Professional Documents
Culture Documents
وهي مدنية
بِ كه يعص * ذِ كْرُ رَحْمَةِ رَبّبكَ عَببْدَهُ زَكَ ِر يّا * إِذْ نَادَى رَبّبهُ
{ ِ { }ْ 6 - 1بسْمِ ال لّهِ البرّحْمَنِ البرّحِي م
شقِيّا * وَإِنّي
خفِيّا * قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَا ِئكَ َربّ َ
نِدَاءً َ
ك وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ
ن وَرَائِي َوكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َف َهبْ لِي مِنْ َلدُ ْن َ
خ ْفتُ ا ْل َموَالِيَ مِ ْ
ِ
جعَلْهُ َربّ َرضِيّا ْ}
َي ْعقُوبَ وَا ْ
حمَةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّا ْ} سنقصه عليك ،ونفصله تفصيل يعرف به حالة نبيه
أي :هذا { ِذكْرُ رَ ْ
زكريا ،وآثاره الصالحة ،ومناقبه الجميلة ،فإن في قصها عبرة للمعتبرين ،وأسوة للمقتدين ،ولن
في تفصيل رحمته لوليائه ،وبأي :سبب حصلت لهم ،مما يدعو إلى محبة ال تعالى ،والكثار من
ذكره ومعرفته ،والسبب الموصل إليه .وذلك أن ال تعالى اجتبى واصطفى زكريا عليه السلم
لرسالته ،وخصه بوحيه ،فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين ،ودعا العباد إلى ربه ،وعلمهم ما
علمه ال ،ونصح لهم في حياته وبعد مماته ،كإخوانه من المرسلين ومن اتبعهم ،فلما رأى من
نفسه الضعف ،وخاف أن يموت ،ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم،
شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن ،وناداه نداء خفيا ،ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلصا ،فقال{ :
َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي ْ}
أي :وهى وضعف ،وإذا ضعف العظم ،الذي هو عماد البدن ،ضعف غيره { ،وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبًا
ْ} لن الشيب دليل الضعف والكبر ،ورسول الموت ورائده ،ونذيره ،فتوسل إلى ال تعالى بضعفه
وعجزه ،وهذا من أحب الوسائل إلى ال ،لنه يدل على التبري من الحول والقوة ،وتعلق القلب
بحول ال وقوته.
شقِيّا ْ} أي :لم تكن يا رب تردني خائبا ول محروما من الجابة ،بل لم
{ وَلَمْ َأكُنْ بِدُعَا ِئكَ َربّ َ
تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا ،ولم تزل ألطافك تتوالى علي ،وإحسانك واصل إلي ،وهذا توسل
إلى ال بإنعامه عليه ،وإجابة دعواته السابقة ،فسأل الذي أحسن سابقا ،أن يتمم إحسانه لحقا.
ن وَرَائِي ْ} أي :وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي ،أن
خ ْفتُ ا ْل َموَاِليَ مِ ْ
{ وَإِنّي ِ
ل يقوموا بدينك حق القيام ،ول يدعوا عبادك إليك ،وظاهر هذا ،أنه لم ير فيهم أحدا فيه لياقة
للمامة في الدين ،وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلم ونصحه ،وأن طلبه للولد ،ليس كطلب غيره،
قصده مجرد المصلحة الدنيوية ،وإنما قصده مصلحة الدين ،والخوف من ضياعه ،ورأى غيره
غير صالح لذلك ،وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين ،ومعدن الرسالة ،ومظنة للخير ،فدعا
ال أن يرزقه ولدا ،يقوم بالدين من بعده ،واشتكى أن امرأته عاقر ،أي ليست تلد أصل ،وأنه قد
ك وَلِيّا ْ} وهذه
بلغ من الكبر عتيا ،أي :عمرا يندر معه وجود الشهوة والولدَ { .ف َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْن َ
الولية ،ولية الدين ،وميراث النبوة والعلم والعمل ،ولهذا قال { :يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ
جعَلْهُ َربّ َرضِيّا ْ}
وَا ْ
أي :عبدا صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك ،والحاصل أنه سأل ال ولدا ،ذكرا ،صالحا ،يبق بعد
موته ،ويكون وليا من بعده ،ويكون نبيا مرضيا عند ال وعند خلقه ،وهذا أفضل ما يكون من
الولد ،ومن رحمة ال بعبده ،أن يرزقه ولدا صالحا ،جامعا لمكارم الخلق ومحامد الشيم.
فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال:
أي :بشره ال تعالى على يد الملئكة ببب " يحيى " وسماه ال له " يحيى " وكان اسما موافقا
لمسماه :يحيا حياة حسية ،فتتم به المنة ،ويحيا حياة معنوية ،وهي حياة القلب والروح ،بالوحي
سمِيّا ْ} أي :لم يسم هذا السم قبله أحد ،ويحتمل أن المعنى:
ج َعلْ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ َ
والعلم والدين { .لَمْ َن ْ
لم نجعل له من قبل مثيل ومساميا ،فيكون ذلك بشارة بكماله ،واتصافه بالصفات الحميدة ،وأنه
فاق من قبله ،ولكن على هذا الحتمال ،هذا العموم ل بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم وموسى
ونوح عليهم السلم ،ونحوهم ،ممن هو أفضل من يحيى قطعا ،فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا
غلَامٌ ْ}
المولود الذي طلبه استغرب وتعجب وقالَ { :ربّ أَنّى َيكُونُ لِي ُ
والحال أن المانع من وجود الولد ،موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه ،لم يستحضر هذا
المانع لقوة الوارد في قلبه ،وشدة الحرص العظيم على الولد ،وفي هذه الحال ،حين قبلت دعوته،
عَليّ هَيّنٌ ْ}
تعجب من ذلك ،فأجابه ال بقولهَ { :كذَِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ َ
أي :المر مستغرب في العادة ،وفي سنة ال في الخليقة ،ولكن قدرة ال تعالى صالحة ليجاد
الشياء بدون أسبابها فذلك هين عليه ،ليس بأصعب من إيجاده قبل ولم يكن شيئا.
ج َعلْ لِي آ َيةً ْ} أي :يطمئن بها قلبي ،وليس هذا شكا في خبر ال ،وإنما هو ،كما قال
{ قَالَ َربّ ا ْ
طمَئِنّ قَلْبِي ْ}
حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِ َي ْ
الخليل عليه السلمَ { :ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُ ْ
فطلب زيادة العلم ،والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين ،فأجابه ال إلى طلبته رحمة به ،فب
سوِيّا ْ} وفي الية الخرى { ثَلَاثَةَ أَيّامٍ إِلّا َرمْزًا ْ} والمعنى
{ قَالَ آيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ َ
واحد ،لنه تارة يعبر بالليالي ،وتارة باليام ومؤداها واحد ،وهذا من اليات العجيبة ،فإن منعه
من الكلم مدة ثلثة أيام ،وعجزه عنه من غير خرس ول آفة ،بل كان سويا ،ل نقص فيه ،من
الدلة على قدرة ال الخارقة للعوائد ،ومع هذا ،ممنوع من الكلم الذي يتعلق بالدميين وخطابهم.،
وأما التسبيح والتهليل ،والذكر ونحوه ،فغير ممنوع منه ،ولهذا قال في الية الخرى { :وَا ْذكُرْ
ي وَالْإِ ْبكَارِ ْ} فاطمأن قلبه ،واستبشر بهذه البشارة العظيمة ،وامتثل لمر
شّرَ ّبكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ
ال له بالشكر بعبادته وذكره ،فعكف في محرابه ،وخرج على قومه منه فأوحى إليهم ،أي:
بالشارة والرمز { أَنْ سَبّحُوا ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا ْ} لن البشارة بب " يحيى " في حق الجميع ،مصلحة
دينية.
دل الكلم السابق على ولدة يحيى ،وشبابه ،وتربيته ،فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب أمره
ال أن يأخذ الكتاب بقوة ،أي :بجد واجتهاد ،وذلك بالجتهاد في حفظ ألفاظه ،وفهم معانيه ،والعمل
بأوامره ونواهيه ،هذا تمام أخذ الكتاب بقوة ،فامتثل أمر ربه ،وأقبل على الكتاب ،فحفظه وفهمه،
حكْ َم صَبِيّا ْ} أي:
وجعل ال فيه من الذكاء والفطنة ،ما ل يوجد في غيره ولهذا قال { :وَآتَيْنَاهُ ا ْل ُ
معرفة أحكام ال والحكم بها ،وهو في حال صغره وصباه.
{ و ْ} آتيناه أيضا { حَنَانًا مِنْ لَدُنّا ْ} أي :رحمة ورأفة ،تيسرت بها أموره ،وصلحت بها أحواله،
واستقامت بها أفعاله.
{ وَ َزكَاةً ْ} أي :طهارة من الفات والذنوب ،فطهر قلبه وتزكى عقله ،وذلك يتضمن زوال
الوصاف المذمومة ،والخلق الرديئة ،وزيادة الخلق الحسنة ،والوصاف المحمودة ،ولهذا
قالَ { :وكَانَ َتقِيّا ْ} أي :فاعل للمأمور ،تاركا للمحظور ،ومن كان مؤمنا تقيا كان ل وليا ،وكان
من أهل الجنة التي أعدت للمتقين ،وحصل له من الثواب الدنيوي والخروي ،ما رتبه ال على
التقوى.
{ و ْ} كان أيضا { بَرّا ِبوَالِدَيْهِ ْ} أي :لم يكن عاقا ،ول مسيئا إلى أبويه ،بل كان محسنا إليهما
بالقول والفعل.
عصِيّا ْ} أي :لم يكن متجبرا متكبرا عن عبادة ال ،ول مترفعا على عباد ال،
{ وَلَمْ َيكُنْ جَبّارًا َ
ول على والديه ،بل كان متواضعا ،متذلل ،مطيعا ،أوابا ل على الدوام ،فجمع بين القيام بحق ال،
وحق خلقه ،ولهذا حصلت له السلمة من ال ،في جميع أحواله ،مبادئها وعواقبها ،فلذا قال:
{ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ َيوْ َم وُلِ َد وَ َيوْمَ َيمُوتُ وَ َيوْمَ يُ ْب َعثُ حَيّا ْ} وذلك يقتضي سلمته من الشيطان ،والشر،
والعقاب في هذه الحوال الثلثة وما بينها ،وأنه سالم من النار والهوال ،ومن أهل دار السلم،
فصلوات ال وسلمه عليه وعلى والده وعلى سائر المرسلين ،وجعلنا من أتباعهم ،إنه جواد
كريم.
لما ذكر قصة زكريا ويحيى ،وكانت من اليات العجيبة ،انتقل منها إلى ما هو أعجب منها،
تدريجا من الدنى إلى العلى فقال { :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ ْ} الكريم { مَرْيَمَ ْ} عليها السلم ،وهذا من
أعظم فضائلها ،أن تذكر في الكتاب العظيم ،الذي يتلوه المسلمون في مشارق الرض ومغاربها،
تذكر فيه بأحسن الذكر ،وأفضل الثناء ،جزاء لعملها الفاضل ،وسعيها الكامل ،أي :واذكر في
الكتاب مريم ،في حالها الحسنة ،حين { انْتَبَ َذتْ ْ} أي :تباعدت عن أهلها { َمكَانًا شَ ْرقِيّا ْ} أي :مما
يلي الشرق عنهم.
{ فَاتّخَ َذتْ مِنْ دُو ِنهِمْ حِجَابًا ْ} أي :سترا ومانعا ،وهذا التباعد منها ،واتخاذ الحجاب ،لتعتزل،
وتنفرد بعبادة ربها ،وتقنت له في حالة الخلص والخضوع والذل ل تعالى ،وذلك امتثال منها
طفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
ك وَاصْ َ
طهّ َر ِ
ك وَ َ
طفَا ِ
لقوله تعالى { :وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَا ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ
سجُدِي وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ ْ} وقوله { :فَأَرْسَلْنَا إِلَ ْيهَا رُوحَنَا ْ}
ك وَا ْ
ا ْلعَاَلمِينَ* يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَ ّب ِ
سوِيّا ْ} أي :كامل من الرجال ،في صورة جميلة،
وهو :جبريل عليه السلم { فَ َتمَ ّثلَ َلهَا َبشَرًا َ
وهيئة حسنة ،ل عيب فيه ول نقص ،لكونها ل تحتمل رؤيته على ما هو عليه ،فلما رأته في هذه
الحال ،وهي معتزلة عن أهلها ،منفردة عن الناس ،قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها وهم
أهلها ،خافت أن يكون رجل قد تعرض لها بسوء ،وطمع فيها ،فاعتصمت بربها ،واستعاذت منه
حمَنِ مِ ْنكَ ْ} أي .ألتجئ به وأعتصم برحمته ،أن تنالني بسوء { .إِنْ
فقالت له { :إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ
كُ ْنتَ َتقِيّا ْ} أي :إن كنت تخاف ال ،وتعمل بتقواه ،فاترك التعرض لي ،فجمعت بين العتصام
بربها ،وبين تخويفه وترهيبه ،وأمره بلزوم التقوى ،وهي في تلك الحالة الخالية ،والشباب ،والبعد
عن الناس ،وهو في ذلك الجمال الباهر ،والبشرية الكاملة السوية ،ولم ينطق لها بسوء ،أو
يتعرض لها ،وإنما ذلك خوف منها ،وهذا أبلغ ما يكون من العفة ،والبعد عن الشر وأسبابه.
وهذه العفة -خصوصا مع اجتماع الدواعي ،وعدم المانع -من أفضل العمال.
فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة ،قال { :إِ ّنمَا أَنَا رَسُولُ رَ ّبكِ ْ} أي :إنما وظيفتي وشغلي،
تنفيذ رسالة ربي فيك { لِأَ َهبَ َلكِ غُلَامًا َزكِيّا ْ} وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه ،فإن الزكاء
يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة ،واتصافه بالخصال الحميدة ،فتعجبت من وجود الولد من
غير أب ،فقالت { :أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَ ٌر وََلمْ َأكُ َبغِيّا ْ} والولد ل يوجد إل بذلك؟".
جعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ ْ} تدل على كمال قدرة ال تعالى ،وعلى أن
ن وَلِ َن ْ
{ قَالَ كَذَِلكِ قَالَ رَ ّبكِ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ
السباب جميعها ،ل تستقل بالتأثير ،وإنما تأثيرها بتقدير ال ،فيري عباده خرق العوائد في بعض
ح َمةً مِنّا ْ} أي:
السباب العادية ،لئل يقفوا مع السباب ،ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها { وَرَ ْ
ولنجعله رحمة منا به ،وبوالدته ،وبالناس.
أما رحمة ال به ،فلما خصه ال بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم ،وأما رحمته
بوالدته ،فلما حصل لها من الفخر ،والثناء الحسن ،والمنافع العظيمة .وأما رحمته بالناس ،فإن
أكبر نعمه عليهم ،أن بعث فيهم رسول ،يتلو عليهم آياته ،ويزكيهم ،ويعلمهم الكتاب والحكمة،
فيؤمنون به ،ويطيعونه ،وتحصل لهم سعادة الدنيا والخرةَ { ،وكَانَ ْ} أي :وجود عيسى عليه
السلم على هذه الحاله { َأمْرًا َم ْقضِيّا ْ} قضاء سابقا ،فل بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء ،فنفخ
جبريل عليه السلم في جيبها.
أي :لما حملت بعيسى عليه السلم ،خافت من الفضيحة ،فتباعدت عن الناس { َمكَانًا َقصِيّا ْ} فلما
قرب ولدها ،ألجأها المخاض إلى جذع نخلة ،فلما آلمها وجع الولدة ،ووجع النفراد عن الطعام
والشراب ،ووجع قلبها من قالة الناس ،وخافت عدم صبرها ،تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث،
وكانت نسيا منسيا فل تذكر .وهذا التمني بناء على ذلك المزعج ،وليس في هذه المنية خير لها
ول مصلحة ،وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل.
فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها وناداها من تحتها ،لعله في مكان أنزل من مكانها ،وقال
ج َعلَ رَ ّبكِ َتحْ َتكِ سَرِيّا ْ} أي :نهرا تشربين
لها :ل تحزني ،أي :ل تجزعي ول تهتمي ،فبب { قَدْ َ
منه.
{ وَهُزّي إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّخْلَةِ ُتسَاقِطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبًا جَنِيّا ْ} أي :طريا لذيذا نافعا { َفكُلِي ْ} من التمر،
{ وَاشْرَبِي ْ} من النهر { َوقَرّي عَيْنًا ْ} بعيسى ،فهذا طمأنينتها من جهة السلمة من ألم الولدة،
وحصول المأكل والمشرب والهني.
وأما من جهة قالة الناس ،فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر ،أن تقول على وجه الشارة { :إِنّي
صوْمًا ْ} أي :سكوتا { فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنْسِيّا ْ} أي :ل تخاطبيهم بكلم ،لتستريحي
حمَنِ َ
نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ
من قولهم وكلمهم .وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة ،وإنما لم تؤمر
بخطابهم في نفي ذلك عن نفسها لن الناس ل يصدقونها ،ول فيه فائدة ،وليكون تبرئتها بكلم
عيسى في المهد ،أعظم شاهد على براءتها. ،فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج ،ودعواها أنه
من غير أحد ،من أكبر الدعاوى ،التي لو أقيم عدة من الشهود ،لم تصدق بذلك ،فجعلت بينة هذا
الخارق للعادة ،أمرا من جنسه ،وهو كلم عيسى في حال صغره جدا ،ولهذا قال تعالى:
أي :فلما تعلت مريم من نفاسها ،أتت بعيسى قومها تحمله ،وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها،
فأتت غير مبالية ول مكترثة ،فقالواَ { :لقَدْ جِ ْئتِ شَيْئًا فًريّا ْ} أي :عظيما وخيما ،وأرادوا بذلك
البغاء حاشاها من ذلك.
ختَ هَارُونَ ْ} الظاهر ،أنه أخ لها حقيقي ،فنسبوها إليه ،وكانوا يسمون بأسماء النبياء وليس
{ يَا أُ ْ
سوْ ٍء َومَا كَا َنتْ
هو هارون بن عمران أخا موسى ،لن بينهما قرونا كثيرة { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ
ُأ ّمكِ َبغِيّا ْ} أي :لم يكن أبواك إل صالحين سالمين من الشر ،وخصوصا هذا الشر ،الذي يشيرون
إليه ،وقصدهم :فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟ .وذلك أن الذرية -في
الغالب -بعضها من بعض ،في الصلح وضده ،فتعجبوا -بحسب ما قام بقلوبهم -كيف وقع
منها ،فأشارت لهم إليه ،أي :كلموه.
حمَنِ صَ ْومًا
وإنما أشارت لذلك ،لنها أمرت عند مخاطبة الناس لها ،أن ،تقول { :إِنّي نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ
فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنْسِيّا ْ} فلما أشارت إليهم بتكليمه ،تعجبوا من ذلك وقالوا { :كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي
ا ْل َمهْ ِد صَبِيّا ْ} لن ذلك لم تجر به عادة ،ول حصل من أحد في ذلك السن. .
{ وََأ ْوصَانِي بِالصّلَا ِة وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا ْ} أي :أوصاني بالقيام بحقوقه ،التي من أعظمها الصلة،
وحقوق عباده ،التي أجلها الزكاة ،مدة حياتي ،أي :فأنا ممتثل لوصية ربي ،عامل عليها ،منفذ لها،
ووصاني أيضا ،أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الحسان ،وأقوم بما ينبغي له ،لشرفها وفضلها،
ولكونها والدة لها حق الولدة وتوابعها.
أي :ذلك الموصوف بتلك الصفات ،عيسى بن مريم ،من غير شك ول مرية ،بل قول الحق،
وكلم ال ،الذي ل أصدق منه قيل ،ول أحسن منه حديثا ،فهذا الخبر اليقيني ،عن عيسى عليه
السلم ،وما قيل فيه مما يخالف هذا ،فإنه مقطوع ببطلنه.،وغايته أن يكون شكا من قائله ل علم
له به ،ولهذا قال { :الّذِي فِيهِ َيمْتَرُونَ ْ} أي :يشكون فيمارون بشكهم ،ويجادلون بخرصهم ،فمن
قائل عنه :إنه ال ،أو ابن ال ،أو ثالث ثلثة ،تعالى ال عن إفكهم وتقولهم علوا كبيرا.
ن وَلَدٍ ْ} أي :ما ينبغي ول يليق ،لن ذلك من المور المستحيلة ،لنه
خذَ مِ ْ
فبب { مَا كَانَ لِلّهِ أَنْ يَتّ ِ
الغني الحميد ،المالك لجميع الممالك ،فكيف يتخذ من عباده ومماليكه ،ولدا؟! { سُ ْبحَانَهُ ْ} أي :تنزه
وتقدس عن الولد والنقص { ،إِذَا َقضَى َأمْرًا ْ} أي :من المور الصغار والكبار ،لم يمتنع ،عليه
ولم يستصعب { فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ ْ} فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي،
فكيف يكون له ولد؟".وإذا كان إذا أراد شيئا قال له { :كُن فَ َيكُونُ ْ} فكيف يستبعد إيجاده عيسى من
غير أب؟!.
ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره ،فقال { :وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ ْ} الذي خلقنا ،وصورنا،
ونفذ فينا تدبيره ،وصرفنا تقديره.
{ فَاعْ ُبدُوهُ ْ} أي :أخلصوا له العبادة ،واجتهدوا في النابة ،وفي هذا القرار بتوحيد الربوبية،
وتوحيد اللهية ،والستدلل بالول على الثاني ،ولهذا قال { :هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ ْ} أي :طريق
معتدل ،موصل إلى ال ،لكونه طريق الرسل وأتباعهم ،وما عدا هذا ،فإنه من طرق الغي
والضلل.
سمِعْ ِب ِهمْ
شهَدِ َيوْمٍ عَظِيمٍ * أَ ْ
{ { }ْ 38 - 37فَاخْ َتَلفَ الَْأحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا مِنْ مَ ْ
وَأَ ْبصِرْ َيوْمَ يَأْتُونَنَا َلكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ْ}
لما بين تعالى حال عيسى بن مريم الذي ل يشك فيها ول يمترى ،أخبر أن الحزاب ،أي :فرق
الضلل ،من اليهود والنصارى وغيرهم ،على اختلف طبقاتهم اختلفوا في عيسى عليه السلم،
فمن غال فيه وجاف ،فمنهم من قال :إنه ال ،ومنهم من قال :إنه ابن ال.ومنهم من قال :إنه ثالث
ثلثة.ومنهم من لم يجعله رسول ،بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود..وكل هؤلء أقوالهم باطلة،
وآراؤهم فاسدة ،مبنية على الشك والعناد ،والدلة الفاسدة ،والشبه الكاسدة ،وكل هؤلء مستحقون
للوعيد الشديد ،ولهذا قالَ { :فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا ْ} بال ورسله وكتبه ،ويدخل فيهم اليهود
عظِيمٍ ْ} أي :مشهد يوم القيامة ،الذي
ش َهدِ َيوْمٍ َ
والنصارى ،القائلون بعيسى قول الكفر { .مِنْ مَ ْ
يشهده الولون والخرون ،أهل السماوات وأهل الرض ،الخالق والمخلوق ،الممتلئ بالزلزل
والهوال ،المشتمل على الجزاء بالعمال ،فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون ،وما كانوا
يكتمون.
سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ َيوْمَ يَأْتُونَنَا ْ} أي :ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم! .فيقرون بكفرهم
{ َأ ْ
وشركهم وأقوالهم ،ويقولون { :ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ْ} ففي
القيامة ،يستيقنون حقيقة ما هم عليه.
{ َلكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ْ} وليس لهم عذر في هذا الضلل ،لنهم بين معاند ضال
على بصيرة ،عارف بالحق ،صادف عنه ،وبين ضال عن طريق الحق ،متمكن من معرفة الحق
والصواب ،ولكنه راض بضلله وما هو عليه من سوء أعماله ،غير ساع في معرفة الحق من
الباطل ،وتأمل كيف قالَ { :فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا ْ} بعد قوله { فَاخْتََلفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ ْ} ولم يقل "
فويل لهم " ليعود الضمير إلى الحزاب ،لن من الحزاب المختلفين ،طائفة أصابت الصواب،
ووافقت الحق ،فقالت في عيسى " :إنه عبد ال ورسوله " فآمنوا به ،واتبعوه ،فهؤله مؤمنون،
غير داخلين في هذا الوعيد ،فلهذا خص ال بالوعيد الكافرين.
النذار هو :العلم بالمخوف على وجه الترهيب ،والخبار بصفاته ،وأحق ما ينذر به ويخوف
به العباد ،يوم الحسرة حين يقضى المر ،فيجمع الولون والخرون في موقف واحد ،ويسألون
عن أعمالهم.،فمن آمن بال ،واتبع رسله ،سعد سعادة ل يشقى بعدها.،ومن لم يؤمن بال ويتبع
رسله شقي شقاوة ل سعادة بعدها ،وخسر نفسه وأهله .،فحينئذ يتحسر ،ويندم ندامة تتقطع منها
القلوب ،وتنصدع منها الفئدة ،وأي :حسرة أعظم من فوات رضا ال وجنته ،واستحقاق سخطه
والنار ،على وجه ل يتمكن من الرجوع ،ليستأنف العمل ،ول سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى
الدنيا؟! فهذا قدامهم ،والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا المر العظيم ل يخطر بقلوبهم ،ولو
خطر فعلى سبيل الغفلة ،قد عمتهم الغفلة ،وشملتهم السكرة ،فهم ل يؤمنون بال ،ول يتبعون
رسله ،قد ألهتهم دنياهم ،وحالت بينهم وبين اليمان شهواتهم المنقضية الفانية.
فالدنيا وما فيها ،من أولها إلى آخرها ،ستذهب عن أهلها ،ويذهبون عنها ،وسيرث ال الرض
ومن عليها ،ويرجعهم إليه ،فيجازيهم بما عملوا فيها ،وما خسروا فيها أو ربحوا ،فمن فعل خيرا
فليحمد ال ،ومن وجد غير ذلك ،فل يلومن إل نفسه.
ن صِدّيقًا نَبِيّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَ َبتِ لِمَ َتعْبُدُ مَا
{ { }ْ 50 - 41وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَا َ
سمَعُ وَلَا يُ ْبصِ ُر وَلَا ُيغْنِي عَ ْنكَ شَيْئًا * يَا أَ َبتِ إِنّي َقدْ جَاءَنِي مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلمْ يَأْ ِتكَ فَاتّ ِبعْنِي َأهْ ِدكَ
لَا يَ ْ
عصِيّا * يَا أَ َبتِ إِنّي أَخَافُ أَنْ
حمَنِ َ
سوِيّا * يَا أَ َبتِ لَا َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ
صِرَاطًا َ
غبٌ أَ ْنتَ عَنْ آِلهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ َلمْ تَنْتَهِ
حمَنِ فَ َتكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّا * قَالَ أَرَا ِ
سكَ عَذَابٌ مِنَ الرّ ْ
َيمَ ّ
حفِيّا * وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا
ك وَا ْهجُرْنِي مَلِيّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَ ْيكَ سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ
جمَ ّن َ
لَأَرْ ُ
شقِيّا * فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَأَدْعُو رَبّي عَسَى أَلّا َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ
جعَلْنَا َلهُمْ لِسَانَ
حمَتِنَا وَ َ
جعَلْنَا نَبِيّا * َووَهَبْنَا َلهُمْ مِنْ َر ْ
ق وَ َيعْقُوبَ َوكُلّا َ
دُونِ اللّ ِه وَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَا َ
صِدْقٍ عَلِيّا ْ}
أجل الكتب وأفضلها وأعلها ،هذا الكتاب المبين ،والذكر الحكيم ،فإن ذكر فيه الخبار ،كانت
أصدق الخبار وأحقها ،وإن ذكر فيه المر والنهي ،كانت أجل الوامر والنواهي ،وأعدلها
وأقسطها ،وإن ذكر فيه الجزاء والوعد والوعيد ،كان أصدق النباء وأحقها وأدلها على الحكمة
والعدل والفضل .،وإن ذكر فيه النبياء والمرسلون ،كان المذكور فيه ،أكمل من غيره وأفضل،
ولهذا كثيرا ما يبدئ ويعيد في قصص النبياء ،الذين فضلهم على غيرهم ،ورفع قدرهم ،وأعلى
أمرهم ،بسبب ما قاموا به ،من عبادة ال ومحبته ،والنابة إليه ،والقيام بحقوقه ،وحقوق العباد،
ودعوة الخلق إلى ال ،والصبر على ذلك ،والمقامات الفاخرة ،والمنازل العالية .،فذكر ال في هذه
السورة جملة من النبياء ،يأمر ال رسوله أن يذكرهم ،لن في ذكرهم إظهار الثناء على ال
وعليهم ،وبيان فضله وإحسانه إليهم .،وفيه الحث على اليمان بهم ومحبتهم ،والقتداء بهم ،فقال:
{ وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقًا نَبِيّا ْ} جمع ال له بين الصديقية والنبوة.
فالصديق :كثير الصدق ،فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله ،المصدق بكل ما أمر بالتصديق
به.،وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب ،المؤثر فيه ،الموجب لليقين ،والعمل الصالح
الكامل .،وإبراهيم عليه السلم ،هو أفضل النبياء كلهم بعد محمد صلى ال عليه وسلم ،وهو الب
الثالث للطوائف الفاضلة ،وهو الذي جعل ال في ذريته النبوة والكتاب ،وهو الذي دعا الخلق إلى
ال ،وصبر على ما ناله من العذاب العظيم ،فدعا القريب والبعيد ،واجتهد في دعوة أبيه ،مهما
أمكنه ،وذكر ال مراجعته إياه ،فقال { :إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ْ} مهجنا له عبادة الوثان { :يَا أَ َبتِ لِمَ َتعْبُدُ مَا
سمَعُ وَلَا يُ ْبصِ ُر وَلَا ُيغْنِي عَ ْنكَ شَيْئًا ْ} أي :لم تعبد أصناما ،ناقصة في ذاتها ،وفي أفعالها ،فل
لَا يَ ْ
تسمع ،ول تبصر ،ول تملك لعابدها نفعا ول ضرا ،بل ل تملك لنفسها شيئا من النفع ،ول تقدر
على شيء من الدفع ،فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقل
وشرعا .ودل بتنبيهه وإشارته ،أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال ،الذي ل ينال العباد
نعمة إل منه ،ول يدفع عنهم نقمة إل هو ،وهو ال تعالى.
{ يَا أَ َبتِ إِنّي َقدْ جَاءَنِي مِنَ ا ْلعِ ْلمِ مَا لَمْ يَأْ ِتكَ ْ} أي :يا أبت ل تحقرني وتقول :إني ابنك ،وإن عندك
ما ليس عندي ،بل قد أعطاني ال من العلم ما لم يعطك ،والمقصود من هذا قوله { :فَاتّ ِبعْنِي أَ ْه ِدكَ
سوِيّا ْ} أي :مستقيما معتدل ،وهو :عبادة ال وحده ل شريك له ،وطاعته في جميع
صِرَاطًا َ
الحوال.،وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ،ما ل يخفى ،فإنه لم يقل " :يا أبت أنا عالم ،وأنت
جاهل " أو " ليس عندك من العلم شيء " وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما ،وأن
الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك ،فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.
عهَدْ
{ يَا أَ َبتِ لَا َتعْبُدِ الشّيْطَانَ ْ} لن من عبد غير ال ،فقد عبد الشيطان ،كما قال تعالى { :أَلَمْ أَ ْ
إِلَ ْيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا َتعْبُدُوا الشّيْطَانَ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ ْ}
عصِيّا ْ} فمن اتبع خطواته ،فقد اتخذه وليا وكان عاصيا ل بمنزلة
حمَنِ َ
{ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ
الشيطان .وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن ،إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من
رحمة ال ،وتغلق عليه أبوابها.،كما أن الطاعة أكبر السباب لنيل رحمته ،ولهذا قال { :يَا أَ َبتِ
حمَنِ ْ} أي :بسبب إصرارك على الكفر ،وتماديك في الطغيان {
عذَابٌ مِنَ الرّ ْ
سكَ َ
إِنّي أَخَافُ أَنْ َيمَ ّ
ن وَلِيّا ْ} أي :في الدنيا والخرة ،فتنزل بمنازله الذميمة ،وترتع في مراتعه الوخيمة،
فَ َتكُونَ لِلشّيْطَا ِ
.فتدرج الخليل عليه السلم بدعوة أبيه ،بالسهل فالسهل ،فأخبره بعلمه ،وأن ذلك موجب لتباعك
إياي ،وأنك إن أطعتني ،اهتديت إلى صراط مستقيم ،ثم نهاه عن عبادة الشيطان ،وأخبره بما فيها
من المضار ،ثم حذره عقاب ال ونقمته إن أقام على حاله ،وأنه يكون وليا للشيطان ،فلم ينجع هذا
غبٌ أَ ْنتَ عَنْ آِلهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ْ} فتبجح
الدعاء بذلك الشقي ،وأجاب بجواب جاهل وقال { :أَرَا ِ
بآلهته [التي هي] من الحجر والصنام ،ولم إبراهيم عن رغبته عنها ،وهذا من الجهل المفرط،
والكفر الوخيم ،يتمدح بعبادة الوثان ،ويدعو إليها.
وقد أمرنا ال باتباع ملة إبراهيم ،فمن اتباع ملته ،سلوك طريقه في الدعوة إلى ال ،بطريق العلم
والحكمة واللين والسهولة ،والنتقال من مرتبة إلى مرتبة والصبر على ذلك ،وعدم السآمة منه،
والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل ،ومقابلة ذلك بالصفح والعفو ،بل
بالحسان القولي والفعلي.
فلما أيس من قومه وأبيه قال { :وَأَعْتَزُِلكُمْ َومَا َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} أي :أنتم وأصنامكم { وَأَدْعُو
شقِيّا ْ} أي :عسى
رَبّي ْ} وهذا شامل لدعاء العبادة ،ودعاء المسألة { عَسَى أن ل َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ
ال أن يسعدني بإجابة دعائي ،وقبول أعمالي. ،وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم ،فاتبعوا
أهواءهم ،فلم تنجع فيهم المواعظ ،فأصروا في طغيانهم يعمهون ،أن يشتغل بإصلح نفسه،
ويرجو القبول من ربه ،ويعتزل الشر وأهله.
ولما كان مفارقة النسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه ،من أشق شيء على النفس ،لمور كثيرة
معروفة ،ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر ،وكان من ترك شيئا ل عوضه ال خيرا منه،
سحَاقَ
واعتزل إبراهيم قومه ،قال ال في حقه { :فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَهَبْنَا َلهُ إِ ْ
جعَلْنَا نَبِيّا ْ} فحصل له هبة هؤلء الصالحين المرسلين إلى
وَ َيعْقُوبَ َوكُلّا ْ} من إسحاق ويعقوب { َ
الناس ،الذين خصهم ال بوحيه ،واختارهم لرسالته ،واصطفاهم من العالمين.
{ { }ْ 53 - 51وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَى إِنّهُ كَانَ مُخَْلصًا َوكَانَ رَسُولًا نَبِيّا *وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ
حمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّا }
ن َوقَرّبْنَاهُ َنجِيّا * َووَهَبْنَا لَهُ مِنْ َر ْ
الطّورِ الْأَ ْيمَ ِ
أي :واذكر في هذا القرآن العظيم موسى بن عمران ،على وجه التبجيل له والتعظيم ،والتعريف
بمقامه الكريم ،وأخلقه الكاملة { ،إِنّهُ كَانَ مُخَْلصًا } قرئ بفتح اللم ،على معنى أن ال تعالى
اختاره واستخلصه ،واصطفاه على العالمين .وقرئ بكسرها ،على معنى أنه كان مخلص ل
تعالى ،في جميع أعماله ،وأقواله ،ونياته ،فوصفه الخلص في جميع أحواله ،والمعنيان
متلزمان ،فإن ال أخلصه لخلصه ،وإخلصه ،موجب لستخلصه ،وأجل حالة يوصف بها
العبد ،الخلص منه ،والستخلص من ربهَ { .وكَانَ رَسُولًا نَبِيّا } أي :جمع ال له بين الرسالة
والنبوة ،فالرسالة تقتضي تبليغ كلم المرسل ،وتبليغ جميع ما جاء به من الشرع ،دقه وجله.
والنبوة تقتضي إيحاء ال إليه وتخصيصه بإنزال الوحي إليه ،فالنبوة بينه وبين ربه ،والرسالة بينه
وبين الخلق ،بل خصه ال من أنواع الوحي ،بأجل أنواعه وأفضلها ،وهو :تكليمه تعالى وتقريبه
مناجيا ل تعالى ،وبهذا اختص من بين النبياء ،بأنه كليم الرحمن ،ولهذا قال { :وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ
الطّورِ الْأَ ْيمَنِ } أي :اليمن من موسى في وقت.مسيره ،أو اليمن :أي :البرك من اليمن
حوَْلهَا } { َوقَرّبْنَاهُ نَجِيّا
والبركة .ويدل على هذا المعنى قوله تعالى { :أَنْ بُو ِركَ مَنْ فِي النّا ِر َومَنْ َ
} والفرق بين النداء والنجاء ،أن النداء هو الصوت الرفيع ،والنجاء ما دون ذلك ،وفي هذه إثبات
الكلم ل تعالى وأنواعه ،من النداء ،والنجاء ،كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ،خلفا لمن
أنكر ذلك ،من الجهمية ،والمعتزلة ،ومن نحا نحوهم.
حمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّا } هذا من أكبر فضائل موسى وإحسانه ،ونصحه
وقولهَ { :ووَهَبْنَا لَهُ مِنْ َر ْ
لخيه هارون ،أنه سأل ربه أن يشركه في أمره ،وأن يجعله رسول مثله ،فاستجاب ال له ذلك،
ووهب له من رحمته أخاه هارون نبيا .فنبوة هارون تابعة لنبوة موسى عليهما السلم ،فساعده
على أمره ،وأعانه عليه.
أي :واذكر في القرآن الكريم ،هذا النبي العظيم ،الذي خرج منه الشعب العربي ،أفضل الشعوب
وأجلها ،الذي منهم سيد ولد آدم.
ن صَا ِدقَ ا ْلوَعْدِ } أي :ل يعد وعدا إل وفى به .وهذا شامل للوعد الذي يعقده مع ال أو
{ إِنّهُ كَا َ
جدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ
مع العباد ،ولهذا لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه [له] وقال { :سَتَ ِ
الصّابِرِينَ } وفى بذلك ومكن أباه من الذبح ،الذي هو أكبر مصيبة تصيب النسان ،ثم وصفه
بالرسالة والنبوة ،التي [هي] أكبر منن ال على عبده ،وأهلها من الطبقة العليا من الخلق.
{ َوكَانَ يَ ْأمُرُ أَهَْلهُ بِالصّلَا ِة وَال ّزكَاةِ } أي :كان مقيما لمر ال على أهله ،فيأمرهم بالصلة
المتضمنة للخلص للمعبود ،وبالزكاة المتضمنة للحسان إلى العبيد ،فكمل نفسه ،وكمل غيره،
وخصوصا أخص الناس عنده وهم أهله ،لنهم أحق بدعوته من غيرهمَ { .وكَانَ عِنْدَ رَبّهِ
مَ ْرضِيّا } وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه واجتهاده فيما يرضيه ،ارتضاه ال وجعله من خواص
عباده وأوليائه المقربين ،فرضي ال عنه ،ورضي [هو] عن ربه.
أي :اذكر في الكتب على وجه التعظيم والجلل ،والوصف بصفات الكمال { .إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ
صِدّيقًا نَبِيّا } جمع ال له بين الصديقية ،الجامعة للتصديق التام ،والعلم الكامل ،واليقين الثابت،
والعمل الصالح ،وبين اصطفائه لوحيه ،واختياره لرسالته.
{ وَ َر َفعْنَاهُ َمكَانًا عَلِيّا } أي :رفع ال ذكره في العالمين ،ومنزلته بين المقربين ،فكان عالي الذكر،
عالي المنزلة.
ح َومِنْ ذُرّيّةِ
حمَلْنَا مَعَ نُو ٍ
{ { } 58أُولَ ِئكَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مِنَ النّبِيّينَ مِنْ ذُرّيّةِ آدَمَ َومِمّنْ َ
سجّدًا وَ ُبكِيّا }
حمَنِ خَرّوا ُ
ل َو ِممّنْ َهدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُ الرّ ْ
إِبْرَاهِي َم وَإِسْرَائِي َ
لما ذكر هؤلء النبياء المكرمين ،وخواص المرسلين ،وذكر فضائلهم ومراتبهم قال { :أُولَ ِئكَ
الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ } أي :أنعم ال عليهم نعمة ل تلحق ،ومنة ل تسبق ،من النبوة
والرسالة ،وهم الذين أمرنا أن ندعو ال أن يهدينا صراط الذين أنعمت عليهم ،وأن من أطاع ال،
حمَلْنَا مَعَ
كان { مَعَ الّذِينَ أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ } الية .وأن بعضهم { مِنْ ذُرّيّةِ آدَمَ َومِمّنْ َ
نُوحٍ } أي :من ذريته { َومِنْ ذُرّيّةِ إِبْرَاهِي َم وَإِسْرَائِيلَ } فهذه خير بيوت العالم ،اصطفاهم ال،
واختارهم ،واجتباهم .،وكان حالهم عند تلوة آيات الرحمن عليهم ،المتضمنة للخبار بالغيوب
وصفات علم الغيوب ،والخبار باليوم الخر ،والوعد والوعيد.
سجّدًا وَ ُبكِيّا } أي :خضعوا ليات ال ،وخشعوا لها ،وأثرت في قلوبهم من اليمان
{ خَرّوا ُ
والرغبة والرهبة ،ما أوجب لهم البكاء والنابة ،والسجود لربهم ،ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا
آيات ال خروا عليها صما وعميانا.
وفي إضافة اليات إلى اسمه { الرحمن } دللة على أن آياته ،من رحمته بعباده وإحسانه إليهم
حيث هداهم بها إلى الحق ،وبصرهم من العمى ،وأنقذهم من الضللة ،وعلمهم من الجهالة.
لما ذكر تعالى هؤلء النبياء المخلصون المتبعون لمراضي ربهم ،المنيبون إليه ،ذكر من أتى
بعدهم ،وبدلوا ما أمروا به ،وأنه خلف من بعدهم خلف ،رجعوا إلى الخلف والوراء ،فأضاعوا
الصلة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها ،فتهاونوا بها وضيعوها ،وإذا ضيعوا الصلة التي
هي عماد الدين ،وميزان اليمان والخلص لرب العالمين ،التي هي آكد العمال ،وأفضل
الخصال ،كانوا لما سواها من دينهم أضيع ،وله أرفض ،والسبب الداعي لذلك ،أنهم اتبعوا شهوات
أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها ،مقدمة لها على حقوق ال.،فنشأ من ذلك التضييع
لحقوقه ،والقبال على شهوات أنفسهم ،مهما لحت لهم ،حصلوها ،وعلى أي :وجه اتفقت
تناولوها.
سوْفَ يَ ْل َقوْنَ غَيّا } أي :عذابا مضاعفا شديدا ،ثم استثنى تعالى فقال { :إِلّا مَنْ تَابَ } عن
{ َف َ
الشرك والبدع والمعاصي ،فأقلع عنها وندم عليها ،وعزم عزما جازما أن ل يعاودها { ،وَآمَنَ }
ل صَالِحًا } وهو العمل الذي شرعه ال على
عمِ َ
بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر { ،وَ َ
ألسنة رسله ،إذا قصد به وجهه { ،فَأُولَ ِئكَ } الذي جمعوا بين التوبة واليمان ،والعمل الصالح،
{ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ } المشتملة على النعيم المقيم ،والعيش السليم ،وجوار الرب الكريم { ،وَلَا ُيظَْلمُونَ
شَيْئًا } من أعمالهم ،بل يجدونها كاملة ،موفرة أجورها ،مضاعفا عددها.
ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخلولها ،ليست كسائر الجنات ،وإنما هي جنات عدن ،أي :جنات
إقامة ،ل ظعن فيها ،ول حول ول زوال ،وذلك لسعتها ،وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور،
والبهجة والحبور.
حمَنُ } لن
حمَنُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ } أي :التي وعدها الرحمن ،أضافها إلى اسمه { الرّ ْ
{ الّتِي وَعَدَ الرّ ْ
فيها من الرحمة والحسان ،ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب [بشر] .وسماها
حمَةِ اللّهِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وأيضا ففي
ت وُجُو ُههُمْ َففِي رَ ْ
ض ْ
تعالى رحمته ،فقال { :وََأمّا الّذِينَ ابْ َي ّ
إضافتها إلى رحمته ،ما يدل على استمرار سرورها ،وأنها باقية ببقاء رحمته ،التي هي أثرها
وموجبها ،والعباد في هذه الية ،المراد :عباد إلهيته ،الذين عبدوه ،والتزموا شرائعه ،فصارت
حمَنِ } ونحوه ،بخلف عباده المماليك فقط ،الذين لم
العبودية وصفا لهم كقوله { :وَعِبَادُ الرّ ْ
يعبدوه ،فهؤلء وإن كانوا عبيدا لربوبيته ،لنه خلقهم ورزقهم ،ودبرهم ،فليسوا داخلين في عبيد
إلهيته العبودية الختيارية ،التي يمدح صاحبها ،وإنما عبوديتهم عبودية اضطرار ،ل مدح لهم
فيها.
س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا } أي :كلما لغيا ل فائدة فيه ،ول ما يؤثم ،فل يسمعون فيها شتما ،ول
{ لَا يَ ْ
سلَامًا } أي :إل القوال السالمة من كل عيب،
عيبا ،ول قول فيه معصية ل ،أو قول مكدرا { ،إِلّا َ
من ذكر ل ،وتحية ،وكلم سرور ،وبشارة ،ومطارحة الحاديث الحسنة بين الخوان ،وسماع
خطاب الرحمن ،والصوات الشجية ،من الحور والملئكة والولدان ،والنغمات المطربة ،واللفاظ
الرخيمة ،لن الدار ،دار السلم ،فليس فيها إل السلم التام في جميع الوجوه { .وََلهُمْ رِ ْز ُق ُهمْ فِيهَا
ُبكْ َرةً وَعَشِيّا } أي :أرزاقهم من المآكل والمشارب ،وأنواع اللذات ،مستمرة حيثما طلبوا ،وفي أي:
وقت رغبوا ،ومن تمامها ولذاتها وحسنها ،أن تكون في أوقات معلومة.
{ ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا } ليعظم وقعها ويتم نفعها ،فتلك الجنة التي وصفناها بما ذكر { الّتِي نُو ِرثُ مِنْ
عِبَادِنَا مَنْ كَانَ َتقِيّا } أي :نورثها المتقين ،ونجعلها منزلهم الدائم ،الذي ل يظعنون عنه ،ول
سمَاوَاتُ
ضهَا ال ّ
يبغون عنه حول ،كما قال تعالى { :وَسَارِعُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
وَالْأَ ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }
خ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ َذِلكَ َومَا كَانَ رَ ّبكَ
{ َ { } 65 - 64ومَا نَتَنَ ّزلُ إِلّا بَِأمْرِ رَ ّبكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا َومَا َ
سمِيّا }
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْ ُب ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ َهلْ َتعْلَمُ َلهُ َ
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
نَسِيّا * َربّ ال ّ
استبطأ النبي صلى ال عليه وسلم جبريل عليه السلم مرة في نزوله إليه فقال له " :لو تأتينا أكثر
مما تأتينا " -تشوقا إليه ،وتوحشا لفراقه ،وليطمئن قلبه بنزوله -فأنزل ال تعالى على لسان
جبريلَ { :ومَا نَتَنَ ّزلُ إِلّا بَِأمْرِ رَ ّبكَ } أي :ليس لنا من المر شيء ،إن أمرنا ،ابتدرنا أمره ،ولم
نعص له أمرا ،كما قال عنهم { :لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } فنحن عبيد
مأمورونَ { ،لهُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذَِلكَ } أي :له المور الماضية والمستقبلة
والحاضرة ،في الزمان والمكان ،فإذا تبين أن المر كله ل ،وأننا عبيد مدبرون ،فيبقى المر دائرا
بين " :هل تقتضيه الحكمة اللهية فينفذه؟ أم ل تقتضيه فيؤخره " ؟ ولهذا قالَ { :ومَا كَانَ رَ ّبكَ
ك َومَا قَلَى } بل لم يزل معتنيا
عكَ رَ ّب َ
نَسِيّا } أي :لم يكن لينساك ويهملك ،كما قال تعالى { :مَا وَدّ َ
بأمورك ،مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة ،وتدابيره الجميلة.
أي :فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ،فل يحزنك ذلك ول يهمك ،واعلم أن ال هو الذي أراد
ذلك ،لما له من الحكمة فيه.
المراد بالنسان هاهنا ،كل منكر للبعث ،مستبعد لوقوعه ،فيقول -مستفهما على وجه النفي والعناد
سوْفَ ُأخْرَجُ حَيّا } أي :كيف يعيدني ال حيا بعد الموت ،وبعد ما كنت
والكفر { -أَئِذَا مَا ِمتّ َل َ
رميما؟" هذا ل يكون ول يتصور ،وهذا بحسب عقله الفاسد ومقصده السيء ،وعناده لرسل ال
وكتبه ،فلو نظر أدنى نظر ،وتأمل أدنى تأمل ،لرأى استبعاده للبعث ،في غاية السخافة ،ولهذا ذكر
تعالى برهانا قاطعا ،ودليل واضحا ،يعرفه كل أحد على إمكان البعث فقالَ { :أوَلَا يَ ْذكُرُ الْإِ ْنسَانُ
ل وَلَمْ َيكُ شَيْئًا } أي :أو ل يلفت نظره ،ويستذكر حالته الولى ،وأن ال خلقه أول
خَلقْنَاهُ مِنْ قَ ْب ُ
أَنّا َ
مرة ،ولم يك شيئا ،فمن قدر على خلقه من العدم ،ولم يكن شيئا ،مذكورا ،أليس بقادر على إنشائه
خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ
بعد ما تمزق ،وجمعه بعد ما تفرق؟ وهذا كقوله { :وَ ُهوَ الّذِي يَ ْبدَأُ الْ َ
}
وفي قولهَ { :أوَلَا يَ ْذكُرُ الْإِ ْنسَانُ } دعوة للنظر ،بالدليل العقلي ،بألطف خطاب ،وأن إنكار من أنكر
ذلك ،مبني على غفلة منه عن حاله الولى ،وإل فلو تذكرها وأحضرها في ذهنه ،لم ينكر ذلك.
أقسم ال تعالى وهو أصدق القائلين -بربوبيته ،ليحشرن هؤلء المنكرين للبعث ،هم وشياطينهم
جهَنّمَ جِثِيّا } أي :جاثين على ركبهم من شدة
ح ْولَ َ
حضِرَ ّنهُمْ َ
فيجمعهم لميقات يوم معلومُ { ،ثمّ لَنُ ْ
الهوال ،وكثرة الزلزال ،وفظاعة الحوال ،منتظرين لحكم الكبير المتعال ،ولهذا ذكر حكمه فيهم
حمَنِ عِتِيّا } أي :ثم لننزعن من كل طائفة
شدّ عَلَى الرّ ْ
فقالُ { :ثمّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ ُكلّ شِيعَةٍ أَ ّيهُمْ أَ َ
وفرقة من الظالمين المشتركين في الظلم والكفر والعتو أشدهم عتوا ،وأعظمهم ظلما ،وأكبرهم
كفرا ،فيقدمهم إلى العذاب ،ثم هكذا يقدم إلى العذاب ،الغلظ إثما ،فالغلظ وهم في تلك الحال
ضعْفًا
متلعنون ،يلعن بعضهم بعضا ،ويقول أخراهم لولهم { :رَبّنَا َهؤُلَاءِ َأضَلّونَا فَآ ِتهِمْ عَذَابًا ِ
ضلٍ }
ف وََلكِنْ لَا َتعَْلمُونَ* َوقَاَلتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ َفمَا كَانَ َلكُمْ عَلَيْنَا مِنْ َف ْ
ضعْ ٌ
ل ِ
مِنَ النّارِ قَالَ ِل ُك ّ
وكل هذا تابع لعدله وحكمته وعلمه الواسع ،ولهذا قال { :ثُمّ لَ َنحْنُ أَعَْلمُ بِالّذِينَ هُمْ َأوْلَى ِبهَا صِلِيّا }
أي :علمنا محيط بمن هو أولى صليا بالنار ،قد علمناهم ،وعلمنا أعمالهم واستحقاقها وقسطها من
العذاب.
{ { } 72 - 71وَإِنْ مِ ْنكُمْ إِلّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَ ّبكَ حَ ْتمًا َم ْقضِيّا * ثُمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَوْا وَنَذَرُ
الظّاِلمِينَ فِيهَا جِثِيّا }
وهذا خطاب لسائر الخلئق ،برهم وفاجرهم ،مؤمنهم وكافرهم ،أنه ما منهم من أحد ،إل سيرد
النار ،حكما حتمه ال على نفسه ،وأوعد به عباده ،فل بد من نفوذه ،ول محيد عن وقوعه.
واختلف في معنى الورود ،فقيل :ورودها ،حضورها للخلئق كلهم ،حتى يحصل النزعاج من
كل أحد ،ثم بعد ،ينجي ال المتقين .وقيل :ورودها ،دخولها ،فتكون على المؤمنين بردا وسلما.
وقيل :الورود ،هو المرور على الصراط ،الذي هو على متن جهنم ،فيمر الناس على قدر
أعمالهم ،فمنهم من يمر كلمح البصر ،وكالريح ،وكأجاويد الخيل ،وكأجاويد الركاب ،ومنهم من
يسعى ،ومنهم من يمشي مشيا ،ومنهم من يزحف زحفا ،ومنهم من يخطف فيلقى في النار ،كل
بحسب تقواه ،ولهذا قالُ { :ثمّ نُنَجّي الّذِينَ ا ّت َقوْا } ال تعالى بفعل المأمور ،واجتناب المحظور
{ وَنَذَرُ الظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِيهَا جِثِيّا } وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم ،وجب لهم
الخلود ،وحق عليهم العذاب ،وتقطعت بهم السباب.
{ { } 74 - 73وَإِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا َأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ َمقَامًا
وَأَحْسَنُ َندِيّا * َوكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ ُهمْ َأحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا }
أي :وإذا تتلى على هؤلء الكفار آياتنا بينات ،أي :واضحات الدللة على وحدانية ال وصدق
رسله ،توجب لمن سمعها صدق اليمان وشدة اليقان ،قابلوها بضد ما يجب لها ،واستهزءوا بها
وبمن آمن بها ،واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا ،على أنهم خير من المؤمنين ،فقالوا معارضين
للحقَ { :أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ } أي :نحن والمؤمنون { خَيْرٌ َمقَامًا } أي :في الدنيا ،من كثرة الموال
والولد ،وتوفر الشهوات { وَأَحْسَنُ نَدِيّا } أي مجلسا .أي :فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة،
أنهم أكثر مال وأولدا ،وقد حصلت لهم أكثر مطالبهم من الدنيا ،ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة
مزوقة.
والمؤمنون بخلف هذه الحال ،فهم خير من المؤمنين ،وهذا دليل في غاية الفساد ،وهو من باب
قلب الحقائق ،وإل فكثرة الموال والولد ،وحسن المنظر ،كثيرا ما يكون سببا لهلك صاحبه،
حسَنُ أَثَاثًا } أي :متاعا ،من
وشقائه ،وشره ،ولهذا قال تعالىَ { :وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَ ْ
أوان وفرش ،وبيوت ،وزخارف ،وأحسن رئيا ،أي :أحسن مرأى ومنظرا ،من غضارة العيش،
وسرور اللذات ،وحسن الصور ،فإذا كان هؤلء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا ،ولم يمنعهم ذلك
من حلول العقاب بهم ،فكيف يكون هؤلء ،وهم أقل منهم وأذل ،معتصمين من العذاب { َأ ُكفّا ُركُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولَ ِئكُمْ أَمْ َل ُكمْ بَرَا َءةٌ فِي الزّبُرِ } ؟ وعلم من هذا ،أن الستدلل على خير الخرة بخير
الدنيا من أفسد الدلة ،وأنه من طرق الكفار.
لما ذكر دليلهم الباطل ،الدال على شدة عنادهم ،وقوة ضللهم ،أخبر هنا ،أن من كان في
الضللة ،بأن رضيها لنفسه ،وسعى فيها ،فإن ال يمده منها ،ويزيده فيها حبا ،عقوبة له على
اختيارها على الهدى ،قال تعالى { :فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } { وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }
لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ
{ { } 76وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَ َدوْا ُهدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِ ْندَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدّا }
لما ذكر أنه يمد للظالمين في ضللهم ،ذكر أنه يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته،
والهدى يشمل العلم النافع ،والعمل الصالح .فكل من سلك طريقا في العلم واليمان والعمل الصالح
زاده ال منه ،وسهله عليه ويسره له ،ووهب له أمورا أخر ،ل تدخل تحت كسبه ،وفي هذا دليل
على زيادة اليمان ونقصه ،كما قاله السلف الصالح ،ويدل عليه قوله تعالى { وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا
إِيمَانًا } { وَإِذَا تُلِ َيتْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتُهُ زَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا }
ويدل عليه أيضا الواقع ،فإن اليمان قول القلب واللسان ،وعمل القلب واللسان والجوارح،
والمؤمنون متفاوتون في هذه المور ،أعظم تفاوت ،ثم قال { :وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ } أي :العمال
الباقية ،التي ل تنقطع إذا انقطع غيرها ،ول تضمحل ،هي الصالحات منها ،من صلة ،وزكاة،
وصوم ،وحج ،وعمرة ،وقراءة ،وتسبيح ،وتكبير ،وتحميد ،وتهليل ،وإحسان إلى المخلوقين،
وأعمال قلبية وبدنية .فهذه العمال { خَيْرٌ عِنْدَ رَ ّبكَ َثوَابًا َوخَيْر مَرَدّا } أي :خير عند ال ،ثوابها
وأجرها ،وكثير للعاملين نفعها وردها ،وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه ،فإنه ما
ثم غير الباقيات الصالحات ،عمل ينفع ،ول يبقى لصاحبه ثوابه ول ينجع ،ومناسبة ذكر الباقيات
الصالحات-وال أعلم -أنه لما ذكر أن الظالمين جعلوا أحوال الدنيا من المال والولد ،وحسن
المقام ونحو ذلك ،علمة لحسن حال صاحبها ،أخبر هنا أن المر ،ليس كما زعموا ،بل العمل
الذي هو عنوان السعادة ومنشور الفلح ،هو العمل بما يحبه ال ويرضاه.
{ َ { } 82 - 77أفَرَأَ ْيتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا َوقَالَ لَأُوتَيَنّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطّلَعَ ا ْلغَ ْيبَ أَمِ اتّخَذَ عِنْدَ
ل وَيَأْتِينَا فَرْدًا *
ل وَ َنمُدّ َلهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ مَدّا * وَنَرِثُهُ مَا َيقُو ُ
ع ْهدًا * كَلّا سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُو ُ
حمَنِ َ
الرّ ْ
وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آِلهَةً لِ َيكُونُوا َلهُمْ عِزّا * كَلّا سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِت ِه ْم وَ َيكُونُونَ عَلَ ْيهِ ْم ضِدّا }
أي :أفل تتعجب من حالة هذا الكافر ،الذي جمع بين كفره بآيات ال ودعواه الكبيرة ،أنه سيؤتى
في الخرة مال وولدا ،أي :يكون من أهل الجنة ،هذا من أعجب المور ،فلو كان مؤمنا بال
وادعى هذه الدعوى ،لسهل المر.
وهذه الية -وإن كانت نازلة في كافر معين -فإنها تشمل كل كافر ،زعم أنه على الحق ،وأنه من
أهل الجنة ،قال ال ،توبيخا له وتكذيباَ { :أطّلَعَ ا ْلغَ ْيبَ } أي :أحاط علمه بالغيب ،حتى علم ما
ع ْهدًا } أنه
حمَنِ َ
يكون ،وأن من جملة ما يكون ،أنه يؤتى يوم القيامة مال وولدا؟ { َأمِ اتّخَذَ عِ ْندَ الرّ ْ
نائل ما قاله ،أي :لم يكن شيء من ذلك ،فعلم أنه متقول ،قائل ما ل علم له به .وهذا التقسيم
والترديد ،في غاية ما يكون من اللزام وإقامة الحجة؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند ال
في الخرة ،ل يخلو :إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة ،وقد علم أن هذا ل
وحده ،فل أحد يعلم شيئا من المستقبلت الغيبية ،إل من أطلعه ال عليه من رسله.
وإما أن يكون متخذا عهدا عند ال ،باليمان به ،واتباع رسله ،الذين عهد ال لهله ،وأوزع أنهم
أهل الخرة ،والناجون الفائزون .فإذا انتفى هذان المران ،علم بذلك بطلن الدعوى ،ولهذا قال
تعالى { :كَلّا } أي :ليس المر كما زعم ،فليس للقائل اطلع على الغيب ،لنه كافر ،ليس عنده
من علم الرسائل شيء ،ول اتخذ عند الرحمن عهدا ،لكفره وعدم إيمانه ،ولكنه يستحق ضد ما
تقوله ،وأن قوله مكتوب ،محفوظ ،ليجازى عليه ويعاقب ،ولهذا قال { :سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُولُ وَ َنمُدّ َلهُ
مِنَ ا ْلعَذَابِ مَدّا } أي :نزيده من أنواع العقوبات ،كما ازداد من الغي والضلل.
{ وَنَرِثُهُ مَا َيقُولُ } أي :نرثه ماله وولده ،فينتقل من الدنيا فردا ،بل مال ول أهل ول أنصار ول
أعوان { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } فيرى من وخيم العذاب وأليم العقاب ،ما هو جزاء أمثاله من الظالمين.
جلْ عَلَ ْي ِهمْ إِ ّنمَا َنعُدّ
{ { } 84 - 83أََلمْ تَرَ أَنّا أَ ْرسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّهُمْ أَزّا * فَلَا َتعْ َ
عدّا }
َلهُمْ َ
وهذا من عقوبة الكافرين أنهم -لما لم يعتصموا بال ،ولم يتمسكوا بحبل ال ،بل أشركوا به ووالوا
أعداءه ،من الشياطين -سلطهم عليهم ،وقيضهم لهم ،فجعلت الشياطين تؤزهم إلى المعاصي أزا،
وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا ،فيوسوسون لهم ،ويوحون إليهم ،ويزينون لهم الباطل ،ويقبحون لهم
الحق ،فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشربها ،فيسعى فيه سعي المحق في حقه ،فينصره بجهده
ويحارب عنه ،ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل ،وهذا كله ،جزاء له على توليه من وليه وتوليه
لعدوه ،جعل له عليه سلطان ،وإل فلو آمن بال ،وتوكل عليه ،لم يكن له عليه سلطان ،كما قال
تعالى:
عدّا } أي أن لهم
جلْ عَلَ ْيهِمْ } أي :على هؤلء الكفار المستعجلين بالعذاب { إِ ّنمَا َن ُعدّ َلهُمْ َ
{ فَلَا َت ْع َ
أياما معدودة ل يتقدمون عنها ول يتأخرون ،نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر ال ،فإذا لم
ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتدر.
يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين المتقين ،والمجرمين ،وأن المتقين له -باتقاء الشرك والبدع
والمعاصي -يحشرهم إلى موقف القيامة مكرمين ،مبجلين معظمين ،وأن مآلهم الرحمن ،وقصدهم
المنان ،وفودا إليه ،والوافد لبد أن يكون في قلبه من الرجاء ،وحسن الظن بالوافد [إليه] ما هو
معلوم ،فالمتقون يفدون إلى الرحمن ،راجين منه رحمته وعميم إحسانه ،والفوز بعطاياه في دار
رضوانه ،وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه ،واتباع مراضيه ،وأن ال عهد إليهم بذلك الثواب
على ألسنة رسله فتوجهوا إلى ربهم مطمئنين به ،واثقين بفضله.
وأما المجرمون ،فإنهم يساقون إلى جهنم وردا ،أي :عطاشا ،وهذا أبشع ما يكون من الحالت،
سوقهم على وجه الذل والصغار إلى أعظم سجن وأفظع عقوبة ،وهو جهنم ،في حال ظمئهم
ونصبهم يستغيثون فل يغاثون ،ويدعون فل يستجاب لهم ،ويستشفعون فل يشفع لهم ،ولهذا قال{ :
شفَاعَةَ } أي :ليست الشفاعة ملكهم ،ول لهم منها شيء ،وإنما هي ل تعالى { ُقلْ لِلّهِ
لَا َيمِْلكُونَ ال ّ
جمِيعًا } وقد أخبر أنه ل تنفعهم شفاعة الشافعين ،لنهم لم يتخذوا عنده عهدا باليمان به
شفَاعَةُ َ
ال ّ
وبرسله ،وإل فمن اتخذ عنده عهدا فآمن به وبرسله واتبعهم ،فإنه ممن ارتضاه ال ،وتحصل له
ش َفعُونَ إِلّا ِلمَنِ ارْ َتضَى } وسمى ال اليمان به واتباع رسله عهدا،
الشفاعة كما قال تعالى { :وَلَا يَ ْ
لنه عهد في كتبه وعلى ألسنة رسله ،بالجزاء الجميل لمن اتبعهم.
وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين ،الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا ،كقول
النصارى :المسيح ابن ال ،واليهود :عزير ابن ال ،والمشركين :الملئكة بنات ال ،تعالى ال عن
قولهم علوا كبيرا.
سمَاوَاتُ } على عظمتها وصلبتها { يَ َتفَطّرْنَ مِنْهُ } أي :من هذا القول
من عظيم أمره أنه { َتكَادُ ال ّ
شقّ الْأَ ْرضُ } منه ،أي :تتصدع وتنفطر { وَتَخِرّ ا ْلجِبَالُ هَدّا } أي :تندك الجبال.
{ وَتَنْ َ
حمَنِ } أي :من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات ،أن يكون منها ما
عوْا لِلرّ ْ
{ أَنْ دَ َ
حمَنِ أَنْ يَتّخِ َذ وَلَدًا } وذلك لن اتخاذه
ذكر .والحال أنه { :مَا يَنْ َبغِي } أي :ل يليق ول يكون { لِلرّ ْ
الولد ،يدل على نقصه واحتياجه ،وهو الغني الحميد .والولد أيضا ،من جنس والده ،وال تعالى ل
شبيه له ول مثل ول سمي.
حصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّا } أي :لقد أحاط علمه بالخلئق كلهم ،أهل السماوات والرض،
{ َلقَدْ أَ ْ
وأحصاهم وأحصى أعمالهم ،فل يضل ول ينسى ،ول تخفى عليه خافية.
{ َوكُّلهُمْ آتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فَ ْردًا } أي :ل أولد ،ول مال ،ول أنصار ،ليس معه إل عمله ،فيجازيه
ال ويوفيه حسابه ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر ،كما قال تعالى { :وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَى َكمَا
خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ }
ن وُدّا }
حمَ ُ
ج َعلُ َلهُمُ الرّ ْ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ سَيَ ْ
{ { } 96إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
هذا من نعمه على عباده ،الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح ،أن وعدهم أنه يجعل لهم ودا،
أي :محبة وودادا في قلوب أوليائه ،وأهل السماء والرض ،وإذا كان لهم في القلوب ود تيسر لهم
كثير من أمورهم وحصل لهم من الخيرات والدعوات والرشاد والقبول والمامة ما حصل ،ولهذا
ورد في الحديث الصحيح " :إن ال إذا أحب عبدا ،نادى جبريل :إني أحب فلنا فأحبه ،فيحبه
جبريل ،ثم ينادي في أهل السماء :إن ال يحب فلنا فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ،ثم يوضع له
القبول في الرض " وإنما جعل ال لهم ودا،لنهم ودوه ،فوددهم إلى أوليائه وأحبابه.
{ { } 98 - 97فَإِ ّنمَا يَسّرْنَاهُ بِِلسَا ِنكَ لِتُبَشّرَ ِبهِ ا ْلمُ ّتقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ َق ْومًا لُدّا * َوكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مِنْ
سمَعُ َلهُمْ ِركْزًا }
حسّ مِ ْنهُمْ مِنْ َأحَدٍ َأوْ تَ ْ
قَرْنٍ َهلْ تُ ِ
يخبر تعالى عن نعمته تعالى ،وأن ال يسر هذا القرآن الكريم بلسان الرسول محمد صلى ال عليه
وسلم ،يسر ألفاظه ومعانيه ،ليحصل المقصود منه والنتفاع به { ،لِتُبَشّرَ ِبهِ ا ْلمُ ّتقِينَ } بالترغيب
في المبشر به من الثواب العاجل والجل ،وذكر السباب الموجبة للبشارة { ،وَتُنْذِرَ بِهِ َقوْمًا ُلدّا }
أي :شديدين في باطلهم ،أقوياء في كفرهم ،فتنذرهم .فتقوم عليهم الحجة ،وتتبين لهم المحجة،
فيهلك من هلك عن بينة ،ويحيا من حي عن بينة .ثم توعدهم بإهلك المكذبين قبلهم ،فقالَ { :وكَمْ
أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ } من قوم نوح ،وعاد ،وثمود ،وفرعون ،وغيرهم من المعاندين المكذبين،
لما استمروا في ظغيانهم ،أهلكهم ال فليس لهم من باقية.
سمَعُ َلهُمْ ِركْزًا } والركز :الصوت الخفي ،أي :لم يبق منهم عين
{ َهلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مِنْ أَحَدٍ َأوْ تَ ْ
ول أثر ،بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين ،وأسمارهم عظة للمتعظين.
{ طه } من جملة الحروف المقطعة ،المفتتح بها كثير من السور ،وليست اسما للنبي صلى ال
عليه وسلم.
{ إِلّا تَ ْذكِ َرةً ِلمَنْ َيخْشَى } إل ليتذكر به من يخشى ال تعالى ،فيتذكر ما فيه من الترغيب إلى أجل
المطالب ،فيعمل بذلك ،ومن الترهيب عن الشقاء والخسران ،فيرهب منه ،ويتذكر به الحكام
الحسنة الشرعية المفصلة ،التي كان مستقرا في عقله حسنها مجمل ،فوافق التفصيل ما يجده في
فطرته وعقله ،ولهذا سماه ال { َت ْذكِ َرةً } والتذكرة لشيء كان موجودا ،إل أن صاحبه غافل عنه،
أو غير مستحضر لتفصيله ،وخص بالتذكرة { مَن َيخْشَى } لن غيره ل ينتفع به ،وكيف ينتفع به
من لم يؤمن بجنة ول نار ،ول في قلبه من خشية ال مثقال ذرة؟ هذا ما ل يكون { ،سَ َي ّذكّرُ مَنْ
شقَى* الّذِي َيصْلَى النّارَ ا ْلكُبْرَى } ثم ذكر جللة هذا القرآن العظيم ،وأنه
خشَى* وَيَتَجَنّ ُبهَا الْأَ ْ
يَ ْ
تنزيل خالق الرض والسماوات ،المدبر لجميع المخلوقات ،أي :فاقبلوا تنزيله بغاية الذعان
والمحبة والتسليم ،وعظموه نهاية التعظيم.
وكثيرا ما يقرن بين الخلق والمر ،كما في هذه الية ،وكما في قوله { :أَلَا لَهُ ا ْلخَلْقُ وَالَْأمْرُ } وفي
سمَاوَاتٍ َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ } وذلك أنه الخالق
قوله { :اللّهُ الّذِي خََلقَ سَبْعَ َ
المر الناهي ،فكما أنه ل خالق سواه ،فليس على الخلق إلزام ول أمر ول نهي إل من خالقهم،
وأيضا فإن خلقه للخلق فيه التدبير القدري الكوني ،وأمره فيه التدبير الشرعي الديني ،فكما أن
الخلق ل يخرج عن الحكمة ،فلم يخلق شيئا عبثا ،فكذلك ل يأمر ول ينهى إل بما هو عدل وحكمة
وإحسان .فلما بين أنه الخالق المدبر ،المر الناهي ،أخبر عن عظمته وكبريائه ،فقال:
حمَنُ عَلَى ا ْلعَرْشِ } الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها { ،اسْ َتوَى } استواء يليق
{ الرّ ْ
بجلله ،ويناسب عظمته وجماله ،فاستوى على العرش ،واحتوى على الملك.
فلما قرر كماله المطلق ،بعموم خلقه ،وعموم أمره ونهيه ،وعموم رحمته ،وسعة عظمته ،وعلوه
على عرشه ،وعموم ملكه ،وعموم علمه ،نتج من ذلك ،أنه المستحق للعبادة ،وأن عبادته هي
الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة ،وعبادة غيره باطلة ،فقال:
{ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } أي :ل معبود بحق ،ول مألوه بالحب والذل ،والخوف والرجاء ،والمحبة
والنابة والدعاء ،وإل هو.
حسْنَى } أي :له السماء الكثيرة الكاملة الحسنى ،من حسنها أنها كلها أسماء دالة
سمَاءُ الْ ُ
{ َلهُ الْأَ ْ
على المدح ،فليس فيها اسم ل يدل على المدح والحمد ،ومن حسنها أنها ليست أعلما محضة،
وإنما هي أسماء وأوصاف ،ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة ،وأن له من كل صفة
أكملها وأعمها وأجلها ،ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها ،لنها وسيلة مقربة إليه يحبها،
ويحب من يحبها ،ويحب من يحفظها ،ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها ،قال تعالى:
سمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا }
{ وَلِلّهِ الْأَ ْ
ستُ } أي :أبصرت { نَارًا } وكان ذلك في جانب الطور اليمنَ { ،لعَلّي
{ َفقَالَ لِأَهْلِهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آ َن ْ
آتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبقَبَسٍ } تصطلون به { َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى } أي :من يهديني الطريق .وكان مطلبه،
النور الحسي والهداية الحسية ،فوجد ثم النور المعنوي ،نور الوحي ،الذي تستنير به الرواح
والقلوب ،والهداية الحقيقية ،هداية الصراط المستقيم ،الموصلة إلى جنات النعيم ،فحصل له أمر لم
يكن في حسابه ،ول خطر بباله.
{ فََلمّا أَتَاهَا } أي :النار التي آنسها من بعيد ،وكانت -في الحقيقة -نورا ،وهي نار تحرق
وتشرق ،ويدل على ذلك قوله صلى ال عليه وسلم " :حجابه النور أو النار ،لو كشفه لحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره " فلما وصل إليها نودي منها ،أي :ناداه ال ،كما قال:
ن َوقَرّبْنَاهُ َنجِيّا }
{ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ الْأَ ْيمَ ِ
{ وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ } أي :تخيرتك واصطفيتك من الناس ،وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم ال بها عليه،
تقتضي من الشكر ما يليق بها ،ولهذا قال { :فَاسْ َتمِعْ ِلمَا يُوحَى } أي :ألق سمعك للذي أوحي
إليك ،فإنه حقيق بذلك ،لنه أصل الدين ومبدأه ،وعماد الدعوة السلمية ،ثم بين الذي يوحيه إليه
بقوله { :إِنّنِي أَنَا اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا } أي :ال المستحق اللوهية المتصف بها ،لنه الكامل في
أسمائه وصفاته ،المنفرد بأفعاله ،الذي ل شريك له ول مثيل ول كفو ول سمي { ،فَاعْبُدْنِي }
بجميع أنواع العبادة ،ظاهرها وباطنها ،أصولها وفروعها ،ثم خص الصلة بالذكر وإن كانت
داخلة في العبادة ،لفضلها وشرفها ،وتضمنها عبودية القلب واللسان والجوارح.
وقوله { :لِ ِذكْرِي } اللم للتعليل أي :أقم الصلة لجل ذكرك إياي ،لن ذكره تعالى أجل المقاصد،
وهو عبودية القلب ،وبه سعادته ،فالقلب المعطل عن ذكر ال ،معطل عن كل خير ،وقد خرب كل
الخراب ،فشرع ال للعباد أنواع العبادات ،التي المقصود منها إقامة ذكره ،وخصوصا الصلة.
حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ
ب وََأقِمِ الصّلَاةَ إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ
حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
قال ال تعالى { :ا ْتلُ مَا أُو ِ
وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ } أي :ما فيها من ذكر ال أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر ،وهذا النوع يقال
له توحيد اللوهية ،وتوحيد العبادة ،فاللوهية وصفه تعالى ،والعبودية وصف عبده.
{ { } 16فَلَا َيصُدّ ّنكَ عَ ْنهَا مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ ِبهَا وَاتّبَعَ َهوَاهُ فَتَرْدَى }
أي :فل يصدك ويشغلك عن اليمان بالساعة ،والجزاء ،والعمل لذلك ،من كان كافرا بها ،غير
معتقد لوقوعها.
يسعى في الشك فيها والتشكيك ،ويجادل فيها بالباطل ،ويقيم من الشبه ما يقدر عليه ،متبعا في ذلك
هواه ،ليس قصده الوصول إلى الحق ،وإنما قصاراه اتباع هواه ،فإياك أن تصغي إلى من هذه
حاله ،أو تقبل شيئا من أقواله وأعماله الصادرة عن اليمان بها والسعي لها سعيها ،وإنما حذر ال
تعالى عمن هذه حاله لنه من أخوف ما يكون على المؤمن بوسوسته وتدجيله وكون النفوس
مجبولة على التشبه ،والقتداء بأبناء الجنس ،وفي هذا تنبيه وإشارة إلى التحذير عن كل داع إلى
باطل ،يصد عن اليمان الواجب ،أو عن كماله ،أو يوقع الشبهة في القلب ،وعن النظر في الكتب
المشتملة على ذلك ،وذكر في هذا اليمان به ،وعبادته ،واليمان باليوم الخر ،لن هذه المور
الثلثة أصول اليمان ،وركن الدين ،وإذا تمت تم أمر الدين ،ونقصه أو فقده بنقصها ،أو نقص
شيء منها .وهذه نظير قوله تعالى في الخبار عن ميزان سعادة الفرق ،الذين أوتوا
الكتاب وشقاوتهم { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئون وَال ّنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ
علَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ }
خ ْوفٌ َ
ل صَالِحًا فَلَا َ
عمِ َ
الْآخِرِ وَ َ
وقوله { :فَتَرْدَى } أي :تهلك وتشقى ،إن اتبعت طريق من يصد عنها ،وقوله تعالى:
لما بين ال لموسى أصل اليمان ،أراد أن يبين له ويريه من آياته ما يطمئن به قلبه ،وتقر به
عينه ،ويقوي إيمانه ،بتأييد ال له على عدوه فقالَ { :ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يَا مُوسَى } هذا ،مع علمه
تعالى ،ولكن لزيادة الهتمام في هذا الموضع ،أخرج الكلم بطريق الستفهام ،فقال موسى:
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَى غَ َنمِي } ذكر فيها هاتين المنفعتين ،منفعة لجنس
{ ِهيَ َ
الدمي ،وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه ،فيحصل فيها معونة .ومنفعة للبهائم ،وهو أنه كان
يرعى الغنم ،فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه ،هش بها ،أي :ضرب الشجر ،ليتساقط ورقه،
فيرعاه الغنم.
هذا الخلق الحسن من موسى عليه السلم ،الذي من آثاره ،حسن رعاية الحيوان البهيم ،والحسان
إليه دل على عناية من ال له واصطفاء ،وتخصيص تقتضيه رحمة ال وحكمته.
{ وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ } أي :مقاصد { ُأخْرَى } غير هذين المرين .ومن أدب موسى عليه السلم ،أن
ال لما سأله عما في يمينه ،وكان السؤال محتمل عن السؤال عن عينها ،أو منفعتها أجابه بعينها،
سعَى }
ومنفعتها فقال ال له { :أَ ْل ِقهَا يَا مُوسَى* فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ
انقلبت بإذن ال ثعبانا عظيما ،فولى موسى هاربا خائفا ،ولم يعقب ،وفي وصفها بأنها تسعى،
إزالة لوهم يمكن وجوده ،وهو أن يظن أنها تخييل ل حقيقة ،فكونها تسعى يزيل هذا الوهم.
خفْ } أي :ليس عليك منها بأس { .سَ ُنعِيدُهَا سِيرَ َتهَا الْأُولَى } أي:
فقال ال لموسى { :خُذْهَا وَلَا تَ َ
هيئتها وصفتها ،إذ كانت عصا ،فامتثل موسى أمر ال إيمانا به وتسليما ،فأخذها ،فعادت عصاه
التي كان يعرفها هذه -آية ،ثم ذكر الية الخرى فقال:
حكَ } أي :أدخل يدك في جيبك ،وضم عليك عضدك ،الذي هو جناح
ضمُمْ َي َدكَ إِلَى جَنَا ِ
{ وَا ْ
النسان { َتخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي :بياضا ساطعا ،من غير عيب ول برص { آ َيةً أُخْرَى
}
سقِينَ }
عوْنَ َومَلَئِهِ إِ ّن ُهمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
قال ال { :فَذَا ِنكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَ ّبكَ إِلَى فِرْ َ
{ لِنُرِ َيكَ مِنْ آيَاتِنَا ا ْلكُبْرَى } أي :فعلنا ما ذكرنا ،من انقلب العصا حية تسعى ،ومن خروج اليد
بيضاء للناظرين ،لجل أن نريك من آياتنا الكبرى ،الدالة على صحة رسالتك وحقيقة ما جئت به،
فيطمئن قلبك ويزداد علمك ،وتثق بوعد ال لك بالحفظ والنصرة ،ولتكون حجة وبرهانا لمن
أرسلت إليهم.
لما أوحى ال إلى موسى ،ونبأه ،وأراه اليات الباهرات ،أرسله إلى فرعون ،ملك مصر ،فقال:
طغَى } أي :تمرد وزاد على الحد في الكفر والفساد والعلو في الرض،
عوْنَ إِنّهُ َ
{ اذْ َهبْ إِلَى فِرْ َ
والقهر للضعفاء ،حتى إنه ادعى الربوبية واللوهية -قبحه ال -أي :وطغيانه سبب لهلكه ،ولكن
من رحمة ال وحكمته وعدله ،أنه ل يعذب أحدا ،إل بعد قيام الحجة بالرسل ،فحينئذ علم موسى
عليه السلم أنه تحمل حمل عظيما ،حيث أرسل إلى هذا الجبار العنيد ،الذي ليس له منازع في
مصر من الخلق ،وموسى عليه السلم ،وحده ،وقد جرى منه ما جرى من القتل ،فامتثل أمر ربه،
وتلقاه بالنشراح والقبول ،وسأله المعونة وتيسير السباب ،التي [هي] من تمام الدعوة ،فقال:
{ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } أي :وسعه وأفسحه ،لتحمل الذى القولي والفعلي ،ول يتكدر قلبي
بذلك ،ول يضيق صدري ،فإن الصدر إذا ضاق ،لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم.
حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َلهُ ْم وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا غَلِيظَ ا ْلقَ ْلبِ
قال ال لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :فَ ِبمَا َر ْ
حوِْلكَ } وعسى الخلق يقبلون الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم.
لَا ْن َفضّوا مِنْ َ
{ وَيَسّرْ لِي َأمْرِي } أي :سهل علي كل أمر أسلكه وكل طريق أقصده في سبيلك ،وهون علي ما
أمامي من الشدائد ،ومن تيسير المر أن ييسر للداعي أن يأتي جميع المور من أبوابها ،ويخاطب
كل أحد بما يناسب له ،ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله.
عقْ َدةً مِنْ لِسَانِي* َيفْ َقهُوا َقوْلِي } وكان في لسانه ثقل ل يكاد يفهم عنه الكلم ،كما قال
{ وَاحُْللْ ُ
المفسرون ،كما قال ال عنه أنه قال { :وََأخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي لِسَانًا } فسأل ال أن يحل
منه عقدة ،يفقهوا ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة والمراجعة والبيان عن المعاني.
ج َعلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي } أي :معينا يعاونني ،ويؤازرني ،ويساعدني على من أرسلت إليهم،
{ وَا ْ
وسأل أن يكون من أهله ،لنه من باب البر ،وأحق ببر النسان قرابته ،ثم عينه بسؤاله فقال:
عضُ َدكَ بَِأخِيكَ
شدّ َ
شدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي :قوني به ،وشد به ظهري ،قال ال { :سَنَ ُ
{ هَارُونَ َأخِي* ا ْ
ج َعلُ َل ُكمَا سُلْطَانًا }
وَنَ ْ
{ وَأَشْ ِر ْكهُ فِي َأمْرِي } أي :في النبوة ،بأن تجعله نبيا رسول ،كما جعلتني.
حكَ كَثِيرًا* وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرًا } علم عليه الصلة والسلم ،أن
ثم ذكر الفائدة في ذلك فقالَ { :كيْ ُنسَبّ َ
مدار العبادات كلها والدين ،على ذكر ال ،فسأل ال أن يجعل أخاه معه ،يتساعدان ويتعاونان على
البر والتقوى ،فيكثر منهما ذكر ال من التسبيح والتهليل ،وغيره من أنواع العبادات.
{ إِ ّنكَ كُ ْنتَ بِنَا َبصِيرًا } تعلم حالنا وضعفنا وعجزنا وافتقارنا إليك في كل المور ،وأنت أبصر بنا
من أنفسنا وأرحم ،فمن علينا بما سألناك ،وأجب لنا فيما دعوناك.
سؤَْلكَ يَا مُوسَى } أي :أعطيت جميع ما طلبت ،فسنشرح صدرك ،ونيسر
فقال الَ { :قدْ أُوتِيتَ ُ
أمرك ،ونحل عقدة من لسانك ،يفقهوا قولك ،ونشد عضدك بأخيك هارون { ،ونجعل لكما سلطانا
فل يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون }
وهذا السؤال من موسى عليه السلم ،يدل على كمال معرفته بال ،وكمال فطنته ومعرفته للمور،
وكمال نصحه ،وذلك أن الداعي إلى ال ،المرشد للخلق ،خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد
والتكبر والطغيان يحتاج إلى سعة صدر ،وحلم تام ،على ما يصيبه من الذى ،ولسان فصيح،
يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده ،بل الفصاحة والبلغة لصاحب هذا المقام ،من ألزم ما
يكون ،لكثرة المراجعات والمراوضات ،ولحاجته لتحسين الحق ،وتزيينه بما يقدر عليه ،ليحببه
إلى النفوس ،وإلى تقبيح الباطل وتهجينه ،لينفر عنه ،ويحتاج مع ذلك أيضا ،أن يتيسر له أمره،
فيأتي البيوت من أبوابها ،ويدعو إلى سبيل ال بالحكمة والموعظة الحسنة ،والمجادلة بالتي هي
أحسن ،يعامل الناس كل بحسب حاله ،وتمام ذلك ،أن يكون لمن هذه صفته ،أعوان ووزراء،
يساعدونه على مطلوبه ،لن الصوات إذا كثرت ،ل بد أن تؤثر ،فلذلك سأل عليه الصلة
والسلم هذه المور فأعطيها.
وإذا نظرت إلى حالة النبياء المرسلين إلى الخلق ،رأيتهم بهذه الحال ،بحسب أحوالهم خصوصا،
خاتمهم وأفضلهم محمد صلى ال عليه وسلم ،فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال ،وله من
شرح الصدر ،وتيسير المر ،وفصاحة اللسان ،وحسن التعبير والبيان ،والعوان على الحق من
الصحابة ،فمن بعدهم ،ما ليس لغيره.
{ { } 41 - 37وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَى *إِذْ َأوْحَيْنَا إِلَى ُأ ّمكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي
حلِ يَ ْأخُ ْذهُ عَ ُدوّ لِي وَعَ ُدوّ لَهُ وَأَلْقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مِنّي
التّابُوتِ فَا ْق ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلُْي ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
جعْنَاكَ إِلَى ُأ ّمكَ َكيْ َتقَرّ
وَلِ ُتصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * ِإذْ َتمْشِي ُأخْ ُتكَ فَتَقُولُ َهلْ أَدُّلكُمْ عَلَى مَنْ َي ْكفُلُهُ فَ َر َ
ن َوقَتَ ْلتَ َنفْسًا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْل َغ ّم َوفَتَنّاكَ فُتُونًا فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ ثُمّ جِ ْئتَ
عَيْ ُنهَا وَلَا تَحْزَ َ
عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }
لما ذكر منته على عبده ورسوله ،موسى بن عمران ،في الدين ،والوحي ،والرسالة ،وإجابة
سؤاله ،ذكر نعمته عليه ،وقت التربية ،والتنقلت في أطواره فقال { :وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً ُأخْرَى }
حيث ألهمنا أمك أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع ،خوفا من فرعون ،لنه أمر بذبح أبناء بني
إسرائيل ،فأخفته أمه ،وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت ،ثم قذفته في اليم ،أي :شط نيل
مصر ،فأمر ال اليم ،أن يلقيه في الساحل ،وقيض أن يأخذه ،أعدى العداء ل ولموسى ،ويتربى
في أولده ،ويكون قرة عين لمن رآه ،ولهذا قال { :وَأَ ْلقَيْتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مِنّي } فكل من رآه أحبه {
ل وأكمل،
وَلِ ُتصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلءتي ،وأي نظر وكفالة أج ّ
من ولية البر الرحيم ،القادر على إيصال مصالح عبده ،ودفع المضار عنه؟! فل ينتقل من حالة
إلى حالة ،إل وال تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحة موسى ،ومن حسن تدبيره ،أن موسى لما
وقع في يد عدوه ،قلقت أمه قلقا شديدا ،وأصبح فؤادها فارغا ،وكادت تخبر به ،لول أن ال ثبتها
وربط على قلبها ،ففي هذه الحالة ،حرم ال على موسى المراضع ،فل يقبل ثدي امرأة قط ،ليكون
مآله إلى أمه فترضعه ،ويكون عندها ،مطمئنة ساكنة ،قريرة العين ،فجعلوا يعرضون عليه
المراضع ،فل يقبل ثديا.
فجاءت أخت موسى ،فقالت لهم { :هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }
فنجاه ال من الغم من عقوبة الذنب ،ومن القتلَ { ،وفَتَنّاكَ فُتُونًا } أي :اختبرناك ،وبلوناك،
فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك ،وأطوارك ،حتى وصلت إلى ما وصلت إليه،
{ فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي َأ ْهلِ َمدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه ،حين أرادوا قتله ،فتوجه إلى
مدين ،ووصل إليها ،وتزوج هناك ،ومكث عشر سنين ،أو ثمان سنين { ،ثُمّ جِ ْئتَ عَلَى قَدَرٍ يَا
مُوسَى } أي :جئت مجيئا قد مضى به القدر ،وعلمه ال وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا
المكان ،ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ول تدبير منا ،وهذا يدل على كمال اعتناء ال بكليمه
موسى عليه السلم ،ولهذا قال { :وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي } أي :أجريت عليك صنائعي ونعمي ،وحسن
عوائدي ،وتربيتي ،لتكون لنفسي حبيبا مختصا ،وتبلغ في ذلك مبلغا ل يناله أحد من الخلق ،إل
النادر منهم ،وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين ،وأراد أن يبلغ من الكمال
المطلوب له ما يبلغ ،يبذل غاية جهده ،ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك ،فما ظنك بصنائع
الرب القادر الكريم ،وما تحسبه يفعل بمن أراده لنفسه ،واصطفاه من خلقه؟"
طغَى *
عوْنَ إِنّهُ َ
{ { } 46 - 42اذْ َهبْ أَ ْنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ِذكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْ َ
طغَى * قَالَ لَا
َفقُولَا لَهُ َقوْلًا لَيّنًا َلعَلّهُ يَ َت َذكّرُ َأوْ يَخْشَى * قَالَا رَبّنَا إِنّنَا نَخَافُ أَنْ َيفْرُطَ عَلَيْنَا َأوْ أَنْ يَ ْ
سمَ ُع وَأَرَى }
تَخَافَا إِنّنِي َم َع ُكمَا أَ ْ
ت وََأخُوكَ }
لما امتن ال على موسى بما امتن به ،من النعم الدينية والدنيوية قال له { :ا ْذ َهبْ أَ ْن َ
هارون { بِآيَاتِي } أي :اليات التي مني ،الدالة على الحق وحسنه ،وقبح الباطل ،كاليد ،والعصا
ونحوها ،في تسع آيات إلى فرعون وملئه { ،وَلَا تَنِيَا فِي ِذكْرِي } أي :ل تفترا ،ول تكسل ،عن
حكَ كَثِيرًا وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرًا }
مداومة ذكري بل استمرّا عليه ،والزماه كما وعدتما بذلك { َكيْ ُنسَبّ َ
فإن ذكر ال فيه معونة على جميع المور ،يسهلها ،ويخفف حملها.
{ َفقُولَا لَهُ َقوْلًا لَيّنًا } أي :سهل لطيفا ،برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ول صلف ،ول
غلظة في المقال ،أو فظاظة في الفعالَ { ،لعَلّهُ } بسبب القول اللين { يَتَ َذكّرُ } ما ينفعه فيأتيه،
{ َأوْ َيخْشَى } ما يضره فيتركه ،فإن القول اللين داع لذلك ،والقول الغليظ منفر عن صاحبه ،وقد
فسر القول اللين في قولهَ { :فقُلْ َهلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى* وَأَهْدِ َيكَ ِإلَى رَ ّبكَ فَ َتخْشَى } فإن في هذا
الكلم ،من لطف القول وسهولته ،وعدم بشاعته ما ل يخفى على المتأمل ،فإنه أتى بب " هل "
الدالة على العرض والمشاورة ،التي ل يشمئز منها أحد ،ودعاه إلى التزكي والتطهر من الدناس،
التي أصلها ،التطهر من الشرك ،الذي يقبله كل عقل سليم ،ولم يقل " أزكيك " بل قال " :تزكى "
أنت بنفسك ،ثم دعاه إلى سبيل ربه ،الذي رباه ،وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة ،التي ينبغي
مقابلتها بشكرها ،وذكرها فقال { :وَأَهْدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ فَ َتخْشَى } فلما لم يقبل هذا الكلم اللين الذي
يأخذ حسنه بالقلوب ،علم أنه ل ينجع فيه تذكير ،فأخذه ال أخذ عزيز مقتدر.
{ قَالَا رَبّنَا إِنّنَا نَخَافُ أَنْ َيفْرُطَ عَلَيْنَا } أي :يبادرنا بالعقوبة واليقاع بنا ،قبل أن تبلغه رسالتك،
طغَى } أي :يتمرد عن الحق ،ويطغى بملكه وسلطانه وجنده وأعوانه.
ونقيم عليه الحجة { َأوْ أَنْ َي ْ
أي :فأتياه بهذين المرين ،دعوته إلى السلم ،وتخليص هذا الشعب الشريف بني إسرائيل -من
قيده وتعبيده لهم ،ليتحرروا ويملكوا أمرهم ،ويقيم فيهم موسى شرع ال ودينه.
{ وَالسّلَامُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ ا ْلهُدَى } أي :من اتبع الصراط المستقيم ،واهتدى بالشرع المبين ،حصلت
له السلمة في الدنيا والخرة.
ب وَ َتوَلّى }
حيَ إِلَيْنَا } أي :خبر من عند ال ،ل من عند أنفسنا { أَنّ ا ْلعَذَابَ عَلَى مَنْ كَ ّذ َ
{ إِنّا قَدْ أُو ِ
أي :كذب بأخبار ال ،وأخبار رسله ،وتولى عن النقياد لهم واتباعهم ،وهذا فيه الترغيب لفرعون
باليمان والتصديق واتباعهما ،والترهيب من ضد ذلك ،ولكن لم يفد فيه هذا الوعظ والتذكير،
فأنكر ربه ،وكفر ،وجادل في ذلك ظلما وعنادا.
أي :قال فرعون لموسى على وجه النكارَ { :فمَنْ رَ ّب ُكمَا يَا مُوسَى } فأجاب موسى بجواب شاف
خ ْلقَهُ ثُمّ َهدَى } أي :ربنا الذي خلق جميع
شيْءٍ َ
كاف واضح ،فقال { :رَبّنَا الّذِي أَعْطَى ُكلّ َ
المخلوقات ،وأعطى كل مخلوق خلقه اللئق به ،الدال على حسن صنعه من خلقه ،من كبر الجسم
وصغره وتوسطه ،وجميع صفاتهُ { ،ثمّ َهدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له ،وهذه الهداية العامة
المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق ،تجده يسعى لما خلق له من المنافع ،وفي دفع المضار
عنه ،حتى إن ال تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل ،ما يتمكن به على ذلك.
ومضمون ذلك ،أنهم قدموا إلى ما قدموا ،ولقوا أعمالهم ،وسيجازون عليها ،فل معنى لسؤالك
واستفهامك يا فرعون عنهم ،فتلك أمة قد خلت ،لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم ،فإن كان الدليل الذي
أوردناه عليك ،واليات التي أريناكها ،قد تحققت صدقها ويقينها ،وهو الواقع ،فانقد إلى الحق،
ودع عنك الكفر والظلم ،وكثرة الجدال بالباطل ،وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة،
فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق ،فرد الدليل بالدليل ،والبرهان بالبرهان ،ولن تجد لذلك
سبيل ،ما دام الملوان.
س ُهمْ
حدُوا ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ
كيف وقد أخبر ال عنه ،أنه جحدها مع استيقانها ،كما قال تعالى { :وَجَ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َبصَائِرَ } فعلم
ظُ ْلمًا وَعُُلوّا } وقال موسىَ { :لقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا َربّ ال ّ
أنه ظالم في جداله ،قصده العلو في الرض.
ج َعلَ
ثم استطرد في هذا الدليل القاطع ،بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري ،فقال { :الّذِي َ
َلكُمُ الْأَ ْرضَ َمهْدًا } أي :فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها ،والقرار ،والبناء ،والغراس،
وإثارتها للزدراع وغيره ،وذللها لذلك ،ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم.
{ وَسََلكَ َل ُكمْ فِيهَا سُبُلًا } أي :نفذ لكم الطرق الموصلة ،من أرض إلى أرض ،ومن قطر إلى قطر،
حتى كان الدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الرض بأسهل ما يكون ،وينتفعون بأسفارهم،
أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.
سمَاءِ مَاءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ أَ ْزوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتّى } أي :أنزل المطر { فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ
{ وَأَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
َبعْدَ َموْ ِتهَا } وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلف أنواعها ،وتشتت أشكالها ،وتباين
أحوالها ،فساقه ،وقدره ،ويسره ،رزقا لنا ولنعامنا ،ولول ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان،
عوْا أَ ْنعَا َمكُمْ } وسياقها على وجه المتنان ،ليدل ذلك على أن الصل في
ولهذا قال { :كُلُوا وَارْ َ
جميع النوابت الباحة ،فل يحرم منهم إل ما كان مضرا ،كالسموم ونحوه.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي الّنهَى } أي :لذوي العقول الرزينة ،والفكار المستقيمة على فضل ال
وإحسانه ،ورحمته ،وسعة جوده ،وتمام عنايته ،وعلى أنه الرب المعبود ،المالك المحمود ،الذي ل
يستحق العبادة سواه ،ول الحمد والمدح والثناء ،إل من امتن بهذه النعم ،وعلى أنه على كل شيء
قدير ،فكما أحيا الرض بعد موتها ،إن ذلك لمحيي الموتى.
وخص ال أولي النهى بذلك ،لنهم المنتفعون بها ،الناظرون إليها نظر اعتبار ،وأما من عداهم،
فإنهم بمنزلة البهائم السارحة ،والنعام السائمة ،ل ينظرون إليها نظر اعتبار ،ول تنفذ بصائرهم
إلى المقصود منها ،بل حظهم ،حظ البهائم ،يأكلون ويشربون ،وقلوبهم لهية ،وأجسامهم معرضة.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }
{ َوكَأَيّنْ مِنْ آ َيةٍ فِي ال ّ
ولما ذكر كرم الرض ،وحسن شكرها لما ينزله ال عليها من المطر ،وأنها بإذن ربها ،تخرج
النبات المختلف النواع ،أخبر أنه خلقنا منها ،وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها ،ومنها يخرجنا تارة
أخرى ،فكما أوجدنا منها من العدم ،وقد علمنا ذلك وتحققناه ،فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا،
ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها.
وهذان دليلن على العادة عقليان واضحان :إخراج النبات من الرض بعد موتها ،وإخراج
المكلفين منها في إيجادهم.
يخبر تعالى ،أنه أرى فرعون من اليات والعبر والقواطع ،جميع أنواعها العيانية ،والفقية
والنفسية ،فما استقام ول ارعوى ،وإنما كذب وتولى ،كذب الخبر ،وتولى عن المر والنهي،
وجعل الحق باطل ،والباطل حقا ،وجادل بالباطل ليضل الناس ،فقالَ { :أجِئْتَنَا لِ ُتخْرِجَنَا مِنْ أَ ْرضِنَا
سحْ ِركَ } زعم أن هذه اليات التي أراه إياها موسى ،سحر وتمويه ،المقصود منها إخراجهم من
بِ ِ
أرضهم ،والستيلء عليها ،ليكون كلمه مؤثرا في قلوب قومه ،فإن الطباع تميل إلى أوطانها،
ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها.
فأخبرهم أن موسى هذا قصده ،ليبغضوه ،ويسعوا في محاربته ،فلنأتينك بسحر مثل سحرك
سوًى } أي :مستو علمنا وعلمك به ،أو
ن وَلَا أَ ْنتَ َمكَانًا ُ
فأمهلنا ،واجعل لنا { َموْعِدًا لَا نُخِْلفُهُ َنحْ ُ
مكانا مستويا معتدل ليتمكن من رؤية ما فيه.
فقال موسىَ { :موْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّينَةِ } وهو عيدهم ،الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم { ،وَأَنْ
س ضُحًى } أي :يجمعون كلهم في وقت الضحى ،وإنما سأل موسى ذلك ،لن يوم
حشَرَ النّا ُ
يُ ْ
الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة الجتماع ،ورؤية الشياء على حقائقها ،ما ل
جمَعَ كَيْ َدهُ } أي :جميع ما يقدر عليه ،مما يكيد به موسى،
عوْنُ فَ َ
يحصل في غيره { ،فَ َتوَلّى فِرْ َ
فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم ،وكان السحر إذ ذاك ،متوفرا ،وعلمه
علما مرغوبا فيه ،فجمع خلقا كثيرا من السحرة ،ثم أتى كل منهما للموعد ،واجتمع الناس للموعد.
فكان الجمع حافل ،حضره الرجال والنساء ،والمل ،والشراف ،والعوام ،والصغار ،والكبار،
وحضوا الناس على الجتماع ،وقالوا للناسَ { :هلْ أَنْ ُتمْ مُجْ َت ِمعُونَ* َلعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَ َرةَ إِنْ كَانُوا هُمُ
ا ْلغَالِبِينَ } فحين اجتمعوا من جميع البلدان ،وعظهم موسى عليه السلم ،وأقام عليهم الحجة ،وقال
لهم { :وَيَْلكُمْ لَا َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَيُسْحِ َت ُكمْ ِبعَذَابٍ } أي :ل تنصروا ما أنتم عليه من الباطل
بسحركم وتغالبون الحق ،وتفترون على ال الكذب ،فيستأصلكم بعذاب من عنده ،ويخيب سعيكم
وافتراؤكم ،فل تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملئه ،ول تسلمون من عذاب
ال ،وكلم الحق ل بد أن يؤثر في القلوب.
ل جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلم موسى ،وارتبكوا ،ولعل من جملة
نزاعهم ،الشتباه في موسى ،هل هو على الحق أم ل؟ ولكن هم إلى الن ،ما تم أمرهم ،ليقضي
حيّ عَنْ بَيّنَةٍ } فحينئذ أسروا فيما بينهم
ال أمرا كان مفعول { ،لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّ َن ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ
النجوى ،وأنهم يتفقون على مقالة واحدة ،لينجحوا في مقالهم وفعالهم ،وليتمسك الناس بدينهم،
ضكُمْ
والنجوى التي أسروها فسرها بقوله { :قَالُوا إِنْ َهذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْ ِرجَاكُمْ مِنْ أَ ْر ِ
سحْرِ ِهمَا وَيَذْهَبَا ِبطَرِيقَ ِتكُمُ ا ْلمُثْلَى } كمقالة فرعون السابقة ،فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون
بِ ِ
والسحرة على هذه المقالة من غير قصد ،وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته ،التي صمم عليها
وأظهرها للناس ،وزادوا على قول فرعون أن قالوا { :وَيَ ْذهَبَا بِطَرِيقَ ِتكُمُ ا ْلمُثْلَى } أي :طريقة
السحر حسدكم عليها ،وأراد أن يظهر عليكم ،ليكون له الفخر والصيت والشهرة ،ويكون هو
المقصود بهذا العلم ،الذي أشغلتم زمانكم فيه ،ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه ،وما يتبع ذلك
من الرياسة ،وهذا حض من بعضهم على بعض على الجتهاد في مغالبته ،ولهذا قالوا:
ج ِمعُوا كَ ْي َدكُمْ } أي :أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه ،متناصرين ،متفقا رأيكم
{ فََأ ْ
صفّا } ليكون أمكن لعملكم ،وأهيب لكم في القلوب ،ولئل يترك بعضكم بعض
وكلمتكم { ،ثُمّ ائْتُوا َ
مقدوره من العمل ،واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره ،فإنه المفلح الفائز ،فهذا يوم له
ما بعده من اليام
فلله درهم ما أصلبهم في باطلهم ،وأشدهم فيه ،حيث أتوا بكل سبب ،ووسيلة وممكن ،ومكيدة
يكيدون بها الحق ،ويأبى ال إل أن يتم نوره ،ويظهر الحق على الباطل.،فلما تمت مكيدتهم،
وانحصر مقصدهم ،ولم يبق إل العمل { قَالُوا يَا مُوسَى ِإمّا أَنْ تُ ْل ِقيَ } عصاك { وَِإمّا أَنْ َنكُونَ َأوّلَ
مَنْ أَ ْلقَى } خيروه ،موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي :حالة كانت ،فقال لهم موسى:
عصِ ّيهُمْ ُيخَ ّيلُ إِلَيْهِ } أي :إلى موسى { مِنْ
{ َبلْ أَ ْلقُوا } فألقوا حبالهم وعصيهم { ،فَإِذَا حِبَاُلهُ ْم وَ ِ
سعَى } أي :أنها حيات تسعى فلما خيل إلى موسى ذلك.
سحْرِهِمْ } البليغ { أَ ّنهَا َت ْ
ِ
{ َأ ْوجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } كما هو مقتضى الطبيعة البشرية ،وإل فهو جازم بوعد ال
ونصره.
خفْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ الْأَعْلَى } عليهم ،أي :ستعلو عليهم وتقهرهم ،ويذلوا
{ قُلْنَا } له تثبيتا وتطمينا { :لَا تَ َ
لك ويخضعوا.
{ وَأَ ْلقِ مَا فِي َيمِي ِنكَ } أي :عصاك { تَ ْل َقفْ مَا صَ َنعُوا إِ ّنمَا صَ َنعُوا كَيْدُ سَاحِ ٍر وَلَا ُيفْلِحُ السّاحِرُ
حَ ْيثُ أَتَى } أي :كيدهم ومكرهم ،ليس بمثمر لهم ول ناجح ،فإنه من كيد السحرة ،الذين يموهون
على الناس ،ويلبسون الباطل ،ويخيلون أنهم على الحق ،فألقى موسى عصاه ،فتلقفت ما صنعوا
كله وأكلته ،والناس ينظرون لذلك الصنيع ،فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر ،وأنه من
ال ،فبادروا لليمان.
{ فَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ ساجدين* قَالُوا آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َربّ مُوسَى وَهَارُونَ } فوقع الحق وظهر
وسطع ،وبطل السحر والمكر والكيد ،في ذلك المجمع العظيم.
فصارت بينة ورحمة للمؤمنين ،وحجة على المعاندين فب { قَالَ } فرعون للسحرة { :آمَنْتُمْ َلهُ قَ ْبلَ
أَنْ آذَنَ َلكُمْ } أي :كيف أقدمتم على اليمان من دون مراجعة مني ول إذن؟
استغرب ذلك منهم ،لدبهم معه ،وذلهم ،وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم ،وجعل هذا من
ذاك.
ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان ،واستخف عقول قومه ،وأظهر لهم أن هذه
الغلبة من موسى للسحرة ،ليس لن الذي معه الحق ،بل لنه تمال هو والسحرة ،ومكروا ،ودبروا
خفّ َق ْومَهُ
أن يخرجوا فرعون وقومه من بلدهم ،فقبل قومه هذا المكر منه ،وظنوه صدقا { فَاسْتَ َ
سقِينَ } مع أن هذه المقالة التي قالها ،ل تدخل عقل من له أدنى مسكة
فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
من عقل ومعرفة بالواقع ،فإن موسى أتى من مدين وحيدا ،وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة
ول غيرهم ،بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه ،وأراهم اليات ،فأراد فرعون أن يعارض ما جاء
به موسى فسعى ما أمكنه ،وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم.
فجاءوا إليه ،ووعدهم الجر والمنزلة عند الغلبة ،وهم حرصوا غاية الحرص ،وكادوا أشد الكيد،
على غلبتهم لموسى ،وكان منهم ما كان ،فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم
طعَنّ
وموسى واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال ،ثم توعد فرعون السحرة فقال { :فلَُأ َق ّ
أَيْدِ َيكُمْ وَأَرْجَُلكُمْ مِنْ خِلَافٍ }
كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد ،يقطع يده اليمنى ،ورجله اليسرى { ،وَلَُأصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ
شدّ عَذَابًا وَأَ ْبقَى } يعني بزعمه هو أو
خلِ } أي :لجل أن تشتهروا وتختزوا { ،وَلَ َتعَْلمُنّ أَيّنَا أَ َ
النّ ْ
ال ،وأنه أشد عذابا من ال وأبقى ،قلبا للحقائق ،وترهيبا لمن ل عقل له.
ولهذا لما عرف السحرة الحق ،ورزقهم ال من العقل ما يدركون به الحقائق ،أجابوه بقولهم:
{ لَنْ ُنؤْثِ َركَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ } أي :لن نختارك وما وعدتنا به من الجر والتقريب ،على
ما أرانا ال من اليات البينات الدالت على أن ال هو الرب المعبود وحده ،المعظم المبجل وحده،
وأن ما سواه باطل ،ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا ،هذا ل يكون { فَا ْقضِ مَا أَ ْنتَ قَاضٍ } مما
أوعدتنا به من القطع ،والصلب ،والعذاب.
{ إِ ّنمَا َت ْقضِي هَ ِذهِ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا } أي :إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ،ينقضي
ويزول ول يضرنا ،بخلف عذاب ال ،لمن استمر على كفره ،فإنه دائم عظيم.
والظاهر -وال أعلم -أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله { :وَيَْلكُمْ لَا َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِبًا
فَيُسْحِ َت ُكمْ ِبعَذَابٍ } أثر معهم ،ووقع منهم موقعا كبيرا ،ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلم والموعظة ،ثم
إن فرعون ألزمهم ذلك ،وأكرههم على المكر الذي أجروه ،ولهذا تكلموا بكلمه السابق قبل
سحْرِ ِهمَا } فجروا على
ضكُمْ بِ ِ
إتيانهم ،حيث قالوا { :إِنْ َهذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ ُيخْرِجَاكُمْ مِنْ أَ ْر ِ
ما سنه لهم ،وأكرههم عليه ،ولعل هذه النكتة ،التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق
بالباطل وفعلهم ،ما فعلوا على وجه الغماض ،هي التي أثرت معهم ،ورحمهم ال بسببها ،ووفقهم
لليمان والتوبة { ،وال خير } مما وعدتنا من الجر والمنزلة والجاه ،وأبقى ثوابا وإحسانا ل ما
شدّ عَذَابًا وَأَ ْبقَى } يريد أنه أشد عذابا وأبقى .وجميع ما أتى من
يقول فرعون { :وَلَ َتعَْلمُنّ أَيّنَا أَ َ
قصص موسى مع فرعون ،يذكر ال فيه إذا أتى على قصة السحرة ،أن فرعون توعدهم بالقطع
والصلب ،ولم يذكر أنه فعل ذلك ،ولم يأت في ذلك حديث صحيح ،والجزم بوقوعه ،أو عدمه،
يتوقف على الدليل ،وال أعلم بذلك وغيره ،ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره ،دليل على وقوعه،
ولنه لو لم يقع لذكره ال ،ولتفاق الناقلين على ذلك.
يخبر تعالى أن من أتاه ،وقدم عليه مجرما -أي :وصفه الجرم من كل وجه ،وذلك يستلزم الكفر-
واستمر على ذلك حتى مات ،فإن له نار جهنم ،الشديد نكالها ،العظيمة أغللها ،البعيد قعرها،
الليم حرها وقرها ،التي فيها من العقاب ما يذيب الكباد والقلوب ،ومن شدة ذلك أن المعذب فيها
ل يموت ول يحيا ،ل يموت فيستريح ،ول يحيا حياة يتلذذ بها ،وإنما حياته محشوة بعذاب القلب
والروح والبدن ،الذي ل يقدر قدره ،ول يفتر عنه ساعة ،يستغيث فل يغاث ،ويدعو فل يستجاب
له.
نعم إذا استغاث ،أغيث بماء كالمهل يشوي الوجوه ،وإذا دعا ،أجيب بب { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ
}
ع ِملَ الصّالِحَاتِ } الواجبة والمستحبة،
ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله ،متبعا لكتبه { َقدْ َ
{ فَأُولَ ِئكَ َلهُمُ الدّ َرجَاتُ ا ْلعُلَا } أي :المنازل العاليات ،وفي الغرف المزخرفات ،واللذات
المتواصلت ،والنهار السارحات ،والخلود الدائم ،والسرور العظيم ،فيما ل عين رأت ،ول أذن
سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
{ وَذَِلكَ } الثواب { ،جَزَاءُ مَنْ تَ َزكّى } أي :تطهر من الشرك والكفر والفسوق والعصيان ،إما أن
ل يفعلها بالكلية ،أو يتوب مما فعله منها ،وزكى أيضا نفسه ،ونماها باليمان والعمل الصالح ،فإن
للتزكية معنيين ،التنقية ،وإزالة الخبث ،والزيادة بحصول الخير ،وسميت الزكاة زكاة ،لهذين
المرين.
{ { } 79 - 77وََلقَدْ َأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي فَاضْ ِربْ َل ُهمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا
عوْنُ
عوْنُ بِجُنُو ِدهِ َفغَشِ َيهُمْ مِنَ الْ َيمّ مَا غَشِ َيهُمْ * وََأضَلّ فِرْ َ
تَخَافُ دَ َركًا وَلَا َتخْشَى * فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ
َق ْومَهُ َومَا هَدَى }
لما ظهر موسى بالبراهين على فرعون وقومه ،مكث في مصر يدعوهم إلى السلم ،ويسعى في
تخليص بني إسرائيل من فرعون وعذابه ،وفرعون في عتو ونفور ،وأمره شديد على بني
إسرائيل ويريه ال من اليات والعبر ،ما قصه ال علينا في القرآن ،وبنو إسرائيل ل يقدرون أن
يظهروا إيمانهم ويعلنوه ،قد اتخذوا بيوتهم مساجد ،وصبروا على فرعون وأذاه ،فأراد ال تعالى
أن ينجيهم من عدوهم ،ويمكن لهم في الرض ليعبدوه جهرا ،ويقيموا أمره ،فأوحى إلى نبيه
موسى أن سر أو سيروا أول الليل ،ليتمادوا في الرض ،وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه،
فخرجوا أول الليل ،جميع بني إسرائيل هم ونساؤهم وذريتهم ،فلما أصبح أهل مصر إذا ليس فيها
منهم داع ول مجيب ،فحنق عليهم عدوهم فرعون ،وأرسل في المدائن ،من يجمع له الناس
ويحضهم على الخروج في أثر بني إسرائيل ليوقع بهم وينفذ غيظه ،وال غالب على أمره،
فتكاملت جنود فرعون فسار بهم يتبع بني إسرائيل ،فأتبعوهم مشرقين { ،فلما تراءى الجمعان قال
أصحاب موسى إنا لمدركون } وقلقوا وخافوا ،البحر أمامهم ،وفرعون من ورائهم ،قد امتل عليهم
غيظا وحنقا ،وموسى مطمئن القلب ،ساكن البال ،قد وثق بوعد ربه ،فقال { :كَلّا إِنّ َم ِعيَ رَبّي
سَ َيهْدِينِ } فأوحى ال إليه أن يضرب البحر بعصاه ،فضربه ،فانفرق اثني عشر طريقا ،وصار
الماء كالجبال العالية ،عن يمين الطرق ويسارها ،وأيبس ال طرقهم التي انفرق عنها الماء،
وأمرهم ال أن ل يخافوا من إدراك فرعون ،ول يخشوا من الغرق في البحر ،فسلكوا في تلك
الطرق.
فجاء فرعون وجنوده ،فسلكوا وراءهم ،حتى إذا تكامل قوم موسى خارجين وقوم فرعون داخلين،
أمر ال البحر فالتطم عليهم ،وغشيهم من اليم ما غشيهم ،وغرقوا كلهم ،ولم ينجح منهم أحد ،وبنو
إسرائيل ينظرون إلى عدوهم ،قد أقر ال أعينهم بهلكه
عوْنُ َق ْومَهُ }
وهذا عاقبة الكفر والضلل ،وعدم الهتداء بهدي ال ،ولهذا قال تعالى { :وََأضَلّ فِرْ َ
بما زين لهم من الكفر ،وتهجين ما أتى به موسى ،واستخفافه إياهم ،وما هداهم في وقت من
الوقات ،فأوردهم موارد الغي والضلل ،ثم أوردهم مورد العذاب والنكال.
{ { } 82 - 80يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ َقدْ أَنْجَيْنَا ُكمْ مِنْ عَ ُد ّوكُ ْم َووَاعَدْنَاكُمْ جَا ِنبَ الطّورِ الْأَ ْيمَنَ وَنَزّلْنَا
غضَبِي َومَنْ َيحِْللْ
حلّ عَلَ ْيكُمْ َ
ط َغوْا فِيهِ فَيَ ِ
ن وَالسّ ْلوَى * كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَلَا تَ ْ
عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ
ع ِملَ صَاِلحًا ثُمّ اهْتَدَى }
ن وَ َ
ب وَآمَ َ
غضَبِي َفقَدْ َهوَى * وَإِنّي َل َغفّارٌ ِلمَنْ تَا َ
عَلَيْهِ َ
يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهلك عدوهم ،ومواعدته لموسى عليه السلم
بجانب الطور اليمن ،لينزل عليه الكتاب ،الذي فيه الحكام الجليلة ،والخبار الجميلة ،فتتم عليهم
النعمة الدينية ،بعد النعمة الدنيوية ،ويذكر منته أيضا عليهم في التيه ،بإنزال المن والسلوى،
والرزق الرغد الهني الذي يحصل لهم بل مشقة ،وأنه قال لهم:
ط َغوْا فِيهِ }
{ كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ } أي :واشكروه على ما أسدى إليكم من النعم { وَلَا َت ْ
أي :في رزقه ،فتستعملونه في معاصيه ،وتبطرون النعمة ،فإنكم إن فعلتم ذلك ،حل عليكم غضبي
غضَبِي َفقَدْ َهوَى } أي :ردى وهلك ،وخاب
أي :غضبت عليكم ،ثم عذبتكمَ { ،ومَنْ َيحِْللْ عَلَيْهِ َ
وخسر ،لنه عدم الرضا والحسان ،وحل عليه الغضب والخسران.
ومع هذا ،فالتوبة معروضة ،ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي ،فلهذا قال { :وَإِنّي َل َغفّارٌ }
أي :كثير المغفرة والرحمة ،لمن تاب من الكفر والبدعة والفسوق ،وآمن بال وملئكته وكتبه
ورسله واليوم الخر ،وعمل صالحا من أعمال القلب والبدن ،وأقوال اللسان.
{ ُثمّ اهْ َتدَى } أي :سلك الصراط المستقيم ،وتابع الرسول الكريم ،واقتدى بالدين القويم ،فهذا يغفر
ال أوزاره ،ويعفو عما تقدم من ذنبه وإصراره ،لنه أتى بالسبب الكبر ،للمغفرة والرحمة ،بل
السباب كلها منحصرة في هذه الشياء فإن التوبة تجب ما قبلها ،واليمان والسلم يهدم ما قبله،
والعمل الصالح الذي هو الحسنات ،يذهب السيئات ،وسلوك طرق الهداية بجميع أنواعها ،من تعلم
علم ،وتدبر آية أو حديث ،حتى يتبين له معنى من المعاني يهتدي به ،ودعوة إلى دين الحق ،ورد
بدعة أو كفر أو ضللة ،وجهاد ،وهجرة ،وغير ذلك من جزئيات الهداية ،كلها مكفرات للذنوب
محصلت لغاية المطلوب.
{ َ { } 86 - 83ومَا أَعْجََلكَ عَنْ َقوْ ِمكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِ ْلتُ إِلَ ْيكَ َربّ
غضْبَانَ
جعَ مُوسَى إِلَى َق ْومِهِ َ
لِتَ ْرضَى * قَالَ فَإِنّا َقدْ فَتَنّا َق ْو َمكَ مِنْ َب ْع ِدكَ وََأضَلّهُمُ السّامِ ِريّ * فَرَ َ
ضبٌ مِنْ
غ َ
حلّ عَلَ ْيكُمْ َ
سفًا قَالَ يَا َقوْمِ أَلَمْ َيعِ ْدكُمْ رَ ّب ُك ْم وَعْدًا حَسَنًا َأ َفطَالَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َعهْدُ َأمْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ َي ِ
أَ ِ
رَ ّبكُمْ فََأخَْلفْتُمْ َموْعِدِي }
كان ال تعالى ،قد واعد موسى أن يأتيه لينزل عليه التوراة ثلثين ليلة ،فأتمها بعشر ،فلما تم
الميقات ،بادر موسى عليه السلم إلى الحضور للموعد شوقا لربه ،وحرصا على موعوده ،فقال
ال لهَ { :ومَا أَعْجََلكَ عَنْ َق ْو ِمكَ يَا مُوسَى } أي :ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتى تقدم
علَى أَثَرِي } أي :قريبا مني ،وسيصلون في أثري والذي عجلني إليك
أنت وهم؟ قال { :هُمْ أُولَاءِ َ
يا رب طلبا لقربك ومسارعة في رضاك ،وشوقا إليك ،فقال ال له { :فَإِنّا قَدْ فَتَنّا َق ْو َمكَ مِنْ
َبعْ ِدكَ } أي :بعبادتهم للعجل ،ابتليناهم ،واختبرناهم ،فلم يصبروا ،وحين وصلت إليهم المحنة،
كفروا { وََأضَّلهُمُ السّامِ ِريّ }
فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف ،أي :ممتلئ غيظا وحنقا وغما ،قال لهم موبخا
ومقبحا لفعلهم { :يَا َقوْمِ أََلمْ َيعِ ْدكُمْ رَ ّبكُ ْم وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراةَ { ،أ َفطَالَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل َعهْدُ }
أي :المدة ،فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟ هذا قول كثير من المفسرين ،ويحتمل أن معناه:
أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة ،فلم يكن لكم بالنبوة علم ول أثر ،واندرست آثارها ،فلم تقفوا
منها على خبر ،فانمحت آثارها لبعد العهد بها ،فعبدتم غير ال ،لغلبة الجهل ،وعدم العلم بآثار
الرسالة؟ أي :ليس المر كذلك ،بل النبوة بين أظهركم ،والعلم قائم ،والعذر غير مقبول؟ أم أردتم
بفعلكم ،أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أي :فتعرضتم لسبابه واقتحمتم موجب عذابه ،وهذا هو
الواقع { ،فََأخَْلفْتُمْ َموْعِدِي } حين أمرتكم بالستقامة ،ووصيت بكم هارون ،فلم ترقبوا غائبا ،ولم
تحترموا حاضرا.
أي :قالوا له :ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا ،وملك منا لنفسنا ،ولكن السبب الداعي لذلك ،أننا
تأثمنا من زينة القوم التي عندنا ،وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط ،فخرجوا وهو
معهم وألقوه ،وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.
وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول ،فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره ،وأنه
إذا ألقاها على شيء حيي ،فتنة وامتحانا ،فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل،
فتحرك العجل ،وصار له خوار وصوت ،وقالوا :إن موسى ذهب يطلب ربه ،وهو هاهنا فنسيه،
وهذا من بلدتهم ،وسخافة عقولهم ،حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار ،بعد أن كان
جمادا ،فظنوه إله الرض والسماوات.
{ َأفَلَا يَ َروْنَ } أن العجل { لّا يَ ْرجِعُ إِلَ ْيهِمْ َقوْلًا } أي :ل يتكلم ويراجعهم ويراجعونه ،ول يملك لهم
ضرا ول نفعا ،فالعادم للكمال والكلم والفعال ل يستحق أن يعبد وهو أنقص من عابديه ،فإنهم
يتكلمون ويقدرون على بعض الشياء ،من النفع والدفع ،بإقدار ال لهم.
أي :إن اتخاذهم العجل ،ليسوا معذورين فيه ،فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل
عبادته ،فإن هارون قد نهاهم عنه ،وأخبرهم أنه فتنة ،وأن ربهم الرحمن ،الذي منه النعم الظاهرة
والباطنة ،الدافع للنقم وأنه أمرهم أن يتبعوه ،ويعتزلوا العجل ،فأبوا وقالوا { :لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ
عَا ِكفِينَ حَتّى يَ ْرجِعَ ِإلَيْنَا مُوسَى }
فأقبل موسى على أخيه لئما له ،وقال { :يَا هَارُونُ مَا مَ َن َعكَ إِذْ رَأَيْ َت ُه ْم ضَلّوا* أَلّا تَتّ ِبعَنِ }
فتخبرني لبادر للرجوع إليهم؟ { َأ َف َعصَ ْيتَ َأمْرِي } في قولي { اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِحْ وَلَا تَتّبِعْ
سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }
فأخذ موسى برأس هارون ولحيته ،يجره من الغضب والعتب عليه ،فقال هارون { :يَا ابْنَ أُمّ }
خشِيتُ أَنْ َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي
ترقيق له ،وإل فهو شقيقه { لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنّي َ
ل وَلَمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي } فإنك أمرتني أن أخلفك فيهم ،فلو تبعتك ،لتركت ما أمرتني بلزومه
إِسْرَائِي َ
وخشيت لئمتك ،و { أَنْ َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } حيث تركتهم ،وليس عندهم راع ول
خليفة ،فإن هذا يفرقهم ويشتت شملهم ،فل تجعلني مع القوم الظالمين ،ول تشمت فينا العداء،
غفِرْ لِي وَلَِأخِي وََأدْخِلْنَا
فندم موسى على ما صنع بأخيه ،وهو غير مستحق لذلك فب { قَالَ َربّ ا ْ
حمِينَ }
ك وَأَ ْنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
حمَ ِت َ
فِي َر ْ
ضتُ قَ ْبضَةً
خطْ ُبكَ يَا سَامِ ِريّ * قَالَ َبصُ ْرتُ ِبمَا لَمْ يَ ْبصُرُوا بِهِ َفقَ َب ْ
{ } 97 - 95فب { قَالَ َفمَا َ
سوَّلتْ لِي َنفْسِي * قَالَ فَاذْ َهبْ فَإِنّ َلكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ َتقُولَ لَا مِسَاسَ
مِنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْ ُتهَا َوكَذَِلكَ َ
سفًا }
سفَنّهُ فِي الْيَمّ نَ ْ
وَإِنّ َلكَ َموْعِدًا لَنْ ُتخَْلفَ ُه وَانْظُرْ إِلَى إَِل ِهكَ الّذِي ظَ ْلتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَ ُنحَ ّرقَنّهُ ُثمّ لَنَنْ ِ
أي :ما شأنك يا سامري ،حيث فعلت ما فعلت؟ ،فقالَ { :بصُ ْرتُ ِبمَا لَمْ يَ ْبصُرُوا ِبهِ } وهو جبريل
عليه السلم على فرس رآه وقت خروجهم من البحر ،وغرق فرعون وجنوده على ما قاله
سوَّلتْ لِي َنفْسِي }
المفسرون ،فقبضت قبضة من أثر حافر فرسه ،فنبذتها على العجلَ { ،وكَذَِلكَ َ
أن أقبضها ،ثم أنبذها ،فكان ما كان ،فقال له موسى { :فَاذْ َهبْ } أي :تباعد عني واستأخر مني
{ فَإِنّ َلكَ فِي ا ْلحَيَاةِ أَنْ َتقُولَ لَا ِمسَاسَ } أي :تعاقب في الحياة عقوبة ،ل يدنو منك أحد ،ول
يمسك أحد ،حتى إن من أراد القرب منك ،قلت له :ل تمسني ،ول تقرب مني ،عقوبة على ذلك،
حيث مس ما لم يمسه غيره ،وأجرى ما لم يجره أحد { ،وَإِنّ َلكَ َموْعِدًا لَنْ ُتخَْلفَهُ } فتجازى
بعملك ،من خير وشر { ،وَانْظُرْ إِلَى إَِل ِهكَ الّذِي ظَ ْلتَ عَلَ ْيهِ عَا ِكفًا } أي :العجل { لَنُحَ ّرقَنّهُ ثُمّ
سفًا } ففعل موسى ذلك ،فلو كان إلها ،لمتنع ممن يريده بأذى ويسعى له
سفَنّهُ فِي الْيَمّ نَ ْ
لَنَنْ ِ
بالتلف ،وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل ،فأراد موسى عليه السلم إتلفه وهم
ينظرون ،على وجه ل تمكن إعادته بالحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه ،ليزول ما في قلوبهم
من حبه ،كما زال شخصه ،ولن في إبقائه محنة ،لن في النفوس أقوى داع إلى الباطل ،فلما
تبين لهم بطلنه ،أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده ل شريك له ،فقال:
شيْءٍ عِ ْلمًا }
{ { } 98إِ ّنمَا إَِل ُهكُمُ اللّهُ الّذِي لَا إِلَهَ إِلّا ُه َو وَسِعَ ُكلّ َ
أي :ل معبود إل وجهه الكريم ،فل يؤله ،ول يحب ،ول يرجى ول يخاف ،ول يدعى إل هو،
لنه الكامل الذي له السماء الحسنى ،والصفات العلى ،المحيط علمه بجميع الشياء ،الذي ما من
نعمة بالعباد إل منه ،ول يدفع السوء إل هو ،فل إله إل هو ،ول معبود سواه.
يمتن ال تعالى على نبيه صلى ال عليه وسلم بما قصه عليه من أنباء السابقين ،وأخبار السالفين،
كهذه القصة العظيمة ،وما فيها من الحكام وغيرها ،التي ل ينكرها أحد من أهل الكتاب ،فأنت لم
تدرس أخبار الولين ،ولم تتعلم ممن دراها ،فإخبارك بالحق اليقين من أخبارهم ،دليل على أنك
رسول ال حقا ،وما جئت به صدق ،ولهذا قالَ { :وقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنّا } أي :عطية نفيسة ،ومنحة
جزيلة من عندناِ { .ذكْرًا } وهو هذا القرآن الكريم ،ذكر للخبار السابقة واللحقة ،وذكر يتذكر به
ما ل تعالى من السماء والصفات الكاملة ،ويتذكر به أحكام المر والنهي ،وأحكام الجزاء ،وهذا
مما يدل على أن القرآن مشتمل على أحسن ما يكون من الحكام ،التي تشهد العقول والفطر
بحسنها وكمالها ،ويذكر هذا القرآن ما أودع ال فيها ،وإذا كان القرآن ذكرا للرسول ولمته،
فيجب تلقيه بالقبول والتسليم والنقياد والتعظيم ،وأن يهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم ،وأن
يقبلوا عليه بالتعلم والتعليم.
وأما مقابلته بالعراض ،أو ما هو أعظم منه من النكار ،فإنه كفر لهذه النعمة ،ومن فعل ذلك،
فهو مستحق للعقوبة ،ولهذا قال { :مَنْ أَعْ َرضَ عَنْهُ } فلم يؤمن به ،أو تهاون بأوامره ونواهيه ،أو
ح ِملُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وِزْرًا } وهو ذنبه ،الذي بسببه أعرض عن القرآن،
بتعلم معانيه الواجبة { فَإِنّهُ َي ْ
وأوله الكفر والهجران { ،خَالِدِينَ فِيهِ } أي :في وزرهم ،لن العذاب هو نفس العمال ،تنقلب
عذابا على أصحابها ،بحسب صغرها وكبرها.
حمْلًا } أي :بئس الحمل الذي يحملونه ،والعذاب الذي يعذبونه يوم القيامة،
{ وَسَاءَ َلهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ِ
ثم استطرد ،فذكر أحوال يوم القيامة وأهواله فقال:
{ َ { } 104 - 102يوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ وَ َنحْشُرُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ َي ْومَئِذٍ زُ ْرقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْ َنهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ ِإلّا عَشْرًا * َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا َيقُولُونَ إِذْ َيقُولُ َأمْثَُلهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا َي ْومًا }
أي :إذا نفخ في الصور وخرج الناس من قبورهم ،كل على حسب حاله ،فالمتقون يحشرون إلى
الرحمن وفدا ،والمجرمون يحشرون زرقا ألوانهم من الخوف والقلق والعطش ،يتناجون بينهم،
ويتخافتون في قصر مدة الدنيا ،وسرعة الخرة ،فيقول بعضهم :ما لبثتم إل عشرة أيام ،ويقول
بعضهم غير ذلك ،وال يعلم تخافتهم ،ويسمع ما يقولون { ِإذْ َيقُولُ َأمْثَُلهُمْ طَرِيقَةً } أي :أعدلهم
وأقربهم إلى التقدير { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا َي ْومًا }
والمقصود من هذا ،الندم العظيم ،كيف ضيعوا الوقات القصيرة ،وقطعوها ساهين لهين،
معرضين عما ينفعهم ،مقبلين على ما يضرهم ،فها قد حضر الجزاء ،وحق الوعيد ،فلم يبق إل
الندم ،والدعاء بالويل والثبور.
كما قال تعالى { :قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ عَ َددَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ فَاسَْألِ
ا ْلعَادّينَ* قَالَ إِنْ لَبِثْ ُتمْ إِلّا قَلِيلًا َلوْ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }
ص ْفصَفًا * لَا
سفًا * فَ َيذَرُهَا قَاعًا َ
س ُفهَا رَبّي َن ْ
{ { } 112 - 105وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ َف ُقلْ يَنْ ِ
سمَعُ
حمَنِ فَلَا َت ْ
صوَاتُ لِلرّ ْ
ش َعتِ الَْأ ْ
عوَجَ َل ُه وَخَ َ
عيَ لَا ِ
عوَجًا وَلَا َأمْتًا * َي ْومَئِذٍ يَتّ ِبعُونَ الدّا ِ
تَرَى فِيهَا ِ
ن وَ َرضِيَ لَهُ َقوْلًا * َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا
حمَ ُ
شفَاعَةُ إِلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّ ْ
إِلّا َهمْسًا * َي ْومَئِذٍ لَا تَ ْنفَعُ ال ّ
ح َملَ ظُ ْلمًا * َومَنْ َي ْع َملْ
حيّ ا ْلقَيّومِ َوقَدْ خَابَ مَنْ َ
ع ْلمًا * وَعَ َنتِ ا ْل ُوجُوهُ لِ ْل َ
خَ ْل َفهُ ْم وَلَا ُيحِيطُونَ بِهِ ِ
ضمًا }
ت وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَا َيخَافُ ظُ ْلمًا وَلَا َه ْ
مِنَ الصّالِحَا ِ
يخبر تعالى عن أهوال القيامة ،وما فيها من الزلزل والقلقل ،فقال { :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْجِبَالِ }
سفًا } أي :يزيلها
س ُفهَا رَبّي نَ ْ
أي :ماذا يصنع بها يوم القيامة ،وهل تبقى بحالها أم ل؟ { َفقُلْ يَنْ ِ
ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل ،ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا ،فتضمحل وتتلشى،
عوَجًا ،هذا من
ويسويها بالرض ،ويجعل الرض قاعا صفصفا ،مستويا ل يرى فيه أيها الناظر ِ
تمام استوائها { وَلَا َأمْتًا } أي :أودية وأماكن منخفضة ،أو مرتفعة فتبرز الرض ،وتتسع للخلئق،
ويمدها ال مد الديم ،فيكونون في موقف واحد ،يسمعهم الداعي ،وينفذهم البصر ،ولهذا قال:
عيَ } وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها ،يدعوهم الداعي إلى
{ َي ْومَئِذٍ يَتّ ِبعُونَ الدّا ِ
الحضور والجتماع للموقف ،فيتبعونه مهطعين إليه ،ل يلتفتون عنه ،ول يعرجون يمنة ول
عوَجَ َلهُ } أي :ل عوج لدعوة الداعي ،بل تكون دعوته حقا وصدقا ،لجميع
يسرة ،وقوله { :لَا ِ
الخلق ،يسمعهم جميعهم ،ويصيح بهم أجمعين ،فيحضرون لموقف القيامة ،خاشعة أصواتهم
سمَعُ إِلّا َهمْسًا } أي :إل وطء القدام ،أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط،
للرحمن { ،فَلَا تَ ْ
يملكهم الخشوع والسكون والنصات ،انتظارا لحكم الرحمن فيهم ،وتعنو وجوههم ،أي :تذل
وتخضع ،فترى في ذلك الموقف العظيم ،الغنياء والفقراء ،والرجال والنساء ،والحرار والرقاء،
والملوك والسوقة ،ساكتين منصتين ،خاشعة أبصارهم ،خاضعة رقابهم ،جاثين على ركبهم ،عانية
وجوههم ،ل يدرون ماذا ينفصل كل منهم به ،ول ماذا يفعل به ،قد اشتغل كل بنفسه وشأنه ،عن
أبيه وأخيه ،وصديقه وحبيبه { ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْن ُهمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ } فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل
الديان ،ويجازي المحسن بإحسانه ،والمسيء بالحرمان.
والمل بالرب الكريم ،الرحمن الرحيم ،أن يرى الخلئق منه ،من الفضل والحسان ،والعفو
والصفح والغفران ،ما ل تعبر عنه اللسنة ،ول تتصوره الفكار ،ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع
الخلق لما يشاهدونه [فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة] فإن قيل :من أين لكم هذا المل؟
وإن شئت قلت :من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟
قلنا :لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه ،ومن سعة جوده ،الذي عم جميع البرايا ،ومما نشاهده في
أنفسنا وفي غيرنا ،من النعم المتواترة في هذه الدار ،وخصوصا في فصل القيامة ،فإن قوله:
حمَنِ }
حقّ لِلرّ ْ
حمَنُ } مع قوله { ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ الْ َ
حمَنِ } { إِلّا مَنْ َأذِنَ لَهُ الرّ ْ
صوَاتُ لِلرّ ْ
ش َعتِ الَْأ ْ
خَ{ وَ َ
مع قوله صلى ال عليه وسلم " :إن ل مائة رحمة أنزل لعباده رحمة ،بها يتراحمون ويتعاطفون،
حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه -أي -:من الرحمة المودعة في قلبها ،فإذا
كان يوم القيامة ،ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة ،فرحم بها العباد "
مع قوله صلى ال عليه وسلم " :ل أرحم بعباده من الوالدة بولدها " فقل ما شئت عن رحمته،
فإنها فوق ما تقول ،وتصور ما شئت ،فإنها فوق ذلك ،فسبحان من رحم في عدله وعقوبته ،كما
رحم في فضله وإحسانه ومثوبته ،وتعالى من وسعت رحمته كل شيء ،وعم كرمه كل حي ،وجل
من غني عن عباده ،رحيم بهم ،وهم مفتقرون إليه على الدوام ،في جميع أحوالهم ،فل غنى لهم
عنه طرفة عين.
ظالمين بكفرهم وشرهم ،فهؤلء ل ينالهم إل الخيبة والحرمان ،والعذاب الليم في جهنم ،وسخط
الديان.
والقسم الثاني :من آمن اليمان المأمور به ،وعمل صالحا من واجب ومسنون { فَلَا َيخَافُ ظُ ْلمًا }
ضمًا } أي :نقصا من حسناته ،بل تغفر ذنوبه ،وتطهر عيوبه،
أي :زيادة في سيئاته { وَلَا َه ْ
عظِيمًا }
ع ْفهَا وَ ُي ْؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا َ
حسَنَةً ُيضَا ِ
وتضاعف حسناته { ،وَإِنْ َتكُ َ
{ َ { } 113وكَذَِلكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا َوصَ ّرفْنَا فِيهِ مِنَ ا ْلوَعِيدِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ َأوْ ُيحْ ِدثُ َل ُهمْ ِذكْرًا }
أي :وكذلك أنزلنا هذا الكتاب ،باللسان الفاضل العربي ،الذي تفهمونه وتفقهونه ،ول يخفى عليكم
لفظه ،ول معناه.
{ َوصَ ّرفْنَا فِيهِ مِنَ ا ْلوَعِيدِ } أي :نوعناها أنواعا كثيرة ،تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل
والنتقام ،وتارة بذكر المثلت التي أحلها بالمم السابقة ،وأمر أن تعتبر بها المم اللحقة ،وتارة
بذكر آثار الذنوب ،وما تكسبه من العيوب ،وتارة بذكر أهوال القيامة ،وما فيها من المزعجات
والمقلقات ،وتارة بذكر جهنم وما فيها من أنوع العقاب وأصناف العذاب ،كل هذا رحمة بالعباد،
ح ِدثُ َلهُمْ ِذكْرًا } فيعملون من
لعلهم يتقون ال فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهمَ { ،أوْ يُ ْ
الطاعات والخير ما ينفعهم ،فكونه عربيا ،وكونه مصرفا فيه [من] الوعيد ،أكبر سبب ،وأعظم
داع للتقوى والعمل الصالح ،فلو كان غير عربي ،أو غير مصرف فيه ،لم يكن له هذا الثر.
لما ذكر تعالى حكمه الجزائي في عباده ،وحكمه المري الديني ،الذي أنزله في كتابه ،وكان هذا
من آثار ملكه قال { :فَ َتعَالَى اللّهُ } أي :جل وارتفع وتقدس عن كل نقص وآفة { ،ا ْلمُ ْلكُ } الذي
الملك وصفه ،والخلق كلهم مماليك له ،وأحكام الملك القدرية والشرعية ،نافذة فيهم.
{ ا ْلحَقّ } أي :وجوده وملكه وكماله حق ،فصفات الكمال ،ل تكون حقيقة إل لذي الجلل ،ومن
ذلك :الملك ،فإن غيره من الخلق ،وإن كان له ملك في بعض الوقات ،على بعض الشياء ،فإنه
ملك قاصر باطل يزول ،وأما الرب ،فل يزال ول يزول ملكا حيا قيوما جليل.
ويؤخذ من هذه الية الكريمة ،الدب في تلقي العلم ،وأن المستمع للعلم ينبغي له أن يتأنى ويصبر
حتى يفرغ المملي والمعلم من كلمه المتصل بعضه ببعض ،فإذا فرغ منه سأل إن كان عنده
سؤال ،ول يبادر بالسؤال وقطع كلم ملقي العلم ،فإنه سبب للحرمان ،وكذلك المسئول ،ينبغي له
أن يستملي سؤال السائل ،ويعرف المقصود منه قبل الجواب ،فإن ذلك سبب لصابة الصواب.
أي :ولقد وصينا آدم وأمرناه ،وعهدنا إليه عهدا ليقوم به ،فالتزمه ،وأذعن له وانقاد ،وعزم على
القيام به ،ومع ذلك نسي ما أمر به ،وانتقضت عزيمته المحكمة ،فجرى عليه ما جرى ،فصار
عبرة لذريته ،وصارت طبائعهم مثل طبيعته ،نسي آدم فنسيت ذريته ،وخطئ فخطئوا ،ولم يثبت
على العزم المؤكد ،وهم كذلك ،وبادر بالتوبة من خطيئته ،وأقر بها واعترف ،فغفرت له ،ومن
يشابه أباه فما ظلم.
سجُدُوا لِآدَمَ َفسَجَدُوا ِإلّا إِبْلِيسَ أَبَى * َفقُلْنَا يَا آدَمُ إِنّ هَذَا
{ { } 122 - 116وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ
شقَى * إِنّ َلكَ أَلّا َتجُوعَ فِيهَا وَلَا َتعْرَى * وَأَ ّنكَ لَا
جكَ فَلَا ُيخْرِجَ ّن ُكمَا مِنَ ا ْلجَنّةِ فَتَ ْ
ك وَلِ َزوْ ِ
عَ ُدوّ َل َ
شجَ َرةِ الْخُ ْل ِد َومُ ْلكٍ لَا يَبْلَى
سوَسَ إِلَ ْيهِ الشّ ْيطَانُ قَالَ يَا آدَمُ َهلْ َأدُّلكَ عَلَى َ
ظمَأُ فِيهَا وَلَا َتضْحَى * َفوَ ْ
تَ ْ
عصَى آدَمُ رَبّهُ َف َغوَى *
ن وَرَقِ الْجَنّ ِة وَ َ
صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِ ْ
خ ِ
ط ِفقَا َي ْ
سوْآ ُت ُهمَا وَ َ
* فََأكَلَا مِ ْنهَا فَبَ َدتْ َل ُهمَا َ
ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَ ْي ِه وَهَدَى }
أي :لما أكمل خلق آدم بيده ،وعلمه السماء ،وفضله ،وكرمه ،أمر الملئكة بالسجود له ،إكراما
وتعظيما وإجلل ،فبادروا بالسجود ممتثلين ،وكان بينهم إبليس ،فاستكبر عن أمر ربه ،وامتنع من
السجود لدم وقال { :أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ } فتبينت حينئذ ،عداوته البليغة
لدم وزوجه ،لما كان عدوا ل ،وظهر من حسده ،ما كان سبب العداوة ،فحذر ال آدم وزوجه
شقَى } إذا أخرجت منها ،فإن لك فيها الرزق الهني،
منه ،وقال { لَا ُيخْرِجَ ّن ُكمَا مِنَ ا ْلجَنّةِ فَتَ ْ
والراحة التامة.
ظمَأُ فِيهَا وَلَا َتضْحَى } أي :تصيبك الشمس بحرها،
{ إِنّ َلكَ أَلّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا َتعْرَى وَأَ ّنكَ لَا تَ ْ
فضمن له استمرار الطعام والشراب ،والكسوة ،والماء ،وعدم التعب والنصب ،ولكنه نهاه عن أكل
شجرة معينة فقال { :وَلَا َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ } فلم يزل الشيطان يسول لهما،
شجَ َرةِ الْخُ ْلدِ } أي :الشجرة التي من أكل منها خلد
ويزين أكل الشجرة ،ويقولَ { :هلْ َأدُّلكَ عَلَى َ
في الجنةَ { .ومُ ْلكٍ لَا يَبْلَى } أي :ل ينقطع إذا أكلت منها ،فأتاه بصورة ناصح ،وتلطف له في
الكلم ،فاغتر به آدم ،وأكل من الشجرة فسقط في أيديهما ،وسقطت كسوتهما ،واتضحت
معصيتهما ،وبدا لكل منهما سوأة الخر ،بعد أن كانا مستورين ،وجعل يخصفان على أنفسهما من
ورق أشجار الجنة ليستترا بذلك ،وأصابهما من الخجل ما ال به عليم.
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي ُهدًى َفمَنِ اتّبَعَ
جمِيعًا َب ْع ُ
{ { } 127 - 123قَالَ اهْ ِبطَا مِ ْنهَا َ
شقَى * َومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَ ْنكًا وَنَحْشُ ُرهُ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ
ضلّ وَلَا يَ ْ
هُدَايَ فَلَا َي ِ
عمَى َوقَدْ كُ ْنتُ َبصِيرًا * قَالَ كَذَِلكَ أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا فَنَسِي َتهَا َوكَذَِلكَ الْ َيوْمَ
حشَرْتَنِي أَ ْ
عمَى * قَالَ َربّ ِلمَ َ
أَ ْ
تُنْسَى * َوكَذَِلكَ نَجْزِي مَنْ أَسْ َرفَ وَلَمْ ُي ْؤمِنْ بِآيَاتِ رَبّ ِه وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ أَشَدّ وَأَبْقَى }
يخبر تعالى ،أنه أمر آدم وإبليس أن يهبطا إلى الرض ،وأن يتخذوا [آدم وبنوه] الشيطان عدوا
لهم ،فيأخذوا الحذر منه ،ويعدوا له عدته ويحاربوه ،وأنه سينزل عليهم كتبا ،ويرسل إليهم رسل
يبينون لهم الطريق المستقيم الموصلة إليه وإلى جنته ،ويحذرونهم من هذا العدو المبين ،وأنهم أي:
وقت جاءهم ذلك الهدى ،الذي هو الكتب والرسل ،فإن من اتبعه اتبع ما أمر به ،واجتنب ما نهي
عنه ،فإنه ل يضل في الدنيا ول في الخرة ،ول يشقى فيهما ،بل قد هدي إلى صراط مستقيم ،في
الدنيا والخرة ،وله السعادة والمن في الخرة.
علَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ
خ ْوفٌ َ
وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى ،بقولهَ { :فمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا َ
يَحْزَنُونَ } واتباع الهدى ،بتصديق الخبر ،وعدم معارضته بالشبه ،وامتثال المر بأن ل يعارضه
بشهوة.
{ َومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي } أي :كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية ،وأن يتركه على
وجه العراض عنه ،أو ما هو أعظم من ذلك ،بأن يكون على وجه النكار له ،والكفر به { فَإِنّ
ش ًة ضَ ْنكًا } أي :فإن جزاءه ،أن نجعل معيشته ضيقة مشقة ،ول يكون ذلك إل عذابا.
لَهُ َمعِي َ
وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ،وأنه يضيق عليه قبره ،ويحصر فيه ويعذب ،جزاء
لعراضه عن ذكر ربه ،وهذه إحدى اليات الدالة على عذاب القبر .والثانية قوله تعالى { :وََلوْ
سطُو أَيْدِيهِمْ } الية .والثالثة قوله { :وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ مِنَ
ت وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَا ِ
غمَرَاتِ ا ْل َم ْو ِ
تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ
ا ْلعَذَابِ الَْأدْنَى دُونَ ا ْلعَذَابِ الَْأكْبَرِ } والرابعة قوله عن آل فرعون { :النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا غُ ُدوّا
وَعَشِيّا } الية.
والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف ،وقصرها على ذلك -وال أعلم -آخر
الية ،وأن ال ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة .وبعض المفسرين ،يرى أن المعيشة الضنك،
عامة في دار الدنيا ،بما يصيب المعرض عن ذكر ربه ،من الهموم والغموم واللم ،التي هي
عذاب معجل ،وفي دار البرزخ ،وفي الدار الخرة ،لطلق المعيشة الضنك ،وعدم تقييدها.
عمَى } البصر على الصحيح ،كما قال
حشُ ُرهُ } أي :هذا المعرض عن ذكر ربه { َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَ ْ
{ وَنَ ْ
صمّا }
عمْيًا وَ ُب ْكمًا َو ُ
تعالى { :وَنَحْشُ ُرهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَى وُجُو ِه ِهمْ ُ
{ قَالَ كَذَِلكَ أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا فَنَسِي َتهَا } بإعراضك عنها { َوكَذَِلكَ الْ َي ْومَ تُنْسَى } أي :تترك في العذاب،
فأجيب ،بأن هذا هو عين عملك ،والجزاء من جنس العمل ،فكما عميت عن ذكر ربك ،وعشيت
عنه ونسيته ونسيت حظك منه ،أعمى ال بصرك في الخرة ،فحشرت إلى النار أعمى ،أصم،
أبكم ،وأعرض عنك ،ونسيك في العذاب.
{ َوكَذَِلكَ } أي :هذا الجزاء { نَجْزِي } ه { مَنْ َأسْ َرفَ } بأن تعدى الحدود ،وارتكب المحارم
وجاوز ما أذن له { وَلَمْ ُي ْؤمِنْ بِآيَاتِ رَبّهِ } الدالة على جميع مطالب اليمان دللة واضحة
صريحة ،فال لم يظلمه ولم يضع العقوبة في غير محلها ،وإنما السبب إسرافه وعدم إيمانه.
شدّ } من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة { وَأَ ْبقَى } لكونه ل ينقطع ،بخلف
{ وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ أَ َ
عذاب الدنيا فإنه منقطع ،فالواجب الخوف والحذر من عذاب الخرة.
{ َ { } 128أفَلَمْ َيهْدِ َلهُمْ كَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنَ ا ْلقُرُونِ َيمْشُونَ فِي مَسَاكِ ِنهِمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي
الّنهَى }
أي :أفلم يهد هؤلء المكذبين المعرضين ،ويدلهم على سلوك طريق الرشاد ،وتجنب طريق الغي
والفساد ،ما أحل ال بالمكذبين قبلهم ،من القرون الخالية ،والمم المتتابعة ،الذين يعرفون
قصصهم ،ويتناقلون أسمارهم ،وينظرون بأعينهم ،مساكنهم من بعدهم ،كقوم هود وصالح ولوط
وغيرهم ،وأنهم لما كذبوا رسلنا ،وأعرضوا عن كتبنا ،أصبناهم بالعذاب الليم؟
فما الذي يؤمن هؤلء ،أن يحل بهم ،ما حل بأولئك؟ { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في
الزبر* أم يقولون نحن جميع منتصر } ل شيء من هذا كله ،فليس هؤلء الكفار ،خيرا من
أولئك ،حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم ،بل هم شر منهم ،لنهم كفروا بأشرف الرسل وخير
الكتب ،وليس لهم براءة مزبورة وعهد عند ال ،وليسوا كما يقولون أن جمعهم ينفعهم ويدفع
عنهم ،بل هم أذل وأحقر من ذلك ،فإهلك القرون الماضية بذنوبهم ،من أسباب الهداية ،لكونها
من اليات الدالة على صحة رسالة الرسل الذين جاءوهم ،وبطلن ما هم عليه ،ولكن ما كل أحد
ينتفع باليات ،إنما ينتفع بها أولو النهى ،أي :العقول السليمة ،والفطر المستقيمة ،واللباب التي
تزجر أصحابها عما ل ينبغي.
هذا تسلية للرسول ،وتصبير له عن المبادرة إلى إهلك المكذبين المعرضين ،وأن كفرهم وتكذيبهم
سبب صالح لحلول العذاب بهم ،ولزومه لهم ،لن ال جعل العقوبات سببا وناشئا عن الذنوب،
ملزما لها ،وهؤلء قد أتوا بالسبب ،ولكن الذي أخره عنهم كلمة ربك ،المتضمنة لمهالهم
وتأخيرهم ،وضرب الجل المسمى ،فالجل المسمى ونفوذ كلمة ال ،هو الذي أخر عنهم العقوبة
إلى إبان وقتها ،ولعلهم يراجعون أمر ال ،فيتوب عليهم ،ويرفع عنهم العقوبة ،إذا لم تحق عليهم
الكلمة.
ولهذا أمر ال رسوله بالصبر على أذيتهم بالقول ،وأمره أن يتعوض عن ذلك ،ويستعين عليه
بالتسبيح بحمد ربه ،في هذه الوقات الفاضلة ،قبل طلوع الشمس وغروبها ،وفي أطراف النهار،
أوله وآخره ،عموم بعد خصوص ،وأوقات الليل وساعاته ،لعلك إن فعلت ذلك ،ترضى بما يعطيك
ربك من الثواب العاجل والجل ،وليطمئن قلبك ،وتقر عينك بعبادة ربك ،وتتسلى بها عن أذيتهم،
فيخف حينئذ عليك الصبر.
{ { } 131وَلَا َت ُمدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِهِ أَ ْزوَاجًا مِ ْنهُمْ زَهْ َرةَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا لِ َنفْتِ َنهُمْ فِي ِه وَرِزْقُ
رَ ّبكَ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى }
أي :ل تمد عينيك معجبا ،ول تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها ،من المآكل
والمشارب اللذيذة ،والملبس الفاخرة ،والبيوت المزخرفة ،والنساء المجملة ،فإن ذلك كله زهرة
الحياة الدنيا ،تبتهج بها نفوس المغترين ،وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين ،ويتمتع بها -بقطع
النظر عن الخرة -القوم الظالمون ،ثم تذهب سريعا ،وتمضي جميعا ،وتقتل محبيها وعشاقها،
فيندمون حيث ل تنفع الندامة ،ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة ،وإنما جعلها ال فتنة
جعَلْنَا مَا
واختبارا ،ليعلم من يقف عندها ويغتر بها ،ومن هو أحسن عمل ،كما قال تعالى { :إِنّا َ
صعِيدًا جُرُزًا }
عمَلًا* وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَ ْيهَا َ
عَلَى الْأَ ْرضِ زِينَةً َلهَا لِنَبُْلوَ ُهمْ أَ ّيهُمْ َأحْسَنُ َ
{ وَرِزْقُ رَ ّبكَ } العاجل من العلم واليمان ،وحقائق العمال الصالحة ،والجل من النعيم المقيم،
والعيش السليم في جوار الرب الرحيم { خير } مما متعنا به أزواجا ،في ذاته وصفاته { وَأَ ْبقَى }
لكونه ل ينقطع ،أكلها دائم وظلها ،كما قال تعالىَ { :بلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَبْقَى }
وفي هذه الية ،إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحا إلى زينة الدنيا ،وإقبال عليها ،أن
يذكرها ما أمامها من رزق ربه ،وأن يوازن بين هذا وهذا.
أي :حث أهلك على الصلة ،وأزعجهم إليها من فرض ونفل .والمر بالشيء ،أمر بجميع ما ل
يتم إل به ،فيكون أمرا بتعليمهم ،ما يصلح الصلة ويفسدها ويكملها.
علَ ْيهَا } أي :على الصلة بإقامتها ،بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها ،فإن ذلك
{ وَاصْطَبِرْ َ
مشق على النفس ،ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك ،والصبر معها دائما ،فإن العبد إذا أقام
صلته على الوجه المأمور به ،كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم ،وإذا ضيعها كان لما سواها
أضيع ،ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق ،وأن ل يشغله الهتمام به عن إقامة دينه ،فقال { :نَحْنُ
نَرْ ُز ُقكَ } أي :رزقك علينا قد تكفلنا به ،كما تكفلنا بأرزاق الخلئق كلهم ،فكيف بمن قام بأمرنا،
واشتغل بذكرنا؟! ورزق ال عام للمتقي وغيره ،فينبغي الهتمام بما يجلب السعادة البدية ،وهو:
التقوى ،ولهذا قال { :وَا ْلعَاقِبَةُ } في الدنيا والخرة { لِل ّت ْقوَى } التي هي فعل المأمور وترك
المنهي ،فمن قام بها ،كان له العاقبة ،كما قال تعالى { وَا ْلعَاقِبَةُ ِل ْلمُتّقِينَ }
أي :قال المكذبون للرسول صلى ال عليه وسلم :هل يأتينا بآية من ربه؟ يعنون آيات القتراح
كقولهمَ { :وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا* َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ
سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِك َ
سمَاءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّرَ الْأَ ْنهَارَ خِلَاَلهَا َتفْجِيرًا* َأوْ ُت ْ
وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا }
وهذا تعنت منهم وعناد وظلم ،فإنهم ،هم والرسول ،بشر عبيد ل ،فل يليق منهم القتراح بحسب
أهوائهم ،وإنما الذي ينزلها ويختار منها ما يختار بحسب حكمته ،هو ال.
ولن قولهمَ { :لوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آيَاتٌ مِنْ رَبّهِ } يقتضي أنه لم يأتهم بآية على صدقه ،ول بينة على
حقه ،وهذا كذب وافتراء ،فإنه أتى من المعجزات الباهرات ،واليات القاهرات ،ما يحصل ببعضه
المقصود ،ولهذا قالَ { :أوَلَمْ تَأْ ِتهِمْ } إن كانوا صادقين في قولهم ،وأنهم يطلبون الحق بدليله { ،بَيّنَةُ
حفِ الْأُولَى } أي :هذا القرآن العظيم ،المصدق لما في الصحف الولى ،من التوراة
مَا فِي الصّ ُ
والنجيل ،والكتب السابقة المطابق لها ،المخبر بما أخبرت به ،وتصديقه أيضا مذكور فيها،
ومبشر بالرسول بها ،وهذا كقوله تعالىَ { :أوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ إِنّ فِي
حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فاليات تنفع المؤمنين ،ويزداد بها إيمانهم وإيقانهم ،وأما
ذَِلكَ لَ َر ْ
ح ّقتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ
المعرضون عنها المعارضون لها ،فل يؤمنون بها ،ول ينتفعون بها { ،إِنّ الّذِينَ َ
رَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ* وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ }
وإنما الفائدة في سوقها إليهم ومخاطبتهم بها ،لتقوم عليهم حجة ال ،ولئل يقولوا حين ينزل بهم
ل وَنَخْزَى } بالعقوبة ،فها قد جاءكم
العذابَ { :لوْلَا أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتّبِعَ آيَا ِتكَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَ ِذ ّ
رسولي ومعه آياتي وبراهيني ،فإن كنتم كما تقولون ،فصدقوه.
قل يا محمد مخاطبا للمكذبين لك الذين يقولون تربصوا به ريب المنون { ُقلْ ُكلّ مُتَرَ ّبصٌ }
حسْنَيَيْنِ } أي:
حدَى الْ ُ
فتربصوا بي الموت ،وأنا أتربص بكم العذاب { ُقلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَا ِإلّا إِ ْ
الظفر أو الشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِبعَذَابٍ مِنْ عِ ْن ِدهِ َأوْ بِأَيْدِينَا } { فَتَرَ ّبصُوا
س ِويّ } أي :المستقيمَ { ،ومَنِ اهْتَدَى } بسلوكه ،أنا أم أنتم؟ فإن
فَسَ َتعَْلمُونَ مَنْ َأصْحَابُ الصّرَاطِ ال ّ
صاحبه هو الفائز الراشد ،الناجي المفلح ،ومن حاد عنه خاسر خائب معذب ،وقد علم أن الرسول
هو الذي بهذه الحالة ،وأعداؤه بخلفه ،وال أعلم.
هذا تعجب من حالة الناس ،وأنه ل ينجع فيهم تذكير ،ول يرعون إلى نذير ،وأنهم قد قرب
حسابهم ،ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة ،والحال أنهم في غفلة معرضون ،أي :غفلة
عما خلقوا له ،وإعراض عما زجروا به .كأنهم للدنيا خلقوا ،وللتمتع بها ولدوا ،وأن ال تعالى ل
يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ،ول يزالون في غفلتهم وإعراضهم ،ولهذا قال { :مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
ِذكْرٍ مِنْ رَ ّبهِمْ مُحْ َدثٍ } يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم ،ويرهبهم منه { إِلّا اسْ َت َمعُوهُ }
سماعا ،تقوم عليهم به الحجة { ،وَهُمْ يَ ْلعَبُونَ لَاهِ َيةً* قُلُو ُبهُمْ } أي :قلوبهم غافلة معرضة لهية
بمطالبها الدنيوية ،وأبدانهم لعبة ،قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل ،والقوال الردية،
مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة ،تقبل قلوبهم على أمر ال ونهيه ،وتستمعه
استماعا ،تفقه المراد منه ،وتسعى جوارحهم ،في عبادة ربهم ،التي خلقوا لجلها ،ويجعلون القيامة
والحساب والجزاء منهم على بال ،فبذلك يتم لهم أمرهم ،وتستقيم أحوالهم ،وتزكوا أعمالهم ،وفي
معنى قوله { :اقْتَ َربَ لِلنّاسِ حِسَا ُبهُمْ } قولن :أحدهما أن هذه المة هي آخر المم ،ورسولها آخر
الرسل ،وعلى أمته تقوم الساعة ،فقد قرب الحساب منها بالنسبة لما قبلها من المم ،لقوله صلى
ال عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين " وقرن بين إصبعيه ،السبابة والتي تليها.
والقول الثاني :أن المراد بقرب الحساب الموت ،وأن من مات ،قامت قيامته ،ودخل في دار
الجزاء على العمال ،وأن هذا تعجب من كل غافل معرض ،ل يدري متى يفجأه الموت ،صباحا
أو مساء ،فهذه حالة الناس كلهم ،إل من أدركته العناية الربانية ،فاستعد للموت وما بعده.
ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون على وجه العناد ،ومقابلة الحق بالباطل ،وأنهم تناجوا،
وتواطأوا فيما بينهم ،أن يقولوا في الرسول صلى ال عليه وسلم ،إنه بشر مثلكم ،فما الذي فضله
عليكم ،وخصه من بينكم ،فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه ،لكان قوله من جنس قوله ،ولكنه يريد
أن يتفضل عليكم ،ويرأس فيكم ،فل تطيعوه ،ول تصدقوه ،وأنه ساحر ،وما جاء به من القرآن
سحر ،فانفروا عنه ،ونفروا الناس ،وقولواَ { :أفَتَأْتُونَ السّحْ َر وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ } هذا وهم يعلمون
أنه رسول ال حقا بما شاهدوا من اليات الباهرة ما لم يشاهد غيرهم ،ولكن حملهم على ذلك
الشقاء والظلم والعناد ،وال تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به ،وسيجازيهم عليه ،ولهذا قال { :قَالَ
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ } أي :في جميع ما احتوت عليه
رَبّي َيعَْلمُ ا ْل َقوْلَ } أي :الخفي والجلي { فِي ال ّ
سمِيعُ } لسائر الصوات ،باختلف اللغات ،على تفنن الحاجات { ا ْلعَلِيمُ } بما
أقطارهما { وَ ُهوَ ال ّ
في الضمائر ،وأكنته السرائر.
يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى ال عليه وسلم ،وبما جاء به من القرآن العظيم ،وأنهم
سفهوه وقالوا فيه القاويل الباطلة المختلفة ،فتارة يقولون { :أضغاث أحلم } بمنزلة كلم النائم
الهاذي ،الذي ل يحس بما يقول ،وتارة يقولون { :افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه ،وتارة
يقولون :إنه شاعر وما جاء به شعر.
وكل من له أدنى معرفة بالواقع ،من حالة الرسول ،ونظر في هذا الذي جاء به ،جزم جزما ل
يقبل الشك ،أنه أجل الكلم وأعله ،وأنه من عند ال ،وأن أحدا من البشر ل يقدر على التيان
بمثل بعضه ،كما تحدى ال أعداءه بذلك ،ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته ،فلم
يقدروا على شيء من معارضته ،وهم يعلمون ذلك وإل فما الذي أقامهم وأقعدهم وأقض
مضاجعهم وبلبل ألسنتهم إل الحق الذي ل يقوم له شيء ،وإنما يقولون هذه القوال فيه -حيث لم
يؤمنوا به -تنفيرا عنه لمن لم يعرفه ،وهو أكبر اليات المستمرة ،الدالة على صحة ما جاء به
الرسول صلى ال عليه وسلم وصدقه ،وهو كاف شاف ،فمن طلب دليل غيره ،أو اقترح آية من
اليات سواه ،فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلء المعاندين الذين كذبوه وطلبوا من اليات القتراح ما
هو أضر شيء عليهم ،وليس لهم فيها مصلحة ،لنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله،
فقد تبين دليله بدونها ،وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لنفسهم ،إن لم يأت بما طلبوا فإنهم
بهذه الحالة -على فرض إتيان ما طلبوا من اليات -ل يؤمنون قطعا ،فلو جاءتهم كل آية ،ل
يؤمنون حتى يروا العذاب الليم.
قال ال { :مَا آمَ َنتْ قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْ َيةٍ أَهَْلكْنَاهَا } أي :بهذه اليات المقترحة ،وإنما سنته تقتضي أن
من طلبها ،ثم حصلت له ،فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة .فالولون ما آمنوا بها ،أفيؤمن هؤلء بها؟
ما الذي فضلهم على أولئك ،وما الخير الذي فيهم ،يقتضي اليمان عند وجودها؟ وهذا الستفهام
بمعنى النفي ،أي :ل يكون ذلك منهم أبدا.
{ َ { } 9 - 7ومَا أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْي ِهمْ فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ * َومَا
طعَامَ َومَا كَانُوا خَالِدِينَ * ُث ّم صَ َدقْنَا ُهمُ ا ْلوَعْدَ فَأَ ْنجَيْنَاهُ ْم َومَنْ نَشَاءُ
جسَدًا لَا يَ ْأكُلُونَ ال ّ
جعَلْنَا ُهمْ َ
َ
وَأَهَْلكْنَا ا ْلمُسْ ِرفِينَ }
هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين :هل كان ملكا ،ل يحتاج إلى طعام وشراب ،وتصرف
في السواق ،وهل كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك ،دل على أنه ليس برسول.
وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل ،تشابهوا في الكفر ،فتشابهت أقوالهم ،فأجاب تعالى
عن هذه الشبه لهؤلء المكذبين للرسول ،المقرين بإثبات الرسل قبله -ولو لم يكن إل إبراهيم
عليه السلم ،الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف ،والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته -
بأن الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم ،كلهم من البشر ،الذين يأكلون الطعام ،ويمشون في
السواق ،وتطرأ عليهم العوارض البشرية ،من الموت وغيره ،وأن ال أرسلهم إلى قومهم
وأممهم ،فصدقهم من صدقهم ،وكذبهم من كذبهم ،وأن ال صدقهم ما وعدهم به من النجاة،
والسعادة لهم ولتباعهم ،وأهلك المسرفين المكذبين لهم.
فما بال محمد صلى ال عليه وسلم ،تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته ،وهي موجودة في
إخوانه المرسلين ،الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح ،وأنهم إن
أقروا برسول من البشر ،ولن يقروا برسول من غير البشر ،إن شبههم باطلة ،قد أبطلوها هم
بإقرارهم بفسادها ،وتناقضهم بها ،فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا ،وأنه ل
يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا ،ل يأكل الطعام ،فقد أجاب [ال] تعالى عن هذه الشبهة بقوله:
جعَلْنَاهُ
جعَلْنَاهُ مََلكًا لَ َ
ضيَ الَْأمْرُ ُثمّ لَا يُ ْنظَرُونَ* وَلَوْ َ
ك وََلوْ أَنْزَلْنَا مََلكًا َل ُق ِ
{ َوقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ مََل ٌ
رَجُلًا وَلَلَ َبسْنَا عَلَ ْيهِمْ مَا يَلْ ِبسُونَ }
طمَئِنّينَ
وأن البشر ل طاقة لهم بتلقي الوحي من الملئكة { ُقلْ َلوْ كَانَ فِي الْأَ ْرضِ مَلَا ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
سمَاءِ مََلكًا َرسُولًا } فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين
لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِمْ مِنَ ال ّ
{ فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ } من الكتب السالفة ،كأهل التوراة والنجيل ،يخبرونكم بما عندهم من العلم،
وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم.
وهذه الية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لهل الذكر وهم أهل العلم،
فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين ،أصوله وفروعه ،إذا لم يكن عند النسان علم منها ،أن
يسأل من يعلمها ،ففيه المر بالتعلم والسؤال لهل العلم ،ولم يؤمر بسؤالهم ،إل لنه يجب عليهم
التعليم والجابة عما علموه.
وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم ،نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم ،ونهي له
أن يتصدى لذلك ،وفي هذه الية دليل على أن النساء ليس منهن نبية ،ل مريم ول غيرها ،لقوله {
إِلّا ِرجَالًا }
{ َ { } 10لقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ كِتَابًا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ }
لقد أنزلنا إليكم -أيها المرسل إليهم ،محمد بن عبد ال بن عبد المطلب -كتابا جليل ،وقرآنا مبينا
{ فِيهِ ِذكْ ُركُمْ } أي :شرفكم وفخركم وارتفاعكم ،إن تذكرتم به ما فيه من الخبار الصادقة
فاعتقدتموها ،وامتثلتم ما فيه من الوامر ،واجتنبتم ما فيه من النواهي ،ارتفع قدركم ،وعظم
أمركمَ { ،أفَلَا َتعْقِلُونَ } ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف ل ترضون ول تعملون على ما فيه ذكركم
وشرفكم في الدنيا والخرة ،فلو كان لكم عقل ،لسلكتم هذا السبيل ،فلما لم تسلكوه ،وسلكتم غيره
من الطرق ،التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والخرة وشقاوتكم فيهما ،علم أنه ليس لكم معقول
صحيح ،ول رأي رجيح.
وهذه الية ،مصداقها ما وقع ،فإن المؤمنين بالرسول ،الذين تذكروا بالقرآن ،من الصحابة ،فمن
بعدهم ،حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر ،والصيت العظيم ،والشرف على الملوك ،ما هو أمر
معلوم لكل أحد ،كما أنه معلوم ما حصل ،لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا ،ولم يهتد به ويتزك به،
من المقت والضعة ،والتدسية ،والشقاوة ،فل سبيل إلى سعادة الدنيا والخرة إل بالتذكر بهذا
الكتاب.
صمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَا َنتْ ظَاِل َم ًة وَأَنْشَأْنَا َبعْ َدهَا َق ْومًا آخَرِينَ * فََلمّا أَحَسّوا
{ َ { }ْ 15 - 11وكَمْ َق َ
جعُوا إِلَى مَا أُتْ ِرفْتُمْ فِي ِه َومَسَاكِ ِنكُمْ َلعَّلكُمْ ُتسْأَلُونَ *
بَأْسَنَا ِإذَا ُهمْ مِ ْنهَا يَ ْر ُكضُونَ * لَا تَ ْر ُكضُوا وَارْ ِ
حصِيدًا خَامِدِينَ ْ}
جعَلْنَاهُمْ َ
عوَا ُهمْ حَتّى َ
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ * َفمَا زَاَلتْ تِ ْلكَ دَ ْ
يقول تعالى -محذرا لهؤلء الظالمين ،المكذبين للرسول ،بما فعل بالمم المكذبة لغيره من الرسل
صمْنَا ْ} أي :أهلكنا بعذاب مستأصل { مِنْ قَرْ َيةٍ ْ} تلفت عن آخرها { وَأَنْشَأْنَا َبعْ َدهَا َق ْومًا
َ { -وكَمْ َق َ
آخَرِينَ ْ} وأن هؤلء المهلكين ،لما أحسوا بعذاب ال وعقابه ،وباشرهم نزوله ،لم يمكن لهم
الرجوع ول طريق لهم إلى النزوع وإنما ضربوا الرض بأرجلهم ،ندما وقلقا ،وتحسرا على ما
جعُوا إِلَى مَا أُتْ ِرفْتُمْ فِيهِ
فعلوا وهروبا من وقوعه ،فقيل لهم على وجه التهكم بهم { :لَا تَ ْر ُكضُوا وَارْ ِ
َومَسَاكِ ِنكُمْ َلعَّلكُمْ ُتسْأَلُونَ ْ} أي :ل يفيدكم الركوض والندم ،ولكن إن كان لكم اقتدار ،فارجعوا إلى
ما أترفتم فيه ،من اللذات ،والمشتهيات ،ومساكنكم المزخرفات ،ودنياكم التي غرتكم وألهتكم ،حتى
جاءكم أمر ال .فكونوا فيها متمكنين ،وللذاتها جانين ،وفي منازلكم مطمئنين معظمين ،لعلكم أن
تكونوا مقصودين في أموركم ،كما كنتم سابقا ،مسئولين من مطالب الدنيا ،كحالتكم الولى،
وهيهات ،أين الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت ،وحل بهم العقاب والمقت ،وذهب عنهم عزهم،
وشرفهم ودنياهم ،وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟.
عوَاهُمْ ْ}
ولهذا { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ* َفمَا زَاَلتْ تِ ْلكَ دَ ْ
أي :الدعاء بالويل والثبور ،والندم ،والقرار على أنفسهم بالظلم وأن ال عادل فيما أحل بهم.
حصِيدًا خَامِدِينَ ْ} أي :بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم ،قد خمدت منهم
جعَلْنَا ُهمْ َ
{ حَتّى َ
الحركات ،وسكنت منهم الصوات ،فاحذروا -أيها المخاطبون -أن تستمروا على تكذيب أشرف
الرسل فيحل بكم كما حل بأولئك.
سمَا َء وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا لَاعِبِينَ * َلوْ أَ َردْنَا أَنْ نَتّخِذَ َل ْهوًا لَاتّخَذْنَاهُ
{ َ { }ْ 17 - 16ومَا خََلقْنَا ال ّ
مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فَاعِلِينَ ْ}
يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات والرض عبثا ،ول لعبا من غير فائدة ،بل خلقها بالحق وللحق،
ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم ،المدبر الحكيم ،الرحمن الرحيم ،الذي له الكمال كله،
والحمد كله ،والعزة كلها ،الصادق في قيله ،الصادقة رسله ،فيما تخبر عنه ،وأن القادر على
خلقهما مع سعتهما وعظمهما ،قادر على إعادة الجساد بعد موتها ،ليجازي المحسن بإحسانه،
والمسيء بإساءته.
خذْنَاهُ مِنْ لَدُنّا ْ} أي :من عندنا { إِنْ
{ َلوْ أَ َردْنَا أَنْ نَتّخِذَ َل ْهوًا ْ} على الفرض والتقدير المحال { لَاتّ َ
كُنّا فَاعِلِينَ ْ} ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو ،لن ذلك نقص ومثل سوء ،ل نحب أن نريه
إياكم ،فالسماوات والرض اللذان بمرأى منكم على الدوام ،ل يمكن أن يكون القصد منهما العبث
واللهو ،كل هذا تنزل مع العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة ،فسبحان الحليم الرحيم،
الحكيم في تنزيله الشياء منازلها.
صفُونَ *
ق وََلكُمُ ا ْلوَيْلُ ِممّا َت ِ
طلِ فَيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِ ٌ
حقّ عَلَى الْبَا ِ
{ َ { }ْ 20 - 18بلْ َنقْ ِذفُ بِالْ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَنْ عِنْ َدهُ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَلَا يَسْ َتحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ
وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ
ل وَال ّنهَارَ لَا َيفْتُرُونَ ْ}
اللّ ْي َ
يخبر تعالى ،أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل ،وإن كل باطل قيل وجودل به ،فإن ال ينزل
من الحق والعلم والبيان ،ما يدمغه ،فيضمحل ،ويتبين لكل أحد بطلنه { فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ ْ} أي:
مضمحل ،فانٍ ،وهذا عام في جميع المسائل الدينية ،ل يورد مبطل ،شبهة ،عقلية ول نقلية ،في
إحقاق باطل ،أو رد حق ،إل وفي أدلة ال ،من القواطع العقلية والنقلية ،ما يذهب ذلك القول
الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلنه لكل أحد.
وهذا يتبين باستقراء المسائل ،مسألة مسألة ،فإنك تجدها كذلك ،ثم قال { :وََلكُمْ ْ} أيها الواصفون
ال ،بما ل يليق به ،من اتخاذ الولد والصاحبة ،ومن النداد والشركاء ،حظكم من ذلك ،ونصيبكم
الذي تدركون به { ا ْلوَ ْيلُ ْ} والندامة والخسران.
ليس لكم مما قلتم فائدة ،ول يرجع عليكم بعائدة تؤملونها ،وتعملون لجلها ،وتسعون في الوصول
إليها ،إل عكس مقصودكم ،وهو الخيبة والحرمان ،ثم أخبر أنه له ملك السماوات والرض وما
بينهما ،فالكل عبيده ومماليكه ،فليس لحد منهم ملك ول قسط من الملك ،ول معاونة عليه ،ول
يشفع إل بإذن ال ،فكيف يتخذ من هؤلء آلهة وكيف يجعل ل منها ولد؟! فتعالى وتقدس ،المالك
العظيم ،الذي خضعت له الرقاب ،وذلت له الصعاب ،وخشعت له الملئكة المقربون ،وأذعنوا له
بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون ،ولهذا قالَ { :ومَنْ عِ ْن َدهُ ْ} أي من الملئكة { لَا يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ
حسِرُونَ ْ} أي :ل يملون ول يسأمونها ،لشدة رغبتهم ،وكمال محبتهم ،وقوة أبدانهم.
عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَ ْ
ل وَال ّنهَارَ لَا َيفْتُرُونَ ْ} أي :مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس
{ ُيسَبّحُونَ اللّ ْي َ
في أوقاتهم وقت فارغ ول خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة ،وفي هذا من بيان عظمته
وجللة سلطانه وكمال علمه وحكمته ،ما يوجب أن ل يعبد إل هو ،ول تصرف العبادة لغيره.
سدَتَا
خذُوا آِلهَةً مِنَ الْأَ ْرضِ هُمْ يُ ْنشِرُونَ * َلوْ كَانَ فِي ِهمَا آِلهَةٌ إِلّا اللّهُ َلفَ َ
{ َ { }ْ 25 - 21أمِ اتّ َ
عمّا َي ْف َعلُ وَ ُهمْ يُسْأَلُونَ * َأمِ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
عمّا َيصِفُونَ * لَا يُسَْألُ َ
فَسُبْحَانَ اللّهِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ
ي وَ ِذكْرُ مَنْ قَبْلِي َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ا ْلحَقّ َف ُهمْ
آِلهَةً ُقلْ هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ َهذَا ِذكْرُ مَنْ َم ِع َ
ُمعْ ِرضُونَ * َومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ َرسُولٍ إِلّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا أَنَا فَاعْ ُبدُونِ ْ}
لما بيّن تعالى كمال اقتداره وعظمته ،وخضوع كل شيء له ،أنكر على المشركين الذين اتخذوا
من دون ال آلهة من الرض ،في غاية العجز وعدم القدرة { هُمْ يُنْشِرُونَ ْ} استفهام بمعنى النفي،
أي :ل يقدرون على نشرهم وحشرهم ،يفسرها قوله تعالى { :وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آِل َهةً لَا َيخُْلقُونَ
سهِمْ ضَرّا وَلَا َنفْعًا وَلَا َيمِْلكُونَ َموْتًا وَلَا حَيَا ًة وَلَا نُشُورًا ْ}
شَيْئًا وَ ُهمْ يُخَْلقُونَ * وَلَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ
حضَرُونَ ْ}
{ وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آِل َهةً َلعَّلهُمْ يُ ْنصَرُونَ* لَا يَسْ َتطِيعُونَ َنصْرَ ُه ْم وَهُمْ َلهُمْ جُنْدٌ مُ ْ
فالمشرك يعبد المخلوق ،الذي ل ينفع ول يضر ،ويدع الخلص ل ،الذي له الكمال كله وبيده
المر والنفع والضر ،وهذا من عدم توفيقه ،وسوء حظه ،وتوفر جهله ،وشدة ظلمه ،فإنه ل يصلح
الوجود ،إل على إله واحد ،كما أنه لم يوجد ،إل برب واحد.
ولهذا قالَ { :لوْ كَانَ فِي ِهمَا ْ} أي :في السماوات والرض { آِلهَةٌ إِلّا اللّهُ َلفَسَدَتَا ْ} في ذاتهما ،وفسد
من فيهما من المخلوقات.
وبيان ذلك :أن العالم العلوي والسفلي ،على ما يرى ،في أكمل ما يكون من الصلح والنتظام،
الذي ما فيه خلل ول عيب ،ول ممانعة ،ول معارضة ،فدل ذلك ،على أن مدبره واحد ،وربه
واحد ،وإلهه واحد ،فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك ،لختل نظامه ،وتقوضت أركانه
فإنهما يتمانعان ويتعارضان ،وإذا أراد أحدهما تدبير شيء ،وأراد الخر عدمه ،فإنه محال وجود
مرادهما معا ،ووجود مراد أحدهما دون الخر ،يدل على عجز الخر ،وعدم اقتداره واتفاقهما
على مراد واحد في جميع المور ،غير ممكن ،فإذًا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده ،من
غير ممانع ول مدافع ،هو ال الواحد القهار ،ولهذا ذكر ال دليل التمانع في قوله { :مَا اتّخَذَ اللّهُ
عمّا
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ سُ ْبحَانَ اللّهِ َ
ق وََلعَلَا َب ْع ُ
ن وَلَ ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا َلذَ َهبَ ُكلّ إِلَهٍ ِبمَا خَلَ َ
مِ ْ
َيصِفُونَ ْ}
ومنه -على أحد التأويلين -قوله تعالىُ { :قلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي
عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرًا ْ} ولهذا قال هنا { :فَسُ ْبحَانَ اللّهِ ْ} أي :تنزه
ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا* سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى َ
وتقدس عن كل نقص لكماله وحدهَ { ،ربّ ا ْلعَرْشِ ْ} الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها،
صفُونَ ْ} أي :الجاحدون الكافرون ،من اتخاذ
عمّا َي ِ
وأعظمها ،فربوبية ما دونه من باب أولىَ { ،
الولد والصاحبة ،وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه.
عمّا َي ْفعَلُ ْ} لعظمته وعزته ،وكمال قدرته ،ل يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه ،ل
{ لَا يُسَْألُ َ
بقول ،ول بفعل ،ولكمال حكمته ووضعه الشياء مواضعها ،وإتقانها ،أحسن كل شيء يقدره
العقل ،فل يتوجه إليه سؤال ،لن خلقه ليس فيه خلل ول إخلل.
{ وَ ُهمْ ْ} أي :المخلوقين كلهم { يُسْأَلُونَ ْ} عن أفعالهم وأقوالهم ،لعجزهم وفقرهم ،ولكونهم عبيدا،
قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم ،ول في غيرهم ،مثقال
ذرة.
ثم رجع إلى تهجين حال المشركين ،وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعاَ { :أمِ
خذُوا مِنْ دُونِهِ آِلهَةً ُقلْ هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ ْ} أي :حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه ،ولن
اتّ َ
يجدوا لذلك سبيل ،بل قد قامت الدلة القطعية على بطلنه ،ولهذا قال { :هَذَا ِذكْرُ مَنْ َم ِعيَ وَ ِذكْرُ
مَنْ قَبْلِي ْ} أي :قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم ،من إبطال الشرك ،فهذا كتاب
ال الذي فيه ذكر كل شيء ،بأدلته العقلية والنقلية ،وهذه الكتب السابقة كلها ،براهين وأدلة لما
قلت.
ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلن ما ذهبوا إليه ،علم أنه ل برهان لهم ،لن
البرهان القاطع ،يجزم أنه ل معارض له ،وإل لم يكن قطعيا ،وإن وجد في معارضات ،فإنها شبه
ل تغني من الحق شيئا.
وقولهَ { :بلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ا ْلحَقّ ْ} أي :وإنما أقاموا على ما هم عليه ،تقليدا لسلفهم يجادلون
بغير علم ول هدى ،وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه ،وإنما ذلك ،لعراضهم عنه ،وإل
فلو التفتوا إليه أدنى التفات ،لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ولهذا قالَ { :فهُمْ
ُمعْ ِرضُونَ ْ}
ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين ،وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة ،بيّنها أتم تبيين
في قولهَ { :ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِلّا نُوحِي إِلَ ْيهِ أَنّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ْ} فكل الرسل
الذين من قبلك مع كتبهم ،زبدة رسالتهم وأصلها ،المر بعبادة ال وحده ل شريك له ،وبيان أنه
الله الحق المعبود ،وأن عبادة ما سواه باطلة.
ن وََلدًا سُ ْبحَانَهُ َبلْ عِبَادٌ ُمكْ َرمُونَ * لَا َيسْ ِبقُونَهُ بِا ْل َق ْولِ وَ ُهمْ
حمَ ُ
خذَ الرّ ْ
{ َ { }ْ 29 - 26وقَالُوا اتّ َ
ش َفعُونَ إِلّا ِلمَنِ ارْ َتضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ
بَِأمْ ِرهِ َي ْعمَلُونَ * َيعَْلمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم وَلَا يَ ْ
جهَنّمَ كَذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ ْ}
شفِقُونَ * َومَنْ َيقُلْ مِ ْنهُمْ إِنّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ َفذَِلكَ نَجْزِيهِ َ
مُ ْ
يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول ،وأنهم زعموا -قبحهم ال -أن ال اتخذ ولدا
فقالوا :الملئكة بنات ال ،تعالى ال عن قولهم ،وأخبر عن وصف الملئكة ،بأنهم عبيد مربوبون
مدبرون ،ليس لهم من المر شيء ،وإنما هم مكرمون عند ال ،قد أكرمهم ال ،وصيرهم من عبيد
كرامته ورحمته ،وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل ،وأنهم في غاية الدب
مع ال ،والمتثال لوامره.
فب { لَا يَسْ ِبقُونَهُ بِا ْلقَ ْولِ ْ} أي :ل يقولون قول مما يتعلق بتدبير المملكة ،حتى يقول ال ،لكمال
أدبهم ،وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.
{ وَ ُهمْ بَِأمْ ِرهِ َي ْعمَلُونَ ْ} أي :مهما أمرهم ،امتثلوا لمره ،ومهما دبرهم عليه ،فعلوه ،فل يعصونه
طرفة عين ،ول يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر ال ،ومع هذا ،فال قد أحاط بهم
علمه ،فعلم { مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ ْ} أي :أمورهم الماضية والمستقبلة ،فل خروج لهم عن
علمه ،كما ل خروج لهم عن أمره وتدبيره.
ومن جزئيات وصفهم ،بأنهم ل يسبقونه بالقول ،أنهم ل يشفعون لحد بدون إذنه ورضاه ،فإذا أذن
لهم ،وارتضى من يشفعون فيه ،شفعوا فيه ،ولكنه تعالى ل يرضى من القول والعمل ،إل ما كان
خالصا لوجهه ،متبعا فيه الرسول ،وهذه الية من أدلة إثبات الشفاعة ،وأن الملئكة يشفعون.
ش ِفقُونَ ْ} أي :خائفون وجلون ،قد خضعوا لجلله ،وعنت وجوههم لعزه
خشْيَتِهِ مُ ْ
{ وَ ُهمْ مِنْ َ
وجماله.
فلما بين أنه ل حق لهم في اللوهية ،ول يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات
المقتضية لذلك ،ذكر أيضا أنه ل حظ لهم ،ول بمجرد الدعوى ،وأن من قال منهم { :إِنّي إَِلهٌ مِنْ
جهَنّمَ كَذَِلكَ َنجْزِي الظّاِلمِينَ ْ} وأي ظلم أعظم
دُونِهِ ْ} على سبيل الفرض والتنزل { فَذَِلكَ َنجْزِيهِ َ
من ادعاء المخلوق الناقص ،الفقير إلى ال من جميع الوجوه مشاركة ال في خصائص اللهية
والربوبية؟"
جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ ُكلّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ كَانَتَا رَ ْتقًا َففَتَقْنَا ُهمَا وَ َ
{ َ { }ْ 30أوَلَمْ يَرَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنّ ال ّ
حيّ َأفَلَا ُي ْؤمِنُونَ ْ}
شيْءٍ َ
َ
أي :أولم ينظر هؤلء الذين كفروا بربهم ،وجحدوا الخلص له في العبودية ،ما يدلهم دللة
مشاهدة ،على أنه الرب المحمود الكريم المعبود ،فيشاهدون السماء والرض فيجدونهما رتقا ،هذه
ليس فيها سحاب ول مطر ،وهذه هامدة ميتة ،ل نبات فيها ،ففتقناهما :السماء بالمطر ،والرض
بالنبات ،أليس الذي أوجد في السماء السحاب ،بعد أن كان الجو صافيا ل قزعة فيه ،وأودع فيه
الماء الغزير ،ثم ساقه إلى بلد ميت; قد اغبرت أرجاؤه ،وقحط عنه ماؤه ،فأمطره فيها ،فاهتزت،
وتحركت ،وربت ،وأنبتت من كل زوج بهيج ،مختلف النواع ،متعدد المنافع[ ،أليس ذلك] دليل
على أنه الحق ،وما سواه باطل ،وأنه محيي الموتى ،وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قالَ { :أفَلَا
ُي ْؤمِنُونَ ْ} أي :إيمانا صحيحا ،ما فيه شك ول شرك .ثم عدد تعالى الدلة الفقية فقال:
أي :ومن الدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته ،أنه لما كانت الرض ل تستقر إل
بالجبال ،أرساها بها وأوتدها ،لئل تميد بالعباد ،أي :لئل تضطرب ،فل يتمكن العباد من السكون
فيها ،ول حرثها ،ول الستقرار بها ،فأرساها بالجبال ،فحصل بسبب ذلك ،من المصالح والمنافع،
ما حصل ،ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض ،قد تتصل اتصال كثيرا جدا ،فلو بقيت
بحالها ،جبال شامخات ،وقلل باذخات ،لتعطل التصال بين كثير من البلدان.
فمن حكمة ال ورحمته ،أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبل ،أي :طرقا سهلة ل حزنة ،لعلهم
يهتدون إلى الوصول ،إلى مطالبهم من البلدان ،ولعلهم يهتدون بالستدلل بذلك على وحدانية
المنان.
سكُ
حفُوظًا ْ} من السقوط { إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
سقْفًا ْ} للرض التي أنتم عليها { َم ْ
سمَاءَ َ
جعَلْنَا ال ّ
{ وَ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ أَنْ تَزُولَا ْ} محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع.
ال ّ
{ وَ ُهمْ عَنْ آيَا ِتهَا ُمعْ ِرضُونَ ْ} أي :غافلون لهون ،وهذا عام في جميع آيات السماء ،من علوها،
وسعتها ،وعظمتها ،ولونها الحسن ،وإتقانها العجيب ،وغير ذلك من المشاهد فيها ،من الكواكب
الثوابت والسيارات ،وشمسها ،وقمرها النيرات ،المتولد عنهما ،الليل والنهار ،وكونهما دائما في
فلكهما سابحين ،وكذلك النجوم ،فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد ،والفصول،
ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملتهم ،ويستريحون في ليلهم ،ويهدأون ويسكنون وينتشرون في
نهارهم ،ويسعون في معايشهم ،كل هذه المور إذا تدبرها اللبيب ،وأمعن فيها النظر ،جزم حزما
ل شك فيه ،أن ال جعلها مؤقتة في وقت معلوم ،إلى أجل محتوم ،يقضي العباد منها مآربهم،
وتقوم بها منافعهم ،وليستمتعوا وينتفعوا ،ثم بعد هذا ،ستزول وتضمحل ،ويفنيها الذي أوجدها،
ويسكنها الذي حركها ،وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار ،يجدون فيها جزاء أعمالهم ،كامل
موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار ،وأنها منزل سفر ،ل محل
إقامة.
جعَلْنَا لِ َبشَرٍ مِنْ قَبِْلكَ ا ْلخُلْدَ َأفَإِنْ ِمتّ َفهُمُ الْخَاِلدُونَ * ُكلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َموْتِ
{ َ { }ْ 35 - 34ومَا َ
جعُونَ ْ}
وَنَبْلُوكُمْ بِالشّ ّروَالْخَيْرِ فِتْ َن ًة وَإِلَيْنَا تُرْ َ
لما كان أعداء الرسول يقولون تربصوا به ريب المنون .قال ال تعالى :هذا طريق مسلوك،
خلْدِ ْ} في الدنيا ،فإذا مت ،فسبيل أمثالك،
ومعبد منهوك ،فلم نجعل لبشر { مِنْ قَبِْلكَ ْ} يا محمد { الْ ُ
من الرسل والنبياء ،والولياء ،وغيرهم.
{ َأفَإِنْ ِمتّ َفهُمُ الْخَاِلدُونَ ْ} أي :فهل إذا مت خلدوا بعدك ،فليهنهم الخلود إذًا إن كان ،وليس المر
كذلك ،بل كل من عليها فان ،ولهذا قالُ { :كلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ ْ} وهذا يشمل سائر نفوس
الخلئق ،وإن هذا كأس ل بد من شربه وإن طال بالعبد المدى ،وعمّر سنين ،ولكن ال تعالى
أوجد عباده في الدنيا ،وأمرهم ،ونهاهم ،وابتلهم بالخير والشر ،بالغنى والفقر ،والعز والذل
والحياة والموت ،فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عمل ،ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو،
جعُونَ ْ} فنجازيكم بأعمالكم ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر { َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ ْ}
{ وَإِلَيْنَا تُ ْر َ
وهذه الية ،تدل على بطلن قول من يقول ببقاء الخضر ،وأنه مخلد في الدنيا ،فهو قول ،ل دليل
عليه ،ومناقض للدلة الشرعية.
{ { }ْ 41 - 36وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتّخِذُو َنكَ إِلّا هُ ُزوًا َأهَذَا الّذِي يَ ْذكُرُ آِلهَ َتكُ ْم وَهُمْ ِب ِذكْرِ
جلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا َتسْ َتعْجِلُونِ * وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا
خلِقَ الْإِ ْنسَانُ مِنْ عَ َ
حمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * ُ
الرّ ْ
ظهُورِهِمْ
ن وُجُو ِههِمُ النّا َر وَلَا عَنْ ُ
ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * َلوْ َيعْلَمُ الّذِينَ َكفَرُوا حِينَ لَا َيكُفّونَ عَ ْ
وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ * َبلْ تَأْتِيهِمْ َبغْ َتةً فَتَ ْبهَ ُتهُمْ فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ رَدّهَا وَلَا هُمْ يُ ْنظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ
سلٍ مِنْ قَبِْلكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِ ْنهُمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ ْ}
بِرُ ُ
وهذا من شدة كفرهم ،فإن المشركين إذا رأوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،استهزأوا به
وقالوا { :أَ َهذَا الّذِي َي ْذكُرُ آِلهَ َتكُمْ ْ} أي :هذا المحتقر بزعمهم ،الذي يسب آلهتكم ويذمها ،ويقع فيها،
أي :فل تبالوا به ،ول تحتفلوا به.
هذا استهزاؤهم واحتقارهم له ،بما هو من كماله ،فإنه الكمل الفضل الذي من فضائله ومكارمه،
إخلص العبادة ل ،وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه ،وذكر محله ومكانته ،ولكن محل الزدراء
والستهزاء ،هؤلء الكفار ،الذين جمعوا كل خلق ذميم ،ولو لم يكن إل كفرهم بالرب وجحدهم
لرسله فصاروا بذلك ،من أخس الخلق وأرذلهم ،ومع هذا ،فذكرهم للرحمن ،الذي هو أعلى
حالتهم ،كافرون بها ،لنهم ل يذكرونه ول يؤمنون به إل وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك،
حمَنِ
حمَنِ ُهمْ كَافِرُونَ ْ} وفي ذكر اسمه { الرّ ْ
فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال { :وَ ُهمْ بِ ِذكْرِ الرّ ْ
ْ} هنا ،بيان لقباحة حالهم ،وأنهم كيف قابلوا الرحمن -مسدي النعم كلها ،ودافع النقم الذي ما
بالعباد من نعمة إل منه ،ول يدفع السوء إل إياه -بالكفر والشرك.
فب { َلوْ َيعَْلمُ الّذِينَ َكفَرُوا ْ} حالهم الشنيعة حين ل يكفون عن وجوههم النار ول عن ظهورهم ،إذ
قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان { وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ ْ} أي :ل ينصرهم غيرهم،
فل نصروا ول انتصروا.
{ َبلْ تَأْتِيهِمْ ْ} النار { َبغْتَةً فَتَ ْبهَ ُتهُمْ ْ} من النزعاج والذعر والخوف العظيم.
{ وَلَا ُهمْ يُ ْنظَرُونَ ْ} أي :يمهلون ،فيؤخر عنهم العذاب .فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة ،لما
استعجلوا بالعذاب ،ولخافوه أشد الخوف ،ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم ،قالوا ما قالوا ،ولما ذكر
استهزاءهم برسوله بقولهم { :أَ َهذَا الّذِي َي ْذكُرُ آِلهَ َتكُمْ ْ} سله بأن هذا دأب المم السالفة مع رسلهم
سلٍ مِنْ قَبِْلكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِ ْنهُمْ ْ} أي :نزل بهم { مَا كَانُوا بِهِ
فقال { :وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِ ُر ُ
يَسْ َتهْزِئُونَ ْ} أي :نزل بهم العذاب ،وتقطعت عنهم السباب ،فليحذر هؤلء ،أن يصيبهم ما أصاب
أولئك المكذبين.
يقول تعالى -ذاكرا عجز هؤلء ،الذين اتخذوا من دونه آلهة ،وأنهم محتاجون مضطرون إلى
ربهم الرحمن ،الذي رحمته ،شملت البر والفاجر ،في ليلهم ونهارهم -فقالُ { :قلْ مَنْ َيكَْلؤُكُمْ ْ}
أي :يحرسكم ويحفظكم { بِاللّ ْيلِ ْ} إذ كنتم نائمين على فرشكم ،وذهبت حواسكم { وَال ّنهَارِ ْ} وقت
حمَنِ ْ} أي :بدله غيره ،أي :هل يحفظكم أحد غيره؟ ل حافظ إل هو.
انتشاركم وغفلتكم { مِنَ الرّ ْ
{ َبلْ ُهمْ عَنْ ِذكْرِ رَ ّبهِمْ ُمعْ ِرضُونَ ْ} فلهذا أشركوا به ،وإل فلو أقبلوا على ذكر ربهم ،وتلقوا
نصائحه ،لهدوا لرشدهم ،ووفقوا في أمرهم.
{ َأمْ َلهُمْ آِلهَةٌ َتمْ َن ُعهُمْ مِنْ دُونِنَا ْ} أي :إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم ،من يقدر على منعهم من
ذلك السوء ،والشر النازل بهم؟؟
سهِ ْم وَلَا ُهمْ مِنّا ُيصْحَبُونَ ْ} أي :ل يعانون على أمورهم من جهتنا ،وإذا
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ َنصْرَ أَ ْنفُ ِ
لم يعانوا من ال ،فهم مخذولون في أمورهم ،ل يستطيعون جلب منفعة ،ول دفع مضرة.
والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قولهَ { :بلْ مَ ّتعْنَا َهؤُلَا ِء وَآبَا َءهُمْ حَتّى طَالَ
عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُرُ ْ} أي :أمددناهم بالموال والبنين ،وأطلنا أعمارهم ،فاشتغلوا بالتمتع بها ،ولهوا بها،
عما له خلقوا ،وطال عليهم المد ،فقست قلوبهم ،وعظم طغيانهم ،وتغلظ كفرانهم ،فلو لفتوا
أنظارهم إلى من عن يمينهم ،وعن يسارهم من الرض ،لم يجدوا إل هالكا ولم يسمعوا إل صوت
ناعية ،ولم يحسوا إل بقرون متتابعة على الهلك ،وقد نصب الموت في كل طريق لقتناص
صهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَا ْ} أي :بموت أهلها
النفوس الشراك ،ولهذا قالَ { :أفَلَا يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي الْأَ ْرضَ نَ ْن ُق ُ
وفنائهم ،شيئا فشيئا ،حتى يرث ال الرض ومن عليها وهو خير الوارثين ،فلو رأوا هذه الحالة لم
يغتروا ويستمروا على ما هم عليه.
{ َأ َف ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ ْ} الذين بوسعهم ،الخروج عن قدر ال؟ وبطاقتهم المتناع عن الموت؟ فهل هذا
وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم ،أذعنوا ،وذلوا ،ولم
يظهر منهم أدنى ممانعة؟
سمَعُ الصّمّ الدّعَاءَ ْ} أي :الصم ل يسمع صوتا ،لن سمعه قد فسد وتعطل ،وشرط السماع
{ وَلَا َي ْ
مع الصوت ،أن يوجد محل قابل لذلك ،كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والرواح ،وللفقه عن ال،
ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى ،كان بالنسبة للهدى واليمان ،بمنزلة الصم ،بالنسبة
إلى الصوات فهؤلء المشركون ،صم عن الهدى ،فل يستغرب عدم اهتدائهم ،خصوصا في هذه
الحالة ،التي لم يأتهم العذاب ،ول مسهم ألمه.
عذَابِ رَ ّبكَ ْ} أي :ولو جزءا يسيرا ول يسير من عذابه { ،لَ َيقُولُنّ يَا وَيْلَنَا إِنّا
فلو مسهم { َنفْحَةٌ مِنْ َ
كُنّا ظَاِلمِينَ ْ} أي :لم يكن قولهم إل الدعاء بالويل والثبور ،والندم ،والعتراف بظلمهم وكفرهم
واستحقاقهم للعذاب.
سطَ لِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ فَلَا ُتظْلَمُ َنفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْ َدلٍ
{ { }ْ 47وَنَضَعُ ا ْل َموَازِينَ ا ْلقِ ْ
أَتَيْنَا ِبهَا َوكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ}
يخبر تعالى عن حكمه العدل ،وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة ،وأنه يضع لهم
الموازين العادلة ،التي يبين فيها مثاقيل الذر ،الذي توزن بها الحسنات والسيئات { ،فَلَا ُتظْلَمُ َنفْسٌ
ْ} مسلمة أو كافرة { شَيْئًا ْ} بأن تنقص من حسناتها ،أو يزاد في سيئاتها.
{ وَإِنْ كَانَ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْ َدلٍ ْ} التي هي أصغر الشياء وأحقرها ،من خير أو شر { أَتَيْنَا ِبهَا ْ}
وأحضرناها ،ليجازى بها صاحبها ،كقولهَ { :فمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرًا يَ َرهُ* َومَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ
ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ ْ}
عمِلُوا
جدُوا مَا َ
حصَاهَا وَوَ َ
صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً إِلّا أَ ْ
وقالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ
حَاضِرًا ْ}
{ َو َكفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ} يعني بذلك نفسه الكريمة ،فكفى به حاسبا ،أي :عالما بأعمال العباد ،حافظا
لها ،مثبتا لها في الكتاب ،عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها ،موصل للعمال
جزاءها.
شوْنَ رَ ّبهُمْ
{ { }ْ 50 - 48وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ ا ْلفُ ْرقَانَ وَضِيَا ًء َو ِذكْرًا لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ َيخْ َ
ش ِفقُونَ * وَهَذَا ِذكْرٌ مُبَا َركٌ أَنْزَلْنَاهُ َأفَأَنْ ُتمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ ْ}
عةِ مُ ْ
بِا ْلغَ ْيبِ وَ ُهمْ مِنَ السّا َ
كثيرا ما يجمع تعالى ،بين هذين الكتابين الجليلين ،اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما ،ول أعظم
ذكرا ،ول أبرك ،ول أعظم هدى وبيانا[ ،وهما التوراة والقرآن] فأخبر أنه آتى موسى أصل،
وهارون تبعا { ا ْلفُ ْرقَانَ ْ} وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل ،والهدى والضلل ،وأنها
{ ضِيَاءً ْ} أي :نور يهتدي به المهتدون ،ويأتم به السالكون ،وتعرف به الحكام ،ويميز به بين
الحلل والحرام ،وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية { ،وَ ِذكْرًا لِ ْلمُتّقِينَ ْ} يتذكرون به ،ما
ينفعهم ،وما يضرهم ،ويتذكر به الخير والشر ،وخص { المتقين ْ} بالذكر ،لنهم المنتفعون بذلك،
علما وعمل.
شوْنَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَ ْيبِ ْ} أي :يخشونه في حال غيبتهم ،وعدم مشاهدة
ثم فسر المتقين فقال { :الّذِينَ َيخْ َ
عةِ
الناس لهم ،فمع المشاهدة أولى ،فيتورعون عما حرم ،ويقومون بما ألزم { ،وَ ُهمْ مِنَ السّا َ
شفِقُونَ ْ} أي :خائفون وجلون ،لكمال معرفتهم بربهم ،فجمعوا بين الحسان والخوف ،والعطف
مُ ْ
هنا من باب عطف الصفات المتغايرات ،الواردة على شيء واحد وموصوف واحد.
{ وَ َهذَا ْ} أي :القرآن { ِذكْرٌ مُبَا َركٌ أَنْزَلْنَاهُ ْ} فوصفه بوصفين جليلين ،كونه ذكرا يتذكر به جميع
المطالب ،من معرفة ال بأسمائه وصفاته وأفعاله ،ومن صفات الرسل والولياء وأحوالهم ،ومن
أحكام الشرع من العبادات والمعاملت وغيرها ،ومن أحكام الجزاء والجنة والنار ،فيتذكر به
المسائل والدلئل العقلية والنقلية ،وسماه ذكرا ،لنه يذكر ما ركزه ال في العقول والفطر ،من
التصديق بالخبار الصادقة ،والمر بالحسن عقل ،والنهي عن القبيح عقل ،وكونه { مباركا ْ}
يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها ،ول شيء أعظم بركة من هذا القرآن ،فإن كل خير
ونعمة ،وزيادة دينية أو دنيوية ،أو أخروية ،فإنها بسببه ،وأثر عن العمل به ،فإذا كان ذكرا
مباركا ،وجب تلقيه بالقبول والنقياد ،والتسليم ،وشكر ال على هذه المنحة الجليلة ،والقيام بها،
واستخراج بركته ،بتعلم ألفاظه ومعانيه ،وأما مقابلته بضد هذه الحالة ،من العراض عنه،
والضراب عنه ،صفحا وإنكاره ،وعدم اليمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم،
ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقالَ { :أفَأَنْ ُتمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ ْ}
وهو قوله { :وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ْ} لما ذكر
تعالى موسى ومحمدا صلى ال عليهما وسلم ،وكتابيهما قال { :وََلقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْ َدهُ مِنْ قَ ْبلُ ْ}
أي :من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما ،فأراه ال ملكوت السماوات والرض ،وأعطاه
من الرشد ،الذي كمل به نفسه ،ودعا الناس إليه ،ما لم يؤته أحدا من العالمين ،غير محمد،
وأضاف الرشد إليه ،لكونه رشدا ،بحسب حاله ،وعلو مرتبته ،وإل فكل مؤمن ،له من الرشد،
بحسب ما معه من اليمانَ { .وكُنّا ِبهِ عَاِلمِينَ ْ} أي :أعطيناه رشده ،واختصصناه بالرسالة والخلة،
واصطفيناه في الدنيا والخرة ،لعلمنا أنه أهل لذلك ،وكفء له ،لزكائه وذكائه ،ولهذا ذكر محاجته
لقومه ،ونهيهم عن الشرك ،وتكسير الصنام ،وإلزامهم بالحجة ،فقال { :إِذْ قَالَ لِأَبِي ِه َو َقوْمِهِ مَا هَ ِذهِ
ال ّتمَاثِيلُ ْ} التي مثلتموها ،ونحتموها بأيديكم ،على صور بعض المخلوقات { الّتِي أَنْ ُتمْ َلهَا عَا ِكفُونَ
ْ} مقيمون على عبادتها ،ملزمون لذلك ،فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم ،التي
ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها ،ونحتموها بأيديكم ،فهذا من أكبر
العجائب ،تعبدون ما تنحتون.
{ قَالُوا ْ} على وجه الستغراب لقوله ،والستعظام لما قال ،وكيف بادأهم بتسفيههم ،وتسفيه آبائهم:
{ َأجِئْتَنَا بِا ْلحَقّ َأمْ أَ ْنتَ مِنَ اللّاعِبِينَ ْ} أي :هذا القول الذي قلته ،والذي جئتنا به ،هل هو حق وجد؟
أم كلمك لنا ،كلم لعب مستهزئ ،ل يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا ،وإنما رددوا الكلم بين
المرين ،لنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد ،أن الكلم الذي جاء به إبراهيم ،كلم
سفيه ل يعقل ما يقول ،فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم ،وقلة عقولهم فقال { :بَل رَ ّبكُمْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ الّذِي فَطَرَهُنّ وَأَنَا عَلَى ذَِلكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ْ} فجمع لهم بين الدليل العقلي،
َربّ ال ّ
والدليل السمعي.
أما الدليل العقلي ،فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلء الذين جادلهم إبراهيم ،أن ال وحده ،الخالق
لجميع المخلوقات ،من بني آدم ،والملئكة ،والجن ،والبهائم ،والسماوات ،والرض ،المدبر لهن،
بجميع أنواع التدبير ،فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه ،ودخل في ذلك ،جميع ما عبد
من دون ال.
أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز ،أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه ،ل يملك نفعا ،ول
ضرا ،ول موتا ،ول حياة ،ول نشورا ،ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟
أما الدليل السمعي :فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلة والسلم ،فإن ما جاءوا به معصوم ل
يغلط ول يخبر بغير الحق ،ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال
إبراهيم { :وَأَنَا عَلَى َذِلكُمْ ْ} أي :أن ال وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل { مِنَ الشّاهِدِينَ ْ}
وأي شهادة بعد شهادة ال أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل
الرحمن.
ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها
وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال { :وَتَاللّهِ لََأكِيدَنّ َأصْنَا َمكُمْ ْ} أي أكسرها على وجه
الكيد { َبعْدَ أَنْ ُتوَلّوا مُدْبِرِينَ ْ} عنها إلى عيد من أعيادهم ،فلما تولوا مدبرين ،ذهب إليها بخفية
جعََلهُمْ جُذَاذًا ْ} أي كسرا وقطعا ،وكانت مجموعة في بيت واحد ،فكسرها كلها { ،إِلّا كَبِيرًا َل ُهمْ
{ َف َ
ْ} أي إل صنمهم الكبير ،فإنه تركه لمقصد سيبينه ،وتأمل هذا الحتراز العجيب ،فإن كل ممقوت
عند ال ،ل يطلق عليه ألفاظ التعظيم ،إل على وجه إضافته لصحابه ،كما كان النبي صلى ال
عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الرض المشركين يقول " :إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم "
ونحو ذلك ،ولم يقل " إلى العظيم " وهنا قال تعالى { :إِلّا كَبِيرًا َل ُهمْ ْ} ولم يقل " كبيرا من أصنامهم
" فهذا ينبغي التنبيه له ،والحتراز من تعظيم ما حقره ال ،إل إذا أضيف إلى من عظمه.
فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الهانة والخزي { قَالُوا مَنْ َف َعلَ هَذَا بِآِلهَتِنَا إِنّهُ َلمِنَ الظّاِلمِينَ ْ}
فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه
س ِمعْنَا فَتًى
ومن عدله وتوحيده ،وإنما الظالم من اتخذها آلهة ،وقد رأى ما يفعل بها { قَالُوا َ
يَ ْذكُرُ ُهمْ ْ} أي :يعيبهم ويذمهم ،ومن هذا شأنه ل بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه
يذكر أنه سيكيدها { ُيقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ْ} فلما تحققوا أنه إبراهيم { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ ْ} أي :بإبراهيم
شهَدُونَ ْ} أي :يحضرون ما يصنع بمن
{ عَلَى أَعْيُنِ النّاسِ ْ} أي بمرأى منهم ومسمع { َلعَّل ُهمْ يَ ْ
كسر آلهتهم ،وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق
حشَرَ النّاسُ
وتقوم عليهم الحجة ،كما قال موسى حين واعد فرعونَ { :موْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّينَ ِة وَأَنْ يُ ْ
ضُحًى ْ}
فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له { :أَأَ ْنتَ َفعَ ْلتَ َهذَا ْ} أي :التكسير { بِآِلهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
ْ} ؟ وهذا استفهام تقرير ،أي :فما الذي جرأك ،وما الذي أوجب لك القدام على هذا المر؟.
فقال إبراهيم والناس شاهدونَ { :بلْ َفعَلَهُ كَبِي ُرهُمْ َهذَا ْ} أي :كسرها غضبا عليها ،لما عبدت معه،
وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده ،وهذا الكلم من إبراهيم ،المقصد منه إلزام
طقُونَ ْ} وأراد الصنام المكسرة
الخصم وإقامة الحجة عليه ،ولهذا قال { :فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَ ْن ِ
اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر ،اسألوه لي شيء كسرها ،إن كان عندهم نطق،
فسيجيبونكم إلى ذلك ،وأنا وأنتم ،وكل أحد يدري أنها ل تنطق ول تتكلم ،ول تنفع ول تضر ،بل
ول تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
س ِهمْ ْ} أي :ثايت عليهم عقولهم ،ورجعت إليهم أحلمهم ،وعلموا أنهم ضالون في
جعُوا إِلَى أَ ْنفُ ِ
{ فَ َر َ
عبادتها ،وأقروا على أنفسهم بالظلم والشركَ { ،فقَالُوا إِ ّن ُكمْ أَنْتُمُ الظّاِلمُونَ ْ} فحصل بذلك المقصود،
ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم ،ولكن لم يستمروا على هذه
سهِمْ ْ} أي :انقلب المر عليهم ،وانتكست عقولهم وضلت
الحالة ،ولكن { ُنكِسُوا عَلَى ُرءُو ِ
طقُونَ ْ} فكيف تهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن
أحلمهم ،فقالوا لبراهيمَ { :لقَدْ عَِل ْمتَ مَا َهؤُلَاءِ يَ ْن ِ
نسألها وأنت تعلم أنها ل تنطق؟ .
فقال إبراهيم -موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الشهاد ،ومبينا عدم استحقاق آلهتهم
للعبادةَ { :-أفَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َف ُعكُمْ شَيْئًا وَلَا َيضُ ّركُمْ ْ} فل نفع ول دفع.
{ ُأفّ َلكُمْ وَِلمَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ْ} أي :ما أضلكم وأخسر صفقتكم ،وما أخسكم ،أنتم وما عبدتم
من دون ال ،إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال ،فلما عدمتم العقل ،وارتكبتم الجهل والضلل على
بصيرة ،صارت البهائم ،أحسن حال منكم.
فحينئذ لما أفحمهم ،ولم يبينوا حجة ،استعملوا قوتهم في معاقبته ،فب { قَالُوا حَ ّرقُوهُ وَا ْنصُرُوا
آِلهَ َتكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ْ} أي :اقتلوه أشنع القتلت ،بالحراق ،غضبا للهتكم ،ونصرة لها .فتعسا
لهم تعسا ،حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم ،واتخذوه إلها ،فانتصر ال لخليله لما
ألقوه في النار وقال لها { :كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ْ} فكانت عليه بردا وسلما ،لم ينله فيها
أذى ،ول أحس بمكروه.
جعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ْ} أي :في الدنيا والخرة،
{ وَأَرَادُوا ِبهِ كَيْدًا ْ} حيث عزموا على إحراقهَ { ،ف َ
كما جعل ال خليله وأتباعه ،هم الرابحين المفلحين.
{ وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطًا ْ} وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إل لوط عليه السلم قيل :إنه ابن أخيه ،فنجاه
ال ،وهاجر { إِلَى الْأَ ْرضِ الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا لِ ْلعَاَلمِينَ ْ} أي :الشام ،فغادر قومه في " بابل " من
حكِيمُ ْ} ومن بركة الشام ،أن كثيرا
أرض العراقَ { ،وقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ ِإلَى رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
من النبياء كانوا فيها ،وأن ال اختارها ،مهاجرا لخليله ،وفيها أحد بيوته الثلثة المقدسة ،وهو
بيت المقدس.
وقولهَ { :يهْدُونَ بَِأمْرِنَا ْ} أي :يهدون الناس بديننا ،ل يأمرون بأهواء أنفسهم ،بل بأمر ال ودينه،
واتباع مرضاته ،ول يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر ال.
{ وََأوْحَيْنَا ِإلَ ْيهِمْ ِف ْعلَ الْخَيْرَاتِ ْ} يفعلونها ويدعون الناس إليها ،وهذا شامل لجميع الخيرات كلها،
من حقوق ال ،وحقوق العباد.
{ وَِإقَامَ الصّلَاةِ وَإِيتَاءَ ال ّزكَاةِ ْ} هذا من باب عطف الخاص على العام ،لشرف هاتين العبادتين
وفضلهما ،ولن من كملهما كما أمر ،كان قائما بدينه ،ومن ضيعهما ،كان لما سواهما أضيع،
ولن الصلة أفضل العمال ،التي فيها حقه ،والزكاة أفضل العمال ،التي فيها الحسان لخلقه.
{ َوكَانُوا لَنَا ْ} أي :ل لغيرنا { عَابِدِينَ ْ} أي :مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في
أكثر أوقاتهم ،فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم ،فاتصفوا بما أمر ال به الخلق ،وخلقهم لجله.
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ َت ْع َملُ ا ْلخَبَا ِئثَ إِ ّنهُمْ كَانُوا
{ { }ْ 75 - 74وَلُوطًا آتَيْنَاهُ ُ
حمَتِنَا إِنّهُ مِنَ الصّاِلحِينَ ْ}
سقِينَ * وََأدْخَلْنَاهُ فِي رَ ْ
سوْءٍ فَا ِ
َقوْمَ َ
هذا ثناء من ال على رسوله (لوط) عليه السلم بالعلم الشرعي ،والحكم بين الناس ،بالصواب
والسداد ،وأن ال أرسله إلى قومه ،يدعوهم إلى عبادة ال ،وينهاهم عما هم عليه من الفواحش،
سوْءٍ
فلبث يدعوهم ،فلم يستجيبوا له ،فقلب ال عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لنهم { َقوْمَ َ
سقِينَ ْ} كذبوا الداعي ،وتوعدوه بالخراج ،ونجى ال لوطا وأهله ،فأمره أن يسري بهم ليل،
فَا ِ
ليبعدوا عن القرية ،فسروا ونجوا ،من فضل ال عليهم ومنته.
حمَتِنَا ْ} التي من دخلها ،كان من المنين ،من جميع المخاوف ،النائلين كل خير
{ وَأَ ْدخَلْنَاهُ فِي رَ ْ
وسعادة ،وبر ،وسرور ،وثناء ،وذلك لنه من الصالحين ،الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم،
وأصلح ال فاسدهم ،والصلح هو السبب لدخول العبد برحمة ال ،كما أن الفساد ،سبب لحرمانه
الرحمة والخير ،وأعظم الناس صلحا ،النبياء عليهم السلم ولهذا يصفهم بالصلح ،وقال سليمان
حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّالِحِينَ ْ}
خلْنِي بِ َر ْ
عليه السلم { :وَأَدْ ِ
{ { }ْ 77 - 76وَنُوحًا ِإذْ نَادَى مِنْ قَ ْبلُ فَاسْ َتجَبْنَا لَهُ فَ َنجّيْنَا ُه وَأَهْلَهُ مِنَ ا ْلكَ ْربِ ا ْل َعظِيمِ *
ج َمعِينَ ْ}
سوْءٍ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ أَ ْ
وَ َنصَرْنَاهُ مِنَ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا إِ ّن ُهمْ كَانُوا َقوْمَ َ
أي :واذكر عبدنا ورسولنا ،نوحا عليه السلم ،مثنيا مادحا ،حين أرسله ال إلى قومه ،فلبث فيهم
ألف سنة ،إل خمسين عاما ،يدعوهم إلى عبادة ال ،وينهاهم عن الشرك به ،ويبدي فيهم ويعيد،
ويدعوهم سرا وجهارا ،وليل ونهارا ،فلما رآهم ل ينجع فيهم الوعظ ،ول يفيد لديهم الزجر ،نادى
ك وَلَا يَِلدُوا
ربه وقالَ { :ربّ لَا َتذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا* إِ ّنكَ إِنْ تَذَ ْرهُمْ ُيضِلّوا عِبَا َد َ
إِلّا فَاجِرًا َكفّارًا ْ} فاستجاب ال له ،فأغرقهم ،ولم يبق منهم أحدا ،ونجى ال نوحا وأهله ،ومن معه
من المؤمنين ،في الفلك المشحون ،وجعل ذريته هم الباقين ،ونصرهم ال على قومه المستهزئين.
ح ْك ِمهِمْ
شتْ فِيهِ غَ َنمُ ا ْل َقوْ ِم َوكُنّا لِ ُ
ح ُكمَانِ فِي ا ْلحَ ْرثِ إِذْ َنفَ َ
سلَ ْيمَانَ إِذْ َي ْ
{ { }ْ 82 - 78وَدَاوُ َد وَ ُ
سخّرْنَا مَعَ دَاوُدَ ا ْلجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْ َر َوكُنّا
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا وَ َ
ن َوكُلّا آتَيْنَا ُ
شَا ِهدِينَ * َف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَا َ
س ُكمْ َف َهلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَ ْيمَانَ الرّيحَ
حصِ َنكُمْ مِنْ بَأْ ِ
فَاعِلِينَ * وَعَّلمْنَا ُه صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ َلكُمْ لِ ُت ْ
شيْءٍ عَاِلمِينَ * َومِنَ الشّيَاطِينِ مَنْ
عَاصِفَةً َتجْرِي بَِأمْ ِرهِ إِلَى الْأَ ْرضِ الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا َوكُنّا ِب ُكلّ َ
ك َوكُنّا َلهُمْ حَا ِفظِينَ }
عمَلًا دُونَ ذَِل َ
َيغُوصُونَ لَ ُه وَ َي ْعمَلُونَ َ
أي :واذكر هذين النبيين الكريمين " داود " و " سليمان " مثنيا مبجل ،إذ آتاهما ال العلم الواسع
شتْ فِيهِ غَ َنمُ ا ْل َقوْمِ } أي :إذ تحاكم
ح ُكمَانِ فِي ا ْلحَ ْرثِ إِذْ َنفَ َ
والحكم بين العباد ،بدليل قولهِ { :إذْ يَ ْ
إليهما صاحب حرث ،نفشت فيه غنم القوم الخرين ،أي :رعت ليل ،فأكلت ما في أشجاره،
ورعت زرعه ،فقضى فيه داود عليه السلم ،بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ،نظرا إلى تفريط
أصحابها ،فعاقبهم بهذه العقوبة ،وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب ،بأن أصحاب الغنم
يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث،
حتى يعود إلى حاله الولى ،فإذا عاد إلى حاله ،ترادا ورجع كل منهما بما له ،وكان هذا من كمال
فهمه وفطنته عليه السلم ولهذا قالَ { :ف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَانَ } أي :فهمناه هذه القضية ،ول يدل ذلك،
أن داود لم يفهمه ال في غيرها ،ولهذا خصها بالذكر بدليل قولهَ { :وكُلَا } من داود وسليمان
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك ،وليس
{ آتَيْنَا ُ
بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده.
{ وَعَّلمْنَا ُه صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ َلكُمْ } أي :علم ال داود عليه السلم ،صنعة الدروع ،فهو أول من صنعها
وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده ،فألن ال له الحديد ،وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها
س ُكمْ } أي :هي وقاية لكم ،وحفظ عند الحرب ،واشتداد البأس.
حصِ َنكُمْ مِنْ بَأْ ِ
كبيرة { ،لِ ُت ْ
ج َعلَ
{ َف َهلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } نعمة ال عليكم ،حيث أجراها على يد عبده داود ،كما قال تعالى { :وَ َ
س ُكمْ كَذَِلكَ يُ ِتمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّل ُكمْ تُسِْلمُونَ }
َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ الْحَ ّر وَسَرَابِيلَ َتقِيكُمْ بَأْ َ
يحتمل أن تعليم ال لداود صنعة الدروع وإلنتها أمر خارق للعادة ،وأن يكون -كما قاله
المفسرون :-إن ال ألن له الحديد ،حتى كان يعمله كالعجين والطين ،من دون إذابة له على
النار ،ويحتمل أن تعليم ال له ،على جاري العادة ،وأن إلنة الحديد له ،بما علمه ال من السباب
المعروفة الن ،لذابتها ،وهذا هو الظاهر ،لن ال امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها ،ولول
أن صنعته من المور التي جعلها ال مقدورة للعباد ،لم يمتن عليهم بذلك ،ويذكر فائدتها ،لن
الدروع التي صنع داود عليه السلم ،متعذر أن يكون المراد أعيانها ،وإنما المنة بالجنس،
والحتمال الذي ذكره المفسرون ،ل دليل عليه إل قوله { :وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ } وليس فيه أن اللنة
من دون سبب ،وال أعلم بذلك.
{ َوكُنّا َلهُمْ حَافِظِينَ } أي :ل يقدرون على المتناع منه وعصيانه ،بل حفظهم ال له ،بقوته
وعزته ،وسلطانه.
أي :واذكر عبدنا ورسولنا ،أيوب -مثنيا معظما له ،رافعا لقدره -حين ابتله ،ببلء شديد،
فوجده صابرا راضيا عنه ،وذلك أن الشيطان سلط على جسده ،ابتلء من ال ،وامتحانا فنفخ في
جسده ،فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة ،واشتد به البلء ،ومات أهله ،وذهب ماله ،فنادى
حمِينَ } فتوسل إلى ال بالخبار عن حال نفسه،
حمُ الرّا ِ
ربه :رب { أَنّي مَسّ ِنيَ الضّ ّر وَأَ ْنتَ أَرْ َ
وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ ،وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب ال له ،وقال له { :ا ْر ُكضْ
سلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل
بِرِجِْلكَ هَذَا ُمغْتَ َ
منها وشرب ،فأذهب ال عنه ما به من الذى { ،وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } أي :رددنا عليه أهله وماله.
{ وَ ِذكْرَى لِ ْلعَا ِبدِينَ } أي :جعلناه عبرة للعابدين ،الذين ينتفعون بالعبر ،فإذا رأوا ما أصابه من
البلء ،ثم ما أثابه ال بعد زواله ،ونظروا السبب ،وجدوه الصبر ،ولهذا أثنى ال عليه به في
قوله { :إِنّا وَجَدْنَا ُه صَابِرًا ِنعْمَ ا ْلعَبْدُ إِنّهُ َأوّابٌ } فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر.
حمَتِنَا إِ ّنهُمْ
س وَذَا ا ْل ِكفْلِ ُكلّ مِنَ الصّابِرِينَ * وَأَ ْدخَلْنَاهُمْ فِي َر ْ
ل وَإِدْرِي َ
سمَاعِي َ
{ { } 86 - 85وَإِ ْ
مِنَ الصّالِحِينَ }
أي :واذكر عبادنا المصطفين ،وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر ،وأثن عليهم أبلغ الثناء ،إسماعيل
بن إبراهيم ،وإدريس ،وذا الكفل ،نبيين من أنبياء بني إسرائيل { ُكلّ } من هؤلء المذكورين { مِنَ
الصّابِرِينَ } والصبر :هو حبس النفس ومنعها ،مما تميل بطبعها إليه ،وهذا يشمل أنواع الصبر
الثلثة :الصبر على طاعة ال والصبر عن معصية ال ،والصبر على أقدار ال المؤلمة ،فل
يستحق العبد اسم الصبر التام ،حتى يوفي هذه الثلثة حقها .فهؤلء النبياء ،عليهم الصلة
والسلم ،قد وصفهم ال بالصبر ،فدل أنهم وفوها حقها ،وقاموا بها كما ينبغي ،ووصفهم أيضا
بالصلح ،وهو يشمل صلح القلب ،بمعرفة ال ومحبته ،والنابة إليه كل وقت ،وصلح اللسان،
بأن يكون رطبا من ذكر ال ،وصلح الجوارح ،باشتغالها بطاعة ال وكفها عن المعاصي.
فبصبرهم وصلحهم ،أدخلهم ال برحمته ،وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين ،وأثابهم الثواب
العاجل والجل ،ولو لم يكن من ثوابهم ،إل أن ال تعالى نوه بذكرهم في العالمين ،وجعل لهم
لسان صدق في الخرين ،لكفى بذلك شرفا وفضل.
{ { } 88 - 87وَذَا النّونِ ِإذْ َذ َهبَ ُمغَاضِبًا َفظَنّ أَنْ لَنْ َنقْدِرَ عَلَ ْيهِ فَنَادَى فِي الظُّلمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلّا أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ * فَاسْ َتجَبْنَا َل ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَمّ َوكَذَِلكَ نُنْجِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
أي :واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو :يونس ،أي :صاحب النون ،وهي الحوت ،بالذكر
الجميل ،والثناء الحسن ،فإن ال تعالى أرسله إلى قومه ،فدعاهم ،فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول
العذاب بأمد سماه لهم.
[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا ،فعجوا إلى ال ،وضجوا وتابوا ،فرفع ال عنهم العذاب كما قال
شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الْخِ ْزيِ
تعالى { :فََلوْلَا كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَا إِيمَا ُنهَا إِلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا آمَنُوا كَ َ
فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال { :وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِا َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا َفمَ ّتعْنَاهُمْ
إِلَى حِينٍ } وهذه المة العظيمة ،الذين آمنوا بدعوة يونس ،من أكبر فضائله .ولكنه عليه الصلة
والسلم ،ذهب مغاضبا ،وأبق عن ربه لذنب من الذنوب ،التي لم يذكرها ال لنا في كتابه ،ول
حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله { :إِذْ أَبَقَ إِلَى ا ْلفُ ْلكِ } { وَ ُهوَ مُلِيمٌ } أي :فاعل ما يلم عليه] والظاهر
أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره ال بذلك ،ظن أن ال ل
يقدر عليه ،أي :يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت ال تعالى ،ول مانع من عروض
هذا الظن للكمل من الخلق على وجه ل يستقر ،ول يستمر عليه ،فركب في السفينة مع أناس،
فاقترعوا ،من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم ،فأصابت القرعة يونس،
فالتقمه الحوت ،وذهب به إلى ظلمات البحار ،فنادى في تلك الظلمات { :لَا إِلَهَ إِلّا أَ ْنتَ سُبْحَا َنكَ
إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ } فأقر ل تعالى بكمال اللوهية ،ونزهه عن كل نقص ،وعيب وآفة،
واعترف بظلم نفسه وجنايته.
قال ال تعالى { :فََلوْلَا أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ* لَلَ ِبثَ فِي بَطْ ِنهِ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } ولهذا قال هنا:
{ فَاسْتَجَبْنَا َل ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَمّ } أي :الشدة التي وقع فيها.
{ َوكَذَِلكَ نُ ْنجِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وهذا وعد وبشارة ،لكل مؤمن وقع في شدة وغم ،أن ال تعالى سينجيه
منها ،ويكشف عنه ويخفف ،ليمانه كما فعل بب " يونس " عليه السلم.
{ { } 90 - 89وَ َزكَرِيّا إِذْ نَادَى رَبّهُ َربّ لَا َتذَرْنِي فَرْدًا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
جهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ وَ َيدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا
َووَهَبْنَا لَهُ َيحْيَى وََأصْلَحْنَا لَهُ َزوْ َ
شعِينَ }
َوكَانُوا لَنَا خَا ِ
أي :واذكر عبدنا ورسولنا زكريا ،منوها بذكره ،ناشرا لمناقبه وفضائله ،التي من جملتها ،هذه
المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق ،ورحمة ال إياه ،وأنه { نَادَى رَبّهُ َربّ لَا َتذَرْنِي فَ ْردًا }
خ ْفتُ
شقِيّا* وَإِنّي ِ
ظمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبًا وَلَمْ َأكُنْ بِدُعَا ِئكَ َربّ َ
أي { :قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ
ك وَلِيّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ
ن وَرَائِي َوكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َف َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْن َ
ا ْل َموَاِليَ مِ ْ
جعَلْهُ َربّ َرضِيّا }
وَا ْ
من هذه اليات علمنا أن قوله { َربّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا } أنه لما تقارب أجله ،خاف أن ل يقوم أحد
بعده مقامه في الدعوة إلى ال ،والنصح لعباد ال ،وأن يكون في وقته فردا ،ول يخلف من يشفعه
ويعينه ،على ما قام به { ،وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ } أي :خير الباقين ،وخير من خلفني بخير ،وأنت
أرحم بعبادك مني ،ولكني أريد ما يطمئن به قلبي ،وتسكن له نفسي ،ويجري في موازيني ثوابه.
{ فَاسْتَجَبْنَا َل ُه َووَهَبْنَا لَهُ َيحْيَى } النبي الكريم ،الذي لم يجعل ال له من قبل سميا.
جهُ } بعدما كانت عاقرا ،ل يصلح رحمها للولدة فأصلح ال رحمها للحمل،
{ وََأصْلَحْنَا لَهُ َزوْ َ
لجل نبيه زكريا ،وهذا من فوائد الجليس ،والقرين الصالح ،أنه مبارك على قرينه ،فصار يحيى
مشتركا بين الوالدين.
ولما ذكر هؤلء النبياء والمرسلين ،كل على انفراده ،أثنى عليهم عموما فقال { :إِ ّنهُمْ كَانُوا
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي :يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة ،ويكملونها على الوجه
اللئق الذي ينبغي ول يتركون فضيلة يقدرون عليها ،إل انتهزوا الفرصة فيها { ،وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا } أي :يسألوننا المور المرغوب فيها ،من مصالح الدنيا والخرة ،ويتعوذون بنا من المور
المرهوب منها ،من مضار الدارين ،وهم راغبون راهبون ل غافلون ،لهون ول مدلونَ { ،وكَانُوا
شعِينَ } أي :خاضعين متذللين متضرعين ،وهذا لكمال معرفتهم بربهم.
لَنَا خَا ِ
حصَنَتْ
أي :واذكر مريم ،عليها السلم ،مثنيا عليها مبينا لقدرها ،شاهرا لشرفها فقال { :وَالّتِي َأ ْ
جهَا } أي :حفظته من الحرام وقربانه ،بل ومن الحلل ،فلم تتزوج لشتغالها بالعبادة،
فَرْ َ
واستغراق وقتها بالخدمة لربها.
جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَا آيَةً لِ ْلعَاَلمِينَ } حيث حملت به ،ووضعته من دون مسيس أحد ،وحيث تكلم في
{ َو َ
المهد ،وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة ،وأجرى ال على يديه من
الخوارق والمعجزات ما هو معلوم ،فكانت وابنها آية للعالمين ،يتحدث بها جيل بعد جيل ،ويعتبر
بها المعتبرون.
ولهذا قال { :وَأَنَا رَ ّب ُكمْ } الذي خلقتكم ،وربيتكم بنعمتي ،في الدين والدنيا ،فإذا كان الرب واحدا،
والنبي واحدا ،والدين واحدا ،وهو عبادة ال ،وحده ل شريك له ،بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم
والواجب عليكم ،القيام بها ،ولهذا قال { :فَاعْبُدُونِ } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء ،ترتيب
المسبب على سببه.
وكان اللئق ،الجتماع على هذا المر ،وعدم التفرق فيه ،ولكن البغي والعتداء ،أبيا إل الفتراق
طعُوا َأمْرَهُمْ بَيْ َنهُمْ } أي :تفرق الحزاب المنتسبون لتباع النبياء فرقا،
والتقطع .ولهذا قال { :وَ َتقَ ّ
وتشتتوا ،كل يدعي أن الحق معه ،والباطل مع الفريق الخر و { ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ }
وقد علم أن المصيب منهم ،من كان سالكا للدين القويم ،والصراط المستقيم ،مؤتما بالنبياء
وسيظهر هذا ،إذا انكشف الغطاء ،وبرح الخفاء ،وحشر ال الناس لفصل القضاء ،فحينئذ يتبين
جعُونَ } أي:
الصادق من الكاذب ،ولهذا قالُ { :كلّ } من الفرق المتفرقة وغيرهم { إِلَيْنَا رَا ِ
فنجازيهم أتم الجزاء.
ثم فصل جزاءه فيهم ،منطوقا ومفهوما ،فقالَ { :فمَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ } أي :العمال التي
سعْيِهِ
شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب { وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ } بال وبرسله ،وما جاءوا به { فَلَا ُكفْرَانَ لِ َ
} أي :ل نضيع سعيه ول نبطله ،بل نضاعفه له أضعافا كثيرة.
{ وَإِنّا َلهُ كَاتِبُونَ } أي :مثبتون له في اللوح المحفوظ ،وفي الصحف التي مع الحفظة .أي :ومن
لم يعمل من الصالحات ،أو عملها وهو ليس بمؤمن ،فإنه محروم ،خاسر في دينه ،ودنياه.
جعُونَ }
{ َ { } 95وحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهَْلكْنَاهَا أَ ّنهُمْ لَا يَرْ ِ
أي :يمتنع على القرى المهلكة المعذبة ،الرجوع إلى الدنيا ،ليستدركوا ما فرطوا فيه فل سبيل إلى
الرجوع لمن أهلك وعذب ،فليحذر المخاطبون ،أن يستمروا على ما يوجب الهلك فيقع بهم ،فل
يمكن رفعه ،وليقلعوا وقت المكان والدراك.
هذا تحذير من ال للناس ،أن يقيموا على الكفر والمعاصي ،وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج،
وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم ،وقد سد عليهم ذو القرنين ،لما شكي إليه إفسادهم في الرض،
وفي آخر الزمان ،ينفتح السد عنهم ،فيخرجون إلى الناس في هذه الحالة والوصف ،الذي ذكره ال
من كل من مكان مرتفع ،وهو الحدب ينسلون أي :يسرعون .وفي هذا دللة على كثرتهم الباهرة،
وإسراعهم في الرض ،إما بذواتهم ،وإما بما خلق ال لهم من السباب التي تقرب لهم البعيد،
وتسهل عليهم الصعب ،وأنهم يقهرون الناس ،ويعلون عليهم في الدنيا ،وأنه ل يد لحد بقتالهم.
{ وَاقْتَ َربَ ا ْلوَعْدُ ا ْلحَقّ } أي :يوم القيامة الذي وعد ال بإتيانه ،ووعده حق وصدق ،ففي ذلك اليوم
ترى أبصار الكفار شاخصة ،من شدة الفزاع والهوال المزعجة ،والقلقل المفظعة ،وما كانوا
يعرفون من جناياتهم وذنوبهم ،وأنهم يدعون بالويل والثبور ،والندم والحسرة ،على ما فات
غفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اليوم العظيم ،فلم نزل فيها مستغرقين ،وفي لهو الدنيا
ويقولون لب َ { :قدْ كُنّا فِي َ
متمتعين ،حتى أتانا اليقين ،ووردنا القيامة ،فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة ،لماتواَ { .بلْ
كُنّا ظَاِلمِينَ } اعترفوا بظلمهم ،وعدل ال فيهم ،فحينئذ يؤمر بهم إلى النار ،هم وما كانوا يعبدون،
ولهذا قال:
والحكمة في دخول الصنام النار ،وهي جماد ،ل تعقل ،وليس عليها ذنب ،بيان كذب من اتخذها
آلهة ،وليزداد عذابهم ،فلهذا قالَ { :لوْ كَانَ َهؤُلَاءِ آِلهَةً مَا وَرَدُوهَا } وهذا كقوله تعالى { :لِيُبَيّنَ َلهُمُ
الّذِي َيخْتَِلفُونَ فِيهِ وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } وكل من العابدين والمعبودين فيها،
خالدون ،ل يخرجون منها ،ول ينتقلون عنها.
ودخول آلهة المشركين النار ،إنما هو الصنام ،أو من عبد ،وهو راض بعبادته.
وأما المسيح ،وعزير ،والملئكة ونحوهم ،ممن عبد من الولياء ،فإنهم ل يعذبون فيها ،ويدخلون
في قوله { :إِنّ الّذِينَ سَ َب َقتْ َلهُمْ مِنّا ا ْلحُسْنَى } أي :سبقت لهم سابقة السعادة في علم ال ،وفي
اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والعمال الصالحة.
{ أُولَ ِئكَ عَ ْنهَا } أي :عن النار { مُ ْبعَدُونَ } فل يدخلونها ،ول يكونون قريبا منها ،بل يبعدون عنها،
سهُمْ خَالِدُونَ }
غاية البعد ،حتى ل يسمعوا حسيسها ،ول يروا شخصها { ،وَهُمْ فِي مَا اشْ َت َهتْ أَ ْنفُ ُ
من المآكل ،والمشارب ،والمناكح والمناظر ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على
قلب بشر ،مستمر لهم ذلك ،يزداد حسنه على الحقاب.
{ لَا يَحْزُ ُنهُمُ ا ْلفَزَعُ الَْأكْبَرُ } أي :ل يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع ،وذلك يوم القيامة ،حين تقرب
النار ،تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك المر وهؤلء ل يحزنهم ،لعلمهم بما
يقدمون عليه وأن ال قد أمنهم مما يخافون.
{ وَتَتََلقّاهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ } إذا بعثوا من قبورهم ،وأتوا على النجائب وفدا ،لنشورهم ،مهنئين لهم قائلين:
{ هَذَا َي ْو ُمكُمُ الّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فليهنكم ما وعدكم ال ،وليعظم استبشاركم ،بما أمامكم من
الكرامة ،وليكثر فرحكم وسروركم ،بما أمنكم ال من المخاوف والمكاره.
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات -على عظمها واتساعها -كما يطوي الكاتب للسجل
أي :الورقة المكتوب فيها ،فتنثر نجومها ،ويكور شمسها وقمرها ،وتزول عن أماكنها { َكمَا َبدَأْنَا
َأ ّولَ خَلْقٍ ُنعِي ُدهُ } أي :إعادتنا للخلق ،مثل ابتدائنا لخلقهم ،فكما ابتدأنا خلقهم ،ولم يكونوا شيئا،
كذلك نعيدهم بعد موتهم.
{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا ،لكمال قدرته ،وأنه ل تمتنع منه الشياء.
{ وََلقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ } وهو الكتاب المزبور ،والمراد :الكتب المنزلة ،كالتوراة ونحوها { مِنْ
َبعْدِ ال ّذكْرِ } أي :كتبناه في الكتب المنزلة ،بعد ما كتبنا في الكتاب السابق ،الذي هو اللوح
المحفوظ ،وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك { :أَنّ الْأَ ْرضَ }
أي :أرض الجنة { يَرِ ُثهَا عِبَا ِديَ الصّالِحُونَ } الذين قاموا بالمأمورات ،واجتنبوا المنهيات ،فهم
ع َدهُ وََأوْرَثَنَا الْأَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَ ْ
الذين يورثهم ال الجنات ،كقول أهل الجنة { :ا ْل َ
مِنَ الْجَنّةِ حَ ْيثُ َنشَاءُ }
ويحتمل أن المراد :الستخلف في الرض ،وأن الصالحين يمكن ال لهم في الرض ،ويوليهم
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َكمَا
عليها كقوله تعالى { :وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُمْ وَ َ
اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } الية.
{ ُقلْ } يا محمد { إِ ّنمَا يُوحَى ِإَليّ أَ ّنمَا ِإَل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ } الذي ل يستحق العبادة إل هو ،ولهذا قال:
{ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ } أي :منقادون لعبوديته مستسلمون للوهيته ،فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما
منّ عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن.
{ فَإِنْ َتوَّلوْا } عن النقياد لعبودية ربهم ،فحذرهم حلول المثلت ،ونزول العقوبة.
{ وَإِنْ َأدْرِي َأقَرِيبٌ أَمْ َبعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي :من العذاب لن علمه عند ال ،وهو بيده ،ليس لي
من المر شيء.
{ وَإِنْ َأدْرِي َلعَلّهُ فِتْ َنةٌ َلكُ ْم َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي :لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم،
وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين ،ثم يكون أعظم لعقوبتكم.
حكُمْ بِا ْلحَقّ } أي :بيننا وبين القوم الكافرين ،فاستجاب ال هذا الدعاء ،وحكم بينهم في
{ قَالَ َربّ ا ْ
الدنيا قبل الخرة ،بما عاقب ال به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها.
عظِيمٌ *
شيْءٌ َ
حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُمْ إِنّ زَلْ َزلَةَ السّاعَةِ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 2 - 1بِ ْ
سكَارَى َومَا
حمَْلهَا وَتَرَى النّاسَ ُ
ح ْملٍ َ
ض َعتْ وَ َتضَعُ ُكلّ ذَاتِ َ
عمّا أَ ْر َ
ضعَةٍ َ
َيوْمَ تَ َروْ َنهَا تَذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ
عذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ }
سكَارَى وََلكِنّ َ
هُمْ بِ ُ
يخاطب ال الناس كافة ،بأن يتقوا ربهم ،الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ،فحقيق بهم أن
يتقوه ،بترك الشرك والفسوق والعصيان ،ويمتثلوا أوامره ،مهما استطاعوا.
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ،ويحذرهم من تركها ،وهو الخبار بأهوال القيامة ،فقال:
شيْءٌ عَظِيمٌ } ل يقدر قدره ،ول يبلغ كنهه ،ذلك بأنها إذا وقعت الساعة،
{ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ َ
رجفت الرض وارتجت ،وزلزلت زلزالها ،وتصدعت الجبال ،واندكت ،وكانت كثيبا مهيل ،ثم
كانت هباء منبثا ،ثم انقسم الناس ثلثة أزواج.
فهناك تنفطر السماء ،وتكور الشمس والقمر ،وتنتثر النجوم ،ويكون من القلقل والبلبل ما
تنصدع له القلوب ،وتجل منه الفئدة ،وتشيب منه الولدان ،وتذوب له الصم الصلب ،ولهذا قال:
ض َعتْ } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها،
عمّا أَ ْر َ
ضعَةٍ َ
{ َيوْمَ تَ َروْ َنهَا َتذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ
خصوصا في هذه الحال ،التي ل يعيش إل بها.
سكَارَى }
سكَارَى َومَا هُمْ ِب ُ
حمَْلهَا } من شدة الفزع والهول { ،وَتَرَى النّاسَ ُ
ح ْملٍ َ
{ وَ َتضَعُ ُكلّ ذَاتِ َ
أي :تحسبهم -أيها الرائي لهم -سكارى من الخمر ،وليسوا سكارى.
عذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ } فلذلك أذهب عقولهم ،وفرغ قلوبهم ،وملها من الفزع ،وبلغت القلوب
{ وََلكِنّ َ
الحناجر ،وشخصت البصار ،وفي ذلك اليوم ،ل يجزي والد عن ولده ،ول مولود هو جاز عن
والده شيئا.
ويومئذ { َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ* وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ* َوصَاحِبَ ِت ِه وَبَنِيهِ* ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }
وهناك { يعض الظالم على يديه ،يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيل يا ويلتي ليتني لم أتخذ
فلنا خليل } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه ،وتنصب الموازين ،التي يوزن بها مثاقيل الذر،
من الخير والشر ،وتنشر صحائف العمال وما فيها من جميع العمال والقوال والنيات ،من
صغير وكبير ،وينصب الصراط على متن جهنم ،وتزلف الجنة للمتقين ،وبرزت الجحيم للغاوين.
{ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا
هنالك ثبورا } ويقال لهم { :لَا تَدْعُوا الْ َيوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وإذا نادوا ربهم
ليخرجهم منها ،قال { :اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ } قد غضب عليهم الرب الرحيم ،وحضرهم
العذاب الليم ،وأيسوا من كل خير ،ووجدوا أعمالهم كلها ،لم يفقدوا منها نقيرا ول قطميرا.
هذا ،والمتقون في روضات الجنات يحبرون ،وفي أنواع اللذات يتفكهون ،وفيما اشتهت أنفسهم
خالدون ،فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه ،أن يعد له عدته ،وأن ل يلهيه المل،
فيترك العمل ،وأن تكون تقوى ال شعاره ،وخوفه دثاره ،ومحبة ال ،وذكره ،روح أعماله.
{ َ { } 4 - 3ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَيَتّبِعُ ُكلّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُ ِتبَ عَلَيْهِ أَنّهُ
سعِيرِ }
مَنْ َتوَلّاهُ فَأَنّهُ ُيضِلّ ُه وَ َيهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ ال ّ
أي :ومن الناس طائفة وفرقة ،سلكوا طريق الضلل ،وجعلوا يجادلون بالباطل الحق ،يريدون
إحقاق الباطل وإبطال الحق ،والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء ،وغاية ما
عندهم ،تقليد أئمة الضلل ،من كل شيطان مريد ،متمرد على ال وعلى رسله ،معاند لهم ،قد شاق
ال ورسوله ،وصار من الئمة الذين يدعون إلى النار.
{ كُ ِتبَ عَلَيْهِ } أي :قدر على هذا الشيطان المريد { أَنّهُ مَنْ َتوَلّاهُ } أي :اتبعه { فَأَنّهُ ُيضِلّهُ } عن
سعِيرِ } وهذا نائب إبليس حقا ،فإن ال قال
الحق ،ويجنبه الصراط المستقيم { وَ َيهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ ال ّ
سعِيرِ } فهذا الذي يجادل في ال ،قد جمع بين
عنه { إِ ّنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ
ضلله بنفسه ،وتصديه إلى إضلل الناس ،وهو متبع ،ومقلد لكل شيطان مريد ،ظلمات بعضها
فوق بعض ،ويدخل في هذا ،جمهور أهل الكفر والبدع ،فإن أكثرهم مقلدة ،يجادلون بغير علم.
خَلقْنَاكُمْ مِنْ
أحدهما :الستدلل بابتداء خلق النسان ،وأن الذي ابتدأه سيعيده ،فقال فيه { :فَإِنّا َ
طفَةٍ } أي :مني ،وهذا ابتداء أول
تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلم { ،ثُمّ مِنْ ُن ْ
ضغَةٍ } أي :ينتقل
التخليقُ { ،ثمّ مِنْ عََلقَةٍ } أي :تنقلب تلك النطفة ،بإذن ال دما أحمر { ،ثُمّ مِنْ ُم ْ
الدم مضغة ،أي :قطعة لحم ،بقدر ما يمضغ ،وتلك المضغة تارة تكون { مُخَّلقَةٍ } أي :مصور
منها خلق الدمي { ،وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ } تارة ،بأن تقذفها الرحام قبل تخليقها { ،لِنُبَيّنَ َلكُمْ } أصل
نشأتكم ،مع قدرته تعالى ،على تكميل خلقه في لحظة واحدة ،ولكن ليبين لنا كمال حكمته ،وعظيم
قدرته ،وسعة رحمته.
{ َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى } من قبل أن يبلغ سن الشد ،ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ،أي:
أخسه وأرذله ،وهو سن الهرم والتخريف ،الذي به يزول العقل ،ويضمحل ،كما زالت باقي القوة،
وضعفت.
علْمٍ شَيْئًا } أي :لجل أن ل يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك،
{ ِلكَيْلَا َيعْلَمَ مِنْ َبعْدِ ِ
وذلك لضعف عقله ،فقوة الدمي محفوفة بضعفين ،ضعف الطفولية ونقصها ،وضعف الهرم
ج َعلَ مِنْ َبعْدِ
ض ْعفٍ ُق ّوةً ُثمّ َ
ج َعلَ مِنْ َبعْ ِد َ
ضعْفٍ ثُمّ َ
ن َ
ونقصه ،كما قال تعالى { :اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مِ ْ
ض ْعفًا وَشَيْبَةً َيخْلُقُ مَا َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ } والدليل الثاني ،إحياء الرض بعد موتها ،فقال
ُق ّوةٍ َ
ال فيه { :وَتَرَى الْأَ ْرضَ هَامِ َدةً } أي :خاشعة مغبرة ل نبات فيها ،ول خضر { ،فَِإذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا
ا ْلمَاءَ اهْتَ ّزتْ } أي :تحركت بالنبات { وَرَ َبتْ } أي :ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها،
{ وَأَنْبَ َتتْ مِنْ ُكلّ َزوْجٍ } أي :صنف من أصناف النبات { َبهِيجٍ } أي :يبهج الناظرين ،ويسر
المتأملين ،فهذان الدليلن القاطعان ،يدلن على هذه المطالب الخمسة ،وهي هذه.
{ ذَِلكَ } الذي أنشأ الدمي من ما وصف لكم ،وأحيا الرض بعد موتها { ،بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ }
أي :الرب المعبود ،الذي ل تنبغي العبادة إل له ،وعبادته هي الحق ،وعبادة غيره باطلة { ،وَأَنّهُ
شيْءٍ قَدِيرٌ } كما
يُحْيِي ا ْل َموْتَى } كما ابتدأ الخلق ،وكما أحيا الرض بعد موتها { ،وَأَنّهُ عَلَى ُكلّ َ
أشهدكم من بديع قدرته وعظيم صنعته ما أشهدكم.
{ وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا } فل وجه لستبعادها { ،وَأَنّ اللّهَ يَ ْب َعثُ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ } فيجازيكم
بأعمالكم حسنها وسيئها.
طفِهِ
{ َ { } 9 - 8ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَا ِنيَ عِ ْ
عذَابَ الْحَرِيقِ }
ي وَنُذِيقُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َ
ضلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ
لِ ُي ِ
المجادلة المتقدمة للمقلد ،وهذه المجادلة للشيطان المريد ،الداعي إلى البدع ،فأخبر أنه { ُيجَا ِدلُ فِي
اللّهِ } أي :يجادل رسل ال وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحقِ { ،بغَيْرِ عِ ْلمٍ } صحيح { وَلَا هُدًى }
أي :غير متبع في جداله هذا من يهديه ،ل عقل مرشد ،ول متبوع مهتد { ،وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي:
واضح بين ،أي :فل له حجة عقلية ول نقلية ،إن هي إل شبهات ،يوحيها إليه الشيطان { وَإِنّ
طفِهِ } أي :لوي جانبه وعنقه ،وهذا
ع ْ
الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَا ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ } ومع هذا { ثَا ِنيَ ِ
كناية عن كبره عن الحق ،واحتقاره للخلق ،فقد فرح بما معه من العلم غير النافع ،واحتقر أهل
ضلّ } الناس ،أي :ليكون من دعاة الضلل ،ويدخل تحت هذا
الحق وما معهم من الحق { ،لِ ُي ِ
جميع أئمة الكفر والضلل ،ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والخروية فقال { :لَهُ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ } أي:
يفتضح هذا في الدنيا قبل الخرة ،وهذا من آيات ال العجيبة ،فإنك ل تجد داعيا من دعاة الكفر
والضلل ،إل وله من المقت بين العالمين ،واللعنة ،والبغض ،والذم ،ما هو حقيق به ،وكل بحسب
حاله.
{ وَنُذِيقُهُ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ } أي :نذيقه حرها الشديد ،وسعيرها البليغ ،وذلك بما قدمت
ظلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }
يداه { ،وَأّن اللّهَ لَيْسَ بِ َ
أي :ومن الناس من هو ضعيف اليمان ،لم يدخل اليمان قلبه ،ولم تخالطه بشاشته ،بل دخل فيه،
طمَأَنّ بِهِ } أي :إن استمر
إما خوفا ،وإما عادة على وجه ل يثبت عند المحن { ،فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
رزقه رغدا ،ولم يحصل له من المكاره شيء ،اطمأن بذلك الخير ،ل بإيمانه .فهذا ،ربما أن ال
يعافيه ،ول يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه { ،وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } من حصول مكروه،
خسِرَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةَ } أما في الدنيا،
جهِهِ } أي :ارتد عن دينهَ { ،
أو زوال محبوب { ا ْنقََلبَ عَلَى وَ ْ
فإنه ل يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله ،وعوضا عما يظن إدراكه ،فخاب
سعيه ،ولم يحصل له إل ما قسم له ،وأما الخرة ،فظاهر ،حرم الجنة التي عرضها السماوات
والرض ،واستحق النار { ،ذَِلكَ ُهوَ الْخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ } أي :الواضح البين.
{ َيدْعُو } هذا الراجع على وجهه { مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُ ّرهُ َومَا لَا يَ ْن َفعُهُ } وهذا صفة كل مدعو
ومعبود من دون ال ،فإنه ل يملك لنفسه ول لغيره نفعا ول ضرا { ،ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ }
الذي قد بلغ في البعد إلى حد النهاية ،حيث أعرض عن عبادة النافع الضار ،الغني المغني ،وأقبل
على عبادة مخلوق مثله أو دونه ،ليس بيده من المر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده
ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِنْ َن ْفعِهِ } فإن ضرره في العقل والبدن والدنيا
أقرب ،ولهذا قال { :يَدْعُو َلمَ ْ
والخرة معلوم { لَبِ ْئسَ ا ْل َموْلَى } أي :هذا المعبود { وَلَبِئْسَ ا ْلعَشِيرُ } أي :القرين الملزم على
صحبته ،فإن المقصود من المولى والعشير ،حصول النفع ،ودفع الضرر ،فإذا لم يحصل شيء من
هذا ،فإنه مذموم ملوم.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ إِنّ اللّهَ
خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
{ { } 14إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
َي ْفعَلُ مَا يُرِيدُ }
لما ذكر تعالى المجادل بالباطل ،وأنه على قسمين ،مقلد ،وداع ،ذكر أن المتسمي باليمان أيضا
على قسمين ،قسم لم يدخل اليمان قلبه كما تقدم ،والقسم الثاني :المؤمن حقيقة ،صدق ما معه من
اليمان بالعمال الصالحة ،فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها النهار ،وسميت
الجنة جنة ،لشتمالها على المنازل والقصور والشجار والنوابت التي تجن من فيها ،ويستتر بها
من كثرتها { ،إِنّ اللّهَ َي ْفعَلُ مَا يُرِيدُ } فما أراده تعالى فعله من غير ممانع ول معارض ،ومن
ذلك ،إيصال أهل الجنة إليها ،جعلنا ال منهم بمنه وكرمه.
طعْ
سمَاءِ ثُمّ لِ َيقْ َ
{ { } 15مَنْ كَانَ َيظُنّ أَنْ لَنْ يَ ْنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ فَلْ َيمْ ُددْ بِسَ َببٍ إِلَى ال ّ
فَلْيَنْظُرْ َهلْ ُيذْهِبَنّ كَ ْي ُدهُ مَا َيغِيظُ }
أي :من كان يظن أن ال ل ينصر رسوله ،وأن دينه سيضمحل ،فإن النصر من ال ينزل من
سمَاءِ } وليرقى إليها { ثُمّ لِ َيقْطَعْ } النصر
السماء { فَلْ َيمْ ُددْ } ذلك الظان { ِبسَ َببٍ } أي :حبل { ِإلَى ال ّ
النازل عليه من السماء
{ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ ُيذْهِبَنّ كَيْ ُدهُ } أي :ما يكيد به الرسول ،ويعمله من محاربته ،والحرص على إبطال
دينه ،ما يغيظه من ظهور دينه ،وهذا استفهام بمعنى النفي [وأنه] ،ل يقدر على شفاء غيظه بما
يعمله من السباب.
ومعنى هذه الية الكريمة :يا أيها المعادي للرسول محمد صلى ال عليه وسلم ،الساعي في إطفاء
دينه ،الذي يظن بجهله ،أن سعيه سيفيده شيئا ،اعلم أنك مهما فعلت من السباب ،وسعيت في كيد
الرسول ،فإن ذلك ل يذهب غيظك ،ول يشفي كمدك ،فليس لك قدرة في ذلك ،ولكن سنشير عليك
برأي ،تتمكن به من شفاء غيظك ،ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا -ائت المر مع
بابه ،وارتق إليه بأسبابه ،اعمد إلى حبل من ليف أو غيره ،ثم علقه في السماء ،ثم اصعد به حتى
تصل إلى البواب التي ينزل منها النصر ،فسدها وأغلقها واقطعها ،فبهذه الحال تشفي غيظك،
فهذا هو الرأي :والمكيدة ،وأما ما سوى هذه الحال فل يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ،ولو
ساعدك من ساعدك من الخلق .وهذه الية الكريمة ،فيها من الوعد والبشارة بنصر ال لدينه
ولرسوله وعباده المؤمنين ما ل يخفى ،ومن تأييس الكافرين ،الذين يريدون أن يطفئوا نور ال
بأفواههم ،وال متم نوره ،ولو كره الكافرون ،أي :وسعوا مهما أمكنهم.
أي :وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا ،جعلناه آيات بينات واضحات ،دالت على جميع
المطالب والمسائل النافعة ،ولكن الهداية بيد ال ،فمن أراد ال هدايته ،اهتدى بهذا القرآن ،وجعله
إماما له وقدوة ،واستضاء بنوره ،ومن لم يرد ال هدايته ،فلو جاءته كل آية ما آمن ،ولم ينفعه
القرآن شيئا ،بل يكون حجة عليه.
حمِيدِ } يخبر تعالى عن طوائف أهل الرض ،من الذين أوتوا الكتاب ،من
{ وَ ُهدُوا إِلَى صِرَاطِ ا ْل َ
المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ،ومن المجوس ،ومن المشركين أن ال سيجمعهم جميعهم
ليوم القيامة ،ويفصل بينهم بحكمه العدل ،ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها ،ولهذا
صمُوا
صمَانِ اخْ َت َ
خ ْ
شهِيدٌ } ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله { :هَذَانِ َ
شيْءٍ َ
قال { :إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
فِي رَ ّب ِهمْ } كل يدعي أنه المحق.
{ فَالّذِينَ َكفَرُوا } يشمل كل كافر ،من اليهود ،والنصارى ،والمجوس ،والصابئين ،والمشركين.
ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي :يجعل لهم ثياب من قطران ،وتشعل فيها النار ،ليعمهم العذاب
{ ُق ّ
من جميع جوانبهم.
س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكولت اللذيذات المشتمل عليها ،لفظ الجنات،
{ وَلِبَا ُ
وذكر النهار السارحات ،أنهار الماء واللبن والعسل والخمر ،وأنواع اللباس ،والحلي الفاخر،
وذلك بسبب أنهم { ُهدُوا إِلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َقوْلِ } الذي أفضله وأطيبه كلمة الخلص ،ثم سائر
حمِيدِ } أي:
القوال الطيبة التي فيها ذكر ال ،أو إحسان إلى عباد ال { ،وَ ُهدُوا إِلَى صِرَاطِ ا ْل َ
الصراط المحمود ،وذلك ،لن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد ،وحسن المأمور به،
وقبح المنهي عنه ،وهو الدين الذي ل إفراط فيه ول تفريط ،المشتمل على العلم النافع والعمل
الصالح .أو :وهدوا إلى صراط ال الحميد ،لن ال كثيرا ما يضيف الصراط إليه ،لنه يوصل
صاحبه إلى ال ،وفي ذكر { الحميد } هنا ،ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم ،ولهذا
حمْدُ لِلّهِ الّذِي َهدَانَا ِلهَذَا َومَا كُنّا لِ َنهْ َت ِديَ َلوْلَا أَنْ َهدَانَا اللّهُ } واعترض تعالى
يقولون في الجنة { :ا ْل َ
بين هذه اليات بذكر سجود المخلوقات له ،جميع من في السماوات والرض ،والشمس ،والقمر،
والنجوم ،والجبال ،والشجر ،والدواب ،الذي يشمل الحيوانات كلها ،وكثير من الناس ،وهم
المؤمنونَ { ،وكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَابُ } أي :وجب وكتب ،لكفره وعدم إيمانه ،فلم يوفقه لليمان،
لن ال أهانهَ { ،ومَنْ ُيهِنِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ ُمكْرِمٍ } ول راد لما أراد ،ول معارض لمشيئته ،فإذا
كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها ،خاضعة لعظمته ،مستكينة لعزته ،عانية لسلطانه ،دل على أنه
وحده ،الرب المعبود ،والملك المحمود ،وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه ،فقد ضل ضلل بعيدا،
وخسر خسرانا مبينا.
سوَاءً
جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ َ
سجِدِ الْحَرَامِ الّذِي َ
{ { } 25إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَ ْ
ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَادِي َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُ ْلمٍ نُ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم ،وأنهم جمعوا بين الكفر بال ورسوله،
وبين الصد عن سبيل ال ومنع الناس من اليمان ،والصد أيضا عن المسجد الحرام ،الذي ليس
ملكا لهم ول لبائهم ،بل الناس فيه سواء ،المقيم فيه ،والطارئ إليه ،بل صدوا عنه أفضل الخلق
محمدا وأصحابه ،والحال أن هذا المسجد الحرام ،من حرمته واحترامه وعظمته ،أن من يرد فيه
بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
فمجرد إرادة الظلم واللحاد في الحرم ،موجب للعذاب ،وإن كان غيره ل يعاقب العبد عليه إل
بعمل الظلم ،فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم ،من الكفر والشرك ،والصد عن سبيله ،ومنع من
يريده بزيارة ،فما ظنكم أن يفعل ال بهم؟"
وفي هذه الية الكريمة ،وجوب احترام الحرم ،وشدة تعظيمه ،والتحذير من إرادة المعاصي فيه
وفعلها.
يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجللته وعظمة بانيه ،وهو خليل الرحمن ،فقال { :وَإِذْ َبوّأْنَا
لِإِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ } أي :هيأناه له ،وأنزلناه إياه ،وجعل قسما من ذريته من سكانه ،وأمره ال
ببنيانه ،فبناه على تقوى ال ،وأسسه على طاعة ال ،وبناه هو وابنه إسماعيل ،وأمره أن ل يشرك
به شيئا ،بأن يخلص ل أعماله ،ويبنيه على اسم ال.
طهّرْ بَيْ ِتيَ } أي :من الشرك والمعاصي ،ومن النجاس والدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه،
{ َو َ
لشرفه ،وفضله ،ولتعظم محبته في القلوب ،وتنصب إليه الفئدة من كل جانب ،وليكون أعظم
لتطهيره وتعظيمه ،لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده ،المقيمين لعبادة من العبادات من
ذكر ،وقراءة ،وتعلم علم وتعليمه ،وغير ذلك من أنواع القرب { ،وَال ّركّعِ السّجُودِ } أي :المصلين،
أي :طهره لهؤلء الفضلء ،الذين همهم طاعة مولهم وخدمته ،والتقرب إليه عند بيته ،فهؤلء
لهم الحق ،ولهم الكرام ،ومن إكرامهم تطهير البيت لجلهم ،ويدخل في تطهيره ،تطهيره من
الصوات اللغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين ،بالصلة والطواف ،وقدم الطواف على
العتكاف والصلة ،لختصاصه بهذا البيت ،ثم العتكاف ،لختصاصه بجنس المساجد.
{ وََأذّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجّ } أي :أعلمهم به ،وادعهم إليه ،وبلغ دانيهم وقاصيهم ،فرضه وفضيلته،
فإنك إذا دعوتهم ،أتوك حجاجا وعمارا ،رجال ،أي :مشاة على أرجلهم من الشوق { ،وَعَلَى ُكلّ
ضَامِرٍ } أي :ناقة ضامر ،تقطع المهامه والمفاوز ،وتواصل السير ،حتى تأتي إلى أشرف
عمِيقٍ } أي :من كل بلد بعيد ،وقد فعل الخليل عليه السلم ،ثم من بعده ابنه
الماكن { ،مِنْ ُكلّ فَجّ َ
محمد صلى ال عليه وسلم ،فدعيا الناس إلى حج هذا البيت ،وأبديا في ذلك وأعادا ،وقد حصل ما
وعد ال به ،أتاه الناس رجال وركبانا من مشارق الرض ومغاربها ،ثم ذكر فوائد زيارة بيت ال
ش َهدُوا مَنَافِعَ َلهُمْ } أي :لينالوا ببيت ال منافع دينية ،من العبادات
الحرام ،مرغبا فيه فقال { :لِيَ ْ
الفاضلة ،والعبادات التي ل تكون إل فيه ،ومنافع دنيوية ،من التكسب ،وحصول الرباح الدنيوية،
وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه { ،وَيَ ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ
الْأَ ْنعَامِ } وهذا من المنافع الدينية والدنيوية ،أي :ليذكروا اسم ال عند ذبح الهدايا ،شكرا ل على ما
ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْل َفقِيرَ } أي :شديد الفقر ،
رزقهم منها ،ويسرها لهم ،فإذا ذبحتموها { َفكُلُوا مِ ْنهَا وَأَ ْ
{ ُثمّ لْ َي ْقضُوا َتفَ َثهُمْ } أي :يقضوا نسكهم ،ويزيلوا الوسخ والذى ،الذي لحقهم في حال الحرام،
ط ّوفُوا بِالْبَ ْيتِ
{ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } التي أوجبوها على أنفسهم ،من الحج ،والعمرة والهدايا { ،وَلْيَ ّ
ا ْلعَتِيقِ } أي :القديم ،أفضل المساجد على الطلق ،المعتق :من تسلط الجبابرة عليه .وهذا أمر
بالطواف ،خصوصا بعد المر بالمناسك عموما ،لفضله ،وشرفه ،ولكونه المقصود ،وما قبله
وسائل إليه.
ولعله -وال أعلم أيضا -لفائدة أخرى ،وهو :أن الطواف مشروع كل وقت ،وسواء كان تابعا
لنسك ،أم مستقل بنفسه.
ك َومَنْ ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َف ُهوَ خَيْرٌ َلهُ عِنْدَ رَبّ ِه وَأُحِّلتْ َلكُمُ الْأَ ْنعَامُ إِلّا مَا يُتْلَى
{ { } 31 - 30ذَِل َ
عَلَ ْيكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الَْأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا َقوْلَ الزّورِ *حُ َنفَاءَ لِلّهِ غَيْرَ ُمشْ ِركِينَ بِ ِه َومَنْ يُشْ ِركْ
سحِيقٍ }
طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ الرّيحُ فِي َمكَانٍ َ
خَسمَاءِ فَتَ ْ
بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ
{ ذَِلكَ } الذي ذكرنا لكم من تلكم الحكام ،وما فيها من تعظيم حرمات ال وإجللها وتكريمها ،لن
تعظيم حرمات ال ،من المور المحبوبة ل ،المقربة إليه ،التي من عظمها وأجلها ،أثابه ال ثوابا
جزيل ،وكانت خيرا له في دينه ،ودنياه وأخراه عند ربه.
وحرمات ال :كل ماله حرمة ،وأمر باحترامه ،بعبادة أو غيرها ،كالمناسك كلها ،وكالحرم
والحرام ،وكالهدايا ،وكالعبادات التي أمر ال العباد بالقيام بها ،فتعظيمها إجللها بالقلب،
ومحبتها ،وتكميل العبودية فيها ،غير متهاون ،ول متكاسل ،ول متثاقل ،ثم ذكر منته وإحسانه بما
أحله لعباده ،من بهيمة النعام ،من إبل وبقر وغنم ،وشرعها من جملة المناسك ،التي يتقرب بها
إليه ،فعظمت منته فيها من الوجهينِ { ،إلّا مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } في القرآن تحريمه من قوله { :حُ ّر َمتْ
عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َت ُة وَالدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } الية ،ولكن الذي من رحمته بعباده ،أن حرمه عليهم ،ومنعهم
جسَ } أي :الخبث
منه ،تزكية لهم ،وتطهيرا من الشرك به وقول الزور ،ولهذا قال { :فَاجْتَنِبُوا الرّ ْ
القذر { مِنَ الَْأوْثَانِ } أي :النداد ،التي جعلتموها آلهة مع ال ،فإنها أكبر أنواع الرجس ،والظاهر
أن { من } هنا ليست لبيان الجنس ،كما قاله كثير من المفسرين ،وإنما هي للتبعيض ،وأن الرجس
عام في جميع المنهيات المحرمات ،فيكون منهيا عنها عموما ،وعن الوثان التي هي بعضها
خصوصا { ،وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ } أي :جميع القوال المحرمات ،فإنها من قول الزور الذي هو
الكذب ،ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاهم عن الشرك والرجس وقول الزور.
أمرهم أن يكونوا { حُ َنفَاءَ ِللّهِ } أي :مقبلين عليه وعلى عبادته ،معرضين عما سواه.
طفُهُ
سمَاءِ } أي :سقط منها { فَ َتخْ َ
{ غَيْرَ مُشْ ِركِينَ بِ ِه َومَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ } فمثله { َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ
الطّيْرُ } بسرعة { َأوْ َت ْهوِي ِبهِ الرّيحُ فِي َمكَانٍ سَحِيقٍ } أي :بعيد ،كذلك المشرك ،فاليمان بمنزلة
السماء ،محفوظة مرفوعة.
ومن ترك اليمان ،بمنزلة الساقط من السماء ،عرضة للفات والبليات ،فإما أن تخطفه الطير
فتقطعه أعضاء ،كذلك المشرك إذا ترك العتصام باليمان تخطفته الشياطين من كل جانب،
ومزقوه ،وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
جلٍ
شعَائِرَ اللّهِ فَإِ ّنهَا مِنْ َت ْقوَى ا ْلقُلُوبِ * َلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى َأ َ
ك َومَنْ ُيعَظّمْ َ
{ { } 33 - 32ذَِل َ
سمّى ُثمّ مَحِّلهَا إِلَى الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }
مُ َ
أي :ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره ،والمراد بالشعائر :أعلم الدين الظاهرة،
شعَائِرِ اللّهِ } ومنها الهدايا والقربان
صفَا وَا ْلمَ ْروَةَ مِنْ َ
ومنها المناسك كلها ،كما قال تعالى { :إِنّ ال ّ
للبيت ،وتقدم أن معنى تعظيمها ،إجللها ،والقيام بها ،وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد،
ومنها الهدايا ،فتعظيمها ،باستحسانها واستسمانها ،وأن تكون مكملة من كل وجه ،فتعظيم شعائر
ال صادر من تقوى القلوب ،فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه ،لن تعظيمها ،تابع
لتعظيم ال وإجلله.
أي :ولكل أمة من المم السالفة جعلنا منسكا ،أي :فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها ،ولننظر
أيكم أحسن عمل ،والحكمة في جعل ال لكل أمة منسكا ،لقامة ذكره ،واللتفات لشكره ،ولهذا
قال { :لِيَ ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ فَإَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ } وإن اختلفت أجناس
الشرائع ،فكلها متفقة على هذا الصل ،وهو ألوهية ال ،وإفراده بالعبودية ،وترك الشرك به ولهذا
قال { :فَلَهُ َأسِْلمُوا } أي :انقادوا واستسلموا له ل لغيره ،فإن السلم له طريق إلى الوصول إلى
دار السلم { .وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ } بخير الدنيا والخرة ،والمخبت :الخاضع لربه ،المستسلم لمره،
المتواضع لعباده ،ثم ذكر صفات المخبتين فقال { :الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ } أي :خوفا
وتعظيما ،فتركوا لذلك المحرمات ،لخوفهم ووجلهم من ال وحده { ،وَالصّابِرِينَ عَلَى مَا َأصَا َبهُمْ }
من البأساء والضراء ،وأنواع الذى ،فل يجري منهم التسخط لشيء من ذلك ،بل صبروا ابتغاء
وجه ربهم ،محتسبين ثوابه ،مرتقبين أجره { ،وَا ْل ُمقِيمِي الصّلَاةِ } أي :الذين جعلوها قائمة مستقيمة
كاملة ،بأن أدوا اللزم فيها والمستحب ،وعبوديتها الظاهرة والباطنةَ { ،و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ }
وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة ،كالزكاة ،والكفارة ،والنفقة على الزوجات والمماليك،
والقارب ،والنفقات المستحبة ،كالصدقات بجميع وجوهها ،وأتي بب { من } المفيدة للتبعيض،
ليعلم سهولة ما أمر ال به ورغب فيه ،وأنه جزء يسير مما رزق ال ،ليس للعبد في تحصيله
قدرة ،لول تيسير ال له ورزقه إياه .فيا أيها المرزوق من فضل ال ،أنفق مما رزقك ال ،ينفق
ال عليك ،ويزدك من فضله.
صوَافّ
سمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا َ
شعَائِرِ اللّهِ َلكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَا ْذكُرُوا ا ْ
جعَلْنَاهَا َلكُمْ مِنْ َ
{ { } 37 - 36وَالْبُدْنَ َ
شكُرُونَ * لَنْ
سخّرْنَاهَا َل ُكمْ َلعَّلكُمْ تَ ْ
ط ِعمُوا ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ كَذَِلكَ َ
فَإِذَا وَجَ َبتْ جُنُو ُبهَا َفكُلُوا مِ ْنهَا وَأَ ْ
سخّرَهَا َلكُمْ لِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا َهدَاكُمْ
يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَلَا ِدمَاؤُهَا وََلكِنْ يَنَاُلهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ كَذَِلكَ َ
حسِنِينَ }
وَبَشّرِ ا ْلمُ ْ
هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلم الدين الظاهرة .وتقدم أن ال أخبر أن من عظم
شعائره ،فإن ذلك من تقوى القلوب ،وهنا أخبر أن من جملة شعائره ،البدن ،أي :البل ،والبقر،
على أحد القولين ،فتعظم وتستسمن ،وتستحسنَ { ،لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي :المهدي وغيره ،من الكل،
والصدقة ،والنتفاع ،والثواب ،والجر { ،فَا ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا } أي :عند ذبحها قولوا " بسم ال
صوَافّ } أي :قائمات ،بأن تقام على قوائمها الربع ،ثم تعقل يدها اليسرى ،ثم
"س واذبحوهاَ { ،
تنحر.
{ فَِإذَا وَجَ َبتْ جُنُو ُبهَا } أي :سقطت في الرض جنوبها ،حين تسلخ ،ثم يسقط الجزار جنوبها على
الرض ،فحينئذ قد استعدت لن يؤكل منهاَ { ،فكُلُوا مِ ْنهَا } وهذا خطاب للمهدي ،فيجوز له الكل
ط ِعمُوا ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ } أي :الفقير الذي ل يسأل ،تقنعا ،وتعففا ،والفقير الذي يسأل،
من هديه { ،وََأ ْ
فكل منهما له حق فيهما.
وقوله { :لَنْ يَنَالَ اللّهَ لُحُو ُمهَا وَلَا ِدمَاؤُهَا } أي :ليس المقصود منها ذبحها فقط .ول ينال ال من
لحومها ول دمائها شيء ،لكونه الغني الحميد ،وإنما يناله الخلص فيها ،والحتساب ،والنية
الصالحة ،ولهذا قال { :وََلكِنْ يَنَالُهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ } ففي هذا حث وترغيب على الخلص في
النحر ،وأن يكون القصد وجه ال وحده ،ل فخرا ول رياء ،ول سمعة ،ول مجرد عادة ،وهكذا
سائر العبادات ،إن لم يقترن بها الخلص وتقوى ال ،كانت كالقشور الذي ل لب فيه ،والجسد
الذي ل روح فيه.
سخّرَهَا َلكُمْ لِ ُتكَبّرُوا اللّهَ } أي :تعظموه وتجلوه { ،عَلَى مَا َهدَاكُمْ } أي :مقابلة لهدايته
{ َكذَِلكَ َ
إياكم ،فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد ،وأعلى التعظيم { ،وَبَشّرِ ا ْلمُحْسِنِينَ } بعبادة ال بأن
يعبدوا ال ،كأنهم يرونه ،فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه ،معتقدين وقت عبادتهم اطلعه
عليهم ،ورؤيته إياهم ،والمحسنين لعباد ال ،بجميع وجوه الحسان من نفع مال ،أو علم ،أو جاه،
أو نصح ،أو أمر بمعروف ،أو نهي عن منكر ،أو كلمة طيبة ونحو ذلك ،فالمحسنون لهم البشارة
من ال ،بسعادة الدنيا والخرة وسيحسن ال إليهم ،كما أحسنوا في عبادته ولعباده { َهلْ جَزَاءُ
حسَانِ إِلّا الِْإحْسَانُ } { ِللّذِينَ َأحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ }
الْإِ ْ
خوّانٍ َكفُورٍ }
حبّ ُكلّ َ
{ { } 38إِنّ اللّهَ ُيدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ
هذا إخبار ووعد وبشارة من ال ،للذين آمنوا ،أن ال يدافع عنهم كل مكروه ،ويدفع عنهم كل شر
-بسبب إيمانهم -من شر الكفار ،وشر وسوسة الشيطان ،وشرور أنفسهم ،وسيئات أعمالهم،
ويحمل عنهم عند نزول المكاره ،ما ل يتحملون ،فيخفف عنهم غاية التخفيف .كل مؤمن له من
هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه ،فمستقل ومستكثر.
خوّانٍ } أي :خائن في أمانته التي حمله ال إياها ،فيبخس حقوق ال عليه،
حبّ ُكلّ َ
{ إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ
ويخونها ،ويخون الخلق.
{ َكفُورٌ } لنعم ال ،يوالي عليه الحسان ،ويتوالى منه الكفر والعصيان ،فهذا ل يحبه ال ،بل
يبغضه ويمقته ،وسيجازيه على كفره وخيانته ،ومفهوم الية ،أن ال يحب كل أمين قائم بأمانته،
شكور لموله.
{ { } 41 - 39أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ظُِلمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ * الّذِينَ أُخْ ِرجُوا
صوَامِعُ
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َل ُه ّد َمتْ َ
حقّ إِلّا أَنْ َيقُولُوا رَبّنَا اللّ ُه وََلوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
مِنْ دِيَارِ ِهمْ ِبغَيْرِ َ
جدُ يُ ْذكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ *
ت َومَسَا ِ
وَبِيَ ٌع َوصَلَوَا ٌ
الّذِينَ إِنْ َمكّنّاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َأقَامُوا الصّلَا َة وَآ َتوُا ال ّزكَا َة وََأمَرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ وَ َنهَوْا عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَلِلّهِ
عَاقِبَةُ الُْأمُورِ }
كان المسلمون في أول السلم ممنوعين من قتال الكفار ،ومأمورين بالصبر عليهم ،لحكمة إلهية،
فلما هاجروا إلى المدينة ،وأوذوا ،وحصل لهم منعة وقوة ،أذن لهم بالقتال ،قال تعالى { :أُذِنَ لِلّذِينَ
ُيقَاتَلُونَ } يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين ،فأذن ال لهم بقتال الذين يقاتلون ،وإنما أذن لهم،
لنهم ظلموا ،بمنعهم من دينهم ،وأذيتهم عليه ،وإخراجهم من ديارهم.
{ وَإِنّ اللّهَ عَلَى َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ } فليستنصروه ،وليستعينوا به ،ثم ذكر صفة ظلمهم فقال { :الّذِينَ
حقّ إِلّا } أن ذنبهم الذي نقم
أُخْ ِرجُوا مِنْ دِيَارِ ِهمْ } أي :ألجئوا إلى الخروج بالذية والفتنة { ِبغَيْرِ َ
منهم أعداؤهم { أَنْ َيقُولُوا رَبّنَا اللّهُ } أي :إل أنهم وحدوا ال ،وعبدوه مخلصين له الدين ،فإن كان
حمِيدِ } وهذا يدل
هذا ذنبا ،فهو ذنبهم كقوله تعالىَ { :ومَا َن َقمُوا مِ ْنهُمْ إِلّا أَنْ ُي ْؤمِنُوا بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ
على حكمة الجهاد ،وأن المقصود منه إقامة دين ال ،وذب الكفار المؤذين للمؤمنين ،البادئين لهم
بالعتداء ،عن ظلمهم واعتدائهم ،والتمكن من عبادة ال ،وإقامة الشرائع الظاهرة ،ولهذا قال:
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ } فيدفع ال بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرينَ { ،ل ُه ّد َمتْ
{ وََلوْلَا َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
صوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ } أي :لهدمت هذه المعابد الكبار ،لطوائف أهل الكتاب ،معابد
َ
سمُ اللّهِ كَثِيرًا } تقام
اليهود والنصارى ،والمساجد للمسلمينُ { ،ي ْذكَرَ فِيهَا } أي :في هذه المعابد { ا ْ
فيها الصلوات ،وتتلى فيها كتب ال ،ويذكر فيها اسم ال بأنواع الذكر ،فلول دفع ال الناس بعضهم
ببعض ،لستولى الكفار على المسلمين ،فخربوا معابدهم ،وفتنوهم عن دينهم ،فدل هذا ،أن الجهاد
مشروع ،لجل دفع الصائل والمؤذي ،ومقصود لغيره ،ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها
الطمأنينة بعبادة ال ،وعمرت مساجدها ،وأقيمت فيها شعائر الدين كلها ،من فضائل المجاهدين
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ
وببركتهم ،دفع ال عنها الكافرين ،قال ال تعالى { :وََلوْلَا َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
ض وََلكِنّ اللّهَ ذُو َفضْلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }
الْأَ ْر ُ
فإن قلت :نرى الن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب ،مع أنها كثير منها إمارة صغيرة ،وحكومة
غير منظمة ،مع أنهم ل يدان لهم بقتال من جاورهم من الفرنج ،بل نرى المساجد التي تحت
وليتهم وسيطرتهم عامرة ،وأهلها آمنون مطمئنون ،مع قدرة ولتهم من الكفار على هدمها ،وال
أخبر أنه لول دفع ال الناس بعضهم ببعض ،لهدمت هذه المعابد ،ونحن ل نشاهد دفعا.
أجيب بأن هذا السؤال والستشكال ،داخل في عموم هذه الية وفرد من أفرادها ،فإن من عرف
أحوال الدول الن ونظامها ،وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت وليتها ،وداخل في حكمها ،تعتبره
عضوا من أعضاء المملكة ،وجزء من أجزاء الحكومة ،سواء كانت تلك المة مقتدرة بعددها أو
عددها ،أو مالها ،أو عملها ،أو خدمتها ،فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب ،الدينية والدنيوية،
وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها ،وتفقد بعض أركانها ،فيقوم من أمر الدين بهذا السبب
ما يقوم ،خصوصا المساجد ،فإنها -ول الحمد -في غاية النتظام ،حتى في عواصم الدول الكبار.
وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة ،نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين ،مع وجود التحاسد
والتباغض بين دول النصارى ،الذي أخبر ال أنه ل يزال إلى يوم القيامة ،فتبقى الحكومة
المسلمة ،التي ل تقدر تدافع عن نفسها ،سالمة من [كثير] ضررهم ،لقيام الحسد عندهم ،فل يقدر
أحدهم أن يمد يده عليها ،خوفا من احتمائها بالخر ،مع أن ال تعالى ل بد أن يري عباده من
نصر السلم والمسلمين ،ما قد وعد به في كتابه.
وقد ظهرت -ول الحمد -أسبابه [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ
العمل] فنحمده ونسأله أن يتم نعمته ،ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع { :وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ
مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ } أي :يقوم بنصر دينه ،مخلصا له في ذلك ،يقاتل في سبيله ،لتكون كلمة ال هي
العليا.
{ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ } أي :كامل القوة ،عزيز ل يرام ،قد قهر الخلئق ،وأخذ بنواصيهم،
فأبشروا ،يا معشر المسلمين ،فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم ،وقوي عدد عدوكم وعدتهم فإن
ركنكم القوي العزيز ،ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون ،فاعملوا بالسباب المأمور بها،
ثم اطلبوا منه نصركم ،فل بد أن ينصركم.
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ } وقوموا ،أيها المسلمون ،بحق
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي
اليمان والعمل الصالح ،فقد { وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُمْ وَ َ
خ ْو ِفهِمْ
الْأَ ْرضِ َكمَا اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ وَلَ ُيمَكّنَنّ َلهُمْ دِي َنهُمُ الّذِي ارْ َتضَى َلهُ ْم وَلَيُبَدّلَ ّن ُهمْ مِنْ َبعْدِ َ
َأمْنًا َيعْبُدُونَنِي لَا يُشْ ِركُونَ بِي شَيْئًا }
ثم ذكر علمة من ينصره ،وبها يعرف ،أن من ادعى أنه ينصر ال وينصر دينه ،ولم يتصف
بهذا الوصف ،فهو كاذب فقال { :الّذِينَ إِنْ َمكّنّاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي :ملكناهم إياها ،وجعلناهم
المتسلطين عليها ،من غير منازع ينازعهم ،ول معارضَ { ،أقَامُوا الصّلَاةَ } في أوقاتها،
وحدودها ،وأركانها ،وشروطها ،في الجمعة والجماعات.
{ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } التي عليهم خصوصا ،وعلى رعيتهم عموما ،آتوها أهلها ،الذين هم أهلها،
{ وََأمَرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقل ،من حقوق ال ،وحقوق
الدميين { ،وَ َن َهوْا عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ } كل منكر شرعا وعقل ،معروف قبحه ،والمر بالشيء والنهي
عنه يدخل فيه ما ل يتم إل به ،فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم ،أجبروا الناس
على التعلم والتعليم ،وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا ،أو غير مقدر ،كأنواع التعزير،
قاموا بذلك ،وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له ،لزم ذلك ،ونحو ذلك مما ل يتم المر
بالمعروف والنهي عن المنكر إل به.
{ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الُْأمُورِ } أي :جميع المور ،ترجع إلى ال ،وقد أخبر أن العاقبة للتقوى ،فمن سلطه
ال على العباد من الملوك ،وقام بأمر ال ،كانت له العاقبة الحميدة ،والحالة الرشيدة ،ومن تسلط
عليهم بالجبروت ،وأقام فيهم هوى نفسه ،فإنه وإن حصل له ملك موقت ،فإن عاقبته غير حميدة،
فوليته مشئومة ،وعاقبته مذمومة.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم :وإن يكذبك هؤلء المشركون فلست بأول رسول
ح وَعَا ٌد وَ َثمُودُ* َو َقوْمُ إِبْرَاهِيمَ
كذب ،وليسوا بأول أمة كذبت رسولها { َفقَدْ َكذّ َبتْ قَبَْل ُهمْ َقوْمُ نُو ٍ
َوقَوْمُ لُوطٍ* وََأصْحَابُ مَدْيَنَ } أي :قوم شعيب.
{ َوكُ ّذبَ مُوسَى فََأمْلَ ْيتُ ِل ْلكَافِرِينَ } المكذبين ،فلم أعاجلهم بالعقوبة ،بل أمهلتهم ،حتى استمروا في
طغيانهم يعمهون ،وفي كفرهم وشرهم يزدادونُ { ،ثمّ َأخَذْ ُتهُمْ } بالعذاب أخذ عزيز مقتدر { َفكَ ْيفَ
كَانَ َنكِيرِ } أي :إنكاري عليهم كفرهم ،وتكذيبهم كيف حاله ،كان أشد العقوبات ،وأفظع المثلت،
فمنهم من أغرقه ،ومنهم من أخذته الصيحة ،ومنهم من أهلك بالريح العقيم ،ومنهم من خسف به
الرض ،ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة ،فليعتبر بهم هؤلء المكذبون ،أن يصيبهم ما
أصابهم ،فإنهم ليسوا خيرا منهم ،ول كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من ال ،وكم من المعذبين
المهلكين أمثال هؤلء كثير ،ولهذا قالَ { :فكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ } أي :وكم من قرية { أَهَْلكْنَاهَا }
بالعذاب الشديد ،والخزي الدنيوي { ،وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ } بكفرها بال وتكذيبها لرسله ،لم يكن عقوبتنا
شهَا } أي :فديارهم متهدمة ،قصورها ،وجدرانها ،قد سقطت
لها ظلما مناَ { ،ف ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ
عروشها ،فأصبحت خرابا بعد أن كانت عامرة ،وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها آنسة { ،وَبِئْرٍ
ُمعَطّلَ ٍة َو َقصْرٍ مَشِيدٍ } أي :وكم من بئر ،قد كان يزدحم عليه الخلق ،لشربهم ،وشرب مواشيهم،
ففقد أهله ،وعدم منه الوارد والصادر ،وكم من قصر ،تعب عليه أهله ،فشيدوه ،ورفعوه،
وحصنوه ،وزخرفوه ،فحين جاءهم أمر ال ،لم يغن عنهم شيئا ،وأصبح خاليا من أهله ،قد صاروا
عبرة لمن اعتبر ،ومثال لمن فكر ونظر.
ولهذا دعا ال عباده إلى السير في الرض ،لينظروا ،ويعتبروا فقالَ { :أفََلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ }
بأبدانهم وقلوبهم { فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَا } آيات ال ويتأملون بها مواقع عبرهَ { ،أوْ آذَانٌ
س َمعُونَ ِبهَا } أخبار المم الماضين ،وأنباء القرون المعذبين ،وإل فمجرد نظر العين ،وسماع
يَ ْ
الذن ،وسير البدن الخالي من التفكر والعتبار ،غير مفيد ،ول موصل إلى المطلوب ،ولهذا قال:
{ فَإِ ّنهَا لَا َت ْعمَى الْأَ ْبصَا ُر وََلكِنْ َت ْعمَى ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } أي :هذا العمى الضار في الدين،
عمى القلب عن الحق ،حتى ل يشاهده كما ل يشاهد العمى المرئيات ،وأما عمى البصر ،فغايته
بلغة ،ومنفعة دنيوية.
ب وَلَنْ ُيخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َد ُه وَإِنّ َي ْومًا عِنْدَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ِممّا
{ { } 48 - 47وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
َتعُدّونَ * َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ ثُمّ َأخَذْ ُتهَا وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ }
أي :يستعجلك هؤلء المكذبون بالعذاب ،لجهلهم ،وظلمهم ،وعنادهم ،وتعجيزا ل ،وتكذيبا لرسله،
ولن يخلف ال وعده ،فما وعدهم به من العذاب ،لبد من وقوعه ،ول يمنعهم منه مانع ،وأما
عجلته ،والمبادرة فيه ،فليس ذلك إليك يا محمد ،ول يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا .فإن أمامهم
يوم القيامة ،الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم ،ويجازون بأعمالهم ،ويقع بهم العذاب الدائم الليم،
ولهذا قال { :وَإِنّ َي ْومًا عِنْدَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ِممّا َتعُدّونَ } من طوله ،وشدته ،وهو له ،فسواء
أصابهم عذاب في الدنيا ،أم تأخر عنهم العذاب ،فإن هذا اليوم ،ل بد أن يدركهم.
ويحتمل أن المراد :أن ال حليم ،ولو استعجلوا العذاب ،فإن يوما عنده كألف سنة مما تعدون،
فالمدة ،وإن تطاولتموها ،واستبطأتم فيها نزول العذاب ،فإن ال يمهل المدد الطويلة ول يهمل،
حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه لم يفلتهم.
{ َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا } أي :أمهلتها مدة طويلة { وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ } أي :مع ظلمهم ،فلم يكن
مبادرتهم بالظلم ،موجبا لمبادرتنا بالعقوبةُ { ،ثمّ َأخَذْ ُتهَا } بالعذاب { وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ } أي :مع
عذابها في الدنيا ،سترجع إلى ال ،فيعذبها بذنوبها ،فليحذر هؤلء الظالمون من حلول عقاب ال،
ول يغتروا بالمهال.
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى ال عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا ،بأنه رسول ال
حقا ،مبشرا للمؤمنين بثواب ال ،منذرا للكافرين والظالمين من عقابه ،وقوله { :مُبِينٌ } أي :بين
النذار ،وهو التخويف مع العلم بالمخوف ،وذلك لنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما
أنذرهم به ،ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال { :فَالّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بجوارحهم { في جنات النعيم } أي :الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من
{ وَ َ
المآكل والمشارب والمناكح والصور والصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع كلمه
{ والذين كفروا } أي :جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك أصحاب الجحيم أي:
الملزمون لها ،المصاحبون لها في كل أوقاتهم ،فل يخفف عنهم من عذابها ول يفتر عنهم لحظة
من عقابها.
ل وَلَا نَ ِبيّ إِلّا ِإذَا َتمَنّى َأ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ
{ َ { } 57 - 52ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ َرسُو ٍ
ج َعلَ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْ َنةً
حكِيمٌ * لِيَ ْ
ح ِكمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
فَيَنْسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ ُثمّ يُ ْ
شقَاقٍ َبعِيدٍ * وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ
ض وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ
لِلّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َر ٌ
أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَ ُي ْؤمِنُوا بِهِ فَ ُتخْ ِبتَ لَهُ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ اللّهَ َلهَادِي الّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ *
عقِيمٍ * ا ْلمُ ْلكُ
عذَابُ َيوْمٍ َ
وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً َأوْ يَأْتِ َيهُمْ َ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * وَالّذِينَ كَفَرُوا َوكَذّبُوا
حكُمُ بَيْ َن ُهمْ فَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
َي ْومَئِذٍ لِلّهِ َي ْ
بِآيَاتِنَا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ }
يخبر تعالى بحكمته البالغة ،واختياره لعباده ،وأن ال ما أرسل قبل محمد { مِنْ َرسُولٍ وَلَا نَ ِبيّ إِلّا
إِذَا َتمَنّى } أي :قرأ قراءته ،التي يذكر بها الناس ،ويأمرهم وينهاهمَ { ،أ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ }
أي :في قراءته ،من طرقه ومكايده ،ما هو مناقض لتلك القراءة ،مع أن ال تعالى قد عصم الرسل
بما يبلغون عن ال ،وحفظ وحيه أن يشتبه ،أو يختلط بغيره .ولكن هذا اللقاء من الشيطان ،غير
مستقر ول مستمر ،وإنما هو عارض يعرض ،ثم يزول ،وللعوارض أحكام ،ولهذا قال { :فَيَ ْنسَخُ
حكِمُ اللّهُ آيَا ِتهِ }
اللّهُ مَا ُي ْلقِي الشّ ْيطَانُ } أي :يزيله ويذهبه ويبطله ،ويبين أنه ليس من آياته ،و { ُي ْ
أي :يتقنها ،ويحررها ،ويحفظها ،فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان { ،وَاللّهُ عَزِيزٌ } أي:
حكِيمٌ } يضع الشياء
كامل القوة والقتدار ،فبكمال قوته ،يحفظ وحيه ،ويزيل ما تلقيه الشياطينَ { ،
ج َعلَ
مواضعها ،فمن كمال حكمته ،مكن الشياطين من اللقاء المذكور ،ليحصل ما ذكره بقوله { :لِ َي ْ
مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً } لطائفتين من الناس ،ل يبالي ال بهم ،وهم الذين { فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ }
أي :ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم ،فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ عليها ،فإذا سمعوا
ما ألقاه الشيطان ،داخلهم الريب والشك ،فصار فتنة لهم.
{ وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُمْ } أي :الغليظة ،التي ل يؤثر فيها زجر ول تذكير ،ول تفهم عن ال وعن
رسوله لقسوتها ،فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ،جعلوه حجة لهم على باطلهم ،وجادلوا به وشاقوا
شقَاقٍ َبعِيدٍ } أي :مشاقة ل ،ومعاندة للحق ،ومخالفة
ال ورسوله ،ولهذا قال { :وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ
له ،بعيد من الصواب ،فما يلقيه الشيطان ،يكون فتنة لهؤلء الطائفتين ،فيظهر به ما في قلوبهم،
من الخبث الكامن فيها ،وأما الطائفة الثالثة ،فإنه يكون رحمة في حقها ،وهم المذكورون بقوله{ :
حقّ مِنْ رَ ّبكَ } لن ال منحهم من العلم ،ما به يعرفون الحق من
وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ أَنّهُ الْ َ
الباطل ،والرشد من الغي ،فيميزون بين المرين ،الحق المستقر ،الذي يحكمه ال ،والباطل
العارض الذي ينسخه ال ،بما على كل منهما من الشواهد ،وليعلموا أن ال حكيم ،يقيض بعض
أنواع البتلء ،ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة { ،فَ ُي ْؤمِنُوا بِهِ } بسبب ذلك ،ويزداد
إيمانهم عند دفع المعارض والشبه.
{ فَ ُتخْ ِبتَ لَهُ قُلُو ُبهُمْ } أي :تخشع وتخضع ،وتسلم لحكمته ،وهذا من هدايته إياهم { ،وَإِنّ اللّهَ َلهَادِي
الّذِينَ آمَنُوا } بسبب إيمانهم { ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } علم بالحق ،وعمل بمقتضاه ،فيثبت ال الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة ،وهذا النوع من تثبيت ال لعبده.
وهذه اليات ،فيها بيان أن للرسول صلى ال عليه وسلم أسوة بإخوانه المرسلين ،لما وقع منه عند
ت وَا ْلعُزّى َومَنَاةَ الثّالِثَةَ الُْأخْرَى }
قراءته صلى ال عليه وسلم { :والنجم } فلما بلغ { َأفَرَأَيْ ُتمُ اللّا َ
ألقى الشيطان في قراءته " :تلك الغرانيق العلى ،وإن شفاعتهن لترتجى " فحصل بذلك للرسول
حزن وللناس فتنة ،كما ذكر ال ،فأنزل ال هذه اليات.
{ { } 57 - 55وَل يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً َأوْ يَأْتِ َي ُهمْ عَذَابُ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * وَالّذِينَ
حكُمُ بَيْ َنهُمْ فَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
عقِيمٍ * ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ ِللّهِ َي ْ
َيوْمٍ َ
عذَابٌ ُمهِينٌ }
َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ َ
يخبر تعالى عن حالة الكفار ،وأنهم ل يزالون في شك مما جئتهم به يا محمد ،لعنادهم،
وإعراضهم ،وأنهم ل يبرحون مستمرين على هذه الحال { حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً } أي :مفاجأة {
عقِيمٍ } أي :ل خير فيه ،وهو يوم القيامة ،فإذا جاءتهم الساعة ،أو أتاهم ذلك
َأوْ يَأْتِ َيهُمْ عَذَابُ َيوْمٍ َ
اليوم ،علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ،وندموا حيث ل ينفعهم الندم ،وأبلسوا وأيسوا من كل
خير ،وودوا لو آمنوا بالرسول واتخذوا معه سبيل ،ففي هذا تحذيرهم من إقامتهم على مريتهم
وفريتهم.
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا } بال ورسله وكذبوا بآياته الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها ،أو عاندوها،
{ فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } لهم ،من شدته ،وألمه ،وبلوغه للفئدة كما استهانوا برسله وآياته،
أهانهم ال بالعذاب.
حسَنًا وَإِنّ
{ { } 59 - 58وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوا َأوْ مَاتُوا لَيَرْ ُزقَ ّنهُمُ اللّهُ رِ ْزقًا َ
ضوْنَ ُه وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ * لَ ُيدْخِلَ ّن ُهمْ مُ ْدخَلًا يَ ْر َ
هذه بشارة كبرى ،لمن هاجر في سبيل ال ،فخرج من داره ووطنه وأولده وماله ،ابتغاء وجه
ال ،ونصرة لدين ال ،فهذا قد وجب أجره على ال ،سواء مات على فراشه ،أو قتل مجاهدا في
سبيل ال { ،لَيَرْ ُزقَ ّن ُهمُ اللّهُ رِ ْزقًا حَسَنًا } في البرزخ ،وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح
والريحان ،والحسن والحسان ،ونعيم القلب والبدن ،ويحتمل أن المعنى أن المهاجر في سبيل ال،
قد تكفل برزقه في الدنيا ،رزقا واسعا حسنا ،سواء علم ال منه أنه يموت على فراشه ،أو يقتل
شهيدا ،فكلهم مضمون له الرزق ،فل يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله ،سيفتقر ويحتاج ،فإن
رازقه هو خير الرازقين ،وقد وقع كما أخبر ،فإن المهاجرين السابقين ،تركوا ديارهم وأبناءهم
وأموالهم ،نصرة لدين ال ،فلم يلبثوا إل يسيرا ،حتى فتح ال عليهم البلد ،ومكنهم من العباد
فاجتبوا من أموالها ،ما كانوا به من أغنى الناس ،ويكون على هذا القول ،قوله { :لَيُ ْدخِلَ ّنهُمْ ُمدْخَلًا
ضوْنَهُ } إما ما يفتحه ال عليهم من البلدان ،خصوصا فتح مكة المشرفة ،فإنهم دخلوها في حالة
يَ ْر َ
الرضا والسرور ،وإما المراد به رزق الخرة ،وأن ذلك دخول الجنة ،فتكون الية جمعت بين
الرزقين ،رزق الدنيا ،ورزق الخرة ،واللفظ صالح لذلك كله ،والمعنى صحيح ،فل مانع من
إرادة الجميع { وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ } بالمور ،ظاهرها ،وباطنها ،متقدمها ،ومتأخرها { ،حَلِيمٌ } يعصيه
الخلئق ،ويبارزونه بالعظائم ،وهو ل يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره ،بل يواصل لهم رزقه،
ويسدي إليهم فضله.
غفُورٌ }
ك َومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ ِبهِ ثُمّ ُب ِغيَ عَلَيْهِ لَيَ ْنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ َل َعفُوّ َ
{ { } 60ذَِل َ
ذلك بأن من جني عليه وظلم ،فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته ،فإن فعل ذلك ،فليس عليه
سبيل ،وليس بملوم ،فإن بغي عليه بعد هذا ،فإن ال ينصره ،لنه مظلوم ،فل يجوز أن يبغي
عليه ،بسبب أنه استوفى حقه ،وإذا كان المجازي غيره ،بإساءته إذا ظلم بعد ذلك ،نصره ال،
فالذي بالصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم وجني عليه ،فالنصر إليه أقرب.
غفُورٌ } أي :يعفو عن المذنبين ،فل يعاجلهم بالعقوبة ،ويغفر ذنوبهم فيزيلها ،ويزيل
{ إِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ
آثارها عنهم ،فال هذا وصفه المستقر اللزم الذاتي ،ومعاملته لعباده في جميع الوقات بالعفو
والمغفرة ،فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم ،أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم ال كما
عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ }
تعاملون عباده { َفمَنْ َ
سمِيعٌ َبصِيرٌ
{ { } 62 - 61ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ وَأَنّ اللّهَ َ
ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ }
طُق وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ
حّ* ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ
ذلك الذي شرع لكم تلك الحكام الحسنة العادلة ،هو حسن التصرف ،في تقديره وتدبيره ،الذي
{ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ } أي :يدخل هذا على هذا ،وهذا على هذا ،فيأتي بالليل بعد النهار،
وبالنهار بعد الليل ،ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الخر ،ثم بالعكس ،فيترتب على ذلك ،قيام
الفصول ،ومصالح الليل والنهار ،والشمس والقمر ،التي هي من أجل نعمه على العباد ،وهي من
سمِيعٌ } يسمع ضجيج الصوات ،باختلف ،اللغات ،على تفنن
الضروريات لهم { .وَأَنّ اللّهَ َ
سوَاءٌ
الحاجاتَ { ،بصِيرٌ } يرى دبيب النملة السوداء ،تحت الصخرة الصماء ،في الليلة الظلماء { َ
خفٍ بِاللّ ْيلِ وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ }
جهَرَ بِ ِه َومَنْ ُهوَ مُسْ َت ْ
ل َومَنْ َ
مِ ْنكُمْ مَنْ أَسَرّ ا ْلقَ ْو َ
طلُ }
{ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الصنام والنداد ،من الحيوانات والجماداتُ { ،هوَ الْبَا ِ
الذي ،هو باطل في نفسه ،وعبادته باطلة ،لنها متعلقة بمضمحل فان ،فتبطل تبعا لغايتها
ومقصودها { ،وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ } العلي في ذاته ،فهو عال على جميع المخلوقات وفي
قدره ،فهو كامل الصفات ،وفي قهره لجميع المخلوقات ،الكبير في ذاته ،وفي أسمائه ،وفي
صفاته ،الذي من عظمته وكبريائه ،أن الرض قبضته يوم القيامة ،والسماوات مطويات بيمينه،
ومن كبريائه ،أن كرسيه وسع السماوات والرض ،ومن عظمته وكبريائه ،أن نواصي العباد بيده،
فل يتصرفون إل بمشيئته ،ول يتحركون ويسكنون إل بإرادته.
وحقيقة الكبرياء التي ل يعلمها إل هو ،ل ملك مقرب ،ول نبي مرسل ،أنها كل صفة كمال
وجلل وكبرياء وعظمة ،فهي ثابتة له ،وله من تلك الصفة أجلها وأكملها ،ومن كبريائه ،أن
العبادات كلها ،الصادرة من أهل السماوات والرض ،كلها المقصود منها ،تكبيره وتعظيمه،
وإجلله وإكرامه ،ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار ،كالصلة وغيرها.
هذا حث منه تعالى ،وترغيب في النظر بآياته الدالت على وحدانيته ،وكماله فقال { :أَلَمْ تَرَ }
سمَاءِ مَاءً } وهو :المطر ،فينزل على
أي :ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك { أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
أرض خاشعة مجدبة ،قد أغبرت أرجاؤها ،ويبس ما فيها ،من شجر ونبات ،فتصبح مخضرة قد
اكتست من كل زوج كريم ،وصار لها بذلك منظر بهيج ،إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها
لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.
{ إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ } اللطيف الذي يدرك بواطن الشياء ،وخفياتها ،وسرائرها ،الذي يسوق إلى
عبده الخير ،ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد ،ومن لطفه ،أنه يري عبده ،عزته في
انتقامه وكمال اقتداره ،ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلك ،ومن لطفه ،أنه يعلم مواقع
القطر من الرض ،وبذور الرض في باطنها ،فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر ،الذي خفي على
علم الخلئق فينبت منه أنواع النبات { ،خَبِيرٌ } بسرائر المور ،وخبايا الصدور ،وخفايا المور.
سمَاوَاتِ وما في الْأَ ْرضِ } خلقا وعبيدا ،يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره،
{ َلهُ مَا فِي ال ّ
ليس لحد غيره من المر شيء.
{ وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ } بذاته الذي له الغنى المطلق التام ،من جميع الوجوه ،ومن غناه ،أنه ل
يحتاج إلى أحد من خلقه ،ول يواليهم من ذلة ،ول يتكثر بهم من قلة ،ومن غناه ،أنه ما اتخذ
صاحبة ول ولدا ،ومن غناه ،أنه صمد ،ل يأكل ول يشرب ،ول يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق
بوجه من الوجوه ،فهو يطعم ول يطعم ،ومن غناه ،أن الخلق كلهم مفتقرون إليه ،في إيجادهم،
وإعدادهم وإمدادهم ،وفي دينهم ودنياهم ،ومن غناه ،أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في
الرض ،الحياء منهم والموات ،في صعيد واحد ،فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته ،فأعطاهم فوق
أمانيهم ،ما نقص ذلك من ملكه شيء ،ومن غناه ،أن يده سحاء بالخير والبركات ،الليل والنهار،
لم يزل إفضاله على النفاس ،ومن غناه وكرمه ،ما أودعه في دار كرامته ،مما ل عين رأت ،ول
أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
حمِيدِ } أي :المحمود في ذاته ،وفي أسمائه ،لكونها حسنى ،وفي صفاته ،لكونها كلها صفات
{ الْ َ
كمال ،وفي أفعاله ،لكونها دائرة بين العدل والحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه ،لكونه ل
يأمر إل بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ،ول ينهى إل عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة ،الذي
له الحمد ،الذي يمل ما في السماوات والرض ،وما بينهما ،وما شاء بعدها ،الذي ل يحصي
العباد ثناء على حمده ،بل هو كما أثنى على نفسه ،وفوق ما يثني عليه عباده ،وهو المحمود على
توفيق من يوفقه ،وخذلن من يخذله ،وهو الغني في حمده ،الحميد في غناه.
حرِ ِبَأمْرِهِ
جرِي فِي ا ْل َب ْ
ك َت ْ
سخّرَ َل ُكمْ مَا فِي ا ْلَأرْضِ وَالْفُ ْل َ
ن اللّ َه َ
{ { } 66 - 65أََل ْم تَ َر أَ ّ
حيَا ُكمْ
ض إِلّا ِبِإ ْذنِهِ ِإنّ اللّ َه بِالنّاسِ َلرَءُوفٌ َرحِيمٌ * وَهُ َو اّلذِي َأ ْ
سمَاءَ َأنْ تَقَعَ عَلَى ا ْلَأرْ ِ
سكُ ال ّ
َو ُي ْم ِ
ن َلكَفُو ٌر }
ن ا ْلِإ ْنسَا َ
حيِي ُكمْ إِ ّ
ُثمّ ُيمِيتُ ُكمْ ُثمّ ُي ْ
{ ِإنّ اللّهَ بِالنّاسِ َلرَءُوفٌ َرحِيمٌ } أرحم بهم من والديهم ،ومن أنفسهم ،ولهذا يريد لهم الخير،
ويريدون لها الشر والضر ،ومن رحمته ،أن سخر لهم ما سخر من هذه الشياء.
{ ِإنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } وإن كان تصوره عندكم ل يحاط به ،فال تعالى يسير عليه أن
يحيط علما بجميع الشياء ،وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.
يذكر تعالى حالة المشركين به ،العادلين به غيره ،وأن حالهم أقبح الحالت ،وأنه ل مستند لهم
على ما فعلوه ،فليس لهم به علم ،وإنما هو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين ،وقد يكون النسان
ل علم عنده بما فعله ،وهو -في نفس المر -له حجة ما علمها ،فأخبر هنا ،أن ال لم ينزل
في ذلك سلطانا ،أي :حجة تدل علي وتجوزه ،بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده
ن مِنْ َنصِيرٍ } ينصرهم
وبطلنه ،ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقالَ { :ومَا لِلظّاِلمِي َ
من عذاب ال إذا نزل بهم وحل .وهل لهؤلء الذين ل علم لهم بما هم عليه قصد في اتباع
اليات والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله { :وَِإذَا
ُتتْلَى عََل ْي ِهمْ آيَا ُتنَا } التي هي آيات ال الجليلة ،المستلزمة لبيان الحق من الباطل ،لم يلتفتوا
إليها ،ولم يرفعوا بها رأسا ،بل { َت ْعرِفُ فِي ُوجُو ِه اّلذِينَ َك َفرُوا ا ْل ُم ْن َكرَ } من بغضها وكراهتها،
ن َيسْطُونَ بِاّلذِينَ َيتْلُونَ عََل ْي ِهمْ آيَا ِتنَا } أي:
ترى وجوههم معبسة ،وأبشارهم مكفهرةَ { ،يكَادُو َ
يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ ،من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته ،فهذه الحالة
من الكفار بئس الحالة ،وشرها بئس الشر ،ولكن ثم ما هو شر منها ،حالتهم التي يؤولون
ن كَ َفرُوا َو ِبئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
عدَهَا اللّهُ اّلذِي َ
إليها ،فلهذا قال { :قُلْ َأ َفُأنَ ّب ُئ ُكمْ ِبشَ ّر مِنْ ذَِل ُكمُ النّارُ وَ َ
فهذه شرها طويل عريض ،ومكروهها وآلمها تزداد على الدوام.
خُلقُوا
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا لَهُ إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَ ْ
{ { } 74 - 73يَا أَ ّيهَا النّا ُ
ب وَا ْلمَطْلُوبُ * مَا
ض ُعفَ الطّاِل ُ
ذُبَابًا وََلوِ اجْ َت َمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْ ُه َ
حقّ قَدْ ِرهِ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ }
قَدَرُوا اللّهَ َ
هذا مثل ضربه ال لقبح عبادة الوثان ،وبيان نقصان عقول من عبدها ،وضعف الجميع ،فقال:
{ يَا أَ ّيهَا النّاسُ } هذا خطاب للمؤمنين والكفار ،المؤمنون يزدادون علما وبصيرة ،والكافرون تقوم
عليهم الحجة { ،ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا َلهُ } أي :ألقوا إليه أسماعكم ،وتفهموا ما احتوى عليه ،ول
يصادف منكم قلوبا لهية ،وأسماعا معرضة ،بل ألقوا إليه القلوب والسماع ،وهو هذا { :إِنّ
الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } شمل كل ما يدعى من دون ال { ،لَنْ َيخُْلقُوا ذُبَابًا } الذي هو من
أحقر المخلوقات وأخسها ،فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف ،فما فوقه من باب أولى،
{ وََلوِ اجْ َت َمعُوا لَهُ } بل أبلغ من ذلك لو { يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْهُ } وهذا غاية ما
ضعُفَ الطّاِلبُ } الذي هو المعبود من دون ال { وَا ْلمَطْلُوبُ } الذي هو
يصير من العجزَ { .
الذباب ،فكل منهما ضعيف ،وأضعف منهما ،من يتعلق بهذا الضعيف ،وينزله منزلة رب
العالمين.
فهذا ما قدر { اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ } حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه ،بالغني القوي من جميع
الوجوه ،سوى من ل يملك لنفسه ،ول لغيره نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول نشورا ،بمن
هو النافع الضار ،المعطي المانع ،مالك الملك ،والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف.
{ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ } أي :كامل القوة ،كامل العزة ،من كمال قوته وعزته ،أن نواصي الخلق
بيديه ،وأنه ل يتحرك متحرك ،ول يسكن ساكن ،إل بإرادته ومشيئته ،فما شاء ال كان وما لم يشأ
لم يكن ،ومن كمال قوته ،أنه يمسك السماوات والرض أن تزول ،ومن كمال قوته ،أنه يبعث
الخلق كلهم ،أولهم وآخرهم ،بصيحة واحدة ،ومن كمال قوته ،أنه أهلك الجبابرة والمم العاتية،
بشيء يسير ،وسوط من عذابه.
لما بين تعالى كماله وضعف الصنام ،وأنه المعبود حقا ،بين حالة الرسل ،وتميزهم عن الخلق بما
طفِي مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ ُرسُلًا َومِنَ النّاسِ } أي :يختار ويجتبي
تميزوا به من الفضائل فقال { :اللّهُ َيصْ َ
من الملئكة رسل ،ومن الناس رسل ،يكونون أزكى ذلك النوع ،وأجمعه لصفات المجد ،وأحقه
بالصطفاء ،فالرسل ل يكونون إل صفوة الخلق على الطلق ،والذي اختارهم واصطفاهم ليس
جاهل بحقائق الشياء ،أو يعلم شيئا دون شيء ،وإنما المصطفى لهم ،السميع ،البصير ،الذي قد
أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الشياء ،فاختياره إياهم ،عن علم منه ،أنهم أهل لذلك ،وأن
ج َعلُ رِسَالَ َتهُ }
الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى { :اللّهُ أَعْلَمُ حَ ْيثُ يَ ْ
{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ } أي :هو يرسل الرسل ،يدعون الناس إلى ال ،فمنهم المجيب ،ومنهم
الراد لدعوتهم ،ومنهم العامل ،ومنهم الناكل ،فهذا وظيفة الرسل ،وأما الجزاء على تلك العمال،
فمصيرها إلى ال ،فل تعدم منه فضل أو عدل.
يأمر تعالى ،عباده المؤمنين بالصلة ،وخص منها الركوع والسجود ،لفضلهما وركنيتهما ،وعبادته
التي هي قرة العيون ،وسلوة القلب المحزون ،وأن ربوبيته وإحسانه على العباد ،يقتضي منهم أن
يخلصوا له العبادة ،ويأمرهم بفعل الخير عموما.
وعلق تعالى الفلح على هذه المور فقالَ { :لعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } أي :تفوزون بالمطلوب المرغوب،
وتنجون من المكروه المرهوب ،فل طريق للفلح سوى الخلص في عبادة الخالق ،والسعي في
نفع عبيده ،فمن وفق لذلك ،فله القدح المعلى ،من السعادة والنجاح والفلح.
جهَا ِدهِ } والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب ،فالجهاد في
{ وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ ِ
ال حق جهاده ،هو القيام التام بأمر ال ،ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك ،من
نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ ،وغير ذلك.
{ ُهوَ اجْتَبَاكُمْ } أي :اختاركم -يا معشر المسلمين -من بين الناس ،واختار لكم الدين ،ورضيه
لكم ،واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل ،فقابلوا هذه المنحة العظيمة ،بالقيام بالجهاد فيه حق
جهَا ِدهِ } ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف
القيام ،ولما كان قوله { :وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ ِ
ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي:
ما ل يطاق ،أو تكليف ما يشق ،احترز منه بقولهَ { :ومَا َ
مشقة وعسر ،بل يسره غاية التيسير ،وسهله بغاية السهولة ،فأول ما أمر وألزم إل بما هو سهل
على النفوس ،ل يثقلها ول يؤودها ،ثم إذا عرض بعض السباب الموجبة للتخفيف ،خفف ما أمر
به ،إما بإسقاطه ،أو إسقاط بعضه .ويؤخذ من هذه الية ،قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب
التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من الحكام الفرعية ،شيء كثير
معروف في كتب الحكام.
{ مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } أي :هذه الملة المذكورة ،والوامر المزبورة ،ملة أبيكم إبراهيم ،التي ما زال
عليها ،فالزموها واستمسكوا بها.
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ } أي :في الكتب السابقة ،مذكورون ومشهورونَ { ،وفِي َهذَا } أي:
{ ُهوَ َ
شهِيدًا
هذا الكتاب ،وهذا الشرع .أي :ما زال هذا السم لكم قديما وحديثا { ،لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ
شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ } لكونكم خير أمة أخرجت للناس،
عَلَ ْيكُمْ } بأعمالكم خيرها وشرها { وَ َتكُونُوا ُ
أمة وسطا عدل خيارا ،تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم ،وتشهدون على المم أن رسلهم بلغتهم
بما أخبركم ال به في كتابه { ،فََأقِيمُوا الصّلَاةَ } بأركانها وشروطها وحدودها ،وجميع لوازمها،
صمُوا بِاللّهِ } أي :امتنعوا
{ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } المفروضة لمستحقيها شكرا ل على ما أولكم { ،وَاعْ َت َ
به وتوكلوا عليه في ذلك ،ول تتكلوا على حولكم وقوتكمُ { ،هوَ َموْلَاكُمْ } الذي يتولى أموركم،
فيدبركم بحسن تدبيره ،ويصرفكم على أحسن تقديره { ،فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَى وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ } أي :نعم
المولى لمن توله ،فحصل له مطلوبه { وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ } لمن استنصره فدفع عنه المكروه.
وهي مكية
شعُونَ *
حمَنِ الرّحِيمِ قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلَا ِتهِمْ خَا ِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 11 - 1بِ ْ
جهِمْ حَافِظُونَ * إِلّا
وَالّذِينَ ُهمْ عَنِ الّل ْغوِ ُمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ
جهِ ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ
عَلَى أَ ْزوَا ِ
عهْ ِدهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صََلوَا ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ * أُولَ ِئكَ ُهمُ
* وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ
ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
هذا تنويه من ال ،بذكر عباده المؤمنين ،وذكر فلحهم وسعادتهم ،وبأي :شيء وصلوا إلى ذلك،
وفي ضمن ذلك ،الحث على التصاف بصفاتهم ،والترغيب فيها .فليزن العبد نفسه وغيره على
هذه اليات ،يعرف بذلك ما معه وما مع غيره من اليمان ،زيادة ونقصا ،كثرة وقلة ،فقوله { َقدْ
َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي :قد فازوا وسعدوا ونجحوا ،وأدركوا كل ما يرام المؤمنون الذين آمنوا بال
شعُونَ }
وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم { فِي صَلَا ِت ِهمْ خَا ِ
والخشوع في الصلة :هو حضور القلب بين يدي ال تعالى ،مستحضرا لقربه ،فيسكن لذلك قلبه،
وتطمئن نفسه ،وتسكن حركاته ،ويقل التفاته ،متأدبا بين يدي ربه ،مستحضرا جميع ما يقوله
ويفعله في صلته ،من أول صلته إلى آخرها ،فتنتفي بذلك الوساوس والفكار الردية ،وهذا روح
الصلة ،والمقصود منها ،وهو الذي يكتب للعبد ،فالصلة التي ل خشوع فيها ول حضور قلب،
وإن كانت مجزئة مثابا عليها ،فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.
{ وَالّذِينَ هُمْ عَنِ الّل ْغوِ } وهو الكلم الذي ل خير فيه ول فائدةُ { ،معْ ِرضُونَ } رغبة عنه ،وتنزيها
لنفسهم ،وترفعا عنه ،وإذا مروا باللغو مروا كراما ،وإذا كانوا معرضين عن اللغو ،فإعراضهم
عن المحرم من باب أولى وأحرى ،وإذا ملك العبد لسانه وخزنه -إل في الخير -كان مالكا
لمره ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال " :أل أخبرك
بملك ذلك كله؟ " قلت :بلى يا رسول ال ،فأخذ بلسان نفسه وقال " :كف عليك هذا " فالمؤمنون
من صفاتهم الحميدة ،كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات.
{ وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ } أي مؤدون لزكاة أموالهم ،على اختلف أجناس الموال ،مزكين
لنفسهم من أدناس الخلق ومساوئ العمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها ،فأحسنوا في
عبادة الخالق ،في الخشوع في الصلة ،وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.
ج ِهمْ حَا ِفظُونَ } عن الزنا ،ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك ،كالنظر
{ وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
ج ِه ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } من
واللمس ونحوهما .فحفظوا فروجهم من كل أحد { إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ
الماء المملوكات { فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } بقربهما ،لن ال تعالى أحلهما.
{ َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ } غير الزوجة والسرية { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ } الذين تعدوا ما أحل ال إلى
ما حرمه ،المتجرئون على محارم ال .وعموم هذه الية ،يدل على تحريم نكاح المتعة ،فإنها
ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها ،ول مملوكة ،وتحريم نكاح المحلل لذلك.
ويدل قوله { أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } أنه يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه ،فلو كان
له بعضها لم تحل ،لنها ليست مما ملكت يمينه ،بل هي ملك له ولغيره ،فكما أنه ل يجوز أن
يشترك في المرأة الحرة زوجان ،فل يجوز أن يشترك في المة المملوكة سيدان.
عهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي :مراعون لها ،ضابطون ،حافظون ،حريصون على
{ وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ
القيام بها وتنفيذها ،وهذا عام في جميع المانات التي هي حق ل ،والتي هي حق للعباد ،قال
شفَقْنَ مِ ْنهَا
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ َي ْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
علَى ال ّ
تعالى { :إِنّا عَ َرضْنَا الَْأمَانَةَ َ
حمََلهَا الْإِنْسَانُ } فجميع ما أوجبه ال على عبده أمانة ،على العبد حفظها بالقيام التام بها ،وكذلك
وَ َ
يدخل في ذلك أمانات الدميين ،كأمانات الموال والسرار ونحوهما ،فعلى العبد مراعاة المرين،
وأداء المانتين { إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ ُتؤَدّوا الَْأمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا }
وكذلك العهد ،يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم والذي بينهم وبين العباد ،وهي اللتزامات
والعقود ،التي يعقدها العبد ،فعليه مراعاتها والوفاء بها ،ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها ،
{ وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صََلوَا ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ } أي :يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها
وأركانها ،فمدحهم بالخشوع بالصلة ،وبالمحافظة عليها ،لنه ل يتم أمرهم إل بالمرين ،فمن
يداوم على الصلة من غير خشوع ،أو على الخشوع من دون محافظة عليها ،فإنه مذموم ناقص.
{ أُولَ ِئكَ } الموصوفون بتلك الصفات { هم ا ْلوَارِثُونَ* الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ } الذي هو أعلى
الجنة ووسطها وأفضلها ،لنهم حلوا من صفات الخير أعلها وذروتها ،أو المراد بذلك جميع
الجنة ،ليدخل بذلك عموم المؤمنين ،على درجاتهم و مراتبهم كل بحسب حاله { ،هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
} ل يظعنون عنها ،ول يبغون عنها حول لشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه ،من غير
مكدر ول منغص.
ذكر ال في هذه اليات أطوار الدمي وتنقلته ،من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه ،فذكر
ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلم ،وأنه { مِنْ سُلَاَلةٍ مِنْ طِينٍ } أي :قد سلت ،وأخذت
من جميع الرض ،ولذلك جاء بنوه على قدر الرض ،منهم الطيب والخبيث ،وبين ذلك ،والسهل
والحزن ،وبين ذلك.
سوْنَا
عظَامًا } صلبة ،قد تخللت اللحم ،بحسب حاجة البدن إليهاَ { ،فكَ َ
ضغَةَ } اللينة { ِ
{ َفخََلقْنَا ا ْل ُم ْ
حمًا } أي :جعلنا اللحم ،كسوة للعظام ،كما جعلنا العظام ،عمادا للحم ،وذلك في الربعين
ا ْلعِظَامَ لَ ْ
الثالثة { ،ثُمّ أَ ْنشَأْنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ } نفخ فيه الروح ،فانتقل من كونه جمادا ،إلى أن صار حيوانا،
{ فَتَبَا َركَ اللّهُ } أي :تعالى وتعاظم وكثر خيره { َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ } { الذي أحسن كل شيء خلقه
وبدأ خلق النسان من طين ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه
وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليل ما تشكرون } فخلقه كله حسن ،والنسان من أحسن
مخلوقاته ،بل هو أحسنها على الطلق ،كما قال تعالىَ { :لقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي َأحْسَنِ َت ْقوِيمٍ }
ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها.
{ ُثمّ إِ ّنكُمْ َب ْعدَ ذَِلكَ } الخلق ،ونفخ الروح { َلمَيّتُونَ } في أحد أطواركم وتنقلتكم { ثُمّ إِ ّن ُكمْ َيوْمَ
سبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى*
حَا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ } فتجازون بأعمالكم ،حسنها وسيئها .قال تعالى { :أَيَ ْ
ج َعلَ مِنْهُ ال ّز ْوجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى* أَلَيْسَ
سوّى* فَ َ
طفَةً مِنْ مَ ِنيّ ُيمْنَى* ُثمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ
أَلَمْ َيكُ ُن ْ
ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى }
سمَاءِ
ق َومَا كُنّا عَنِ ا ْلخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ
{ { } 20 - 17وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ سَ ْبعَ طَرَا ِئ َ
ض وَإِنّا عَلَى ذَهَابٍ ِبهِ َلقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا َل ُكمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
سكَنّاهُ فِي الْأَ ْر ِ
مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْ
ن َوصِبْغٍ
شجَ َرةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْ ُبتُ بِالدّهْ ِ
وَأَعْنَابٍ َل ُكمْ فِيهَا َفوَاكِهُ كَثِي َرةٌ َومِنْهَا تَ ْأكُلُونَ * وَ َ
لِلْآكِلِينَ }
لما ذكر تعالى خلق الدمي ،ذكر سكنه ،وتوفر النعم عليه من كل وجه فقال { :وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ }
سقفا للبلد ،ومصلحة للعباد { سَبْعَ طَرَائِقَ } أي :سبع سماوات طباقا ،كل طبقة فوق الخرى ،قد
زينت بالنجوم والشمس والقمر ،وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودعَ { ،ومَا كُنّا عَنِ ا ْلخَلْقِ
غَافِلِينَ } فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق ،فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا ،فل نغفل مخلوقا ول ننساه،
ول نخلق خلقا فنضيعه ,ول نغفل عن السماء فتقع على الرض ،ول ننسى ذرة في لجج البحار
وجوانب الفلوات ،ول دابة إل سقنا إليها رزقها { َومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا
عهَا } وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله { :أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ } { بَلَى وَ ُهوَ الْخَلّاقُ ا ْلعَلِيمُ } لن خلق المخلوقات ،من أقوى الدلة العقلية،
على علم خالقها وحكمته.
سمَاءِ مَاءً } يكون رزقا لكم ولنعامكم بقدر ما يكفيكم ،فل ينقصه ،بحيث ل يكفي
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ
الرض والشجار ،فل يحصل منه المقصود ،ول يزيده زيادة ل تحتمل ،بحيث يتلف المساكن،
ول تعيش معه النباتات والشجار ،بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من
سكَنّاهُ فِي الْأَ ْرضِ } أي :أنزلناه عليها ،فسكن واستقر ،وأخرج بقدرة منزله ،جميع
دوامه { ،فَأَ ْ
الزواج النباتية ،وأسكنه أيضا معدا في خزائن الرض ،بحيث لم يذهب نازل ،حتى ل يوصل
إليه ،ول يبلغ قعره { ،وَإِنّا عَلَى َذهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ } إما بأن ل ننزله ،أو ننزله ،فيذهب نازل ل
يوصل إليه ،أو ل يوجد منه المقصود منه ،وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته ،ويقدروا
غوْرًا َفمَنْ يَأْتِي ُكمْ
عدمها ،ماذا يحصل به من الضرر ،كقوله تعالىُ { :قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَاؤُكُمْ َ
ِبمَاءٍ َمعِينٍ }
سقِيكُمْ ِممّا فِي ُبطُو ِنهَا وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َر ٌة َومِ ْنهَا
{ { } 22 - 21وَإِنّ َلكُمْ فِي الْأَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً نُ ْ
حمَلُونَ }
تَ ْأكُلُونَ * وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
أي :ومن نعمه عليكم ،أن سخر لكم النعام ،البل والبقر ،والغنم ،فيها عبرة للمعتبرين ،ومنافع
سقِيكُمْ ِممّا فِي بُطُو ِنهَا } من لبن ،يخرج من بين فرث ودم ،خالص سائغ للشاربين،
للمنتفعين { نُ ْ
{ وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َرةٌ } من أصوافها ،وأوبارها ،وأشعارها ،وجعل لكم من جلود النعام بيوتا
تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم { َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ } أفضل المآكل من لحم وشحم.
حمَلُونَ } أي :جعلها سفنا لكم في البر ،تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم
{ وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ ُت ْ
تكونوا بالغيه إل بشق النفس ،كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم ،وتحمل متاعكم ،قليل [كان]
أو كثيرا ،فالذي أنعم بهذه النعم ،وصنف أنواع الحسان ،وأدر علينا من خيره المدرار ،هو الذي
يستحق كمال الشكر ،وكمال الثناء ،والجتهاد في عبوديته ،وأن ل يستعان بنعمه على معاصيه.
{ { } 30 - 23وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا
تَ ّتقُونَ } إلى آخرالقصة
وهي قوله { إن في ذلك ليات وإن كنا لمبتلين } يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه
السلم ،أول رسول أرسله لهل الرض ،فأرسله إلى قومه ،وهم يعبدون الصنام ،فأمرهم بعبادة
ال وحده ،فقال { :يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ } أي :أخلصوا له العبادة ،لن العبادة ل تصح إل بإخلصها.
{ مَا َل ُكمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } فيه إبطال ألوهية غير ال ،وإثبات اللهية ل تعالى ،لنه الخالق الرازق،
الذي له الكمال كله ،وغيره بخلف ذلكَ { .أفَلَا تَ ّتقُونَ } ما أنتم عليه من عبادة الوثان والصنام،
التي صورت على صور قوم صالحين ،فعبدوها مع ال ،فاستمر على ذلك ،يدعوهم سرا وجهارا،
وليل ونهارا ،ألف سنة إل خمسين عاما ،وهم ل يزدادون إل عتوا ونفورا.
{ َفقَالَ ا ْلمَلَأُ } من قومه الشراف والسادة المتبوعون -على وجه المعارضة لنبيهم نوح ،والتحذير
ضلَ عَلَ ْيكُمْ } أي :ما هذا إل بشر مثلكم ،قصده
من اتباعه { :-مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَ َتفَ ّ
حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة ،ليكون متبوعا ،وإل فما الذي يفضله عليكم ،وهو من
جنسكم؟ وهذه المعارضة ل زالت موجودة في مكذبي الرسل ،وقد أجاب ال عنها بجواب شاف،
على ألسنة رسله كما في قوله { :قالوا } أي :لرسلهم { إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ َتصُدّونَا
سلْطَانٍ مُبِينٍ* قَاَلتْ َلهُمْ رُسُُلهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ
عمّا كَانَ َيعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِ ُ
َ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } فأخبروا أن هذا فضل ال ومنته ،فليس لكم أن تحجروا على ال،
وتمنعوه من إيصال فضله علينا.
وقالوا هنا { :ولو شاء ال لنزل ملئكة } وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة ،فإنه وإن كان لو
شاء لنزل ملئكة ،فإنه حكيم رحيم ،حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس
الدميين ،لن الملك ل قدرة لهم على مخاطبته ،ول يمكن أن يكون إل بصورة رجل ،ثم يعود
اللبس عليهم كما كان.
س ِمعْنَا ِبهَذَا } أي بإرسال الرسول { فِي آبَائِنَا الَْأوّلِينَ } وأي حجة في عدم سماعهم
وقولهم { :مَا َ
إرسال رسول في آبائهم الولين؟ لنهم لم يحيطوا علما بما تقدم ،فل يجعلوا جهلهم حجة لهم،
وعلى تقدير أنه لم يرسل فيهم رسول ،فإما أن يكونوا على الهدى ،فل حاجة لرسال الرسول إذ
ذاك ،وإما أن يكونوا على غيره ،فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم ،ول
شعروا بها ،ول يجعلوا عدم الحسان على غيرهم سببا لكفرهم للحسان إليهم.
جلٌ ِبهِ جِنّةٌ } أي :مجنون { فَتَرَ ّبصُوا بِهِ } أي :انتظروا به { حَتّى حِينٍ } إلى أن
{ إِنْ ُهوَ إِلّا رَ ُ
يأتيه الموت.
وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم ،دالة على شدة كفرهم وعنادهم ،وعلى أنهم في
غاية الجهل والضلل ،فإنها ل تصلح للمعارضة بوجه من الوجوه ،كما ذكرنا ،بل هي في نفسها
ضلَ عَلَ ْيكُمْ } أثبتوا أن له عقل
متناقضة متعارضة .فقوله { :مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَ َتفَ ّ
يكيدهم به ،ليعلوهم ويسودهم ،ويحتاج -مع هذا -أن يحذر منه لئل يغتر به ،فكيف يلتئم مع
جلٌ ِبهِ جِنّةٌ } وهل هذا إل من مشبه ضال ،منقلب عليه المر ،قصده الدفع
قولهم { :إِنْ ُهوَ إِلّا رَ ُ
بأي :طريق اتفق له ،غير عالم بما يقول؟".
فلما رأى نوح أنه ل يفيدهم دعاؤه إل فرارا { قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا َكذّبُونِ } فاستنصر ربه
علَى الْأَ ْرضِ مِنَ
عليهم ،غضبا ل ،حيث ضيعوا أمره ،وكذبوا رسوله وقالَ { :ربّ لَا تَذَرْ َ
ك وَلَا يَِلدُوا إِلّا فَاجِرًا كَفّارًا } قال تعالى { :وََلقَدْ نَادَانَا
ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا* إِ ّنكَ إِنْ تَذَرْ ُهمْ ُيضِلّوا عِبَا َد َ
نُوحٌ فَلَ ِنعْمَ ا ْلمُجِيبُونَ }
{ فََأوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند استجابتنا له ،سببا ووسيلة للنجاة ،قبل وقوع أسبابه { ،أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ } أي:
السفينة { بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا } أي :بأمرنا لك ومعونتنا ،وأنت في حفظنا وكلءتنا بحيث نراك
ونسمعك.
{ فَِإذَا جَاءَ َأمْرُنَا } بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { َوفَارَ التّنّورُ } أي :فارت الرض ،وتفجرت
عيونا ،حتى محل النار ،الذي لم تجر العادة إل ببعده عن الماء { ،فَاسُْلكْ فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ } أي :أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات ،ذكرا وأنثى ،تبقى مادة النسل لسائر
الحيوانات ،التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الرض { ،وَأَهَْلكَ } أي :أدخلهم { إِلّا مَنْ
سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْل َق ْولُ } كابنه { ،وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُوا } أي :ل تدعني أن أنجيهم ،فإن القضاء
والقدر ،قد حتم أنهم مغرقون.
ت َومَنْ َم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ } أي :علوتم عليها ،واستقلت بكم في تيار المواج،
{ فَِإذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَ ْن َ
ولجج اليم ،فاحمدوا ال على النجاة والسلمة .فقل الحمد ل الذي نجانا من القوم الظالمين ،وهذا
تعليم منه له ولمن معه ،أن يقولوا هذا شكرا له وحمدا على نجاتهم من القوم الظالمين في عملهم
وعذابهم.
{ َو ُقلْ َربّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَا َركًا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ } أي :وبقيت عليكم نعمة أخرى ،فادعوا ال
فيها ،وهي أن ييسر ال لكم منزل مباركا ،فاستجاب ال دعاءه ،قال الَ { :و ُقضِيَ الَْأمْ ُر وَاسْ َت َوتْ
ي َوقِيلَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } إلى أن قال { :قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنّا وَبَ َركَاتٍ عَلَ ْيكَ
عَلَى الْجُو ِد ّ
وَعَلَى ُأ َممٍ ِممّنْ َم َعكَ } الية.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ } أي :في هذه القصة { لَآيَاتٍ } تدل على أن ال وحده المعبود ،وعلى أن رسوله
نوحا صادق ،وأن قومه كاذبون ،وعلى رحمة ال بعباده ،حيث حملهم في صلب أبيهم نوح ،في
الفلك لما غرق أهل الرض.
والفلك أيضا من آيات ال ،قال تعالى { :وََلقَدْ تَ َركْنَاهَا آيَةً َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } ولهذا جمعها هنا لنها
تدل على عدة آيات ومطالب { .وَإِنْ كُنّا َلمُبْتَلِينَ }
{ { } 41 - 31ثُمّ أَنْشَأْنَا مِنْ َبعْ ِدهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ َرسُولًا مِ ْنهُمْ أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا
َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ * َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِِلقَاءِ الْآخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي
طعْ ُتمْ بَشَرًا
الْحَيَاةِ الدّنْيَا مَا َهذَا إِلّا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْ ُه وَيَشْ َربُ ِممّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَ َ
مِثَْلكُمْ إِ ّنكُمْ إِذًا َلخَاسِرُونَ * أَ َي ِع ُدكُمْ أَ ّنكُمْ إِذَا مِتّمْ َوكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَ ّنكُمْ مُخْرَجُونَ * هَ ْيهَاتَ
جلٌ
ت وَنَحْيَا َومَا َنحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ * إِنْ ُهوَ إِلّا َر ُ
هَ ْيهَاتَ ِلمَا تُوعَدُونَ * إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ
عمّا قَلِيلٍ
افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َومَا َنحْنُ لَهُ ِب ُمؤْمِنِينَ * قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا كَذّبُونِ * قَالَ َ
جعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }
حةُ بِا ْلحَقّ َف َ
خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ
لَ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ * فَأَ َ
لما ذكر نوحا وقومه ،وكيف أهلكهم قالُ { :ثمّ أَنْشَأْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } الظاهر أنهم " ثمود
" قوم صالح عليه السلم ،لن هذه القصة تشبه قصتهم.
{ فَأَ ْرسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِ ْنهُمْ } من جنسهم ،يعرفون نسبه وحسبه وصدقه ،ليكون ذلك أسرع
لنقيادهم ،إذا كان منهم ،وأبعد عن اشمئزازهم ،فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم { أَنِ اعْ ُبدُوا
اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة ،وهي أول دعوة يدعون بها أممهم ،المر
بعبادة ال ،والخبار أنه المستحق لذلك ،والنهي عن عبادة ما سواه ،والخبار ببطلن ذلك وفساده،
ولهذا قالَ { :أفَلَا تَ ّتقُونَ } ربكم ،فتجتنبوا هذه الوثان والصنام.
{ َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ الّذِينَ كَفَرُوا َوكَذّبُوا بِِلقَاءِ الْآخِ َرةِ وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي :قال
الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة ،وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا ،معارضة لنبيهم،
وتكذيبا وتحذيرا منه { :مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ } أي :من جنسكم { يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْ ُه وَيَشْ َربُ
ِممّا تَشْرَبُونَ } فما الذي يفضله عليكم؟ فهل كان ملكا ل يأكل الطعام ،ول يشرب الشراب ،
طعْتُمْ َبشَرًا مِثَْلكُمْ إِ ّنكُمْ إِذًا َلخَاسِرُونَ } أي :إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا ،وهو مثلكم
{ وَلَئِنْ َأ َ
إنكم لمسلوبو العقل ،نادمون على ما فعلتم .وهذا من العجب ،فإن الخسارة والندامة حقيقة لمن لم
يتابعه ولم ينقد له .والجهل والسفه العظيم لمن تكبر عن النقياد لبشر ،خصه ال بوحيه ،وفضله
برسالته ،وابتلي بعبادة الشجر والحجر.
وهنا دليل آخر ،وهو :أن الذي أحيا الرض بعد موتها ،إن ذلك لمحيي الموتى ،إنه على كل شيء
عجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُ ْنذِرٌ
قدير ،وثم دليل آخر ،وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قولهَ { :بلْ َ
جعٌ َبعِيدٌ } فقال في جوابهم { :قَدْ
عجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا ذَِلكَ رَ ْ
شيْءٌ َ
مِ ْنهُمْ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا َ
حفِيظٌ }
عَِلمْنَا مَا تَ ْن ُقصُ الْأَ ْرضُ مِ ْنهُمْ } أي في البلى { ،وَعِنْدَنَا كِتَابٌ َ
{ إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَنَحْيَا } أي :يموت أناس ،ويحيا أناس { َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ }
جلٌ ِبهِ جِنّةٌ } فلهذا أتى بما أتى به ،من توحيد ال ،وإثبات المعاد { فَتَرَ ّبصُوا بِهِ
{ إِنْ ُهوَ إِلّا رَ ُ
حَتّى حِينٍ } أي :ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره ،احتراما له ،ولنه مجنون غير مؤاخذ بما
يتكلم به ،أي :فلم يبق بزعمهم الباطل مجادلة معه ،لصحة ما جاء به ،فإنهم قد عرفوا بطلنه،
وإنما بقي الكلم ،هل يوقعون به أم ل؟ ،فبزعمهم أن عقولهم الرزينة ،اقتضت البقاء عليه،
وترك اليقاع به ،مع قيام الموجب ،فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟" ولهذا لما اشتد كفرهم ،ولم
ينفع فيهم النذار ،دعا عليهم نبيهم فقالَ { :ربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا كَذّبُونِ } أي :بإهلكهم ،وخزيهم
خذَ ْتهُمُ الصّ ْيحَةُ
عمّا قَلِيلٍ لَ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ فَأَ َ
الدنيوي ،قبل الخرة { .قَالَ } ال مجيبا لدعوتهَ { :
حقّ } ل بالظلم والجور ،بل بالعدل وظلمهم ،أخذتهم الصيحة ،فأهلكتهم عن آخرهم.
بِالْ َ
جعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } أي :هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي ،وقال في الية
{ َف َ
الخرى { إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِه ْم صَيْحَ ًة وَاحِ َدةً َفكَانُوا َكهَشِيمِ ا ْلمُحْتَظِرِ }
{ فَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } أي :أتبعوا مع عذابهم ،البعد واللعنة والذم من العالمين { َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ
سمَاءُ وَالْأَ ْرضُ َومَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }
ال ّ
{ { } 44 - 42ثُمّ أَنْشَأْنَا مِنْ َبعْ ِدهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ *
جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ فَ ُبعْدًا
ضهُمْ َب ْعضًا َو َ
ثُمّ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ُكلّ مَا جَاءَ ُأمّةً رَسُوُلهَا كَذّبُوهُ فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ
ِلقَوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ }
أي :ثم أنشأنا من بعد هؤلء المكذبين المعاندين قرونا آخرين ،كل أمة في وقت مسمى ،وأجل
محدود ،ل تتقدم عنه ول تتأخر ،وأرسلنا إليهم رسل متتابعة ،لعلهم يؤمنون وينيبون ،فلم يزل
الكفر والتكذيب دأب المم العصاة ،والكفرة البغاة ،كلما جاء أمة رسولها كذبوه ،مع أن كل رسول
يأتي من اليات ما يؤمن على مثله البشر ،بل مجرد دعوة الرسل وشرعهم ،يدل على حقيه ما
ضهُمْ َب ْعضًا } بالهلك ،فلم يبق منهم باقية ،وتعطلت مساكنهم من بعدهم
جاءوا به { ،فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ
جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ } يتحدث بهم من بعدهم ،ويكونون عبرة للمتقين ،ونكال للمكذبين ،وخزيا
{ وَ َ
عليهم مقرونا بعذابهم { .فَ ُبعْدًا ِل َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ } ما أشقاهم" وتعسا لهم ،ما أخسر صفقتهم".
ن َومَلَئِهِ
عوْ َ
سلْطَانٍ مُبِينٍ * ِإلَى فِرْ َ
{ { } 49 - 45ثُمّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ ُ
فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا عَالِينَ * َفقَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ لِ َبشَرَيْنِ مِثْلِنَا َو َق ْومُ ُهمَا لَنَا عَا ِبدُونَ * َفكَذّبُو ُهمَا َفكَانُوا
مِنَ ا ْل ُمهَْلكِينَ * وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ }
مر عليّ منذ زمان طويل كلم لبعض العلماء ل يحضرني الن اسمه ،وهو أنه بعد بعث موسى
ونزول التوراة ،رفع ال العذاب عن المم ،أي :عذاب الستئصال ،وشرع للمكذبين المعاندين
الجهاد ،ولم أدر من أين أخذه ،فلما تدبرت هذه اليات ،مع اليات التي في سورة القصص ،تبين
لي وجهه ،أما هذه اليات ،فلن ال ذكر المم المهلكة المتتابعة على الهلك ،ثم أخبر أنه أرسل
موسى بعدهم ،وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس ،ول يرد على هذا ،إهلك فرعون ،فإنه قبل
نزول التوراة ،وأما اليات التي في سورة القصص ،فهي صريحة جدا ،فإنه لما ذكر هلك
س وَهُدًى
فرعون قال { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِ مَا أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الْأُولَى َبصَائِرَ لِلنّا ِ
حمَةً َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ } فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلك المم الباغية ،وأخبر أنه أنزله
وَرَ ْ
بصائر للناس وهدى ورحمة ،ولعل من هذا ،ما ذكر ال في سورة " يونس " من قولة { :ثم بعثنا
من بعده } أي :من بعد نوح { رسل إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به
من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين* ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } اليات وال أعلم.
فقوله { :ثُمّ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى } بن عمران ،كليم الرحمن { وََأخَاهُ هَارُونَ } حين سأل ربه أن يشركه
في أمره فأجاب سؤله.
{ بِآيَاتِنَا } الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به { وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } أي :حجة بينة ،من قوتها ،أن
تقهر القلوب ،وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين ،وتقوم الحجة البينة على المعاندين،
وهذا كقوله { وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ِتسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند
عوْنُ إِنّي لَأَظُ ّنكَ يَا مُوسَى
{ فَاسَْألْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَ ُهمْ } أي :بتلك اليات البينات { َفقَالَ له فِرْ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َبصَائِرَ
مَسْحُورًا } فب { قال } موسى { قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ ِإلّا َربّ ال ّ
سهُمْ ظُ ْلمًا وَعُُلوّا } وقال
جحَدُوا ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ
عوْنُ مَثْبُورًا } وقال تعالى { :وَ َ
وَإِنّي لََأظُ ّنكَ يَا فِرْ َ
عوْنَ َومَلَئِهِ } كب " هامان "
هنا { :ثُمّ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ* إِلَى فِرْ َ
وغيره من رؤسائهم { ،فَاسْ َتكْبَرُوا } أي :تكبروا عن اليمان بال ،واستكبروا على أنبيائه،
{ َوكَانُوا َق ْومًا عَالِينَ } أي :وصفهم العلو ،والقهر ،والفساد في الرض ،فلهذا صدر منهم
الستكبار ،ذلك غير مستكثر منهم.
{ َفقَالُوا } كبرا وتيها ،وتحذيرا لضعفاء العقول ،وتمويها { :أَ ُن ْؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } كما قاله من
قبلهم سواء بسواء ،تشابهت قلوبهم في الكفر ،فتشابهت أقوالهم وأفعالهم ،وجحدوا منة ال عليهما
بالرسالة.
{ َو َق ْو ُم ُهمَا } أي :بنو إسرائيل { لَنَا عَابِدُونَ } أي :معبدون بالعمال والشغال الشاقة ،كما قال
عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ
تعالى { :وَإِذْ َنجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْ َ
َوفِي َذِلكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَظِيمٌ }
فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟" وكيف يكون هؤلء رؤساء علينا؟" ونظير قولهم ،قول
ك وَاتّ َب َعكَ الْأَرْذَلُونَ } { َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ إِلّا الّذِينَ ُهمْ أَرَا ِذلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ } من
قوم نوح { :أَ ُن ْؤمِنُ َل َ
المعلوم أن هذا ل يصلح لدفع الحق ،وأنه تكذيب ومعاندة.
ولهذا قالَ { :فكَذّبُو ُهمَا َفكَانُوا مِنَ ا ْل ُمهَْلكِينَ } في الغرق في البحر ،وبنو إسرائيل ينظرون.
{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى } بعدما أهلك ال فرعون ،وخلص الشعب السرائيلي مع موسى ،وتمكن حينئذ
من إقامة أمر ال فيهم ،وإظهار شعائره ،وعده ال أن ينزل عليه التوراة أربعين ليلة ،فذهب
شيْءٍ }
ظ ًة وَ َتفْصِيلًا ِل ُكلّ َ
شيْءٍ َموْعِ َ
لميقات ربه ،قال ال تعالى { َوكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَ ْلوَاحِ مِنْ ُكلّ َ
ولهذا قال هناَ { :لعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ } أي :بمعرفة تفاصيل المر والنهي ،والثواب والعقاب ،ويعرفون
ربهم بأسمائه وصفاته.
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَ ًة وَآوَيْنَا ُهمَا إِلَى رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ َومَعِينٍ }
{ { } 50وَ َ
أي :وامتننا على عيسى ابن مريم ،وجعلناه وأمه من آيات ال العجيبة ،حيث حملته وولدته من
غير أب ،وتكلم في المهد صبيا ،وأجرى ال على يديه من اليات ما أجرى { ،وَآوَيْنَا ُهمَا إِلَى رَ ْب َوةٍ
} أي :مكان مرتفع ،وهذا -وال أعلم -وقت وضعها { ،ذَاتِ قَرَارٍ } أي :مستقر وراحة
ج َعلَ رَ ّبكِ تَحْ َتكِ } أي :تحت المكان الذي أنت فيه،
{ َو َمعِينٍ } أي :ماء جار ،بدليل قولهَ { :قدْ َ
لرتفاعه { ،سَرِيّا } أي :نهرا وهو المعين { وَهُزّي إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّخْلَةِ ُتسَاقِطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبًا جَنِيّا*
َفكُلِي وَاشْرَبِي َوقَرّي عَيْنًا }
علِيمٌ * وَإِنّ
عمَلُوا صَالِحًا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ
ت وَا ْ
سلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَا ِ
{ { } 56 - 51يَا أَ ّيهَا الرّ ُ
طعُوا َأمْ َرهُمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ
ح َد ًة وَأَنَا رَ ّبكُمْ فَا ّتقُونِ * فَ َتقَ ّ
هَ ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ
ل وَبَنِينَ * نُسَا ِرعُ َل ُهمْ فِي
غمْرَ ِتهِمْ حَتّى حِينٍ * أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّ ُهمْ بِهِ مِنْ مَا ٍ
* فَذَرْ ُهمْ فِي َ
شعُرُونَ }
الْخَيْرَاتِ بَل لَا َي ْ
هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات ،التي هي الرزق الطيب الحلل ،وشكر ال ،بالعمل
الصالح ،الذي به يصلح القلب والبدن ،والدنيا والخرة .ويخبرهم أنه بما يعملون عليم ،فكل عمل
عملوه ،وكل سعي اكتسبوه ،فإن ال يعلمه ،وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله ،فدل هذا على أن
الرسل كلهم ،متفقون على إباحة الطيبات من المآكل ،وتحريم الخبائث منها ،وأنهم متفقون على
كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات ،واختلفت بها الشرائع ،فإنها كلها عمل
صالح ،ولكن تتفاوت بتفاوت الزمنة.
ولهذا ،العمال الصالحة ،التي هي صلح في جميع الزمنة ،قد اتفقت عليها النبياء والشرائع،
كالمر بتوحيد ال ،وإخلص الدين له ،ومحبته ،وخوفه ،ورجائه ،والبر ،والصدق ،والوفاء
بالعهد ،وصلة الرحام ،وبر الوالدين ،والحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى ،والحنو
والحسان إلى الخلق ،ونحو ذلك من العمال الصالحة ،ولهذا كان أهل العلم ،والكتب السابقة،
والعقل ،حين بعث ال محمدا صلى ال عليه وسلم ،يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به،
وينهى عنه ،كما جرى لهرقل وغيره ،فإنه إذا أمر بما أمر به النبياء ،الذين من قبله ،ونهى عما
نهوا عنه ،دل على أنه من جنسهم ،بخلف الكذاب ،فل بد أن يأمر بالشر ،وينهى عن الخير.
ولهذا قال تعالى للرسل { :وَإِنّ َه ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ أمّةً } أي :جماعتكم -يا معشر الرسل -جماعة { وَاحِ َدةً
} متفقة على دين واحد ،وربكم واحد.
{ فَا ّتقُونِ } بامتثال أوامري ،واجتناب زواجري .وقد أمر ال المؤمنين بما أمر به المرسلين ،لنهم
شكُرُوا لِلّهِ
بهم يقتدون ،وخلفهم يسلكون ،فقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ
إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ } فالواجب من كل المنتسبين إلى النبياء وغيرهم ،أن يمتثلوا هذا ،ويعملوا
طعُوا َأمْرَ ُهمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرًا } أي:
به ،ولكن أبى الظالمون المفترقون إل عصيانا ،ولهذا قال { :فَ َتقَ ّ
تقطع المنتسبون إلى اتباع النبياء { َأمْرُهُمْ } أي :دينهم { بَيْ َن ُهمْ زُبُرًا } أي :قطعا { ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا
لَدَ ْيهِمْ } أي :بما عندهم من العلم والدين { فَ ِرحُونَ } يزعمون أنهم المحقون ،وغيرهم على غير
الحق ،مع أن المحق منهم ،من كان على طريق الرسل ،من أكل الطيبات ،والعمل الصالح ،وما
عداهم فإنهم مبطلون.
غمْرَ ِتهِمْ } أي :في وسط جهلهم بالحق ،ودعواهم أنهم هم المحقون { .حَتّى حِينٍ }
{ َفذَرْهُمْ فِي َ
أي :إلى أن ينزل العذاب بهم ،فإنهم ل ينفع فيهم وعظ ،ول يفيدهم زجر ،وكيف يفيد من يزعم أنه
على الحق ،ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟.
{ أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ ِبهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ُنسَا ِرعُ َل ُهمْ فِي الْخَيْرَاتِ } أي :أيظنون أن زيادتنا إياهم
بالموال والولد ،دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة ،وأن لهم خير الدنيا والخرة؟ وهذا
مقدم لهم ،ليس المر كذلك.
شعُرُونَ } أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم ،ليزدادوا إثما ،وليتوفر عقابهم في
{ بَل لَا َي ْ
الخرة ،وليغتبطوا بما أوتوا { حَتّى إِذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً }
{ وَالّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَ ّب ِهمْ ُي ْؤمِنُونَ } أي :إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ،ويتفكرون أيضا في
اليات القرآنية ويتدبرونها ،فيبين لهم من معاني القرآن وجللته واتفاقه ،وعدم اختلفه وتناقضه،
وما يدعو إليه من معرفة ال وخوفه ورجائه ،وأحوال الجزاء ،فيحدث لهم بذلك من تفاصيل
اليمان ،ما ل يعبر عنه اللسان.
{ وَالّذِينَ هُمْ بِرَ ّبهِمْ لَا ُيشْ ِركُونَ } أي :ل شركا جليا ،كاتخاذ غير ال معبودا ،يدعوه ويرجوه ول
شركا خفيا ،كالرياء ونحوه ،بل هم مخلصون ل ،في أقوالهم وأعمالهم وسائر أحوالهم.
{ وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آ َتوْا } أي :يعطون من أنفسهم مما أمروا به ،ما آتوا من كل ما يقدرون عليه،
من صلة ،وزكاة ،وحج ،وصدقة ،وغير ذلك { ،و } مع هذا { قُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ } أي :خائفة { أَ ّن ُهمْ
جعُونَ } أي :خائفة عند عرض أعمالها عليه ،والوقوف بين يديه ،أن تكون أعمالهم
إِلَى رَ ّبهِمْ رَا ِ
غير منجية من عذاب ال ،لعلمهم بربهم ،وما يستحقه من أصناف العبادات.
{ أُولَ ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ } أي :في ميدان التسارع في أفعال الخير ،همهم ما يقربهم إلى
ال ،وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه ،فكل خير سمعوا به ،أو سنحت لهم الفرصة إليه،
انتهزوه وبادروه ،قد نظروا إلى أولياء ال وأصفيائه ،أمامهم ،ويمنة ،ويسرة ،يسارعون في كل
خير ،وينافسون في الزلفى عند ربهم ،فنافسوهم .ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده
وتشميره ،وقد ل يسبق لتقصيره ،أخبر تعالى أن هؤلء من القسم السابقين فقال:
{ وَ ُهمْ َلهَا } أي :للخيرات { سَا ِبقُونَ } قد بلغوا ذروتها ،وتباروا هم والرعيل الول ،ومع هذا ،قد
سبقت لهم من ال سابقة السعادة ،أنهم سابقون.
ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات وسبقهم إليها ،ربما وهم واهم أن المطلوب منهم ومن غيرهم
س َعهَا } أي :بقدر ما تسعه،
أمر غير مقدور أو متعسر ،أخبر تعالى أنه ل يكلف { َنفْسًا إِلّا وُ ْ
ويفضل من قوتها عنه ،ليس مما يستوعب قوتها ،رحمة منه وحكمة ،لتيسير طريق الوصول إليه،
طقُ بِا ْلحَقّ } وهو الكتاب الول ،الذي
ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه { .وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْ ِ
فيه كل شيء ،وهو يطابق كل واقع يكون ،فلذلك كان حقا { ،وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُونَ } أي ل ينقص من
إحسانهم ،ول يزداد في عقوبتهم وعصيانهم.
يخبر تعالى أن قلوب المكذبين في غمرة من هذا ،أي :وسط غمرة من الجهل والظلم ،والغفلة
والعراض ،تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن ،فل يهتدون به ،ول يصل إلى قلوبهم منه شيء.
جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ
ك وَبَيْنَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ حِجَابًا َمسْتُورًا* َو َ
جعَلْنَا بَيْ َن َ
{ وَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ َ
َأكِنّةً أَنْ َي ْف َقهُو ُه َوفِي آذَا ِنهِمْ َوقْرًا } فلما كانت قلوبهم في غمرة منه ،عملوا بحسب هذا الحال ،من
عمَالٌ مِنْ دُونِ } هذه
العمال الكفرية ،والمعاندة للشرع ،ما هو موجب لعقابهم { ،و } لكن { َل ُهمْ أَ ْ
العمال { هُمْ َلهَا عَامِلُونَ } أي :فل يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم ،فإن ال يمهلهم ليعملوا هذه
العمال ،التي بقيت عليهم مما كتب عليهم ،فإذا عملوها واستوفوها ،انتقلوا بشر حالة إلى غضب
ال وعقابه.
{ حَتّى إِذَا َأخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ } أي :متنعميهم ،الذين ما اعتادوا إل الترف والرفاهية والنعيم ،ولم
تحصل لهم المكاره ،فإذا أخذناهم { بِا ْل َعذَابِ } ووجدوا مسه { ِإذَا ُهمْ يَجْأَرُونَ } يصرخون
ويتوجعون ،لنه أصابهم أمر خالف ما هم عليه ،ويستغيثون ,فيقال لهم { :لَا تَجْأَرُوا الْ َيوْمَ إِ ّن ُكمْ مِنّا
لَا تُ ْنصَرُونَ } وإذا لم تأتهم النصرة من ال ،وانقطع عنهم الغوث من جانبه ،لم يستطيعوا نصر
أنفسهم ،ولم ينصرهم أحد.
فكأنه قيل :ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ قال { :قَدْ كَا َنتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } لتؤمنوا بها
عقَا ِبكُمْ تَ ْن ِكصُونَ } أي :راجعين القهقري إلى
وتقبلوا عليها ،فلم تفعلوا ذلك ،بل { كُنْتُمْ عَلَى أَ ْ
الخلف ،وذلك لن باتباعهم القرآن يتقدمون ،وبالعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل
سافلين { .مُسْ َتكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا َتهْجُرُونَ } قال المفسرون معناه :مستكبرين به ،الضمير يعود إلى
البيت ،المعهود عند المخاطبين ،أو الحرم ،أي :متكبرين على الناس بسببه ،تقولون :نحن أهل
الحرم ،فنحن أفضل من غيرنا وأعلى { ،سَامِرًا } أي :جماعة يتحدثون بالليل حول البيت
{ َت ْهجُرُونَ } [أي :تقولون الكلم الهجر الذي هو القبيح في] هذا القرآن.
فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن ،العراض عنه ،ويوصي بعضهم بعضا بذلك { َوقَالَ الّذِينَ
ن وَا ْل َغوْا فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ } وقال ال عنهمَ { :أ َفمِنْ هَذَا ا ْلحَدِيثِ
س َمعُوا ِلهَذَا ا ْلقُرْآ ِ
َكفَرُوا لَا َت ْ
حكُونَ وَلَا تَ ْبكُونَ* وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } { أَمْ َيقُولُونَ َتقَوّلَهُ }
َتعْجَبُونَ* وَ َتضْ َ
فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل ،ل جرم حقت عليهم العقوبة ،ولما وقعوا فيها ،لم يكن لهم ناصر
ينصرهم ،ول مغيث ينقذهم ،ويوبخون عند ذلك بهذه العمال الساقطة
{ َأفََلمْ يَدّبّرُوا ا ْل َق ْولَ } أي :أفل يتفكرن في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه ،أي :فإنهم لو تدبروه،
لوجب لهم اليمان ،ولمنعهم من الكفر ،ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه ،ودل
هذا على أن تدبر القرآن ،يدعو إلى كل خير ،ويعصم من كل شر ،والذي منعهم من تدبره أن
على قلوبهم أقفالها.
{ َأمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَ ْأتِ آبَاءَ ُهمُ الَْأوّلِينَ } أي :أو منعهم من اليمان ،أنه جاءهم رسول وكتاب ،ما
جاء آبائهم الولين ،فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين ،وعارضوا كل ما خالف ذلك ،ولهذا
قالوا ،هم ومن أشبههم من الكفار ،ما أخبر ال عنهمَ { :وكَذَِلكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا إِنّا َوجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى آثَارِهِمْ ُمقْتَدُونَ } فأجابهم بقوله { :قَالَ
َأوََلوْ جِئْ ُتكُمْ بَِأهْدَى ِممّا وَجَدْ ُتمْ عَلَيْهِ آبَا َء ُكمْ } فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق ،فأجابوا بحقيقة
أمرهم { قَالُوا إِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ }
وقوله { :أَمْ لَمْ َيعْ ِرفُوا رَسُوَلهُمْ َفهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ } أي :أو منعهم من اتباع الحق ،أن رسولهم محمدا
صلى ال عليه وسلم ،غير معروف عندهم ،فهم منكرون له؟ يقولون :ل نعرفه ،ول نعرف
صدقه ،دعونا حتى ننظر حاله ونسأل عنه من له به خبرة ،أي :لم يكن المر كذلك ،فإنهم
يعرفون الرسول صلى ال عليه وسلم معرفة تامة ،صغيرهم وكبيرهم يعرفون منه كل خلق
جميل ،ويعرفون صدقه وأمانته ،حتى كانوا يسمونه قبل البعثة " المين " فلم ل يصدقونه ،حين
جاءهم بالحق العظيم ،والصدق المبين؟.
{ َأمْ َيقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ } أي :جنون ،فلهذا قال ما قال ،والمجنون غير مسموع منه ،ول عبرة
بكلمه ،لنه يهذي بالباطل والكلم السخيف.
حقّ } أي :بالمر الثابت ،الذي هو صدق
قال ال في الرد عليهم في هذه المقالةَ { :بلْ جَاءَ ُهمْ بِالْ َ
وعدل ،ل اختلف فيه ول تناقض ،فكيف يكون من جاء به ،به جنة؟! وهل يكون إل في أعلى
درج الكمال ،من العلم والعقل ومكارم الخلق ،وأيضا فإن في هذا النتقال مما تقدم ،أي :بل
الحقيقة التي منعتهم من اليمان أنه جاءهم بالحق { وََأكْثَرُهُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ } وأعظم الحق الذي
جاءهم به إخلص العبادة ل وحده ،وترك ما يعبد من دون ال ،وقد علم كراهتهم لهذا المر
وتعجبهم منه ،فكون الرسول أتى بالحق ،وكونهم كارهين للحق بالصل ،هو الذي أوجب لهم
التكذيب بالحق ل شكا ول تكذيبا للرسول ،كما قال تعالى { :فَإِ ّنهُمْ لَا ُي َكذّبُو َنكَ وََلكِنّ الظّاِلمِينَ
حدُونَ } فإن قيل :لم لم يكن الحق موافقا لهوائهم لجل أن يؤمنوا و يسرعوا
بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
سمَاوَاتُ وَالْأَ ْرضُ }
النقياد؟ أجاب تعالى بقوله { :وََلوِ اتّ َبعَ ا ْلحَقّ َأ ْهوَاءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
ووجه ذلك أن أهواءهم متعلقة بالظلم والكفر والفساد من الخلق والعمال ،فلو اتبع الحق
أهواءهم لفسدت السماوات والرض ،لفساد التصرف والتدبير المبني على الظلم وعدم العدل،
فالسماوات والرض ما استقامتا إل بالحق والعدل { َبلْ أَتَيْنَا ُهمْ بذكرهم } أي :بهذا القرآن المذكر
لهم بكل خير ،الذي به فخرهم وشرفهم ,حين يقومون به ،ويكونون به سادة الناس.
{ َفهُمْ عَنْ ِذكْرِ ِهمْ ُمعْ ِرضُونَ } شقاوة منهم ،وعدم توفيق { نسوا ال فنسيهم } (نسوا ال فأنساهم
أنفسهم) فالقرآن ومن جاء به ،أعظم نعمة ساقها ال إليهم ,فلم يقابلوها إل بالرد والعراض ،فهل
بعد هذا الحرمان حرمان؟ وهل يكون وراءه إل نهاية الخسران؟.
{ { } 72أَمْ َتسْأَُلهُمْ خَرْجًا َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ }
أي :أو منعهم من اتباعك يا محمد ،أنك تسألهم على الجابة أجرا { َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ }
يتكلفون من اتباعك ،بسبب ما تأخذ منهم من الجر والخراج ،ليس المر كذلك{ َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ
وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ} وهذا كما قال النبياء لممهم { :يا قوم ل أسألكم عليه أجرا إن أجري إل
على ال }أي :ليسوا يدعون الخلق طمعا فيما يصيبهم منهم من الموال ،وإنما يدعون نصحا لهم،
وتحصيل لمصالحهم ،بل كان الرسل أنصح للخلق من أنفسهم ،فجزاهم ال عن أممهم خير
الجزاء ،ورزقنا القتداء بهم في جميع الحوال.
{ { } 74 - 73وَإِ ّنكَ لَتَدْعُو ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * وَإِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ عَنِ الصّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ }
ذكر ال تعالى في هذه اليات الكريمات ،كل سبب موجب لليمان ،وذكر الموانع ،وبين فسادها،
واحدا بعد واحد ،فذكر من الموانع أن قلوبهم في غمرة ،وأنهم لم يدبروا القول ،وأنهم اقتدوا
بآبائهم ،وأنهم قالوا :برسولهم جنة ،كما تقدم الكلم عليها ،وذكر من المور الموجبة ليمانهم،
تدبر القرآن ،وتلقي نعمة ال بالقبول ،ومعرفة حال الرسول محمد صلى ال عليه وسلم ،وكمال
صدقه وأمانته ،وأنه ل يسألهم عليه أجرا ،وإنما سعيه لنفعهم ومصلحتهم ،وأن الذي يدعوهم إليه
صراط مستقيم ،سهل على العاملين لستقامته ،موصل إلى المقصود ،من قرب حنيفية سمحة،
حنيفية في التوحيد ،سمحة في العمل ،فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم ،موجب لمن يريد الحق
أن يتبعك ،لنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه ،وموافقته للمصالح ،فأين يذهبون إن لم يتابعوك؟
فإنهم ليس عندهم ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك ،لنهم { عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } متجنبون
منحرفون ،عن الطريق الموصل إلى ال ،وإلى دار كرامته ،ليس في أيديهم إل ضللت
وجهالت.
وهكذا كل من خالف الحق ،ل بد أن يكون منحرفا في جميع أموره ،قال تعالى { :فَإِنْ َلمْ يَسْ َتجِيبُوا
ضلّ ِممّنَ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ ُهدًى مِنَ اللّهِ }
َلكَ فَاعْلَمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَهُ ْم َومَنْ َأ َ
هذا بيان لشدة تمردهم وعنادهم ،وأنهم إذا أصابهم الضر ،دعوا ال أن يكشف عنهم ليؤمنوا ،أو
ابتلهم بذلك ليرجعوا إليه .إن ال إذا كشف الضر عنهم لجوا ،أي :استمروا في طغيانهم يعمهون،
أي :يجولون في كفرهم ،حائرين مترددين.
كما ذكر ال حالهم عند ركوب الفلك ،وأنهم يدعون مخلصين له الدين ،وينسون ما يشركون به،
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الرض بالشرك وغيره.
{ وََلقَدْ َأخَذْنَا ُهمْ بِا ْلعَذَابِ } قال المفسرون :المراد بذلك :الجوع الذي أصابهم سبع سنين ،وأن ال
ابتلهم بذلك ،ليرجعوا إليه بالذل والستسلم ،فلم ينجع فيهم ،ول نجح منهم أحدَ { ،فمَا اسْ َتكَانُوا
لِرَ ّبهِمْ } أي :خضعوا وذلوا { َومَا يَ َتضَرّعُونَ } إليه ويفتقرون ،بل مر عليهم ذلك ثم زال ،كأنه لم
يصبهم ،لم يزالوا في غيهم وكفرهم ،ولكن وراءهم العذاب الذي ل يرد ،وهو قوله { :حَتّى ِإذَا
شدِيدٍ } كالقتل يوم بدر وغيرهِ { ،إذَا ُهمْ فِيهِ مُبِْلسُونَ } آيسون من كل
فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ َ
خير ،قد حضرهم الشر وأسبابه ،فليحذروا قبل نزول عذاب ال الشديد ،الذي ل يرد ،بخلف
مجرد العذاب ،فإنه ربما أقلع عنهم ،كالعقوبات الدنيوية ،التي يؤدب ال بها عباده .قال تعالى
عمِلُوا َلعَّلهُمْ
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ
فيهاَ { :
جعُونَ }
يَرْ ِ
يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية لهم إلى شكره ،والقيام بحقه فقال { :وَ ُهوَ الّذِي أَ ْنشَأَ َلكُمُ
سمْعَ } لتدركوا به المسموعات ،فتنتفعوا في دينكم ودنياكم { ،وَالْأَ ْبصَارَ } لتدركوا بها
ال ّ
المبصرات ،فتنتفعوا بها في مصالحكم.
{ وَالَْأفْئِ َدةَ } أي :العقول التي تدركون بها الشياء ،وتتميزون بها عن البهائم ،فلو عدمتم السمع،
والبصار ،والعقول ،بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم
وكمالكم؟ أفل تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم ،فتقومون بتوحيده وطاعته؟ .ولكنكم ،قليل
شكركم ،مع توالي النعم عليكم.
{ وَ ُهوَ } تعالى { الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي :بثكم في أقطارها ،وجهاتها ،وسلطكم على
استخراج مصالحها ومنافعها ،وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكم { ،وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ } بعد موتكم،
فيجازيكم بما عملتم في الرض ،من خير وشر ،وتحدث الرض التي كنتم فيها بأخبارها { وَ ُهوَ }
تعالى وحده { الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي :المتصرف في الحياة والموت ،هو ال وحده { ،وَلَهُ
ل وَال ّنهَارِ } أي :تعاقبهما وتناوبهما ،فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا ،من إله غير ال
اخْتِلَافُ اللّ ْي ِ
يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا ،من إله غير ال يأتيكم بضياء أفل
تبصرون؟( .ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).
ولهذا قال هناَ { :أفَلَا َت ْعقِلُونَ } فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم ،السمع ،والبصار ،والفئدة،
والذي نشركم في الرض وحده ،والذي يحيي ويميت وحده ،والذي يتصرف بالليل والنهار وحده,
أن ذلك موجب لكم ،أن تخلصوا له العبادة وحده ل شريك له ،وتتركوا عبادة من ل ينفع ول
يضر ،ول يتصرف بشيء ،بل هو عاجز من كل وجه ،فلو كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك.
{ َ { } 83 - 81بلْ قَالُوا مِ ْثلَ مَا قَالَ الَْأوّلُونَ * قَالُوا أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ
ن وَآبَاؤُنَا َهذَا مِنْ قَ ْبلُ إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ }
* َلقَ ْد وُعِدْنَا َنحْ ُ
أي :بل سلك هؤلء المكذبون مسلك الولين من المكذبين بالبعث ،واستبعدوه غاية الستبعاد
عظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ } أي :هذا ل يتصور ،ول يدخل العقل،
وقالوا { :أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِ
بزعمهم.
ن وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَ ْبلُ } أي :ما زلنا نوعد بأن البعث كائن ،نحن وآباؤنا ،ولم نره،
عدْنَا نَحْ ُ
{ َلقَ ْد وُ ِ
ولم يأت بعد { ،إِنْ َهذَا إِلّا َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي :قصصهم وأسمارهم ،التي يتحدث بها وتلهى،
وإل فليس لها حقيقة ،وكذبوا -قبحهم ال -فإن ال أراهم ،من آياته أكبر من البعث ،ومثله،
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ }
{ َلخَلْقُ ال ّ
سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي ا ْل ِعظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ } اليات { وَتَرَى الْأَ ْرضَ هَامِ َدةً
{ َوضَ َربَ لَنَا مَثَلًا وَنَ ِ
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّزتْ وَرَ َبتْ } اليات.
ض َومَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * سَ َيقُولُونَ ِللّهِ ُقلْ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ *
{ ُ { } 89 - 84قلْ ِلمَنِ الْأَ ْر ُ
سمَاوَاتِ السّبْ ِع وَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ * سَ َيقُولُونَ لِلّهِ ُقلْ َأفَلَا تَ ّتقُونَ * ُقلْ مَنْ بِيَ ِدهِ
ُقلْ مَنْ َربّ ال ّ
شيْ ٍء وَ ُهوَ يُجِي ُر وَلَا ُيجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * سَ َيقُولُونَ لِلّهِ ُقلْ فَأَنّى تُسْحَرُونَ }
مََلكُوتُ ُكلّ َ
أي :قل لهؤلء المكذبين بالبعث ،العادلين بال غيره ،محتجا عليهم بما أثبتوه ،وأقروا به ،من
توحيد الربوبية ،وانفراد ال بها ،على ما أنكروه من توحيد اللهية والعبادة ،وبما أثبتوه من خلق
المخلوقات العظيمة ،على ما أنكروه من إعادة الموتى ،الذي هو أسهل من ذلك.
{ ِلمَنِ الْأَ ْرضُ َومَنْ فِيهَا } أي :من هو الخالق للرض ومن عليها ،من حيوان ،ونبات وجماد
وبحار وأنهار وجبال ،المالك لذلك ،المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك ،ل بد أن يقولوا :ال
وحده .فقل لهم إذا أقروا بذلكَ { :أفَلَا تَ َذكّرُونَ } أي :أفل ترجعون إلى ما ذكركم ال به ،مما هو
معلوم عندكم ،مستقر في فطركم ،قد يغيبه العراض في بعض الوقات .والحقيقة أنكم إن رجعتم
إلى ذاكرتكم ,بمجرد التأمل ،علمتم أن مالك ذلك ،هو المعبود وحده ،وأن إلهية من هو مملوك
سمَاوَاتِ السّبْعِ } وما فيها
أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك ،فقالُ { :قلْ مَنْ َربّ ال ّ
من النيرات ،والكواكب السيارات ،والثوابت { وَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ } الذي هو أعلى المخلوقات
وأوسعها وأعظمها ،فمن الذي خلق ذلك ودبره ،وصرفه بأنواع التدبير؟ { سَ َيقُولُونَ لِلّهِ } أي:
سيقرون بأن ال رب ذلك كله .قل لهم حين يقرون بذلكَ { :أفَلَا تَ ّتقُونَ } عبادة المخلوقات العاجزة،
وتتقون الرب العظيم ،كامل القدرة ،عظيم السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب ،من قولهَ { :أفَلَا
تذكرون } { أفل تَ ّتقُونَ } والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب ،ما ل يخفى ثم انتقل إلى إقرارهم
شيْءٍ } أي :ملك كل شيء ،من العالم
بما هو أعم من ذلك كله فقالُ { :قلْ مَنْ بِيَ ِدهِ مََلكُوتُ ُكلّ َ
العلوي ،والعالم السفلي ،ما نبصره ،وما ل نبصره؟ .و " الملكوت "ب صيغة مبالغة بمعنى الملك.
{ وَ ُهوَ ُيجِيرُ } عباده من الشر ،ويدفع عنهم المكاره ،ويحفظهم مما يضرهم { ،وَلَا يُجَارُ عَلَ ْيهِ }
أي :ل يقدر أحد أن يجير على ال .ول يدفع الشر الذي قدره ال .بل ول يشفع أحد عنده إل بإذنه
{ ،سَ َيقُولُونَ لِلّهِ } أي :سيقرون أن ال المالك لكل شيء ،المجير ،الذي ل يجار عليه.
يقول تعالى :بل أتينا هؤلء المكذبين بالحق ،المتضمن للصدق في الخبار ،العدل في المر
والنهي ،فما بالهم ل يعترفون به ،وهو أحق أن يتبع؟ وليس عندهم ما يعوضهم عنه ،إل الكذب
والظلم ،ولهذا قال { :وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }
ن وَلَدٍ َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ ِإلَهٍ } كذب يعرف بخبر ال ،وخبر رسله ،ويعرف بالعقل
{ مَا اتّخَذَ اللّهُ مِ ْ
الصحيح ،ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي ،على امتناع إلهين فقال { :إِذًا } أي :لو كان معه
آلهة كما يقولون { لَ َذ َهبَ ُكلّ إَِلهٍ ِبمَا خََلقَ } أي :لنفرد كل واحد من اللهين بمخلوقاته ,واستقل
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ } فالغالب يكون هو الله،
بها ،ولحرص على ممانعة الخر ومغالبته { ،وََلعَلَا َب ْع ُ
وإل فمع التمانع ل يمكن وجود العالم ،ول يتصور أن ينتظم هذا النتظام المدهش للعقول ،واعتبر
ذلك بالشمس والقمر ،والكواكب الثابتة ،والسيارة ،فإنها منذ خلقت ،وهي تجري على نظام واحد،
وترتيب واحد ،كلها مسخرة بالقدرة ،مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم ،ليست مقصورة على
مصلحة أحد دون أحد ،ولن ترى فيها خلل ول تناقضا ،ول معارضة في أدنى تصرف ،فهل
يتصور أن يكون ذلك ،تقدير إلهين ربين؟"
صفُونَ } قد نطقت بلسان حالها ،وأفهمت ببديع أشكالها ،أن المدبر لها إله واحد
عمّا َي ِ
{ سُبْحَانَ اللّهِ َ
كامل السماء والصفات ،قد افتقرت إليه جميع المخلوقات ،في ربوبيته لها ،وفي إلهيته لها ،فكما
ل وجود لها ول دوام إل بربوبيته ،كذلك ،ل صلح لها ول قوام إل بعبادته وإفراده بالطاعة،
ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك ،وهو علمه المحيط ،فقال { :عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ } أي:
شهَا َدةِ } وهو ما
الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا ،من الواجبات والمستحيلت والممكنات { ،وَال ّ
عمّا ُيشْ ِركُونَ } به ،من ل علم عنده ،إل ما علمه
نشاهد من ذلك { فَ َتعَالَى } أي :ارتفع وعظمَ { ،
ال
لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة ،فلم يلتفتوا لها ،ولم يذعنوا لها ،حق عليهم العذاب،
ووعدوا بنزوله ،وأرشد ال رسوله أن يقولُ { :قلْ َربّ ِإمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ } أي :أي وقت
جعَلْنِي فِي ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } أي :اعصمني وارحمني،
أريتني عذابهم ،وأحضرتني ذلك { َربّ فَلَا َت ْ
مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنقم ،واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم ،لن العقوبة
العامة تعم -عند نزولها -العاصي وغيره ،قال ال في تقريب عذابهم { :وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِ َيكَ مَا
َنعِدُ ُهمْ َلقَادِرُونَ } ولكن إن أخرناه فلحكمة ،وإل ،فقدرتنا صالحة ليقاعه فيهم.
هذا من مكارم الخلق ،التي أمر ال رسوله بها فقال { :ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ } أي :إذا
أساء إليك أعداؤك ،بالقول والفعل ،فل تقابلهم بالساءة ،مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل
إساءته ،ولكن ادفع إساءتهم إليك بالحسان منك إليهم ،فإن ذلك فضل منك على المسيء ،ومن
مصالح ذلك ،أنه تخف الساءة عنك ،في الحال ،وفي المستقبل ،وأنه أدعى لجلب المسيء إلى
الحق ،وأقرب إلى ندمه وأسفه ،ورجوعه بالتوبة عما فعل ،وليتصف العافي بصفة الحسان،
عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ
ويقهر بذلك عدوه الشيطان ،وليستوجب الثواب من الرب ،قال تعالىَ { :فمَنْ َ
حمِيمٌ* َومَا
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
عَلَى اللّهِ } وقال تعالى { :ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
عظِيمٍ }
ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ َ
يَُلقّاهَا } أي :ما يوفق لهذا الخلق الجميل { إِلّا الّذِي َ
صفُونَ } أي :بما يقولون من القوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق ،قد
وقوله { :نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َي ِ
أحاط علمنا بذلك ،وقد حلمنا عنهم ،وأمهلناهم ،وصبرنا عليهم ،والحق لنا ،وتكذيبهم لنا ،فأنت -يا
محمد -ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون ،وتقابلهم بالحسان ،هذه وظيفة العبد في مقابلة
المسيء من البشر ،وأما المسيء من الشياطين ،فإنه ل يفيد فيه الحسان ،ول يدعو حزبه إل
ليكونوا من أصحاب السعير ،فالوظيفة في مقابلته ،أن يسترشد بما أرشد ال إليه رسوله فقال:
{ َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ } أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي { مِنْ َهمَزَاتِ
حضُرُونِ } أي :أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم
الشّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ يَ ْ
وهمزهم ومسهم ،ومن الشر الذي بسبب حضورهم ووسوستهم ،وهذه استعاذة من مادة الشر كله
وأصله ،ويدخل فيها ،الستعاذة من جميع نزغات الشيطان ،ومن مسه ووسوسته ،فإذا أعاذ ال
عبده من هذا الشر ،وأجاب دعاءه ،سلم من كل شر ،ووفق لكل خير.
ل صَالِحًا فِيمَا
ع َم ُ
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
{ { } 100 - 99حَتّى ِإذَا جَاءَ َأحَدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ ا ْر ِ
تَ َر ْكتُ كَلّا إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَائُِلهَا َومِنْ وَرَا ِئهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }
يخبر تعالى عن حال من حضره الموت ،من المفرطين الظالمين ،أنه يندم في تلك الحال ،إذا رأى
مآله ،وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا ،ل للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك
ل صَالِحًا فِيمَا تَ َر ْكتُ } من العمل ،وفرطت في جنب ال { .كَلّا } أي :ل رجعة
ع َم ُ
يقولَ { :لعَلّي أَ ْ
له ول إمهال ،قد قضى ال أنهم إليها ل يرجعون { ،إِ ّنهَا } أي :مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى
الدنيا { كَِلمَةٌ ُهوَ قَائُِلهَا } أي :مجرد قول باللسان ،ل يفيد صاحبه إل الحسرة والندم ،وهو أيضا
غير صادق في ذلك ،فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه.
ن وَرَا ِئهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } أي :من أمامهم وبين أيديهم برزخ ،وهو الحاجز بين
{ َومِ ْ
الشيئين ،فهو هنا :الحاجز بين الدنيا والخرة ،وفي هذا البرزخ ،يتنعم المطيعون ،ويعذب
العاصون ،من موتهم إلى يوم يبعثون ،أي :فليعدوا له عدته ،وليأخذوا له أهبته.
{ { } 114 - 101فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * َفمَنْ َثقَُلتْ
جهَنّمَ خَالِدُونَ
سهُمْ فِي َ
خفّتْ َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ
َموَازِينُهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَنْ َ
* تَ ْلفَحُ وُجُو َههُمُ النّا ُر وَ ُهمْ فِيهَا كَالِحُونَ *أََلمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ َفكُنْ ُتمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ * قَالُوا رَبّنَا
عدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا
ش ْقوَتُنَا َوكُنّا َق ْومًا ضَالّينَ * رَبّنَا َأخْرِجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ ُ
غَلَ َبتْ عَلَيْنَا ِ
حمْنَا وَأَ ْنتَ خَيْرُ
فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ * إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي َيقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا وَا ْر َ
حكُونَ * إِنّي جَزَيْ ُتهُمُ الْ َيوْمَ ِبمَا
س ْوكُمْ ِذكْرِي َوكُنْتُمْ مِ ْنهُمْ َتضْ َ
سخْرِيّا حَتّى أَنْ َ
حمِينَ * فَاتّخَذْ ُتمُو ُهمْ ِ
الرّا ِ
صَبَرُوا أَ ّن ُهمْ ُهمُ ا ْلفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ عَ َددَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ
فَاسَْألِ ا ْلعَادّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا قَلِيلًا َلوْ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة ،وما في ذلك اليوم ،من المزعجات والمقلقات ،وأنه إذا نفخ في
الصور نفخة البعث ،فحشر الناس أجمعون ،لميقات يوم معلوم ،أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم
أنسابهم ،التي هي أقوى السباب ،فغير النساب من باب أولى ،وأنه ل يسأل أحد أحدا عن حاله،
لشتغاله بنفسه ،فل يدري هل ينجو نجاة ل شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة ل سعادة بعدها؟ قال
تعالىَ { :يوْمَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ* وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ* َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ* ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ
ُيغْنِيهِ }
وفي القيامة مواضع ،يشتد كربها ،ويعظم وقعها ،كالميزان الذي يميز به أعمال العبد ،وينظر فيه
بالعدل ما له وما عليه ،وتبين فيه مثاقيل الذر ،من الخير والشرَ { ،فمَنْ َثقُلَتْ َموَازِينُهُ } بأن
رجحت حسناته على سيئاته { فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } لنجاتهم من النار ،واستحقاقهم الجنة ،وفوزهم
خ ّفتْ َموَازِينُهُ } بأن رجحت سيئاته على حسناته ،وأحاطت بها خطيئاته
بالثناء الجميل َ { ،ومَنْ َ
سهُمْ } كل خسارة ،غير هذه الخسارة ،فإنها -بالنسبة إليها -سهلة ،ولكن
خسِرُوا أَ ْنفُ َ
{ فَأُولَ ِئكَ الّذِينَ َ
هذه خسارة صعبة ،ل يجبر مصابها ،ول يستدرك فائتها ،خسارة أبدية ،وشقاوة سرمدية ،قد خسر
نفسه الشريفة ،التي يتمكن بها من السعادة البدية ففوتها هذا النعيم المقيم ،في جوار الرب الكريم.
جهَنّمَ خَاِلدُونَ } ل يخرجون منها أبد البدين ،وهذا الوعيد ،إنما هو كما ذكرنا ،لمن أحاطت
{ فِي َ
خطيئاته بحسناته ،ول يكون ذلك إل كافرا ،فعلى هذا ،ل يحاسب محاسبة من توزن حسناته
وسيئاته ،فإنهم ل حسنات لهم ،ولكن تعد أعمالهم وتحصى ،فيوقفون عليها ،ويقررون بها،
ويخزون بها ،وأما من معه أصل اليمان ،ولكن عظمت سيئاته ،فرجحت على حسناته ،فإنه وإن
دخل النار ،ل يخلد فيها ،كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
فهؤلء سادات الناس وفضلئهم { ،فَاتّخَذْ ُتمُوهُمْ } أيها الكفرة النذال ناقصو العقول والحلم
س ْوكُمْ ِذكْرِي َوكُنْتُمْ مِ ْنهُمْ
{ سِخْرِيّا } تهزءون بهم وتحتقرونهم ،حتى اشتغلتم بذلك السفه { .حَتّى أَنْ َ
حكُونَ } وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر ،اشتغالهم بالستهزاء بهم ،كما أن نسيانهم للذكر،
َتضْ َ
يحثهم على الستهزاء ،فكل من المرين يمد الخر ،فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!
{ إِنّي جَزَيْ ُتهُمُ الْ َيوْمَ ِبمَا صَبَرُوا } على طاعتي ،وعلى أذاكم ،حتى وصلوا إلي { .أَ ّن ُهمْ هُمُ
ا ْلفَائِزُونَ } بالنعيم المقيم ،والنجاة من الجحيم ،كما قال في الية الخرى { :فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُوا مِنَ
حكُونَ } اليات.
ضَا ْل ُكفّارِ َي ْ
{ قَالَ } لهم على وجه اللوم ،وأنهم سفهاء الحلم ،حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة كل شر
أوصلهم إلى غضبه وعقوبته ،ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون [من] الخير ،الذي يوصلهم إلى
السعادة الدائمة ورضوان ربهم.
عدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ } كلمهم هذا ،مبني على
{ َكمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَ ْرضِ َ
استقصارهم جدا ،لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك ،لكنه ل يفيد مقداره ،ول يعينه ،فلهذا قالوا:
{ فَاسَْألِ ا ْلعَادّينَ } أي :الضابطين لعدده ،وأما هم ففي شغل شاغل وعذاب مذهل ،عن معرفة
عدده ،فقال لهم { :إِنْ لَبِثْ ُتمْ إِلّا قَلِيلًا } سواء عينتم عدده ،أم ل { َلوْ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }
حقّ
جعُونَ * فَ َتعَالَى اللّهُ ا ْلمَِلكُ الْ َ
{ َ { } 116 - 115أ َفحَسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَ ّنكُمْ ِإلَيْنَا لَا تُرْ َ
لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلكَرِيمِ }
أيَ { :أ َفحَسِبْ ُتمْ } أيها الخلق { أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثًا } أي :سدى وباطل ،تأكلون وتشربون وتمرحون،
وتتمتعون بلذات الدنيا ،ونترككم ل نأمركم ،و[ل] ننهاكم ول نثيبكم ،ول نعاقبكم؟ ولهذا قال:
جعُونَ } ل يخطر هذا ببالكم { ،فَ َتعَالَى اللّهُ } أي :تعاظم وانتفع عن هذا الظن
{ وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَا تُ ْر َ
حقّ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلكَرِيمِ } فكونه
الباطل ،الذي يرجع إلى القدح في حكمته { .ا ْلمَِلكُ الْ َ
ملكا للخلق كلهم حقا ،في صدقه ،ووعده ،ووعيده ،مألوها معبودا ،لما له من الكمال { َربّ
ا ْلعَرْشِ الكريم } فما دونه من باب أولى ،يمنع أن يخلقكم عبثا.
أي :ومن دعا مع ال آلهة غيره ،بل بينة من أمره ول برهان يدل على ما ذهب إليه ،وهذا قيد
ملزم ،فكل من دعا غير ال ،فليس له برهان على ذلك ،بل دلت البراهين على بطلن ما ذهب
إليه ،فأعرض عنها ظلما وعنادا ،فهذا سيقدم على ربه ،فيجازيه بأعماله ،ول ينيله من الفلح
شيئا ،لنه كافر { ،إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ } فكفرهم منعهم من الفلح.
حمَنِ الرّحِيمِ سُو َرةٌ أَنْزَلْنَاهَا َوفَ َرضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيّنَاتٍ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ
{ { } 1بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ
}
أي :هذه { سُو َرةٌ ْ} عظيمة القدر { أَنْزَلْنَاهَا ْ} رحمة منا بالعباد ،وحفظناها من كل شيطان
{ َوفَ َرضْنَاهَا ْ} أي :قدرنا فيها ما قدرنا ،من الحدود والشهادات وغيرها { ،وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ
بَيّنَاتٍ ْ} أي :أحكاما جليلة ،وأوامر وزواجر ،وحكما عظيمة { َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ ْ} حين نبين لكم،
ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .ثم شرع في بيان تلك الحكام المشار إليها ،فقال:
هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين ،أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة ،وأما الثيب ،فقد دلت السنة
الصحيحة المشهورة ،أن حده الرجم ،ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة [بهما] في دين ال ،تمنعنا من
إقامة الحد عليهم ،سواء رأفة طبيعية ،أو لجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك ،وأن اليمان موجب
لنتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر ال ،فرحمته حقيقة ،بإقامة حد ال عليه ،فنحن وإن
رحمناه لجريان القدر عليه ،فل نرحمه من هذا الجانب ،وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين
طائفة ،أي :جماعة من المؤمنين ،ليشتهر ويحصل بذلك الخزي والرتداع ،وليشاهدوا الحد فعل،
فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل ،مما يقوى بها العلم ،ويستقر به الفهم ،ويكون أقرب لصابة
الصواب ،فل يزاد فيه ول ينقص ،وال أعلم.
هذا بيان لرذيلة الزنا ،وأنه يدنس عرض صاحبه ،وعرض من قارنه ومازجه ،ما ل يفعله بقية
الذنوب ،فأخبر أن الزاني ل يقدم على نكاحه من النساء ،إل أنثى زانية ،تناسب حاله حالها ،أو
مشركة بال ،ل تؤمن ببعث ول جزاء ،ول تلتزم أمر ال ،والزانية كذلك ،ل ينكحها إل زان أو
مشرك { وَحُرّمَ َذِلكَ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ ْ} أي :حرم عليهم أن ينكحوا زانيا ،أو ينكحوا زانية.
ومعنى الية :أن من اتصف بالزنا ،من رجل أو امرأة ،ولم يتب من ذلك ،أن المقدم على نكاحه،
مع تحريم ال لذلك ،ل يخلو إما أن ل يكون ملتزما لحكم ال ورسوله ،فذاك ل يكون إل مشركا،
وإما أن يكون ملتزما لحكم ال ورسوله ،فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه ،فإن هذا النكاح زنا،
والناكح زان مسافح ،فلو كان مؤمنا بال حقا ،لم يقدم على ذلك ،وهذا دليل صريح على تحريم
نكاح الزانية حتى تتوب ،وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب ،فإن مقارنة الزوج لزوجته ،والزوجة
جهُمْ ْ} أي:
لزوجها ،أشد القترانات والزدواجات ،وقد قال تعالى { :احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ
قرناءهم ،فحرم ال ذلك ،لما فيه من الشر العظيم ،وفيه من قلة الغيرة ،وإلحاق الولد ،الذين
ليسوا من الزوج ،وكون الزاني ل يعفها بسبب اشتغاله بغيرها ،مما بعضه كاف للتحريم وفي هذا
دليل أن الزاني ليس مؤمنا ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ل يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا ،فل يطلق عليه اسم المدح ،الذي هو اليمان المطلق.
لما عظم تعالى أمر الزاني بوجوب جلده ،وكذا رجمه إن كان محصنا ،وأنه ل تجوز مقارنته،
ول مخالطته على وجه ل يسلم فيه العبد من الشر ،بين تعالى تعظيم القدام على العراض
حصَنَاتِ ْ} أي :النساء الحرار العفائف ،وكذاك الرجال،
بالرمي بالزنا فقال { :وَالّذِينَ يَ ْرمُونَ ا ْلمُ ْ
ل فرق بين المرين ،والمراد بالرمي الرمي بالزنا ،بدليل السياق { ،ثُمّ َلمْ يَأْتُوا ْ} على ما رموا به
شهَدَاءَ ْ} أي :رجال عدول ،يشهدون بذلك صريحا { ،فَاجْلِدُو ُهمْ َثمَانِينَ جَ ْل َدةً ْ} بسوط
{ بِأَرْ َبعَةِ ُ
متوسط ،يؤلم فيه ،ول يبالغ بذلك حتى يتلفه ،لن القصد التأديب ل التلف ،وفي هذا تقدير حد
القذف ،ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا ،وأما قذف غير المحصن،
فإنه يوجب التعزير.
شهَا َدةً أَبَدًا ْ} أي :لهم عقوبة أخرى ،وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة ،ولو حد
{ وَلَا َتقْبَلُوا َلهُمْ َ
سقُونَ ْ} أي :الخارجون عن طاعة ال ،الذين
على القذف ،حتى يتوب كما يأتي { ،وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
قد كثر شرهم ،وذلك لنتهاك ما حرم ال ،وانتهاك عرض أخيه ،وتسليط الناس على الكلم بما
تكلم به ،وإزالة الخوة التي عقدها ال بين أهل اليمان ،ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا،
وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب.
وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته ،دارئة عنه الحد ،لن الغالب ،أن الزوج ل يقدم على
رمي زوجته ،التي يدنسه ما يدنسها إل إذا كان صادقا ،ولن له في ذلك حقا ،وخوفا من إلحاق
جهُمْ ْ}
أولد ليسوا منه به ،ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال { :وَالّذِينَ يَ ْرمُونَ أَ ْزوَا َ
أي :الحرائر ل المملوكات.
{ وَا ْلخَامِسَةُ أَنّ َلعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ ْ} أي :يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة،
مؤكدا تلك الشهادات ،بأن يدعو على نفسه ،باللعنة إن كان كاذبا ،فإذا تم لعانه ،سقط عنه حد
القذف ،ظاهر اليات ،ولو سمى الرجل الذي رماها به ،فإنه يسقط حقه تبعا لها .وهل يقام عليها
الحد ،بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولن للعلماء ،الذي يدل عليه الدليل ،أنه يقام
شهَدَ ْ} إلى آخره ،فلول أن العذاب وهو الحد قد
عليها الحد ،بدليل قوله { :وَيَدْرَأُ عَ ْنهَا ا ْل َعذَابَ أَنْ تَ ْ
وجب بلعانه ،لم يكن لعانها دارئا له.
ويدرأ عنها ،أي :يدفع عنها العذاب ،إذ قابلت شهادات الزوج ،بشهادات من جنسها.
شهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ ْ} وتزيد في الخامسة ،مؤكدة لذلك ،أن تدعو على
شهَدَ أَرْ َبعَ َ
{ أَنْ تَ ْ
نفسها بالغضب ،فإذا تم اللعان بينهما ،فرق بينهما إلى البد ،وانتفى الولد الملعن عليه ،وظاهر
اليات يدل على اشتراط هذه اللفاظ عند اللعان ،منه ومنها ،واشتراط الترتيب فيها ،وأن ل ينقص
منها شيء ،ول يبدل شيء بشيء ،وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته ،ل بالعكس ،وأن
الشبه في الولد مع اللعان ل عبرة به ،كما ل يعتبر مع الفراش ،وإنما يعتبر الشبه حيث ل مرجح
إل هو.
حكِيمٌ ْ} وجواب الشرط محذوف ،يدل عليه سياق
حمَتُ ُه وَأَنّ اللّهَ َتوّابٌ َ
ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ
{ وََلوْلَا َف ْ
الكلم أي :لحل بأحد المتلعنين الكاذب منهما ،ما دعا به على نفسه ،ومن رحمته وفضله ،ثبوت
هذا الحكم الخاص بالزوجين ،لشدة الحاجة إليه ،وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته ،وفظاعة القذف
به ،وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.
عصْبَةٌ مِ ْنكُمْ لَا َتحْسَبُوهُ شَرّا َلكُمْ َبلْ ُهوَ خَيْرٌ َلكُم } إلى
{ { } 26 - 11إِنّ الّذِينَ جَاءُوا بِالِْإ ْفكِ ُ
آخر اليات
وهو قولهَ { :لهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم ،تعظيم الرمي بالزنا عموما ،صار ذلك
كأنه مقدمة لهذه القصة ،التي وقعت على أشرف النساء ،أم المؤمنين رضي ال عنها ،وهذه
اليات ،نزلت في قصة الفك المشهورة ،الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد.
وحاصلها أن النبي صلى ال عليه وسلم ،في بعض غزواته ،ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت
الصديق ،فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها ،فلم يفقدوها ،ثم استقل الجيش
راحل ،وجاءت مكانهم ،وعلمت أنهم إذا فقدوها ،رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم ،وكان
صفوان بن المعطل السلمي ،من أفاضل الصحابة رضي ال عنه ،قد عرس في أخريات القوم
ونام ،فرأى عائشة رضي ال عنها فعرفها ،فأناخ راحلته ،فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه،
ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة ،فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي
صلى ال عليه وسلم ،في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال ،أشاع ما أشاع ،ووشى
الحديث ،وتلقفته اللسن ،حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين ،وصاروا يتناقلون هذا الكلم ،وانحبس
الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى ال عليه وسلم .وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة ،فحزنت
حزنا شديدا ،فأنزل ال تعالى براءتها في هذه اليات ،ووعظ ال المؤمنين ،وأعظم ذلك ،ووصاهم
بالوصايا النافعة .فقوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ جَاءُوا بِالِْإ ْفكِ } أي :الكذب الشنيع ،وهو رمي أم
عصْبَةٌ مِ ْنكُمْ } أي :جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين ،منهم المؤمن الصادق
المؤمنين { ُ
[في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] ومنهم المنافق.
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّا َلكُمْ َبلْ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها ،والتنويه
بذكرها ،حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى ال عليه وسلم ،ولما تضمن من بيان
اليات المضطر إليها العباد ،التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة ،فكل هذا خير عظيم ،لول
مقالة أهل الفك لم يحصل ذلك ،وإذا أراد ال أمرا جعل له سببا ،ولذلك جعل الخطاب عاما مع
المؤمنين كلهم ،وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم ،ففيه أن المؤمنين في توادهم
وتراحمهم وتعاطفهم ،واجتماعهم على مصالحهم ،كالجسد الواحد ،والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضا ،فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه ،فليكره من كل أحد ،أن يقدح في أخيه
المؤمن ،الذي بمنزلة نفسه ،وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة ،فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.
سبَ مِنَ الْإِثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالفك ،وأنهم سيعاقبون على ما
{ ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ مَا اكْ َت َ
قالوا من ذلك ،وقد حد النبي صلى ال عليه وسلم منهم جماعة { ،وَالّذِي َتوَلّى كِبْ َرهُ } أي :معظم
عذَابٌ عَظِيمٌ } أل وهو
الفك ،وهو المنافق الخبيث ،عبد ال بن أبي بن سلول -لعنه ال { -لَهُ َ
الخلود في الدرك السفل من النار.
ش َهدَاءَ } أي :هل جاء الرامون على ما رموا به ،بأربعة شهداء أي:
{ َلوْلَا جَاءُوا عَلَ ْيهِ بِأَرْ َبعَةِ ُ
ش َهدَاءِ فَأُولَ ِئكَ عِنْدَ اللّهِ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } وإن كانوا في أنفسهم قد
عدول مرضيين { .فَإِذْ َلمْ يَأْتُوا بِال ّ
تيقنوا ذلك ،فإنهم كاذبون في حكم ال ،لن ال حرم عليهم التكلم بذلك ،من دون أربعة شهود،
ولهذا قال { :فَأُولَ ِئكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ } ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله ،من تعظيم
حرمة عرض المسلم ،بحيث ل يجوز القدام على رميه ،من دون نصاب الشهادة بالصدق.
حمَتُهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } بحيث شملكم إحسانه فيهما ،في أمر دينكم
ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ
{ وََلوْلَا َف ْ
عذَابٌ عَظِيمٌ } لستحقاقكم
سكُمْ فِيمَا َأ َفضْتُمْ } أي :خضتم { فِيهِ } من شأن الفك { َ
ودنياكمَ { ،لمَ ّ
ذلك بما قلتم ،ولكن من فضل ال عليكم ورحمته ،أن شرع لكم التوبة ،وجعل العقوبة مطهرة
للذنوب.
{ ِإذْ تََل ّقوْنَهُ بِأَلْسِنَ ِتكُمْ } أي :تلقفونه ،ويلقيه بعضكم إلى بعض ،وتستوشون حديثه ،وهو قول باطل.
{ وَ َتقُولُونَ بَِأ ْفوَا ِهكُمْ مَا لَيْسَ َلكُمْ ِبهِ عِلْمٌ } والمران محظوران ،التكلم بالباطل ،والقول بل علم،
{ وَ َتحْسَبُونَهُ هَيّنًا } فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه ،وتطهروا بعد ذلك،
عظِيمٌ } وهذا فيه الزجر البليغ ،عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها،
{ وَ ُهوَ عِ ْندَ اللّهِ َ
فإن العبد ل يفيده حسبانه شيئا ،ول يخفف من عقوبة الذنب ،بل يضاعف الذنب ،ويسهل عليه
مواقعته مرة أخرى.
س ِمعْ ُتمُوهُ } أي :وهل إذ سمعتم -أيها المؤمنون -كلم أهل الفك { قُلْتُمْ } منكرين
{ وَلوْلَا ِإذْ َ
لذلك ،معظمين لمره { :مَا َيكُونُ لَنَا أَنْ نَ َتكَلّمَ ِبهَذَا } أي :ما ينبغي لنا ،وما يليق بنا الكلم ،بهذا
الفك المبين ،لن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { هَذَا ُبهْتَانٌ } أي :كذب عظيم.
ظكُمُ اللّهُ أَنْ َتعُودُوا ِلمِثْلِهِ } أي :لنظيره ،من رمي المؤمنين بالفجور ،فال يعظكم وينصحكم
{ َي ِع ُ
عن ذلك ،ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها بالقبول والذعان ،والتسليم
ظكُمْ بِهِ } { إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } دل ذلك على أن
والشكر له ،على ما بين لنا { إِنّ اللّهَ ِن ِعمّا َي ِع ُ
اليمان الصادق ،يمنع صاحبه من القدام على المحرمات { .وَيُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الْآيَاتِ } المشتملة على
بيان الحكام ،والوعظ ،والزجر ،والترغيب ،والترهيب ،يوضحها لكم توضيحا جليا { .وَاللّهُ عَلِيمٌ
} أي :كامل العلم عام الحكمة ،فمن علمه وحكمته ،أن علمكم من علمه ،وإن كان ذلك راجعا
لمصالحكم في كل وقت.
وكل هذا من رحمة ال بعباده المؤمنين ،وصيانة أعراضهم ،كما صان دماءهم وأموالهم ،وأمرهم
بما يقتضي المصافاة ،وأن يحب أحدهم لخيه ما يحب لنفسه ،ويكره له ما يكره لنفسه { .وَاللّهُ
َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ } فلذلك علمكم ،وبين لكم ما تجهلونه.
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه ،نهى عن الذنوب عموما فقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّ ِبعُوا
طوَاتِ الشّيْطَانِ } أي :طرقه ووساوسه.
خُُ
وخطوات الشيطان ،يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب ،واللسان والبدن .ومن حكمته
تعالى ،أن بين الحكم ،وهو :النهي عن اتباع خطوات الشيطان .والحكمة وهو بيان ما في المنهي
طوَاتِ الشّ ْيطَانِ فَإِنّهُ } أي :الشيطان
خُعنه ،من الشر المقتضي ،والداعي لتركه فقالَ { :ومَنْ يَتّبِعْ ُ
حشَاءِ } أي :ما تستفحشه العقول والشرائع ،من الذنوب العظيمة ،مع ميل بعض النفوس
{ يَ ْأمُرُ بِا ْلفَ ْ
إليه { .وَا ْلمُ ْنكَرِ } وهو ما تنكره العقول ول تعرفه .فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان ،ل
تخرج عن ذلك ،فنهي ال عنها للعباد ،نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه ،لن ذلك صيانة لهم
عن التدنس بالرذائل والقبائح ،فمن إحسانه عليهم ،أن نهاهم عنها ،كما نهاهم عن أكل السموم
حدٍ أَبَدًا } أي :ما تطهر من
حمَُتهُ مَا َزكَى مِ ْنكُمْ مِنْ أَ َ
القاتلة ونحوها { ،وََلوْلَا َفضْلُ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم وَرَ ْ
اتباع خطوات الشيطان ،لن الشيطان يسعى ،هو وجنده ،في الدعوة إليها وتحسينها ،والنفس ميالة
إلى السوء أمارة به ،والنقص مستول على العبد من جميع جهاته ،واليمان غير قوي ،فلو خلي
وهذه الدواعي ،ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات ،فإن الزكاء
يتضمن الطهارة والنماء ،ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى.
وكان من دعاء النبي صلى ال عليه وسلم " :اللهم آت نفسي تقواها ،وزكها أنت خير من زكاها،
أنت وليها ومولها " ولهذا قال { :وََلكِنّ اللّهَ يُ َزكّي مَنْ يَشَاءُ } من يعلم منه أن يزكى بالتزكية،
سمِيعٌ عَلِيمٌ }
ولهذا قال { :وَاللّهُ َ
فنزلت هذه الية ،ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ،ويحثه على العفو والصفح،
غفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم
ويعده بمغفرة ال إن غفر له ،فقالَ { :ألَا تُحِبّونَ أَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
عبيده ،بالعفو والصفح ،عاملكم بذلك ،فقال أبو بكر -لما سمع هذه الية :-بلى ،وال إني لحب
أن يغفر ال لي ،فرجع النفقة إلى مسطح ،وفي هذه الية دليل على النفقة على القريب ،وأنه ل
تترك النفقة والحسان بمعصية النسان ،والحث على العفو والصفح ،ولو جرى عليه ما جرى من
أهل الجرائم.
ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ َألْسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فكل
وذلك العذاب يوم القيامة { َيوْمَ تَ ْ
جارحة تشهد عليهم بما عملته ،ينطقها الذي أنطق كل شيء ،فل يمكنه النكار ،ولقد عدل في
العباد ،من جعل شهودهم من أنفسهمَ { ،ي ْومَئِذٍ ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َنهُمُ ا ْلحَقّ } أي :جزاءهم على
أعمالهم ،الجزاء الحق ،الذي بالعدل والقسط ،يجدون جزاءها موفرا ،لم يفقدوا منها شيئا،
عمِلُوا
حصَاهَا َووَجَدُوا مَا َ
صغِي َر ًة وَلَا كَبِي َرةً إِلّا َأ ْ
{ وَ َيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ َهذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ
حَاضِرًا وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ َأحَدًا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم ،أن ال هو الحق المبين ،فيعلمون
انحصار الحق المبين في ال تعالى.
فأوصافه العظيمة حق ،وأفعاله هي الحق ،وعبادته هي الحق ،ولقاؤه حق ،ووعده ووعيده،
وحكمه الديني والجزائي حق ،ورسله حق ،فل ثم حق ،إل في ال وما من ال.
فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن ،حبيبة رسول رب العالمين ،التي لم
ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها ،ثم صرح بذلك ،بحيث ل يبقى
لمبطل مقال ،ول لشك وشبهة مجال ،فقال { :أُولَ ِئكَ مُبَرّءُونَ ِممّا َيقُولُونَ } والشارة إلى عائشة
رضي ال عنها أصل ،وللمؤمنات المحصنات الغافلت تبعا { َل ُهمْ َم ْغفِرَةٌ } تستغرق الذنوب
{ وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ } في الجنة صادر من الرب الكريم.
{ { } 29 - 27يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَّلمُوا عَلَى
أَهِْلهَا ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ * فَإِنْ لَمْ َتجِدُوا فِيهَا َأحَدًا فَلَا تَ ْدخُلُوهَا حَتّى ُيؤْذَنَ َل ُك ْم وَإِنْ قِيلَ
جعُوا ُهوَ أَ ْزكَى َلكُ ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا
جعُوا فَارْ ِ
َلكُمُ ا ْر ِ
ن َومَا َتكْ ُتمُونَ }
سكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ َلكُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا تُبْدُو َ
غَيْرَ مَ ْ
يرشد الباري عباده المؤمنين ،أن ل يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان ،فإن في ذلك عدة
مفاسد :منها ما ذكره الرسول صلى ال عليه وسلم ،حيث قال " إنما جعل الستئذان من أجل
البصر " فبسبب الخلل به ،يقع البصر على العورات التي داخل البيوت ،فإن البيت للنسان في
ستر عورة ما وراءه ،بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.
ومنها :أن ذلك يوجب الريبة من الداخل ،ويتهم بالشر سرقة أو غيرها ،لن الدخول خفية ،يدل
على الشر ،ومنع ال المؤمنين من دخول غير بيوتهم حَتّى يَسْتَأْنِسُوا أي :يستأذنوا .سمي الستئذان
استئناسا ،لن به يحصل الستئناس ،وبعدمه تحصل الوحشة { ،وَتُسَّلمُوا عَلَى أَهِْلهَا } وصفة ذلك،
ما جاء في الحديث " :السلم عليكم ،أأدخل "؟
{ ذَِلكُمْ } أي :الستئذان المذكور { خَيْرٌ َلكُمْ َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } لشتماله على عدة مصالح ،وهو من
مكارم الخلق الواجبة ،فإن أذن ،دخل المستأذن.
{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ } أي :حرج وإثم ،دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة،
سكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ َل ُكمْ } وهذا من احترازات القرآن
أنه محرم ،وفيه حرج { أَنْ تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَ ْ
العجيبة ،فإن قوله { :لَا تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ } لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للنسان ،أخرج
منه تعالى البيوت التي ليست ملكه ،وفيها متاعه ،وليس فيها ساكن ،فأسقط الحرج في الدخول
إليها { ،وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا َتكْ ُتمُونَ } أحوالكم الظاهرة والخفية ،وعلم مصالحكم ،فلذلك شرع
لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون ،من الحكام الشرعية.
أي :أرشد المؤمنين ،وقل لهم :الذين معهم إيمان ،يمنعهم من وقوع ما يخل باليمانَ { :ي ُغضّوا
مِنْ أَ ْبصَارِهِمْ } عن النظر إلى العورات وإلى النساء الجنبيات ،وإلى المردان ،الذين يخاف
بالنظر إليهم الفتنة ،وإلى زينة الدنيا التي تفتن ،وتوقع في المحذور.
جهُمْ } عن الوطء الحرام ،في قبل أو دبر ،أو ما دون ذلك ،وعن التمكين من
حفَظُوا فُرُو َ
{ وَ َي ْ
مسها ،والنظر إليها { .ذَِلكَ } الحفظ للبصار والفروج { أَ ْزكَى َلهُمْ } أطهر وأطيب ،وأنمى
لعمالهم ،فإن من حفظ فرجه وبصره ،طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش ،وزكت
أعماله ،بسبب ترك المحرم ،الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه ،فمن ترك شيئا ل ،عوضه ال
خيرا منه ،ومن غض بصره عن المحرم ،أنار ال بصيرته ،ولن العبد إذا حفظ فرجه وبصره
عن الحرام ومقدماته ،مع داعي الشهوة ،كان حفظه لغيره أبلغ ،ولهذا سماه ال حفظا ،فالشيء
المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه ،وعمل السباب الموجبة لحفظه ،لم ينحفظ،
كذلك البصر والفرج ،إن لم يجتهد العبد في حفظهما ،أوقعاه في بليا ومحن ،وتأمل كيف أمر
بحفظ الفرج مطلقا ،لنه ل يباح في حالة من الحوال ،وأما البصر فقالَ { :ي ُغضّوا مِنْ أَ ْبصَارِهِمْ
} أتى بأداة " من " الدالة على التبعيض ،فإنه يجوز النظر في بعض الحوال لحاجة ،كنظر الشاهد
والعامل والخاطب ،ونحو ذلك .ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم ،ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من
المحرمات.
ظهَرَ
ن وَلَا يُ ْبدِينَ زِينَ َتهُنّ إِلّا مَا َ
جهُ ّ
حفَظْنَ فُرُو َ
ن وَيَ ْ
ضضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِ ّ
{ َ { } 31و ُقلْ لِ ْل ُم ْؤمِنَاتِ َي ْغ ُ
ن وَلَا يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ إِلّا لِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ آبَا ِئهِنّ َأوْ آبَاءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ
خمُرِهِنّ عَلَى جُيُو ِبهِ ّ
مِ ْنهَا وَلْ َيضْرِبْنَ ِب ُ
خوَا ِتهِنّ َأوْ نِسَا ِئهِنّ َأوْ مَا مََل َكتْ
خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي أَ َ
خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي إِ ْ
أَبْنَا ِئهِنّ َأوْ أَبْنَاءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ إِ ْ
عوْرَاتِ النّسَاءِ
ظهَرُوا عَلَى َ
ط ْفلِ الّذِينَ َلمْ يَ ْ
أَ ْيمَا ُنهُنّ َأوِ التّا ِبعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ َأوِ ال ّ
جمِيعًا أَ ّيهَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َلعَّلكُمْ
ن وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ َ
خفِينَ مِنْ زِينَ ِتهِ ّ
وَلَا َيضْرِبْنَ بِأَرْجُِلهِنّ لِ ُيعَْلمَ مَا يُ ْ
ُتفْلِحُونَ }
لما أمر المؤمنين بغض البصار وحفظ الفروج ،أمر المؤمنات بذلك ،فقالَ { :و ُقلْ لِ ْل ُم ْؤمِنَاتِ
ضضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِنّ } عن النظر إلى العورات والرجال ،بشهوة ونحو ذلك من النظر
َي ْغ ُ
جهُنّ } من التمكين من جماعها ،أو مسها ،أو النظر المحرم إليها { .وَلَا
حفَظْنَ فُرُو َ
الممنوع { ،وَ َي ْ
يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ } كالثياب الجميلة والحلي ،وجميع البدن كله من الزينة ،ولما كانت الثياب الظاهرة،
ظهَرَ مِ ْنهَا } أي :الثياب الظاهرة ،التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن
ل بد لها منها ،قال { :إِلّا مَا َ
خمُرِهِنّ عَلَى جُيُو ِبهِنّ } وهذا لكمال الستتار ،ويدل
في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها { ،وَلْ َيضْرِبْنَ بِ ُ
ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها ،يدخل فيها جميع البدن ،كما ذكرنا .ثم كرر النهي عن
إبداء زينتهن ،ليستثني منه قوله { :إِلّا لِ ُبعُولَ ِتهِنّ } أي :أزواجهن { َأوْ آبَا ِئهِنّ َأوْ آبَاءِ ُبعُولَتِهِنّ }
يشمل الب بنفسه ،والجد وإن عل { ،أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن } ويدخل فيه البناء وأبناء
خوَا ِتهِنّ َأوْ
خوَا ِنهِنّ } أشقاء ،أو لب ،أو لمَ { .أوْ بَنِي َأ َ
خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي ِإ ْ
البعولة مهما نزلوا { َأوْ ِإ ْ
نِسَا ِئهِنّ } أي :يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا ،ويحتمل أن الضافة تقتضي
الجنسية ،أي :النساء المسلمات ،اللتي من جنسكم ،ففيه دليل لمن قال :إن المسلمة ل يجوز أن
تنظر إليها الذمية.
{ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ } فيجوز للمملوك إذا كان كله للنثى ،أن ينظر لسيدته ،ما دامت مالكة له
كله ،فإن زال الملك أو بعضه ،لم يجز النظرَ { .أوِ التّا ِبعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ } أي :أو
الذين يتبعونكم ،ويتعلقون بكم ،من الرجال الذين ل إربة لهم في هذه الشهوة ،كالمعتوه الذي ل
يدري ما هنالك ،وكالعنين الذي لم يبق له شهوة ،ل في فرجه ،ول في قلبه ،فإن هذا ل محذور
من نظره.
خفِينَ مِنْ زِينَ ِتهِنّ } أي :ل يضربن الرض بأرجلهن ،ليصوت
{ وَلَا َيضْرِبْنَ بِأَ ْرجُِلهِنّ لِ ُيعْلَمَ مَا ُي ْ
ما عليهن من حلي ،كخلخل وغيرها ،فتعلم زينتها بسببه ،فيكون وسيلة إلى الفتنة.
ويؤخذ من هذا ونحوه ،قاعدة سد الوسائل ،وأن المر إذا كان مباحا ،ولكنه يفضي إلى محرم ،أو
يخاف من وقوعه ،فإنه يمنع منه ،فالضرب بالرجل في الرض ،الصل أنه مباح ،ولكن لما كان
وسيلة لعلم الزينة ،منع منه.
ولما أمر تعالى بهذه الوامر الحسنة ،ووصى بالوصايا المستحسنة ،وكان ل بد من وقوع تقصير
جمِيعًا أَيّهَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } لن
من المؤمن بذلك ،أمر ال تعالى بالتوبة ،فقال { :وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ َ
المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلح ،فقالَ { :لعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } فل سبيل إلى
الفلح إل بالتوبة ،وهي الرجوع مما يكرهه ال ،ظاهرا وباطنا ،إلى :ما يحبه ظاهرا وباطنا ،ودل
هذا ،أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة ،لن ال خاطب المؤمنين جميعا ،وفيه الحث على الخلص
بالتوبة في قوله { :وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ } أي :ل لمقصد غير وجهه ،من سلمة من آفات الدنيا ،أو
رياء وسمعة ،أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة.
{ { } 33 - 32وَأَ ْنكِحُوا الْأَيَامَى مِ ْنكُ ْم وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبَا ِدكُ ْم وَِإمَا ِئكُمْ إِنْ َيكُونُوا ُفقَرَاءَ ُيغْ ِنهِمُ
جدُونَ ِنكَاحًا حَتّى ُيغْنِ َيهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ
اللّهُ مِنْ َفضِْل ِه وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْ َيسْ َتعْ ِففِ الّذِينَ لَا يَ ِ
وَالّذِينَ يَبْ َتغُونَ ا ْلكِتَابَ ِممّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ َفكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَِلمْتُمْ فِي ِهمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي
حصّنًا لِتَبْ َتغُوا عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَنْ ُيكْرِههّنّ
آتَاكُمْ وَلَا ُتكْ ِرهُوا فَتَيَا ِت ُكمْ عَلَى الْ ِبغَاءِ إِنْ أَ َردْنَ َت َ
غفُورٌ رَحِيمٌ }
فَإِنّ اللّهَ مِنْ َبعْدِ ِإكْرَا ِههِنّ َ
يأمر تعالى الولياء والسياد ،بإنكاح من تحت وليتهم من اليامى وهم :من ل أزواج لهم ،من
رجال ،ونساء ثيب ،وأبكار ،فيجب على القريب وولي اليتيم ،أن يزوج من يحتاج للزواج ،ممن
تجب نفقته عليه ،وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم ،كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب
أولى.
{ وَالصّاِلحِينَ مِنْ عِبَا ِدكُمْ وَِإمَائِكُمْ } يحتمل أن المراد بالصالحين ،صلح الدين ،وأن الصالح من
العبيد والماء -وهو الذي ل يكون فاجرا زانيا -مأمور سيده بإنكاحه ،جزاء له على صلحه،
وترغيبا له فيه ،ولن الفاسد بالزنا ،منهي عن تزوجه ،فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة ،أن
نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب ،ويكون التخصيص بالصلح في العبيد والماء دون
الحرار ،لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة ،ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج
المحتاجون إليه من العبيد والماء ،يؤيد هذا المعنى ،أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه ،قبل
حاجته إلى الزواج .ول يبعد إرادة المعنيين كليهما ،وال أعلم.
وقوله { :إِنْ َيكُونُوا فُقَرَاءَ } أي :الزواج والمتزوجين { ُيغْ ِنهِمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ } فل يمنعكم ما
تتوهمون ،من أنه إذا تزوج ،افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه ،وفيه حث على التزوج ،ووعد
للمتزوج بالغنى بعد الفقر { .وَاللّ ُه وَاسِعٌ } كثير الخير عظيم الفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحق فضله
الديني والدنيوي أو أحدهما ،ممن ل يستحق ،فيعطي كل ما علمه واقتضاه حكمه.
{ وَلْيَسْ َت ْع ِففِ الّذِينَ لَا يَجِدُونَ ِنكَاحًا حَتّى ُيغْنِ َيهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ } هذا حكم العاجز عن النكاح ،أمره
ال أن يستعفف ،أن يكف عن المحرم ،ويفعل السباب التي تكفه عنه ،من صرف دواعي قلبه
بالفكار التي تخطر بإيقاعه فيه ،ويفعل أيضا ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :يا معشر
الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله:
{ الّذِينَ لَا َيجِدُونَ ِنكَاحًا } أي :ل يقدرون نكاحا ،إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم ،أو امتناعهم
من تزويجهم [وليس لهم] من قدرة على إجبارهم على ذلك ،وهذا التقدير ،أحسن من تقدير من
قدر " ل يجدون مهر نكاح " وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف ،فإن في ذلك محذورين:
أحدهما :الحذف في الكلم ،والصل عدم الحذف.
والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالن ،حالة غنى بماله ،وحالة عدم ،فيخرج العبيد
والماء ومن إنكاحه على وليه ،كما ذكرنا.
{ حَتّى ُيغْنِ َيهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ } وعد للمستعفف أن ال سيغنيه وييسر له أمره ،وأمر له بانتظار
الفرج ،لئل يشق عليه ما هو فيه.
وقوله { وَالّذِينَ يَبْ َتغُونَ ا ْلكِتَابَ ِممّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ َفكَاتِبُو ُهمْ إِنْ عَِلمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أي :من ابتغى
وطلب منكم الكتابة ،وأن يشتري نفسه ،من عبيد وإماء ،فأجيبوه إلى ما طلب ،وكاتبوه { ،إِنْ
عَِلمْتُمْ فِيهِمْ } أي :في الطالبين للكتابة { خَيْرًا } أي :قدرة على التكسب ،وصلحا في دينه ،لن
في الكتابة تحصيل المصلحتين ،مصلحة العتق والحرية ،ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء
نفسه .وربما جد واجتهد ،وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما ل يحصل في رقه ،فل يكون
ضرر على السيد في كتابته ،مع حصول عظيم المنفعة للعبد ،فلذلك أمر ال بالكتابة على هذا
الوجه أمر إيجاب ،كما هو الظاهر ،أو أمر استحباب على القول الخر ،وأمر بمعاونتهم على
كتابتهم ،لكونهم محتاجين لذلك ،بسبب أنهم ل مال لهم ،فقال { :وَآتُو ُهمْ مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي آتَا ُكمْ }
يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه ،أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها ،وأمر الناس
بمعونتهم.
ولهذا جعل ال للمكاتبين قسطا من الزكاة ،ورغب في إعطائه بقوله { :مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي آتَاكُمْ }
أي :فكما أن المال مال ال ،وإنما الذي بأيديكم عطية من ال لكم ومحض منه ،فأحسنوا لعباد ال،
كما أحسن ال إليكم.
ومفهوم الية الكريمة ،أن العبد إذا لم يطلب الكتابة ،ل يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته ،وأنه إذا لم
يعلم منه خيرا ،بأن علم منه عكسه ،إما أنه يعلم أنه ل كسب له ،فيكون بسبب ذلك كل على
الناس ،ضائعا ،وإما أن يخاف إذا أعتق ،وصار في حرية نفسه ،أن يتمكن من الفساد ،فهذا ل
يؤمر بكتابته ،بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور.
ثم قال تعالى { :وَلَا ُتكْرِهُوا فَتَيَا ِتكُمْ } أي :إماءكم { عَلَى الْ ِبغَاءِ } أي :أن تكون زانية { إِنْ أَرَدْنَ
حصّنًا } لنه ل يتصور إكراهها إل بهذه الحال ،وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا ،يجب
تَ َ
على سيدها منعها من ذلك ،وإنما هذا نهى لما كانوا يستعملونه في الجاهلية ،من كون السيد يجبر
أمته على البغاء ،ليأخذ منها أجرة ذلك ،ولهذا قال { :لِتَبْ َتغُوا عَ َرضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } فل يليق بكم أن
تكون إماؤكم خيرا منكم ،وأعف عن الزنا ،وأنتم تفعلون بهن ذلك ،لجل عرض الحياة ،متاع قليل
يعرض ثم يزول.
فكسبكم النزاهة ،والنظافة ،والمروءة -بقطع النظر عن ثواب الخرة وعقابها -أفضل من كسبكم
العرض القليل ،الذي يكسبكم الرذالة والخسة.
غفُورٌ
ثم دعا من جرى منه الكراه إلى التوبة ،فقالَ { :ومَنْ ُيكْرِههّنّ فَإِنّ اللّهَ مِنْ َبعْدِ ِإكْرَا ِههِنّ َ
رَحِيمٌ } فليتب إلى ال ،وليقلع عما صدر منه مما يغضبه ،فإذا فعل ذلك ،غفر ال ذنوبه ،ورحمه
كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب ،وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها.
هذا تعظيم وتفخيم لهذه اليات ،التي تلها على عباده ،ليعرفوا قدرها ،ويقوموا بحقها فقال:
{ وََلقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ آيَاتٍ مُبَيّنَاتٍ } أي :واضحات الدللة ،على كل أمر تحتاجون إليه ،من الصول
والفروع ،بحيث ل يبقى فيها إشكال ول شبهة { ،و } أنزلنا إليكم أيضا { مثل مِنَ الّذِينَ خََلوْا مِنْ
قَبِْلكُمْ } من أخبار الولين ،الصالح منهم والطالح ،وصفة أعمالهم ،وما جرى لهم وجرى عليهم
تعتبرونه مثال ومعتبرا ،لمن فعل مثل أفعالهم أن يجازى مثل ما جوزوا.
{ َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } أي :وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين ،من الوعد والوعيد ،والترغيب والترهيب،
يتعظ بها المتقون ،فينكفون عما يكره ال إلى ما يحبه ال.
جةٍ
شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَا َ
ت وَالْأَ ْرضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ
سمَاوَا ِ
{ { } 35اللّهُ نُورُ ال ّ
شجَ َرةٍ مُبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَ ْرقِيّ ٍة وَلَا غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا ُيضِيءُ
الزّجَاجَةُ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِنْ َ
سهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ ِب ُكلّ
وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
َ
ت وَالْأَ ْرضِ } الحسي والمعنوي ،وذلك أنه تعالى بذاته نور ،وحجابه -الذي
سمَاوَا ِ
{ اللّهُ نُورُ ال ّ
لول لطفه ،لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه -نور ،وبه استنار العرش،
والكرسي ،والشمس ،والقمر ،والنور ،وبه استنارت الجنة .وكذلك النور المعنوي يرجع إلى ال،
فكتابه نور ،وشرعه نور ،واليمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور .فلول نوره
تعالى ،لتراكمت الظلمات ،ولهذا :كل محل ،يفقد نوره فثم الظلمة والحصر { ،مَ َثلُ نُو ِرهِ } الذي
شكَاةٍ } أي :كوة { فِيهَا ِمصْبَاحٌ }
يهدي إليه ،وهو نور اليمان والقرآن في قلوب المؤمنينَ { ،كمِ ْ
جةٍ الزّجَاجَةُ } من صفائها
لن الكوة تجمع نور المصباح بحيث ل يتفرق ذلك { ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَا َ
وبهائها { كَأَ ّنهَا َك ْوكَبٌ دُ ّريّ } أي :مضيء إضاءة الدر { .يُوقَدُ } ذلك المصباح ،الذي في تلك
شجَ َرةٍ مُبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ } أي :يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما
الزجاجة الدرية { مِنْ َ
يكون { ،لَا شَ ْرقِيّةٍ } فقط ،فل تصيبها الشمس آخر النهار { ،وَلَا غَرْبِيّةٍ } فقط ،فل تصيبها الشمس
[أول] النهار ،وإذا انتفى عنها المران ،كانت متوسطة من الرض ،كزيتون الشام ،تصيبها
الشمس أول النهار وآخره ،فتحسن وتطيب ،ويكون أصفى لزيتها ،ولهذا قالَ { :يكَادُ زَيْ ُتهَا } من
سهُ نَارٌ } فإذا مسته النار ،أضاء إضاءة بليغة { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي:
صفائه { ُيضِي ُء وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ
نور النار ،ونور الزيت.
ووجه هذا المثل الذي ضربه ال ،وتطبيقه على حالة المؤمن ،ونور ال في قلبه ،أن فطرته التي
فطر عليها ،بمنزلة الزيت الصافي ،ففطرته صافية ،مستعدة للتعاليم اللهية ،والعمل المشروع،
فإذا وصل إليه العلم واليمان ،اشتعل ذلك النور في قلبه ،بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك
المصباح ،وهو صافي القلب من سوء القصد ،وسوء الفهم عن ال ،إذا وصل إليه اليمان ،أضاء
إضاءة عظيمة ،لصفائه من الكدورات ،وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ،فيجتمع له نور
الفطرة ،ونور اليمان ،ونور العلم ،وصفاء المعرفة ،نور على نوره.
ولما كان هذا من نور ال تعالى ،وليس كل أحد يصلح له ذلك ،قالَ { :يهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَنْ يَشَاءُ }
ممن يعلم زكاءه وطهارته ،وأنه يزكي معه وينمو { .وَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ } ليعقلوا عنه
ويفهموا ،لطفا منه بهم ،وإحسانا إليهم ،وليتضح الحق من الباطل ،فإن المثال تقرب المعاني
شيْءٍ عَلِيمٌ } فعلمه محيط بجميع
المعقولة من المحسوسة ،فيعلمها العباد علما واضحا { ،وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
الشياء ،فلتعلموا أن ضربه المثال ،ضرب من يعلم حقائق الشياء وتفاصيلها ،وأنها مصلحة
للعباد ،فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها ،ل بالعتراض عليها ،ول بمعارضتها ،فإنه يعلم وأنتم ل
تعلمون.
ولما كان نور اليمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ،ذكرها منوها بها فقال:
س ُمهُ يُسَبّحُ َلهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُد ّو وَالْآصَالِ
{ { } 38 - 36فِي بُيُوتٍ َأذِنَ اللّهُ أَنْ تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
*رِجَالٌ لَا تُ ْلهِيهِمْ تِجَا َر ٌة وَلَا بَيْعٌ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه وَِإقَامِ الصّلَا ِة وَإِيتَاءِ ال ّزكَاةِ يَخَافُونَ َي ْومًا تَ َتقَّلبُ فِيهِ
عمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ َفضِْل ِه وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ
حسَنَ مَا َ
ب وَالْأَ ْبصَارُ * لِيَجْزِ َي ُهمُ اللّهُ أَ ْ
ا ْلقُلُو ُ
حسَابٍ }
ِ
أي :يتعبد ل { فِي بُيُوتٍ } عظيمة فاضلة ،هي أحب البقاع إليه ،وهي المساجد { .أَذِنَ اللّهُ } أي:
س ُمهُ } هذان مجموع أحكام المساجد ،فيدخل في رفعها،
أمر ووصى { أَنْ تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
بناؤها ،وكنسها ،وتنظيفها من النجاسة والذى ،وصونها من المجانين والصبيان الذين ل
يتحرزون عن النجاسة ،وعن الكافر ،وأن تصان عن اللغو فيها ،ورفع الصوات بغير ذكر ال.
سمُهُ } يدخل في ذلك الصلة كلها ،فرضها ،ونفلها ،وقراءة القرآن ،والتسبيح،
{ وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
والتهليل ،وغيره من أنواع الذكر ،وتعلم العلم وتعليمه ،والمذاكرة فيها ،والعتكاف ،وغير ذلك
من العبادات التي تفعل في المساجد ،ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين :عمارة بنيان،
وصيانة لها ،وعمارة بذكر اسم ال ،من الصلة وغيرها ،وهذا أشرف القسمين ،ولهذا شرعت
الصلوات الخمس والجمعة في المساجد ،وجوبا عند أكثر العلماء ،أو استحبابا عند آخرين .ثم مدح
تعالى عمارها بالعبادة فقال { :يُسَبّحُ َلهُ } إخلصا { بِا ْل ُغ ُدوّ } أول النهار { وَالْآصَالِ } آخره
{ ِرجَالٌ } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى ال وسهولته .ويدخل في ذلك،
التسبيح في الصلة وغيرها ،ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح
والمساء .أي :يسبح فيها ال ،رجال ،وأي :رجال ،ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ،ذات لذات ،ول
تجارة ومكاسب ،مشغلة عنه { ،لَا تُ ْلهِيهِمْ تِجَا َرةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض ،فيكون
قوله { :وَلَا بَ ْيعٌ } من باب عطف الخاص على العام ،لكثرة الشتغال بالبيع على غيره ،فهؤلء
الرجال ،وإن اتجروا ،وباعوا ،واشتروا ،فإن ذلك ،ل محذور فيه .لكنه ل تلهيهم تلك ،بأن
يقدموها ويؤثروها على { ِذكْرِ اللّهِ وَِإقَامِ الصّلَا ِة وَإِيتَاءِ ال ّزكَاةِ } بل جعلوا طاعة ال وعبادته غاية
مرادهم ،ونهاية مقصدهم ،فما حال بينهم وبينها رفضوه.
ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس ،وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها ،ويشق
عليها تركه في الغالب ،وتتكلف من تقديم حق ال على ذلك ،ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا
وترهيبا -فقالَ { :يخَافُونَ َي ْومًا تَ َتقَّلبُ فِيهِ ا ْلقُلُوبُ وَالْأَ ْبصَارُ } من شدة هوله وإزعاجه للقلوب
حسَنَ
والبدان ،فلذلك خافوا ذلك اليوم ،فسهل عليهم العمل ،وترك ما يشغل عنه { ،لِيَجْزِ َي ُهمُ اللّهُ أَ ْ
عمِلُوا } والمراد بأحسن ما عملوا :أعمالهم الحسنة الصالحة ،لنها أحسن ما عملوا ،لنهم
مَا َ
يعملون المباحات وغيرها ،فالثواب ل يكون إل على العمل الحسن ،كقوله تعالى { :لِ ُي َكفّرَ اللّهُ
حسَنِ ما كَانُوا َي ْعمَلُونَ } { وَيَزِي ُدهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } زيادة
عمِلُوا وَيَجْزِ َيهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ
سوَأَ الّذِي َ
عَ ْنهُمْ َأ ْ
حسَابٍ } بل يعطيه من الجر ما
كثيرة عن الجزاء المقابل لعمالهم { ،وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ
ل يبلغه عمله ،بل ول تبلغه أمنيته ،ويعطيه من الجر بل عد ول كيل ،وهذا كناية عن كثرته
جدا.
ج ْدهُ
ظمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَا َءهُ َلمْ يَ ِ
حسَبُهُ ال ّ
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ
{ { } 40 - 39وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ
جيّ َيغْشَاهُ َموْجٌ
شَيْئًا َووَجَدَ اللّهَ عِ ْن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ * َأوْ كَظُُلمَاتٍ فِي بَحْرٍ ُل ّ
ضهَا َفوْقَ َب ْعضٍ إِذَا أَخْرَجَ َي َدهُ لَمْ َيكَدْ يَرَاهَا َومَنْ َلمْ
مِنْ َف ْوقِهِ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ سَحَابٌ ظُُلمَاتٌ َب ْع ُ
ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورًا َفمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }
يَ ْ
هذان مثلن ،ضربهما ال لعمال الكفار في بطلنها وذهابها سدى وتحسر عامليها منها فقال:
عمَاُل ُهمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ } أي :بقاع ،ل شجر فيه ول نبت.
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا } بربهم وكذبوا رسله { أَ ْ
ظمْآنُ مَاءً } شديد العطش ،الذي يتوهم ما ل يتوهم غيره ،بسبب ما معه من العطش،
{ َيحْسَ ُبهُ ال ّ
وهذا حسبان باطل ،فيقصده ليزيل ظمأه { ،حَتّى ِإذَا جَا َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئًا } فندم ندما شديدا ،وازداد
ما به من الظمأ ،بسبب انقطاع رجائه ،كذلك أعمال الكفار ،بمنزلة السراب ،ترى ويظنها الجاهل
الذي ل يدري المور ،أعمال نافعة ،فيغره صورتها ،ويخلبه خيالها ،ويحسبها هو أيضا أعمال
نافعة لهواه ،وهو أيضا محتاج إليها بل مضطر إليها ،كاحتياج الظمآن للماء ،حتى إذ قدم على
أعماله يوم الجزاء ،وجدها ضائعة ،ولم يجدها شيئا ،والحال إنه لم يذهب ،ل له ول عليه ،بل
حسَابَهُ } لم يخف عليه من عمله نقير ول قطمير ،ولن يعدم منه قليل ول
{ وجد اللّهَ عِنْ َدهُ َف َوفّاهُ ِ
حسَابِ } فل يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد ،فإنه ل بد من إتيانه ،ومثلها ال
كثيرا { ،وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ
بالسراب الذي بقيعة ،أي :ل شجر فيه ول نبات ،وهذا مثال لقلوبهم ،ل خير فيها ول بر ،فتزكو
فيها العمال وذلك للسبب المانع ،وهو الكفر.
نبه تعالى عباده على عظمته ،وكمال سلطانه ،وافتقار جميع المخلوقات له في ربوبيتها ،وعبادتها
ت وَالْأَ ْرضِ } من حيوان وجماد { وَالطّيْ ُر صَافّاتٍ }
سمَاوَا ِ
فقالَ { :ألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ ُيسَبّحُ لَهُ مَنْ فِي ال ّ
أي :صافات أجنحتها ،في جو السماء ،تسبح ربهاُ { .كلّ } من هذه المخلوقات { َقدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ
حهُ } أي :كل له صلة وعبادة بحسب حاله اللئقة به ،وقد ألهمه ال تلك الصلة والتسبيح،
وَتَسْبِي َ
إما بواسطة الرسل ،كالجن والنس والملئكة ،وإما بإلهام منه تعالى ،كسائر المخلوقات غير ذلك،
وهذا الحتمال أرجح ،بدليل قوله { :وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ } أي :علم جميع أفعالها ،فلم يخف
عليه منها شيء ،وسيجازيهم بذلك ،فيكون على هذا ،قد جمع بين علمه بأعمالها ،وذلك بتعليمه،
وبين علمه بأعمالهم المتضمن للجزاء.
ويحتمل أن الضمير في قوله { :قَدْ عَِل َم صَلَاتَ ُه وَتَسْبِيحَهُ } يعود إلى ال ،وأن ال تعالى قد علم
عباداتهم ،وإن لم تعلموا -أيها العباد -منها ،إل ما أطلعكم ال عليه .وهذه الية كقوله تعالى:
ح ْم ِدهِ وََلكِنْ لَا َتفْ َقهُونَ
شيْءٍ إِلّا ُيسَبّحُ بِ َ
ن وَإِنْ مِنْ َ
ض َومَنْ فِيهِ ّ
سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَالْأَ ْر ُ
{ ُتسَبّحُ لَهُ ال ّ
غفُورًا } فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه -من جهة العبادة والتوحيد -بين
حهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ
تَسْبِي َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } خالقهما
افتقارهم ،من جهة الملك والتربية والتدبير فقال { :وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
ورازقهما ،والمتصرف فيهما ،في حكمه الشرعي [والقدري] في هذه الدار ،وفي حكمه الجزائي،
بدار القرار ،بدليل قوله { :وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ } أي :مرجع الخلق ومآلهم ،ليجازيهم بأعمالهم.
{ فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ } أي :الوابل والمطر ،يخرج من خلل السحاب ،نقطا متفرقة ،ليحصل بها النتفاع
من دون ضرر ،فتمتلئ بذلك الغدران ،وتتدفق الخلجان ،وتسيل الودية ،وتنبت الرض من كل
زوج كريم ،وتارة ينزل ال من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه.
{ فَ ُيصِيبُ بِهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيصْ ِرفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه حكمه القدري ،وحكمته التي
يحمد عليهاَ { ،يكَادُ سَنَا بَ ْرقِهِ } أي :يكاد ضوء برق ذلك السحاب ،من شدته { َيذْ َهبُ بِالْأَ ْبصَارِ }
أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين ،وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر،
كامل القدرة ،نافذ المشيئة ،واسع الرحمة؟.
{ ُيقَّلبُ اللّهُ اللّ ْيلَ وَال ّنهَارَ } من حر إلى برد ،ومن برد إلى حر ،من ليل إلى نهار ،ومن نهار إلى
ليل ،ويديل اليام بين عباده { ،إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ } أي :لذوي البصائر ،والعقول
النافذة للمور المطلوبة منها ،كما تنفذ البصار إلى المور المشاهدة الحسية .فالبصير ينظر إلى
هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها ،والمعرض الجاهل نظره إليها نظر
غفلة ،بمنزلة نظر البهائم.
خلَقَ ُكلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َي ْمشِي عَلَى َبطْنِ ِه َومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ
{ { } 45وَاللّهُ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ }
َومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى أَرْ َبعٍ يَخُْلقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ينبه عباده على ما يشاهدونه ،أنه خلق جميع الدواب التي على وجه الرض { ،مِنْ مَاءٍ } أي:
حيّ }
شيْءٍ َ
جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ ُكلّ َ
مادتها كلها الماء ،كما قال تعالى { :وَ َ
فالحيوانات التي تتوالد ،مادتها ماء النطفة ،حين يلقح الذكر النثى .والحيوانات التي تتولد من
الرض ،ل تتولد إل من الرطوبات المائية ،كالحشرات ل يوجد منها شيء ،يتولد من غير ماء
أبدا ،فالمادة واحدة ،ولكن الخلقة مختلفة من وجوه كثيرةَ { ،فمِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى بَطْ ِنهِ } كالحية
جلَيْنِ } كالدميين ،وكثير من الطيورَ { ،ومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى
ونحوهاَ { ،ومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى رِ ْ
أَرْبَعٍ } كبهيمة النعام ونحوها .فاختلفها -مع أن الصل واحد -يدل على نفوذ مشيئة ال،
وعموم قدرته ،ولهذا قال { :يَخُْلقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } أي :من المخلوقات ،على ما يشاؤه من الصفات،
شيْءٍ َقدِيرٌ } كما أنزل المطر على الرض ،وهو لقاح واحد ،والم واحدة،
{ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ت وَجَنّاتٌ مِنْ
وهي الرض ،والولد مختلفو الصناف والوصاف { َوفِي الْأَ ْرضِ ِقطَعٌ مُتَجَاوِرَا ٌ
ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ
ضلُ َب ْع َ
ح ٍد وَ ُنفَ ّ
سقَى ِبمَا ٍء وَا ِ
ن وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ُي ْ
ل صِ ْنوَا ٌ
ع وَنَخِي ٌ
أَعْنَابٍ وَزَرْ ٌ
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }
أي :لقد رحمنا عبادنا ،وأنزلنا إليهم آيات بينات ،أي :واضحات الدللة ،على جميع المقاصد
الشرعية ،والداب المحمودة ،والمعارف الرشيدة ،فاتضحت بذلك السبل ،وتبين الرشد من الغي،
والهدى من الضلل ،فلم يبق أدنى شبهة لمبطل يتعلق بها ،ول أدنى إشكال لمريد الصواب ،لنها
تنزيل من كمل علمه ،وكملت رحمته ،وكمل بيانه ،فليس بعد بيانه بيان { لِ َيهِْلكَ } بعد ذلك { مَنْ
حيّ عَنْ بَيّ َنةٍ } { وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ } ممن سبقت لهم سابقة الحسنى،
هََلكَ عَنْ بَيّ َن ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ
وقدم الصدق { ،إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :طريق واضح مختصر ،موصل إليه ،وإلى دار كرامته،
متضمن العلم بالحق وإيثاره والعمل به .عمم البيان التام لجميع الخلق ،وخصص بالهداية من
يشاء ،فهذا فضله وإحسانه ،وما فضل الكريم بممنون وذاك عدله ،وقطع الحجة للمحتج ،وال أعلم
حيث يجعل مواقع إحسانه.
طعْنَا ثُمّ يَ َتوَلّى فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ مِنْ َبعْدِ َذِلكَ َومَا
{ { } 50 - 47وَ َيقُولُونَ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالرّسُولِ وََأ َ
حكُمَ بَيْ َنهُمْ ِإذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ ُمعْ ِرضُونَ * وَإِنْ َيكُنْ
أُولَ ِئكَ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ
َلهُمُ ا ْلحَقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * َأفِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ َأمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ َيحِيفَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ
وَرَسُولُهُ َبلْ أُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }
يخبر تعالى عن حالة الظالمين ،ممن في قلبه مرض وضعف إيمان ،أو نفاق وريب وضعف علم،
أنهم يقولون بألسنتهم ،ويلتزمون اليمان بال والطاعة ،ثم ل يقومون بما قالوا ،ويتولى فريق منهم
عن الطاعة توليا عظيما ،بدليل قوله { :وَ ُهمْ ُمعْ ِرضُونَ } فإن المتولي ،قد يكون له نية عود
ورجوع إلى ما تولى عنه ،وهذا المتولي معرض ،ل التفات له ،ول نظر لما تولى عنه ،وتجد
هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي اليمان والطاعة ل وهو ضعيف اليمان ،وتجده ل يقوم
بكثير من العبادات ،خصوصا :العبادات التي تشق على كثير من النفوس ،كالزكوات ،والنفقات
الواجبة والمستحبة ،والجهاد في سبيل ال ،ونحو ذلك.
حكُمَ بَيْ َنهُمْ } أي :إذا صار بينهم وبين أحد حكومة ،ودعوا إلى حكم
{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ
ال ورسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ ُمعْ ِرضُونَ } يريدون أحكام الجاهلية ،ويفضلون أحكام القوانين غير
الشرعية على الحكام الشرعية ،لعلمهم أن الحق عليهم ،وأن الشرع ل يحكم إل بما يطابق
حقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ } أي :إلى حكم الشرع { مُذْعِنِينَ } وليس ذلك لجل أنه
الواقع { ،وَإِنْ َيكُنْ َل ُهمُ الْ َ
حكم شرعي ،وإنما ذلك لجل موافقة أهوائهم ،فليسوا ممدوحين في هذه الحال ،ولو أتوا إليه
مذعنين ،لن العبد حقيقة ،من يتبع الحق فيما يحب ويكره ،وفيما يسره ويحزنه ،وأما الذي يتبع
الشرع عند موافقة هواه ،وينبذه عند مخالفته ،ويقدم الهوى على الشرع ،فليس بعبد على الحقيقة،
قال ال في لومهم على العراض عن الحكم الشرعيَ { :أفِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } أي :علة ،أخرجت
القلب عن صحته وأزالت حاسته ،فصار بمنزلة المريض ،الذي يعرض عما ينفعه ،ويقبل على ما
يضره،
{ َأمِ ارْتَابُوا } أي :شكوا ،وقلقت قلوبهم من حكم ال ورسوله ،واتهموه أنه ل يحكم بالحق { ،أَمْ
يَخَافُونَ أَنْ َيحِيفَ اللّهُ عَلَ ْي ِه ْم وَرَسُولُهُ } أي :يحكم عليهم حكما ظالما جائرا ،وإنما هذا وصفهم
{ َبلْ أُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ }
ح ْكمًا
وأما حكم ال ورسوله ،ففي غاية العدالة والقسط ،وموافقة الحكمةَ { .ومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّهِ ُ
ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وفي هذه اليات ،دليل على أن اليمان ،ليس هو مجرد القول حتى يقترن به
العمل ،ولهذا نفى اليمان عمن تولى عن الطاعة ،ووجوب النقياد لحكم ال ورسوله في كل حال،
وأن من ينقد له دل على مرض في قلبه ،وريب في إيمانه ،وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام
الشريعة ،وأن يظن بها خلف العدل والحكمة.
ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي ،ذكر حالة المؤمنين الممدوحين ،فقال:
س ِمعْنَا
حكُمَ بَيْ َنهُمْ أَنْ َيقُولُوا َ
{ { } 52 - 51إِ ّنمَا كَانَ َق ْولَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ لِ َي ْ
طعْنَا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَيَخْشَ اللّ َه وَيَ ّتقْهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ }
وَأَ َ
أي { :إِ ّنمَا كَانَ َق ْولَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } حقيقة ،الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى ال
طعْنَا } أي :سمعنا حكم
س ِمعْنَا وََأ َ
ورسوله ليحكم بينهم ،سواء وافق أهواءهم أو خالفها { ،أَنْ َيقُولُوا َ
ال ورسوله ،وأجبنا من دعانا إليه ،وأطعنا طاعة تامة ،سالمة من الحرج.
{ وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } حصر الفلح فيهم ،لن الفلح :الفوز بالمطلوب ،والنجاة من المكروه،
ول يفلح إل من حكم ال ورسوله ،وأطاع ال ورسوله .ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم
خصوصا ،ذكر فضلها عموما ،في جميع الحوال ،فقالَ { :ومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ } فيصدق
خشَ اللّهَ } أي :يخافه خوفا مقرونا بمعرفة ،فيترك ما نهى عنه،
خبرهما ويمتثل أمرهما { ،وَيَ ْ
ويكف نفسه عما تهوى ،ولهذا قال { :وَيَ ّتقْهِ } بترك المحظور ،لن التقوى -عند الطلق -يدخل
فيها ،فعل المأمور ،وترك المنهي عنه ،وعند اقترانها بالبر أو الطاعة -كما في هذا الموضع -
تفسر بتوقي عذاب ال ،بترك معاصيه { ،فَأُولَ ِئكَ } الذين جمعوا بين طاعة ال وطاعة رسوله،
وخشية ال وتقواه { ،هُمُ ا ْلفَائِزُونَ } بنجاتهم من العذاب ،لتركهم أسبابه ،ووصولهم إلى الثواب،
لفعلهم أسبابه ،فالفوز محصور فيهم ،وأما من لم يتصف بوصفهم ،فإنه يفوته من الفوز بحسب ما
قصر عنه من هذه الوصاف الحميدة ،واشتملت هذه الية ،على الحق المشترك بين ال وبين
رسوله ،وهو :الطاعة المستلزمة لليمان ،والحق المختص بال ،وهو :الخشية والتقوى ،وبقي
الحق الثالث المختص بالرسول ،وهو التعزير والتوقير ،كما جمع بين الحقوق الثلثة في سورة
الفتح في قوله { :لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ُتعَزّرُوهُ وَ ُت َوقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً وََأصِيلًا }
يخبر تعالى عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى ال عليه وسلم في الجهاد من المنافقين ،ومن
في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بال { ،لَئِنْ َأمَرْ َتهُمْ ْ} فيما يستقبل ،أو لئن نصصت
سمُوا ْ}
عليهم حين خرجت { لَ َيخْرُجُنّ ْ} والمعنى الول أولى .قال ال -رادا عليهمُ { :-قلْ لَا ُتقْ ِ
أي :ل نحتاج إلى إقسامكم ول إلى أعذاركم ،فإن ال قد نبأنا من أخباركم ،وطاعتكم معروفة ،ل
تخفى علينا ،قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل من غير عذر ،فل وجه لعذركم وقسمكم ،إنما
يحتاج إلى ذلك ،من كان أمره محتمل ،وحاله مشتبهة ،فهذا ربما يفيده العذر براءة ،وأما أنتم فكل
ولما ،وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم حلول بأس ال ونقمته ،ولهذا توعدهم بقوله { :إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ
ِبمَا َت ْعمَلُونَ ْ} فيجازيكم عليها أتم الجزاء ،هذه حالهم في نفس المر ،وأما الرسول عليه الصلة
والسلم ،فوظيفته أن يأمركم وينهاكم ،ولهذا قالُ { :قلْ َأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ فَإِنْ ْ} امتثلوا،
ح ّملَ ْ} من الرسالة ،وقد أداها.
كان حظكم وسعادتكم وإن { َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَيْهِ مَا ُ
حمّلْتُمْ ْ} من الطاعة ،وقد بانت حالكم وظهرت ،فبان ضللكم وغيكم واستحقاقكم
{ وَعَلَ ْيكُمْ مَا ُ
العذاب { .وَإِنْ ُتطِيعُوهُ َتهْ َتدُوا ْ} إلى الصراط المستقيم ،قول وعمل ،فل سبيل لكم إلى الهداية إل
بطاعته ،وبدون ذلك ،ل يمكن ،بل هو محال.
{ َومَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ ْ} أي :تبليغكم البين الذي ل يبقي لحد شكا ول شبهة ،وقد
فعل صلى ال عليه وسلم ،بلغ البلغ المبين ،وإنما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو ال تعالى،
فالرسول ليس له من المر شيء ،وقد قام بوظيفته.
هذا من أوعاده الصادقة ،التي شوهد تأويلها ومخبرها ،فإنه وعد من قام باليمان والعمل الصالح
من هذه المة ،أن يستخلفهم في الرض ،يكونون هم الخلفاء فيها ،المتصرفين في تدبيرها ،وأنه
يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ،وهو دين السلم ،الذي فاق الديان كلها ،ارتضاه لهذه المة،
لفضلها وشرفها ونعمته عليها ،بأن يتمكنوا من إقامته ،وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة ،في
أنفسهم وفي غيرهم ،لكون غيرهم من أهل الديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين ،وأنه يبدلهم من
بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم ل يتمكن من إظهار دينه ،وما هو عليه إل بأذى كثير من
الكفار ،وكون جماعة المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم ،وقد رماهم أهل الرض عن قوس
واحدة ،وبغوا لهم الغوائل.
فوعدهم ال هذه المور وقت نزول الية ،وهي لم تشاهد الستخلف في الرض والتمكين فيها،
والتمكين من إقامة الدين السلمي ،والمن التام ،بحيث يعبدون ال ول يشركون به شيئا ،ول
يخافون أحدا إل ال ،فقام صدر هذه المة ،من اليمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم،
فمكنهم من البلد والعباد ،وفتحت مشارق الرض ومغاربها ،وحصل المن التام والتمكين التام،
فهذا من آيات ال العجيبة الباهرة ،ول يزال المر إلى قيام الساعة ،مهما قاموا باليمان والعمل
الصالح ،فل بد أن يوجد ما وعدهم ال ،وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين ،ويديلهم في بعض
الحيان ،بسبب إخلل المسلمين باليمان والعمل الصالح.
سقُونَ ْ}
{ َومَنْ َكفَرَ َب ْعدَ ذَِلكَ ْ} التمكين والسلطنة التامة لكم ،يا معشر المسلمين { ،فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ
الذين خرجوا عن طاعة ال ،وفسدوا ،فلم يصلحوا لصالح ،ولم يكن فيهم أهلية للخير ،لن الذي
يترك اليمان في حال عزه وقهره ،وعدم وجود السباب المانعة منه ،يدل على فساد نيته ،وخبث
طويته ،لنه ل داعي له لترك الدين إل ذلك .ودلت هذه الية ،أن ال قد مكن من قبلنا ،واستخلفهم
في الرض ،كما قال موسى لقومه { :وَيَسْ َتخِْل َفكُمْ فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ ْ} وقال تعالى{ :
جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ * وَ ُنمَكّنَ َلهُمْ فِي
جعََلهُمْ أَ ِئمّ ًة وَنَ ْ
ض وَنَ ْ
ض ِعفُوا فِي الْأَ ْر ِ
وَنُرِيدُ أَنْ َنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ
الْأَ ْرضِ }
يأمر تعالى بإقامة الصلة ،بأركانها وشروطها وآدابها ،ظاهرا وباطنا ،وبإيتاء الزكاة من الموال
التي استخلف ال عليها العباد ،وأعطاهم إياها ،بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم ،ممن ذكرهم ال
لمصرف الزكاة ،فهذان أكبر الطاعات وأجلهما ،جامعتان لحقه وحق خلقه ،للخلص للمعبود،
وللحسان إلى العبيد ،ثم عطف عليهما المر العام ،فقال { :وََأطِيعُوا الرّسُولَ ْ} وذلك بامتثال
طعِ الرّسُولَ َفقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } { َلعَّلكُمْ } حين تقومون بذلك
أوامره واجتناب نواهيه { مَنْ يُ ِ
حمُونَ } فمن أراد الرحمة ،فهذا طريقها ،ومن رجاها من دون إقامة الصلة ،وإيتاء الزكاة،
{ تُ ْر َ
وإطاعة الرسول ،فهو متمن كاذب ،وقد منته نفسه الماني الكاذبة.
{ لَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُوا ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ } فل يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا ،فإن ال،
وإن أمهلهم فإنه ل يهملهم { ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا ُثمّ َنضْطَرّ ُهمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
ولهذا قال هناَ { :ومَأْوَا ُهمُ النّا ُر وَلَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } أي :بئس المآل ،مآل الكافرين ،مآل الشر
والحسرة والعقوبة البدية.
{ { } 58يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَ ْأذِ ْنكُمُ الّذِينَ مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ وَالّذِينَ َلمْ يَبُْلغُوا الْحُُلمَ مِ ْنكُمْ ثَلَاثَ
عوْرَاتٍ
ظهِي َر ِة َومِنْ َبعْ ِد صَلَاةِ ا ْل ِعشَاءِ ثَلَاثُ َ
ضعُونَ ثِيَا َبكُمْ مِنَ ال ّ
ل صَلَاةِ ا ْلفَجْ ِر َوحِينَ َت َ
مَرّاتٍ مِنْ قَ ْب ِ
ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ
طوّافُونَ عَلَ ْيكُمْ َب ْع ُ
َلكُمْ لَيْسَ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ َبعْ َدهُنّ َ
حكِيمٌ }
ت وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
الْآيَا ِ
أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم ،والذين لم يبلغوا الحلم منهم .قد ذكر ال حكمته وأنه ثلث
عورات للمستأذن عليهم ،وقت نومهم بالليل بعد العشاء ،وعند انتباههم قبل صلة الفجر ،فهذا
-في الغالب -أن النائم يستعمل للنوم في الليل ثوبا غير ثوبه المعتاد ،وأما نوم النهار ،فلما كان
ظهِي َرةِ }
ضعُونَ ثِيَا َبكُمْ مِنَ ال ّ
في الغالب قليل ،قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة ،قيده بقوله { :وَحِينَ َت َ
أي :للقائلة ،وسط النهار.
ففي ثلثة هذه الحوال ،يكون المماليك والولد الصغار كغيرهم ،ل يمكنون من الدخول إل بإذن،
وأما ما عدا هذه الحوال الثلثة فقال { :لَيْسَ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ َبعْدَهُنّ } أي :ليسوا كغيرهم،
ضكُمْ
طوّافُونَ عَلَ ْيكُمْ َب ْع ُ
فإنهم يحتاج إليهم دائما ،فيشق الستئذان منهم في كل وقت ،ولهذا قالَ { :
عَلَى َب ْعضٍ } أي :يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم.
{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الْآيَاتِ } بيانا مقرونا بحكمته ،ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه
حكِيمٌ ْ} له العلم المحيط بالواجبات والمستحيلت والممكنات،
وحكمته ،ولهذا قال { :وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه ،فأعطى كل مخلوق خلقه اللئق به ،وأعطى كل حكم
شرعي حكمه اللئق به ،ومنه هذه الحكام التي بينها وبين مآخذها وحسنها.
وهو إنزال المني يقظة أو مناما { ،فَلْيَسْتَ ْأذِنُوا َكمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ ْ} أي :في سائر الوقات،
والذين من قبلهم ،هم الذين ذكرهم ال بقوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ ْدخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ حَتّى
تَسْتَأْنِسُوا ْ} الية.
حكِيمٌ ْ}
{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ اليَاتِ ْ} ويوضحها ،ويفصل أحكامها { وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
وفي هاتين اليتين فوائد ،منها :أن السيد وولي الصغير ،مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت
وليتهم من الولد ،العلم والداب الشرعية ،لن ال وجه الخطاب إليهم بقوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَ ْأذِ ْنكُمُ الّذِينَ مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُ ْم وَالّذِينَ َلمْ يَبُْلغُوا الْحُُلمَ ْ} الية ،ول يمكن ذلك ،إل بالتعليم
والتأديب ،ولقوله { :لَيْسَ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ َبعْدَهُنّ ْ}
ومنها :المر بحفظ العورات ،والحتياط لذلك من كل وجه ،وأن المحل والمكان ،الذي هو مظنة
لرؤية عورة النسان فيه ،أنه منهي عن الغتسال فيه والستنجاء ،ونحو ذلك.
ومنها :جواز كشف العورة لحاجة ،كالحاجة عند النوم ،وعند البول والغائط ،ونحو ذلك.
ومنها :أن المسلمين كانوا معتادين للقيلولة وسط النهار ،كما اعتادوا نوم الليل ،لن ال خاطبهم
ببيان حالهم الموجودة.
ومنها :أن الصغير الذي دون البلوغ ،ل يجوز أن يمكن من رؤية العورة ،ول يجوز أن ترى
عورته ،لن ال لم يأمر باستئذانهم ،إل عن أمر ما يجوز.
ومنها :أن المملوك أيضا ،ل يجوز أن يرى عورة سيده ،كما أن سيده ل يجوز أن يرى عورته،
كما ذكرنا في الصغير.
ومنها :أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهم ،ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي ،أن يقرن بالحكم،
بيان مأخذه ووجهه ،ول يلقيه مجردا عن الدليل والتعليل ،لن ال -لما بين الحكم المذكور -علله
عوْرَاتٍ َل ُكمْ ْ}
بقوله { :ثَلَاثُ َ
ومنها :أن الصغير والعبد ،مخاطبان ،كما أن وليهما مخاطب لقوله { :لَيْسَ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا عَلَ ْيهِمْ جُنَاحٌ
َبعْدَهُنّ ْ}
ومنها :جواز استخدام النسان من تحت يده ،من الطفال على وجه معتاد ،ل يشق على الطفل
طوّافُونَ عَلَ ْيكُمْ ْ}
لقولهَ { :
ومنها :أن الحكم المذكور المفصل ،إنما هو لما دون البلوغ ،فأما ما بعد البلوغ ،فليس إل
الستئذان.
ومنها :أن البلوغ يحصل بالنزال فكل حكم شرعي رتب على البلوغ ،حصل بالنزال ،وهذا
مجمع عليه ،وإنما الخلف ،هل يحصل البلوغ بالسن ،أو النبات للعانة ،وال أعلم.
وَا ْلقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاءِ أي :اللتي قعدن عن الستمتاع والشهوة { اللّاتِي لَا يَ ْرجُونَ ِنكَاحًا ْ} أي :ل
يطمعن في النكاح ،ول يطمع فيهن ،وذلك لكونها عجوزا ل تشتهى ،أو دميمة الخلقة ل تشتهي
ضعْنَ ثِيَا َبهُنّ ْ} أي :الثياب الظاهرة،
ول تشتهى { فَلَيْسَ عَلَ ْيهِنّ جُنَاحٌ ْ} أي :حرج وإثم { أَنْ َي َ
خمُ ِرهِنّ عَلَى جُيُو ِبهِنّ ْ} فهؤلء ،يجوز
كالخمار ونحوه ،الذي قال ال فيه للنساء { :وَلْ َيضْرِبْنَ بِ ُ
لهن أن يكشفن وجوههن لمن المحذور منها وعليها ،ولما كان نفي الحرج عنهن في وضع
الثياب ،ربما توهم منه جواز استعمالها لكل شيء ،دفع هذا الحتراز بقوله { :غَيْرَ مُتَبَرّجَاتٍ
بِزِينَةٍ ْ} أي :غير مظهرات للناس زينة ،من تجمل بثياب ظاهرة ،وتستر وجهها ،ومن ضرب
الرض برجلها ،ليعلم ما تخفي من زينتها ،لن مجرد الزينة على النثى ،ولو مع تسترها ،ولو
كانت ل تشتهى يفتن فيها ،ويوقع الناظر إليها في الحرج { وَأَنْ َيسْ َتعْ ِففْنَ خَيْرٌ َلهُنّ ْ}
والستعفاف :طلب العفة ،بفعل السباب المقتضية لذلك ،من تزوج وترك لما يخشى منه الفتنة،
سمِيعٌ ْ} لجميع الصوات { عَلِيمٌ ْ} بالنيات والمقاصد ،فليحذرن من كل قول وقصد فاسد،
{ وَاللّهُ َ
وليعلمن أن ال يجازي على ذلك.
ج وَلَا عَلَى
ج وَلَا عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ
ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ
عمَى حَرَ ٌ
{ { }ْ 61لَيْسَ عَلَى الْأَ ْ
خوَا ِتكُمْ
خوَا ِنكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ َ
سكُمْ أَنْ تَ ْأكُلُوا مِنْ بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَا ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ إِ ْ
أَ ْنفُ ِ
خوَاِلكُمْ َأوْ بُيُوتِ خَالَا ِتكُمْ َأوْ مَا مََلكْتُمْ َمفَاتِحَهُ َأوْ
عمّا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ َأ ْ
عمَا ِمكُمْ َأوْ بُيُوتِ َ
َأوْ بُيُوتِ أَ ْ
سكُمْ تَحِيّةً مِنْ
جمِيعًا َأوْ أَشْتَاتًا فَِإذَا َدخَلْتُمْ بُيُوتًا َفسَّلمُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
صَدِي ِقكُمْ لَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَ ْأكُلُوا َ
عِنْدِ اللّهِ مُبَا َركَةً طَيّبَةً كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ ْ}
يخبر تعالى عن منته على عباده ،وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير،
ج وَلَا عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ ْ} أي :ليس على
ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ
عمَى حَرَ ٌ
فقال { :لَ ْيسَ عَلَى الْأَ ْ
هؤلء جناح ،في ترك المور الواجبة ،التي تتوقف على واحد منها ،وذلك كالجهاد ونحوه ،مما
يتوقف على بصر العمى ،أو سلمة العرج ،أو صحة للمريض ،ولهذا المعنى العام الذي
سكُمْ ْ} أي :حرج { أَنْ تَ ْأكُلُوا
ذكرناه ،أطلق الكلم في ذلك ،ولم يقيد ،كما قيد قوله { :وَلَا عَلَى أَ ْنفُ ِ
مِنْ بُيُو ِتكُمْ ْ} أي :بيوت أولدكم ،وهذا موافق للحديث الثابت " :أنت ومالك لبيك " والحديث
الخر " :إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ،وإن أولدكم من كسبكم " وليس المراد من قوله { :مِنْ
بُيُو ِتكُمْ ْ} بيت النسان نفسه ،فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ،الذي ينزه عنه كلم ال ،ولنه
نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الثم من هؤلء المذكورين ،وأما بيت النسان نفسه فليس فيه
أدنى توهم.
والثاني :أن بيوت المماليك ،غير خارجة عن بيت النسان نفسه ،لن المملوك وما ملكه لسيده،
فل وجه لنفي الحرج عنه.
{ َأ ْو صَدِي ِقكُمْ ْ} وهذا الحرج المنفي عن الكل من هذه البيوت كل ذلك ،إذا كان بدون إذن،
والحكمة فيه معلومة من السياق ،فإن هؤلء المسمين قد جرت العادة والعرف ،بالمسامحة في
الكل منها ،لجل القرابة القريبة ،أو التصرف التام ،أو الصداقة ،فلو قدر في أحد من هؤلء عدم
المسامحة والشح في الكل المذكور ،لم يجز الكل ،ولم يرتفع الحرج ،نظرا للحكمة والمعنى.
جمِيعًا َأوْ أَشْتَاتًا ْ} فكل ذلك جائز ،أكل أهل البيت الواحد
وقوله { :لَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَ ْأكُلُوا َ
جميعا ،أو أكل كل واحد منهم وحده ،وهذا نفي للحرج ،ل نفي للفضيلة وإل فالفضل الجتماع
على الطعام.
{ فَِإذَا َدخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ} نكرة في سياق الشرط ،يشمل بيت النسان وبيت غيره ،سواء كان في البيت
سكُمْ ْ} أي :فليسلم بعضكم على بعض ،لن
ساكن أم ل ،فإذا دخلها النسان { فَسَّلمُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
المسلمين كأنهم شخص واحد ،من تواددهم ،وتراحمهم ،وتعاطفهم ،فالسلم مشروع لدخول سائر
البيوت ،من غير فرق بين بيت وبيت ،والستئذان تقدم أن فيه تفصيل في أحكامه ،ثم مدح هذا
السلم فقالَ { :تحِيّةً مِنْ عِ ْندِ اللّهِ مُبَا َركَةً طَيّ َبةً ْ} أي :سلمكم بقولكم " :السلم عليكم ورحمة ال
وبركاته " أو " السلم علينا وعلى عباد ال الصالحين " إذ تدخلون البيوتَ { ،تحِيّةً مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ْ}
أي :قد شرعها لكم ،وجعلها تحيتكم { ،مُبَا َركَةً ْ} لشتمالها على السلمة من النقص ،وحصول
الرحمة والبركة والنماء والزيادة { ،طَيّ َبةً ْ} لنها من الكلم الطيب المحبوب عند ال ،الذي فيه
طيبة نفس للمحيا ،ومحبة وجلب مودة.
{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ اليَاتِ ْ} الدالت على أحكامه الشرعية وحكمهاَ { ،لعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ ْ} عنه
فتفهمونها ،وتعقلونها بقلوبكم ،ولتكونوا من أهل العقول واللباب الرزينة ،فإن معرفة أحكامه
الشرعية على وجهها ،يزيد في العقل ،وينمو به اللب ،لكون معانيها أجل المعاني ،وآدابها أجل
الداب ،ولن الجزاء من جنس العمل ،فكما استعمل عقله للعقل عن ربه ،وللتفكر في آياته التي
دعاه إليها ،زاده من ذلك.
وفي هذه اليات دليل على قاعدة عامة كلية وهي :أن " العرف والعادة مخصص لللفاظ،
كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الصل ،أن النسان ممنوع من تناول طعام غيره ،مع أن ال أباح
الكل من بيوت هؤلء ،للعرف والعادة ،فكل مسألة تتوقف على الذن من مالك الشيء ،إذا علم
إذنه بالقول أو العرف ،جاز القدام عليه.
وفيها دليل على أن الب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما ل يضره ،لن ال سمى بيته
بيتا للنسان.
وفيها دليل على أن المتصرف في بيت النسان ،كزوجته ،وأخته ونحوهما ،يجوز لهما الكل
عادة ،وإطعام السائل المعتاد.
وفيها دليل ،على جواز المشاركة في الطعام ،سواء أكلوا مجتمعين ،أو متفرقين ،ولو أفضى ذلك
إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض.
{ { }ْ 64 - 62إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِذَا كَانُوا َمعَهُ عَلَى َأمْرٍ جَامِعٍ َلمْ
يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَ ْأذِنُو َنكَ أُولَ ِئكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ فَِإذَا اسْتَ ْأذَنُوكَ لِ َب ْعضِ
جعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْ َن ُكمْ
غفُورٌ رَحِيمٌ * لَا َت ْ
شَأْ ِنهِمْ فَ ْأذَنْ ِلمَنْ شِ ْئتَ مِ ْنهُ ْم وَاسْ َتغْفِرْ َلهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
حذَرِ الّذِينَ يُخَاِلفُونَ عَنْ َأمْ ِرهِ أَنْ
ضكُمْ َب ْعضًا َقدْ َيعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِ ْنكُمْ ِلوَاذًا فَلْيَ ْ
كَدُعَاءِ َب ْع ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َقدْ َيعْلَمُ مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ
عذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
ُتصِي َبهُمْ فِتْنَةٌ َأوْ ُيصِي َبهُمْ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ ْ}
عمِلُوا وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
جعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّ ُئ ُهمْ ِبمَا َ
وَ َيوْمَ يُرْ َ
هذا إرشاد من ال لعباده المؤمنين ،أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى ال عليه وسلم على أمر
جامع ،أي :من ضرورته أو من مصلحته ،أن يكونوا فيه جميعا ،كالجهاد ،والمشاورة ،ونحو ذلك
من المور التي يشترك فيها المؤمنون ،فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم،
فالمؤمن بال ورسوله حقا ،ل يذهب لمر من المور ،ل يرجع لهله ،ول يذهب لبعض الحوائج
التي يشذ بها عنهم ،إل بإذن من الرسول أو نائبه من بعده ،فجعل موجب اليمان ،عدم الذهاب إل
بإذن ،ومدحهم على فعلهم هذا وأدبهم مع رسوله وولي المر منهم ،فقال { :إِنّ الّذِينَ َيسْتَأْذِنُو َنكَ
أُولَ ِئكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ ْ} ولكن هل يأذن لهم أم ل؟ ذكر لذنه لهم شرطين:
أحدهما :أن يكون لشأن من شئونهم ،وشغل من أشغالهم ،فأما من يستأذن من غير عذر ،فل يؤذن
له.
والثاني :أن يشاء الذن فتقتضيه المصلحة ،من دون مضرة بالذن ،قال { :فَِإذَا اسْتَ ْأذَنُوكَ لِ َب ْعضِ
شَأْ ِنهِمْ فَ ْأذَنْ ِلمَنْ شِ ْئتَ مِ ْنهُمْ ْ} فإذا كان له عذر واستأذن ،فإن كان في قعوده وعدم ذهابه مصلحة
برأيه ،أو شجاعته ،ونحو ذلك ،لم يأذن له ،ومع هذا إذا استأذن ،وأذن له بشرطيه ،أمر ال
رسوله أن يستغفر له ،لما عسى أن يكون مقصرا في الستئذان ،ولهذا قال { :وَاسْ َت ْغفِرْ َلهُم اللّهَ إِنّ
غفُورٌ رَحِيمٌ ْ} يغفر لهم الذنوب ويرحمهم ،بأن جوز لهم الستئذان مع العذر.
اللّهَ َ
{ َقدْ َيعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِ ْنكُمْ ِلوَاذًا ْ} لما مدح المؤمنين بال ورسوله ،الذين إذا كانوا معه على
أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ،توعد من لم يفعل ذلك وذهب من غير استئذان ،فهو وإن خفي
عليكم بذهابه على وجه خفي ،وهو المراد بقوله { :يَ َتسَلّلُونَ مِ ْنكُمْ ِلوَاذًا ْ} أي :يلوذون وقت تسللهم
وانطلقهم بشيء يحجبهم عن العيون ،فال يعلمهم ،وسيجازيهم على ذلك أتم الجزاء ،ولهذا
حذَرِ الّذِينَ يُخَاِلفُونَ عَنْ َأمْ ِرهِ ْ} أي :يذهبون إلى بعض شئونهم عن أمر ال
توعدهم بقوله { :فَلْيَ ْ
ورسوله ،فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شئونه؟" وإنما ترك أمر ال من دون شغل له { .أَنْ
ُتصِي َبهُمْ فِتْنَةٌ ْ} أي :شرك وشر { َأوْ ُيصِي َبهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ْ}
ت وَالْأَ ْرضِ ْ} ملكا وعبيدا ،يتصرف فيهم بحكمه القدري ،وحكمه
سمَاوَا ِ
{ أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
الشرعيَ { .قدْ َيعْلَمُ مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ ْ} أي :قد أحاط علمه بما أنتم عليه ،من خير وشر ،وعلم جميع
أعمالكم ،أحصاها علمه ،وجرى بها قلمه ،وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون.
سمَاوَاتِ
{ { }ْ 2 - 1تَبَا َركَ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ عَلَى عَبْ ِدهِ لِ َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِينَ َنذِيرًا * الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
شيْءٍ َفقَدّ َرهُ َتقْدِيرًا ْ}
خلَقَ ُكلّ َ
ك وَ َ
خ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْل ِ
وَالْأَ ْرضِ وََلمْ يَتّ ِ
هذا بيان لعظمته الكاملة وتفرده [بالوحدانية] من كل وجه وكثرة خيراته وإحسانه فقال { :تَبَا َركَ ْ}
أي :تعاظم وكملت أوصافه وكثرت خيراته الذي من أعظم خيراته ونعمه أن نزل هذا القرآن
الفارق بين الحلل والحرام والهدى والضلل وأهل السعادة من أهل الشقاوة { ،عَلَى عَ ْب ِدهِ ْ} محمد
صلى ال عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية وفاق جميع المرسلين { ،لِ َيكُونَ ْ} ذلك النزال
للفرقان على عبده { لِ ْلعَاَلمِينَ َنذِيرًا ْ} ينذرهم بأس ال ونقمه ويبين لهم مواقع رضا ال من
سخطه ،حتى إن من قبل نذارته وعمل بها كان من الناجين في الدنيا والخرة الذين حصلت لهم
السعادة البدية والملك السرمدي ،فهل فوق هذه النعمة وهذا الفضل والحسان شيء؟ فتبارك الذي
هذا من بعض إحسانه وبركاته.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ْ} أى :له التصرف فيهما وحده ،وجميع من فيهما مماليك وعبيد
{ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
خ ْذ وَلَدًا وََلمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ
له مذعنون لعظمته خاضعون لربوبيته ،فقراء إلى رحمته الذي { َلمْ يَتّ ِ
فِي ا ْلمُ ْلكِ ْ} وكيف يكون له ولد أو شريك وهو المالك وغيره مملوك ،وهو القاهر وغيره مقهور
وهو الغني بذاته من جميع الوجوه ،والمخلوقون مفتقرون إليه فقرا ذاتيا من جميع الوجوه؟"
وكيف يكون له شريك في الملك ونواصي العباد كلهم بيديه ،فل يتحركون أو يسكنون ول
يتصرفون إل بإذنه فتعالى ال عن ذلك علوا كبيرا ،فلم يقدره حق قدره من قال فيه ذلك ولهذا
شيْءٍ ْ} شمل العالم العلوي والعالم السفلي من حيواناته ونباتاته وجماداته،
قال { :وَخََلقَ ُكلّ َ
{ َفقَدّ َرهُ َتقْدِيرًا ْ} أي :أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق وما تقتضيه حكمته من
ذلك ،بحيث صار كل مخلوق ل يتصور العقل الصحيح أن يكون بخلف شكله وصورته
المشاهدة ،بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد ل يناسبه غير محله الذي هو فيه .قال تعالى:
عطَى ُكلّ
سوّى وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَى ْ} وقال تعالى { :رَبّنَا الّذِي أَ ْ
سمَ رَ ّبكَ الْأَعْلَى الّذِي خَلَقَ فَ َ
{ سَبّحِ ا ْ
شيْءٍ خَ ْلقَهُ ثُمّ هَدَى ْ} ولما بين كماله وعظمته وكثرة إحسانه كان ذلك مقتضيا لن يكون وحده
َ
المحبوب المألوه المعظم المفرد بالخلص وحده ل شريك له ناسب أن يذكر بطلن عبادة ما
سواه فقال:
أي :من أعجب العجائب وأدل الدليل على سفههم ونقص عقولهم ،بل أدل على ظلمهم وجراءتهم
على ربهم أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة ،في كمال العجز أنها ل تقدر على خلق شيء بل هم
سهِمْ ضَرّا وَلَا َنفْعًا ْ} أي :ل قليل ول
مخلوقون ،بل بعضهم مما عملته أيديهم { .وَلَا َيمِْلكُونَ لِأَ ْنفُ ِ
كثيرا ،لنه نكرة في سياق النفي.
{ وَلَا َيمِْلكُونَ َموْتًا وَلَا حَيَا ًة وَلَا نُشُورًا ْ} أي :بعثا بعد الموت ،فأعظم أحكام العقل بطلن إلهيتها
وفسادها وفساد عقل من اتخذها آلهة وشركاء للخالق لسائر المخلوقات من غير مشاركة له في
ذلك ،الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي يحيي ويميت ويبعث من في القبور ويجمعهم
ليوم النشور ،وقد جعل لهم دارين دار الشقاء والخزي والنكال لمن اتخذ معه آلهة أخرى ،ودار
الفوز والسعادة والنعيم المقيم لمن اتخذه وحده معبودا.
ولما قرر بالدليل القاطع الواضح صحة التوحيد وبطلن ضده قرر صحة الرسالة وبطلن قول
من عارضها واعترضها فقال:
{ َ { }ْ 6 - 4وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا ِإ ْفكٌ افْتَرَا ُه وَأَعَانَهُ عَلَ ْيهِ َقوْمٌ آخَرُونَ َفقَدْ جَاءُوا ظُ ْلمًا
وَزُورًا * َوقَالُوا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَى عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا * ُقلْ أَنْزَلَهُ الّذِي َيعْلَمُ السّرّ
غفُورًا َرحِيمًا ْ}
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ إِنّهُ كَانَ َ
فِي ال ّ
أي :وقال الكافرون بال الذي أوجب لهم كفرهم أن قالوا في القرآن والرسول :إن هذا القرآن
كذب كذبه محمد وإفك افتراه على ال وأعانه على ذلك قوم آخرون.
فرد ال عليهم ذلك بأن هذا مكابرة منهم وإقدام على الظلم والزور ،الذي ل يمكن أن يدخل عقل
أحد وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى ال عليه وسلم وكمال صدقه وأمانته وبره التام
وأنه ل يمكنه ،ل هو ول سائر الخلق أن يأتوا بهذا القرآن الذي هو أجل الكلم وأعله وأنه لم
يجتمع بأحد يعينه على ذلك فقد جاءوا بهذا القول ظلما وزورا.
ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا :هذا الذي جاء به محمد { َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا ْ} أي :هذا
علَيْهِ
قصص الولين وأساطيرهم التي تتلقاها الفواه وينقلها كل أحد استنسخها محمد { َف ِهيَ ُتمْلَى َ
ُبكْ َرةً وََأصِيلًا ْ} وهذا القول منهم فيه عدة عظائم:
منها :رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة.
ومنها :إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكلم وأعظمه وأجله -بأنه كذب وافتراء.
ومنها :أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه
للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته ،وهي الكلم.
ومنها :أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها ،أنه ل يكتب ول يجتمع بمن يكتب له
وقد زعموا ذلك.
ووجه إقامة الحجة عليهم أن الذي أنزله ،هو المحيط علمه بكل شيء ،فيستحيل ويمتنع أن يقول
مخلوق ويتقول عليه هذا القرآن ،ويقول :هو من عند ال وما هو من عنده ويستحل دماء من
خالفه وأموالهم ،ويزعم أن ال قال له ذلك ،وال يعلم كل شيء ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على
أعدائه ،ويمكنه من رقابهم وبلدهم فل يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن ،إل بعد إنكار علم ال،
وهذا ل تقول به طائفة من بني آدم سوى الفلسفة الدهرية.
وأيضا فإن ذكر علمه تعالى العام ينبههم :ويحضهم على تدبر القرآن ،وأنهم لو تدبروا لرأوا فيه
من علمه وأحكامه ما يدل دللة قاطعة على أنه ل يكون إل من عالم الغيب والشهادة ،ومع
إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف ال بهم ،أنه لم يدعهم وظلمهم بل دعاهم إلى التوبة والنابة
غفُورًا ْ} أي :وصفه
إليه ووعدهم بالمغفرة والرحمة ،إن هم تابوا ورجعوا فقال { :إِنّهُ كَانَ َ
المغفرة لهل الجرائم والذنوب ،إذا فعلوا أسباب المغفرة وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها.
{ َرحِيمًا ْ} بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها ،وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي
وحيث محا ما سلف من سيئاتهم وحيث قبل حسناتهم وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده والمقبل
عليه بعد إعراضه إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.
هذا من مقالة المكذبين للرسول الذين قدحوا بها في رسالته ،وهو أنهم اعترضوا بأنه هل كان
ملكا أو مليكا ،أو يساعده ملك فقالوا { :مَالِ هَذَا الرّسُولِ } أي :ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟ تهكما
منهم واستهزاء.
طعَامَ } وهذا من خصائص البشر فهل كان ملكا ل يأكل الطعام ،ول يحتاج إلى ما يحتاج
{ يَ ْأ ُكلُ ال ّ
سوَاقِ } للبيع والشراء وهذا -بزعمهم -ل يليق بمن يكون رسول ،مع
إليه البشر { ،وَ َيمْشِي فِي الْأَ ْ
سوَاقِ }
طعَا َم وَ َيمْشُونَ فِي الَْأ ْ
أن ال قالَ { :ومَا أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا إِ ّنهُمْ لَيَ ْأكُلُونَ ال ّ
{ َلوْلَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ } أي :هل أنزل معه ملك يساعده ويعاونه { ،فَ َيكُونَ َمعَهُ نَذِيرًا } وبزعمهم
أنه غير كاف للرسالة ول بطوقه وقدرته القيام بها.
{ َأوْ يُ ْلقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي :مال مجموع من غير تعبَ { ،أوْ َتكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَ ْأ ُكلُ مِ ْنهَا } فيستغني
بذلك عن مشيه في السواق لطلب الرزق.
سحُورًا } هذا
{ َوقَالَ الظّاِلمُونَ } حملهم على القول ظلمهم ل اشتباه منهم { ،إِنْ تَتّ ِبعُونَ إِلّا رَجُلًا مَ ْ
وقد علموا كمال عقله وحسن حديثه ،وسلمته من جميع المطاعن .ولما كانت هذه القوال منهم
ف ضَرَبُوا َلكَ الَْأمْثَالَ } وهي :أنه هل كان ملكا وزالت عنه
عجيبة جدا قال تعالى { :انْظُرْ كَيْ َ
خصائص البشر؟ أو معه ملك لنه غير قادر على ما قال ،أو أنزل عليه كنز ،أو جعلت له جنة
تغنيه عن المشي في السواق أو أنه كان مسحورا.
{ َفضَلّوا فَلَا يَسْ َتطِيعُونَ سَبِيلًا } قالوا أقوال متناقضة كلها جهل وضلل وسفه ،ليس في شيء منها
هداية بل ول في شيء منها أدنى شبهة تقدح في الرسالة ،فبمجرد النظر إليها وتصورها يجزم
العاقل ببطلنها ويكفيه عن ردها ،ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها وتدبرها والنظر :هل توجب
التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق؟ ولهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيك خيرا كثيرا
ج َعلَ َلكَ خَيْرًا مِنْ ذَِلكَ } أي :خيرا مما قالوا ،ثم فسره
في الدنيا فقال { :تَبَا َركَ الّذِي إِنْ شَاءَ َ
ج َعلْ َلكَ ُقصُورًا } مرتفعة مزخرفة ،فقدرته ومشيئته ل
بقوله { :جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَيَ ْ
تقصر عن ذلك ولكنه تعالى -لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد والحقارة -أعطى منها أولياءه
ورسله ما اقتضته حكمته منها ،واقتراح أعدائهم بأنهم هل رزقوا منها رزقا كثيرا جدا ظلم
وجراءة.
ولما كانت تلك القوال التي قالوها معلومة الفساد أخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحق ،ول
لتباع البرهان وإنما صدرت منهم تعنتا وظلما وتكذيبا بالحق ،فقالوا ما بقلوبهم من ذلك ولهذا
عةِ } والمكذب المتعنت الذي ليس له قصد في اتباع الحق ،ل سبيل إلى
قالَ { :بلْ كَذّبُوا بِالسّا َ
هدايته ول حيلة في مجادلته وإنما له حيلة واحدة وهي نزول العذاب به ،فلهذا قال { :وَأَعْتَدْنَا ِلمَنْ
سعِيرًا } أي :نارا عظيمة قد اشتد سعيرها ،وتغيظت على أهلها واشتد زفيرها.
عةِ َ
كَ ّذبَ بِالسّا َ
{ وَإِذَا أُ ْلقُوا مِ ْنهَا َمكَانًا ضَ ّيقًا ُمقَرّنِينَ } أي :وقت عذابهم وهم في وسطها ،جمع في مكان بين
ضيق المكان وتزاحم السكان وتقرينهم بالسلسل والغلل ،فإذا وصلوا لذلك المكان النحس
عوْا هُنَاِلكَ ثُبُورًا } دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة
وحبسوا في أشر حبس { دَ َ
وعلموا أنهم ظالمون معتدون ،قد عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل ،وليس ذلك
الدعاء والستغاثة بنافعة لهم ول مغنية من عذاب ال ،بل يقال لهم { :لَا تَدْعُوا الْ َيوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا
وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } أي :لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه ما أفادكم إل الهم والغم والحزن.
أي :قل لهم -مبينا لسفاهة رأيهم واختيارهم الضار على النافعَ { :-أذَِلكَ } الذي وصفت لكم من
العذاب { خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ ا ْلخُلْدِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ } التي زادها تقوى ال فمن قام بالتقوى فال قد
وعده إياها { ،كَا َنتْ َلهُمْ جَزَاءً } على تقواهم { َو َمصِيرًا } موئل يرجعون إليها ،ويستقرون فيها
ويخلدون دائما أبدا.
{ َل ُهمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } أي :يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم ،من المطاعم والمشارب اللذيذة
والملبس الفاخرة والنساء الجميلت والقصور العاليات والجنات والحدائق المرجحنة والفواكه
التي تسر ناظريها وآكليها ،من حسنها وتنوعها وكثرة أصنافها والنهار التي تجري في رياض
الجنة وبساتينها ،حيث شاءوا يصرفونها ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن وأنهارا من لبن لم
يتغير طعمه وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وروائح طيبة ،ومساكن
مزخرفة ،وأصوات شجية تأخذ من حسنها بالقلوب ومزاورة الخوان ،والتمتع بلقاء الحباب،
وأعلى من ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم وسماع كلمه ،والحظوة بقربه والسعادة
برضاه والمن من سخطه واستمرار هذا النعيم ودوامه وزيادته على ممر الوقات وتعاقب النات
{ كَانَ } دخولها والوصول إليها { عَلَى رَ ّبكَ وَعْدًا مَسْئُولًا } يسأله إياها ،عباده المتقون بلسان
حالهم ولسان مقالهم ،فأي الدارين المذكورتين خير وأولى باليثار؟ وأي :العاملين عمال دار
الشقاء أو عمال دار السعادة أولى بالفضل والعقل والفخر يا أولي اللباب؟
لقد وضح الحق واستنار السبيل فلم يبق للمفرط عذر في تركه الدليل ،فنرجوك يا من قضيت على
أقوام بالشقاء وأقوام بالسعادة أن تجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة ،ونستغيث بك اللهم من
حالة الشقياء ونسألك المعافاة منها.
حشُرُهُمْ َومَا َيعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَ َيقُولُ أَأَنْ ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َهؤُلَاءِ أَمْ ُهمْ
{ { }ْ 20 - 17وَ َيوْمَ يَ ْ
خذَ مِنْ دُو ِنكَ مِنْ َأوْلِيَا َء وََلكِنْ مَ ّتعْ َتهُ ْم وَآبَاءَهُمْ
ضَلّوا السّبِيلَ * قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ مَا كَانَ يَنْ َبغِي لَنَا أَنْ نَتّ ِ
ن صَ ْرفًا وَلَا َنصْرًا َومَنْ
حَتّى نَسُوا ال ّذكْ َر َوكَانُوا َق ْومًا بُورًا * َفقَدْ كَذّبُوكُمْ ِبمَا َتقُولُونَ َفمَا َتسْتَطِيعُو َ
طعَامَ وَ َيمْشُونَ فِي
يَظِْلمْ مِ ْنكُمْ ُن ِذقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا * َومَا أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ إِلّا إِ ّنهُمْ لَيَ ْأكُلُونَ ال ّ
ن َوكَانَ رَ ّبكَ َبصِيرًا ْ}
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ فِتْنَةً أَ َتصْبِرُو َ
جعَلْنَا َب ْع َ
سوَاقِ وَ َ
الْأَ ْ
يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة وتبريهم منهم ،وبطلن سعيهم فقال { :وَ َيوْمَ
حشُرُهُمْ } أي :المكذبين المشركين { َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَ َيقُولُ } ال مخاطبا للمعبودين
يَ ْ
على وجه التقريع لمن عبدهم { :أَأَنْ ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َهؤُلَاءِ أَمْ ُه ْم ضَلّوا السّبِيلَ } هل أمرتموهم
بعبادتكم وزينتم لهم ذلك أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟
{ قَالُوا سُبْحَا َنكَ } نزهوا ال عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك { ،مَا كَانَ يَنْ َبغِي لَنَا }
أي :ل يليق بنا ول يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتولهم ونعبدهم وندعوهم ،فإذا كنا
محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك ،فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا ل يكون
أو ،سبحانك عن { أَنْ نَتّخِذَ مِنْ دُو ِنكَ مِنْ َأوْلِيَاءَ } وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه
السلم { :وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إَِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ
سُ ْبحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِنْ كُ ْنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي وَلَا أَعْلَمُ
سكَ إِ ّنكَ أَ ْنتَ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ مَا قُ ْلتُ َل ُهمْ إِلّا مَا َأمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ }
مَا فِي َنفْ ِ
الية.
جمِيعًا ُثمّ َنقُولُ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ َأ َهؤُلَاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ أَ ْنتَ
وقال تعالى { :وَ َيوْمَ َنحْشُرُ ُهمْ َ
وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْبُدُونَ الْجِنّ َأكْثَرُهُمْ ِب ِهمْ ُم ْؤمِنُونَ } { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَاءً
َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِت ِهمْ كَافِرِينَ } فلما نزهوا أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير ال أو يكونوا أضلوهم ذكروا
السبب الموجب لضلل المشركين فقالوا { :وََلكِنْ مَ ّتعْ َتهُ ْم وَآبَاءَهُمْ } في لذات الدنيا وشهواتها
ومطالبها النفسية { ،حَتّى نَسُوا ال ّذكْرَ } اشتغال في لذات الدنيا وإكبابا على شهواتها ،فحافظوا على
دنياهم وضيعوا دينهم { َوكَانُوا َق ْومًا بُورًا } أي :بائرين ل خير فيهم ول يصلحون لصالح ل
يصلحون إل للهلك والبوار ،فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا الذي صرفهم
عن الهدى ،وعدم المقتضي للهدى وهو أنهم ل خير فيهم ،فإذا عدم المقتضي ووجد المانع فل
تشاء من شر وهلك ،إل وجدته فيهم ،فلما تبرؤوا منهم قال ال توبيخا وتقريعا للعابدين { َفقَدْ
كَذّبُوكُمْ ِبمَا َتقُولُونَ } إنهم أمروكم بعبادتهم ورضوا فعلكم ،وأنهم شفعاء لكم عند ربكم ،كذبوكم في
ذلك الزعم وصاروا من أكبر أعدائكم فحق عليكم العذابَ { ،فمَا تَسْ َتطِيعُونَ صَ ْرفًا } للعذاب عنكم
بفعلكم أو بفداء أو غير ذلك { ،وَلَا َنصْرًا } لعجزكم وعدم ناصركم .هذا حكم الضالين المقلدين
الجاهلين كما رأيت أسوأ حكم ،وأشر مصير.
وأما المعاند منهم الذي عرف الحق وصدف عنه فقال في حقهَ { :ومَنْ َيظْلِمْ مِ ْنكُمْ } بترك الحق
عذَابًا كَبِيرًا } ل يقادر قدره ول يبلغ أمره.
ظلما وعنادا { ُن ِذقْهُ َ
سوَاقِ } { َومَا
طعَامَ وَ َيمْشِي فِي الْأَ ْ
ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين { :مَالِ َهذَا الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ
سوَاقِ } فما جعلناهم جسدا ل
طعَا َم وَ َيمْشُونَ في الَْأ ْ
أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا إِ ّن ُهمْ لَيَ ْأكُلُونَ ال ّ
يأكلون الطعام وما جعلناهم ملئكة ،فلك فيهم أسوة ،وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من ال
جعَلْنَا َب ْعضَكُمْ لِ َب ْعضٍ فِتْ َنةً } الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من
تعالى كما قال { :وَ َ
العاصين والرسل فتناهم بدعوة الخلق ،والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني ،وهكذا سائر
أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والبتلء والختبار.
والقصد من تلك الفتنة { أَ َتصْبِرُونَ } فتقومون بما هو وظيفتكم اللزمة الراتبة فيثيبكم مولكم أم
ل تصبرون فتستحقون المعاقبة؟
{ َوكَانَ رَ ّبكَ َبصِيرًا } يعلم أحوالكم ،ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم
أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر.
ن لِقَا َءنَا َلوْلَا ُأ ْنزِلَ عََل ْينَا ا ْلمَلَائِكَ ُة َأوْ َنرَى َر ّبنَا َل َقدِ
{ َ { } 23 - 21وقَالَ اّلذِينَ لَا َي ْرجُو َ
ج ِرمِينَ
شرَى يَ ْو َم ِئذٍ لِ ْل ُم ْ
عُتوّا َكبِيرًا * يَ ْو َم يَرَ ْونَ ا ْلمَلَا ِئكَ َة لَا ُب ْ
عتَوْا ُ
س ِهمْ وَ َ
س َتكْ َبرُوا فِي َأنْ ُف ِ
اْ
ل َفجَعَ ْلنَا ُه َهبَاءً َم ْنثُورًا }
عمَ ٍ
عمِلُوا مِنْ َ
حجُورًا * َو َقدِ ْمنَا إِلَى مَا َ
جرًا َم ْ
حَْويَقُولُونَ ِ
أي :قال المكذبون للرسول المكذبون بوعد ال ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ول
رجاء لقاء الخالق.
{ َلوْلَا ُأ ْنزِلَ عََل ْينَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ َنرَى َر ّبنَا } أي :هل نزلت الملئكة تشهد لك بالرسالة وتؤيدك
عليها أو تنزل رسل مستقلين ،أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول :هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا
معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلو والعتو.
سهِمْ } حيث اقترحوا هذا القتراح وتجرأوا هذه الجرأة ،فمن أنتم يا فقراء
س َت ْكبَرُوا فِي َأ ْن ُف ِ
{ َل َقدِ ا ْ
ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية ال وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر
أعظم من هذا؟.
عتُوّا َكبِيرًا } أي :قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة ،فقلوبهم أشد من الحجار
ع َتوْا ُ
{ وَ َ
وأصلب من الحديد ل تلين للحق ،ول تصغى للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ول تذكير
ول اتبعوا الحق حين جاءهم النذير ،بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات ال البينات
بالعراض والتكذيب والمعارضة ،فأي عتو أكبر من هذا العتو؟" ولذلك بطلت أعمالهم
واضمحلت ،وخسروا أشد الخسران ،وحرموا غاية الحرمان.
ن َأقْطَارِ
طعْ ُتمْ َأنْ َتنْ ُفذُوا مِ ْ
س َت َ
حجُورًا } { يَا َم ْعشَ َر ا ْلجِنّ وَا ْلِإنْسِ ِإنِ ا ْ
جرًا َم ْ
حْن ِ
{ َويَقُولُو َ
ن إِلّا ِبسُ ْلطَانٍ }
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ فَانْ ُفذُوا لَا َتنْ ُفذُو َ
ال ّ
حسَنُ مَقِيلًا }
خ ْيرٌ ُمسْتَ َقرّا وََأ ْ
جنّةِ َي ْو َم ِئذٍ َ
ب ا ْل َ
صحَا ُ
{ َ { } 24أ ْ
يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب ،ومزعجات القلوب فقال:
سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ } وذلك الغمام الذي ينزل ال فيه ،ينزل من فوق السماوات
{ َويَ ْومَ َتشَ ّققُ ال ّ
فتنفطر له السماوات وتشقق وتنزل ملئكة كل سماء فيقفون صفا صفا ،إما صفا واحدا محيطا
بالخلئق ،وإما كل سماء يكونون صفا ثم السماء التي تليها صفا وهكذا.
القصد أن الملئكة -على كثرتهم وقوتهم -ينزلون محيطين بالخلق مذعنين لمر ربهم ل يتكلم
منهم أحد إل بإذن من ال ،فما ظنك بالدمي الضعيف خصوصا الذي بارز مالكه بالعظائم،
وأقدم على مساخطه ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم يتب منها ،فيحكم فيه الملك الحق بالحكم
عسِيرًا } لصعوبته
الذي ل يجور ول يظلم مثقال ذرة ولهذا قالَ { :وكَانَ َي ْومًا عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ َ
الشديدة وتعسر أموره عليه ،بخلف المؤمن فإنه يسير عليه خفيف الحمل.
ج َهنّمَ ِو ْردًا }
ن إِلَى َ
ق ا ْل ُمجْ ِرمِي َ
حمَنِ َو ْفدًا َو َنسُو ُ
حشُرُ ا ْل ُمتّقِينَ إِلَى ال ّر ْ
{ َي ْومَ َن ْ
ض الظّالِ ُم } بشركه وكفره وتكذيبه للرسل { عَلَى َي َديْهِ } تأسفا وتحسرا وحزنا
{ َويَ ْومَ َيعَ ّ
سبِيلًا } أي طريقا باليمان به وتصديقه واتباعه.
ل َ
ت مَعَ ال ّرسُو ِ
ل يَا َل ْي َتنِي ا ّتخَذْ ُ
وأسفا { .يَقُو ُ
خذْ فُلَانًا } وهو الشيطان النسي أو الجني { ،خَلِيلًا } أي :حبيبا مصافيا
{ يَا َويَْلتَى َل ْي َتنِي َلمْ َأ ّت ِ
عاديت أنصح الناس لي ،وأبرهم بي وأرفقهم بي ،وواليت أعدى عدو لي الذي لم تفدني وليته
إل الشقاء والخسار والخزي والبوار.
ن ال ّذ ْكرِ َب ْعدَ ِإذْ جَا َءنِي } حيث زين له ما هو عليه من الضلل بخدعه
{ َل َقدْ َأضَّلنِي عَ ِ
خذُولًا } يزين له الباطل ويقبح له الحق ،ويعده الماني ثم
ن لِ ْلِإ ْنسَانِ َ
ش ْيطَا ُ
ن ال ّ
وتسويلهَ { .وكَا َ
يتخلى عنه ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي المر ،وفرغ ال من حساب الخلق
ن لِي
ع ْدتُ ُكمْ َفَأخْلَ ْف ُتكُمْ َومَا كَا َ
حقّ وَ َو َ
عدَ ا ْل َ
ع َد ُكمْ َو ْ
ن اللّهَ وَ َ
ضيَ ا ْلَأ ْمرُ إِ ّ
ن َلمّا قُ ِ
شيْطَا ُ
{ َوقَالَ ال ّ
خكُمْ َومَا
ص ِر ِ
س ُكمْ مَا َأنَا ِبمُ ْ
ج ْبتُ ْم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا َأنْ ُف َ
س َت َ
ن إِلّا َأنْ َدعَ ْو ُت ُكمْ فَا ْ
ن سُ ْلطَا ٍ
عََل ْي ُكمْ مِ ْ
ش َركْ ُتمُونِ ِمنْ َقبْلُ } الية .فلينظر العبد لنفسه وقت المكان
ص ِرخِيّ ِإنّي كَ َفرْتُ ِبمَا َأ ْ
َأ ْن ُتمْ ِبمُ ْ
وليتدارك الممكن قبل أن ل يمكن ،وليوال من وليته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته
وتضره صداقته .وال الموفق.
جعَ ْلنَا
ن َم ْهجُورًا * َو َكذَِلكَ َ
خذُوا َهذَا الْ ُقرْآ َ
ن قَ ْومِي ا ّت َ
ب إِ ّ
{ َ { } 31 - 30وقَالَ ال ّرسُولُ يَا رَ ّ
ج ِرمِينَ َوكَفَى ِب َر ّبكَ هَا ِديًا َو َنصِيرًا }
عدُوّا ِمنَ ا ْل ُم ْ
ِلكُلّ َن ِبيّ َ
{ َوقَالَ ال ّرسُولُ } مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به ،ومتأسفا على ذلك منهم{ :
ن َم ْهجُورًا } أي :قد
خذُوا َهذَا الْ ُقرْآ َ
يَا رَبّ ِإنّ قَ ْومِي } الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم { ،ا ّت َ
أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم النقياد لحكمه والقبال على أحكامه،
والمشي خلفه ،قال ال مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤلء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم
ن } أي :من الذين ل يصلحون للخير ول
ن ا ْل ُمجْ ِرمِي َ
عدُوّا مِ َ
ل َن ِبيّ َ
جعَ ْلنَا ِلكُ ّ
فقالَ { :و َكذَِلكَ َ
يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما لن
معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلل وأن يتبين ما يفعل ال بأهل
الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة ،فل تحزن عليهم ول تذهب نفسك عليهم حسرات
{ َوكَفَى ِب َر ّبكَ هَا ِديًا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياكَ { .و َنصِيرًا }
ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه.
ت بِ ِه فُؤَا َدكَ
حدَةً َكذَِلكَ ِل ُن َثبّ َ
جمَْلةً وَا ِ
{ َ { } 33 - 32وقَالَ اّلذِينَ كَ َفرُوا َلوْلَا ُنزّلَ عََليْهِ ا ْل ُقرْآنُ ُ
َو َرتّ ْلنَاهُ َت ْرتِيلًا *
} ن تَ ْفسِيرًا
حسَ َ
حقّ وََأ ْ
ج ْئنَاكَ بِا ْل َ
وَلَا َي ْأتُو َنكَ ِب َمثَلٍ إِلّا ِ
جمْلَةً
هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا { :لَوْلَا ُنزّلَ عََل ْيهِ الْ ُقرْآنُ ُ
حدَ ًة } أي :كما أنزلت الكتب قبله ،وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على
وَا ِ
ك } لنه كلما
ت بِهِ فُؤَا َد َ
هذا الوجه أكمل وأحسن ،ولهذا قالَ { :كذَِلكَ } أنزلناه متفرقا { ِل ُن َثبّ َ
نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول
القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازل قبل ذلك ثم
تذكره عند حلول سببه.
{ َو َرتّ ْلنَا ُه َت ْرتِيلًا } أي :مهلناه ودرجناك فيه تدريجا .وهذا كله يدل على اعتناء ال بكتابه
القرآن وبرسوله محمد صلى ال عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول
ومصالحه الدينية.
حقّ
ج ْئنَاكَ بِا ْل َ
ل } يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك { ،إِلّا ِ
ولهذا قال { :وَلَا َي ْأتُو َنكَ ِب َمثَ ٍ
ن تَ ْفسِيرًا } أي :أنزلنا عليك قرآنا جامعا للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في
حسَ َ
وََأ ْ
ألفاظه ،فمعانيه كلها حق وصدق ل يشوبها باطل ول شبهة بوجه من الوجوه ،وألفاظه وحدوده
للشياء أوضح ألفاظا وأحسن تفسيرا مبين للمعاني بيانا كامل.
وفي هذه الية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث ومعلم ،وواعظ أن يقتدي بربه
في تدبيره حال رسوله ،كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما حدث موجب أو حصل موسم ،أتى
بما يناسب ذلك من اليات القرآنية والحاديث النبوية والمواعظ الموافقة لذلك.
وفيه رد على المتكلفين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيرا من نصوص القرآن محمولة
على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها ،فإذا -على قولهم -ل يكون القرآن أحسن
تفسيرا من غيره ،وإنما التفسير الحسن -على زعمهم -تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني
تحريفا.
سبِيلًا }
شرّ َمكَانًا وََأضَلّ َ
ج َهنّمَ أُوَل ِئكَ َ
شرُونَ عَلَى ُوجُو ِه ِهمْ إِلَى َ
حَ{ { } 34اّلذِينَ ُي ْ
حشَرُونَ عَلَى
يخبر تعالى عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله وسوء مآلهم ،وأنهم { ُي ْ
ج َه ّنمَ } الجامعة
ُوجُو ِه ِهمْ } أشنع مرأى ،وأفظع منظر تسحبهم ملئكة العذاب ويجرونهم { إِلَى َ
شرّ َمكَانًا } ممن آمن بال وصدق رسله،
لكل عذاب وعقوبة { .أُوَل ِئكَ } الذين بهذه الحالة { َ
سبِيلًا } وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف الخر منه شيء
{ وََأضَلّ َ
فإن المؤمنين حسن مكانهم ومستقرهم ،واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي الخرة
إلى الوصول إلى جنات النعيم.
جعَ ْلنَا َم َعهُ َأخَا ُه هَارُونَ َوزِيرًا * فَقُ ْلنَا اذْ َهبَا إِلَى
{ { } 40 - 35وَلَ َقدْ آ َت ْينَا مُوسَى ا ْل ِكتَابَ َو َ
جعَ ْلنَا ُهمْ
غ َر ْقنَا ُهمْ َو َ
ح َلمّا َك ّذبُوا ال ّرسُلَ أَ ْ
الْقَ ْو ِم اّلذِينَ َك ّذبُوا بِآيَا ِتنَا َف َدمّ ْرنَا ُهمْ َت ْدمِيرًا * َوقَ ْومَ نُو ٍ
ن ذَِلكَ َكثِيرًا
صحَابَ الرّسّ َوقُرُونًا َبيْ َ
عذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا َو َثمُودَ وََأ ْ
ع َت ْدنَا لِلظّاِلمِينَ َ
لِلنّاسِ آيَ ًة وَأَ ْ
ت َمطَرَ السّ ْوءِ
ض َر ْبنَا لَ ُه ا ْلَأ ْمثَالَ َوكُلّا َتّب ْرنَا َت ْتبِيرًا * وَلَ َق ْد َأتَوْا عَلَى الْ َق ْريَ ِة اّلتِي ُأ ْمطِرَ ْ
* َوكُلّا َ
ن ُنشُورًا }
َأفَلَمْ َيكُونُوا يَرَ ْو َنهَا بَلْ كَانُوا لَا َي ْرجُو َ
أشار تعالى إلى هذه القصص وقد بسطها في آيات أخر ليحذر المخاطبين من استمرارهم على
تكذيب رسولهم فيصيبهم ما أصاب هؤلء المم الذين قريبا منهم ويعرفون قصصهم بما
استفاض واشتهر عنهم.
ومنهم من يرون آثارهم عيانا كقوم صالح في الحجر وكالقرية التي أمطرت مطر السوء
بحجارة من سجيل يمرون عليهم مصبحين وبالليل في أسفارهم ،فإن أولئك المم ليسوا شرا
ن أُوَل ِئكُمْ َأ ْم َل ُكمْ َبرَاءَ ٌة فِي ال ّز ُبرِ }
خ ْيرٌ مِ ْ
منهم ورسلهم ليسوا خيرا من رسول هؤلء { َأكُفّا ُركُمْ َ
ولكن الذي منع هؤلء من اليمان -مع ما شاهدوا من اليات -أنهم كانوا ل يرجون بعثا ول
نشورا ،فل يرجون لقاء ربهم ول يخشون نكاله فلذلك استمروا على عنادهم ،وإل فقد جاءهم
من اليات ما ل يبقي معه شك ول شبهة ول إشكال ول ارتياب.
ن كَادَ
ك إِلّا ُهزُوًا أَ َهذَا اّلذِي َبعَثَ اللّ ُه رَسُولًا * إِ ْ
ن َي ّتخِذُو َن َ
ك إِ ْ
{ { } 44 - 41وَِإذَا رَأَ ْو َ
سبِيلًا *
ن َأضَلّ َ
ن ا ْل َعذَابَ مَ ْ
ن َيرَوْ َ
صبَ ْرنَا عََل ْيهَا َوسَ ْوفَ َيعَْلمُونَ حِي َ
ن َ
ن آِل َه ِتنَا لَوْلَا أَ ْ
َل ُيضِلّنَا عَ ْ
ن أَ ْو َيعْقِلُونَ
س َمعُو َ
ن َأ ْكثَرَ ُهمْ َي ْ
ب أَ ّ
حسَ ُ
خذَ إَِلهَ ُه هَوَاهُ َأ َفَأنْتَ َتكُونُ عََليْهِ َوكِيلًا * َأمْ َت ْ
ن ا ّت َ
َأرََأيْتَ مَ ِ
} سبِيلًا
ل َ
ن ُهمْ إِلّا كَا ْلَأ ْنعَامِ بَلْ ُهمْ َأضَ ّ
إِ ْ
أي :وإذا رآك يا محمد هؤلء المكذبون لك المعاندون ليات [ال] المستكبرون في الرض
استهزءوا بك واحتقروك وقالوا -على وجه الحتقار والستصغار { -أَ َهذَا اّلذِي َبعَثَ اللّهُ
رَسُولًا } أي :غير مناسب ول لئق أن يبعث ال هذا الرجل ،وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم
وقلبهم الحقائق فإن كلمهم هذا يفهم أن الرسول -حاشاه -في غاية الخسة والحقارة وأنه لو
كانت الرسالة لغيره لكان أنسب.
والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول ولهذا
عنْ آِل َه ِتنَا } بأن يجعل اللهة إلها واحدا { لَوْلَا أَنْ
ن كَادَ } هذا الرجل { َل ُيضِّلنَا َ
قالوا { :إِ ْ
صبَ ْرنَا عََل ْيهَا } لضلنا زعموا -قبحهم ال -أن الضلل هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من
َ
ص ِبرُوا عَلَى آِل َه ِت ُكمْ }
الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه { .وَا ْنطَلَقَ ا ْلمََلُأ ِم ْنهُمْ َأنِ ا ْمشُوا وَا ْ
صبَ ْرنَا عََل ْيهَا } والصبر يحمد في المواضع كلها ،إل في هذا الموضع
ن َ
وهنا قالوا { :لَوْلَا أَ ْ
فإنه صبر على أسباب الغضب وعلى الستكثار من حطب جهنم .وأما المؤمنون فهم كما قال
ص ْبرِ } ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون
ال عنهمَ { :وتَوَاصَوْا بِا ْلحَقّ َوتَوَاصَوْا بِال ّ
والرسول ضال وقد تقرر أنهم ل حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت { حِينَ
سبِيلًا } { َو َي ْومَ َيعَضّ الظّاِلمُ عَلَى َي َديْهِ
ن } هو { َأضَلّ َ
ن ا ْل َعذَابَ } يعلمون علما حقيقيا { مَ ْ
َيرَوْ َ
سبِيلًا } اليات.
ل َ
خذْتُ مَ َع الرّسُو ِ
ل يَا َل ْي َتنِي ا ّت َ
يَقُو ُ
خذَ إَِلهَهُ
ن ا ّت َ
وهل فوق ضلل من جعل إلهه معبوده [هواه] فما هويه فعله فلهذا قالَ { :أرََأيْتَ مَ ِ
هَوَاهُ } أل تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضلل؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟
{ َأ َفَأنْتَ َتكُونُ عََليْهِ َوكِيلًا } أي :لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر ،وقد قمت
بوظيفتك وحسابه على ال.
ثم سجل تعالى على ضللهم البليغ بأن سلبهم العقول والسماع وشبههم في ضللهم بالنعام
السائمة التي ل تسمع إل دعاء ونداء ،صم بكم عمي فهم ل يعقلون بل هم أضل من النعام
لن النعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هلكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من
هؤلء ،فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضلل أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو
أهدى منه.
شمْسَ عََليْهِ
جعَ ْلنَا ال ّ
جعَلَ ُه سَا ِكنًا ُثمّ َ
{ { } 46 - 45أََل ْم تَ َر إِلَى َر ّبكَ َكيْفَ َم ّد الظّلّ وََلوْ شَا َء َل َ
ضنَاهُ إَِل ْينَا َق ْبضًا َيسِيرًا }
دَلِيلًا * ُثمّ َقبَ ْ
أي :ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته ،أنه مد على العباد الظل
شمْسَ عََليْ ِه } أي :على الظل { دَلِيلًا } فلول وجود
جعَ ْلنَا ال ّ
وذلك قبل طلوع الشمس { ُثمّ َ
الشمس لما عرف الظل فإن الضد يعرف بضده.
ضنَا ُه إَِل ْينَا َقبْضًا َيسِيرًا } فكلما ارتفعت الشمس تقلص الظل شيئا فشيئا ،حتى يذهب
{ ُثمّ َق َب ْ
بالكلية فتوالي الظل والشمس على الخلق الذي يشاهدونه عيانا وما يترتب على ذلك من
اختلف الليل والنهار وتعاقبهما وتعاقب الفصول ،وحصول المصالح الكثيرة بسبب ذلك -من
أدل دليل على قدرة ال وعظمته وكمال رحمته وعنايته بعباده وأنه وحده المعبود المحمود
المحبوب المعظم ،ذو الجلل والكرام.
ل ال ّنهَارَ ُنشُورًا }
جعَ َ
سبَاتًا َو َ
ل َل ُكمُ الّليْلَ ِلبَاسًا وَالنّ ْومَ ُ
جعَ َ
{ { } 47وَ ُهوَ اّلذِي َ
أي :من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم ،حتى تستقروا فيه
وتهدؤوا بالنوم وتسبت حركاتكم أي :تنقطع عند النوم ،فلول الليل لما سكن العباد ول استمروا
في تصرفهم فضرهم ذلك غاية الضرر ،ولو استمر أيضا الظلم لتعطلت عليهم معايشهم
ومصالحهم ،ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم فيقوم بذلك
ما يقوم من المصالح.
سمَاءِ مَاءً
ح َمتِهِ وََأ ْنزَلْنَا ِمنَ ال ّ
{ { } 50 - 48وَهُ َو اّلذِي َأ ْرسَلَ ال ّريَاحَ ُبشْرًا َب ْينَ َي َديْ َر ْ
صرّ ْفنَا ُه َب ْينَ ُهمْ
ي بِهِ بَ ْل َدةً َم ْيتًا َو ُنسْ ِقيَهُ ِممّا خَلَ ْقنَا َأ ْنعَامًا وََأنَاسِيّ َكثِيرًا * وَلَ َقدْ َ
حيِ َ
طهُورًا * ِل ُن ْ
َ
ِل َي ّذكّرُوا َفأَبَى َأ ْك َثرُ النّاسِ إِلّا كُفُورًا }
أي :هو وحده الذي رحم عباده وأدر عليهم رزقه بأن أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته
وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته بإذن آمرها والمتصرف فيها
ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة.
ولما ذكر تعالى هذه اليات العيانية المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه ويشكروه ويذكروه مع
ذلك أبي أكثر الخلق إل كفورا ،لفساد أخلقهم وطبائعهم.
جهَادًا
ل قَ ْريَ ٍة َنذِيرًا * فَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِينَ َوجَا ِهدْ ُهمْ بِ ِه ِ
ش ْئنَا َل َب َعثْنَا فِي كُ ّ
{ { } 52 - 51وَلَ ْو ِ
َكبِيرًا }
يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا ،أي :رسول ينذرهم
ويحذرهم فمشيئته غير قاصرة عن ذلك ،ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد -يا
محمد -أن أرسلك إلى جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم.
أي :وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان البحر العذب وهي النهار السارحة على وجه
ل َب ْينَ ُهمَا َب ْر َزخًا }
جعَ َ
الرض والبحر الملح وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعبادَ { ،و َ
جرًا
حْأي :حاجزا يحجز من اختلط أحدهما بالخر فتذهب المنفعة المقصودة منها { َو ِ
حجُورًا } أي :حاجزا حصينا.
َم ْ
ن رَ ّبكَ َقدِيرًا }
صهْرًا َوكَا َ
جعَلَ ُه َنسَبًا َو ِ
{ { } 54وَ ُهوَ اّلذِي خََلقَ ِمنَ ا ْلمَا ِء َبشَرًا َف َ
أي :وهو ال وحده ل شريك له الذي خلق الدمي من ماء مهين ،ثم نشر منه ذرية كثيرة
وجعلهم أنسابا وأصهارا متفرقين ومجتمعين ،والمادة كلها من ذلك الماء المهين ،فهذا يدل على
كمال اقتداره لقولهَ { :وكَانَ َر ّبكَ َقدِيرًا } ويدل على أن عبادته هي الحق وعبادة غيره باطلة
لقوله:
ظهِيرًا }
ن ا ْلكَافِرُ عَلَى َربّهِ َ
ضرّ ُهمْ َوكَا َ
ن دُونِ اللّهِ مَا لَا َينْ َف ُع ُهمْ وَلَا يَ ُ
ن مِ ْ
{ َ { } 55و َي ْع ُبدُو َ
أي :يعبدون أصناما وأمواتا ل تضر ول تنفع ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر والعطاء
والمنع مع أن الواجب عليهم أن يكونوا مقتدين بإرشادات ربهم ذابين عن دينه ،ولكنهم عكسوا
القضية.
ن شَاءَ َأنْ
ن َأجْ ٍر إِلّا مَ ْ
سأَُلكُمْ عََليْ ِه مِ ْ
ل مَا َأ ْ
{ َ { } 60 - 56ومَا َأ ْرسَ ْلنَاكَ إِلّا ُم َبشّرًا َو َنذِيرًا * قُ ْ
عبَادِهِ
ح ْمدِهِ َوكَفَى بِ ِه ِبذُنُوبِ ِ
سبّحْ ِب َ
حيّ اّلذِي لَا َيمُوتُ َو َ
سبِيلًا * َوتَ َوكّلْ عَلَى ا ْل َ
َي ّتخِ َذ إِلَى َربّهِ َ
حمَنُ
ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ ال ّر ْ
ستّةِ َأيّامٍ ُثمّ ا ْ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ َومَا َب ْي َن ُهمَا فِي ِ
خبِيرًا * اّلذِي خََلقَ ال ّ
َ
سجُدُ ِلمَا َت ْأمُ ُرنَا َوزَادَ ُهمْ
ن َأ َن ْ
حمَ ُ
حمَنِ قَالُوا َومَا ال ّر ْ
سجُدُوا لِل ّر ْ
ل َل ُهمُ ا ْ
خبِيرًا * وَِإذَا قِي َ
سأَلْ ِبهِ َ
فَا ْ
نُفُورًا }
يخبر تعالى :أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم مسيطرا على الخلق ول جعله
ملكا ول عنده خزائن الشياء ،وإنما أرسله { ُم َبشّرًا } يبشر من أطاع ال بالثواب العاجل
والجلَ { ،و َنذِيرًا } ينذر من عصى ال بالعقاب العاجل والجل وذلك مستلزم لتبيين ما به
البشارة وما تحصل به النذارة من الوامر والنواهي ،وإنك -يا محمد -ل تسألهم على إبلغهم
خذَ
ن َي ّت ِ
ن شَاءَ أَ ْ
القرآن والهدى أجرا حتى يمنعهم ذلك من اتباعك ويتكلفون من الغرامة { ،إِلّا مَ ْ
سبِيلًا } أي :إل من شاء أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإن رغبتكم فيه
إِلَى َربّهِ َ
فلست أجبركم عليه وليس أيضا أجرا لي عليكم وإنما هو راجع لمصلحتكم وسلوككم للسبيل
حيّ } الذي له
الموصلة إلى ربكم ،ثم أمره أن يتوكل عليه ويستعين به فقالَ { :و َت َوكّلْ عَلَى ا ْل َ
حمْدِ ِه } أي :اعبده وتوكل عليه في المور
ح ِب َ
سبّ ْ
الحياة الكاملة المطلقة { اّلذِي لَا َيمُوتُ َو َ
خبِيرًا } يعلمها ويجازي عليها.
عبَادِهِ َ
المتعلقة بك والمتعلقة بالخلقَ { .وكَفَى بِ ِه ِبذُنُوبِ ِ
فأنت ليس عليك من هداهم شيء وليس عليك حفظ أعمالهم ،وإنما ذلك كله بيد ال { اّلذِي خََلقَ
ستَوَى } بعد ذلك { عَلَى ا ْل َعرْشِ } الذي هو
ستّ ِة َأيّامٍ ُثمّ ا ْ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ َومَا َب ْي َنهُمَا فِي ِ
ال ّ
حمَنِ } استوى على عرشه الذي وسع
سقف المخلوقات وأعلها وأوسعها وأجملها { ال ّر ْ
السماوات والرض باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع
المخلوقات ،بأوسع الصفات .فأثبت بهذه الية خلقه للمخلوقات واطلعه على ظاهرهم وباطنهم
وعلوه فوق العرش ومباينته إياهم.
خبِيرًا } يعني بذلك نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلله ،وقد
سأَلْ بِ ِه َ
{ فَا ْ
أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا
جدُوا
سُلجلله ،واستكبر عن عبادته الكافرون واستنكفوا عن ذلك ولهذا قال { :وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ْ
ن } أي :وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم { .قَالُوا } جحدا
لِل ّرحْمَ ِ
ن } بزعمهم الفاسد أنهم ل يعرفون الرحمن ،وجعلوا من جملة قوادحهم في
حمَ ُ
وكفرا { َومَا الرّ ْ
الرسول أن قالوا :ينهانا عن اتخاذ آلهة مع ال وهو يدعو معه إلها آخر يقول " :يا رحمن "
سنَى
حْسمَاءُ ا ْل ُ
ن َأيّا مَا َتدْعُوا فَلَ ُه ا ْلَأ ْ
ونحو ذلك كما قال تعالى { :قُلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ا ْدعُوا ال ّرحْمَ َ
} فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله ،فكل واحد منها دل على صفة كمال.
جدُ ِلمَا َت ْأ ُم ُرنَا } أي :لمجرد أمرك إيانا .وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول
سُ{ َأ َن ْ
واستكبارهم عن طاعتهَ { ،وزَادَ ُهمْ } دعوتهم إلى السجود للرحمن { نُفُورًا } هربا من الحق
إلى الباطل وزيادة كفر وشقاء.
جعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } فيه النور والحرارة وهو الشمسَ { .و َق َمرًا ُمنِيرًا } فيه النور ل الحرارة
{ َو َ
وهذا من أدلة عظمته ،وكثرة إحسانه ،فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال
العظيم دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها ،وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل
على كثرة خيراته.
جعَلَ الّليْلَ وَال ّنهَارَ خِلْفَ ًة } أي :يذهب أحدهما فيخلفه الخر ،هكذا أبدا ل يجتمعان
{ وَهُ َو اّلذِي َ
شكُورًا } أي :لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر
ن َيذّ ّكرَ َأوْ َأرَادَ ُ
ن َأرَا َد أَ ْ
ول يرتفعانِ { ،لمَ ْ
ويستدل بهما على كثير من المطالب اللهية ويشكر ال على ذلك ،ولمن أراد أن يذكر ال
ويشكره وله ورد من الليل أو النهار ،فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في الخر ،وأيضا فإن
القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة
والقبض والبسط والقبال والعراض ،فجعل ال الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران
ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر ل في وقت آخر ،ولن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل
والنهار ،فكما تكررت الوقات أحدث للعبد همة غير همته التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد
في تذكرها وشكرها ،فوظائف الطاعات بمنزلة سقي اليمان الذي يمده فلول ذلك لذوى غرس
اليمان ويبس .فلله أتم حمد وأكمله على ذلك.
ثم ذكر من جملة كثرة خيره منته على عباده الصالحين وتوفيقهم للعمال الصالحات التي
أكسبتهم المنازل العاليات في غرف الجنات فقال:
ن قَالُوا
ط َبهُ ُم ا ْلجَاهِلُو َ
ض هَ ْونًا وَِإذَا خَا َ
ن َي ْمشُونَ عَلَى ا ْلأَرْ ِ
حمَنِ اّلذِي َ
عبَادُ ال ّر ْ
{ { } 77 - 63وَ ِ
ج َه ّنمَ إِنّ
عذَابَ َ
عنّا َ
ص ِرفْ َ
ن َر ّبنَا ا ْ
ن يَقُولُو َ
جدًا َو ِقيَامًا * وَاّلذِي َ
سّن َيبِيتُونَ ِل َر ّب ِهمْ ُ
سَلَامًا * وَاّلذِي َ
إلى آخر السورة الكريمة. ستَ َقرّا َومُقَامًا }
غرَامًا * ِإ ّنهَا سَاءَتْ ُم ْ
عذَا َبهَا كَانَ َ
َ
العبودية ل نوعان :عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم ،برهم
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ إِلّا آتِي
ن كُلّ َمنْ فِي ال ّ
وفاجرهم ،فكلهم عبيد ل مربوبون مدبرون { إِ ْ
ع ْبدًا } وعبودية للوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد
ال ّرحْمَنِ َ
هنا ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب
رحمته ،فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت ،فوصفهم بأنهم { َي ْمشُونَ عَلَى
ا ْلَأرْضِ هَ ْونًا } أي :ساكنين متواضعين ل والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع
ن } أي :خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا
ط َب ُهمُ ا ْلجَاهِلُو َ
ل ولعباده { .وَِإذَا خَا َ
الوصف { ،قَالُوا سَلَامًا } أي :خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الثم ويسلمون من مقابلة
الجاهل بجهله .وهذا مدح لهم ،بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالحسان والعفو عن الجاهل
ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.
سجّدًا َو ِقيَامًا } أي :يكثرون من صلة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين
{ وَاّلذِينَ َيبِيتُونَ ِل َر ّب ِهمْ ُ
ط َمعًا َو ِممّا َر َزقْنَا ُهمْ
خ ْوفًا َو َ
ن َر ّبهُمْ َ
ن ا ْل َمضَاجِعِ َيدْعُو َ
جنُو ُبهُمْ عَ ِ
له كما قال تعالىَ { :ت َتجَافَى ُ
ن}
جزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُو َ
ن َ
عيُ ٍ
س مَا ُأخْ ِفيَ َل ُه ْم مِنْ ُقرّ ِة أَ ْ
ُينْفِقُونَ فَلَا َتعَْلمُ نَفْ ٌ
ستَ َقرّا َومُقَامًا } وهذا منهم على وجه التضرع لربهم ،وبيان شدة حاجتهم إليه
ت ُم ْ
{ ِإ ّنهَا سَاءَ ْ
وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب ،وليتذكروا منة ال عليهم ،فإن صرف الشدة بحسب
شدتها وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها.
ح ّرمَ اللّهُ } وهي نفس المسلم والكافر المعاهد { ،إِلّا بِا ْلحَقّ } كقتل
ن النّفْسَ اّلتِي َ
{ وَلَا يَ ْقتُلُو َ
النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله.
ن يَ ْفعَلْ ذَِلكَ
ت َأ ْيمَا ُن ُهمْ } { َومَ ْ
ج ِهمْ أ ْو مَا مََلكَ ْ
ن } بل يحفظون فروجهم { إِلّا عَلَى َأزْوَا ِ
{ وَلَا َي ْزنُو َ
} أي :الشرك بال أو قتل النفس التي حرم ال بغير حق أو الزنا فسوف { يَ ْلقَ َأثَامًا } ثم فسره
عفْ َلهُ ا ْل َعذَابُ َي ْومَ الْ ِقيَامَةِ َو َيخُْلدْ فِي ِه } أي :في العذاب { ُمهَانًا } فالوعيد بالخلود
بقولهُ { :يضَا َ
لمن فعلها كلها ثابت ل شك فيه وكذا لمن أشرك بال ،وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل
واحد من هذه الثلثة لكونها إما شرك وإما من أكبر الكبائر.
وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه ل يتناوله الخلود لنه قد دلت النصوص القرآنية
والسنة النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ول يخلد فيها مؤمن ولو فعل من
المعاصي ما فعل ،ونص تعالى على هذه الثلثة لنها من أكبر الكبائر :فالشرك فيه فساد
الديان ،والقتل فيه فساد البدان والزنا فيه فساد العراض.
ن تَابَ } عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من
{ إِلّا مَ ْ
ن } بال إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي
فعلها وعزم عزما جازما أن ل يعود { ،وَآمَ َ
عمَلًا صَاِلحًا } مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه ال.
عمِلَ َ
وفعل الطاعات { وَ َ
وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه ال ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة
حسنة فقال : :يا رب إن لي سيئات ل أراها هاهنا " وال أعلم.
{ َوكَانَ اللّهُ غَفُورًا } لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة { َرحِيمًا } بعباده حيث دعاهم إلى التوبة
بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم.
عمِلَ صَاِلحًا َفِإنّهُ َيتُوبُ إِلَى اللّ ِه َمتَابًا } أي :فليعلم أن توبته في غاية الكمال لنها
ن تَابَ وَ َ
{ َومَ ْ
رجوع إلى الطريق الموصل إلى ال الذي هو عين سعادة العبد وفلحه فليخلص فيها
وليخلصها من شوائب الغراض الفاسدة ،فالمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة وإيقاعها
على أفضل الوجوه وأجلها ليقدم على من تاب إليه فيوفيه أجره بحسب كمالها.
شهَدُونَ الزّو َر } أي :ل يحضرون الزور أي :القول والفعل المحرم ،فيجتنبون
{ وَاّلذِينَ لَا َي ْ
جميع المجالس المشتملة على القوال المحرمة أو الفعال المحرمة ،كالخوض في آيات ال
والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر
وفرش الحرير ،والصور ونحو ذلك ،وإذا كانوا ل يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن
ل يقولوه ويفعلوه.
وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الية بالولوية { ،وَِإذَا َمرّوا بِالّلغْ ِو } وهو
الكلم الذي ل خير فيه ول فيه فائدة دينية ول دنيوية ككلم السفهاء ونحوهم { َمرّوا ِكرَامًا }
أي :نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإن كان ل إثم فيه فإنه
سفه ونقص للنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه.
وفي قوله { :وَِإذَا َمرّوا بِالّلغْ ِو } إشارة إلى أنهم ل يقصدون حضوره ول سماعه ،ولكن عند
المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه.
صمّا
{ وَاّلذِينَ ِإذَا ُذكّرُوا بِآيَاتِ َر ّبهِ ْم } التي أمرهم باستماعها والهتداء بهاَ { ،ل ْم َيخِرّوا عََل ْيهَا ُ
ع ْميَانًا } أي لم يقابلوها بالعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها
َو ُ
كما يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق ،وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالىِ { :إ ّنمَا
س َت ْكبِرُونَ } يقابلونها
ح ْمدِ َربّ ِهمْ وَ ُهمْ لَا َي ْ
س ّبحُوا ِب َ
جدًا َو َ
سّن ِإذَا ُذ ّكرُوا ِبهَا خَرّوا ُ
ن بِآيَاتِنَا اّلذِي َ
يُ ْؤمِ ُ
بالقبول والفتقار إليها والنقياد والتسليم لها ،وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها
إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا.
وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم ل تقر أعينهم حتى يروهم
مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لزواجهم وذرياتهم في صلحهم فإنه دعاء
ب َلنَا } بل دعاؤهم يعود
لنفسهم لن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا { :هَ ْ
إلى نفع عموم المسلمين لن بصلح من ذكر يكون سببا لصلح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع
بهم.
جعَ ْلنَا لِ ْل ُمتّقِينَ ِإمَامًا } أي :أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية ،درجة الصديقين والكمل
{ وَا ْ
من عباد ال الصالحين وهي درجة المامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم
وأفعالهم يقتدى بأفعالهم ،ويطمئن لقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون.
ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما ل يتم إل به ،وهذه الدرجة -درجة المامة في
ص َبرُوا
ن ِبَأمْ ِرنَا َلمّا َ
جعَ ْلنَاهم َأ ِئمّ ًة َي ْهدُو َ
الدين -ل تتم إل بالصبر واليقين كما قال تعالىَ { :و َ
َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا يُوقِنُونَ } فهذا الدعاء يستلزم من العمال والصبر على طاعة ال وعن معصيته
وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين ،خيرا كثيرا وعطاء
جزيل وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.
ولهذا ،لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم بالمنازل
ص َبرُوا } أي :المنازل الرفيعة والمساكن النيقة
ك ُيجْزَ ْونَ ا ْل ُغ ْرفَةَ ِبمَا َ
العاليات فقال { :أُوَل ِئ َ
الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه العين وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالى:
ص َب ْرتُمْ َف ِن ْعمَ عُ ْقبَى الدّارِ } ولهذا قال هنا
ل بَابٍ سَلَامٌ عََل ْي ُكمْ ِبمَا َ
{ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َي ْدخُلُونَ عََل ْيهِمْ ِمنْ كُ ّ
حيّةً َوسَلَامًا } من ربهم ومن ملئكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون
{ َويُلَقّ ْونَ فِيهَا َت ِ
من جميع المنغصات والمكدرات.
والحاصل :أن ال وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن الدب والحلم وسعة
الخلق والعفو عن الجاهلين والعراض عنهم ومقابلة إساءتهم بالحسان وقيام الليل والخلص
فيه ،والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها وإخراج الواجب والمستحب في
النفقات والقتصاد في ذلك -وإذا كانوا مقتصدين في النفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه
أو الفراط ،فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى -والسلمة من كبائر الذنوب
والتصاف بالخلص ل في عبادته والعفة عن الدماء والعراض والتوبة عند صدور شيء
من ذلك ،وأنهم ل يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية ول يفعلونها بأنفسهم
وأنهم يتنزهون من اللغو والفعال الردية التي ل خير فيها ،وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم
وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي ،وأنهم يقابلون آيات ال بالقبول لها والتفهم
لمعانيها والعمل بها ،والجتهاد في تنفيذ أحكامها ،وأنهم يدعون ال تعالى بأكمل الدعاء ،في
الدعاء الذي ينتفعون به ،وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صلح أزواجهم
وذريتهم ،ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم ووعظهم ونصحهم لن من حرص على شيء
ودعا ال فيه ل بد أن يكون متسببا فيه ،وأنهم دعوا ال ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي
درجة المامة والصديقية.
فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب ،وأزكى تلك النفوس وأطهر
تلك القلوب وأصفى هؤلء الصفوة وأتقى هؤلء السادة"
ول ،فضل ال عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم ،ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل.
ول ،منة ال على عباده أن بين لهم أوصافهم ،ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم ،وأوضح
لهم أجورهم ،ليشتاقوا إلى التصاف بأوصافهم ،ويبذلوا جهدهم في ذلك ،ويسألوا الذي من
عليهم وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان ،وفي كل وقت وأوان ،أن يهديهم كما هداهم
ويتولهم بتربيته الخاصة كما تولهم.
فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث ،ول حول ول قوة إل بك ،ل
نملك لنفسنا نفعا ول ضرا ول نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا ،فإنا
ضعفاء عاجزون من كل وجه.
نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة ،فل نثق يا ربنا
إل برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة
وصرفت عنا من النقم ،فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فل خاب من سألك
ورجاك.
ولما كان ال تعالى قد أضاف هؤلء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم
ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم ل يدخل في العبودية؟
فأخبر تعالى أنه ل يبالي ول يعبأ بغير هؤلء وأنه لول دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء
ف َيكُونُ
المسألة ما عبأ بكم ول أحبكم فقال { :قُلْ مَا َي ْع َبأُ ِب ُكمْ َربّي لَوْلَا دُعَا ُؤ ُكمْ فَ َقدْ َك ّذ ْب ُتمْ فَسَ ْو َ
ِلزَامًا} أي :عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم ال بينكم وبين عباده المؤمنين.
سورة الشعراء
1
" طسم "( )
(طسم) سبق الكلم على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.
2
ك آيَاتُ ا ْل ِكتَابِ ا ْلمُبِينِ "( )
" تِ ْل َ
هذه آيات القرآن الموضّح لكل شيء الفاصل بين الهدى والضلل.
3
ل يَكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ "( )
سكَ َأ ّ
ك بَاخِ ٌع َنفْ َ
" َلعَّل َ
لعلك -أيها الرسول -من شدة حرصك على هدايتهم ُمهْلِك نفسك ؛ لنهم لم يصدّقوا بك ولم يعملوا بهديك ،فل تفعل ذلك.
5
عنْ ُه ُمعْرِضِينَ "( )
ل كَانُوا َ
ن مُحْ َدثٍ ِإ ّ
حمَ ِ
" َومَا يَ ْأتِيهِ ْم مِنْ ِذكْ ٍر مِنَ الرّ ْ
وما يجيء هؤلء المشركين المكذبين مِن ِذكْرٍ من الرحمن مُحْدَث إنزاله ،شيئًا بعد شيء ،يأمرهم وينهاهم ،ويذكرهم بالدين الحق إل
أعرضوا عنه ,ولم يقبلوه.
ن "( ) 6
سيَ ْأتِيهِمْ َأنْبَا ُء مَا كَانُوا بِ ِه يَسْ َتهْ ِزئُو َ
" َفقَ ْد كَ ّذبُوا فَ َ
فقد كذّبوا بالقرآن واستهزؤوا به ,فسيأتيهم أخبار المر الذي كانوا يستهزئون به ويسخرون منه ,وسيحلّ بهم العذاب جزاء تمردهم على
ربهم.
7
ج كَرِيمٍ "( )
ن كُلّ َز ْو ٍ
ض كَمْ َأ ْن َبتْنَا فِيهَا مِ ْ
" َأوََل ْم يَرَوْا إِلَى الَْرْ ِ
8
ن "( )
ك لَيَ ًة َومَا كَانَ َأ ْكثَرُهُ ْم مُ ْؤ ِمنِي َ
" ِإنّ فِي َذِل َ
9
" وَإِنّ َرّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِي ُم "( )
أكذبوا ولم ينظروا إلى الرض التي أنبتنا فيها من كل نوع حسن نافع من النبات ,ل يقدر على إنباته إل رب العالمين؟ إن في إخراج
النبات من الرض لَدللة واضحة على كمال قدرة ال ,وما كان أكثر القوم مؤمنين .وإن ربك لهو العزيز على كل مخلوق ,الرحيم الذي
وسعت رحمته كل شيء.
)" وَإِ ْذ نَادَى َرّب َك مُوسَى أَ ِن ا ْئتِ اْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ "(10
ن "()11 ل َيتّقُو َ
عوْنَ َأ َ
" َقوْمَ فِ ْر َ
واذكر -أيها الرسول -لقومك إذ نادى ربك موسى :أن ائت القوم الظالمين ,قوم فرعون ,وقل لهم :أل يخافون عقاب ال تعالى ,
ويتركون ما هم عليه من الكفر والضلل؟
" قَا َل كَلّ فَاذْ َهبَا بِآيَاتِنَا ِإنّا َمعَكُ ْم مُسَْت ِمعُو َن "(15
)
عوْنَ َفقُولَ ِإنّا رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ "()16 " فَ ْأ ِتيَا فِرْ َ
)" قَالَ أَلَ ْم نُ َرّبكَ فِينَا وَلِيدًا وََلِب ْثتَ فِينَا مِنْ ُعمُ ِركَ ِسنِي َن "(18
ن "()19 ت مِنَ ا ْلكَافِرِي َ
" وَ َفعَ ْلتَ َفعَْل َتكَ اّلتِي َفعَ ْلتَ وََأ ْن َ
عمُرك وارتكبت جناي ًة بقتلك رجلً من
قال فرعون لموسى ممتنًا عليه :ألم نُ َربّك في منازلنا صغيرًا ,ومكثت في رعايتنا سنين من ُ
قومي حين ضربته ودفعته ,وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي؟
ن "()20 ضال ِّي َن ال َّ م َل فَعَلْتُهَا إِذ ًا وَأَنَا ِ" قَا َ
ن "()21
سل ِي َ
مْر َ ْ
ن ال ُ
م َ َ
جعَلن ِي ِما وَ َ ْ
حك ً ب ل ِي َربِّي ُ م فَوَهَ َ ُ
خفْتُك ْ ما ِ م ل َ َّ
منْك ُ ْ
ت ِ " فَفََرْر ُ
ة ت َمنُّها ع َل َ َ َ " وَتِل ْ َ
ل "()22 سَرائِي َ
ت بَنِي إ ِ ْن ع َبَّد ْ َ يأ ْ ّ م ٌ ُ َ ك نِعْ َ
ت قبل أن يوحي ت ما ذكر َ
قال موسى مجيبًا لفرعون :فعل ُ
الله إلي ,ويبعثني رسوًل ,فخرجت من بينكم فاًّرا إلى
مد , ت من غير ع َ ْما خفت أن تقتلوني بما فعل ُ"مدين" ,ل َّ
فوهب لي ربي تفضًل منه النبوة والعلم ,وجعلني من
ي,المرسلين .وتلك التربية في بيتك تَعُدُّها نعمة منك عل َّ
وقد جعلت بني إسرائيل عبيدًا تذبح أبناءهم وتستحيي
نساءهم؟
ن "()23 ب الْعَال َ ِ
مي َ ما َر ُّ
ن وَ َ " قَا َ
ل ِفْرع َوْ ُ
قال فرعون لموسى :وما رب العالمين الذي تدَّعي أنك
رسوله؟
َْ ل َر ُّ
ن "()24
موقِنِي َ ن كُنْت ُ ْ
م ُ ما إ ِ ْ
ما بَيْنَهُ َ ت وَالْر ِ
ض وَ َ ماوَا ِ ب ال َّ
س َ " قَا َ
قال موسى :هو مالك ومدبر السموات والرض وما بينهما
منوا.
,إن كنتم موقنين بذلك ,فآ ِ
ل ل ِمن حول َ َ
ن "()25
معُو َ ه أَل ت َ ْ
ست َ ِ " قَا َ َ ْ َ ْ ُ
من أشراف قومه :أل تسمعون
قال فرعون لمن حوله ِ
مقالة موسى العجيبة بوجود رب سواي؟
َ
م اْلوَّل ِي َ
ن "()26 م وََر ُّ
ب آبَائِك ُ ُ ل َربُّك ُ ْ
" قَا َ
قال موسى :الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلقكم
من هو مخلوق وخلق أباءكم الولين ,فكيف تعبدون َ
مثلكم ,وله آباء قد فنوا كآبائكم؟
َ
ن "()27
جنُو ٌ
م ْ ل إِلَيْك ُ ْ
م لَ َ م ال ّذِي أُْر ِ
س َ سولَك ُ ُ ل إ ِ َّ
ن َر ُ " قَا َ
قال فرعون لخاصته يستثير غضبهم ؛ لتكذيب موسى إياه:
ما ل
إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ,يتكلم كل ً
قل!
يُعْ َ
م تَعْقِلُو َ
ن "()28 ن كُنْت ُ ْ
ما إ ِ ْ
ما بَيْنَهُ َ
ب وَ َ ق وَال ْ َ
مغْرِ ِ ب ال ْ َ
م ْ
شرِ ِ ل َر ُّ
" قَا َ
قال موسى :رب المشرق والمغرب وما بينهما وما يكون
فيهما من نور وظلمة ,وهذا يستوجب اليمان به وحده إن
كنتم من أهل العقل والتدبر!
ن "()29
جونِي َ
س ُ ن ال ْ َ
م ْ م َ
ك ِ ت إِلَهًا غَيْرِي َل َ ْ
جعَلَن َّ َ خذ ْ َ ل لَئ ِ ِ
ن ات َّ َ " قَا َ
قال فرعون لموسى مهددًا له :لئن اتخذت إلهًا غيري
من سجنت.
لسجننك مع َ
" قَا َ َ
ن "()30
مبِي ٍ
يءٍ ُ
ش ْ ل أوَلَوْ ِ
جئْت ُ َ
ك بِ َ
قال موسى :أتجعلني من المسجونين ,ولو جئتك ببرهان
قاطع يتبين منه صدقي؟
" قَا َ ْ
ن "()31 ن ال َّ
صادِقِي َ م َ ن كُن ْ َ
ت ِ ل فَأ ِ
ت بِهِ إ ِ ْ
قال فرعون :فأت به إن كنت من الصادقين في دعواك.
َ
ن "()32مبِي ٌ
ن ُ صاه ُ فَإِذ َا ه ِ َ
ي ثُعْبَا ٌ " فَألْقَى ع َ َ
ضاءُ ل ِلن ّاظِرِي َ
ن "()33 َ ي بَي ْ َ َ
" وَنََزع َ يَدَه ُ فإِذ َا ه ِ َ
فألقى موسى عصاه فتحولت ثعبانًا حقيقيًا ,ليس تمويهًا
من جيبه فإذا هي بيضاء كما يفعل السحرة ,وأخرج يده ِ
كالثلج من غير برص ,تَبْهَر الناظرين.
م "()34 حر عَل ِي ٌ ن هَذ َا ل َ َ
سا ِ حول َ ُ
ه إ َّ مَل ِ َ
ل ل ِل ْ َ
" قَا َ
ن "()35 روم خر ْجك ُم ِ من أ َرضك ُم ٌبسحره فَماذ َا تأ ْ َ
َ ُ ُ َ " يُرِي ُ ْ ُ ِ َ ْ ِ ْ ْ ِ ْ ِ ِ ْ ِ ِ َ ْ ي ن أ د
قال فرعون لشراف قومه خشية أن يؤمنوا :إن موسى
لَساحر ماهر ,يريد أن يخرجكم بسحره من أرضكم ,فأي
شيء تشيرون به في شأنه أتبع رأيكم فيه؟
ن "()36
شرِي َ
حا ِ
ن َ ث فِي ال ْ َ
مد َائِ ِ خاه ُ وَابْعَ ْ وَأ َ َ ه
ج ْ
َ
" قَالُوا أْر ِ
حارٍ عَل ِيم ٍ "()37س َّ َ لك بِك ُ ِّ" يَأْتُو َ
ل فيس ْ
خر أمر موسى وهارون ,وأر ِ قال له قومه :أ ِّ
من أجاد المدائن جندًا جامعين للسحرة ,يأتوك بك ِّ
ل َ
السحر ,وتفوَّق في معرفته.
معْلُوم ٍ "()38
ت يَوْم ٍ َ ميقَا ِ حَرة ُ ل ِ ِ معَ ال َّ
س َ ج ِ" فَ ُ
ن "()39 ل ل ِلنَّاس هَ ْ َ َ
معُو َ جت َ ِ
م ْ
م ُل أنْت ُ ْ ِ ي " وَقِ
حدِّد لهم وقت معلوم ,هو وقت الضحى جمع السحرة ,و ُ فَ ُ
من يوم الزينة الذي يتفرغون فيه من أشغالهم ,
ح َّ
ث الناس ويجتمعون ويتزيَّنون؛ وذلك للجتماع بموسى .و ُ
على الجتماع; أمًل في أن تكون الغلبة للسحرة.
َ
م الْغَال ِبِي َ
ن "()40 ن كَانُوا هُ ُ
حَرة َ إ ِ ْ " لَعَل ّنَا نَتَّبِعُ ال َّ
س َ
إننا نطمع أن تكون الغلبة للسحرة ,فنثبت على ديننا.
ن الْغَال ِبِي َ
ن "()41 ن كُنَّا ن َ ْ
ح ُ جًرا إ ِ ْ ن أَئِ َّ
ن لَنَا َل َ ْ حَرة ُ قَالُوا ل ِ ِفْرع َوْ َ جاءَ ال َّ
س َ " فَل َ َّ
ما َ
من مال
فلما جاء السحرة فرعون قالوا له :أإن لنا لجًرا ِ
ن كنا نحن الغالبين لموسى؟
أو جاه ,إ ْ
ن "()42 ن ال ْ ُ
مقََّربِي َ م إِذ ًا ل َ ِ
م َ م وَإِنَّك ُ ْ " قَا َ
ل نَعَ ْ
من أجر ,وإنكم
قال فرعون :نعم لكم عندي ما طلبتم ِ
حينئذ لمن المقربين لديَّ.
َ َ
ملْقُو َ
ن "()43 م ُ سى ألْقُوا َ
ما أنْت ُ ْ مو َ ل لَهُ ْ
م ُ " قَا َ
قال موسى للسحرة مريدًا إبطال سحرهم وإظهار أن ما
جاء به ليس سحًرا :ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر.
َ
ن الْغَال ِبُو َ
ن "()44 ح ُ م وَقَالُوا بِعَِّزةِ فِْرعَوْ َ
ن إِنَّا لَن َ ْ صيَّهُ ْ
ع ِ حبَالَهُ ْ
م وَ ِ " فَألْقَوْا ِ
خيِّل للناس أنها حيَّات تسعى,
فألَقوا حبالهم وعصيَّهم ,و ُ
وأقسموا بعزة فرعون قائلين :إننا لنحن الغالبون.
ْ َ
ما يَأفِكُو َ
ن "()45 ي تَلْقَ ُ
ف َ صاه ُ فَإِذ َا ه ِ َ
سى ع َ َ " فَألْقَى ُ
مو َ
فألقى موسى عصاه ,فإذا هي حية عظيمة ,تبتلع ما صدر
منهم من إفك وتزوير.
ُ
ن "()46
جدِي َ سا ِ حَرة ُ َس َي ال َّ " فَألْقِ َ
ن "()47
مي َب الْعَال َ ِ
منَّا بَِر ِّ
" قَالُوا آ َ
ن "()48 سى وَهَاُرو َ مو َ ب ُ" َر ِّ
فلما شاهدوا ذلك ,وعلموا أنه ليس من تمويه السحرة,
آمنوا بالله وسجدوا له ,وقالوا :آمنَّا برب العالمين رب
موسى وهارون.
ف تَعل َمون َلُقَط ّع َ َ َ َ ل آمنْت ُم ل َه قَب َ َ
ن أيْدِيَك ُ ْ
م ِ َ ّ سوْ َ ْ ُ َ حَر فَل َ َ
س ْ
م ال ِّ م ال ّذِي ع َل ّ َ
مك ُ ُ ه لَكَبِيُرك ُ ُ
م إِن َّ ُ ن لَك ُ ْ ن آذ َ َ لأ ْ " قَا َ َ ْ ُ ْ
َ َ ّ ُ َ َ
ن "()49 معِي َج َ مأ ْ ُ
صل ِبَن ّك ْ
ف وَل َ خَل ٍن ِ م ْ
م ِ جلَك ُ ْ
وَأْر ُ
قال فرعون للسحرة مستنكًرا :آمنتم لموسى بغير إذن
ن فِعْل موسى سحر :إنه لكبيركمما أ َّ
وقال موه ً مني ,
َّ
الذي علمكم السحر ,فلسوف تعلمون ما ينزل بكم من
ن أيديكم وأرجلكم من خلف :بقطع اليد عقاب :لقطع َّ
اليمنى والرجل اليسرى أو عكس ذلك ,ولصلبنَّكم
أجمعين.
ن "()50 ضيَْر إِنَّا إِلَى َرب ِّنَا ُ
منْقَل ِبُو َ " قَالُوا َل َ
ن "()51 مؤ ْ ِ
منِي َ ن كُنَّا أَوَّ َ
ل ال ْ ُ
َ
خطَايَانَا أ ْ
ن يَغْفَِر لَنَا َربُّنَا َ َ
" إِنَّا نَط ْ َ
معُ أ ْ
قال السحرة لفرعون :ل ضرر علينا فيما يلحقنا من
عقاب الدنيا ,إنا راجعون إلى ربنا فيعطينا النعيم المقيم.
إنا نرجو أن يغفر لنا ربنا خطايانا من الشرك وغيره;
لكوننا أول المؤمنين في قومك.
" وأَوحينَا إلَى موسى أ َ َ
متَّبَعُو َ
ن "()52 سرِ بِعِبَادِي إِنَّك ُ ْ
م ُ نأ ْْ ُ َ َ ْ َ ْ ِ
سْر ليًل بمن آمن َ
وأوحى الله إلى موسى عليه السلم :أ ْ
ن ِ
من بني إسرائيل؛ لن فرعون وجنوده متبعوكم حتى ل
يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر.
َ
ن "()53
شرِي َ
حا ِ
ن َ ن فِي ال ْ َ
مدَائ ِ ِ ل فِْرعَوْ ُ " فَأْر َ
س َ
فأرسل فرعون جنده -حين بلغه مسير بني إسرائيل-
يجمعون جيشه من مدائن مملكته.
ة قَل ِيلُو َ
ن "()54 م ٌ
شْرذِ َ هؤَُلءِ ل َ ِ ن َ " إ ِ َّ
ن "()55 َ وُ َائِظ غ َ ل ا َ َ
" وَإ ِ ّ ُ ْ َ
ن ل م ه ن
ن "()56 ج ِ ٌ َ ُ َ
رو ِ ذ حا ع مي " وَإِنَّا ل َ َ
قال فرعون :إن بني اسرائيل الذين فُّروا مع موسى
لَطائفة حقيرة قليلة العدد ,وإنهم لمالئون صدورنا غيظًا؛
حيث خالفوا ديننا ,وخرجوا بغير إذننا ,وإنا لجميع متيقظون
مستعدون لهم.
ن "()57
ت وَع ُيُو ٍ جنَّا ٍ
ن َ م ْ م ِ جنَاهُ ْ " فَأ َ ْ
خَر ْ
مقَام ٍ كَرِيم ٍ "()58 " وَكُنُوزٍ َو َ
ل "()59سَرائِي َ إ نِي ب َا ه ا رثْن " كَذَل ِ َ َ
ِ ْ َ َ ك وَأ ْ َ
و
فأخرج الله فرعون وقومه من أرض "مصر" ذات
البساتين وعيون الماء وخزائن المال والمنازل الحسان.
وكما أخرجناهم ,جعلنا هذه الديار من بعدهم لبني
إسرائيل.
َ
ن "()60 م ْ
شرِقِي َ " فَأتْبَعُوهُ ْ
م ُ
من معه وقت شروق
فلحق فرعون وجنده موسى و َ
الشمس.
ما تراءَى ال ْجمعان قَا َ َ
سى إِنَّا ل َ ُ
مدَْركُو َ
ن "()61 مو َ
ب ُ
حا ُ
ص َ
لأ ْ َ ْ َ ِ " فَل َ َّ َ َ
فلما رأى كل واحد من الفريقين الخر قال أصحاب
مدْرِكنا ومهلكنا.
معَ فرعون ُ
ج ْ موسى :إ َّ
ن َ
ن "()62
سيَهْدِي ِ
ي َربِّي َ
معِ َ ل كََّل إ ِ َّ
ن َ " قَا َ
َ
قال موسى لهم :ك ّل ليس المر كما ذكرتم فلن تُدَْركوا;
إن معي ربي بالنصر ,سيهديني لما فيه نجاتي ونجاتكم.
َ ن ك ُ ُّ َ َ
ق كَالط ّوْد ِ الْعَظِيمِ
ل فِْر ٍ حَر فَانْفَلَقَ فَكَا َ
ك الْب َ ْ
صا َ
ب بِعَ َ
ضرِ ْ
نا ْ
سى أ ِ حيْنَا إِلَى ُ
مو َ " فَأوْ َ
"()63
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ,فضرب ,
فانفلق البحر إلى اثني عشر طريًقا بعدد قبائل بني
إسرائيل ,فكانت كل قطعة انفصلت من البحر كالجبل
العظيم.
ك يَفْعَلُو َ
ن "()74 جدْنَا آبَاءَنَا كَذَل ِ َ " قَالُوا ب َ ْ
ل وَ َ
قالوا :ل يكون منهم شيء من ذلك ,ولكننا وجدنا آباءنا
َ
يعبدونهم ,فقل ّدناهم فيما كانوا يفعلون.
قَا َ َ َ
ن "()75 م تَعْبُدُو َ ما كُنْت ُ ْ م َ ل أفََرأيْت ُ ْ "
َ َ
ن "()76 مو َ م اْلقْ َد َ ُ م وَآبَاؤ ُك ُ ُ أنْت ُ ْ "
ن "()77 مي َب الْعَال َ ِ م عَدُوٌّ لِي إ ِ ّل َر َّ فَ َإِنَّهُ ْ "
ن "()78 خلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِي ِ ال ّذِي َ
َ
"
ن "()79 سقِي ِ منِي وَي َ ْ َوال ّذِي هُوَ يُطعِ ُ
ْ "
ن "()80 في ِ ش ِ ت فَهُوَ ي َ ْ ض ُ مرِ ْ وَإ ِ َذ َا َ "
ن "()81 حيِي ِ م يُ ْ ميتُنِي ث ُ َّ َوال ّذِي ي ُ ِ "
َ َ َ
ن "()82
دّي ِ خطِيئَتِي يَوْ َ
م ال ِ ن يَغْفَِر لِي َ معُ أ ْ َوال ّذِي أط ْ َ "
قال إبراهيم :أفأبصرتم بتدبر ما كنتم تعبدون من الصنام
التي ل تسمع ول تنفع ول تضر ,أنتم وآباؤكم القدمون
من قبلكم؟ فإن ما تعبدونهم من دون الله أعداء لي ,
لكن رب العالمين ومالك أمرهم هو وحده الذي أعبده .هو
الذي خلقني في أحسن صورة فهو يرشدني إلى مصالح
ي بالطعام والشراب ,الدنيا والخرة وهو الذي ينعم عل َّ
شفيني ويعافيني منه ,وهووإذا أصابني مرض فهو الذي ي َ ْ
الذي يميتني في الدينا بقبض روحي ,ثم يحييني يوم
القيامة ,ل يقدر على ذلك أحد سواه ,والذي أطمع أن
يتجاوز عن ذنبي يوم الجزاء.
ن "()83
حي َ
صال ِ ِ ما وَأَل ْ ِ
حقْنِي بِال َّ حك ْ ً
ب لِي ُ
ب هَ ْ
" َر ِّ
ب امنحني العلم والفهم ,
قال إبراهيم داعيًا ربه :ر ِّ
وألحقني بالصالحين ,واجمع بيني وبينهم في الجنة.
ن "()84 ق فِي اْل ِ
خرِي َ صد ْ ٍ
ن ِ
سا َ جعَ ْ
ل ل ِي ل ِ َ " وَا ْ
واجعل لي ثناء حسنًا وذكًرا جميًل في الذين يأتون بعدي
إلى يوم القيامة.
جنَّةِ النَّعِيم ِ "()85
ن وََرثَةِ َ جعَلْن ِي ِ
م ْ " وَا ْ
واجعلني من عبادك الذين تورثهم نعيم الجنة.
َ
ضال ِّي َ
ن "()86 ن ال َّ
م َ " وَاغْفِْر ِلبِي إِن َّ ُ
ه كَا َ
ن ِ
واصفح لبي عن شركه بك ,ول تعاقبه عليه ,إنه كان
ممن ضل عن سبيل الهدى فكفر بك .وهذا قبل أن يتبين
لبراهيم أن أباه عدو لله ,فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ
منه.
ن "()87 م يُبْعَثُو َ خزِنِي يَوْ َ " وََل ت ُ ْ
ن "()88 ل وََل بَنُو َ ما ٌ م َل يَنْفَعُ َ و َ
" يَ َْ
ْ ل من أَتى الل َّ " إِ ّ
سل ِيم ٍ "()89ب َ ٍ َل قِ ب ه
َ َ ْ َ
ول تُلْحق بي الذل ,يوم يخرج الناس من القبور للحساب
والجزاء ,يوم ل ينفع المال والبنون أحدًا من العباد ,إل
من أتى الله بقلب سليم من الكفر والنفاق والرذيلة. َ
متَّقِي َ
ن "()90 ة ل ِل ْ ُ
جن َّ ُ " وَأُْزلِفَ ِ
ت ال ْ َ
وقُّرِبت الجنة للذين اجتنبوا الكفر والمعاصي ,وأقبلوا
على الله بالطاعة.
ن الْقَال ِي َ
ن "()168 م َ مل ِك ُ ْ
م ِ " قَا َ
ل إِن ِّي لِعَ َ
قال لوط لهم :إني لِعملكم الذي تعملونه من إتيان الذكور
,لَمن المبغضين له بغ ً
ضا شديدًا.
ملُو َ
ن "()169 ما يَعْ َ جنِي وَأَهْل ِي ِ
م َّ ب ن َ ِّ
" َر ِّ
ثم دعا لوط ربه حينما يئس من استجابتهم له قائًل :ر ِّ
ب
من هذه المعصية أنقذني وأنقذ أهلي مما يعمله قومي ِ
من عقوبتك التي ستصيبهم.
القبيحة ,و ِ
جيناه وأَهْل َ َ
ن "()170معِي َج َهأ ْ ُ " فَ َن َ َّ ْ َ ُ َ
ن "()171 ي
ِ ِ َرَاب غْ ال ي ِ ف زا " إ ِ ّل عَ ُ
جو ً
فنجيناه وأهل بيته والمستجيبين لدعوته أجمعين إل عجوًزا
من أهله ,وهي امرأته ,لم تشاركهم في اليمان ,فكانت
من الباقين في العذاب والهلك.
ن "()172 مْرنَا اْل َ
خرِي َ م د َ َّ" ث ُ َّ
ْ َ َ َ
ن "()173
منْذ َرِي َ
مطُر ال ُ مطًرا فَ َ
ساءَ َ م َمطَْرنَا ع َلَيْهِ ْ " وَأ ْ
من عداهم من الكفرة أشد َّ إهلك ,وأنزلنا ثم أهلكنا َ
ح مطُرقب ُ َ
عليهم حجارة من السماء كالمطر أهلكتهم ,ف َ
من أنذرهم رسلهم ولم يستجيبوا لهم؛ فقد أُنزل بهم أشدُّ
أنواع الهلك والتدمير.
ة وما كَا َ
ن "()174 مؤ ْ ِ
منِي َ ن أكْثَُرهُ ْ
م ُ َ ك َلي َ ً َ َ " إ ِ َّ
ن فِي ذَل ِ َ
ن "( ) ب ُمبِي ٍ
ن َو ِكتَا ٍ 1
" طس تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلقُرْآ ِ
"طس" سبق الكلم على الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة .هذه آيات القرآن ،وهي آيات الكتاب العزيز ،بينة المعنى ,واضحة
الدللة ,على ما فيه من العلوم والحكم والشرائع .فالقرآن هو الكتاب ،جمع ال له بين السمين.
2
" هُدًى َوبُشْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ "( )
3
لةَ َوُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ وَهُ ْم بِالْخِ َرةِ ُه ْم يُو ِقنُونَ "( )
ن ُيقِيمُونَ الصّ َ
" الّذِي َ
وهي آيات ترشد إلى طريق الفوز في الدنيا والخرة ,وتبشر بحسن الثواب للمؤمنين الذين صَدّقوا بها ,واهت َدوْا بهديها ,الذين يقيمون
الصلوات الخمس كاملة الركان ,مسوفية الشروط ,ويؤدون الزكاة المفروضة لمستحقيها ,وهم يوقنون بالحياة الخرة ,وما فيها مِن ثواب
وعقاب.
4
عمَاَلهُمْ َفهُ ْم َيعْ َمهُونَ "( )
ن بِالْخِرَةِ َزّينّا َلهُمْ أَ ْ
ن لَ ُي ْؤمِنُو َ
" ِإنّ الّذِي َ
ن "()5
ب وَهُمْ فِي الْخِ َرةِ هُمُ الَْخْسَرُو َ
" أُوَل ِئكَ الّذِينَ َلهُمْ سُوءُ ا ْلعَذَا ِ
سنّا لهم أعمالهم السيئة ,فرأوها حسنة ,فهم يترددون فيها متحيّرين .أولئك الذين لهم
إن الذين ل يُصَدّقون بالدار الخرة ,ول يعملون لها ح ّ
العذاب السيّئ في الدنيا قتلً وأَسْرَا وذلً وهزيمةً ,وهم في الخرة أشد الناس خسرانًا.
6
حكِيمٍ عَلِيمٍ "( )
ن مِنْ لَ ُدنْ َ
" وَِإّنكَ َلتَُلقّى ا ْلقُرْآ َ
وإنك -أيها الرسول -لتتلقى القرآن من عند ال ,الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا.
8
سبْحَانَ الِّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ "( )
ح ْوَلهَا وَ ُ
ك مَنْ فِي النّا ِر َومَنْ َ
ن بُو ِر َ
" فََلمّا جَاءَهَا نُودِيَ َأ ْ
9
حكِي ُم "( )
" يَا مُوسَى ِإنّهُ َأنَا الُّ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
)" وَأَْلقِ عَصَاكَ َفَلمّا رَآهَا تَ ْهتَ ّز كَأَّنهَا جَا ّن وَلّى مُ ْدبِرًا وَلَ ْم ُي َعقّ ْب يَا مُوسَى َل تَخَفْ ِإنّي َل يَخَافُ لَ َديّ اْلمُرْسَلُو َن "(10
غفُورٌ رَحِيمٌ "()11 سنًا بَعْدَ سُوءٍ فَِإنّي َن ظَلَ َم ثُ ّم بَدّلَ حُ ْ
ل مَ ْ" ِإ ّ
) 13
" فََلمّا جَا َء ْتهُمْ آيَا ُتنَا مُبْصِ َرةً قَالُوا هَذَا سِحْ ٌر ُمبِينٌ "(
ح بيّن.
فلما جاءتهم هذه المعجزات ظاهرة بيّنة يبصر بها مَن نظر إليها حقيقةَ ما دلت عليه ,قالوا :هذا سح ٌر واض ٌ
َ
ن "()14 سدِي َ ة ال ْ ُ
مفْ ِ ن ع َاقِب َ ُ ما وَع ُلُوًّا فَانْظُْر كَي ْ َ
ف كَا َ م ظُل ْ ً سهُ ْستَيْقَنَتْهَا أنْفُ ُ حدُوا بِهَا وَا ْ ج َ
" وَ َ
وكذَّبوا بالمعجزات التسع الواضحة الدللة على صدق
موسى في نبوته وصدق دعوته ,وأنكروا بألسنتهم أن
تكون من عند الله ,وقد استيقنوها في قلوبهم اعتداءً على
الحق وتكبًرا على العتراف به ,فانظر -أيها الرسول -كيف
كان مصير الذين كفروا بآيات الله وأفسدوا في الرض ,إذ
أغرقهم الله في البحر؟ وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.
ن "()15 عبَادِهِ ال ْ ُ
مؤ ْ ِ
منِي َ ن ِ
م ْ مد ُ ل ِلَّهِ الَّذِي فَ َّ
ضلَنَا ع َلَى كَثِيرٍ ِ ما وَقَاَل ال ْ َ
ح ْ عل ْ ً
ن ِ سلَي ْ َ
ما َ " وَلَقَد ْ آتَيْنَا دَاوُد َ وَ ُ
ما فعمل به ,وقال :الحمد للهولقد آتينا داود وسليمان عل ً
ضلنا بهذا على كثير من عباده المؤمنين .وفي اليةالذي ف َّ
دليل على شرف العلم ,وارتفاع أهله.
َ
منْطِقَ الط ّيْرِ وَأُوتِينَا ِ َ
ل ن هَذ َا لَهُوَ الْفَ ْ
ض ُ يءٍ إ ِ َّ ن ك ُ ِّ
ل َ
ش ْ م ْ س ع ُل ِّ ْ
منَا َ ل يَا أيُّهَا النَّا ُ
ن دَاوُد َ وَقَا َ سلَي ْ َ
ما ُ ث ُ
" وَوَرِ َ
ن "()16 ال ْ ُ
مبِي ُ
وورث سليمان أباه داود في النبوة والعلم والملك ,وقال
سليمان لقومه :يا أيها الناس عُل ِّمنا وفُهِّمنا كلم الطير,
من كل شيء تدعو إليه الحاجة ,إن هذا الذي ُ
وأعطينا ِ
ميِّزنا
أعطانا الله تعالى إياه لهو الفضل الواضح الذي ي ُ َ
من سوانا. على َ
َ
ن "()17 س وَالط ّيْرِ فَهُ ْ
م يُوَزع ُو َ ْ
ن وَالِن ْ ِ ن ال ْ ِ
ج ِّ م َ
جنُودُه ُ ِ
ن ُ سلَي ْ َ
ما َ شَر ل ِ ُ
ح ِ
" وَ ُ
مع لسليمان جنوده من الجن والنس والطير في ج ِ
و ُ
ملين ,بل كان
مسيرة لهم ,فهم على كثرتهم لم يكونوا مه َ
على كل جنس من يَُرد ُّ أولهم على آخرهم; كي يقفوا
جميعًا منتظمين.
َ َ
جنُودُهُ
ن وَ ُ سلَي ْ َ
ما ُ من َّك ُ ْ
م ُ حط ِ َ م َل ي َ ْساكِنَك ُ ْ خلُوا َ
م َ ل اد ْ ُ م ُ مل َ ٌ
ة يَا أيُّهَا الن َّ ْ ت نَ ْل قَال َ ْم ِحتَّى إِذ َا أتَوْا ع َلَى وَادِي الن َّ ْ " َ
ن "()18 شعُُرو َ م َل ي َ ْ وَهُ ْ
م َ
ل ي وع َلَى والِديَ وأ َ َ َ َ ك الَّتِي أ َ
َ ُ ْ ل رب أَوزع ْنِي أ َن أ َ َ َ َ ً َ " فَت
ن أعْ ََ َ ّ َ ْ ّ َ َل ع ت
َ م
ْ َ عْ ن َ مت
َ ْ عنِ رَ شك ْ ْ ِ ّ ِ َ ا ق َ و اَ ِه ل و
ْ ْ ق ن م
ِ ا حك
ِ ضا
َ م
َ س ّ َ بَ
ن "()19 حي َ صال ِ ِك ال َّعبَاد ِ َ ك فِي ِ متِ َ ح َ خلْن ِي بَِر ْ ضاه ُ وَأَد ْ ِ حا تَْر َ صال ِ ً َ
حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة :يا أيها النمل ادخلوا
مساكنكم ل يهلكنَّكم سليمان وجنوده ,وهم ل يعلمون
بذلك .فتبسم ضاحكًا من قول هذه النملة لفهمها واهتدائها
إلى تحذير النمل ,واستشعر نعمة الله عليه ,فتو َّ
جه إليه
مني ,ووفقني ,أن أشكر نعمتك التي أنعمت ب ألْهِ ْ
داعيًا :ر ِّ
حا ترضاه مني, ي وعلى والديَّ ,وأن أعمل عمًل صال ً عل َّ
وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين
الذين ارتضيت أعمالهم.
ن الْغَائِبِي َ
ن "()20 م َن ِ م كَا َ
َ َ
ي َل أَرى الْهُدْهُد َ أ ْ ما ل ِ َ " وَت َ َفقَّد َ الطَّيَْر فَقَا َ
ل َ
َ ْ ْ َ َ َ َ َ َ ُ
ن "()21 مبِي ٍن ُ سلطا ٍ ه أوْ ليَأتِيَن ِّي ب ِ ُ
حن ّ ُ شدِيدًا أوْ لذْب َ َ " َلعَذِّبَن َّ ُ
ه عَذ َابًا َ
وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له وحال ما غاب
منها ,وكان عنده هدهد متميز معروف فلم يجده ,فقال:
ستَره ساتر عني ,أم ما لي ل أرى الهدهد الذي أعهده؟ أ َ
أنه كان من الغائبين عني ,فلم أره لغيبته؟ فلما ظهر أنه
غائب قال :لعذب َّ
ن هذا الهدهد عذابًا شديدًا لغيابه تأديبًا
له ,أو لذبحنَّه عقوبة على ما فعل حيث أخل بما سخر له,
أو ليأتينِّي بحجة ظاهرة ,فيها عذر لغيبته.
ح ْ ث غَير بعِيد ٍ فَقَا َ َ
ن "()22
سبَإ ٍ بِنَبَإ ٍ يَقِي ٍ
ن َ
م ْ جئْت ُ َ
ك ِ ط بِهِ وَ ِ ما ل َ ْ
م تُ ِ ت بِ َ
حط ُ
لأ َ مك َ َ ْ َ َ
" فَ َ
فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد ثم حضر فعاتبه سليمان على
ُ
مغيبه وتخل ّفه ,فقال له الهدهد :علمت ما لم تعلمه من
المر على وجه الحاطة ,وجئتك من مدينة "سبأ" بـ
"اليمن" بخبر خطير الشأن ,وأنا على يقين منه.
ُ " إن ِّي وجدت ا َ
م "()23 يءٍ وَلَهَا عَْر ٌ
ش عَظِي ٌ ش ْ ن ك ُ ِّ
ل َ م ْ
ت ِ مل ِكُهُ ْ
م وَأوتِي َ ْ مَرأة ً ت َ ْ
َ َ ْ ُ ْ ِ
إني وجدت امرأةً تحكم أهل "سبأ" ,وأوتيت من كل شيء
من أسباب الدنيا ,ولها سرير عظيم القدر ,تجلس عليه
لدارة ملكها.
شيطَا َ َ
ل فَهُ ْ
م ن ال َّ
سبِي ِ صدَّهُ ْ
م عَ ِ مالَهُ ْ
م فَ َ ن أع ْ َ
ُ م ال َّ ْ
ن لَهُ ُ
ن الل ّهِ وََزي َّ َ
ن دُو ِ
م ْ
س ِ
م ِ
ن ل ِل َّ
ش ْ جدُو َ
س ُ جدْتُهَا وَقَوْ َ
مهَا ي َ ْ " وَ َ
ن "()24 َل يَهْتَدُو َ
وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس معرضين عن عبادة
سن لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي كانوا الله ,وح َّ
يعملونها ,فصرفهم عن اليمان بالله وتوحيده ,فهم ل
يهتدون إلى الله وتوحيده وعبادته وحده.
َْ َ َ ََ
ن "()25
ما تُعْل ِنُو َ
ن وَ َ
خفُو َ
ما ت ُ ْ ض وَيَعْل َ ُ
م َ ت وَالْر ِ
ماوَا ِ بءَ فِي ال َّ
س َ خ ْج ال ْ َ جدُوا ل ِل ّهِ ال ّذِي ي ُ ْ
خرِ ُ
َ
" أ ّل ي َ ْ
س ُ
َ
ش الْعَظِيم ِ "()26 ب الْعَْر ِ ه إ ِ ّل هُوَ َر ُّه َل إِل َ َ" الل ّ ُ
سن لهم الشيطان ذلك; لئل يسجدوا لله الذي يُخرج ح َّ
المخبوء المستور في السموات والرض من المطر
والنبات وغير ذلك ,ويعلم ما تُسُّرون وما تظهرون .الله
الذي ل معبود يستحق العبادة سواه ,رب العرش العظيم.
َ َ
ن "()27 ن الْكَاذِبِي َ م َ ت ِ م كُن ْ َ تأ ْ سنَنْظ ُر أصدَقْ َ ل َ" قَا َ
" اذْهب بكتاب ُي ه َذ َا فَأ َ
ن "()28 و ع ج ري َا ذ ما رُ ظ انَ ف م ه َن ع َ
ل ّ و ت َ
م ُ ث م ه يَ لإ ه قْ ل َ َ ْ ِ َِ ِ
َْ ِ ُ َ ْ ْ َ ُْ ْ ِ ِ ِ ِْ ْ ّ َ َ
قال سليمان للهدهد :سنتأمل فيما جئتنا به من الخبر
أصدقت في ذلك أم كنت من الكاذبين فيه؟ اذهب بكتابي
هذا إلى أهل "سبأ" فأعطهم إياه ,ثم تن َّ
ح عنهم قريبًا منهم
بحيث تسمع كلمهم ,فتأمل ما يتردد بينهم من الكلم.
ي إِل َ َّ ُ " قَال َت يَا أَيُّها ال ْ ُ
ب كَرِي ٌ
م "()29 ي كِتَا ٌ مَل إِن ِّي ألْقِ َ
َ َ ْ
ذهب الهدهد وألقى الكتاب إلى الملكة فقرأته ,فجمعت
أشراف قومها ,وسمعها تقول لهم :إني وصل إل َّ
ي كتاب
جليل المقدار من شخص عظيم الشأن.
َ
ن الَّر ِ
حيم ِ "()30 م ِ سم ِ الل ّهِ الَّر ْ
ح َ ن وَإِن َّ ُ
ه بِ ْ ما َ سلَي ْ َ ن ُم ْ ه ِ " إِن َّ َ ُ
ْ َ ُ َ
ن "()31 مي
ُ ْ ِ َ ِ ل س م ونِي ت أ
ّ َ ُ و َ
ي َل ع وا ل" أ ّل َ ْ
عت
ثم بيَّنت ما فيه فقالت :إنه من سليمان ,وإنه مفتتح بـ
"بسم الله الرحمن الرحيم" أل تتكبروا ول تتعاظموا عما
دعوتكم إليه ,وأقْبِلوا إل َّ
ي منقادين لله بالوحدانية والطاعة
مسلمين له.
ن "()32 حتَّى ت َ ْ " قَال َت يا أَيُها ال ْمَل ُ أَفْتُونِي فِي أ َمري ما كُن ْت قَاطِع ً َ
شهَدُو ِ مًرا َ
ةأ ْ َ ُ َ ْ ِ َ ْ َ َّ
ي في هذا المر ,ما كنتقالت :يا أيها الشراف أشيروا عل َّ
لفصل في أمر إل بمحضركم ومشورتكم.
ْ َ ُ ُ ْ ح ُ ُ ُ
ن "()33
مرِي َ ك فَانْظُرِي َ
ماذ َا تَأ ُ مُر إِلَي ْ ِ
شدِيد ٍ وَاْل ْ ن أولو قُوَّةٍ وَأولو بَأ ٍ
س َ " قَالُوا ن َ ْ
قالوا مجيبين لها :نحن أصحاب قوة في العدد والعُدَّة
وأصحاب النجدة والشجاعة في شدة الحرب ,والمر
ت صاحبة الرأي ,فتأملي ماذا تأمريننا به؟
ك ,وأن ِ
موكول إلي ِ
فنحن سامعون لمرك مطيعون لك.
َ
ك يَفْعَلُو َ
ن "()34 عَّزة َ أَهْل ِهَا أَذِل ّ ً
ة وَكَذَل ِ َ جعَلُوا أ َ ِسدُوهَا وَ َ
خلُوا قَري ً َ
ة أف ْ َ ْ َ ك إِذ َا د َ َملُو َ ن ال ْ ُ " قَال َ ْ
ت إ ِ َّ
ن "()35 سلو َ ُ مْر َ ْ
جعُ ال ُ م يَْر ِ َ َ
م بِهَدِي ّةٍ فنَاظَِرة ٌ ب ِ َ َ
ة إِليْهِ ْ َ
سل ٌ مْر ِ " وَإِن ِّي ُ
قالت محذرة ً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة ,ومبيِّنة
لهم سوء مغبَّة القتال :إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم
ة عنوة ً وقهًرا خَّربوها وصيَّروا أعَّزة أهلها أذلة ,وقتلوا
قري ً
وأسروا ,وهذه عادتهم المستمرة الثابتة لحمل الناس على
أن يهابوهم .وإني مرسلة إلى سليمان وقومه بهديَّة
مشتملة على نفائس الموال أصانعه بها ,ومنتظرة ما
َ
يرجع به الرسل.
ما آتَاك ُم ب ْ َ
ن "()36
حو َ م بِهَدِيَّتِك ُ ْ
م تَفَْر ُ ل أنْت ُ ْ ْ َ م َّ
خيٌْر ِ ي الل ّ ُ
ه َ ل فَ َ
ما آتَانِ َ ما ٍ ل أَت ُ ِ
مدُّونَن ِي ب ِ َ ن قَا َ سلَي ْ َ
ما َ جاءَ ُ " فَل َ َّ
ما َ
ما جاء رسول الملكة بالهديَّة إلى سليمان ,قال فل َّ
َ
مستنكًرا ذلك متحدثًا بأنْعُم ِ الله عليه :أتمدونني بما ٍ
ل
ة لي؟ فما أعطاني الله من النبوة والملك والموال تَْرضي ً
الكثيرة خير وأفضل مما أعطاكم ،بل أنتم الذين تفرحون
بالهدية التي تُهدى إليكم; لنكم أهل مفاخرة بالدنيا
ومكاثرة بها.
َ ْ
ن "()37
صاِغُرو َ
م َ منْهَا أَذِل ّ ً
ة وَهُ ْ جنَّهُ ْ
م ِ م بِهَا وَلَن ُ ْ
خرِ َ ل لَهُ ْ
جنُودٍ َل قِب َ َ م فَلَنَأتِيَنَّهُ ْ
م بِ ُ جعْ إِلَيْهِ ْ
" اْر ِ
وقال سليمان عليه السلم لرسول أهل "سبأ" :ارجع
إليهم ,فوالله لنأتينَّهم بجنود ل طاقة لهم بمقاومتها
من أرضهم أذلة,هم صاغرون ومقابلتها ,ولنخرجنَّهم ِ
مهانون ,إن لم ينقادوا لدين الله وحده ,ويتركوا عبادة من
سواه.
ْ شها قَب َ َ ْ ل يا أَيُها ال ْ ُ َ
ن "()38
مي َ
سل ِ ِ
م ْ
ن يَأتُون ِي ُ
لأ ْ مَل أيُّك ُ ْ
م يَأتِين ِي بِعَْر ِ َ ْ َ " قَا َ َ ّ َ
س َّ
خرهم الله له من الجن قال سليمان مخاطبًا من َ
والنس :أيُّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني
منقادين طائعين؟
ك وَإِن ِّي ع َلَيْهِ لَقَوِيٌّ أ َ ِ
م َ ك بهِ قَب َ َ عفْريت من ال ْج َ
ن "()39
مي ٌ مقَا ِ
ن َ
م ْ
م ِ
ن تَقُو َ
لأ ْ ْ ن أنَا آتِي َ ِ
ِ ِّ ٌ ِ َ " قَا َ
ل ِ
قال مارد قويُّ شديد من الجن :أنا آتيك به قبل أن تقوم
مله ,أمين على ماح ْمن مجلسك هذا ,وإني لقويٌّ على َ
فيه ,آتي به كما هو ل أُنِقص منه شيئًا ول أبدله.
ك فَل َ َّك طَْرفُ َ ن يَْرتَد َّ إِلَي ْ َ ه قَب َ َ ب أَنَا آتِي َ " قَا َ َ
ل هَذ َاعنْدَه ُ قَا َ قًّرا ِ
ست َ ِ
م ْ ما َرآه ُ ُ لأ ْ ك بِ ِ ْ ن الْكِتَا ِم َ عل ْ ٌ
م ِ ل ال ّذِي ِ
عنْدَه ُ ِ
َ َ َ َ
م "(ي كَرِي ٌ ن َربِّي غَن ِ ٌّ ن كَفََر فَإ ِ َّ م ْ شكُُر ل ِن َ ْف ِ
سهِ وَ َ ما ي َ ْ شكََر فَإِن َّ َن َم ْم أكْفُُر وَ َشكُُر أ ْ ل َربِّي ل ِيَبْلُوَن ِي أأ ْ
ض ِن فَ ْ
م ْ
ِ
)40
قال الذي عنده علم من الكتاب :أنا آتيك بهذا العرش قبل
ت للنظر في شيء .فأذن له ارتداد أجفانك إذا تحَّرك َ ْ
سليمان فدعا الله ,فأتى بالعرش .فلما رآه سليمان
من فضل ربي الذي حاضًرا لديه ثابتًا عنده قال :هذا ِ
خلقني وخلق الكون كله؛ ليختبرني :أأشكر بذلك اعترافًا
ي أم أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله بنعمته تعالى عل َّ
ن نَْفعَ ذلك يرجع إليه ,ومن جحد النعمة على نعمه فإ َّ
وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره ,كريم يعم بخيره
في الدنيا الشاكر والكافر ,ثم يحاسبهم ويجازيهم في
الخرة.
َ َ َ
ن َل يَهْتَدُو َ
ن "( )41 ن ال ّذِي َ
م َ شهَا نَنْظُْر أتَهْتَدِي أ ْ
م تَكُو ُ
ن ِ ل نَكُِّروا لَهَا عَْر َ
" قَا َ
قال سليمان لمن عنده :غيِّروا سرير ملكها الذي تجلس
عليه إلى حال تنكره إذا رأته; لنرى أتهتدي إلى معرفته أم
تكون من الذين ل يهتدون؟
ُ َ ل أَهَكَذ َا عَْر ُ
ن "()42
مي َ
سل ِ ِ ن قَبْل ِهَا وَكُنَّا ُ
م ْ م ْ ه هُوَ وَأوتِينَا الْعِل ْ َ
م ِ ت كَأن َّ ُ
ك قَال َ ْ
ش ِ ت قِي َ
جاءَ ْ " فَل َ َّ
ما َ
فلما جاءت ملكة "سبأ" إلى سليمان في مجلسه قيل لها:
أهكذا عرشك؟ قالت :إنه يشبهه .فظهر لسليمان أنها
أصابت في جوابها ,وقد علمت قدرة الله وصحة نبوة
سليمان عليه السلم ,فقال :وأوتينا العلم بالله وبقدرته
من قبلها ,وكنا منقادين لمر الله متبعين لدين السلم.ِ
َ
ن قَوْم ٍ كَافِرِي َ
ن "()43 م ْ ن الل ّهِ إِنَّهَا كَان َ ْ
ت ِ ن دُو ِ
م ْ
ت تَعْبُد ُ ِ صدَّهَا َ
ما كَان َ ْ " وَ َ
من دون الله
منَعَها عن عبادة الله وحده ما كانت تعبده ِ
و َ
تعالى ,إنها كانت كافرة ونشأت بين قوم كافرين,
واستمرت على دينهم ,وإل فلها من الذكاء والفطنة ما
تعرف به الحق من الباطل ,ولكن العقائد الباطلة تُذهب
بصيرة القلب.
َ
ن قَوَارِيَر قَال َ ْ
ت مَّرد ٌ ِ
م ْ م َ
ح ُ
صْر ٌ ل إِن َّ ُ
ه َ ساقَيْهَا قَا َ
ن َ ت عَ ْ شفَ ْ ة َوك َ َ
َ
ه ل ُ َّ
ج ً سبَت ْ ُح ِ
ه َما َرأت ْ ُ ح فَل َ َّ خل ِي ال َّ
صْر َ ل لَهَا اد ْ ُ
" قِي َ
َ ْ ّ َ َ
ن "()44 مي َب العَال ِ ن ل ِلهِ َر ِّ ما َ سلي ْ َ معَ ُت َ سل َ ْ
م ُ سي وَأ ْ ت نَفْ ِ
م ُب إِن ِّي ظَل َ ْ
َر ِّ
من زجاج تحته ماء,قيل لها :ادخلي القصر ,وكان صحنه ِ
فلما رأته ظنته ماء تتردد أمواجه ,وكشفت عن ساقيها
لتخوض الماء ,فقال لها سليمان :إنه صحن أملس من
زجاج صاف والماء تحته .فأدركت عظمة ملك سليمان,
وقالت :رب إني ظلمت نفسي بما كنت عليه من الشرك,
وانقدت متابعة لسليمان داخلة في دين رب العالمين
َ
أجمعين.
َ مود َ أ َ َ َ
ن "()45
مو َ
ص ُ
خت َ ِ م فَرِيقَا ِ
ن يَ ْ ن اع ْبُدُوا الل ّ َ
ه فَإِذ َا هُ ْ حا أ ِ
صال ِ ً
م َ
خاهُ ْ سلْنَا إِلَى ثَ ُ
" وَلَقَد ْ أْر َ
حا :أن و ِّ
حدوا الله ,ول ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صال ً
ح داعيًا إلى توحيد
تجعلوا معه إلهًا آخر ,فلما أتاهم صال ٌ
الله وعبادته وحده صار قومه فريقين :أحدهما مؤمن به,
والخر كافر بدعوته ,وكل منهم يزعم أن الحق معه.
َ َ
ن "()46
مو َ
ح ُ ه لَعَل ّك ُ ْ
م تُْر َ ن الل ّ َ سنَةِ لَوَْل ت َ ْ
ستَغْفُِرو َ ل ال ْ َ
ح َ سيِّئَةِ قَب ْ َ جلُو َ
ن بِال َّ ستَعْ ِ ل يَا قَوْم ِ ل ِ َ
م تَ ْ " قَا َ
م تبادرون الكفر وعملقال صالح للفريق الكافر :ل ِ َ
السيئات الذي يجلب لكم العذاب ,وتؤخرون اليمان وفِعْل
الحسنات الذي يجلب لكم الثواب؟ هل تطلبون المغفرة
من الله ابتداء ,وتتوبون إليه؛ رجاء أن ترحموا.
عنْد اللَّهِ ب ْ َ " قَالُوا اطَّيَّْرنَا ب ِ َ
ن "()47 م قَوْ ٌ
م تُفْتَنُو َ ل أنْت ُ ْ َ م ِ َل طَائُِرك ُ ْ معَ َ
ك قَا َ ن َ
م ْ
ك وَب ِ َ
منا بك وبمن معك ممن دخل في قال قوم صالح له :تَشاءَ ْ
من خير أو شر فهو دينك ,قال لهم صالح :ما أصابكم الله ِ
ختَبرون
مقدِّره عليكم ومجازيكم به ,بل أنتم قوم ت ُ ْ
بالسراء والضراء والخير والشر.
َْ
ن "()48
حو َ ض وََل ي ُ ْ
صل ِ ُ ن فِي الْر ِ
سدُو َ
ط يُفْ ِ
ة َرهْ ٍ
سعَ ُ ن فِي ال ْ َ
مدِينَةِ تِ ْ " وَكَا َ
جر" الواقعة في شمال
ح ْ
وكان في مدينة صالح -وهي "ال ِ
غرب جزيرة العرب -تسعة رجال ,شأنهم الفساد في
الرض ,الذي ل يخالطه شيء من الصلح.
شهدنَا مهل ِ َ َ َ َ
ك أهْلِهِ وَإِن َّا ل َ َ
صادِقُو َ
ن "()49 ما َ ِ ْ َ ْ م لَنَقُول َ َّ
ن ل ِوَل ِي ِّهِ َ ه وَأهْل َ ُ
ه ث ُ َّ موا بِالل ّهِ لَنُبَي ِّتَن َّ ُ " قَالُوا تَقَا َ
س ُ
قال هؤلء التسعة بعضهم لبعض :تقاسموا بالله بأن يحلف
حا بغتة في الليل فنقتله
ن صال ً كل واحد للخرين :لنأتي َّ
من قرابته :ما حضرنا ي الدم ِن لول ِ ّ ونقتل أهله ,ثم لنقول َ َّ
قتلهم ,وإنا لصادقون فيما قلناه.
ن "()50 م َل ي َ ْ
شعُُرو َ مكًْرا وَ ُ
ه ْ مكَْرنَا َ
مكًْرا وَ َ
مكَُروا َ
" وَ َ
ودبَّروا هذه الحيلة لهلك صالح وأهله مكًرا منهم ,فنصرنا
حا عليه السلم ,وأخذناهم بالعقوبة على ِغَّرة,
نبينا صال ً
وهم ل يتوقعون كيدنا لهم جزاءً على كيدهم.
مرنَاهُم وقَومه َ ة مكْره ِ َ
ن "()51
معِي َ
ج َ
مأ ْْ َ ْ َ ُ ْ م أنَّا د َ َّ ْ
ن ع َاقِب َ ُ َ ِ ْ " فَانْظُْر كَي ْ َ
ف كَا َ
فانظر -أيها الرسول -نظرة اعتبار إلى عاقبة غَدْر هؤلء
الرهط بنبيهم صالح؟ أنا أهلكناهم وقومهم أجمعين.
ن "()52 ة لِقَوْم ٍ يَعْل َ ُ
مو َ ك َلي َ ً ما ظَل َ ُ
موا إ ِ َّ
ن فِي ذَل ِ َ ة بِ َ
خاوِي َ ً
م َ " فَتِل ْ َ
ك بُيُوتُهُ ْ
فتلك مساكنهم خالية ليس فيها منهم أحد ,أهلكهم الله;
بسبب ظلمهم لنفسهم بالشرك ,وتكذيب نبيهم .إن في
ذلك التدمير والهلك لَعظة لقوم يعلمون ما فعلناه بهم,
وهذه سنتنا فيمن يكذب المرسلين.
َ َ
منُوا وَكَانُوا يَتَّقُو َ
ن "()53 جيْنَا ال ّذِي َ
نآ َ " وَأن ْ َ
حا والمؤمنين به,
ل بثمود من الهلك صال ً وأنجينا مما ح َّ
الذين كانوا يتقون بإيمانهم عذاب الله.
ش َ َ َ ْ
ن "()54 صُرو َ م تُب ْ ِ
ة وَأنْت ُ ْ ن الْفَا ِ
ح َ مهِ أتَأتُو َل لِقَوْ ِ" وَلُوطًا إِذ ْ قَا َ
ُ َ ْ َ
ن "()55
جهَلو َ
م تَ ْ َ
م قوْ ٌ ْ
ساءِ ب َل أنْت ُ ْ ن الن ِّ َ
ن دُو ِم ْ شهْوَة ً ِ َ
جال َ ن الّرِ َم لَتَأتُو َ" أئِنَّك ُ ْ
واذكر لوطًا إذ قال لقومه :أتأتون الفعلة المتناهية في
القبح ,وأنتم تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال في
ضا عن النساء؟ بل أنتم قوم تجهلون أدبارهم للشهوة عو ً
حقَّ الله عليكم ,فخالفتم بذلك أمره ,وع َصيْتُم رسوله
بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين.
حشَ َة وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ ْ} إلى آخر القصة.
{ { }ْ 58 - 54وَلُوطًا ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَا ِ
أي :واذكر عبدنا ورسولنا لوطا ونبأه الفاضل حين قال لقومه -داعيا إلى ال وناصحا { :-أَتَأْتُونَ
شةَ ْ} أي :الفعلة الشنعاء التي تستفحشها العقول والفطر وتستقبحها الشرائع { وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ
ا ْلفَاحِ َ
ْ} ذلك وتعلمون قبحه فعاندتم وارتكبتم ذلك ظلما منكم وجرأة على ال.
جوَابَ َق ْومِهِ ْ} قبول ول انزجار ول تذكر وادكار ،إنما كان جوابهم المعارضة
{ َفمَا كَانَ َ
والمناقضة والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم المين بالجلء عن وطنه والتشريد عن بلده .فما
كان جواب قومه { إِلّا أَنْ قَالُوا أَخْ ِرجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَ ِت ُكمْ ْ}
طهّرُونَ ْ} أي:
فكأنه قيل :ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم الخراج ،فقالوا { :إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور .فقبحهم ال جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات ،ولم
يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى وصلوا إلى إخراجه ،والبلء موكل بالمنطق فهم
طهّرُونَ ْ}
قالواَ { :أخْرِجُو ُهمْ مِنْ قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّن ُهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ
ومفهوم هذا الكلم " :وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ونجاة من
خرج منها "
ولهذا قال تعالى { :فَأَنْجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ إِلّا امْرَأَ َتهُ قَدّرْنَاهَا مِنَ ا ْلغَابِرِينَ ْ} وذلك لما جاءته الملئكة في
صورة أضياف وسمع بهم قومه فجاءوا إليه يريدونهم بالشر وأغلق الباب دونهم واشتد المر
عليه ،ثم أخبرته الملئكة عن جلية الحال وأنهم جاءوا لستنقاذه وإخراجه من بين أظهرهم وأنهم
يريدون إهلكهم وأن موعدهم الصبح ،وأمروه أن يسري بأهله ليل إل امرأته فإنه سيصيبها ما
أصابهم فخرج بأهله ليل فنجوا وصبحهم العذاب ،فقلب ال عليهم ديارهم وجعل أعلها أسفلها
وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك.
ولهذا قال هنا { :وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ ا ْلمُنْذَرِينَ ْ} أي :بئس المطر مطرهم وبئس
العذاب عذابهم لنهم أنذروا وخوفوا فلم ينزجروا ولم يرتدعوا فأحل ال بهم عقابه الشديد.
أي :قل الحمد ل الذي يستحق كمال الحمد والمدح والثناء لكمال أوصافه وجميل معروفه وهباته
وعدله وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين ،وسلم أيضا على عباده الذين تخيرهم
واصطفاهم على العالمين من النبياء والمرسلين وصفوة ال من العالمين ،وذلك لرفع ذكرهم
وتنويها بقدرهم وسلمتهم من الشر والدناس ،وسلمة ما قالوه في ربهم من النقائص والعيوب.
{ آللّهُ خَيْرٌ أمَا يُشْ ِركُونَ ْ} وهذا استفهام قد تقرر وعرف ،أي :ال الرب العظيم كامل الوصاف
عظيم اللطاف خير أم الصنام والوثان التي عبدوها معه ،وهي ناقصة من كل وجه ،ل تنفع ول
تضر ول تملك لنفسها ول لعابديها مثقال ذرة من الخير فال خير مما يشركون.
ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ما] سواه هي
الباطل فقال:
أي :أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملئكة والرض وما فيها من
جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.
جةٍ } أي:
سمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ْ} أي :بساتين { ذَاتَ َبهْ َ
{ وَأَنْ َزلَ َلكُمْ ْ} أي :لجلكم { مِنَ ال ّ
حسن منظر من كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارها { ،مَا كَانَ َلكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَ َرهَا ْ} لول منة
ال عليكم بإنزال المطر { .أَإِلَهٌ مَعَ اللّهِ ْ} فعل هذه الفعال حتى يعبد معه ويشرك به؟ { َبلْ هُمْ َقوْمٌ
َيعْدِلُونَ ْ} به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل
الرزق.
ج َعلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ
سيَ وَ َ
ج َعلَ َلهَا َروَا ِ
خلَاَلهَا أَ ْنهَارًا وَ َ
ج َعلَ ِ
ج َعلَ الْأَ ْرضَ قَرَارًا وَ َ
{ َ { }ْ 61أمّنْ َ
حَاجِزًا أَإَِلهٌ مَعَ اللّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ}
أي :هل الصنام والوثان الناقصة من كل وجه التي ل فعل منها ول رزق ول نفع خير؟ أم ال
ج َعلَ الْأَ ْرضَ قَرَارًا ْ} يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث والبناء والذهاب
الذي { َ
ج َعلَ خِلَاَلهَا أَ ْنهَارًا } أي :جعل في خلل الرض أنهارا ينتفع بها العباد في زروعهم
واليابَ { .و َ
وأشجارهم ،وشربهم وشرب مواشيهم.
سيَ } أي :جبال ترسيها وتثبتها لئل تميد وتكون أوتادا لها لئل تضطرب.
ج َعلَ َلهَا َروَا ِ
{ وَ َ
ج َعلَ بَيْنَ الْ َبحْرَيْنِ } البحر المالح والبحر العذب { حَاجِزًا } يمنع من اختلطهما فتفوت المنفعة
{ وَ َ
المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من الرض ،جعل مجرى النهار في الرض
مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها { ،أَإِلَهٌ مَعَ اللّهِ ْ} فعل ذلك حتى يعدل به ال
ويشرك به معهَ { .بلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ْ} فيشركون بال تقليدا لرؤسائهم وإل فلو علموا حق العلم
لم يشركوا به شيئا.
أي :هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلص مما هو
فيه إل ال وحده؟ ومن يكشف السوء أي :البلء والشر والنقمة إل ال وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء
الرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه
سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع ال يفعل هذه الفعال؟ ل أحد يفعل مع ال شيئا من ذلك حتى
بإقراركم أيها المشركون ،ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا ال مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده
المقتدر على دفعه وإزالته { ،قَلِيلًا مَا تَ َذكّرُونَ ْ} أي :قليل تذكركم وتدبركم للمور التي إذا
تذكرتموها ادّكرتم ورجعتم إلى الهدى ،ولكن الغفلة والعراض شامل لكم فلذلك ما أرعويتم ول
اهتديتم.
حمَتِهِ أَإَِلهٌ مَعَ
سلُ الرّيَاحَ ُبشْرًا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ
ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْ ِر َومَنْ يُرْ ِ
{ َ { } 63أمّنْ َيهْدِيكُمْ فِي ُ
عمّا يُشْ ِركُونَ }
اللّهِ َتعَالَى اللّهُ َ
أي :من هو الذي يهديكم حين تكونون في ظلمات البر والبحر ،حيث ل دليل ول معلم يرى ول
وسيلة إلى النجاة إل هدايته لكم ،وتيسيره الطريق وجعل ما جعل لكم من السباب التي تهتدون
حمَتِهِ } أي :بين يدي المطر ،فيرسلها فتثير السحاب ثم
سلُ الرّيَاحَ ُبشْرًا بَيْنَ َي َديْ رَ ْ
بهاَ { ،ومَنْ يُرْ ِ
تؤلفه ثم تجمعه ثم تلقحه ثم تدره ،فيستبشر بذلك العباد قبل نزول المطر { .أَِإلَهٌ مَعَ اللّهِ } فعل
عمّا
ذلك؟ أم هو وحده الذي انفرد به؟ فلم أشركتم معه غيره وعبدتم سواه؟ { َتعَالَى اللّهُ َ
يُشْ ِركُونَ } تعاظم وتنزه وتقدس عن شركهم وتسويتهم به غيره.
أي :من هو الذي يبدأ الخلق وينشئ المخلوقات ويبتدئ خلقها ،ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور؟
ومن يرزقكم من السماء والرض بالمطر والنبات؟.
{ أَِإلَهٌ مَعَ اللّهِ } يفعل ذلك ويقدر عليه؟ { ُقلْ هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ } أي :حجتكم ودليلكم على ما قلتم
{ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وإل فبتقدير أنكم تقولون :إن الصنام لها مشاركة له في شيء من ذلك فذلك
مجرد دعوى صدقوها بالبرهان ،وإل فاعرفوا أنكم مبطلون ل حجة لكم ،فارجعوا إلى الدلة
اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن ال هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن
تصرف له جميع أنواع العبادات.
يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والرض كقوله تعالى { :وَعِنْ َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَا َيعَْل ُمهَا
ض وَلَا
ن وَ َرقَةٍ إِلّا َيعَْل ُمهَا وَلَا حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الْأَ ْر ِ
سقُطُ مِ ْ
إِلّا ُه َو وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْ ِر َومَا َت ْ
ث وَ َيعْلَمُ مَا
ب وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وكقوله { :إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ
ط ٍ
رَ ْ
فِي الْأَرْحَامِ } إلى آخر السورة.
فهذه الغيوب ونحوها اختص ال بعلمها فلم يعلمها ملك مقرب ول نبي مرسل ،وإذا كان هو
المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا فهو الذي ل تنبغي العبادة إل له ،ثم
أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالخرة منتقل من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقالَ { :ومَا
شعُرُونَ } أي :وما يدرون { أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ } أي :متى البعث والنشور والقيام من القبور أي :فلذلك
يَ ْ
لم يستعدوا.
{ َبلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ فِي الْآخِ َرةِ } أي :بل ضعف ،وقل ولم يكن يقينا ،ول علما واصل إلى القلب
وهذا أقل وأدنى درجة للعلم ضعفه ووهاؤه ،بل ليس عندهم علم قوي ول ضعيف وإنما { هُمْ فِي
شكّ مِ ْنهَا } أي :من الخرة ،والشك زال به العلم لن العلم بجميع مراتبه ل يجامع الشكَ { ،بلْ هُمْ
َ
عمُونَ } قد عميت عنها بصائرهم ،ولم يكن في قلوبهم من وقوعها ول
مِ ْنهَا } أي :من الخرة { َ
احتمال بل أنكروها واستبعدوها ،ولهذا قالَ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ِئذَا كُنّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنّا
َلمُخْ َرجُونَ } أي :هذا بعيد غير ممكن قاسوا قدرة كامل القدرة بقدرهم الضعيفة.
ن وَآبَاؤُنَا مِنْ قَ ْبلُ } أي :فلم يجئنا ول رأينا منه شيئا { .إِنْ هَذَا
عدْنَا هَذَا } أي :البعث { نَحْ ُ
{ َلقَ ْد وُ ِ
إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي :قصصهم وأخبارهم التي تقطع بها الوقات وليس لها أصل ول صدق
فيها.
فانتقل في الخبار عن أحوال المكذبين بالخبار أنهم ل يدرون متى وقت الخرة ثم الخبار
بضعف علمهم فيها ثم الخبار بأنه شك ثم الخبار بأنه عمى ثم الخبار بإنكارهم لذلك واستبعادهم
وقوعه .أي :وبسبب هذه الحوال ترحل خوف الخرة من قلوبهم فأقدموا على معاصي ال وسهل
عليهم تكذيب الحق والتصديق بالباطل واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات فخسروا دنياهم
وأخراهم.
( )69ثم نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقالُ { :قلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَانْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ
عَاقِبَةُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } فل تجدون مجرما قد استمر على إجرامه ،إل وعاقبته شر عاقبة وقد أحل ال
به من الشر والعقوبة ما يليق بحاله.
{ { } 72 - 70وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا َتكُ فِي ضَيْقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ
عسَى أَنْ َيكُونَ َر ِدفَ َلكُمْ َب ْعضُ الّذِي َتسْ َتعْجِلُونَ }
كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ َ
أي :ل تحزن يا محمد على هؤلء المكذبين وعدم إيمانهم ،فإنك لو علمت ما فيهم من الشر وأنهم
ل يصلحون للخير ،لم تأس ولم تحزن ،ول يضق صدرك ول تقلق نفسك بمكرهم فإن مكرهم
سيعود عاقبته عليهم { ،وَ َي ْمكُرُونَ وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ } ويقول المكذبون بالمعاد
وبالحق الذي جاء به الرسول مستعجلين للعذاب { :مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ }
وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم فإن وقوعه ووقته قد أجله ال بأجله وقدره بقدر ،فل يدل عدم
استعجاله على بعض مطلوبهم.
ولكن -مع هذا -قال تعالى محذرا لهم وقوع ما استعجلوهُ { :قلْ عَسَى أَنْ َيكُونَ َر ِدفَ َل ُكمْ } أي:
قرب منكم وأوشك أن يقع بكم { َب ْعضُ الّذِي تَسْ َت ْعجِلُونَ } من العذاب.
ينبه عباده على سعة جوده وكثرة أفضاله ويحثهم على شكرها ،ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا
عن الشكر واشتغلوا بالنعم عن المنعم.
{ وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َيعَْلمُ مَا ُتكِنّ } أي :تنطوي عليه { صُدُورُهُ ْم َومَا ُيعْلِنُونَ } فليحذروا من عالم السرائر
والظواهر وليراقبوه.
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ } أي :خفية وسر من أسرار العالم العلوي والسفلي { إِلّا فِي
{ َومَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي ال ّ
كِتَابٍ مُبِينٍ } قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة ،فكل حادث يحدث
جلي أو خفي إل وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ.
{ { } 77 - 76إِنّ هَذَا ا ْلقُرْآنَ َي ُقصّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ َأكْثَرَ الّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَِلفُونَ * وَإِنّهُ َلهُدًى
حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }
وَرَ ْ
وهذا خبر عن هيمنة القرآن على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه ،لما كان فيها قد وقع فيه
اشتباه واختلف عند بني إسرائيل فقصه هذا القرآن قصا زال به الشكال وبين به الصواب من
المسائل المختلف فيها .وإذا كان بهذه المثابة من الجللة والوضوح وإزالة كل خلف وفصل كل
مشكل كان أعظم نعم ال على العباد ولكن ما كل أحد يقابل النعمة بالشكر .ولهذا بين أن نفعه
ونوره وهداه مختص بالمؤمنين فقال { :وَإِنّهُ َلهُدًى }
أي :إن ال تعالى سيفصل بين المختصين وسيحكم بين المختلفين بحكمه العدل وقضائه القسط،
فالمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين لخفاء الدليل أو لبعض المقاصد فإنه سيبين
فيها الحق المطابق للواقع حين يحكم ال فيها { ،وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر الخلئق فأذعنوا له،
{ ا ْلعَلِيمُ } بجميع الشياء { ا ْلعَلِيمُ } بأقوال المختلفين وعن ماذا صدرت وعن غاياتها ومقاصدها
وسيجازي كل بما علمه فيه.
سمِعُ الصّمّ
سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ
حقّ ا ْلمُبِينِ * إِ ّنكَ لَا تُ ْ
{ { } 81 - 79فَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ إِ ّنكَ عَلَى الْ َ
سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ
ن ضَلَالَ ِت ِهمْ إِنْ تُ ْ
الدّعَاءَ إِذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ * َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ
مُسِْلمُونَ }
أي :اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإقامة الدين وجهاد
حقّ ا ْلمُبِينِ } الواضح والذي على الحق يدعو إليه ،ويقوم بنصرته أحق من
العداء { .إِ ّنكَ عَلَى الْ َ
غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه ل شك فيه ول مرية .وأيضا فهو حق
في غاية البيان ل خفاء به ول اشتباه ،وإذا قمت بما حملت وتوكلت على ال في ذلك فل يضرك
سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ }
سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ
ضلل من ضل وليس عليك هداهم فلهذا قال { :إِ ّنكَ لَا تُ ْ
أي :حين تدعوهم وتناديهم ،وخصوصا { إِذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ } فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم.
ت وََلكِنّ اللّهَ َي ْهدِي
ن ضَلَالَ ِتهِمْ } كما قال تعالى { :إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْب َ
{ َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ
سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ } أي :هؤلء الذين ينقادون لك ،الذين
مَنْ يَشَاءُ } { إِنْ تُ ْ
يؤمنون بآيات ال وينقادون لها بأعمالهم واستسلمهم كما قال تعالى { :إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ الّذِينَ
جعُونَ }
س َمعُونَ وَا ْلمَوْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَ ْيهِ يُرْ َ
يَ ْ
{ { } 82وَإِذَا َوقَعَ ا ْل َقوْلُ عَلَ ْيهِمْ أَخْ َرجْنَا َلهُمْ دَابّةً مِنَ الْأَ ْرضِ ُتكَّل ُمهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا
يُوقِنُونَ }
أي :إذا وقع على الناس القول الذي حتمه ال وفرض وقتهَ { .أخْرَجْنَا َلهُمْ دَابّةً } خارجة { مِنَ
الْأَ ْرضِ } أو دابة من دواب الرض ليست من السماء .وهذه الدابة { ُتكَّل ُمهُمْ } أي :تكلم العباد أن
الناس كانوا بآياتنا ل يوقنون ،أي :لجل أن الناس ضعف علمهم ويقينهم بآيات ال ،فإظهار ال
هذه الدابة من آيات ال العجيبة ليبين للناس ما كانوا فيه يمترون.
وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة كما
تكاثرت بذلك الحاديث [ولم يأت دليل يدل على كيفيتها ول من أي :نوع هي وإنما دلت الية
الكريمة على أن ال يخرجها للناس وأن هذا التكليم منها خارق للعوائد المألوفة وأنه من الدلة
على صدق ما أخبر ال به في كتابه وال أعلم]
حشُرُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َفوْجًا ِممّنْ ُيكَ ّذبُ بِآيَاتِنَا َف ُهمْ يُوزَعُونَ * حَتّى إِذَا جَاءُوا
{ { } 85 - 83وَ َيوْمَ نَ ْ
قَالَ َأكَذّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ ُتحِيطُوا ِبهَا عِ ْلمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * َو َوقَعَ ا ْلقَ ْولُ عَلَ ْيهِمْ ِبمَا ظََلمُوا َف ُهمْ لَا
طقُونَ }
يَنْ ِ
يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة وأن ال يجمعهم ،ويحشر من كل أمة من المم
فوجا وطائفة { ِممّنْ ُيكَ ّذبُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ يُوزَعُونَ } يجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم
ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم.
{ حَتّى إِذَا جَاءُوا } وحضروا قال لهم موبخا ومقرعاَ { :أ َكذّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ ُتحِيطُوا ِبهَا } العلم أي:
الواجب عليكم التوقف حتى ينكشف لكم الحق وأن ل تتكلموا إل بعلم ،فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا
به علما؟ { أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } أي :يسألهم عن علمهم وعن عملهم فيجد عليهم تكذيبا بالحق،
وعملهم لغير ال أو على غير سنة رسولهم.
{ َو َوقَعَ ا ْل َقوْلُ عَلَ ْيهِمْ ِبمَا ظََلمُوا } أي :حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم الذي استمروا عليه
طقُونَ } لنه ل حجة لهم.
وتوجهت عليهم الحجةَ { ،فهُمْ لَا يَ ْن ِ
سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
جعَلْنَا اللّ ْيلَ لِ َي ْ
{ { } 86أَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ
أي :ألم يشاهدوا هذه الية العظيمة والنعمة الجسيمة وهو تسخير ال لهم الليل والنهار ،هذا بظلمته
ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا للعمل ،وهذا بضيائه لينتشروا فيه في معاشهم
وتصرفاتهم { .إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } على كمال وحدانية ال وسبوغ نعمته.
يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب ،ومزعجات القلوب
سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ } أي:
فقال { :وَ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ َففَ ِزعَ } بسبب النفخ فيه { مَنْ فِي ال ّ
انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له { .إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ } ممن أكرمه
ال وثبته وحفظه من الفزعَ { .و ُكلّ } من الخلق عند النفخ في الصور { أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ } صاغرين
حمَنِ عَبْدًا } ففي ذلك اليوم
ت وَالْأَ ْرضِ إِلّا آتِي الرّ ْ
سمَاوَا ِ
ذليلين ،كما قال تعالى { :إِنْ ُكلّ مَنْ فِي ال ّ
يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك.
حسَ ُبهَا جَامِ َدةً } ل تفقد [شيئا] منها وتظنها باقية على الحال
ومن هوله أنك { ترى ا ْلجِبَالَ تَ ْ
المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد والهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا.
ولهذا قال { :وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { صُنْعَ اللّهِ الّذِي أَ ْتقَنَ
شيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْفعَلُونَ } فيجازيكم بأعمالكم.
ُكلّ َ
ثم بين كيفية جزائه فقال { :مَنْ جَاءَ بِا ْلحَسَ َنةِ } اسم جنس يشمل كل حسنة قولية أو فعلية أو قلبية
{ فََلهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا } هذا أقل التفضيل
{ وَ ُهمْ مِنْ فَ َزعٍ َي ْومَئِذٍ آمِنُونَ } أي :من المر الذي فزع الخلق لجله آمنون وإن كانوا يفزعون
معهم.
أي :قل لهم يا محمد { إِ ّنمَا ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ َربّ َه ِذهِ الْبَلْ َدةِ } أي :مكة المكرمة التي حرمها وأنعم
شيْءٍ } من العلويات والسفليات أتى به
على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول { .وَلَهُ ُكلّ َ
لئل يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده { .وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ } أي :أبادر إلى
السلم ،وقد فعل صلى ال عليه وسلم فإنه أول هذه المة إسلما وأعظمها استسلما.
{ و } أمرت أيضا { أن أَتُْلوَ } عليكم { ا ْلقُرْآنُ } لتهتدوا به وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا
الذي علي وقد أديتهَ { ،فمَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِهِ } نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه { َومَنْ
ضلّ َف ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } وليس بيدي من الهداية شيء.
َ
ح ْمدُ لِلّهِ } الذي له الحمد في الولى والخرة ومن جميع الخلق ،خصوصا أهل
{ َو ُقلِ الْ َ
الختصاص والصفوة من عباده ،فإن الذي ينبغي أن يقع منهم من الحمد والثناء على ربهم أعظم
مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم وكمال قربهم منه وكثرة خيراته عليهم.
{ سَيُرِيكُمْ آيا ِتهِ فَ َتعْ ِرفُو َنهَا } معرفة تدلكم على الحق والباطل ،فل بد أن يريكم من آياته ما
حيّ عَنْ بَيّنَةٍ }
تستنيرون به في الظلمات { .لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّ َن ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ
عمّا َت ْعمَلُونَ } بل قد علم ما أنتم عليه من العمال والحوال وعلم مقدار جزاء
{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
تلك العمال وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه ول يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه.
ميسر المور العسيرة وفاتح أبواب بركاته والمجزل في جميع الوقات هباته ،ميسر القرآن
للمتذكرين ومسهل طرقه وأبوابه للمقبلين وممد مائدة خيراته ومبراته للمتفكرين والحمد ل رب
العالمين .وصلى ال على محمد وآله وصحبه وسلم.
على يد جامعه وممليه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال السعدي غفر ال له ولوالديه ولجميع
المسلمين ،وذلك في 22رمضان سنة .1343
المجلد السادس من تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان ،من منن ال على الفقير إلى
المعيد المبدي :عبده وابن عبده وابن أمته :عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال بن سعدي غفر ال
له آمين.
حمَنِ الرّحِيمِ طسم * تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَ ْيكَ مِنْ نَبَإِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-51بِ ْ
حقّ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } إلى آخر القصة
عوْنَ بِالْ َ
مُوسَى َوفِرْ َ
{ تِ ْلكَ } اليات المستحقة للتعظيم والتفخيم { آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ } لكل أمر يحتاج إليه العباد ،من
معرفة ربهم ،ومعرفة حقوقه ،ومعرفة أوليائه وأعدائه ،ومعرفة وقائعه وأيامه ،ومعرفة ثواب
العمال ،وجزاء العمال ،فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين ،وجلّاها للعباد ،ووضحها.
ومن جملة ما أبان ،قصة موسى وفرعون ،فإنه أبداها ،وأعادها في عدة مواضع ،وبسطها في هذا
حقّ } فإن نبأهما غريب ،وخبرهما عجيب.
عوْنَ بِالْ َ
الموضع فقال { :نَتْلُوا عَلَ ْيكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى َوفِرْ َ
{ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فإليهم يساق الخطاب ،ويوجه الكلم ،حيث إن معهم من اليمان ،ما يقبلون به
على تدبّر ذلك ،وتلقّيه بالقبول والهتداء بمواقع العبر ،ويزدادون به إيمانا ويقينا ،وخيرا إلى
خيرهم ،وأما من عداهم ،فل يستفيدون منه إل إقامة الحجة عليهم ،وصانه اللّه عنهم ،وجعل بينهم
وبينه حجابا أن يفقهوه.
عوْنَ عَلَا فِي الْأَ ْرضِ } في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته ،فصار من
فأول هذه القصة { إِنّ فِرْ َ
أهل العلو فيها ،ل من العلين فيها.
ج َعلَ َأهَْلهَا شِ َيعًا } أي :طوائف متفرقة ،يتصرف فيهم بشهوته ،وينفذ فيهم ما أراد من قهره،
{ َو َ
وسطوته.
ضعِفُ طَا ِئفَةً مِ ْنهُمْ } وتلك الطائفة ،هم بنو إسرائيل ،الذين فضلهم اللّه على العالمين ،الذين
{ َيسْ َت ْ
ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم ،ولكنه استضعفهم ،بحيث إنه رأى أنهم ل منعة لهم تمنعهم مما أراده
فيهم ،فصار ل يبالي بهم ،ول يهتم بشأنهم ،وبلغت به الحال إلى أنه { يُذَبّحُ أَبْنَاءَ ُه ْم وَيَسْتَحْيِي
نِسَا َءهُمْ } خوفا من أن يكثروا ،فيغمروه في بلده ،ويصير لهم الملك.
{ إِنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ } الذين ل قصد لهم في إصلح الدين ،ول إصلح الدنيا ،وهذا من إفساده
في الرض.
ضعِفُوا فِي الْأَ ْرضِ } بأن نزيل عنهم مواد الستضعاف ،ونهلك من
{ وَنُرِيدُ أَنْ َنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ
جعََلهُمْ أَ ِئمّةً } في الدين ،وذلك ل يحصل مع استضعاف ،بل ل بد
قاومهم ،ونخذل من ناوأهم { .وَنَ ْ
جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ } للرض ،الذين لهم العاقبة في الدنيا
من تمكين في الرض ،وقدرة تامة { ،وَ َن ْ
قبل الخرة.
{ وَ ُن َمكّنَ َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ } فهذه المور كلها ،قد تعلقت بها إرادة اللّه ،وجرت بها مشيئته { ،و }
ن وَهَامَانَ } وزيره { وَجُنُودَ ُهمَا } التي بها صالوا وجالوا ،وعلوا
عوْ َ
كذلك نريد أن { نُ ِريَ فِرْ َ
وبغوا { مِ ْنهُمْ } أي :من هذه الطائفة المستضعفة { .مَا كَانُوا َيحْذَرُونَ } من إخراجهم من ديارهم،
ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ،وكسر شوكتهم ،وتقتيل أبنائهم ،الذين هم محل ذلك ،فكل هذا قد
أراده اللّه ،وإذا أراد أمرا سهل أسبابه ،ونهج طرقه ،وهذا المر كذلك ،فإنه قدر وأجرى من
السباب -التي لم يشعر بها ل أولياؤه ول أعداؤه -ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود.
فأول ذلك ،لما أوجد اللّه رسوله موسى ،الذي جعل استنقاذ هذا الشعب السرائيلي على يديه
وبسببه ،وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ،التي يذبحون بها البناء ،أوحى إلى أمه أن ترضعه،
ويمكث عندها.
خ ْفتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم { ،فَأَ ْلقِيهِ فِي الْيَمّ } أي نيل
{ فَِإذَا ِ
ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }
مصر ،في وسط تابوت مغلق { ،وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنّا رَادّوهُ إِلَ ْي ِ
فبشرها بأنه سيرده عليها ،وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ،ويجعله اللّه رسول.
وهذا من أعظم البشائر الجليلة ،وتقديم هذه البشارة لم موسى ،ليطمئن قلبها ،ويسكن روعها،
فإنها خافت عليه ،وفعلت ما أمرت به ،ألقته في اليم ،فساقه اللّه تعالى.
ع ُدوّا َوحَزَنًا }
عوْنَ } فصار من لقطهم ،وهم الذين باشروا وجدانه { ،لِ َيكُونَ َلهُمْ َ
طهُ آلُ فِرْ َ
{ فَالْ َتقَ َ
أي :لتكون العاقبة والمآل من هذا اللتقاط ،أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم ،بسبب أن الحذر ل
ينفع من القدر ،وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل ،قيض اللّه أن يكون زعيمهم ،يتربى تحت
أيديهم ،وعلى نظرهم ،وبكفالتهم.
وعند التدبر والتأمل ،تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل ،ودفع كثير من المور الفادحة
بهم ،ومنع كثير من التعديات قبل رسالته ،بحيث إنه صار من كبار المملكة.
وبالطبع ،إنه ل بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا ،وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة
المتوقدة ،ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف -الذي بلغ بهم الذل والهانة إلى ما قص
اللّه علينا بعضه -أن صار بعض أفراده ،ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الرض ،كما
سيأتي بيانه.
وهذا مقدمة للظهور ،فإن اللّه تعالى من سنته الجارية ،أن جعل المور تمشي على التدريج شيئا
فشيئا ،ول تأتي دفعة واحدة.
ن وَجُنُودَ ُهمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } أي :فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم ونكيد
ن وَهَامَا َ
عوْ َ
وقوله { :إِنّ فِرْ َ
هم ،جزاء على مكرهم وكيدهم.
فلما التقطه آل فرعون ،حنّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم
" َوقَاَلتِ " هذا الولد { قُ ّرةُ عَيْنٍ لِي وََلكَ لَا َتقْتُلُوهُ } أي :أبقه لنا ،لِتقرّ به أعيننا ،ونستر به في
حياتنا.
عسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا } أي :ل يخلو ،إما أن يكون بمنزلة الخدم ،الذين يسعون في نفعنا
{ َ
وخدمتنا ،أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك ،نجعله ولدا لنا ،ونكرمه ،ونجله.
فقدّر اللّه تعالى ،أنه نفع امرأة فرعون ،التي قالت تلك المقالة ،فإنه لما صار قرة عين لها ،وأحبته
حبا شديدا ،فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله ،فبادرت إلى السلم
واليمان به ،رضي اللّه عنها وأرضاها.
شعُرُونَ } ما جرى به
قال اللّه تعالى هذه المراجعات [والمقاولت] في شأن موسى { :وَهُمْ لَا يَ ْ
القلم ،ومضى به القدر ،من وصوله إلى ما وصل إليه ،وهذا من لطفه تعالى ،فإنهم لو شعروا،
لكان لهم وله ،شأن آخر.
ولما فقدت موسى أمه ،حزنت حزنا شديدا ،وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها ،على
مقتضى الحالة البشرية ،مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف ،ووعدها برده.
{ إِنْ كَا َدتْ لَتُبْدِي ِبهِ } أي :بما في قلبها { َلوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْ ِبهَا } فثبتناها ،فصبرت ،ولم تبد
به { .لِ َتكُونَ } بذلك الصبر والثبات { مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت،
ازداد بذلك إيمانه ،ودل ذلك ،على أن استمرار الجزع مع العبد ،دليل على ضعف إيمانه.
{ َوقَاَلتِ } أم موسى { لِأُخْ ِتهِ ُقصّيهِ } أي :اذهبي [فقصي الثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن
شعُرُونَ } أي:
يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] { فَ َبصُ َرتْ ِبهِ عَنْ جُ ُنبٍ وَ ُهمْ لَا يَ ْ
أبصرته على وجه ،كأنها مارة ل قصد لها فيه.
وهذا من تمام الحزم والحذر ،فإنها لو أبصرته ،وجاءت إليهم قاصدة ،لظنوا بها أنها هي التي
ألقته ،فربما عزموا على ذبحه ،عقوبة لهله.
ومن لطف اللّه بموسى وأمه ،أن منعه من قبول ثدي امرأة ،فأخرجوه إلى السوق رحمة به ،ولعل
أحدا يطلبه ،فجاءت أخته ،وهو بتلك الحال { َفقَاَلتْ َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى أَ ْهلِ بَ ْيتٍ َيكْفُلُونَهُ َل ُك ْم وَهُمْ َلهُ
نَاصِحُونَ }
جلّ غرضهم ،فإنهم أحبوه حبا شديدا ،وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت ،فلما
وهذا ُ
قالت لهم أخته تلك المقالة ،المشتملة على الترغيب ،في أهل هذا البيت ،بتمام حفظه وكفالته
والنصح له ،بادروا إلى إجابتها ،فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت.
{ فَ َردَدْنَاهُ إِلَى ُأمّهِ } كما وعدناها بذلك { َكيْ َتقَرّ عَيْ ُنهَا وَلَا َتحْزَنَ } بحيث إنه تربى عندها على
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ
وجه تكون فيه آمنة مطمئنة ،تفرح به ،وتأخذ الجرة الكثيرة على ذلك { ،وَلِ َتعْلَمَ أَ ّ
} فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا ،ليطمئن بذلك قلبها ،ويزداد إيمانها ،ولتعلم أنه سيحصل
وعد اللّه في حفظه ورسالته { ،وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ } فإذا رأوا السبب متشوشا ،شوش ذلك
إيمانهم ،لعدم علمهم الكامل ،أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة ،بين يدي المور
العالية والمطالب الفاضلة ،فاستمر موسى عليه الصلة والسلم عند آل فرعون ،يتربى في
سلطانهم ،ويركب مراكبهم ،ويلبس ملبسهم ،وأمه بذلك مطمئنة ،قد استقر أنها أمه من الرضاع،
ولم يستنكر ملزمته إياها وحنوها عليها.
وتأمل هذا اللطف ،وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه ،وتيسير المر ،الذي صار به التعلق
بينه وبينها ،الذي بان للناس أنه هو الرضاع ،الذي بسببه يسميها ُأمّا ،فكان الكلم الكثير منه ومن
غيره في ذلك كله ،صدقا وحقا.
{ وََلمّا بَلَغَ أَشُ ّدهُ } من القوة والعقل واللب ،وذلك نحو أربعين سنة في الغالب { ،وَاسْ َتوَى } كملت
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا } أي :حكما يعرف به الحكام الشرعية ،ويحكم به بين
فيه تلك المور { آتَيْنَاهُ ُ
الناس ،وعلما كثيرا.
حسِنِينَ } في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه ،نعطيهم علما وحكما بحسب
{ َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
إحسانهم ،ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلم.
غفْلَةٍ مِنْ َأهِْلهَا } إما وقت القائلة ،أو غير ذلك من الوقات التي بها
خلَ ا ْلمَدِي َنةَ عَلَى حِينِ َ
{ وَ َد َ
يغفلون عن النتشارَ { .فوَجَدَ فِيهَا َرجُلَيْنِ َيقْتَتِلَانِ } أي :يتخاصمان ويتضاربان { َهذَا مِنْ شِيعَتِهِ }
أي :من بني إسرائيل { وَ َهذَا مِنْ عَ ُد ّوهِ } القبط.
{ فَاسْ َتغَاثَهُ الّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَ ُد ّوهِ } لنه قد اشتهر ،وعلم الناس أنه من بني
إسرائيل ،واستغاثته لموسى ،دليل على أنه بلغ موسى عليه السلم مبلغا يخاف منه ،ويرجى من
بيت المملكة والسلطان.
{ َف َوكَ َزهُ مُوسَى } أي :وكز الذي من عدوه ،استجابة لستغاثة السرائيليَ { ،ف َقضَى عَلَ ْيهِ } أي:
أماته من تلك الوكزة ،لشدتها وقوة موسى.
ظهِيرًا }
فب { قَالَ } موسى { َربّ ِبمَا أَ ْن َع ْمتَ عََليّ } بالتوبة والمغفرة ،والنعم الكثيرة { ،فَلَنْ َأكُونَ َ
أي :معينا ومساعدا { ِل ْلمُجْ ِرمِينَ } أي :ل أعين أحدا على معصية ،وهذا وعد من موسى عليه
السلم ،بسبب منة اللّه عليه ،أن ل يعين مجرما ،كما فعل في قتل القبطي .وهذا يفيد أن النعم
تقتضي من العبد فعل الخير ،وترك الشر.
{ فب } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { َأصْبَحَ فِي ا ْلمَدِينَةِ خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ } هل يشعر به آل
فرعون ،أم ل؟ وإنما خاف ،لنه قد علم ،أنه ل يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من
بني إسرائيل.
{ َومَا تُرِيدُ أَنْ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ } وإل ،فلو أردت الصلح لحلت بيني وبينه من غير قتل
أحد ،فانكف موسى عن قتله ،وارعوى لوعظه وزجره ،وشاع الخبر بما جرى من موسى في
هاتين القضيتين ،حتى تراود مل فرعون ،وفرعون على قتله ،وتشاوروا على ذلك.
وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح ،وبادرهم إلى الخبار لموسى بما اجتمع عليه رَ ْأيُ ملئهم .فقال{ :
سعَى } أي :ركضا على قدميه من نصحه لموسى ،وخوفه أن
جلٌ مِنْ َأ ْقصَى ا ْل َمدِينَةِ يَ ْ
وَجَاءَ َر ُ
يوقعوا به ،قبل أن يشعر ،فب { قَالَ يَا مُوسَى إِنّ ا ْلمَلَأَ يَأْ َتمِرُون } أي :يتشاورون فيك { لِ َيقْتُلُوكَ
صحِينَ } فامتثل نصحه.
فَاخْرُجْ } عن المدينة { إِنّي َلكَ مِنَ النّا ِ
{ َفخَرَجَ مِ ْنهَا خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ } أن يوقع به القتل ،ودعا اللّه ،و { قَالَ َربّ َنجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }
فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل ،فَتَوعّ ُدهُمْ له ظلم منهم وجراءة.
{ وََلمّا َتوَجّهَ تِ ْلقَاءَ مَدْيَنَ } أي :قاصدا بوجهه مدين ،وهو جنوبي فلسطين ،حيث ل ملك لفرعون،
سوَاءَ السّبِيلِ } أي :وسط الطريق المختصر ،الموصل إليها بسهولة
{ قَالَ عَسَى رَبّي أَنْ َيهْدِيَنِي َ
ورفق ،فهداه اللّه سواء السبيل ،فوصل إلى مدين.
{ َفقَالَ } في تلك الحالة ،مسترزقا ربه { َربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } أي :إني مفتقر
للخير الذي تسوقه إليّ وتيسره لي .وهذا سؤال منه بحاله ،والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان
المقال ،فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا .وأما المرأتان ،فذهبتا إلى أبيهما ،وأخبرتاه بما
جرى.
فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى ،فجاءته { َت ْمشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها،
وخلقها الحسن ،فإن الحياء من الخلق الفاضلة ،وخصوصا في النساء.
ويدل على أن موسى عليه السلم ،لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الجير والخادم الذي ل
يستحى منه عادة ،وإنما هو عزيز النفس ،رأت من حسن خلقه ومكارم أخلقه ،ما أوجب لها
سقَيْتَ لَنَا } أي :ل لِيمُنّ عليك ،بل
الحياء منه ،فب { قَاَلتِ } له { :إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِ َيجْزِ َيكَ أَجْرَ مَا َ
أنت الذي ابتدأتنا بالحسان ،وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك ،فأجابها موسى.
{ قَاَلتْ ِإحْدَا ُهمَا } أي :إحدى ابنتيه { يَا أَ َبتِ اسْتَأْجِ ْرهُ } أي :اجعله أجيرا عندك ،يرعى الغنم
ويسقيها { ،إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَ ْأجَ ْرتَ ا ْلقَ ِويّ الَْأمِينُ } أي :إن موسى أولى من استؤجر ،فإنه جمع
القوة والمانة ،وخير أجير استؤجر ،من جمعهما ،أي :القوة والقدرة على ما استؤجر عليه،
والمانة فيه بعدم الخيانة ،وهذان الوصفان ،ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للنسان عمل،
بإجارة أو غيرها.
فإن الخلل ل يكون إل بفقدهما أو فقد إحداهما ،وأما باجتماعهما ،فإن العمل يتم ويكمل ،وإنما
قالت ذلك ،لنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه ،ما عرفت به قوته ،وشاهدت
من أمانته وديانته ،وأنه رحمهما في حالة ل يرجى نفعهما ،وإنما قصده [بذلك] وجه اللّه تعالى.
فب { قَالَ } موسى عليه السلم -مجيبا له فيما طلبه منه { :-ذَِلكَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ } أي :هذا الشرط،
الذي أنت ذكرت ،رضيت به ،وقد تم فيما بيني وبينك { .أَ ّيمَا الَْأجَلَيْنِ َقضَ ْيتُ فَلَا عُ ْدوَانَ عََليّ }
سواء قضيت الثماني الواجبة ،أم تبرعت بالزائد عليها { وَاللّهُ عَلَى مَا َنقُولُ َوكِيلٌ } حافظ يراقبنا،
ويعلم ما تعاقدنا عليه.
وهذا الرجل ،أبو المرأتين ،صاحب مدين ،ليس بشعيب النبي المعروف ،كما اشتهر عند كثير من
الناس ،فإن هذا ،قول لم يدل عليه دليل ،وغاية ما يكون ،أن شعيبا عليه السلم ،قد كانت بلده
مدين ،وهذه القضية جرت في مدين ،فأين الملزمة بين المرين؟
وأيضا ،فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب ،فكيف بشخصه؟" ولو كان ذلك الرجل
شعيبا ،لذكره اللّه تعالى ،ولسمته المرأتان ،وأيضا فإن شعيبا عليه الصلة والسلم ،قد أهلك اللّه
قومه بتكذيبهم إياه ،ولم يبق إل من آمن به ،وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم،
بمنعهما عن الماء ،وصد ماشيتهما ،حتى يأتيهما رجل غريب ،فيحسن إليهما ،ويسقي ماشيتهما،
وما كان شعيب ،ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له ،وهو أفضل منه وأعلى درجة،
وال أعلم[ ،إل أن يقال :هذا قبل نبوة موسى فل منافاة وعلى كل حال ل يعتمد على أنه شعيب
النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم]
جلَ } يحتمل أنه قضى الجل الواجب ،أو الزائد عليه ،كما هو الظن
{ فََلمّا َقضَى مُوسَى الْأَ َ
بموسى ووفائه ،اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته ،ووطنه ،وعلم من طول المدة،
أنهم قد تناسوا ما صدر منه { .سَارَ بَِأهْلِهِ } قاصدا مصر { ،آنَسَ } أي :أبصر { مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ
صطَلُونَ }
ج ْذ َوةٍ مِنَ النّارِ َلعَّلكُمْ َت ْ
ستُ نَارًا َلعَلّي آتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبخَبَرٍ َأوْ َ
نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آنَ ْ
وكان قد أصابهم البرد ،وتاهوا الطريق.
{ } 30فلما أتاها نودي { يَا مُوسَى إِنّي أَنَا اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فأخبر بألوهيته وربوبيته ،ويلزم
من ذلك ،أن يأمره بعبادته ،وتألهه ،كما صرح به في الية الخرى { فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّلَاةَ ِل ِذكْرِي
}
عصَاكَ } فألقاها { فََلمّا رَآهَا َتهْتَزّ } تسعى سعيا شديدا ،ولها سورة ُمهِيلة { كَأَ ّنهَا جَانّ
{ وَأَنْ أَ ْلقِ َ
} َذكَرُ الحيات العظيم { ،وَلّى ُمدْبِرًا وَلَمْ ُي َع ّقبْ } أي :يرجع ،لستيلء الروع على قلبه ،فقال اللّه
خفْ إِ ّنكَ مِنَ الْآمِنِينَ } وهذا أبلغ ما يكون في التأمين ،وعدم الخوف.
له { :يَا مُوسَى َأقْ ِبلْ وَلَا َت َ
فإن قولهَ { :أقْ ِبلْ } يقتضي المر بإقباله ،ويجب عليه المتثال ،ولكن قد يكون إقباله ،وهو لم يزل
خفْ } أمر له بشيئين ،إقباله ،وأن ل يكون في قلبه خوف ،ولكن
في المر المخوف ،فقال { :وَلَا َت َ
يبقى احتمال ،وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف ،ولكن ل تحصل له الوقاية والمن من المكروه،
فقال { :إِ ّنكَ مِنَ الْآمِنِينَ } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه ،فأقبل موسى عليه السلم غير
خائف ول مرعوب ،بل مطمئنا ،واثقا بخبر ربه ،قد ازداد إيمانه ،وتم يقينه ،فهذه آية ،أراه اللّه
إياها قبل ذهابه إلى فرعون ،ليكون على يقين تام ،فيكون أجرأ له ،وأقوى وأصلب.
ثم أراه الية الخرى فقال { :اسُْلكْ يَ َدكَ } أي :أدخلها { فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }
فسلكها وأخرجها ،كما ذكر اللّه تعالى.
حكَ مِنَ الرّ ْهبِ } أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب
ضمُمْ إِلَ ْيكَ جَنَا َ
{ وَا ْ
والخوف { .فَذَا ِنكَ } انقلب العصا حية ،وخروج اليد بيضاء من غير سوء { بُ ْرهَانَانِ مِنْ رَ ّبكَ }
سقِينَ } فل يكفيهم مجرد
ن َومَلَئِهِ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
عوْ َ
أي :حجتان قاطعتان من اللّهِ { ،إلَى فِرْ َ
النذار وأمر الرسول إياهم ،بل ل بد من اليات الباهرة ،إن نفعت.
معتذرا من ربه ،وسائل له المعونة على ما حمله ،وذاكرا له الموانع التي فيه ،ليزيل ربه ما
يحذره منهاَ { .ربّ إِنّي قَتَ ْلتُ مِ ْنهُمْ َنفْسًا } أي { :فَأَخَافُ أَنْ َيقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ
ص ّدقُنِي } فإنه مع تضافر الخبار يقوى
مِنّي ِلسَانًا فَأَرْسِ ْلهُ َمعِي ِردْءًا } أي :معاونا ومساعدا { ُي َ
عضُ َدكَ بَِأخِيكَ } أي :نعاونك به ونقويك.
الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال { :سَ َنشُدّ َ
{ أَنْ ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت ،وهو وحده فريد ،وقد رجع إلى
بلده ،بعد ما كان شريدا ،فلم تزل الحوال تتطور ،والمور تنتقل ،حتى أنجز ال له موعوده،
ومكنه من العباد والبلد ،وصار له ولتباعه ،الغلبة والظهور.
فذهب موسى برسالة ربه { فََلمّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ } واضحات الدللة على ما قال لهم،
ليس فيها قصور ول خفاء { .قَالُوا } على وجه الظلم والعلو والعناد { مَا هَذَا إِلّا سِحْرٌ مُفْتَرًى }
كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر فيها الحق ،واستعل على الباطل ،واضمحل الباطل،
وخضع له الرؤساء العارفون حقائق المور { إِنّهُ َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ } هذا ،وهو الذكي
غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم { مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } ولكن الشقاء غالب.
َربّ ال ّ
س ِمعْنَا ِبهَذَا فِي آبَائِنَا الَْأوّلِينَ } وقد كذبوا في ذلك ،فإن اللّه أرسل يوسف عليه السلم قبل
{ َومَا َ
شكّ ِممّا جَا َءكُمْ بِهِ حَتّى
سفُ مِنْ قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ
موسى ،كما قال تعالى { وََلقَدْ جَا َءكُمْ يُو ُ
ضلّ اللّهُ مَنْ ُهوَ ُمسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ }
إِذَا هََلكَ قُلْتُمْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ مِنْ َبعْ ِدهِ َرسُولًا كَذَِلكَ ُي ِ
{ َوقَالَ مُوسَى } حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضلل ،وأن ما هم عليه هو الهدى:
{ رَبّي أَعَْلمُ ِبمَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى مِنْ عِ ْن ِد ِه َومَنْ َتكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ } أي :إذا لم تفد المقابلة معكم،
وتبيين اليات البينات ،وأبيتم إل التمادي في غيكم واللجاج على كفركم ،فاللّه تعالى العالم
بالمهتدي وغيره ،ومن تكون له عاقبة الدار ،نحن أم أنتم { إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ } فصار عاقبة
الدار لموسى وأتباعه ،والفلح والفوز ،وصار لولئك ،الخسار وسوء العاقبة والهلك.
عوْنُ } متجرئا على ربه ،ومموها على قومه السفهاء ،أخفاء العقول { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ مَا
{ َوقَالَ فِرْ َ
عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } أي :أنا وحدي ،إلهكم ومعبودكم ،ولو كان ثَمّ إله غيري ،لعلمته،
فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون! ،حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل تورع وقال:
{ مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وهذا ،لنه عندهم ،العالم الفاضل ،الذي مهما قال فهو الحق،
ومهما أمر أطاعوه.
فلما قال هذه المقالة ،التي قد تحتمل أن ثَمّ إلها غيره ،أراد أن يحقق النفي ،الذي جعل فيه ذلك
ج َعلْ
الحتمال ،فقال لب " هامان " { فََأ ْوقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطّينِ } ليجعل له لبنا من فخار { .فَا ْ
لِي صَرْحًا } أي :بناء { َلعَلّي َأطّلِعُ إِلَى إَِلهِ مُوسَى وَإِنّي لَأَظُنّهُ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } ولكن سنحقق هذا
الظن ،ونريكم كذب موسى .فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه ،التي ما بلغها آدمي ،كذب
موسى ،وادّعى أنه إله ،ونفى أن يكون له علم بالله الحق ،وفعل السباب ،ليتوصل إلى إله
موسى ،وكل هذا ترويج ،ولكن العجب من هؤلء المل ،الذين يزعمون أنهم كبار المملكة،
المدبرون لشئونها ،كيف لعب هذا الرجل بعقولهم ،واستخف أحلمهم ،وهذا لفسقهم الذي صار
صفة راسخة فيهم.
فسد دينهم ،ثم تبع ذلك فساد عقولهم ،فنسألك اللهم الثبات على اليمان ،وأن ل تزيغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا ،وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
جعُونَ } فلذلك تجرأوا ،وإل فلو علموا ،أو ظنوا أنهم يرجعون إلى اللّه،
{ َوظَنّوا أَ ّنهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْ َ
لما كان منهم ما كان.
{ فََأخَذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ } عندما استمر عنادهم وبغيهم { فَنَبَذْنَا ُهمْ فِي الْيَمّ فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الظّاِلمِينَ } كانت شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة ،المتصلة بالعقوبة
الخروية.
جعَلْنَاهُمْ أَ ِئمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ } أي جعلنا فرعون ومله من الئمة الذين يقتدي بهم ويمشي
{ َو َ
خلفهم إلى دار الخزي والشقاء { .وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ لَا يُ ْنصَرُونَ } من عذاب اللّه ،فهم أضعف شيء،
عن دفعه عن أنفسهم ،وليس لهم من دون اللّه ،من ولي ول نصير.
{ وَأَتْ َبعْنَا ُهمْ فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً } أي :وأتبعناهم ،زيادة في عقوبتهم وخزيهم ،في الدنيا لعنة،
يلعنون ،ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم ،وهذا أمر مشاهد ،فهم أئمة الملعونين في
الدنيا ومقدمتهم { ،وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ هُمْ مِنَ ا ْل َمقْبُوحِينَ } المبعدين ،المستقذرة أفعالهم .الذين اجتمع
عليهم مقت اللّه ،ومقت خلقه ،ومقت أنفسهم.
{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } وهو التوراة { مِنْ َبعْدِ مَا َأهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الْأُولَى } الذين كان خاتمتهم
في الهلك العام ،فرعون وجنوده .وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة ،انقطع الهلك العام،
وشرع جهاد الكفار بالسيف.
{ َبصَائِرَ لِلنّاسِ } أي :كتاب اللّه ،الذي أنزله على موسى ،فيه بصائر للناس ،أي :أمور يبصرون
بها ما ينفعهم ،وما يضرهم ،فتقوم الحجة على العاصي ،وينتفع بها المؤمن ،فتكون رحمة في
ح َمةً َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ }
حقه ،وهداية له إلى الصراط المستقيم ،ولهذا قال { :وَهُدًى وَرَ ْ
ولما قص اللّه على رسوله ما قص من هذه الخبار الغيبية ،نبه العباد على أن هذا خبر إلهي
محض ،ليس للرسول ،طريق إلى علمه إل من جهة الوحي ،ولهذا قالَ { :ومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ
}
أي :بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى المر { َومَا كُ ْنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ } على ذلك ،حتى
يقال :إنه وصل إليك من هذا الطريق.
{ وََلكِنّا أَ ْنشَأْنَا قُرُونًا فَ َتطَا َولَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل ُعمُرُ } فاندرس العلم ،ونسيت آياته ،فبعثناك في وقت اشتدت
الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليكَ { .ومَا كُ ْنتَ ثَاوِيًا } أي :مقيما { فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُو
عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا } أي :تعلمهم وتتعلم منهم ،حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين،
{ وََلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } أي :ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى ،أثر من آثار إرسالنا إياك،
حيٌ ل سبيل لك إلى علمه ،بدون إرسالنا.
َووَ ْ
{ َومَا كُ ْنتَ بِجَا ِنبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا } موسى ،وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين ،ويبلغهم رسالتنا،
ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك .والمقصود :أن الماجريات ،التي جرت لموسى عليه
الصلة والسلم في هذه الماكن ،فقصصتها كما هي ،من غير زيادة ول نقص ،ل يخلو من أحد
أمرين.
إما أن تكون حضرتها وشاهدتها ،أو ذهبت إلى محالّها فتعلمتها من أهلها ،فحينئذ قد ل يدل ذلك
على أنك رسول اللّه ،إذ المور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة ،من المور المشتركة غير
المختصة بالنبياء ،ولكن هذا قد عُلِ َم وتُ ُيقّن أنه ما كان وما صار ،فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم
ذلك.
فتعين المر الثاني ،وهو :أن هذا جاءك من قِ َبلِ اللّه ووحيه وإرساله ،فثبت بالدليل القطعي ،صحة
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ لِتُنْذِرَ َق ْومًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ َنذِيرٍ
رسالتك ،ورحمة اللّه بك للعباد ،ولهذا قال { :وََلكِنْ َر ْ
مِنْ قَبِْلكَ } أي :العرب ،وقريش ،فإن الرسالة [عندهم] ل تعرف وقت إرسال الرسول وقبله
بأزمان متطاولةَ { ،لعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } تفصيل الخير فيفعلونه ،والشر فيتركونه ،فإذا كنت بهذه
المنزلة ،كان الواجب عليهم ،المبادرة إلى اليمان بك ،وشكر هذه النعمة ،التي ل يقادر قدرها،
ول يدرك شكرها.
وإنذاره للعرب ل ينفي أن يكون مرسل لغيرهم ،فإنه عربي ،والقرآن الذي أنزل عليه عربي،
وأول من باشر بدعوته العرب ،فكانت رسالته إليهم أصل ،ولغيرهم تبعا ،كما قال تعالى { َأكَانَ
جلٍ مِ ْنهُمْ أَنْ أَ ْنذِرِ النّاسَ } { ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ
عجَبًا أَنْ َأوْحَيْنَا إِلَى َر ُ
لِلنّاسِ َ
جمِيعًا }
َ
{ وََلوْلَا أَنْ ُتصِي َبهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والمعاصي { فَ َيقُولُوا رَبّنَا َلوْلَا أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا
ك وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي :فأرسلناك يا محمد ،لدفع حجتهم ،وقطع مقالتهم.
رَسُولًا فَنَتّبِعَ آيَا ِت َ
{ فََلمّا جَاءَ ُهمُ ا ْلحَقّ } الذي ل شك فيه { مِنْ عِ ْندِنَا } وهو القرآن ،الذي أوحيناه إليك { قَالُوا }
مكذبين له ،ومعترضين بما ليس يعترض بهَ { :لوْلَا أُو ِتيَ مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ مُوسَى } أي :أنزل عليه
كتاب من السماء جملة واحدة .أي :فأما ما دام ينزل متفرقا ،فإنه ليس من عند اللّه .وأي :دليل
في هذا؟ وأي :شبهة أنه ليس من عند اللّه ،حين نزل مفرقا؟
بل من كمال هذا القرآن ،واعتناء اللّه بمن أنزل عليه ،أن نزل متفرقا ،ليثبت اللّه به فؤاد رسوله،
حسَنَ َتفْسِيرًا } وأيضا ،فإن
ق وَأَ ْ
ويحصل زيادة اليمان للمؤمنين { وَلَا يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ إِلّا جِئْنَاكَ بِا ْلحَ ّ
قياسهم على كتاب موسى ،قياس قد نقضوه ،فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا؟ ولهذا
قال { َأوَلَمْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ قَالُوا سِحْرَانِ َتظَاهَرَا } أي :القرآن والتوراة ،تعاونا
في سحرهما ،وإضلل الناس { َوقَالُوا إِنّا ِب ُكلّ كَافِرُونَ } فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق
بما ليس ببرهان ،وينقضونه بما ل ينقض ،ويقولون القوال المتناقضة المختلفة ،وهذا شأن كل
كافر .ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين ،ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا للحق،
واتباعا لمر عندهم خير منهما ،أم مجرد هوى؟.
قال تعالى ملزما لهم بذلك { :فَأْتُوا ِبكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُهوَ َأهْدَى مِ ْن ُهمَا } أي :من التوراة والقرآن
{ أَتّ ِب ْعهُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } ول سبيل لهم ول لغيرهم أن يأتوا بمثلهما ،فإنه ما طرق العالم منذ
خلقه اللّه ،مثل هذين الكتابين ،علما وهدى ،وبيانا ،ورحمة للخلق ،وهذا من كمال النصاف من
الداعي أن قال :أنا مقصودي الحق والهدى والرشد ،وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك،
الموافق لكتاب موسى ،فيجب علينا جميعا الذعان لهما واتباعهما ،من حيث كونهما هدى وحقا،
فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته ،وإل ،فل أترك هدى وحقا قد علمته لغير
هدى وحق .
فَإِنْ لَمْ َيسْتَجِيبُوا َلكَ } فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما { فَاعْلَمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ َأ ْهوَاءَهُمْ } أي :فاعلم أن
تركهم اتباعك ،ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ،ول إلى هدى ،وإنما ذلك مجرد اتباع لهوائهم.
ضلّ ِممّنَ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ ُهدًى مِنَ اللّهِ } فهذا من أضل الناس ،حيث عرض عليه الهدى،
{ َومَنْ َأ َ
والصراط المستقيم ،الموصل إلى اللّه وإلى دار كرامته ،فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه ،ودعاه هواه
إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلك والشقاء فاتبعه وترك الهدى ،فهل أحد أضل ممن هذا
وصفه؟" ولكن ظلمه وعدوانه ،وعدم محبته للحق ،هو الذي أوجب له :أن يبقى على ضلله ول
يهديه اللّه ،فلهذا قال { :إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ } أي :الذين صار الظلم لهم وصفا والعناد
لهم نعتا ،جاءهم الهدى فرفضوه ،وعرض لهم الهوى ،فتبعوه ،سدوا على أنفسهم أبواب الهداية
وطرقها ،وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها ،فهم في غيهم وظلمهم يعمهون ،وفي شقائهم
وهلكهم يترددون.
وفي قوله { :فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا َلكَ فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ } دليل على أن كل من لم يستجب
للرسول ،وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول ،فإنه لم يذهب إلى هدى ،وإنما ذهب إلى هوى.
{ وََلقَ ْد َوصّلْنَا َلهُمُ ا ْلقَ ْولَ } أي :تابعناه وواصلناه ،وأنزلناه شيئا فشيئا ،رحمة بهم ولطفا { َلعَّلهُمْ
يَتَ َذكّرُونَ } حين تتكرر عليهم آياته ،وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها .فصار نزوله متفرقا
رحمة بهم ،فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟
فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره ،وأيامه في المم السابقة ،إنما يستفيد بها ويستنير المؤمنون،
فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته ،وإن اللّه تعالى إنما يسوق القصص ،لجلهم ،وأما غيرهم،
فل يعبأ اللّه بهم ،وليس لهم منها نور وهدى.
ومنها :أن اللّه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ،وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج ،ل دفعة واحدة.
ومنها :أن المة المستضعفة ،ولو بلغت في الضعف ما بلغت ،ل ينبغي لها أن يستولى عليها
الكسل عن طلب حقها ،ول الياس من ارتقائها إلى أعلى المور ،خصوصا إذا كانوا مظلومين،
كما استنقذ اللّه أمة بني إسرائيل ،المة الضعيفة ،من أسر فرعون وملئه ،ومكنهم في الرض،
وملكهم بلدهم.
ومنها :أن المة ما دامت ذليلة مقهورة ل تأخذ حقها ول تتكلم به ،ل يقوم لها أمر دينها [ول
دنياها] ول يكون لها إمامة فيه.
ومنها :لطف اللّه بأم موسى ،وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة ،بأن اللّه سيرد إليها ابنها ،ويجعله
من المرسلين.
ومنها :أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق ،لينيله سرورا أعظم من ذلك ،أو يدفع عنه شرا أكثر
منه ،كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد ،والهم البليغ ،الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها
ابنها ،على وجه تطمئن به نفسها ،وتقر به عينها ،وتزداد به غبطة وسرورا.
ومنها :أن الخوف الطبيعي من الخلق ،ل ينافي اليمان ول يزيله ،كما جرى لم موسى ولموسى
من تلك المخاوف.
ومنها :أن اليمان يزيد وينقص .وأن من أعظم ما يزيد به اليمان ،ويتم به اليقين ،الصبر عند
المزعجات ،والتثبيت من اللّه ،عند المقلقات ،كما قال تعالىَ { .لوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْ ِبهَا لِ َتكُونَ مِنَ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي :ليزداد إيمانها بذلك ويطمئن قلبها.
ومنها :أن من أعظم نعم اللّه على عبده ،و [أعظم] معونة للعبد على أموره ،تثبيت اللّه إياه ،وربط
جأشه وقلبه عند المخاوف ،وعند المور المذهلة ،فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب ،والفعل
الصواب ،بخلف من استمر قلقه وروعه ،وانزعاجه ،فإنه يضيع فكره ،ويذهل عقله ،فل ينتفع
بنفسه في تلك الحال.
ومنها :أن العبد -ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ ل بد منه -فإنه ل يهمل فعل
السباب التي أمر بها ،ول يكون ذلك منافيا ليمانه بخبر اللّه ،فإن اللّه قد وعد أم موسى أن يرده
عليها ،ومع ذلك ،اجتهدت على رده ،وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه.
ومنها :جواز خروج المرأة في حوائجها ،وتكليمها للرجال ،من غير محذور ،كما جرى لخت
موسى وابنتي صاحب مدين.
ومنها :جواز أخذ الجرة على الكفالة والرضاع ،والدللة على من يفعل ذلك.
ومنها :أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه ،أن يريه من آياته ،ويشهده من بيناته،
ما يزيد به إيمانه ،كما رد ال موسى على أمه ،لتعلم أن وعد اللّه حق.
ومنها :أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف ،ل يجوز ،فإن موسى عليه السلم عدّ قتله
القبطي الكافر ذنبا ،واستغفر اللّه منه.
ومنها :أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين الذين يفسدون في الرض.
ومنها :أن من قتل النفوس بغير حق ،وزعم أنه يريد الصلح في الرض ،وتهييب أهل
المعاصي ،فإنه كاذب في ذلك ،وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي { إِنْ تُرِيدُ إِلّا أَنْ َتكُونَ جَبّارًا
فِي الْأَ ْرضِ َومَا تُرِيدُ أَنْ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ } على وجه التقرير له ،ل النكار.
ومنها :أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه ،على وجه التحذير له من شر يقع فيه ،ل يكون ذلك
نميمة -بل قد يكون واجبا -كما أخبر ذلك الرجل لموسى ،ناصحا له ومحذرا.
ومنها :أنه إذا خاف القتل والتلف في القامة ،فإنه ل يلقي بيده إلى التهلكة ،ول يستسلم لذلك ،بل
يذهب عنه ،كما فعل موسى.
ومنها :أنه عند تزاحم المفسدتين ،إذا كان ل بد من ارتكاب إحداهما أنه يرتكب الخف منهما
والسلم ،كما أن موسى ،لما دار المر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل ،أو يذهب إلى بعض البلدان
البعيدة ،التي ل يعرف الطريق إليها ،وليس معه دليل [يد] له غير ربه ،ولكن هذه الحالة أقرب
للسلمة من الولى ،فتبعها موسى.
ومنها :أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه ،إذا لم يترجح عنده أحد القولين ،فإنه
يستهدي ربه ،ويسأله أن يهديه الصواب من القولين ،بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه ،فإن
سوَاءَ
عسَى رَبّي أَنْ َي ْهدِيَنِي َ
اللّه ل يخيب مَنْ هذه حاله .كما خرج موسى تلقاء مدين فقالَ { :
السّبِيلِ }
ومنها :أن الرحمة بالخلق ،والحسان على من يعرف ومن ل يعرف ،من أخلق :النبياء ،وأن
من الحسان سقي الماشية الماء ،وإعانة العاجز.
ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها ،ولو كان اللّه عالما لها ،لنه تعالى ،يحب تضرع
عبده وإظهار ذله ومسكنته ،كما قال موسىَ { :ربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }
ومنها :أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى ،ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد الول،
أنه ل يلم على ذلك ،كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له ،ولم
يستشرف بقلبه على عوض.
ومنها :مشروعية الجارة ،وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها ،مما ل يقدر العمل ،وإنما مرده،
العرف.
ومنها أن خطبة الرجل لبنته الرجل الذي يتخيره ،ل يلم عليه.
ومنها :أن خير أجير وعامل [يعمل] للنسان ،أن يكون قويا أمينا.
ومنها :أن من مكارم الخلق ،أن يُحَسّن خلقه لجيره ،وخادمه ،ول يشق عليه بالعمل ،لقوله:
شقّ عَلَ ْيكَ سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ }
{ َومَا أُرِيدُ أَنْ أَ ُ
ل َوكِيلٌ }
ومنها :جواز عقد الجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد لقوله { :وَاللّهُ عَلَى مَا َنقُو ُ
ومنها :ما أجرى اللّه على يد موسى من اليات البينات ،والمعجزات الظاهرة ،من الحية ،وانقلب
يده بيضاء من غير سوء ،ومن عصمة اللّه لموسى وهارون ،من فرعون ،ومن الغرق.
ومنها :أن من أعظم العقوبات أن يكون النسان إماما في الشر ،وذلك بحسب معارضته ليات اللّه
وبيناته ،كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على عبده ،أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا.
ومنها :ما فيها من الدللة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،حيث أخبر بذلك تفصيل
مطابقا ،وتأصيل موافقا ،قصه قصا ،صدق به المرسلين ،وأيد به الحق المبين ،من غير حضور
شيء من تلك الوقائع ،ول مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع ،ول تلوة درس فيها شيئا من
هذه المور ،ول مجالسة أحد من أهل العلم ،إن هو إل رسالة الرحمن الرحيم ،ووحي أنزله عليه
الكريم المنان ،لينذر به قوما جاهلين ،وعن النذر والرسل غافلين.
فصلوات اللّه وسلمه ،على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه ،ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول
النيرة ،أنه من عند اللّه ،كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به ،وصدقه خبر الولين والخرين،
والشرع الذي جاء به من رب العالمين ،وما جبل عليه من الخلق الفاضلة ،التي ل تناسب ،ول
تصلح إل لعلى الخلق درجة ،والنصر المبين لدينه وأمته ،حتى بلغ دينه مبلغ الليل والنهار،
وفتحت أمته معظم بلدان المصار ،بالسيف والسنان ،وقلوبهم بالعلم واليمان.
ولم تزل المم المعاندة ،والملوك الكفرة المتعاضدة ،ترميه بقوس واحدة ،وتكيد له المكايد ،وتمكر
لطفائه وإخفائه ،وإخماده من الرض ،وهو قد بهرها وعلها ،ل يزداد إل نموا ،ول آياته
وبراهينه إل ظهورا ،وكل وقت من الوقات ،يظهر من آياته ما هو عبرة لِ ْلعَاَلمِينَ ،وهداية
لِ ْلعَالمِينَ ،ونور وبصيرة للمتوسمين .والحمد للّه وحده.
{ { } 52-55الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ُهمْ بِهِ ُي ْؤمِنُونَ * وَإِذَا يُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ قَالُوا آمَنّا بِهِ إِنّهُ
حقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبِْلهِ مُسِْلمِينَ * أُولَ ِئكَ ُيؤْ َتوْنَ أَجْ َرهُمْ مَرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
الْ َ
عمَالُنَا وََلكُمْ
س ِمعُوا الّل ْغوَ أَعْ َرضُوا عَ ْن ُه َوقَالُوا لَنَا أَ ْ
حسَنَةِ السّيّئَ َة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْن ِفقُونَ * وَِإذَا َ
بِالْ َ
سلَامٌ عَلَ ْيكُمْ لَا نَبْ َتغِي الْجَاهِلِينَ }
عمَاُلكُمْ َ
أَ ْ
يذكر تعالى عظمة القرآن وصدقه وحقه ،وأن أهل العلم بالحقيقة يعرفونه ويؤمنون به ويقرون
بأنه الحق { ،الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ } وهم أهل التوراة ،والنجيل ،الذين لم يغيروا ولم
يبدلوا { ُهمْ بِهِ } أي :بهذا القرآن ومن جاء به { ُي ْؤمِنُونَ }
{ وَِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } استمعوا له وأذعنوا و { قَالُوا آمَنّا ِبهِ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَبّنَا } لموافقته ما جاءت
به الرسل ،ومطابقته لما ذكر في الكتب ،واشتماله على الخبار الصادقة ،والوامر والنواهي
الموافقة ،لغاية الحكمة.
وهؤلء الذين تفيد شهادتهم ،وينفع قولهم ،لنهم ل يقولون ما يقولون إل عن علم وبصيرة ،لنهم
وأهل الكتب ،وغيرهم ل يدل ردهم ومعارضتهم للحق على شبهة ،فضل عن أهل الصنف
الحجة ،لنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق.
قال تعاليُ { :قلْ آمِنُوا ِبهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مِنْ قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ َيخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ
سجّدًا } اليات.
ُ
وقوله { :إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسِْلمِينَ } فلذلك ثبتنا على ما مَنّ اللّه به علينا من اليمان ،فصدقنا بهذا
القرآن ،آمنا بالكتاب الول والكتاب الخر ،وغيرنا ينقض تكذيبه بهذا الكتاب ،إيمانه بالكتاب
الول.
{ أُولَ ِئكَ } الذين آمنوا بالكتابين { ُيؤْ َتوْنَ أَجْ َرهُمْ مَرّتَيْنِ } أجرا على اليمان الول ،وأجرا على
اليمان الثانيِ { ،بمَا صَبَرُوا } على اليمان ،وثبتوا على العمل ،فلم تزعزعهم عن ذلك شبهة،
ول ثناهم عن اليمان رياسة ول شهوة.
حسَنَةِ السّيّئَةَ } أي:
و من خصالهم الفاضلة ،التي من آثار إيمانهم الصحيح ،أنهم { وَيَدْ َرءُونَ بِالْ َ
دأبهم وطريقتهم الحسان لكل أحد ،حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل ،يقابلونه بالقول الحميد
والفعل الجميل ،لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم ،وأنه ل يوفق له إل ذو حظ عظيم.
س ِمعُوا الّل ْغوَ } من جاهل خاطبهم به { ،قَالُوا } مقالة عباد الرحمن أولي اللباب { :لَنَا
{ وَِإذَا َ
عمَاُلكُمْ } أيُ :كلّ سَيُجازَى بعمله الذي عمله وحده ،ليس عليه من وزر غيره شيء.
عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ
أَ ْ
ولزم من ذلك ،أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون ،من اللغو والباطل ،والكلم الذي ل فائدة فيه.
{ سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمْ } أي ل تسمعون منا إل الخير ،ول نخاطبكم بمقتضى جهلكم ،فإنكم وإن رضيتم
لنفسكم هذا المرتع اللئيم ،فإننا ننزه أنفسنا عنه ،ونصونها عن الخوض فيه { ،لَا نَبْ َتغِي الْجَاهِلِينَ }
من كل وجه.
{ { } 56إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ }
يخبر تعالى أنك يا محمد -وغيرك من باب أولى -ل تقدر على هداية أحد ،ولو كان من أحب
الناس إليك ،فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق ،وخلق اليمان في القلب ،وإنما ذلك بيد
اللّه سبحانه تعالى ،يهدي من يشاء ،وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه ،ممن ل يصلح لها فيبقيه
على ضلله.
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى { :وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } فتلك هداية البيان
والرشاد ،فالرسول يبين الصراط المستقيم ،ويرغب فيه ،ويبذل جهده في سلوك الخلق له ،وأما
كونه يخلق في قلوبهم اليمان ،ويوفقهم بالفعل ،فحاشا وكل.
ولهذا ،لو كان قادرا عليها ،لهدى من وصل إليه إحسانه ،ونصره ومنعه من قومه ،عمه أبا
طالب ،ولكنه أوصل إليه من الحسان بالدعوة للدين والنصح التام ،ما هو أعظم مما فعله معه
عمه ،ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.
وهذا الكلم منهم ،يدل على سوء الظن باللّه تعالى ،وأنه ل ينصر دينه ،ول يعلي كلمته ،بل يمكن
الناس من أهل دينه ،فيسومونهم سوء العذاب ،وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق.
قال اللّه مبينا لهم حالة هم بها دون الناس وأن اللّه اختصهم بها ،فقالَ { :أوََلمْ ُن َمكّنْ َلهُمْ حَ َرمًا آمِنًا
شيْءٍ رِ ْزقًا مِنْ لَدُنّا } أي :أولم نجعلهم متمكنين [ممكنين] في حرم يكثره
يُجْبَى إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ َ
المنتابون ويقصده الزائرون ،قد احترمه البعيد والقريب ،فل يهاج أهله ،ول ينتقصون بقليل [ول
كثير].
والحال أن كل ما حولهم من الماكن ،قد حف بها الخوف من كل جانب ،وأهلها غير آمنين ول
ح َمدُوا ربهم على هذا المن التام ،الذي ليس فيه غيرهم ،وعلى الرزق الكثير ،الذي
مطمئنين ،فَلْيَ ْ
يجيء إليهم من كل مكان ،من الثمرات والطعمة والبضائع ،ما به يرتزقون ويتوسعون .ولْيَتّ ِبعُوا
هذا الرسول الكريم ،ليتم لهم المن والرغد.
وإياهم وتكذيبه ،والبطر بنعمة ال ،فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا ،وبعد عزهم ذل ،وبعد غناهم فقرا،
ولهذا توعدهم بما فعل بالمم قبلهم ،فقال:
{ َوكَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ َبطِ َرتْ َمعِيشَ َتهَا } أي :فخرت بها ،وألهتها ،واشتغلت بها عن اليمان
سكَنْ مِنْ َبعْدِ ِهمْ
بالرسل ،فأهلكهم اللّه ،وأزال عنهم النعمة ،وأحل بهم النقمة { .فَتِ ْلكَ َمسَاكِ ُنهُمْ لَمْ ُت ْ
إِلّا قَلِيلًا } لتوالي الهلك والتلف عليهم ،وإيحاشها من بعدهم.
{ َوكُنّا َنحْنُ ا ْلوَارِثِينَ } للعباد ،نميتهم ،ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم ،ثم نعيدهم
إلينا ،فنجازيهم بأعمالهم.
ومن حكمته ورحمته أن ل يعذب المم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم ،بإرسال الرسل
إليهم ،ولهذا قالَ { :ومَا كَانَ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَى } أي :بكفرهم وظلمهم { حَتّى يَ ْب َعثَ فِي ُأ ّمهَا } أي:
في القرية والمدينة التي إليها يرجعون ،ونحوها يترددون ،وكل ما حولها ينتجعها ،ول تخفى عليه
أخبارها.
{ َرسُولًا يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا } الدالة على صحة ما جاء به ،وصدق ما دعاهم إليه ،فيبلغ قوله
قاصيهم ودانيهم ،بخلف بعث الرسل في القرى البعيدة ،والطراف النائية ،فإن ذلك مظنة الخفاء
والجفاء ،والمدن المهات مظنة الظهور والنتشار ،وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم.
{ َومَا كُنّا ُمهِْلكِي ا ْلقُرَى إِلّا وَأَهُْلهَا ظَاِلمُونَ } بالكفر والمعاصي ،مستحقون للعقوبة .والحاصل :أن
اللّه ل يعذب أحدا إل بظلمه ،وإقامة الحجة عليه.
شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَ ُتهَا َومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى َأفَلَا
{ َ { } 60-61ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ َ
ن وَعَدْنَا ُه وَعْدًا حَسَنًا َف ُهوَ لَاقِيهِ َكمَنْ مَ ّتعْنَاهُ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ُثمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ
َت ْعقِلُونَ * َأ َفمَ ْ
حضَرِينَ }
ا ْلمُ ْ
هذا حض من ال لعباده على الزهد في الدنيا وعدم الغترار بها ،وعلى الرغبة في الخرى،
وجعلها مقصود العبد ومطلوبه ،ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق ،من الذهب ،والفضة،
والحيوانات والمتعة ،والنساء ،والبنين ،والمآكل ،والمشارب ،واللذات ،كلها متاع الحياة [الدنيا]
وزينتها ،أي :يتمتع به وقتا قصيرا ،متاعا قاصرا ،محشوا بالمنغصات ،ممزوجا بالغصص.
ويزين به زمانا يسيرا ،للفخر والرياء ،ثم يزول ذلك سريعا ،وينقضي جميعا ،ولم يستفد صاحبه
منه إل الحسرة والندم ،والخيبة والحرمان.
{ َومَا عِنْدَ اللّهِ } من النعيم المقيم ،والعيش السليم { خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي :أفضل في وصفه وكميته،
وهو دائم أبدا ،ومستمر سرمدا.
{ َأفَلَا َتعْقِلُونَ } أي :أفل يكون لكم عقول ،بها تزنون أي :المور أولى باليثار ،وأي :الدارين
أحق للعمل لها فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد ،يؤثر الخرى على الدنيا ،وأنه ما آثر أحد الدنيا إل
لنقص في عقله ،ولهذا نبه العقول على الموازنة بين عاقبة مؤثر الدنيا ومؤثر الخرة ،فقال:
حسَنًا َف ُهوَ لَاقِيهِ }
ن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا َ
{ َأ َفمَ ْ
أي :هل يستوي مؤمن ساع للخرة سعيها ،قد عمل على وعد ربه له ،بالثواب الحسن ،الذي هو
الجنة ،وما فيها من النعيم العظيم ،فهو لقيه من غير شك ول ارتياب ،لنه وعد من كريم صادق
الوعد ،ل يخلف الميعاد ،لعبد قام بمرضاته وجانب سخطهَ { ،كمَنْ مَ ّتعْنَاهُ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } فهو
يأخذ فيها ويعطي ،ويأكل ويشرب ،ويتمتع كما تتمتع البهائم ،قد اشتغل بدنياه عن آخرته ،ولم
يرفع بهدى ال رأسا ،ولم ينقد للمرسلين ،فهو ل يزال كذلك ،ل يتزود من دنياه إل الخسار
والهلك.
حضَرِينَ } للحساب ،وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه ،وإنما قدم جميع
{ ُثمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ ا ْل ُم ْ
ما يضره ،وانتقل إلى دار الجزاء بالعمال ،فما ظنكم إلى ما يصير إليه؟ وما تحسبون ما يصنع
به؟ فليختر العاقل لنفسه ،ما هو أولى بالختيار ،وأحق المرين باليثار.
هذا إخبار من اللّه تعالى ،عما يسأل عنه الخلئق يوم القيامة ،وأنه يسألهم عن أصول الشياء،
وعن عبادة اللّه وإجابة رسله ،فقال { :وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ } أي :ينادي من أشركوا به شركاء يعبدونهم،
ويرجون نفعهم ،ودفع الضرر عنهم ،فيناديهم ،ليبين لهم عجزها وضللهم { ،فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ }
عمُونَ } فأين
وليس للّه شريك ،ولكن ذلك بحسب زعمهم وافترائهم ،ولهذا قال { :الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْ ُ
هم ،بذواتهم ،وأين نفعهم وأين دفعهم؟
ومن المعلوم أنه يتبين لهم في تلك الحال ،أن الذي عبدوه ،ورجوه باطل ،مضمحل في ذاته ،وما
رجوا منه ،فيقرون على أنفسهم بالضللة والغواية.
حقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولُ } الرؤساء والقادة ،في الكفر والشر ،مقرين بغوايتهم
ولهذا { قَالَ الّذِينَ َ
غوَيْنَا } أي :كلنا قد اشترك في
غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ
غوَيْنَا أَ ْ
وإغوائهم { :رَبّنَا َهؤُلَاءِ } التابعون { الّذِينَ أَ ْ
الغواية ،وحق عليه كلمة العذاب.
{ تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ } من عبادتهم ،أي :نحن برآء منهم ومن عملهم { .مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْ ُبدُونَ } وإنما
كانوا يعبدون الشياطين.
{ َوقِيلَ } لهم { :ادْعُوا شُ َركَا َء ُكمْ } على ما أملتم فيهم من النفع فأمروا بدعائهم في ذلك الوقت
الحرج ،الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده.
عوْهُمْ } لينفعوهم ،أو يدفعوا عنهم من عذاب اللّه من شيء { .فَلَمْ َيسْتَجِيبُوا َل ُهمْ } فعلم الذين
{ َفدَ َ
كفروا أنهم كانوا كاذبين مستحقين للعقوبة { ،وَرََأوُا ا ْلعَذَابَ } الذي سيحل بهم عيانا ،بأبصارهم
بعد ما كانوا مكذبين به ،منكرين له.
{ َلوْ أَ ّن ُهمْ كَانُوا َيهْتَدُونَ } أي :لما حصل عليهم ما حصل ،ولهدوا إلى صراط الجنة ،كما اهتدوا
في الدنيا ،ولكن لم يهتدوا ،فلم يهتدوا.
{ وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ مَاذَا أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ } هل صدقتموهم[ ،واتبعتموهم] أم كذبتموهم
وخالفتموهم؟
{ َف َعمِ َيتْ عَلَ ْيهِمُ الْأَنْبَاءُ َي ْومَئِذٍ َفهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ } أي :لم يحيروا عن هذا السؤال جوابا ،ولم يهتدوا
إلى الصواب.
ومن المعلوم أنه ل ينجى في هذا الموضع إل التصريح بالجواب الصحيح ،المطابق لحوالهم ،من
أننا أجبناهم باليمان والنقياد ،ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لمرهم ،لم ينطقوا بشيء،
ول يمكن أن يتساءلوا ويتراجعوا بينهم في ماذا يجيبون به ،ولو كان كذبا.
لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم وعن رسلهم ،ذكر الطريق الذي ينجو به العبد من عقاب
اللّه تعالى ،وأنه ل نجاة إل لمن اتصف بالتوبة من الشرك والمعاصي ،وآمن باللّه فعبده ،وآمن
برسله فصدقهم ،وعمل صالحا متبعا فيه للرسلَ { ،فعَسَى أَنْ َيكُونَ } من جمع هذه الخصال { مِنَ
ا ْل ُمفْلِحِينَ } الناجحين بالمطلوب ،الناجين من المرهوب ،فل سبيل إلى الفلح بدون هذه المور.
هذه اليات ،فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات ،ونفوذ مشيئته بجميع البريات ،وانفراده باختيار من
يختاره ويختصه ،من الشخاص ،والوامر [والزمان] والماكن ،وأن أحدا ليس له من المر
والختيار شيء ،وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به ،من الشريك ،والظهير ،والعوين،
والولد ،والصاحبة ،ونحو ذلك ،مما أشرك به المشركون ،وأنه العالم بما أكنته الصدور وما
أعلنوه ،وأنه وحده المعبود المحمود في الدنيا والخرة ،على ماله من صفات الجلل والجمال،
وعلى ما أسداه إلى خلقه من الحسان والفضال.
وأنه هو الحاكم في الدارين ،في الدنيا ،بالحكم القدري ،الذي أثره جميع ما خلق وذرأ ،والحكم
الديني ،الذي أثره جميع الشرائع ،والوامر والنواهي.
جعُونَ }
وفي الخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي ،ولهذا قال { :وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
هذا امتنان من اللّه على عباده ،يدعوهم به إلى شكره ،والقيام بعبوديته وحقه ،أنه جعل لهم من
رحمته النهار ليبتغوا من فضل اللّه ،وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه ،والليل ليهدأوا
فيه ويسكنوا ،وتستريح أبدانهم وأنفسهم من تعب التصرف في النهار ،فهذا من فضله ورحمته
بعباده.
فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ فلو جعل { عَلَ ْيكُمُ اللّ ْيلَ سَ ْرمَدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ
س َمعُونَ } مواعظ اللّه وآياته سماع فهم وقبول وانقياد ،ولو جعل { عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ
يَأْتِيكُمْ ِبضِيَاءٍ َأفَلَا تَ ْ
سكُنُونَ فِيهِ َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ } مواقع العبر،
سَ ْرمَدًا إِلَى َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِي ُكمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ
ومواضع اليات ،فتستنير بصائركم ،وتسلكوا الطريق المستقيم.
س َمعُونَ } وفي النهار { َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ } لن سلطان السمع أبلغ في الليل من
وقال في الليل { َأفَلَا تَ ْ
سلطان البصر ،وعكسه النهار .وفي هذه اليات ،تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه
عليه ،ويستبصر فيها ،ويقيسها بحال عدمها ،فإنه إذا وازن بين حالة وجودها ،وبين حالة عدمها،
تنبه عقله لموضع المنة ،بخلف من جرى مع العوائد ،ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا ،ول
يزال .وعمي قلبه عن الثناء على اللّه ،بنعمه ،ورؤية افتقاره إليها في كل وقت ،فإن هذا ل يحدث
له فكرة شكر ول ذكر.
شهِيدًا
عمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ
{ { } 74-75وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ
ضلّ عَ ْن ُهمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }
َفقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ َفعَِلمُوا أَنّ ا ْلحَقّ ِللّ ِه َو َ
أي :ويوم ينادي اللّه المشركين به ،العادلين به غيره ،الذين يزعمون أن له شركاء ،يستحقون أن
يعبدوا ،وينفعون ويضرون ،فإذا كان يوم القيامة ،أراد اللّه أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم
عمُونَ } أي :بزعهم ،ل بنفس
وتكذيبهم لنفسهم فب { يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْ ُ
المر ،كما قالَ { :ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ وإن هم إل
يخرصون }
شهِيدًا } يشهد على ما جرى في
فإذا حضروا وإياهم ،نزع { مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ } من المم المكذبة { َ
الدنيا ،من شركهم واعتقادهم ،وهؤلء بمنزلة المنتخبين.
أي :انتخبنا من رؤساء المكذبين من يتصدى للخصومة عنهم ،والمجادلة عن إخوانهم ،ومن هم
وإياهم على طريق واحد ،فإذا برزوا للمحاكمة { َفقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ } حجتكم ودليلكم على صحة
شرككم ،هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم أحد
يستحق شيئا من اللهية؟ هل ينفعونكم ،أو يدفعون عنكم من عذاب اللّه أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا
إذا [إن] كان فيهم أهلية وليروكم إن كان لهم قدرةَ { ،فعَِلمُوا } حينئذ بطلن قولهم وفساده ،و
حقّ لِلّهِ } تعالى ،قد توجهت عليهم الخصومة ،وانقطعت حجتهم ،وأفلجت حجة اللّه،
{ أَنّ الْ َ
ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } من الكذب والفك ،واضمحل وتلشى وعدم ،وعلموا أن اللّه قد
{ َو َ
عدل فيهم ،حيث لم يضع العقوبة إل بمن استحقها واستأهلها.
{ { } 76-82إِنّ قَارُونَ كَانَ مِنْ َقوْمِ مُوسَى فَ َبغَى عَلَ ْيهِمْ } إلى آخر القصة
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِ َرةَ } أي :قد حصل عندك من وسائل الخرة ما ليس عند غيرك
من الموال ،فابتغ بها ما عند اللّه ،وتصدق ول تقتصر على مجرد نيل الشهوات ،وتحصيل
اللذات { ،وَلَا تَنْسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا } أي :ل نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا ،بل
أنفق لخرتك ،واستمتع بدنياك استمتاعا ل يثلم دينك ،ول يضر بآخرتك { ،وََأحْسَنُ } إلى عباد
حسَنَ اللّهُ إِلَ ْيكَ } بهذه الموال { ،وَلَا تَ ْبغِ ا ْلفَسَادَ فِي الْأَ ْرضِ } بالتكبر والعمل بمعاصي
اللّه { َكمَا أَ ْ
حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ } بل يعاقبهم على ذلك ،أشد العقوبة.
اللّه والشتغال بالنعم عن المنعم { ،إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ
فب { قَالَ } قارون -رادا لنصيحتهم ،كافرا بنعمة ربه { :-إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِ ْلمٍ عِنْدِي }
أي :إنما أدركت هذه الموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب ،وحذقي ،أو على علم من اللّه
بحالي ،يعلم أني أهل لذلك ،فلم تنصحوني على ما أعطاني للّه تعالى؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه،
ليس دليل على حسن حالة المعطيَ { :أوََلمْ َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ َقدْ أَهَْلكَ مِنْ قَبِْلهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ َأشَدّ
ج ْمعًا } فما المانع من إهلك قارون ،مع ُمضِيّ عادتنا وسنتنا بإهلك من هو مثله
مِنْهُ ُق ّو ًة وََأكْثَرُ َ
وأعظم ،إذ فعل ما يوجب الهلك؟.
{ وَلَا ُيسَْألُ عَنْ ذُنُو ِبهِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } بل يعاقبهم اللّه ،ويعذبهم على ما يعلمه منهم ،فهم ،وإن أثبتوا
لنفسهم حالة حسنة ،وشهدوا لها بالنجاة ،فليس قولهم مقبول ،وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب
شيئا ،لن ذنوبهم غير خفية ،فإنكارهم ل محل له ،فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه،
وعدم قبول نصيحة قومه ،فرحا بطرا قد أعجبته نفسه ،وغره ما أوتيه من الموال.
{ َفخَرَجَ } ذات يوم { فِي زِينَتِهِ } أي :بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه ،قد كان له من
الموال ما كان ،وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه ،وتلك الزينة في العادة من مثله تكون هائلة،
جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها ،فرمقته في تلك الحالة العيون ،وملت
بِزّتُ ُه القلوب ،واختلبت زينته النفوس ،فانقسم فيه الناظرون قسمين ،كل تكلم بحسب ما عنده من
الهمة والرغبة.
فب { قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا } أي :الذين تعلقت إرادتهم فيها ،وصارت منتهى رغبتهم،
ليس لهم إرادة في سواها { ،يَا لَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ قَارُونُ } من الدنيا ومتاعها وزهرتها { إِنّهُ
عظِيمٍ } وصدقوا إنه لذو حظ عظيم ،لو كان المر منتهيا إلى رغباتهم ،وأنه ليس وراء
لَذُو حَظّ َ
الدنيا ،دار أخرى ،فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا ،واقتدر بذلك على جميع
مطالبه ،فصار هذا الحظ العظيم ،بحسب همتهم ،وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى
مطلبهاَ ،لمِنْ أدنى الهمم وأسفلها وأدناها ،وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب
الغالية.
{ َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ } الذين عرفوا حقائق الشياء ،ونظروا إلى باطن الدنيا ،حين نظر أولئك
إلى ظاهرها { :وَيَْلكُمْ } متوجعين مما تمنوا لنفسهم ،راثين لحالهم ،منكرين لمقالهمَ { :ثوَابُ اللّهِ }
العاجل ،من لذة العبادة ومحبته ،والنابة إليه ،والقبال عليه .والجل من الجنة وما فيها ،مما
تشتهيه النفس وتلذ العين { خَيْرٌ } من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه ،فهذه حقيقة المر ،ولكن ما
كل من يعلم ذلك يؤثر العلى على الدنى ،فما يَُلقّى ذلك ويوفق له { إِلّا الصّابِرُونَ } الذين حبسوا
أنفسهم على طاعة اللّه ،وعن معصيته ،وعلى أقداره المؤلمة ،وصبروا على جواذب الدنيا
وشهواتها ،أن تشغلهم عن ربهم ،وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له ،فهؤلء الذين يؤثرون ثواب
اللّه على الدنيا الفانية.
فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر ،وازّيّنَتْت الدنيا عنده ،وكثر بها إعجابه ،بغته العذاب
سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ الْأَ ْرضَ } جزاء من جنس عمله ،فكما رفع نفسه على عباد اللّه ،أنزله اللّه
{ َفخَ َ
أسفل سافلين ،هو وما اغتر به ،من داره وأثاثه ،ومتاعه.
{ َفمَا كَانَ َلهُ مِنْ فِئَةٍ } أي :جماعة ،وعصبة ،وخدم ،وجنود { يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ
مِنَ ا ْلمُنْ َتصِرِينَ } أي :جاءه العذاب ،فما نصر ول انتصر.
{ وََأصْبَحَ الّذِينَ َتمَ ّنوْا َمكَانَهُ بِالَْأمْسِ } أي :الذين يريدون الحياة الدنيا ،الذين قالوا { :يَا لَ ْيتَ لَنَا
مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ قَارُونُ } { َيقُولُونَ } متوجعين ومعتبرين ،وخائفين من وقوع العذاب بهم { :وَ ْيكَأَنّ
اللّهَ يَ ْبسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَيَقْدِرُ } أي :يضيق الرزق على من يشاء ،فعلمنا حينئذ أن
عظِيمٍ } و { َلوْلَا
بسطه لقارون ،ليس دليل على خير فيه ،وأننا غالطون في قولنا { :إِنّهُ لَذُو حَظّ َ
سفَ بِنَا } فصار هلك قارون
خَأَنْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا } فلم يعاقبنا على ما قلنا ،فلول فضله ومنته { لَ َ
عقوبة له ،وعبرة وموعظة لغيره ،حتى إن الذين غبطوه ،سمعت كيف ندموا ،وتغير فكرهم
الول.
جعَُلهَا لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الْأَ ْرضِ وَلَا َفسَادًا وَا ْلعَاقِبَةُ ِل ْلمُتّقِينَ }
{ { } 83تِ ْلكَ الدّارُ الْآخِ َرةُ َن ْ
لما ذكر تعالى ،قارون وما أوتيه من الدنيا ،وما صار إليه عاقبة أمره ،وأن أهل العلم قالوا:
ع ِملَ صَاِلحًا } رغب تعالى في الدار الخرة ،وأخبر بالسبب الموصل
ن وَ َ
{ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ آمَ َ
إليها فقال { :تِ ْلكَ الدّارُ الْآخِ َرةُ } التي أخبر اللّه بها في كتبه وأخبرت [بها] رسله ،التي [قد] جمعت
جعَُلهَا } دارا وقرارا { لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي
كل نعيم ،واندفع عنها كل مكدر ومنغص { ،نَ ْ
ض وَلَا فَسَادًا } أي :ليس لهم إرادة ،فكيف العمل للعلو في الرض على عباد اللّه ،والتكبر
الْأَ ْر ِ
عليهم وعلى الحق { وَلَا َفسَادًا } وهذا شامل لجميع المعاصي ،فإذا كانوا ل إرادة لهم في العلو في
الرض والفساد ،لزم من ذلك ،أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه ،وقصدهم الدار الخرة،
وحالهم التواضع لعباد اللّه ،والنقياد للحق والعمل الصالح.
وهؤلء هم المتقون الذين لهم العاقبة ،ولهذا قال { :وَا ْلعَاقِبَةُ } أي حالة الفلح والنجاح ،التي تستقر
وتستمر ،لمن اتقى اللّه تعالى ،وغيرهم -وإن حصل لها بعض الظهور والراحة -فإنه ل يطول
وقته ،ويزول عن قريب .وعلم من هذا الحصر في الية الكريمة ،أن الذين يريدون العلو في
الرض ،أو الفساد ،ليس لهم في الدار الخرة ،نصيب ،ول لهم منها نصيب
هذا التضعيف للحسنة ،ل بد منه ،وقد يقترن بذلك من السباب ما تزيد به المضاعفة ،كما قال
عفُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ } بحسب حال العامل وعمله ،ونفعه ومحله
تعالى { :وَاللّهُ ُيضَا ِ
ومكانهَ { ،ومَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ } وهي كل ما نهى الشارع عنهَ ،ن ْهيَ تحريم { .فَلَا يُجْزَى الّذِينَ
حسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَنْ جَاءَ
عمِلُوا السّيّئَاتِ إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } كقوله تعالى { :مَنْ جَاءَ بِالْ َ
َ
بِالسّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلّا مِثَْلهَا وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ }
{ { } 85-88إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لَرَا ّدكَ إِلَى َمعَادٍ ُقلْ رَبّي أَعَْلمُ مَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى َومَنْ
ظهِيرًا
ح َمةً مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ َ
ُهوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * َومَا كُ ْنتَ تَرْجُو أَنْ يُ ْلقَى إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابُ إِلّا رَ ْ
ك وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ
ك وَا ْدعُ ِإلَى رَ ّب َ
لِ ْلكَافِرِينَ * وَلَا َيصُدّ ّنكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ َبعْدَ إِذْ أُنْزَِلتْ إِلَ ْي َ
جعُونَ }
حكْ ُم وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
ج َههُ لَهُ الْ ُ
شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّا وَ ْ
* وَلَا تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ُكلّ َ
يقول تعالى { إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ } أي :أنزله ،وفرض فيه الحكام ،وبين فيه الحلل
والحرام ،وأمرك بتبليغه للعالمين ،والدعوة لحكام جميع المكلفين ،ل يليق بحكمته أن تكون الحياة
هي الحياة الدنيا فقط ،من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا ،بل ل بد أن يردك إلى معاد ،يجازي فيه
المحسنون بإحسانهم ،والمسيئون بمعصيتهم.
وقد بينت لهم الهدى ،وأوضحت لهم المنهج ،فإن تبعوك ،فذلك حظهم وسعادتهم ،وإن أبوا إل
عصيانك والقدح بما جئت به من الهدى ،وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق ،فلم يبق
للمجادلة محل ،ولم يبق إل المجازاة على العمال من العالم بالغيب والشهادة ،والحق والمبطل.
ولهذا قالُ { :قلْ رَبّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى َومَنْ ُهوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وقد علم أن رسوله هو
المهتدي الهادي ،وأن أعداءه هم الضالون المضلون.
{ َومَا كُ ْنتَ تَرْجُو أَنْ يُ ْلقَى إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابُ } أي :لم تكن متحريا لنزول هذا الكتاب عليك ،ول مستعدا
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ } بك وبالعباد ،فأرسلك بهذا الكتاب ،الذي رحم به العالمين،
له ،ول متصدياِ { .إلّا رَ ْ
وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ،وزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة ،وإن كانوا من قبل لفي ضلل
مبين ،فإذا علمت أنه أنزل إليك رحمة منه[ ،علمت] أن جميع ما أمر به ونهى عنه ،فإنه رحمة
وفضل من اللّه ،فل يكن في صدرك حرج من شيء منه ،وتظن أن مخالفه أصلح وأنفع.
ظهِيرًا لِ ْلكَافِرِينَ } أي :معينا لهم على ما هو من شعب كفرهم ،ومن جملة مظاهرتهم،
{ فَلَا َتكُونَنّ َ
أن يقال في شيء منه ،إنه خلف الحكمة والمصلحة والمنفعة.
{ وَلَا َيصُدّ ّنكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ َبعْدَ ِإذْ أُنْزَِلتْ إِلَ ْيكَ } بل أبلغها وأنفذها ،ول تبال بمكرهم ول يخدعنك
عنها ،ول تتبع أهواءهم.
{ وَا ْدعُ إِلَى رَ ّبكَ } أي اجعل الدعوة إلى ربك منتهى قصدك وغاية عملك ،فكل ما خالف ذلك
فارفضه ،من رياء ،أو سمعة ،أو موافقة أغراض أهل الباطل ،فإن ذلك داع إلى الكون معهم،
ومساعدتهم على أمرهم ،ولهذا قال { :وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } ل في شركهم ،ول في فروعه
وشعبه ،التي هي جميع المعاصي.
{ وَلَا َت ْدعُ َمعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ } بل أخلص للّه عبادتك ،فإنه { لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } فل أحد يستحق أن يؤله
جهَهُ } وإذا كان كل شيء هالكا
شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّا وَ ْ
ويحب ويعبد ،إل اللّه الكامل الباقي الذي { ُكلّ َ
حكْمُ } في الدنيا
مضمحل ،سواه فعبادة الهالك الباطل باطلة ببطلن غايتها ،وفساد نهايتها { .لَهُ الْ ُ
جعُونَ } فإذا كان ما سوى اللّه باطل هالكا ،واللّه هو الباقي،
والخرة { وَإِلَ ْيهِ } ل إلى غيره { تُ ْر َ
الذي ل إله إل هو ،وله الحكم في الدنيا والخرة ،وإليه مرجع الخلئق كلهم ،ليجازيهم بأعمالهم،
تعيّن على من له عقل ،أن يعبد اللّه وحده ل شريك له ،ويعمل لما يقربه ويدنيه ،ويحذر من
سخطه وعقابه ،وأن يقدم على ربه غير تائب ،ول مقلع عن خطئه وذنوبه.
تم تفسير سورة القصص -وللّه الحمد والثناء والمجد دائما أبدا.-
يخبر تعالى عن [تمام] حكمته وأن حكمته ل تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه
اليمان ،أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن ،ول يعرض لهم ما يشوش عليهم
إيمانهم وفروعه ،فإنهم لو كان المر كذلك ،لم يتميز الصادق من الكاذب ،والمحق من المبطل،
ولكن سنته وعادته في الولين وفي هذه المة ،أن يبتليهم بالسراء والضراء ،والعسر واليسر،
والمنشط والمكره ،والغنى والفقر ،وإدالة العداء عليهم في بعض الحيان ،ومجاهدة العداء
بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن ،التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة،
والشهوات المعارضة للرادة ،فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ول يتزلزل ،ويدفعها بما
معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب ،أو الصارفة عن ما
أمر اللّه به ورسوله ،يعمل بمقتضى اليمان ،ويجاهد شهوته ،دل ذلك على صدق إيمانه وصحته.
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا ،وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى
المعاصي أو تصدفه عن الواجبات ،دلّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
والناس في هذا المقام درجات ل يحصيها إل اللّه ،فمستقل ومستكثر ،فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا
بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة ،وأن يثبت قلوبنا على دينه ،فالبتلء والمتحان للنفوس
بمنزلة الكير ،يخرج خبثها وطيبها.
ح ُكمُونَ }
سبَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْ ِبقُونَا سَاءَ مَا َي ْ
{ َ { } 4أمْ حَ ِ
أي :أحسب الذين همهم فعل السيئات وارتكاب الجنايات ،أن أعمالهم ستهمل ،وأن اللّه سيغفل
ح ُكمُونَ } أي :ساء
عنهم ،أو يفوتونه ،فلذلك أقدموا عليها ،وسهل عليهم عملها؟ { سَاءَ مَا َي ْ
حكمهم ،فإنه حكم جائر ،لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته ،وأن لديهم قدرة يمتنعون بها من عقاب
اللّه ،وهم أضعف شيء وأعجزه.
{ َومَنْ جَاهَدَ } نفسه وشيطانه ،وعدوه الكافر { ،فَإِ ّنمَا ُيجَاهِدُ لِ َنفْسِهِ } لن نفعه راجع إليه ،وثمرته
عائدة إليه ،وال غني عن العالمين ،لم يأمرهم بما أمرهم به لينتفع به ،ول نهاهم عما نهاهم عنه
بُخْلًا عليهم.
وقد علم أن الوامر والنواهي يحتاج المكلف فيها إلى جهاد ،لن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير،
وشيطانه ينهاه عنه ،وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه ،كما ينبغي ،وكل هذا معارضات تحتاج
إلى مجاهدات وسعي شديد.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْن ُهمْ سَيّئَا ِتهِمْ وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ َأحْسَنَ الّذِي كَانُوا
{ { } 7وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
َي ْعمَلُونَ }
يعني أن الذين منّ اللّه عليهم باليمان والعمل الصالح ،سيكفر اللّه عنهم سيئاتهم ،لن الحسنات
يذهبن السيئات { ،وَلَ َنجْزِيَ ّنهُمْ َأحْسَنَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ } وهي أعمال الخير ،من واجبات
ومستحبات ،فهي أحسن ما يعمل العبد ،لنه يعمل المباحات أيضا ،وغيرها.
ط ْع ُهمَا ِإَليّ
{ َ { } 8و َوصّيْنَا الْإِنْسَانَ ِبوَاِلدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لُِتشْ ِركَ بِي مَا لَ ْيسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَا ُت ِ
ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }
مَرْ ِ
أي :وأمرنا النسان ،ووصيناه بوالديه حسنا ،أي :ببرهما والحسان إليهما ،بالقول والعمل ،وأن
يحافظ على ذلك ،ول يعقهما ويسيء إليهما في قوله وعمله.
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ } وليس لحد علم بصحة الشرك باللّه ،وهذا تعظيم
ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } فأجازيكم بأعمالكم ،فبروا
ط ْع ُهمَا إَِليّ مَرْ ِ
لمر الشرك { ،فَلَا تُ ِ
والديكم وقدموا طاعتهما ،إل على طاعة اللّه ورسوله ،فإنها مقدمة على كل شيء.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُ ْدخِلَ ّنهُمْ فِي الصّالِحِينَ }
{ { } 9وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
أي :من آمن باللّه وعمل صالحا ،فإن اللّه وعده أن يدخله الجنة في جملة عباده الصالحين ،من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،كل على حسب درجته ومرتبته عند اللّه ،فاليمان
الصحيح والعمل الصالح عنوان على سعادة صاحبه ،وأنه من أهل الرحمن ،والصالحين من عباد
اللّه تعالى.
لما ذكر تعالى أنه ل بد أن يمتحن من ادّعى اليمان ،ليظهر الصادق من الكاذب ،بيّن تعالى أن
من الناس فريقا ل صبر لهم على المحن ،ول ثبات لهم على بعض الزلزل فقالَ { :ومِنَ النّاسِ
مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ } بضرب ،أو أخذ مال ،أو تعيير ،ليرتد عن دينه ،وليراجع
ج َعلَ فِتْنَةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ } أي :يجعلها صادّة له عن اليمان والثبات عليه ،كما أن
الباطلَ { ،
العذاب صادّ عما هو سببه.
{ وَلَئِنْ جَاءَ َنصْرٌ مِنْ رَ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ } لنه موافق للهوى ،فهذا الصنف من الناس من
طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَ ْتهُ
الذين قال اللّه فيهمَ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ َيعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَا َبهُ خَيْرٌ ا ْ
خسْرَانُ ا ْلمُبِينُ }
خسِرَ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةَ ذَِلكَ ُهوَ الْ ُ
جهِهِ َ
فِتْنَةٌ ا ْنقََلبَ عَلَى َو ْ
{ َأوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ } حيث أخبركم بهذا الفريق ،الذي حاله كما وصف
لكم ،فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته.
{ وَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلمُنَافِقِينَ } أي :فلذلك قَدّرَ ِمحَنًا وابتلء ،ليظهر علمه فيهم،
فيجازيهم بما ظهر منهم ،ل بما يعلمه بمجرده ،لنهم قد يحتجون على اللّه ،أنهم لو ابتُلُوا لَثَبَتُوا.
يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم ،وفي ضمن ذلك ،تحذير المؤمنين من
الغترار بهم والوقوع في مكرهم ،فقالَ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا اتّ ِبعُوا سَبِيلَنَا } فاتركوا
خطَايَاكُمْ } وهذا المر ليس
ح ِملْ َ
دينكم أو بعضه واتبعونا في ديننا ،فإننا نضمن لكم المر { وَلْنَ ْ
شيْءٍ } ل قليل ول كثير .فهذا التحمل ،ولو
بأيديهم ،فلهذا قالَ { :ومَا ُهمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ َ
رضي به صاحبه ،فإنه ل يفيد شيئا ،فإن الحق للّه ،واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف في
حقه إل بأمره وحكمه ،وحكمه { أن لّا تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى }
حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُمْ } أي :أثقال ذنوبهم التي عملوها { وَأَ ْثقَالًا مَعَ أَ ْثقَاِلهِمْ } وهي الذنوب التي بسببهم
{ وَلَ َي ْ
ومن جرائهم ،فالذنب الذي فعله التابع [لكل من التابع] ،والمتبوع حصته منه ،هذا لنه فعله
وباشره ،والمتبوع [لنه] تسبب في فعله ودعا إليه ،كما أن الحسنة إذا فعلها التابع له أجرها
عمّا كَانُوا َيفْتَرُونَ } من الشر وتزيينه،
بالمباشرة ،وللداعي أجره بالتسبب { .وَلَيُسَْألُنّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َ
ح ِملْ خَطَايَا ُكمْ }
[وقولهم] { وَلْ َن ْ
يخبر تعالى عن حكمه وحكمته في عقوبة المم المكذبة ،وأن اللّه أرسل عبده ورسوله نوحا عليه
الصلة السلم إلى قومه ،يدعوهم إلى التوحيد وإفراد اللّه بالعبادة ،والنهي عن النداد والصنام{ ،
خ ْمسِينَ عَامًا } وهو ل يَنِي بدعوتهم ،ول يفتر في نصحهم،
فَلَ ِبثَ فِيهِمْ } نبيا داعيا { أَ ْلفَ سَنَةٍ إِلّا َ
يدعوهم ليل ونهارا وسرا وجهارا ،فلم يرشدوا ولم يهتدوا ،بل استمروا على كفرهم وطغيانهم،
حتى دعا عليهم نبيهم نوح عليه الصلة والسلم ،مع شدة صبره وحلمه واحتماله ،فقالَ { :ربّ لَا
خذَهُمُ الطّوفَانُ } أي :الماء الذي نزل من السماء بكثرة،
تَذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } { فَأَ َ
ونبع من الرض بشدة { وَهُمْ ظَاِلمُونَ } مستحقون للعذاب.
جعَلْنَاهَا } أي :السفينة ،أو
سفِينَةِ } الذين ركبوا معه ،أهله ومن آمن بهَ { .و َ
{ فَأَ ْنجَيْنَا ُه وََأصْحَابَ ال ّ
قصة نوح { آيَةً لِ ْلعَاَلمِينَ } يعتبرون بها ،على أن من كذب الرسل ،آخر أمره الهلك ،وأن
المؤمنين سيجعل اللّه لهم من كل هم فرجا ،ومن كل ضيق مخرجا.
وجعل اللّه أيضا السفينة ،أي :جنسها آية للعالمين ،يعتبرون بها رحمة ربهم ،الذي قيض لهم
أسبابها ،ويسر لهم أمرها ،وجعلها تحملهم وتحمل متاعهم من محل إلى محل ومن قُطرٍ إلى قُطرٍ.
{ { } 16-22وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ اعْبُدُوا اللّ َه وَاتّقُوهُ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * إِ ّنمَا
َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا وَتَخُْلقُونَ ِإ ْفكًا إِنّ الّذِينَ َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيمِْلكُونَ َل ُكمْ رِ ْزقًا
جعُونَ * وَإِنْ ُتكَذّبُوا َفقَدْ كَ ّذبَ ُأمَمٌ مِنْ قَبِْلكُمْ
شكُرُوا َلهُ إِلَيْهِ تُرْ َ
فَابْ َتغُوا عِ ْندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَا ْ
َومَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ * َأوَلَمْ يَ َروْا كَ ْيفَ يُبْ ِدئُ اللّهُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ
شئُ النّشَْأةَ الْآخِ َرةَ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ
يَسِيرٌ * ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ بَ َدأَ الْخَ ْلقَ ُثمّ اللّهُ يُ ْن ِ
شيْءٍ قَدِيرٌ * ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَيَرْحَمُ مَنْ َيشَا ُء وَإِلَيْهِ ُتقْلَبُونَ * َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا
َ
ي وَلَا َنصِيرٍ }
ن وَِل ّ
سمَا ِء َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ
فِي ال ّ
يذكر تعالى أنه أرسل خليله إبراهيم عليه الصلة والسلم إلى قومه ،يدعوهم إلى ال ،فقال [لهم]:
{ اعْ ُبدُوا اللّهَ } أي :وحّدوه ،وأخلصوا له العبادة ،وامتثلوا ما أمركم به { ،وَا ّتقُوهُ } أن يغضب
عليكم ،فيعذبكم ،وذلك بترك ما يغضبه من المعاصي { ،ذَِل ُكمْ } أي :عبادة ال وتقواه { خَيْرٌ َلكُمْ }
من ترك ذلك ،وهذا من باب إطلق { أفعل التفضيل } بما ليس في الطرف الخر منه شيء ،فإن
ترك عبادة ال ،وترك تقواه ،ل خير فيه بوجه ،وإنما كانت عبادة ال وتقواه خيرا للناس ،لنه ل
سبيل إلى نيل كرامته في الدنيا والخرة إل بذلك ،وكل خير يوجد في الدنيا والخرة ،فإنه من
آثار عبادة ال وتقواه.
{ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } ذلك ،فاعلموا المور وانظروا ما هو أولى باليثار ،فلما أمرهم بعبادة ال
وتقواه ،نهاهم عن عبادة الصنام ،وبيّن لهم نقصها وعدم استحقاقها للعبودية ،فقال { :إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا وَتَخُْلقُونَ ِإ ْفكًا } تنحتونها وتخلقونها بأيديكم ،وتخلقون لها أسماء اللهة،
وتختلقون الكذب بالمر بعبادتها والتمسك بذلك { ،إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } في نقصه ،وأنه
ليس فيه ما يدعو إلى عبادته { ،لَا َيمِْلكُونَ َلكُمْ رِ ْزقًا } فكأنه قيل :قد بان لنا أن هذه الوثان
مخلوقة ناقصة ،ل تملك نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول نشورا ،وأن من هذا وصفه ،ل
يستحق أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة من العبادة والتأله ،والقلوب ل بد أن تطلب معبودا
تألهه وتسأله حوائجها ،فقال -حاثا لهم على من يستحق العبادة { -فَابْ َتغُوا عِنْدَ اللّهِ الرّزْقَ } فإنه
هو الميسر له ،المقدر ،المجيب لدعوة من دعاه في أمر دينه ودنياه { وَاعْ ُبدُوهُ } وحده ل شريك
شكُرُوا لَهُ } وحده ،لكون جميع ما وصل
له ،لكونه الكامل النافع الضار ،المتفرد بالتدبير { ،وَا ْ
ويصل إلى الخلق من النعم فمنه ،وجميع ما اندفع ويندفع من النقم عنهم فهو الدافع لهاِ { .إلَيْهِ
جعُونَ } يجازيكم على ما عملتم ،وينبئكم بما أسررتم وأعلنتم ،فاحذروا القدوم عليه وأنتم على
تُرْ َ
شرككم ،وارغبوا فيما يقربكم إليه ،ويثيبكم -عند القدوم -عليه.
{ َأوََلمْ يَ َروْا كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ } يوم القيامة { إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } كما قال
تعالى { :وَ ُهوَ الّذِي يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ }
{ ُقلْ } لهم ،إن حصل معهم ريب وشك في البتداء { :سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ } بأبدانكم وقلوبكم
{ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ } فإنكم ستجدون أمما من الدميين والحيوانات ،ل تزال توجد شيئا
فشيئا ،وتجدون النبات والشجار ،كيف تحدث وقتا بعد وقت ،وتجدون السحاب والرياح ونحوها،
مستمرة في تجددها ،بل الخلق دائما في بدء وإعادة ،فانظر إليهم وقت موتتهم الصغرى -النوم-
وقد هجم عليهم الليل بظلمه ،فسكنت منهم الحركات ،وانقطعت منهم الصوات ،وصاروا في
فرشهم ومأواهم كالميتين ،ثم إنهم لم يزالوا على ذلك طول ليلهم ،حتى انفلق الصباح ،فانتبهوا
من رقدتهم ،وبعثوا من موتتهم ،قائلين " :الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور "
شئُ النّشَْأةَ الْآخِ َرةَ } وهي النشأة التي ل تقبل موتا ول نوما،
ولهذا قالُ { :ثمّ اللّهُ } بعد العادة { يُ ْن ِ
شيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى ل
وإنما هو الخلود والدوام في إحدى الدارين { .إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
يعجزها شيء وكما قدر بها على ابتداء الخلق ،فقدرته على العادة من باب أولى وأحرى.
حمُ مَنْ يَشَاءُ } أي :هو المنفرد بالحكم الجزائي ،وهو إثابة الطائعين
{ ُي َع ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَيَرْ َ
ورحمتهم ،وتعذيب العاصين والتنكيل بهم { .وَإِلَيْهِ ُتقْلَبُونَ } أي :ترجعون إلى الدار ،التي بها
تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته ،فاكتسبوا في هذه الدار ،ما هو من أسباب رحمته من
الطاعات ،وابتعدوا من أسباب عذابه ،وهي المعاصي.
يخبر تعالى من هم الذين زال عنهم الخير ،وحصل لهم الشر ،وأنهم الذين كفروا به وبرسله ،وبما
جاءوهم به ،وكذبوا بلقاء اللّه ،فليس عندهم إل الدنيا ،فلذلك قدموا على ما أقدموا عليه من الشرك
والمعاصي ،لنه ليس في قلوبهم ما يخوفهم من عاقبة ذلك ،ولهذا قال تعالى { :أُولَ ِئكَ يَ ِئسُوا مِنْ
حمَتِي } أي :فلذلك لم يعلموا سببا واحدا يحصلون به الرحمة ،وإل لو طمعوا في رحمته ،لعملوا
رَ ْ
لذلك أعمال ،والياس من رحمة اللّه من أعظم المحاذير ،وهو نوعان :إياس الكفار منها ،وتركهم
جميع سبب يقربهم منها ،وإياس العصاة ،بسبب كثرة جناياتهم أوحشتهم ،فملكت قلوبهم ،فأحدث
عذَابٌ أَلِيمٌ } أي :مؤلم موجع .وكأن هذه اليات معترضات بين كلم
لها الياس { ،وَأُولَ ِئكَ َلهُمْ َ
إبراهيم عليه السلم لقومه ،وردهم عليه ،واللّه أعلم بذلك.
جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَِلكَ
{ َ { } 24-25فمَا كَانَ َ
لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * َوقَالَ إِ ّنمَا اتّخَذْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ َيوْمَ
ضكُمْ َب ْعضًا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
ض وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ
ضكُمْ بِ َب ْع ٍ
ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ
أي :فما كان مجاوبة قوم إبراهيم إبراهيم حين دعاهم إلى ربه قبول دعوته ،والهتداء بنصحه،
ورؤية نعمة اللّه عليهم بإرساله إليهم ،وإنما كان مجاوبتهم له شر مجاوبة.
{ قَالُوا اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ } أشنع القتلت ،وهم أناس مقتدرون ،لهم السلطان ،فألقوه في النار
{ فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ } منها.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل ،وبِرّهُمْ ونصحهم ،وبطلن
قول من خالفهم وناقضهم ،وأن المعارضين للرسل كأنهم تواصوا وحث بعضهم بعضا على
التكذيب.
{ َوقَالَ } لهم إبراهيم في جملة ما قاله من نصحه { :إِ ّنمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِن ُكمْ فِي
ضكُمْ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي :غاية ذلك ،مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل { ،ثُمّ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ
حشِرَ النّاسُ
ضكُمْ َب ْعضًا } أي :يتبرأ كل من العابدين والمعبودين من الخر { وَِإذَا ُ
بِ َب ْعضٍ وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ
كَانُوا َلهُمْ أَعْدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ } فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه ويلعنهم؟
" و " أن مأوى الجميع ،العابدين والمعبودين " النّار " وليس أحد ينصرهم من عذاب اللّه ،ول يدفع
عنهم عقابه.
أي :لم يزل إبراهيم عليه الصلة والسلم يدعو قومه ،وهم مستمرون على عنادهم ،إل أنه آمن
له بدعوته لوط ،الذي نبأه اللّه ،وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره.
{ َوقَالَ } إبراهيم حين رأى أن دعوة قومه ل تفيدهم شيئا { :إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَى رَبّي } أي :هاجر
أرض السوء ،ومهاجر إلى الرض المباركة ،وهي الشام { ،إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } أي :الذي له القوة،
حكِيمٌ ما اقتضت حكمته ذلك ،ولما اعتزلهم وفارقهم ،وهم بحالهم،
وهو يقدر على هدايتكم ،ولكنه َ
لم يذكر اللّه عنهم أنه أهلكهم بعذاب ،بل ذكر اعتزاله إياهم ،وهجرته من بين أظهرهم.
فأما ما يذكر في السرائيليات ،أن اللّه تعالى فتح على قومه باب البعوض ،فشرب دماءهم ،وأكل
لحومهم ،وأتلفهم عن آخرهم ،فهذا يتوقف الجزم به على الدليل الشرعي ،ولم يوجد ،فلو كان اللّه
استأصلهم بالعذاب لذكره كما ذكر إهلك المم المكذبة ،ولكن لعل من أسرار ذلك ،أن الخليل
عليه السلم من أرحم الخلق وأفضلهم [وأحلمهم] وأجلهم ،فلم يدع على قومه كما دعا غيره ،ولم
يكن اللّه ليجري بسببه عذابا عاما.
ومما يدل على ذلك ،أنه راجع الملئكة في إهلك قوم لوط ،وجادلهم ،ودافع عنهم ،وهم ليسوا
قومه ،واللّه أعلم بالحال.
وهذا [من] أعظم المناقب والمفاخر ،أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة والفلح في ذريّته،
وعلى أيديهم اهتدى المهتدون ،وآمن المؤمنون ،وصلح الصالحون { .وَآتَيْنَاهُ َأجْ َرهُ فِي الدّنْيَا } من
الزوجة الجميلة فائقة الجمال ،والرزق الواسع ،والولد ،الذين بهم قرت عينه ،ومعرفة اللّه
ومحبته ،والنابة إليه.
{ وَإِنّهُ فِي الْآخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } بل هو ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم أفضل الصالحين على
الطلق ،وأعلهم منزلة ،فجمع اللّه له بين سعادة الدنيا والخرة.
تقدم أن لوطا عليه السلم آمن لبراهيم ،وصار من المهتدين به ،وقد ذكروا أنه ليس من ذرية
إبراهيم ،وإنما هو ابن أخي إبراهيم.
جعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ } وإن كان عاما ،فل يناقض كون لوط نبيا رسول
فقوله تعالىَ { :و َ
وهو ليس من ذريته ،لن الية جيء بها لسياق المدح والثناء على الخليل ،وقد أخبر أن لوطا
اهتدى على يديه ،ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي،
واللّه أعلم.
فأرسل اللّه لوطا إلى قومه ،وكانوا مع شركهم ،قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور ،وتقطيع
السبيل ،وفشو المنكرات في مجالسهم ،فنصحهم لوط عن هذه المور ،وبيّن لهم قبائحها في نفسها،
جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا
وما تئول إليه من العقوبة البليغة ،فلم يرعووا ولم يذكرواَ { .فمَا كَانَ َ
ِبعَذَابِ اللّهِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }
فأيس منهم نبيهم ،وعلم استحقاقهم العذاب ،وجزع من شدة تكذيبهم له ،فدعا عليهم و{ قَالَ َربّ
ا ْنصُرْنِي عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْل ُمفْسِدِينَ } فاستجاب اللّه دعاءه ،فأرسل الملئكة لهلكهم ،فمروا بإبراهيم
قبل ،وبشروه بإسحاق ،ومن وراء إسحاق يعقوب ،ثم سألهم إبراهيم أين يريدون؟ فأخبروه أنهم
يريدون إهلك قوم لوط ،فجعل يراجعهم ويقول { :إِنّ فِيهَا لُوطًا } فقالوا له { :لَنُ َنجّيَنّ ُه وَأَ ْهلَهُ إِلّا
امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ } ثم مضوا حتى أتوا لوطا ،فساءه مجيئهم ،وضاق بهم ذرعا ،بحيث إنه
لم يعرفهم ،وظن أنهم من جملة أبناء السبيل الضيوف ،فخاف عليهم من قومه ،فقالوا له { :لَا
ف وَلَا تَحْزَنْ } وأخبروه أنهم رسل اللّه.
خ ْ
تَ َ
{ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهَْلكَ إِلّا امْرَأَ َتكَ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ إِنّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَ ْهلِ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ رِجْزًا } أي:
سقُونَ } فأمروه أن يسري بأهله ليل ،فلما أصبحوا ،قلب اللّه عليهم
سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
عذابا { مِنَ ال ّ
ديارهم ،فجعل عاليها سافلها ،وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم،
سمَرًا من السمار ،وعبرة من العِبر.
فصاروا َ
{ وََلقَدْ تَ َركْنَا مِ ْنهَا آ َيةً بَيّنَةً ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ } أي :تركنا من ديار قوم لوط ،آثارا بينة لقوم يعقلون
العِبر بقلوبهم[ ،فينتفعون بها] ،كما قال تعالى { :وَإِ ّنكُمْ لَ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ُمصْبِحِينَ وَبِاللّ ْيلِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ
}
شعَيْبًا َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّ َه وَا ْرجُوا الْ َيوْمَ الْآخِ َر وَلَا َتعْ َثوْا فِي
{ { } 36-37وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ }
الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ * َفكَذّبُوهُ فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ
أي :وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود ،وقد علمتم قصصهم ،وتبين لكم بشيء تشاهدونه بأبصاركم من
مساكنهم وآثارهم التي بانوا عنها ،وقد جاءتهم رسلهم باليات البينات ،المفيدة للبصيرة ،فكذبوهم
عمَاَلهُمْ } حتى ظنوا أنها أفضل مما جاءتهم به الرسل.
وجادلوهم { .وَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
وكذلك قارون ،وفرعون ،وهامان ،حين بعث اللّه إليهم موسى بن عمران ،باليات البينات،
والبراهين الساطعات ،فلم ينقادوا ،واستكبروا في الرض[ ،على عباد اللّه فأذلوهم ،وعلى الحق
فردوه فلم يقدروا على النجاء حين نزلت بهم العقوبة] { َومَا كَانُوا سَا ِبقِينَ } اللّه ،ول فائتين ،بل
سلموا واستسلموا.
{ َفكُل } من هؤلء المم المكذبة { َأخَذْنَا ِبذَنْبِهِ } على قدره ،وبعقوبة مناسبة لهَ { ،فمِ ْنهُمْ مَنْ
أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبًا } أي :عذابا يحصبهم ،كقوم عاد ،حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم ،و
خلٍ خَاوِيَةٍ }
عجَازُ َن ْ
ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
{ سَخّرَهَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْبعَ لَيَا ٍ
هذا مثل ضربه اللّه لمن عبد معه غيره ،يقصد به التعزز والتّ َقوّي والنفع ،وأن المر بخلف
مقصوده ،فإن مثله كمثل العنكبوت ،اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد والفات { ،وَإِنّ َأوْهَنَ
الْبُيُوتِ } أضعفها وأوهاها { لَبَ ْيتُ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ } فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة ،وبيتها من
أضعف البيوت ،فما ازدادت باتخاذه إل ضعفا ،كذلك هؤلء الذين يتخذون من دونه أولياء ،فقراء
عاجزون من جميع الوجوه ،وحين اتخذوا الولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم ،ازدادوا
ضعفا إلى ضعفهم ،ووهنا إلى وهنهم.
فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم ،وألقوها عليهم ،وتخلوا هم عنها ،على أن أولئك
سيقومون بها ،فخذلوهم ،فلم يحصلوا منهم على طائل ،ول أنالوهم من معونتهم أقل نائل.
فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم ،حالهم وحال من اتخذوهم ،لم يتخذوهم ،ولتبرأوا منهم ،ولتولوا
الرب القادر الرحيم ،الذي إذا توله عبده وتوكل عليه ،كفاه مئونة دينه ودنياه ،وازداد قوة إلى
قوته ،في قلبه وفي بدنه وحاله وأعماله.
ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين ،ارتقى من هذا إلى ما هو أبلغ منه ،وأنها ليست بشيء ،بل
هي مجرد أسماء سموها ،وظنون اعتقدوها ،وعند التحقيق ،يتبين للعاقل بطلنها وعدمها ،ولهذا
شيْءٍ } أي :إنه تعالى يعلم -وهو عالم الغيب
قال { :إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ َ
والشهادة -أنهم ما يدعون من دون اللّه شيئا موجودا ،ول إلها له حقيقة ،كقوله تعالى { :إِنْ ِهيَ
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وقولهَ { :ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ
سمَاءٌ َ
إِلّا أَ ْ
دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ وإن هم إل يخرصون }
حكِيمُ } الذي
{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الحكيم } الذي له القوة جميعا ،التي قهر بها جميع المخلوقات { ،الْ َ
يضع الشياء مواضعها ،الذي أحسن كل شيء خلقه ،وأتقن ما أمره.
{ وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ } أي :لجلهم ولنتفاعهم وتعليمهم ،لكونها من الطرق الموضحة
للعلوم ،ولنها تقرب المور المعقولة بالمور المحسوسة ،فيتضح المعنى المطلوب بسببها ،فهي
مصلحة لعموم الناس.
{ و } لكن { مَا َي ْعقُِلهَا } بفهمها وتدبرها ،وتطبيقها على ما ضربت له ،وعقلها في القلب { إِلّا
ا ْلعَاِلمُونَ } أي :أهل العلم الحقيقي ،الذين وصل العلم إلى قلوبهم.
وهذا مدح للمثال التي يضربها ،وحثّ على تدبرها وتعقلها ،ومدح لمن يعقلها ،وأنه عنوان على
أنه من أهل العلم ،فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين.
والسبب في ذلك ،أن المثال التي يضربها اللّه في القرآن ،إنما هي للمور الكبار ،والمطالب
العالية ،والمسائل الجليلة ،فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها ،لعتناء اللّه بها ،وحثه عباده
على تعقلها وتدبرها ،فيبذلون جهدهم في معرفتها.
وأما من لم يعقلها ،مع أهميتها ،فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم ،لنه إذا لم يعرف
المسائل المهمة ،فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى .ولهذا ،أكثر ما يضرب اللّه المثال
في أصول الدين ونحوها.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَةً لِ ْل ُمؤْمِنِينَ }
{ { } 44خََلقَ اللّهُ ال ّ
أي :هو تعالى المنفرد بخلق السماوات ،على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من
الشمس والقمر والكواكب والملئكة ،والرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار
والشجار ونحوها ،وكل ذلك خلقه بالحق ،أي :لم يخلقها عبثا ول سدى ،ول لغير فائدة ،وإنما
خلقها ،ليقوم أمره وشرعه ،ولتتم نعمته على عباده ،وليروا من حكمته وقهره وتدبيره ،ما يدلهم
على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم { .إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } على كثير من المطالب
اليمانية ،إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا.
حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ وََأ ِقمِ الصّلَاةَ إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَلَ ِذكْرُ
{ { } 45ا ْتلُ مَا أُو ِ
اللّهِ َأكْبَرُ وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ }
يأمر تعالى بتلوة وحيه وتنزيله ،وهو هذا الكتاب العظيم ،ومعنى تلوته اتباعه ،بامتثال ما يأمر
به ،واجتناب ما ينهى عنه ،والهتداء بهداه ،وتصديق أخباره ،وتدبر معانيه ،وتلوة ألفاظه،
فصار تلوة لفظه جزء المعنى وبعضه ،وإذا كان هذا معنى تلوة الكتاب ،علم أن إقامة الدين
كله ،داخلة في تلوة الكتاب .فيكون قوله { :وََأقِمِ الصّلَاةَ } من باب عطف الخاص على العام،
لفضل الصلة وشرفها ،وآثارها الجميلة ،وهي { إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ }
ووجه كون الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،أن العبد المقيم لها ،المتمم لركانها وشروطها
وخشوعها ،يستنير قلبه ،ويتطهر فؤاده ،ويزداد إيمانه ،وتقوى رغبته في الخير ،وتقل أو تعدم
رغبته في الشر ،فبالضرورة ،مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه ،تنهى عن الفحشاء
والمنكر ،فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها .وثَمّ في الصلة مقصود أعظم من هذا وأكبر ،وهو
ما اشتملت عليه من ذكر اللّه ،بالقلب واللسان والبدن .فإن اللّه تعالى ،إنما خلق الخلق لعبادته،
وأفضل عبادة تقع منهم الصلة ،وفيها من عبوديات الجوارح كلها ،ما ليس في غيرها ،ولهذا قال:
{ وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ }
ويحتمل أنه لما أمر بالصلة ومدحها ،أخبر أن ذكره تعالى خارج الصلة أكبر من الصلة ،كما
هو قول جمهور المفسرين ،لكن الول أولى ،لن الصلة أفضل من الذكر خارجها ،ولنها -كما
تقدم -بنفسها من أكبر الذكر.
{ وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ } من خير وشر ،فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه.
{ { } 46وَلَا ُتجَادِلُوا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّا بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُ ْم َوقُولُوا آمَنّا بِالّذِي
ح ٌد وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ }
أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا وَأُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُ ْم وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَا ِ
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ،إذا كانت من غير بصيرة من المجادل ،أو بغير قاعدة
مرضية ،وأن ل يجادلوا إل بالتي هي أحسن ،بحسن خلق ولطف ولين كلم ،ودعوة إلى الحق
وتحسينه ،ورد عن الباطل وتهجينه ،بأقرب طريق موصل لذلك ،وأن ل يكون القصد منها مجرد
المجادلة والمغالبة وحب العلو ،بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق ،إل من ظلم من أهل
الكتاب ،بأن ظهر من قصده وحاله ،أنه ل إرادة له في الحق ،وإنما يجادل على وجه المشاغبة
والمغالبة ،فهذا ل فائدة في جداله ،لن المقصود منها ضائع.
{ َوقُولُوا آمَنّا بِالّذِي أُنْ ِزلَ ِإلَيْنَا وَأُنْ ِزلَ إِلَ ْي ُك ْم وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَاحِدٌ } أي :ولتكن مجادلتكم لهل الكتاب
مبنية على اليمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ،وعلى اليمان برسولكم ورسولهم ،وعلى أن الله
واحد ،ول تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب اللهية ،أو بأحد
من الرسل ،كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ،يقدح بجميع ما معهم ،من حق وباطل ،فهذا
ظلم ،وخروج عن الواجب وآداب النظر ،فإن الواجب ،أن يرد ما مع الخصم من الباطل ،ويقبل
ما معه من الحق ،ول يرد الحق لجل قوله ،ولو كان كافرا .وأيضا ،فإن بناء مناظرة أهل
الكتاب ،على هذا الطريق ،فيه إلزام لهم بالقرار بالقرآن ،وبالرسول الذي جاء به ،فإنه إذا تكلم
في الصول الدينية التي اتفقت عليها النبياء والكتب ،وتقررت عند المتناظرين ،وثبتت حقائقها
عندهما ،وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت
عليها وأخبرت بها ،فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ،والرسل كلهم ،وهذا من خصائص السلم.
فأما أن يقال :نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلني ،دون الكتاب الفلني وهو الحق الذي صدق ما
قبله ،فهذا ظلم وجور ،وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب ،لنه إذا كذب القرآن الدال عليها ،المصدق
لما بين يديه من التوراة ،فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن.
وأيضا ،فإن كل طريق تثبت به نبوة أي :نبي كان ،فإن مثلها وأعظم منها ،دالة على نبوة محمد
صلى اللّه عليه وسلم ،وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،فإن مثلها أو
أعظم منها ،يمكن توجيهها إلى نبوة غيره ،فإذا ثبت بطلنها في غيره ،فثبوت بطلنها في حقه
صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر.
وقوله { :وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ } أي :منقادون مستسلمون لمره .ومن آمن به ،واتخذه إلها ،وآمن
بجميع كتبه ورسله ،وانقاد للّه واتبع رسله ،فهو السعيد ،ومن انحرف عن هذا الطريق ،فهو
الشقي.
{ َ { } 48 - 47وكَذَِلكَ أَنْزَلْنَا ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َومِنْ َهؤُلَاءِ مَنْ
خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا
ب وَلَا تَ ُ
جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ا ْلكَافِرُونَ * َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَا ٍ
ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومَا يَ ْ
لَارْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }
أيَ { :وكَذَِلكَ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ } يا محمد ،هذا { ا ْلكِتَاب } الكريم ،المبين كل نبأ عظيم ،الداعي إلى كل
خلق فاضل ،وأمر كامل ،المصدق للكتب السابقة ،المخبر به النبياء القدمون.
{ َومِنْ َهؤُلَاءِ } الموجودين { مَنْ ُي ْؤمِنُ ِبهِ } إيمانا عن بصيرة ،ل عن رغبته ول رهبتهَ { .ومَا
جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ا ْلكَافِرُونَ } الذين دأبهم الجحود للحق والعناد له .وهذا حصر لمن كفر به ،أنه ل
يَ ْ
يكون من أحد قصده متابعة الحق ،وإل ،فكل من له قصد صحيح ،فإنه ل بد أن يؤمن به ،لما
اشتمل عليه من البينات ،لكل من له عقل ،أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومما يدل على صحته ،أنه جاء به هذا النبي المين ،الذي عرف قومه صدقه وأمانته ومدخله
ومخرجه وسائر أحواله ،وهو ل يكتب بيده خطا ،ول يقرأ خطا مكتوبا ،فإتيانه به في هذه الحال،
من أظهر البينات القاطعة ،التي ل تقبل الرتياب ،أنه من عند اللّه العزيز الحميد ،ولهذا قال:
{ َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو } أي :تقرأ { مِنْ قَبِْلهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذًا } لو كنت بهذه الحال
{ لَارْتَابَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ } فقالوا :تعلمه من الكتب السابقة ،أو استنسخه منها ،فأما وقد نزل على قلبك،
كتابا جليل ،تحديت به الفصحاء والبلغاء ،العداء اللداء ،أن يأتوا بمثله ،أو بسورة من مثله،
فعجزوا غاية العجز ،بل ول حدثتهم أنفسهم بالمعارضة ،لعلمهم ببلغته وفصاحته ،وأن كلم أحد
من البشر ،ل يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله ،ولهذا قال:
أيَ { :بلْ } هذا القرآن { آيَات بَيّنَات } ل خفيات { ،فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ } وهم سادة
الخلق ،وعقلؤهم ،وأولو اللباب منهم ،والكمل منهم.
فإذا كان آيات بينات في صدور أمثال هؤلء ،كانوا حجة على غيرهم ،وإنكار غيرهم ل يضر،
جحَدُ بِآيَاتِنَا إِلّا الظّاِلمُونَ } لنه ل يجحدها إل جاهل
ول يكون ذلك إل ظلما ،ولهذا قالَ { :ومَا يَ ْ
تكلم بغير علم ،ولم يقتد بأهل العلم ،وهو متمكن من معرفته على حقيقته ،وإما متجاهل عرف أنه
حق فعانده ،وعرف صدقه فخالفه.
{ َ { } 52 - 50وقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِ ّنمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * ُقلْ
* َأوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْي ِهمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَ َر ْ
ل َوكَفَرُوا بِاللّهِ
طِض وَالّذِينَ آمَنُوا بِالْبَا ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
شهِيدًا َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
َكفَى بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ
أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
أي :واعترض هؤلء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به ،واقترحوا عليه نزول آيات
عينوها ،كقولهمَ { :وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا } اليات .فتعيين اليات
ليس عندهم ،ول عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،فإن في ذلك تدبيرا مع اللّه ،وأنه لو كان
كذلك ،وينبغي أن يكون كذلك ،وليس لحد من المر شيء.
ولهذا قالُ { :قلْ إِ ّنمَا الْآيَاتُ عِ ْندَ اللّهِ } إن شاء أنزلها أو منعها { وَإِ ّنمَا أَنَا َنذِيرٌ مُبِينٌ } وليس لي
مرتبة فوق هذه المرتبة.
وإذا كان القصد بيان الحق من الباطل ،فإذا حصل المقصود -بأي :طريق -كان اقتراح اليات
المعينات على ذلك ظلما وجورا ،وتكبرا على اللّه وعلى الحق.
بل لو قدر أن تنزل تلك اليات ،ويكون في قلوبهم أنهم ل يؤمنون بالحق إل بها ،كان ذلك ليس
بإيمان ،وإنما ذلك شيء وافق أهواءهم ،فآمنوا ،ل لنه حق ،بل لتلك اليات .فأي فائدة حصلت
في إنزالها على التقدير الفرضي؟
ولما كان المقصود بيان الحق ،ذكر تعالى طريقه ،فقالَ { :أوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ } في علمهم بصدقك وصدق
ما جئت به { أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } وهذا كلم مختصر جامع ،فيه من اليات
البينات ،والدللت الباهرات ،شيء كثير ،فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو أمي ،من
أكبر اليات على صدقه.
ثم عجزهم عن معارضته ،وتحديه إياهم آية أخرى ،ثم ظهوره ،وبروزه جهرا علنية ،يتلى
عليهم ،ويقال :هو من عند اللّه ،قد أظهره الرسول ،وهو في وقت قلّ فيه أنصاره ،وكثر مخالفوه
وأعداؤه ،فلم يخفه ،ولم يثن ذلك عزمه ،بل صرح به على رءوس الشهاد ،ونادى به بين
الحاضر والباد ،بأن هذا كلم ربي ،فهل أحد يقدر على معارضته ،أو ينطق بمباراته أو يستطيع
مجاراته؟.
ثم إخباره عن قصص الولين ،وأنباء السابقين والغيوب المتقدمة والمتأخرة ،مع مطابقته للواقع.
ثم هيمنته على الكتب المتقدمة ،وتصحيحه للصحيح ،و َنفْيُ ما أدخل فيها من التحريف والتبديل ،ثم
هدايته لسواء السبيل ،في أمره ونهيه ،فما أمر بشيء فقال العقل "ليته لم يأمر به" ول نهى عن
شيء فقال العقل" :ليته لم ينه عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان ،والحكمة المعقولة لذوي
البصائر والعقول [ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث ل تصلح
المور إل به]
فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق ،وعمل على طلب الحق ،فل كفى اللّه من لم يكفه
القرآن ،ول شفى اللّه من لم يشفه الفرقان ،ومن اهتدى به واكتفى ،فإنه خير له فلذلك قال { :إِنّ
ح َم ًة وَ ِذكْرَى ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير ،والخير الغزير،
فِي ذَِلكَ لَرَ ْ
وتزكية القلوب والرواح ،وتطهير العقائد ،وتكميل الخلق ،والفتوحات اللهية ،والسرار
الربانية.
حلّ بي ما به تعتبرون،
شهِيدًا } فأنا قد استشهدته ،فإن كنت كاذباَ ،أ َ
{ ُقلْ َكفَى بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ
وإن كان إنما يؤيدني وينصرني وييسر لي المور ،فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من اللّه ،فإن وقع
سمَاوَاتِ
في قلوبكم أن شهادته -وأنتم لم تسمعوه ولم تروه -ل تكفي دليل ،فإنه { َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
وَالْأَ ْرضِ }
ومن جملة معلوماته حالي وحالكم ،ومقالي لكم فلو كنت متقول عليه ،مع علمه بذلك ،وقدرته على
عقوبتي ،لكان [قدحا في علمه وقدرته وحكمته] كما قال تعالى { :وََلوْ َت َق ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }
خذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ ُثمّ َلقَ َ
لَأَ َ
ل َو َكفَرُوا بِاللّهِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } حيث هم خسروا اليمان باللّه وملئكته
طِ{ وَالّذِينَ آمَنُوا بِالْبَا ِ
وكتبه ورسله واليوم الخر ،وحيث فاتهم النعيم المقيم ،وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح
كل باطل قبيح ،وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم ،فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
يخبر تعالى عن جهل المكذبين للرسول وما جاء به ،وأنهم يقولون -استعجال للعذاب ،وزيادة
تكذيب { -مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } ؟
فوقع كما أخبر اللّه تعالى ،لما قدموا لب "بدر" بطرين مفاخرين ،ظانين
أنهم قادرون على مقصودهم ،فأهانهم اللّه ،وقتل كبارهم ،واستوعب جملة أشرارهم ،ولم يبق فيهم
بيت إل أصابته تلك المصيبة ،فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا ،ونزل بهم وهم ل يشعرون.
هذا ،وإن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي ،فإن أمامهم العذاب الخروي ،الذي ل يخلص منهم أحد
جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ } ليس لهم عنها معدل
منه ،سواء عوجل بعذاب الدنيا أو أمهل { .وَإِنّ َ
ول متصرف ،قد أحاطت بهم من كل جانب ،كما أحاطت بهم ذنوبهم وسيئاتهم وكفرهم ،وذلك
العذاب ،هو العذاب الشديد.
حتِ أَرْجُِل ِه ْم وَ َيقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } فإن أعمالكم
{ َيوْمَ َيغْشَاهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ َت ْ
انقلبت عليكم عذابا ،وشملكم العذاب كما شملكم الكفر والذنوب.
فب { نعم } تلك المنازل ،في جنات النعيم { َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ } للّه.
ن صَبَرُوا } على عبادة اللّه { وَعَلَى رَ ّب ِهمْ يَ َت َوكّلُونَ } في ذلك .فصبرهم على عبادة اللّه،
{ الّذِي َ
يقتضي بذل الجهد والطاقة في ذلك ،والمحاربة العظيمة للشيطان ،الذي يدعوهم إلى الخلل
بشيء من ذلك ،وتوكلهم ،يقتضي شدة اعتمادهم على اللّه ،وحسن ظنهم به ،أن يحقق ما عزموا
عليه من العمال ويكملها ،ونص على التوكل ،وإن كان داخل في الصبر ،لنه يحتاج إليه في كل
فعل وترك مأمور به ،ول يتم إل به.
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }
ح ِملُ رِ ْز َقهَا اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُ ْم وَ ُهوَ ال ّ
{ َ { } 60وكَأَيّنْ مِنْ دَابّةٍ لَا َت ْ
أي :الباري تبارك وتعالى ،قد تكفل بأرزاق الخلئق كلهم ،قويهم وعاجزهم ،فكم { مِنْ دَابّةٍ } في
ح ِملُ رِ ْز َقهَا } ول تدخره ،بل لم تزل ،ل شيء معها
الرض ،ضعيفة القوى ،ضعيفة العقل { .لَا تَ ْ
من الرزق ،ول يزال اللّه يسخر لها الرزق ،في كل وقت بوقته.
سمِيعُ
{ اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُمْ } فكلكم عيال اللّه ،القائم برزقكم ،كما قام بخلقكم وتدبيركم { ،وَ ُهوَ ال ّ
ا ْلعَلِيمُ } فل يخفى عليه خافية ،ول تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه.
هذا استدلل على المشركين المكذبين بتوحيد اللهية والعبادة ،وإلزام لهم بما أثبتوه من توحيد
الربوبية ،فأنت لو سألتهم من خلق السماوات والرض ،ومن نزل من السماء ماء فأحيا به
الرض بعد موتها ،ومن بيده تدبير جميع الشياء؟ { لَ َيقُولُنّ اللّهُ } وحده ،ولَاعْتَ َرفُوا بعجز الوثان
ومن عبدوه مع اللّه على شيء من ذلك.
جلْ
سّفاعجب لفكهم وكذبهم ،وعدولهم إلى من أقروا بعجزه ،وأنه ل يستحق أن يدبر شيئا ،و َ
عليهم بعدم العقل ،وأنهم السفهاء ،ضعفاء الحلم ،فهل تجد أضعف عقل ،وأقل بصيرة ،ممن أتى
إلى حجر ،أو قبر ونحوه ،وهو يدري أنه ل ينفع ول يضر ،ول يخلق ول يرزق ،ثم صرف له
خالص الخلص ،وصافي العبودية ،وأشركه مع الرب ،الخالق الرازق ،النافع الضار .وقل:
الحمد ل الذي بين الهدى من الضلل ،وأوضح بطلن ما عليه المشركون ،ليحذره الموفقون.
وقل :الحمد ل ،الذي خلق العالم العلوي والسفلي ،وقام بتدبيرهم ورزقهم ،وبسط الرزق على من
يشاء ،وضيقه على من يشاء ،حكمة منه ،ولعلمه بما يصلح عباده وما ينبغي لهم.
{ َ { } 69 - 64ومَا هَ ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ْه ٌو وََل ِعبٌ وَإِنّ الدّارَ الْآخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُوا
عوُا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْ ِركُونَ *
َيعَْلمُونَ * فَِإذَا َركِبُوا فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ
طفُ النّاسُ مِنْ
خّجعَلْنَا حَ َرمًا آمِنًا وَيُتَ َ
س ْوفَ َيعَْلمُونَ * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ
لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا آتَيْنَاهُ ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُوا فَ َ
ن وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ َي ْكفُرُونَ * َومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ
طلِ ُي ْؤمِنُو َ
حوِْلهِمْ َأفَبِالْبَا ِ
َ
جهَنّمَ مَ ْثوًى لِ ْلكَافِرِينَ * وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُُبلَنَا وَإِنّ اللّهَ َل َمعَ
حقّ َلمّا جَا َءهُ أَلَيْسَ فِي َ
بِالْ َ
حسِنِينَ }
ا ْلمُ ْ
يخبر تعالى عن حالة الدنيا والخرة ،وفي ضمن ذلك ،التزهيد في الدنيا والتشويق للخرى ،فقال:
{ َومَا َه ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } في الحقيقة { إِلّا َل ْهوٌ وََل ِعبٌ } تلهو بها القلوب ،وتلعب بها البدان ،بسبب
ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات ،والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة ،الباهجة للعيون الغافلة،
المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة ،ثم تزول سريعا ،وتنقضي جميعا ،ولم يحصل منها محبها إل
على الندم والحسرة والخسران.
وأما الدار الخرة ،فإنها دار { الحيوان } أي :الحياة الكاملة ،التي من لوازمها ،أن تكون أبدان
أهلها في غاية القوة ،وقواهم في غاية الشدة ،لنها أبدان وقوى خلقت للحياة ،وأن يكون موجودا
فيها كل ما تكمل به الحياة ،وتتم به اللذات ،من مفرحات القلوب ،وشهوات البدان ،من المآكل،
والمشارب ،والمناكح ،وغير ذلك ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر{ .
َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } لما آثروا الدنيا على الخرة ،ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان،
ورغبوا في دار اللهو واللعب ،فدل ذلك على أن الذين يعلمون ،ل بد أن يؤثروا الخرة على
الدنيا ،لما يعلمونه من حالة الدارين.
ثم ألزم تعالى المشركين بإخلصهم للّه تعالى ،في حالة الشدة ،عند ركوب البحر وتلطم أمواجه
وخوفهم الهلك ،يتركون إذا أندادهم ،ويخلصون الدعاء للّه وحده ل شريك له ،فلما زالت عنهم
الشدة ،ونجى من أخلصوا له الدعاء إلى البر ،أشركوا به من ل نجاهم من شدة ،ول أزال عنهم
مشقة.
فهل أخلصوا للّه الدعاء في حال الرخاء والشدة ،واليسر والعسر ،ليكونوا مؤمنين به حقا،
مستحقين ثوابه ،مندفعا عنهم عقابه.
ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم ،بالنجاة من البحر ،ليكون عاقبته كفر ما آتيناهم ،ومقابلة
النعمة بالساءة ،وليكملوا تمتعهم في الدنيا ،الذي هو كتمتع النعام ،ليس لهم همّ إل بطونهم
وفروجهم.
سوْفَ َيعَْلمُونَ } حين ينتقلون من الدنيا إلى الخرة ،شدة السف وأليم العقوبة.
{ َف َ
ثم امتن عليهم بحرمه المن ،وأنهم أهله في أمن وسعة ورزق ،والناس من حولهم يتخطفون
ويخافون ،أفل يعبدون الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
طلِ ُي ْؤمِنُونَ } وهو ما هم عليه من الشرك ،والقوال ،والفعال الباطلة { .وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ } هم
{ َأفَبِالْبَا ِ
{ َي ْكفُرُونَ } فأين ذهبت عقولهم ،وانسلخت أحلمهم حيث آثروا الضلل على الهدى ،والباطل
على الحق ،والشقاء على السعادة ،وحيث كانوا أظلم الخلق.
{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } فنسب ما هو عليه من الضلل والباطل إلى اللّهَ { ،أوْ
حقّ َلمّا جَا َءهُ } على يد رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم.
كَ ّذبَ بِالْ َ
{ وَالّذِينَ جَا َهدُوا فِينَا } وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه ،وجاهدوا أعداءهم ،وبذلوا مجهودهم في
اتباع مرضاته { ،لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا } أي :الطرق الموصلة إلينا ،وذلك لنهم محسنون.
{ وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } بالعون والنصر والهداية .دل هذا ،على أن أحرى الناس بموافقة
الصواب أهل الجهاد ،وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية ،وعلى
أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي ،فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل
مطلوبه أمور إلهية ،خارجة عن مدرك اجتهاده ،وتيسر له أمر العلم ،فإن طلب العلم الشرعي من
الجهاد في سبيل اللّه ،بل هو أحد َنوْعَي الجهاد ،الذي ل يقوم به إل خواص الخلق ،وهو الجهاد
بالقول واللسان ،للكفار والمنافقين ،والجهاد على تعليم أمور الدين ،وعلى رد نزاع المخالفين
للحق ،ولو كانوا من المسلمين.
وهي مكية
كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الرض ،وكان يكون بينهما من الحروب
والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة.
وكانت الفرس مشركين يعبدون النار ،وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والنجيل وهم
أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس ،وكان
المشركون -لشتراكهم والفرس في الشرك -يحبون ظهور الفرس على الروم.
فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم ،ففرح بذلك مشركو مكة
وحزن المسلمون ،فأخبرهم اللّه ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس.
{ فِي ِبضْعِ سِنِينَ } تسع أو ثمان ونحو ذلك مما ل يزيد على العشر ،ول ينقص عن الثلث ،وأن
غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال { :لِلّهِ الَْأمْرُ مِنْ قَ ْبلُ
َومِنْ َب ْعدُ } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود السباب ،وإنما هي ل بد أن يقترن بها القضاء
والقدر.
{ وَ َي ْومَئِذٍ } أي :يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِ َنصْرِ اللّهِ يَ ْنصُرُ مَنْ يَشَاءُ }
أي :يفرحون بانتصارهم على الفرس وإن كان الجميع كفارا ولكن بعض الشر أهون من بعض
ويحزن يومئذ المشركون.
{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي له العزة التي قهر بها الخلئق أجمعين يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك
ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء { .الرّحيم } بعباده المؤمنين حيث قيض لهم من السباب
التي تسعدهم وتنصرهم ما ل يدخل في الحساب.
{ وَعْدَ اللّهِ لَا يُخِْلفُ اللّهُ وَعْ َدهُ } فتيقنوا ذلك واجزموا به واعلموا أنه ل بد من وقوعه.
فلما نزلت هذه اليات التي فيها هذا الوعد صدق بها المسلمون ،وكفر بها المشركون حتى تراهن
بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها ،فلما جاء الجل الذي ضربه اللّه
انتصر الروم على الفرس وأجلوهم من بلدهم التي أخذوها منهم وتحقق وعد اللّه.
وهذا من المور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها من
المسلمين والمشركين { .وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } أن ما وعد اللّه به حق فلذلك يوجد فريق
منهم يكذبون بوعد ال ،ويكذبون آياته.
وهؤلء الذين ل يعلمون أي :ل يعلمون بواطن الشياء وعواقبها .وإنما { َيعَْلمُونَ ظَاهِرًا مِنَ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا } فينظرون إلى السباب ويجزمون بوقوع المر الذي في رأيهم انعقدت أسباب
وجوده ويتيقنون عدم المر الذي لم يشاهدوا له من السباب المقتضية لوجوده شيئا ،فهم واقفون
مع السباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها.
{ وَ ُهمْ عَنِ الْآخِ َرةِ هُمْ غَافِلُونَ } قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها
وحطامها فعملت لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الخرة ،فل الجنة تشتاق إليها ول
النار تخافها وتخشاها ول المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها وهذا علمة الشقاء وعنوان
الغفلة عن الخرة.
ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر
يحير العقول ويدهش اللباب.
وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به وبرزوا
وأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم اللّه عليه ،فنظروا إليهم بعين الحتقار
والزدراء وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة
بالعواقب ،قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون وفي ضللهم يعمهون وفي باطلهم
يترددون نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.
ثم نظروا إلى ما أعطاهم اللّه وأقدرهم عليه من الفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها و[ما] حرموا
من العقل العالي فعرفوا أن المر للّه والحكم له في عباده وإن هو إل توفيقه وخذلنه فخافوا ربهم
وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم من نور العقول واليمان حتى يصلوا إليه ،ويحلوا بساحته [وهذه
المور لو قارنها اليمان وبنيت عليه لثمرت ال ّر ِقيّ العالي والحياة الطيبة ،ولكنها لما بني كثير
منها على اللحاد لم تثمر إل هبوط الخلق وأسباب الفناء والتدمير]
{ وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِِلقَاءِ رَ ّبهِمْ َلكَافِرُونَ } فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي
أخبرت به وهذا الكفر عن غير دليل ،بل الدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء ،ولهذا نبههم
على السير في الرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن هم أشد من
هؤلء قوة وأكثر آثارا في الرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن زرع
وإجراء أنهار ،فلم تغن عنهم قوتهم ول نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاءوهم بالبينات
الدالت على الحق وصحة ما جاءوهم به ،فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إل أمما
بائدة وخلقا مهلكين ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع .وهذا جزاء معجل نموذج
للجزاء الخروي ومبتدأ له.
وكل هذه المم المهلكة لم يظلمهم اللّه بذلك الهلك وإنما ظلموا أنفسهم وتسببوا في هلكها.
{ ُثمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السوأى } أي :الحالة السيئة الشنيعة ،وصار ذلك داعيا لهم لن
{ َكذّبُوا بِآيَاتِ اللّ ِه َوكَانُوا ِبهَا َيسْ َتهْزِئُونَ } فهذا عقوبة لسوئهم وذنوبهم.
ثم ذلك الستهزاء والتكذيب يكون سببا لعظم العقوبات وأعضل المثلت.
عةُ } أي :يقوم الناس لرب العالمين ويردون القيامة عيانا ،يومئذ { يُبِْلسُ
{ وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
ا ْلمُجْ ِرمُونَ } أي :ييأسون من كل خير .وذلك أنهم ما قدموا لذلك اليوم إل الجرام وهي الذنوب،
من كفر وشرك ومعاصي ،فلما قدموا أسباب العقاب ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب ،أيسوا
وأبلسوا وأفلسوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه ،من نفع شركائهم وأنهم يشفعون لهم ،ولهذا قال:
شفَعَا ُء َوكَانُوا بِشُ َركَا ِئهِمْ كَافِرِينَ } تبرأ
{ وَلَمْ َيكُنْ َلهُمْ مِنْ شُ َركَا ِئ ِهمْ } التي عبدوها مع اللّه { ُ
المشركون ممن أشركوهم مع اللّه وتبرأ المعبودون وقالوا { :تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْبُدُونَ }
والتعنوا وابتعدوا ،وفي ذلك اليوم يفترق أهل الخير والشر كما افترقت أعمالهم في الدنيا.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } آمنوا بقلوبهم وصدقوا ذلك بالعمال الصالحة { َفهُمْ فِي
{ فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
َر ْوضَةٍ } فيها سائر أنواع النبات وأصناف المشتهياتُ { ،يحْبَرُونَ } أي :يسرون وينعمون بالمآكل
اللذيذة والشربة والحور الحسان والخدم والولدان والصوات المطربات والسماع المشجي
والمناظر العجيبة والروائح الطيبة والفرح والسرور واللذة والحبور مما ل يقدر أحد أن يصفه.
( { )16وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا } وجحدوا نعمه وقابلوها بالكفر { َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا } التي جاءتهم بها
حضَرُونَ } فيه ،قد أحاطت بهم جهنم من جميع جهاتهم واطّلع العذاب
رسلنا { فَأُولَ ِئكَ فِي ا ْل َعذَابِ ُم ْ
الليم على أفئدتهم وشوى الحميم وجوههم وقطّع أمعاءهم ،فأين الفرق بين الفريقين وأين التساوي
بين المنعمين والمعذبين؟"
ت وَالْأَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
حمْدُ فِي ال ّ
{ { } 19 - 17فَسُ ْبحَانَ اللّهِ حِينَ ُت ْمسُونَ َوحِينَ ُتصْبِحُونَ * وَلَهُ ا ْل َ
ي وَيُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ
حّحيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَ ُيخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ
ظهِرُونَ * يُخْرِجُ ا ْل َ
وَعَشِيّا وَحِينَ ُت ْ
َموْ ِتهَا َوكَذَِلكَ ُتخْرَجُونَ }
هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق وأمر للعباد أن
يسبحوه حين يمسون وحين يصبحون ووقت العشي ووقت الظهيرة.
فهذه الوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر اللّه عباده بالتسبيح فيها والحمد ،ويدخل في
ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس ،والمستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار
الصلوات وما يقترن بها من النوافل ،لن هذه الوقات التي اختارها اللّه [لوقات المفروضات
هي] أفضل من غيرها [فالتسبيح والتحميد فيها والعبادة فيها أفضل من غيرها] بل العبادة وإن لم
تشتمل على قول "سبحان اللّه" فإن الخلص فيها تنزيه للّه بالفعل أن يكون له شريك في العبادة
أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من الخلص والنابة.
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ } كما يخرج النبات من الرض الميتة والسنبلة من الحبة والشجرة من
{ ُيخْرِجُ ا ْل َ
النواة والفرخ من البيضة والمؤمن من الكافر ،ونحو ذلك.
حيّ } بعكس المذكور { وَيُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا } فينزل عليها المطر
{ وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ
وهي ميتة هامدة فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج { َوكَذَِلكَ
تُخْ َرجُونَ } من قبوركم.
فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع أن الذي أحيا الرض بعد موتها فإنه يحيي الموات ،فل فرق في
نظر العقل بين المرين ول موجب لستبعاد أحدهما مع مشاهدة الخر.
خلَقَ
{ َ { } 21 - 20ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ إِذَا أَنْتُمْ َبشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * َومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ َ
حمَةً إِنّ فِي َذِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }
ج َعلَ بَيْ َنكُمْ َموَ ّدةً وَرَ ْ
سكُنُوا إِلَ ْيهَا َو َ
سكُمْ أَ ْزوَاجًا لِتَ ْ
َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده باللهية وكمال عظمته ،ونفوذ مشيئته وقوة اقتداره
وجميل صنعه وسعة رحمته وإحسانه فقالَ { :ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أصل
النسل آدم عليه السلم { ثُمّ ِإذَا أَنْ ُتمْ بَشَرٌ تَنْ َتشِرُونَ } [أي :الذي خلقكم من أصل واحد ومادة واحدة]
وبثكم في أقطار الرض [وأرجائها ففي ذلك آيات على أن الذي أنشأكم من هذا الصل وبثكم في
أقطار الرض] هو الرب المعبود الملك المحمود والرحيم الودود الذي سيعيدكم بالبعث بعد
الموت.
{ َومِنْ آيَا ِتهِ } الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط { ،أَنْ خَلَقَ َل ُكمْ
ج َعلَ بَيْ َنكُمْ َموَ ّدةً
سكُنُوا إِلَ ْيهَا وَ َ
سكُمْ أَ ْزوَاجًا } تناسبكم وتناسبونهن وتشاكلكم وتشاكلونهن { لِتَ ْ
مِنْ أَ ْنفُ ِ
حمَةً } بما رتب على الزواج من السباب الجالبة للمودة والرحمة.
وَرَ ْ
فحصل بالزوجة الستمتاع واللذة والمنفعة بوجود الولد وتربيتهم ،والسكون إليها ،فل تجد بين
أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة { ،إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }
يُعملون أفكارهم ويتدبرون آيات اللّه وينتقلون من شيء إلى شيء.
ض وَاخْتِلَافُ أَ ْلسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
{ َ { } 22ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ
لِ ْلعَاِلمِينَ }
والعَاِلمُون هم أهل العلم الذين يفهمون العبر ويتدبرون اليات .واليات في ذلك كثيرة :فمن آيات
خلق السماوات والرض وما فيهما ،أن ذلك دال على عظمة سلطان اللّه وكمال اقتداره الذي أوجد
هذه المخلوقات العظيمة ،وكمال حكمته لما فيها من التقان وسعة علمه ،لن الخالق ل بد أن يعلم
ما خلقه { أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََلقَ } وعموم رحمته وفضله لما في ذلك من المنافع الجليلة ،وأنه المريد
الذي يختار ما يشاء لما فيها من التخصيصات والمزايا ،وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويوحد
لنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة ،فكل هذه أدلة عقلية نبه اللّه العقول إليها وأمرها
بالتفكر واستخراج العبرة منها.
{ و } كذلك في { اخْتِلَافُ أَلْسِنَ ِتكُمْ وَأَ ْلوَا ِنكُمْ } على كثرتكم وتباينكم مع أن الصل واحد ومخارج
الحروف واحدة ،ومع ذلك ل تجد صوتين متفقين من كل وجه ول لونين متشابهين من كل وجه
إل وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز .وهذا دال على كمال قدرته ،ونفوذ مشيئته.
و [من] عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الختلف لئل يقع التشابه فيحصل الضطراب
ويفوت كثير من المقاصد والمطالب.
س َمعُونَ }
ل وَال ّنهَا ِر وَابْ ِتغَا ُؤكُمْ مِنْ َفضْلِهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ ْ
{ َ { } 23ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُمْ بِاللّ ْي ِ
سكُنُوا فِيهِ
ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْي َ
حمَتِهِ َ
إن ذلك دليل على رحمة اللّه تعالى كما قالَ { :ومِنْ َر ْ
شكُرُونَ } وعلى تمام حكمته إذ حكمته اقتضت سكون الخلق في وقت
وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ
ليستريحوا به ويستجموا وانتشارهم في وقت ،لمصالحهم الدينية والدنيوية ول يتم ذلك إل بتعاقب
الليل والنهار عليهم ،والمنفرد بذلك هو المستحق للعبادة.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ } [دالة] على عموم إحسانه وسعة علمه وكمال إتقانه ،وعظيم حكمته وأنه
يحيي الموتى كما أحيا الرض بعد موتها.
{ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } أي :لهم عقول تعقل بها ما تسمعه وتراه وتحفظه ،وتستدل به عل ما جعل دليل
عليه.
أي :ومن آياته العظيمة أن قامت السماوات والرض واستقرتا وثبتتا بأمره فلم تتزلزل ولم تسقط
السماء على الرض ،فقدرته العظيمة التي بها أمسك السماوات والرض أن تزول ،يقدر بها أنه
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ
إذا دعا الخلق دعوة من الرض إذا هم يخرجون { َلخَلْقُ ال ّ
}
ت وَالْأَ ْرضِ } الكل خلقه ومماليكه المتصرف فيهم من غير منازع ول
سمَاوَا ِ
{ وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ
معاون ول معارض وكلهم قانتون لجلله خاضعون لكماله.
علَيْهِ } من ابتداء
{ وَ ُهوَ الّذِي يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ وَ ُهوَ } أي :العادة للخلق بعد موتهم { َأ ْهوَنُ َ
خلقهم وهذا بالنسبة إلى الذهان والعقول ،فإذا كان قادرا على البتداء الذي تقرون به كانت قدرته
على العادة التي أهون أولى وأولى.
ولما ذكر من اليات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون ويتبصر المهتدون ذكر
ت وَالْأَ ْرضِ } وهو كل صفة
سمَاوَا ِ
المر العظيم والمطلب الكبير فقال { :وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى فِي ال ّ
كمال ،والكمال من تلك الصفة والمحبة والنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر
الجليل والعبادة منهم .فالمثل العلى هو وصفه العلى وما ترتب عليه.
ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الولى ،فيقولون :كل صفة كمال في
المخلوقات فخالقها أحق بالتصاف بها على وجه ل يشاركه فيها أحد ،وكل نقص في المخلوق
ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى.
{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الحكيم } أي :له العزة الكاملة والحكمة الواسعة ،فعزته أوجد بها المخلوقات وأظهر
المأمورات ،وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه.
سكُمْ َهلْ َلكُمْ مِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِي مَا
{ { } 29 - 28ضَ َربَ َلكُمْ مَثَلًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
سكُمْ كَذَِلكَ ُن َفصّلُ الْآيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ * َبلِ اتّبَعَ الّذِينَ
سوَاءٌ تَخَافُو َنهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ
رَ َزقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ َ
ضلّ اللّهُ َومَا َل ُهمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
ظََلمُوا أَ ْهوَا َءهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َفمَنْ َيهْدِي مَنْ َأ َ
هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقبح الشرك وتهجينه مثل من أنفسكم ل يحتاج إلى حل وترحال
وإعمال الجمال.
{ َهلْ َل ُك ْم ممَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِيمَا رَ َزقْنَاكُمْ } أي :هل أحد من عبيدكم وإمائكم الرقاء
يشارككم في رزقكم وترون أنكم وهم فيه على حد سواء.
ليس المر كذلك فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم شريكا لكم فيما رزقكم اللّه تعالى.
هذا ،ولستم الذين خلقتموهم ورزقتموهم وهم أيضا مماليك مثلكم ،فكيف ترضون أن تجعلوا للّه
شريكا من خلقه وتجعلونه بمنزلته ،وعديل له في العبادة وأنتم ل ترضون مساواة مماليككم لكم؟
هذا من أعجب الشياء ومن أدل شيء على [سفه] من اتخذ شريكا مع اللّه وأن ما اتخذه باطل
مضمحل ليس مساويا للّه ول له من العبادة شيء.
صلُ الْآيَاتِ } بتوضيحها بأمثلتها { ِل َقوْمٍ َيعْقِلُونَ } الحقائق ويعرفون ،وأما من ل يعقل
{ َكذَِلكَ ُنفَ ّ
فلو ُفصّلَت له اليات وبينت له البينات لم يكن له عقل يبصر به ما تبين ول ُلبّ يعقل به ما
توضح ،فأهل العقول واللباب هم الذين يساق إليهم الكلم ويوجه الخطاب.
وإذا علم من هذا المثال أن من اتخذ من دون اللّه شريكا يعبده ويتوكل عليه في أموره ،فإنه ليس
معه من الحق شيء فما الذي أوجب له القدام على أمر باطل توضح له بطلنه وظهر برهانه؟
علْمٍ } هويت
[لقد] أوجب لهم ذلك اتباع الهوى فلهذا قالَ { :بلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُوا َأ ْهوَاءَهُمْ ِبغَيْرِ ِ
أنفسهم الناقصة التي ظهر من نقصانها ما تعلق به هواها ،أمرا يجزم العقل بفساده والفطر برده
بغير علم دلهم عليه ول برهان قادهم إليه.
{ َفمَنْ َيهْدِي مَنْ َأضَلّ اللّهُ } أي :ل تعجبوا من عدم هدايتهم فإن اللّه تعالى أضلهم بظلمهم ول
طريق لهداية من أضل اللّه لنه ليس أحد معارضا للّه أو منازعا له في ملكه.
{ َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب ،وتنقطع بهم الوصل
والسباب.
ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا ِفطْ َرةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا لَا تَبْدِيلَ ِلخَلْقِ اللّهِ ذَِلكَ
{ { } 32 - 30فََأقِ ْم َو ْ
الدّينُ ا ْلقَيّ ُم وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَ ْي ِه وَاتّقُو ُه وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَلَا َتكُونُوا مِنَ
ا ْلمُشْ ِركِينَ * مِنَ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُمْ َوكَانُوا شِ َيعًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ }
وهذا المر الذي أمرناك به هو { فِطْ َرةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا } ووضع في عقولهم حسنها
واستقباح غيرها ،فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم،
الميل إليها ،فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة.
ومن خرج عن هذا الصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"
{ لَا تَبْدِيلَ لِخَ ْلقِ اللّهِ } أي :ل أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه
اللّه { ،ذَِلكَ } الذي أمرنا به { الدّينُ ا ْلقَيّمُ } أي :الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته،
فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه { ،وََلكِنّ
َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } فل يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه.
{ مُنِيبِينَ إِلَ ْي ِه وَا ّتقُوهُ } وهذا تفسير لقامة الوجه للدين ،فإن النابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه
لمراضي اللّه تعالى.
ويلزم من ذلك حمل البدن بمقتضى ما في القلب فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة ،ول يتم
ذلك إل بترك المعاصي الظاهرة والباطنة فلذلك قال { :وَا ّتقُوهُ } فهذا يشمل فعل المأمورات وترك
المنهيات.
وخص من المأمورات الصلة لكونها تدعو إلى النابة والتقوى لقوله تعالى { :وََأقِمِ الصّلَاةَ إِنّ
الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَاءِ وَا ْلمُ ْنكَرِ } فهذا إعانتها على التقوى.
ثم قال { :وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ } فهذا حثها على النابة .وخص من المنهيات أصلها والذي ل يقبل
معه عمل وهو الشرك فقال { :وَلَا َتكُونُوا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } لكون الشرك مضادا للنابة التي
روحها الخلص من كل وجه.
ثم ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال { :مِنَ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُمْ } مع أن الدين واحد وهو
إخلص العبادة للّه وحده وهؤلء المشركون فرقوه ،منهم من يعبد الوثان والصنام .ومنهم من
يعبد الشمس والقمر ،ومنهم من يعبد الولياء والصالحين ومنهم يهود ومنهم نصارى.
ولهذا قالَ { :وكَانُوا شِ َيعًا } أي :كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت على نصر ما معها من
الباطل ومنابذة غيرهم ومحاربتهم.
{ ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ } من العلوم المخالفة لعلوم الرسل { فَرِحُونَ } به يحكمون لنفسهم بأنه
الحق وأن غيرهم على باطل ،وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق
يتعصب لما معه من حق وباطل ،فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد
والرسول واحد والله واحد.
وأكثر المور الدينية وقع فيها الجماع بين العلماء والئمة ،والخوة اليمانية قد عقدها اللّه
وربطها أتم ربط ،فما بال ذلك كله يُ ْلغَى ويُبْنَى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو
فروع خلفية يضلل بها بعضهم بعضا ،ويتميز بها بعضهم عن بعض؟
فهل هذا إل من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟
وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك الصل الباطل ،إل من
أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل العمال المقربة إلى اللّه؟
ولما أمر تعالى بالنابة إليه -وكان المأمور بها هي النابة الختيارية ،التي تكون في حَالَي العسر
واليسر والسعة والضيق -ذكر النابة الضطرارية التي ل تكون مع النسان إل عند ضيقه
وكربه ،فإذا زال عنه الضيق نبذها وراء ظهره وهذه غير نافعة فقال:
{ َأمْ أَنْزَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانًا } أي :حجة ظاهرة { َف ُهوَ } أي :ذلك السلطان { ،يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُوا بِهِ
يُشْ ِركُونَ } ويقول لهم :اثبتوا على شرككم واستمروا على شككم فإن ما أنتم عليه هو الحق وما
دعتكم الرسل إليه باطل.
فهل ذلك السلطان موجود عندهم حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم البراهين العقلية
والسمعية والكتب السماوية والرسل الكرام وسادات النام ،قد نهوا أشد النهي عن ذلك وحذروا من
سلوك طرقه الموصلة إليه وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟.
فشرك هؤلء بغير حجة ول برهان وإنما هو أهواء النفوس ،ونزغات الشيطان.
حمَةً فَ ِرحُوا ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
{ { } 37 - 36وَإِذَا أَ َذقْنَا النّاسَ رَ ْ
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
َيقْنَطُونَ * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ يَبْ ُ
يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرخاء والشدة أنهم إذا أذاقهم اللّه منه رحمة من
صحة وغنى ونصر ونحو ذلك فرحوا بذلك فرح بطر ،ل فرح شكر وتبجح بنعمة اللّه.
{ وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ } أي ::حال تسوؤهم وذلك { ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ } من المعاصي { .إِذَا هُمْ
َيقْنَطُونَ } ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه .وهذا جهل منهم وعدم معرفة.
{ َأوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ } فالقنوط بعد ما علم أن الخير والشر من اللّه
والرزق سعته وضيقه من تقديره ضائع ليس له محل .فل تنظر أيها العاقل لمجرد السباب بل
اجعل نظرك لمسببها ولهذا قال { :إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } فهم الذين يعتبرون بسط اللّه
لمن يشاء وقبضه ،ويعرفون بذلك حكمة اللّه ورحمته وجوده وجذب القلوب لسؤاله في جميع
مطالب الرزق.
ن وَجْهَ اللّهِ
ن وَابْنَ السّبِيلِ ذَِلكَ خَيْرٌ لِلّذِينَ يُرِيدُو َ
سكِي َ
حقّ ُه وَا ْلمِ ْ
{ { } 39 - 38فَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ
وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * َومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ رِبًا لِيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللّ ِه َومَا آتَيْتُمْ مِنْ
ضعِفُونَ }
ن وَجْهَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْ
َزكَاةٍ تُرِيدُو َ
أي :فأعط القريب منك -على حسب قربه وحاجته -حقه الذي أوجبه الشارع أو حض عليه من
النفقة الواجبة والصدقة والهدية والبر والسلم والكرام والعفو عن زلته والمسامحة عن هفوته.
وكذلك [آت] المسكين الذي أسكنه الفقر والحاجة ما تزيل به حاجته وتدفع به ضرورته من إطعامه
وسقيه وكسوته.
{ وَابْنَ السّبِيلِ } الغريب المنقطع به في غير بلده الذي في مظنة شدة الحاجة ،لنه ل مال معه ول
كسب قد دبر نفسه به [في] سفره ،بخلف الذي في بلده ،فإنه وإن لم يكن له مال ولكن ل بد -في
الغالب -أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد حاجته ،ولهذا جعل اللّه في الزكاة حصة
للمسكين وابن السبيل { .ذَِلكَ } أي :إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل { خَيْرٌ لِلّذِينَ يُرِيدُونَ }
بذلك العمل { وَجْه اللّهِ } أي :خير غزير وثواب كثير لنه من أفضل العمال الصالحة والنفع
المتعدي الذي وافق محله المقرون به الخلص.
فإن لم يرد به وجه اللّه لم يكن خيرا ِل ْل ُمعْطِي وإن كان خيرا ونفعا لِ ْل ُمعْطي كما قال تعالى { :لَا
جوَاهُمْ إِلّا مَنْ َأمَرَ ِبصَ َدقَةٍ َأوْ َمعْرُوفٍ َأوْ ِإصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ } مفهومها أن هذه
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ َن ْ
المثبتات خير لنفعها المتعدي ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه فسوف نؤتيه أجرا عظيما.
وقوله { :وَأُولَ ِئكَ } الذين عملوا هذه العمال وغيرها لوجه اللّه { هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } الفائزون بثواب
اللّه الناجون من عقابه.
ولما ذكر العمل الذي يقصد به وجهه [من النفقات] ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال:
{ َومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُو فِي َأ ْموَالِ النّاسِ } أي :ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم
وقصدكم بذلك أن يربو أي :يزيد في أموالكم بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر
منها ،فهذا العمل ل يربو أجره عند اللّه لكونه معدوم الشرط الذي هو الخلص .ومثل ذلك العمل
الذي يراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله ل يربو عند اللّه.
{ َومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ َزكَاةٍ } أي :مال يطهركم من الخلق الرذيلة ويطهر أموالكم من البخل بها ويزيد
ضعِفُونَ } أي :المضاعف لهم
في دفع حاجة ا ْل ُمعْطَى { .تُرِيدُونَ } بذلك { وَجْهَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْ
الجر الذين تربو نفقاتهم عند اللّه ويربيها اللّه لهم حتى تكون شيئا كثيرا.
ودل قولهَ { :ومَا آتَيْ ُتمْ مِنْ َزكَاةٍ } أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم
يقضه ويقدم عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال تعالى
في الذي يمدح { :الّذِي ُيؤْتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى } فليس مجرد إيتاء المال خيرا حتى يكون بهذه الصفة
وهو :أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي.
{ { } 40اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ ُثمّ رَ َز َقكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِيكُمْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َي ْف َعلُ مِنْ ذَِلكُمْ مِنْ
عمّا يُشْ ِركُونَ }
شيْءٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ
َ
يخبر تعالى أنه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم ،وأنه ليس أحد من الشركاء التي
يدعوهم المشركون من يشارك اللّه في شيء من هذه الشياء.
فكيف يشركون بمن انفرد بهذه المور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!
فسبحانه وتعالى وتقدس وتنزه وعل عن شركهم ،فل يضره ذلك وإنما وبالهم عليهم.
عمِلُوا َلعَّلهُمْ
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ لِ ُيذِيقَهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ
{ َ { } 41
جعُونَ }
يَرْ ِ
أي :استعلن الفساد في البر والبحر أي :فساد معايشهم ونقصها وحلول الفات بها ،وفي أنفسهم
من المراض والوباء وغير ذلك ،وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من العمال الفاسدة المفسدة
بطبعها.
والمر بالسير في الرض يدخل فيه السير بالبدان والسير في القلوب للنظر والتأمل بعواقب
المتقدمين.
{ كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ مُشْ ِركِينَ } تجدون عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل ،عذاب استأصلهم وذم
ولعن من خلق اللّه يتبعهم وخزي متواصل ،فاحذروا أن تفعلوا فعالهم يُحْذَى بكم حذوهم فإن عدل
اللّه وحكمته في كل زمان ومكان.
ج َهكَ لِلدّينِ ا ْلقَيّمِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَرَدّ َلهُ مِنَ اللّهِ َي ْومَئِذٍ َيصّدّعُونَ
{ { } 45 - 43فََأقِ ْم َو ْ
عمِلُوا
سهِمْ َي ْمهَدُونَ * لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ع ِملَ صَاِلحًا فَلِأَ ْنفُ ِ
* مَنْ َكفَرَ َفعَلَ ْيهِ ُكفْرُ ُه َومَنْ َ
حبّ ا ْلكَافِرِينَ }
الصّالِحَاتِ مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ لَا ُي ِ
أي :أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك لقامة الدين القيم المستقيم ،فنفذ أوامره ونواهيه بجد
واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة .وبادر زمانك وحياتك وشبابك { ،مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا
مَرَدّ َلهُ مِنَ اللّهِ } وهو يوم القيامة الذي إذا جاء ل يمكن رده ول يرجأ العاملون أن يستأنفوا العمل
بل فرغ من العمال لم يبق إل جزاء العمالَ { .ي ْومَئِذٍ َيصّدّعُونَ } أي :يتفرقون عن ذلك اليوم
ويصدرون أشتاتا متفاوتين لِيُ َروْا أعمالهم.
ع ِملَ
{ مَنْ َكفَرَ } منهم { َفعَلَيْهِ كُفْ ُرهُ } ويعاقب هو بنفسه ل تزر وازرة وزر أخرىَ { ،ومَنْ َ
سهِمْ } ل لغيرهم { َي ْمهَدُونَ
صَالِحًا } من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة والمستحبة { ،فَلِأَ ْنفُ ِ
} أي :يهيئون ولنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها ،ومع ذلك جزاؤهم
ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه غير المحدود ما ل تبلغه
أعمالهم .وذلك لنه أحبهم وإذا أحب اللّه عبدا صب عليه الحسان صبا ،وأجزل له العطايا
الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة.
وهذا بخلف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم يزدهم كما زاد من قبلهم
حبّ ا ْلكَافِرِينَ }
فلهذا قال { :إِنّهُ لَا ُي ِ
حمَتِهِ } فينزل عليكم من رحمته مطرا تحيا به البلد والعباد ،وتذوقون من رحمته
{ وَلِيُذِي َقكُمْ مِنْ َر ْ
ما تعرفون أن رحمته هي المنقذة للعباد والجالبة لرزاقهم ،فتشتاقون إلى الكثار من العمال
الصالحة الفاتحة لخزائن الرحمة.
{ وَلِ َتجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ } في البحر { بَِأمْ ِرهِ } القدري { وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ } بالتصرف في معايشكم
ومصالحكم.
شكُرُونَ } من سخر لكم السباب وسير لكم المور .فهذا المقصود من النعم أن تقابل
{ وََلعَّلكُمْ َت ْ
بشكر اللّه تعالى ليزيدكم اللّه منها ويبقيها عليكم.
وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي فهذه حال من بدّل نعمة اللّه كفرا ونعمته محنة وهو معرض
لها للزوال والنتقال منه إلى غيره.
{ { } 47وَلَقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ رُسُلًا إِلَى َقوْ ِمهِمْ َفجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَانْتَ َقمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُوا َوكَانَ
حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
َ
أي { :وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ } في المم السابقين { رُسُلًا ِإلَى َق ْو ِمهِمْ } حين جحدوا توحيد اللّه
وكذبوا بالحق فجاءتهم رسلهم يدعونهم إلى التوحيد والخلص والتصديق بالحق وبطلن ما هم
عليه من الكفر والضلل ،وجاءوهم بالبينات والدلة على ذلك فلم يؤمنوا ولم يزولوا عن غيهم،
حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
{ فَانْ َت َقمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُوا } ونصرنا المؤمنين أتباع الرسلَ { .وكَانَ َ
أي :أوجبنا ذلك على أنفسنا وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به فل بد من وقوعه.
فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إن بقيتم على تكذيبكم حلّت بكم العقوبة ونصرناه
عليكم.
سفًا
جعَُلهُ كِ َ
سمَاءِ كَ ْيفَ َيشَا ُء وَيَ ْ
سطُهُ فِي ال ّ
سحَابًا فَيَبْ ُ
سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ َ
{ { } 50 - 48اللّهُ الّذِي يُ ْر ِ
فَتَرَى ا ْلوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَِإذَا َأصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا
حمَةِ اللّهِ كَ ْيفَ ُيحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ
مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمُبْلِسِينَ * فَا ْنظُرْ إِلَى آثَارِ َر ْ
شيْءٍ َقدِيرٌ }
َموْ ِتهَا إِنّ ذَِلكَ َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
سطُهُ
سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } من الرض { ،فَيَبْ ُ
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه { يُرْ ِ
جعَلُهُ }
سمَاءِ } أي :يمده ويوسعه { كَ ْيفَ َيشَاءُ } أي :على أي حالة أرادها من ذلك ثم { َي ْ
فِي ال ّ
سفًا } أي :سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض.
أي :ذلك السحاب الواسع { كِ َ
{ فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ َيخْرُجُ مِنْ خِلَاِلهِ } أي :السحاب نقطا صغارا متفرقة ،ل تنزل جميعا فتفسد ما أتت
عليه.
{ فَِإذَا َأصَابَ بِهِ } بذلك المطر { مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا هُمْ َيسْتَبْشِرُونَ } يبشر بعضهم بعضا
بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال { :وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ
قَبْلِهِ َلمُبِْلسِينَ } أي :آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه ،أي :فلما نزل في تلك الحال صار له موقع
عظيم [عندهم] وفرح واستبشار.
حمَةِ اللّهِ كَ ْيفَ يُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج
{ فَا ْنظُرْ إِلَى آثَارِ َر ْ
كريم.
سمِعُ
صفَرّا َلظَلّوا مِنْ َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ * فَإِ ّنكَ لَا تُ ْ
{ { } 53 - 51وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرََأ ْوهُ ُم ْ
سمِعُ إِلّا
ن ضَلَالَ ِتهِمْ إِنْ ُت ْ
سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ ِإذَا وَّلوْا مُدْبِرِينَ * َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ عَ ْ
ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ
مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ }
يخبر تعالى عن حالة الخلق وأنهم مع هذه النعم عليهم بإحياء الرض بعد موتها ونشر رحمة اللّه
تعالى لو أرسلنا على هذا النبات الناشئ عن المطر وعلى زروعهم ريحا مضرة متلفة أو منقصة،
صفَرّا } قد تداعى إلى التلف { َلظَلّوا مِنْ َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ } فينسون النعم الماضية
{ فَرََأ ْوهُ ُم ْ
ويبادرون إلى الكفر.
سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ } فهؤلء الذين ينفع فيهم إسماع الهدى المؤمنون
{ إِنْ تُ ْ
بآياتنا بقلوبهم المنقادون لوامرنا المسلمون لنا ،لن معهم الداعي القوي لقبول النصائح والمواعظ
وهو استعدادهم لليمان بكل آية من آيات اللّه واستعدادهم لتنفيذ ما يقدرون عليه من أوامر اللّه
ونواهيه.
ضعْفًا
ج َعلَ مِنْ َبعْدِ ُق ّو ٍة َ
ض ْعفٍ ُق ّوةً ثُمّ َ
ج َعلَ مِنْ َب ْع ِد َ
ض ْعفٍ ثُمّ َ
ن َ
{ { } 54اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مِ ْ
وَشَيْبَةً َيخْلُقُ مَا َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ }
يخبر تعالى عن سعة علمه وعظيم اقتداره وكمال حكمته ،ابتدأ خلق الدميين من ضعف وهو
الطوار الول من خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن صار حيوانا في الرحام إلى أن
ولد ،وهو في سن الطفولية وهو إذ ذاك في غاية الضعف وعدم القوة والقدرة .ثم ما زال اللّه يزيد
في قوته شيئا فشيئا حتى بلغ سن الشباب واستوت قوته وكملت قواه الظاهرة والباطنة ،ثم انتقل
من هذا الطور ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم.
{ َيخْلُقُ مَا يَشَاءُ } بحسب حكمته .ومن حكمته أن يري العبد ضعفه وأن قوته محفوفة بضعفين
وأنه ليس له من نفسه إل النقص ،ولول تقوية اللّه له لما وصل إلى قوة وقدرة ولو استمرت قوته
في الزيادة لطغى وبغى وعتا.
وليعلم العباد كمال قدرة اللّه التي ل تزال مستمرة يخلق بها الشياء ،ويدبر بها المور ول يلحقها
إعياء ول ضعف ول نقص بوجه من الوجوه.
عةُ ُيقْسِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ َكذَِلكَ كَانُوا ُي ْؤ َفكُونَ *
{ { } 57 - 55وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم وَالْإِيمَانَ َلقَدْ لَبِثْ ُتمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَى َيوْمِ الْ َب ْعثِ َفهَذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ وََلكِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ
لَا َتعَْلمُونَ * فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُ ْم وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ }
يخبر تعالى عن يوم القيامة وسرعة مجيئه وأنه إذا قامت الساعة { ُيقْسِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } باللّه أنهم
{ مَا لَبِثُوا } في الدنيا إلَا { سَاعَة } وذلك اعتذار منهم لعله ينفعهم العذر واستقصار لمدة الدنيا.
ولما كان قولهم كذبا ل حقيقة له قال تعالىَ { :كذَِلكَ كَانُوا ُي ْؤ َفكُونَ } أي :ما زالوا -وهم في
الدنيا -يؤفكون عن الحقائق ويأتفكون الكذب ،ففي الدنيا كذّبوا الحق الذي جاءتهم به المرسلون،
وفي الخرة أنكروا المر المحسوس وهو اللبث الطويل في الدنيا ،فهذا خلقهم القبيح والعبد يبعث
على ما مات عليه.
{ َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْل َم وَالْإِيمَانَ } أي :مَنّ اللّه عليهم بهما وصارا وصفا لهم العلم بالحق
واليمان المستلزم إيثار الحق ،وإذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون قولهم مطابقا
للواقع مناسبا لحوالهم.
فلهذا قالوا الحقَ { :لقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ } أي :في قضائه وقدره ،الذي كتبه اللّه عليكم وفي
عمْرًا يتذكر فيه المتذكر ويتدبر فيه المتدبر ويعتبر فيه
حكمه { إِلَى َيوْمِ الْ َب ْعثِ } أي :عمرتم ُ
المعتبر حتى صار البعث ووصلتم إلى هذه الحال.
ث وََلكِ ّنكُمْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ } فلذلك أنكرتموه في الدنيا وأنكرتم إقامتكم في الدنيا وقتا
{ َفهَذَا َيوْمُ الْ َب ْع ِ
تتمكنون فيه من النابة والتوبة ،فلم يزل الجهل شعاركم وآثاره من التكذيب والخسار دثاركم.
{ فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُمْ } فإن كذبوا وزعموا أنهم ما قامت عليهم الحجة أو ما
تمكنوا من اليمان ظهر كذبهم بشهادة أهل العلم واليمان ،وشهادة جلودهم وأيديهم وأرجلهم ،وإن
طلبوا العذار وأنهم يردون ول يعودون لما نُهوا عنه لم ُي َمكّنُوا فإنه فات وقت العذار فل تقبل
معذرتهم { ،وَلَا هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ } أي :يزال عتبهم والعتاب عنهم.
{ { } 60 - 58وََلقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي َهذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ وَلَئِنْ جِئْ َتهُمْ بِآ َيةٍ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ
ن وَعْدَ اللّهِ
َكفَرُوا إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا مُ ْبطِلُونَ * كَذَِلكَ يَطْ َبعُ اللّهُ عَلَى قُلُوبِ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ * فَاصْبِرْ إِ ّ
خفّنّكَ الّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }
ق وَلَا يَسْ َت ِ
حَّ
أي { :وََلقَ ْد ضَرَبْنَا } لجل عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا { لِلنّاسِ فِي َهذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ
مَ َثلٍ } تتضح به الحقائق وتعرف به المور وتنقطع به الحجة .وهذا عام في المثال التي يضربها
اللّه في تقريب المور المعقولة بالمحسوسة .وفي الخبار بما سيكون وجلء حقيقته [حتى] كأنه
وقع.
ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم وأنه
ل يقبل منهم عذر ول عتاب.
ولكن أبى الظالمون الكافرون إل معاندة الحق الواضح ولهذا قال { :وَلَئِنْ جِئْ َتهُمْ بِآيَةٍ } أي :أي آية
تدل على صحة ما جئت به { لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلّا مُبْطِلُونَ } أي :قالوا للحق :إنه باطل.
وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ اللّه على قلوبهم وجهلهم المفرط ولهذا قال { :كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ
عَلَى قُلُوبِ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ } فل يدخلها خير ول تدرك الشياء على حقيقتها بل ترى الحق باطل
والباطل حقا.
{ فَاصْبِرْ } على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه ،ولو رأيت منهم إعراضا فل يصدنك ذلك.
حقّ } أي :ل شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير
{ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ
ضائع بل سيجده كامل هان عليه ما يلقاه من المكاره ويسر عليه كل عسير واستقل من عمله كل
كثير.
خفّ ّنكَ الّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } أي :قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلمهم وقل
{ وَلَا َيسْتَ ِ
صبرهم ،فإياك أن يستخفك هؤلء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإل استخفوك
وحملوك على عدم الثبات على الوامر والنواهي ،والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه
والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر ،وكل ضعيف
اليقين ضعيف [العقل] خفيفه.
حمَةً لِ ْل ُمحْسِنِينَ
حكِيمِ * ُهدًى وَرَ ْ
حمَنِ الرّحِيمِ الم * تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ الْ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 5 - 1بِ ْ
* الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِمْ
وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }
من إحكامها ،أنها جاءت بأجل اللفاظ وأفصحها ،وأبينها ،الدالة على أجل المعاني وأحسنها.
ومن إحكامها :أنها ما أمرت بشيء ،إل وهو خالص المصلحة ،أو راجحها ،ول نهت عن شيء،
إل وهو خالص المفسدة أو راجحها ،وكثيرا ما يجمع بين المر بالشيء ،مع ذكر [حكمته] فائدته،
والنهي عن الشيء ،مع ذكر مضرته.
ومن إحكامها :أنها جمعت بين الترغيب والترهيب ،والوعظ البليغ ،الذي تعتدل به النفوس الخيرة،
وتحتكم ،فتعمل بالحزم.
ومن إحكامها :أنك تجد آياته المتكررة ،كالقصص ،والحكام ونحوها ،قد اتفقت كلها وتواطأت،
فليس فيها تناقض ،ول اختلف .فكلما ازداد بها البصير تدبرا ،وأعمل فيها العقل تفكرا ،انبهر
عقله ،وذهل لبه من التوافق والتواطؤ ،وجزم جزما ل يمترى فيه ،أنه تنزيل من حكيم حميد.
ولكن -مع أنه حكيم -يدعو إلى كل خلق كريم ،وينهى عن كل خلق لئيم ،أكثر الناس
محرومون الهتداء به ،معرضون عن اليمان والعمل به ،إل من وفقه اللّه تعالى وعصمه ،وهم
المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق.
حمَة } لهم،
فإنه { هُدًى } لهم ،يهديهم إلى الصراط المستقيم ،ويحذرهم من طرق الجحيم { ،وَرَ ْ
تحصل لهم به السعادة في الدنيا والخرة ،والخير الكثير ،والثواب الجزيل ،والفرح والسرور،
ويندفع عنهم الضلل والشقاء.
ثم وصف المحسنين بالعلم التام ،وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب اللّه ،فيتركون
معاصيه ،ووصفهم بالعمل ،وخص من العمل ،عملين فاضلين :الصلة المشتملة على الخلص،
ومناجاة اللّه تعالى ،والتعبد العام للقلب واللسان ،والجوارح المعينة ،على سائر العمال ،والزكاة
التي تزكي صاحبها من الصفات الرذيلة ،وتنفع أخاه المسلم ،وتسد حاجته ،ويبين بها أن العبد
يؤثر محبة اللّه على محبته للمال ،فيخرجه محبوبه من المال ،لما هو أحب إليه ،وهو طلب
مرضاة اللّه.
فب { أُولَ ِئكَ } هم المحسنون الجامعون بين العلم التام ،والعمل { عَلَى هُدًى } أي :عظيم كما يفيده
التنكير ،وذلك الهدى حاصل لهم ،وواصل إليهم { مِنْ رَ ّبهِمْ } الذي لم يزل يربيهم بالنعم; ويدفع
عنهم النقم.
وهذا الهدى الذي أوصله إليهم ،من تربيته الخاصة بأوليائه ،وهو أفضل أنواع التربية { .وَأُولَ ِئكَ
هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } الذين أدركوا رضا ربهم ،وثوابه الدنيوي والخروي ،وسلموا من سخطه وعقابه،
وذلك لسلوكهم طريق الفلح ،الذي ل طريق له غيرها.
ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن ،المقبلين عليه ،ذكر من أعرض عنه ،ولم يرفع به رأسا ،وأنه
عوقب على ذلك ،بأن تعوض عنه كل باطل من القول ،فترك أعلى القوال ،وأحسن الحديث،
واستبدل به أسفل قول وأقبحه ،فلذلك قال:
أيَ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ } هو محروم مخذول { َيشْتَرِي } أي :يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن
في الشيءَ { .ل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ } أي :الحاديث الملهية للقلوب ،الصادّة لها عن أجلّ مطلوب .فدخل
في هذا كل كلم محرم ،وكل لغو ،وباطل ،وهذيان من القوال المرغبة في الكفر ،والفسوق،
والعصيان ،ومن أقوال الرادين على الحق ،المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ،ومن غيبة،
ونميمة ،وكذب ،وشتم ،وسب ،ومن غناء ومزامير شيطان ،ومن الماجريات الملهية ،التي ل نفع
فيها في دين ول دنيا.
وإضلله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع ،والعمل النافع ،والحق المبين ،والصراط
المستقيم.
ول يتم له هذا ،حتى يقدح في الهدى والحق ،ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها ،وبمن جاء بها،
فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ،والقدح في الحق ،والستهزاء به وبأهله ،أضل من ل
علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ،من القول الذي ل يميزه ذلك الضال ،ول يعرف حقيقته.
{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } بما ضلوا وأضلوا ،واستهزءوا [بآيات اللّه] وكذبوا الحق الواضح.
ولهذا قال { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } ليؤمن بها وينقاد لها { ،وَلّى مُسْ َتكْبِرًا } أي :أدبر إدبار مستكبر
س َم ْعهَا } بل { كَأَنّ فِي أُذُنَ ْيهِ
عنها ،رادّ لها ،ولم تدخل قلبه ول أثرت فيه ،بل أدبر عنها { كَأَنْ لَمْ َي ْ
َوقْرًا } أي :صمما ل تصل إليه الصوات; فهذا ل حيلة في هدايته.
{ فَ َبشّ ْرهُ } بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرةِ { .بعَذَابٍ أَلِيمٍ }
مؤلم لقلبه; ولبدنه; ل يقادر قدره; ول يدرى بعظيم أمره ،وهذه بشارة أهل الشر ،فل ِن ْع َمتِ
البشارة.
{ َل ُهمْ جَنّاتُ ال ّنعِيمِ } بشارة لهم بما قدموه ،وقرى لهم بما أسلفوه { .خَالِدِينَ فِيهَا } أي :في جنات
النعيم ،نعيم القلب والروح ،والبدن.
يتلو تعالى على عباده ،آثارا من آثار قدرته ،وبدائع من بدائع حكمته ،ونعما من آثار رحمته،
ع َمدٍ
سمَاوَاتِ } السبع على عظمها ،وسعتها ،وكثافتها ،وارتفاعها الهائلِ { .بغَيْرِ َ
فقال { :خَلْقِ ال ّ
تَ َروْ َنهَا } أي :ليس لها عمد ،ولو كان لها عمد لرئيت ،وإنما استقرت واستمسكت ،بقدرة اللّه
تعالى.
سيَ } أي :جبال عظيمة ،ركزها في أرجائها وأنحائها ،لئل { َتمِيدَ ِبكُمْ }
{ وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ
فلول الجبال الراسيات لمادت الرض ،ولما استقرت بساكنيها.
{ وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ } أي :نشر في الرض الواسعة ،من جميع أصناف الدواب ،التي هي
مسخرة لبني آدم ،ولمصالحهم ،ومنافعهم .ولما بثها في الرض ،علم تعالى أنه ل بد لها من رزق
تعيش به ،فأنزل من السماء ماء مباركا { ،فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ } المنظر ،نافع مبارك،
فرتعت فيه الدواب المنبثة ،وسكن إليه كل حيوان.
سوْقِ أرزاق الخلق إليهم { خَلق
{ هَذَا } أي :خلق العالم العلوي والسفلي ،من جماد ،وحيوان ،و َ
اللّه } وحده ل شريك له ،كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين.
{ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي :الذين جعلتموهم له شركاء ،تدعونهم وتعبدونهم ،يلزم
على هذا ،أن يكون لهم خلق كخلقه ،ورزق كرزقه ،فإن كان لهم شيء من ذلك فأرونيه ،ليصح
ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة.
ومن المعلوم أنهم ل يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها ،لن جميع المذكورات ،قد أقروا أنها
خلق اللّه وحده ،ول ثَمّ شيء يعلم غيرها ،فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد.
ولكن عبادتهم إياها ،عن غير علم وبصيرة ،بل عن جهل وضلل ،ولهذا قالَ { :بلِ الظّاِلمُونَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي :جَِليّ واضح حيث عبدوا من ل يملك نفعا ول ضرا ول موتا ول حياة ول
نشورا ،وتركوا الخلص للخالق الرازق المالك لكل المور.
يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ،بالحكمة ،وهي العلم [بالحق] على وجهه
وحكمته ،فهي العلم بالحكام ،ومعرفة ما فيها من السرار والحكام ،فقد يكون النسان عالما ،ول
يكون حكيما.
وأما الحكمة ،فهي مستلزمة للعلم ،بل وللعمل ،ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ،والعمل الصالح.
ولما أعطاه اللّه هذه المنة العظيمة ،أمره أن يشكره على ما أعطاه ،ليبارك له فيه ،وليزيده من
فضله ،وأخبره أن شكر الشاكرين ،يعود نفعه عليهم ،وأن من كفر فلم يشكر اللّه ،عاد وبال ذلك
عليه .وال غني [عنه] حميد فيما يقدره ويقضيه ،على من خالف أمره ،فغناه تعالى ،من لوازم
ذاته ،وكونه حميدا في صفات كماله ،حميدا في جميل صنعه ،من لوازم ذاته ،وكل واحد من
الوصفين ،صفة كمال ،واجتماع أحدهما إلى الخر ،زيادة كمال إلى كمال.
واختلف المفسرون ،هل كان لقمان نبيا ،أو عبدا صالحا؟ واللّه تعالى لم يذكر عنه إل أنه آتاه
الحكمة ،وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه لبنه ،فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار
فقال { :وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَانُ لِابْنِهِ وَ ُهوَ َي ِعظُهُ }
أو قال له قول به يعظه بالمر ،والنهي ،المقرون بالترغيب والترهيب ،فأمره بالخلص ،ونهاه
عن الشرك ،وبيّن له السبب في ذلك فقال { :إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ } ووجه كونه عظيما ،أنه ل
سوّى المخلوق من تراب ،بمالك الرقاب ،وسوّى الذي ل يملك من المر شيئا،
أفظع وأبشع ممن َ
بمن له المر كله ،وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه ،بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه،
وسوّى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ،ودنياهم وأخراهم،
وقلوبهم ،وأبدانهم ،إل منه ،ول يصرف السوء إل هو ،فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟؟!
وهل أعظم ظلما ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده ،فذهب بنفسه الشريفة[ ،فجعلها في أخس
المراتب] جعلها عابدة لمن ل يسوى شيئا ،فظلم نفسه ظلما كبيرا.
ولما أمر بالقيام بحقه ،بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ،أمر بالقيام بحق الوالدين
فقالَ { :و َوصّيْنَا الْإِنْسَانَ } أي :عهدنا إليه ،وجعلناه وصية عنده ،سنسأله عن القيام بها ،وهل
شكُرْ لِي } بالقيام بعبوديتي ،وأداء حقوقي ،وأن ل
حفظها أم ل؟ فوصيناه { ِبوَاِلدَيْهِ } وقلنا له { :ا ْ
تستعين بنعمي على معصيتي { .وَِلوَالِدَ ْيكَ } بالحسان إليهما بالقول اللين ،والكلم اللطيف ،والفعل
الجميل ،والتواضع لهما[ ،وإكرامهما] وإجللهما ،والقيام بمئونتهما واجتناب الساءة إليهما من
كل وجه ،بالقول والفعل.
فوصيناه بهذه الوصية ،وأخبرناه أن { إَِليّ ا ْل َمصِيرُ } أي :سترجع أيها النسان إلى من وصاك،
وكلفك بهذه الحقوق ،فيسألك :هل قمت بها ،فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها ،فيعاقبك العقاب
الوبيل؟.
ثم { ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وهو ملزم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها ،أفما يحسن بمن تحمل على
ولده هذه الشدائد ،مع شدة الحب ،أن يؤكد على ولده ،ويوصي إليه بتمام الحسان إليه؟
ط ْع ُهمَا } ول تظن
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ } أي :اجتهد والداك { عَلى أَنْ تُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَا تُ ِ
أن هذا داخل في الحسان إليهما ،لن حق اللّه ،مقدم على حق كل أحد ،و "ل طاعة لمخلوق ،في
معصية الخالق"
ط ْع ُهمَا } أي:
ولم يقل" :وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال { :فَلَا ُت ِ
بالشرك ،وأما برهما ،فاستمر عليه ،ولهذا قالَ { :وصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفًا } أي :صحبة
إحسان إليهما بالمعروف ،وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي ،فل تتبعهما.
{ وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ } وهم المؤمنون باللّه ،وملئكته وكتبه ،ورسله ،المستسلمون لربهم،
المنيبون إليه.
واتباع سبيلهم ،أن يسلك مسلكهم في النابة إلى اللّه ،التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى
اللّه ،ثم يتبعها سعي البدن ،فيما يرضي اللّه ،ويقرب منه.
ج ُعكُمْ } الطائع والعاصي ،والمنيب ،وغيره { فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } فل يخفى على
{ ُثمّ إَِليّ مَرْ ِ
اللّه من أعمالهم خافية.
صخْ َرةٍ
{ يَا بُ َنيّ إِ ّنهَا إِنْ َتكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَ ْر َدلٍ } التي هي أصغر الشياء وأحقرها { ،فَ َتكُنْ فِي َ
سمَاوَاتِ َأوْ فِي الْأَ ْرضِ } في أي جهة من جهاتهما { يَ ْأتِ ِبهَا اللّهُ }
} أي في وسطها { َأوْ فِي ال ّ
لسعة علمه ،وتمام خبرته وكمال قدرته ،ولهذا قال { :إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ } أي :لطف في علمه
وخبرته ،حتى اطلع على البواطن والسرار ،وخفايا القفار والبحار.
والمقصود من هذا ،الحث على مراقبة اللّه ،والعمل بطاعته ،مهما أمكن ،والترهيب من عمل
ل أو كَثُرَ.
القبيحَ ،ق ّ
ف وَانْهَ عَنِ
{ يَا بُ َنيّ َأ ِقمِ الصّلَاةَ } حثه عليها ،وخصها لنها أكبر العبادات البدنية { ،وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُو ِ
ا ْلمُ ْنكَرِ } وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به ،والعلم بالمنكر لينهى عنه.
والمر بما ل يتم المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر إل به ،من الرفق ،والصبر ،وقد صرح به
علَى مَا َأصَا َبكَ } ومن كونه فاعل لما يأمر به ،كافّا لما ينهى عنه ،فتضمن
في قوله { :وَاصْبِرْ َ
هذا ،تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر ،وتكميل غيره بذلك ،بأمره ونهيه.
ولما علم أنه ل بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في المر والنهي مشقة على النفوس ،أمره بالصبر
علَى مَا َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ } الذي وعظ به لقمان ابنه { مِنْ عَ ْزمِ الُْأمُورِ }
على ذلك فقال { :وَاصْبِرْ َ
أي :من المور التي يعزم عليها ،ويهتم بها ،ول يوفق لها إل أهل العزائم.
خ ّدكَ لِلنّاسِ } أي :ل ُتمِلْهُ وتعبس بوجهك الناس ،تكبّرًا عليهم ،وتعاظما.
صعّرْ َ
{ وَلَا ُت َ
{ وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا } أي :بطرا ،فخرا بالنعم ،ناسيا المنعم ،معجبا بنفسك { .إِنّ اللّهَ لَا
حبّ ُكلّ مُخْتَالٍ } في نفسه وهيئته وتعاظمه { فَخُور } بقوله.
يُ ِ
وهذه الوصايا ،التي وصى بها لقمان لبنه ،تجمع أمهات الحكم ،وتستلزم ما لم يذكر منها ،وكل
وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها ،إن كانت أمرا ،وإلى تركها إن كانت نهيا.
ونهاه عن التكبر ،وأمره بالتواضع ،ونهاه عن البطر والشر ،والمرح ،وأمره بالسكون في
الحركات والصوات ،ونهاه عن ضد ذلك.
وأمره بالمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،وإقامة الصلة ،وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر،
كما قال تعالى :فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ،أن يكون مخصوصا بالحكمة ،مشهورا بها.
ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده ،أن قص عليهم من حكمته ،ما يكون لهم به أسوة
حسنة.
{ َومَا فِي الْأَ ْرضِ } من الحيوانات والشجار والزروع ،والنهار والمعادن ونحوها كما قال
جمِيعًا }
تعالىُ { :هوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ
{ وَأَسْ َبغَ عَلَ ْيكُمْ } أي :عمّكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها; والتي تخفى علينا ،نعم
الدنيا ،ونعم الدين ،حصول المنافع ،ودفع المضار ،فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم; بمحبة
المنعم والخضوع له; وصرفها في الستعانة على طاعته ،وأن ل يستعان بشيء منها على
معصيته.
{ و } لكن مع توالي هذه النعم; { مِنَ النّاسِ مَنْ } لم يشكرها; بل كفرها; وكفر بمن أنعم بها;
وجحد الحق الذي أنزل به كتبه; وأرسل به رسله ،فجعل { يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ } أي :يجادل عن
الباطل; ليدحض به الحق; ويدفع به ما جاء به الرسول من المر بعبادة اللّه وحده ،وهذا المجادل
على غير بصيرة ،فليس جداله عن علم ،فيترك وشأنه ،ويسمح له في الكلم { وَلَا هُدًى } يقتدي
به بالمهتدين { وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [غير مبين للحق فل معقول ول منقول ول اقتداء بالمهتدين]
وإنما جداله في اللّه مبني على تقليد آباء غير مهتدين ،بل ضالين مضلين.
ولهذا قال { :وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ } على أيدي رسله ،فإنه الحق ،وبينت لهم أدلته
الظاهرة { قَالُوا } معارضين ذلكَ { :بلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا } فل نترك ما وجدنا عليه آباءنا
لقول أحد كائنا من كان.
سعِيرِ }
عذَابِ ال ّ
قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهمَ { :أوََلوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى َ
فاستجاب له آباؤهم ،ومشوا خلفه ،وصاروا من تلميذ الشيطان ،واستولت عليهم الحيرة.
فهل هذا موجب لتباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم ،أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم ،وينادي
على ضللهم ،وضلل من اتبعهم.
وليس دعوة الشيطان لبائهم ولهم ،محبة لهم ومودة ،وإنما ذلك عداوة لهم ومكر بهم ،وبالحقيقة
أتباعه من أعدائه ،الذين تمكن منهم وظفر بهم ،وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير ،بقبول
دعوته.
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى وَإِلَى اللّهِ
جهَهُ إِلَى اللّ ِه وَ ُهوَ مُحْسِنٌ َفقَدِ اسْ َتمْ َ
{ َ { } 24 - 22ومَنْ يُسِْل ْم وَ ْ
علِيمٌ ِبذَاتِ
عمِلُوا إِنّ اللّهَ َ
ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
عَاقِبَةُ الُْأمُورِ * َومَنْ َكفَرَ فَلَا َيحْزُ ْنكَ ُكفْ ُرهُ ِإلَيْنَا مَرْ ِ
الصّدُورِ * ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا ُثمّ َنضْطَرّ ُهمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
جهَهُ إِلَى اللّهِ } أي :يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه { .وَ ُهوَ
{ َومَنْ يُسِْل ْم وَ ْ
مُحْسِنٌ } في ذلك السلم بأن كان عمله مشروعا ،قد اتبع فيه الرسول صلى ال عليه وسلم.
أو :ومن يسلم وجهه إلى اللّه ،بفعل جميع العبادات ،وهو محسن فيها ،بأن يعبد اللّه كأنه يراه ،فإن
لم يكن يراه ،فإنه يراه.
أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه ،بالقيام بحقوقه ،وهو محسن إلى عباد اللّه ،قائم بحقوقهم.
والمعاني متلزمة ،ل فرق بينها إل من جهة [اختلف] مورد اللفظتين ،وإل فكلها متفقة على
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ
القيام بجميع شرائع الدين ،على وجه تقبل به وتكمل ،فمن فعل ذلك فقد أسلم و { اسْ َتمْ َ
ا ْلوُ ْثقَى } أي :بالعروة التي من تمسك بها ،توثق ونجا ،وسلم من الهلك ،وفاز بكل خير.
ومن لم يسلم وجهه للّه ،أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى ،وإذا لم يستمسك بالعروة الوثقى
لم يكن َث ّم إل الهلك والبوار { .وَإِلَى اللّهِ عَاقِبَةُ الُْأمُورِ } أي :رجوعها وموئلها ومنتهاها ،فيحكم
في عباده ،ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم ،ووصلت إليه عواقبهم ،فليستعدوا لذلك المر.
{ َومَنْ َكفَرَ فَلَا يَحْزُ ْنكَ ُكفْ ُرهُ } لنك أديت ما عليك ،من الدعوة والبلغ ،فإذا لم يهتد ،فقد وجب
أجرك على اللّه ،ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه ،لنه لو كان فيه خير ،لهداه اللّه.
ول تحزن أيضا ،على كونهم تجرأوا عليك بالعداوة ،ونابذوك المحاربة ،واستمروا على غيهم
وكفرهم ،ول تتحرق عليهم ،بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب.
{ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } التي ما نطق بها الناطقون ،فكيف بما ظهر ،وكان شهادة؟"
ولكن { َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ } فلذلك أشركوا به غيره ،ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه ،على وجه
الحيرة والشك ،ل على وجه البصيرة ،ثم ذكر في هاتين اليتين نموذجا من سعة أوصافه ،ليدعو
عباده إلى معرفته ،ومحبته ،وإخلص الدين له.
فذكر عموم ملكه ،وأن جميع ما في السماوات والرض -وهذا شامل لجميع العالم العلوي
والسفلي -أنه ملكه ،يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية ،وأحكامه المرية ،وأحكامه الجزائية،
فكلهم عييد مماليك ،مدبرون مسخرون ،ليس لهم من الملك شيء ،وأنه واسع الغنى ،فل يحتاج
ط ِعمُونِ }
ق َومَا أُرِيدُ أَنْ يُ ْ
إلى ما يحتاج إليه أحد من الخلق { .مَا أُرِيدُ مِ ْن ُهمْ مِنْ رِزْ ٍ
وأن أعمال النبيين والصديقين ،والشهداء والصالحين ،ل تنفع اللّه شيئا وإنما تنفع عامليها ،واللّه
غني عنهم ،وعن أعمالهم ،ومن غناه ،أن أغناهم وأقناهم في دنياهم وأخراهم.
ثم أخبر تعالى عن سعة حمده ،وأن حمده من لوازم ذاته ،فل يكون إل حميدا من جميع الوجوه،
فهو حميد في ذاته ،وهو حميد في صفاته ،فكل صفة من صفاته ،يستحق عليها أكمل حمد وأتمه،
لكونها صفات عظمة وكمال ،وجميع ما فعله وخلقه يحمد عليه ،وجميع ما أمر به ونهى عنه
يحمد عليه ،وجميع ما حكم به في العباد وبين العباد ،في الدنيا والخرة ،يحمد عليه.
ثم أخبر عن سعة كلمه وعظمة قوله ،بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ ،وتنبهر له العقول ،وتحير
فيه الفئدة ،وتسيح في معرفته أولو اللباب والبصائر ،فقال { :وََلوْ أَ ّنمَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ شَجَ َرةٍ
َأقْلَامٌ } يكتب بها { وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِنْ َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ } مدادا يستمد بها ،لتكسرت تلك القلم ولفني
ذلك المداد ،و لم تنفد { كَِلمَاتُ اللّهِ } تعالى ،وهذا ليس مبالغة ل حقيقة له ،بل لما علم تبارك
وتعالى ،أن العقول تتقاصر عن الحاطة ببعض صفاته ،وعلم تعالى أن معرفته لعباده ،أفضل
نعمة ،أنعم بها عليهم ،وأجل منقبة حصلوها ،وهي ل تمكن على وجهها ،ولكن ما ل يدرك كله،
ل يترك كله ،فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم ،وتنشرح له صدورهم ،ويستدلون بما وصلوا
إليه إلى ما لم يصلوا إليه ،ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه" :ل نحصي ثناء عليك ،أنت
كما أثنيت على نفسك" وإل ،فالمر أجل من ذلك وأعظم.
وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى ،الذي ل يطاق الوصول إليه إلى الفهام والذهان ،وإل
فالشجار ،وإن تضاعفت على ما ذكر ،أضعافا كثيرة ،والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة،
فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها ،لكونها مخلوقة.
وأما كلم اللّه تعالى ،فل يتصور نفاده ،بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي ،على أنه ل نفاد له ول
منتهى ،وكل شيء ينتهي إل الباري وصفاته { وَأَنّ إِلَى رَ ّبكَ ا ْلمُنْ َتهَى }
وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته ،وأنه كل ما فرضه الذهن من الزمان السابقة،
مهما تسلسل الفرض والتقدير ،فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية ،وأنه مهما فرضه الذهن
والعقل ،من الزمان المتأخرة ،وتسلسل الفرض والتقدير ،وساعد على ذلك من ساعد ،بقلبه
ولسانه ،فاللّه تعالى بعد ذلك إلى غير غاية ول نهاية.
واللّه في جميع الوقات يحكم ،ويتكلم ،ويقول ،ويفعل كيف أراد ،وإذا أراد ل مانع له من شيء
من أقواله وأفعاله ،فإذا تصور العقل ذلك ،عرف أن المثل الذي ضربه اللّه لكلمه ،ليدرك العباد
شيئا منه ،وإل ،فالمر أعظم وأجل.
ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه ل يمكن أن يتصورها العقل فقال { :مَا خَ ْل ُقكُ ْم وَلَا َبعْ ُثكُمْ إِلّا
كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ } وهذا شيء يحير العقول ،إن خلق جميع الخلق -على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم،
بعد تفرقهم في لمحة واحدة -كخلقه نفسا واحدة ،فل وجه لستبعاد البعث والنشور ،والجزاء على
العمال ،إل الجهل بعظمة اللّه وقوة قدرته.
سمِيعٌ َبصِيرٌ }
ثم ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات ،وبصره لجميع المبصرات فقال { :إِنّ اللّهَ َ
شمْسَ
سخّرَ ال ّ
ل وَ َ
{ { } 30 - 29أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ
ق وَأَنّ مَا
سمّى وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَ ّ
جلٍ مُ َ
وَا ْلقَمَرَ ُكلّ يَجْرِي إِلَى َأ َ
ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ }
طُيَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَا ِ
وهذا فيه أيضا ،انفراده بالتصرف والتدبير ،وسعة تصرفه بإيلج الليل في النهار ،وإيلج النهار
في الليل ،أي :إدخال أحدهما على الخر ،فإذا دخل أحدهما ،ذهب الخر.
وتسخيره للشمس والقمر ،يجريان بتدبير ونظام ،لم يختل منذ خلقهما ،ليقيم بذلك من مصالح العباد
ومنافعهم ،في دينهم ودنياهم ،ما به يعتبرون وينتفعون.
{ وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } من خير وشر { خَبِيرٌ } ل يخفى عليه شيء من ذلك ،وسيجازيكم على
تلك العمال ،بالثواب للمطيعين ،والعقاب للعاصين.
و { ذَِلكَ } الذي بين لكم من عظمته وصفاته ،ما بيّن { بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ } في ذاته وفي صفاته،
ودينه حق ،ورسله حق ،ووعده حق ،ووعيده حق ،وعبادته هي الحق.
طلُ } في ذاته وصفاته ،فلول إيجاد اللّه له لما وجد ،ولول إمداده َلمَا
{ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَا ِ
َبقِيَ ،فإذا كان باطل ،كانت عبادته أبطل وأبطل.
{ وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ } بذاته ،فوق جميع مخلوقاته ،الذي علت صفاته ،أن يقاس بها صفات أحد
من الخلق ،وعل على الخلق فقهرهم { ا ْلكَبِيرُ } الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ،وله الكبرياء
في قلوب أهل السماء والرض.
{ { } 32 - 31أََلمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ لِيُرِ َيكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ
عوُا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ فََلمّا َنجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ
شكُورٍ * وَإِذَا غَشِ َي ُهمْ َموْجٌ كَالظَّللِ دَ َ
ِل ُكلّ صَبّارٍ َ
حدُ بِآيَاتِنَا إِلّا ُكلّ خَتّارٍ كَفُورٍ }
َفمِ ْنهُمْ ُمقْتَصِدٌ َومَا َيجْ َ
أي :ألم تر من آثار قدرته ورحمته ،وعنايته بعباده ،أن سخر البحر ،تجري فيه الفلك ،بأمره
القدري [ولطفه وإحسانه { ،لِيُرِ َيكُمْ مِنْ آيَاتِهِ } ففيها النتفاع والعتبار]
وذكر تعالى حال الناس ،عند ركوبهم البحر ،وغشيان المواج كالظل فوقهم ،أنهم يخلصون
الدعاء [للّه] والعبادة { :فََلمّا َنجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ } انقسموا فريقين:
فرقة مقتصدة ،أي :لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال ،بل هم مذنبون ظالمون لنفسهم.
يأمر تعالى الناس بتقواه ،التي هي امتثال أوامره ،وترك زواجره ،ويستلفتهم لخشية يوم القيامة،
ن وَلَ ِد ِه وَلَا َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ
اليوم الشديد ،الذي فيه كل أحد ل يهمه إل نفسه فب { لَا َيجْزِي وَالِدٌ عَ ْ
ن وَالِ ِدهِ شَيْئًا } ل يزيد في حسناته ول ينقص من سيئاته ،قد تم على كل عبد عمله ،وتحقق عليه
عَ ْ
جزاؤه.
فلفت النظر في هذا لهذا اليوم المهيل ،مما يقوي العبد ويسهّل عليه تقوى اللّه ،وهذا من رحمة اللّه
بالعباد ،يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم ،ويعدهم عليها الثواب ،ويحذرهم من العقاب ،ويزعجهم
إليه بالمواعظ والمخوفات ،فلك الحمد يا رب العالمين.
حقّ } فل تمتروا فيه ،ول تعملوا عمل غير المصدق ،فلهذا قال { :فَلَا َتغُرّ ّنكُمُ
{ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ
الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بزينتها وزخارفها وما فيها من الفتن والمحن.
{ وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ } الذي هو الشيطان ،الذي ما زال يخدع النسان ول يغفل عنه في
جميع الوقات ،فإن للّه على عباده حقا ،وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم ،وهل وفوا حقه
أم قصروا فيه.
وهذا أمر يجب الهتمام به ،وأن يجعله العبد نصب عينيه ،ورأس مال تجارته ،التي يسعى إليها.
سبُ
ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْأَ ْرحَا ِم َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مَاذَا َتكْ ِ
ع ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ
{ { } 34إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ
غَدًا َومَا تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة ،والظواهر والبواطن ،وقد يطلع اللّه عباده
على كثير من المور الغيبية ،وهذه [المور] الخمسة ،من المور التي طوى علمها عن جميع
المخلوقات ،فل يعلمها نبي مرسل ،ول ملك مقرب ،فضل عن غيرهما ،فقال { :إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ عِلْمُ
عةِ } أي :يعلم متى مرساها ،كما قال تعالى { :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا
السّا َ
ت وَالْأَ ْرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلّا َبغْتَةً } الية.
سمَاوَا ِ
عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَا ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا إِلّا ُهوَ َثقَُلتْ فِي ال ّ
{ وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ } أي :هو المنفرد بإنزاله ،وعلم وقت نزوله.
{ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْأَ ْرحَامِ } فهو الذي أنشأ ما فيها ،وعلم ما هو ،هل هو ذكر أم أنثى ،ولهذا يسأل
الملك الموكل بالرحام ربه :هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه ما يشاء.
سبُ غَدًا } من كسب دينها ودنياهاَ { ،ومَا تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ }
{ َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مَاذَا َتكْ ِ
بل اللّه تعالى ،هو المختص بعلم ذلك جميعه.
ولما خصص هذه الشياء ،عمم علمه بجميع الشياء فقال { :إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } محيط بالظواهر
والبواطن ،والخفايا والخبايا ،والسرائر ،ومن حكمته التامة ،أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد،
لن في ذلك من المصالح ما ل يخفى على من تدبر ذلك.
يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم ،أنه تنزيل من رب العالمين ،الذي رباهم بنعمته.
ومن أعظم ما رباهم به ،هذا الكتاب ،الذي فيه كل ما يصلح أحوالهم ،ويتمم أخلقهم ،وأنه ل
ريب فيه ،ول شك ،ول امتراء ،ومع ذلك قال المكذبون للرسول الظالمون في ذلك :افتراه محمد،
واختلقه من عند نفسه ،وهذا من أكبر الجراءة على إنكار كلم اللّه ،ورمي محمد صلى اللّه عليه
وسلم ،بأعظم الكذب ،وقدرة الخلق على كلم مثل كلم الخالق.
وكل واحد من هذه من المور العظائم ،قال اللّه -رادًا على من قال :افتراه-:
{ َبلْ ُهوَ ا ْلحَقّ } الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ،ول من خلفه ،تنزيل من حكيم حميد { .مِنْ
رَ ّبكَ } أنزله رحمة للعباد { لِتُنْذِرَ َق ْومًا مَا أَتَا ُهمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ } أي :في حالة ضرورة وفاقة
لرسال الرسول ،وإنزال الكتاب ،لعدم النذير ،بل هم في جهلهم يعمهون ،وفي ظلمة ضللهم
يترددون ،فأنزلنا الكتاب عليك { َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ } من ضللهم ،فيعرفون الحق فيؤثرونه.
وهذه الشياء التي ذكرها اللّه كلها ،مناقضة لتكذيبهم له :وإنها تقتضي منهم اليمان والتصديق
حقّ } والحق مقبول على كل حال ،وأنه { لَا
التام به ،وهو كونه { مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } وأنه { الْ َ
رَ ْيبَ فِيهِ } بوجه من الوجوه ،فليس فيه ،ما يوجب الريبة ،ل بخبر ل يطابق للواقع ول بخفاء
واشتباه معانيه ،وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة ،وأن فيه الهداية لكل خير وإحسان.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ
{ { } 9 - 4اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ
سمَاءِ إِلَى الْأَ ْرضِ ثُمّ َيعْرُجُ
شفِيعٍ َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ * يُدَبّرُ الَْأمْرَ مِنَ ال ّ
ن وَِليّ وَلَا َ
مَا َلكُمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ
شهَا َدةِ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ * الّذِي
ب وَال ّ
إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ ِممّا َتعُدّونَ * َذِلكَ عَالِمُ ا ْلغَ ْي ِ
ج َعلَ َنسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ * ثُمّ
شيْءٍ خََلقَ ُه وَ َبدَأَ خَ ْلقَ الْإِ ْنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمّ َ
حسَنَ ُكلّ َ
أَ ْ
شكُرُونَ }
سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ
ج َعلَ َلكُمُ ال ّ
سوّا ُه وَ َنفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِ ِه وَ َ
َ
{ َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ } فتعلمون أن خالق الرض والسماوات ،المستوي على العرش العظيم ،الذي انفرد
بتدبيركم ،وتوليكم ،وله الشفاعة كلها ،هو المستحق لجميع أنواع العبادة.
{ ُيدَبّرُ الَْأمْرَ } القدري والمر الشرعي ،الجميع هو المتفرد بتدبيره ،نازلة تلك التدابير من عند
شقِي ،و ُيغْنِي و ُي ْفقِرُ ،و ُيعِزّ ،ويُ ِذلّ ،ويُكرِمُ،
سعِدُ بها ويُ ْ
سمَاءِ إِلَى الْأَ ْرضِ } فَ ُي ْ
المليك القدير { مِنَ ال ّ
و ُيهِينُ ،ويرفع أقوامًا ،ويضع آخرين ،ويُنزّل الرزاق.
{ ُثمّ َيعْرُجُ إِلَيْهِ } أي :المر ينزل من عنده ،ويعرج إليه { فِي َي ْومٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَنَةٍ ِممّا
َتعُدّونَ } وهو يعرج إليه ،ويصله في لحظة.
{ ذَِلكَ } الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة ،الذي استوى على العرش العظيم ،وانفرد بالتدابير في
شهَا َدةِ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } فبسعة علمه ،وكمال عزته ،وعموم رحمته،
ب وَال ّ
المملكة { ،عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
أوجدها ،وأودع فيها ،من المنافع ما أودع ،ولم يعسر عليه تدبيرها.
شيْءٍ خََلقَهُ } أي :كل مخلوق خلقه اللّه ،فإن اللّه أحسن خلقه ،وخلقه خلقًا يليق
حسَنَ ُكلّ َ
{ الّذِي أَ ْ
به ،ويوافقه ،فهذا عام.
ثم خص الدمي لشرفه وفضله فقال { :وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق آدم عليه السلم،
أبي البشر.
ج َعلَ نَسَْلهُ } أي :ذرية آدم ناشئة { مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ } وهو النطفة المستقذرة الضعيفة.
{ ُثمّ َ
سوّاهُ } بلحمه ،وأعضائه ،وأعصابه ،وعروقه ،وأحسن خلقته ،ووضع كل عضو منه،
{ ُثمّ َ
حهِ } بأن أرسل إليه الملك ،فينفخ فيه الروح،
بالمحل الذي ل يليق به غيره { ،وَ َنفَخَ فِيهِ مِنْ رُو ِ
فيعود
سمْ َع وَالْأَ ْبصَارَ } أي :ما زال يعطيكم من المنافع شيئًا فشيئا ،حتى أعطاكم السمع
ج َعلَ َلكُمُ ال ّ
{ وَ َ
شكُرُونَ } الذي خلقكم وصوركم.
والبصار { وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ
{ َ { } 11 - 10وقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَ ْرضِ أَئِنّا َلفِي خَ ْلقٍ جَدِيدٍ َبلْ هُمْ بِِلقَاءِ رَ ّب ِهمْ كَافِرُونَ *
جعُونَ }
ُقلْ يَ َت َوفّاكُمْ مََلكُ ا ْل َموْتِ الّذِي ُو ّكلَ ِبكُمْ ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُ ْر َ
أي :قال المكذبون بالبعث على وجه الستبعاد { :أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَ ْرضِ } أي :بَلِينَا وتمزقنا،
وتفرقنا في المواضع التي ل ُتعَْلمُ.
{ أَئِنّا َلفِي خَ ْلقٍ جَدِيدٍ } أي :لمبعوثون بعثًا جديدًا بزعمهم أن هذا من أبعد الشياء ،وذلك لقياسهم
قدرة الخالق ،بقدرهم.
وكلمهم هذا ،ليس لطلب الحقيقة ،وإنما هو ظلم ،وعناد ،وكفر بلقاء ربهم وجحد ،ولهذا قالَ { :بلْ
هُمْ بِِلقَاءِ رَ ّبهِمْ كَافِرُون } فكلمهم علم مصدره وغايته ،وإل ،فلو كان قصدهم بيان الحق ،لَبَيّنَ
لهم من الدلة القاطعة على ذلك ،ما يجعله مشاهدا للبصيرة ،بمنزلة الشمس للبصر.
ويكفيهم ،أنهم معهم علم أنهم قد ابتدئوا من العدم ،فالعادة أسهل من البتداء ،وكذلك الرض
الميتة ،ينزل اللّه عليها المطر ،فتحيا بعد موتها ،وينبت به متفرق بذورها.
{ ُقلْ يَ َت َوفّاكُمْ مََلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِب ُكمْ } أي :جعله اللّه وكيلً على قبض الرواح ،وله أعوان{ .
جعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم ،وقد أنكرتم البعث ،فانظروا ماذا يفعل اللّه بكم.
ثُمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُرْ َ
جعْنَا
س ِمعْنَا فَا ْر ِ
سهِمْ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ رَبّنَا أَ ْبصَرْنَا وَ َ
{ { } 14 - 12وََلوْ تَرَى إِذِ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ نَا ِكسُو ُرءُو ِ
جهَنّمَ مِنَ
َن ْع َملْ صَاِلحًا إِنّا مُوقِنُونَ * وََلوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا ُكلّ َنفْسٍ ُهدَاهَا وََلكِنْ حَقّ ا ْل َق ْولُ مِنّي لََأمْلَأَنّ َ
ج َمعِينَ * فَذُوقُوا ِبمَا َنسِيتُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا إِنّا نَسِينَاكُ ْم وَذُوقُوا عَذَابَ ا ْلخُلْدِ ِبمَا كُنْتُمْ
الْجِنّ ِة وَالنّاسِ َأ ْ
َت ْعمَلُونَ }
لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة ،ذكر حالهم في مقامهم بين [يديه] فقال { :وََلوْ تَرَى إِذِ
سهِمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ } خاشعين خاضعين
ا ْلمُجْ ِرمُونَ } الذين أصروا على الذنوب العظيمة { ،نَاكِسُو ُرءُو ِ
س ِمعْنَا } أي :بأن لنا المر ،ورأيناه
أذلء ،مقرين بجرمهم ،سائلين الرجعة قائلين { :رَبّنَا أَ ْبصَرْنَا وَ َ
عيانًا ،فصار عين يقين.
جعْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا إِنّا مُوقِنُونَ } أي :صار عندنا الن ،يقين بما [كنا] نكذب به ،أي :لرأيت
{ فَا ْر ِ
أمرا فظيعًا ،وحالً مزعجة ،وأقوامًا خاسرين ،وسؤلًا غير مجاب ،لنه قد مضى وقت المهال.
وكل هذا بقضاء اللّه وقدره ،حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي ،فلهذا قال { :وََلوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا
ُكلّ َنفْسٍ ُهدَاهَا } أي :لهدينا الناس كلهم ،وجمعناهم على الهدى ،فمشيئتنا صالحة لذلك ،ولكن
حقّ ا ْل َقوْلُ مِنّي } أي :وجب ،وثبت
الحكمة ،تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى ،ولهذا قال { :وََلكِنْ َ
ثبوتًا ل تغير فيه.
ج َمعِينَ } فهذا الوعد ،ل بد منه ،ول محيد عنه ،فل بد من تقرير
جهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَ ْ
{ لََأمْلَأَنّ َ
أسبابه من الكفر والمعاصي.
{ َفذُوقُوا ِبمَا نَسِي ُتمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ َهذَا } أي :يقال للمجرمين ،الذين ملكهم الذل ،وسألوا الرجعة إلى
الدنيا ،ليستدركوا ما فاتهم ،قد فات وقت الرجوع ولم يبق إل العذاب ،فذوقوا العذاب الليم ،بما
نسيتم لقاء يومكم هذا ،وهذا النسيان نسيان ترك ،أي :بما أعرضتم عنه ،وتركتم العمل له ،وكأنكم
غير قادمين عليه ،ول ملقيه.
{ إِنّا نَسِينَاكُمْ } أي :تركناكم بالعذاب ،جزاء من جنس عملكم ،فكما َنسِيتُمْ نُسِي ُتمْ { ،وَذُوقُوا عَذَابَ
الْخُ ْلدِ } أي :العذاب غير المنقطع ،فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية ،كان فيه بعض التنفيس
والتخفيف ،وأما عذاب جهنم -أعاذنا اللّه منه -فليس فيه روح راحة ،ول انقطاع لعذابهم فيها.
{ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } من الكفر والفسوق والمعاصي.
لما ذكر تعالى الكافرين بآياته ،وما أعد لهم من العذاب ،ذكر المؤمنين بها ،ووصفهم ،وما أعد لهم
من الثواب ،فقال { :إِ ّنمَا ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا } [أي] إيمانًا حقيقيًا ،من يوجد منه شواهد اليمان ،وهم:
{ الّذِينَ ِإذَا ُذكّرُوا } بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن ،وأتتهم النصائح على أيدي رسل اللّه،
ودُعُوا إلى التذكر ،سمعوها فقبلوها ،وانقادوا ،و { خَرّوا سُجّدًا } أي :خاضعين لها ،خضوع ذكر
للّه ،وفرح بمعرفته.
حمْدِ رَ ّبهِ ْم وَهُمْ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ } ل بقلوبهم ،ول بأبدانهم ،فيمتنعون من النقياد لها ،بل
{ وَسَبّحُوا بِ َ
متواضعون لها ،قد تلقوها بالقبول ،والتسليم ،وقابلوها بالنشراح والتسليم ،وتوصلوا بها إلى
مرضاة الرب الرحيم ،واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.
جعِ } أي :ترتفع جنوبهم ،وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ،إلى ما هو
{ تَ َتجَافَى جُنُو ُبهُمْ عَنِ ا ْل َمضَا ِ
ألذ عندهم منه وأحب إليهم ،وهو الصلة في الليل ،ومناجاة اللّه تعالى.
خ ْوفًا
ولهذا قالَ { :يدْعُونَ رَ ّبهُمْ } أي :في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ،ودفع مضارهماَ { .
ط َمعًا } أي :جامعين بين الوصفين ،خوفًا أن ترد أعمالهم ،وطمعًا في قبولها ،خوفًا من عذاب
وَ َ
اللّه ،وطمعًا في ثوابه.
{ َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ } من الرزق ،قليلً كان أو كثيرًا { يُ ْن ِفقُونَ } ولم يذكر قيد النفقة ،ول المنفق
عليه ،ليدل على العموم ،فإنه يدخل فيه ،النفقة الواجبة ،كالزكوات ،والكفارات ،ونفقة الزوجات
والقارب ،والنفقة المستحبة في وجوه الخير ،والنفقة والحسان المالي ،خير مطلقًا ،سواء وافق
غنيًا أو فقيرًا ،قريبًا أو بعيدًا ،ولكن الجر يتفاوت ،بتفاوت النفع ،فهذا عملهم.
وأما جزاؤهم ،فقال { :فَلَا َتعَْلمُ َنفْسٌ } يدخل فيه جميع نفوس الخلق ،لكونها نكرة في سياق النفي.
خ ِفيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ } من الخير الكثير ،والنعيم الغزير ،والفرح
أي :فل يعلم أحد { مَا أُ ْ
والسرور ،واللذة والحبور ،كما قال تعالى على لسان رسوله" :أعددت لعبادي الصالحين ،ما ل
عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر"
فكما صلوا في الليل ،ودعوا ،وأخفوا العمل ،جازاهم من جنس عملهم ،فأخفى أجرهم ،ولهذا قال:
{ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
عمِلُوا
سقًا لَا يَسْ َتوُونَ * َأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
{ َ { } 20 - 18أ َفمَنْ كَانَ ُم ْؤمِنًا َكمَنْ كَانَ فَا ِ
سقُوا َفمَ ْأوَا ُهمُ النّارُ كُّلمَا أَرَادُوا
الصّالِحَاتِ فََلهُمْ جَنّاتُ ا ْلمَ ْأوَى نُ ُزلًا ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * وََأمّا الّذِينَ فَ َ
أَنْ يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا أُعِيدُوا فِيهَا َوقِيلَ َلهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنْتُمْ بِهِ ُتكَذّبُونَ }
ينبه تعالى ،العقول على ما تقرر فيها ،من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين ،وأن حكمته تقتضي
عدم تساويهما فقالَ { :أ َفمَنْ كَانَ ُم ْؤمِنًا } قد عمر قلبه باليمان ،وانقادت جوارحه لشرائعه،
واقتضى إيمانه آثاره وموجباته ،من ترك مساخط اللّه ،التي يضر وجودها باليمان.
سقًا } قد خرب قلبه ،وتعطل من اليمان ،فلم يكن فيه وازع ديني ،فأسرعت
{ َكمَنْ كَانَ فَا ِ
جوارحه بموجبات الجهل والظلم ،من كل إثم ومعصية ،وخرج بفسقه عن طاعة ال.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } من فروض ونوافل { فََلهُمْ جَنّاتُ ا ْلمَ ْأوَى } أي :الجنات
{ وََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
التي هي مأوى اللذات ،ومعدن الخيرات ،ومحل الفراح ،ونعيم القلوب ،والنفوس ،والرواح،
ومحل الخلود ،وجوار الملك المعبود ،والتمتع بقربه ،والنظر إلى وجهه ،وسماع خطابه.
{ نُزُلًا } لهم أي :ضيافة ،وقِرًى { ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فأعمالهم التي تفضل اللّه بها عليهم ،هي
التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية ،التي ل يمكن التوصل إليها ببذل الموال ،ول بالجنود
والخدم ،ول بالولد ،بل ول بالنفوس والرواح ،ول يتقرب إليها بشيء
سقُوا َفمَ ْأوَا ُهمُ النّارُ } أي :مقرهم ومحل خلودهم ،النار التي جمعت كل عذاب
{ وََأمّا الّذِينَ فَ َ
وشقاء ،ول ُيفَتّرُ عنهم العقاب ساعة.
{ كُّلمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا أُعِيدُوا فِيهَا } فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج ،لبلوغ العذاب منهم
كل مبلغ ،ردوا إليها ،فذهب عنهم روح ذلك الفرج ،واشتد عليهم الكرب.
عذَابَ النّارِ الّذِي كُنْ ُتمْ بِهِ ُت َكذّبُونَ } فهذا عذاب النار ،الذي يكون فيه مقرهم
{ َوقِيلَ َلهُمْ ذُوقُوا َ
ومأواهم ،وأما العذاب الذي قبل ذلك ،ومقدمة له وهو عذاب البرزخ ،فقد ذكر بقوله:
جعُونَ }
{ { } 21وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ مِنَ ا ْلعَذَابِ الَْأدْنَى دُونَ ا ْلعَذَابِ الَْأكْبَرِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
أي :ولنذيقن الفاسقين المكذبين ،نموذجًا من العذاب الدنى ،وهو عذاب البرزخ ،فنذيقهم طرفًا
منه ،قبل أن يموتوا ،إما بعذاب بالقتل ونحوه ،كما جرى لهل بدر من المشركين ،وإما عند
غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَاسِطُو أَ ْيدِيهِمْ
الموت ،كما في قوله تعالى { وََلوْ تَرَى ِإذِ الظّاِلمُونَ فِي َ
سكُمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ } ثم يكمل لهم العذاب الدنى في برزخهم.
أَخْ ِرجُوا أَ ْنفُ َ
وهذه الية من الدلة على إثبات عذاب القبر ،ودللتها ظاهرة ،فإنه قال { :وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ مِنَ ا ْلعَذَابِ
الْأَدْنَى } أي :بعض وجزء منه ،فدل على أن َثمّ عذابًا أدنى قبل العذاب الكبر ،وهو عذاب النار.
ولما كانت الذاقة من العذاب الدنى في الدنيا ،قد ل يتصل بها الموت ،فأخبر تعالى أنه يذيقهم
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ِبمَا
ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالىَ { :
جعُونَ }
عمِلُوا َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ
كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ
{ َ { } 22ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْ َرضَ عَ ْنهَا إِنّا مِنَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُنْ َت ِقمُونَ }
أي :ل أحد أظلم ،وأزيد تعديًا ،ممن ذكر بآيات ربه ،التي أوصلها إليه ربه ،الذي يريد تربيته،
وتكميل نعمته على أيدي رسله ،تأمره ،وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية ،وتنهاه عن مضاره
الدينية والدنيوية ،التي تقتضي أن يقابلها باليمان والتسليم ،والنقياد والشكر ،فقابلها هذا الظالم
بضد ما ينبغي ،فلم يؤمن بها ،ول اتبعها ،بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره ،فهذا من أكبر
المجرمين ،الذين يستحقون شديد النقمة ،ولهذا قال { :إِنّا مِنَ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُنْتَ ِقمُونَ }
لما ذكر تعالى ،آياته التي ذكر بها عباده ،وهو :القرآن ،الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه
وسلم ،ذكر أنه ليس ببدع من الكتب ،ول من جاء به ،بغريب من الرسل ،فقد آتى ال موسى
الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن ،التي قد صدقها القرآن ،فتطابق حقهما ،وثبت برهانهما،
{ فَلَا َتكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ ِلقَائِهِ } لنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته ،فلم يبق للشك والمرية ،محل.
جعَلْنَاهُ } أي :الكتاب الذي آتيناه موسى { هُدًى لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ } يهتدون به في أصول دينهم،
{ وَ َ
وفروعه وشرائعه موافقة لذلك الزمان ،في بني إسرائيل.
وأما هذا القرآن الكريم ،فجعله اللّه هداية للناس كلهم ،لنه هداية للخلق ،في أمر دينهم ودنياهم،
حكِيمٌ }
إلى يوم القيامة ،وذلك لكماله وعلوه { وَإِنّهُ فِي ُأمّ ا ْلكِتَابِ لَدَيْنَا َلعَِليّ َ
جعَلْنَا مِ ْنهُمْ } أي :من بني إسرائيل { أَ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأمْرِنَا } أي :علماء بالشرع ،وطرق الهداية،
{ وَ َ
مهتدين في أنفسهم ،يهدون غيرهم بذلك الهدى ،فالكتاب الذي أنزل إليهم ،هدى ،والمؤمنون به
منهم ،على قسمين :أئمة يهدون بأمر اللّه ،وأتباع مهتدون بهم.
والقسم الول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة ،وهي درجة الصديقين ،وإنما نالوا هذه
الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم ،والدعوة إلى اللّه ،والذى في سبيله ،وكفوا أنفسهم عن
جماحها في المعاصي ،واسترسالها في الشهوات.
{ َوكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي :وصلوا في اليمان بآيات اللّه ،إلى درجة اليقين ،وهو العلم التام،
الموجب للعمل ،وإنما وصلوا إلى درجة اليقين ،لنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا ،وأخذوا المسائل عن
أدلتها المفيدة لليقين.
فما زالوا يتعلمون المسائل ،ويستدلون عليها بكثرة الدلئل ،حتى وصلوا لذاك ،فبالصبر واليقين،
تُنَالُ المامة في الدين.
وثَمّ مسائل اختلف فيها بنو إسرائيل ،منهم من أصاب فيها الحق ،ومنهم من أخطأه خطأ ،أو عمدًا،
صلُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } وهذا القرآن يقص على بني
واللّه تعالى { َي ْف ِ
إسرائيل ،بعض الذي يختلفون فيه ،فكل خلف وقع بينهم ،ووجد في القرآن تصديق لحد القولين،
فهو الحق ،وما عداه مما خالفه ،باطل.
{ َ { } 27 - 26أوَلَمْ َي ْهدِ َلهُمْ َكمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلقُرُونِ َيمْشُونَ فِي مَسَاكِ ِنهِمْ إِنّ فِي ذَِلكَ
س َمعُونَ * َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َنسُوقُ ا ْلمَاءَ إِلَى الْأَ ْرضِ الْجُرُزِ فَ ُنخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَ ْأ ُكلُ مِ ْنهُ
لَآيَاتٍ َأفَلَا يَ ْ
سهُمْ َأفَلَا يُ ْبصِرُونَ }
أَ ْنعَا ُمهُ ْم وَأَ ْنفُ ُ
يعني :أولم يتبين لهؤلء المكذبين للرسول ،ويهدهم إلى الصوابَ { .كمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبَْلهُمْ مِنَ
ا ْلقُرُونِ } الذين سلكوا مسلكهمَ { ،يمْشُونَ فِي َمسَاكِ ِنهِمْ } فيشاهدونها عيانًا ،كقوم هود ،وصالح،
وقوم لوط.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ } يستدل بها ،على صدق الرسل ،التي جاءتهم ،وبطلن ما هم عليه ،من
الشرك والشر ،وعلى أن من فعل مثل فعلهمُ ،ف ِعلَ بهم ،كما ُف ِعلَ بأشياعه من قبل.
{ َأوََلمْ يَ َروْا } بأبصارهم نعمتنا ،وكمال حكمتنا { أَنّا نَسُوقُ ا ْلمَاءَ إِلَى الْأَ ْرضِ ا ْلجُرُزِ } التي ل
نبات فيها ،فيسوق اللّه المطر ،الذي لم يكن قبل موجودًا فيها ،فيفرغه فيها ،من السحاب ،أو من
النهار { .فَنُخْرِجُ ِبهِ زَرْعًا } أي :نباتًا ،مختلف النواع { تَ ْأ ُكلُ مِنْهُ أَ ْنعَا ُمهُمْ } وهو نبات البهائم
{ وَأَ ْنفُسهمْ } وهو طعام الدميين.
{ َأفَلَا يُ ْبصِرُونَ } تلك المنة ،التي أحيا اللّه بها البلد والعباد ،فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر،
وتلك البصيرة ،إلى الصراط المستقيم ،ولكن غلب عليهم العمى ،واستولت عليهم الغفلة ،فلم
يبصروا في ذلك ،بصر الرجال ،وإنما نظروا إلى ذلك ،نظر الغفلة ،ومجرد العادة ،فلم يوفقوا
للخير.
{ { } 30 - 28وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا ا ْلفَتْحُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ َيوْمَ ا ْلفَتْحِ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ َكفَرُوا
إِيمَا ُنهُ ْم وَلَا ُهمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ وَانْتَظِرْ إِ ّنهُمْ مُنْ َتظِرُونَ }
أي :يستعجل المجرمون بالعذاب ،الذي وعدوا به على التكذيب ،جهلً منهم ومعاندة.
{ وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا ا ْلفَتْحُ } الذي يفتح بيننا وبينكم ،بتعذيبنا على زعمكم { إِنْ كُنْتُمْ } أيها الرسل
{ صَا ِدقِينَ } في دعواكم.
{ ُقلْ َيوْمَ ا ْلفَتْحِ } الذي يحصل به عقابكم ،ل تستفيدون به شيئًا ،فلو كان إذا حصل ،حصل
إمهالكم ،لتستدركوا ما فاتكم ،حين صار المر عندكم يقينًا ،لكان لذلك وجه ،ولكن إذا جاء يوم
الفتح ،انقضى المر ،ولم يبق للمحنة محل فب { لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ َكفَرُوا إِيمَا ُنهُمْ } لنه صار إيمان
ضرورة { ،وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي :يمهلون ،فيؤخر عنهم العذاب ،فيستدركون أمرهم.
{ فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ } لما وصل خطابهم إلى حالة الجهل ،واستعجال العذاب { .وَانْتَظِرْ } المر الذي
يحل بهم ،فإنه ل بد منه ،ولكن له أجل ،إذا جاء ل يتقدم ول يتأخر { .إِ ّنهُمْ مُنْ َتظِرُونَ } بك ريب
المنون ،ومتربصون بكم دوائر السوء ،والعاقبة للتقوى.
تم تفسير سورة السجدة -بحول اللّه ومنه فله تعالى كمال الحمد والثناء والمجد.
ول يصدنك عن هذا المقصود صاد ،ول يردك عنه راد ،فل تطع كل كافر ،قد أظهر العداوة للّه
ورسوله ،ول منافق ،قد استبطن التكذيب والكفر ،وأظهر ضده.
فهؤلء هم العداء على الحقيقة ،فل تطعهم في بعض المور ،التي تنقض التقوى ،وتناقضها ،ول
تتبع أهواءهم ،فيضلوك عن الصواب.
{ وَ } لكن { اتّ ِبعْ مَا يُوحَى إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ } فإنه هو الهدى والرحمة ،وَارْجُ بذلك ثواب ربك ،فإنه
بما تعملون خبير ،يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم ،من الخير والشر.
فإن وقع في قلبك ،أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة ،حصل عليك منهم ضرر ،أو حصل
نقص في هداية الخلق ،فادفع ذلك عن نفسك ،واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره ،وهو التوكل على
اللّه ،بأن تعتمد على ربك ،اعتماد من ل يملك لنفسه ضرًا ول نفعًا ،ول موتًا ول حياة ،ول
نشورًا ،في سلمتك من شرهم ،وفي إقامة الدين ،الذي أمرت به ،وثق باللّه في حصول ذلك
المر على أي :حال كان.
{ َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا } توكل إليه المور ،فيقوم بها ،وبما هو أصلح للعبد ،وذلك لعلمه بمصالح
عبده ،من حيث ل يعلم العبد ،وقدرته على إيصالها إليه ،من حيث ل يقدر عليها العبد ،وأنه أرحم
بعبده من نفسه ،ومن والديه ،وأرأف به من كل أحد ،خصوصًا خواص عبيده ،الذين لم يزل
يربيهم ببره ،ويُدِرّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة ،خصوصًا وقد أمره بإلقاء أموره إليه ،ووعده،
فهناك ل تسأل عن كل أمر يتيسر ،وصعب يسهل ،وخطوب تهون ،وكروب تزول ،وأحوال
وحوائج تقضى ،وبركات تنزل ،ونقم تدفع ،وشرور ترفع.
وهناك ترى العبد الضعيف ،الذي فوض أمره لسيده ،قد قام بأمور ل تقوم بها أمة من الناس ،وقد
سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال وباللّه المستعان.
يعاتب تعالى [عباده] عن التكلم بما ادعوهم لبائهم هو أقسط عند ال فإن لم تعلموا آباءهم
فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان ال
غفورًا رحيمًا ل حقيقة له من القوال ،ولم يجعله ال تعالى كما قالوا،فإن ذلك القول منكم كذب
وزور ،يترتب عليه منكرات من الشرع .وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء ،والخبار
بوقوع ووجود ،ما لم يجعله اللّه تعالى.
جلٍ
ج َعلَ اللّهُ لِرَ ُ
ولكن خص هذه الشياء المذكورة ،لوقوعها ،وشدة الحاجة إلى بيانها ،فقال { :مَا َ
ج ْوفِهِ } هذا ل يوجد ،فإياكم أن تقولوا عن أحد :إن له قلبين في جوفه ،فتكونوا
مِنْ قَلْبَيْنِ فِي َ
كاذبين على الخلقة اللهية.
ج ُكمُ اللّائِي تُظَاهِرُونَ مِ ْنهُنّ } بأن يقول أحدكم لزوجته" :أنت عَليّ كظهر أمي أو
ج َعلَ أَ ْزوَا َ
{ َومَا َ
كأمي" فما جعلهن اللّه { ُأ ّمهَا ِتكُمْ } أمك من ولدتك ،وصارت أعظم النساء عليك ،حرمة وتحريمًا،
وزوجتك أحل النساء لك ،فكيف تشبه أحد المتناقضين بالخر؟
هذا أمر ل يجوز ،كما قال تعالى { :الّذِينَ ُيظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ
ل وَزُورًا }
إِلّا اللّائِي وَلَدْ َنهُمْ وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ مُ ْنكَرًا مِنَ ا ْل َقوْ ِ
ج َعلَ َأدْعِيَا َءكُمْ أَبْنَا َءكُمْ } والدعياء ،الولد الذي كان الرجل يدعيه ،وهو ليس له ،أو يُدْعَى
{ َومَا َ
إليه ،بسبب تبنيه إياه ،كما كان المر بالجاهلية ،وأول السلم.
فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله ،فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه ،وأنه باطل وكذب ،وكل باطل
وكذب ،ل يوجد في شرع اللّه ،ول يتصف به عباد اللّه.
يقول تعالى :فاللّه لم يجعل الدعياء الذين تدعونهم ،أو يدعون إليكم ،أبناءكم ،فإن أبناءكم في
الحقيقة ،من ولدتموهم ،وكانوا منكم ،وأما هؤلء الدعياء من غيركم ،فل جعل اللّه هذا كهذا.
{ ذَِلكُمْ } القول ،الذي تقولون في الدعي :إنه ابن فلن ،الذي ادعاه ،أو والده فلن { َقوُْلكُمْ
بَِأ ْفوَا ِهكُمْ } أي :قول ل حقيقة له ول معنى له.
حقّ } أي :اليقين والصدق ،فلذلك أمركم باتباعه ،على قوله وشرعه ،فقوله ،حق،
{ وَاللّهُ َيقُولُ الْ َ
وشرعه حق ،والقوال والفعال الباطلة ،ل تنسب إليه بوجه من الوجوه ،وليست من هدايته ،لنه
ل يهدي إل إلى السبيل المستقيمة ،والطرق الصادقة.
وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته ،فمشيئته عامة ،لكل ما وجد من خير وشر.
ثم صرح لهم بترك الحالة الولى ،المتضمنة للقول الباطل فقال { :ادْعُوهُمْ } أي :الدعياء
{ لِآبَا ِئ ِهمْ } الذين ولدوهم { ُهوَ َأ ْقسَطُ عِ ْندَ اللّهِ } أي :أعدل ،وأقوم ،وأهدى.
وأما دعاؤهم لبائهم ،فإن علموا ،دعوا إليهم ،وإن لم يعلموا ،اقتصر على ما يعلم منهم ،وهو
أخوة [الدين] والموالة ،فل تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم ،عذر في دعوتهم إلى من تبناهم،
لن المحذور ل يزول بذلك.
خطَأْتُمْ بِهِ } بأن سبق على لسان أحدكم ،دعوته إلى من تبناه ،فهذا غير
{ وَلَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَ ْ
مؤاخذ به ،أو علم أبوه ظاهرًا[ ،فدعوتموه إليه] وهو في الباطن ،غير أبيه ،فليس عليكم في ذلك
حرج ،إذا كان خطأ { ،وََلكِنْ } يؤاخذكم { ِبمَا َت َعمّ َدتْ قُلُو ُبكُمْ } من الكلم ،بما ل يجوزَ { .وكَانَ
غفُورًا رَحِيمًا } غفر لكم ورحمكم ،حيث لم يعاقبكم بما سلف ،وسمح لكم بما أخطأتم به،
اللّهُ َ
ورحمكم حيث بيّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم ،فله الحمد تعالى.
يخبر تعالى المؤمنين ،خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ،فيعاملونه
سهِمْ } أقرب ما للنسان ،وأولى ما له
بمقتضى تلك الحالة فقال { :النّ ِبيّ َأوْلَى بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ
نفسه ،فالرسول أولى به من نفسه ،لنه عليه الصلة والسلم ،بذل لهم من النصح ،والشفقة،
والرأفة ،ما كان به أرحم الخلق ،وأرأفهم ،فرسول اللّه ،أعظم الخلق مِنّةً عليهم ،من كل أحد ،فإنه
لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ،ول اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ،إل على يديه وبسببه.
فلذلك ،وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ،أو مراد أحد من الناس ،مع مراد الرسول ،أن يقدم
مراد الرسول ،وأن ل يعارض قول الرسول ،بقول أحد ،كائنًا من كان ،وأن يفدوه بأنفسهم
وأموالهم وأولدهم ،ويقدموا محبته على الخلق كلهم ،وأل يقولوا حتى يقول ،ول يتقدموا بين يديه.
وهو صلى اللّه عليه وسلم ،أب للمؤمنين ،كما في قراءة بعض الصحابة ،يربيهم كما يربي الوالد
أولده.
فترتب على هذه البوة ،أن كان نساؤه أمهاتهم ،أي :في الحرمة والحترام ،والكرام ،ل في
الخلوة والمحرمية ،وكأن هذا مقدمة ،لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ،الذي كان قبل ُيدْعَى:
حمّدٌ أَبَا َأحَدٍ مِنْ ِرجَاِلكُمْ } فقطع نسبه ،وانتسابه منه،
"زيد بن محمد" حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ ُم َ
فأخبر في هذه الية ،أن المؤمنين كلهم ،أولد للرسول ،فل مزية لحد عن أحد وإن انقطع عن
أحدهم انتساب الدعوة ،فإن النسب اليماني لم ينقطع عنه ،فل يحزن ول يأسف.
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ،أنهن ل يحللن لحد من بعده ،كما ال صرح
بذلك" :وَلَا أَنْ تَ ْنكِحُوا أَ ْزوَاجَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ أَبَدًا"
والدعياء الذين كانوا من قبل ،يرثون بهذه السباب ،دون ذوي الرحام ،فقطع تعالى ،التوارث
بذلك ،وجعله للقارب ،لطفًا منه وحكمة ،فإن المر لو استمر على العادة السابقة ،لحصل من
الفساد والشر ،والتحيل لحرمان القارب من الميراث ،شيء كثير.
ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ } أي :سواء كان القارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ،فإن
{ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
ذوي الرحام مقدمون في ذلك ،وهذه الية حجة على ولية ذوي الرحام ،في جميع الوليات،
كولية النكاح ،والمال ،وغير ذلك.
{ إِلّا أَنْ َت ْفعَلُوا إِلَى َأوْلِيَا ِئكُمْ َمعْرُوفًا } أي :ليس لهم حق مفروض ،وإنما هو بإرادتكم ،إن شئتم أن
سطُورًا }
تتبرعوا لهم تبرعًا ،وتعطوهم معروفًا منكم { ،كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي ا ْلكِتَابِ مَ ْ
أي :قد سطر ،وكتب ،وقدره اللّه ،فل بد من نفوذه.
وسيسأل اللّه النبياء وأتباعهم ،عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه ،وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟
ل صَ َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَ ْيهِ }
أم كفروا ،فيعذبهم العذاب الليم؟ قال تعالى { :مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِرجَا ٌ
{ { } 11 - 9يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ جَاءَ ْتكُمْ جُنُودٌ فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا
سفَلَ مِ ْنكُ ْم وَإِذْ
وَجُنُودًا َلمْ تَ َروْهَا َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرًا * ِإذْ جَاءُوكُمْ مِنْ َف ْو ِقكُمْ َومِنْ َأ ْ
غتِ الْأَ ْبصَا ُر وَبََلغَتِ ا ْلقُلُوبُ الْحَنَاجِ َر وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ * هُنَاِلكَ ابُْتِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زَا َ
شدِيدًا }
زِلْزَالًا َ
يذكر تعالى عباده المؤمنين ،نعمته عليهم ،ويحثهم على شكرها ،حين جاءتهم جنود أهل مكة
والحجاز ،من فوقهم ،وأهل نجد ،من أسفل منهم ،وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول
والصحابة ،وذلك في وقعة الخندق.
ومالتهم [طوائف] اليهود ،الذين حوالي المدينة ،فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة.
وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،على المدينة ،فحصروا المدينة ،واشتد المر ،وبلغت
القلوب الحناجر ،حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ،لما رأوا من السباب المستحكمة،
والشدائد الشديدة ،فلم يزل الحصار على المدينة ،مدة طويلة ،والمر كما وصف اللّه { :وَإِذْ
غتِ الْأَ ْبصَا ُر وَبََلغَتِ ا ْلقُلُوبُ الْحَنَاجِ َر وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ } أي :الظنون السيئة ،أن اللّه ل
زَا َ
ينصر دينه ،ول يتم كلمته.
{ هُنَاِلكَ ابْتُِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } بالخوف والقلق ،والجوع،
ليتبين إيمانهم ،ويزيد إيقانهم ،فظهر -وللّه الحمد -من إيمانهم ،وشدة يقينهم ،ما فاقوا فيه الولين
والخرين.
وعندما اشتد الكرب ،وتفاقمت الشدائد ،صار إيمانهم عين اليقين { ،وََلمّا رَأَى ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الْأَحْزَابَ
قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُ ُه َوصَدَقَ اللّ ُه وَرَسُولُ ُه َومَا زَا َدهُمْ إِلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }
وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة ،ل يثبت إيمانه ،وينظر بعقله القاصر ،إلى الحالة القاصرة
ويصدق ظنه.
{ وَإِذْ قَاَلتْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ } من المنافقين ،بعد ما جزعوا وقلّ صبرهم ،وصاروا أيضًا من
المخذولين ،فل صبروا بأنفسهم ،ول تركوا الناس من شرهم ،فقالت هذه الطائفة { :يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ }
يريدون { يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية] فيه إشارة إلى أن الدين
والخوة اليمانية ،ليس له في قلوبهم قدر ،وأن الذي حملهم على ذلك ،مجرد الخور الطبيعي.
{ يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ لَا ُمقَامَ َلكُمْ } أي :في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة ،وكانوا عسكروا
جعُوا } إلى المدينة ،فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد ،وتبين أنهم
دون الخندق ،وخارج المدينة { ،فَا ْر ِ
ل قوة لهم بقتال عدوهم ،ويأمرونهم بترك القتال ،فهذه الطائفة ،شر الطوائف وأضرها ،وطائفة
أخرى دونهم ،أصابهم الجبن والجزع ،وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف ،فجعلوا يعتذرون
عوْ َرةٌ }
بالعذار الباطلة ،وهم الذين قال اللّه فيهم { :وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمُ النّ ِبيّ َيقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا َ
أي :عليها الخطر ،ونخاف عليها أن يهجم عليها العداء ،ونحن غُ ّيبٌ عنها ،فَأْذَنْ لنا نرجع إليها،
فنحرسها ،وهم كذبة في ذلك.
{ َومَا ِهيَ ِب َعوْ َرةٍ إِنْ يُرِيدُونَ } أي :ما قصدهم { إِلّا فِرَارًا } ولكن جعلوا هذا الكلم ،وسيلة
وعذرًا[ .لهم] فهؤلء قل إيمانهم ،وليس له ثبوت عند اشتداد المحن.
{ وََلوْ ُدخَِلتْ عَلَ ْيهِمْ } المدينة { مِنْ َأ ْقطَارِهَا } أي :لو دخل الكفار إليها من نواحيها ،واستولوا
عليها -ل كان ذلك { -ثُمّ } سئل هؤلء { ا ْلفِتْنَة } أي :النقلب عن دينهم ،والرجوع إلى دين
المستولين المتغلبين { لَآ َتوْهَا } أي :لعطوها مبادرين.
{ َومَا تَلَبّثُوا ِبهَا إِلّا َيسِيرًا } أي :ليس لهم منعة ول تَصّلبٌ على الدين ،بل بمجرد ما تكون الدولة
للعداء ،يعطونهم ما طلبوا ،ويوافقونهم على كفرهم ،هذه حالهم.
{ ُقلْ } لهم ،لئمًا على فرارهم ،ومخبرًا أنهم ل يفيدهم ذلك شيئًا { لَنْ يَ ْن َف َعكُمُ ا ْلفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ
ا ْل َم ْوتِ َأوِ ا ْلقَ ْتلِ } فلو كنتم في بيوتكم ،لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم.
والسباب تنفع ،إذا لم يعارضها القضاء والقدر ،فإذا جاء القضاء والقدر ،تلشى كل سبب،
وبطلت كل وسيلة ،ظنها النسان تنجيه.
{ وَإِذَا } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ،ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لَا ُتمَ ّتعُونَ إِلّا قَلِيلًا }
متاعًا ،ل يسوى فراركم ،وترككم أمر اللّه ،وتفويتكم على أنفسكم ،التمتع البدي ،في النعيم
السرمدي.
ثم بين أن السباب كلها ل تغني عن العبد شيئًا إذا أراده اللّه بسوء ،فقالُ { :قلْ مَنْ ذَا الّذِي
حمَةً } فإنه هو
صمُكُمْ } أي :يمنعكم { من اللّهِ إِنْ أَرَادَ ِبكُمْ سُوءًا } أي :شرًاَ { ،أوْ أَرَادَ ِبكُمْ َر ْ
َي ْع ِ
المعطي المانع ،الضار النافع ،الذي ل يأتي بالخير إل هو ،ول يدفع السوء إل هو.
{ وَلَا َيجِدُونَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا } يتولهم ،فيجلب لهم النفع { وَلَا َنصِيرًا } أي ينصرهم،
فيدفع عنهم المضار.
فَلْ َيمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالمور كلها ،الذي نفذت مشيئته ،ومضى قدره ،ولم ينفع مع ترك وليته
ي ول ناصر.
ونصرته ،وَلِ ّ
ثم توّعد تعالى المخذلين المعوقين ،وتهددهم فقال { :قَدْ َيعَْلمُ اللّهُ ا ْل ُم َعوّقِينَ مِ ْنكُمْ } عن الخروج،
خوَا ِنهِمْ } الذين خرجوا { :هَلُمّ إِلَيْنَا } أي :ارجعوا ،كما تقدم من
لمن [لم] يخرجوا { وَا ْلقَائِلِينَ لِإِ ْ
جعُوا }
قولهم { :يَا أَ ْهلَ يَثْ ِربَ لَا ُمقَامَ َلكُمْ فَا ْر ِ
وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } أي :القتال والجهاد بأنفسهم { إِلّا قَلِيلًا } فهم أشد
الناس حرصًا على التخلف ،لعدم الداعي لذلك ،من اليمان والصبر ،ووجود المقتضى للجبن ،من
النفاق ،وعدم اليمان.
{ َأشِحّةً عَلَ ْيكُمْ } بأبدانهم عند القتال ،وبأموالهم عند النفقة فيه ،فل يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.
خوْفُ رَأَيْ َتهُمْ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ا ْل َم ْوتِ } من شدة الجبن ،الذي
{ فَِإذَا جَاءَ ا ْل َ
خلع قلوبهم ،والقلق الذي أذهلهم ،وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون ،من القتال.
خ ْوفُ } وصاروا في حال المن والطمأنينة { ،سََلقُوكُمْ بِأَلْسِنَة } أي :خاطبوكم،
{ فَِإذَا َذ َهبَ الْ َ
وتكلموا معكم ،بكلم حديد ،ودعاوى غير صحيحة.
علَى
{ أُولَ ِئكَ } الذين بتلك الحالة { َلمْ ُي ْؤمِنُوا } بسبب عدم إيمانهم ،أحبط ال أعمالهمَ { ،وكَانَ ذَِلكَ َ
اللّهِ َيسِيرًا }
وأما المؤمنون ،فقد وقاهم اللّه ،شح أنفسهم ،ووفقهم لبذل ما أمروا به ،من بذل لبدانهم في القتال
في سبيله ،وإعلء كلمته ،وأموالهم ،للنفقة في طرق الخير ،وجاههم وعلمهم.
{ َيحْسَبُونَ الَْأحْزَابَ لَمْ َيذْهَبُوا } أي :يظنون أن هؤلء الحزاب ،الذين تحزبوا على حرب رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،وأصحابه ،لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ،فخاب ظنهم ،وبطل حسبانهم.
{ وَإِنْ يَ ْأتِ الَْأحْزَابُ } مرة أخرى { َيوَدّوا َلوْ أَ ّن ُهمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَا ِئكُمْ } أي:
لو أتى الحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ،ودّ هؤلء المنافقون ،أنهم ليسوا في المدينة ،ول في
القرب منها ،وأنهم مع العراب في البادية ،يستخبرون عن أخباركم ،ويسألون عن أنبائكم ،ماذا
حصل عليكم؟
فتبًا لهم ،وبعدًا ،فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وََلوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا ِإلّا قَلِيلًا } فل تبالوهم،
ول تأسوا عليهم.
س َوةٌ حَسَ َنةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ،وباشر موقف
{ َلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ
الحرب ،وهو الشريف الكامل ،والبطل الباسل ،فكيف تشحون بأنفسكم ،عن أمر جاد رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم ،بنفسه فيه؟"
واستدل الصوليون في هذه الية ،على الحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،وأن
الصل ،أن أمته أسوته في الحكام ،إل ما دل الدليل الشرعي على الختصاص به.
وأما السوة بغيره ،إذا خالفه ،فهو السوة السيئة ،كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسّي ]بهم[
{ إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى آثَارِهِمْ ُمهْ َتدُونَ }
وهذه السوة الحسنة ،إنما يسلكها ويوفق لها ،من كان يرجو اللّه ،واليوم الخر ،فإن ما معه من
اليمان ،وخوف اللّه ،ورجاء ثوابه ،وخوف عقابه ،يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه
وسلم.
لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف ،ذكر حال المؤمنين فقال { :وََلمّا رَأَى ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الَْأحْزَابَ }
الذين تحزبوا ،ونزلوا منازلهم ،وانتهى الخوف { ،قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله { :أَمْ
حسِبْتُمْ أَنْ َتدْخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا حَتّى
َ
ل وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }
َيقُولَ الرّسُو ُ
{ َوصَ َدقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا ،ما أخبرنا به { َومَا زَا َدهُمْ } ذلك المر { إِلّا إِيمَانًا } في قلوبهم
{ وَتَسْلِيمًا } في جوارحهم ،وانقيادًا لمر اللّه.
ولما ذكر أن المنافقين ،عاهدوا اللّه ،ل يولون الدبار ،ونقضوا ذلك العهد ،ذكر وفاء المؤمنين به،
ل صَ َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ } أي :وفوا به ،وأتموه ،وأكملوه ،فبذلوا مهجهم
فقال { :مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ رِجَا ٌ
في مرضاته ،وسبّلوا أنفسهم في طاعته.
{ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َقضَى نَحْ َبهُ } أي :إرادته ومطلوبه ،وما عليه من الحق ،فقتل في سبيل اللّه ،أو مات
مؤديًا لحقه ،لم ينقصه شيئًُا.
{ َومِ ْنهُمْ مَنْ يَنْ َتظِرُ } تكميل ما عليه ،فهو شارع في قضاء ما عليه ،ووفاء نحبه ولما يكمله ،وهو
في رجاء تكميله ،ساع في ذلك ،مجد.
{ َومَا بَدّلُوا تَ ْبدِيلًا } كما بدل غيرهم ،بل لم يزالوا على العهد ،ل يلوون ،ول يتغيرون ،فهؤلء،
الرجال على الحقيقة ،ومن عداهم ،فصورهم صور رجال ،وأما الصفات ،فقد قصرت عن
صفات الرجال.
{ لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ الصّا ِدقِينَ ِبصِ ْد ِقهِمْ } أي :بسبب صدقهم ،في أقوالهم ،وأحوالهم ،ومعاملتهم مع اللّه،
ن صِ ْد ُق ُهمْ َلهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ
واستواء ظاهرهم وباطنهم ،قال اللّه تعالى { :هَذَا َيوْمُ يَ ْنفَعُ الصّا ِدقِي َ
تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } الية.
أي :قدرنا ما قدرنا ،من هذه الفتن والمحن ،والزلزل ،ليتبين الصادق من الكاذب ،فيجزي
الصادقين بصدقهم { وَ ُيعَ ّذبَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم ،عند حلول الفتن ،ولم يفوا
بما عاهدوا اللّه عليه.
{ إِنْ شَاءَ } تعذيبهم ،بأن لم يشأ هدايتهم ،بل علم أنهم ل خير فيهم ،فلم يوفقهم.
{ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والنابة ،وهذا هو الغالب ،على كرم الكريم ،ولهذا ختم الية
غفُورًا رحيمًا } غفورًا
باسمين دالين على المغفرة ،والفضل ،والحسان فقال { :إِنّ اللّهَ كَانَ َ
لذنوب المسرفين على أنفسهم ،ولو أكثروا من العصيان ،إذا أتوا بالمتابَ { .رحِيمًا } بهم ،حيث
وفقهم للتوبة ،ثم قبلها منهم ،وستر عليهم ما اجترحوه.
ظهِمْ َلمْ يَنَالُوا خَيْرًا } أي :ردهم خائبين ،لم يحصل لهم المر الذي
{ وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ َكفَرُوا ِبغَ ْي ِ
كانوا حنقين عليه ،مغتاظين قادرين ]عليه[ جازمين ،بأن لهم الدائرة ،قد غرتهم جموعهم،
وأعجبوا بتحزبهم ،وفرحوا ِبعَدَدِهمْ وعُ َددِهِمْ.
فأرسل اللّه عليهم ،ريحًا عظيمة ،وهي ريح الصبا ،فزعزعت مراكزهم ،وقوّضت خيامهم،
وكفأت قدورهم وأزعجتهم ،وضربهم اللّه بالرعب ،فانصرفوا بغيظهم ،وهذا من نصر اللّه لعباده
المؤمنين.
{ َو َكفَى اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ا ْلقِتَالَ } بما صنع لهم من السباب العادية والقدريةَ { ،وكَانَ اللّهُ َقوِيّا عَزِيزًا
} ل يغالبه أحد إل غُِلبَ ،ول يستنصره أحد إل غََلبَ ،ول يعجزه أمر أراده ،ول ينفع أهل القوة
والعزة ،قوتهم وعزتهم ،إن لم يعنهم بقوته وعزته.
ن صَيَاصِيهِمْ } أي:
{ وَأَنْ َزلَ الّذِينَ ظَاهَرُو ُهمْ } أي عاونوهم { مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } أي :اليهود { مِ ْ
أنزلهم من حصونهم ،نزولً مظفورًا بهم ،مجعولين تحت حكم السلم.
عبَ } فلم يقووا على القتال ،بل استسلموا وخضعوا وذلوا { .فَرِيقًا َتقْتُلُونَ }
{ َوقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ
وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان.
ضهُ ْم وَدِيَارَ ُه ْم وََأ ْموَاَلهُ ْم وَأَ ْرضًا لَمْ َتطَئُوهَا } أي :أرضا كانت من
{ وََأوْرَ َثكُمْ } أي :غنّمكم { أَ ْر َ
قبل ،من شرفها وعزتها عند أهلها ،ل تتمكنون من وطئها ،فمكنكم اللّه وخذلهم ،وغنمتم أموالهم،
وقتلتموهم ،وأسرتموهم.
وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب ،هم بنو قريظة من اليهود ،في قرية خارج المدينة ،غير
بعيدة ،وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم[ ،حين] هاجر إلى المدينة ،وادعهم ،وهادنهم ،فلم يقاتلهم
ولم يقاتلوه ،وهم باقون على دينهم ،لم يغير عليهم شيئًا.
فلما رأوا يوم الخندق ،الحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم ،وقلة المسلمين ،وظنوا
أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين ،وساعد على ذلك[ ،تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم ،فنقضوا
العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،ومالؤوا المشركين على قتاله.
فلما خذل اللّه المشركين ،تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،لقتالهم ،فحاصرهم في حصنهم،
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه ،فحكم فيهم ،أن تقتل مقاتلتهم ،وتسبى ذراريهم،
وتغنم أموالهم.
فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين ،المنة ،وأسبغ عليهم النعمة ،وَأقَرّ أعينهم ،بخذلن من انخذل من
أعدائهم ،وقتل من قتلوا ،وأسر من أسروا ،ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمرًا.
جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا فَ َتعَالَيْنَ ُأمَ ّت ْعكُنّ
{ { } 29 - 28يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ لِأَ ْزوَا ِ
جمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِ َرةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ ِل ْلمُحْسِنَاتِ
حكُنّ سَرَاحًا َ
وَأُسَرّ ْ
عظِيمًا }
مِ ْنكُنّ أَجْرًا َ
لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة ،وطلبن منه النفقة والكسوة ،طلبن منه
أمرًا ل يقدر عليه في كل وقت ،ولم يزلن في طلبهن متفقات ،في مرادهن متعنتات ،شَقّ ذلك على
الرسول ،حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا.
فأراد اللّه أن يسهل المر على رسوله ،وأن يرفع درجة زوجاته ،ويُذْ ِهبَ عنهن كل أمر ينقص
جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا }
أجرهن ،فأمر رسوله أن يخيرهن فقال { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ لِأَ ْزوَا ِ
أي :ليس لكن في غيرها مطلب ،وصرتن ترضين لوجودها ،وتغضبن لفقدها ،فليس لي فيكن
أرب وحاجة ،وأنتن بهذه الحال.
جمِيلًا } من
حكُنّ } أي :أفارقكن { سَرَاحًا َ
{ فَ َتعَالَيْنَ ُأمَ ّت ْعكُنّ } شيئا مما عندي ،من الدنيا { وَأُسَرّ ْ
دون مغاضبة ول مشاتمة ،بل بسعة صدر ،وانشراح بال ،قبل أن تبلغ الحال إلى ما ل ينبغي.
{ وَإِنْ كُنْتُنّ تُ ِردْنَ اللّهَ وَرَسُولَ ُه وَالدّارَ الْآخِ َرةَ } أي :هذه الشياء مرادكن ،وغاية مقصودكن ،وإذا
حصل َلكُنّ اللّه ورسوله والجنة ،لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها ،ويسرها وعسرها ،وقنعتن من
عظِيمًا }
حسِنَاتِ مِ ْنكُنّ َأجْرًا َ
عدّ لِ ْلمُ ْ
رسول اللّه بما تيسر ،ولم تطلبن منه ما يشق عليه { ،فَإِنّ اللّهَ أَ َ
رتب الجر على وصفهن بالحسان ،لنه السبب الموجب لذلك ،ل لكونهن زوجات للرسول فإن
مجرد ذلك ،ل يكفي ،بل ل يفيد شيئًا ،مع عدم الحسان ،فخيّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم في ذلك ،فاخترن اللّه ورسوله ،والدار الخرة ،كلهن ،ولم يتخلف منهن واحدة ،رضي اللّه
عنهن.
منها :العتناء برسوله ،وغيرته عليه ،أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
ومنها :سلمته صلى اللّه عليه وسلم ،بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات ،وأنه يبقى في حرية
نفسه ،إن شاء أعطى ،وإن شاء منع { مَا كَانَ عَلَى النّ ِبيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَ َرضَ اللّهُ لَهُ }
ومنها :تنزيهه عما لو كان فيهن ،من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله ،والدار الخرة ،وعن
مقارنتها.
ومنها :سلمة زوجاته ،رضي اللّه عنهن ،عن الثم ،والتعرض لسخط اللّه ورسوله.
فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن ،التسخط على الرسول ،الموجب لسخطه ،المسخط لربه ،الموجب
لعقابه.
ومنها :إظهار رفعتهن ،وعلو درجتهن ،وبيان علو هممهن ،أن كان اللّه ورسوله والدار الخرة،
مرادهن ومقصودهن ،دون الدنيا وحطامها.
ومنها :استعدادهن بهذا الختيار ،للمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة ،وأن َيكُنّ
زوجاته في الدنيا والخرة.
ومنها :ظهور المناسبة بينه وبينهن ،فإنه أكمل الخلق ،وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملت
ن وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ }
مكملت ،طيبات مطيبات { وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ
ومنها :أن هذا التخيير داع ،وموجب للقناعة ،التي يطمئن لها القلب ،وينشرح لها الصدر ،ويزول
عنهن جشع الحرص ،وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه ،وهمه وغمه.
ومنها :أن يكون اختيارهن هذا ،سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته ،وأن َيكُنّ بمرتبة ،ليس فيها أحد
من النساء ،ولهذا قال:
ن َوكَانَ
ضعْفَيْ ِ
ب ِ
عفْ َلهَا ا ْلعَذَا ُ
{ { } 31 - 30يَا ِنسَاءَ النّ ِبيّ مَنْ يَ ْأتِ مِ ْنكُنّ ِبفَاحِشَةٍ مُبَيّ َنةٍ ُيضَا َ
ن وَأَعْ َتدْنَا َلهَا
ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * َومَنْ َيقْ ُنتْ مِ ْنكُنّ لِلّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ َت ْع َملْ صَاِلحًا ُنؤْ ِتهَا أَجْرَهَا مَرّتَيْ ِ
رِ ْزقًا كَرِيمًا }
لما اخترن اللّه ورسوله والدار الخرة ،ذكر مضاعفة أجرهن ،ومضاعفة وزرهن وإثمهن ،لو
جرى منهن ،ليزداد حذرهن ،وشكرهن اللّه تعالى ،فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة ،لها
العذاب ضعفين.
{ َومَنْ َيقْ ُنتْ مِ ْنكُنّ } أي :تطيع { لِلّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ َت ْع َملْ صَاِلحًا } قليل أو كثيرًاُ { ،نؤْ ِتهَا أَجْرَهَا
مَرّتَيْنِ } أي :مثل ما نعطي غيرها مرتين { ،وَأَعْتَدْنَا َلهَا رِ ْزقًا كَرِيمًا } وهي الجنة ،فقنتن للّه
ورسوله ،وعملن صالحًا ،فعلم بذلك أجرهن.
طمَعَ الّذِي
ضعْنَ بِا ْل َقوْلِ فَيَ ْ
خ َ
{ { } 34 - 32يَا ِنسَاءَ النّ ِبيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ ا ّتقَيْتُنّ فَلَا تَ ْ
ن وَلَا تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الْأُولَى وََأ ِقمْنَ
فِي قَلْ ِبهِ مَ َرضٌ َوقُلْنَ َقوْلًا َمعْرُوفًا * َوقَرْنَ فِي بُيُو ِتكُ ّ
طهّ َركُمْ
ت وَيُ َ
جسَ أَ ْهلَ الْبَ ْي ِ
طعْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُ ْذ ِهبَ عَ ْن ُكمُ الرّ ْ
الصّلَاةَ وآتِينَ ال ّزكَا َة وَأَ ِ
ح ْكمَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ َلطِيفًا خَبِيرًا }
طهِيرًا * وَا ْذكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُو ِتكُنّ مِنْ آيَاتِ اللّ ِه وَالْ ِ
تَ ْ
يقول تعالى { :يَا نِسَاءَ النّ ِبيّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنّ كََأحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ ا ّتقَيْتُنّ } اللّه ،فإنكن
بذلك ،تفقن النساء ،ول يلحقكن أحد من النساء ،فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها.
بخلف مريض القلب ،الذي ل يتحمل ما يتحمل الصحيح ،ول يصبر على ما يصبر عليه ،فأدنى
سبب يوجد ،يدعوه إلى الحرام ،يجيب دعوته ،ول يتعاصى عليه ،فهذا دليل على أن الوسائل ،لها
أحكام المقاصد .فإن الخضوع بالقول ،واللين فيه ،في الصل مباح ،ولكن لما كان وسيلة إلى
المحرم ،منع منه ،ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ،أن ل تلِينَ لهم القول.
ولما نهاهن عن الخضوع في القول ،فربما توهم أنهن مأمورات بإغلظ القول ،دفع هذا بقوله:
{ َوقُلْنَ َقوْلًا َمعْرُوفًا } أي :غير غليظ ،ول جاف كما أنه ليس بِلَيّنٍ خاضع.
ضعْنَ بِا ْل َق ْولِ } ولم يقل { :فل تَلِنّ بالقول } وذلك لن المنهي عنه ،القول
خ َ
وتأمل كيف قال { :فَلَا تَ ْ
اللين ،الذي فيه خضوع المرأة للرجل ،وانكسارها عنده ،والخاضع ،هو الذي يطمع فيه ،بخلف
من تكلم كلمًا لينًا ،ليس فيه خضوع ،بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم ،فإن هذا ،ل يطمع
حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َل ُهمْ } وقال لموسى
فيه خصمه ،ولهذا مدح اللّه رسوله باللين ،فقال { :فَ ِبمَا رَ ْ
خشَى }
طغَى َفقُولَا َلهُ َقوْلًا لَيّنًا َلعَلّهُ يَتَ َذكّرُ َأوْ يَ ْ
عوْنَ إِنّهُ َ
وهارون { :ا ْذهَبَا إِلَى فِرْ َ
طمَعَ الّذِي فِي قَلْ ِبهِ مَ َرضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم،
ودل قوله { :فَ َي ْ
والحافظات ،ونهيه عن قربان الزنا ،أنه ينبغي للعبد ،إذا رأى من نفسه هذه الحالة ،وأنه يهش
لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلم من يهواه ،ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام،
فَلْ َيعْ ِرفْ أن ذلك مرض.
فَلْيَجْ َتهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية ،ومجاهدة نفسه على سلمتها من هذا
المرض الخطر ،وسؤال اللّه العصمة والتوفيق ،وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.
{ َوقَرْنَ فِي بُيُو ِتكُنّ } أي :اقررن فيها ،لنه أسلم وأحفظ َلكُنّ { ،وَلَا تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَا ِهلِيّةِ
الْأُولَى } أي :ل تكثرن الخروج متجملت أو متطيبات ،كعادة أهل الجاهلية الولى ،الذين ل علم
عندهم ول دين ،فكل هذا دفع للشر وأسبابه.
ولما أمرهن بالتقوى عمومًا ،وبجزئيات من التقوى ،نص عليها [لحاجة] النساء إليها ،كذلك
أمرهن بالطاعة ،خصوصًا الصلة والزكاة ،اللتان يحتاجهما ،ويضطر إليهما كل أحد ،وهما أكبر
العبادات ،وأجل الطاعات ،وفي الصلة ،الخلص للمعبود ،وفي الزكاة ،الحسان إلى العبيد.
طعْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله ،كل أمر،
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا ،فقال { :وَأَ ِ
ُأمِرَا به أمر إيجاب أو استحباب.
جسَ } أي:
{ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ } بأمركن بما َأمَ َركُنّ به ،ونهيكن بما نهاكُنّ عنه { ،لِيُ ْذ ِهبَ عَ ْن ُكمُ الرّ ْ
طهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين.
طهّ َركُمْ َت ْ
ت وَيُ َ
الذى ،والشر ،والخبث ،يا { أَ ْهلَ الْبَ ْي ِ
أي :فاحمدوا ربكم ،واشكروه على هذه الوامر والنواهي ،التي أخبركم بمصلحتها ،وأنها محض
مصلحتكم ،لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ول مشقة ،بل لتتزكى نفوسكم ،ولتتطهر
أخلقكم ،وتحسن أعمالكم ،ويعظم بذلك أجركم.
ولما أمرهن بالعمل ،الذي هو فعل وترك ،أمرهن بالعلم ،وبين لهن طريقه ،فقال { :وَا ْذكُرْنَ مَا
ح ْكمَةِ } والمراد بآيات اللّه ،القرآن .والحكمة ،أسراره .وسنة
يُتْلَى فِي بُيُو ِتكُنّ مِنْ آيَاتِ اللّ ِه وَالْ ِ
رسوله .وأمرهن بذكره ،يشمل ذكر لفظه ،بتلوته ،وذكر معناه ،بتدبره والتفكر فيه ،واستخراج
أحكامه وحكمه ،وذكر العمل به وتأويله { .إِنّ اللّهَ كَانَ َلطِيفًا خَبِيرًا } يدرك أسرار المور،
وخفايا الصدور ،وخبايا السماوات والرض ،والعمال التي تبين وتسر.
فلطفه وخبرته ،يقتضي حثهن على الخلص وإسرار العمال ،ومجازاة اللّه على تلك العمال.
ومن معاني { اللطيف } الذي يسوق عبده إلى الخير ،ويعصمه من الشر ،بطرق خفية ل يشعر
بها ،ويسوق إليه من الرزق ،ما ل يدريه ،ويريه من السباب ،التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك
طريقا [له] إلى أعلى الدرجات ،وأرفع المنازل.
ت وَالصّا ِدقِينَ
ن وَا ْلقَانِتَا ِ
ت وَا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ وَا ْلقَانِتِي َ
ن وَا ْلمُسِْلمَا ِ
{ { } 35إِنّ ا ْلمُسِْلمِي َ
ت وَا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ وَا ْلمُ َتصَ ّدقَاتِ وَالصّا ِئمِينَ
شعَا ِ
ن وَا ْلخَا ِ
شعِي َ
ت وَالْخَا ِ
ن وَالصّابِرَا ِ
وَالصّا ِدقَاتِ وَالصّابِرِي َ
عدّ اللّهُ َلهُمْ َم ْغفِ َرةً
ت وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيرًا وَالذّاكِرَاتِ أَ َ
جهُ ْم وَا ْلحَافِظَا ِ
ت وَالْحَا ِفظِينَ فُرُو َ
وَالصّا ِئمَا ِ
عظِيمًا }
وَأَجْرًا َ
لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،وعقابهن [لو قدر عدم المتثال] وأنه
ليس مثلهن أحد من النساء ،ذكر بقية النساء غيرهن.
سِلمَاتِ } وهذا
ن وَا ْلمُ ْ
ولما كان حكمهن والرجال واحدًا ،جعل الحكم مشتركًا ،فقال { :إِنّ ا ْلمُسِْلمِي َ
في الشرائع الظاهرة ،إذا كانوا قائمين بها { .وَا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ } وهذا في المور الباطنة ،من
عقائد القلب وأعماله.
{ وَا ْلقَانِتِينَ } أي :المطيعين للّه ولرسوله { وَا ْلقَانِتَاتِ وَالصّا ِدقِينَ } في مقالهم وفعالهم
شعِينَ } في جميع
ت وَالْخَا ِ
{ وَالصّا ِدقَاتِ } { وَالصّابِرِينَ } على الشدائد والمصائب { وَالصّابِرَا ِ
شعَاتِ } { وَا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ } فرضًا
أحوالهم،خصوصًا في عباداتهم ،خصوصًا في صلواتهم { ،وَالْخَا ِ
جهُمْ }
ت وَالصّا ِئمِينَ وَالصّا ِئمَاتِ } شمل ذلك ،الفرض والنفل { .وَالْحَا ِفظِينَ فُرُو َ
ونفلً { وَا ْلمُ َتصَ ّدقَا ِ
عن الزنا ومقدماته { ،وَا ْلحَافِظَاتِ } { وَالذّاكِرِينَ اللّهَ [كَثِيرًا } أي ]:في أكثر الوقات ،خصوصًا
أوقات الوراد المقيدة ،كالصباح والمساء ،وأدبار الصلوات المكتوبات { وَالذّاكِرَاتِ }
عدّ اللّهُ َلهُمْ } أي :لهؤلء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة ،والمناقب الجليلة ،التي هي ،ما
{ أَ َ
بين اعتقادات ،وأعمال قلوب ،وأعمال جوارح ،وأقوال لسان ،ونفع متعد وقاصر ،وما بين أفعال
الخير ،وترك الشر ،الذي من قام بهن ،فقد قام بالدين كله ،ظاهره وباطنه ،بالسلم واليمان
والحسان.
عظِيمًا } ل
فجازاهم على عملهم { بِا ْل َم ْغفِرَةً } لذنوبهم ،لن الحسنات يذهبن السيئات { .وَأَجْرًا َ
يقدر قدره ،إل الذي أعطاه ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر ،نسأل
اللّه أن يجعلنا منهم.
ن وَلَا ُم ْؤمِنَةٍ إِذَا َقضَى اللّ ُه وَرَسُوُلهُ َأمْرًا أَنْ َيكُونَ َلهُمُ ا ْلخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِ ِهمْ
{ َ { }ْ 36ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِ ٍ
ل ضَلَالًا مُبِينًا ْ}
ضَّومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ َفقَ ْد َ
أي :ل ينبغي ول يليق ،ممن اتصف باليمان ،إل السراع في مرضاة اللّه ورسوله ،والهرب من
سخط اللّه ورسوله ،وامتثال أمرهما ،واجتناب نهيهما ،فل يليق بمؤمن ول مؤمنة { ِإذَا َقضَى اللّهُ
وَرَسُولُهُ َأمْرًا ْ} من المور ،وحتّما به وألزما به { أَنْ َيكُونَ َلهُمُ ا ْلخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِ ِهمْ ْ} أي :الخيار،
هل يفعلونه أم ل؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة ،أن الرسول أولى به من نفسه ،فل يجعل بعض
أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر اللّه ورسوله.
ضلّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ} أي :بَيّنًا ،لنه ترك الصراط المستقيم الموصلة
{ َومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُوَلهُ َفقَ ْد َ
إلى كرامة اللّه ،إلى غيرها ،من الطرق الموصلة للعذاب الليم ،فذكر أولً السبب الموجب لعدم
معارضته أمر اللّه ورسوله ،وهو اليمان ،ثم ذكر المانع من ذلك ،وهو التخويف بالضلل ،الدال
على العقوبة والنكال.
خفِي فِي
جكَ وَاتّقِ اللّ َه وَتُ ْ
سكْ عَلَ ْيكَ َز ْو َ
{ { }ْ 37وَإِذْ َتقُولُ لِلّذِي أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَيْ ِه وَأَ ْن َع ْمتَ عَلَيْهِ َأمْ ِ
خشَاهُ فََلمّا َقضَى زَيْدٌ مِ ْنهَا َوطَرًا َزوّجْنَا َكهَا ِل َكيْ
س وَاللّهُ َأحَقّ أَنْ تَ ْ
خشَى النّا َ
سكَ مَا اللّهُ مُ ْبدِي ِه وَتَ ْ
َنفْ ِ
ن وَطَرًا َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َم ْفعُولًا ْ}
ضوْا مِ ْنهُ ّ
لَا َيكُونَ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَ ْزوَاجِ أَدْعِيَا ِئهِمْ ِإذَا َق َ
وكان سبب نزول هذه اليات ،أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين ،أن الدعياء
ليسوا في حكم البناء حقيقة ،من جميع الوجوه وأن أزواجهم ،ل جناح على من تبناهم ،في
نكاحهن.
وكان هذا من المور المعتادة ،التي ل تكاد تزول إل بحادث كبير ،فأراد أن يكون هذا الشرع
قولً من رسوله ،وفعلً ،وإذا أراد اللّه أمرًا ،جعل له سببًا ،وكان زيد بن حارثة يدعى "زيد بن
محمد" قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم ،فصار يدعى إليه حتى نزل { ادْعُو ُهمْ لِآبَا ِئهِمْ ْ} فقيل
له" :زيد بن حارثة" .
وكانت تحته ،زينب بنت جحش ،ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،وكان قد وقع في قلب
الرسول ،لو طلقها زيد ،لتزوّجها ،فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد ،ما اقتضى أن جاء زيد بن
حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها.
قال اللّه { :وَإِذْ َتقُولُ لِلّذِي أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ ْ} أي :بالسلم { وَأَ ْن َعمْتَ عَلَيْهِ ْ} بالعتق حين جاءك
سكْ عَلَ ْيكَ
مشاورًا في فراقها :فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته مع وقوعها في قلبكَ { :أ ْم ِ
جكَ ْ} أي :ل تفارقها ،واصبر على ما جاءك منها { ،وَاتّقِ اللّهَ ْ} تعالى في أمورك عامة ،وفي
َزوْ َ
أمر زوجك خاصة ،فإن التقوى ،تحث على الصبر ،وتأمر به.
سكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ ْ} والذي أخفاه ،أنه لو طلقها زيد ،لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم.
خفِي فِي َنفْ ِ
{ وَتُ ْ
ولما كان قولهِ { :ل َكيْ لَا َيكُونَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَ ْزوَاجِ أَدْعِيَا ِئهِمْ ْ} عامًا في جميع الحوال،
وكان من الحوال ،ما ل يجوز ذلك ،وهي قبل انقضاء وطره منها ،قيد ذلك بقوله { :إِذَا َقضَوْا
ن وَطَرًا َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َم ْفعُولًا ْ} أي :ل بد من فعله ،ول عائق له ول مانع.
مِ ْنهُ ّ
وفي هذه اليات المشتملت على هذه القصة ،فوائد ،منها :الثناء على زيد بن حارثة ،وذلك من
وجهين:
أحدهما :أن اللّه سماه في القرآن ،ولم يسم من الصحابة باسمه غيره.
والثاني :أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه ،أي :بنعمة السلم واليمان .وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم
مؤمن ،ظاهرًا وباطنًا ،وإل ،فل وجه لتخصيصه بالنعمة ،لول أن المراد بها ،النعمة الخاصة.
ومنها :أن التعليم الفعلي ،أبلغ من القولي ،خصوصا ،إذا اقترن بالقول ،فإن ذلك ،نور على نور.
ومنها :أن المحبة التي في قلب العبد ،لغير زوجته ومملوكته ،ومحارمه ،إذا لم يقترن بها محذور،
ل يأثم عليها العبد ،ولو اقترن بذلك أمنيته ،أن لو طلقها زوجها ،لتزوجها من غير أن يسعى في
فرقة بينهما ،أو يتسبب بأي سبب كان ،لن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،أخفى ذلك
في نفسه.
ومنها :أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،قد بلغ البلغ المبين ،فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه ،إل
وبلغه ،حتى هذا المر ،الذي فيه عتابه.
وهذا يدل ،على أنه رسول اللّه ،ول يقول إل ما أوحي إليه ،ول يريد تعظيم نفسه.
ومنها :أن المستشار مؤتمن ،يجب عليه -إذا استشير في أمر من المور -أن يشير بما يعلمه
أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس ،فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه.
ومنها :أن من الرأي :الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلح
الحال ،فهو أحسن من الفرقة.
ومنها[ :أنه يتعين] أن يقدم العبد خشية اللّه ،على خشية الناس ،وأنها أحق منها وأولى.
ومنها :فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين ،حيث تولى اللّه تزويجها ،من رسوله صلى اللّه
عليه وسلم ،من دون خطبة ول شهود ،ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم ،وتقول زوجكن أهاليكن ،وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات.
ومنها :أن المرأة ،إذا كانت ذات زوج ،ل يجوز نكاحها ،ول السعي فيه وفي أسبابه ،حتى يقضي
زوجها وطره منها ،ول يقضي وطره ،حتى تنقضي عدتها ،لنها قبل انقضاء عدتها ،هي في
عصمته ،أو في حقه الذي له وطر إليها ،ولو من بعض الوجوه.
{ { }ْ 39 - 38مَا كَانَ عَلَى النّ ِبيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَ َرضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَ ْبلُ
شوْنَ َأحَدًا إِلّا اللّ َه َوكَفَى
خَشوْنَ ُه وَلَا يَ ْ
خََوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َقدَرًا َمقْدُورًا * الّذِينَ يُبَّلغُونَ رِسَالَاتِ اللّ ِه وَيَ ْ
بِاللّهِ حَسِيبًا ْ}
هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،في كثرة أزواجه ،وأنه طعن ،بما ل
مطعن فيه ،فقال { :مَا كَانَ عَلَى النّ ِبيّ مِنْ حَرَجٍ ْ} أي :إثم وذنب { .فِيمَا فَ َرضَ اللّهُ لَهُ ْ} أي :قدر
له من الزوجات ،فإن هذا ،قد أباحه اللّه للنبياء قبله ،ولهذا قال { :سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ
قَ ْبلُ َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ْ} أي :ل بد من وقوعه.
ثم ذكر من هم الذين من قبل قد خلوا ،وهذه سنتهم وعادتهم ،وأنهم { الّذِينَ يُبَّلغُونَ رِسَالَاتِ اللّهِ ْ}
شوْنَهُ ْ} وحده ل شريك
خَفيتلون على العباد آيات اللّه ،وحججه وبراهينه ،ويدعونهم إلى اللّه { وَيَ ْ
شوْنَ َأحَدًا ْ} إل اللّه.
خَله { وَلَا يَ ْ
فإذا كان هذا ،سنة في النبياء المعصومين ،الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها ،أتم القيام ،وهو:
دعوة الخلق إلى اللّه ،والخشية منه وحده التي تقتضي فعل كل مأمور ،وترك كل محظور ،دل
ذلك على أنه ل نقص فيه بوجه.
حسِيبًا ْ} محاسبًا عباده ،مراقبًا أعمالهم .وعلم من هذا ،أن النكاح ،من سنن
{ َو َكفَى بِاللّهِ َ
المرسلين.
شيْءٍ
ن َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
حدٍ مِنْ رِجَاِل ُك ْم وََلكِنْ َرسُولَ اللّ ِه وَخَا َتمَ النّبِيّي َ
حمّدٌ أَبَا أَ َ
{ { }ْ 40مَا كَانَ مُ َ
عَلِيمًا ْ}
حمّدٌ ْ} صلى اللّه عليه وسلم { أَبَا َأحَدٍ مِنْ ِرجَاِلكُمْ ْ} أيها المة فقطع
أي :لم يكن الرسول { مُ َ
انتساب زيد بن حارثة منه ،من هذا الباب.
ولما كان هذا النفي عامّا في جميع الحوال ،إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره ،أي :ل أبوة نسب،
ول أبوة ادعاء ،وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،أب للمؤمنين كلهم،
وأزواجه أمهاتهم ،فاحترز أن يدخل في هذا النوع ،بعموم النهي المذكور ،فقال { :وََلكِنْ رَسُولَ
اللّ ِه َوخَاتَمَ النّبِيّينَ ْ} أي :هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع ،المهتدى به ،المؤمن له الذي يجب
تقديم محبته ،على محبة كل أحد ،الناصح الذي لهم ،أي :للمؤمنين ،من بره [ونصحه] كأنه أب
لهم.
شيْءٍ عَلِيمًا ْ} أي :قد أحاط علمه بجميع الشياء ،ويعلم حيث يجعل رسالته،
{ َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
ومن يصلح لفضله ،ومن ل يصلح.
{ { }ْ 44 - 41يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا اللّهَ ِذكْرًا كَثِيرًا * وَسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا * ُهوَ الّذِي
جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ َوكَانَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَحِيمًا * َْ َتحِيّ ُتهُمْ َيوْمَ
ُيصَلّي عَلَ ْي ُك ْم َومَلَا ِئكَتُهُ لِيُخْ ِر َ
عدّ َلهُمْ َأجْرًا كَرِيمًا }
يَ ْلقَوْنَهُ سَلَا ٌم وَأَ َ
يأمر تعالى المؤمنين ،بذكره ذكرا كثيرًا ،من تهليل ،وتحميد ،وتسبيح ،وتكبير وغير ذلك ،من كل
قول فيه قربة إلى اللّه ،وأقل ذلك ،أن يلزم النسان ،أوراد الصباح ،والمساء ،وأدبار الصلوات
الخمس ،وعند العوارض والسباب.
وينبغي مداومة ذلك ،في جميع الوقات ،على جميع الحوال ،فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل،
وهو مستريح ،وداع إلى محبة اللّه ومعرفته ،وعون على الخير ،وكف اللسان عن الكلم القبيح.
{ وَسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً وََأصِيلًا } أي :أول النهار وآخره ،لفضلها ،وشرفها ،وسهولة العمل فيها.
أي :من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم ،أن جعل من صلته عليهم ،وثنائه ،وصلة ملئكته
ودعائهم ،ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل ،إلى نور اليمان ،والتوفيق ،والعلم ،والعمل،
فهذه أعظم نعمة ،أنعم بها على العباد الطائعين ،تستدعي منهم شكرها ،والكثار من ذكر اللّه،
الذي لطف بهم ورحمهم ،وجعل حملة عرشه ،أفضل الملئكة ،ومن حوله ،يسبحون بحمد ربهم
غفِرْ ِللّذِينَ تَابُوا وَاتّ َبعُوا
حمَ ًة وَعِ ْلمًا فَا ْ
شيْءٍ َر ْ
س ْعتَ ُكلّ َ
ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون { :رَبّنَا وَ ِ
ج ِهمْ
جحِيمِ رَبّنَا وََأدْخِ ْلهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُم َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِ ْم وَأَ ْزوَا ِ
عذَابَ الْ َ
ك َو ِقهِمْ َ
سَبِيَل َ
حمْتَ ُه وَذَِلكَ ُهوَ
ت َومَنْ َتقِي السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ َر ِ
حكِي ُم َو ِقهِمْ السّيّئَا ِ
وَذُرّيّا ِتهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }
وأما رحمته بهم في الخرة ،فأجل رحمة ،وأفضل ثواب ،وهو الفوز برضا ربهم ،وتحيته،
واستماع كلمه الجليل ،ورؤية وجهه الجميل ،وحصول الجر الكبير ،الذي ل يدري ول يعرف
كنهه ،إل من أعطاهم إياه ،ولهذا قال { :تَحِيّ ُت ُهمْ َيوْمَ يَ ْل َقوْنَهُ سَلَا ٌم وَأَعَدّ َلهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }
{ { } 48 - 45يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا َومُبَشّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْ ِن ِه وَسِرَاجًا
ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ وَ َدعْ َأذَا ُهمْ
مُنِيرًا * وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ بِأَنّ َلهُمْ مِنَ اللّهِ َفضْلًا كَبِيرًا * وَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ
وَ َتوَ ّكلْ عَلَى اللّ ِه َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا }
هذه الشياء ،التي وصف ال بها رسوله محمدًا صلى اللّه عليه وسلم ،هي المقصود من رسالته،
وزبدتها وأصولها ،التي اختص بها ،وهي خمسة أشياء :أحدها :كونه { شَا ِهدًا } أي :شاهدًا على
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ
شهَدَاءَ عَلَى النّا ِ
أمته بما عملوه ،من خير وشر ،كما قال تعالى { :لِ َتكُونُوا ُ
شهِيدًا } فهو صلى اللّه
شهِيدٍ وَجِئْنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلَاءِ َ
شهِيدًا } { َفكَ ْيفَ ِإذَا جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ بِ َ
عَلَ ْيكُمْ َ
عليه وسلم شاهد عدل مقبول.
الثاني ،والثالث :كونه { مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر ،وما يبشر به وينذر،
والعمال الموجبة لذلك.
فالمبشّر هم :المؤمنون المتقون ،الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح ،وترك المعاصي ،لهم
البشرى في الحياة الدنيا ،بكل ثواب دنيوي وديني ،رتب على اليمان والتقوى ،وفي الخرى
بالنعيم المقيم.
وذلك كله يستلزم ،ذكر تفصيل المذكور ،من تفاصيل العمال ،وخصال التقوى ،وأنواع الثواب.
والْمنْذَر هم ،هم :المجرمون الظالمون ،أهل الظلم والجهل ،لهم النذارة في الدنيا ،من العقوبات
الدنيوية والدينية ،المترتبة على الجهل والظلم ،وفي الخرى ،بالعقاب الوبيل ،والعذاب الطويل.
وهذه الجملة تفصيلها ،ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم ،من الكتاب والسنة ،المشتمل على ذلك.
الرابع :كونه { دَاعِيًا إِلَى اللّهِ } أي :أرسله اللّه ،يدعو الخلق إلى ربهم ،ويسوقهم لكرامته،
ويأمرهم بعبادته ،التي خلقوا لها ،وذلك يستلزم استقامته ،على ما يدعو إليه ،وذكر تفاصيل ما
يدعو إليه ،بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة ،وتنزيهه عما ل يليق بجلله ،وذكر أنواع العبودية،
والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه ،وإعطاء كل ذي حق حقه ،وإخلص الدعوة إلى اللّه،
ل إلى نفسه وتعظيمها ،كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام ،وذلك كله بِإِذْنِ ال
تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره.
الخامس :كونه { سِرَاجًا مُنِيرًا } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة ،ل نور ،يهتدى به في
ظلماتها ،ول علم ،يستدل به في جهالتها حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم ،فأضاء اللّه به تلك
الظلمات ،وعلم به من الجهالت ،وهدى به ضُلّالًا إلى الصراط المستقيم.
فأصبح أهل الستقامة ،قد وضح لهم الطريق ،فمشوا خلف هذا المام وعرفوا به الخير والشر،
وأهل السعادة من أهل الشقاوة ،واستناروا به ،لمعرفة معبودهم ،وعرفوه بأوصافه الحميدة،
وأفعاله السديدة ،وأحكامه الرشيدة.
وقوله { :وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ بِأَنّ َلهُمْ مِنَ اللّهِ َفضْلًا كَبِيرًا } ذكر في هذه الجملة ،المبشّر ،وهم
المؤمنون ،وعند ذكر اليمان بمفرده ،تدخل فيه العمال الصالحة.
وذكر المبشّر به ،وهو الفضل الكبير ،أي :العظيم الجليل ،الذي ل يقادر قدره ،من النصر في
الدنيا ،وهداية القلوب ،وغفران الذنوب ،وكشف الكروب ،وكثرة الرزاق الدّارّة ،وحصول النعم
السارة ،والفوز برضا ربهم وثوابه ،والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين ،أن يذكر لهم ،من ثواب اللّه على أعمالهم ،ما به يستعينون على سلوك
الصراط المستقيم ،وهذا من جملة حكم الشرع ،كما أن من حكمه ،أن يذكر في مقام الترهيب،
العقوبات المترتبة على ما يرهب منه ،ليكون عونًا على الكف عما حرم اللّه.
ولما كان َثمّ طائفة من الناس ،مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه ،من الرسل وأتباعهم ،وهم
المنافقون ،الذين أظهروا الموافقة في اليمان ،وهم كفرة فجرة في الباطن ،والكفار ظاهرًا وباطنًا،
ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ } أي :في كل أمر
نهى اللّه رسوله عن طاعتهم ،وحذره ذلك فقال { :وَلَا ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ
يصد عن سبيل اللّه ،ولكن ل يقتضي هذا أذاهم[ ،بل ل تطعهم { وَ َدعْ أَذَا ُهمْ } ] فإن ذلك ،جالب
لهم ،وداع إلى قبول السلم ،وإلى كف كثير من أذيتهم له ،ولهله.
{ وَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ } في إتمام أمرك ،وخذلن عدوكَ { ،و َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا } تُو َكلُ إليه المور
المهمة ،فيقوم بها ،ويسهلها على عبده.
{ { } 49يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َن َكحْتُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتِ ثُمّ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُنّ َفمَا َلكُمْ
جمِيلًا }
ن وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا َ
عَلَ ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ َتعْ َتدّو َنهَا َفمَ ّتعُوهُ ّ
يخبر تعالى المؤمنين ،أنهم إذا نكحوا المؤمنات ،ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن ،فليس عليهن في
ذلك ،عدة يعتدها أزواجهن عليهن ،وأمرهم بتمتيعهن بهذه الحالة ،بشيء من متاع الدنيا ،الذي
يكون فيه جبر لخواطرهن ،لجل فراقهن ،وأن يفارقوهن فراقًا جميلً ،من غير مخاصمة ،ول
مشاتمة ،ول مطالبة ،ول غير ذلك.
ويستدل بهذه الية ،على أن الطلق ،ل يكون إل بعد النكاح .فلو طلقها قبل أن ينكحها ،أو علق
طلقها على نكاحها ،لم يقع ،لقوله { :إِذَا َنكَحْتُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتِ ثُمّ طَّلقْ ُتمُوهُنّ } فجعل الطلق بعد
النكاح ،فدل على أنه قبل ذلك ،ل محل له.
وإذا كان الطلق الذي هو فرقة تامة ،وتحريم تام ،ل يقع قبل النكاح ،فالتحريم الناقص ،لظهار،
أو إيلء ونحوه ،من باب أولى وأحرى ،أن ل يقع قبل النكاح ،كما هو أصح َقوْلي العلماء.
ويدل على جواز الطلق ،لن اللّه أخبر به عن المؤمنين ،على وجه لم يلمهم عليه ،ولم يؤنبهم،
مع تصدير الية بخطاب المؤمنين.
وعلى جوازه قبل المسيس ،كما قال في الية الخرى { لَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ
َتمَسّوهُنّ }
وعلى أن المطلقة قبل الدخول ،ل عدة عليها ،بل بمجرد طلقها ،يجوز لها التزوج ،حيث ل مانع،
وعلى أن عليها العدة ،بعد الدخول.
وهل المراد بالدخول والمسيس ،الوطء كما هو مجمع عليه؟ أو وكذلك الخلوة ،ولو لم يحصل
معها وطء ،كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون ،وهو الصحيح .فمن دخل عليها ،وطئها ،أم ل ،إذا
خل بها ،وجب عليها العدة.
وعلى أن المطلقة قبل المسيس ،تمتع على الموسع قدره ،وعلى المقتر قدره ،ولكن هذا ،إذا لم
يفرض لها مهر ،فإن كان لها مهر مفروض ،فإنه إذا طلق قبل الدخول ،تَ َنصّف المهر ،وكفى عن
المتعة ،وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده ،أن يكون الفراق جميلً ،يحمد فيه
كل منهما الخر.
ول يكون غير جميل ،فإن في ذلك ،من الشر المرتب عليه ،من قدح كل منهما بالخر ،شيء
كثير.
وعلى أن العدة حق للزوج ،لقولهَ { :فمَا َل ُكمْ عَلَ ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ } دل مفهومه ،أنه لو طلقها بعد
المسيس ،كان له عليها عدة [وعلى أن المفارقة بالوفاة ،تعتد مطلقًا ،لقوله { :ثُمّ طَّلقْ ُتمُوهُنّ }
الية]
وعلى أن من عدا غير المدخول بها ،من المفارقات من الزوجات ،بموت أو حياة ،عليهن العدة.
يقول تعالى ،ممتنًا على رسوله بإحلله له ما أحل مما يشترك فيه ،هو والمؤمنون ،وما ينفرد به،
جكَ اللّاتِي آتَ ْيتَ ُأجُورَهُنّ } أي :أعطيتهن مهورهن ،من
ويختص { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا أَحْلَلْنَا َلكَ أَ ْزوَا َ
الزوجات ،وهذا من المور المشتركة بينه وبين المؤمنين[ ،فإن المؤمنين] كذلك يباح لهم ما
آتوهن أجورهن ،من الزواج.
{ و } كذلك أحللنا لك { مَا مََل َكتْ َيمِي ُنكَ } أي :الماء التي ملكت { ِممّا َأفَاءَ اللّهُ عَلَ ْيكَ } من غنيمة
الكفار من عبيدهم ،والحرار من لهن زوج منهم ،ومن ل زوج لهن ،وهذا أيضا مشترك.
يؤخذ من مفهومه ،أن ما عداهن من القارب ،غير محلل ،كما تقدم في سورة النساء ،فإنه ل يباح
من القارب من النساء ،غير هؤلء الربع ،وما عداهن من الفروع مطلقًا ،والصول مطلقًا،
وفروع الب والم ،وإن نزلوا ،وفروع من فوقهم لصلبه ،فإنه ل يباح.
وقوله { اللّاتِي هَاجَرْنَ َم َعكَ } قيد لحل هؤلء للرسول ،كما هو الصواب من القولين ،في تفسير
هذه الية ،وأما غيره عليه الصلة والسلم ،فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة.
حهَا } أي :هذا تحت الرادة والرغبة { ،خَاِلصَةً َلكَ مِنْ دُونِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ }
{ إِنْ أَرَادَ النّ ِبيّ أَنْ َيسْتَ ْنكِ َ
يعني :إباحة الموهبة وأما المؤمنون ،فل يحل لهم أن يتزوجوا امرأة ،بمجرد هبتها نفسها لهم.
جهِمْ َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } أي :قد علمنا ما على المؤمنين ،وما
{ َقدْ عَِلمْنَا مَا فَ َرضْنَا عَلَ ْيهِمْ فِي أَ ْزوَا ِ
يحل لهم ،وما ل يحل ،من الزوجات وملك اليمين .وقد علمناهم بذلك ،وبينا فرائضه.
فما في هذه الية ،مما يخالف ذلك ،فإنه خاص لك ،لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله{ :
يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِنّا َأحْلَلْنَا َلكَ } إلى آخر الية.
وقوله { :خَاِلصَةً َلكَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم ،ووسعنا لك ما لم
نوسع على غيركِ { ،لكَيْلَا َيكُونَ عَلَ ْيكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه
عليه وسلم.
غفُورًا َرحِيمًا } أي :لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة ،وينزل على عباده من مغفرته
{ َوكَانَ اللّهُ َ
ورحمته ،وجوده وإحسانه ،ما اقتضته حكمته ،ووجدت منهم أسبابه.
علَ ْيكَ
{ { } 51تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِ ْنهُنّ وَ ُت ْؤوِي إِلَ ْيكَ مَنْ تَشَا ُء َومَنِ ابْ َتغَ ْيتَ ِممّنْ عَزَ ْلتَ فَلَا جُنَاحَ َ
ن وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا فِي قُلُو ِبكُمْ َوكَانَ اللّهُ
ن وَيَ ْرضَيْنَ ِبمَا آتَيْ َتهُنّ كُّلهُ ّ
ن وَلَا َيحْزَ ّ
ذَِلكَ َأدْنَى أَنْ َتقَرّ أَعْيُ ُنهُ ّ
عَلِيمًا حَلِيمًا }
وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به ،أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ،على وجه
الوجوب ،وأنه إن فعل ذلك ،فهو تبرع منه ،ومع ذلك ،فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في
القسم بينهن في كل شيء ،ويقول "اللهم هذا قسمي فيما أملك ،فل تلمني فيما ل أملك" .
فقال هنا { :تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِ ْنهُنّ } [أي :تؤخر من أردت من زوجاتك فل تؤويها إليك ،ول تبيت
عندها] { وَ ُت ْؤوِي إِلَ ْيكَ مَنْ َتشَاءُ } أي :تضمها وتبيت عندها.
{ و } مع ذلك ل يتعين هذا المر { مَنِ ابْ َتغَ ْيتَ } أي :أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكَ } والمعنى أن
الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين :إن هذا خاص بالواهبات ،له أن يرجي من
يشاء ،ويؤوي من يشاء ،أي :إن شاء قبل من وهبت نفسها له ،وإن شاء لم يقبلها ،واللّه أعلم]
ثم بين الحكمة في ذلك فقال { :ذَِلكَ } أي :التوسعة عليك ،وكون المر راجعًا إليك وبيدك ،وكون
ن وَيَ ْرضَيْنَ ِبمَا آتَيْ َتهُنّ كُّلهُنّ }
ن وَلَا َيحْزَ ّ
ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { َأدْنَى أَنْ َتقَرّ أَعْيُ ُنهُ ّ
لعلمهن أنك لم تترك واجبًا ،ولم تفرط في حق لزم.
{ وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا فِي قُلُو ِبكُمْ } أي :ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ،وعند
المزاحمة في الحقوق ،فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه ،لتطمئن قلوب زوجاتك.
حكِيمًا } أي :واسع العلم ،كثير الحلم .ومن علمه ،أن شرع لكم ما هو أصلح
{ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ
لموركم ،وأكثر لجوركم .ومن حلمه ،أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ،وما أصرت عليه قلوبكم من
الشر.
وهذا شكر من اللّه ،الذي لم يزل شكورًا ،لزوجات رسوله ،رضي اللّه عنهن ،حيث اخترن اللّه
حلّ َلكَ النّسَاءُ مِنْ َب ْعدُ }
ورسوله ،والدار الخرة ،أن رحمهن ،وقصر رسوله عليهن فقال { :لَا َي ِ
زوجاتك الموجودات { وَلَا أَنْ تَبَ ّدلَ ِبهِنّ مِنْ أَ ْزوَاجٍ } أي :ول تطلق بعضهن ،فتأخذ بدلها.
فحصل بهذا ،أمنهن من الضرائر ،ومن الطلق ،لن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والخرة،
ل يكون بينه وبينهن فرقة.
{ وََلوْ أَعْجَ َبكَ حُسْ ُنهُنّ } أي :حسن غيرهن ،فل يحللن لك { إِلّا مَا مََل َكتْ َيمِي ُنكَ } أي :السراري،
فذلك جائز لك ،لن المملوكات ،في كراهة الزوجات ،لسن بمنزلة الزوجات ،في الضرار
شيْءٍ َرقِيبًا } أي :مراقبًا للمور ،وعالمًا بما إليه تؤول ،وقائمًا
للزوجاتَ { .وكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ
بتدبيرها على أكمل نظام ،وأحسن إحكام.
يأمر تعالى عباده المؤمنين ،بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،في دخول بيوته فقال{ :
طعَامٍ } أي :ل تدخلوها بغير إذن
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتدْخُلُوا بُيُوتَ النّ ِبيّ إِلّا أَنْ ُيؤْذَنَ َل ُكمْ إِلَى َ
للدخول فيها ،لجل الطعام .وأيضًا ل تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي :منتظرين ومتأنين لنتظار
نضجه ،أو سعة صدر بعد الفراغ منه .والمعنى :أنكم ل تدخلوا بيوت النبي إل بشرطين:
الذن لكم بالدخول ،وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة ،ولهذا قال { :وََلكِنْ ِإذَا دُعِي ُتمْ فَا ْدخُلُوا فَإِذَا
ط ِعمْتُمْ فَانْ َتشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ ِلحَدِيثٍ } أي :قبل الطعام وبعده.
َ
ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال { :إِنّ ذَِلكُمْ } أي :انتظاركم الزائد على الحاجة { ،كَانَ ُيؤْذِي
النّ ِبيّ } أي :يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته ،واشتغاله فيه { فَ َيسْتَحْيِي مِ ْنكُمْ }
أن يقول لكم { :اخرجوا } كما هو جاري العادة ،أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم-
حقّ }
يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم { ،و } لكن { اللّهُ لَا يَسْ َتحْيِي مِنَ الْ َ
فالمر الشرعي ،ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء ،فإن الحزم كل الحزم ،اتباع المر
الشرعي ،وأن يجزم أن ما خالفه ،ليس من الدب في شيء .واللّه تعالى ل يستحي أن يأمركم،
بما فيه الخير لكم ،والرفق لرسوله كائنًا ما كان.
فهذا أدبهم في الدخول في بيوته ،وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته ،فإنه ،إما أن يحتاج إلى ذلك،
أو ل يحتاج إليه ،فإن لم يحتج إليه ،فل حاجة إليه ،والدب تركه ،وإن احتيج إليه ،كأن يسألن
ن وَرَاءِ حِجَابٍ } أي :يكون بينكم
متاعًا ،أو غيره من أواني البيت أو نحوها ،فإنهن يسألن { مِ ْ
وبينهن ستر ،يستر عن النظر ،لعدم الحاجة إليه.
فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال ،وكلمهن فيه التفصيل ،الذي ذكره اللّه ،ثم ذكر حكمة ذلك
طهَرُ ِلقُلُو ِبكُ ْم َوقُلُو ِبهِنّ } لنه أبعد عن الريبة ،وكلما بعد النسان عن السباب
بقوله { :ذَِل ُكمْ أَ ْ
الداعية إلى الشر ،فإنه أسلم له ،وأطهر لقلبه.
فلهذا ،من المور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها ،أن جميع وسائل الشر وأسبابه
ومقدماته ،ممنوعة ،وأنه مشروع ،البعد عنها ،بكل طريق.
ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامةَ { :ومَا كَانَ َلكُمْ } يا معشر المؤمنين ،أي :غير لئق ول
مستحسن منكم ،بل هو أقبح شيء { أَنْ ُتؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ } أي :أذية قولية أو فعلية ،بجميع ما
يتعلق به { ،وَلَا أَنْ تَ ْن ِكحُوا أَ ْزوَاجَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ أَبَدًا } هذا من جملة ما يؤذيه ،فإنه صلى اللّه عليه
وسلم ،له مقام التعظيم ،والرفعة والكرام ،وتزوج زوجاته [بعده] مخل بهذا المقام.
وأيضا ،فإنهن زوجاته في الدنيا والخرة ،والزوجية باقية بعد موته ،فلذلك ل يحل نكاح زوجاته
بعده ،لحد من أمته { .إِنّ ذَِلكُمْ كَانَ عِ ْندَ اللّهِ عَظِيمًا } وقد امتثلت هذه المة ،هذا المر ،واجتنبت
ما نهى اللّه عنه منه ،وللّه الحمد والشكر.
خوَا ِتهِنّ
ن وَلَا أَبْنَاءِ َأ َ
خوَا ِنهِ ّ
ن وَلَا أَبْنَاءِ ِإ ْ
خوَا ِنهِ ّ
ن وَلَا إِ ْ
ن وَلَا أَبْنَا ِئهِ ّ
علَ ْيهِنّ فِي آبَا ِئهِ ّ
{ { } 55لَا جُنَاحَ َ
شهِيدًا }
شيْءٍ َ
ن وَلَا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ وَا ّتقِينَ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ
وَلَا نِسَا ِئهِ ّ
لما ذكر أنهن ل يسألن متاعًا إل من وراء حجاب ،وكان اللفظ عامًا [لكل أحد] احتيج أن يستثنى
منه هؤلء المذكورون ،من المحارم ،وأنه { لَا جُنَاحَ عَلَ ْيهِنّ } في عدم الحتجاب عنهم.
ولم يذكر فيها العمام ،والخوال ،لنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ول خالته ،من أبناء
الخوة والخوات ،مع رفعتهن عليهم ،فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن ،من باب أولى ،ولن
منطوق الية الخرى ،المصرحة بذكر العم والخال ،مقدمة ،على ما يفهم من هذه الية.
وقوله { وَلَا ِنسَا ِئهِنّ } أي :ل جناح عليهن أل يحتجبن عن نسائهن ،أي :اللتي من جنسهن في
الدين ،فيكون ذلك مخرجًا لنساء الكفار ،ويحتمل أن المراد جنس النساء ،فإن المرأة ل تحتجب
عن المرأة { .وَلَا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ } ما دام العبد في ملكها جميعه.
ولما رفع الجناح عن هؤلء ،شرط فيه وفي غيره ،لزوم تقوى اللّه ،وأن ل يكون في محذور
شيْءٍ
شرعي فقال { :وَا ّتقِينَ اللّهَ } أي :استعملن تقواه في جميع الحوال { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ
شهِيدًا } يشهد أعمال العباد ،ظاهرها وباطنها ،ويسمع أقوالهم ،ويرى حركاتهم ،ثم يجازيهم على
َ
ذلك ،أتم الجزاء وأوفاه.
{ { } 56إِنّ اللّهَ َومَلَائِكَتَهُ ُيصَلّونَ عَلَى النّ ِبيّ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْ ِه وَسَّلمُوا َتسْلِيمًا }
وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،ورفعة درجته ،وعلو منزلته عند اللّه
وعند خلقه ،ورفع ذكره .و { إِنّ اللّهَ } تعالى { َومَلَا ِئكَتَهُ ُيصَلّونَ } عليه ،أي :يثني اللّه عليه بين
الملئكة ،وفي المل العلى ،لمحبته تعالى له ،وتثني عليه الملئكة المقربون ،ويدعون له
ويتضرعون.
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَ ْي ِه وَسَّلمُوا تَسْلِيمًا } اقتداء باللّه وملئكته ،وجزاء له على بعض
حقوقه عليكم ،وتكميلً ليمانكم ،وتعظيمًا له صلى اللّه عليه وسلم ،ومحبة وإكرامًا ،وزيادة في
حسناتكم ،وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلة عليه عليه الصلة والسلم ،ما علم به
أصحابه" :اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا المر
بالصلة والسلم عليه مشروع في جميع الوقات ،وأوجبه كثير من العلماء في الصلة
{ { } 58 - 57إِنّ الّذِينَ ُيؤْذُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ َلعَ َنهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َر ِة وَأَعَدّ َل ُهمْ عَذَابًا ُمهِينًا
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ِبغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا َفقَدِ احْ َتمَلُوا ُبهْتَانًا وَإِ ْثمًا مُبِينًا }
* وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم ،والصلة والسلم عليه ،نهى عن أذيته،
وتوعد عليها فقال { :إِنّ الّذِينَ ُيؤْذُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ } وهذا يشمل كل أذية ،قولية أو فعلية ،من
سب وشتم ،أو تنقص له ،أو لدينه ،أو ما يعود إليه بالذىَ { .لعَ َنهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا } أي :أبعدهم
وطردهم ،ومن لعنهم [في الدنيا] أنه يحتم قتل من شتم الرسول ،وآذاه.
{ وَالْآخِ َر ِة وَأَعَدّ َلهُمْ عَذَابًا ُمهِينًا } جزاء له على أذاه ،أن يؤذى بالعذاب الليم ،فأذية الرسول،
ليست كأذية غيره ،لنه -صلى ال عليه وسلم -ل يؤمن العبد باللّه ،حتى يؤمن برسوله صلى اللّه
عليه وسلم .وله من التعظيم ،الذي هو من لوازم اليمان ،ما يقتضي ذلك ،أن ل يكون مثل غيره.
وإن كانت أذية المؤمنين عظيمة ،وإثمها عظيمًا ،ولهذا قال فيها { :وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ
وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ ِبغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي :بغير جناية منهم موجبة للذى { َفقَدِ احْ َتمَلُوا } على ظهورهم {
ُبهْتَانًا } حيث آذوهم بغير سبب { وَإِ ْثمًا مُبِينًا } حيث تعدوا عليهم ،وانتهكوا حرمة أمر اللّه
باحترامها.
ولهذا كان سب آحاد المؤمنين ،موجبًا للتعزير ،بحسب حالته وعلو مرتبته ،فتعزير من سب
الصحابة أبلغ ،وتعزير من سب العلماء ،وأهل الدين ،أعظم من غيرهم.
ك وَنِسَاءِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ُيدْنِينَ عَلَ ْيهِنّ مِنْ جَلَابِي ِبهِنّ
ك وَبَنَا ِت َ
جَ{ { } 62 - 59يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ لِأَ ْزوَا ِ
غفُورًا رَحِيمًا * لَئِنْ لَمْ يَنْ َتهِ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ
ن َوكَانَ اللّهُ َ
ذَِلكَ َأدْنَى أَنْ ُيعْ َرفْنَ فَلَا ُيؤْذَيْ َ
جفُونَ فِي ا ْلمَدِينَةِ لَ ُنغْرِيَ ّنكَ ِب ِهمْ ثُمّ لَا يُجَاوِرُو َنكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلًا * مَ ْلعُونِينَ أَيْ َنمَا ُثقِفُوا
مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْر ِ
خذُوا َوقُتّلُوا َتقْتِيلًا * سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَ ْبلُ وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا }
أُ ِ
هذه الية ،التي تسمى آية الحجاب ،فأمر اللّه نبيه ،أن يأمر النساء عمومًا ،ويبدأ بزوجاته وبناته،
لنهن آكد من غيرهن ،ولن المر [لغيره] ينبغي أن يبدأ بأهله ،قبل غيرهم كما قال تعالى { :يَا
سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }
أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ
جلَابِي ِبهِنّ } وهن اللتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه،
أن { ُيدْنِينَ عَلَ ْيهِنّ مِنْ َ
أي :يغطين بها ،وجوههن وصدورهن.
ثم ذكر حكمة ذلك ،فقال { :ذَِلكَ أَدْنَى أَنْ ُيعْ َرفْنَ فَلَا ُيؤْذَيْنَ } دل على وجود أذية ،إن لم يحتجبن،
وذلك ،لنهن إذا لم يحتجبن ،ربما ظن أنهن غير عفيفات ،فيتعرض لهن من في قلبه مرض،
فيؤذيهن ،وربما استهين بهن ،وظن أنهن إماء ،فتهاون بهن من يريد الشر .فالحتجاب حاسم
لمطامع الطامعين فيهن.
غفُورًا َرحِيمًا } حيث غفر لكم ما سلف ،ورحمكم ،بأن بين لكم الحكام ،وأوضح
{ َوكَانَ اللّهُ َ
الحلل والحرام ،فهذا سد للباب من جهتهن.
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ،ليعم ذلك ،كل ما توحي به أنفسهم إليهم ،وتوسوس به،
وتدعو إليه من الشر ،من التعريض بسب السلم وأهله ،والرجاف بالمسلمين ،وتوهين قواهم،
والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة ،وغير ذلك من المعاصي الصادرة ،من أمثال هؤلء.
{ لَ ُنغْرِيَ ّنكَ ِبهِمْ } أي :نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ،ونسلطك عليهم ،ثم إذا فعلنا ذلك ،ل طاقة لهم بك،
وليس لهم قوة ول امتناع ،ولهذا قالُ { :ثمّ لَا ُيجَاوِرُو َنكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلًا } أي :ل يجاورونك في
المدينة إل قليلً ،بأن تقتلهم أو تنفيهم.
وهذا فيه دليل ،لنفي أهل الشر ،الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين ،فإن ذلك أحسم للشر،
وأبعد منه ،ويكونون { مَ ْلعُونِينَ أَيْ َنمَا ُث ِقفُوا ُأخِذُوا َوقُتّلُوا َتقْتِيلًا }
أي :مبعدين ،أين وجدوا ،ل يحصل لهم أمن ،ول يقر لهم قرار ،يخشون أن يقتلوا ،أو يحبسوا،
أو يعاقبوا.
{ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَ ْبلُ } أن من تمادى في العصيان ،وتجرأ على ال أذى ،ولم ينته
منه ،فإنه يعاقب عقوبة بليغة { .وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا } أي تغييرًا ،بل سنته تعالى وعادته،
جارية مع السباب المقتضية لسبابها
{ { } 68 - 63يَسْأَُلكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ اللّ ِه َومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ َتكُونُ
جدُونَ وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا * َيوْمَ
سعِيرًا * خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَ ِ
ن وَأَعَدّ َلهُمْ َ
قَرِيبًا * إِنّ اللّهَ َلعَنَ ا ْلكَافِرِي َ
طعْنَا سَادَتَنَا
طعْنَا الرّسُولَ * َوقَالُوا رَبّنَا إِنّا أَ َ
طعْنَا اللّ َه وََأ َ
ب وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ َيقُولُونَ يَا لَيْتَنَا َأ َ
ُتقَلّ ُ
ضعْفَيْنِ مِنَ ا ْل َعذَابِ وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنًا كَبِيرًا }
َوكُبَرَاءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلَ * رَبّنَا آ ِت ِه ْم ِ
أي :يستخبرك الناس عن الساعة ،استعجالً لها ،وبعضهم ،تكذيبًا لوقوعها ،وتعجيزًا للذي أخبر
بهاُ { .قلْ } لهم { :إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ اللّهِ } أي :ل يعلمها إل اللّه ،فليس لي ،ول لغيرى بها علم،
ومع هذا ،فل تستبطؤوها.
{ َومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ َتكُونُ قَرِيبًا } ومجرد مجيء الساعة ،قربا وبعدًا ،ليس تحته نتيجة ول
فائدة ،وإنما النتيجة والخسار ،والربح ،والشقا والسعادة ،هل يستحق العبد العذاب ،أو يستحق
الثواب؟ فهذه سأخبركم بها ،وأصف لكم مستحقها.
فوصف مستحق العذاب ،ووصف العذاب ،لن الوصف المذكور ،منطبق على هؤلء المكذبين
بالساعة فقال { :إِنّ اللّهَ َلعَنَ ا ْلكَافِرِينَ } [أي ]:الذين صار الكفر دأبهم وطريقتهم الكفر باللّه
وبرسله ،وبما جاءوا به من عند اللّه ،فأبعدهم في الدنيا والخرة من رحمته ،وكفى بذلك عقابًا،
سعِيرًا } أي :نارًا موقدة ،تسعر في أجسامهم ،ويبلغ العذاب إلى أفئدتهم ،ويخلدون في
{ وَأَعَدّ َلهُمْ َ
ذلك العذاب الشديد ،فل يخرجون منه ،ول ُيفَتّر عنهم ساعة.
جدُونَ وَلِيّا فيعطيهم ما طلبوه { وَلَا َنصِيرًا } يدفع عنهم العذاب ،بل قد تخلى عنهم الولي
ولَا يَ ِ
النصير ،وأحاط بهم عذاب السعير ،وبلغ منهم مبلغًا عظيمًا،
ب وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ } فيذوقون حرها ،ويشتد عليهم أمرها ،ويتحسرون على
ولهذا قالَ { :يوْمَ ُتقَلّ ُ
ما أسلفوا.
طعْنَا الرّسُولَ } فسلمنا من هذا العذاب ،واستحققنا ،كالمطيعين،
طعْنَا اللّ َه وَأَ َ
{ َيقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَ َ
جزيل الثواب .ولكن أمنية فات وقتها ،فلم تفدهم إل حسرة وندمًا ،وهمًا ،وغمًا ،وألمًا.
كقوله تعالى { وَ َيوْمَ َي َعضّ الظّالِمُ عَلَى َيدَيْهِ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي
لَمْ أَتّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا َلقَدْ َأضَلّنِي عَنِ ال ّذكْرِ بعد إذ جاءني } الية.
ولما علموا أنهم هم وكبراءهم مستحقون للعقاب ،أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم ،فقالوا { :رَبّنَا
ب وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنًا كَبِيرًا } فيقول اللّه لكل ضعف ،فكلكم اشتركتم في الكفر
ضعْفَيْنِ مِنَ ا ْلعَذَا ِ
آ ِتهِمْ ِ
والمعاصي ،فتشتركون في العقاب ،وإن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم.
{ { } 69يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا َتكُونُوا كَالّذِينَ آ َذوْا مُوسَى فَبَرَّأهُ اللّهُ ِممّا قَالُوا َوكَانَ عِ ْندَ اللّهِ
وَجِيهًا }
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم ،محمد صلى اللّه عليه وسلم ،النبي الكريم ،الرءوف
الرحيم ،فيقابلوه بضد ما يجب له من الكرام والحترام ،وأن ل يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى
بن عمران ،كليم الرحمن ،فبرأه اللّه مما قالوا من الذية ،أي :أظهر اللّه لهم براءته .والحال أنه
عليه الصلة والسلم ،ليس محل التهمة والذية ،فإنه كان وجيها عند اللّه ،مقربًا لديه ،من خواص
المرسلين ،ومن عباده المخلصين ،فلم يزجرهم ما له ،من الفضائل عن أذيته والتعرض له بما
يكره ،فاحذروا أيها المؤمنون ،أن تتشبهوا بهم في ذلك ،والذية المشار إليها هي قول بني
إسرائيل لموسى لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم" :إنه ما يمنعه من ذلك إل أنه آدر" أي :كبير
الخصيتين ،واشتهر ذلك عندهم ،فأراد ال أن يبرئه منهم ،فاغتسل يومًا ،ووضع ثوبه على حجر،
ففر الحجر بثوبه ،فأهوى موسى عليه السلم في طلبه ،فمر به على مجالس بني إسرائيل ،فرأوه
أحسن خلق اللّه ،فزال عنه ما رموه به.
يأمر تعالى المؤمنين بتقواه ،في جميع أحوالهم ،في السر والعلنية ،ويخص منها ،ويندب للقول
السديد ،وهو القول الموافق للصواب ،أو المقارب له ،عند تعذر اليقين ،من قراءة ،وذكر ،وأمر
بمعروف ،ونهي عن منكر ،وتعلم علم وتعليمه ،والحرص على إصابة الصواب ،في المسائل
العلمية ،وسلوك كل طريق يوصل لذلك ،وكل وسيلة تعين عليه.
ومن القول السديد ،لين الكلم ولطفه ،في مخاطبة النام ،والقول المتضمن للنصح والشارة ،بما
هو الصلح.
ويوفق فيه النسان للعمل الصالح ،ويصلح اللّه العمال [أيضًا] بحفظها عما يفسدها ،وحفظ ثوابها
ومضاعفته ،كما أن الخلل بالتقوى ،والقول السديد سبب لفساد العمال ،وعدم قبولها ،وعدم
تَرَّتبِ آثارها عليها.
{ وَ َي ْغفِرْ َلكُمْ } أيضًا { ذُنُو َبكُمْ } التي هي السبب في هلككم ،فالتقوى تستقيم بها المور ،ويندفع
طعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا عَظِيمًا }
بها كل محذور ولهذا قالَ { :ومَنْ يُ ِ
ش َفقْنَ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَا ْلجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَ ْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
{ { } 73 - 72إِنّا عَ َرضْنَا الَْأمَا َنةَ عَلَى ال ّ
ت وَا ْلمُشْ ِركِينَ
ن وَا ْلمُنَا ِفقَا ِ
جهُولًا * لِ ُيعَ ّذبَ اللّهُ ا ْلمُنَافِقِي َ
حمََلهَا الْإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُومًا َ
مِ ْنهَا وَ َ
غفُورًا رَحِيمًا }
ت َوكَانَ اللّهُ َ
ن وَا ْل ُمؤْمِنَا ِ
وَا ْلمُشْ ِركَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
يعظم تعالى شأن المانة ،التي ائتمن اللّه عليها المكلفين ،التي هي امتثال الوامر ،واجتناب
المحارم ،في حال السر والخفية ،كحال العلنية ،وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة،
السماوات والرض والجبال ،عرض تخيير ل تحتيم ،وأنك إن قمت بها وأدّي ِتهَا على وجهها ،فلك
الثواب ،وإن لم تقومي بها[ ،ولم تؤديها] فعليك العقاب.
منافقون ،أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا ل باطنًا ،ومشركون ،تركوها ظاهرًا وباطنًا ،ومؤمنون،
قائمون بها ظاهرًا وباطنًا.
فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلء القسام الثلثة ،وما لهم من الثواب والعقاب فقال { :لِ ُيعَ ّذبَ اللّهُ
ت وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ َوكَانَ اللّهُ
ن وَا ْلمُشْ ِركَا ِ
ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلمُنَا ِفقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِي َ
غفُورًا َرحِيمًا } .
َ
فله الحمد تعالى ،حيث ختم هذه الية بهذين السمين الكريمين ،الدالين على تمام مغفرة اللّه،
وسعة رحمته ،وعموم جوده ،مع أن المحكوم عليهم ،كثير منهم ،لم يستحق المغفرة والرحمة،
لنفاقه وشركه.
الحمد :الثناء بالصفات الحميدة ,والفعال الحسنة ,فللّه تعالى الحمد ,لن جميع صفاته ,يحمد عليها,
لكونها صفات كمال ,وأفعاله ,يحمد عليها ,لنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر ,والعدل
الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه.
وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب ,فذلك شيء قد تواردت به الخبار ,وتوافق عليه الدليل
السمعي والعقلي ،فإنهم في الجنة ,يرون من توالي نعم اللّه ,وإدرار خيره ,وكثرة بركاته ,وسعة
عطاياه ,التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية ,ول إرادة ,إل وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد ،بل
يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم ,ولم يخطر بقلوبهم.
فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال ,مع أن في الجنة تضمحل العوارض والقواطع ,التي تقطع
عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه ,ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم ,وألذ عليهم من كل
لذة ،ولهذا إذا رأوا اللّه تعالى ,وسمعوا كلمه عند خطابه لهم ,أذهلهم ذلك عن كل نعيم ,ويكون
الذكر لهم في الجنة ,كالنّفس ,متواصل في جميع الوقات ،هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لهل
الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم ,وجلله ,وجماله ,وسعة كماله ,ما يوجب لهم كمال
الحمد ,والثناء عليه.
حكِيمُ } في ملكه وتدبيره ,الحكيم في أمره ونهيه { .ا ْلخَبِيرُ } المطلع على سرائر المور
{ وَ ُهوَ ا ْل َ
وخفاياها ولهذا فصل علمه بقولهَ { :يعَْلمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ } أي :من مطر ,وبذر ,وحيوان { َومَا
سمَاءِ } من الملك
يَخْرُجُ مِ ْنهَا } من أنواع النباتات ,وأصناف الحيوانات { َومَا يَنْ ِزلُ مِنَ ال ّ
والرزاق والقدار { َومَا َيعْرُجُ فِيهَا } من الملئكة والرواح وغير ذلك.
ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها ,وعلمه بأحوالها ,ذكر مغفرته ورحمته لها ,فقال { :وَ ُهوَ الرّحِيمُ
ا ْل َغفُورُ } أي :الذي الرحمة والمغفرة وصفه ,ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت بحسب
ما قاموا به من مقتضياتهما.
عةُ ُقلْ بَلَى وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ عَاِلمِ ا ْلغَ ْيبِ لَا َيعْ ُزبُ عَنْهُ
{ َ { } 5 - 3وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَا تَأْتِينَا السّا َ
ك وَلَا َأكْبَرُ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْ ِزيَ
صغَرُ مِنْ ذَِل َ
ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ وَلَا َأ ْ
سمَاوَا ِ
مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ
س َعوْا فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُولَ ِئكَ َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ َ
الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ مِنْ ِرجْزٍ أَلِيمٌ }
لما بين تعالى ,عظمته ,بما وصف به نفسه ,وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه ,واليمان به ,ذكر
أن من أصناف الناس ,طائفة لم تقدر ربها حق قدره ,ولم تعظمه حق عظمته ,بل كفروا به,
وأنكروا قدرته على إعادة الموات ,وقيام الساعة ,وعارضوا بذلك رسله فقالَ { :وقَالَ الّذِينَ
َكفَرُوا } أي باللّه وبرسله ,وبما جاءوا به ،فقالوا بسبب كفرهم { :لَا تَأْتِينَا السّاعَةُ } أي :ما هي,
إل هذه الحياة الدنيا ,نموت ونحيا .فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله ,ويقسم على البعث ,وأنه
سيأتيهم ،واستدل على ذلك بدليل من أقرّ به ,لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة ,وهو علمه تعالى
الواسع العام فقال { :عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ } أي :المور الغائبة عن أبصارنا ,وعن علمنا ,فكيف بالشهادة؟".
ثم ذكر المقصود من البعث فقال { :لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم ,صدقوا اللّه ,وصدقوا رسله
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } تصديقا ليمانهم { .أُولَ ِئكَ َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ } لذنوبهم ,بسبب
تصديقا جازما { ،وَ َ
إيمانهم وعملهم ,يندفع بها كل شر وعقاب { .وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بإحسانهم ,يحصل لهم به كل مطلوب
ومرغوب ,وأمنية.
س َعوْا فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ } أي :سعوا فيها كفرا بها ,وتعجيزا لمن جاء بها ,وتعجيزا لمن
{ وَالّذِينَ َ
أنزلها ,كما عجزوه في العادة بعد الموت { .أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } أي :مؤلم لبدانهم
وقلوبهم.
لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث ,وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق ،ذكر حالة
الموفقين من العباد ,وهم أهل العلم ,وأنهم يرون ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب ,وما اشتمل
عليه من الخبار ,هو الحق ,أي :الحق منحصر فيه ,وما خالفه وناقضه ,فإنه باطل ,لنهم وصلوا
من العلم إلى درجة اليقين.
ويرون في الوامر والنواهي ,أنها تهدي إلى الصراط المستقيم ,المتضمن للمر بكل صفة تزكي
النفس ،وتنمي الجر ،وتفيد العامل وغيره ،كالصدق والخلص وبر الوالدين ,وصلة الرحام,
والحسان إلى عموم الخلق ,ونحو ذلك .وتنهى عن كل صفة قبيحة ,تدنس النفس ,وتحبط الجر,
وتوجب الثم والوزر ,من الشرك ,والزنا ,والربا ,والظلم في الدماء والموال ,والعراض.
وهذه منقبة لهل العلم وفضيلة ,وعلمة لهم ,وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما
جاء به الرسول ,وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه ,كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة
على ما جاء به الرسول ,احتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين ,كما في هذه الية وغيرها.
خلْقٍ
جلٍ يُنَبّ ُئكُمْ ِإذَا مُ ّزقْتُمْ ُكلّ ُممَزّقٍ إِ ّنكُمْ َلفِي َ
علَى َر ُ
{ َ { } 9 - 7وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا َهلْ نَدُّلكُمْ َ
جدِيدٍ * َأفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا َأمْ بِهِ جِنّةٌ َبلِ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ فِي ا ْلعَذَابِ وَالضّلَالِ الْ َبعِيدِ *
َ
سقِطْ
سفْ ِب ِهمُ الْأَ ْرضَ َأوْ نُ ْ
خِسمَا ِء وَالْأَ ْرضِ إِنْ َنشَأْ نَ ْ
خ ْلفَهُمْ مِنَ ال ّ
َأفَلَمْ يَ َروْا إِلَى مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ
سمَاءِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآ َيةً ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
سفًا مِنَ ال ّ
عَلَ ْيهِمْ كِ َ
أيَ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا } على وجه التكذيب والستهزاء والستبعاد ،وذكر وجه الستبعاد.
جلٍ يُنَبّ ُئكُمْ ِإذَا مُ ّزقْتُمْ ُكلّ ُممَزّقٍ إِ ّنكُمْ َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }
أي :قال بعضهم لبعضَ { :هلْ نَدُّل ُكمْ عَلَى رَ ُ
يعنون بذلك الرجل ,رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ,وأنه رجل أتى بما يستغرب منه ,حتى صار
-بزعمهم -فرجة يتفرجون عليه ,وأعجوبة يسخرون منه ،وأنه كيف يقول { إِ ّنكُمْ مَ ْبعُوثُونَ }
بعدما مزقكم البلى ,وتفرقت أوصالكم ,واضمحلت أعضاؤكم؟!.
فهذا الرجل الذي يأتي بذلك ,هل { َأفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا } فتجرأ عليه وقال ما قالَ { ,أمْ بِهِ
جِنّةٌ } ؟ فل يستغرب منه ,فإن الجنون فنون ،وكل هذا منهم ,على وجه العناد والظلم ,ولقد علموا,
أنه أصدق خلق اللّه وأعقلهم ,ومن علمهم ,أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم ,وبذلوا أنفسهم
وأموالهم ,في صد الناس عنه ،فلو كان كاذبا مجنونا لم ينبغ لكم -يا أهل العقول غير الزاكية -
أن تصغوا لما قال ,ول أن تحتفلوا بدعوته ،فإن المجنون ,ل ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره ,أو
يبلغ قوله منه كل مبلغ.
ولول عنادكم وظلمكم ,لبادرتم لجابته ,ولبيتم دعوته ,ولكن { مَا ُتغْنِي الْآيَاتُ وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ لَا
ُي ْؤمِنُونَ } ولهذا قال تعالىَ { :بلِ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ } ومنهم الذين قالوا تلك المقالة { ،فِي
ب وَالضّلَالِ الْ َبعِيدِ } أي :في الشقاء العظيم ,والضلل البعيد ,الذي ليس بقريب من الصواب،
ا ْلعَذَا ِ
وأي شقاء وضلل ,أبلغ من إنكارهم لقدرة اللّه على البعث وتكذيبهم لرسوله الذي جاء به,
واستهزائهم به ,وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق ,فرأوا الحق باطل ,والباطل والضلل حقا
وهدى.
ثم نبههم على الدليل العقلي ,الدال على عدم استبعاد البعث ,الذي استبعدوه ,وأنهم لو نظروا إلى ما
بين أيديهم وما خلفهم ,من السماء والرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما ,ما يبهر العقول ,ومن
عظمته ما يذهل العلماء الفحول ,وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات ,أعظم من إعادة
الناس -بعد موتهم -من قبورهم ،فما الحامل لهم ,على ذلك التكذيب مع التصديق ,بما هو أكبر
منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الن ,ما شاهدوه ,فلذلك كذبوا به.
فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه ,كان انتفاعه باليات أعظم ,لن المنيب مقبل إلى ربه ,قد
توجهت إراداته وهماته لربه ,ورجع إليه في كل أمر من أموره ,فصار قريبا من ربه ,ليس له هم
إل الشتغال بمرضاته ،فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة ,ل نظر غفلة غير نافعة.
ع َملْ
{ { } 11 - 10وََلقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا َفضْلًا يَا جِبَالُ َأوّبِي َمعَ ُه وَالطّيْ َر وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ ا ْ
عمَلُوا صَاِلحًا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }
ت َوقَدّرْ فِي السّرْدِ وَا ْ
سَا ِبغَا ٍ
أي :ولقد مننا على عبدنا ورسولنا ,داود عليه الصلة والسلم ,وآتيناه فضل من العلم النافع,
والعمل الصالح ,والنعم الدينية والدنيوية ،ومن نعمه عليه ,ما خصه به من أمره تعالى الجمادات,
كالجبال والحيوانات ,من الطيور ,أن ُت َؤوّب معه ,وتُرَجّع التسبيح بحمد ربها ,مجاوبة له ،وفي هذا
من النعمة عليه ,أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لحد قبله ول بعده ,وأن ذلك يكون
منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ,تتجاوب بتسبيح ربها,
وتمجيده ,وتكبيره ,وتحميده ,كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى.
ومنها :أن ذلك -كما قال كثير من العلماء ,أنه طرب لصوت داود ،فإن اللّه تعالى ,قد أعطاه من
حسن الصوت ,ما فاق به غيره ,وكان إذا رجّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم
الشجيّ المطرب ,طرب كل من سمعه ,من النس ,والجن ,حتى الطيور والجبال ,وسبحت بحمد
ربها.
ومنها :أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ,لنه سبب ذلك ,وتسبح تبعا له.
ومن فضله عليه ,أن ألن له الحديد ,ليعمل الدروع السابغات ,وعلمه تعالى كيفية صنعته ,بأن
يقدره في السرد ,أي :يقدره حلقا ,ويصنعه كذلك ,ثم يدخل بعضها ببعض.
سكُمْ َف َهلْ أَنْ ُتمْ شَاكِرُونَ }
حصِ َنكُمْ مِنْ بَأْ ِ
قال تعالى { :وَعَّلمْنَاهُ صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ َلكُمْ لِ ُت ْ
ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله ,أمره بشكره ,وأن يعملوا صالحا ,ويراقبوا اللّه تعالى فيه,
بإصلحه وحفظه من المفسدات ,فإنه بصير بأعمالهم ,مطلع عليهم ,ل يخفى عليه منها شيء.
لما ذكر فضله على داود عليه السلم ,ذكر فضله على ابنه سليمان ,عليه الصلة والسلم ,وأن
اللّه سخر له الريح تجري بأمره ,وتحمله ,وتحمل جميع ما معه ,وتقطع المسافة البعيدة جدا ,في
شهْرٌ } أي :أول النهار إلى الزوال
غ ُدوّهَا َ
مدة يسيرة ,فتسير في اليوم ,مسيرة شهرينُ { .
شهْرٌ } من الزوال ,إلى آخر النهار { وَأَسَلْنَا َلهُ عَيْنَ ا ْلقِطْرِ } أي :سخرنا له عين
حهَا َ
{ وَ َروَا ُ
النحاس ,وسهلنا له السباب ,في استخراج ما يستخرج منها من الواني وغيرها.
وسخر اللّه له أيضا ,الشياطين والجن ,ل يقدرون أن يستعصوا عن أمرهَ { ,ومَنْ يَ ِزغْ مِ ْنهُمْ عَنْ
سعِيرِ } وأعمالهم كل ما شاء سليمان ,عملوه.
َأمْرِنَا نُ ِذقْهُ مِنْ عَذَابِ ال ّ
{ مِنْ َمحَارِيبَ } وهو كل بناء يعقد ,وتحكم به البنية ,فهذا فيه ذكر البنية الفخمة { ،وَ َتمَاثِيلَ }
جفَانٍ
أي :صور الحيوانات والجمادات ,من إتقان صنعتهم ,وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان { وَ ِ
جوَابِ } أي :كالبرك الكبار ,يعملونها لسليمان للطعام ,لنه يحتاج إلى ما ل يحتاج إليه غيره ،
كَالْ َ
" و " يعملون له قدورا راسيات ل تزول عن أماكنها ,من عظمها.
والشكر :اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى ,وتلقيها افتقارا إليها ,وصرفها في طاعة اللّه تعالى,
وصونها عن صرفها في المعصية.
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ,عليه الصلة والسلم ,كل بناء ،وكانوا قد موهوا على النس,
وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ,ويطلعون على المكنونات ،فأراد اللّه تعالى أن يُ ِريَ العباد كذبهم
في هذه الدعوى ,فمكثوا يعملون على عملهم ،وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلم ,واتّكأ
على عصاه ,وهي المنسأة ،فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ,ظنوه حيا ,وهابوه.
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ,حتى سلطت دابة الرض على عصاه ,فلم تزل
ترعاها ,حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلم وتفرقت الشياطين وتبينت النس أن الجن { َلوْ
كَانُوا َيعَْلمُونَ ا ْلغَ ْيبَ مَا لَبِثُوا فِي ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ،فلو علموا الغيب,
لعلموا موت سليمان ,الذي هم أحرص شيء عليه ,ليسلموا مما هم فيه.
سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ,ومسكنهم بلدة يقال لها "مأرب" ومن نعم اللّه ولطفه بالناس
عموما ,وبالعرب خصوصا ,أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ,ممن كان يجاور
العرب ,ويشاهد آثاره ,ويتناقل الناس أخباره ,ليكون ذلك أدعى إلى التصديق ,وأقرب للموعظة
سكَ ِنهِمْ } أي :محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والية هنا :ما أدرّ اللّه
فقالَ { :لقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَ ْ
عليهم من النعم ,وصرف عنهم من النقم ,الذي يقتضي ذلك منهم ,أن يعبدوا اللّه ويشكروه .ثم فسر
شمَالٍ } وكان لهم واد عظيم ,تأتيه سيول كثيرة ,وكانوا بنوا سدا
ن وَ ِ
الية بقوله { جَنّتَانِ عَنْ َيمِي ٍ
محكما ,يكون مجمعا للماء ،فكانت السيول تأتيه ,فيجتمع هناك ماء عظيم ,فيفرقونه على بساتينهم,
التي عن يمين ذلك الوادي وشماله .و ُت ِغلّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ,من الثمار ما يكفيهم,
ويحصل لهم به الغبطة والسرور ،فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرّها عليهم من وجوه كثيرة،
منها :هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما.
ومنها :أن اللّه جعل بلدهم ,بلدة طيبة ,لحسن هوائها ,وقلة وخمها ,وحصول الرزق الرغد فيها.
ومنها :أن اللّه تعالى وعدهم -إن شكروه -أن يغفر لهم وَيرحمهم ,ولهذا قال { :بَلْ َدةٌ طَيّبَ ٌة وَ َربّ
غفُورٌ }
َ
ومنها :أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الرض المباركة - ,الظاهر أنها:
[قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف ,وقيل :إنها] الشام -هيأ لهم من السباب ما به يتيسر
وصولهم إليها ,بغاية السهولة ,من المن ,وعدم الخوف ,وتواصل القرى بينهم وبينها ,بحيث ل
يكون عليهم مشقة ,بحمل الزاد والمزاد.
جعَلْنَا بَيْ َنهُ ْم وَبَيْنَ ا ْلقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِ َر ًة َوقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ } أي:
ولهذا قال { :وَ َ
ي وَأَيّامًا آمِنِينَ } أي :مطمئنين
[سيرا] مقدرا يعرفونه ,ويحكمون عليه ,بحيث ل يتيهون عنه { لَيَاِل َ
في السير ,في تلك الليالي واليام ,غير خائفين .وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم ,أن أمنهم من
الخوف.
فأعرضوا عن المنعم ,وعن عبادته ,وبطروا النعمة ,وملوها ،حتى إنهم طلبوا وتمنوا ,أن تتباعد
أسفارهم بين تلك القرى ,التي كان السير فيها متيسرا.
سهُمْ } بكفرهم باللّه وبنعمته ,فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة ,التي أطغتهم ,فأبادها
ظَلمُوا أَ ْنفُ َ
{ وَ َ
عليهم ,فأرسل عليها سيل العرم.
أي :السيل المتوعر ,الذي خرب سدهم ,وأتلف جناتهم ,وخرب بساتينهم ،فتبدلت تلك الجنات ذات
الحدائق المعجبة ,والشجار المثمرة ,وصار بدلها أشجار ل نفع فيها ,ولهذا قال { :وَبَدّلْنَا ُهمْ
شيْءٍ
ل وَ َ
ط وَأَ ْث ٍ
خمْ ٍ
بِجَنّتَ ْيهِمْ جَنّتَيْنِ َذوَا َتيْ ُأ ُكلٍ } أي :شيء قليل من الكل الذي ل يقع منهم موقعا { َ
مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهذا كله شجر معروف ,وهذا من جنس عملهم.
فكما بدلوا الشكر الحسن ,بالكفر القبيح ,بدلوا تلك النعمة بما ذكر ,ولهذا قال { :ذَِلكَ جَزَيْنَاهُمْ ِبمَا
َكفَرُوا وَ َهلْ نُجَازِي إِلّا ا ْل َكفُورَ } أي :وهل نجازي جزاء العقوبة -بدليل السياق -إل من كفر
باللّه وبطر النعمة؟
فلما أصابهم ما أصابهم ,تفرقوا وتمزقوا ,بعدما كانوا مجتمعين ,وجعلهم اللّه أحاديث يتحدث بهم,
وأسمارا للناس ,وكان يضرب بهم المثل فيقال" :تفرقوا أيدي سبأ" فكل أحد يتحدث بما جرى لهم،
شكُورٍ } صبار على
ولكن ل ينتفع بالعبرة فيهم إل من قال اللّه { :إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُكلّ صَبّارٍ َ
المكاره والشدائد ,يتحملها لوجه اللّه ,ول يتسخطها بل يصبر عليها .شكور لنعمة اللّه تعالى ُيقِرّ
بها ,ويعترف ,ويثني على من أولها ,ويصرفها في طاعته .فهذا إذا سمع بقصتهم ,وما جرى
منهم وعليهم ,عرف بذلك أن تلك العقوبة ,جزاء لكفرهم نعمة اللّه ,وأن من فعل مثلهمُ ,ف ِعلَ به
كما فعل بهم ،وأن شكر اللّه تعالى ,حافظ للنعمة ,دافع للنقمة ،وأن رسل اللّه ,صادقون فيما
أخبروا به ،وأن الجزاء حق ,كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.
ج َمعِينَ
غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ
ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدّق عليهم إبليس ظنه ,حيث قال لربه { :فَ ِبعِزّ ِتكَ لَأُ ْ
إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْن ُهمُ ا ْلمُخَْلصِينَ } وهذا ظن من إبليس ,ل يقين ,لنه ل يعلم الغيب ,ولم يأته خبر من
اللّه ,أنه سيغويهم أجمعين ,إل من استثنى ،فهؤلء وأمثالهم ,ممن صدق عليه إبليس ظنه ,ودعاهم
وأغواهم { ،فَاتّ َبعُوهُ إِلّا فَرِيقًا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } ممن لم يكفر بنعمة اللّه ,فإنه لم يدخل تحت ظن
إبليس.
شكُورٍ }
ل صَبّارٍ َ
ويحتمل أن قصة سبأ ,انتهت عند قوله { :إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُك ّ
علَ ْيهِمْ } أي :على جنس الناس ,فتكون الية عامة في كل من اتبعه.
ثم ابتدأ فقال { :وََلقَدْ صَدّقَ َ
ثم قال تعالىَ { :ومَا كَانَ لَهُ } أي :لبليس { عَلَ ْي ِهمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي :تسلط وقهر ,وقسر على ما
يريده منهم ,ولكن حكمة اللّه تعالى اقتضت تسليطه وتسويله لبني آدم.
أيُ { :قلْ } يا أيها الرسول ,للمشركين باللّه غيره من المخلوقات ,التي ل تنفع ول تضر ,ملزما
عمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ } أي :زعمتموهم
لهم بعجزها ,ومبينا لهم بطلن عبادتها { :ادْعُوا الّذِينَ زَ َ
شركاء للّه ,إن كان دعاؤكم ينفع ،فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز ,وعدم إجابة الدعاء من كل
سمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَ ْرضِ } على
وجه ،فإنهم ليس لهم أدنى ملك فب { لَا َيمِْلكُونَ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ
وجه الستقلل ,ول على وجه الشتراك ,ولهذا قالَ { :ومَا َلهُمْ } أي :لتلك اللهة الذين زعمتم
{ فِي ِهمَا } أي :في السماوات والرض { ،مِنْ شِ ْركٍ } أي :ل شرك قليل ول كثير ,فليس لهم ملك,
ول شركة ملك.
بقي أن يقال :ومع ذلك ,فقد يكونون أعوانا للمالك ,ووزراء له ,فدعاؤهم يكون نافعا ,لنهم -
بسبب حاجة الملك إليهم -يقضون حوائج من تعلق بهم ،فنفى تعالى هذه المرتبة فقالَ { :ومَا لَهُ }
ظهِيرٍ } أي :معاون ووزير
أي :للّه تعالى الواحد القهار { مِ ْنهُمْ } أي :من هؤلء المعبودين { مِنْ َ
يساعده على الملك والتدبير.
بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده ,فإنه يريد منها النفع ،فبيّن اللّه بطلنه وعدمه ,وبيّن
في آيات أخر ,ضرره على عابديه وأنه يوم القيامة ,يكفر بعضهم ببعض ,ويلعن بعضهم بعضا,
ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }
والعجب ,أن المشرك استكبر عن النقياد للرسل ,بزعمه أنهم بشر ,ورضي أن يعبد ويدعو
الشجر ,والحجر ,استكبر عن الخلص للملك الرحمن الديان ,ورضي بعبادة من ضره أقرب من
نفعه ,طاعة لعدى عدو له وهو الشيطان.
وقوله { :حَتّى ِإذَا فُ ّزعَ عَنْ قُلُو ِبهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَ ّبكُمْ قَالُوا ا ْلحَقّ وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ } يحتمل أن
الضمير في هذا الموضع ,يعود إلى المشركين ,لنهم مذكورون في اللفظ ،والقاعدة في الضمائر,
أن تعود إلى أقرب مذكور ،ويكون المعنى :إذا كان يوم القيامة ,وفزع عن قلوب المشركين ,أي:
زال الفزع ,وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ,عن حالهم في الدنيا ,وتكذيبهم للحق الذي جاءت به
الرسل ,أنهم يقرون ,أن ما هم عليه من الكفر والشرك ,باطل ,وأن ما قال اللّه ,وأخبرت به عنه
رسله ,هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه ,واعترفوا بذنوبهم.
{ وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ } بذاته ,فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم ,وعلو قدره ,بما له من الصفات العظيمة,
جليلة المقدار { ا ْلكَبِيرُ } في ذاته وصفاته.
ومن علوه ,أن حكمه تعالى ,يعلو ,وتذعن له النفوس ,حتى نفوس المتكبرين والمشركين.
وهذا المعنى أظهر ,وهو الذي يدل عليه السياق ،ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملئكة ,وذلك أن
اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي ,سمعته الملئكة ,فصعقوا ,وخروا للّه سجدا ،فيكون أول من يرفع
رأسه جبريل ,فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد ،وإذا زال الصعق عن قلوب الملئكة ,وزال الفزع,
فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلم الذي صعقوا منه :ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض :قال
الحق ,إما إجمال ,لعلمهم أنه ل يقول إل حقا ،وإما أن يقولوا :قال كذا وكذا ,للكلم الذي سمعوه
منه ,وذلك من الحق.
فيكون المعنى على هذا :أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك اللهة ,التي وصفنا لكم عجزها
ونقصها ,وعدم نفعها بوجه من الوجوه ,كيف صدفوا وصرفوا عن إخلص العبادة للرب العظيم,
العلي الكبير ,الذي -من عظمته وجلله -أن الملئكة الكرام ,والمقربين من الخلق ,يبلغ بهم
الخضوع والصعق ,عند سماع كلمه هذا المبلغ ,ويقرون كلهم للّه ,أنه ل يقول إل الحق.
فما بال هؤلء المشركين ,استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ,وعظمة ملكه وسلطانه .فتعالى العلي
الكبير ,عن شرك المشركين ,وإفكهم ,وكذبهم.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُقلِ اللّ ُه وَإِنّا َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَى ُهدًى َأوْ فِي
ُ { } 27 - 24قلْ مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ
ج َمعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ َيفْتَحُ بَيْنَنَا
عمّا َت ْعمَلُونَ * ُقلْ يَ ْ
عمّا أَجْ َرمْنَا وَلَا ُنسَْألُ َ
ضَلَالٍ مُبِينٍ * ُقلْ لَا تُسْأَلُونَ َ
حكِيمُ }
حقْتُمْ بِهِ شُ َركَاءَ كَلّا َبلْ ُهوَ اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ق وَ ُهوَ ا ْلفَتّاحُ ا ْلعَلِيمُ * ُقلْ أَرُو ِنيَ الّذِينَ َألْ َ
حّبِالْ َ
يأمر تعالى ,نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ,أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه{ :
ت وَالْأَ ْرضِ } فإنهم ل بد أن يقروا أنه اللّه ،ولئن لم يقروا فب { ُقلِ اللّهُ }
سمَاوَا ِ
مَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ
فإنك ل تجد من يدفع هذا القول ،فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات والرض,
وينزل [لكم] المطر ,وينبت لكم النبات ,ويفجر لكم النهار ,ويطلع لكم من ثمار الشجار ,وجعل
لكم الحيوانات جميعها ,لنفعكم ورزقكم ,فلم تعبدون معه من ل يرزقكم شيئا ,ول يفيدكم نفعا؟.
وقوله { :وَإِنّا َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَى ُهدًى َأوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي :إحدى الطائفتين منا ومنكم ,على
الهدى ,مستعلية عليه ,أو في ضلل مبين ،منغمرة فيه ،وهذا الكلم يقوله من تبين له الحق,
واتضح له الصواب ,وجزم بالحق الذي هو عليه ,وبطلن ما عليه خصمه.
أي :قد شرحنا من الدلة الواضحة عندنا وعندكم ,ما به يعلم علما يقينا ل شك فيه ,من المحق
منا ,ومن المبطل ,ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك ,ل فائدة فيه ،فإنك
إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق ,لسائر المخلوقات المتصرف فيها ,بجميع أنواع
التصرفات ,المسدي جميع النعم ,الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة ,ودفع عنهم كل نقمة ,الذي
له الحمد كله ,والملك كله ,وكل أحد من الملئكة فما دونهم ,خاضعون لهيبته ,متذللون لعظمته,
وكل الشفعاء تخافه ,ل يشفع أحد منهم عنده إل بإذنه العلي الكبير ,في ذاته ,وأوصافه ,وأفعاله,
الذي له كل كمال ,وكل جلل ,وكل جمال ,وكل حمد وثناء ومجد ،يدعو إلى التقرب لمن هذا
شأنه ,وإخلص العمل له ,وينهى عن عبادة من سواه ,وبين من يتقرب إلى أوثان ,وأصنام,
وقبور ,ل تخلق ,ول ترزق ,ول تملك لنفسها ,ول لمن عبدها ,نفعا ول ضرا ,ول موتا ول حياة,
ول نشورا ،بل هي جمادات ,ل تعقل ,ول تسمع دعاء عابديها ,ولو سمعته ما استجابت لهم ،ويوم
القيامة يكفرون بشركهم ,ويتبرأون منهم ,ويتلعنون بينهم ،ليس لهم قسط من الملك ,ول شركة
فيه ,ول إعانة فيه ،ول لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه ،فهو يدعو مَنْ هذا وصفه ,ويتقرب إليه
مهما أمكنه ,ويعادي من أخلص الدين للّه ,ويحاربه ,ويكذب رسل اللّه ,الذين جاءوا بالخلص للّه
وحده ،تبين لك أي الفريقين ,المهتدي من الضال ,والشقي من السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك
ذلك ,لن وصف الحال ,أوضح من لسان المقال.
جمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ُثمّ َيفْتَحُ بَيْنَنَا } أي :يحكم بيننا حكما ,يتبين به الصادق من
ولهذا قالُ { :قلْ َي ْ
الكاذب ,والمستحق للثواب ,من المستحق للعقاب ،وهو خير الفاتحين.
وكذلك خواص خلقه من النبياء والمرسلين ,ل يعلمون له شريكا ،فيا أيها المشركون أروني الذين
ألحقتم بزعمكم الباطل باللّه { شُ َركَاءُ }
وهذا السؤال ل يمكنهم الجابة عنه ,ولهذا قال { :كَلّا } أي :ليس للّه شريك ,ول ند ,ول ضد.
{ َبلْ ُهوَ اللّهُ } الذي ل يستحق التأله والتعبد ,إل هو { ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر كل شيء فكل ما سواه,
حكِيمُ } الذي أتقن ما خلقه ,وأحسن ما شرعه ،ولو لم يكن في حكمته
فهو مقهور مسخر مدبر { .الْ َ
في شرعه إل أنه أمر بتوحيده ,وإخلص الدين له ,وأحب ذلك ,وجعله طريقا للنجاة ,ونهى عن
الشرك به ,واتخاذ النداد من دونه ,وجعل ذلك طريقا للشقاء والهلك ,لكفى بذلك برهانا على
كمال حكمته ،فكيف وجميع ما أمر به ونهى عنه ,مشتمل على الحكمة؟"
{ َ { } 30 - 28ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا كَافّةً لِلنّاسِ َبشِيرًا وَنَذِيرًا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ *
وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلْ َل ُكمْ مِيعَادُ َيوْمٍ لَا َتسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَ ًة وَلَا
تَسْ َتقْ ِدمُونَ }
يخبر تعالى أنه ما أرسل رسوله صلى اللّه عليه وسلم ,إل ليبشر جميع الناس بثواب اللّه,
ويخبرهم بالعمال الموجبة لذلك ،وينذرهم عقاب اللّه ,ويخبرهم بالعمال الموجبة له ,فليس لك
من المر شيء ،وكل ما اقترح عليك أهل التكذيب والعناد ,فليس من وظيفتك ,إنما ذلك بيد اللّه
تعالى { ،وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } أي :ليس لهم علم صحيح ,بل إما جهال ,أو معاندون لم
يعملوا بعلمهم ,فكأنهم ل علم لهم .ومن عدم علمهم ,جعلهم عدم الجابة لما اقترحوه على الرسول,
مجبا لرد دعوته.
فمما اقترحوه ,استعجالهم العذاب ,الذي أنذرهم به فقال { :وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صَا ِدقِينَ } وهذا ظلم منهم .فأي ملزمة بين صدقه ,وبين الخبار بوقت وقوعه؟ وهل هذا إل رد
للحق ,وسفه في العقل؟ أليس النذير [في أمر] في أحوال الدنيا ,لو جاء قوما ,يعلمون صدقه
ونصحه ,ولهم عدو ينتهز الفرصة منهم و ُيعِدّ لهم فقال لهم :تركت عدوكم قد سار ,يريد اجتياحكم
واستئصالكم .فلو قال بعضهم :إن كنت صادقا ,فأخبرنا بأية ساعة يصل إلينا ,وأين مكانه الن؟
فهل يعد هذا القائل عاقل ,أم يحكم بسفهه وجنونه؟
هذا ,والمخبر يمكن صدقه وكذبه ,والعدو قد يبدو له غيرهم ,وقد تنحل عزيمته ،وهم قد يكون بهم
منعة يدافعون بها عن أنفسهم ،فكيف بمن كذب أصدق الخلق ,المعصوم في خبره ,الذي ل ينطق
عن الهوى ,بالعذاب اليقين ,الذي ل مدفع له ,ول ناصر منه؟! أليس رد خبره بحجة عدم بيانه
وقت وقوعه من أسفه السفه؟"
{ ُقلْ } لهم -مخبرا بوقت وقوعه الذي ل شك فيه َ { :-ل ُكمْ مِيعَادُ َيوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَ ْنهُ سَاعَةً
وَلَا تَسْ َتقْ ِدمُونَ } فاحذروا ذلك اليوم ,وأعدوا له عدته.
ن وَلَا بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وََلوْ تَرَى ِإذِ
{ َ { } 33 - 31وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ ِب َهذَا ا ْلقُرْآ ِ
ضعِفُوا لِلّذِينَ
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ ا ْلقَ ْولَ َيقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ
جعُ َب ْع ُ
الظّاِلمُونَ َم ْوقُوفُونَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ يَرْ ِ
ن صَدَدْنَا ُكمْ عَنِ ا ْلهُدَى
ض ِعفُوا أَ َنحْ ُ
اسْ َتكْبَرُوا َلوْلَا أَنْتُمْ َلكُنّا ُمؤْمِنِينَ * قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا لِلّذِينَ اسْ ُت ْ
ل وَال ّنهَارِ إِذْ
ض ِعفُوا ِللّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َبلْ َمكْرُ اللّ ْي ِ
َبعْدَ ِإذْ جَا َءكُمْ َبلْ كُنْتُمْ ُمجْ ِرمِينَ * َوقَالَ الّذِينَ اسْ ُت ْ
جعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ
ب وَ َ
ج َعلَ لَهُ أَ ْندَادًا وََأسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ
تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َنكْفُرَ بِاللّ ِه وَنَ ْ
الّذِينَ َكفَرُوا َهلْ يُجْ َزوْنَ إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب ,ل بد من وقوعه عند حلول أجله ،ذكر هنا حالهم في
ذلك اليوم ,وأنك لو رأيت حالهم إذا وقفوا عند ربهم ,واجتمع الرؤساء والتباع في الكفر
والضلل ,لرأيت أمرا عظيما وهول جسيما ،ورأيت كيف يتراجع ,ويرجع بعضهم إلى بعض
ض ِعفُوا } وهم التباع { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } وهم القادةَ { :لوْلَا أَنْتُمْ َلكُنّا
القول ،فب { َيقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ
ُم ْؤمِنِينَ } ولكنكم حُلْتُم بيننا وبين اليمان ,وزينتم لنا الكفر[ان] ,فتبعناكم على ذلك ،ومقصودهم
بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء دونهم.
ج َعلَ لَهُ
ضعِفُوا لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َبلْ َمكْرُ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ ِإذْ تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َن ْكفُرَ بِاللّ ِه وَنَ ْ
{ َوقَالَ الّذِينَ اسْ ُت ْ
أَنْدَادًا } أي :بل الذي دهانا منكم ,ووصل إلينا من إضللكم ,ما دبرتموه من المكر ,في الليل
والنهار ,إذ ُتحَسّنون لنا الكفر ,وتدعوننا إليه ,وتقولون :إنه الحق ,وتقدحون في الحق وتهجنونه,
وتزعمون أنه الباطل ،فما زال مكركم بنا ,وكيدكم إيانا ,حتى أغويتمونا وفتنتمونا.
فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إل تبري بعضهم من بعض ,والندامة العظيمة ,ولهذا قال:
{ وَأَسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ } أي :زال عنهم ذلك الحتجاج الذي احتج به بعضهم على
بعض لينجو من العذاب ,وعلم أنه ظالم مستحق له ،فندم كل منهم غاية الندم ,وتمنى أن لو كان
على الحق[ ,وأنه] ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب ,سرا في أنفسهم ,لخوفهم من
الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم .وفي بعض مواقف القيامة ,وعند دخولهم النار ,يظهرون ذلك
الندم جهرا.
{ وَ َيوْمَ َي َعضّ الظّالِمُ عَلَى َيدَيْهِ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي َلمْ أَتّخِذْ
فُلَانًا خَلِيلًا } اليات.
حقًا لَِأصْحَابِ
سعِيرِ * فَاعْتَ َرفُوا بِذَنْ ِبهِمْ فَسُ ْ
سمَعُ َأوْ َن ْع ِقلُ مَا كُنّا فِي َأصْحَابِ ال ّ
{ َوقَالُوا َلوْ كُنّا نَ ْ
سعِيرِ }
ال ّ
{ وجعلنا الغلل في أعناق الذين كفروا } يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه كما
سجَرُونَ } اليات.
حمِيمِ ُثمّ فِي النّارِ يُ ْ
سحَبُونَ فِي الْ َ
سلُ يُ ْ
قال تعالى { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِمْ وَالسّلَا ِ
{ َهلْ ُيجْ َزوْنَ } في هذا العذاب والنكال ,وتلك الغلل الثقال { إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } من الكفر
والفسوق والعصيان.
{ َ { } 39 - 34ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ َنذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا إِنّا ِبمَا أُ ْرسِلْتُمْ ِبهِ كَافِرُونَ *
َوقَالُوا َنحْنُ َأكْثَرُ َأ ْموَالًا وََأوْلَادًا َومَا نَحْنُ ِب ُم َعذّبِينَ * ُقلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ
ع ِملَ
ن وَ َ
وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ * َومَا َأ ْموَاُلكُ ْم وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ بِالّتِي ُتقَرّ ُبكُمْ عِ ْندَنَا زُ ْلفَى إِلّا مَنْ آمَ َ
س َعوْنَ فِي آيَاتِنَا
عمِلُوا وَهُمْ فِي ا ْلغُ ُرفَاتِ آمِنُونَ * وَالّذِينَ َي ْ
ضعْفِ ِبمَا َ
صَالِحًا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ جَزَاءُ ال ّ
سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ لَهُ
حضَرُونَ * ُقلْ إِنّ رَبّي يَبْ ُ
ُمعَاجِزِينَ أُولَ ِئكَ فِي ا ْلعَذَابِ مُ ْ
شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُهُ وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ }
َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َ
يخبر تعالى عن حالة المم الماضية المكذبة للرسل ,أنها كحال هؤلء الحاضرين المكذبين
لرسولهم محمد صلى اللّه عليه وسلم ,وأن اللّه إذا أرسل رسول في قرية من القرى ,كفر به
مترفوها ,وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها.
{ َوقَالُوا نَحْنُ َأكْثَرُ َأ ْموَالًا وَأَوْلَادًا } أي :ممن اتبع الحق { َومَا َنحْنُ ِب ُمعَذّبِينَ } أي :أول ,لسنا
بمبعوثين ,فإن بعثنا ,فالذي أعطانا الموال والولد في الدنيا ,سيعطينا أكثر من ذلك في الخرة
ول يعذبنا.
فأجابهم اللّه تعالى ,بأن بسط الرزق وتضييقه ,ليس دليل على ما زعمتم ،فإن الرزق تحت مشيئة
اللّه ,إن شاء بسطه لعبده ,وإن شاء ضيقه.
وليست الموال والولد بالتي تقرب إلى ال زلفى وتدني إليه ،وإنما الذي يقرب منه زلفى,
اليمان بما جاء به المرسلون ,والعمل الصالح الذي هو من لوازم اليمان ,فأولئك لهم الجزاء عند
اللّه تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها ,إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ,ل يعلمها إل
اللّه { ،وَهُمْ فِي ا ْلغُ ُرفَاتِ آمِنُونَ } أي :في المنازل العاليات المرتفعات جدا ,ساكنين فيها مطمئنين,
آمنون من المكدرات والمنغصات ,لما هم فيه من اللذات ,وأنواع المشتهيات ,وآمنون من الخروج
منها والحزن فيها.
وأما الذين سعوا في آياتنا على وجه التعجيز لنا ولرسلنا والتكذيب فب { أُولَ ِئكَ فِي ا ْل َعذَابِ
حضَرُونَ }
مُ ْ
سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ لَهُ } ليرتب عليه قولهَ { :ومَا أَ ْنفَقْتُمْ
ثم أعاد تعالى أنه { يَبْ ُ
شيْءٍ } نفقة واجبة ,أو مستحبة ,على قريب ,أو جار ,أو مسكين ,أو يتيم ,أو غير ذلك،
مِنْ َ
{ َف ُهوَ } تعالى { يُخِْلفُهُ } فل تتوهموا أن النفاق مما ينقص الرزق ,بل وعد بالخلف للمنفق ,الذي
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر { وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } فاطلبوا الرزق منه ,واسعوا في السباب
التي أمركم بها.
جمِيعًا ثُمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ أَ َهؤُلَاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ * قَالُوا
حشُرُهُمْ َ
{ { } 42 - 40وَ َيوْمَ يَ ْ
ضكُمْ
سُ ْبحَا َنكَ أَ ْنتَ وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْ ُبدُونَ الْجِنّ َأكْثَ ُرهُمْ ِبهِمْ ُمؤْمِنُونَ * فَالْ َيوْمَ لَا َيمِْلكُ َب ْع ُ
لِ َب ْعضٍ َنفْعًا وَلَا ضَرّا وَ َنقُولُ لِلّذِينَ ظََلمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ }
جمِيعًا } أي :العابدين لغير اللّه والمعبودين من دونه ,من الملئكة { .ثُمّ َيقُولُ }
{ وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ َ
ال { لِ ْلمَلَا ِئ َكةِ } على وجه التوبيخ لمن عبدهم { أَ َهؤُلَاءِ إِيّا ُكمْ كَانُوا َيعْبُدُونَ } فتبرأوا من عبادتهم.
ولكن هؤلء المشركون { كَانُوا َيعْبُدُونَ الْجِنّ } أي :الشياطين ,يأمرون بعبادتنا أو عبادة غيرنا,
فيطيعونهم بذلك .وطاعتهم هي عبادتهم ,لن العبادة الطاعة ,كما قال تعالى مخاطبا لكل من اتخذ
ع ُدوّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا
عهَدْ إِلَ ْيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا َتعْبُدُوا الشّيْطَانَ إِنّهُ َلكُمْ َ
معه آلهة { أََلمْ أَ ْ
صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ }
{ َأكْثَرُ ُهمْ ِبهِمْ ُم ْؤمِنُونَ } أي :مصدقون للجن ,منقادون لهم ,لن اليمان هو :التصديق الموجب
للنقياد.
عمّا كَانَ
جلٌ يُرِيدُ أَنْ َيصُ ّدكُمْ َ
{ { } 45 - 43وَإِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا َهذَا إِلّا َر ُ
سحْرٌ مُبِينٌ
َيعْبُدُ آبَا ُؤكُمْ َوقَالُوا مَا َهذَا إِلّا ِإ ْفكٌ ُمفْتَرًى َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِ ْلحَقّ َلمّا جَا َءهُمْ إِنْ هَذَا إِلّا ِ
* َومَا آتَيْنَا ُهمْ مِنْ كُ ُتبٍ َيدْرُسُو َنهَا َومَا أَرْسَلْنَا إِلَ ْي ِهمْ قَبَْلكَ مِنْ نَذِيرٍ * َوكَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َومَا
بََلغُوا ِمعْشَارَ مَا آتَيْنَا ُهمْ َفكَذّبُوا رُسُلِي َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ }
يخبر تعالى عن حالة المشركين ,عندما تتلى عليهم آيات اللّه البينات ,وحججه الظاهرات,
وبراهينه القاطعات ,الدالة على كل خير ,الناهية عن كل شر ,التي هي أعظم نعمة جاءتهم ,ومِنّةٍ
وصلت إليهم ,الموجبة لمقابلتها باليمان والتصديق ,والنقياد ,والتسليم ,أنهم يقابلونها بضد ما
عمّا كَانَ َيعْ ُبدُ
جلٌ يُرِيدُ أَنْ َيصُ ّدكُمْ َ
ينبغي ,ويكذبون من جاءهم بها ويقولون { :مَا هَذَا إِلّا رَ ُ
آبَا ُؤكُمْ } أي :هذا قصده ,حين يأمركم بالخلص للّه ,لتتركوا عوائد آبائكم ,الذين تعظمون
وتمشون خلفهم ،فردوا الحق ,بقول الضالين ,ولم يوردوا برهانا ,ول شبهة.
فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين ,باتباع الحق ,فادّعوا أن إخوانهم ,الذين على طريقتهم,
لم يزالوا عليه؟ وهذه السفاهة ,ورد الحق ,بأقوال الضالين ,إذا تأملت كل حق رد ,فإذا هذا مآله ل
يرد إل بأقوال الضالين من المشركين ,والدهريين ,والفلسفة ,والصابئين ,والملحدين في دين اللّه,
المارقين ,فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة.
ولما احتجوا بفعل آبائهم ,وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل ,طعنوا بعد هذا بالحقَ { ،وقَالُوا مَا
حقّ َلمّا
هَذَا إِلّا ِإ ْفكٌ ُمفْتَرًى } أي :كذب افتراه هذا الرجل ,الذي جاء بهَ { .وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلْ َ
سحْرٌ مُبِينٌ } أي :سحر ظاهر بيّن لكل أحد ,تكذيبا بالحق ,وترويجا على
جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلّا ِ
السفهاء.
ولما بيّن ما ردوا به الحق ,وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة ,فضل أن تكون حجة ,ذكر أنهم وإن
أراد أحد أن يحتج لهم ,فإنهم ل مستند لهم ,ول لهم شيء يعتمدون عليه أصل ,فقالَ { :ومَا آتَيْنَا ُهمْ
مِنْ كُ ُتبٍ َيدْرُسُو َنهَا } حتى تكون عمدة لهم { َومَا أَرْسَلْنَا إِلَ ْي ِهمْ قَبَْلكَ مِنْ نَذِيرٍ } حتى يكون عندهم
من أقواله وأحواله ,ما يدفعون به ,ما جئتهم به ،فليس عندهم علم ,ول أثارة من علم.
ثم خوفهم ما فعل بالمم المكذبين [قبلهم] فقالَ { :وكَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َومَا بََلغُوا } أي :ما بلغ
هؤلء المخاطبون { ِمعْشَارَ مَا آتَيْنَا ُهمْ } { َفكَذّبُوا } أي :المم الذين من قبلهم { ُرسُلِي َفكَ ْيفَ كَانَ
َنكِيرِ } أي :إنكاري عليهم ,وعقوبتي إياهم .قد أعلمنا ما فعل بهم من النكال ,وأن منهم من أغرقه,
ومنهم من أهلكه بالريح العقيم ,وبالصيحة ,وبالرجفة ,وبالخسف بالرض ,وبإرسال الحاصب من
السماء ،فاحذروا يا هؤلء المكذبون ,أن تدوموا على التكذيب ,فيأخذكم كما أخذ من قبلكم,
ويصيبكم ما أصابهم.
ح َدةٍ أَنْ َتقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى َوفُرَادَى ُثمّ تَ َت َفكّرُوا مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مِنْ
ظ ُكمْ ِبوَا ِ
{ ُ { } 50 - 46قلْ إِ ّنمَا أَعِ ُ
علَى
جِنّةٍ إِنْ ُهوَ إِلّا َنذِيرٌ َلكُمْ بَيْنَ يَ َديْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * ُقلْ مَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ أَجْرٍ َف ُهوَ َلكُمْ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا َ
ق َومَا يُبْ ِدئُ
حّحقّ عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ * ُقلْ جَاءَ الْ َ
شهِيدٌ * ُقلْ إِنّ رَبّي َيقْ ِذفُ بِالْ َ
شيْءٍ َ
اللّ ِه وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
ضلّ عَلَى َنفْسِي وَإِنِ اهْ َتدَ ْيتُ فَ ِبمَا يُوحِي إَِليّ رَبّي إِنّهُ
ن ضَلَ ْلتُ فَإِ ّنمَا َأ ِ
ل َومَا ُيعِيدُ * ُقلْ إِ ْ
طُالْبَا ِ
سمِيعٌ قَرِيبٌ }
َ
أي { ُقلْ } يا أيها الرسول ,لهؤلء المكذبين المعاندين ,المتصدين لرد الحق وتكذيبه ,والقدح بمن
ح َدةٍ } أي :بخصلة واحدة ,أشير عليكم بها ,وأنصح لكم في سلوكها،
ظ ُكمْ ِبوَا ِ
جاء به { :إِ ّنمَا أَعِ ُ
وهي طريق نصف ,لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي ,ول إلى ترك قولكم ,من دون موجب لذلك,
وهي { :أَنْ َتقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى َوفُرَادَى } أي :تنهضوا بهمة ,ونشاط ,وقصد لتباع الصواب,
وإخلص للّه ,مجتمعين ,ومتباحثين في ذلك ,ومتناظرين ,وفرادى ,كل واحد يخاطب نفسه بذلك.
فإذا قمتم للّه ,مثنى وفرادى ,استعملتم فكركم ,وأجلتموه ,وتدبرتم أحوال رسولكم ،هل هو مجنون,
فيه صفات المجانين من كلمه ,وهيئته ,وصفته؟ أم هو نبي صادق ,منذر لكم ما يضركم ,مما
أمامكم من العذاب الشديد؟
فلو قبلوا هذه الموعظة ,واستعملوها ,لتبين لهم أكثر من غيرهم ,أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم ,ليس بمجنون ,لن هيئاته ليست كهيئات المجانين ,في خنقهم ,واختلجهم ,ونظرهم ،بل
هيئته أحسن الهيئات ,وحركاته أجل الحركات ,وهو أكمل الخلق ,أدبا ,وسكينة ,وتواضعا ,ووقارا,
ل يكون [إل] لرزن الرجال عقل.
ثم [إذا] تأملوا كلمه الفصيح ,ولفظه المليح ,وكلماته التي تمل القلوب ,أمنا ,وإيمانا ,وتزكى
النفوس ,وتطهر القلوب ,وتبعث على مكارم الخلق ,وتحث على محاسن الشيم ,وترهب عن
مساوئ الخلق ورذائلها ،إذا تكلم رمقته العيون ,هيبة وإجلل وتعظيما.
فهل هذا يشبه هذيان المجانين ,وعربدتهم ,وكلمهم الذي يشبه أحوالهم؟"
فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلم هل هو رسول اللّه أم ل؟ سواء تفكر وحده ,أو مع غيره,
جزم بأنه رسول اللّه حقا ,ونبيه صدقا ,خصوصا المخاطبين ,الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره
وآخره.
وثَمّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق ,وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له ,ويأخذ
أجرة على دعوته .فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى ال عليه وسلم عن هذا المر فقالُ { :قلْ
مَا سَأَلْ ُتكُمْ مِنْ أَجْرٍ } أي :على اتباعكم للحق { َف ُهوَ َلكُمْ } أي :فأشهدكم أن ذلك الجر -على
شهِيدٌ } أي :محيط علمه بما أدعو
شيْءٍ َ
التقدير -أنه لكم { ،إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا عَلَى اللّهِ وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
إليه ،فلو كنت كاذبا ,لخذني بعقوبته ،وشهيد أيضا على أعمالكم ,سيحفظها عليكم ,ثم يجازيكم
بها.
ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق ,وبطلن الباطل ,أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن
طلِ فَيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَا ِهقٌ } لنه بين من الحق في هذا الموضع ,ورد به
{ َيقْ ِذفُ بِا ْلحَقّ عَلَى الْبَا ِ
أقوال المكذبين ,ما كان عبرة للمعتبرين ,وآية للمتأملين.
فإنك كما ترى ,كيف اضمحلت أقوال المكذبين ,وتبين كذبهم وعنادهم ,وظهر الحق وسطع ,وبطل
الباطل وانقمع ،وذلك بسبب بيان { عَلّامُ ا ْلغُيُوبِ } الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب ,من
الوساوس والشبه ,ويعلم ما يقابل ذلك ,ويدفعه من الحجج.
ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول ,وكان المكذبون له ,يرمونه بالضلل ,أخبرهم بالحق,
ووضحه لهم ,وبين لهم عجزهم عن مقاومته ,وأخبرهم أن رميهم له بالضلل ,ليس بضائر الحق
شيئا ,ول دافع ما جاء به.
وأنه إن ضل -وحاشاه من ذلك ,لكن على سبيل التنزل في المجادلة -فإنما يضل على نفسه,
أي :ضلله قاصر على نفسه ,غير متعد إلى غيره.
{ وَإِنِ اهْتَدَ ْيتُ } فليس ذلك من نفسي ,وحولي ,وقوتي ,وإنما هدايتي بما { يُوحِي إَِليّ رَبّي } فهو
سمِيعٌ } للقوال والصوات كلها { قَرِيبٌ }
مادة هدايتي ,كما هو مادة هداية غيري .إن ربي { َ
ممن دعاه وسأله وعبده.
ت وَأُخِذُوا مِنْ َمكَانٍ قَرِيبٍ * َوقَالُوا آمَنّا بِهِ وَأَنّى َلهُمُ
{ { } 54 - 51وََلوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا َف ْو َ
ل وَ َيقْ ِذفُونَ بِا ْلغَ ْيبِ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ * َوحِيلَ بَيْ َن ُهمْ
التّنَاوُشُ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ * َوقَدْ َكفَرُوا بِهِ مِنْ قَ ْب ُ
شكّ مُرِيبٍ }
ع ِهمْ مِنْ قَ ْبلُ إِ ّنهُمْ كَانُوا فِي َ
وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ َكمَا ُف ِعلَ بِأَشْيَا ِ
يقول تعالى { وََلوْ تَرَى } أيها الرسول ,ومن قام مقامك ,حال هؤلء المكذبين { ،إِذْ فَزِعُوا } حين
رأوا العذاب ,وما أخبرتهم به الرسل ,وما كذبوا به ,لرأيت أمرا هائل ,ومنظرا مفظعا ,وحالة
منكرة ,وشدة شديدة ,وذلك حين يحق عليهم العذاب.
فليس لهم عنه مهرب ول فوت { وَأُخِذُوا مِنْ َمكَانٍ قَرِيبٍ } أي :ليس بعيدا عن محل العذاب ,بل
يؤخذون ,ثم يقذفون في النار.
{ َوقَالُوا } في تلك الحال { :آمَنّا } بال وصدقنا ما به كذبنا { و } لكن { أَنّى َلهُمُ التّنَاوُشُ } أي:
تناول اليمان { مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } قد حيل بينهم وبينه ,وصار من المور المحالة في هذه الحالة،
فلو أنهم آمنوا وقت المكان ,لكان إيمانهم مقبول ،ولكنهم { َكفَرُوا بِهِ مِنْ قَ ْبلُ وَ َيقْ ِذفُونَ } أي:
يرمون { بِا ْلغَ ْيبِ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } بقذفهم الباطل ,ليدحضوا به الحق ،ولكن ل سبيل إلى ذلك ,كما
ل سبيل للرامي ,من مكان بعيد إلى إصابة الغرض ،فكذلك الباطل ,من المحال أن يغلب الحق أو
يدفعه ,وإنما يكون له صولة ,وقت غفلة الحق عنه ,فإذا برز الحق ,وقاوم الباطل ,قمعه.
{ وَحِيلَ بَيْ َن ُه ْم وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ } من الشهوات واللذات ,والولد ,والموال ,والخدم ,والجنود ،قد
انفردوا بأعمالهم ,وجاءوا فرادى ,كما خلقوا ,وتركوا ما خولوا ,وراء ظهورهمَ { ،كمَا ُف ِعلَ
عهِمْ } من المم السابقين ,حين جاءهم الهلك ,حيل بينهم وبين ما يشتهون { ،إِ ّنهُمْ كَانُوا فِي
بِأَشْيَا ِ
شكّ مُرِيبٍ } أي :محدث الريبة وقلق القلب فلذلك ,لم يؤمنوا ,ولم يعتبوا حين استعتبوا.
َ
تم تفسير سورة سبأ -وللّه الحمد والمنة ,والفضل ,ومنه العون ,وعليه التوكل ,وبه الثقة.