َ { :‬أخْرِجُو ُهمْ مِنْ قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّن ُهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ‬

‫ومفهوم هذا الكلم‪ " :‬وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ونجاة من‬
‫خرج منها "‬

‫ولهذا قال تعالى‪ { :‬فَأَنْجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ إِلّا امْرَأَ َتهُ قَدّرْنَاهَا مِنَ ا ْلغَابِرِينَ ْ} وذلك لما جاءته الملئكة في‬
‫صورة أضياف وسمع بهم قومه فجاءوا إليه يريدونهم بالشر وأغلق الباب دونهم واشتد المر‬
‫عليه‪ ،‬ثم أخبرته الملئكة عن جلية الحال وأنهم جاءوا لستنقاذه وإخراجه من بين أظهرهم وأنهم‬
‫يريدون إهلكهم وأن موعدهم الصبح‪ ،‬وأمروه أن يسري بأهله ليل إل امرأته فإنه سيصيبها ما‬
‫أصابهم فخرج بأهله ليل فنجوا وصبحهم العذاب‪ ،‬فقلب ال عليهم ديارهم وجعل أعلها أسفلها‬
‫وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك‪.‬‬
‫ولهذا قال هنا‪ { :‬وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ ا ْلمُنْذَرِينَ ْ} أي‪ :‬بئس المطر مطرهم وبئس‬
‫العذاب عذابهم لنهم أنذروا وخوفوا فلم ينزجروا ولم يرتدعوا فأحل ال بهم عقابه الشديد‪.‬‬

‫طفَى آللّهُ خَيْرٌ َأمّا ُيشْ ِركُونَ ْ}‬


‫حمْدُ ِللّ ِه وَسَلَامٌ عَلَى عِبَا ِدهِ الّذِينَ اصْ َ‬
‫{ ‪ُ { }ْ 59‬قلِ ا ْل َ‬

‫أي‪ :‬قل الحمد ل الذي يستحق كمال الحمد والمدح والثناء لكمال أوصافه وجميل معروفه وهباته‬
‫وعدله وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين‪ ،‬وسلم أيضا على عباده الذين تخيرهم‬
‫واصطفاهم على العالمين من النبياء والمرسلين وصفوة ال من العالمين‪ ،‬وذلك لرفع ذكرهم‬
‫وتنويها بقدرهم وسلمتهم من الشر والدناس‪ ،‬وسلمة ما قالوه في ربهم من النقائص والعيوب‪.‬‬

‫{ آللّهُ خَيْرٌ أمَا يُشْ ِركُونَ ْ} وهذا استفهام قد تقرر وعرف‪ ،‬أي‪ :‬ال الرب العظيم كامل الوصاف‬
‫عظيم اللطاف خير أم الصنام والوثان التي عبدوها معه‪ ،‬وهي ناقصة من كل وجه‪ ،‬ل تنفع ول‬
‫تضر ول تملك لنفسها ول لعابديها مثقال ذرة من الخير فال خير مما يشركون‪.‬‬

‫ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ما] سواه هي‬
‫الباطل فقال‪:‬‬

‫سمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَا ِئقَ ذَاتَ َب ْهجَةٍ مَا‬


‫ت وَالْأَ ْرضَ وَأَنْزَلَ َلكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪َ { }ْ 60‬أمّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫كَانَ َلكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللّهِ َبلْ ُهمْ َقوْمٌ َيعْ ِدلُونَ ْ}‬

‫أي‪ :‬أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملئكة والرض وما فيها من‬
‫جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك‪.‬‬

‫جةٍ } أي‪:‬‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ْ} أي‪ :‬بساتين { ذَاتَ َبهْ َ‬
‫{ وَأَنْ َزلَ َلكُمْ ْ} أي‪ :‬لجلكم { مِنَ ال ّ‬
‫حسن منظر من كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارها‪ { ،‬مَا كَانَ َلكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَ َرهَا ْ} لول منة‬
‫ال عليكم بإنزال المطر‪ { .‬أَإِلَهٌ مَعَ اللّهِ ْ} فعل هذه الفعال حتى يعبد معه ويشرك به؟ { َبلْ هُمْ َقوْمٌ‬
‫َيعْدِلُونَ ْ} به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل‬
‫الرزق‪.‬‬
‫ج َعلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ‬
‫سيَ وَ َ‬
‫ج َعلَ َلهَا َروَا ِ‬
‫خلَاَلهَا أَ ْنهَارًا وَ َ‬
‫ج َعلَ ِ‬
‫ج َعلَ الْأَ ْرضَ قَرَارًا وَ َ‬
‫{ ‪َ { }ْ 61‬أمّنْ َ‬
‫حَاجِزًا أَإَِلهٌ مَعَ اللّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ}‬

‫أي‪ :‬هل الصنام والوثان الناقصة من كل وجه التي ل فعل منها ول رزق ول نفع خير؟ أم ال‬
‫ج َعلَ الْأَ ْرضَ قَرَارًا ْ} يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث والبناء والذهاب‬
‫الذي { َ‬
‫ج َعلَ خِلَاَلهَا أَ ْنهَارًا } أي‪ :‬جعل في خلل الرض أنهارا ينتفع بها العباد في زروعهم‬
‫والياب‪َ { .‬و َ‬
‫وأشجارهم‪ ،‬وشربهم وشرب مواشيهم‪.‬‬

‫سيَ } أي‪ :‬جبال ترسيها وتثبتها لئل تميد وتكون أوتادا لها لئل تضطرب‪.‬‬
‫ج َعلَ َلهَا َروَا ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫ج َعلَ بَيْنَ الْ َبحْرَيْنِ } البحر المالح والبحر العذب { حَاجِزًا } يمنع من اختلطهما فتفوت المنفعة‬
‫{ وَ َ‬
‫المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من الرض‪ ،‬جعل مجرى النهار في الرض‬
‫مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها‪ { ،‬أَإِلَهٌ مَعَ اللّهِ ْ} فعل ذلك حتى يعدل به ال‬
‫ويشرك به معه‪َ { .‬بلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ} فيشركون بال تقليدا لرؤسائهم وإل فلو علموا حق العلم‬
‫لم يشركوا به شيئا‪.‬‬

‫جعَُلكُمْ خَُلفَاءَ الْأَ ْرضِ أَإَِلهٌ مَعَ اللّهِ قَلِيلًا‬


‫شفُ السّو َء وَيَ ْ‬
‫{ ‪َ { }ْ 62‬أمّنْ يُجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ ِإذَا دَعَاهُ وَ َيكْ ِ‬
‫مَا تَ َذكّرُونَ ْ}‬

‫أي‪ :‬هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلص مما هو‬
‫فيه إل ال وحده؟ ومن يكشف السوء أي‪ :‬البلء والشر والنقمة إل ال وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء‬
‫الرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه‬
‫سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع ال يفعل هذه الفعال؟ ل أحد يفعل مع ال شيئا من ذلك حتى‬
‫بإقراركم أيها المشركون‪ ،‬ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا ال مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده‬
‫المقتدر على دفعه وإزالته‪ { ،‬قَلِيلًا مَا تَ َذكّرُونَ ْ} أي‪ :‬قليل تذكركم وتدبركم للمور التي إذا‬
‫تذكرتموها ادّكرتم ورجعتم إلى الهدى‪ ،‬ولكن الغفلة والعراض شامل لكم فلذلك ما أرعويتم ول‬
‫اهتديتم‪.‬‬
‫حمَتِهِ أَإَِلهٌ مَعَ‬
‫سلُ الرّيَاحَ ُبشْرًا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ‬
‫ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْ ِر َومَنْ يُرْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 63‬أمّنْ َيهْدِيكُمْ فِي ُ‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ }‬
‫اللّهِ َتعَالَى اللّهُ َ‬

‫أي‪ :‬من هو الذي يهديكم حين تكونون في ظلمات البر والبحر‪ ،‬حيث ل دليل ول معلم يرى ول‬
‫وسيلة إلى النجاة إل هدايته لكم‪ ،‬وتيسيره الطريق وجعل ما جعل لكم من السباب التي تهتدون‬
‫حمَتِهِ } أي‪ :‬بين يدي المطر‪ ،‬فيرسلها فتثير السحاب ثم‬
‫سلُ الرّيَاحَ ُبشْرًا بَيْنَ َي َديْ رَ ْ‬
‫بها‪َ { ،‬ومَنْ يُرْ ِ‬
‫تؤلفه ثم تجمعه ثم تلقحه ثم تدره‪ ،‬فيستبشر بذلك العباد قبل نزول المطر‪ { .‬أَِإلَهٌ مَعَ اللّهِ } فعل‬
‫عمّا‬
‫ذلك؟ أم هو وحده الذي انفرد به؟ فلم أشركتم معه غيره وعبدتم سواه؟ { َتعَالَى اللّهُ َ‬
‫يُشْ ِركُونَ } تعاظم وتنزه وتقدس عن شركهم وتسويتهم به غيره‪.‬‬

‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ أَإَِلهٌ مَعَ اللّهِ ُقلْ هَاتُوا‬


‫{ ‪َ { } 64‬أمّنْ يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ َومَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫بُرْهَا َنكُمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ }‬

‫أي‪ :‬من هو الذي يبدأ الخلق وينشئ المخلوقات ويبتدئ خلقها‪ ،‬ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور؟‬
‫ومن يرزقكم من السماء والرض بالمطر والنبات؟‪.‬‬

‫{ أَِإلَهٌ مَعَ اللّهِ } يفعل ذلك ويقدر عليه؟ { ُقلْ هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ } أي‪ :‬حجتكم ودليلكم على ما قلتم‬
‫{ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وإل فبتقدير أنكم تقولون‪ :‬إن الصنام لها مشاركة له في شيء من ذلك فذلك‬
‫مجرد دعوى صدقوها بالبرهان‪ ،‬وإل فاعرفوا أنكم مبطلون ل حجة لكم‪ ،‬فارجعوا إلى الدلة‬
‫اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن ال هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن‬
‫تصرف له جميع أنواع العبادات‪.‬‬

‫شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ‬


‫ت وَالْأَ ْرضِ ا ْلغَ ْيبَ إِلّا اللّ ُه َومَا َي ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ُ { } 68 - 65‬قلْ لَا َيعْلَمُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫عمُونَ * َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ِئذَا كُنّا‬
‫شكّ مِ ْنهَا َبلْ هُمْ مِ ْنهَا َ‬
‫* َبلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ فِي الْآخِ َرةِ َبلْ ُهمْ فِي َ‬
‫ن وَآبَاؤُنَا مِنْ قَ ْبلُ إِنْ َهذَا إِلّا َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ * ُقلْ‬
‫تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنّا َل ُمخْرَجُونَ * َلقَ ْد وُعِدْنَا هَذَا َنحْ ُ‬
‫سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَانْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ }‬

‫يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والرض كقوله تعالى‪ { :‬وَعِنْ َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَا َيعَْل ُمهَا‬
‫ض وَلَا‬
‫ن وَ َرقَةٍ إِلّا َيعَْل ُمهَا وَلَا حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الْأَ ْر ِ‬
‫سقُطُ مِ ْ‬
‫إِلّا ُه َو وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْ ِر َومَا َت ْ‬
‫ث وَ َيعْلَمُ مَا‬
‫ب وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وكقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫ط ٍ‬
‫رَ ْ‬
‫فِي الْأَرْحَامِ } إلى آخر السورة‪.‬‬

‫فهذه الغيوب ونحوها اختص ال بعلمها فلم يعلمها ملك مقرب ول نبي مرسل‪ ،‬وإذا كان هو‬
‫المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا فهو الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬ثم‬
‫أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالخرة منتقل من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال‪َ { :‬ومَا‬
‫شعُرُونَ } أي‪ :‬وما يدرون { أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ } أي‪ :‬متى البعث والنشور والقيام من القبور أي‪ :‬فلذلك‬
‫يَ ْ‬
‫لم يستعدوا‪.‬‬

‫{ َبلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ فِي الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬بل ضعف‪ ،‬وقل ولم يكن يقينا‪ ،‬ول علما واصل إلى القلب‬
‫وهذا أقل وأدنى درجة للعلم ضعفه ووهاؤه‪ ،‬بل ليس عندهم علم قوي ول ضعيف وإنما { هُمْ فِي‬
‫شكّ مِ ْنهَا } أي‪ :‬من الخرة‪ ،‬والشك زال به العلم لن العلم بجميع مراتبه ل يجامع الشك‪َ { ،‬بلْ هُمْ‬
‫َ‬
‫عمُونَ } قد عميت عنها بصائرهم‪ ،‬ولم يكن في قلوبهم من وقوعها ول‬
‫مِ ْنهَا } أي‪ :‬من الخرة { َ‬
‫احتمال بل أنكروها واستبعدوها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ِئذَا كُنّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنّا‬
‫َلمُخْ َرجُونَ } أي‪ :‬هذا بعيد غير ممكن قاسوا قدرة كامل القدرة بقدرهم الضعيفة‪.‬‬

‫ن وَآبَاؤُنَا مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬فلم يجئنا ول رأينا منه شيئا‪ { .‬إِنْ هَذَا‬
‫عدْنَا هَذَا } أي‪ :‬البعث { نَحْ ُ‬
‫{ َلقَ ْد وُ ِ‬
‫إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬قصصهم وأخبارهم التي تقطع بها الوقات وليس لها أصل ول صدق‬
‫فيها‪.‬‬

‫فانتقل في الخبار عن أحوال المكذبين بالخبار أنهم ل يدرون متى وقت الخرة ثم الخبار‬
‫بضعف علمهم فيها ثم الخبار بأنه شك ثم الخبار بأنه عمى ثم الخبار بإنكارهم لذلك واستبعادهم‬
‫وقوعه‪ .‬أي‪ :‬وبسبب هذه الحوال ترحل خوف الخرة من قلوبهم فأقدموا على معاصي ال وسهل‬
‫عليهم تكذيب الحق والتصديق بالباطل واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات فخسروا دنياهم‬
‫وأخراهم‪.‬‬

‫(‪ )69‬ثم نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال‪ُ { :‬قلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَانْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ‬
‫عَاقِبَةُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } فل تجدون مجرما قد استمر على إجرامه‪ ،‬إل وعاقبته شر عاقبة وقد أحل ال‬
‫به من الشر والعقوبة ما يليق بحاله‪.‬‬

‫{ ‪ { } 72 - 70‬وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا َتكُ فِي ضَيْقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ‬
‫عسَى أَنْ َيكُونَ َر ِدفَ َلكُمْ َب ْعضُ الّذِي َتسْ َتعْجِلُونَ }‬
‫كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ َ‬
‫أي‪ :‬ل تحزن يا محمد على هؤلء المكذبين وعدم إيمانهم‪ ،‬فإنك لو علمت ما فيهم من الشر وأنهم‬
‫ل يصلحون للخير‪ ،‬لم تأس ولم تحزن‪ ،‬ول يضق صدرك ول تقلق نفسك بمكرهم فإن مكرهم‬
‫سيعود عاقبته عليهم‪ { ،‬وَ َي ْمكُرُونَ وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ } ويقول المكذبون بالمعاد‬
‫وبالحق الذي جاء به الرسول مستعجلين للعذاب‪ { :‬مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ }‬

‫وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم فإن وقوعه ووقته قد أجله ال بأجله وقدره بقدر‪ ،‬فل يدل عدم‬
‫استعجاله على بعض مطلوبهم‪.‬‬

‫ولكن ‪-‬مع هذا‪ -‬قال تعالى محذرا لهم وقوع ما استعجلوه‪ُ { :‬قلْ عَسَى أَنْ َيكُونَ َر ِدفَ َل ُكمْ } أي‪:‬‬
‫قرب منكم وأوشك أن يقع بكم { َب ْعضُ الّذِي تَسْ َت ْعجِلُونَ } من العذاب‪.‬‬

‫شكُرُونَ * وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َيعْلَمُ مَا‬


‫س وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا يَ ْ‬
‫ضلٍ عَلَى النّا ِ‬
‫{ ‪ { } 75 - 73‬وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َف ْ‬
‫سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ ِإلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }‬
‫ن صُدُورُهُ ْم َومَا ُيعْلِنُونَ * َومَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي ال ّ‬
‫ُتكِ ّ‬

‫ينبه عباده على سعة جوده وكثرة أفضاله ويحثهم على شكرها‪ ،‬ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا‬
‫عن الشكر واشتغلوا بالنعم عن المنعم‪.‬‬

‫{ وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َيعَْلمُ مَا ُتكِنّ } أي‪ :‬تنطوي عليه { صُدُورُهُ ْم َومَا ُيعْلِنُونَ } فليحذروا من عالم السرائر‬
‫والظواهر وليراقبوه‪.‬‬

‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬خفية وسر من أسرار العالم العلوي والسفلي { إِلّا فِي‬
‫{ َومَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي ال ّ‬
‫كِتَابٍ مُبِينٍ } قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬فكل حادث يحدث‬
‫جلي أو خفي إل وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ‪.‬‬

‫{ ‪ { } 77 - 76‬إِنّ هَذَا ا ْلقُرْآنَ َي ُقصّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ َأكْثَرَ الّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَِلفُونَ * وَإِنّهُ َلهُدًى‬
‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫وَرَ ْ‬

‫وهذا خبر عن هيمنة القرآن على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه‪ ،‬لما كان فيها قد وقع فيه‬
‫اشتباه واختلف عند بني إسرائيل فقصه هذا القرآن قصا زال به الشكال وبين به الصواب من‬
‫المسائل المختلف فيها‪ .‬وإذا كان بهذه المثابة من الجللة والوضوح وإزالة كل خلف وفصل كل‬
‫مشكل كان أعظم نعم ال على العباد ولكن ما كل أحد يقابل النعمة بالشكر‪ .‬ولهذا بين أن نفعه‬
‫ونوره وهداه مختص بالمؤمنين فقال‪ { :‬وَإِنّهُ َلهُدًى }‬

‫حمَةٌ } تنثلج له صدورهم وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية‬


‫من الضللة والغي والشبه { وَرَ ْ‬
‫{ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } به المصدقين له المتلقين له بالقبول المقبلين على تدبره المتفكرين في معانيه‪ ،‬فهؤلء‬
‫تحصل لهم به الهداية إلى الصراط المستقيم والرحمة المتضمنة للسعادة والفوز والفلح‪.‬‬

‫ح ْكمِ ِه وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ }‬


‫{ ‪ { } 78‬إِنّ رَ ّبكَ َي ْقضِي بَيْ َنهُمْ ِب ُ‬

‫أي‪ :‬إن ال تعالى سيفصل بين المختصين وسيحكم بين المختلفين بحكمه العدل وقضائه القسط‪،‬‬
‫فالمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين لخفاء الدليل أو لبعض المقاصد فإنه سيبين‬
‫فيها الحق المطابق للواقع حين يحكم ال فيها‪ { ،‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر الخلئق فأذعنوا له‪،‬‬
‫{ ا ْلعَلِيمُ } بجميع الشياء { ا ْلعَلِيمُ } بأقوال المختلفين وعن ماذا صدرت وعن غاياتها ومقاصدها‬
‫وسيجازي كل بما علمه فيه‪.‬‬

‫سمِعُ الصّمّ‬
‫سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ‬
‫حقّ ا ْلمُبِينِ * إِ ّنكَ لَا تُ ْ‬
‫{ ‪ { } 81 - 79‬فَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ إِ ّنكَ عَلَى الْ َ‬
‫سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ‬
‫ن ضَلَالَ ِت ِهمْ إِنْ تُ ْ‬
‫الدّعَاءَ إِذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ * َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ‬
‫مُسِْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإقامة الدين وجهاد‬
‫حقّ ا ْلمُبِينِ } الواضح والذي على الحق يدعو إليه‪ ،‬ويقوم بنصرته أحق من‬
‫العداء‪ { .‬إِ ّنكَ عَلَى الْ َ‬
‫غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه ل شك فيه ول مرية‪ .‬وأيضا فهو حق‬
‫في غاية البيان ل خفاء به ول اشتباه‪ ،‬وإذا قمت بما حملت وتوكلت على ال في ذلك فل يضرك‬
‫سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ }‬
‫سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ‬
‫ضلل من ضل وليس عليك هداهم فلهذا قال‪ { :‬إِ ّنكَ لَا تُ ْ‬

‫أي‪ :‬حين تدعوهم وتناديهم‪ ،‬وخصوصا { إِذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ } فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم‪.‬‬
‫ت وََلكِنّ اللّهَ َي ْهدِي‬
‫ن ضَلَالَ ِتهِمْ } كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْب َ‬
‫{ َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ‬
‫سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ } أي‪ :‬هؤلء الذين ينقادون لك‪ ،‬الذين‬
‫مَنْ يَشَاءُ } { إِنْ تُ ْ‬
‫يؤمنون بآيات ال وينقادون لها بأعمالهم واستسلمهم كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ الّذِينَ‬
‫جعُونَ }‬
‫س َمعُونَ وَا ْلمَوْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَ ْيهِ يُرْ َ‬
‫يَ ْ‬

‫{ ‪ { } 82‬وَإِذَا َوقَعَ ا ْل َقوْلُ عَلَ ْيهِمْ أَخْ َرجْنَا َلهُمْ دَابّةً مِنَ الْأَ ْرضِ ُتكَّل ُمهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا‬
‫يُوقِنُونَ }‬

‫أي‪ :‬إذا وقع على الناس القول الذي حتمه ال وفرض وقته‪َ { .‬أخْرَجْنَا َلهُمْ دَابّةً } خارجة { مِنَ‬
‫الْأَ ْرضِ } أو دابة من دواب الرض ليست من السماء‪ .‬وهذه الدابة { ُتكَّل ُمهُمْ } أي‪ :‬تكلم العباد أن‬
‫الناس كانوا بآياتنا ل يوقنون‪ ،‬أي‪ :‬لجل أن الناس ضعف علمهم ويقينهم بآيات ال‪ ،‬فإظهار ال‬
‫هذه الدابة من آيات ال العجيبة ليبين للناس ما كانوا فيه يمترون‪.‬‬

‫وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة كما‬
‫تكاثرت بذلك الحاديث [ولم يأت دليل يدل على كيفيتها ول من أي‪ :‬نوع هي وإنما دلت الية‬
‫الكريمة على أن ال يخرجها للناس وأن هذا التكليم منها خارق للعوائد المألوفة وأنه من الدلة‬
‫على صدق ما أخبر ال به في كتابه وال أعلم]‬

‫حشُرُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َفوْجًا ِممّنْ ُيكَ ّذبُ بِآيَاتِنَا َف ُهمْ يُوزَعُونَ * حَتّى إِذَا جَاءُوا‬
‫{ ‪ { } 85 - 83‬وَ َيوْمَ نَ ْ‬
‫قَالَ َأكَذّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ ُتحِيطُوا ِبهَا عِ ْلمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * َو َوقَعَ ا ْلقَ ْولُ عَلَ ْيهِمْ ِبمَا ظََلمُوا َف ُهمْ لَا‬
‫طقُونَ }‬
‫يَنْ ِ‬

‫يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة وأن ال يجمعهم‪ ،‬ويحشر من كل أمة من المم‬
‫فوجا وطائفة { ِممّنْ ُيكَ ّذبُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ يُوزَعُونَ } يجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم‬
‫ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا جَاءُوا } وحضروا قال لهم موبخا ومقرعا‪َ { :‬أ َكذّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ ُتحِيطُوا ِبهَا } العلم أي‪:‬‬
‫الواجب عليكم التوقف حتى ينكشف لكم الحق وأن ل تتكلموا إل بعلم‪ ،‬فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا‬
‫به علما؟ { أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } أي‪ :‬يسألهم عن علمهم وعن عملهم فيجد عليهم تكذيبا بالحق‪،‬‬
‫وعملهم لغير ال أو على غير سنة رسولهم‪.‬‬

‫{ َو َوقَعَ ا ْل َقوْلُ عَلَ ْيهِمْ ِبمَا ظََلمُوا } أي‪ :‬حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم الذي استمروا عليه‬
‫طقُونَ } لنه ل حجة لهم‪.‬‬
‫وتوجهت عليهم الحجة‪َ { ،‬فهُمْ لَا يَ ْن ِ‬

‫سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫جعَلْنَا اللّ ْيلَ لِ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 86‬أَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ‬

‫أي‪ :‬ألم يشاهدوا هذه الية العظيمة والنعمة الجسيمة وهو تسخير ال لهم الليل والنهار‪ ،‬هذا بظلمته‬
‫ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا للعمل‪ ،‬وهذا بضيائه لينتشروا فيه في معاشهم‬
‫وتصرفاتهم‪ { .‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } على كمال وحدانية ال وسبوغ نعمته‪.‬‬

‫ت َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 90 - 87‬وَ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ َففَ ِزعَ مَنْ فِي ال ّ‬
‫َوكُلّ أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى ا ْلجِبَالَ َتحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِي أَ ْتقَنَ ُكلّ‬
‫حسَنَةِ فََلهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا وَ ُهمْ مِنْ فَ َزعٍ َي ْومَئِذٍ آمِنُونَ * َومَنْ‬
‫شيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْفعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْ َ‬
‫َ‬
‫جَاءَ بِالسّيّئَةِ َفكُ ّبتْ وُجُو ُه ُهمْ فِي النّارِ َهلْ تُجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }‬

‫يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب‪ ،‬ومزعجات القلوب‬
‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪:‬‬
‫فقال‪ { :‬وَ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ َففَ ِزعَ } بسبب النفخ فيه { مَنْ فِي ال ّ‬
‫انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له‪ { .‬إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ } ممن أكرمه‬
‫ال وثبته وحفظه من الفزع‪َ { .‬و ُكلّ } من الخلق عند النفخ في الصور { أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ } صاغرين‬
‫حمَنِ عَبْدًا } ففي ذلك اليوم‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ إِلّا آتِي الرّ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ذليلين‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إِنْ ُكلّ مَنْ فِي ال ّ‬
‫يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك‪.‬‬

‫حسَ ُبهَا جَامِ َدةً } ل تفقد [شيئا] منها وتظنها باقية على الحال‬
‫ومن هوله أنك { ترى ا ْلجِبَالَ تَ ْ‬
‫المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد والهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { صُنْعَ اللّهِ الّذِي أَ ْتقَنَ‬
‫شيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْفعَلُونَ } فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬
‫ُكلّ َ‬
‫ثم بين كيفية جزائه فقال‪ { :‬مَنْ جَاءَ بِا ْلحَسَ َنةِ } اسم جنس يشمل كل حسنة قولية أو فعلية أو قلبية‬
‫{ فََلهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا } هذا أقل التفضيل‬

‫{ وَ ُهمْ مِنْ فَ َزعٍ َي ْومَئِذٍ آمِنُونَ } أي‪ :‬من المر الذي فزع الخلق لجله آمنون وإن كانوا يفزعون‬
‫معهم‪.‬‬

‫ت وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ } أي‪ :‬ألقوا في النار‬


‫{ َومَنْ جَاءَ بِالسّيّ َئةِ } اسم جنس يشمل كل سيئة { َفكُ ّب ْ‬
‫على وجوههم ويقال لهم‪َ { :‬هلْ تُجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬

‫شيْ ٍء وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ‬


‫{ ‪ { } 91-93‬إِ ّنمَا ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ َربّ هَ ِذهِ الْبَلْ َدةِ الّذِي حَ ّر َمهَا وَلَهُ ُكلّ َ‬
‫ضلّ َف ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ‬
‫س ِه َومَنْ َ‬
‫مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ * وَأَنْ أَتُْلوَ ا ْلقُرْآنَ َفمَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْ ِ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }‬
‫حمْدُ ِللّهِ سَيُرِي ُكمْ آيَا ِتهِ فَ َتعْ ِرفُونَهَا َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫* َو ُقلِ ا ْل َ‬

‫أي‪ :‬قل لهم يا محمد { إِ ّنمَا ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ َربّ َه ِذهِ الْبَلْ َدةِ } أي‪ :‬مكة المكرمة التي حرمها وأنعم‬
‫شيْءٍ } من العلويات والسفليات أتى به‬
‫على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول‪ { .‬وَلَهُ ُكلّ َ‬
‫لئل يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده‪ { .‬وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ } أي‪ :‬أبادر إلى‬
‫السلم‪ ،‬وقد فعل صلى ال عليه وسلم فإنه أول هذه المة إسلما وأعظمها استسلما‪.‬‬

‫{ و } أمرت أيضا { أن أَتُْلوَ } عليكم { ا ْلقُرْآنُ } لتهتدوا به وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا‬
‫الذي علي وقد أديته‪َ { ،‬فمَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِهِ } نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه { َومَنْ‬
‫ضلّ َف ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } وليس بيدي من الهداية شيء‪.‬‬
‫َ‬

‫ح ْمدُ لِلّهِ } الذي له الحمد في الولى والخرة ومن جميع الخلق‪ ،‬خصوصا أهل‬
‫{ َو ُقلِ الْ َ‬
‫الختصاص والصفوة من عباده‪ ،‬فإن الذي ينبغي أن يقع منهم من الحمد والثناء على ربهم أعظم‬
‫مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم وكمال قربهم منه وكثرة خيراته عليهم‪.‬‬

‫{ سَيُرِيكُمْ آيا ِتهِ فَ َتعْ ِرفُو َنهَا } معرفة تدلكم على الحق والباطل‪ ،‬فل بد أن يريكم من آياته ما‬
‫حيّ عَنْ بَيّنَةٍ }‬
‫تستنيرون به في الظلمات‪ { .‬لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّ َن ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ‬

‫عمّا َت ْعمَلُونَ } بل قد علم ما أنتم عليه من العمال والحوال وعلم مقدار جزاء‬
‫{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫تلك العمال وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه ول يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة النمل بفضل ال وإعانته وتيسيره‪.‬‬


‫ونسأله تعالى أن ل تزال ألطافه ومعونته مستمرة علينا وواصلة منه إلينا‪ ،‬فهو أكرم الكرمين‬
‫وخير الراحمين وموصل المنقطعين ومجيب السائلين‪.‬‬

‫ميسر المور العسيرة وفاتح أبواب بركاته والمجزل في جميع الوقات هباته‪ ،‬ميسر القرآن‬
‫للمتذكرين ومسهل طرقه وأبوابه للمقبلين وممد مائدة خيراته ومبراته للمتفكرين والحمد ل رب‬
‫العالمين‪ .‬وصلى ال على محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫على يد جامعه وممليه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال السعدي غفر ال له ولوالديه ولجميع‬
‫المسلمين‪ ،‬وذلك في ‪ 22‬رمضان سنة ‪.1343‬‬

‫المجلد السادس من تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان‪ ،‬من منن ال على الفقير إلى‬
‫المعيد المبدي‪ :‬عبده وابن عبده وابن أمته‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال بن سعدي غفر ال‬
‫له آمين‪.‬‬

‫تفسير سورة القصص‬


‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ طسم * تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَ ْيكَ مِنْ نَبَإِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-51‬بِ ْ‬
‫حقّ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } إلى آخر القصة‬
‫عوْنَ بِالْ َ‬
‫مُوسَى َوفِرْ َ‬

‫{ تِ ْلكَ } اليات المستحقة للتعظيم والتفخيم { آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ } لكل أمر يحتاج إليه العباد‪ ،‬من‬
‫معرفة ربهم‪ ،‬ومعرفة حقوقه‪ ،‬ومعرفة أوليائه وأعدائه‪ ،‬ومعرفة وقائعه وأيامه‪ ،‬ومعرفة ثواب‬
‫العمال‪ ،‬وجزاء العمال‪ ،‬فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين‪ ،‬وجلّاها للعباد‪ ،‬ووضحها‪.‬‬

‫ومن جملة ما أبان‪ ،‬قصة موسى وفرعون‪ ،‬فإنه أبداها‪ ،‬وأعادها في عدة مواضع‪ ،‬وبسطها في هذا‬
‫حقّ } فإن نبأهما غريب‪ ،‬وخبرهما عجيب‪.‬‬
‫عوْنَ بِالْ َ‬
‫الموضع فقال‪ { :‬نَتْلُوا عَلَ ْيكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى َوفِرْ َ‬

‫{ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فإليهم يساق الخطاب‪ ،‬ويوجه الكلم‪ ،‬حيث إن معهم من اليمان‪ ،‬ما يقبلون به‬
‫على تدبّر ذلك‪ ،‬وتلقّيه بالقبول والهتداء بمواقع العبر‪ ،‬ويزدادون به إيمانا ويقينا‪ ،‬وخيرا إلى‬
‫خيرهم‪ ،‬وأما من عداهم‪ ،‬فل يستفيدون منه إل إقامة الحجة عليهم‪ ،‬وصانه اللّه عنهم‪ ،‬وجعل بينهم‬
‫وبينه حجابا أن يفقهوه‪.‬‬
‫عوْنَ عَلَا فِي الْأَ ْرضِ } في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته‪ ،‬فصار من‬
‫فأول هذه القصة { إِنّ فِرْ َ‬
‫أهل العلو فيها‪ ،‬ل من العلين فيها‪.‬‬

‫ج َعلَ َأهَْلهَا شِ َيعًا } أي‪ :‬طوائف متفرقة‪ ،‬يتصرف فيهم بشهوته‪ ،‬وينفذ فيهم ما أراد من قهره‪،‬‬
‫{ َو َ‬
‫وسطوته‪.‬‬

‫ضعِفُ طَا ِئفَةً مِ ْنهُمْ } وتلك الطائفة‪ ،‬هم بنو إسرائيل‪ ،‬الذين فضلهم اللّه على العالمين‪ ،‬الذين‬
‫{ َيسْ َت ْ‬
‫ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم‪ ،‬ولكنه استضعفهم‪ ،‬بحيث إنه رأى أنهم ل منعة لهم تمنعهم مما أراده‬
‫فيهم‪ ،‬فصار ل يبالي بهم‪ ،‬ول يهتم بشأنهم‪ ،‬وبلغت به الحال إلى أنه { يُذَبّحُ أَبْنَاءَ ُه ْم وَيَسْتَحْيِي‬
‫نِسَا َءهُمْ } خوفا من أن يكثروا‪ ،‬فيغمروه في بلده‪ ،‬ويصير لهم الملك‪.‬‬

‫{ إِنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ } الذين ل قصد لهم في إصلح الدين‪ ،‬ول إصلح الدنيا‪ ،‬وهذا من إفساده‬
‫في الرض‪.‬‬

‫ضعِفُوا فِي الْأَ ْرضِ } بأن نزيل عنهم مواد الستضعاف‪ ،‬ونهلك من‬
‫{ وَنُرِيدُ أَنْ َنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫جعََلهُمْ أَ ِئمّةً } في الدين‪ ،‬وذلك ل يحصل مع استضعاف‪ ،‬بل ل بد‬
‫قاومهم‪ ،‬ونخذل من ناوأهم‪ { .‬وَنَ ْ‬
‫جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ } للرض‪ ،‬الذين لهم العاقبة في الدنيا‬
‫من تمكين في الرض‪ ،‬وقدرة تامة‪ { ،‬وَ َن ْ‬
‫قبل الخرة‪.‬‬

‫{ وَ ُن َمكّنَ َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ } فهذه المور كلها‪ ،‬قد تعلقت بها إرادة اللّه‪ ،‬وجرت بها مشيئته‪ { ،‬و }‬
‫ن وَهَامَانَ } وزيره { وَجُنُودَ ُهمَا } التي بها صالوا وجالوا‪ ،‬وعلوا‬
‫عوْ َ‬
‫كذلك نريد أن { نُ ِريَ فِرْ َ‬
‫وبغوا { مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من هذه الطائفة المستضعفة‪ { .‬مَا كَانُوا َيحْذَرُونَ } من إخراجهم من ديارهم‪،‬‬
‫ولذلك كانوا يسعون في قمعهم‪ ،‬وكسر شوكتهم‪ ،‬وتقتيل أبنائهم‪ ،‬الذين هم محل ذلك‪ ،‬فكل هذا قد‬
‫أراده اللّه‪ ،‬وإذا أراد أمرا سهل أسبابه‪ ،‬ونهج طرقه‪ ،‬وهذا المر كذلك‪ ،‬فإنه قدر وأجرى من‬
‫السباب ‪-‬التي لم يشعر بها ل أولياؤه ول أعداؤه‪ -‬ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود‪.‬‬

‫فأول ذلك‪ ،‬لما أوجد اللّه رسوله موسى‪ ،‬الذي جعل استنقاذ هذا الشعب السرائيلي على يديه‬
‫وبسببه‪ ،‬وكان في وقت تلك المخافة العظيمة‪ ،‬التي يذبحون بها البناء‪ ،‬أوحى إلى أمه أن ترضعه‪،‬‬
‫ويمكث عندها‪.‬‬

‫خ ْفتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم‪ { ،‬فَأَ ْلقِيهِ فِي الْيَمّ } أي نيل‬
‫{ فَِإذَا ِ‬
‫ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }‬
‫مصر‪ ،‬في وسط تابوت مغلق‪ { ،‬وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنّا رَادّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫فبشرها بأنه سيرده عليها‪ ،‬وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم‪ ،‬ويجعله اللّه رسول‪.‬‬
‫وهذا من أعظم البشائر الجليلة‪ ،‬وتقديم هذه البشارة لم موسى‪ ،‬ليطمئن قلبها‪ ،‬ويسكن روعها‪،‬‬
‫فإنها خافت عليه‪ ،‬وفعلت ما أمرت به‪ ،‬ألقته في اليم‪ ،‬فساقه اللّه تعالى‪.‬‬

‫ع ُدوّا َوحَزَنًا }‬
‫عوْنَ } فصار من لقطهم‪ ،‬وهم الذين باشروا وجدانه‪ { ،‬لِ َيكُونَ َلهُمْ َ‬
‫طهُ آلُ فِرْ َ‬
‫{ فَالْ َتقَ َ‬
‫أي‪ :‬لتكون العاقبة والمآل من هذا اللتقاط‪ ،‬أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم‪ ،‬بسبب أن الحذر ل‬
‫ينفع من القدر‪ ،‬وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل‪ ،‬قيض اللّه أن يكون زعيمهم‪ ،‬يتربى تحت‬
‫أيديهم‪ ،‬وعلى نظرهم‪ ،‬وبكفالتهم‪.‬‬

‫وعند التدبر والتأمل‪ ،‬تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل‪ ،‬ودفع كثير من المور الفادحة‬
‫بهم‪ ،‬ومنع كثير من التعديات قبل رسالته‪ ،‬بحيث إنه صار من كبار المملكة‪.‬‬

‫وبالطبع‪ ،‬إنه ل بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا‪ ،‬وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة‬
‫المتوقدة‪ ،‬ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف ‪-‬الذي بلغ بهم الذل والهانة إلى ما قص‬
‫اللّه علينا بعضه ‪ -‬أن صار بعض أفراده‪ ،‬ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الرض‪ ،‬كما‬
‫سيأتي بيانه‪.‬‬

‫وهذا مقدمة للظهور‪ ،‬فإن اللّه تعالى من سنته الجارية‪ ،‬أن جعل المور تمشي على التدريج شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬ول تأتي دفعة واحدة‪.‬‬

‫ن وَجُنُودَ ُهمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } أي‪ :‬فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم ونكيد‬
‫ن وَهَامَا َ‬
‫عوْ َ‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّ فِرْ َ‬
‫هم‪ ،‬جزاء على مكرهم وكيدهم‪.‬‬

‫فلما التقطه آل فرعون‪ ،‬حنّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم‬
‫" َوقَاَلتِ " هذا الولد { قُ ّرةُ عَيْنٍ لِي وََلكَ لَا َتقْتُلُوهُ } أي‪ :‬أبقه لنا‪ ،‬لِتقرّ به أعيننا‪ ،‬ونستر به في‬
‫حياتنا‪.‬‬

‫عسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا } أي‪ :‬ل يخلو‪ ،‬إما أن يكون بمنزلة الخدم‪ ،‬الذين يسعون في نفعنا‬
‫{ َ‬
‫وخدمتنا‪ ،‬أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك‪ ،‬نجعله ولدا لنا‪ ،‬ونكرمه‪ ،‬ونجله‪.‬‬

‫فقدّر اللّه تعالى‪ ،‬أنه نفع امرأة فرعون‪ ،‬التي قالت تلك المقالة‪ ،‬فإنه لما صار قرة عين لها‪ ،‬وأحبته‬
‫حبا شديدا‪ ،‬فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله‪ ،‬فبادرت إلى السلم‬
‫واليمان به‪ ،‬رضي اللّه عنها وأرضاها‪.‬‬
‫شعُرُونَ } ما جرى به‬
‫قال اللّه تعالى هذه المراجعات [والمقاولت] في شأن موسى‪ { :‬وَهُمْ لَا يَ ْ‬
‫القلم‪ ،‬ومضى به القدر‪ ،‬من وصوله إلى ما وصل إليه‪ ،‬وهذا من لطفه تعالى‪ ،‬فإنهم لو شعروا‪،‬‬
‫لكان لهم وله‪ ،‬شأن آخر‪.‬‬

‫ولما فقدت موسى أمه‪ ،‬حزنت حزنا شديدا‪ ،‬وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها‪ ،‬على‬
‫مقتضى الحالة البشرية‪ ،‬مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف‪ ،‬ووعدها برده‪.‬‬

‫{ إِنْ كَا َدتْ لَتُبْدِي ِبهِ } أي‪ :‬بما في قلبها { َلوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْ ِبهَا } فثبتناها‪ ،‬فصبرت‪ ،‬ولم تبد‬
‫به‪ { .‬لِ َتكُونَ } بذلك الصبر والثبات { مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت‪،‬‬
‫ازداد بذلك إيمانه‪ ،‬ودل ذلك‪ ،‬على أن استمرار الجزع مع العبد‪ ،‬دليل على ضعف إيمانه‪.‬‬

‫{ َوقَاَلتِ } أم موسى { لِأُخْ ِتهِ ُقصّيهِ } أي‪ :‬اذهبي [فقصي الثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن‬
‫شعُرُونَ } أي‪:‬‬
‫يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] { فَ َبصُ َرتْ ِبهِ عَنْ جُ ُنبٍ وَ ُهمْ لَا يَ ْ‬
‫أبصرته على وجه‪ ،‬كأنها مارة ل قصد لها فيه‪.‬‬

‫وهذا من تمام الحزم والحذر‪ ،‬فإنها لو أبصرته‪ ،‬وجاءت إليهم قاصدة‪ ،‬لظنوا بها أنها هي التي‬
‫ألقته‪ ،‬فربما عزموا على ذبحه‪ ،‬عقوبة لهله‪.‬‬

‫ومن لطف اللّه بموسى وأمه‪ ،‬أن منعه من قبول ثدي امرأة‪ ،‬فأخرجوه إلى السوق رحمة به‪ ،‬ولعل‬
‫أحدا يطلبه‪ ،‬فجاءت أخته‪ ،‬وهو بتلك الحال { َفقَاَلتْ َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى أَ ْهلِ بَ ْيتٍ َيكْفُلُونَهُ َل ُك ْم وَهُمْ َلهُ‬
‫نَاصِحُونَ }‬

‫جلّ غرضهم‪ ،‬فإنهم أحبوه حبا شديدا‪ ،‬وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت‪ ،‬فلما‬
‫وهذا ُ‬
‫قالت لهم أخته تلك المقالة‪ ،‬المشتملة على الترغيب‪ ،‬في أهل هذا البيت‪ ،‬بتمام حفظه وكفالته‬
‫والنصح له‪ ،‬بادروا إلى إجابتها‪ ،‬فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت‪.‬‬

‫{ فَ َردَدْنَاهُ إِلَى ُأمّهِ } كما وعدناها بذلك { َكيْ َتقَرّ عَيْ ُنهَا وَلَا َتحْزَنَ } بحيث إنه تربى عندها على‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ‬
‫وجه تكون فيه آمنة مطمئنة‪ ،‬تفرح به‪ ،‬وتأخذ الجرة الكثيرة على ذلك‪ { ،‬وَلِ َتعْلَمَ أَ ّ‬
‫} فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا‪ ،‬ليطمئن بذلك قلبها‪ ،‬ويزداد إيمانها‪ ،‬ولتعلم أنه سيحصل‬
‫وعد اللّه في حفظه ورسالته‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ } فإذا رأوا السبب متشوشا‪ ،‬شوش ذلك‬
‫إيمانهم‪ ،‬لعدم علمهم الكامل‪ ،‬أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة‪ ،‬بين يدي المور‬
‫العالية والمطالب الفاضلة‪ ،‬فاستمر موسى عليه الصلة والسلم عند آل فرعون‪ ،‬يتربى في‬
‫سلطانهم‪ ،‬ويركب مراكبهم‪ ،‬ويلبس ملبسهم‪ ،‬وأمه بذلك مطمئنة‪ ،‬قد استقر أنها أمه من الرضاع‪،‬‬
‫ولم يستنكر ملزمته إياها وحنوها عليها‪.‬‬

‫وتأمل هذا اللطف‪ ،‬وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه‪ ،‬وتيسير المر‪ ،‬الذي صار به التعلق‬
‫بينه وبينها‪ ،‬الذي بان للناس أنه هو الرضاع‪ ،‬الذي بسببه يسميها ُأمّا‪ ،‬فكان الكلم الكثير منه ومن‬
‫غيره في ذلك كله‪ ،‬صدقا وحقا‪.‬‬

‫{ وََلمّا بَلَغَ أَشُ ّدهُ } من القوة والعقل واللب‪ ،‬وذلك نحو أربعين سنة في الغالب‪ { ،‬وَاسْ َتوَى } كملت‬
‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا } أي‪ :‬حكما يعرف به الحكام الشرعية‪ ،‬ويحكم به بين‬
‫فيه تلك المور { آتَيْنَاهُ ُ‬
‫الناس‪ ،‬وعلما كثيرا‪.‬‬

‫حسِنِينَ } في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه‪ ،‬نعطيهم علما وحكما بحسب‬
‫{ َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫إحسانهم‪ ،‬ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلم‪.‬‬

‫غفْلَةٍ مِنْ َأهِْلهَا } إما وقت القائلة‪ ،‬أو غير ذلك من الوقات التي بها‬
‫خلَ ا ْلمَدِي َنةَ عَلَى حِينِ َ‬
‫{ وَ َد َ‬
‫يغفلون عن النتشار‪َ { .‬فوَجَدَ فِيهَا َرجُلَيْنِ َيقْتَتِلَانِ } أي‪ :‬يتخاصمان ويتضاربان { َهذَا مِنْ شِيعَتِهِ }‬
‫أي‪ :‬من بني إسرائيل { وَ َهذَا مِنْ عَ ُد ّوهِ } القبط‪.‬‬

‫{ فَاسْ َتغَاثَهُ الّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَ ُد ّوهِ } لنه قد اشتهر‪ ،‬وعلم الناس أنه من بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬واستغاثته لموسى‪ ،‬دليل على أنه بلغ موسى عليه السلم مبلغا يخاف منه‪ ،‬ويرجى من‬
‫بيت المملكة والسلطان‪.‬‬

‫{ َف َوكَ َزهُ مُوسَى } أي‪ :‬وكز الذي من عدوه‪ ،‬استجابة لستغاثة السرائيلي‪َ { ،‬ف َقضَى عَلَ ْيهِ } أي‪:‬‬
‫أماته من تلك الوكزة‪ ،‬لشدتها وقوة موسى‪.‬‬

‫ع َملِ الشّيْطَانِ } أي‪ :‬من تزيينه‬


‫فندم موسى عليه السلم على ما جرى منه‪ ،‬و { قَالَ هَذَا مِنْ َ‬
‫ضلّ مُبِينٌ } فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة‪ ،‬وحرصه على‬
‫ووسوسته‪ { ،‬إِنّهُ عَ ُدوّ ُم ِ‬
‫الضلل‪.‬‬

‫غفِرْ لِي َف َغفَرَ لَهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } خصوصا‬


‫ثم استغفر ربه { قَالَ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي فَا ْ‬
‫للمخبتين‪ ،‬المبادرين للنابة والتوبة‪ ،‬كما جرى من موسى عليه السلم‪.‬‬

‫ظهِيرًا }‬
‫فب { قَالَ } موسى { َربّ ِبمَا أَ ْن َع ْمتَ عََليّ } بالتوبة والمغفرة‪ ،‬والنعم الكثيرة‪ { ،‬فَلَنْ َأكُونَ َ‬
‫أي‪ :‬معينا ومساعدا { ِل ْلمُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬ل أعين أحدا على معصية‪ ،‬وهذا وعد من موسى عليه‬
‫السلم‪ ،‬بسبب منة اللّه عليه‪ ،‬أن ل يعين مجرما‪ ،‬كما فعل في قتل القبطي‪ .‬وهذا يفيد أن النعم‬
‫تقتضي من العبد فعل الخير‪ ،‬وترك الشر‪.‬‬

‫{ فب } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { َأصْبَحَ فِي ا ْلمَدِينَةِ خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ } هل يشعر به آل‬
‫فرعون‪ ،‬أم ل؟ وإنما خاف‪ ،‬لنه قد علم‪ ،‬أنه ل يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من‬
‫بني إسرائيل‪.‬‬

‫خهُ } على قبطي‬


‫فبينما هو على تلك الحال { فَإِذَا الّذِي اسْتَ ْنصَ َرهُ بِالَْأمْسِ } على عدوه { يَسْ َتصْرِ ُ‬
‫آخر‪ { .‬قَالَ َلهُ مُوسَى } موبخا له على حاله { إِ ّنكَ َل َغ ِويّ مُبِينٌ } أي‪ :‬بين الغواية‪ ،‬ظاهر الجراءة‪.‬‬

‫ع ُدوّ َل ُهمَا } أي‪ :‬له وللمخاصم المستصرخ‪ ،‬أي‪ :‬لم‬


‫{ فََلمّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ } موسى { بِالّذِي ُهوَ َ‬
‫يزل اللجاج بين القبطي والسرائيلي‪ ،‬وهو يستغيث بموسى‪ ،‬فأخذته الحمية‪ ،‬حتى هم أن يبطش‬
‫بالقبطي‪ { ،‬قَالَ } له القبطي زاجرا له عن قتله‪ { :‬أَتُرِيدُ أَنْ َتقْتُلَنِي َكمَا قَتَ ْلتَ َنفْسًا بِالَْأمْسِ إِنْ تُرِيدُ‬
‫إِلّا أَنْ َتكُونَ جَبّارًا فِي الْأَ ْرضِ } لن من أعظم آثار الجبار في الرض‪ ،‬قتل النفس بغير حق‪.‬‬

‫{ َومَا تُرِيدُ أَنْ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ } وإل‪ ،‬فلو أردت الصلح لحلت بيني وبينه من غير قتل‬
‫أحد‪ ،‬فانكف موسى عن قتله‪ ،‬وارعوى لوعظه وزجره‪ ،‬وشاع الخبر بما جرى من موسى في‬
‫هاتين القضيتين‪ ،‬حتى تراود مل فرعون‪ ،‬وفرعون على قتله‪ ،‬وتشاوروا على ذلك‪.‬‬

‫وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح‪ ،‬وبادرهم إلى الخبار لموسى بما اجتمع عليه رَ ْأيُ ملئهم‪ .‬فقال‪{ :‬‬
‫سعَى } أي‪ :‬ركضا على قدميه من نصحه لموسى‪ ،‬وخوفه أن‬
‫جلٌ مِنْ َأ ْقصَى ا ْل َمدِينَةِ يَ ْ‬
‫وَجَاءَ َر ُ‬
‫يوقعوا به‪ ،‬قبل أن يشعر‪ ،‬فب { قَالَ يَا مُوسَى إِنّ ا ْلمَلَأَ يَأْ َتمِرُون } أي‪ :‬يتشاورون فيك { لِ َيقْتُلُوكَ‬
‫صحِينَ } فامتثل نصحه‪.‬‬
‫فَاخْرُجْ } عن المدينة { إِنّي َلكَ مِنَ النّا ِ‬

‫{ َفخَرَجَ مِ ْنهَا خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ } أن يوقع به القتل‪ ،‬ودعا اللّه‪ ،‬و { قَالَ َربّ َنجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }‬
‫فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل‪ ،‬فَتَوعّ ُدهُمْ له ظلم منهم وجراءة‪.‬‬

‫{ وََلمّا َتوَجّهَ تِ ْلقَاءَ مَدْيَنَ } أي‪ :‬قاصدا بوجهه مدين‪ ،‬وهو جنوبي فلسطين‪ ،‬حيث ل ملك لفرعون‪،‬‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ } أي‪ :‬وسط الطريق المختصر‪ ،‬الموصل إليها بسهولة‬
‫{ قَالَ عَسَى رَبّي أَنْ َيهْدِيَنِي َ‬
‫ورفق‪ ،‬فهداه اللّه سواء السبيل‪ ،‬فوصل إلى مدين‪.‬‬

‫سقُونَ } مواشيهم‪ ،‬وكانوا أهل ماشية كثيرة‬


‫جدَ عَلَيْهِ ُأمّةً مِنَ النّاسِ َي ْ‬
‫ن وَ َ‬
‫{ وََلمّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَ َ‬
‫جدَ مِنْ دُو ِنهِمُ } أي‪ :‬دون تلك المة { امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ } غنمهما عن حياض الناس‪ ،‬لعجزهما‬
‫{ َووَ َ‬
‫عن مزاحمة الرجال وبخلهم‪ ،‬وعدم مروءتهم عن السقي لهما‪.‬‬
‫سقِي حَتّى ُيصْدِرَ الرّعَاءُ‬
‫خطْ ُب ُكمَا } أي‪ :‬ما شأنكما بهذه الحالة‪ { ،‬قَالَتَا لَا نَ ْ‬
‫{ قَالَ } لهما موسى { مَا َ‬
‫} أي‪ :‬قد جرت العادة أنه ل يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم‪ ،‬فإذا خل لنا الجو‬
‫سقينا‪ { ،‬وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي‪ :‬ل قوة له على السقي‪ ،‬فليس فينا قوة‪ ،‬نقتدر بها‪ ،‬ول لنا رجال‬
‫يزاحمون الرعاء‪.‬‬

‫سقَى َل ُهمَا } غير طالب منهما الجرة‪ ،‬ول له قصد غير‬


‫فرق لهما موسى عليه السلم ورحمهما { فَ َ‬
‫وجه اللّه تعالى‪ ،‬فلما سقى لهما‪ ،‬وكان ذلك وقت شدة حر‪ ،‬وسط النهار‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬ثُمّ َتوَلّى‬
‫ظلّ } مستريحا لذلك الظلل بعد التعب‪.‬‬
‫إِلَى ال ّ‬

‫{ َفقَالَ } في تلك الحالة‪ ،‬مسترزقا ربه { َربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } أي‪ :‬إني مفتقر‬
‫للخير الذي تسوقه إليّ وتيسره لي‪ .‬وهذا سؤال منه بحاله‪ ،‬والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان‬
‫المقال‪ ،‬فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا‪ .‬وأما المرأتان‪ ،‬فذهبتا إلى أبيهما‪ ،‬وأخبرتاه بما‬
‫جرى‪.‬‬

‫فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى‪ ،‬فجاءته { َت ْمشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها‪،‬‬
‫وخلقها الحسن‪ ،‬فإن الحياء من الخلق الفاضلة‪ ،‬وخصوصا في النساء‪.‬‬

‫ويدل على أن موسى عليه السلم‪ ،‬لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الجير والخادم الذي ل‬
‫يستحى منه عادة‪ ،‬وإنما هو عزيز النفس‪ ،‬رأت من حسن خلقه ومكارم أخلقه‪ ،‬ما أوجب لها‬
‫سقَيْتَ لَنَا } أي‪ :‬ل لِيمُنّ عليك‪ ،‬بل‬
‫الحياء منه‪ ،‬فب { قَاَلتِ } له‪ { :‬إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِ َيجْزِ َيكَ أَجْرَ مَا َ‬
‫أنت الذي ابتدأتنا بالحسان‪ ،‬وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك‪ ،‬فأجابها موسى‪.‬‬

‫صصَ } من ابتداء السبب الموجب لهربه‪ ،‬إلى أن وصل إليه { قَالَ }‬


‫{ فََلمّا جَا َء ُه َو َقصّ عَلَيْهِ ا ْلقَ َ‬
‫ج ْوتَ مِنَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬ليذهب خوفك وروعك‪ ،‬فإن‬
‫خفْ َن َ‬
‫مسكنا روعه‪ ،‬جابرا قلبه‪ { :‬لَا َت َ‬
‫اللّه نجاك منهم‪ ،‬حيث وصلت إلى هذا المحل‪ ،‬الذي ليس لهم عليه سلطان‪.‬‬

‫{ قَاَلتْ ِإحْدَا ُهمَا } أي‪ :‬إحدى ابنتيه { يَا أَ َبتِ اسْتَأْجِ ْرهُ } أي‪ :‬اجعله أجيرا عندك‪ ،‬يرعى الغنم‬
‫ويسقيها‪ { ،‬إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَ ْأجَ ْرتَ ا ْلقَ ِويّ الَْأمِينُ } أي‪ :‬إن موسى أولى من استؤجر‪ ،‬فإنه جمع‬
‫القوة والمانة‪ ،‬وخير أجير استؤجر‪ ،‬من جمعهما‪ ،‬أي‪ :‬القوة والقدرة على ما استؤجر عليه‪،‬‬
‫والمانة فيه بعدم الخيانة‪ ،‬وهذان الوصفان‪ ،‬ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للنسان عمل‪،‬‬
‫بإجارة أو غيرها‪.‬‬
‫فإن الخلل ل يكون إل بفقدهما أو فقد إحداهما‪ ،‬وأما باجتماعهما‪ ،‬فإن العمل يتم ويكمل‪ ،‬وإنما‬
‫قالت ذلك‪ ،‬لنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه‪ ،‬ما عرفت به قوته‪ ،‬وشاهدت‬
‫من أمانته وديانته‪ ،‬وأنه رحمهما في حالة ل يرجى نفعهما‪ ،‬وإنما قصده [بذلك] وجه اللّه تعالى‪.‬‬

‫حدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي } أي‬


‫حكَ إِ ْ‬
‫{ قَالَ } صاحب مدين لموسى { إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُ ْن ِك َ‬
‫حجَجٍ } أي‪ :‬ثماني سنين‪ { .‬فَإِنْ أَ ْت َممْتَ عَشْرًا َفمِنْ عِنْ ِدكَ } تبرع‬
‫تصير أجيرا عندي { َثمَا ِنيَ ِ‬
‫شقّ عَلَ ْيكَ } فأحتم عشر السنين‪ ،‬أو ما أريد أن‬
‫منك‪ ،‬ل شيء واجب عليك‪َ { .‬ومَا أُرِيدُ أَنْ أَ ُ‬
‫جدُنِي إِنْ شَاءَ‬
‫أستأجرك لكلفك أعمال شاقة‪ ،‬وإنما استأجرك لعمل سهل يسير ل مشقة فيه { سَتَ ِ‬
‫اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ } فرغبه في سهولة العمل‪ ،‬وفي حسن المعاملة‪ ،‬وهذا يدل على أن الرجل‬
‫الصالح‪ ،‬ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه‪ ،‬وأن الذي يطلب منه‪ ،‬أبلغ من غيره‪.‬‬

‫فب { قَالَ } موسى عليه السلم ‪-‬مجيبا له فيما طلبه منه‪ { :-‬ذَِلكَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ } أي‪ :‬هذا الشرط‪،‬‬
‫الذي أنت ذكرت‪ ،‬رضيت به‪ ،‬وقد تم فيما بيني وبينك‪ { .‬أَ ّيمَا الَْأجَلَيْنِ َقضَ ْيتُ فَلَا عُ ْدوَانَ عََليّ }‬
‫سواء قضيت الثماني الواجبة‪ ،‬أم تبرعت بالزائد عليها { وَاللّهُ عَلَى مَا َنقُولُ َوكِيلٌ } حافظ يراقبنا‪،‬‬
‫ويعلم ما تعاقدنا عليه‪.‬‬

‫وهذا الرجل‪ ،‬أبو المرأتين‪ ،‬صاحب مدين‪ ،‬ليس بشعيب النبي المعروف‪ ،‬كما اشتهر عند كثير من‬
‫الناس‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬قول لم يدل عليه دليل‪ ،‬وغاية ما يكون‪ ،‬أن شعيبا عليه السلم‪ ،‬قد كانت بلده‬
‫مدين‪ ،‬وهذه القضية جرت في مدين‪ ،‬فأين الملزمة بين المرين؟‬

‫وأيضا‪ ،‬فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب‪ ،‬فكيف بشخصه؟" ولو كان ذلك الرجل‬
‫شعيبا‪ ،‬لذكره اللّه تعالى‪ ،‬ولسمته المرأتان‪ ،‬وأيضا فإن شعيبا عليه الصلة والسلم‪ ،‬قد أهلك اللّه‬
‫قومه بتكذيبهم إياه‪ ،‬ولم يبق إل من آمن به‪ ،‬وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم‪،‬‬
‫بمنعهما عن الماء‪ ،‬وصد ماشيتهما‪ ،‬حتى يأتيهما رجل غريب‪ ،‬فيحسن إليهما‪ ،‬ويسقي ماشيتهما‪،‬‬
‫وما كان شعيب‪ ،‬ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له‪ ،‬وهو أفضل منه وأعلى درجة‪،‬‬
‫وال أعلم‪[ ،‬إل أن يقال‪ :‬هذا قبل نبوة موسى فل منافاة وعلى كل حال ل يعتمد على أنه شعيب‬
‫النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم]‬

‫جلَ } يحتمل أنه قضى الجل الواجب‪ ،‬أو الزائد عليه‪ ،‬كما هو الظن‬
‫{ فََلمّا َقضَى مُوسَى الْأَ َ‬
‫بموسى ووفائه‪ ،‬اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته‪ ،‬ووطنه‪ ،‬وعلم من طول المدة‪،‬‬
‫أنهم قد تناسوا ما صدر منه‪ { .‬سَارَ بَِأهْلِهِ } قاصدا مصر‪ { ،‬آنَسَ } أي‪ :‬أبصر { مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ‬
‫صطَلُونَ }‬
‫ج ْذ َوةٍ مِنَ النّارِ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫ستُ نَارًا َلعَلّي آتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبخَبَرٍ َأوْ َ‬
‫نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آنَ ْ‬
‫وكان قد أصابهم البرد‪ ،‬وتاهوا الطريق‪.‬‬
‫{ ‪ } 30‬فلما أتاها نودي { يَا مُوسَى إِنّي أَنَا اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فأخبر بألوهيته وربوبيته‪ ،‬ويلزم‬
‫من ذلك‪ ،‬أن يأمره بعبادته‪ ،‬وتألهه‪ ،‬كما صرح به في الية الخرى { فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّلَاةَ ِل ِذكْرِي‬
‫}‬

‫عصَاكَ } فألقاها { فََلمّا رَآهَا َتهْتَزّ } تسعى سعيا شديدا‪ ،‬ولها سورة ُمهِيلة { كَأَ ّنهَا جَانّ‬
‫{ وَأَنْ أَ ْلقِ َ‬
‫} َذكَرُ الحيات العظيم‪ { ،‬وَلّى ُمدْبِرًا وَلَمْ ُي َع ّقبْ } أي‪ :‬يرجع‪ ،‬لستيلء الروع على قلبه‪ ،‬فقال اللّه‬
‫خفْ إِ ّنكَ مِنَ الْآمِنِينَ } وهذا أبلغ ما يكون في التأمين‪ ،‬وعدم الخوف‪.‬‬
‫له‪ { :‬يَا مُوسَى َأقْ ِبلْ وَلَا َت َ‬

‫فإن قوله‪َ { :‬أقْ ِبلْ } يقتضي المر بإقباله‪ ،‬ويجب عليه المتثال‪ ،‬ولكن قد يكون إقباله‪ ،‬وهو لم يزل‬
‫خفْ } أمر له بشيئين‪ ،‬إقباله‪ ،‬وأن ل يكون في قلبه خوف‪ ،‬ولكن‬
‫في المر المخوف‪ ،‬فقال‪ { :‬وَلَا َت َ‬
‫يبقى احتمال‪ ،‬وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف‪ ،‬ولكن ل تحصل له الوقاية والمن من المكروه‪،‬‬
‫فقال ‪ { :‬إِ ّنكَ مِنَ الْآمِنِينَ } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه‪ ،‬فأقبل موسى عليه السلم غير‬
‫خائف ول مرعوب‪ ،‬بل مطمئنا‪ ،‬واثقا بخبر ربه‪ ،‬قد ازداد إيمانه‪ ،‬وتم يقينه‪ ،‬فهذه آية‪ ،‬أراه اللّه‬
‫إياها قبل ذهابه إلى فرعون‪ ،‬ليكون على يقين تام‪ ،‬فيكون أجرأ له‪ ،‬وأقوى وأصلب‪.‬‬

‫ثم أراه الية الخرى فقال‪ { :‬اسُْلكْ يَ َدكَ } أي‪ :‬أدخلها { فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }‬
‫فسلكها وأخرجها‪ ،‬كما ذكر اللّه تعالى‪.‬‬

‫حكَ مِنَ الرّ ْهبِ } أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب‬
‫ضمُمْ إِلَ ْيكَ جَنَا َ‬
‫{ وَا ْ‬
‫والخوف‪ { .‬فَذَا ِنكَ } انقلب العصا حية‪ ،‬وخروج اليد بيضاء من غير سوء { بُ ْرهَانَانِ مِنْ رَ ّبكَ }‬
‫سقِينَ } فل يكفيهم مجرد‬
‫ن َومَلَئِهِ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ‬
‫عوْ َ‬
‫أي‪ :‬حجتان قاطعتان من اللّه‪ِ { ،‬إلَى فِرْ َ‬
‫النذار وأمر الرسول إياهم‪ ،‬بل ل بد من اليات الباهرة‪ ،‬إن نفعت‪.‬‬

‫فب { قَالَ } موسى عليه السلم‪.‬‬

‫معتذرا من ربه‪ ،‬وسائل له المعونة على ما حمله‪ ،‬وذاكرا له الموانع التي فيه‪ ،‬ليزيل ربه ما‬
‫يحذره منها‪َ { .‬ربّ إِنّي قَتَ ْلتُ مِ ْنهُمْ َنفْسًا } أي‪ { :‬فَأَخَافُ أَنْ َيقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ‬
‫ص ّدقُنِي } فإنه مع تضافر الخبار يقوى‬
‫مِنّي ِلسَانًا فَأَرْسِ ْلهُ َمعِي ِردْءًا } أي‪ :‬معاونا ومساعدا { ُي َ‬
‫عضُ َدكَ بَِأخِيكَ } أي‪ :‬نعاونك به ونقويك‪.‬‬
‫الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال‪ { :‬سَ َنشُدّ َ‬

‫سلْطَانًا } أي‪ :‬تسلطا‪ ،‬وتمكنا من الدعوة‪ ،‬بالحجة‪،‬‬


‫ج َعلُ َل ُكمَا ُ‬
‫ثم أزال عنه محذور القتل‪ ،‬فقال‪ { :‬وَ َن ْ‬
‫والهيبة اللهية من عدوهما لهما‪ { ،‬فَلَا َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا } وذلك بسبب آياتنا‪ ،‬وما دلت عليه من‬
‫الحق‪ ،‬وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها‪ ،‬فهي التي بها حصل لكما السلطان‪ ،‬واندفع بها‬
‫عنكم‪ ،‬كيد عدوكم وصارت لكم أبلغ من الجنود‪ ،‬أولي ا ْلعَ َد ِد وا ْلعُدَدِ‪.‬‬

‫{ أَنْ ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت‪ ،‬وهو وحده فريد‪ ،‬وقد رجع إلى‬
‫بلده‪ ،‬بعد ما كان شريدا‪ ،‬فلم تزل الحوال تتطور‪ ،‬والمور تنتقل‪ ،‬حتى أنجز ال له موعوده‪،‬‬
‫ومكنه من العباد والبلد‪ ،‬وصار له ولتباعه‪ ،‬الغلبة والظهور‪.‬‬

‫فذهب موسى برسالة ربه { فََلمّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ } واضحات الدللة على ما قال لهم‪،‬‬
‫ليس فيها قصور ول خفاء‪ { .‬قَالُوا } على وجه الظلم والعلو والعناد { مَا هَذَا إِلّا سِحْرٌ مُفْتَرًى }‬
‫كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر فيها الحق‪ ،‬واستعل على الباطل‪ ،‬واضمحل الباطل‪،‬‬
‫وخضع له الرؤساء العارفون حقائق المور { إِنّهُ َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ } هذا‪ ،‬وهو الذكي‬
‫غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم { مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } ولكن الشقاء غالب‪.‬‬
‫َربّ ال ّ‬

‫س ِمعْنَا ِبهَذَا فِي آبَائِنَا الَْأوّلِينَ } وقد كذبوا في ذلك‪ ،‬فإن اللّه أرسل يوسف عليه السلم قبل‬
‫{ َومَا َ‬
‫شكّ ِممّا جَا َءكُمْ بِهِ حَتّى‬
‫سفُ مِنْ قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ‬
‫موسى‪ ،‬كما قال تعالى { وََلقَدْ جَا َءكُمْ يُو ُ‬
‫ضلّ اللّهُ مَنْ ُهوَ ُمسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ }‬
‫إِذَا هََلكَ قُلْتُمْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ مِنْ َبعْ ِدهِ َرسُولًا كَذَِلكَ ُي ِ‬

‫{ َوقَالَ مُوسَى } حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضلل‪ ،‬وأن ما هم عليه هو الهدى‪:‬‬
‫{ رَبّي أَعَْلمُ ِبمَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى مِنْ عِ ْن ِد ِه َومَنْ َتكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ } أي‪ :‬إذا لم تفد المقابلة معكم‪،‬‬
‫وتبيين اليات البينات‪ ،‬وأبيتم إل التمادي في غيكم واللجاج على كفركم‪ ،‬فاللّه تعالى العالم‬
‫بالمهتدي وغيره‪ ،‬ومن تكون له عاقبة الدار‪ ،‬نحن أم أنتم { إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ } فصار عاقبة‬
‫الدار لموسى وأتباعه‪ ،‬والفلح والفوز‪ ،‬وصار لولئك‪ ،‬الخسار وسوء العاقبة والهلك‪.‬‬

‫عوْنُ } متجرئا على ربه‪ ،‬ومموها على قومه السفهاء‪ ،‬أخفاء العقول‪ { :‬يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ مَا‬
‫{ َوقَالَ فِرْ َ‬
‫عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } أي‪ :‬أنا وحدي‪ ،‬إلهكم ومعبودكم‪ ،‬ولو كان ثَمّ إله غيري‪ ،‬لعلمته‪،‬‬
‫فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون!‪ ،‬حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل تورع وقال‪:‬‬
‫{ مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وهذا‪ ،‬لنه عندهم‪ ،‬العالم الفاضل‪ ،‬الذي مهما قال فهو الحق‪،‬‬
‫ومهما أمر أطاعوه‪.‬‬

‫فلما قال هذه المقالة‪ ،‬التي قد تحتمل أن ثَمّ إلها غيره‪ ،‬أراد أن يحقق النفي‪ ،‬الذي جعل فيه ذلك‬
‫ج َعلْ‬
‫الحتمال‪ ،‬فقال لب " هامان " { فََأ ْوقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطّينِ } ليجعل له لبنا من فخار‪ { .‬فَا ْ‬
‫لِي صَرْحًا } أي‪ :‬بناء { َلعَلّي َأطّلِعُ إِلَى إَِلهِ مُوسَى وَإِنّي لَأَظُنّهُ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } ولكن سنحقق هذا‬
‫الظن‪ ،‬ونريكم كذب موسى‪ .‬فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه‪ ،‬التي ما بلغها آدمي‪ ،‬كذب‬
‫موسى‪ ،‬وادّعى أنه إله‪ ،‬ونفى أن يكون له علم بالله الحق‪ ،‬وفعل السباب‪ ،‬ليتوصل إلى إله‬
‫موسى‪ ،‬وكل هذا ترويج‪ ،‬ولكن العجب من هؤلء المل‪ ،‬الذين يزعمون أنهم كبار المملكة‪،‬‬
‫المدبرون لشئونها‪ ،‬كيف لعب هذا الرجل بعقولهم‪ ،‬واستخف أحلمهم‪ ،‬وهذا لفسقهم الذي صار‬
‫صفة راسخة فيهم‪.‬‬

‫فسد دينهم‪ ،‬ثم تبع ذلك فساد عقولهم‪ ،‬فنسألك اللهم الثبات على اليمان‪ ،‬وأن ل تزيغ قلوبنا بعد إذ‬
‫هديتنا‪ ،‬وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‪.‬‬

‫حقّ } استكبروا على عباد اللّه‪ ،‬وساموهم‬


‫قال تعالى‪ { :‬وَاسْ َتكْبَرَ ُهوَ وَجُنُو ُدهُ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫سوء العذاب‪ ،‬واستكبروا على رسل اللّه‪ ،‬وما جاءوهم به من اليات‪ ،‬فكذبوها‪ ،‬وزعموا أن ما هم‬
‫عليه أعلى منها وأفضل‪.‬‬

‫جعُونَ } فلذلك تجرأوا‪ ،‬وإل فلو علموا‪ ،‬أو ظنوا أنهم يرجعون إلى اللّه‪،‬‬
‫{ َوظَنّوا أَ ّنهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْ َ‬
‫لما كان منهم ما كان‪.‬‬

‫{ فََأخَذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ } عندما استمر عنادهم وبغيهم { فَنَبَذْنَا ُهمْ فِي الْيَمّ فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ‬
‫الظّاِلمِينَ } كانت شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة‪ ،‬المتصلة بالعقوبة‬
‫الخروية‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُمْ أَ ِئمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ } أي جعلنا فرعون ومله من الئمة الذين يقتدي بهم ويمشي‬
‫{ َو َ‬
‫خلفهم إلى دار الخزي والشقاء‪ { .‬وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ لَا يُ ْنصَرُونَ } من عذاب اللّه‪ ،‬فهم أضعف شيء‪،‬‬
‫عن دفعه عن أنفسهم‪ ،‬وليس لهم من دون اللّه‪ ،‬من ولي ول نصير‪.‬‬

‫{ وَأَتْ َبعْنَا ُهمْ فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً } أي‪ :‬وأتبعناهم‪ ،‬زيادة في عقوبتهم وخزيهم‪ ،‬في الدنيا لعنة‪،‬‬
‫يلعنون‪ ،‬ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم‪ ،‬وهذا أمر مشاهد‪ ،‬فهم أئمة الملعونين في‬
‫الدنيا ومقدمتهم‪ { ،‬وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ هُمْ مِنَ ا ْل َمقْبُوحِينَ } المبعدين‪ ،‬المستقذرة أفعالهم‪ .‬الذين اجتمع‬
‫عليهم مقت اللّه‪ ،‬ومقت خلقه‪ ،‬ومقت أنفسهم‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } وهو التوراة { مِنْ َبعْدِ مَا َأهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الْأُولَى } الذين كان خاتمتهم‬
‫في الهلك العام‪ ،‬فرعون وجنوده‪ .‬وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة‪ ،‬انقطع الهلك العام‪،‬‬
‫وشرع جهاد الكفار بالسيف‪.‬‬
‫{ َبصَائِرَ لِلنّاسِ } أي‪ :‬كتاب اللّه‪ ،‬الذي أنزله على موسى‪ ،‬فيه بصائر للناس‪ ،‬أي‪ :‬أمور يبصرون‬
‫بها ما ينفعهم‪ ،‬وما يضرهم‪ ،‬فتقوم الحجة على العاصي‪ ،‬وينتفع بها المؤمن‪ ،‬فتكون رحمة في‬
‫ح َمةً َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ }‬
‫حقه‪ ،‬وهداية له إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَهُدًى وَرَ ْ‬

‫ولما قص اللّه على رسوله ما قص من هذه الخبار الغيبية‪ ،‬نبه العباد على أن هذا خبر إلهي‬
‫محض‪ ،‬ليس للرسول‪ ،‬طريق إلى علمه إل من جهة الوحي‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى المر { َومَا كُ ْنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ } على ذلك‪ ،‬حتى‬
‫يقال‪ :‬إنه وصل إليك من هذا الطريق‪.‬‬

‫{ وََلكِنّا أَ ْنشَأْنَا قُرُونًا فَ َتطَا َولَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل ُعمُرُ } فاندرس العلم‪ ،‬ونسيت آياته‪ ،‬فبعثناك في وقت اشتدت‬
‫الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليك‪َ { .‬ومَا كُ ْنتَ ثَاوِيًا } أي‪ :‬مقيما { فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُو‬
‫عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا } أي‪ :‬تعلمهم وتتعلم منهم‪ ،‬حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين‪،‬‬
‫{ وََلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } أي‪ :‬ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى‪ ،‬أثر من آثار إرسالنا إياك‪،‬‬
‫حيٌ ل سبيل لك إلى علمه‪ ،‬بدون إرسالنا‪.‬‬
‫َووَ ْ‬

‫{ َومَا كُ ْنتَ بِجَا ِنبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا } موسى‪ ،‬وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين‪ ،‬ويبلغهم رسالتنا‪،‬‬
‫ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك‪ .‬والمقصود‪ :‬أن الماجريات‪ ،‬التي جرت لموسى عليه‬
‫الصلة والسلم في هذه الماكن‪ ،‬فقصصتها كما هي‪ ،‬من غير زيادة ول نقص‪ ،‬ل يخلو من أحد‬
‫أمرين‪.‬‬

‫إما أن تكون حضرتها وشاهدتها‪ ،‬أو ذهبت إلى محالّها فتعلمتها من أهلها‪ ،‬فحينئذ قد ل يدل ذلك‬
‫على أنك رسول اللّه‪ ،‬إذ المور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة‪ ،‬من المور المشتركة غير‬
‫المختصة بالنبياء‪ ،‬ولكن هذا قد عُلِ َم وتُ ُيقّن أنه ما كان وما صار‪ ،‬فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم‬
‫ذلك‪.‬‬

‫فتعين المر الثاني‪ ،‬وهو‪ :‬أن هذا جاءك من قِ َبلِ اللّه ووحيه وإرساله‪ ،‬فثبت بالدليل القطعي‪ ،‬صحة‬
‫حمَةً مِنْ رَ ّبكَ لِتُنْذِرَ َق ْومًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ َنذِيرٍ‬
‫رسالتك‪ ،‬ورحمة اللّه بك للعباد‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنْ َر ْ‬
‫مِنْ قَبِْلكَ } أي‪ :‬العرب‪ ،‬وقريش‪ ،‬فإن الرسالة [عندهم] ل تعرف وقت إرسال الرسول وقبله‬
‫بأزمان متطاولة‪َ { ،‬لعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } تفصيل الخير فيفعلونه‪ ،‬والشر فيتركونه‪ ،‬فإذا كنت بهذه‬
‫المنزلة‪ ،‬كان الواجب عليهم‪ ،‬المبادرة إلى اليمان بك‪ ،‬وشكر هذه النعمة‪ ،‬التي ل يقادر قدرها‪،‬‬
‫ول يدرك شكرها‪.‬‬
‫وإنذاره للعرب ل ينفي أن يكون مرسل لغيرهم‪ ،‬فإنه عربي‪ ،‬والقرآن الذي أنزل عليه عربي‪،‬‬
‫وأول من باشر بدعوته العرب‪ ،‬فكانت رسالته إليهم أصل‪ ،‬ولغيرهم تبعا‪ ،‬كما قال تعالى { َأكَانَ‬
‫جلٍ مِ ْنهُمْ أَنْ أَ ْنذِرِ النّاسَ } { ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ‬
‫عجَبًا أَنْ َأوْحَيْنَا إِلَى َر ُ‬
‫لِلنّاسِ َ‬
‫جمِيعًا }‬
‫َ‬

‫{ وََلوْلَا أَنْ ُتصِي َبهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي { فَ َيقُولُوا رَبّنَا َلوْلَا أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا‬
‫ك وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬فأرسلناك يا محمد‪ ،‬لدفع حجتهم‪ ،‬وقطع مقالتهم‪.‬‬
‫رَسُولًا فَنَتّبِعَ آيَا ِت َ‬

‫{ فََلمّا جَاءَ ُهمُ ا ْلحَقّ } الذي ل شك فيه { مِنْ عِ ْندِنَا } وهو القرآن‪ ،‬الذي أوحيناه إليك { قَالُوا }‬
‫مكذبين له‪ ،‬ومعترضين بما ليس يعترض به‪َ { :‬لوْلَا أُو ِتيَ مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ مُوسَى } أي‪ :‬أنزل عليه‬
‫كتاب من السماء جملة واحدة‪ .‬أي‪ :‬فأما ما دام ينزل متفرقا‪ ،‬فإنه ليس من عند اللّه‪ .‬وأي‪ :‬دليل‬
‫في هذا؟ وأي‪ :‬شبهة أنه ليس من عند اللّه‪ ،‬حين نزل مفرقا؟‬

‫بل من كمال هذا القرآن‪ ،‬واعتناء اللّه بمن أنزل عليه‪ ،‬أن نزل متفرقا‪ ،‬ليثبت اللّه به فؤاد رسوله‪،‬‬
‫حسَنَ َتفْسِيرًا } وأيضا‪ ،‬فإن‬
‫ق وَأَ ْ‬
‫ويحصل زيادة اليمان للمؤمنين { وَلَا يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ إِلّا جِئْنَاكَ بِا ْلحَ ّ‬
‫قياسهم على كتاب موسى‪ ،‬قياس قد نقضوه‪ ،‬فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا؟ ولهذا‬
‫قال { َأوَلَمْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ قَالُوا سِحْرَانِ َتظَاهَرَا } أي‪ :‬القرآن والتوراة‪ ،‬تعاونا‬
‫في سحرهما‪ ،‬وإضلل الناس { َوقَالُوا إِنّا ِب ُكلّ كَافِرُونَ } فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق‬
‫بما ليس ببرهان‪ ،‬وينقضونه بما ل ينقض‪ ،‬ويقولون القوال المتناقضة المختلفة‪ ،‬وهذا شأن كل‬
‫كافر‪ .‬ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين‪ ،‬ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا للحق‪،‬‬
‫واتباعا لمر عندهم خير منهما‪ ،‬أم مجرد هوى؟‪.‬‬

‫قال تعالى ملزما لهم بذلك‪ { :‬فَأْتُوا ِبكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُهوَ َأهْدَى مِ ْن ُهمَا } أي‪ :‬من التوراة والقرآن‬
‫{ أَتّ ِب ْعهُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } ول سبيل لهم ول لغيرهم أن يأتوا بمثلهما‪ ،‬فإنه ما طرق العالم منذ‬
‫خلقه اللّه‪ ،‬مثل هذين الكتابين‪ ،‬علما وهدى‪ ،‬وبيانا‪ ،‬ورحمة للخلق‪ ،‬وهذا من كمال النصاف من‬
‫الداعي أن قال‪ :‬أنا مقصودي الحق والهدى والرشد‪ ،‬وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك‪،‬‬
‫الموافق لكتاب موسى‪ ،‬فيجب علينا جميعا الذعان لهما واتباعهما‪ ،‬من حيث كونهما هدى وحقا‪،‬‬
‫فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته‪ ،‬وإل‪ ،‬فل أترك هدى وحقا قد علمته لغير‬
‫هدى وحق ‪.‬‬

‫فَإِنْ لَمْ َيسْتَجِيبُوا َلكَ } فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما { فَاعْلَمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ َأ ْهوَاءَهُمْ } أي‪ :‬فاعلم أن‬
‫تركهم اتباعك‪ ،‬ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه‪ ،‬ول إلى هدى‪ ،‬وإنما ذلك مجرد اتباع لهوائهم‪.‬‬
‫ضلّ ِممّنَ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ ُهدًى مِنَ اللّهِ } فهذا من أضل الناس‪ ،‬حيث عرض عليه الهدى‪،‬‬
‫{ َومَنْ َأ َ‬
‫والصراط المستقيم‪ ،‬الموصل إلى اللّه وإلى دار كرامته‪ ،‬فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه‪ ،‬ودعاه هواه‬
‫إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلك والشقاء فاتبعه وترك الهدى‪ ،‬فهل أحد أضل ممن هذا‬
‫وصفه؟" ولكن ظلمه وعدوانه‪ ،‬وعدم محبته للحق‪ ،‬هو الذي أوجب له‪ :‬أن يبقى على ضلله ول‬
‫يهديه اللّه‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬الذين صار الظلم لهم وصفا والعناد‬
‫لهم نعتا‪ ،‬جاءهم الهدى فرفضوه‪ ،‬وعرض لهم الهوى‪ ،‬فتبعوه‪ ،‬سدوا على أنفسهم أبواب الهداية‬
‫وطرقها‪ ،‬وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها‪ ،‬فهم في غيهم وظلمهم يعمهون‪ ،‬وفي شقائهم‬
‫وهلكهم يترددون‪.‬‬

‫وفي قوله‪ { :‬فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا َلكَ فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ } دليل على أن كل من لم يستجب‬
‫للرسول‪ ،‬وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول‪ ،‬فإنه لم يذهب إلى هدى‪ ،‬وإنما ذهب إلى هوى‪.‬‬

‫{ وََلقَ ْد َوصّلْنَا َلهُمُ ا ْلقَ ْولَ } أي‪ :‬تابعناه وواصلناه‪ ،‬وأنزلناه شيئا فشيئا‪ ،‬رحمة بهم ولطفا { َلعَّلهُمْ‬
‫يَتَ َذكّرُونَ } حين تتكرر عليهم آياته‪ ،‬وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها‪ .‬فصار نزوله متفرقا‬
‫رحمة بهم‪ ،‬فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟‬

‫فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة‬

‫فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره‪ ،‬وأيامه في المم السابقة‪ ،‬إنما يستفيد بها ويستنير المؤمنون‪،‬‬
‫فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته‪ ،‬وإن اللّه تعالى إنما يسوق القصص‪ ،‬لجلهم‪ ،‬وأما غيرهم‪،‬‬
‫فل يعبأ اللّه بهم‪ ،‬وليس لهم منها نور وهدى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه‪ ،‬وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج‪ ،‬ل دفعة واحدة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المة المستضعفة‪ ،‬ولو بلغت في الضعف ما بلغت‪ ،‬ل ينبغي لها أن يستولى عليها‬
‫الكسل عن طلب حقها‪ ،‬ول الياس من ارتقائها إلى أعلى المور‪ ،‬خصوصا إذا كانوا مظلومين‪،‬‬
‫كما استنقذ اللّه أمة بني إسرائيل‪ ،‬المة الضعيفة‪ ،‬من أسر فرعون وملئه‪ ،‬ومكنهم في الرض‪،‬‬
‫وملكهم بلدهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المة ما دامت ذليلة مقهورة ل تأخذ حقها ول تتكلم به‪ ،‬ل يقوم لها أمر دينها [ول‬
‫دنياها] ول يكون لها إمامة فيه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬لطف اللّه بأم موسى‪ ،‬وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة‪ ،‬بأن اللّه سيرد إليها ابنها‪ ،‬ويجعله‬
‫من المرسلين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق‪ ،‬لينيله سرورا أعظم من ذلك‪ ،‬أو يدفع عنه شرا أكثر‬
‫منه‪ ،‬كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد‪ ،‬والهم البليغ‪ ،‬الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها‬
‫ابنها‪ ،‬على وجه تطمئن به نفسها‪ ،‬وتقر به عينها‪ ،‬وتزداد به غبطة وسرورا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الخوف الطبيعي من الخلق‪ ،‬ل ينافي اليمان ول يزيله‪ ،‬كما جرى لم موسى ولموسى‬
‫من تلك المخاوف‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اليمان يزيد وينقص‪ .‬وأن من أعظم ما يزيد به اليمان‪ ،‬ويتم به اليقين‪ ،‬الصبر عند‬
‫المزعجات‪ ،‬والتثبيت من اللّه‪ ،‬عند المقلقات‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { .‬لوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْ ِبهَا لِ َتكُونَ مِنَ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬ليزداد إيمانها بذلك ويطمئن قلبها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من أعظم نعم اللّه على عبده‪ ،‬و [أعظم] معونة للعبد على أموره‪ ،‬تثبيت اللّه إياه‪ ،‬وربط‬
‫جأشه وقلبه عند المخاوف‪ ،‬وعند المور المذهلة‪ ،‬فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب‪ ،‬والفعل‬
‫الصواب‪ ،‬بخلف من استمر قلقه وروعه‪ ،‬وانزعاجه‪ ،‬فإنه يضيع فكره‪ ،‬ويذهل عقله‪ ،‬فل ينتفع‬
‫بنفسه في تلك الحال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العبد ‪-‬ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ ل بد منه‪ -‬فإنه ل يهمل فعل‬
‫السباب التي أمر بها‪ ،‬ول يكون ذلك منافيا ليمانه بخبر اللّه‪ ،‬فإن اللّه قد وعد أم موسى أن يرده‬
‫عليها‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬اجتهدت على رده‪ ،‬وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز خروج المرأة في حوائجها‪ ،‬وتكليمها للرجال‪ ،‬من غير محذور‪ ،‬كما جرى لخت‬
‫موسى وابنتي صاحب مدين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز أخذ الجرة على الكفالة والرضاع‪ ،‬والدللة على من يفعل ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه‪ ،‬أن يريه من آياته‪ ،‬ويشهده من بيناته‪،‬‬
‫ما يزيد به إيمانه‪ ،‬كما رد ال موسى على أمه‪ ،‬لتعلم أن وعد اللّه حق‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف‪ ،‬ل يجوز‪ ،‬فإن موسى عليه السلم عدّ قتله‬
‫القبطي الكافر ذنبا‪ ،‬واستغفر اللّه منه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين الذين يفسدون في الرض‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من قتل النفوس بغير حق‪ ،‬وزعم أنه يريد الصلح في الرض‪ ،‬وتهييب أهل‬
‫المعاصي‪ ،‬فإنه كاذب في ذلك‪ ،‬وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي { إِنْ تُرِيدُ إِلّا أَنْ َتكُونَ جَبّارًا‬
‫فِي الْأَ ْرضِ َومَا تُرِيدُ أَنْ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ } على وجه التقرير له‪ ،‬ل النكار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه‪ ،‬على وجه التحذير له من شر يقع فيه‪ ،‬ل يكون ذلك‬
‫نميمة ‪-‬بل قد يكون واجبا‪ -‬كما أخبر ذلك الرجل لموسى‪ ،‬ناصحا له ومحذرا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه إذا خاف القتل والتلف في القامة‪ ،‬فإنه ل يلقي بيده إلى التهلكة‪ ،‬ول يستسلم لذلك‪ ،‬بل‬
‫يذهب عنه‪ ،‬كما فعل موسى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه عند تزاحم المفسدتين‪ ،‬إذا كان ل بد من ارتكاب إحداهما أنه يرتكب الخف منهما‬
‫والسلم‪ ،‬كما أن موسى‪ ،‬لما دار المر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل‪ ،‬أو يذهب إلى بعض البلدان‬
‫البعيدة‪ ،‬التي ل يعرف الطريق إليها‪ ،‬وليس معه دليل [يد] له غير ربه‪ ،‬ولكن هذه الحالة أقرب‬
‫للسلمة من الولى‪ ،‬فتبعها موسى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه‪ ،‬إذا لم يترجح عنده أحد القولين‪ ،‬فإنه‬
‫يستهدي ربه‪ ،‬ويسأله أن يهديه الصواب من القولين‪ ،‬بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه‪ ،‬فإن‬
‫سوَاءَ‬
‫عسَى رَبّي أَنْ َي ْهدِيَنِي َ‬
‫اللّه ل يخيب مَنْ هذه حاله‪ .‬كما خرج موسى تلقاء مدين فقال‪َ { :‬‬
‫السّبِيلِ }‬

‫ومنها‪ :‬أن الرحمة بالخلق‪ ،‬والحسان على من يعرف ومن ل يعرف‪ ،‬من أخلق‪ :‬النبياء‪ ،‬وأن‬
‫من الحسان سقي الماشية الماء‪ ،‬وإعانة العاجز‪.‬‬

‫ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها‪ ،‬ولو كان اللّه عالما لها‪ ،‬لنه تعالى‪ ،‬يحب تضرع‬
‫عبده وإظهار ذله ومسكنته‪ ،‬كما قال موسى‪َ { :‬ربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }‬

‫ومنها أن الحياء ‪-‬خصوصا من الكرام‪ -‬من الخلق الممدوحة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬المكافأة على الحسان لم يزل دأب المم السابقين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى‪ ،‬ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد الول‪،‬‬
‫أنه ل يلم على ذلك‪ ،‬كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له‪ ،‬ولم‬
‫يستشرف بقلبه على عوض‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مشروعية الجارة‪ ،‬وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها‪ ،‬مما ل يقدر العمل‪ ،‬وإنما مرده‪،‬‬
‫العرف‪.‬‬

‫ومنها أنه تجوز الجارة بالمنفعة‪ ،‬ولو كانت المنفعة بضعا‪.‬‬

‫ومنها أن خطبة الرجل لبنته الرجل الذي يتخيره‪ ،‬ل يلم عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن خير أجير وعامل [يعمل] للنسان‪ ،‬أن يكون قويا أمينا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من مكارم الخلق‪ ،‬أن يُحَسّن خلقه لجيره‪ ،‬وخادمه‪ ،‬ول يشق عليه بالعمل‪ ،‬لقوله‪:‬‬
‫شقّ عَلَ ْيكَ سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ }‬
‫{ َومَا أُرِيدُ أَنْ أَ ُ‬

‫ل َوكِيلٌ }‬
‫ومنها‪ :‬جواز عقد الجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد لقوله‪ { :‬وَاللّهُ عَلَى مَا َنقُو ُ‬

‫ومنها‪ :‬ما أجرى اللّه على يد موسى من اليات البينات‪ ،‬والمعجزات الظاهرة‪ ،‬من الحية‪ ،‬وانقلب‬
‫يده بيضاء من غير سوء‪ ،‬ومن عصمة اللّه لموسى وهارون‪ ،‬من فرعون‪ ،‬ومن الغرق‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من أعظم العقوبات أن يكون النسان إماما في الشر‪ ،‬وذلك بحسب معارضته ليات اللّه‬
‫وبيناته‪ ،‬كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على عبده‪ ،‬أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما فيها من الدللة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬حيث أخبر بذلك تفصيل‬
‫مطابقا‪ ،‬وتأصيل موافقا‪ ،‬قصه قصا‪ ،‬صدق به المرسلين‪ ،‬وأيد به الحق المبين‪ ،‬من غير حضور‬
‫شيء من تلك الوقائع‪ ،‬ول مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع‪ ،‬ول تلوة درس فيها شيئا من‬
‫هذه المور‪ ،‬ول مجالسة أحد من أهل العلم‪ ،‬إن هو إل رسالة الرحمن الرحيم‪ ،‬ووحي أنزله عليه‬
‫الكريم المنان‪ ،‬لينذر به قوما جاهلين‪ ،‬وعن النذر والرسل غافلين‪.‬‬

‫فصلوات اللّه وسلمه‪ ،‬على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه‪ ،‬ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول‬
‫النيرة‪ ،‬أنه من عند اللّه‪ ،‬كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به‪ ،‬وصدقه خبر الولين والخرين‪،‬‬
‫والشرع الذي جاء به من رب العالمين‪ ،‬وما جبل عليه من الخلق الفاضلة‪ ،‬التي ل تناسب‪ ،‬ول‬
‫تصلح إل لعلى الخلق درجة‪ ،‬والنصر المبين لدينه وأمته‪ ،‬حتى بلغ دينه مبلغ الليل والنهار‪،‬‬
‫وفتحت أمته معظم بلدان المصار‪ ،‬بالسيف والسنان‪ ،‬وقلوبهم بالعلم واليمان‪.‬‬

‫ولم تزل المم المعاندة‪ ،‬والملوك الكفرة المتعاضدة‪ ،‬ترميه بقوس واحدة‪ ،‬وتكيد له المكايد‪ ،‬وتمكر‬
‫لطفائه وإخفائه‪ ،‬وإخماده من الرض‪ ،‬وهو قد بهرها وعلها‪ ،‬ل يزداد إل نموا‪ ،‬ول آياته‬
‫وبراهينه إل ظهورا‪ ،‬وكل وقت من الوقات‪ ،‬يظهر من آياته ما هو عبرة لِ ْلعَاَلمِينَ‪ ،‬وهداية‬
‫لِ ْلعَالمِينَ‪ ،‬ونور وبصيرة للمتوسمين‪ .‬والحمد للّه وحده‪.‬‬

‫{ ‪ { } 52-55‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ُهمْ بِهِ ُي ْؤمِنُونَ * وَإِذَا يُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ قَالُوا آمَنّا بِهِ إِنّهُ‬
‫حقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبِْلهِ مُسِْلمِينَ * أُولَ ِئكَ ُيؤْ َتوْنَ أَجْ َرهُمْ مَرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ‬
‫الْ َ‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ‬
‫س ِمعُوا الّل ْغوَ أَعْ َرضُوا عَ ْن ُه َوقَالُوا لَنَا أَ ْ‬
‫حسَنَةِ السّيّئَ َة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْن ِفقُونَ * وَِإذَا َ‬
‫بِالْ َ‬
‫سلَامٌ عَلَ ْيكُمْ لَا نَبْ َتغِي الْجَاهِلِينَ }‬
‫عمَاُلكُمْ َ‬
‫أَ ْ‬

‫يذكر تعالى عظمة القرآن وصدقه وحقه‪ ،‬وأن أهل العلم بالحقيقة يعرفونه ويؤمنون به ويقرون‬
‫بأنه الحق‪ { ،‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ } وهم أهل التوراة‪ ،‬والنجيل‪ ،‬الذين لم يغيروا ولم‬
‫يبدلوا { ُهمْ بِهِ } أي‪ :‬بهذا القرآن ومن جاء به { ُي ْؤمِنُونَ }‬

‫{ وَِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } استمعوا له وأذعنوا و { قَالُوا آمَنّا ِبهِ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَبّنَا } لموافقته ما جاءت‬
‫به الرسل‪ ،‬ومطابقته لما ذكر في الكتب‪ ،‬واشتماله على الخبار الصادقة‪ ،‬والوامر والنواهي‬
‫الموافقة‪ ،‬لغاية الحكمة‪.‬‬

‫وهؤلء الذين تفيد شهادتهم‪ ،‬وينفع قولهم‪ ،‬لنهم ل يقولون ما يقولون إل عن علم وبصيرة‪ ،‬لنهم‬

‫وأهل الكتب‪ ،‬وغيرهم ل يدل ردهم ومعارضتهم للحق على شبهة‪ ،‬فضل عن‬ ‫أهل الصنف‬
‫الحجة‪ ،‬لنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق‪.‬‬

‫قال تعالي‪ُ { :‬قلْ آمِنُوا ِبهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مِنْ قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ‬
‫سجّدًا } اليات‪.‬‬
‫ُ‬

‫وقوله‪ { :‬إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسِْلمِينَ } فلذلك ثبتنا على ما مَنّ اللّه به علينا من اليمان‪ ،‬فصدقنا بهذا‬
‫القرآن‪ ،‬آمنا بالكتاب الول والكتاب الخر‪ ،‬وغيرنا ينقض تكذيبه بهذا الكتاب‪ ،‬إيمانه بالكتاب‬
‫الول‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الذين آمنوا بالكتابين { ُيؤْ َتوْنَ أَجْ َرهُمْ مَرّتَيْنِ } أجرا على اليمان الول‪ ،‬وأجرا على‬
‫اليمان الثاني‪ِ { ،‬بمَا صَبَرُوا } على اليمان‪ ،‬وثبتوا على العمل‪ ،‬فلم تزعزعهم عن ذلك شبهة‪،‬‬
‫ول ثناهم عن اليمان رياسة ول شهوة‪.‬‬
‫حسَنَةِ السّيّئَةَ } أي‪:‬‬
‫و من خصالهم الفاضلة‪ ،‬التي من آثار إيمانهم الصحيح‪ ،‬أنهم { وَيَدْ َرءُونَ بِالْ َ‬
‫دأبهم وطريقتهم الحسان لكل أحد‪ ،‬حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل‪ ،‬يقابلونه بالقول الحميد‬
‫والفعل الجميل‪ ،‬لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم‪ ،‬وأنه ل يوفق له إل ذو حظ عظيم‪.‬‬

‫س ِمعُوا الّل ْغوَ } من جاهل خاطبهم به‪ { ،‬قَالُوا } مقالة عباد الرحمن أولي اللباب‪ { :‬لَنَا‬
‫{ وَِإذَا َ‬
‫عمَاُلكُمْ } أي‪ُ :‬كلّ سَيُجازَى بعمله الذي عمله وحده‪ ،‬ليس عليه من وزر غيره شيء‪.‬‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫أَ ْ‬
‫ولزم من ذلك‪ ،‬أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون‪ ،‬من اللغو والباطل‪ ،‬والكلم الذي ل فائدة فيه‪.‬‬

‫{ سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمْ } أي ل تسمعون منا إل الخير‪ ،‬ول نخاطبكم بمقتضى جهلكم‪ ،‬فإنكم وإن رضيتم‬
‫لنفسكم هذا المرتع اللئيم‪ ،‬فإننا ننزه أنفسنا عنه‪ ،‬ونصونها عن الخوض فيه‪ { ،‬لَا نَبْ َتغِي الْجَاهِلِينَ }‬
‫من كل وجه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 56‬إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ }‬

‫يخبر تعالى أنك يا محمد ‪-‬وغيرك من باب أولى‪ -‬ل تقدر على هداية أحد‪ ،‬ولو كان من أحب‬
‫الناس إليك‪ ،‬فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق‪ ،‬وخلق اليمان في القلب‪ ،‬وإنما ذلك بيد‬
‫اللّه سبحانه تعالى‪ ،‬يهدي من يشاء‪ ،‬وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه‪ ،‬ممن ل يصلح لها فيبقيه‬
‫على ضلله‪.‬‬

‫وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى‪ { :‬وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } فتلك هداية البيان‬
‫والرشاد‪ ،‬فالرسول يبين الصراط المستقيم‪ ،‬ويرغب فيه‪ ،‬ويبذل جهده في سلوك الخلق له‪ ،‬وأما‬
‫كونه يخلق في قلوبهم اليمان‪ ،‬ويوفقهم بالفعل‪ ،‬فحاشا وكل‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬لو كان قادرا عليها‪ ،‬لهدى من وصل إليه إحسانه‪ ،‬ونصره ومنعه من قومه‪ ،‬عمه أبا‬
‫طالب‪ ،‬ولكنه أوصل إليه من الحسان بالدعوة للدين والنصح التام‪ ،‬ما هو أعظم مما فعله معه‬
‫عمه‪ ،‬ولكن الهداية بيد اللّه تعالى‪.‬‬

‫طفْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوَلَمْ ُن َمكّنْ َل ُهمْ حَ َرمًا آمِنًا يُجْبَى‬


‫{ ‪َ { } 57-59‬وقَالُوا إِنْ نَتّبِعِ ا ْل ُهدَى َم َعكَ نُ َتخَ ّ‬
‫شيْءٍ رِ ْزقًا مِنْ َلدُنّا وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ * َوكَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ َبطِ َرتْ‬
‫إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ َ‬
‫سكَنْ مِنْ َبعْ ِدهِمْ إِلّا قَلِيلًا َوكُنّا َنحْنُ ا ْلوَارِثِينَ * َومَا كَانَ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ‬
‫َمعِيشَ َتهَا فَتِ ْلكَ مَسَاكِ ُنهُمْ َلمْ تُ ْ‬
‫ا ْلقُرَى حَتّى يَ ْب َعثَ فِي ُأ ّمهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا َومَا كُنّا ُمهِْلكِي ا ْلقُرَى إِلّا وَأَهُْلهَا ظَاِلمُونَ }‬
‫يخبر تعالى أن المكذبين من قريش وأهل مكة‪ ،‬يقولون للرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ { :‬إِنْ نَتّبِعِ‬
‫طفْ مِنْ أَ ْرضِنَا } بالقتل والسر ونهب الموال‪ ،‬فإن الناس قد عادوك وخالفوك‪،‬‬
‫خّ‬‫ا ْلهُدَى َم َعكَ نُتَ َ‬
‫فلو تابعناك لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم‪ ،‬ولم يكن لنا بهم طاقة‪.‬‬

‫وهذا الكلم منهم‪ ،‬يدل على سوء الظن باللّه تعالى‪ ،‬وأنه ل ينصر دينه‪ ،‬ول يعلي كلمته‪ ،‬بل يمكن‬
‫الناس من أهل دينه‪ ،‬فيسومونهم سوء العذاب‪ ،‬وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق‪.‬‬

‫قال اللّه مبينا لهم حالة هم بها دون الناس وأن اللّه اختصهم بها‪ ،‬فقال‪َ { :‬أوََلمْ ُن َمكّنْ َلهُمْ حَ َرمًا آمِنًا‬
‫شيْءٍ رِ ْزقًا مِنْ لَدُنّا } أي‪ :‬أولم نجعلهم متمكنين [ممكنين] في حرم يكثره‬
‫يُجْبَى إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ َ‬
‫المنتابون ويقصده الزائرون‪ ،‬قد احترمه البعيد والقريب‪ ،‬فل يهاج أهله‪ ،‬ول ينتقصون بقليل [ول‬
‫كثير]‪.‬‬

‫والحال أن كل ما حولهم من الماكن‪ ،‬قد حف بها الخوف من كل جانب‪ ،‬وأهلها غير آمنين ول‬
‫ح َمدُوا ربهم على هذا المن التام‪ ،‬الذي ليس فيه غيرهم‪ ،‬وعلى الرزق الكثير‪ ،‬الذي‬
‫مطمئنين‪ ،‬فَلْيَ ْ‬
‫يجيء إليهم من كل مكان‪ ،‬من الثمرات والطعمة والبضائع‪ ،‬ما به يرتزقون ويتوسعون‪ .‬ولْيَتّ ِبعُوا‬
‫هذا الرسول الكريم‪ ،‬ليتم لهم المن والرغد‪.‬‬

‫وإياهم وتكذيبه‪ ،‬والبطر بنعمة ال‪ ،‬فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا‪ ،‬وبعد عزهم ذل‪ ،‬وبعد غناهم فقرا‪،‬‬
‫ولهذا توعدهم بما فعل بالمم قبلهم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫{ َوكَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ َبطِ َرتْ َمعِيشَ َتهَا } أي‪ :‬فخرت بها‪ ،‬وألهتها‪ ،‬واشتغلت بها عن اليمان‬
‫سكَنْ مِنْ َبعْدِ ِهمْ‬
‫بالرسل‪ ،‬فأهلكهم اللّه‪ ،‬وأزال عنهم النعمة‪ ،‬وأحل بهم النقمة‪ { .‬فَتِ ْلكَ َمسَاكِ ُنهُمْ لَمْ ُت ْ‬
‫إِلّا قَلِيلًا } لتوالي الهلك والتلف عليهم‪ ،‬وإيحاشها من بعدهم‪.‬‬

‫{ َوكُنّا َنحْنُ ا ْلوَارِثِينَ } للعباد‪ ،‬نميتهم‪ ،‬ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم‪ ،‬ثم نعيدهم‬
‫إلينا‪ ،‬فنجازيهم بأعمالهم‪.‬‬

‫ومن حكمته ورحمته أن ل يعذب المم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم‪ ،‬بإرسال الرسل‬
‫إليهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا كَانَ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَى } أي‪ :‬بكفرهم وظلمهم { حَتّى يَ ْب َعثَ فِي ُأ ّمهَا } أي‪:‬‬
‫في القرية والمدينة التي إليها يرجعون‪ ،‬ونحوها يترددون‪ ،‬وكل ما حولها ينتجعها‪ ،‬ول تخفى عليه‬
‫أخبارها‪.‬‬
‫{ َرسُولًا يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا } الدالة على صحة ما جاء به‪ ،‬وصدق ما دعاهم إليه‪ ،‬فيبلغ قوله‬
‫قاصيهم ودانيهم‪ ،‬بخلف بعث الرسل في القرى البعيدة‪ ،‬والطراف النائية‪ ،‬فإن ذلك مظنة الخفاء‬
‫والجفاء‪ ،‬والمدن المهات مظنة الظهور والنتشار‪ ،‬وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم‪.‬‬

‫{ َومَا كُنّا ُمهِْلكِي ا ْلقُرَى إِلّا وَأَهُْلهَا ظَاِلمُونَ } بالكفر والمعاصي‪ ،‬مستحقون للعقوبة‪ .‬والحاصل‪ :‬أن‬
‫اللّه ل يعذب أحدا إل بظلمه‪ ،‬وإقامة الحجة عليه‪.‬‬

‫شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَ ُتهَا َومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى َأفَلَا‬
‫{ ‪َ { } 60-61‬ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ َ‬
‫ن وَعَدْنَا ُه وَعْدًا حَسَنًا َف ُهوَ لَاقِيهِ َكمَنْ مَ ّتعْنَاهُ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ُثمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ‬
‫َت ْعقِلُونَ * َأ َفمَ ْ‬
‫حضَرِينَ }‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫هذا حض من ال لعباده على الزهد في الدنيا وعدم الغترار بها‪ ،‬وعلى الرغبة في الخرى‪،‬‬
‫وجعلها مقصود العبد ومطلوبه‪ ،‬ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق‪ ،‬من الذهب‪ ،‬والفضة‪،‬‬
‫والحيوانات والمتعة‪ ،‬والنساء‪ ،‬والبنين‪ ،‬والمآكل‪ ،‬والمشارب‪ ،‬واللذات‪ ،‬كلها متاع الحياة [الدنيا]‬
‫وزينتها‪ ،‬أي‪ :‬يتمتع به وقتا قصيرا‪ ،‬متاعا قاصرا‪ ،‬محشوا بالمنغصات‪ ،‬ممزوجا بالغصص‪.‬‬

‫ويزين به زمانا يسيرا‪ ،‬للفخر والرياء‪ ،‬ثم يزول ذلك سريعا‪ ،‬وينقضي جميعا‪ ،‬ولم يستفد صاحبه‬
‫منه إل الحسرة والندم‪ ،‬والخيبة والحرمان‪.‬‬

‫{ َومَا عِنْدَ اللّهِ } من النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم { خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي‪ :‬أفضل في وصفه وكميته‪،‬‬
‫وهو دائم أبدا‪ ،‬ومستمر سرمدا‪.‬‬

‫{ َأفَلَا َتعْقِلُونَ } أي‪ :‬أفل يكون لكم عقول‪ ،‬بها تزنون أي‪ :‬المور أولى باليثار‪ ،‬وأي‪ :‬الدارين‬
‫أحق للعمل لها فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد‪ ،‬يؤثر الخرى على الدنيا‪ ،‬وأنه ما آثر أحد الدنيا إل‬
‫لنقص في عقله‪ ،‬ولهذا نبه العقول على الموازنة بين عاقبة مؤثر الدنيا ومؤثر الخرة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حسَنًا َف ُهوَ لَاقِيهِ }‬
‫ن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا َ‬
‫{ َأ َفمَ ْ‬

‫أي‪ :‬هل يستوي مؤمن ساع للخرة سعيها‪ ،‬قد عمل على وعد ربه له‪ ،‬بالثواب الحسن‪ ،‬الذي هو‬
‫الجنة‪ ،‬وما فيها من النعيم العظيم‪ ،‬فهو لقيه من غير شك ول ارتياب‪ ،‬لنه وعد من كريم صادق‬
‫الوعد‪ ،‬ل يخلف الميعاد‪ ،‬لعبد قام بمرضاته وجانب سخطه‪َ { ،‬كمَنْ مَ ّتعْنَاهُ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } فهو‬
‫يأخذ فيها ويعطي‪ ،‬ويأكل ويشرب‪ ،‬ويتمتع كما تتمتع البهائم‪ ،‬قد اشتغل بدنياه عن آخرته‪ ،‬ولم‬
‫يرفع بهدى ال رأسا‪ ،‬ولم ينقد للمرسلين‪ ،‬فهو ل يزال كذلك‪ ،‬ل يتزود من دنياه إل الخسار‬
‫والهلك‪.‬‬
‫حضَرِينَ } للحساب‪ ،‬وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه‪ ،‬وإنما قدم جميع‬
‫{ ُثمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ ا ْل ُم ْ‬
‫ما يضره‪ ،‬وانتقل إلى دار الجزاء بالعمال‪ ،‬فما ظنكم إلى ما يصير إليه؟ وما تحسبون ما يصنع‬
‫به؟ فليختر العاقل لنفسه‪ ،‬ما هو أولى بالختيار‪ ،‬وأحق المرين باليثار‪.‬‬

‫عمُونَ * قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلُ‬


‫{ ‪ { } 62-66‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬
‫غوَيْنَا تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْبُدُونَ * َوقِيلَ ادْعُوا‬
‫غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَا أَ ْ‬
‫رَبّنَا َهؤُلَاءِ الّذِينَ أَ ْ‬
‫عوْهُمْ فََلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلهُ ْم وَرََأوُا ا ْلعَذَابَ َلوْ أَ ّن ُهمْ كَانُوا َيهْ َتدُونَ * وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ مَاذَا‬
‫شُ َركَا َءكُمْ فَدَ َ‬
‫أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ * َف َعمِيَتْ عَلَ ْيهِمُ الْأَنْبَاءُ َي ْومَئِذٍ َفهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ }‬

‫هذا إخبار من اللّه تعالى‪ ،‬عما يسأل عنه الخلئق يوم القيامة‪ ،‬وأنه يسألهم عن أصول الشياء‪،‬‬
‫وعن عبادة اللّه وإجابة رسله‪ ،‬فقال‪ { :‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ } أي‪ :‬ينادي من أشركوا به شركاء يعبدونهم‪،‬‬
‫ويرجون نفعهم‪ ،‬ودفع الضرر عنهم‪ ،‬فيناديهم‪ ،‬ليبين لهم عجزها وضللهم‪ { ،‬فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ }‬
‫عمُونَ } فأين‬
‫وليس للّه شريك‪ ،‬ولكن ذلك بحسب زعمهم وافترائهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْ ُ‬
‫هم‪ ،‬بذواتهم‪ ،‬وأين نفعهم وأين دفعهم؟‬

‫ومن المعلوم أنه يتبين لهم في تلك الحال‪ ،‬أن الذي عبدوه‪ ،‬ورجوه باطل‪ ،‬مضمحل في ذاته‪ ،‬وما‬
‫رجوا منه‪ ،‬فيقرون على أنفسهم بالضللة والغواية‪.‬‬

‫حقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولُ } الرؤساء والقادة‪ ،‬في الكفر والشر‪ ،‬مقرين بغوايتهم‬
‫ولهذا { قَالَ الّذِينَ َ‬
‫غوَيْنَا } أي‪ :‬كلنا قد اشترك في‬
‫غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَا أَ ْ‬
‫وإغوائهم‪ { :‬رَبّنَا َهؤُلَاءِ } التابعون { الّذِينَ أَ ْ‬
‫الغواية‪ ،‬وحق عليه كلمة العذاب‪.‬‬

‫{ تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ } من عبادتهم‪ ،‬أي‪ :‬نحن برآء منهم ومن عملهم‪ { .‬مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْ ُبدُونَ } وإنما‬
‫كانوا يعبدون الشياطين‪.‬‬

‫{ َوقِيلَ } لهم‪ { :‬ادْعُوا شُ َركَا َء ُكمْ } على ما أملتم فيهم من النفع فأمروا بدعائهم في ذلك الوقت‬
‫الحرج‪ ،‬الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده‪.‬‬

‫عوْهُمْ } لينفعوهم‪ ،‬أو يدفعوا عنهم من عذاب اللّه من شيء‪ { .‬فَلَمْ َيسْتَجِيبُوا َل ُهمْ } فعلم الذين‬
‫{ َفدَ َ‬
‫كفروا أنهم كانوا كاذبين مستحقين للعقوبة‪ { ،‬وَرََأوُا ا ْلعَذَابَ } الذي سيحل بهم عيانا‪ ،‬بأبصارهم‬
‫بعد ما كانوا مكذبين به‪ ،‬منكرين له‪.‬‬

‫{ َلوْ أَ ّن ُهمْ كَانُوا َيهْتَدُونَ } أي‪ :‬لما حصل عليهم ما حصل‪ ،‬ولهدوا إلى صراط الجنة‪ ،‬كما اهتدوا‬
‫في الدنيا‪ ،‬ولكن لم يهتدوا‪ ،‬فلم يهتدوا‪.‬‬
‫{ وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ مَاذَا أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ } هل صدقتموهم‪[ ،‬واتبعتموهم] أم كذبتموهم‬
‫وخالفتموهم؟‬

‫{ َف َعمِ َيتْ عَلَ ْيهِمُ الْأَنْبَاءُ َي ْومَئِذٍ َفهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ } أي‪ :‬لم يحيروا عن هذا السؤال جوابا‪ ،‬ولم يهتدوا‬
‫إلى الصواب‪.‬‬

‫ومن المعلوم أنه ل ينجى في هذا الموضع إل التصريح بالجواب الصحيح‪ ،‬المطابق لحوالهم‪ ،‬من‬
‫أننا أجبناهم باليمان والنقياد‪ ،‬ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لمرهم‪ ،‬لم ينطقوا بشيء‪،‬‬
‫ول يمكن أن يتساءلوا ويتراجعوا بينهم في ماذا يجيبون به‪ ،‬ولو كان كذبا‪.‬‬

‫ع ِملَ صَالِحًا َفعَسَى أَنْ َيكُونَ مِنَ ا ْل ُمفْلِحِينَ }‬


‫ن وَ َ‬
‫ب وَآمَ َ‬
‫{ ‪ { } 67‬فََأمّا مَنْ تَا َ‬

‫لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم وعن رسلهم‪ ،‬ذكر الطريق الذي ينجو به العبد من عقاب‬
‫اللّه تعالى‪ ،‬وأنه ل نجاة إل لمن اتصف بالتوبة من الشرك والمعاصي‪ ،‬وآمن باللّه فعبده‪ ،‬وآمن‬
‫برسله فصدقهم‪ ،‬وعمل صالحا متبعا فيه للرسل‪َ { ،‬فعَسَى أَنْ َيكُونَ } من جمع هذه الخصال { مِنَ‬
‫ا ْل ُمفْلِحِينَ } الناجحين بالمطلوب‪ ،‬الناجين من المرهوب‪ ،‬فل سبيل إلى الفلح بدون هذه المور‪.‬‬

‫عمّا ُيشْ ِركُونَ‬


‫{ ‪ { } 68-70‬وَرَ ّبكَ يَخُْلقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ َلهُمُ الْخِيَ َرةُ سُبْحَانَ اللّ ِه وَ َتعَالَى َ‬
‫ح ْمدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِ َرةِ‬
‫ن صُدُورُ ُه ْم َومَا ُيعْلِنُونَ * وَ ُهوَ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ َلهُ الْ َ‬
‫* وَرَ ّبكَ َيعْلَمُ مَا ُتكِ ّ‬
‫جعُونَ }‬
‫حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫وَلَهُ ا ْل ُ‬

‫هذه اليات‪ ،‬فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات‪ ،‬ونفوذ مشيئته بجميع البريات‪ ،‬وانفراده باختيار من‬
‫يختاره ويختصه‪ ،‬من الشخاص‪ ،‬والوامر [والزمان] والماكن‪ ،‬وأن أحدا ليس له من المر‬
‫والختيار شيء‪ ،‬وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به‪ ،‬من الشريك‪ ،‬والظهير‪ ،‬والعوين‪،‬‬
‫والولد‪ ،‬والصاحبة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما أشرك به المشركون‪ ،‬وأنه العالم بما أكنته الصدور وما‬
‫أعلنوه‪ ،‬وأنه وحده المعبود المحمود في الدنيا والخرة‪ ،‬على ماله من صفات الجلل والجمال‪،‬‬
‫وعلى ما أسداه إلى خلقه من الحسان والفضال‪.‬‬

‫وأنه هو الحاكم في الدارين‪ ،‬في الدنيا‪ ،‬بالحكم القدري‪ ،‬الذي أثره جميع ما خلق وذرأ‪ ،‬والحكم‬
‫الديني‪ ،‬الذي أثره جميع الشرائع‪ ،‬والوامر والنواهي‪.‬‬

‫جعُونَ }‬
‫وفي الخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬

‫فيجازي كل منكم بعمله‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬


‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ اللّ ْيلَ سَ ْر َمدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إَِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ‬
‫{ ‪ُ { } 71-73‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدًا ِإلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ‬
‫س َمعُونَ * ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َ‬
‫ِبضِيَاءٍ َأفَلَا َت ْ‬
‫سكُنُوا فِي ِه وَلِتَبْ َتغُوا‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْي َ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫سكُنُونَ فِيهِ َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ * َومِنْ َر ْ‬
‫يَأْتِيكُمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫هذا امتنان من اللّه على عباده‪ ،‬يدعوهم به إلى شكره‪ ،‬والقيام بعبوديته وحقه‪ ،‬أنه جعل لهم من‬
‫رحمته النهار ليبتغوا من فضل اللّه‪ ،‬وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه‪ ،‬والليل ليهدأوا‬
‫فيه ويسكنوا‪ ،‬وتستريح أبدانهم وأنفسهم من تعب التصرف في النهار‪ ،‬فهذا من فضله ورحمته‬
‫بعباده‪.‬‬

‫فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ فلو جعل { عَلَ ْيكُمُ اللّ ْيلَ سَ ْرمَدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ‬
‫س َمعُونَ } مواعظ اللّه وآياته سماع فهم وقبول وانقياد‪ ،‬ولو جعل { عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ‬
‫يَأْتِيكُمْ ِبضِيَاءٍ َأفَلَا تَ ْ‬
‫سكُنُونَ فِيهِ َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ } مواقع العبر‪،‬‬
‫سَ ْرمَدًا إِلَى َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِي ُكمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ‬
‫ومواضع اليات‪ ،‬فتستنير بصائركم‪ ،‬وتسلكوا الطريق المستقيم‪.‬‬

‫س َمعُونَ } وفي النهار { َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ } لن سلطان السمع أبلغ في الليل من‬
‫وقال في الليل { َأفَلَا تَ ْ‬
‫سلطان البصر‪ ،‬وعكسه النهار‪ .‬وفي هذه اليات‪ ،‬تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه‬
‫عليه‪ ،‬ويستبصر فيها‪ ،‬ويقيسها بحال عدمها‪ ،‬فإنه إذا وازن بين حالة وجودها‪ ،‬وبين حالة عدمها‪،‬‬
‫تنبه عقله لموضع المنة‪ ،‬بخلف من جرى مع العوائد‪ ،‬ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا‪ ،‬ول‬
‫يزال‪ .‬وعمي قلبه عن الثناء على اللّه‪ ،‬بنعمه‪ ،‬ورؤية افتقاره إليها في كل وقت‪ ،‬فإن هذا ل يحدث‬
‫له فكرة شكر ول ذكر‪.‬‬

‫شهِيدًا‬
‫عمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫{ ‪ { } 74-75‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬
‫ضلّ عَ ْن ُهمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬
‫َفقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ َفعَِلمُوا أَنّ ا ْلحَقّ ِللّ ِه َو َ‬

‫أي‪ :‬ويوم ينادي اللّه المشركين به‪ ،‬العادلين به غيره‪ ،‬الذين يزعمون أن له شركاء‪ ،‬يستحقون أن‬
‫يعبدوا‪ ،‬وينفعون ويضرون‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة‪ ،‬أراد اللّه أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم‬
‫عمُونَ } أي‪ :‬بزعهم‪ ،‬ل بنفس‬
‫وتكذيبهم لنفسهم فب { يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْ ُ‬
‫المر‪ ،‬كما قال‪َ { :‬ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ وإن هم إل‬
‫يخرصون }‬
‫شهِيدًا } يشهد على ما جرى في‬
‫فإذا حضروا وإياهم‪ ،‬نزع { مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ } من المم المكذبة { َ‬
‫الدنيا‪ ،‬من شركهم واعتقادهم‪ ،‬وهؤلء بمنزلة المنتخبين‪.‬‬

‫أي‪ :‬انتخبنا من رؤساء المكذبين من يتصدى للخصومة عنهم‪ ،‬والمجادلة عن إخوانهم‪ ،‬ومن هم‬
‫وإياهم على طريق واحد‪ ،‬فإذا برزوا للمحاكمة { َفقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ } حجتكم ودليلكم على صحة‬
‫شرككم‪ ،‬هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم أحد‬
‫يستحق شيئا من اللهية؟ هل ينفعونكم‪ ،‬أو يدفعون عنكم من عذاب اللّه أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا‬
‫إذا [إن] كان فيهم أهلية وليروكم إن كان لهم قدرة‪َ { ،‬فعَِلمُوا } حينئذ بطلن قولهم وفساده‪ ،‬و‬
‫حقّ لِلّهِ } تعالى‪ ،‬قد توجهت عليهم الخصومة‪ ،‬وانقطعت حجتهم‪ ،‬وأفلجت حجة اللّه‪،‬‬
‫{ أَنّ الْ َ‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } من الكذب والفك‪ ،‬واضمحل وتلشى وعدم‪ ،‬وعلموا أن اللّه قد‬
‫{ َو َ‬
‫عدل فيهم‪ ،‬حيث لم يضع العقوبة إل بمن استحقها واستأهلها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 76-82‬إِنّ قَارُونَ كَانَ مِنْ َقوْمِ مُوسَى فَ َبغَى عَلَ ْيهِمْ } إلى آخر القصة‬

‫ح ووُعِظَ‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ قَارُونَ كَانَ مِنْ َقوْمِ‬


‫يخبر تعالى عن حالة قارون وما [فعل] و ُفعِلَ به ونُصِ َ‬
‫مُوسَى } أي‪ :‬من بني إسرائيل‪ ،‬الذين ُفضّلوا على العالمين‪ ،‬وفاقوهم في زمانهم‪ ،‬وامتن اللّه عليهم‬
‫بما امتن به‪ ،‬فكانت حالهم مناسبة للستقامة‪ ،‬ولكن قارون هذا‪ ،‬بغى على قومه وطغى‪ ،‬بما أوتيه‬
‫من الموال العظيمة المطغية { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ } أي‪ :‬كنوز الموال شيئا كثيرا‪ { ،‬مَا إِنّ َمفَاتِحَهُ‬
‫لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ [أُولِي ا ْل ُق ّوةِ } والعصبة]‪ ،‬من العشرة إلى التسعة إلى السبعة‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬أي‪ :‬حتى‬
‫أن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها‪ ،‬هذه المفاتيح‪ ،‬فما ظنك بالخزائن؟ { ِإذْ‬
‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ } أي‪ :‬ل‬
‫قَالَ لَهُ َق ْومُهُ } ناصحين له محذرين له عن الطغيان‪ { :‬لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬
‫تفرح بهذه الدنيا العظيمة‪ ،‬وتفتخر بها‪ ،‬وتلهيك عن الخرة‪ ،‬فإن اللّه ل يحب الفرحين بها‪،‬‬
‫المنكبين على محبتها‪.‬‬

‫{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِ َرةَ } أي‪ :‬قد حصل عندك من وسائل الخرة ما ليس عند غيرك‬
‫من الموال‪ ،‬فابتغ بها ما عند اللّه‪ ،‬وتصدق ول تقتصر على مجرد نيل الشهوات‪ ،‬وتحصيل‬
‫اللذات‪ { ،‬وَلَا تَنْسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا } أي‪ :‬ل نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا‪ ،‬بل‬
‫أنفق لخرتك‪ ،‬واستمتع بدنياك استمتاعا ل يثلم دينك‪ ،‬ول يضر بآخرتك‪ { ،‬وََأحْسَنُ } إلى عباد‬
‫حسَنَ اللّهُ إِلَ ْيكَ } بهذه الموال‪ { ،‬وَلَا تَ ْبغِ ا ْلفَسَادَ فِي الْأَ ْرضِ } بالتكبر والعمل بمعاصي‬
‫اللّه { َكمَا أَ ْ‬
‫حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ } بل يعاقبهم على ذلك‪ ،‬أشد العقوبة‪.‬‬
‫اللّه والشتغال بالنعم عن المنعم‪ { ،‬إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫فب { قَالَ } قارون ‪-‬رادا لنصيحتهم‪ ،‬كافرا بنعمة ربه‪ { :-‬إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِ ْلمٍ عِنْدِي }‬
‫أي‪ :‬إنما أدركت هذه الموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب‪ ،‬وحذقي‪ ،‬أو على علم من اللّه‬
‫بحالي‪ ،‬يعلم أني أهل لذلك‪ ،‬فلم تنصحوني على ما أعطاني للّه تعالى؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه‪،‬‬
‫ليس دليل على حسن حالة المعطي‪َ { :‬أوََلمْ َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ َقدْ أَهَْلكَ مِنْ قَبِْلهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ َأشَدّ‬
‫ج ْمعًا } فما المانع من إهلك قارون‪ ،‬مع ُمضِيّ عادتنا وسنتنا بإهلك من هو مثله‬
‫مِنْهُ ُق ّو ًة وََأكْثَرُ َ‬
‫وأعظم‪ ،‬إذ فعل ما يوجب الهلك؟‪.‬‬

‫{ وَلَا ُيسَْألُ عَنْ ذُنُو ِبهِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } بل يعاقبهم اللّه‪ ،‬ويعذبهم على ما يعلمه منهم‪ ،‬فهم‪ ،‬وإن أثبتوا‬
‫لنفسهم حالة حسنة‪ ،‬وشهدوا لها بالنجاة‪ ،‬فليس قولهم مقبول‪ ،‬وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب‬
‫شيئا‪ ،‬لن ذنوبهم غير خفية‪ ،‬فإنكارهم ل محل له‪ ،‬فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه‪،‬‬
‫وعدم قبول نصيحة قومه‪ ،‬فرحا بطرا قد أعجبته نفسه‪ ،‬وغره ما أوتيه من الموال‪.‬‬

‫{ َفخَرَجَ } ذات يوم { فِي زِينَتِهِ } أي‪ :‬بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه‪ ،‬قد كان له من‬
‫الموال ما كان‪ ،‬وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه‪ ،‬وتلك الزينة في العادة من مثله تكون هائلة‪،‬‬
‫جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها‪ ،‬فرمقته في تلك الحالة العيون‪ ،‬وملت‬
‫بِزّتُ ُه القلوب‪ ،‬واختلبت زينته النفوس‪ ،‬فانقسم فيه الناظرون قسمين‪ ،‬كل تكلم بحسب ما عنده من‬
‫الهمة والرغبة‪.‬‬

‫فب { قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا } أي‪ :‬الذين تعلقت إرادتهم فيها‪ ،‬وصارت منتهى رغبتهم‪،‬‬
‫ليس لهم إرادة في سواها‪ { ،‬يَا لَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ قَارُونُ } من الدنيا ومتاعها وزهرتها { إِنّهُ‬
‫عظِيمٍ } وصدقوا إنه لذو حظ عظيم‪ ،‬لو كان المر منتهيا إلى رغباتهم‪ ،‬وأنه ليس وراء‬
‫لَذُو حَظّ َ‬
‫الدنيا‪ ،‬دار أخرى‪ ،‬فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا‪ ،‬واقتدر بذلك على جميع‬
‫مطالبه‪ ،‬فصار هذا الحظ العظيم‪ ،‬بحسب همتهم‪ ،‬وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى‬
‫مطلبها‪َ ،‬لمِنْ أدنى الهمم وأسفلها وأدناها‪ ،‬وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب‬
‫الغالية‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ } الذين عرفوا حقائق الشياء‪ ،‬ونظروا إلى باطن الدنيا‪ ،‬حين نظر أولئك‬
‫إلى ظاهرها‪ { :‬وَيَْلكُمْ } متوجعين مما تمنوا لنفسهم‪ ،‬راثين لحالهم‪ ،‬منكرين لمقالهم‪َ { :‬ثوَابُ اللّهِ }‬
‫العاجل‪ ،‬من لذة العبادة ومحبته‪ ،‬والنابة إليه‪ ،‬والقبال عليه‪ .‬والجل من الجنة وما فيها‪ ،‬مما‬
‫تشتهيه النفس وتلذ العين { خَيْرٌ } من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه‪ ،‬فهذه حقيقة المر‪ ،‬ولكن ما‬
‫كل من يعلم ذلك يؤثر العلى على الدنى‪ ،‬فما يَُلقّى ذلك ويوفق له { إِلّا الصّابِرُونَ } الذين حبسوا‬
‫أنفسهم على طاعة اللّه‪ ،‬وعن معصيته‪ ،‬وعلى أقداره المؤلمة‪ ،‬وصبروا على جواذب الدنيا‬
‫وشهواتها‪ ،‬أن تشغلهم عن ربهم‪ ،‬وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له‪ ،‬فهؤلء الذين يؤثرون ثواب‬
‫اللّه على الدنيا الفانية‪.‬‬

‫فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر‪ ،‬وازّيّنَتْت الدنيا عنده‪ ،‬وكثر بها إعجابه‪ ،‬بغته العذاب‬
‫سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ الْأَ ْرضَ } جزاء من جنس عمله‪ ،‬فكما رفع نفسه على عباد اللّه‪ ،‬أنزله اللّه‬
‫{ َفخَ َ‬
‫أسفل سافلين‪ ،‬هو وما اغتر به‪ ،‬من داره وأثاثه‪ ،‬ومتاعه‪.‬‬

‫{ َفمَا كَانَ َلهُ مِنْ فِئَةٍ } أي‪ :‬جماعة‪ ،‬وعصبة‪ ،‬وخدم‪ ،‬وجنود { يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ‬
‫مِنَ ا ْلمُنْ َتصِرِينَ } أي‪ :‬جاءه العذاب‪ ،‬فما نصر ول انتصر‪.‬‬

‫{ وََأصْبَحَ الّذِينَ َتمَ ّنوْا َمكَانَهُ بِالَْأمْسِ } أي‪ :‬الذين يريدون الحياة الدنيا‪ ،‬الذين قالوا‪ { :‬يَا لَ ْيتَ لَنَا‬
‫مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ قَارُونُ } { َيقُولُونَ } متوجعين ومعتبرين‪ ،‬وخائفين من وقوع العذاب بهم‪ { :‬وَ ْيكَأَنّ‬
‫اللّهَ يَ ْبسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَيَقْدِرُ } أي‪ :‬يضيق الرزق على من يشاء‪ ،‬فعلمنا حينئذ أن‬
‫عظِيمٍ } و { َلوْلَا‬
‫بسطه لقارون‪ ،‬ليس دليل على خير فيه‪ ،‬وأننا غالطون في قولنا‪ { :‬إِنّهُ لَذُو حَظّ َ‬
‫سفَ بِنَا } فصار هلك قارون‬
‫خَ‬‫أَنْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا } فلم يعاقبنا على ما قلنا‪ ،‬فلول فضله ومنته { لَ َ‬
‫عقوبة له‪ ،‬وعبرة وموعظة لغيره‪ ،‬حتى إن الذين غبطوه‪ ،‬سمعت كيف ندموا‪ ،‬وتغير فكرهم‬
‫الول‪.‬‬

‫{ وَ ْيكَأَنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ } أي‪ :‬ل في الدنيا ول في الخرة‪.‬‬

‫جعَُلهَا لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الْأَ ْرضِ وَلَا َفسَادًا وَا ْلعَاقِبَةُ ِل ْلمُتّقِينَ }‬
‫{ ‪ { } 83‬تِ ْلكَ الدّارُ الْآخِ َرةُ َن ْ‬

‫لما ذكر تعالى‪ ،‬قارون وما أوتيه من الدنيا‪ ،‬وما صار إليه عاقبة أمره‪ ،‬وأن أهل العلم قالوا‪:‬‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا } رغب تعالى في الدار الخرة‪ ،‬وأخبر بالسبب الموصل‬
‫ن وَ َ‬
‫{ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ آمَ َ‬
‫إليها فقال‪ { :‬تِ ْلكَ الدّارُ الْآخِ َرةُ } التي أخبر اللّه بها في كتبه وأخبرت [بها] رسله‪ ،‬التي [قد] جمعت‬
‫جعَُلهَا } دارا وقرارا { لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي‬
‫كل نعيم‪ ،‬واندفع عنها كل مكدر ومنغص‪ { ،‬نَ ْ‬
‫ض وَلَا فَسَادًا } أي‪ :‬ليس لهم إرادة‪ ،‬فكيف العمل للعلو في الرض على عباد اللّه‪ ،‬والتكبر‬
‫الْأَ ْر ِ‬
‫عليهم وعلى الحق { وَلَا َفسَادًا } وهذا شامل لجميع المعاصي‪ ،‬فإذا كانوا ل إرادة لهم في العلو في‬
‫الرض والفساد‪ ،‬لزم من ذلك‪ ،‬أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه‪ ،‬وقصدهم الدار الخرة‪،‬‬
‫وحالهم التواضع لعباد اللّه‪ ،‬والنقياد للحق والعمل الصالح‪.‬‬
‫وهؤلء هم المتقون الذين لهم العاقبة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَا ْلعَاقِبَةُ } أي حالة الفلح والنجاح‪ ،‬التي تستقر‬
‫وتستمر‪ ،‬لمن اتقى اللّه تعالى‪ ،‬وغيرهم ‪-‬وإن حصل لها بعض الظهور والراحة‪ -‬فإنه ل يطول‬
‫وقته‪ ،‬ويزول عن قريب‪ .‬وعلم من هذا الحصر في الية الكريمة‪ ،‬أن الذين يريدون العلو في‬
‫الرض‪ ،‬أو الفساد‪ ،‬ليس لهم في الدار الخرة‪ ،‬نصيب‪ ،‬ول لهم منها نصيب‬

‫عمِلُوا السّيّئَاتِ إِلّا مَا‬


‫{ ‪ { } 84‬مَنْ جَاءَ بِا ْلحَسَ َنةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا َومَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى الّذِينَ َ‬
‫كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬

‫حسَنَةِ } شرط فيها أن يأتي بها‬


‫يخبر تعالى عن مضاعفة فضله‪ ،‬وتمام عدله فقال‪ { :‬مَنْ جَاءَ بِالْ َ‬
‫العامل‪ ،‬لنه قد يعملها‪ ،‬ولكن يقترن بها ما ل تقبل منه أو يبطلها‪ ،‬فهذا لم يجيء بالحسنة‪،‬‬
‫والحسنة‪ :‬اسم جنس يشمل جميع ما أمر اللّه به ورسوله‪ ،‬من القوال والعمال الظاهرة والباطنة‪،‬‬
‫المتعلقة بحق ال تعالى وحق عباده‪ { ،‬فََلهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا } [أي‪ :‬أعظم وأجل‪ ،‬وفي الية الخرى‬
‫{ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا } ]‬

‫هذا التضعيف للحسنة‪ ،‬ل بد منه‪ ،‬وقد يقترن بذلك من السباب ما تزيد به المضاعفة‪ ،‬كما قال‬
‫عفُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ } بحسب حال العامل وعمله‪ ،‬ونفعه ومحله‬
‫تعالى‪ { :‬وَاللّهُ ُيضَا ِ‬
‫ومكانه‪َ { ،‬ومَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ } وهي كل ما نهى الشارع عنه‪َ ،‬ن ْهيَ تحريم‪ { .‬فَلَا يُجْزَى الّذِينَ‬
‫حسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَنْ جَاءَ‬
‫عمِلُوا السّيّئَاتِ إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } كقوله تعالى‪ { :‬مَنْ جَاءَ بِالْ َ‬
‫َ‬
‫بِالسّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلّا مِثَْلهَا وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ }‬

‫{ ‪ { } 85-88‬إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لَرَا ّدكَ إِلَى َمعَادٍ ُقلْ رَبّي أَعَْلمُ مَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى َومَنْ‬
‫ظهِيرًا‬
‫ح َمةً مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ َ‬
‫ُهوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * َومَا كُ ْنتَ تَرْجُو أَنْ يُ ْلقَى إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابُ إِلّا رَ ْ‬
‫ك وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ‬
‫ك وَا ْدعُ ِإلَى رَ ّب َ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ * وَلَا َيصُدّ ّنكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ َبعْدَ إِذْ أُنْزَِلتْ إِلَ ْي َ‬
‫جعُونَ }‬
‫حكْ ُم وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫ج َههُ لَهُ الْ ُ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّا وَ ْ‬
‫* وَلَا تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ُكلّ َ‬

‫يقول تعالى { إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ } أي‪ :‬أنزله‪ ،‬وفرض فيه الحكام‪ ،‬وبين فيه الحلل‬
‫والحرام‪ ،‬وأمرك بتبليغه للعالمين‪ ،‬والدعوة لحكام جميع المكلفين‪ ،‬ل يليق بحكمته أن تكون الحياة‬
‫هي الحياة الدنيا فقط‪ ،‬من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا‪ ،‬بل ل بد أن يردك إلى معاد‪ ،‬يجازي فيه‬
‫المحسنون بإحسانهم‪ ،‬والمسيئون بمعصيتهم‪.‬‬

‫وقد بينت لهم الهدى‪ ،‬وأوضحت لهم المنهج‪ ،‬فإن تبعوك‪ ،‬فذلك حظهم وسعادتهم‪ ،‬وإن أبوا إل‬
‫عصيانك والقدح بما جئت به من الهدى‪ ،‬وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق‪ ،‬فلم يبق‬
‫للمجادلة محل‪ ،‬ولم يبق إل المجازاة على العمال من العالم بالغيب والشهادة‪ ،‬والحق والمبطل‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ رَبّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى َومَنْ ُهوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وقد علم أن رسوله هو‬
‫المهتدي الهادي‪ ،‬وأن أعداءه هم الضالون المضلون‪.‬‬

‫{ َومَا كُ ْنتَ تَرْجُو أَنْ يُ ْلقَى إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابُ } أي‪ :‬لم تكن متحريا لنزول هذا الكتاب عليك‪ ،‬ول مستعدا‬
‫حمَةً مِنْ رَ ّبكَ } بك وبالعباد‪ ،‬فأرسلك بهذا الكتاب‪ ،‬الذي رحم به العالمين‪،‬‬
‫له‪ ،‬ول متصديا‪ِ { .‬إلّا رَ ْ‬
‫وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون‪ ،‬وزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬وإن كانوا من قبل لفي ضلل‬
‫مبين‪ ،‬فإذا علمت أنه أنزل إليك رحمة منه‪[ ،‬علمت] أن جميع ما أمر به ونهى عنه‪ ،‬فإنه رحمة‬
‫وفضل من اللّه‪ ،‬فل يكن في صدرك حرج من شيء منه‪ ،‬وتظن أن مخالفه أصلح وأنفع‪.‬‬

‫ظهِيرًا لِ ْلكَافِرِينَ } أي‪ :‬معينا لهم على ما هو من شعب كفرهم‪ ،‬ومن جملة مظاهرتهم‪،‬‬
‫{ فَلَا َتكُونَنّ َ‬
‫أن يقال في شيء منه‪ ،‬إنه خلف الحكمة والمصلحة والمنفعة‪.‬‬

‫{ وَلَا َيصُدّ ّنكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ َبعْدَ ِإذْ أُنْزَِلتْ إِلَ ْيكَ } بل أبلغها وأنفذها‪ ،‬ول تبال بمكرهم ول يخدعنك‬
‫عنها‪ ،‬ول تتبع أهواءهم‪.‬‬

‫{ وَا ْدعُ إِلَى رَ ّبكَ } أي اجعل الدعوة إلى ربك منتهى قصدك وغاية عملك‪ ،‬فكل ما خالف ذلك‬
‫فارفضه‪ ،‬من رياء‪ ،‬أو سمعة‪ ،‬أو موافقة أغراض أهل الباطل‪ ،‬فإن ذلك داع إلى الكون معهم‪،‬‬
‫ومساعدتهم على أمرهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } ل في شركهم‪ ،‬ول في فروعه‬
‫وشعبه‪ ،‬التي هي جميع المعاصي‪.‬‬

‫{ وَلَا َت ْدعُ َمعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ } بل أخلص للّه عبادتك‪ ،‬فإنه { لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } فل أحد يستحق أن يؤله‬
‫جهَهُ } وإذا كان كل شيء هالكا‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّا وَ ْ‬
‫ويحب ويعبد‪ ،‬إل اللّه الكامل الباقي الذي { ُكلّ َ‬
‫حكْمُ } في الدنيا‬
‫مضمحل‪ ،‬سواه فعبادة الهالك الباطل باطلة ببطلن غايتها‪ ،‬وفساد نهايتها‪ { .‬لَهُ الْ ُ‬
‫جعُونَ } فإذا كان ما سوى اللّه باطل هالكا‪ ،‬واللّه هو الباقي‪،‬‬
‫والخرة { وَإِلَ ْيهِ } ل إلى غيره { تُ ْر َ‬
‫الذي ل إله إل هو‪ ،‬وله الحكم في الدنيا والخرة‪ ،‬وإليه مرجع الخلئق كلهم‪ ،‬ليجازيهم بأعمالهم‪،‬‬
‫تعيّن على من له عقل‪ ،‬أن يعبد اللّه وحده ل شريك له‪ ،‬ويعمل لما يقربه ويدنيه‪ ،‬ويحذر من‬
‫سخطه وعقابه‪ ،‬وأن يقدم على ربه غير تائب‪ ،‬ول مقلع عن خطئه وذنوبه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة القصص ‪-‬وللّه الحمد والثناء والمجد دائما أبدا‪.-‬‬

‫تفسير سورة العنكبوت‬


‫وهي مكية‬
‫سبَ النّاسُ أَنْ يُتْ َركُوا أَنْ َيقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ لَا ُيفْتَنُونَ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الم * َأحَ ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫ص َدقُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ }‬
‫ن َ‬
‫* وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِي َ‬

‫يخبر تعالى عن [تمام] حكمته وأن حكمته ل تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه‬
‫اليمان‪ ،‬أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن‪ ،‬ول يعرض لهم ما يشوش عليهم‬
‫إيمانهم وفروعه‪ ،‬فإنهم لو كان المر كذلك‪ ،‬لم يتميز الصادق من الكاذب‪ ،‬والمحق من المبطل‪،‬‬
‫ولكن سنته وعادته في الولين وفي هذه المة‪ ،‬أن يبتليهم بالسراء والضراء‪ ،‬والعسر واليسر‪،‬‬
‫والمنشط والمكره‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬وإدالة العداء عليهم في بعض الحيان‪ ،‬ومجاهدة العداء‬
‫بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن‪ ،‬التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة‪،‬‬
‫والشهوات المعارضة للرادة‪ ،‬فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ول يتزلزل‪ ،‬ويدفعها بما‬
‫معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب‪ ،‬أو الصارفة عن ما‬
‫أمر اللّه به ورسوله‪ ،‬يعمل بمقتضى اليمان‪ ،‬ويجاهد شهوته‪ ،‬دل ذلك على صدق إيمانه وصحته‪.‬‬

‫ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا‪ ،‬وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى‬
‫المعاصي أو تصدفه عن الواجبات‪ ،‬دلّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه‪.‬‬

‫والناس في هذا المقام درجات ل يحصيها إل اللّه‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪ ،‬فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا‬
‫بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬وأن يثبت قلوبنا على دينه‪ ،‬فالبتلء والمتحان للنفوس‬
‫بمنزلة الكير‪ ،‬يخرج خبثها وطيبها‪.‬‬

‫ح ُكمُونَ }‬
‫سبَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْ ِبقُونَا سَاءَ مَا َي ْ‬
‫{ ‪َ { } 4‬أمْ حَ ِ‬

‫أي‪ :‬أحسب الذين همهم فعل السيئات وارتكاب الجنايات‪ ،‬أن أعمالهم ستهمل‪ ،‬وأن اللّه سيغفل‬
‫ح ُكمُونَ } أي‪ :‬ساء‬
‫عنهم‪ ،‬أو يفوتونه‪ ،‬فلذلك أقدموا عليها‪ ،‬وسهل عليهم عملها؟ { سَاءَ مَا َي ْ‬
‫حكمهم‪ ،‬فإنه حكم جائر‪ ،‬لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته‪ ،‬وأن لديهم قدرة يمتنعون بها من عقاب‬
‫اللّه‪ ،‬وهم أضعف شيء وأعجزه‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * َومَنْ جَاهَدَ فَإِ ّنمَا ُيجَا ِهدُ‬


‫ت وَ ُهوَ ال ّ‬
‫جلَ اللّهِ لَآ ٍ‬
‫{ ‪ { } 5-6‬مَنْ كَانَ يَرْجُو ِلقَاءَ اللّهِ فَإِنّ َأ َ‬
‫لِ َنفْسِهِ إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫يعني‪ :‬يا أيها المحب لربه‪ ،‬المشتاق لقربه ولقائه‪ ،‬المسارع في مرضاته‪ ،‬أبشر بقرب لقاء‬
‫الحبيب‪ ،‬فإنه آت‪ ،‬وكل آت إنما هو قريب‪ ،‬فتزود للقائه‪ ،‬وسر نحوه‪ ،‬مستصحبا الرجاء‪ ،‬مؤمل‬
‫الوصول إليه‪ ،‬ولكن‪ ،‬ما كل من يَدّعِي ُيعْطَى بدعواه‪ ،‬ول كل من تمنى يعطى ما تمناه‪ ،‬فإن اللّه‬
‫سميع للصوات‪ ،‬عليم بالنيات‪ ،‬فمن كان صادقا في ذلك أناله ما يرجو‪ ،‬ومن كان كاذبا لم تنفعه‬
‫دعواه‪ ،‬وهو العليم بمن يصلح لحبه ومن ل يصلح‪.‬‬

‫{ َومَنْ جَاهَدَ } نفسه وشيطانه‪ ،‬وعدوه الكافر‪ { ،‬فَإِ ّنمَا ُيجَاهِدُ لِ َنفْسِهِ } لن نفعه راجع إليه‪ ،‬وثمرته‬
‫عائدة إليه‪ ،‬وال غني عن العالمين‪ ،‬لم يأمرهم بما أمرهم به لينتفع به‪ ،‬ول نهاهم عما نهاهم عنه‬
‫بُخْلًا عليهم‪.‬‬

‫وقد علم أن الوامر والنواهي يحتاج المكلف فيها إلى جهاد‪ ،‬لن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير‪،‬‬
‫وشيطانه ينهاه عنه‪ ،‬وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه‪ ،‬كما ينبغي‪ ،‬وكل هذا معارضات تحتاج‬
‫إلى مجاهدات وسعي شديد‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْن ُهمْ سَيّئَا ِتهِمْ وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ َأحْسَنَ الّذِي كَانُوا‬
‫{ ‪ { } 7‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َي ْعمَلُونَ }‬

‫يعني أن الذين منّ اللّه عليهم باليمان والعمل الصالح‪ ،‬سيكفر اللّه عنهم سيئاتهم‪ ،‬لن الحسنات‬
‫يذهبن السيئات‪ { ،‬وَلَ َنجْزِيَ ّنهُمْ َأحْسَنَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ } وهي أعمال الخير‪ ،‬من واجبات‬
‫ومستحبات‪ ،‬فهي أحسن ما يعمل العبد‪ ،‬لنه يعمل المباحات أيضا‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫ط ْع ُهمَا ِإَليّ‬
‫{ ‪َ { } 8‬و َوصّيْنَا الْإِنْسَانَ ِبوَاِلدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لُِتشْ ِركَ بِي مَا لَ ْيسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَا ُت ِ‬
‫ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫مَرْ ِ‬

‫أي‪ :‬وأمرنا النسان‪ ،‬ووصيناه بوالديه حسنا‪ ،‬أي‪ :‬ببرهما والحسان إليهما‪ ،‬بالقول والعمل‪ ،‬وأن‬
‫يحافظ على ذلك‪ ،‬ول يعقهما ويسيء إليهما في قوله وعمله‪.‬‬

‫{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ } وليس لحد علم بصحة الشرك باللّه‪ ،‬وهذا تعظيم‬
‫ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } فأجازيكم بأعمالكم‪ ،‬فبروا‬
‫ط ْع ُهمَا إَِليّ مَرْ ِ‬
‫لمر الشرك‪ { ،‬فَلَا تُ ِ‬
‫والديكم وقدموا طاعتهما‪ ،‬إل على طاعة اللّه ورسوله‪ ،‬فإنها مقدمة على كل شيء‪.‬‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُ ْدخِلَ ّنهُمْ فِي الصّالِحِينَ }‬
‫{ ‪ { } 9‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬

‫أي‪ :‬من آمن باللّه وعمل صالحا‪ ،‬فإن اللّه وعده أن يدخله الجنة في جملة عباده الصالحين‪ ،‬من‬
‫النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬كل على حسب درجته ومرتبته عند اللّه‪ ،‬فاليمان‬
‫الصحيح والعمل الصالح عنوان على سعادة صاحبه‪ ،‬وأنه من أهل الرحمن‪ ،‬والصالحين من عباد‬
‫اللّه تعالى‪.‬‬

‫ج َعلَ فِتْ َنةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ‬


‫{ ‪َ { } 10-11‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ‬
‫وَلَئِنْ جَاءَ َنصْرٌ مِنْ رَ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ َأوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ * وَلَ َيعَْلمَنّ‬
‫اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ }‬

‫لما ذكر تعالى أنه ل بد أن يمتحن من ادّعى اليمان‪ ،‬ليظهر الصادق من الكاذب‪ ،‬بيّن تعالى أن‬
‫من الناس فريقا ل صبر لهم على المحن‪ ،‬ول ثبات لهم على بعض الزلزل فقال‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ‬
‫مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ } بضرب‪ ،‬أو أخذ مال‪ ،‬أو تعيير‪ ،‬ليرتد عن دينه‪ ،‬وليراجع‬
‫ج َعلَ فِتْنَةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ } أي‪ :‬يجعلها صادّة له عن اليمان والثبات عليه‪ ،‬كما أن‬
‫الباطل‪َ { ،‬‬
‫العذاب صادّ عما هو سببه‪.‬‬

‫{ وَلَئِنْ جَاءَ َنصْرٌ مِنْ رَ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ } لنه موافق للهوى‪ ،‬فهذا الصنف من الناس من‬
‫طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَ ْتهُ‬
‫الذين قال اللّه فيهم‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَا َبهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫خسْرَانُ ا ْلمُبِينُ }‬
‫خسِرَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةَ ذَِلكَ ُهوَ الْ ُ‬
‫جهِهِ َ‬
‫فِتْنَةٌ ا ْنقََلبَ عَلَى َو ْ‬

‫{ َأوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ } حيث أخبركم بهذا الفريق‪ ،‬الذي حاله كما وصف‬
‫لكم‪ ،‬فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته‪.‬‬

‫{ وَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلمُنَافِقِينَ } أي‪ :‬فلذلك قَدّرَ ِمحَنًا وابتلء‪ ،‬ليظهر علمه فيهم‪،‬‬
‫فيجازيهم بما ظهر منهم‪ ،‬ل بما يعلمه بمجرده‪ ،‬لنهم قد يحتجون على اللّه‪ ،‬أنهم لو ابتُلُوا لَثَبَتُوا‪.‬‬

‫خطَايَاكُ ْم َومَا هُمْ ِبحَامِلِينَ مِنْ‬


‫ح ِملْ َ‬
‫{ ‪َ { } 12-13‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا اتّ ِبعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَ ْ‬
‫عمّا‬
‫حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُ ْم وَأَ ْثقَالًا مَعَ أَ ْثقَاِلهِ ْم وَلَيُسْأَلُنّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َ‬
‫شيْءٍ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ * وَلَيَ ْ‬
‫خطَايَاهُمْ مِنْ َ‬
‫َ‬
‫كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم‪ ،‬وفي ضمن ذلك‪ ،‬تحذير المؤمنين من‬
‫الغترار بهم والوقوع في مكرهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا اتّ ِبعُوا سَبِيلَنَا } فاتركوا‬
‫خطَايَاكُمْ } وهذا المر ليس‬
‫ح ِملْ َ‬
‫دينكم أو بعضه واتبعونا في ديننا‪ ،‬فإننا نضمن لكم المر { وَلْنَ ْ‬
‫شيْءٍ } ل قليل ول كثير‪ .‬فهذا التحمل‪ ،‬ولو‬
‫بأيديهم‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ومَا ُهمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ َ‬
‫رضي به صاحبه‪ ،‬فإنه ل يفيد شيئا‪ ،‬فإن الحق للّه‪ ،‬واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف في‬
‫حقه إل بأمره وحكمه‪ ،‬وحكمه { أن لّا تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى }‬

‫شيْءٍ } قد يتوهم منه أيضا‪ ،‬أن الكفار الداعين‬


‫خطَايَا ُهمْ مِنْ َ‬
‫ولما كان قوله‪َ { :‬ومَا هُمْ ِبحَامِلِينَ مِنْ َ‬
‫إلى كفرهم ‪-‬ونحوهم ممن دعا إلى باطله‪ -‬ليس عليهم إل ذنبهم الذي ارتكبوه‪ ،‬دون الذنب الذي‬
‫فعله غيرهم‪ ،‬ولو كانوا متسببين فيه‪ ،‬قال‪[ :‬مخبرا عن هذا الوهم]‬

‫حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُمْ } أي‪ :‬أثقال ذنوبهم التي عملوها { وَأَ ْثقَالًا مَعَ أَ ْثقَاِلهِمْ } وهي الذنوب التي بسببهم‬
‫{ وَلَ َي ْ‬
‫ومن جرائهم‪ ،‬فالذنب الذي فعله التابع [لكل من التابع]‪ ،‬والمتبوع حصته منه‪ ،‬هذا لنه فعله‬
‫وباشره‪ ،‬والمتبوع [لنه] تسبب في فعله ودعا إليه‪ ،‬كما أن الحسنة إذا فعلها التابع له أجرها‬
‫عمّا كَانُوا َيفْتَرُونَ } من الشر وتزيينه‪،‬‬
‫بالمباشرة‪ ،‬وللداعي أجره بالتسبب‪ { .‬وَلَيُسَْألُنّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َ‬
‫ح ِملْ خَطَايَا ُكمْ }‬
‫[وقولهم] { وَلْ َن ْ‬

‫خمْسِينَ عَامًا فَأَخَ َذهُمُ الطّوفَانُ‬


‫{ ‪ { } 14-15‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ فَلَ ِبثَ فِي ِهمْ أَ ْلفَ سَنَةٍ إِلّا َ‬
‫جعَلْنَاهَا آيَةً لِ ْلعَاَلمِينَ }‬
‫سفِينَ ِة وَ َ‬
‫وَهُمْ ظَاِلمُونَ * فَأَ ْنجَيْنَا ُه وََأصْحَابَ ال ّ‬

‫يخبر تعالى عن حكمه وحكمته في عقوبة المم المكذبة‪ ،‬وأن اللّه أرسل عبده ورسوله نوحا عليه‬
‫الصلة السلم إلى قومه‪ ،‬يدعوهم إلى التوحيد وإفراد اللّه بالعبادة‪ ،‬والنهي عن النداد والصنام‪{ ،‬‬
‫خ ْمسِينَ عَامًا } وهو ل يَنِي بدعوتهم‪ ،‬ول يفتر في نصحهم‪،‬‬
‫فَلَ ِبثَ فِيهِمْ } نبيا داعيا { أَ ْلفَ سَنَةٍ إِلّا َ‬
‫يدعوهم ليل ونهارا وسرا وجهارا‪ ،‬فلم يرشدوا ولم يهتدوا‪ ،‬بل استمروا على كفرهم وطغيانهم‪،‬‬
‫حتى دعا عليهم نبيهم نوح عليه الصلة والسلم‪ ،‬مع شدة صبره وحلمه واحتماله‪ ،‬فقال‪َ { :‬ربّ لَا‬
‫خذَهُمُ الطّوفَانُ } أي‪ :‬الماء الذي نزل من السماء بكثرة‪،‬‬
‫تَذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } { فَأَ َ‬
‫ونبع من الرض بشدة { وَهُمْ ظَاِلمُونَ } مستحقون للعذاب‪.‬‬
‫جعَلْنَاهَا } أي‪ :‬السفينة‪ ،‬أو‬
‫سفِينَةِ } الذين ركبوا معه‪ ،‬أهله ومن آمن به‪َ { .‬و َ‬
‫{ فَأَ ْنجَيْنَا ُه وََأصْحَابَ ال ّ‬
‫قصة نوح { آيَةً لِ ْلعَاَلمِينَ } يعتبرون بها‪ ،‬على أن من كذب الرسل‪ ،‬آخر أمره الهلك‪ ،‬وأن‬
‫المؤمنين سيجعل اللّه لهم من كل هم فرجا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرجا‪.‬‬

‫وجعل اللّه أيضا السفينة‪ ،‬أي‪ :‬جنسها آية للعالمين‪ ،‬يعتبرون بها رحمة ربهم‪ ،‬الذي قيض لهم‬
‫أسبابها‪ ،‬ويسر لهم أمرها‪ ،‬وجعلها تحملهم وتحمل متاعهم من محل إلى محل ومن قُطرٍ إلى قُطرٍ‪.‬‬

‫{ ‪ { } 16-22‬وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ اعْبُدُوا اللّ َه وَاتّقُوهُ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * إِ ّنمَا‬
‫َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا وَتَخُْلقُونَ ِإ ْفكًا إِنّ الّذِينَ َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيمِْلكُونَ َل ُكمْ رِ ْزقًا‬
‫جعُونَ * وَإِنْ ُتكَذّبُوا َفقَدْ كَ ّذبَ ُأمَمٌ مِنْ قَبِْلكُمْ‬
‫شكُرُوا َلهُ إِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫فَابْ َتغُوا عِ ْندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَا ْ‬
‫َومَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ * َأوَلَمْ يَ َروْا كَ ْيفَ يُبْ ِدئُ اللّهُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ‬
‫شئُ النّشَْأةَ الْآخِ َرةَ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ‬
‫يَسِيرٌ * ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ بَ َدأَ الْخَ ْلقَ ُثمّ اللّهُ يُ ْن ِ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَيَرْحَمُ مَنْ َيشَا ُء وَإِلَيْهِ ُتقْلَبُونَ * َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا‬
‫َ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ }‬
‫ن وَِل ّ‬
‫سمَا ِء َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫فِي ال ّ‬

‫يذكر تعالى أنه أرسل خليله إبراهيم عليه الصلة والسلم إلى قومه‪ ،‬يدعوهم إلى ال‪ ،‬فقال [لهم]‪:‬‬
‫{ اعْ ُبدُوا اللّهَ } أي‪ :‬وحّدوه‪ ،‬وأخلصوا له العبادة‪ ،‬وامتثلوا ما أمركم به‪ { ،‬وَا ّتقُوهُ } أن يغضب‬
‫عليكم‪ ،‬فيعذبكم‪ ،‬وذلك بترك ما يغضبه من المعاصي‪ { ،‬ذَِل ُكمْ } أي‪ :‬عبادة ال وتقواه { خَيْرٌ َلكُمْ }‬
‫من ترك ذلك‪ ،‬وهذا من باب إطلق { أفعل التفضيل } بما ليس في الطرف الخر منه شيء‪ ،‬فإن‬
‫ترك عبادة ال‪ ،‬وترك تقواه‪ ،‬ل خير فيه بوجه‪ ،‬وإنما كانت عبادة ال وتقواه خيرا للناس‪ ،‬لنه ل‬
‫سبيل إلى نيل كرامته في الدنيا والخرة إل بذلك‪ ،‬وكل خير يوجد في الدنيا والخرة‪ ،‬فإنه من‬
‫آثار عبادة ال وتقواه‪.‬‬

‫{ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } ذلك‪ ،‬فاعلموا المور وانظروا ما هو أولى باليثار‪ ،‬فلما أمرهم بعبادة ال‬
‫وتقواه‪ ،‬نهاهم عن عبادة الصنام‪ ،‬وبيّن لهم نقصها وعدم استحقاقها للعبودية‪ ،‬فقال‪ { :‬إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ‬
‫مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا وَتَخُْلقُونَ ِإ ْفكًا } تنحتونها وتخلقونها بأيديكم‪ ،‬وتخلقون لها أسماء اللهة‪،‬‬
‫وتختلقون الكذب بالمر بعبادتها والتمسك بذلك‪ { ،‬إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } في نقصه‪ ،‬وأنه‬
‫ليس فيه ما يدعو إلى عبادته‪ { ،‬لَا َيمِْلكُونَ َلكُمْ رِ ْزقًا } فكأنه قيل‪ :‬قد بان لنا أن هذه الوثان‬
‫مخلوقة ناقصة‪ ،‬ل تملك نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا‪ ،‬وأن من هذا وصفه‪ ،‬ل‬
‫يستحق أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة من العبادة والتأله‪ ،‬والقلوب ل بد أن تطلب معبودا‬
‫تألهه وتسأله حوائجها‪ ،‬فقال ‪-‬حاثا لهم على من يستحق العبادة‪ { -‬فَابْ َتغُوا عِنْدَ اللّهِ الرّزْقَ } فإنه‬
‫هو الميسر له‪ ،‬المقدر‪ ،‬المجيب لدعوة من دعاه في أمر دينه ودنياه { وَاعْ ُبدُوهُ } وحده ل شريك‬
‫شكُرُوا لَهُ } وحده‪ ،‬لكون جميع ما وصل‬
‫له‪ ،‬لكونه الكامل النافع الضار‪ ،‬المتفرد بالتدبير‪ { ،‬وَا ْ‬
‫ويصل إلى الخلق من النعم فمنه‪ ،‬وجميع ما اندفع ويندفع من النقم عنهم فهو الدافع لها‪ِ { .‬إلَيْهِ‬
‫جعُونَ } يجازيكم على ما عملتم‪ ،‬وينبئكم بما أسررتم وأعلنتم‪ ،‬فاحذروا القدوم عليه وأنتم على‬
‫تُرْ َ‬
‫شرككم‪ ،‬وارغبوا فيما يقربكم إليه‪ ،‬ويثيبكم ‪-‬عند القدوم‪ -‬عليه‪.‬‬

‫{ َأوََلمْ يَ َروْا كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ } يوم القيامة { إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } كما قال‬
‫تعالى‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ }‬

‫{ ُقلْ } لهم‪ ،‬إن حصل معهم ريب وشك في البتداء‪ { :‬سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ } بأبدانكم وقلوبكم‬
‫{ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ } فإنكم ستجدون أمما من الدميين والحيوانات‪ ،‬ل تزال توجد شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬وتجدون النبات والشجار‪ ،‬كيف تحدث وقتا بعد وقت‪ ،‬وتجدون السحاب والرياح ونحوها‪،‬‬
‫مستمرة في تجددها‪ ،‬بل الخلق دائما في بدء وإعادة‪ ،‬فانظر إليهم وقت موتتهم الصغرى ‪-‬النوم‪-‬‬
‫وقد هجم عليهم الليل بظلمه‪ ،‬فسكنت منهم الحركات‪ ،‬وانقطعت منهم الصوات‪ ،‬وصاروا في‬
‫فرشهم ومأواهم كالميتين‪ ،‬ثم إنهم لم يزالوا على ذلك طول ليلهم‪ ،‬حتى انفلق الصباح‪ ،‬فانتبهوا‬
‫من رقدتهم‪ ،‬وبعثوا من موتتهم‪ ،‬قائلين‪ " :‬الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور "‬

‫شئُ النّشَْأةَ الْآخِ َرةَ } وهي النشأة التي ل تقبل موتا ول نوما‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬ثمّ اللّهُ } بعد العادة { يُ ْن ِ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى ل‬
‫وإنما هو الخلود والدوام في إحدى الدارين‪ { .‬إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫يعجزها شيء وكما قدر بها على ابتداء الخلق‪ ،‬فقدرته على العادة من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫حمُ مَنْ يَشَاءُ } أي‪ :‬هو المنفرد بالحكم الجزائي‪ ،‬وهو إثابة الطائعين‬
‫{ ُي َع ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَيَرْ َ‬
‫ورحمتهم‪ ،‬وتعذيب العاصين والتنكيل بهم‪ { .‬وَإِلَيْهِ ُتقْلَبُونَ } أي‪ :‬ترجعون إلى الدار‪ ،‬التي بها‬
‫تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته‪ ،‬فاكتسبوا في هذه الدار‪ ،‬ما هو من أسباب رحمته من‬
‫الطاعات‪ ،‬وابتعدوا من أسباب عذابه‪ ،‬وهي المعاصي‪.‬‬

‫سمَاءِ } أي‪ :‬يا هؤلء المكذبون‪ ،‬المتجرؤن على‬


‫ض وَلَا فِي ال ّ‬
‫{ َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫المعاصي‪ ،‬ل تحسبوا أنه مغفول عنكم‪ ،‬أو معجزون للّه في الرض ول في السماء‪ ،‬فل تغرنكم‬
‫قدرتكم وما زينت لكم أنفسكم وخدعتكم‪ ،‬من النجاة من عذاب ال‪ ،‬فلستم بمعجزين ال في جميع‬
‫أقطار العالم‪.‬‬
‫{ َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ } يتولكم‪ ،‬فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم‪ { ،‬وَلَا َنصِيرٍ }‬
‫ينصركم‪ ،‬فيدفع عنكم المكاره‪.‬‬

‫حمَتِي وَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }‬


‫{ ‪ { } 23‬وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَلِقَائِهِ أُولَ ِئكَ يَ ِئسُوا مِنْ َر ْ‬

‫يخبر تعالى من هم الذين زال عنهم الخير‪ ،‬وحصل لهم الشر‪ ،‬وأنهم الذين كفروا به وبرسله‪ ،‬وبما‬
‫جاءوهم به‪ ،‬وكذبوا بلقاء اللّه‪ ،‬فليس عندهم إل الدنيا‪ ،‬فلذلك قدموا على ما أقدموا عليه من الشرك‬
‫والمعاصي‪ ،‬لنه ليس في قلوبهم ما يخوفهم من عاقبة ذلك‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬أُولَ ِئكَ يَ ِئسُوا مِنْ‬
‫حمَتِي } أي‪ :‬فلذلك لم يعلموا سببا واحدا يحصلون به الرحمة‪ ،‬وإل لو طمعوا في رحمته‪ ،‬لعملوا‬
‫رَ ْ‬
‫لذلك أعمال‪ ،‬والياس من رحمة اللّه من أعظم المحاذير‪ ،‬وهو نوعان‪ :‬إياس الكفار منها‪ ،‬وتركهم‬
‫جميع سبب يقربهم منها‪ ،‬وإياس العصاة‪ ،‬بسبب كثرة جناياتهم أوحشتهم‪ ،‬فملكت قلوبهم‪ ،‬فأحدث‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪ :‬مؤلم موجع‪ .‬وكأن هذه اليات معترضات بين كلم‬
‫لها الياس‪ { ،‬وَأُولَ ِئكَ َلهُمْ َ‬
‫إبراهيم عليه السلم لقومه‪ ،‬وردهم عليه‪ ،‬واللّه أعلم بذلك‪.‬‬

‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَِلكَ‬
‫{ ‪َ { } 24-25‬فمَا كَانَ َ‬
‫لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * َوقَالَ إِ ّنمَا اتّخَذْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ َيوْمَ‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }‬
‫ض وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ‬
‫ضكُمْ بِ َب ْع ٍ‬
‫ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ‬

‫أي‪ :‬فما كان مجاوبة قوم إبراهيم إبراهيم حين دعاهم إلى ربه قبول دعوته‪ ،‬والهتداء بنصحه‪،‬‬
‫ورؤية نعمة اللّه عليهم بإرساله إليهم‪ ،‬وإنما كان مجاوبتهم له شر مجاوبة‪.‬‬

‫{ قَالُوا اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ } أشنع القتلت‪ ،‬وهم أناس مقتدرون‪ ،‬لهم السلطان‪ ،‬فألقوه في النار‬
‫{ فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ } منها‪.‬‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل‪ ،‬وبِرّهُمْ ونصحهم‪ ،‬وبطلن‬
‫قول من خالفهم وناقضهم‪ ،‬وأن المعارضين للرسل كأنهم تواصوا وحث بعضهم بعضا على‬
‫التكذيب‪.‬‬

‫{ َوقَالَ } لهم إبراهيم في جملة ما قاله من نصحه‪ { :‬إِ ّنمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِن ُكمْ فِي‬
‫ضكُمْ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي‪ :‬غاية ذلك‪ ،‬مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل‪ { ،‬ثُمّ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ‬
‫حشِرَ النّاسُ‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا } أي‪ :‬يتبرأ كل من العابدين والمعبودين من الخر { وَِإذَا ُ‬
‫بِ َب ْعضٍ وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ‬
‫كَانُوا َلهُمْ أَعْدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ } فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه ويلعنهم؟‬
‫" و " أن مأوى الجميع‪ ،‬العابدين والمعبودين " النّار " وليس أحد ينصرهم من عذاب اللّه‪ ،‬ول يدفع‬
‫عنهم عقابه‪.‬‬

‫حكِيمُ * َووَهَبْنَا لَهُ‬


‫ط َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ ِإلَى رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 26-27‬فَآمَنَ لَهُ لُو ٌ‬
‫ب وَآتَيْنَاهُ َأجْ َرهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ‬
‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّ ُب ّوةَ وَا ْلكِتَا َ‬
‫ب وَ َ‬
‫ق وَ َي ْعقُو َ‬
‫سحَا َ‬
‫إِ ْ‬
‫الصّالِحِينَ }‬

‫أي‪ :‬لم يزل إبراهيم عليه الصلة والسلم يدعو قومه‪ ،‬وهم مستمرون على عنادهم‪ ،‬إل أنه آمن‬
‫له بدعوته لوط‪ ،‬الذي نبأه اللّه‪ ،‬وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره‪.‬‬

‫{ َوقَالَ } إبراهيم حين رأى أن دعوة قومه ل تفيدهم شيئا‪ { :‬إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَى رَبّي } أي‪ :‬هاجر‬
‫أرض السوء‪ ،‬ومهاجر إلى الرض المباركة‪ ،‬وهي الشام‪ { ،‬إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } أي‪ :‬الذي له القوة‪،‬‬
‫حكِيمٌ ما اقتضت حكمته ذلك‪ ،‬ولما اعتزلهم وفارقهم‪ ،‬وهم بحالهم‪،‬‬
‫وهو يقدر على هدايتكم‪ ،‬ولكنه َ‬
‫لم يذكر اللّه عنهم أنه أهلكهم بعذاب‪ ،‬بل ذكر اعتزاله إياهم‪ ،‬وهجرته من بين أظهرهم‪.‬‬

‫فأما ما يذكر في السرائيليات‪ ،‬أن اللّه تعالى فتح على قومه باب البعوض‪ ،‬فشرب دماءهم‪ ،‬وأكل‬
‫لحومهم‪ ،‬وأتلفهم عن آخرهم‪ ،‬فهذا يتوقف الجزم به على الدليل الشرعي‪ ،‬ولم يوجد‪ ،‬فلو كان اللّه‬
‫استأصلهم بالعذاب لذكره كما ذكر إهلك المم المكذبة‪ ،‬ولكن لعل من أسرار ذلك‪ ،‬أن الخليل‬
‫عليه السلم من أرحم الخلق وأفضلهم [وأحلمهم] وأجلهم‪ ،‬فلم يدع على قومه كما دعا غيره‪ ،‬ولم‬
‫يكن اللّه ليجري بسببه عذابا عاما‪.‬‬

‫ومما يدل على ذلك‪ ،‬أنه راجع الملئكة في إهلك قوم لوط‪ ،‬وجادلهم‪ ،‬ودافع عنهم‪ ،‬وهم ليسوا‬
‫قومه‪ ،‬واللّه أعلم بالحال‪.‬‬

‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ }‬


‫ق وَ َي ْعقُوبَ } أي‪ :‬بعد ما هاجر إلى الشام { َو َ‬
‫سحَا َ‬
‫{ َووَهَبْنَا َلهُ إِ ْ‬
‫فلم يأت بعده نبي إل من ذريته‪ ،‬ول نزل كتاب إل على ذريته‪ ،‬حتى ختموا بالنبي محمد صلى‬
‫اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين‪.‬‬

‫وهذا [من] أعظم المناقب والمفاخر‪ ،‬أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة والفلح في ذريّته‪،‬‬
‫وعلى أيديهم اهتدى المهتدون‪ ،‬وآمن المؤمنون‪ ،‬وصلح الصالحون‪ { .‬وَآتَيْنَاهُ َأجْ َرهُ فِي الدّنْيَا } من‬
‫الزوجة الجميلة فائقة الجمال‪ ،‬والرزق الواسع‪ ،‬والولد‪ ،‬الذين بهم قرت عينه‪ ،‬ومعرفة اللّه‬
‫ومحبته‪ ،‬والنابة إليه‪.‬‬
‫{ وَإِنّهُ فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } بل هو ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم أفضل الصالحين على‬
‫الطلق‪ ،‬وأعلهم منزلة‪ ،‬فجمع اللّه له بين سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬

‫حدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ *‬


‫{ ‪ { } 28-35‬وَلُوطًا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا‬
‫ل وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ا ْلمُ ْنكَرَ َفمَا كَانَ َ‬
‫طعُونَ السّبِي َ‬
‫أَئِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْ َ‬
‫سدِينَ } إلى آخر القصة‬
‫ائْتِنَا ِبعَذَابِ اللّهِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ * قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي عَلَى ا ْلقَوْمِ ا ْل ُمفْ ِ‬

‫تقدم أن لوطا عليه السلم آمن لبراهيم‪ ،‬وصار من المهتدين به‪ ،‬وقد ذكروا أنه ليس من ذرية‬
‫إبراهيم‪ ،‬وإنما هو ابن أخي إبراهيم‪.‬‬

‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ } وإن كان عاما‪ ،‬فل يناقض كون لوط نبيا رسول‬
‫فقوله تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫وهو ليس من ذريته‪ ،‬لن الية جيء بها لسياق المدح والثناء على الخليل‪ ،‬وقد أخبر أن لوطا‬
‫اهتدى على يديه‪ ،‬ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي‪،‬‬
‫واللّه أعلم‪.‬‬

‫فأرسل اللّه لوطا إلى قومه‪ ،‬وكانوا مع شركهم‪ ،‬قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور‪ ،‬وتقطيع‬
‫السبيل‪ ،‬وفشو المنكرات في مجالسهم‪ ،‬فنصحهم لوط عن هذه المور‪ ،‬وبيّن لهم قبائحها في نفسها‪،‬‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا‬
‫وما تئول إليه من العقوبة البليغة‪ ،‬فلم يرعووا ولم يذكروا‪َ { .‬فمَا كَانَ َ‬
‫ِبعَذَابِ اللّهِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }‬

‫فأيس منهم نبيهم‪ ،‬وعلم استحقاقهم العذاب‪ ،‬وجزع من شدة تكذيبهم له‪ ،‬فدعا عليهم و{ قَالَ َربّ‬
‫ا ْنصُرْنِي عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْل ُمفْسِدِينَ } فاستجاب اللّه دعاءه‪ ،‬فأرسل الملئكة لهلكهم‪ ،‬فمروا بإبراهيم‬
‫قبل‪ ،‬وبشروه بإسحاق‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب‪ ،‬ثم سألهم إبراهيم أين يريدون؟ فأخبروه أنهم‬
‫يريدون إهلك قوم لوط‪ ،‬فجعل يراجعهم ويقول‪ { :‬إِنّ فِيهَا لُوطًا } فقالوا له‪ { :‬لَنُ َنجّيَنّ ُه وَأَ ْهلَهُ إِلّا‬
‫امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ } ثم مضوا حتى أتوا لوطا‪ ،‬فساءه مجيئهم‪ ،‬وضاق بهم ذرعا‪ ،‬بحيث إنه‬
‫لم يعرفهم‪ ،‬وظن أنهم من جملة أبناء السبيل الضيوف‪ ،‬فخاف عليهم من قومه‪ ،‬فقالوا له‪ { :‬لَا‬
‫ف وَلَا تَحْزَنْ } وأخبروه أنهم رسل اللّه‪.‬‬
‫خ ْ‬
‫تَ َ‬

‫{ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهَْلكَ إِلّا امْرَأَ َتكَ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ إِنّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَ ْهلِ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ رِجْزًا } أي‪:‬‬
‫سقُونَ } فأمروه أن يسري بأهله ليل‪ ،‬فلما أصبحوا‪ ،‬قلب اللّه عليهم‬
‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫عذابا { مِنَ ال ّ‬
‫ديارهم‪ ،‬فجعل عاليها سافلها‪ ،‬وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم‪،‬‬
‫سمَرًا من السمار‪ ،‬وعبرة من العِبر‪.‬‬
‫فصاروا َ‬
‫{ وََلقَدْ تَ َركْنَا مِ ْنهَا آ َيةً بَيّنَةً ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ } أي‪ :‬تركنا من ديار قوم لوط‪ ،‬آثارا بينة لقوم يعقلون‬
‫العِبر بقلوبهم‪[ ،‬فينتفعون بها]‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِ ّنكُمْ لَ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ُمصْبِحِينَ وَبِاللّ ْيلِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ‬
‫}‬

‫شعَيْبًا َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّ َه وَا ْرجُوا الْ َيوْمَ الْآخِ َر وَلَا َتعْ َثوْا فِي‬
‫{ ‪ { } 36-37‬وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ‬
‫جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ }‬
‫الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ * َفكَذّبُوهُ فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬

‫شعَيْبًا } فأمرهم بعبادة اللّه وحده ل‬


‫أي { و } أرسلنا { إِلَى مَدْيَنَ } القبيلة المعروفة المشهورة { ُ‬
‫شريك له‪ ،‬واليمان بالبعث ورجائه‪ ،‬والعمل له‪ ،‬ونهاهم عن الفساد في الرض‪ ،‬ببخس المكاييل‬
‫والموازين‪ ،‬والسعي بقطع الطرق‪ ،‬فكذبوه فأخذهم عذاب اللّه { فََأصْبَحُوا فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ }‬

‫عمَاَلهُمْ َفصَدّ ُهمْ عَنِ‬


‫{ ‪ { } 38-40‬وَعَادًا وَ َثمُو َد َوقَدْ تَبَيّنَ َل ُكمْ مِنْ مَسَاكِ ِنهِ ْم وَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫عوْنَ وَهَامَانَ وََلقَدْ جَاءَ ُهمْ مُوسَى بِالْبَيّنَاتِ فَاسْ َتكْبَرُوا فِي‬
‫ن َوفِرْ َ‬
‫ل َوكَانُوا ُمسْتَ ْبصِرِينَ * َوقَارُو َ‬
‫السّبِي ِ‬
‫ض َومَا كَانُوا سَا ِبقِينَ * َفكُلّا َأخَذْنَا بِذَنْبِهِ َفمِ ْنهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبًا َومِ ْنهُمْ مَنْ َأخَذَ ْتهُ‬
‫الْأَ ْر ِ‬
‫سهُمْ‬
‫سفْنَا بِهِ الْأَ ْرضَ َومِنْهُمْ مَنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫الصّيْحَةُ َومِنْهُمْ مَنْ خَ َ‬
‫يَظِْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود‪ ،‬وقد علمتم قصصهم‪ ،‬وتبين لكم بشيء تشاهدونه بأبصاركم من‬
‫مساكنهم وآثارهم التي بانوا عنها‪ ،‬وقد جاءتهم رسلهم باليات البينات‪ ،‬المفيدة للبصيرة‪ ،‬فكذبوهم‬
‫عمَاَلهُمْ } حتى ظنوا أنها أفضل مما جاءتهم به الرسل‪.‬‬
‫وجادلوهم‪ { .‬وَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬

‫وكذلك قارون‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وهامان‪ ،‬حين بعث اللّه إليهم موسى بن عمران‪ ،‬باليات البينات‪،‬‬
‫والبراهين الساطعات‪ ،‬فلم ينقادوا‪ ،‬واستكبروا في الرض‪[ ،‬على عباد اللّه فأذلوهم‪ ،‬وعلى الحق‬
‫فردوه فلم يقدروا على النجاء حين نزلت بهم العقوبة] { َومَا كَانُوا سَا ِبقِينَ } اللّه‪ ،‬ول فائتين‪ ،‬بل‬
‫سلموا واستسلموا‪.‬‬

‫{ َفكُل } من هؤلء المم المكذبة { َأخَذْنَا ِبذَنْبِهِ } على قدره‪ ،‬وبعقوبة مناسبة له‪َ { ،‬فمِ ْنهُمْ مَنْ‬
‫أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبًا } أي‪ :‬عذابا يحصبهم‪ ،‬كقوم عاد‪ ،‬حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم‪ ،‬و‬
‫خلٍ خَاوِيَةٍ }‬
‫عجَازُ َن ْ‬
‫ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫{ سَخّرَهَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْبعَ لَيَا ٍ‬

‫سفْنَا بِهِ الْأَ ْرضَ } كقارون‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَنْ‬


‫{ َومِ ْنهُمْ مَنْ َأخَذَ ْتهُ الصّيْحَةُ } كقوم صالح‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَنْ خَ َ‬
‫أَغْ َرقْنَا } كفرعون وهامان وجنودهما‪.‬‬
‫{ َومَا كَانَ اللّهُ } أي‪ :‬ما ينبغي ول يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله‪ ،‬وغناه التام عن جميع‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ } منعوها حقها التي هي بصدده‪ ،‬فإنها مخلوقة لعبادة اللّه‬
‫الخلق‪ { .‬وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫وحده‪ ،‬فهؤلء وضعوها في غير موضعها‪ ،‬وأشغلوها بالشهوات والمعاصي‪ ،‬فضروها غاية‬
‫الضرر‪ ،‬من حيث ظنوا أنهم ينفعونها‪.‬‬

‫خ َذتْ بَيْتًا وَإِنّ َأوْهَنَ‬


‫{ ‪ { } 43 - 41‬مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ اتّ َ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ‬
‫الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ * إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ َ‬
‫س َومَا َي ْعقُِلهَا إِلّا ا ْلعَاِلمُونَ }‬
‫حكِيمُ * وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّا ِ‬
‫الْ َ‬

‫هذا مثل ضربه اللّه لمن عبد معه غيره‪ ،‬يقصد به التعزز والتّ َقوّي والنفع‪ ،‬وأن المر بخلف‬
‫مقصوده‪ ،‬فإن مثله كمثل العنكبوت‪ ،‬اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد والفات‪ { ،‬وَإِنّ َأوْهَنَ‬
‫الْبُيُوتِ } أضعفها وأوهاها { لَبَ ْيتُ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ } فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة‪ ،‬وبيتها من‬
‫أضعف البيوت‪ ،‬فما ازدادت باتخاذه إل ضعفا‪ ،‬كذلك هؤلء الذين يتخذون من دونه أولياء‪ ،‬فقراء‬
‫عاجزون من جميع الوجوه‪ ،‬وحين اتخذوا الولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم‪ ،‬ازدادوا‬
‫ضعفا إلى ضعفهم‪ ،‬ووهنا إلى وهنهم‪.‬‬

‫فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم‪ ،‬وألقوها عليهم‪ ،‬وتخلوا هم عنها‪ ،‬على أن أولئك‬
‫سيقومون بها‪ ،‬فخذلوهم‪ ،‬فلم يحصلوا منهم على طائل‪ ،‬ول أنالوهم من معونتهم أقل نائل‪.‬‬

‫فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم‪ ،‬حالهم وحال من اتخذوهم‪ ،‬لم يتخذوهم‪ ،‬ولتبرأوا منهم‪ ،‬ولتولوا‬
‫الرب القادر الرحيم‪ ،‬الذي إذا توله عبده وتوكل عليه‪ ،‬كفاه مئونة دينه ودنياه‪ ،‬وازداد قوة إلى‬
‫قوته‪ ،‬في قلبه وفي بدنه وحاله وأعماله‪.‬‬

‫ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين‪ ،‬ارتقى من هذا إلى ما هو أبلغ منه‪ ،‬وأنها ليست بشيء‪ ،‬بل‬
‫هي مجرد أسماء سموها‪ ،‬وظنون اعتقدوها‪ ،‬وعند التحقيق‪ ،‬يتبين للعاقل بطلنها وعدمها‪ ،‬ولهذا‬
‫شيْءٍ } أي‪ :‬إنه تعالى يعلم ‪-‬وهو عالم الغيب‬
‫قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ َ‬
‫والشهادة‪ -‬أنهم ما يدعون من دون اللّه شيئا موجودا‪ ،‬ول إلها له حقيقة‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬إِنْ ِهيَ‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وقوله‪َ { :‬ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ‬
‫سمَاءٌ َ‬
‫إِلّا أَ ْ‬
‫دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ وإن هم إل يخرصون }‬

‫حكِيمُ } الذي‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الحكيم } الذي له القوة جميعا‪ ،‬التي قهر بها جميع المخلوقات‪ { ،‬الْ َ‬
‫يضع الشياء مواضعها‪ ،‬الذي أحسن كل شيء خلقه‪ ،‬وأتقن ما أمره‪.‬‬
‫{ وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ } أي‪ :‬لجلهم ولنتفاعهم وتعليمهم‪ ،‬لكونها من الطرق الموضحة‬
‫للعلوم‪ ،‬ولنها تقرب المور المعقولة بالمور المحسوسة‪ ،‬فيتضح المعنى المطلوب بسببها‪ ،‬فهي‬
‫مصلحة لعموم الناس‪.‬‬

‫{ و } لكن { مَا َي ْعقُِلهَا } بفهمها وتدبرها‪ ،‬وتطبيقها على ما ضربت له‪ ،‬وعقلها في القلب { إِلّا‬
‫ا ْلعَاِلمُونَ } أي‪ :‬أهل العلم الحقيقي‪ ،‬الذين وصل العلم إلى قلوبهم‪.‬‬

‫وهذا مدح للمثال التي يضربها‪ ،‬وحثّ على تدبرها وتعقلها‪ ،‬ومدح لمن يعقلها‪ ،‬وأنه عنوان على‬
‫أنه من أهل العلم‪ ،‬فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين‪.‬‬

‫والسبب في ذلك‪ ،‬أن المثال التي يضربها اللّه في القرآن‪ ،‬إنما هي للمور الكبار‪ ،‬والمطالب‬
‫العالية‪ ،‬والمسائل الجليلة‪ ،‬فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها‪ ،‬لعتناء اللّه بها‪ ،‬وحثه عباده‬
‫على تعقلها وتدبرها‪ ،‬فيبذلون جهدهم في معرفتها‪.‬‬

‫وأما من لم يعقلها‪ ،‬مع أهميتها‪ ،‬فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم‪ ،‬لنه إذا لم يعرف‬
‫المسائل المهمة‪ ،‬فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى‪ .‬ولهذا‪ ،‬أكثر ما يضرب اللّه المثال‬
‫في أصول الدين ونحوها‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً لِ ْل ُمؤْمِنِينَ }‬
‫{ ‪ { } 44‬خََلقَ اللّهُ ال ّ‬

‫أي‪ :‬هو تعالى المنفرد بخلق السماوات‪ ،‬على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من‬
‫الشمس والقمر والكواكب والملئكة‪ ،‬والرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار‬
‫والشجار ونحوها‪ ،‬وكل ذلك خلقه بالحق‪ ،‬أي‪ :‬لم يخلقها عبثا ول سدى‪ ،‬ول لغير فائدة‪ ،‬وإنما‬
‫خلقها‪ ،‬ليقوم أمره وشرعه‪ ،‬ولتتم نعمته على عباده‪ ،‬وليروا من حكمته وقهره وتدبيره‪ ،‬ما يدلهم‬
‫على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم‪ { .‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } على كثير من المطالب‬
‫اليمانية‪ ،‬إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا‪.‬‬

‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ وََأ ِقمِ الصّلَاةَ إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَلَ ِذكْرُ‬
‫{ ‪ { } 45‬ا ْتلُ مَا أُو ِ‬
‫اللّهِ َأكْبَرُ وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ }‬

‫يأمر تعالى بتلوة وحيه وتنزيله‪ ،‬وهو هذا الكتاب العظيم‪ ،‬ومعنى تلوته اتباعه‪ ،‬بامتثال ما يأمر‬
‫به‪ ،‬واجتناب ما ينهى عنه‪ ،‬والهتداء بهداه‪ ،‬وتصديق أخباره‪ ،‬وتدبر معانيه‪ ،‬وتلوة ألفاظه‪،‬‬
‫فصار تلوة لفظه جزء المعنى وبعضه‪ ،‬وإذا كان هذا معنى تلوة الكتاب‪ ،‬علم أن إقامة الدين‬
‫كله‪ ،‬داخلة في تلوة الكتاب‪ .‬فيكون قوله‪ { :‬وََأقِمِ الصّلَاةَ } من باب عطف الخاص على العام‪،‬‬
‫لفضل الصلة وشرفها‪ ،‬وآثارها الجميلة‪ ،‬وهي { إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ }‬

‫والفحشاء‪ :‬كل ما استعظم واستفحش من المعاصي التي تشتهيها النفوس‪.‬‬

‫والمنكر‪ :‬كل معصية تنكرها العقول والفطر‪.‬‬

‫ووجه كون الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬أن العبد المقيم لها‪ ،‬المتمم لركانها وشروطها‬
‫وخشوعها‪ ،‬يستنير قلبه‪ ،‬ويتطهر فؤاده‪ ،‬ويزداد إيمانه‪ ،‬وتقوى رغبته في الخير‪ ،‬وتقل أو تعدم‬
‫رغبته في الشر‪ ،‬فبالضرورة‪ ،‬مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه‪ ،‬تنهى عن الفحشاء‬
‫والمنكر‪ ،‬فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها‪ .‬وثَمّ في الصلة مقصود أعظم من هذا وأكبر‪ ،‬وهو‬
‫ما اشتملت عليه من ذكر اللّه‪ ،‬بالقلب واللسان والبدن‪ .‬فإن اللّه تعالى‪ ،‬إنما خلق الخلق لعبادته‪،‬‬
‫وأفضل عبادة تقع منهم الصلة‪ ،‬وفيها من عبوديات الجوارح كلها‪ ،‬ما ليس في غيرها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ }‬

‫ويحتمل أنه لما أمر بالصلة ومدحها‪ ،‬أخبر أن ذكره تعالى خارج الصلة أكبر من الصلة‪ ،‬كما‬
‫هو قول جمهور المفسرين‪ ،‬لكن الول أولى‪ ،‬لن الصلة أفضل من الذكر خارجها‪ ،‬ولنها ‪-‬كما‬
‫تقدم‪ -‬بنفسها من أكبر الذكر‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ } من خير وشر‪ ،‬فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 46‬وَلَا ُتجَادِلُوا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّا بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُ ْم َوقُولُوا آمَنّا بِالّذِي‬
‫ح ٌد وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ }‬
‫أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا وَأُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُ ْم وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَا ِ‬

‫ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب‪ ،‬إذا كانت من غير بصيرة من المجادل‪ ،‬أو بغير قاعدة‬
‫مرضية‪ ،‬وأن ل يجادلوا إل بالتي هي أحسن‪ ،‬بحسن خلق ولطف ولين كلم‪ ،‬ودعوة إلى الحق‬
‫وتحسينه‪ ،‬ورد عن الباطل وتهجينه‪ ،‬بأقرب طريق موصل لذلك‪ ،‬وأن ل يكون القصد منها مجرد‬
‫المجادلة والمغالبة وحب العلو‪ ،‬بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق‪ ،‬إل من ظلم من أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬بأن ظهر من قصده وحاله‪ ،‬أنه ل إرادة له في الحق‪ ،‬وإنما يجادل على وجه المشاغبة‬
‫والمغالبة‪ ،‬فهذا ل فائدة في جداله‪ ،‬لن المقصود منها ضائع‪.‬‬
‫{ َوقُولُوا آمَنّا بِالّذِي أُنْ ِزلَ ِإلَيْنَا وَأُنْ ِزلَ إِلَ ْي ُك ْم وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَاحِدٌ } أي‪ :‬ولتكن مجادلتكم لهل الكتاب‬
‫مبنية على اليمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم‪ ،‬وعلى اليمان برسولكم ورسولهم‪ ،‬وعلى أن الله‬
‫واحد‪ ،‬ول تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب اللهية‪ ،‬أو بأحد‬
‫من الرسل‪ ،‬كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم‪ ،‬يقدح بجميع ما معهم‪ ،‬من حق وباطل‪ ،‬فهذا‬
‫ظلم‪ ،‬وخروج عن الواجب وآداب النظر‪ ،‬فإن الواجب‪ ،‬أن يرد ما مع الخصم من الباطل‪ ،‬ويقبل‬
‫ما معه من الحق‪ ،‬ول يرد الحق لجل قوله‪ ،‬ولو كان كافرا‪ .‬وأيضا‪ ،‬فإن بناء مناظرة أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬على هذا الطريق‪ ،‬فيه إلزام لهم بالقرار بالقرآن‪ ،‬وبالرسول الذي جاء به‪ ،‬فإنه إذا تكلم‬
‫في الصول الدينية التي اتفقت عليها النبياء والكتب‪ ،‬وتقررت عند المتناظرين‪ ،‬وثبتت حقائقها‬
‫عندهما‪ ،‬وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت‬
‫عليها وأخبرت بها‪ ،‬فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها‪ ،‬والرسل كلهم‪ ،‬وهذا من خصائص السلم‪.‬‬

‫فأما أن يقال‪ :‬نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلني‪ ،‬دون الكتاب الفلني وهو الحق الذي صدق ما‬
‫قبله‪ ،‬فهذا ظلم وجور‪ ،‬وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب‪ ،‬لنه إذا كذب القرآن الدال عليها‪ ،‬المصدق‬
‫لما بين يديه من التوراة‪ ،‬فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن‪.‬‬

‫وأيضا‪ ،‬فإن كل طريق تثبت به نبوة أي‪ :‬نبي كان‪ ،‬فإن مثلها وأعظم منها‪ ،‬دالة على نبوة محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن مثلها أو‬
‫أعظم منها‪ ،‬يمكن توجيهها إلى نبوة غيره‪ ،‬فإذا ثبت بطلنها في غيره‪ ،‬فثبوت بطلنها في حقه‬
‫صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ } أي‪ :‬منقادون مستسلمون لمره‪ .‬ومن آمن به‪ ،‬واتخذه إلها‪ ،‬وآمن‬
‫بجميع كتبه ورسله‪ ،‬وانقاد للّه واتبع رسله‪ ،‬فهو السعيد‪ ،‬ومن انحرف عن هذا الطريق‪ ،‬فهو‬
‫الشقي‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 48 - 47‬وكَذَِلكَ أَنْزَلْنَا ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َومِنْ َهؤُلَاءِ مَنْ‬
‫خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا‬
‫ب وَلَا تَ ُ‬
‫جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ا ْلكَافِرُونَ * َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَا ٍ‬
‫ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومَا يَ ْ‬
‫لَارْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }‬

‫أي‪َ { :‬وكَذَِلكَ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ } يا محمد‪ ،‬هذا { ا ْلكِتَاب } الكريم‪ ،‬المبين كل نبأ عظيم‪ ،‬الداعي إلى كل‬
‫خلق فاضل‪ ،‬وأمر كامل‪ ،‬المصدق للكتب السابقة‪ ،‬المخبر به النبياء القدمون‪.‬‬

‫{ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ } فعرفوه حق معرفته‪ ،‬ولم يداخلهم حسد وهوى‪.‬‬


‫{ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ } لنهم تيقنوا صدقه‪ ،‬بما لديهم من الموافقات‪ ،‬وبما عندهم من البشارات‪ ،‬وبما‬
‫تميزوا به من معرفة الحسن والقبيح‪ ،‬والصدق والكذب‪.‬‬

‫{ َومِنْ َهؤُلَاءِ } الموجودين { مَنْ ُي ْؤمِنُ ِبهِ } إيمانا عن بصيرة‪ ،‬ل عن رغبته ول رهبته‪َ { .‬ومَا‬
‫جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ا ْلكَافِرُونَ } الذين دأبهم الجحود للحق والعناد له‪ .‬وهذا حصر لمن كفر به‪ ،‬أنه ل‬
‫يَ ْ‬
‫يكون من أحد قصده متابعة الحق‪ ،‬وإل‪ ،‬فكل من له قصد صحيح‪ ،‬فإنه ل بد أن يؤمن به‪ ،‬لما‬
‫اشتمل عليه من البينات‪ ،‬لكل من له عقل‪ ،‬أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬

‫ومما يدل على صحته‪ ،‬أنه جاء به هذا النبي المين‪ ،‬الذي عرف قومه صدقه وأمانته ومدخله‬
‫ومخرجه وسائر أحواله‪ ،‬وهو ل يكتب بيده خطا‪ ،‬ول يقرأ خطا مكتوبا‪ ،‬فإتيانه به في هذه الحال‪،‬‬
‫من أظهر البينات القاطعة‪ ،‬التي ل تقبل الرتياب‪ ،‬أنه من عند اللّه العزيز الحميد‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو } أي‪ :‬تقرأ { مِنْ قَبِْلهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذًا } لو كنت بهذه الحال‬
‫{ لَارْتَابَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ } فقالوا‪ :‬تعلمه من الكتب السابقة‪ ،‬أو استنسخه منها‪ ،‬فأما وقد نزل على قلبك‪،‬‬
‫كتابا جليل‪ ،‬تحديت به الفصحاء والبلغاء‪ ،‬العداء اللداء‪ ،‬أن يأتوا بمثله‪ ،‬أو بسورة من مثله‪،‬‬
‫فعجزوا غاية العجز‪ ،‬بل ول حدثتهم أنفسهم بالمعارضة‪ ،‬لعلمهم ببلغته وفصاحته‪ ،‬وأن كلم أحد‬
‫من البشر‪ ،‬ل يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا الظّاِلمُونَ }‬


‫{ ‪َ { } 49‬بلْ ُهوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم َومَا يَ ْ‬

‫أي‪َ { :‬بلْ } هذا القرآن { آيَات بَيّنَات } ل خفيات‪ { ،‬فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ } وهم سادة‬
‫الخلق‪ ،‬وعقلؤهم‪ ،‬وأولو اللباب منهم‪ ،‬والكمل منهم‪.‬‬

‫فإذا كان آيات بينات في صدور أمثال هؤلء‪ ،‬كانوا حجة على غيرهم‪ ،‬وإنكار غيرهم ل يضر‪،‬‬
‫جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا الظّاِلمُونَ } لنه ل يجحدها إل جاهل‬
‫ول يكون ذلك إل ظلما‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا يَ ْ‬
‫تكلم بغير علم‪ ،‬ولم يقتد بأهل العلم‪ ،‬وهو متمكن من معرفته على حقيقته‪ ،‬وإما متجاهل عرف أنه‬
‫حق فعانده‪ ،‬وعرف صدقه فخالفه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 52 - 50‬وقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِ ّنمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‬
‫حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * ُقلْ‬
‫* َأوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْي ِهمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَ َر ْ‬
‫ل َوكَفَرُوا بِاللّهِ‬
‫طِ‬‫ض وَالّذِينَ آمَنُوا بِالْبَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫شهِيدًا َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫َكفَى بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ‬
‫أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }‬
‫أي‪ :‬واعترض هؤلء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به‪ ،‬واقترحوا عليه نزول آيات‬
‫عينوها‪ ،‬كقولهم‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا } اليات‪ .‬فتعيين اليات‬
‫ليس عندهم‪ ،‬ول عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن في ذلك تدبيرا مع اللّه‪ ،‬وأنه لو كان‬
‫كذلك‪ ،‬وينبغي أن يكون كذلك‪ ،‬وليس لحد من المر شيء‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ إِ ّنمَا الْآيَاتُ عِ ْندَ اللّهِ } إن شاء أنزلها أو منعها { وَإِ ّنمَا أَنَا َنذِيرٌ مُبِينٌ } وليس لي‬
‫مرتبة فوق هذه المرتبة‪.‬‬

‫وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل‪ ،‬فإذا حصل المقصود ‪-‬بأي‪ :‬طريق‪ -‬كان اقتراح اليات‬
‫المعينات على ذلك ظلما وجورا‪ ،‬وتكبرا على اللّه وعلى الحق‪.‬‬

‫بل لو قدر أن تنزل تلك اليات‪ ،‬ويكون في قلوبهم أنهم ل يؤمنون بالحق إل بها‪ ،‬كان ذلك ليس‬
‫بإيمان‪ ،‬وإنما ذلك شيء وافق أهواءهم‪ ،‬فآمنوا‪ ،‬ل لنه حق‪ ،‬بل لتلك اليات‪ .‬فأي فائدة حصلت‬
‫في إنزالها على التقدير الفرضي؟‬

‫ولما كان المقصود بيان الحق‪ ،‬ذكر تعالى طريقه‪ ،‬فقال‪َ { :‬أوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ } في علمهم بصدقك وصدق‬
‫ما جئت به { أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } وهذا كلم مختصر جامع‪ ،‬فيه من اليات‬
‫البينات‪ ،‬والدللت الباهرات‪ ،‬شيء كثير‪ ،‬فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو أمي‪ ،‬من‬
‫أكبر اليات على صدقه‪.‬‬

‫ثم عجزهم عن معارضته‪ ،‬وتحديه إياهم آية أخرى‪ ،‬ثم ظهوره‪ ،‬وبروزه جهرا علنية‪ ،‬يتلى‬
‫عليهم‪ ،‬ويقال‪ :‬هو من عند اللّه‪ ،‬قد أظهره الرسول‪ ،‬وهو في وقت قلّ فيه أنصاره‪ ،‬وكثر مخالفوه‬
‫وأعداؤه‪ ،‬فلم يخفه‪ ،‬ولم يثن ذلك عزمه‪ ،‬بل صرح به على رءوس الشهاد‪ ،‬ونادى به بين‬
‫الحاضر والباد‪ ،‬بأن هذا كلم ربي‪ ،‬فهل أحد يقدر على معارضته‪ ،‬أو ينطق بمباراته أو يستطيع‬
‫مجاراته؟‪.‬‬

‫ثم إخباره عن قصص الولين‪ ،‬وأنباء السابقين والغيوب المتقدمة والمتأخرة‪ ،‬مع مطابقته للواقع‪.‬‬

‫ثم هيمنته على الكتب المتقدمة‪ ،‬وتصحيحه للصحيح‪ ،‬و َنفْيُ ما أدخل فيها من التحريف والتبديل‪ ،‬ثم‬
‫هدايته لسواء السبيل‪ ،‬في أمره ونهيه‪ ،‬فما أمر بشيء فقال العقل "ليته لم يأمر به" ول نهى عن‬
‫شيء فقال العقل‪" :‬ليته لم ينه عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان‪ ،‬والحكمة المعقولة لذوي‬
‫البصائر والعقول [ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث ل تصلح‬
‫المور إل به]‬
‫فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق‪ ،‬وعمل على طلب الحق‪ ،‬فل كفى اللّه من لم يكفه‬
‫القرآن‪ ،‬ول شفى اللّه من لم يشفه الفرقان‪ ،‬ومن اهتدى به واكتفى‪ ،‬فإنه خير له فلذلك قال‪ { :‬إِنّ‬
‫ح َم ًة وَ ِذكْرَى ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير‪ ،‬والخير الغزير‪،‬‬
‫فِي ذَِلكَ لَرَ ْ‬
‫وتزكية القلوب والرواح‪ ،‬وتطهير العقائد‪ ،‬وتكميل الخلق‪ ،‬والفتوحات اللهية‪ ،‬والسرار‬
‫الربانية‪.‬‬

‫حلّ بي ما به تعتبرون‪،‬‬
‫شهِيدًا } فأنا قد استشهدته‪ ،‬فإن كنت كاذبا‪َ ،‬أ َ‬
‫{ ُقلْ َكفَى بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ‬
‫وإن كان إنما يؤيدني وينصرني وييسر لي المور‪ ،‬فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من اللّه‪ ،‬فإن وقع‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫في قلوبكم أن شهادته ‪-‬وأنتم لم تسمعوه ولم تروه‪ -‬ل تكفي دليل‪ ،‬فإنه { َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ }‬

‫ومن جملة معلوماته حالي وحالكم‪ ،‬ومقالي لكم فلو كنت متقول عليه‪ ،‬مع علمه بذلك‪ ،‬وقدرته على‬
‫عقوبتي‪ ،‬لكان [قدحا في علمه وقدرته وحكمته] كما قال تعالى‪ { :‬وََلوْ َت َق ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }‬
‫خذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ ُثمّ َلقَ َ‬
‫لَأَ َ‬

‫ل َو َكفَرُوا بِاللّهِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } حيث هم خسروا اليمان باللّه وملئكته‬
‫طِ‬‫{ وَالّذِينَ آمَنُوا بِالْبَا ِ‬
‫وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬وحيث فاتهم النعيم المقيم‪ ،‬وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح‬
‫كل باطل قبيح‪ ،‬وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم‪ ،‬فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‪.‬‬

‫ب وَلَيَأْتِيَ ّنهُمْ َبغْ َت ًة وَهُمْ لَا‬


‫سمّى َلجَاءَ ُهمُ ا ْلعَذَا ُ‬
‫جلٌ ُم َ‬
‫{ ‪ { } 55 - 53‬وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَابِ وََلوْلَا َأ َ‬
‫طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ * َيوْمَ َيغْشَاهُمُ ا ْل َعذَابُ مِنْ َف ْوقِهِمْ‬
‫جهَنّمَ َل ُمحِي َ‬
‫شعُرُونَ * يَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْل َعذَابِ وَإِنّ َ‬
‫يَ ْ‬
‫حتِ أَرْجُِل ِه ْم وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫َومِنْ َت ْ‬

‫يخبر تعالى عن جهل المكذبين للرسول وما جاء به‪ ،‬وأنهم يقولون ‪-‬استعجال للعذاب‪ ،‬وزيادة‬
‫تكذيب‪ { -‬مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } ؟‬

‫سمّى } مضروب لنزوله‪ ،‬ولم يأت بعد‪ { ،‬لَجَاءَهُمُ ا ْلعَذَابُ } بسبب‬


‫جلٌ مُ َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وََلوْلَا أَ َ‬
‫تعجيزهم لنا وتكذيبهم الحق‪ ،‬فلو آخذناهم بجهلهم‪ ،‬لكان كلمهم أسرع لبلئهم وعقوبتهم‪ ،‬ولكن‬
‫شعُرُونَ }‬
‫‪-‬مع ذلك‪ -‬فل يستبطئون نزوله‪ ،‬فإنه سيأتيهم { َبغْتَ ًة وَهُمْ لَا يَ ْ‬

‫فوقع كما أخبر اللّه تعالى‪ ،‬لما قدموا لب "بدر" بطرين مفاخرين‪ ،‬ظانين‬
‫أنهم قادرون على مقصودهم‪ ،‬فأهانهم اللّه‪ ،‬وقتل كبارهم‪ ،‬واستوعب جملة أشرارهم‪ ،‬ولم يبق فيهم‬
‫بيت إل أصابته تلك المصيبة‪ ،‬فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا‪ ،‬ونزل بهم وهم ل يشعرون‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬وإن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي‪ ،‬فإن أمامهم العذاب الخروي‪ ،‬الذي ل يخلص منهم أحد‬
‫جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ } ليس لهم عنها معدل‬
‫منه‪ ،‬سواء عوجل بعذاب الدنيا أو أمهل‪ { .‬وَإِنّ َ‬
‫ول متصرف‪ ،‬قد أحاطت بهم من كل جانب‪ ،‬كما أحاطت بهم ذنوبهم وسيئاتهم وكفرهم‪ ،‬وذلك‬
‫العذاب‪ ،‬هو العذاب الشديد‪.‬‬

‫حتِ أَرْجُِل ِه ْم وَ َيقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } فإن أعمالكم‬
‫{ َيوْمَ َيغْشَاهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ َت ْ‬
‫انقلبت عليكم عذابا‪ ،‬وشملكم العذاب كما شملكم الكفر والذنوب‪.‬‬

‫س َعةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ * ُكلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ‬


‫{ ‪ { } 59 - 56‬يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُوا إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ مِنَ الْجَنّةِ غُ َرفًا تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا‬
‫جعُونَ * وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ثُمّ إِلَيْنَا تُرْ َ‬
‫ن صَبَرُوا وَعَلَى رَ ّب ِهمْ يَ َت َوكّلُونَ }‬
‫الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ * الّذِي َ‬

‫سعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ }‬


‫يقول تعالى‪ { :‬يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُوا } بي وصدقوا رسولي { إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬
‫فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض‪ ،‬فارتحلوا منها إلى أرض أخرى‪ ،‬حيث كانت العبادة للّه‬
‫وحده‪ ،‬فأماكن العبادة ومواضعها‪ ،‬واسعة‪ ،‬والمعبود واحد‪ ،‬والموت ل بد أن ينزل بكم ثم ترجعون‬
‫إلى ربكم‪ ،‬فيجازي من أحسن عبادته وجمع بين اليمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية‪،‬‬
‫والمنازل النيقة الجامعة لما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وأنتم فيها خالدون‪.‬‬

‫فب { نعم } تلك المنازل‪ ،‬في جنات النعيم { َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ } للّه‪.‬‬

‫ن صَبَرُوا } على عبادة اللّه { وَعَلَى رَ ّب ِهمْ يَ َت َوكّلُونَ } في ذلك‪ .‬فصبرهم على عبادة اللّه‪،‬‬
‫{ الّذِي َ‬
‫يقتضي بذل الجهد والطاقة في ذلك‪ ،‬والمحاربة العظيمة للشيطان‪ ،‬الذي يدعوهم إلى الخلل‬
‫بشيء من ذلك‪ ،‬وتوكلهم‪ ،‬يقتضي شدة اعتمادهم على اللّه‪ ،‬وحسن ظنهم به‪ ،‬أن يحقق ما عزموا‬
‫عليه من العمال ويكملها‪ ،‬ونص على التوكل‪ ،‬وإن كان داخل في الصبر‪ ،‬لنه يحتاج إليه في كل‬
‫فعل وترك مأمور به‪ ،‬ول يتم إل به‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫ح ِملُ رِ ْز َقهَا اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُ ْم وَ ُهوَ ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 60‬وكَأَيّنْ مِنْ دَابّةٍ لَا َت ْ‬
‫أي‪ :‬الباري تبارك وتعالى‪ ،‬قد تكفل بأرزاق الخلئق كلهم‪ ،‬قويهم وعاجزهم‪ ،‬فكم { مِنْ دَابّةٍ } في‬
‫ح ِملُ رِ ْز َقهَا } ول تدخره‪ ،‬بل لم تزل‪ ،‬ل شيء معها‬
‫الرض‪ ،‬ضعيفة القوى‪ ،‬ضعيفة العقل‪ { .‬لَا تَ ْ‬
‫من الرزق‪ ،‬ول يزال اللّه يسخر لها الرزق‪ ،‬في كل وقت بوقته‪.‬‬

‫سمِيعُ‬
‫{ اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُمْ } فكلكم عيال اللّه‪ ،‬القائم برزقكم‪ ،‬كما قام بخلقكم وتدبيركم‪ { ،‬وَ ُهوَ ال ّ‬
‫ا ْلعَلِيمُ } فل يخفى عليه خافية‪ ،‬ول تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه‪.‬‬

‫عهَا ُكلّ فِي‬


‫كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ‬
‫كِتَابٍ مُبِينٍ }‬

‫س وَا ْل َقمَرَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‬


‫شمْ َ‬
‫ض وَسَخّرَ ال ّ‬
‫ت وَالْأَ ْر َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 63 - 61‬وَلَئِنْ سَأَلْ َت ُهمْ مَنْ خََلقَ ال ّ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ‬
‫فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ * اللّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَيَقْدِرُ لَهُ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُهمْ‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتهَا لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ الْ َ‬
‫سَأَلْ َتهُمْ مَنْ نَ ّزلَ مِنَ ال ّ‬
‫لَا َي ْعقِلُونَ }‬

‫هذا استدلل على المشركين المكذبين بتوحيد اللهية والعبادة‪ ،‬وإلزام لهم بما أثبتوه من توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬فأنت لو سألتهم من خلق السماوات والرض‪ ،‬ومن نزل من السماء ماء فأحيا به‬
‫الرض بعد موتها‪ ،‬ومن بيده تدبير جميع الشياء؟ { لَ َيقُولُنّ اللّهُ } وحده‪ ،‬ولَاعْتَ َرفُوا بعجز الوثان‬
‫ومن عبدوه مع اللّه على شيء من ذلك‪.‬‬

‫جلْ‬
‫سّ‬‫فاعجب لفكهم وكذبهم‪ ،‬وعدولهم إلى من أقروا بعجزه‪ ،‬وأنه ل يستحق أن يدبر شيئا‪ ،‬و َ‬
‫عليهم بعدم العقل‪ ،‬وأنهم السفهاء‪ ،‬ضعفاء الحلم‪ ،‬فهل تجد أضعف عقل‪ ،‬وأقل بصيرة‪ ،‬ممن أتى‬
‫إلى حجر‪ ،‬أو قبر ونحوه‪ ،‬وهو يدري أنه ل ينفع ول يضر‪ ،‬ول يخلق ول يرزق‪ ،‬ثم صرف له‬
‫خالص الخلص‪ ،‬وصافي العبودية‪ ،‬وأشركه مع الرب‪ ،‬الخالق الرازق‪ ،‬النافع الضار‪ .‬وقل‪:‬‬
‫الحمد ل الذي بين الهدى من الضلل‪ ،‬وأوضح بطلن ما عليه المشركون‪ ،‬ليحذره الموفقون‪.‬‬

‫وقل‪ :‬الحمد ل‪ ،‬الذي خلق العالم العلوي والسفلي‪ ،‬وقام بتدبيرهم ورزقهم‪ ،‬وبسط الرزق على من‬
‫يشاء‪ ،‬وضيقه على من يشاء‪ ،‬حكمة منه‪ ،‬ولعلمه بما يصلح عباده وما ينبغي لهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 69 - 64‬ومَا هَ ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ْه ٌو وََل ِعبٌ وَإِنّ الدّارَ الْآخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُوا‬
‫عوُا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْ ِركُونَ *‬
‫َيعَْلمُونَ * فَِإذَا َركِبُوا فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ‬
‫طفُ النّاسُ مِنْ‬
‫خّ‬‫جعَلْنَا حَ َرمًا آمِنًا وَيُتَ َ‬
‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ‬
‫لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا آتَيْنَاهُ ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُوا فَ َ‬
‫ن وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ َي ْكفُرُونَ * َومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ‬
‫طلِ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫حوِْلهِمْ َأفَبِالْبَا ِ‬
‫َ‬
‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لِ ْلكَافِرِينَ * وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُُبلَنَا وَإِنّ اللّهَ َل َمعَ‬
‫حقّ َلمّا جَا َءهُ أَلَيْسَ فِي َ‬
‫بِالْ َ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫يخبر تعالى عن حالة الدنيا والخرة‪ ،‬وفي ضمن ذلك‪ ،‬التزهيد في الدنيا والتشويق للخرى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ َومَا َه ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } في الحقيقة { إِلّا َل ْهوٌ وََل ِعبٌ } تلهو بها القلوب‪ ،‬وتلعب بها البدان‪ ،‬بسبب‬
‫ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات‪ ،‬والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة‪ ،‬الباهجة للعيون الغافلة‪،‬‬
‫المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة‪ ،‬ثم تزول سريعا‪ ،‬وتنقضي جميعا‪ ،‬ولم يحصل منها محبها إل‬
‫على الندم والحسرة والخسران‪.‬‬

‫وأما الدار الخرة‪ ،‬فإنها دار { الحيوان } أي‪ :‬الحياة الكاملة‪ ،‬التي من لوازمها‪ ،‬أن تكون أبدان‬
‫أهلها في غاية القوة‪ ،‬وقواهم في غاية الشدة‪ ،‬لنها أبدان وقوى خلقت للحياة‪ ،‬وأن يكون موجودا‬
‫فيها كل ما تكمل به الحياة‪ ،‬وتتم به اللذات‪ ،‬من مفرحات القلوب‪ ،‬وشهوات البدان‪ ،‬من المآكل‪،‬‬
‫والمشارب‪ ،‬والمناكح‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪{ .‬‬
‫َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } لما آثروا الدنيا على الخرة‪ ،‬ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان‪،‬‬
‫ورغبوا في دار اللهو واللعب‪ ،‬فدل ذلك على أن الذين يعلمون‪ ،‬ل بد أن يؤثروا الخرة على‬
‫الدنيا‪ ،‬لما يعلمونه من حالة الدارين‪.‬‬

‫ثم ألزم تعالى المشركين بإخلصهم للّه تعالى‪ ،‬في حالة الشدة‪ ،‬عند ركوب البحر وتلطم أمواجه‬
‫وخوفهم الهلك‪ ،‬يتركون إذا أندادهم‪ ،‬ويخلصون الدعاء للّه وحده ل شريك له‪ ،‬فلما زالت عنهم‬
‫الشدة‪ ،‬ونجى من أخلصوا له الدعاء إلى البر‪ ،‬أشركوا به من ل نجاهم من شدة‪ ،‬ول أزال عنهم‬
‫مشقة‪.‬‬

‫فهل أخلصوا للّه الدعاء في حال الرخاء والشدة‪ ،‬واليسر والعسر‪ ،‬ليكونوا مؤمنين به حقا‪،‬‬
‫مستحقين ثوابه‪ ،‬مندفعا عنهم عقابه‪.‬‬

‫ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم‪ ،‬بالنجاة من البحر‪ ،‬ليكون عاقبته كفر ما آتيناهم‪ ،‬ومقابلة‬
‫النعمة بالساءة‪ ،‬وليكملوا تمتعهم في الدنيا‪ ،‬الذي هو كتمتع النعام‪ ،‬ليس لهم همّ إل بطونهم‬
‫وفروجهم‪.‬‬

‫سوْفَ َيعَْلمُونَ } حين ينتقلون من الدنيا إلى الخرة‪ ،‬شدة السف وأليم العقوبة‪.‬‬
‫{ َف َ‬
‫ثم امتن عليهم بحرمه المن‪ ،‬وأنهم أهله في أمن وسعة ورزق‪ ،‬والناس من حولهم يتخطفون‬
‫ويخافون‪ ،‬أفل يعبدون الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف‪.‬‬

‫طلِ ُي ْؤمِنُونَ } وهو ما هم عليه من الشرك‪ ،‬والقوال‪ ،‬والفعال الباطلة‪ { .‬وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ } هم‬
‫{ َأفَبِالْبَا ِ‬
‫{ َي ْكفُرُونَ } فأين ذهبت عقولهم‪ ،‬وانسلخت أحلمهم حيث آثروا الضلل على الهدى‪ ،‬والباطل‬
‫على الحق‪ ،‬والشقاء على السعادة‪ ،‬وحيث كانوا أظلم الخلق‪.‬‬

‫{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } فنسب ما هو عليه من الضلل والباطل إلى اللّه‪َ { ،‬أوْ‬
‫حقّ َلمّا جَا َءهُ } على يد رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬
‫كَ ّذبَ بِالْ َ‬

‫جهَنّمَ مَ ْثوًى ِل ْلكَافِرِينَ } يؤخذ بها منهم الحق‪،‬‬


‫ولكن هذا الظالم العنيد‪ ،‬أمامه جهنم { أَلَيْسَ فِي َ‬
‫ويخزون بها‪ ،‬وتكون منزلهم الدائم‪ ،‬الذين ل يخرجون منه‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ جَا َهدُوا فِينَا } وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه‪ ،‬وجاهدوا أعداءهم‪ ،‬وبذلوا مجهودهم في‬
‫اتباع مرضاته‪ { ،‬لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا } أي‪ :‬الطرق الموصلة إلينا‪ ،‬وذلك لنهم محسنون‪.‬‬

‫{ وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } بالعون والنصر والهداية‪ .‬دل هذا‪ ،‬على أن أحرى الناس بموافقة‬
‫الصواب أهل الجهاد‪ ،‬وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية‪ ،‬وعلى‬
‫أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي‪ ،‬فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل‬
‫مطلوبه أمور إلهية‪ ،‬خارجة عن مدرك اجتهاده‪ ،‬وتيسر له أمر العلم‪ ،‬فإن طلب العلم الشرعي من‬
‫الجهاد في سبيل اللّه‪ ،‬بل هو أحد َنوْعَي الجهاد‪ ،‬الذي ل يقوم به إل خواص الخلق‪ ،‬وهو الجهاد‬
‫بالقول واللسان‪ ،‬للكفار والمنافقين‪ ،‬والجهاد على تعليم أمور الدين‪ ،‬وعلى رد نزاع المخالفين‬
‫للحق‪ ،‬ولو كانوا من المسلمين‪.‬‬

‫تم تفسير سورة العنكبوت بحمد اللّه وعونه‪.‬‬

‫تفسير سورة الروم‬

‫وهي مكية‬

‫ض وَهُمْ مِنْ َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ الم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الْأَ ْر ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 7 - 1‬بِ ْ‬
‫ل َومِنْ َبعْ ُد وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ يَ ْنصُرُ‬
‫سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الَْأمْرُ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫مَنْ يَشَاءُ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ * وَعْدَ اللّهِ لَا ُيخِْلفُ اللّ ُه وَعْ َد ُه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ *‬
‫َيعَْلمُونَ ظَاهِرًا مِنَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِ َرةِ ُهمْ غَافِلُونَ }‬

‫كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الرض‪ ،‬وكان يكون بينهما من الحروب‬
‫والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة‪.‬‬

‫وكانت الفرس مشركين يعبدون النار‪ ،‬وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والنجيل وهم‬
‫أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس‪ ،‬وكان‬
‫المشركون ‪-‬لشتراكهم والفرس في الشرك‪ -‬يحبون ظهور الفرس على الروم‪.‬‬

‫فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم‪ ،‬ففرح بذلك مشركو مكة‬
‫وحزن المسلمون‪ ،‬فأخبرهم اللّه ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس‪.‬‬

‫{ فِي ِبضْعِ سِنِينَ } تسع أو ثمان ونحو ذلك مما ل يزيد على العشر‪ ،‬ول ينقص عن الثلث‪ ،‬وأن‬
‫غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال‪ { :‬لِلّهِ الَْأمْرُ مِنْ قَ ْبلُ‬
‫َومِنْ َب ْعدُ } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود السباب‪ ،‬وإنما هي ل بد أن يقترن بها القضاء‬
‫والقدر‪.‬‬

‫{ وَ َي ْومَئِذٍ } أي‪ :‬يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِ َنصْرِ اللّهِ يَ ْنصُرُ مَنْ يَشَاءُ }‬
‫أي‪ :‬يفرحون بانتصارهم على الفرس وإن كان الجميع كفارا ولكن بعض الشر أهون من بعض‬
‫ويحزن يومئذ المشركون‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي له العزة التي قهر بها الخلئق أجمعين يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك‬
‫ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء‪ { .‬الرّحيم } بعباده المؤمنين حيث قيض لهم من السباب‬
‫التي تسعدهم وتنصرهم ما ل يدخل في الحساب‪.‬‬

‫{ وَعْدَ اللّهِ لَا يُخِْلفُ اللّهُ وَعْ َدهُ } فتيقنوا ذلك واجزموا به واعلموا أنه ل بد من وقوعه‪.‬‬

‫فلما نزلت هذه اليات التي فيها هذا الوعد صدق بها المسلمون‪ ،‬وكفر بها المشركون حتى تراهن‬
‫بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها‪ ،‬فلما جاء الجل الذي ضربه اللّه‬
‫انتصر الروم على الفرس وأجلوهم من بلدهم التي أخذوها منهم وتحقق وعد اللّه‪.‬‬
‫وهذا من المور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها من‬
‫المسلمين والمشركين‪ { .‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } أن ما وعد اللّه به حق فلذلك يوجد فريق‬
‫منهم يكذبون بوعد ال‪ ،‬ويكذبون آياته‪.‬‬

‫وهؤلء الذين ل يعلمون أي‪ :‬ل يعلمون بواطن الشياء وعواقبها‪ .‬وإنما { َيعَْلمُونَ ظَاهِرًا مِنَ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا } فينظرون إلى السباب ويجزمون بوقوع المر الذي في رأيهم انعقدت أسباب‬
‫وجوده ويتيقنون عدم المر الذي لم يشاهدوا له من السباب المقتضية لوجوده شيئا‪ ،‬فهم واقفون‬
‫مع السباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها‪.‬‬

‫{ وَ ُهمْ عَنِ الْآخِ َرةِ هُمْ غَافِلُونَ } قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها‬
‫وحطامها فعملت لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الخرة‪ ،‬فل الجنة تشتاق إليها ول‬
‫النار تخافها وتخشاها ول المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها وهذا علمة الشقاء وعنوان‬
‫الغفلة عن الخرة‪.‬‬

‫ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر‬
‫يحير العقول ويدهش اللباب‪.‬‬

‫وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به وبرزوا‬
‫وأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم اللّه عليه‪ ،‬فنظروا إليهم بعين الحتقار‬
‫والزدراء وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة‬
‫بالعواقب‪ ،‬قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون وفي ضللهم يعمهون وفي باطلهم‬
‫يترددون نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون‪.‬‬

‫ثم نظروا إلى ما أعطاهم اللّه وأقدرهم عليه من الفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها و[ما] حرموا‬
‫من العقل العالي فعرفوا أن المر للّه والحكم له في عباده وإن هو إل توفيقه وخذلنه فخافوا ربهم‬
‫وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم من نور العقول واليمان حتى يصلوا إليه‪ ،‬ويحلوا بساحته [وهذه‬
‫المور لو قارنها اليمان وبنيت عليه لثمرت ال ّر ِقيّ العالي والحياة الطيبة‪ ،‬ولكنها لما بني كثير‬
‫منها على اللحاد لم تثمر إل هبوط الخلق وأسباب الفناء والتدمير]‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِا ْلحَقّ‬


‫س ِهمْ مَا خََلقَ اللّهُ ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 10 - 8‬أوَلَمْ يَ َت َفكّرُوا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫سمّى وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِِلقَاءِ رَ ّبهِمْ َلكَافِرُونَ * َأوََلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫وَأَ َ‬
‫عمَرُوهَا‬
‫عمَرُوهَا َأكْثَرَ ِممّا َ‬
‫ض وَ َ‬
‫شدّ مِ ْنهُمْ ُق ّو ًة وَأَثَارُوا الْأَ ْر َ‬
‫كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا أَ َ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ * ُثمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ‬
‫وَجَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫أَسَاءُوا السّوءَى أَنْ كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّ ِه َوكَانُوا ِبهَا َيسْ َتهْزِئُونَ }‬

‫سهِمْ } فإن في أنفسهم آيات يعرفون بها‬


‫أي‪ :‬أفلم يتفكر هؤلء المكذبون لرسل اللّه ولقائه { فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدهم بعد ذلك وأن الذي نقلهم أطوارا من نطفة إلى علقة إلى‬
‫مضغة إلى آدمي قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى شاب إلى شيخ إلى هرم‪ ،‬غير لئق أن يتركهم‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ‬
‫سدى مهملين ل ينهون ول يؤمرون ول يثابون ول يعاقبون‪ { .‬مَا خَلَقَ اللّهُ ال ّ‬
‫سمّى } أي‪ :‬مؤقت بقاؤهما إلى‬
‫جلٌ ُم َ‬
‫حقّ } [أي] ليبلوكم أيكم أحسن عمل‪ { .‬وََأ َ‬
‫َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ‬
‫أجل تنقضي به الدنيا وتجيء به القيامة وتبدل الرض غير الرض والسماوات‪.‬‬

‫{ وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِِلقَاءِ رَ ّبهِمْ َلكَافِرُونَ } فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي‬
‫أخبرت به وهذا الكفر عن غير دليل‪ ،‬بل الدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء‪ ،‬ولهذا نبههم‬
‫على السير في الرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن هم أشد من‬
‫هؤلء قوة وأكثر آثارا في الرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن زرع‬
‫وإجراء أنهار‪ ،‬فلم تغن عنهم قوتهم ول نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاءوهم بالبينات‬
‫الدالت على الحق وصحة ما جاءوهم به‪ ،‬فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إل أمما‬
‫بائدة وخلقا مهلكين ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع‪ .‬وهذا جزاء معجل نموذج‬
‫للجزاء الخروي ومبتدأ له‪.‬‬

‫وكل هذه المم المهلكة لم يظلمهم اللّه بذلك الهلك وإنما ظلموا أنفسهم وتسببوا في هلكها‪.‬‬

‫{ ُثمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السوأى } أي‪ :‬الحالة السيئة الشنيعة‪ ،‬وصار ذلك داعيا لهم لن‬
‫{ َكذّبُوا بِآيَاتِ اللّ ِه َوكَانُوا ِبهَا َيسْ َتهْزِئُونَ } فهذا عقوبة لسوئهم وذنوبهم‪.‬‬

‫ثم ذلك الستهزاء والتكذيب يكون سببا لعظم العقوبات وأعضل المثلت‪.‬‬

‫جعُونَ * وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ‬


‫{ ‪ { } 16 - 11‬اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ ثُمّ ِإلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫شفَعَا ُء َوكَانُوا بِشُ َركَا ِئهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َي ْومَئِذٍ يَ َتفَ ّرقُونَ‬
‫* وَلَمْ َيكُنْ َل ُهمْ مِنْ شُ َركَا ِئهِمْ ُ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َفهُمْ فِي َروْضَةٍ ُيحْبَرُونَ *وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا‬
‫* فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حضَرُونَ }‬
‫وَلِقَاءِ الْآخِ َرةِ فَأُولَ ِئكَ فِي ا ْلعَذَابِ مُ ْ‬
‫يخبر تعالى أنه المتفرد بإبداء المخلوقات ثم يعيدهم ثم إليه يرجعون بعد إعادتهم ليجازيهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬ولهذا ذكر جزاء أهل الشر ثم جزاء أهل الخير فقال‪:‬‬

‫عةُ } أي‪ :‬يقوم الناس لرب العالمين ويردون القيامة عيانا‪ ،‬يومئذ { يُبِْلسُ‬
‫{ وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ‬
‫ا ْلمُجْ ِرمُونَ } أي‪ :‬ييأسون من كل خير‪ .‬وذلك أنهم ما قدموا لذلك اليوم إل الجرام وهي الذنوب‪،‬‬
‫من كفر وشرك ومعاصي‪ ،‬فلما قدموا أسباب العقاب ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب‪ ،‬أيسوا‬
‫وأبلسوا وأفلسوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه‪ ،‬من نفع شركائهم وأنهم يشفعون لهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫شفَعَا ُء َوكَانُوا بِشُ َركَا ِئهِمْ كَافِرِينَ } تبرأ‬
‫{ وَلَمْ َيكُنْ َلهُمْ مِنْ شُ َركَا ِئ ِهمْ } التي عبدوها مع اللّه { ُ‬
‫المشركون ممن أشركوهم مع اللّه وتبرأ المعبودون وقالوا‪ { :‬تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْبُدُونَ }‬
‫والتعنوا وابتعدوا‪ ،‬وفي ذلك اليوم يفترق أهل الخير والشر كما افترقت أعمالهم في الدنيا‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } آمنوا بقلوبهم وصدقوا ذلك بالعمال الصالحة { َفهُمْ فِي‬
‫{ فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َر ْوضَةٍ } فيها سائر أنواع النبات وأصناف المشتهيات‪ُ { ،‬يحْبَرُونَ } أي‪ :‬يسرون وينعمون بالمآكل‬
‫اللذيذة والشربة والحور الحسان والخدم والولدان والصوات المطربات والسماع المشجي‬
‫والمناظر العجيبة والروائح الطيبة والفرح والسرور واللذة والحبور مما ل يقدر أحد أن يصفه‪.‬‬

‫(‪ { )16‬وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا } وجحدوا نعمه وقابلوها بالكفر { َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا } التي جاءتهم بها‬
‫حضَرُونَ } فيه‪ ،‬قد أحاطت بهم جهنم من جميع جهاتهم واطّلع العذاب‬
‫رسلنا { فَأُولَ ِئكَ فِي ا ْل َعذَابِ ُم ْ‬
‫الليم على أفئدتهم وشوى الحميم وجوههم وقطّع أمعاءهم‪ ،‬فأين الفرق بين الفريقين وأين التساوي‬
‫بين المنعمين والمعذبين؟"‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫حمْدُ فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 19 - 17‬فَسُ ْبحَانَ اللّهِ حِينَ ُت ْمسُونَ َوحِينَ ُتصْبِحُونَ * وَلَهُ ا ْل َ‬
‫ي وَيُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ‬
‫حّ‬‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَ ُيخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ‬
‫ظهِرُونَ * يُخْرِجُ ا ْل َ‬
‫وَعَشِيّا وَحِينَ ُت ْ‬
‫َموْ ِتهَا َوكَذَِلكَ ُتخْرَجُونَ }‬

‫هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق وأمر للعباد أن‬
‫يسبحوه حين يمسون وحين يصبحون ووقت العشي ووقت الظهيرة‪.‬‬

‫فهذه الوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر اللّه عباده بالتسبيح فيها والحمد‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس‪ ،‬والمستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار‬
‫الصلوات وما يقترن بها من النوافل‪ ،‬لن هذه الوقات التي اختارها اللّه [لوقات المفروضات‬
‫هي] أفضل من غيرها [فالتسبيح والتحميد فيها والعبادة فيها أفضل من غيرها] بل العبادة وإن لم‬
‫تشتمل على قول "سبحان اللّه" فإن الخلص فيها تنزيه للّه بالفعل أن يكون له شريك في العبادة‬
‫أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من الخلص والنابة‪.‬‬

‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ } كما يخرج النبات من الرض الميتة والسنبلة من الحبة والشجرة من‬
‫{ ُيخْرِجُ ا ْل َ‬
‫النواة والفرخ من البيضة والمؤمن من الكافر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫حيّ } بعكس المذكور { وَيُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا } فينزل عليها المطر‬
‫{ وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ‬
‫وهي ميتة هامدة فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج { َوكَذَِلكَ‬
‫تُخْ َرجُونَ } من قبوركم‪.‬‬

‫فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع أن الذي أحيا الرض بعد موتها فإنه يحيي الموات‪ ،‬فل فرق في‬
‫نظر العقل بين المرين ول موجب لستبعاد أحدهما مع مشاهدة الخر‪.‬‬

‫خلَقَ‬
‫{ ‪َ { } 21 - 20‬ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ إِذَا أَنْتُمْ َبشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * َومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ َ‬
‫حمَةً إِنّ فِي َذِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُمْ َموَ ّدةً وَرَ ْ‬
‫سكُنُوا إِلَ ْيهَا َو َ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا لِتَ ْ‬
‫َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬

‫هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده باللهية وكمال عظمته‪ ،‬ونفوذ مشيئته وقوة اقتداره‬
‫وجميل صنعه وسعة رحمته وإحسانه فقال‪َ { :‬ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أصل‬
‫النسل آدم عليه السلم { ثُمّ ِإذَا أَنْ ُتمْ بَشَرٌ تَنْ َتشِرُونَ } [أي‪ :‬الذي خلقكم من أصل واحد ومادة واحدة]‬
‫وبثكم في أقطار الرض [وأرجائها ففي ذلك آيات على أن الذي أنشأكم من هذا الصل وبثكم في‬
‫أقطار الرض] هو الرب المعبود الملك المحمود والرحيم الودود الذي سيعيدكم بالبعث بعد‬
‫الموت‪.‬‬

‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ } الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط‪ { ،‬أَنْ خَلَقَ َل ُكمْ‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُمْ َموَ ّدةً‬
‫سكُنُوا إِلَ ْيهَا وَ َ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا } تناسبكم وتناسبونهن وتشاكلكم وتشاكلونهن { لِتَ ْ‬
‫مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫حمَةً } بما رتب على الزواج من السباب الجالبة للمودة والرحمة‪.‬‬
‫وَرَ ْ‬

‫فحصل بالزوجة الستمتاع واللذة والمنفعة بوجود الولد وتربيتهم‪ ،‬والسكون إليها‪ ،‬فل تجد بين‬
‫أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة‪ { ،‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }‬
‫يُعملون أفكارهم ويتدبرون آيات اللّه وينتقلون من شيء إلى شيء‪.‬‬
‫ض وَاخْتِلَافُ أَ ْلسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪َ { } 22‬ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ‬
‫لِ ْلعَاِلمِينَ }‬

‫والعَاِلمُون هم أهل العلم الذين يفهمون العبر ويتدبرون اليات‪ .‬واليات في ذلك كثيرة‪ :‬فمن آيات‬
‫خلق السماوات والرض وما فيهما‪ ،‬أن ذلك دال على عظمة سلطان اللّه وكمال اقتداره الذي أوجد‬
‫هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬وكمال حكمته لما فيها من التقان وسعة علمه‪ ،‬لن الخالق ل بد أن يعلم‬
‫ما خلقه { أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََلقَ } وعموم رحمته وفضله لما في ذلك من المنافع الجليلة‪ ،‬وأنه المريد‬
‫الذي يختار ما يشاء لما فيها من التخصيصات والمزايا‪ ،‬وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويوحد‬
‫لنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة‪ ،‬فكل هذه أدلة عقلية نبه اللّه العقول إليها وأمرها‬
‫بالتفكر واستخراج العبرة منها‪.‬‬

‫{ و } كذلك في { اخْتِلَافُ أَلْسِنَ ِتكُمْ وَأَ ْلوَا ِنكُمْ } على كثرتكم وتباينكم مع أن الصل واحد ومخارج‬
‫الحروف واحدة‪ ،‬ومع ذلك ل تجد صوتين متفقين من كل وجه ول لونين متشابهين من كل وجه‬
‫إل وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز‪ .‬وهذا دال على كمال قدرته‪ ،‬ونفوذ مشيئته‪.‬‬

‫و [من] عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الختلف لئل يقع التشابه فيحصل الضطراب‬
‫ويفوت كثير من المقاصد والمطالب‪.‬‬

‫س َمعُونَ }‬
‫ل وَال ّنهَا ِر وَابْ ِتغَا ُؤكُمْ مِنْ َفضْلِهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 23‬ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُمْ بِاللّ ْي ِ‬

‫أي‪ :‬سماع تدبر وتعقل للمعاني واليات في ذلك‪.‬‬

‫سكُنُوا فِيهِ‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْي َ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫إن ذلك دليل على رحمة اللّه تعالى كما قال‪َ { :‬ومِنْ َر ْ‬
‫شكُرُونَ } وعلى تمام حكمته إذ حكمته اقتضت سكون الخلق في وقت‬
‫وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫ليستريحوا به ويستجموا وانتشارهم في وقت‪ ،‬لمصالحهم الدينية والدنيوية ول يتم ذلك إل بتعاقب‬
‫الليل والنهار عليهم‪ ،‬والمنفرد بذلك هو المستحق للعبادة‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً فَ ُيحْيِي ِبهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا‬


‫ط َمعًا وَيُنَزّلُ مِنَ ال ّ‬
‫خ ْوفًا وَ َ‬
‫{ ‪َ { } 24‬ومِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ َ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }‬
‫أي‪ :‬ومن آياته أن ينزل عليكم المطر الذي تحيا به البلد والعباد ويريكم قبل نزوله مقدماته من‬
‫طمَع فيه‪.‬‬
‫الرعد والبرق الذي يُخَاف ويُ ْ‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ } [دالة] على عموم إحسانه وسعة علمه وكمال إتقانه‪ ،‬وعظيم حكمته وأنه‬
‫يحيي الموتى كما أحيا الرض بعد موتها‪.‬‬

‫{ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } أي‪ :‬لهم عقول تعقل بها ما تسمعه وتراه وتحفظه‪ ،‬وتستدل به عل ما جعل دليل‬
‫عليه‪.‬‬

‫ع َوةً مِنَ الْأَ ْرضِ إِذَا‬


‫سمَا ُء وَالْأَ ْرضُ بَِأمْ ِرهِ ُثمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 27 - 25‬ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ َتقُومَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ * وَ ُهوَ الّذِي يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ‬
‫أَنْتُمْ َتخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫حكِيمُ }‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫علَى فِي ال ّ‬
‫وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْ ِه وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الْأَ ْ‬

‫أي‪ :‬ومن آياته العظيمة أن قامت السماوات والرض واستقرتا وثبتتا بأمره فلم تتزلزل ولم تسقط‬
‫السماء على الرض‪ ،‬فقدرته العظيمة التي بها أمسك السماوات والرض أن تزول‪ ،‬يقدر بها أنه‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ‬
‫إذا دعا الخلق دعوة من الرض إذا هم يخرجون { َلخَلْقُ ال ّ‬
‫}‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } الكل خلقه ومماليكه المتصرف فيهم من غير منازع ول‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫معاون ول معارض وكلهم قانتون لجلله خاضعون لكماله‪.‬‬

‫علَيْهِ } من ابتداء‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ وَ ُهوَ } أي‪ :‬العادة للخلق بعد موتهم { َأ ْهوَنُ َ‬
‫خلقهم وهذا بالنسبة إلى الذهان والعقول‪ ،‬فإذا كان قادرا على البتداء الذي تقرون به كانت قدرته‬
‫على العادة التي أهون أولى وأولى‪.‬‬

‫ولما ذكر من اليات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون ويتبصر المهتدون ذكر‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } وهو كل صفة‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫المر العظيم والمطلب الكبير فقال‪ { :‬وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى فِي ال ّ‬
‫كمال‪ ،‬والكمال من تلك الصفة والمحبة والنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر‬
‫الجليل والعبادة منهم‪ .‬فالمثل العلى هو وصفه العلى وما ترتب عليه‪.‬‬

‫ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الولى‪ ،‬فيقولون‪ :‬كل صفة كمال في‬
‫المخلوقات فخالقها أحق بالتصاف بها على وجه ل يشاركه فيها أحد‪ ،‬وكل نقص في المخلوق‬
‫ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الحكيم } أي‪ :‬له العزة الكاملة والحكمة الواسعة‪ ،‬فعزته أوجد بها المخلوقات وأظهر‬
‫المأمورات‪ ،‬وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه‪.‬‬

‫سكُمْ َهلْ َلكُمْ مِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِي مَا‬
‫{ ‪ { } 29 - 28‬ضَ َربَ َلكُمْ مَثَلًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫سكُمْ كَذَِلكَ ُن َفصّلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ * َبلِ اتّبَعَ الّذِينَ‬
‫سوَاءٌ تَخَافُو َنهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫رَ َزقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ َ‬
‫ضلّ اللّهُ َومَا َل ُهمْ مِنْ نَاصِرِينَ }‬
‫ظََلمُوا أَ ْهوَا َءهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َفمَنْ َيهْدِي مَنْ َأ َ‬

‫هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقبح الشرك وتهجينه مثل من أنفسكم ل يحتاج إلى حل وترحال‬
‫وإعمال الجمال‪.‬‬

‫{ َهلْ َل ُك ْم ممَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِيمَا رَ َزقْنَاكُمْ } أي‪ :‬هل أحد من عبيدكم وإمائكم الرقاء‬
‫يشارككم في رزقكم وترون أنكم وهم فيه على حد سواء‪.‬‬

‫سكُمْ } أي‪ :‬كالحرار الشركاء في الحقيقة الذين يخاف من قسمه‬


‫{ َتخَافُو َنهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫واختصاص كل شيء بحاله؟‬

‫ليس المر كذلك فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم شريكا لكم فيما رزقكم اللّه تعالى‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ولستم الذين خلقتموهم ورزقتموهم وهم أيضا مماليك مثلكم‪ ،‬فكيف ترضون أن تجعلوا للّه‬
‫شريكا من خلقه وتجعلونه بمنزلته‪ ،‬وعديل له في العبادة وأنتم ل ترضون مساواة مماليككم لكم؟‬

‫هذا من أعجب الشياء ومن أدل شيء على [سفه] من اتخذ شريكا مع اللّه وأن ما اتخذه باطل‬
‫مضمحل ليس مساويا للّه ول له من العبادة شيء‪.‬‬

‫صلُ الْآيَاتِ } بتوضيحها بأمثلتها { ِل َقوْمٍ َيعْقِلُونَ } الحقائق ويعرفون‪ ،‬وأما من ل يعقل‬
‫{ َكذَِلكَ ُنفَ ّ‬
‫فلو ُفصّلَت له اليات وبينت له البينات لم يكن له عقل يبصر به ما تبين ول ُلبّ يعقل به ما‬
‫توضح‪ ،‬فأهل العقول واللباب هم الذين يساق إليهم الكلم ويوجه الخطاب‪.‬‬

‫وإذا علم من هذا المثال أن من اتخذ من دون اللّه شريكا يعبده ويتوكل عليه في أموره‪ ،‬فإنه ليس‬
‫معه من الحق شيء فما الذي أوجب له القدام على أمر باطل توضح له بطلنه وظهر برهانه؟‬
‫علْمٍ } هويت‬
‫[لقد] أوجب لهم ذلك اتباع الهوى فلهذا قال‪َ { :‬بلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُوا َأ ْهوَاءَهُمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫أنفسهم الناقصة التي ظهر من نقصانها ما تعلق به هواها‪ ،‬أمرا يجزم العقل بفساده والفطر برده‬
‫بغير علم دلهم عليه ول برهان قادهم إليه‪.‬‬
‫{ َفمَنْ َيهْدِي مَنْ َأضَلّ اللّهُ } أي‪ :‬ل تعجبوا من عدم هدايتهم فإن اللّه تعالى أضلهم بظلمهم ول‬
‫طريق لهداية من أضل اللّه لنه ليس أحد معارضا للّه أو منازعا له في ملكه‪.‬‬

‫{ َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب‪ ،‬وتنقطع بهم الوصل‬
‫والسباب‪.‬‬

‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا ِفطْ َرةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا لَا تَبْدِيلَ ِلخَلْقِ اللّهِ ذَِلكَ‬
‫{ ‪ { } 32 - 30‬فََأقِ ْم َو ْ‬
‫الدّينُ ا ْلقَيّ ُم وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَ ْي ِه وَاتّقُو ُه وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَلَا َتكُونُوا مِنَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ * مِنَ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُمْ َوكَانُوا شِ َيعًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ }‬

‫ج َهكَ } أي‪ :‬انصبه ووجهه‬


‫يأمر تعالى بالخلص له في جميع الحوال وإقامة دينه فقال‪ { :‬فََأقِ ْم وَ ْ‬
‫إلى الدين الذي هو السلم واليمان والحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع‬
‫الدين الظاهرة كالصلة والزكاة والصوم والحج ونحوها‪ .‬وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف‬
‫والرجاء والنابة‪ ،‬والحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم‬
‫تكن تراه فإنه يراك‪.‬‬

‫س ْعيُ البدن ولهذا‬


‫وخص اللّه إقامة الوجه لن إقبال الوجه تبع لقبال القلب ويترتب على المرين َ‬
‫قال‪ { :‬حَنِيفًا } أي‪ :‬مقبل على اللّه في ذلك معرضا عما سواه‪.‬‬

‫وهذا المر الذي أمرناك به هو { فِطْ َرةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا } ووضع في عقولهم حسنها‬
‫واستقباح غيرها‪ ،‬فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم‪،‬‬
‫الميل إليها‪ ،‬فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة‪.‬‬

‫ومن خرج عن هذا الصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‪:‬‬
‫"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"‬

‫{ لَا تَبْدِيلَ لِخَ ْلقِ اللّهِ } أي‪ :‬ل أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه‬
‫اللّه‪ { ،‬ذَِلكَ } الذي أمرنا به { الدّينُ ا ْلقَيّمُ } أي‪ :‬الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته‪،‬‬
‫فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه‪ { ،‬وََلكِنّ‬
‫َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } فل يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه‪.‬‬

‫{ مُنِيبِينَ إِلَ ْي ِه وَا ّتقُوهُ } وهذا تفسير لقامة الوجه للدين‪ ،‬فإن النابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه‬
‫لمراضي اللّه تعالى‪.‬‬
‫ويلزم من ذلك حمل البدن بمقتضى ما في القلب فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة‪ ،‬ول يتم‬
‫ذلك إل بترك المعاصي الظاهرة والباطنة فلذلك قال‪ { :‬وَا ّتقُوهُ } فهذا يشمل فعل المأمورات وترك‬
‫المنهيات‪.‬‬

‫وخص من المأمورات الصلة لكونها تدعو إلى النابة والتقوى لقوله تعالى‪ { :‬وََأقِمِ الصّلَاةَ إِنّ‬
‫الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَاءِ وَا ْلمُ ْنكَرِ } فهذا إعانتها على التقوى‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ } فهذا حثها على النابة‪ .‬وخص من المنهيات أصلها والذي ل يقبل‬
‫معه عمل وهو الشرك فقال‪ { :‬وَلَا َتكُونُوا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } لكون الشرك مضادا للنابة التي‬
‫روحها الخلص من كل وجه‪.‬‬

‫ثم ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال‪ { :‬مِنَ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُمْ } مع أن الدين واحد وهو‬
‫إخلص العبادة للّه وحده وهؤلء المشركون فرقوه‪ ،‬منهم من يعبد الوثان والصنام‪ .‬ومنهم من‬
‫يعبد الشمس والقمر‪ ،‬ومنهم من يعبد الولياء والصالحين ومنهم يهود ومنهم نصارى‪.‬‬

‫ولهذا قال‪َ { :‬وكَانُوا شِ َيعًا } أي‪ :‬كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت على نصر ما معها من‬
‫الباطل ومنابذة غيرهم ومحاربتهم‪.‬‬

‫{ ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ } من العلوم المخالفة لعلوم الرسل { فَرِحُونَ } به يحكمون لنفسهم بأنه‬
‫الحق وأن غيرهم على باطل‪ ،‬وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق‬
‫يتعصب لما معه من حق وباطل‪ ،‬فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد‬
‫والرسول واحد والله واحد‪.‬‬

‫وأكثر المور الدينية وقع فيها الجماع بين العلماء والئمة‪ ،‬والخوة اليمانية قد عقدها اللّه‬
‫وربطها أتم ربط‪ ،‬فما بال ذلك كله يُ ْلغَى ويُبْنَى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو‬
‫فروع خلفية يضلل بها بعضهم بعضا‪ ،‬ويتميز بها بعضهم عن بعض؟‬

‫فهل هذا إل من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟‬

‫وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك الصل الباطل‪ ،‬إل من‬
‫أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل العمال المقربة إلى اللّه؟‬
‫ولما أمر تعالى بالنابة إليه ‪-‬وكان المأمور بها هي النابة الختيارية‪ ،‬التي تكون في حَالَي العسر‬
‫واليسر والسعة والضيق‪ -‬ذكر النابة الضطرارية التي ل تكون مع النسان إل عند ضيقه‬
‫وكربه‪ ،‬فإذا زال عنه الضيق نبذها وراء ظهره وهذه غير نافعة فقال‪:‬‬

‫حمَةً إِذَا فَرِيقٌ‬


‫عوْا رَ ّب ُهمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ُثمّ ِإذَا أَذَا َق ُهمْ مِنْهُ َر ْ‬
‫س ضُرّ دَ َ‬
‫{ ‪ { } 35 - 33‬وَإِذَا مَسّ النّا َ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * َأمْ أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانًا َف ُهوَ‬
‫مِ ْنهُمْ بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ * لِ َيكْفُرُوا ِبمَا آتَيْنَاهُمْ فَ َتمَ ّتعُوا فَ َ‬
‫يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُوا بِهِ ُيشْ ِركُونَ }‬

‫عوْا رَ ّبهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } ونسوا ما‬


‫س ضُرّ } مرض أو خوف من هلك ونحوه‪ { .‬دَ َ‬
‫{ وَإِذَا مَسّ النّا َ‬
‫كانوا به يشركون في تلك الحال لعلمهم أنه ل يكشف الضر إل اللّه‪.‬‬

‫ح َمةً } شفاهم من مرضهم وآمنهم من خوفهم‪ِ { ،‬إذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ } ينقضون‬


‫{ ُثمّ إِذَا أَذَا َقهُمْ مِنْهُ رَ ْ‬
‫تلك النابة التي صدرت منهم ويشركون به من ل دفع عنهم ول أغنى‪ ،‬ول أفقر ول أغنى‪ ،‬وكل‬
‫هذا كفر بما آتاهم اللّه ومَنّ به عليهم حيث أنجاهم‪ ،‬وأنقذهم من الشدة وأزال عنهم المشقة‪ ،‬فهل‬
‫قابلوا هذه النعمة الجليلة بالشكر والدوام على الخلص له في جميع الحوال؟‪.‬‬

‫{ َأمْ أَنْزَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانًا } أي‪ :‬حجة ظاهرة { َف ُهوَ } أي‪ :‬ذلك السلطان‪ { ،‬يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُوا بِهِ‬
‫يُشْ ِركُونَ } ويقول لهم‪ :‬اثبتوا على شرككم واستمروا على شككم فإن ما أنتم عليه هو الحق وما‬
‫دعتكم الرسل إليه باطل‪.‬‬

‫فهل ذلك السلطان موجود عندهم حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم البراهين العقلية‬
‫والسمعية والكتب السماوية والرسل الكرام وسادات النام‪ ،‬قد نهوا أشد النهي عن ذلك وحذروا من‬
‫سلوك طرقه الموصلة إليه وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟‪.‬‬

‫فشرك هؤلء بغير حجة ول برهان وإنما هو أهواء النفوس‪ ،‬ونزغات الشيطان‪.‬‬

‫حمَةً فَ ِرحُوا ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ‬
‫{ ‪ { } 37 - 36‬وَإِذَا أَ َذقْنَا النّاسَ رَ ْ‬
‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫َيقْنَطُونَ * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ يَبْ ُ‬

‫يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرخاء والشدة أنهم إذا أذاقهم اللّه منه رحمة من‬
‫صحة وغنى ونصر ونحو ذلك فرحوا بذلك فرح بطر‪ ،‬ل فرح شكر وتبجح بنعمة اللّه‪.‬‬

‫{ وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ } أي‪ ::‬حال تسوؤهم وذلك { ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ } من المعاصي‪ { .‬إِذَا هُمْ‬
‫َيقْنَطُونَ } ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه‪ .‬وهذا جهل منهم وعدم معرفة‪.‬‬
‫{ َأوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ } فالقنوط بعد ما علم أن الخير والشر من اللّه‬
‫والرزق سعته وضيقه من تقديره ضائع ليس له محل‪ .‬فل تنظر أيها العاقل لمجرد السباب بل‬
‫اجعل نظرك لمسببها ولهذا قال‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فهم الذين يعتبرون بسط اللّه‬
‫لمن يشاء وقبضه‪ ،‬ويعرفون بذلك حكمة اللّه ورحمته وجوده وجذب القلوب لسؤاله في جميع‬
‫مطالب الرزق‪.‬‬

‫ن وَجْهَ اللّهِ‬
‫ن وَابْنَ السّبِيلِ ذَِلكَ خَيْرٌ لِلّذِينَ يُرِيدُو َ‬
‫سكِي َ‬
‫حقّ ُه وَا ْلمِ ْ‬
‫{ ‪ { } 39 - 38‬فَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ‬
‫وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ رِبًا لِيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللّ ِه َومَا آتَيْتُمْ مِنْ‬
‫ضعِفُونَ }‬
‫ن وَجْهَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْ‬
‫َزكَاةٍ تُرِيدُو َ‬

‫أي‪ :‬فأعط القريب منك ‪-‬على حسب قربه وحاجته‪ -‬حقه الذي أوجبه الشارع أو حض عليه من‬
‫النفقة الواجبة والصدقة والهدية والبر والسلم والكرام والعفو عن زلته والمسامحة عن هفوته‪.‬‬
‫وكذلك [آت] المسكين الذي أسكنه الفقر والحاجة ما تزيل به حاجته وتدفع به ضرورته من إطعامه‬
‫وسقيه وكسوته‪.‬‬

‫{ وَابْنَ السّبِيلِ } الغريب المنقطع به في غير بلده الذي في مظنة شدة الحاجة‪ ،‬لنه ل مال معه ول‬
‫كسب قد دبر نفسه به [في] سفره‪ ،‬بخلف الذي في بلده‪ ،‬فإنه وإن لم يكن له مال ولكن ل بد ‪-‬في‬
‫الغالب‪ -‬أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد حاجته‪ ،‬ولهذا جعل اللّه في الزكاة حصة‬
‫للمسكين وابن السبيل‪ { .‬ذَِلكَ } أي‪ :‬إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل { خَيْرٌ لِلّذِينَ يُرِيدُونَ }‬
‫بذلك العمل { وَجْه اللّهِ } أي‪ :‬خير غزير وثواب كثير لنه من أفضل العمال الصالحة والنفع‬
‫المتعدي الذي وافق محله المقرون به الخلص‪.‬‬

‫فإن لم يرد به وجه اللّه لم يكن خيرا ِل ْل ُمعْطِي وإن كان خيرا ونفعا لِ ْل ُمعْطي كما قال تعالى‪ { :‬لَا‬
‫جوَاهُمْ إِلّا مَنْ َأمَرَ ِبصَ َدقَةٍ َأوْ َمعْرُوفٍ َأوْ ِإصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ } مفهومها أن هذه‬
‫خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ َن ْ‬
‫المثبتات خير لنفعها المتعدي ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه فسوف نؤتيه أجرا عظيما‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَأُولَ ِئكَ } الذين عملوا هذه العمال وغيرها لوجه اللّه { هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } الفائزون بثواب‬
‫اللّه الناجون من عقابه‪.‬‬

‫ولما ذكر العمل الذي يقصد به وجهه [من النفقات] ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال‪:‬‬
‫{ َومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُو فِي َأ ْموَالِ النّاسِ } أي‪ :‬ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم‬
‫وقصدكم بذلك أن يربو أي‪ :‬يزيد في أموالكم بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر‬
‫منها‪ ،‬فهذا العمل ل يربو أجره عند اللّه لكونه معدوم الشرط الذي هو الخلص‪ .‬ومثل ذلك العمل‬
‫الذي يراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله ل يربو عند اللّه‪.‬‬

‫{ َومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ َزكَاةٍ } أي‪ :‬مال يطهركم من الخلق الرذيلة ويطهر أموالكم من البخل بها ويزيد‬
‫ضعِفُونَ } أي‪ :‬المضاعف لهم‬
‫في دفع حاجة ا ْل ُمعْطَى‪ { .‬تُرِيدُونَ } بذلك { وَجْهَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْ‬
‫الجر الذين تربو نفقاتهم عند اللّه ويربيها اللّه لهم حتى تكون شيئا كثيرا‪.‬‬

‫ودل قوله‪َ { :‬ومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ َزكَاةٍ } أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم‬
‫يقضه ويقدم عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال تعالى‬
‫في الذي يمدح‪ { :‬الّذِي ُيؤْتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى } فليس مجرد إيتاء المال خيرا حتى يكون بهذه الصفة‬
‫وهو‪ :‬أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي‪.‬‬

‫{ ‪ { } 40‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ ُثمّ رَ َز َقكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِيكُمْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َي ْف َعلُ مِنْ ذَِلكُمْ مِنْ‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ }‬
‫شيْءٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى أنه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم‪ ،‬وأنه ليس أحد من الشركاء التي‬
‫يدعوهم المشركون من يشارك اللّه في شيء من هذه الشياء‪.‬‬

‫فكيف يشركون بمن انفرد بهذه المور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!‬

‫فسبحانه وتعالى وتقدس وتنزه وعل عن شركهم‪ ،‬فل يضره ذلك وإنما وبالهم عليهم‪.‬‬

‫عمِلُوا َلعَّلهُمْ‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ لِ ُيذِيقَهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬
‫{ ‪َ { } 41‬‬
‫جعُونَ }‬
‫يَرْ ِ‬

‫أي‪ :‬استعلن الفساد في البر والبحر أي‪ :‬فساد معايشهم ونقصها وحلول الفات بها‪ ،‬وفي أنفسهم‬
‫من المراض والوباء وغير ذلك‪ ،‬وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من العمال الفاسدة المفسدة‬
‫بطبعها‪.‬‬

‫عمِلُوا } أي‪ :‬ليعلموا أنه المجازي على العمال فعجل لهم‬


‫هذه المذكورة { لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬
‫جعُونَ } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما‬
‫نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا { َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫أثرت‪ ،‬فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم‪ .‬فسبحان من أنعم ببلئه وتفضل بعقوبته وإل فلو أذاقهم‬
‫جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‪.‬‬
‫{ ‪ُ { } 42‬قلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَ ْبلُ كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ مُشْ ِركِينَ }‬

‫والمر بالسير في الرض يدخل فيه السير بالبدان والسير في القلوب للنظر والتأمل بعواقب‬
‫المتقدمين‪.‬‬

‫{ كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ مُشْ ِركِينَ } تجدون عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل‪ ،‬عذاب استأصلهم وذم‬
‫ولعن من خلق اللّه يتبعهم وخزي متواصل‪ ،‬فاحذروا أن تفعلوا فعالهم يُحْذَى بكم حذوهم فإن عدل‬
‫اللّه وحكمته في كل زمان ومكان‪.‬‬

‫ج َهكَ لِلدّينِ ا ْلقَيّمِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَرَدّ َلهُ مِنَ اللّهِ َي ْومَئِذٍ َيصّدّعُونَ‬
‫{ ‪ { } 45 - 43‬فََأقِ ْم َو ْ‬
‫عمِلُوا‬
‫سهِمْ َي ْمهَدُونَ * لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا فَلِأَ ْنفُ ِ‬
‫* مَنْ َكفَرَ َفعَلَ ْيهِ ُكفْرُ ُه َومَنْ َ‬
‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫الصّالِحَاتِ مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ لَا ُي ِ‬

‫أي‪ :‬أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك لقامة الدين القيم المستقيم‪ ،‬فنفذ أوامره ونواهيه بجد‬
‫واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة‪ .‬وبادر زمانك وحياتك وشبابك‪ { ،‬مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا‬
‫مَرَدّ َلهُ مِنَ اللّهِ } وهو يوم القيامة الذي إذا جاء ل يمكن رده ول يرجأ العاملون أن يستأنفوا العمل‬
‫بل فرغ من العمال لم يبق إل جزاء العمال‪َ { .‬ي ْومَئِذٍ َيصّدّعُونَ } أي‪ :‬يتفرقون عن ذلك اليوم‬
‫ويصدرون أشتاتا متفاوتين لِيُ َروْا أعمالهم‪.‬‬

‫ع ِملَ‬
‫{ مَنْ َكفَرَ } منهم { َفعَلَيْهِ كُفْ ُرهُ } ويعاقب هو بنفسه ل تزر وازرة وزر أخرى‪َ { ،‬ومَنْ َ‬
‫سهِمْ } ل لغيرهم { َي ْمهَدُونَ‬
‫صَالِحًا } من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة والمستحبة‪ { ،‬فَلِأَ ْنفُ ِ‬
‫} أي‪ :‬يهيئون ولنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها‪ ،‬ومع ذلك جزاؤهم‬
‫ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه غير المحدود ما ل تبلغه‬
‫أعمالهم‪ .‬وذلك لنه أحبهم وإذا أحب اللّه عبدا صب عليه الحسان صبا‪ ،‬وأجزل له العطايا‬
‫الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫وهذا بخلف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم يزدهم كما زاد من قبلهم‬
‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫فلهذا قال‪ { :‬إِنّهُ لَا ُي ِ‬

‫حمَتِ ِه وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِر ِه وَلِتَبْ َتغُوا‬


‫ت وَلِيُذِي َقكُمْ مِنْ َر ْ‬
‫سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ‬
‫{ ‪َ { } 46‬ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُ ْر ِ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫سلَ‬
‫أي‪ :‬ومن الدلة الدالة على رحمته وبعثه الموتى وأنه الله المعبود والملك المحمود‪ { ،‬أَنْ يُرْ ِ‬
‫الرّيَاحَ } أمام المطر { مُبَشّرَاتٍ } بإثارتها للسحاب ثم جمعها فتبشر بذلك النفوس قبل نزوله‪.‬‬

‫حمَتِهِ } فينزل عليكم من رحمته مطرا تحيا به البلد والعباد‪ ،‬وتذوقون من رحمته‬
‫{ وَلِيُذِي َقكُمْ مِنْ َر ْ‬
‫ما تعرفون أن رحمته هي المنقذة للعباد والجالبة لرزاقهم‪ ،‬فتشتاقون إلى الكثار من العمال‬
‫الصالحة الفاتحة لخزائن الرحمة‪.‬‬

‫{ وَلِ َتجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ } في البحر { بَِأمْ ِرهِ } القدري { وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ } بالتصرف في معايشكم‬
‫ومصالحكم‪.‬‬

‫شكُرُونَ } من سخر لكم السباب وسير لكم المور‪ .‬فهذا المقصود من النعم أن تقابل‬
‫{ وََلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫بشكر اللّه تعالى ليزيدكم اللّه منها ويبقيها عليكم‪.‬‬

‫وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي فهذه حال من بدّل نعمة اللّه كفرا ونعمته محنة وهو معرض‬
‫لها للزوال والنتقال منه إلى غيره‪.‬‬

‫{ ‪ { } 47‬وَلَقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ رُسُلًا إِلَى َقوْ ِمهِمْ َفجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَانْتَ َقمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُوا َوكَانَ‬
‫حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫َ‬

‫أي‪ { :‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ } في المم السابقين { رُسُلًا ِإلَى َق ْو ِمهِمْ } حين جحدوا توحيد اللّه‬
‫وكذبوا بالحق فجاءتهم رسلهم يدعونهم إلى التوحيد والخلص والتصديق بالحق وبطلن ما هم‬
‫عليه من الكفر والضلل‪ ،‬وجاءوهم بالبينات والدلة على ذلك فلم يؤمنوا ولم يزولوا عن غيهم‪،‬‬
‫حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫{ فَانْ َت َقمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُوا } ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل‪َ { .‬وكَانَ َ‬
‫أي‪ :‬أوجبنا ذلك على أنفسنا وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به فل بد من وقوعه‪.‬‬

‫فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إن بقيتم على تكذيبكم حلّت بكم العقوبة ونصرناه‬
‫عليكم‪.‬‬

‫سفًا‬
‫جعَُلهُ كِ َ‬
‫سمَاءِ كَ ْيفَ َيشَا ُء وَيَ ْ‬
‫سطُهُ فِي ال ّ‬
‫سحَابًا فَيَبْ ُ‬
‫سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ َ‬
‫{ ‪ { } 50 - 48‬اللّهُ الّذِي يُ ْر ِ‬
‫فَتَرَى ا ْلوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَِإذَا َأصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا‬
‫حمَةِ اللّهِ كَ ْيفَ ُيحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ‬
‫مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمُبْلِسِينَ * فَا ْنظُرْ إِلَى آثَارِ َر ْ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫َموْ ِتهَا إِنّ ذَِلكَ َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سطُهُ‬
‫سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } من الرض‪ { ،‬فَيَبْ ُ‬
‫يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه { يُرْ ِ‬
‫جعَلُهُ }‬
‫سمَاءِ } أي‪ :‬يمده ويوسعه { كَ ْيفَ َيشَاءُ } أي‪ :‬على أي حالة أرادها من ذلك ثم { َي ْ‬
‫فِي ال ّ‬
‫سفًا } أي‪ :‬سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض‪.‬‬
‫أي‪ :‬ذلك السحاب الواسع { كِ َ‬

‫{ فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ َيخْرُجُ مِنْ خِلَاِلهِ } أي‪ :‬السحاب نقطا صغارا متفرقة‪ ،‬ل تنزل جميعا فتفسد ما أتت‬
‫عليه‪.‬‬

‫{ فَِإذَا َأصَابَ بِهِ } بذلك المطر { مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا هُمْ َيسْتَبْشِرُونَ } يبشر بعضهم بعضا‬
‫بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال‪ { :‬وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ‬
‫قَبْلِهِ َلمُبِْلسِينَ } أي‪ :‬آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه‪ ،‬أي‪ :‬فلما نزل في تلك الحال صار له موقع‬
‫عظيم [عندهم] وفرح واستبشار‪.‬‬

‫حمَةِ اللّهِ كَ ْيفَ يُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج‬
‫{ فَا ْنظُرْ إِلَى آثَارِ َر ْ‬
‫كريم‪.‬‬

‫شيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته‬


‫{ إِنّ ذَِلكَ } الذي أحيا الرض بعد موتها { َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫تعالى ل يتعاصى عليها شيء وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم‪.‬‬

‫سمِعُ‬
‫صفَرّا َلظَلّوا مِنْ َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ * فَإِ ّنكَ لَا تُ ْ‬
‫{ ‪ { } 53 - 51‬وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرََأ ْوهُ ُم ْ‬
‫سمِعُ إِلّا‬
‫ن ضَلَالَ ِتهِمْ إِنْ ُت ْ‬
‫سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ ِإذَا وَّلوْا مُدْبِرِينَ * َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ‬
‫ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ‬
‫مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن حالة الخلق وأنهم مع هذه النعم عليهم بإحياء الرض بعد موتها ونشر رحمة اللّه‬
‫تعالى لو أرسلنا على هذا النبات الناشئ عن المطر وعلى زروعهم ريحا مضرة متلفة أو منقصة‪،‬‬
‫صفَرّا } قد تداعى إلى التلف { َلظَلّوا مِنْ َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ } فينسون النعم الماضية‬
‫{ فَرََأ ْوهُ ُم ْ‬
‫ويبادرون إلى الكفر‪.‬‬

‫سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ } وبالولى‬


‫سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا ُت ْ‬
‫وهؤلء ل ينفع فيهم وعظ ول زجر { فَإِ ّنكَ لَا ُت ْ‬
‫{ ِإذَا وَّلوْا مُدْبِرِينَ } فإن الموانع قد توفرت فيهم عن النقياد والسماع النافع كتوفر هذه الموانع‬
‫المذكورة عن سماع الصوت الحسي‪.‬‬
‫ن ضَلَالَ ِتهِمْ } لنهم ل يقبلون البصار بسبب عماهم فليس منهم قابلية‬
‫{ َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ‬
‫له‪.‬‬

‫سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ } فهؤلء الذين ينفع فيهم إسماع الهدى المؤمنون‬
‫{ إِنْ تُ ْ‬
‫بآياتنا بقلوبهم المنقادون لوامرنا المسلمون لنا‪ ،‬لن معهم الداعي القوي لقبول النصائح والمواعظ‬
‫وهو استعدادهم لليمان بكل آية من آيات اللّه واستعدادهم لتنفيذ ما يقدرون عليه من أوامر اللّه‬
‫ونواهيه‪.‬‬

‫ضعْفًا‬
‫ج َعلَ مِنْ َبعْدِ ُق ّو ٍة َ‬
‫ض ْعفٍ ُق ّوةً ثُمّ َ‬
‫ج َعلَ مِنْ َب ْع ِد َ‬
‫ض ْعفٍ ثُمّ َ‬
‫ن َ‬
‫{ ‪ { } 54‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مِ ْ‬
‫وَشَيْبَةً َيخْلُقُ مَا َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ }‬

‫يخبر تعالى عن سعة علمه وعظيم اقتداره وكمال حكمته‪ ،‬ابتدأ خلق الدميين من ضعف وهو‬
‫الطوار الول من خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن صار حيوانا في الرحام إلى أن‬
‫ولد‪ ،‬وهو في سن الطفولية وهو إذ ذاك في غاية الضعف وعدم القوة والقدرة‪ .‬ثم ما زال اللّه يزيد‬
‫في قوته شيئا فشيئا حتى بلغ سن الشباب واستوت قوته وكملت قواه الظاهرة والباطنة‪ ،‬ثم انتقل‬
‫من هذا الطور ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم‪.‬‬

‫{ َيخْلُقُ مَا يَشَاءُ } بحسب حكمته‪ .‬ومن حكمته أن يري العبد ضعفه وأن قوته محفوفة بضعفين‬
‫وأنه ليس له من نفسه إل النقص‪ ،‬ولول تقوية اللّه له لما وصل إلى قوة وقدرة ولو استمرت قوته‬
‫في الزيادة لطغى وبغى وعتا‪.‬‬

‫وليعلم العباد كمال قدرة اللّه التي ل تزال مستمرة يخلق بها الشياء‪ ،‬ويدبر بها المور ول يلحقها‬
‫إعياء ول ضعف ول نقص بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫عةُ ُيقْسِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ َكذَِلكَ كَانُوا ُي ْؤ َفكُونَ *‬
‫{ ‪ { } 57 - 55‬وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ‬
‫َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم وَالْإِيمَانَ َلقَدْ لَبِثْ ُتمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَى َيوْمِ الْ َب ْعثِ َفهَذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ وََلكِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ‬
‫لَا َتعَْلمُونَ * فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُ ْم وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن يوم القيامة وسرعة مجيئه وأنه إذا قامت الساعة { ُيقْسِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } باللّه أنهم‬
‫{ مَا لَبِثُوا } في الدنيا إلَا { سَاعَة } وذلك اعتذار منهم لعله ينفعهم العذر واستقصار لمدة الدنيا‪.‬‬
‫ولما كان قولهم كذبا ل حقيقة له قال تعالى‪َ { :‬كذَِلكَ كَانُوا ُي ْؤ َفكُونَ } أي‪ :‬ما زالوا ‪-‬وهم في‬
‫الدنيا‪ -‬يؤفكون عن الحقائق ويأتفكون الكذب‪ ،‬ففي الدنيا كذّبوا الحق الذي جاءتهم به المرسلون‪،‬‬
‫وفي الخرة أنكروا المر المحسوس وهو اللبث الطويل في الدنيا‪ ،‬فهذا خلقهم القبيح والعبد يبعث‬
‫على ما مات عليه‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْل َم وَالْإِيمَانَ } أي‪ :‬مَنّ اللّه عليهم بهما وصارا وصفا لهم العلم بالحق‬
‫واليمان المستلزم إيثار الحق‪ ،‬وإذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون قولهم مطابقا‬
‫للواقع مناسبا لحوالهم‪.‬‬

‫فلهذا قالوا الحق‪َ { :‬لقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ } أي‪ :‬في قضائه وقدره‪ ،‬الذي كتبه اللّه عليكم وفي‬
‫عمْرًا يتذكر فيه المتذكر ويتدبر فيه المتدبر ويعتبر فيه‬
‫حكمه { إِلَى َيوْمِ الْ َب ْعثِ } أي‪ :‬عمرتم ُ‬
‫المعتبر حتى صار البعث ووصلتم إلى هذه الحال‪.‬‬

‫ث وََلكِ ّنكُمْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ } فلذلك أنكرتموه في الدنيا وأنكرتم إقامتكم في الدنيا وقتا‬
‫{ َفهَذَا َيوْمُ الْ َب ْع ِ‬
‫تتمكنون فيه من النابة والتوبة‪ ،‬فلم يزل الجهل شعاركم وآثاره من التكذيب والخسار دثاركم‪.‬‬

‫{ فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُمْ } فإن كذبوا وزعموا أنهم ما قامت عليهم الحجة أو ما‬
‫تمكنوا من اليمان ظهر كذبهم بشهادة أهل العلم واليمان‪ ،‬وشهادة جلودهم وأيديهم وأرجلهم‪ ،‬وإن‬
‫طلبوا العذار وأنهم يردون ول يعودون لما نُهوا عنه لم ُي َمكّنُوا فإنه فات وقت العذار فل تقبل‬
‫معذرتهم‪ { ،‬وَلَا هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ } أي‪ :‬يزال عتبهم والعتاب عنهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 60 - 58‬وََلقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي َهذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ وَلَئِنْ جِئْ َتهُمْ بِآ َيةٍ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ‬
‫َكفَرُوا إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا مُ ْبطِلُونَ * كَذَِلكَ يَطْ َبعُ اللّهُ عَلَى قُلُوبِ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ * فَاصْبِرْ إِ ّ‬
‫خفّنّكَ الّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }‬
‫ق وَلَا يَسْ َت ِ‬
‫حّ‬‫َ‬

‫أي‪ { :‬وََلقَ ْد ضَرَبْنَا } لجل عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا { لِلنّاسِ فِي َهذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ‬
‫مَ َثلٍ } تتضح به الحقائق وتعرف به المور وتنقطع به الحجة‪ .‬وهذا عام في المثال التي يضربها‬
‫اللّه في تقريب المور المعقولة بالمحسوسة‪ .‬وفي الخبار بما سيكون وجلء حقيقته [حتى] كأنه‬
‫وقع‪.‬‬

‫ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم وأنه‬
‫ل يقبل منهم عذر ول عتاب‪.‬‬
‫ولكن أبى الظالمون الكافرون إل معاندة الحق الواضح ولهذا قال‪ { :‬وَلَئِنْ جِئْ َتهُمْ بِآيَةٍ } أي‪ :‬أي آية‬
‫تدل على صحة ما جئت به { لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلّا مُبْطِلُونَ } أي‪ :‬قالوا للحق‪ :‬إنه باطل‪.‬‬
‫وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ اللّه على قلوبهم وجهلهم المفرط ولهذا قال‪ { :‬كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ‬
‫عَلَى قُلُوبِ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ } فل يدخلها خير ول تدرك الشياء على حقيقتها بل ترى الحق باطل‬
‫والباطل حقا‪.‬‬

‫{ فَاصْبِرْ } على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه‪ ،‬ولو رأيت منهم إعراضا فل يصدنك ذلك‪.‬‬

‫حقّ } أي‪ :‬ل شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير‬
‫{ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫ضائع بل سيجده كامل هان عليه ما يلقاه من المكاره ويسر عليه كل عسير واستقل من عمله كل‬
‫كثير‪.‬‬

‫خفّ ّنكَ الّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } أي‪ :‬قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلمهم وقل‬
‫{ وَلَا َيسْتَ ِ‬
‫صبرهم‪ ،‬فإياك أن يستخفك هؤلء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإل استخفوك‬
‫وحملوك على عدم الثبات على الوامر والنواهي‪ ،‬والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه‬
‫والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر‪ ،‬وكل ضعيف‬
‫اليقين ضعيف [العقل] خفيفه‪.‬‬

‫فالول بمنزلة اللب والخر بمنزلة القشور فاللّه المستعان‪.‬‬

‫تفسير سورة لقمان وهي مكية‬

‫حمَةً لِ ْل ُمحْسِنِينَ‬
‫حكِيمِ * ُهدًى وَرَ ْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الم * تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ الْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫* الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِمْ‬
‫وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }‬

‫حكِيمِ } أي‪ :‬آياته محكمة‪ ،‬صدرت من‬


‫يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى { آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬
‫حكيم خبير‪.‬‬

‫من إحكامها‪ ،‬أنها جاءت بأجل اللفاظ وأفصحها‪ ،‬وأبينها‪ ،‬الدالة على أجل المعاني وأحسنها‪.‬‬

‫ومن إحكامها‪ ،‬أنها محفوظة من التغيير والتبديل‪ ،‬والزيادة والنقص‪ ،‬والتحريف‪.‬‬


‫ومن إحكامها‪ :‬أن جميع ما فيها من الخبار السابقة واللحقة‪ ،‬والمور الغيبية كلها‪ ،‬مطابقة‬
‫للواقع‪ ،‬مطابق لها الواقع‪ ،‬لم يخالفها كتاب من الكتب اللهية‪ ،‬ولم يخبر بخلفها‪ ،‬نبي من النبياء‪،‬‬
‫[ولم يأت ولن يأتي علم محسوس ول معقول صحيح‪ ،‬يناقض ما دلت عليه]‬

‫ومن إحكامها‪ :‬أنها ما أمرت بشيء‪ ،‬إل وهو خالص المصلحة‪ ،‬أو راجحها‪ ،‬ول نهت عن شيء‪،‬‬
‫إل وهو خالص المفسدة أو راجحها‪ ،‬وكثيرا ما يجمع بين المر بالشيء‪ ،‬مع ذكر [حكمته] فائدته‪،‬‬
‫والنهي عن الشيء‪ ،‬مع ذكر مضرته‪.‬‬

‫ومن إحكامها‪ :‬أنها جمعت بين الترغيب والترهيب‪ ،‬والوعظ البليغ‪ ،‬الذي تعتدل به النفوس الخيرة‪،‬‬
‫وتحتكم‪ ،‬فتعمل بالحزم‪.‬‬

‫ومن إحكامها‪ :‬أنك تجد آياته المتكررة‪ ،‬كالقصص‪ ،‬والحكام ونحوها‪ ،‬قد اتفقت كلها وتواطأت‪،‬‬
‫فليس فيها تناقض‪ ،‬ول اختلف‪ .‬فكلما ازداد بها البصير تدبرا‪ ،‬وأعمل فيها العقل تفكرا‪ ،‬انبهر‬
‫عقله‪ ،‬وذهل لبه من التوافق والتواطؤ‪ ،‬وجزم جزما ل يمترى فيه‪ ،‬أنه تنزيل من حكيم حميد‪.‬‬

‫ولكن ‪ -‬مع أنه حكيم ‪ -‬يدعو إلى كل خلق كريم‪ ،‬وينهى عن كل خلق لئيم‪ ،‬أكثر الناس‬
‫محرومون الهتداء به‪ ،‬معرضون عن اليمان والعمل به‪ ،‬إل من وفقه اللّه تعالى وعصمه‪ ،‬وهم‬
‫المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق‪.‬‬

‫حمَة } لهم‪،‬‬
‫فإنه { هُدًى } لهم‪ ،‬يهديهم إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ويحذرهم من طرق الجحيم‪ { ،‬وَرَ ْ‬
‫تحصل لهم به السعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬والخير الكثير‪ ،‬والثواب الجزيل‪ ،‬والفرح والسرور‪،‬‬
‫ويندفع عنهم الضلل والشقاء‪.‬‬

‫ثم وصف المحسنين بالعلم التام‪ ،‬وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب اللّه‪ ،‬فيتركون‬
‫معاصيه‪ ،‬ووصفهم بالعمل‪ ،‬وخص من العمل‪ ،‬عملين فاضلين‪ :‬الصلة المشتملة على الخلص‪،‬‬
‫ومناجاة اللّه تعالى‪ ،‬والتعبد العام للقلب واللسان‪ ،‬والجوارح المعينة‪ ،‬على سائر العمال‪ ،‬والزكاة‬
‫التي تزكي صاحبها من الصفات الرذيلة‪ ،‬وتنفع أخاه المسلم‪ ،‬وتسد حاجته‪ ،‬ويبين بها أن العبد‬
‫يؤثر محبة اللّه على محبته للمال‪ ،‬فيخرجه محبوبه من المال‪ ،‬لما هو أحب إليه‪ ،‬وهو طلب‬
‫مرضاة اللّه‪.‬‬

‫فب { أُولَ ِئكَ } هم المحسنون الجامعون بين العلم التام‪ ،‬والعمل { عَلَى هُدًى } أي‪ :‬عظيم كما يفيده‬
‫التنكير‪ ،‬وذلك الهدى حاصل لهم‪ ،‬وواصل إليهم { مِنْ رَ ّبهِمْ } الذي لم يزل يربيهم بالنعم; ويدفع‬
‫عنهم النقم‪.‬‬
‫وهذا الهدى الذي أوصله إليهم‪ ،‬من تربيته الخاصة بأوليائه‪ ،‬وهو أفضل أنواع التربية‪ { .‬وَأُولَ ِئكَ‬
‫هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } الذين أدركوا رضا ربهم‪ ،‬وثوابه الدنيوي والخروي‪ ،‬وسلموا من سخطه وعقابه‪،‬‬
‫وذلك لسلوكهم طريق الفلح‪ ،‬الذي ل طريق له غيرها‪.‬‬

‫ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن‪ ،‬المقبلين عليه‪ ،‬ذكر من أعرض عنه‪ ،‬ولم يرفع به رأسا‪ ،‬وأنه‬
‫عوقب على ذلك‪ ،‬بأن تعوض عنه كل باطل من القول‪ ،‬فترك أعلى القوال‪ ،‬وأحسن الحديث‪،‬‬
‫واستبدل به أسفل قول وأقبحه‪ ،‬فلذلك قال‪:‬‬

‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ِبغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُ ُزوًا‬


‫{ ‪َ { } 9 - 6‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيشْتَرِي َل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ لِ ُي ِ‬
‫س َم ْعهَا كَأَنّ فِي أُذُنَ ْي ِه َوقْرًا‬
‫أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ * وَِإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّى مُسْ َتكْبِرًا كَأَنْ لَمْ َي ْ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َلهُمْ جَنّاتُ ال ّنعِيمِ * خَاِلدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ‬
‫فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫حقّا وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫َ‬

‫أي‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ } هو محروم مخذول { َيشْتَرِي } أي‪ :‬يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن‬
‫في الشيء‪َ { .‬ل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ } أي‪ :‬الحاديث الملهية للقلوب‪ ،‬الصادّة لها عن أجلّ مطلوب‪ .‬فدخل‬
‫في هذا كل كلم محرم‪ ،‬وكل لغو‪ ،‬وباطل‪ ،‬وهذيان من القوال المرغبة في الكفر‪ ،‬والفسوق‪،‬‬
‫والعصيان‪ ،‬ومن أقوال الرادين على الحق‪ ،‬المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق‪ ،‬ومن غيبة‪،‬‬
‫ونميمة‪ ،‬وكذب‪ ،‬وشتم‪ ،‬وسب‪ ،‬ومن غناء ومزامير شيطان‪ ،‬ومن الماجريات الملهية‪ ،‬التي ل نفع‬
‫فيها في دين ول دنيا‪.‬‬

‫ضلّ } الناس { ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ }‬


‫فهذا الصنف من الناس‪ ،‬يشتري لهو الحديث‪ ،‬عن هدي الحديث { لِ ُي ِ‬
‫أي‪ :‬بعدما ضل بفعله‪ ،‬أضل غيره‪ ،‬لن الضلل‪ ،‬ناشئ عن الضلل‪.‬‬

‫وإضلله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع‪ ،‬والعمل النافع‪ ،‬والحق المبين‪ ،‬والصراط‬
‫المستقيم‪.‬‬

‫ول يتم له هذا‪ ،‬حتى يقدح في الهدى والحق‪ ،‬ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها‪ ،‬وبمن جاء بها‪،‬‬
‫فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه‪ ،‬والقدح في الحق‪ ،‬والستهزاء به وبأهله‪ ،‬أضل من ل‬
‫علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه‪ ،‬من القول الذي ل يميزه ذلك الضال‪ ،‬ول يعرف حقيقته‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } بما ضلوا وأضلوا‪ ،‬واستهزءوا [بآيات اللّه] وكذبوا الحق الواضح‪.‬‬
‫ولهذا قال { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } ليؤمن بها وينقاد لها‪ { ،‬وَلّى مُسْ َتكْبِرًا } أي‪ :‬أدبر إدبار مستكبر‬
‫س َم ْعهَا } بل { كَأَنّ فِي أُذُنَ ْيهِ‬
‫عنها‪ ،‬رادّ لها‪ ،‬ولم تدخل قلبه ول أثرت فيه‪ ،‬بل أدبر عنها { كَأَنْ لَمْ َي ْ‬
‫َوقْرًا } أي‪ :‬صمما ل تصل إليه الصوات; فهذا ل حيلة في هدايته‪.‬‬

‫{ فَ َبشّ ْرهُ } بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة‪ِ { .‬بعَذَابٍ أَلِيمٍ }‬
‫مؤلم لقلبه; ولبدنه; ل يقادر قدره; ول يدرى بعظيم أمره‪ ،‬وهذه بشارة أهل الشر‪ ،‬فل ِن ْع َمتِ‬
‫البشارة‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } جمعوا بين عبادة الباطن‬


‫وأما بشارة أهل الخير فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫باليمان‪ ،‬والظاهر بالسلم‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬

‫{ َل ُهمْ جَنّاتُ ال ّنعِيمِ } بشارة لهم بما قدموه‪ ،‬وقرى لهم بما أسلفوه‪ { .‬خَالِدِينَ فِيهَا } أي‪ :‬في جنات‬
‫النعيم‪ ،‬نعيم القلب والروح‪ ،‬والبدن‪.‬‬

‫حكِيمُ } كامل العزة‪،‬‬


‫حقّا } ل يمكن أن يخلف‪ ،‬ول يغير‪ ،‬ول يتبدل‪ { .‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫{ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫كامل الحكمة‪ ،‬من عزته وحكمته‪ ،‬وفق من وفق‪ ،‬وخذل من خذل‪ ،‬بحسب ما اقتضاه علمه فيهم‬
‫وحكمته‪.‬‬

‫سيَ أَنْ َتمِيدَ ِبكُ ْم وَ َبثّ‬


‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ‬
‫{ ‪ { } 11 - 10‬خَلَقَ ال ّ‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَ ْلقُ اللّهِ فَأَرُونِي‬
‫فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّ ٍة وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ َبلِ الظّاِلمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }‬

‫يتلو تعالى على عباده‪ ،‬آثارا من آثار قدرته‪ ،‬وبدائع من بدائع حكمته‪ ،‬ونعما من آثار رحمته‪،‬‬
‫ع َمدٍ‬
‫سمَاوَاتِ } السبع على عظمها‪ ،‬وسعتها‪ ،‬وكثافتها‪ ،‬وارتفاعها الهائل‪ِ { .‬بغَيْرِ َ‬
‫فقال‪ { :‬خَلْقِ ال ّ‬
‫تَ َروْ َنهَا } أي‪ :‬ليس لها عمد‪ ،‬ولو كان لها عمد لرئيت‪ ،‬وإنما استقرت واستمسكت‪ ،‬بقدرة اللّه‬
‫تعالى‪.‬‬

‫سيَ } أي‪ :‬جبال عظيمة‪ ،‬ركزها في أرجائها وأنحائها‪ ،‬لئل { َتمِيدَ ِبكُمْ }‬
‫{ وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫فلول الجبال الراسيات لمادت الرض‪ ،‬ولما استقرت بساكنيها‪.‬‬

‫{ وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ } أي‪ :‬نشر في الرض الواسعة‪ ،‬من جميع أصناف الدواب‪ ،‬التي هي‬
‫مسخرة لبني آدم‪ ،‬ولمصالحهم‪ ،‬ومنافعهم‪ .‬ولما بثها في الرض‪ ،‬علم تعالى أنه ل بد لها من رزق‬
‫تعيش به‪ ،‬فأنزل من السماء ماء مباركا‪ { ،‬فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ } المنظر‪ ،‬نافع مبارك‪،‬‬
‫فرتعت فيه الدواب المنبثة‪ ،‬وسكن إليه كل حيوان‪.‬‬
‫سوْقِ أرزاق الخلق إليهم { خَلق‬
‫{ هَذَا } أي‪ :‬خلق العالم العلوي والسفلي‪ ،‬من جماد‪ ،‬وحيوان‪ ،‬و َ‬
‫اللّه } وحده ل شريك له‪ ،‬كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين‪.‬‬

‫{ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي‪ :‬الذين جعلتموهم له شركاء‪ ،‬تدعونهم وتعبدونهم‪ ،‬يلزم‬
‫على هذا‪ ،‬أن يكون لهم خلق كخلقه‪ ،‬ورزق كرزقه‪ ،‬فإن كان لهم شيء من ذلك فأرونيه‪ ،‬ليصح‬
‫ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة‪.‬‬

‫ومن المعلوم أنهم ل يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها‪ ،‬لن جميع المذكورات‪ ،‬قد أقروا أنها‬
‫خلق اللّه وحده‪ ،‬ول ثَمّ شيء يعلم غيرها‪ ،‬فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد‪.‬‬

‫ولكن عبادتهم إياها‪ ،‬عن غير علم وبصيرة‪ ،‬بل عن جهل وضلل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬بلِ الظّاِلمُونَ فِي‬
‫ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬جَِليّ واضح حيث عبدوا من ل يملك نفعا ول ضرا ول موتا ول حياة ول‬
‫نشورا‪ ،‬وتركوا الخلص للخالق الرازق المالك لكل المور‪.‬‬

‫شكُرُ لِ َنفْسِ ِه َومَنْ كَفَرَ‬


‫شكُرْ فَإِ ّنمَا يَ ْ‬
‫شكُرْ لِلّ ِه َومَنْ يَ ْ‬
‫ح ْكمَةَ أَنِ ا ْ‬
‫{ ‪ { } 19 - 12‬وََلقَدْ آتَيْنَا ُلقْمَانَ ا ْل ِ‬
‫حمِيدٌ * وَِإذْ قَالَ ُلقْمَانُ لِابْنِهِ وَ ُهوَ َي ِعظُهُ يَا بُ َنيّ لَا ُتشْ ِركْ بِاللّهِ إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ‬
‫فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫عَظِيمٌ } إلى آخر القصة‪.‬‬

‫يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان‪ ،‬بالحكمة‪ ،‬وهي العلم [بالحق] على وجهه‬
‫وحكمته‪ ،‬فهي العلم بالحكام‪ ،‬ومعرفة ما فيها من السرار والحكام‪ ،‬فقد يكون النسان عالما‪ ،‬ول‬
‫يكون حكيما‪.‬‬

‫وأما الحكمة‪ ،‬فهي مستلزمة للعلم‪ ،‬بل وللعمل‪ ،‬ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬

‫ولما أعطاه اللّه هذه المنة العظيمة‪ ،‬أمره أن يشكره على ما أعطاه‪ ،‬ليبارك له فيه‪ ،‬وليزيده من‬
‫فضله‪ ،‬وأخبره أن شكر الشاكرين‪ ،‬يعود نفعه عليهم‪ ،‬وأن من كفر فلم يشكر اللّه‪ ،‬عاد وبال ذلك‬
‫عليه‪ .‬وال غني [عنه] حميد فيما يقدره ويقضيه‪ ،‬على من خالف أمره‪ ،‬فغناه تعالى‪ ،‬من لوازم‬
‫ذاته‪ ،‬وكونه حميدا في صفات كماله‪ ،‬حميدا في جميل صنعه‪ ،‬من لوازم ذاته‪ ،‬وكل واحد من‬
‫الوصفين‪ ،‬صفة كمال‪ ،‬واجتماع أحدهما إلى الخر‪ ،‬زيادة كمال إلى كمال‪.‬‬

‫واختلف المفسرون‪ ،‬هل كان لقمان نبيا‪ ،‬أو عبدا صالحا؟ واللّه تعالى لم يذكر عنه إل أنه آتاه‬
‫الحكمة‪ ،‬وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه لبنه‪ ،‬فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار‬
‫فقال‪ { :‬وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَانُ لِابْنِهِ وَ ُهوَ َي ِعظُهُ }‬
‫أو قال له قول به يعظه بالمر‪ ،‬والنهي‪ ،‬المقرون بالترغيب والترهيب‪ ،‬فأمره بالخلص‪ ،‬ونهاه‬
‫عن الشرك‪ ،‬وبيّن له السبب في ذلك فقال‪ { :‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ } ووجه كونه عظيما‪ ،‬أنه ل‬
‫سوّى المخلوق من تراب‪ ،‬بمالك الرقاب‪ ،‬وسوّى الذي ل يملك من المر شيئا‪،‬‬
‫أفظع وأبشع ممن َ‬
‫بمن له المر كله‪ ،‬وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه‪ ،‬بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه‪،‬‬
‫وسوّى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم‪ ،‬ودنياهم وأخراهم‪،‬‬
‫وقلوبهم‪ ،‬وأبدانهم‪ ،‬إل منه‪ ،‬ول يصرف السوء إل هو‪ ،‬فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟؟!‬

‫وهل أعظم ظلما ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده‪ ،‬فذهب بنفسه الشريفة‪[ ،‬فجعلها في أخس‬
‫المراتب] جعلها عابدة لمن ل يسوى شيئا‪ ،‬فظلم نفسه ظلما كبيرا‪.‬‬

‫ولما أمر بالقيام بحقه‪ ،‬بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد‪ ،‬أمر بالقيام بحق الوالدين‬
‫فقال‪َ { :‬و َوصّيْنَا الْإِنْسَانَ } أي‪ :‬عهدنا إليه‪ ،‬وجعلناه وصية عنده‪ ،‬سنسأله عن القيام بها‪ ،‬وهل‬
‫شكُرْ لِي } بالقيام بعبوديتي‪ ،‬وأداء حقوقي‪ ،‬وأن ل‬
‫حفظها أم ل؟ فوصيناه { ِبوَاِلدَيْهِ } وقلنا له‪ { :‬ا ْ‬
‫تستعين بنعمي على معصيتي‪ { .‬وَِلوَالِدَ ْيكَ } بالحسان إليهما بالقول اللين‪ ،‬والكلم اللطيف‪ ،‬والفعل‬
‫الجميل‪ ،‬والتواضع لهما‪[ ،‬وإكرامهما] وإجللهما‪ ،‬والقيام بمئونتهما واجتناب الساءة إليهما من‬
‫كل وجه‪ ،‬بالقول والفعل‪.‬‬

‫فوصيناه بهذه الوصية‪ ،‬وأخبرناه أن { إَِليّ ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬سترجع أيها النسان إلى من وصاك‪،‬‬
‫وكلفك بهذه الحقوق‪ ،‬فيسألك‪ :‬هل قمت بها‪ ،‬فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها‪ ،‬فيعاقبك العقاب‬
‫الوبيل؟‪.‬‬

‫حمَلَتْهُ ُأمّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } أي‪ :‬مشقة على‬


‫ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الم‪ ،‬فقال‪َ { :‬‬
‫مشقة‪ ،‬فل تزال تلقي المشاق‪ ،‬من حين يكون نطفة‪ ،‬من الوحم‪ ،‬والمرض‪ ،‬والضعف‪ ،‬والثقل‪،‬‬
‫وتغير الحال‪ ،‬ثم وجع الولدة‪ ،‬ذلك الوجع الشديد‪.‬‬

‫ثم { ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وهو ملزم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها‪ ،‬أفما يحسن بمن تحمل على‬
‫ولده هذه الشدائد‪ ،‬مع شدة الحب‪ ،‬أن يؤكد على ولده‪ ،‬ويوصي إليه بتمام الحسان إليه؟‬

‫ط ْع ُهمَا } ول تظن‬
‫{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ } أي‪ :‬اجتهد والداك { عَلى أَنْ تُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَا تُ ِ‬
‫أن هذا داخل في الحسان إليهما‪ ،‬لن حق اللّه‪ ،‬مقدم على حق كل أحد‪ ،‬و "ل طاعة لمخلوق‪ ،‬في‬
‫معصية الخالق"‬
‫ط ْع ُهمَا } أي‪:‬‬
‫ولم يقل‪" :‬وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال‪ { :‬فَلَا ُت ِ‬
‫بالشرك‪ ،‬وأما برهما‪ ،‬فاستمر عليه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفًا } أي‪ :‬صحبة‬
‫إحسان إليهما بالمعروف‪ ،‬وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي‪ ،‬فل تتبعهما‪.‬‬

‫{ وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ } وهم المؤمنون باللّه‪ ،‬وملئكته وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬المستسلمون لربهم‪،‬‬
‫المنيبون إليه‪.‬‬

‫واتباع سبيلهم‪ ،‬أن يسلك مسلكهم في النابة إلى اللّه‪ ،‬التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى‬
‫اللّه‪ ،‬ثم يتبعها سعي البدن‪ ،‬فيما يرضي اللّه‪ ،‬ويقرب منه‪.‬‬

‫ج ُعكُمْ } الطائع والعاصي‪ ،‬والمنيب‪ ،‬وغيره { فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } فل يخفى على‬
‫{ ُثمّ إَِليّ مَرْ ِ‬
‫اللّه من أعمالهم خافية‪.‬‬

‫صخْ َرةٍ‬
‫{ يَا بُ َنيّ إِ ّنهَا إِنْ َتكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَ ْر َدلٍ } التي هي أصغر الشياء وأحقرها‪ { ،‬فَ َتكُنْ فِي َ‬
‫سمَاوَاتِ َأوْ فِي الْأَ ْرضِ } في أي جهة من جهاتهما { يَ ْأتِ ِبهَا اللّهُ }‬
‫} أي في وسطها { َأوْ فِي ال ّ‬
‫لسعة علمه‪ ،‬وتمام خبرته وكمال قدرته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ } أي‪ :‬لطف في علمه‬
‫وخبرته‪ ،‬حتى اطلع على البواطن والسرار‪ ،‬وخفايا القفار والبحار‪.‬‬

‫والمقصود من هذا‪ ،‬الحث على مراقبة اللّه‪ ،‬والعمل بطاعته‪ ،‬مهما أمكن‪ ،‬والترهيب من عمل‬
‫ل أو كَثُرَ‪.‬‬
‫القبيح‪َ ،‬ق ّ‬

‫ف وَانْهَ عَنِ‬
‫{ يَا بُ َنيّ َأ ِقمِ الصّلَاةَ } حثه عليها‪ ،‬وخصها لنها أكبر العبادات البدنية‪ { ،‬وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫ا ْلمُ ْنكَرِ } وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به‪ ،‬والعلم بالمنكر لينهى عنه‪.‬‬

‫والمر بما ل يتم المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر إل به‪ ،‬من الرفق‪ ،‬والصبر‪ ،‬وقد صرح به‬
‫علَى مَا َأصَا َبكَ } ومن كونه فاعل لما يأمر به‪ ،‬كافّا لما ينهى عنه‪ ،‬فتضمن‬
‫في قوله‪ { :‬وَاصْبِرْ َ‬
‫هذا‪ ،‬تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر‪ ،‬وتكميل غيره بذلك‪ ،‬بأمره ونهيه‪.‬‬

‫ولما علم أنه ل بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في المر والنهي مشقة على النفوس‪ ،‬أمره بالصبر‬
‫علَى مَا َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ } الذي وعظ به لقمان ابنه { مِنْ عَ ْزمِ الُْأمُورِ }‬
‫على ذلك فقال‪ { :‬وَاصْبِرْ َ‬
‫أي‪ :‬من المور التي يعزم عليها‪ ،‬ويهتم بها‪ ،‬ول يوفق لها إل أهل العزائم‪.‬‬

‫خ ّدكَ لِلنّاسِ } أي‪ :‬ل ُتمِلْهُ وتعبس بوجهك الناس‪ ،‬تكبّرًا عليهم‪ ،‬وتعاظما‪.‬‬
‫صعّرْ َ‬
‫{ وَلَا ُت َ‬
‫{ وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا } أي‪ :‬بطرا‪ ،‬فخرا بالنعم‪ ،‬ناسيا المنعم‪ ،‬معجبا بنفسك‪ { .‬إِنّ اللّهَ لَا‬
‫حبّ ُكلّ مُخْتَالٍ } في نفسه وهيئته وتعاظمه { فَخُور } بقوله‪.‬‬
‫يُ ِ‬

‫شيَ البطر والتكبر‪ ،‬ول مشي التماوت‪.‬‬


‫{ وَا ْقصِدْ فِي مَشْ ِيكَ } أي‪ :‬امش متواضعا مستكينا‪ ،‬ل مَ ْ‬

‫صوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها‬


‫صوْتِكَ } أدبا مع الناس ومع اللّه‪ { ،‬إِنّ أَ ْنكَرَ الَْأ ْ‬
‫ن َ‬
‫ضضْ مِ ْ‬
‫غ ُ‬
‫{ وَا ْ‬
‫حمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة‪ ،‬لما اختص بذلك الحمار‪ ،‬الذي‬
‫ص ْوتُ الْ َ‬
‫{ َل َ‬
‫قد علمت خسته وبلدته‪.‬‬

‫وهذه الوصايا‪ ،‬التي وصى بها لقمان لبنه‪ ،‬تجمع أمهات الحكم‪ ،‬وتستلزم ما لم يذكر منها‪ ،‬وكل‬
‫وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها‪ ،‬إن كانت أمرا‪ ،‬وإلى تركها إن كانت نهيا‪.‬‬

‫ح َكمِها ومناسباتها‪ ،‬فأمره بأصل‬


‫وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة‪ ،‬أنها العلم بالحكام‪ ،‬و ِ‬
‫الدين‪ ،‬وهو التوحيد‪ ،‬ونهاه عن الشرك‪ ،‬وبيّن له الموجب لتركه‪ ،‬وأمره ببر الوالدين‪ ،‬وبين له‬
‫السبب الموجب لبرهما‪ ،‬وأمره بشكره وشكرهما‪ ،‬ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما‪ ،‬ما‬
‫لم يأمرا بمعصية‪ ،‬ومع ذلك فل يعقهما‪ ،‬بل يحسن إليهما‪ ،‬وإن كان ل يطيعهما إذا جاهداه على‬
‫الشرك‪ .‬وأمره بمراقبة اللّه‪ ،‬وخوّفه القدوم عليه‪ ،‬وأنه ل يغادر صغيرة ول كبيرة من الخير‬
‫والشر‪ ،‬إل أتى بها‪.‬‬

‫ونهاه عن التكبر‪ ،‬وأمره بالتواضع‪ ،‬ونهاه عن البطر والشر‪ ،‬والمرح‪ ،‬وأمره بالسكون في‬
‫الحركات والصوات‪ ،‬ونهاه عن ضد ذلك‪.‬‬

‫وأمره بالمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الصلة‪ ،‬وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ :‬فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا‪ ،‬أن يكون مخصوصا بالحكمة‪ ،‬مشهورا بها‪.‬‬
‫ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده‪ ،‬أن قص عليهم من حكمته‪ ،‬ما يكون لهم به أسوة‬
‫حسنة‪.‬‬

‫ض وَأَسْ َبغَ عَلَ ْيكُمْ ِن َعمَهُ‬


‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سخّرَ َلكُمْ مَا فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 21 - 20‬أََلمْ تَ َروْا أَنّ اللّهَ َ‬
‫ظَاهِ َرةً وَبَاطِنَ ًة َومِنَ النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِلْ ٍم وَلَا ُهدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ‬
‫عذَابِ‬
‫اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا َوجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ الشّيْطَانُ َيدْعُوهُمْ ِإلَى َ‬
‫سعِيرِ }‬
‫ال ّ‬
‫يمتن تعالى على عباده بنعمه‪ ،‬ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها; وعدم الغفلة عنها فقال‪ { :‬أَلَمْ تَ َروْا }‬
‫سمَاوَاتِ } من الشمس‬
‫أي‪ :‬تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم‪ { ،‬أَنّ اللّهَ سَخّرَ َل ُكمْ مَا فِي ال ّ‬
‫والقمر والنجوم‪ ،‬كلها مسخرات لنفع العباد‪.‬‬

‫{ َومَا فِي الْأَ ْرضِ } من الحيوانات والشجار والزروع‪ ،‬والنهار والمعادن ونحوها كما قال‬
‫جمِيعًا }‬
‫تعالى‪ُ { :‬هوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬

‫{ وَأَسْ َبغَ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬عمّكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها; والتي تخفى علينا‪ ،‬نعم‬
‫الدنيا‪ ،‬ونعم الدين‪ ،‬حصول المنافع‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم; بمحبة‬
‫المنعم والخضوع له; وصرفها في الستعانة على طاعته‪ ،‬وأن ل يستعان بشيء منها على‬
‫معصيته‪.‬‬

‫{ و } لكن مع توالي هذه النعم; { مِنَ النّاسِ مَنْ } لم يشكرها; بل كفرها; وكفر بمن أنعم بها;‬
‫وجحد الحق الذي أنزل به كتبه; وأرسل به رسله‪ ،‬فجعل { يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ } أي‪ :‬يجادل عن‬
‫الباطل; ليدحض به الحق; ويدفع به ما جاء به الرسول من المر بعبادة اللّه وحده‪ ،‬وهذا المجادل‬
‫على غير بصيرة‪ ،‬فليس جداله عن علم‪ ،‬فيترك وشأنه‪ ،‬ويسمح له في الكلم { وَلَا هُدًى } يقتدي‬
‫به بالمهتدين { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [غير مبين للحق فل معقول ول منقول ول اقتداء بالمهتدين]‬
‫وإنما جداله في اللّه مبني على تقليد آباء غير مهتدين‪ ،‬بل ضالين مضلين‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ } على أيدي رسله‪ ،‬فإنه الحق‪ ،‬وبينت لهم أدلته‬
‫الظاهرة { قَالُوا } معارضين ذلك‪َ { :‬بلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا } فل نترك ما وجدنا عليه آباءنا‬
‫لقول أحد كائنا من كان‪.‬‬

‫سعِيرِ }‬
‫عذَابِ ال ّ‬
‫قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم‪َ { :‬أوََلوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى َ‬
‫فاستجاب له آباؤهم‪ ،‬ومشوا خلفه‪ ،‬وصاروا من تلميذ الشيطان‪ ،‬واستولت عليهم الحيرة‪.‬‬

‫فهل هذا موجب لتباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم‪ ،‬أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم‪ ،‬وينادي‬
‫على ضللهم‪ ،‬وضلل من اتبعهم‪.‬‬

‫وليس دعوة الشيطان لبائهم ولهم‪ ،‬محبة لهم ومودة‪ ،‬وإنما ذلك عداوة لهم ومكر بهم‪ ،‬وبالحقيقة‬
‫أتباعه من أعدائه‪ ،‬الذين تمكن منهم وظفر بهم‪ ،‬وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير‪ ،‬بقبول‬
‫دعوته‪.‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى وَإِلَى اللّهِ‬
‫جهَهُ إِلَى اللّ ِه وَ ُهوَ مُحْسِنٌ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫{ ‪َ { } 24 - 22‬ومَنْ يُسِْل ْم وَ ْ‬
‫علِيمٌ ِبذَاتِ‬
‫عمِلُوا إِنّ اللّهَ َ‬
‫ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫عَاقِبَةُ الُْأمُورِ * َومَنْ َكفَرَ فَلَا َيحْزُ ْنكَ ُكفْ ُرهُ ِإلَيْنَا مَرْ ِ‬
‫الصّدُورِ * ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا ُثمّ َنضْطَرّ ُهمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }‬

‫جهَهُ إِلَى اللّهِ } أي‪ :‬يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه‪ { .‬وَ ُهوَ‬
‫{ َومَنْ يُسِْل ْم وَ ْ‬
‫مُحْسِنٌ } في ذلك السلم بأن كان عمله مشروعا‪ ،‬قد اتبع فيه الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫أو‪ :‬ومن يسلم وجهه إلى اللّه‪ ،‬بفعل جميع العبادات‪ ،‬وهو محسن فيها‪ ،‬بأن يعبد اللّه كأنه يراه‪ ،‬فإن‬
‫لم يكن يراه‪ ،‬فإنه يراه‪.‬‬

‫أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه‪ ،‬بالقيام بحقوقه‪ ،‬وهو محسن إلى عباد اللّه‪ ،‬قائم بحقوقهم‪.‬‬

‫والمعاني متلزمة‪ ،‬ل فرق بينها إل من جهة [اختلف] مورد اللفظتين‪ ،‬وإل فكلها متفقة على‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ‬
‫القيام بجميع شرائع الدين‪ ،‬على وجه تقبل به وتكمل‪ ،‬فمن فعل ذلك فقد أسلم و { اسْ َتمْ َ‬
‫ا ْلوُ ْثقَى } أي‪ :‬بالعروة التي من تمسك بها‪ ،‬توثق ونجا‪ ،‬وسلم من الهلك‪ ،‬وفاز بكل خير‪.‬‬

‫ومن لم يسلم وجهه للّه‪ ،‬أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى‪ ،‬وإذا لم يستمسك بالعروة الوثقى‬
‫لم يكن َث ّم إل الهلك والبوار‪ { .‬وَإِلَى اللّهِ عَاقِبَةُ الُْأمُورِ } أي‪ :‬رجوعها وموئلها ومنتهاها‪ ،‬فيحكم‬
‫في عباده‪ ،‬ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم‪ ،‬ووصلت إليه عواقبهم‪ ،‬فليستعدوا لذلك المر‪.‬‬

‫{ َومَنْ َكفَرَ فَلَا يَحْزُ ْنكَ ُكفْ ُرهُ } لنك أديت ما عليك‪ ،‬من الدعوة والبلغ‪ ،‬فإذا لم يهتد‪ ،‬فقد وجب‬
‫أجرك على اللّه‪ ،‬ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه‪ ،‬لنه لو كان فيه خير‪ ،‬لهداه اللّه‪.‬‬

‫ول تحزن أيضا‪ ،‬على كونهم تجرأوا عليك بالعداوة‪ ،‬ونابذوك المحاربة‪ ،‬واستمروا على غيهم‬
‫وكفرهم‪ ،‬ول تتحرق عليهم‪ ،‬بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب‪.‬‬

‫عمِلُوا } من كفرهم وعداوتهم‪ ،‬وسعيهم في إطفاء نور اللّه وأذى‬


‫ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫فإن { إِلَيْنَا مَرْ ِ‬
‫رسله‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } التي ما نطق بها الناطقون‪ ،‬فكيف بما ظهر‪ ،‬وكان شهادة؟"‬

‫ضطَرّهُمْ } أي‪[ :‬نلجئهم] { إِلَى‬


‫{ ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا } في الدنيا‪ ،‬ليزداد إثمهم‪ ،‬ويتوفر عذابهم‪ { ،‬ثُمّ َن ْ‬
‫عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي‪ :‬انتهى في عظمه وكبره‪ ،‬وفظاعته‪ ،‬وألمه‪ ،‬وشدته‪.‬‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ الْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 28 - 25‬وَلَئِنْ سَأَلْ َت ُهمْ مَنْ خََلقَ ال ّ‬
‫حمِيدُ * وَلَوْ أَ ّنمَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َيعَْلمُونَ * لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫حكِيمٌ * مَا خَ ْل ُقكُمْ‬
‫شجَ َرةٍ َأقْلَا ٌم وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِنْ َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ مَا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫َ‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ }‬
‫ح َدةٍ إِنّ اللّهَ َ‬
‫س وَا ِ‬
‫وَلَا َبعْ ُثكُمْ إِلّا كَ َنفْ ٍ‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } لعلموا أن‬


‫أي‪ :‬ولئن سألت هؤلء المشركين المكذبين بالحق { مَنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫أصنامهم‪ ،‬ما خلقت شيئا من ذلك ولبادروا بقولهم ال الذي خلقهما وحده‪.‬‬

‫ح ْمدُ لِلّهِ } الذي بيّن‬


‫فب { ُقلِ } لهم ملزما لهم‪ ،‬ومحتجا عليهم بما أقروا به‪ ،‬على ما أنكروا‪ { :‬الْ َ‬
‫النور‪ ،‬وأظهر الستدلل عليكم من أنفسكم‪ ،‬فلو كانوا يعلمون‪ ،‬لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير‪،‬‬
‫هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد‪.‬‬

‫ولكن { َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ } فلذلك أشركوا به غيره‪ ،‬ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه‪ ،‬على وجه‬
‫الحيرة والشك‪ ،‬ل على وجه البصيرة‪ ،‬ثم ذكر في هاتين اليتين نموذجا من سعة أوصافه‪ ،‬ليدعو‬
‫عباده إلى معرفته‪ ،‬ومحبته‪ ،‬وإخلص الدين له‪.‬‬

‫فذكر عموم ملكه‪ ،‬وأن جميع ما في السماوات والرض ‪ -‬وهذا شامل لجميع العالم العلوي‬
‫والسفلي ‪ -‬أنه ملكه‪ ،‬يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية‪ ،‬وأحكامه المرية‪ ،‬وأحكامه الجزائية‪،‬‬
‫فكلهم عييد مماليك‪ ،‬مدبرون مسخرون‪ ،‬ليس لهم من الملك شيء‪ ،‬وأنه واسع الغنى‪ ،‬فل يحتاج‬
‫ط ِعمُونِ }‬
‫ق َومَا أُرِيدُ أَنْ يُ ْ‬
‫إلى ما يحتاج إليه أحد من الخلق‪ { .‬مَا أُرِيدُ مِ ْن ُهمْ مِنْ رِزْ ٍ‬

‫وأن أعمال النبيين والصديقين‪ ،‬والشهداء والصالحين‪ ،‬ل تنفع اللّه شيئا وإنما تنفع عامليها‪ ،‬واللّه‬
‫غني عنهم‪ ،‬وعن أعمالهم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أن أغناهم وأقناهم في دنياهم وأخراهم‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن سعة حمده‪ ،‬وأن حمده من لوازم ذاته‪ ،‬فل يكون إل حميدا من جميع الوجوه‪،‬‬
‫فهو حميد في ذاته‪ ،‬وهو حميد في صفاته‪ ،‬فكل صفة من صفاته‪ ،‬يستحق عليها أكمل حمد وأتمه‪،‬‬
‫لكونها صفات عظمة وكمال‪ ،‬وجميع ما فعله وخلقه يحمد عليه‪ ،‬وجميع ما أمر به ونهى عنه‬
‫يحمد عليه‪ ،‬وجميع ما حكم به في العباد وبين العباد‪ ،‬في الدنيا والخرة‪ ،‬يحمد عليه‪.‬‬

‫ثم أخبر عن سعة كلمه وعظمة قوله‪ ،‬بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ‪ ،‬وتنبهر له العقول‪ ،‬وتحير‬
‫فيه الفئدة‪ ،‬وتسيح في معرفته أولو اللباب والبصائر‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلوْ أَ ّنمَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ شَجَ َرةٍ‬
‫َأقْلَامٌ } يكتب بها { وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِنْ َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ } مدادا يستمد بها‪ ،‬لتكسرت تلك القلم ولفني‬
‫ذلك المداد‪ ،‬و لم تنفد { كَِلمَاتُ اللّهِ } تعالى‪ ،‬وهذا ليس مبالغة ل حقيقة له‪ ،‬بل لما علم تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬أن العقول تتقاصر عن الحاطة ببعض صفاته‪ ،‬وعلم تعالى أن معرفته لعباده‪ ،‬أفضل‬
‫نعمة‪ ،‬أنعم بها عليهم‪ ،‬وأجل منقبة حصلوها‪ ،‬وهي ل تمكن على وجهها‪ ،‬ولكن ما ل يدرك كله‪،‬‬
‫ل يترك كله‪ ،‬فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم‪ ،‬وتنشرح له صدورهم‪ ،‬ويستدلون بما وصلوا‬
‫إليه إلى ما لم يصلوا إليه‪ ،‬ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه‪" :‬ل نحصي ثناء عليك‪ ،‬أنت‬
‫كما أثنيت على نفسك" وإل‪ ،‬فالمر أجل من ذلك وأعظم‪.‬‬

‫وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى‪ ،‬الذي ل يطاق الوصول إليه إلى الفهام والذهان‪ ،‬وإل‬
‫فالشجار‪ ،‬وإن تضاعفت على ما ذكر‪ ،‬أضعافا كثيرة‪ ،‬والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة‪،‬‬
‫فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها‪ ،‬لكونها مخلوقة‪.‬‬

‫وأما كلم اللّه تعالى‪ ،‬فل يتصور نفاده‪ ،‬بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي‪ ،‬على أنه ل نفاد له ول‬
‫منتهى‪ ،‬وكل شيء ينتهي إل الباري وصفاته { وَأَنّ إِلَى رَ ّبكَ ا ْلمُنْ َتهَى }‬

‫وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته‪ ،‬وأنه كل ما فرضه الذهن من الزمان السابقة‪،‬‬
‫مهما تسلسل الفرض والتقدير‪ ،‬فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية‪ ،‬وأنه مهما فرضه الذهن‬
‫والعقل‪ ،‬من الزمان المتأخرة‪ ،‬وتسلسل الفرض والتقدير‪ ،‬وساعد على ذلك من ساعد‪ ،‬بقلبه‬
‫ولسانه‪ ،‬فاللّه تعالى بعد ذلك إلى غير غاية ول نهاية‪.‬‬

‫واللّه في جميع الوقات يحكم‪ ،‬ويتكلم‪ ،‬ويقول‪ ،‬ويفعل كيف أراد‪ ،‬وإذا أراد ل مانع له من شيء‬
‫من أقواله وأفعاله‪ ،‬فإذا تصور العقل ذلك‪ ،‬عرف أن المثل الذي ضربه اللّه لكلمه‪ ،‬ليدرك العباد‬
‫شيئا منه‪ ،‬وإل‪ ،‬فالمر أعظم وأجل‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬له العزة جميعا‪ ،‬الذي ما في‬


‫ثم ذكر جللة عزته وكمال حكمته فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫العالم العلوي والسفلي من القوة إل منه‪ ،‬أعطاها للخلق‪ ،‬فل حول ول قوة إل به‪ ،‬وبعزته قهر‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬وتصرف فيهم‪ ،‬ودبرهم‪ ،‬وبحكمته خلق الخلق‪ ،‬وابتدأه بالحكمة‪ ،‬وجعل غايته‬
‫والمقصود منه الحكمة‪ ،‬وكذلك المر والنهي وجد بالحكمة‪ ،‬وكانت غايته المقصودة الحكمة‪ ،‬فهو‬
‫الحكيم في خلقه وأمره‪.‬‬

‫ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه ل يمكن أن يتصورها العقل فقال‪ { :‬مَا خَ ْل ُقكُ ْم وَلَا َبعْ ُثكُمْ إِلّا‬
‫كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ } وهذا شيء يحير العقول‪ ،‬إن خلق جميع الخلق ‪ -‬على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم‪،‬‬
‫بعد تفرقهم في لمحة واحدة ‪ -‬كخلقه نفسا واحدة‪ ،‬فل وجه لستبعاد البعث والنشور‪ ،‬والجزاء على‬
‫العمال‪ ،‬إل الجهل بعظمة اللّه وقوة قدرته‪.‬‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ }‬
‫ثم ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات‪ ،‬وبصره لجميع المبصرات فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ َ‬

‫شمْسَ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫ل وَ َ‬
‫{ ‪ { } 30 - 29‬أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ‬
‫ق وَأَنّ مَا‬
‫سمّى وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَ ّ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫وَا ْلقَمَرَ ُكلّ يَجْرِي إِلَى َأ َ‬
‫ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ }‬
‫طُ‬‫يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَا ِ‬

‫وهذا فيه أيضا‪ ،‬انفراده بالتصرف والتدبير‪ ،‬وسعة تصرفه بإيلج الليل في النهار‪ ،‬وإيلج النهار‬
‫في الليل‪ ،‬أي‪ :‬إدخال أحدهما على الخر‪ ،‬فإذا دخل أحدهما‪ ،‬ذهب الخر‪.‬‬

‫وتسخيره للشمس والقمر‪ ،‬يجريان بتدبير ونظام‪ ،‬لم يختل منذ خلقهما‪ ،‬ليقيم بذلك من مصالح العباد‬
‫ومنافعهم‪ ،‬في دينهم ودنياهم‪ ،‬ما به يعتبرون وينتفعون‪.‬‬

‫سمّى } إذا جاء ذلك الجل‪ ،‬انقطع جريانهما‪ ،‬وتعطل‬


‫جلٍ مُ َ‬
‫و { ُكلّ } منهما { يَجْرِي إِلَى َأ َ‬
‫سلطانهما‪ ،‬وذلك في يوم القيامة‪ ،‬حين تكور الشمس‪ ،‬ويخسف القمر‪ ،‬وتنتهي دار الدنيا‪ ،‬وتبتدئ‬
‫الدار الخرة‪.‬‬

‫{ وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } من خير وشر { خَبِيرٌ } ل يخفى عليه شيء من ذلك‪ ،‬وسيجازيكم على‬
‫تلك العمال‪ ،‬بالثواب للمطيعين‪ ،‬والعقاب للعاصين‪.‬‬

‫و { ذَِلكَ } الذي بين لكم من عظمته وصفاته‪ ،‬ما بيّن { بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ } في ذاته وفي صفاته‪،‬‬
‫ودينه حق‪ ،‬ورسله حق‪ ،‬ووعده حق‪ ،‬ووعيده حق‪ ،‬وعبادته هي الحق‪.‬‬

‫طلُ } في ذاته وصفاته‪ ،‬فلول إيجاد اللّه له لما وجد‪ ،‬ولول إمداده َلمَا‬
‫{ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَا ِ‬
‫َبقِيَ‪ ،‬فإذا كان باطل‪ ،‬كانت عبادته أبطل وأبطل‪.‬‬

‫{ وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ } بذاته‪ ،‬فوق جميع مخلوقاته‪ ،‬الذي علت صفاته‪ ،‬أن يقاس بها صفات أحد‬
‫من الخلق‪ ،‬وعل على الخلق فقهرهم { ا ْلكَبِيرُ } الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته‪ ،‬وله الكبرياء‬
‫في قلوب أهل السماء والرض‪.‬‬

‫{ ‪ { } 32 - 31‬أََلمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ لِيُرِ َيكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ‬
‫عوُا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ فََلمّا َنجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ‬
‫شكُورٍ * وَإِذَا غَشِ َي ُهمْ َموْجٌ كَالظَّللِ دَ َ‬
‫ِل ُكلّ صَبّارٍ َ‬
‫حدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ُكلّ خَتّارٍ كَفُورٍ }‬
‫َفمِ ْنهُمْ ُمقْتَصِدٌ َومَا َيجْ َ‬
‫أي‪ :‬ألم تر من آثار قدرته ورحمته‪ ،‬وعنايته بعباده‪ ،‬أن سخر البحر‪ ،‬تجري فيه الفلك‪ ،‬بأمره‬
‫القدري [ولطفه وإحسانه‪ { ،‬لِيُرِ َيكُمْ مِنْ آيَاتِهِ } ففيها النتفاع والعتبار]‬

‫شكُورٍ } فهم المنتفعون باليات‪ ،‬صبار على الضراء‪ ،‬شكور على‬


‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُكلّ صَبّارٍ َ‬
‫السراء‪ ،‬صبار على طاعة اللّه وعن معصيته‪ ،‬وعلى أقداره‪ ،‬شكور للّه‪ ،‬على نعمه الدينية‬
‫والدنيوية‪.‬‬

‫وذكر تعالى حال الناس‪ ،‬عند ركوبهم البحر‪ ،‬وغشيان المواج كالظل فوقهم‪ ،‬أنهم يخلصون‬
‫الدعاء [للّه] والعبادة‪ { :‬فََلمّا َنجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ } انقسموا فريقين‪:‬‬

‫فرقة مقتصدة‪ ،‬أي‪ :‬لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال‪ ،‬بل هم مذنبون ظالمون لنفسهم‪.‬‬

‫جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ُكلّ خَتّارٍ } أي غدار‪ ،‬ومن‬


‫وفرقة كافرة بنعمة اللّه‪ ،‬جاحدة لها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا يَ ْ‬
‫غدره‪ ،‬أنه عاهد ربه‪ ،‬لئن أنجيتنا من البحر وشدته‪ ،‬لنكونن من الشاكرين‪ ،‬فغدر ولم يف بذلك‪،‬‬
‫{ َكفُور } بنعم اللّه‪ .‬فهل يليق بمن نجاهم اللّه من هذه الشدة‪ ،‬إل القيام التام بشكر نعم اللّه؟‬

‫ن وَلَ ِد ِه وَلَا َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَنْ‬


‫شوْا َي ْومًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَ ْ‬
‫خَ‬‫{ ‪ { } 33‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُ ْم وَا ْ‬
‫حقّ فَلَا َتغُرّ ّنكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ }‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫وَالِ ِدهِ شَيْئًا إِ ّ‬

‫يأمر تعالى الناس بتقواه‪ ،‬التي هي امتثال أوامره‪ ،‬وترك زواجره‪ ،‬ويستلفتهم لخشية يوم القيامة‪،‬‬
‫ن وَلَ ِد ِه وَلَا َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ‬
‫اليوم الشديد‪ ،‬الذي فيه كل أحد ل يهمه إل نفسه فب { لَا َيجْزِي وَالِدٌ عَ ْ‬
‫ن وَالِ ِدهِ شَيْئًا } ل يزيد في حسناته ول ينقص من سيئاته‪ ،‬قد تم على كل عبد عمله‪ ،‬وتحقق عليه‬
‫عَ ْ‬
‫جزاؤه‪.‬‬

‫فلفت النظر في هذا لهذا اليوم المهيل‪ ،‬مما يقوي العبد ويسهّل عليه تقوى اللّه‪ ،‬وهذا من رحمة اللّه‬
‫بالعباد‪ ،‬يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم‪ ،‬ويعدهم عليها الثواب‪ ،‬ويحذرهم من العقاب‪ ،‬ويزعجهم‬
‫إليه بالمواعظ والمخوفات‪ ،‬فلك الحمد يا رب العالمين‪.‬‬

‫حقّ } فل تمتروا فيه‪ ،‬ول تعملوا عمل غير المصدق‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬فَلَا َتغُرّ ّنكُمُ‬
‫{ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بزينتها وزخارفها وما فيها من الفتن والمحن‪.‬‬
‫{ وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ } الذي هو الشيطان‪ ،‬الذي ما زال يخدع النسان ول يغفل عنه في‬
‫جميع الوقات‪ ،‬فإن للّه على عباده حقا‪ ،‬وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم‪ ،‬وهل وفوا حقه‬
‫أم قصروا فيه‪.‬‬

‫وهذا أمر يجب الهتمام به‪ ،‬وأن يجعله العبد نصب عينيه‪ ،‬ورأس مال تجارته‪ ،‬التي يسعى إليها‪.‬‬

‫سوّل‪ ،‬فنهى تعالى‬


‫ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه‪ ،‬الدنيا الفتانة‪ ،‬والشيطان الموسوس ا ْلمُ َ‬
‫عباده‪ ،‬أن تغرهم الدنيا‪ ،‬أو يغرهم باللّه الغرور { َي ِعدُهُ ْم وَ ُيمَنّيهِ ْم َومَا َيعِدُ ُهمُ الشّيْطَانُ إِلّا غُرُورًا }‬

‫سبُ‬
‫ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْأَ ْرحَا ِم َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مَاذَا َتكْ ِ‬
‫ع ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫{ ‪ { } 34‬إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫غَدًا َومَا تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }‬

‫قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة‪ ،‬والظواهر والبواطن‪ ،‬وقد يطلع اللّه عباده‬
‫على كثير من المور الغيبية‪ ،‬وهذه [المور] الخمسة‪ ،‬من المور التي طوى علمها عن جميع‬
‫المخلوقات‪ ،‬فل يعلمها نبي مرسل‪ ،‬ول ملك مقرب‪ ،‬فضل عن غيرهما‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ عِلْمُ‬
‫عةِ } أي‪ :‬يعلم متى مرساها‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا‬
‫السّا َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلّا َبغْتَةً } الية‪.‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَا ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا إِلّا ُهوَ َثقَُلتْ فِي ال ّ‬

‫{ وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ } أي‪ :‬هو المنفرد بإنزاله‪ ،‬وعلم وقت نزوله‪.‬‬

‫{ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْأَ ْرحَامِ } فهو الذي أنشأ ما فيها‪ ،‬وعلم ما هو‪ ،‬هل هو ذكر أم أنثى‪ ،‬ولهذا يسأل‬
‫الملك الموكل بالرحام ربه‪ :‬هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه ما يشاء‪.‬‬

‫سبُ غَدًا } من كسب دينها ودنياها‪َ { ،‬ومَا تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ }‬
‫{ َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مَاذَا َتكْ ِ‬
‫بل اللّه تعالى‪ ،‬هو المختص بعلم ذلك جميعه‪.‬‬

‫ولما خصص هذه الشياء‪ ،‬عمم علمه بجميع الشياء فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } محيط بالظواهر‬
‫والبواطن‪ ،‬والخفايا والخبايا‪ ،‬والسرائر‪ ،‬ومن حكمته التامة‪ ،‬أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد‪،‬‬
‫لن في ذلك من المصالح ما ل يخفى على من تدبر ذلك‪.‬‬

‫تم تفسير سورة لقمان بفضل اللّه وعونه‪ ،‬والحمد للّه‪.‬‬

‫تفسير سورة السجدة وهي مكية‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ الم * تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَمْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫َيقُولُونَ افْتَرَاهُ َبلْ ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ لِتُ ْنذِرَ َق ْومًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ َنذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ َيهْ َتدُونَ }‬

‫يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم‪ ،‬أنه تنزيل من رب العالمين‪ ،‬الذي رباهم بنعمته‪.‬‬

‫ومن أعظم ما رباهم به‪ ،‬هذا الكتاب‪ ،‬الذي فيه كل ما يصلح أحوالهم‪ ،‬ويتمم أخلقهم‪ ،‬وأنه ل‬
‫ريب فيه‪ ،‬ول شك‪ ،‬ول امتراء‪ ،‬ومع ذلك قال المكذبون للرسول الظالمون في ذلك‪ :‬افتراه محمد‪،‬‬
‫واختلقه من عند نفسه‪ ،‬وهذا من أكبر الجراءة على إنكار كلم اللّه‪ ،‬ورمي محمد صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بأعظم الكذب‪ ،‬وقدرة الخلق على كلم مثل كلم الخالق‪.‬‬

‫وكل واحد من هذه من المور العظائم‪ ،‬قال اللّه ‪ -‬رادًا على من قال‪ :‬افتراه‪-:‬‬

‫{ َبلْ ُهوَ ا ْلحَقّ } الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه‪ ،‬ول من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ { .‬مِنْ‬
‫رَ ّبكَ } أنزله رحمة للعباد { لِتُنْذِرَ َق ْومًا مَا أَتَا ُهمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ } أي‪ :‬في حالة ضرورة وفاقة‬
‫لرسال الرسول‪ ،‬وإنزال الكتاب‪ ،‬لعدم النذير‪ ،‬بل هم في جهلهم يعمهون‪ ،‬وفي ظلمة ضللهم‬
‫يترددون‪ ،‬فأنزلنا الكتاب عليك { َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ } من ضللهم‪ ،‬فيعرفون الحق فيؤثرونه‪.‬‬

‫وهذه الشياء التي ذكرها اللّه كلها‪ ،‬مناقضة لتكذيبهم له‪ :‬وإنها تقتضي منهم اليمان والتصديق‬
‫حقّ } والحق مقبول على كل حال‪ ،‬وأنه { لَا‬
‫التام به‪ ،‬وهو كونه { مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } وأنه { الْ َ‬
‫رَ ْيبَ فِيهِ } بوجه من الوجوه‪ ،‬فليس فيه‪ ،‬ما يوجب الريبة‪ ،‬ل بخبر ل يطابق للواقع ول بخفاء‬
‫واشتباه معانيه‪ ،‬وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة‪ ،‬وأن فيه الهداية لكل خير وإحسان‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ‬
‫{ ‪ { } 9 - 4‬اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫سمَاءِ إِلَى الْأَ ْرضِ ثُمّ َيعْرُجُ‬
‫شفِيعٍ َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ * يُدَبّرُ الَْأمْرَ مِنَ ال ّ‬
‫ن وَِليّ وَلَا َ‬
‫مَا َلكُمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ‬
‫شهَا َدةِ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ * الّذِي‬
‫ب وَال ّ‬
‫إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ ِممّا َتعُدّونَ * َذِلكَ عَالِمُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ج َعلَ َنسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ * ثُمّ‬
‫شيْءٍ خََلقَ ُه وَ َبدَأَ خَ ْلقَ الْإِ ْنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمّ َ‬
‫حسَنَ ُكلّ َ‬
‫أَ ْ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫سوّا ُه وَ َنفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِ ِه وَ َ‬
‫َ‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها‪ ،‬يوم‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫يخبر تعالى عن كمال قدرته بخلق { ال ّ‬
‫الحد‪ ،‬وآخرها الجمعة‪ ،‬مع قدرته على خلقها بلحظة‪ ،‬ولكنه تعالى رفيق حكيم‪.‬‬
‫{ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } الذي هو سقف المخلوقات‪ ،‬استواء يليق بجلله‪.‬‬

‫شفِيع } يشفع لكم‪ ،‬إن توجه‬


‫ن وَِليّ } يتولكم‪ ،‬في أموركم‪ ،‬فينفعكم { وَلَا َ‬
‫{ مَا َل ُكمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ‬
‫عليكم العقاب‪.‬‬

‫{ َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ } فتعلمون أن خالق الرض والسماوات‪ ،‬المستوي على العرش العظيم‪ ،‬الذي انفرد‬
‫بتدبيركم‪ ،‬وتوليكم‪ ،‬وله الشفاعة كلها‪ ،‬هو المستحق لجميع أنواع العبادة‪.‬‬

‫{ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ } القدري والمر الشرعي‪ ،‬الجميع هو المتفرد بتدبيره‪ ،‬نازلة تلك التدابير من عند‬
‫شقِي‪ ،‬و ُيغْنِي و ُي ْفقِرُ‪ ،‬و ُيعِزّ‪ ،‬ويُ ِذلّ‪ ،‬ويُكرِمُ‪،‬‬
‫سعِدُ بها ويُ ْ‬
‫سمَاءِ إِلَى الْأَ ْرضِ } فَ ُي ْ‬
‫المليك القدير { مِنَ ال ّ‬
‫و ُيهِينُ‪ ،‬ويرفع أقوامًا‪ ،‬ويضع آخرين‪ ،‬ويُنزّل الرزاق‪.‬‬

‫{ ُثمّ َيعْرُجُ إِلَيْهِ } أي‪ :‬المر ينزل من عنده‪ ،‬ويعرج إليه { فِي َي ْومٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَنَةٍ ِممّا‬
‫َتعُدّونَ } وهو يعرج إليه‪ ،‬ويصله في لحظة‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة‪ ،‬الذي استوى على العرش العظيم‪ ،‬وانفرد بالتدابير في‬
‫شهَا َدةِ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } فبسعة علمه‪ ،‬وكمال عزته‪ ،‬وعموم رحمته‪،‬‬
‫ب وَال ّ‬
‫المملكة‪ { ،‬عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫أوجدها‪ ،‬وأودع فيها‪ ،‬من المنافع ما أودع‪ ،‬ولم يعسر عليه تدبيرها‪.‬‬

‫شيْءٍ خََلقَهُ } أي‪ :‬كل مخلوق خلقه اللّه‪ ،‬فإن اللّه أحسن خلقه‪ ،‬وخلقه خلقًا يليق‬
‫حسَنَ ُكلّ َ‬
‫{ الّذِي أَ ْ‬
‫به‪ ،‬ويوافقه‪ ،‬فهذا عام‪.‬‬

‫ثم خص الدمي لشرفه وفضله فقال‪ { :‬وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق آدم عليه السلم‪،‬‬
‫أبي البشر‪.‬‬

‫ج َعلَ نَسَْلهُ } أي‪ :‬ذرية آدم ناشئة { مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ } وهو النطفة المستقذرة الضعيفة‪.‬‬
‫{ ُثمّ َ‬

‫سوّاهُ } بلحمه‪ ،‬وأعضائه‪ ،‬وأعصابه‪ ،‬وعروقه‪ ،‬وأحسن خلقته‪ ،‬ووضع كل عضو منه‪،‬‬
‫{ ُثمّ َ‬
‫حهِ } بأن أرسل إليه الملك‪ ،‬فينفخ فيه الروح‪،‬‬
‫بالمحل الذي ل يليق به غيره‪ { ،‬وَ َنفَخَ فِيهِ مِنْ رُو ِ‬
‫فيعود‬

‫بإذن اللّه‪ ،‬حيوانا‪ ،‬بعد أن كان جمادًا‪.‬‬

‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَارَ } أي‪ :‬ما زال يعطيكم من المنافع شيئًا فشيئا‪ ،‬حتى أعطاكم السمع‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫شكُرُونَ } الذي خلقكم وصوركم‪.‬‬
‫والبصار { وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 11 - 10‬وقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَ ْرضِ أَئِنّا َلفِي خَ ْلقٍ جَدِيدٍ َبلْ هُمْ بِِلقَاءِ رَ ّب ِهمْ كَافِرُونَ *‬
‫جعُونَ }‬
‫ُقلْ يَ َت َوفّاكُمْ مََلكُ ا ْل َموْتِ الّذِي ُو ّكلَ ِبكُمْ ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُ ْر َ‬

‫أي‪ :‬قال المكذبون بالبعث على وجه الستبعاد‪ { :‬أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬بَلِينَا وتمزقنا‪،‬‬
‫وتفرقنا في المواضع التي ل ُتعَْلمُ‪.‬‬

‫{ أَئِنّا َلفِي خَ ْلقٍ جَدِيدٍ } أي‪ :‬لمبعوثون بعثًا جديدًا بزعمهم أن هذا من أبعد الشياء‪ ،‬وذلك لقياسهم‬
‫قدرة الخالق‪ ،‬بقدرهم‪.‬‬

‫وكلمهم هذا‪ ،‬ليس لطلب الحقيقة‪ ،‬وإنما هو ظلم‪ ،‬وعناد‪ ،‬وكفر بلقاء ربهم وجحد‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬بلْ‬
‫هُمْ بِِلقَاءِ رَ ّبهِمْ كَافِرُون } فكلمهم علم مصدره وغايته‪ ،‬وإل‪ ،‬فلو كان قصدهم بيان الحق‪ ،‬لَبَيّنَ‬
‫لهم من الدلة القاطعة على ذلك‪ ،‬ما يجعله مشاهدا للبصيرة‪ ،‬بمنزلة الشمس للبصر‪.‬‬

‫ويكفيهم‪ ،‬أنهم معهم علم أنهم قد ابتدئوا من العدم‪ ،‬فالعادة أسهل من البتداء‪ ،‬وكذلك الرض‬
‫الميتة‪ ،‬ينزل اللّه عليها المطر‪ ،‬فتحيا بعد موتها‪ ،‬وينبت به متفرق بذورها‪.‬‬

‫{ ُقلْ يَ َت َوفّاكُمْ مََلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِب ُكمْ } أي‪ :‬جعله اللّه وكيلً على قبض الرواح‪ ،‬وله أعوان‪{ .‬‬
‫جعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم‪ ،‬وقد أنكرتم البعث‪ ،‬فانظروا ماذا يفعل اللّه بكم‪.‬‬
‫ثُمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُرْ َ‬

‫جعْنَا‬
‫س ِمعْنَا فَا ْر ِ‬
‫سهِمْ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ رَبّنَا أَ ْبصَرْنَا وَ َ‬
‫{ ‪ { } 14 - 12‬وََلوْ تَرَى إِذِ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ نَا ِكسُو ُرءُو ِ‬
‫جهَنّمَ مِنَ‬
‫َن ْع َملْ صَاِلحًا إِنّا مُوقِنُونَ * وََلوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا ُكلّ َنفْسٍ ُهدَاهَا وََلكِنْ حَقّ ا ْل َق ْولُ مِنّي لََأمْلَأَنّ َ‬
‫ج َمعِينَ * فَذُوقُوا ِبمَا َنسِيتُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا إِنّا نَسِينَاكُ ْم وَذُوقُوا عَذَابَ ا ْلخُلْدِ ِبمَا كُنْتُمْ‬
‫الْجِنّ ِة وَالنّاسِ َأ ْ‬
‫َت ْعمَلُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة‪ ،‬ذكر حالهم في مقامهم بين [يديه] فقال‪ { :‬وََلوْ تَرَى إِذِ‬
‫سهِمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ } خاشعين خاضعين‬
‫ا ْلمُجْ ِرمُونَ } الذين أصروا على الذنوب العظيمة‪ { ،‬نَاكِسُو ُرءُو ِ‬
‫س ِمعْنَا } أي‪ :‬بأن لنا المر‪ ،‬ورأيناه‬
‫أذلء‪ ،‬مقرين بجرمهم‪ ،‬سائلين الرجعة قائلين‪ { :‬رَبّنَا أَ ْبصَرْنَا وَ َ‬
‫عيانًا‪ ،‬فصار عين يقين‪.‬‬

‫جعْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا إِنّا مُوقِنُونَ } أي‪ :‬صار عندنا الن‪ ،‬يقين بما [كنا] نكذب به‪ ،‬أي‪ :‬لرأيت‬
‫{ فَا ْر ِ‬
‫أمرا فظيعًا‪ ،‬وحالً مزعجة‪ ،‬وأقوامًا خاسرين‪ ،‬وسؤلًا غير مجاب‪ ،‬لنه قد مضى وقت المهال‪.‬‬
‫وكل هذا بقضاء اللّه وقدره‪ ،‬حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬وََلوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا‬
‫ُكلّ َنفْسٍ ُهدَاهَا } أي‪ :‬لهدينا الناس كلهم‪ ،‬وجمعناهم على الهدى‪ ،‬فمشيئتنا صالحة لذلك‪ ،‬ولكن‬
‫حقّ ا ْل َقوْلُ مِنّي } أي‪ :‬وجب‪ ،‬وثبت‬
‫الحكمة‪ ،‬تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنْ َ‬
‫ثبوتًا ل تغير فيه‪.‬‬

‫ج َمعِينَ } فهذا الوعد‪ ،‬ل بد منه‪ ،‬ول محيد عنه‪ ،‬فل بد من تقرير‬
‫جهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫{ لََأمْلَأَنّ َ‬
‫أسبابه من الكفر والمعاصي‪.‬‬

‫{ َفذُوقُوا ِبمَا نَسِي ُتمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ َهذَا } أي‪ :‬يقال للمجرمين‪ ،‬الذين ملكهم الذل‪ ،‬وسألوا الرجعة إلى‬
‫الدنيا‪ ،‬ليستدركوا ما فاتهم‪ ،‬قد فات وقت الرجوع ولم يبق إل العذاب‪ ،‬فذوقوا العذاب الليم‪ ،‬بما‬
‫نسيتم لقاء يومكم هذا‪ ،‬وهذا النسيان نسيان ترك‪ ،‬أي‪ :‬بما أعرضتم عنه‪ ،‬وتركتم العمل له‪ ،‬وكأنكم‬
‫غير قادمين عليه‪ ،‬ول ملقيه‪.‬‬

‫{ إِنّا نَسِينَاكُمْ } أي‪ :‬تركناكم بالعذاب‪ ،‬جزاء من جنس عملكم‪ ،‬فكما َنسِيتُمْ نُسِي ُتمْ‪ { ،‬وَذُوقُوا عَذَابَ‬
‫الْخُ ْلدِ } أي‪ :‬العذاب غير المنقطع‪ ،‬فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية‪ ،‬كان فيه بعض التنفيس‬
‫والتخفيف‪ ،‬وأما عذاب جهنم ‪ -‬أعاذنا اللّه منه ‪ -‬فليس فيه روح راحة‪ ،‬ول انقطاع لعذابهم فيها‪.‬‬
‫{ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } من الكفر والفسوق والمعاصي‪.‬‬

‫ح ْمدِ رَ ّبهِ ْم وَ ُهمْ لَا‬


‫سجّدًا وَسَبّحُوا بِ َ‬
‫{ ‪ { } 17 - 15‬إِ ّنمَا ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ُذكّرُوا ِبهَا خَرّوا ُ‬
‫ط َمعًا َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ * فَلَا‬
‫خ ْوفًا َو َ‬
‫يَسْ َتكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُو ُبهُمْ عَنِ ا ْل َمضَاجِعِ َيدْعُونَ رَ ّبهُمْ َ‬
‫خفِيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫َتعْلَمُ َنفْسٌ مَا ُأ ْ‬

‫لما ذكر تعالى الكافرين بآياته‪ ،‬وما أعد لهم من العذاب‪ ،‬ذكر المؤمنين بها‪ ،‬ووصفهم‪ ،‬وما أعد لهم‬
‫من الثواب‪ ،‬فقال‪ { :‬إِ ّنمَا ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا } [أي] إيمانًا حقيقيًا‪ ،‬من يوجد منه شواهد اليمان‪ ،‬وهم‪:‬‬
‫{ الّذِينَ ِإذَا ُذكّرُوا } بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن‪ ،‬وأتتهم النصائح على أيدي رسل اللّه‪،‬‬
‫ودُعُوا إلى التذكر‪ ،‬سمعوها فقبلوها‪ ،‬وانقادوا‪ ،‬و { خَرّوا سُجّدًا } أي‪ :‬خاضعين لها‪ ،‬خضوع ذكر‬
‫للّه‪ ،‬وفرح بمعرفته‪.‬‬

‫حمْدِ رَ ّبهِ ْم وَهُمْ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ } ل بقلوبهم‪ ،‬ول بأبدانهم‪ ،‬فيمتنعون من النقياد لها‪ ،‬بل‬
‫{ وَسَبّحُوا بِ َ‬
‫متواضعون لها‪ ،‬قد تلقوها بالقبول‪ ،‬والتسليم‪ ،‬وقابلوها بالنشراح والتسليم‪ ،‬وتوصلوا بها إلى‬
‫مرضاة الرب الرحيم‪ ،‬واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫جعِ } أي‪ :‬ترتفع جنوبهم‪ ،‬وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة‪ ،‬إلى ما هو‬
‫{ تَ َتجَافَى جُنُو ُبهُمْ عَنِ ا ْل َمضَا ِ‬
‫ألذ عندهم منه وأحب إليهم‪ ،‬وهو الصلة في الليل‪ ،‬ومناجاة اللّه تعالى‪.‬‬

‫خ ْوفًا‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬يدْعُونَ رَ ّبهُمْ } أي‪ :‬في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬ودفع مضارهما‪َ { .‬‬
‫ط َمعًا } أي‪ :‬جامعين بين الوصفين‪ ،‬خوفًا أن ترد أعمالهم‪ ،‬وطمعًا في قبولها‪ ،‬خوفًا من عذاب‬
‫وَ َ‬
‫اللّه‪ ،‬وطمعًا في ثوابه‪.‬‬

‫{ َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ } من الرزق‪ ،‬قليلً كان أو كثيرًا { يُ ْن ِفقُونَ } ولم يذكر قيد النفقة‪ ،‬ول المنفق‬
‫عليه‪ ،‬ليدل على العموم‪ ،‬فإنه يدخل فيه‪ ،‬النفقة الواجبة‪ ،‬كالزكوات‪ ،‬والكفارات‪ ،‬ونفقة الزوجات‬
‫والقارب‪ ،‬والنفقة المستحبة في وجوه الخير‪ ،‬والنفقة والحسان المالي‪ ،‬خير مطلقًا‪ ،‬سواء وافق‬
‫غنيًا أو فقيرًا‪ ،‬قريبًا أو بعيدًا‪ ،‬ولكن الجر يتفاوت‪ ،‬بتفاوت النفع‪ ،‬فهذا عملهم‪.‬‬

‫وأما جزاؤهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فَلَا َتعَْلمُ َنفْسٌ } يدخل فيه جميع نفوس الخلق‪ ،‬لكونها نكرة في سياق النفي‪.‬‬
‫خ ِفيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ } من الخير الكثير‪ ،‬والنعيم الغزير‪ ،‬والفرح‬
‫أي‪ :‬فل يعلم أحد { مَا أُ ْ‬
‫والسرور‪ ،‬واللذة والحبور‪ ،‬كما قال تعالى على لسان رسوله‪" :‬أعددت لعبادي الصالحين‪ ،‬ما ل‬
‫عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر"‬

‫فكما صلوا في الليل‪ ،‬ودعوا‪ ،‬وأخفوا العمل‪ ،‬جازاهم من جنس عملهم‪ ،‬فأخفى أجرهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬

‫عمِلُوا‬
‫سقًا لَا يَسْ َتوُونَ * َأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫{ ‪َ { } 20 - 18‬أ َفمَنْ كَانَ ُم ْؤمِنًا َكمَنْ كَانَ فَا ِ‬
‫سقُوا َفمَ ْأوَا ُهمُ النّارُ كُّلمَا أَرَادُوا‬
‫الصّالِحَاتِ فََلهُمْ جَنّاتُ ا ْلمَ ْأوَى نُ ُزلًا ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * وََأمّا الّذِينَ فَ َ‬
‫أَنْ يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا أُعِيدُوا فِيهَا َوقِيلَ َلهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنْتُمْ بِهِ ُتكَذّبُونَ }‬

‫ينبه تعالى‪ ،‬العقول على ما تقرر فيها‪ ،‬من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين‪ ،‬وأن حكمته تقتضي‬
‫عدم تساويهما فقال‪َ { :‬أ َفمَنْ كَانَ ُم ْؤمِنًا } قد عمر قلبه باليمان‪ ،‬وانقادت جوارحه لشرائعه‪،‬‬
‫واقتضى إيمانه آثاره وموجباته‪ ،‬من ترك مساخط اللّه‪ ،‬التي يضر وجودها باليمان‪.‬‬

‫سقًا } قد خرب قلبه‪ ،‬وتعطل من اليمان‪ ،‬فلم يكن فيه وازع ديني‪ ،‬فأسرعت‬
‫{ َكمَنْ كَانَ فَا ِ‬
‫جوارحه بموجبات الجهل والظلم‪ ،‬من كل إثم ومعصية‪ ،‬وخرج بفسقه عن طاعة ال‪.‬‬

‫أفيستوي هذان الشخصان؟‪.‬‬


‫{ لَا يَسْ َتوُونَ } عقلً وشرعًا‪ ،‬كما ل يستوي الليل والنهار‪ ،‬والضياء والظلمة‪ ،‬وكذلك ل يستوي‬
‫ثوابهما في الخرة‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } من فروض ونوافل { فََلهُمْ جَنّاتُ ا ْلمَ ْأوَى } أي‪ :‬الجنات‬
‫{ وََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫التي هي مأوى اللذات‪ ،‬ومعدن الخيرات‪ ،‬ومحل الفراح‪ ،‬ونعيم القلوب‪ ،‬والنفوس‪ ،‬والرواح‪،‬‬
‫ومحل الخلود‪ ،‬وجوار الملك المعبود‪ ،‬والتمتع بقربه‪ ،‬والنظر إلى وجهه‪ ،‬وسماع خطابه‪.‬‬

‫{ نُزُلًا } لهم أي‪ :‬ضيافة‪ ،‬وقِرًى { ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فأعمالهم التي تفضل اللّه بها عليهم‪ ،‬هي‬
‫التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية‪ ،‬التي ل يمكن التوصل إليها ببذل الموال‪ ،‬ول بالجنود‬
‫والخدم‪ ،‬ول بالولد‪ ،‬بل ول بالنفوس والرواح‪ ،‬ول يتقرب إليها بشيء‬

‫أصل‪ ،‬سوى اليمان والعمل الصالح‪.‬‬

‫سقُوا َفمَ ْأوَا ُهمُ النّارُ } أي‪ :‬مقرهم ومحل خلودهم‪ ،‬النار التي جمعت كل عذاب‬
‫{ وََأمّا الّذِينَ فَ َ‬
‫وشقاء‪ ،‬ول ُيفَتّرُ عنهم العقاب ساعة‪.‬‬

‫{ كُّلمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا أُعِيدُوا فِيهَا } فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج‪ ،‬لبلوغ العذاب منهم‬
‫كل مبلغ‪ ،‬ردوا إليها‪ ،‬فذهب عنهم روح ذلك الفرج‪ ،‬واشتد عليهم الكرب‪.‬‬

‫عذَابَ النّارِ الّذِي كُنْ ُتمْ بِهِ ُت َكذّبُونَ } فهذا عذاب النار‪ ،‬الذي يكون فيه مقرهم‬
‫{ َوقِيلَ َلهُمْ ذُوقُوا َ‬
‫ومأواهم‪ ،‬وأما العذاب الذي قبل ذلك‪ ،‬ومقدمة له وهو عذاب البرزخ‪ ،‬فقد ذكر بقوله‪:‬‬

‫جعُونَ }‬
‫{ ‪ { } 21‬وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ مِنَ ا ْلعَذَابِ الَْأدْنَى دُونَ ا ْلعَذَابِ الَْأكْبَرِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬

‫أي‪ :‬ولنذيقن الفاسقين المكذبين‪ ،‬نموذجًا من العذاب الدنى‪ ،‬وهو عذاب البرزخ‪ ،‬فنذيقهم طرفًا‬
‫منه‪ ،‬قبل أن يموتوا‪ ،‬إما بعذاب بالقتل ونحوه‪ ،‬كما جرى لهل بدر من المشركين‪ ،‬وإما عند‬
‫غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَاسِطُو أَ ْيدِيهِمْ‬
‫الموت‪ ،‬كما في قوله تعالى { وََلوْ تَرَى ِإذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫سكُمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ } ثم يكمل لهم العذاب الدنى في برزخهم‪.‬‬
‫أَخْ ِرجُوا أَ ْنفُ َ‬

‫وهذه الية من الدلة على إثبات عذاب القبر‪ ،‬ودللتها ظاهرة‪ ،‬فإنه قال‪ { :‬وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ مِنَ ا ْلعَذَابِ‬
‫الْأَدْنَى } أي‪ :‬بعض وجزء منه‪ ،‬فدل على أن َثمّ عذابًا أدنى قبل العذاب الكبر‪ ،‬وهو عذاب النار‪.‬‬
‫ولما كانت الذاقة من العذاب الدنى في الدنيا‪ ،‬قد ل يتصل بها الموت‪ ،‬فأخبر تعالى أنه يذيقهم‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ِبمَا‬
‫ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى‪َ { :‬‬
‫جعُونَ }‬
‫عمِلُوا َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ‬
‫كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬

‫{ ‪َ { } 22‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْ َرضَ عَ ْنهَا إِنّا مِنَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُنْ َت ِقمُونَ }‬

‫أي‪ :‬ل أحد أظلم‪ ،‬وأزيد تعديًا‪ ،‬ممن ذكر بآيات ربه‪ ،‬التي أوصلها إليه ربه‪ ،‬الذي يريد تربيته‪،‬‬
‫وتكميل نعمته على أيدي رسله‪ ،‬تأمره‪ ،‬وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية‪ ،‬وتنهاه عن مضاره‬
‫الدينية والدنيوية‪ ،‬التي تقتضي أن يقابلها باليمان والتسليم‪ ،‬والنقياد والشكر‪ ،‬فقابلها هذا الظالم‬
‫بضد ما ينبغي‪ ،‬فلم يؤمن بها‪ ،‬ول اتبعها‪ ،‬بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره‪ ،‬فهذا من أكبر‬
‫المجرمين‪ ،‬الذين يستحقون شديد النقمة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّا مِنَ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُنْتَ ِقمُونَ }‬

‫جعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‬


‫{ ‪ { } 25 - 23‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَلَا َتكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ ِلقَائِ ِه وَ َ‬
‫صلُ بَيْ َنهُمْ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنهُمْ أَ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأمْرِنَا َلمّا صَبَرُوا َوكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ َي ْف ِ‬
‫* وَ َ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى‪ ،‬آياته التي ذكر بها عباده‪ ،‬وهو‪ :‬القرآن‪ ،‬الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ذكر أنه ليس ببدع من الكتب‪ ،‬ول من جاء به‪ ،‬بغريب من الرسل‪ ،‬فقد آتى ال موسى‬
‫الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن‪ ،‬التي قد صدقها القرآن‪ ،‬فتطابق حقهما‪ ،‬وثبت برهانهما‪،‬‬
‫{ فَلَا َتكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ ِلقَائِهِ } لنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته‪ ،‬فلم يبق للشك والمرية‪ ،‬محل‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُ } أي‪ :‬الكتاب الذي آتيناه موسى { هُدًى لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ } يهتدون به في أصول دينهم‪،‬‬
‫{ وَ َ‬
‫وفروعه وشرائعه موافقة لذلك الزمان‪ ،‬في بني إسرائيل‪.‬‬

‫وأما هذا القرآن الكريم‪ ،‬فجعله اللّه هداية للناس كلهم‪ ،‬لنه هداية للخلق‪ ،‬في أمر دينهم ودنياهم‪،‬‬
‫حكِيمٌ }‬
‫إلى يوم القيامة‪ ،‬وذلك لكماله وعلوه { وَإِنّهُ فِي ُأمّ ا ْلكِتَابِ لَدَيْنَا َلعَِليّ َ‬

‫جعَلْنَا مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من بني إسرائيل { أَ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأمْرِنَا } أي‪ :‬علماء بالشرع‪ ،‬وطرق الهداية‪،‬‬
‫{ وَ َ‬
‫مهتدين في أنفسهم‪ ،‬يهدون غيرهم بذلك الهدى‪ ،‬فالكتاب الذي أنزل إليهم‪ ،‬هدى‪ ،‬والمؤمنون به‬
‫منهم‪ ،‬على قسمين‪ :‬أئمة يهدون بأمر اللّه‪ ،‬وأتباع مهتدون بهم‪.‬‬
‫والقسم الول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة‪ ،‬وهي درجة الصديقين‪ ،‬وإنما نالوا هذه‬
‫الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم‪ ،‬والدعوة إلى اللّه‪ ،‬والذى في سبيله‪ ،‬وكفوا أنفسهم عن‬
‫جماحها في المعاصي‪ ،‬واسترسالها في الشهوات‪.‬‬

‫{ َوكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي‪ :‬وصلوا في اليمان بآيات اللّه‪ ،‬إلى درجة اليقين‪ ،‬وهو العلم التام‪،‬‬
‫الموجب للعمل‪ ،‬وإنما وصلوا إلى درجة اليقين‪ ،‬لنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا‪ ،‬وأخذوا المسائل عن‬
‫أدلتها المفيدة لليقين‪.‬‬

‫فما زالوا يتعلمون المسائل‪ ،‬ويستدلون عليها بكثرة الدلئل‪ ،‬حتى وصلوا لذاك‪ ،‬فبالصبر واليقين‪،‬‬
‫تُنَالُ المامة في الدين‪.‬‬

‫وثَمّ مسائل اختلف فيها بنو إسرائيل‪ ،‬منهم من أصاب فيها الحق‪ ،‬ومنهم من أخطأه خطأ‪ ،‬أو عمدًا‪،‬‬
‫صلُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } وهذا القرآن يقص على بني‬
‫واللّه تعالى { َي ْف ِ‬
‫إسرائيل‪ ،‬بعض الذي يختلفون فيه‪ ،‬فكل خلف وقع بينهم‪ ،‬ووجد في القرآن تصديق لحد القولين‪،‬‬
‫فهو الحق‪ ،‬وما عداه مما خالفه‪ ،‬باطل‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 27 - 26‬أوَلَمْ َي ْهدِ َلهُمْ َكمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلقُرُونِ َيمْشُونَ فِي مَسَاكِ ِنهِمْ إِنّ فِي ذَِلكَ‬
‫س َمعُونَ * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َنسُوقُ ا ْلمَاءَ إِلَى الْأَ ْرضِ الْجُرُزِ فَ ُنخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَ ْأ ُكلُ مِ ْنهُ‬
‫لَآيَاتٍ َأفَلَا يَ ْ‬
‫سهُمْ َأفَلَا يُ ْبصِرُونَ }‬
‫أَ ْنعَا ُمهُ ْم وَأَ ْنفُ ُ‬

‫يعني‪ :‬أولم يتبين لهؤلء المكذبين للرسول‪ ،‬ويهدهم إلى الصواب‪َ { .‬كمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبَْلهُمْ مِنَ‬
‫ا ْلقُرُونِ } الذين سلكوا مسلكهم‪َ { ،‬يمْشُونَ فِي َمسَاكِ ِنهِمْ } فيشاهدونها عيانًا‪ ،‬كقوم هود‪ ،‬وصالح‪،‬‬
‫وقوم لوط‪.‬‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ } يستدل بها‪ ،‬على صدق الرسل‪ ،‬التي جاءتهم‪ ،‬وبطلن ما هم عليه‪ ،‬من‬
‫الشرك والشر‪ ،‬وعلى أن من فعل مثل فعلهم‪ُ ،‬ف ِعلَ بهم‪ ،‬كما ُف ِعلَ بأشياعه من قبل‪.‬‬

‫س َمعُونَ } آيات اللّه‪ ،‬فيعونها‪،‬‬


‫وعلى أن اللّه تعالى مجازي العباد‪ ،‬وباعثهم للحشر والتناد‪َ { .‬أفَلَا يَ ْ‬
‫فينتفعون بها‪ ،‬فلو كان لهم سمع صحيح‪ ،‬وعقل رجيح‪ ،‬لم يقيموا على حالة يجزم بها‪ ،‬بالهلك‪.‬‬

‫{ َأوََلمْ يَ َروْا } بأبصارهم نعمتنا‪ ،‬وكمال حكمتنا { أَنّا نَسُوقُ ا ْلمَاءَ إِلَى الْأَ ْرضِ ا ْلجُرُزِ } التي ل‬
‫نبات فيها‪ ،‬فيسوق اللّه المطر‪ ،‬الذي لم يكن قبل موجودًا فيها‪ ،‬فيفرغه فيها‪ ،‬من السحاب‪ ،‬أو من‬
‫النهار‪ { .‬فَنُخْرِجُ ِبهِ زَرْعًا } أي‪ :‬نباتًا‪ ،‬مختلف النواع { تَ ْأ ُكلُ مِنْهُ أَ ْنعَا ُمهُمْ } وهو نبات البهائم‬
‫{ وَأَ ْنفُسهمْ } وهو طعام الدميين‪.‬‬

‫{ َأفَلَا يُ ْبصِرُونَ } تلك المنة‪ ،‬التي أحيا اللّه بها البلد والعباد‪ ،‬فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر‪،‬‬
‫وتلك البصيرة‪ ،‬إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ولكن غلب عليهم العمى‪ ،‬واستولت عليهم الغفلة‪ ،‬فلم‬
‫يبصروا في ذلك‪ ،‬بصر الرجال‪ ،‬وإنما نظروا إلى ذلك‪ ،‬نظر الغفلة‪ ،‬ومجرد العادة‪ ،‬فلم يوفقوا‬
‫للخير‪.‬‬

‫{ ‪ { } 30 - 28‬وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا ا ْلفَتْحُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ َيوْمَ ا ْلفَتْحِ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ َكفَرُوا‬
‫إِيمَا ُنهُ ْم وَلَا ُهمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ وَانْتَظِرْ إِ ّنهُمْ مُنْ َتظِرُونَ }‬

‫أي‪ :‬يستعجل المجرمون بالعذاب‪ ،‬الذي وعدوا به على التكذيب‪ ،‬جهلً منهم ومعاندة‪.‬‬

‫{ وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا ا ْلفَتْحُ } الذي يفتح بيننا وبينكم‪ ،‬بتعذيبنا على زعمكم { إِنْ كُنْتُمْ } أيها الرسل‬
‫{ صَا ِدقِينَ } في دعواكم‪.‬‬

‫{ ُقلْ َيوْمَ ا ْلفَتْحِ } الذي يحصل به عقابكم‪ ،‬ل تستفيدون به شيئًا‪ ،‬فلو كان إذا حصل‪ ،‬حصل‬
‫إمهالكم‪ ،‬لتستدركوا ما فاتكم‪ ،‬حين صار المر عندكم يقينًا‪ ،‬لكان لذلك وجه‪ ،‬ولكن إذا جاء يوم‬
‫الفتح‪ ،‬انقضى المر‪ ،‬ولم يبق للمحنة محل فب { لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ َكفَرُوا إِيمَا ُنهُمْ } لنه صار إيمان‬
‫ضرورة‪ { ،‬وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي‪ :‬يمهلون‪ ،‬فيؤخر عنهم العذاب‪ ،‬فيستدركون أمرهم‪.‬‬

‫{ فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ } لما وصل خطابهم إلى حالة الجهل‪ ،‬واستعجال العذاب‪ { .‬وَانْتَظِرْ } المر الذي‬
‫يحل بهم‪ ،‬فإنه ل بد منه‪ ،‬ولكن له أجل‪ ،‬إذا جاء ل يتقدم ول يتأخر‪ { .‬إِ ّنهُمْ مُنْ َتظِرُونَ } بك ريب‬
‫المنون‪ ،‬ومتربصون بكم دوائر السوء‪ ،‬والعاقبة للتقوى‪.‬‬

‫تم تفسير سورة السجدة ‪ -‬بحول اللّه ومنه فله تعالى كمال الحمد والثناء والمجد‪.‬‬

‫تفسير سورة الحزاب وهي مدنية‬

‫ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ إِنّ اللّهَ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ اتّقِ اللّ َه وَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫حكِيمًا * وَاتّبِعْ مَا يُوحَى ِإلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا * وَ َت َوكّلْ عَلَى‬
‫كَانَ عَلِيمًا َ‬
‫اللّ ِه َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا }‬
‫أي‪ :‬يا أيها الذي منّ اللّه عليه بالنبوة‪ ،‬واختصه بوحيه‪ ،‬وفضله على سائر الخلق‪ ،‬اشكر نعمة‬
‫ربك عليك‪ ،‬باستعمال تقواه‪ ،‬التي أنت أولى بها من غيرك‪ ،‬والتي يجب عليك منها‪ ،‬أعظم من‬
‫سواك‪ ،‬فامتثل أوامره ونواهيه‪ ،‬وبلغ رسالته‪ ،‬وأدّ إلى عباده وحيه‪ ،‬وابذل النصيحة للخلق‪.‬‬

‫ول يصدنك عن هذا المقصود صاد‪ ،‬ول يردك عنه راد‪ ،‬فل تطع كل كافر‪ ،‬قد أظهر العداوة للّه‬
‫ورسوله‪ ،‬ول منافق‪ ،‬قد استبطن التكذيب والكفر‪ ،‬وأظهر ضده‪.‬‬

‫فهؤلء هم العداء على الحقيقة‪ ،‬فل تطعهم في بعض المور‪ ،‬التي تنقض التقوى‪ ،‬وتناقضها‪ ،‬ول‬
‫تتبع أهواءهم‪ ،‬فيضلوك عن الصواب‪.‬‬

‫{ وَ } لكن { اتّ ِبعْ مَا يُوحَى إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ } فإنه هو الهدى والرحمة‪ ،‬وَارْجُ بذلك ثواب ربك‪ ،‬فإنه‬
‫بما تعملون خبير‪ ،‬يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم‪ ،‬من الخير والشر‪.‬‬

‫فإن وقع في قلبك‪ ،‬أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة‪ ،‬حصل عليك منهم ضرر‪ ،‬أو حصل‬
‫نقص في هداية الخلق‪ ،‬فادفع ذلك عن نفسك‪ ،‬واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره‪ ،‬وهو التوكل على‬
‫اللّه‪ ،‬بأن تعتمد على ربك‪ ،‬اعتماد من ل يملك لنفسه ضرًا ول نفعًا‪ ،‬ول موتًا ول حياة‪ ،‬ول‬
‫نشورًا‪ ،‬في سلمتك من شرهم‪ ،‬وفي إقامة الدين‪ ،‬الذي أمرت به‪ ،‬وثق باللّه في حصول ذلك‬
‫المر على أي‪ :‬حال كان‪.‬‬

‫{ َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا } توكل إليه المور‪ ،‬فيقوم بها‪ ،‬وبما هو أصلح للعبد‪ ،‬وذلك لعلمه بمصالح‬
‫عبده‪ ،‬من حيث ل يعلم العبد‪ ،‬وقدرته على إيصالها إليه‪ ،‬من حيث ل يقدر عليها العبد‪ ،‬وأنه أرحم‬
‫بعبده من نفسه‪ ،‬ومن والديه‪ ،‬وأرأف به من كل أحد‪ ،‬خصوصًا خواص عبيده‪ ،‬الذين لم يزل‬
‫يربيهم ببره‪ ،‬ويُدِرّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة‪ ،‬خصوصًا وقد أمره بإلقاء أموره إليه‪ ،‬ووعده‪،‬‬
‫فهناك ل تسأل عن كل أمر يتيسر‪ ،‬وصعب يسهل‪ ،‬وخطوب تهون‪ ،‬وكروب تزول‪ ،‬وأحوال‬
‫وحوائج تقضى‪ ،‬وبركات تنزل‪ ،‬ونقم تدفع‪ ،‬وشرور ترفع‪.‬‬

‫وهناك ترى العبد الضعيف‪ ،‬الذي فوض أمره لسيده‪ ،‬قد قام بأمور ل تقوم بها أمة من الناس‪ ،‬وقد‬
‫سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال وباللّه المستعان‪.‬‬

‫جكُمُ اللّائِي ُتظَاهِرُونَ مِ ْنهُنّ‬


‫ج َعلَ أَ ْزوَا َ‬
‫ج ْوفِ ِه َومَا َ‬
‫جلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ‬
‫{ ‪ { } 5 - 4‬مَا َ‬
‫ق وَ ُهوَ َيهْدِي السّبِيلَ *‬
‫حّ‬‫ج َعلَ أَدْعِيَا َءكُمْ أَبْنَا َء ُكمْ ذَِل ُكمْ َقوُْلكُمْ بَِأ ْفوَا ِهكُ ْم وَاللّهُ َيقُولُ الْ َ‬
‫ُأ ّمهَا ِتكُ ْم َومَا َ‬
‫علَ ْيكُمْ‬
‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َومَوَالِيكُ ْم وَلَيْسَ َ‬
‫ادْعُو ُهمْ لِآبَا ِئهِمْ ُهوَ َأ ْقسَطُ عِ ْندَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ َتعَْلمُوا آبَاءَهُمْ فَإِ ْ‬
‫غفُورًا َرحِيمًا }‬
‫جُنَاحٌ فِيمَا َأخْطَأْ ُتمْ بِ ِه وََلكِنْ مَا َت َعمّ َدتْ قُلُو ُبكُ ْم َوكَانَ اللّهُ َ‬

‫يعاتب تعالى [عباده] عن التكلم بما ادعوهم لبائهم هو أقسط عند ال فإن لم تعلموا آباءهم‬
‫فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان ال‬
‫غفورًا رحيمًا ل حقيقة له من القوال‪ ،‬ولم يجعله ال تعالى كما قالوا‪،‬فإن ذلك القول منكم كذب‬
‫وزور‪ ،‬يترتب عليه منكرات من الشرع‪ .‬وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء‪ ،‬والخبار‬
‫بوقوع ووجود‪ ،‬ما لم يجعله اللّه تعالى‪.‬‬

‫جلٍ‬
‫ج َعلَ اللّهُ لِرَ ُ‬
‫ولكن خص هذه الشياء المذكورة‪ ،‬لوقوعها‪ ،‬وشدة الحاجة إلى بيانها‪ ،‬فقال‪ { :‬مَا َ‬
‫ج ْوفِهِ } هذا ل يوجد‪ ،‬فإياكم أن تقولوا عن أحد‪ :‬إن له قلبين في جوفه‪ ،‬فتكونوا‬
‫مِنْ قَلْبَيْنِ فِي َ‬
‫كاذبين على الخلقة اللهية‪.‬‬

‫ج ُكمُ اللّائِي تُظَاهِرُونَ مِ ْنهُنّ } بأن يقول أحدكم لزوجته‪" :‬أنت عَليّ كظهر أمي أو‬
‫ج َعلَ أَ ْزوَا َ‬
‫{ َومَا َ‬
‫كأمي" فما جعلهن اللّه { ُأ ّمهَا ِتكُمْ } أمك من ولدتك‪ ،‬وصارت أعظم النساء عليك‪ ،‬حرمة وتحريمًا‪،‬‬
‫وزوجتك أحل النساء لك‪ ،‬فكيف تشبه أحد المتناقضين بالخر؟‬

‫هذا أمر ل يجوز‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬الّذِينَ ُيظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ‬
‫ل وَزُورًا }‬
‫إِلّا اللّائِي وَلَدْ َنهُمْ وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ مُ ْنكَرًا مِنَ ا ْل َقوْ ِ‬

‫ج َعلَ َأدْعِيَا َءكُمْ أَبْنَا َءكُمْ } والدعياء‪ ،‬الولد الذي كان الرجل يدعيه‪ ،‬وهو ليس له‪ ،‬أو يُدْعَى‬
‫{ َومَا َ‬
‫إليه‪ ،‬بسبب تبنيه إياه‪ ،‬كما كان المر بالجاهلية‪ ،‬وأول السلم‪.‬‬

‫فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله‪ ،‬فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه‪ ،‬وأنه باطل وكذب‪ ،‬وكل باطل‬
‫وكذب‪ ،‬ل يوجد في شرع اللّه‪ ،‬ول يتصف به عباد اللّه‪.‬‬

‫يقول تعالى‪ :‬فاللّه لم يجعل الدعياء الذين تدعونهم‪ ،‬أو يدعون إليكم‪ ،‬أبناءكم‪ ،‬فإن أبناءكم في‬
‫الحقيقة‪ ،‬من ولدتموهم‪ ،‬وكانوا منكم‪ ،‬وأما هؤلء الدعياء من غيركم‪ ،‬فل جعل اللّه هذا كهذا‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } القول‪ ،‬الذي تقولون في الدعي‪ :‬إنه ابن فلن‪ ،‬الذي ادعاه‪ ،‬أو والده فلن { َقوُْلكُمْ‬
‫بَِأ ْفوَا ِهكُمْ } أي‪ :‬قول ل حقيقة له ول معنى له‪.‬‬
‫حقّ } أي‪ :‬اليقين والصدق‪ ،‬فلذلك أمركم باتباعه‪ ،‬على قوله وشرعه‪ ،‬فقوله‪ ،‬حق‪،‬‬
‫{ وَاللّهُ َيقُولُ الْ َ‬
‫وشرعه حق‪ ،‬والقوال والفعال الباطلة‪ ،‬ل تنسب إليه بوجه من الوجوه‪ ،‬وليست من هدايته‪ ،‬لنه‬
‫ل يهدي إل إلى السبيل المستقيمة‪ ،‬والطرق الصادقة‪.‬‬

‫وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته‪ ،‬فمشيئته عامة‪ ،‬لكل ما وجد من خير وشر‪.‬‬

‫ثم صرح لهم بترك الحالة الولى‪ ،‬المتضمنة للقول الباطل فقال‪ { :‬ادْعُوهُمْ } أي‪ :‬الدعياء‬
‫{ لِآبَا ِئ ِهمْ } الذين ولدوهم { ُهوَ َأ ْقسَطُ عِ ْندَ اللّهِ } أي‪ :‬أعدل‪ ،‬وأقوم‪ ،‬وأهدى‪.‬‬

‫ن َو َموَالِيكُمْ } أي‪ :‬إخوتكم في دين اللّه‪،‬‬


‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫{ فَإِنْ َلمْ َتعَْلمُوا آبَا َءهُمْ } الحقيقيين { فَِإ ْ‬
‫ومواليكم في ذلك‪ ،‬فادعوهم بالخوة اليمانية الصادقة‪ ،‬والموالة على ذلك‪ ،‬فترك الدعوة إلى من‬
‫تبناهم حتم‪ ،‬ل يجوز فعلها‪.‬‬

‫وأما دعاؤهم لبائهم‪ ،‬فإن علموا‪ ،‬دعوا إليهم‪ ،‬وإن لم يعلموا‪ ،‬اقتصر على ما يعلم منهم‪ ،‬وهو‬
‫أخوة [الدين] والموالة‪ ،‬فل تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم‪ ،‬عذر في دعوتهم إلى من تبناهم‪،‬‬
‫لن المحذور ل يزول بذلك‪.‬‬

‫خطَأْتُمْ بِهِ } بأن سبق على لسان أحدكم‪ ،‬دعوته إلى من تبناه‪ ،‬فهذا غير‬
‫{ وَلَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَ ْ‬
‫مؤاخذ به‪ ،‬أو علم أبوه ظاهرًا‪[ ،‬فدعوتموه إليه] وهو في الباطن‪ ،‬غير أبيه‪ ،‬فليس عليكم في ذلك‬
‫حرج‪ ،‬إذا كان خطأ‪ { ،‬وََلكِنْ } يؤاخذكم { ِبمَا َت َعمّ َدتْ قُلُو ُبكُمْ } من الكلم‪ ،‬بما ل يجوز‪َ { .‬وكَانَ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا } غفر لكم ورحمكم‪ ،‬حيث لم يعاقبكم بما سلف‪ ،‬وسمح لكم بما أخطأتم به‪،‬‬
‫اللّهُ َ‬
‫ورحمكم حيث بيّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم‪ ،‬فله الحمد تعالى‪.‬‬

‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي‬


‫سهِ ْم وَأَ ْزوَاجُهُ ُأ ّمهَا ُتهُمْ وَأُولُو الْأَ ْرحَامِ َب ْع ُ‬
‫{ ‪ { } 6‬النّ ِبيّ َأوْلَى بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ إِلّا أَنْ َتفْعَلُوا إِلَى َأوْلِيَا ِئكُمْ َمعْرُوفًا كَانَ ذَِلكَ فِي ا ْلكِتَابِ‬
‫كِتَابِ اللّهِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫مَسْطُورًا }‬

‫يخبر تعالى المؤمنين‪ ،‬خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته‪ ،‬فيعاملونه‬
‫سهِمْ } أقرب ما للنسان‪ ،‬وأولى ما له‬
‫بمقتضى تلك الحالة فقال‪ { :‬النّ ِبيّ َأوْلَى بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫نفسه‪ ،‬فالرسول أولى به من نفسه‪ ،‬لنه عليه الصلة والسلم‪ ،‬بذل لهم من النصح‪ ،‬والشفقة‪،‬‬
‫والرأفة‪ ،‬ما كان به أرحم الخلق‪ ،‬وأرأفهم‪ ،‬فرسول اللّه‪ ،‬أعظم الخلق مِنّةً عليهم‪ ،‬من كل أحد‪ ،‬فإنه‬
‫لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير‪ ،‬ول اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر‪ ،‬إل على يديه وبسببه‪.‬‬
‫فلذلك‪ ،‬وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس‪ ،‬أو مراد أحد من الناس‪ ،‬مع مراد الرسول‪ ،‬أن يقدم‬
‫مراد الرسول‪ ،‬وأن ل يعارض قول الرسول‪ ،‬بقول أحد‪ ،‬كائنًا من كان‪ ،‬وأن يفدوه بأنفسهم‬
‫وأموالهم وأولدهم‪ ،‬ويقدموا محبته على الخلق كلهم‪ ،‬وأل يقولوا حتى يقول‪ ،‬ول يتقدموا بين يديه‪.‬‬

‫وهو صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬أب للمؤمنين‪ ،‬كما في قراءة بعض الصحابة‪ ،‬يربيهم كما يربي الوالد‬
‫أولده‪.‬‬

‫فترتب على هذه البوة‪ ،‬أن كان نساؤه أمهاتهم‪ ،‬أي‪ :‬في الحرمة والحترام‪ ،‬والكرام‪ ،‬ل في‬
‫الخلوة والمحرمية‪ ،‬وكأن هذا مقدمة‪ ،‬لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة‪ ،‬الذي كان قبل ُيدْعَى‪:‬‬
‫حمّدٌ أَبَا َأحَدٍ مِنْ ِرجَاِلكُمْ } فقطع نسبه‪ ،‬وانتسابه منه‪،‬‬
‫"زيد بن محمد" حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ ُم َ‬
‫فأخبر في هذه الية‪ ،‬أن المؤمنين كلهم‪ ،‬أولد للرسول‪ ،‬فل مزية لحد عن أحد وإن انقطع عن‬
‫أحدهم انتساب الدعوة‪ ،‬فإن النسب اليماني لم ينقطع عنه‪ ،‬فل يحزن ول يأسف‪.‬‬

‫وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين‪ ،‬أنهن ل يحللن لحد من بعده‪ ،‬كما ال صرح‬
‫بذلك‪" :‬وَلَا أَنْ تَ ْنكِحُوا أَ ْزوَاجَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ أَبَدًا"‬

‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [أي]‪ :‬في‬


‫{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي‪ :‬القارب‪ ،‬قربوا أو بعدوا { َب ْع ُ‬
‫حكمه‪ ،‬فيرث بعضهم بعضًا‪ ،‬ويبر بعضهم بعضًا‪ ،‬فهم أولى من الحلف والنصرة‪.‬‬

‫والدعياء الذين كانوا من قبل‪ ،‬يرثون بهذه السباب‪ ،‬دون ذوي الرحام‪ ،‬فقطع تعالى‪ ،‬التوارث‬
‫بذلك‪ ،‬وجعله للقارب‪ ،‬لطفًا منه وحكمة‪ ،‬فإن المر لو استمر على العادة السابقة‪ ،‬لحصل من‬
‫الفساد والشر‪ ،‬والتحيل لحرمان القارب من الميراث‪ ،‬شيء كثير‪.‬‬

‫ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ } أي‪ :‬سواء كان القارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين‪ ،‬فإن‬
‫{ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫ذوي الرحام مقدمون في ذلك‪ ،‬وهذه الية حجة على ولية ذوي الرحام‪ ،‬في جميع الوليات‪،‬‬
‫كولية النكاح‪ ،‬والمال‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫{ إِلّا أَنْ َت ْفعَلُوا إِلَى َأوْلِيَا ِئكُمْ َمعْرُوفًا } أي‪ :‬ليس لهم حق مفروض‪ ،‬وإنما هو بإرادتكم‪ ،‬إن شئتم أن‬
‫سطُورًا }‬
‫تتبرعوا لهم تبرعًا‪ ،‬وتعطوهم معروفًا منكم‪ { ،‬كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي ا ْلكِتَابِ مَ ْ‬
‫أي‪ :‬قد سطر‪ ،‬وكتب‪ ،‬وقدره اللّه‪ ،‬فل بد من نفوذه‪.‬‬

‫ح وَإِبْرَاهِي َم َومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‬


‫{ ‪ { } 8 - 7‬وَإِذْ َأخَذْنَا مِنَ النّبِيّينَ مِيثَا َقهُ ْم َومِ ْنكَ َومِنْ نُو ٍ‬
‫عذَابًا أَلِيمًا }‬
‫ص ْد ِقهِ ْم وَأَعَدّ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫ن ِ‬
‫وَأَخَذْنَا مِ ْنهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسَْألَ الصّا ِدقِينَ عَ ْ‬
‫يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عمومًا‪ ،‬ومن أولي العزم ‪-‬وهم‪ ،‬هؤلء الخمسة المذكورون‪-‬‬
‫خصوصًا‪ ،‬ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد‪ ،‬على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله‪ ،‬وأن هذا‬
‫سبيل‪ ،‬قد مشى النبياء المتقدمون‪ ،‬حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم‪ ،‬محمد صلى اللّه عليه وسلم‪،‬‬
‫وأمر الناس بالقتداء بهم‪.‬‬

‫وسيسأل اللّه النبياء وأتباعهم‪ ،‬عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه‪ ،‬وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟‬
‫ل صَ َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَ ْيهِ }‬
‫أم كفروا‪ ،‬فيعذبهم العذاب الليم؟ قال تعالى‪ { :‬مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِرجَا ٌ‬

‫{ ‪ { } 11 - 9‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ جَاءَ ْتكُمْ جُنُودٌ فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا‬
‫سفَلَ مِ ْنكُ ْم وَإِذْ‬
‫وَجُنُودًا َلمْ تَ َروْهَا َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرًا * ِإذْ جَاءُوكُمْ مِنْ َف ْو ِقكُمْ َومِنْ َأ ْ‬
‫غتِ الْأَ ْبصَا ُر وَبََلغَتِ ا ْلقُلُوبُ الْحَنَاجِ َر وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ * هُنَاِلكَ ابُْتِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَزُلْزِلُوا‬
‫زَا َ‬
‫شدِيدًا }‬
‫زِلْزَالًا َ‬

‫يذكر تعالى عباده المؤمنين‪ ،‬نعمته عليهم‪ ،‬ويحثهم على شكرها‪ ،‬حين جاءتهم جنود أهل مكة‬
‫والحجاز‪ ،‬من فوقهم‪ ،‬وأهل نجد‪ ،‬من أسفل منهم‪ ،‬وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول‬
‫والصحابة‪ ،‬وذلك في وقعة الخندق‪.‬‬

‫ومالتهم [طوائف] اليهود‪ ،‬الذين حوالي المدينة‪ ،‬فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة‪.‬‬

‫وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬على المدينة‪ ،‬فحصروا المدينة‪ ،‬واشتد المر‪ ،‬وبلغت‬
‫القلوب الحناجر‪ ،‬حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ‪ ،‬لما رأوا من السباب المستحكمة‪،‬‬
‫والشدائد الشديدة‪ ،‬فلم يزل الحصار على المدينة‪ ،‬مدة طويلة‪ ،‬والمر كما وصف اللّه‪ { :‬وَإِذْ‬
‫غتِ الْأَ ْبصَا ُر وَبََلغَتِ ا ْلقُلُوبُ الْحَنَاجِ َر وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ } أي‪ :‬الظنون السيئة‪ ،‬أن اللّه ل‬
‫زَا َ‬
‫ينصر دينه‪ ،‬ول يتم كلمته‪.‬‬

‫{ هُنَاِلكَ ابْتُِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } بالخوف والقلق‪ ،‬والجوع‪،‬‬
‫ليتبين إيمانهم‪ ،‬ويزيد إيقانهم‪ ،‬فظهر ‪-‬وللّه الحمد‪ -‬من إيمانهم‪ ،‬وشدة يقينهم‪ ،‬ما فاقوا فيه الولين‬
‫والخرين‪.‬‬

‫وعندما اشتد الكرب‪ ،‬وتفاقمت الشدائد‪ ،‬صار إيمانهم عين اليقين‪ { ،‬وََلمّا رَأَى ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الْأَحْزَابَ‬
‫قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُ ُه َوصَدَقَ اللّ ُه وَرَسُولُ ُه َومَا زَا َدهُمْ إِلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }‬

‫وهنالك تبين نفاق المنافقين‪ ،‬وظهر ما كانوا يضمرون قال تعالى‪:‬‬


‫ن وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ مَا وَعَدَنَا اللّ ُه وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُورًا }‬
‫{ ‪ { } 12‬وَإِذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬

‫وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة‪ ،‬ل يثبت إيمانه‪ ،‬وينظر بعقله القاصر‪ ،‬إلى الحالة القاصرة‬
‫ويصدق ظنه‪.‬‬

‫{ وَإِذْ قَاَلتْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ } من المنافقين‪ ،‬بعد ما جزعوا وقلّ صبرهم‪ ،‬وصاروا أيضًا من‬
‫المخذولين‪ ،‬فل صبروا بأنفسهم‪ ،‬ول تركوا الناس من شرهم‪ ،‬فقالت هذه الطائفة‪ { :‬يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ }‬
‫يريدون { يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية] فيه إشارة إلى أن الدين‬
‫والخوة اليمانية‪ ،‬ليس له في قلوبهم قدر‪ ،‬وأن الذي حملهم على ذلك‪ ،‬مجرد الخور الطبيعي‪.‬‬

‫{ يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ لَا ُمقَامَ َلكُمْ } أي‪ :‬في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة‪ ،‬وكانوا عسكروا‬
‫جعُوا } إلى المدينة‪ ،‬فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد‪ ،‬وتبين أنهم‬
‫دون الخندق‪ ،‬وخارج المدينة‪ { ،‬فَا ْر ِ‬
‫ل قوة لهم بقتال عدوهم‪ ،‬ويأمرونهم بترك القتال‪ ،‬فهذه الطائفة‪ ،‬شر الطوائف وأضرها‪ ،‬وطائفة‬
‫أخرى دونهم‪ ،‬أصابهم الجبن والجزع‪ ،‬وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف‪ ،‬فجعلوا يعتذرون‬
‫عوْ َرةٌ }‬
‫بالعذار الباطلة‪ ،‬وهم الذين قال اللّه فيهم‪ { :‬وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمُ النّ ِبيّ َيقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا َ‬
‫أي‪ :‬عليها الخطر‪ ،‬ونخاف عليها أن يهجم عليها العداء‪ ،‬ونحن غُ ّيبٌ عنها‪ ،‬فَأْذَنْ لنا نرجع إليها‪،‬‬
‫فنحرسها‪ ،‬وهم كذبة في ذلك‪.‬‬

‫{ َومَا ِهيَ ِب َعوْ َرةٍ إِنْ يُرِيدُونَ } أي‪ :‬ما قصدهم { إِلّا فِرَارًا } ولكن جعلوا هذا الكلم‪ ،‬وسيلة‬
‫وعذرًا‪[ .‬لهم] فهؤلء قل إيمانهم‪ ،‬وليس له ثبوت عند اشتداد المحن‪.‬‬

‫{ وََلوْ ُدخَِلتْ عَلَ ْيهِمْ } المدينة { مِنْ َأ ْقطَارِهَا } أي‪ :‬لو دخل الكفار إليها من نواحيها‪ ،‬واستولوا‬
‫عليها ‪-‬ل كان ذلك‪ { -‬ثُمّ } سئل هؤلء { ا ْلفِتْنَة } أي‪ :‬النقلب عن دينهم‪ ،‬والرجوع إلى دين‬
‫المستولين المتغلبين { لَآ َتوْهَا } أي‪ :‬لعطوها مبادرين‪.‬‬

‫{ َومَا تَلَبّثُوا ِبهَا إِلّا َيسِيرًا } أي‪ :‬ليس لهم منعة ول تَصّلبٌ على الدين‪ ،‬بل بمجرد ما تكون الدولة‬
‫للعداء‪ ،‬يعطونهم ما طلبوا‪ ،‬ويوافقونهم على كفرهم‪ ،‬هذه حالهم‪.‬‬

‫عهْدُ اللّهِ مَسْئُولًا } سيسألهم عن ذلك‬


‫والحال أنهم قد { عَاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَ ْبلُ لَا ُيوَلّونَ الَْأدْبَا َر َوكَانَ َ‬
‫العهد‪ ،‬فيجدهم قد نقضوه‪ ،‬فما ظنهم إذًا‪ ،‬بربهم؟‬
‫{ ‪ُ { } 16‬قلْ }‬

‫{ ُقلْ } لهم‪ ،‬لئمًا على فرارهم‪ ،‬ومخبرًا أنهم ل يفيدهم ذلك شيئًا { لَنْ يَ ْن َف َعكُمُ ا ْلفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ‬
‫ا ْل َم ْوتِ َأوِ ا ْلقَ ْتلِ } فلو كنتم في بيوتكم‪ ،‬لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم‪.‬‬

‫والسباب تنفع‪ ،‬إذا لم يعارضها القضاء والقدر‪ ،‬فإذا جاء القضاء والقدر‪ ،‬تلشى كل سبب‪،‬‬
‫وبطلت كل وسيلة‪ ،‬ظنها النسان تنجيه‪.‬‬

‫{ وَإِذَا } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل‪ ،‬ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لَا ُتمَ ّتعُونَ إِلّا قَلِيلًا }‬
‫متاعًا‪ ،‬ل يسوى فراركم‪ ،‬وترككم أمر اللّه‪ ،‬وتفويتكم على أنفسكم‪ ،‬التمتع البدي‪ ،‬في النعيم‬
‫السرمدي‪.‬‬

‫ثم بين أن السباب كلها ل تغني عن العبد شيئًا إذا أراده اللّه بسوء‪ ،‬فقال‪ُ { :‬قلْ مَنْ ذَا الّذِي‬
‫حمَةً } فإنه هو‬
‫صمُكُمْ } أي‪ :‬يمنعكم { من اللّهِ إِنْ أَرَادَ ِبكُمْ سُوءًا } أي‪ :‬شرًا‪َ { ،‬أوْ أَرَادَ ِبكُمْ َر ْ‬
‫َي ْع ِ‬
‫المعطي المانع‪ ،‬الضار النافع‪ ،‬الذي ل يأتي بالخير إل هو‪ ،‬ول يدفع السوء إل هو‪.‬‬

‫{ وَلَا َيجِدُونَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا } يتولهم‪ ،‬فيجلب لهم النفع { وَلَا َنصِيرًا } أي ينصرهم‪،‬‬
‫فيدفع عنهم المضار‪.‬‬

‫فَلْ َيمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالمور كلها‪ ،‬الذي نفذت مشيئته‪ ،‬ومضى قدره‪ ،‬ولم ينفع مع ترك وليته‬
‫ي ول ناصر‪.‬‬
‫ونصرته‪ ،‬وَلِ ّ‬

‫ثم توّعد تعالى المخذلين المعوقين‪ ،‬وتهددهم فقال‪ { :‬قَدْ َيعَْلمُ اللّهُ ا ْل ُم َعوّقِينَ مِ ْنكُمْ } عن الخروج‪،‬‬
‫خوَا ِنهِمْ } الذين خرجوا‪ { :‬هَلُمّ إِلَيْنَا } أي‪ :‬ارجعوا‪ ،‬كما تقدم من‬
‫لمن [لم] يخرجوا { وَا ْلقَائِلِينَ لِإِ ْ‬
‫جعُوا }‬
‫قولهم‪ { :‬يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ لَا ُمقَامَ َلكُمْ فَا ْر ِ‬

‫وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } أي‪ :‬القتال والجهاد بأنفسهم { إِلّا قَلِيلًا } فهم أشد‬
‫الناس حرصًا على التخلف‪ ،‬لعدم الداعي لذلك‪ ،‬من اليمان والصبر‪ ،‬ووجود المقتضى للجبن‪ ،‬من‬
‫النفاق‪ ،‬وعدم اليمان‪.‬‬

‫{ َأشِحّةً عَلَ ْيكُمْ } بأبدانهم عند القتال‪ ،‬وبأموالهم عند النفقة فيه‪ ،‬فل يجاهدون بأموالهم وأنفسهم‪.‬‬
‫خوْفُ رَأَيْ َتهُمْ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ا ْل َم ْوتِ } من شدة الجبن‪ ،‬الذي‬
‫{ فَِإذَا جَاءَ ا ْل َ‬
‫خلع قلوبهم‪ ،‬والقلق الذي أذهلهم‪ ،‬وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون‪ ،‬من القتال‪.‬‬
‫خ ْوفُ } وصاروا في حال المن والطمأنينة‪ { ،‬سََلقُوكُمْ بِأَلْسِنَة } أي‪ :‬خاطبوكم‪،‬‬
‫{ فَِإذَا َذ َهبَ الْ َ‬
‫وتكلموا معكم‪ ،‬بكلم حديد‪ ،‬ودعاوى غير صحيحة‪.‬‬

‫شحّةً عَلَى ا ْلخَيْرِ } الذي يراد منهم‪ ،‬وهذا شر ما‬


‫وحين تسمعهم‪ ،‬تظنهم أهل الشجاعة والقدام‪ { ،‬أَ ِ‬
‫في النسان‪ ،‬أن يكون شحيحًا بما أمر به‪ ،‬شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه‪ ،‬شحيحًا في بدنه أن‬
‫يجاهد أعداء اللّه‪ ،‬أو يدعو إلى سبيل اللّه‪ ،‬شحيحًا بجاهه‪ ،‬شحيحًا بعلمه‪ ،‬ونصيحته ورأيه‪.‬‬

‫علَى‬
‫{ أُولَ ِئكَ } الذين بتلك الحالة { َلمْ ُي ْؤمِنُوا } بسبب عدم إيمانهم‪ ،‬أحبط ال أعمالهم‪َ { ،‬وكَانَ ذَِلكَ َ‬
‫اللّهِ َيسِيرًا }‬

‫وأما المؤمنون‪ ،‬فقد وقاهم اللّه‪ ،‬شح أنفسهم‪ ،‬ووفقهم لبذل ما أمروا به‪ ،‬من بذل لبدانهم في القتال‬
‫في سبيله‪ ،‬وإعلء كلمته‪ ،‬وأموالهم‪ ،‬للنفقة في طرق الخير‪ ،‬وجاههم وعلمهم‪.‬‬

‫{ َيحْسَبُونَ الَْأحْزَابَ لَمْ َيذْهَبُوا } أي‪ :‬يظنون أن هؤلء الحزاب‪ ،‬الذين تحزبوا على حرب رسول‬
‫اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬لم يذهبوا حتى يستأصلوهم‪ ،‬فخاب ظنهم‪ ،‬وبطل حسبانهم‪.‬‬

‫{ وَإِنْ يَ ْأتِ الَْأحْزَابُ } مرة أخرى { َيوَدّوا َلوْ أَ ّن ُهمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَا ِئكُمْ } أي‪:‬‬
‫لو أتى الحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة‪ ،‬ودّ هؤلء المنافقون‪ ،‬أنهم ليسوا في المدينة‪ ،‬ول في‬
‫القرب منها‪ ،‬وأنهم مع العراب في البادية‪ ،‬يستخبرون عن أخباركم‪ ،‬ويسألون عن أنبائكم‪ ،‬ماذا‬
‫حصل عليكم؟‬

‫فتبًا لهم‪ ،‬وبعدًا‪ ،‬فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وََلوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا ِإلّا قَلِيلًا } فل تبالوهم‪،‬‬
‫ول تأسوا عليهم‪.‬‬

‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة‪ ،‬وباشر موقف‬
‫{ َلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ‬
‫الحرب‪ ،‬وهو الشريف الكامل‪ ،‬والبطل الباسل‪ ،‬فكيف تشحون بأنفسكم‪ ،‬عن أمر جاد رسول اللّه‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬بنفسه فيه؟"‬

‫سوْا به في هذا المر وغيره‪.‬‬


‫فَتأَ ّ‬

‫واستدل الصوليون في هذه الية‪ ،‬على الحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وأن‬
‫الصل‪ ،‬أن أمته أسوته في الحكام‪ ،‬إل ما دل الدليل الشرعي على الختصاص به‪.‬‬

‫فالسوة نوعان‪ :‬أسوة حسنة‪ ،‬وأسوة سيئة‪.‬‬


‫فالسوة الحسنة‪ ،‬في الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن المتأسّي به‪ ،‬سالك الطريق الموصل إلى‬
‫كرامة اللّه‪ ،‬وهو الصراط المستقيم‪.‬‬

‫وأما السوة بغيره‪ ،‬إذا خالفه‪ ،‬فهو السوة السيئة‪ ،‬كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسّي ]بهم[‬
‫{ إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى آثَارِهِمْ ُمهْ َتدُونَ }‬

‫وهذه السوة الحسنة‪ ،‬إنما يسلكها ويوفق لها‪ ،‬من كان يرجو اللّه‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬فإن ما معه من‬
‫اليمان‪ ،‬وخوف اللّه‪ ،‬ورجاء ثوابه‪ ،‬وخوف عقابه‪ ،‬يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف‪ ،‬ذكر حال المؤمنين فقال‪ { :‬وََلمّا رَأَى ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الَْأحْزَابَ }‬
‫الذين تحزبوا‪ ،‬ونزلوا منازلهم‪ ،‬وانتهى الخوف‪ { ،‬قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله‪ { :‬أَمْ‬
‫حسِبْتُمْ أَنْ َتدْخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا حَتّى‬
‫َ‬
‫ل وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }‬
‫َيقُولَ الرّسُو ُ‬

‫{ َوصَ َدقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا‪ ،‬ما أخبرنا به { َومَا زَا َدهُمْ } ذلك المر { إِلّا إِيمَانًا } في قلوبهم‬
‫{ وَتَسْلِيمًا } في جوارحهم‪ ،‬وانقيادًا لمر اللّه‪.‬‬

‫ولما ذكر أن المنافقين‪ ،‬عاهدوا اللّه‪ ،‬ل يولون الدبار‪ ،‬ونقضوا ذلك العهد‪ ،‬ذكر وفاء المؤمنين به‪،‬‬
‫ل صَ َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ } أي‪ :‬وفوا به‪ ،‬وأتموه‪ ،‬وأكملوه‪ ،‬فبذلوا مهجهم‬
‫فقال‪ { :‬مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ رِجَا ٌ‬
‫في مرضاته‪ ،‬وسبّلوا أنفسهم في طاعته‪.‬‬

‫{ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َقضَى نَحْ َبهُ } أي‪ :‬إرادته ومطلوبه‪ ،‬وما عليه من الحق‪ ،‬فقتل في سبيل اللّه‪ ،‬أو مات‬
‫مؤديًا لحقه‪ ،‬لم ينقصه شيئًُا‪.‬‬

‫{ َومِ ْنهُمْ مَنْ يَنْ َتظِرُ } تكميل ما عليه‪ ،‬فهو شارع في قضاء ما عليه‪ ،‬ووفاء نحبه ولما يكمله‪ ،‬وهو‬
‫في رجاء تكميله‪ ،‬ساع في ذلك‪ ،‬مجد‪.‬‬

‫{ َومَا بَدّلُوا تَ ْبدِيلًا } كما بدل غيرهم‪ ،‬بل لم يزالوا على العهد‪ ،‬ل يلوون‪ ،‬ول يتغيرون‪ ،‬فهؤلء‪،‬‬
‫الرجال على الحقيقة‪ ،‬ومن عداهم‪ ،‬فصورهم صور رجال‪ ،‬وأما الصفات‪ ،‬فقد قصرت عن‬
‫صفات الرجال‪.‬‬
‫{ لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ الصّا ِدقِينَ ِبصِ ْد ِقهِمْ } أي‪ :‬بسبب صدقهم‪ ،‬في أقوالهم‪ ،‬وأحوالهم‪ ،‬ومعاملتهم مع اللّه‪،‬‬
‫ن صِ ْد ُق ُهمْ َلهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ‬
‫واستواء ظاهرهم وباطنهم‪ ،‬قال اللّه تعالى‪ { :‬هَذَا َيوْمُ يَ ْنفَعُ الصّا ِدقِي َ‬
‫تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } الية‪.‬‬

‫أي‪ :‬قدرنا ما قدرنا‪ ،‬من هذه الفتن والمحن‪ ،‬والزلزل‪ ،‬ليتبين الصادق من الكاذب‪ ،‬فيجزي‬
‫الصادقين بصدقهم { وَ ُيعَ ّذبَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم‪ ،‬عند حلول الفتن‪ ،‬ولم يفوا‬
‫بما عاهدوا اللّه عليه‪.‬‬

‫{ إِنْ شَاءَ } تعذيبهم‪ ،‬بأن لم يشأ هدايتهم‪ ،‬بل علم أنهم ل خير فيهم‪ ،‬فلم يوفقهم‪.‬‬

‫{ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والنابة‪ ،‬وهذا هو الغالب‪ ،‬على كرم الكريم‪ ،‬ولهذا ختم الية‬
‫غفُورًا رحيمًا } غفورًا‬
‫باسمين دالين على المغفرة‪ ،‬والفضل‪ ،‬والحسان فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬
‫لذنوب المسرفين على أنفسهم‪ ،‬ولو أكثروا من العصيان‪ ،‬إذا أتوا بالمتاب‪َ { .‬رحِيمًا } بهم‪ ،‬حيث‬
‫وفقهم للتوبة‪ ،‬ثم قبلها منهم‪ ،‬وستر عليهم ما اجترحوه‪.‬‬

‫ظهِمْ َلمْ يَنَالُوا خَيْرًا } أي‪ :‬ردهم خائبين‪ ،‬لم يحصل لهم المر الذي‬
‫{ وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ َكفَرُوا ِبغَ ْي ِ‬
‫كانوا حنقين عليه‪ ،‬مغتاظين قادرين ]عليه[ جازمين‪ ،‬بأن لهم الدائرة‪ ،‬قد غرتهم جموعهم‪،‬‬
‫وأعجبوا بتحزبهم‪ ،‬وفرحوا ِبعَدَدِهمْ وعُ َددِهِمْ‪.‬‬

‫فأرسل اللّه عليهم‪ ،‬ريحًا عظيمة‪ ،‬وهي ريح الصبا‪ ،‬فزعزعت مراكزهم‪ ،‬وقوّضت خيامهم‪،‬‬
‫وكفأت قدورهم وأزعجتهم‪ ،‬وضربهم اللّه بالرعب‪ ،‬فانصرفوا بغيظهم‪ ،‬وهذا من نصر اللّه لعباده‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫{ َو َكفَى اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ا ْلقِتَالَ } بما صنع لهم من السباب العادية والقدرية‪َ { ،‬وكَانَ اللّهُ َقوِيّا عَزِيزًا‬
‫} ل يغالبه أحد إل غُِلبَ‪ ،‬ول يستنصره أحد إل غََلبَ‪ ،‬ول يعجزه أمر أراده‪ ،‬ول ينفع أهل القوة‬
‫والعزة‪ ،‬قوتهم وعزتهم‪ ،‬إن لم يعنهم بقوته وعزته‪.‬‬

‫ن صَيَاصِيهِمْ } أي‪:‬‬
‫{ وَأَنْ َزلَ الّذِينَ ظَاهَرُو ُهمْ } أي عاونوهم { مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } أي‪ :‬اليهود { مِ ْ‬
‫أنزلهم من حصونهم‪ ،‬نزولً مظفورًا بهم‪ ،‬مجعولين تحت حكم السلم‪.‬‬

‫عبَ } فلم يقووا على القتال‪ ،‬بل استسلموا وخضعوا وذلوا‪ { .‬فَرِيقًا َتقْتُلُونَ }‬
‫{ َوقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ‬
‫وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان‪.‬‬
‫ضهُ ْم وَدِيَارَ ُه ْم وََأ ْموَاَلهُ ْم وَأَ ْرضًا لَمْ َتطَئُوهَا } أي‪ :‬أرضا كانت من‬
‫{ وََأوْرَ َثكُمْ } أي‪ :‬غنّمكم { أَ ْر َ‬
‫قبل‪ ،‬من شرفها وعزتها عند أهلها‪ ،‬ل تتمكنون من وطئها‪ ،‬فمكنكم اللّه وخذلهم‪ ،‬وغنمتم أموالهم‪،‬‬
‫وقتلتموهم‪ ،‬وأسرتموهم‪.‬‬

‫شيْءٍ قَدِيرًا } ل يعجزه شيء‪ ،‬ومن قدرته‪ ،‬قدّر لكم ما قدر‪.‬‬


‫{ َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب‪ ،‬هم بنو قريظة من اليهود‪ ،‬في قرية خارج المدينة‪ ،‬غير‬
‫بعيدة‪ ،‬وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم‪[ ،‬حين] هاجر إلى المدينة‪ ،‬وادعهم‪ ،‬وهادنهم‪ ،‬فلم يقاتلهم‬
‫ولم يقاتلوه‪ ،‬وهم باقون على دينهم‪ ،‬لم يغير عليهم شيئًا‪.‬‬

‫فلما رأوا يوم الخندق‪ ،‬الحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم‪ ،‬وقلة المسلمين‪ ،‬وظنوا‬
‫أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين‪ ،‬وساعد على ذلك‪[ ،‬تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم‪ ،‬فنقضوا‬
‫العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ومالؤوا المشركين على قتاله‪.‬‬

‫فلما خذل اللّه المشركين‪ ،‬تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬لقتالهم‪ ،‬فحاصرهم في حصنهم‪،‬‬
‫فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه‪ ،‬فحكم فيهم‪ ،‬أن تقتل مقاتلتهم‪ ،‬وتسبى ذراريهم‪،‬‬
‫وتغنم أموالهم‪.‬‬

‫فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين‪ ،‬المنة‪ ،‬وأسبغ عليهم النعمة‪ ،‬وَأقَرّ أعينهم‪ ،‬بخذلن من انخذل من‬
‫أعدائهم‪ ،‬وقتل من قتلوا‪ ،‬وأسر من أسروا‪ ،‬ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمرًا‪.‬‬

‫جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا فَ َتعَالَيْنَ ُأمَ ّت ْعكُنّ‬
‫{ ‪ { } 29 - 28‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ لِأَ ْزوَا ِ‬
‫جمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِ َرةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ ِل ْلمُحْسِنَاتِ‬
‫حكُنّ سَرَاحًا َ‬
‫وَأُسَرّ ْ‬
‫عظِيمًا }‬
‫مِ ْنكُنّ أَجْرًا َ‬

‫لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة‪ ،‬وطلبن منه النفقة والكسوة‪ ،‬طلبن منه‬
‫أمرًا ل يقدر عليه في كل وقت‪ ،‬ولم يزلن في طلبهن متفقات‪ ،‬في مرادهن متعنتات‪ ،‬شَقّ ذلك على‬
‫الرسول‪ ،‬حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا‪.‬‬

‫فأراد اللّه أن يسهل المر على رسوله‪ ،‬وأن يرفع درجة زوجاته‪ ،‬ويُذْ ِهبَ عنهن كل أمر ينقص‬
‫جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا }‬
‫أجرهن‪ ،‬فأمر رسوله أن يخيرهن فقال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ لِأَ ْزوَا ِ‬
‫أي‪ :‬ليس لكن في غيرها مطلب‪ ،‬وصرتن ترضين لوجودها‪ ،‬وتغضبن لفقدها‪ ،‬فليس لي فيكن‬
‫أرب وحاجة‪ ،‬وأنتن بهذه الحال‪.‬‬
‫جمِيلًا } من‬
‫حكُنّ } أي‪ :‬أفارقكن { سَرَاحًا َ‬
‫{ فَ َتعَالَيْنَ ُأمَ ّت ْعكُنّ } شيئا مما عندي‪ ،‬من الدنيا { وَأُسَرّ ْ‬
‫دون مغاضبة ول مشاتمة‪ ،‬بل بسعة صدر‪ ،‬وانشراح بال‪ ،‬قبل أن تبلغ الحال إلى ما ل ينبغي‪.‬‬

‫{ وَإِنْ كُنْتُنّ تُ ِردْنَ اللّهَ وَرَسُولَ ُه وَالدّارَ الْآخِ َرةَ } أي‪ :‬هذه الشياء مرادكن‪ ،‬وغاية مقصودكن‪ ،‬وإذا‬
‫حصل َلكُنّ اللّه ورسوله والجنة‪ ،‬لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها‪ ،‬ويسرها وعسرها‪ ،‬وقنعتن من‬
‫عظِيمًا }‬
‫حسِنَاتِ مِ ْنكُنّ َأجْرًا َ‬
‫عدّ لِ ْلمُ ْ‬
‫رسول اللّه بما تيسر‪ ،‬ولم تطلبن منه ما يشق عليه‪ { ،‬فَإِنّ اللّهَ أَ َ‬
‫رتب الجر على وصفهن بالحسان‪ ،‬لنه السبب الموجب لذلك‪ ،‬ل لكونهن زوجات للرسول فإن‬
‫مجرد ذلك‪ ،‬ل يكفي‪ ،‬بل ل يفيد شيئًا‪ ،‬مع عدم الحسان‪ ،‬فخيّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه‬
‫وسلم في ذلك‪ ،‬فاخترن اللّه ورسوله‪ ،‬والدار الخرة‪ ،‬كلهن‪ ،‬ولم يتخلف منهن واحدة‪ ،‬رضي اللّه‬
‫عنهن‪.‬‬

‫وفي هذا التخيير فوائد عديدة‪:‬‬

‫منها‪ :‬العتناء برسوله‪ ،‬وغيرته عليه‪ ،‬أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬سلمته صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات‪ ،‬وأنه يبقى في حرية‬
‫نفسه‪ ،‬إن شاء أعطى‪ ،‬وإن شاء منع { مَا كَانَ عَلَى النّ ِبيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَ َرضَ اللّهُ لَهُ }‬

‫ومنها‪ :‬تنزيهه عما لو كان فيهن‪ ،‬من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله‪ ،‬والدار الخرة‪ ،‬وعن‬
‫مقارنتها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬سلمة زوجاته‪ ،‬رضي اللّه عنهن‪ ،‬عن الثم‪ ،‬والتعرض لسخط اللّه ورسوله‪.‬‬

‫فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن‪ ،‬التسخط على الرسول‪ ،‬الموجب لسخطه‪ ،‬المسخط لربه‪ ،‬الموجب‬
‫لعقابه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬إظهار رفعتهن‪ ،‬وعلو درجتهن‪ ،‬وبيان علو هممهن‪ ،‬أن كان اللّه ورسوله والدار الخرة‪،‬‬
‫مرادهن ومقصودهن‪ ،‬دون الدنيا وحطامها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬استعدادهن بهذا الختيار‪ ،‬للمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة‪ ،‬وأن َيكُنّ‬
‫زوجاته في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ظهور المناسبة بينه وبينهن‪ ،‬فإنه أكمل الخلق‪ ،‬وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملت‬
‫ن وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ }‬
‫مكملت‪ ،‬طيبات مطيبات { وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ‬
‫ومنها‪ :‬أن هذا التخيير داع‪ ،‬وموجب للقناعة‪ ،‬التي يطمئن لها القلب‪ ،‬وينشرح لها الصدر‪ ،‬ويزول‬
‫عنهن جشع الحرص‪ ،‬وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه‪ ،‬وهمه وغمه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن يكون اختيارهن هذا‪ ،‬سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته‪ ،‬وأن َيكُنّ بمرتبة‪ ،‬ليس فيها أحد‬
‫من النساء‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫ن َوكَانَ‬
‫ضعْفَيْ ِ‬
‫ب ِ‬
‫عفْ َلهَا ا ْلعَذَا ُ‬
‫{ ‪ { } 31 - 30‬يَا ِنسَاءَ النّ ِبيّ مَنْ يَ ْأتِ مِ ْنكُنّ ِبفَاحِشَةٍ مُبَيّ َنةٍ ُيضَا َ‬
‫ن وَأَعْ َتدْنَا َلهَا‬
‫ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * َومَنْ َيقْ ُنتْ مِ ْنكُنّ لِلّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ َت ْع َملْ صَاِلحًا ُنؤْ ِتهَا أَجْرَهَا مَرّتَيْ ِ‬
‫رِ ْزقًا كَرِيمًا }‬

‫لما اخترن اللّه ورسوله والدار الخرة‪ ،‬ذكر مضاعفة أجرهن‪ ،‬ومضاعفة وزرهن وإثمهن‪ ،‬لو‬
‫جرى منهن‪ ،‬ليزداد حذرهن‪ ،‬وشكرهن اللّه تعالى‪ ،‬فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة‪ ،‬لها‬
‫العذاب ضعفين‪.‬‬

‫{ َومَنْ َيقْ ُنتْ مِ ْنكُنّ } أي‪ :‬تطيع { لِلّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ َت ْع َملْ صَاِلحًا } قليل أو كثيرًا‪ُ { ،‬نؤْ ِتهَا أَجْرَهَا‬
‫مَرّتَيْنِ } أي‪ :‬مثل ما نعطي غيرها مرتين‪ { ،‬وَأَعْتَدْنَا َلهَا رِ ْزقًا كَرِيمًا } وهي الجنة‪ ،‬فقنتن للّه‬
‫ورسوله‪ ،‬وعملن صالحًا‪ ،‬فعلم بذلك أجرهن‪.‬‬

‫طمَعَ الّذِي‬
‫ضعْنَ بِا ْل َقوْلِ فَيَ ْ‬
‫خ َ‬
‫{ ‪ { } 34 - 32‬يَا ِنسَاءَ النّ ِبيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ ا ّتقَيْتُنّ فَلَا تَ ْ‬
‫ن وَلَا تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الْأُولَى وََأ ِقمْنَ‬
‫فِي قَلْ ِبهِ مَ َرضٌ َوقُلْنَ َقوْلًا َمعْرُوفًا * َوقَرْنَ فِي بُيُو ِتكُ ّ‬
‫طهّ َركُمْ‬
‫ت وَيُ َ‬
‫جسَ أَ ْهلَ الْبَ ْي ِ‬
‫طعْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُ ْذ ِهبَ عَ ْن ُكمُ الرّ ْ‬
‫الصّلَاةَ وآتِينَ ال ّزكَا َة وَأَ ِ‬
‫ح ْكمَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ َلطِيفًا خَبِيرًا }‬
‫طهِيرًا * وَا ْذكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُو ِتكُنّ مِنْ آيَاتِ اللّ ِه وَالْ ِ‬
‫تَ ْ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬يَا نِسَاءَ النّ ِبيّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنّ كََأحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ ا ّتقَيْتُنّ } اللّه‪ ،‬فإنكن‬
‫بذلك‪ ،‬تفقن النساء‪ ،‬ول يلحقكن أحد من النساء‪ ،‬فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها‪.‬‬

‫ضعْنَ بِا ْل َق ْولِ } أي‪ :‬في مخاطبة الرجال‪ ،‬أو‬


‫خ َ‬
‫فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم‪ ،‬فقال‪ { :‬فَلَا تَ ْ‬
‫بحيث يسمعون فَتَلِنّ في ذلك‪ ،‬وتتكلمن بكلم رقيق يدعو ويطمع { الّذِي فِي قَلْبِهِ مَ َرضٌ } أي‪:‬‬
‫مرض شهوة الزنا‪ ،‬فإنه مستعد‪ ،‬ينظر أدنى محرك يحركه‪ ،‬لن قلبه غير صحيح [فإن القلب‬
‫الصحيح] ليس فيه شهوة لما حرم اللّه‪ ،‬فإن ذلك ل تكاد ُتمِيلُه ول تحركه السباب‪ ،‬لصحة قلبه‪،‬‬
‫وسلمته من المرض‪.‬‬

‫بخلف مريض القلب‪ ،‬الذي ل يتحمل ما يتحمل الصحيح‪ ،‬ول يصبر على ما يصبر عليه‪ ،‬فأدنى‬
‫سبب يوجد‪ ،‬يدعوه إلى الحرام‪ ،‬يجيب دعوته‪ ،‬ول يتعاصى عليه‪ ،‬فهذا دليل على أن الوسائل‪ ،‬لها‬
‫أحكام المقاصد‪ .‬فإن الخضوع بالقول‪ ،‬واللين فيه‪ ،‬في الصل مباح‪ ،‬ولكن لما كان وسيلة إلى‬
‫المحرم‪ ،‬منع منه‪ ،‬ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال‪ ،‬أن ل تلِينَ لهم القول‪.‬‬

‫ولما نهاهن عن الخضوع في القول‪ ،‬فربما توهم أنهن مأمورات بإغلظ القول‪ ،‬دفع هذا بقوله‪:‬‬
‫{ َوقُلْنَ َقوْلًا َمعْرُوفًا } أي‪ :‬غير غليظ‪ ،‬ول جاف كما أنه ليس بِلَيّنٍ خاضع‪.‬‬

‫ضعْنَ بِا ْل َق ْولِ } ولم يقل‪ { :‬فل تَلِنّ بالقول } وذلك لن المنهي عنه‪ ،‬القول‬
‫خ َ‬
‫وتأمل كيف قال‪ { :‬فَلَا تَ ْ‬
‫اللين‪ ،‬الذي فيه خضوع المرأة للرجل‪ ،‬وانكسارها عنده‪ ،‬والخاضع‪ ،‬هو الذي يطمع فيه‪ ،‬بخلف‬
‫من تكلم كلمًا لينًا‪ ،‬ليس فيه خضوع‪ ،‬بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬ل يطمع‬
‫حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َل ُهمْ } وقال لموسى‬
‫فيه خصمه‪ ،‬ولهذا مدح اللّه رسوله باللين‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ ِبمَا رَ ْ‬
‫خشَى }‬
‫طغَى َفقُولَا َلهُ َقوْلًا لَيّنًا َلعَلّهُ يَتَ َذكّرُ َأوْ يَ ْ‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫وهارون‪ { :‬ا ْذهَبَا إِلَى فِرْ َ‬

‫طمَعَ الّذِي فِي قَلْ ِبهِ مَ َرضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم‪،‬‬
‫ودل قوله‪ { :‬فَ َي ْ‬
‫والحافظات‪ ،‬ونهيه عن قربان الزنا‪ ،‬أنه ينبغي للعبد‪ ،‬إذا رأى من نفسه هذه الحالة‪ ،‬وأنه يهش‬
‫لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلم من يهواه‪ ،‬ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام‪،‬‬
‫فَلْ َيعْ ِرفْ أن ذلك مرض‪.‬‬

‫فَلْيَجْ َتهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية‪ ،‬ومجاهدة نفسه على سلمتها من هذا‬
‫المرض الخطر‪ ،‬وسؤال اللّه العصمة والتوفيق‪ ،‬وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به‪.‬‬

‫{ َوقَرْنَ فِي بُيُو ِتكُنّ } أي‪ :‬اقررن فيها‪ ،‬لنه أسلم وأحفظ َلكُنّ‪ { ،‬وَلَا تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَا ِهلِيّةِ‬
‫الْأُولَى } أي‪ :‬ل تكثرن الخروج متجملت أو متطيبات‪ ،‬كعادة أهل الجاهلية الولى‪ ،‬الذين ل علم‬
‫عندهم ول دين‪ ،‬فكل هذا دفع للشر وأسبابه‪.‬‬

‫ولما أمرهن بالتقوى عمومًا‪ ،‬وبجزئيات من التقوى‪ ،‬نص عليها [لحاجة] النساء إليها‪ ،‬كذلك‬
‫أمرهن بالطاعة‪ ،‬خصوصًا الصلة والزكاة‪ ،‬اللتان يحتاجهما‪ ،‬ويضطر إليهما كل أحد‪ ،‬وهما أكبر‬
‫العبادات‪ ،‬وأجل الطاعات‪ ،‬وفي الصلة‪ ،‬الخلص للمعبود‪ ،‬وفي الزكاة‪ ،‬الحسان إلى العبيد‪.‬‬
‫طعْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله‪ ،‬كل أمر‪،‬‬
‫ثم أمرهن بالطاعة عمومًا‪ ،‬فقال‪ { :‬وَأَ ِ‬
‫ُأمِرَا به أمر إيجاب أو استحباب‪.‬‬

‫جسَ } أي‪:‬‬
‫{ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ } بأمركن بما َأمَ َركُنّ به‪ ،‬ونهيكن بما نهاكُنّ عنه‪ { ،‬لِيُ ْذ ِهبَ عَ ْن ُكمُ الرّ ْ‬
‫طهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين‪.‬‬
‫طهّ َركُمْ َت ْ‬
‫ت وَيُ َ‬
‫الذى‪ ،‬والشر‪ ،‬والخبث‪ ،‬يا { أَ ْهلَ الْبَ ْي ِ‬

‫أي‪ :‬فاحمدوا ربكم‪ ،‬واشكروه على هذه الوامر والنواهي‪ ،‬التي أخبركم بمصلحتها‪ ،‬وأنها محض‬
‫مصلحتكم‪ ،‬لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ول مشقة‪ ،‬بل لتتزكى نفوسكم‪ ،‬ولتتطهر‬
‫أخلقكم‪ ،‬وتحسن أعمالكم‪ ،‬ويعظم بذلك أجركم‪.‬‬

‫ولما أمرهن بالعمل‪ ،‬الذي هو فعل وترك‪ ،‬أمرهن بالعلم‪ ،‬وبين لهن طريقه‪ ،‬فقال‪ { :‬وَا ْذكُرْنَ مَا‬
‫ح ْكمَةِ } والمراد بآيات اللّه‪ ،‬القرآن‪ .‬والحكمة‪ ،‬أسراره‪ .‬وسنة‬
‫يُتْلَى فِي بُيُو ِتكُنّ مِنْ آيَاتِ اللّ ِه وَالْ ِ‬
‫رسوله‪ .‬وأمرهن بذكره‪ ،‬يشمل ذكر لفظه‪ ،‬بتلوته‪ ،‬وذكر معناه‪ ،‬بتدبره والتفكر فيه‪ ،‬واستخراج‬
‫أحكامه وحكمه‪ ،‬وذكر العمل به وتأويله‪ { .‬إِنّ اللّهَ كَانَ َلطِيفًا خَبِيرًا } يدرك أسرار المور‪،‬‬
‫وخفايا الصدور‪ ،‬وخبايا السماوات والرض‪ ،‬والعمال التي تبين وتسر‪.‬‬

‫فلطفه وخبرته‪ ،‬يقتضي حثهن على الخلص وإسرار العمال‪ ،‬ومجازاة اللّه على تلك العمال‪.‬‬

‫ومن معاني { اللطيف } الذي يسوق عبده إلى الخير‪ ،‬ويعصمه من الشر‪ ،‬بطرق خفية ل يشعر‬
‫بها‪ ،‬ويسوق إليه من الرزق‪ ،‬ما ل يدريه‪ ،‬ويريه من السباب‪ ،‬التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك‬
‫طريقا [له] إلى أعلى الدرجات‪ ،‬وأرفع المنازل‪.‬‬

‫ت وَالصّا ِدقِينَ‬
‫ن وَا ْلقَانِتَا ِ‬
‫ت وَا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ وَا ْلقَانِتِي َ‬
‫ن وَا ْلمُسِْلمَا ِ‬
‫{ ‪ { } 35‬إِنّ ا ْلمُسِْلمِي َ‬
‫ت وَا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ وَا ْلمُ َتصَ ّدقَاتِ وَالصّا ِئمِينَ‬
‫شعَا ِ‬
‫ن وَا ْلخَا ِ‬
‫شعِي َ‬
‫ت وَالْخَا ِ‬
‫ن وَالصّابِرَا ِ‬
‫وَالصّا ِدقَاتِ وَالصّابِرِي َ‬
‫عدّ اللّهُ َلهُمْ َم ْغفِ َرةً‬
‫ت وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيرًا وَالذّاكِرَاتِ أَ َ‬
‫جهُ ْم وَا ْلحَافِظَا ِ‬
‫ت وَالْحَا ِفظِينَ فُرُو َ‬
‫وَالصّا ِئمَا ِ‬
‫عظِيمًا }‬
‫وَأَجْرًا َ‬

‫لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وعقابهن [لو قدر عدم المتثال] وأنه‬
‫ليس مثلهن أحد من النساء‪ ،‬ذكر بقية النساء غيرهن‪.‬‬
‫سِلمَاتِ } وهذا‬
‫ن وَا ْلمُ ْ‬
‫ولما كان حكمهن والرجال واحدًا‪ ،‬جعل الحكم مشتركًا‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ ا ْلمُسِْلمِي َ‬
‫في الشرائع الظاهرة‪ ،‬إذا كانوا قائمين بها‪ { .‬وَا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ } وهذا في المور الباطنة‪ ،‬من‬
‫عقائد القلب وأعماله‪.‬‬

‫{ وَا ْلقَانِتِينَ } أي‪ :‬المطيعين للّه ولرسوله { وَا ْلقَانِتَاتِ وَالصّا ِدقِينَ } في مقالهم وفعالهم‬
‫شعِينَ } في جميع‬
‫ت وَالْخَا ِ‬
‫{ وَالصّا ِدقَاتِ } { وَالصّابِرِينَ } على الشدائد والمصائب { وَالصّابِرَا ِ‬
‫شعَاتِ } { وَا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ } فرضًا‬
‫أحوالهم‪،‬خصوصًا في عباداتهم‪ ،‬خصوصًا في صلواتهم‪ { ،‬وَالْخَا ِ‬
‫جهُمْ }‬
‫ت وَالصّا ِئمِينَ وَالصّا ِئمَاتِ } شمل ذلك‪ ،‬الفرض والنفل‪ { .‬وَالْحَا ِفظِينَ فُرُو َ‬
‫ونفلً { وَا ْلمُ َتصَ ّدقَا ِ‬
‫عن الزنا ومقدماته‪ { ،‬وَا ْلحَافِظَاتِ } { وَالذّاكِرِينَ اللّهَ [كَثِيرًا } أي‪ ]:‬في أكثر الوقات‪ ،‬خصوصًا‬
‫أوقات الوراد المقيدة‪ ،‬كالصباح والمساء‪ ،‬وأدبار الصلوات المكتوبات { وَالذّاكِرَاتِ }‬

‫عدّ اللّهُ َلهُمْ } أي‪ :‬لهؤلء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة‪ ،‬والمناقب الجليلة‪ ،‬التي هي‪ ،‬ما‬
‫{ أَ َ‬
‫بين اعتقادات‪ ،‬وأعمال قلوب‪ ،‬وأعمال جوارح‪ ،‬وأقوال لسان‪ ،‬ونفع متعد وقاصر‪ ،‬وما بين أفعال‬
‫الخير‪ ،‬وترك الشر‪ ،‬الذي من قام بهن‪ ،‬فقد قام بالدين كله‪ ،‬ظاهره وباطنه‪ ،‬بالسلم واليمان‬
‫والحسان‪.‬‬

‫عظِيمًا } ل‬
‫فجازاهم على عملهم { بِا ْل َم ْغفِرَةً } لذنوبهم‪ ،‬لن الحسنات يذهبن السيئات‪ { .‬وَأَجْرًا َ‬
‫يقدر قدره‪ ،‬إل الذي أعطاه‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬نسأل‬
‫اللّه أن يجعلنا منهم‪.‬‬

‫ن وَلَا ُم ْؤمِنَةٍ إِذَا َقضَى اللّ ُه وَرَسُوُلهُ َأمْرًا أَنْ َيكُونَ َلهُمُ ا ْلخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِ ِهمْ‬
‫{ ‪َ { }ْ 36‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِ ٍ‬
‫ل ضَلَالًا مُبِينًا ْ}‬
‫ضّ‬‫َومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ َفقَ ْد َ‬

‫أي‪ :‬ل ينبغي ول يليق‪ ،‬ممن اتصف باليمان‪ ،‬إل السراع في مرضاة اللّه ورسوله‪ ،‬والهرب من‬
‫سخط اللّه ورسوله‪ ،‬وامتثال أمرهما‪ ،‬واجتناب نهيهما‪ ،‬فل يليق بمؤمن ول مؤمنة { ِإذَا َقضَى اللّهُ‬
‫وَرَسُولُهُ َأمْرًا ْ} من المور‪ ،‬وحتّما به وألزما به { أَنْ َيكُونَ َلهُمُ ا ْلخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِ ِهمْ ْ} أي‪ :‬الخيار‪،‬‬
‫هل يفعلونه أم ل؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة‪ ،‬أن الرسول أولى به من نفسه‪ ،‬فل يجعل بعض‬
‫أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر اللّه ورسوله‪.‬‬

‫ضلّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ} أي‪ :‬بَيّنًا‪ ،‬لنه ترك الصراط المستقيم الموصلة‬
‫{ َومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُوَلهُ َفقَ ْد َ‬
‫إلى كرامة اللّه‪ ،‬إلى غيرها‪ ،‬من الطرق الموصلة للعذاب الليم‪ ،‬فذكر أولً السبب الموجب لعدم‬
‫معارضته أمر اللّه ورسوله‪ ،‬وهو اليمان‪ ،‬ثم ذكر المانع من ذلك‪ ،‬وهو التخويف بالضلل‪ ،‬الدال‬
‫على العقوبة والنكال‪.‬‬
‫خفِي فِي‬
‫جكَ وَاتّقِ اللّ َه وَتُ ْ‬
‫سكْ عَلَ ْيكَ َز ْو َ‬
‫{ ‪ { }ْ 37‬وَإِذْ َتقُولُ لِلّذِي أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَيْ ِه وَأَ ْن َع ْمتَ عَلَيْهِ َأمْ ِ‬
‫خشَاهُ فََلمّا َقضَى زَيْدٌ مِ ْنهَا َوطَرًا َزوّجْنَا َكهَا ِل َكيْ‬
‫س وَاللّهُ َأحَقّ أَنْ تَ ْ‬
‫خشَى النّا َ‬
‫سكَ مَا اللّهُ مُ ْبدِي ِه وَتَ ْ‬
‫َنفْ ِ‬
‫ن وَطَرًا َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َم ْفعُولًا ْ}‬
‫ضوْا مِ ْنهُ ّ‬
‫لَا َيكُونَ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَ ْزوَاجِ أَدْعِيَا ِئهِمْ ِإذَا َق َ‬

‫وكان سبب نزول هذه اليات‪ ،‬أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين‪ ،‬أن الدعياء‬
‫ليسوا في حكم البناء حقيقة‪ ،‬من جميع الوجوه وأن أزواجهم‪ ،‬ل جناح على من تبناهم‪ ،‬في‬
‫نكاحهن‪.‬‬

‫وكان هذا من المور المعتادة‪ ،‬التي ل تكاد تزول إل بحادث كبير‪ ،‬فأراد أن يكون هذا الشرع‬
‫قولً من رسوله‪ ،‬وفعلً‪ ،‬وإذا أراد اللّه أمرًا‪ ،‬جعل له سببًا‪ ،‬وكان زيد بن حارثة يدعى "زيد بن‬
‫محمد" قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فصار يدعى إليه حتى نزل { ادْعُو ُهمْ لِآبَا ِئهِمْ ْ} فقيل‬
‫له‪" :‬زيد بن حارثة" ‪.‬‬

‫وكانت تحته‪ ،‬زينب بنت جحش‪ ،‬ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وكان قد وقع في قلب‬
‫الرسول‪ ،‬لو طلقها زيد‪ ،‬لتزوّجها‪ ،‬فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد‪ ،‬ما اقتضى أن جاء زيد بن‬
‫حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها‪.‬‬

‫قال اللّه‪ { :‬وَإِذْ َتقُولُ لِلّذِي أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ ْ} أي‪ :‬بالسلم { وَأَ ْن َعمْتَ عَلَيْهِ ْ} بالعتق حين جاءك‬
‫سكْ عَلَ ْيكَ‬
‫مشاورًا في فراقها‪ :‬فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته مع وقوعها في قلبك‪َ { :‬أ ْم ِ‬
‫جكَ ْ} أي‪ :‬ل تفارقها‪ ،‬واصبر على ما جاءك منها‪ { ،‬وَاتّقِ اللّهَ ْ} تعالى في أمورك عامة‪ ،‬وفي‬
‫َزوْ َ‬
‫أمر زوجك خاصة‪ ،‬فإن التقوى‪ ،‬تحث على الصبر‪ ،‬وتأمر به‪.‬‬

‫سكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ ْ} والذي أخفاه‪ ،‬أنه لو طلقها زيد‪ ،‬لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬
‫خفِي فِي َنفْ ِ‬
‫{ وَتُ ْ‬

‫حقّ أَنْ َتخْشَاهُ ْ} وأن ل تباليهم شيئًا‪ { ،‬فََلمّا‬


‫خشَى النّاسَ ْ} في عدم إبداء ما في نفسك { وَاللّهُ أَ َ‬
‫{ وَتَ ْ‬
‫َقضَى زَ ْيدٌ مِ ْنهَا وَطَرًا ْ} أي‪ :‬طابت نفسه‪ ،‬ورغب عنها‪ ،‬وفارقها‪َ { .‬زوّجْنَا َكهَا ْ} وإنما فعلنا ذلك‪،‬‬
‫لفائدة عظيمة‪ ،‬وهي‪ِ { :‬ل َكيْ لَا َيكُونَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَ ْزوَاجِ َأدْعِيَا ِئهِمْ ْ} حيث رأوك‬
‫تزوجت‪ ،‬زوج زيد بن حارثة‪ ،‬الذي كان من قبل‪ ،‬ينتسب إليك‪.‬‬

‫ولما كان قوله‪ِ { :‬ل َكيْ لَا َيكُونَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَ ْزوَاجِ أَدْعِيَا ِئهِمْ ْ} عامًا في جميع الحوال‪،‬‬
‫وكان من الحوال‪ ،‬ما ل يجوز ذلك‪ ،‬وهي قبل انقضاء وطره منها‪ ،‬قيد ذلك بقوله‪ { :‬إِذَا َقضَوْا‬
‫ن وَطَرًا َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َم ْفعُولًا ْ} أي‪ :‬ل بد من فعله‪ ،‬ول عائق له ول مانع‪.‬‬
‫مِ ْنهُ ّ‬
‫وفي هذه اليات المشتملت على هذه القصة‪ ،‬فوائد‪ ،‬منها‪ :‬الثناء على زيد بن حارثة‪ ،‬وذلك من‬
‫وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن اللّه سماه في القرآن‪ ،‬ولم يسم من الصحابة باسمه غيره‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه‪ ،‬أي‪ :‬بنعمة السلم واليمان‪ .‬وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم‬
‫مؤمن‪ ،‬ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬وإل‪ ،‬فل وجه لتخصيصه بالنعمة‪ ،‬لول أن المراد بها‪ ،‬النعمة الخاصة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ال ُمعْتَق في نعمة ا ْل ُمعْتِق‪.‬‬

‫عيّ‪ ،‬كما صرح به‪.‬‬


‫ومنها‪ :‬جواز تزوج زوجة الدّ ِ‬

‫ومنها‪ :‬أن التعليم الفعلي‪ ،‬أبلغ من القولي‪ ،‬خصوصا‪ ،‬إذا اقترن بالقول‪ ،‬فإن ذلك‪ ،‬نور على نور‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المحبة التي في قلب العبد‪ ،‬لغير زوجته ومملوكته‪ ،‬ومحارمه‪ ،‬إذا لم يقترن بها محذور‪،‬‬
‫ل يأثم عليها العبد‪ ،‬ولو اقترن بذلك أمنيته‪ ،‬أن لو طلقها زوجها‪ ،‬لتزوجها من غير أن يسعى في‬
‫فرقة بينهما‪ ،‬أو يتسبب بأي سبب كان‪ ،‬لن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬أخفى ذلك‬
‫في نفسه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬قد بلغ البلغ المبين‪ ،‬فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه‪ ،‬إل‬
‫وبلغه‪ ،‬حتى هذا المر‪ ،‬الذي فيه عتابه‪.‬‬

‫وهذا يدل‪ ،‬على أنه رسول اللّه‪ ،‬ول يقول إل ما أوحي إليه‪ ،‬ول يريد تعظيم نفسه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المستشار مؤتمن‪ ،‬يجب عليه ‪-‬إذا استشير في أمر من المور‪ -‬أن يشير بما يعلمه‬
‫أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس‪ ،‬فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من الرأي‪ :‬الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلح‬
‫الحال‪ ،‬فهو أحسن من الفرقة‪.‬‬

‫ومنها‪[ :‬أنه يتعين] أن يقدم العبد خشية اللّه‪ ،‬على خشية الناس‪ ،‬وأنها أحق منها وأولى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين‪ ،‬حيث تولى اللّه تزويجها‪ ،‬من رسوله صلى اللّه‬
‫عليه وسلم‪ ،‬من دون خطبة ول شهود‪ ،‬ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وتقول زوجكن أهاليكن‪ ،‬وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المرأة‪ ،‬إذا كانت ذات زوج‪ ،‬ل يجوز نكاحها‪ ،‬ول السعي فيه وفي أسبابه‪ ،‬حتى يقضي‬
‫زوجها وطره منها‪ ،‬ول يقضي وطره‪ ،‬حتى تنقضي عدتها‪ ،‬لنها قبل انقضاء عدتها‪ ،‬هي في‬
‫عصمته‪ ،‬أو في حقه الذي له وطر إليها‪ ،‬ولو من بعض الوجوه‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 39 - 38‬مَا كَانَ عَلَى النّ ِبيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَ َرضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَ ْبلُ‬
‫شوْنَ َأحَدًا إِلّا اللّ َه َوكَفَى‬
‫خَ‬‫شوْنَ ُه وَلَا يَ ْ‬
‫خَ‬‫َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َقدَرًا َمقْدُورًا * الّذِينَ يُبَّلغُونَ رِسَالَاتِ اللّ ِه وَيَ ْ‬
‫بِاللّهِ حَسِيبًا ْ}‬

‫هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬في كثرة أزواجه‪ ،‬وأنه طعن‪ ،‬بما ل‬
‫مطعن فيه‪ ،‬فقال‪ { :‬مَا كَانَ عَلَى النّ ِبيّ مِنْ حَرَجٍ ْ} أي‪ :‬إثم وذنب‪ { .‬فِيمَا فَ َرضَ اللّهُ لَهُ ْ} أي‪ :‬قدر‬
‫له من الزوجات‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬قد أباحه اللّه للنبياء قبله‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ‬
‫قَ ْبلُ َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ْ} أي‪ :‬ل بد من وقوعه‪.‬‬

‫ثم ذكر من هم الذين من قبل قد خلوا‪ ،‬وهذه سنتهم وعادتهم‪ ،‬وأنهم { الّذِينَ يُبَّلغُونَ رِسَالَاتِ اللّهِ ْ}‬
‫شوْنَهُ ْ} وحده ل شريك‬
‫خَ‬‫فيتلون على العباد آيات اللّه‪ ،‬وحججه وبراهينه‪ ،‬ويدعونهم إلى اللّه { وَيَ ْ‬
‫شوْنَ َأحَدًا ْ} إل اللّه‪.‬‬
‫خَ‬‫له { وَلَا يَ ْ‬

‫فإذا كان هذا‪ ،‬سنة في النبياء المعصومين‪ ،‬الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها‪ ،‬أتم القيام‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫دعوة الخلق إلى اللّه‪ ،‬والخشية منه وحده التي تقتضي فعل كل مأمور‪ ،‬وترك كل محظور‪ ،‬دل‬
‫ذلك على أنه ل نقص فيه بوجه‪.‬‬

‫حسِيبًا ْ} محاسبًا عباده‪ ،‬مراقبًا أعمالهم‪ .‬وعلم من هذا‪ ،‬أن النكاح‪ ،‬من سنن‬
‫{ َو َكفَى بِاللّهِ َ‬
‫المرسلين‪.‬‬

‫شيْءٍ‬
‫ن َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫حدٍ مِنْ رِجَاِل ُك ْم وََلكِنْ َرسُولَ اللّ ِه وَخَا َتمَ النّبِيّي َ‬
‫حمّدٌ أَبَا أَ َ‬
‫{ ‪ { }ْ 40‬مَا كَانَ مُ َ‬
‫عَلِيمًا ْ}‬

‫حمّدٌ ْ} صلى اللّه عليه وسلم { أَبَا َأحَدٍ مِنْ ِرجَاِلكُمْ ْ} أيها المة فقطع‬
‫أي‪ :‬لم يكن الرسول { مُ َ‬
‫انتساب زيد بن حارثة منه‪ ،‬من هذا الباب‪.‬‬

‫ولما كان هذا النفي عامّا في جميع الحوال‪ ،‬إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره‪ ،‬أي‪ :‬ل أبوة نسب‪،‬‬
‫ول أبوة ادعاء‪ ،‬وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬أب للمؤمنين كلهم‪،‬‬
‫وأزواجه أمهاتهم‪ ،‬فاحترز أن يدخل في هذا النوع‪ ،‬بعموم النهي المذكور‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلكِنْ رَسُولَ‬
‫اللّ ِه َوخَاتَمَ النّبِيّينَ ْ} أي‪ :‬هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع‪ ،‬المهتدى به‪ ،‬المؤمن له الذي يجب‬
‫تقديم محبته‪ ،‬على محبة كل أحد‪ ،‬الناصح الذي لهم‪ ،‬أي‪ :‬للمؤمنين‪ ،‬من بره [ونصحه] كأنه أب‬
‫لهم‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمًا ْ} أي‪ :‬قد أحاط علمه بجميع الشياء‪ ،‬ويعلم حيث يجعل رسالته‪،‬‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫ومن يصلح لفضله‪ ،‬ومن ل يصلح‪.‬‬

‫{ ‪ { }ْ 44 - 41‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا اللّهَ ِذكْرًا كَثِيرًا * وَسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا * ُهوَ الّذِي‬
‫جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ َوكَانَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَحِيمًا * َْ َتحِيّ ُتهُمْ َيوْمَ‬
‫ُيصَلّي عَلَ ْي ُك ْم َومَلَا ِئكَتُهُ لِيُخْ ِر َ‬
‫عدّ َلهُمْ َأجْرًا كَرِيمًا }‬
‫يَ ْلقَوْنَهُ سَلَا ٌم وَأَ َ‬

‫يأمر تعالى المؤمنين‪ ،‬بذكره ذكرا كثيرًا‪ ،‬من تهليل‪ ،‬وتحميد‪ ،‬وتسبيح‪ ،‬وتكبير وغير ذلك‪ ،‬من كل‬
‫قول فيه قربة إلى اللّه‪ ،‬وأقل ذلك‪ ،‬أن يلزم النسان‪ ،‬أوراد الصباح‪ ،‬والمساء‪ ،‬وأدبار الصلوات‬
‫الخمس‪ ،‬وعند العوارض والسباب‪.‬‬

‫وينبغي مداومة ذلك‪ ،‬في جميع الوقات‪ ،‬على جميع الحوال‪ ،‬فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل‪،‬‬
‫وهو مستريح‪ ،‬وداع إلى محبة اللّه ومعرفته‪ ،‬وعون على الخير‪ ،‬وكف اللسان عن الكلم القبيح‪.‬‬

‫{ وَسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً وََأصِيلًا } أي‪ :‬أول النهار وآخره‪ ،‬لفضلها‪ ،‬وشرفها‪ ،‬وسهولة العمل فيها‪.‬‬

‫جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ ِإلَى النّو ِر َوكَانَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَحِيمًا *‬


‫{ ‪ُ }43‬هوَ الّذِي ُيصَلّي عَلَ ْيكُمْ َومَلَائِكَتُهُ لِيُخْ ِر َ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم‪ ،‬أن جعل من صلته عليهم‪ ،‬وثنائه‪ ،‬وصلة ملئكته‬
‫ودعائهم‪ ،‬ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل‪ ،‬إلى نور اليمان‪ ،‬والتوفيق‪ ،‬والعلم‪ ،‬والعمل‪،‬‬
‫فهذه أعظم نعمة‪ ،‬أنعم بها على العباد الطائعين‪ ،‬تستدعي منهم شكرها‪ ،‬والكثار من ذكر اللّه‪،‬‬
‫الذي لطف بهم ورحمهم‪ ،‬وجعل حملة عرشه‪ ،‬أفضل الملئكة‪ ،‬ومن حوله‪ ،‬يسبحون بحمد ربهم‬
‫غفِرْ ِللّذِينَ تَابُوا وَاتّ َبعُوا‬
‫حمَ ًة وَعِ ْلمًا فَا ْ‬
‫شيْءٍ َر ْ‬
‫س ْعتَ ُكلّ َ‬
‫ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون‪ { :‬رَبّنَا وَ ِ‬
‫ج ِهمْ‬
‫جحِيمِ رَبّنَا وََأدْخِ ْلهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُم َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِ ْم وَأَ ْزوَا ِ‬
‫عذَابَ الْ َ‬
‫ك َو ِقهِمْ َ‬
‫سَبِيَل َ‬
‫حمْتَ ُه وَذَِلكَ ُهوَ‬
‫ت َومَنْ َتقِي السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ َر ِ‬
‫حكِي ُم َو ِقهِمْ السّيّئَا ِ‬
‫وَذُرّيّا ِتهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }‬

‫فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا‪.‬‬

‫وأما رحمته بهم في الخرة‪ ،‬فأجل رحمة‪ ،‬وأفضل ثواب‪ ،‬وهو الفوز برضا ربهم‪ ،‬وتحيته‪،‬‬
‫واستماع كلمه الجليل‪ ،‬ورؤية وجهه الجميل‪ ،‬وحصول الجر الكبير‪ ،‬الذي ل يدري ول يعرف‬
‫كنهه‪ ،‬إل من أعطاهم إياه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬تَحِيّ ُت ُهمْ َيوْمَ يَ ْل َقوْنَهُ سَلَا ٌم وَأَعَدّ َلهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }‬

‫{ ‪ { } 48 - 45‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا َومُبَشّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْ ِن ِه وَسِرَاجًا‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ وَ َدعْ َأذَا ُهمْ‬
‫مُنِيرًا * وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ بِأَنّ َلهُمْ مِنَ اللّهِ َفضْلًا كَبِيرًا * وَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫وَ َتوَ ّكلْ عَلَى اللّ ِه َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا }‬

‫هذه الشياء‪ ،‬التي وصف ال بها رسوله محمدًا صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬هي المقصود من رسالته‪،‬‬
‫وزبدتها وأصولها‪ ،‬التي اختص بها‪ ،‬وهي خمسة أشياء‪ :‬أحدها‪ :‬كونه { شَا ِهدًا } أي‪ :‬شاهدًا على‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّا ِ‬
‫أمته بما عملوه‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لِ َتكُونُوا ُ‬
‫شهِيدًا } فهو صلى اللّه‬
‫شهِيدٍ وَجِئْنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلَاءِ َ‬
‫شهِيدًا } { َفكَ ْيفَ ِإذَا جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ بِ َ‬
‫عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫عليه وسلم شاهد عدل مقبول‪.‬‬

‫الثاني‪ ،‬والثالث‪ :‬كونه { مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر‪ ،‬وما يبشر به وينذر‪،‬‬
‫والعمال الموجبة لذلك‪.‬‬

‫فالمبشّر هم‪ :‬المؤمنون المتقون‪ ،‬الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح‪ ،‬وترك المعاصي‪ ،‬لهم‬
‫البشرى في الحياة الدنيا‪ ،‬بكل ثواب دنيوي وديني‪ ،‬رتب على اليمان والتقوى‪ ،‬وفي الخرى‬
‫بالنعيم المقيم‪.‬‬

‫وذلك كله يستلزم‪ ،‬ذكر تفصيل المذكور‪ ،‬من تفاصيل العمال‪ ،‬وخصال التقوى‪ ،‬وأنواع الثواب‪.‬‬

‫والْمنْذَر هم‪ ،‬هم‪ :‬المجرمون الظالمون‪ ،‬أهل الظلم والجهل‪ ،‬لهم النذارة في الدنيا‪ ،‬من العقوبات‬
‫الدنيوية والدينية‪ ،‬المترتبة على الجهل والظلم‪ ،‬وفي الخرى‪ ،‬بالعقاب الوبيل‪ ،‬والعذاب الطويل‪.‬‬

‫وهذه الجملة تفصيلها‪ ،‬ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬من الكتاب والسنة‪ ،‬المشتمل على ذلك‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬كونه { دَاعِيًا إِلَى اللّهِ } أي‪ :‬أرسله اللّه‪ ،‬يدعو الخلق إلى ربهم‪ ،‬ويسوقهم لكرامته‪،‬‬
‫ويأمرهم بعبادته‪ ،‬التي خلقوا لها‪ ،‬وذلك يستلزم استقامته‪ ،‬على ما يدعو إليه‪ ،‬وذكر تفاصيل ما‬
‫يدعو إليه‪ ،‬بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة‪ ،‬وتنزيهه عما ل يليق بجلله‪ ،‬وذكر أنواع العبودية‪،‬‬
‫والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه‪ ،‬وإخلص الدعوة إلى اللّه‪،‬‬
‫ل إلى نفسه وتعظيمها‪ ،‬كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام‪ ،‬وذلك كله بِإِذْنِ ال‬
‫تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬كونه { سِرَاجًا مُنِيرًا } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة‪ ،‬ل نور‪ ،‬يهتدى به في‬
‫ظلماتها‪ ،‬ول علم‪ ،‬يستدل به في جهالتها حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم‪ ،‬فأضاء اللّه به تلك‬
‫الظلمات‪ ،‬وعلم به من الجهالت‪ ،‬وهدى به ضُلّالًا إلى الصراط المستقيم‪.‬‬

‫فأصبح أهل الستقامة‪ ،‬قد وضح لهم الطريق‪ ،‬فمشوا خلف هذا المام وعرفوا به الخير والشر‪،‬‬
‫وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪ ،‬واستناروا به‪ ،‬لمعرفة معبودهم‪ ،‬وعرفوه بأوصافه الحميدة‪،‬‬
‫وأفعاله السديدة‪ ،‬وأحكامه الرشيدة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ بِأَنّ َلهُمْ مِنَ اللّهِ َفضْلًا كَبِيرًا } ذكر في هذه الجملة‪ ،‬المبشّر‪ ،‬وهم‬
‫المؤمنون‪ ،‬وعند ذكر اليمان بمفرده‪ ،‬تدخل فيه العمال الصالحة‪.‬‬

‫وذكر المبشّر به‪ ،‬وهو الفضل الكبير‪ ،‬أي‪ :‬العظيم الجليل‪ ،‬الذي ل يقادر قدره‪ ،‬من النصر في‬
‫الدنيا‪ ،‬وهداية القلوب‪ ،‬وغفران الذنوب‪ ،‬وكشف الكروب‪ ،‬وكثرة الرزاق الدّارّة‪ ،‬وحصول النعم‬
‫السارة‪ ،‬والفوز برضا ربهم وثوابه‪ ،‬والنجاة من سخطه وعقابه‪.‬‬

‫وهذا مما ينشط العاملين‪ ،‬أن يذكر لهم‪ ،‬من ثواب اللّه على أعمالهم‪ ،‬ما به يستعينون على سلوك‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬وهذا من جملة حكم الشرع‪ ،‬كما أن من حكمه‪ ،‬أن يذكر في مقام الترهيب‪،‬‬
‫العقوبات المترتبة على ما يرهب منه‪ ،‬ليكون عونًا على الكف عما حرم اللّه‪.‬‬

‫ولما كان َثمّ طائفة من الناس‪ ،‬مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه‪ ،‬من الرسل وأتباعهم‪ ،‬وهم‬
‫المنافقون‪ ،‬الذين أظهروا الموافقة في اليمان‪ ،‬وهم كفرة فجرة في الباطن‪ ،‬والكفار ظاهرًا وباطنًا‪،‬‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ } أي‪ :‬في كل أمر‬
‫نهى اللّه رسوله عن طاعتهم‪ ،‬وحذره ذلك فقال‪ { :‬وَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫يصد عن سبيل اللّه‪ ،‬ولكن ل يقتضي هذا أذاهم‪[ ،‬بل ل تطعهم { وَ َدعْ أَذَا ُهمْ } ] فإن ذلك‪ ،‬جالب‬
‫لهم‪ ،‬وداع إلى قبول السلم‪ ،‬وإلى كف كثير من أذيتهم له‪ ،‬ولهله‪.‬‬
‫{ وَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ } في إتمام أمرك‪ ،‬وخذلن عدوك‪َ { ،‬و َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا } تُو َكلُ إليه المور‬
‫المهمة‪ ،‬فيقوم بها‪ ،‬ويسهلها على عبده‪.‬‬

‫{ ‪ { } 49‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َن َكحْتُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتِ ثُمّ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُنّ َفمَا َلكُمْ‬
‫جمِيلًا }‬
‫ن وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا َ‬
‫عَلَ ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ َتعْ َتدّو َنهَا َفمَ ّتعُوهُ ّ‬

‫يخبر تعالى المؤمنين‪ ،‬أنهم إذا نكحوا المؤمنات‪ ،‬ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن‪ ،‬فليس عليهن في‬
‫ذلك‪ ،‬عدة يعتدها أزواجهن عليهن‪ ،‬وأمرهم بتمتيعهن بهذه الحالة‪ ،‬بشيء من متاع الدنيا‪ ،‬الذي‬
‫يكون فيه جبر لخواطرهن‪ ،‬لجل فراقهن‪ ،‬وأن يفارقوهن فراقًا جميلً‪ ،‬من غير مخاصمة‪ ،‬ول‬
‫مشاتمة‪ ،‬ول مطالبة‪ ،‬ول غير ذلك‪.‬‬

‫ويستدل بهذه الية‪ ،‬على أن الطلق‪ ،‬ل يكون إل بعد النكاح‪ .‬فلو طلقها قبل أن ينكحها‪ ،‬أو علق‬
‫طلقها على نكاحها‪ ،‬لم يقع‪ ،‬لقوله‪ { :‬إِذَا َنكَحْتُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتِ ثُمّ طَّلقْ ُتمُوهُنّ } فجعل الطلق بعد‬
‫النكاح‪ ،‬فدل على أنه قبل ذلك‪ ،‬ل محل له‪.‬‬

‫وإذا كان الطلق الذي هو فرقة تامة‪ ،‬وتحريم تام‪ ،‬ل يقع قبل النكاح‪ ،‬فالتحريم الناقص‪ ،‬لظهار‪،‬‬
‫أو إيلء ونحوه‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪ ،‬أن ل يقع قبل النكاح‪ ،‬كما هو أصح َقوْلي العلماء‪.‬‬

‫ويدل على جواز الطلق‪ ،‬لن اللّه أخبر به عن المؤمنين‪ ،‬على وجه لم يلمهم عليه‪ ،‬ولم يؤنبهم‪،‬‬
‫مع تصدير الية بخطاب المؤمنين‪.‬‬

‫وعلى جوازه قبل المسيس‪ ،‬كما قال في الية الخرى { لَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ‬
‫َتمَسّوهُنّ }‬

‫وعلى أن المطلقة قبل الدخول‪ ،‬ل عدة عليها‪ ،‬بل بمجرد طلقها‪ ،‬يجوز لها التزوج‪ ،‬حيث ل مانع‪،‬‬
‫وعلى أن عليها العدة‪ ،‬بعد الدخول‪.‬‬

‫وهل المراد بالدخول والمسيس‪ ،‬الوطء كما هو مجمع عليه؟ أو وكذلك الخلوة‪ ،‬ولو لم يحصل‬
‫معها وطء‪ ،‬كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون‪ ،‬وهو الصحيح‪ .‬فمن دخل عليها‪ ،‬وطئها‪ ،‬أم ل‪ ،‬إذا‬
‫خل بها‪ ،‬وجب عليها العدة‪.‬‬

‫وعلى أن المطلقة قبل المسيس‪ ،‬تمتع على الموسع قدره‪ ،‬وعلى المقتر قدره‪ ،‬ولكن هذا‪ ،‬إذا لم‬
‫يفرض لها مهر‪ ،‬فإن كان لها مهر مفروض‪ ،‬فإنه إذا طلق قبل الدخول‪ ،‬تَ َنصّف المهر‪ ،‬وكفى عن‬
‫المتعة‪ ،‬وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده‪ ،‬أن يكون الفراق جميلً‪ ،‬يحمد فيه‬
‫كل منهما الخر‪.‬‬

‫ول يكون غير جميل‪ ،‬فإن في ذلك‪ ،‬من الشر المرتب عليه‪ ،‬من قدح كل منهما بالخر‪ ،‬شيء‬
‫كثير‪.‬‬

‫وعلى أن العدة حق للزوج‪ ،‬لقوله‪َ { :‬فمَا َل ُكمْ عَلَ ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ } دل مفهومه‪ ،‬أنه لو طلقها بعد‬
‫المسيس‪ ،‬كان له عليها عدة [وعلى أن المفارقة بالوفاة‪ ،‬تعتد مطلقًا‪ ،‬لقوله‪ { :‬ثُمّ طَّلقْ ُتمُوهُنّ }‬
‫الية]‬

‫وعلى أن من عدا غير المدخول بها‪ ،‬من المفارقات من الزوجات‪ ،‬بموت أو حياة‪ ،‬عليهن العدة‪.‬‬

‫ن َومَا مََل َكتْ َيمِي ُنكَ ِممّا َأفَاءَ اللّهُ‬


‫جكَ اللّاتِي آتَ ْيتَ أُجُورَهُ ّ‬
‫{ ‪ { } 50‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا َأحْلَلْنَا َلكَ أَ ْزوَا َ‬
‫عمّا ِتكَ وَبَنَاتِ خَاِلكَ وَبَنَاتِ خَالَا ِتكَ اللّاتِي هَاجَرْنَ َم َعكَ وَامْرََأةً ُم ْؤمِنَةً إِنْ‬
‫ك وَبَنَاتِ َ‬
‫ع ّم َ‬
‫ك وَبَنَاتِ َ‬
‫عَلَ ْي َ‬
‫حهَا خَاِلصَةً َلكَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ قَدْ عَِلمْنَا مَا فَ َرضْنَا‬
‫سهَا لِلنّ ِبيّ إِنْ أَرَادَ النّ ِبيّ أَنْ َيسْتَ ْنكِ َ‬
‫وَهَ َبتْ َنفْ َ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا }‬
‫ج َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫جهِمْ َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ ِلكَيْلَا َيكُونَ عَلَ ْيكَ حَرَ ٌ‬
‫عَلَ ْيهِمْ فِي أَ ْزوَا ِ‬

‫يقول تعالى‪ ،‬ممتنًا على رسوله بإحلله له ما أحل مما يشترك فيه‪ ،‬هو والمؤمنون‪ ،‬وما ينفرد به‪،‬‬
‫جكَ اللّاتِي آتَ ْيتَ ُأجُورَهُنّ } أي‪ :‬أعطيتهن مهورهن‪ ،‬من‬
‫ويختص‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا أَحْلَلْنَا َلكَ أَ ْزوَا َ‬
‫الزوجات‪ ،‬وهذا من المور المشتركة بينه وبين المؤمنين‪[ ،‬فإن المؤمنين] كذلك يباح لهم ما‬
‫آتوهن أجورهن‪ ،‬من الزواج‪.‬‬

‫{ و } كذلك أحللنا لك { مَا مََل َكتْ َيمِي ُنكَ } أي‪ :‬الماء التي ملكت { ِممّا َأفَاءَ اللّهُ عَلَ ْيكَ } من غنيمة‬
‫الكفار من عبيدهم‪ ،‬والحرار من لهن زوج منهم‪ ،‬ومن ل زوج لهن‪ ،‬وهذا أيضا مشترك‪.‬‬

‫عمّا ِتكَ وَبَنَاتِ خَاِلكَ وَبَنَاتِ خَالَا ِتكَ } شمل العم‬


‫ك وَبَنَاتِ َ‬
‫ع ّم َ‬
‫وكذلك من المشترك‪ ،‬قوله { وَبَنَاتِ َ‬
‫والعمة‪ ،‬والخال والخالة‪ ،‬القريبين والبعيدين‪ ،‬وهذا حصر المحللت‪.‬‬

‫يؤخذ من مفهومه‪ ،‬أن ما عداهن من القارب‪ ،‬غير محلل‪ ،‬كما تقدم في سورة النساء‪ ،‬فإنه ل يباح‬
‫من القارب من النساء‪ ،‬غير هؤلء الربع‪ ،‬وما عداهن من الفروع مطلقًا‪ ،‬والصول مطلقًا‪،‬‬
‫وفروع الب والم‪ ،‬وإن نزلوا‪ ،‬وفروع من فوقهم لصلبه‪ ،‬فإنه ل يباح‪.‬‬
‫وقوله { اللّاتِي هَاجَرْنَ َم َعكَ } قيد لحل هؤلء للرسول‪ ،‬كما هو الصواب من القولين‪ ،‬في تفسير‬
‫هذه الية‪ ،‬وأما غيره عليه الصلة والسلم‪ ،‬فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة‪.‬‬

‫سهَا لِلنّ ِبيّ } بمجرد هبتها نفسها‪.‬‬


‫ن وَهَ َبتْ َنفْ َ‬
‫{ و } أحللنا لك { وَامْرََأةً ُم ْؤمِنَةً إِ ْ‬

‫حهَا } أي‪ :‬هذا تحت الرادة والرغبة‪ { ،‬خَاِلصَةً َلكَ مِنْ دُونِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ }‬
‫{ إِنْ أَرَادَ النّ ِبيّ أَنْ َيسْتَ ْنكِ َ‬
‫يعني‪ :‬إباحة الموهبة وأما المؤمنون‪ ،‬فل يحل لهم أن يتزوجوا امرأة‪ ،‬بمجرد هبتها نفسها لهم‪.‬‬

‫جهِمْ َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } أي‪ :‬قد علمنا ما على المؤمنين‪ ،‬وما‬
‫{ َقدْ عَِلمْنَا مَا فَ َرضْنَا عَلَ ْيهِمْ فِي أَ ْزوَا ِ‬
‫يحل لهم‪ ،‬وما ل يحل‪ ،‬من الزوجات وملك اليمين‪ .‬وقد علمناهم بذلك‪ ،‬وبينا فرائضه‪.‬‬

‫فما في هذه الية‪ ،‬مما يخالف ذلك‪ ،‬فإنه خاص لك‪ ،‬لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله‪{ :‬‬
‫يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا َأحْلَلْنَا َلكَ } إلى آخر الية‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬خَاِلصَةً َلكَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم‪ ،‬ووسعنا لك ما لم‬
‫نوسع على غيرك‪ِ { ،‬لكَيْلَا َيكُونَ عَلَ ْيكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫غفُورًا َرحِيمًا } أي‪ :‬لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة‪ ،‬وينزل على عباده من مغفرته‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫ورحمته‪ ،‬وجوده وإحسانه‪ ،‬ما اقتضته حكمته‪ ،‬ووجدت منهم أسبابه‪.‬‬

‫علَ ْيكَ‬
‫{ ‪ { } 51‬تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِ ْنهُنّ وَ ُت ْؤوِي إِلَ ْيكَ مَنْ تَشَا ُء َومَنِ ابْ َتغَ ْيتَ ِممّنْ عَزَ ْلتَ فَلَا جُنَاحَ َ‬
‫ن وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا فِي قُلُو ِبكُمْ َوكَانَ اللّهُ‬
‫ن وَيَ ْرضَيْنَ ِبمَا آتَيْ َتهُنّ كُّلهُ ّ‬
‫ن وَلَا َيحْزَ ّ‬
‫ذَِلكَ َأدْنَى أَنْ َتقَرّ أَعْيُ ُنهُ ّ‬
‫عَلِيمًا حَلِيمًا }‬

‫وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به‪ ،‬أن أباح له ترك القسم بين زوجاته‪ ،‬على وجه‬
‫الوجوب‪ ،‬وأنه إن فعل ذلك‪ ،‬فهو تبرع منه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في‬
‫القسم بينهن في كل شيء‪ ،‬ويقول "اللهم هذا قسمي فيما أملك‪ ،‬فل تلمني فيما ل أملك" ‪.‬‬

‫فقال هنا‪ { :‬تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِ ْنهُنّ } [أي‪ :‬تؤخر من أردت من زوجاتك فل تؤويها إليك‪ ،‬ول تبيت‬
‫عندها] { وَ ُت ْؤوِي إِلَ ْيكَ مَنْ َتشَاءُ } أي‪ :‬تضمها وتبيت عندها‪.‬‬
‫{ و } مع ذلك ل يتعين هذا المر { مَنِ ابْ َتغَ ْيتَ } أي‪ :‬أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكَ } والمعنى أن‬
‫الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين‪ :‬إن هذا خاص بالواهبات‪ ،‬له أن يرجي من‬
‫يشاء‪ ،‬ويؤوي من يشاء‪ ،‬أي‪ :‬إن شاء قبل من وهبت نفسها له‪ ،‬وإن شاء لم يقبلها‪ ،‬واللّه أعلم]‬

‫ثم بين الحكمة في ذلك فقال‪ { :‬ذَِلكَ } أي‪ :‬التوسعة عليك‪ ،‬وكون المر راجعًا إليك وبيدك‪ ،‬وكون‬
‫ن وَيَ ْرضَيْنَ ِبمَا آتَيْ َتهُنّ كُّلهُنّ }‬
‫ن وَلَا َيحْزَ ّ‬
‫ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { َأدْنَى أَنْ َتقَرّ أَعْيُ ُنهُ ّ‬
‫لعلمهن أنك لم تترك واجبًا‪ ،‬ولم تفرط في حق لزم‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا فِي قُلُو ِبكُمْ } أي‪ :‬ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة‪ ،‬وعند‬
‫المزاحمة في الحقوق‪ ،‬فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه‪ ،‬لتطمئن قلوب زوجاتك‪.‬‬

‫حكِيمًا } أي‪ :‬واسع العلم‪ ،‬كثير الحلم‪ .‬ومن علمه‪ ،‬أن شرع لكم ما هو أصلح‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫لموركم‪ ،‬وأكثر لجوركم‪ .‬ومن حلمه‪ ،‬أن لم يعاقبكم بما صدر منكم‪ ،‬وما أصرت عليه قلوبكم من‬
‫الشر‪.‬‬

‫ج وََلوْ أَعْجَ َبكَ حُسْ ُنهُنّ إِلّا مَا مََل َكتْ‬


‫حلّ َلكَ النّسَاءُ مِنْ َبعْدُ وَلَا أَنْ تَبَ ّدلَ ِبهِنّ مِنْ أَ ْزوَا ٍ‬
‫{ ‪ { } 52‬لَا يَ ِ‬
‫شيْءٍ َرقِيبًا }‬
‫َيمِي ُنكَ َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫وهذا شكر من اللّه‪ ،‬الذي لم يزل شكورًا‪ ،‬لزوجات رسوله‪ ،‬رضي اللّه عنهن‪ ،‬حيث اخترن اللّه‬
‫حلّ َلكَ النّسَاءُ مِنْ َب ْعدُ }‬
‫ورسوله‪ ،‬والدار الخرة‪ ،‬أن رحمهن‪ ،‬وقصر رسوله عليهن فقال‪ { :‬لَا َي ِ‬
‫زوجاتك الموجودات { وَلَا أَنْ تَبَ ّدلَ ِبهِنّ مِنْ أَ ْزوَاجٍ } أي‪ :‬ول تطلق بعضهن‪ ،‬فتأخذ بدلها‪.‬‬

‫فحصل بهذا‪ ،‬أمنهن من الضرائر‪ ،‬ومن الطلق‪ ،‬لن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫ل يكون بينه وبينهن فرقة‪.‬‬

‫{ وََلوْ أَعْجَ َبكَ حُسْ ُنهُنّ } أي‪ :‬حسن غيرهن‪ ،‬فل يحللن لك { إِلّا مَا مََل َكتْ َيمِي ُنكَ } أي‪ :‬السراري‪،‬‬
‫فذلك جائز لك‪ ،‬لن المملوكات‪ ،‬في كراهة الزوجات‪ ،‬لسن بمنزلة الزوجات‪ ،‬في الضرار‬
‫شيْءٍ َرقِيبًا } أي‪ :‬مراقبًا للمور‪ ،‬وعالمًا بما إليه تؤول‪ ،‬وقائمًا‬
‫للزوجات‪َ { .‬وكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫بتدبيرها على أكمل نظام‪ ،‬وأحسن إحكام‪.‬‬

‫طعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ‬


‫{ ‪ { } 54 - 53‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتدْخُلُوا بُيُوتَ النّ ِبيّ إِلّا أَنْ ُيؤْذَنَ َلكُمْ إِلَى َ‬
‫ط ِعمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ ِلحَدِيثٍ إِنّ ذَِلكُمْ كَانَ ُيؤْذِي النّ ِبيّ‬
‫إِنَا ُه وََلكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَِإذَا َ‬
‫ن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَِلكُمْ‬
‫ق وَإِذَا سَأَلْ ُتمُوهُنّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنّ مِ ْ‬
‫حّ‬‫فَيَسْتَحْيِي مِ ْنكُ ْم وَاللّهُ لَا يَسْ َتحْيِي مِنَ الْ َ‬
‫طهَرُ ِلقُلُو ِبكُ ْم َوقُلُو ِبهِنّ َومَا كَانَ َلكُمْ أَنْ ُتؤْذُوا رَسُولَ اللّ ِه وَلَا أَنْ تَ ْنكِحُوا أَ ْزوَاجَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ أَبَدًا إِنّ‬
‫أَ ْ‬
‫شيْءٍ عَلِيمًا }‬
‫خفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِب ُكلّ َ‬
‫ذَِلكُمْ كَانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا َأوْ تُ ْ‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين‪ ،‬بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬في دخول بيوته فقال‪{ :‬‬
‫طعَامٍ } أي‪ :‬ل تدخلوها بغير إذن‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتدْخُلُوا بُيُوتَ النّ ِبيّ إِلّا أَنْ ُيؤْذَنَ َل ُكمْ إِلَى َ‬
‫للدخول فيها‪ ،‬لجل الطعام‪ .‬وأيضًا ل تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي‪ :‬منتظرين ومتأنين لنتظار‬
‫نضجه‪ ،‬أو سعة صدر بعد الفراغ منه‪ .‬والمعنى‪ :‬أنكم ل تدخلوا بيوت النبي إل بشرطين‪:‬‬

‫الذن لكم بالدخول‪ ،‬وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنْ ِإذَا دُعِي ُتمْ فَا ْدخُلُوا فَإِذَا‬
‫ط ِعمْتُمْ فَانْ َتشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ ِلحَدِيثٍ } أي‪ :‬قبل الطعام وبعده‪.‬‬
‫َ‬

‫ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال‪ { :‬إِنّ ذَِلكُمْ } أي‪ :‬انتظاركم الزائد على الحاجة‪ { ،‬كَانَ ُيؤْذِي‬
‫النّ ِبيّ } أي‪ :‬يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته‪ ،‬واشتغاله فيه { فَ َيسْتَحْيِي مِ ْنكُمْ }‬
‫أن يقول لكم‪ { :‬اخرجوا } كما هو جاري العادة‪ ،‬أن الناس ‪-‬وخصوصًا أهل الكرم منهم‪-‬‬
‫حقّ }‬
‫يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم‪ { ،‬و } لكن { اللّهُ لَا يَسْ َتحْيِي مِنَ الْ َ‬

‫فالمر الشرعي‪ ،‬ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء‪ ،‬فإن الحزم كل الحزم‪ ،‬اتباع المر‬
‫الشرعي‪ ،‬وأن يجزم أن ما خالفه‪ ،‬ليس من الدب في شيء‪ .‬واللّه تعالى ل يستحي أن يأمركم‪،‬‬
‫بما فيه الخير لكم‪ ،‬والرفق لرسوله كائنًا ما كان‪.‬‬

‫فهذا أدبهم في الدخول في بيوته‪ ،‬وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته‪ ،‬فإنه‪ ،‬إما أن يحتاج إلى ذلك‪،‬‬
‫أو ل يحتاج إليه‪ ،‬فإن لم يحتج إليه‪ ،‬فل حاجة إليه‪ ،‬والدب تركه‪ ،‬وإن احتيج إليه‪ ،‬كأن يسألن‬
‫ن وَرَاءِ حِجَابٍ } أي‪ :‬يكون بينكم‬
‫متاعًا‪ ،‬أو غيره من أواني البيت أو نحوها‪ ،‬فإنهن يسألن { مِ ْ‬
‫وبينهن ستر‪ ،‬يستر عن النظر‪ ،‬لعدم الحاجة إليه‪.‬‬

‫فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال‪ ،‬وكلمهن فيه التفصيل‪ ،‬الذي ذكره اللّه‪ ،‬ثم ذكر حكمة ذلك‬
‫طهَرُ ِلقُلُو ِبكُ ْم َوقُلُو ِبهِنّ } لنه أبعد عن الريبة‪ ،‬وكلما بعد النسان عن السباب‬
‫بقوله‪ { :‬ذَِل ُكمْ أَ ْ‬
‫الداعية إلى الشر‪ ،‬فإنه أسلم له‪ ،‬وأطهر لقلبه‪.‬‬

‫فلهذا‪ ،‬من المور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها‪ ،‬أن جميع وسائل الشر وأسبابه‬
‫ومقدماته‪ ،‬ممنوعة‪ ،‬وأنه مشروع‪ ،‬البعد عنها‪ ،‬بكل طريق‪.‬‬
‫ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة‪َ { :‬ومَا كَانَ َلكُمْ } يا معشر المؤمنين‪ ،‬أي‪ :‬غير لئق ول‬
‫مستحسن منكم‪ ،‬بل هو أقبح شيء { أَنْ ُتؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ } أي‪ :‬أذية قولية أو فعلية‪ ،‬بجميع ما‬
‫يتعلق به‪ { ،‬وَلَا أَنْ تَ ْن ِكحُوا أَ ْزوَاجَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ أَبَدًا } هذا من جملة ما يؤذيه‪ ،‬فإنه صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ،‬له مقام التعظيم‪ ،‬والرفعة والكرام‪ ،‬وتزوج زوجاته [بعده] مخل بهذا المقام‪.‬‬

‫وأيضا‪ ،‬فإنهن زوجاته في الدنيا والخرة‪ ،‬والزوجية باقية بعد موته‪ ،‬فلذلك ل يحل نكاح زوجاته‬
‫بعده‪ ،‬لحد من أمته‪ { .‬إِنّ ذَِلكُمْ كَانَ عِ ْندَ اللّهِ عَظِيمًا } وقد امتثلت هذه المة‪ ،‬هذا المر‪ ،‬واجتنبت‬
‫ما نهى اللّه عنه منه‪ ،‬وللّه الحمد والشكر‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمًا } يعلم ما‬


‫خفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِب ُكلّ َ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا } أي تظهروه { َأوْ تُ ْ‬
‫في قلوبكم‪ ،‬وما أظهرتموه‪ ،‬فيجازيكم عليه‪.‬‬

‫خوَا ِتهِنّ‬
‫ن وَلَا أَبْنَاءِ َأ َ‬
‫خوَا ِنهِ ّ‬
‫ن وَلَا أَبْنَاءِ ِإ ْ‬
‫خوَا ِنهِ ّ‬
‫ن وَلَا إِ ْ‬
‫ن وَلَا أَبْنَا ِئهِ ّ‬
‫علَ ْيهِنّ فِي آبَا ِئهِ ّ‬
‫{ ‪ { } 55‬لَا جُنَاحَ َ‬
‫شهِيدًا }‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ن وَلَا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ وَا ّتقِينَ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وَلَا نِسَا ِئهِ ّ‬

‫لما ذكر أنهن ل يسألن متاعًا إل من وراء حجاب‪ ،‬وكان اللفظ عامًا [لكل أحد] احتيج أن يستثنى‬
‫منه هؤلء المذكورون‪ ،‬من المحارم‪ ،‬وأنه { لَا جُنَاحَ عَلَ ْيهِنّ } في عدم الحتجاب عنهم‪.‬‬

‫ولم يذكر فيها العمام‪ ،‬والخوال‪ ،‬لنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ول خالته‪ ،‬من أبناء‬
‫الخوة والخوات‪ ،‬مع رفعتهن عليهم‪ ،‬فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن‪ ،‬من باب أولى‪ ،‬ولن‬
‫منطوق الية الخرى‪ ،‬المصرحة بذكر العم والخال‪ ،‬مقدمة‪ ،‬على ما يفهم من هذه الية‪.‬‬

‫وقوله { وَلَا ِنسَا ِئهِنّ } أي‪ :‬ل جناح عليهن أل يحتجبن عن نسائهن‪ ،‬أي‪ :‬اللتي من جنسهن في‬
‫الدين‪ ،‬فيكون ذلك مخرجًا لنساء الكفار‪ ،‬ويحتمل أن المراد جنس النساء‪ ،‬فإن المرأة ل تحتجب‬
‫عن المرأة‪ { .‬وَلَا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ } ما دام العبد في ملكها جميعه‪.‬‬

‫ولما رفع الجناح عن هؤلء‪ ،‬شرط فيه وفي غيره‪ ،‬لزوم تقوى اللّه‪ ،‬وأن ل يكون في محذور‬
‫شيْءٍ‬
‫شرعي فقال‪ { :‬وَا ّتقِينَ اللّهَ } أي‪ :‬استعملن تقواه في جميع الحوال { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫شهِيدًا } يشهد أعمال العباد‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬ويسمع أقوالهم‪ ،‬ويرى حركاتهم‪ ،‬ثم يجازيهم على‬
‫َ‬
‫ذلك‪ ،‬أتم الجزاء وأوفاه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 56‬إِنّ اللّهَ َومَلَائِكَتَهُ ُيصَلّونَ عَلَى النّ ِبيّ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْ ِه وَسَّلمُوا َتسْلِيمًا }‬
‫وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ورفعة درجته‪ ،‬وعلو منزلته عند اللّه‬
‫وعند خلقه‪ ،‬ورفع ذكره‪ .‬و { إِنّ اللّهَ } تعالى { َومَلَا ِئكَتَهُ ُيصَلّونَ } عليه‪ ،‬أي‪ :‬يثني اللّه عليه بين‬
‫الملئكة‪ ،‬وفي المل العلى‪ ،‬لمحبته تعالى له‪ ،‬وتثني عليه الملئكة المقربون‪ ،‬ويدعون له‬
‫ويتضرعون‪.‬‬

‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَ ْي ِه وَسَّلمُوا تَسْلِيمًا } اقتداء باللّه وملئكته‪ ،‬وجزاء له على بعض‬
‫حقوقه عليكم‪ ،‬وتكميلً ليمانكم‪ ،‬وتعظيمًا له صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ومحبة وإكرامًا‪ ،‬وزيادة في‬
‫حسناتكم‪ ،‬وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلة عليه عليه الصلة والسلم‪ ،‬ما علم به‬
‫أصحابه‪" :‬اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‪،‬‬
‫وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا المر‬
‫بالصلة والسلم عليه مشروع في جميع الوقات‪ ،‬وأوجبه كثير من العلماء في الصلة‬

‫{ ‪ { } 58 - 57‬إِنّ الّذِينَ ُيؤْذُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ َلعَ َنهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة وَأَعَدّ َل ُهمْ عَذَابًا ُمهِينًا‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ِبغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا َفقَدِ احْ َتمَلُوا ُبهْتَانًا وَإِ ْثمًا مُبِينًا }‬
‫* وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬

‫لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬والصلة والسلم عليه‪ ،‬نهى عن أذيته‪،‬‬
‫وتوعد عليها فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ ُيؤْذُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ } وهذا يشمل كل أذية‪ ،‬قولية أو فعلية‪ ،‬من‬
‫سب وشتم‪ ،‬أو تنقص له‪ ،‬أو لدينه‪ ،‬أو ما يعود إليه بالذى‪َ { .‬لعَ َنهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا } أي‪ :‬أبعدهم‬
‫وطردهم‪ ،‬ومن لعنهم [في الدنيا] أنه يحتم قتل من شتم الرسول‪ ،‬وآذاه‪.‬‬

‫{ وَالْآخِ َر ِة وَأَعَدّ َلهُمْ عَذَابًا ُمهِينًا } جزاء له على أذاه‪ ،‬أن يؤذى بالعذاب الليم‪ ،‬فأذية الرسول‪،‬‬
‫ليست كأذية غيره‪ ،‬لنه ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬ل يؤمن العبد باللّه‪ ،‬حتى يؤمن برسوله صلى اللّه‬
‫عليه وسلم‪ .‬وله من التعظيم‪ ،‬الذي هو من لوازم اليمان‪ ،‬ما يقتضي ذلك‪ ،‬أن ل يكون مثل غيره‪.‬‬

‫وإن كانت أذية المؤمنين عظيمة‪ ،‬وإثمها عظيمًا‪ ،‬ولهذا قال فيها‪ { :‬وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬
‫وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ ِبغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي‪ :‬بغير جناية منهم موجبة للذى { َفقَدِ احْ َتمَلُوا } على ظهورهم {‬
‫ُبهْتَانًا } حيث آذوهم بغير سبب { وَإِ ْثمًا مُبِينًا } حيث تعدوا عليهم‪ ،‬وانتهكوا حرمة أمر اللّه‬
‫باحترامها‪.‬‬

‫ولهذا كان سب آحاد المؤمنين‪ ،‬موجبًا للتعزير‪ ،‬بحسب حالته وعلو مرتبته‪ ،‬فتعزير من سب‬
‫الصحابة أبلغ‪ ،‬وتعزير من سب العلماء‪ ،‬وأهل الدين‪ ،‬أعظم من غيرهم‪.‬‬
‫ك وَنِسَاءِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ُيدْنِينَ عَلَ ْيهِنّ مِنْ جَلَابِي ِبهِنّ‬
‫ك وَبَنَا ِت َ‬
‫جَ‬‫{ ‪ { } 62 - 59‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ لِأَ ْزوَا ِ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا * لَئِنْ لَمْ يَنْ َتهِ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ‬
‫ن َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫ذَِلكَ َأدْنَى أَنْ ُيعْ َرفْنَ فَلَا ُيؤْذَيْ َ‬
‫جفُونَ فِي ا ْلمَدِينَةِ لَ ُنغْرِيَ ّنكَ ِب ِهمْ ثُمّ لَا يُجَاوِرُو َنكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلًا * مَ ْلعُونِينَ أَيْ َنمَا ُثقِفُوا‬
‫مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْر ِ‬
‫خذُوا َوقُتّلُوا َتقْتِيلًا * سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَ ْبلُ وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا }‬
‫أُ ِ‬

‫هذه الية‪ ،‬التي تسمى آية الحجاب‪ ،‬فأمر اللّه نبيه‪ ،‬أن يأمر النساء عمومًا‪ ،‬ويبدأ بزوجاته وبناته‪،‬‬
‫لنهن آكد من غيرهن‪ ،‬ولن المر [لغيره] ينبغي أن يبدأ بأهله‪ ،‬قبل غيرهم كما قال تعالى‪ { :‬يَا‬
‫سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }‬
‫أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ‬

‫جلَابِي ِبهِنّ } وهن اللتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه‪،‬‬
‫أن { ُيدْنِينَ عَلَ ْيهِنّ مِنْ َ‬
‫أي‪ :‬يغطين بها‪ ،‬وجوههن وصدورهن‪.‬‬

‫ثم ذكر حكمة ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬ذَِلكَ أَدْنَى أَنْ ُيعْ َرفْنَ فَلَا ُيؤْذَيْنَ } دل على وجود أذية‪ ،‬إن لم يحتجبن‪،‬‬
‫وذلك‪ ،‬لنهن إذا لم يحتجبن‪ ،‬ربما ظن أنهن غير عفيفات‪ ،‬فيتعرض لهن من في قلبه مرض‪،‬‬
‫فيؤذيهن‪ ،‬وربما استهين بهن‪ ،‬وظن أنهن إماء‪ ،‬فتهاون بهن من يريد الشر‪ .‬فالحتجاب حاسم‬
‫لمطامع الطامعين فيهن‪.‬‬

‫غفُورًا َرحِيمًا } حيث غفر لكم ما سلف‪ ،‬ورحمكم‪ ،‬بأن بين لكم الحكام‪ ،‬وأوضح‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫الحلل والحرام‪ ،‬فهذا سد للباب من جهتهن‪.‬‬

‫ن وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } أي‪:‬‬


‫وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله‪ { :‬لَئِنْ لَمْ يَنْ َتهِ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫جفُونَ فِي ا ْلمَدِينَةِ } أي‪ :‬المخوفون المرهبون العداء‪ ،‬المحدثون‬
‫مرض شك أو شهوة { وَا ْلمُرْ ِ‬
‫بكثرتهم وقوتهم‪ ،‬وضعف المسلمين‪.‬‬

‫ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه‪ ،‬ليعم ذلك‪ ،‬كل ما توحي به أنفسهم إليهم‪ ،‬وتوسوس به‪،‬‬
‫وتدعو إليه من الشر‪ ،‬من التعريض بسب السلم وأهله‪ ،‬والرجاف بالمسلمين‪ ،‬وتوهين قواهم‪،‬‬
‫والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة‪ ،‬وغير ذلك من المعاصي الصادرة‪ ،‬من أمثال هؤلء‪.‬‬

‫{ لَ ُنغْرِيَ ّنكَ ِبهِمْ } أي‪ :‬نأمرك بعقوبتهم وقتالهم‪ ،‬ونسلطك عليهم‪ ،‬ثم إذا فعلنا ذلك‪ ،‬ل طاقة لهم بك‪،‬‬
‫وليس لهم قوة ول امتناع‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ثمّ لَا ُيجَاوِرُو َنكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلًا } أي‪ :‬ل يجاورونك في‬
‫المدينة إل قليلً‪ ،‬بأن تقتلهم أو تنفيهم‪.‬‬
‫وهذا فيه دليل‪ ،‬لنفي أهل الشر‪ ،‬الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين‪ ،‬فإن ذلك أحسم للشر‪،‬‬
‫وأبعد منه‪ ،‬ويكونون { مَ ْلعُونِينَ أَيْ َنمَا ُث ِقفُوا ُأخِذُوا َوقُتّلُوا َتقْتِيلًا }‬

‫أي‪ :‬مبعدين‪ ،‬أين وجدوا‪ ،‬ل يحصل لهم أمن‪ ،‬ول يقر لهم قرار‪ ،‬يخشون أن يقتلوا‪ ،‬أو يحبسوا‪،‬‬
‫أو يعاقبوا‪.‬‬

‫{ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَ ْبلُ } أن من تمادى في العصيان‪ ،‬وتجرأ على ال أذى‪ ،‬ولم ينته‬
‫منه‪ ،‬فإنه يعاقب عقوبة بليغة‪ { .‬وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا } أي تغييرًا‪ ،‬بل سنته تعالى وعادته‪،‬‬
‫جارية مع السباب المقتضية لسبابها‬

‫{ ‪ { } 68 - 63‬يَسْأَُلكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ اللّ ِه َومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ َتكُونُ‬
‫جدُونَ وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا * َيوْمَ‬
‫سعِيرًا * خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَ ِ‬
‫ن وَأَعَدّ َلهُمْ َ‬
‫قَرِيبًا * إِنّ اللّهَ َلعَنَ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫طعْنَا سَادَتَنَا‬
‫طعْنَا الرّسُولَ * َوقَالُوا رَبّنَا إِنّا أَ َ‬
‫طعْنَا اللّ َه وََأ َ‬
‫ب وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ َيقُولُونَ يَا لَيْتَنَا َأ َ‬
‫ُتقَلّ ُ‬
‫ضعْفَيْنِ مِنَ ا ْل َعذَابِ وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنًا كَبِيرًا }‬
‫َوكُبَرَاءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلَ * رَبّنَا آ ِت ِه ْم ِ‬

‫أي‪ :‬يستخبرك الناس عن الساعة‪ ،‬استعجالً لها‪ ،‬وبعضهم‪ ،‬تكذيبًا لوقوعها‪ ،‬وتعجيزًا للذي أخبر‬
‫بها‪ُ { .‬قلْ } لهم‪ { :‬إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ اللّهِ } أي‪ :‬ل يعلمها إل اللّه‪ ،‬فليس لي‪ ،‬ول لغيرى بها علم‪،‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فل تستبطؤوها‪.‬‬

‫{ َومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ َتكُونُ قَرِيبًا } ومجرد مجيء الساعة‪ ،‬قربا وبعدًا‪ ،‬ليس تحته نتيجة ول‬
‫فائدة‪ ،‬وإنما النتيجة والخسار‪ ،‬والربح‪ ،‬والشقا والسعادة‪ ،‬هل يستحق العبد العذاب‪ ،‬أو يستحق‬
‫الثواب؟ فهذه سأخبركم بها‪ ،‬وأصف لكم مستحقها‪.‬‬

‫فوصف مستحق العذاب‪ ،‬ووصف العذاب‪ ،‬لن الوصف المذكور‪ ،‬منطبق على هؤلء المكذبين‬
‫بالساعة فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ َلعَنَ ا ْلكَافِرِينَ } [أي‪ ]:‬الذين صار الكفر دأبهم وطريقتهم الكفر باللّه‬
‫وبرسله‪ ،‬وبما جاءوا به من عند اللّه‪ ،‬فأبعدهم في الدنيا والخرة من رحمته‪ ،‬وكفى بذلك عقابًا‪،‬‬
‫سعِيرًا } أي‪ :‬نارًا موقدة‪ ،‬تسعر في أجسامهم‪ ،‬ويبلغ العذاب إلى أفئدتهم‪ ،‬ويخلدون في‬
‫{ وَأَعَدّ َلهُمْ َ‬
‫ذلك العذاب الشديد‪ ،‬فل يخرجون منه‪ ،‬ول ُيفَتّر عنهم ساعة‪.‬‬

‫جدُونَ وَلِيّا فيعطيهم ما طلبوه { وَلَا َنصِيرًا } يدفع عنهم العذاب‪ ،‬بل قد تخلى عنهم الولي‬
‫ولَا يَ ِ‬
‫النصير‪ ،‬وأحاط بهم عذاب السعير‪ ،‬وبلغ منهم مبلغًا عظيمًا‪،‬‬

‫ب وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ } فيذوقون حرها‪ ،‬ويشتد عليهم أمرها‪ ،‬ويتحسرون على‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬يوْمَ ُتقَلّ ُ‬
‫ما أسلفوا‪.‬‬
‫طعْنَا الرّسُولَ } فسلمنا من هذا العذاب‪ ،‬واستحققنا‪ ،‬كالمطيعين‪،‬‬
‫طعْنَا اللّ َه وَأَ َ‬
‫{ َيقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَ َ‬
‫جزيل الثواب‪ .‬ولكن أمنية فات وقتها‪ ،‬فلم تفدهم إل حسرة وندمًا‪ ،‬وهمًا‪ ،‬وغمًا‪ ،‬وألمًا‪.‬‬

‫طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَاءَنَا } وقلدناهم على ضللهم‪ { ،‬فََأضَلّونَا السّبِيلَ }‬


‫{ َوقَالُوا رَبّنَا إِنّا َأ َ‬

‫كقوله تعالى { وَ َيوْمَ َي َعضّ الظّالِمُ عَلَى َيدَيْهِ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي‬
‫لَمْ أَتّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا َلقَدْ َأضَلّنِي عَنِ ال ّذكْرِ بعد إذ جاءني } الية‪.‬‬

‫ولما علموا أنهم هم وكبراءهم مستحقون للعقاب‪ ،‬أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم‪ ،‬فقالوا‪ { :‬رَبّنَا‬
‫ب وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنًا كَبِيرًا } فيقول اللّه لكل ضعف‪ ،‬فكلكم اشتركتم في الكفر‬
‫ضعْفَيْنِ مِنَ ا ْلعَذَا ِ‬
‫آ ِتهِمْ ِ‬
‫والمعاصي‪ ،‬فتشتركون في العقاب‪ ،‬وإن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 69‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتكُونُوا كَالّذِينَ آ َذوْا مُوسَى فَبَرَّأهُ اللّهُ ِممّا قَالُوا َوكَانَ عِ ْندَ اللّهِ‬
‫وَجِيهًا }‬

‫يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم‪ ،‬محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬النبي الكريم‪ ،‬الرءوف‬
‫الرحيم‪ ،‬فيقابلوه بضد ما يجب له من الكرام والحترام‪ ،‬وأن ل يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى‬
‫بن عمران‪ ،‬كليم الرحمن‪ ،‬فبرأه اللّه مما قالوا من الذية‪ ،‬أي‪ :‬أظهر اللّه لهم براءته‪ .‬والحال أنه‬
‫عليه الصلة والسلم‪ ،‬ليس محل التهمة والذية‪ ،‬فإنه كان وجيها عند اللّه‪ ،‬مقربًا لديه‪ ،‬من خواص‬
‫المرسلين‪ ،‬ومن عباده المخلصين‪ ،‬فلم يزجرهم ما له‪ ،‬من الفضائل عن أذيته والتعرض له بما‬
‫يكره‪ ،‬فاحذروا أيها المؤمنون‪ ،‬أن تتشبهوا بهم في ذلك‪ ،‬والذية المشار إليها هي قول بني‬
‫إسرائيل لموسى لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم‪" :‬إنه ما يمنعه من ذلك إل أنه آدر" أي‪ :‬كبير‬
‫الخصيتين‪ ،‬واشتهر ذلك عندهم‪ ،‬فأراد ال أن يبرئه منهم‪ ،‬فاغتسل يومًا‪ ،‬ووضع ثوبه على حجر‪،‬‬
‫ففر الحجر بثوبه‪ ،‬فأهوى موسى عليه السلم في طلبه‪ ،‬فمر به على مجالس بني إسرائيل‪ ،‬فرأوه‬
‫أحسن خلق اللّه‪ ،‬فزال عنه ما رموه به‪.‬‬

‫عمَاَلكُ ْم وَ َي ْغفِرْ َل ُكمْ‬


‫{ ‪ { } 71 - 70‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه َوقُولُوا َقوْلًا سَدِيدًا * ُيصْلِحْ َلكُمْ أَ ْ‬
‫طعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا عَظِيمًا }‬
‫ذُنُو َبكُ ْم َومَنْ يُ ِ‬

‫يأمر تعالى المؤمنين بتقواه‪ ،‬في جميع أحوالهم‪ ،‬في السر والعلنية‪ ،‬ويخص منها‪ ،‬ويندب للقول‬
‫السديد‪ ،‬وهو القول الموافق للصواب‪ ،‬أو المقارب له‪ ،‬عند تعذر اليقين‪ ،‬من قراءة‪ ،‬وذكر‪ ،‬وأمر‬
‫بمعروف‪ ،‬ونهي عن منكر‪ ،‬وتعلم علم وتعليمه‪ ،‬والحرص على إصابة الصواب‪ ،‬في المسائل‬
‫العلمية‪ ،‬وسلوك كل طريق يوصل لذلك‪ ،‬وكل وسيلة تعين عليه‪.‬‬

‫ومن القول السديد‪ ،‬لين الكلم ولطفه‪ ،‬في مخاطبة النام‪ ،‬والقول المتضمن للنصح والشارة‪ ،‬بما‬
‫هو الصلح‪.‬‬

‫عمَاَلكُمْ } أي‪ :‬يكون ذلك سببًا‬


‫ثم ذكر ما يترتب على تقواه‪ ،‬وقول القول السديد فقال‪ُ { :‬يصْلِحْ َل ُكمْ أَ ْ‬
‫لصلحها‪ ،‬وطريقًا لقبولها‪ ،‬لن استعمال التقوى‪ ،‬تتقبل به العمال كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ‬
‫مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬

‫ويوفق فيه النسان للعمل الصالح‪ ،‬ويصلح اللّه العمال [أيضًا] بحفظها عما يفسدها‪ ،‬وحفظ ثوابها‬
‫ومضاعفته‪ ،‬كما أن الخلل بالتقوى‪ ،‬والقول السديد سبب لفساد العمال‪ ،‬وعدم قبولها‪ ،‬وعدم‬
‫تَرَّتبِ آثارها عليها‪.‬‬

‫{ وَ َي ْغفِرْ َلكُمْ } أيضًا { ذُنُو َبكُمْ } التي هي السبب في هلككم‪ ،‬فالتقوى تستقيم بها المور‪ ،‬ويندفع‬
‫طعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا عَظِيمًا }‬
‫بها كل محذور ولهذا قال‪َ { :‬ومَنْ يُ ِ‬

‫ش َفقْنَ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَا ْلجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 73 - 72‬إِنّا عَ َرضْنَا الَْأمَا َنةَ عَلَى ال ّ‬
‫ت وَا ْلمُشْ ِركِينَ‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَا ِ‬
‫جهُولًا * لِ ُيعَ ّذبَ اللّهُ ا ْلمُنَافِقِي َ‬
‫حمََلهَا الْإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُومًا َ‬
‫مِ ْنهَا وَ َ‬
‫غفُورًا رَحِيمًا }‬
‫ت َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫ن وَا ْل ُمؤْمِنَا ِ‬
‫وَا ْلمُشْ ِركَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬

‫يعظم تعالى شأن المانة‪ ،‬التي ائتمن اللّه عليها المكلفين‪ ،‬التي هي امتثال الوامر‪ ،‬واجتناب‬
‫المحارم‪ ،‬في حال السر والخفية‪ ،‬كحال العلنية‪ ،‬وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة‪،‬‬
‫السماوات والرض والجبال‪ ،‬عرض تخيير ل تحتيم‪ ،‬وأنك إن قمت بها وأدّي ِتهَا على وجهها‪ ،‬فلك‬
‫الثواب‪ ،‬وإن لم تقومي بها‪[ ،‬ولم تؤديها] فعليك العقاب‪.‬‬

‫حمّلْنَ‪ ،‬ل عصيانًا لربهن‪ ،‬ول زهدًا‬


‫ش َفقْنَ مِ ْنهَا } أي‪ :‬خوفًا أن ل يقمن بما ُ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫{ فَأَبَيْنَ أَنْ يَ ْ‬
‫في ثوابه‪ ،‬وعرضها اللّه على النسان‪ ،‬على ذلك الشرط المذكور‪ ،‬فقبلها‪ ،‬وحملها مع ظلمه‬
‫وجهله‪ ،‬وحمل هذا الحمل الثقيل‪ .‬فانقسم الناس ‪-‬بحسب قيامهم بها وعدمه‪ -‬إلى ثلثة أقسام‪:‬‬

‫منافقون‪ ،‬أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا ل باطنًا‪ ،‬ومشركون‪ ،‬تركوها ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬ومؤمنون‪،‬‬
‫قائمون بها ظاهرًا وباطنًا‪.‬‬
‫فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلء القسام الثلثة‪ ،‬وما لهم من الثواب والعقاب فقال‪ { :‬لِ ُيعَ ّذبَ اللّهُ‬
‫ت وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ َوكَانَ اللّهُ‬
‫ن وَا ْلمُشْ ِركَا ِ‬
‫ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلمُنَا ِفقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِي َ‬
‫غفُورًا َرحِيمًا } ‪.‬‬
‫َ‬

‫فله الحمد تعالى‪ ،‬حيث ختم هذه الية بهذين السمين الكريمين‪ ،‬الدالين على تمام مغفرة اللّه‪،‬‬
‫وسعة رحمته‪ ،‬وعموم جوده‪ ،‬مع أن المحكوم عليهم‪ ،‬كثير منهم‪ ،‬لم يستحق المغفرة والرحمة‪،‬‬
‫لنفاقه وشركه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحزاب‪.‬‬

‫بحمد اللّه وعونه‪.‬‬

‫تفسير سورة سبأ وهي مكية‬

‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ وَلَهُ‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْ‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ * َيعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ َومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا َومَا يَنْ ِزلُ مِنَ‬
‫ح ْمدُ فِي الْآخِ َر ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫الْ َ‬
‫سمَاءِ َومَا َيعْرُجُ فِيهَا وَ ُهوَ الرّحِيمُ ا ْل َغفُورُ }‬
‫ال ّ‬

‫الحمد‪ :‬الثناء بالصفات الحميدة‪ ,‬والفعال الحسنة‪ ,‬فللّه تعالى الحمد‪ ,‬لن جميع صفاته‪ ,‬يحمد عليها‪,‬‬
‫لكونها صفات كمال‪ ,‬وأفعاله‪ ,‬يحمد عليها‪ ,‬لنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر‪ ,‬والعدل‬
‫الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه‪.‬‬

‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ } ملكا وعبيدا‪ ,‬يتصرف فيهم‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫وحمد نفسه هنا‪ ,‬على أن { لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫حمْدُ فِي الْآخِ َرةِ } لن في الخرة‪ ,‬يظهر من حمده‪ ,‬والثناء عليه‪ ,‬ما ل يكون في‬
‫بحمده‪ { .‬وَلَهُ ا ْل َ‬
‫الدنيا‪ ،‬فإذا قضى اللّه تعالى بين الخلئق كلهم‪ ,‬ورأى الناس والخلق كلهم‪ ,‬ما حكم به‪ ,‬وكمال عدله‬
‫وقسطه‪ ,‬وحكمته فيه‪ ,‬حمدوه كلهم على ذلك‪ ،‬حتى أهل العقاب ما دخلوا النار‪ ,‬إل وقلوبهم ممتلئة‬
‫من حمده‪ ,‬وأن هذا من جراء أعمالهم‪ ,‬وأنه عادل في حكمه بعقابهم‪.‬‬

‫وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب‪ ,‬فذلك شيء قد تواردت به الخبار‪ ,‬وتوافق عليه الدليل‬
‫السمعي والعقلي‪ ،‬فإنهم في الجنة‪ ,‬يرون من توالي نعم اللّه‪ ,‬وإدرار خيره‪ ,‬وكثرة بركاته‪ ,‬وسعة‬
‫عطاياه‪ ,‬التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية‪ ,‬ول إرادة‪ ,‬إل وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد‪ ،‬بل‬
‫يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم‪ ,‬ولم يخطر بقلوبهم‪.‬‬
‫فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال‪ ,‬مع أن في الجنة تضمحل العوارض والقواطع‪ ,‬التي تقطع‬
‫عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه‪ ,‬ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم‪ ,‬وألذ عليهم من كل‬
‫لذة‪ ،‬ولهذا إذا رأوا اللّه تعالى‪ ,‬وسمعوا كلمه عند خطابه لهم‪ ,‬أذهلهم ذلك عن كل نعيم‪ ,‬ويكون‬
‫الذكر لهم في الجنة‪ ,‬كالنّفس‪ ,‬متواصل في جميع الوقات‪ ،‬هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لهل‬
‫الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم‪ ,‬وجلله‪ ,‬وجماله‪ ,‬وسعة كماله‪ ,‬ما يوجب لهم كمال‬
‫الحمد‪ ,‬والثناء عليه‪.‬‬

‫حكِيمُ } في ملكه وتدبيره‪ ,‬الحكيم في أمره ونهيه‪ { .‬ا ْلخَبِيرُ } المطلع على سرائر المور‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫وخفاياها ولهذا فصل علمه بقوله‪َ { :‬يعَْلمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬من مطر‪ ,‬وبذر‪ ,‬وحيوان { َومَا‬
‫سمَاءِ } من الملك‬
‫يَخْرُجُ مِ ْنهَا } من أنواع النباتات‪ ,‬وأصناف الحيوانات { َومَا يَنْ ِزلُ مِنَ ال ّ‬
‫والرزاق والقدار { َومَا َيعْرُجُ فِيهَا } من الملئكة والرواح وغير ذلك‪.‬‬

‫ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها‪ ,‬وعلمه بأحوالها‪ ,‬ذكر مغفرته ورحمته لها‪ ,‬فقال‪ { :‬وَ ُهوَ الرّحِيمُ‬
‫ا ْل َغفُورُ } أي‪ :‬الذي الرحمة والمغفرة وصفه‪ ,‬ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت بحسب‬
‫ما قاموا به من مقتضياتهما‪.‬‬

‫عةُ ُقلْ بَلَى وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ عَاِلمِ ا ْلغَ ْيبِ لَا َيعْ ُزبُ عَنْهُ‬
‫{ ‪َ { } 5 - 3‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَا تَأْتِينَا السّا َ‬
‫ك وَلَا َأكْبَرُ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْ ِزيَ‬
‫صغَرُ مِنْ ذَِل َ‬
‫ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ وَلَا َأ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ‬
‫س َعوْا فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُولَ ِئكَ َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ َ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ مِنْ ِرجْزٍ أَلِيمٌ }‬

‫لما بين تعالى‪ ,‬عظمته‪ ,‬بما وصف به نفسه‪ ,‬وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه‪ ,‬واليمان به‪ ,‬ذكر‬
‫أن من أصناف الناس‪ ,‬طائفة لم تقدر ربها حق قدره‪ ,‬ولم تعظمه حق عظمته‪ ,‬بل كفروا به‪,‬‬
‫وأنكروا قدرته على إعادة الموات‪ ,‬وقيام الساعة‪ ,‬وعارضوا بذلك رسله فقال‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ‬
‫َكفَرُوا } أي باللّه وبرسله‪ ,‬وبما جاءوا به‪ ،‬فقالوا بسبب كفرهم‪ { :‬لَا تَأْتِينَا السّاعَةُ } أي‪ :‬ما هي‪,‬‬
‫إل هذه الحياة الدنيا‪ ,‬نموت ونحيا‪ .‬فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله‪ ,‬ويقسم على البعث‪ ,‬وأنه‬
‫سيأتيهم‪ ،‬واستدل على ذلك بدليل من أقرّ به‪ ,‬لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة‪ ,‬وهو علمه تعالى‬
‫الواسع العام فقال‪ { :‬عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ } أي‪ :‬المور الغائبة عن أبصارنا‪ ,‬وعن علمنا‪ ,‬فكيف بالشهادة؟"‪.‬‬

‫ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫ثم أكد علمه فقال‪ { :‬لَا َيعْ ُزبُ } أي‪ :‬ل يغيب عن علمه { مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ‬
‫} أي‪ :‬جميع الشياء بذواتها وأجزائها‪ ,‬حتى أصغر ما يكون من الجزاء‪ ,‬وهو المثاقيل منها‪.‬‬
‫صغَرَ مِنْ َذِلكَ وَلَا َأكْبَرَ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬قد أحاط به علمه‪ ,‬وجرى به قلمه‪,‬‬
‫{ وَلَا َأ ْ‬
‫وتضمنه الكتاب المبين‪ ,‬الذي هو اللوح المحفوظ‪ ،‬فالذي ل يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه‪,‬‬
‫في جميع الوقات‪ ,‬ويعلم ما تنقص الرض من الموات‪ ,‬وما يبقى من أجسادهم‪ ,‬قادر على بعثهم‬
‫من باب أولى‪ ,‬وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط‪.‬‬

‫ثم ذكر المقصود من البعث فقال‪ { :‬لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم‪ ,‬صدقوا اللّه‪ ,‬وصدقوا رسله‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } تصديقا ليمانهم‪ { .‬أُولَ ِئكَ َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ } لذنوبهم‪ ,‬بسبب‬
‫تصديقا جازما‪ { ،‬وَ َ‬
‫إيمانهم وعملهم‪ ,‬يندفع بها كل شر وعقاب‪ { .‬وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بإحسانهم‪ ,‬يحصل لهم به كل مطلوب‬
‫ومرغوب‪ ,‬وأمنية‪.‬‬

‫س َعوْا فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ } أي‪ :‬سعوا فيها كفرا بها‪ ,‬وتعجيزا لمن جاء بها‪ ,‬وتعجيزا لمن‬
‫{ وَالّذِينَ َ‬
‫أنزلها‪ ,‬كما عجزوه في العادة بعد الموت‪ { .‬أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } أي‪ :‬مؤلم لبدانهم‬
‫وقلوبهم‪.‬‬

‫ق وَ َيهْدِي إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ‬


‫{ ‪ { } 6‬وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ الّذِي أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلحَ ّ‬
‫حمِيدِ }‬
‫الْ َ‬

‫لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث‪ ,‬وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق‪ ،‬ذكر حالة‬
‫الموفقين من العباد‪ ,‬وهم أهل العلم‪ ,‬وأنهم يرون ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب‪ ,‬وما اشتمل‬
‫عليه من الخبار‪ ,‬هو الحق‪ ,‬أي‪ :‬الحق منحصر فيه‪ ,‬وما خالفه وناقضه‪ ,‬فإنه باطل‪ ,‬لنهم وصلوا‬
‫من العلم إلى درجة اليقين‪.‬‬

‫حمِيدِ } وذلك أنهم جزموا‬


‫ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه { َيهْدِي إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬
‫بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة‪ :‬من جهة علمهم بصدق من أخبر به‪ ،‬ومن جهة موافقته‬
‫للمور الواقعة‪ ,‬والكتب السابقة‪ ،‬ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها‪ ,‬التي تقع عيانا‪ ،‬ومن جهة ما‬
‫يشاهدون من اليات العظيمة الدالة عليها في الفاق وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها‪ ,‬لما دلت عليه‬
‫أسماؤه تعالى وأوصافه‪.‬‬

‫ويرون في الوامر والنواهي‪ ,‬أنها تهدي إلى الصراط المستقيم‪ ,‬المتضمن للمر بكل صفة تزكي‬
‫النفس‪ ،‬وتنمي الجر‪ ،‬وتفيد العامل وغيره‪ ،‬كالصدق والخلص وبر الوالدين‪ ,‬وصلة الرحام‪,‬‬
‫والحسان إلى عموم الخلق‪ ,‬ونحو ذلك‪ .‬وتنهى عن كل صفة قبيحة‪ ,‬تدنس النفس‪ ,‬وتحبط الجر‪,‬‬
‫وتوجب الثم والوزر‪ ,‬من الشرك‪ ,‬والزنا‪ ,‬والربا‪ ,‬والظلم في الدماء والموال‪ ,‬والعراض‪.‬‬
‫وهذه منقبة لهل العلم وفضيلة‪ ,‬وعلمة لهم‪ ,‬وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما‬
‫جاء به الرسول‪ ,‬وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه‪ ,‬كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة‬
‫على ما جاء به الرسول‪ ,‬احتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين‪ ,‬كما في هذه الية وغيرها‪.‬‬

‫خلْقٍ‬
‫جلٍ يُنَبّ ُئكُمْ ِإذَا مُ ّزقْتُمْ ُكلّ ُممَزّقٍ إِ ّنكُمْ َلفِي َ‬
‫علَى َر ُ‬
‫{ ‪َ { } 9 - 7‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا َهلْ نَدُّلكُمْ َ‬
‫جدِيدٍ * َأفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأمْ بِهِ جِنّةٌ َبلِ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ فِي ا ْلعَذَابِ وَالضّلَالِ الْ َبعِيدِ *‬
‫َ‬
‫سقِطْ‬
‫سفْ ِب ِهمُ الْأَ ْرضَ َأوْ نُ ْ‬
‫خِ‬‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ إِنْ َنشَأْ نَ ْ‬
‫خ ْلفَهُمْ مِنَ ال ّ‬
‫َأفَلَمْ يَ َروْا إِلَى مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ‬
‫سمَاءِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }‬
‫سفًا مِنَ ال ّ‬
‫عَلَ ْيهِمْ كِ َ‬

‫أي‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا } على وجه التكذيب والستهزاء والستبعاد‪ ،‬وذكر وجه الستبعاد‪.‬‬

‫جلٍ يُنَبّ ُئكُمْ ِإذَا مُ ّزقْتُمْ ُكلّ ُممَزّقٍ إِ ّنكُمْ َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }‬
‫أي‪ :‬قال بعضهم لبعض‪َ { :‬هلْ نَدُّل ُكمْ عَلَى رَ ُ‬
‫يعنون بذلك الرجل‪ ,‬رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ,‬وأنه رجل أتى بما يستغرب منه‪ ,‬حتى صار‬
‫‪ -‬بزعمهم ‪ -‬فرجة يتفرجون عليه‪ ,‬وأعجوبة يسخرون منه‪ ،‬وأنه كيف يقول { إِ ّنكُمْ مَ ْبعُوثُونَ }‬
‫بعدما مزقكم البلى‪ ,‬وتفرقت أوصالكم‪ ,‬واضمحلت أعضاؤكم؟!‪.‬‬

‫فهذا الرجل الذي يأتي بذلك‪ ,‬هل { َأفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } فتجرأ عليه وقال ما قال‪َ { ,‬أمْ بِهِ‬
‫جِنّةٌ } ؟ فل يستغرب منه‪ ,‬فإن الجنون فنون‪ ،‬وكل هذا منهم‪ ,‬على وجه العناد والظلم‪ ,‬ولقد علموا‪,‬‬
‫أنه أصدق خلق اللّه وأعقلهم‪ ,‬ومن علمهم‪ ,‬أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم‪ ,‬وبذلوا أنفسهم‬
‫وأموالهم‪ ,‬في صد الناس عنه‪ ،‬فلو كان كاذبا مجنونا لم ينبغ لكم ‪ -‬يا أهل العقول غير الزاكية ‪-‬‬
‫أن تصغوا لما قال‪ ,‬ول أن تحتفلوا بدعوته‪ ،‬فإن المجنون‪ ,‬ل ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره‪ ,‬أو‬
‫يبلغ قوله منه كل مبلغ‪.‬‬

‫ولول عنادكم وظلمكم‪ ,‬لبادرتم لجابته‪ ,‬ولبيتم دعوته‪ ,‬ولكن { مَا ُتغْنِي الْآيَاتُ وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ لَا‬
‫ُي ْؤمِنُونَ } ولهذا قال تعالى‪َ { :‬بلِ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ } ومنهم الذين قالوا تلك المقالة‪ { ،‬فِي‬
‫ب وَالضّلَالِ الْ َبعِيدِ } أي‪ :‬في الشقاء العظيم‪ ,‬والضلل البعيد‪ ,‬الذي ليس بقريب من الصواب‪،‬‬
‫ا ْلعَذَا ِ‬
‫وأي شقاء وضلل‪ ,‬أبلغ من إنكارهم لقدرة اللّه على البعث وتكذيبهم لرسوله الذي جاء به‪,‬‬
‫واستهزائهم به‪ ,‬وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق‪ ,‬فرأوا الحق باطل‪ ,‬والباطل والضلل حقا‬
‫وهدى‪.‬‬

‫ثم نبههم على الدليل العقلي‪ ,‬الدال على عدم استبعاد البعث‪ ,‬الذي استبعدوه‪ ,‬وأنهم لو نظروا إلى ما‬
‫بين أيديهم وما خلفهم‪ ,‬من السماء والرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما‪ ,‬ما يبهر العقول‪ ,‬ومن‬
‫عظمته ما يذهل العلماء الفحول‪ ,‬وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات‪ ,‬أعظم من إعادة‬
‫الناس ‪ -‬بعد موتهم ‪ -‬من قبورهم‪ ،‬فما الحامل لهم‪ ,‬على ذلك التكذيب مع التصديق‪ ,‬بما هو أكبر‬
‫منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الن‪ ,‬ما شاهدوه‪ ,‬فلذلك كذبوا به‪.‬‬

‫سمَاءِ } أي‪ :‬من العذاب‪ ,‬لن‬


‫سفًا مِنَ ال ّ‬
‫سقِطْ عَلَ ْيهِمْ كِ َ‬
‫سفْ ِبهِمُ الْأَ ْرضَ َأوْ نُ ْ‬
‫قال اللّه‪ { :‬إِنْ نَشَأْ نَخْ ِ‬
‫الرض والسماء تحت تدبيرنا‪ ,‬فإن أمرناهما لم يستعصيا‪ ،‬فاحذروا إصراركم على تكذيبكم‪,‬‬
‫فنعاقبكم أشد العقوبة‪ { .‬إِنّ فِي ذَِلكَ } أي‪ :‬خلق السماوات والرض‪ ,‬وما فيهما من المخلوقات‬
‫{ لَآ َيةً ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }‬

‫فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه‪ ,‬كان انتفاعه باليات أعظم‪ ,‬لن المنيب مقبل إلى ربه‪ ,‬قد‬
‫توجهت إراداته وهماته لربه‪ ,‬ورجع إليه في كل أمر من أموره‪ ,‬فصار قريبا من ربه‪ ,‬ليس له هم‬
‫إل الشتغال بمرضاته‪ ،‬فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة‪ ,‬ل نظر غفلة غير نافعة‪.‬‬

‫ع َملْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 10‬وََلقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا َفضْلًا يَا جِبَالُ َأوّبِي َمعَ ُه وَالطّيْ َر وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ ا ْ‬
‫عمَلُوا صَاِلحًا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬
‫ت َوقَدّرْ فِي السّرْدِ وَا ْ‬
‫سَا ِبغَا ٍ‬

‫أي‪ :‬ولقد مننا على عبدنا ورسولنا‪ ,‬داود عليه الصلة والسلم‪ ,‬وآتيناه فضل من العلم النافع‪,‬‬
‫والعمل الصالح‪ ,‬والنعم الدينية والدنيوية‪ ،‬ومن نعمه عليه‪ ,‬ما خصه به من أمره تعالى الجمادات‪,‬‬
‫كالجبال والحيوانات‪ ,‬من الطيور‪ ,‬أن ُت َؤوّب معه‪ ,‬وتُرَجّع التسبيح بحمد ربها‪ ,‬مجاوبة له‪ ،‬وفي هذا‬
‫من النعمة عليه‪ ,‬أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لحد قبله ول بعده‪ ,‬وأن ذلك يكون‬
‫منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات‪ ,‬تتجاوب بتسبيح ربها‪,‬‬
‫وتمجيده‪ ,‬وتكبيره‪ ,‬وتحميده‪ ,‬كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن ذلك ‪ -‬كما قال كثير من العلماء‪ ,‬أنه طرب لصوت داود‪ ،‬فإن اللّه تعالى‪ ,‬قد أعطاه من‬
‫حسن الصوت‪ ,‬ما فاق به غيره‪ ,‬وكان إذا رجّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم‬
‫الشجيّ المطرب‪ ,‬طرب كل من سمعه‪ ,‬من النس‪ ,‬والجن‪ ,‬حتى الطيور والجبال‪ ,‬وسبحت بحمد‬
‫ربها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها‪ ,‬لنه سبب ذلك‪ ,‬وتسبح تبعا له‪.‬‬

‫ومن فضله عليه‪ ,‬أن ألن له الحديد‪ ,‬ليعمل الدروع السابغات‪ ,‬وعلمه تعالى كيفية صنعته‪ ,‬بأن‬
‫يقدره في السرد‪ ,‬أي‪ :‬يقدره حلقا‪ ,‬ويصنعه كذلك‪ ,‬ثم يدخل بعضها ببعض‪.‬‬
‫سكُمْ َف َهلْ أَنْ ُتمْ شَاكِرُونَ }‬
‫حصِ َنكُمْ مِنْ بَأْ ِ‬
‫قال تعالى‪ { :‬وَعَّلمْنَاهُ صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ َلكُمْ لِ ُت ْ‬

‫ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله‪ ,‬أمره بشكره‪ ,‬وأن يعملوا صالحا‪ ,‬ويراقبوا اللّه تعالى فيه‪,‬‬
‫بإصلحه وحفظه من المفسدات‪ ,‬فإنه بصير بأعمالهم‪ ,‬مطلع عليهم‪ ,‬ل يخفى عليه منها شيء‪.‬‬

‫شهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ا ْلقِطْ ِر َومِنَ الْجِنّ‬


‫حهَا َ‬
‫شهْ ٌر وَ َروَا ُ‬
‫{ ‪ { } 14 - 12‬وَلِسُلَ ْيمَانَ الرّيحَ غُ ُدوّهَا َ‬
‫سعِيرِ * َي ْعمَلُونَ لَهُ مَا‬
‫عذَابِ ال ّ‬
‫مَنْ َي ْع َملُ بَيْنَ َيدَيْهِ بِِإذْنِ رَبّ ِه َومَنْ يَ ِزغْ مِ ْنهُمْ عَنْ َأمْرِنَا ُن ِذقْهُ مِنْ َ‬
‫شكْرًا َوقَلِيلٌ مِنْ‬
‫عمَلُوا آلَ دَاوُدَ ُ‬
‫ب َوقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ا ْ‬
‫جوَا ِ‬
‫جفَانٍ كَالْ َ‬
‫ل وَ ِ‬
‫ب وَ َتمَاثِي َ‬
‫يَشَاءُ مِنْ مَحَارِي َ‬
‫شكُورُ * فََلمّا َقضَيْنَا عَلَ ْيهِ ا ْل َم ْوتَ مَا دَّلهُمْ عَلَى َموْتِهِ إِلّا دَابّةُ الْأَ ْرضِ تَ ْأ ُكلُ مِنْسَأَ َتهُ فََلمّا خَرّ‬
‫عِبَا ِديَ ال ّ‬
‫تَبَيّ َنتِ الْجِنّ أَنْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ا ْلغَ ْيبَ مَا لَبِثُوا فِي ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ }‬

‫لما ذكر فضله على داود عليه السلم‪ ,‬ذكر فضله على ابنه سليمان‪ ,‬عليه الصلة والسلم‪ ,‬وأن‬
‫اللّه سخر له الريح تجري بأمره‪ ,‬وتحمله‪ ,‬وتحمل جميع ما معه‪ ,‬وتقطع المسافة البعيدة جدا‪ ,‬في‬
‫شهْرٌ } أي‪ :‬أول النهار إلى الزوال‬
‫غ ُدوّهَا َ‬
‫مدة يسيرة‪ ,‬فتسير في اليوم‪ ,‬مسيرة شهرين‪ُ { .‬‬
‫شهْرٌ } من الزوال‪ ,‬إلى آخر النهار { وَأَسَلْنَا َلهُ عَيْنَ ا ْلقِطْرِ } أي‪ :‬سخرنا له عين‬
‫حهَا َ‬
‫{ وَ َروَا ُ‬
‫النحاس‪ ,‬وسهلنا له السباب‪ ,‬في استخراج ما يستخرج منها من الواني وغيرها‪.‬‬

‫وسخر اللّه له أيضا‪ ,‬الشياطين والجن‪ ,‬ل يقدرون أن يستعصوا عن أمره‪َ { ,‬ومَنْ يَ ِزغْ مِ ْنهُمْ عَنْ‬
‫سعِيرِ } وأعمالهم كل ما شاء سليمان‪ ,‬عملوه‪.‬‬
‫َأمْرِنَا نُ ِذقْهُ مِنْ عَذَابِ ال ّ‬

‫{ مِنْ َمحَارِيبَ } وهو كل بناء يعقد‪ ,‬وتحكم به البنية‪ ,‬فهذا فيه ذكر البنية الفخمة‪ { ،‬وَ َتمَاثِيلَ }‬
‫جفَانٍ‬
‫أي‪ :‬صور الحيوانات والجمادات‪ ,‬من إتقان صنعتهم‪ ,‬وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان { وَ ِ‬
‫جوَابِ } أي‪ :‬كالبرك الكبار‪ ,‬يعملونها لسليمان للطعام‪ ,‬لنه يحتاج إلى ما ل يحتاج إليه غيره ‪،‬‬
‫كَالْ َ‬
‫" و " يعملون له قدورا راسيات ل تزول عن أماكنها‪ ,‬من عظمها‪.‬‬

‫عمَلُوا آلَ دَاوُدَ } وهم داود‪ ,‬وأولده‪ ,‬وأهله‪ ,‬لن‬


‫فلما ذكر منته عليهم‪ ,‬أمرهم بشكرها فقال‪ { :‬ا ْ‬
‫شكْرًا } للّه على ما أعطاهم‪ ,‬ومقابلة لما‬
‫المنة على الجميع‪ ,‬وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم‪ُ { .‬‬
‫شكُورُ } فأكثرهم‪ ,‬لم يشكروا اللّه تعالى على ما أولهم من نعمه‪,‬‬
‫أولهم‪َ { .‬وقَلِيلٌ مِنْ عِبَا ِديَ ال ّ‬
‫ودفع عنهم من النقم‪.‬‬

‫والشكر‪ :‬اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى‪ ,‬وتلقيها افتقارا إليها‪ ,‬وصرفها في طاعة اللّه تعالى‪,‬‬
‫وصونها عن صرفها في المعصية‪.‬‬
‫فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان‪ ,‬عليه الصلة والسلم‪ ,‬كل بناء‪ ،‬وكانوا قد موهوا على النس‪,‬‬
‫وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب‪ ,‬ويطلعون على المكنونات‪ ،‬فأراد اللّه تعالى أن يُ ِريَ العباد كذبهم‬
‫في هذه الدعوى‪ ,‬فمكثوا يعملون على عملهم‪ ،‬وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلم‪ ,‬واتّكأ‬
‫على عصاه‪ ,‬وهي المنسأة‪ ،‬فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها‪ ,‬ظنوه حيا‪ ,‬وهابوه‪.‬‬

‫فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل‪ ,‬حتى سلطت دابة الرض على عصاه‪ ,‬فلم تزل‬
‫ترعاها‪ ,‬حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلم وتفرقت الشياطين وتبينت النس أن الجن { َلوْ‬
‫كَانُوا َيعَْلمُونَ ا ْلغَ ْيبَ مَا لَبِثُوا فِي ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم‪ ،‬فلو علموا الغيب‪,‬‬
‫لعلموا موت سليمان‪ ,‬الذي هم أحرص شيء عليه‪ ,‬ليسلموا مما هم فيه‪.‬‬

‫شمَالٍ كُلُوا مِنْ رِ ْزقِ رَ ّبكُمْ‬


‫سكَ ِنهِمْ آ َيةٌ جَنّتَانِ عَنْ َيمِينٍ وَ ِ‬
‫{ ‪َ { } 21 - 15‬لقَدْ كَانَ ِلسَبَإٍ فِي َم ْ‬
‫غفُورٌ * فَأَعْ َرضُوا فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْيلَ ا ْلعَرِ ِم وَبَدّلْنَا ُهمْ ِبجَنّتَ ْيهِمْ جَنّتَيْنِ‬
‫شكُرُوا لَهُ بَ ْل َدةٌ طَيّ َب ٌة وَ َربّ َ‬
‫وَا ْ‬
‫سدْرٍ قَلِيلٍ * ذَِلكَ جَزَيْنَا ُهمْ ِبمَا َكفَرُوا وَ َهلْ نُجَازِي إِلّا ا ْل َكفُورَ *‬
‫شيْءٍ مِنْ ِ‬
‫ل وَ َ‬
‫ط وَأَ ْث ٍ‬
‫خمْ ٍ‬
‫َذوَا َتيْ ُأ ُكلٍ َ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َنهُ ْم وَبَيْنَ ا ْلقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِ َر ًة َوقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَاِليَ وَأَيّامًا‬
‫وَ َ‬
‫ث َومَ ّزقْنَاهُمْ ُكلّ ُممَزّقٍ إِنّ فِي‬
‫جعَلْنَاهُمْ َأحَادِي َ‬
‫سهُمْ فَ َ‬
‫سفَارِنَا وَظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫آمِنِينَ * َفقَالُوا رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَ ْ‬
‫شكُورٍ * وََلقَ ْد صَدّقَ عَلَ ْيهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّ َبعُوهُ إِلّا فَرِيقًا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ * َومَا‬
‫ل صَبّارٍ َ‬
‫ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُك ّ‬
‫شيْءٍ‬
‫ك وَرَ ّبكَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫شّ‬‫كَانَ لَهُ عَلَ ْي ِهمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ إِلّا لِ َنعَْلمَ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِالْآخِ َرةِ ِممّنْ ُهوَ مِ ْنهَا فِي َ‬
‫حفِيظٌ }‬
‫َ‬

‫سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن‪ ,‬ومسكنهم بلدة يقال لها "مأرب" ومن نعم اللّه ولطفه بالناس‬
‫عموما‪ ,‬وبالعرب خصوصا‪ ,‬أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين‪ ,‬ممن كان يجاور‬
‫العرب‪ ,‬ويشاهد آثاره‪ ,‬ويتناقل الناس أخباره‪ ,‬ليكون ذلك أدعى إلى التصديق‪ ,‬وأقرب للموعظة‬
‫سكَ ِنهِمْ } أي‪ :‬محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والية هنا‪ :‬ما أدرّ اللّه‬
‫فقال‪َ { :‬لقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَ ْ‬
‫عليهم من النعم‪ ,‬وصرف عنهم من النقم‪ ,‬الذي يقتضي ذلك منهم‪ ,‬أن يعبدوا اللّه ويشكروه‪ .‬ثم فسر‬
‫شمَالٍ } وكان لهم واد عظيم‪ ,‬تأتيه سيول كثيرة‪ ,‬وكانوا بنوا سدا‬
‫ن وَ ِ‬
‫الية بقوله { جَنّتَانِ عَنْ َيمِي ٍ‬
‫محكما‪ ,‬يكون مجمعا للماء‪ ،‬فكانت السيول تأتيه‪ ,‬فيجتمع هناك ماء عظيم‪ ,‬فيفرقونه على بساتينهم‪,‬‬
‫التي عن يمين ذلك الوادي وشماله‪ .‬و ُت ِغلّ لهم تلك الجنتان العظيمتان‪ ,‬من الثمار ما يكفيهم‪,‬‬
‫ويحصل لهم به الغبطة والسرور‪ ،‬فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرّها عليهم من وجوه كثيرة‪،‬‬
‫منها‪ :‬هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه جعل بلدهم‪ ,‬بلدة طيبة‪ ,‬لحسن هوائها‪ ,‬وقلة وخمها‪ ,‬وحصول الرزق الرغد فيها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى وعدهم ‪ -‬إن شكروه ‪ -‬أن يغفر لهم وَيرحمهم‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬بَلْ َدةٌ طَيّبَ ٌة وَ َربّ‬
‫غفُورٌ }‬
‫َ‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الرض المباركة‪ - ,‬الظاهر أنها‪:‬‬
‫[قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف‪ ,‬وقيل‪ :‬إنها] الشام ‪ -‬هيأ لهم من السباب ما به يتيسر‬
‫وصولهم إليها‪ ,‬بغاية السهولة‪ ,‬من المن‪ ,‬وعدم الخوف‪ ,‬وتواصل القرى بينهم وبينها‪ ,‬بحيث ل‬
‫يكون عليهم مشقة‪ ,‬بحمل الزاد والمزاد‪.‬‬

‫جعَلْنَا بَيْ َنهُ ْم وَبَيْنَ ا ْلقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِ َر ًة َوقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ } أي‪:‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَ َ‬
‫ي وَأَيّامًا آمِنِينَ } أي‪ :‬مطمئنين‬
‫[سيرا] مقدرا يعرفونه‪ ,‬ويحكمون عليه‪ ,‬بحيث ل يتيهون عنه { لَيَاِل َ‬
‫في السير‪ ,‬في تلك الليالي واليام‪ ,‬غير خائفين‪ .‬وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم‪ ,‬أن أمنهم من‬
‫الخوف‪.‬‬

‫فأعرضوا عن المنعم‪ ,‬وعن عبادته‪ ,‬وبطروا النعمة‪ ,‬وملوها‪ ،‬حتى إنهم طلبوا وتمنوا‪ ,‬أن تتباعد‬
‫أسفارهم بين تلك القرى‪ ,‬التي كان السير فيها متيسرا‪.‬‬

‫سهُمْ } بكفرهم باللّه وبنعمته‪ ,‬فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة‪ ,‬التي أطغتهم‪ ,‬فأبادها‬
‫ظَلمُوا أَ ْنفُ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫عليهم‪ ,‬فأرسل عليها سيل العرم‪.‬‬

‫أي‪ :‬السيل المتوعر‪ ,‬الذي خرب سدهم‪ ,‬وأتلف جناتهم‪ ,‬وخرب بساتينهم‪ ،‬فتبدلت تلك الجنات ذات‬
‫الحدائق المعجبة‪ ,‬والشجار المثمرة‪ ,‬وصار بدلها أشجار ل نفع فيها‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬وَبَدّلْنَا ُهمْ‬
‫شيْءٍ‬
‫ل وَ َ‬
‫ط وَأَ ْث ٍ‬
‫خمْ ٍ‬
‫بِجَنّتَ ْيهِمْ جَنّتَيْنِ َذوَا َتيْ ُأ ُكلٍ } أي‪ :‬شيء قليل من الكل الذي ل يقع منهم موقعا { َ‬
‫مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهذا كله شجر معروف‪ ,‬وهذا من جنس عملهم‪.‬‬

‫فكما بدلوا الشكر الحسن‪ ,‬بالكفر القبيح‪ ,‬بدلوا تلك النعمة بما ذكر‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬ذَِلكَ جَزَيْنَاهُمْ ِبمَا‬
‫َكفَرُوا وَ َهلْ نُجَازِي إِلّا ا ْل َكفُورَ } أي‪ :‬وهل نجازي جزاء العقوبة ‪ -‬بدليل السياق ‪ -‬إل من كفر‬
‫باللّه وبطر النعمة؟‬

‫فلما أصابهم ما أصابهم‪ ,‬تفرقوا وتمزقوا‪ ,‬بعدما كانوا مجتمعين‪ ,‬وجعلهم اللّه أحاديث يتحدث بهم‪,‬‬
‫وأسمارا للناس‪ ,‬وكان يضرب بهم المثل فيقال‪" :‬تفرقوا أيدي سبأ" فكل أحد يتحدث بما جرى لهم‪،‬‬
‫شكُورٍ } صبار على‬
‫ولكن ل ينتفع بالعبرة فيهم إل من قال اللّه‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُكلّ صَبّارٍ َ‬
‫المكاره والشدائد‪ ,‬يتحملها لوجه اللّه‪ ,‬ول يتسخطها بل يصبر عليها‪ .‬شكور لنعمة اللّه تعالى ُيقِرّ‬
‫بها‪ ,‬ويعترف‪ ,‬ويثني على من أولها‪ ,‬ويصرفها في طاعته‪ .‬فهذا إذا سمع بقصتهم‪ ,‬وما جرى‬
‫منهم وعليهم‪ ,‬عرف بذلك أن تلك العقوبة‪ ,‬جزاء لكفرهم نعمة اللّه‪ ,‬وأن من فعل مثلهم‪ُ ,‬ف ِعلَ به‬
‫كما فعل بهم‪ ،‬وأن شكر اللّه تعالى‪ ,‬حافظ للنعمة‪ ,‬دافع للنقمة‪ ،‬وأن رسل اللّه‪ ,‬صادقون فيما‬
‫أخبروا به‪ ،‬وأن الجزاء حق‪ ,‬كما رأى أنموذجه في دار الدنيا‪.‬‬

‫ج َمعِينَ‬
‫غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدّق عليهم إبليس ظنه‪ ,‬حيث قال لربه‪ { :‬فَ ِبعِزّ ِتكَ لَأُ ْ‬
‫إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْن ُهمُ ا ْلمُخَْلصِينَ } وهذا ظن من إبليس‪ ,‬ل يقين‪ ,‬لنه ل يعلم الغيب‪ ,‬ولم يأته خبر من‬
‫اللّه‪ ,‬أنه سيغويهم أجمعين‪ ,‬إل من استثنى‪ ،‬فهؤلء وأمثالهم‪ ,‬ممن صدق عليه إبليس ظنه‪ ,‬ودعاهم‬
‫وأغواهم‪ { ،‬فَاتّ َبعُوهُ إِلّا فَرِيقًا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } ممن لم يكفر بنعمة اللّه‪ ,‬فإنه لم يدخل تحت ظن‬
‫إبليس‪.‬‬

‫شكُورٍ }‬
‫ل صَبّارٍ َ‬
‫ويحتمل أن قصة سبأ‪ ,‬انتهت عند قوله‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُك ّ‬

‫علَ ْيهِمْ } أي‪ :‬على جنس الناس‪ ,‬فتكون الية عامة في كل من اتبعه‪.‬‬
‫ثم ابتدأ فقال‪ { :‬وََلقَدْ صَدّقَ َ‬

‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ لَهُ } أي‪ :‬لبليس { عَلَ ْي ِهمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي‪ :‬تسلط وقهر‪ ,‬وقسر على ما‬
‫يريده منهم‪ ,‬ولكن حكمة اللّه تعالى اقتضت تسليطه وتسويله لبني آدم‪.‬‬

‫شكّ } أي‪ :‬ليقوم سوق المتحان‪ ,‬ويعلم به الصادق من‬


‫{ لِ َنعَْلمَ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِالْآخِ َرةِ ِممّنْ ُهوَ مِ ْنهَا فِي َ‬
‫الكاذب‪ ,‬ويعرف من كان إيمانه صحيحا‪ ,‬يثبت عند المتحان والختبار‪ ,‬وإلقاء الشبه الشيطانية‪,‬‬
‫ممن إيمانه غير ثابت‪ ,‬يتزلزل بأدنى شبهة‪ ,‬ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده‪ ،‬فاللّه تعالى جعله‬
‫امتحانا‪ ,‬يمتحن به عباده‪ ,‬ويظهر الخبيث من الطيب‪.‬‬

‫حفِيظٌ } يحفظ العباد‪ ,‬ويحفظ عليهم أعمالهم‪ ,‬ويحفظ تعالى جزاءها‪,‬‬


‫شيْءٍ َ‬
‫{ وَرَ ّبكَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫فيوفيهم إياها‪ ,‬كاملة موفرة‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَلَا فِي‬


‫عمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيمِْلكُونَ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ‬
‫{ ‪ُ { } 23 - 22‬قلِ ادْعُوا الّذِينَ زَ َ‬
‫شفَاعَةُ عِنْ َدهُ إِلّا ِلمَنْ أَذِنَ َلهُ‬
‫ظهِيرٍ * وَلَا تَ ْنفَعُ ال ّ‬
‫ك َومَا لَهُ مِ ْنهُمْ مِنْ َ‬
‫ض َومَا َلهُمْ فِي ِهمَا مِنْ شِ ْر ٍ‬
‫الْأَ ْر ِ‬
‫ق وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ }‬
‫حَتّى إِذَا فُ ّزعَ عَنْ قُلُو ِبهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَ ّبكُمْ قَالُوا ا ْلحَ ّ‬

‫أي‪ُ { :‬قلْ } يا أيها الرسول‪ ,‬للمشركين باللّه غيره من المخلوقات‪ ,‬التي ل تنفع ول تضر‪ ,‬ملزما‬
‫عمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ } أي‪ :‬زعمتموهم‬
‫لهم بعجزها‪ ,‬ومبينا لهم بطلن عبادتها‪ { :‬ادْعُوا الّذِينَ زَ َ‬
‫شركاء للّه‪ ,‬إن كان دعاؤكم ينفع‪ ،‬فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز‪ ,‬وعدم إجابة الدعاء من كل‬
‫سمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَ ْرضِ } على‬
‫وجه‪ ،‬فإنهم ليس لهم أدنى ملك فب { لَا َيمِْلكُونَ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ‬
‫وجه الستقلل‪ ,‬ول على وجه الشتراك‪ ,‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا َلهُمْ } أي‪ :‬لتلك اللهة الذين زعمتم‬
‫{ فِي ِهمَا } أي‪ :‬في السماوات والرض‪ { ،‬مِنْ شِ ْركٍ } أي‪ :‬ل شرك قليل ول كثير‪ ,‬فليس لهم ملك‪,‬‬
‫ول شركة ملك‪.‬‬

‫بقي أن يقال‪ :‬ومع ذلك‪ ,‬فقد يكونون أعوانا للمالك‪ ,‬ووزراء له‪ ,‬فدعاؤهم يكون نافعا‪ ,‬لنهم ‪-‬‬
‫بسبب حاجة الملك إليهم ‪ -‬يقضون حوائج من تعلق بهم‪ ،‬فنفى تعالى هذه المرتبة فقال‪َ { :‬ومَا لَهُ }‬
‫ظهِيرٍ } أي‪ :‬معاون ووزير‬
‫أي‪ :‬للّه تعالى الواحد القهار { مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من هؤلء المعبودين { مِنْ َ‬
‫يساعده على الملك والتدبير‪.‬‬

‫شفَاعَةُ عِ ْن َدهُ إِلّا ِلمَنْ َأذِنَ لَهُ } فهذه أنواع التعلقات‪,‬‬


‫فلم يبق إل الشفاعة‪ ,‬فنفاها بقوله‪ { :‬وَلَا تَ ْنفَعُ ال ّ‬
‫التي يتعلق بها المشركون بأندادهم‪ ,‬وأوثانهم‪ ,‬من البشر‪ ,‬والشجر‪ ,‬وغيرهم‪ ,‬قطعها اللّه وبيّن‬
‫بطلنها‪ ,‬تبيينا حاسما لمواد الشرك‪ ,‬قاطعا لصوله‪ ،‬لن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه‪ ,‬لما‬
‫يرجو منه من النفع‪ ,‬فهذا الرجاء‪ ,‬هو الذي أوجب له الشرك‪ ،‬فإذا كان من يدعوه [غير اللّه]‪ ,‬ل‬
‫مالكا للنفع والضر‪ ,‬ول شريكا للمالك‪ ,‬ول عونا وظهيرا للمالك‪ ,‬ول يقدر أن يشفع بدون إذن‬
‫المالك‪ ,‬كان هذا الدعاء‪ ,‬وهذه العبادة‪ ,‬ضلل في العقل‪ ,‬باطلة في الشرع‪.‬‬

‫بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده‪ ,‬فإنه يريد منها النفع‪ ،‬فبيّن اللّه بطلنه وعدمه‪ ,‬وبيّن‬
‫في آيات أخر‪ ,‬ضرره على عابديه وأنه يوم القيامة‪ ,‬يكفر بعضهم ببعض‪ ,‬ويلعن بعضهم بعضا‪,‬‬
‫ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }‬

‫والعجب‪ ,‬أن المشرك استكبر عن النقياد للرسل‪ ,‬بزعمه أنهم بشر‪ ,‬ورضي أن يعبد ويدعو‬
‫الشجر‪ ,‬والحجر‪ ,‬استكبر عن الخلص للملك الرحمن الديان‪ ,‬ورضي بعبادة من ضره أقرب من‬
‫نفعه‪ ,‬طاعة لعدى عدو له وهو الشيطان‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬حَتّى ِإذَا فُ ّزعَ عَنْ قُلُو ِبهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَ ّبكُمْ قَالُوا ا ْلحَقّ وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ } يحتمل أن‬
‫الضمير في هذا الموضع‪ ,‬يعود إلى المشركين‪ ,‬لنهم مذكورون في اللفظ‪ ،‬والقاعدة في الضمائر‪,‬‬
‫أن تعود إلى أقرب مذكور‪ ،‬ويكون المعنى‪ :‬إذا كان يوم القيامة‪ ,‬وفزع عن قلوب المشركين‪ ,‬أي‪:‬‬
‫زال الفزع‪ ,‬وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم‪ ,‬عن حالهم في الدنيا‪ ,‬وتكذيبهم للحق الذي جاءت به‬
‫الرسل‪ ,‬أنهم يقرون‪ ,‬أن ما هم عليه من الكفر والشرك‪ ,‬باطل‪ ,‬وأن ما قال اللّه‪ ,‬وأخبرت به عنه‬
‫رسله‪ ,‬هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه‪ ,‬واعترفوا بذنوبهم‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ } بذاته‪ ,‬فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم‪ ,‬وعلو قدره‪ ,‬بما له من الصفات العظيمة‪,‬‬
‫جليلة المقدار { ا ْلكَبِيرُ } في ذاته وصفاته‪.‬‬
‫ومن علوه‪ ,‬أن حكمه تعالى‪ ,‬يعلو‪ ,‬وتذعن له النفوس‪ ,‬حتى نفوس المتكبرين والمشركين‪.‬‬

‫وهذا المعنى أظهر‪ ,‬وهو الذي يدل عليه السياق‪ ،‬ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملئكة‪ ,‬وذلك أن‬
‫اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي‪ ,‬سمعته الملئكة‪ ,‬فصعقوا‪ ,‬وخروا للّه سجدا‪ ،‬فيكون أول من يرفع‬
‫رأسه جبريل‪ ,‬فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد‪ ،‬وإذا زال الصعق عن قلوب الملئكة‪ ,‬وزال الفزع‪,‬‬
‫فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلم الذي صعقوا منه‪ :‬ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض‪ :‬قال‬
‫الحق‪ ,‬إما إجمال‪ ,‬لعلمهم أنه ل يقول إل حقا‪ ،‬وإما أن يقولوا‪ :‬قال كذا وكذا‪ ,‬للكلم الذي سمعوه‬
‫منه‪ ,‬وذلك من الحق‪.‬‬

‫فيكون المعنى على هذا‪ :‬أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك اللهة‪ ,‬التي وصفنا لكم عجزها‬
‫ونقصها‪ ,‬وعدم نفعها بوجه من الوجوه‪ ,‬كيف صدفوا وصرفوا عن إخلص العبادة للرب العظيم‪,‬‬
‫العلي الكبير‪ ,‬الذي ‪ -‬من عظمته وجلله ‪ -‬أن الملئكة الكرام‪ ,‬والمقربين من الخلق‪ ,‬يبلغ بهم‬
‫الخضوع والصعق‪ ,‬عند سماع كلمه هذا المبلغ‪ ,‬ويقرون كلهم للّه‪ ,‬أنه ل يقول إل الحق‪.‬‬

‫فما بال هؤلء المشركين‪ ,‬استكبروا عن عبادة من هذا شأنه‪ ,‬وعظمة ملكه وسلطانه‪ .‬فتعالى العلي‬
‫الكبير‪ ,‬عن شرك المشركين‪ ,‬وإفكهم‪ ,‬وكذبهم‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُقلِ اللّ ُه وَإِنّا َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَى ُهدًى َأوْ فِي‬
‫‪ُ { } 27 - 24‬قلْ مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫ج َمعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ َيفْتَحُ بَيْنَنَا‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ * ُقلْ يَ ْ‬
‫عمّا أَجْ َرمْنَا وَلَا ُنسَْألُ َ‬
‫ضَلَالٍ مُبِينٍ * ُقلْ لَا تُسْأَلُونَ َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫حقْتُمْ بِهِ شُ َركَاءَ كَلّا َبلْ ُهوَ اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫ق وَ ُهوَ ا ْلفَتّاحُ ا ْلعَلِيمُ * ُقلْ أَرُو ِنيَ الّذِينَ َألْ َ‬
‫حّ‬‫بِالْ َ‬

‫يأمر تعالى‪ ,‬نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ ,‬أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه‪{ :‬‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } فإنهم ل بد أن يقروا أنه اللّه‪ ،‬ولئن لم يقروا فب { ُقلِ اللّهُ }‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫فإنك ل تجد من يدفع هذا القول‪ ،‬فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات والرض‪,‬‬
‫وينزل [لكم] المطر‪ ,‬وينبت لكم النبات‪ ,‬ويفجر لكم النهار‪ ,‬ويطلع لكم من ثمار الشجار‪ ,‬وجعل‬
‫لكم الحيوانات جميعها‪ ,‬لنفعكم ورزقكم‪ ,‬فلم تعبدون معه من ل يرزقكم شيئا‪ ,‬ول يفيدكم نفعا؟‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَإِنّا َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَى ُهدًى َأوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬إحدى الطائفتين منا ومنكم‪ ,‬على‬
‫الهدى‪ ,‬مستعلية عليه‪ ,‬أو في ضلل مبين‪ ،‬منغمرة فيه‪ ،‬وهذا الكلم يقوله من تبين له الحق‪,‬‬
‫واتضح له الصواب‪ ,‬وجزم بالحق الذي هو عليه‪ ,‬وبطلن ما عليه خصمه‪.‬‬

‫أي‪ :‬قد شرحنا من الدلة الواضحة عندنا وعندكم‪ ,‬ما به يعلم علما يقينا ل شك فيه‪ ,‬من المحق‬
‫منا‪ ,‬ومن المبطل‪ ,‬ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك‪ ,‬ل فائدة فيه‪ ،‬فإنك‬
‫إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق‪ ,‬لسائر المخلوقات المتصرف فيها‪ ,‬بجميع أنواع‬
‫التصرفات‪ ,‬المسدي جميع النعم‪ ,‬الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة‪ ,‬ودفع عنهم كل نقمة‪ ,‬الذي‬
‫له الحمد كله‪ ,‬والملك كله‪ ,‬وكل أحد من الملئكة فما دونهم‪ ,‬خاضعون لهيبته‪ ,‬متذللون لعظمته‪,‬‬
‫وكل الشفعاء تخافه‪ ,‬ل يشفع أحد منهم عنده إل بإذنه العلي الكبير‪ ,‬في ذاته‪ ,‬وأوصافه‪ ,‬وأفعاله‪,‬‬
‫الذي له كل كمال‪ ,‬وكل جلل‪ ,‬وكل جمال‪ ,‬وكل حمد وثناء ومجد‪ ،‬يدعو إلى التقرب لمن هذا‬
‫شأنه‪ ,‬وإخلص العمل له‪ ,‬وينهى عن عبادة من سواه‪ ,‬وبين من يتقرب إلى أوثان‪ ,‬وأصنام‪,‬‬
‫وقبور‪ ,‬ل تخلق‪ ,‬ول ترزق‪ ,‬ول تملك لنفسها‪ ,‬ول لمن عبدها‪ ,‬نفعا ول ضرا‪ ,‬ول موتا ول حياة‪,‬‬
‫ول نشورا‪ ،‬بل هي جمادات‪ ,‬ل تعقل‪ ,‬ول تسمع دعاء عابديها‪ ,‬ولو سمعته ما استجابت لهم‪ ،‬ويوم‬
‫القيامة يكفرون بشركهم‪ ,‬ويتبرأون منهم‪ ,‬ويتلعنون بينهم‪ ،‬ليس لهم قسط من الملك‪ ,‬ول شركة‬
‫فيه‪ ,‬ول إعانة فيه‪ ،‬ول لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه‪ ،‬فهو يدعو مَنْ هذا وصفه‪ ,‬ويتقرب إليه‬
‫مهما أمكنه‪ ,‬ويعادي من أخلص الدين للّه‪ ,‬ويحاربه‪ ,‬ويكذب رسل اللّه‪ ,‬الذين جاءوا بالخلص للّه‬
‫وحده‪ ،‬تبين لك أي الفريقين‪ ,‬المهتدي من الضال‪ ,‬والشقي من السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك‬
‫ذلك‪ ,‬لن وصف الحال‪ ,‬أوضح من لسان المقال‪.‬‬

‫عمّا َت ْعمَلُونَ } أي‪ :‬كل منا ومنكم‪ ,‬له عمله أنتم]‬


‫عمّا َأجْ َرمْنَا وَلَا نُسَْألُ َ‬
‫{ ُقلْ } لهم [ { لَا تُسْأَلُونَ َ‬
‫{ ل تسألون } عن إجرامنا وذنوبنا لو أذنبنا‪ ,‬ونحن ل نسأل عن أعمالكم‪ ،‬فليكن المقصود منا‬
‫ومنكم طلب الحقائق وسلوك طريق النصاف‪ ،‬ودعوا ما كنا نعمل‪ ,‬ول يكن مانعا لكم من اتباع‬
‫الحق‪ ،‬فإن أحكام الدنيا تجري على الظواهر‪ ,‬ويتبع فيها الحق‪ ,‬ويجتنب الباطل‪ ،‬وأما العمال فلها‬
‫دار أخرى‪ ,‬يحكم فيها أحكم الحاكمين‪ ,‬ويفصل بين المختصمين‪ ,‬أعدل العادلين‪.‬‬

‫جمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ُثمّ َيفْتَحُ بَيْنَنَا } أي‪ :‬يحكم بيننا حكما‪ ,‬يتبين به الصادق من‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ َي ْ‬
‫الكاذب‪ ,‬والمستحق للثواب‪ ,‬من المستحق للعقاب‪ ،‬وهو خير الفاتحين‪.‬‬

‫حقْتُمْ ِبهِ شُ َركَاءَ } أي‪ :‬أين هم؟ وأين‬


‫{ ُقلْ } لهم يا أيها الرسول‪ ,‬ومن ناب منابك‪ { :‬أَرُو ِنيَ الّذِينَ أَلْ َ‬
‫السبيل إلى معرفتهم؟ وهل هم في الرض‪ ,‬أم في السماء؟ فإن عالم الغيب والشهادة قد أخبرنا أنه‬
‫ليس في الوجود له شريك‪.‬‬

‫ش َفعَاؤُنَا عِ ْندَ اللّهِ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ‬


‫{ وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُرّ ُه ْم وَلَا يَ ْن َفعُهُمْ وَيَقُولُونَ َهؤُلَاءِ ُ‬
‫ِبمَا لَا َيعْلَمُ } الية { َومَا يَتّ ِبعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ وَإِنْ هُمْ ِإلّا‬
‫يَخْ ُرصُونَ }‬

‫وكذلك خواص خلقه من النبياء والمرسلين‪ ,‬ل يعلمون له شريكا‪ ،‬فيا أيها المشركون أروني الذين‬
‫ألحقتم بزعمكم الباطل باللّه { شُ َركَاءُ }‬
‫وهذا السؤال ل يمكنهم الجابة عنه‪ ,‬ولهذا قال‪ { :‬كَلّا } أي‪ :‬ليس للّه شريك‪ ,‬ول ند‪ ,‬ول ضد‪.‬‬
‫{ َبلْ ُهوَ اللّهُ } الذي ل يستحق التأله والتعبد‪ ,‬إل هو { ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر كل شيء فكل ما سواه‪,‬‬
‫حكِيمُ } الذي أتقن ما خلقه‪ ,‬وأحسن ما شرعه‪ ،‬ولو لم يكن في حكمته‬
‫فهو مقهور مسخر مدبر‪ { .‬الْ َ‬
‫في شرعه إل أنه أمر بتوحيده‪ ,‬وإخلص الدين له‪ ,‬وأحب ذلك‪ ,‬وجعله طريقا للنجاة‪ ,‬ونهى عن‬
‫الشرك به‪ ,‬واتخاذ النداد من دونه‪ ,‬وجعل ذلك طريقا للشقاء والهلك‪ ,‬لكفى بذلك برهانا على‬
‫كمال حكمته‪ ،‬فكيف وجميع ما أمر به ونهى عنه‪ ,‬مشتمل على الحكمة؟"‬

‫{ ‪َ { } 30 - 28‬ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا كَافّةً لِلنّاسِ َبشِيرًا وَنَذِيرًا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ *‬
‫وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ َل ُكمْ مِيعَادُ َيوْمٍ لَا َتسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَ ًة وَلَا‬
‫تَسْ َتقْ ِدمُونَ }‬

‫يخبر تعالى أنه ما أرسل رسوله صلى اللّه عليه وسلم‪ ,‬إل ليبشر جميع الناس بثواب اللّه‪,‬‬
‫ويخبرهم بالعمال الموجبة لذلك‪ ،‬وينذرهم عقاب اللّه‪ ,‬ويخبرهم بالعمال الموجبة له‪ ,‬فليس لك‬
‫من المر شيء‪ ،‬وكل ما اقترح عليك أهل التكذيب والعناد‪ ,‬فليس من وظيفتك‪ ,‬إنما ذلك بيد اللّه‬
‫تعالى‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬ليس لهم علم صحيح‪ ,‬بل إما جهال‪ ,‬أو معاندون لم‬
‫يعملوا بعلمهم‪ ,‬فكأنهم ل علم لهم‪ .‬ومن عدم علمهم‪ ,‬جعلهم عدم الجابة لما اقترحوه على الرسول‪,‬‬
‫مجبا لرد دعوته‪.‬‬

‫فمما اقترحوه‪ ,‬استعجالهم العذاب‪ ,‬الذي أنذرهم به فقال‪ { :‬وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫صَا ِدقِينَ } وهذا ظلم منهم‪ .‬فأي ملزمة بين صدقه‪ ,‬وبين الخبار بوقت وقوعه؟ وهل هذا إل رد‬
‫للحق‪ ,‬وسفه في العقل؟ أليس النذير [في أمر] في أحوال الدنيا‪ ,‬لو جاء قوما‪ ,‬يعلمون صدقه‬
‫ونصحه‪ ,‬ولهم عدو ينتهز الفرصة منهم و ُيعِدّ لهم فقال لهم‪ :‬تركت عدوكم قد سار‪ ,‬يريد اجتياحكم‬
‫واستئصالكم‪ .‬فلو قال بعضهم‪ :‬إن كنت صادقا‪ ,‬فأخبرنا بأية ساعة يصل إلينا‪ ,‬وأين مكانه الن؟‬
‫فهل يعد هذا القائل عاقل‪ ,‬أم يحكم بسفهه وجنونه؟‬

‫هذا‪ ,‬والمخبر يمكن صدقه وكذبه‪ ,‬والعدو قد يبدو له غيرهم‪ ,‬وقد تنحل عزيمته‪ ،‬وهم قد يكون بهم‬
‫منعة يدافعون بها عن أنفسهم‪ ،‬فكيف بمن كذب أصدق الخلق‪ ,‬المعصوم في خبره‪ ,‬الذي ل ينطق‬
‫عن الهوى‪ ,‬بالعذاب اليقين‪ ,‬الذي ل مدفع له‪ ,‬ول ناصر منه؟! أليس رد خبره بحجة عدم بيانه‬
‫وقت وقوعه من أسفه السفه؟"‬

‫{ ُقلْ } لهم ‪ -‬مخبرا بوقت وقوعه الذي ل شك فيه ‪َ { :-‬ل ُكمْ مِيعَادُ َيوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَ ْنهُ سَاعَةً‬
‫وَلَا تَسْ َتقْ ِدمُونَ } فاحذروا ذلك اليوم‪ ,‬وأعدوا له عدته‪.‬‬
‫ن وَلَا بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وََلوْ تَرَى ِإذِ‬
‫{ ‪َ { } 33 - 31‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ ِب َهذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫ضعِفُوا لِلّذِينَ‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ ا ْلقَ ْولَ َيقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫جعُ َب ْع ُ‬
‫الظّاِلمُونَ َم ْوقُوفُونَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ يَرْ ِ‬
‫ن صَدَدْنَا ُكمْ عَنِ ا ْلهُدَى‬
‫ض ِعفُوا أَ َنحْ ُ‬
‫اسْ َتكْبَرُوا َلوْلَا أَنْتُمْ َلكُنّا ُمؤْمِنِينَ * قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا لِلّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫ل وَال ّنهَارِ إِذْ‬
‫ض ِعفُوا ِللّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َبلْ َمكْرُ اللّ ْي ِ‬
‫َبعْدَ ِإذْ جَا َءكُمْ َبلْ كُنْتُمْ ُمجْ ِرمِينَ * َوقَالَ الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫جعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ‬
‫ب وَ َ‬
‫ج َعلَ لَهُ أَ ْندَادًا وََأسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َنكْفُرَ بِاللّ ِه وَنَ ْ‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا َهلْ يُجْ َزوْنَ إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب‪ ,‬ل بد من وقوعه عند حلول أجله‪ ،‬ذكر هنا حالهم في‬
‫ذلك اليوم‪ ,‬وأنك لو رأيت حالهم إذا وقفوا عند ربهم‪ ,‬واجتمع الرؤساء والتباع في الكفر‬
‫والضلل‪ ,‬لرأيت أمرا عظيما وهول جسيما‪ ،‬ورأيت كيف يتراجع‪ ,‬ويرجع بعضهم إلى بعض‬
‫ض ِعفُوا } وهم التباع { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } وهم القادة‪َ { :‬لوْلَا أَنْتُمْ َلكُنّا‬
‫القول‪ ،‬فب { َيقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ } ولكنكم حُلْتُم بيننا وبين اليمان‪ ,‬وزينتم لنا الكفر[ان]‪ ,‬فتبعناكم على ذلك‪ ،‬ومقصودهم‬
‫بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء دونهم‪.‬‬

‫ض ِعفُوا } مستفهمين لهم ومخبرين أن الجميع مشتركون في الجرم‪:‬‬


‫{ قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا لِلّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫ن صَ َددْنَاكُمْ عَنِ ا ْل ُهدَى َبعْدَ ِإذْ جَا َءكُمْ } أي‪ :‬بقوتنا وقهرنا لكم‪َ { .‬بلْ كُنْتُمْ مُجْ ِرمِينَ } أي‪:‬‬
‫{ أَ َنحْ ُ‬
‫مختارين للجرام‪ ,‬لستم مقهورين عليه‪ ,‬وإن كنا قد زينا لكم‪ ,‬فما كان لنا عليكم من سلطان‪.‬‬

‫ج َعلَ لَهُ‬
‫ضعِفُوا لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َبلْ َمكْرُ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ ِإذْ تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َن ْكفُرَ بِاللّ ِه وَنَ ْ‬
‫{ َوقَالَ الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫أَنْدَادًا } أي‪ :‬بل الذي دهانا منكم‪ ,‬ووصل إلينا من إضللكم‪ ,‬ما دبرتموه من المكر‪ ,‬في الليل‬
‫والنهار‪ ,‬إذ ُتحَسّنون لنا الكفر‪ ,‬وتدعوننا إليه‪ ,‬وتقولون‪ :‬إنه الحق‪ ,‬وتقدحون في الحق وتهجنونه‪,‬‬
‫وتزعمون أنه الباطل‪ ،‬فما زال مكركم بنا‪ ,‬وكيدكم إيانا‪ ,‬حتى أغويتمونا وفتنتمونا‪.‬‬

‫فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إل تبري بعضهم من بعض‪ ,‬والندامة العظيمة‪ ,‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ وَأَسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ } أي‪ :‬زال عنهم ذلك الحتجاج الذي احتج به بعضهم على‬
‫بعض لينجو من العذاب‪ ,‬وعلم أنه ظالم مستحق له‪ ،‬فندم كل منهم غاية الندم‪ ,‬وتمنى أن لو كان‬
‫على الحق‪[ ,‬وأنه] ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب‪ ,‬سرا في أنفسهم‪ ,‬لخوفهم من‬
‫الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم‪ .‬وفي بعض مواقف القيامة‪ ,‬وعند دخولهم النار‪ ,‬يظهرون ذلك‬
‫الندم جهرا‪.‬‬

‫{ وَ َيوْمَ َي َعضّ الظّالِمُ عَلَى َيدَيْهِ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي َلمْ أَتّخِذْ‬
‫فُلَانًا خَلِيلًا } اليات‪.‬‬
‫حقًا لَِأصْحَابِ‬
‫سعِيرِ * فَاعْتَ َرفُوا بِذَنْ ِبهِمْ فَسُ ْ‬
‫سمَعُ َأوْ َن ْع ِقلُ مَا كُنّا فِي َأصْحَابِ ال ّ‬
‫{ َوقَالُوا َلوْ كُنّا نَ ْ‬
‫سعِيرِ }‬
‫ال ّ‬

‫{ وجعلنا الغلل في أعناق الذين كفروا } يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه كما‬
‫سجَرُونَ } اليات‪.‬‬
‫حمِيمِ ُثمّ فِي النّارِ يُ ْ‬
‫سحَبُونَ فِي الْ َ‬
‫سلُ يُ ْ‬
‫قال تعالى { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِمْ وَالسّلَا ِ‬

‫{ َهلْ ُيجْ َزوْنَ } في هذا العذاب والنكال‪ ,‬وتلك الغلل الثقال { إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } من الكفر‬
‫والفسوق والعصيان‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 39 - 34‬ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ َنذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا إِنّا ِبمَا أُ ْرسِلْتُمْ ِبهِ كَافِرُونَ *‬
‫َوقَالُوا َنحْنُ َأكْثَرُ َأ ْموَالًا وََأوْلَادًا َومَا نَحْنُ ِب ُم َعذّبِينَ * ُقلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ‬
‫ع ِملَ‬
‫ن وَ َ‬
‫وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ * َومَا َأ ْموَاُلكُ ْم وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ بِالّتِي ُتقَرّ ُبكُمْ عِ ْندَنَا زُ ْلفَى إِلّا مَنْ آمَ َ‬
‫س َعوْنَ فِي آيَاتِنَا‬
‫عمِلُوا وَهُمْ فِي ا ْلغُ ُرفَاتِ آمِنُونَ * وَالّذِينَ َي ْ‬
‫ضعْفِ ِبمَا َ‬
‫صَالِحًا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ جَزَاءُ ال ّ‬
‫سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ لَهُ‬
‫حضَرُونَ * ُقلْ إِنّ رَبّي يَبْ ُ‬
‫ُمعَاجِزِينَ أُولَ ِئكَ فِي ا ْلعَذَابِ مُ ْ‬
‫شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُهُ وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ }‬
‫َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َ‬

‫يخبر تعالى عن حالة المم الماضية المكذبة للرسل‪ ,‬أنها كحال هؤلء الحاضرين المكذبين‬
‫لرسولهم محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ,‬وأن اللّه إذا أرسل رسول في قرية من القرى‪ ,‬كفر به‬
‫مترفوها‪ ,‬وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا نَحْنُ َأكْثَرُ َأ ْموَالًا وَأَوْلَادًا } أي‪ :‬ممن اتبع الحق { َومَا َنحْنُ ِب ُمعَذّبِينَ } أي‪ :‬أول‪ ,‬لسنا‬
‫بمبعوثين‪ ,‬فإن بعثنا‪ ,‬فالذي أعطانا الموال والولد في الدنيا‪ ,‬سيعطينا أكثر من ذلك في الخرة‬
‫ول يعذبنا‪.‬‬

‫فأجابهم اللّه تعالى‪ ,‬بأن بسط الرزق وتضييقه‪ ,‬ليس دليل على ما زعمتم‪ ،‬فإن الرزق تحت مشيئة‬
‫اللّه‪ ,‬إن شاء بسطه لعبده‪ ,‬وإن شاء ضيقه‪.‬‬

‫وليست الموال والولد بالتي تقرب إلى ال زلفى وتدني إليه‪ ،‬وإنما الذي يقرب منه زلفى‪,‬‬
‫اليمان بما جاء به المرسلون‪ ,‬والعمل الصالح الذي هو من لوازم اليمان‪ ,‬فأولئك لهم الجزاء عند‬
‫اللّه تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها‪ ,‬إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪ ,‬ل يعلمها إل‬
‫اللّه‪ { ،‬وَهُمْ فِي ا ْلغُ ُرفَاتِ آمِنُونَ } أي‪ :‬في المنازل العاليات المرتفعات جدا‪ ,‬ساكنين فيها مطمئنين‪,‬‬
‫آمنون من المكدرات والمنغصات‪ ,‬لما هم فيه من اللذات‪ ,‬وأنواع المشتهيات‪ ,‬وآمنون من الخروج‬
‫منها والحزن فيها‪.‬‬

‫وأما الذين سعوا في آياتنا على وجه التعجيز لنا ولرسلنا والتكذيب فب { أُولَ ِئكَ فِي ا ْل َعذَابِ‬
‫حضَرُونَ }‬
‫مُ ْ‬

‫سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ لَهُ } ليرتب عليه قوله‪َ { :‬ومَا أَ ْنفَقْتُمْ‬
‫ثم أعاد تعالى أنه { يَبْ ُ‬
‫شيْءٍ } نفقة واجبة‪ ,‬أو مستحبة‪ ,‬على قريب‪ ,‬أو جار‪ ,‬أو مسكين‪ ,‬أو يتيم‪ ,‬أو غير ذلك‪،‬‬
‫مِنْ َ‬
‫{ َف ُهوَ } تعالى { يُخِْلفُهُ } فل تتوهموا أن النفاق مما ينقص الرزق‪ ,‬بل وعد بالخلف للمنفق‪ ,‬الذي‬
‫يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر { وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } فاطلبوا الرزق منه‪ ,‬واسعوا في السباب‬
‫التي أمركم بها‪.‬‬

‫جمِيعًا ثُمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ أَ َهؤُلَاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ * قَالُوا‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 42 - 40‬وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫ضكُمْ‬
‫سُ ْبحَا َنكَ أَ ْنتَ وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْ ُبدُونَ الْجِنّ َأكْثَ ُرهُمْ ِبهِمْ ُمؤْمِنُونَ * فَالْ َيوْمَ لَا َيمِْلكُ َب ْع ُ‬
‫لِ َب ْعضٍ َنفْعًا وَلَا ضَرّا وَ َنقُولُ لِلّذِينَ ظََلمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ }‬

‫جمِيعًا } أي‪ :‬العابدين لغير اللّه والمعبودين من دونه‪ ,‬من الملئكة‪ { .‬ثُمّ َيقُولُ }‬
‫{ وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ َ‬
‫ال { لِ ْلمَلَا ِئ َكةِ } على وجه التوبيخ لمن عبدهم { أَ َهؤُلَاءِ إِيّا ُكمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ } فتبرأوا من عبادتهم‪.‬‬

‫ت وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ }‬


‫و { قَالُوا سُبْحَا َنكَ } أي‪ :‬تنزيها لك وتقديسا‪ ,‬أن يكون لك شريك‪ ,‬أو ند { أَ ْن َ‬
‫فنحن مفتقرون إلى وليتك‪ ,‬مضطرون إليها‪ ,‬فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا؟ أم كيف نصلح لن‬
‫نتخذ من دونك أولياء وشركاء؟"‬

‫ولكن هؤلء المشركون { كَانُوا َيعْبُدُونَ الْجِنّ } أي‪ :‬الشياطين‪ ,‬يأمرون بعبادتنا أو عبادة غيرنا‪,‬‬
‫فيطيعونهم بذلك‪ .‬وطاعتهم هي عبادتهم‪ ,‬لن العبادة الطاعة‪ ,‬كما قال تعالى مخاطبا لكل من اتخذ‬
‫ع ُدوّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا‬
‫عهَدْ إِلَ ْيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا َتعْبُدُوا الشّيْطَانَ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫معه آلهة { أََلمْ أَ ْ‬
‫صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ }‬

‫{ َأكْثَرُ ُهمْ ِبهِمْ ُم ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬مصدقون للجن‪ ,‬منقادون لهم‪ ,‬لن اليمان هو‪ :‬التصديق الموجب‬
‫للنقياد‪.‬‬

‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ َنفْعًا وَلَا ضَرّا } تقطعت‬


‫فلما تبرأوا منهم‪ ,‬قال تعالى [مخاطبا] لهم‪ { :‬فَالْ َيوْمَ لَا َيمِْلكُ َب ْع ُ‬
‫بينكم السباب‪ ,‬وانقطع بعضكم من بعض‪ { .‬وَنَقُولُ لِلّذِينَ ظََلمُوا } بالكفر والمعاصي ‪ -‬بعد ما‬
‫عذَابَ النّارِ الّتِي كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ } فاليوم عاينتموها‪ ,‬ودخلتموها‪ ,‬جزاء‬
‫ندخلهم النار ‪ { -‬ذُوقُوا َ‬
‫لتكذيبكم‪ ,‬وعقوبة لما أحدثه ذلك التكذيب‪ ,‬من عدم الهرب من أسبابها‪.‬‬

‫عمّا كَانَ‬
‫جلٌ يُرِيدُ أَنْ َيصُ ّدكُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 45 - 43‬وَإِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا َهذَا إِلّا َر ُ‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ‬
‫َيعْبُدُ آبَا ُؤكُمْ َوقَالُوا مَا َهذَا إِلّا ِإ ْفكٌ ُمفْتَرًى َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِ ْلحَقّ َلمّا جَا َءهُمْ إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫* َومَا آتَيْنَا ُهمْ مِنْ كُ ُتبٍ َيدْرُسُو َنهَا َومَا أَرْسَلْنَا إِلَ ْي ِهمْ قَبَْلكَ مِنْ نَذِيرٍ * َوكَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َومَا‬
‫بََلغُوا ِمعْشَارَ مَا آتَيْنَا ُهمْ َفكَذّبُوا رُسُلِي َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ }‬

‫يخبر تعالى عن حالة المشركين‪ ,‬عندما تتلى عليهم آيات اللّه البينات‪ ,‬وحججه الظاهرات‪,‬‬
‫وبراهينه القاطعات‪ ,‬الدالة على كل خير‪ ,‬الناهية عن كل شر‪ ,‬التي هي أعظم نعمة جاءتهم‪ ,‬ومِنّةٍ‬
‫وصلت إليهم‪ ,‬الموجبة لمقابلتها باليمان والتصديق‪ ,‬والنقياد‪ ,‬والتسليم‪ ,‬أنهم يقابلونها بضد ما‬
‫عمّا كَانَ َيعْ ُبدُ‬
‫جلٌ يُرِيدُ أَنْ َيصُ ّدكُمْ َ‬
‫ينبغي‪ ,‬ويكذبون من جاءهم بها ويقولون‪ { :‬مَا هَذَا إِلّا رَ ُ‬
‫آبَا ُؤكُمْ } أي‪ :‬هذا قصده‪ ,‬حين يأمركم بالخلص للّه‪ ,‬لتتركوا عوائد آبائكم‪ ,‬الذين تعظمون‬
‫وتمشون خلفهم‪ ،‬فردوا الحق‪ ,‬بقول الضالين‪ ,‬ولم يوردوا برهانا‪ ,‬ول شبهة‪.‬‬

‫فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين‪ ,‬باتباع الحق‪ ,‬فادّعوا أن إخوانهم‪ ,‬الذين على طريقتهم‪,‬‬
‫لم يزالوا عليه؟ وهذه السفاهة‪ ,‬ورد الحق‪ ,‬بأقوال الضالين‪ ,‬إذا تأملت كل حق رد‪ ,‬فإذا هذا مآله ل‬
‫يرد إل بأقوال الضالين من المشركين‪ ,‬والدهريين‪ ,‬والفلسفة‪ ,‬والصابئين‪ ,‬والملحدين في دين اللّه‪,‬‬
‫المارقين‪ ,‬فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫ولما احتجوا بفعل آبائهم‪ ,‬وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل‪ ,‬طعنوا بعد هذا بالحق‪َ { ،‬وقَالُوا مَا‬
‫حقّ َلمّا‬
‫هَذَا إِلّا ِإ ْفكٌ ُمفْتَرًى } أي‪ :‬كذب افتراه هذا الرجل‪ ,‬الذي جاء به‪َ { .‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلْ َ‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬سحر ظاهر بيّن لكل أحد‪ ,‬تكذيبا بالحق‪ ,‬وترويجا على‬
‫جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫السفهاء‪.‬‬

‫ولما بيّن ما ردوا به الحق‪ ,‬وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة‪ ,‬فضل أن تكون حجة‪ ,‬ذكر أنهم وإن‬
‫أراد أحد أن يحتج لهم‪ ,‬فإنهم ل مستند لهم‪ ,‬ول لهم شيء يعتمدون عليه أصل‪ ,‬فقال‪َ { :‬ومَا آتَيْنَا ُهمْ‬
‫مِنْ كُ ُتبٍ َيدْرُسُو َنهَا } حتى تكون عمدة لهم { َومَا أَرْسَلْنَا إِلَ ْي ِهمْ قَبَْلكَ مِنْ نَذِيرٍ } حتى يكون عندهم‬
‫من أقواله وأحواله‪ ,‬ما يدفعون به‪ ,‬ما جئتهم به‪ ،‬فليس عندهم علم‪ ,‬ول أثارة من علم‪.‬‬

‫ثم خوفهم ما فعل بالمم المكذبين [قبلهم] فقال‪َ { :‬وكَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َومَا بََلغُوا } أي‪ :‬ما بلغ‬
‫هؤلء المخاطبون { ِمعْشَارَ مَا آتَيْنَا ُهمْ } { َفكَذّبُوا } أي‪ :‬المم الذين من قبلهم { ُرسُلِي َفكَ ْيفَ كَانَ‬
‫َنكِيرِ } أي‪ :‬إنكاري عليهم‪ ,‬وعقوبتي إياهم‪ .‬قد أعلمنا ما فعل بهم من النكال‪ ,‬وأن منهم من أغرقه‪,‬‬
‫ومنهم من أهلكه بالريح العقيم‪ ,‬وبالصيحة‪ ,‬وبالرجفة‪ ,‬وبالخسف بالرض‪ ,‬وبإرسال الحاصب من‬
‫السماء‪ ،‬فاحذروا يا هؤلء المكذبون‪ ,‬أن تدوموا على التكذيب‪ ,‬فيأخذكم كما أخذ من قبلكم‪,‬‬
‫ويصيبكم ما أصابهم‪.‬‬

‫ح َدةٍ أَنْ َتقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى َوفُرَادَى ُثمّ تَ َت َفكّرُوا مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مِنْ‬
‫ظ ُكمْ ِبوَا ِ‬
‫{ ‪ُ { } 50 - 46‬قلْ إِ ّنمَا أَعِ ُ‬
‫علَى‬
‫جِنّةٍ إِنْ ُهوَ إِلّا َنذِيرٌ َلكُمْ بَيْنَ يَ َديْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * ُقلْ مَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ أَجْرٍ َف ُهوَ َلكُمْ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ‬
‫ق َومَا يُبْ ِدئُ‬
‫حّ‬‫حقّ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ * ُقلْ جَاءَ الْ َ‬
‫شهِيدٌ * ُقلْ إِنّ رَبّي َيقْ ِذفُ بِالْ َ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫اللّ ِه وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ضلّ عَلَى َنفْسِي وَإِنِ اهْ َتدَ ْيتُ فَ ِبمَا يُوحِي إَِليّ رَبّي إِنّهُ‬
‫ن ضَلَ ْلتُ فَإِ ّنمَا َأ ِ‬
‫ل َومَا ُيعِيدُ * ُقلْ إِ ْ‬
‫طُ‬‫الْبَا ِ‬
‫سمِيعٌ قَرِيبٌ }‬
‫َ‬

‫أي { ُقلْ } يا أيها الرسول‪ ,‬لهؤلء المكذبين المعاندين‪ ,‬المتصدين لرد الحق وتكذيبه‪ ,‬والقدح بمن‬
‫ح َدةٍ } أي‪ :‬بخصلة واحدة‪ ,‬أشير عليكم بها‪ ,‬وأنصح لكم في سلوكها‪،‬‬
‫ظ ُكمْ ِبوَا ِ‬
‫جاء به‪ { :‬إِ ّنمَا أَعِ ُ‬
‫وهي طريق نصف‪ ,‬لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي‪ ,‬ول إلى ترك قولكم‪ ,‬من دون موجب لذلك‪,‬‬
‫وهي‪ { :‬أَنْ َتقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى َوفُرَادَى } أي‪ :‬تنهضوا بهمة‪ ,‬ونشاط‪ ,‬وقصد لتباع الصواب‪,‬‬
‫وإخلص للّه‪ ,‬مجتمعين‪ ,‬ومتباحثين في ذلك‪ ,‬ومتناظرين‪ ,‬وفرادى‪ ,‬كل واحد يخاطب نفسه بذلك‪.‬‬

‫فإذا قمتم للّه‪ ,‬مثنى وفرادى‪ ,‬استعملتم فكركم‪ ,‬وأجلتموه‪ ,‬وتدبرتم أحوال رسولكم‪ ،‬هل هو مجنون‪,‬‬
‫فيه صفات المجانين من كلمه‪ ,‬وهيئته‪ ,‬وصفته؟ أم هو نبي صادق‪ ,‬منذر لكم ما يضركم‪ ,‬مما‬
‫أمامكم من العذاب الشديد؟‬

‫فلو قبلوا هذه الموعظة‪ ,‬واستعملوها‪ ,‬لتبين لهم أكثر من غيرهم‪ ,‬أن رسول اللّه صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ,‬ليس بمجنون‪ ,‬لن هيئاته ليست كهيئات المجانين‪ ,‬في خنقهم‪ ,‬واختلجهم‪ ,‬ونظرهم‪ ،‬بل‬
‫هيئته أحسن الهيئات‪ ,‬وحركاته أجل الحركات‪ ,‬وهو أكمل الخلق‪ ,‬أدبا‪ ,‬وسكينة‪ ,‬وتواضعا‪ ,‬ووقارا‪,‬‬
‫ل يكون [إل] لرزن الرجال عقل‪.‬‬

‫ثم [إذا] تأملوا كلمه الفصيح‪ ,‬ولفظه المليح‪ ,‬وكلماته التي تمل القلوب‪ ,‬أمنا‪ ,‬وإيمانا‪ ,‬وتزكى‬
‫النفوس‪ ,‬وتطهر القلوب‪ ,‬وتبعث على مكارم الخلق‪ ,‬وتحث على محاسن الشيم‪ ,‬وترهب عن‬
‫مساوئ الخلق ورذائلها‪ ،‬إذا تكلم رمقته العيون‪ ,‬هيبة وإجلل وتعظيما‪.‬‬

‫فهل هذا يشبه هذيان المجانين‪ ,‬وعربدتهم‪ ,‬وكلمهم الذي يشبه أحوالهم؟"‬
‫فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلم هل هو رسول اللّه أم ل؟ سواء تفكر وحده‪ ,‬أو مع غيره‪,‬‬
‫جزم بأنه رسول اللّه حقا‪ ,‬ونبيه صدقا‪ ,‬خصوصا المخاطبين‪ ,‬الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره‬
‫وآخره‪.‬‬

‫وثَمّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق‪ ,‬وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له‪ ,‬ويأخذ‬
‫أجرة على دعوته‪ .‬فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى ال عليه وسلم عن هذا المر فقال‪ُ { :‬قلْ‬
‫مَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ أَجْرٍ } أي‪ :‬على اتباعكم للحق { َف ُهوَ َلكُمْ } أي‪ :‬فأشهدكم أن ذلك الجر ‪ -‬على‬
‫شهِيدٌ } أي‪ :‬محيط علمه بما أدعو‬
‫شيْءٍ َ‬
‫التقدير ‪ -‬أنه لكم‪ { ،‬إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا عَلَى اللّهِ وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫إليه‪ ،‬فلو كنت كاذبا‪ ,‬لخذني بعقوبته‪ ،‬وشهيد أيضا على أعمالكم‪ ,‬سيحفظها عليكم‪ ,‬ثم يجازيكم‬
‫بها‪.‬‬

‫ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق‪ ,‬وبطلن الباطل‪ ,‬أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن‬
‫طلِ فَيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَا ِهقٌ } لنه بين من الحق في هذا الموضع‪ ,‬ورد به‬
‫{ َيقْ ِذفُ بِا ْلحَقّ عَلَى الْبَا ِ‬
‫أقوال المكذبين‪ ,‬ما كان عبرة للمعتبرين‪ ,‬وآية للمتأملين‪.‬‬

‫فإنك كما ترى‪ ,‬كيف اضمحلت أقوال المكذبين‪ ,‬وتبين كذبهم وعنادهم‪ ,‬وظهر الحق وسطع‪ ,‬وبطل‬
‫الباطل وانقمع‪ ،‬وذلك بسبب بيان { عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ } الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب‪ ,‬من‬
‫الوساوس والشبه‪ ,‬ويعلم ما يقابل ذلك‪ ,‬ويدفعه من الحجج‪.‬‬

‫حقّ } أي‪ :‬ظهر وبان‪ ,‬وصار بمنزلة الشمس‪,‬‬


‫فيعلم بها عباده‪ ,‬ويبينها لهم‪ ,‬ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ جَاءَ الْ َ‬
‫طلُ َومَا ُيعِيدُ } أي‪ :‬اضمحل وبطل أمره‪ ,‬وذهب سلطانه‪ ,‬فل يبدئ‬
‫وظهر سلطانه‪َ { ،‬ومَا يُ ْب ِدئُ الْبَا ِ‬
‫ول يعيد‪.‬‬

‫ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول‪ ,‬وكان المكذبون له‪ ,‬يرمونه بالضلل‪ ,‬أخبرهم بالحق‪,‬‬
‫ووضحه لهم‪ ,‬وبين لهم عجزهم عن مقاومته‪ ,‬وأخبرهم أن رميهم له بالضلل‪ ,‬ليس بضائر الحق‬
‫شيئا‪ ,‬ول دافع ما جاء به‪.‬‬

‫وأنه إن ضل ‪ -‬وحاشاه من ذلك‪ ,‬لكن على سبيل التنزل في المجادلة ‪ -‬فإنما يضل على نفسه‪,‬‬
‫أي‪ :‬ضلله قاصر على نفسه‪ ,‬غير متعد إلى غيره‪.‬‬

‫{ وَإِنِ اهْتَدَ ْيتُ } فليس ذلك من نفسي‪ ,‬وحولي‪ ,‬وقوتي‪ ,‬وإنما هدايتي بما { يُوحِي إَِليّ رَبّي } فهو‬
‫سمِيعٌ } للقوال والصوات كلها { قَرِيبٌ }‬
‫مادة هدايتي‪ ,‬كما هو مادة هداية غيري‪ .‬إن ربي { َ‬
‫ممن دعاه وسأله وعبده‪.‬‬
‫ت وَأُخِذُوا مِنْ َمكَانٍ قَرِيبٍ * َوقَالُوا آمَنّا بِهِ وَأَنّى َلهُمُ‬
‫{ ‪ { } 54 - 51‬وََلوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا َف ْو َ‬
‫ل وَ َيقْ ِذفُونَ بِا ْلغَ ْيبِ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ * َوحِيلَ بَيْ َن ُهمْ‬
‫التّنَاوُشُ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ * َوقَدْ َكفَرُوا بِهِ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫شكّ مُرِيبٍ }‬
‫ع ِهمْ مِنْ قَ ْبلُ إِ ّنهُمْ كَانُوا فِي َ‬
‫وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ َكمَا ُف ِعلَ بِأَشْيَا ِ‬

‫يقول تعالى { وََلوْ تَرَى } أيها الرسول‪ ,‬ومن قام مقامك‪ ,‬حال هؤلء المكذبين‪ { ،‬إِذْ فَزِعُوا } حين‬
‫رأوا العذاب‪ ,‬وما أخبرتهم به الرسل‪ ,‬وما كذبوا به‪ ,‬لرأيت أمرا هائل‪ ,‬ومنظرا مفظعا‪ ,‬وحالة‬
‫منكرة‪ ,‬وشدة شديدة‪ ,‬وذلك حين يحق عليهم العذاب‪.‬‬

‫فليس لهم عنه مهرب ول فوت { وَأُخِذُوا مِنْ َمكَانٍ قَرِيبٍ } أي‪ :‬ليس بعيدا عن محل العذاب‪ ,‬بل‬
‫يؤخذون‪ ,‬ثم يقذفون في النار‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا } في تلك الحال‪ { :‬آمَنّا } بال وصدقنا ما به كذبنا { و } لكن { أَنّى َلهُمُ التّنَاوُشُ } أي‪:‬‬
‫تناول اليمان { مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } قد حيل بينهم وبينه‪ ,‬وصار من المور المحالة في هذه الحالة‪،‬‬
‫فلو أنهم آمنوا وقت المكان‪ ,‬لكان إيمانهم مقبول‪ ،‬ولكنهم { َكفَرُوا بِهِ مِنْ قَ ْبلُ وَ َيقْ ِذفُونَ } أي‪:‬‬
‫يرمون { بِا ْلغَ ْيبِ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } بقذفهم الباطل‪ ,‬ليدحضوا به الحق‪ ،‬ولكن ل سبيل إلى ذلك‪ ,‬كما‬
‫ل سبيل للرامي‪ ,‬من مكان بعيد إلى إصابة الغرض‪ ،‬فكذلك الباطل‪ ,‬من المحال أن يغلب الحق أو‬
‫يدفعه‪ ,‬وإنما يكون له صولة‪ ,‬وقت غفلة الحق عنه‪ ,‬فإذا برز الحق‪ ,‬وقاوم الباطل‪ ,‬قمعه‪.‬‬

‫{ وَحِيلَ بَيْ َن ُه ْم وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ } من الشهوات واللذات‪ ,‬والولد‪ ,‬والموال‪ ,‬والخدم‪ ,‬والجنود‪ ،‬قد‬
‫انفردوا بأعمالهم‪ ,‬وجاءوا فرادى‪ ,‬كما خلقوا‪ ,‬وتركوا ما خولوا‪ ,‬وراء ظهورهم‪َ { ،‬كمَا ُف ِعلَ‬
‫عهِمْ } من المم السابقين‪ ,‬حين جاءهم الهلك‪ ,‬حيل بينهم وبين ما يشتهون‪ { ،‬إِ ّنهُمْ كَانُوا فِي‬
‫بِأَشْيَا ِ‬
‫شكّ مُرِيبٍ } أي‪ :‬محدث الريبة وقلق القلب فلذلك‪ ,‬لم يؤمنوا‪ ,‬ولم يعتبوا حين استعتبوا‪.‬‬
‫َ‬

‫تم تفسير سورة سبأ ‪ -‬وللّه الحمد والمنة‪ ,‬والفضل‪ ,‬ومنه العون‪ ,‬وعليه التوكل‪ ,‬وبه الثقة‪.‬‬

You might also like