Professional Documents
Culture Documents
المؤلف :أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 774- 700
هـ ]
المحقق :سامي بن محمد سلمة
الناشر :دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة :الثانية 1420هـ 1999 -م
عدد الجزاء 8 :
مصدر الكتاب :موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
www.qurancomplex.com
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ،والصفحات مذيلة بحواشي المحقق ]
مقدمة التحقيق
عمَالِنا ،
حمَدُه ،ونستعينُه ،ونستغف ُرهُ ،ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا َ ،ومِنْ سيئاتِ أ ْ
حمْدَ ل َ ،ن ْ
إنّ ال َ
ضلّ لَهُ ،ومن ُيضِْللْ ،فَل هَادِي َلهُ.
مَنْ َيهْدِه ال فَل ُم ِ
حمّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
ل وَحْ َدهُ ل شَرِيكَ لَهُ ،وأشهدُ أنّ مُ َ
شهَدُ أنْ ل إَلهَ إل ا ُ
وأَ ْ
حقّ ُتقَاتِ ِه وَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ } [آل عمران .]102 :
{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َ
جهَا وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا رِجَال كَثِيرًا
س وَاحِ َد ٍة َوخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
{ يَاأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ
وَنِسَا ًء وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ ِب ِه وَالرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْي ُكمْ َرقِيبًا } [النساء .]1 :
عمَاَلكُمْ وَ َيغْفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُ ْم َومَنْ ُيطِعِ
سدِيدًا * ُيصْلِحْ َلكُمْ أَ ْ
{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َوقُولُوا َقوْل َ
اللّ َه وَرَسُوَلهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا عَظِيمًا } [الحزاب .]71 ، 70 :
أما بعد :
فهذا هو كِتَاب َتفْسِير القرآن العظيم ،للمام العلمة ،ال ُمفَسّر ،المُؤرّخ ،الحُجّةِ الحَا ِفظِ إسْماعيلَ
حمَه الُ ُ -أ َق ّدمُه ِلقُرّاء العَرَبِيّةِ والعَالَم
شقِيّ َ -ر ِ
شيّ الشّا ِف ِعيّ ال ّد َم ْ
ضوْءِ بْنِ كَثي ٍر القُرَ ِ
ن َ
عمَرَ بْ ِ
بْنِ ُ
السْل ِميّ َ ،ب ْعدَ مُضيّ قَرْنٍ من الزمان على طبعته الولَى تقريبًا ،كادتْ -خِلل هذه الفَتْ َرةِ -
ن صَحفيّينَ
ث الوَرّاقِين ،و ُممَارسَاتِ المتأكّلِين مِ ْ
أن تُخْفى َمعَاِلمُهُ ،وتَنمَحِي ُممَيّزَاتُهُ مِنْ جَرّاء عَ َب ِ
َوكَتْبِيين.
حوٍ يُيَسّر
حقِيقِ ِه وضَبْط َنصّهِ ،وتَخْرِيجِ أحَادِيثهِ وال ّتعْلِيق عَلَيْهِ ،عَلَى َن ْ
أق ّدمُه َبعْد أن ُق ْمتُ بِأعْبَاءِ َت ْ
الفَائِدةَ مِنْهُ ،ويُحقّقُ رَغْبَةَ أهْل العِلْم الذين طالما َتمَ ّنوْا أنْ يُ ْنشَرَ هَذَا ا ْلكِتَابُ نَشْ َرةً عِ ْلمِيّةً ُموَثّقةً ،
سقْط وال ّتصْحِيفِ.
خَالِيةً مِنَ التّحْريفِ ،وال ّ
جلّ كُ ُتبِ التفسير ،أ ْمضَى فيه ُمؤَلّفهُ -رحمه ال -
وتَفْسير ابن كثير -رحمه ال -من أعْظَم وأ َ
خطُر له ،أو حكاية قولٍ أ ْزمَعَ
عمُرا طويل وهو يُقّلبُ فيه بين الفَيْنَةِ والخرى ،مُحَلّيًا إيّاه ِبفَائِدةٍ تَ ْ
ُ
حقِيقهُ.
تَ ْ
وقد احْ َتوَى َتفْسي ُرهُ على الكثير من الحَاديثِ والثارِ من مصادر شَتّى ،حتى أتَى على مُسْ َندِ
المام أحمد َفكَادَ يَسْ َتوْعِبه ،كما َنقَل عن مصادر ل ِذكْرَ لها في عَاَلمِ المخطوطات ،كتفسير
حمَ ْيدٍ ،وتفسير المام ابن المنْذِر ،وغيرها
المام أبي َبكْر بن مَرْدُويه ،وتفسير المام عَبْد بْنِ ُ
كثير.
ث ال ِفقْهيّةِ والمسائل الّل َغوِيّةِ ،وقد قال
ح ِ
ضمّنَ تفسيرُ ابن كثير -رحمه ال َ -ب ْعضَ المبا ِ
كما َت َ
المام
( )1/7
( )1/8
( )1/9
ضلَ /سعد بن صالح الطويل ،وكيلَ عِمادةِ شُؤون المكتبات بجَا ِمعَةِ المامِ
شكُرُ الستاذَ الفا ِ
وأ ْ
سمِ المخطوطات
محمد بن سعود السلمية سَا ِبقًا ،والستاذ الفاضل /صالح الحجي ،مُدِير قِ ْ
شكُرُ ُكلّ أخٍ ساعدنِي أو شَجّعنِي لمواصلة طريقِي.
سعُود ،وأ ْ
بجامعة الملك ُ
جهِهِ ا ْلكَرِيم ،وأنْ َيكُونَ من الثّلث التي
جعَلَهُ خالصًا لِو ْ
والَ أسْألُ أنْ يَنْفعَ به الجميعَ ،وأنْ ي ْ
س َهمَ فيه الجْرَ والمثوبَةَ ،إنه وَِليّ
ع َملُ ابْنِ آدمَ إذا مات إل مِنْها ،وأنْ يكْ ُتبَ لجميع من أ ْ
يَنْقطِعُ َ
جمَعينَ .وكتبه :
حمّدٍ وعَلَى آلِ ِه وصَحْبِه أ ْ
ذلك والقادِرُ عليه ،وصَلّى الُ وسَلّمَ على نَبِيّنا مُ َ
سامي بن محمد بن عبد الرحمن بن سلمة
الرياض 1417 /5 /5 :هـ
( )1/10
القسم الول
الدراسة
وقد اشتمل على مبحثين :
المبحث الول :ترجمة الحافظ ابن كثير.
المبحث الثاني :كتاب تفسير القرآن العظيم.
( )1/11
المبحث الول
ترجمة الحافظ ابن كثير
- 1نسبه وميلده :
هو المام الحافظ ،المحدث ،المؤرخ ،عماد الدين ،أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن
ضوء بن كثير بن ضوء بن درع القرشي الدمشقي الشافعي.
جدَل" من أعمال بصرى ،وهي قرية أمه ،سنة سبعمائة للهجرة أو بعدها بقليل.
ولد بقرية "مِ ْ
- 2نشأته :
نشأ الحافظ ابن كثير في بيت علم ودين ،فأبوه عمر بن حفص بن كثير أخذ عن النواوي
والفزاري وكان خطيب قريته ،وتوفى أبوه وعمره ثلث سنوات أو نحوها ،وانتقلت السرة بعد
موت والد ابن كثير إلى دمشق في سنة ( 707هـ) ،وخلف والده أخوه عبد الوهاب ،فقد بذل
جهدًا كبيرًا في رعاية هذه السرة بعد فقدها لوالدها ،وعنه يقول الحافظ ابن كثير " :وقد كان لنا
شقيقا ،وبنا رفيقًا شفوقًا ،وقد تأخرت وفاته إلى سنة ( 750هـ) فاشتغلت على يديه في العلم
فيسر ال منه ما تيسر وسهل منه ما تعسر" ()1
- 3شيوخه :
- 1شيخ السلم أبو العباس أحمد بن تيمية ،رحمه ال.
- 2الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي ،رحمه ال.
- 3الحافظ أبو عبد ال محمد بن أحمد الذهبي ،رحمه ال.
- 4الشيخ أبو العباس أحمد الحجار الشهير بـ "ابن الشحنة".
- 5الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الفزاري ،رحمه ال.
- 6الحافظ كمال الدين عبد الوهاب الشهير بـ "ابن قاضي شهبة".
- 7المام كمال الدين أبو المعالي محمد بن الزملكاني ،رحمه ال.
- 8المام محيي الدين أبو زكريا يحيى الشيباني ،رحمه ال.
- 9المام علم الدين محمد القاسم البرزالي ،رحمه ال.
- 10الشيخ شمس الدين أبو نصر محمد الشيرازي ،رحمه ال.
- 11الشيخ شمس الدين محمود الصبهاني ،رحمه ال.
- 12عفيف الدين إسحاق بن يحيى المدي الصبهاني ،رحمه ال.
__________
( )1البداية والنهاية (.)32 /14
( )1/12
( )1/14
- 5مؤلفاته :
أ -في علوم القرآن :
- 1تفسير القرآن العظيم :وسيأتي الكلم عليه في المبحث الثاني إن شاء ال تعالى.
- 2فضائل القرآن :وهو ملحق بالتفسير في النسخة البريطانية ،والنسخة المكية ،وقد اعتمدت
إلحاقه بالتفسير لقرب موضوعه من التفسير ؛ ولن هاتين النسختين هما آخر عهد ابن كثير
لتفسيره.
وقد طبعت مفردة بتحقيق الستاذ محمد البنا في مؤسسة علوم القرآن ببيروت.
ب -في السنة وعلومها :
- 3أحاديث الصول.
- 4شرح صحيح البخاري.
- 5التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والمجاهيل :منه نسخة بدار الكتب المصرية
برقم ( )24227في مجلدين ،وهي ناقصة ولديّ مصورة عنها.
- 6اختصار علوم الحديث :نشر بمكة المكرمة سنة ( 1353هـ) بتحقيق الشيخ محمد عبد
الرزاق حمزة ،ثم شرحه الشيخ أحمد شاكر ،رحمه ال ،وطبع بالقاهرة سنة ( 1355هـ).
- 7جامع المسانيد والسنن الهادي لقوم سنن :منه نسخة بدار الكتب المصرية برقم ()184
حديث ،ونشره مؤخرًا الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ،وطبع بدار الكتب العلمية ببيروت.
- 8مسند أبي بكر الصديق ،رضي ال عنه.
- 9مسند عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه :نشره الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ،وطبع
بدار الوفاء بمصر.
- 10الحكام الصغرى في الحديث.
- 11تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فقه الشافعية.
- 12تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب :طبع مؤخرًا بتحقيق الكبيسي ،ونشر في مكة.
- 13مختصر كتاب "المدخل إلى كتاب السنن" للبيهقي.
- 14جزء في حديث الصور.
- 15جزء في الرد على حديث السجل.
- 16جزء في الحاديث الواردة في فضل أيام العشرة من ذي الحجة.
- 17جزء في الحاديث الواردة في قتل الكلب.
- 18جزء في الحاديث الواردة في كفارة المجلس.
( )1/15
جـ -في الفقه وأصوله :
- 19الحكام الكبرى.
- 20كتاب الصيام.
- 21أحكام التنبيه.
- 22جزء في الصلة الوسطى.
- 23جزء في ميراث البوين مع الخوة.
- 24جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم ال عليها.
- 25جزء في الرد على كتاب الجزية.
- 26جزء في فضل يوم عرفة.
- 27المقدمات في أصول الفقه.
د -في التاريخ والمناقب :
- 28البداية والنهاية :مطبوع عدة طبعات في مصر وبيروت ،أحسنها الطبعة التي حققها
الدكتور علي عبد الستار وآخرون.
والنهاية مطبوع في مصر بتحقيق أحمد عبد العزيز.
- 29جزء مفرد في فتح القسطنطينية.
- 30السيرة النبوية :مطبوع باسم الفصول في سيرة الرسول بدمشق.
- 31طبقات الشافعية :منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا ،وقد طبع مؤخرًا في مصر.
- 32الواضح النفيس في مناقب محمد بن إدريس :منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا.
- 33مناقب ابن تيمية.
- 34مقدمة في النساب.
- 6ثناء العلماء عليه :
كان ابن كثير ،رحمه ال ،من أفذاذ العلماء في عصره ،أثنى عليه معاصروه ومن بعدهم الثناء
الجم :
فقد قال الحافظ الذهبي في طبقات شيوخه " :وسمعت مع الفقيه المفتي المحدّث ،ذى الفضائل ،
عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الشافعي ..سمع من ابن الشحنة وابن الزراد
وطائفة ،له عناية بالرجال والمتون والفقه ،خرّج وناظر وصنف وفسر وتقدم" (.)1
وقال عنه أيضًا في المعجم المختص " :المام المفتي المحدّث البارع ،فقيه متفنن ،محدث متقن ،
مفسر نقال" (.)2
__________
( )1طبقات الحفاظ للذهبي ( )29 /4وعمدة التفسير لحمد شاكر ()25 /1
( )2المعجم المختص للذهبي.
( )1/16
وقال تلميذه الحافظ أبو المحاسن الحسيني " :صاهر شيخنا أبا الحجاج المزي فأكثر ،وأفتى
ودرس وناظر ،وبرع في الفقه والتفسير والنحو وأمعن النظر في الرجال والعلل" (.)1
وقال العلمة ابن ناصر الدين " :الشيخ المام العلمة الحافظ عماد الدين ،ثقة المحدثين ،عمدة
المؤرخين ،علم المفسرين" (.)2
وقال ابن تغري بردي " :لزم الشتغال ،ودأب وحصل وكتب وبرع في الفقه والتفسير والفقه
والعربية وغير ذلك ،وأفتى ودرس إلى أن توفى" (.)3
وقال ابن حجر العسقلني " :كان كثير الستحضار ،حسن المفاكهة ،سارت تصانيفه في البلد
في حياته ،وانتفع الناس بها بعد وفاته" (.)4
وقال ابن حبيب " :إمام روى التسبيح والتهليل ،وزعيم أرباب التأويل ،سمع وجمع وصنف ،
وأطرب السماع بالفتوى وشنف ،وحدث وأفاد ،وطارت أوراق فتاويه إلى البلد ،واشتهر
بالضبط والتحرير ،وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ ،والحديث والتفسير" (.)5
وقال العيني " :كان قدوة العلماء والحفاظ ،وعمدة أهل المعاني واللفاظ ،وسمع وجمع وصنف ،
ودرس ،وحدث ،وألف ،وكان له اطلع عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ ،واشتهر
بالضبط والتحرير ،وانتهى إليه رياسة علم التاريخ والحديث والتفسير وله مصنفات عديدة مفيدة"
(.)6
وقال تلميذه ابن حجي " :أحفظ من أدركناه لمتون الحاديث ،وأعرفهم بجرحها ورجالها
وصحيحها وسقيمها ،وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك ،وكان يستحضر شيئا كثيرا من
الفقه والتاريخ ،قليل النسيان ،وكان فقيها جيد الفهم ،ويشارك في العربية مشاركة جيدة ،ونظم
الشعر ،وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إل واستفدت منه" (.)7
وقال الداودي " :أقبل على حفظ المتون ،ومعرفة السانيد والتعلل والرجال والتاريخ حتى برع
في ذلك وهو شاب" (.)8
- 7وفاته ورثاؤه :
في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة توفي الحافظ ابن
كثير بدمشق ،ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية ،رحمه ال.
وقد ذكر ابن ناصر الدين أنه "كانت له جنازة حافلة مشهودة ،ودفن بوصية منه في تربة شيخ
السلم ابن تيمية بمقبرة الصوفية".
وقد قيل في رثائه ،رحمه ال :
لفقدك طلب العلوم تأسفوا ...وجادوا بدمع ل يبير غزير
ولو مزجوا ماء المدامع بالدما ...لكان قليل فيك يا بن كثير
__________
( )1ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني ص ، 58وعمدة التفسير لحمد شاكر (.)26 /1
( )2الرد الوافر.
( )3النجوم الزاهرة (.)123 /11
( )4الدرر الكامنة.
( )5شذرات الذهب لبن العماد (.)232 /6
( )6النجوم الزاهرة (.)123 /11
( )7شذرات الذهب لبن العماد (.)232 /6
( )8طبقات المفسرين.
( )1/17
المبحث الثاني
كتاب تفسير القرآن العظيم
- 1تاريخ كتابته :
لم يحدد الحافظ ابن كثير ،رحمه ال ،تاريخ بدايته في كتابة هذا التفسير ول تاريخ انتهائه منه ،
لكن ثمة دلئل تدل على تاريخ انتهائه منه ،فإنه ذكر عند تفسير سورة النبياء شيخه المزي
ودعا له بطول العمر مما يفهم منه أنه قد ألف أكثر من نصف التفسير في حياة شيخه المزي
المتوفى سنة ( 742هـ).
واقتبس منه المام الزيلعي في كتابه تخريج أحاديث الكشاف ( )180 - 2والزيلعي توفي سنة (
762هـ) ،مما يدل على أن كتاب الحافظ ابن كثير انتشر في هذه الفترة.
هذا وتعتبر النسخة المكية أقدم النسخ التي وقعت بأيدينا ،وقد جاء بآخرها " :آخر كتاب فضائل
القرآن وبه تم التفسير للحافظ العلمة الرحلة الجهبذ مفيد الطالبين الشيخ عماد الدين إسماعيل
الشهير بابن كثير ،على يد أفقر العباد إلى ال الغني محمد بن أحمد بن معمر المقري البغدادي ،
عفا ال عنه ونفعه بالعلم ،ووفقه للعمل به آمين ....بتاريخه يوم الجمعة عاشر جمادى الخرة
من سنة تسع وخمسين وسبعمائة هللية هجرية".
- 2أهميته :
يعد تفسير الحافظ ابن كثير ،رحمه ال ،من الكتب التي كتب ال لها القبول والنتشار ،فل تكاد
تخلو منه اليوم مكتبة سواء كانت شخصية أو عامة.
وقد نهج الحافظ ابن كثير فيه منهجًا علميًا أصيل وساقه بعبارة فصيحة وجمل رشيقة ،وتتجلى
لنا أهمية تفسير الحافظ ابن كثير ،رحمه ال ،في النقاط التالية - 1 :ذكر الحديث بسنده.
- 2حكمه على الحديث في الغالب.
- 3ترجيح ما يرى أنه الحق ،دون التعصب لرأي أو تقليد بغير دليل.
- 4عدم العتماد على القصص السرائيلية التي لم تثبت في كتاب ال ول في صحيح سنة
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وربما ذكرها وسكت عليها ،وهو قليل.
- 5تفسيره ما يتعلق بالسماء والصفات على طريقة سلف المة ،رحمهم ال ،من غير تحريف
ول تأويل ول تشبيه ول تعطيل.
- 6استيعاب الحاديث التي تتعلق بالية ،فقد استوعب ،رحمه ال ،الحاديث الواردة في
عذاب القبر ونعيمه عند قوله تعالى { :يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِا ْل َق ْولِ الثّا ِبتِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي
الخِ َرةِ }
( )1/18
وكذا استوعب أحاديث السراء والمعراج عند قوله تعالى { :سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْل مِنَ
حوْلَهُ } وكذا الحاديث الواردة في الصلة على
ج ِد ال ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَى ا ْلمَسْ ِ
ا ْلمَ ْ
علَى النّ ِبيّ } وكذا الحاديث الواردة في
النبي عند قول ال تعالى { :إِنّ اللّ َه َومَل ِئكَتَهُ ُيصَلّونَ َ
فضل أهل البيت عند تفسير قوله تعالى { :إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُ ْذ ِهبَ عَ ْن ُكمُ الرّجْسَ أَ ْهلَ الْبَ ْيتِ
طهِيرًا } وغير هذا كثير (.)1
طهّ َركُمْ َت ْ
وَيُ َ
وقد قال السيوطي في ترجمة الحافظ ابن كثير " :له التفسير الذي لم يؤلف على نمط مثله".
وقال الشوكاني " :وله تصانيف ،منها التفسير المشهور وهو في مجلدات ،وقد جمع فيه
فأوعى ،ونقل المذاهب والخبار والثار ،وتكلم بأحسن كلم وأنفسه ،وهو من أحسن التفاسير
إن لم يكن أحسنها".
- 3مصادره :
أما مصادر الحافظ ابن كثير في تفسيره فقد سردها الدكتور إسماعيل عبد العال في كتابه " ابن
كثير ومنهجه في التفسير" أنقلها هنا حسب ترتيب المواضيع :
أول الكتب السماوية :
- 1القرآن الكريم.
- 2التوراة ،وأشار أنه نقل من نسختين.
- 3النجيل.
ثانيا :في التفسير وعلوم القرآن :
أ -في التفسير :
- 4تفسير آدم بن أبي إياس ،المتوفى سنة 220 /هـ أو 221هـ.
- 5تفسير أبي بكر بن المنذر ،المتوفى سنة 318 /هـ 0
- 6تفسير ابن أبي حاتم ،المتوفى سنة 223/هـ( ./ط) قسم منه.
- 7تفسير أبو مسلم الصبهاني (محمد بن بحر) ،المتوفى سنة 322/هـ ،واسم كتابه " :جامع
التأويل لمحكم التنزيل".
- 8تفسير ابن أبي نجيح (عبد ال بن يسار العرج المكي مولى ابن عمر).
- 9تفسير البغوي (أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد الفراء) ،المتوفى سنة ، 516واسم
كتابه (معالم التنزيل)( .ط).
- 10تفسير ابن تيمية (تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم) ،المتوفى سنة 728هـ ،
وهو جزء في تفسير قوله تعالى { :ذَِلكَ لِ َيعَْلمَ أَنّي لَمْ َأخُنْهُ بِا ْلغَ ْيبِ } (ط).
__________
( )1مقدمة الشيخ مقبل الوادعي (ص .)5
( )1/19
- 11تفسير الثعلبي (أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري) ،المتوفى سنة 427هـ
(مخطوط) في المكتبة المحمودية.
- 12تفسير الجبائي (أبي علي) المتوفى سنة 303هـ.
- 13تفسير ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي) ،المتوفى سنة 597هـ ،واسم الكتاب (زاد
المسير في علم التفسير) وهو مخطوط بدار الكتب تحت رقم 123تفسير في أربعة مجلدات.
(ط).
- 14تفسير ابن دحيم ( أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم) ،المتوفى سنة
319هـ.
- 15تفسير الرازي (محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أبو عبد ال المشهور
بفخر الدين الرازي) ،المتوفى سنة 606هـ ،وكتابه يسمى "التفسير الكبير" المشهور بمفاتيح
الغيب( .ط).
- 16تفسير الزمخشري (جار ال أبي القاسم محمود بن عمر الخوارزمي) ،المتوفى سنة 538
هـ وكتابه يدعى (الكشاف عن حقائق التنزيل ،وعيون القاويل في وجوه التأويل)( .ط).
- 17تفسير السدي الكبير ،المتوفى سنة 137هـ 745 -م.
- 18تفسير سنيد بن داود ،المتوفى سنة 226هـ.
- 19تفسير شجاع بن مخلد ،المتوفى سنة 235هـ.
- 20تفسير الطبري ،المتوفى سنة 310هـ (ط).
- 21تفسيرعبد بن حميد ،المتوفى سنة 249هـ.
- 22تفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،المتوفى سنة 182هـ.
- 23تفسير عبد الرزاق الصنعاني ،المتوفى سنة 211هـ( .ط).
- 24تفسير ابن عطية العوفي ،المتوفى سنة 111هـ.
- 25تفسير القرطبي (أبي عبد ال محمد بن أحمد النصاري القرطبي) ،المتوفى سنة 671هـ
،وتفسيره يسمى "الجامع لحكام القرآن الكريم"( .ط).
- 26تفسير مالك بن أنس إمام دار الهجرة ،وهو جزء مجموع له.
- 27تفسير الماوردي (أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب) ،المتوفى سنة 450هـ ،واسم
تفسيره "النكت والعيون".
- 28تفسير ابن مردويه.
- 29تفسير الواحدي (علي بن أحمد بن محمد بن علي أبي الحسن) ،المتوفى سنة 468هـ.
(ط) الوسيط.
- 30تفسير وكيع بن الجراح ،المتوفى سنة 197هـ.
( )1/20
( )1/21
- 46مسند المام أحمد بن حنبل (أبي عبد ال أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي) ،
المتوفى 241هـ 855 -م ،وصاحب المذهب الحنبلي المشهور( .ط).
ب -بقية كتب السنة وعلوم الحديث وشروحه :
- 47أحاديث الصول للحافظ ابن كثير.
- 48الحوذي في شرح الترمذي للمام أبي بكر محمد بن العربي ،المتوفى سنة 543هـ ،
واسم الكتاب (عارضة الحوذي في شرح الترمذي)( .ط).
- 49السماء والصفات للبيهقي (أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي) ،المتوفى سنة
453هـ ،والكتاب يتضمن الحاديث الواردة في أسماء ال تعالى وصفاته وهو مطبوع بمطبعة
أنوار أحمدي بالهند سنة 1313هـ.
- 50الربعين الطائية لبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي الهمداني ،المتوفى سنة 555
هـ .وقد ذكر فيه أنه أملى أربعين حديثا من مسموعاته عن أربعين شيخا ،كل حديث عن واحد
من الصحابة ،فذكر ترجمته وفضائله ،وأورد عقيب كل حديث بعض ما اشتمل عليه من
الفوائد ،وشرح غريبه وأتبع بكلمات مستحسنة وسماه (الربعين في إرشاد السائرين إلى منازل
اليقين).
- 51الطراف لبي الحجاج المزي( .ط) باسم تحفة الشراف.
- 52الفراد للدارقطني (أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني الشافعي) المولود في دار قطن من
محال بغداد ( 306هـ 918 -م) والمتوفى ( 385هـ 995 -م) أما اسم الكتاب فهو ( :فوائد
الفراد).
- 53المالي لحمد بن سليمان النجاد (أبي بكر أحمد بن سليمان بن الحسن الحنبلي المعروف
بالنجاد ،فقيه محدث) ،توفى 348هـ 960 -م ،ويبدو أن كتابه هذا هو ما أمله في دروسه
التي كان يعقدها بعد صلة الجمعة (وكانت له حلقتان في جامع المنصور :حلقة قبل الصلة
للفتوى على مذهب المام أحمد ،وبعد الصلة لملء الحديث ،واتسعت رواياته وانتشرت
أحاديثه ومصنفاته ،وكان رأسا في الفقه رأسا في الحديث).
- 54النواع والتقاسيم في الحديث لبن حبان (الحافظ محمد بن أحمد بن حبان البستي) المولود
في بست من نواحي سجستان بين هراه وغزنة ،والمتوفى ( 354هـ 965م) (ط) بترتيب
الفارسي.
- 55الثقات لبن حبان( .ط).
- 56جامع الصول لبن الثير (المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري
المتوفى 606هـ) أما الكتاب فهو (جامع الصول من أحاديث الرسول) جمع فيه ابن الثير
الصول الستة :البخاري ،ومسلم ،والموطأ ،وأبو داود ،والنسائي ،والترمذي ،وله مختصر
يسمى (تيسير الوصول إلى جامع الصول) لبن الديبع الشيباني ،المتوفى سنة 944هـ وهو
مطبوع بالمكتبة التجارية بتحقيق الشيخ حامد الفقي ،وبتحقيق الشيخ عبد القادر الرناؤوط.
( )1/22
- 57جامع الثوري (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) ،المتوفى سنة 161هـ وجامعه يسمى
(الجامع الكبير) يجرى مجرى الحديث رواه عنه جماعة منهم يزيد بن أبي حكيم وعبد ال بن
الوليد ،وله أيضًا (كتاب الجامع الصغير وكتاب الفرائض).
- 58الجامع لداب الراوي والسامع :للخطيب البغدادي (أبي أحمد بن علي بن ثابت المعروف
بالخطيب) ،البغدادي والمتوفى سنة 463هـ( .ط).
- 59جامع المسانيد لبن الجوزي.
- 60الجرح والتعديل لبن أبي حاتم( .ط).
- 61جزء في الحاديث التي تنهى عن إتيان النساء في أدبارهن للذهبي.
- 62جزء في الحاديث الواردة في الستغفار للدارقطني.
- 63جزء في الحاديث الواردة في فضل اليام العشرة من ذي الحجة لبن كثير.
- 64جزء في الحاديث الواردة في كفارة المجلس لبن كثير.
- 65جزء في حديث الصور لبن كثير أيضًا.
- 66جزء في الرد على حديث السجل لبن كثيركذلك.
- 67الخلفيات للبيهقي .قال السبكي في طبقات الشافعية ( :وأما كتاب الخلفيات فلم يسبق إلى
نوعه ،ولم يصنف مثله ،وهو طريقة مستقلة حديثة ل يقدر عليها إل مبرز في الفقه والحديث
قيم بالنصوص)( .ط).
- 68دلئل النبوة لبي زرعة الرازي (عبيد ال بن عبد الكريم بن يزيد فروخ الرازي (أبي
زرعة) محدث حافظ ،توفى ( 264هـ 878 -م).
- 69دلئل النبوة لبي نعيم الصبهاني (أحمد بن عبد ال الصبهاني) ،المتوفى سنة 420
هـ ،صاحب حلية الولياء ،وكتابه ذاك ثلثة أجزاء ،ذكر منها مؤلفها الحاديث الواردة في
شأن النبي صلى ال عليه وسلم وما يتعلق بحياته ونشأته وبعثته وزواجه وغزواته إلخ .وهو
مطبوع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة 1320هـ.
- 70دلئل النبوة للبيهقي ،وموضوعه كسالفه( .ط).
- 71السنة للطبراني ( ،أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني) صاحب المعاجم الثلثة
(الكبير والوسط والصغر) ( 360 - 260هـ).
- 72السنن لبي بكر بن عاصم (الحافظ أحمد بن عمر الشيباني) ،المتوفى 287هـ( .ط).
- 73سنن أبي بكر الثرم ( ،من أصحاب أحمد بن حنبل واسمه أحمد بن محمد بن هاني ويكنى
أبا بكر) ،له من الكتب كتاب السنن في الفقه على مذهب أحمد وشواهده من الحديث ،وكتاب
التاريخ وكتاب العلل وكتاب الناسخ والمنسوخ في الحديث.
- 74سنن أبي بكر البيهقي( .ط).
( )1/23
( )1/24
- 90مسند أبي داود الطيالسي ،سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي الفارسي مولى بني
الزبير المتوفى 202هـ ،وقيل 204هـ ،والكتاب مطبوع بحيدر آباد بالهند سنة 1321هـ.
- 91مسند أبي يعلى الموصلي (الحافظ أحمد بن علي بن المثنى الموصلي) ،المتوفى 307هـ
918 -م( .ط).
- 92مسند الحارث بن أبي أسامة (أبي محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التهيمي البغدادي)
282 - 186هـ.
- 93مسند الدارمي (عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي ،شيخ مسلم وأبي داود
والترمذي) ،المتوفى 255هـ 869 -م ،وقد نشر الكتاب في حيدر آباد سنة 1309هـ ،
وفي دلهى سنة 1337هـ.
- 94مسند الشافعي (المام الكبير صاحب المذهب المعروف باسمه محمد بن إدريس الشافعي)
المولود ( 150هـ 767 -م) والمتوفى ( 204هـ 820 -م) (ط).
- 95مسند ابن عباس رضي ال عنه ،الجزء الثاني منه للحافظ أبي يعلى الموصلي.
- 96مسند عبد بن حميد.
- 98 ، 97مسند عمر بن الخطاب للحافظ ابن كثير( .ط).
- 99المسند الكبير لبن كثير (واسمه جامع المسانيد والسنن الهادي لقوم سنن)( .ط).
- 100مسند محمد بن يحيى العبدي (الحافظ أبي عبد ال محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن
منده بن الوليد العبدي) ،المتوفى 395هـ 1005 -م.
- 101مسند الهيثم بن كليب (ابن شريح الشاشي أبي سعيد) ،المتوفى 335هـ 945 -م
وكتابه يسمى (المسند الكبير في الحديث) في مجلدين( .ط) قسم منه.
- 102مشكل الحديث لبي جعفر الطحاوي (أحمد بن محمد بن سلمة الزدي المصري
الطحاوي) ،المتوفي ، 321وقيل 322 :هـ( .ط).
- 103مشكل الحديث لبن قتيبة (عبد ال بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبي محمد) - 213 ،
276هـ( .ط).
- 104مصنف عبد الرزاق الصنعاني( .ط).
- 105المطولت للطبراني( .ط).
- 106معجم أبي العباس الدغولي ،المتوفى ( 325هـ 937 -م) (أبي العباس محمد بن عبد
الرحمن بن محمد بن عبد ال السرخسي الدغولي).
- 107معجم أبي القاسم البغوي (عبد ال بن محمد بن عبد العزيز البغوي ،ويعرف بابن بنت
منيع) المتوفى 317هـ ،وله المعجم الكبير والمعجم الصغير وكتاب السنن على مذاهب الفقهاء.
- 108المعجم الكبير للطبراني( .ط).
( )1/25
- 109الموضوعات لبي الفرج الجوزي .قال ابن كثير عنه ( :وقد صنف الشيخ أبو الفرج
الجوزي كتابًا حافل في الموضوعات غير أنه أدخل فيه ما ليس منه وخرج عنه ما كان يلزمه
ذكره فسقط عليه ولم يهتد إليه)( .ط) الصغرى منه.
- 110الموطأ للمام مالك( .ط).
- 111نوادر الصول للترمذي واسم الكتاب كامل (نوادر الصول في معرفة أحاديث الرسول)
لبي عبد ال محمد بن علي الحكيم الترمذي( .ط) .مجردا عن السانيد.
رابعا :مصادره في الفقه وأصوله :
- 112الحكام الكبرى للحافظ ابن كثير.
- 113الرشاد في أصول الفقه لمام الحرمين الجويني أبي المعالى عبد الملك بن عبد ال بن
يوسف المتوفى 478هـ( .ط).
- 114الستذكار لبي عمر بن عبد البر (يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الندلسي) ،
المتوفى ( .643ط).
- 115الملء للمام الشافعي.
- 116الم للمام الشافعي( .ط).
- 117الموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها لبي عبيد القاسم بن سلم( .ط).
- 118اليجاز في علم الفرائض لبن اللبان (أبي الحسين محمد بن عبد ال بن اللبان
المصري) ،المتوفى 402هـ.
- 119اليضاح لبي علي الطبري (أبي علي الحسن بن القاسم الطبري الشافعي) ،المتوفى
305هـ ،واسم الكتاب (اليضاح في الفروع).
- 120الحواشي للمنذري (للحافظ عبد العظيم بن عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد ال المنذري
زكي الدين أبي محمد محدث فقيه).
- 121جزء في تطهير المساجد لبن كثير.
- 122جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم ال عليها.
- 123جزء في فضل يوم عرفة لبن كثير.
- 124جزء في الميراث لبن كثير.
- 125الشامل للصباغ (واسمه الشامل في فروع الشافعية) لبي نصر عبد السيد بن محمد
المعروف بابن الصباغ الشافعي ،المتوفى 477هـ ،قال ابن خلكان :وهو من أجود كتب
الشافعية وأصحها نقل.
- 126شرح المهذب للنووي .قال ابن كثير ( :اعتنى -النووي -بالتصنيف فجمع شيئًا كثيرًا ،
منها ما أكمله ،ومنها ما لم يكمله ،فما كمل شرح مسلم والروضة ،والمنهاج ،والرياض ،
والذكار ،
( )1/26
والتبيان ،وتحرير التنبيه وتصحيحه وتهذيب السماء واللغات وطبقات الفقهاء وغير ذلك .ومما
لم يتمه -ولو كمل لم يكن له نظير في بيان :شرح المهذب الذي سماه (المجموع) وصل فيه إلى
كتاب الربا فأبدع فيه وأجاد ،وأفاد وأحسن النتقاء وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره وحرر
الحديث على ما ينبغي( .ط).
- 127الشرح الكبير للرافعي ( أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني
الرافعي) ،المتوفى سنة 623هـ ،وكتابه يسمى ( :العزيز في شرح الوجيز) وله أيضًا الشرح
الصغير) و (المحرر) و (شرح مسند الشافعي)( .ط).
- 128الصلة للمروزي (أبي عبد ال محمد بن نصر المروزي) كان من أشهر المحدثين في
زمانه) ،توفى 294هـ 906 -م( .ط).
- 129الصيام لبن كثير.
- 130العبادة للكامل الهذلي (أبي القاسم يوسف بن علي بن جبارة بن محمد الهذلي المغربي
المتوفى 465هـ 1074 -م).
- 131العدة للرافعي.
- 132فضائل الوقات للبيهقي.
- 133فضائل الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم لحمد بن فارس اللغوي ،أبي الحسين
القزويني ،المتوفى ( 395هـ )1004 -م.
- 134فضل الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل
الذري أبي إسحاق ،المتوفى 282هـ 896 -م( .ط).
- 135كتاب جمعه الذهبي في الكبائر( .ط).
- 136كتاب لبن تيمية في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل
باطل( .ط) .ضمن الفتاوى.
- 137كشف الغطا في تبيين الصلة الوسطى للحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي.
- 138المحلى لبن حزم ( أبي محمد بن حزم علي الظاهري) ،المتوفى 456هـ( .ط).
- 139المختصر للمام الشافعي.
- 140مصنف للمام أبي عبد ال البخاري في مسألة القراءة خلف المام( .ط).
- 141المقدمات لبن كثير.
- 142النهاية للمام الجويني ،واسم الكتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب).
- 143الياسق لجنكيزخان المتوفى ( 624هـ) والكتاب عبارة عن أحكام اقتبست من شرائع
شتى من اليهودية والنصرانية والسلم وغير ذلك وكان دستور التتار.
( )1/27
( )1/28
( )1/29
( )1/30
- 211المشهور في أسماء اليام والشهور للشيخ علم الدين السخاوي( .علي بن محمد بن عبد
الرحمن الهمذاني شيخ القراء بدمشق المتوفى 643هـ).
- 212المعارف لبن قتيبة( .ط).
- 213مقدمة في النساب لبن كثير.
- 214مقصورة ابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد المتوفى سنة 321هـ).
- 215مكارم الخلق للخرائطي( .ط).
- 216النسب للزبير بن بكار( .ط).
- 217نوادر الصول للقرطبي.
هذه مصادر ابن كثير ،رحمه ال ،في تفسيره ،ومن خلل هذا العدد الهائل من المصادر يتضح
لنا الجهد العظيم الذي بذله الحافظ ابن كثير ،رحمه ال ،في إخراج كتابه.
- 4رأيه في السرائيليات :
الحافظ ابن كثير ،رحمه ال له كلمات قوية في شأن السرائيليات وروايتها ،وتفسيره يعد من
الكتب الخالية من السرائيليات ،اللهم إل القليل الذي يحكيه ثم ينبه عليه ،والنادر الذي يسكت
عنه ،وقد نبهت عليه في الحاشية.
ومن كلماته في السرائيليات ()1
قال في مقدمة تفسيره -بعد أن ذَكر حديثَ "بّلغُوا عنّي ولو آيةً ،وحدّثوا عن بني إسرائيل ول
حَرَجَ ،ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار" " : -ولكن هذه الحاديث السرائيلية تُذكر
للستشهاد ،ل للعتضاد .فإنها على ثلثة أقسام :أحدها :ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ
له بالصدق ،فذاك صحيح .والثاني :ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه .والثالث :ما هو
مسكوت عنه ،ل من هذا القبيل ول من هذا القبيل ،فل نؤمِنُ به ول نكذّبه ،وتجوزُ حكايتُه لما
تقدّم .وغالبُ ذلك مما ل فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ .ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل
هذا كثيرًا ،ويأتي عن المفسرين خلفٌ بسبب ذلك .كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف
ولون كلبهم وعِدّتهم ،وعصا موسى من أيّ شجر كانت ؟ وأسماء الطيور التي أحياها ال
لبراهيم ،وتعيين البعض الذي ضُ ِربَ به القتيلُ من البقرة ،ونوع الشجرة التي كلّم ال منها
موسى إلى غير ذلك مما أبهمه ال تعالى في القرآن ،مما ل فائدة في تعيينه تعود على المكلفين
في دنياهم ول دينهم .ولكن نقلُ الخلف عنهم في ذلك جائز .كما قال تعالى { :سَ َيقُولُونَ ثَلثَةٌ
رَا ِب ُعهُمْ كَلْ ُبهُمْ } إلى آخر الية [الكهف .]22 :
وقال عند تفسير الية )50( :من سورة الكهف -بعد أن ذكر أقوال في "إبليس" واسمه ومن أيّ
قبيلٍ هو ؟! " : -وقد رُوى في هذا آثار كثيرة عن السلف ،وغالبُها من السرائيليات التي تُنقل
ليُنْظَر فيها ،وال أعلم بحال كثير منها ،ومنها ما قد ُيقْطَع بكذبه ،لمخالفته للحقّ الذي بأيدينا.
__________
( )1استفدت هذه الكلمات من عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر ( )18 - 1/14ومن كتاب "ابن
كثير وتفسيره" للدكتور إسماعيل عبد العال (ص .)232 - 228
( )1/31
وفي القرآن غُنْ َيةٌ عن كلّ ما عداه من الخبار المتقدمة ؛ لنها ل تكاد تخلو من تبديل وزيادة
ونقصان ،وقد ُوضِعَ فيها أشياء كثيرة .وليس لهم من الحفّاظ المُ ْتقِنين الذين يَ ْنفُون عنها تحريفَ
الغَالِين وانتحال المبطلين ،كما لهذه المة من الئمة والعلماء ،والسادة والتقياء ،والبررة
حفّاظ الجياد ،الذين َدوّنوا الحديث وحَرّرُوه ،وبيّنوا صحيحَه
والنجباء ،من الجهابذة النقّاد ،وال ُ
حسَنه من ضعيفه ،من منكَره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه ،وعرفوا الوضّاعِين والكذّابين
من َ
ي والمقام المحمديّ ،
والمجهولين ،وغير ذلك من أصناف الرجال .كلّ ذلك صيانةً للجناب النبو ّ
ح ّدثَ عنه بما ليس منه.
خاتم الرسل وسيد البشر ،صلى ال عليه وسلم -أن يُنْسَب إليه كذبٌ أو يُ َ
جعَل جنّاتِ الفردوس مأواهم .وقد َف َعلَ".
فرضي ال عنهم وأرضاهم ،و َ
وقال عند تفسير اليات ( )56 - 51من سورة النبياء ،بعد إشارته إلى حال إبراهيم ،عليه
السلم ،مع أبيه ،ونظره إلى الكواكب والمخلوقات " : -وما َقصّه كثيرٌ من المفسّرين وغيرهم ،
فعَامّتُها أحاديثُ بني إسرائيل .فما وافقَ منها الحقّ مما بأيدينا عن المعصوم قَبِلْناه ،لموافقته
الصحيح ،وما خالف منها شيئًا من ذلك ردَدْناه ،وما ليس فيه موافقةٌ ول مخالفةٌ ،ل نصدّقه ول
ب منها فقد رخّص كثير من السلف في روايته.
نكذّبه ،بل نجعله َو ْقفًا .وما كان من هذا الضّ ْر ِ
وكثيرٌ من ذلك مما ل فائدة فيه ،ول حاصلَ له مما يُنْ َتفَع به في الدّين .ولو كانت فائدتُه تعود
على المكلّفين في دينهم لبيّنَتْه هذه الشريعةُ الكاملةُ الشاملةُ .والذي َنسُْلكُه في هذا التفسير
العراضُ عن كثير من الحاديث السرائيلية ،لما فيها من تضييع الزمان ،ولما اشتَمل عليه
كثي ٌر منها من الكذب المُ َروّج عليهم .فإنهم ل َتفْ ِرقَةَ عندهم بين صحيحها وسقيمها .كما حَرّره
حفّاظ المُ ْتقِنُون من هذه المة".
الئمةُ ال ُ
وقال عند تفسير الية )102( :من سورة البقرة " :وقد رُوي في قصة هاروتَ وماروتَ عن
جماعة من التابعين ،كمجاهد والسّدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والرّبيع بن
أنس ومقاتل ابن حيّان وغيرهم ،وقصّها خلقٌ من المفسّرين ،من المتقدّمين والمتأخرين.
ث مرفوع صحيح متّصلُ
وحاصلُها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ،إذ ليس فيها حدي ٌ
السناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي ل ينطق عن الهوى .وظاهرُ سياق القرآن إجمالُ
ط ول إطنابٍ فيها ،فنحن نؤمِن بما ورد في القرآن على ما أراده ال تعالى ،
سٍالقصة من غير ب ْ
وال أعلم بحقيقة الحال".
وقال في أول سورة ق " :وقد رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا :ق ،جبل مُحيطٌ بجميع الرض
،يقال له جبل قاف!!! وكأنّ هذا -وال أعلم -من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ
الناس ِ ،لمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما ل يصدّق ول ُيكَذّب .وعندي أن هذا وأمثالَه
وأشباهَه من اختلقِ بعض زنادقتهم ،يَلْ ِبسُون به على الناس أمرَ دينهم .كما افْتُريَ في هذه المة
حفّاظها وأئمتها -أحاديثُ عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وما بال َعهْدِ
-مع جللة قدر علمائها و ُ
حفّاظ الّنقّاد فيهم ،وشربهم الخمور ،
من قِدَمٍ .فكيف بأمةِ بني إسرائيل ،مع طول المَدَى ،وقلة ال ُ
وتحريف علمائِهم الكلمَ عن َموَاضعه وتبديلِ كُتُب ال وآياتِه .وإنما أباح الشارعُ الروايةَ عنهم في
حكَم
جوّزُه العقل .فأما فيما تحِيلُه العقول ،و ُي ْ
قوله " :وحدثوا عن بني إسرائيل ول حرج" فيما قد يُ َ
فيه بالبُطلن ،و َيغْلبُ على الظنون كذبُه ،فليس من هذا القبيل".
( )1/32
وقال عند تفسير اليات ( )44 - 41من سورة النمل -وقد ذكر في قصة ملكة سبأ أثرًا طويل
صفَه بأنه "منكر غريب جدًا" -ثم قال " :والقربُ في مثل هذه السياقات أنها
عن ابن عباس ،وَ َ
متلقّاةٌ عن أهل الكتاب ،مما وُجد في صُحُفهم ،كروايات كعب ووَهْب ،سامحهما ال فيما نقله
إلى هذه المة من أخبار بني إسرائيل ،من الوابد والغرائب والعجائب ،مما كان وما لم يكن ،
ومما حُرِف وبدّل ونُسِخَ .وقد أغنانا ال سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنف ُع وأوضحُ وأبلغُ.
ول الحمد والمنة".
وقال عند تفسير الية )46( :من سورة العنكبوت -بعد أن َروَى الحديث " :إذا حدثكم أهل
الكتاب فل تصدقوهم ول تكذبوهم" -قال " :ثم ليُعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان
لنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل وما أقل الصدق فيه ،ثم ما أقل فائدته".
وقال عند تفسير قوله تعالى { :وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَى } [طه " : ]18 :أي مصالح ومنافع
وحاجات أخرى غير ذلك ،وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمته ،فقيل :
كانت تضيء له بالليل ،وتحرس له الغنم إذا نام ،ويغرسها فتصير شجرة تظله ،وغير ذلك من
المور الخارقة للعادة ،والظاهر أنها لم تكن كذلك ،ولو كانت كذلك لما استنكر موسى ،عليه
الصلة والسلم ،صيرورتها ثعبانًا ،فما كان يفر منها هاربًا ،ولكن كل ذلك من الخبار
السرائيلية".
- 5العنوان والتوثيق :
إن صحة نسبة كتاب التفسير للحافظ ابن كثير أمر مقطوع به ،ولول أن الباحثين اعتادوا ذكر
هذا الفصل وإل لما ذكرته لشهرة هذا التفسير.
وممن ذكر هذا التفسير وعزاه لمؤلفه :
- 1الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف.
- 2الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
- 3ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية.
- 4السيوطي في الدر المنثور.
- 5الشوكاني في فتح القدير.
- 6الشيخ سليمان بن عبد ال بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد.
- 7الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فتح المجيد.
وأما عنوانه ،فالمشهور "تفسير القرآن العظيم" ،وجاء ذلك على طرة النسخة "ط" ،وبعض
النسخ تسميه " :تفسيرابن كثير".
- 6نسخ الكتاب :
يعتبر تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير من الكتب التي انتشرت في خزائن المكتبات
السلمية ،فقد وجدت نسخه في مكة والرياض ومصر واسطنبول والهند والمغرب وإيرلندا
وباريس.
( )1/33
والختلف بين هذه النسخ اختلف كبير ،فالنسخ التي في الرياض مثل يغلب عليها الختصار
وحذف السانيد والتصرف في الكتاب ،هذا في الغالب فل يستغرب ،أو أقول :ل يعتمد أن
توجد نسخة ليس فيها قصة العتبي المذكورة في سورة النساء ؛ لن هذه النسخة حديثة جدًا مع ما
ذكرت من المنهج في النسخ الموجودة في نجد وغيرها من النسخ المعتمدة ذكر هذه القصة ،وقد
نبهت عليها في موضعها.
وكم يجد الباحث نفسه متحيرًا أمام إثبات نص ثبت في نسخة ولم يثبت في الخرى ،لذلك فقد
حاولت قدر المستطاع جمع مخطوطات الكتاب لكي تزول هذه العقبة فوقع لي -والحمد ل -قدر
منها ،وإليك وصفها :
- 1النسخة الزهرية (هـ) :
وأحيانًا أطلق عليها الصل.
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الزهر برقم ( )168تفسير ،وتحتوي على الكتاب كامل في سبعة
مجلدات ،وفي المجلد الثالث منها خروم.
وصفها الشيخ أحمد شاكر بأنها :نسخة يغلب عليها الصحة ،والخطأ فيها قليل.
وطبعت بدار الشعب سنة ( 1390هـ) بتحقيق عبد العزيز غنيم ،ومحمد أحمد عاشور ،ومحمد
إبراهيم البنا.
وبالتتبع فإنها نسخة جيدة ،لكنها ل توصف بأنها أصح النسخ ،بل غيرها أفضل منها لو كمل.
وقد اعتمدت على طبعة دار الشعب المأخوذة عن هذه النسخة لمرين :
الول :أني حاولت الحصول على مصورة لهذه النسخة فلم أستطع ،فأرسلت إلى المكتبة طلبًا
للتصوير ،ثم أرسلت الطلب بصورة رسمية عن طريق جامعة المام محمد بن سعود السلمية ،
ثم علمت بعد ذلك أن هذا دأب هذه المكتبة ،وأخبرت عن طرق لستخراج المخطوطة من هذه
المكتبة لكن هذه الطرق ليست موافقة لعملي.
الثاني :أن عمل الخوة في طبعة الشعب عمل جيد في إخراج النص حسب ما ورد في
المخطوطة ،ولهم اجتهادات أصابوا في بعضها وأخطؤوا في بعضها ،فأقررتهم على ما أصابوا
فيه ،ولم أوافقهم على ما +أخطئوا فيه ،وقد اعتمدت إشاراتهم إلى المخطوطة في الهامش ،
فاستفدت منها وسلكت في ذلك مسلكًا جيدًا حتى كأن العمل على المخطوطة ل المطبوعة.
الناسخ :محمد بن علي الصوفي.
تاريخ النسخ :فرغ الكاتب من نسخها في العاشر من جمادى الولى سنة ( 825هـ).
عدد الوراق .2195 :
- 2نسخة تشستربتي (ط) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي بإيرلندا برقم ( ، )3430وتحتوي على الجزء الول ويبدأ
( )1/34
من أول التفسير وينتهي بتفسير الية { إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ }
الية [ :البقرة ، ]218 :وهو آخر الجزء التاسع من أجزاء المؤلف ،وفيها سقط وبها حواش من
خط المؤلف وعليها تصحيحات ،وهي من مصورات جامعة المام محمد بن سعود السلمية ،
وهي في غاية الدقة والحسن لو كملت.
الناسخ :أحمد بن محمد بن المحب ،المتوفى سنة ( 776هـ) ،وله ترجمة في الدرر الكامنة (
.)244 \1
تاريخ النسخ :يظهر أنها كتبت في عهد المؤلف ،فيها حواش بخطه ،وكاتبها توفى سنة (776
هـ) أي بعد وفاة الحافظ ابن كثير بعامين.
عدد الوراق 224 :مقاس 26.7 × 18.3سم.
عدد السطر 27 :سطرا.
الخط :نسخ معتاد ممتاز.
- 3نسخة تشستربتي (ب) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي بإيرلندا برقم ( ، )4052وتحتوي على الجزء الول -
ناقص بشيء يسير من المقدمة -ويبدأ بـ "فإن قال قائل :فما أحسن طرق التفسير ؟ " وينتهي
بتفسير الية )47( :من سورة البقرة وهي قوله تعالى { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ
عَلَ ْيكُمْ }
بها حواش كثيرة وتصحيحات ،والحبر منتشر على بعض الصفحات.
وهي من مصورات جامعة المام محمد بن سعود السلمية.
الناسخ :لم يعرف ،والظاهر أنه معاصر للمؤلف.
تاريخ النسخ :كتبت في القرن الثامن تقديرًا ،أي :في عهد المؤلف ،رحمه ال.
عدد الوراق 177 :مقاس 22 × 15.5سم.
عدد السطر 19 :سطرا.
الخط :نسخ معتاد جيد.
- 4نسخة الحرم المكي (جـ) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكى بمكة المكرمة برقم ( )91وتحتوي على الجزء الول ،
ويبدأ بأول التفسير ،وينتهي عند قوله تعالى { إِنْ َتجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُ ْن َهوْنَ عَ ْنهُ } الية [النساء :
.]31
وكأن النسخة ملفقة من نسختين ،فإن الخط يستمر نسخًا معتادًا إلى الية ( )255من سورة البقرة
ثم خط مغاير وهو أقدم من الول ويستمر إلى الية المذكورة.
وعلى النسخ أثر البلل في كثير من أوراقه.
الناسخ :لم يعرف.
( )1/35
تاريخ النسخ :جاء بعد تفسير الية ( )255من سورة البقرة وهو نهاية الخط الول " :وكان
الفراغ من نسخ هذا الجزء يوم السبت المبارك في ثمانية وعشرين مضين من شهر جمادى الخر
من شهور سنة ستة وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية" ،والخط الخر لعله من خطوط
القرن العاشر.
عدد الوراق 411 :مقاس 20× 29سم.
عدد السطر 25 - 20 :سطرًا.
- 5نسخة الحميدية (أ) :
وهي نسخة محفوظة بالمكتبة الحميدية بتركيا ،وتحتوي على الكتاب كامل وخطها دقيق ومزينة
بالذهب ،وهي حديثة ومنقولة عن نسخة معتمدة.
الناسخ :لم يعرف.
تاريخ النسخ :كتبت سنة ( ؟).
عدد السطر 40 - 35 :سطرا.
- 6نسخة الحرم المكي (ف) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي بمكة المكرمة برقم ( )91وتحتوي على تفسير أول
سورة النمل إلى نهاية تفسير سورة الحزاب.
وهي نسخة رديئة وخطها متحد مع خط القسم الثاني من النسخة (ج) ،وبها أثر الرطوبة.
الناسخ :لم يعرف.
تاريخ النسخ :لعله من خطوط القرن العاشر.
عدد الوراق 236 :مقاس 20 × 29سم.
عدد السطر 37 :سطرًا.
- 7نسخة الحرم المكي (ك) :
وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي بمكة برقم ( ، )91وتبدأ من أول سورة العراف ،
وتنتهي بنهاية تفسير سورة التوبة.
والنسخة جيدة ،وعليها تصويبات وتقييدات بالهامش وفيها أثر رطوبة.
الناسخ :لم يعرف.
تاريخ النسخ :كتبت سنة ( 780هـ).
عدد الوراق 228 :مقاس 18 ×27سم.
عدد السطر 26 :سطرًا.
الخط :نسخ معتاد قديم.
( )1/36
( )1/37
( )1/38
( )1/39
توزيع النسخ على السور المفسرة السورة النسخ المخطوطة النسخ المساعدة البقرة أ هـ طـ ب
ج و جامعة المام
جامعة المام
ط -الوادعي مؤسسة فيصل
مؤسسة فيصل آل عمران أ هـ ر ج و النساء أ هـ ر د جـ المائدة أ هـ ر د النعام أ هـ م د
العراف أ هـ م د ك النفال أ هـ م د ك التوبة أ هـ ت د ك يونس أ هـ ت هود أ هـ ت
يوسف أ هـ ت الرعد أ هـ ت إبراهيم أ هـ ت الحجر أ هـ ت النحل أ هـ ت ف السراء أ
هـ ت ف الكهف أ هـ ت ف مريم أ هـ ت ف طه أ هـ ت ف النبياء أ هـ ت ف الحج أ
هـ ت ف المؤمنون أ هـ ف النور أ هـ ف الفرقان أ هـ ف الشعراء أ هـ ف النمل أ هـ ف
القصص أ هـ ف ت العنكبوت أ هـ ف ت الروم أ هـ ف ت لقمان أ هـ ف ت السجدة أ هـ
فت
( )1/40
تابع توزيع النسخ على السور المفسرة السورة النسخ المخطوطة الحزاب أ هـ ف ت سبأ أ هـ
ت س فاطر أ هـ ت س يس أ هـ ت س الصافات أ هـ ت س ص أ هـ ت س الزمر أ هـ
ت س غافر أ هـ ت س فصلت أ هـ ت س الشورى أ هـ ت م الزخرف أ هـ ت م الدخان أ
هـ ت م الجاثية أ هـ ت م الحقاف أ هـ ت م محمد أ هـ ت م الفتح أ هـ ت م الحجرات أ
هـ ت م سور المفصل "من ق إلى الناس" أ هـ م فضائل القرآن ط م ج
( )1/41
( )1/42
( )1/43
( )1/44
( )1/45
اللوحة الولى نسخة من "س"
( )1/46
( )1/47
( )1/48
( )1/49
( )1/50
( )1/51
( )1/52
( )1/53
لوحة من نسخة "د"
( )1/54
( )1/55
( )1/56
( )1/57
( )1/58
( )1/59
( )1/73
التويجري ،عن الشيخ عبد ال بن عبد العزيز العنقري ،عن الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ،عن
ابن عيسى ،عن عبد الرحمن بن حسن ،عن حسن القويسيني ،عن داود القلعي ،عن أحمد
الجوهري ،عن عبد ال بن سالم البصري ،عن المسند زين العابدين بن عبد القادر الطبري ،
عن أبيه ،عن المعمر عبد الواحد بن إبراهيم الحصاري ،عن الحافظ السخاوي ،عن الحافظ ابن
حجر ،عن سعد الدين النواوي ،عن ابن كثير -رحمه ال.
وأروي عن عبد الرحمن الفريوائي ،وعبد الوهاب الزيد ،كلهما عن الشيخ محمد بن عبد ال
ابن آدّ الشنقيطي ،عن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ،عن الشيخ علي بن ناصر أبي
وادى ،عن السيد نذير حسين الدهلوي ،عن محمد إسحاق ،عن عبد العزيز بن ولي ال
الدهلوي ،عن أبيه ،عن أبي الطاهر الكردي ،عن الصفي أحمد بن محمد بن العجل اليمني ،
عن يحيى بن مكرم الطبري ،عن الحافظ السيوطي ،عن ابن مقبل الحلبي ،عن ابن اليونانية ،
عن ابن كثير -رحمه ال.
وأروي عن عبد الرحمن الفريوائي ،وعبد الوهاب الزيد ،كلهما عن الشيخ بديع الدين الراشدي
السندي ،وأبى تراب الظاهري ،كلهما عن أبي الوفاء ثناء ال الفرتسري ،عن السيد نذير
حسين ،عن محمد إسحاق ،عن عبد العزيز بن ولي ال الدهلوي ،عن أبيه ،عن أبي الطاهر
محمد ابن إبراهيم الكردي ،عن أبيه ،عن الصفي القشاشي ،عن أبي المواهب الشناوي ،عن
الشمس الرملي ،عن الحافظ زكريا النصاري ،عن الحافظ ابن حجر ،عن ابن الحريري ،عن
ابن كثير -رحمه ال.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ،عن الشيخ أحمد بن يحيى النجمي ،عن الشيخ عبد ال بن محمد
القرعاوي ،عن الشيخ أحمد ال القرشي ،عن السيد نذير حسين ،عن عبد الرحمن الكزبري ،
عن الشيخ مصطفى الرحمتي ،عن الشيخ عبد الغني النابلسي ،عن النجم الغزي ،عن أبيه ،عن
الحافظ زكريا النصاري ،عن الحافظ ابن حجر ،عن محمد بن سلمان البغدادي -نزيل القاهرة
-عن ابن كثير -رحمه ال.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ،عن الشيخ عبد المنان بن عبد الحق النورفوري ،عن أبي الخير
السلفي ،عن الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ،عن السيد نذير
حسين عن محمد عابد السندي ،عن عبد ال ابن شيخ السلم محمد بن عبد الوهاب ،عن أبيه
شيخ السلم ،عن محمد حياة السندي ،عن حسن العجيحي ،عن أحمد بن محمد بن العجل
اليمني ،عن يحيى بن مكرم الطبري ،عن الحافظ السيوطي ،عن الشمس محمد بن محمد العقبي
،والنجم أبي القاسم بن عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن فهد المكي ،كلهما عن ابن
الجزري ،عن ابن كثير -رحمه ال.
وأروي عن عبد الوهاب الزيد ،عن الشيخ محمد حياة السندي السلفي ،عن السيد نذير حسين -
بالجازة العامة -عن عبد الرحمن الكزبري ،عن الزبيدى ،عن المعمر السابق بن عرام ،عن
البابلي ،عن محمد حجازي ،عن المعمر محمد بن أركماس الحنفي ،عن الحافظ ابن حجر عن
محمد الحبتي عن ابن كثير -رحمه ال.
( )1/74
( )1/75
( )1/5
ت وَال ْرضِ ل إَِلهَ إِل ُهوَ
سمَاوَا ِ
جمِيعًا الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
{ ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ َ
ي المّيّ الّذِي ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َوكَِلمَاتِ ِه وَاتّ ِبعُوهُ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ }
يُحْيِي وَ ُيمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النّ ِب ّ
[العراف ، ]158 :وقال تعالى { :لنْذِ َر ُكمْ بِ ِه َومَنْ بَلَغَ } [النعام .]19 :
فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعَجَم ،وأسودَ وأحمرَ ،وإنس وجان ،فهو نذير له ؛ ولهذا قال
تعالى َ { :ومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ مِنَ الحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ } [هود .]17 :فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا (
)1فالنار موعده ،بنص ال تعالى ،وكما قال تعالى { :فَذَرْنِي َومَنْ ُيكَ ّذبُ ِبهَذَا ا ْلحَدِيثِ
ج ُهمْ مِنْ حَ ْيثُ ل َيعَْلمُونَ * وَُأمْلِي َلهُمْ } [القلم .]45 ، 44 :
سَنَسْ َتدْرِ ُ
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ُ " :بعِثتُ إلى الحمر والسود" ( .)2قال مجاهد :يعني :
النس والجن .فهو -صلوات ال وسلمه عليه -رسول ال إلى جميع الثقلين :النس والجن ،
طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَل مِنْ
مُبَّلغًا لهم عن ال ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي { ل يَأْتِيهِ الْبَا ِ
حمِيدٍ } [فصلت .]42 :
حكِيمٍ َ
خَ ْلفِهِ تَنزيلٌ مِنْ َ
ن وََلوْ كَانَ
وقد أعلمهم فيه عن ال تعالى أنه َندَبهم إلى َت َفهّمه ،فقال تعالى َ { :أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآ َ
جدُوا فِيهِ اخْتِلفًا كَثِيرًا } [ النساء ، ]82 :وقال تعالى { :كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ َلوَ َ
مُبَا َركٌ لِيَدّبّرُوا آيَا ِت ِه وَلِيَتَ َذكّرَ أُولُو اللْبَابِ } [ص ، ]29 :وقال تعالى َ { :أفَل يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ َأمْ
عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا } [محمد .]24 :
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلم ال ،وتفسير ذلك ،وطلبه من مظانه ،وتَعلّم ذلك
س وَل َتكْ ُتمُونَهُ
وتعليمه ،كما قال تعالى { :وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّا ِ
ظهُورِهِ ْم وَاشْتَ َروْا بِهِ َثمَنًا قَلِيل فَبِ ْئسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران ، ]187 :وقال تعالى
فَنَبَذُو ُه وَرَاءَ ُ
{ :إِنّ الّذِينَ َيشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ وَأَ ْيمَانِهِمْ َثمَنًا قَلِيل أُولَ ِئكَ ل خَلقَ َل ُهمْ فِي الخِ َر ِة وَل ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ
عذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران .]77 :
وَل يَ ْنظُرُ إِلَ ْيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وَل يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ
فذم ال تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب ال إليهم ،وإقبالهم على الدنيا وجمعها ،
واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب ال.
فعلينا -أيها المسلمون -أن ننتهي عما ذمّهم ال تعالى به ،وأن نأتمر بما أمرنا به ،من َتعَلّم
شعَ
كتاب ال المنزل إلينا وتعليمه ،وتفهمه وتفهيمه ،قال ال تعالى { :أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْ َ
ق وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ َفطَالَ عَلَ ْيهِ ُم المَدُ
حّقُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نزلَ مِنَ الْ َ
سقُونَ * اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ يُحْيِي ال ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا قَدْ بَيّنّا َل ُكمُ اليَاتِ
ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
َفقَ َ
َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } [الحديد .]17 ، 16 :ففي ذكره تعالى لهذه الية بعد التي قبلها تنبيه على أنه
تعالى كما يحيي الرض بعد موتها ،كذلك يلين القلوب باليمان بعد قسوتها من الذنوب
والمعاصي ،وال المؤمل المسؤول أن يفعل بنا ذلك ،إنه
__________
( )1في جـ " :ذكرناه".
( )2رواه مسلم في صحيحه برقم ( )521من حديث جابر ،رضي ال عنه.
( )1/6
جواد كريم.
فإن قال قائل :فما أحسن طرق التفسير ؟
جمِل في مكان فإنه قد فُسّر
فالجواب :إن أصح الطرق في ذلك أن ُيفَسّر القرآن بالقرآن ،فما ُأ ْ
في موضع آخر ،فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ،بل قد قال
المام أبو عبد ال محمد بن إدريس الشافعي ،رحمه ال :كل ما حكم به رسول ال صلى ال
حكُمَ بَيْنَ
عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن .قال ال تعالى { :إِنّا أَنزلْنَا ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ
خصِيمًا } [ النساء ، ]105 :وقال تعالى { :وَأَنزلْنَا إِلَ ْيكَ
النّاسِ ِبمَا أَرَاكَ اللّ ُه وَل َتكُنْ لِلْخَائِنِينَ َ
ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نزلَ إِلَ ْيهِ ْم وََلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ } [ النحل ، ]44 :وقال تعالى َ { :ومَا أَنزلْنَا
حمَةً ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [النحل .]64 :
عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ إِل لِتُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي اخْتََلفُوا فِي ِه وَ ُهدًى وَرَ ْ
ولهذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أل إني أوتيت القرآن ومثله معه" ( )1يعني :السنة.
والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي ،كما ينزل ( )2القرآن ؛ إل أنها ل تتلى كما يتلى القرآن ،وقد
استدل المام الشافعي ،رحمه ال ( )3وغيره من الئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع
ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه ،فإن لم تجدْه فمن السنة ،كما قال رسولُ ال صلى ال
عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " :بم تحكم ؟ " .قال :بكتاب ال .قال " :فإن لم تجد ؟" .قال
:بسنة رسول ال .قال " :فإن لم تجد ؟ " .قال :أجتهد برأيى .قال :فضرب رسول ال صلى ال
عليه وسلم في صدره ،وقال " :الحمد ل الذي وفّق َرسُولَ رسولِ ال لما يرضى رسول ال" ()4
وهذا الحديث في المساند ( )5والسنن بإسناد جيد ،كما هو مقرر في موضعه.
وحينئذ ،إذا لم نجد التفسير في القرآن ول في السنة ،رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ،فإنهم
أدرى بذلك ،لما شاهدوا من القرائن والحوال التي اختصوا بها ،ولما لهم من الفهم التام ،
والعلم الصحيح ،والعمل الصالح ،ل سيما علماؤهم وكبراؤهم ،كالئمة الربعة والخلفاء
الراشدين ،والئمة المهديين ،وعبد ال بن مسعود ،رضي ال عنه (.)6
قال المام أبو جعفر محمد بن جرير ( )7حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا جابر بن نوح ،حدثنا
العمش ،عن أبي الضّحَى ،عن مسروق ،قال :قال عبد ال -يعني ابن مسعود : -والذي ل
إله غيره ،ما نزلت آية من ( )8كتاب ال إل وأنا أعلم فيمن نزلت ؟ وأين نزلت ؟ ولو أعلم
مكان أحد أعلم
__________
( )1رواه المام أحمد في المسند ( )131 /4وأبو داود في السنن برقم ( )4604من حديث المقدام
بن معدى كرب ،رضي ال عنه.
( )2في ب " :كما ينزله عليه".
( )3في ب " :رحمة ال عليه".
( )4رواه المام أحمد في المسند ( )230 /5وأبو داود في السنن برقم ( )3592والترمذي في
السنن برقم ( )1328من طرق عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من
أصحاب معاذ عن معاذ به ،وقال الترمذي " :هذا حديث ل نعرفه إل من هذا الوجه ،وليس
إسناده عندي بمتصل ،وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد ال" .وللشيخ ناصر اللباني مبحث
ماتع بين فيه كلم العلماء في نقد الحديث .انظر :السلسلة الضعيفة برقم (.)881
( )5في جـ " :المسانيد".
( )6في ب " :عنهم".
( )7في ب " :جرير الطبري".
( )8في ب " :في".
( )1/7
بكتاب ال منى تناله المطايا لتيته ( .)1وقال العمش أيضًا ،عن أبي وائل ،عن ابن مسعود
قال :كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ،والعمل بهن (.)2
وقال أبو عبد الرحمن السلمي :حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى
ال عليه وسلم ،فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ،فتعلمنا
القرآن والعمل جميعا (.)3
ومنهم الحبر البحر عبد ال بن عباس ،ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وترجمان القرآن
وببركة دعاء رسول ال صلى ال عليه وسلم له حيث قال " :اللهم فقهه في الدين ،وعلمه التأويل"
(.)4
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا َوكِيع ،حدثنا سفيان ،عن العمش ،عن مُسْلم
قال ( )5قال عبد ال -يعني ابن مسعود : -نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس ( .)6ثم رواه عن
يحيى بن داود ،عن إسحاق الزرق ،عن سفيانَ ،عن العمش ،عن مسلم بن صُبَيْح أبي
الضحى ،عن مسروق ،عن ابن مسعود أنه قال :نعم الترجمان للقرآن ابن عباس ( .)7ثم رواه
عوْن ،عن العمش ( )8به كذلك.
عن بُنْدَار ،عن جعفر بن َ
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود :أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة .وقد مات ابن مسعود ،
عمّر بعده ابن عباس ستًا وثلثين
رضي ال عنه ،في سنة اثنتين وثلثين على الصحيح ،و ُ
سنة ،فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ؟.
وقال العمش عن أبي وائل :استخلف عِليّ عبد ال بن عباس على الموسم ،فخطب الناس ،
فقرأ في خطبته سورة البقرة ،وفي رواية :سورة النور ،ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم
والترك والديلم لسلموا (.)9
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره ،عن هذين الرجلين :
عبد ال بن مسعود وابن عباس ،ولكن في بعض الحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل
حدّثوا
الكتاب ،التي أباحها رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال " :بَلّغوا عني ولو آية ،و َ
عن بني إسرائيل ول حَرَج ،ومن كذب عََلىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن
عبد ال ( )10؛ ولهذا كان عبد ال بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل
الكتاب ،فكان يحدث منهما بما فهمه
__________
( )1تفسير الطبري ( )80 /1وجابر بن نوح ضعيف لكنه توبع ،فرواه البخاري في صحيحه
برقم ( )5002عن عمر بن حفص عن أبيه عن العمش به.
( )2رواه الطبري في تفسيره ( )80 /1من طريق الحسين بن واقد عن العمش به.
( )3رواه الطبري في تفسيره ( )80 /1من طريق جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي.
( )4رواه المام أحمد في المسند ( )327 ، 314 ، 266 /1وأصله في صحيح البخاري برقم (
.)75
( )5في ب " :كذا قال".
( )6تفسير الطبري (.)90 /1
( )7تفسير الطبري ( )90 /1ورواه الحاكم في المستدرك ( )537 /3من طريق سفيان به.
( )8تفسير الطبري ( )90 /1ورواه أبو خثيمة في العلم برقم ( )48من طريق جعفر بن عون به.
( )9رواه الطبري في تفسيره ( )81 /1والفسوي في تاريخه ( )495 /1من طريق العمش به.
( )10صحيح البخاري برقم (.)3461
( )1/8
( )1/9
فصل
إذا لم تجد التفسير في القرآن ول في السنة ول وجدته عن الصحابة ،فقد رجع كثير من الئمة
في ذلك إلى أقوال التابعين ،كمجاهد بن جَبْر ( )1فإنه كان آية في التفسير ،كما قال محمد بن
ضتُ المصحف على ابن عباس ثلث
إسحاق :حدثنا أبان بن صالح ،عن مجاهد ،قال :عَر ْ
عرضات ،من فاتحته إلى خاتمته ،أوقفه عند كل آية منه ،وأسأله عنها (.)2
طلْق بن غنام ،عن عثمان المكي ،عن ابن أبي مُلَ ْيكَة
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا َ
قال :رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ،ومعه ألواحه ،قال :فيقول له ابن عباس
:اكتب ،حتى سأله عن التفسير كله ( .)3ولهذا كان سفيان الثوري يقول :إذا جاءك التفسير عن
مجاهد فحسبك به (.)4
عكْرِمة مولى ابن عباس ،وعطاء بن أبي رباح ،والحسن البصري ،
وكسعيد بن جُبَيْر ،و ِ
ومسروق ابن الجدع ،وسعيد بن المسيب ،وأبي العالية ،والربيع بن أنس ،وقتادة ،والضحاك
بن مُزاحم ،وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم ،فتذكر أقوالهم في الية فيقع في عباراتهم
تباين في اللفاظ ،يحسبها من ل علم عنده اختلفًا فيحكيها أقوال وليس كذلك ،فإن منهم من
يعبّر عن الشيء بلزمه أو بنظيره ،ومنهم من ينص على الشيء بعينه ،والكل بمعنى واحد في
كثير من الماكن ،فليتفطن اللبيب لذلك ،وال الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره :أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ؟ فكيف تكون حجة في
التفسير ؟ يعني :أنها ل تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ،وهذا صحيح ،أما إذا أجمعوا
على الشيء فل يرتاب في كونه حجة ،فإن اختلفوا فل يكون بعضهم حجة على بعض ،ول على
من بعدهم ،ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب ،أو أقوال الصحابة في
ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ،لما رواه محمد بن جرير ،رحمه ال ،حيث قال :
حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا يحيى بن سعيد ،حدثنا سفيان ،حدثني عبد العلى ،هو ابن عامر
الثعلبي ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :من قال
في القرآن برأيه ،أو بما ل يعلم ،فليتبوأ مقعده من النار " (.)5
وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي ،من طرق ،عن سفيان الثوري ،به .ورواه أبو داود ،عن
عوَانة ،عن عبد العلى ،به ( .)6وقال الترمذي :هذا حديث حسن.
مُسَدّد ،عن أبي َ
__________
( )1في جـ ،ط " :جبير".
( )2رواه الطبري في تفسيره (.)90 /1
( )3تفسير الطبري (.)1/90
( )4رواه الطبري في تفسيره ( )91 /1من طريق أبي بكر الحنفي سمعت سفيان فذكره.
( )5تفسير الطبري (.)77 /1
( )6سنن الترمذي برقم ( )2952وسنن النسائي الكبرى برقم ( )80 84وسنن أبي داود برقم (
، )3652والحديث مداره على عبد العلى بن عامر قال أبو زرعة :ضعيف ،وتركه ابن
مهدي.
( )1/10
وهكذا رواه ابن جرير -أيضًا -عن يحيى بن طلحة اليربوعي ،عن شريك ،عن عبد العلى ،
به مرفوعا ( .)1ولكن رواه محمد بن حميد ،عن الحكم بن بشير ،عن عمرو بن قيس المُلئِي ،
عن عبد العلى ،عن سعيد ،عن ابن عباس ،فوقفه ( .)2وعن محمد بن حميد ،عن جرير ،
عن ليث ،عن بكر ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس من قوله ( )3فال أعلم.
وقال ابن جرير :حدثنا العباس بن عبد العظيم العَنْبَرِي ،حدثنا حَبّان بن هلل ،حدثنا سهيل أخو
جوْني ،عن جُنْدب ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من
حزم ،حدثنا أبو عمران ال َ
قال في القرآن برأيه فقد أخطأ " (.)4
وقد روى هذا الحديث أبو داود ،والترمذي ،والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القُطعي ،
وقال الترمذي :غريب ،وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل (.)5
وفي لفظ لهم " :من قال في كتاب ال برأيه ،فأصاب ،فقد أخطأ" أي :لنه قد تكلف ما ل علم
له به ،وسلك غير ما أمر به ،فلو أنه أصاب المعنى في نفس المر لكان قد أخطأ ؛ لنه لم يأت
المر من بابه ،كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار ،وإن وافق حكمه الصواب في
نفس المر ،لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ ،وال أعلم ،وهكذا سمى ال القَذَفة كاذبين ،فقال
شهَدَاءِ فَأُولَ ِئكَ عِ ْندَ اللّهِ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ } [النور ، ]13 :فالقاذف كاذب ،ولو كان
{ :فَِإذْ لَمْ يَأْتُوا بِال ّ
قد قذف من زنى في نفس المر ؛ لنه أخبر بما ل يحل له الخبار به ،ولو كان أخبر بما يعلم ؛
لنه تكلف ما ل علم له به ،وال أعلم.
ولهذا تَحَرّج جماعة من السلف عن تفسير ما ل علم لهم به ،كما روى شعبة ،عن سليمان ،عن
عبد ال بن مرة ،عن أبي َم ْعمَر ،قال :قال أبو بكر الصديق ،رضي ال عنه :أيّ أرض تقلّني
وأي سماء تظلني ؟ إذا قلت في كتاب ال ما ل أعلم (.)6
حوْشَب ،عن إبراهيم
وقال أبو عبيد القاسم بن سلم :حدثنا محمد ( )7بن يزيد ،عن ال َعوّام بن َ
التّ ْيمِي ؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله َ { :وفَا ِكهَ ًة وَأَبّا } [عبس ، ]31 :فقال :أي سماء
تظلني ،وأي أرض تقلني ؟ إذا أنا قلت في كتاب ال ما ل أعلم .منقطع (.)8
وقال أبو عبيد أيضًا :حدثنا يزيد ،عن حميد ،عن أنس ؛ أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر :
__________
( )1تفسير الطبري (.)77 /1
( )2تفسير الطبري ( )78 /1ورواه وكيع عن عبد العلى فوقفه ،رواه ابن أبي شيبة في
المصنف (.)512 /10
( )3تفسير الطبري (.)78 /1
( )4تفسير الطبري (.)79 /1
( )5سنن أبي داود برقم ( )3652وسنن الترمذي برقم ( )2953وسنن النسائي الكبرى برقم (
)8086
( )6رواه الطبري في تفسيره (.)78 /1
( )7في ب " :محمود".
( )8فضائل القرآن (ص )227ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )513 /10عن محمد بن عبيد
عن العوام بن حوشب به.
( )1/11
{ َوفَا ِكهَ ًة وَأَبّا } [عبس ، ]31 :فقال :هذه الفاكهة قد عرفناها ،فما البّ ؟ ثم رجع إلى نفسه
فقال :إن هذا لهو التكلف يا عمر (.)1
حمَيْد :حدثنا سليمان بن حرب ،حدثنا حماد بن زيد ،عن ثابت ،عن أنس ،قال :
وقال عَبْد بن ُ
كنا عند عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،وفي ظهر قميصه أربع رقاع ،فقرأ َ { :وفَا ِكهَ ًة وَأَبّا
} فقال :ما الب ؟ ثم قال :إن هذا لهو التكلف ( )2فما عليك أل تدريه (.)3
وهذا كله محمول على أنهما ،رضي ال عنهما ،إنما أرادا استكشاف علم كيفية الب ،وإل
فكونه نبتا من الرض ظاهر ل يجهل ،لقوله { :فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّا وَعِنَبًا } الية [عبس ، 27 :
.]28
وقال ابن جرير :حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُلَيّة ،عن أيوب ،عن ابن أبي مُلَ ْيكَة :
أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها ،فأبى أن يقول فيها ( .)4إسناده ()5
صحيح.
وقال أبو عبيد :حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،عن أيوب ،عن ابن أبي مليكة ،قال :سأل رجل
ابن عباس عن { َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } [ السجدة ، ]5 :فقال له ابن عباس :فما { َيوْمٍ كَانَ
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ } [ المعارج ]4 :؟ فقال له الرجل :إنما سألتك لتحدثني .فقال ابن
ِمقْدَا ُرهُ َ
عباس :هما يومان ذكرهما ال تعالى في كتابه ،ال أعلم بهما .فكره أن يقول في كتاب ال ما ل
يعلم (.)6
علَيّة ،عن َمهْدي
وقال -أيضًا -ابن جرير :حدثني يعقوب -يعني ابن إبراهيم -حدثنا ابن ُ
بن ميمون ،عن الوليد بن مسلم ،قال :جاء طَلْق بن حبيب إلى جُ ْندُب بن عبد ال ،فسأله عن
آية من القرآن ؟ فقال :أحرّج عليك إن كنت مسلمًا إل ما قمتَ عني ،أو قال :أن تجالسني (.)7
وقال مالك ،عن يحيى بن سعيد ،عن سعيد بن المسيب :إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من
القرآن ،قال :إنا ل نقول في القرآن شيئًا (.)8
وقال الليث ،عن يحيى بن سعيد ،عن سعيد بن المسيب :إنه كان ل يتكلم إل في المعلوم من
القرآن (.)9
وقال شعبة ،عن عمرو بن مُرّة ،قال :سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال :ل
__________
( )1فضائل القرآن (ص )227ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )512 /10عن يزيد به ،
ورواه الحاكم في المستدرك ( )514 /2من طريق يزيد عن حميد به ،وقال " :صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه".
( )2في جـ " :التكلف يا عمر".
( )3ورواه ابن سعد في الطبقات ( ، )327 /3ورواه البخاري في صحيحه برقم ( )7293عن
سليمان بن حرب به مختصرًا ولفظه " :نهينا عن التكلف".
( )4تفسير الطبري (.)86 /1
( )5في ب " :إسناد".
( )6فضائل القرآن (ص .)228
( )7تفسير الطبري (.)86 /1
( )8رواه الطبري في تفسيره ( )85 /1من طريق ابن وهب عن مالك به.
( )9رواه الطبري في تفسيره ( )86 /1من طريق ابن وهب عن مالك به.
( )1/12
تسألني عن القرآن ،وسل من يزعم أنه ل يخفى عليه منه شيء ،يعني :عكرمة (.)1
شوْذَب :حدثني يزيد بن أبي يزيد ،قال :كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلل
وقال ابن َ
والحرام ،وكان أعلم الناس ،فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت ،كأن لم يسمع (.)2
وقال ابن جرير :حدثني أحمد بن عبدة الضّبّىّ ،حدثنا حماد بن زيد ،حدثنا عبيد ال بن عمر ،
ت فقهاء المدينة ،وإنهم ليعظّمون القول في التفسير ،منهم :سالم بن عبد ال ،
قال :لقد أدرك ُ
والقاسم بن محمد ،وسعيد بن المسيب ،ونافع (.)3
وقال أبو عبيد :حدثنا عبد ال بن صالح ،عن الليث ،عن هشام بن عُ ْروَة ،قال :ما سمعت
أبي تَأوّل آية من كتاب ال قط (.)4
عوْن ،وهشام الدّسْتوائِي ،عن محمد بن سيرين :سألت عبَيدة السلماني ،عن
وقال أيوب ،وابن َ
آية من القرآن فقال :ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل ( )5القرآن ؟ فاتّق ال ،وعليك بالسداد (
.)6
وقال أبو عبيد :حدثنا معاذ ،عن ابن عون ،عن عبد ال بن مسلم بن يسار ،عن أبيه ،قال :
إذا حدثت عن ال فقف ،حتى تنظر ما قبله وما بعده (.)7
حدثنا هُشَيْم ،عن مُغيرة ،عن إبراهيم ،قال :كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه (.)8
سفْر ،قال :قال الشعبي :وال ما من آية إل وقد سألت عنها ،
وقال شعبة عن عبد ال بن أبي ال ّ
ولكنها الرواية عن ال عز وجل (.)9
وقال أبو عبيد :حدثنا هشيم ،حدثنا عمر بن أبي زائدة ،عن الشعبي ،عن مسروق ،قال :
اتقوا التفسير ،فإنما هو الرواية عن ال (.)10
فهذه الثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلم في التفسير
بما ل علم لهم به ؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا ،فل حرج عليه ؛ ولهذا روي عن
هؤلء وغيرهم أقوال في التفسير ،ول منافاة ؛ لنهم تكلموا فيما علموه ،وسكتوا عما جهلوه ،
وهذا هو الواجب على كل أحد ؛ فإنه كما يجب السكوت عما ل علم له به ،فكذلك يجب القول
فيما
__________
( )1رواه الطبري في تفسيره ( )87 /1وابن أبي شيبة في المصنف ( )511 /10من طريق محمد
بن جعفر عن شعبة به.
( )2رواه الطبري في تفسيره ( )86 /1عن العباس بن الوليد عن أبيه عن ابن شوذب به.
( )3تفسير الطبري (.)85 /1
( )4فضائل القرآن (ص .)229
( )5في جـ " :نزل".
( )6رواه الطبري في تفسيره ( )86 /1من طريق ابن علية عن أيوب وابن عون به.
( )7فضائل القرآن (ص .)229
( )8فضائل القرآن (ص )229ورواه أبو نعيم ( )222 /4من طريق جرير عن المغيرة به.
( )9رواه الطبري في تفسيره ( )87 /1من طريق سعيد بن عامر عن شعبة به.
( )10فضائل القرآن (ص .)229
( )1/13
س وَل َتكْ ُتمُونَهُ } [آل عمران ، ]187 :ولما جاء
سئل عنه مما يعلمه ،لقوله تعالى { :لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّا ِ
في الحديث المروى من طرق " :من سئل عن علم فكتمه ،أ ْلجِم يوم القيامة بلجام من نار" (.)1
فأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير :
حدثنا عباس بن عبد العظيم ،حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة ،حدثنا جعفر بن محمد بن
الزبيري ،حدثني هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة ،قالت :ما كان النبي صلى ال عليه
وسلم يفسر شيئًا من القرآن إل آيا تُعد ،علمهن إيّاه جبريل ،عليه السلم .ثم رواه عن أبي بكر
محمد بن يزيد الطرسوسي ،عن َمعْن بن عيسى ،عن جعفر بن خالد ،عن هشام ،به.)2( .
فإنه حديث منكر غريب ،وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي
الزبيري ،قال البخاري :ل يتابع في حديثه ،وقال الحافظ أبو الفتح الزدي :منكر الحديث.
وتكلّم عليه المام أبو جعفر بما حاصله أن هذه اليات مما ل يعلم إل بالتوقيف عن ال تعالى ،
مما وقفه عليها جبريل .وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث ؛ فإن من القرآن ما استأثر ال تعالى
بعلمه ،ومنه ما يعلمه العلماء ،ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ،ومنه ما ل يعذر أحد في جهله
،كما صرح بذلك ابن عباس ،فيما قال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا ُم َؤمّل ،حدثنا
سفيان ،عن أبي الزناد [عن العرج] ( )3قال :قال ابن عباس :التفسير على أربعة أوجه :
وجه تعرفه العرب من كلمها ،وتفسير ل يعذر أحد بجهالته ،وتفسير يعلمه العلماء ،وتفسير ل
يعلمه إل ال (.)4
قال ابن جرير :وقد روى نحوه في حديث في إسناده نظر :
حدثني يونس بن عبد العلى الصدفي ،أنبأنا ابن وهب قال :سمعت عمرو بن الحارث يحدث
عن الكلبي ،عن أبي صالح ،مولى أم هانئ ،عن عبد ال بن عباس :أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم قال " :أنزل القرآن على أربعة ( )5أحرف :حلل وحرام ،ل يعذر أحد بالجهالة به.
وتفسير تفسره [العرب ،وتفسير
__________
( )1جاء من حديث أبي هريرة ،ومن حديث أنس ،وأبي سعيد الخدري ،رضي ال عنهم .أما
حديث أبي هريرة ،فرواه أحمد في المسند ( )263 /2وأبو داود في السنن برقم ()3658
والترمذي في السنن برقم ( )2649وابن ماجة في السنن برقم ( )261من طريق علي ابن الحكم
عن عطاء عن أبي هريرة ،وقال الترمذي " :حديث حسن" .وأما حديث أنس ،فرواه ابن ماجة
في السنن برقم ( )264من طريق يوسف بن إبراهيم عن أنس ،وقال البوصيري في الزوائد (/1
" : )117هذا إسناد ضعيف" .وأما حديث أبي سعيد ،فرواه ابن ماجة في السنن برقم ( )265من
طريق محمد بن داب عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد ،وقال
البوصيري في الزوائد (" : )118 /1هذا إسناد ضعيف".
( )2تفسير الطبري ( )84 /1ورواه أبو يعلى في مسنده ( )23 /8من طريق معن القزاز عن
فلن بن محمد بن خالد ،عن هشام بن عروة به ،ورواه البزار في مسنده برقم (" )2185كشف
الستار" عن محمد بن المثنى ،عن محمد بن خالد بن عثمة ،عن حفص -أظنه ابن عبد ال -
عن هشام عن أبيه به.
( )3زيادة من نسخة مساعدة بجامعة المام محمد بن سعود السلمية.
( )4تفسير الطبري (.)75 /1
( )5في هـ ،ب " :سبعة" والمثبت من جـ ،والطبري.
( )1/14
تفسره] ( )1العلماء .ومتشابه ل يعلمه إل ال عز وجل ،ومن ادعى علمه سوى ال فهو كاذب" (
.)2
والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي ؛ فإنه متروك الحديث ؛
لكن قد يكون إنما وهم في رفعه .ولعله من كلم ابن عباس ،كما تقدم ،وال أعلم بالصواب.
__________
( )1زيادة من جـ ،والطبري.
( )2تفسير الطبري (.)76 /1
( )1/15
( )1/17
صالح ،عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة ،قال :نزلت بالمدينة سورة البقرة ،وآل
عمران ،والنساء ،والمائدة ،والنفال ،والتوبة ،والحج ،والنور ،والحزاب ،والذين كفروا ،
والفتح ،والحديد ،والمجادلة ،والحشر ،والممتحنة ،والحواريون ،والتغابن ،و { يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ
إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ } و { يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ } والفجر { ،وَاللّ ْيلِ إِذَا َيغْشَى } و { إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
ا ْلقَدْرِ } و { لَمْ َيكُنِ الّذِينَ َكفَرُوا } و { إِذَا زُلْ ِزَلتِ } و { ِإذَا جَاءَ َنصْرُ اللّهِ } وسائر ذلك بمكة (
.)1
وهذا إسناد صحيح عن ابن أبي طلحة مشهور ،وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه
التفسير ،وقد ذكر في المدني سورا في كونها مدنية نظر ،وفاته الحجرات والمعوذات.
الحديث الثاني :وقال البخاري :حدثنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا معتمر قال :سمعت أبي عن
أبي عثمان قال :أنبئت أن جبريل ،عليه السلم ،أتى النبي صلى ال عليه وسلم وعنده أم
سلمة ،فجعل يتحدث ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :من هذا ؟" أو كما قال ،قالت :هذا
دحية الكلبي ،فلما قام قلت :وال ما حسبته إل إياه ،حتى سمعت خطبة النبي صلى ال عليه
وسلم يُخبر خَبر جبريل .أو كما قال ،قال أبي :فقلت لبي عثمان :ممن سمعت هذا ؟ فقال :
من أسامة بن زيد .وهكذا رواه أيضا في علمات النبوة عن عباس بن الوليد النرسي ،ومسلم في
فضائل أم سلمة عن عبد العلى بن حماد [ومحمد بن عبد العلى] ( )2كلهم عن معتمر بن
سليمان به (.)3
والغرض من إيراد هذا الحديث هاهنا أن السفير بين ال وبين محمد صلى ال عليه وسلم جبريل
علَى
عليه السلم وهو ملك كريم ذو وجاهة وجللة ومكانة كما قال { :نزلَ بِهِ الرّوحُ المِينُ * َ
قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } [الشعراء ، ]194 ، 193 :وقال تعالى { :إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *
ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * مُطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ * َومَا صَاحِ ُبكُمْ ِب َمجْنُونٍ } اليات [التكوير 19 :
.]22 -فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدًا صلى ال عليه وسلم
وسنستقصي الكلم على تفسير هذا الكتاب ( )4في موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء ال تعالى وبه
الثقة.
وفي الحديث فضيلة عظيمة لم سلمة ،رضي ال عنها -كما بينه مسلم رحمه ال -لرؤيتها
لهذا الملك العظيم ،وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبي ،وذلك أن جبريل ،عليه السلم ،كان
كثيرا ما يأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة ،رضي ال
عنه ،وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ،كلهم ينسبون إلى كلب بن وبرة وهم قبيلة
من قضاعة ،وقضاعة قيل :إنهم من عدنان ،وقيل :من قحطان ،وقيل :بطن مستقل بنفسه ،
وال أعلم.
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)221
( )2زيادة من جـ ،م.
( )3صحيح البخاري برقم ( ، )3634( ، )4980وصحيح مسلم برقم (.)2451
( )4في جـ" .المكان".
( )1/19
الحديث الثالث :حدثنا عبد ال بن يوسف ،حدثنا الليث بن سعيد المقبري ،عن أبيه ،عن أبي
هريرة ،رضي ال عنه ،قال :قال النبي ( )1صلى ال عليه وسلم " :ما من النبياء نبي إل
أعطى ما مثله آمن عليه البشر ،وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه ال إليّ ،فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعا يوم القيامة" (.)2
ورواه أيضا في [كتاب] ( )3العتصام عن عبد العزيز بن عبد ال ومسلم والنسائي عن قتيبة
جميعا ،عن الليث بن سعد ،عن سعيد بن أبي سعيد ،عن أبيه -واسمه كيسان المقبري -به.
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من النبياء ،وعلى
كل كتاب أنزله ،وذلك أن معنى الحديث :ما من نبي إل أعطى من المعجزات ما آمن عليه
البشر ،أي :ما كان دليل على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر ،ثم لما مات
النبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إل ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه ،فأما الرسول الخاتم
للرسالة محمد صلى ال عليه وسلم فإنما كان معظم ما آتاه ال وحيا منه إليه منقول إلى الناس
بالتواتر ،ففي كل حين هو كما أنزل ،فلهذا قال " :فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" ،وكذلك وقع ،
فإن أتباعه أكثر من أتباع النبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة ،واستمرار معجزته ؛
ولهذا قال ال { :تَبَا َركَ الّذِي نزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ عَلَى عَ ْب ِدهِ لِ َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان ، ]1 :وقال
س وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ هَذَا ا ْلقُرْآنِ ل يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ
تعالى ُ { :قلْ لَئِنِ اجْ َت َمعَتِ النْ ُ
ظهِيرًا } [السراء ، ]88 :ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال َ { :أمْ َيقُولُونَ
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
َب ْع ُ
طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ }
سوَرٍ مِثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ
افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِب َعشْرِ ُ
[هود ]13 :ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ،فقال َ { :أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا
طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [يونس ، ]38 :وقصر التحدي
بِسُو َرةٍ مِثْلِ ِه وَادْعُوا مَنِ اسْتَ َ
على هذا المقام في السور ( )4المكية كما ذكرنا وفي المدنية أيضا كما في سورة البقرة ،حيث
شهَدَا َءكُمْ مِنْ
يقول تعالى { :وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِنْ مِثِْل ِه وَادْعُوا ُ
س وَا ْلحِجَا َرةُ
دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * فَإِنْ لَمْ َتفْعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُو ُدهَا النّا ُ
أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ } [البقرة ]24 ، 23 :فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله ،وأنهم ل
يفعلون ذلك في المستقبل أيضا ،وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلغة والشعر وقريض الكلم
وضروبه ،لكن جاءهم من ال مال قبل لحد من البشرية من الكلم الفصيح البليغ ،الوجيز ،
المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة ،والخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والتية ،
ك صِ ْدقًا وَعَدْل } [النعام .]115 :
والحكام العادلة والمحكمة ،كما قال تعالى { :وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ
وقال المام أحمد بن حنبل :حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن إسحاق قال :
ذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد ال العور قال :قلت :لتين أمير المؤمنين ،
فلسألنه عما سمعت العشية [قال] ( )5فجئته بعد العشاء ،فدخلت عليه ،فذكر الحديث .قال :ثم
__________
( )1في جـ " :رسول ال".
( )2صحيح البخاري برقم (.)7274( ، )4981
( )3زيادة من جـ.
( )4في جـ ،ط " :السورة".
( )5زيادة من جـ ،ط
( )1/20
قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " " :أتاني جبريل فقال :يا محمد ،أمتك
مختلفة بعدك" .قال " :فقلت له :فأين المَخْرَج يا جبريل ؟" قال :فقال " :كتاب ال به َي ْقصِم ال
كلّ جبار ،من اعتصم به نجا ،ومن تركه هلك ،مرتين ،قول َفصْل وليس بالهزل ،ل تخلقه
اللسن ،ول تفنى عجائبه ،فيه نبأ من كان قبلكم ،وفصل ما بينكم ،وخبر ما هو كائن بعدكم" "
هكذا رواه المام أحمد ( .)1وقال أبو عيسى الترمذي :حدثنا عبد بن حميد ،حدثنا حسين بن
علي الجعفي ،حدثنا حمزة الزيات ،عن أبي المختار الطائي ،عن ابن أخي الحارث العور ،
عن الحارث العور ،قال :مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الحاديث فدخلت علَى
عِليّ فقلت :يا أمير المؤمنين ،أل ترى الناس قد خاضوا في الحاديث ؟ قال :أو قد فعلوها ؟
قلت :نعم .قال :أما إني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إنها ستكون فتنة" فقلت
حكْم ما
:ما المَخْرج منها يا رسول ال ؟ قال " :كتاب ال ،فيه نبأ ما قبلكم ،وخبر ما بعدكم ،و ُ
بينكم ،هو الفصل ليس بالهَزْل ،من تركه من جبار َقصَمه ال ،ومن ابتغى الهدى في غيره
أضله ال ،هو حبل ال المتين ،وهو الذكر الحكيم ،وهو الصراط المستقيم ،هو الذي ل تزيغ
به الهواء ،ول تَلْتَبِس به اللسنة ،ول يشبع منه العلماء ،ول يَخْلَق عن كثرة الرد ،ول
عجَبًا * َيهْدِي
س ِمعْنَا قُرْآنًا َ
تنقضي عجائبه ،هو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا { :إِنّا َ
شدِ فَآمَنّا بِهِ } [الجن ، ]2 ، 1 :من قال به صَدق ،ومن عمل به أجِر ،ومن حكم به
إِلَى الرّ ْ
عَدَل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم" .خذها إليك يا أعور ،ثم قال :هذا حديث غريب
ل نعرفه إل من حديث حمزة الزيات ،وإسناده مجهول وفي حديث الحارث مقال (.)2
قلت :لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات ،بل قد رواه محمد بن إسحاق ،عن محمد بن
كعب القرظي ،عن الحارث العور ،فبرئ حمزة من عهدته ،على أنه وإن كان ضعيف
الحديث إل أنه إمام في القراءة والحديث ،مشهور من رواية الحارث العور وقد تكلموا فيه ،بل
قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده ،أما إنه تعمد الكذب في الحديث فل وال أعلم.
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلم أمير المؤمنين علي ،رضي ال عنه ،وقد وَهِم بعضهم
في رفعه ،وهو كلم حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد ال بن مسعود عن النبي
صلى ال عليه وسلم.
قال المام العلم أبو عبيد القاسم بن سلم في كتابه فضائل القرآن :حدثنا أبو اليقظان ،حدثنا
عمار بن محمد الثوري أو غيره عن أبي إسحاق الهجري ،عن أبي الحوص ،عن عبد ال بن
مسعود ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن هذا القرآن مأدبة ال تعالى فتعلموا من مأدبته
صمَة لمن
ع ْ
ما استطعتم ،إن هذا القرآن حبل ال عز وجل ،وهو النور المبين ،والشفاء النافع ِ ،
تمسك به ،ونجاة لمن تبعه ،ل يعوج فيقوم ،ل يزيغ فيستعتب ،ول تنقضي عجائبه ،ول َيخْلَق
عن كثرة الرد ،فاتلوه ،فإن ال يأجركم على تلوته بكل حرف عشر حسنات ،أما إني ل أقول
لكم الم حرف ،ولكن ألف عشر ،ولم عشر ،وميم عشر" ( .)3وهذا غريب من هذا الوجه ،
وقد رواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق
__________
( )1المسند (.)91 /1
( )2سنن الترمذي برقم (.)2906
( )3فضائل القرآن (ص )21ورواه الحاكم في المستدرك ( )555 /1من طريق الهجري به.
( )1/21
الهجري ،واسمه إبراهيم بن مسلم ،وهو أحد التابعين ،ولكن تكلموا فيه كثيرا.
وقال أبو حاتم الرازي :لين ليس بالقوي .وقال أبو الفتح الزدي :رفّاع كثير الوهم .قلت :
فيحتمل ،وال أعلم ،أن يكون وهم في رفع هذا الحديث ،وإنما هو من كلم ابن مسعود ،ولكن
له شاهد من وجه آخر ،وال أعلم.
وقال أبو عبيد أيضا :حدثنا حجاج عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن
عبد ال بن مسعود قال :ل يسأل عبد عن نفسه إل القرآن ،فإن كان يحب القرآن فإنه يحب ال
ورسوله (.)1
الحديث الرابع :قال البخاري :حدثنا عمرو بن محمد ،حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا أبي ،
عن صالح بن كيسان ،عن ابن ( )2شهاب ،قال :أخبرني أنس بن مالك أن ال تابع الوحي على
رسوله صلى ال عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ،ثم توفى رسول ال صلى
ال عليه وسلم بعد .وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن محمد هذا -وهو الناقد -وحسن الحلواني
وعبد بن حميد والنسائي عن إسحاق ابن منصور الكوسج ،أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن
سعد الزهري به (.)3
ومعناه :أن ال تعالى تابع نزول الوحي على رسول ال صلى ال عليه وسلم شيئًا بعد شيء كل
وقت بما يحتاج إليه ،ولم تقع فترة بعد الفترة الولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة بقوله :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ } [العلق ]1 :فإنه استلبث الوحي بعدها حينا يقال :قريبا من سنتين أو أكثر ،
ثم حمي الوحي وتتابع ،وكان أول شيء نزل بعد تلك الفترة { يَاأَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ * قُمْ فَأَ ْنذِرْ } [المدثر
.]2 ، 1 :
الحديث الخامس :حدثنا أبو نعيم ،حدثنا سفيان عن السود بن قيس قال :سمعت جندبا يقول :
اشتكى النبي صلى ال عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ،فأتته امرأة فقالت :يا محمد ،ما أرى
ك َومَا قَلَى }
عكَ رَ ّب َ
سجَى * مَا وَدّ َ
شيطانك إل تركك ،فأنزل ال تعالى { :وَالضّحَى * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
[ الضحى .)4( ]3 - 1 :
وقد رواه البخاري في غير موضع أيضا ،ومسلم والترمذي والنسائي من طرق أخر ( )5عن
سفيان -وهو الثوري -وشعبة بن الحجاج كلهما عن السود بن قيس العبدي ،عن جندب بن
عبد ال البجلي ،به .وسيأتي الكلم على هذا الحديث في تفسير سورة الضحى إن شاء ال تعالى.
والمناسبة في ذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل القرآن :أن ال تعالى له برسوله عناية
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)21
( )2في ط ،جـ " :أبى".
( )3صحيح البخاري برقم ( )4982وصحيح مسلم برقم (.)3016
( )4صحيح البخاري برقم (.)4983
( )5صحيح البخاري برقم ( )4951 ، 4950 ، 1152وصحيح مسلم برقم ( )1797وسنن
الترمذي برقم ( )3345وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11681
( )1/22
عظيمة ومحبة شديدة ،حيث جعل الوحي متتابعا عليه ولم يقطعه عنه ؛ ولهذا إنما أنزل عليه
القرآن مفرقا ليكون ذلك في أبلغ العناية والكرام.
قال البخاري ،رحمه ال :نزل القرآن بلسان قريش والعرب ،قرآنا عربيا ،بلسان عربي
مبين ،حدثنا أبو اليمان ،حدثنا شعيب ( )1عن الزهري :أخبرني أنس بن مالك قال :فأمر
عثمان بن عفان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد ال بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن
هشام أن ينسخوها في المصاحف ،وقال لهم :إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية
القرآن ،فاكتبوها بلسان قريش ،فإن القرآن نزل بلسانهم ،ففعلوا (.)2
هذا الحديث قطعة من حديث سيأتي قريبا والكلم عليه ومقصود البخاري منه ظاهر ،وهو أن
القرآن نزل بلغة قريش ،وقريش خلصة العرب ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود :حدثنا عبد
ال بن محمد بن خلد ،حدثنا يزيد ،حدثنا شيبان ،عن عبد الملك بن عمير ،عن جابر بن
سمرة ،قال :سمعت عمر بن الخطاب يقول :ل يملى في مصاحفنا هذه إل غلمان قريش أو
غلمان ثقيف .وهذا إسناد صحيح ( .)3وقال أيضا :حدثنا إسماعيل بن أسد ،حدثنا هوذة ،حدثنا
عوف ،عن عبد ال بن فضالة ،قال :لما أراد عمر أن يكتب المام أقعد له نفرا من أصحابه
وقال :إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر ،فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر صلى ال
عوَجٍ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } [الزمر ، ]28 :
عليه وسلم ( )4وقد قال ال تعالى { :قُرْءَانًا عَرَبِيّا غَيْرَ ذِي ِ
ح المِينُ * عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ
وقال تعالى { :وَإِنّهُ لَتَنزيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * نزلَ بِهِ الرّو ُ
ا ْلمُنْذِرِينَ * ِبلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مُبِينٍ } [الشعراء ، ]195 - 192 :وقال تعالى { :وَ َهذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ
ج ِميّ
جمِيّا َلقَالُوا َلوْل ُفصَّلتْ آيَاُتهُ أَاْعْ َ
جعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْ َ
مُبِينٌ } [النحل ، ]103 :وقال تعالى { :وََلوْ َ
وَعَرَبِيّ } الية [فصلت ، ]44 :إلى غير ذلك من اليات الدالة على ذلك.
ثم ذكر البخاري ،رحمه ال ،حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول :ليتني أرى رسول ال صلى
ال عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي .فذكر الحديث الذي سأل عمن أحرم بعمرة وهو متمطخ
بطيب وعليه جبة ،وقال :فنظر رسول ال صلى ال عليه وسلم ساعة ثم فجأه الوحي ،فأشار
عمر إلى يعلى أي :تعال ،فجاء يعلى ،فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة ،ثم
سرى عنه ،فقال " :أين الذي سألني عن العمرة آنفا ؟ " فذكر أمره بنزع الجبة وغسل الطيب.
وهذا الحديث رواه جماعة ( )5من طرق عديدة ( )6والكلم عليه في كتاب الحج ،ول تظهر
مناسبة ما بينه وبين هذه الترجمة ،ول يكاد ،ولو ذكر في الترجمة التي قبلها لكان أظهر وأبين ،
وال أعلم.
__________
( )1في جـ " :سفيان".
( )2صحيح البخاري برقم (.)4984
( )3المصاحف (ص .)17
( )4المصاحف (ص .)17
( )5ط ،جـ " :الجماعة".
( )6صحيح البخاري برقم ( ، )4985وبرقم ( )1789 ، 1847وصحيح مسلم برقم ()1180
وسنن أبي داود برقم ( )1820 ، 1819وسنن الترمذي برقم ( )836وسنن النسائي (.)130 /5
( )1/23
جمع القرآن
قال المؤلف ،رحمه ال ( )1فائدة جليلة حسنة :ثبت في الصحيحين عن أنس قال :جمع القرآن
على عهد النبي صلى ال عليه وسلم أربعة ،كلهم من النصار ؛ أبي بن كعب ،ومعاذ بن جبل ،
وزيد بن ثابت ،وأبو زيد .فقيل له :من أبو زيد ؟ قال :أحد عمومتي .وفي لفظ للبخاري عن
أنس قال :مات النبي صلى ال عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ؛ أبو الدرداء ،ومعاذ بن
جبل ،وزيد بن ثابت ،وأبو زيد ،ونحن ورثناه.
قلت :أبو زيد هذا ليس بمشهور ؛ لنه مات قديما ،وقد ذكروه في أهل بدر ،وقال بعضهم :
سعيد بن عبيد .ومعنى قول أنس " :ولم يجمع القرآن" .يعني من النصار سوى هؤلء ،وإل فمن
المهاجرين جماعة كانوا يجمعون القرآن كالصديق ،وابن مسعود ،وسالم مولى أبي حذيفة
وغيرهم.
قال الشيخ أبو الحسن الشعري ،رحمه ال :قد علم بالضطرار أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قدم أبا بكر في مرض الموت ليصلي بالناس ،وقد ثبت في الخبر المتواتر " أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :ليؤم القوم أقرؤهم" " ( )2فلو لم يكن الصديق أقرأ القوم لما قدمه
عليهم .نقله أبو بكر بن زنجويه في كتاب فضائل الصديق عن الشعري.
وحكى القرطبي في أوائل تفسيره عن القاضي أبي بكر الباقلني أنه قال -بعد ذكره حديث أنس
بن مالك هذا : -فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان ،وعلي ،وتميم الداري ،
وعبادة بن الصامت ،وعبد ال بن عمرو بن العاص .فقول أنس " :لم يجمعه غير أربعة" يحتمل
لم يأخذه تلقيا من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم غير هؤلء الربعة ،وأن بعضهم تلقى
بعضه عن بعض .قال :وقد تظاهرت الروايات بأن الئمة الربعة جمعوا القرآن على عهد النبي
صلى ال عليه وسلم لجل سبقهم إلى السلم ،وإعظام الرسول لهم (.)3
قال القرطبي :لم يذكر القاضي ابن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة ،وهما ممن جمع القرآن (
[ .)4نقلت هذه من على ظهر الجزء الول من أجزاء المؤلف] (.)5أ .هـ.
حدثنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا إبراهيم بن سعد ،حدثنا ابن شهاب ،عن عبيد بن السباق ،أن
زيد بن ثابت قال :أرسل إلىّ أبو بكر -مقتل أهل اليمامة -فإذا عمر بن الخطاب عنده ،فقال
أبو بكر :إن عمر بن الخطاب أتاني ،فقال :إن القتل قد اس َتحَ ّر بقُرّاء القرآن ،وإني أخشى أن
يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن ،وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
فقلت لعمر :كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال عمر :هذا وال
خير ،فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح ال صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر .قال
زيد :قال أبو بكر :إنك رجل شاب عاقل ل نتهمك ،وقد
__________
( )1في م " :قال المؤلف ،رحمه ال ،فيما وجد على ظهر الجزء الول من تفسيره" وسيأتي هذا
في ط في آخر الفائدة.
( )2رواه مسلم في صحيحه برقم ( )672من حديث عقبة بن عمرو ،رضي ال عنه.
( )3تفسير القرطبي (.)57 /1
( )4تفسير القرطبي (.)57 /1
( )5زيادة من ط.
( )1/24
كنت تكتب الوحي لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فتتبع القرآن فاجمعه ،فوال لو كلفوني نقل
ي مما أمرني به من جمع القرآن .قلت :كيف تفعلون شيئا لم
جبل من الجبال ما كان أثقل عل ّ
يفعله رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال :هو وال خير .فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح
ال صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ،رضي ال عنهما .فتتبعت القرآن أجمعه من
العُسُب واللّخَاف وصدور الرجال ،ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة النصاري لم أجدها
سكُمْ عَزِيزٌ } [التوبة ]128 :حتى خاتمة براءة ،فكانت
مع غيره َ { :لقَدْ جَا َءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ
الصحف عند أبي بكر حتى توفاه ال ،ثم عند عمر حياته ،ثم عند حفصة بنت عمر ،رضي ال
عنهم (.)1
وقد روى البخاري هذا [الحديث] ( )2في غير موضع من كتابه ،ورواه المام أحمد والترمذي
والنسائي من طرق عن الزهري به (.)3
وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق ،رضي ال عنه ،فإنه أقامه ال بعد النبي صلى
ال عليه وسلم مقاما ل ينبغي لحد بعده ،قاتل العداء من مانعي الزكاة ،والمرتدين ،والفرس
والروم ،ونفذ الجيوش ،وبعث البعوث والسرايا ،ورد المر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه
وذهابه ،وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله ،وكان هذا
من سر قوله تعالى { :إِنّا نَحْنُ نزلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ َلحَافِظُونَ } [الحجر ]9 :فجمع الصديق الخير
وكف الشرور ،رضي ال عنه وأرضاه .ولهذا روى غير واحد من الئمة منهم َوكِيع وابن زيد
وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير ،عن علي
بن أبي طالب ،رضي ال عنه ،أنه قال :أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ،إن أبا بكر
كان أول من جمع القرآن بين اللوحين ( .)4إسناده صحيح.
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف :حدثنا هارون بن إسحاق ،حدثنا عبدة ،عن
هشام ،عن أبيه ،أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى ال عليه وسلم ،يقول :ختمه
( .)5صحيح أيضا .وكان عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،هو الذي تنبه لذلك لما استحر
القتل بالقراء ،أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة ،يعني :يوم اليمامة ،يعني يوم
قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض اليمامة في حديقة الموت ،وذلك أن مسيلمة
التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف ،فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من
ثلثة عشر ألفًا ،فالتقوا معهم ( )6فانكشف الجيش السلمي لكثرة من فيه من العراب ،فنادى
القراء من كبار الصحابة :يا خالد ،يقولون :ميزنا من هؤلء العراب فتميزوا ( )7منهم ،
وانفردوا ،فكانوا قريبا من ثلثة آلف ،ثم صدقوا الحملة ،وقاتلوا قتال شديدا ،وجعلوا يتنادون
:يا أصحاب سورة البقرة ،فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح ال
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4986
( )2زيادة من جـ.
( )3صحيح البخاري برقم ( )4989 ، 4679والمسند ( )10 /1وسنن الترمذي برقم ()3103
وسنن النسائي الكبرى برقم (.)7995
( )4رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص )156وابن أبي داود في المصاحف (ص .)11
( )5المصاحف (ص .)12
( )6في جـ " :بهم".
( )7في جـ " :فميزوا".
( )1/25
عليهم ووَلّى جيش الكفار ( )1فارا ،وأتبعتهم السيوف المسلمة في [أقنيتهم] ( )2قتل وأسرا ،
وقتل ال مسيلمة ،وفرق شمل أصحابه ،ثم رجعوا إلى السلم ،ولكن قتل من القراء يومئذ
قريب من خمسمائة ،رضي ال عنهم ،فلهذا أشار عمر على الصّديق بأن يجمع القرآن ؛ لئل
يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال ،فإذا كتب
وحفظ صار ذلك محفوظا فل فرق بين حياة من بلغه أو موته ،فراجعه الصديق قليل ليثبت في
المر ،ثم وافقه ،وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا ( )3إلى ما رأياه ،رضي ال
عنهم أجمعين ،وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت النصاري ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي
داود :حدثنا عبد ال بن محمد بن خَلد ،حدثنا يزيد ،حدثنا مبارك بن فضالة ،عن الحسن ؛ أن
عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب ال فقيل :كانت مع فلن فقتل يوم اليمامة ،فقال :إنا
ل ،فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف (.)4
هذا منقطع ،فإن الحسن لم يدرك عمر ،ومعناه :أشار بجمعه فجمع ؛ ولهذا كان مهيمنا على
حفظه وجمعه كما رواه ابن أبي داود حيث قال :حدثنا أبو الطاهر ( )5حدثنا ابن وهب ،حدثنا
عمر بن طلحة الليثي ،عن محمد بن عمرو بن علقمة ،عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ،
أن عمر لما جمع القرآن كان ل يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان (.)6
وذلك عن أمر الصديق له في ذلك ،كما قال أبو بكر بن أبي داود :حدثنا أبو الطاهر ،حدثنا ابن
وهب ،أخبرني ابن أبي الزناد ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه قال :لما استحر القتل بالقراء
يومئذ فرق أبو بكر ،رضي ال عنه ،أن يضيع ،فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت :فمن
جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب ال فاكتباه ( .)7منقطع حسن.
ولهذا قال زيد بن ثابت :وجدت آخر سورة التوبة ،يعني قوله تعالى َ { :لقَدْ جَا َء ُكمْ رَسُولٌ مِنْ
سكُمْ } إلى آخر اليتين [التوبة ، ]129 ، 128 :مع أبي خزيمة النصاري ،وفي رواية :مع
أَ ْنفُ ِ
خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول ال صلى ال عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره
فكتبوها عنه لنه جعل رسول ال صلى ال عليه وسلم شهادته بشهادتين في قصة الفرس التي
ابتاعها رسول ال صلى ال عليه وسلم من العرابي ،فأنكر العرابي البيع ،فشهد خزيمة هذا
بتصديق رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمضى شهادته وقبض الفرس من العرابي .والحديث
رواه أهل السنن ( )8وهو مشهور ،وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أن أبيّ
بن كعب أملها عليهم مع خزيمة بن ثابت (.)9
وقد روى ابن وهب عن عمرو ( )10بن طلحة الليثي ،عن محمد بن عمرو بن علقمة ،عن
يحيى
__________
( )1في جـ " :الكفر".
( )2في ط " :أخفيتهم".
( )3في ط " :صاروا".
( )4المصاحف (ص .)16
( )5في جـ " :الظاهر".
( )6المصاحف (ص .)17
( )7المصاحف (ص .)12
( )8سنن أبي داود برقم ( )3607وسنن النسائي (.)302 /7
( )9رواه أحمد في المسند ( )134 /5من طريق عمر بن شقيق عن أبي جعفر به.
( )10في ط " :عمر".
( )1/26
( )1/27
أنس بن مالك ،حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي ال عنهما وكان يغازي
أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ،فأفزع حذيفة اختلفهم في القراءة .فقال
حذيفة لعثمان :يا أمير المؤمنين ،أدرك هذه المة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلف اليهود
والنصارى .فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها
إليك ،فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ،فأمر زيد بن ثابت وعبد ال بن الزبير وسعيد بن العاص
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ،وقال عثمان للرهط القرشيين الثلثة
:إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ،فإنما أنزل بلسانهم.
ففعلوا ،حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل
أفق بمصحف مما نسخوا ،وأمر بما سواه من القرآن في محل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال ابن شهاب الزهري :فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت :سمع زيد بن ثابت قال :فقدت آية
من الحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ بها ،
التمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت النصاري { :مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِرجَالٌ صَ َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ
عَلَيْهِ } [الحزاب ، ]23 :فألحقناها في سورتها في المصحف (.)1
وهذا -أيضا -من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،رضي ال عنه ،فإن الشيخين
سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة ؛ لئل يختلفوا في
القرآن ،ووافقه على ذلك جميع الصحابة ،وإنما روي عن عبد ال ( )2بن مسعود شيء من
التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان
بحرقه ماعدا المصحف المام ،ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب ،
رضي ال عنه :لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا .فاتفق الئمة ( )3أبو بكر وعمر وعثمان وعلي
،رضي ال عنهم ،على أن ذلك من مصالح الدين ،وهم الخلفاء الذين قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " ( .)4وكان السبب في هذا حذيفة
بن اليمان ،رضي ال عنه لما ( )5كان غازيا في فتح أرمينية وأذربيجان ،وكان قد اجتمع هناك
أهل الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى ،ورأى منهم اختلفا
وافتراقا ،فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان :أدرك هذه المة قبل أن يختلفوا في الكتاب
اختلف اليهود والنصارى.
وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب ،فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة ،
والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا ،وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ول
حرف الياء ،والنصارى -أيضا -بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي مخالفة لنسختي اليهود
والسامرة ،وأما
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4988 ، 4987
( )2في ط ،جـ " :عبد الرحمن".
( )3في ط ،جـ " :الربعة".
( )4رواه أحمد في المسند ( )126 /4وأبو داود في السنن برقم ( )46 07والترمذي في السنن
برقم ( )2676وقال الترمذي " :حديث حسن صحيح".
( )5في ط ،جـ " :فإنه".
( )1/28
الناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة :إنجيل مرقس ،وإنجيل لوقا وإنجيل متى ،وإنجيل
يوحنا ،وهي مختلفة -أيضا -اختلفا كثيرا ،وهذه الناجيل الربعة كل منها لطيف الحجم منها
ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط ،ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو
بالضعف ،ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلمه وفيه شيء قليل مما يدعون أنه كلم
ال ،وهي مع هذا مختلفة ،كما قلنا ،وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف ،ثم هما
منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة.
فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التي
عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد ،وينفذه إلى الفاق ،ويجمع الناس على
القراءة به وترك ما سواه ،ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلء الربعة وهم زيد بن ثابت
النصاري ،أحد كتاب الوحي لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعبد ال بن الزبير بن العوام
القرشي السدي ،أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعمل وأصل وفضل وسعيد بن العاص بن
سعيد بن العاص بن أمية القرشي الموي ،وكان كريما جوادا ممدحا ،وكان أشبه الناس لهجة
برسول ال صلى ال عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد ال بن
عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ،فجلس هؤلء النفر يكتبون القرآن نسخا ،وإذا اختلفوا في
وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان ،كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء ،
فقال زيد بن ثابت :إنما هو التابوه وقال الثلثة القرشيون :إنما هو التابوت فتراجعوا ( )1إلى
عثمان فقال :اكتبوه بلغة قريش ،فإن القرآن نزل بلغتهم.
وكان عثمان -وال أعلم -رتب السور في المصحف ،وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين ؛ ولهذا
روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الئمة الكبار ،عن عوف
العرابي ،عن يزيد الفارسي ،عن ابن عباس قال :قلت لعثمان بن عفان :ما حملكم أن عمدتم
إلى النفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ،فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر "بسم
ال الرحمن الرحيم" ،ووضعتموها في السبع الطوال ؟ ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان :كان
رسول ال مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ،فكان إذا نزل عليه الشيء
دعا بعض من كان يكتب فيقول :ضعوا هذه اليات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ،فإذا
أنزلت عليه الية فيقول :ضعوا هذه الية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ،وكانت النفال
من أول ما نزل بالمدينة ،وكانت براءة من آخر القرآن ،وكانت قصتها شبيهة بقصتها ،
وحسبت أنها منها وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ،فمن أجل ذلك
قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم ال الرحمن الرحيم" فوضعتها في السبع الطوال (.)2
__________
( )1في ط " :فترافعوا".
( )2تفسير الطبري ( )102 /1وسنن أبي داود برقم ( )786وسنن الترمذي برقم ( )3086وسنن
النسائي الكبرى برقم ( )8007ويزيد الفارسي مجهول وقد انفرد بهذا الحديث.
( )1/29
ففهم من هذا الحديث أن ترتيب اليات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى ال عليه
وسلم ،وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،رضي ال عنه ؛ ولهذا ليس
لحد أن يقرأ القرآن إل مرتبا ؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا .وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء
بعثمان ،رضي ال عنه ،والولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ ،عليه الصلة والسلم ،في
صلة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية ،فإن فرق جاز ،
كما صح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ في العيد بقاف واقتربت الساعة ،رواه مسلم عن
أبي واقد ( )1في الصحيحين عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ؛ أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم كان يقرأ في صلة الصبح يوم الجمعة :الم السجدة ،وهل أتى على النسان (.)2
وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا ،فقد روى حذيفة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران .أخرجه مسلم (.)3
وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف .ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة ،فلم تزل
عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت ،فأخذها من عبد ال بن
عمر فحرقها لئل يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الفاق ،مصحفا إلى
أهل مكة ،ومصحفا إلى البصرة ،وآخر إلى الكوفة ،وآخر إلى الشام ،وآخر إلى اليمن ،وآخر
إلى البحرين ،وترك عند أهل المدينة مصحفا ،رواه أبو بكر بن أبي داود عن أبي حاتم
السجستاني ،سمعه يقوله ( .)4وصحح القرطبي أنه إنما نفذ إلى الفاق أربعة مصاحف .وهذا
غريب ،وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق لئل تختلف قراءات الناس في الفاق ،
وقد وافقه الصحابة في عصره على ذلك ولم ينكره أحد منهم ،وإنما نقم عليه ذلك أولئك الرهط
الذين تمالؤوا عليه وقتلوه ،قاتلهم ال ،وفي ذلك جملة ما أنكروه مما ل أصل له ،وأما سادات
المسلمين من الصحابة ،ومن نشأ في عصرهم ذلك من التابعين ،فكلهم وافقوه.
قال أبو داود الطيالسي وابن مهدي وغُنْدَر عن شعبة ،عن عَ ْلقَمة بن مَرْثَد ،عن رجل ،عن
سوَيد بن غفلة ،قال عليّ حين حرق عثمان المصاحف :لو لم يصنعه هو لصنعته (.)5
ُ
وقال أبو بكر بن أبي داود :حدثنا أحمد بن سِنَان ،حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا شعبة عن أبي
إسحاق ( )6عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ،قال :أدركت الناس متوافرين حين حرق
عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك ،أو قال :لم ينكر ذلك منهم أحد ( .)7وهذا إسناد صحيح.
وقال أيضا :حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ،حدثنا يحيى بن كثير ،حدثنا ثابت بن عمارة
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)891
( )2صحيح البخاري برقم ( )891وصحيح مسلم برقم (.)880
( )3صحيح مسلم برقم (.)772
( )4المصاحف لبن أبي داود (ص .)43
( )5رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص .)19
( )6في جـ " :أبي مصعب".
( )7المصاحف (ص .)19
( )1/30
الحنفي ،قال :سمعت غنيم بن قيس المازني قال :قرأت القرآن على الحرفين جميعا ،وال ما
يسرني أن عثمان لم يكتب المصحف ،وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلم ،فأصبح له مثل
ماله .قال :قلنا له :يا أبا العنبر ،ولم ؟ قال :لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون
الشعر (.)1
حدثنا يعقوب بن سفيان ،حدثنا محمد بن عبد ال ،حدثني عمران بن حدير ،عن أبي مِجْلَز قال
:لول أن عثمان كتب القرآن للفيت الناس يقرؤون الشعر .حدثنا أحمد بن سنان قال :سمعت ابن
مهدي يقول :خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لبي بكر ول لعمر :صبره نفسه حتى قتل مظلومًا
،وجمعه الناس على المصحف (.)2
وأما عبد ال بن مسعود فقد قال إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن حميد ( )3بن مالك قال :لما
أمر عثمان بالمصاحف -يعني بتحريقها -ساء ذلك عبد ال بن مسعود وقال :من استطاع منكم
أن يغلّ مصحفًا فليغلل ،فإنه من غلّ شيئًا جاء بما غل يوم القيامة.
ثم قال عبد ال :لقد قرأت القرآن من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم سبعين سورة وزيد
صبي ،أفأترك ما أخذت من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم (.)4
وقال أبو بكر :حدثنا عبد ال بن محمد بن النعمان ،حدثنا سعيد بن سليمان ( )5حدثتا ابن ()6
شهاب ،عن العمش ،عن أبي وائل ،قال :خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال َ { :ومَنْ َيغُْللْ
غلّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } [آل عمران ، ]161 :غلوا مصاحفكم ،وكيف تأمروني أن أقرأ على
يَ ْأتِ ِبمَا َ
قراءة زيد بن ثابت ،وقد قرأت القرآن من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم بضعا وسبعين
سورة ،وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ،وال ما نزل من القرآن شيء إل وأنا
أعلم في أي شيء نزل ،وما أحد أعلم بكتاب ال مني ،وما أنا بخيركم ،ولو أعلم مكانا تبلغه
البل أعلم بكتاب ال مني لتيته .قال أبو وائل :فلما نزل عن ( )7المنبر جلست في الحلق ،فما
أحد ينكر ما قال ( .)8أصل هذا مخرج في الصحيحين ( )9وعندهما :ولقد علم أصحاب محمد
أني أعلمهم بكتاب ال .وقول أبي وائل " :فما أحد ينكر ما قال" ،يعني :من فضله وعلمه وحفظه
،وال أعلم.
ل المصاحف وكتمانها ،فقد أنكره عليه غير واحد .قال العمش عن إبراهيم ،عن
وأما أمره ب َغ ّ
علقمة ،قال :قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء ،فقال :كنا نعد عبد ال جبانا ( )10فما باله يواثب
المراء ( .)11وقال أبو بكر بن أبي داود :باب رضا عبد ال بن مسعود بجمع عثمان المصاحف
بعد ذلك :حدثنا عبد ال بن سعيد ومحمد بن عثمان العجلي قال حدثنا أبو أسامة ،حدثني الوليد
بن قيس ،عن عثمان بن حسان العامري ،عن فُلفُلة الجعفي قال :فزعت فيمن فزع إلى عبد ال
في
__________
( )1المصاحف (ص .)19
( )2المصاحف (ص .)19
( )3في جـ " :عمير".
( )4المصاحف (ص .)21
( )5في جـ " :سلمان".
( )6في ط ،جـ " :أبو".
( )7في جـ " :من".
( )8المصاحف (ص .)23
( )9صحيح البخاري برقم ( )5000وصحيح مسلم برقم (.)2462
( )10في المصاحف " :حنانا".
( )11المصاحف (ص .)25
( )1/31
المصاحف ،فدخلنا عليه ،فقال رجل من القوم :إنا لم نأتك زائرين ،ولكنا جئنا حين راعنا هذا
الخبر ،فقال :إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب ،على سبعة أحرف -أو حروف -
وإن الكتاب قبلكم كان ينزل -أو نزل -من باب واحد على حرف واحد ( .)1وهذا الذي استدل
به أبو بكر ،رحمه ال ،على رجوع ابن مسعود فيه نظر ،من جهة أنه ل يظهر من هذا اللفظ
رجوع عما كان يذهب إليه ،وال أعلم.
وقال أبو بكر أيضا :حدثنا عمي ،حدثنا أبو رجاء ،حدثنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن
مصعب بن سعد قال :قام عثمان فخطب الناس فقال [ :يا] ( )2أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلث
عشرة وأنتم تمترون في القرآن ،وتقولون :قراءة أبي وقراءة عبد ال ،يقول الرجل :وال ما
تقيم قراءتك ،وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب ال لما جاء به ،فكان الرجل
يجيء بالورقة والديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ،ثم دخل عثمان فدعاهم رجل رجل
فناشدهم :لسمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم أمله عليك فيقول :نعم ،فلما فرغ من ذلك
عثمان قال :من أك َتبُ الناس ؟ قالوا :كاتب رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن ثابت .قال :
فأي الناس أعرب ؟ قالوا :سعيد بن العاص .قال عثمان :فليمْل سعيد ،وليكتب زيد .فكتب زيد
مصاحف ففرقها في الناس ،فسمعت بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون ()3
قد أحسن ( .)4إسناده ( )5صحيح.
وقال أيضا :حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ،حدثنا أبو بكر ،حدثنا هشام بن حسان ،عن
محمد بن سيرين ،عن كثير بن أفلح قال :لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني
عشر رجل من قريش والنصار ،فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ،قال :فبعثوا إلى الربعة
التي في بيت عمر فجيء بها ،قال :وكان عثمان يتعاهدهم ،وكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخره.
قال محمد :فقلت لكثير -وكان فيهم فيمن يكتب : -هل تدرون لم كانوا يؤخرونه ؟ قال :ل.
قال محمد :فظننت ظنا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الخيرة فيكتبونها
على قوله ( .)6صحيح أيضا.
قلت :الربعة هي الكتب المجتمعة ،وكانت عند حفصة ،رضي ال عنها ،فلما جمعها عثمان ،
رضي ال عنه ،في المصحف ،ردها إليها ،ولم يحرقها في جملة ما حرقه مما سواها ،إل أنها
هي بعينها الذي كتبه ،وإنما رتبه ،ثم إنه كان قد عاهدها على أن يردها إليها ،فما زالت عندها
حتى ماتت ،ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول في ذلك ما تأول ( )7عثمان ،كما رواه
أبو بكر بن أبي داود :
حدثنا محمد بن عوف ،حدثنا أبو اليمان ،حدثنا شعيب ،عن الزهري ،أخبرني سالم بن عبد ال
:
__________
( )1المصاحف (ص .)25
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3في ط ،جـ " :يقول".
( )4المصاحف (ص .)31
( )5في جـ ،ط " :إسناد".
( )6المصاحف (ص .)33
( )7في ط " :أول".
( )1/32
أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن ،فتأبى حفصة أن تعطيه
إياها .قال سالم :فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد ال بن
عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف ،فأرسل بها إليه عبد ال بن عمر فأمر بها مروان فشققت ،وقال
مروان :إنما فعلت هذا لن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف ،فخشيت إن طال بالناس زمان (
)1أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أو يقول :إنه كان شيء منها لم يكتب ( .)2إسناد
صحيح.
وأما ما رواه الزهري ( )3عن خارجة عن أبيه في شأن آية الحزاب وإلحاقهم إياها في
سورتها ،فذكره ( )4لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر ،وإنما هذا كان حال جمع الصديق الصحف
كما جاء مصرحًا به في غير هذه الرواية عن الزهري ،عن عبيد بن السباق ،عن زيد بن
ثابت ،والدليل على ذلك أنه قال " :فألحقناها ( )5في سورتها من المصحف" وليست هذه الية
ملحقة في الحاشية في المصاحف العثمانية .فهذه الفعال ( )6من أكبر القربات التي بادر إليها
الئمة الراشدون أبو بكر وعمر ،رضي ال عنهما ،حفظا على الناس القرآن ،جمعاه لئل يذهب
منه شيء ،وعثمان ،رضي ال عنه ،جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على
العرضة الخيرة التي عارض بها جبريل رسول ال صلى ال عليه وسلم في آخر رمضان من
عمره ،عليه الصلة والسلم ،فإنه عارضه به عامئذ مرتين ؛ ولهذا قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم لفاطمة ابنته لما مرض " :وما أرى ذلك إل لقتراب أجلي" .أخرجاه في الصحيحين (
.)7
وقد روي أن عليًا ،رضي ال عنه ،أراد أن يجمع القرآن بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم
مرتبا بحسب نزوله أول فأول كما رواه ( )8ابن أبي داود حيث قال :حدثنا محمد بن إسماعيل
الحمسي ،حدثنا ابن فضيل ،عن أشعث ،عن محمد بن سيرين قال :لما توفي النبي صلى ال
عليه وسلم أقسم علي أل يرتدي برداء إل لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل ،فأرسل ،
إليه أبو بكر ،رضي ال عنه ،بعد أيام :أكرهت إمارتي يا أبا الحسن ؟ فقال :ل وال إل أني
أقسمت أل أرتدي برداء إل لجمعة .فبايعه ثم رجع ( .)9هكذا رواه وفيه انقطاع ،ثم قال :لم
يذكر المصحف أحد إل أشعث ( )10وهو لين الحديث ( )11وإنما رووا ( )12حتى أجمع
القرآن ،يعني أتم حفظه ،فإنه يقال للذي يحفظ القرآن :قد جمع القرآن.
قلت :وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر ،وال أعلم ،فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ول
غير ذلك ،ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني ،يقال :إنها بخط علي ،رضي ال
عنه ،وفي ذلك نظر ،فإنه في بعضها :كتبه علي بن أبي طالب ،وهذا لحن من الكلم ( )13؛
وعلي ،
__________
( )1في جـ " :الزمان".
( )2المصاحف (ص .)32
( )3رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص )37عن الزهري.
( )4في جـ " :فذكر".
( )5في طـ ،جـ " :وألحقناها".
( )6في جـ " :اليات".
( )7صحيح البخاري برقم ( )6286 ، 6285وصحيح مسلم برقم (.)2450
( )8في جـ " :روى".
( )9المصاحف (ص .)16
( )10في جـ " :الشعث".
( )11في جـ ،طـ " :وهو ابن الحرث".
( )12في جـ ،طـ " :رواه".
( )13وقد ذكر "كوركيس عواد" في كتابه "أقدم مخطوطات في العالم" بعض هذه المصاحف
وأماكنها وأرقامها في إيران وطاشقند ،ول يشك عاقل أنها ليست من خط علي ،رضي ال عنه.
( )1/33
رضي ال عنه ،من أبعد الناس عن ذلك فإنه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم
النحو ،فيما رواه عنه أبو السود ظالم بن عمرو الدؤلي ،وأنه قسم الكلم إلى اسم وفعل وحرف
،وذكر أشياء أخر تممها أبو السود بعده ،ثم أخذه الناس عن أبي السود فوسعوه ووضحوه ،
وصار علما مستقل.
وأما المصاحف العثمانية الئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي
المقصورة المعمورة بذكر ال ،وقد كانت قديمًا بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود
ثمان عشرة وخمسمائة ،وقد رأيته كتابا عزيزا جليل عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر
محكم في رق أظنه من جلود البل ،وال أعلم ،زاده ال تشريفا وتكريما وتعظيما (.)1
فأما عثمان ،رضي ال عنه ،فما يعرف أنه كتب بخطه هذه المصاحف ،وإنما كتبها زيد بن
ثابت في أيامه ،ربما وغيره ،فنسبت إلى عثمان لنها بأمره وإشارته ،ثم قرئت على الصحابة
بين يدي عثمان ،ثم نفذت إلى الفاق ،رضي ال عنه ،وقد قال أبو بكر بن أبي داود :
حدثنا علي بن حرب الطائي ،حدثنا قريش ( )2بن أنس ،حدثنا سليمان التيمي ،عن أبي
نضرة ،عن أبي سعيد مولى بني ( )3أسيد ،قال :لما دخل المصريون على عثمان ضربوه
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } [البقرة ، ]137 :فمد يده
بالسيف على يده فوقعت على { :فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ
فوقعت :وال إنها لول يد خطت المفصل (.)4
وقال أيضا :حدثنا أبو طاهر ،حدثنا ابن وهب قال :سألت مالكا عن مصحف عثمان ،فقال لي
:ذَهَب .يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده ،ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف
الذي تركه في المدينة ،وال أعلم.
قلت :وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدًا ،وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ( )5ذكره هشام بن
محمد بن السائب الكلبي وغيره :أن بشر بن عبد الملك أكيدر دومة تعلم الخط من النبار ،ثم
قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية فعلمه
حرب بن أمية وابنه سفيان ،وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية ،وتعلمه معاوية من
عمه سفيان بن حرب ،وقيل :إن أول من تعلمه من النبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها
:بقة ،ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس .ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود :حدثنا
عبد ال بن محمد الزهري ،حدثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال :سألنا المهاجرين من أين
تعلمتم الكتابة ؟ قالوا :من أهل الحيرة .وسألنا أهل الحيرة :من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا :من
أهل النبار (.)6
قلت :والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المكتوفة ثم هذبها أبو علي مقلة الوزير ،
وصار
__________
( )1ذكر "كوركيس عواد" في كتابه المتقدم ذكره (ص )34أن مصحفا في متحف الثار
السلمية بتركيا مكتوب على الرق كتب في آخره ،أنه مصحف عثمان ،رضي ال عنه ،وهو
في هذا المتحف برقم (.)457
( )2في جـ " :يونس".
( )3في طـ ،جـ " :أبى".
( )4لم أجد هذا الثر والذي بعده في المصاحف.
( )5في ط ،جـ " :كما".
( )6المصاحف (ص .)9
( )1/34
له في ذلك منهج وأسلوب في الكتابة ،ثم قربها علي بن هلل البغدادي المعروف بابن البواب
وسلك الناس وراءه .وطريقته في ذلك واضحة جيدة .والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك
الزمان لم تحكم جيدا ،وقع في كتابة المصاحف اختلف في وضع الكلمات من حيث صناعة
الكتابة ل من حيث المعنى ،وصنف الناس في ذلك ،واعتنى بذلك المام الكبير أبو عبيد القاسم
بن سلم ،رحمه ال ،في كتابه فضائل القرآن ( )1والحافظ أبو بكر بن أبي داود ،رحمه ال ،
فبوبا على ذلك ( )2وذكر قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ،ليست مقصدنا هاهنا ؛ ولهذا
نص المام مالك ،رحمه ال ،على أنه ل توضع المصاحف إل على وضع كتابة المام ،
ورخص في ذلك غيره ،واختلفوا في الشكل والنقط فمن مرخص ومن مانع ،فأما كتابة السور
وآياتها والتعشير والجزاء والحزاب فكثير ( )3في مصاحف زماننا ،والولى اتباع السلف
الصالح.
ثم قال البخاري :ذكر كُتّاب النبي صلى ال عليه وسلم .وأورد فيه من حديث الزهري ،عن ابن
السباق ،عن زيد ابن ثابت ،أن أبا بكر الصديق قال له :وكنت تكتب الوحي لرسول ال صلى
ال عليه وسلم وذكر نحو ما تقدم في ( )4جمعه للقرآن ( )5وقد تقدم ،وأورد حديث زيد بن ثابت
في نزول { :ل َيسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ } [النساء )6( ]95 :وسيأتي
الكلم عليه في سورة النساء إن شاء ال تعالى ،ولم يذكر البخاري أحدًا من الكتّاب في هذا الباب
سوى زيد بن ثابت ،وهذا عجب ،وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا ،وال أعلم.
وموضع هذا في كتاب السيرة عند ذكر كتّابه عليه السلم.
ثم قال البخاري ،رحمه ال :
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)243 - 237
( )2المصاحف (ص .)176 - 145
( )3في ط ،جـ " :فكثر".
( )4في جـ " :من".
( )5صحيح البخاري برقم (.)4989
( )6صحيح البخاري برقم (.)4990
( )1/35
( )1/35
وهذا مبسوط في الحديث الذي رواه المام أبو عبيد القاسم بن سلم حيث قال :
حدثنا يزيد ويحيى بن سعيد كلهما عن حميد الطويل ،عن أنس بن مالك ،عن أبيّ بن كعب قال
:ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت ،إل أنني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي فقلت :
أقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :أقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمن
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت :يا رسول ال ،أقرأتني آية كذا وكذا ؟ قال " :نعم" ،وقال
الخر :أليس تقرأني آية كذا وكذا ؟ قال " :نعم" .فقال " :إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل
عن يميني وميكائيل عن يساري ،فقال جبريل :اقرأ القرآن على حرف ،فقال ميكائيل :
استزده ،حتى بلغ سبعة أحرف وكل حرف شاف كاف" (.)1
وقد رواه النسائي من حديث يزيد -وهو ابن هارون -ويحيى بن سعيد القطان كلهما عن حميد
الطويل ،عن أنس ،عن أبيّ بن كعب بنحوه ( .)2وكذا رواه ابن أبي عدي ومحمود ( )3بن
ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب كلهم عن حميد به ( .)4وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن
مرزوق ،حدثنا أبو الوليد ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن حميد ،عن أنس ،عن عبادة بن الصامت
،عن أبيّ بن كعب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أنزل القرآن على سبعة أحرف"
فأدخل بينهما عبادة بن الصامت (.)5
وقال المام أحمد بن حنبل ،رحمه ال :حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد ،حدثني
عبد ال بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن أبيّ بن كعب ،قال :كنت في المسجد
فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه ،ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ،فقمنا
جميعا ،فدخلنا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقلت :يا رسول ال ،إن هذا قرأ قراءة
أنكرتها عليه ،ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه ،فقال لهما النبي صلى ال عليه وسلم
" :اقرآ" ،فقرآ ،فقال " :أصبتما" .فلما قال لهما النبي صلى ال عليه وسلم الذي قال ،كَبُر عليّ
ول إذا كنت في الجاهلية ،فلما رأى الذي غشينى ضرب في صدري ففضضت عرقًا ،وكأنما
أنظر إلى [رسول] ( )6ال فرقا فقال " :يا أبيّ ،إن ربي أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف ،
فرددت إليه أن هون على أمتي ،فأرسل إليّ أن اقرأه على حرفين ،فرددت إليه أن هوّن على
أمتي ،فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف ،ولك بكل ردة مسألة تسألنيها" .قال " :قلت :اللهم
اغفر لمتي ،اللهم اغفر لمتي ،وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم عليه
السلم" .وهكذا رواه مسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد به (.)7
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا محمد بن فضيل ،عن إسماعيل بن أبي خالد ،عن
عبد ال بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن أبيه ،عن جده ،عن أبي بن كعب ،قال :
قال
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)201
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)7986
( )3في ط ،جـ " :محمد".
( )4رواه الطبري في تفسيره (.)33 /1
( )5تفسير الطبري (.)34 /1
( )6زيادة من جـ.
( )7المسند ( )127 /5وصحيح مسلم برقم (.)820
( )1/36
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد ،فقلت :خفف
عن أمتي ،فقال ( )1اقرأه على حرفين ،فقلت :اللهم ربّ خفف عن أمتي ،فأمرني أن أقرأه
ف كافٍ" (.)2
على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة كلها شا ٍ
وقال ابن جرير :حدثنا يونس عن ابن وهب :أخبرني هشام بن سعد ،عن عبيد ال بن عمر ،
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن أبيّ بن كعب ،أنه قال :سمعت رجل يقرأ في سورة النحل
قراءة تخالف قراءتي ،ثم سمعت آخر يقرؤها بخلف ذلك ،فانطلقت بهما إلى رسول ال صلى
ال عليه وسلم فقلت :إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل فسألتهما :من أقرأكما ( )3؟ فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقلت :لذهبن بكما إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ
خالفتما ما أقرأني رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لحدهما
" :اقرأ" .فقرأ ،فقال " :أحسنت" ثم قال للخر " :اقرأ" .فقرأ ،فقال " :أحسنت" .قال أبيّ :
فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي ،فعرف ذلك رسول ال صلى ال عليه
وسلم في وجهي ،فضرب يده في صدري ثم قال " :اللهم أخسئ ( )4الشيطان عنه ،يا أبيّ ،
أتاني آت من ربي فقال :إن ال يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ،فقلت :رب ،خفف
عني ،ثم أتاني الثانية فقال :إن ال يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين ( )5فقلت :رب ،خفف
عن أمتي ،ثم أتاني الثالثة ،فقال :مثل ذلك وقلت له مثل ذلك ،ثم أتاني الرابعة فقال :إن ال
يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ،ولك بكل ردة مسألة ،فقلت :يارب ،اللهم اغفر
لمتي ،يارب ،اغفر لمتي ،واختبأت الثالثة شفاعة لمتي يوم القيامة" ( .)6إسناده صحيح.
قلت :وهذا الشك الذي حصل لبيّ في تلك الساعة هو ،وال أعلم ،السبب الذي لجله قرأ عليه
رسول ال صلى ال عليه وسلم قراءة إبلغ وإعلم ودواء لما كان حصل له سورة { لَمْ َيكُنِ الّذِينَ
طهّ َرةً * فِيهَا كُ ُتبٌ
حفًا ُم َ
صَُكفَرُوا } إلى آخرها لشتمالها على قوله تعالى { :رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو ُ
قَ ّيمَةٌ } [البينة ، ]3 ، 2 :وهذا نظير تلوته سورة الفتح حين أنزلت مرجعه ،عليه السلم ،من
الحديبية على عمر بن الخطاب ،وذلك لما كان تقدم له من السئلة لرسول ال صلى ال عليه
وسلم ولبي ( )7بكر الصديق ،رضي ال عنهما ،في قوله تعالى َ { :لقَ ْد صَدَقَ اللّهُ َرسُولَهُ
حقّ لَتَ ْدخُلُنّ ا ْل َمسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ } [الفتح .]27 :
ال ّرؤْيَا بِالْ َ
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن الحكم ،عن
مجاهد ،عن ابن أبي ليلى ،عن أبيّ بن كعب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان عند أخباة
بني غفار ،فأتاه جبريل فقال :إن ال يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف ،قال " :أسأل ال
معافاته ومغفرته ،فإن أمتي ل تطيق ذلك" .ثم أتاه الثانية فقال :إن ال يأمرك أن تقرئ أمتك
القرآن على حرفين .قال :
__________
( )1في ط ،جـ " :قال".
( )2تفسير الطبري (.)37 /1
( )3في ط ،جـ " :أقرأهما".
( )4في جـ " :أذهب".
( )5في طـ ،جـ " :حرف واحد".
( )6تفسير الطبري (.)41 /1
( )7في ط ،جـ " :ثم لبى".
( )1/37
"أسأل ال معافاته ومغفرته ،فإن أمتي ل تطيق ذلك" .ثم جاءه الثالثة قال :إن ال يأمرك أن
تقرئ أمتك القرآن على ثلثة أحرف قال " :أسأل ال معافاته ومغفرته ،وإن أمتي ل تطيق ذلك".
ثم جاءه الرابعة فقال :إن ال يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا
عليه فقد أصابوا (.)1
ظ لبي داود عن أبيّ بن كعب قال
وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية شعبة به ،وفي لف ٍ
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا أبيّ ،إني أقرئت القرآن فقيل لي :على حرف أو
حرفين ؟ فقال الملك الذي معي :قل على حرفين .قلت :على حرفين .فقيل لي :على حرفين أو
ثلثة ؟ فقال الملك الذي معي :قل على ثلثة .قلت :على ثلثة .حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال :
ليس منها إل شاف كاف إن قلت :سميعا عليما ،عزيزا حكيما ،ما لم تختم آية عذاب برحمة أو
آية رحمة بعذاب" (.)2
وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم ( )3ومن
كلم ابن مسعود ،رضي ال عنه ،نحو ذلك.
وقال المام أحمد :حدثنا حسين بن علي الجعفي ،عن زائدة ،عن عاصم ،عن زر ،عن أبي
قال :لقي رسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء ،فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم لجبريل " :إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ العاسي ،والعجوز الكبيرة ،والغلم ،
فقال :مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" (.)4
وأخرجه الترمذي من حديث عاصم بن أبي النّجُود ،عن زر ،عن أبيّ بن كعب ،به ( )5وقال :
حسن صحيح.
وقد رواه أبو عبيد عن أبي النضر ،عن شيبان ،عن عاصم بن أبي النجود ،عن زر ،عن
حذيفة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لقي جبريل عند أحجار المراء ،فذكر الحديث ( )6وال
أعلم.
وهكذا رواه المام أحمد عن عفان ،عن حماد ،عن عاصم ،عن زر ،عن حذيفة ؟ أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال " :لقيت جبريل عند أحجار المراء ،فقلت :يا جبريل ،إني أرسلت
إلى أمة أمية ؛ الرجل ،والمرأة ،والغلم ،والجارية ،والشيخ الفاني ،الذي لم يقرأ كتابا قط
فقال :إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" (.)7
وقال أحمد أيضا :حدثنا َوكِيع وعبد الرحمن ،عن سفيان ،عن إبراهيم بن مهاجر ،عن رِبْعى
بن حِراش :حدثني من لم يكذبني -يعني حذيفة -قال :لقي النبي صلى ال عليه وسلم جبريل
عند أحجار المراء
__________
( )1تفسير الطبري (.)40 /1
( )2صحيح مسلم برقم ( )820وسنن أبي داود برقم ( )1478وسنن النسائي (.)153 /2
( )3ورواه أحمد في المسند ( )440 ، 232 /2من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي
هريرة ،رضي ال عنه.
( )4المسند ( )132 /5ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (" )739موارد" من طريق زائدة به
مثله.
( )5سنن الترمذي برقم (.)2944
( )6فضائل القرآن لبي عبيد (ص .)202
( )7المسند (.)400 ، 391 /5
( )1/38
فقال :إن أمتك +يقرؤون القرآن على سبعة أحرف ،فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم ،
ول يرجع عنه .وقال عبد الرحمن :إن في أمتك الضعيف ،فمن قرأ على حرف فل يتحول منه
إلى غيره رغبة عنه ( .)1وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
حديث آخر في معناه عن سليمان بن صرد :قال ابن جرير :حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ،
حدثنا شريك عن أبي إسحاق ،عن سليمان بن صرد -يرفعه -قال " :أتاني ملكان ،فقال
أحدهما :اقرأ .قال :على كم ؟ قال :على حرف .قال :زده ،حتى انتهى إلى سبعة أحرف" (
.)2ورواه النسائي في اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلم عن إسحاق الزرق عن
حوْشَب ،عن أبي إسحاق ،عن سليمان بن صرد قال :أتى أبيّ بن كعب رسول ال
ال َعوّام بن َ
صلى ال عليه وسلم برجلين اختلفا في القراءة ،فذكر الحديث (.)3
وهكذا رواه أحمد بن مَنِيع عن يزيد بن هارون ،عن العوام بن حوشب به ،ورواه أبو عبيد عن
يزيد بن هارون ،عن العوام ،عن أبي إسحاق ،عن سليمان بن صرد ،عن أبيّ أنه أتى النبي
صلى ال عليه وسلم برجلين ،فذكره (.)4
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا يحيى بن آدم ،حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ،عن
فلن العبدي -قال ابن جرير :ذهب عني اسمه -عن سليمان بن صرد ،عن أبيّ بن كعب قال
:رحت إلى المسجد ،فسمعت رجل يقرأ فقلت :من أقرأك ؟ قال :رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فانطلقت به إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقلت :استقرئ هذا .قال :فقرأ ،فقال
" :أحسنت" .قال :قلت :إنك أقرأتني كذا وكذا! فقال " :وأنت قد أحسنت" .فقلت :قد أحسنت قد
أحسنت .قال :فضرب بيده على صدري ثم قال " :اللهم أذهب عن أبيّ الشك" .قال :ففضت
عرقا ،وامتل جوفي فرقا .قال :ثم قال " :إن الملكين أتياني ،فقال أحدهما :اقرأ القرآن على
حرف ،وقال الخر :زده .قال :قلت :زدني .فقال ( )5اقرأه على حرفين ،حتى بلغ سبعة
أحرف فقال :اقرأه على سبعة أحرف" (.)6
وقد رواه أبو عبيد عن حجاج ،عن إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن شتير ( )7العبدي ،عن
سليمان بن صرد ( )8عن أبيّ ،عن النبي صلى ال عليه وسلم بنحو ذلك ( )9ورواه أبو داود
عن أبي داود الطيالسي ،عن همام ،عن قتادة ،عن يحيى بن َي ْعمَر ،عن سليمان بن صرد ،
عن أبيّ بن كعب بنحوه (.)10
__________
( )1المسند (.)401 ، 385 /5
( )2تفسير الطبري (.)30 /1
( )3سنن النسائي الكبرى برقم (.)10506
( )4فضائل القرآن لبي عبيد (ص .)201
( )5في ط ،جـ " :قال".
( )6تفسير الطبري (.)32 /1
( )7في فضائل أبي عبيد " :صقير".
( )8في ط ،جـ " :حدد".
( )9فضائل القرآن (ص .)202
( )10سنن أبي داود برقم (.)1477
( )1/39
فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب ،والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي
شاهد على ذلك ،وال أعلم.
حديث آخر عن أبي بكرة :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن حماد بن
سلمة ،عن علي بن زيد ،عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ،عن أبيه ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :أتاني جبريل وميكائيل ،عليهما السلم ،فقال جبريل :اقرأ القرآن على حرف
واحد ،فقال ميكائيل :استزده ،فقال :اقرأ على سبعة أحرف ،كلها شاف كاف ،ما لم تختم آية
رحمة بآية عذاب ( )1أو آية عذاب برحمة " (.)2
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب ،عن زيد بن الحباب ،عن حماد بن سلمة به ،وزاد في
آخره كقولك :هلم وتعال (.)3
حديث آخر عن سمرة :قال المام أحمد :حدثنا َبهْز وعفان كلهما عن حماد بن سلمة ،حدثنا
قتادة ،عن الحسن ،عن سمرة ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :أنزل القرآن على
سبعة أحرف " .إسناد صحيح ،ولم يخرجوه (.)4
حديث آخر عن أبي هريرة :قال المام أحمد :حدثنا أنس بن عياض ،حدثني أبو حازم ،عن
أبي سلمة -ل أعلمه إل عن أبي هريرة -أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :نزل
القرآن على سبعة أحرف ،مراء في القرآن كفر -ثلث مرات -فما علمتم منه فاعملوا وما
جهلتم منه فردوه إلى عالمه " .ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي ضمرة أنس بن عياض به (.)5
حديث آخر عن أم أيوب :قال المام أحمد :حدثنا سفيان عن عبيد ال وهو ابن أبي يزيد -عن
أبيه ،عن أم أيوب -يعني امرأة أبي أيوب النصارية -أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
" :أنزل القرآن على سبعة أحرف ،أيها قرأت جزاك ( .)7( " )6وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه
أحد من أصحاب الكتب الستة.
حديث آخر عن أبي جهيم :قال أبو عبيد :حدثنا إسماعيل بن جعفر ،عن يزيد بن خصيفة ،عن
مسلم بن سعيد مولى الحضرمي ( )8وقال غيره :عن بسر بن سعيد ،عن أبي جهيم
النصاري ؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ،كلهما يزعم أنه تلقاها من رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فمشيا جميعا حتى أتيا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فذكر أبو جهيم أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ،فل
__________
( )1في ط ،جـ " :ما لم تختم آية رحمة بعذاب".
( )2المسند (.)41 /5
( )3تفسير الطبري (.)42 /1
( )4المسند (.)16 /5
( )5المسند ( )300 /2وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8093
( )6في ط " :أجزأه".
( )7المسند (.)462 ، 433 /6
( )8في فضائل أبي عبيد " :مولى ابن الحضرمي".
( )1/40
تماروا ،فإن مراء فيه كفر" ( .)1هكذا رواه أبو عبيد على الشك ( )2وقد رواه المام أحمد على
الصواب ،فقال :حدثنا أبو سلمة الخزاعي ،حدثنا سليمان بن بلل ،حدثني يزيد بن خصيفة ،
أخبرني بسر بن سعيد ،حدثني أبو جهيم ؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا :تلقيتها
من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال هذا :تلقيتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأل
النبي صلى ال عليه وسلم فقال " :القرآن يقرأ على سبعة أحرف ،فل تماروا في القرآن ،فإن
مراء في القرآن كفر " ( .)3وهذا إسناد صحيح -أيضا -ولم يخرجوه.
ثم قال أبو عبيد :حدثنا عبد ال بن صالح عن الليث ،عن يزيد بن الهاد ،عن محمد بن
إبراهيم ،عن بسر ( )4بن سعيد ،عن أبي قيس -مولى عمرو بن العاص -أن رجل قرأ آية
من القرآن ،فقال له عمرو -يعني ابن العاص : -إنما هي كذا وكذا ،بغير ما قرأ الرجل ،
فقال الرجل :هكذا أقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم [فخرجا إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم] ( )5حتى أتياه ،فذكرا ذلك له ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن هذا القرآن
نزل على سبعة أحرف ،فأي ذلك قرأتم أصبتم ،فل تماروا في القرآن ،فإن مراء فيه كفر " (
.)6ورواه المام أحمد عن أبي سلمة الخزاعي ،عن عبد ال بن جعفر بن عبد الرحمن بن
المسور بن مخرمة ،عن يزيد بن عبد ال بن أسامة بن الهاد ،عن بسر ( )7بن سعيد ،عن أبي
قيس مولى عمرو بن العاص به نحوه ،وفيه " :فإن المراء فيه كفر أو إنه الكفر به ( ." )8وهذا
-أيضا -حديث جيد (.)9
حديث آخر عن ابن مسعود :قال ابن جرير :حدثنا يونس بن عبد العلى ،حدثنا ابن وهب ،
أخبرني حيوة بن شريح ،عن عقيل بن خالد ،عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ،عن أبيه
،عن ابن مسعود ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال " :كان الكتاب الول نزل من باب
واحد وعلى حرف واحد ،ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف :زاجر ،وآمر ،
وحلل ،وحرام ،ومحكم ،ومتشابه ،وأمثال ،فأحلوا حلله ،وحرّموا حرامه ،وافعلوا ما
أمرتم به ،وانتهوا عما نهيتم عنه ،واعتبروا بأمثاله ،واعملوا بمحكمه ،وآمنوا بمتشابهه ،
وقولوا :آمنا به كل من عند ربنا" ( .)10ثم رواه عن أبي كُرَيْب عن المحاربي ،عن ضمرة بن
حبيب ،عن القاسم بن عبد الرحمن ،عن ابن مسعود من كلمه ( )11وهو أشبه ( .)12وال
أعلم.
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)202
( )2قال الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على الطبري (" : )44 /1قوله :على الشك ،إنما للحديث
طريقان :الول :إسماعيل بن جعفر يرويه عن يزيد عن مسلم بن سعيد ،وسليمان يرويه عن
يزيد عن بسر -أخو مسلم ،فأشار أبو عبيد أثناء السناد إلى الرواية الخرى دون أن يذكر
إسنادهما".
( )3المسند (.)170 /4
( )4في جـ " :بشر".
( )5زيادة من جـ ،طـ.
( )6فضائل القرآن (ص .)202
( )7في جـ " :بشر".
( )8في ط " :آية الكفر".
( )9المسند (.)204 /4
( )10تفسير الطبري (.)68 /1
( )11تفسير الطبري (.)69 /1
( )12قال الشيخ أحمد شاكر " :وهو الصحيح ،حيث صرح بذلك الطبري بقوله :وروى عن ابن
مسعود من قبله ،أما السناد السابق فقد قال ابن عبد البر :حديث ل يثبت ؛ لنه من رواية أبي
سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ،ولم يلق ابن مسعود".
( )1/41
فصل
قال أبو عبيد :قد تواترت ( )1هذه الحاديث كلها عن الحرف السبعة إل ما حدثني عفان ،عن
حماد بن سلمة ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن سمرة بن جندب ،عن النبي صلى ال عليه وسلم
قال " :نزل القرآن على ثلثة أحرف" (.)2
قال أبو عبيد :ول نرى المحفوظ إل السبعة لنها المشهورة ،وليس معنى تلك السبعة أن يكون
الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه ،وهذا شيء غير موجود ،ولكنه عندنا أنه نزل سبع لغات
متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب ،فيكون الحرف الواحد منها بلغة قبيلة والثاني بلغة
أخرى سوى الولى ،والثالث بلغة أخرى سواهما ،كذلك إلى السبعة ،وبعض الحياء أسعد بها
وأكثر حظا فيها من بعض ،وذلك بين في أحاديث تترى ،قال :وقد روى الكلبي عن أبي صالح
عن ابن عباس قال :نزل القرآن على سبع لغات ،منها خمس بلغة العجز من هوازن (.)3
قال أبو عبيد :والعجز هم بنو أسعد ( )4بن بكر ،وجشم بن بكر ،ونصر بن معاوية ،وثقيف
هم عليا ( )5هوازن الذين قال أبو عمرو بن العلء :أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني
دارم .ولهذا قال عمر :ل يملي في مصاحفنا إل غلمان قريش أو ثقيف (.)6
قال ابن جرير :واللغتان الخريان :قريش وخزاعة رواه قتادة عن ابن عباس ،ولكن لم يلقه (
.)7
قال أبو عبيد :وحدثنا هُشَيْم عن حصين بن عبد الرحمن ،عن عبيد ال بن عبد ال بن عتبة ،
عن ابن عباس ؛ أنه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر .قال أبو عبيد :يعني :أنه كان
يستشهد به على التفسير ( .)8حدثنا هُشَيْم عن أبي بشر ،عن سعيد أو مجاهد ،عن ابن عباس
ل َومَا وَسَقَ } [النشقاق ، ]17 :قال :ما جمع وأنشد :قد اتسقن لو يجدن سائقا
في قوله { :وَاللّ ْي ِ
()9
حدثنا هُشَيْم ،أنبأنا ( )10حصين ،عن عكرمة ،عن ابن عباس في قوله { :فَِإذَا ُهمْ بِالسّاهِ َرةِ }
[النازعات ، ]14 :قال :الرض ،قال :وقال ابن عباس :قال أمية بن أبي الصلت :عندهم
لحم بحرٍ ولحم ساهرة ()11
__________
( )1في جـ " :تواردت".
( )2فضائل القرآن (ص )203ورواه من طريق البيهقي في السنن الكبرى (.)385 /2
( )3فضائل القرآن ( ص .)204
( )4في ط " :سعد".
( )5في ط " :علياء".
( )6فضائل القرآن (ص .)204
( )7تفسير الطبري (.)66 /1
( )8فضائل القرآن (ص .)205
( )9فضائل القرآن (ص .)206
( )10في ط ،جـ " :عن".
( )11فضائل القرآن (ص ، )206وكتب بين قوسين :وفيها لحم ساهر وبحر وما فاهوا به لهم
مقيم
( )1/42
حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان ،عن إبراهيم بن مهاجر ،عن مجاهد ،عن ابن عباس ،قال :
ت وَالرْضِ } [فاطر ، ]1 :حتى أتاني أعرابيان يختصمان في
سمَاوَا ِ
كنت ل أدري ما { فَاطِرِ ال ّ
بئر ،فقال أحدهما :أنا فطرتها .يقول :أنا ابتدأتها ( .)1إسناد جيد أيضا.
وقال المام أبو جعفر بن جرير الطبري ،رحمه ال ،بعد ما أورد طرفا مما تقدم :وصح وثبت
أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجمع ( )2إذا كان معلوما أن ألسنتها
ولغاتها أكثر من سبع بما يعجز عن إحصائه ثم قال :وما برهانك على ما قلته دون أن يكون
معناه ما قاله مخالفوك ،من أنه نزل بأمر وزجر ،وترغيب وترهيب ،وقصص ومثل ،ونحو
ذلك من القوال فقد علمت قائل ذلك من سلف المة وخيار الئمة ؟ قيل له :إن الذين قالوا ذلك
لم يدعوا أن تأويل الخبار التي تقدم ذكرها ،هو ما زعمت أنهم قالوه في الحرف السبعة ،التي
نزل بها القرآن دون غيره فيكون ذلك لقولنا مخالفا ،وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة
أحرف ،يعنون بذلك أنه نزل على ( )3سبعة أوجه ،والذي قالوا من ذلك كما قالوا ،وقد روينا
بمثل الذي قالوا من ذلك عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة ،من أنه
نزل من سبعة أبواب الجنة ،كما تقدم .يعني كما تقدم في رواية عن أبي بن كعب وعبد ال بن
مسعود :أن القرآن نزل من سبعة أبواب الجنة (.)4
قال ابن جرير :والبواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها من المر والنهي ،والترغيب
والترهيب ،والقصص والمثل ،التي إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها المنتهي ،استوجب
بها الجنة.
ثم بسط القول في هذا بما حاصله :أن الشارع رخص للمة التلوة على سبعة أحرف ،ثم لما
رأى المام أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،رضي ال عنه ،اختلف الناس في القراءة ،وخاف
من تفرق كلمتهم -جمعهم على حرف واحد ،وهو هذا المصحف المام ،قال :واستوثقت له
المة على ذلك بالطاعة ،ورأت أن فيما فعله من ذلك الرشد والهداية ،وتركت القراءة الحرف
الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له ،ونظر منها لنفسها وعن بعدها من
سائر أهل ملتها ،حتى درست من المة معرفتها ،وتعفت آثارها ،فل سبيل اليوم لحد إلى
القراءة بها لدثورها وعفو آثارها .إلى أن قال :فإن قال من ضعفت معرفته :وكيف جاز لهم
ترك قراءة اقرأهموها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأمرهم بقراءتها ؟ قيل :إن أمره إياهم
بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ،وإنما كان أمر إباحة ورخصة ؛ لن القراءة بها لو كانت
فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة ،
ويقطع خبره العذر ،ويزيل الشك من قراءة المة ،وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على
أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين .إلى أن قال :فأما ما كان من اختلف القراءة في رفع حرف
ونصبه وجره وتسكين حرف وتحريكه ،ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)206
( )2في ط " :الجميع".
( )3في طـ ،جـ " :من".
( )4تفسير الطبري (.)47 /1
( )1/43
الصورة في معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم " :أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف "
بعزل ؛ لن المراء في مثل هذا ليس بكفر ،في قول أحد من علماء المة ،وقد أوجب صلى ال
عليه وسلم بالمراء في الحرف السبعة الكفر ،كما تقدم (.)1
الحديث الثاني :قال البخاري ،رحمه ال :حدثنا سعيد بن عفير ،حدثنا الليث ،حدثنا عقيل ،
عن ابن شهاب قال :أخبرني عروة بن الزبير :أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبدٍ
القارئ حدثاه ( " )2أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول :سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة
الفرقان في حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف
كثيرة لم يقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكدت أساوره في الصلة ،فتبصرت حتى
سلم فلببته بردائه فقلت :من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال :أقرأنيها رسول ال
صلى ال عليه وسلم .فقلت :كذبت ،فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما
قرأت ،فانطلقت به أقوده إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت :إني سمعت هذا يقرأ سورة
الفرقان على حروف لم تقرئنيها! فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أرسله ،اقرأ يا هشام" ،
فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كذلك أنزلت" ،ثم
قال " :اقرأ يا عمر" ،فقرأت القراءة التي أقرأني ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كذلك
أنزلت .إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ،فاقرؤوا ما تيسر منه " (.)3
وقد رواه المام أحمد والبخاري -أيضا -ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من طرق عن
الزهري ( )4ورواه المام أحمد -أيضا -عن ابن مهدي ،عن مالك ،عن الزهري ،عن
عروة ،عن عبد الرحمن بن عبد ،عن عمر ،فذكر الحديث بنحوه (.)5
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد ،حدثنا حرب بن ثابت ،حدثنا إسحاق بن عبد ال بن أبي
طلحة ،عن أبيه ،عن جده قال " :قرأ رجل عند عمر فغير عليه فقال :قرأت على رسول ال
صلى ال عليه وسلم فلم يغير عليّ قال :فاجتمعا عند النبي صلى ال عليه وسلم ،فقرأ الرجل
على النبي صلى ال عليه وسلم فقال له " :قد أحسنت" .قال :فكأن عمر وجد من ذلك ،فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا عمر ،إن القرآن كله صواب ،ما لم يجعل عذاب مغفرة أو
مغفرة عذابا " (.)6
وهذا إسناد حسن .وحرب بن ثابت هذا يكنى بأبي ثابت ،ل نعرف أحدا جرحه.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الحرف وما أريد منها على أقوال :قال أبو عبد ال
محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح النصاري القرطبي المالكي في مقدمات تفسيره :وقد اختلف
العلماء في المراء بالحرف السبعة على خمسة وثلثين قول ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان
البستي ،ونحن نذكر منها خمسة أقوال.
__________
( )1تفسير الطبري (.)49 /1
( )2في ط ،جـ " :أخبراه".
( )3صحيح البخاري برقم (.)4992
( )4المسند ( )24 /1وصحيح البخاري برقم ( )2419وصحيح مسلم برقم ( )818وسنن أبي داود
برقم ( )1475وسنن النسائي ( )150 /2وسنن الترمذي برقم (.)2943
( )5المسند (.)40 /1
( )6المسند (.)30 /4
( )1/44
( )1/45
عبد البر ،قال :لن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات بتحقيق الهمزات ،فإن قريشا
سمَاوَاتِ
ل تهمز .وقال ابن عطية :قال ابن عباس :ما كنت أدري ما معنى { :فَاطِرِ ال ّ
وَالرْضِ } [فاطر ، ]1 :حتى سمعت أعربيا يقول لبئر ابتدأ حفرها :أنا فطرتها.
القول الثالث :أن لغات القرآن السبع منحصرة في مضر على اختلف قبائلها خاصة ؛ لقول
عثمان :إن القرآن نزل بلغة ( )1قريش ،وقريش هم بنو النضر بن الحارث على الصحيح من
أقوال أهل النسب ،كما نطق به الحديث في سنن ابن ماجه وغيره.
القول الرابع -وحكاه الباقلني عن بعض العلماء : -أن وجوه القراءات ترجع إلى سبعة
ق صَدْرِي } [الشعراء :
أشياء ،منها ما تتغير حركته ول تتغير صورته ول معناه مثل { :وَ َيضِي ُ
سفَارِنَا }
]13و "يضيقَ" ،ومنها ما ل تتغير صورته ويختلف معناه مثل َ { :فقَالُوا رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَ ْ
[سبأ ]19 :و "باعَدَ بين أسفارنا" ،وقد يكون الختلف في الصورة والمعنى بالحرف مثل :
{ نُ ْنشِزُهَا } [البقرة ، ]259 :و"نَنشُرُها" ( )2أو بالكلمة مع بقاء المعنى [مثل] ( { )3كَا ْل ِعهْنِ
ا ْلمَ ْنفُوشِ } [القارعة ، ]5 :أو "كالصوف المنفوش" أو باختلف الكلمة بالتقدم والتأخر مثل :
سكْ َرةُ ا ْل َم ْوتِ بِا ْلحَقّ } [ق ، ]19 :أو "سكرة الحق بالموت" ،أو بالزيادة مثل "تسع
{ وَجَا َءتْ َ
وتسعون نعجة أنثى" " ،وأما الغلم فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين" (" .)4فإن ال من بعد إكراههن
لهن غفور".
القول الخامس :أن المراد بالحرف السبعة معاني القرآن وهي :أمر ،ونهي ،ووعد ،ووعيد ،
وقصص ،ومجادلة ،وأمثال .قال ابن عطية :وهذا ضعيف ؛ لن هذه ل تسمى حروفا ،وأيضا
فالجماع أن التوسعة لم تقع في تحليل حلل ( )5ول في تغيير شيء من المعاني ،وقد أورد
القاضي الباقلني في هذا حديثًا ،ثم قال :وليست هذه هي التي أجاز لهم القراء ( )6بها (.)7
__________
( )1في جـ " :بلسان".
( )2في جـ " :ينشرها".
( )3زيادة من ط.
( )4كذا في جـ ،ط.
( )5في جـ " :حرام".
( )6في جـ " :القراءة".
( )7تفسير القرطبي (.)47 - 42 /1
( )1/46
فصل
قال القرطبي :قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة وغيرهما :هذه القراءات السبع
التي تنسب لهؤلء القراء السبعة ليست هي الحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة
بها ،وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف .ذكره
ابن النحاس وغيره.
قال القرطبي :وقد سوغ كل واحد من القراء السبعة قراءة الخر وأجازها ،وإنما اختار القراءة
المنسوبة إليه لنه رآها أحسن والولى ( )1عنده .قال :وقد أجمع المسلمون في هذه المصار
على العتماد على ما صح عن هؤلء الئمة فيما رووه ورأوه من القراءات ،وكتبوا في ذلك
مصنفات واستمر الجماع على الصواب وحصل ما وعد ال به من حفظ الكتاب (.)2
قال البخاري ،رحمه ال :
__________
( )1في م " :وأولى".
( )2تفسير القرطبي (.)46 /1
( )1/46
تأليف القرآن
حدثنا إبراهيم بن موسى ،حدثنا هشام بن يوسف :أن ابن جريج أخبرهم قال :وأخبرني يوسف
ابن ماهك قال :إني لعند عائشة أم المؤمنين ،رضي ال عنها ،إذ جاءها عراقي فقال :أي
الكفن خير ؟ قالت :ويحك! وما يضرك ،قال :يا أم المؤمنين ،أريني مصحفك ،قالت :لم ؟
قال :لعلي أؤلف القرآن عليه ،فإنه يقرأ غير مؤلف ،قالت :وما يضرك أيه قرأت قبل ،إنما
أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ،حتى إذا ثاب الناس إلى السلم ،
نزل الحلل والحرام ولو نزل أول شيء :ول تشربوا الخمر ،لقالوا :ل ندع الخمر أبدًا ،ولو
نزل :ل تزنوا ،لقالوا :ل ندع الزنا أبدا ،لقد نزل بمكة على محمد صلى ال عليه وسلم وإني
لجارية ألعب َ { :بلِ السّاعَةُ َموْعِدُ ُه ْم وَالسّاعَةُ أَدْهَى وََأمَرّ } [القمر ، ]46 :وما نزلت سورة
البقرة والنساء إل وأنا عنده ،قال :فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور ( .)1وهكذا
رواه النسائي من حديث ابن جريج به ( )2والمراد من التأليف هاهنا ترتيب سوره .وهذا العراقي
سأل أول عن أي الكفن خير ،أي :أفضل ،فأخبرته عائشة ،رضي ال عنها ،أن هذا ل ينبغي
أن يعتني بالسؤال عنه ول القصد له ول الستعداد ،فإن في هذا تكلفا ل طائل تحته ،وكانوا في
ذلك الزمان يصفون أهل العراق بالتعنت في السئلة ،كما سأل بعضهم عبد ال بن عمر عن دم
البعوض يصيب الثوب فقال عبد ال بن عمر :انظروا أهل العراق ،يسألون عن دم البعوضة ،
وقد قتلوا ابن بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم ! ( .)3ولهذا لم تبالغ معه عائشة ،رضي ال
عنها ،في الكلم لئل يظن أن ذلك أمر مهم ،وإل فقد روى أحمد وأهل السنن من حديث سمرة
وابن عباس عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :البسوا من ثيابكم البياض ،وكفنوا فيها
موتاكم ،فإنها أطهر وأطيب " ( )4وصححه الترمذي من الوجهين.
وفي الصحيحين عن عائشة ،رضي ال عنها ،أنها قالت :كفن رسول ال صلى ال عليه وسلم
في ثلثة أثواب بيض سحولية ،ليس فيها قميص ول عمامة ( .)5وهذا محرر في باب الكفن من
كتاب الجنائز.
ثم سألها عن ترتيب القرآن فانتقل إلى سؤال كبير ،وأخبرها أنه يقرأ غير مؤلف ،أي :غير
مرتب السور .وكأن هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان ،رضي ال عنه ،إلى الفاق
بالمصاحف الئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم ،وقبل اللزام به ،وال أعلم.
ولهذا أخبرته :أنك ل يضرك بأي سورة بدأت ،وأن أول سورة نزلت فيها ذكر الجنة والنار ،
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)3993
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)7987
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم (.)3753
( )4حديث ابن عباس في المسند ( )247 ، 231 /1وسنن أبي داود برقم ( )3878وسنن النسائي
( )149 /8وسنن الترمذي برقم ( )994وسنن ابن ماجة برقم ( ، )1472وحديث سمرة في المسند
( )20 /5وسنن الترمذي برقم ( )2811وسنن النسائي (.)205 /8
( )5صحيح البخاري برقم ( )1264وصحيح مسلم برقم (.)941
( )1/47
وهذه إن لم تكن "اقرأ" فقد يحتمل أنها أرادت اسم جنس لسور المفصل التي فيها الوعد والوعيد ،
ثم لما انقاد الناس إلى التصديق أمروا ونهوا بالتدريج أول فأول وهذا من حكمة ال ورحمته ،
ومعنى هذا الكلم :أن هذه السورة أو السور التي فيها ذكر الجنة والنار ليس البداءة بها في أوائل
المصاحف ،مع أنها من أول ما نزل ،وهذه البقرة والنساء من أوائل ما في المصحف ،وقد
نزلت عليه في المدينة وأنا عنده.
فأما ترتيب اليات في السور فليس في ذلك رخصة ،بل هو أمر توقيفي عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،كما تقدم تقرير ذلك ؛ ولهذا لم ترخص له في ذلك ،بل أخرجت له مصحفها ،
فأملت عليه آي السور ،وال أعلم .وقول عائشة :ل يضرك بأي سورة بدأت ،يدل على أنه لو
قدم بعض السور أو أخر ،كما دل عليه حديث حذيفة وابن مسعود ،وهو في الصحيح أنه ،عليه
السلم ،قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء ( )1ثم آل عمران ( .)2وقد حكى القرطبي عن أبي
بكر بن النباري في كتاب الرد أنه قال :فمن أخّر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد
نظم اليات وغير الحروف واليات ( )3وكان مستنده اتباع مصحف عثمان ،رضي ال عنه ،
فإنه مرتب على هذا النحو المشهور ،والظاهر أن ترتيب السور فيه منه ما هو رجع إلى رأي
عثمان ،وذلك ظاهر في سؤال ابن عباس له في ترك البسملة في أول براءة ،وذكره النفال من
الطول ،والحديث في الترمذي وغيره بإسناد جيد وقوي .وقد ذكرنا عن علي أنه كان قد عزم
على ترتيب القرآن بحسب نزوله.
ولقد حكى القاضي الباقلني :أن أول مصحفه كان " :اقرأ باسم ربك الكرم" وأول مصحف ابن
مسعود { :مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } ثم البقرة ،ثم النساء على ترتب مختلف ،وأول مصحف أبيّ :
حمْدُ ِللّهِ } ثم النساء ،ثم آل عمران ،ثم النعام ،ثم المائدة ،ثم كذا على اختلف شديد ،ثم
{ ا ْل َ
قال القاضي :ويحتمل أن ترتيب السور في المصحف على ما هو عليه اليوم من اجتهاد الصحابة
،رضي ال عنهم ،وكذا ذكره مكي في تفسير سورة براءة قال :فأما ترتيب اليات والبسملة في
الوائل فهو من النبي صلى ال عليه وسلم.
وقال ابن وهب في جامعه :سمعت سليمان بن بلل يقول :سئل ربيعة :لم قدمت البقرة وآل
عمران ،وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة ؟ فقال :قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه ،
وقد أجمعوا على العلم بذلك ،فهذا مما ينتهى إليه ول يسأل عنه .قال ابن وهب :وسمعت مالكا
يقول :إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى ال عليه وسلم (.)4
قال أبو الحسن بن بطال :إنا نجد ( )5تأليف سوره في الرسم والخط خاصة ول يعلم أن أحدًا
منهم
__________
( )1في جـ " :بالنساء".
( )2رواه مسلم في صحيحه برقم (.)772
( )3تفسير القرطبي (.)60 /1
( )4ذكره القرطبي في تفسيره (.)60 ، 59 /1
( )5في ط ،جـ " :إنما يجب".
( )1/48
قال :إن ترتيب ذلك واجب في الصلة وفي قراءة القرآن ودرسه ،وأنه ل يحل لحد أن يقرأ
الكهف قبل البقرة ،ول الحج قبل ( )1الكهف ،أل ترى إلى قول عائشة :ول يضرك أيه قرأت
قبل .وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأ في الصلة السورة في ركعة ،ثم يقرأ في الركعة
الخرى بغير السورة التي تليها.
وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا ( .)2وقال إنما ذلك
منكوس القلب ،فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسةً فيبتدئ بآخرها إلى أولها ،فإن ذلك
حرام محذور.
ثم قال البخاري :حدثنا آدم ،عن شعبة ،عن أبي إسحاق قال :سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال
:سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والنبياء :إنهن من العتاق الول
،وهن من تلدى ( .)3انفرد البخاري بإخراجه والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور في مصحف
ابن مسعود كالمصاحف العثمانية ،وقوله " :من العتاق الول" أي :من قديم ما نزل ،وقوله :
"وهن من تلدى" أي :من قديم ما قنيت وحفظت .والتالد في لغتهم :قديم المال والمتاع ،
والطارف حديثه وجديده ،وال أعلم.
وحدثنا أبو الوليد ،حدثنا شعبة ،حدثنا أبو إسحاق :سمع البراء بن عازب يقول :تعلمت { سَبّحِ
سمَ رَ ّبكَ العْلَى } قبل أن يقدم النبي صلى ال عليه وسلم ( .)4وهذا متفق عليه ،وهو قطعة من
اْ
حديث الهجرة ،والمراد منه أن { سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ العْلَى } مكية نزلت قبل الهجرة ،وال أعلم.
ثم قال :حدثنا ع ْبدَان ،عن أبي حمزة ،عن العمش ،عن شقيق قال :قال عبد ال :لقد علمت
النظائر التي ( )5كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأهن اثنين اثنين في كل ركعة ،فقام عبد ال
ودخل معه علقمة ،وخرج علقمة فسألناه فقال :عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن
مسعود ،آخرهن من الحواميم حم الدخان وعم يتساءلون.
وهذا التأليف الذي عن ابن مسعود غريب مخالف لتأليف عثمان ،رضي ال عنه ،فإن المفصل
في مصحف عثمان ،رضي ال عنه ،من سورة الحجرات إلى آخره وسورة الدخان ،ل تدخل
فيه بوجه ،والدليل على ذلك ما رواه المام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا عبد ال بن عبد الرحمن الطائفي ،عن عثمان بن عبد ال
ابن أوس الثقفي عن جده أوس بن حذيفة قال :كنت في الوفد الذين أتوا النبي صلى ال عليه
وسلم فذكر حديثا فيه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يسمر معهم بعد العشاء فمكث عنا
ليلة لم يأتنا ،حتى طال ذلك علينا بعد العشاء .قال :قلنا :ما أمكثك عنا يا رسول ال ؟ قال :
"طرأ على حزب من القرآن ،فأردت أل أخرج حتى أقضيه " .قال :فسألنا أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم حين أصبحنا ،قال :قلنا :كيف تحزبون القرآن ؟
__________
( )1في ط ،جـ " :بعد".
( )2في جـ " :مقلوبا".
( )3صحيح البخاري برقم (.)4994
( )4صحيح البخاري برقم (.)4995
( )5في ط " :الذي".
( )1/49
قالوا :نحزبه ثلث سور ،وخمس سور ،وسبع سور ،وتسع سور ،وإحدى عشرة سورة ،
وثلث عشرة سورة ،وحزب المفصل من قاف حتى يختم (.)1
ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد ال بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي به ( )2وهذا
إسناد حسن.
__________
( )1المسند (.)9 /4
( )2سنن أبي داود برقم ( )1393وسنن ابن ماجة برقم (.)1345
( )1/50
فصل
فأما نقط المصحف وشكله ،فيقال :إن أول من أمر به عبد الملك بن مروان ،فتصدى لذلك
الحجاج وهو بواسط ،فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعل ذلك ،ويقال :إن أول من
نقط المصحف أبو السود الدؤلي ،وذكروا أنه كان لمحمد بن سيرين مصحف قد نقطه له يحيى
بن يعمر ( )1وال أعلم.
وأما كتابة العشار على الحواشي فينسب إلى الحجاج أيضا ،وقيل :بل أول من فعله المأمون ،
وحكى أبو عمرو الداني عن ابن مسعود أنه كره التعشير في المصحف ،وكان يحكه ( )2وكره
مجاهد ذلك أيضا.
وقال مالك :ل بأس به بالحبر ،فأما باللوان المصبغة فل .وأكره تعداد آي السور في أولها في
المصاحف المهات ،فأما ما يتعلم فيه الغلمان فل أرى به بأسا.
وقال قتادة :بدؤوا فنقطوا ،ثم خمسوا ،ثم عشروا .وقال يحيى بن أبي كثير :أول ما أحدثوا
النقط على الباء والتاء والثاء ،وقالوا :ل بأس به ،هو نور له ،أحدثوا نقطًا عند آخر الي ،ثم
أحدثوا الفواتح والخواتم.
ورأى إبراهيم النخعي فاتحة سورة كذا ،فأمر بمحوها وقال :قال ابن مسعود :ل تخلطوا بكتاب
ال ما ليس فيه .قال أبو عمرو الداني :ثم قد أطبق المسلمون في ذلك في سائر الفاق على جواز
ذلك في المهات وغيرها.
ثم قال البخاري ،رحمه ال :كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى ال عليه وسلم
قال مسروق عن عائشة ،عن فاطمة ،رضي ال عنها ،أسر إليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم
:أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ول أراه إل حضر أجلي.
هكذا ذكره معلقا وقد أسنده في موضع آخر (.)3
ثم قال :حدثنا يحيى بن قزعة ،حدثنا إبراهيم بن سعد ،عن الزهري ،عن عبد ال بن عبيد
ال ،
__________
( )1رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص .)160
( )2رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص .)240
( )3صحيح البخاري (" )43 /9فتح".
( )1/50
عن ابن عباس قال " :كان النبي صلى ال عليه وسلم أجود الناس بالخير ،وأجود ما يكون في
شهر رمضان ؛ لن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه
رسول ال صلى ال عليه وسلم القرآن ،فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة " ،
وهذا الحديث متفق عليه ( )1وقد تقدم الكلم عليه في أول الصحيح وما فيه من الحكم والفوائد ،
وال أعلم.
ثم قال :حدثنا خالد بن يزيد ،حدثنا أبو بكر ،عن أبي حصين ،عن أبي صالح ،عن أبي
هريرة قال " :كان يعرض على النبي صلى ال عليه وسلم القرآن كل عام مرة ،فعرض عليه
مرتين في العام الذي قبض فيه ،وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي
قبض ".
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من غير وجه عن أبي بكر -وهو ابن عياش -عن أبي
حصين ،واسمه عثمان بن عاصم ،به ( .)2والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة :مقابلته
على ما أوحاه إليه عن ال تعالى ،ليبقى ما بقي ،ويذهب ما نسخ توكيدًا ،أو استثباتًا وحفظًا ؛
ولهذا عرضه في السنة الخيرة من عمره ،عليه السلم ،على جبريل مرتين ،وعارضه به
جبريل كذلك ؛ ولهذا فهم ،عليه السلم ،اقتراب أجله ،وعثمان ،رضي ال عنه ،جمع
المصحف المام على العرضة الخيرة ،وخصّ بذلك رمضان من بين الشهور ؛ لن ابتداء
اليحاء كان فيه ؛ ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه ،ومن ثم اجتهاد الئمة فيه في تلوة
القرآن ،كما تقدم ذكرنا لذلك.
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4997وصحيح مسلم برقم (.)2308
( )2صحيح البخاري برقم ( )4998وسنن أبي داود برقم ( )2466وسنن النسائي الكبرى برقم (
)7992وسنن ابن ماجة برقم (.)1769
( )1/51
( )1/51
عبد ال فقال :وال لقد أخذت من في رسول ال صلى ال عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ،وال
لقد علم أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب ال وما أنا بخيرهم .قال شقيق
:فجلست في الحلق أسمع ما يقولون ،فما سمعت رادًا يقول غير ذلك (.)1
حدثنا محمد بن كثير ،أخبرنا سفيان ،عن العمش ،عن إبراهيم ،عن علقمة قال :كنا بحمص
،فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل :ما هكذا أنزلت ،فقال :قرأت على رسول ال صلى
ال عليه وسلم فقال " :أحسنت" ووجد منه ريح الخمر ،فقال :أتجترئ أن تكذب بكتاب ال
وتشرب الخمر ؟! فجلده الحد (.)2
حدثنا عمر بن حفص ،حدثنا أبي ،حدثنا العمش ،حدثنا مسلم ،عن مسروق قال :قال عبد
ال :وال الذي ل إله غيره ،ما أنزلت ( )3سورة من كتاب ال إل وأنا أعلم أين نزلت ،ول
أنزلت آية من كتاب ال إل وأنا أعلم فيمن نزلت ،ولو أعلم أحدا أعلم منى تبلغه البل لركبت
إليه (.)4
وهذا كله حق وصدق ،وهو من إخبار الرجل بما يعلم عن نفسه ما قد يجهله غيره ،فيجوز ذلك
جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
للحاجة ،كما قال تعالى إخبارا عن يوسف لما قال لصاحب مصر { :ا ْ
حفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف ، ]55 :ويكفيه مدحا وثناء قول رسول ال صلى ال عليه
ال ْرضِ إِنّي َ
وسلم " :استقرئوا القرآن من أربعة" ،فبدأ به.
وقال أبو عبيد :حدثنا مصعب بن المقدام عن سفيان عن العمش عن إبراهيم ،عن علقمة ،عن
عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأه على
حرف ابن أم عبد " ( .)5وهكذا رواه المام أحمد ،عن أبي معاوية ،عن العمش به مطول
وفيه قصة ( )6وأخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي معاوية وصححه الدارقطني ( )7وقد
ذكرته في مسند عمر ( )8وفي مسند المام أحمد -أيضا -عن أبي هريرة أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال " :ومن أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " (
)9وابن أم عبد هو عبد ال بن مسعود ،وكان يعرف بذلك.
ثم قال البخاري :حدثنا حفص بن عمر ،حدثنا همام ،حدثنا قتادة قال :سألت أنس بن مالك :
من جمع القرآن على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال :أربعة ،كلهم من النصار :
أبيّ بن كعب ،ومعاذ بن
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5000
( )2صحيح البخاري برقم (.)5001
( )3في جـ " :ما نزلت".
( )4صحيح البخاري برقم (.)5002
( )5فضائل القرآن (ص .)225
( )6المسند (.)26 ، 25 /1
( )7سنن الترمذي برقم ( )169وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8256
( )8مسند عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -للمؤلف (ص )173 - 171وقال " :وهذا
الحديث ل يشك أنه محفوظ ،وهذا الضطراب ل يضر صحته ،وال أعلم".
( )9المسند (.)446 /2
( )1/52
جبل ،وزيد بن ثابت ،وأبو زيد .ورواه مسلم من حديث همام (.)1
ثم قال البخاري :تابعه الفضل ،عن حسين بن واقد ،عن ثمامة ،عن أنس (.)2
حدثنا معلى بن أسد ،حدثنا عبد ال بن المثنى قال :حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس بن
مالك قال :مات النبي صلى ال عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة :أبو الدرداء ،ومعاذ بن
جبل ،وزيد بن ثابت ،وأبو زيد .قال :ونحن ورثناه (.)3
فهذا الحديث ظاهره أنه لم يجمع القرآن من الصحابة سوى هؤلء الربعة فقط ،وليس هذا
هكذا ،بل الذي ل شك فيه أنه جمعه غير واحد من المهاجرين أيضا ،ولعل مراده :لم يجمع
القرآن من النصار ؛ ولهذا ذكر الربعة من النصار ،وهم أبي بن كعب في الرواية الولى
المتفق عليها وفي الثانية من أفراد البخاري :أبو الدرداء ،ومعاذ بن جبل ،وزيد بن ثابت ،وأبو
زيد ،وكلهم مشهورون إل أبا زيد هذا ،فإنه غير معروف إل في هذا الحديث ،وقد اختلف في
اسمه فقال الواقدي :اسمه قيس بن السكن بن قيس بن زعواء بن حرام بن جندب بن عامر بن
غنم بن عدى بن النجار (.)4
وقال ابن نمير :اسمه سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية من الوس.
وقيل :هما اثنان جمعا القرآن ،حكاه أبو عمر بن عبد البر ،وهذا بعيد وقول الواقدي أصح لنه
خزرجي ؛ لن أنسًا قال :ونحن ورثناه ،وهم من الخزرج ،وفي بعض ألفاظه ( )5وكان أحد
عمومتي .وقال قتادة عن أنس :افتخر الحيان الوس والخزرج ،فقالت الوس :منا غسيل
الملئكة حنظلة بن أبي عامر ،ومنا الذي حمته الدبُرُ عاصم بن ثابت ،ومنا الذي اهتز لموته
العرش سعد بن معاذ ،ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت.
فقالت الخزرج :منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم :أبيّ بن
كعب ،ومعاذ بن جبل ،وزيد بن ثابت ،وأبو زيد.
فهذا كله يدل على صحة قول الواقدي ،وقد شهد أبو زيد هذا بدرا ،فيما ذكره غير واحد .وقال
موسى بن عقبة عن الزهري :قتل أبو زيد قيس بن السكن يوم جسر ( )6أبي عبيدة على رأس
خمس عشرة ( )7من الهجرة ،والدليل على أن ( )8من المهاجرين من جمع القرآن أن الصديق ،
رضي ال عنه ،قدّمه رسول ال صلى ال عليه وسلم في مرضه ( )9إماما على المهاجرين
والنصار ،مع أنه صلى ال عليه وسلم قال " :يؤم القوم أقرؤهم لكتاب ال " ( )10فلول أنه كان
أقرؤهم لكتاب ال لما قدّمه عليهم .هذا مضمون ما قرره
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )5003وصحيح مسلم برقم (.)2465
( )2في جـ " :أنس بن مالك".
( )3صحيح البخاري برقم (.)5004
( )4انظر :الصابة (.)240 /3
( )5في ط " :اللفاظ".
( )6في ط " :خيبر".
( )7في ط " :عشرة سنة".
( )8في ط " :أنه".
( )9في جـ ،ط " :زمنه".
( )10رواه مسلم في صحيحه برقم ( )672من حديث أبي مسعود النصاري.
( )1/53
الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الشعري ،وهذا التقرير ل يُدفع ولشك ( )1فيه ،وقد جمع
الحافظ ابن السمعاني في ذلك جزءًا ،وقد بسطت تقرير ذلك في كتاب مسند الشيخين ،رضي ال
عنهما .ومنهم عثمان بن عفان وقد قرأه في ركعة -كما سنذكره -وعلي بن أبي طالب يقال :
إنه جمعه على ترتيب ما أنزل ،وقد قدمنا هذا .ومنهم عبد ال بن مسعود ،وقد تقدم عنه أنه قال
:ما من آية من كتاب ال إل وأنا أعلم أين نزلت ( )2؟ وفيم نزلت ؟ ولو علمت أحدا أعلم مني
بكتاب ال تبلغه المطي لذهبت إليه .ومنهم سالم مولى أبي حذيفة ،كان من السادات النجباء
والئمة التقياء وقد قتل يوم اليمامة شهيدا .ومنهم الحبر البحر عبد ال بن عباس بن عبد المطلب
ابن عم رسول ال ( )3صلى ال عليه وسلم وترجمان القرآن ،وقد تقدم عن مجاهد أنه قال :
قرأت القرآن على ابن عباس مرتين ،أقفه عند كل آية وأسأله عنها .ومنهم عبد ال بن عمرو ،
كما رواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج عن عبد ال بن أبي مُلَيْكة ،عن يحيى بن
حكيم بن صفوان ،عن عبد ال بن عمرو قال :جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة ،فبلغ ذلك
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :اقرأه في شهر" .وذكر تمام الحديث (.)4
ثم قال البخاري :حدثنا صدقة بن الفضل ،حدثنا يحيى ،عن سفيان ،عن حبيب بن أبي ثابت ،
عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :قال عمر :عليّ أقضانا ،وأُبيّ أقرأنا ،وإنا لَنَدع من
ي يقول :أخذته من في رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فل أتركه لشيء قال ال
لحنِ أُبيّ ،وأُب ّ
سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } [البقرة .)5( ]106 :
تعالى { :مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُ ْن ِ
وهذا يدل على أن الرجل الكبير قد يقول الشيء يظنه صوابا وهو خطأ في نفس المر ؛ ولهذا
قال المام مالك :ما من أحد إل يؤخذ من قوله ويرد إل قول صاحب هذا القبر ،أي :فكله
مقبول ،صلوات ال وسلمه عليه .ثم ذكر البخاري فضل فاتحة الكتاب وغيرها ،وسنذكر فضل
كل سورة عندها ليكون ذلك أنسب .ثم قال :
__________
( )1في ط " :ول يشك".
( )2في طـ " :أنزلت".
( )3في ط " :الرسول".
( )4سنن النسائي الكبرى برقم ( )80 64وسنن ابن ماجة برقم (.)1346
( )5صحيح البخاري برقم (.)5005
( )1/54
( )1/54
ينظر الناس إليها ل تتوارى منهم " .قال ابن الهاد :وحدثني هذا الحديث عبد ال بن خباب عن
أبي سعيد الخدري عن أسيد بن الحضير (.)1
هكذا أورد البخاري هذا الحديث معلقا ،وفيه انقطاع في الرواية الولى ،فإن محمد بن إبراهيم
بن الحارث التيمي المدني تابعي صغير لم يدرك أسيدا لنه مات سنة عشرين ،وصلى عليه أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب ،رضي ال عنهما .ثم فيه غرابة من حيث إنه قال :وقال الليث :
حدثني يزيد بن الهاد ولم أره بسند متصل عن الليث بذلك ،إل ما ذكره الحافظ أبو القاسم بن
عساكر في الطراف أن يحيى بن عبد ال بن بكير رواه عن الليث كذلك (.)2
وقد رواه المام أبو عبيد في فضائل القرآن فقال :حدثنا عبد ال بن صالح ويحيى بن بُكيْر ،عن
الليث ،عن يزيد بن عبد ال بن أسامة بن الهاد ،عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ،عن
أسيد بن حضير ،فذكر الحديث إلى آخره ،ثم قال [ :قال] ( )3ابن الهاد :وحدثني عبد ال بن
خباب ،عن أبي سعيد ،عن أسيد بن حضير بهذا (.)4
وقد رواه النسائي في فضائل القرآن ،عن محمد بن عبد ال بن [عبد] ( )5الحكم عن شعيب بن
الليث ،وعن علي بن محمد بن علي ،عن داود بن منصور ،كلهما عن الليث ،عن خالد بن
يزيد ،عن سعيد بن أبي هلل ،عن يزيد بن عبد ال ،وهو ابن الهاد ،عن عبد ال بن خباب ،
عن أبي سعيد ،عن أسيد ،به ( .)6ورواه يحيى بن بكير ،عن الليث كذلك أيضا ،فجمع بين
السنادين .ورواه في المناقب عن أحمد بن سعيد الرباطي ،عن يعقوب بن إبراهيم ،عن أبيه ،
عن يزيد بن الهاد ،عن عبد ال بن خباب ،عن أبي سعيد ،أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة
يقرأ في مربده ،الحديث .ولم يقل :عن أسيد ،ولكن ظاهره أنه عنه ،وال أعلم (.)7
وقال أبو عبيد :حدثني عبد ال بن صالح ،عن الليث ،عن ابن شهاب ،عن ابن كعب بن
مالك ،عن أسيد بن حضير :أنه كان على ظهر بيته يقرأ القرآن وهو حسن الصوت ،ثم ذكر
مثل هذا الحديث أو نحوه ()8
حدثنا قبيصة ،عن حماد بن سلمة ،عن ثابت البناني ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن أسيد
بن حضير قال " :قلت :يا رسول ال ،بينما أنا أقرأ البارحة بسورة ،فلما انتهيت إلى آخرها
سمعت
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5018
( )2انظر :تحفة الشراف للمزي (.)72 /1
( )3زيادة من ط.
( )4فضائل القرآن (ص .)26
( )5زيادة من ط.
( )6سنن النسائي الكبرى برقم (.)8074
( )7سنن النسائي الكبرى برقم (.)8244
( )8فضائل القرآن (ص .)27
( )1/55
وجبة من خلفي ،حتى ظننت أن فرسي تطلق ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اقرأ أبا
عتيك" [مرتين] ( )1قال :فالتفت إلى أمثال المصابيح ملء بين السماء والرض ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :اقرأ أبا عتيك" .فقال :وال ما استطعت أن أمضي فقال " :تلك الملئكة
نزلت لقراءة القرآن ،أما إنك لو مضيت لرأيت العاجيب" " (.)2
وقال أبو داود الطيالسي :حدثنا شعبة ،عن أبي إسحاق سمع البراء يقول :بينما رجل يقرأ
سورة الكهف ليلة إذ رأى دابته تركض ،أو قال :فرسه يركض ،فنظر فإذا مثل الضبابة أو مثل
الغمامة ،فذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :تلك السكينة نزلت للقرآن ،أو
تنزلت على القرآن " ( .)3وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة ( .)4والظاهر أن هذا هو
أسيد بن الحضير ،رضي ال عنه ،فهذا ما يتعلق بصناعة السناد ،وهذا من أغرب تعليقات
البخاري ،رحمه ال ،ثم سياق ظاهر فيما ترجم عليه من نزول السكينة والملئكة عند القراءة.
وقد اتفق نحو هذا الذي وقع لسيد بن الحضير لثابت بن قيس بن شماس كما قال أبو عبيد :
حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم ،عن عمه جرير بن زيد ( )5أن أشياخ أهل المدينة
حدثوه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قيل له :ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره
البارحة تزهر مصابيح ؟ قال " :فلعله قرأ سورة البقرة" .قال :فسئل ثابت فقال :قرأت سورة
البقرة (.)6
وفي الحديث المشهور الصحيح " :ما اجتمع قوم في بيت من بيوت ال ،يتلون كتاب ال ،
حفّتْهم الملئكة ،وذكرهم
ويتدارسونه فيما بينهم ،إل نزلت عليهم السكينة ،وغشيتهم الرحمة ،و َ
ال فيمن عنده " رواه مسلم عن أبي هريرة (.)7
شهُودًا } [السراء ، ]78 :
ولهذا قال ال تبارك وتعالى َ { :وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ َم ْ
وجاء في بعض التفاسير :أن الملئكة تشهده .وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ،رضي
ال عنه ،قال " :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل وملئكة
بالنهار ،ويجتمعون في صلة الصبح وصلة العصر ،فيعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو
أعلم بهم :كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون :أتيناهم وهم يصلون ،وتركناهم وهم يصلون " (.)8
__________
( )1زيادة من ط.
( )2فضائل القرآن (ص .)227
( )3مسند الطيالسي برقم (.)714
( )4صحيح البخاري برقم ( )3614وصحيح مسلم برقم (.)795
( )5في ط ،م " :يزيد".
( )6فضائل القرآن (ص .)27
( )7صحيح مسلم برقم (.)2699
( )8صحيح البخاري برقم ( )555وصحيح مسلم برقم (.)632
( )1/56
من قال :لم يترك النبي صلى ال عليه وسلم إل ما بين الدفتين
حدثنا قتيبة بن سعيد ،حدثنا سفيان ،عن عبد العزيز بن رفيع قال :دخلت أنا وشداد بن معقل
على ابن عباس ،فقال له شداد بن معقل :أترك النبي صلى ال عليه وسلم من شيء ؟ قال :ما
ترك إل ما بين الدفتين .قال :ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال :ما ترك إل ما بين
الدفتين.
تفرد به البخاري ( )1ومعناه :أنه ،عليه السلم ،ما ترك مال ول شيئا يورث عنه ،كما قال
عمرو بن الحارث أخو جويرية بنت الحارث :ما ترك رسول ال صلى ال عليه وسلم دينارا ول
درهما ول عبدا ول أمة ول شيئا ( .)2وفي حديث أبي الدرداء " :إن النبياء لم يورثوا دينارا
ول درهما ،وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " ( .)3ولهذا قال ابن عباس :وإنما ترك
ما بين الدفتين يعني :القرآن ،والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة له ،فهي تابعة له ،والمقصود
طفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الية
العظم كتاب ال تعالى ،كما قال تعالى { :ثُمّ َأوْرَثْنَا ا ْلكِتَابَ الّذِينَ اصْ َ
[فاطر ، ]32 :فالنبياء ،عليهم السلم ،لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها ،إنما خلقوا
للخرة يدعون إليها ويرغبون فيها ؛ ولهذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل نورث ما
تركنا فهو صدقة " ( )4وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبو بكر الصديق ،
رضي ال عنه ،لما سئل عن ميراث النبي صلى ال عليه وسلم ،فأخبر عنه بذلك ،ووافقه على
نقله عنه ،عليه السلم ،غير واحد من الصحابة ؛ منهم عمر وعثمان وعلي والعباس وطلحة
والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة وغيرهم ،وهذا ابن عباس يقول -أيضا -
عنه عليه السلم ؟ رضي ال عنهم أجمعين.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5019
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم (.)4461 ، 2739
( )3رواه أبو داود في السنن برقم ( )3641وابن ماجة في السنن برقم ( )223وابن حبان في
صحيحه برقم (" )80موارد".
( )4رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3093ومسلم في صحيحه برقم (.)1758
( )1/57
( )1/57
من المم كما بين صلة العصر ومغرب الشمس ،ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل
استعمل عمال فقال :من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود فقال :من يعمل
لي من نصف النهار إلى العصر ؟ فعملت النصارى ،ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب
بقيراطين قيراطين ،قالوا :نحن أكثر عمل وأقل عطاءً! قال :هل ظلمتكم من حقكم ؟ قالوا :
ل .قال :فذلك فضلي أوتيه من شئت " (.)1
تفرد به من هذا الوجه ،ومناسبته للترجمة :أن هذه المة مع قصر مدتها فضَلتْ المم الماضية
جتْ لِلنّاسِ } [آل عمران .]110 :
مع طول مدتها ،كما قال تعالى { :كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
وفي المسند والسنن عن َبهْزِ بن حكيم ،عن أبيه ،عن جده قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :أنتم توفون سبعين أمة ،أنتم خيرها وأكرمها على ال " ( .)2وإنما فازوا بهذا ببركة
الكتاب العظيم الذي شرفه ال تعالى على كل كتاب أنزله ،جعله مهيمنا عليه ،وناسخا له ،
وخاتما له ؛ لن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الرض جملة واحدة ،وهذا القرآن نزل منجما
بحسب الوقائع لشدة العتناء به وبمن أنزله عليه ،فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة ،
وأعظم المم المتقدمة هم اليهود والنصارى ،فاليهود استعملهم ال من لدن موسى إلى زمان
عيسى ،والنصارى من ثمّ إلى أن بعث محمد صلى ال عليه وسلم ،ثم استعمل أمته إلى قيام
الساعة ،وهو المشبه بآخر النهار ،وأعطى ال المتقدمين قيراطا قيراطا ،وأعطى هؤلء
قيراطين قيراطين ،ضعفى ما أعطى أولئك ،فقالوا :أي ربنا ،ما لنا أكثر عمل وأقل أجرا ؟
فقال :هل ظلمتكم شيئا ؟ قالوا :ل قال :فذلك فضلى أي :الزائد على ما أعطيتكم أؤتيه من
ج َعلْ
حمَ ِت ِه وَيَ ْ
أشاء كما قال تعالى { :يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ
شيْءٍ
غفُورٌ َرحِيمٌ * لِئَل َيعَْلمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَل َيقْدِرُونَ عَلَى َ
َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ } [الحديد .]29 ، 28 :
ضلِ اللّ ِه وَأَنّ ا ْل َفضْلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
مِنْ َف ْ
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5021
( )2المسند ( )3 /5وسنن الترمذي برقم ( )3001وسنن ابن ماجة برقم ( )4288 ، 4287وقال
الترمذي " :حديث حسن".
( )1/58
( )1/58
بعده ،فلم يحتج إلى وصية في ذلك ولم يوصِ إلى خليفة يكون بعده على التنصيص ؛ لن المر
كان ظاهرا من إشارته وإيمائه إلى الصديق ؛ ولهذا لما هم بالوصية إلى أبي بكر ثم عدل عن
ذلك فقال " :يأبى ال والمؤمنون إل أبا بكر " ( )1وكان كذلك ،وإنما أوصى الناس باتباع كتاب
ال تعالى .من لم يتغن بالقرآن وقول ال تعالى :
{ َأوََلمْ َي ْكفِهِمْ أَنّا أَنزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } [العنكبوت .]51 :
حدثنا يحيى بن بكير ،حدثنا الليث ،حدثنا عقيل ،عن ابن شهاب قال :أخبرني أبو سلمة بن عبد
الرحمن ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،أنه كان يقول :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :لم يأذن ال لشيء ،ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن " ،وقال صاحب له :يريد يجهر به فرد
من هذا الوجه .ثم رواه عن علي بن عبد ال بن المديني ،عن سفيان بن عيينة ،عن الزهري به
( .)2قال سفيان :تفسيره :يستغنى به ،وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة (
)3ومعناه :أن ال ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها ،وذلك أنه
يجتمع في قراءة النبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية ،وذلك هو الغاية في ذلك.
وهو ،سبحانه وتعالى ،يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم ،كما قالت عائشة ،رضي ال
عنها :سبحان ال الذي وسع سمعه الصوات ( .)4ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم ،
ع َملٍ إِل كُنّا عَلَ ْيكُمْ
ن َومَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَل َت ْعمَلُونَ مِنْ َ
كما قال تعالى َ { :ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ
شهُودًا ِإذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ } الية [يونس ، ]61 :ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا
ُ
الحديث العظيم ،ومنهم من فسر الذن هاهنا بالمر ،والول أولى لقوله " :ما أذن ال لشيء ما
أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن" أي :يجهر به ،والذن :الستماع ؛ لدللة السياق عليه ،وكما قال
حقّتْ * وَإِذَا ال ْرضُ ُم ّدتْ * وَأَلْ َقتْ مَا فِيهَا وَتَخَّلتْ
ش ّقتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
سمَاءُ انْ َ
تعالى ِ { :إذَا ال ّ
ح ّقتْ } [النشقاق ]5 - 1 :أي :وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه ،فالذن هو
* وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
الستماع ؛ ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجة بسند جيد عن فضالة بن عبيد قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :ل أشد أذنا إلى الرجل ( )5الحسن الصوت بالقرآن [يجهر به] ()6
من صاحب القينة إلى قينته " (.)7
وقال سفيان بن عيينة :إن المراد بالتغني :يستغنى به ،فإن أراد :أنه يستغنى عن الدنيا ،وهو
الظاهر من كلمه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلم وغيره ،فخلف الظاهر من مراد
الحديث ؛ لنه قد فسره بعض رواته بالجهر ،وهو تحسين القراءة والتحزين بها (.)8
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( )7217ومسلم في صحيحه برقم ( )2387من حديث
عائشة ،رضي ال عنها.
( )2صحيح البخاري برقم (.)5024 ، 5023
( )3صحيح مسلم برقم ( )792وسنن النسائي (.)180 /2
( )4رواه النسائي في السنن ( )168 /6ورواه البخاري في صحيحه برقم ( )7385معلقا.
( )5في ط ،جـ " :أذنا الرجل".
( )6زيادة من ابن ماجة.
( )7سنن ابن ماجة برقم (.)1340
( )8نقل الحافظ ابن حجر في الفتح ( )70 /9عن ابن الجوزي أربعة أقوال في معنى يتغنى :
تحسين الصوت ،الستغناء ،التحزن كما قال الشافعي ،التشاغل به .قال :وحكى ابن النباري
قول خامسا وهو التلذذ والستحلء.
( )1/59
قال حرملة :سمعت ابن عيينة يقول :معناه :يستغنى به ،فقال لي الشافعي :ليس هو هكذا ،
ولو كان هكذا لكان يتغانى به ،وإنما هو يتحزن ويترنم به ،ثم قال حرملة :وسمعت ابن وهب
يقول :يترنم به ،وهكذا نقل المزني والربيع عن الشافعي ،رحمه ال.
وعلى هذا فتصدير البخاري الباب بقوله تعالى َ { :أوَلَمْ َيكْ ِفهِمْ أَنّا أَنزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ
حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [العنكبوت ، ]51 :فيه نظر ؛ لن هذه الية الكريمة
إِنّ فِي ذَِلكَ لَ َر ْ
ذكرت ردا على الذين سألوا عن آيات تدل على صدقه ،حيث قال َ { :وقَالُوا َلوْل أُنزلَ عَلَ ْيهِ
آيَاتٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِنْدَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا َنذِيرٌ مُبِينٌ * َأوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ
يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } الية [العنكبوت .]51 ، 50 :ومعنى ذلك :أو لم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا
القرآن عليك وأنت رجل أمي { َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبِْلهِ مِنْ كِتَابٍ وَل َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا لرْتَابَ
ا ْلمُبْطِلُونَ } [العنكبوت ]48 :أي :وقد جئت فيه بخبر الولين والخرين فأين هذا من التغني
بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الستغناء به عما عداه من أمور الدنيا ،فعلى كل تقدير ،
تصدير الباب بهذه الية الكريمة فيه نظر (.)1
__________
( )1قال الحافظ ابن حجر في الفتح (" : )68 /9أشار بهذه الية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة :
يتغنى :يستغني كما سيأتي في هذا الباب عنه ،وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة ووكيع جميعًا ،
وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص ،وكذا قال أحمد عن وكيع :يستغني
به عن أخبار المم الماضية ،وقد أخرج الطبري وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن
جعدة قال :جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود ،فقال النبي
صلى ال عليه وسلم " :كفى بقوم ضللة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره
إلى غيرهم" فنزل ( :أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) .وقد خفى وجه مناسبة
تلوة هذه الية على كثير من الناس كابن كثير ،فنفى أن يكون لذكرها وجه ،على أن ابن بطال
مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال :قال أهل التأويل في هذه الية ،فذكر أثر يحيى بن جعدة
مختصرًا قال :فالمراد بالية :الستغناء عن أخبار المم الماضية ،وليس المراد الستغناء الذي
هو ضد الفقر ،قال :وإتباع البخاري الترجمة بالية يدل على أنه يذهب إلى ذلك .وقال ابن التين
:يفهم من الترجمة :أن المراد بالتغني الستغناء ؛ لكونه أتبعه الية التي تضمن النكار على من
لم يستغن بالقرآن على غيره ،فحمله على الكتفاء به وعدم الفتقار إلى غيره ،وحمله على ضد
الفقر من جملة ذلك".
( )1/60
فصل
في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر
أحكام التلوة بالصوات
قال أبو عبيد :حدثنا عبد ال بن صالح ،عن قباث بن رزين ،عن علي بن رباح اللخمي ،عن
عقبة بن عامر قال :خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس
القرآن ،فقال " :تعلموا كتاب ال واقتنوه " .قال :وحسبت أنه قال " :وتغنوا به ،فوالذي نفسي
بيده ،لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل" (.)1
وحدثنا عبد ال بن صالح ،عن موسى بن علي ،عن أبيه ،عن عقبة بن عامر عن رسول ال
صلى ال عليه وسلم مثل ذلك إل أنه قال " :واقتنوه وتغنوا به" ( )2ولم يشك ،وهكذا رواه أحمد
والنسائي في فضائل
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)29
( )2فضائل القرآن (ص .)29
( )1/60
القرآن ،من حديث موسى بن علي ،عن أبيه به ( )1ومن حديث عبد ال بن المبارك ،عن قباث
بن رزين ،عن علي بن رباح ،عن عقبة ،وفي بعض ألفاظه :خرج علينا ونحن نقرأ القرآن
فسلم علينا ،وذكر الحديث .ففيه دللة على السلم على القارئ.
ثم قال أبو عبيد :حدثنا أبو اليمان ،عن أبي بكر بن عبد ال بن أبي مريم ،عن المهاصر بن
حبيب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا أهل القرآن ،ل توسدوا القرآن ،واتلوه
حق تلوته آناء الليل والنهار ،وتغنوه واقتنوه ،واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون" ( )2وهذا مرسل.
ثم قال أبو عبيد :قوله " :تغنوه" :يعني :اجعلوه غناءكم من الفقر ،ول تعدوا القلل منه فقرا.
وقوله " :واقتنوه" ،يقول :اقتنوه ،كما تقتنون الموال :اجعلوه مالكم.
وقال أبو عبيد :حدثني هشام بن عمار ،عن يحيى بن حمزة ،عن الوزاعي ،حدثني إسماعيل
ابن عبيد ال بن أبي المهاجر ،عن فضالة بن عبيد ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ل
أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" (.)3
قال أبو عبيد :هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول :عن إسماعيل بن عبيد ال عن مولى
فضالة عن فضالة ،وهكذا رواه ابن ماجة ،عن راشد بن سعيد بن أبي راشد ،عن الوليد ،عن
الوزاعي عن إسماعيل بن عبيد ال عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبي صلى ال عليه
وسلم " :ل أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن [ يجهر به] ( )4من صاحب القينة إلى
قينته " ( .)5قال أبو عبيد :يعني :الستماع .وقوله في الحديث الخر " :ما أذن ال لشيء " أي
:ما استمع.
وقال أبو القاسم البغوي :حدثنا محمد بن حميد ،حدثنا سلمة بن الفضل ،حدثنا عبد ال بن عبد
الرحمن ،عن ابن أبي مُلَيْكة ،حدثنا القاسم بن محمد ،حدثنا السائب قال :قال لي سعد :يا بن
أخي ،هل قرأت القرآن ؟ قلت :نعم .قال :غَنّ به ،فإني سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :غنوا بالقرآن ،ليس منا من لم يغن بالقرآن ،وابكوا ،فإن لم تقدروا على البكاء
فتباكوا " (.)6
وقد روى أبو داود من حديث الليث وعمرو بن دينار كلهما عن عبد ال بن أبي مُلَيْكة ،عن
عبيد ال بن أبي َنهِيك ،عن سعد بن أبي وقاص قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :
ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (.)7
ورواه ابن ماجة من حديث ابن أبي مليكة ،عن عبد الرحمن بن السائب ،عن سعد بن أبي
__________
( )1المسند ( )146 /4وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8034
( )2فضائل القرآن (ص .)29
( )3فضائل القرآن (ص .)78 ، 77
( )4زيادة من ابن ماجة.
( )5سنن ابن ماجة برقم (.)1340
( )6وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وهو متروك.
( )7سنن أبي داود برقم (.)1470 ، 1469
( )1/61
وقاص قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن هذا القرآن نزل بحرف ،فإذا قرأتموه
فابكوا ،فإن لم تبكوا فتباكوا ،وتغنوا به ،فمن لم يتغن به فليس منا " (.)1
وقال أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا سعيد ( )2بن حسان المخزومي ،عن ابن أبي مُلَيْكة ،عن عبد
ال بن أبي نهيك ،عن سعد بن أبي وقاص قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ليس منا
من لم يتغن بالقرآن " ([ .)3قال وكيع :يعني :يستغنى به] (.)4
ورواه ( )5أيضا عن الحجاج وأبي النضر ،كلهما عن الليث بن سعد ،وعن سفيان بن عيينة ،
عن عمرو بن دينار ،كلهما عن عبد ال بن أبي مليكة به ( .)6وفي هذا الحديث كلم طويل
يتعلق بسنده ليس هذا موضعه ،وال أعلم.
وقال أبو داود :حدثنا عبد العلى بن حماد ،حدثنا عبد الجبار بن الورد ،سمعت ابن أبي
مُلَيْكة ،يقول :قال عبيد ال بن أبي يزيد :مرّ بنا أبو لُبَابة فاتّبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه ،
فإذا رجل َرثّ البيت َ ،رثّ الهيئة ،فانتسبنا له ،فقال :تجار كسبة ،فسمعته يقول " :سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ليس منا من لم يتغن بالقرآن " .قال :فقلت لبن أبي
مليكة :يا أبا محمد ،أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال :يحسنه ما استطاع .تفرد به أبو داود
(.)7
فقد فهم من هذا أن السلف ،رضي ال عنهم ،إنما فهموا من التغني بالقرآن :إنما هو تحسين
الصوت به ،وتحزينه ،كما قاله الئمة ،رحمهم ال ،ويدل على ذلك -أيضا -ما رواه أبو
داود حيث قال :حدثنا عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا جرير ،عن العمش ،عن طلحة ،عن عبد
عوْسَجة ،عن البراء بن عازب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :زينوا
الرحمن بن َ
القرآن بأصواتكم " (.)8
وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث شعبة ،عن طلحة وهو ابن مصرف به (.)9
وأخرجه النسائي من طرق أخر عن طلحة ( )10وهذا إسناد جيد.
وقد وثق النسائي ،وابن حبان عبد الرحمن بن عوسجة هذا ،ونقل الزدي عن يحيى بن سعيد
القطان أنه قال :سألت عنه بالمدينة ،فلم أرهم يحمدونه (.)11
__________
( )1سنن ابن ماجة برقم ( )1337وقال البوصيري في الزوائد (" : )434 /1هذا إسناد فيه أبو
رافع واسمه إسماعيل بن رافع ،ضعيف متروك".
( )2في ط ،م " :سفيان".
( )3المسند (.)172 /5
( )4زيادة من جـ ،ط.
( )5في ط " :ورواه أحمد".
( )6المسند (.)179 ، 175 /1
( )7سنن أبي داود برقم (.)1471
( )8سنن أبي داود برقم (.)1468
( )9سنن النسائي ( )179 /2وسنن ابن ماجة برقم (.)1342
( )10سنن النسائي (.)179 /2
( )11وانظر :تهذيب الكمال للمزي ( )322 /17وابن حجر -رحمه ال -اختار توثيقه في
التقريب.
( )1/62
وقال أبو عبيد القاسم بن سلم :حدثنا يحيى بن سعيد ،عن شعبة قال :نهاني أيوب أن أحدث
بهذا الحديث " :زينوا القرآن بأصواتكم" .قال أبو عبيد :وإنما كره أيوب فيما نرى ،أن يتأول
الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول ال صلى ال عليه وسلم في اللحان المبتدعة ،فلهذا أنهاه
أن يحدث به (.)1
قلت :ثم إن شعبة روى الحديث متوكل على ال ،كما رُوي له ،ولو ترك كل حديث بتأول
مبطل لترك من السنة شيء كثير ،بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة وحملوها على غير
محاملها الشرعية المرادة ،وال المستعان ،وعليه التكلن ،ول حول ول قوة إل بال.
والمراد من تحسين الصوت بالقرآن :تطريبه وتحزينه والتخشع به ،كما رواه الحافظ الكبير َب ِقيّ
بن مَخْلَد ،حيث قال :حدثنا أحمد بن إبراهيم ،حدثنا يحيى بن سعيد الموي ،حدثنا طلحة بن
يحيى بن طلحة ،عن أبي بردة بن أبي موسى ،عن أبيه قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة" .قلت :أما وال لو علمت أنك تستمع قراءتي
لحبرتها لك تحبيرا .ورواه مسلم من حديث طلحة به وزاد " :لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل
داود " ( .)2وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره البخاري ،والغرض أن أبا موسى قال :لو أعلم
أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا ،فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه ،وقد كان أبو موسى كما
قال ،عليه السلم ،قد أعطى صوتا حسنا كما سنذكره إن شاء ال ،مع خشية تامة ورقة أهل
اليمن الموصوفة ،فدل على أن هذا من المور الشرعية.
قال أبو عبيد :حدثنا عبد ال بن صالح ،عن الليث ،عن يونس ،عن ابن شهاب ،عن أبي
سلمة قال :كان عمر إذا رأى أبا موسى قال :ذكرنا ربنا يا أبا موسى ،فيقرأ عنده (.)3
وقال أبو عبيد :وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،حدثنا سليمان التيمي ،أنبئت عنه ،حدثنا أبو
عثمان النهدي قال :كان أبو موسى يصلي بنا ،فلو قلت :إني لم أسمع صوت صنجٍ قط ،ول
بربطٍ قط ،ول شيئًا قط أحسن من صوته (.)4
وقال ابن ماجة :حدثنا العباس بن عبد الرحمن ( )5الدمشقي ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثني
حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت " :أبطأت
على رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة بعد العشاء ،ثم جئت فقال " :أين كنت ؟" .قلت :كنت
أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد ،قالت :فقام فقمت معه
حتى استمع له ،ثم التفت إلي فقال " :هذا سالم مولى أبي حذيفة ،الحمد ل الذي جعل في أمتي
مثل هذا" " ( .)6إسناد جيد.
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ في
المغرب بالطور ،فما
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)81
( )2صحيح مسلم برقم (.)793
( )3فضائل القرآن (ص .)79
( )4فضائل القرآن (ص .)79وقال الحافظ ابن حجر " :سنده صحيح".
( )5في جـ " :عثمان".
( )6سنن ابن ماجة برقم (.)1338
( )1/63
سمعت أحدا أحسن صوتًا أو قال :قراءة منه .وفي بعض ألفاظه :فلما سمعته قرأ َ { :أمْ خُِلقُوا
شيْءٍ َأمْ ُهمُ الْخَاِلقُونَ } [الطور ، ]35 :خلت أن فؤادي قد انصدع ( .)1وكان جبير لما
مِنْ غَيْرِ َ
سمع هذا بعدُ مشركا على دين قومه ،وإنما قدم في فداء الساري بعد بدر ،وناهيك بمن تؤثر
قراءته في المشرك المصر على الكفر! وكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءة ما كان
عن خشوع القلب ،كما قال أبو عبيد :حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،عن ليث ،عن طاوس قال :
أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم ل (.)2
حدثنا قبيصة ،عن سفيان ،عن ابن جريج ،عن ابن طاوس ،عن أبيه ،وعن الحسن بن مسلم ،
عن طاوس قال :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أي الناس أحسن صوتًا بالقرآن ؟ فقال
" :الذي إذا سمعته رأيته يخشى ال" " (.)3
وقد روى هذا متصل من وجه آخر ،فقال ابن ماجة :حدثنا بشر بن معاذ الضرير ،حدثنا عبد
ال بن جعفر المديني ،حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ،عن أبي الزبير ،عن جابر قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتوه يقرأ
حسبتموه يخشى ال " ( )4ولكن عبد ال بن جعفر هذا ،وهو والد علي بن المديني ،وشيخه
ضعيفان ،وال أعلم.
والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه
والخشوع والخضوع والنقياد للطاعة ،فأما الصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الوزان
والوضاع الملهية والقانون الموسيقائي ،فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه
هذا المذهب ،وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك ،كما قال المام العلم أبو عبيد القاسم بن سلم ،
رحمه ال :
حدثنا نعيم بن حماد ،عن َبقِيّة بن الوليد ،عن حصين بن مالك الفزاري :سمعت شيخًا يكنى أبا
محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اقرؤوا القرآن
بلحون العرب وأصواتها ،وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابيين ،ويجيء قوم من بعدي
يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ،ل يجاوز حناجرهم ،مفتونة قلوبهم وقلوب
الذين يعجبهم شأنهم " (.)5
حدثنا يزيد ،عن شريك ،عن أبي اليقظان عثمان بن عمير ،عن زاذان أبي عمر ،عن عليم
قال " :كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم .قال يزيد :ل أعلمه
إل قال :عابس الغفاري ،فرأى الناس يخرجون في الطاعون فقال :ما هؤلء ؟ قالوا :يفرون
من الطاعون ،فقال :يا طاعون خذني ،فقالوا :تتمنى الموت وقد سمعت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :ل يتمنين أحدكم الموت" ؟ فقال :إني أبادر خصال سمعت رسول ال صلى
ال عليه وسلم يتخوفهن على أمته " :بيع الحكم ،والستخفاف بالدم ،وقطيعة الرحم ،وقوم
يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ول أفضلهم إل ليغنيهم
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4854 ، 765وصحيح مسلم برقم (.)463
( )2فضائل القرآن (ص .)80
( )3فضائل القرآن (ص .)80
( )4سنن ابن ماجة برقم (.)1339
( )5فضائل القرآن (ص )80وقال الذهبي في ترجمة حصين بن مالك في الميزان (: )553 /1
"تفرد عنه بقية ،ليس بمعتمد ،والخبر منكر".
( )1/64
( )1/65
الغتباط بما هو فيه ،ويستحب تغبيطه بذلك ،يقال :غبطه يغبِطه غبطًا :إذا تمنى ما هو فيه
من النعمة ،وهذا بخلف الحسد المذموم وهو تمني زوال نعمة المحسود عنه ،سواء حصلت
لذلك الحاسد أو ل وهذا مذموم شرعًا ،مهلكٌ ،وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم ،عليه
السلم ،على ما منحه ال تعالى من الكرامة والحترام والعظام .والحسد الشرعي الممدوح هو
تمني مثل حال ذلك الذي هو على حالة سارة ؛ ولهذا قال عليه السلم " :ل حسد إل في اثنتين " ،
فذكر النعمة القاصرة وهي تلوة القرآن آناء الليل والنهار ،والنعمة المتعدية وهي إنفاق المال
بالليل والنهار " ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّ ِه وََأقَامُوا الصّل َة وَأَ ْنفَقُوا ِممّا
رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلنِيَةً يَ ْرجُونَ ِتجَا َرةً لَنْ تَبُورَ } [فاطر ، ]29 :وقد روي نحو هذا من وجه
آخر ،فقال عبد ال بن المام أحمد :وجدت في كتاب أبي بخط يده :كتب إليّ أبو توبة الربيع
بن نافع ،فكان في كتابه :حدثنا الهيثم بن حميد ،عن زيد بن واقد ،عن سليمان بن موسى ،
عن كثير بن مرة ،عن يزيد بن الخنس ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل تنافس
بينكم إل في اثنتين :رجل أعطاه ال القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ،ويتبع ما فيه ،فيقول
رجل :لو أن ال أعطاني مثل ما أعطى فلنا فأقوم ( )1كما يقوم به ،ورجل أعطاه ال مال فهو
ينفقه ويتصدق ،فيقول رجل :لو أن ال أعطاني مثل ما أعطى فلنا فأتصدق به" ( .)2وقريب
من هذا ما قال المام أحمد :حدثنا عبد ال بن نمير ،حدثنا عبادة بن مسلم ،حدثني يونس بن
خباب ،عن أبي سعيد البختري الطائي ،عن أبي كبشة قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :ثلث أقسم عليهن ،وأحدثكم حديثا فاحفظوه ،فأما الثلث التي أقسم عليهن :فإنه
ما نقص مال عبد من صدقة ،ول ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إل زاده ال بها عزا ،ول يفتح
عبد باب مسألة إل فتح ال له باب فقر ،وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه ،فإنه قال :إنما الدنيا
لربعة نفر :عبد رزقه ال مال وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه ،ويعمل ل فيه حقه" ،
قال " :فهذا بأفضل المنازل ،وعبد رزقه ال علما ولم يرزقه مال فهو يقول :لو كان لي مال
عملت بعمل فلن" قال " :فأجرهما سواء ،وعبد رزقه ال مال ولم يرزقه علما فهو يخبط في
ماله بغير علم ل يتقي فيه ربه ،ول يصل فيه رحمه ،ول يعمل ل فيه حقه ،فهذا بأخبث
المنازل ،وعبد لم يرزقه ال مال ول علما فهو يقول :لو كان لي مال لفعلت بعمل فلن" .قال :
"هي نيته فوزرهما فيه سواء " (.)3
وقال أيضا :حدثنا َوكِيع ،حدثنا العمش ،عن سالم بن أبي الجعد ،عن أبي كبشة النماري قال
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مثل هذه المة مثل أربعة نفر :رجل آتاه ال مال
وعلما فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه ،ورجل آتاه ال علما ولم يؤته مال فهو يقول :لو كان
لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فهما في
الجر سواء ،ورجل آتاه ال مال ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه ،ورجل لم
يؤته ال مال ول علما فهو يقول :لو كان لي مثل
__________
( )1في ط ،م " :فيقوم به".
( )2المسند (.)105 /4
( )3المسند (.)231 /4
( )1/66
هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فهما في الوزر سواء".
إسناد صحيح ()1
__________
( )1المسند (.)230 /4
( )1/67
( )1/67
فجمع بين الدعوة إلى ال سواء كان بالذان أو بغيره من أنواع الدعوة من تعليم القرآن والحديث
والفقه وغير ذلك ،مما يُبتغى به وجه ال ،وعمل هو في نفسه صالحا ،وقال قول صالحا ،فل
أحد أحسن حال من هذا .وقد كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي -أحد أئمة السلم ومشايخهم
-من رغب في هذا المقام ،فقعد يعلم الناس في ( )1إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا :وكان
مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة ،رحمه ال ،وآتاه ال ما طلبه ودامه .آمين.
قال ( )2البخاري ،رحمه ال :حدثنا عمرو بن عون ،حدثنا حماد عن أبي حازم ،عن سهل بن
سعد قال " :أتت النبي صلى ال عليه وسلم امرأة فقالت :إنها قد وهبت نفسها ل ورسوله ،فقال
" :ما لي في النساء من حاجة" .فقال رجل :زوّجنيها قال "[ :أعطها ثوبًا" ،قال :ل أجد ،قال :
"أعطها ولو خاتما من حديد" ،فاعتل له ،فقال] (" )3ما معك من القرآن" .قال :كذا وكذا .فقال :
"قد زوجتكها بما معك من القرآن " (.)4
وهذا الحديث متفق على إخراجه من طرق عديدة ،والغرض منه أن الذي قصده البخاري أن هذا
الرجل تعلم ( )5الذي تعلمه من القرآن ،وأمره النبي صلى ال عليه وسلم أن يعلمه تلك المرأة ،
ويكون ذلك صداقا لها على ذلك ،وهذا فيه نزاع بين العلماء ،وهل يجوز أن يجعل مثل هذا
صداقًا ؟ أو هل يجوز أخذ الجرة على تعليم القرآن ؟ وهل هذا كان خاصًا بذلك الرجل ؟ وما
معنى قوله عليه الصلة والسلم " :زوجتكها بما معك من القرآن" ؟ أبسبب ما معك من القرآن ؟
كما قاله أحمد بن حنبل :نكرمك بذلك أو بعوض ما معك ،وهذا أقوى ،لقوله في صحيح مسلم :
"فعلمها" ( )6وهذا هو الذي أراده البخاري هاهنا وتحرير باقي الخلف مذكور في كتاب النكاح
والجارة ،وال المستعان.
__________
( )1في جـ " :من".
( )2في جـ " :ثم قال".
( )3زيادة من جـ.
( )4صحيح البخاري برقم (.)5029
( )5في جـ " :يعلمها".
( )6في جـ " :فتعلمها".
( )1/68
( )1/68
( )1/69
وحدثنا حفص بن غياث ،عن الشيباني ( )1عن بكير ( )2بن الخنس قال :كان يقال :إذا قرأ
العجمي والذي ل يقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل .وقال بعض العلماء :المدار في هذه المسألة
على الخشوع في القراءة ،فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل ،وإن كان
عند النظر في المصحف ( )3فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى ؛ لنها أثبت وتمتاز
بالنظر في المصحف قال الشيخ أبو زكريا النووي ( )4رحمه ال ،في التبيان :والظاهر أن كلم
السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل.
تنبيه :
إن كان البخاري ،رحمه ال ،أراد بذكر ( )5حديث سهل للدللة على أن تلوة القرآن عن ظهر
قلب أفضل منها في المصحف ،ففيه نظر ؛ لنها قضية عين ،فيحتمل أن ذلك الرجل كان ل
يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم منه ،فل يدل على أن التلوة عن ظهر
قلب أفضل مطلقا في حق من يحسن ومن ل يحسن ،إذ لو دل هذا لكان ذكر حال رسول ال
صلى ال عليه وسلم وتلوته عن ظهر قلب -لنه أمي ل يدري الكتابة -أولى من ذكر هذا
الحديث بمفرده.
الثاني :أن سياق الحديث إنما هو لجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ؛ ليمكنه
تعليمها لزوجته ،وليس المراد هاهنا :أن هذا أفضل من التلوة نظرا ،ول عدمه ( )6وال
سبحانه وتعالى أعلم.
__________
( )1في جـ " :النسائي".
( )2في جـ " :بكر".
( )3في ط " :المصحف أكثر".
( )4في ط " :النواوي".
( )5في ط " :بذكره".
( )6قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( )78 /9بعد أن ذكر كلم الحافظ ابن كثير هنا " :ول يرد
على البخاري شيء مما ذكر ؛ لن المراد بقوله :باب القراءة عن ظهر قلب ،مشروعيتها أو
استحبابها ،والحديث مطابق لما ترجم به ،ولم يتعرض لكونها أفضل من القراءة نظرا ،وقد
صرح كثير من العلماء أن القراءة من المصحف نظرا أفضل من القراءة عن ظهر قلب".
( )1/70
عن عبد ال قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :بئس ما لحدهم أن يقول :نسيت آية كيت
سيَ ،واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصّيًا من صدور الرجال من النّعم " (.)1
وكيت ،بل نُ ِ
تابعه بشر .هو ابن محمد السختياني ،عن ابن المبارك ،عن شعبة.
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلن ،عن أبي داود الطيالسي ،عن شعبة به ( )2وقال :
حسن صحيح .وأخرجه النسائي من رواية شعبة (.)3
وحدثنا عثمان ،حدثنا جرير ،عن منصور مثله .وتابعه ابن جريج عن عبدة ،عن شقيق :
سمعت عبد ال قال :سمعت النبي صلى ال عليه وسلم ( )4وهكذا أسنده مسلم من حديث ابن
جريج به ( )5ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث محمد بن جحادة ،عن عبدة ( )6وهو
ابن أبي لُبَابة به ( .)7وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن
جرير به ( )8وستأتي رواية البخاري له عن أبي نعيم ،عن سفيان الثوري ،عن منصور به ،
والنسائي من رواية ابن عيينة عن منصور به ،فقد رواه هؤلء عن منصور به مرفوعا في
رواية هؤلء كلهم ( )9وقد رواه النسائي عن قتيبة ،عن حماد بن زيد ،عن منصور ،عن أبي
وائل ،عن عبد ال موقوفا ( )10وهذا غريب وفي مسند أبي يعلى ( )11فإنما هو َنسِي بالتخفيف
(.)12
حدثنا محمد بن العلء ،حدثنا أبو أسامة ،عن بريد ،عن أبي بردة ،عن أبي موسى ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم قال " :تعاهدوا القرآن ،فوالذي نفسي بيده ،لهو أشد تَفصّيا من البل في
عقلها " .وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب محمد بن العلء وعبد ال بن برادٍ ( )13الشعري ،
كلهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به (.)14
وقال المام أحمد :حدثنا علي بن إسحاق ،حدثنا عبد ال بن المبارك ،حدثنا موسى بن علي :
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5032
( )2سنن الترمذي برقم (.)4922
( )3سنن النسائي (.)154 /2
( )4صحيح البخاري (" )79 /9فتح".
( )5صحيح مسلم برقم (.)790
( )6في جـ " :عبيدة".
( )7سنن النسائي الكبرى برقم (.)10560
( )8صحيح مسلم برقم (.)790
( )9صحيح البخاري برقم ( )5039وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8042
( )10سنن النسائي الكبرى برقم (.)10564
( )11مسند أبي يعلى (.)69 /9
( )12قال القرطبي :معنى التثقيل :أنه عوقب بوقوع النسيان عليه التفريط في معاهدته
واستذكاره .ومعنى التخفيف :أن الرجل ترك غير ملتفت إليه ،وهو كقوله تعالى ( :نسوا ال
فنسيهم) [التوبة ]67 :أي :تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة.
( )13في جـ " :بردة".
( )14صحيح البخاري برقم ( )5033وصحيح مسلم برقم (.)791
( )1/71
سمعت أبي يقول :سمعت عقبة بن عامر يقول [ :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم] (" )1
تعلموا كتاب ال ،وتعاهدوه وتغنوا به ،فوالذي نفسي بيده ،لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل
" (.)2
ومضمون هذه الحاديث الترغيب في كثرة تلوة القرآن واستذكاره وتعاهده ؛ لئل يعرضه حافظه
للنسيان ( )3فإن ذلك خطر كبير ،نسأل ال العافية منه ،فإنه قال المام أحمد :
حدثنا خلف بن الوليد ،حدثنا خالد ،عن يزيد بن أبي زياد ،عن عيسى بن فائد ،عن رجل ،
عن سعد بن عبادة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما من أمير عشرة إل ويؤتى به
يوم القيامة مغلول ل يفكه عن ذلك الغل إل العدل ،وما من رجل قرأ القرآن فنسيه إل لقي ال
يوم القيامة يلقاه وهو أجذم " (.)4
هكذا رواه جرير بن عبد الحميد ،ومحمد بن فضيل ،عن يزيد بن أبي زياد ،كما رواه خالد بن
عبد ال ( .)5وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن العلء عن ابن إدريس ،عن يزيد بن أبي زياد ،
عن عيسى بن فائد ،عن سعد بن عبادة عن النبي صلى ال عليه وسلم بقصة نسيان القرآن ،ولم
يذكر الرجل المبهم (.)6
وكذا رواه أبو بكر بن عياش ،عن يزيد بن أبي زياد ،وقد رواه شعبة عن يزيد فوهم في
إسناده ،ورواه وكيع عن أصحابه ،عن يزيد ،عن عيسى بن فائد ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم مرسل .وقد رواه المام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت فقال :
حدثنا عبد الصمد ،حدثنا عبد العزيز بن مسلم ،حدثنا يزيد بن أبي زياد ،عن عيسى بن فائد ،
عن عبادة بن الصامت قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما من أمير عشرة إل يؤتى
به يوم القيامة مغلول ل يفكه منها إل عدله ،وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إل لقى ال يوم
القيامة أجذم " (.)7
وكذا رواه أبو عوانة ،عن يزيد بن أبي زياد ،ففيه اختلف ،لكن هذا في باب الترهيب مقبول
-وال أعلم -لسيما إذا كان له شاهد من وجه آخر ،كما قال أبو عبيد.
حدثنا حجاج ،عن ابن جريج قال :حُدثت عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :عرضت على أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من المسجد ،وعرضت
عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أكبر من آية أو سورة من كتاب ال أوتيها رجل فنسيها " .قال ابن
جريج :وحُدّثت عن سلمان الفارسي قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أكبر ذنب
توافى به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب ال أوتيها رجل فنسيها " (.)8
__________
( )1زيادة من ط ،والمسند.
( )2المسند (.)146 /4
( )3في ط " :إلى النسيان".
( )4المسند (.)385 /5
( )5رواه أبو عبيد في الفضائل (ص )103من طريق جرير ،ورواه ابن أبي شيبة في المصنف
( )478 /10من طريق ابن فضيل.
( )6سنن أبي داود برقم (.)1474
( )7المسند (.)323 /5
( )8فضائل القرآن (ص .)103
( )1/72
وقد روى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي رواد ،عن ابن
جريج ،عن المطلب بن عبد ال بن حنطب ،عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ،وعرضت عليّ
ذنوب أمتي ،فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها " (.)1
قال الترمذي :غريب ل نعرفه إل من هذا الوجه ،وذاكرت به البخاري فاستغربه ،وحكى
البخاري عن عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي أنه أنكر سماع المطلب من أنس بن مالك.
قلت :وقد رواه محمد بن يزيد الدمي ( )2عن ابن أبي رواد ،عن ابن جريج عن الزهري ،
عن أنس بن مالك ،عن النبي صلى ال عليه وسلم به .وال أعلم.
وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى َ { :ومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي فَإِنّ َلهُ َمعِيشَةً
عمَى َوقَدْ كُ ْنتُ َبصِيرًا * قَالَ َكذَِلكَ أَتَ ْتكَ
عمَى * قَالَ َربّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَ ْ
ضَ ْنكًا وَ َنحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَ ْ
آيَاتُنَا فَ َنسِي َتهَا َوكَذَِلكَ الْ َيوْمَ تُنْسَى } [طه ، ]126 - 124 :وهذا الذي قاله هذا -وإن لم يكن هو
المراد جميعه -فهو بعضه ،فإن العراض عن تلوة القرآن وتعريضه للنسيان وعدم العتناء
به فيه تهاون كثير وتفريط شديد ،نعوذ بال منه ؛ ولهذا قال عليه السلم " :تعاهدوا القرآن" ،
وفي لفظ " :استذكروا القرآن ،فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم ".
ال ّت َفصّي :التخلص يقال َ :ت َفصّى فلن من البلية :إذا تخلص منها ،ومنه :تفصى النوى من
التمرة :إذا تخلص منها ،أي :إن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير
عقال.
وقال أبو عبيد :حدثنا أبو معاوية ،عن العمش ،عن إبراهيم قال :قال عبد ال -يعني ابن
مسعود : -إني لمقت القارئ أن أراه سمينا نسيا للقرآن (.)3
حدثنا عبد ال بن المبارك ،عن عبد العزيز بن أبي رواد قال :سمعت الضحاك بن مزاحم يقول
:ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إل بذنب يحدثه ؛ لن ال تعالى يقول َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ
ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى ، ]30 :وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب (.)4
ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره :يُكره لرجل أن يمر عليه أربعون يوما ل يقرأ فيها القرآن ،
كما أنه يُكره له أن يقرأ في أقل من ثلثة أيام ،كما سيأتي هذا ،حيث يذكره البخاري بعد هذا ،
وكان الليق أن يتبعه هذا الباب ،ولكن ذكر بعد هذا قوله :
__________
( )1سنن أبي داود برقم ( )461وسنن الترمذي برقم ( )2916ومسند أبي يعلى (.)253 /7
( )2في جـ " :الموى".
( )3فضائل القرآن (ص )104وفيه انقطاع بين النخعي وابن مسعود.
( )4فضائل القرآن (ص .)104
( )1/73
( )1/73
قال " :رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح " (
.)1
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق ،عن شعبة ،عن أبي إياس ،وهو
معاوية بن قرة به ( )2وهذا -أيضا -له تعلق بما تقدم من تعاهد القرآن وتلوته سفرا
وحضرا ،ول يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارئ في الطريق ،وقد نقله ابن أبي داود
عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق ،وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أذن في ذلك ،
وعن المام مالك أنه كره ذلك ،كما قال ابن أبي داود :وحدثني أبو الربيع ،أخبرنا ابن وهب
[قال] ( )3سألت مالكا عن الرجل يصلي في آخر الليل ،فيخرج إلى المسجد ،وقد بقي من
السورة التي كان يقرأ فيها شيء ،فقال :ما أعلم القراءة تكون في الطريق.
وقال الشعبي :تكره قراءة القرآن في ثلثة مواطن :في الحمام ،وفي الحشوش ،وفي الرحى
وهي تدور .وخالفه في القراءة في الحمام كثير من السلف :أنها ل تكره ،وهو مذهب مالك
والشافعي وإبراهيم النخعي وغيرهم ،وروى ابن أبي داود عن علي بن أبي طالب :أنه كره ذلك
،ونقله ابن المنذر عن أبي وائل شقيق بن سلمة ،والشعبي والحسن البصري ومكحول وقبيصة
بن ذؤيب ،وهو رواية عن إبراهيم النخعي ،ومحكيّ عن أبي حنيفة ،رحمهم ال ،أن القراءة
في الحمام تكره وأما القراءة في الحشوش فكراهتها ظاهرة ،ولو قيل بتحريم ذلك صيانة لشرف
القرآن لكان مذهبا ،وأما القراءة في بيت الرحى وهي تدور فلئل يعلو غير القرآن عليه ،والحق
يعلو ول يُعلى ،وال أعلم.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5034
( )2صحيح مسلم برقم ( )794وسنن أبي داود برقم ( )1467والشمائل للترمذي برقم ()302
وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8062
( )3زيادة من ط.
( )1/74
( )1/74
( )1/75
نسيان القرآن
وهل يقول :نسيت آية كذا وكذا ،وقول ال تعالى :
{ سَ ُنقْرِئُكَ فَل تَنْسَى * إِل مَا شَاءَ اللّهُ } [العلى ]7 ، 6 :
حدثنا الربيع بن يحيى ،حدثنا زائدة ،حدثنا هشام ،عن عروة ،عن عائشة قالت :لقد سمع
النبي صلى ال عليه وسلم رجل يقرأ في المسجد فقال " :يرحمه ال ،لقد أذكرني كذا وكذا من
سورة كذا ".
وحدثني محمد بن عبيد بن ميمون ،حدثنا عيسى بن يونس ،عن هشام وقال :أسقطتهن من
سورة كذا وكذا .انفرد به أيضا .تابعه علي بن مسهر وعبدة عن هشام (.)1
وقد أسندهما البخاري في موضع آخر ،ومسلم معه في عبدة (.)2
وحدثنا أحمد بن أبي رجاء ،حدثنا أبو أسامة ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة ،
رضي ال عنها ،قالت " :سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم رجل يقرأ في سورة بالليل فقال
" :يرحمه ال ،فقد ( )3أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا " .ورواه مسلم من
حديث أبي أسامة حماد بن أسامة ()4
.
الحديث الثاني :حدثنا أبو نعيم ،حدثنا سفيان ،عن منصور ،عن أبي وائل ،عن عبد ال ،
رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بئس ما لحدهم أن يقول :نسيت
آية كيت وكيت ،بل هو نُسّى " ورواه مسلم والنسائي ،من حديث منصور به ( .)5وقد تقدم.
سيَ " ،بالتخفيف ،هذا لفظه.
وفي مسند أبي يعلى " :فإنما هو ُن ِ
وفي هذا الحديث -والذي قبله -دليل على أن حصول النسيان للشخص ليس بنقصٍ له إذا كان
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5037
( )2صحيح البخاري برقم ( )6335وصحيح مسلم برقم (.)788
( )3في جـ ،ط " :قد".
( )4صحيح البخاري برقم ( )5038وصحيح مسلم برقم (.)788
( )5صحيح البخاري برقم ( )5039وصحيح مسلم برقم ( )790وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)8042
( )1/75
بعد الجتهاد والحرص ،وفي حديث ابن مسعود أدب في التعبير عن حصول ذلك ،فل يقول :
نسيت آية كذا ،فإن النسيان ليس من فعل العبد ،وقد يصدر عنه أسبابه من التناسي والتغافل
سيَ" ،مبني لما
والتهاون المفضي إلى ذلك ،فأما النسيان نفسه فليس بفعله ؛ ولهذا قال " :بل هو نُ ِ
لم يسم فاعله ،وأدب -أيضا -في ترك إضافة ذلك إلى ال تعالى ،وقد أسند النسيان إلى العبد
في قوله { :وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ ِإذَا نَسِيتَ } [الكهف ]24 :وهو ،وال أعلم ،من باب المجاز السائغ
بذكر المسبب وإرادة السبب ؛ لن النسيان إنما يكون عن سبب قد يكون ذنبا ،كما تقدم عن
الضحاك بن مزاحم ،فأمر ال تعالى بذكره ليذهب الشيطان عن القلب كما يذهب عند النداء
بالذان ،والحسنة تذهب السيئة ،فإذا زال السبب للنسيان انزاح ،فحصل الذكر لشيء بسبب ذكر
ال تعالى ،وال أعلم.
( )1/76
( )1/76
القرآن يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اجعلوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا
" ،ول شك أن هذا أحوط وأولى ،ولكن قد صحت الحاديث بالرخصة في الخر ،وعليه عملُ
الناس اليوم في ترجمة السور في مصاحفهم ،وبال التوفيق.
( )1/77
الترتيل في القراءة
وقول ال ( )1عز وجل { :وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيل } [المزمل ، ]4 :وقوله َ { :وقُرْآنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ
عَلَى النّاسِ عَلَى ُم ْكثٍ } [السراء ، ]106 :يكره أن يهذ كهذ الشعر ،يفرق :يفصل ،قال ابن
عباس { :فَ َرقْنَاهُ } فصلناه.
حدثنا أبو النعمان ،حدثنا مهدي بن ميمون ،حدثنا واصل [وهو ابن حيان الحدب] ( )2عن أبي
وائل ،عن عبد ال قال :غدونا على عبد ال ،فقال رجل :قرأت المفصل البارحة ،فقال :هذا
كهذّ الشعر ،إنا قد سمعنا القراءة ،وإني لحفظ القراءات التي كان يقرأ بهن النبي صلى ال عليه
وسلم ثمان عشرة سورة من المفصل ،وسورتين من آل حم (.)3
ورواه مسلم عن شيبان بن فَرّوخ ،عن مهدي بن ميمون ،عن واصل -وهو ابن حيان الحدب
-عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود به (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا قتيبة ،حدثنا ابن َلهِيعة ،عن الحارث بن يزيد ،عن زياد بن نعيم ،
عن مسلم بن مِخْراق ،عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسا يقرؤون القرآن في الليل مرة أو مرتين ،
فقالت :أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا ،كنت أقوم مع النبي صلى ال عليه وسلم ليلة التمام ،فكان يقرأ
سورة البقرة وآل عمران والنساء ،فل يمر بآية فيها تخوف إل دعا ال واستعاذ ،ول يمر بآية
فيها استبشار إل دعا ال ورغب إليه (.)5
الحديث الثاني :حدثنا قتيبة ،حدثنا جرير ،عن موسى بن أبي عائشة ،عن سعيد بن جبير ،
جلَ بِهِ } [القيامة : ]16 :كان رسول ال
عن ابن عباس في قوله تعالى { :ل ُتحَ ّركْ بِهِ ِلسَا َنكَ لِ َتعْ َ
صلى ال عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي ،وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه.
وذكر تمام الحديث كما سيأتي ،وهو متفق عليه ،وفيه والذي قبله دليل على استحباب ترتيل
القراءة والترسل فيها من غير َهذْرَمة ول سرعة مفرطة ،بل بتأمل وتفكر ،قال ال تعالى :
{ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لِ َيدّبّرُوا آيَاتِهِ } [ص .]29 :
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن بن ( )6سفيان ،عن عاصم ،عن زر ،عن عبد ال بن
عمرو ،عن النبي صلى ال عليه وسلم " :يقال لصاحب القرآن :اقرأ وارْقَ ،ورتل كما كنت
ترتل في الدنيا ،فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " (.)7
__________
( )1في جـ ،ط " :وقوله".
( )2زيادة من جـ.
( )3صحيح البخاري برقم (.)5043
( )4صحيح مسلم برقم (.)822
( )5المسند (.)92 /6
( )6في ط " :عن".
( )7المسند (.)192 /2
( )1/77
وقال أبو عبيد :حدثنا جرير ،عن مغيرة ،عن إبراهيم قال :قرأ علقمة على عبد ال ،فكأنه
عجل ،فقال عبد ال :فداك أبي وأمي ،رتل فإنه زين القرآن .قال :وكان علقمة حسن الصوت
بالقرآن (.)1
وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،عن أيوب ،عن أبي جمرة قال :قلت لبن عباس :إني سريع
القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلث فقال :لن أقرأ البقرة ( )2في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إليّ
من أن أقرأ كما تقول (.)3
وحدثنا حجاج ،عن شعبة وحماد بن سلمة ،عن أبي جمرة ،عن ابن عباس نحو ذلك ،إل أن
في حديث حماد :أحب إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة (.)4
ثم قال البخاري ،رحمه ال :
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)74
( )2في جـ " :القرآن".
( )3فضائل القرآن (ص .)74
( )4فضائل القرآن (ص .)74
( )1/78
مد القراءة
حدثنا مسلم بن إبراهيم ،حدثنا جرير بن حازم الزدي ،حدثنا قتادة قال :سألت أنس بن مالك
عن قراءة النبي صلى ال عليه وسلم فقال :كان يمد مدا (.)1
وهكذا رواه أهل السنن ،من حديث جرير بن حازم به ( )2وحدثنا عمرو بن عاصم ،حدثنا همام
،عن قتادة قال :سئل أنس بن مالك :كيف كانت قراءة النبي صلى ال عليه وسلم ؟ فقال :
كانت مدًا ،ثم قرأ :بسم ال الرحمن الرحيم .يمد بسم ال ،ويمد بالرحمن ،ويمد بالرحيم .انفرد
به البخاري من هذا الوجه ( )3وفي معناه الحديث الذي رواه المام أبو عبيد :حدثنا أحمد بن
عثمان ،عن عبد ال بن المبارك ،عن الليث بن سعد ،عن ابن أبي مُلَ ْيكَة ،عن يعلى بن
مَملك ،عن أم سلمة :أنها نعتت قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم قراءة مفسرة حرفًا حرفًا
(.)4
وهكذا رواه المام أحمد بن حنبل ،عن يحيى بن إسحاق ،وأبو داود عن يزيد بن خالد الرملي ،
والترمذي والنسائي ،كلهما عن قتيبة ،كلهم عن الليث بن سعد به ( .)5وقال الترمذي :حسن
صحيح.
ثم قال أبو عبيد :وحدثنا يحيى بن سعيد الموي ،عن ابن جريج ،عن ابن أبي مُلَيْكة ،عن أم
سلمة قالت :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقطع قراءته ؛ بسم ال الرحمن الرحيم .الحمد
ل رب العالمين .الرحمن الرحيم .مالك يوم الدين .وهكذا.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5045
( )2سنن أبي داود برقم ( )1465وسنن النسائي ( )179 /2والشمائل للترمذي برقم ( )308وسنن
ابن ماجة برقم (.)1353
( )3صحيح البخاري برقم (.)5046
( )4فضائل القرآن (ص .)74
( )5المسند ( )300 /6وسنن أبي داود برقم ( )1466وسنن النسائي ( )181 /2وسنن الترمذي
برقم (.)2923
( )1/78
رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن جريج ( .)1وقال الترمذي :غريب وليس إسناده
بمتصل ،يعني :أن عبد ال بن عبيد ال بن أبي مُلَيْكة لم يسمعه من أم سلمة ،وإنما رواه عن
يعلى بن َممْلَك ،كما تقدم ،وال أعلم .الترجيع
حدثنا آدم بن أبي إياس ،حدثنا شعبة ،حدثنا أبو إياس قال :سمعت عبد ال بن مغفل قال :
رأيت النبي صلى ال عليه وسلم وهو على ناقته -أو جمله -وهي تسير به ،وهو يقرأ سورة
الفتح قراءة لينة وهو يرجع (.)2
وقد تقدم هذا الحديث في القراءة على الدابة وأنه من المتفق عليه ،وفيه أن ذلك كان يوم الفتح ،
وأما الترجيع :فهو الترديد في الصوت كما جاء -أيضا -في البخاري أنه جعل يقول ( :آ آ
آ) ،وكان ذلك صدر من حركة الدابة تحته ،فدل على جواز التلوة عليها ،وإن أفضى إلى ذلك
ول يكون ذلك من باب الزيادة في الحروف ،بل ذلك مغتفر للحاجة ،كما يصلي على الدابة حيث
توجهت به ،مع إمكان تأخير ذلك الصلة إلى القبلة ،وال أعلم .حسن الصوت بالقراءة
حدثنا محمد بن خلف أبو بكر ،حدثنا أبو يحيى الحمّاني ،حدثنا بريد بن عبد ال بن أبي بردة ،
عن جده أبي بردة ،عن أبي موسى الشعري ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يا أبا
موسى ،لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود " ( )3وهذا رواه الترمذي عن موسى بن عبد
الرحمن الكندي ،عن أبي يحيى الحمّاني ( - )4واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن -وقال :
حسن صحيح .وقد رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة ،عن أبي بردة ،عن أبي
موسى ( )5وفيه قصة ،وقد تقدم الكلم على تحسين الصوت عند قول البخاري :من لم يتغن
بالقرآن ،وذكرنا هنا أحكاما كافية عن إعادتها هاهنا ،وال أعلم .من أحب أن يسمع القرآن من
غيره
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ،حدثنا أبي ،حدثنا العمش ،عن إبراهيم بن عبيدة ،عن عبد
ال قال " :قال لي النبي صلى ال عليه وسلم " :اقرأ عليّ القرآن" .قلت :عليك أقرأ وعليك أنزل
؟! قال " :إني أحب أن أسمعه من غيري" ".
وقد رواه الجماعة إل ابن ماجه ،من طرق عن العمش ( )6وله طرق يطول ذكرها وبسطها ،
وقد
__________
( )1فضائل القرآن (ص )75وسنن أبي داود برقم ( )4001وسنن الترمذي برقم (.)2927
( )2صحيح البخاري برقم (.)5047
( )3صحيح البخاري برقم (.)5048
( )4سنن الترمذي برقم (.)3855
( )5صحيح مسلم برقم (.)793
( )6صحيح البخاري برقم ( )5049وصحيح مسلم برقم ( )800وسنن أبي داود برقم ()3668
وسنن النسائي الكبرى برقم ( )8075وسنن الترمذي برقم (.)3025
( )1/79
تقدم فيما رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة ،عن أبي بردة ،عن أبي موسى :أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له " :يا أبا موسى ،لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة".
فقال :أما وال لو أعلم أنك تستمع قراءتي لحَبّرْتها لك تحبيرا.
وقال الزهري ،عن أبي سلمة :كان عمر إذا رأى أبا موسى قال :ذكرنا ربنا يا أبا موسى.
فيقرأ عنده.
وقال أبو عثمان النهدي :كان أبو موسى يصلي بنا ،فلو قلت :إني لم أسمع صوت صنج قط
ول بربط قط ،ول شيئا قط أحسن من صوته .قول المقريء للقارئ :حسبك
حدثنا محمد بن يوسف ،حدثنا سفيان ،عن العمش ،عن إبراهيم ،عن عبيدة ،عن عبد ال
قال " :قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اقرأ عليّ" .فقلت :يا رسول ال ،آقرأ عليك
وعليك أنزل ؟! قال " :نعم" ،فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الية َ { :فكَ ْيفَ إِذَا
شهِيدًا } [النساء ، ]41 :قال " :حسبك الن" [فالتفت
شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلءِ َ
جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ
إليه فإذا عيناه تذرفان] (.)2( )1
أخرجه الجماعة إل ابن ماجه ،من رواية العمش به ( )3ووجه الدللة ظاهر ،وكذا الحديث
الخر " :اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ،فإذا اختلفتم فقوموا " .في كم يقرأ القرآن وقول
ال تعالى { :فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنْهُ } [المزمل ]20 :
حدثنا علي ،حدثنا سفيان ،قال :قال لي ابن شبرمة :نظرت كم يكفي الرجل من القرآن فلم أجد
سورة أقل من ثلث آيات .فقلت :ل ينبغي لحد أن يقرأ أقل من ثلث آيات .قال سفيان :أخبرنا
منصور ،عن إبراهيم ،عن عبد الرحمن بن يزيد ،أخبره علقمة عن أبي مسعود ،فلقيته وهو
يطوف بالبيت ،فذكر النبي صلى ال عليه وسلم أن من قرأ باليتين من آخر سورة البقرة في ليلة
كفتاه (.)4
وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه ،وقد جمع البخاري فيما بين عبد الرحمن بن يزيد وعلقمة
عن أبي مسعود وهو صحيح ؛ لن عبد الرحمن سمعه أول من علقمة ،ثم لقي أبا مسعود وهو
يطوف فسمعه منه ،وعليّ هذا هو ابن المديني وشيخه هو سفيان بن عيينة ،وما قاله عبد ال بن
شبرمة -فقيه الكوفة في زمانه -استنباط حسن ،وقد جاء في حديث في السنن " :ل صلة إل
بفاتحة الكتاب وثلث آيات " ( )5ولكن هذا الحديث -أعني حديث أبي مسعود -أصح وأشهر
وأخص ،ولكن وجه مناسبته
__________
( )1زيادة من ط.
( )2صحيح البخاري برقم (.)5050
( )3صحيح مسلم برقم ( )800وسنن أبي داود برقم ( )3668وسنن النسائي الكبرى برقم (
)8078والشمائل للترمذي برقم (.)306
( )4صحيح البخاري برقم (.)5051
( )5كذا قال الحافظ ابن كثير ،ولم أقع عليه في السنن الربعة ،وقد رواه ابن عدي في الكامل (
)29 /5من طريق عمر بن يزيد المدائني عن عطاء عن ابن عمر ،رضي ال عنه ،مرفوعا
بلفظ " :ل تجزئ في المكتوبة إل بفاتحة الكتاب وثلث آيات فصاعدا" .والمدائني منكر الحديث
كما قال ابن عدي.
( )1/80
( )1/81
( )1/82
عبد الرحمن :أنها سمعت عائشة تقول :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يختم القرآن في
أقل من ثلث (.)1
هذا حديث غريب وفيه ضعف ،فإن الطيب بن سليمان هذا بصري ،ضعفه الدارقطني ،وليس
هو بذاك المشهور ،وال أعلم.
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلث ،كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق
وابن راهويه وغيرهما من الخلف -أيضا -قال أبو عبيد :حدثنا يزيد ،عن هشام بن حسان ،
عن حفصة ،عن أبي العالية ،عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلث (
.)2صحيح.
وحدثنا يزيد ،عن سفيان ،عن علي بن بَذِيمة ،عن أبي عبيدة قال [ :قال] ( )3عبد ال :من قرأ
القرآن في أقل من ثلث فهو راجز .وحدثنا حجاج ،عن شعبة ،عن علي بن بذيمة ،عن أبي
عبيدة ،عن عبد ال مثله سواء (.)4
وحدثنا حجاج ،عن شعبة ،عن محمد بن َذ ْكوَان ،عن عبد الرحمن بن عبد ال بن مسعود ،عن
أبيه ؛ أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلث ( .)5إسناده صحيح.
وفي المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا " :اقرؤوا القرآن ،ول تغلوا فيه ،ول تجفوا عنه ،
ول تأكلوا به ،ول تستكثروا به" (.)6
فقوله " :ل تغلوا فيه" أي :ل تبالغوا في تلوته بسرعة في أقصر مدة ،فإن ذلك ينافي التدبر
غالبا ؛ ولهذا قابله بقوله " :ول تجفوا عنه" أي :ل تتركوا تلوته.
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)89 ، 88
( )2فضائل القرآن (ص .)89
( )3زيادة من ط.
( )4فضائل القرآن (ص .)89
( )5فضائل القرآن (ص .)90
( )6المسند ( )428 /3من طريق زيد بن سلم عن جده عن أبي راشد عن عبد الرحمن بن شبل
به مرفوعا ،وقال الحافظ ابن حجر " :سنده قوي".
( )1/83
فصل
وقد ترخص جماعة ( )1من السلف في تلوة القرآن في أقل من ذلك ؛ منهم أمير المؤمنين عثمان
بن عفان ،رضي ال عنه.
قال أبو عبيد :حدثنا حجاج ،عن ابن جريج ،أخبرني ابن خَصيفة ،عن السائب بن يزيد :أن
رجل سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلة طلحة بن عبيد ( )2فقال :إن شئت أخبرتك
عن صلة عثمان ،رضي ال عنه ،فقال :نعم .قال :قلت :لعلين الليلة على الحجر ،فقمت ،
فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمني ،فنظرت فإذا عثمان بن عفان ،فتأخرت عنه ،فصلى فإذا
هو يسجد سجود القرآن ،حتى إذا قلت :هذه هوادي الفجر ،أوتر بركعة لم يصل غيرها (.)3
وهذا إسناد
__________
( )1في ط " :جماعات".
( )2في ط " :عبيد ال".
( )3فضائل القرآن (ص .)90
( )1/83
صحيح.
قال ( )1وحدثنا هُشَيْم ،عن منصور ،عن ابن سيرين قال :قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية
حيث دخلوا على عثمان ليقتلوه :إن يقتلوه أو يدعوه ،فقد كان يحيى الليل كله بركعة يجمع فيها
القرآن .وهذا حسن أيضا (.)2
وقال -أيضا : -حدثنا أبو معاوية ،عن عاصم بن سليمان ،عن ابن سيرين :إن تميما الداري
قرأ القرآن في ركعة (.)3
حدثنا حجاج بن شعبة ،عن حماد ،عن سعيد بن جبير :أنه قال :قرأت القرآن في ركعة في
البيت -يعني الكعبة (.)4
وحدثنا جرير ،عن منصور ،عن إبراهيم ،عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة ،طاف بالبيت
أسبوعا ،ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالطول ،ثم طاف بالبيت أسبوعا ،ثم أتى المقام فصلى
عنده فقرأ بالمئين ،ثم طاف أسبوعا ،ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثانى ،ثم طاف بالبيت
أسبوعا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن (.)5
عفَيْر ،
وهذه كلها أسانيد صحيحة ،ومن أغرب ما هاهنا :ما رواه أبو عبيد :حدثنا سعيد بن ُ
عن بكر بن مضر ،أن سليم بن عتر التجيبي كان يختم القرآن في ليلة ثلث مرات ،ويجامع
ثلث مرات .قال :فلما مات قالت امرأته :رحمك ال ،إن كنت لترضى ربك وترضى أهلك ،
قالوا :وكيف ذلك ؟ قالت :كان يقوم من الليل فيختم القرآن ،ثم يلم بأهله ثم يغتسل ،ويعود
فيقرأ حتى يختم ثم يلم بأهله ،ثم يغتسل ،ويعود فيقرأ حتى يختم ،ثم يلم بأهله ثم يغتسل ،
ويخرج إلى صلة الصبح (.)6
قلت :كان سليم بن عتر تابعيا جليل ثقة نبيل وكان قاضيا بمصر أيام معاوية وقاصّها ،ثم قال
أبو حاتم :روى عن أبي الدرداء ،وعنه ابن زحر ،ثم قال :حدثني محمد بن عوف ،عن أبي
صالح كاتب الليث ،حدثني حرملة بن عمران ،عن كعب بن علقمة قال :كان سليم بن عتر من
خير التابعين (.)7
وذكره ابن يونس في تاريخ مصر.
وقد روى ابن أبي داود عن مجاهد أنه كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء.
وعن منصور قال :كان علي الزدي يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من
رمضان.
وعن إبراهيم بن سعد قال :كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن.
قلت :وروي عن منصور بن زاذان :أنه كان يختم فيما بين الظهر والعصر ،ويختم أخرى فيما
__________
( )1في ط " :ثم قال".
( )2فضائل القرآن (ص .)91
( )3فضائل القرآن (ص .)91
( )4فضائل القرآن (ص .)91
( )5فضائل القرآن (ص .)91
( )6فضائل القرآن (ص .)91
( )7الجرح والتعديل (.)212 ، 211 /4
( )1/84
( )1/85
( )1/85
وقد روى في موضعين آخرين ،ومسلم وأبو داود والنسائي ،من طرق عن العمش به ()1
حدثنا عبد ال بن يوسف ،حدثنا مالك ،عن يحيى بن سعيد ،عن محمد بن إبراهيم بن الحارث
التيمي ،عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ،عن أبي سعيد الخدري قال :سمعت رسول ال صلى
ال عليه وسلم يقول " :يخرج فيكم قوم تحقرون صلتكم مع صلتهم ،وصيامكم مع صيامهم ،
وعملكم مع عملهم ،ويقرؤون القرآن ل يجاوز تراقيهم ،يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية ،ينظر في النصل ( )2فل يرى شيئًا ،وينظر في القدح فل يرى شيئا ،وينظر في الريش
فل يرى شيئا ،ويتمارى في الفوق " (.)3
ورواه في موضع آخر ،ومسلم -أيضا -والنسائي من طرق عن الزهري ،عن أبي سلمة به (
.)4
حدثنا مُسَدّد بن مسرهد ،حدثنا يحيى بن سعيد ،عن شعبة ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك ،عن
أبي موسى ،رضي ال عنهما ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :مثل المؤمن الذي يقرأ
القرآن ويعمل به كالترجة طعمها طيب وريحها طيب ،والمؤمن الذي ل يقرأ القرآن ويعمل به
كالتمرة طعمها طيب ول ريح لها ،ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب
وطعمها مر ،ومثل المنافق الذي ل يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مرّ " (.)5
ورواه في موضع آخر مع بقية الجماعة من طرق ،عن قتادة به (.)6
ومضمون هذه الحاديث التحذير من المراءاة بتلوة القرآن التي هي من أعظم القرب ،كما جاء
في الحديث " :واعلم أنك لن تتقرب إلى ال بأعظم مما خرج منه " ( )7يعني :القرآن.
والمذكورون في حديث علي وأبي سعيد هم الخوارج ،وهم الذين ل يجاوز إيمانهم حناجرهم ،
وقد قال في الرواية الخرى " :يحقر أحدكم قراءته مع قراءتهم ،وصلته مع صلتهم ،
وصيامه مع صيامهم " .ومع هذا أمر بقتلهم لنهم مراؤون في أعمالهم في نفس المر ،وإن كان
بعضهم قد ل يقصد ذلك ،إل أنهم أسسوا أعمالهم على اعتقاد غير صالح ،فكانوا في ذلك
كالمذمومين في قوله َ { :أ َفمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َت ْقوَى مِنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ
جهَنّ َم وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } [التوبة ، ]109 :وقد
شفَا جُ ُرفٍ هَارٍ فَا ْنهَارَ بِهِ فِي نَارِ َ
عَلَى َ
اختلف العلماء في تكفير الخوارج وتفسيقهم ورد روايتهم ،كما سيأتي [تفصيله] ( )8في موضعه
إن شاء ال.
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )6930 ، 3611وصحيح مسلم برقم ( )1066وسنن أبي داود برقم (
)4767وسنن النسائي (.)119 /7
( )2في ط " :السهم".
( )3صحيح البخاري برقم (.)5058
( )4صحيح البخاري برقم ( )6933 ، 3610وصحيح مسلم برقم ( )1064وسنن النسائي الكبرى
برقم (.)8560
( )5صحيح البخاري برقم (.)5059
( )6صحيح البخاري برقم ( )7560 ، 5427وصحيح مسلم برقم ( )797وسنن أبي داو د برقم (
)4830وسنن الترمذي برقم ( )2865وسنن النسائي ( )124 /8وسنن ابن ماجة برقم (.)214
( )7رواه أحمد في المسند ( )268 /5والترمذي في السنن برقم ( )2911من طريق ليث بن أبي
سليم عن زيد بن أرطأة عن أبي أمامة به مرفوعا ،وقال الترمذي " :هذا حديث غريب ل نعرفه
إل من هذا الوجه".
( )8زيادة من ط.
( )1/86
والمنافق المشبه بالريحانة التي لها الريح ظاهر وطعمها مر هو المرائي بتلوته ،كما قال تعالى
ع ُه ْم وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلةِ قَامُوا ُكسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ
{ :إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ
وَل َي ْذكُرُونَ اللّهَ إِل قَلِيل } [النساء .]142 :
ثم قال البخاري :اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم
حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عارم ،حدثنا حماد بن زيد ،عن أبي عمران الجوني ،عن
جندب بن عبد ال ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :اقرؤوا القرآن ما
ائتلفت عليه قلوبكم ،فإذا اختلفتم فقوموا [عنه] (.)2( " )1
حدثنا عمرو بن علي بن بحر الفلس ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا سلم بن أبي مطيع ،
عن أبي عمران الجوني ،عن جُنْدُب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اقرؤوا القرآن
ما ائتلفت عليه قلوبكم ،فإذا اختلفتم فقوموا [عنه] (.)4( " )3
تابعه الحارث بن عُبَيْد وسعيد بن زيد ،عن أبي عمران ،ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان.
وقال غُ ْندَر :عن شعبة ،عن أبي عمران قال :سمعت جُنْدُبا .قوله :وقال ابن عون ،عن أبي
عمران ،عن عبد ال بن الصامت ،عن عمر قوله .وجندب أصح وأكثر (.)6( )5
وقد رواه في موضع آخر ،ومسلم كلهما عن إسحاق بن منصور ،عن عبد الصمد ،عن
همام ،عن أبي عمران به ( )7ومسلم -أيضا -عن يحيى بن يحيى ،عن الحارث بن عبيد أبي
قدامة ،عن أبي عمران به ،ورواه مسلم -أيضا -عن أحمد بن سعيد ،عن حبان بن هلل ،
عن أبان العطار ،عن أبي عمران به مرفوعا (.)8
وقد حكى البخاري :أن أبان وحماد بن سلمة لم يرفعاه ،فال أعلم.
ورواه النسائي والطبراني من حديث مسلم بن إبراهيم ،عن هارون بن موسى العور النحوي ،
عن أبي عمران به.
__________
( )1زيادة من ط والبخاري.
( )2صحيح البخاري برقم (.)5060
( )3زيادة من البخاري.
( )4صحيح البخاري برقم (.)5061
( )5في النسخ " :أكثر وأصح" والتصويب من البخاري.
( )6قال الحافظ ابن حجر " :أي أصح سندًا وأكثر طرقًا وهو كما قال ،فإن الجم الغفير رواه عن
أبي عمران عن جندب إل أنهم اختلفوا عليه في رفعه ووقفه ،والذين رفعوه ثقات حفاظ فالحكم
لهم ،وأما رواية ابن عون فشاذة لم يتابع عليها".
( )7صحيح البخاري برقم ( )7365وصحيح مسلم برقم (.)2667
( )8صحيح مسلم برقم (.)2667
( )1/87
ورواه النسائي -أيضا -من طرق عن سفيان ،عن حجاج بن فرافصة ،عن أبي عمران به
مرفوعا ( )1وفي رواية عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ،عن أبيه ،عن سفيان عن حجاج ،
عن أبي عمران ،عن جُنْدُب موقوفا ،ورواه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ،عن إسحاق
الزرق ،عن عبد ال بن عون ،عن أبي عمران ،عن عبد ال بن الصامت ،عن عمر قوله.
قال أبو بكر بن أبي داود :لم يخطئ ابن عون في حديث قط إل في هذا ،والصواب عن جندب.
[ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن مسلم بن إبراهيم وسعيد بن منصور قال حدثنا
الحارث بن عبيد ،عن أبي عمران ،عن جندب مرفوعا] (.)3( )2
فهذا مما تيسر من ذكر طرق هذا الحديث على سبيل الختصار ،والصحيح منها ما أرشد إليه
شيخ هذه الصناعة ( )4أبو عبد ال البخاري ،رحمه ال ،من أن الكثر والصح :أنه عن
جندب بن عبد ال مرفوعا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ومعنى الحديث أنه ،عليه السلم ،أرشد وحض أمته على تلوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة
على تلوته ،متفكرة فيه ،متدبرة له ،ل في حال شغلها ومللها ،فإنه ل يحصل المقصود من
التلوة بذلك كما ثبت في الحديث أنه قال عليه الصلة والسلم " :اكلفوا من العمل ما تطيقون ،
فإن ال ل يمل حتى تملوا ( )5وقال " :أحب العمال إلى ال ما داوم عليه صاحبه وإن قل " ،
وفي اللفظ الخر " :أحب العمال إلى ال أدومها [وإن قل] (.)7( " )6
ثم قال البخاري :حدثنا سليمان بن حرب ،حدثنا شعبة ،عن عبد الملك بن ميسرة ،عن النزال
ابن سبرة ،عن عبد ال -هو ابن مسعود " -أنه سمع رجل يقرأ آية سمع النبي صلى ال عليه
وسلم خلفها ،فأخذت بيده فانطلقت إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال " :كلكما محسن فاقرآ"
أكبر علمي قال " :فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم ال عز وجل" ".
وأخرجه النسائي من رواية شعبة به ( )8وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه ،وأنه ينهى عن
الختلف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك ،وال أعلم.
وقريب من هذا ما رواه عبد ال بن المام أحمد في مسند أبيه :حدثنا أبو محمد سعيد بن محمد
الجرمي ،حدثنا يحيى بن سعيد الموي ،عن العمش ،عن عاصم ،عن زر بن حبيش قال :
قال عبد ال بن مسعود :تمارينا في سورة من القرآن فقلنا :خمس وثلثون آية ،ست وثلثون
آية قال :فانطلقنا
__________
( )1سنن النسائي الكبرى برقم (.)8096
( )2زيادة من ط.
( )3المعجم الكبير (.)163 /2
( )4في ط " :البضاعة".
( )5رواه البخاري في صحيحه برقم ( )43ومسلم في صحيحه برقم ( )785من حديث عائشة
رضي ال عنها.
( )6زيادة من ط ،م.
( )7رواه مسلم في صحيحه برقم ( )782من حديث عائشة رضي ال عنها.
( )8صحيح البخاري برقم ( )5062وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8095
( )1/88
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فوجدنا عليا بناصية فقلنا له :اختلفنا في القراءة ،فاحمر
وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال علي :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمركم أن
تقرؤوا كما قد علمتم (.)1
وهذا آخر ما أورده البخاري ،رحمه ال ،في كتاب ( )2فضائل القرآن ،جل منزله ،وتعالى
قائله ،ول الحمد والمنة.
__________
( )1زوائد المسند (.)106 ، 105 /1
( )2في ط " :كتابه".
( )1/89
كتاب الجامع
لحاديث شتى تتعلق بتلوة القرآن
وفضائله وفضل أهله
فصل
قال أحمد :حدثنا معاوية بن هشام ،حدثنا شيبان ،عن فراس ،عن عطية ،عن أبي سعيد قال :
قال نبي ال عليه الصلة والسلم ( " )1يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة :اقرأ واصعد ،فيقرأ
ويصعد بكل آية درجة ،حتى يقرأ آخر شيء معه " (.)2
وقال أحمد :حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا حَ ْيوَة ،حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولني ؛ أن
الوليد بن قيس التجيبي حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول :سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :يكون خلف من بعد الستين سنة ،أضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون
غيا ،ثم يكون خلف يقرؤون القرآن ل يعدو تراقيهم ،ويقرأ القرآن ثلثة :مؤمن ومنافق وفاجر
".
قال بشير :فقلت للوليد :ما هؤلء الثلثة ؟ قال :المنافق كافر به ،والفاجر يَتَأكّل به ،والمؤمن
يؤمن به (.)3
وقال أحمد :حدثنا حجاج ،حدثنا الليث ،حدثني يزيد بن أبي حبيب ،عن أبي الخير ،عن أبي
الخطاب ،عن أبي سعيد أنه قال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم عام تبوك خطب الناس
وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال " :أل أخبركم بخير الناس وشر الناس ؛ إن من خير الناس رجل
عمل في سبيل ال على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت ،وإن
من شر الناس رجل فاجرا جريئا يقرأ كتاب ال ،ل يرعوي إلى شيء منه " (.)4
قال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي ،حدثنا الحسين بن عبد
الول ،حدثنا محمد بن الحسن الهمداني ،عن عمرو بن قيس ،عن عطية ،عن أبي سعيد قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يقول ال تعالى :من شغله قراءة القرآن عن دعائي
أعطيته أفضل ثواب السائلين ".
__________
( )1في طـ " :صلى ال عليه وسلم".
( )2المسند (.)40 /3
( )3المسند (.)38 /3
( )4المسند (.)58 ، 37 /3
( )1/89
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن فضل كلم ال على سائر الكلم كفضل ال على خلقه
" ،ثم قال :تفرد به محمد بن الحسن ولم يتابع عليه (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا أبو عبيدة الحداد ،حدثني عبد الرحمن بن بُدَيْل بن ميسرة ،حدثني
أبي ،عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ل أهْلِين من الناس".
قيل :من هم يا رسول ال ؟ قال " :أهْل القرآن هم أهل ال وخاصته" " (.)2
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ،حدثنا خالد بن خِدَاش ،
حدثنا جعفر بن سليمان ،عن ثابت ،عن أنس بن مالك ،رضي ال عنه :كان إذا ختم القرآن
جمع أهله وولده فدعا لهم (.)3
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا عبد ال بن أحمد بن حنبل ،حدثنا محمد بن عباد
المكي ،حدثنا حاتم بن إسماعيل عن شريك ،عن العمش ،عن يزيد بن أبان ،عن الحسن ،
عن أنس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :القرآن غنى ل فقر بعده ول غنى دونه " (
.)4
وقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا سلمة بن شبيب ،حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا عبد ال بن
المحرر ،عن قتادة ،عن أنس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لكل شيء حلية ،
وحلية القرآن الصوت الحسن " ( .)5ابن المحرر ضعيف.
وقال المام أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثنا بكر بن سوادة ،عن وفاء الخولني ،
عن أنس بن مالك قال :بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والسود والبيض ،إذ خرج علينا
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :أنتم في خير تقرؤون كتاب ال وفيكم رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح ،يتعجلون أجورهم ول
يتأجلونها " (.)6
وقد رواه المام أحمد -أيضا -عن حسن ،عن ابن َلهِيعة ،عن بكر ،عن وفاء ،عن سهل بن
سعد ،عن النبي صلى ال عليه وسلم فذكره (.)7
وقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا يوسف بن موسى ،حدثنا عبد ال بن الجهم ،حدثنا عمرو بن
أبي قيس ،عن عبد ربه بن عبد ال ،عن عمر بن نبهان ،عن الحسن ،عن أنس ؛ أن النبي
صلى ال عليه وسلم قال " :إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره ،والبيت الذي ل يقرأ فيه
القرآن يقل خيره " (.)8
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا الفضل بن الصباح ،حدثنا أبو عبيدة ،عن محتسب ،حدثني يزيد
__________
( )1ورواه الترمذي في السنن برقم ( )2926من طريق محمد بن الحسن الهمداني به ،وقال
الترمذي " :هذا حديث حسن غريب".
( )2المسند (.)128 /3
( )3المعجم الكبير ( )242 /1وقال الهيثمي في المجمع (" : )172 /7رجاله ثقات".
( )4المعجم الكبير ( )255 /1وقال الهيثمي في المجمع (" : )158 /7رواه أبو يعلى وفيه يزيد بن
أبان الرقاشي وهو ضعيف".
( )5مسند البزار برقم (" )2330كشف الستار".
( )6المسند (.)146 /3
( )7المسند (.)338 /5
( )8مسند البزار برقم (" )2321كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (" : )171 /7فيه عمر
بن نبهان ضعيف".
( )1/90
الرقاشي ،عن أنس قال :قعد أبو موسى في بيت واجتمع إليه ناس ،فأنشأ يقرأ عليهم القرآن ،
قال :فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أفتستطيع أن تقعدني حيث ل يراني منهم أحد ؟".
قال :نعم .قال :فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم فأقعده الرجل حيث ل يراه منهم أحد ،
فسمع قراءة أبي موسى فقال " :إنه ليقرأ على مزمار من مزامير داود ،عليه السلم " (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا مصعب بن سلم ،حدثنا جعفر -هو ابن محمد بن علي بن الحسين -
عن أبيه ،عن جابر بن عبد ال قال " :خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فحمد ال وأثنى
عليه بما هو له أهل ،ثم قال " :أما بعد ،فإن أصدق الحديث كتاب ال ،وإن أفضل الهدي هدي
محمد ،وشر المور محدثاتها ،وكل بدعة ضللة" ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ،ويشتد غضبه
إذا ذكر الساعة ،كأنه منذر جيش .قال :ثم يقول " :أتتكم الساعة هكذا -وأشار بأصبعيه السبابة
والوسطى -صبحتكم الساعة ومستكم ،من ترك مال فلهله ،ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليّ
وعليّ " (.)2
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الوهاب -يعني ابن عطاء -أنبأنا أسامة بن زيد الليثي ،عن
محمد بن الم ْنكَدِر ،عن جابر بن عبد ال قال " :دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم المسجد ،
فإذا قوم يقرؤون القرآن فقال " :اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه ال -عز وجل -من قبل أن يأتي
بقوم يقيمونه إقامة القدح ،يتعجلونه ول يتأجلونه" (.)3
قال أحمد -أيضا : -حدثنا خلف بن الوليد ،حدثنا خالد ،حدثنا حميد العرج ،عن محمد بن
المنكدر ،عن جابر بن عبد ال قال " :خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم ونحن نقرأ
القرآن ،وفينا العجمي والعرابي قال :فاستمع فقال " :اقرؤوا فكل حسن ،وسيأتي قوم يقيمونه
كما يقام القدح ،يتعجلونه ول يتأجلونه" (.)4
وقال أبو بكر البزار :حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلء ،حدثنا عبد ال بن الجلح ،عن العمش
،عن المعلى الكندي ،عن عبد ال بن مسعود قال " :إن هذا القرآن شافع مشفع ،من اتبعه قاده
إلى الجنة ،ومن تركه أو أعرض عنه -أو كلمة نحوها -زج في قفاه إلى النار " ( .)5وحدثنا
أبو كريب ،حدثنا عبد ال بن الجلح ،عن العمش ،عن أبي سفيان ،عن جابر ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم بنحوه (.)6
قال الحافظ أبو يعلى :حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن مروان أبو صخر ،حدثني بكر بن يونس ،
عن موسى بن علي ،عن أبيه ،عن يحيى بن أبي كثير اليمامي ،عن جابر بن عبد ال ؛ أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من قرأ ألف آية كتب ال له قنطارا ،والقنطار مائة رطل
،والرطل اثنتا عشرة أوقية ،
__________
( )1مسند أبي يعلى ( )135 - 133 /7وفيه يزيد الرقاشي ضعيف.
( )2المسند (.)310 /3
( )3المسند ()357 /3
( )4المسند (.)397 /3
( )5مسند البزار برقم (" )121كشف الستار".
( )6مسند البزار برقم (" )122كشف الستار".
( )1/91
والوقية ستة دنانير ،والدينار أربعة وعشرون قيراطا ،والقيراط مثل أحُد ،ومن قرأ ثلثمائة آية
قال ال لملئكته :نصب عبدي لي ،أشهدكم يا ملئكتي أنّي قد غفرت له ،ومن بلغه عن ال
فضيلة فعمل بها إيمانا به ورجاء ثوابه ،أعطاه ال ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك " (.)1
وقال أحمد :حدثنا جرير ،عن قابوس ،عن أبيه ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب " (.)2
قال البزار :ل نعلمه يروى عن ابن عباس إل من هذا الوجه.
وقال الطبراني :حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ،حدثني أبي قال :وجدت في كتاب أبي
بخطه عن عمران بن أبي عمران ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :من اتبع كتاب ال هداه ال من الضللة ،ووقاه سوء الحساب يوم القيامة
شقَى } [طه .)3( " ]123 :
ل وَل َي ْ
ضّ ،وذلك أن ال عز وجل يقول َ { :فمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَل َي ِ
وقال الطبراني :حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ،حدثنا أبي ،حدثنا ابن َلهِيعة ،عن عمرو بن
دينار ،عن طاووس ،عن ابن عباس ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن أحسن
الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به " (.)4
وقال -أيضا : -حدثنا أبو يزيد القراطيسي ،حدثنا نعيم بن حماد ،حدثنا عبدة بن سليمان ،عن
سعيد أبي سعد البقال ،عن الضحاك ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
" أحسنوا الصوات بالقرآن " (.)5
وروى -أيضا -بسنده إلى الضحاك عن ابن عباس مرفوعا " :أشرف أمتي حملة القرآن " (
.)6
وقال الطبراني :حدثنا معاذ بن المثنى ،حدثنا إبراهيم بن أبي سويد الذارع ( )7حدثنا صالح
المرى ،عن قتادة ،عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال " :سأل رجل رسول ال صلى ال
عليه وسلم فقال :أي العمال أحب إلى ال ؟ فقال " :الحال المرتحل" .قال :يا رسول ال ،ما
الحال المرتحل ؟ قال " :صاحب القرآن يضرب في أوله حتى يبلغ آخره ،وفي آخره حتى يبلغ
أوله" " (.)8
__________
( )1معجم الشيوخ لبي يعلى ( )74وإسناده ضعيف لعلتين :العلة الولى :ضعف بكر بن يونس
،والعلة الثانية :النقطاع بين يحيى ابن أبي كثير وجابر.
( )2المسند (.)223 /1
( )3المعجم الكبير ( )48 /12وقال الهيثمي في المجمع (" : )169 /1فيه أبو شيبة وهو ضعيف
جدآ".
( )4المعجم الكبير (.)7 /11
( )5المعجم الكبير ( )18 /12وأبو سعد البقال ضعيف ،والضحاك لم يسمع من ابن عباس.
( )6المعجم الكبير ( )125 /12من طريق سعد الجرجاني عن نهشل -وكلهما ضعيف -عن
الضحاك به.
( )7فى ط " :الزرع".
( )8المعجم الكبير ( )168 /12ورواه الحاكم في المستدرك ( )568 /1من طريق صالح المري
به ،وقال " :تفرد به صالح المري ،وهو من زهاد أهل البصرة" .وتعقبه الذهبي فقال " :صالح
متروك".
( )1/92
الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل ،فإذا فرغت من التشهد ،فاحمد ال وأحسن الثناء على ال
،وصل عليّ وأحسن وعلى سائر النبيين ،واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ،ولخوانك الذين
سبقوك باليمان ،ثم قل في آخر ذلك :اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني ،وارحمني
أن أتكلف ما ل يعنيني ،وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني ،اللهم بديع السماوات والرض
،ذا الجلل والكرام والعزة التي ل ترام ،أسألك يا أل يا رحمن بجللك ونور وجهك أن تلزم
قلبي حفظ كتابك كما علمتني ،وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني ،اللهم بديع
السماوات والرض ذا الجلل والكرام والعزة التي ل ترام ،أسألك يا ال يا رحمن بجللك ونور
وجهك ،أن تنور بكتابك بصري ،وأن تطلق به لساني ،وأن تفرج به عن قلبي ،وأن تشرح به
صدري ،وأن تغسل به بدني ،فإنه ل يعينني على الحق غيرك ول يؤتيه إل أنت ،ول حول ول
قوة إل بال العلي العظيم ،يا أبا الحسن ،تفعل ذلك ثلث جمع أو خمسا أو سبعا تجاب بإذن ال
تعالى ،والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمنا قط" .قال ابن عباس :فوال ما لبث عليّ إل خمسا أو
سبعا حتى جاء [عليّ] ( )1رسول ال صلى ال عليه وسلم في مثل ذلك المجلس ،فقال :يا
رسول ال ،وال إني كنت فيما خل ل آخذ إل أربع آيات أو نحوهن ،فإذا قرأ ُتهُن على نفسي
َتفَلّتْنَ وأنا أتعلّم اليوم أربعين آية أو نحوها ،فإذا قرأتها على نفسي فكأنما كتاب ال بين عَيْنِي ،
ولقد كنت أسمع الحديث ،فإذا َردّدْتُه َتفَلّت ،وأنا اليوم أسمع الحاديث ،فإذا تحدثتُ بها لم أخْرِم
منها حرفا ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم عند ذلك " :مؤمن ورب الكعبة يا أبا
الحسن".
ثم قال الترمذي :هذا حديث حسن غريب ل نعرفه إل من حديث الوليد بن مسلم .كذا قال ،وقد
تقدم من غير طريقه .ورواه الحاكم في مستدركه من طريق الوليد ،ثم قال :على شرط الشيخين
حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج ،فال أعلم -فإنه في المتن غرابة بل نكارة ( )2وال
أعلم.
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا العمري ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :مثل القرآن مثل البل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها ،وإن تركها
ذهبت ".
ورواه -أيضا -عن محمد بن عبيد ويحيى بن سعيد ،عن عبيد ال العمري به (.)3
ورواه -أيضا -عن عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر مرفوعًا
نحوه (.)4
وقال البزار :حدثنا محمد بن معمر ،حدثنا حميد بن حماد بن أبي الحوار ،حدثنا مِسْعر ،عن
عبد ال بن دينار ،عن ابن عمر قال :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أي الناس أحسن
قراءة ؟ قال " :من إذا سمعته يقرأ رؤيت أنه يخشى ال ،عز وجل" (.)5
__________
( )1زيادة من الترمذي.
( )2سنن الترمذي برقم ( )3570والمستدرك ( )317 ، 316 /1وأعل بثلث علل :الولى :
عنعنة ابن جريج .الثانية :تدليس بقية فإنه يدلس تدليس التسوية .الثالثة :سليمان الدمشقي تكلم
فيه من جهة حفظه.
( )3المسند (.)30 ، 17 /2( ، )23 /2
( )4المسند (.)35 /2
( )5مسند البزار برقم (" )2336كشف الستار" وفيه حماد بن حميد ضعيف.
( )1/94
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،عن سفيان ،عن عاصم ،عن زر ،عن عبد ال بن
عمرو ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يقال لصاحب القرآن :اقرأ وا ْرقَ ورَتّل كما كنت
ترتل في الدنيا ،فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " (.)1
وقال أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثني حيي بن عبد ال ،عن أبي عبد الرحمن
الحبلي ،عن عبد ال بن عمرو قال :جاء رجل إلى النبي ( )2صلى ال عليه وسلم فقال :يا
رسول ال ،إني أقرأ القرآن فل أجد قلبي يعقل عليه ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :
إن قلبك حُ ِثيَ اليمان ،وإن العبد يعطى اليمان قبل القرآن " (.)3
وبهذا السناد :أن رجل جاء بابن له فقال :يا رسول ال ،إن ابني هذا يقرأ المصحف بالنهار
ويبيت بالليل ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما تنقم أن ابنك يظل ذاكرا ويبيت سالما "
(.)4
وقال أحمد :حدثنا موسى بن داود ،حدثنا ابن َلهِيعة ،عن حيي ،عن أبي عبد الرحمن ،عن
عبد ال بن عمرو ،أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم
القيامة ،يقول الصيام :أي رب ،منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ،ويقول القرآن :
منعته النوم بالليل فشفعني فيه " ،قال " :فيشفعان" (.)5
وقال أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثنا دراج ،عن عبد الرحمن بن جبير ،عن عبد
ال بن عمرو قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :أكثر منافقي أمتي قراؤها " (
.)6
وقال أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثني همام ،عن قتادة ،عن يزيد بن عبد ال بن الشخير ،عن عبد
ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من قرأ القرآن في أقل من ثلث لم
يفقه ".
ورواه -أيضا -عن غُنْدَر ،عن شعبة ،عن قتادة به ( .)7وقال الترمذي :حسن صحيح.
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه ،حدثنا أبي ،حدثنا عيسى بن
يونس ،ويحيى بن أبي الحجاج التميمي ،عن إسماعيل بن رافع ،عن إسماعيل بن عبيد ال بن
أبي المهاجر ،عن عبد ال بن عمرو ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من قرأ
القرآن فكأنما اس ُتدْرِجَت النب ّوةُ بين جنبيهِ ،غير أنه ل يُوحَى إليه ،ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدًا
صغّر ما عظّم ال ،وليس ينبغي لحامل
صغّر ال ،و َ
طىَ فقد عَظّم ما َ
ى أفضلَ مما أُعْ ِ
طَأُعْ ِ
سفَه فيمن يسفه ،أو َي ْغضَب فيمن َي ْغضَب ،أو يَحْتَدّ فيمن يَحْتَدّ ،ولكن يعفو ويصفح ،
القرآن أن َي ْ
لِفضل القرآن " (.)8
__________
( )1المسند ( .)192 /2
( )2في مسند أحمد " :رسول ال".
( )3المسند (.)172 /2
( )4المسند (.)173 /2
( )5المسند (.)174 /2
( )6المسند (.)175 /2
( )7المسند (.)195 ، 193 ، 164 /2
( )8قال الهيثمي في المجمع (" : )159 /7فيه إسماعيل بن رافع وهو متروك".
( )1/95
حسَن ،عن
وقال المام أحمد :حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ،حدثنا عباد بن ميسرة ،عن ال َ
أبي هُرَيرةَ ؛ أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من استمع إلى آية من كتاب ال كُتِ َبتْ له
حسنةٌ مضاعفةٌ ،ومن تلها كانت له نورًا يوم القيامة " (.)1
وقال البزار :حدثنا محمد بن حرب ،حدثنا يحيى بن المتوكل ،حدثنا عَنْبَسة بن مهْران عن
سعِيدٍ وأبي سلمة ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :مراءٌ
الزهري ،عن َ
في القرآن كفرٌ " .ثم قال :عنبسة :هذا ليس بالقويّ .وعنده فيه إسناد آخر (.)2
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا أبو بكر ،حدثنا ابن إدريس ،حدثنا المقبري ،عن جدّه ،عن أبي
هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه (.)4( " )3
وقال الطبراني :حدثنا موسى بن حازم الصبهاني ،حدثنا محمد بن بكير الحضرمي ،حدثنا
إسماعيل بن عَيّاشٍ ،عن يحيى بن الحارث الذّماري ،عن القاسم أبي عبد الرحمن ،عن فضالة
بن عُبَيد ،و َتمِيمٍ الداريّ ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :من قرأ عشر آيات في ليلة كُتِب
له قنطار ،والقنطار خير من الدنيا وما فيها ،فإذا كان يوم القيامة يقول ربك ،عز وجل :اقرأ
وارق بكل آية درجة حتى ينتهي إلى آخر آية معه ،يقول ربك :اقبض ،فيقول العبد بيده :يا
رب أنت أعلم .فيقول :بهذه الخلد وبهذه النعيم " (.)5
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة معقس بن عمران بن حطان قال :قال :دخلت مع أبي
على أم الدرداء ،رضي ال عنها ،فسألها أبي :ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأ ؟ قالت
جعِلت دَرَجُ الجنة على عدد آي القرآن ،فمن ( )6قرأ ثلث القرآن ثم
:حدثتني عائشة قالت ُ :
دخل الجنة كان على الثلث من دَرَجها ،ومن قرأ نصف القرآن كان على النصف من درَجها ،
ومن قرأ كُلّه كان في عِلّيّين ،لم يكن فوقه إل نبي أو صديق أو شهيد (.)7
سعْد العطارُ المكي ،حدثنا إبراهيم بن المنذر الحِزَامي ،
سعَ َدةُ ( )8بن َ
وقال الطبراني :حدثنا مَ ْ
حدثنا إسحاق بن إبراهيم مولى جميع بن حارثة النصاري ،حدثنا عبد ال بن ماهان الزدي ،
حسَين بن علي ،عن أبيها قال :
حدثني فائد مولى عُبَيد ال بن أبي رافع ،حدثتني سُكينة بنت ال ُ
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :حملة القرآن عُرَفاء أهل الجنة يوم القيامة " (.)9
وروى الطبراني من حديث بقيّة ،عن أبي بكر بن أبي مريم ،عن المهاصر بن حبيب ،عن
عبيدة
__________
( )1المسند (.)341 /2
( )2ورواه أبو نعيم في الحلية ( )192 /5من طريق محمد بن حرب الواسطي به ،وقال :
"غريب من حديث مكحول ،لم نكتبه إل من حديث ابن حرب".
( )3في ط " :غرابته".
( )4مسند أبي يعلى ( )436 /11وقال الهيثمي في المجمع (" : )163 /7فيه عبد ال بن سعيد بن
أبي سعيد المقبري وهو متروك".
( )5المعجم الكبير (.)50 /2
( )6في ط " :من".
( )7تاريخ دمشق (" 10 /17المخطوط").
( )8في ط " :مسورة".
( )9المعجم الكبير ( )132 /3وقال الهيثمي في المجمع (" : )161 /7فيه إسحاق المدني وهو
ضعيف".
( )1/96
المليكي ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول " :يا أهل القرآن ،ل توسّدوا القرآن
،واتلوه حَقّ تلوته من آناء الليل والنهار ،وتغنوه وتَقَنّوه ،واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ،ول
تستعجلوا ثوابه ،فإن له ثَوابَيْن (.)2( " )1
وفي حديث عقبة بن عامر نحوه ،كما تقدم.
وقال المام أحمد :حدثنا أبو سعيد ،حدثنا ابن َلهِيعَة ،عن مِشْرَحٍ ،عن عقبة بن عامر قال :
جعِل في إهابٍ ثم ألقي في النار ما احترق "
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو أن القرآن ُ
(.)3
تفرد به .قيل :معناه :أن الجسد الذي يقرأ القرآن [ل تمسه النار] (.)4
وفي سُنَن ابن ماجة من طريق المغيرة بن َنهِيكٍ ،عن عقبة بن عامر مرفوعًا " :من تعلم القرآن
( )5ثم تركه فقد عصاني" (.)6
وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق ليث ،عن مجاهد ،عن أبي سعيد مرفوعًا " :عليك بتقوى
ال ،فإنها رأس كل خير ،وعليك بالجهاد ،فإنه رهبانية السلم ،وعليك بِ ِذكْ ِر ال وتلوة
القرآن ،فإنّه نو ٌر لك في الرض وذكرٌ لك في السماء ،واخْزُنْ لسا َنكَ إل من خيرٍ ،فإنّك بذلك
َتغْلِب الشيطان " (.)7
وهكذا أذكُرُ آثارًا مرويّةً عن ابن أمّ عَبْد ( )8أحدِ قُرّاء القرآن مِنَ الصّحَاب ِة المأمورِ بالتلوة على
نحوهم ()9
روى الطبراني ،عن الدّبَ ِريّ ،عن عبد الرزاق ،عن َم ْعمَرٍ ،عن أبي إسحاق ،قال ابن مسعود
:كل آية في كتاب ال خيرٌ مما في السماء والرض (.)10
ومن طريق شعبة ،عن أبي إسحاق ،عن مرّة قال ابن مسعود :من أراد العلم فلْيَتَبوّأْ من القرآن
،فإن فيه علم الولين والخرين (.)11
ومن طريق سُفيان وشعبة ،عن ساعد ( )12بن ُكهَيل ،عن أبي الحوص ،عن عبد ال قال :
إنّ هذا القرآن ليس فيه حرف إل له ح ّد ،ولكلّ حد َمطْلَعٌ (.)13
ومن حديث الثوري ،عن إسماعيل بن أبي خالد ( )14عن سيار أبي الحكم ،عن ابن مسعودٍ أنه
قال :أعربوا هذا القرآن فإنه عربيّ ،وسيجيءُ قوم يَ ْثقَفُونه وليسوا بخياركم (.)15
__________
( )1في ط " :ثوابا".
( )2قال الهيثمي في المجمع (" : )252 /2رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو بكر بن أبي مريم
وهو ضعيف".
( )3المسند (.)151 /4
( )4زيادة من ط.
( )5في سنن ابن ماجة " :الرمى".
( )6سنن ابن ماجة برقم (.)2814
( )7مسند أبي يعلى ( )284 /2وليث بن أبي سليم ضعيف.
( )8في ط " :عن ابن أم عبد عبد ال بن مسعود".
( )9في طـ " :حرفهم".
( )10المعجم الكبير (.)145 /9
( )11المعجم الكبير (.)146 /9
( )12في ط " :سلمة".
( )13المعجم الكبير (.)146 /9
( )14في ط " :إسماعيل بن خالد".
( )15المعجم الكبير (.)150 /9
( )1/97
والثوري ،عن عاصمٍ ،عن زِرّ ،عن ابن مسعود قال :أديموا النظر في المصحف ،وإذا
اختلفتم في ياءٍ أو تاءٍ فاجعلوها ياء ،ذكّروا القرآن فإنه مذكّر (.)1
شدّاد ( )2بن َم ْعقِل ،سَم ْعتُ
وقال عبد الرزاق ،عن إسرائيل ،عن عبد العزيز بن رفيع ،عن َ
ابن مسعود يقول :أول ما تفقدونَ من دينكم المانة ،وآخر ما يبقى من دينكم الصلة ،وَلَ ُيصَلّيَنّ
قومٌ ل خَلقَ لهم ،ولينزعنّ قومٌ من بين أظهركم .قالوا :يا أبا عبد الرحمن ،ألسنا نقرأُ القرآن
وقد أثبتناه في مصاحفنا ؟ قال ُ :يسْرَى على القرآن ليل فَيُ ْذ َهبُ به من أجواف الرجال فل يبقى
في الرض منه شيء -وفي رواية :ل يبقى في مصحف منه شيءٌ -ويصبح الناسُ ُفقَراءَ
علَيْنَا َوكِيل }
جدُ َلكَ بِهِ َ
كالبهائم .ثم قرأ عبد ال { :وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ ُثمّ ل تَ ِ
[السراء .)3( ]86 :
وقال الطبراني :حدثنا علي بن عبد العزيز ،حدثنا أبو نعيم ،حدثني شعبة ،عن علي بن بذيمةَ
ث فهو راجز (.)5
( )4عن أبي عبيدة بن عبد ال ،عن أبيه قال :من قرأ القرآن في أ َقلّ من ثل ٍ
قال هشام عن الحسَنِ :إنه بلغه عن ابن مسعود مثلُ ذلك.
ومن طريق العمش ،عن أبي وائلٍ قال :كان عبد ال بن مسعود يقل الصوم ،فيقال له في ذلك
ب إليّ (.)6
ضعُ ْفتُ عن القراء ِة والصلة ،والقراءة والصلة أح ّ
ت َ
ص ْم ُ
،فيقول :إني إذا ُ
__________
( )1المعجم الكبير (.)152 /9
( )2في ط " :مقداد".
( )3المعجم الكبير ( )152 /9والمصنف لعبد الرزاق (.)5980
( )4في ط " :علي بن زيد".
( )5المعجم الكبير (.)154 /9
( )6المعجم الكبير (.)195 /9
( )1/98
مقدمة مفيدة
قال أبو بكر بن النباري :حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ،عن حجاج بن مِنْهال ،عن
همام ،عن قتادة قال :نزل في المدينة من القرآن البقرة ،وآل عمرانَ ،والنساء ،والمائدة ،
والنفال ،وبراءة ،والرعد ،والنحل ،والحج ،والنّور ،والحزاب ،ومحمد ،والفتح ،
والحجرات ،والحديد ،والرحمن ،والمجادلة ،والحشر ،والممتحنة ،والصف ،والمنافقون ،
والتغابن ،والطلق ،ويا أيها النبي لمَ ُتحَرّم ،وإلى رأس العشر ،وإذا زلزلت ،وإذا جاء نصرُ
ال .هؤلء السور نزلت بالمدينة ،وسائر القرآن نزل بمكة.
فأما عدد آيات القرآن فستة آلف آية ،ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال ،فمنهم من لم
يزد على ذلك ،ومنهم من قال :ومائتا آية وأربع آيات ،وقيل :وأربع عشرة آية ،وقيل :
ومائتان وتسع عشرة ،وقيل :ومائتان وخمس وعشرون آية ،وست وعشرون آية ،وقيل :
ومائتا آية ،وست وثلثون آية .حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتاب البيان (.)1
وأما كلماته ،فقال الفضل بن شاذان ،عن عطاءِ بن يسار :سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة
وتسع وثلثون كلمة.
وأما حروفُه ،فقال عبد ال بن كثير ،عن مجاهد :هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلثُمائِة ألفِ
__________
( )1تفسير القرطبي (.)65 /1
( )1/98
( )1/99
فصل
واختلفوا ( )1في معنى السورة :مِمّ هي مشتقة ؟ فقيل :من البانة والرتفاع .قال النابغة :
ألم تر أنّ ال أعطاكَ سو َرةً ...تَرَى ُكلّ مَ ْلكٍ دُونها يَتَذَ ْب َذبُ ()2
فكأن القارئ يتنقل بها من منزلة إلى منزلة .وقيل :لشرفها وارتفاعها كسور البلد .وقيل :سميت
__________
( )1في ط " :واختلف".
( )2البيت في تفسير الطبري (.)105 /1
( )1/99
سُو َر ًة لكونها ِقطْعةً من القرآن وجزءًا منه ،مأخوذ من أسآر الناء وهو البقية ،وعلى هذا فيكون
أصلها مهموزًا ،وإنما خففت فأبدلت الهمزة واوًا لنضمام ما قبلها .وقيل :لتمامها وكمالها لن
العرب يسمون الناقة التامة سُو َرةً.
سمّي سورُ البلد لحاطته بمنازِلِه
قلت :ويحتمل أن يكون من الجمع والحاطة لياتها كما ُ
ودُورِه ،وال أعلم.
سوْرَات.
سوَرٌ بفتح الواو ،وقد تُجمع ( )1على سُورَاتٍ و ُ
وجمع السورة ُ
وأما الية فمن العلمَةِ على انقطاع الكلم الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصاله ،أي :هي بائنة
من أختها .قال ( )2ال تعالى { :إِنّ آ َيةَ مُ ْلكِهِ } [البقرة ، ]248 :وقال النابغة :
َتوَ ّه ْمتُ آياتٍ لها َفعَرفْتُها ...لستّةِ أعوا ٍم وذا العامُ سابعُ
()3
وقيل :لنها جماعةُ حروفٍ من القرآن وطائفة منه ،كما يقال :خرج القوم بآيتهم ،أي :
بجماعتهم .قال الشاعر ()4
حىّ مِثلُنا ...بآيتنا نزجِي اللقاحَ المَطَافِل
خَ َرجْنَا من النّقبين ل َ
جبٌ َيعْجِز البشر عن التكلّم بمثلها.
سمّيت آيةً لنها عَ َ
وقيل ُ :
شجَرَة ،تحرّكت الياءُ وافتتح ما قبلها فقلبت ألفًا فصارت
قال سيبويه :وأصلها أَيَيَة مثل َأ َكمَة و َ
آية ،بهمزة بعدها مدة .وقال الكسائي :آيِيَة على وزن آمِنة َ ،فقُلِبت ألفًا ،ثم حُذفت للتباسها.
وقال الفَرّاء :أصلها أَيّة -بتشديد الياء َ -فقُلِبَت الولى ألفًا ،كراهيةَ التشديد فصارت آية ،
وجمعُها :آىٌ وآياىٌ وآياتٌ.
وأما الكلمة فهي اللفظ الواحد ،وقد تكون على حرفين مثل :ما ول وله ولك ،وقد يكون أكثر.
وأكثر ما يكون ( )5عشرة أحرف { :لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ } [النور ، ]55 :و { أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا } [هود ]28 :
سقَيْنَا ُكمُوهُ } [الحجر ، ]22 :وقد تكون الكلمة آية ،مثل :والفجر ،والضحى ،وال َعصْر ،
{ ،فََأ ْ
وكذلك :الم ،وطه ،ويس ،وحم -في قول الكوفيين -و { حم عسق } عندهم كلمتان .وغيرهم
عمْرو الدانيّ :ل أعلم كلمةً هي وحدها
سوَرِ .وقال أبو َ
ل يسمى هذه آيات بل يقول :هي فواتح ال ّ
آيةٌ إل قوله ُ { :مدْهَامّتَانِ } في سورة الرحمن [الرحمن .]64 :آخر المقدمة
__________
( )1في ط " :يجمع".
( )2في ط " :ومنه قول".
( )3البيت في تفسير القرطبي (.)66 /1
( )4البيت لبرج بن مسهر الطائي ،وهو في تفسير القرطبي (.)66 /1
( )5في ط " :تكون".
( )1/100
( )1/101
قالوا :وكلماتها خمس وعشرون كلمة ،وحروفها مائة وثلثة عشر حرفًا .قال البخاري في أول
كتاب التفسير :وسميت أم الكتب ،أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ،ويبدأ بقراءتها في الصلة (
)1وقيل :إنما ( )2سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله ( )3إلى ما تضمنته .قال ابن جرير :
والعرب تسمي كل جامع أمر ( )4أو مقدم لمر -إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع -
ُأمّا ،فتقول ( )5للجلدة التي تجمع الدماغ ،أمّ الرأس ،ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي
يجتمعون تحتها ُأمّا ،واستشهد ( )6بقول ذي الرمة :
على رأسه أم لنا نقتدي بها ...جماع أمور ليس ( )7نعصي لها أمرا ()8
يعني :الرمح .قال :وسميت مكة :أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها ،وقيل :
لن الرض دحيت منها.
ويقال لها أيضًا :الفاتحة ؛ لنها تفتتح بها القراءة ،وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف
المام ،وصح تسميتها بالسبع المثاني ،قالوا :لنها تثنى في الصلة ،فتقرأ في كل ركعة ،وإن
كان للمثاني معنى آخر غير هذا ،كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء ال (.)9قال المام أحمد :
حدثنا يزيد بن هارون ،أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب ،عن المقبري ،
عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لم القرآن " :هي أم القرآن ،وهي
السبع المثاني ،وهي القرآن العظيم ( .)11( " )10ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي
ذئب به ،وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري :حدثني يونس بن عبد العلى ،أنا ابن
وهب ،أخبرني ابن أبي ذئب ،عن سعيد المقبري ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :هي أم القرآن ،وهي فاتحة الكتاب ،وهي السبع المثاني "
(.)12وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره :حدثنا أحمد بن محمد بن
زياد ،ثنا محمد بن غالب بن حارث ،ثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي ،ثنا المعافى بن
عمران ،عن عبد الحميد بن جعفر ،عن نوح بن أبي بلل ،عن المقبري ،عن أبي هريرة قال
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الحمد ل رب العالمين سبع آيات :بسم ال الرحمن
الرحيم إحداهن ،وهي السبع المثاني والقرآن العظيم ،وهي أم الكتاب (.)14( " )13
__________
( )1سنن الدارمي برقم (.)3383
( )2في أ " :ليل".
( )3في ط ،ب " :شيطان".
( )4في ط ،ب " :شيطان".
( )5المعجم الكبير ( )6/163وصحيح ابن حبان برقم (" )1727موارد".
( )6في أ " :سورة البقرة".
( )7سنن الترمذي برقم ( )2876وسنن النسائي الكبرى برقم (.)8749
( )8في جـ " :فال تبارك وتعالى أعلم".
( )9في ب " :وقال".
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الحضير".
( )11في جـ ،ط " :في".
( )12في ط " :ثم قرأ".
( )13في جـ ،أ " :الحضير".
( )14في أ " :لصبح".
( )1/102
وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه ( )1أو مثله ،وقال :كلهم ثقات (
.)2وروى البيهقي عن علي ( )3وابن عباس ( )4وأبي هريرة ( )5أنهم فسروا قوله تعالى :
{ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي } [الحجر ]87 :بالفاتحة ،وأن البسملة هي الية السابعة منها ،وسيأتي تمام
هذا عند البسملة.
وقد روى العمش عن إبراهيم قال :قيل لبن مسعود ِ :لمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ قال :
لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة .قال أبو بكر بن أبي داود :يعني حيث يقرأ في الصلة ،قال
:واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها.
وقد قيل :إن الفاتحة أول شيء نزل من القرآن ،كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلئل
النبوة ( )6ونقله الباقلني أحد أقوال ثلثة هذا [أحدها] ( )7وقيل { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ } كما في
سمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ } [العلق ]1 :وهذا هو
حديث جابر في الصحيح ( .)8وقيل { :اقْرَأْ بِا ْ
الصحيح ،كما سيأتي تقريره في موضعه ،وال ( )9المستعان .ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
قال المام أحمد بن محمد بن حنبل ،رحمه ال ،في مسنده :حدثنا يحيى بن سعيد ،عن شعبة ،
حدثني خبيب بن عبد الرحمن ،عن حفص بن عاصم ،عن أبي سعيد بن ال ُمعَلّى ،رضي ال
عنه ،قال :كنت أصلي فدعاني رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلم أجبه حتى صلّيت وأتيته ،
فقال " :ما منعك أن تأتيني ؟ " .قال :قلت :يا رسول ال ،إني كنت أصلي .قال " :ألم يقل ال
{ :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا ِللّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ِلمَا ُيحْيِيكُمْ } [النفال ]24 :ثم قال " :
لعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد " .قال :فأخذ بيدي ،فلما أراد أن
يخرج من المسجد قلت :يا رسول ال إنك قلت " :لعلمنك أعظم سورة في القرآن " .قال " :
نعم ،الحمد ل رب العالمين هي :السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".
وهكذا رواه البخاري عن مسدد ،وعلي بن المديني ،كلهما عن يحيى بن سعيد القطان ،به (
.)10ورواه في موضع آخر من التفسير ،وأبو داود ،والنسائي ،وابن ماجه من طرق عن شعبة
،به (.)11ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ النصاريّ ،عن خبيب بن عبد الرحمن ،عن
حفص بن عاصم ،عن أبي سعيد بن ال ُمعَلّى ،عن أبي بن كعب ،فذكر نحوه.
وقد وقع في الموطأ للمام مالك بن أنس ،ما ينبغي التنبيه عليه ،فإنه رواه مالك عن العلء بن
عبد
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5018
( )2فضائل القرآن (ص .)26
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وجوه أخر".
( )4سبق تخريجه في فضائل القرآن.
( )5في ط ،ب " :الشماس".
( )6زيادة من ط.
( )7في جـ ،ب " :عن عمه جرير".
( )8فضائل القرآن لبي عبيد (ص )27وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا.
( )9زيادة من أ ،و.
( )10في جـ ،ط " :وقال".
( )11في ط ،ب " :المهاجر".
( )1/103
الرحمن بن يعقوب الحُرَقي :أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم ،أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم نادى أبي بن كعب ،وهو يصلي في المسجد ،فلما فرغ من صلته لحقه ،قال :
فوضع النبي صلى ال عليه وسلم يده على يدي ،وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ،ثم قال :
" إني لرجو أل تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل ( )1في التوراة ول في النجيل
ول في الفرقان ( )2مثلها " .قال أبيّ :فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ،ثم قلت :يا رسول
ال ،ما السورة التي وعدتني ؟ قال " :كيف تقرأ إذا افتتحت ( )3الصلة ؟ قال :فقرأت عليه :
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } حتى أتيت على ( )4آخرها ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :
{ ا ْل َ
هي هذه السورة ،وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " (.)5فأبو سعيد هذا ليس
بأبي سعيد بن ال ُمعَلّى ،كما اعتقده ابن الثير في جامع الصول ومن تبعه ( ، )6فإن ابن المعلى
صحابي أنصاري ،وهذا تابعي من موالي خزاعة ،وذاك الحديث متصل صحيح ،وهذا ظاهره
أنه منقطع ،إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبيّ بن كعب ،فإن كان قد سمعه منه فهو على
شرط مسلم ،وال أعلم .على أنه قد روي عن أبيّ بن كعب من غير وجه كما قال المام أحمد :
حدثنا عفّان ،حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ،حدثنا العلء بن عبد الرحمن ،عن أبيه ،عن أبي
هريرة قال :خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم على أبي بن كعب ،وهو يصلي ،فقال " :يا
أبي " ،فالتفت ثم لم يجبه ،ثم قال :أبي ،فخفف .ثم انصرف إلى رسول الل ه صلى ال عليه
وسلم ،فقال :السلم عليك أيْ رسول ال .فقال " :وعليك السلم " [قال] ( " )7ما منعك أيْ أبيّ
إذ ( )8دعوتك أن تجيبني ؟ " .قال :أيْ رسول ال ،كنت في الصلة ،قال " :أولست تجد فيما
أوحى ال إلي ( { )9اسْ َتجِيبُوا لِلّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُمْ ِلمَا يُحْيِيكُمْ } [النفال ." ]24 :قال :بلى يا
رسول ال ،ل أعود ،قال " :أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل ل في التوراة ول في النجيل ول
في الزبور ول في الفرقان ( )10مثلها ؟ " قلت :نعم ،أي رسول ال ،قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :إني لرجو أل أخرج من هذا الباب حتى تعلمها " قال :فأخذ رسول ال صلى ال
عليه وسلم بيدي يحدثني ،وأنا أتبطأ ( ، )11مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث ،فلما دنونا
من الباب قلت :أيْ رسول ال ،ما السورة التي وعدتني ( )12قال " :ما تقرأ في الصلة ؟ ".
قال :فقرأت عليه أم القرآن ،قال " :والذي نفسي بيده ما أنزل ال في التوراة ول في النجيل
ول في الزبور ،ول في الفرقان مثلها ؛ إنها السبع المثاني ".
__________
( )1في أ ،و " :عليهما".
( )2في جـ " :المهاجر به".
( )3المسند ( )5/348وسنن ابن ماجة برقم (.)3781
( )4في جـ " :جيد".
( )5في جـ " :عن أهلهما يوم القيامة".
( )6في أ " :حسنة".
( )7المسند (.)5/249
( )8زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )9صحيح مسلم برقم (.)804
( )10في جـ " :المتصلة".
( )11في جـ " :نواس".
( )12في جـ ،ط " :من طير صاف".
( )1/104
ورواه الترمذي ،عن قتيبة ،عن الدّرَاوَرْدِي ،عن العلء ،عن ( )1أبيه ،عن أبي هريرة ،
فذكره ( ، )2وعنده :إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ،ثم قال :هذا حديث
حسن صحيح.
وفي الباب ،عن أنس بن مالك ،ورواه عبد ال بن [المام] ( )3أحمد ،عن إسماعيل بن أبي
َم ْعمَر ،عن أبي أسامة ،عن عبد الحميد بن جعفر ،عن العلء ،عن أبيه ،عن أبي هريرة ،
عن أبي بن كعب ،فذكره مطول بنحوه ،أو قريبا منه (.)4وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا
عن أبي عمار حسين بن حريث ،عن الفضل بن موسى ،عن عبد الحميد بن جعفر ،عن العلء
،عن أبيه ،عن أبي هريرة ،عن أبيّ بن كعب ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :
ما أنزل ال في التوراة ول في النجيل مثل أم القرآن ،وهي السبع المثاني ،وهي مقسومة بيني
وبين عبدي " ،هذا لفظ النسائي .وقال الترمذي :حسن غريب.
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن عبيد ،حدثنا هاشم ،يعني ابن البريد ( )5حدثنا عبد ال بن
محمد بن عقيل ،عن ابن جابر ،قال :انتهيت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد أهراق
الماء ،فقلت :السلم عليك يا رسول ال .فلم يرد عليّ ،قال :فقلت :السلم عليك يا رسول
ال .فلم يرد عليّ ،قال :فقلت :السلم عليك يا رسول ال ،فلم يرد عليّ .قال :فانطلق رسول
ال صلى ال عليه وسلم يمشي ،وأنا خلفه حتى دخل رحله ،ودخلت أنا المسجد ،فجلست كئيبًا
حزينًا ،فخرج عليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد تطهر ،فقال " :عليك ( )6السلم
ورحمة ال ،وعليك السلم ورحمة ال ،وعليك السلم ورحمة ال " ثم قال " :أل أخبرك يا عبد
ال بن جابر بأَخْير سورة في القرآن ؟ " قلت :بلى يا رسول ال .قال " :اقرأ :الحمد ل رب
العالمين ،حتى تختمها " (.)7هذا إسناد جيد ،وابن عقيل تحتج ( )8به الئمة الكبار ،وعبد ال
بن جابر هذا هو الصحابي ،ذكر ابن الجوزي أنه هو العبديّ ،وال أعلم .ويقال :إنه عبد ال
بن جابر النصاري البياضي ،فيما ذكره الحافظ ابن عساكر (.)9واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله
على تفاضل بعض اليات والسور على بعض ،كما هو المحكي عن كثير من العلماء ،منهم :
إسحاق بن راهويه ،وأبو بكر بن العربي ،وابن الحصار من المالكية .وذهبت طائفة أخرى إلى
أنه ل تفاضل في ذلك ؛ لن الجميع كلم ال ،ولئل يوهم التفضيل نقص
__________
( )1في أ " :صاحب لهما".
( )2المسند ( )4/183وصحيح مسلم برقم (.)805
( )3سنن الترمذي برقم (.)2883
( )4في ط " :أجاب".
( )5فضائل القرآن (ص .)126
( )6زيادة من ب.
( )7في جـ " :أخاكم".
( )8فضائل القرآن (ص .)126
( )9زيادة من و.
( )1/105
المفضل عليه ،وإن كان الجميع فاضل نقله القُرطُبي عن الشعريّ ،وأبي بكر الباقلني ،وأبي
حاتم بن حبان البستي ،ويحيى بن يحيى ،ورواية عن المام مالك [أيضا] (.)1
حديث آخر :قال البخاري في فضائل القرآن :حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا وهب ،حدثنا هشام
،عن محمد ،بن معبد ،عن أبي سعيد الخدري ،قال :كنا في مسير لنا ،فنزلنا ،فجاءت
جارية فقالت :إن سيد الحي سليم ،وإن َنفَرَنَا غُيّب ،فهل منكم ( )2راق ؟ فقام معها رجل ما
كنا نَأبِنُه برقية ،فرقاه ،فبرأ ،فأمر له بثلثين شاة ،وسقانا لبنا ،فلما رجع ( )3قلنا له :أكنت
تحسن رقية ،أو كنت ترقي ؟ قال :ل ما رقيت إل بأم الكتاب ،قلنا :ل تحدثوا شيئا حتى
نأتي ،أو نسأل رسول ال ( )4صلى ال عليه وسلم ،فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى ال
عليه وسلم فقال " :وما كان يُدْريه أنها رقية ،أقسموا واضربوا لي بسهم ".
وقال أبو معمر :حدثنا عبد الوارث ،حدثنا هشام ،حدثنا محمد بن سيرين ،حدثني معبد بن
سيرين ،عن أبي سعيد الخدري بهذا.
وهكذا رواه مسلم ،وأبو داود من رواية هشام ،وهو ابن حسان ،عن ابن سيرين ،به ( .)5وفي
بعض روايات مسلم لهذا الحديث :أن أبا سعيد هو الذي رقى ذلك السليم ،يعني :اللديغ يسمونه
بذلك تفاؤل.
حديث آخر :روى مسلم في صحيحه ،والنسائي في سننه ،من حديث أبي الحوص سلم بن
سليم ،عن عمار بن رُزَيق ،عن عبد ال بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن سعيد بن
جبير ،عن ابن عباس ،قال :بينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده جبريل ،إذ سمع نقيضًا
فوقه ،فرفع جبريل بصره إلى السماء ،فقال :هذا باب قد فتح من السماء ،ما فتح قط .قال :
فنزل منه ملك ،فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي
قبلك :فاتحة الكتاب ،وخواتيم سورة البقرة ،ولن تقرأ حرفًا منهما إل أوتيته .وهذا لفظ النسائي.
ولمسلم نحوه حديث آخر :قال مسلم :حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ،هو ابن راهويه ،
حدثنا سفيان بن عيينة ،عن العلء ،يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي ( )6عن أبي
هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :من صلى صلة لم يقرأ فيها أم ( )7القرآن فهي
خِداج -ثلثًا -غير تمام " .فقيل لبي هريرة :إنا نكون وراء المام ،قال :اقرأ بها في
س ْمتُ الصلة
نفسك ؛ فإني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :قال ال عز وجل :قَ َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الفاتحة :
بيني وبين عبدي نصفين ،ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { :ا ْل َ
حمَنِ الرّحِيمِ }
، ]2قال ال :حمدني عبدي ،وإذا قال { :الرّ ْ
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :منه".
( )2فضائل القرآن (ص .]127 ، 126
( )3في جـ " :يحدثه".
( )4فضائل القرآن (.)127
( )5زيادة من ب ،و.
( )6في هـ " :ورقاء".
( )7فضائل القرآن (ص .)127
( )1/106
[الفاتحة ، ]3 :قال ال :أثنى علي عبدي ،فإذا قال { :مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } [الفاتحة ، ]4 :قال (
)1مجدني عبدي " -وقال مرة " :فوض إلي عبدي -فإذا قال { :إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }
[الفاتحة ، ]5 :قال :هذا بيني وبين عبدي ،ولعبدي ما سأل ،فإذا قال { :اهدنا الصّرَاطَ
ا ْلمُسْ َتقِيمَ* صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } [الفاتحة ، ]7 ، 6 :
قال ( )2هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".
وهكذا رواه النسائي ،عن إسحاق بن راهويه ( .)3وقد روياه -أيضًا -عن قتيبة ،عن مالك ،
عن العلء ،عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة ،عن أبي هريرة ،به ( )4وفي هذا السياق :
" فنصفها لي ونصفها لعبدي ،ولعبدي ما سأل ".
وكذا رواه ابن إسحاق ،عن العلء ،وقد رواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج ،عن العلء ،عن أبي
السائب هكذا (.)5
ورواه -أيضًا -من حديث ابن أبي أويس ،عن العلء ،عن أبيه وأبي السائب ،كلهما عن
أبي هريرة (.)6
وقال الترمذي :هذا حديث حسن ،وسألت أبا زُرْعَة عنه فقال :كل الحديثين صحيح ،من قال :
عن العلء ،عن أبيه ،وعن العلء عن أبي السائب (.)7
وقد روى هذا الحديث عبد ال ابن المام أحمد ،من حديث العلء ،عن أبيه ،عن أبي هريرة ،
عن أبيّ بن كعب مطول (.)8
قال ( )9ابن جرير :حدثنا صالح بن مسمار المروزي ،حدثنا زيد بن الحباب ،حدثنا عَنْبسة بن
سعيد ،عن مُطَرّف بن طريف ،عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ،عن جابر بن عبد ال
،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قال ال تعالى :قسمت الصلة بيني وبين عبدي
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } قال :حمدني عبدي ،وإذا قال
نصفين ،وله ما سأل ،فإذا قال العبد { :ا ْل َ
حمَنِ الرّحِيمِ } قال :أثنى علي عبدي .ثم قال :هذا لي وله ما بقي " ()10
{ :الرّ ْ
وهذا غريب من هذا الوجه.
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :والصحيح".
( )2في جـ ،ط ،ب ،و " :قرأ بهن" ،وفي أ " :قرأهن".
( )3الحديث وقع لي في سنن النسائي ( )2/177من حديث حذيفة ،رضي ال عنه.
( )4زيادة من أ ،و.
( )5في أ " :وأعطيت السبع المثاني".
( )6فضائل القرآن (ص )120ورواه الطبري في تفسيره ( )1/100من طريق رواد بن الجراح
عن سعيد بن بشير به ،ورواه الطبري في تفسيره ( )1/100من طريق الطيالسي عن عمران -
أبي العوام -عن قتادة به ،ورواه الطبري في تفسيره ( )1/101من طريق ليث بن أبي سليم عن
أبي بردة عن أبي المليح به نحوه.
( )7زيادة من ب.
( )8في ب " :قال أيضا".
( )9في جـ " :عمر".
( )10فضائل القرآن (ص .)120
( )1/107
ثم الكلم على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة ( )1من وجوه :
جهَرْ ِبصَل ِتكَ وَل
أحدها :أنه قد أطلق فيه لفظ الصلة ،والمراد القراءة كقوله تعالى { :وَل َت ْ
تُخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيل } [السراء ، ]110 :أي :بقراءتك كما جاء مصرحًا به في
الصحيح ،عن ابن عباس ( )2وهكذا قال في هذا الحديث " :قسمت الصلة بيني وبين عبدي
نصفين ،فنصفها لي ونصفها لعبدي ،ولعبدي ما سأل " ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة
الفاتحة فدل على عظم ( )3القراءة في الصلة ،وأنها من أكبر أركانها ،إذ أطلقت العبادة وأريد
بها ( )4جزء واحد منها وهو القراءة ؛ كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلة في قوله :
شهُودًا } [السراء ، ]78 :والمراد صلة الفجر ،كما جاء
{ َوقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ
مصرحا به في الصحيحين :من أنه يشهدها ملئكة الليل وملئكة النهار ،فدل هذا كله على أنه
ل بد من القراءة في الصلة ،وهو اتفاق من العلماء.
ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني ،وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلة فاتحة
الكتاب ،أم تجزئ هي أو غيرها ؟ على قولين مشهورين ،فعند أبي حنيفة ومن وافقه من
أصحابه وغيرهم أنها ل تتعين ،بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلة ،واحتجوا بعموم
قوله تعالى { :فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ } [المزمل ، ]20 :وبما ثبت في الصحيحين ،من
حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلته ( )5أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له " :إذا
قمت إلى الصلة فكبر ،ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " ( )6قالوا :فأمره بقراءة ما تيسر ،
ولم يعين له الفاتحة ول غيرها ،فدل على ما قلناه.
والقول الثاني :أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلة ،ول تجزئ الصلة بدونها ،وهو قول بقية
الئمة :مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء ؛ واحتجوا على ذلك بهذا
الحديث المذكور ،حيث قال صلوات ال وسلمه عليه " :من صلى صلة لم يقرأ فيها بأم القرآن
فهي خِدَاج " والخداج هو :الناقص كما فسّر به في الحديث " :غير تمام " .واحتجوا -أيضًا -
بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهريّ ،عن محمود بن الربيع ،عن عبادة بن الصّامت ،
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل صلة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ( .)7وفي
صحيح ابن خزيمة وابن حبان ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل
تجزئ صلة ل يقرأ فيها بأم القرآن " ( )8والحاديث في هذا الباب كثيرة ،ووجه المناظرة هاهنا
يطول ذكره ،وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك ،رحمهم ال.
ثم إن مذهب الشافعيّ وجماعة من أهل العلم :أنه تجب قراءتها في كل ركعة .وقال آخرون :
إنما تجب قراءتها في معظم الركعات ،وقال الحسن وأكثر البصريين :إنما تجب قراءتها في
ركعة واحدة من
__________
( )1المسند (.)6/73
( )2المسند (.)6/82
( )3المسند (.)6/73
( )4في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فل أدري".
( )5في جـ ،ط ،ب " :القارئ".
( )6في جـ " :خمس".
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )8في هـ " :عيسى".
( )1/108
الصلوات ،أخذا بمطلق الحديث " :ل صلة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والوزاعي :ل تتعين ( )1قراءتها ،بل لو قرأ بغيرها أجزأه
لقوله { :فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ } [المزمل [ ، ]20 :كما تقدم] ( )2وال أعلم.
وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي ،عن أبي نضرة ،عن أبي سعيد مرفوعًا " :
ل صلة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها " ( .)3وفي صحة هذا
نظر ،وموضح ( )4تحرير هذا كله في كتاب الحكام الكبير ،وال أعلم.
الوجه الثالث :هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم ؟ فيه ثلثة أقوال للعلماء :
أحدها :أنه تجب عليه قراءتها ،كما تجب على إمامه ؛ لعموم الحاديث المتقدمة.
والثاني :ل تجب على المأموم قراءة بالكلية ل الفاتحة ول غيرها ،ل في الصلة الجهرية ول
السرية ،لما رواه المام أحمد بن حنبل في مسنده ،عن جابر بن عبد ال ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم أنه قال " :من كان له إمام فقراءة المام له قراءة " ولكن في إسناده ضعف (.)5
ورواه مالك ،عن وهب بن كَيْسَان ،عن جابر من كلمه ( .)6وقد روي هذا الحديث من طرق ،
ول يصح شيء منها عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وال أعلم.
والقول الثالث :أنه تجب القراءة على المأموم في السرية ،لما ( )7تقدم ،ول تجب ( )8في
الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم ،عن أبي موسى الشعري ،قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :إنما جعل المام ليؤتم به ؛ فإذا كبّر فكبّروا ،وإذا قرأ فأنصتوا " وذكر بقية الحديث
(.)9
وهكذا رواه أهل السنن ؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ،عن أبي هريرة ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم أنه قال " :وإذا قرأ فأنصتوا " ( .)10وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا ،
فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي ،رحمه ال ،ورواية عن المام
أحمد بن حنبل (.)11
__________
( )1رواه الطبراني في الوسط برقم (" )3450مجمع البحرين" والبيهقي في شعب اليمان برقم (
)2582من طريق عُبيس بن ميمون ،عن موسى بن أنس به ،وقال البيهقي " :عُبيس بن ميمون
منكر الحديث :وهذا ل يصح ،وإنما روى عن ابن عمر من قوله".
( )2ف جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الصحيح".
( )3في و " :يقول".
( )4صحيح البخاري برقم ( )1747وصحيح مسلم برقم (.)1296
( )5في هـ " :مربد" وهو خطأ.
( )6في جـ " :تأخرا في أصحابه".
( )7ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )17/133من طريق علي بن قتيبة عن شعبة عن عقيل
بن أبي طلحة به ،وجاء من حديث أنس ،رواه أبو يعلى في مسنده ( )6/289من طريق عمرو
بن عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي ال عنه.
( )8في ب " :سورة البقرة".
( )9جاء من حديث العباس ،رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1775من طريق الزهري ،عن
كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي ال عنه.
( )10في جـ ،ط ،ب ،و " :حبيش".
( )11رواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )12/502من طريق هشام بن عروة ،عن أبيه قال :
"كان شعار أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم يوم مسيلمة " :يا أصحاب سورة البقرة".
( )1/109
والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام ل تتعلق بغيرها من
السور ،وال أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا إبراهيم بن سعيد ( )1الجوهريّ ،حدثنا غسان بن عبيد ،عن
جوْني ،عن أنس ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا وضعت جنبك
أبي عمران ال َ
على الفراش ،وقرأت فاتحة الكتاب و { ُقلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ } فقد أمنت من كل شيء إل الموت " (
)2
ف وَأَعْ ِرضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
خذِ ا ْل َع ْفوَ وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْر ِ
الكلم على تفسير الستعاذة ( )3قال ال تعالى ُ { :
سمِيعٌ عَلِيمٌ } [العراف ، ]200 ، 199 :وقال
* وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ
صفُونَ * َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ مِنْ َهمَزَاتِ
حسَنُ السّيّ َئةَ نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َي ِ
تعالى { :ادفع بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
حضُرُونِ } [المؤمنون ]98 - 96 :وقال تعالى { :ا ْد َفعْ بِالّتِي
الشّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ َي ْ
حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِل الّذِينَ صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
حسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
ِهيَ أَ ْ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } [فصلت 34 :
عظِيمٍ * وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
حظّ َ
ذُو َ
.]36 -
فهذه ثلث آيات ليس لهن رابعة في معناها ،وهو أن ال يأمر بمصانعة العدو النسي والحسان
إليه ،ليرده عنه طبعُهُ الطّيب الصل ( )4إلى الموادة ( )5والمصافاة ،ويأمر بالستعاذة به من
العدو الشيطاني ل محالة ؛ إذ ل يقبل مصانعة ول إحسانا ول يبتغي غير هلك ابن آدم ،لشدة
العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل ؛ كما قال تعالى { :يَا بَنِي آدَمَ ل َيفْتِنَ ّنكُمُ الشّيْطَانُ َكمَا َأخْرَجَ
ع ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
خذُوهُ َ
أَ َبوَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلجَنّةِ } [العراف ]27 :وقال { :إِنّ الشّ ْيطَانَ َلكُمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ
سعِيرِ } [فاطر ]6 :وقال { َأفَتَتّخِذُونَ ُه وَذُرّيّ َتهُ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ
صحَابِ ال ّ
لِ َيكُونُوا مِنْ َأ ْ
بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ بَدَل } [الكهف ، ]50 :وقد أقسم للوالد إنه لمن الناصحين ،وكذب ،فكيف معاملته
ج َمعِينَ * إِل عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ } [ص ، ]83 ، 82 :
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
لنا وقد قال { :فَ ِبعِزّ ِتكَ ل ْ
وقال ( )6تعالى { :فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } [النحل ]99 ، 98 :
قالت طائفة من القراء وغيرهم :نتعوذ بعد القراءة ،واعتمدوا على ظاهر سياق الية ،ولدفع
العجاب بعد فراغ العبادة ؛ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره ( )7ابن قلوقا عنه ،وأبو حاتم
السجستاني ،حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جُبارة الهذلي المغربي في كتاب " الكامل ".
وروي عن أبي هريرة -أيضا -وهو غريب.
__________
( )1تفسير القرطبي (.)1/154
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )4صحيح البخاري برقم ( )891وصحيح مسلم برقم (.)880
( )5في ط ،ب ،أ ،و " :السورة".
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )7في جـ " :وروي".
( )1/110
[ونقله فخر الدين محمد بن عمر الرازي ( )1في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال :
وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الصبهاني الظاهري ،وحكى القرطبي عن أبي بكر بن
العربي عن المجموعة عن مالك ،رحمه ال تعالى ،أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة ،واستغربه ابن
العربي .وحكى قول ثالث وهو الستعاذة أول وآخرا جمعا بين الدليلين نقله فخر الدين (.)3( ] )2
والمشهور الذي عليه الجمهور أن الستعاذة لدفع الوسواس فيها ،إنما تكون قبل التلوة ،ومعنى
الية عندهم { :فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ } [النحل ]98 :أي :إذا
غسِلُوا وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ } الية [المائدة ]6 :أي :
أردت القراءة كقوله { :إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلةِ فَا ْ
إذا أردتم القيام .والدليل على ذلك الحاديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك ؛ قال المام
أحمد بن حنبل رحمه ال :
حدثنا محمد بن الحسن بن آتش ( )4حدثنا جعفر بن سليمان ،عن علي بن علي الرفاعي
اليشكري ،عن أبي المتوكل الناجي ،عن أبي سعيد الخدريّ ،قال :كان رسول ال صلى ال
عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلته وكبّر قال " :سبحانك اللهم وبحمدك ،وتبارك
اسمك ،وتعالى جدك ،ول إله غيرك " .ويقول " :ل إله إل ( )5ال " ثلثًا ،ثم يقول " :أعوذ
بال السميع العليم ،من الشيطان الرجيم ،من َهمْزه و َنفْخِه و َنفْثه ".
وقد رواه أهل السنن الربعة من رواية جعفر بن سليمان ،عن علي بن علي ،وهو الرّفاعي ()6
،وقال الترمذي :هو أشهر حديث في هذا الباب .وقد فسَر الهمز بالموتة وهي الخنق ،والنّفخ
بالكبر ،والنفث بالشعر .كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة ،عن عمرو بن مُرّة ،
عن عاصم العَنزيّ ،عن نافع بن جبير بن مطعم ،عن أبيه قال :رأيت رسول ال صلى ال
عليه وسلم حين دخل في الصلة ،قال " :ال أكبر كبيرًا ،ثلثًا ،الحمد ل كثيرا ،ثلثًا ،
سبحان ال بكرة وأصيل ثلثا ،اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من َهمْزه ونَفْخه ونفْثه ".
قال عمرو :وهمزه الموتة ،ونفخه الكبر ،ونفثه الشعر (.)7
وقال ابن ماجه :حدثنا علي بن المنذر ،حدثنا ابن فُضيل ،حدثنا عطاء بن السائب ،عن أبي
عبد الرحمن السلمي ،عن ابن مسعود عن النبيّ صلى ال عليه وسلم قال " :اللهم إني أعوذ بك
من الشيطان الرجيم ،و َهمْزه ونفخه ونفثه ".
قال :همزه :الموتة ،و َنفْثُه :الشعر ،ونفخه :الكِبْر (.)8
__________
( )1في جـ " :اسمه اللطيف" ،وفي أ " :اسم لطيف".
( )2في جـ " :المجيد".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فاللف".
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وما أشبهه".
( )6في أ " :هنا".
( )7في ط ،ب " :كل من".
( )8البيت في تفسير الطبري (.)1/212
( )1/111
وقال المام أحمد :حدثنا إسحاق بن يوسف ،حدثنا شريك ،عن يعلى بن عطاء ،عن رجل
حدثه :أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا قام إلى الصلة
كبّر ثلثًا ،ثم قال " :ل إله إل ال " ثلث مرات ،وسبحان ال وبحمده " ،ثلث مرات .ثم قال
" :أعوذ بال من الشيطان الرجيم ،من همزه ونفخه ونفثه (.)1وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن
علي بن المثنى الموصلي في مسنده :حدثنا عبد ال بن عمر بن أبان الكوفي ،حدثنا علي بن
هشام بن البريد عن يزيد بن زياد ،عن عبد الملك بن عمير ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،
عن أبي بن كعب ،قال :تلحى رجلن عند النبي صلى ال عليه وسلم ،فَتَمزّع أنف أحدهما
غضبا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إني لعلم شيئا لو قاله ذهب عنه ما يجد :أعوذ
بال من الشيطان الرجيم ".
وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ،عن يوسف بن عيسى المروزي ،عن الفضل بن موسى ،
عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ( ، )2به (.)3
وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل ،عن أبي سعيد ،عن زائدة ،وأبو داود عن يوسف بن
موسى ،عن جرير بن عبد الحميد ،والترمذي ،والنسائي في اليوم والليلة عن بُنْدَار ،عن ابن
مهدي ،عن الثوري ،والنسائي -أيضًا -من حديث زائدة بن قدامة ،ثلثتهم عن عبد الملك بن
عمير ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن معاذ بن جبل ،قال :استَب رجلن عند النبي صلى
ال عليه وسلم ،فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيّل إليّ أن أحدهما يَتَمزّع أنفه من شدة
غضبه ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :إني لعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من
الغضب " قال :ما هي يا رسول ال ؟ قال " :يقول :اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ".
قال :فجعل معاذ يأمره ،فأبى [ومحك] ( ، )4وجعل يزداد غضبًا .وهذا لفظ أبي داود (.)5وقال
الترمذي :مرسل ،يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل ،فإنه مات قبل سنة
عشرين.
قلت :وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبيّ بن كعب ،كما تقدم وبلغه عن معاذ بن
جبل ،فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة ،رضي ال عنهم .قال البخاري :حدثنا
عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا جرير ،عن العمش ،عن عدي بن ثابت ،قال :قال سليمان بن
صُرَد :استب رجلن عند النبي صلى ال عليه وسلم ،ونحن عنده جلوس ،فأحدهما يسب
صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :إني لعلم كلمة لو قالها
لذهب عنه ما يجد ،
__________
( )1البيت في تفسير الطبري (.)1/213
( )2تفسير القرطبي ( )1/156والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم ( )2620من طريق يزيد
بن أبي زياد ،عن الزهري ،عن سعيد ،عن أبي هريرة رضي ال عنه به مرفوعا ،وقال
البوصيري في الزوائد (" : )2/334هذا إسناد ضعيف ،يزيد بن أبي زياد الدمشقي قال فيه
البخاري وأبو حاتم :منكر الحديث".
تنبيه :وقع في بعض النسخ المساعدة :قال سفيان ،بدل شقيق ،والذي في تفسير القرطبي
موافق لما هاهنا ،وقد روي هذا القول عن سفيان الصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (
.)2329
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في ب ،و " :لخص" ،وفي جـ ،ط " :يخص".
( )1/112
لو قال :أعوذ بال من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل :أل تسمع ما يقول رسول ال ( )1صلى
ال عليه وسلم قال :إني لست بمجنون (.)2
وقد رواه -أيضًا -مع مسلم ،وأبي داود ،والنسائي ،من طرق متعددة ،عن العمش ،به (
.)3
وقد جاء في الستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا ،وموطنها كتاب الذكار وفضائل
العمال ،وال أعلم .وقد ُر ِويَ أن جبريل عليه السلم ،أوّل ما نزل بالقرآن على رسول ال
صلى ال عليه وسلم أمره بالستعاذة ،كما قال المام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عثمان بن سعيد ،حدثنا بشر بن عمارة ،حدثنا أبو روق ،عن الضحاك
،عن عبد ال بن عباس ،قال :أول ما نزل جبريل على محمد صلى ال عليه وسلم قال :يا
محمد ،استعذ .قال " :أستعيذ بال السميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم قال :قل :بسم ال
سمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ } قال عبد ال :وهي أول سورة أنزلها ال
الرحمن الرحيم .ثم قال { :اقْرَأْ بِا ْ
على محمد صلى ال عليه وسلم ،بلسان جبريل (.)4وهذا الثر غريب ،وإنما ذكرناه ليعرف ،
فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا ،وال أعلم.
مسألة :وجمهور العلماء على أن الستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها ،وحكى فخر
الدين عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلة وخارجها كلما أراد القراءة قال :وقال ابن
سيرين :إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب ،واحتج فخر الدين لعطاء
بظاهر الية { :فَاسْ َتعِذْ } وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى ال عليه وسلم عليها ،
ولنها تدرأ شر الشيطان وما ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،ولن الستعاذة أحوط وهو أحد
مسالك الوجوب .وقال بعضهم :كانت واجبة على النبي صلى ال عليه وسلم دون أمته ،وحكي
عن مالك أنه ل يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام شهر رمضان في أول ليلة منه.
مسألة :وقال الشافعي في الملء ،يجهر بالتعوذ ،وإن أسر فل يضر ،وقال في الم بالتخيير
لنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة ،واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الولى :هل
يستحب التعوذ فيها ؟ على قولين ،ورجح عدم الستحباب ،وال أعلم .فإذا قال المستعيذ :أعوذ
بال من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد ( )5بعضهم :أعوذ بال السميع
العليم ،وقال آخرون :بل يقول :أعوذ بال من الشيطان الرجيم إن ال هو السميع العليم ،قاله
الثوري والوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول :أستعيذ بال من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر
الية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور ،والحاديث الصحيحة ،كما تقدم ،أولى بالتباع
من هذا ،وال أعلم.
مسألة :ثم الستعاذة في الصلة إنما هي للتلوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد .وقال أبو يوسف :
__________
( )1في ط " :وما".
( )2في ط " :إذا".
( )3في ب " :ول".
( )4في جـ ،ط " :ل ينبغي".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )1/113
بل للصلة ،فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان ل يقرأ ،ويتعوذ في العيد بعد الحرام وقبل
تكبيرات العيد ،والجمهور بعدها قبل القراءة.
ومن لطائف الستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث ،وتطييب له وتهيؤ
لتلوة كلم ال وهي استعانة بال واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا
العدو المبين الباطني الذي ل يقدر على منعه ودفعه إل ال الذي خلقه ،ول يقبل مصانعة ،ول
يدارى بالحسان ،بخلف العدو من نوع النسان كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلث من
ك َوكِيل } [السراء ، ]65 :
ن َو َكفَى بِرَ ّب َ
علَ ْيهِمْ سُ ْلطَا ٌ
المثاني ،وقال تعالى { :إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ َ
وقد نزلت الملئكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر ،ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا ،ومن قتله
العدو الباطني كان طرِيدًا ،ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا ،ومن قهره العدو الباطن كان
مفتونا أو موزورًا ،ولما كان الشيطان يرى النسان من حيث ل يراه استعاذ منه بالذي يراه ول
يراه الشيطان.
فصل :والستعاذة هي اللتجاء إلى ال واللتصاق بجنابه من شر كل ذي شر ،والعياذة تكون
لدفع الشر ،واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ...ومن أعوذ به ممن أحاذره
ل يجبر الناس عظما أنت كاسره ...ول يهيضون عظما أنت جابره ()1
فصل معنى الستعاذة
ومعنى أعوذ بال من الشيطان الرجيم ،أي :أستجير بجناب ال من الشيطان الرجيم أن يضرني
في ديني أو دنياي ،أو يصدني عن فعل ما أمرت به ،أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ؛ فإن
الشيطان ل يكفّه عن النسان إل ال ؛ ولهذا أمر ال تعالى بمصانعة شيطان النس ومداراته ()2
بإسداء الجميل إليه ،ليرده طبعه عمّا هو فيه من الذى ،وأمر بالستعاذة به من شيطان الجن
لنه ل يقبل رشوة ول يؤثر فيه جميل ؛ لنه شرير بالطبع ول يكفه عنك إل الذي خلقه ،وهذا
المعنى في ثلث آيات من القرآن ل أعلم لهن رابعة ،قوله في العراف { :خُذِ ا ْلعَ ْف َو وَ ْأمُرْ
بِا ْلعُ ْرفِ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِين } [العراف ، ]199 :فهذا فيما يتعلق بمعاملة العداء من
سمِيعٌ عَلِيمٌ } [العراف :
البشر ،ثم قال { :وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ
، ]200وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون " { :ادفع بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ السّيّئَةَ َنحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا
حضُرُونِ } [المؤمنون
َيصِفُونَ * َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ مِنْ َهمَزَاتِ الشّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ يَ ْ
، ]98 - 96 :وقال تعالى في سورة " حم السجدة " { :وَل َتسْ َتوِي ا ْلحَسَ َن ُة وَل السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي
حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِل الّذِينَ صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
حسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
ِهيَ أَ ْ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } [فصلت 34 :
عظِيمٍ * وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
حظّ َ
ذُو َ
.]36 -
__________
( )1في ط " :أنعم".
( )2في جـ " :أبو إياس".
( )1/114
والشيطان في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد ،فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر ،وبعيد
بفسقه عن كل خير ،وقيل :مشتق من شاط لنه مخلوق من نار ،ومنهم من يقول :كلهما
صحيح في المعنى ،ولكن الول أصح ،وعليه يدل كلم العرب ؛ قال أمية بن أبي الصلت في
ذكر ما أوتي سليمان ،عليه ( )1السلم :
أيما شاطِنٍ عصاه عكاه ...ثمّ يُلْقى في السّجْن والغلل ()2
فقال :أيما شاطن ،ولم يقل :أيما شائط.
وقال النابغة الذبياني -وهو :زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة
بن سعد بن ذُبْيان : -
شطُونُ ...فبانت والفؤادُ بها رَهِينُ ()3
نأت بسعاد عنك َنوًى َ
يقول :بعدت بها طريق بعيدة.
[وقال سيبويه :العرب تقول :تشيطن فلن إذا َفعَل ِفعْل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا :
تشيط] (.)4والشيطان ( )5مشتق من البعد على ( )6الصحيح ؛ ولهذا يسمون كل ما ( )7تمرد من
ع ُدوّا شَيَاطِينَ النْسِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نَ ِبيّ َ
جني وإنسي وحيوان شيطانًا ،قال ال تعالى َ { :وكَذَِلكَ َ
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ غُرُورًا } [النعام .]112 :وفي مسند المام
وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ
أحمد ،عن أبي ذر ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا أبا ذر ،
تعوّذ بال من شياطين النس والجن " ،فقلت :أو للنس شياطين ؟ قال " :نعم " (.)8وفي
صحيح مسلم عن أبي ذر -أيضًا -قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يقطع الصلة
المرأة والحمار والكلب السود " .فقلت :يا رسول ال ،ما بال الكلب السود من الحمر
والصفر ( )9فقال " :الكلب السود شيطان " (.)10وقال ابن وهب :أخبرني هشام بن سعد ،
عن زيد بن أسلم ،عن أبيه ،أن عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،ركب برْذونًا ،فجعل
يتبخْتر به ،فجعل ل يضربه فل يزداد إل تبخترًا ،فنزل عنه ،وقال :ما حملتموني ( )11إل
على شيطان ،ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي .إسناده ( )12صحيح (.)13
__________
( )1في جـ ،ط " :من يهود".
( )2زيادة من ب.
( )3في جـ ،ط " :أجاءك".
( )4في جـ " :ما نعلمهم".
( )5في أ " :فقال".
( )6في جـ " :تسعون" ،وفي ط ،ب ،أ ،و " :ستون".
( )7في جـ " :إحدى وستون".
( )8في جـ ،أ ،و " :هل مع هذا غيره يا محمد".
( )9في جـ ،ط ،ب ،و " :ماذا".
( )10في جـ ،ط ،ب " :هذه".
( )11في جـ " :أبو إياس".
( )12في جـ " :إحدى وستون".
( )13في جـ " :أربع وثلثين سنة".
( )1/115
والرّجيم :فعيل بمعنى مفعول ،أي :إنه مرجوم مطرود عن الخير كله ،كما قال تعالى { :وََلقَدْ
جعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } [الملك ، ]5 :وقال تعالى { :إِنّا زَيّنّا
ح وَ َ
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِي َ
زَيّنّا ال ّ
س ّمعُونَ إِلَى ا ْلمَل العْلَى
حفْظًا مِنْ ُكلّ شَيْطَانٍ مَا ِردٍ * ل يَ ّ
سمَاءَ الدّنْيَا بِزِي َنةٍ ا ْل َكوَا ِكبِ * َو ِ
ال ّ
شهَابٌ
طفَةَ فَأَتْ َبعَهُ ِ
خ ْ
طفَ الْ َ
خِعذَابٌ وَاصِبٌ * إِل مَنْ َ
وَيُقْ َذفُونَ مِنْ ُكلّ جَا ِنبٍ * دُحُورًا وََلهُمْ َ
سمَاءِ بُرُوجًا وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ *
جعَلْنَا فِي ال ّ
ثَا ِقبٌ } [الصافات ، ]10 - 6 :وقال تعالى { :وََلقَدْ َ
شهَابٌ مُبِينٌ } [الحجر - 16 :
سمْعَ فَأَتْ َبعَهُ ِ
حفِظْنَاهَا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ رَجِيمٍ * إِل مَنِ اسْتَ َرقَ ال ّ
وَ َ
، ]18إلى غير ذلك من اليات.
[وقيل :رجيم بمعنى راجم ؛ لنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والول أشهر] (.)1
حمَنِ الرّحِيمِ (.} )1
{ ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ
افتتح بها الصحابةُ كتاب ال ،واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل ،ثمّ اختلفوا :
هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة ،أو من أول كل سورة كتبت في أوّلها ،أو أنها بعض آية
من أوّل كل سورة ،أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها ،أو أنها [إنما] ( )2كتبت للفصل ،ل
أنها ( )3آية ؟ على أقوال للعلماء سلفًا وخلفًا ،وذلك مبسوط في غير هذا الموضع.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح ،عن ابن عباس ،رضي ال عنهما ،أن رسول ال صلى ال
حمَنِ الرّحِيمِ } وأخرجه
عليه وسلم كان ل يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ
الحاكم أبو عبد ال النيسابوري في مستدركه أيضًا ( ، )4وروي مرسل عن سعيد بن جُبَير .وفي
صحيح ابن خزيمة ،عن أم سلمة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ البسملة في أول
الفاتحة في الصلة وعدّها آية ،لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي ،وفيه ضعف ،عن ابن
جُرَيْج ،عن ابن أبي مُلَ ْيكَة ،عنها (.)5وروى له الدارقطني متابعًا ،عن أبي هريرة مرفوعًا (
.)6وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما (.)7وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إل
براءة :ابن عباس ،وابن عمر ،وابن الزبير ،وأبو هريرة ،وعليّ .ومن التابعين :عطاء ،
وطاوس ،وسعيد بن جبير ،ومكحول ،والزهري ،وبه يقول عبد ال بن المبارك ،والشافعي ،
وأحمد بن حنبل ،في رواية عنه ،وإسحاق بن رَاهوَيه ،وأبو عبيد القاسم بن سلم ،رحمهم ال.
__________
( )1ورواه البخاري في التاريخ الكبير ( )2/208والطبري في تفسيره ( )1/217من طريق ابن
إسحاق ،وأطنب العلمة أحمد شاكر في الكلم عليه في حاشية تفسير الطبري.
( )2في و " :أطم وأعظم" ،وفي أ " :أعظم وأعظم".
( )3في جـ " : ،أغرب".
( )4في جـ ،ط " :ناس".
( )5هو كعب بن مالك ،والبيت في اللسان ،مادة "ريب".
( )6زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )7في جـ ،ط ،ب " :منزل".
( )1/116
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما :ليست آية من الفاتحة ول من غيرها من السور ،وقال
الشافعي في قول ،في بعض طرق مذهبه :هي آية من الفاتحة وليست من غيرها ،وعنه أنها
بعض آية من أول كل سورة ،وهما غريبان.
وقال داود :هي آية مستقلة في أول كل سورة ل منها ،وهذه رواية عن المام أحمد بن حنبل.
وحكاه أبو بكر الرازي ،عن أبي الحسن الكرخي ،وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة ،رحمهم
ال (.)1هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم ل .فأمّا ما يتعلق بالجهر بها ،فمفرّع على هذا ؛ فمن
رأى أنها ليست من الفاتحة فل يجهر بها ،وكذا من قال :إنها آية من ( )2أوّلها ،وأمّا من قال
بأنها من أوائل السور فاختلفوا ؛ فذهب الشافعي ،رحمه ال ،إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة
والسورة ،وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا ( ، )3فجهر بها
من الصحابة أبو هريرة ،وابن عمر ،وابن عباس ،ومعاوية ،وحكاه ابن عبد البر ،والبيهقي
عن عمر وعليّ ،ونقله الخطيب عن الخلفاء الربعة ،وهم :أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ،
عكْرِمة ،وأبي قِلبة ،والزهري ،وعليّ بن
وهو غريب .ومن التابعين عن سعيد بن جبير ،و ِ
الحسين ،وابنه محمد ،وسعيد بن المسيب ،وعطاء ،وطاوس ،ومجاهد ،وسالم ،ومحمد بن
كعب القرظي ،وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ،وأبي وائل ،وابن سيرين ،ومحمد بن
الم ْنكَدِر ،وعلي بن عبد ال بن عباس ،وابنه محمد ،ونافع مولى ابن عمر ،وزيد بن أسلم ،
وعمر بن عبد العزيز ،والزرق بن قيس ،وحبيب بن أبي ثابت ،وأبي الشعثاء ،ومكحول ،
وعبد ال بن َم ْعقِل بن ُمقَرّن .زاد البيهقيّ :وعبد ال بن صفوان ،ومحمد بن الحنفية .زاد ابن
عبد البر :وعمرو بن دينار.
حجّة في ذلك أنها بعض الفاتحة ،فيجهر بها كسائر أبعاضها ،وأيضًا فقد روى النسائي في
وال ُ
سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ،والحاكم في مستدركه ،عن أبي هريرة أنه صلى
فجهر في قراءته بالبسملة ،وقال بعد أن فرغ :إني لشبهكم صلة برسول ال صلى ال عليه
وسلم .وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم (.)4
وروى أبو داود والترمذي ،عن ابن عباس :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يفتتح
الصلة ببسم ال الرحمن الرحيم .ثم قال الترمذي :وليس إسناده بذاك (.)5
وقد رواه الحاكم في مستدركه ،عن ابن عباس قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يجهر
ببسم ال الرحمن الرحيم ،ثم قال :صحيح ( )6وفي صحيح البخاري ،عن أنس بن مالك أنه
سئل عن قراءة
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2في جـ ،ب " :نور".
( )3في جـ " :يعني نورا للمؤمنين".
( )4في جـ " :يتعوذون".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )6في ب " :البأس".
( )1/117
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :كانت قراءته مدا ،ثم قرأ بسم ال الرحمن الرحيم ،يمد
بسم ال ،ويمد الرحمن ،ويمد الرحيم (.)1
وفي مسند المام أحمد ،وسنن أبي داود ،وصحيح ابن خزيمة ،ومستدرك الحاكم ،عن أم سلمة
،قالت ( : )2كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقطع قراءته :بسم ال الرحمن الرحيم .الحمد
ل رب العالمين .الرحمن الرحيم .مالك يوم الدين .وقال الدارقطني :إسناده صحيح (.)3
وروى الشافعي ،رحمه ال ،والحاكم في مستدركه ،عن أنس :أن معاوية صلى بالمدينة ،
فترك البسملة ،فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك ،فلما صلى المرّة الثانية بسمل (.)4
وفي هذه الحاديث ،والثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الحتجاج لهذا القول عما عداها ،فأما
المعارضات والروايات الغريبة ،وتطريقها ،وتعليلها وتضعيفها ،وتقريرها ،فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه ل يجهر بالبسملة في الصلة ،وهذا هو الثابت عن الخلفاء الربعة وعبد
ال بن مغفل ،وطوائف من سلف التابعين والخلف ،وهو مذهب أبي حنيفة ،والثوري ،وأحمد
بن حنبل.
وعند المام مالك :أنه ل يقرأ البسملة بالكلية ،ل جهرًا ول سرًا ،واحتجوا بما في صحيح مسلم
،عن عائشة ،رضي ال عنها ،قالت :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يفتتح الصلة
بالتكبير ،والقراءة بالحمد ل رب العالمين ( .)5وبما في الصحيحين ،عن أنس بن مالك ،قال :
صلّ ْيتُ خلف النبيّ صلى ال عليه وسلم ،وأبي بكر وعمر وعثمان ،فكانوا يستفتحون بالحمد ل
رب العالمين .ولمسلم :ل يذكرون بسم ال الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ول في آخرها (.)6
ونحوه في السنن عن عبد ال بن ُم َغفّل ،رضي ال عنه (.)7
فهذه مآخذ الئمة ،رحمهم ال ،في هذه المسألة وهي قريبة ؛ لنهم أجمعوا على صحة صلة من
جهر بالبسملة ومن أسر ،ول الحمد والمنة ( .)8فصل
في فضلها
قال المام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ،رحمه ال ،في تفسيره :
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )2451وسنن ابن ماجه برقم (.)4215
( )2تفسير ابن أبي حاتم ( )1/33وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
( )3سنن ابن ماجة برقم ( )1857من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم ،
عن أبي أمامة رضي ال عنه ،وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/70هذا إسناد فيه علي بن
زيد بن جدعان وهو ضعيف ،وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه".
( )4في جـ ،ط " :وأفردنا".
( )5في جـ ،ط " :رسول ال".
( )6في أ " :بأن".
( )7في أ " :زيد".
( )8سنن سعيد بن منصور برقم ( )180تحقيق د .الحميد.
( )1/118
حدثنا أبي ،حدثنا جعفر بن مسافر ،حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني ،حدثنا سلم بن وهب
الجَنَديّ ،حدثنا أبي ،عن طاوس ،عن ابن عباس ؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول ال صلى
ال عليه وسلم عن بسم ال الرحمن الرحيم .فقال " :هو اسم من أسماء ال ،وما بينه وبين اسم
ال الكبر ،إل كما بين سواد العينين وبياضهما ( )1من القرب".
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه ،عن سليمان بن أحمد ،عن عليّ بن المبارك ،عن زيد بن
المبارك ،به (.)2
وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين ،عن إسماعيل بن عياش ،عن إسماعيل بن يحيى ،
سعَر ،عن عطية ،عن أبي سعيد ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن عيسى
عن مِ ْ
ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه ،فقال المعلم :اكتب ،قال ( )3ما أكتب ؟ قال :بسم
ال ،قال له عيسى :وما باسم ال ؟ قال المعلم :ما أدري ( .)4قال له عيسى :الباء بَهاءُ ال ،
والسين سناؤه ،والميم مملكته ،وال إله اللهة ،والرحمن رحمن الدنيا والخرة ،والرحيم رحيم
الخرة".
وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلء الملقب :زِبْرِيق ،عن إسماعيل بن عياش ،عن
إسماعيل بن يحيى ،عن ابن أبي مُلَيْكة ،عمن حدثه ،عن ابن مسعود ،ومسعر ،عن عطية ،
عن أبي سعيد ،عن النبيّ صلى ال عليه وسلم ،فذكره ( .)5وهذا غريب جدًا ،وقد يكون
صحيحًا إلى من دون رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويكون من السرائيليات ل من
المرفوعات ،وال أعلم.
جوَيبر ( ، )6عن الضحّاك ،نحوه من قبله.
وقد روى ُ
وقد روى ابن مَرْدُويه ،من حديث يزيد بن خالد ،عن سليمان بن بريدة ،وفي رواية عن عبد
الكريم أبي ( )7أمية ،عن ابن بريدة ،عن أبيه ؛ أن رسول ال ( )8صلى ال عليه وسلم قال :
حمَنِ الرّحِيمِ"
"أنزلت عليّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري ،وهي ِبسْمِ الِ الرّ ْ
(.)9
وروي بإسناده عن عبد الكبير ( )10بن المعافى بن عمران ،عن أبيه ،عن عمر بن ذَرّ ،عن
حمَنِ الرّحِيمِ } هرب
سمِ الِ الرّ ْ
عطاء بن أبي رباح ،عن جابر بن عبد ال ،قال :لما نزل { بِ ْ
الغيم إلى المشرق ،وسكنت الرياح ،وهاج البحر ،وأصغت البهائم بآذانها ،ورُجِمت الشياطين
من السماء ،
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم ( )1/34والمستدرك (.)2/260
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في هـ " :أسد".
( )4في جـ " :فعدنا".
( )5في جـ " :أأحد".
( )6المسند ( )4/106قال الحافظ ابن حجر في الصابة (" : )4/33واختلف فيه على الوزاعي ،
فقال الكثر :عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز .وقال ابن شماسة :عن الوزاعي
عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري (" : )7/6إسناده حسن".
( )7في جـ " :انصرفنا".
( )8ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )4/23عن بكر بن سهل عن عبد ال بن صالح به.
( )9ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )4/23من طريق ضمرة بن ربيعة به.
( )10جزء الحسن بن عرفة برقم (.)19
( )1/119
وحلف ال تعالى بعزته وجلله ( )1أل يسمى اسمه على شيء إل بارك فيه (.)2
[وقال وكيع عن العمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال :من أراد أن ينجيه ال من الزبانية
التسعة عشر فليقرأ :بسم ال الرحمن الرحيم ،ليجعل ال له من كل حرف منها جنة من كل
واحد ،ذكره ابن عطية والقرطبي ( )3ووجهه ابن عطية ونصره بحديث " :فقد رأيت بضعة
وثلثين ملكا يبتدرونها" ( )4لقول الرجل :ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ،من أجل
أنها بضعة وثلثون حرفا وغير ذلك] (.)5
وقال المام أحمد بن حنبل في مسنده :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن عاصم ،قال :
سمعت أبا تميمة يحدث ،عن رديف النبي صلى ال عليه وسلم قال :عثر بالنبي صلى ال عليه
وسلم ،فقلت َ :تعِس الشيطان .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :ل تقل تعس الشيطان .فإنك إذا
قلت :تعس الشيطان تعاظم ،وقال :بقوتي صرعته ،وإذا قلت :باسم ال ،تصاغر حتى يصير
مثل الذباب".
هكذا وقع في رواية المام أحمد ( )6وقد روى ( )7النسائي في اليوم والليلة ،وابن مَرْدُويه في
تفسيره ،من حديث خالد الحذاء ،عن أبي تميمة هو الهجيمي ،عن أبي المليح بن أسامة بن
عمير ،عن أبيه ،قال :كنت رديف النبي صلى ال عليه وسلم فذكره وقال " :ل تقل هكذا ،فإنه
يتعاظم حتى يكون كالبيت ،ولكن قل :بسم ال ،فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة" (.)8فهذا من
تأثير بركة بسم ال ؛ ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول .فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء :
"كل أمر ( )9ل يبدأ فيه ببسم ال الرحمن الرحيم ،فهو أجذم" ([ ، )10وتستحب البسملة عند
دخول الخلء ولما ورد من الحديث في ذلك ( ، )12( ] )11وتستحب في أوّل الوضوء لما جاء
في مسند المام أحمد والسنن ،من رواية أبي هريرة ،وسعيد بن زيد ،وأبي سعيد مرفوعًا " :ل
وضوء لمن لم
__________
( )1مسند أبي يعلى ( )1/147والمستدرك ( )4/85وتعقب الذهبي الحاكم فقال " :بل ضعفوه".
( )2رواه البزار في مسنده (" )2840كشف الستار" من طريق سعيد بن بشير ،عن قتادة ،عن
أنس رضي ال عنه ،وقال " :غريب من حديث أنس".
( )3في هـ " :نويلة".
( )4في جـ " :المسجد القصى".
( )5في جـ ،ط " :بيت ال".
( )6في طـ ،ب ،أ ،و " :مستقبلوا".
( )7تفسير ابن أبي حاتم ( )1/36وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري " :تركه الناس".
وقال ابن معين " :يضع الحديث" .ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )24/207من طريق
إبراهيم بن حمزة الزبيري ،عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه به نحوه.
( )8في جـ ،ط " :إقام".
( )9في جـ ،ط ،ب " :تمام".
( )10في طـ " :إقام".
( )11في جـ " :لها".
( )12في جـ " :وإتمام الركوع والسجود".
( )1/120
يذكر اسم ال عليه" ( ، )1وهو حديث حسن .ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا ،ومنهم
من قال بوجوبها مطلقًا ،وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة ،وأوجبها آخرون
عند الذكر ،ومطلقا في قول بعضهم ،كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء ال ،وقد ذكر
الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها :عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :إذا أتيت أهلك فسم ال ؛ فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته
حسنات" وهذا ل أصل له ،ول رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ول غيرها.
وهكذا تستحب عند الكل لما في صحيح مسلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لربيبه عمر
بن أبي سلمة " :قل :باسم ال ،وكل بيمينك ،وكل مما يليك" ( .)2ومن العلماء من أوجبها
والحالة هذه ،وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين ،عن ابن عباس أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال :باسم ال ،اللهم جنبنا الشيطان ،
وجنب الشيطان ما رزقتنا ،فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا" (.)3
ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك :باسم ال ،هل
هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن ؛ أما من قدره باسم ،تقديره :باسم ال ابتدائي ،
سمِ اللّهِ مَجْرَاهَا َومُرْسَاهَا إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رَحِيمٌ } [هود :
فلقوله تعالى َ { :وقَالَ ا ْركَبُوا فِيهَا بِ ْ
، ]41ومن قدره بالفعل [أمرًا وخبرًا نحو :أبدَأ ببسم ال أو ابتدأت ببسم ال] ( ، )4فلقوله :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ } [العلق ]1 :وكلهما صحيح ،فإن الفعل ل بُدّ له من مصدر ،فلك
أن تقدر الفعل ومصدره ،وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله ،إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكل أو
شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلة ،فالمشروع ذكر [اسم] ( )5ال في الشروع في ذلك كله ،
تبركًا وتيمنًا واستعانة على التمام والتقبل ،وال أعلم ؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم ،
عمَارة ،عن أبي روق ،عن الضحاك ،عن ابن عباس ،قال :إن أوّل ما
من حديث بشر بن ُ
نزل به جبريل على محمد ( )6صلى ال عليه وسلم قال " :يا محمد قل :أستعيذ بالسميع العليم
حمَنِ الرّحِيمِ } قال :قال له جبريل :قل :
سمِ اللّهِ الرّ ْ
من الشيطان الرجيم ،ثم قال :قل { :بِ ْ
باسم ال يا محمد ،يقول :اقرأ بذكر ال ربك ،وقم ،واقعد بذكر ال[ .هذا] ( )7لفظ ابن جرير
(.)8
وأما مسألة السم :هل هو المسمى أو غيره ؟ ففيها للناس ثلثة أقوال :
[أحدها :أن السم هو المسمى ،وهو قول أبي عبيدة وسيبويه ،واختاره الباقلني وابن فورك ،
وقال فخر الدين الرازي -وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري -في مقدمات
تفسيره :
__________
( )1في جـ " :النبي".
( )2في جـ ،ط ،ب " :قربانا".
( )3صحيح البخاري برقم ( )8وصحيح مسلم برقم (.)16
( )4البيت في تفسير الطبري (.)1/242
( )5في ب " :الخر".
( )6البيت في تفسير الطبري (.)1/242
( )7زيادة من ط.
( )8في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فيها".
( )1/121
قالت الحشوية والكرامية والشعرية :السم نفس المسمى وغير التسمية ،وقالت المعتزلة :السم
غير المسمى ونفس التسمية ،والمختار عندنا :أن السم غير المسمى وغير التسمية ،ثم نقول :
إن كان المراد بالسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة ،فالعلم الضروري
حاصل أنه غير المسمى ،وإن كان المراد بالسم ذات المسمى ،فهذا يكون من باب إيضاح
الواضحات وهو عبث ،فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى
العبث.
ثم شرع يستدل على مغايرة السم للمسمى ،بأنه قد يكون السم موجودًا والمسمى مفقودًا كلفظة
المعدوم ،وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون السم واحدًا والمسميات
متعددة كالمشترك ،وذلك دال على تغاير السم والمسمى ،وأيضا فالسم لفظ وهو عرض
والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها ،وأيضًا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد
اللفظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك ،ول يقوله عاقل ،وأيضا فقد قال ال تعالى :
سمَاءُ ا ْلحُسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا } [العراف ، ]180 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم " :إن
{ ولِ ال ْ
ل تسعة وتسعين اسمًا" ( ، )1فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو ال تعالى ،وأيضا فقوله { :
حسْنَى } أضافها إليه ،كما قال { :فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ } [الواقعة ]96 ، 74 :
سمَاءُ الْ ُ
ولِ ال ْ
ونحو ذلك .والضافة تقتضي المغايرة وقوله { :فَادْعُوهُ ِبهَا } أي :فادعوا ال بأسمائه ،وذلك
دليل على أنها غيره ،واحتج من قال :السم هو المسمى ،بقوله تعالى { :تَبَا َركَ اسْمُ رَ ّبكَ }
[الرحمن ]78 :والمتبارك هو ال .والجواب :أن السم معظم لتعظيم الذات المقدسة ،وأيضا فإذا
قال الرجل :زينب طالق ،يعني امرأته طالق ،طلقت ،ولو كان السم غير المسمى لما وقع
الطلق ،والجواب :أن المراد أن الذات المسماة بهذا السم طالق .قال الرازي :وأما التسمية
فإنها جعل السم معينا لهذه الذات فهي غير السم أيضا ،وال أعلم] (.)2
{ ال } عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى ،يقال :إنه السم العظم ؛ لنه يوصف بجميع الصفات ،
حمَنُ الرّحِيمُ * ُهوَ اللّهُ
شهَا َدةِ ُهوَ الرّ ْ
ب وَال ّ
كما قال تعالى ُ { :هوَ اللّهُ الّذِي ل إِلَهَ إِل ُهوَ عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
عمّا
الّذِي ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلمَِلكُ ا ْلقُدّوسُ السّلمُ ا ْل ُم ْؤمِنُ ا ْل ُمهَ ْيمِنُ ا ْلعَزِيزُ الْجَبّارُ ا ْلمُ َتكَبّرُ سُبْحَانَ اللّهِ َ
سمَاوَاتِ
حسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي ال ّ
سمَاءُ الْ ُ
صوّرُ لَهُ ال ْ
يُشْ ِركُونَ * ُهوَ اللّهُ الْخَاِلقُ الْبَا ِرئُ ا ْل ُم َ
حكِيمُ } [الحشر ، ]24 - 22 :فأجرى السماء الباقية كلها صفات له ،
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
وَالرْ ِ
حسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا } وقال تعالى ُ { :قلْ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا
سمَاءُ الْ ُ
كما قال تعالى { :ولِ ال ْ
حسْنَى } [السراء ]110 :وفي الصحيحين ،عن أبي هريرة :
سمَاءُ الْ ُ
حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ ال ْ
الرّ ْ
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن ل تسعة وتسعين اسما ،مائة إل واحدًا من أحصاها
دخل الجنة" ( ، )3وجاء تعدادها في رواية الترمذي [ ،وابن
__________
( )1في أ ،و " :حاجاته".
( )2في أ " :في".
( )3في أ " :يكشفا".
( )1/122
ماجه ( )1وبين ( )2الروايتين اختلف زيادات ونقصان ،وقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره
عن بعضهم أن ل خمسة آلف اسم :ألف في الكتاب والسنة الصحيحة ،وألف في التوراة ،
وألف في النجيل ،وألف في الزبور ،وألف في اللوح المحفوظ] (.)3
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ؛ ولهذا ل يعرف في كلم العرب له اشتقاق من فعل
ويفعل ،فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد ل اشتقاق له .وقد نقل القرطبي عن جماعة
من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم ،وروي عن الخليل
وسيبويه أن اللف واللم فيه لزمة .قال الخطابي :أل ترى أنك تقول :يا ال ،ول تقول :يا
الرحمن ،فلول أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على اللف واللم (.)4وقيل :
إنه مشتق ،واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن العَجّاج :
ل در الغانيات ال ُمدّه ...سبحن واسترجعن من تألهي ()5
فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر ،وهو التأله ،من أله يأله إلهة وتألهًا ،كما روي أن ابن عباس
قرأ " :ويذرك وَإلهَتَك" قال :عبادتك ،أي :أنه كان ُيعْبَد ول َيعْبُد ،وكذا قال مجاهد وغيره.
ت َوفِي ال ْرضِ } [النعام ]3 :
سمَاوَا ِ
وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله { :وَ ُهوَ اللّهُ فِي ال ّ
سمَاءِ إِلَهٌ َوفِي ال ْرضِ إِلَهٌ }
أي :المعبود في السماوات والرض ،كما قال { :وَ ُهوَ الّذِي فِي ال ّ
[الزخرف ، ]84 :ونقل سيبويه عن الخليل :أن أصله :إله ،مثل فعال ،فأدخلت اللف واللم
بدل من الهمزة ،قال سيبويه :مثل الناس ،أصله :أناس ،وقيل :أصل الكلمة :له ،فدخلت
اللف واللم للتعظيم وهذا اختيار سيبويه .قال الشاعر :
له ابن عمك ل أفضلت في حسب ...عني ول أنت دياني فتخزوني ()6
قال القرطبي :بالخاء المعجمة ،أي :فتسوسني ،وقال الكسائي والفراء :أصله :الله حذفوا
الهمزة وأدغموا اللم الولى في الثانية ،كما قال َ { :لكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي } [الكهف ]38 :أي :لكن
أنا ،وقد قرأها كذلك الحسن ،قال القرطبي :ثم قيل :هو مشتق من وله :إذا تحير ،والوله
ذهاب العقل ؛ يقال :رجل واله ،وامرأة ولهى ،وماء موله :إذا أرسل في الصحاري ،فال
تعالى تتحير أولو اللباب والفكر في حقائق صفاته ،فعلى هذا يكون أصله :وله ،فأبدلت الواو
همزة ،كما قالوا في وشاح :أشاح ،ووسادة :أسادة ،وقال فخر الدين الرازي :وقيل :إنه
مشتق من ألهت إلى فلن ،أي :سكنت إليه ،فالعقول ل تسكن إل إلى ذكره ،والرواح ل تفرح
إل بمعرفته ؛ لنه الكامل على الطلق دون
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :أحدها".
( )3في جـ ،ط ،ب " :لمؤمني".
( )4صحيح البخاري برقم ( )97وصحيح مسلم برقم (.)154
( )5زيادة من جـ ،ط.
( )6زيادة من جـ ،ط.
( )1/123
( )1/124
وقد زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لتصل بذكر المرحوم وقد قال َ { :وكَانَ
بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرحِيمًا } [الحزاب ، ]43 :وحكى ابن النباري في الزاهر عن المبرد :أن الرحمن
اسم عبراني ليس بعربي ،وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن :وقال أحمد بن يحيى :
الرحيم عربي ،والرحمن عبراني ،فلهذا جمع بينهما .قال أبو إسحاق :وهذا القول مرغوب عنه
( .)1وقال القرطبي :والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن
عوف ،أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :قال ال تعالى :أنا الرحمن خلقت الرحم
وشققت لها اسمًا من اسمي ،فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" ( .)2قال :وهذا نص في
الشتقاق فل معنى للمخالفة والشقاق.
قال :وإنكار العرب لسم الرحمن لجهلهم بال وبما وجب له ،قال القرطبي :هما بمعنى واحد
كندمان ونديم قاله أبو عبيد ،وقيل :ليس بناء فعلن كفعيل ،فإن فعلن ل يقع إل على مبالغة
الفعل نحو قولك :رجل غضبان ،وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول ،قال أبو علي
الفارسي :الرحمن :اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به ال تعالى ،والرحيم إنما هو من
جهة المؤمنين ،قال ال تعالى َ { :وكَانَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَحِيمًا } [الحزاب ، ]43 :وقال ابن عباس :
هما اسمان رقيقان ،أحدهما أرق من الخر ،أي أكثر رحمة ،ثم حكي عن الخطابي وغيره :
أنهم استشكلوا هذه الصفة ،وقالوا :لعله أرفق كما جاء في الحديث " :إن ال رفيق يحب الرفق
في المر كله وإنه يعطي على الرفق ما ل يعطي على العنف" ( .)3وقال ابن المبارك :الرحمن
إذا سئل أعطى ،والرحيم إذا لم يسأل يغضب ،وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي
وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من لم يسأل ال يغضب عليه" ( ، )4وقال بعض الشعراء :
ل تطلبن بني آدم حاجة ...وسل الذي أبوابه ل تغلق ()5
ال يغضب إن تركت سؤاله ...وبني آدم حين يسأل يغضب
__________
( )1في جـ " :بما في أيديهم".
( )2في طـ ،ب ،أ ،و " :بما".
( )3صحيح البخاري برقم ( )7362 ، 4485من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )4زيادة من طـ ،ب.
( )5تفسير الطبري (.)1/249
( )1/125
قال ( )1ابن جرير :حدثنا السري بن يحيى التميمي ،حدثنا عثمان بن ُزفَر ،سمعت العَرْزَميّ
يقول :الرحمن الرحيم ،قال :الرحمن لجميع الخلق ،الرحيم ،قال :بالمؤمنين .قالوا :ولهذا
حمَنُ عَلَى ا ْلعَرْشِ اسْ َتوَى }
حمَنُ } [الفرقان ]59 :وقال { :الرّ ْ
قال ُ { :ثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ الرّ ْ
[طه ]5 :فذكر الستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ،وقال َ { :وكَانَ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ
رَحِيمًا } [الحزاب ]43 :فخصهم باسمه الرحيم ،قالوا :فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في
الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه ،والرحيم خاصة بالمؤمنين ،لكن جاء في الدعاء
المأثور :رحمن الدنيا والخرة ورحيمهما.
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى ُ { :قلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا
حسْنَى } وقال تعالى { :وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ ُرسُلِنَا
سمَاءُ الْ ُ
حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ ال ْ
الرّ ْ
حمَنِ آِلهَةً ُيعْبَدُونَ } ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه
جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ
أَ َ
ال جلباب الكذب وشهر به ؛ فل يقال إل مسيلمة الكذاب ،فصار يُضرب به المثل في الكذب بين
أهل الحضر من أهل المدر ،وأهل الوبر من أهل البادية والعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن ؛ لنه أكد به ،والتأكيد ( )2ل يكون إل
أقوى من المؤكّد ،والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد ( ، )3وإنما هو من باب النعت [بعد
النعت] ( )4ول يلزم فيه ما ذكروه ،وعلى هذا فيكون تقدير اسم ال الذي لم يسم به أحد غيره ،
ووصفه أول بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره ،كما قال تعالى ُ { :قلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا
حسْنَى } [السراء .]110 :وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في
سمَاءُ الْ ُ
حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ ال ْ
الرّ ْ
التسمي به ولم يتابعه على ذلك إل من كان معه في الضللة .وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ
غيره حيث قال َ { :لقَدْ جَا َءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ
رَءُوفٌ َرحِيمٌ } [التوبة ]128 :كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله { :إِنّا خََلقْنَا النْسَانَ
سمِيعًا َبصِيرًا } [النسان .]2 :
جعَلْنَاهُ َ
طفَةٍ َأمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ َف َ
مِنْ نُ ْ
والحاصل :أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ،ومنها ما ل يسمى به غيره ،كاسم ال
والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك ؛ فلهذا بدأ باسم ال ،ووصفه بالرحمن ؛ لنه أخص
وأعرف من الرحيم ؛ لن التسمية أول إنما تكون بأشرف ( )5السماء ،فلهذا ابتدأ بالخص
فالخص.
فإن قيل :فإذا كان الرحمن أشد مبالغة ؛ فهل اكتفى به عن الرحيم ؟ فقد روي عن عطاء
الخراساني ما معناه :أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن ،جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم
بذلك ،فإنه ل يوصف بالرحمن الرحيم إل ال تعالى .كذا رواه ابن جرير عن عطاء .ووجهه
بذلك ،وال أعلم.
وقد زعم بعضهم أن العرب ل تعرف الرحمن ،حتى رد ال عليهم ذلك بقوله ُ { :قلِ ادْعُوا اللّهَ
سمَاءُ ا ْلحُسْنَى } [السراء ]110 :؛ ولهذا قال كفار قريش
حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فََلهُ ال ْ
َأوِ ادْعُوا الرّ ْ
حمَنِ الرّحِيمِ }
يوم الحديبية لما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعَلي " :اكتب { ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ
" ،فقالوا :ل نعرف الرحمن ول الرحيم .رواه البخاري ( ، )6وفي بعض الروايات :ل نعرف
جدُ
حمَنُ أَنَسْ ُ
حمَنِ قَالُوا َومَا الرّ ْ
جدُوا لِلرّ ْ
الرحمن إل رحمن اليمامة .وقال تعالى { :وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اسْ ُ
ِلمَا تَ ْأمُرُنَا وَزَادَ ُهمْ ُنفُورًا } [الفرقان .]60 :
__________
( )1زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :مقتطعا".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )4تفسير ابن أبي حاتم (.)1/40
( )5في جـ " :إل أنه من".
( )6في جـ ،ط ،ب " :وقد".
( )1/126
والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم ؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في
جهّال ()2
الجاهلية ( )1تسمية ال تعالى بالرحمن ،قال ابن جرير :وقد أنشد لبعض الجاهلية ال ُ
ضبَ الرحمنُ رَبى يمينها ()3
أل ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ َهجِينَها ...أل َق َ
وقال سلمة بن جندب الطهوي :
حمَن َي ْعقِد ويُطِْلقِ ()4
عجْلَتينَا عليكُمُ ...وما يَشَأ ال ّر ْ
عَجِلتم علينا َ
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عثمان بن سعيد ،حدثنا بشر بن عمارة ،حدثنا أبو
روق ،عن الضحاك ،عن عبد ال بن عباس ،قال :الرحمن :الفعلن من الرحمة ،وهو من
كلم العرب ،وقال { :الرحمن الرحيم } [الفاتحة ]3 :الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه ،
والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه ،وكذلك أسماؤه كلها.
سعَدة ،عن عوف ،عن
وقال ابن جرير أيضًا :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا حماد بن مَ ْ
الحسن ،قال :الرحمن اسم ممنوع (.)5
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد [بن] ( )6يحيى بن سعيد القطان ،حدثنا زيد بن الحباب ،
حدثني أبو الشهب ،عن الحسن ،قال :الرحمن :اسم ل يستطيع الناس أن ينتحلوه ،تسمى به
تبارك وتعالى (.)7
وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا حرفًا { بسم
حمَنِ الرّحِيمِ * مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } ( ، )8فقرأ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * الرّ ْ
حمَنِ الرّحِيمِ * الْ َ
اللّهِ الرّ ْ
ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله { :الْ َ
وكسرت الميم للتقاء الساكنين وهم الجمهور .وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح
ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فنقلوا حركة
حمَنِ الرّحِيمِ * الْ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
الميم وصلة الهمزة فيقولون { :بِ ْ
الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ ( )9قوله تعالى { :الم اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } قال ابن عطية :
ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (.} )2
ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت ( { .)10الْ َ
القراء السبعة على ضم الدال من قوله { :الحمدُ لِله } وهو مبتدأ وخبر .وروي عن سفيان بن
عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قال "الحمدَ لِله" بالنصب وهو على إضمار فعل ،وقرأ ابن أبي
__________
( )1في جـ " :وتفسيره" ،وفي طـ ،ب " :ويفسره".
( )2في جـ " :القسم".
( )3تفسير ابن أبي حاتم (.)1/42
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وقال :الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت به".
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :هذا".
( )7في طـ ،ب " :قال :ثم".
( )8في جـ ،ط ،ب " :وكانوا".
( )9في جـ " :يرفع".
( )10في جـ ،ط " :قال ابن جرير"
( )1/127
عبلة " :الحمدُ لُله" بضم الدال واللم إتباعًا للثاني الول وله شواهد لكنه شاذ ،وعن الحسن وزيد
بن علي " :الحمدِ لِله" بكسر الدال إتباعًا للول الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير :معنى { الحمد ل } الشكر ل خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه ،
ودون كل ما برأ من خلقه ،بما أنعم على عباده من النعم التي ل يحصيها العدد ،ول يحيط
بعددها غيره أحد ،في تصحيح اللت لطاعته ،وتمكين جوارح أجسام المكلفين لداء فرائضه ،
مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ،وغذّاهم به من نعيم العيش ،من غير استحقاق منهم ذلك
عليه ،ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ،من السباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في
النعيم المقيم ،فلربنا الحمد على ذلك كله أول وآخرًا.
[وقال ابن جرير { :الحمد ل } ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه
قال :قولوا { :الحمد ل } ] (.)1
قال :وقد قيل :إن قول القائل :الحمد ل " ،ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى ( ، )2وقوله :
الشكر ل ثناء عليه بنعمه وأياديه ،ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان
العرب يوقعون كل من الحمد والشكر مكان ( )3الخر.
[وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية .وقال ابن
عباس { :الحمد ل } كلمة كل شاكر ،وقد استدل القرطبي لبن جرير بصحة قول القائل :
{ الحمد ل } شكرًا (.)5( ] )4
وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد
هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللزمة والمتعدية ،والشكر ل يكون إل على المتعدية ،
ويكون بالجنان واللسان والركان ،كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلثة ...يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم ( )6اختلفوا :أيهما أعم ،الحمد أو الشكر ؟ على قولين ،والتحقيق أن بينهما عمومًا
وخصوصًا ،فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لنه يكون على الصفات اللزمة
والمتعدية ،تقول :حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه .وهو أخص لنه ل يكون إل بالقول ،
والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه ( ، )7لنه يكون بالقول والعمل ( )8والنية ،كما تقدم ،وهو
أخص لنه ل يكون إل على الصفات المتعدية ،ل يقال :شكرته لفروسيته ،وتقول :شكرته
على كرمه وإحسانه إليّ .هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين ،وال أعلم.
حمِدت الرجل أحمده
حمّاد الجوهري :الحمد نقيض الذم ،تقول َ :
وقال أبو نصر إسماعيل بن َ
حمدًا
__________
( )1في جـ " :ما صح به بنظره".
( )2تفسير الطبري (.)1/260
( )3سنن الترمذي برقم ( )3334وسنن النسائي الكبرى برقم ( )11658وسنن ابن ماجة برقم (
.)4244
( )4في أ ،و " :منها".
( )5في جـ " :فلذلك".
( )6في و " :ذكره ال".
( )7في جـ " :إلى نقض".
( )8في جـ " :فلذلك".
( )1/128
ومحمدة ( ، )1فهو حميد ومحمود ،والتحميد أبلغ من الحمد ،والحمد أعم من الشكر .وقال في
الشكر :هو الثناء على المحسن بما أولكه من المعروف ،يقال :شكرته ،وشكرت له .وباللم
أفصح (.)2
[وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لنه يكون للحي وللميت وللجماد -أيضا -كما يمدح الطعام
والمال ونحو ذلك ،ويكون قبل الحسان وبعده ،وعلى الصفات المتعدية واللزمة أيضًا فهو أعم]
(.)3
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو معمر القطيعي ،حدثنا حفص ،عن حجاج ،عن ابن أبي مُلَيْكة ،
عن ابن عباس ،رضي ال عنهما ،قال :قال عمر :قد عَِلمْنا سبحان ال ،ول إله إل ال ،فما
الحمد ل ؟ فقال علي :كلمة رضيها ال لنفسه (.)4
ورواه غير أبي َم ْعمَر ،عن حفص ،فقال :قال عمر لعلي ،وأصحابه عنده :ل إله إل ال ،
وسبحان ال ،وال أكبر ،قد عرفناها ،فما الحمد ل ؟ قال ( )5علي :كلمة أحبها [ال] ()6
لنفسه ،ورضيها لنفسه ،وأحب أن تقال (.)7
جدْعَان ،عن يوسف بن ِمهْرَان ،قال :قال ابن عباس :الحمد ل كلمة
وقال علي بن زيد بن ُ
الشكر ،وإذا قال العبد :الحمد ل ،قال :شكرني عبدي .رواه ابن أبي حاتم.
وروى -أيضًا -هو وابن جرير ،من حديث بشر بن عمارة ،عن أبي روق ،عن الضحاك ،
عن ابن عباس :أنه قال :الحمد ل هو الشكر ل والستخذاء له ،والقرار له بنعمه وهدايته
وابتدائه وغير ذلك.
وقال كعب الحبار :الحمد ل ثناء ال .وقال الضحاك :الحمد ل رداء الرحمن .وقد ورد
الحديث بنحو ذلك.
قال ابن جرير :حدثني سعيد بن عمرو السّكوني ،حدثنا بقية بن الوليد ،حدثني عيسى بن
إبراهيم ،عن موسى بن أبي حبيب ،عن الحكم بن عمير ،وكانت له صحبة قال :قال النبي
صلى ال عليه وسلم " :إذا
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2في جـ ،ط " :النبي".
( )3في جـ ،ط " :وقال".
( )4في أ " :سفيان".
( )5تفسير الطبري (.)1/265
( )6في جـ " :وقال".
( )7في جـ ،ط " :فيحتمل".
( )1/129
( )1/130
لجلل وجهك وعظيم سلطانك ،فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ،فصعدا إلى السماء
فقال يا رب ،إن عبدا قد قال مقالة ل ندري كيف نكتبها ،قال ال -وهو أعلم بما قال عبده : -
ماذا قال عبدي ؟ قال يا رب إنه قد قال :يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلل وجهك وعظيم
سلطانك .فقال ال لهما :اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" ( .)1وحكى القرطبي عن
طائفة أنهم قالوا :قول العبد :الحمد ل رب العالمين ،أفضل من قول :ل إله إل ال ؛ لشتمال
الحمد ل رب العالمين على التوحيد مع الحمد ،وقال آخرون :ل إله إل ال أفضل لنها الفصل
بين اليمان والكفر ،وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا :ل إله إل ال كما ثبت في الحديث المتفق
عليه وفي الحديث الخر في السنن " :أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي " :ل إله إل ال وحده
ل شريك له" ( .)2وقد تقدم عن جابر مرفوعا " :أفضل الذكر ل إله إل ال ،وأفضل الدعاء
الحمد ل" .وحسنه الترمذي.
واللف واللم في الحمد لستغراق جميع أجناس الحمد ،وصنوفه ل تعالى كما جاء في الحديث :
"اللهم لك الحمد كله ،ولك الملك كله ،وبيدك الخير كله ،وإليك يرجع المر كله" الحديث (.)3
{ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } والرب هو :المالك المتصرف ،ويطلق في اللغة على السيد ،وعلى المتصرف
للصلح ،وكل ذلك صحيح في حق ال تعالى.
[ول يستعمل الرب لغير ال ،بل بالضافة تقول :رب الدار رب كذا ،وأما الرب فل يقال إل ل
عز وجل ،وقد قيل :إنه السم العظم] (.)4والعالمين :جمع عالم [ ،وهو كل موجود سوى ال
عز وجل] ( ، )5والعالم جمع ل واحد له من لفظه ،والعوالم أصناف المخلوقات [في السماوات
والرض] ( )6في البر والبحر ،وكل قرن منها وجيل يسمى عالمًا أيضًا.
ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
قال بشر بن عمارة ،عن أبي روق ،عن الضحاك ،عن ابن عباس { :الْ َ
[الفاتحة ]2 :الحمد ل الذي له الخلق كله ،السماوات والرضون ،ومن فيهن وما بينهن ،مما
نعلم ،وما ل نعلم.
وفي رواية سعيد بن جبير ،وعكرمة ،عن ابن عباس :رب الجن والنس .وكذلك قال سعيد بن
__________
( )1في جـ " :ل تمنع".
( )2في أ ،و " :ما أظهره".
( )3في أ " :السبي".
( )4في جـ " :بكأس".
( )5في أ " :ويزيدها".
( )6في جـ " :بإسخاطهم".
( )1/131
جبير ،ومجاهد وابن جريج ،وروي عن علي [نحوه] ( .)1وقال ( )2ابن أبي حاتم :بإسناد ل
يعتمد عليه.
واستدل القرطبي لهذا القول بقوله { :لِ َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان ]1 :وهم الجن والنس.
وقال الفراء وأبو عبيدة :العالم عبارة عما يعقل وهم النس والجن والملئكة والشياطين ول يقال
للبهائم :عالم ،وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلء ( )3كل ما له روح يرتزق .وذكر
الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم -وهو آخر خلفاء بني أمية
ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار -أنه قال :خلق ال سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل
الرض عالم واحد وسائر ذلك ل يعلمه ( )4إل ال ،عز وجل.
وقال قتادة :رب العالمين ،كل صنف عالم .وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن
أبي العالية في قوله تعالى { رب العالمين } قال :النس عالم ،والجن عالم ،وما سوى ( )5ذلك
ثمانية عشر ألف عالم ،أو أربعة عشر ألف عالم ،هو يشك ،من الملئكة على الرض ،
وللرض أربع زوايا ،في كل زاوية ثلثة آلف عالم ،وخمسمائة عالم ،خلقهم [ال] ()6
لعبادته .رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
[وهذا كلم غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح] (.)7
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا هشام بن خالد ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا الفرات ،
يعني ابن الوليد ،عن معتب ( )8بن سمي ،عن تُبَيع ،يعني الحميري ،في قوله { :رب
العالمين } قال :العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ،وأربعمائة في البر.
[وحكي مثله عن سعيد بن المسيب] (.)9
وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده :
حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا عبيد بن واقد القيسي ،أبو عباد ،حدثني محمد بن عيسى بن
كيسان ،حدثنا محمد بن الم ْنكَدِر ،عن جابر بن عبد ال ،قال :قلّ الجراد في سنة من سني
عمر التي ولي فيها فسأل عنه ،فلم يخبر بشيء ،فاغتم لذلك ،فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ،
وآخر إلى الشام ،وآخر إلى العراق ،يسأل :هل رئي من الجراد شيء أم ل ؟ قال :فأتاه
الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ،فألقاها بين يديه ،فلما رآها كبر ،ثم قال :سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :
__________
( )1تفسير الطبري (.)1/273
( )2تفسير ابن أبي حاتم (.)1/46
( )3زيادة من و.
( )4زيادة من جـ.
( )5صحيح البخاري برقم ( )4902وصحيح مسلم برقم (.)3314
( )6صحيح البخاري برقم ( )25وصحيح مسلم برقم ( )22من حديث ابن عمرو رضي ال
عنهما.
( )7في طـ ،ب " :ناس".
( )8في أ " :النبي".
( )9تفسير الطبري (.)1/288
( )1/132
"خلق ال ألف أمة ،ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ،فأول شيء يهلك من هذه المم
الجراد ،فإذا هلك ( )1تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" (.)2محمد بن عيسى هذا -وهو الهللي
-ضعيف.
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال :ل ألف عالَم ؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر
،وقال وهب بن منبه :ل ثمانية عشر ألف عالَم ؛ الدنيا عالم منها .وقال مقاتل :العوالم ثمانون
ألفًا .وقال كعب الحبار :ل يعلم عدد العوالم إل ال عز وجل .نقله كله البغوي ،وحكى
القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال :إن ل أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها
عالم واحد منها ،وقال الزجاج :العالم كل ما خلق ال في الدنيا والخرة .قال القرطبي :وهذا
عوْنُ َومَا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * قَالَ َربّ
هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين ؛ كقوله { :قال فِرْ َ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } والعالم مشتق من العلمة(قلت) :لنه علم دال
سمَاوَاتِ وَال ْر ِ
ال ّ
على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :
فيا عجبا كيف يعصى الله ...أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ...تدل على أنه واحد
حمَنِ الرّحِيمِ (.} )3
{ الرّ ْ
وقوله { :الرحمن الرحيم } تقدم الكلم عليه في البسملة بما أغنى عن إعادته.
{ مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ (} )4
قرأ بعض القراء { :مَلِك َي ْومِ الدّينِ } وقرأ آخرون { :مَاِلكِ } (.)3وكلهما صحيح متواتر في
السبع.
[ويقال :مليك أيضًا ،وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ " :ملكي يوم الدين" وقد رجح كل من
القراءتين مرجحون من حيث المعنى ،وكلهما صحيحة حسنة ،ورجح الزمخشري ملك ؛ لنها
ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ } وحكي عن
قراءة أهل الحرمين ولقوله ِ { :لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َي ْومَ } وقوله َ { :قوْلُهُ ا ْلحَ ّ
أبي حنيفة أنه قرأ "مََلكَ يومَ الدين" على أنه فعل وفاعل ومفعول ،وهذا شاذ غريب جدا] (.)4وقد
روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال :حدثنا أبو عبد الرحمن الذْ َر ِميّ ،
حدثنا عبد الوهاب عن عدي ( )5بن الفضل ،عن أبي المطرف ،عن ابن شهاب :أنه بلغه أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا
يقرءون { :مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } وأول من أحدث "مَِلكِ" مروان (.)6قلت :مروان عنده علم بصحة
ما قرأه ،لم يطلع عليه ابن شهاب ،وال أعلم.
وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مَرْدُويه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقرؤها :
{ مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } ( )7ومالك مأخوذ من الملْك ،كما قال { :إِنّا َنحْنُ نَ ِرثُ ال ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا
جعُونَ } [مريم ]40 :وقال ُ { :قلْ أَعُوذُ بِ َربّ النّاسِ * مَِلكِ النّاسِ } [الناس ]2 ، 1 :
وَإِلَيْنَا يُرْ َ
وملك :مأخوذ من الملك كما قال تعالى ِ { :لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ } [غافر ]16 :
ن َوكَانَ َي ْومًا
حمَ ِ
حقّ لِلرّ ْ
ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ } [النعام ]73 :وقال { :ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ الْ َ
وقال َ { :قوْلُهُ ا ْلحَ ّ
عَلَى ا ْلكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان .]26 :
__________
( )1تفسير الطبري (.)1/289
( )2تفسير الطبري (.)1/289
( )3في أ ،و " :لحاله".
( )4زيادة من (أ).
( )5زيادة من طـ ،ب ،و.
( )6في أ " :كما قال".
( )7زيادة من أ.
( )1/133
وتخصيص الملك بيوم الدين ل ينفيه عما عداه ،لنه قد تقدم الخبار بأنه رب العالمين ،وذلك
عام في الدنيا والخرة ،وإنما أضيف إلى يوم الدين لنه ل يدعي أحد هنالك شيئا ،ول يتكلم أحد
ن َوقَالَ
حمَ ُ
ح وَا ْلمَل ِئكَ ُة صَفّا ل يَ َتكَّلمُونَ إِل مَنْ َأذِنَ لَهُ الرّ ْ
إل بإذنه ،كما قال َ { :يوْمَ َيقُومُ الرّو ُ
سمَعُ إِل َه ْمسًا } [طه :
حمَنِ فَل تَ ْ
صوَاتُ لِلرّ ْ
ت ال ْ
ش َع ِ
صوَابًا } [النبأ ]38 :وقال تعالى { :وَخَ َ
َ
سعِيدٌ } [هود .]105 :
ش ِقيّ وَ َ
، ]108وقال َ { :يوْمَ يَ ْأتِ ل َتكَلّمُ َنفْسٌ إِل بِإِذْ ِنهِ َفمِ ْنهُمْ َ
وقال الضحاك عن ابن عباس { :مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } يقول :ل يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما ،
كملكهم في الدنيا .قال :ويوم الدين يوم الحساب للخلئق ،وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن
خيرًا فخير وإن شرًا فشر ،إل من عفا عنه .وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف ،
وهو ظاهر.
وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى تفسير { مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } أنه القادر على إقامته ،ثم
شرع يضعفه.
والظاهر أنه ل منافاة بين هذا القول وما تقدم ( ، )1وأن كل من القائلين بهذا وبما قبله يعترف
بصحة القول الخر ،ول ينكره ،ولكن السياق أدل على المعنى الول من هذا ،كما قال :
حمَنِ } [الفرقان ]26 :والقول الثاني يشبه قوله { :وَ َيوْمَ َيقُولُ كُنْ
حقّ لِلرّ ْ
{ المُْلكُ َي ْومَئِذٍ الْ َ
فَ َيكُونُ } [ ،النعام ]73 :وال أعلم.
والمَلِك في الحقيقة هو ال عز وجل ؛ قال ال تعالى ُ { :هوَ اللّهُ الّذِي ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلمَِلكُ ا ْلقُدّوسُ
السّلمُ } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه مرفوعًا أخنع اسم عند ال رجل تسمى
بملك الملك ول مالك إل ال ،وفيهما عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يقبض ال
الرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الرض ؟ أين الجبارون ؟ أين
حدِ ا ْل َقهّارِ } فأما تسمية غيره في
المتكبرون ؟" وفي القرآن العظيم ِ { :لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى { :إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َلكُمْ طَالُوتَ مَِلكًا } َ { ،وكَانَ
جعََلكُمْ مُلُوكًا } وفي الصحيحين ( :مثل الملوك على
ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء َو َ
وَرَاءَهُمْ مَِلكٌ } { إِذْ َ
السرة).
حقّ } ،وقال { :أئنا
والدين الجزاء والحساب ؛ كما قال تعالى َ { :ي ْومَئِذٍ ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َنهُمُ الْ َ
لمدينون } أي مجزيون محاسبون ،وفي الحديث " :الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت"
أي حاسب نفسه لنفسه ؛ كما قال عمر رضي ال عنه " :حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ،وزنوا
أنفسكم قبل أن توزنوا ،وتأهبوا للعرض الكبر على من ل تخفى عليه أعمالكم َ { :ي ْومَئِذٍ
خفَى مِ ْنكُمْ خَافِ َيةٌ } ".
ُتعْ َرضُونَ ل تَ ْ
{ إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ (.} )5
[قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من { إياك } وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي
قراءة شاذة مردودة ؛ لن "إيا" ضوء الشمس .وقرأ بعضهم " :أياك" بفتح الهمزة وتشديد الياء ،
وقرأ بعضهم " :هياك" بالهاء بدل الهمزة ،كما قال الشاعر :
فهياك والمر الذي إن تراحبت ...موارده ضاقت عليك مصادره
و { نستعين } بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والعمش فإنهما
كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس] (.)2العبادة في اللغة من الذلة ،يقال :
طريق ُمعَبّد ،وبعير ُمعَبّد ،أي :مذلل ،وفي الشرع :عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع
والخوف.
وقدم المفعول وهو { إياك } ،وكرر ؛ للهتمام والحصر ،أي :ل نعبد إل إياك ،ول نتوكل إل
عليك ،وهذا هو كمال الطاعة .والدين يرجع كله ( )3إلى هذين المعنيين ،وهذا كما قال بعض
السلف :الفاتحة سر القرآن ،وسرها هذه الكلمة { :إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } [الفاتحة ]5 :
فالول تبرؤ من الشرك ،والثاني تبرؤ من الحول والقوة ،والتفويض
__________
( )1في أ ،و " :أو ذهبوا أو خلصوا".
( )2في طـ ،ب ،أ ،و " :الملفوظ".
( )3المسند (.)5/178
( )1/134
إلى ال عز وجل .وهذا المعنى في غير آية من القرآن ،كما قال تعالى { :فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْيهِ
حمَنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ َت َوكّلْنَا } [الملك :
عمّا َت ْعمَلُونَ } [هود ُ { ]123 :قلْ ُهوَ الرّ ْ
َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
َ { ]29ربّ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِبِ ل إِلَهَ إِل ُهوَ فَاتّخِ ْذ ُه َوكِيل } [المزمل ، ]9 :وكذلك هذه الية
الكريمة { :إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }.
وتحول الكلم من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب ،وهو مناسبة ( ، )1لنه لما أثنى على ال
فكأنه اقترب وحضر بين يدي ال تعالى ؛ فلهذا قال { :إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ َنسْ َتعِينُ } وفي هذا دليل
على أن أول السورة خبر من ال تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى ،وإرشاد
لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ؛ ولهذا ل تصح صلة من لم يقل ذلك ،وهو قادر عليه ،كما جاء في
الصحيحين ،عن عبادة بن الصامت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل صلة لمن لم
يقرأ بفاتحة الكتاب" ( .)2وفي صحيح مسلم ،من حديث العلء بن عبد الرحمن ،مولى الحُ َرقَة ،
عن أبيه ،عن أبي هريرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يقول ال تعالى :قسمت
الصلة بيني وبين عبدي نصفين ،فنصفها لي ونصفها لعبدي ،ولعبدي ما سأل ،إذا قال العبد :
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الفاتحة ]2 :قال :حمدني عبدي ،وإذا قال { :الرحمن الرحيم }
{ ا ْل َ
[الفاتحة ]3 :قال :أثنى علي عبدي ،فإذا قال { :مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } [الفاتحة ]4 :قال ال :
مجدني عبدي ،وإذا قال { :إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } [الفاتحة ]5 :قال :هذا بيني وبين عبدي
ولعبدي ما سأل ،فإذا قال { :ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ
ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } [الفاتحة ]7 ، 6 :قال :هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (.)3وقال
الضحاك ،عن ابن عباس { :إياك نعبد } يعني :إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا ل غيرك
{ وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها.
وقال قتادة { :إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ َنسْ َتعِينُ } يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم.
وإنما قدم { :إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لن العبادة له هي المقصودة ،والستعانة وسيلة
إليها ،والهتمام والحزم هو أن يقدم ( )4ما هو الهم فالهم ،وال أعلم.
فإن قيل :فما معنى النون في قوله { :إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي
واحد ،وإن كانت للتعظيم فل تناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب :بأن المراد من ذلك الخبار عن
جنس العباد والمصلي فرد منهم ،ول سيما إن كان في جماعة أو إمامهم ،فأخبر عن نفسه وعن
إخوانه ( )5المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لجلها ( ، )6وتوسط لهم بخير ،ومنهم من قال :يجوز
أن تكون للتعظيم ،كأن العبد قيل له :إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل :
{ إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } ،وإذا كنت خارج العبادة فل تقل :نحن ول فعلنا ،ولو كنت في
مائة ألف أو ألف ألف لفتقار الجميع إلى ال عز وجل .ومنهم من قال :ألطف في التواضع من
إياك أعبد ،لما في الثاني من تعظيمه نفسه
__________
( )1في طـ ،ب " :وقال".
( )2في طـ ،أ ،و " :مجازيهم".
( )3في طـ ،ب ،أ ،و " :ومعاقبهم".
( )4تفسير الطبري (.)1/303
( )5في جـ ،ط ،ب " :ناس".
( )6زيادة من ب ،و.
( )1/135
من جعله نفسه وحده أهل لعبادة ال تعالى الذي ل يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ،ول يثني
عليه كما يليق به ،والعبادة مقام عظيم ( )1يشرف به العبد لنتسابه إلى جناب ال تعالى ،كما
قال بعضهم :
ل تدعني إل بيا عبدها ...فإنه أشرف أسمائي
حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَابَ
وقد سمى ال رسوله بعبده في أشرف مقاماته [فقال] ( { )2ا ْل َ
} [الكهف { ]1 :وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ } [الجن { ]19 :سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْل }
[السراء ]1 :فسماه عبدًا عند إنزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به ،وأرشده إلى القيام
بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له ،حيث يقول { :وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنكَ َيضِيقُ
جدِينَ * وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّى يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ }
ك َوكُنْ مِنَ السّا ِ
حمْدِ رَ ّب َ
صَدْ ُركَ ِبمَا َيقُولُونَ * فَسَبّحْ بِ َ
[الحجر .]99 - 97 :
وقد حكى فخر الدين في تفسيره عن بعضهم :أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة ؛ لكون
العبادة تصدر ( )3من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق ؛ قال :ولن ال متولي
مصالح عبده ،والرسول متولي مصالح أمته ( )4وهذا القول خطأ ،والتوجيه أيضًا ضعيف ل
حاصل له ،ولم يتعرض له فخر الدين بتضعيف ول رده .وقال بعض الصوفية :العبادة إما
لتحصيل ثواب ورد عقاب ؛ قالوا :وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده ،وإما
للتشريف بتكاليف ال تعالى ،وهذا -أيضًا -عندهم ضعيف ،بل العالي أن يعبد ال لذاته
المقدسة الموصوفة بالكمال ،قالوا :ولهذا يقول المصلي :أصلي ل ،ولو كان لتحصيل الثواب
ودرء ( )5العذاب لبطلت صلته .وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا :كون العبادة ل عز وجل ،
ل ينافي أن يطلب معها ثوابا ،ول أن يدفع عذابًا ،كما قال ذلك العرابي :أما إني ل أحسن
دندنتك ول دندنة معاذ إنما أسأل ال الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى ال عليه وسلم :
"حولها ندندن" (.)6
{ اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ (} )6
قراءة الجمهور بالصاد .وقرئ " :السراط" وقرئ بالزاي ،قال الفراء :وهي لغة بني عذرة
وبلقين ( )7وبني كلب.
لما تقدم الثناء على المسؤول ،تبارك وتعالى ،ناسب أن يعقب بالسؤال ؛ كما قال " :فنصفها لي
ونصفها لعبدي ،ولعبدي ما سأل" وهذا أكمل أحوال السائل ،أن يمدح مسؤوله ،ثم يسأل حاجته
[وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله { :اهدنا } ] ( ، )8لنه أنجح للحاجة وأنجع للجابة ،ولهذا أرشد
ال تعالى إليه لنه الكمل ،وقد يكون السؤال بالخبار عن حال السائل واحتياجه ،كما قال
موسى عليه السلم َ { :ربّ إِنّي ِلمَا أَنز ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } [القصص ]24 :وقد يتقدمه مع
ذلك وصف المسؤول ،كقول ذي النون { :ل إِلَهَ إِل أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }
[النبياء ]87 :وقد يكون بمجرد الثناء
__________
( )1في ب ،أ ،و " :ضللتهم".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في جـ " :ضلل".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5زيادة من جـ.
( )6زيادة من طـ.
( )7في هـ " :فأما" وهو خطأ.
( )8في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :كما قد يكون".
( )1/136
( )1/137
( )1/138
( )1/139
صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا الضّالّينَ ()7
{ صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َعمْتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ (} )7
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد { :اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } إلى آخرها أن ال يقول " :هذا
لعبدي ولعبدي ما سأل" .وقوله { :صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْي ِهمْ } مفسر للصراط المستقيم .وهو
بدل منه عند النحاة ،ويجوز أن يكون عطف بيان ،وال أعلم.
علَ ْيهِمْ } ( )1هم المذكورون في سورة النساء ،حيث قال َ { :ومَنْ يُطِعِ اللّهَ
و { الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ َ
حسُنَ
ن وَ َ
شهَدَا ِء وَالصّالِحِي َ
ن وَال ّ
ن وَالصّدّيقِي َ
وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مِنَ النّبِيّي َ
أُولَ ِئكَ َرفِيقًا * ذَِلكَ ا ْل َفضْلُ مِنَ اللّ ِه َوكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا } [النساء .]70 ، 69 :
وقال الضحاك ،عن ابن عباس :صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ،من ملئكتك ،
وأنبيائك ،والصديقين ،والشهداء ،والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى َ { :ومَنْ يُطِعِ
اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } الية [النساء .]69 :
وقال أبو جعفر ،عن الربيع بن أنس { :صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ } قال :هم النبيون .وقال
ابن جُرَيْج ،عن ابن عباس :هم المؤمنون .وكذا قال مجاهد .وقال َوكِيع :هم المسلمون .وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :هم النبي صلى ال عليه وسلم ومن معه .والتفسير المتقدم ،عن
ابن عباس أعم ،وأشمل ،وال أعلم.
وقوله تعالى { :غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ وَل الضّالّينَ } [قرأ الجمهور " :غير" بالجر على النعت ،
قال الزمخشري :وقرئ بالنصب على الحال ،وهي قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم وعمر
بن الخطاب ،ورويت عن ابن كثير ،وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل { :أنعمت }
والمعنى] ( )2اهدنا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ،
وهم أهل الهداية والستقامة والطاعة ل ورسله ،وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ،غير
صراط المغضوب عليهم [ ،وهم] ( )3الذين فسدت إرادتهم ،فعلموا الحق وعدلوا عنه ،ول
صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضللة ل يهتدون إلى الحق ،وأكد الكلم
بل ليدل على أن َثمّ مسلكين فاسدين ،وهما طريقتا اليهود والنصارى.
وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ،فيكون على هذا منقطعًا لستثنائهم من المنعم
عليهم وليسوا منهم ،وما أوردناه أولى ،لقول الشاعر ( )4كأنّك من جِمال بني أقَيشُ ...ي َقعْقَعُ
عند ( )5رِجْلَيْه بشَنّ
أي :كأنك جمل من جمال بني أقيش ،فحذف الموصوف واكتفى بالصفة ( ، )6وهكذا { ،غَيْرِ
ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ }
__________
( )1في جـ " :لنها".
( )2في جـ " :علمه".
( )3في جـ " :طعنوا بكفرهم به".
( )4في جـ " :فبذلك".
( )5في جـ " :يصدقه".
( )6في طـ ،ب ،و " :إل هو".
( )1/140
( )1/141
"يا عدي ،ما أفرك ( )1أن يقال ( )2ل إله إل ال ؟ فهل من إله إل ال ؟ قال :ما أفرك ( )3أن
يقال :ال أكبر ،فهل شيء أكبر ( )4من ال ،عز وجل ؟" .قال :فأسلمت ،فرأيت وجهه
استبشر ،وقال " :المغضوب ( )5عليهم اليهود ،وإن الضالين النصارى" (.)6وذكر الحديث ،
ورواه الترمذي ،من حديث سماك بن حرب ( ، )7وقال :حسن غريب ل نعرفه إل من حديثه.
قلت :وقد رواه حماد بن سلمة ،عن سماك ،عن مُ ّريّ بن َقطَريّ ،عن عدي بن حاتم ،قال :
سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قول ال { :غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْي ِهمْ } قال " :هم اليهود"
{ ول الضالين } قال " :النصارى هم الضالون" .وهكذا رواه سفيان بن عيينة ،عن إسماعيل بن
أبي خالد ،عن الشعبي ،عن عدي بن حاتم به (.)8وقد روي حديث عدي هذا من طرق ،وله
ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.
شقِيق ،أنه أخبره من
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن ُبدَيْل ال ُعقَيْلي ،أخبرني عبد ال بن َ
سمع النبي صلى ال عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ،وهو على فرسه ،وسأله رجل من بني القين
،فقال :يا رسول ال ،من هؤلء ؟ قال " :المغضوب عليهم -وأشار إلى اليهود -والضالون
حذّاء ،عن عبد ال بن شقيق ،فأرسلوه
هم النصارى" (.)9وقد رواه الجُرَيري وعروة ،وخالد ال َ
( ، )10ولم يذكروا من سمع النبي صلى ال عليه وسلم .ووقع في رواية عروة تسمية عبد ال بن
عمر ،فال أعلم.
طهْمان ،عن بديل بن ميسرة ،عن عبد ال بن
وقد روى ابن مَرْدُويه ،من حديث إبراهيم بن َ
شقيق ،عن أبي ذر قال :سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال :
"اليهود" [ ،قال] ( )11قلت :الضالين ،قال " :النصارى" (.)12وقال السّدّي ،عن أبي مالك ،
وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرة الهمداني ،عن ابن مسعود ،وعن أناس من
أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم { :غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } هم اليهود { ،ول الضالين } هم
النصارى.
وقال الضحاك ،وابن جُرَيْج ،عن ابن عباس { :غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } اليهود { ،ول الضالين
}
__________
( )1في أ " :فيه".
( )2في جـ " :يكذبون" ،وفي أ " :يكون".
( )3في أ ،و " :ومنهم من يمشي".
( )4في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :ال".
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :أن نبي ال".
( )6في جـ ،ط ،ب " ،أبين و".
( )7في أ " :داود".
( )8في و " :يؤتى".
( )9في أ ،و " :يؤتى".
( )10في جـ " :ويتقد".
( )11في جـ " :الطيالسي".
( )12في جـ " :عتيبة".
( )1/142
[هم] ( )1النصارى.
وكذلك قال الربيع بن أنس ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،وغير واحد ،وقال ابن أبي حاتم :
ول أعلم بين المفسرين في هذا اختلفًا.
وشاهد ما قاله هؤلء الئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ،والنصارى ضالون ،الحديث
سهُمْ أَنْ
سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ
المتقدم ،وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة { :بِ ْئ َ
علَى
ضبٍ َ
َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضِْلهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ فَبَاءُوا ِب َغ َ
ضبٍ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ } [البقرة ، ]90 :وقال في المائدة (ُ { )2قلْ َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ ِبشَرّ مِنْ
غ َ
َ
ج َعلَ مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِي َر وَعَبَدَ الطّاغُوتَ
غضِبَ عَلَيْهِ وَ َ
ذَِلكَ مَثُوبَةً عِ ْندَ اللّهِ مَنْ َلعَنَهُ اللّ ُه وَ َ
سوَاءِ السّبِيلِ } [المائدة ، ]60 :وقال تعالى ُ { :لعِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ
ضلّ عَنْ َ
أُولَ ِئكَ شَرّ َمكَانًا وََأ َ
صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ * كَانُوا ل يَتَنَا َهوْنَ
ع َ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُ َد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَِلكَ ِبمَا َ
عَنْ مُ ْنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِ ْئسَ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ } [المائدة .]79 ، 78 :
وفي السيرة ( )4( )3عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى
الشام يطلبون الدين الحنيف ،قالت له اليهود :إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك
من غضب ال .فقال :أنا من غضب ال أفر .وقالت له النصارى :إنك لن تستطيع الدخول معنا
سخَط ال فقال :ل أستطيعه .فاستمر على فطرته ،وجانب عبادة الوثان
حتى تأخذ بنصيبك من َ
ودين المشركين ،ولم يدخل مع أحد من اليهود ول النصارى ،وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا
في دين النصرانية ؛ لنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ،وكان منهم ورقة بن نوفل ،
حتى هداه ال بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ،رضي ال عنه.
(مسألة) :والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الخلل بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب
مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الضراس ،ومخرج
الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ،ولن كل من الحرفين من الحروف المجهورة
ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ،فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الخر لمن
ل يميز ذلك وال أعلم .وأما حديث " :أنا أفصح من نطق بالضاد" فل أصل له وال أعلم .فصل
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ،على حمد ال وتمجيده والثناء عليه ،بذكر أسمائه
الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ( ، )5وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ،وعلى إرشاده عبيده (
)6إلى سؤاله والتضرع إليه ،والتبرؤ من حولهم وقوتهم ،وإلى إخلص العبادة له وتوحيده
باللوهية تبارك وتعالى ،وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ،وإلى سؤالهم إياه
الهداية إلى الصراط المستقيم ،وهو الدين القويم ،وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز
الصراط الحسي يوم القيامة ،المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ،والصديقين ،
والشهداء ،والصالحين.
واشتملت على الترغيب في العمال الصالحة ،ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ،والتحذير من
مسالك الباطل ؛ لئل يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ،وهم المغضوب عليهم والضالون .وما
أحسن ما جاء إسناد النعام إليه في قوله تعالى { :صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ } وحذف الفاعل في
الغضب في قوله تعالى { :غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ،كما
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } الية [المجادلة ، ]14 :
غ ِ
قال تعالى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
__________
( )1في أ " :تحير".
( )2في جـ " :وهذا شبه".
( )3في جـ " :المؤمنين".
( )4في جـ " :بالمصباح الذي".
( )5زيادة من جـ ،ط.
( )6في جـ ،ب :قدم الية الثامنة على الية الثالثة من سورة الحج.
( )1/143
وكذلك إسناد الضلل إلى من قام به ،وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ،كما قال تعالى { :مَنْ
َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ َتجِدَ َل ُه وَلِيّا مُرْشِدًا } [الكهف .]17 :وقال { :مَنْ ُيضِْللِ
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [العراف .]186 :إلى غير ذلك من اليات
اللّهُ فَل هَا ِديَ َل ُه وَيَذَرُهُمْ فِي ُ
الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والضلل ،ل كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا
حذوهم ،من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه ( ، )1ويحتجون على بدعتهم ( )2بمتشابه
من القرآن ،ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ،وهذا حال أهل الضلل والغي ،وقد
ورد في الحديث الصحيح " :إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ،فأولئك الذين سمى ال
فاحذروهم" ( .)3يعني في قوله تعالى { :فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ } [آل
عمران ، ]7 :فليس -بحمد ال -لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لن القرآن جاء ليفصل
الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلل ،وليس فيه تناقض ول اختلف ؛ لنه من عند ال ،
تنزيل من حكيم حميد (.)4
فصل
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها :آمين [مثل :يس] ( ، )5ويقال :أمين .بالقصر أيضًا
[مثل :يمين] ( ، )6ومعناه :اللهم استجب ،والدليل على ذلك ( )7ما رواه المام أحمد وأبو داود
،والترمذي ،عن وائل بن حجر ،قال :سمعت النبي صلى ال عليه وسلم قرأ { :غَيْرِ
ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } فقال " :آمين" ،مد ( )8بها صوته ،ولبي داود :رفع بها
صوته ( ، )9وقال الترمذي :هذا حديث حسن .وروي عن علي ،وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة ،قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا تل { غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ وَل
الضّالّينَ } قال " :آمين" حتى يسمع من يليه من الصف الول ،رواه أبو داود ،وابن ماجه ،
وزاد :يرتج ( )10بها المسجد ( ، )11والدارقطني وقال :هذا إسناد حسن.
وعن بلل أنه قال :يا رسول ال ،ل تسبقني بآمين .رواه أبو داود (.)12
__________
( )1في جـ ،ب ،أ ،و " :تعالى".
( )2في أ " :في أول البقرة وآخرها" ،وفي جـ " :في أول سورة الواقعة وفي آخرها".
( )3في جـ " :فلخص".
( )4صحيح البخاري برقم ( )34وصحيح مسلم برقم ( )58ولفظه " :أربع من كن فيه كان منافقا
خالصا -والرابعة -وإذا خاصم فجر".
( )5في جـ " :المددين".
( )6المسند (.)3/17
( )7في جـ ،ط ،ب ،و " :ابن إسحاق".
( )8زيادة من جـ.
( )9زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )10في جـ " :غير هذا الموضع".
( )11في جـ " :فراشا" وهو خطأ.
( )12صحيح البخاري برقم ( )4761وصحيح مسلم برقم (.)68
( )1/144
ونقل أبو نصر القشيري ( )1عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل { :آمّينَ
الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ } [المائدة .]2 :
قال أصحابنا وغيرهم :ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلة ،ويتأكد في حق المصلي ،وسواء
كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ،وفي جميع الحوال ،لما جاء في الصحيحين ،عن أبي
هريرة ،رضي ال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إذا أمن المام فأمنوا ،فإنه
من وافق تأمينه تأمين الملئكة ،غفر له ما تقدم من ذنبه" ولمسلم :أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :إذا قال أحدكم في الصلة :آمين ،والملئكة ( )2في السماء :آمين ،فوافقت
إحداهما الخرى ،غفر له ما تقدم من ذنبه" ([.)3قيل :بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملئكة في
الزمان ،وقيل :في الجابة ،وقيل :في صفة الخلص] (.)4وفي صحيح مسلم عن أبي موسى
مرفوعا " :إذا ( )5قال ،يعني المام { :ول الضالين } ،فقولوا :آمين .يجبكم ال" (.)6وقال
جوَيبر ،عن الضحاك ،عن ابن عباس ،قال :قلت :يا رسول ال ،ما معنى آمين ؟ قال :
ُ
"رب افعل" (.)7وقال الجوهري :معنى آمين :كذلك فليكن ،وقال الترمذي :معناه :ل تخيب
رجاءنا ،وقال الكثرون :معناه :اللهم استجب لنا ،وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق
وهلل بن كيسان :أن آمين اسم من أسماء ال تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ول يصح ،
قاله أبو بكر بن العربي المالكي (.)8وقال أصحاب مالك :ل يؤمن المام ويؤمن المأموم ،لما
س َميّ ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
رواه مالك عن ُ
" :وإذا قال ،يعني المام { :ول الضالين } ،فقولوا :آمين" .الحديث ( .)9واستأنسوا -أيضا -
بحديث أبي موسى " :وإذا قرأ { :ول الضالين } ،فقولوا " :آمين".
وقد قدمنا في المتفق عليه " :إذا أمن المام فأمنوا" وأنه عليه الصلة والسلم كان يؤمن إذا قرأ (
{ )10غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ }
__________
( )1في جـ " :ول".
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )7373ومسلم في صحيحه برقم (.)30
( )3في جـ " :ليقول".
( )4رواه أبو داود في السنن برقم ( )4980من حديث حذيفة رضي ال عنه.
( )5ورواه المام أحمد في المسند ( )5/72من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به.
( )6رواه ابن ماجة في السنن برقم ( )2118عن هشام بن عمار ،عن سفيان ،عن عبد الملك بن
عمير به ،وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/151هذا إسناد رجاله ثقات على شرط البخاري
لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير".
( )7في جـ " :أندادا".
( )8سنن النسائي الكبرى برقم ( )10825وسنن ابن ماجة برقم ( )2117وقال البوصيري في
الزوائد (" : )1/150هذا فيه الجلح بن عبد ال ،مختلف فيه".
( )9في جـ " :تعالى".
( )10زيادة من جـ ،ط.
( )1/145
وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ،وحاصل الخلف أن المام إن نسي
التأمين جهر المأموم به قول واحدًا ،وإن أمّن المام جهرًا فالجديد أنه ل يجهر المأموم وهو
مذهب أبي حنيفة ،ورواية عن مالك ؛ لنه ذكر من الذكار فل يجهر به كسائر أذكار الصلة.
والقديم أنه يجهر به ،وهو مذهب المام أحمد بن حنبل ،والرواية الخرى عن مالك ،لما ()1
تقدم " :حتى يرتج المسجد".
ولنا قول آخر ثالث :أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم ( ، )2لنهم يسمعون قراءة
المام ،وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ،وال أعلم.
وقد روى المام أحمد في مسنده ،عن عائشة ،رضي ال عنها ،أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم ذكرت عنده اليهود ،فقال " :إنهم لن يحسدونا ( )3على شيء كما يحسدونا ( )4على
الجمعة التي هدانا ال لها وضلوا عنها ،وعلى القبلة التي هدانا ال لها وضلوا عنها ،وعلى قولنا
خلف المام :آمين" ( ، )5ورواه ابن ماجه ،ولفظه " :ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم
على السلم والتأمين" ( ، )6وله عن ابن عباس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ما
حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول :آمين ،فأكثروا من قول " :آمين" ( )7وفي
إسناده طلحة بن عمرو ،وهو ضعيف.
وروى ابن مَ ْردُويه ،عن أبي هريرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :آمين :خاتم
رب العالمين على عباده المؤمنين" (.)8وعن أنس ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"أعطيت آمين في الصلة وعند الدعاء ،لم يعط أحد قبلي إل أن يكون موسى ،كان موسى يدعو
،وهارون يؤمن ،فاختموا الدعاء بآمين ،فإن ال يستجيبه لكم" (.)9
قلت :ومن هنا نزع بعضهم في الدللة بهذه الية الكريمة ،وهي قوله تعالى َ { :وقَالَ مُوسَى
طمِسْ
ن َومَلهُ زِي َن ًة وََأ ْموَال فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ
عوْ َ
رَبّنَا إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
عوَ ُت ُكمَا
عَلَى َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَل ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ اللِيمَ * قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ
فَاسْ َتقِيمَا وَل تَتّ ِبعَانّ سَبِيلَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ } [يونس ، ]89 ، 88 :فذكر الدعاء عن موسى
وحده ،ومن سياق الكلم ما يدل على أن
__________
( )1في جـ " :لن هذا".
( )2في جـ " :وقال".
( )3في جـ " :ال وحده".
( )4في جـ ،أ " :عمله".
( )5في جـ " :سره".
( )6في ب " :أطيب عند ال".
( )7في جـ ،ب ،أ ،و " :نفسي منكم".
( )8في جـ " :وصلى وزعم أنه مسلم".
( )9في أ " :وإن صلى وإن صام".
( )1/146
( )1/147
( )1/149
وقال أبو عبيد القاسم بن سلم :حدثني ابن أبي مريم ،عن ابن ( )1لهيعة ،عن يزيد بن أبي
حبيب ،عن سِنان بن سعد ،عن أنس بن مالك ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :
إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " (.)2
سنان بن سعد ،ويقال بالعكس ،وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.
وقال أبو عبيد :حدثنا محمد بن جعفر ،عن شعبة ،عن سلمة بن ُكهَيْل ،عن أبي الحوص ،
عن عبد ال ،يعني ابن مسعود ،قال :إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة.
ورواه النسائي في اليوم والليلة ،وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ( )3ثم قال الحاكم
:صحيح السناد ،ولم يخرجاه.
وقال ابن مَ ْردُويه :حدثنا أحمد بن كامل ،حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ،حدثنا أيوب بن سليمان
بن بلل ،حدثني أبو بكر بن أبي أويس ،عن سليمان بن بلل ،عن محمد بن عجلن ،عن أبي
إسحاق ،عن أبي الحوص ،عن عبد ال بن مسعود ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :ل أ ْلفَيَنّ أحَدَكم َ ،يضَع إحدى رجليه على الخرى يتغنى ،ويدع سورة البقرة يقرؤها ،فإن
صفْر من كتاب ال
ج ْوفُ ال ّ
الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة ،وإن أصفْرَ البيوت ،ال َ
".
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ،عن محمد بن نصر ،عن أيوب بن سليمان ،به (.)4
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال :ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إل خرج منه
الشيطان وله ضراط ( .)5وقال :إن لكل شيء سناما ،وإن سنام القرآن سورة البقرة ،وإن لكل
شيء لبابًا ،وإن لباب القرآن المفصل ( .)6وروى -أيضا -من طريق الشعبي قال :قال عبد
ال بن مسعود :من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة
أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلث آيات من آخرها ( )7وفي رواية :لم يقربه ول
أهله يومئذ شيطان ول شيء يكرهه ول يقرأن على مجنون إل أفاق.
وعن سهل بن سعد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن لكل شيء سناما ،وإن سنام
القرآن البقرة ،من قرأها في بيته ليلة ( )8لم يدخله الشيطان ( )9ثلث ليال ،ومن قرأها في بيته
نهارًا لم يدخله
__________
( )1في جـ " :أبي".
( )2فضائل القرآن (ص .)121
( )3فضائل القرآن لبي عبيد (ص )121وسنن النسائي الكبرى برقم ( )10800والمستدرك (
.)2/260
( )4سنن النسائي الكبرى برقم ( )10799ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم ()3292
"مجمع البحرين" من طريق حلو بن السري ،عن أبي إسحاق ،عن أبي الحوص ،عن عبد ال
به مرفوعا وخالفهما -أي ابن عجلن وحلو بن السري -شعبة ،فرواه عن أبي إسحاق ،عن
أبي الحوص ،عن عبد ال فوقفه ،أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم ( )176وشعبة
أوثق الناس في أبي إسحاق ،ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم ( )165من طريق
إبراهيم ،عن أبي الحوص ،عن عبد ال موقوفا.
( )5سنن الدارمي برقم (.)3375
( )6سنن الدارمي برقم (.)3377
( )7سنن الدارمي برقم (.)3383
( )8في أ " :ليل".
( )9في ط ،ب " :شيطان".
( )1/150
( )1/151
وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس )1( ،رضي ال عنه ،وذلك فيما رواه أبو عبيد
[القاسم] ( : )2حدثنا عباد بن عباد ،عن جرير بن حازم ،عن جرير ( )3بن يزيد :أن أشياخ
أهل المدينة حدثوه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قيل له :ألم تر ثابت بن قيس بن
شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ،قال " :فلعله قرأ سورة البقرة " .قال :فسئل
ثابت ،فقال :قرأت سورة البقرة (.)4
وهذا إسناد جيد ،إل أن فيه إبهاما ،ثم هو مرسل ،وال أعلم[ .ذكر] ( )5ما ورد في فضلها مع
آل عمران
قال ( )6المام أحمد :حدثنا أبو نعيم ،حدثنا بشير بن مهاجر ( )7حدثني عبد ال بن بريدة ،عن
أبيه ،قال :كنت جالسًا عند النبي صلى ال عليه وسلم فسمعته يقول " :تعلموا سورة البقرة ،
فإن أخذها بركة ،وتركها حسرة ،ول تستطيعها البطلة " .قال :ثم سكت ساعة ،ثم قال " :
تعلموا سورة البقرة ،وآل عمران ،فإنهما الزهراوان ،يُظلن صاحبهما يوم القيامة ،كأنهما
غمامتان أو غيايتان ،أو فرْقان من طير صَوافّ ،وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين
ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب ،فيقول له :هل تعرفني ؟ فيقول :ما أعرفك .فيقول :أنا
صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ،وأسهرت ليلك ،وإن كل تاجر من وراء تجارته ،
وإنك اليوم من وراء كل تجارة .فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ،ويوضع على رأسه تاج
الوقار ،ويكسى والداه حلتين ،ل يقوم لهما ( )8أهل الدنيا ،فيقولن :بم كسينا هذا ؟ فيقال :
بأخذ ولدكما القرآن ،ثم يقال :اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها ،فهو في صعود ما دام يقرأ
هَذّا كان أو ترتيل ".
وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر ( )9بعضه ( ، )10وهذا إسناد حسن ( )11على
شرط مسلم ،فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم ،ووثقه ابن معين ،وقال النسائي :ليس به بأس ،
إل أن المام أحمد قال فيه :هو منكر الحديث ،قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب .وقال
البخاري :يخالف في بعض حديثه .وقال أبو حاتم الرازي :يكتب حديثه ول يحتج به .وقال ابن
عدي :روى ما ل يتابع عليه .وقال الدارقطني :ليس بالقوي.
قلت :ولكن لبعضه شواهد ؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي ؛ قال المام أحمد :حدثنا عبد
الملك بن عمرو حدثنا هشام ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي سلم ،عن أبي أمامة ،قال :
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :اقرؤوا القرآن فإنه شافع لهله يوم القيامة ،
اقرؤوا الزهراوين :البقرة وآل عمران ،فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ،أو كأنهما
غيايتان ،أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " ( )12ثم قال " :اقرؤوا البقرة
فإن أخذها بركة ( ، )13وتركها حسرة ،ول تستطيعها
__________
( )1في ط ،ب " :الشماس".
( )2زيادة من ط.
( )3في جـ ،ب " :عن عمه جرير".
( )4فضائل القرآن لبي عبيد (ص )27وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا.
( )5زيادة من أ ،و.
( )6في جـ ،ط " :وقال".
( )7في ط ،ب " :المهاجر".
( )8في أ ،و " :عليهما".
( )9في جـ " :المهاجر به".
( )10المسند ( )5/348وسنن ابن ماجة برقم (.)3781
( )11في جـ " :جيد".
( )12في جـ " :عن أهلهما يوم القيامة".
( )13في أ " :حسنة".
( )1/152
( )1/153
الجبل (.)1
[قال أبو عبيد] ( )2وحدثنا عبد ال بن صالح ،عن معاوية بن صالح ،عن أبي عمران :أنه
سمع أم الدرداء تقول :إن رجل ممن قرأ القرآن أغار على جار له ،فقتله ،وإنه أقيدَ به (، )3
فقتل ،فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة ،حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ،ثم إن آل
ي َومَا أَنَا ِبظَلمٍ لِ ْلعَبِيدِ }
عمران انسلت منه ،وأقامت البقرة جمعة ،فقيل لها { :مَا يُ َب ّدلُ ا ْلقَ ْولُ لَ َد ّ
[ق ]29 :قال :فخرجت كأنها السحابة العظيمة (.)4
قال أبو عبيد :أراه ،يعني :أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه ،فكانتا من آخر ما
بقي معه من القرآن.
سهِر الغساني ،عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي :أن يزيد بن
وقال -أيضًا : -حدثنا أبو مُ ْ
السود الجُرَشي كان يحدث ( : )5أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم ،برئ من النفاق حتى
يمسي ،ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح ،قال :فكان يقرؤهما كل يوم وليلة
سوى جزئه (.)6
[قال أيضًا] ( : )7وحدثنا يزيد ،عن وقاء ( )8بن إياس ،عن سعيد بن جبير ،قال :قال عمر
بن الخطاب رضي ال عنه :من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان -أو كتب -من القانتين (
.)9
فيه انقطاع ،ولكن ثبت في الصحيحين ( : )10أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ بهما ()11
في ركعة واحدة ([ .)12ذكر] ( )13ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو عبيد :حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ،عن محمد بن شعيب ،عن سعيد بن بشير ،
عن قتادة ،عن أبي المليح ،عن واثلة بن السقع ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :
أعطيت السبع الطّوال مكان التوراة ،وأعطيت المئين مكان النجيل ،وأعطيت المثاني ()14
مكان الزبور ،وفضلت بالمفصّل " (.)15
هذا حديث غريب ،وسعيد بن بشير ،فيه لين.
وقد رواه أبو عبيد [أيضا] ( ، )16عن عبد ال بن صالح ،عن الليث ،عن سعيد بن أبي هلل ،
قال :بلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ...فذكره ،وال أعلم .ثم قال ( )17حدثنا
إسماعيل بن جعفر ،عن عمرو ( )18بن أبي عمرو ،مولى المطلب بن عبد ال بن حنطب ،
عن حبيب بن هند السلمي ،
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)126
( )2زيادة من و.
( )3في جـ ،ط ،ب " :منه".
( )4فضائل القرآن (ص .]127 ، 126
( )5في جـ " :يحدثه".
( )6فضائل القرآن (.)127
( )7زيادة من ب ،و.
( )8في هـ " :ورقاء".
( )9فضائل القرآن (ص .)127
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :والصحيح".
( )11في جـ ،ط ،ب ،و " :قرأ بهن" ،وفي أ " :قرأهن".
( )12الحديث وقع لي في سنن النسائي ( )2/177من حديث حذيفة ،رضي ال عنه.
( )13زيادة من أ ،و.
( )14في أ " :وأعطيت السبع المثاني".
( )15فضائل القرآن (ص )120ورواه الطبري في تفسيره ( )1/100من طريق رواد بن الجراح
عن سعيد بن بشير به ،ورواه الطبري في تفسيره ( )1/100من طريق الطيالسي عن عمران -
أبي العوام -عن قتادة به ،ورواه الطبري في تفسيره ( )1/101من طريق ليث بن أبي سليم عن
أبي بردة عن أبي المليح به نحوه.
( )16زيادة من ب.
( )17في ب " :قال أيضا".
( )18في جـ " :عمر".
( )1/154
عن عروة ،عن عائشة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :من أخذ السبع فهو حَبْر" (.)1
وهذا أيضًا غريب ،وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة السلمي ،روى عنه عمرو بن
أبي عمرو وعبد ال بن أبي بكرة ،وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا ،فال أعلم.
وقد رواه المام أحمد ،عن سليمان بن داود ،وحسين ،كلهما عن إسماعيل بن جعفر ،به (.)2
ورواه -أيضًا -عن أبي سعيد ،عن سليمان بن بلل ،عن حبيب بن هند ،عن عروة ،عن
عائشة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من أخذ السبع الوَل من القرآن فهو حَبْر " (
.)3
قال أحمد :وحدثنا حسين ،حدثنا ابن أبي الزناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم مثله (.)4
قال عبد ال بن أحمد :وهذا أرى فيه ،عن أبيه ،عن العرج ،ولكن كذا كان في الكتاب بل "
أبي " ( ، )5أغفله أبي ،أو كذا هو مرسل ،ثم قال أبو عبيد :حدثنا هُشَيْم ،أخبرنا أبو بشر ،
عن سعيد بن جبير ،في قوله تعالى { :وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي } [الحجر ، ]87 :قال :
هي السبع الطول :البقرة ،وآل عمران ،والنساء ،والمائدة ،والنعام ،والعراف ،ويونس.
قال :وقال مجاهد :هي السبع الطول .وهكذا قال مكحول ،وعطية بن قيس ،وأبو محمد
الفارسي ( ، )6وشَداد بن عبيد ال ،ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الية بذلك ،وفي
تعدادها ،وأن يونس هي السابعة .فصل
والبقرة جميعها مدنية بل خلف ،قال بعض العلماء :وهي مشتملة على ألف خبر ،وألف أمر ،
وألف نهي.
وقال العادون :آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات ،وكلماتها ستة آلف كلمة ومائة وإحدى
وعشرون كلمة ،وحروفها خمسة ( )7وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ،فال أعلم.
قال ابن جُرَيْج ،عن عطاء ،عن ابن عباس :أنزل بالمدينة سورة البقرة.
وقال خَصيف :عن مجاهد ،عن عبد ال بن الزبير ،قال :أنزل بالمدينة سورة البقرة.
وقال الواقدي :حدثني الضحاك بن عثمان ،عن أبي الزّناد ،عن خارجة بن زيد بن ثابت ،عن
أبيه ،قال :نزلت البقرة بالمدينة.
وهكذا قال غير واحد من الئمة والعلماء ،والمفسرين ،ول خلف فيه.
__________
( )1فضائل القرآن (ص .)120
( )2المسند (.)6/73
( )3المسند (.)6/82
( )4المسند (.)6/73
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فل أدري".
( )6في جـ ،ط ،ب " :القارئ".
( )7في جـ " :خمس".
( )1/155
الم ()1
وقال ابن مَ ْردُويه :حدثنا محمد بن َم ْعمَر ،حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [الفارسي] ( )1حدثنا
خلف بن هشام ،حدثنا عُبيس ( )2بن ميمون ،عن موسى بن أنس بن مالك ،عن أبيه ،قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تقولوا :سورة البقرة ،ول سورة آل عمران ،ول
سورة النساء ،وكذا القرآن كله ،ولكن قولوا :السورة التي يذكر فيها البقرة ،والتي يذكر فيها
آل عمران ،وكذا القرآن كله " (.)3
هذا حديث غريب ل يصح رفعه ،وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص ،وهو ضعيف
الرواية ،ل يحتج به .وقد ثبت في الصحيحين ( ، )4عن ابن مسعود :أنه رمى الجمرة من بطن
الوادي ،فجعل البيت عن يساره ،ومنى عن يمينه ،ثم قال ( : )5هذا مقام الذي أنزلت عليه
سورة البقرة .أخرجاه (.)6
وروى ابن مَ ْردُويه ،من حديث شعبة ،عن عقيل بن طلحة ،عن عتبة بن فرقد ( )7قال :رأى
النبي صلى ال عليه وسلم في أصحابه تأخرًا ( ، )8فقال " :يا أصحاب سورة البقرة " (.)9
وأظن هذا كان يوم حنين ،حين ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم " :يا أصحاب الشجرة " ،يعني
أهل بيعة الرضوان .وفي رواية " :يا أصحاب البقرة ( " )10؛ لينشطهم بذلك ،فجعلوا يقبلون
من كل وجه ( .)11وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة ،جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر (
)12بني حنيفة ،فجعل المهاجرون والنصار يتنادون :يا أصحاب سورة البقرة ،حتى فتح ال
عليهم ( .)13رضي ال عن أصحاب رسول ال أجمعين.
حمَنِ الرّحِيم الم } 1
{ ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ،فمنهم من قال :هي مما استأثر
ال بعلمه ،فردوا علمها إلى ال ،ولم يفسروها [حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي وابن مسعود رضي ال عنهم به ،وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن
خثيم ،واختاره
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2في هـ " :عيسى".
( )3رواه الطبراني في الوسط برقم (" )3450مجمع البحرين" والبيهقي في شعب اليمان برقم (
)2582من طريق عُبيس بن ميمون ،عن موسى بن أنس به ،وقال البيهقي " :عُبيس بن ميمون
منكر الحديث :وهذا ل يصح ،وإنما روى عن ابن عمر من قوله".
( )4ف جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الصحيح".
( )5في و " :يقول".
( )6صحيح البخاري برقم ( )1747وصحيح مسلم برقم (.)1296
( )7في هـ " :مربد" وهو خطأ.
( )8في جـ " :تأخرا في أصحابه".
( )9ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )17/133من طريق علي بن قتيبة عن شعبة عن عقيل
بن أبي طلحة به ،وجاء من حديث أنس ،رواه أبو يعلى في مسنده ( )6/289من طريق عمرو
بن عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي ال عنه.
( )10في ب " :سورة البقرة".
( )11جاء من حديث العباس ،رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1775من طريق الزهري ،عن
كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي ال عنه.
( )12في جـ ،ط ،ب ،و " :حبيش".
( )13رواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )12/502من طريق هشام بن عروة ،عن أبيه قال :
"كان شعار أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم يوم مسيلمة " :يا أصحاب سورة البقرة".
( )1/156
مرّة الهمذاني عن ابن مسعود .وعن ناس من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم :الم .قال :أما
الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء ال تعالى.
وقال أبو جعفر الرّازي ،عن الرّبيع بن أنس ،عن أبي العالية في قوله تعالى { :الم } قال :هذه
الحرف الثلثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها اللسن كلها ،ليس منها حرف إل وهو
مفتاح اسم من أسمائه ،وليس منها حرف إل وهو من آلئه وبلئه ،وليس منها حرف إل وهو
في مدة أقوام وآجالهم .قال عيسى ابن مريم ،عليه السلم ،وعَجب ،فقال :وأعْجَب أنهم
ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه ،فكيف يكفرون به ؛ فاللف مفتاح اسم ال ،واللم مفتاح
اسمه لطيف ( )1والميم مفتاح اسمه مجيد ( )2فاللف آلء ال ،واللم لطف ال ،والميم مجد ال
،واللف ( )3سنة ،واللم ثلثون سنة ،والميم أربعون [سنة] ( .)4هذا لفظ ابن أبي حاتم.
ونحوه رواه ابن جرير ،ثم شرع يوجه كل واحد من هذه القوال ويوفق بينها ،وأنه ل منافاة
بين كل واحد منها وبين الخر ،وأن الجمع ممكن ،فهي أسماء السور ،ومن أسماء ال تعالى
يفتتح بها السور ،فكل حرف منها َدلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ،كما افتتح سورا
كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه .قال :ول مانع من دللة الحرف منها على اسم من أسماء ال ،
وعلى صفة من صفاته ،وعلى مدة وغير ذلك ،كما ذكره الرّبيع بن أنس عن أبي العالية ؛ لن
الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة ،كلفظة المة فإنها تطلق ويراد به الدين ،كقوله تعالى { :
جدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ } [الزخرف .]23 ، 22 :وتطلق ويراد بها الرجل المطيع ل ،كقوله :
إِنّا وَ َ
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ } [النحل ]120 :وتطلق ويراد بها
سقُونَ } [القصص ، ]23 :وقوله { :وََلقَدْ َبعَثْنَا
جدَ عَلَيْهِ ُأمّةً مِنَ النّاسِ َي ْ
الجماعة ،كقوله { :وَ َ
فِي ُكلّ ُأمّةٍ َرسُول} [النحل ]36 :وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله َ { :وقَالَ الّذِي نَجَا
مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ } [يوسف ]45 :أي :بعد حين على أصح القولين ،قال :فكذلك هذا.
هذا حاصل كلمه موجهًا ،ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية ،فإن أبا العالية زعم أن الحرف
دل على هذا ،وعلى هذا ،وعلى هذا معًا ،ولفظة المة وما أشبهها ( )5من اللفاظ المشتركة
في الصطلح ،إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلم ،فأما
حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الصول ،ليس هذا ()6
موضع البحث فيها ،وال أعلم ؛ ثم إن لفظ المة تدل على كل ( )7معانيه في سياق الكلم بدللة
الوضع ،فأما دللة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون
أحدهما أولى من الخر في التقدير أو الضمار بوضع ول بغيره ،فهذا مما ل يفهم إل بتوقيف ،
والمسألة مختلف فيها ،وليس فيها إجماع حتى يحكم به.
__________
( )1في جـ " :اسمه اللطيف" ،وفي أ " :اسم لطيف".
( )2في جـ " :المجيد".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فاللف".
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وما أشبهه".
( )6في أ " :هنا".
( )7في ط ،ب " :كل من".
( )1/158
وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلق الحرف الواحد على بقية الكلمة ،فإن في السياق ما
يدل على ما حذف بخلف هذا ،كما قال الشاعر :
حسَبِي أنا نَسينا اليجاف ()1
قلنا قفي لنا فقالت قاف ...ل تَ ْ
تعني :وقفت .وقال الخر :
ما للظليم عَالَ كَ ْيفَ ل يا ...ينقَدّ عنه جلده إذا يا ()2
قال ابن جرير :كأنه أراد أن يقول :إذا يفعل كذا وكذا ،فاكتفى بالياء من يفعل ،وقال الخر :
بالخير خيرات وإن شرًا فا ...ول أريد الشر إل أن تا ()3
يقول :وإن شرًا فشر ،ول أريد الشر إل أن تشاء ،فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن
بقيتهما ،ولكن هذا ظاهر من سياق الكلم ،وال أعلم.
[قال القرطبي :وفي الحديث " :من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" ( )4الحديث .قال شقيق :
هو أن يقول في اقتل :اق] (.)5
وقال خصيف ،عن مجاهد ،أنه قال :فواتح السور كلها "ق وص وحم وطسم والر" وغير ذلك
هجاء موضوع .وقال بعض أهل العربية :هي حروف من حروف المعجم ،استغنى بذكر ما
ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ،التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا ،كما يقول
القائل :ابني يكتب في :ا ب ت ث ،أي :في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر
بعضها عن مجموعها .حكاه ابن جرير.
قلت :مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا ،وهي
:ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن ،يجمعها قولك :نص حكيم قاطع له سر .وهي نصف
الحروف عددًا ،والمذكور منها أشرف من المتروك ،وبيان ذلك من صناعة التصريف.
[قال الزمخشري :وهذه الحروف الربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من
المهموسة والمجهورة ،ومن الرخوة والشديدة ،ومن المطبقة والمفتوحة ،ومن المستعلية
والمنخفضة ومن حروف القلقلة .وقد سردها مفصلة ثم قال :فسبحان الذي دقت في كل شيء
حكمته ،وهذه الجناس المعدودة ثلثون بالمذكورة منها ،وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل
منزلة كله] (.)6
__________
( )1البيت في تفسير الطبري (.)1/212
( )2البيت في تفسير الطبري (.)1/213
( )3البيت في تفسير الطبري ( )1/213وينسب إلى القيم بن أوس كما ذكره المحقق الفاضل.
( )4تفسير القرطبي ( )1/156والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم ( )2620من طريق يزيد
بن أبي زياد ،عن الزهري ،عن سعيد ،عن أبي هريرة رضي ال عنه به مرفوعا ،وقال
البوصيري في الزوائد (" : )2/334هذا إسناد ضعيف ،يزيد بن أبي زياد الدمشقي قال فيه
البخاري وأبو حاتم :منكر الحديث".
تنبيه :وقع في بعض النسخ المساعدة :قال سفيان ،بدل شقيق ،والذي في تفسير القرطبي
موافق لما هاهنا ،وقد روي هذا القول عن سفيان الصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (
.)2329
( )5زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/159
ومن هاهنا لحظ ( )1بعضهم في هذا المقام كلمًا ،فقال :ل شك أن هذه الحروف لم ينزلها
سبحانه وتعالى عبثًا ول سدى ؛ ومن قال من الجهلة :إنّه في القرآن ما هو تعبد ل معنى له
بالكلية ،فقد أخطأ خطأ كبيرًا ،فتعين أن لها معنى في نفس المر ،فإن صح لنا فيها عن
المعصوم شيء قلنا به ،وإل وقفنا حيث وقفنا ،وقلنا { :آمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِ ْندِ رَبّنَا } [آل عمران :
.]7
ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين ،وإنما اختلفوا ،فمن ظهر له بعض القوال بدليل فعليه
اتباعه ،وإل فالوقف حتى يتبين .هذا مقام.
المقام الخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ،ما ( )2هي ؟ مع قطع
النظر عن معانيها في أنفسها .فقال بعضهم :إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور .حكاه ابن
جرير ،وهذا ضعيف ؛ لن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه ،وفيما ذكرت فيه بالبسملة
تلوة وكتابة.
وقال آخرون :بل ابتدئ بها ل ُتفْتَحَ لستماعها أسماعُ المشركين -إذ ( )3تواصوا بالعراض عن
القرآن -حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلّف منه .حكاه ابن جرير -أيضًا ، -وهو ضعيف
أيضًا ؛ لنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور ل ( )4يكون في بعضها ،بل غالبها ليس
كذلك ،ولو كان كذلك -أيضًا -لنبغى ( )5البتداء بها في أوائل الكلم معهم ،سواء كان
افتتاح سورة أو غير ذلك .ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا
خطابًا للمشركين ،فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.
وقال آخرون :بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لعجاز القرآن
،وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ،هذا مع أنه [تركب] ( )6من هذه الحروف المقطعة
التي يتخاطبون بها.
ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فل بد أن يذكر فيها النتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ،
وهذا معلوم بالستقراء ،وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ،ولهذا يقول تعالى { :الم * ذَِلكَ
علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ
حيّ ا ْلقَيّومُ * نزلَ َ
ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ } [البقرة { .]2 ، 1 :الم * اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ
حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ } [آل عمران { .]3 - 1 :المص * كِتَابٌ أُنزلَ إِلَ ْيكَ فَل َيكُنْ فِي
بِالْ َ
صَدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ } [العراف { .]2 ، 1 :الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ ِإلَ ْيكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى
النّورِ بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ } [إبراهيم {]1 :الم * تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ ل رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [السجدة 1 :
حمَنِ الرّحِيمِ } [فصلت { .]2 ، 1 :حم * عسق * كَذَِلكَ يُوحِي إِلَ ْيكَ
{ .]2 ،حم * تَنزيلٌ مِنَ الرّ ْ
حكِيمُ } [الشورى ، ]3 - 1 :وغير ذلك من اليات الدالة على
وَإِلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكَ اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
صحة ما ذهب إليه هؤلء لمن أمعن ( )7النظر ،وال أعلم.
__________
( )1في ب ،و " :لخص" ،وفي جـ ،ط " :يخص".
( )2في ط " :وما".
( )3في ط " :إذا".
( )4في ب " :ول".
( )5في جـ ،ط " :ل ينبغي".
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )7في ط " :أنعم".
( )1/160
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد ،وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن
والملحم ،فقد ادعى ما ليس له ،وطار في غير مطاره ،وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ،
وهو مع ذلك أدل على بطلن هذا المسلك من التمسك به على صحته .وهو ما رواه محمد بن
إسحاق بن يسار ،صاحب المغازي ،حدثني الكلبي ،عن أبي صالح ،عن ابن عباس ،عن
جابر بن عبد ال بن رئاب ،قال :مر أبو ياسر ( )1بن أخطب ،في رجال من يهود ،برسول
ال صلى ال عليه وسلم ،وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { :الم * ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ [ هدى
للمتقين] ([ } )2البقرة ] 2 ، 1 :فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ،فقال :تعلمون
-وال -لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل ال عليه { :الم * ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ } فقال :
أنت سمعته ؟ قال :نعم .قال :فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود ( )3إلى رسول
ال صلى ال عليه وسلم :فقالوا :يا محمد ،ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل ال عليك { :الم * ذلك
الكتاب ل [ريب] } ( )4؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بلى" .فقالوا :جاءك ( )5بهذا
جبريل من عند ال ؟ فقال " :نعم" .قالوا :لقد بعث ال قبلك أنبياء ما نعلمه ( )6بين لنبي منهم ما
مدة ملكه وما أجل أمته غيرك .فقام ( )7حيي بن أخطب ،وأقبل على من كان معه ،فقال لهم :
اللف واحدة ،واللم ثلثون ،والميم أربعون ،فهذه إحدى وسبعون سنة ،أفتدخلون في دين نبي
،إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
فقال :يا محمد ،هل مع هذا غيره ؟ فقال " :نعم" ،قال :ما ذاك ؟ قال " :المص" ،قال :هذا
أثقل وأطول ،اللف واحدة ،واللم ثلثون ،والميم أربعون ،والصاد سبعون ( ، )8فهذه إحدى
وثلثون ( )9ومائة سنة .هل مع هذا يا محمد غيره ( )10؟ قال " :نعم" قال :ما ذاك ( )11؟ قال
" :الر" .قال :هذا ( )12أثقل وأطول ،اللف واحدة ،واللم ثلثون ،والراء مائتان .فهذه إحدى
وثلثون ومائتا سنة .فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال " :نعم" ،قال :ماذا ؟ قال " :المر" .قال :
فهذه أثقل وأطول ،اللف واحدة ،واللم ثلثون ،والميم أربعون ،والراء مائتان ،فهذه إحدى
وسبعون ومائتان ،ثم قال :لقد لبس علينا أمرك يا محمد ،حتى ما ندري أقليل أعطيت أم كثيرا.
ثم قال :قوموا عنه .ثم قال أبو ياسر ( )13لخيه حيي بن أخطب ،ولمن معه من الحبار :ما
يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلثون ( )14ومائة وإحدى
وثلثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ،فذلك سبعمائة وأربع سنين ( .)15فقالوا :لقد تشابه
علينا أمره ،فيزعمون أن هؤلء اليات نزلت فيهم ُ { :هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَُأخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ } [آل عمران .)16( ]7 :
مُ ْ
__________
( )1في جـ " :أبو إياس".
( )2زيادة من جـ.
( )3في جـ ،ط " :من يهود".
( )4زيادة من ب.
( )5في جـ ،ط " :أجاءك".
( )6في جـ " :ما نعلمهم".
( )7في أ " :فقال".
( )8في جـ " :تسعون" ،وفي ط ،ب ،أ ،و " :ستون".
( )9في جـ " :إحدى وستون".
( )10في جـ ،أ ،و " :هل مع هذا غيره يا محمد".
( )11في جـ ،ط ،ب ،و " :ماذا".
( )12في جـ ،ط ،ب " :هذه".
( )13في جـ " :أبو إياس".
( )14في جـ " :إحدى وستون".
( )15في جـ " :أربع وثلثين سنة".
( )16ورواه البخاري في التاريخ الكبير ( )2/208والطبري في تفسيره ( )1/217من طريق ابن
إسحاق ،وأطنب العلمة أحمد شاكر في الكلم عليه في حاشية تفسير الطبري.
( )1/161
فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي ،وهو ممن ل يحتج بما انفرد به ،ثم كان مقتضى هذا
المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الربعة عشر التي ذكرناها ،وذلك
يبلغ منه جملة كثيرة ،وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم ( )1وال أعلم.
{ ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ (} )2
قال ابن جُرَيج :قال ابن عباس " :ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ" :هذا الكتاب .وكذا قال مجاهد ،وعكرمة ،
وسعيد بن جبير ،والسديّ ومقاتل بن حيان ،وزيد بن أسلم ،وابن جريج :أن ذلك بمعنى هذا ،
والعرب تقارض بين هذين السمين من أسماء الشارة فيستعملون كل منهما مكان الخر ،وهذا
معروف في كلمهم.
و { ا ْلكِتَابُ } القرآن .ومن قال :إن المراد بذلك الكتاب الشارة إلى التوراة والنجيل ،كما حكاه
جعَة وأغْرق ( )2في النزع ،وتكلف ما ل علم له به.
ابن جرير وغيره ،فقد أبعد النّ ْ
والرّيب :الشك ،قال السدي عن أبي مالك ،وعن أبي صالح عن ابن عباس ،وعن مرة
ال َهمْدانيّ عن ابن مسعود ،وعن أناس ( )3من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم { :ل
رَ ْيبَ فِيهِ } ل شك فيه.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء
وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد .وقال ابن
أبي حاتم :ل أعلم في هذا خلفًا.
[وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل :
بثينة قالت يا جميل أربتني ...فقلت كلنا يا بثين مريب...
واستعمل -أيضًا -في الحاجة كما قال بعضهم (: )4
قضينا من تهامة كل ريب ...وخيبر ثم أجمعنا السيوفا] ()5
ومعنى الكلم :أن هذا الكتاب -وهو القرآن -ل شك فيه أنه نزل ( )6من عند ال ،كما قال
تعالى في السجدة { :الم * تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ ل رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [السجدة .]2 ، 1 :
[وقال بعضهم :هذا خبر ومعناه النهي ،أي :ل ترتابوا فيه] (.)7
ومن القراء من يقف على قوله { :ل رَ ْيبَ } ويبتدئ بقوله { :فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ } والوقف على
قوله تعالى { :ل رَ ْيبَ فِيهِ } أولى للية التي ذكرنا ،ولنه يصير قوله { :هُدًى } صفة للقرآن ،
وذلك أبلغ من كون { :فِيهِ ُهدًى }.
و { ُهدًى } يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت ،ومنصوبًا على الحال.
__________
( )1في و " :أطم وأعظم" ،وفي أ " :أعظم وأعظم".
( )2في جـ " : ،أغرب".
( )3في جـ ،ط " :ناس".
( )4هو كعب بن مالك ،والبيت في اللسان ،مادة "ريب".
( )5زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )6في جـ ،ط ،ب " :منزل".
( )7زيادة من جـ ،ط.
( )1/162
الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْنفِقُونَ ()3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن عمران ،حدثنا إسحاق بن سليمان ،يعني
الرازي ،عن المغيرة بن مسلم ،عن ميمون أبي حمزة ،قال :كنت جالسًا عند أبي وائل ،فدخل
علينا رجل ،يقال له :أبو عفيف ،من أصحاب معاذ ،فقال له شقيق بن سلمة :يا أبا عفيف ،
أل تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال :بلى سمعته يقول :يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد ،
فينادي مناد :أين المتّقون ؟ فيقومون في كَ َنفٍ من الرّحمن ل يحتجب ال منهم ول يستتر .قلت :
من المتّقون ؟ قال :قوم اتّقوا الشرك وعبادة الوثان ،وأخلصوا ل العبادة ،فيمرون إلى الجنة (
.)1
وأصل التقوى :التوقي مما يكره لن أصلها وقوى من الوقاية .قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ...فتناولته واتقتنا باليد...
وقال الخر :
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت ...بأحسن موصولين كف ومعصم...
وقد قيل :إن عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،سأل أبيّ بن كعب عن التقوى ،فقال له :أما
سلكت طريقًا ذا شوك ؟ قال :بلى قال :فما عملت ؟ قال :شمرت واجتهدت ،قال :فذلك
التقوى.
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :
خل الذنوب صغيرها ...وكبيرها ذاك التقى...
واصنع كماش فوق أر ...ض الشوك يحذر ما يرى...
ل تحقرن صغيرة ...إن الجبال من الحصى...
وأنشد أبو الدرداء يومًا :
يريد المرء أن يؤتى مناه ...ويأبى ال إل ما أرادا...
يقول المرء فائدتي ومالي ...وتقوى ال أفضل ما استفادا...
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما استفاد المرء
بعد تقوى ال خيرًا من زوجة صالحة ،إن نظر إليها سرته ،وإن أمرها أطاعته ،وإن أقسم
عليها أبرته ،وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" (.)2
{ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ (} )3
قال أبو جعفر الرازي ،عن العلء بن المسيب بن رافع ،عن أبي إسحاق ،عن أبي الحوص ،
عن عبد ال ،قال :اليمان التصديق.
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم ( )1/33وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
( )2سنن ابن ماجة برقم ( )1857من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم ،
عن أبي أمامة رضي ال عنه ،وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/70هذا إسناد فيه علي بن
زيد بن جدعان وهو ضعيف ،وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه".
( )1/164
وقال علي بن أبي طلحة وغيره ،عن ابن عباس ُ { ،ي ْؤمِنُونَ } يصدقون.
وقال َم ْعمَر عن الزهري :اليمان العمل.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ُ { :ي ْؤمِنُونَ } يخشون.
قال ابن جرير وغيره :والولى أن يكونوا موصوفين باليمان بالغيب قول واعتقادًا وعمل قال :
وقد تدخل الخشية ل في معنى اليمان ،الذي هو تصديق القول بالعمل ،واليمان كلمة جامعةٌ
للقرار بال وكتبه ورسله ،وتصديق القرار بالفعل .قلت :أما اليمان في اللغة فيطلق على
التصديق المحض ،وقد يستعمل في القرآن ،والمراد به ذلك ،كما قال تعالى ُ { :ي ْؤمِنُ بِاللّهِ
وَ ُيؤْمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [التوبة ، ]61 :وكما قال إخوة يوسف لبيهم َ { :ومَا أَ ْنتَ ِب ُم ْؤمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنّا
صَا ِدقِينَ } [يوسف ، ]17 :وكذلك إذا استعمل مقرونا مع العمال ؛ كقوله { :إِل الّذِينَ آمَنُوا
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } [النشقاق ، 25 :والتين ، ]6 :فأما إذا استعمل مطلقًا فاليمان الشرعي
وَ َ
المطلوب ل يكون إل اعتقادًا وقول وعمل.
هكذا ذهب إليه أكثر الئمة ،بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا
:أن اليمان قول وعمل يزيد وينقص .وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا ( )1الكلم فيها
في أول شرح البخاري ،ول الحمد والمنة.
شوْنَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَ ْيبِ } [الملك ، ]12 :وقوله
ومنهم من فسره بالخشية ،لقوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ يَخْ َ
حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ َوجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ } [ق ، ]33 :والخشية خلصة اليمان والعلم ،
شيَ الرّ ْ
{ :مَنْ خَ ِ
خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ } [فاطر .]28 :
كما قال تعالى { :إِ ّنمَا يَ ْ
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ،وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع
مراد.
قال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله ُ { :ي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } قال
:يؤمنون بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،وجنته وناره ولقائه ،ويؤمنون بالحياة بعد
الموت وبالبعث ،فهذا غيب كله.
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي ،عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرة الهمداني عن ابن
مسعود ،وعن ناس من أصحاب النبي ( )2صلى ال عليه وسلم :أما الغَيب فما غاب عن العباد
من أمر الجنة ،وأمر النار ،وما ذكر في القرآن.
عكْرِمة ،أو عن سعيد بن جبير ،عن
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد ،عن ِ
ابن عباس { :بِا ْلغَ ْيبِ } قال :بما جاء منه ،يعني :مِنَ ال تعالى.
وقال سفيان الثوري ،عن عاصم ،عن زِرّ ،قال :ا ْلغَيْب القرآن.
__________
( )1في جـ ،ط " :وأفردنا".
( )2في جـ ،ط " :رسول ال".
( )1/165
وقال عطاء بن أبي رباح :من آمن بال فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد ُ { :ي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } قال :بغيب السلم.
وقال زيد بن أسلم { :الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } قال :بالقدر .فكل هذه متقاربة في معنى واحد ؛
لن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب اليمان به.
وقال سعيد بن منصور :حدثنا أبو معاوية ،عن العمش ،عن عمارة بن عمير ،عن عبد
الرحمن بن يزيد ( )1قال :كنا عند عبد ال بن مسعود جلوسًا ،فذكرنا أصحَاب النبي صلى ال
عليه وسلم وما سبقوا به ،قال :فقال عبد ال :إن أمر محمد صلى ال عليه وسلم كان بينا لمن
رآه ،والذي ل إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ،ثم قرأ { :الم * َذِلكَ
ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } إلى قوله { :ا ْل ُمفْلِحُونَ } [البقرة - 1 :
.)2( ]5
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ،وابن مَرْدُويه ،والحاكم في مستدركه ،من طرق ،عن العمش ،به
(.)3
وقال الحاكم :صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [المام] ( )4أحمد ،حدثنا أبو المغيرة ،أخبرنا الوزاعي ،
حدثني أسيد ( )5بن عبد الرحمن ،عن خالد بن دُرَيك ،عن ابن مُحَيريز ،قال :قلت لبي جمعة
:حدثنا حديثا سمعته من رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :نعم ،أحدثك حديثًا جيدًا :تغدينا (
)6مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح ،فقال :يا رسول ال ،هل
أحد ( )7خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .قال " :نعم" ،قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم
يروني" (.)8
طريق أخرى :قال أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسيره :حدثنا عبد ال بن جعفر ،حدثنا إسماعيل
عن عبد ال بن مسعود ،حدثنا عبد ال بن صالح ،حدثنا معاوية بن صالح ،عن صالح بن جُبَيْر
،قال :قدم علينا أبو جمعة النصاري ،صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ببيت المقدس ،
ليصلي فيه ،ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة ،فلما انصرف ( )9خرجنا نشيعه ،فلما أراد
النصراف قال :إن لكم جائزة وحقا ؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،قلنا :هات رحمك ال قال :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل
عاشر عشرة ،فقلنا :يا رسول ال ،هل من قوم أعظم أجرًا منا ؟ آمنا بك واتبعناك ،قال :
__________
( )1في أ " :زيد".
( )2سنن سعيد بن منصور برقم ( )180تحقيق د .الحميد.
( )3تفسير ابن أبي حاتم ( )1/34والمستدرك (.)2/260
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في هـ " :أسد".
( )6في جـ " :فعدنا".
( )7في جـ " :أأحد".
( )8المسند ( )4/106قال الحافظ ابن حجر في الصابة (" : )4/33واختلف فيه على الوزاعي ،
فقال الكثر :عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز .وقال ابن شماسة :عن الوزاعي
عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري (" : )7/6إسناده حسن".
( )9في جـ " :انصرفنا".
( )1/166
"ما يمنعكم من ذلك ورسول ال بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ،بل قوم من بعدكم يأتيهم
كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه ،أولئك أعظم منكم أجرا" مرتين (.)1
ضمْرَة بن ربيعة ،عن مرزوق بن نافع ،عن صالح بن جبير ،عن أبي
ثم رواه من حديث َ
جمعة ،بنحوه (.)2
وهذا الحديث فيه دللة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث ،كما قررته في أول
شرح البخاري ؛ لنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية ل مطلقا.
وكذا الحديث الخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي :حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي ،
عن المغيرة بن قيس التميمي ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟" .قالوا :الملئكة .قال " :وما لهم ل
يؤمنون وهم عند ربهم ؟" .قالوا :فالنبيون .قال " :وما لهم ل يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟".
قالوا :فنحن .قال " :وما لكم ل تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟" .قال :فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :أل إن أعجب الخلق إليّ إيمانا َل َقوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب
يؤمنون بما فيها" (.)3
قال أبو حاتم الرازي :المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت :ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده ،وابن مردويه في تفسيره ،والحاكم في مستدركه ،من
حديث محمد بن أبي حميد ،وفيه ضعف ،عن زيد بن أسلم ،عن أبيه ،عن عمر ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم ،بمثله أو نحوه .وقال الحاكم :صحيح السناد ،ولم يخرجاه ( )4وقد روي
نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا ( ، )5وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن محمد المسندي ،حدثنا إسحاق بن إدريس ،
أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة النصاري ،أخبرني جعفر بن محمود ،عن جدته
تويلة ( )6بنت أسلم ،قالت :صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ،فاستقبلنا مسجد
إيلياء ( ، )7فصلينا سجدتين ،ثم جاءنا من يخبرنا :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد استقبل
البيت ( )8الحرام ،فتحول النساء مكان الرجال ،والرجال مكان النساء ،فصلينا السجدتين
الباقيتين ،ونحن مستقبلون ( )9البيت الحرام.
قال إبراهيم :فحدثني رجال من بني حارثة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حين بلغه ذلك
قال " :أولئك قوم
__________
( )1ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )4/23عن بكر بن سهل عن عبد ال بن صالح به.
( )2ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )4/23من طريق ضمرة بن ربيعة به.
( )3جزء الحسن بن عرفة برقم (.)19
( )4مسند أبي يعلى ( )1/147والمستدرك ( )4/85وتعقب الذهبي الحاكم فقال " :بل ضعفوه".
( )5رواه البزار في مسنده (" )2840كشف الستار" من طريق سعيد بن بشير ،عن قتادة ،عن
أنس رضي ال عنه ،وقال " :غريب من حديث أنس".
( )6في هـ " :نويلة".
( )7في جـ " :المسجد القصى".
( )8في جـ ،ط " :بيت ال".
( )9في طـ ،ب ،أ ،و " :مستقبلوا".
( )1/167
آمنوا بالغيب" (.)1
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
{ وَ ُيقِيمُونَ الصّل َة ومما رزقناهم ينفقون } 3
قال ابن عباس :أي :يقيمون الصلة بفروضها.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس :إقامة ( )2الصلة إتمام ( )3الركوع والسجود والتلوة
والخشوع والقبال عليها فيها.
وقال قتادة :إقامة ( )4الصلة المحافظة على مواقيتها ووضوئها ،وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان :إقامتها :المحافظة على مواقيتها ،وإسباغ الطهور فيها ( )5وتمام
ركوعها وسجودها ( )6وتلوة القرآن فيها ،والتشهد والصلة على النبي صلى ال عليه وسلم ،
فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة ،وغيره عن ابن عباس َ { :و ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ } قال :زكاة أموالهم.
وقال السدي ،عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرة عن ابن مسعود ،
وعن أناس من أصحاب رسول ال ( )7صلى ال عليه وسلم { َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ } قال :هي
نفقة الرجل على أهله ،وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
جوَيْبر ،عن الضحاك :كانت النفقات قربات ( )8يتقربون بها إلى ال على قدر ميسرتهم
وقال ُ
وجهدهم ،حتى نزلت فرائض الصدقات :سبعُ آيات في سورة براءة ،مما يذكر فيهن
الصدقات ،هن الناسخات المُثْبَتَات.
وقال قتادة َ { :و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْن ِفقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم ال ،هذه الموال عواري وودائع
عندك يا ابن آدم ،يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الية عامة في الزكاة والنفقات ،فإنه قال :وأولى التأويلت وأحقها بصفة
القوم :أن يكونوا لجميع اللزم لهم في أموالهم ُمؤَدّين ،زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته ،
من أهل أو عيال وغيرهم ،ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك ؛ لن ال تعالى عم
وصفهم ومدحهم بذلك ،وكل من النفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت :كثيرًا ما يقرن ال تعالى بين الصلة والنفاق من الموال ،فإن الصلة حق ال وعبادته ،
وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ،وتمجيده والبتهال إليه ،ودعائه والتوكل عليه ؛
والنفاق هو
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم ( )1/36وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري " :تركه الناس".
وقال ابن معين " :يضع الحديث" .ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )24/207من طريق
إبراهيم بن حمزة الزبيري ،عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه به نحوه.
( )2في جـ ،ط " :إقام".
( )3في جـ ،ط ،ب " :تمام".
( )4في طـ " :إقام".
( )5في جـ " :لها".
( )6في جـ " :وإتمام الركوع والسجود".
( )7في جـ " :النبي".
( )8في جـ ،ط ،ب " :قربانا".
( )1/168
الحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ،وأولى الناس بذلك القرابات والهلون والمماليك ،
ثم الجانب ،فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى َ { :و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ
يُ ْنفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :بُ ِنيَ
السلم على خمس :شهادة أن ل إله إل ال ،وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،
وحج البيت" ( .)1والحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلة في كلم العرب الدعاء ،قال العشى :
حتْ صلى عليها و َزمْزَما ()2
لها حارس ل يبرحُ الدهرَ بَيْتَها ...وإن ذُب َ
وقال أيضًا ( )3وقابلها الريح في دَنّها ...وصلى على دَنّها وارتسم ()4
أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك.
وقال الخر -وهو العشى أيضًا : -
جعَا...
تقول بنتي وقد قَرّبتُ مرتحل ...يا رب جنب أبي الوصابَ والوَ َ
ك مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي ...نوما فإن لِجَنب المرء ُمضْطجعا...
علي ِ
يقول :عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي .وهذا ظاهر ،ثم استعملت الصلة في الشرع في
ذات الركوع والسجود والفعال المخصوصة في الوقات المخصوصة ،بشروطها المعروفة ،
وصفاتها ،وأنواعها [المشروعة] ( )5المشهورة.
وقال ابن جرير :وأرى أن الصلة المفروضة سميت صلة ؛ لن المصلي يتعرض لستنجاح
طلبتَه من ثواب ال بعمله ،مع ما يسأل ربه من ( )6حاجته (.)7
[وقيل :هي مشتقة من الصَلوَيْن إذا تحركا في الصلة عند ( )8الركوع ،وهما عرقان يمتدان من
الظهر حتى يكتنفا ( )9عجب الذنب ،ومنه سمي المصلي ؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل ،
وفيه نظر ،وقيل :هي مشتقة من الصلى ،وهو الملزمة للشيء من قوله { :ل َيصْلهَا } أي :
شقَى } [الليل ]15 :وقيل :مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم ،
يلزمها ويدوم فيها { إِل ال ْ
حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ }
كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلة { :إِنّ الصّلةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ
[العنكبوت ]45 :واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر ،وال أعلم] (.)10
وأما الزكاة فسيأتي الكلم عليها في موضعه ،إن شاء ال.
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )8وصحيح مسلم برقم (.)16
( )2البيت في تفسير الطبري (.)1/242
( )3في ب " :الخر".
( )4البيت في تفسير الطبري (.)1/242
( )5زيادة من ط.
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فيها".
( )7في أ ،و " :حاجاته".
( )8في أ " :في".
( )9في أ " :يكشفا".
( )10زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/169
( )1/170
أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ ()5
ابن أبي نَجِيح ،عن مجاهد أنه قال :أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ،وآيتان
في نعت الكافرين ،وثلث عشرة في المنافقين ،فهذه اليات الربع عامة في كل مؤمن اتصف
بها من عربي وعجمي ،وكتابي من إنسي وجني ،وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون
الخرى ،بل كل واحدة مستلزمة للخرى وشرط معها ،فل يصح اليمان بالغيب وإقام الصلة
والزكاة إل مع اليمان بما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ،وما جاء به مَنْ قبله من الرسل
واليقان بالخرة ،كما أن هذا ل يصح إل بذاك ،وقد أمر ال تعالى المؤمنين بذلك ،كما قال { :
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي أَنزلَ مِنْ قَ ْبلُ
حسَنُ إِل الّذِينَ ظََلمُوا
} الية [النساء .]136 :وقال { :وَل ُتجَادِلُوا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ إِل بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
مِ ْنهُ ْم َوقُولُوا آمَنّا بِالّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَ ْيكُمْ وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَاحِدٌ } الية [العنكبوت .]46 :وقال
تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ آمِنُوا ِبمَا نزلْنَا ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } [النساء ]47 :وقال تعالى
ل َومَا أُنزلَ إِلَ ْي ُكمْ مِنْ رَ ّبكُمْ }
شيْءٍ حَتّى ُتقِيمُوا ال ّتوْرَا َة وَالنْجِي َ
ُ { :قلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َلسْتُمْ عَلَى َ
[المائدة ]68 :وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك ،فقال تعالى { :آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ
مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } الية
س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ
[البقرة ]285 :وقال { :وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ أُولَ ِئكَ َ
أُجُورَ ُهمْ } [النساء ]152 :وغير ذلك من اليات الدالة على أمْر جميع المؤمنين باليمان بال
ورسله وكتبه .لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية ،وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم ( )1مفصل
فإذا دخلوا في السلم وآمنوا به مفصل كان لهم على ذلك الجر مرتين ،وأما غيرهم فإنما
يحصل له اليمان ،بما تقدم مجمل كما جاء في الصحيح " :إذا حدثكم أهل الكتاب فل تصدقوهم
ول تكذبوهم ،ولكن قولوا :آمنا بالذي ( )2أنزل إلينا وأنزل إليكم" ( )3ولكن قد يكون إيمان كثير
من العرب بالسلم الذي بعث به محمد صلى ال عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان
من دخل منهم في السلم ،فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية ،فغيرهم [قد] ( )4يحصل
له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الجرين اللذين حصل لهم ،وال أعلم.
{ أُولَ ِئكَ عَلَى ُهدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ (} )5
يقول ال تعالى { :أُولَ ِئكَ } أي :المتصفون بما تقدم :من اليمان بالغيب ،وإقام الصلة ،
والنفاق من الذي رزقهم ال ،واليمان بما أنزل ال إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل ،واليقان
بالدار الخرة ،وهو يستلزم الستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.
{ عَلَى ُهدًى } أي :نور وبيان وبصيرة من ال تعالى { .وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } أي :في الدنيا
والخرة.
__________
( )1في جـ " :بما في أيديهم".
( )2في طـ ،ب ،أ ،و " :بما".
( )3صحيح البخاري برقم ( )7362 ، 4485من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )4زيادة من طـ ،ب.
( )1/171
سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ ()6
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ
سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَنْذَرْ َتهُمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ (} )6
{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ
يقول تعالى { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أي :غَطوا الحق وستروه ،وقد كتب ال تعالى عليهم ذلك ،
ح ّقتْ
سواء عليهم إنذارك وعدمه ،فإنهم ل يؤمنون بما جئتهم به ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ َ
عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ * وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آيَةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ اللِيمَ } [يونس ]97 ، 96 :
وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب { :وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آ َيةٍ مَا تَ ِبعُوا
سعِد له ،ومن أضلّه
قِبْلَ َتكَ } الية [البقرة ]145 :أي :إن من ( )1كتب ال عليه الشقاوة فل ُم ْ
فل هادي له ،فل تذهب نفسك عليهم حسرات ،وبلّغهم الرّسالة ،فمن استجاب لك فله الحظ
غ وَعَلَيْنَا ا ْلحِسَابُ }
الوفر ،ومن تولى فل تحزن عليهم ول ُي ْهمِدَنّك ذلك ؛ { فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ
شيْءٍ َوكِيلٌ } [هود .]12 :
[الرعد ، ]40 :و { إِ ّنمَا أَ ْنتَ نَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
علَ ْيهِمْ
سوَاءٌ َ
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس ،في قوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا َ
أَأَنْذَرْ َت ُهمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن
جميع النّاس ويُتَابعوه على الهدى ،فأخبره ال تعالى أنه ل يؤمن إل من سبق له من ال السعادةُ
في الذكر الوّل ،ول يضل إل من سبق له من ال الشقاوة في الذكر الوّل.
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة ،أو سعيد بن جبير ،عن ابن
سوَاءٌ
عباس { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أي :بما أنزل إليك ،وإن قالوا :إنّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { َ
عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ تُنْذِرْ ُهمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } أي :إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ،وجحدوا ما
أخذ عليهم من الميثاق ،فقد ( )2كفروا بما جاءك ،وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ،فكيف
يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ،وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟!
وقال أبو جعفر الرّازي ،عن الرّبيع بن أنس ،عن أبي العالية ،قال :نزلت هاتان اليتان في
قادة الحزاب ،وهم الذين قال ال فيهم َ { :ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ
جهَنّمَ َيصَْلوْنَهَا } [إبراهيم .]29 ، 28 :
دَارَ الْ َبوَارِ * َ
والمعنى الذي ذكرناه أوّل وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ،أظهر ،
ويفسر ( )3ببقية اليات التي في معناها ،وال أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ،فقال :حدثنا أبي ،حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح
المصري ،حدثنا أبي ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثني عبد ال بن المغيرة ،عن أبي الهيثم ( )4عن
عبد ال بن عمرو ،قال :قيل :يا رسول ال ،إنّا نقرأ من القرآن فنرجو ،ونقرأ فنكاد أن نيأس
سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ }
،فقال " :أل أخبركم" ،ثم قال { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ
هؤلء أهل النار" .قالوا :لسنا منهم يا رسول ال ؟ قال " :أجل" (.)5
__________
( )1في جـ " :إل أنه من".
( )2في جـ ،ط ،ب " :وقد".
( )3في جـ " :وتفسيره" ،وفي طـ ،ب " :ويفسره".
( )4في جـ " :القسم".
( )5تفسير ابن أبي حاتم (.)1/42
( )1/173
عظِيمٌ ()7
س ْم ِعهِ ْم وَعَلَى أَ ْبصَارِهِمْ غِشَا َوةٌ وََلهُمْ عَذَابٌ َ
خَ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ
( )1/174
نكت فيه نكتة بيضاء ،حتى تصير على قلبين :على أبيض مثل الصفاء فل تضره فتنة ما دامت
السموات والرض ،والخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا ل يعرف معروفًا ول ينكر منكرًا"
الحديث.
قال ( )1والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره ( )2الخبرُ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
عجْلن ،عن القعقاع ،
وهو ما حدثنا به محمد بن بشار ،حدثنا صفوان بن عيسى ،حدثنا ابن َ
عن أبي صالح ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ( :إن المؤمن إذا
أذنب ذنبًا كانت ُنكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزعَ واستعتب صقل قلبه ،وإن زاد زادت حتى
تعلو قلبه ،فذلك الران الذي قال ال تعالى { :كَل َبلْ رَانَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ }
[المطففين .)3( ]14 :
وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي ،عن قتيبة ،عن الليث بن سعد ،وابن
ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ،ثلثتهم عن محمد بن عجلن ،
به (.)4
وقال الترمذي :حسن صحيح.
ثم قال ابن جرير :فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب
أغلقتها ،وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل ال تعالى والطبع ،فل يكون لليمان إليها مسلك ،
ول للكفر عنها ( )5مخلص ،فذلك ( )6هو الختم والطبع الذي ذكر ( )7في قوله تعالى { :خَتَمَ
س ْم ِعهِمْ } نظير الطبع والختم على ما تدركه البصار من الوعية
علَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ
اللّهُ َ
والظروف ،التي ل يوصل إلى ما فيها إل بفض ( )8ذلك عنها ثم حلها ،فكذلك ( )9ل يصل
اليمان إلى قلوب من وصف ال أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إل بعد فض خاتمه وحَلّه
رباطه [عنها] (.)10
س ْم ِعهِمْ } ،وقوله { وَعَلَى
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى { :خَ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ
غشَا َوةٌ } جملة تامة ،فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع ،والغشاوة -وهي
أَ ْبصَارِهِمْ ِ
الغطاء -تكون على البصر ،كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك ،عن أبي صالح ،عن
ابن عباس ،وعن مرّة ال َهمْداني ،عن ابن مسعود ،وعن أناس من أصحاب رسول ال ()11
س ْم ِعهِمْ } يقول :فل يعقلون ول
صلى ال عليه وسلم في قوله { :خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ
يسمعون ،ويقول :وجعل على أبصارهم غشاوة ،يقول :على أعينهم فل يبصرون.
قال ( )12ابن جرير :حدثني محمد بن سعد ( )13حدثنا أبي ،حدثني عمي الحسين بن الحسن ،
س ْم ِعهِمْ } والغشاوة على
عن أبيه ،عن جده ،عن ابن عباس { :خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ
أبصارهم.
وقال :حدثنا القاسم ،حدثنا الحسين ،يعني ابن داود ،وهو سُنَيد ،حدثني حجاج ،وهو ابن
محمد العور ،حدثني ابن جريج قال :الختم على القلب والسمع ،والغشاوة على البصر ،قال
س ْمعِ ِه َوقَلْبِهِ
علَى َ
ال تعالى { :فَإِنْ َيشَأِ اللّهُ َيخْتِمْ عَلَى قَلْ ِبكَ } [الشورى ، ]24 :وقال { وَخَتَمَ َ
غشَا َوةً } [الجاثية .)14( ]23 :
ج َعلَ عَلَى َبصَ ِرهِ ِ
وَ َ
__________
( )1في جـ ،ط " :قال ابن جرير"
( )2في جـ " :ما صح به بنظره".
( )3تفسير الطبري (.)1/260
( )4سنن الترمذي برقم ( )3334وسنن النسائي الكبرى برقم ( )11658وسنن ابن ماجة برقم (
.)4244
( )5في أ ،و " :منها".
( )6في جـ " :فلذلك".
( )7في و " :ذكره ال".
( )8في جـ " :إلى نقض".
( )9في جـ " :فلذلك".
( )10زيادة من جـ ،ط.
( )11في جـ ،ط " :النبي".
( )12في جـ ،ط " :وقال".
( )13في أ " :سفيان".
( )14تفسير الطبري (.)1/265
( )1/175
َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ َآمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ (ُ )8يخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ َآمَنُوا َومَا
شعُرُونَ ()9
سهُ ْم َومَا يَ ْ
خدَعُونَ إِلّا أَ ْنفُ َ
يَ ْ
قال ( )1ابن جرير :ومن نصب غشاوة من قوله تعالى { :وَعَلَى أَ ْبصَارِ ِهمْ غِشَا َوةٌ } يحتمل ()2
أنه نصبها بإضمار فعل ،تقديره :وجعل على أبصارهم غشاوة ،ويحتمل أن يكون نصبها على
س ْم ِعهِمْ } كقوله تعالى { :وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة ، ]22 :وقول
التباع ،على محل { وَعَلَى َ
الشاعر :
عََلفْتُها تبنًا وماء باردًا ...حتى شَتتْ َهمّالَةً عيناها ()3
وقال الخر :
ورأيت َزوْجَك في الوغى ...متقلّدًا سيفًا و ُرمْحًا ()4
تقديره :وسقيتها ماء باردًا ،ومع َتقِل رمحًا.
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ،ثم عرّف حال الكافرين بهاتين اليتين ،
شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون اليمان ويبطنون الكفر ،ولما كان أمرهم
يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة ،كل منها نفاق ،كما أنزل ()5
سورة براءة فيهم ،وسورة المنافقين فيهم ،وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور ،تعريفا
لحوالهم لتجتنب ،ويجتنب من تلبس ( )6بها أيضًا ،فقال تعالى :
{ َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ (ُ )8يخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ آمَنُوا
شعُرُونَ (} )9
سهُ ْم َومَا يَ ْ
َومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ
النفاق :هو إظهار الخير وإسرار الشر ،وهو أنواع :اعتقادي ،وهو الذي يخلد صاحبه في
النار ،وعملي وهو من أكبر الذنوب ،كما سيأتي تفصيله ( )7في موضعه ،إن شاء ال تعالى ،
وهذا كما قال ابن جريج :المنافق يخالف َقوْلُه ِفعْلَهُ ،وسِرّه علنيته ،ومدخله مخرجه ،ومشهده
َمغِيبه.
وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية ؛ لن مكة لم يكن فيها نفاق ،بل كان خلفه ،من
الناس من كان يظهر الكفر ُمسْ َتكْرَها ،وهو في الباطن مؤمن ،فلمّا هاجر رسول ال صلى ال
عليه وسلم إلى المدينة ،وكان بها النصار من الوس والخزرج ،وكانوا في جاهليتهم يعبدون
الصنام ،على طريقة مشركي العرب ،وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلفهم ،
وكانوا ثلث قبائل :بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج ،وبنو ال ّنضِير ،وبنو قُرَ ْيظَة حلفاء الوس ،فلمّا
قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة ،وأسلم من أسلم
__________
( )1في جـ " :وقال".
( )2في جـ ،ط " :فيحتمل".
( )3البيت في تفسير الطبري (.)1/264
( )4البيت في تفسير الطبري ( )1/265وهو للحارث المخزومي.
( )5في جـ " :كما أنزلت".
( )6في جـ " :يتلبس".
( )7في جـ " :تفسيره".
( )1/176
من النصار من قبيلتي الوس والخزرج ،وقل من أسلم من اليهود إل عبد ال بن سَلم ،رضي
ال عنه ،ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا ؛ لنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف ،بل قد كان ،
عليه الصلة والسلم ،وَا َدعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة ،فلما كانت
وقعة بدر العظمى وأظهر ال كلمته ،وأعلى السلم وأهله ،قال عبد ال بن أبيّ بن سلول ،
وكان رأسا في المدينة ،وهو من الخزرج ،وكان سيد الطائفتين في الجاهلية ،وكانوا قد عزموا
على أن يملّكوه عليهم ،فجاءهم الخير وأسلموا ،واشتغلوا عنه ،فبقي في نفسه من السلم وأهله
،فلما كانت وقعة بدر قال :هذا أمر قد َتوَجّه فأظهر الدخول في السلم ،ودخل معه طوائف
ممن هو على طريقته ونحلته ،وآخرون من أهل الكتاب ،فمن َث ّم وُجِد النفاق في أهل المدينة
ومن حولها من العراب ،فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد ،لنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا ،
بل يهاجر ويترك ماله ،وولده ،وأرضه رغبة فيما عند ال في الدار الخرة.
قال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكْرِمة ،أو سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن
عباس َ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الخِ ِر َومَا ُهمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ } يعني :المنافقين من
الوس والخزرج ومن كان على أمرهم.
وكذا فسّرها بالمنافقين أبو العالية ،والحسن ،وقتادة ،والسدي.
ولهذا نبّه ال ،سبحانه ،على صفات المنافقين لئل يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون ،فيقع بذلك
فساد عريض من عدم الحتراز منهم ،ومن اعتقاد إيمانهم ،وهم كفار في نفس المر ،وهذا من
المحذورات الكبار ،أن يظن بأهل الفجور خَيْر ،فقال تعالى َ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ
وَبِالْ َيوْمِ الخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُمؤْمِنِينَ } أي :يقولون ذلك قول ليس وراءه شيء آخر ،كما قال تعالى :
ش َهدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ } [المنافقون ]1 :أي :إنما يقولون ذلك إذا
{ ِإذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا نَ ْ
جاؤوك فقط ،ل في نفس المر ؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولم التأكيد في خبرها ؛ كما
أكّدوا قولهم { :آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الخِرِ } وليس المر كذلك ،كما أكْذبهم ال في شهادتهم ،وفي
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ َلكَاذِبُونَ } [المنافقون ، ]1 :
خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم ،بقوله { :وَاللّهُ يَ ْ
وبقوله { َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ }
وقوله تعالى { :يُخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ آمَنُوا } أي :بإظهارهم ما أظهروه من اليمان مع إسرارهم
الكفر ،يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون ال بذلك ،وأن ذلك نافعهم عنده ،وأنه يروج عليه كما
جمِيعًا فَ َيحِْلفُونَ َلهُ َكمَا يَحِْلفُونَ َلكُمْ
يروج على بعض المؤمنين ،كما قال تعالى َ { :يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
شيْءٍ أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } [المجادلة ]18 :؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم
وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ عَلَى َ
شعُرُونَ } يقول :وما َيغُرّون بصنيعهم هذا ول
سهُ ْم َومَا يَ ْ
ذلك بقوله َ { :ومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ
يخدعون إل أنفسهم ،وما يشعرون بذلك من أنفسهم ،كما قال تعالى { :إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ ُيخَادِعُونَ
عهُمْ } [النساء .]142 :
اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ
سهُمْ" ،وكل القراءتين ترجع إلى معنى واحد.
ومن القراء من قرأ َ " :ومَا ُيخَادِعُونَ ( )1إِل أَنفُ َ
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :يخدعون".
( )1/177
( )1/178
وكذلك قال مجاهد ،وعكرمة ،والحسن البصري ،وأبو العالية ،والرّبيع بن أنس ،وقتادة.
وعن عكرمة ،وطاوس { :فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } يعني :الرياء.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس { :فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } قال :نفاق { فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَ َرضًا } قال :
نفاقا ،وهذا كالول.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { :فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } قال :هذا مرض في الدين ،وليس
مرضًا في الجساد ،وهم المنافقون .والمرض :الشك الذي دخلهم في السلم { فَزَا َدهُمُ اللّهُ
مَ َرضًا } قال :زادهم رجسًا ،وقرأ { :فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وََأمّا
سهِمْ } [التوبة ]125 ، 124 :قال :شرًا إلى
جِجسًا إِلَى رِ ْ
الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ْت ُهمْ رِ ْ
شرهم وضللة إلى ضللتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن ،رحمه ال ،حسن ،وهو الجزاء من جنس العمل ،وكذلك قاله
الولون ،وهو نظير قوله تعالى أيضًا { :وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ْقوَاهُمْ } [محمد :
.]17
وقوله { ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ } وقرئ " :يكذّبون" ،وقد كانوا متصفين بهذا وهذا ،فإنهم كانوا كذبة
يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا .وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه ،
عليه السلم ،عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ،وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت
في الصحيحين :أنه قال لعمر " :أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" ( )1ومعنى هذا
خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من العراب عن الدخول في السلم ول يعلمون حكمة قتله
لهم ،وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر ،فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون :إن
محمدًا يقتل أصحابه ،قال القرطبي :وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم
مع علمه بشر اعتقادهم .قال ابن عطية :وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم
والقاضي إسماعيل والبهري وابن الماجشون .ومنها :ما قال مالك ،رحمه ال :إنما كف رسول
ال صلى ال عليه وسلم عن المنافقين ليبين لمته أن الحاكم ل يحكم بعلمه.
قال القرطبي :وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي ل يقتل بعلمه ،وإن اختلفوا في
سائر الحكام ،قال :ومنها ما قال الشافعي :إنما منع رسول ال صلى ال عليه وسلم من قتل
المنافقين ما كانوا يظهرونه من السلم مع العلم بنفاقهم ؛ لن ما يظهرونه يجبّ ما قبله .ويؤيد
هذا قوله ،عليه الصلة والسلم ،في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما :
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا :ل إله إل ال ،فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل
بحقها ،وحسابهم على ال ،عز وجل" ( .)2ومعنى هذا :أن من قالها جرت عليه أحكام السلم
ظاهرًا ،فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الخرة ،وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الخرة
جريان الحكم عليه في الدنيا ،وكونه كان
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4902وصحيح مسلم برقم (.)3314
( )2صحيح البخاري برقم ( )25وصحيح مسلم برقم ( )22من حديث ابن عمرو رضي ال
عنهما.
( )1/179
ن وََلكِنْ لَا
وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ لَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ ( )11أَلَا إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ
شعُرُونَ ()12
يَ ْ
( )1/180
س َفهَاءُ وََلكِنْ لَا
س َفهَاءُ أَلَا إِ ّنهُمْ هُمُ ال ّ
وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َآمِنُوا َكمَا َآمَنَ النّاسُ قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا َآمَنَ ال ّ
َيعَْلمُونَ ()13
وقد قال َوكِيع ،وعيسى بن يونس ،وعثّام بن علي ،عن العمش ،عن المِ ْنهَال بن عمرو ،عن
عباد بن عبد ال السدي ،عن سلمان الفارسي { :وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ ل ُتفْسِدُوا فِي ال ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا
نَحْنُ ُمصِْلحُونَ } قال سلمان :لم يجئ أهل هذه الية بعد.
وقال ابن جرير :حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم ،حدثنا عبد الرحمن بن شَريك ،حدثني أبي ،
عن العمش ،عن زيد بن وهب وغيره ،عن سلمان ،في هذه الية ،قال :ما جاء هؤلء َب ْعدُ (
.)1
قال ابن جرير :يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين
كانوا في زمان النبي صلى ال عليه وسلم ،ل أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد (.)2
قال ابن جرير :فأهل النفاق مفسدون في الرض بمعصيتهم فيها ربهم ،وركوبهم فيها ما نهاهم
عن ركوبه ،وتضييعهم فرائضه ،وشكّهم في دينه الذي ل ُيقْ َبلُ من أحد عمل إل بالتصديق به
واليقان بحقيقته ،وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ،
ومظاهرتهم أهل التكذيب بال وكتبه ورسله على أولياء ال ،إذا وجدوا إلى ذلك سبيل .فذلك
إفساد المنافقين في الرض ،وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها (.)3
وهذا الذي قاله حسن ،فإن من الفساد في الرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ،كما قال تعالى
ض َوفَسَادٌ كَبِيرٌ } [النفال :
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ إِل َت ْفعَلُوهُ َتكُنْ فِتْنَةٌ فِي ال ْر ِ
{ :وَالّذِينَ َكفَرُوا َب ْع ُ
خذُوا ا ْلكَافِرِينَ
]73فقطع ال الموالة بين المؤمنين والكافرين كما قال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّ ِ
جعَلُوا لِلّهِ عَلَ ْيكُمْ سُ ْلطَانًا مُبِينًا } [النساء ]144 :ثم قال :
َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَ ْ
جدَ َلهُمْ َنصِيرًا } [النساء ]145 :فالمنافق لما كان
س َفلِ مِنَ النّا ِر وَلَنْ تَ ِ
{ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ فِي الدّ ْركِ ال ْ
ظاهره اليمان اشتبه أمره على المؤمنين ،فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل ؛ لنه هو الذي
غَ ّر المؤمنين بقوله الذي ل حقيقة له ،ووالى الكافرين على المؤمنين ،ولو أنه استمر على حالته
( )4الولى لكان شرّه أخف ،ولو أخلص العمل ل وتطابق قوله وعمله لفلح وأنجح ؛ ولهذا قال
سدُوا فِي ال ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ } أي :نريد أن نداري
تعالى { :وَإِذَا قِيلَ َل ُه ْم ل ُتفْ ِ
الفريقين من المؤمنين والكافرين ،ونصطلح مع هؤلء وهؤلء ،كما قال محمد بن إسحاق ،عن
محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن عباس { :وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ ل ُتفْسِدُوا
فِي ال ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ } أي :إنما نريد الصلح بين الفريقين من المؤمنين وأهل
شعُرُونَ } يقول :أل إن هذا الذي يعتمدونه
سدُونَ وََلكِنْ ل يَ ْ
الكتاب .يقول ال { :أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْلمُفْ ِ
ويزعمون أنه إصلح هو عين الفساد ،ولكن من جهلهم ل يشعرون بكونه فسادًا.
س َفهَاءُ وََلكِنْ ل
س َفهَاءُ أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ال ّ
{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ آمِنُوا َكمَا آمَنَ النّاسُ قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا آمَنَ ال ّ
َيعَْلمُونَ (} )13
يقول [ال] ( )5تعالى :وإذا قيل للمنافقين { :آمِنُوا َكمَا آمَنَ النّاسُ } أي :كإيمان الناس بال
وملئكته
__________
( )1تفسير الطبري (.)1/288
( )2تفسير الطبري (.)1/289
( )3تفسير الطبري (.)1/289
( )4في أ ،و " :لحاله".
( )5زيادة من (أ).
( )1/181
وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ َآمَنُوا قَالُوا َآمَنّا وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ إِ ّنمَا َنحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ ()14
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ ()15
اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِبهِ ْم وَ َيمُدّ ُهمْ فِي ُ
وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنّة والنّار وغير ذلك ،مما أخبر المؤمنين به وعنه ،
س َفهَاءُ } يعنون -
وأطيعوا ال ورسوله في امتثال الوامر وترك الزواجر { قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا آمَنَ ال ّ
لعنهم ال -أصحابَ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،رضي ال عنهم ،قاله أبو العالية والسدي
في تفسيره ،بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة ،وبه يقول الربيع بن
أنس ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ،يقولون :أنصير نحن وهؤلء بمنزلة واحدة
وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!
والسفهاء :جمع سفيه ،كما أن الحكماء جمع حكيم [والحلماء جمع حليم] ( )1والسفيه :هو
الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ؛ ولهذا سمى ال النساء
ج َعلَ اللّهُ َل ُكمْ قِيَامًا } [النساء
س َفهَاءَ َأ ْموَاَلكُمُ الّتِي َ
والصبيان سفهاء ،في قوله تعالى { :وَل ُتؤْتُوا ال ّ
]5 :قال عامة علماء السلف :هم النساء والصبيان.
سفَهَاءُ } فأكد
وقد تولى ال ،سبحانه ،جوابهم في هذه المواطن كلها ،فقال ( { )2أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ال ّ
وحصر السفاهة فيهم.
{ وََلكِنْ ل َيعَْلمُونَ } يعني :ومن تمام جهلهم أنهم ل يعلمون بحالهم في الضللة والجهل ،وذلك
أردى لهم وأبلغ في العمى ،والبعد عن الهدى.
{ وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَِإذَا خََلوْا ِإلَى شَيَاطِي ِنهِمْ قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ إِ ّنمَا نَحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ ()14
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ (} )15
اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِبهِ ْم وَ َيمُدّ ُهمْ فِي ُ
يقول [ال] ( )3تعالى :وإذا لقي هؤلء المنافقون المؤمنين قالوا { :آمَنّا } أي :أظهروا لهم
اليمان والموالة والمصافاة ،غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية ،ولِيَشركوهم فيما
أصابوا من خير ومغنم { ،وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِن ِهمْ } يعني :وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا ()4
إلى شياطينهم .فضمن { خََلوْا } معنى انصرفوا ؛ لتعديته بإلى ،ليدل على الفعل المضمر والفعل
الملفوظ ( )5به .ومنهم من قال " :إلى" هنا بمعنى "مع" ،والول أحسن ،وعليه يدور كلم ابن
جرير.
وقال السدي عن أبي مالك { :خََلوْا } يعني :مضوا ،و { شَيَاطِي ِنهِمْ } يعني :سادتهم وكبراءهم
ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرّة عن ابن
مسعود ،عن ناس من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم { :وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ } يعني :
هم رؤوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس :وإذا خلوا إلى أصحابهم ،وهم شياطينهم.
عكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد ،عن ِ
__________
( )1زيادة من طـ ،ب ،و.
( )2في أ " :كما قال".
( )3زيادة من أ.
( )4في أ ،و " :أو ذهبوا أو خلصوا".
( )5في طـ ،ب ،أ ،و " :الملفوظ".
( )1/182
عباس { :وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِن ِهمْ } من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلف ما جاء به
الرسول.
وقال مجاهد { :وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ } إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.
وقال قتادة { :وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ } قال :إلى رؤوسهم ،وقادتهم في الشرك ،والشر.
وبنحو ذلك فسّره أبو مالك ،وأبو العالية والسدي ،والرّبيع بن أنس.
قال ابن جرير :وشياطين كل شيء مَرَدَتُه ،وتكون الشياطين من النس والجن ،كما قال تعالى
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ
س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ
ع ُدوّا شَيَاطِينَ النْ ِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نَ ِبيّ َ
َ { :وكَذَِلكَ َ
غُرُورًا } [النعام .]112 :
وفي المسند عن أبي ذر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :نعوذ بال من شياطين النس
والجن" .فقلت :يا رسول ال ،وللنس شياطين ؟ قال " :نعم" (.)1
وقوله تعالى { :قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ } قال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة ،
أو سعيد بن جبير ،عن ابن عباس :أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِ ّنمَا نَحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ } أي :
إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس :قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى ال
عليه وسلم.
وكذلك قال الرّبيع بن أنس ،وقتادة.
طغْيَا ِن ِهمْ َي ْع َمهُونَ }
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم { :اللّهُ يَسْ َتهْ ِزئُ ِبهِمْ وَ َيمُدّهُمْ فِي ُ
وقال ( )2ابن جرير :أخبر ال تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ،في قوله َ { :يوْمَ َيقُولُ
جعُوا وَرَا َء ُكمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا
ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ
ا ْلمُنَا ِفقُو َ
حمَةُ وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَلِهِ ا ْلعَذَابُ } الية [الحديد ، ]13 :
َفضُ ِربَ بَيْ َنهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ
سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ لِيَ ْزدَادُوا إِ ْثمًا
وقوله تعالى { :وَل َيحْسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ خَيْ ٌر ل ْنفُ ِ
وََلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } [آل عمران .]178 :قال :فهذا وما أشبهه ،من استهزاء ال ،تعالى ذكره ،
وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين ،وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ،ومتأول هذا التأويل.
قال :وقال آخرون :بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ،ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ،
والكفر به.
قال :وقال آخرون :هذا وأمثاله على سبيل الجواب ،كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به :أنا
الذي خدعتك .ولم تكن منه خديعة ،ولكن قال ذلك إذ صار المر إليه ،قالوا :وكذلك قوله :
{ َو َمكَرُوا َومَكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ } [آل عمران ]54 :و { اللّهُ يَسْ َتهْ ِزئُ ِبهِمْ } على
الجواب ،وال
__________
( )1المسند (.)5/178
( )2في طـ ،ب " :وقال".
( )1/183
ل يكون منه المكر ول الهزء ،والمعنى :أن المكر والهُزْء حَاق بهم.
وقال آخرون :قوله { :إِ ّنمَا نَحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ * اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِب ِهمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ
سخِرَ اللّهُ مِ ْنهُمْ } [التوبة ]79 :و { نَسُوا
سخَرُونَ مِ ْنهُمْ َ
عهُمْ } [النساء ، ]142 :وقوله { فَيَ ْ
خَادِ ُ
اللّهَ فَ َنسِ َيهُمْ } [التوبة ]67 :وما أشبه ذلك ،إخبار من ال تعالى أنه يجازيهم ( )1جَزَاءَ الستهزاء
،ويعاقبهم ( )2عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم
الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ،وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى { :وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ
علَيْهِ } [البقرة ، ]194 :
مِثُْلهَا } [الشورى ]40 :وقوله تعالى َ { :فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا َ
فالول ظلم ،والثاني عدل ،فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.
قال :وإلى هذا المعنى وَجّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال :وقال آخرون :إن معنى ذلك :أنّ ال أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا :
إنا معكم على دينكم ،في تكذيب محمد صلى ال عليه وسلم وما جاء به ،وإنما نحن بما يظهر
لهم -من قولنا لهم :صدقنا بمحمد ،عليه السلم ،وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر ال تعالى أنه
يستهزئ بهم ،فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا ،يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلف الذي
لهم عنده في الخرة ،يعني من العذاب والنكال (.)3
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب
والعبث منتف عن ال ،عز وجل ،بالجماع ،وأما على وجه النتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة
فل يمتنع ذلك.
قال :وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عثمان ،حدثنا بشر
،عن أبي روق ،عن الضحاك ،عن ابن عباس ،في قوله تعالى { :اللّهُ يَسْ َتهْ ِزئُ ِبهِمْ } قال :
يسخر بهم للنقمة منهم.
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } قال السدي :عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،
وقوله تعالى { :وَ َيمُدّهُمْ فِي ُ
عن ابن عباس ،وعن مرّة ،عن ابن مسعود ،وعن أناس ( )4من الصحابة [قالوا] ( )5يَمدهم :
يملي لهم.
وقال مجاهد :يزيدهم.
قال ابن جرير :والصواب يزيدهم على وجه الملء والترك لهم في عُ ُتوّهم و َتمَرّدهم ،كما قال :
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [النعام :
{ وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ وَ َنذَرُهُمْ فِي ُ
.]110
__________
( )1في طـ ،أ ،و " :مجازيهم".
( )2في طـ ،ب ،أ ،و " :ومعاقبهم".
( )3تفسير الطبري (.)1/303
( )4في جـ ،ط ،ب " :ناس".
( )5زيادة من ب ،و.
( )1/184
حتْ تِجَارَ ُت ُه ْم َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ ()16
أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّلَالَةَ بِا ْل ُهدَى َفمَا رَ ِب َ
( )1/185
تعالى فيهم { :ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } [المنافقون ، ]3 :أو أنهم استحبوا
الضللة على الهدى ،كما يكون ( )1حال فريق آخر منهم ،فإنهم أنواع وأقسام ؛ ولهذا قال
حتْ ِتجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ } أي :ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة َ { ،ومَا
تعالى َ { :فمَا رَبِ َ
كَانُوا ُمهْ َتدِينَ } أي :راشدين في صنيعهم ذلك.
حتْ تِجَارَ ُتهُ ْم َومَا
قال ( )2ابن جرير :حدثنا بشر ،حدثنا يزيد ،حدثنا سعيد ،عن قتادة { َفمَا رَ ِب َ
كَانُوا ُمهْ َتدِينَ } قد -وال -رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضللة ،ومن الجماعة إلى
الفرقة ،ومن المن إلى الخوف ،ومن السنة إلى البدعة .وهكذا رواه ابن أبي حاتم ،من حديث
يزيد بن زُرَيْع ،عن سعيد ،عن قتادة ،بمثله سواء.
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :كما قد يكون".
( )2في ط " :وقال".
( )1/186
تل
حوْلَهُ ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِ ْم وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَا ٍ
{ مَثَُلهُمْ َكمَثَلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ
جعُونَ (} )18
ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ
يُ ْبصِرُونَ ( )17صُمّ ُبكْمٌ ُ
[يقال :مثل ومثل ومثيل -أيضا -والجمع أمثال ،قال ال تعالى { :وَتِ ْلكَ المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا
س َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ } [العنكبوت .)1( ]43 :
لِلنّا ِ
وتقدير هذا المثل :أن ال سبحانه ،شبّههم في اشترائهم الضللة بالهدى ،وصيرورتهم بعد
التبصرة إلى العمى ،بمن استوقد نارًا ،فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه
وشماله ،وتَأنّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ،وصار في ظلم شديد ،ل يبصر ول
يهتدي ،وهو مع ذلك أصم ل يسمع ،أبكم ل ينطق ،أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا ل
يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ،فكذلك هؤلء ( )2المنافقون في استبدالهم الضللة عوضًا عن
الهدى ،واستحبابهم ال َغيّ على الرّشَد .وفي هذا المثل دللة على أنهم آمنوا ثم كفروا ،كما أخبر
عنهم تعالى في غير هذا الموضع ،وال أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال :والتشبيه هاهنا في
غاية الصحة ؛ لنهم بإيمانهم اكتسبوا أول نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة
عظيمة فإنه ل حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الوقات ،واحتج بقوله
تعالى َ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الخِرِ َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ } [البقرة .]8 :
والصواب :أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ،وهذا ل ينفي أنه كان حصل لهم إيمان
قبل ذلك ،ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ،ولم يستحضر ابن جرير ،رحمه ال ،هذه الية هاهنا
وهي
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2في جـ " :هم".
( )1/186
قوله تعالى { :ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ ل َيفْ َقهُونَ } [المنافقون ]3 :؛
فلهذا وجه [ابن جرير] ( )1هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة اليمان ،أي في
الدنيا ،ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
قال :وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ،كما قال { :رَأَيْ َتهُمْ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ تَدُورُ أَعْيُ ُنهُمْ كَالّذِي
ُيغْشَى عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َم ْوتِ } [الحزاب ]19 :أي :كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ،
ح َدةٍ } [لقمان ]28 :وقال تعالى { :مَ َثلُ الّذِينَ
س وَا ِ
وقال تعالى { :مَا خَ ْل ُقكُ ْم وَل َبعْ ُثكُمْ إِل كَ َنفْ ٍ
سفَارًا } [الجمعة ، ]5 :وقال بعضهم :تقدير
ح ِملُ َأ ْ
حمَارِ يَ ْ
حمِلُوهَا َكمَ َثلِ ا ْل ِ
حمّلُوا ال ّتوْرَاةَ ثُمّ لَمْ َي ْ
ُ
الكلم :مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا .وقال بعضهم :المستوقد واحد لجماعة معه .وقال
آخرون :الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ...هم القوم كل القوم يا أم خالد ()2
قلت :وقد التفت في أثناء المثل من الواحد ( )3إلى الجمع ،في قوله تعالى { :فََلمّا َأضَا َءتْ مَا
جعُونَ } وهذا
ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ
حوْلَهُ ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِ ْم وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ ل يُ ْبصِرُونَ * صُمّ ُبكْمٌ ُ
َ
أفصح في الكلم ،وأبلغ في النظام ،وقوله تعالى { :ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } أي :ذهب عنهم ما
ينفعهم ،وهو النور ،وأبقى لهم ما يضرهم ،وهو الحراق والدخان { وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } وهو
ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق { ،ل يُ ْبصِرُونَ } ل يهتدون إلى سبل ( )4خير ول
عمْيٌ } في
يعرفونها ،وهم مع ذلك { صُمّ } ل يسمعون خيرا { ُبكْمٌ } ل يتكلمون بما ينفعهم { ُ
ضللة وعماية البصيرة ،كما قال تعالى { :فَإِ ّنهَا ل َت ْعمَى ال ْبصَارُ وََلكِنْ َت ْعمَى ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي
الصّدُورِ } [الحج ]46 :فلهذا ل يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضللة.
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :
قال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرّة ،عن ابن
حوْلَهُ } زعم أن ناسًا
مسعود ،وعن ناس من الصحابة ،في قوله تعالى { :فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ
دخلوا في السلم َمقْدَم نبيّ ال صلى ال عليه وسلم المدينة ،ثم إنهم نافقوا ،فكان مثلهم كمثل
رجُل كان في ظلمة ،فأوقد نارًا ،فأضاءت ما حوله من قذى ،أو أذى ،فأبصره حتى عرف ما
يتقي منه ( )5فبينا ( )6هو كذلك إذ طفئت ناره ،فأقبل ل يدري ما يتقي من أذى ،فكذلك المنافق
:كان في ظلمة الشرك فأسلم ،فعرف الحلل والحرام ،و[عرف] ( )7الخير والشر ،فبينا ()8
هو كذلك إذ كفر ،فصار ل يعرف الحلل من
__________
( )1زيادة من و.
( )2البيت للشهب بن رميلة ،كما في اللسان ،مادة "فلج".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الوحدة".
( )4في طـ ،ب " :سبيل".
( )5في جـ ،ط ،ب " :منها".
( )6في أ ،و " :فبينما".
( )7زيادة من جـ.
( )8في أ ،و " :فبينما".
( )1/187
حذَرَ
صوَاعِقِ َ
جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آَذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ
سمَاءِ فِيهِ ظُُلمَاتٌ وَرَعْ ٌد وَبَرْقٌ َي ْ
َأوْ َكصَيّبٍ مِنَ ال ّ
شوْا فِي ِه وَإِذَا
طفُ أَ ْبصَارَهُمْ كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ مَ َ
ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ (َ )19يكَادُ الْبَ ْرقُ َيخْ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ ()20
س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
أَظَْلمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ
سلبها المنافق ؛ لنه ( )1لم يكن لها أصل في قلبه ،ول حقيقة في عمله (.)2
ظُلمَاتٍ } يقول :
{ وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وَتَ َر َكهُمْ فِي ُ
في عذاب إذا ماتوا.
عكْرِمة ،أو سعيد بن جبير ،عن ابن
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد ،عن ِ
عباس { :وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ،حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر
أطفئوه بكفرهم ( )3ونفاقهم فيه ،فتركهم ال في ظلمات الكفر ،فهم ل يبصرون هدى ،ول
يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده { :وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم.
ت ل يُ ْبصِرُونَ } فذلك ( )4حين يموت المنافق ،فيظلم
وقال الحسن البصري { :وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَا ٍ
عليه عمله عمل السوء ،فل يجد له عمل من خير عمل به يصدق ( )5به قول :ل إله إل ال (
.)6
ع ْميٌ } فهم خرس عمي (.)7
صمّ ُبكْمٌ ُ
ع ْميٌ } قال السدي بسنده ُ { :
{ صُمّ ُبكْمٌ ُ
ع ْميٌ } يقول :ل يسمعون الهدى ول
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :صُمّ ُب ْكمٌ ُ
يبصرونه ول يعقلونه ،وكذا قال أبو العالية ،وقتادة بن دعامة.
جعُونَ } قال ابن عباس :أي ل يرجعون إلى هدى ،وكذلك ( )8قال الرّبيع بن أنس.
{ َفهُمْ ل يَ ْر ِ
جعُونَ } إلى السلم.
ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ
وقال السدي بسنده { :صُمّ ُبكْمٌ ُ
جعُونَ } أي ل يتوبون ( )9ول هم يذكرون.
وقال قتادة َ { :فهُمْ ل يَ ْر ِ
صوَاعِقِ حَذَرَ
جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ
ت وَرَعْ ٌد وَبَ ْرقٌ يَ ْ
سمَاءِ فِيهِ ظُُلمَا ٌ
{ َأوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ
شوْا فِي ِه وَإِذَا
طفُ أَ ْبصَارَهُمْ كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ مَ َ
ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ (َ )19يكَادُ الْبَ ْرقُ َيخْ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ (} )20
س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
أَظَْلمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ
وهذا مثل آخر ضربه ال تعالى لضرب آخر من المنافقين ،وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ،
ويشكّون تارة أخرى ،فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { َكصَ ّيبٍ } والصيب :المطر ،
قاله ابن مسعود ،وابن عباس ،وناس من الصحابة ،وأبو العالية ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،
وعطاء ،
__________
( )1في جـ " :لنها".
( )2في جـ " :علمه".
( )3في جـ " :طعنوا بكفرهم به".
( )4في جـ " :فبذلك".
( )5في جـ " :يصدقه".
( )6في طـ ،ب ،و " :إل هو".
( )7في جـ " :عمي خرس".
( )8في جـ ،ط ،ب ،أ " :وكذا".
( )9في جـ " :ل يؤمنون".
( )1/189
والحسن البصري ،وقتادة ،وعطية ال َعوْفِي ،وعطاء الخراساني ،والسّدي ،والرّبيع بن أنس.
وقال الضحاك :هو السحاب.
والشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ،وهي الشكوك والكفر والنفاق { .وَرَعْدٌ }
وهو ما يزعج القلوب من الخوف ،فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع ،كما قال تعالى
علَ ْيهِمْ [ هُمُ ا ْل َع ُدوّ ] ([ } )1المنافقون ]4 :وقال { :وَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ
ل صَيْحَةٍ َ
َ { :يحْسَبُونَ ُك ّ
َلمِ ْنكُ ْم َومَا هُمْ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ّنهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ * َلوْ َيجِدُونَ مَلْجَأً َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ مُدّخَل َلوَّلوْا إِلَيْ ِه وَ ُهمْ
ج َمحُونَ } [التوبة .]57 ، 56 :
يَ ْ
والبرق :هو ما يلمع في قلوب هؤلء الضرب من المنافقين في بعض الحيان ،من نور
حذَرَ ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ
صوَاعِقِ َ
جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ
اليمان ؛ ولهذا قال َ { :ي ْ
بِا ْلكَافِرِينَ } أي :ول يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا ؛ لن ال محيط [بهم] ( )2بقدرته ،وهم تحت
ن وَ َثمُودَ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي
عوْ َ
حدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْ َ
مشيئته وإرادته ،كما قال َ { :هلْ أَتَاكَ َ
ن وَرَا ِئهِمْ مُحِيطٌ } [البروج .]20 - 17 :
َتكْذِيبٍ * وَاللّهُ مِ ْ
[والصواعق :جمع صاعقة ،وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد ،وحكى الخليل بن
أحمد عن بعضهم صاعقة ،وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة ،ونقل عن الحسن البصري
أنه :قرأ "من الصواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لبي النجم :
يحكوك بالمثقولة القواطع ...شفق البرق عن الصواقع ()3
قال النحاس :وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة ،حكى ذلك.
طفُ أَ ْبصَارَهُمْ } أي :لشدته وقوته في نفسه ،وضعف بصائرهم ،
خَثم قال َ { :يكَادُ الْبَ ْرقُ يَ ْ
وعدم ثباتها لليمان.
حكَمُ
طفُ أَ ْبصَارَ ُهمْ } يقول :يكاد مُ ْ
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس َ { :يكَادُ الْبَرْقُ َيخْ َ
القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال ابن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة ،أو سعيد بن جبير ،عن ابن عباس
طفُ أَ ْبصَارَ ُهمْ } أي لشدة ضوء الحق { ،كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا َأظْلَمَ
خََ { :يكَادُ الْبَرْقُ يَ ْ
عَلَ ْيهِمْ قَامُوا } أي كلما ظهر لهم من اليمان شيء استأنسوا ( )4به واتبعوه ،وتارة تعْرِض لهم
الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين.
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )3البيت في اللسان ،مادة "صقع" وهو فيه :يحكون بالمصقولة القواطع ...تشقق البرق عن
الصواقع
( )4في أ " :استضاءوا".
( )1/190
( )1/191
وهكذا رواه ابن جرير ،عن ابن مُثَنّى ،عن ابن إدريس ،عن أبيه ،عن المنهال.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنَافسي ( )1حدثنا ابن إدريس ،سمعت
سعَى
أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ،عن قيس بن السكن ،عن عبد ال بن مسعود { :نُورُهُمْ َي ْ
بَيْنَ أَيْدِي ِهمْ } [التحريم ]8 :قال :على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ،منهم من نوره مثل
الجبل ،ومنهم من نوره مثل النخلة ،وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
حمّاني ،حدثنا
وقال ابن أبي حاتم أيضًا :حدثنا محمد بن إسماعيل الحمسي ،حدثنا أبو يحيى ال ِ
عُتْبَةُ ( )2بن اليقظان ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :ليس أحد من أهل التوحيد إل يعطى
نورًا يوم القيامة ،فأما المنافق فيطفأ نوره ،فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ،
فهم يقولون :ربنا أتمم لنا نورنا.
وقال الضحاك بن مزاحم :يعطى كل من كان يظهر اليمان في الدنيا يوم القيامة نورًا ؛ فإذا
انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ،فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا ،فقالوا " :ربنا أتمم لنا
نورنا ".
فإذا تقرر هذا صار الناس أقسامًا :مؤمنون خُلّص ،وهم الموصوفون باليات الربع في أول
البقرة ،وكفار خلص ،وهم الموصوفون باليتين بعدها ،ومنافقون ،وهم قسمان :خلص ،وهم
المضروب لهم المثل الناري ،ومنافقون يترددون ،تارة يظهر لهم ُلمَعٌ من اليمان وتارة يخبو (
)3وهم أصحاب المثل المائي ،وهم أخف حال من الذين قبلهم.
وهذا المقام يشبه ( )4من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور ،من ضرب مثل المؤمن ()5
وما جعل ال في قلبه من الهدى والنور ،بالمصباح ( )6في الزجاجة التي كأنها كوكب دُرّي ،
وهي قلب المؤمن المفطور على اليمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من
غير كدر ول تخليط ،كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء ال.
ثم ضرب مثل العُبّاد من الكفار ،الذين يعتقدون أنهم على شيء ،وليسوا على شيء ،وهم
ظمْآنُ مَاءً
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ
أصحاب الجهل المركب ،في قوله { :وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ
حَتّى إِذَا جَا َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئًا } الية [النور .]39 :
ج ْهلَ البسيط ،وهم الذين قال [ال] ( )7فيهم َ { :أوْ َكظُُلمَاتٍ فِي
جهّال ال َ
ثم ضرب مثل الكفار ال ُ
ضهَا َفوْقَ َب ْعضٍ إِذَا أَخْرَجَ َي َدهُ لَمْ
ظُلمَاتٌ َب ْع ُ
جيّ َيغْشَاهُ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ سَحَابٌ ُ
بَحْرٍ ُل ّ
ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورًا َفمَا َلهُ مِنْ نُورٍ } [النور ]40 :فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين
َيكَدْ يَرَاهَا َومَنْ َلمْ يَ ْ
:داعية ومقلد ،كما ذكرهما في أول سورة الحج َ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ
وَيَتّبِعُ ُكلّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } [الحج ]3 :
__________
( )1في جـ " :الطيالسي".
( )2في جـ " :عتيبة".
( )3في أ " :تحير".
( )4في جـ " :وهذا شبه".
( )5في جـ " :المؤمنين".
( )6في جـ " :بالمصباح الذي".
( )7زيادة من جـ ،ط.
( )1/192
( )1/193
[وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف
سمَاءِ } بمعنى الواو ،كقوله
واحد من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى َ { :أوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ
تعالى { :وَل ُتطِعْ مِ ْنهُمْ آ ِثمًا َأوْ َكفُورًا } [النسان ، ]24 :أو تكون للتخبير ،أي :اضرب لهم
مثل بهذا وإن شئت بهذا ،قاله القرطبي .أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ،على ما
وجهه الزمخشري :أن كل منهما مساو للخر في إباحة الجلوس إليه ،ويكون معناه على قوله :
سواء ضربت لهم مثل بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت :وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين ،فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها ال
تعالى في سورة براءة -ومنهم -ومنهم -ومنهم -يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من
الفعال والقوال ،فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لحوالهم وصفاتهم ،وال أعلم ،
كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى { :وَالّذِينَ
جيّ َيغْشَاهُ َموْجٌ } الية
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ } إلى أن قال َ { :أوْ َكظُُلمَاتٍ فِي َبحْرٍ لُ ّ
َكفَرُوا أَ ْ
[النور ، ]40 ، 39 :فالول للدعاة الذين هم في جهل مركب ،والثاني لذوي الجهل البسيط من
التباع المقلدين ،وال أعلم بالصواب] (.)1
ج َعلَ َلكُمُ
{ يَا أَ ّيهَا النّاسُ اعْ ُبدُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُ ْم وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ ( )21الّذِي َ
جعَلُوا لِلّهِ
سمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ال ّثمَرَاتِ رِ ْزقًا َلكُمْ فَل َت ْ
سمَاءَ بِنَا ًء وَأَنزلَ مِنَ ال ّ
ال ْرضَ فِرَاشًا وَال ّ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ (} )22
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ،بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده ،بإخراجهم من
العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة ،بأن جعل لهم الرض فراشا ،أي :
سمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف ،كما قال
مهدا كالفراش ُمقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات { ،وَال ّ
حفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَا ِتهَا ُمعْ ِرضُونَ } [النبياء ]32 :
سقْفًا مَ ْ
سمَاءَ َ
جعَلْنَا ال ّ
في الية الخرى َ { :و َ
وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا -في وقته عند احتياجهم إليه ،فأخرج
لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقًا لهم ولنعامهم ،كما قرر هذا في غير
ج َعلَ َلكُمُ ال ْرضَ قَرَارًا
موضع ( )2من القرآن .ومنْ أشبه آية بهذه الية قوله تعالى { :اللّهُ الّذِي َ
صوَرَكُمْ وَرَ َزقَكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َذِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ
ن ُ
حسَ َ
صوّ َركُمْ فَأَ ْ
سمَاءَ بِنَا ًء َو َ
( )3وَال ّ
ا ْلعَاَلمِينَ } [غافر ]64 :ومضمونه :أنه الخالق الرازق مالك الدار ،وساكنيها ،ورازقهم ،فبهذا
جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ }
يستحق أن يعبد وحده ول يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال { :فَل تَ ْ
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ،قال :قلت :يا رسول ال ،أي الذنب أعظم ؟ قال " :أن تجعل
ل ندا ،وهو خلقك" الحديث ( .)4وكذا حديث معاذ :
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ " :غير هذا الموضع".
( )3في جـ " :فراشا" وهو خطأ.
( )4صحيح البخاري برقم ( )4761وصحيح مسلم برقم (.)68
( )1/194
( )1/195
الرسول صلى ال عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي ل شك فيه .وهكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ،حدثنا أبي عمرو ،حدثنا أبي
الضحاك بن مخلد أبو عاصم ،حدثنا شبيب بن بشر ،حدثنا عكرمة ،عن ابن عباس ،في قول
جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا [وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ] ( } )2قال :النداد هو الشرك ،أخفى
ال ،عز وجل ( { )1فَل تَ ْ
من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل ،وهو أن يقول :وال وحياتك يا فلن ،
وحياتي ،ويقول :لول كلبة هذا لتانا اللصوص ،ولول البطّ في الدار لتى اللصوص ،وقول
الرجل لصاحبه :ما شاء ال وشئتَ ،وقول الرجل :لول ال وفلن .ل تجعل فيها "فلن" .هذا (
)3كله به شرك.
وفي الحديث :أن رجل قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم ما شاء ال وشئت ،فقال " :أجعلتني
ل ندا" .وفي الحديث الخر " :نعم القوم أنتم ،لول أنكم تنددون ،تقولون :ما شاء ال ،وشاء
فلن".
جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا } أي عدلء شركاء .وهكذا قال الربيع بن أنس ،
قال ( )4أبو العالية { :فَل تَ ْ
وقتادة ،والسّدي ،وأبو مالك :وإسماعيل بن أبي خالد.
جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ } قال :تعلمون أنه إله واحد في التوراة
وقال مجاهد { :فَل تَ ْ
والنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الية الكريمة :
قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ،وكان ُيعَد من ال ُبدَلء ،حدثنا
يحيى بن أبي كثير ،عن زيد بن سلم ،عن جده ممطور ،عن الحارث الشعري ،أن نبي ال
صلى ال عليه وسلم قال " :إن ال عز وجل ،أمر يحيى بن زكريا ،عليه السلم ،بخمس كلمات
أن يعمل بهن ،وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ،وكان يبطئ بها ،فقال له عيسى ،عليه
السلم :إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ،فإما أن
تبلغهن ،وإما أن أبلغهن .فقال :يا أخي ،إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي" .قال :
"فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ،حتى امتل المسجد ،فقعد على الشرف ،
فحمد ال وأثنى عليه ،ثم قال :إن ال أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ،وآمركم أن تعملوا
بهن ،وأولهن :أن تعبدوا ال ( )5ل تشركوا به شيئًا ،فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من
خالص ماله بوَرِق أو ذهب ،فجعل يعمل ويؤدي غلته ( )6إلى غير سيده فأيكم يسره ( )7أن
يكون عبده كذلك ؟ وأن ال خلقكم ورزقكم فاعبدوه ول تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلة ؛ فإن ال
ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ،فإذا صليتم فل تلتفتوا .وأمركم بالصيام ،فإن مثل ذلك
كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ،كلهم يجد ريح المسك .وإن خلوف فم الصائم عند
ال أطيب ( )8من ريح المسك .وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ،فشدوا
يديه إلى عنقه ،وقدموه ليضربوا عنقه ،فقال لهم :هل لكم أن أفتدي
__________
( )1في جـ " :تعالى".
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3في جـ " :لن هذا".
( )4في جـ " :وقال".
( )5في جـ " :ال وحده".
( )6في جـ ،أ " :عمله".
( )7في جـ " :سره".
( )8في ب " :أطيب عند ال".
( )1/196
نفسي ( )1؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه .وأمركم بذكر ال كثيرًا ؛ وإن
مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره ،فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه ،وإن العبد
أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر ال".
قال :وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :وأنا آمركم بخمس ال أمرني بهن :الجماعة ،
والسمع ،والطاعة ،والهجرة ،والجهاد في سبيل ال ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد
خلع رِبْقة السلم من عنقه ،إل أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِ ِثيّ جهنم" .قالوا :
يا رسول ال ،وإن صام وصلى ( )2؟ فقال " :وإن صلى وصام ( )3وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا
المسلمين بأسمائهم على ما سماهم ( )4ال عز وجل :المسلمين المؤمنين عباد ال" (.)5
هذا حديث حسن ،والشاهد منه في هذه الية قوله " :وإن ال خلقكم ورزقكم فاعبدوه ول تشركوا
به شيئًا".
وهذه الية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده ل شريك له ،وقد استدل به كثير من المفسرين
كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال :وهي دالة على ذلك بطريق الولى ،فإن من تأمل هذه
الموجودات السفلية والعلوية واختلف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع
النفع بها محكمة ،علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ،كما قال بعض
العراب ،وقد سئل :ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال :يا سبحان ال ،إن البعرة لتدل
على البعير ،وإن أثر القدام لتدل على المسير ،فسماء ذات أبراج ،وأرض ذات فجاج ،وبحار
ذات أمواج ؟ أل يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟
وحكى فخر الدين عن المام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلف اللغات والصوات
والنغمات ،وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ،فقال لهم :دعوني
فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر
وليس بها أحد يحرسها ول يسوقها ،وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق المواج
العظام حتى تتخلص منها ،وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد .فقالوا :هذا شيء
ل يقوله عاقل ،فقال :ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت
عليه من الشياء المحكمة ليس لها صانع!! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن الشافعي :أنه سئل عن وجود الصانع ،فقال :هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود
فيخرج منه البريسم ،وتأكله النحل فيخرج منه العسل ،وتأكله الشاة والبعير والنعام فتلقيه بعرًا
وروثا ،وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد.
وعن المام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال :هاهنا حصن حصين أملس ،ليس له باب
__________
( )1في جـ ،ب ،أ ،و " :نفسي منكم".
( )2في جـ " :وصلى وزعم أنه مسلم".
( )3في أ " :وإن صلى وإن صام".
( )4في جـ ،ط " :بل بما سماهم".
( )5المسند (.)4/130
( )1/197
ول منفذ ،ظاهره كالفضة البيضاء ،وباطنه كالذهب البريز ،فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره
فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ،يعني بذلك البيضة إذا خرج منها
الدجاجة.
وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :
تأمل في نبات الرض وانظر ...إلى آثار ما صنع المليك...
عيون من لجين شاخصات ...بأحداق هي الذهب السبيك...
على قضب الزبرجد شاهدات ...بأن ال ليس له شريك...
وقال ابن المعتز :
فيا عجبًا كيف يعصى الله ...أم كيف يجحده الجاحد...
وفي كل شيء له آية ...تدل على أنه واحد...
وقال آخرون :من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار
والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ،وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم
وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ،ونظر إلى البحار الملتفة للرض من كل جانب ،
والجبال الموضوعة في الرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلف أشكالها وألوانها كما قال :
حمْرٌ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّاسِ وَال ّدوَابّ وَال ْنعَامِ
ض وَ ُ
{ َومِنَ ا ْلجِبَالِ جُ َددٌ بِي ٌ
خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ } [فاطر ]28 ، 27 :وكذلك هذه النهار
مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ َكذَِلكَ إِ ّنمَا يَ ْ
السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الرض من الحيوانات المتنوعة والنبات
المختلف الطعوم والراييح والشكال واللوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ،علم وجود الصانع
وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم ل إله غيره ول رب
سواه ،عليه توكلت وإليه أنيب ،واليات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا.
ش َهدَا َءكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ
{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِنْ مِثْلِ ِه وَادْعُوا ُ
حجَا َرةُ أُعِ ّدتْ
س وَالْ ِ
كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ( )23فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ
لِ ْلكَافِرِينَ (} )24
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه ( )1ل إله إل هو ،فقال مخاطبًا للكافرين { :وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } يعني :محمدا صلى ال عليه وسلم { فَأْتُوا بِسُو َرةٍ } من مثل
ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير ال ،فعارضوه بمثل ما جاء به ،واستعينوا على ذلك بمن
شئتم من دون ال ،فإنكم ل تستطيعون ذلك.
__________
( )1في أ " :بأن".
( )1/198
شهَدَا َءكُمْ } أعوانكم [أي :قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك] (.)1
قال ابن عباس ُ { :
وقال السدي ،عن أبي مالك :شركاءكم [أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم] (.)2
ش َهدَا َءكُمْ } قال :ناس يشهدون به [يعني :حكام الفصحاء] (.)3
وقال مجاهد { :وَادْعُوا ُ
وقد تحداهم ال تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ،فقال في سورة القصص ُ { :قلْ فَأْتُوا
ِبكِتَابٍ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ُهوَ أَ ْهدَى مِ ْن ُهمَا أَتّ ِبعْهُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [القصص ]49 :وقال في سورة
س وَا ْلجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ هَذَا ا ْلقُرْآنِ ل يَأْتُونَ ِبمِثِْل ِه وََلوْ كَانَ
سبحان ُ { :قلْ لَئِنِ اجْ َت َم َعتِ النْ ُ
ظهِيرًا } [السراء ]88 :وقال في سورة هود { :أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبعَشْرِ
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
َب ْع ُ
طعْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } [هود ، ]13 :وقال في
سوَرٍ مِثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَ َ
ُ
سورة يونس َ { :ومَا كَانَ َهذَا ا ْلقُرْآنُ أَنْ ُيفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّ ِه وََلكِنْ َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ َيدَيْ ِه وَ َت ْفصِيلَ
طعْتُمْ
ا ْلكِتَابِ ل رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا بِسُو َرةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ
مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [يونس ]38 ، 37 :وكل هذه اليات مكية.
ثم تحداهم [ال تعالى] ( )4بذلك -أيضًا -في المدينة ،فقال في هذه الية { :وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ
} أي [ :في] ( )5شك { ِممّا نزلْنَا عَلَى عَ ْبدِنَا } يعني :محمدًا صلى ال عليه وسلم { .فَأْتُوا بِسُو َرةٍ
مِنْ مِثْلِهِ } يعني :من مثل [هذا] ( )6القرآن ؛ قاله مجاهد وقتادة ،واختاره ابن جرير .بدليل قوله
سوَرٍ مِثْلِهِ } [هود ]13 :وقوله { :ل يَأْتُونَ ِبمِثْلِهِ } [السراء ]88 :وقال بعضهم
{ :فَأْتُوا ِبعَشْرِ ُ
:من مثل محمد صلى ال عليه وسلم ،يعني :من رجل أمي مثله .والصحيح الول ؛ لن
التحدي عام لهم كلهم ،مع أنهم أفصح المم ،وقد ( )7تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة
،مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ،ومع هذا عجزوا عن ذلك ؛ ولهذا قال تعالى { :فَإِنْ َلمْ
َت ْفعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا } "ولن" :لنفي التأبيد ( )8أي :ولن تفعلوا ذلك أبدًا .وهذه -أيضًا -معجزة
أخرى ،وهو أنه أخبر أن هذا القرآن ل يعارض بمثله أبدا ( )9وكذلك وقع المر ،لم يعارض
من لدنه إلى زماننا هذا ول يمكن ،وَأنّى يَتَأتّى ذلك لحد ،والقرآن كلم ال خالق كل شيء ؟
وكيف يشبه كلم الخالق كلم المخلوقين ؟!
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه العجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة
حكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود ، ]1 :
ح ِك َمتْ آيَاتُهُ ثُمّ ُفصَّلتْ مِنْ لَدُنْ َ
المعنى ،قال ال تعالى { :الر كِتَابٌ أُ ْ
فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلف ،فكل من لفظه ومعناه فصيح ل يجارى
ول يدانى ،فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ،وأمر
بكل خير ،ونهى عن كل شر كما قال { :وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ صِ ْدقًا وَعَدْل } [النعام ]115 :أي :
صدقًا في الخبار وعدل في الحكام ،فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ول كذب
ول افتراء ،
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3زيادة من جـ ،ط.
( )4زيادة من جـ.
( )5زيادة من جـ ،ط.
( )6زيادة من أ ،و.
( )7في أ " :وهو قد".
( )8في جـ ،ب ،أ ،و " :التأبيد في المستقبل".
( )9في جـ ،ط ،أ " :أبد البدين ودهر الداهرين".
( )1/199
كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الكاذيب والمجازفات التي ل يحسن شعرهم إل بها ،
كما قيل في الشعر :إن أعذبه أكذبه ،وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف
النساء أو الخيل أو الخمر ،أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة
أو سبع ،أو شيء من المشاهدات المتعينة التي ل تفيد شيئًا إل قدرة المتكلم المعبر على التعبير
على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ،ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر
هي بيوت القصيد وسائرها هذر ل طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلغة عند من يعرف ذلك تفصيل وإجمال ممن فهم
كلم العرب وتصاريف التعبير ،فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلوة ،سواء كانت
مبسوطة أو وجيزة ،وسواء تكررت أم ل وكلما تكرر حل وعل ل يَخلق عن كثرة الرد ،ول
يمل منه العلماء ،وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ،
فما ظنك بالقلوب الفاهمات ،وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والذان ،ويشوق إلى دار السلم
خ ِفيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ
ومجاورة عرش الرحمن ،كما قال في الترغيب { :فَل َتعَْلمُ َنفْسٌ مَا أُ ْ
ن وَأَنْتُمْ فِيهَا
س وَتَلَذّ العْيُ ُ
جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } [السجدة ]17 :وقال َ { :وفِيهَا مَا تَشْ َتهِيهِ ال ْنفُ ُ
سفَ ِب ُكمْ جَا ِنبَ الْبَرّ } [السراء :
خِخَاِلدُونَ } [الزخرف ، ]71 :وقال في الترهيب َ { :أفََأمِنْتُمْ أَنْ يَ ْ
سمَاءِ أَنْ
سفَ ِبكُمُ ال ْرضَ فَإِذَا ِهيَ َتمُورُ * َأمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
سمَاءِ أَنْ َيخْ ِ
{ ، ]68أََأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
خذْنَا
سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا فَسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ َنذِيرِ } [الملك ]17 ، 16 :وقال في الزجر َ { :فكُل أَ َ
يُرْ ِ
بِذَنْبِهِ } [العنكبوت ، ]40 :وقال في الوعظ َ { :أفَرَأَ ْيتَ إِنْ مَ ّتعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمّ جَاءَ ُهمْ مَا كَانُوا
يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا ُيمَ ّتعُونَ } [الشعراء ]207 - 205 :إلى غير ذلك من أنواع
الفصاحة والبلغة والحلوة ،وإن جاءت اليات في الحكام والوامر والنواهي ،اشتملت على
المر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ،والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن
مسعود وغيره من السلف :إذا سمعت ال تعالى يقول في القرآن { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فأوعها
ف وَيَ ْنهَاهُمْ
سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه .ولهذا قال تعالى { :يَ ْأمُرُ ُهمْ بِا ْل َمعْرُو ِ
ت وَيُحَرّمُ عَلَ ْيهِمُ ا ْلخَبَا ِئثَ وَ َيضَعُ عَ ْن ُهمْ ِإصْرَهُمْ وَالغْللَ الّتِي كَا َنتْ
حلّ َلهُمُ الطّيّبَا ِ
عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُ ِ
عَلَ ْيهِمْ } الية [العراف ، ]157 :وإن جاءت اليات في وصف المعاد وما فيه من الهوال وفي
وصف الجنة والنار وما أعد ال فيهما لوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملذ والعذاب
الليم ،بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ،وزهدت في
الدنيا ورغبت في الخرى ،وثبتت على الطريقة المثلى ،وهدت إلى صراط ال المستقيم وشرعه
القويم ،ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
طيَ من اليات ما مثله آمن عليه البشر ،وإنما كان الذي
قال " :ما من نبي من النبياء إل قد أعْ ِ
أوتيته وحيا أوحاه ال
( )1/200
إليّ ،فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا ( )1يوم القيامة" لفظ ( )2مسلم .وقوله " :وإنما كان الذي
أوتيته وحيًا" أي :الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز ( )3للبشر أن يعارضوه ،
بخلف غيره من الكتب اللهية ،فإنها ليست معجزة [عند كثير من العلماء] ( )4وال أعلم .وله
عليه الصلة والسلم من اليات الدالة على نبوته ،وصدقه فيما جاء به ما ل يدخل تحت حصر ،
ول الحمد والمنة.
[وقد قرر بعض المتكلمين العجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ،
فقال :إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه ل يستطيع البشر التيان بمثله ول في قواهم معارضته
،فقد حصل المدعى وهو المطلوب ،وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع
شدة عداوتهم له ،كان ذلك دليل على أنه من عند ال ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم
على ذلك ،وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لن القرآن في نفسه معجز ل يستطيع البشر
معارضته ،كما قررنا ،إل أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه
الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ
ا ْل َكوْثَرَ } ] (.)5
حجَا َرةُ أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ } أما ال َوقُود ،بفتح
س وَالْ ِ
وقوله تعالى { :فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ
الواو ،فهو ما يلقى في النار لضرامها كالحطب ونحوه ،كما قال { :وََأمّا ا ْلقَاسِطُونَ َفكَانُوا
جهَنّمَ أَنْ ُتمْ َلهَا
صبُ َ
ح َ
حطَبًا } [الجن ]15 :وقال تعالى { :إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
جهَنّمَ َ
لِ َ
وَارِدُونَ } [النبياء .]98 :
والمراد بالحجارة هاهنا :هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ،وهي أشد
الحجار حرا إذا حميت ،أجارنا ال منها.
قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد ( )6عن عبد الرحمن بن سابط ،عن عمرو بن ميمون ،عن
عبد ال بن مسعود ،في قوله تعالى َ { :وقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَا َرةُ } قال :هي حجارة من كبريت ،
خلقها ال يوم خلق السماوات والرض في السماء الدنيا ،يعدها للكافرين .رواه ابن جرير ،وهذا
لفظه .وابن أبي حاتم ،والحاكم في مستدركه وقال :على شرط الشيخين (.)7
وقال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرة عن ابن
حجَا َرةُ } أما الحجارة فهي
س وَالْ ِ
مسعود ،وعن ناس من الصحابة { :فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ
حجارة في النار من كبريت أسود ،يعذبون به مع النار.
وقال مجاهد :حجارة من كبريت أنتن من الجيفة .وقال أبو جعفر محمد بن علي [ :هي] ()8
حجارة من كبريت .وقال ابن جريج :حجارة من كبريت أسود في النار ،وقال لي عمرو بن
دينار :
__________
( )1في جـ " :تبعا".
( )2صحيح البخاري برقم ( ، )4981وصحيح مسلم برقم (.)152
( )3في ط " :المفهم".
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ.
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )6في جـ " :الرزاز".
( )7تفسير الطبري ( )1/381وتفسير ابن أبي حاتم ( )1/85والمستدرك (.)2/61
( )8زيادة من جـ.
( )1/201
( )1/202
( )1/203
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ
وَبَشّرِ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
طهّ َرةٌ وَهُمْ فِيهَا
ل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ ُم َ
َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْب ُ
خَاِلدُونَ ()25
عمِلُوا الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ
{ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
طهّ َرةٌ وَهُمْ فِيهَا
ل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ ُم َ
َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْب ُ
خَاِلدُونَ (} )25
لما ذكر تعالى ما أعده لعدائه من الشقياء الكافرين به ( )1وبرسله من العذاب والنكال ،عَطف
بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به ( )2وبرسله ،الذين صَدّقوا إيمانهم بأعمالهم
الصالحة ،وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على أصح أقوال ( )3العلماء ،كما سنبسطه في
موضعه ،وهو أن يذكر اليمان ويتبعه بذكر الكفر ،أو عكسه ،أو حال السعداء ثم الشقياء ،أو
عكسه .وحاصله ذكر الشيء ومقابله .وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ،كما سنوضحه إن
عمِلُوا الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا
شاء ال ؛ فلهذا قال تعالى { :وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ال ْنهَارُ } فوصفها بأنها تجري من تحتها
__________
( )1في جـ " :بال تعالى".
( )2في جـ " :بال تعالى".
( )3في جـ " :قولي".
( )1/203
النهار ،كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ،ومعنى { َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ } أي
:من تحت أشجارها وغرفها ،وقد جاء في الحديث :أن أنهارها تجري من ( )1غير أخدود ،
وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ،ول منافاة بينهما ،وطينها المسك الذفر ،
وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ،نسأل ال من فضله [وكرمه] ( )2إنه هو البر الرحيم.
وقال ابن أبي حاتم :قرئ على الربيع بن سليمان :حدثنا أسد بن موسى ،حدثنا ابن ثوبان ،عن
عطاء بن قرّة ،عن عبد ال بن ضمرة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :أنهار الجنة ُتفَجّر من تحت تلل -أو من تحت جبال -المسك" (.)3
وقال أيضا :حدثنا أبو سعيد ،حدثنا وكيع ،عن العمش ،عن عبد ال بن مرة ،عن مسروق ،
قال :قال عبد ال :أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وقوله تعالى { :كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْبلُ } قال السدي في
تفسيره ،عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود ،وعن
ناس من الصحابة { :قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْبلُ } قال :إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ،فلما
نظروا إليها قالوا :هذا الذي رزقنا من قبل في [دار] ( )4الدنيا.
وهكذا قال قتادة ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،ونصره ابن جرير.
وقال عكرمة { :قَالُوا َهذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْبلُ } قال :معناه :مثل الذي كان بالمس ،وكذا قال
الربيع بن أنس .وقال مجاهد :يقولون :ما أشبهه به.
قال ابن جرير :وقال آخرون :بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ()5
لشدة مشابهة بعضه بعضًا ،لقوله تعالى { :وَأُتُوا بِهِ مُ َتشَا ِبهًا } قال سُنَيْد بن داود :حدثنا شيخ
من أهل ال ِمصّيصة ،عن الوزاعي ،عن يحيى بن أبي كثير ،قال :يؤتى أحدهم بالصحفة ()6
من الشيء ،فيأكل منها ثم يؤتى ( )7بأخرى فيقول :هذا الذي أوتينا به من قبل .فتقول الملئكة
ُ :كلْ ،فاللون واحد ،والطعم مختلف.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا سعيد بن سليمان ،حدثنا عامر ( )8بن َيسَاف ،عن يحيى
بن أبي كثير قال :عشب الجنة الزعفران ،وكثبانها المسك ،ويطوف عليهم الولدان بالفواكه
فيأكلونها ( )9ثم يؤتون بمثلها ،فيقول لهم أهل الجنة :هذا الذي أتيتمونا آنفا به ،فيقول لهم
الولدان :كلوا ،فإن اللون واحد ،والطعم مختلف .وهو قول ال تعالى { :وَأُتُوا ِبهِ مُتَشَا ِبهًا }
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية { :وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا } قال :يشبه
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :في".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )3تفسير ابن أبي حاتم ( )1/87ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم ( )313من طريق الربيع
بن سليمان به ،ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (" )2622موارد" من طريق القراطيسي عن
أسد بن موسى عن ابن ثوبان به.
( )4زيادة من جـ.
( )5في جـ " :هذه".
( )6في جـ ،ب " :بالصحيفة".
( )7في جـ " :يأتي".
( )8في أ " :عباس".
( )9في جـ " :فيأكلون".
( )1/204
( )1/205
حقّ مِنْ
إِنّ اللّهَ لَا يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَلًا مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا فََأمّا الّذِينَ َآمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ
ضلّ
ضلّ بِهِ كَثِيرًا وَ َيهْدِي بِهِ كَثِيرًا َومَا ُي ِ
رَ ّبهِ ْم وََأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَلًا ُي ِ
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
عهْدَ اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مِيثَاقِ ِه وَ َيقْ َ
سقِينَ ( )26الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ
بِهِ إِلّا ا ْلفَا ِ
سدُونَ فِي الْأَ ْرضِ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ ()27
وَيُفْ ِ
وهذا الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي ( )1هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان
البُسْتي :ل يجوز الحتجاج به (.)2
قلت :والظهر أن هذا من كلم قتادة ،كما تقدم ،وال أعلم.
وقوله تعالى { :وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا ( )3هو تمام السعادة ،فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين
من الموت والنقطاع فل آخر له ول انقضاء ،بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ،وال
المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ،إنه جواد كريم ،بر رحيم.
حقّ مِنْ
{ إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ
ضلّ
ضلّ بِهِ كَثِيرًا وَ َيهْدِي ِبهِ كَثِيرًا َومَا ُي ِ
رَ ّبهِ ْم وََأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل ُي ِ
صلَ
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُو َ
عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِ ِه وَ َيقْ َ
سقِينَ ( )26الّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ
بِهِ إِل ا ْلفَا ِ
سدُونَ فِي ال ْرضِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (} )27
وَيُفْ ِ
قال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مرة ،عن ابن
مسعود ،وعن ناس من الصحابة :لما ضرب ال هذين المثلين للمنافقين ،يعني قوله { :مَثَُلهُمْ
سمَاءِ } [البقرة ]19 :اليات
َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا } [البقرة ]17 :وقوله { َأوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ
الثلث ،قال المنافقون :ال أعلى وأجل من أن يضرب هذه المثال ،فأنزل ال هذه الية إلى
قوله { :هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة :لما ذكر ال العنكبوت والذباب ،قال المشركون :ما
بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل ال [تعالى هذه الية] ( { )4إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ
مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا } (.)5
وقال سعيد ،عن قتادة :أي إن ال ل يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما ،قل أو كثر ،وإن ال
حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضللة :ما أراد ال من ذكر هذا ؟ فأنزل ال { :
إِنّ اللّ َه ل َيسْتَحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا }
قلت :العبارة الولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الية مكية ،وليس كذلك ،وعبارة رواية سعيد
،عن قتادة أقرب وال أعلم .وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم :روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الية قال :هذا مثل ضربه ال للدنيا ؛ إذ
__________
( )1في أ " :الربعي".
( )2المجروحين (.)2/160
( )3في جـ ،ط " :وهذا".
( )4زيادة من ط.
( )5تفسير عبد الرزاق (.)1/64
( )1/206
البعوضة تحيا ما جاعت ،فإذا سمنت ماتت .وكذلك مثل هؤلء ( )1القوم الذين ضرب لهم هذا
المثل في القرآن ،إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم ال تعالى عند ذلك ،ثم تل { فََلمّا نَسُوا مَا
شيْءٍ } [النعام .]44 :
ُذكّرُوا بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
هكذا رواه ابن جرير ،ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر ،عن الربيع ،عن أبي العالية ،
بنحوه ،فال أعلم.
فهذا اختلفهم في سبب النزول ،وقد اختار ابن جرير ما حكاه السّدي ؛ لنه أمس بالسورة ،وهو
مناسب ،ومعنى الية :أنه تعالى أخبر أنه ل يستحيي ،أي :ل يستنكف ،وقيل :ل يخشى أن
يضرب مثل ما ،أي :أيّ مثل كان ،بأي شيء كان ،صغيرًا كان أو كبيرًا.
و "ما" هاهنا للتقليل ( )2وتكون { َبعُوضَةً } منصوبة على البدل ،كما تقول :لضربن ضربًا
ما ،فيصدق بأدنى شيء [أو تكون "ما" نكرة موصوفة ببعوضة] ( .)3واختار ابن جرير أن ما
موصولة ،و { َبعُوضَةً } معربة بإعرابها ،قال :وذلك سائغ ( )4في كلم العرب ،أنهم يعربون
صلة ما ومن بإعرابهما لنهما يكونان معرفة تارة ،ونكرة أخرى ،كما قال حسان بن ثابت :
حمّدٍ إيّانَا ()7
َوكَفَى ( )5بِنَا َفضْل عَلَى مَنْ غَيْرِنَا ...حُب ( )6النّ ِبيّ ُم َ
قال :ويجوز أن تكون { َبعُوضَةً } منصوبة بحذف الجار ،وتقدير الكلم :إن ال ل يستحيي أن
يضرب مثل ما بين بعوضة إلى ما فوقها.
[وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء .وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت "بعوضة"
حسَنَ }
بالرفع ،قال ابن جني :وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله َ { :تمَامًا عَلَى الّذِي أَ ْ
[النعام ]154 :أي :على الذي أحسن هو أحسن ،وحكى سيبويه :ما أنا بالذي قائل لك شيئا ،
أي :يعني بالذي هو قائل لك شيئًا] (.)8
وقوله َ { :فمَا َف ْو َقهَا } فيه قولن :أحدهما :فما دونها في الصغر ،والحقارة ،كما إذا وصف
رجل باللؤم والشح ،فيقول السامع ( : )9نعم ،وهو فوق ذلك ،يعني فيما وصفت .وهذا قول
الكسائي وأبي عبيدة ،قال الرازي :وأكثر المحققين ،وفي الحديث " :لو أن الدنيا تزن عند ال
جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" ( .)10والثاني :فما فوقها :فما هو أكبر منها ؛ لنه
ليس شيء أحقر ول أصغر من البعوضة .وهذا [قول قتادة بن دعامة و] ( )11اختيار ابن جرير.
__________
( )1في أ " :هذا".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :للتقليل زائدة".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4في جـ ،أ ،و " :شائع".
( )5في جـ ،ب ،أ ،و " :يكفي".
( )6في جـ " :حث".
( )7البيت في تفسير الطبري (.)1/404
( )8زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )9في جـ " :القابل".
( )10رواه الترمذي في السنن برقم ( )2320من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم ،
عن سهل بن سعد رضي ال عنه به مرفوعا ،وفيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف.
( )11زيادة من جـ ،ط.
( )1/207
[ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة ،رضي ال عنها :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إل كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" (.)2( ] )1
فأخبر أنه ل يستصغر ( )3شيئًا َيضْرب به مثل ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ،كما
[لم يستنكف عن خلقها كذلك ل يستنكف من] ( )4ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله { :يَا
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا َلهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ َيخُْلقُوا ذُبَابًا وََلوِ اجْ َت َمعُوا لَهُ
أَ ّيهَا النّا ُ
ض ُعفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ } [الحج ، ]73 :وقال { :مَ َثلُ
وَإِنْ يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا ل يَسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْ ُه َ
خ َذتْ بَيْتًا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ َلوْ
الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ اتّ َ
ف ضَ َربَ اللّهُ مَثَل كَِلمَةً طَيّبَةً َكشَجَ َرةٍ
كَانُوا َيعَْلمُونَ } [العنكبوت ]41 :وقال تعالى َ { :ألَمْ تَرَ كَ ْي َ
سمَاءِ * ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِِإذْنِ رَ ّبهَا وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه المْثَالَ
عهَا فِي ال ّ
طَيّ َبةٍ َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ َوفَرْ ُ
لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ * َومَ َثلُ كَِلمَةٍ خَبِيثَةٍ َكشَجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُ ّثتْ مِنْ َفوْقِ ال ْرضِ مَا َلهَا مِنْ قَرَارٍ
ن وَ َيفْ َعلُ اللّهُ
ضلّ اللّهُ الظّاِلمِي َ
* يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِا ْل َق ْولِ الثّا ِبتِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة وَ ُي ِ
مَا يَشَاءُ } [إبراهيم ، ]27 - 24 :وقال تعالى { :ضَ َربَ اللّهُ مَثَل عَ ْبدًا َممْلُوكًا ل َيقْدِرُ عَلَى
شيْءٍ [ َومَنْ رَ َزقْنَاهُ مِنّا رِ ْزقًا حَسَنًا] ( } )5الية [النحل ، ]75 :ثم قال َ { :وضَرَبَ اللّهُ مَثَل
َ
جهْهُ ل يَ ْأتِ بِخَيْرٍ [ َهلْ يَسْ َتوِي
شيْ ٍء وَ ُهوَ َكلّ عَلَى َموْلهُ أَيْ َنمَا ُيوَ ّ
رَجُلَيْنِ أَحَ ُد ُهمَا أَ ْبكَمُ ل َيقْدِرُ عَلَى َ
سكُمْ َهلْ َلكُمْ
ُه َو َومَنْ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْدلِ] ( } )6الية [النحل ، ]76 :كما قال { :ضَ َربَ َلكُمْ مَثَل مِنْ أَ ْنفُ ِ
مِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ } الية [الروم .]28 :وقال { :ضَ َربَ اللّهُ مَثَل
جلٍ] ( } )7الية [الزمر ، ]29 :وقد قال تعالى :
رَجُل فِيهِ شُ َركَاءُ مُ َتشَاكِسُونَ [وَرَجُل سََلمًا لِرَ ُ
ك المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ } [العنكبوت ]43 :وفي القرآن أمثال
{ وَتِ ْل َ
كثيرة.
قال بعض السلف :إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي ؛ لن ال تعالى يقول
س َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ }
ك المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّا ِ
{ :وَتِ ْل َ
وقال مجاهد قوله { :إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا } المثال صغيرها
وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ،ويهديهم ال بها.
وقال قتادة { :فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ِهمْ } أي :يعلمون أنه كلم الرحمن ،
وأنه من عند ال.
وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال أبو العالية { :فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبهِمْ } يعني :هذا المثل { :وََأمّا
جعَلْنَا َأصْحَابَ
الّذِينَ َكفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل } كما قال في سورة المدثر َ { :ومَا َ
عدّ َتهُمْ إِل فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا لِ َيسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ
جعَلْنَا ِ
النّارِ إِل مَل ِئكَ ًة َومَا َ
آمَنُوا إِيمَانًا وَل يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَلِ َيقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ وَا ْلكَافِرُونَ
ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ إِل ُهوَ }
مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل كَذَِلكَ ُي ِ
[المدثر ، ]31 :
__________
( )1صحيح مسلم برقم ()2572
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في جـ " :ل يستنكف".
( )4زيادة من جـ ،ط.
( )5زيادة من جـ ،ط.
( )6زيادة من جـ.
( )7زيادة من جـ.
( )1/208
سقِينَ }
ضلّ بِهِ إِل ا ْلفَا ِ
ضلّ ِبهِ كَثِيرًا وَ َيهْدِي بِهِ كَثِيرًا َومَا ُي ِ
وكذلك قال هاهنا ُ { :ي ِ
قال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مرة ،عن ابن
ضلّ ِبهِ كَثِيرًا } يعني :المنافقين { ،وَ َيهْدِي ِبهِ كَثِيرًا }
مسعود ،وعن ناس من الصحابة ُ { :ي ِ
يعني المؤمنين ،فيزيد هؤلء ضللة إلى ضللهم ( )1لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا ،من المثل
الذي ضربه ال بما ضربه لهم ( )2وأنه لما ضربه له موافق ،فذلك ( )3إضلل ال إياهم به
{ وَ َيهْدِي ِبهِ } يعني بالمثل كثيرًا من أهل اليمان والتصديق ،فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى
إيمانهم ،لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ( )4ضربه ال له مثل وإقرارهم به ،
ضلّ بِهِ إِل ا ْلفَاسِقِينَ } قال :هم المنافقون (.)5
وذلك هداية من ال لهم به { َومَا ُي ِ
سقِينَ } قال :هم أهل النفاق .وكذا قال الربيع بن أنس.
ضلّ بِهِ إِل ا ْلفَا ِ
وقال أبو العالية َ { :ومَا ُي ِ
وقال ابن جريج عن مجاهد ،عن ابن عباس َ { :ومَا ُيضِلّ بِهِ إِل ا ْلفَاسِقِينَ } يقول :يعرفه
الكافرون فيكفرون به.
سقِينَ } فسقوا ،فأضلهم ال على فسقهم.
ضلّ ِبهِ إِل ا ْلفَا ِ
وقال قتادة َ { :ومَا ُي ِ
وقال ابن أبي حاتم :حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان ،عن أبي سِنان ،عن عمرو بن مرة ،عن
ضلّ بِهِ كَثِيرًا } يعني الخوارج.
مصعب بن سعد ،عن سعد { ُي ِ
وقال شعبة ،عن عمرو بن مرة ،عن مصعب بن سعد ،قال :سألت أبي فقلت :قوله تعالى { :
عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى آخر الية ،فقال :هم الحرورية .وهذا السناد إن
الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ
صح عن سعد بن أبي وقاص ،رضي ال عنه ،فهو تفسير على المعنى ،ل أن ( )6الية أريد
منها التنصيص على الخوارج ،الذين خرجوا على عليّ بالنهروان ،فإن أولئك لم يكونوا حال
نزول الية ،وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل ؛ لنهم سموا خوارج لخروجهم على (
)7طاعة المام والقيام بشرائع السلم.
والفاسق في اللغة :هو الخارج عن الطاعة أيضًا .وتقول العرب :فسقت الرطبة :إذا خرجت
جحْرها للفساد .وثبت في
من قشرتها ( )8؛ ولهذا يقال للفأرة :فويسقة ،لخروجها عن ُ
الصحيحين ،عن عائشة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :خمس فواسق يُقتلن في الحل
والحرم :الغراب ،والحدأة ،والعقرب ،والفأرة ،والكلب العقور" (.)9
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :ضللتهم".
( )2في جـ ،ط ،أ " :لما ضربه له".
( )3في جـ " :فوافق ذلك".
( )4في جـ ،ط " :لما".
( )5في أ " :أهل النفاق".
( )6في جـ " :لن" ،وفي ط " :إل أن".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ " :عن".
( )8في أ " :قشرها".
( )9صحيح البخاري برقم ( )3314وصحيح مسلم برقم (.)1198
( )1/209
فالفاسق يشمل ( )1الكافر والعاصي ،ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش ،والمراد من الية الفاسق
ع ْهدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ
الكافر ،وال أعلم ،بدليل ( )2أنه وصفهم بقوله { :الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ
ل وَ ُيفْسِدُونَ فِي ال ْرضِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَ َ
وَيَقْ َ
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ،كما قال تعالى في سورة الرعد َ { :أ َفمَنْ
عمَى إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو اللْبَابِ * الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ
حقّ َكمَنْ ُهوَ أَ ْ
َيعْلَمُ أَ ّنمَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ الْ َ
شوْنَ رَ ّبهُ ْم وَ َيخَافُونَ سُوءَ
ل وَيَخْ َ
صَاللّ ِه وَل يَ ْن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ * وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُو َ
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ
عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْ َ
حسَابِ } اليات ،إلى أن قال { :وَالّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ
الْ ِ
سدُونَ فِي ال ْرضِ أُولَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْنَةُ وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [الرعد .]25 - 19 :
ل وَيُفْ ِ
صَبِهِ أَنْ يُو َ
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلء الفاسقين بنقضه ،فقال بعضهم :هو
وصية ال إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ،ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من
معصيته في كتبه ،وعلى لسان رسله ،ونقضهم ( )3ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون :بل هي ( )4في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ،وعهد ال الذي نقضوه هو ما
أخذه ال عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى ال عليه وسلم إذا بعث
والتصديق به ،وبما جاء به من عند ربهم ،ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته
وإنكارهم ذلك ،وكتمانهم علم ذلك [عن] ( )5الناس بعد إعطائهم ال من أنفسهم الميثاق ليبيننه
للناس ول يكتمونه ،فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم ،واشتروا به ثمنًا قليل .وهذا اختيار
ابن جرير رحمه ال وقول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون :بل عنى بهذه الية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق .وعهده إلى جميعهم في
توحيده :ما وضع لهم ( )6من الدلة الدالة على ربوبيته ،وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج
به لرسله من المعجزات التي ل يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ( )7الشاهدة لهم على
صدقهم ،قالوا :ونقضهم ذلك :تركهم ( )8القرار بما ثبتت لهم صحته بالدلة وتكذيبهم الرسل
والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق ،وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان ( )9نحو هذا ،وهو
حسن [ ،وإليه مال الزمخشري ،فإنه قال :فإن قلت :فما المراد بعهد ال ؟ قلت :ما ركز في
شهَدَ ُهمْ
عقولهم من الحجة على التوحيد ،كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله { :وَأَ ْ
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُوا بَلَى } [العراف ]172 :إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزلة
سهِمْ أَلَ ْ
عَلَى أَ ْنفُ ِ
عليهم لقوله { :وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } [البقرة .)10( ]40 :
وقال آخرون :العهد الذي ذكره [ال] ( )11تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من
__________
( )1في جـ " :شمل".
( )2في طـ " :الدليل".
( )3في جـ " :وبغضهم".
( )4في جـ " :هو".
( )5زيادة من جـ ،ط.
( )6في جـ ،ط " :إليهم".
( )7في و " :بمثله".
( )8في جـ " :عدم".
( )9في جـ ،ط ،أ ،و " :بن حيان أيضا".
( )10زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )11زيادة من جـ.
( )1/210
ش َهدَهُمْ عَلَى
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
صلب آدم الذي وصف في قوله { :وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِنْ بَنِي آ َدمَ مِنْ ُ
شهِدْنَا] } ( )1اليتين [العراف ]173 ، 172 :ونقضهم ( )2ذلك
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُوا بَلَى [ َ
سهِمْ أََل ْ
أَ ْنفُ ِ
تركهم الوفاء به .وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا ،حكى هذه القوال ابن جرير في
تفسيره.
عهْدَ
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله { :الّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ
اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مِيثَاقِهِ } إلى قوله { :الْخَاسِرُونَ } قال :هي ست خصال من ( )3المنافقين إذا كانت
ظهْرَة ( )4على الناس أظهروا هذه الخصال :إذا حدثوا كذبوا ،وإذا وعدوا أخلفوا ،وإذا
فيهم ال ّ
اؤتمنوا خانوا ،ونقضوا عهد ال من بعد ميثاقه ،وقطعوا ما أمر ال به أن يوصل ،وأفسدوا في
ظهْ َرةُ ( )5عليهم أظهروا الخصال ( )6الثلث :إذا حدثوا كذبوا ،وإذا
الرض ،وإذا كانت ال ّ
وعدوا أخلفوا ،وإذا اؤتمنوا خانوا.
وكذا ( )7قال الربيع بن أنس أيضًا .وقال السدي في تفسيره بإسناده ،قوله تعالى { :الّذِينَ
عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ } قال :هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
يَ ْنقُضُونَ َ
صلَ } قيل :المراد به صلة الرحام والقرابات ،كما
طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ ِبهِ أَنْ يُو َ
وقوله { :وَ َيقْ َ
طعُوا أَرْحَا َمكُمْ }
ض وَ ُتقَ ّ
فسره قتادة كقوله تعالى َ { :ف َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِنْ َتوَلّيْتُمْ أَنْ ُتفْسِدُوا فِي الرْ ِ
[محمد ]22 :ورجحه ابن جرير .وقيل :المراد أعم من ذلك فكل ما أمر ال بوصله وفعله
قطعوه وتركوه.
وقال مقاتل بن حيان في قوله { :أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ } قال ( )8في الخرة ،وهذا كما قال
تعالى { :أُولَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [الرعد .]25 :
وقال الضحاك عن ابن عباس :كل شيء نسبه ال إلى غير أهل السلم من اسم مثل خاسر ،
فإنما يعني به الكفر ،وما نسبه إلى أهل السلم فإنما يعني به الذنب.
وقال ابن جرير في قوله { :أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ } الخاسرون :جمع خاسر ،وهم الناقصون
أنفسهم [و] ( )9حظوظهم بمعصيتهم ال من رحمته ،كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع
من رأس ماله في بيعه ،وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان ال إياه رحمته التي خلقها لعباده
في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ،يقال منه :خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا ،
كما قال جرير بن عطية ( )10إن سَلِيطًا في الخَسَارِ إنّه ...أولدُ قَومٍ خُلقُوا أقِنّه ()11
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2في جـ " :وبغضهم".
( )3في جـ ،ط " :في".
( )4في جـ " :الظهيرة".
( )5في جـ " :الظهيرة".
( )6في جـ " :أخفوا هذه الخصال".
( )7في جـ " :وقال".
( )8في أ " :أي".
( )9زيادة من جـ.
( )10في أ " :خطيئة".
( )11اليت في تفسير الطبري (.)1/417
( )1/211
جعُونَ ()28
كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَا ُكمْ ثُمّ ُيمِي ُت ُكمْ ثُمّ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ
( )1/212
وهذا غريب والذي قبله .والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس ،وأولئك الجماعة من
ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِيهِ
التابعين ،وهو كقوله تعالى ُ { :قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ َي ْ
وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل َيعَْلمُونَ } [الجاثية .]26 :
[وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الحساس ،كما قال في
الصنام َ { :أ ْموَاتٌ غَيْرُ َأحْيَاءٍ } [النحل ، ]21 :وقال { وَآ َيةٌ َلهُمُ ال ْرضُ ا ْلمَيْتَةُ َأحْيَيْنَاهَا وََأخْرَجْنَا
مِ ْنهَا حَبّا َفمِنْهُ يَ ْأكُلُونَ } [يس .)1( ]33 :
سمَاوَاتٍ وَ ُهوَ ِب ُكلّ
سوّاهُنّ سَ ْبعَ َ
سمَاءِ فَ َ
جمِيعًا ُثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ
خلَقَ َل ُكمْ مَا فِي ال ْرضِ َ
{ ُهوَ الّذِي َ
شيْءٍ عَلِيمٌ (} )29
َ
لما ذكر تعالى دللةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ،ذكر دليل آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق
سمَاءِ }
جمِيعًا ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ
السماوات والرض ،فقال ُ { :هوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي ال ْرضِ َ
ضمّن ( )2معنى القصد والقبال ؛ لنه عدي بإلى
أي :قصد إلى السماء ،والستواء هاهنا َت َ
سوّاهُنّ }.
سوّاهُنّ } أي :فخلق السماء سبعًا ،والسماء هاهنا اسم جنس ،فلهذا قال { :فَ َ
{ َف َ
شيْءٍ عَلِيمٌ } أي :وعلمه محيط بجميع ما خلق ( .)3كما قال { :أَل َيعَْلمُ مَنْ خََلقَ }
{ وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
[الملك ]14 :وتفصيل هذه الية في سورة حم السجدة وهو قوله ُ { :قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ
سيَ مِنْ َف ْوقِهَا وَبَا َركَ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ لَهُ أَ ْندَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
ال ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
سمَا ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا
سوَاءً لِلسّائِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَى ِإلَى ال ّ
فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ وَأَوْحَى فِي
طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ * َف َقضَاهُنّ سَبْعَ َ
وَلِل ْرضِ اِئْتِيَا َ
حفْظًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ } [فصلت - 9 :
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ وَ ِ
سمَاءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ
ُكلّ َ
.]12
ففي هذا دللة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الرض أول ثم خلق السماوات سبعًا ،وهذا شأن البناء
أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ،وقد صرح المفسرون بذلك ،كما سنذكره بعد هذا إن
سوّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيَْلهَا
س ْم َكهَا َف َ
سمَاءُ بَنَاهَا * َرفَعَ َ
شدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ
شاء ال .فأما قوله تعالى { :أَأَنْ ُتمْ أَ َ
ج ضُحَاهَا * وَال ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِ ْنهَا مَا َءهَا َومَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا }
وَأَخْرَ َ
[النازعات ]32 - 27 :فقد قيل :إن { ثُمّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ،ل لعطف
الفعل على الفعل ،كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ...ثم قد ساد قبل ذلك جده ()4
حىَ كان بعد خلق السماوات ،رواه ابن أبي طلحة ،عن ابن عباس.
وقيل :إن الدّ ْ
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط " :مضمن".
( )3في جـ " :وعلمه محيط بجميع الخلق" ،وفي ط " :وعلمه محيط بالشياء بجميع ما خلق".
( )4البيت في مغني اللبيب لبن هشام غير منسوب .أ .هـ .مستفادا من حاشية الشعب.
( )1/213
وقد قال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك -وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مُرّة ،عن
جمِيعًا ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى
ابن مسعود ،وعن ناس من الصحابة { ُهوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي ال ْرضِ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ ] ( } )1قال :إن ال تبارك وتعالى كان
سمَاوَاتٍ [ َو ُهوَ ِب ُكلّ َ
سوّاهُنّ سَ ْبعَ َ
سمَاءِ فَ َ
ال ّ
عرشه على الماء ،ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء .فلما أراد أن يخلق الخلق ،أخرج من
الماء دخانًا ،فارتفع فوق الماء فسما عليه ،فسماه سماء .ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ،ثم
فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الحد والثنين ،فخلق الرض على حوت ،والحوتُ هو
النون الذي ذكره ال في القرآن { :ن وَا ْلقَلَمِ ( } )2والحوت في الماء ،والماء على ظهر صفاة ،
والصفاة على ظهر مَلَك ،والملك على صخرة ،والصخرة في الريح ،وهي الصخرة التي ذكر (
)3لقمان -ليست في السماء ول في الرض ،فتحرك الحوت فاضطرب ،فتزلزلت الرض ،
فأرسى عليها الجبال َفقَرّت ،فالجبال تفخر على الرض ،فذلك قوله تعالى { :وَأَلْقَى فِي ال ْرضِ
سيَ أَنْ َتمِيدَ ِبكُمْ ([ } )4النحل .]15 :وخلق الجبال فيها ،وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي
َروَا ِ
لها في يومين ،في الثلثاء والربعاء ،وذلك حين يقول ُ { :قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََلقَ
سيَ مِنْ َف ْوقِهَا وَبَا َركَ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ لَهُ أَ ْندَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
ال ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
فِيهَا } [فصلت .]10 ، 9 :يقول :أنبت شجرها { َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا } يقول :أقواتها لهلها { فِي
سمَاءِ
سوَاءً لِلسّائِلِينَ } [فصلت ]10 :يقول :من سأل فهكذا المر { .ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ
أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
وَ ِهيَ دُخَانٌ } [فصلت ]11 :وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ،فجعلها سماء واحدة ،ثم
فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ،في الخميس والجمعة ،وإنما سمي يوم الجمعة لنه جمع
سمَاءٍ َأمْرَهَا } [فضلت ]12 :قال :خلق ال في
فيه خلق السماوات والرض { ،وََأوْحَى فِي ُكلّ َ
كل سماء خلقها من الملئكة والخلق الذي ( )5فيها ،من البحار وجبال البَرَد وما ل نعلم ،ثم
حفَظُ من الشياطين .فلما فرغ من خلق ما
زين السماء الدنيا بالكواكب ،فجعلها زينة وحفظًا (ُ )6ت ْ
سمَاوَاتِ وَال ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى
أحب استوى على العرش ،فذلك حين يقول { :خَلَقَ ال ّ
عَلَى ا ْلعَرْشِ } [العراف ]54 :ويقول { كَانَتَا رَ ْتقًا فَفَ َتقْنَا ُهمَا } [النبياء .]30 :
وقال ابن جرير :حدثني المثنى ،حدثنا عبد ال بن صالح ،حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي
سعيد ،عن عبد ال بن سلم أنه قال :إن ال بدأ الخلق يوم الحد ،فخلق الرضين في الحد
والثنين ،وخلق القوات والرواسي في الثلثاء والربعاء ،وخلق السماوات في الخميس
عجَل ،فتلك الساعة
والجمعة ،وفرغ في آخر ( )7ساعة من يوم الجمعة ،فخلق فيها آدم على َ
التي تقوم فيها الساعة.
جمِيعًا } قال :خلق ال الرض قبل
وقال مجاهد في قوله ُ { :هوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي ال ْرضِ َ
سمَا ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ
السماء ،فلما خلق الرض ثار منها دخان ،فذلك حين يقول ُ { :ثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ
}
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2في جـ " :والقلم وما يسطرون".
( )3في ب " :ذكرها"
( )4في جـ " :وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم" ،وفي ط " :وجعل لها رواسي أن تميد
بكم" ،وفي ب " :وجعلنا في الرض رواسي أن تميد بكم".
( )5في جـ ،ط " :الذين".
( )6في أ " :وحفظها".
( )7في جـ " :وأخر".
( )1/214
سمَاوَاتٍ } قال :بعضهن فوق بعض ،وسبع أرضين ،يعني بعضهن تحت
سوّاهُنّ سَبْعَ َ
{ َف َ
بعض.
وهذه الية دالة على أن الرض خلقت قبل السماء ،كما قال في آية السجدة ُ { :قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ
سيَ مِنْ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ َلهُ أَنْدَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
بِالّذِي خَلَقَ ال ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ
سمَا ِء وَ ِهيَ
سوَاءً لِلسّا ِئلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ
َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َب َعةِ أَيّامٍ َ
سمَاوَاتٍ فِي
طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ * فَ َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ
ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِل ْرضِ اِئْتِيَا َ
حفْظًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ }
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ وَ ِ
سمَاءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ
َي ْومَيْنِ وََأوْحَى فِي ُكلّ َ
[فصلت ]12 - 9 :فهذه وهذه دالتان على أن الرض خلقت قبل السماء ،وهذا ما ل أعلم فيه
نزاعًا بين العلماء إل ما نقله ابن جرير عن قتادة :أنه زعم أن السماء خلقت قبل الرض ،وقد
س ْم َكهَا
سمَاءُ بَنَاهَا * َرفَعَ َ
توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى { :أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ
ضحَاهَا * وَال ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ دَحَاهَا * َأخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا
ج ُ
غطَشَ لَيَْلهَا وَأَخْرَ َ
سوّاهَا * وَأَ ْ
فَ َ
َومَرْعَاهَا } [النازعات ]31 - 27 :قالوا :فذكر خلق السماء قبل الرض .وفي صحيح البخاري
( : )1أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ،فأجاب بأن الرض خلقت قبل السماء وأن الرض إنما
دحيت بعد خلق السماء ،وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ،وقد قررنا
ذلك في تفسير سورة النازعات ،وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله { :وَال ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ
َدحَاهَا * َأخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا َومَرْعَاهَا * وَا ْلجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات ]32 - 30 :ففسر الدحي
بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الرضية ثم السماوية
دحى بعد ذلك الرض ،فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ،فنبتت النباتات على اختلف
أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ،وكذلك جرت هذه الفلك فدارت بما فيها من الكواكب
الثوابت والسيارة ،وال سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في
التفسير -أيضًا -من رواية ابن جُرَيج قال :أخبرني إسماعيل بن أمية ،عن أيوب بن خالد ،
عن عبد ال بن رافع مولى أم سلمة ،عن أبي هريرة ،قال :أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم
بيدي فقال " :خلق ال التربة يوم السبت ،وخلق الجبال فيها يوم الحد ،وخلق الشجر فيها يوم
الثنين ،وخلق المكروه يوم الثلثاء ،وخلق النور يوم الربعاء ،وبث فيها الدواب يوم
الخميس ،وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ،فيما بين العصر
إلى الليل" (.)2
وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ،وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من
الحفاظ ،وجعلوه من كلم كعب ،وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلم كعب الحبار ،وإنما اشتبه
على بعض الرواة فجعلوه ( )3مرفوعا ،وقد حرر ذلك البيهقي (.)4
__________
( )1صحيح البخاري (" )8/555فتح".
( )2تفسير ابن أبي حاتم ( )1/103وصحيح مسلم برقم ( )2789وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)11010
( )3في جـ ،ط ،ب " :فجعله".
( )4السماء والصفات (ص )276وللعلمة عبد الرحمن المعلمي كلم متين في تصحيح هذا
الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "النوار الكاشفة" (ص )190 - 185فليراجع فإنه مهم.
( )1/215
س ِفكُ ال ّدمَاءَ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
علٌ فِي الْأَ ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَ ْ
وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ إِنّي جَا ِ
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لَا َتعَْلمُونَ ()30
حمْ ِد َ
وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ
س ِفكُ ال ّدمَاءَ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَ ْ
{ وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ ِل ْلمَل ِئكَةِ إِنّي جَا ِ
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ (} )30
حمْ ِد َ
وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ
يخبر ( )1تعالى بامتنانه على بني آدم ،بتنويهه بذكرهم في المل العلى قبل إيجادهم ،فقال
تعالى { :وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ } أي :واذكر يا محمد إذ قال ربك للملئكة ،واقصص على
قومك ذلك .وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [وهو أبو عبيدة] ( )2أنه زعم أن "إذ" هاهنا
زائدة ،وأن تقدير الكلم :وقال ربك .ورده ابن جرير.
قال القرطبي :وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج :هذا اجتراء ( )3من أبي عبيدة.
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } أي :قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيل بعد جيل ،
{ إِنّي جَا ِ
جعَُلكُمْ خَُلفَاءَ
جعََل ُكمْ خَل ِئفَ ال ْرضِ } [النعام ]165 :وقال { وَيَ ْ
كما قال تعالى { :وَ ُهوَ الّذِي َ
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ مَل ِئكَةً فِي ال ْرضِ َيخُْلفُونَ } [الزخرف :
ال ْرضِ } [النمل .]62 :وقال { وَلَوْ نَشَاءُ َل َ
خَلفَ مِنْ َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ } [مريم [ .]59 :وقرئ في الشاذ " :إني جاعل في الرض
.]60وقال { فَ َ
خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي] ( .)4وليس المراد هاهنا
بالخليفة آدم ،عليه السلم ،فقط ،كما يقوله طائفة من المفسرين ،وعزاه القرطبي إلى ابن
مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ،وفي ذلك نظر ،بل الخلف في ذلك كثير ،حكاه فخر
الدين الرازي في تفسيره وغيره ،والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول
س ِفكُ ال ّدمَاءَ } فإنهم ( )5إنما أرادوا أن من هذا الجنس
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
الملئكة { :أَتَ ْ
من يفعل ذلك ،وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ،أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه
يخلق هذا الصنف من صَ ْلصَال من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس
ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم ،قاله القرطبي] ( )6أو أنهم قاسوهم على من
سبق ،كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملئكة هذا ليس على وجه العتراض على ال ،ول على وجه الحسد لبني آدم ،كما قد
يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم ال تعالى بأنهم ل يسبقونه بالقول ،أي :ل يسألونه شيئا لم
يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الرض خلقًا .قال قتادة :وقد تقدم إليهم أنهم
ج َعلُ فِيهَا } الية] ( )7وإنما هو سؤال استعلم واستكشاف عن الحكمة
يفسدون فيها فقالوا { :أَتَ ْ
في ذلك ،يقولون :يا ربنا ،ما الحكمة في خلق هؤلء مع أن منهم من يفسد في الرض ويسفك
الدماء ،فإن كان المراد عبادتك ،فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ،أي :نصلي لك كما سيأتي ،
أي :ول يصدر منا شيء من ذلك ،وهل وقع القتصار علينا ؟ قال ال تعالى مجيبا لهم عن هذا
السؤال { :إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } أي :إني أعلم من المصلحة ( )8الراجحة في خلق هذا
الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ( )9ما ل تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم النبياء ،وأرسل
فيهم الرسل ،ويوجد فيهم
__________
( )1في جـ " :أخبر".
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في أ " :إجرام".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5في جـ ،ب " :فإن ال".
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )8في جـ " :بالمصلحة".
( )9في جـ " :الذي ذكروها".
( )1/216
( )1/217
قالوا ( : )1ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال :يكون له ذرية يفسدون في الرض ويتحاسدون
ويقتل بعضهم بعضا.
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } مني ،يخلفني في
قال ابن جرير :فكان تأويل الية على هذا { :إِنّي جَا ِ
الحكم بين خلقي ،وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة ال والحكم ( )2بالعدل بين
خلقه .وأما الفساد وسفك الدماء بغير حقها ( )3فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير :وإنما [كان تأويل الية على هذا] ( )4معنى الخلفة التي ذكرها ال إنما هي
خلفة قرن منهم قرنا.
قال :والخليفة الفعلية من قولك ،خلف فلن فلنا في هذا المر :إذا قام مقامه فيه بعده ،كما
جعَلْنَاكُمْ خَل ِئفَ فِي ال ْرضِ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لِنَنْظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } [يونس .]14 :
قال تعالى { :ثُمّ َ
ومن ذلك قيل للسلطان العظم :خليفة ؛ لنه خلف الذي كان قبله ،فقام بالمر مقامه ،فكان منه
خََلفًا.
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } يقول :
قال :وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى { :إِنّي جَا ِ
ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير :وحدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عثمان بن سعيد ،حدثنا بشر بن عمارة ،عن أبي
روق ،عن الضحاك ،عن ابن عباس ،قال :أول من سكن الرض الجنّ ،فأفسدوا فيها وسفكوا
فيها الدماء ،وقتل بعضهم بعضا .قال :فبعث ال إليهم إبليس ،فقتلهم إبليس ومن معه حتى
علٌ
ألحقهم ( )5بجزائر البحور وأطراف الجبال .ثم خلق آدم وأسكنه إياها ،فلذلك قال { :إِنّي جَا ِ
خلِيفَةً } (.)6
فِي ال ْرضِ َ
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً
وقال سفيان الثوري ،عن عطاء بن السائب ،عن ابن سابط { :إِنّي جَا ِ
س ِفكُ ال ّدمَاءَ } قال :يعنون [به] ( )7بني آدم.
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
قَالُوا أَتَ ْ
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :قال ال للملئكة :إني أريد أن أخلق في الرض خلقا
وأجعل فيها خليفة وليس ل ،عز وجل ،خلق إل الملئكة ،والرض ليس فيها خلق ،قالوا :
أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] ( )8؟!
وقد تقدم ما رواه السدي ،عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة :أن ال أعلم
الملئكة بما يفعل ذرّية آدم ،فقالت الملئكة ذلك .وتقدم آنفا ( )9ما رواه الضحاك ،عن ابن
عباس :أن الجن أفسدوا في الرض قبل بني آدم ،فقالت الملئكة ذلك ،فقاسوا هؤلء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنَافِسي ،حدثنا أبو معاوية ،حدثنا
__________
( )1في جـ " :فقالوا".
( )2في جـ " :وحكم".
( )3في جـ ،ط ،أ " :حقها".
( )4زيادة من جـ.
( )5في جـ " :ألحقوهم".
( )6تفسير الطبري (.)1/450
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )8زيادة من جـ.
( )9في جـ ،ط " :أيضا".
( )1/218
العمش ،عن ُبكَير ( )1بن الخنس ،عن مجاهد ،عن عبد ال بن عمرو ،قال :كان الجن بنو
الجان في الرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ،فأفسدوا في الرض ،وسفكوا الدماء ،فبعث ال
علٌ فِي
جندا من الملئكة فضربوهم ،حتى ألحقوهم بجزائر البحور ،فقال ال للملئكة { :إِنّي جَا ِ
ال ْرضِ خَلِيفَةً } قالوا :أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال :إني أعلم ما ل تعلمون (
.)2
علٌ فِي ال ْرضِ
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع ،عن أبي العالية في قوله { :إِنّي جَا ِ
ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } [البقرة ]33 :قال :خلق ال الملئكة
خَلِيفَةً } إلى قوله { :وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ
يوم الربعاء وخلق الجن يوم الخميس ،وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ،فكانت
الملئكة تهبط إليهم في الرض فتقاتلهم ،فكانت الدماء بينهم ،وكان الفساد في الرض ،فمن ثم
س َفكُوا.
س ِفكُ ال ّدمَاءَ } كما َ
سدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَ ْ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
قالوا { :أَ َت ْ
قال ابن أبي حاتم :وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا سعيد بن سليمان ،حدثنا مبارك
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } قال لهم :
بن فضالة ،حدثنا الحسن ،قال :قال ال للملئكة { :إِنّي جَا ِ
إني فاعل .فآمنوا بربهم ( ، )3فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه ،فقالوا بالعلم
س ِفكُ ال ّدمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ }
سدُ فِيهَا وَيَ ْ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
الذي علمهم { :أَ َت ْ
قال الحسن :إن الجن كانوا في الرض يفسدون ( )4ويسفكون الدماء ،ولكن جعل ال في قلوبهم
أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلّمهم.
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } كان [ال] ()5
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة في قوله { :أَتَ ْ
ج َعلُ فِيهَا
أعلمهم أنه إذا كان في الرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ،فذلك حين قالوا { :أَتَ ْ
مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } (.)6
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا هشام الرازي ،حدثنا ابن المبارك ،عن معروف ،يعني
ل ملك ،وكان هاروت
جّابن خَرّبوذ المكي ،عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول :السّ ِ
وماروت من أعوانه ،وكان له في كل يوم ثلث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ،فنظر نظرة لم
تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من المور ،فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت ،وكانا
سدُ فِيهَا
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ َت ْ
من أعوانه ،فلما قال تعالى { :إِنّي جَا ِ
س ِفكُ ال ّدمَاءَ } قال ذلك استطالة على الملئكة.
وَيَ ْ
وهذا أثر غريب .وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ،فهو نقله عن
أهل الكتاب ،وفيه نكارة توجب رده ،وال أعلم .ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين
فقط ،
__________
( )1في أ " :بكر".
( )2تفسير ابن أبي حاتم (.)1/109
( )3في أ ،و " :أفأمنوا برأيهم".
( )4في جـ " :يفسدون في الرض".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ.
( )6تفسير عبد الرزاق (.)1/65
( )1/219
وهو خلف السياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم -أيضًا -حيث قال :حدثنا أبي ،حدثنا هشام بن أبي عَبْد ال
،حدثنا عبد ال بن يحيى بن أبي كثير ،قال :سمعت أبي يقول :إن الملئكة الذين قالوا :
ك وَنُقَدّسُ َلكَ } كانوا عشرة آلف ،
حمْ ِد َ
س ِفكُ ال ّدمَا َء وَنَحْنُ نُسَبّحُ ِب َ
سدُ فِيهَا وَيَ ْ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
{ أَ َت ْ
فخرجت نار من عند ال فأحرقتهم.
وهذا -أيضًا -إسرائيلي منكر كالذي قبله ،وال أعلم.
سدُ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
قال ابن جريج :إنما تكلموا بما أعلمهم ال أنه كائن من خلق آدم ،فقالوا { :أَ َت ْ
سفِكُ ال ّدمَاءَ }
فِيهَا وَيَ ْ
س ِفكُ
سدُ فِيهَا وَيَ ْ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
وقال ابن جرير :وقال بعضهم :إنما قالت الملئكة ما قالت { :أَ َت ْ
ال ّدمَاءَ } ؛ لن ال أذن لهم ( )1في السؤال عن ذلك ،بعد ما أخبرهم ( )2أن ذلك كائن من بني
آدم ،فسألته الملئكة ،فقالت على التعجب منها :وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم! ؟
فأجابهم ربهم { :إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } يعني :أن ذلك كائن منهم ،وإن لم تعلموه أنتم ومن
بعض من ترونه لي طائعا.
قال :وقال بعضهم :ذلك من الملئكة على وجه السترشاد عما لم يعلموا من ذلك ،فكأنهم قالوا
:يا رب خبرنا ،مسألة [الملئكة] ( )3استخبار منهم ،ل على وجه النكار ،واختاره ابن
جرير.
علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } فاستشار
وقال سعيد عن قتادة قوله { :وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ ِل ْلمَل ِئكَةِ إِنّي جَا ِ
س ِفكُ ال ّدمَاءَ } وقد علمت الملئكة
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
الملئكة في خلق آدم ،فقالوا { :أَتَ ْ
ح ْم ِدكَ
من علم ال أنه ل شيء أكره إلى ال من سفك الدماء والفساد في الرض { وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ
وَنُقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } فكان في علم ال أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل
وقوم صالحون وساكنو الجنة ،قال :وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول :إن ال لما أخذ في
خلق آدم قالت الملئكة :ما ال خالق خلقا أكرم عليه منا ول أعلم منا ،فابتلوا بخلق آدم ،وكل
طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ
خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والرض بالطاعة فقال { :اِئْتِيَا َ
} [فصلت .]11 :
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ } قال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة :
حمْ ِد َ
وقوله تعالى { :وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ
التسبيحُ :التسبيحُ ،والتقديس :الصلة (.)4
وقال السدي ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مُرّة ،عن ابن مسعود -
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ } قال :يقولون :نصلي لك.
حمْ ِد َ
وعن ناس من الصحابة { :وَ َنحْنُ نُسَبّحُ ِب َ
ح ْم ِدكَ وَنُقَدّسُ َلكَ } قال :نعظمك ونكبرك.
وقال مجاهد { :وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ
__________
( )1في أ ،و " :لها".
( )2في أ ،و " :ما أخبرها".
( )3زيادة من جـ.
( )4تفسير عبد الرزاق (.)1/65
( )1/220
( )1/221
وجوب الربعة الشهود من الربعة الباقين ،وفي هذا نظر ،وال أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقل مسلمًا عدل مجتهدًا بصيرًا سليم العضاء خبيرًا بالحروب
والراء قرشيًا على الصحيح ،ول يشترط الهاشمي ول المعصوم من الخطأ خلفًا للغلة
الروافض ،ولو فسق المام هل ينعزل أم ل ؟ فيه خلف ،والصحيح أنه ل ينعزل لقوله عليه
الصلة والسلم " :إل أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من ال فيه برهان" ( )1وهل له أن يعزل نفسه ؟
فيه خلف ،وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم المر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على
ذلك.
فأما نصب إمامين في الرض أو أكثر فل يجوز لقوله عليه الصلة والسلم " :من جاءكم وأمركم
جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان" ( .)2وهذا قول الجمهور ،وقد حكى الجماع
على ذلك غير واحد ،منهم إمام الحرمين ،وقالت الكرامية :يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان
علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ،قالوا :وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك
في المامة ؛ لن النبوة أعلى رتبة بل خلف ،وحكى إمام الحرمين عن الستاذ أبي إسحاق أنه
جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت القطار واتسعت القاليم بينهما ،وتردد إمام الحرمين في
ذلك ،قلت :وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والمويين بالمغرب.
سمَاءِ َهؤُلءِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (
ضهُمْ عَلَى ا ْلمَل ِئكَةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ
سمَاءَ كُّلهَا ُثمّ عَ َر َ
{ وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ
سمَا ِئهِمْ
حكِيمُ ( )32قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ
)31قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ ل عِ ْلمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
ن َومَا كُنْتُمْ
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ
سمَا ِئهِمْ قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ
فََلمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَ ْ
َتكْ ُتمُونَ (} )33
هذا مقام ذكر ال تعالى فيه شرف آدم على الملئكة ،بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء
دونهم ،وهذا كان بعد سجودهم له ،وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ،لمناسبة ما بين هذا المقام
وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ،حين سألوا عن ذلك ،فأخبرهم [ال] ( )3تعالى بأنه يعلم ما ل
يعلمون ؛ ولهذا ذكر تعالى ( )4هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في
سمَاءَ كُّلهَا }
العلم ،فقال تعالى { :وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ
سمَاءَ كُّلهَا } قال :عرض عليه أسماء
وقال السدي ،عمن حدثه ،عن ابن عباس { :وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ
ولده إنسانًا إنسانًا ،والدواب ،فقيل :هذا الحمار ،هذا الجمل ،هذا الفرس.
سمَاءَ كُّلهَا } قال :هي هذه السماء التي يتعارف
وقال الضحاك عن ابن عباس { :وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( )7055من حديث عبادة بن الصامت رضي ال عنه.
( )2رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1852من حديث عرفجة رضي ال عنه.
( )3زيادة من جـ.
( )4في جـ " :ذكر تبارك وتعالى" ،وفي ب " :ذكر ال تعالى".
( )1/222
بها الناس :إنسان ،ودابة ،وسماء ،وأرض ،وسهل ،وبحر ،وجمل ( ، )1وحمار ،وأشباه
ذلك من المم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ،من حديث عاصم بن كليب ،عن سعيد بن معبد ،عن ابن
سمَاءَ كُّلهَا } قال :علمه اسم الصحفة والقِدر ،قال :نعم حتى الفسوة
عباس { :وَعَلّمَ آدَمَ ال ْ
والفُسَيّة (.)2
سمَاءَ كُّلهَا } قال :علمه اسم كل دابة ،وكل طير ،وكل شيء.
وقال مجاهد { :وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف :أنه علمه أسماء كل شيء ،وقال
الربيع في رواية عنه :أسماء الملئكة .وقال حميد الشامي :أسماء النجوم .وقال عبد الرحمن بن
زيد :علمه أسماء ذريته كلهم.
ضهُمْ } وهذا
واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملئكة وأسماء الذرية ؛ لنه قال ُ { :ثمّ عَ َر َ
عبارة عما يعقل .وهذا الذي رجح به ليس بلزم ،فإنه ل ينفي أن يدخل معهم غيرهم ،ويعبر
عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب .كما قال { :وَاللّهُ خََلقَ ُكلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي
ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ َيخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ
عَلَى بَطْنِهِ َومِنْهُمْ مَنْ َي ْمشِي عَلَى ِرجْلَيْ ِ
شيْءٍ قَدِيرٌ } [النور .]45 :
عَلَى ُكلّ َ
[وقد قرأ عبد ال بن مسعود " :ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب " :ثم عرضها" أي :السماوات] (
.)3
والصحيح أنه علمه أسماء الشياء كلها :ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة
والفُسَية .يعني أسماء الذوات والفعال المكبر والمصغر ؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الية
من كتاب التفسير من صحيحه :حدثنا مسلم بن إبراهيم ،حدثنا مسلم ،حدثنا هشام ،حدثنا
قتادة ،عن أنس رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وقال لي خليفة :حدثنا يزيد بن
زُرَيع ،حدثنا سعيد ،عن قتادة عن أنس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " : -يجتمع
المؤمنون يوم القيامة ،فيقولون :لو استشفعنا إلى ربنا ؟ فيأتون آدم فيقولون :أنت أبو الناس ،
خلقك ال بيده ،وأسجد لك ملئكته ،وعلمك أسماء كل شيء ،فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا
ستُ هُنَاكُمْ ،ويذكر ذنبه فيستحي ؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه ال
من مكاننا هذا ،فيقول :لَ ْ
إلى أهل الرض ،فيأتونه فيقول :لست هُنَاكُم .ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي.
فيقول :ائتوا خليل الرحمن ،فيأتونه ،فيقول :لست هُنَاكم ؛ فيقول :ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه
ال ،وأعطاه التوراة ،فيأتونه ،فيقول :لست هُنَاكُمْ ،ويذكر قَ ْتلَ النفس بغير نفس ،فيستحي من
ربه ؛ فيقول :ائتوا عيسى عَ ْبدَ ال ورسولَه وكَلِمةَ ال وروحه ،فيأتونه ،فيقول :لست هُنَاكُم ،
غفَر ال له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،فيأتوني ،فأنطلق حتى أستأذن على
ائتوا محمدًا عبدًا َ
ربي ،فيُؤذن لي ،فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا ،فيدعني ما شاء ال ،ثم يقال :ارفع رأسك ،
وسل تعطه ،وقل
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :وجبل".
( )2في جـ " :الفشوة والفشية".
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )1/223
شفّع ،فأرفع رأسي ،فأحمده بتحميد ( )1يعلمُنيه ،ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم
سمَع ،واشفع ُت َ
يُ ْ
الجنة ،ثم أعود إليه ،وإذا رأيت ربي مثله ( ، )2ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة ( ، )3ثم
أعود الرابعة فأقول :ما بقي في النار إل مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" (.)4
هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا .وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام ،وهو ابن أبي
عبد ال الدّسْتُوائي ،عن قتادة ،به ( .)5وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد ،
وهو ابن أبي عَرُوبَة ،عن قتادة ( .)6ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلة
والسلم " :فيأتون آدم فيقولون :أنت أبو الناس خلقك ال بيده ،وأسجد لك ملئكته ،وعلمك
ضهُمْ
أسماء كل شيء" ،فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ؛ ولهذا قال { :ثُمّ عَ َر َ
عَلَى ا ْلمَل ِئكَةِ } يعني :المسميات ؛ كما قال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة قال :ثم عرض
سمَاءِ َهؤُلءِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ }
تلك السماء على الملئكة { َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة ،عن ابن
سمَاءَ كُّلهَا } ثم عرض الخَلْق على الملئكة.
مسعود ،وعن ناس من الصحابة { :وَعَلّمَ آدَمَ ال ْ
ضهُمْ } عرض أصحاب السماء على الملئكة.
وقال ابن جريج ،عن مجاهد ُ { :ثمّ عَ َر َ
وقال ابن جرير :حدثنا القاسم ،حدثنا الحسين ،حدثني الحجاج ،عن جرير بن حازم ومبارك
بن فضالة ،عن الحسن -وأبي بكر ،عن الحسن وقتادة -قال علمه اسم كل شيء ،وجعل
يسمي كل شيء باسمه ،وعرضت عليه أمة أمة.
وبهذا السناد عن الحسن وقتادة في قوله { :إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } إني لم أخلق خلقًا إل كنتم أعلم
منه ،فأخبروني بأسماء هؤلء إن كنتم صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس { :إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } إن كنتم تعلمون ( )7لم أجعل في الرض
خليفة.
وقال السدي ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مرة عن ابن مسعود ،
وعن ناس من الصحابة :إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الرض ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير :وأولى القوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ،ومعنى ذلك فقال :
أنبئوني بأسماء من عَ َرضْتُه عليكم أيها الملئكة القائلون :أتجعل في الرض من يفسد فيها
ويسفك
__________
( )1في جـ " :تحميدا".
( )2في جـ " :فإذا رأيته عملت مثله".
( )3في جـ ،ط " :فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه ،فإذا رأيت ربي عملت مثله ،ثم أشفع فيحد لي
حدا فأدخلهم الجنة".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4476
( )5صحيح مسلم برقم ( )193وسنن النسائي الكبرى برقم (.)10984
( )6صحيح مسلم برقم ( )193وسنن النسائي الكبرى برقم ( )11243وسنن ابن ماجة برقم (
.)4312
( )7في جـ " :إن كنتم عالمين".
( )1/224
الدماء ،من غيرنا أم منا ،فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم :إني إن
جعلتُ خليفتي في الرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ،وإن جعلتكم فيها
أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس ،فإذا كنتم ل تعلمون أسماء هؤلء الذين عرضت
عليكم وأنتم تشاهدونهم ،فأنتم بما هو غير موجود من المور الكائنة التي لم توجد أحرى أن
تكونوا غير عالمين.
حكِيمُ } هذا تقديس وتنزيه
[وقوله] ( { )1قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ ل عِ ْلمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ
من الملئكة ل تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إل بما شاء ،وأن يعلموا شيئا إل ما علمهم
حكِيمُ } أي :العليم
ال تعالى ،ولهذا قالوا { :سُبْحَا َنكَ ل عِلْمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
بكل شيء ،الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء ،لك الحكمة في ذلك
،والعدل التام.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا حفص بن غياث ،عن حجاج ،عن ابن أبي
مُلَ ْيكَة ،عن ابن عباس :سبحان ال ،قال :تنزيه ال نفسه عن السوء[ .قال] ( )2ثم قال عمر
لعلي وأصحابه عنده :ل إله إل ال ،قد عرفناها ( )3فما سبحان ال ؟ فقال له علي :كلمة أحبها
ال لنفسه ،ورضيها ،وأحب أن تقال (.)4
قال :وحدثنا أبي ،حدثنا ابن نفيل ،حدثنا النضر بن عربي قال :سأل رجل ميمون بن ِمهْرَان
عن "سبحان ال" ،فقال :اسم ُيعَظّمُ ال به ،ويُحَاشَى به من السوء.
سمَا ِئهِمْ قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ
سمَا ِئهِمْ فََلمّا أَنْبََأهُمْ بَِأ ْ
وقوله تعالى { :قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِ ْئ ُهمْ بِأَ ْ
ض وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } قال زيد بن أسلم .قال :أنت جبريل ،
سمَاوَاتِ وَال ْر ِ
ال ّ
أنت ميكائيل ،أنت إسرافيل ،حتى عدد السماء كلها ،حتى بلغ الغراب.
سمَا ِئهِمْ } قال :اسم الحمامة ،والغراب ،واسم كل
وقال مجاهد في قول ال { :يَا آ َدمُ أَنْبِ ْئهُمْ بَِأ ْ
شيء.
وروي عن سعيد بن جبير ،والحسن ،وقتادة ،نحو ذلك.
فلما ظهر فضل آدم ،عليه السلم ،على الملئكة ،عليهم السلم ،في سرده ما علمه ال تعالى
ت وَالرْضِ
سمَاوَا ِ
علَمُ غَ ْيبَ ال ّ
من أسماء الشياء ،قال ال تعالى للملئكة { :أَلَمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَ ْ
وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } أي :ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي ،كما قال
خفَى } وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد
جهَرْ بِا ْلقَ ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ
[ال] ( )5تعالى { :وَإِنْ َت ْ
أنه قال
__________
( )1زيادة من أ.
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في جـ ،ط " :عرفناه".
( )4تفسير ابن أبي حاتم (.)1/117
( )5زيادة من أ.
( )1/225
خفُونَ َومَا
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ وَ َيعْلَمُ مَا تُ ْ
خبْءَ فِي ال ّ
سجُدُوا لِلّهِ الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ
لسليمان { :أَل يَ ْ
ُتعْلِنُونَ * اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ }.
وقيل في [معنى] ( )1قوله تعالى { :وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } غيرُ ما ذكرناه ؛ فروى
ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } قال :يقول :أعلم السر كما
الضحاك ،عن ابن عباس { :وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ
أعلم العلنية ،يعني :ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والغترار.
وقال السدي ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مرة ،عن ابن مسعود ،
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا { َومَا كُنْتُمْ
وعن ناس من الصحابة ،قال :قولهم { :أَتَ ْ
َتكْ ُتمُونَ } يعني :ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
وكذلك قال سعيد بن جبير ،ومجاهد ،والسدي ،والضحاك ،والثوري .واختار ذلك ابن جرير.
وقال أبو العالية ،والربيع بن أنس ،والحسن ،وقتادة :هو قولهم :لم يخلق ربنا خلقا إل كنا
أعلم منه وأكرم.
ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } فكان الذي
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس { :وَأَعَْلمُ مَا تُبْدُو َ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } وكان الذي كتموا بينهم قولهم :لن ( )2يخلق ربنا خلقا
أبدوا قولهم { :أَتَ ْ
إل كنا أعلم منه وأكرم .فعرفوا أن ال فضل عليهم آدم في العلم ،والكرم.
وقال ابن جرير :حدثنا يونس ،حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،في قصة
الملئكة وآدم :فقال ال للملئكة :كما لم تعلموا هذه السماء فليس لكم علم ،إنما أردت أن
أجعلهم ليفسدوا فيها ،هذا عندي قد علمته ؛ ولذلك ( )3أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني
ج َمعِينَ } قال :ولم تعلم
جهَنّمَ مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ أَ ْ
ومن يطيعني ،قال :وسَ َبقَ من ال { لمْلنّ َ
الملئكة ذلك ولم يدروه قال :ولما ( )4رأوا ما أعطى ال آدم من العلم أقروا له بالفضل (.)5
وقال ابن جرير :وأولى القوال في ذلك قولُ ابن عباس ،وهو أن معنى قوله تعالى { :وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ } وأعلم -مع علمي غيب السماوات والرض -ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون (
)6في أنفسكم ،فل يخفى عََليّ شيء ،سواء عندي سرائركم ،وعلنيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم قولهم :أتجعل فيها من يفسد فيها ،والذي كانوا يكتمون ما كان عليه
منطويا إبليس من الخلف على ال في أوامره ( ، )7والتكبر عن طاعته.
__________
( )1زيادة من جـ ،أ ،و.
( )2في جـ " :لم".
( )3في جـ ،ب " :فلذلك".
( )4في جـ ،ط " :فلما".
( )5تفسير الطبري (.)1/497
( )6في أ ،و " :تخفونه".
( )7في جـ ،ط ،ب " :في أمره".
( )1/226
سجَدُوا إِلّا إِ ْبلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ ()34
سجُدُوا لِآَ َدمَ فَ َ
وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ
قال :وصح ذلك كما تقول العرب :قُتِل الجيش وهُزموا ،وإنما قتل الواحد أو البعض ،وهزم
الواحد أو البعض ،فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم ،كما قال
حجُرَاتِ } [الحجرات ] 4 :ذكر أن الذي نادى إنما كان
ن وَرَاءِ الْ ُ
تعالى { :إِنّ الّذِينَ يُنَادُو َنكَ مِ ْ
ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ }
واحدا من بني تميم ،قال :وكذلك قوله { :وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ
سجَدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ (.} )34
سجُدُوا ل َدمَ فَ َ
{ وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ
وهذه كرامة عظيمة من ال تعالى لدم امتن بها على ذريته ،حيث أخبر أنه تعالى أمر الملئكة
بالسجود لدم .وقد دل على ذلك أحاديث -أيضا -كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم ،وحديث
موسى ،عليه السلم َ " :ربّ ،أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه من الجنة" ،فلما اجتمع به قال :
"أنت آدم الذي خلقه ( )1ال بيده ،ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملئكته" .قال ...وذكر الحديث
كما سيأتي.
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيب ،حدثنا عثمان بن سعيد ،حدثنا بشْر بن عُمارة ،عن أبي
حيّ من أحياء الملئكة يقال لهم :
روق ،عن الضحاك ،عن ابن عباس قال :كان إبليس من َ
الجِنّ ،خلقوا من نار السموم ،من بين الملئكة ،وكان اسمه الحارث ،وكان خازنا من خزان
الجنة ،قال :وخلقت الملئكة كلهم من نور غير هذا الحي ،قال :وخلقت الجن الذين ذكروا في
القرآن من مارج من نار [ ،وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال :وخلق النسان
من طين] ( .)2فأول من سكن الرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ،وقتل بعضهم بعضا.
قال :فبعث ال إليهم إبليس في جند من الملئكة -وهم هذا الحي الذي يقال لهم :الجنّ -فقتلهم
إبليس ومن معه ،حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ،فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في
نفسه ،فقال :قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد .قال :فاطلع ال على ذلك من قلبه ،ولم يطلع عليه
خلِيفَةً }
علٌ فِي ال ْرضِ َ
الملئكة الذين كانوا معه ،فقال ال تعالى للملئكة الذين معه { :إِنّي جَا ِ
سفِكُ ال ّدمَاءَ } كما أفسدت الجن وسفكت
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
فقالت الملئكة مجيبين له { :أَ َت ْ
الدماء ،وإنما بعثتنا عليهم ( )3لذلك ؟ فقال { :إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } يقول :إني قد اطلعت
من ( )4قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره ،قال :ثم أمر بتربة آدم فرفعت ،
فخلق ال آدم من طين لزب -واللزب :اللزج الصلب ( )5من حمإ مسنون منتن ،وإنما كان
حمَأ مسنونا بعد التراب .فخلق منه آدم بيده ،قال :فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى .فكان إبليس
َ
ن صَ ْلصَالٍ
يأتيه فيضربه برجله ،فيصلصل ،أي فيصوت .قال :فهو قول ال تعالى { :مِ ْ
كَا ْلفَخّارِ } يقول :كالشيء المنفرج الذي ليس [ الرحمن ] 14 :
__________
( )1في ب ،أ ،و " :خلقك".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في جـ " :إليهم".
( )4في جـ " :على".
( )5في ب ،أ ،و " :الطيب".
( )1/227
صمَت .قال :ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ،ويدخل من ( )1دبره ،ويخرج من فيه .ثم
ب ُم ْ
طتُ
طتُ عليك لهلكنك ،ولئن سُلّ ْ
يقول :لست شيئا -للصلصلة -ولشيء ما خلقت ،ولئن سُلّ ْ
علي لعْصيَنّك .قال :فلما نفخ ال فيه من روحه ،أتت النفخة من قبل رأسه ،فجعل ل يجري
شيء منها في جسده إل صار لحمًا ودمًا ،فلما انتهت النفخة إلى سُرّته نظر إلى جسده فأعجبه ما
رأى من جسده ،فذهب لينهض فلم يقدر ،فهو قول ال تعالى َ { :وكَانَ ( )2النْسَانُ عَجُول }
قال :ضجر ل صبر له على سراء ول ضراء .قال :فلما تمت النفخة في جسده عطس ،فقال :
"الحمد ل رب العالمين" بإلهام ال .فقال [ال] ( )3له " :يرحمك ال يا آدم ( ." )4قال ثم قال [ال]
( )5تعالى للملئكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملئكة الذين في السماوات :اسجدوا لدم.
فسجدوا كلهم أجمعون إل إبليس أبى واستكبر ،لما كان حدث نفسه من الكبر والغترار .فقال :
ل أسجد له ،وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا ،خلقتني ( )6من نار وخلقته من طين .يقول :
إن النار أقوى من الطين .قال :فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه ال ،أي :آيسه من الخير كله ،
عقُوبة لمعصيته ،ثم عَلّم آدم السماء كلها ،وهي هذه السماء التي يتعارف
وجعله شيطانا رجيما ُ
بها الناس :إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ،وأشباه ذلك من المم وغيرها .ثم
عرض هذه السماء على أولئك الملئكة ،يعني :الملئكة الذين كانوا مع إبليس ،الذين خلقوا
سمَاءِ َهؤُلءِ } يقول :أخبروني بأسماء هؤلء { إِنْ كُنْ ُتمْ
من نار السموم ،وقال لهم { :أَنْبِئُونِي بِأَ ْ
صَا ِدقِينَ } إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الرض خليفة .قال :فلما علمت الملئكة موجدة ال
عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب ،الذي ل يعلمه غيره ،الذي ليس لهم به علم قالوا :سبحانك
عّلمْتَنَا } تبريا منهم
،تنزيها ل من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ،وتبنا إليك { ل عِلْمَ لَنَا إِل مَا َ
سمَا ِئهِمْ } يقول :أخبرهم
من علم الغيب ،إل ما علمتنا كما علمت آدم ،فقال { :يَا آ َدمُ أَنْبِ ْئهُمْ بَِأ ْ
سمَا ِئهِمْ قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َل ُكمْ } أيها الملئكة خاصة
بأسمائهم { فََلمّا أَنْبَأَ ُهمْ } [يقول :أخبرهم] ( { )7بَِأ ْ
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ } ول يعلم غيري { وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ } يقول :ما تظهرون
{ إِنّي أَعَْلمُ غَ ْيبَ ال ّ
{ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } يقول :أعلم السر كما أعلم العلنية ،يعني :ما كتم إبليس في نفسه من
الكبر والغترار (.)8
هذا سياق غريب ،وفيه أشياء فيها نظر ،يطول مناقشتها ،وهذا السناد إلى ابن عباس يروى به
تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مُرّة ،عن ابن
__________
( )1في ب " :في".
( )2في هـ " :وخلق" ،والمثبت من باقي النسخ ،وهو الصواب.
( )3زيادة من أ ،و :
( )4في جـ " :يرحمك يا آدم ربك".
( )5زيادة من جـ.
( )6في جـ " :فخلقتني".
( )7زيادة من أ ،و.
( )8تفسير الطبري (.)1/455
( )1/228
مسعود ،وعن أناس من أصحاب النبي ( )1صلى ال عليه وسلم :لما فرغ ال من خلق ما أحب
استوى على العرش ،فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا ،وكان من قبيلة من الملئكة يقال لهم
:الجن ،وإنما سموا الجن لنهم خزان الجنة ،وكان إبليس مع مُلْكه خازنا ،فوقع في صدره كبر
وقال :ما أعطاني ال هذا إل لمزية لي على الملئكة .فلما وقع ذلك الكبر في نفسه ( )2اطلع ال
خلِيفَةً } قالوا ( : )3ربنا ،وما يكون
علٌ فِي ال ْرضِ َ
على ذلك منه .فقال ال للملئكة { :إِنّي جَا ِ
ذلك الخليفة ؟ قال :يكون له ذرية يفسدون في الرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا .قالوا :
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا
حمْ ِد َ
س ِفكُ ال ّدمَا َء وَ َنحْنُ نُسَبّحُ ِب َ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
ربنا { ،أَتَ ْ
ل َتعَْلمُونَ } يعني :من شأن إبليس .فبعث ال جبريل إلى الرض ليأتيه بطين منها ،فقالت
الرض :إني أعوذ بال منك أن َتقْبض ( )4مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ ،وقال :رب مني (
)5عاذت بك فأعذتُها ،فبعث ميكائيل ،فعاذت منه فأعاذها ،فرجع فقال كما قال جبريل ،فبعث
مَلَك الموت فعاذت منه .فقال :وأنا أعوذ بال أن أرجع ولم أنفذ أمره ،فأخذ من وجه الرض ،
وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد ،وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ،فلذلك خرج بنو آدم
مختلفين ،فَصعِد به فَ َبلّ التراب حتى عاد طينا لزبا -واللزب :هو الذي يلتزق بعضه ببعض
ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَ َقعُوا لَهُ
سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ
-ثم قال للملئكة { :إِنّي خَالِقٌ َبشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا َ
سَاجِدِينَ } [ص ] 72 ، 71 :فخلقه ال بيده لئل يتكبر إبليس عنه ،ليقول له :تتكبر عما عملت
بيدي ،ولم أتكبر أنا عنه .فخلقه ( )6بشرا ،فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم
الجمعة ،فمرت به الملئكة ففزعوا منه لما رأوه ،وكان أشدهم فزعا منه ( )7إبليس ،فكان يمر
به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة .فذلك حين يقول { :مِنْ
صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ } [ الرحمن ] 14 :ويقول :لمر ما خُلقت .ودخل من فيه فخرج من دبره ،
صمَدٌ وهذا أجوف .لئن سلطت عليه لهلكنه ،فلما
وقال للملئكة :ل ترهبوا من هذا ،فإن ربكم َ
بلغ الحين الذي يريد ال عز وجل أن ينفخ فيه الروح ،قال للملئكة :إذا نفخت فيه من روحي
طسَ ،فقالت الملئكة :قل :الحمد
فاسجدوا له ،فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه ،عَ ِ
ل .فقال :الحمد ل ،فقال له ال :رحمك ربك ،فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار
الجنة .فلما دخل الروح في ( )8جوفه اشتهى الطعام ،فوثب قبل أن تبلغ ( )9الروح رجليه
جلٍ } [النبياء 37 :
عَعجلن ( )10إلى ثمار الجنة ،فذلك حين يقول تعالى { :خُِلقَ النْسَانُ مِنْ َ
ج َمعُونَ * إِل إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ َيكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ } [الحجر ] 31 ، 30 :
جدَ ا ْلمَل ِئكَةُ كُّلهُمْ أَ ْ
]{ فَسَ َ
أبى واستكبر وكان من الكافرين .قال ال له :ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال
:أنا خير منه ،لم أكن لسجد لمن ( )11خلقته من طين .قال ال له :اخرج منها فما يكون لك ،
يعني :ما ينبغي لك { أَنْ تَ َتكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِ ّنكَ مِنَ الصّاغِرِينَ }
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :رسول ال".
( )2في جـ " :في صدره".
( )3في طـ ،ب " :فقالوا".
( )4في أ ،و " :تنقص".
( )5في جـ ،ط ،ب " :رب إنها".
( )6في جـ ،ط " :بخلقه".
( )7في جـ ،ب ،ط " :أشدهم منه فزعا".
( )8في جـ " :إلى".
( )9في جـ " :أن يدخل".
( )10في جـ " :عجل".
( )11في جـ ،ب " :لبشر".
( )1/229
( )1/230
منهم ،وكان يسوس ما بين السماء والرض ،فعصى ،فمسخه ال شيطانا رجيما .رواه ابن
جرير.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب :كان إبليس رئيس ملئكة سماء الدنيا.
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا عدي بن أبي عدي ،عن عوف ،عن الحسن ،
قال :ما كان إبليس من الملئكة طرفة عين قَط ،وإنه لصل الجن ،كما أن آدم أصل النس.
وهذا إسناد صحيح عن الحسن .وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء.
حوْشَب :كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملئكة ،فأسره بعض الملئكة
شهْر بن َ
وقال َ
فذهب به إلى السماء ،رواه ابن جرير.
وقال سُنَيْد بن داود :حدثنا ُهشَيم ،أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى ،عن موسى بن نمير وعثمان بن
سعيد بن كامل ،عن سعد ( )1بن مسعود ،قال :كانت الملئكة تقاتل الجن ،فسبي إبليس وكان
صغيرا ،فكان مع الملئكة ،فتعبد معها ،فلما أمروا بالسجود لدم سجدوا ،فأبى إبليس .فلذلك
قال تعالى { :إِل إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ } [الكهف .] 50 :
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن سنان القزاز ،حدثنا أبو عاصم ،عن شريك ،عن رجل ،عن
عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :إن ال خلق خلقا ،فقال :اسجدوا لدم .فقالوا :ل نفعل .فبعث
ال عليهم نارا فأحرقتهم ،ثم خلق خلقا آخر ،فقال " :إني خالق بشرا من طين ،اسجدوا لدم.
قال :فأبوا .فبعث ال عليهم نارا فأحرقتهم .ثم خلق هؤلء ،فقال :اسجدوا لدم ،قالوا :نعم.
وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لدم ( .)2وهذا غريب ،ول يكاد يصح إسناده ،فإن
فيه رجل مبهما ،ومثله ل يحتج به ،وال أعلم.
سجُدُوا لدَمَ } فكانت الطاعة ل ،والسجدة أكر ال آدم
وقال قتادة في قوله { :وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ
بها أن أسجد له ملئكته.
وقال في قوله تعالى َ { :فسَجَدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَرَ َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } حسد عدو ال إبليسُ
آدمَ ،عليه السلم ،على ما أعطاه ال من الكرامة ،وقال :أنا ناريّ وهذا طينيّ ،وكان بدء
الذنوب الكبر ،استكبر عدوّ ال أن يسجد لدم ،عليه السلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو أسامة ،حدثنا صالح بن حيان ،حدثنا
عبد ال بن بُرَيدة :قوله تعالى َ { :وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } من الذين أبوا ،فأحرقتهم النار.
وقال أبو جعفر ،عن الربيع ،عن أبي العالية َ { :وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } يعني :من العاصين.
وقال السدي َ { :وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } الذين لم يخلقهم ال يومئذ يكونون بعد.
__________
( )1في جـ "سعيد".
( )2تفسير الطبري (.)1/508
( )1/231
ظيّ :ابتدأ ال خلق إبليس على الكفر والضللة ،وعمل بعمل الملئكة ،
وقال محمد بن كعب القُرَ ِ
فصيره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر ،قال ال تعالى َ { :وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }
علَى
وقال بعض الناس :كان هذا سجود تحية وسلم وإكرام ،كما قال تعالى { :وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ َ
حقّا } [ يوسف :
جعََلهَا رَبّي َ
سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ
ش وَخَرّوا َلهُ ُ
ا ْلعَرْ ِ
]100وقد كان هذا مشروعا في المم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا ،قال معاذ ( : )1قدمت الشام
فرأيتهم يسجدون لساقفتهم وعلمائهم ،فأنت يا رسول ال أحق أن يسجد لك ،فقال " :ل لو كنت
آمرا بشرا أن يسجد لبشر لمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ( )2ورجحه
شمْسِ
الرازي ،وقال بعضهم :بل كانت السجدة ل وآدم قبلة فيها كما قال َ { :أ ِقمِ الصّلةَ لِدُلُوكِ ال ّ
} [السراء ] 78 :وفي هذا التنظير نظر ،والظهر أن القول الول أولى ،والسجدة لدم إكرامًا
وإعظامًا واحترامًا وسلمًا ،وهي طاعة ل ،عز وجل ؛ لنها امتثال لمره تعالى ،وقد قواه
الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الخرين وهما كونه جعل قبلة إذ ل يظهر فيه
شرف ،والخر :أن المراد بالسجود الخضوع ل النحناء ووضع الجبهة على الرض وهو
ضعيف كما قال.
قلت :وقد ثبت في الصحيح " :ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر" ()3
وقد كان في قلب إبليس من الكبر -والكفر -والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة
وحضرة القدس ؛ قال بعض المعربين :وكان من الكافرين أي :وصار من الكافرين بسبب
امتناعه ،كما قال َ { :فكَانَ مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ } [ هود ]43 :وقال { فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ } [ البقرة :
] 35وقال الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها...
أي :قد صارت ،وقال ابن فورك :تقديره :وقد كان في علم ال من الكافرين ،ورجحه
القرطبي ،وذكر هاهنا مسألة فقال :قال علماؤنا من أظهر ال على يديه ممن ليس بنبي كرامات
وخوارق للعادات فليس ذلك دال على وليته ،خلفا لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه .ثم
استدل على ما قال :بأنا ل نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي ال باليمان ،وهو
ل يقطع لنفسه بذلك ،يعني والولي الذي يقطع له بذلك في نفس المر.
قلت :وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي ،بل قد يكون على يد
الفاجر والكافر ،أيضا ،بما ثبت عن ابن صياد أنه قال :هو الدخ حين خبأ له رسول ال صلى
سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ } [الدخان ، ] 10 :وبما كان
ال تعالى عليه وسلم { :فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
يصدر عنه أنه كان يمل الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد ال بن عمر ،وبما ثبتت به
الحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر
فتمطر ،والرض أن تنبت فتنبت ،وتتبعه كنوز الرض
__________
( )1في و " :معاوية".
( )2رواه أحمد في المسند (.)5/227
( )3صحيح مسلم برقم ( )91من حديث عبد ال بن مسعود رضي ال عنه.
( )1/232
جكَ ا ْلجَنّ َة َوكُلَا مِ ْنهَا رَغَدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَا َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ
سكُنْ أَ ْنتَ وَ َزوْ ُ
َوقُلْنَا يَا َآدَمُ ا ْ
الظّاِلمِينَ ()35
مثل اليعاسيب ،وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من المور المهولة .وقد قال يونس
بن عبد العلى الصدفي :قلت للشافعي :كان الليث بن سعد يقول :إذا رأيتم الرجل يمشي على
الماء ويطير في الهواء فل تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ،فقال الشافعي :
قصر الليث ،رحمه ال ،بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فل تغتروا به
حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ،وقد حكى فخر الدين وغيره قولين للعلماء :هل المأمور
بالسجود لدم خاص بملئكة الرض ،أو عام بملئكة السماوات والرض ،وقد رجح كل من
ج َمعُونَ * إِل إِبْلِيسَ }
جدَ ا ْلمَل ِئكَةُ كُّلهُمْ أَ ْ
القولين طائفة ،وظاهر الية الكريمة العموم { :فَسَ َ
[ الحجر ، 31 ، 30 :ص ، ] 74 ، 73 :فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم ،وال أعلم.
غدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَل َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا
جكَ ا ْلجَنّ َة َوكُل مِ ْنهَا رَ َ
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَ ْن َ
{ َوقُلْنَا يَا آ َدمُ ا ْ
مِنَ الظّاِلمِينَ (} )35
يقول ال تعالى إخبارا عما أكرم به آدم :بعد أن أمر الملئكة ( )1بالسجود له ،فسجدوا إل
إبليس :إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ،ويأكل منها ما شاء ( )2رَغَدًا ،أي :هنيئًا
واسعًا طيبًا.
وروى الحافظ أبو بكر بن مَ ْر ُدوَيه ،من حديث محمد بن عيسى الدامغاني ،حدثنا سلمة بن
الفضل ،عن ميكائيل ،عن ليث ،عن إبراهيم التيمي ،عن أبيه ،عن أبي ذر :قال :قلت :يا
سكُنْ أَ ْنتَ
رسول ال ؛ أريت آدم ،أنبيّا كان ؟ قال " :نعم ،نبيا رسول كلمه ال قِبَل فقال { :ا ْ
جكَ الْجَنّةَ } " (.)3
وَ َزوْ ُ
وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم ،أهي في السماء أم في الرض ؟ والكثرون على الول
[وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الرض] ( ، )4وسيأتي تقرير ذلك في
سورة العراف ،إن شاء ال تعالى ،وسياق الية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم ()5
الجنة ،وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق ،حيث قال :لما فرغ ال من معاتبة إبليس ،أقبل على
حكِيمُ
سمَا ِئهِمْ } إلى قوله { :إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
آدم وقد عَلّمه السماء كلها ،فقال { :يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ
} ( )6قال :ثم ألقيت السّ َنةُ على آدم -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من
أهل العلم ،عن ابن عباس وغيره -ثم أخذ ضِلعًا من أضلعه من شِقه اليسر ،ولم مكانه لحما
،وآدم نائم لم يهب من
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :أمر ملئكته".
( )2في جـ ،ط " :ما يشاء".
( )3ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ( )1/10من طريق أبي عمر الشامي ،عن عبيد
الخشخاش ،عن أبي ذر بنحوه ،ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم ( )1016من طريق جعفر بن
الزبير ،عن القاسم ،عن أبي أمامة ،عن أبي ذر بنحوه ،ورواه أحمد في المسند( )5/265من
طريق علي بن يزيد ،عن القاسم ،عن أبي أمامة مرفوعا بنحوه.
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5في ب ،و " :آدم إلى".
( )6في أ " :وما كنتم تكتمون".
( )1/233
شفَ عنه
نومه ،حتى خلق ال من ضلعه تلك زوجته حواء ،فسواها امرأة ليسكن إليها .فلما كُ ِ
السّنَة وهبّ من نومه ،رآها إلى جنبه ،فقال -فيما يزعمون وال أعلم : -لحمي ودمي
سكُنْ
وروحي ( .)1فسكن إليها .فلما زوّجَه ال ،وجعل له سكنا من نفسه ،قال له قِبَل { يَا آدَمُ ا ْ
جكَ الْجَنّةَ َوكُل مِ ْنهَا رَغَدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ }
أَ ْنتَ وَزَوْ ُ
ويقال :إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة ،كما قال السدي في تفسيره ( ، )2ذكره عن أبي
مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس ،وعن مرة ،عن ابن مسعود ،وعن ناس من الصحابة
:أخرج إبليس من الجنة ،وأسكن آدم الجنة ،فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليه ،
فنام نومة فاستيقظ ،وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها ال من ضلعه ،فسألها :ما أنت ؟ قالت :
امرأة .قال :ولم خلقت ؟ قالت :لتسكن إلي .قالت له الملئكة -ينظرون ما بلغ من علمه : -
ما اسمها يا آدم ؟ قال :حواء .قالوا :ولم سميت حواء ؟ قال :إنها خلقت من شيء حي .قال ال
جكَ ا ْلجَنّ َة َوكُل مِ ْنهَا رَغَدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا }
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَ ْن َ
{ :يَا آ َدمُ ا ْ
وأما قوله { :وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ } فهو اختبار من ال تعالى وامتحان لدم .وقد اختلف في هذه
الشجرة :ما هي ؟
فقال السدي ،عمن حدثه ،عن ابن عباس :الشجرة التي نهي عنها آدم ،عليه السلم ،هي
جعْدة بن هُبَيرة ،ومحمد بن قيس.
الكَرْم .وكذا قال سعيد بن جبير ،والسدي ،والشعبي ،و َ
وقال السدي -أيضا -في خبر ذكره ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن
مرة ،عن ابن مسعود ،وعن ناس من الصحابة { :وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ } هي الكرم .وتزعم
يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الحمسي ،حدثنا أبو يحيى
عكْرِمة ،عن ابن عباس ،قال :الشجرة التي
حمّاني ،حدثنا النضر أبو عمر الخراز ،عن ِ
ال ِ
ُنهِي عنها آدم ،عليه السلم ،هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق :أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك ،عن الحسن بن عمارة ،عن المنهال بن
عمرو ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق ،عن رجل من أهل العلم ،عن حجاج ،عن مجاهد ،عن ابن عباس ،
قال :هي البر.
وقال ابن جرير :وحدثني المثنى بن إبراهيم ،حدثنا مسلم بن إبراهيم ،حدثنا القاسم ،حدثني
__________
( )1في جـ ،ب ،أ ،و " :وزوجتي".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :في خبر".
( )1/234
رجل من بني تميم ،أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ،
والشجرة التي تاب عندها آدم .فكتب إليه أبو الجلد :سألتني عن الشجرة التي ُنهِي عنها آدم ،
عليه السلم ،وهي السنبلة ،وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة (.)1
وكذلك فسره الحسن البصري ،ووهب بن مُنَبّه ،وعطية العَوفي ،وأبو مالك ،ومحارب ( )2بن
دِثَار ،وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق ،عن بعض أهل اليمن ،عن وهب بن منبه :أنه كان يقول :هي البُر ،
ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر ،ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري ،عن حصين ،عن أبي مالك { :وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ } قال :النخلة.
وقال ابن جرير ،عن مجاهد { :وَل َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ } قال :تينة .وبه قال قتادة وابن جريج.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية :كانت الشجرة من أكل منها
أحدث ،ول ينبغي أن يكون في الجنة حَ َدثٌ ،وقال عبد الرزاق :حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن
ُمهْرِب ( )3قال :سمعت وهب بن منبه يقول :لما أسكن ال آدم وزوجته الجنة ،ونهاه عن أكل
الشجرة ،وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من ( )4بعض ،وكان لها ثمر تأكله الملئكة
لخلدهم ،وهي الثمرة التي نهى ال عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير ( )5هذه الشجرة.
قال المام العلمة أبو جعفر بن جرير ،رحمه ال ( : )6والصواب في ذلك أن يقال :إن ال جل
ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة ،دون سائر أشجارها ( ، )7فأكل
منها ،ول علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ؟ لن ال لم يضع لعباده دليل على ذلك في
القرآن ول من السنة الصحيحة .وقد قيل :كانت شجرة البر .وقيل :كانت شجرة العنب ،وقيل :
كانت شجرة التين .وجائز أن تكون واحدة منها ،وذلك عِلْمٌ ،إذا علم ينفع العالمَ به علمُه ،وإن
جهله جاهلٌ لم يضرّه جهله به ،وال أعلم[ .وكذلك رجح المام فخر الدين الرازي في تفسيره
وغيره ،وهو الصواب] (.)8
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي
ج ُهمَا ِممّا كَانَا فِي ِه َوقُلْنَا اهْ ِبطُوا َب ْع ُ
{ فَأَزَّل ُهمَا الشّيْطَانُ عَ ْنهَا فََأخْرَ َ
ال ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ ِإلَى حِينٍ (} )36
وقوله تعالى { :فَأَزَّل ُهمَا الشّ ْيطَانُ عَ ْنهَا } يصح أن يكون الضمير في قوله { :عَ ْنهَا } عائدا إلى
__________
( )1تفسير الطبري (.)1/517
( )2في جـ " :مجاهد".
( )3في جـ " :مهدي".
( )4في جـ ،ط ،ب " :في".
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :تعيين".
( )6تفسير الطبري (.)521 ، 1/520
( )7في جـ " :سائر الشجار".
( )8زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )1/235
الجنة ،فيكون معنى الكلم كما قال ([ )1حمزة و] ( )2عاصم بن َبهْدلَة ،وهو ابن أبي النّجُود ،
فأزالهما ،أي :فنجّاهما .ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين ،وهو الشجرة ،فيكون
معنى الكلم كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي :من قبيل ( )3الزلل ،فعلى هذا يكون تقدير
الكلم { فَأَزَّل ُهمَا الشّ ْيطَانُ عَ ْنهَا } أي :بسببها ،كما قال تعالى ُ { :ي ْؤ َفكُ عَ ْنهُ مَنْ ُأ ِفكَ } [الذاريات
ج ُهمَا ِممّا كَانَا فِيهِ } أي :
] 9 :أي :يصرف بسببه من هو مأفوك ؛ ولهذا قال تعالى { :فََأخْرَ َ
من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي ال ْرضِ ُمسْ َتقَرّ َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي :قرار وأرزاق
{ َوقُلْنَا اهْ ِبطُوا َب ْع ُ
وآجال { إِلَى حِينٍ } أي :إلى وقت مؤقت ومقدار معين ،ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسّدّي بأسانيده ،وأبي العالية ،ووهب بن مُنَبّه وغيرهم ،هاهنا
أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيّة ،وإبليس ،وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ،
وسنبسط ذلك إن شاء ال ،في سورة العراف ،فهناك القصة أبسط منها هاهنا ،وال الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا :حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ،حدثنا علي بن عاصم ،عن
سعيد بن أبي عَرُوبة ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن أبي بن كعب ،قال :قال رسول ال صلى
سحُوق ،فلما ذاق
طوَال كثير شعر الرأس ،كأنه نخلة َ
ال عليه وسلم " :إن ال خلق آدم رجل ُ
الشجرة سقط عنه لباسه ،فأول ما بدا منه عورته ،فلما نظر إلى عورته جعل َيشْتَد ( )4في
شعْرَه شجرةٌ ،فنازعها ،فناداه الرحمن :يا آدم ،مني َتفِرّ! فلما سمع كلم
الجنة ،فأخذت َ
الرحمن قال :يا رب ،ل ولكن استحياء" (.)5
قال :وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي ( )6سنة أربع وخمسين ومائتين ،حدثنا سليم (
)7بن منصور بن عمار ،حدثنا علي بن عاصم ،عن سعيد ،عن قتادة ،عن أبي بن كعب ،
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لما ذاق آدم من الشجرة فَرّ هاربا ؛ فتعلقت شجرة
بشعره ،فنودي :يا آدم ،أفِرارًا مني ؟ قال :بل حَيَاء منك ،قال :يا آدم اخرج من جواري ؛
فبعزتي ل يساكنني فيها من عصاني ،ولو خلقت مِثْلَك ملء الرض خَ ْلقًا ثم عصوني لسكنتهم
دار العاصين" (.)8
هذا حديث غريب ،وفيه انقطاع ،بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب ،رضي ال عنهما (.)9
وقال الحاكم :حدثنا أبو بكر بن بَالُويه ( ، )10عن محمد بن أحمد بن النضر ،عن معاوية بن
عمّار بن معاوية البَجَلي ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :
عمرو ،عن زائدة ،عن َ
ما أسكن
__________
( )1في جـ ،ط " :كما قرأ".
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3في جـ ،ط ،ب " :من قبل".
( )4في جـ " :يستدير".
( )5تفسير ابن أبي حاتم (.)1/129
( )6في هـ " :القرشي".
( )7في هـ " :سليمان".
( )8تفسير ابن أبي حاتم (.)1/130
( )9في جـ ،ب ،و " :عنه".
( )10في جـ " :مالويه".
( )1/236
آدم الجنة إل ما بين صلة العصر إلى غروب الشمس .ثم قال :صحيح على شرط الشيخين ،
ولم يخرجاه.
وقال عبد بن حميد في تفسيره :حدثنا رَوح ،عن هشام ،عن الحسن ،قال :لبث آدم في الجنة
ساعة من نهار ،تلك الساعة ثلثون ومائة سنة من أيام الدنيا.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،قال :خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو
العاشرة ،فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة ،على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الكليل
من ورق الجنة.
جمِيعًا } فهبطوا فنزل آدم بالهند ،ونزل معه الحجر
وقال السدي :قال ال تعالى { :اهْبِطُوا مِ ْنهَا َ
السود ،وقبضة ( )1من ورق الجنة فبثه بالهند ،فنبتت شجرة الطيب ،فإنما أصل ما يجاء به
من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم ،وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين
أخرج منها (.)2
وقال عمران بن عيينة ،عن عطاء بن السائب ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :
أهبط آدم من الجنة ِبدَحْنا ،أرض الهند.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا جرير ،عن عطاء ،
عن سعيد عن ابن عباس قال :أهبط آدم ،عليه السلم ،إلى أرض يقال لها َ :دحْنا ،بين مكة
والطائف.
وعن الحسن البصري قال :أهبط آدم بالهند ،وحواء بجدة ،وإبليس بدَسْ ُتمِيسان ( )3من البصرة
على أميال ،وأهبطت الحية بأصبهان .رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ،حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ،حدثنا
عمرو بن أبي قيس ،عن ابن عدي ( ، )4عن ابن عمر ،قال :أهبط آدم بالصفا ،وحواء
بالمروة
وقال رجاء بن سلمة :أهبط آدم ،عليه السلم ،يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه ،وأهبط إبليس
مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء.
عوْف عن قَسَامة بن زهير ،عن أبي موسى ،قال :إن
وقال عبد الرزاق :قال َم ْعمَر :أخبرني َ
ال حين أهبط آدم من الجنة إلى الرض ،عَلّمه صنعة كل شيء ،وزوده من ثمار الجنة ،
فثماركم هذه من ثمار الجنة ،غير أن هذه تتغير وتلك ل تتغير (.)5
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز العرج ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم :
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فأنزل معه بالحجر السود ويقبضه".
( )2في جـ ،ط ،ب " :وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة حين أخرج
منها".
( )3في و " :بدسمت ميسان".
( )4في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :عمرو بن أبي قيس عن الزبير عن ابن عدي".
( )5تفسير عبد الرزاق (.)1/66
( )1/237
فَتََلقّى َآدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَ ْيهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ ()37
"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ،فيه خلق آدم ،وفيه أدخل الجنة ،وفيه أخرج منها"
رواه مسلم والنسائي (.)1
وقال فخر الدين :اعلم أن في هذه اليات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه :الول :أن
من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من
المعاصي ،قال الشاعر :
يا ناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للمر غير مشاهد...
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ...درج الجنان ونيل فوز العابد...
أنسيت ربك حين أخرج آدما ...منها إلى الدنيا بذنب واحد...
قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال :كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ،فليس
لنا إل الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها .فإن قيل :فإذا كانت جنة آدم التي
أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ،فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة ،وقد طرد
من هنالك طردًا قدريّا ،والقدري ل يخالف ول يمانع ؟ فالجواب :أن هذا بعينه استدل به من
يقول :إن الجنة التي كان فيها آدم في الرض ل في السماء ،وقد بسطنا هذا في أول كتابنا
البداية والنهاية ،وأجاب الجمهور بأجوبة ،أحدها :أنه منع من دخول الجنة مكرما ،فأما على
وجه الردع والهانة ،فل يمتنع ؛ ولهذا قال بعضهم :كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية
إلى الجنة ،وقد قال بعضهم :يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة ،وقال بعضهم :
يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الرض ،وهما في السماء ،ذكرها الزمخشري وغيره .وقد
أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ،فأجاد وأفاد (.)2
{ فَتََلقّى آ َدمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (} )37
حمْنَا
قيل :إن هذه ( )3الكلمات مفسرة بقوله تعالى { :قَال رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ
لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ العراف ] 23 :روي هذا عن مجاهد ،وسعيد بن جبير ،وأبي العالية
،والربيع بن أنس ،والحسن ،وقتادة ،ومحمد بن كعب القُرَظي ،وخالد بن َمعْدان ،وعطاء
الخراساني ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،وقال أبو إسحاق السّبِيعي ،عن رجل من بني
تميم ،قال :أتيت ابن عباس ،فسألته [ :قلت] ( : )4ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال :
عُلم [آدم] ( )5شَأنَ الحج.
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )854وسنن النسائي (.)3/89
( )2تفسير القرطبي (.)317 - 1/313
( )3في جـ ،ط " :هؤلء.
( )4زيادة من طـ ،ب ،و.
( )5زيادة من جـ.
( )1/238
عمَير ،وفي
وقال سفيان الثوري ،عن عبد العزيز بن (ُ )1رفَيع ،أخبرني من سمع عبيد بن ُ
رواية [ :قال] ( : )2أخبرني مجاهد ،عن عبيد بن عمير ،أنه قال :قال آدم :يا رب ،خطيئتي
التي أخطأت شيء كتبتُه علي قبل أن تخلقني ،أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال :بل شيء
كتبته عليك قبل أن أخلقك .قال :فكما كتبته علي فاغفر ( )3لي .قال :فذلك قوله تعالى { :فَتََلقّى
آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ }
وقال السدي ،عمن حدثه ،عن ابن عباس :فتلقى آدم من ربه كلمات ،قال :قال آدم ،عليه
السلم :يا رب ،ألم تخلقني بيدك ؟ قيل ( )4له :بلى .ونفخت في من روحك ؟ قيل ( )5له :
ت فقلتَ :يرحمك ال ،وسبقت رحمتُك غَضبَك ؟ قيل ( )6له :بلى ،وكتبت عليّ
بلى .وعَطس ُ
أن أعمل هذا ؟ قيل ( )7له :بلى .قال :أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال :نعم.
وهكذا رواه العوفي ،وسعيد بن جبير ،وسعيد بن َمعْبَد ،عن ابن عباس ،بنحوه .ورواه الحاكم
في مستدركه من حديث سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،وقال :صحيح السناد ،ولم يخرجاه (
)8وهكذا فسره السدي وعطية ال َعوْفي.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال :حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ،حدثنا
علي بن عاصم ،عن سعيد بن أبي عَرُوبة ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن أبي بن كعب ،قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قال آدم ،عليه السلم :أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ ،
أعائدي إلى الجنة ؟ قال :نعم .فذلك قوله { :فَتََلقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ } (.)9
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله تعالى { :فَتََلقّى آدَمُ مِنْ
رَبّهِ كَِلمَاتٍ } قال :إن آدم لما أصاب الخطيئة قال :يا رب ،أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ قال ال
:إذن أرجعك إلى الجنة فهي من الكلمات .ومن الكلمات أيضا { :رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َتغْفِرْ
حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } [العراف .]23 :
لَنَا وَتَرْ َ
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد أنه كان يقول في قول ال تعالى { :فَتََلقّى آ َدمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ }
قال :الكلمات :اللهم ل إله إل أنت سبحانك وبحمدك ،رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير
الغافرين ،اللهم ل إله إل أنت سبحانك وبحمدك ،رب إني ظلمت نفسي فارحمني ،إنك ()10
خير الراحمين .اللهم ل إله إل أنت سبحانك وبحمدك ،رب إني ظلمت نفسي فتب علي ،إنك
أنت التواب الرحيم.
__________
( )1في جـ " :عن".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )3في جـ ،ب " :فاغفره".
( )4في جـ " :قال".
( )5في جـ " :قال".
( )6في جـ " :قال".
( )7في جـ " :قال".
( )8المستدرك (.)2/545
( )9تفسير ابن أبي حاتم (.)1/135
( )10في جـ " :فاغفر لي أنت".
( )1/239
@ 240 - 1
وقوله تعالى { :إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ } أي :إنه يتوب على من تاب إليه وأناب ،كقوله { :أَلَمْ
َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُهوَ َيقْ َبلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ } [ التوبة ]104 :وقوله َ { :ومَنْ َي ْع َملْ سُوءًا َأوْ َيظْلِمْ
ع ِملَ صَالِحًا
ب وَ َ
غفُورًا َرحِيمًا } [النساء ، ]11 :وقوله َ { :ومَنْ تَا َ
َنفْسَهُ ثُمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ َيجِدِ اللّهَ َ
فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتَابًا } [ الفرقان ] 71 :وغير ذلك من اليات الدالة على أنه تعالى يغفر
الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ،ل إله إل هو التواب الرحيم.
وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن
النبي صلى ال عليه وسلم قال " :لما أهبط ال آدم إلى الرض طاف بالبيت سبعا ،وصلى خلف
المقام ركعتين ،ثم قال :اللهم إنك تعلم سري وعلنيتي فاقبل معذرتي ،وتعلم حاجتي فأعطني
سؤلي ،وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي ،أسألك إيمانا يباشر قلبي ،ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن
يصيبني إل ما كتبت لي .قال فأوحى ال إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني
به ،وفرجت همومه وغمومه ،ونزعت فقره من بين عينيه ،وأجرت له من وراء كل تاجر زينة
الدنيا وهي كلمات عهد وإن لم يزدها" رواه الطبراني في معجمه الكبير (.)1
__________
( )1جامع المسانيد والسنن برقم ( )742ولم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير.
( )1/240
( )1/240
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وََأوْفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َع ْه ِدكُ ْم وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (
)40وَ َآمِنُوا ِبمَا أَنْزَ ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُ ْم وَلَا َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ بِ ِه وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي َثمَنًا قَلِيلًا وَإِيّايَ
فَا ّتقُونِ ()41
( )1/241
وقال أبو العالية :نعمته أن جعل منهم النبياء والرسل ،وأنزل عليهم الكتب.
ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ
قلت :وهذا كقول موسى عليه السلم لهم { :يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ َ
جعََلكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا َلمْ ُي ْؤتِ أَحَدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [المائدة ]20 :يعني في زمانهم.
وَ َ
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن
عباس ،في قوله { :ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُمْ } أي :بلئي عندكم وعند آبائكم ِلمَا كان
نجاهم به من فرعون وقومه { وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َعهْ ِد ُكمْ } قال :بعهدي الذي أخذت في ()1
أَعناقكم للنبي صلى ال عليه وسلم إذا جاءكم { .أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } أي :أنجز لكم ما وعدتكم عليه
بتصديقه واتباعه ،بوضع ما كان عليكم من الصر والغلل التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي
كانت من أحداثكم.
ل وَ َبعَثْنَا مِ ْن ُهمُ اثْ َنيْ عَشَرَ
[وقال الحسن البصري :هو قوله { :وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِي َ
َنقِيبًا َوقَالَ اللّهُ إِنّي َم َعكُمْ لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّل َة وَآتَيْ ُتمُ ال ّزكَا َة وَآمَنْتُمْ بِ ُرسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُ ْم وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ
قَ ْرضًا حَسَنًا ل َكفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَلدْخِلَ ّنكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ } الية [المائدة :
.]12وقال آخرون :هو الذي أخذه ال عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما
يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى ال عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة
وجعل له أجران .وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن النبياء عليهم السلم
بمحمد صلى ال عليه وسلم] (.)2
وقال أبو العالية { :وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي } قال :عهده إلى عباده :دينه السلم أن يتبعوه.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس { :أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } قال :أرْض عنكم وأدخلكم الجنة.
وكذا قال السدي ،والضحاك ،وأبو العالية ،والربيع بن أنس.
وقوله { :وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أي :فاخشون ؛ قاله أبو العالية ،والسدي ،والربيع بن أنس ،
وقتادة.
وقال ابن عباس في قوله تعالى { :وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أي أنزل بكم ما أنزل ( )3بمن كان قبلكم
من آبائكم من ال ّن ِقمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.
وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب ،فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ،لعلهم يرجعون إلى الحق
واتباع الرسول والتعاظ بالقرآن وزواجره ،وامتثال أوامره ،وتصديق أخباره ،وال الهادي لمن
يشاء إلى صراطه المستقيم ؛ ولهذا ( )4قال { :وَآمِنُوا ِبمَا أَنز ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } [ { ُمصَ ّدقًا }
ماضيًا منصوبًا على الحال من { ِبمَا } أي :بالذي أنزلت مصدقًا أو من الضمير المحذوف من
قولهم :بما أنزلته مصدقًا ،ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل وهو قوله ِ { :بمَا أَنز ْلتُ
ُمصَ ِدقًا } ] ( )5يعني به :القرآن الذي أنزله على محمد النبي المي العربي بشيرًا ونذيرًا
وسراجًا منيرًا مشتمل على الحق من ال
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :من".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في جـ ،ط ،ب " :ما أنزلت".
( )4في جـ " :فلهذا".
( )5زيادة من جـ ،ب ،و.
( )1/242
( )1/243
( )1/244
( )1/245
( )1/246
عندكم من النبوة وال َعهْد من التوراة ،وتتركون أنفسكم ،أي :وأنتم ( )1تكفرون بما فيها من
عهْدي إليكم في تصديق رسولي ،وتنقضون ميثاقي ،وتجحدون ما تعلمون ( )2من كتابي.
َ
وقال الضحاك ،عن ابن عباس في هذه الية ،يقول :أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد
صلى ال عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم ( )3به من إقام الصلة ،وتنسون أنفسكم.
وقال أبو جعفر بن جرير :حدثني علي بن الحسن ،حدثنا مُسلم الجَرْمي ،حدثنا َمخْلَد بن الحسين
سوْنَ
،عن أيوب السختياني ،عن أبي قِلبة في قول ال تعالى { :أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ
سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ } قال :قال أبو الدرداء :ل يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في
أَ ْنفُ َ
ذات ال ،ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الية :هؤلء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء
سوْنَ
ليس فيه حق ول رشوة ول شيء أمروه بالحق ،فقال ال تعالى { :أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ
سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَل َت ْعقِلُونَ }
أَ ْنفُ َ
والغرض أن ال تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم ( )4في حق أنفسهم ،حيث
كانوا يأمرون بالخير ول يفعلونه ،وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ،بل على
تركهم له ،فإن المر بالمعروف [معروف] ( )5وهو واجب على العالم ،ولكن [الواجب و] ()6
الولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ،ول يتخلف عنهم ،كما قال شعيب ،عليه السلم َ { :ومَا
ت َومَا َت ْوفِيقِي إِل بِاللّهِ عَلَيْهِ
ط ْع ُ
أُرِيدُ أَنْ أُخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَ ْنهُ إِنْ أُرِيدُ إِل الصْلحَ مَا اسْتَ َ
ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود َ .]88 :ف ُكلّ من المر بالمعروف وفعله واجب ،ل يسقط أحدهما بترك
َت َوكّلْ ُ
الخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف .وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي ل
ينهى غيره عنها ،وهذا ضعيف ،وأضعف منه تمسكهم بهذه الية ؛ فإنه ل حجة لهم فيها.
والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف ،وإن لم يفعله ،وينهى عن المنكر وإن ارتكبه [ ،قال مالك
عن ربيعة :سمعت سعيد بن جبير يقول له :لو كان المرء ل يأمر بالمعروف ول ينهى عن
المنكر حتى ل يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ول نهى عن منكر .وقال مالك :وصدق من
ذا الذي ليس فيه شيء ؟ قلت] ( )7ولكنه -والحالة هذه -مذموم على ترك ( )8الطاعة وفعله
المعصية ،لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ،فإنه ليس من يعلم كمن ل يعلم ؛ ولهذا جاءت
الحاديث في الوعيد على ذلك ،كما قال المام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير :حدثنا
أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري ،قال حدثنا هشام بن عمار ،حدثنا علي
__________
( )1في جـ " :أي أنتم".
( )2في جـ " :بما تعملون".
( )3في جـ " :مما أمرتكم".
( )4في جـ " :خطاياهم".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )6زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )8في جـ ،ب " :على تركه".
( )1/247
بن سليمان الكلبي ،حدثنا العمش ،عن أبي تَميمة الهُجَيمي ،عن جندب بن ( )1عبد ال ،
رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مثل العالم الذي يعلم الناس الخير
ول يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" (.)2
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
حديث آخر :قال المام أحمد بن حنبل في مسنده :حدثنا َوكِيع ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن علي
بن زيد هو ابن جدعان ،عن أنس بن مالك ،رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم ُتقْرَض بمقاريض ( )3من نار .قال :قلت :من
هؤلء ؟" قالوا :خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ،وهم
يتلون الكتاب أفل يعقلون ؟ (.)4
ورواه عبد بن حميد في مسنده ،وتفسيره ،عن الحسن بن موسى ،عن حماد بن سلمة به.
ورواه ابن مردويه في تفسيره ،من حديث يونس بن محمد المؤدب ،والحجاج بن مِ ْنهَال ،
كلهما عن حماد بن سلمة ،به.
وكذا رواه يزيد بن هارون ،عن حماد بن سلمة به.
ثم قال ابن مردويه :حدثنا محمد بن عبد ال بن إبراهيم ،حدثنا موسى بن هارون ،حدثنا
إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ ،حدثنا مكي بن إبراهيم ،حدثنا عمر بن قيس ،عن علي بن
زيد ( )5عن ثمامة ،عن أنس ،قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :مررت
ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار .قلت :من هؤلء يا جبريل
؟" قال :هؤلء خطباء أمتك ،الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ،وابن أبي حاتم ،وابن مردويه -أيضًا -من حديث هشام
الدّستَوائيّ ،عن المغيرة -يعني ابن حبيب -ختن مالك بن دينار ،عن مالك بن دينار ،عن
ثمامة ،عن أنس بن مالك ،قال :لما عرج برسول ال صلى ال عليه وسلم مرّ بقوم ُتقْرض
شفاههم ( ، )6فقال " :يا جبريل ،من هؤلء ؟" قال :هؤلء الخطباء من أمتك يأمرون الناس
بالبر وينسون أنفسهم ؛ أفل يعقلون ؟ (.)7
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا يعلى بن عبيد ،حدثنا العمش ،عن أبي وائل ،قال :قيل
لسامة -وأنا رديفه : -أل تكلم عثمان ؟ فقال :إنكم تُرَون أني ل أكلمه إل أسمعكم .إني ل
أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا -ل أحب أن أكون أول من افتتحه ،وال ل أقول
لرجل
__________
( )1في جـ " :عن".
( )2المعجم الكبير ( )2/165وقال الهيثمي في المجمع (" : )1/185رجاله موثقون".
( )3في جـ ،ب " :تقرض شفاههم بمقاريض".
( )4المسند (.)3/120
( )5في أ " :بن يزيد".
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :تقرض من شفاههم".
( )7صحيح ابن حبان برقم (" )35موارد" وتفسير ابن أبي حاتم (.)1/151
( )1/248
إنك خير الناس .وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن ( )1سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول ،قالوا :وما سمعته يقول ؟ قال :سمعته يقول ُ " :يجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ،
فتندلق به أقتابه ( ، )2فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ،فيطيف به أهلُ النار ،
فيقولون :يا فلن ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول :كنت
آمركم بالمعروف ول آتيه ،وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (.)3
ورواه البخاري ومسلم ،من حديث سليمان بن ِمهْرَان العمش ،به نحوه (.)4
[وقال أحمد :حدثنا سيار بن حاتم ،حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال يعافي الميين يوم القيامة ما ل يعافي العلماء" ( .)5وقد
ورد في بعض الثار :أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ،ليس من يعلم
كمن ل يعلم .وقال تعالى ُ { :قلْ َهلْ َيسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُونَ وَالّذِينَ ل َيعَْلمُونَ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو
اللْبَابِ } [الزمر .]9 :وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون :بم دخلتم النار ؟
فوال ما دخلنا الجنة إل بما تعلمنا منكم ،فيقولون :إنا كنا نقول ول نفعل" ( )6رواه من حديث
الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان ( )7الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر
الداهري ( )8عن عبد ال بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة
فذكره] (.)9
وقال الضحاك ،عن ابن عباس :إنه جاءه رجل ،فقال :يا ابن عباس ،إني أريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر ،قال :أو بلغت ذلك ؟ قال :أرجو .قال :إن لم تخش أن تفْتَضَح
بثلث آيات من كتاب ال فافعل .قال :وما هن ؟ قال :قوله عز وجل ( { )10أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ
سكُمْ } أحكمت هذه ؟ قال :ل .قال :فالحرف الثاني .قال :قوله تعالى ِ { :لمَ
سوْنَ أَ ْنفُ َ
بِالْبِ ّر وَتَنْ َ
َتقُولُونَ مَا ل َتفْعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا ل َت ْفعَلُونَ } [الصف ]3 ، 2 :أحكمت
هذه ؟ قال :ل .قال :فالحرفَ الثالث .قال :قول العبد الصالح شعيب ،عليه السلم َ { :ومَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَ ْنهُ } [هود ]88 :أحكمت هذه الية ؟ قال :ل .قال :فابدأ
بنفسك.
رواه ابن مردويه في تفسيره.
وقال الطبراني ( )11حدثنا عبدان بن أحمد ،حدثنا زيد بن الحريش ،حدثنا عبد ال بن خِرَاش ،
عن العوام بن حوشب ،عن [سعيد بن] ( )12المسيب بن رافع ،عن ابن عمر ،قال :قال
رسول ال
__________
( )1في جـ ،ب " :إذ".
( )2في جـ " :شفتاه".
( )3المسند (.)5/205
( )4صحيح البخاري برقم ( )3267وصحيح مسلم برقم (.)2989
( )5ورواه أبو نعيم في الحلية ( )2/7من طريق المام أحمد وقال " :هذا حديث غريب تفرد به
سيار عن جعفر ،ولم نكتبه إل من حديث أحمد بن حنبل" .وقال عبد ال بن أحمد " :هذا حديث
منكر حدثني به أبي ،وما حدثني به إل مرة".
( )6انظر :مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (.)26/336
( )7في جـ " :حماد" ،والصواب ما أثبتناه.
( )8في جـ " :الزاهري" ،والصواب ما أثبتناه.
( )9زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )10في جـ " :قوله تعالى".
( )11في أ " :القرطبي".
( )12زيادة من ط ،أ ،و.
( )1/249
صلى ال عليه وسلم " :من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط ال
حتى يكف أو يعمل ما قال ،أو دعا إليه" (.)1
إسناده فيه ضعف ،وقال إبراهيم النخعي :إني لكره القصص لثلث آيات قوله تعالى :
سكُمْ } وقوله { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا ل َتفْعَلُونَ *
سوْنَ أَ ْنفُ َ
{ أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ
كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا ل َت ْفعَلُونَ } [الصف ]3 ، 2 :وقوله إخبارا عن شعيب َ { :ومَا
ت َومَا َت ْوفِيقِي إِل بِاللّهِ عَلَيْهِ
ط ْع ُ
أُرِيدُ أَنْ أُخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَ ْنهُ إِنْ أُرِيدُ إِل الصْلحَ مَا اسْتَ َ
ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود .]88 :
َت َوكّلْ ُ
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو :
ما أقبح التزهيد من واعظ ...يزهد الناس ول يزهد...
لو كان في تزهيده صادقا ...أضحى وأمسى بيته المسجد...
إن رفض الناس فما باله ...يستفتح الناس ويسترقد...
الرزق مقسوم على من ترى ...يسقى له البيض والسود...
وقال بعضهم :جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت ،ثم أنشأ
يقول :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ...طبيب يداوي والطبيب مريض...
قال :فضج الناس بالبكاء .وقال أبو العتاهية الشاعر :
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ...وريح الخطايا من شأنك تقطع...
وقال أبو السود الدؤلي :
ل تنه عن خلق وتأتي مثله ...عار عليك إذا فعلت عظيم...
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ...فإذا انتهت عنه فأنت حكيم...
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ...بالقول منك وينفع التعليم...
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال :دعوت ال
أن يريني رفيقي في الجنة ،فقيل لي في المنام :هي امرأة في الكوفة يقال لها :ميمونة
السوداء ،فقصدت الكوفة لراها .فقيل لي :هي ترعى غنما بواد هناك ،فجئت إليها فإذا هي
قائمة تصلي والغنم ترعى
__________
( )1ورواه أبو نعيم في الحلية ( )2/7من طريق الطبراني ،وقال الهيثمي في المجمع (: )7/276
"فيه عبد ال بن خراش وثقه ابن حبان وقال :يخطئ ،وضعفه الجمهور ،وبقية رجاله ثقات".
( )1/250
( )1/251
[قال] ( )1وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر.
وقال ابن المبارك عن ابن َلهِيعة عن مالك بن دينار ،عن سعيد بن جبير ،قال :الصبر اعتراف
العبد ل بما أصاب فيه ،واحتسابه عند ال ورجاء ثوابه ،وقد يجزع الرجل وهو يتجلد ،ل يرى
( )2منه إل الصبر.
وقال أبو العالية في قوله { :وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلةِ } على مرضاة ال ،واعلموا أنها من
طاعة ال.
وأما قوله { :وَالصّلةِ } فإن الصلة من أكبر العون على الثبات في المر ،كما قال تعالى :
حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَلَ ِذكْرُ اللّهِ
حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ وََأقِمِ الصّلةَ إِنّ الصّلةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ
{ ا ْتلُ مَا أُو ِ
َأكْبَرُ } الية [العنكبوت .]45 :
وقال المام أحمد :حدثنا خلف بن الوليد ،حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ،عن عكرمة بن
عمار ،عن محمد بن عبد ال الدؤلي ،قال :قال عبد العزيز أخو حذيفة ،قال حذيفة ،يعني ابن
اليمان :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى .ورواه أبو داود [عن محمد بن
عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي (.)4( ] )3
عكْرِمة بن عمار ،عن محمد بن عبيد بن أبي
وقد رواه ابن جرير ،من حديث ابن جُرَيج ،عن ِ
قدامة ،عن عبد العزيز بن اليمان ،عن حذيفة ،قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا
حزبه أمر فزع إلى الصلة (.)5
[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال :أخي حذيفة مرسل عن النبي صلى ال
عليه وسلم ؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلة :حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود
( )6العسكري ،حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال :قال عكرمة بن عمار :قال محمد بن
عبد ال الدؤلي :قال عبد العزيز :قال حذيفة :رجعت إلى النبي صلى ال عليه وسلم ليلة
الحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ،وكان إذا حزبه أمر صلى ( .)7وحدثنا عبيد ال بن معاذ
،حدثنا أبي ،حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول :لقد رأيتنا
ليلة بدر وما فينا إل نائم غير رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح (( ] )8
.)9
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )2في جـ " :فل يرى".
( )3المسند ( )5/388وسنن أبي داود برقم (.)1319
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5المسند (.)5/26
( )6في ط " :ابن مسعود" ،والصواب ما أثبتناه.
( )7تعظيم قدر الصلة برقم (.)212
( )8تعظيم قدر الصلة برقم (.)213
( )9زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/252
قال ابن جرير :وروي عنه ،عليه الصلة والسلم ،أنه مر بأبي هريرة ،وهو منبطح على
بطنه ،فقال له " :اشكنب درد" [قال :نعم] ( )1قال " :قم فصل فإن الصلة شفاء" ([ )2ومعناه :
أيوجعك بطنك ؟ قال :نعم] ( .)3قال ابن جرير :وقد حدثنا محمد بن العلء ويعقوب بن إبراهيم
،قال حدثنا ابن عُلَيّة ،حدثنا عُيَينة بن عبد الرحمن ،عن أبيه :أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم
وهو في سفر ،فاسترجع ،ثم تنحّى عن الطريق ،فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ،ثم
شعِينَ }
قام يمشي إلى راحلته وهو يقول { :وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّل ِة وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِل عَلَى الْخَا ِ
(.)4
وقال سُنَيد ،عن حجاج ،عن ابن جرير { :وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلةِ } قال :إنهما َمعُونتان
على رحمة ال.
والضمير في قوله { :وَإِ ّنهَا } عائد إلى الصلة ،نص عليه مجاهد ،واختاره ابن جرير.
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلم ،وهو الوصية بذلك ،كقوله تعالى في قصة
ع ِملَ صَالِحًا وَل يَُلقّاهَا إِل
ن وَ َ
قارون َ { :وقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ وَيَْلكُمْ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ آمَ َ
حسَنُ
الصّابِرُونَ } [القصص ]80 :وقال تعالى { :وَل َتسْ َتوِي ا ْلحَسَ َن ُة وَل السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
حظّ
ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل ذُو َ
حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِل الّذِي َ
ك وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ َ
فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
عَظِيمٍ } [فصلت ]35 ، 34 :أي :وما يلقى هذه الوصية إل الذين صبروا { َومَا يَُلقّاهَا } أي :
عظِيمٍ }
حظّ َ
يؤتاها ويلهمها { إِل ذُو َ
وعلى كل تقدير ،فقوله تعالى { :وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ } أي :مشقة ثقيلة إل على الخاشعين .قال ابن أبي
طلحة ،عن ابن عباس :يعني المصدّقين بما أنزل ال .وقال مجاهد :المؤمنين حقا .وقال أبو
العالية :إل على الخاشعين الخائفين ،وقال مقاتل بن حيان :إل على الخاشعين يعني به
المتواضعين .وقال الضحاك { :وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ } قال :إنها لثقيلة إل على الخاضعين ( )5لطاعته ،
سطَواته ،المصدقين بوعده ووعيده.
الخائفين َ
وهذا يشبه ما جاء في الحديث " :لقد سألت عن عظيم ،وإنه ليسير على من يسره ال عليه" (.)6
وقال ابن جرير :معنى الية :واستعينوا أيها الحبار من أهل الكتاب ،بحبس أنفسكم على طاعة
ال وبإقامة الصلة المانعة من الفحشاء والمنكر ،المقربة من رضا ال ،العظيمة إقامتها إل على
المتواضعين ل المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2تفسير الطبري ( )2/13وانظر ما كتبه المحقق الفاضل عن معنى " :اشكنب درد".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )4تفسير الطبري (.)2/14
( )5في جـ " :الخاشعين".
( )6رواه أحمد في المسند ( )5/231من حديث معاذ رضي ال عنه.
( )1/253
هكذا قال ،والظاهر أن الية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل ،فإنهم لم يقصدوا بها
على سبيل التخصيص ،وإنما هي عامة لهم ،ولغيرهم .وال أعلم.
جعُونَ } هذا من تمام الكلم الذي قبله
وقوله تعالى { :الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِ ْم وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ رَا ِ
،أي :وإن الصلة أو ال َوصَاة ( )1لثقيلة إل على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملقو ربهم ،أي :
[يعلمون أنهم] ( )2محشورون إليه يوم القيامة ،معروضون عليه ،وأنهم إليه راجعون ،أي :
سهُل
أمورهم راجعة إلى مشيئته ،يحكم فيها ما يشاء بعدله ،فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء َ
عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله َ { :يظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِمْ } قال ( )3ابن جرير ،رحمه ال :العرب قد تسمي اليقين
ظنا ،والشك ظنًا ،نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة ،والضياء سُدفة ،والمغيث صارخا ،والمستغيث
صمّة :
صارخًا ،وما أشبه ذلك من السماء التي يسمى بها الشيء وضدّه ،كما قال دُرَيد بن ال ّ
سيّ ال ُمسَرّدِ ()4
فقلت لهم ظُنّوا بألفي ُمدَجّجٍ ...سَرَا ُتهُم في الفَار ِ
عمِيرة بن طارق :
يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ،وقال َ
بِأنْ َيعْتَزُوا ( )5قومي وأقعُدَ فيكم ...وأجعلَ مني الظنّ غيبا مرجمّا ()6
يعني :وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ،قال :والشواهد من أشعار العرب وكلمها على أن الظن
في معنى اليقين ،أكثر من أن تحصر ،وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ،ومنه قول ال تعالى
{ :وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّنهُمْ ُموَا ِقعُوهَا } [الكهف .]53 :
ثم قال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا أبو عاصم ،حدثنا سفيان ،عن جابر ،عن
مجاهد ،قال :كل ظن في القرآن يقين ،أي :ظننت وظَنوا.
حفَ ِريّ ،عن سفيان عن ابن أبي نَجيح ،عن
وحدثني المثنى ،حدثنا إسحاق ،حدثنا أبو داود ال َ
مجاهد ،قال :كل ظن في القرآن فهو علم .وهذا سند صحيح.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله تعالى { :الّذِينَ َيظُنّونَ
أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِمْ } قال :الظن هاهنا يقين.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن مجاهد ،والسدي ،والربيع بن أنس ،وقتادة نحو قول أبي العالية.
__________
( )1في أ " :الوصية".
( )2زيادة من جـ ،ب ،أ.
( )3في طـ ،ب " :فقال".
( )4البيت في تفسير الطبري (.)2/18
( )5في جـ " :نصروا" ،وفي ب ،أ " :تعيروا".
( )6البيت في تفسير الطبري (.)2/18
( )1/254
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ()47
وقال سُنَيد ،عن حجاج ،عن ابن جريج { :الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلقُو رَ ّب ِهمْ } علموا أنهم ملقو
حسَابِيَهْ } [الحاقة ]20 :يقول :علمت.
ربهم ،كقوله { :إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلقٍ ِ
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قلت :وفي الصحيح " :أن ال تعالى يقول للعبد يوم القيامة :ألم أزوجك ،ألم أكرمك ،ألم أسخر
لك الخيل والبل ،وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول :بلى .فيقول ال تعالى :أفظننت أنك ملقي ؟
فيقول :ل .فيقول ال :اليوم أنساك كما نسيتني" .وسيأتي مبسوطا عند قوله { :نَسُوا اللّهَ فَنَسِ َيهُمْ
} [التوبة ]67 :إن شاء ال ،وال تعالى أعلم.
{ يَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (} )47
يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلفهم ،وما كان َفضّلهم به من إرسال الرسل منهم
علَى
وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر المم من أهل زمانهم ،كما قال تعالى { :وََلقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ َ
عِلْمٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } [الدخان ، ]32 :وقال تعالى { :وَِإذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ
جعََلكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا َلمْ ُي ْؤتِ أَحَدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [المائدة .]20 :
ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء وَ َ
علَ ْيكُمْ إِذْ َ
اللّهِ َ
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله تعالى { :وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ
عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } قال :بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان ؛
فإن لكل زمان عالما.
ورُوي عن مجاهد ،والربيع بن أنس ،وقتادة ،وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك ،ويجب الحمل
جتْ
على هذا ؛ لن هذه المة أفضل منهم ؛ لقوله تعالى خطابا لهذه المة { :كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَتُ ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وََلوْ آمَنَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرًا َلهُمْ }
لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
[آل عمران ]110 :وفي المسانيد والسنن ( )1عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ،قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :أنتم تُوفُونَ سبعين أمة ،أنتم خيرها وأكرمها على ال" .والحاديث في
جتْ لِلنّاسِ }
هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى { :كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
[وقيل :المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ،ول يلزم تفضيلهم مطلقًا ،حكاه
فخر الدين الرازي وفيه نظر .وقيل :إنهم فضلوا على سائر المم لشتمال أمتهم على النبياء
منهم ،حكاه القرطبي في تفسيره ،وفيه نظر ؛ لن { ا ْلعَاَلمِينَ } عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم
من النبياء ،فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ،ومحمد بعدهم وهو أفضل من
جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والخرة ،صلوات ال وسلمه عليه وعلى إخوانه من النبياء
والمرسلين] (.)2
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :وفي السنن والمسانيد".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/255
ل وَلَا هُمْ
خذُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ
شفَاعَ ٌة وَلَا ُيؤْ َ
وَاتّقُوا َي ْومًا لَا تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَلَا ُيقْبَلُ مِ ْنهَا َ
يُ ْنصَرُونَ ()48
ل وَل هُمْ
خذُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ
شفَاعَةٌ وَل ُيؤْ َ
{ وَا ّتقُوا َي ْومًا ل تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَل ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ
يُ ْنصَرُونَ (} )48
حلُول نقمه بهم يوم القيامة
لما ذكرهم [ال] ( )1تعالى بنعمه أول عطف على ذلك التحذير من ُ
فقال { :وَاتّقُوا َي ْومًا } يعني :يوم القيامة { ل َتجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا } أي :ل يغني أحد عن
أحد كما قال { :وَل تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى } [النعام ، ]164 :وقال ِ { :ل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْن ُهمْ َي ْومَئِذٍ
شوْا َي ْومًا ل يَجْزِي وَاِلدٌ عَنْ
خَشَأْنٌ ُيغْنِيهِ } [عبس ، ] 37 :وقال { يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُ ْم وَا ْ
ن وَالِ ِدهِ شَيْئًا } [لقمان ، ]33 :فهذه ( )2أبلغ المقامات :أن كل من
وَلَ ِد ِه وَل َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَ ْ
شفَاعَةٌ } يعني عن
الوالد وولده ل يغني أحدهما عن الخر شيئا ،وقوله تعالى { :وَل ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ
شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ } [المدثر ، ]48 :وكما قال عن أهل النار { :
الكافرين ،كما قال َ { :فمَا تَ ْن َف ُعهُمْ َ
حمِيمٍ } [الشعراء ، ]111 ، 110 :وقوله { :وَل ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا
َفمَا لَنَا مِنْ شَا ِفعِينَ * وَل صَدِيقٍ َ
عَ ْدلٌ } أي :ل يقبل منها فداء ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا َومَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْ
حدِهِمْ ِملْءُ الرْضِ ذَهَبًا وََلوِ افْتَدَى بِهِ } [آل عمران ] 91 :وقال { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْ أَنّ َلهُمْ
أَ َ
عذَابٌ أَلِيمٌ }
جمِيعًا َومِثْلَهُ َمعَهُ لِ َيفْتَدُوا ِبهِ مِنْ عَذَابِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَا ُتقُبّلَ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ َ
مَا فِي ال ْرضِ َ
[المائدة ] 36 :وقال تعالى { :وَإِنْ َتعْ ِدلْ ُكلّ عَ ْدلٍ ل ُيؤْخَذْ مِ ْنهَا } [النعام ، ] 70 :وقال :
خذُ مِ ْنكُمْ ِفدْيَ ٌة وَل مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا } الية [الحديد ، ]15 :فأخبر تعالى أنهم إن لم
{ فَالْ َيوْمَ ل ُيؤْ َ
يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ،ووافوا ال يوم القيامة على ما هم عليه ،فإنه ل ينفعهم
قرابة قريب ول شفاعة ذي جاه ،ول يقبل منهم فداء ،ولو بملء الرض ذهبا ،كما قال تعالى :
شفَاعَةٌ } [البقرة ، ]254 :وقال { ل بَ ْيعٌ فِي ِه وَل
{ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل بَيْعٌ فِي ِه وَل خُلّ ٌة وَل َ
خِللٌ } [إبراهيم .] 31 :
خذُ
[وقال سنيد :حدثني حجاج ،حدثني ابن جريج ،قال :قال مجاهد :قال ابن عباس { :وَل ُيؤْ َ
مِ ْنهَا عَ ْدلٌ } قال :بدل ،والبدل :الفدية ،وقال السدي :أما عدل فيعدلها من العذاب يقول :لو
جاءت بملء الرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها ،وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ( ] ،
.)3وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله { :وَل ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا
عَ ْدلٌ } يعني :فداء.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن أبي مالك ،والحسن ،وسعيد بن جبير ،وقتادة ،والربيع بن أنس
،نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق :أنبأنا الثوري ،عن العمش ،عن إبراهيم التيمي ،عن أبيه عن علي ،
رضي ال عنه ،في حديث طويل ،قال :والصرف والعدل :التطوع والفريضة.
وكذا قال الوليد بن مسلم ،عن عثمان بن أبي العاتكة ( ، )4عن عمير بن هانئ.
__________
( )1زيادة من و.
( )2في جـ ،ط ،ب " :فهذا".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4في جـ ،أ " :العالية".
( )1/256
وهذا القول غريب هنا ،والقول الول أظهر في تفسير هذه الية ،وقد ورد حديث يقويه ،وهو
ما قال ابن جرير :حدثني َنجِيح بن إبراهيم ،حدثنا علي بن حكيم ،حدثنا حميد بن عبد
عمْرو بن قيس الملئي ( ، )1عن رجل من بني أمية -من أهل الشام
الرحمن ،عن أبيه ،عن َ
أحسن عليه الثناء -قال :قيل :يا رسول ال ،ما العدل ؟ قال " :العدل الفدية" (.)2
وقوله تعالى { :وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ } أي :ول أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب ال ،
كما تقدم من أنه ل يعطف عليهم ذو قرابة ول ذو جاه ول يقبل منهم فداء .هذا كله من جانب
التلطف ،ول لهم ناصر من أنفسهم ،ول من غيرهم ،كما قال َ { :فمَا لَهُ مِنْ ُق ّوةٍ وَل نَاصِرٍ }
[الطارق ] 10 :أي :إنه تعالى ل يقبل فيمن كفر به ِفدْيَة ول شفاعة ،ول ينقذ أحدا من عذابه
منقذ ،ول يجيره منه أحد ،كما قال تعالى { :وَ ُهوَ يُجِيرُ وَل ُيجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون .] 88 :
حدٌ } [الفجر ، ] 26 25 :وقال { مَا َلكُ ْم ل
حدٌ * وَل يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَ َ
وقال { فَ َي ْومَئِ ٍذ ل ُي َع ّذبُ عَذَابَهُ أَ َ
تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ } [الصافات ، ] 26 ، 25 :وقال { فََلوْل َنصَرَ ُهمُ الّذِينَ
خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً َبلْ ضَلّوا عَ ْنهُمْ } الية [الحقاف .]28 :
اتّ َ
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله { :مَا َلكُمْ ل تَنَاصَرُونَ } ما لكم اليوم ل تمانعون منا ؟
هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ( )3ابن جرير :وتأويل قوله { :وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ } يعني :أنهم يومئذ ل ينصرهم ناصر ،
كما ل يشفع لهم شافع ،ول يقبل منهم عدل ول فدية َ ،بطَلت هنالك ( )4المحاباة واضمحلت
الرّشى والشفاعات ،وارتفع من القوم التعاون والتناصر ،وصار الحكم إلى عدل ( )5الجبار
الذي ل ينفع لديه الشفعاء والنصراء ،فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة ( )6أضعافها وذلك نظير
سِلمُونَ } [ الصافات
قوله تعالى َ { :و ِقفُو ُهمْ إِ ّنهُمْ مَسْئُولُونَ* مَا َلكُمْ ل تَنَاصَرُونَ* َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَ ْ
] 26 - 24 :
__________
( )1في جـ " :المل".
( )2تفسير الطبري (.)2/34
( )3في جـ " :وقال".
( )4في جـ " :هنا".
( )5في جـ ،ط ،ب " :العدل".
( )6في جـ " :فيجزي بالسيئة مثلها والحسنة".
( )1/257
عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُك ْم َوفِي َذِلكُمْ
وَإِذْ َنجّيْنَاكُمْ مِنْ َآلِ فِرْ َ
ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ ()50
عوْ َ
بَلَاءٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَظِيمٌ ( )49وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْبَحْرَ فَأَ ْنجَيْنَاكُ ْم وَأَغْ َرقْنَا َآلَ فِرْ َ
عوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ أَبْنَا َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ ِنسَا َءكُ ْم َوفِي ذَِلكُمْ
{ وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْ َ
ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ ()50
عوْ َ
بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَظِيمٌ ( )49وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْبَحْرَ فَأَ ْنجَيْنَاكُ ْم وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ
}
عوْنَ" أي :
يقول تعالى ( )1واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم "إِذْ َنجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ
__________
( )1في جـ " :يقول ال تبارك وتعالى".
( )1/257
خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة ( )1موسى ،عليه السلم ،وقد كانوا يسومونكم ،أي :
يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب .وذلك أن فرعون -لعنه ال -كان قد رأى رؤيا
هالته ،رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلد مصر ،إل بيوت بني إسرائيل
،مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ،ويقال :بل تحدث سماره
عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم ،يكون لهم به دولة ورفعة ،وهكذا جاء في
حديث الفُتُون ،كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] ( )2إن شاء ال ،فعند ذلك أمر فرعون -
لعنه ال -بقتل كل [ذي] ( )3ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل ،وأن تترك البنات ،وأمر
باستعمال بني إسرائيل في مشاق العمال وأراذلها.
وهاهنا فسر العذاب بذبح البناء ،وفي سورة إبراهيم عطف عليه ،كما قال َ { :يسُومُو َنكُمْ سُوءَ
ب ويُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ } [إبراهيم ] وسيأتي تفسير ( )4ذلك في أول سورة
ا ْلعَذَا ِ
القصص ،إن شاء ال تعالى ،وبه الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى { َيسُومُو َنكُمْ } أي :يولونكم ،قاله أبو عبيدة ،كما يقال سامه خطة خسف إذا أوله إياها ،
قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفا ...أبينا أن نقر الخسف فينا...
وقيل :معناه :يديمون عذابكم ،كما يقال :سائمة الغنم من إدامتها الرعي ،نقله القرطبي ،وإنما
قال هاهنا { :يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله :
{ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ } ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْي ُكمْ } وأما في
سورة إبراهيم فلما قال { :وَ َذكّرْ ُهمْ بِأَيّامِ اللّهِ } [إبراهيم ، ]5 :أي :بأياديه ونعمه عليهم فناسب
أن يقول هناك { :يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ ويُذَبّحُونَ أَبْنَا َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ ِنسَا َءكُمْ } فعطف عليه
الذبح ليدل على تعدد النعم واليادي.
وفرعون علم على كل مَنْ مََلكَ مصر ،كافرًا من العماليق ( )5وغيرهم ،كما أن قيصر علم على
كل من ملك الروم مع الشام كافرًا ،وكسرى لكل من ملك الفرس ،وتُبّع لمن ملك اليمن كافرا
[والنجاشي لمن ملك الحبشة ،وبطليموس لمن ملك الهند] ( )6ويقال :كان اسم فرعون الذي كان
في زمن موسى ،عليه السلم ،الوليد بن مصعب بن الريان ،وقيل :مصعب بن الريان ،أيا ما
كان فعليه لعنة ال [ ،وكان من سللة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح ،وكنيته أبو مرة ،
وأصله فارسي من استخر] (.)7
__________
( )1في جـ " :بصحبة".
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3زيادة من جـ.
( )4في جـ ،ط " :تفصيل".
( )5في جـ " :العمالقة".
( )6زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )7زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )1/258
وقوله تعالى َ { :وفِي ذَِلكُمْ بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَظِيمٌ } قال ابن جرير :وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا
إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلء لكم من ربكم عظيم .أي :نعمة عظيمة عليكم في
ذلك (.)1
عظِيمٌ } قال :نعمة.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس [في] ( )2قوله { :بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ َ
وقال مجاهد { :بَلءٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَظِيمٌ } قال :نعمة من ربكم عظيمة .وكذا قال أبو العالية ،وأبو
مالك ،والسدي ،وغيرهم.
وأصل البلء :الختبار ،وقد يكون بالخير والشر ،كما قال تعالى { :وَنَبْلُوكُمْ بِالشّ ّر وَا ْلخَيْرِ
ت وَالسّيّئَاتِ } [العراف .]168 :
فِتْنَةً } [النبياء ، ]25 :وقال { :وَبََلوْنَاهُمْ بِا ْلحَسَنَا ِ
قال ابن جرير :وأكثر ما يقال في الشر :بلوته أبلوه بَلءً ،وفي الخير :أبليه إبلء وبلء ،قال
زهير بن أبي سلمى :
جزى ال بالحسان ما َفعَل بكُم ...وأبلهما خَيْرَ البلءِ الذي يَبْلُو ()3
قال :فجمع بين اللغتين ؛ لنه أراد فأنعم ال عليهما خير النعم التي َيخْتَبر بها عباده.
[وقيل :المراد بقوله َ { :وفِي ذَِل ُكمْ بَلءٌ } إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح
البناء واستحياء النساء ؛ قال القرطبي :وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الول ،ثم
قال :وقال الجمهور :الشارة إلى الذبح ونحوه ،والبلء هاهنا في الشر ،والمعنى في الذبح
مكروه وامتحان] (.)4
ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } معناه :وبعد
عوْ َ
وقوله تعالى { :وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْبَحْرَ فَأَ ْنجَيْنَاكُ ْم وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ
أن أنقذناكم من آل فرعون ،وخرجتم مع موسى ،عليه السلم ،خرج ( )5فرعون في طلبكم ،
ففرقنا بكم البحر ،كما أخبر تعالى عن ذلك مفصل ( )6كما سيأتي في مواضعه ( )7ومن أبسطها
في سورة الشعراء إن شاء ال.
{ فَأَ ْنجَيْنَاكُمْ } أي :خلصناكم منهم ،وحجزنا بينكم وبينهم ،وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون
ذلك أشفى لصدوركم ،وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال ( )8عبد الرزاق :أنبأنا َمعْمر ،عن أبي إسحاق ال َهمْداني ،عن عمرو بن ميمون الودي في
قوله تعالى { :وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْ َبحْرَ } إلى قوله { :وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } قال :لما خرج موسى ببني
إسرائيل ،بلغ ذلك فرعون فقال :ل تتبعوهم حتى تصيح الديكة .قال :فوال ما صاح ليلتئذ ديك
__________
( )1في جـ " :أي نعمة عليكم عظيمة في ذلك".
( )2زيادة من جـ ،أ.
( )3البيت في تفسير الطبري (.)2/49
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5في جـ " :وخرج".
( )6في جـ " :مفصل عن ذلك".
( )7في جـ " :مفصل".
( )8في جـ ،ط " :وقال".
( )1/259
حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة َفذُبحت ،ثم قال :ل أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من
القبط .فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ،فلما أتى موسى
البحر ،قال له رجل من أصحابه ،يقال له :يوشع بن نون :أين أمَرَ ربك ؟ قال :أمامك ،
يشير إلى البحر .فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ ال َغمْرَ ،فذهب به الغمر ،ثم رجع .فقال :
أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوال ما كذبت ول كُذبت ( .)1فعل ذلك ثلث مرات ،ثم أوحى ال إلى
طوْدِ ا ْلعَظِيمِ } [الشعراء
موسى { :أَنِ اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَا ْنفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ
، ] 63 :يقول :مثل الجبل .ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ،حتى إذا
ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } (.)2
عوْ َ
تتاموا فيه أطبقه ال عليهم فلذلك قال { :وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ
وكذلك قال غير واحد من السلف ،كما سيأتي بيانه في موضعه ( .)3وقد ورد أن هذا اليوم كان
يوم عاشوراء ،كما قال المام أحمد :
حدثنا عفان ،حدثنا عبد الوارث ،حدثنا أيوب ،عن عبد ال بن سعيد بن جبير ،عن أبيه ،عن
ابن عباس ،قال :قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم
عاشوراء ،فقال " :ما هذا اليوم الذي تصومون ؟" .قالوا :هذا يوم صالح ،هذا يوم نجى ال عز
وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم ( ، )4فصامه موسى ،عليه السلم ،فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :أنا أحق بموسى منكم" .فصامه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأمر بصومه.
وروى هذا الحديث البخاري ،ومسلم ،والنسائي ،وابن ماجه من طرق ،عن أيوب السختياني ،
به ( )5نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي :حدثنا أبو الربيع ،حدثنا سلم -يعني ابن سليم -عن زيد ال َعمّيّ عن
يزيد الرقاشي عن أنس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :فلق ال البحر لبني إسرائيل يوم
عاشوراء " (.)6
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا ال َع ّميّ فيه ضعف ،وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
__________
( )1في جـ " :ول كذبت" ،وفي ط " :وكذبت".
( )2تفسير عبد الرزاق (.)1/67
( )3في أ " :كما سيأتي في موضعه إن شاء ال".
( )4في جـ " :من الغرق ،وفي ط " :من غرقهم".
( )5المسند ( )1/291وصحيح البخاري برقم ( )2004وصحيح مسلم برقم (.)1130
( )6مسند أبي يعلى (.)7/133
( )1/260
( )1/261
وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ،من حديث يزيد بن هارون ،عن الصبغ بن زيد
الوراق عن القاسم بن أبي أيوب ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :قال ال تعالى :
إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد ( )1فيقتله بالسيف ،ول يبالي من
قتل في ذلك الموطن .فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع ال من ذنوبهم ،
فاعترفوا بها ،وفعلوا ما أمروا به فغفر ال تعالى للقاتل والمقتول .وهذا ( )2قطعة من حديث
الفُتُون ،وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله ،إن شاء ال (.)3
وقال ابن جرير :حدثني عبد الكريم بن الهيثم ،حدثنا إبراهيم بن بَشّار ،حدثنا سفيان بن عيينة ،
قال :قال أبو سعيد :عن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :قال موسى لقومه { :فَتُوبُوا إِلَى
سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ } قال :أمر
بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ
موسى قومه -من أمر ربه عز وجل -أن يقتلوا أنفسهم قال :واحتبى الذين عبدوا ( )4العجل
فجلسوا ،وقام الذين لم يعكفوا على العجل ،فأخذوا الخناجر بأيديهم ،وأصابتهم ظُلّة ( )5شديدة ،
فجعل يقتل بعضهم بعضا ،فانجلت الظلّة ( )6عنهم ،وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل ،كل من
قتل منهم كانت له توبة ،وكل من بقي كانت له توبة.
وقال ابن جُرَيْج :أخبرني القاسم بن أبي بَزّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا يقولن في قوله
سكُمْ } قال قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا ،ل يحنو رجل
تعالى { :فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ
شفَ عن سبعين ألف
على قريب ول بعيد ،حتى ألوى موسى بثوبه ،فطرحوا ما بأيديهم ،فكُ ِ
قتيل .وإن ال أوحى إلى موسى :أن حَسْبي ،فقد اكتفيت ،فذلك حين ألوى موسى بثوبه ،
[وروي عن علي رضي ال عنه نحو ذلك] (.)7
وقال قتادة :أمر القوم بشديد من المر ،فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ،حتى بلغ
ال فيهم نقمته ،فسقطت الشفار من أيديهم ،فأمسك عنهم القتل ،فجعل لحيهم توبة ،وللمقتول
شهادة.
وقال الحسن البصري :أصابتهم ظلمة حنْدس ،فقتل بعضهم بعضا [نقمة] ( )8ثم انكشف عنهم ،
فجعل توبتهم في ذلك.
س ُكمْ } قال :فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ،
وقال السدي في قوله { :فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ
فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا ،حتى كثر القتل ،حتى كادوا أن يهلكوا ،حتى قتل بينهم ()9
سبعون ألفًا ،وحتى دعا موسى وهارون :ربنا أهلكت بني إسرائيل ،ربنا البقيةَ البقيةَ ،
__________
( )1في ط " :أو والد".
( )2في جـ " :وهذه".
( )3وهو في سنن النسائي الكبرى برقم ( )11326وسيأتي عند الموضع الذي أشار إليه الحافظ
ابن كثير.
( )4في جـ ،ط ،ب " :عكفوا".
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :ظلمة".
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الظلمة".
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،وفي أ ،و " :وروي عن علي رحمة ال عليه نحو ذلك".
( )8زيادة من أ.
( )9في جـ ،ط ،ب " :منهم".
( )1/262
فأمرهم أن يضعوا السلح وتاب عليهم ،فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا ،ومن بقي ُمكَفّرا
عنه ؛ فذلك قوله { :فَتَابَ عَلَ ْي ُكمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }
وقال الزهري :لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها ،برزوا ومعهم موسى ،فاضطربوا بالسيوف
،وتطاعنوا بالخناجر ،وموسى رافع يديه ،حتى إذا أفنوا بعضهم ( ، )1قالوا :يا نبي ال ،ادع
ال لنا .وأخذوا بعضُديه يسندون يديه ،فلم يزل أمرهم على ذلك ،حتى إذا قبل ال توبتهم قبض
أيديهم ،بعضهم عن بعض ،فألقوا السلح ،وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم
،فأوحى ال ،جل ثناؤه ،إلى موسى :ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون ،وأما
من بقي فقد قبلت توبته .فسُرّ بذلك موسى ،وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق :لما رجع موسى إلى قومه ،وأحرق العجل وذَرّاه في اليم ،خرج إلى ربه بمن
اختار من قومه ،فأخذتهم الصاعقة ،ثم بُعثوا ،فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة
العجل .فقال :ل إل أن يقتلوا أنفسهم قال :فبلغني أنهم قالوا لموسى :نَصبر لمر ال .فأمر
موسى من لم يكن عبد العجل أن َيقْتُل من عبده .فجلسوا بالفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف ،
فجعلوا يقتلونهم ،وبكى موسى ،وَ َبهَش إليه النساء والصبيان ،يطلبون العفو عنهم ،فتاب ال
عليهم ،وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :لما رجع موسى إلى قومه ،وكان ( )2سبعون ( )3رجل قد
اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه .فقال لهم موسى :انطلقوا إلى موعد ربكم .فقالوا :يا موسى
سكُمْ َذِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ } الية ،
،ما من ( )4توبة ؟ قال :بلى { ،فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ
فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين .قال :وبعث عليهم ضبابة .قال :فجعلوا
يتلمسون باليدي ،ويقتل بعضهم بعضًا .قال :ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ول يدري .قال :
ويتنادون [فيها] ( : )5رحم ال عبدا صبر نفسه حتى يبلغ ال رضاه ،قال :فقتلهم شهداء ،
وتيب على أحيائهم ،ثم قرأ { :فَتَابَ عَلَ ْي ُكمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
__________
( )1في جـ ،أ " :بعضهم بعضا".
( )2في جـ " :وكانوا".
( )3في أ " :سبعين".
( )4في أ " :هل من".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ.
( )1/263
( )1/264
ل يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ،فضرب دونه ( )1بالحجاب ،ودنا القوم حتى إذا
دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ( )2فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه :افعل ول تفعل .فلما
فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام ،فأقبل إليهم ،فقالوا لموسى { :لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى
جهْ َرةً } فأخذتهم الرجفة ( ، )3وهي الصاعقة ،فماتوا جميعًا .وقام موسى يناشد ربه
نَرَى اللّهَ َ
ويدعوه ويرغب إليه ،ويقول َ { :ربّ َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َت ُهمْ مِنْ قَ ْبلُ [وَإِيّايَ ] ([ } )4العراف :
]155قد سفهوا ،أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي :إن هذا لهم
هلك .اخترتُ منهم سبعين رجل الخَيّر فالخير ،أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما
الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ { إِنّا ُهدْنَا إِلَ ْيكَ } [العراف ]156 :فلم يزل موسى
يناشد ربه عز وجل ،ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم ،وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من
عبادة العجل ،فقال :ل ؛ إل أن يقتلوا أنفسهم (.)5
هذا سياق محمد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير :لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب ال
عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ،أمر ال موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل ،
يعتذرون إليه من عبادة العجل ،ووعدهم موسى ،فاختار موسى قومه سبعين رجل على عَينه ،
ثم ذهب بهم ليعتذروا .وساق البقية.
[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله { :وَإِذْ قُلْ ُتمْ يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ
جهْ َرةً } والمراد السبعون المختارون منهم ،ولم يحك كثير من المفسرين
َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ
سواه ،وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلء السبعين :أنهم بعد
إحيائهم قالوا :يا موسى ،إنك ل تطلب من ال شيئا إل أعطاك ،فادعه أن يجعلنا أنبياء ،فدعا
بذلك فأجاب ال دعوته ،وهذا غريب جدا ،إذ ل يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم
يوشع بن نون ،وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلء رأوا ال عز وجل ،فإن موسى
الكليم ،عليه السلم ،قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلء السبعون ؟
القول الثاني في الية] ( )6قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الية :قال لهم موسى
-لما رجع من عند ربه باللواح ،قد كتب فيها التوراة ،فوجدهم يعبدون العجل ،فأمرهم بقتل
أنفسهم ،ففعلوا ،فتاب ال عليهم ،فقال :إن هذه اللواح فيها كتاب ال ،فيه ( )7أمركم الذي
أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه .فقالوا :ومن يأخذه بقولك أنت ؟ ل وال حتى نرى ال جهرة ،
حتى
__________
( )1في جـ " :دونهما".
( )2في جـ " :سجدا".
( )3في ط " :الصاعقة".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5تفسير الطبري (.)2/77
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )7في جـ " :فيها كتاب ال الذي".
( )1/265
ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم َومَا ظََلمُونَا وََلكِنْ
وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ
سهُمْ يَظِْلمُونَ ()57
كَانُوا أَ ْنفُ َ
يطلع ال علينا فيقول :هذا كتابي فخذوه ،فما له ل يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول
جهْ َرةً } قال :فجاءت غضبة من ال ،فجاءتهم صاعقة بعد
ال { :لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ
التوبة ،فصعقتهم فماتوا أجمعون .قال :ثم أحياهم ال من بعد موتهم ،وقرأ قول ال { :ثُمّ
شكُرُونَ } فقال لهم موسى :خذوا كتاب ال .فقالوا :ل فقال :أي
َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ
شيء أصابكم ؟ فقالوا :أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا .قال ( : )1خذوا كتاب ال .قالوا :ل .فبعث ال
ملئكة فنتقت الجبل فوقهم.
[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا .وقد حكى الماوردي في ذلك قولين :أحدهما :
أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم المر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق ؛ والثاني :
أنهم مكلفون لئل يخلو عاقل من تكليف ،قال القرطبي :وهذا هو الصحيح لن معاينتهم للمور
الفظيعة ل تمنع تكليفهم ؛ لن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات ،وهم
في ذلك مكلفون وهذا واضح ،وال أعلم] (.)2
ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُك ْم َومَا ظََلمُونَا وََلكِنْ
ظلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنزلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ
{ وَ َ
سهُمْ يَظِْلمُونَ (} )57
كَانُوا أَ ْنفُ َ
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ،شرع يذكرهم -أيضا -بما أسبغ عليهم من النعم ،فقال
َ { :وظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَامَ } وهو جمع غمامة ،سمي بذلك لنه َيغُمّ السماء ،أي :يواريها
ويسترها .وهو السحاب البيض ،ظُلّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس .كما رواه النسائي وغيره
عن ابن عباس في حديث الفُتُون ،قال :ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن ابن عمر ،والربيع بن أنس ،وأبي مجلز ،والضحاك ،
والسدي ،نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة { :وَظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَامَ } [قال] ( )3كان هذا في البرية ( )4ظلل عليهم الغمام
من الشمس.
وقال ابن جرير ( )5قال آخرون :وهو غمام أبرد من هذا ،وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو حذيفة ،حدثنا شبل ،عن ابن أبي نجيح ،عن مجاهد
َ { :وظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَامَ } ( )6قال :ليس بالسحاب ،هو الغمام الذي يأتي ال فيه يوم القيامة ،
ولم يكن إل لهم.
وهكذا رواه ابن جرير ،عن المثنى بن إبراهيم ،عن أبي حذيفة.
__________
( )1في جـ " :فقال".
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ ،ط.
( )4في أ " :في التيه".
( )5في جـ ،ط " :ابن جريج".
( )6في جـ ،ط " :عليهم" وهو خطأ.
( )1/266
وكذا رواه الثوري ،وغيره ،عن ابن أبي نجيح ،عن مجاهد ،وكأنه يريد ،وال أعلم ،أنه
ليس من ِزيّ هذا السحاب ،بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا ،كما قال سنيد في تفسيره عن
حجاج بن محمد ،عن ابن جريج قال :قال ابن عباس { :وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َغمَامَ } قال :غمام أبرد
من هذا وأطيب ،وهو الذي يأتي ال فيه في قوله َ { :هلْ يَنْظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َي ُهمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ
ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَةُ } [البقرة ]210 :وهو الذي جاءت فيه الملئكة يوم بدر .قال ابن عباس :وكان
معهم في التيه.
وقوله { :وَأَنزلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَنّ } اختلفت عبارات المفسرين في المن :ما هو ؟ فقال علي بن أبي
طلحة ،عن ابن عباس :كان المن ينزل عليهم على الشجار ،فيغدون إليه فيأكلون منه ما
شاؤوا.
وقال مجاهد :المن :صمغة .وقال عكرمة :المن :شيء أنزله ال عليهم مثل الطل ،شبه ال ّربِ
الغليظ.
وقال السدي :قالوا :يا موسى ،كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل ال عليهم المن ،فكان
يسقط على شجر ( )1الزنجبيل.
وقال قتادة :كان المن ينزل عليهم في محلتهم ( )2سقوط الثلج ،أشد بياضا من اللبن ،وأحلى
من العسل ،يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ،يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه
يومه ذلك ؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق ،حتى إذا كان يوم سادسه ،ليوم جمعته ،أخذ ما يكفيه
ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لنه كان يوم عيد ل يشخص فيه لمر معيشته ول يطلبه لشيء ،وهذا
كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس :المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ،فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه -وسئل عن المن -فقال :خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيّ.
وقال أبو جعفر بن جرير :حدثني أحمد بن إسحاق ،حدثنا أبو أحمد ،حدثنا إسرائيل ،عن جابر
،عن عامر وهو الشعبي ،قال :عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :إنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت ،حيث قال :
فرأى ال أنهم بمضيع ...ل بذي مزرع ول مثمورا...
فسناها عليهم غاديات ...وترى مزنهم خليا وخورا...
عسل ناطفا وماء فراتا ...وحليبا ذا بهجة مرمورا ()3
__________
( )1في ط " :الشجرة" ،وفي ب " :الشجر".
( )2في أ " :في نخلتهم".
( )3البيات في تفسير الطبري (.)95 ، 2/94
( )1/267
( )1/268
محمد ،وقيل :أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي :روى عن قتادة أشياء ل
يتابع عليها (.)1
ثم قال [الترمذي] ( )2حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا معاذ بن هشام ،حدثنا أبي ،عن قتادة ،عن
شهر بن حوشب ،عن أبي هريرة :أن ناسا من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم قالوا :الكمأة
جدري الرض ،فقال نبي ال صلى ال عليه وسلم " :الكمأة من المن ،وماؤها شفاء للعين ،
والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم".
وهذا الحديث قد رواه النسائي ،عن محمد بن بشار ،به ( .)3وعنه ،عن غندر ،عن شعبة ،
عن أبي بشر جعفر بن إياس ،عن شهر بن حوشب ،عن أبي هريرة ،به ( .)4وعن محمد بن
بشار ،عن عبد العلى ،عن خالد الحذاء ،عن شهر بن حوشب .بقصة الكمأة فقط (.)5
وروى النسائي -أيضا -وابن ماجه من حديث محمد بن بشار ،عن أبي عبد الصمد عبد
العزيز بن عبد الصمد ،عن مطر الوراق ،عن شهر :بقصة العجوة عند النسائي ،وبالقصتين
عند ابن ماجه (.)6
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه ( )7منه ،بدليل ما رواه
النسائي في الوليمة من سننه ،عن علي بن الحسين الدرهمي ( )8عن عبد العلى ،عن سعيد بن
أبي عروبة ،عن قتادة ،عن شهر بن حوشب ،عن عبد الرحمن بن غَنْم ،عن أبي هريرة ،قال
:خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة ،وبعضهم يقول ( )9جدري
الرض ،فقال " :الكمأة من المن ،وماؤها شفاء للعين" (.)10
وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر ،كما قال المام أحمد :
حدثنا أسباط بن محمد ،حدثنا العمش ،عن جعفر بن إياس ،عن شهر بن حوشب ،عن جابر
بن عبد ال وأبي سعيد الخدري ،قال قال
__________
( )1الكامل لبن عدي (.)4/114
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3هو في سنن النسائي الكبرى برقم ( )6671عن نصير بن الفرج ،عن معاذ بن هشام به ،
ولم أقع عليه عن محمد بن بشار ،وقد ذكره المزي عن محمد بن بشار في تحفة الشراف (
.)10/112
( )4سنن النسائي الكبرى برقم (.)6673
( )5سنن النسائي الكبرى برقم (.)6672
( )6سنن ابن ماجة برقم (.)3400
( )7في جـ " :لم يسمع".
( )8في جـ " :الدهرمي".
( )9في جـ " :وبعضهم يذكرون".
( )10سنن النسائي الكبرى برقم (.)6670
( )1/269
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي
شفاء من السم" (.)1
قال ( )2النسائي في الوليمة أيضا :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،
عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب ،عن أبي سعيد وجابر ،رضي ال عنهما ،
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :الكمأة من المن ،وماؤها شفاء للعين" ( .)3ثم رواه -
أيضا ، -وابن ماجه من طرق ،عن العمش ،عن أبي بشر ،عن شهر ،عنهما ،به (.)4
وقد رويا ( - )5أعني النسائي ( )6وابن ماجه -من حديث سعيد بن مسلم ( )7كلهما عن
العمش ،عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة ،عن أبي سعيد ،زاد النسائي [ :وحديث] ()8
جابر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :الكمأة من المن ،وماؤها شفاء للعين" (.)9
ورواه ابن مردويه ،عن أحمد بن عثمان ،عن عباس الدوري ،عن لحق بن صواب ( )10عن
عمار بن رزيق ( )11عن العمش ،كابن ماجه.
وقال ابن مردويه أيضا :حدثنا أحمد بن عثمان ،حدثنا عباس الدوري ،حدثنا الحسن ( )12بن
الربيع ،حدثنا أبو الحوص ،عن العمش ،عن المنهال بن عمرو ،عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ،عن أبي سعيد الخدري ،قال :خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وفي يده
كمآت ،فقال " :الكمأة من المن ،وماؤها شفاء للعين".
وأخرجه النسائي ،عن عمرو بن منصور ،عن الحسن بن الربيع ( )13ثم [رواه] ( )14ابن
مردويه .رواه أيضا عن عبد ال بن إسحاق عن الحسن بن سلم ،عن عبيد ال بن موسى ،عن
شيبان ( )15عن العمش به ،وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم ،عن عبيد ال بن
موسى [به] (.)17( )16
وقد روى من حديث أنس بن مالك ،رضي ال عنه كما قال ابن مردويه :
حدثنا محمد بن عبد ال بن إبراهيم ،حدثنا حمدون بن أحمد ،حدثنا حوثرة بن أشرس ،حدثنا
حماد ،عن شعيب بن الحبحاب ( )18عن أنس :أن أصحاب رسول ال ( )19صلى ال عليه
وسلم تدارؤوا ( )20في الشجرة التي اجتثت من فوق الرض ما لها من قرار ،فقال بعضهم :
نحسبه الكمأة .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ،
والعجوة من الجنة ،وفيها شفاء من السم" (.)21
__________
( )1المسند (.)3/48
( )2في جـ ،ط " :وقال".
( )3لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى.
( )4سنن ابن ماجة برقم ( )3453ولم أقع عليه في سنن النسائي الكبرى المطبوعة.
( )5في جـ " :وقد روياه".
( )6في جـ ،و " :النسائي من حديث جرير".
( )7في جـ " :مسلمة".
( )8زيادة من جـ ،و.
( )9سنن النسائي الكبرى برقم ( )6677 ، 6676وسنن ابن ماجة برقم ( )3453لكن وقع في
سنن النسائي عن جرير عن العمش وال أعلم.
( )10في جـ " :صوان".
( )11في جـ " :زريق".
( )12في جـ " :الحسين".
( )13لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى.
( )14زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )15في جـ " :سفيان".
( )16زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )17سنن النسائي الكبرى برقم (.)6678
( )18في جـ " :ابن الحجاب" ،وفي أ " :ابن الحجاج".
( )19في جـ " :أصحاب النبي".
( )20ف جـ " :تذاكروا".
( )21ورواه ابن عدي في الكامل ( )2/370من طريق حسان بن سياه عن ثابت عن أنس بنحوه.
( )1/270
وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة .وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه
شيئا من هذا ،وال أعلم (.)2( )1
[وقد] ( )3روي عن شهر ،عن ابن عباس ،كما رواه النسائي -أيضًا -في الوليمة ،عن أبي
بكر أحمد بن علي بن سعيد ،عن عبد ال بن عون الخَرّاز ،عن أبي عبيدة الحداد ،عن عبد
الجليل بن عطية ،عن شهر ،عن عبد ال بن عباس ،عن النبيّ صلى ال عليه وسلم قال :
"الكمأة من المن ،وماؤها شفاء للعين" (.)4
فقد اختلف -كما ترى فيه -على شهر بن حوشب ،ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه
الطرق كلها ،وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم ،فإن السانيد إليه جيدة ،وهو ل
يتعمد الكذب ،وأصل الحديث محفوظ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كما تقدم من رواية
سعيد بن زيد.
سمّانى ،كانوا
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :السلوى طائر شبيه بال ّ
يأكلون منه.
وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مُرّة ،عن
سمّانَى.
ابن مسعود ،وعن ناس ( )5من الصحابة :السلوى :طائر يشبه ال ّ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ،
حدثنا قرّة بن خالد ،عن جهضم ،عن ابن عباس ،قال :السلوى :هو السمّانى.
وكذا قال مجاهد ،والشعبي ،والضحاك ،والحسن ،وعكرمة ،والربيع بن أنس ،رحمهم ال.
وعن عكرمة :أما السلوى فطير ( )6كطير يكون بالجنة ( )7أكبر من العصفور ،أو نحو ذلك.
وقال قتادة :السلوى من طير إلى الحمرة ،تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ .وكان الرجل يذبح منها
قدر ما يكفيه يومه ذلك ،فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ،حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته ()8
أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لنه كان يوم عبادة ل يشخص فيه لشيء ول يطلبه.
وقال وهب بن منبه :السلوى :طير سمين مثل الحمام ،كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى
سبت .وفي رواية عن وهب ،قال :سأَلتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلم ،اللحم ،فقال ال :
لطعمنهم من أقل لحم يعلم في الرض ،فأرسل عليهم ريحًا ،فأذرت عند مساكنهم السلوى ،
وهو السمانى ( )9مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى ( )10السماء فخبّؤوا للغد فنتن اللحم وخنز
الخبز.
__________
( )1في جـ " :وال تبارك أعلم".
( )2سنن الترمذي برقم ( )3119وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11262
( )3زيادة من ط.
( )4سنن النسائي الكبرى برقم (.)6669
( )5في جـ ،ط " :وعن أناس".
( )6في جـ " :فيطير".
( )7في و " :في الجنة".
( )8في جـ " :جمعة".
( )9في جـ " :السمان".
( )10في جـ " :في".
( )1/271
وقال السدي :لما دخل بنو إسرائيل التيه ،قالوا لموسى ،عليه السلم :كيف لنا بما هاهنا ؟ أين
الطعام ؟ فأنزل ال عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر ( )1الزنجبيل ،والسلوى وهو طائر يشبه
السمانى أكبر منه ،فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ،فإن كان سمينا ذبحه وإل أرسله ،فإذا
سمن أتاه ،فقالوا :هذا الطعام فأين الشراب ؟ فَُأمِر موسى فضرب بعصاه الحجر ،فانفجرت (
)2منه اثنتا عشرة عينًا ،فشرب كل سبط من عين ،فقالوا :هذا الشراب ،فأين الظل ؟ َفظَلّل
عليهم الغمام .فقالوا :هذا الظل ،فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم ( )3تطول معهم كما يطول الصبيان
ن وَالسّ ْلوَى }
،ول يَنْخرق لهم ثوب ،فذلك قوله تعالى َ { :وظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنزلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ
عشْ َرةَ عَيْنًا قَدْ
حجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ
سقَى مُوسَى ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َ
وقوله { وَإِذِ اسْتَ ْ
عَلِمَ ُكلّ أُنَاسٍ َمشْرَ َبهُمْ } [البقرة .]60 :
وروي عن وهب بن منبه ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سُنَيْد ،عن حجاج ،عن ابن جُرَيْج ،قال :قال ابن عباس :خُلق لهم في التيه ثياب ل
تخرق ( )4ول تدرن ،قال ابن جريج :فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم
فسد ،إل أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فل يصبح فاسدًا.
[قال ابن عطية :السلوى :طير بإجماع المفسرين ،وقد غلط الهذلي في قوله :إنه العسل ،
وأنشد في ذلك مستشهدًا :
وقاسمها بال جهدًا لنتم ...ألذ من السلوى إذا ما أشورها...
قال :فظن أن السلوى عسل ( )5قال القرطبي :دعوى الجماع ل تصح ؛ لن المؤرخ أحد
علماء اللغة والتفسير قال :إنه العسل ،واستدل ببيت الهذلي هذا ،وذكر أنه كذلك في لغة كنانة ؛
لنه يسلى به ومنه عين سلوان ،وقال الجوهري :السلوى العسل ،واستشهد ببيت الهذلي -
أيضا ، -والسلوانة بالضم خرزة ،كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سل
قال الشاعر :
شربت على سلوانة ماء مزنة ...فل وجديد العيش يا مي ما أسلو...
واسم ذلك الماء السلوان ،وقال بعضهم :السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والطباء
يسمونه( ُمفَرّح) ،قالوا :والسلوى جمع بلفظ -الواحد -أيضًا ،كما يقال :سمانى للمفرد
والجمع و ِدفْلَى كذلك ،وقال الخليل واحده سلواة ،وأنشد :
وإني لتعروني لذكراك هزة ...كما انتفض السلواة من بلل القطر...
__________
( )1في جـ " :على شجر".
( )2في جـ ،ب " :فانفجر".
( )3في جـ " :لباسهم".
( )4في جـ " :ل تخلق".
( )5المحرر الوجيز لبن عطية (.)1/229
( )1/272
وقال الكسائي :السلوى واحدة وجمعه سلوي ،نقله كله القرطبي (.)2( ] )1
وقوله تعالى { :كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ } أمر إباحة وإرشاد وامتنان .وقوله َ { :ومَا ظََلمُونَا
سهُمْ يَظِْلمُونَ } [البقرة ، ]57 :أي أمرناهم بالكل مما رزقناهم وأن يعبدوا ،كما
وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ
شكُرُوا لَهُ } [سبأ ]15 :فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم ،هذا مع ما
قال { :كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَ ّبكُ ْم وَا ْ
شاهدوه من اليات البينات والمعجزات القاطعات ،وخوارق العادات ،ومن هاهنا تتبين فضيلة
أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم ( )3ورضي عنهم ،على سائر أصحاب النبياء في صبرهم
وثباتهم وعدم تعنتهم ،كما كانوا معه في أسفاره وغزواته ،منها عام تبوك ،في ذلك القيظ
والحر الشديد والجهد ،لم يسألوا خرق عادة ،ول إيجاد أمر ،مع أن ذلك كان سهل على
الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم
،فجاء قدر مَبْرك الشاة ،فدعا [ال] ( )4فيه ،وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم ،وكذا لما احتاجوا
إلى الماء سأل ال تعالى ،فجاءت سحابة فأمطرتهم ،فشربوا وسقوا البل وملؤوا أسقيتهم .ثم
نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر .فهذا هو الكمل في التباع :المشي مع قدر ال ،مع متابعة
الرسول صلى ال عليه وسلم.
__________
( )1تفسير القرطبي (.)1/408
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في ط " :صلوات ال وسلمه عليه.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/273
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُتمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ َنغْفِرْ َلكُمْ
حسِنِينَ ( )58فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الّذِينَ
خطَايَاكُ ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُ ْ
َ
سقُونَ ()59
سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
ظََلمُوا ِرجْزًا مِنَ ال ّ
حطّةٌ َن ْغفِرْ
سجّدًا َوقُولُوا ِ
{ وَإِذْ قُلْنَا ا ْدخُلُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ
َلكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ ( )58فَ َب ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ فَأَنزلْنَا عَلَى الّذِينَ
سقُونَ (} )59
سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
ظََلمُوا ِرجْزًا مِنَ ال ّ
يقول تعالى لئمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول ( )1الرض المقدسة ،لما قدموا من بلد
مصر صحبة موسى ،عليه السلم ،فأمروا بدخول الرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن
أبيهم إسرائيل ،وقتال من فيها من العماليق الكفرة ،فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ،
فرماهم ال في التيه عقوبة لهم ،كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن
هذه البلدة هي بيت المقدس ،كما نص على ذلك السدي ،والرّبيع بن أنس ،وقتادة [ ،وأبو مسلم
سةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ }
الصفهاني وغير واحد وقد قال ال تعالى { :يَا َقوْمِ ا ْدخُلُوا الرْضَ ا ْل ُمقَدّ َ
اليات] ([.)2المائدة ]24 - 21 :
وقال آخرون :هي أريحا [ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد] ( )3وهذا بعيد ؛ لنها
ليست على طريقهم ،وهو قاصدون بيت المقدس ل أريحا [وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها
مصر ،حكاه فخر الدين في تفسيره ،والصحيح هو الول ؛ لنها بيت المقدس] ( .)4وهذا كان
لما خرجوا من
__________
( )1في ب " :عن دخولهم".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/273
التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ،عليه السلم ،وفتحها ال عليهم عشية جمعة ،وقد
حبست لهم الشمس يومئذ قليل حتى أمكن الفتح ،وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ،
ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب -باب البلد { -سُجّدًا } أي :شكرًا ل تعالى على ما أنعم به
عليهم من الفتح والنصر ،وردّ بلدهم ( )1إليهم وإنقاذهم من التيه والضلل.
سجّدًا } أي
قال العوفي في تفسيره ،عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله { :وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ
ركعا.
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا أبو أحمد الزبيري ،حدثنا سفيان ،عن العمش ،
سجّدًا }
عن المنهال بن عمرو ،وعن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس في قوله { :وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ
قال :ركعا ( )2من باب صغير.
رواه الحاكم من حديث سفيان ،به .ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ،وهو الثوري ،به (
.)3وزاد :فدخلوا من قبل أستاههم.
[وقال الحسن البصري :أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ،واستبعده الرازي ،
وحكى عن بعضهم :أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته] (.)4
وقال خصيف :قال عكرمة ،قال ابن عباس :كان الباب قبل القبلة.
وقال [ابن عباس و] ( )5مجاهد ،والسدي ،وقتادة ،والضحاك :هو باب الحطة من باب إيلياء
ببيت المقدس [ ،وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية] (.)6
خصِيف :قال عكرمة :قال ابن عباس :فدخلوا على شق ،وقال السدي ،عن أبي سعيد
وقال َ
الزدي ،عن أبي الكنُود ،عن عبد ال بن مسعود :وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ،فدخلوا مقنعي
رؤوسهم ،أي :رافعي رؤوسهم خلف ما أمروا.
وقوله َ { :وقُولُوا حِطّةٌ } قال الثوري عن العمش ،عن المنهال ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن
حطّةٌ } قال :مغفرة ،استغفروا.
عباس َ { :وقُولُوا ِ
وروي عن عطاء ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،نحوه.
وقال الضحاك عن ابن عباس َ { :وقُولُوا حِطّةٌ } قال :قولوا :هذا المر حق ،كما قيل لكم.
وقال عكرمة :قولوا :ل إله إل ال.
وقال الوزاعي :كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى َ { :وقُولُوا حِطّةٌ }
__________
( )1في جـ " :بلدهم".
( )2في جـ " :أي ركعا".
( )3تفسير الطبري ( )2/113والمستدرك ( )2/262وتفسير ابن أبي حاتم (.)1/182
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/274
( )1/275
وقال عبد الرزاق :أنبأنا معمر ،عن َهمّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول :قال رسول ال
حطّةٌ َن ْغفِرْ َلكُمْ
سجّدًا َوقُولُوا ِ
صلى ال عليه وسلم " :قال ال لبني إسرائيل { :وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ
خطَايَاكُمْ } فبدلوا ،ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم ،فقالوا :حبة في شعرة (." )1
َ
وهذا حديث صحيح ،رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ،ومسلم عن محمد بن رافع .والترمذي
عن عبد بن حميد ،كلهم عن عبد الرزاق ،به ( .)2وقال الترمذي :حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق :كان تبديلهم ( )3كما حدثني صالح بن كيسان ،عن صالح مولى
التوأمة ،عن أبي هريرة ،وعمن ل أتهم ،عن ابن عباس :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال " :دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا -يزحفون على أستاههم ،وهم يقولون :
حنطة في شعيرة" (.)4
وقال أبو داود :حدثنا أحمد بن صالح ،وحدثنا سليمان بن داود ،حدثنا عبد ال بن وهب ،حدثنا
هشام بن سعد ،عن زيد بن أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال عنه
،عن النبي صلى ال عليه وسلم " :قال ال لبني إسرائيل { :ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ
خطَايَاكُمْ } ثم قال أبو داود :حدثنا جعفر بن مسافر ،حدثنا ابن أبي فديك ،عن هشام
َن ْغفِرْ َل ُكمْ َ
بن سعد ،مثله (.)6( )5
هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا.
وقال ابن مردويه :حدثنا عبد ال بن جعفر ،حدثنا إبراهيم بن مهدي ،حدثنا أحمد بن محمد بن
المنذر القَزّاز ،حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ،عن ( )7هشام بن سعد ،عن زيد بن
أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن أبي سعيد الخدري ،قال :سرنا مع رسول ال صلى ال عليه
وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ،أجَزْنا في ثنية ( )8يقال لها :ذات الحنظل ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ما مثل هذه الثنية الليلة إل كمثل الباب الذي قال ال لبني إسرائيل :
خطَايَاكُمْ } (.)9
{ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ َنغْفِرْ َلكُمْ َ
س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ } [البقرة :
وقال سفيان الثوري ،عن أبي إسحاق ،عن البراء { :سَ َيقُولُ ال ّ
]142قال اليهود :قيل لهم :ادخلوا الباب سجدًا ،قال :ركعًا ،وقولوا :حطة :أي مغفرة ،
فدخلوا على
__________
( )1في جـ ،ط " :شعيرة".
( )2صحيح البخاري برقم ( )4641وصحيح مسلم برقم ( )3015وسنن الترمذي برقم (.)2956
( )3في جـ ،ط " :يتذيلهم".
( )4ورواه الطبراني في تفسيره ( )2/112عن محمد بن إسحاق ،عن صالح بن كيسان ،عن
أبي هريرة ،عن محمد بن أبي محمد ،عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس.
( )5في جـ " :بمثله".
( )6سنن أبي داود برقم (.)4006
( )7في جـ " :حدثنا".
( )8في جـ " :ضربة".
( )9ورواه البزار في مسنده برقم ( )1812عن إسحاق بن بهلول ،عن محمد بن إسماعيل بن
أبي فديك به نحوه ،وقال الهيثمي في المجمع (" : )6/144رجاله ثقات".
( )1/276
أستاههم ،وجعلوا يقولون :حنطة حمراء فيها شعيرة ( ، )1فذلك قول ال تعالى { :فَبَ ّدلَ الّذِينَ
ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ }.
وقال الثوري ،عن السدي ،عن أبي سعد الزدي ،عن أبي الكَنود ،عن ابن مسعود َ { :وقُولُوا
حطّةٌ } فقالوا :حنطة حبة حمراء فيها شعيرة ( ، )2فأنزل ال { :فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ
ِ
الّذِي قِيلَ َلهُمْ }
وقال أسباط ،عن السدي ،عن مرة ،عن ابن مسعود أنه قال :إنهم قالوا ُ " :هطّي سمعاتا أزبة
مزبا" فهي بالعربية :حبة حنطة حمراء مثقوبة ( )3فيها شعرة سوداء ،فذلك قوله { :فَ َب ّدلَ الّذِينَ
ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ }
وقال الثوري ،عن العمش ،عن المنهال ،عن سعيد ،عن ابن عباس في قوله { :ادْخُلُوا الْبَابَ
سجّدًا } ركعًا من باب صغير ،فدخلوا ( )4من قبل أستاههم ،وقالوا :حنطة ،فهو قوله تعالى :
ُ
{ فَ َب ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ }
وهكذا روي عن عطاء ،ومجاهد ،وعكرمة ،والضحاك ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،
ويحيى بن رافع.
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر ( )5ال لهم من الخضوع بالقول
والفعل ،فأمروا أن يدخلوا سجدًا ،فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي
رؤوسهم ،وأمروا أن يقولوا :حطة ،أي :احطط عنا ذنوبنا ،فاستهزؤوا فقالوا :حنطة في
شعرة ( .)6وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل ال بهم بأسه وعذابه
سمَاءِ ِبمَا
علَى الّذِينَ ظََلمُوا ِرجْزًا مِنَ ال ّ
بفسقهم ،وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال { :فَأَنزلْنَا َ
سقُونَ }
كَانُوا َيفْ ُ
وقال الضحاك عن ابن عباس :كل شيء في كتاب ال من "الرّجْز" يعني به العذاب.
وهكذا روي عن مجاهد ،وأبي مالك ،والسدي ،والحسن ،وقتادة ،أنه العذاب .وقال أبو العالية
:الرجز الغضب .وقال الشعبي :الرجز :إما الطاعون ،وإما البرد .وقال سعيد بن جبير :هو
الطاعون.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا َوكِيع ،عن ( )7سفيان ،عن حبيب بن أبي
ثابت ،عن إبراهيم بن سعد -يعني ابن أبي وقاص -عن سعد بن مالك ،وأسامة بن زيد ،
وخزيمة بن ثابت ،رضي ال عنهم ،قالوا :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الطاعون
رجْز عذاب عُذّب ( )8به من كان
__________
( )1في جـ " :شعرة".
( )2في جـ " :شعرة".
( )3في جـ " :منقوشة".
( )4في جـ " :يدخلون".
( )5في جـ " :بدلوا ما أمر".
( )6في جـ ،أ " :شعيرة".
( )7في جـ " :حدثنا".
( )8في أ " :عذب ال".
( )1/277
سقَى مُوسَى ِلقَ ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنًا َقدْ عَلِمَ ُكلّ
وَإِذِ اسْ َت ْ
أُنَاسٍ مَشْرَ َب ُهمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّ ِه وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ ()60
قبلكم" (.)1
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به ( .)2وأصل الحديث في الصحيحين من حديث
حبيب بن أبي ثابت " :إذا سمعتم بالطاعون بأرض فل تدخلوها" الحديث (.)3
قال ( )4ابن جرير :أخبرني يونس بن عبد العلى ،عن ابن وهب ،عن يونس ،عن الزهري ،
قال :أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص ،عن أسامة بن زيد عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،قال " :إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذّب به بعض المم قبلكم" ( .)5وهذا الحديث أصله
مخرّج في الصحيحين ،من حديث الزهري ،ومن حديث مالك ،عن محمد بن المُنكَدِر ،وسالم
أبي النضر ،عن عامر بن سعد ،بنحوه (.)6
علِمَ ُكلّ
عشْ َرةَ عَيْنًا قَدْ َ
حجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ
سقَى مُوسَى ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َ
{ وَإِذِ اسْتَ ْ
أُنَاسٍ مَشْرَ َب ُهمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّ ِه وَل َتعْ َثوْا فِي ال ْرضِ ُمفْسِدِينَ (} )60
يقول تعالى :واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى ،عليه السلم ،حين استسقاني لكم ،
حجَر يُحمل معكم ،وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي
وتيسيري لكم الماء ،وإخراجه لكم من َ
عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ،فكلوا من المن والسلوى ،واشربوا من هذا
الماء الذي أنبعته لكم بل سعي منكم ول كد ،واعبدوا الذي سخر لكم ذلك { .وَل َتعْ َثوْا فِي
ال ْرضِ ُمفْسِدِينَ } ول تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها .وقد بسطه المفسرون في كلمهم ،كما
جعِل بين ظهرانيهم حجر مربّع وأمر موسى ،عليه السلم ،فضربه بعصاه ،
قال ابن عباس :و ُ
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ،في كل ناحية منه ثلث ( )7عيون ،وأعلم كل سبط عينهم ،
يشربون منها ل يرتحلون من مَ ْنقَلَة إل وجدوا ذلك معهم ( )8بالمكان الذي كان منهم بالمنزل
الول.
وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي ،وابن جرير ،وابن أبي حاتم ،وهو حديث الفتون
الطويل (.)9
وقال عطية العوفي :وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور ،فإذا نزلوا منزل وضعوه
فضربه موسى بعصاه ،فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ،فإذا ساروا حملوه على ثور ،فاستمسك
الماء.
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم (.)1/186
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)7523
( )3صحيح البخاري برقم ( )5728وصحيح مسلم برقم (.)2218
( )4في جـ " :وقال".
( )5تفسير الطبري (.)2/116
( )6صحيح البخاري برقم ( )6974 ، 3473وصحيح مسلم برقم (.)2218
( )7في جـ " :ثلثة".
( )8في جـ " :ذلك منهم".
( )9سيأتي بطوله في تفسير سورة طه.
( )1/278
طعَا ٍم وَاحِدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الْأَ ْرضُ مِنْ َبقِْلهَا
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ
سهَا وَ َبصَِلهَا قَالَ أَتَسْتَ ْبدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْ ِبطُوا ِمصْرًا فَإِنّ
َوقِثّا ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَ َد ِ
ضبٍ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا َي ْكفُرُونَ بِآَيَاتِ
سكَنَ ُة وَبَاءُوا ِب َغ َ
علَ ْيهِمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ
َلكُمْ مَا سَأَلْتُ ْم َوضُرِ َبتْ َ
صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ ()61
ع َ
اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ
وقال عثمان بن عطاء الخراساني ،عن أبيه :كان لبني إسرائيل حجر ،فكان يضعه هارون
ويضربه موسى بالعصا.
وقال قتادة :كان حجرًا طوريًا ،من الطور ،يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه.
[وقال الزمخشري :وقيل :كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع ،وقيل :مثل رأس النسان ،
وقيل :كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى .وله شعبتان تتقدان في الظلمة
وكان يحمل على حمار ،قال :وقيل :أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه ،حتى وقع إلى شعيب
فدفعه إليه مع العصا ،وقيل :هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ،فقال له جبريل :
ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة ،فحمله في مخلته .قال الزمخشري :ويحتمل أن
تكون اللم للجنس ل للعهد ،أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ،وعن الحسن لم يأمره أن
يضرب حجرًا بعينه ،قال :وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه
فينفجر ثم يضربه فييبس ،فقالوا :إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا ،فأوحى ال إليه أن يكلم
الحجارة فتنفجر ول يمسها بالعصا لعلهم يقرون] (.)1
وقال يحيى بن النضر :قلت لجويبر :كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال :كان موسى يضع
الحجر ،ويقوم من كل سبط رجل ،ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا فينضح
من كل عين على رجل ،فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.
وقال الضحاك :قال ابن عباس :لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارًا.
وقال سفيان الثوري ،عن أبي سعيد ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :ذلك في التيه ،
ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه ( )2اثنتا عشرة عينًا من ماء ،لكل سِبْط منهم عين يشربون
منها.
وقال مجاهد نحو قول ابن عباس.
وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة العراف ،ولكن تلك مكية ،فلذلك كان الخبار
عنهم بضمير الغائب ؛ لن ال تعالى يقص ذلك ( )3على رسوله صلى ال عليه وسلم عما فعل
بهم .وأما في هذه السورة ،وهي البقرة فهي ( )4مدنية ؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم.
ستْ مِ ْنهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنًا } [العراف ]160 :وهو أول النفجار ،
جَوأخبر هناك بقوله { :فَانْبَ َ
وأخبر هاهنا بما آل إليه المر ( )5آخرًا وهو النفجار فناسب ذكر النفجار ( )6هاهنا ،وذاك
هناك ،وال أعلم.
وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره وأجاب عنها
بما عنده ،والمر في ذلك قريب وال تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه.
حدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ ال ْرضُ مِنْ َبقِْلهَا
طعَا ٍم وَا ِ
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ
سهَا وَ َبصَِلهَا قَالَ أَتَسْتَ ْبدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْ ِبطُوا ِمصْرًا فَإِنّ
َوقِثّا ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَ َد ِ
َلكُمْ مَا سَأَلْتُمْ }
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2في جـ " :منه".
( )3في جـ " :نص هنالك".
( )4في و " :فإنها".
( )5في جـ ،و " :الحال".
( )6في جـ " :ذكر هذا".
( )1/279
يقول تعالى :واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ،طعامًا طيبًا نافعًا هنيئًا
سهل واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم ( )1وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالطعمة الدنيّة من
البقول ونحوها مما سألتم .وقال الحسن البصري رحمه ال :فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ،
وذكروا عيشهم ( )2الذي كانوا فيه ،وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ،فقالوا { :يَا
حدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ ال ْرضُ مِنْ َبقْلِهَا َوقِثّا ِئهَا
طعَا ٍم وَا ِ
علَى َ
مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ َ
سهَا وَ َبصَِلهَا } [وهم يأكلون المن والسلوى ،لنه ل يتبدل ول يتغير كل يوم فهو
َوفُو ِمهَا وَعَدَ ِ
كأكل واحد] ( .)3فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة .وأما "الفوم" فقد اختلف السلف
في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود "وثومها" بالثاء ،وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي
سليم ،عنه ،بالثوم .وكذا الربيع بن أنس ،وسعيد بن جبير.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عمرو بن رافع ،حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق
البصري ،عن يونس ،عن الحسن ،في قوله َ { :وفُو ِمهَا } قال :قال ابن عباس :الثوم.
قالوا :وفي اللغة القديمة َ :ف ّومُوا لنا بمعنى :اختبزوا .وقال ابن جرير :فإن كان ذلك صحيحًا ،
فإنه من الحروف المبدلة كقولهم :وقعوا في "عاثُور شَرّ ،وعافور شر ،وأثافي وأثاثي ،
ومغافير ومغاثير" .وأشباه ( )4ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ،وال أعلم.
وقال آخرون :الفوم الحنطة ،وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا يونس بن عبد العلى قراءة ،أنبأنا ابن وهب قراءة ،حدثني نافع بن
أبي نعيم :أن ابن عباس سئِل عن قول ال َ { :وفُو ِمهَا } ما فومها ؟ قال :الحنطة .قال ابن
عباس :أما سمعت قول أحيحة بن الجلح وهو يقول :
قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا ...وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم ()5
وقال ابن جرير :حدثنا علي بن الحسن ،حدثنا مسلم الجرمي ،حدثنا عيسى بن يونس ،عن
رشدين بن كُرَيْب ،عن أبيه ،عن ابن عباس ،في قول ال تعالى َ { :وفُو ِمهَا } قال :الفوم
الحنطة بلسان بني هاشم.
__________
( )1في جـ " :مما رزقناكم".
( )2في جـ " :شيمهم".
( )3زيادة من جـ.
( )4في و " :وما أشبه".
( )5البيت في تفسير الطبري (.)2/129
( )1/280
وكذا قال علي بن أبي طلحة ،والضحاك ( )1وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم :الحنطة.
وقال سفيان الثوري ،عن ابن جُرَيْج ،عن مجاهد وعطاء َ { :وفُو ِمهَا } قال وخبزها.
وقال ُهشَيْم عن يونس ،عن الحسن ،وحصين ،عن أبي مالك َ { :وفُو ِمهَا } قال :الحنطة.
وهو قول عكرمة ،والسدي ،والحسن البصري ،وقتادة ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،
وغيرهم ،وال أعلم (.)2
[وقال الجوهري :الفوم :الحنطة .وقال ابن دريد :الفوم :السنبلة ،وحكى القرطبي عن عطاء
وقتادة أن الفوم كل حب يختبز .قال :وقال بعضهم :هو الحمص لغة شامية ،ومنه يقال لبائعه :
فامي مغير عن فومي] (.)3
وقال البخاري :وقال بعضهم :الحبوب التي تؤكل كلها فوم.
وقوله تعالى { :قَالَ أَتَسْتَبْ ِدلُونَ الّذِي ُهوَ َأدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ } فيه تقريع لهم وتوبيخ ( )4على ما
سألوا من هذه الطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد ،والطعام الهنيء الطيب النافع.
وقوله { :اهْبِطُوا ِمصْرًا } هكذا هو منون مصروف مكتوب باللف في المصاحف الئمة
العثمانية ،وهو قراءة الجمهور بالصرف.
قال ابن جرير :ول أستجيز ( )5القراءة بغير ذلك ؛ لجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عباس { :اهْبِطُوا ِمصْرًا } قال :مصرًا من المصار ،رواه ابن أبي حاتم ،من حديث
أبي سعيد ( )6البقال سعيد بن المرزبان ،عن عكرمة ،عنه.
قال :وروي عن السدي ،وقتادة ،والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال ابن جرير :وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود " :اهبطوا مصر" من غير إجراء
يعني من غير صرف .ثم روى عن أبي العالية ،والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر
فرعون.
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ،وعن العمش أيضًا.
وقال ابن جرير :ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الجراء أيضًا .ويكون ذلك
من باب التباع لكتابة المصحف ،كما في قوله تعالى َ { :قوَارِيرَا * َقوَارِيرَا } [النسان ، 15 :
.]16ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من المصار ؟
وهذا الذي قاله فيه نظر ،والحق أن المراد مصر من المصار كما روي عن ابن عباس وغيره ،
__________
( )1في ط " :عن الضحاك".
( )2في جـ ،ط ،أ ،و " :فال أعلم".
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )4في جـ " :وتوبيخ لهم".
( )5في أ " :ول أستحسن".
( )6في جـ " :أبي سعد".
( )1/281
والمعنى على ذلك لن موسى ،عليه السلم يقول لهم :هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ،بل هو
كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ،فليس يساوي مع دناءته وكثرته في المصار أن أسأل ال فيه
؛ ولهذا قال { :أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا ِمصْرًا فَإِنّ َلكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي :
ما طلبتم ،ولما كان سؤالهم ( )1هذا من باب البطر والشر ول ضرورة فيه ،لم يجابوا إليه ،
وال أعلم
ضبٍ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ
سكَنَةُ وَبَاءُوا ِب َغ َ
{ َوضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ
صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ (} )61
ع َ
وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ
سكَنَةُ } أي :وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا ،
يقول تعالى َ { :وضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ
أي :ل يزالون مستذلين ،من وجدهم استذلهم وأهانهم ،وضرب عليهم الصغار ،وهم مع ذلك
في أنفسهم أذلء متمسكنون (.)2
سكَنَةُ } قال :هم أصحاب
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله َ { :وضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ
النيالت ( )3يعني أصحاب الجزية.
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن الحسن وقتادة ،في قوله تعالى َ { :وضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ } قال :
يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ( ، )4وقال الضحاك َ { :وضُرِبَتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ } قال :
الذل .وقال الحسن :أذلهم ال فل منعة لهم ،وجعلهم ال تحت أقدام المسلمين .ولقد أدركتهم هذه
المة وإن المجوس لتجبيهم الجزية.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي :المسكنة الفاقة .وقال عطية العوفي :الخراج .وقال
الضحاك :الجزية.
ضبٍ مِنَ اللّهِ } قال الضحاك :استحقوا الغضب من ال ،وقال الربيع
وقوله تعالى { :وَبَاءُوا ِب َغ َ
بن أنس :فح َدثَ عليهم غضب من ال .وقال سعيد بن جبير { :وَبَاءُوا ِب َغضَبٍ مِنَ اللّهِ } يقول :
ضبٍ مِنَ اللّهِ } انصرفوا ورجعوا ،
استوجبوا سخطًا ،وقال ابن جرير :يعني بقوله { :وَبَاءُوا ِب َغ َ
ول يقال :باؤوا إل موصول إما بخير وإما بشر ،يقال منه :باء فلن بذنبه يبوء به َبوْءًا وبواء.
ومنه قوله تعالى { :إِنّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ } [المائدة ]29 :يعني :تنصرف متحملهما
وترجع بهما ،قد صارا عليك دوني .فمعنى الكلم إذًا :فرجعوا منصرفين متحملين غضب ال ،
قد صار عليهم من ال غضب ،ووجب عليهم من ال سخط.
حقّ } يقول تعالى :
وقوله تعالى { :ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَانُوا َيكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ الْ َ
__________
( )1في جـ ،ط " :كان سألهم".
( )2في جـ " :مستذلين" ،وفي ط ،أ ،و " :مستكينين".
( )3في جـ ،طـ ،و " :القبالت" ،وفي أ " :السالت".
( )4تفسير عبد الرزاق (.)69 /1
( )1/282
هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ،وإحلل الغضب بهم ( )1بسبب استكبارهم عن اتباع
الحق ،وكفرهم بآيات ال ،وإهانتهم حملة الشرع وهم النبياء وأتباعهم ،فانتقصوهم إلى ( )2أن
أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ،فل كبْر أعظم من هذا ،أنهم كفروا بآيات ال وقتلوا أنبياء ال
بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
غمْط الناس" (.)3
"الكبر بَطَر الحق ،و َ
وقال المام أحمد :حدثنا إسماعيل ،عن ابن عون ،عن عمرو بن سعيد ،عن حميد بن عبد
الرحمن ،قال :قال ابن مسعود :كنت ل أحجب عن النّجْوى ،ول عن كذا ول عن كذا قال :
فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ،فأدركته ( )4من آخر
حديثه ،وهو يقول :يا رسول ال ،قد قسم لي من الجمال ما ترى ،فما أحب أن أحدًا من الناس
َفضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال " :ل ليس ذلك من البغي ،ولكن البغي
مَنْ بطر -أو قال :سفه الحق -وغَمط الناس" .يعني :رد الحق وانتقاص الناس ،والزدراء
بهم والتعاظم عليهم .ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات ال وقتل أنبيائهم ،
أحل ال بهم بأسه الذي ل يرد ،وكساهم ذل في الدنيا موصول بذل الخرة جزاء وفاقًا (.)5
قال أبو داود الطيالسي :حدثنا شعبة ،عن العمش ،عن إبراهيم ،عن أبي معمر ،عن عبد ال
بن مسعود ،قال :كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ،ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر
النهار.
وقد قال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد ،حدثنا أبان ،حدثنا عاصم ،عن أبي وائل ،عن عبد
ال -يعني ابن مسعود -أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :أشد الناس عذابًا يوم القيامة
رجل قتله نبي ،أو قتل نبيًا ،وإمام ضللة وممثل من الممثلين" (.)6
صوْا َوكَانُوا َيعْ َتدُونَ } وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ،
ع َ
وقوله تعالى { :ذَِلكَ ِبمَا َ
أنهم كانوا يعصون ويعتدون ،فالعصيان فعل المناهي ،والعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه
أو المأمور به .وال أعلم.
__________
( )1في جـ " :عليهم".
( )2في جـ ،ط ،أ ،و " :حتى".
( )3رواه مسلم في صحيحه برقم ( )91من حديث عبد ال بن مسعود رضي ال عنه.
( )4في جـ ،ط " :قال فأدركت".
( )5المسند (.)1/385
( )6المسند (.)1/407
( )1/283
ع ِملَ صَالِحًا
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ َ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ (} )62
فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ
لما بين [ال] ( )1تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ،وتعدى في فعل ما ل إذن فيه
وانتهك المحارم ،وما أحلّ بهم من النكال ،نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من المم السالفة وأطاع
،فإن له جزاء الحسنى ،وكذلك المر إلى قيام الساعة ؛ ُكلّ من اتبع الرسول النبي المي فله
السعادة البدية ،ول خوف عليهم فيما يستقبلونه ،ول هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ،
علَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ } [يونس ]62 :وكما تقول
خ ْوفٌ َ
كما قال تعالى { :أَل إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ ل َ
الملئكة للمؤمنين عند الحتضار في قوله { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنزلُ عَلَ ْيهِمُ
ا ْلمَل ِئكَةُ أَل تَخَافُوا وَل تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت .]30 :
قال ( )2ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي عمر العَدني ،حدثنا سفيان ،عن ابن أبي
نَجِيح ،عن مجاهد ،قال :قال سلمان :سألت النبي صلى ال عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم
،فذكرتُ من صلتهم وعبادتهم ،فنزلت { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ
مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } إلى آخر الية.
وقال السدي { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ
ل صَالِحًا } الية :نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ،بينا هو يحدث النبي صلى ال عليه
عمِ َ
وَ َ
وسلم إذْ ذكر أصحابه ،فأخبره خبرهم ،فقال :كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ،
ويشهدون ( )3أنك ستبعث نبيًا ،فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ،قال له نبي ال صلى ال عليه
وسلم " :يا سلمان ،هم من أهل النار" .فاشتد ذلك على سلمان ،فأنزل ال هذه الية ،فكان إيمان
اليهود :أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ،عليه السلم ؛ حتى جاء عيسى .فلما جاء عيسى
كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ،فلم يدعها ولم يتبع عيسى ،كان هالكًا .وإيمان
النصارى أن ( )4من تمسك بالنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبول منه حتى جاء محمد
صلى ال عليه وسلم ،فمن لم يتبعْ محمدًا صلى ال عليه وسلم منهم ويَ َدعْ ( )5ما كان عليه من
سنة عيسى والنجيل -كان هالكا.
وقال ابن أبي حاتم :وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا.
قلت :وهذا ل ينافي ما روى عَليّ بن ( )6أبي طلحة ،عن ابن عباس { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ
هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } الية فأنزل ال بعد ذلك َ { :ومَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ السْلمِ دِينًا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِ ْن ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران .]85 :
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في جـ " :وقال".
( )3في جـ " :ويشهدوا".
( )4في أ " :أنه".
( )5في أ " :ولم يدع".
( )6في جـ " :عن ابن".
( )1/284
فإن هذا الذي قاله [ابن عباس] ( )1إخبار عن أنه ل يقبل من أحد طريقة ول عمل إل ما كان
موافقًا لشريعة محمد صلى ال عليه وسلم بعد أن بعثه [ال] ( )2بما بعثه به ،فأما قبل ذلك فكل
من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ،فاليهود أتباع موسى ،عليه السلم ،
الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ،عليه السلم { :إِنّا ُهدْنَا
إِلَ ْيكَ } [العراف ]156 :أي :تبنا ،فكأنهم سموا بذلك في الصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم
لبعض.
[وقيل :لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولد يعقوب عليه السلم ،وقال أبو عمرو بن العلء :لنهم
يتهودون ،أي :يتحركون عند قراءة التوراة] (.)3
فلما بعث عيسى صلى ال عليه وسلم ( )4وجب على بني إسرائيل اتباعه والنقياد له ،فأصحابه
وأهل دينه هم النصارى ،وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ،وقد يقال لهم :أنصار أيضًا ،كما
حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ } [آل عمران
قال عيسى ،عليه السلم { :مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ
سمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة ،قاله قتادة وابن
]52 :وقيل :إنهم إنما ُ
جُرَيج ،وروي عن ابن عباس أيضًا ،وال أعلم.
والنصارى :جمع نصران ( )5كنشاوى جمع نشوان ،وسكارى جمع سكران ،ويقال للمرأة :
نصرانة ،قال الشاعر :
نصرانة لم تَحَ ّنفِ ()6
فلما بعث ال محمدًا صلى ال عليه وسلم خاتمًا للنبيين ،ورسول إلى بني آدم على الطلق ،
وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر ،وطاعته فيما أمر ،والنكفاف عما عنه زجر .وهؤلء هم
المؤمنون [حقا] ( .)7وسميت أمة محمد صلى ال عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ،
ولنهم يؤمنون بجميع النبياء الماضية والغيوب التية .وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال
سفيان الثوري ،عن ليث بن أبي سليم ،عن
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2زيادة من أ.
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )4في جـ " :عليه السلم".
( )5في جـ " :نصراني".
( )6البيت في تفسير الطبري ( )2/144وهو لبي الخز الحماني ،وهذا جزء منه وهو بتمامه :
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ...كما سجدت نصرانة لم تحنف
( )7زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )1/285
مجاهد ،قال :الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ،ليس لهم دين .وكذا رواه ابن
أبي نجيح ،عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس ،والسدي ،وأبو الشعثاء جابر بن زيد ،والضحاك [وإسحاق بن
راهويه] ( )1الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور.
[ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق :ل بأس بذبائحهم ومناكحتهم] (.)2
وقال هشيم عن مطرف :كنا عند الحكم بن عتيبة ( )3فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن
أنه كان يقول في الصابئين :إنهم كالمجوس ،فقال الحكم :ألم أخبركم بذلك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي ،عن معاوية بن عبد الكريم :سمعت الحسن ذكر الصابئين ،فقال :
هم قوم يعبدون الملئكة.
[وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد العلى ،حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ،عن الحسن
قال :أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس .قال :فأراد أن يضع عنهم
الجزية .قال :فخبر بعد أنهم يعبدون الملئكة] (.)4
وقال أبو جعفر الرازي :بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملئكة ،ويقرؤون الزبور ،ويصلون
إلى القبلة.
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني ابن أبي الزناد ،
عن أبيه ،قال :الصابئون قوم مما يلي العراق ،وهم بكوثى ،وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ،
ويصومون من كل سنة ثلثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات.
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ،فقال :الذي يعرف ال وحده ،وليست له شريعة يعمل بها
ولم يحدث كفرًا.
وقال عبد ال بن وهب :قال عبد الرحمن بن زيد :الصابئون أهل دين من الديان ،كانوا
بجزيرة الموصل يقولون :ل إله إل ال ،وليس لهم عمل ول كتاب ول نبي إل قول :ل إله إل
ال ،قال :ولم يؤمنوا برسول ،فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى ال عليه وسلم
وأصحابه :هؤلء الصابئون ،يشبهونهم بهم ،يعني في قول :ل إله إل ال.
وقال الخليل ( )5هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ،إل أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ،يزعمون
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في جـ " :عيينة".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5في أ " :الخدري".
( )1/286
وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (ُ )63ثمّ
حمَتُهُ َلكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ()64
ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ وَرَ ْ
َتوَلّيْتُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ فََلوْلَا َف ْ
أنهم على دين نوح ،عليه السلم .وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح :أنهم قوم
تركب دينهم بين اليهود والمجوس ،ول تؤكل ذبائحهم ،قال ابن عباس :ول تنكح نساؤهم .قال
القرطبي :والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير
النجوم ،وأنهم فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الصطخري بكفرهم للقادر بال حين سأله عنهم ،
واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن ال جعلها قبلة للعبادة
والدعاء ،أو بمعنى أن ال فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ،قال :وهذا القول هو المنسوب إلى
الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ،عليه السلم ،رادًا عليهم ومبطل لقولهم.
وأظهر القوال ،وال أعلم ،قول مجاهد ومتابعيه ،ووهب بن منبه :أنهم قوم ليسوا على دين
اليهود ول النصارى ول المجوس ول المشركين ،وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ول دين
مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ،أي :أنه قد خرج
عن سائر أديان أهل الرض إذ ذاك.
وقال بعض العلماء :الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ،وال أعلم.
خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِبقُ ّو ٍة وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ ()63
خذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْوقَكُمُ الطّورَ ُ
{ وَإِذْ أَ َ
حمَتُهُ َلكُنْ ُتمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (} )64
ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ
ثُمّ َتوَلّيْتُمْ مِنْ َبعْدِ َذِلكَ فََلوْل َف ْ
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق باليمان به وحده ل شريك له
واتباع رسله ،وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما
عوهدوا عليه ،ويأخذوه ( )1بقوة وحزم وهمة وامتثال ( )2كما قال تعالى { :وَإِذْ نَ َتقْنَا ا ْلجَ َبلَ
ظلّ ٌة وَظَنّوا أَنّ ُه وَاقِعٌ ِبهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَا ُكمْ ِب ُقوّ ٍة وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } [العراف
َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ ُ
]171 :الطور هو الجبل ،كما فسره بآية ( )3العراف ،ونص على ذلك ابن عباس ،
ومجاهد ،وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس ،وغير واحد ،وهذا ظاهر (.)4
وفي رواية عن ابن عباس :الطور ما أنبت من الجبال ،وما لم ينبت فليس بطور.
وفي حديث الفتون :عن ابن عباس :أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا
[فسجدوا] (.)5
وقال السدي :فلما أبوا أن يسجدوا أمر ال الجبل أن يقع عليهم ،فنظروا إليه وقد غشيهم ،
__________
( )1في جـ ،ط " :فأخذوه".
( )2في أ " :امتثال أمر".
( )3في جـ ،ط " :فسرنا به آية".
( )4في ط " :وهذا الظاهر".
( )5زيادة من جـ.
( )1/287
فسقطوا سجدًا [فسجدوا] ( )1على شق ،ونظروا بالشق الخر ،فرحمهم ال فكشفه عنهم ،فقالوا
( )2وال ما سجدة أحب إلى ال من سجدة كشف بها العذاب عنهم ،فهم يسجدون كذلك ،وذلك
قوله تعالى { :وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ ( )3الطّورَ }.
خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ } يعني التوراة.
وقال الحسن في قوله ُ { :
وقال أبو العالية ،والربيع بن أنس ِ { :ب ُق ّوةٍ } أي بطاعة .وقال مجاهد :بقوة :بعمل بما فيه.
وقال قتادة { خُذُوا مَا آتَيْنَا ُكمْ ِبقُ ّوةٍ } القوة :الجد وإل قذفته ( )4عليكم.
قال :فأقروا بذلك :أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة .ومعنى قوله :وإل قذفته عليكم ،أي ( )5أسقطه
عليكم ،يعني الجبل.
وقال أبو العالية والربيع { :وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ } يقول :اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.
وقوله تعالى { :ثُمّ َتوَلّيْ ُتمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } يقول تعالى :ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم
حمَتُهُ } أي :توبته ( )6عليكم وإرساله النبيين
ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ
عنه وانثنيتم ونقضتموه { فََلوْل َف ْ
والمرسلين إليكم { َلكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والخرة.
جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا
{ وََلقَدْ عَِلمْتُمُ الّذِينَ اعْ َت َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ ( )65فَ َ
خ ْلفَهَا َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ (} )66
بَيْنَ يَدَ ْيهَا َومَا َ
يقول تعالى { :وََلقَدْ عَِلمْتُمُ } يا معشر اليهود ،ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر ال
وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره ،إذ كان مشروعًا لهم ،
فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت ،بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك
قبل يوم السبت ،فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل ،فلم
تخلص منها يومها ذلك ،فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت .فلما فعلوا ذلك مسخهم ال
إلى صورة القردة ،وهي أشبه شيء بالناسي في الشكل ( )7الظاهر وليست بإنسان حقيقة.
فكذلك أعمال هؤلء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن ،كان
جزاؤهم من جنس عملهم .وهذه القصة مبسوطة في سورة العراف ،حيث يقول تعالى :
{ وَاسْأَ ْل ُهمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْ َبحْرِ إِذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ إِذْ تَأْتِي ِهمْ حِيتَا ُن ُهمْ َيوْمَ سَبْ ِت ِهمْ
سقُونَ } [العراف ] 163 :القصة
شُرّعًا وَ َيوْمَ ل يَسْبِتُونَ ل تَأْتِيهِمْ كَ َذِلكَ نَبْلُوهُمْ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
بكمالها.
__________
( )1زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ " :فقال".
( )3في جـ " :فوقهم" وهو خطأ.
( )4في جـ ،ب ،أ ،و " :دفنته".
( )5في جـ ،ب ،أ ،و " :دفنته إل".
( )6في جـ ،ط ،أ ،و " :أي بتوبته".
( )7في جـ " :بالناسي والشكل".
( )1/288
وقال السدي :أهل هذه القرية هم أهل "أيلة" .وكذا قال قتادة ،وسنورد أقوال المفسرين هناك
مبسوطة إن شاء ال وبه الثقة (.)1
وقوله { :كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو حذيفة ،حدثنا شبل ،
عن ابن أبي نجيح ،عن مجاهد َ { :فقُلْنَا َل ُهمْ كُونُوا قِ َر َدةً خَاسِئِينَ } قال :مسخت قلوبهم ،ولم
سفَارًا } [الجمعة .]5 :
ح ِملُ أَ ْ
حمَارِ َي ْ
يمسخوا قردة ،وإنما هو مثل ضربه ال { َكمَ َثلِ الْ ِ
ورواه ابن جرير ،عن المثنى ،عن أبي ( )2حذيفة .وعن محمد بن عمرو ( )3الباهلي ،عن
أبي عاصم ،عن عيسى ،عن ابن أبي نجيح ،عن مجاهد ،به.
وهذا سند جيد عن مجاهد ،وقول غريب خلف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره ،
ج َعلَ
غضِبَ عَلَيْهِ وَ َ
قال ال تعالى ُ { :قلْ َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ ِبشَرّ مِنْ ذَِلكَ مَثُوبَةً عِ ْندَ اللّهِ مَنْ َلعَنَهُ اللّ ُه وَ َ
مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ } الية [المائدة .]60 :
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس َ { :فقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } فجعل [ال] ( )4منهم
القردة والخنازير .فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير.
وقال شيبان النحوي ،عن قتادة َ { :فقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } فصار القوم قرودًا تعاوى لها
أذناب بعد ما كانوا رجال ونساء.
وقال عطاء الخراساني :نودوا :يا أهل القرية { ،كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } فجعل الذين نهوهم
يدخلون عليهم فيقولون :يا فلن ،ألم ننهكم ؟ فيقولون برؤوسهم ،أي بلى.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ( )5حدثنا عبد ال بن محمد بن ربيعة بالمصيصة ،
حدثنا محمد بن مسلم -يعني الطائفي -عن ابن أبي نجيح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس ،قال :
إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة ُفوَاقا ثم هلكوا .ما كان للمسخ ( )6نسل (.)7
وقال الضحاك ،عن ابن عباس :فمسخهم ال قردة بمعصيتهم ،يقول :إذ ل يحيون في الرض
إل ثلثة أيام ،قال :ولم يعش مسخ قط فوق ثلثة أيام ،ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل .وقد
خلق ال القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها ال ( )8في كتابه ،فمسخ [ال]
( )9هؤلء القوم في صورة القردة ،وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء .ويحوله كما يشاء.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع ،عن أبي العالية في قوله { :كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } قال :
يعني
__________
( )1في أ " :وبه الثقة والعانة".
( )2في جـ " :عن أبو" وهو خطأ.
( )3في جـ ،ب " :بن عمر".
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في جـ ،ط ،ب " :الحسن".
( )6في جـ " :للمسيخ".
( )7تفسير ابن أبي حاتم (.)1/209
( )8في جـ ،ط ،ب " :التي ذكر ال".
( )9زيادة من أ.
( )1/289
( )1/290
حتى يخرجن خراطيمهن من الماء ،فإذا كان يوم الحد لزمن مقل البحر ،فلم ير منهن شيء (
)1حتى يكون يوم السبت ،فذلك قوله تعالى { :وَاسْأَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْرِ إِذْ
َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ إِذْ تَأْتِي ِهمْ حِيتَا ُن ُهمْ َيوْمَ سَبْ ِت ِهمْ شُرّعًا وَ َيوْمَ ل يَسْبِتُونَ ل تَأْتِيهِمْ [ َكذَِلكَ نَبْلُوهُمْ ِبمَا
سقُونَ ] ( .} )2فاشتهى بعضهم السمك ،فجعل الرجل يحفر الحفيرة ،ويجعل لها نهرًا
كَانُوا َيفْ ُ
إلى البحر ،فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ،
فيريد الحوت أن يخرج ،فل يطيق من أجل قلة ماء النهر ،فيمكث فإذا كان يوم الحد جاء فأخذه
،فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره ،فيصنع مثل ما صنع جاره ،حتى
فشا فيهم أكل السمك ،فقال لهم علماؤهم :ويحكم! إنما تصطادون يوم السبت ،وهو ل يحل
لكم ،فقالوا :إنما صدناه يوم الحد حين أخذناه .فقال العلماء ( )3ل ولكنكم صدتموه يوم فتحكم (
)4الماء فدخل ،قال :وغلبوا أن ينتهوا .فقال بعض ( )5الذين نهوهم لبعض { :لِمَ َتعِظُونَ َق ْومًا
اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَذّ ُب ُهمْ عَذَابًا شَدِيدًا } يقول :لم تعظوهم ،وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال
بعضهم َ { :معْذِ َرةً إِلَى رَ ّب ُك ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } [العراف ]164 :فلما أبوا قال المسلمون :وال ل
نساكنكم في قرية واحدة .فقسموا القرية بجدار ،ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السبت بابًا ،
ولعنهم داود ،عليه السلم ،فجعل المسلمون يخرجون من بابهم ،والكفار من بابهم ،فخرج
المسلمون ذات يوم ،ولم يفتح الكفار بابهم ،فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط ،
فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ،ففتحوا عنهم ،فذهبوا في الرض ،فذلك قول ال تعالى :
{ فََلمّا عَ َتوْا عَنْ مَا ُنهُوا عَنْهُ قُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } [العراف ] 166 :وذلك حين يقول :
علَى ِلسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [المائدة .] 78 :فهم
{ ُلعِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ َ
القردة.
قلت :والغرض من هذا السياق عن هؤلء الئمة بيان خلف ما ذهب إليه مجاهد ،رحمه ال ،
من أن مسخهم إنما كان معنويًا ل صوريًا بل الصحيح أنه معنوي صوري ،وال أعلم.
ظةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال بعضهم :الضمير
جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا َومَوْعِ َ
وقوله تعالى { :فَ َ
جعَلْنَاهَا } عائد على القردة ،وقيل :على الحيتان ،وقيل :على العقوبة ،وقيل :على
في { فَ َ
القرية ؛ حكاها ابن جرير.
والصحيح أن الضمير عائد على القرية ،أي :فجعل ال هذه القرية ،والمراد أهلها بسبب
اعتدائهم في سبتهم { َنكَال } أي :عاقبناهم عقوبة ،فجعلناها ( .)6عبرة ،كما قال ال عن
فرعون { :فََأخَ َذهُ اللّهُ َنكَالَ الخِ َر ِة وَالولَى } [النازعات .]25 :
__________
( )1في جـ " :شيئًا" وهو خطأ.
( )2زيادة من جـ.
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الفقهاء".
( )4في أ ،و " :فتحتم له".
( )5في أ " :فقال بعضهم".
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فجعلناهم".
( )1/291
وقوله ِ { :لمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا } أي من القرى .قال ( )1ابن عباس :يعني جعلناها بما أحللنا
حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى
بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى .كما قال تعالى { :وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا مَا َ
جعُونَ } [الحقاف ، ]27 :ومنه قوله تعالى َ { :أوَلَمْ يَ َروْا أَنّا نَأْتِي
َوصَ ّرفْنَا اليَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا } الية [الرعد ، ] 41 :على أحد القوال ،فالمراد :لما بين يديها
ال ْرضَ نَ ْن ُق ُ
وما خلفها في المكان ،كما قال محمد بن إسحاق ،عن داود بن الحصين ،عن عكرمة ،عن ابن
عباس :لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى .وكذا قال سعيد بن جبير { ِلمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا
َومَا خَ ْل َفهَا } [قال] ( )2من بحضرتها من الناس يومئذ.
جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ يَدَيْها [ َومَا
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد ،وقتادة ،وعطية العوفي َ { :ف َ
خَ ْل َفهَا] } ( )3قال :ما [كان] ( )4قبلها من الماضين في شأن السبت.
وقال أبو العالية والربيع وعطية َ { :ومَا خَ ْل َفهَا } لما ( )5بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل
أن يعملوا مثل عملهم.
وكان هؤلء يقولون :المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان.
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم ،وأما
بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلم أن تفسر الية به وهو أن يكون
عبرة لمن سبقهم ؟ هذا لعل أحدًا من الناس ل يقوله بعد تصوره ،فتعين أن المراد بما بين يديها
وما خلفها في المكان ،وهو ما حولها من القرى ؛ كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ،وال
أعلم.
جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا } أي :
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع عن أبي العالية َ { :ف َ
عقوبة لما خل من ذنوبهم.
وقال ابن أبي حاتم ( )6وروى عن عكرمة ،ومجاهد ،والسدي ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن
أنس ،نحو ذلك.
وحكى القرطبي ،عن ابن عباس والسدي ،والفراء ،وابن عطية { ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا } بين ذنوب
القوم { َومَا خَ ْل َفهَا } لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب ،وحكى فخر الدين ثلثة أقوال :
أحدها :أن المراد بما بين يديها وما خلفها :من تقدمها من القرى ،بما عندهم من العلم بخبرها ،
بالكتب المتقدمة ومن بعدها.
الثاني :المراد بذلك من بحضرتها من القرى والمم.
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :قاله".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :لمن".
( )6في أ " :وقال ابن أبي جرير".
( )1/292
خذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ
وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً قَالُوا أَتَتّ ِ
مِنَ الْجَاهِلِينَ ()67
والثالث :أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده ،قال :وهذا قول
الحسن .قلت :وأرجح القوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها :من بحضرتها من القرى التي
حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى َوصَ ّرفْنَا اليَاتِ َلعَّلهُمْ
يبلغهم خبرها ،وما حل بها ،كما قال { :وََلقَدْ َأهَْلكْنَا مَا َ
عةٌ َأوْ
جعُونَ } [الحقاف ]27 :وقال تعالى { :وَل يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا ُتصِي ُبهُمْ ِبمَا صَ َنعُوا قَارِ َ
يَرْ ِ
صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا }
حلّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } [الرعد ، ]31 :وقال { َأفَل يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي ال ْرضَ نَ ْن ُق ُ
تَ ُ
[النبياء ، ] 44 :فجعلهم عبرة ونكال لمن في زمانهم ،وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر
عنهم ،ولهذا قال َ { :و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ }
وقوله تعالى َ { :و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال محمد بن إسحاق ،عن داود بن الحصين ،عن عكرمة ،
عن ابن عباس َ { :و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
وقال الحسن وقتادة َ { :و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } بعدهم ،فيتقون نقمة ال ،ويحذرونها.
ظةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال :أمة محمد صلى ال عليه وسلم.
وقال السدي ،وعطية العوفي َ { :ومَوْعِ َ
قلت :المراد بالموعظة هاهنا الزاجر ،أي :جعلنا ما أحللنا بهؤلء من البأس والنكال في مقابلة
ما ارتكبوه من محارم ال ،وما تحيلوا به من الحيل ،فليحذر المتقون صنيعهم لئل يصيبهم ما
أصابهم ،كما قال المام أبو عبد ال بن بطة :حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ،حدثنا الحسن بن
محمد بن الصباح الزعفراني ،حدثنا يزيد بن هارون ،حدثنا محمد بن عمرو [عن أبي سلمة] (
)1عن أبي هريرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل ترتكبوا ما ارتكب ( )2اليهود ،
فتستحلوا محارم ال بأدنى الحيل" (.)3
وهذا إسناد جيد ،وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ،وباقي
رجاله مشهورون على شرط الصحيح .وال أعلم.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً قَالُوا أَتَتّخِذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ
مِنَ الْجَاهِلِينَ (} )67
يقول تعالى :واذكروا -يا بني إسرائيل -نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة ،
وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء ال المقتول ،ونصه على من قتله منهم[ .مسألة البل تنحر
والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل :تذبح ،وقيل :تنحر ،والذبح أولى لنص القرآن ولقرب
منحرها من مذبحها .قال ابن المنذر :ول أعلم خلفا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح ،
غير أن مالكا كره ذلك .وقد يكره النسان ما ل يحرم ،وقال أبو عبد ال :أعلم أن نزول قصة
البقرة على موسى ،
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :ما ارتكبت".
( )3جزء الخلع وإبطال الحيل لبن بطة (ص .)24
( )1/293
( )1/294
ذلك ،فقالوا { :أَتَتّخِذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا
مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة ل فَا ِرضٌ } يعني :ل هرمة { وَل ِبكْرٌ } يعني :ول صغيرة
عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ } أي :نصف بين البكر والهرمة { قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ
{ َ
صفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } أي :صاف لونها { تَسُرّ النّاظِرِينَ } أي :تعجب الناظرين
َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ َ
{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ * قَالَ إِنّهُ َيقُولُ
إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل ذَلُولٌ } أي :لم يذللها ( )1العمل { تُثِيرُ ال ْرضَ } يعني :وليست بذلول تثير الرض
سقِي ا ْلحَ ْرثَ } يقول :ول تعمل في الحرث { مُسَّل َمةٌ } يعني :مسلمة من العيوب { ل شِيَةَ
{ وَل تَ ْ
حقّ فَذَ َبحُوهَا َومَا كَادُوا َيفْعَلُونَ } قال :ولو أن
فِيهَا } يقول :ل بياض فيها { قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِالْ َ
القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة ،استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ،لكانت إياها ،ولكنهم
شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ،ولول أن القوم استثنوا فقالوا { :وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ } لما
هدوا إليها أبدًا .فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إل عند عجوز عندها يتامى ،وهي
القيمة عليهم ،فلما علمت أنه ل يزكو لهم ( )2غيرها ،أضعفت عليهم الثمن .فأتوا موسى
فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إل عند فلنة ،وأنها سألتهم أضعاف ثمنها .فقال لهم موسى :
إن ال قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها .ففعلوا ،واشتروها ()3
فذبحوها ،فأمرهم موسى ،عليه السلم ،أن يأخذوا عظمًا ( )4منها فيضربوا به القتيل ،
ففعلوا ،فرجع إليه روحه ،فسمى لهم قاتله ،ثم عاد ميتًا كما كان ،فأخذ قاتله -وهو الذي كان
أتى موسى فشكا إليه [مقتله] ( - )5فقتله ال على أسوأ ( )6عمله.
وقال محمد بن جرير :حدثني ابن سعد ( )7حدثني أبي ،حدثني عمي ،حدثني أبي ،عن أبيه
[عن جده] ( )8عن ابن عباس ،في قوله في شأن البقرة :وذلك أن شيخًا من بني إسرائيل على
عهد موسى ،عليه السلم ،كان مكثرًا من المال ،وكان بنو أخيه فقراء ل مال لهم ،وكان
الشيخ ل ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا :ليت ( )9عمنا قد مات فورثنا ماله ،وإنه لما تطاول
عليهم أل يموت عمهم ،أتاهم الشيطان فقال لهم :هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم ،فترثوا ماله ،
وَ ُتغْ ِرمُوا أهل المدينة التي لستم بها ديته ،وذلك أنهما كانتا مدينتين ،كانوا في إحداهما وكان
القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين ( )10قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما ( )11كانت أقرب
إليه غرمت الدية ،وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك ،وتطاول عليهم أل يموت عمهم عمدوا إليه
فقتلوه ،ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها .فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو
أخي الشيخ ،فقالوا :عمنا قتل على باب مدينتكم ،فوال
__________
( )1في ب ،أ ،و " :لم يذلها".
( )2في أ " :أنهم ل يتركوا".
( )3في ط " :واشتروا".
( )4في جـ " :عظمها".
( )5زيادة من و.
( )6في جـ " :أشر" ،وفي أ " :سوء".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :ابن أبي سعيد".
( )8زيادة من أ ،و.
( )9في جـ " :يا ليت".
( )10في ب " :القريتين".
( )11في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فأيتهما".
( )1/295
لتغرمن لنا دية عمنا .قال أهل المدينة :نقسم بال ما قتلنا ول علمنا ( )1قاتل ول فتحنا باب
مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا .وإنهم عمدوا إلى موسى ،عليه السلم ،فلما أتوه قال بنو أخي
الشيخ :عمنا وجدناه مقتول على باب مدينتهم .وقال أهل المدينة :نقسم بال ما قتلناه ول فتحنا
باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا ،وإنه جبريل ( )2جاء بأمر ( )3السميع العليم إلى
موسى ،عليه السلم ،فقال :قل لهم { :إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً } فتضربوه ببعضها.
وقال السدي { :وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً } قال :كان رجل من بني
إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنة ،وكان له ابن أخ محتاج ،فخطب إليه ابن أخيه ابنته ،
فأبى أن يزوجه ،فغضب الفتى ،وقال :وال لقتلن عمي ،ولخذن ماله ،ولنكحن ابنته ،
ولكلن ديته .فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ،فقال :يا عم ( )4انطلق
معي فخذ لي من تجارة هؤلء القوم ،لعلي أن أصيب منها ( )5فإنهم إذا رأوك معي أعطوني.
فخرج العم مع الفتى ليل فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ،ثم رجع إلى أهله .فلما أصبح جاء
كأنه يطلب عمه ،كأنه ل يدري أين هو ،فلم يجده .فانطلق نحوه ،فإذا هو بذلك السبط مجتمعين
عليه ،فأخذهم وقال :قتلتم عمي ،فأدوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه ،وينادي
:واعماه .فرفعهم إلى موسى ،فقضى عليهم بالدية ،فقالوا له :يا رسول ال ،ادع ال لنا ()6
حتى يبين لنا من صاحبه ،فيؤخذ صاحب الجريمة ( )7فوال إن ديته علينا لهينة ،ولكنا نستحيي
أن نعير به فذلك حين يقول ال تعالى { :وَإِذْ قَتَلْ ُتمْ َنفْسًا فَادّارَأْ ُتمْ فِيهَا وَاللّهُ ُمخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ
} فقال لهم موسى ،عليه السلم { :إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً } قالوا :نسألك عن القتيل
وعمن قتله ،وتقول :اذبحوا بقرة .أتهزأ بنا! { قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال ابن
عباس :فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لجزأت عنهم ،ولكنهم شددوا وتعنتوا [على] ( )8موسى
ض وَل ِبكْرٌ
فشدد ال عليهم .فقالوا { :ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل فَا ِر ٌ
عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ } والفارض :الهرمة التي ل تلد ،والبكر التي لم تلد إل ولدًا واحدًا .والعوان :
َ
النصف التي بين ذلك ،التي قد ولدت وولد ولدها { فَا ْفعَلُوا مَا ُت ْؤمَرُونَ* قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ
لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة صَفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال :نقي لونها { تَسُرّ النّاظِرِينَ } قال :
تعجب الناظرين { قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ
سقِي ا ْلحَ ْرثَ مُسَّلمَةٌ ل شِ َيةَ فِيهَا } من
َل ُمهْتَدُونَ* قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة ل ذَلُولٌ تُثِيرُ ال ْرضَ وَل تَ ْ
بياض ول سواد ول حمرة { قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ } فطلبوها فلم يقدروا عليها.
__________
( )1في جـ " :ما قتلناه ول علمناه".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وإن جبريل".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :بأمر ربه".
( )4في جـ " :يا عمي".
( )5في جـ " :فيها".
( )6في ب ،أ ،و " :ادع لنا ال".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :الفرصة".
( )8زيادة من جـ ،أ.
( )1/296
وكان رجل في ( )1بني إسرائيل ،من أبر الناس بأبيه ،وإن رجل مر به معه لؤلؤ يبيعه ،وكان
أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح ،فقال له الرجل :تشتري ( )2مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا ؟ فقال له
الفتى :كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا .فقال الخر :أيقظ أباك وهو لك بستين
ألفًا ،فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلثين ألفًا ،وزاد الخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ
حتى بلغ مائة ألف ،فلما أكثر عليه قال :وال ل أشتريه منك بشيء أبدًا ،وأبى أن يوقظ أباه ،
فعوضه ال من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ،فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا
البقرة عنده ،فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة ،فأبى ،فأعطوه ثنتين فأبى ،فزادوه حتى بلغوا
عشرا ،فأبى ،فقالوا :وال ل نتركك حتى نأخذها منك .فانطلقوا به إلى موسى ،عليه السلم ،
فقالوا :يا نبي ال ،إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى :
أعطهم بقرتك .فقال :يا رسول ال ،أنا أحق بمالي .فقال :صدقت .وقال للقوم :أرضوا
صاحبكم ،فأعطوه وزنها ذهبًا ،فأبى ،فأضعفوا ( )3له مثل ما أعطوه وزنها ،حتى أعطوه
وزنها عشر مرات ذهبًا ،فباعهم إياها وأخذ ثمنها ،فذبحوها .قال :اضربوه ببعضها ،فضربوه
بالبضعة التي بين الكتفين ،فعاش ،فسألوه :من قتلك ؟ فقال لهم :ابن أخي ،قال :أقُْتلُهُ ،فآخذُ
مالَه ،وأنكح ابنتَه .فأخذوا الغلم فقتلوه (.)4
وقال سنيد :حدثنا حجاج ،هو ابن محمد ،عن ابن جريج ،عن مجاهد ،وحجاج ،عن أبي
معشر ،عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض -
قالوا :إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس ،بنوا مدينة فاعتزلوا شرور
الناس ،فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إل أدخلوه ،وإذا افتتحوا ( )5قام رئيسهم
فنظر وأشرف ،فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة ،فكانوا مع الناس حتى يمسوا .قال :وكان رجل من
بني إسرائيل له مال كثير ،ولم يكن له وارث غير أخيه ،فطال عليه حياته فقتله ليرثه ،ثم حمله
فوضعه على باب المدينة ،ثم كمن في مكان هو وأصحابه .قال :فأشرف ( )6رئيس المدينة
على باب المدينة فنظر ،فلم ير شيئًا ففتح الباب ،فلما رأى القتيل رد الباب ،فناداه أخو المقتول
وأصحابه :هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب .وكان موسى لما رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني
إسرائيل ،كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم ،فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل
المدينة قتال ،حتى لبس الفريقان السلح ،ثم كف بعضهم عن بعض ،فأتوا موسى فذكروا له
شأنهم .قالوا :يا رسول ال ،إن هؤلء قتلوا قتيل ثم ردوا الباب ،وقال أهل المدينة :يا رسول
ال قد عرفت اعتزالنا الشرور ( )7وبنينا مدينة ،كما رأيت ،نعتزل شرور الناس ،وال ما قتلنا
ول علمنا قاتل .فأوحى ال تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى :
__________
( )1في جـ " :من".
( )2في أ " :اشترى".
( )3في جـ ،ط ،ب " :فأضعفوه".
( )4تفسير الطبري (.)2/185
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وإذا أصبحوا".
( )6في و " :فتشرف".
( )7في جـ " :اعتزالنا عن الناس الشرور".
( )1/297
{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً } (.)1
وهذه السياقات [كلها] ( )2عن عبيدة ( )3وأبي العالية والسدي وغيرهم ،فيها اختلف ما ،
والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ( )4ولكن ل نصدق ول نكذب
( )5فلهذا ل نعتمد عليها إل ما وافق الحق عندنا ،وال أعلم.
عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ
ض وَل ِبكْرٌ َ
{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَرَةٌ ل فَا ِر ٌ
صفْرَاءُ فَاقِعٌ
فَا ْفعَلُوا مَا ُت ْؤمَرُونَ ( )68قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ َ
َلوْ ُنهَا َتسُرّ النّاظِرِينَ (} )69
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم .ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق
عليهم ،ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ،كما قال ابن عباس وعبيدة وغير
واحد ،ولكنهم شددوا فشدد عليهم ،فقالوا { :ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ } ما هذه البقرة ؟ وأي
شيء صفتها ؟
قال ( )6ابن جرير :حدثنا أبو كريب ،حدثنا عثام ( )7بن علي ،عن العمش ،عن المنهال بن
عمرو ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها ،ولكنهم
شددوا فشدد ال عليهم (.)8
إسناد صحيح ،وقد رواه غير واحد عن ابن عباس .وكذا قال عبيدة ،والسدي ،ومجاهد ،
وعكرمة ،وأبو العالية وغير واحد.
وقال ابن جريج :قال [لي] ( )9عطاء :لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم .قال ابن جريج :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :إنما أمروا بأدنى بقرة ،ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد ال
عليهم ؛ وايم ال لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر البد" (.)10
ض وَل ِبكْرٌ } أي :ل كبيرة هرمة ول صغيرة لم يلحقها ()11
{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل فَا ِر ٌ
__________
( )1ورواه الطبري في تفسيره ( )2/188من طريق سنيد.
( )2زيادة من جـ.
( )3في أ " :أبي عبيدة".
( )4في أ " :فعله".
( )5في ط ،ب " :ل تصدق ول تكذب".
( )6في ط " :وقال".
( )7في جـ " :هشام".
( )8تفسير الطبري (.)2/204
( )9زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )10رواه الطبري في تفسيره (.)2/205
( )11في جـ ،ط " :يلقحها" ،وفي أ " :ينكحها".
( )1/298
الفحل ،كما قاله أبو العالية ،والسدي ،ومجاهد ،وعكرمة ،وعطية العوفي ،وعطاء
الخراساني ( )1ووهب بن منبه ،والضحاك ،والحسن ،وقتادة ،وقاله ابن عباس أيضًا.
عوَانٌ بَيْنَ َذِلكَ } [يقول :نصف] ( )2بين الكبيرة والصغيرة ،
وقال الضحاك ،عن ابن عباس { َ
وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون .وروي عن عكرمة ،ومجاهد ،وأبي
العالية ،والربيع بن أنس ،وعطاء الخراساني ،والضحاك نحو ذلك.
وقال السدي :العوان :النصف التي بين ذلك التي ولدت ،وولد ولدها.
وقال هشيم ،عن جويبر ،عن كثير بن زياد ،عن الحسن في البقرة :كانت بقرة وحشية.
وقال ابن جريج ،عن عطاء ،عن ابن عباس :من لبس نعل صفراء لم يزل في سرور ما دام
لبسها ،وذلك قوله ( )3تعالى { :صَفْرَاءُ فَا ِقعٌ َلوْ ُنهَا َتسُرّ النّاظِرِينَ } وكذا قال مجاهد ،ووهب
بن منبه أنها كانت صفراء.
وعن ابن عمر :كانت صفراء الظلف .وعن سعيد بن جبير :كانت صفراء القرن والظلف.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا نصر بن علي ،حدثنا نوح بن قيس ،أنبأنا أبو رجاء ،
صفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال :سوداء شديدة السواد.
عن الحسن في قوله َ { :بقَرَ ٌة َ
وهذا غريب ،والصحيح الول ،ولهذا أكد صفرتها بأنه { فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا }
وقال عطية العوفي { :فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } تكاد تسود من صفرتها.
وقال سعيد بن جبير { :فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال :صافية اللون .وروى عن أبي العالية ،والربيع بن
أنس ،والسدي ،والحسن ،وقتادة نحوه.
وقال شريك ،عن َمغْراء ( )4عن ابن عمر { :فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال :صاف (.)5
وقال العوفي في تفسيره ،عن ابن عباس { :فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } شديدة الصفرة ،تكاد من صفرتها
تبيض.
وقال السدي { :تَسُرّ النّاظِرِينَ } أي :تعجب الناظرين ( )6وكذا قال أبو العالية ،وقتادة ،
والربيع بن أنس.
[وفي التوراة :أنها كانت حمراء ،فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الول :إنها كانت
شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد ،وال أعلم] (.)7
__________
( )1في جـ " :الخراساني وسيأتي".
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في جـ ،ب " :قول ال تعالى" ،وفي ط " :قول ال.
( )4في أ " :عن ابن عباس".
( )5في جـ ،ط ،ب " :صافي".
( )6في جـ " :أي تعجبهم".
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )1/299
وقال وهب بن منبه :إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
( )1/300
{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ (} )70
وقوله { :إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا } أي :لكثرتها ،فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلّها لنا { وَإِنّا إِنْ
شَاءَ اللّهُ } إذا بينتها لنا { َل ُمهْتَدُونَ } إليها.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن يحيى الودي ( )1الصوفي ،حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود
الحداد ،حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ،ابن أخي منصور بن زاذان ،عن عباد بن
منصور ،عن الحسن ،عن أبي رافع ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :لول أن بني إسرائيل قالوا { :وَإِنّا إِن شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ } لما أعطوا ،ولكن استثنوا" (
.)2
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر ،عن سرور بن المغيرة ،عن ()3
زاذان ،عن عباد بن منصور ،عن الحسن ،عن حديث أبي رافع ،عن أبي هريرة ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لول أن بني إسرائيل قالوا { :وَإِنّا إِن شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ } ما
أعطوا أبدًا ،ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لجزأت عنهم ،ولكنهم شددوا ،فشدد ال
عليهم" (.)4
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ،وأحسن أحواله أن يكون من كلم أبي هريرة ،كما تقدم مثله
( )5عن السدي ،وال أعلم.
سّلمَةٌ ل شِيَةَ فِيهَا قَالُوا النَ
سقِي الْحَ ْرثَ مُ َ
ض وَل َت ْ
{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل َذلُولٌ تُثِيرُ ال ْر َ
جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ َفذَبَحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ (} )71
سقِي الْحَ ْرثَ } أي :إنها ليست مذللة بالحراثة
ض وَل َت ْ
{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل َذلُولٌ تُثِيرُ ال ْر َ
سّلمَةٌ } صحيحة ل عيب فيها { ل
ول معدة للسقي في السانية ،بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُ َ
شِيَةَ فِيهَا } أي :ليس فيها لون غير لونها.
وقال عبد الرزاق ،عن معمر ،عن قتادة { مُسَّلمَةٌ } يقول :ل عيب فيها ،وكذا قال أبو العالية
والربيع ،وقال مجاهد { مُسَّل َمةٌ } من الشية.
وقال عطاء الخراساني { :مُسَّلمَةٌ } القوائم والخلق { ل شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد :ل بياض ول
سواد .وقال أبو العالية والربيع ،والحسن وقتادة :ليس فيها بياض .وقال عطاء الخراساني { :ل
شِيَةَ فِيهَا } قال :لونها واحد بهيم .وروي عن عطية العوفي ،ووهب بن منبه ،وإسماعيل بن
أبي خالد ،نحو ذلك .وقال السدي { :ل شِيَةَ فِيهَا } من بياض ول سواد ول حمرة ،وكل هذه
القوال متقاربة [في المعنى ،وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى { :إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل
ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال { :تُثِيرُ ال ْرضَ } أي :يعمل عليها بالحراثة لكنها ل
تسقي الحرث ،وهذا ضعيف ؛ لنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها ل تثير الرض ول
تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره] ()6
__________
( )1في جـ ،ط " :الزدي".
( )2تفسير ابن أبي حاتم (.)1/223
( )3في جـ ،ط ،ب " :بن".
( )4قال الحافظ ابن حجر " :فيه عباد بن منصور وهو ضعيف".
( )5في جـ ،ط " :نقله".
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ.
( )1/300
{ قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ } قال قتادة :الن بَيّ ْنتَ لنا ،وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :وقبل
ذلك -وال ( - )1قد جاءهم الحق.
{ َفذَبَحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ } قال الضحاك ،عن ابن عباس :كادوا أل يفعلوا ،ولم يكن ذلك
الذي أرادوا ،لنهم أرادوا أل يذبحوها.
يعني أنّهم مع هذا البيان ( )2وهذه السئلة ،والجوبة ،واليضاح ما ذبحوها إل بعد الجهد ،
وفي هذا ذم لهم ،وذلك أنه لم يكن غرضهم إل التعنت ،فلهذا ما كادوا يذبحونها.
وقال محمد بن كعب ،ومحمد بن قيس { :فَذَ َبحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ } لكثرة ثمنها.
وفي هذا نظر ؛ لن كثرة ثمنها لم يثبت إل من نقل بني إسرائيل ،كما تقدم من حكاية أبي العالية
والسدي ،ورواه العوفي عن ابن عباس .وقال عبيدة ،ومجاهد ،ووهب بن منبه ،وأبو العالية ،
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم :إنهم اشتروها بمال كثير ( )3وفيه اختلف ،ثم قد قيل في ثمنها
غير ذلك .وقال عبد الرزاق :أنبأنا ابن عيينة ،أخبرني محمد بن سوقة ،عن عكرمة ،قال :ما
كان ثمنها إل ثلثة دنانير ( )4وهذا إسناد جيد عن عكرمة ،والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب
أيضًا.
وقال ابن جرير :وقال آخرون :لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة ،إن اطلع ال على
قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.
ولم يسنده عن أحد ،ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلء ثمنها ،
وللفضيحة .وفي هذا نظر ،بل الصواب -وال أعلم -ما تقدم من رواية الضحاك ،عن ابن
عباس ،على ما وجهناه .وبال التوفيق.
مسألة :استدل بهذه الية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الطلق على
صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء
سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم " :ل تنعت المرأةُ المرأةَ
لزوجها كأنه ينظر إليها" ( .)5وكما وصف النبي صلى ال عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ
وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث ،وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون :ل يصح السلم
في الحيوان لنه ل تنضبط أحواله ،وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن
بن سمرة وغيرهم.
__________
( )1في جـ ،ط " :وال أعلم".
( )2في جـ " :الشأن".
( )3في ب " :بثمن كثير".
( )4تفسير عبد الرزاق (.)1/71
( )5صحيح البخاري برقم (.)5241
( )1/301
وَإِذْ قَتَلْتُمْ َنفْسًا فَادّارَأْ ُتمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ (َ )72فقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِ َب ْعضِهَا كَذَِلكَ ُيحْيِي
اللّهُ ا ْل َموْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ ()73
( )1/302
( )1/303
ذلك لوثًا.
س َوةً وَإِنّ مِنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ ال ْنهَارُ
ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ َف ِهيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ َأشَدّ َق ْ
{ ُثمّ قَ َ
عمّا َت ْعمَلُونَ
خشْيَةِ اللّ ِه َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْ ِبطُ مِنْ َ
وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ
(} )74
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل ،وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات ال تعالى ،وإحيائه
ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } كله { َف ِهيَ كَالْحِجَا َرةِ } التي ل تلين أبدًا .ولهذا نهى ال
الموتى { :ثُمّ َق َ
المؤمنين عن مثل حالهم فقال { :أََلمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نزلَ مِنَ
سقُونَ
ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
ق وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ فَطَالَ عَلَ ْيهِ ُم المَدُ َفقَ َ
حّالْ َ
} [الحديد .]16 :
وقال العوفي ،في تفسيره ،عن ابن عباس :لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان
قط ،فقيل له :من قتلك ؟ فقال :بنو أخي قتلوني .ثم قبض .فقال بنو أخيه حين قبض :وال ما
ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } يعني :
قتلناه ،فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا ( .)1فقال ( )2ال { :ثُمّ قَ َ
س َوةً } فصارت قلوب بني ( )4إسرائيل مع طول
شدّ قَ ْ
حجَا َرةِ َأوْ أَ َ
بني ( )3أخي الشيخ { َف ِهيَ كَالْ ِ
المد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من اليات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة
التي ل علج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ،فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية
بالنهار ،ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ،وإن لم يكن جاريا ،ومنها ما يهبط من رأس الجبل
سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَال ْرضُ َومَنْ
من خشية ال ،وفيه إدراك لذلك بحسبه ،كما قال { :تُسَبّحُ لَهُ ال ّ
غفُورًا } [السراء :
حهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ
حمْ ِد ِه وََلكِنْ ل َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ
شيْءٍ إِل يُسَبّحُ ِب َ
ن وَإِنْ مِنْ َ
فِيهِ ّ
.]44
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد أنه كان يقول :كل حجر يتفجر منه الماء ،أو يتشقق عن ماء ،
أو يتردى من رأس جبل ،لمن خشية ال ،نزل بذلك القرآن.
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن
شقّقُ فَ َيخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا
حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ ال ْنهَا ُر وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ
عباس { :وَإِنّ مِنَ الْ ِ
عمّا تدعون إليه من الحق { َومَا
َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } أي وإن من الحجارة للين من قلوبكم َ
عمّا َت ْعمَلُونَ }
اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره { :وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } هو سقوط البرد من
__________
( )1في أ ،و "إذ رأوه".
( )2في جـ " :ثم قال".
( )3في أ ،و " :يعني ابن".
( )4في جـ " :قلوب بنوا" وهو خطأ.
( )1/304
السحاب .قال القاضي الباقلني :وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما
قال ؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بل دليل ،وال أعلم] (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا هشام بن عمار ،حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ،حدثني
حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ
يحيى بن أبي طالب -يعني يحيى بن يعقوب -في قوله تعالى { :وَإِنّ مِنَ الْ ِ
شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَاءُ } قال :قليل البكاء
مِنْهُ ال ْنهَارُ } قال :هو كثرة البكاء { وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ
{ وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْ َيةِ اللّهِ } قال :بكاء القلب ،من غير دموع العين.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الرادة
إلى الجدار في قوله { :يُرِيدُ أَنْ يَ ْن َقضّ } قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الئمة :ول حاجة
إلى هذا فإن ال تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى { :إِنّا عَ َرضْنَا المَانَةَ عَلَى
ج ُم وَالشّجَرُ
شفَقْنَ مِ ْنهَا } الية ،وقال { :وَالنّ ْ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ َي ْ
سمَاوَاتِ وَال ْر ِ
ال ّ
شيْءٍ يَ َتفَيّأُ ظِللُهُ } الية { ،قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ } { َلوْ
سجُدَانِ } و { َأوَلَمْ يَ َروْا إِلَى مَا خََلقَ اللّهُ مِنْ َ
يَ ْ
طقَنَا اللّهُ } الية ،
شهِدْ ُتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَ ْن َ
أَنزلْنَا َهذَا ا ْلقُرْآنَ عَلَى جَ َبلٍ } الية َ { ،وقَالُوا ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ َ
وفي الصحيح " :هذا جبل يحبنا ونحبه" ،وكحنين الجذع المتواتر خبره ،وفي صحيح مسلم :
"إني لعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لعرفه الن" وفي صفة الحجر السود
أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ،وغير ذلك مما في معناه .وحكى القرطبي قول أنها
للتخيير ؛ أي مثل لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ..وكذا حكاه الرازي في
تفسيره وزاد قول آخر :إنها للبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا ،وهو
يعلم أيهما أكل ،وقال آخر :إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا ؛ أي ل يخرج عن واحد
منهما ؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها ل تخرج عن واحد من هذين الشيئين.
وال أعلم.
تنبيه :
س َوةً } بعد الجماع على
شدّ قَ ْ
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى َ { :فهِيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ أَ َ
استحالة كونها للشك ،فقال بعضهم " :أو" هاهنا بمعنى الواو ،تقديره :فهي كالحجارة وأشد
قسوة كقوله تعالى { :وَل ُتطِعْ مِ ْنهُمْ آ ِثمًا َأوْ كَفُورًا } [النسان ، ]24 :وكما قال النابغة الذبياني :
قالت أل ليتما هذا الحمامُ لنا ...إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ ()2
تريد :ونصفه ،قاله ابن جرير .وقال جرير بن عطية :
نال الخِلفَةَ أو كانت له قدرًا ...كما أتى ربّه مُوسى على قَدَرِ ()3
قال ابن جرير :يعني نال الخلفة ،وكانت له قدرًا.
وحكى القرطبي قول أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ،
وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قول آخر وهو :أنها للبهام وبالنسبة إلى المخاطب ،
كقول القائل :أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ،وقول آخر وهو أنها بمعنى قول القائل :
أكلي حلو أو حامض ،أي :ل يخرج عن واحد منهما ،أي :وقلوبكم صارت في قسوتها
كالحجارة أو أشد قسوة منها ل يخرج عن واحد من هذين الشيئين وال أعلم.
وقال آخرون " :أو" هاهنا بمعنى بل ،تقديره ( )4فهي كالحجارة بل أشد قسوة ،وكقوله ِ { :إذَا
شوْنَ النّاسَ كَخَشْ َيةِ اللّهِ َأوْ أَشَدّ خَشْ َيةً } [النساء {]77 :وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَ ْلفٍ َأوْ
فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَخْ َ
يَزِيدُونَ } [الصافات َ {]147 :فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى } [النجم ]9 :وقال آخرون :معنى ()5
س َوةً } عندكم .حكاه ابن جرير.
ذلك { َف ِهيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ َأشَدّ قَ ْ
وقال آخرون :المراد بذلك البهام على المخاطب ،كما قال أبو السود :
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2البيت في تفسير الطبري (.)2/236
( )3البيت في تفسير الطبري (.)2/236
( )4في جـ ،ط ،ب " :فتقديره".
( )5في جـ " :بمعنى".
( )1/305
( )1/306
عقَلُو ُه وَهُمْ
س َمعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمّ يُحَ ّرفُونَهُ مِنْ َبعْدِ مَا َ
ط َمعُونَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا َل ُك ْم َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَ ْ
َأفَتَ ْ
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ
َيعَْلمُونَ ( )75وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ َآمَنُوا قَالُوا َآمَنّا وَِإذَا خَلَا َب ْع ُ
علَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَ ّبكُمْ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ ()76
اللّهُ َ
عقَلُوهُ
س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ ُثمّ يُحَ ّرفُونَهُ مِنْ َبعْدِ مَا َ
ط َمعُونَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا َلكُ ْم َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ َي ْ
{ َأفَ َت ْ
حدّثُو َنهُمْ ِبمَا
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا أَتُ َ
وَهُمْ َيعَْلمُونَ ( )75وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَل َب ْع ُ
فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ َأفَل َت ْعقِلُونَ (} )76
( )1/307
( )1/307
( )1/308
وكانوا يقولون ،إذا دخلوا المدينة :نحن مسلمون .ليعلموا خبر رسول ال صلى ال عليه وسلم
وأمره .فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر .فلما أخبر ال نبيه صلى ال عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم
يكونوا يدخلون .وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون ( )1فيقولون :أليس قد قال ال لكم كذا وكذا
حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ
؟ فيقولون :بلى .فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء] ( )2قالوا { :أَتُ َ
عَلَ ْيكُمْ } الية (.)3
وقال أبو العالية { :أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمْ } يعني :بما أنزل ال عليكم في كتابكم من نعت
( )4محمد صلى ال عليه وسلم.
حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة { :أَتُ َ
حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ
رَ ّبكُمْ } قال :كانوا يقولون :سيكون نبي .فخل بعضهم ببعض ( )5فقالوا { :أَتُ َ
علَ ْيكُمْ } (.)6
اللّهُ َ
قول آخر في المراد بالفتح :قال ابن جُرَيج :حدثني القاسم بن أبي بَزّة ،عن مجاهد ،في قوله
تعالى { :أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } قال :قام النبي صلى ال عليه وسلم يوم قريظة تحت
حصونهم ،فقال " :يا إخوان ( )7القردة والخنازير ،ويا عبدة الطاغوت" ،فقالوا :من أخبر بهذا
( )8المر محمدًا ؟ ما خرج هذا القول ( )9إل منكم { أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } بما حكم ال
،للفتح ،ليكون لهم حجة عليكم .قال ابن جريج ،عن مجاهد :هذا حين أرسل إليهم عليا ()10
فآذوا محمدًا صلى ال عليه وسلم.
حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } من العذاب { لِيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِ ْندَ رَ ّبكُمْ } هؤلء ناس
وقال السدي { :أَتُ َ
من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذّبوا به .فقال بعضهم لبعض :
{ أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمْ } من العذاب ،ليقولوا :نحن أحب إلى ال منكم ،وأكرم على ال
منكم.
حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } يعني :بما قضى [ال] ( )11لكم
وقال عطاء الخراساني { :أَتُ َ
وعليكم.
وقال الحسن البصري :هؤلء اليهود ،كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا :آمنا ،وإذا خل بعضهم
إلى بعض ،قال بعضهم :ل تحدثوا أصحاب محمد بما فتح ال عليكم مما في كتابكم ،فيحاجوكم
( )12به عند ربكم ،فيخصموكم.
__________
( )1في جـ " :أنهم يؤمنون".
( )2زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )3رواه الطبري في تفسيره ( )2/254عن يونس عن ابن وهب به.
( )4في أ " :من بعث".
( )5في جـ ،ط ،ب " :فخل بعضهم ببعض".
( )6تفسير عبد الرزاق (.)1/71
( )7في جـ " :أيا إخوان".
( )8في جـ ،ط ،ب " :من أخبر هذا".
( )9في أ ،و " :هذا المر".
( )10في جـ " :حين أرسل عليًا إليهم".
( )11زيادة من جـ ،أ.
( )12في جـ ،ط ،ب " :ليحاجوكم".
( )1/309
ي وَإِنْ ُهمْ إِلّا َيظُنّونَ (َ )78فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ
َومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ لَا َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِلّا َأمَا ِن ّ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ َهذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ َثمَنًا قَلِيلًا َفوَيْلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِي ِه ْم َووَيْلٌ َلهُمْ ِممّا
َيكْسِبُونَ ()79
ن َومَا ُيعْلِنُونَ } قال أبو العالية :يعني ما أسروا من
وقوله َ { :أوَل َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ
كفرهم بمحمد صلى ال عليه وسلم وتكذيبهم به ،وهو ( )1يجدونه مكتوبًا عندهم .وكذا قال قتادة.
وقال الحسن { :أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا ُيسِرّونَ } قال :كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب
محمد صلى ال عليه وسلم وخل بعضهم إلى بعض ،تناهوا أن يخبر أحد ( )2منهم أصحاب
محمد صلى ال عليه وسلم بما فتح ال عليهم مما في كتابهم ،خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد
صلى ال عليه وسلم بما في كتابهم عند ( )3ربهمَ { .ومَا ُيعْلِنُونَ } يعني :حين قالوا لصحاب
محمد صلى ال عليه وسلم :آمنا .وكذا قال أبو العالية ،والربيع ،وقتادة.
ي وَإِنْ هُمْ إِل َيظُنّونَ (َ )78فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ
{ َومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِن ّ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ َهذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ َثمَنًا قَلِيل َفوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِي ِه ْم َووَيْلٌ َلهُمْ ِممّا
َيكْسِبُونَ (} )79
يقول تعالى َ { :ومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ } أي :ومن أهل الكتاب ،قاله مجاهد :والميون جمع أمي ،وهو
:الرجل الذي ل يحسن الكتابة ،قاله أبو العالية ،والربيع ،وقتادة ،وإبراهيم النّخَعي ،وغير
واحد ( )4وهو ظاهر في قوله تعالى { :ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ [إِل َأمَا ِنيّ] } ( )5أي :ل يدرون ما
فيه .ولهذا في صفات النبي صلى ال عليه وسلم أنه أمي ؛ لنه لم يكن يحسن الكتابة ،كما قال
خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا لرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ } [العنكبوت :
تعالى َ { :ومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبِْلهِ مِنْ كِتَابٍ وَل تَ ُ
]48وقال عليه الصلة والسلم " :إنا أمة أمية ،ل نكتب ول نحسب ،الشهر هكذا وهكذا وهكذا"
الحديث .أي :ل نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ول حساب وقال تعالى ُ { :هوَ الّذِي َب َعثَ
فِي المّيّينَ رَسُول مِ ْنهُمْ } [الجمعة .]2 :
وقال ابن جرير :نسبت العرب من ل يكتب ول يَخُط من الرجال إلى أمّه في جهله بالكتاب دون
أبيه ،قال :وقد روي عن ابن عباس ،رضي ال عنهما ( )6قول خلف هذا ،وهو ما حدثنا به
أبو كُرَيب :حدثنا عثمان بن سعيد ،عن بشر بن عمارة ،عن أبي روق ،عن الضحاك ،عن
ابن عباس ،في قوله َ { :ومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ } قال :الميون قوم لم يصدّقوا رسول أرسله ال ،ول
جهّال { :هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ } وقال :قد
كتابًا أنزله ال ،فكتبوا كتابًا بأيديهم ،ثم قالوا لقوم سَفلة ُ
أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ،ثم سماهم أميين ،لجحودهم كتب ال ورسله .ثم قال ابن جرير :وهذا
التأويل ( )7على خلف ما يعرف من كلم العرب المستفيض بينهم .وذلك أن المي عند العرب
:الذي ل يكتب (.)8
قلت :ثم في صحة هذا عن ابن عباس ،بهذا السناد ،نظر .وال أعلم.
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وهم".
( )2في جـ " :يخبروا واحدًا" ،وفي أ " :يخبروا أحد".
( )3في جـ " :وعند".
( )4في أ " :وإبراهيم النخغي وغيرهم".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )6في ط " :رضي ال عنه".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وهذا التأويل تأويل".
( )8تفسير الطبري (.)2/259
( )1/310
قوله ( )1تعالى { :إِل َأمَانِيّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس { :إِل َأمَا ِنيّ } إل أحاديث.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس ،في قوله { :إِل َأمَا ِنيّ } يقول :إل قول يقولونه بأفواههم كذبًا.
نل
وقال مجاهد :إل كذبًا .وقال سنيد ،عن حجاج ،عن ابن جريج عن مجاهد َ { :ومِ ْنهُمْ ُأمّيّو َ
َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِنيّ } قال :أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا ،وكانوا
يتكلمون بالظن ( )2بغير ما في كتاب ال ،ويقولون :هو من الكتاب ،أمانيّ يتمنونها .وعن
الحسن البصري ،نحوه.
وقال أبو العالية ،والربيع وقتادة { :إِل َأمَا ِنيّ } يتمنون على ال ما ليس لهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { :إِل َأمَا ِنيّ } قال :تمنوا فقالوا :نحن من أهل الكتاب.
وليسوا منهم.
قال ابن جرير :والشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس ،وقال مجاهد :إن الميين
الذين وصفهم ال أنهم ل يفقهون من الكتاب -الذي أنزل ( )3ال على موسى -شيئًا ،ولكنهم
يَتَخَ ّرصُون الكذب ويتخرصون الباطيل كذبًا وزورًا .والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب
وتخرصه .ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي ال عنه " :ما تغنيت ول تمنيت".
يعني ما تخرصت الباطل ول اختلقت الكذب (.)4
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن
عباس { :ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِنيّ وَإِنْ هُمْ إِل يَظُنّونَ } ول يدرون ما فيه ،وهم يجحدون (
)5نبوتك بالظن.
وقال مجاهد { :وَإِنْ ُهمْ إِل يَظُنّونَ } يكذبون.
وقال قتادة :وأبو العالية ،والربيع :يظنون الظنون بغير الحق.
وقوله َ { :فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ َثمَنًا قَلِيل }
الية :هؤلء صنف ( )6آخر من اليهود ،وهم الدعاة إلى الضلل بالزور والكذب على ال ،
وأكل أموال الناس بالباطل.
والويل :الهلك والدمار ،وهي كلمة مشهورة في اللغة .وقال سفيان الثوري ،عن زياد بن
فياض :سمعت أبا عياض يقول :ويل :صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار .الويل :واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
__________
( )1في جـ ،ط " :وقوله".
( )2في جـ " :يتكلمون الظن".
( )3في جـ ،ط ،ب " :الذي أنزله".
( )4تفسير الطبري (.)1/262
( )5في أ ،و " :وهم يجدون".
( )6في جـ " :هو صنف".
( )1/311
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني عمرو بن الحارث
،عن دَرّاج ،عن أبي الهيثم ،عن أبي سعيد الخدري ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
قال " :ويل واد في جهنم ،يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ،عن الحسن بن موسى ،عن ابن لهيعة ،عن دراج ،به (.)1
وقال :هذا حديث غريب ل نعرفه إل من حديث ابن لهيعة.
قلت :لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ،ولكن الفة ممن بعده ،وهذا الحديث بهذا السناد -
مرفوعًا -منكر ،وال أعلم.
وقال ابن جرير :حدثنا المثنى ،حدثنا إبراهيم بن عبد السلم بن صالح العشيري ( )2حدثنا علي
بن جرير ،عن حماد بن سلمة ،عن عبد الحميد بن جعفر ،عن كنانة العدوي ،عن عثمان بن
عفان ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم َ { :فوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا
َيكْسِبُونَ } قال " :الويل جبل في النار .وهو الذي أنزل في اليهود ؛ لنهم حَرّفوا التوراة ،زادوا
فيها ما أحبوا ،ومحوا منها ما يكرهون ،ومحوا اسم محمد صلى ال عليه وسلم من التوراة.
ولذلك غضب ال عليهم ،فرفع بعض التوراة ،فقال َ { :فوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِيهِمْ وَوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا
َيكْسِبُونَ } (.)3
وهذا غريب أيضا جدًا.
[وعن ابن عباس :الويل :السعير من العذاب ،وقال الخليل بن أحمد :الويل :شدة الشر ،وقال
سيبويه :ويل :لمن وقع في الهلكة ،وويح لمن أشرف عليها ،وقال الصمعي :الويل :تفجع
والويل ترحم ،وقال غيره :الويل الحزن ( .)4وقال الخليل :وفي معنى ويل :ويح وويش وويه
وويك وويب ،ومنهم من فرق بينها ،وقال بعض النحاة :إنما جاز البتداء بها وهي نكرة ؛ لن
فيها معنى الدعاء ،ومنهم من جوز نصبها ،بمعنى :ألزمهم ويل .قلت :لكن لم يقرأ بذلك أحد]
(.)5
وعن عكرمة ،عن ابن عباس َ { :فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ } قال :هم أحبار اليهود.
وكذا قال سعيد ،عن قتادة :هم اليهود.
وقال سفيان الثوري ،عن عبد الرحمن بن علقمة :سألت ابن عباس عن قوله تعالى َ { :فوَ ْيلٌ
لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ } قال :نزلت في المشركين وأهل الكتاب.
وقال السدي :كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم ،يبيعونه من العرب ،ويحدثونهم أنه
من عند ال ،ليأخذوا ( )6به ثمنًا قليل.
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم ( )1/243وسنن الترمذي برقم (.)3164
( )2في جـ " :العيري".
( )3تفسير الطبري (.)2/268
( )4في أ " :الخوف".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )6في جـ ،ط ،ب " :فيأخذوا".
( )1/312
وقال الزهري :أخبرني عبيد ال بن عبد ال ،عن ابن عباس أنه قال :يا معشر المسلمين ،
كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ،وكتابكم الذي أنزل ال على نبيه ،أحدث أخبار ال تقرؤونه
حدّثكم ال تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب ال وغيروه ،
( )1محضًا ( )2لم يشب ؟ وقد َ
وكتبوا بأيديهم الكتاب ،وقالوا :هو من عند ال ليشتروا به ثمنًا قليل ؛ أفل ( )3ينهاكم ما جاءكم
من العلم عن مُسَاءلتهم ؟ ول وال ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم .رواه
البخاري ( )4من طرق عن الزهري.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري :الثمن القليل :الدنيا بحذافيرها.
وقوله تعالى َ { :فوَ ْيلٌ َل ُهمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ َل ُهمْ ِممّا َيكْسِبُونَ } أي :فويل لهم مما كتبوا
بأيديهم من الكذب ( )5والبهتان ،والفتراء ،وويل لهم مما أكلوا به من السحت ،كما قال
الضحاك عن ابن عباس َ { :فوَيْلٌ َلهُمْ } يقول :فالعذاب عليهم ،من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك
الكذب { ،وَوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا َيكْسِبُونَ } يقول :مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.
ع ْه َدهُ أَمْ َتقُولُونَ
عهْدًا فَلَنْ ُيخِْلفَ اللّهُ َ
خذْتُمْ عِ ْندَ اللّهِ َ
{ َوقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً ُقلْ أَتّ َ
عَلَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ (} )80
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لنفسهم ،من أنهم لن تمسهم النار إل أيامًا
عهْدًا } ( )6أي :
خذْتُمْ عِ ْندَ اللّهِ َ
معدودة ،ثم ينجون منها ،فرد ال عليهم ذلك بقوله ُ { :قلْ أَتّ َ
بذلك ؟ فإن كان قد وقع عهد فهو ل يُخْلِف عهده (.)7
ولكن هذا ما جرى ول كان .ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى :بل ،أي :بل تقولون على ال ما ل
تعلمون من الكذب والفتراء عليه.
قال ( )8محمد بن إسحاق ،عن سيف بن سليمان ( )9عن مجاهد ،عن ابن عباس :أن اليهود
كانوا يقولون :هذه الدنيا سبعة آلف سنة ،وإنما ُنعَذّب بكل ألف سنة يومًا في النار ،وإنما هي
سبعة أيام معدودة ( .)10فأنزل ال تعالى َ { :وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } إلى قوله :
{ خَالِدُونَ } [البقرة .]82 :
ثم رواه عن محمد ،عن سعيد -أو عكرمة -عن ابن عباس ،بنحوه.
وقال العوفي عن ابن عباس َ { :وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } اليهود قالوا ( : )11لن
__________
( )1في ط " :يعرفونه" ،وفي و " :تعرفونه".
( )2في جـ ،ط ،و " :غضًا".
( )3في جـ " :أفلم".
( )4صحيح البخاري برقم (.)7523 ، 7363 ، 2685
( )5في جـ " :من الكتب".
( )6بعدها في جـ " :فلن يخلف ال عهده".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وعده".
( )8في جـ ،ط " :وقال".
( )9في جـ " :سلمان".
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :أيام معدودات".
( )11في جـ " :وقالوا".
( )1/313
تمسنا النار إل أربعين ليلة [ ،زاد غيره :هي مدة عبادتهم العجل ،وحكاه القرطبي عن ابن
عباس وقتادة] (.)1
وقال الضحاك :قال ابن عباس :زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا :أن ما بين طرفي
جهنم مسيرة أربعين سنة ،إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ،التي هي نابتة في أصل الجحيم.
وقال أعداء ال :إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك .فذلك قوله تعالى :
{ َوقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً }
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة َ { :وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } يعني :
اليام التي عبدنا فيها العجل (.)2
وقال عكرمة :خاصمت اليهود رسول ال صلى ال عليه وسلم ( )3فقالوا :لن ندخل النار إل
أربعين ليلة ،وسيخلفنا إليها ( )4قوم آخرون ،يعنون ( )5محمدًا صلى ال عليه وسلم
وأصحابه ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده على رءوسهم " :بل أنتم خالدون مخلدون ل
يخلفكم إليها أحد" .فأنزل ال َ { :وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } الية.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه ال :حدثنا عبد الرحمن بن جعفر ،حدثنا محمد بن محمد
بن صخر ،حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ،حدثنا ليث بن سعد ،حدثني سعيد بن أبي سعيد ،
عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،قال :لما فتحت خيبر أهديت لرسول ال صلى ال عليه وسلم
شاة فيها سم ،فقال ( )6رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا"
فقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من أبوكم ؟" قالوا :فلن ( .)7قال " :كذبتم ،بل
أبوكم فلن" .فقالوا :صدقت وبَرِرْت ،ثم قال لهم " :هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟
" .قالوا :نعم ،يا أبا القاسم ،وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا .فقال لهم رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :من أهل النار ؟" فقالوا :نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها .فقال لهم رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :اخسأوا ،وال ل نخلفكم فيها أبدًا" .ثم قال لهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟" .قالوا :نعم يا أبا القاسم .فقال " :هل
جعلتم في هذه الشاة سمّا ؟" .فقالوا :نعم .قال (" : )8فما حملكم على ذلك ؟" .فقالوا :أردنا إن
كنت كاذبًا أن نستريح منك ،وإن كنت نبيًا لم يضرك.
ورواه أحمد ،والبخاري ،والنسائي ،من حديث الليث بن سعد ،بنحوه (.)9
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )2تفسير عبد الرزاق (.)72 ، 1/71
( )3في جـ " :رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه".
( )4في جـ " :فيها".
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :يعني" ،وفي ب " :تعني".
( )6في ط ،ب " :فقال لهم".
( )7في جـ " :قالوا :أبونا فلن".
( )8في جـ ،ط ،ب " :فقال".
( )9المسند ( )2/451وصحيح البخاري برقم ( )4249 ، 3161وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)11355
( )1/314
طتْ بِهِ خَطِيئَُتهُ فَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ( )81وَالّذِينَ َآمَنُوا
سبَ سَيّئَ ًة وََأحَا َ
بَلَى مَنْ كَ َ
صحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()82
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُولَ ِئكَ َأ ْ
وَ َ
( )1/315
وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا َتعْبُدُونَ إِلّا اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا َوذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ
َوقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآَتُوا ال ّزكَاةَ ثُمّ َتوَلّيْتُمْ إِلّا قَلِيلًا مِ ْنكُ ْم وَأَنْتُمْ ُمعْ ِرضُونَ ()83
بن مسعود :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إيّاكم ومحقرات الذنوب ،فإنهن يجتمعن
ن مثل كمثل قوم نزلوا
على الرجل حتى يهلكنه" .وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم ضرب لهُ ّ
بأرض فلة ،فحضر صنيع القوم ،فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ،والرجل يجيء بالعود ،
حتى جمعوا سوادًا ( ، )1وأججوا نارًا ،فأنضجوا ما قذفوا فيها (.)2
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد ،عن سعيد -أو عكرمة -عن ابن عباس { :وَالّذِينَ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } أي من آمن بما كفرتم به ،
آمَنُوا وَ َ
وعمل بما تركتم من دينه ،فلهم الجنة خالدين فيها .يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على
أهله ،ل انقطاع له أبدًا (.)3
خذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ل َتعْبُدُونَ إِل اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا وَذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى
{ وَإِذْ أَ َ
ن َوقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وََأقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ ثُمّ َتوَلّيْ ُتمْ إِل قَلِيل مِ ْنكُ ْم وَأَنْتُمْ
وَا ْلمَسَاكِي ِ
ُمعْ ِرضُونَ (} )83
يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الوامر ،وأخذ ميثاقهم على ذلك ،وأنهم تولوا
عن ذلك كله ،وأعرضوا قصدًا وعمدًا ،وهم يعرفونه ويذكرونه ،فأمرهم أن يعبدوه ول يشركوا
به شيئًا .وبهذا أمر جميع خلقه ،ولذلك خلقهم كما قال تعالى َ { :ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ َرسُولٍ
إِل نُوحِي إِلَيْهِ أَنّ ُه ل إِلَهَ إِل أَنَا فَاعْ ُبدُونِ } [النبياء ]25 :وقال تعالى { :وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ
رَسُول أَنِ اُعْبُدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ } [النحل ]36 :وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ،وهو
حق ال تعالى ،أن يعبد وحده ل شريك له ،ثم بعده حق المخلوقين ،وآكدهم وأولهم بذلك حق
شكُرْ لِي
الوالدين ،ولهذا يقرن ال تعالى بين حقه وحق الوالدين ،كما قال تعالى { :أَنِ ا ْ
وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ } [لقمان ]14 :وقال تعالى َ { :و َقضَى رَ ّبكَ أَل َتعْ ُبدُوا إِل إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ
سكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ } [السراء - 23 :
حقّهُ وَا ْلمِ ْ
حسَانًا } الية إلى أن قال { :وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ
إِ ْ
]26وفي الصحيحين ،عن ابن مسعود ،قلت :يا رسول ال ،أي العمل أفضل ؟ قال " :الصلة
على وقتها" .قلت :ثم أي ؟ قال " :بر الوالدين" .قلت :ثم أيّ ؟ قال " :الجهاد في سبيل ال" (.)4
ولهذا جاء في الحديث الصحيح :أن رجل قال :يا رسول ال ،من أبر ؟ قال " :أمك" .قال :ثم
من ( )5؟ قال " :أمك" .قال :ثم من ؟ قال " :أباك .ثم أدناك أدناك" (.)6
__________
( )1في جـ " :جمعوا أعوادًا".
( )2المسند (.)1/402
( )3في جـ ،ط ،ب " :أبدًا ل انقطاع له".
( )4صحيح البخاري برقم ( )7534 ، 5970 ، 527وصحيح مسلم برقم (.)85
( )5في ط " :ثم قال من".
( )6جاء من حديث معاوية بن حيدة ،رواه أبو داود في السنن برقم ( ، )5139ومن حديث كليب
بن منفعة عن أبيه عن جده ،رواه أبو داود في السنن برقم (.)5140
( )1/316
[وقوله { :ل َتعْبُدُونَ إِل اللّهَ } قال الزمخشري :خبر بمعنى الطلب ،وهو آكد .وقيل :كان
أصله :أل تعبدوا كما قرأها بعض السلف ( )1فحذفت أن فارتفع ،وحكي عن أبي وابن مسعود ،
رضي ال عنهما ،أنهما قرآها " :ل َتعْبُدُوا إِل اللّه" .وقيل { :ل َتعْبُدُونَ } مرفوع على أنه قسم ،
أي :وال ل تعبدون إل ال ،ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه .وقال :اختاره
المبرد والكسائي والفراء] (.)2
قال { :وَالْيَتَامَى } وهم :الصغار الذين ل كاسب لهم من الباء[ .وقال أهل اللغة :اليتيم في بني
آدم من الباء ،وفي البهائم من الم ،وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الم أيضا]
( { )3وَا ْلمَسَاكِينَ } الذين ل يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم ،وسيأتي الكلم على هذه
الصناف عند آية النساء ،التي أمرنا ال تعالى بها صريحًا في قوله { :وَاعْبُدُوا اللّ َه وَل ُتشْ ِركُوا
حسَانًا } الية [النساء .]36 :
بِهِ شَيْئًا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ
وقوله تعالى َ { :وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا } أي :كلموهم طيبًا ،ولينُوا لهم جانبًا ،ويدخل في ذلك
المر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ،كما قال الحسن البصري في قوله َ { :وقُولُوا
حسْن من القول :يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر ،ويحلم ،ويعفو ،
لِلنّاسِ حُسْنًا } فال ُ
ويصفح ،ويقول للناس حسنًا كما قال ال ،وهو كل خُلُق حسن رضيه ال.
جوْني ،عن عبد ال
وقال المام أحمد :حدثنا روح ،حدثنا أبو عامر الخَزّاز ،عن أبي عمران ال َ
بن الصامت ،عن أبي ذر ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال " :ل تحقرن
من المعروف شيئًا ،وإن لم تجد فَا ْلقَ أخاك بوجه منطلق (." )4
وأخرجه مسلم في صحيحه ،والترمذي [وصححه] ( )5من حديث أبي عامر الخزّاز ،واسمه
صالح بن رستم ،به (.)6
وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا ،بعد ما أمرهم بالحسان إليهم بالفعل ،فجمع بين
طرفي الحسان الفعلي والقولي .ثم أكد المر بعبادته والحسان إلى الناس بالمُعيّن ( )7من ذلك ،
وهو الصلة والزكاة ،فقال { :وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ،
أي :تركوه وراء ظهورهم ،وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به ،إل القليل منهم ،وقد أمر
تعالى هذه المة بنظير ذلك في سورة النساء ،بقوله { :وَاعْبُدُوا اللّ َه وَل تُشْ ِركُوا بِهِ شَيْئًا
حبِ
ب وَالصّا ِ
ن وَالْجَارِ ذِي ا ْلقُرْبَى وَا ْلجَارِ الْجُ ُن ِ
حسَانًا وَبِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ
وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ
حبّ مَنْ كَانَ مُخْتَال َفخُورًا } [النساء ]36 :
ب وَابْنِ السّبِيلِ َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ إِنّ اللّهَ ل يُ ِ
بِالْجَ ْن ِ
__________
( )1في أ " :كما قرأها من قرأها من السلف".
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ.
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ.
( )4في ط " :بوجه طلق".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )6المسند ( )5/173وصحيح مسلم برقم ( )2626وسنن الترمذي برقم (.)1833
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :بالمتعين".
( )1/317
فقامت هذه المة من ذلك بما لم تقم به أمة من المم قبلها ،ول الحمد والمنة.
ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن خلف العسقلني ،حدثنا عبد ال بن يوسف -يعني التّنّيسِي -حدثنا
خالد بن صَبِيح ،عن حميد بن عقبة ،عن أسد بن وَدَاعة :أنه كان يخرج من منزله فل يلقى
يهوديًا ول نصرانيًا إل سلم عليه ،فقيل له :ما شأنك ؟ تسلم على اليهودي والنصراني .فقال :
إن ال يقول َ { :وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا } وهو :السلم .قال :وروي عن عطاء الخراساني ،نحوه.
قلت :وقد ثبت في السنة أنهم ل يبدؤون بالسلم ،وال أعلم (.)1
__________
( )1أخرجه مسلم في صحيحه برقم ( )2166عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :ل تبدؤوا اليهود ول النصارى بالسلم ،وإذا لقيتم أحدهم في طريق
فاضطروه إلى أضيقه".
( )1/318
شهَدُونَ (
سكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ ثُمّ َأقْرَرْتُ ْم وَأَنْتُمْ تَ ْ
س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَلَا ُتخْرِجُونَ أَ ْنفُ َ
وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُمْ لَا تَ ْ
علَ ْيهِمْ بِالْإِثْمِ
سكُ ْم وَتُخْ ِرجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِ ِهمْ تَظَاهَرُونَ َ
)84ثُمّ أَنْ ُتمْ َهؤُلَاءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ
جهُمْ َأفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ
ن وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ
وَا ْلعُ ْدوَا ِ
وَ َتكْفُرُونَ بِ َب ْعضٍ َفمَا جَزَاءُ مَنْ َي ْف َعلُ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ إِلّا خِ ْزيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُ َردّونَ ِإلَى
خفّفُ
عمّا َت ْعمَلُونَ ( )85أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالَْآخِ َرةِ فَلَا ُي َ
ب َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
شدّ ا ْلعَذَا ِ
أَ َ
عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ ()86
ش َهدُونَ (
سكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ ثُمّ َأقْرَرْ ُت ْم وَأَنْتُمْ تَ ْ
س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَل تُخْ ِرجُونَ أَ ْنفُ َ
خذْنَا مِيثَا َقكُمْ ل تَ ْ
{ وَإِذْ أَ َ
سكُ ْم وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ َتظَاهَرُونَ عَلَ ْيهِمْ بِالثْمِ
)84ثُمّ أَنْ ُتمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ
جهُمْ َأفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ
ن وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ
وَا ْلعُ ْدوَا ِ
وَ َتكْفُرُونَ بِ َب ْعضٍ َفمَا جَزَاءُ مَنْ َي ْف َعلُ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ إِل خِ ْزيٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى
خفّفُ
عمّا َت ْعمَلُونَ ( )85أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ فَل ُي َ
ب َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
شدّ ا ْلعَذَا ِ
أَ َ
عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ (} )86
يقول ،تبارك وتعالى ،منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم
بالمدينة ،وما كانوا يعانونه من القتال مع الوس والخزرج ،وذلك أن الوس والخزرج ،وهم
النصار ،كانوا في الجاهلية عُبّاد أصنام ،وكانت بينهم حروب كثيرة ،وكانت يهود المدينة
ثلثَ قبائل :بنو قينقاع .وبنو النضير حلفاء الخزرج .وبنو قريظة حلفاء الوس .فكانت الحرب
إذا نشبت ( )1بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ،فيقتل اليهودي أعداءه ،وقد يقتل اليهوديّ الخرُ
من الفريق الخر ،وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ،ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما
فيها من الثاث والمتعة والموال ،ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا السارى من الفريق
المغلوب ،عمل بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى َ { :أفَ ُتؤْمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ وَ َت ْكفُرُونَ بِ َب ْعضٍ }
سكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ } أي :
س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَل ُتخْرِجُونَ أَ ْنفُ َ
ولهذا قال تعالى { :وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم ل َت ْ
ل يقتل بعضكم بعضًا ،ول يخرجه من منزله ،ول يظاهر عليه ،كما قال تعالى { :فَتُوبُوا إِلَى
سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ } [البقرة ]54 :
بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ
__________
( )1في أ " :نشئت".
( )1/318
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ،كما قال عليه الصلة والسلم " :مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالحمى والسهر".
شهَدُونَ } أي :ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم
[وقوله] ( { )1ثُمّ َأقْرَرْتُ ْم وَأَنْتُمْ َت ْ
تشهدون به.
علَ ْيهِمْ بِالثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ
سكُ ْم وَتُخْ ِرجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِ ِهمْ تَظَاهَرُونَ َ
{ ُثمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ
جهُمْ } قال محمد بن إسحاق بن يسار :حدثني
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ
محمد بن أبي محمد ،عن سعيد بن جبير -أو عكرمة -عن ابن عباس { :ثُمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ
سكُمْ } الية ،قال :أنبهم ال ( )2من فعلهم ،وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم ()3
أَ ْنفُ َ
وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم ،فكانوا فريقين :طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم ( )4حلفاء
الخزرج ،والنضير ،وقريظة وإنهم ( )5حلفاء الوس ،فكانوا إذا كانت بين الوس والخزرج
حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ،وخرجت النضير وقريظة مع الوس ،يظاهر ( )6كل
واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ،حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ،وبأيديهم التوراة يعرفون
فيها ما عليهم وما لهم .والوس والخزرج أهل شرك يعبدون الوثان ،ول يعرفون جنة ول
نارًا ،ول بعثًا ول قيامة ،ول كتابًا ،ول حلل ول حرامًا ،فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا
أسراهم ،تصديقًا لما في التوراة ،وأخذًا به ؛ بعضهم من بعض ،يفتدي بنو قينقاع ما كان من
أسراهم في أيدي ( )7الوس ،ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي ( )8الخزرج منهم ،
ويطلبون ( )9ما أصابوا من دمائهم ( )10وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ،مظاهرة لهل الشرك
ب وَ َتكْفُرُونَ
عليهم .يقول ال تعالى ذكره حيث أَنّبهم ( )11بذلك َ { :أفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَا ِ
بِ َب ْعضٍ } أي :يفاديه بحكم التوراة ويقتله ،وفي حكم التوراة أل يفعل ،ول يُخرج ( )12من داره
،ول ُيظَاهَر عليه من يُشْرك بال ،ويعبد الوثان من دونه ،ابتغاء عرض الدنيا .ففي ذلك من
فعلهم مع الوس والخزرج -فيما بلغني -نزلت هذه القصة (.)13
وقال أسباط عن السدي :كانت قريظة حلفاء الوس ،وكانت النضير حلفاء الخزرج ،فكانوا
سمَير ،فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ وحلفاءهم ،وكانت النضير تقاتل
يقتتلون في حرب ُ
قريظة
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :أنبأهم ال بذلك".
( )3في جـ " :سفك الدماء".
( )4في جـ " :وهم".
( )5في جـ " :وهم".
( )6في جـ ،ط ،ب " :فظاهر".
( )7في جـ " :يدي".
( )8في جـ " :يدي".
( )9في جـ ،ط ،أ " :يطلبون".
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :من الدماء وقتلوا".
( )11في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :حين أنبأهم".
( )12في جـ ،ط ،ب " :ويخرجه".
( )13انظر :السيرة النبوية لبن هشام ( )1/540وتفسير الطبري (.)2/305
( )1/319
وحلفاءها ،ويغلبونهم ،فيخربون ديارهم ،ويخرجونهم منها ،فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما
،جمعوا له حتى يفدوه .فتعيرهم العرب بذلك ،ويقولون :كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا :إنا
أمرنا أن نفديهم ،وحرّم علينا قتالهم ،قالوا :فلم تقاتلونهم ؟ قالوا :إنّا نستحيى أن ُتسْتَذلّ حلفاؤنا
سكُ ْم وَتُخْ ِرجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ
( .)1فذلك حين عيّرهم ال ،فقال ُ { :ثمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ
دِيَارِ ِهمْ }
سكُمْ
وقال شعبة ،عن السدي :نزلت هذه الية في قيس بن الخَطيم ُ { :ثمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَا ِرهِمْ َتظَاهَرُونَ عَلَ ْيهِمْ بِالثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ }
وقال أسباط ،عن السدي ،عن عبد خير ،قال :غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بَلَ ْنجَر ()2
فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد ال بن سلم يهودية بسبعمائة ،فلما مرّ
برأس الجالوت نزل به ،فقال له عبد ال :يا رأس الجالوت ،هل لك في عجوز هاهنا من أهل
دينك ،تشتريها مني ؟ قال :نعم .قال :أخذتها بسبعمائة درهم .قال :فإني أرْبحُك سبعمائة
أخرى .قال :فإني قد حلفت أل أنقصها من أربعة آلف .قال :ل حاجة لي فيها ،قال :وال
لتشترينها مني ،أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه .قال :ادن مني ،فدنا منه ،فقرأ في أذنه التي
في التوراة :إنك ل تجد مملوكًا من بني إسرائيل إل اشتريته فأعتقته { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ ُأسَارَى
ج ُهمْ } قال :أنت عبد ال بن سلم ؟ قال :نعم .قال :فجاء
ُتفَادُوهُ ْم وَ ُهوَ مُحَرّمٌ عَلَ ْيكُمْ ِإخْرَا ُ
بأربعة آلف ،فأخذ عبد ال ألفين ،ورد عليه ألفين.
وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره :حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ،حدثنا الربيع بن أنس ،
أخبرنا أبو العالية :أن عبد ال بن سلم مر على رأس الجالوت بالكوفة ،وهو يفادي من النساء
من لم يقع عليها العرب ،ول يفادي من وقع عليها العرب ،فقال ( )3عبد ال بن سلم :أما إنه
مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
والذي أرشدت إليه الية الكريمة ،وهذا السياق ،ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون
صحتها ،ومخالفة شرعها ،مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ،فلهذا ل يؤتمنون على ما
فيها ول على نقلها ،ول يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول ال ( )4صلى ال عليه وسلم
ونعته ،ومبعثه ومخرجه ،ومهاجره ،وغير ذلك من شؤونه ،التي قد أخبرت بها النبياء قبله.
واليهود عليهم لعائن ال يتكاتمونه بينهم ،ولهذا قال تعالى { َفمَا جَزَاءُ مَنْ َي ْفعَلُ َذِلكَ مِ ْنكُمْ إِل
خِ ْزيٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } أي :بسبب مخالفتهم شرع ال وأمره { وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى َأشَدّ
عمّا َت ْعمَلُونَ* أُولَ ِئكَ
ا ْلعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب ال الذي بأيديهم { َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
خفّفُ عَ ْنهُمُ
الّذِينَ اشْتَ َروُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ } أي :استحبوها على الخرة واختاروها { فَل ُي َ
ا ْلعَذَابُ } أي :ل يفتر عنهم ساعة واحدة { وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ }
__________
( )1في أ ،و " :نستذل بحلفائنا".
( )2في جـ " :بكنجر".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فقال له".
( )4في جـ " :صفة محمد".
( )1/320
أي :وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ،ول يجيرهم منه.
ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ
ل وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ
سِب َو َقفّيْنَا مِنْ َب ْع ِدهِ بِالرّ ُ
{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَا َ
س ُكمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُ ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ (} )87
ا ْلقُدُسِ َأ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ
ينعت ،تبارك وتعالى ،بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ،والستكبار على النبياء ،وأنهم
إنما يتبعون أهواءهم ،فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب -وهو التوراة -فحرفوها وبدلوها ،
وخالفوا أوامرها وأولوها .وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته ،كما قال
حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ َأسَْلمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ
تعالى { :إِنّا أَنزلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَ ْ
ش َهدَاءَ } الية [المائدة ، ]44 :ولهذا قال :
حفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّ ِه َوكَانُوا عَلَ ْيهِ ُ
وَالحْبَارُ ِبمَا اسْ ُت ْ
سلِ } قال السدي ،عن أبي مالك :أتبعنا .وقال غيره :أردفنا .والكل قريب
{ َو َقفّيْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ بِالرّ ُ
،كما قال تعالى { :ثُمّ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [المؤمنون ]44 :حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى
ابن مريم ،فجاء بمخالفة التوراة في بعض الحكام ،ولهذا أعطاه ال من البينات ،وهي :
المعجزات .قال ابن عباس :من إحياء الموتى ،وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون
طيرًا بإذن ال ،وإبرائه السقام ،وإخباره بالغيوب ،وتأييده بروح القدس ،وهو جبريل عليه
حسَدهم وعنادهم
السلم -ما يدلهم ( )1على صدقه فيما جاءهم به .فاشتد تكذيب بني إسرائيل له و َ
حلّ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ
لمخالفة التوراة في البعض ،كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى { :وَل ِ
عَلَ ْيكُ ْم وَجِئْ ُت ُكمْ بِآيَةٍ مِنْ رَ ّب ُكمْ } الية [آل عمران .]50 :فكانت بنو إسرائيل تعامل النبياء عليهم
السلم ( )2أسوأ المعاملة ،ففريقًا يكذبونه .وفريقًا يقتلونه ،وما ذاك إل لنهم كانوا يأتونهم
بالمور المخالفة لهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ،فلهذا
كان يشق ذلك عليهم ،فيكذبونهم ،وربما قتلوا بعضهم ؛ ولهذا قال تعالى َ { :أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ
سكُمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ َففَرِيقًا كَذّبْ ُت ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ }
ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ
والدليل على أن روح القدس هو جبريل ،كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الية ،وتابعه
على ذلك [ابن عباس و] ( )3محمد بن كعب القرظي ،وإسماعيل بن أبي خالد ،والسدي ،
ح المِينُ* عَلَى قَلْ ِبكَ
والربيع بن أنس ،وعطية العوفي ،وقتادة مع قوله تعالى { :نزلَ ِبهِ الرّو ُ
لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ* [بِِلسَانٍ عَرَ ِبيّ مُبِينٍ] ([ } )4الشعراء ]195 - 193 :ما قال البخاري :
وقال ابن أبي الزناد ،عن أبيه ،عن عروة ،عن عائشة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد ،فكان ينافح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال
:رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" ( .)5وهذا
من
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :يدلهم به".
( )2في جـ " :عليهم الصلة والسلم".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4زيادة من جـ.
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :عن نبيه".
( )1/321
( )1/322
الموتى .وقال ابن جرير :حُدثت عن المنجاب .فذكره .قال ابن أبي حاتم :وروي عن سعيد بن
جبير نحو ذلك[ .ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير -أيضا -قال :وهو السم العظم] (.)1
وقال ابن أبي َنجِيح :الروح هو حفظة على الملئكة.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس :القدس هو الرب تبارك وتعالى .وهو قول كعب.
وقال السدي :القدس :البركة .وقال العوفي ،عن ابن عباس :القدس :الطهر.
[وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قال القدس :هو ال تعالى ،وروحه :
جبريل ،فعلى هذا يكون القول الول] (.)2
وقال ابن جرير :حدثنا يونس بن عبد العلى ،أنبأنا ابن وهب قال :قال ابن زيد ( )3في قوله
تعالى { :وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } قال :أيد ال عيسى بالنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا ،
كلهما روح من ال ،كما قال تعالى َ { :وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } [الشورى .]52 :
ثم قال ابن جرير :وأولى التأويلت في ذلك بالصواب قولُ من قال :الروح في هذا الموضع
جبريل ،لن ال ،عز وجل ،أخبر أنه أيد عيسى به ،كما أخبر في قوله ِ { :إذْ قَالَ اللّهُ يَا
ك وَعَلى وَالِدَ ِتكَ ِإذْ أَيّدْ ُتكَ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ ُتكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َم ْهدِ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ا ْذكُرْ ِن ْعمَتِي عَلَ ْي َ
ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَاةَ وَالنْجِيلَ } الية [المائدة .]110 :فذكر أنه أيده به ،
عّلمْ ُتكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ
َو َكهْل وَإِذْ َ
فلو كان الروح الذي أيده به هو النجيل ،لكان قوله ِ { :إذْ أَيّدْ ُتكَ بِرُوحِ ا ْلقُ ُدسِ } { وَإِذْ عَّلمْ ُتكَ
ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَا َة وَالنْجِيلَ } تكرير قول ل معنى له ،وال أعز أن يخاطب عباده بما ل
ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ
يفيدهم به.
قلت :ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ؛ ول الحمد (.)4
وقال الزمخشري { بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } بالروح المقدسة ،كما يقول :حاتم الجود ورجل صدق
ووصفها بالقدس كما قال { :وَرُوحٌ مِ ْن ُه } فوصفه بالختصاص والتقريب تكرمة ،وقيل :لنه لم
تضمه الصلب والرحام الطوامث ،وقيل :بجبريل ،وقيل :بالنجيل ،كما قال في القرآن { :
رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } [الشورى ]52 :وقيل باسم ال العظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ،وتضمن
كلمه قول آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة.
وقال الزمخشري في قوله َ { :ففَرِيقًا كَذّبْتُ ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ } إنما لم يقل :وفريقًا قتلتم ؛ لنه أراد
بذلك وصفهم في المستقبل -أيضًا -لنهم حاولوا قتل النبي صلى ال عليه وسلم بالسم والسحر ،
وقد قال ،عليه السلم ،في مرض موته " :ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري"
،وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره (.)5
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في جـ " :قال ابن أبي زيد".
( )4في جـ ،ط " :ول الحمد والمنة".
( )5صحيح البخاري برقم ( )2617وصحيح مسلم برقم (.)2190
( )1/323
َوقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ َلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيلًا مَا ُي ْؤمِنُونَ ()88
{ َوقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ َلعَ َن ُهمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيل مَا ُي ْؤمِنُونَ (} )88
قال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن
عباس َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } أي :في أكنة.
غ ْلفٌ } أي :ل تفقه.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا ُ
وقال العوفي ،عن ابن عباس َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } [قال] ( )1هي القلوب المطبوع عليها.
وقال مجاهد َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } عليها غشاوة.
وقال عكرمة :عليها طابع .وقال أبو العالية :أي ل تفقه .وقال السدي :يقولون :عليها غلف ،
وهو الغطاء.
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } هو كقوله َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي
َأكِنّةٍ ِممّا تَدْعُونَا إِلَ ْيهِ } [فصلت .]5 :
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،في قوله { :غُ ْلفٌ } قال :يقول :قلبي في غلف فل
يَخْلُص إليه ما تقول ،قرأ (َ { )2وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ،واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي ،عن أبي
البختري ،عن حذيفة ،قال :القلوب أربعة .فذكر منها :وقلب أغلف َم ْغضُوب عليه ،وذاك قلب
الكافر.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي ،أنبأنا أبي ،عن جدي ،عن قتادة ،
عن الحسن في قوله { :قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } قال :لم تختن.
هذا ( )3القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ،وأنها بعيدة من الخير.
قول آخر :
قال الضحاك ،عن ابن عباس في قوله َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } قال قالوا :قلوبنا مملوءة علمًا ل
تحتاج إلى علم محمد ،ول غيره.
وقال عطية العوفي َ { :وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } أي :أوعية للعلم.
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض النصار ( )4فيما حكاه ابن جرير " :وقالوا قلوبنا غُلُف"
بضم اللم ،أي :جمع غلف ،أي :أوعية ،بمعنى أنهم ادعوا ( )5أن قلوبهم مملوءة بعلم ل
يحتاجون معه إلى علم آخر .كما كانوا َيمُنّون ( )6بعلم التوراة .ولهذا قال تعالى { :بَل ّلعَ َن ُهمُ اللّهُ
ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيل مّا ُي ْؤمِنُونَ } ،أي :ليس المر كما ادعوا بل
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2في جـ ،ط ،ب " :وقرأ".
( )3في جـ ،ط ،ب " :وهذا".
( )4في أ ،و " :بعض المصار".
( )5ف جـ " :أنهم زعموا".
( )6في أ " :كما كانوا يكتمون".
( )1/324
قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ،كما قال في سورة النساء َ { :وقَوِْلهِمْ قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ طَ َبعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا
ِب ُكفْرِهِمْ فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيل } [النساء .]155 :وقد اختلفوا في معنى قوله َ { :فقَلِيل مّا ُي ْؤمِنُونَ }
وقوله { :فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيل } ،فقال بعضهم :فقليل من يؤمن منهم [واختاره فخر الدين
الرازي وحكاه عن قتادة والصم وأبي مسلم الصبهاني] وقيل :فقليل إيمانهم .بمعنى أنهم
يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ،ولكنه إيمان ل ينفعهم ،لنه
مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى ال عليه وسلم.
وقال بعضهم :إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ،وإنما قال َ { :فقَلِيل مَا ُي ْؤمِنُونَ } وهم بالجميع
كافرون ،كما تقول العرب :قلما رأيت مثل هذا قط .تريد :ما رأيت مثل هذا قط[ .وقال
الكسائي :تقول العرب :من زنى بأرض قلما تنبت ،أي :ل تنبت شيئًا].)1( .
حكاه ( )2ابن جرير ،وال أعلم.
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط ،ب " :حكاها".
( )1/325
وََلمّا جَا َءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا
جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ()89
{ وََلمّا جَاءَ ُهمْ كِتَابٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا
جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ (} )89
يقول تعالى { :وََلمّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ } وهو :القرآن الذي أنزل على
محمد صلى ال عليه وسلم { ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ } يعني :من التوراة ،وقوله َ { :وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ
يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } أي :وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون
بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ،يقولون :إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم
عمَر عن قتادة النصاري ،عن
معه قتل عاد وإرم ،كما قال محمد بن إسحاق ،عن عاصم بن ُ
أشياخ منهم قال :قالوا :فينا وال وفيهم -يعني في النصار -وفي اليهود الذين كانوا
جيرانهم ،نزلت هذه القصة يعني { :وََلمّا جَاءَ ُهمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُوا مِنْ
قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا جَا َءهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ } قالوا ( )1كنا قد علوناهم دهرًا
في الجاهلية ،ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب ،فكانوا يقولون :إن نبيًا من [النبياء] ( )2يبعث
الن نتبعه ،قد أظل زمانه ،نقتلكم معه قتل عاد وإرم .فلما بعث ال رسوله من قريش [واتبعناه]
( )3كفروا به .يقول ال تعالى { :فََلمّا جَاءَ ُهمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
[النساء .]155 :
وقال الضحاك ،عن ابن عباس ،في قوله َ { :وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } قال
:يستظهرون يقولون :نحن نعين محمدًا عليهم ،وليسوا كذلك ،يكذبون.
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :قال".
( )2زيادة من جـ.
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/325
وقال محمد بن إسحاق :أخبرني محمد بن أبي محمد ،أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن
ابن عباس :أن يَهود ( )1كانوا يستفتحون على الوس والخزرج برسول ال صلى ال عليه وسلم
قبل مبعثه .فلما بعثه ال من العرب كفروا به ،وجحدوا ما كانوا يقولون فيه .فقال لهم معاذ بن
جبل ،وبشر بن البراء بن َمعْرُور ،أخو بني سلمة ( )2يا معشر يهود ،اتقوا ال وأسلموا ،فقد
كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى ال عليه وسلم ونحن أهل شرك ،وتخبروننا بأنه مبعوث ،
وتصفُونه لنا بصفته .فقال سَلم بن مِشْكم أخو بني النضير :ما جاءنا بشيء نعرفه ،وما هو
بالذي كنا نذكر لكم فأنزل ال في ذلك من قولهم { :وََلمّا جَا َءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا
َم َعهُ ْم َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى
ا ْلكَافِرِينَ } ()3
وقال العوفي ،عن ابن عباس َ { :وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } يقول :
يستنصرون بخروج محمد صلى ال عليه وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب -
فلما بعث محمد صلى ال عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
وقال أبو العالية :كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى ال عليه وسلم على مشركي العرب ،
يقولون :اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم .فلما بعث
ال محمدًا صلى ال عليه وسلم ،ورأوا أنه ( )4من غيرهم ،كفروا به حسدًا للعرب ،وهم
يعلمون أنه رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ال { :فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ
عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
وقال قتادة َ { :وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } قال :كانوا يقولون :إنه سيأتي نبي.
{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ }
وقال مجاهد { :فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } قال :هم اليهود.
وقال المام أحمد :حدثنا يعقوب ،حدثنا أبي ،عن ابن إسحاق ،حدثني صالح بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف ،عن محمود بن لبيد ،أخي بني عبد الشهل عن سلمة بن سلمة بن
وقش ،وكان من أهل بدر قال :كان لنا جار يهودي في بني عبد الشهل قال :فخرج علينا يومًا
من بيته قبل مبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بيسير ،حتى وقف على مجلس بني عبد
الشهل .قال سلمة :وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي .فذكر
البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار .قال ذلك لهل شرك أصحاب أوثان ل يرون
بعثًا كائنًا بعد الموت ،فقالوا له :ويحك يا فلن ،ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى
دار فيها جنة ونار ،يجزون فيها بأعمالهم ؟ فقال :نعم ،والذي يحلف به ،لود أن له بحظه من
تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ،وأن ينجو من تلك النار
غدًا .قالوا له :ويحك وما آية ذلك ؟ قال :نبي
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :أن يهودًا".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وداود بن سلمة".
( )3انظر :السيرة النبوية لبن هشام ( )1/547وتفسير الطبري (.)2/233
( )4في جـ " :ورأوه".
( )1/326
يبعث من نحو هذه البلد ،وأشار بيده نحو مكة واليمن .قالوا :ومتى نراه ؟ قال :فنظر إليّ وأنا
من أحدثهم سنّا ،فقال :إن يستنفذ هذا الغلم عمره يدركه .قال سلمة :فوال ما ذهب الليل
والنهار حتى بعث ال رسوله صلى ال عليه وسلم وهو بين أظهرنا ،فآمنا به وكفر به بغيًا
وحسدًا.
فقلنا :ويلك يا فلن ،ألست بالذي قلت لنا ؟ قال :بلى وليس به .تفرد به أحمد (.)1
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس ،رضي ال عنهما :أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان
الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان ،فدعا اليهود عند ذلك ،فقالوا :اللهم إنا نسألك بحق النبي
المي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان ،إل نصرتنا عليهم .قال :فنصروا عليهم .قال :
وكذلك كانوا يصنعون يدعون ال فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم .قال ال تعالى { :فََلمّا
جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا } أي من الحق وصفة محمد صلى ال عليه وسلم " َكفَرُوا به" فلعنة ال على
الكافرين.
سهُمْ أَنْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ
{ بِ ْئ َ
ضبٍ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ (} )90
غ َ
ضبٍ عَلَى َ
عِبَا ِدهِ فَبَاءُوا ِب َغ َ
حمّد
سهُمْ } يهودُ شَ َروُا الحقّ بالباطل ،وكتمانَ مَا جاءَ به مُ َ
سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ
قال مجاهد { :بِ ْئ َ
صلى ال عليه وسلم بأن يبينوه.
سهُمْ } يقول :باعوا به أنفسهم ،يعني :بئسما اعتاضوا
سمَا اشْتَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ
وقال السدي { :بِئْ َ
لنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل ال على محمد صلى ال عليه وسلم إلى
تصديقه ومؤازرته ونصرته] (.)2
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ
} ول حسد أعظم من هذا.
سهُمْ أَنْ
سمَا اشْتَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ
قال ابن إسحاق عن محمد ،عن عكرمة أو سعيد ،عن ابن عباس { :بِئْ َ
َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضِْلهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } أي :إن ال جعله من
غضَبٍ } قال ابن عباس :فالغضب على الغضب ،فغضبه عليهم
ضبٍ عَلَى َ
غيرهم { فَبَاءُوا ِب َغ َ
فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ،وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث ال إليهم.
قلت :ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا ،واستحقوا ،واستقروا بغضب على غضب .وقال أبو العالية :
غضب ال عليهم بكفرهم بالنجيل وعيسى ،ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد ،وبالقرآن ()3
عليهما السلم [ ،وعن عكرمة وقتادة مثله] (.)4
__________
( )1المسند (.)3/467
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :بكفرهم بمحمد والقرآن".
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/327
قال السدي :أما الغضب الول فهو حين غضب عليهم في ال ِعجْل ،وأما الغضب الثاني فغضب
عليهم حين كفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله] (.)1
وقوله { :وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ،ومنشأ ذلك التكبر ،
قوبلوا بالهانة والصغار في الدنيا والخرة ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
جهَنّمَ دَاخِرِينَ } [غافر [ ، ]60 :أي :صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] (.)2
سَيَ ْدخُلُونَ َ
وقد قال المام أحمد :حدثنا يحيى ،حدثنا ابن عَجْلن ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن
جده ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور
الناس ،يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم ،يقال له :بُولَس فيعلوهم نار
النيار يسقون ( )3من طينة الخبال :عصارة أهل النار" (.)4
{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ آمِنُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ قَالُوا ُن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَ َيكْفُرُونَ ِبمَا وَرَا َءهُ وَ ُهوَ ا ْلحَقّ
ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعهُمْ ُقلْ فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ( )91وََلقَدْ جَا َء ُكمْ مُوسَى
جلَ مِنْ َبعْ ِد ِه وَأَنْ ُتمْ ظَاِلمُونَ (} )92
بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ
يقول تعالى { :وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ } أي :لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب { آمِنُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ } [أي] (
: )5على محمد صلى ال عليه وسلم وصدقوه واتبعوه { قَالُوا ُن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } أي :يكفينا
اليمان بما أنزل علينا من التوراة والنجيل ول نقر إل بذلك { ،وَ َي ْكفُرُونَ ِبمَا وَرَا َءهُ } يعنى :
حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعهُمْ } أي :وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى ال عليه
بما بعده { وَ ُهوَ الْ َ
وسلم الحق (ُ { )6مصَ ّدقًا } ( )7منصوب على الحال ،أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة
والنجيل ،فالحجة قائمة عليهم بذلك ،كما قال تعالى { :الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا
َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة ]146 :ثم قال تعالى ُ [ { :قلْ] ( )8فَِلمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ
ُم ْؤمِنِينَ } أي :إن كنتم صادقين في دعواكم اليمان بما أنزل إليكم ،فلم قتلتم النبياء الذين
جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها ،وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم
بغيًا [وحسدًا] ( )9وعنادًا واستكبارًا على رسل ال ،فلستم تتبعون إل مجرد الهواء ،والراء
س ُكمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ
والتشهي ( )10كما قال تعالى { َأ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ
َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ } [البقرة .]87 :
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3في جـ ،ط " :ويسقون".
( )4المسند (.)2/179
( )5زيادة من ط ،ب ،و.
( )6في و " :هو الحق".
( )7في جـ " :مصدقا لما معهم".
( )8زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )9زيادة من جـ.
( )10في جـ " :والشهوة".
( )1/328
عصَيْنَا
س ِمعْنَا وَ َ
س َمعُوا قَالُوا َ
وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ وَا ْ
سمَا يَ ْأمُ ُركُمْ ِبهِ إِيمَا ُنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ ()93
جلَ ِب ُكفْرِهِمْ ُقلْ بِئْ َ
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ
وقال السدي :في هذه الية يعيرهم ال تعالى ُ { :قلْ فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ
ُم ْؤمِنِينَ }
وقال أبو جعفر بن جرير :قل يا محمد ليهود بني إسرائيل [ -الذين] ( )1إذا قلت لهم :آمنوا بما
أنزل ال قالوا ُ { :ن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } : -لم تقتلون ( - )2إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين
بما أنزل ال عليكم -أنبياءه وقد حرم ال في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ،بل أمركم فيه
باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم ،وذلك من ال تكذيب لهم في قولهم ُ { :ن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا }
وتعيير لهم.
{ وََلقَدْ جَا َءكُمْ مُوسَى بِالْبَيّنَاتِ } أي :باليات الواضحات ( )3والدلئل القاطعة ( )4على أنه
رسول ال ،وأنه ل إله إل ال .والبينات هي :الطوفان ،والجراد ،والقمل ،والضفادع ،
والدم ،والعصا ،واليد ،وفَلْق البحر ،وتظليلهم بالغمام ،والمن والسلوى ،والحجر ،وغير ذلك
جلَ } أي :معبودًا من دون ال في زمان موسى وآياته.
من اليات التي شاهدوها { ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ
وقوله { مِنْ َبعْ ِدهِ } أي :من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة ال كما قال تعالى { :وَاتّخَذَ
خوَارٌ } [العراف { ، ]148 :وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ } [أي
سدًا لَهُ ُ
َقوْمُ مُوسَى مِنْ َب ْع ِدهِ مِنْ حُلِ ّي ِهمْ عِجْل جَ َ
وأنتم ظالمون] ( )5في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل ،وأنتم تعلمون أنه ل إله
حمْنَا رَبّنَا
سقِطَ فِي أَيْدِيهِ ْم وَرََأوْا أَ ّنهُمْ قَ ْد ضَلّوا قَالُوا لَئِنْ َلمْ يَرْ َ
إل ال ،كما قال تعالى { :وََلمّا ُ
وَ َيغْفِرْ لَنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } [العراف .]149 :
عصَيْنَا
س ِمعْنَا وَ َ
س َمعُوا قَالُوا َ
خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِبقُ ّو ٍة وَا ْ
خذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْوقَكُمُ الطّورَ ُ
{ وَإِذْ أَ َ
سمَا يَ ْأمُ ُركُمْ ِبهِ إِيمَا ُنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ (} )93
جلَ ِب ُكفْرِهِمْ ُقلْ بِئْ َ
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ
يعدد ،تبارك وتعالى ،عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ،حتى رفع
عصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك.
س ِمعْنَا وَ َ
الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال { :قَالُوا َ
جلَ ِب ُكفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة { :وَأُشْرِبُوا فِي
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل ِع ْ
جلَ [ ِب ُكفْرِهِمْ] ( } )6قال :أشربوا [في قلوبهم] ( )7حبه ،حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ
وكذا قال أبو العالية ،والربيع بن أنس.
وقال المام أحمد :حدثنا عصام بن خالد ،حدثني أبو بكر بن عبد ال بن أبي مريم الغساني ،
عن خالد بن محمد الثقفي ،عن بلل بن أبي الدرداء ،عن أبي الدرداء ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم قال " :حُبّك
__________
( )1زيادة من ب.
( )2في جـ ،ط " :تقتلون أنبياء ال من قبل".
( )3في جـ ،ط ،ب " :الواضحة".
( )4في أ " :القاطعات".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )7زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )1/329
( )1/330
ُقلْ إِنْ كَا َنتْ َل ُكمُ الدّارُ الْآَخِ َرةُ عِ ْندَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (
)94وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ ( )95وَلَتَجِدَ ّن ُهمْ أَحْ َرصَ النّاسِ عَلَى
حَيَا ٍة َومِنَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َيوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَنَ ٍة َومَا ُهوَ ِبمُ َزحْزِحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ
وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ()96
صةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (
{ ُقلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ عِنْدَ اللّهِ خَاِل َ
)94وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ ( )95وَلَتَجِدَ ّن ُهمْ أَحْ َرصَ النّاسِ عَلَى
حَيَا ٍة َومِنَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َيوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَنَ ٍة َومَا ُهوَ ِبمُ َزحْزِحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ
وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ (} )96
قال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن
عباس :يقول ال لنبيه صلى ال عليه وسلم ُ { :قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّا ُر الخِ َرةُ عِنْدَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ
دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } أي :ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب .فأبوا
ذلك على رسول ال صلى ال عليه وسلم { وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ
بِالظّاِلمِينَ } أي ِ :بعِ ْل ِمهِم بما عندهم من العلم بك ،والكفر بذلك ،ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما
بقي على الرض يهودي إل مات.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس { :فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ } فسلوا الموت.
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن عبد الكريم الجزري ،عن عكرمة ،قوله { :فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َموْتَ
إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } قال :قال ابن عباس :لو تمنى اليهود الموت لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنَافِسِي ،حدثنا عثام ،سمعت العمش
-قال :ل أظنه إل عن المِنْهال ،عن سعيد بن جبير -عن ابن عباس ،قال :لو تمنوا الموت
لشرق أحدهم بريقه.
وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.
وقال ابن جرير في تفسيره :وبلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :لو أن اليهود تمنوا
الموت لماتوا .ولرأوا مقاعدهم من النار .ولو خرج الذين يُباهلون رسول ال صلى ال عليه وسلم
لرجعوا ل يجدون ( )1أهل ول مال" .حدثنا بذلك أبو كُرَيْب ،حدثنا زكريا بن عدي ،حدثنا عبيد
ال ( )2بن عمرو ،عن عبد الكريم ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم.
ورواه المام أحمد عن إسماعيل بن يزيد ( )3الرقي [أبي يزيد] ( )4حدثنا فرات ،عن عبد الكريم
،به (.)5
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن أحمد [قال] ( : )6حدثنا إبراهيم بن عبد ال بن بشار ،
__________
( )1في جـ " :ول يجدون".
( )2في أ " :عبد ال".
( )3في جـ " :عن إسماعيل عن زيد" ،وفي أ ،و " :عن إسماعيل بن يزيد".
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5تفسير الطبري ( )2/362والمسند (.)1/248
( )6زيادة من جـ.
( )1/331
حدثنا سرور بن المغيرة ،عن عباد بن منصور ،عن الحسن ،قال :قول ال ما كانوا ليتمنوه
بما قدمت أيديهم .قلت :أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم :تمنوا ،أتراهم كانوا ميتين ؟
قال :ل وال ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت ،وما كانوا ليتمنوه ،وقد قال ال ما سمعت :
{ وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ }
وهذا غريب عن الحسن .ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الية هو المتعين ،وهو الدعاء على أي
الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ،ونقله ( )1ابن جرير عن قتادة ،وأبي
العالية ،والربيع بن أنس ،رحمهم ال.
عمْتُمْ أَ ّنكُمْ َأوْلِيَاءُ لِلّهِ
ونظير هذه الية قوله تعالى في سورة الجمعة ُ { :قلْ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ هَادُوا إِنْ زَ َ
مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ* وَل يَ َتمَ ّنوْنَهُ أَبَدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ
شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئ ُكمْ
ب وَال ّ
بِالظّاِلمِينَ* ُقلْ إِنّ ا ْل َموْتَ الّذِي َتفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ مُلقِيكُمْ ثُمّ تُ َردّونَ إِلَى عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ
ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } [الجمعة ]8 - 6 :فهم -عليهم لعائن ال -لما زعموا أنهم أبناء ال
وأحباؤه ،وقالوا :لن يدخل الجنة إل من كان هودًا أو نصارى ،دعوا إلى المباهلة والدعاء على
أكذب الطائفتين منهم ،أو من المسلمين .فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد ( )2أنهم ظالمون ؛ لنهم
لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك ،فلما تأخروا علم كذبهم .وهذا ( )3كما دعا
رسول ال صلى ال عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة ،
جكَ فِيهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ َف ُقلْ
وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة ،فقال تعالى َ { :فمَنْ حَا ّ
ج َعلْ َلعْنَةَ اللّهِ عَلَى
سكُمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَنَ ْ
َتعَاَلوْا نَ ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَا َء ُك ْم وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وَأَ ْنفُ َ
يل
ا ْلكَاذِبِينَ } [آل عمران ]61 :فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض :وال لئن باهلتم هذا النب ّ
يبقى منكم عين تطرف .فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ،فضربها
عليهم .وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ،رضي ال عنه ،أمينًا .ومثل هذا المعنى أو قريب منه
قوله تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم أن يقول للمشركين ُ { :قلْ مَنْ كَانَ فِي الضّللَةِ فَلْ َيمْ ُددْ لَهُ
حمَنُ َمدّا } [مريم ، ]75 :أي :من كان في الضللة منا أو منكم ،فزاده ال مما هو فيه ومَدّ
الرّ ْ
له ،واستدرجه ،كما سيأتي تقريره في موضعه ،إن شاء ال (.)4
فأما من فسر الية على معنى ُ { :قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ عِ ْندَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ
فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َموْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } أي :إن كنتم صادقين في دعواكم ،فتمنوا الن الموت .ولم
يتعرض هؤلء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ،ومال إليه ابن جرير بعد ما
قارب القول الول ؛ فإنه قال :القول في تفسير ( )5قوله تعالى ُ { :قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ
عِنْدَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وهذه الية مما احتج ال به لنبيه
صلى ال عليه وسلم على اليهود الذين كانوا
__________
( )1في جـ " :ونقل".
( )2في أ " :واحد".
( )3في جـ " :وهكذا".
( )4في جـ " :إن شاء ال وبه الثقة".
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :في تأويله".
( )1/332
بين ظهراني ُمهَاجَره ،وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ؛ وذلك أن ال تعالى أمر نبيه صلى ال
عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم ،فيما كان بينه وبينهم من الخلف ،كما أمره أن يدعو
الفريق الخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم ،عليه السلم ،وجادلوه فيه ،إلى
فاصلة بينه وبينهم من المباهلة .فقال لفريق [من] ( )1اليهود :إن كنتم محقين فتمنوا الموت ،فإن
ذلك غير ضار بكم ( )2إن كنتم محقين فيما تدعون من اليمان وقرب المنزلة من ال ،بل
أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ،فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر
عيشها ،والفوز بجوار ال في جناته ( )3إن كان المر كما تزعمون :من أن الدار الخرة لكم
خالصة دوننا .وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ،وانكشف
أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الجابة إلى ذلك لعلمها ( )4أنها إن تمنت الموت هلكت ،
فذهبت دنياها وصارت إلى خزي البد في آخرتها ،كما امتنع فريق [من] ( )5النصارى.
فهذا الكلم منه أوله حسن ،وأما آخره فيه نظر ؛ وذلك أنه ل تظهر الحجة عليهم على هذا
التأويل ،إذ يقال :إنه ل يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنوا الموت
فإنه ل ملزمة بين وجود الصلح وتمني الموت ،وكم من صالح ل يتمنى الموت ،بل يود أن
يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة ،كما جاء في الحديث " :خيركم من طال عمره
وحسن عمله" ([ .)6وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت ،وفي بعض ألفاظه " :ل يتمنين
أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد ،وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" (.)8( ] )7
ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا :فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون -أنكم أصحاب الجنة ،
وأنتم ل تتمنون في حال الصحة الموت ؛ فكيف تلزمونا بما ل نُلزمكم ؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الية على هذا المعنى ،فأما على تفسير ابن عباس فل يلزم عليه
شيء من ذلك ،بل قيل لهم كلم َنصَف :إن كنتم تعتقدون أنكم ( )9أولياء ال من دون الناس ،
وأنكم أبناء ال وأحبّاؤه ،وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم [من] ( )10أهل النار ،فباهلوا على
ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ،واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب ل محالة.
فلما تيقّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق
من صفة الرسول صلى ال عليه وسلم ونعته ،وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه .فعلم
كل أحد باطلهم ،وخزيهم ،وضللهم وعنادهم
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2في أ ،و " :غير ضايركم".
( )3في جـ " :وجنانه".
( )4في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :لعلمهم".
( )5زيادة من جـ.
( )6جاء من حديث عبد ال بن يسر ،وأبي بكرة ،وأبي هريرة رضي ال عنهم ،فأما حديث
عبد ال بن بسر ،فرواه الترمذي في السنن برقم ( )2329وقال " :هذا حديث حسن غريب من
هذا الوجه" وأما حديث أبي بكرة ،فرواه الترمذي في السنن برقم ( )2330وقال " :هذا حديث
حسن صحيح" ،وأما حديث أبي هريرة ،فرواه أحمد في المسند (.)2/235
( )7صحيح البخاري برقم ( )5671وصحيح مسلم برقم ( )2680من حديث أنس رضي ال عنه.
( )8زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )9في و " :أنهم".
( )10زيادة من أ.
( )1/333
( )1/334
ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
ُقلْ مَنْ كَانَ َ
ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ ()98
ع ُدوّا لِلّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه وَرُسُِل ِه وَجِبْرِي َ
لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ( )97مَنْ كَانَ َ
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد ،عن سعيد أو عكرمة ،عن ابن عباس َ { :ومَا ُهوَ
ِبمُزَحْ ِزحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ } أي :ما هو بمنجيه من العذاب .وذلك أن المشرك ل يرجو بعثًا
بعد الموت ،فهو يحب طول الحياة ( )1وأن اليهودي قد عرف ما له في الخرة من الخزي بما
صنع ( )2بما عنده من العلم.
وقال العوفي ،عن ابن عباس َ { :ومَا ُهوَ ِبمُزَحْ ِزحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ } قال :هم الذين عادوا
جبريل.
وقال أبو العالية وابن عمر ( )3فما ذاك بمغيثه ( )4من العذاب ول منجيه منه.
وقال عبد الرحمن بن زيد ( )5بن أسلم [في هذه الية] ( )6يهود أحرص على [هذه] ( )7الحياة
من هؤلء ،وقد ود هؤلء أن ( )8يعمر أحدهم ألف سنة ،وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو
عمر ،كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا.
{ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ } أي :خبير بما يعمل عباده من خير وشر ،وسيجازي كل عامل
بعمله.
{ ُقلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزَلهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْ ِه وَ ُهدًى وَبُشْرَى
ع ُدوّا لِلّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ (} )98
لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ( )97مَنْ كَانَ َ
قال المام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه ال :أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا [على] ( )9أن
هذه الية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل ،إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ،وأن ميكائيل ولي
لهم ،ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك .فقال بعضهم :إنما كان سبب قيلهم ذلك من
أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول ال صلى ال عليه وسلم في ( )10أمر نبوته .ذكر من قال
ذلك
حوْشَب ،عن
شهْر بن َ
حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا يونس بن ُبكَيْر ،عن عبد الحميد بن بَهرام ،عن َ
ابن عباس أنه قال :حضرت عصابة من اليهود رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالوا :يا أبا
القاسم ،حدثنا عن خلل نسألك عنهن ،ل يعلمهن إل نبي ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :سلوا عما شئتم ،ولكن اجعلوا لي
__________
( )1في أ " :طول العمر".
( )2في ب " :بما ضيع".
( )3في جـ ،ط ،ب " :وإن عمر".
( )4في جـ " :ل ذاك بمغنيه".
( )5في جـ " :بز يزيد".
( )6زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )7زيادة من جـ.
( )8في ط ،ب ،أ ،و " :هؤلء لو".
( )9زيادة من جـ ،ط.
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ " :من".
( )1/335
ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه ،لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه لتتا ِبعُنّي على السلم" .فقالوا :ذلك
لك .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :سلوني عما شئتم" .فقالوا :أخبرنا عن أربع خلل
نسألك عنهن :أخبرنا أيّ الطعام حرم ( )1إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا
كيف ماء ( )2المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي المي
في النوم ( )3ووليه من الملئكة ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :عليكم عهد ال لئن أنا
أنبأتكم لتتابعنّي ؟" فأعطوه ما شاء ال من عهد وميثاق .فقال " :نشدتكم ( )4بالذي أنزل التوراة
على موسى ،هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه ،فنذر ل نذرًا
لئن عافاه ال من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ،وكان أحب الطعام إليه لحوم ()5
البل وأحب الشراب إليه ألبانها ؟" .فقالوا :اللهم نعم .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"اللهم اشهد ( )6عليهم .وأنشدكم بال الذي ل إله إل هو ،الذي أنزل التوراة على موسى ،هل
تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ،وأن ماء المرأة أصفر رقيق ،فأيهما عل كان له الولد
والشبه بإذن ال ،وإذا عل ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن ال ،وإذا عل ماء المرأة
ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن ال ؟" .قالوا :اللهم نعم .قال " :اللهم اشهد" .قال " :وأنشدكم بال
الذي أنزل التوراة على موسى ،هل تعلمون أن هذا النبي المي تنام عيناه ول ينام قلبه ؟" .قالوا
:اللهم نعم .قال " :اللهم اشهد" .قالوا :أنت الن ،فحدثنا من وليك من الملئكة ،فعندها نجامعك
أو نفارقك .قال " :فإن وليي جبريل ،ولم يبعث ال نبيًا قط إل وهو وليّه" .قالوا :فعندها
نفارقك ،لو كان وليّك سواه من الملئكة تابعناك ( )7وصدقناك .قال " :فما مَنَعكم أن تصدقوه ؟"
قالوا :إنه عدونا .فأنزل ال عز وجل ُ { :قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } إلى قوله َ { :لوْ كَانُوا
َيعَْلمُونَ } [البقرة ]103 :فعندها باؤوا بغضب على غضب (.)8
وقد رواه المام أحمد في مسنده ،عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن حميد في تفسيره ،
عن أحمد بن يونس ،كلهما عن عبد الحميد بن بَهرام ،به (.)9
ورواه المام أحمد -أيضا -عن الحسين بن محمد المروزي ،عن عبد الحميد ،بنحوه [به] (
.)11( )10
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار :حدثني عبد ال بن عبد الرحمن بن أبي حسين ،عن شهر
بن حوشب ،فذكره مرسل وزاد فيه :قالوا :فأخبرنا عن الروح قال " :أنشدكم بال وبآياته ()12
__________
( )1في جـ ،ط " :الذي حرم".
( )2في جـ " :كيف يكون ماء".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ " :في التوراة".
( )4في جـ " :أنشدكم".
( )5في جـ " :لحم" ،وفي ط ،ب ،أ ،و " :لحمان".
( )6في جـ " :اللهم أشهدك".
( )7في جـ " :لتابعناك" وفي ط " : :بايعناك".
( )8تفسير الطبري (.)2/377
( )9المسند (.)1/278
( )10زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )11المسند (.)1/273
( )12في ط ،ب " :وبأيامه".
( )1/336
عند بني إسرائيل ،هل تعلمون أنه جبريل ،وهو الذي يأتيني ؟" قالوا :نعم ،ولكنه لنا عدو ،
وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ،فلول ذلك اتبعناك ( .)1فأنزل ال فيهم ُ { :قلْ مَنْ كَانَ
علَى قَلْ ِبكَ بِِإذْنِ اللّهِ } إلى قوله { :كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ } [البقرة .]101 :
عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ َ
وقال المام أحمد :حدثنا أبو أحمد ( )2حدثنا عبد ال بن الوليد العجلي ،عن بكير بن شهاب ،
عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :أقبلت يهود إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا
:يا أبا القاسم ،إنا نسألك عن خمسة أشياء ،فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك .فأخذ عليهم
ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال { :اللّهُ عَلَى مَا َنقُولُ َوكِيلٌ } [يوسف ]66 :قال " :هاتوا" .قالوا
:أخبرنا عن علمة النبي .قال " :تنام عيناه ول ينام قلبه" .قالوا :أخبرنا كيف تؤنث المرأة
وكيف يذكر الرجل ؟ قال " :يلتقي الماءان فإذا عل ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ،وإذا عل ماء
المرأة ماء الرجل أنثت" ،قالوا :أخبرنا ما ( )3حرّم إسرائيل على نفسه .قال " :كان يشتكي
عِرْق النّساء ،فلم يجد شيئًا يلئمه إل ألبان كذا وكذا" -قال أحمد :قال بعضهم :يعني البل ،
فحرم لحومها -قالوا :صدقت .قالوا :أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال "ملك من ملئكة ال ،عز
وجل ،موكل بالسحاب بيديه -أو في يده -مِخْراق من نار يزجر به السحاب ،يسوقه حيث
أمره ال عز وجل" .قالوا :فما هذا الصوت الذي نسمعه ؟ قال " :صوته" .قالوا :صدقت .إنما
بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا ( )4إنه ليس من نبي إل وله مَلَك يأتيه بالخبر ،فأخبرنا
من صاحبك ؟ قال " :جبريل عليه السلم" ،قالوا :جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال
والعذاب عدونا ،لو قلت :ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان ( )5فأنزل ال عز
ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الية.
وجل ُ { :قلْ مَنْ كَانَ َ
ورواه الترمذي ،والنسائي من حديث عبد ال بن الوليد ،به ( .)6وقال الترمذي :حسن غريب.
وقال سُنَيْد في تفسيره ،عن حجاج بن محمد ،عن ابن جُرَيْج :أخبرني القاسم بن أبي بَزّة أن
يهود سألوا النبي صلى ال عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل ( )7عليه بالوحي .قال " :جبريل".
قالوا :فإنه لنا عدو ،ول يأتي إل بالشدة والحرب والقتال .فنزل ُ { :قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ }
الية .قال ابن جريج :وقال مجاهد :قالت يهود :يا محمد ،ما ينزل ( )8جبريل إل بشدة
وحرب وقتال ،وإنه لنا عدو .فنزل ُ { :قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } الية.
وقال البخاري :قوله { :مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } قال عكرمة :جبر ،وميك ،وإسراف :عبد.
حمَيد ،عن أنس بن
سمِع عبد ال بن بكر ( )10حدثنا ُ
وإيل :ال .حدثنا عبد ال بن مُنير (َ )9
مالك ،
__________
( )1في جـ " :لتبعناك".
( )2في جـ " :أبو عمر".
( )3في جـ ،ط " :أخبرنا عما".
( )4في ب "أخبرتنا بها".
( )5في جـ " :لكنا تابعناك".
( )6المسند ( )1/274وسنن الترمذي برقم ( )3117وسنن النسائي الكبرى برقم (.)9072
( )7في أ " :نزل".
( )8في جـ ،ط ،أ " :ما نزل".
( )9في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :بن نمير".
( )10في أ " :بن بكير".
( )1/337
قال :سمع عبد ال بن سلم بمقدم رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو في أرض يخترف .فأتى
النبي صلى ال عليه وسلم فقال :إني سائلك عن ثلث ل يعلمهن ( )1إل نبي :ما أول أشراط
الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال " :أخبرني بِهن
جبريل آنفًا" .قال :جبريل ؟ قال " :نعم" .قال :ذاك عدو اليهود من الملئكة ،فقرأ هذه الية { :
علَى قَلْ ِبكَ } "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من
مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ َ
المشرق إلى المغرب ،وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ،وإذا سبق ماء الرجل
ماء المرأة نزع الولد ،وإذا سبق ماء المرأة [ماء الرجل] ( )2نزعت" .قال :أشهد أن ل إله إل
ال وأشهد أنك ( )3رسول ال .يا رسول ال ،إن اليهود قوم ُبهُت ،وإنهم إن يعلموا بإسلمي قبل
أن تسألهم يبهتوني ( .)4فجاءت اليهود فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أي رجل عبد ال بن
سلم فيكم ؟" قالوا :خيرنا وابن خيرنا ،وسيدنا وابن سيدنا .قال " :أرأيتم إن أسلم عبد ال بن
سلم" .فقالوا :أعاذه ال من ذلك .فخرج عبد ال فقال :أشهد أن ل إله إل ال وأشهد أن محمدًا
رسول ال .فقالوا :شرنا وابن شرنا .فانتقصوه.
قال ( )5هذا الذي كنت أخاف يا رسول ال.
انفرد به البخاري من هذا الوجه ( )6وقد أخرجه من وجه آخر ،عن أنس بنحوه ( )7وفي
صحيح مسلم ،عن ثوبان مولى رسول ال صلى ال عليه وسلم قريب من هذا السياق ( )8كما
سيأتي في موضعه (.)9
وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن "إيل" هو ال .وقد رواه سفيان الثوري ،عن
خصِيف ،عن عكرمة.
َ
ورواه عبد بن حميد ،عن إبراهيم بن الحكم ،عن أبيه ،عن عكرمة ،ورواه ابن جرير ،عن
الحسين بن يزيد الطحان ،عن إسحاق بن منصور ،عن قيس ،عن عاصم ،عن عكرمة ،أنه
قال :إن جبريل اسمه عبد ال وميكائيل :عبيد ال .إيل :ال.
ورواه يزيد النحوي ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،مثله سواء .وكذا قال غير واحد من
السلف ،كما سيأتي قريبا.
__________
( )1في أ " :ل يعرفهن".
( )2زيادة من جـ.
( )3في جـ ،ط " :وأن محمدًا".
( )4في جـ " :بهتوني".
( )5في جـ " :فقال".
( )6صحيح البخاري برقم (.)4480
( )7صحيح البخاري برقم ( )3329من طريق مروان بن معاوية عن حميد ،عن أنس ،وصحيح
البخاري برقم ( )3938من طريق بشر ابن المفضل ،عن حميد ،عن أنس.
( )8صحيح مسلم برقم (.)315
( )9في جـ " :كما سيأتي في موضعه إن شاء ال".
( )1/338
[وقال المام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب :حدثنا محمد بن سلمة ،حدثنا محمد بن
إسحاق ،حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال :قال لي علي بن الحسين :اسم جبريل عبد ال ،
واسم ميكائيل :عبيد ال] (.)1
ومن الناس من يقول " :إيل" عبارة عن عبد ،والكلمة الخرى هي اسم ال ؛ لن كلمة "إيل" ل
تتغير في الجميع ،فوزانه :عبد ال ،عبد الرحمن ،عبد الملك ،عبد القدوس ،عبد السلم ،
عبد الكافي ،عبد الجليل .فعبد موجودة في هذا كله ،واختلفت السماء المضاف إليها ،وكذلك
جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ونحو ذلك ،وفي كلم غير العرب يقدمون المضاف إليه
على المضاف ،وال أعلم.
ثم قال ابن جرير :وقال آخرون :بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن
الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى ال عليه وسلم .ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ،حدثني ربعي بن عُلَيّة ،عن داود بن أبي هند ،عن الشعبي ،قال :
نزل عمر الروحاء ،فرأى رجال يبتدرون أحجارًا يصلون إليها ،فقال :ما بال هؤلء ؟ قالوا :
يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم صلى هاهنا .قال :فكفر ذلك .وقال :إنما رسول ال
صلى ال عليه وسلم أدركته الصلة بواد صلها ثم ارتحل ،فتركه .ثم أنشأ يحدثهم ،فقال :كنت
أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم ( )2فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق
التوراة ؟ فبينما أنا عندهم ذات يوم ،قالوا :يا ابن الخطاب ،ما من أصحابك أحد أحب إلينا
منك .قلت :ولم ذلك ؟ قالوا :إنك تغشانا وتأتينا .فقلت :إني آتيكم فأعجب من الفرقان ( )3كيف
يصدق التوراة ،ومن التوراة كيف تصدق الفرقان .قال :ومر رسول ال صلى ال عليه وسلم
فقالوا :يا ابن الخطاب ،ذاك صاحبكم فالحق به ،قال :فقلت لهم عند ذلك :نشدتكم ( )4بال
الذي ل إله إل هو ،وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه :أتعلمون أنه رسول ال ؟ قال
:فسكتوا .فقال لهم عالمهم وكبيرهم :إنه قد غَلّظ عليكم فأجيبوه .فقالوا :فأنت عالمنا وكبيرنا
فأجبه أنت .قال :أما إذ نشدتنا بما نشدتنا به فإنا نعلم أنه رسول ال ،قال :قلت :ويحكم فأنّي
هلكتم ؟! قالوا ( )5إنا لم نهلك ([ )6قال] ( : )7قلت :كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول ال [ثم]
( )8ول تتبعونه ول تصدقونه ؟ قالوا :إن لنا عدوا من الملئكة وسِ ْلمًا من الملئكة ،وإنه قرن
بنبوته عدونا من الملئكة .قال :قلت :ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا :عدونا جبريل ،وسلمنا
ميكائيل .قال :قلت :وفيم عاديتم جبريل ،وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا :إن جبريل مَلَك الفظاظة
والغلظة والعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ،وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف
ونحو هذا.
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2في جـ ،أ " :يوم مدارستهم".
( )3في أ ،و " :القرآن".
( )4في أ " :أنشدكم".
( )5في جـ " :فقالوا".
( )6في جـ ،ط " :إياكم يهلك".
( )7زيادة من أ.
( )8زيادة من ط.
( )1/339
قال :قلت :وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا :أحدهما عن يمينه والخر عن يساره .قال
:قلت :فو [ال] ( )1الذي ل إله إل هو ،إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن
سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل .ثم
خوْخة لبني فلن ،فقال :يا ابن
قمت فاتبعت النبي صلى ال عليه وسلم فلحقته وهو خارج من َ
الخطاب ،أل أقرئك آيات نزلن ( )2قبل ؟" فقرأ عليّ { :مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى
قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ } حتى قرأ هذه اليات .قال :قلت :بأبي وأمي يا رسول ال ،
والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك ،فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر (
.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو أسامة ،عن مجالد ،أنبأنا عامر ،قال :
انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود ،فقال :أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى :هل تجدون
محمدًا في كتبكم ؟ قالوا :نعم .قال :فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا :إن ال لم يبعث رسول ()4
إل جعل له من الملئكة كفْل وإن جبريل َكفَل محمّدًا ،وهو الذي يأتيه ،وهو عدونا من
الملئكة ،وميكائيل سلمنا ؛ لو كان ميكائيل هو الذي يأتيه أسلمنا .قال :فإني أنشدكم بال الذي
أنزل التوراة على موسى :ما منزلتهما من رب العالمين ؟ قالوا :جبريل عن يمينه وميكائيل عن
شماله .قال عمر .وإني أشهد ما ينزلن إل بإذن ال ،وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبريل ،وما
كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل .فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا :هذا
صاحبك يا ابن الخطاب :فقام إليه عمر ،فأتاه ،وقد أنزل ال ،عز وجل ،عليه { :مَنْ كَانَ
ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } (.)5
سلِ ِه وَجِبْرِي َ
عَ ُدوّا لِلّ ِه َومَلئِكَتِ ِه وَرُ ُ
وهذان السنادان يدلن على أن الشعبي حدث به عن عمر ،ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر ،
فإنه لم يدرك وفاته ( ، )6وال أعلم.
وقال ابن جرير :حدثنا بشر ( )7حدثنا يزيد بن زُرَيع ،عن سعيد ،عن قتادة ،قال :ذُكر لنا أن
عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود .فلما أبصروه ( )8رحبوا به ،فقال لهم عمر :أما
وال ما جئت لحبكم ول للرغبة فيكم ،ولكن جئت لسمع منكم .فسألهم وسألوه .فقالوا :من
صاحب صاحبكم ( )9؟ فقال لهم :جبريل .فقالوا :ذاك عدونا من أهل السماء ،يُطلع محمدًا
على سرنا ،وإذا جاء جاء الحرب والسّنَة ،ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ،وكان إذا جاء جاء
الخصب والسلم .فقال لهم عمر :هل تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا صلى ال عليه وسلم ؟
ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى ال عليه وسلم ،
__________
( )1زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )2في جـ " :نزلت".
( )3تفسير الطبري (.)382 /2
( )4في جـ " :نبيا رسول".
( )5تفسير ابن أبي حاتم (.)1/290
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :زمانه".
( )7في أ " :محمد بن بشر".
( )8في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فلما انصرف".
( )9في أ ،و " :صاحبكم".
( )1/340
ليحدثه حديثهم ،فوجده قد أنزلت عليه هذه الية ُ { :قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ
بِإِذْنِ اللّهِ } (.)1
ثم قال :حدثني المثنى ،حدثنا آدم ،حدثنا أبو جعفر عن قتادة ،قال :بلغنا أن عمر أقبل إلى
اليهود يومًا ،فذكر نحوه .وهذا -أيضًا -منقطع ،وكذلك رواه أسباط ،عن السدي ،عن عمر
مثل هذا أو نحوه ،وهو ( )2منقطع أيضًا.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عمار ،حدثنا عبد الرحمن -يعني الدّشْتَكي -حدثنا أبو
جعفر ،عن حصين بن عبد الرحمن ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا أتي ( )3عمر بن
الخطاب ،فقال :إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا .فقال عمر { :مَنْ كَانَ عَ ُدوّا لِلّهِ
ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } قال :فنزلت على لسان عمر ،رضي
سلِ ِه وَجِبْرِي َ
َومَلئِكَتِ ِه وَرُ ُ
ال عنه (.)4
وقال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا هشيم ،أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ،عن
ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ } قال :قالت اليهود للمسلمين :لو أن ميكائيل
ابن أبي ليلى في قوله { :مَنْ كَانَ َ
كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم ،فإنه ينزل بالرحمة والغيث ،وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ،
فإنه لنا عدو ( )5قال :فنزلت هذه الية.
حدثني يعقوب قال :حدثنا ُهشَيْم ،أخبرنا عبد الملك ،عن عطاء ،بنحوه .وقال عبد الرزاق :
أخبرنا َم ْعمَر ،عن قتادة في قوله ُ { :قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } قال :قالت اليهود :إن جبريل
عدونا ،لنه ينزل بالشدة والسّنَة ،وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ،فجبريل
عدونا .فقال ال تعالى { :مَنْ كَانَ عَ ُدوّا لِجِبْرِيلَ } [الية] (.)6
ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ } أي :
وأما تفسير الية فقوله تعالى ُ { :قلْ مَنْ كَانَ َ
من عادى جبريل فليعلم أنه الروح المين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من ال بإذنه له في
ذلك ،فهو رسول من رسل ال مَلَكي [عليه وعلى سائر إخوانه من الملئكة السلم] ( )7ومن
عادى رسول فقد عادى جميع الرسل ،كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه اليمان بجميع الرسل ،
وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ
ض وَيُرِيدُونَ أَنْ
ض وَ َن ْكفُرُ بِ َب ْع ٍ
بِاللّ ِه وَرُسُِل ِه وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُِل ِه وَ َيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ
حقّا وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابًا ُمهِينًا } [النساء ، 150 :
خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيل* أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ
يَتّ ِ
]151فحكم عليهم بالكفر المحقّق ،إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم ( )8وكذلك من عادى
جبريل فإنه عدو ل ؛
__________
( )1تفسير الطبري (.)2/383
( )2في أ " :وهذا".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :لقي".
( )4تفسير ابن أبي حاتم ( )291 /1وهذا منقطع ،ابن أبي ليلي لم يدرك عمر.
( )5في جـ " :فإنه عدونا".
( )6زيادة من جـ.
( )7زيادة من جـ.
( )8في أ " :وكفروا ببعض".
( )1/341
لن جبريل ل ينزل بالمر من تلقاء نفسه ،وإنما ينزل بأمر ربه كما قال َ { :ومَا نَتَنزلُ إِل بَِأمْرِ
ك َومَا كَانَ رَ ّبكَ نَسِيّا } [مريم ]64 :وقال تعالى :
رَ ّبكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذَِل َ
ح المِينُ* عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } [الشعراء :
{ وَإِنّهُ لَتَنزيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ* نزلَ ِبهِ الرّو ُ
]194 - 192وقد روى البخاري في صحيحه ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" ( .)1ولهذا غضب ال لجبريل على من
ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي :
عاداه ،فقال { :مَنْ كَانَ َ
مِنَ الكتب المتقدمة { وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي :هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ،وليس
شفَا ٌء وَالّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ
ذلك إل للمؤمنين .كما قال تعالى ُ { :قلْ ُهوَ ِللّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ ِ
عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } [فصلت ، ]44 :وقال تعالى { :وَنُنزلُ مِنَ
َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِل خَسَارًا } [السراء .]82 :
شفَا ٌء وَ َر ْ
ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ }
ع ُدوّا لِلّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه وَرُسُِل ِه وَجِبْرِي َ
ثم قال تعالى { :مَنْ كَانَ َ
يقول تعالى :من عاداني وملئكتي ورسلي -ورسله تشمل رسله من الملئكة والبشر ،كما قال
طفِي مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ رُسُل َومِنَ النّاسِ } [الحج .]75 :
تعالى { :اللّهُ َيصْ َ
ل َومِيكَالَ } ( )2وهذا من باب عطف الخاص على العام ،فإنهما دخل في الملئكة ،ثم
{ وَجِبْرِي َ
( )3عموم الرسل ،ثم خصصا بالذكر ؛ لن السياق في النتصار لجبريل وهو السفير بين ال
وأنبيائه ،وقرن معه ميكائيل في اللفظ ؛ لن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم ،
فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الخر وعادى ال أيضًا ؛ لنه -أيضًا -ينزل على
النبياء بعض الحيان ،كما قُرن ( )4برسول ال صلى ال عليه وسلم في ابتداء المر ،ولكن
جبريل أكثر ،وهي وظيفته ،وميكائيل موكل بالقطر والنبات ،هذاك بالهدى وهذا بالرزق ،كما
أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم ( )5القيامة ؛ ولهذا جاء في الصحيح :أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول (" )6اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل (، )7
فاطر السموات والرض ،عالم الغيب والشهادة ،أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،
اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك ،إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" ( .)8وقد تقدم ما
حكاه البخاري ،ورواه ابن جرير ( )9عن عكرمة أنه قال :جبر ،وميك ،وإسراف :عُبَيد.
وإيل :ال.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)6502
( )2في جـ ،ط ،ب " :وميكائيل".
( )3في أ " :في".
( )4في أ " :كما مر".
( )5في ط ،ب " :ليوم".
( )6في جـ ،ط " :قال".
( )7في جـ ،ط ،ب " :رب جبريل وميكائيل وإسرافيل".
( )8صحيح مسلم برقم ( )770من حديث عائشة رضي ال عنها.
( )9في ب " :وغيره".
( )1/342
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سِنان ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن سفيان ،عن
العمش ،عن إسماعيل بن رجاء ،عن عمير ( )1مولى ابن عباس ،عن ابن عباس ،قال :إنما
قوله " :جبريل" كقوله " :عبد ال" و "عبد الرحمن" .وقيل ( )2جبر :عبد .وإيل :ال.
وقال محمد بن إسحاق ،عن الزهري ،عن علي بن الحسين ،قال :أتدرون ( )3ما اسم جبرائيل
( )4من أسمائكم ؟ قلنا :ل .قال :اسمه عبد ال ،قال :فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟
قلنا :ل .قال :اسمه عبيد ال ( .)5وكل اسم مرجعه إلى "يل" ( )6فهو إلى ال.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك .ثم قال :
حوَارِي ،حدثني عبد العزيز بن عمير قال :اسم جبريل في
حدثني أبي ،حدثنا أحمد بن أبي ال َ
الملئكة خادم ال .قال :فحدثت ( )7به أبا سليمان الداراني ،فانتفض وقال :لهذا الحديث أحبّ
إليّ من كل شيء [وكتبه] ( )8في دفتر كان بين يديه.
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات ،تذكر في كتب اللغة والقراءات ،ولم نطوّل كتابنا هذا
بسَرد ذلك إل أن يدور فهم المعنى عليه ،أو يرجع الحكم في ذلك إليه ،وبال الثقة ،وهو
المستعان.
وقوله تعالى { :فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل :فإنه عدو
للكافرين .قال { :فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } كما قال الشاعر :
ل أرى الموتَ يسبق ( )9الموتَ شيءَ ...نغّص ( )10الموتُ ذا الغنى والفقيرا...
وقال آخر :
ليتَ الغرابَ غداة ين َعبُ ( )11دائبا ...كان الغرابُ مقطّع الوداج ()12
وإنما أظهر السم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ،وإعلمهم أن من عادى أولياء ال فقد
عادى ال ،ومن عادى ال فإن ال عدو له ،ومن كان ال عدوه فقد خسر الدنيا والخرة ،كما
تقدم الحديث " :من عادى لي وليّا فقد بارزني بالحرب" .وفي الحديث الخر " :إني لثأر لوليائي
صمْتُه".
خ َ
صمَه َ
خ ْ
كما يثأر الليث الحرب" .وفي الحديث الصحيح َ " :ومَن كنتُ َ
__________
( )1في أ " :عمر".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وقال".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :تدرون".
( )4في جـ ،ط ،ب " :جبريل".
( )5في جـ " :عبد ال".
( )6في أ ،و " :إيل".
( )7في جـ " :فحدث".
( )8زيادة من جـ.
( )9في جـ " :سوى".
( )10في جـ ،ط ،ب " :سبق" ،وفي أ " :مسبق" وفي و " :يسبق".
( )11في جـ " :ينعق".
( )12البيت في تفسير الطبري ( )2/396وهو لجرير بن عطية.
( )1/343
( )1/344
ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ
حدٍ حَتّى َيقُولَا إِ ّنمَا َنحْنُ
ت َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ
ت َومَارُو َ
علَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُو َ
السّحْ َر َومَا أُنْ ِزلَ َ
حدٍ إِلّا
ج ِه َومَا هُمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ أَ َ
فِتْنَةٌ فَلَا َت ْكفُرْ فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ ِبهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْ ِ
بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُه ْم وَلَا يَ ْن َفعُهُمْ وَلَقَدْ عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الَْآخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ
سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ( )102وََلوْ أَ ّن ُهمْ َآمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ خَيْرٌ
وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ
َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ()103
( )1/344
وقال مالك بن الصيف -حين بُعث رسولُ ال صلى ال عليه وسلم وذكرهم ( )1ما أخذ عليهم
عهِد إلينا في محمد صلى
من الميثاق ،وما عهد إليهم في محمد صلى ال عليه وسلم ( )2وال ما َ
عهْدًا نَبَ َذهُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ }
ال عليه وسلم ول أخذ [له] ( )3علينا ميثاقًا .فأنزل ال َ { :أ َوكُّلمَا عَاهَدُوا َ
عهْدٌ
وقال الحسن البصري في قوله َ { :بلْ َأكْثَرُهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } قال َ :نعَم ،ليس في الرض َ
يعاهدون عليه إل نقضوه ونبذوه ،يعاهدون اليوم ،وينقضون غدًا.
وقال السدي :ل يؤمنون بما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم .وقال قتادة { :نَبَ َذهُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ }
أي :نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير :أصل النبذ :الطرح واللقاء ،ومنه سمي اللقيط :منبوذًا ،ومنه سمي النبيذ ،
وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء .قال أبو السود الدؤلي :
نظرتُ إلى عنوانه فنبذْتُه كنبذك َنعْل أخْل َقتْ من نعَالكا ()4
قلت :فالقوم ذمهم ال بنبذهم العهود التي تقدم الُ إليهم في التمسك بها والقيام بحقها .ولهذا أعقبهم
ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ،الذي في كتبهم نعتُه وصفتُه وأخبارُه ،
وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ومناصرته ،كما قال { :الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِبيّ ال ّميّ
الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبًا عِنْ َدهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالنْجِيلِ } الية [العراف ، ]157 :وقال هاهنا { :وََلمّا
جَاءَهُمْ َرسُولٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَ َبذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّ ِه وَرَاءَ
ظهُورِهِمْ كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ } أي :اطّرَحَ طائفة منهم كتاب ال الذي بأيديهم ،مما فيه البشارة
ُ
بمحمد صلى ال عليه وسلم وراء ظهورهم ،أي :تركوها ،كأنهم ل يعلمون ما فيها ،وأقبلوا
سحَروه في ُمشْط
على تعلم السحر واتباعه .ولهذا أرادوا كيْدًا برسول ال صلى ال عليه وسلم و َ
جفّ طَ ْلعَة ذَكر ،تحت راعوثة بئر ذي أروان .وكان الذي تولى ذلك منهم رجل ،يقال
ومُشَاقة و ُ
له :لبيد بن العصم ،لعنه ال ،فأطلع ال على ذلك رسوله صلى ال عليه وسلم ،وشفاه منه
وأنقذه ،كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ،رضي ال عنها ،كما
سيأتي بيانه ( )5قال ( )6السدي { :وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ } قال :لما
جاءهم محمد صلى ال عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ،فاتفقت التوراة والقرآن ،
فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ،فلم يوافق القرآن ،فذلك قوله :
{ كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ }
وقال قتادة في قوله { :كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ } قال :إن القوم كانوا يعلمون ،ولكنهم نبذوا علمهم ،
وكتموه وجحدوا به.
__________
( )1في أ " :وما ذكر لهم".
( )2في أ " :وما عهد ال إليهم فيه".
( )3زيادة من أ.
( )4البيت في تفسير الطبري (.)2/401
( )5في جـ " :كما سيأتي بيانه إن شاء ال وبه الثقة" ،وفي أ " :كما سيأتي بيانه إن شاء اله
تعالى".
( )6في جـ ،ط " :وقال".
( )1/345
وقال العوفي في تفسيره ،عن ابن عباس في قوله تعالى { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ
ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُ ْلكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
سُلَ ْيمَا َ
والنس واتبعوا الشهوات ،فلما رجع ( )1الُ إلى سليمان ملكَه ،وقام الناس على الدين كما كان
أوان سليمان ،ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ،وتوفي سليمان ،عليه السلم ،حدثان
ذلك ،فظهر النس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ،وقالوا :هذا كتاب من ال نزل ()2
على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا .فأنزل ال { :وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ
ظهُورِهِمْ كَأَ ّن ُه ْم ل َيعَْلمُونَ }
ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّ ِه وَرَاءَ ُ
واتبعوا الشهوات [ ،أي] )3( :التي كانت [تتلو الشياطين] ( )4وهي المعازف واللعب وكل شيء
يصد عن ذكر ال.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو أسامة ،عن العمش ،عن المنهال ،عن
سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :كان آصف كاتب سليمان ،وكان يعلم السم "العظم" ،
وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ،فلما مات سليمان أخرجه ()5
الشياطين ،فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا ،وقالوا :هذا الذي كان سليمان يعمل بها (.)6
جهّالُ الناس وسبّوه ،ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه ،حتى أنزل ال على
قال :فأكفره ُ
ن وََلكِنّ
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
محمد صلى ال عليه وسلم { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ
الشّيَاطِينَ َكفَرُوا } (.)7
وقال ابن جرير :حدثني أبو السائب سلم ( )8بن جنادة السوائي ،حدثنا أبو معاوية ،حدثنا عن
العمش ،عن المنهال ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قال :كان سليمان ،عليه
السلم ،إذا أراد أن يدخل الخلء ،أو يأتي شيئًا من نسائه ،أعطى الجرادة -وهي امرأة -
خاتمه .فلما أراد ال أن يبتلي سليمان ،عليه السلم ،بالذي ابتله به ،أعطى الجرادة ذات يوم
خاتَمه ،فجاء ( )9الشيطان في صورة سليمان فقال لها :هاتي خاتمي .فأخذه فلبسه .فلما لبسه
دانت له الشياطين والجن والنس .قال :فجاءها سليمان ،فقال :هاتي خاتمي فقالت :كذبت ،
لست سليمان .قال :فعرف سليمان أنه بلء ابتلي به .قال :فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك
اليام كتبًا فيها سحر وكفر .ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ،ثم أخرجوها وقرؤوها ( )10على
الناس ،وقالوا :إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب .قال :فبرئ الناس من سليمان ،عليه
السلم ،وأكفروه حتى بعث ال محمدًا صلى ال عليه وسلم وأنزل عليه َ { :ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ
وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ثم قال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا جرير ،عن حصين بن عبد الرحمن ،عن عمران ،
__________
( )1في جـ " :فلما أرجع".
( )2في جـ " :أنزل".
( )3زيادة من جـ.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :أخرجته".
( )6في هـ " :به" ،والصواب ما أثبتناه من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )7تفسير ابن أبي حاتم (.)1/297
( )8في جـ ،ط ،ب " :مسلم".
( )9في جـ " :فجاءها".
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ " :فقرؤوها".
( )1/346
وهو ابن الحارث قال :بينا نحن عند ابن عباس -رضي ال عنهما ( - )1إذ جاء ( )2رجل
فقال له :مِنْ أين جئت ؟ قال :من العراق .قال :من أيّه ؟ قال :من الكوفة .قال :فما الخبر ؟
قال :تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم .ففزع ثم قال :ما تقول ؟ ل أبا لك! لو شعرنا ما
نكحنا نساءه ،ول قسمنا ميراثه ،أما إني سأحدثكم ( )3عن ذلك :إنه كانت الشياطين يسترقون
السمع من السماء ،فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ،فإذا جُ ّربَ منه صدق كذب معها سبعين
كذْبة ،قال :فَ َتشْرَبُها قلوب الناس .فأطلع ال عليها سليمان .عليه السلم ،فدفنها تحت كرسيه.
فلما توفي سليمان ،عليه السلم ،قام شيطانُ الطريق ،فقال :أفل أدلكم على كنزه الممنّع ()4
الذي ل كنز له مثله ؟ تحت الكرسي .فأخرجوه ،فقالوا هذا سحره ( )5فتناسخا المم -حتى
علَى مُ ْلكِ
بقاياها ما يتحدث به أهل العراق -وأنزل ال عز وجل ( { )6وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ َ
ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
سُلَ ْيمَا َ
ورواه الحاكم في مستدركه ،عن أبي زكريا العَنْبري ،عن محمد بن عبد السلم ،عن إسحاق
بن إبراهيم ،عن جرير ،به (.)7
وقال السدي في قوله تعالى { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } أي :على عهد
سليمان .قال :كانت الشياطين تصعد إلى السماء ،فتقعد منها مقاعد للسمع ،فيستمعون من كلم
الملئكة مما يكون في الرض من موت أو غيب ( )8أو أمر ،فيأتون الكهنة فيخبرونهم .فتحدّث
الكهنة الناسَ فيجدونه كما قالوا .حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم .وأدخلوا فيه غيره ،فزادوا مع
كل كلمة سبعين كلمة ،فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب ،وفشا في بني إسرائيل أن الجن
تعلم الغيب .فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق .ثم دفنها تحت كرسيه.
ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إل احترق .وقال :ل أسمع أحدًا يذكر أن
الشياطين يعلمون الغيب إل ضربت عنقه .فلما مات سليمان ،عليه السلم ،وذهبت العلماء الذين
كانوا يعرفون أمر سليمان ،وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان ،ثم أتى
نفرًا من بني إسرائيل ،فقال لهم :هل أدلكم على كنز ل تأكلونه أبدًا ؟ قالوا :نعم .قال :فاحفروا
تحت الكرسي .وذهب معهم وأراهم المكان ،وقام ناحية ،فقالوا له :فَادْنُ .قال ( )9ل ولكنني
هاهنا في أيديكم ،فإن لم تجدوه فاقتلوني .فحفروا فوجدوا تلك الكتب .فلما أخرجوها قال الشيطان
:إن سليمان إنما كان يضبط النس والشياطين ( )10والطير بهذا السحر .ثم طار وذهب .وفشا
في الناس أن سليمان كان
__________
( )1في ط " :عنه".
( )2في ط ،ب ،أ ،و " :إذ جاءه".
( )3في جـ ،ط " :سأحدثك"
( )4في جـ " :الممتنع".
( )5في ب ،أ ،و " :هذا سحر".
( )6في جـ " :ال تعالى".
( )7تفسير الطبري ( )415 /2والمستدرك (.)265 /2
( )8في جـ " :أو عبس".
( )9في جـ " :فقال".
( )10في جـ " :والجن".
( )1/347
ساحرًا .واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ،فلما جاء محمد صلى ال عليه وسلم خاصموه بها (
ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا }
)1؛ فذلك حين يقول ال تعالى َ { :ومَا كَفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
وقال الربيع بن أنس :إن اليهود سألوا محمدًا صلى ال عليه وسلم زمانًا عن أمور من التوراة ،
ل يسألونه عن شيء من ذلك إل أنزل ال تعالى عليه ما سألوه عنه ،فيخصمهم ( ، )2فلما رأوا
ذلك قالوا :هذا أعلم بما أنزل ال إلينا منا .وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ،فأنزل ال عز
ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
وجل { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ
عمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء ال من
ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } وإن الشياطين َ
ذلك ،فدفنوه تحت مجلس سليمان ،وكان [سليمان] ( )3عليه السلم ،ل يعلم الغيب .فلما فارق
سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس ،وقالوا :هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد
( )4الناس عليه .فأخبرهم النبي صلى ال عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ،
وأدحض ال حجتهم.
سلَ ْيمَانَ } قال :كانت الشياطين
وقال مجاهد في قوله { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ ُ
تستمع ( )5الوحي فما سمعوا من كلمة [إل] ( )6زادوا فيها مائتين مثلها .فأرسِل سليمان ،عليه
السلم ،إلى ما كتبوا من ذلك .فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] ( )7وهو
السحر.
وقال سعيد بن جبير :كان سليمان ،عليه السلم ،يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه
منهم ،فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ،فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه ،فدبّت ( )8إلى
النس ،فقالوا لهم :أتدرون ما العلم ( )9الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير
ذلك ؟ قالوا :نعم .قالوا :فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه .فاستثار به ( )10النسُ
واستخرجوه فعملوا ( )11بها .فقال أهل الحجا :كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر .فأنزل ال
تعالى على [لسان] ( )12نبيه محمد صلى ال عليه وسلم براءة سليمان عليه السلم ،فقال :
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا }
{ وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ( )13عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ،عليه
السلم ( )14فكتبوا أصناف السحر " :من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا" .حتى إذا
صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب .ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان ،وكتبوا في
__________
( )1في جـ " :بهذا".
( )2في جـ " :فيخصهم".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4في جـ " :ويحشر" ،وفي ط " :ففسد".
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :تسمع".
( )6زيادة من أ.
( )7زيادة من ط.
( )8في جـ ،ب ،أ ،و " :فدنت".
( )9في جـ " :أن العلم".
( )10في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فاستثارته".
( )11في جـ " :فعلموا".
( )12زيادة من جـ ،ط ، ،أ ،و.
( )13في جـ ،ط " :بشار".
( )14في جـ ،ب " :عليهما السلم".
( )1/348
عُنْوانه " :هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ،عليهما السلم ( )1من
ذخائر كنوز العلم" .ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته ( )2بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا
ما أحدثوا .فلما عثروا عليه قالوا :وال ما كان سليمان بن داود إل بهذا .فأفشوا السحر في الناس
[وتعلموه وعلموه] ( .)3وليس هو في أحد أكثر ( )4منه في اليهود لعنهم ال .فلما ذكر رسول ال
صلى ال عليه وسلم فيما نزل عليه من ال ،سليمان بن داود ،وعده فيمن عَدّه من المرسلين ،
قال من كان بالمدينة من يهود :أل تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا ،وال ما كان
ن َومَا
إل ساحرًا .وأنزل ال [في] ( )5ذلك من قولهم { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ
َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } الية.
شهْر بن
وقال ابن جرير :حدثنا القاسم ،حدثنا حسين ،حدثنا الحجاج ( )6عن أبي بكر ،عن َ
حَوشب ،قال :لما سلب سليمان ،عليه السلم ،ملكه ،كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة
سليمان .فكتبت " :من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ،وليقل كذا وكذا ( )7ومن أراد أن
يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا .فكتبته وجعلت عنوانه :هذا ما كتب آصف بن
برخيا للملك سليمان [بن داود] ( )8من ذخائر كنوز العلم" .ثم دفنته تحت كرسيه .فلما مات
سليمان ،عليه السلم ،قام إبليس ،لعنه ال ،خطيبًا [ ،ثم] ( )9قال :يا أيها الناس ،إن سليمان
لم يكن نَبيّا ،إنما كان ساحرًا ،فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته .ثم دلهم على المكان الذي دفن
فيه .فقالوا :وال لقد كان سليمان ساحرًا! هذا ( )10سحره ،بهذا َتعَبدنا ،وبهذا قهرنا .وقال
المؤمنون :بل كان نبيًا مؤمنًا .فلما بعث ال النبي صلى ال عليه وسلم جعل يذكر النبياء حتى
ذكر داود وسليمان .فقالت اليهود [لعنهم ال] ( )11انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل .يذكر
سليمان مع النبياء .إنما كان ساحرًا يركب الريح ،فأنزل ال تعالى { :وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ
عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } الية.
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد العلى الصنعاني ،قال :حدثنا المعتمر بن سليمان ،قال
حدَير ،عن أبي مِجْلَز ،قال :أخذ سليمان ،عليه السلم ،من كل دابة عهدًا
:سمعت عمران بن ُ
،فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ،خلى عنه .فزاد الناس السجع والسحر ،وقالوا :هذا يعمل
به
__________
( )1في ط " :عليه السلم".
( )2في ط " :واستخرجه".
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4في جـ " :اكبر".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :حجاج".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :كذا وكذا".
( )8زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )9زيادة من جـ.
( )10في جـ " :وهذا".
( )11زيادة من جـ.
( )1/349
( )1/350
ت َومَارُوتَ } بدل من { :الشياطين
به جبريل وميكائيل فأكذبهم ال في ذلك وجعل قوله { :هَارُو َ
خ َوةٌ }
} قال :وصح ذلك ،إما لن الجمع قد يطلق على الثنين كما في قوله { :فَإِنْ كَانَ لَهُ إِ ْ
[النساء ]11 :أو يكون لهما أتباع ،أو ذكرا من بينهم لتمردهما ،فتقدير الكلم عنده :تعلمون
الناس السحر ببابل ،هاروت وماروت .ثم قال :وهذا أولى ما حملت عليه الية وأصح ول
يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ،عن ابن عباس ،في قوله َ { :ومَا أُنزلَ عَلَى
ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ َومَارُوتَ } يقول :لم ينزل ال السحر .وبإسناده ،عن الربيع بن أنس ،في
قوله َ { :ومَا أُنزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } قال :ما أنزل ال عليهما السحر.
قال ابن جرير :فتأويل الية على هذا :واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ،
وما كفر سليمان ،ول أنزل ال السحر على الملكين ،ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر
ببابل ،هاروت وماروت .فيكون قوله { :بِبَا ِبلَ هَارُوتَ [ َومَارُوت ( } ] )1من المؤخر الذي
معناه المقدم .قال :فإن قال لنا قائل :وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل :وجه تقديمه أن يقال :
{ وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } " -من السحر" َ { -ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ } وما أنزل
ال "السحر" على الملكين { ،وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } ببابل وهاروت
وماروت فيكون معنيا بالملكين :جبريل وميكائيل ،عليهما السلم ؛ لن سحرة اليهود فيما ذكر
كانت تزعم أن ال أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ،فأكذبهم ال
بذلك ،وأخبر نبيه محمدًا صلى ال عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزل بسحر ،وبرأ
سليمان ،عليه السلم ،مما نحلوه من السحر ،وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ،وأنها
تعلم الناس ذلك ببابل ،وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلن ،اسم أحدهما هاروت ،واسم الخر
ماروت ،فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ،وردًا عليهم.
هذا لفظه بحروفه (.)2
حدّثت عن عُبَيد ال بن موسى ،أخبرنا فضيل بن مرزوق ،عن عطية {
وقد قال ابن أبي حاتم ُ :
َومَا أُنزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } قال :ما أنزل ال على جبريل وميكائيل السحر.
حدثنا ( )3الفضل بن شاذان ،حدثنا محمد بن عيسى ،حدثنا يعلى -يعني ابن أسد -حدثنا بكر
( - )4يعني ابن مصعب -حدثنا الحسن بن أبي جعفر :أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها :
"وما أنزل على الملكين داود وسليمان".
وقال أبو العالية :لم ينزل عليهما السحر ،يقول :علما اليمان والكفر ،فالسحر من الكفر ،فهما
ينهيان عنه أشد النهي .رواه ابن أبي حاتم.
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2تفسير الطبري (.)420 ، 419 /2
( )3في و " :وقال ابن أبي حاتم :حدثنا".
( )4في جـ ،ط ،ب " :بكير".
( )1/351
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ،وأن "ما" بمعنى الذي ،وأطال القول في ذلك ،وادعى (
)1أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما ال إلى الرض ،وأذن لهما في تعليم السحر اختبارًا
لعباده وامتحانًا ،بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ،وادعى أن هاروت
وماروت مطيعان في تعليم ذلك ؛ لنهما امتثل ما أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلن من الجن
[كما زعمه ابن حزم] (! )2
وروى ابن أبي حاتم بإسناده .عن الضحاك بن مزاحم :أنه كان يقرؤها َ { :ومَا أُنزلَ عَلَى
ا ْلمََلكَيْنِ } ويقول :هما علجان من أهل بابل.
َووَجّه أصحابُ هذا القول النزال بمعنى الخَلْق ،ل بمعنى اليحاء ،في قوله َ { :ومَا أُنزلَ عَلَى
ا ْلمََلكَيْنِ } كما قال تعالى { :وَأَنزلَ َلكُمْ مِنَ ال ْنعَامِ َثمَانِ َيةَ أَ ْزوَاجٍ } [الزمر { ، ]6 :وَأَنزلْنَا ا ْلحَدِيدَ
سمَاءِ رِ ْزقًا } [غافر .]13 :وفي الحديث :
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد { ، ]25 :وَيُنزلُ َلكُمْ مِنَ ال ّ
"ما أنزل ال داء إل أنزل له دواء" .وكما يقال :أنزل ال الخير والشر.
[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري :أنهم قرؤوا َ " :ومَا
أُنزلَ عَلَى ا ْلمَِلكَيْنِ" بكسر اللم .قال ابن أبزى :وهما داود وسليمان .قال القرطبي :فعلى هذا
تكون "ما" نافية أيضًا] (.)3
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله ُ { :يعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } [و "ما" نافية] ( )4قال ابن جرير
:حدثني يونس ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرنا الليث ،عن يحيى بن سعيد ،عن القاسم بن محمد ،
علَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ
وسأله رجل عن قول ال تعالى ُ { :يعَّلمُونَ النّاسَ السّحْ َر َومَا أُنزلَ َ
َومَارُوتَ } قال الرجل :يعلمان الناس السحر ،ما أنزل عليهما ( )5أو يعلمان الناس ما لم ينزل
عليهما ؟ فقال القاسم :ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس ،عن أنس بن عياض ،عن بعض أصحابه :أن القاسم قال في هذه القصة :
ل أبالي أيّ ذلك كان ،إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ،وأنهما أنزل إلى الرض ،فكان من
أمرهما ما كان .وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه المام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء
ال تعالى .وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلئل على عصمة الملئكة أن
هذين سبق في علم ال لهما هذا ،فيكون تخصيصًا لهما ،فل تعارض حينئذ ،كما سبق في علمه
من أمر إبليس
__________
( )1في جـ " :وادعى على".
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3زيادة من جـ ،ط.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،و.
( )5في جـ " :إليهما".
( )1/352
جدُوا لدَمَ
ما سبق ،وفي قول :إنه كان من الملئكة ،لقوله تعالى { :وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْ ُ
جدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى } [طه ، ]116 :إلى غير ذلك من اليات الدالة على ذلك .مع أن شأن
فَسَ َ
هاروت وماروت -على ما ذكر -أخف مما وقع من إبليس لعنه ال.
[وقد حكاه القرطبي عن على ،وابن مسعود ،وابن عباس ،وابن عمر ،وكعب الحبار ،
والسدي ،والكلبي] (.)1
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه -وبيان الكلم عليه :
قال المام أحمد بن حنبل ،رحمه ال ،في مسنده :حدثنا يحيى بن [أبي] ( )2بكير ،حدثنا زهير
بن محمد ،عن موسى بن جبير ،عن نافع ،عن عبد ال بن عمر :أنه سمع نبي ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :إن آدم -عليه السلم -لما أهبطه ال إلى الرض قالت الملئكة :أي رب (
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا ل
حمْ ِد َ
س ِفكُ ال ّدمَا َء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ
ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
{ )3أَتَ ْ
َتعَْلمُونَ } [البقرة ، ]30 :قالوا :ربنا ،نحن أطوع لك من بني آدم .قال ال تعالى للملئكة :
هَلُموا ملكين من الملئكة حتى نهبطهما إلى الرض ،فننظر كيف يعملن ؟ قالوا :برَبّنا ،
هاروتَ وماروتَ .فأهبطا إلى الرض ومثُلت لهما ( )4الزّهَرة امرأة من أحسن البشر ،فجاءتهما
،فسألها نفسها .فقالت :ل وال حتى تتكلما بهذه الكلمة من الشراك .فقال وال ( )5ل نشرك
بال شيئًا أبدًا .فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ،فسألها نفسها .فقالت :ل وال حتى تقتل
خمْر تحمله ،فسألها نفسها.
هذا الصبي .فقال ل وال ل نقتله أبدًا .ثم ذهبت فرجعت ( )6بقَدَح َ
فقالت :ل وال حتى تشربا هذا الخمر .فشربا فسكرا ،فوقعا عليها ،وقتل الصبي .فلما أفاقا
قالت المرأة :وال ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إل قد ( )7فعلتماه حين سكرتما .فخيرَا بين عذاب
الدنيا وعذاب الخرة ،فاختارا عذاب الدنيا".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ،عن الحسن عن سفيان ،عن أبي بكر بن أبي
شيبة ،عن يحيى بن بكير ،به (.)8
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ،ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ،إل موسى بن
جبير هذا ،وهو النصاري السلمي مولهم المديني الحذاء َ ،روَى عن ابن عباس وأبي أمامة بن
سهل بن حنيف ،ونافع ،وعبد ال بن كعب بن مالك .وروى عنه ابنه عبد السلم ،وبكر بن
مضر ،وزهير بن محمد ،وسعيد بن سلمة ،وعبد ال بن َلهِيعة ،وعمرو بن الحارث ،ويحيى
بن أيوب .وروى له أبو داود ،وابن ماجه ،وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ،ولم
يحك فيه شيئًا
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2زيادة من ط.
( )3في جـ " :يا رب".
( )4في جـ " :لهم".
( )5في جـ ،ط " :ل وال".
( )6في ج ،ط ،ب " :فذهبت ثم رجعت".
( )7في جـ " :وقد".
( )8المسند ( )134 /2وصحيح ابن حبان برقم (" )1717موارد" وقال أبو حاتم في العلل (/2
" : )69هذا حديث منكر".
( )1/353
من هذا ول هذا ،فهو مستور الحال ( )1وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ،عن ابن عمر
عن النبي صلى ال عليه وسلم .وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ،كما قال ابن مَرْدُويه :
حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد ،حدثنا هشام [بن علي بن هشام] ( )2حدثنا عبد ال بن رجاء ،حدثنا سعيد
بن سلمة ،حدثنا موسى بن سَرْجِس ،عن نافع ،عن ابن عمر :سمع النبي صلى ال عليه وسلم
يقول .فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير :حدثنا القاسم ،حدثنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير -
حدثنا الفرج بن فضالة ،عن معاوية بن صالح ،عن نافع ،قال :سافرت مع ابن عمر ،فلما
كان من آخر الليل قال :يا نافع ،انظر ،طلعت الحمراء ؟ قلت :ل -مرتين أو ثلثًا -ثم قلت
:قد طلعت .قال :ل مرحبًا بها ول أهل ؟ قلت :سبحان ال! نجم مسخر سامع مطيع .قال :ما
قلت لك إل ما سمعت من رسول ال صلى ال عليه وسلم -أو قال :قال لي رسول ال صلى ال
عليه وسلم " : -إن الملئكة قالت :يا رب ،كيف صبرك على بني آدم في الخطايا ( )3والذنوب
؟ قال :إني ابتليتهم وعافيتكم .قالوا :لو كنا مكانهم ما عصيناك .قال :فاختاروا ملكين منكم .قال
:فلم يألوا جهدًا أن يختاروا ،فاختاروا هاروت وماروت" (.)4
وهذان -أيضا -غريبان جدّا .وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد ال بن عمر ،عن كعب
الحبار ،ل عن النبي ( )5صلى ال عليه وسلم ،كما قال عبد الرزاق في تفسيره ،عن
الثوري ،عن موسى بن عقبة ،عن سالم ،عن ابن عمر ،عن كعب ،قال ( )6ذكرت الملئكة
أعمال بني آدم ،وما يأتون من الذنوب ،فقيل لهم :اختاروا منكم اثنين ،فاختاروا هاروت
وماروت .فقال ( )7لهما :إني أرسل إلى بني آدم رسل وليس بيني وبينكم رسول ،انزل ل
تشركا بي شيئًا ول تزنيا ول تشربا الخمر .قال كعب :فوال ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه
حتى استكمل جميع ما نهيا عنه.
ورواه ابن جرير من طريقين ،عن عبد الرزاق ،به (.)8
ورواه ابن أبي حاتم ،عن أحمد بن عصام ،عن ُم َؤمّل ،عن سفيان الثوري ،به (.)9
ورواه ابن جرير أيضًا :حدثني المثنى ،حدثنا المعلى -وهو ابن أسد -حدثنا عبد العزيز بن
المختار ،عن موسى بن عقبة ،حدثني سالم أنه سمع عبد ال يحدث ،عن كعب الحبار ،فذكره
(.)10
فهذا أصح وأثبت إلى عبد ال بن عمر من السنادين المتقدمين ،وسالم أثبت في أبيه من موله
__________
( )1الجرح والتعديل ( )139 /8وذكره ابن حبان في الثقات ( )7/451وقال " :يخطئ ويخالف".
( )2زيادة من جـ ،ط ،و.
( )3في ط ،ب " :الخطأ".
( )4تفسير الطبري (.)2/433
( )5في جـ " :رسول ال".
( )6في ط " :وقال".
( )7في جـ ،ط ،ب ،و " :فقيل".
( )8تفسير عبد الرزاق ( .)74 ، 73 /1وتفسير الطبري (.)2/429
( )9تفسير ابن أبي حاتم (.)306 /1
( )10تفسير الطبري (.)430 /2
( )1/354
نافع .فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الحبار ،عن كتب بني إسرائيل ،وال أعلم.
ذكر الثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي ال عنهم أجمعين :
قال ابن جرير :حدثني المثنى ،حدثنا الحجاج ( )1حدثنا حماد ،عن خالد الحذاء ،عن عمير بن
سعيد ،قال :سمعت عليًا ،رضي ال عنه ،يقول :كانت الزّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس ،
وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ،فراوداها ( )2عن نفسها ،فأبت عليهما إل أن
يعلماها الكلم الذي إذا تكَلّم [المتكلم] ( )3به ُيعْرج به إلى السماء .فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى
السماء .فمسخت كوكبًا!
وهذا السناد [جيد و] ( )4رجاله ثقات ،وهو غريب جدا.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الفضل بن شاذان ،حدثنا محمد بن عيسى ،حدثنا إبراهيم بن موسى ،
حدثنا أبو معاوية ،عن [ابن أبي] ( )5خالد ،عن عمير بن سعيد ،عن علي قال :هما ملكان من
ملئكة السماء .يعني َ { :ومَا أُنزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } (.)6
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده ،عن مغيث ،عن موله جعفر بن محمد ،
عن أبيه ،عن جده ،عن علي -مرفوعًا .وهذا ل يثبت من هذا الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين ،عن جابر ،عن أبي الطفيل ،عن علي ،قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :لعن ال الزّهَرة ،فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت" .وهذا
أيضًا ل يصح ( )7وهو منكر جدًا .وال أعلم.
وقال ابن جرير :حدثني المثنى بن إبراهيم ،حدثنا الحجاج بن مِنْهال ،حدثنا حماد ،عن علي
بن زيد ،عن أبي عثمان النهدي ،عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قال جميعًا :لما كثر ()8
بنو آدم وعصوا ،دعت الملئكة عليهم والرض والجبال ربنا ل تهلكهم ( )9فأوحى ال إلى
الملئكة :إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ،ولو نزلتم لفعلتم أيضًا .قال :فحدثوا أنفسهم
أن لو ابتلوا اعتصموا ،فأوحى ال إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم .فاختاروا هاروت
وماروت .فأهبطا إلى الرض ،وأنزلت الزّهَرة إليهما في صورة ( )10امرأة من أهل فارس
يسمونها بيذخت .قال :فوقعا بالخطيّة ( .)11فكانت الملئكة يستغفرون للذين آمنوا { :رَبّنَا
حمَ ًة وَعِ ْلمًا } [غافر ]7 :
شيْءٍ َر ْ
س ْعتَ ُكلّ َ
وَ ِ
__________
( )1في جـ " :المثنى بن الحجاج".
( )2في جـ " :فراودوها".
( )3زيادة من جـ ،ط.
( )4زيادة من جـ.
( )5زيادة من ط ،ب ،و.
( )6تفسير ابن أبي حاتم (.)303 /1
( )7ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم ( )654من طريق عيسى بن يونس عن أخيه
إسرائيل عن جابر عن أبي الطفيل عن علي به.
( )8في جـ " :كثر سواد".
( )9في جـ ،ط " :تمهلهم".
( )10في جـ " :في أحسن صورة".
( )11في جـ " :بالخطيئة".
( )1/355
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الرض أل إن ال هو الغفور الرحيم .فخيرا بين عذاب الدنيا
وعذاب الخرة ،فاختاروا ( )1عذاب الدنيا (.)2
وقال :ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن جعفر الرقي ،أخبرنا عبيد ال -يعني ابن
عمرو -عن زيد بن أبي أنيسة ،عن المِنْهال بن عمرو ويونس بن خباب ،عن مجاهد ،قال :
كنت نازل على عبد ال بن عمر في سفر ،فلما كان ( )3ذات ليلة قال لغلمه :انظر ،هل
طلعت الحمراء ،ل مرحبًا بها ول أهل ول حياها ال هي صاحبة الملكين .قالت الملئكة :يا
رب ،كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في
الرض! قال :إني ابتليتهم ،فعلّ ( )4إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون .قالوا
:ل .قال :فاختاروا من خياركم اثنين .فاختاروا هاروت وماروت .فقال لهما :إني مهبطكما إلى
الرض ،وعاهد إليكما أل تشركا ول تزنيا ول تخونا .فأهبطا إلى الرض وألقي عليهما الشّبَق ،
وأهبطت لهما الزّهَرة في أحسن صورة امرأة ،فتعرضت لهما ،فراوداها ( )5عن نفسها .فقالت
:إني على دين ل يصح ( )6لحد أن يأتيني إل من كان على مثله .قال وما دينك ؟ قالت :
المجوسية .قال الشرك! هذا شيء ل نقر به .فمكثت عنهما ما شاء ال .ثم تعرضت لهما فأراداها
عن نفسها .فقالت :ما شئتما ،غير أن لي زوجًا ،وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ،
فإن أقررتما لي بديني ،وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت .فأقرا لها بدينها وأتياها
فيما يريان ،ثم صعدا بها إلى السماء .فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ،وقطعت
أجنحتهما ( )7فوقعا خائفين نادمين يبكيان ،وفي الرض نبي يدعو بين الجمعتين ،فإذا كان يوم
الجمعة أجيب .فقال لو أتينا فلنًا فسألناه فطلب ( )8لنا التوبة فأتياه ،فقال :رحمكما ال ()9
كيف يطلب التوبة أهل الرض لهل السماء! قال إنا قد ابتلينا .قال :ائتياني ( )10يوم الجمعة.
فأتياه ،فقال :ما أجبت فيكما بشيء ،ائتياني في الجمعة الثانية .فأتياه ،فقال :اختارا ،فقد
خيرتما ،إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الخرة ،وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة
على حكم ال .فقال أحدهما :إن الدنيا لم يمض منها إل القليل .وقال الخر :ويحك ؟ إني قد
أطعتك في المر الول فأطعني الن ،إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى .وإننا يوم القيامة على
حكم ال ،فأخاف أن يعذبنا .قال :ل إني أرجو إن علم ال أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة
عذاب الخرة ل يجمعهما علينا .قال :فاختارا عذاب الدنيا ،فجعل في بكرات من حديد في قَلِيب
مملوءة من نار ،عَالي ُهمَا
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :فاختارا".
( )2تفسير الطبري ()428 /2
( )3في جـ " :فلما كانت".
( )4في جـ " :بفعل".
( )5في جـ " :فأراداها".
( )6في جـ ،ط ،ب " :ل يصلح".
( )7في جـ " :أجنحتها".
( )8في جـ ،ط ،ب " :يطلب".
( )9في جـ " :ما رحمكم ال".
( )10في جـ " :فأتياني".
( )1/356
سافلَهما (.)1
وهذا إسناد جيد إلى عبد ال بن عمر .وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن
صالح ،عن نافع ،عنه رفعه .وهذا أثبت وأصح إسنادًا .ثم هو -وال أعلم -من رواية ابن
عمر عن كعب ،كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه .وقوله :إن الزّهَرة نزلت في صورة
امرأة حسناء ،وكذا في المروي عن علي ،فيه غرابة جدًا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم :حدثنا عصام بن روّاد ،حدثنا آدم ،حدثنا أبو
جعفر ،حدثنا الربيع بن أنس ،عن قيس بن عباد ،عن ابن عباس ،رضي ال عنهما ( )2قال :
لما وقع الناس من بعد آدم ،عليه السلم ،فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بال ،قالت
الملئكة في السماء :يا رب ،هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ،قد وقعوا فيما وقعوا
فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام ،والزنا والسرقة وشرب الخمر .فجعلوا يدعون
عليهم ،ول يعذرونهم ،فقيل :إنهم في غَيْب .فلم يعذروهم .فقيل لهم :اختاروا منكم من أفضلكم
ملكين ،آمرهما وأنهاهما .فاختاروا هاروت وماروت .فأهبطا إلى الرض ،وجعل لهما شهوات
بني آدم ،وأمرهما ال أن يعبداه ول يشركا به شيئًا ،ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال
الحرام ،وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر .فلبثا في الرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق
وذلك في زمان إدريس عليه السلم .وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزّهَرة في
سائر الكواكب ،وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إل أن يكونا
على أمرها وعلى دينها ،فسألها ( )3عن دينها ،فأخرجت لهما صنمًا فقالت :هذا أعبده .فقال
ل حاجة لنا في عبادة هذا .فذهبا فغَبَرا ما شاء ال .ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ،ففعلت مثل
ذلك .فذهبا ،ثم أتيا عليها فراوداها ( )4على نفسها ،فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت
لهما :اختارا إحدى الخلل الثلث :إما أن تعبدا هذا الصنم ،وإما أن تقتل هذه النفس ،وإما أن
تشربا هذا الخمر .فقال كل هذا ل ينبغي ،وأهون هذا شرب الخمر .فشربا الخمر فأخذت فيهما
فواقعا ( )5المرأة ،فخشيا أن يخبر النسان عنهما فقتله ( )6فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما
وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء ،فلم يستطيعا ،وحيل بينهما وبين ذلك ،
وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ،فنظرت الملئكة إلى ما وقعا فيه ،فعجبوا كل
العجب ،وعَرَفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ،فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في
حمْدِ رَ ّب ِه ْم وَيَسْ َت ْغفِرُونَ ِلمَنْ فِي ال ْرضِ }
الرض ،فنزل في ذلك { :وَا ْلمَل ِئكَةُ يُسَبّحُونَ بِ َ
[الشورى ]5 :فقيل لهما :اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الخرة فقال أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم (.)307 ، 306 /1
( )2في جـ ،ط " :عنه".
( )3في جـ ،ط ،ب " :فسأل".
( )4في جـ ،ط ،ب " :فأراداها".
( )5في جـ " :فوقعا".
( )6في جـ " :فقتلها".
( )1/357
ويذهب ،وأما عذاب الخرة فل انقطاع له .فاختارا عذاب الدنيا ،فجعل ببابل ،فهما يعذبان (
.)1
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطول عن أبي زكريا العنبري ،عن محمد بن عبد السلم ،عن
إسحاق بن راهويه ،عن حكام بن سلم ( )2الرازي ،وكان ثقة ،عن أبي جعفر الرازي ،به .ثم
قال :صحيح السناد ،ولم يخرجاه .فهذا أقرب ما روي في شأن الزّهَرة ،وال أعلم (.)3
حدّاني ( )4حدثنا يزيد -
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا مسلم ،حدثنا القاسم بن الفضل ال ُ
يعني الفارسي -عن ابن عباس [قال] ( )5أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الرض فرأوهم
يعملون المعاصي ( )6فقالوا :يا رب أهل الرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال ال :أنتم
معي ،وهم غُيّب عني .فقيل لهم :اختاروا منكم ثلثة ،فاختاروا منهم ثلثة على أن يهبطوا إلى
الرض ،على أن يحكموا بين أهل الرض ،وجعل فيهم شهوة الدميين ،فأمروا أل يشربوا
خمرًا ول يقتلوا نفسا ،ول يزنوا ،ول يسجدوا لوثن .فاستقال منهم واحد ،فأقيل .فأهبط اثنان
إلى الرض ،فأتتهما امرأة من أحسن الناس ( )7يقال لها :مناهية (َ .)8فهَويَاها جميعًا ،ثم أتيا
منزلها فاجتمعا عندها ،فأراداها فقالت لهما :ل حتى تشربا خمري ،وتقتل ابن جاري ،وتسجدا
لوثني .فقال ل نسجد .ثم شربا من الخمر ،ثم قتل ثم سجدا .فأشرف أهل السماء عليهما .فقالت (
)9لهما :أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما .فأخبراها فطارت فمسخت جمرة .وهي هذه
الزهَرة .وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة.
فاختارا عذاب الدنيا .فهما مناطان بين السماء والرض (.)10
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ،وال أعلم بالصواب.
علَى
وقال عبد الرزاق :قال َم ْعمَر :قال قتادة والزهري ،عن عبيد ال بن عبد ال َ { :ومَا أُنزلَ َ
ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ َومَارُوتَ } كانا ملكين من الملئكة ،فأهبطا ليحكما بين الناس .وذلك أن
الملئكة سخروا من حكام بني آدم ،فحاكمت إليهما امرأة ،فحافا لها .ثم ذهبا يصعدان فحيل
بينهما وبين ذلك ،ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة ،فاختارا عذاب الدنيا .وقال َم ْعمَر :
قال قتادة :فكانا يعلمان الناس السحر ،فأخذ عليهما أل يعلما أحدا حتى يقول { إِ ّنمَا َنحْنُ فِتْنَةٌ فَل
َت ْكفُرْ } (.)11
وقال أسباط عن السدي أنه قال :كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الرض في
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم (.)305 /1
( )2في و " :بن سالم".
( )3وقد أبطل المام ابن حزم قصة هاروت وماروت ورد على من ادعى شربهما الخمر
وارتكابهما الزنا والقتل في كتابه الفصل (.)65 - 61 /4 ، 308 - 303 / 3
( )4في جـ " :الحراني".
( )5زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )6في جـ ،ط ،أ ،و " :بالمعاصي".
( )7في جـ " :النساء".
( )8في أ " :أناهيد".
( )9في جـ ،ط ،ب " : ،وقالت.
( )10تفسير ابن أبي حاتم (.)308 /1
( )11تفسير عبد الرزاق (.)73 /1
( )1/358
أحكامهم ،فقيل لهما :إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات ،فبها ( )1يعصونني .قال
هاروت وماروت :ربنا ،لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل .فقال لهما :انزل فقد
أعطيتكما تلك الشهوات العشر ،فاحكما بين الناس .فنزل ببابل دَنْباوَند ،فكانا يحكمان ،حتى إذا
أمسيا عرجا ،فإذا أصبحا هبطا ،فلم يزال كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ،فأعجبهما (
)2حسنها -واسمها بالعربية "الزّهَرة" ،وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية "أناهيد" -فقال أحدهما
لصاحبه :إنها لتعجبني .قال الخر :قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك .فقال الخر :هل لك
أن أذكرها لنفسها ؟ قال :نعم ولكن كيف لنا بعذاب ال ؟ قال الخر :إنا لنرجو رحمة ال .فلما
جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ،فقالت :ل حتى تقضيا لي على زوجي .فقضيا لها على
زوجها ،ثم واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها ،فأتياها لذلك .فلما أراد الذي يواقعها قالت :
ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلم تصعدان إلى السماء ،وبأي كلم تنزلن منها ؟
فأخبراها ،فتكلمت فصعدت ،فأنساها ال ما تنزل به ،فبقيت ( )3مكانها ،وجعلها ( )4ال
كوكبًا .فكان عبد ال بن عمر كلما رآها لعنها ،فقال :هذه التي فتنت هاروت وماروت ،فلما
كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ،فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة .فاختارا
عذاب الدنيا ،فعلقا ببابل ،وجعل يكلمان الناس كلمهما وهو السحر.
وقال ابن أبي َنجِيح ( )5عن مجاهد :أما شأن هاروت وماروت ،فإن الملئكة عجبت من ظلم
بني آدم ،وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ،فقال لهم ربهم تعالى :اختاروا منكم ملكين
أنزلهما يحكمان في الرض بين بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إل] ( )6هاروت وماروت ،فقال لهما
حين أنزلهما :أعجبتما ( )7من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم ،وإنما تأتيهم الرسل والكتب
[والبينات] ( )8من وَرَاء وَرَاء ،وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ،فافعل كذا وكذا ،ودعا كذا
وكذا ،فأمرهما بأمر ونهاهما ،ثم نزل على ذلك ليس أحد أطوع ل منهما ،فحكما فعدل .فكانا
يحكمان في النهار بين بني آدم ،فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملئكة ،وينزلن حين يصبحان
فيحكمان فيعدلن ،حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم ،فقضيا عليها.
فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ،فقال أحدهما لصاحبه :وجدتَ مثل الذي وجدتُ ؟ قال
:نعم .فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك .فلما رجعت قال وقضيا لها ،فأتتهما فتكشفا لها عن
عورتيهما ،وإنما كانت شهوتهما ( )9في أنفسهما ،ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها.
فلما بلغا ذلك واستحل افتُتنا ،فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت .فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم
يؤذن لهما ،ولم تحملهما أجنحتهما .فاستغاثا برجل من بني آدم
__________
( )1في ط ،ب " :فما".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فأعجبهما من ".
( )3في ب ،أ ،و " :فثبتت".
( )4في أ " :وخلقها".
( )5في ط " :جريج".
( )6زيادة من جـ.
( )7في جـ ،ط ،ب " :أعجبتم".
( )8زيادة من جـ.
( )9في أ ،و " :سوآتهما".
( )1/359
فأتياه ،فقال ادع لنا ربك .فقال :كيف يشفع أهل الرض لهل السماء ؟ قال سمعنا ربك يذكرك
بخير في السماء .فوعدهما يومًا ،وغدا يدعو لهما ،فدعا لهما ،فاستجيب له ،فخيرا بين عذاب
الدنيا وعذاب الخرة ،فنظر أحدهما إلى صاحبه ،فقال :أل تعلم أن أفواج عذاب ال في الخرة
كذا وكذا في الخلد ،وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزل ببابل ،فثَمّ عذابهما .وزعم
أنهما معلقان في الحديد مطويان ،يصفقان بأجنحتهما.
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ،كمجاهد والسدي والحسن
[البصري] ( )1وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ،وقصها
خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ،وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني
إسرائيل ،إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل السناد إلى الصادق المصدوق المعصوم
الذي ل ينطق عن الهوى ،وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ول إطناب فيها ،
فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده ال تعالى ،وال أعلم بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ،قال :المام أبو جعفر
بن جرير ،رحمه ال :حدثنا الربيع بن سليمان ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني ابن أبي الزناد ،
حدثني هشام بن عُ ْروَة ،عن أبيه ،عن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم [رضي ال عنها
وعن أبيها] ( )2أنها قالت :قدمت امرأة عليّ من أهل دومة الجندل ،جاءت تبتغي رسول ال
صلى ال عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك ،تسأله عن شيء ( )3دخلت فيه من أمر السحر ،ولم
تعمل به .قالت عائشة ،رضي ال عنها ،لعُ ْروَة :يا ابن أختي ،فرأيتها تبكي حين لم تجد
رسول ال صلى ال عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لرحمها ،وتقول :إني أخاف أن
أكون قد هلكت .كان لي زوج فغاب عني ،فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ،فقالت :إن
فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك .فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ،فركبتُ أحدهما ()4
وركبت الخر ،فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ،وإذا برجلين معلقين بأرجلهما .فقال ما جاء بك
؟ فقلتُ :أتعلم ( )5السحر .فقال إنما نحن فتنة فل تكفري ،فارجعي .فأبيت وقلت :ل .قال
فاذهبي ( )6إلى ذلك التنور ،فبولي فيه .فذهبت ففزعتُ ولم أفعل ،فرجعت إليهما ،فقال
أفعلت ؟ فقلت :نعم .فقال هل رأيت شيئًا ؟ فقلت :لم أر شيئًا .فقال لم تفعلي ،ارجعي إلى
بلدك ول تكفري [فإنك على رأس أمري] ( .)7فأرْبَبْت وأبيت ( .)8فقال اذهبي إلى ذلك التنور
فبولي فيه .فذهبت فاقشعررت [وخفت] ( )9ثم رجعت إليهما فقلت :قد فعلت .فقال فما رأيت ؟
فقلت :لم
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )2زيادة من جـ.
( )3في أ ،و " :عن أشياء".
( )4في جـ " :فركبت إحداهما".
( )5في جـ ،ب ،أ ،و " :فقلنا نتعلم".
( )6في أ " :فقال فاذهبا".
( )7زيادة من جـ.
( )8في جـ " :فأبت وأبيت".
( )9زيادة من جـ ،ب ،أ ،و.
( )1/360
أر شيئًا .فقال كذبت ،لم تفعلي ،ارجعي إلى بلدك ول تكفري ( )1؛ فإنك على رأس أمرك.
فأرببتُ وأبيتُ .فقال اذهبي إلى ذلك التنور ،فبولي فيه .فذهبت إليه فبلت فيه ،فرأيت فارسًا
مقنعًا ( )2بحديد خَرَج مني ،فذهب في السماء وغاب [عني] ( )3حتى ما أراه ،فجئتهما فقلت :
قد فعلت .فقال فما رأيت ؟ قلت :رأيت فارسًا مقنعًا خرج مني فذهب في السماء ،حتى ما أراه.
فقال صدقت ،ذلك إيمانك خرج منك ،اذهبي .فقلت للمرأة :وال ما أعلم شيئًا وما قال لي شيئًا.
فقالت :بلى ،لم تريدي شيئًا إل كان ،خذي هذا القمح فابذري ،فبذرت ،وقلت :أطلعي ()4
فأطلعت ( )5وقلت :أحقلي فأحقلت ( )6ثم قلت :أفْركي فأف َر َكتْ .ثم قلت :أيبسي فأيبست (.)7
ثم قلت :أطحني فأطحنت ( .)8ثم قلت :أخبزي فأخبزت ( .)9فلما رأيتُ أني ل أريد شيئًا إل
كان ،سقط في يدي وندمت -وال -يا أم المؤمنين وال ما فعلت شيئًا قط ول أفعله أبدًا (.)10
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ،به مطول كما تقدم ( .)11وزاد بعد قولها :ول أفعله
أبدًا :فسألت أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم حداثة وفاة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وهم يومئذ متوافرون ،فما دَرَوا ما يقولون لها ،وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما ل
يعلمه ،إل أنه قد قال لها ابن عباس -أو بعض من كان عنده : -لو كان أبواك حيين أو أحدهما
[لكان يكفيانك] (.)12
قال هشام :فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [قال] ( : )13قال ابن أبي الزناد :وكان هشام يقول :
إنهم كانوا أهل الورع والخشية ( )14من ال .ثم يقول هشام :لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى
أهل حمق وتكلف بغير علم.
فهذا إسناد جيد إلى عائشة ،رضي ال عنها.
وقد استدل بهذا الثر من ذهب إلى أن ( )15الساحر له تمكن في قلب العيان ؛ لن هذه المرأة
بذرت واستغلت في الحال.
سحَرُوا أَعْيُنَ
وقال آخرون :بل ليس له قدرة إل على التخييل ،كما قال [ال] ( )16تعالى َ { :
عظِيمٍ } [العراف ]116 :وقال تعالى ُ { :يخَ ّيلُ إِلَيْهِ مِنْ
س وَاسْتَ ْرهَبُوهُ ْم وَجَاءُوا ِبسِحْرٍ َ
النّا ِ
سعَى } [طه ]66 :
سحْرِهِمْ أَ ّنهَا َت ْ
ِ
__________
( )1في جـ " :ولم تكفري".
( )2في جـ " :معلقا".
( )3زيادة من أ.
( )4في جـ ،ط " :اطلع فطلع".
( )5في جـ " :احقل فأحقل" ،وفي أ ،و " :فطلعت".
( )6في ط " :احقلى فأجعلت".
( )7في جـ " :أيبس فيبس".
( )8في جـ " :اطحن فطحن".
( )9في جـ " :اختبز فاختبز".
( )10تفسير الطبري (.)441 - 439 /2
( )11تفسير ابن أبي حاتم ( )312 /1ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( )137 /8من طريق
الربيع بن سليمان به مطول ،وهذه الزيادة لم ترد في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم ،وقد نبه
إلى ذلك المحقق الفاضل ،جزاه ال خيرًا.
( )12زيادة من أ.
( )13زيادة من أ.
( )14في جـ " :وأهل خشية".
( )15في أ " :من ذهب بأن".
( )16زيادة من أ.
( )1/361
واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق ،ل بابل دُنْباوَنْد ( )1كما قاله
السدي وغيره .ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ( )2ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن
الحسين ،حدثنا أحمد بن صالح ،حدثني ابن وهب ،حدثني ابن َلهِيعة ويحيى بن أزهر ،عن
عمار بن سعد المرادي ،عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب ،رضي ال عنه [مر
ببابل وهو يسير ،فجاء المؤذن ُيؤْذنه بصلة العصر ،فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلة ،
فلما فرغ] قال :إن حبيبي صلى ال عليه وسلم نهاني أن أصلي [بأرض المقبرة ،ونهاني أن
أصلي] ببابل فإنها ملعونة (.)3
وقال أبو داود :حدثنا سليمان بن داود ،حدثنا ابن وهب ،حدثني ابن َلهِيعة ويحيى بن أزهر ،
عن عمار بن سعد المرادي ،عن أبي صالح الغفاري :أن عليا مر ببابل ،وهو يسير ،فجاءه
المؤذن يؤذنه بصلة العصر ،فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلة فلما فرغ قال :إن حبيبي
صلى ال عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ،ونهاني أن أصلي بأرض بابل ،فإنها ملعونة.
حدثنا أحمد بن صالح :حدثنا ابن وهب ،أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة ،عن الحجاج بن
شداد ،عن أبي صالح الغفاري ،عن علي ،بمعنى حديث سليمان بن داود ،قال :فلما "خرج"
مكان "برز" (.)4
وهذا الحديث حسن عند المام أبي داود ،لنه رواه وسكت عنه ( )5؛ ففيه من الفقه كراهية
الصلة بأرض بابل ،كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الدخول
إلى منازلهم ،إل أن يكونوا باكين.
قال أصحاب الهيئة :و ُبعْدُ ما بين بابل ،وهي من إقليم العراق ،عن البحر المحيط الغربي ،
ويقال له :أوْقيانُوس ( )6سبعون درجة ،ويسمون هذا طول وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين
وسط الرض من ناحية الجنوب ،وهو المسامت لخط الستواء ،اثنان ( )7وثلثون درجة ،وال
أعلم.
وقوله تعالى َ { :ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى َيقُول إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَل َت ْكفُرْ } قال أبو جعفر الرازي ،
عن الربيع بن أنس ،عن قيس ( )8بن عباد ،عن ابن عباس ،قال :فإذا أتاهما التي يريد
السحر نهياه أشد النهي ،وقال له :إنما نحن فتنة فل تكفر ،وذلك أنهما علما الخير والشر
والكفر واليمان ،فعرفا أن السحر من الكفر ([ .)9قال] ( )10فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي
مكان كذا وكذا ،فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه ،فإذا تعلم خرج منه النور ،فنظر ( )11إليه
ساطعًا في السماء ،فيقول :يا حسرتاه!
__________
( )1في ط ،ب ،أ ،و " :ديناوند".
( )2في أ " :ما قاله".
( )3تفسير ابن أبي حاتم ( ، )304 /1وما بين المعقوفين ليس في تفسير ابن أبي حاتم.
( )4سنن أبي داود برقم (.)491 ، 490
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وسكت عليه".
( )6في ب " :أوليانوس".
( )7في ب ،أ ،و " :ثنتان".
( )8في أ " :عن بشر".
( )9في ب " :أن الكفر من السحر".
( )10زيادة من جـ ،أ ،و.
( )11في أ " :فينظر".
( )1/362
( )1/363
عنه ( )1عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ،ثم يبعث
سراياه في الناس ،فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ،يجيء أحدهم فيقول :ما زلت بفلن
حتى تركته وهو يقول كذا وكذا .فيقول إبليس :ل وال ما صنعت شيئًا .ويجيء أحدهم فيقول :
ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله ( )2قال :فيقربه ويدنيه ويلتزمه ،ويقول ِ :نعْم أنت (.)3
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر :ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الخر من سوء منظر ،
أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو َبغْضه ،أو نحو ذلك من السباب المقتضية للفرقة.
والمرء عبارة عن الرجل ،وتأنيثه امرأة ،ويثنى كل منهما ول يجمعان ،وال أعلم.
حدٍ إِل بِإِذْنِ اللّهِ } قال سفيان الثوري :إل بقضاء ال.
وقوله تعالى َ { :ومَا هُمْ ِبضَارّينَ ِبهِ مِنْ أَ َ
وقال محمد بن إسحاق إل بتخلية ال بينه وبين ما أراد .وقال الحسن البصري َ { :ومَا هُمْ
ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ َأحَدٍ إِل بِِإذْنِ اللّهِ } قال َ :نعَم ،من شاء ال سلطهم عليه ،ومن لم يشأ ال لم
يسلط ،ول يستطيعون ضر أحد إل بإذن ال ،كما قال ال تعالى ،وفي رواية عن الحسن أنه
قال :ل يضر هذا السحر إل من دخل فيه.
وقوله تعالى { :وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُه ْم وَل يَ ْن َف ُعهُمْ } أي :يضرهم في دينهم ،وليس له نفع يوازي
ضرره.
{ وََلقَدْ عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ } أي :ولقد علم اليهود الذين استبدلوا
بالسحر عن متابعة الرسول ( )4صلى ال عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك ،أنه ما له في الخرة
من خلق.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي :من نصيب .وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة :ما له
في الخرة من جهة عند ال ( )5وقال :وقال الحسن :ليس له دين.
وقال سعد ( )6عن قتادة { :مَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ } قال :ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد
ال إليهم أن الساحر ل خلق له في الخرة.
سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ* وََلوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَاتّ َقوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ
وقوله تعالى { :وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ
عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } يقول تعالى { :ولبئس } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا
عن اليمان ،ومتابعة الرسل ( )7لو كان لهم علم بما وعظوا به { وَلَوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ
مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ } أي :ولو أنهم آمنوا بال ورسله واتقوا المحارم ،لكان مثوبة ال على ذلك
خيرا لهم مما استخاروا لنفسهم ورضوا به ،كما قال تعالى َ { :وقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْل َم وَيَْلكُمْ
ع ِملَ صَالِحًا وَل ُيَلقّاهَا إِل الصّابِرُونَ } [القصص .]80 :
ن وَ َ
َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ آمَ َ
__________
( )1في ب " :عنهما".
( )2في جـ " :وبين زوجه".
( )3صحيح مسلم برقم (.)2813
( )4في أ " :متابعة الرسل".
( )5في أ " :ما له في الخرة من خلق".
( )6في ط ،ب ،و " :سعيد".
( )7في أ " :الرسول".
( )1/364
وقد استدل بقوله { :وََلوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَا ّت َقوْا } من ذهب إلى تكفير الساحر ،كما هو رواية عن
المام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف .وقيل :بل ل يكفر ،ولكن حَده ضَ ْربُ عنقه ،لما رواه
الشافعي وأحمد بن حنبل ،رحمهما ال :أخبرنا سفيان ،عن عمرو بن دينار ،أنه سمع بجالة بن
عَبَ َد َة يقول :كتب [أمير المؤمنين] ( )1عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،أن اقتلوا كل ساحر
وساحرة .قال :فقتلنا ثلث سواحر ( .)2وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضًا ( .)3وهكذا
صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها ،فأمرت بها فقتلت ( .)4قال أحمد بن حنبل :
صح من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم [أذنوا] ( )5في قتل الساحر.
وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم ،عن الحسن ،عن جندب الزدي أنه قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :حد الساحر ضَرْبُه بالسيف" (.)6
ثم قال :ل نعرفه مرفوعًا إل من هذا الوجه .وإسماعيل بن مسلم يُضعّف في الحديث ،والصحيح
:عن الحسن عن جُنْدُب موقوفًا.
قلت :قد رواه الطبراني من وجه آخر ،عن الحسن ،عن جندب ،مرفوعًا ( .)7وال أعلم.
وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ،فكان يضرب
رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ،فقال الناس :سبحان ال! يحيي الموتى! ورآه رجل
من صالحي المهاجرين ،فلما كان الغد جاء مشتمل على سيفه ،وذهب يلعب لعبه ذلك ،فاخترط
الرجل سيفه فضرب ( )8عنق الساحر ،وقال :إن كان صادقا ( )9فليحي نفسه .وتل قوله تعالى
َ { :أفَتَأْتُونَ السّحْ َر وَأَنْ ُتمْ تُ ْبصِرُونَ } [النبياء ]3 :فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم
أطلقه )10( ،وال أعلم.
وقال ( )11أبو بكر الخلل :أخبرنا عبد ال بن أحمد بن حنبل ،حدثني أبي ،حدثنا يحيى بن
سعيد ،حدثني أبو إسحاق ،عن حارثة قال :كان عند بعض المراء رجل يلعب فجاء جندب
مشتمل
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2رواه عبد ال بن أحمد في مسائل أبيه ،ط .المكتب السلمي برقم ( )1542عن أبيه عن
سفيان به.
( )3صحيح البخاري برقم (.)3156
( )4رواه عبد ال بن أحمد في مسائل أبيه ،ط .المكتب السلمي برقم ( )1543عن أبيه عن
يحيى بن سعيد ،عن عبيد ال ،عن نافع ،عن ابن عمر :أن حفصة سحرتها جاريتها ،فذكره.
( )5زيادة من جـ.
( )6سنن الترمذي برقم (.)1460
( )7المعجم الكبير ( )161 /2من طريق محمد بن الحسن بن سيار ،عن خالد العبد عن الحسن
عن سمرة به.
( )8في جـ " :وضرب".
( )9في أ ،و " :إن كان ساحرًا".
( )10الرجل الذي قتله هو جندب بن كعب ،انظر القصة في :أسد الغابة لبن الثير في ترجمة
جندب بن كعب ( )361/ 1وفي الصابة للحافظ ابن حجر (.)251 /1
( )11في و " :وقال المام".
( )1/365
على سيفه فقتله ،فقال :أراه كان ساحرًا ،وحمل الشافعي ،رحمه ال ،قصة عمر ،وحفصة (
سحْر يكون شركا .وال أعلم .فصل
)1على ِ
حكى أبو عبد ال الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر ،قال :وربما كفروا
جوّزُوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ،ويقلب
من اعتقد وجوده .قال :وأما أهل السنة فقد َ
النسان حمارًا ،والحمار إنسانًا ،إل أنهم قالوا :إن ال يخلق الشياء عندما يقول الساحر تلك
الرقى و [تلك] ( )2الكلمات ال ُمعَيّنة ،فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فل خلفًا
للفلسفة والمنجمين الصابئة ،ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق ال تعالى ،بقوله تعالى { :
حدٍ إِل بِإِذْنِ اللّهِ } ومن الخبار بأن رسول ال صلى ال عليه وسلم سُحِر
َومَا هُمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ أَ َ
عمِل فيه ،وبقصة تلك المرأة مع عائشة ،رضي ال عنها ،وما ذكرت تلك المرأة
،وأن السحر َ
من إتيانها بابل وتعلمها السحر ،قال :وبما يذكر ( )3في هذا الباب من الحكايات الكثيرة ،ثم
قال بعد هذا :
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ول محظور :اتفق المحققون على ذلك ؛ لن (
)4العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى ُ { :قلْ َهلْ يَسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُونَ وَالّذِينَ ل َيعَْلمُونَ
} [الزمر ]9 :؛ ولن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ،والعلم بكون
المعجز ُمعْجِزًا واجب ،وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل
العلم بالسحر واجبًا ،وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا ؟!
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة ،وهذا الكلم فيه نظر من وجوه ،أحدها :قولُهُ " :العلم
بالسحر ليس بقبيح" .إن عنى به ليس بقبيح عقل فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا ( )5وإن عنى
أنه ليس بقبيح شرعًا ،ففي هذه الية الكريمة تبشيع ( )6لتعلم السحر ،وفي الصحيح " :من أتى
عرافًا أو كاهنًا ،فقد كفر بما أنزل على محمد" ( .)7وفي السنن " :من عقد عقدة ونفث فيها فقد
سحر" ( .)8وقوله :ول محظور اتفق المحققون على ذلك" .كيف ل يكون محظورًا مع ما ذكرناه
من الية والحديث ؟! واتفاق المحققين ( )9يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء
أو أكثرهم ،وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله [علم] ( )10السحر في عموم قوله ُ { :قلْ َهلْ
ن وَالّذِينَ ل َيعَْلمُونَ } فيه نظر ؛ لن هذه الية إنما دلت على مدح العالمين
يَسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُو َ
بالعلم الشرعي ،ولم
__________
( )1في جـ " :في قصة حفصة وعمر".
( )2زيادة من جـ.
( )3في جـ " :وما يذكر".
( )4في جـ ،ط " :فإن".
( )5في جـ " :ذلك".
( )6في أ " :متسع".
( )7صحيح مسلم برقم ( )2230من حديث بعض أزواج النبي صلى ال عليه وسلم وليس فيه :
"كاهنًا" والعراف من جملة أنواع الكهان.
( )8رواه النسائي في السنن ( )112 /7من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )9في أ " :المحدثين".
( )10زيادة من جـ ،ب ،أ ،و .وفي ط "تعلم".
( )1/366
قلتَ إن هذا منه ؟ ثم تَرَقيه ( )1إلى وجوب تعلمه بأنه ل يحصل العلم بالمعجز إل به ،ضعيف
بل فاسد ؛ لن معظم ( )2معجزات رسولنا ،عليه الصلة والسلم ( )3هي القرآن العظيم ،الذي
ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه تنزيل من حكيم حميد .ثم إن العلم بأنه معجز ل يتوقف
على علم السحر أصل ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم ،
كانوا يعلمون المعجز ،ويف ّرقُون بينه وبين غيره ،ولم يكونوا يعلمون السحر ول تعلموه ول
علموه ،وال أعلم.
ثم قد ذكر أبو عبد ال الرازي أن أنواع السحر ثمانية :
الول :سحر الكلُدْانيين والكُشْدانيين ،الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة ،وهي
السيارة ،وكانوا يعتقدون أنها ُمدَبّرة العالم ( )4وأنها تأتي بالخير والشر ،وهم الذين بَعث ()5
إليهم إبراهيم الخليل صلى ال عليه وسلم مبطل لمقالتهم ورادا لمذهبهم ( )6وقد استقصى في
"كتاب السر المكتوم ،في مخاطبة الشمس والنجوم" المنسوب إليه فيما ( )7ذكره القاضي ابن
خلكان وغيره ( )8ويقال :إنه تاب منه .وقيل ( )9إنه ( )10صنفه على وجه إظهار الفضيلة ل
على سبيل العتقاد .وهذا هو المظنون به ،إل أنه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كل من هذه
الكواكب السبعة ،وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه ،وما يتنسكون به.
قال :والنوع الثاني :سحر أصحاب الوهام والنفوس القوية ،ثم استدلّ على أن الوهم له تأثير ،
بأن النسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الرض ،ول يمكنه المشي عليه
إذا كان ممدودًا على نهر أو نحوه .قال :وكما أجمعت الطباء على نهي المَرْعُوف ( )11عن
حمْر ،والمصروع إلى الشياء القوية اللمعان أو الدوران ،وما ذاك إل لن
النظر إلى الشياء ال ُ
النفوس خلقت ُمطِيعة ( )12للوهام.
قال :وقد اتفق العقلء على أن الصابة بالعين حق.
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال " :العين
حقّ ،ولو كان شيء سَا ِبقَ القدر لسبقته العين" (.)13
َ
قال :فإذا عرفت هذا ،فنقول :النفس التي تفعل هذه الفاعيل قد تكون قوية جدًا ،فتستغني في
هذه الفاعيل ( )14عن الستعانة باللت والدوات ،وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الستعانة
بهذه
__________
( )1في أ " :فرقته".
( )2في جـ ،ب ،أ ،و " :لن أعظم".
( )3في جـ " :صلى ال عليه وسلم".
( )4في جـ " :مدبرة للعالم".
( )5في جـ ،ب ،أ " :بعث ال".
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :لمذاهبهم".
( )7في ب " :كما".
( )8وفيات العيان (.)381 /3
( )9في جـ ،ط " :ويقال".
( )10في جـ ،ط ،ب " :بل".
( )11في جـ " :المرفوع" ،وفي ط " :الموضوع".
( )12في جـ ،ط ،ب ،و " :منطبعة" ،وفي أ " :منطبقة".
( )13صحيح مسلم برقم ( )2188من حديث عبد ال بن عباس رضي ال عنه.
( )14في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :هذه الفعال".
( )1/367
اللت .وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية ( )1على البدن شديدة النجذاب إلى عالم السماوات ،
صارت كأنها رُوح من الرواح السماوية ،فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم .وإذا
كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات ( )2البدنية ،فحينئذ ل يكون لها تصرف البتة إل في هذا
البدن .ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ،والنقطاع عن الناس والرياء (.)3
قلت :وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال ،وهو على قسمين :تارة تكون حال صحيحة
شرعية يتصرف بها فيما أمر ال ورسوله صلى ال عليه وسلم ،ويترك ما نهى ال عنه ورسوله
،وهذه الحوال مواهب من ال تعالى وكرامات للصالحين من هذه المة ،ول يسمى هذا سحرًا
في الشرع .وتارة تكون الحال فاسدة ل يمتثل صاحبها ما أمر ال ورسوله صلى ال عليه وسلم
ول يتصرف بها في ذلك .فهذه ( )4حال الشقياء المخالفين للشريعة ،ول يدل إعطاء ال ()5
إيّاهم هذه الحوال على محبته لهم ،كما أن الدجّال -لعنه ال -له من الخوارق العادات ( )6ما
دلت عليه الحاديث الكثيرة ،مع أنه مذموم شرعًا لعنه ال .وكذلك من شابهه من مخالفي
الشريعة المحمدية ،على صاحبها أفضل الصلة والسلم .وبسط هذا يطول جدًا ،وليس هذا
موضعه.
قال :النوع الثالث من السحر :الستعانة بالرواح الرضية ،وهم الجن ،خلفًا للفلسفة
والمعتزلة :وهم على قسمين :مؤمنون ،وكفار ،وهم الشياطينُ .قال :واتصال النفوس الناطقة
بها أسهل من اتصالها بالرواح السماوية ،لما بينهما من المناسبة ( )7والقرب ،ثم إن أصحاب
الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن التصال بهذه الرواح الرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة
من الرقى والدخل ( )8والتجريد .وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير (.)9
النوع الرابع من السحر :التخيلت ،والخذ بالعيون والشعبذة ،ومبناه [على] ( )10أن البصر قد
يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ،أل ترى أن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يذهل
أذهان الناظرين به ،ويأخذ عيونهم إليه ،حتى إذا استفرغهم ( )11الشغل بذلك الشيء بالتحديق
عمَل بسرعة شديدة ،وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه.
ونحوه ،عمل شيئًا آخر َ
فيتعجّبون منه جدًا ،ولو أنه سكت ولم يتكلم بما ( )12يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن
يعمله ،ولم تتحرك النفوس والوهام إلى غير ما يريد إخراجه ،لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
قال :وكلما كانت الحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل ( )13أشد ،كان العمل
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،و " :مشتغلة" ،وفي أ " :مستقبلة".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :اللذات".
( )3في جـ ،ط ،ب ،و " :والرياضة".
( )4في جـ " :فهذا".
( )5في جـ " :أعطاهم ال" ،وفي أ " :على عطاء ال".
( )6في جـ " :والعادات".
( )7في جـ " :من المناسب".
( )8في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :والدخن".
( )9في ط ،ب ،أ ،و " :وعمل تسخير".
( )10زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )11في جـ " :إذا استقر".
( )12في ط " :مما".
( )13في جـ " :الخلل".
( )1/368
أحسنَ ،مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا ،أو مظلم ،فل تقف القوة الناظرة ()1
على أحوالها بكللها ( )2والحالة هذه.
قلت :وقد قال بعض المفسرين :إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ،
عظِيمٍ } [العراف
س وَاسْتَرْهَبُو ُه ْم وَجَاءُوا ِبسِحْرٍ َ
ولهذا قال تعالى { :فََلمّا أَ ْل َقوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّا ِ
سعَى } [طه ]66 :قالوا :ولم تكن تسعى في
]116 :وقال تعالى ُ { :يخَ ّيلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِ ِهمْ أَ ّنهَا تَ ْ
نفس المر .وال أعلم.
النوع الخامس من السحر :العمال العجيبة التي تظهر من تركيب اللت المركبة من النسب
الهندسية ،كفارس على فرس في يده بوق ،كلما مضت ساعة من النهار ضرب ( )3بالبوق ،
صوّرها الرومُ والهند ،حتى ل يفرق الناظر بينها
من غير أن يمسه أحد .ومنها الصور التي ُت َ
وبين النسان ،حتى يصورونها ضاحكة وباكية.
إلى أن قال :فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل .قال :وكان سحر سحرة فرعون من هذا
القبيل.
قلت :يعني ما قاله بعض المفسرين :أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي ،فحشوها زئبقًا
فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق ،فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها.
قال الرازي :ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ،ويندرج في هذا الباب علم جَ ّر الثقال
باللت الخفيفة.
قال :وهذا في الحقيقة ل ينبغي أن يعد من باب السحر ؛ لن لها أسبابًا ( )4معلومة يقينية ()5
من اطلع عليها قدر عليها.
قلت :ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم ،بما يُرُونَهم إياه من النوار ،كقضية ُقمَامة
الكنيسة التي لهم ببلد ( )6المقدس ،وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة ،وإشعال
ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام ([ )7منهم] ( )8وأما الخواص فهم يعترفون بذلك ،
ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ،فيرون ذلك سائغًا لهم .وفيه شبه ()9
للجهلة الغبياء من متعبدي ( )10الكَرّامية الذين يرون جواز وضع الحاديث في الترغيب
والترهيب ،فيدخلون في عداد من قال رسول ال صلى ال عليه وسلم فيهم (" : )11من كذب
عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :الباصرة".
( )2في جـ ،ط ،ب " :لكللها" وفي أ " :بكمالها".
( )3في جـ ،ط " :ضرب مرة".
( )4في أ " :أنسابًا".
( )5في ط ،أ " :متيقنة".
( )6في جـ " :ببيت" وفي و " :بالبلد".
( )7في جـ ،ط ،ب " :الطعام".
( )8زيادة من جـ ،ط ،ب.
( )9في جـ " :وفيه شبهة" ،في أ " :وفيهم شبه".
( )10في أ " :متعدي".
( )11في جـ " :من قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )1/369
النار ( ." )1وقوله " :حدثوا عني ول تكذبوا عََليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار" (.)2
ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان ،وهو أنه سمع صوت طائر حزين ( )3الصوت ضعيف
الحركة ،فإذا سمعته الطيور تَ ِرقّ له فتذهب فتلقي في َوكْره من ثمر الزيتون ،ليتبلغ ( )4به ،
ف َعمَد هذا الراهبُ إلى صنعة طائر على شكله ،وتوصل إلى أن جعله أجوف ،فإذا دخلته الريح
يسمع له ( )5صوت كصوت ذلك الطائر ،وانقطع في صومعة ابتناها ،وزعم أنها على قبر
بعض صالحيهم ،وعلق ذلك الطائر في مكان منها ،فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيه ،
سمَعُ صوتها كذلك الطائر في شكله أيضًا ،فتأتي الطيور
فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة ،فَيُ ْ
فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فل ترى النصارى إل ذلك الزيتون في هذه الصومعة ،ول يدرون
ما سببه ؟ ففتنهم بذلك ،وأوهم ( )6أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر ،عليهم لعائن ال
المتتابعة ( )7إلى يوم القيامة.
قال الرازي :النوع السادس من السحر :الستعانة بخواص الدوية يعني في الطعمة والدهانات
( .)8قال :واعلم أن ل سبيل إلى إنكار الخواص ،فإن أثر المغناطيس مشاهد.
قلت :يدخل في هذا القبيل كثير ممن َيدّعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص ،مدعيًا
أنها أحوال له ( )9من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالت.
قال :النوع السابع من السحر :تعليق ( )10القلب ،وهو أن يدعي الساحرُ أنه عرف السم
العظم ،وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر المور ،فإذا اتفق أن يكون ذلك السامع لذلك
ضعيف العقل ( )11قليل التمييز اعتقد أنه حق ،وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من
الرهب والمخافة ،فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة ( )12فحينئذ يتمكن الساحر أن
يفعل ما يشاء.
قلت :هذا النمط يقال له التنبلة ،وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم .وفي علم الفراسة
ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه ،فإذا كان المُتَنْ ِبلُ حاذقًا في علم الفراسة عرف من
ينقاد له مِنَ الناس مِنْ غيره.
قال :النوع الثامن من السحر :السعي بالنميمة والتضريب ( )13من وجوه خفيفة لطيفة ،وذلك
شائع في الناس.
__________
( )1هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن النبي صلى ال عليه وسلم عدهم المام الطبراني في
جزء له فأوصلهم فوق الستين ،وانظره في :صحيح البخاري برقم ( )107من حديث الزبير
رضي ال عنه ،وفي مقدمة صحيح مسلم برقم ( )4 - 2من حديث أنس وأبي هريرة والمغيرة
رضي ال عنهم".
( )2رواه مسلم في مقدمة صحيحه برقم ( )1من حديث علي رضي ال عنه.
( )3في أ ،و ك " :حنين".
( )4في جـ ،أ " :ليبتلع".
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :يسمع منه".
( )6في جـ " :وأوهمهم".
( )7في جـ ،ط ،ب " :التابعة" ،وفي أ " :البالغة".
( )8في جـ " :في الطعمة والدهان".
( )9في جـ " :أنها أحواله".
( )10في جـ " :تعلق".
( )11في ب ،أ ،و " :القلب".
( )12في جـ " :القوى الحسية".
( )13في ب " :التضرب".
( )1/370
قلت :النميمة على قسمين ،تارة تكون على وجه التحريش [بين الناس] ( )1وتفريق قلوب
المؤمنين ،فهذا حرام متفق عليه .فأما إذا ( )2كانت على وجه الصلح [بين الناس] ()3
وائتلف كلمة المسلمين ،كما جاء في الحديث " :ليس بالكذاب من يَنمّ خيرًا" أو يكون على وجه
التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة" فهذا أمر مطلوب ،كما جاء في الحديث " :الحرب خدعة".
وكما فعل نعيم بن مسعود ( )4في تفريقه بين كلمة الحزاب وبين ( )5قريظة ،وجاء إلى هؤلء
فنمى إليهم عن هؤلء كلمًا ،ونقل من هؤلء إلى أولئك شيئًا آخر ،ثم لم بين ذلك ،فتناكرت
النفوس وافترقت .وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة .وال المستعان.
ثم قال الرازي :فهذه جملة الكلم في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت :وإنما أدخل كثيرًا من هذه النواع المذكورة في فَنّ السحر ،للطافة مداركها ؛ لن السحر
في اللغة :عبارة عما لطُف وخفي سببه .ولهذا جاء في الحديث " :إن من البيان لسحرًا (.)6
وسمي السحور لكونه يقع خفيًا آخر الليل ( )7والسّحْر :الرئة ،وهي محل الغذاء ،وسميت بذلك
لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ،كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة :انتفخ
سحرك ( )8أي :انتفخت رئته من الخوف .وقالت عائشة ،رضي ال عنها :توفي رسول صلى
ال عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري .وقال { :سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ } أي :أخفوا عنهم عملهم ،
وال أعلم (.)9
[فصل] ( )10وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن هَبيرة بن محمد بن هبيرة في كتابه :
"الشراف على مذاهب الشراف" بابًا في السحر ،فقال :أجمعوا على أن السحر له حقيقة إل أبا
حنيفة ،فإنه قال :ل حقيقة له عنده .واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله ،فقال أبو حنيفة
ومالك وأحمد :يكفر بذلك .ومن أصحاب أبي حنيفة من قال :إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فل يكفر
،ومن تعلمه معتقدًا جوازه أو أنه ينفعه َكفَر .وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو
كافر .وقال الشافعي ،رحمه ال :إذا تعلم السحر قلنا له :صف لنا سحرك .فإن وصف ما
يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة ،وأنها تفعل ما يلتمس منها
،فهو كافر .وإن كان ل يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
قال ابن هبيرة :وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد :نعم .وقال الشافعي وأبو
حنيفة :ل .فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه ُيقْتل عند مالك والشافعي وأحمد .وقال أبو حنيفة :ل
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :فأما إن".
( )2في جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )4في جـ " :ابن السود".
( )5في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :وبني".
( )6في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :سحرًا".
( )7في جـ " :الليلة".
( )8في جـ ،ب ،أ ،و " :سحره".
( )9في جـ " :وال تبارك وتعالى أعلم".
( )10زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )1/371
( )1/372
خلفًا للمعتزلة وأبي إسحاق السفرايني من الشافعية حيث قالوا :إنه تمويه وتخيل .قال :ومن
السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد ؛ لخفة سيره .قال ابن فارس :هذه الكلمة
من كلم أهل البادية .قال القرطبي :ومنه ما يكون كلمًا يحفظ ورقى من أسماء ال تعالى ،وقد
يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك .قال :وقوله ،عليه السلم " :إن من
البيان لسحرا" ( )1يحتمل أن يكون مدحًا كما تقوله طائفة ،ويحتمل أن يكون ذمًا للبلغة .قال :
وهذا الصح .قال :لنها تصوب الباطل حين يوهم السامع أنه حق كما قال " :فلعل بعضكم أن
يكون ألحن لحجته من بعض" فاقتضى له ،الحديث.
س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ َألِيمٌ ( )104مَا َيوَدّ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا انْظُرْنَا وَا ْ
حمَ ِتهِ
ب وَل ا ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَاللّهُ يَخْ َتصّ بِرَ ْ
الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ (} )105
مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
نهى ال تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ،وذلك أن اليهود كانوا ُيعَانُون
من الكلم ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن ال -فإذا أرادوا أن يقولوا :
اسمع لنا يقولون :راعنا .يورون ( )2بالرعونة ،كما قال تعالى { :مِنَ الّذِينَ هَادُوا ُيحَ ّرفُونَ
طعْنًا فِي
سمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بِأَلْسِنَ ِتهِمْ وَ َ
سمَعْ غَيْرَ مُ ْ
عصَيْنَا وَا ْ
س ِمعْنَا وَ َ
ضعِ ِه وَ َيقُولُونَ َ
ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَا ِ
سمَ ْع وَانْظُرْنَا َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وََأ ْقوَ َم وََلكِنْ َلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ
طعْنَا وَا ْ
س ِمعْنَا وَأَ َ
ن وََلوْ أَ ّنهُمْ قَالُوا َ
الدّي ِ
فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيل } [النساء ]46 :وكذلك جاءت الحاديث بالخبار عنهم ،بأنهم كانوا إذا
سَلّموا إنما يقولون :السامُ عليكم .والسام هو :الموت .ولهذا ( )3أمرنا أن نرد عليهم بـ
"وعليكم" .وإنما يستجاب لنا فيهم ،ول يستجاب لهم فينا.
والغرض :أن ال تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قول وفعل .فقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
عذَابٌ أَلِيمٌ }
س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ َ
آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا ا ْنظُرْنَا وَا ْ
وقال المام أحمد :حدثنا أبو النضر ،حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ،حدثنا حسان بن عطية ،عن
أبي مُنيب الجُرَشي ،عن ابن عمر ،رضي ال عنهما ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :بعثت بين يدي الساعة بالسيف ،حتى يُعبد ال وحده ل شريك له .وجعل رزقي تحت
ظل رمحي ،وجعلت الذلة والصّغارُ على من خالف أمري ،ومن تشبه بقوم فهو منهم".
وروى أبو داود ،عن عثمان بن أبي شيبة ،عن أبي النضر هاشم بن القاسم به (" )4من تشبه
بقوم فهو منهم"
__________
( )1رواه أبو داود في السنن برقم ( )5011والترمذي في السنن برقم ( )2845من حديث ابن
عباس رضي ال عنه ،ورواه أبو داود في السنن برقم ( )5012من حديث بريده رضي ال عنه.
( )2في جـ ،ط ،ب " :ويورون" ،وفي أ " :ويرون".
( )3في جـ " :ولقد".
( )4المسند ( )2/92وسنن أبي دواد برقم (.)4031
( )1/373
ففيه دللة على النهي الشديد والتهديد والوعيد ،على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ،ولباسهم
وأعيادهم ،وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ول ُنقَرر عليها.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا نعيم بن حماد ،حدثنا عبد ال بن المبارك ،حدثنا
عوْن -أو أحدهما -أن رجل أتى عبد ال بن مسعود ،فقال :اعهد إلي.
سعَر ،عن َمعْن و َ
مِ ْ
سمْعك ،فإنه خير يأمر به أو شر ينهى
فقال :إذا سمعت ال يقول { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فأرعها َ
عنه (.)1
وقال العمش ،عن خيثمة ،قال :ما تقرؤون في القرآن { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فإنه في التوراة
" :يا أيها المساكين".
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،عن سعيد بن جبير أو عكرمة ،عن ابن
عباس { :راعنا } أي :أرعنا ( )2سمعك.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا } قال :كانوا يقولون للنبي
صلى ال عليه وسلم أرعنا سمعك .وإنما { راعنا } كقولك :عاطنا.
وقال ابن أبي حاتم :وروي عن أبي العالية ،وأبي مالك ،والربيع بن أنس ،وعطية العوفي ،
وقتادة ،نحو ذلك.
وقال مجاهد { :ل َتقُولُوا رَاعِنَا } ل تقولوا خلفا .وفي رواية :ل تقولوا :اسمع منا ونسمع
منك.
وقال عطاء { :ل َتقُولُوا رَاعِنَا } كانت لُغة تقولها النصار فنهى ال عنها.
وقال الحسن { :ل َتقُولُوا رَاعِنَا } قال :الراعن من القول السخري منه .نهاهم ال أن يسخروا
من قول محمد صلى ال عليه وسلم ،وما يدعوهم إليه من السلم .وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه
قال مثله.
س َمعُوا } قال :كان رسول ال صلى ال
وقال أبو صخر { :ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا انْظُرْنَا وَا ْ
عليه وسلم ،إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ،فيقول :أرعنا ( )3سمعك .فأعظم
ال رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقال ذلك له (.)4
وقال السدي :كان رجل من اليهود من بني قينقاع ،يدعى رفاعة بن زيد ( )5يأتي النبي صلى
ال عليه وسلم ،فإذا لقيه فكلمه قال :أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع .وكان المسلمون يحسبون
أن النبياء كانت ُتفَخم بهذا ،فكان ناس منهم يقولون :اسمع غير مسمع :غَيْرَ صاغر .وهي
كالتي ( )6في سورة النساء .فتقدم ال إلى المؤمنين أن ل يقولوا :راعنا.
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم (.)1/317
( )2في أ " :أى راعنا".
( )3في أ " :فيقول راعنا".
( )4في جـ " :أن يقال له ذلك".
( )5في جـ " :بن يزيد".
( )6في جـ " :هي التي".
( )1/374
( )1/375
( )1/375
إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها .وسواء نسخ حكمها أو خطها ،إذ هي في كلتا حالتيها
منسوخة .وأما علماء الصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ،والمر في ذلك قريب ؛ لن
معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخّص ( )1بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر.
فاندرج في ذلك نسخ الخف بالثقل ،وعكسه ،والنسخ ل إلى بدل .وأما تفاصيل أحكام النسخ
ن أصول الفقه.
وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَ ّ
وقال الطبراني :حدثنا أبو شبيل ( )2عبيد ال بن عبد الرحمن بن واقد ،حدثنا أبي ،حدثنا
العباس بن الفضل ،عن سليمان بن أرقم ،عن الزهري ،عن سالم ،عن أبيه ،قال :قرأ
رجلن سورة أقرأهما رسول ال صلى ال عليه وسلم فكانا يقرآن بها ،فقاما ذات ليلة يصليان ،
فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرا ذلك له ،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إنها مما نسخ وأنسي ،فالهوا عنها" .فكان الزهري يقرؤها
سهَا } ( )3بضم النون خفيفة ( .)4سليمان بن أرقم ضعيف.
{ :مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنْ ِ
[وقد روى أبو بكر بن النباري ،عن أبيه ،عن نصر بن داود ،عن أبي عبيد ،عن عبد ال بن
صالح ،عن الليث ،عن يونس وعبيد وعقيل ،عن ابن شهاب ،عن أبي أمامة بن سهل بن
حنيف مثله مرفوعًا ،ذكره القرطبي (.)6( ] )5
سهَا } ( )7فقرئ على وجهين " :ننسأها ونُنْسها" .فأما من قرأها " :نَنسأها"
وقوله تعالى َ { :أوْ نُنْ ِ
-بفتح النون والهمزة بعد السين -فمعناه :نؤخرها .قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :
{ مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنسئهَا } يقول :ما نبدل من آية ،أو نتركها ل نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود َ { :أوْ نُنسِ َئهَا } نثبت خطها ونبدل حكمها .وقال ( )8عبيد
بن عمير ،ومجاهد ،وعطاء َ { :أوْ نُنسِ َئهَا } نؤخرها ونرجئها .وقال عطية العوفي َ { :أوْ نُنسِ َئهَا
} نؤخرها فل ننسخها .وقال السدي مثله أيضا ،وكذا [قال] ( )9الربيع بن أنس .وقال الضحاك :
{ مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنسِ َئهَا } يعني :الناسخ من المنسوخ .وقال أبو العالية { :مَا نَنْسَخْ مِنْ آ َيةٍ
َأوْ نُنسِ َئهَا } أي :نؤخرها عندنا.
وقال ابن حاتم :حدثنا عبيد ال بن إسماعيل البغدادي ،حدثنا خلف ،حدثنا الخفاف ،عن
إسماعيل -يعني ابن مسلم -عن حبيب بن أبي ثابت ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال
:
__________
( )1في ط " :ويخص".
( )2في هـ " :أبو سنبل" وهو خطأ.
( )3في ط " :أو ننسيها".
( )4المعجم الكبير (.)12/288
( )5ورواه الطحاوى في مشكل الثار برقم ( )2034من طريق ابن وهب ،عن يونس عن ابن
شهاب ،عن أبي أمامة به ،وبرقم ( )2035من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن
أبي أمامة به.
( )6زيادة من جـ ،ط.
( )7في ط ،ب ،أ " :أو ننساها".
( )8في جـ ،ط ،أ " :وكما قال".
( )9زيادة من أ.
( )1/376
سهَا } أي :
خطبنا عمر ،رضي ال عنه ،فقال :يقول ال عز وجل { :مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُن ِ
نؤخرها.
سهَا } فقال عبد الرزاق ،عن قتادة في قوله { :مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ
وأما على قراءة َ { :أوْ نُ ْن ِ
سهَا } قال :كان ال تعالى ينسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
نُنْ ِ
وقال ابن جرير :حدثنا سواد ( )1بن عبد ال ،حدثنا خالد بن الحارث ،حدثنا عوف ،عن
سهَا } ( )2قال :إن نبيكم صلى ال عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم
الحسن أنه قال في قوله َ { :أوْ نُنْ ِ
نسيه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن ُنفَيل ،حدثنا محمد بن الزبير الحراني ،عن الحجاج
-يعني الجزري ( - )3عن عِكرمة ،عن ابن عباس ،قال :كان مما ينزل على النبي صلى ال
سهَا نَ ْأتِ
عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ،فأنزل ال ،عز وجل { :مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُ ْن ِ
بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا }
قال أبو حاتم :قال لي أبو جعفر بن نفيل :ليس هو الحجاج بن أرطاة ،هو شيخ لنا جَزَري.
سهَا } نرفعها من عندكم.
وقال عبيد بن عمير َ { :أوْ نُ ْن ِ
وقال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ُهشَيْم ،عن يعلى بن عطاء ،عن القاسم بن
سهَا" قال :قلت له :فإن
ربيعة قال :سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ " :ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو تَنْ َ
سعيد بن المسيّب يقرأ " :أَو تُ ْنسَأها" .قال :فقال ( )4سعد :إن القرآن لم ينزل على المسيب ول
على آل المسيب ،قال ال ،جل ثناؤه { :سَ ُنقْرِ ُئكَ فَل تَنْسَى } [العلى {]6 :وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ إِذَا
نَسِيتَ } [الكهف .)5( .]24 :
وكذا رواه عبد الرزاق ،عن هشيم ( )6وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي
،عن آدم ،عن شعبة ،عن يعلى بن عطاء ،به .وقال :على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن محمد بن كعب ،وقتادة وعكرمة ،نحو قول سعيد.
وقال المام أحمد :أخبرنا يحيى ،حدثنا سفيان الثوري ،عن حبيب بن أبي ثابت ،عن سعيد بن
جبير ،عن ابن عباس ،قال :قال عمر :عليّ أقضانا ،وأُبيّ أقرؤنا ،وإنا لندع بعض ما يقول
ي يقول :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ،فلن أدعه لشيء .وال يقول { :
أُبيّ ،وأب ّ
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُنسِئَها نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا }.
قال البخاري :حدثنا عمرو بن علي ،حدثنا يحيى ،حدثنا سفيان ،عن حبيب ،عن سعيد بن
جبير ،عن ابن عباس ،قال :قال عمر :أقرؤنا أُبيّ ،وأقضانا علي ،وإنا لندع من قول أبيّ ،
وذلك أن
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :حدثنا سوار".
( )2في جـ ،ب ،أ " :أو ننسئها".
( )3في جـ " :الجوزي".
( )4في جـ " :فقال قال".
( )5تفسير الطبري (.)2/475
( )6تفسير عبد الرزاق (.)1/75
( )1/377
أبيا يقول :ل أدع شيئًا سمعته من رسول ال صلى ال عليه وسلم .وقد قال ال { :مَا نَ ْنسَخْ مِنْ
سهَا } ()1
آيَةٍ َأوْ نُنْ ِ
وقوله { :نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } أي :في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ،كما قال علي
بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا } يقول :خير لكم في المنفعة ،وأرفق بكم.
وقال أبو العالية { :مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ } فل نعمل بها َ { ،أوْ نُنسئهَا } أي :نرجئها ( )2عندنا ،
نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي { :نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } يقول :نأت بخير من الذي نسخناه ،أو مثل الذي
تركناه.
وقال قتادة { :نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } يقول :آية فيها تخفيف ،فيها رخصة ،فيها أمر ،فيها
نهي.
ض َومَا
سمَاوَاتِ وَال ْر ِ
شيْءٍ َقدِيرٌ* أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
علَى ُكلّ َ
وقوله { :أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َ
ي وَل َنصِيرٍ } يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء ،
ن وَِل ّ
َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ
فله الخلق والمر وهو المتصرف ،فكما خلقهم كما يشاء ،ويسعد من يشاء ،ويشقي من يشاء ،
ويصح من يشاء ،ويمرض من يشاء ،ويوفق من يشاء ،ويخذل من يشاء ،كذلك يحكم في
عباده بما يشاء ،فيحل ما يشاء ،ويحرم ما يشاء ،ويبيح ما يشاء ،ويحظر ما يشاء ،وهو الذي
يحكم ما يريد ل معقب لحكمه .ول يسأل عما يفعل وهم يسألون .ويختبر عباده وطاعتهم لرسله
بالنسخ ،فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ،ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى..
فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا .وامتثال ما أمروا .وترك
ما عنه زجروا .وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر ( )3اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم ال
( - )4في دعوى استحالة النسخ إما عقل كما زعمه بعضهم جهل وكفرا ً ،وإما نقل كما
تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال المام أبو جعفر بن جرير ،رحمه ال :فتأويل الية :ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات
والرض وسلطانهما دون غيري ،أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ،وآمر فيهما وفيما فيهما بما
أشاء ،وأنهى عما أشاء ،وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا
أشاء ،وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال :وهذا الخبر وإن كان من ال تعالى خطابا لنبيه صلى ال عليه وسلم على وجه الخبر عن
عظمته ،فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا َنسْخَ أحكام التوراة ،وجحدوا نبوة عيسى ومحمد ،
عليهما الصلة
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4481
( )2في جـ " :نؤخرها" ،وفي أ " :نركثها".
( )3في أ " :لكفار".
( )4في أ " :لعنة ال عليهم".
( )1/378
والسلم ،لمجيئهما ( )1بما جاءا به من عند ال بتغير ما غير ال من حكم التوراة .فأخبرهم ال
أن له ملك السماوات والرض وسلطانهما ،وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع
والطاعة لمره ونهيه ،وأن له أمرهم بما يشاء ،ونهيهم عما يشاء ،ونسخ ما يشاء ،وإقرار ما
يشاء ،وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم ،عليه السلم ،بذبح ولده ،ثم نسخه قبل الفعل ،وأمر جمهور بنى إسرائيل بقتل
من عبد العجل منهم ،ثم رفع عنهم القتل كيل يستأصلهم القتل (.] )2
قلت :الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ ،إنما هو الكفر والعناد ،فإنه ليس في
العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام ال تعالى ؛ لنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد ،
مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ،كما أحل لدم تزويج بناته من بنيه ،ثم
حلّ بعضها ،
حرم ذلك ،وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ،ثم نسخ ِ
وكان نكاح الختين مباح لسرائيل وبنيه ،وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها .وأشياء
كثيرة يطول ذكرها ،وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه .وما يجاب به عن هذه الدلة بأجوبة
لفظية ،فل تصرف الدللة في المعنى ،إذ هو المقصود ،وكما في كتبهم مشهورا من البشارة
بمحمد صلى ال عليه وسلم والمر باتباعه ،فإنه يفيد وجوب متابعته ،عليه والسلم ،وأنه ل
يقبل عمل إل على شريعته .وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة ُمغَيّاة إلى بعثته ،عليه السلم ،فل
يسمى ذلك نسخًا كقوله ُ { :ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } [البقرة ، ]187 :وقيل :إنها مطلقة ،وإن
شريعة محمد صلى ال عليه وسلم نسختها ،فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين ( )3لنه جاء
بكتاب هو آخر ( )4الكتب عهدا بال تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ،ردا على اليهود ،عليهم لعائن ال ،حيث قال تعالى :
ض َومَا َلكُمْ مِنْ
سمَاوَاتِ وَال ْر ِ
شيْءٍ َقدِيرٌ* أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
{ أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ن وَِليّ وَل َنصِيرٍ } الية ،فكما أن له الملك بل منازع ،فكذلك له الحكم بما يشاء { ،
دُونِ اللّهِ مِ ْ
أَل لَهُ ا ْلخَلْقُ وَالمْرُ } [العراف ]54 :وقرئ في سورة آل عمران ،التي نزل صدرها خطابًا
طعَامِ كَانَ حِل لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
مع أهل الكتاب ،وقوع النسخ عند اليهود في وقوله تعالى ُ { :كلّ ال ّ
إِل مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى َنفْسِهِ } الية [آل عمران ]93 :كما سيأتي تفسيرها ،والمسلمون كلهم
متفقون على جواز النسخ في أحكام ال تعالى ،لما له في ذلك من الحكم البالغة ،وكلهم قال
بوقوعه .وقال أبو مسلم الصبهاني المفسر :لم يقع شيء من ذلك في القرآن ،وقوله هذا ضعيف
مردود مرذول .وقد تعسف في الجوبة عما وقع من النسخ ،فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر
وعشرا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلم مقبول ،وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة ،عن بيت
المقدس لم يجب
__________
( )1في جـ ،ط " :بمجيئها".
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3في ط ،ب " :متعين".
( )4في ط " :هو أحدث".
( )1/379
سوَاءَ
ضلّ َ
ل َومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِالْإِيمَانِ َفقَ ْد َ
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا َرسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْب ُ
السّبِيلِ ()108
بشيء ،ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الثنين ،ومن ذلك نسخ
وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى ال عليه وسلم وغير ذلك ،وال أعلم.
سوَاءَ
ضلّ َ
{ َأمْ تُرِيدُونَ أَنْ َتسْأَلُوا رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ َومَنْ يَتَ َب ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِاليمَانِ َفقَ ْد َ
السّبِيلِ (} )108
نهى ال تعالى في هذه الية الكريمة ،عن كثرة سؤال النبي صلى ال عليه وسلم عن الشياء قبل
س ْؤكُ ْم وَإِنْ َتسْأَلُوا
كونها ،كما قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَسَْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ َل ُكمْ تَ ُ
عَ ْنهَا حِينَ يُنزلُ ا ْلقُرْآنُ تُ ْبدَ َلكُمْ } [المائدة ]101 :أي :وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين
لكم ،ول تسألوا عن الشيء قبل كونه ؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة .ولهذا جاء في
الصحيح " :إن أعظم المسلمين جُ ْرمًا من سأل عن شيء لم يحرم ،فحرم من أجل مسألته" (.)1
ولما سُئِل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجل فإن تكلم تكلم بأمر
عظيم ،وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك ؛ فكره رسول ال صلى ال عليه وسلم المسائل وعابها.
ثم أنزل ال حكم الملعنة ( .)2ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة :أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ،وكثرة السؤال ،وإضاعة المال ()3
وفي صحيح مسلم " :ذروني ما تركتكم ،فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على
أنبيائهم ،فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ،وإن ( )4نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" ( .)5وهذا
إنما قاله بعد ما أخبرهم أن ال كتب عليهم الحج .فقال رجل :أكُل عام يا رسول ال ؟ فسكت عنه
ت ،ولو
رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثًا .ثم قال ،عليه السلم " :ل ولو قلت :نعم لوجَ َب ْ
وَجَ َبتْ لما استطعتم" .ثم قال " :ذروني ما تركتكم" الحديث .وهكذا قال أنس بن مالك :نُهينا أن
نسأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن شيء ،فكان يعجبنا أن يأتي ( )6الرجل من أهل البادية
فيسأله ونحن نسمع (.)7
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده :حدثنا أبو كُرَيب ،حدثنا إسحاق بن سليمان ،عن
أبي سنان ،عن أبي إسحاق ،عن البراء بن عازب ،قال :إن كان ليأتي عَليّ السنة أريد أن
أسأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ،وإن كنا لنتمنى العراب.
وقال البزار :حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا ابن فضيل ،عن عطاء بن السائب ،عن سعيد بن
جبير ،عن ابن عباس ،قال :ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم ،ما
سألوه إل عن ثنْتَي
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )7289وصحيح مسلم برقم ( )2358من حديث سعد بن أبي وقاص
رضي ال عنه.
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )5259 ، 5308ومسلم في صحيحه برقم ( )1492من
حديث سهل بن سعد رضي ال عنه.
( )3صحيح البخاري برقم ( )1477وصحيح مسلم برقم (.)593
( )4في ط ،ب ،أ ،و " :وإذا".
( )5صحيح مسلم برقم ( )1337من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )6في جـ " :أن يجيء".
( )7رواه مسلم في صحيحه برقم (.)12
( )1/380
( )1/381
( )1/382
سهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْلحَقّ } يقول :من بعد ما أضاء لهم
حسَدًا مِنْ عِ ْندِ أَ ْنفُ ِ
ال تعالى ُ { :كفّارًا َ
الحق لم يجهلوا منه شيئا ،ولكن الحسد حملهم على الجحود ،فعيرّهم ووبخهم ولمهم أشدّ
الملمة ،وشرع لنبيه صلى ال عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق واليمان والقرار
بما أنزل ( )1عليهم وما أنزل من قبلهم ،بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
سهِمْ } من قبل أنفسهم .وقال أبو العالية { :مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ
وقال الربيع بن أنس { :مِنْ عِنْدِ أَ ْنفُ ِ
َلهُمُ ا ْلحَقّ } من بعد ما تبين [لهم] ( )2أن محمدا رسول ال يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والنجيل ،فكفروا به حسدا وبغيًا ؛ إذ كان من غيرهم .وكذا قال قتادة والربيع والسدي.
س َمعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا
عفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ } مثل قوله تعالى { :وَلَتَ ْ
وقوله { :فَا ْ
ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُ ْم َومِنَ الّذِينَ َأشْ َركُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم المُورِ }
[آل عمران .]186 :
عفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله { :فَا ْ
ن ل ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَل
جدْ ُتمُوهُمْ } وقوله { :قَاتِلُوا الّذِي َ
ث وَ َ
نسخ ذلك قوله { :فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
بِالْ َيوْمِ الخِرِ } إلى قوله { :وَهُ ْم صَاغِرُونَ } [التوبة ]29 :فنسخ هذا عفوه عن المشركين .وكذا
قال أبو العالية ،والربيع بن أنس ،وقتادة ،والسدي :إنها منسوخة بآية السيف ،ويرشد إلى ذلك
أيضًا قوله { :حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو اليمان ( )3أخبرنا شعيب ،عن الزهري ،أخبرني
عُ ْروَة بن الزبير :أن أسامة بن زيد أخبره ،قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه
عفُوا
يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ،كما أمرهم ال ،ويصبرون على الذى ،قال ال { :فَا ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم
وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
يتأوّل من العفو ما أمره ال به ،حتى أذن ال فيهم بقتل ،فقتل ال به من قتل من صناديد قريش
(.)4
وهذا إسناده ( )5صحيح ،ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين عن
أسامة بن زيد رضي ال عنهما] (.)6
حثّ
سكُمْ مِنْ خَيْرٍ َتجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ } يَ ُ
وقوله تعالى { :وََأقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُوا لنْفُ ِ
( )7تعالى على الشتغال بما ينفعهم و َتعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة ،من إقام الصلة وإيتاء
الزكاة ،
__________
( )1في جـ ،ط ،أ ،و " :أنزل ال".
( )2زيادة من ب ،أ ،و.
( )3في أ " :أبو الوليد".
( )4تفسير ابن أبي حاتم (.)1/333
( )5في ط ،ب " :وهذا إسناد".
( )6زيادة من جـ ،ط.
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :يحثهم".
( )1/383
خلَ ا ْلجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ُقلْ هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ
َوقَالُوا لَنْ يَدْ ُ
خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ (
حسِنٌ فَلَهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَلَا َ
ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ
( )111بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ
)112
حتى يمكن لهم ال ( )1النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد { َيوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُت ُهمْ
وََلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [غافر ]52 :؛ ولهذا قال تعالى { :إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }
يعني :أنه تعالى ل يغفل عن عمل عامل ،ول يضيع لديه ،سواء كان خيرًا أو شرًا ،فإنه
سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى { :إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } وهذا الخبر من ال للذين
خاطبهم بهذه اليات من المؤمنين ،أنهم مهما فعلوا من خير أو شر ،سرا أو علنية ،فهو به
بصير ل يخفى عليه منه شيء ،فيجزيهم بالحسان خيرًا ،وبالساءة مثلها .وهذا الكلم وإن كان
خرج مخرج الخبر ،فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا .وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير بجميع
أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدّخرًا ( )2لهم عنده ،حتى يثيبهم عليه ،كما قال َ { :ومَا
جدُوهُ عِنْدَ اللّهِ } وليحذروا معصيته.
سكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَ ِ
ُتقَ ّدمُوا ل ْنفُ ِ
قال :وأما قوله { :بصير } فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف مبدع إلى "بديع" ،ومؤلم
إلى "أليم" ،وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا ابن ُبكَير ،حدثني ابن َلهِيعة ،عن يزيد بن أبي
حبيب ،عن أبي الخير ،عن عقبة بن عامر ،قال :رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يفسر
سمِيعٌ َبصِيرٌ } يقول :بكل شيء بصير (.)4
( )3في هذه الية { َ
خلَ ا ْلجَنّةَ إِل مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ُقلْ هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ
{ َوقَالُوا لَنْ َيدْ ُ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ
حسِنٌ فَلَهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَل َ
ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ
صَا ِدقِينَ ( )111بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ
يَحْزَنُونَ (} )112
__________
( )1في جـ ،ط ،ب " :يمكن ال لهم".
( )2في ب ،أ ،و " :مذخورا".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ " :يقرأ" ،وفي و " :يقترئ".
( )4تفسير ابن أبي حاتم (.)1/336
( )1/384
( )1/384
( )1/385
سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ
سمُ ُه وَ َ
جدَ اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ مَ َنعَ مَسَا ِ
عذَابٌ عَظِيمٌ ()114
ي وََلهُمْ فِي الْآَخِ َرةِ َ
يَ ْدخُلُوهَا إِلّا خَا ِئفِينَ َل ُهمْ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ
( )1/387
( )1/388
وقوله تعالى { :أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ َيدْخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ } هذا خبر معناه الطلب ،أي ل ُت َمكّنوا
هؤلء -إذا قَدَرُتم عليهم -من دخولها إل تحت الهدنة والجزية .ولهذا لما فتح رسولُ ال صلى
حجّن ()1
ال عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى " :أل ل يَ ُ
بعد العام مشرك ،ول يطوفن بالبيت عُريان ،ومن كان له أجل فأجله إلى مدته" .وهذا كان
سجِدَ ا ْلحَرَامَ
تصديقًا وعمل بقوله تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَل َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ
َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا } الية [التوبة ، ]28 :وقال بعضهم :ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد ال إل
خائفين على حال التهيب ،وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ،فضل أن يستولوا
عليها ويمنعوا ( )2المؤمنين منها .والمعنى :ما كان الحق والواجب إل ذلك ،لول ظلم الكفرة
وغيرهم.
وقيل :إن هذا بشارة من ال للمسلمين أنه س ُيظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ،
وأنه يذل المشركين لهم حتى ل يدخل المسجد الحرام أحد منهم إل خائفا ،يخاف أن يؤخذ فيعاقب
أو يقتل إن لم يسلم .وقد أنجز ال هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام
،وأوصى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ل يبقى بجزيرة العرب دينان ،وأن تجلى اليهود
والنصارى منها ،ول الحمد والمنة .وما ذاك إل تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة
[المباركة] ( )3التي بعث [ال] ( )4فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات ال وسلمه
عليه ( .)5وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ؛ لن الجزاء من جنس العمل .فكما صدوا المؤمنين ()6
عذَابٌ
عن المسجد الحرام ،صُدوا عنه ،وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ
عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت ،وامتهنوه من نصب الصنام حوله ،والدعاء إلى غير
ال عنده والطواف به عريا ،وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها ال ورسوله.
وأما من َفسّر بيت ( )7المقدس ،فقال كعب الحبار :إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس
خربوه ( )8فلما بعث ال محمدا صلى ال عليه وسلم أنزل عليه َ { :ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ
سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ َيدْخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ } الية ،فليس
س ُم ُه وَ َ
اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
في الرض نصراني يدخل بيت المقدس إل خائفا.
وقال السدي :فليس في الرض رومي يدخله اليوم إل وهو خائف أن ُيضْرَب ( )9عُ ُنقُه ،أو قد
أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها.
__________
( )1في ب ،و " :أل ل يحج" ،وفي أ " :أن ل يحج".
( )2في جـ ،ط ،ب " :ويمنعوا".
( )3زيادة من جـ.
( )4زيادة من جـ ،ط ،ب ،أ ،و.
( )5في جـ ،ب ،و " :صلوات ال وسلمه عليه".
( )6في أ " :المسلمين".
( )7في ط ،ب " :ببيت".
( )8في أ :حرقوه".
( )9في جـ ،ط ،ب " :أن تضرب".
( )1/389
ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ اللّهِ إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ ()115
وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ
( )1/390
رسول ال صلى ال عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ،وترك البيت العتيق ،ثم صرفه إلى
ج َهكَ شَطْرَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا
جتَ َف َولّ وَ ْ
بيته ( )1العتيق ونسخها ،فقال َ { :ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ
كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ شَطْ َرهُ } (.)2
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس قال :كان أول ما نسخ من القرآن القبلة .وذلك أن
رسول صلى ال عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة -وكان أهلُها اليهودَ -أمره ال أن يستقبل بيت
المقدس .ففرحت اليهود فاستقبلها رسول ال صلى ال عليه وسلم بضعة عشر شهرا ،وكان
رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ،فكان يدعو وينظر إلى السماء ،فأنزل ال { :
شطْ َرهُ
سمَاءِ [فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا] } ( )3إلى قوله َ { :فوَلّوا وُجُو َهكُمْ َ
ج ِهكَ فِي ال ّ
قَدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ
} فارتاب من ذلك اليهود ،وقالوا :ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ،فأنزل ال ُ { :قلْ لِلّهِ
ق وَا ْل َمغْرِبُ [ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ] } ( )4وقال { :فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ اللّهِ }
ا ْلمَشْ ِر ُ
وقال عكرمة عن ابن عباس { :فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ } قال :قبلة ال أينما توجهت شرقًا أو
جهُ اللّهِ } [قال :قبلة ال] ( )5حيثما كنتم فلكم قبلة
غربًا .وقال مجاهد { :فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ
تستقبلونها :الكعبة.
وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الثر المتقدم ،عن ابن عباس ،في نسخ القبلة ،عن عطاء ،عنه
:وروي عن أبي العالية ،والحسن ،وعطاء الخراساني ،وعكرمة ،وقتادة ،والسدي ،وزيد
بن أسلم ،نحو ذلك.
وقال ابن جرير :وقال آخرون :بل أنزل ال هذه الية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ،وإنما
أنزلها ( )6تعالى ليعلم نبيه صلى ال عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلة ،
حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب ؛ لنهم ل يوجهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إل
كان جل ثناؤه في ذلك الوجه ( )7وتلك الناحية ؛ لن له تعالى المشارق والمغارب ،وأنه ل يخلو
ك وَل َأكْثَرَ إِل ُهوَ َم َعهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة :
منه مكان ،كما قال تعالى { :وَل َأدْنَى مِنْ ذَِل َ
]7قالوا :ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فَ َرضَ عليهم التوجّهَ إلى المسجد الحرام.
هكذا قال ،وفي قوله " :وإنه تعالى ل يخلو منه مكان" :إن أراد علمه تعالى فصحيح ؛ فإن علمه
تعالى محيط بجميع المعلومات ،وأما ذاته تعالى فل تكون محصورة في شيء من خلقه ،تعالى
ال
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :البيت".
( )2ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ( )1/346من طريق حجاج بن محمد به ،ورواه الحاكم في
المستدرك ( )2/267من طريق ابن جريج عن عطاء به وقال " :هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق".
( )3زيادة من جـ.
( )4زيادة من جـ ،ط.
( )5زيادة من جـ.
( )6في جـ " :أنزلها ال".
( )7في أ " :التوجيه".
( )1/391
عن ذلك علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير :وقال آخرون :بل نزلت هذه الية على رسول ال صلى ال عليه وسلم إذنا من
ال أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب ،في مسيره في سفره ،وفي حال المسايفة
وشدة الخوف.
حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا ابن إدريس ،حدثنا عبد الملك -هو ابن أبي سليمان -عن سعيد بن
جبير ،عن ابن عمر :أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته .ويذكر أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم كان يفعل ذلك ،ويتأول هذه الية { :فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ }
ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مَرْ ُدوَيه ،من طرق ،عن عبد الملك بن أبي
سليمان ،به ( .)1وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة ،من غير ذكر
الية.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع ،عن ابن عمر :أنه كان إذا سئل عن صلة الخوف
وصفها .ثم قال :فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجال قياما على أقدامهم ،وركبانا مستقبلي
القبلة وغير مستقبليها.
قال نافع :ول أرى ابن عمر ذكر ذلك إل عن النبي صلى ال عليه وسلم (.)2
مسألة :ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه ،بين سفر المسافة وسفر العدوي ،فالجميع عنه
يجوز التطوع فيه على الراحلة ،وهو قول أبي حنيفة خلفا لمالك وجماعته ،واختار أبو يوسف
وأبو سعيد الصطخري ،التطوع على الدابة في المصر ،وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك ،
رضي ال عنه ،واختاره أبو جعفر الطبري ،حتى للماشي أيضا.
عمّيتْ عليهم القبلة ،فلم يعرفوا
قال ابن جرير :وقال آخرون :بل نزلت هذه الية في قوم ُ
شَطرها ،فصلوا على أنحاء مختلفة ،فقال ال ( )3لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم
فهنالك وجهي ،وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلتكم ماضية.
حدثنا أحمد بن إسحاق الهوازي ،حدثنا أبو أحمد الزبيري ،حدثنا أبو الربيع السمان ،عن
عاصم بن عبيد ال ،عن عبد ال بن عامر بن ربيعة ،عن أبيه ،قال :كنا مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ،فنزلنا منزل فجعل الرّجل يأخذُ الحجا َر فيعمل مسجدا
يصلي فيه .فلما [أن] ( )4أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة .فقلنا :يا رسول ال ،لقد
جهُ اللّهِ
ق وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ
صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ؟ فأنزل ال تعالى { :وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ
إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ } الية.
__________
( )1تفسير الطبري ( )2/530وصحيح مسلم برقم ( )700وسنن الترمذي برقم ( )2958وسنن
النسائي ( )1/244وتفسير ابن أبي حاتم (.)1/344
( )2صحيح البخاري برقم (.)4535
( )3في أ " :فقال ال لهم".
( )4زيادة من ط.
( )1/392
ثم رواه عن سفيان بن َوكِيع ،عن أبيه ،عن أبي الربيع السمان ،بنحوه (.)1
ورواه الترمذي ،عن محمود بن غيلن ،عن َوكِيع .وابن ماجه ،عن يحيى بن حكيم ،عن أبي
داود ،عن أبي الربيع السمان (.)2
ورواه ابن أبي حاتم ،عن الحسن بن محمد بن الصباح ،عن سعيد ( )3بن سليمان ،عن أبي
الربيع السمان ( - )4واسمه أشعث بن سعيد البصري -وهو ضعيف الحديث.
وقال الترمذي :هذا حديث حسن .ليس إسناده بذاك ،ول نعرفه إل من حديث أشعث السمان ،
ضعّف في الحديث.
وأشعث ُي َ
قلت :وشيخه عاصم أيضًا ضعيف (.)5
قال البخاري :منكر الحديث .وقال ابن معين :ضعيف ل يحتج به .وقال ابن حبان :متروك ،
وال أعلم.
وقد روي من طرق أخرى ،عن جابر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسير هذه الية :حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ،
حدثنا الحسن بن علي بن شبيب ،حدثني أحمد بن عبيد ال ( )6بن الحسن ،قال :وجدت في
كتاب أبي :حدثنا عبد الملك العرزمي ،عن عطاء ،عن جابر ،قال َ :بعَث رسولُ ال صلى ال
عليه وسلم سَرِيّة كنت فيها ،فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ،فقالت طائفة منا :قد عرفنا القبلة ،
هي هاهنا قبل السماك ( .)7فصلّوا وخطّوا خطوطًا ،فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك
الخطوط لغير القبلة .فلما قفلنا من سفرنا ( )8سألنا النبي صلى ال عليه وسلم ،فسكت ،وأنزل
ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ }
ال تعالى { :وَلِلّهِ ا ْلمَشْرِ ُ
ثم رواه من حديث محمد بن عبيد ال العَرْزَمي ،عن عطاء ،عن جابر ،به (.)9
وقال الدارقطني :قرئ على عبد ال بن عبد العزيز -وأنا أسمع -حدثكم داود بن عمرو ،
حدثنا محمد بن يزيد ( )10الواسطي ،عن محمد بن سالم ،عن عطاء ،عن جابر ،قال :كنا
مع رسول ال
__________
( )1تفسير الطبري (.)532 ، 531 /2
( )2سنن الترمذي برقم ( )345وسنن ابن ماجة برقم (.)1020
( )3في و " :عن سعد".
( )4تفسير ابن أبي حاتم (.)1/344
( )5في أ " :ضعيف الحديث".
( )6في هـ " :عبد ال".
( )7في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :قبل الشمال".
( )8في أ " :سيرنا".
( )9ورواه الدارقطني في السنن ( )1/271من طريق إسماعيل بن علي عن الحسن بن علي بن
شبيب به ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( )2/12من طريق محمد بن الحارث عن أحمد بن
عبيد ال قال :وجدت في كتاب أبي فذكر مثله ،ورواه أيضا ( )2/10من طريق محمد بن يزيد
الواسطي ،عن محمد بن عبيد ال العرزمي عن عطاء به.
( )10في جـ " :بن زيد".
( )1/393
صلى ال عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم ،فتحيرنا فاختلفنا في القبلة ،فصلى كل ( )1منا على
حدة ،وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا ،فذكرنا ذلك للنبي صلى ال عليه وسلم فلم يأمرنا
بالعادة ،وقال " :قد أجزأت صلتكم".
ثم قال الدارقطني :كذا قال :عن محمد بن سالم ،وقال غيره :عن محمد بن عبد ال
العرزمي ،عن عطاء ،وهما ضعيفان (.)2
ثم رواه ابن مَ ْردُويه أيضا من حديث الكلبي ،عن أبي صالح ،عن ابن عباس :أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم بعث سرِيّة فأخذتهم ضبابة ،فلم يهتدوا إلى القبلة ،فصلوا لغير القبلة .ثم
استبان لهم بعد طلوع ( )3الشمس أنهم صلوا لغير القبلة .فلما جاؤوا إلى رسول ال صلى ال
ق وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَمّ
عليه وسلم حدّثُوه ،فأنزل ال عز وجل ،هذه الية { :وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ
وَجْهُ اللّهِ }
وهذه السانيد فيها ضعف ،ولعله يشد بعضها بعضا .وأما إعادة الصلة لمن تبين له خطؤه ففيها
قولن للعلماء ،وهذه دلئل على عدم القضاء ،وال أعلم.
قال ابن جرير :وقال آخرون :بل نزلت هذه الية في سبب النجاشي ،كما حدثنا محمد بن بشار
،حدثنا هشام بن معاذ ( )4حدثني أبي ،عن قتادة :أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن أخا
لكم قد مات فصلوا عليه" .قالوا :نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال :فنزلت { :وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ
شعِينَ لِلّهِ } [آل عمران ]199 :قال قتادة
ا ْلكِتَابِ َلمَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَا أُنزلَ إِلَ ْيكُ ْم َومَا أُنزلَ إِلَ ْيهِمْ خَا ِ
ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ
:فقالوا :فإنه كان ل يصلي إلى القبلة .فأنزل ال { :وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ
اللّهِ } (.)5
وهذا غريب وال أعلم.
وقد قيل :إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة ،كما حكاه القرطبي
عن قتادة ،وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذ بذلك من
ذهب إلى الصلة على الغائب ،قال :وهذا خاص عند أصحابنا من ثلثة أوجه :أحدها :أنه
عليه السلم ،شاهده حين صلى عليه طويت له الرض .الثاني :أنه لما لم يكن عنده من يصلي
عليه صلى عليه ،واختاره ابن العربي ،قال القرطبي :ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد
من قومه على دينه ،وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلة على
الميت .وهذا جواب جيد .الثالث :أنه عليه الصلة والسلم إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف
لبقية الملوك ،وال أعلم.
__________
( )1في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :كل رجل".
( )2سنن الدارقطني ( )1/271ورواه الحاكم في المستدرك ( )1/206من طريق داود بن عمرو
به ،وقال " :هذا حديث صحيح رواته كلهم ثقات غير محمد بن سالم فإني ل أعرفه بعدالة ول
جرح" .قال الذهبي :قلت " :هو أبو سهل واه".
( )3في جـ ،ط ،ب ،أ ،و " :بعدما طلعت".
( )4في جـ ،ط ،ب ،أ " :معاذ بن هشام".
( )5تفسير الطبري (.)2/532
( )1/394
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الية من حديث أبي معشر ،عن محمد بن
عمرو بن علقمة ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"ما بين المشرق والمغرب قبْلَة لهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق".
وله مناسبة هاهنا ،وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر ،واسمه ( )1نَجِيح بن
عبد الرحمن السّندي المدني ،به (" )2ما بين المشرق والمغرب قبلة".
وقال الترمذي :وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة .وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر
من قبل حفظه ،ثم قال الترمذي :حدثني الحسن بن [أبي] ( )3بكر المروزي ،حدثنا المعلى بن
منصور ،حدثنا عبد ال بن جعفر المخزومي ،عن عثمان بن محمد الخنسي ،عن سعيد ()4
المقبري ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما بين المشرق والمغرب قبلة"
(.)5
ثم قال الترمذي :هذا حديث حسن صحيح.
وحكى عن البخاري أنه قال :هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح .قال الترمذي :وقد روي
عن غير واحد من الصحابة :ما بين المشرق والمغرب قبلة -منهم عمر بن الخطاب ،وعلي ،
وابن عباس.
وقال ابن عمر :إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك ،فما بينهما قبلة ،إذا
استقبلت القبلة.
ثم قال ابن مَ ْردُويه :حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن ،حدثنا يعقوب بن يونس مولى بني
هاشم ،حدثنا شعيب بن أيوب ،حدثنا ابن نمير ،عن عبيد ال بن عمر ،عن نافع ،عن ابن
عمر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :ما بين المشرق والمغرب قبلة".
وقد رواه الدارقطني والبيهقي ( )6وقال المشهور :عن ابن عمر ،عن عمر ،قوله.
قال ابن جرير :ويحتمل :فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم
،كما حدثنا القاسم ،حدثنا الحسين ،حدثني حجاج ،قال :قال ابن جُرَيج :قال مجاهد :لما
جبْ َلكُمْ } [غافر ]60 :قالوا :إلى أين ؟ فنزلت { :فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ
نزلت { :ادْعُونِي َأسْتَ ِ
اللّهِ }
__________
( )1في و " :وابن".
( )2سنن الترمذي برقم ( )342وسنن ابن ماجة برقم (.)1011
( )3زيادة من جـ.
( )4في أ " :عن شعبة".
( )5سنن الترمذي برقم (.)344
( )6سنن الدارقطني ( )1/270وسنن البيهقي ( )2/9وهو معلول والصواب وقفه .قال ابن أبي
حاتم في العلل (" : )1/184سئل أبو زرعة عن حديث رواه يزيد بن هارون ،عن محمد بن عبد
الرحمن ،عن نافع ،عن ابن عمر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم " :ما بين المشرق والمغرب
قبلة" قال أبو زرعة " :هذا وهم ،الحديث حديث ابن عمر موقوف".
( )1/395
سمَاوَاتِ
ت وَالْأَ ْرضِ ُكلّ َلهُ قَانِتُونَ (َ )116بدِيعُ ال ّ
سمَاوَا ِ
َوقَالُوا اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا سُبْحَا َنهُ َبلْ لَهُ مَا فِي ال ّ
وَالْأَ ْرضِ وَِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ ()117
قال ابن جرير :ويعني قوله { :إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يسع خلقه كلهم بالكفاية ،والفضال والجود
(.)1
وأما قوله { :عليم } فإنه يعني :عليم بأعمالهم ،ما يغيب عنه منها شيء ،ول يعزب عن
علمه ،بل هو بجميعها عليم.
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ (َ )116بدِيعُ
خذَ اللّ ُه وَلَدًا سُبْحَانَهُ َبلْ َلهُ مَا فِي ال ّ
{ َوقَالُوا اتّ َ
ض وَإِذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ (} )117
سمَاوَاتِ وَال ْر ِ
ال ّ
اشتملت هذه الية الكريمة ،والتي تليها على الرد على النصارى -عليهم لعائن ال -وكذا من
أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ،ممن ( )2جعل الملئكة بنات ال ،فأكذب ال جميعهم
في دعواهم وقولهم :إن ل ولدا .فقال تعالى { :سُبْحَا َنهُ } أي :تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ } أي :ليس المر كما افتروا ،وإنما له ملك
علوًا كبيرًا { َبلْ َلهُ مَا فِي ال ّ
السماوات والرض ،وهو المتصرف فيهم ،وهو خالقهم ورازقهم ،و ُمقَدّرهم ومسخرهم ،
ومسيرهم ومصرفهم ،كما يشاء ،والجميع عبيد ( )3له وملك له ،فكيف يكون له ولد منهم ،
والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين ،وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ،ول مشارك في
ت وَال ْرضِ
سمَاوَا ِ
عظمته وكبريائه ول صاحبة له ،فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى َ { :بدِيعُ ال ّ
شيْءٍ عَلِيمٌ } [النعام ]101 :وقال
شيْ ٍء وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
أَنّى َيكُونُ َل ُه وَلَ ٌد وَلَمْ َتكُنْ لَ ُه صَاحِ َب ٌة وَخََلقَ ُكلّ َ
شقّ
سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْ ُه وَتَنْ َ
ن وََلدًا* َلقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا* َتكَادُ ال ّ
حمَ ُ
خذَ الرّ ْ
تعالى َ { :وقَالُوا اتّ َ
خ َذ وَلَدًا* إِنْ ُكلّ مَنْ
حمَنِ أَنْ يَتّ ِ
ن وَلَدًا* َومَا يَنْ َبغِي لِلرّ ْ
حمَ ِ
عوْا لِلرّ ْ
ال ْرضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ َهدّا* أَنْ دَ َ
عدّا* َوكُّلهُمْ آتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ
حصَاهُ ْم وَعَدّهُمْ َ
حمَنِ عَ ْبدًا* َلقَدْ َأ ْ
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ إِل آتِي الرّ ْ
فِي ال ّ
صمَدُ* َلمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ
فَرْدًا } [مريم ]95 - 88 :وقال تعالى ُ { :قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ* اللّهُ ال ّ
حدٌ } [سورة الخلص].
َيكُنْ لَهُ ُك ُفوًا أَ َ
فقرر ( )4تعالى في هذه اليات الكريمة أنه السيد العظيم ،الذي ل نظير له ول شبيه له ،وأن
جميع الشياء غيره مخلوقة له مربوبة ،فكيف يكون له منها ولد! ولهذا قال البخاري في تفسير
هذه الية من البقرة :أخبرنا أبو اليمان ،أخبرنا شعيب ،عن عبد ال بن أبي حُسَين ،حدثنا نافع
بن جبير -هو ابن مطعم -عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :قال ال تعالى
:كَذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ،وشتمني ولم يكن له ذلك ،فأما تكذيبه إيّاي فيزعم أني ل أقدر
أن أعيده كما كان ،وأما شتمه إياي فقوله :لي ولد .فسبحاني ( )5أن أتخذ صاحبة أو ولدا".
__________
( )1في ط " :بالكفاية والجود والفضال" ،وفي ب " :بالكفاية والفضال والجود والفضال".
( )2في ب ،أ " :من".
( )3في ط " :والجميع عبد".
( )4في أ ،و " :يقرر".
( )5في ط " :سبحاني".
( )1/396
( )1/397
الطاعة".
وكذا رواه المام أحمد ،عن حسن بن موسى ،عن ابن َلهِيعة ،عن دَرّاج بإسناده ،مثله (.)1
ولكن هذا السناد ضعيف ل يعتمد عليه .ورفع هذا الحديث منكر ،وقد يكون من كلم الصحابي
أو مَنْ دونه ،وال أعلم .وكثيرًا ما يأتي بهذا السناد تفاسير فيها َنكَارَة ،فل يغتر بها ،فإن السند
ضعيف ،وال أعلم.
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ } أي :خالقهما على غير مثال سبق ،قال مجاهد
وقوله تعالى { :بَدِيعُ ال ّ
والسدي :وهو مقتضى اللغة ،ومنه يقال للشيء المحدث :بدعة .كما جاء في الصحيح لمسلم :
"فإن كل محدثة بدعة [وكل بدعة ضللة] ( .)3( " )2والبدعة على قسمين :تارة تكون بدعة
شرعية ،كقوله :فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضللة .وتارة تكون بدعة لغوية ،كقول أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه عن جمعه إياهم على صلة التراويح واستمرارهم :
ن ْع َمتْ البدعةُ هذه.
وقال ابن جرير :وبديع السماوات والرض :مبدعهما .وإنما هو ُمفْعِل فصرف إلى فَعيل ،كما
صرف المؤلم إلى الليم ،والمسمع إلى السميع .ومعنى المبدع :المنشئ والمحدث ما لم يسبقه
إلى إنشاء ( )4مثله وإحداثه أحد.
قال :ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا ؛ لحداثه فيه ما لم يسبق ( )5إليه غيره ،وكذلك كل
محدث فعل أو قول لم يتقدمه فيه متقدم ،فإن العرب تسميه مبتدعا .ومن ذلك قول أعشى ()6
ثعلبة ،في مدح هوذة بن علي الحَنفِي :
يُرعى إلى َقوْل سادات الرّجال إذا ...أب َدوْا له الح ْزمَ أو ما شاءه ابتدَعا ()7
أي :يحدث ما شاء.
قال ابن جرير :فمعنى الكلم :فسبحان ال أنى يكون ل ولد ،وهو مالك ما في السماوات
والرض ،تشهد له جميعها بدللتها عليه بالوَحْدانيّة ،وتقر له بالطاعة ،وهو بارئها وخالقها
وموجدها من غير أصل ول مثال احتذاها عليه .وهذا إعلم من ال عباده أن ممن يشهد له بذلك
المسيح ،الذي أضافوا إلى ال بُ ُنوّته ،وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والرض من غير
أصل وعلى غير مثال ،هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته.
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم ( )1/348والمسند (.)3/75
( )2زيادة من ط.
( )3في صحيح مسلم برقم ( )867من حديث جابر رضي ال عنه بلفظ " :وشر المور
محدثاتها ،وكل بدعة ضللة".
( )4في أ " :إلى أشباه".
( )5في أ " :ما لم يسبقه".
( )6في و " :بن".
( )7البيت في تفسير الطبري (.)2/540
( )1/398
َوقَالَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ َلوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ َكذَِلكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ َتشَا َب َهتْ
قُلُو ُبهُمْ قَدْ بَيّنّا الْآَيَاتِ ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ ()118
( )1/399
وقوله تعالى َ { :وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ ال ْرضِ يَنْبُوعًا* َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ
سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِ َ
سمَاءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
ل وَعِ َنبٍ فَتُفَجّرَ ال ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرًا* َأوْ تُ ْ
نَخِي ٍ
سمَا ِء وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنزلَ
وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيل* َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ
عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُ ْنتُ إِل َبشَرًا رَسُول } [السراء ، ]93 - 90 :وقوله
تعالى َ { :وقَالَ الّذِينَ ل يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا َلوْل أُنزلَ عَلَيْنَا ا ْلمَل ِئكَةُ َأوْ نَرَى رَبّنَا َلقَدِ اسْ َتكْبَرُوا فِي
حفًا
سهِ ْم وَعَ َتوْا عُ ُتوّا كَبِيرًا } [الفرقان ، ]21 :وقوله َ { :بلْ يُرِيدُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيؤْتَى صُ ُ
أَ ْنفُ ِ
مُنَشّ َرةً } [المدثر ]52 :إلى غير ذلك من اليات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم
وسؤالهم ما ل حاجة لهم به ،إنما هو الكفر والمعاندة ،كما قال من قبلهم من المم الخالية من
سمَاءِ َفقَدْ
أهل الكتابين وغيرهم ،كما قال تعالى { :يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابًا مِنَ ال ّ
جهْ َرةً } [النساء ]153 :وقال تعالى { :وَِإذْ قُلْتُمْ يَا
سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ َ
جهْ َرةً } [البقرة .]55 :
مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ
وقوله َ { :تشَا َب َهتْ قُلُو ُبهُمْ } أي :أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد
والعتو ،كما قال تعالى { :كَ َذِلكَ مَا أَتَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِل قَالُوا سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُونٌ*
أَ َتوَاصَوْا ِبهِ َبلْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات .]53 ، 52 :
وقوله َ { :قدْ بَيّنّا اليَاتِ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ } أي :قد وضحنا الدللت على صدق الرسل بما ل يحتاج
معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى ،لمن أيقن ( )1وصدق واتبع الرسل ،وفهم ما جاؤوا به عن
ال تبارك وتعالى .وأما من ختم ال على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال ال
ح ّقتْ عَلَ ْي ِهمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ* وََلوْ جَاءَ ْت ُهمْ ُكلّ آيَةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ
تعالى فيهم { :إِنّ الّذِينَ َ
اللِيمَ } [يونس .]97 ، 96 :
[قوله تعالى] ()2
{ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ َبشِيرًا وَنَذِيرًا وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ (} )119
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبد الرحمن بن صالح ،حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن
عبيد ال الفزاري عن شيبان النحوي ،أخبرني قتادة ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،عن النبي
حقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } قال " :بشيرًا بالجنة
سلْنَاكَ بِالْ َ
صلى ال عليه وسلم قال " :أنزلت علي { :إِنّا أَرْ َ
،ونذيرًا من النار" (.)3
وقوله { :وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ } قراءة أكثرهم ( { )4وَل ُتسَْألُ } بضم التاء على
الخبر .وفي قراءة أبي بن كعب " :وما تسأل" وفي قراءة ابن مسعود " :ولن تسأل عن أصحاب
الجحيم"
__________
( )1في أ " :لمن اتقى".
( )2زيادة من ط.
( )3تفسير ابن أبي حاتم (.)1/354
( )4في ب ،أ ،و " :قراءة بعضهم".
( )1/400
حسَابُ
غ وَعَلَيْنَا الْ ِ
نقلهما ( )1ابن جرير ،أي :ل نسألك عن كفر من كفر بك { ،فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ
ستَ عَلَ ْيهِمْ بِمصَيْطِرٍ } الية [ الغاشية :
} [الرعد ]40 :وكقوله تعالى َ { :ف َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ* لَ ْ
] 22 ، 21وكقوله تعالى { :نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َيقُولُونَ َومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ فَ َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ
وَعِيدِ } [ ق ] 45 :وأشباه ذلك من اليات.
وقرأ آخرون (" )2ول تَسَْألْ عن أصحاب الجحيم" بفتح التاء على النهي ،أي :ل تسأل عن
حالهم ،كما قال عبد الرزاق :
أخبرنا الثوري ،عن موسى بن عبيدة ،عن محمد بن كعب القرظي ،قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :ليت شعري ما فعل أبواي ،ليت شعري ما فعل أبواي ،ليت شعري ما فعل
جحِيمِ } فما ذكرهما ( )3حتى توفاه ال ،عز وجل.
أبواي ؟" .فنزلت { :وَل ُتسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ الْ َ
ورواه ابن جرير ،عن أبي كُرَيب ،عن َوكِيع ،عن موسى بن عبيدة [ ،وقد تكلموا فيه عن
محمد بن كعب] ( )4بمثله ( )5وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي :
وهذا كما يقال ل تسأل عن فلن ؛ أي :قد بلغ فوق ما تحسب ،وقد ذكرنا في التذكرة أن ال
أحيا له أبويه حتى آمنا ،وأجبنا عن قوله ( :إن أبي وأباك في النار)(.قلت) :والحديث المروي
في حياة أبويه عليه السلم ليس في شيء من الكتب الستة ول غيرها ،وإسناده ضعيف وال
أعلم.
ثم قال [ابن جرير] ( )6وحدثني القاسم ،حدثنا الحسين ،حدثني حجاج ،عن ابن جُرَيج ،
أخبرني داود بن أبي عاصم :أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ذات يوم " :أين أبواي ؟" .فنزلت
{ :إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ َبشِيرًا وَنَذِيرًا وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ } (.)7
وهذا مرسل كالذي قبله .وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [القرظي] ()8
وغيره في ذلك ،لستحالة الشك من الرسول صلى ال عليه وسلم في أمر أبويه .واختار القراءة
الولى .وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ،لحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لبويه قبل أن
يعلم أمرهما ،فلما علم ذلك تبرأ منهما ،وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [كما ثبت ذلك في
الصحيح] ( )9ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ،ول يلزم ما ذكر ( )10ابن جرير .وال أعلم.
وقال المام أحمد :حدثنا موسى بن داود ،حدثنا فُلَيح بن سليمان ،عن هلل بن علي ،عن
عمْرو بن العاص ،فقلت :أخبرني عن صفة رسول ال
عطاء بن يسار ،قال :لقيت عبد ال بن َ
صلى ال عليه وسلم في التوراة .فقال :أجل ،وال إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن :
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا ،وحرزًا للميين ،وأنت عبدي ورسولي ،سميتك
المتوكل ،ل فظّ ول غليظ ول
__________
( )1في ب ،ط " :نقلهما".
( )2في أ " :وقرأ البصريون".
( )3في أ " :فما ذكره".
( )4تفسير عبد الرزاق ( )2/78وتفسير الطبري ( )2/558وموسى بن عبيدة ضعيف جدا.
( )5زيادة من ط ،أ.
( )6زيادة من ط ،أ.
( )7تفسير الطبري (.)2/559
( )8زيادة من ط.
( )9زيادة من أ.
( )10في أ ،و " :ما ذكره".
( )1/401
سخّاب في السواق ،ول يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ،ولن يقبضه حتى يقيم به الملة
َ
صمّا ،وقلوبا غُ ْلفًا.
عمْيًا ،وآذانًا ُ
العوجاء ،بأن يقولوا :ل إله إل ال .فيفتح به أعينا ُ
انفرد بإخراجه البخاري ،فرواه في البيوع عن محمد بن سنان ،عن فُلَيح ،به ( .)1وقال :تابعه
عبد العزيز بن أبي سلمة ،عن هلل .وقال سعيد :عن هلل ،عن عطاء ،عن عبد ال بن
سلم .ورواه في التفسير عن عبد ال ،عن عبد العزيز بن أبي سلمة ،عن هلل ،عن عطاء ،
عن عبد ال بن عمرو بن العاص ،به ( .)2فذكر نحوه ،فعبد ال هذا هو ابن صالح ،كما
صرح به في كتاب الدب .وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد ال بن رجاء.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الية من البقرة ،عن أحمد بن الحسن بن
أيوب ،عن محمد بن أحمد بن البراء ،عن المعافَى بن سليمان ،عن فليح ،به .وزاد :قال
عطاء :ثم لقيت كعب الحبار ،فسألته فما اختلفا في حرف ،إل أن كعبًا قال بُلغَتِهِ :أعينًا
عمومى ،وآذانًا صمومى ،وقلوبًا غلوفًا ()3
__________
( )1المسند ( )2/174وصحيح البخاري برقم (.)2125
( )2صحيح البخاري برقم (.)4838
( )3في ط " :وقلوبا غلفى".
( )1/402
وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَلَا ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ مِلّ َتهُمْ ُقلْ إِنّ ُهدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ
ي وَلَا َنصِيرٍ ( )120الّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ
ن وَِل ّ
أَ ْهوَاءَ ُهمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ
حقّ تِلَاوَتِهِ أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه َومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ ()121
يَتْلُونَهُ َ
{ وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَل ال ّنصَارَى حَتّى تَتّبِعَ مِلّ َتهُمْ ُقلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ
ي وَل َنصِيرٍ ( )120الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ
ن وَِل ّ
أَ ْهوَاءَ ُهمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ
حقّ تِلوَتِهِ أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َومَنْ َيكْفُرْ بِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ (} )121
يَتْلُونَهُ َ
قال ابن جرير :يعني بقوله ( )1جل ثناؤه { :وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَل ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ
مِلّ َتهُمْ } وليست اليهود -يا محمد -ول النصارى براضية عنك أبدًا ،فدع طلب ما يرضيهم
ويوافقهم ،وأقبل على طلب رضا ال في دعائهم إلى ما بعثك ال به من الحق.
وقوله تعالى ُ { :قلْ إِنّ ُهدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى } أي :قل يا محمد :إن هدى ال الذي بعثني به هو
الهدى ،يعني :هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.
قال قتادة في قوله ُ { :قلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى } قال :خصومة عَلّمها ال محمدًا صلى ال
عليه وسلم وأصحابه ،يخاصمون بها أهل الضللة .قال قتادة :وبلغنا أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم كان يقول " :ل تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين ،ل يضرهم من
خالفهم ،حتى يأتي أمر ال".
قلت :هذا الحديث ُمخَرّج في الصحيح ( )2عن عبد ال بن عمرو (.)3
__________
( )1في ط " :في قوله".
( )2في ط " :في الصحيحين".
( )3صحيح مسلم برقم (.)1924
( )1/402
( )1/403
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ( )122وَا ّتقُوا َي ْومًا لَا
شفَاعَ ٌة وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ ()123
ل وَلَا تَ ْن َفعُهَا َ
تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَلَا ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ
( )1/404
المي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته .يحذرهم ( )1من كتمان هذا ،
وكتمان ما أنعم به عليهم ،وأمرهم أن يذكروا نعمة ال عليهم ،من النعم الدنيوية والدينية ،ول
عمّهم من العرب على ما رزقهم ال من إرسال الرسول الخاتم منهم .ول يحملهم ذلك
يحسدوا بني َ
الحسدُ على مخالفته وتكذيبه ،والحيدة عن موافقته ،صلوات ال وسلمه عليه دائمًا إلى يوم
الدين.
ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ
عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَا َ
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَا ِ
عهْدِي الظّاِلمِينَ (} )124
َ
يقول تعالى مُنَ ّبهًا على شرف إبراهيم خليله ،عليه السلم ( )2وأن ال تعالى جعله إماما للناس
يقتدى به في التوحيد ،حتى ( )3قام بما كلفه ال تعالى به من الوامر والنواهي ؛ ولهذا قال :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ } أي :واذكر -يا محمد -لهؤلء المشركين وأهل الكتابين
الذين ينتحلون ملّة إبراهيم وليسوا عليها ،وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين ( )4معك من
المؤمنين ،اذكر لهؤلء ابتلء ال إبراهيم ،أي :اختباره له بما كلفه به من الوامر والنواهي
{ فَأَ َت ّمهُنّ } أي :قام ( )5بهن كلهن ،كما قال تعالى { :وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } [ النجم ، ] 37 :
أي :وفى جميع ما شرع له ،فعمل به صلوات ال عليه ،وقال تعالى { :إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً
قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ* شَاكِرًا ل ْنعُمِهِ اجْتَبَا ُه وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي
الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ* ثُمّ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ
ا ْلمُشْ ِركِينَ } [ النحل ، ] 123 - 120 :وقال تعالى ُ { :قلْ إِنّنِي َهدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ
دِينًا قِ َيمًا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [ النعام ، ] 161 :وقال تعالى { :مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ* إِنّ َأوْلَى النّاسِ
ي وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [ آل عمران ] 68 ، 67 :
بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُو ُه وَهَذَا النّ ِب ّ
وقوله تعالى ِ { :بكَِلمَاتٍ } أي :بشرائع وأوامر ونواه ،فإن الكلمات تطلق ،ويراد بها الكلمات
القدرية ،كقوله تعالى عن مريم ،عليها السلم َ { : ،وصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ
ك صِ ْدقًا
ا ْلقَانِتِينَ } [ التحريم .] 12 :وتطلق ويراد بها الشرعية ،كقوله تعالى { :وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ
وَعَدْل [ل مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ] ( [ } )6النعام ] 115 :أي :كلماته الشرعية .وهي إما خبر صدق ،
وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا ،ومن ذلك هذه الية الكريمة { :وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ
ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } أي :قام بهن .قال { :إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } أي :جزاء على ما َفعَل ،كما
قام بالوامر وتَ َركَ الزواجر ،جعله ال للناس قدوة وإمامًا يقتدى به ،ويحتذى حذوه.
__________
( )1في جـ ،ط ،أ ،و " :فحذرهم".
( )2في جـ " :عليه الصلة والسلم".
( )3في أ ،و " :حين".
( )4في جـ " :فأنت والذي".
( )5في جـ " :أي أقام".
( )6زيادة من ط.
( )1/405
وقد اختلف [العلماء] ( )1في تفسير ( )2الكلمات التي اختبر ال بها إبراهيم الخليل ،عليه السلم.
فروي عن ابن عباس في ذلك روايات :
فقال عبد الرزاق ،عن معمر ،عن قتادة ،قال ابن عباس :ابتله ال بالمناسك .وكذا رواه أبو
إسحاق السّبِيعي ،عن التميمي ،عن ابن عباس.
وقال عبد الرزاق -أيضًا : -أخبرنا معمر ،عن ابن طاووس ،عن أبيه ،عن ابن عباس :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ } قال :ابتله ال بالطهارة :خمس في الرأس ،وخمس في
الجسد ؛ في الرأس :قَص الشارب ،والمضمضة ،والستنشاق ،والسواك ،وفَرْق الرأس .وفي
الجسد :تقليم الظفار ،وحلق العانة ،والختان ،ونَتْف البط ،وغسل أثر الغائط والبول بالماء (
.)3
قال ابن أبي حاتم :و ُروِي عن سعيد بن المسيب ،ومجاهد ،والشعبي ،والنّخَعي ،وأبي
صالح ،وأبي الجلد ،نحو ذلك.
قلت :وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ،عن عائشة ،رضي ال عنها ،قالت :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :عَشْرٌ من الفطرة :قص الشارب ،وإعفاء اللحية ،والسواك ،
واستنشاق الماء ،وقص الظفار ،وغسل البرَاجم ،ونتف البط ،وحلق العانة ،وانتقاص الماء"
[قال مصعب] ( )4ونسيت العاشرة إل أن تكون المضمضة.
قال َوكِيع :انتقاص الماء ،يعني :الستنجاء (.)5
وفي الصحيح ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :الفطرة خمس :
الختان ،والستحداد ،وقص الشارب ،وتقليم الظفار ،ونتف البط" .ولفظه لمسلم (.)6
وقال ابن أبي حاتم :أنبأنا يونس بن عبد العلى ،قراءة ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني ابن
لهيعة ،عن ابن هُبيرة ،عن حَنَش ( )7بن عبد ال الصنعاني ،عن ابن عباس :أنه كان يقول
عشْرٌ ،ست في النسان ،وأربع
في هذه الية { :وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } قال َ :
في المشاعر .فأما التي في النسان :حلق العانة ،ونتف البط ،والختان .وكان ابن هبيرة يقول
:هؤلء الثلثة واحدة .وتقليم الظفار ،وقص الشارب ،والسواك ،وغسل يوم الجمعة.
والربعة التي في المشاعر :الطواف ،والسعي بين الصفا والمروة ،ورمي الجمار ،والفاضة.
عكْرِمة ،عن ابن عباس أنه قال :ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به
وقال داود بن أبي هند ،عن ِ
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في و " :تعيين".
( )3تفسير عبد الرزاق (.)1/76
( )4زيادة من جـ ،ط.
( )5صحيح مسلم برقم (.)261
( )6صحيح البخاري برقم ( )5889وصحيح مسلم برقم (.)257
( )7في جـ ،ط " :حنيش" ،وفي أ " :حسين".
( )1/406
كله إل إبراهيم ،قال ال تعالى { :وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } قلت له :وما الكلماتُ
التي ابتلى ال إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال :السلم ثلثون سهمًا ،منها عشر آيات في براءة :
{ التّائِبُونَ ا ْلعَا ِبدُونَ [الْحَا ِمدُونَ ] ( [ } )1التوبة ] 112 :إلى آخر الية ( )2وعشر آيات في أول
ب وَاقِعٍ } وعشر آيات في الحزاب { :إِنّ
سورة { َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } و { سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
ن وَا ْلمُسِْلمَاتِ } [ الية ] 35 :إلى آخر الية ،فأتمهن كلهن ،فكتبت له براءة .قال ال :
ا ْلمُسِْلمِي َ
{ وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } [ النجم .] 37 :
هكذا رواه الحاكم ،وأبو جعفر بن جرير ،وأبو محمد بن أبي حاتم ،بأسانيدهم إلى داود بن أبي
هند ،به ( .)3وهذا لفظ ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد ،عن سعيد أو عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :
الكلمات التي ابتلى ال بهن إبراهيم فأتمهن :فراق قومه -في ال -حين أمر بمفارقتهم.
ومحاجّته نمروذ ( - )4في ال -حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر المر الذي فيه خلفه.
وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه -في ال -على هول ذلك من أمرهم .والهجرة بعد ذلك
من وطنه وبلده -في ال -حين أمره بالخروج عنهم ،وما أمره به من الضيافة والصبر عليها
بنفسه وماله ،وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه ،فلما مضى على ذلك من ال كله
وأخلصه للبلء ( )5قال ال له َ { :أسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } على ما كان من خلف الناس
وفراقهم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا إسماعيل بن عُلَيّة ،عن أبي رجاء ،عن
الحسن -يعني البصري { : -وَِإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ [فَأَ َت ّمهُنّ] ( } )6قال :ابتله
بالكوكب فرضي عنه ،وابتله بالقمر فرضي عنه ،وابتله بالشمس فرضي عنه ،وابتله
بالهجرة فرضي عنه ،وابتله بالختان فرضي عنه ،وابتله بابنه فرضي عنه.
وقال ابن جرير :حدثنا بشر بن معاذ ،حدثنا يزيد بن زُرَيع ،حدثنا سعيد ،عن قتادة ،قال :
كان الحسن يقول :أي وال ،ابتله بأمر فصبر عليه :ابتله بالكوكب والشمس والقمر ،فأحسن
في ذلك ،وعرف أن ربه ( )7دائم ل يزول ،فوجه وجهه للذي فطر السموات والرض حنيفًا
وما كان من المشركين .ثم ابتله بالهجرة فخرج من بلده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى ال
،ثم ابتله بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك .وابتله ال بذبح ابنه ( )8والختان فصبر على ذلك.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عمن سمع الحسن يقول في قوله { :وَِإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ
ِبكَِلمَاتٍ [فَأَ َت ّمهُنّ] (} )9
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2في و " :إلى آخر اليات".
( )3تفسير الطبري ( )3/8وتفسير ابن أبي حاتم (.)1/360
( )4في جـ " :ومحاجته بنمروذ".
( )5في جـ " :ذلك من البلء كله وأخلصه للبلء".
( )6زيادة من أ.
( )7في جـ " :أن ال ربه".
( )8في ط " :بذبح ولده".
( )9زيادة من جـ.
( )1/407
( )1/408
[وقال القرطبي :وفي الموطأ وغيره ،عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول :
إبراهيم ،عليه السلم ،أول من اختتن وأول من ضاف الضيف ،وأول من استحد ،وأول من
قَلّم أظفاره ،وأول من قص الشارب ،وأول من شاب فلما رأى الشيب ،قال :ما هذا ؟ قال :
وقار ،قال :يا رب ،زدني وقارًا .وذكر ابن أبي شيبة ،عن سعد بن إبراهيم ،عن أبيه ،قال :
أول من خطب على المنابر إبراهيم ،عليه السلم ،قال غيره :وأول من برّد البريد ،وأول من
ضرب بالسيف ،وأول من استاك ،وأول من استنجى بالماء ،وأول من لبس السراويل ،وروي
عن معاذ بن جبل قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي
إبراهيم ،وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت :هذا حديث ل يثبت ،وال أعلم .ثم
شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الشياء من الحكام الشرعية] (.)1
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله :أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ ما ذكر ،وجائز
أن يكون بعض ذلك ،ول يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ على التعيين إل بحديث أو إجماع.
قال :ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ول بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
قال :غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى ال عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ،أحدهما ما
حدثنا به أبو كُرَيْب ،حدثنا رشدين بن سعد ،حدثني زبان بن فائد ،عن سهل بن معاذ بن أنس ،
قال :كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :أل أخبركم لم سمى ال إبراهيم خليله { الّذِي َوفّى }
[ النجم ] 37 :؟ لنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى { :فَسُ ْبحَانَ اللّهِ حِينَ ُت ْمسُونَ َوحِينَ
ُتصْبِحُونَ } [ الروم ] 17 :حتى يختم الية" (.)2
قال :والخر منهما :حدثنا به أبو كريب ،أخبرنا الحسن ،عن عطية ،أخبرنا إسرائيل ،عن
جعفر بن الزبير ،عن القاسم ،عن أبي أمامة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
{ وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } أتدرون ما وفى ؟" .قالوا :ال ورسوله أعلم .قال " :وفّى عمل يومه ،
أربع ركعات في النهار".
ورواه آدم في تفسيره ،عن حماد بن سلمة .وعبد بن حميد ،عن يونس بن محمد ،عن حماد بن
سلمة ،عن جعفر بن الزبير ،به (.)3
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين ،وهو كما قال ؛ فإنه ل تجوز روايتهما إل ببيان
ضعفهما ،وضعفهما من وجوه عديدة ،فإن كل من السندين مشتمل على غير واحد من
الضعفاء ،مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [وال أعلم] (.)4
ثم قال ابن جرير :ولو قال قائل :إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )2تفسير الطبري (.)3/15
( )3تفسير الطبري (.)3/16
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )1/409
بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا ،فإن قوله { :إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } وقوله :
طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ } وسائر اليات التي هي نظير ذلك ،
سمَاعِيلَ أَنْ َ
عهِدْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
{ وَ َ
كالبيان عن الكلمات التي ذكر ال أنه ابتلى بهن إبراهيم.
قلت :والذي قاله أول من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ،أقوى من هذا الذي جوزه من قول
مجاهد ومن قال مثله ؛ لن السياق يعطي غير ما قالوه وال أعلم.
عهْدِي الظّاِلمِينَ } لما جعل ال إبراهيم إمامًا ،سأل ال أن
ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ
وقوله { :قَا َ
تكون الئمةُ من بعده من ذريته ،فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ،وأنه ل
ينالهم عهد ال ،ول يكونون أئمة فل يقتدى بهم ،والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِ ِه قول ال ()1
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ } [ العنكبوت ] 27 :فكل نبي
تعالى في سورة العنكبوت { :وَ َ
أرسله ال وكل كتاب أنزله ال بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات ال وسلمه عليه (.)2
خصِيف ،عن
ع ْهدِي الظّاِلمِينَ } فقد اختلفوا في ذلك ،فقال َ
ل ل يَنَالُ َ
وأما قوله تعالى { :قَا َ
عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال :إنه سيكون في ذريتك ظالمون.
مجاهد في قوله { :قَالَ ل يَنَالُ َ
ع ْهدِي الظّاِلمِينَ } قال :ل يكون لي إمام ظالم
ل ل يَنَالُ َ
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد { ،قَا َ
[يقتدى به] ( .)3وفي رواية :ل ( )4أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به .وقال سفيان ،عن ( )5منصور
عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال :ل يكون إمام ظالم يقتدى به.
،عن مجاهد في قوله تعالى { :قَالَ ل يَنَالُ َ
وقال ابن أبي حاتم :حدثني أبي ،حدثنا مالك بن إسماعيل ،حدثنا شريك ،عن منصور ،عن
مجاهد ،في قوله َ { :ومِنْ ذُرّيّتِي } قال :أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به ،
وأما من كان ظالما فل ول ُن ْعمَةَ عَيْنٍ.
عهْدِي الظّاِلمِينَ } المراد به المشرك ،ل يكون إمام ظالم .يقول :
وقال سعيد بن جبير { :ل يَنَالُ َ
ل يكون إمام مشرك.
وقال ابن جُرَيج ،عن عطاء ،قال { :إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِنْ ذُرّيّتِي } فأبى أن يجعل
من ذريته إمامًا ظالمًا .قلت لعطاء :ما عهده ؟ قال :أمره.
وقال ابن أبي حاتم :أخبرنا عمرو بن ثور القيساري ( )6فيما كتب إلي ،حدثنا الفريابي ،حدثنا
إسرائيل ،حدثنا سماك بن حرب ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :قال ال لبراهيم { :إِنّي
عهْدِي الظّاِلمِينَ }
جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِنْ ذُرّيّتِي } فأبى أن يفعل ،ثم قال { :ل يَنَالُ َ
__________
( )1في جـ " :قوله".
( )2في جـ " :وسلمه عليه وعليهم أجمعين".
( )3زيادة من ط.
( )4في جـ " :أن ل".
( )5في أ " :سفيان بن".
( )6في أ " :النيسابوري".
( )1/410
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد ،عن سعيد أو عكرمة ،عن ابن عباس { :قَالَ
عهْدِي الظّاِلمِينَ } يخبره أنه كائن في ذريته ظالم ل ينال عهده -ول
َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ
ينبغي [له] ( )1أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله -ومحسن ستنفذ فيه دعوته ،
وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته.
عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال :يعني ل عهدَ لظالم عليك في
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :ل يَنَالُ َ
ظلمه ،أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير :حدثنا المثنى ،حدثنا إسحاق ،حدثنا عبد الرحمن بن عبد ال ،عن إسرائيل ،
عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال :ليس
عن مسلم العور ،عن مجاهد ،عن ابن عباس ،قال { :ل يَنَالُ َ
للظالمين عهد ،وإن عاهدته فانتقضه (.)2
وروي عن مجاهد ،وعطاء ،ومقاتل بن حيان ،نحو ذلك.
وقال الثوري ،عن هارون بن عنترة ،عن أبيه ،قال :ليس لظالم عهد.
عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال :ل
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن قتادة ،في قوله { :ل يَنَالُ َ
ينال عهدُ ال في الخرة ( )3الظالمين ،فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ،وأكل وعاش.
وكذا قال إبراهيم النخعي ،وعطاء ،والحسن ،وعكرمة.
وقال الربيع بن أنس :عهد ال الذي عهد إلى عباده :دينه ،يقول :ل ينال دينه الظالمين ،أل
ن وَظَالِمٌ لِ َنفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات
حسِ ٌ
ق َومِنْ ذُرّيّ ِت ِهمَا مُ ْ
ترى أنه قال { :وَبَا َركْنَا عَلَ ْي ِه وَعَلَى إِسْحَا َ
، ] 113 :يقول :ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
وكذا روي عن أبي العالية ،وعطاء ،ومقاتل بن حيان.
وقال جويبر ،عن الضحاك :ل ينال طاعتي عدو لي يعصيني ،ول أنحلها إل وليّا لي يطيعني.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه :حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ،حدثنا أحمد بن عبد ال
بن سعيد السدي ،حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ،حدثنا َوكِيع ،عن العمش ،عن سعد بن
عبيدة ،عن أبي عبد الرحمن السلمي ،عن علي بن أبي طالب ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،
عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال " :ل طاعة إل في المعروف" (.)4
قال { :ل يَنَالُ َ
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط ،أ ،و " :فأنقضه".
( )3في ط " :ل ينال عهد ال ظالم في الخرة".
( )4قال البخاري في صحيحه برقم ( : )7257حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا غندر ،حدثنا
شعبة ،عن زيد ،عن سعد بن عبيدة ،عن أبي عبد الرحمن ،عن علي -رضي ال عنه -أن
النبي صلى ال عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجل ،فأوقد نارا وقال :ادخلوها ،فأرادوا أن
يدخلوها ،وقال آخرون :إنما فررنا منها ،فذكروا للنبي صلى ال عليه وسلم ،فقال للذين أرادوا
أن يدخلوها " :لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة" .وقال للخرين " :ل طاعة في
المعصية ،إنما الطاعة في المعروف" .فهذا هو أصل هذا الحديث من دون ذكر الية ،وال أعلم.
( )1/411
سمَاعِيلَ
عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى وَ َ
س وََأمْنًا وَاتّ ِ
جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّا ِ
وَإِذْ َ
ج َعلْ َهذَا بَلَدًا َآمِنًا
ن وَال ّركّعِ السّجُودِ ( )125وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلعَاكِفِي َ
أَنْ َ
ل َومَنْ كَفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلًا ُثمّ َأضْطَ ّرهُ
وَارْزُقْ أَ ْهلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ َآمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ قَا َ
إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ ()126
( )1/412
( )1/413
وقال سفيان الثوري ،عن عبد ال بن مسلم ،عن سعيد بن جبير { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ
ُمصَلّى } قال :الحَجر مقام إبراهيم نبي ال ،قد جعله ال رحمة ،فكان يقوم عليه ويناوله
إسماعيل الحجارة .ولو غَسل رأسَه كما يقولون لختلف رجله.
[وقال السدي :المقام :الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه.
حكاه القرطبي ،وضعفه ورجحه غيره ،وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة
والربيع بن أنس] (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ،عن ابن
جُرَيج ،عن جعفر بن محمد ،عن أبيه ،سمع جابرًا يحدث عن حجة النبي صلى ال عليه وسلم
قال :لما طاف النبي صلى ال عليه وسلم قال له عمر :هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال :نعم ،قال
خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } (.)2
:أفل نتخذه مصلى ؟ فأنزل ال ،عز وجل { :وَاتّ ِ
وقال عثمان بن أبي شيبة :أخبرنا أبو أسامة ،عن زكريا ،عن أبي إسحاق ،عن أبي ميسرة
قال :قال عمر :قلت :يا رسول ال ،هذا مقام خليل ربنا ؟ قال :نعم ،قال :أفل نتخذه مصلى
؟ فنزلت { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } (.)3
وقال ابن مَرْدويه :حدثنا دَعْلَج بن أحمد ،حدثنا غيلن بن عبد الصمد ،حدثنا مسروق بن
المرزبان ،حدثنا زكريا بن أبي زائدة ،عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن
الخطاب أنه مَرّ بمقام إبراهيم فقال :يا رسول ال ،أليس نقوم مقام خليل ربنا ( )4؟ قال " :بلى".
خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى }
قال :أفل نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إل يسيرًا حتى نزلت { :وَاتّ ِ
وقال ابن مردويه :حدثنا محمد ( )5بن أحمد بن محمد القزويني ،حدثنا علي بن الحسين
الجنيد ،حدثنا هشام بن خالد ،حدثنا الوليد ،عن مالك بن أنس ،عن جعفر بن محمد عن أبيه ،
عن جابر ،قال :لما وقف رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم ،قال
له عمر :يا رسول ال ،هذا مقام إبراهيم الذي قال ال { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } ؟
خذُوا } قال :نعم .هكذا وقع في هذه
قال " :نعم" .قال الوليد :قلت لمالك :هكذا حدثك { وَاتّ ِ
الرواية .وهو غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه (.)6
وقال البخاري :باب قوله { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } مثابة يثوبون يرجعون.
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )2تفسير ابن أبي حاتم (.)1/370
( )3ورواه الدارقطني في "الفراد" كما في "أطراف الغرائب والفراد" لبن القيسراني (ق )31
وقال " :غريب من حديث أبي إسحاق عن أبي ميسرة -عمرو بن شرحبيل -عن عمر ،تفرد
به زكريا بن أبي زائدة عنه".
( )4في جـ " :خليل ال".
( )5في جـ ،و " :علي"
( )6سنن النسائي (.)5/236
( )1/414
حدثنا مُسدّد ،حدثنا يحيى ،عن حميد ،عن أنس بن مالك .قال :قال عمر بن الخطاب وافقتُ
ربي في ثلث ،أو وافقني ربي في ثلث ،قلت :يا رسول ال ،لو اتخذت من مقام إبراهيم
مصلى ؟ فنزلت { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقلت :يا رسول ال يدخل عليك البر
والفاجر ،فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل ال آية الحجاب .وقال :وبلغني ُمعَاتبة
النبي صلى ال عليه وسلم بعض نسائه ،فدخلت عليهن ( )1فقلت :إن انتهيتن أو ليبدلَن ال
رسوله خيرًا منكن ،حتى أتيت إحدى نسائه ،فقالت :يا عمر ،أما في رسول ال ما يعظ نساءه
حتى تَعظهن أنت ؟! فأنزل ال { :عَسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } الية
[ التحريم .] 5 :
وقال ابن أبي مريم :أخبرنا يحيى بن أيوب ،حدثني حميد ،قال :سمعت أنسًا عن عمر ،
رضي ال عنهما (.)2
هكذا ساقه البخاري هاهنا ،وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي
مريم المصري .وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة .وروى عنه
الباقون بواسطة ،وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين ( )3فيه اتصال إسناد الحديث ،وإنما لم
يسنده ؛ لن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ،كما قال المام أحمد فيه :هو سيئ الحفظ ،
وال أعلم.
حمَيد ،عن أنس ،قال :قال عمر رضي ال عنه ()4
وقال المام أحمد :حدثنا هُشَيم ،حدثنا ُ
وافقت ربي عز وجل في ثلث ،قلت :يا رسول ال ،لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟
خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقلت :يا رسول ال ،إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر
فنزلت { :وَاتّ ِ
والفاجر ،فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ فنزلت آية الحجاب .واجتمع على رسول ال صلى ال عليه
عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُ ْبدِلَهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } [ التحريم
وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن َ { :
] 5 :فنزلت كذلك ( )5ثم رواه أحمد ،عن يحيى وابن أبي عدي ،كلهما عن حميد ،عن
أنس ،عن عمر أنه قال :وافقت ربي في ثلث ،أو وافقني ربي في ثلث فذكره (.)6
عوْن والترمذي عن أحمد بن منيع ،والنسائي عن يعقوب بن
عمْرو بن َ
وقد رواه البخاري عن َ
إبراهيم الدورقي ،وابن ماجه عن محمد بن الصباح ،كلهم عن ُهشَيم بن بشير ،به ( .)7ورواه
الترمذي -أيضًا -عن عبد بن حُميد ،عن حجاج بن مِنهال ،عن حماد بن سلمة ،والنسائي
عن هناد ،عن
__________
( )1في جـ " :عليهن بالحجاب".
( )2صحيح البخاري برقم (.)4483
( )3في جـ " :ليتبين".
( )4في جـ :رضي ال عنهما".
( )5المسند (.)1/23
( )6رواية يحيى في المسند ( )1/36ورواية ابن أبي عدي (.)1/24
( )7صحيح البخاري برقم ( )4916وسنن الترمذي برقم ( )2960وسنن النسائي الكبرى برقم (
)11611وسنن ابن ماجة برقم (.)1009
( )1/415
يحيى بن أبي زائدة ،كلهما عن حميد ،وهو ابن تيرويه الطويل ،به ( .)1وقال الترمذي :
حسن صحيح .ورواه المام علي بن المديني عن يزيد بن زُرَيع ،عن حميد به .وقال :هذا من
صحيح الحديث ،وهو بصري ،ورواه المام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ،ولفظ
آخر ،فقال :حدثنا عقبة بن ُمكْرَم ،أخبرنا سعيد بن عامر ،عن جويرية بن أسماء ،عن نافع ،
عن ابن عمر ،عن عمر ،قال :وافقت ربي في ثلث :في الحجاب ،وفي أسارى بدر ،وفي
مقام إبراهيم (.)2
وقال أبو حاتم الرازي :حدثنا محمد بن عبد ال النصاري ،حدثنا حميد الطويل عن أنس بن
مالك قال :قال عمر بن الخطاب :وافقني ربي في ثلث -أو وافقت ربي -قلت ( )3يا رسول
ال ،لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقلت :
يا رسول ال لو حجبت النساء ؟ فنزلت آية الحجاب .والثالثة :لما مات عبد ال بن أبي جاء
رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصلي عليه .قلت :يا رسول ال ،تصلي على هذا الكافر
صلّ عَلَى َأحَدٍ مِ ْنهُم مَاتَ أَ َبدًا وَل َتقُمْ
المنافق! فقال " :إيهًا عنك يا بن الخطاب" ،فنزلت { :وَل ُت َ
عَلَى قَبْ ِرهِ } [ التوبة .)4( ] 84 :
وهذا إسناد صحيح أيضًا ،ول تعارض بين هذا ول هذا ،بل الكل صحيح ،ومفهوم العدد إذا
عارضه منطوق قُدم عليه ،وال أعلم.
وقال ابن جريج ( )5أخبرني جعفر بن محمد ،عن أبيه عن جابر :أن رسول ال صلى ال عليه
عمَد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين
وسلم رمل ثلثة أشواط ،ومشى أربعًا ،حتى إذا فرغ َ
خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى }
،ثم قرأ { :وَاتّ ِ
وقال ابن جرير :حدثنا يوسف بن سلمان ( )6حدثنا حاتم بن إسماعيل ،حدثنا جعفر بن محمد
عن أبيه ،عن جابر قال :استلم رسول ال صلى ال عليه وسلم الركن ،فرمل ثلثًا ،ومشى
خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } فجعل المقام بينه
أربعًا ،ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ،فقرأ { :وَاتّ ِ
وبين البيت ،فصلى ركعتين.
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه ،من حديث حاتم بن إسماعيل (.)7
وروى البخاري بسنده ،عن عمرو بن دينار ،قال :سمعت ابن عمر يقول :قدم رسول ال
صلى ال عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ،وصلى خلف المقام ركعتين (.)8
حجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلم ،يقوم عليه
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو ال َ
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )2959وسنن النسائي الكبرى برقم (.)10998
( )2صحيح مسلم برقم (.)2399
( )3في ط " :فقلت".
( )4ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( )7/88من طريق أبي حاتم الرازي به.
( )5في جـ " :ابن جرير".
( )6في جـ ،ط " :سليمان".
( )7تفسير الطبري ( )3/36وصحيح مسلم برقم (.)1218
( )8صحيح البخاري برقم (.)1793 ، 395
( )1/416
لبناء الكعبة ،لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل ،عليه السلم ،به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة
فيضعها بيده لرفع الجدار ،كلّما َكمّل ناحية انتقل إلى الناحية الخرى ،يطوف حول الكعبة ،
وهو واقف عليه ،كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا ،حتى تم جدارات الكعبة ،
كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت ،من رواية ابن عباس عند البخاري.
وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ،ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها ؛ ولهذا قال أبو
طالب في قصيدته المعروفة اللمية :
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة ...على قدميه حافيًا غير ناعل ()1
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا .وقال ( )2عبد ال بن وهب :أخبرني يونس بن يزيد ،عن
خمَص
ابن شهاب :أن أنس بن مالك حدثهم ،قال :رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلم ،وإ ْ
قدميه ،غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وقال ابن جرير :حدثنا بشر بن معاذ ،حدثنا يزيد بن زُرَيع ،حدثنا سعيد ،عن قتادة :
{ وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه .ولقد تكلفت
عقِبِه وأصابعه فيه ( )3فما زالت
هذه المة شيئًا ما تكلفته المم قبلها ،ولقد ُذكِرَ لنا من رأى أثر َ
هذه المة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.
قلت :وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ،ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي
الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ،وكان الخليل ،عليه السلم ( )4لما فرغ
من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ؛ ولهذا -وال أعلم
-أمر بالصلة هناك عند فراغ الطواف ،وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء
عمَرُ بن الخطاب رضي ال عنه ()5
الكعبة فيه ،وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين ُ
[وهو] ( )6أحدُ الئمة المهديين والخلفاء الراشدين ،الذين ُأمِرْنا باتباعهم ،وهو أحد الرجلين
اللذين قال فيهما رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اقتدوا باللّذَين من بعدي أبي بكر وعمر" .وهو
الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلة عنده ؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة ،رضي ال عنهم
أجمعين.
قال عبد الرزاق ،عن ابن جُرَيج ،حدثني عطاء وغيره من أصحابنا :قالوا :أول من نقله عمر
حمِيد العرج ،عن
بن الخطاب رضي ال عنه ( )7وقال عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن َ
مجاهد قال :أول من أخر المقام إلى موضعه الن ،عمر بن الخطاب رضي ال عنه (.)8
__________
( )1البيت في السيرة النبوية لبن هشام (.)1/273
( )2في جـ ،ط " :كما قال".
( )3في جـ ،ط " :فيها".
( )4في جـ " :عليه الصلة والسلم".
( )5في جـ " :رضي ال تعالى عنه".
( )6زيادة من جـ.
( )7المصنف لعبد الرزاق برقم (.)8955
( )8المصنف لعبد الرزاق برقم (.)8953
( )1/417
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ( )1أخبرنا أبو [الحسين بن] ( )2الفضل
القطان ،أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ،حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي ،
حدثنا أبو ثابت ،حدثنا الدراوردي ،عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي ال عنها :
أن المقام كان في زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ،ثم أخره
عمر بن الخطاب رضي ال عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي عمر العَدَني قال :قال سفيان [ -يعني ابن عيينة]
سقْع البيت على عهد رسول ال صلى ال
( )3وهو إمام المكيين في زمانه -كان المقام في (ُ )4
خذُوا مِنْ َمقَامِ
عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى ال عليه وسلم وبعد قوله { :وَاتّ ِ
إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } قال :ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ،فرده عمر إليه.
وقال سفيان :ل أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله .قال سفيان :ل أدري أكان ( )5لصقًا
بها أم ل ؟ (.)6
فهذه الثار متعاضدة على ما ذكرناه ،وال أعلم.
عمْرو ،حدثنا محمد بن عبد الوهاب ،حدثنا
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه :حدثنا أبو َ
آدم ،حدثنا شريك ،عن إبراهيم بن مهاجر ،عن مجاهد ،قال :قال عمر :يا رسول ال لو
صلينا خلف المقام ؟ فأنزل ال { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } فكان المقام عند البيت
فحوله رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى موضعه هذا .قال مجاهد :قد كان عمر يرى الرأي
فينزل به القرآن (.)7
هذا مرسل عن مجاهد ،وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق ،عن معمر ،عن حميد
العرج ،عن مجاهد أن أول من أخّر المقام إلى موضعه الن عمر بن الخطاب رضي ال عنه
وهذا أصح من طريق ابن مَرْدُويه ،مع اعتضاد هذا بما تقدم ،وال أعلم (.)8
ن وَال ّركّعِ السّجُودِ ( )125وَإِذْ
طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِين وَا ْلعَاكِفِي َ
سمَاعِيلَ أَنْ َ
عهِدْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
{ وَ َ
ج َعلْ هَذَا َبلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهَْلهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ قَالَ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
َومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيل ثُمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ (} )126
__________
( )1في أ ،و " :علي بن الحسين".
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )4في هـ " :من" وهو خطأ.
( )5في جـ " :إن كان".
( )6تفسير ابن أبي حاتم (.)1/372
( )7قال الحافظ ابن حجر في الفتح (" : )8/169إسناده ضعيف".
( )8وقد ألف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه ال -رسالتين فيما يتعلق بالمقام
:الولى :في جواز نقل المقام سماها " :الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مطبوعة
ضمن فتاواه ( .)55 - 5/17والثانية :في الرد على الشيخ سليمان بن حمدان في اعتراضه على
رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في جواز نقل المقام سماها " :نصيحة الخوان ببيان بعض ما
في نقض المباني لبن حمدان من الخبط والجهل والبهتان" مطبوعة ضمن فتاواه ()132 - 5/56
وهما رسالتان قيمتان حشد فيهما -رحمه ال -جواز نقل المقام ،واستشهد بكلم الحافظ ابن
كثير هنا وكلم الحافظ ابن حجر في فتح الباري ،وهما تدلن على تبحره وسعة علمه -رحمه
ال وأسكنه فسيح جناته.
( )1/418
( )1/418
سمَاعِيلَ } قال :أمرهما ال أن يطهراه من
عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَِإ ْ
قال الحسن البصري :قوله { :وَ َ
الذى والنّجَس ول يصيبه من ذلك شيء.
وقال ابن جريج :قلت لعطاء :ما عهده ؟ قال :أمره.
عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } أي :أمرناه .كذا قال .والظاهر أن
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { :وَ َ
ع ّديَ بإلى ،لنه في معنى تقدمنا وأوحينا.
هذا الحرف إنما ُ
طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلعَا ِكفِينَ } قال :من
وقال سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،قوله { :أَنْ َ
الوثان.
طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ } إن ذلك من الوثان والرفث وقول الزور
وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير َ { :
والرجس.
قال ابن أبي حاتم :ورُوي عن عُبَيد بن عمير ،وأبي العالية ،وسعيد بن جبير ،ومجاهد ،
طهّرَا بَيْ ِتيَ } أي :بل إله إل ال ،من الشرك.
وعطاء وقتادة { :أَنْ َ
وأما قوله تعالى { :لِلطّا ِئفِينَ } فالطواف بالبيت معروف .وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله
تعالى { :لِلطّا ِئفِينَ } يعني :من أتاه من غُرْبة { ،وَا ْلعَاكِفِينَ } المقيمين فيه .وهكذا روي عن
قتادة ،والربيع بن أنس :أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه ،كما قال سعيد بن جبير.
وقال يحيى [بن] ( )1القطّان ،عن عبد الملك -هو ابن أبي سليمان -عن عطاء في قوله :
{ وَا ْلعَا ِكفِينَ } قال :من انتابه ( )2من المصار فأقام عنده ( )3وقال لنا -ونحن مجاورون : -
أنتم من العاكفين.
وقال وكيع ،عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال :إذا كان جالسًا فهو من
العاكفين.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا حماد بن سلمة ،حدثنا ثابت
قال :قلنا لعبد ال بن عبيد بن عمير :ما أراني إل ُمكَلّم المير أن أمنع الذين ينامون في
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في جـ ،أ " :من أتى".
( )3في أ " :فأقام عندنا".
( )1/419
المسجد الحرام فإنهم يجنبون ( )1ويُحدثون .قال :ل تفعل ،فإن ابن عمر سئل عنهم ،فقال :هم
العاكفون.
[ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة ،به] (.)2
قلت :وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم وهو
عَزَب (.)3
وأما قوله تعالى { :وَال ّركّعِ السّجُودِ } فقال وكيع ،عن أبي بكر الهذلي ،عن عطاء ،عن ابن
عباس { وَال ّركّعِ السّجُودِ } قال :إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود .وكذا قال عطاء وقتادة.
وقال ابن جَرير رحمه ال :فمعنى الية :وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين.
والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الصنام وعبادة الوثان فيه ومن الشرك .ثم
أورد سؤال فقال :فإن قيل :فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر
بتطهيره منه ؟ وأجاب بوجهين :أحدهما :أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده َزمَان قوم نوح
من الصنام والوثان ليكون ذلك سُنّة لمن بعدهما إذ كان ال تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى
طهّرَا بَيْ ِتيَ } قال :من الصنام التي يعبدون ،التي كان
به كما قال عبد الرحمن بن زيد { :أَنْ َ
المشركون يعظمونها.
قلت :وهذا الجواب ُمفَرّع على أنه كان ُيعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلم ،ويحتاج إثبات
حمّد صلى ال عليه وسلم.
هذا إلى دليل عن المعصوم مُ َ
الجواب الثاني :أنه أمرهما أن يخلصا [في] ( )4بنائه ل وحده ل شريك له ،فيبنياه مطهرًا من
ضوَانٍ خَيْرٌ َأمْ
الشرك والرّيْب ،كما قال جل ثناؤه َ { :أ َفمَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َت ْقوَى مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
شفَا جُ ُرفٍ هَارٍ } [ التوبة ] 109 :قال :فكذلك قوله { :وَ َ
مَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ عَلَى َ
طهّرَا بَيْ ِتيَ } أي :ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب ،كما قال السدي :
سمَاعِيلَ أَنْ َ
وَإِ ْ
طهّرَا بَيْ ِتيَ } ابنيا بيتي للطائفين.
{ أَنْ َ
وملخص هذا الجواب :أن ال تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم ،أن يبنيا الكعبة على
اسمه وحده ل شريك له للطائفين به والعاكفين عنده ،والمصلين إليه من الركع السجود ،كما قال
طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلقَا ِئمِينَ
تعالى { :وَإِذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَنْ ل تُشْ ِركْ بِي شَيْئًا وَ َ
وَال ّركّعِ السّجُودِ } اليات [ الحج .] 37 - 26 :
[وقد اختلف الفقهاء :أيما أفضل ،الصلة عند البيت أو الطواف ؟ فقال مالك :الطواف به لهل
المصار أفضل من الصلة عنده ،وقال الجمهور :الصلة أفضل مطلقا ،وتوجيه كل منهما
يذكر في كتاب الحكام] (.)5
__________
( )1في جـ " :فإنهم يخبثون".
( )2زيادة من و.
( )3صحيح البخاري برقم (.)440
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5زيادة من أ.
( )1/320
والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بال عند بيته ،المؤسس على عبادته
وحده ل شريك له ،ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ،كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا
سوَاءً ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَا ِد َومَنْ يُ ِردْ فِيهِ
جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ َ
سجِدِ الْحَرَامِ الّذِي َ
وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَ ْ
بِإِلْحَادٍ بِظُ ْلمٍ نُ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج .] 25 :
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد ال وحده ل شريك له ،إما بطواف أو صلة ،فذكر في
سورة الحج أجزاءها الثلثة :قيامها ،وركوعها ،وسجودها ،ولم يذكر العاكفين لنه تقدم
سوَاءً ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَادِ } وفي هذه الية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ،واجتزأ بذكر
{ َ
الركوع والسجود عن القيام ؛ لنه قد علم أنه ل يكون ركوع ول سجود إل بعد قيام .وفي ذلك -
أيضًا -رَدّ على من ل يحجه من أهل الكتابين :اليهود والنصارى ؛ لنهم يعتقدون فضيلة
إبراهيم الخليل وعظمته ،ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك
وللعتكاف والصلة عنده وهم ل يفعلون شيئًا من ذلك ،فكيف يكونون ( )1مقتدين بالخليل ،وهم
ل يفعلون ما شرع ال له ؟ وقد حَجّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من النبياء عليهم السلم ،
حيٌ يُوحَى } [ النجم .] 4 :
كما أخبر بذلك المعصوم الذي ل ينطق عن الهوى { إِنْ ُهوَ إِل وَ ْ
سمَاعِيلَ } [أي :تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل]
عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
وتقدير الكلم إذًا { :وَ َ
ن وَال ّركّعِ السّجُودِ } أي :طهراه من الشرك والريب وابنياه
ن وَا ْلعَاكِفِي َ
طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِي َ
( { )2أَنْ َ
خالصًا ل ،معقل للطائفين والعاكفين والركع السجود .وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الية ،
س ُمهُ يُسَبّحُ َلهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ }
ومن قوله تعالى { :فِي بُيُوتٍ َأذِنَ اللّهُ أَنْ تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
[ النور ] 36 :ومن السنة من أحاديث كثيرة ،من المر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك ،من
صيانتها من الذى والنجاسات ( )3وما أشبه ذلك .ولهذا قال عليه السلم " :إنما بنيت المساجد لما
ج َم ْعتُ في ذلك جزءًا على حدة ول الحمد والمنة.
بنيت له" ( .)4وقد َ
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ،فقيل :الملئكة قبل آدم ،وروي هذا عن أبي جعفر
الباقر محمد بن علي بن الحسين ،ذكره القرطبي وحكى لفظه ،وفيه غرابة ،وقيل :آدم عليه
السلم رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم :أن آدم بناه من
خمسة أجبل :من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي ،وهذا غريب أيضًا.
وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الحبار وقتادة وعن وهب بن منبه :أن أول من بناه شيث ،
عليه السلم ،وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب ،وهي مما ل يصدق ول
يكذب ول يعتمد عليها بمجردها ،وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
__________
( )1في جـ " :فكيف يكون".
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في جـ " :والنجاسة".
( )4رواه مسلم في صحيحه برقم ( )569من حديث بريدة رضي ال عنه.
( )1/421
ج َعلْ َهذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ
وقوله تعالى { :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ }
قال المام أبو جعفر بن جرير :حدثنا ابن بشار قال :حدثنا عبد الرحمن بن َمهْدي ،حدثنا
سفيان ،عن أبي الزبير ،عن جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن
إبراهيم حَرّم بيت ال وأمّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لبتيها فل ُيصَا ُد صيدها ول يقطع
عضاهها" (.)1
وهكذا رواه النسائي ،عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به (.)2
عمْرو الناقد ،كلهما عن أبي أحمد الزبيري ،عن
وأخرجه مسلم ،عن أبي بكر بن أبي شيبة ،و َ
سفيان الثوري (.)3
وقال ابن جرير -أيضًا : -حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قال حدثنا ابن إدريس ،وحدثنا أبو
كريب ،حدثنا عبد الرحيم الرازي ،قال جميعًا :سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة ،قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن إبراهيم كان عبد ال وخليله وإني عبدُ ال ورسوله وإن
إبراهيم حَرّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لبتيها ،عضاهَها وصيدَها ،ل يحمل فيها سلح
لقتال ،ول يقطع منها شجرة إل لعلف بعير" (.)4
وهذه الطريق غريبة ،ليست في شيء من الكتب الستة ،وأصل الحديث في صحيح مسلم من
وجه آخر ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،قال :كان الناس إذا رأوا أول الثمر ،جاؤوا به
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإذا أخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :اللهم بارك
لنا في ثمرنا ،وبارك لنا في مدينتنا ،وبارك لنا في صاعنا ،وبارك لنا في مُدّنا ،اللهم إن
إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك ،وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما
صغَرَ وليد له ،فيعطيه ذلك الثمر .وفي لفظ " :بركة مع بركة"
دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أ ْ
ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان .لفظ مسلم (.)5
ثم قال ابن جرير :حدثنا أبو كُريب ،حدثنا قتيبة بن سعيد ،حدثنا بكر بن مضر ،عن ابن
الهاد ،عن أبي بكر بن محمد ،عن عبد ال بن عمرو بن عثمان ،عن رافع بن خَديج ،قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن إبراهيم حرم مكة ،وإني أحرم ما بين لبتيها".
انفرد بإخراجه مسلم ،فرواه عن قتيبة ،عن بكر بن مضر ،به ( .)6ولفظه كلفظه سواء .وفي
__________
( )1تفسير الطبري ( )3/48واللبتان :هما الحرتان بجانبي المدينة ،والعضاة :كل شجر عظيم
له شوك ،وقيل :العظيم من الشجر مطلقا.
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)4284
( )3صحيح مسلم برقم (.)1362
( )4تفسير الطبري (.)3/48
( )5صحيح مسلم برقم (.)1373
( )6تفسير الطبري (.)3/49
( )1/422
الصحيحين عن أنس بن مالك ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لبي طلحة " :التمس
لي غلمًا من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه ،فكنت أخدم رسول ال صلى
ال عليه وسلم كلما نزل .وقال في الحديث :ثم أقْ َبلَ حتى إذا بدا له أُحد قال " :هذا جبل يُحبّنا
ونحبه" .فلما أشرف على المدينة قال " :اللهم إني أحرم ما بين جبليها ،مثلما حرم به إبراهيم مكة
،اللهم بارك لهم في مُدّهم وصاعهم" .وفي لفظ لهما " :اللهم بارك لهم في مكيالهم ،وبارك لهم
في صاعهم ،وبارك لهم في مدهم" .زاد البخاري :يعني :أهل المدينة (.)1
ض ْعفَي ما
ولهما أيضا عن أنس :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :اللهم اجعل بالمدينة ِ
جعلته بمكة من البركة" ( )2وعن عبد ال بن زيد بن عاصم ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى
ال عليه وسلم " :إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ،وحَرّمتُ ( )3المدينة كما حرم إبراهيم مكة ،
ودعوت ( )4لها في مدها وصاعها ( )5مثل ما دعا إبراهيم لمكة"
رواه البخاري وهذا لفظه ( ، )6ومسلم ولفظه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن
إبراهيم حرم مكة ودعا لهلها .وإني حرّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة ،وإني دعوت لها في
صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لهل مكة" (.)7
وعن أبي سعيد ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :اللهم إنّ إبراهيم حَرّم
مكة فجعلها حرامًا ،وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها ،ل يهراق فيها دم ،ول يحمل
فيها سلح لقتال ،ول يخبط فيها شجرة إل لعلف .اللهم بارك لنا في مدينتنا ،اللهم بارك لنا في
صاعنا ،اللهم بارك لنا في ُمدّنا ،اللهم اجعل مع البركة بركتين" .الحديث رواه مسلم (.)8
والحاديث في تحريم المدينة كثيرة ،وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم ،عليه
السلم ،لمكة ،لما في ذلك في مطابقة الية الكريمة.
[وتَمسّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل ،وقيل :إنها محرمة
منذ خلقت مع الرض وهذا أظهر وأقوى] (.)9
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن ال تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والرض ،كما
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)1361
( )2صحيح البخاري برقم ( )1885وصحيح مسلم برقم (.)1369
( )3في جـ ،ط " :وإني حرمت".
( )4في جـ ،ط " :وإني دعوت".
( )5في جـ ،ط " :صاعها ومدها".
( )6صحيح البخاري برقم (.)2129
( )7صحيح مسلم برقم (.)1360
( )8صحيح مسلم برقم (.)1374
( )9زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )1/423
جاء في الصحيحين ،عن عبد ال بن عباس ،رضي ال عنهما ،قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم يوم فتح مكة " :إن هذا البلد حَرّمه ال يوم خلق السموات والرض ،فهو حرام بحرمة
ال إلى يوم القيامة .وإنه لم يحِل القتال فيه لحد قبلي ،ولم يحل لي إل ساعة من نهار ،فهو
حرام بحرمة ال إلى يوم القيامة .ل ُي ْعضَد شوكه ول ينفر صيده ،ول تُلْ َتقَط ُلقَطَتُه إل من عرّفها
،ول يختلى خَلهَا" فقال العباس :يا رسول ال ،إل الذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم .فقال " :إل
الذخر" وهذا لفظ مسلم (.)1
ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك (.)2
ثم قال البخاري بعد ذلك :قال ( )3أبان بن صالح ،عن الحسن بن مسلم ،عن صفية بنت شيبة
:سمعت النبي صلى ال عليه وسلم ،مثله (.)4
وهذا الذي علقه البخاري رواه المام أبو عبد ال بن ماجة ،عن محمد بن عبد ال بن ُنمَير ،عن
يونس بن ُبكَيْر ،عن محمد بن إسحاق ،عن أبان بن صالح ،عن الحسن بن مسلم بن يَنّاق ،عن
صفية بنت شيبة ،قالت :سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يخطب عام الفتح ،فقال " :يا أيها
الناس ،إن ال حرم مكة يوم خلق السموات والرض ،فهي حَرَام إلى يوم القيامة ،ل ُي ْعضَد
شجرها ول يُ َنفّر صيدُها ،ول يأخذ ُلقَطَتَها إل مُنْشِد" فقال العباس :إل الذخر ؛ فإنه للبيوت
والقبور .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إل الذْخَر" (.)5
وعن أبي شُرَيح العدوي أنّه قال ل َعمْرو بن سعيد -وهو يبعث البعوث إلى مكة : -ائذن لي -
س ِمعَته
أيها المير -أن أحدثَك قول قام به رسولُ ال صلى ال عليه وسلم الغَد من يوم الفتح َ ،
أذناي ووعاه قلبي ،وأبصرته عيناي حين َتكَلّم به ،إنه حمد ال وأثنى عليه ،ثم قال " :إن مكة
حرمها ال ولم يحرمها الناس ،فل يحل لمرئ يؤمن بال واليوم الخر أن يسفك بها دمًا ،ول
خصَ بقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا :إن ال أذن
يعضد بها شجرة ،فإن أحد تَ َر ّ
لرسوله صلى ال عليه وسلم ولم يأذن لكم .وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ،وقد عادت حرمتها
اليوم كحرمتها بالمس ،فليبلغ الشاهد الغائب" .فقيل لبي شُرَيح :ما قال لك عمرو ؟ قال :أنا
أعلم بذلك منك يا أبا شريح ،إن الحرم ل يعيذ عاصيًا ،ول فارّا بدم ،ول فارّا بخَرَبَة.
رواه البخاري ومسلم ،وهذا لفظه (.)6
فإذا علم هذا فل منافاة بين هذه الحاديث الدالة على أن ال حَرّم مكة يوم خلق السموات
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )3077 ، 3189 ، 1587 ، 1834وصحيح مسلم برقم (.)1353
( )2صحيح البخاري برقم ( )6880 ، 112وصحيح مسلم برقم (.)1355
( )3في جـ ،ط " :وقال".
( )4صحيح البخاري برقم (.)1349
( )5سنن ابن ماجة برقم (.)3109
( )6صحيح البخاري برقم ( )1832وصحيح مسلم برقم (.)1354
( )1/424
والرض ،وبين الحاديث الدالة على أن إبراهيم ،عليه السلم ،حَرّمها ؛ لن إبراهيم بَلّغ عن
حكْمه فيها وتحريمه إياها ،وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند ال قبل بناء إبراهيم ،عليه السلم ،
ال ُ
لها ،كما أنه قد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مكتوبًا عند ال خاتم النبيين ،وإن آدم
لمنجَدل في طينته ،ومع هذا قال إبراهيم ،عليه السلم { :رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ رَسُول مِ ْنهُمْ } وقد
أجاب ال دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره .ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا :يا رسول ال ،
أخبرنا عن بَدْءِ أمرك .فقال " :دعوة أبي إبراهيم ،وبشرى عيسى ابن مريم ،ورأت أمي كأنه (
)1خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام".
أي :أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك .كما سيأتي قريبًا ،إن شاء ال.
وأما مسألة تفضيل َمكّة على المدينة ،كما هو قول الجمهور ،أو المدينة على مكة ،كما هو
مذهب مالك وأتباعه ،فتذكر في موضع آخر بأدلتها ،إن شاء ال ،وبه الثقة.
ج َعلْ َهذَا بَلَدًا آمِنًا } أي :من الخوف ،ل
وقوله :تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال َ { :ربّ ا ْ
خلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل
عبُ أهله ،وقد فعل ال ذلك شرعًا وقدرًا .كقوله تعالى (َ { )2ومَنْ دَ َ
يَرْ َ
حوِْلهِمْ } [ العنكبوت :
طفُ النّاسُ مِنْ َ
جعَلْنَا حَ َرمًا آمِنًا وَيُتَخَ ّ
عمران ] 97 :وقوله { َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ
] 67إلى غير ذلك من اليات .وقد تقدمت الحاديث في تحريم القتال فيها .وفي صحيح مسلم
عن جابر :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل يحل لحد أن يحمل بمكة السلح" (
ج َعلْ َهذَا بَلَدًا آمِنًا } أي :اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا ،وناسب
.)3وقال في هذه السورة َ { :ربّ ا ْ
ج َعلْ َهذَا بَلَدًا
هذا ؛ لنه قبل بناء الكعبة .وقال تعالى في سورة إبراهيم { :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
آمِنًا } [ إبراهيم ] 35 :وناسب هذا هناك لنه ،وال أعلم ،كأنه وقع دعاء ثانًيا ( )4بعد بناء
البيت واستقرار أهله به ،وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنّا من إسماعيل بثلث عشرة
سحَاقَ إِنّ
ل وَإِ ْ
سمَاعِي َ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ إِ ْ
سنة ؛ ولهذا قال في آخر الدعاء { :ا ْل َ
سمِيعُ الدّعَاءِ } [ إبراهيم ] 39 :
رَبّي لَ َ
وقوله تعالى { :وَارْزُقْ َأهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ قَالَ َومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ
ضطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
قَلِيل ثُمّ َأ ْ
ل َومَنْ
قال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،عن أبي بن كعب { :قَا َ
عذَابِ النّا ِر وَبِئسَ ا ْل َمصِير } قال :هو قول ال تعالى .وهذا قول
َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قليل ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إلى َ
مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير ،رحمه ال تعالى :قال :وقرأ آخرون { :قَالَ َومَنْ
عذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم ،
َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيل ُثمّ َأضْطَ ّرهُ ِإلَى َ
كما رواه أبو جعفر ،عن الربيع ،عن أبي العالية قال :كان ابن عباس يقول :ذلك قول
إبراهيم ،يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليل.
__________
( )1في جـ " :كأنها".
( )2في جـ " :كما قال ال تعالى" ،وفي طـ " :لقوله تعالى".
( )3صحيح مسلم برقم (.)1356
( )4في جـ ،طـ ،أ " :دعاء مرة ثانية".
( )1/425
وقال أبو جعفر ،عن ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد َ { :ومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيل } يقول :ومن
كفر فأرزقه أيضًا { ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
وقال محمد بن إسحاق :لما عزل إبراهيم ،عليه السلم ،الدعوة عمّن أبى ال أن يجعل له
الولية -انقطاعًا إلى ال ومحبته ،وفراقًا لمن خالف أمره ،وإن كانوا من ذريته ،حين عرف
أنه كائن منهم أنه ظالم أل يناله عهدُه ،بخبر ال له بذلك -قال ال :ومن كفر فإني أرزق البر
والفاجر وأمتعه قليل.
عمّار الدّهْني ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن
حمَيد الخرّاط ،عن َ
وقال حاتم بن إسماعيل عن ُ
ج َعلْ هَذَا بََلدًا آمِنًا وَارْ ُزقْ أَهَْلهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّهِ
عباس في قوله تعالى َ { :ربّ ا ْ
وَالْ َيوْمِ الخِرِ } قال ابن عباس :كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس ،فأنزل ال ومن
كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا ل أرزقهم ؟! أمتعهم قليل ثم أضطرهم إلى
ك َومَا كَانَ
عطَاءِ رَ ّب َ
عذاب النار وبئس المصير .ثم قرأ ابن عباس { :كُل ُنمِدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ
حظُورًا } [ السراء .] 20 :رواه ابن مَرْدُويه .ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو
عَطَاءُ رَ ّبكَ مَ ْ
ذلك أيضًا .وهذا كقوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ ل ُيفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ُثمّ
ج ُعهُمْ ثُمّ ُنذِيقُهُمُ ا ْلعَذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ } [ يونس ، ] 70 ، 69 :وقوله تعالى :
إِلَيْنَا مَرْ ِ
علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ* ُنمَ ّت ُعهُمْ
عمِلُوا إِنّ اللّهَ َ
ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
{ َومَنْ َكفَرَ فَل َيحْزُ ْنكَ ُكفْ ُرهُ ِإلَيْنَا مَرْ ِ
عذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان ، ] 24 ، 23 :وقوله { :وََلوْل أَنْ َيكُونَ النّاسُ ُأمّةً
ضطَرّهُمْ إِلَى َ
قَلِيل ثُمّ َن ْ
ظهَرُونَ* وَلِبُيُو ِتهِمْ أَ ْبوَابًا
سقُفًا مِنْ َفضّ ٍة َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا يَ ْ
حمَنِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ
جعَلْنَا ِلمَنْ َي ْكفُرُ بِالرّ ْ
وَاحِ َدةً لَ َ
وَسُرُرًا عَلَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ* وَزُخْ ُرفًا وَإِنْ ُكلّ ذَِلكَ َلمّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالخِ َرةُ عِ ْندَ رَ ّبكَ لِ ْلمُ ّتقِينَ }
[ الزخرف ] 35 ، 33 :
وقوله { ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } أي :ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا
عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير .ومعناه :أن ال تعالى يُنْظرُهم و ُيمْهلهُم ثم يأخذهم
أخذ عزيز مقتدر ،كقوله تعالى َ { :وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ ثُمّ َأخَذْ ُتهَا وَإَِليّ
ا ْل َمصِيرُ } [ الحج ، ] 48 :وفي الصحيحين " :ل أحد أصبر على أذى سمعه من ال ؛ إنهم
يجعلون له ولدا ،وهو يرزقهم ويعافيهم" ( )1وفي الصحيح أيضًا " :إن ال ليملي ( )2للظالم حتى
خ َذهُ أَلِيمٌ
إذا أخذه لم يفلته" .ثم قرأ قوله تعالى َ { :وكَذَِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ أَ ْ
شَدِيدٌ } [ هود .)3( ] 102 :
سمِيعُ
سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَبّلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
وأما قوله تعالى { :وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْلقَوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ وَإِ ْ
سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ
ك وَأَرِنَا مَنَا ِ
ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ
جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ
ا ْلعَلِيمُ*رَبّنَا وَا ْ
ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }
__________
( )1سبق تخريج هذا الحديث قريبا.
( )2في جـ ،طـ " :يملي".
( )3صحيح البخاري برقم ( )4686وصحيح مسلم برقم ( )2583من حديث أبي موسى الشعري
رضي ال عنه.
( )1/426
فالقواعد :جمع قاعدة ،وهي السارية والساس ،يقول تعالى :واذكر -يا محمد -لقومك بناء
إبراهيم وإسماعيل ،عليهما السلم ،البيت ،ور ْفعَهما القواعدَ منه ،وهما يقولن { :رَبّنَا َتقَ ّبلْ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } فهما في عمل صالح ،وهما يسألن ال تعالى أن يتقبل منهما ،كما
مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي ،عن وهيب بن الورد :أنه قرأ :
سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا } ثم يبكي ويقول :يا خليل الرحمن
ت وَإِ ْ
{ وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ
،ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت ُمشْفق أن ل يتقبل منك .وهذا كما حكى ال تعالى عن حال
المؤمنين المخلصين ( )1في قوله تعالى { :وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آ َتوْا } أي :يعطون ما أعطوا من
الصدقات والنفقات والقربات { َوقُلُو ُبهُ ْم وَجَِلةٌ } [ المؤمنون ] 60 :أي :خائفة أل يتقبل منهم .كما
جاء به الحديث الصحيح ،عن عائشة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم كما سيأتي في
موضعه.
وقال بعض المفسرين :الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ،والداعي إسماعيل .والصحيح أنهما
كانا يرفعان ويقولن ،كما سيأتي بيانه.
وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك .قال البخاري ،رحمه ال :
حدثنا عبد ال بن محمد ،حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن أيوب السخيتاني ( )2وكثير بن
كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة -يزيد أحدُهما على الخر -عن سعيد بن جُبَير ،عن ابن
عباس ،رضي ال عنهما ،قال :أول ما ( )3اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل ،عليهما (
)4السلم اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة .ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ،عليهما
السلم ،وهي ترضعه ،حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق َزمْزم في أعلى المسجد ،
سقَاء
وليس بمكة يومئذ أحد ،وليس بها ماء فوضعهما هنالك ،ووضع عندهما جرابًا فيه تمر و ِ
فيه ماء ،ثم َقفّى إبراهيم ،عليه السلم ،منطلقًا .فتبعته أم إسماعيل فقالت :يا إبراهيم ،أين
تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ول شيء ؟ فقالت له ذلك مرارًا ،وجعل ل يلتفت
إليها .فقالت ( )5آل أمرك بهذا ؟ قال :نعم .قالت :إذًا ل يضيعنا .ثم رجعت .فانطلق إبراهيم ،
عليه السلم ،حتى إذا كان عند الثنية حيث ل يرونه ،استقبل بوجهه البيت ،ثم دعا بهؤلء
سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِ ْندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ
الدعوات ،ورفع يديه ،قال { :رَبّنَا إِنّي َأ ْ
شكُرُونَ }
ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مِنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِ ْم وَارْ ُز ْقهُمْ مِنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّل ُهمْ يَ ْ
رَبّنَا لِ ُيقِيمُوا الصّلةَ فَا ْ
[ إبراهيم ، ] 37 :وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ،عليهما السلم ،وتشرب من ذلك الماء
،حتى إذا نفد ماء السقاء ( )6عطشت وعطش ابنها ،وجعلت تنظر إليه يتلوى -
__________
( )1في أ ،و " :الخلص".
( )2في أ ،و " :السختياني".
( )3في جـ " :أول من".
( )4في جـ " :عليه".
( )5في أ " :فقالت له".
( )6في أ ،و " :نفد ما في السقاء".
( )1/427
أو قال :يتلبط -فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ،فوجدت الصفا أقربَ جبل في الرض يليها ()1
فقامت عليه ،ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا ؟ فلم تر أحدًا .فهبطت من الصفا حتى إذا
س ْعيَ النسان المجهود حتى جاوزت الوادي .ثم أتت
بلغت الوادي رفعت طَ ْرفَ درعها ،ثم سعت َ
حدًا ؟ فلم تر أحدًا .ففعلت ذلك سبع مرات ،قال ابن
المروة ،فقامت عليها ونظرت هل ترى أ َ
عباس :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :فلذلك سعى الناس بينهما".
سمّعت فسمعَت أيضًا.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت :صه ،تريد نفسها ،ثم تَ َ
غوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ،فبحث بعقبه -أو
فقالت :قد أسمعت إن كان عندك ُ
ح ّوضُ ُه ،وتقول بيدها هكذا ،وجعلت تغرف من
قال :بجناحه -حتى ظهر الماء ،فجعلت تُ َ
الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف .قال ابن عباس :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :يرحم
ال أم إسماعيل ،لو تركت زمزم -أو قال :لو لم تغرف من الماء -لكانت زمزم عينًا مَعينًا".
قال :فشربت وأرضعت ولدها ،فقال لها الملك :ل تخافي الضيعة ؛ فإن هاهنا بيتًا ل ،عز
وجل ،يبنيه هذا الغلم وأبوه ،وإن ال ،عز وجل ،ل يضيع أهله .وكان البيت مرتفعًا من
الرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ،فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من
جُرْهُم -أو أهل بيت من جُرْهم -مقبلين من طريق َكدَاء .فنزلوا في أسفل مكة ،فرأوا طائرًا
عائفًا ،فقالوا :إن هذا الطائر ليدور على الماء ،ل َعهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء .فأرسلوا جَرِيّا
أو جَرِيّين ،فإذا هم بالماء .فرجعوا فأخبروهم بالماء ،فأقبلوا .قال :وأم إسماعيل عند الماء.
حقّ لكم في الماء .قالوا :نعم.
فقالوا :أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت :نعم ،ولكن ل َ
قال ابن عباس ( )2فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب النس.
فنزلوا ،وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم .حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلمُ ،وتعلم
العربية منهم ،وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب ،فلما أدرك زوجوه امرأة منهم .وماتت أم إسماعيل ،
عليهما ( )3السلم ،فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَ ْركَتَه .فلم يجد إسماعيل ،فسأل
امرأته عنه فقالت :خرج يبتغي لنا .ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ،فقالت :نحن بشَرّ ،نحن في
ضيق وشدة .وشكت إليه .قال :فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلم ،وقولي له :يغير عتبة
بابه .فلما جاء إسماعيل ،عليه السلم ،كأنه أنس شيئًا .فقال :هل جاءكم من أحد ؟ قالت :
نعم ،جاءنا شيخ كذا وكذا ،فسأل ( )4عنك ،فأخبرته ،وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في
جهْد وشدّة .قال :فهل أوصاك بشيء ؟ قالت :نعم ،أمرني أن أقرأ عليك السلم ،ويقول ()5
َ
غَيّرْ عتبة بابك .قال :ذاك أبي .وقد أمرني أن أفارقك ،فالحقي بأهلكَ .فطَّلقَها وتزوج منهم
بأخرى ،فلبث عنهم إبراهيم ما شاء ال ،ثم أتاهم بعد فلم يجده .فدخل على امرأته ،فسألها
عنه ،فقالت :خرج يبتغي لنا .قال :كيف أنتم ؟
__________
( )1في جـ " :إليها".
( )2في ط " :عبد ال بن عباس".
( )3في جـ ،ط " :عليها".
( )4في جـ ،ط " :فسألنا".
( )5في أ " :يقول لك".
( )1/428
وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم .فقالت :نحن بخير وسعة .وأثنت على ال ،عز وجل .فقال :ما
طعامكم ؟ قالت :اللحم .قال :فما شرابكم ؟ قالت :الماء .قال :اللهم بارك لهم في اللحم
والماء" .قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ولم يكن لهم يومئذ حَب ،ولو كان لهم ،لدعا لهم فيه.
قال :فهما ل يخلو عليهما أحد بغير مكة إل لم يوافقاه" .قال " :فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه
السلم ،ومُريه يُثَبّت عتبة بابه ،فلما جاء إسماعيل ،عليه السلم ،قال :هل أتاكم من أحد ؟
قالت :نعم ،أتانا شيخ حسن الهيئة ،وأثنت عليه ( )1فسألني عنك ،فأخبرته ،فسألني :كيف
عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير .قال :فأوصاك بشيء ؟ قالت :نعم ،هو يقرأ عليك السلم ،ويأمرك
أن تثبت عتبة بابك .قال :ذاك أبي ،وأنت العتبة ،أمرني أن أمسكك .ثم لَبثَ عنهم ما شاء ال ،
عز وجل ،ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْل ( )2له تحت دوحة قريبًا من زمزم ،فلما رآه
قام إليه ،فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ،والوالد بالولد .ثم قال :يا إسماعيل ،إن ال أمرني
بأمر .قال :فاصنع ما أمرك ربك ،عز وجل .قال :وتعينني ؟ قال :وأعينك .قال :فإن ال
أمرني أن أبني هاهنا بيتًا -وأشار إلى أ َكمَ ٍة مرتفعة على ما حولها -قال :فعند ذلك َرفَعا
القواعد من البيت فجعل ( )3إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ،حتى إذا ارتفع البناء جاء
بهذا الحجر فوضعه له ،فقام عليه وهو يبني ،وإسماعيل يناوله الحجارة ،وهما يقولن { :رَبّنَا
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } " قال " :فجعل يبنيان حتى يدورا حول البيت ،وهما يقولن { :
َتقَبّلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } (.)4
رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
[ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطول] (.)5
ورواه ابن أبي حاتم ،عن أبي عبد ال محمد بن حمّاد الظهراني .وابن جرير ،عن أحمد بن
ثابت الرازي ،كلهما عن عبد الرزاق به مختصرًا (.)6
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه :حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ،حدثنا بشر بن موسى ،حدثنا
أحمد بن محمد الزرقي ،حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ،عن عبد الملك بن جُرَيج ،عن كثير بن
كثير ،قال :كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ،وعبد ال بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس
مع سعيد بن جبير ،في أعلى المسجد ليل فقال سعيد بن جبير :سلوني قبل أن ل تروني .فسألوه
عن المقام .فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ،فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري :حدثنا عبد ال بن محمد .حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ( )7حدثنا
إبراهيم بن نافع ،عن كثير بن كثير ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :لما كان بين
إبراهيم وبين أهله ما كان ،خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ،ومعهم شَنّة فيها ماء ،فجعلت أم
إسماعيل تشرب من
__________
( )1في جـ " :وأثنت عليه خيرا".
( )2في جـ " :يبني له بيتا".
( )3في جـ " :قال :فجعل".
( )4صحيح البخاري برقم (.)3364
( )5زيادة من و.
( )6تفسير ابن أبي حاتم (.)1/381
( )7في أ " :بن عمير".
( )1/429
الشنّة ،فيَدِرّ لبنها على صبيها ،حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ،ثم رجع إبراهيم إلى أهله ،
فاتبعته أم إسماعيل ،حتى ( )1بلغوا كَدَاء نادته ( )2من ورائه :يا إبراهيم ،إلى من تتركنا ؟
ج َعتْ ،فجعلت تشرب من الشنة ،ويَدر
قال :إلى ال ،عز وجل .قالت :رضيت بال .قال :فر َ
لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء قالت :لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا .قال :فذهَ َبتْ
سعَت ()3
فصَعدت الصفا ،فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا ،فلم تحس أحدًا .فلما بلغت الوادي َ
حتى أتت المروة ،ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت :لو ذهبت فنظرت ما فعل ،تعني الصبي ،
فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه يَ ْنشَ ُغ للموت ،فلم تقُرّها نفسها ،فقالت :لو ذهبت فنظرت
لعلي أحس أحدًا .قال :فذهبت فصعدت الصفا ،فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا ،حتى أتمت
سبعا ،ثم قالت :لو ذهبت فنظرت ما فعل ،فإذا هي بصوت ،فقالت :أغثْ إن كان عندك خير.
عقِبَه على الرض .قال :فانبثق الماء
فإذا جبريل ،عليه السلم ،قال :فقال بعقبه هكذا ،وغمز َ
شتْ أم إسماعيل ،فجعلت تحفر.
،فَدَ َه َ
قال :فقال أبو القاسم صلى ال عليه وسلم " :لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا (.)4
قال :فجعلت تشرب من الماء ويَدِرّ لبنها على صَبِيّها.
قال :فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي ،فإذا هم بطير ،كأنهم أنكروا ذلك ،وقالوا :ما يكون
الطير إل على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ ،فإذا هو بالماء .فأتاهم فأخبرهم .فأتوا إليها فقالوا :يا
أم إسماعيل ،أتأذنين لنا أن نكون معك -ونسكن معك ؟ -فبلغ ابنها ونكح فيهم ( )5امرأة.
قال :ثم إنه بدا لبراهيم صلى ال عليه وسلم ( )6فقال لهله :إني مُطّلع تَ ْركَتي .قال :فجاء
فسلم ،فقال :أين إسماعيل ؟ قالت امرأته :ذهب يصيد .قال :قولي له إذا جاء :غير عتبة
بيتك .فلما جاء أخبرته ،قال :أنت ذَاكِ ،فاذهبي إلى أهلك.
قال :ثم إنه بدا لبراهيم ،فقال لهله :إني مُطّلع تَرْكتي .قال :فجاء فقال :أين إسماعيل ؟
طعَم وتشرب ؟ فقال :ما طعامكم وما شرابكم ؟
فقالت امرأته :ذهب يصيد .فقالت :أل تنزل فَ َت ْ
قالت :طعامنا اللحم ،وشرابنا الماء .قال :اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم.
قال :فقال أبو القاسم صلى ال عليه وسلم " :بَرَكة بدعوة إبراهيم"
قال :ثم إنه بدا لبراهيم صلى ال عليه وسلم فقال لهله :إني ُمطّلع تَرْكتي .فجاء فوافق
إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْل له ( )7فقال :يا إسماعيل ،إن ربك ،عز وجل ،أمرني أن
أبني له بيتًا .فقال :أطعْ ربك ،عز وجل .قال :إنه قد أمرني أن تعينني عليه ؟ فقال :إذن أفعلَ
-أو كما قال -قال :فقاما ([ )8قال] ( )9فجعل إبراهيم يبني ،وإسماعيل يناوله الحجارة ،
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }
ويقولن { :رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
__________
( )1في جـ ،ط " :حتى لما".
( )2في جـ " :سألته".
( )3في جـ " :وسعت".
( )4في جـ " :ظاهر".
( )5في جـ " :منهم".
( )6في جـ ،أ " :عليه السلم".
( )7في جـ " :يصلح بيتا له".
( )8في جـ ،ط " :فقام".
( )9زيادة من جـ ،ط.
( )1/430
حجَر المقام ،فجعل يناوله
ض ُعفَ الشيخ عن نقل الحجارة .فقام على َ
قال :حتى ارتفع البناء و َ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }
الحجارة ويقولن { :رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
هكذا ( )1رواه من هذين الوجهين في كتاب النبياء (.)2
والعجب أن الحافظ أبا عبد ال الحاكم رواه في كتابه المستدرك ،عن أبي العباس الصم ،عن
محمد بن سنان القَزّاز ،عن أبي علي عبيد ال بن عبد المجيد الحنفي ،عن إبراهيم بن نافع ،به.
وقال :صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه .كذا قال .وقد رواه البخاري كما ترى ،من
حديث إبراهيم بن نافع ،كأن فيه اقتصارًا ،فإنه لم يذكر فيه [شأن] ( )3الذبح .وقد جاء في
الصحيح ،أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ،وقد جاء أن إبراهيم ،عليه السلم ،كان يزور
أهله بمكة على البراق سريعًا ( )4ثم يعود إلى أهله بالبلد ( )5المقدسة ،وال أعلم .والحديث -
وال أعلم -إنما فيه -مرفوع -أماكن صَرح بها ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ،كما قال ابن
جرير :
حدثنا محمد بن بشار ،ومحمد بن المثنى قال حدثنا مؤمل ،حدثنا سفيان ،عن أبي إسحاق ،عن
حارثة بن مضرّب ،عن علي بن أبي طالب ،قال :لما أمر إبراهيم ببناء البيت ،خرج معه
إسماعيل وهاجر .قال :فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ،فيه مثلُ
الرأس .فكلمه ،قال :يا إبراهيم ،ابن على ظِلي -أو قال على قدري -ول تَزْد ول تنقص :
فلما بنى خرج ،وخلف إسماعيل وهاجر ،فقالت هاجر :يا إبراهيم ،إلى من تكلنا ؟ قال :إلى
ال .قالت :انطلق ،فإنه ل يضيعنا .قال :فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا ،قال :فصعدت هاجر
إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ،حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ،ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم
تر شيئًا ،حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ،ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ،حتى فعلت
ذلك سبع مرات ،فقالت :يا إسماعيل ،مت حيث ل أراك .فأتته وهو يفحص برجله من العطش.
فناداها جبريل فقال لها :من أنت ؟ قالت :أنا هاجر أم ولد إبراهيم .قال :فإلى من َوكََلكُما ؟
قالت :وكلنا إلى ال .قال :وكلكما إلى كافٍ .قال :ففحص الغلم الرض بأصبعه ،فنبعت
زمزم .فجعلت تحبس الماء فقال :دعيه فإنها َروَاء (.)6
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ،وقد يحتمل -إن كان محفوظًا -أن يكون أول
__________
( )1في ط " :هكذا".
( )2صحيح البخاري برقم (.)3365
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )4في جـ " :بمكة سريعا على البراق".
( )5في جـ " :ثم يعود لهله إلى البلد".
( )6تفسير الطبري (.)3/69
( )1/431
وضع له حوطًا وتحجيرًا ،ل أنه بناه إلى أعله ،حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا ،كما قال ال
تعالى.
ثم قال ابن جرير :أخبرنا هَنّاد بن السري ،حدثنا أبو الحوص ،عن سِماك ،عن خالد بن
عرعرة ،أن رجل قام إلى علي ،رضي ال عنه ،فقال :أل تخبرني عن البيت ،أهو أول بيت
وضع في الرض ؟ فقال :ل ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة ( ، )1مقام إبراهيم ،ومن دخله
كان آمنًا ،وإن شئت أنبأتك كيف بني :إن ال أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الرض ،
قال :فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل ال السكينة -وهي ريح خجوج ،ولها رأسان -فأتْبَع
أحدهما صاحبه ،حتى انتهت إلى مكة ،فتطوت ( )2على موضع البيت كطي الحجفَة ،وأمر
إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة .فبنى إبراهيم وبقي حجر ،فذهب الغلم يبغي شيئًا .فقال
إبراهيم :أبغني حجرًا كما آمرك .قال :فانطلق الغلم يلتمس له حجرًا ،فأتاه به ،فوجده قد
ركب الحجر السود في مكانه .فقال :يا أبه ،من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال :أتاني به من لن يَتّكل
( )3على بنائك ،جاء به جبريل ،عليه السلم ،من السماء .فأتماه (.)4
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا حمد بن عبد ال بن يزيد المقري ،حدثنا سفيان ،عن بشر بن
عاصم ،عن سعيد بن المسيب ،عن كعب الحبار ،قال :كان البيت غثاءة على الماء قبل أن
يخلق ال الرض بأربعين عامًا ،ومنه دحيت الرض.
قال سعيد :وحدثنا علي بن أبي طالب :أن إبراهيم أقبل من أرمينية ،ومعه السكينة تدله على
تَ ُبوّء ( )5البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا ،قال :فكشفت عن أحجار ل يُطيق ( )6الحجر إل
ثلثون رجل .قلت )7( :يا أبا محمد ،فإن ال يقول { :وَِإذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ }
قال :كان ذلك بعد.
وقال السدي :إن ال ،عز وجل ،أمر إبراهيم أن يبني [البيت] ( )8هو وإسماعيل :ابنيا بيتي
للطائفين والعاكفين والركع السجود ،فانطلق إبراهيم ،عليه السلم ،حتى أتى مكة ،فقام هو
وإسماعيل ،وأخَذَا المعاول ل يدريان أين البيت ؟ فبعث ال ريحًا ،يقال لها :ريح الخجوج ،لها
جناحان ورأس في صورة حية ،فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الول ،واتبعاها
بالمعاول يحفران حتى وضعا الساس .فذلك حين يقول [ال] ( )9تعالى { :وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ
ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ } { وَإِذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ } [ الحج ] 26 :فلما بنيا القواعد فبلغا مكان
الركن .قال إبراهيم لسماعيل :يا بني ،اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا .قال :يا أبت ،إني
كسلن لَغب.
__________
( )1في جـ ،ط ،أ ،و " :في البركة".
( )2في أ " :فنظرت".
( )3في جـ " :من ل يتكل".
( )4تفسير الطبري (.)3/70
( )5في أ " :حتى بنوا".
( )6في ط " :ول يطيق".
( )7في جـ ،ط " :فقلت".
( )8زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )9زيادة من جـ.
( )1/432
قال :عََليّ بذلك فانطلق فطلب ( )1له حجرًا ،فجاءه بحجر فلم يرضه ،فقال ائتني بحجر أحسن
من هذا ،فانطلق يطلب له حجرًا ،وجاءه جبريل بالحجر السود من الهند ،وكان أبيض ،ياقوتة
بيضاء مثل ال ّثغَامة ،وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ،فجاءه إسماعيل بحجر
فوجده عند الركن ،فقال :يا أبه ،من جاءك بهذا ؟ قال :جاء به من هو أنشط منك .فبنيا وهما
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ
يدعوان الكلمات التي ابتلى [بهن] ( )2إبراهيم ربه ،فقال { :رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
}
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم .وإنما ُهدِي إبراهيمُ إليها
و ُبوّئ لها .وقد ذهب إلى ذلك ( )3ذاهبون ،كما قال المام عبد الرزاق ( )4أخبرنا معمر ،عن
أيوب ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس { :وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ } قال )5( :
القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك (.)6
وقال عبد الرزاق أيضًا :أخبرنا هشام بن حسان ،عن سوار -ختن عطاء -عن عطاء ابن أبي
رباح ،قال :لما أهبط ال آدم من الجنة ،كانت رجله في الرض ورأسُه في السماء يسمع كلم
أهل السماء ودعاءهم ،يأنس إليهم ،فهابته ( )7الملئكة ،حتى شكت إلى ال في دعائها وفي
صلتها .فخفضه ال إلى الرض ،فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى ال
في دعائه وفي صلته .فوجه إلى مكة ،فكان موضع قَدَمه قريةً ،وخَطوُه مفازة ،حتى انتهى
إلى مكة ،وأنزل ال ياقوتة من ياقوت الجنة ،فكانت على موضع البيت الن .فلم يزل يطوف به
حتى أنزل ال الطوفان ،فرفعت تلك الياقوتة ،حتى بعث ال إبراهيم ،عليه السلم ،فبناه .وذلك
قول ال تعالى { :وَإِذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ } [ الحج .)8( ] 26 :
وقال عبد الرزاق :أخبرنا ابن جريج ،عن عطاء ،قال :قال آدم :إني ل أسمع أصوات
الملئكة ؟! قال :بخطيئتك ،ولكن اهبط إلى الرض ،فابن لي بيتًا ثم احفف به ،كما رأيت
الملئكة تحف ببيتي الذي في السماء .فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل :من حراء .وطور
زيتا ،وطور سَيْناء ،وجبل لبنان ،والجودي .وكان رَ َبضُه من حراء .فكان هذا بناء آدم ،حتى
بناه إبراهيم ،عليه السلم ،بعد (.)9
وهذا صحيح إلى عطاء ،ولكن في بعضه نكارَة ،وال أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضًا :أخبرنا معمر ،عن قتادة ،قال :وضع ال البيت مع آدم حين أهبط ال
آدم إلى الرض ،وكان مهبطه بأرض الهند .وكان رأسه في السماء ورجله في الرض ،فكانت
__________
( )1في جـ ،ط " :يطلب".
( )2زيادة من جـ.
( )3في جـ " :إلى هذا".
( )4في ط " :عبد الرزاق أيضا وأحمد".
( )5في ط " :قالوا".
( )6تفسير عبد الرزاق (.)1/78
( )7في جـ " :فهابت".
( )8رواه الطبري في تفسيره ( )3/59من طريق عبد الرزاق به.
( )9رواه الطبري في تفسيره ( )3/57من طريق عبد الرزاق به.
( )1/433
الملئكة تهابه ،فنُقص إلى ستين ذراعًا ؛ فحزن ( )1إذ فقد أصوات الملئكة وتسبيحهم .فشكا
ذلك إلى ال ،عز وجل ،فقال ال :يا آدم ،إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما ُيطَاف حول
عرشي ،وتصلّي عنده كما يصلى عند عرشي ،فانطلق إليه آدم ،فخرج ومُدّ له في خطوه ،
فكان بين كل خطوتين مفازة .فلم تزل تلك المفازة ( )2بعد ذلك .فأتى آدم البيت فطاف به ،ومَن
بعده من النبياء (.)3
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ( )4حدثنا يعقوب ال ُقمّي ،عن حفص بن حميد ،عن عكرمة ،
عن ابن عباس ،قال :وضع ال البيت على أركان الماء ،على أربعة أركان ،قبل أن ُتخْلَق
الدنيا بألفي عام ،ثم دحِيت الرض من تحت البيت.
وقال محمد بن إسحاق :حدثني [عبد ال] ( )5بن أبي نَجِيح ،عن مجاهد وغيره من أهل العلم :
أن ال لما َبوّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ،وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر ،
وإسماعيل طفل صغير يرضع ،وحمُلوا -فيما حدثني -على البُرَاق ،ومعه جبريل َيدُلّه على
موضع البيت ومعالم الحَرم .وخرج معه جبريل ،فكان ل يمر بقرية إل قال :أبهذه أمرت يا
سمُر ،وبها أناس
سلَم وَ َ
جبريل ؟ فيقول جبريل :امضِه .حتى قدم به مكة ،وهي إذ ذاك عضَاة َ
يقال لهم " :العماليق" خارج مكة وما حولها .والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة ،فقال إبراهيم
لجبريل :أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال :نعم .فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ،
سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ
وأمر هاجَرَ أمّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا ،فقال { :رَبّنَا ( )6إِنّي أَ ْ
شكُرُونَ } [ إبراهيم .] 37 :
ذِي زَ ْرعٍ عِنْدَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ } إلى قوله َ { :لعَّلهُمْ َي ْ
حمَيد ،عن مجاهد ،قال :خلق ال موضعَ
حسّان ،أخبرني ُ
وقال عبد الرزاق :أخبرنا هشام بن َ
هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة ،وأركانه في الرض السابعة (.)7
وكذا قال ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد :القواعد في الرض السابعة.
عمْرو بن رافع ،أخبرنا ( )8عبد الوهاب بن معاوية ،
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا َ
عن عبد المؤمن بن خالد ،عن علياء بن أحمر :أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل
يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل .فقال :ما لكما ولرضي ؟ فقال ( )9نحن عبدان مأموران ،
أمرنا ببناء هذه الكعبة .قال :فهاتا بالبينة على ما تدعيان .فقامت خمسة أكبش ،فقلن :نحن
نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ،أمرا ببناء هذه الكعبة .فقال :قد رضيت وسلمت.
ثم مضى.
__________
( )1في جـ ،ط ،أ " :فحزن آدم".
( )2في جـ ،ط " :المفاوز".
( )3رواه الطبري في تفسيره ( )3/59من طريق عبد الرزاق به.
( )4في جـ ،ط " :حدثنا أبو حميد".
( )5زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )6في جـ ،ط ،أ ،و " :رب" وهو خطأ.
( )7رواه الطبري في تفسيره ( )3/62من طريق عبد الرزاق به.
( )8في جـ ،ط " :حدثنا".
( )9في جـ ،ط ،أ ،و " :فقال".
( )1/434
و َذكَرَ الزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ،عليه السلم ،بالبيت ،وهذا يدل
على تقدم زمانه ( ، )1وال أعلم.
سمَاعِيلُ } الية
ت وَإِ ْ
وقال البخاري ،رحمه ال :قوله تعالى { :وَِإذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ
:القواعد :أساسه واحدها قاعدة .والقواعد من النساء :واحدتها قاعدُ.
حدثنا إسماعيل ،حدثني مالك ،عن ابن شهاب ،عن سالم بن عبد ال :أن عبد ال بن محمد بن
عمَر ،عن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم :أن رسول ال
أبي بكر أخبر عبد ال بن ُ
صلى ال عليه وسلم قال " :ألم تَ َريْ أن قومك حين بنوا البيت ( )2اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟"
فقلت :يا رسول ال ،أل تَ ُردّها على قواعد إبراهيم ؟ قال " :لول حِدْثان قومك بالكفر" .فقال عبد
ال بن عمر :لئن كانت عائشة سَمعت هذا ( )3من رسول ال صلى ال عليه وسلم ما أرى
حجْر إل أن البيت لم يُ َتمّم على
رسُولَ ال صلى ال عليه وسلم ترك استلم الرّكنين اللذَين َيلِيان ال ِ
قواعد إبراهيم ،عليه السلم (.)4
وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي ،وفي أحاديث النبياء عن عبد ال بن يوسف .ومسلم عن يحيى
بن يحيى ،ومن حديث ابن وهب .والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ،كلهم عن مالك به
(.)5
ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع ،قال :سمعت عبد ال بن أبي بكر بن أبي قُحَافة يحدث عبدَ
عمَر ،عن عائشة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :لول أن قومك حديثو عهد
ال بن ُ
بجاهلية -أو قال :بكفر -لنفقت كنز الكعبة في سبيل ال ،ولجعلت بابها بالرض ،ولدخلت
فيها الحجر" (.)6
وقال البخاري :حدثنا عُبَيد ال بن موسى ،عن إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن السود ،قال :
قال لي ابنُ الزبير :كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا ،فما حدثتك في الكعبة ؟ قال قلت :قالت
لي :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :يا عائشة ،لول قومك حديث عهدهم -فقال ابن الزبير :
بكفر -لنقضت الكعبة ،فجعلت لها بابين :بابًا يدخل منه الناس ،وبابًا يخرجون" .ففعله ابن
الزبير.
انفرد بإخراجه البخاري ،فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه (.)7
وقال مسلم في صحيحه :حدثنا يحيى بن يحيى ،أخبرنا أبو معاوية ،عن هشام بن عروة ،عن
أبيه ،عن عائشة قالت :قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لول حَدَاثة عهد قومك بالكفر
لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ،فإن قريشا حين بنت البيت ( )8استقصرت ،
ولجعلت لها خَ ْلفًا".
__________
( )1تاريخ مكة (ص .)74
( )2في جـ ،ط ،أ " :بنوا الكعبة".
( )3في جـ " :سمعت ذلك".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4484
( )5صحيح البخاري برقم ( )3368 ، 1585وصحيح مسلم برقم ( )1333وسنن النسائي (
.)5/214
( )6صحيح مسلم برقم (.)1333
( )7صحيح البخاري برقم (.)126
( )8في جـ " :بنت الكعبة".
( )1/435
قال :وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب ،قال حدثنا ابن ُنمَير ،عن هشام بهذا السناد.
انفرد به مسلم ( ، )1قال :وحدثني محمد بن حاتم ،حدثني ابن مهدي ،حدثنا سليم بن حَيّان ،
عن سعيد -يعني ابن ميناء -قال :سمعت عبد ال بن الزبير يقول :حدثتني خالتي -يعني
عائشة رضي ال عنها -قالت :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :يا عائشة ،لول قومك حديث
عهْد ( )2بشرك ،لهدمت الكعبة ،فألزقتها بالرض ،ولجعلت لها بابين :بابًا شرقيّا ،وبابًا
َ
غربيّا ،وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر ؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضًا
( .)3ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ،عليه السلم ،بمدد ( )4طويلة
وقبل مبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة ،وله من العمر خمس وثلثون سنة
صلوات ال وسلمه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار ،في السيرة :
ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم خمسًا وثلثين سنة ،اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ،
وكانوا َي ُهمّون بذلك ( )5ليسقفوها ،ويهابون هَدْمها ،وإنما كانت رَضما فوق القامة ،فأرادوا
جوْف الكعبة ،
رفعها وتسقيفها ،وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة ،وإنما كان يكون في بئر في َ
وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك ،مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة ،فقطعت قريش يده.
جدّة ،لرجل
ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك .وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى ُ
من تجار الروم ،فتحطمت ،فأخذوا خشبها فأعدّوه لتسقيفها .وكان بمكة رجل قبطي نجار ،فهيأ
لهم ،في أنفسهم بعض ما يصلحها ،وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ ،فيها ما
ُيهْدَى 0لها كل يوم ،فَتَتشرق ( )6على جدار الكعبة ،وكانت مما يهابون .وذلك أنه كان ل يدنو
منها أحد إل احزَألّت وكشت وفتحت فاها ،فكانوا يهابونها ،فبينا هي يوما تَتَشرّق على جدار
الكعبة ،كما كانت تصنع ،بعث ال إليها طائرًا فاختطفها ،فذهب بها .فقالت قريش :إنا لنرجو
أن يكون ال قد رَضي ما أردنا ،عندنا عامل رفيق ،وعندنا خشب ،وقد كفانا ال الحية.
عمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ،قام أبو وهب بن َ
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)1333
( )2في جـ " :حديث عهدهم".
( )3صحيح مسلم برقم (.)1333
( )4في جـ " :بمدة".
( )5في جـ " :لذلك".
( )6في جـ ،ط " :فتشرف".
( )1/436
مخزوم ،فتناول من الكعبة حجرًا ،فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه .فقال :يا معشر قريش
،ل تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إل طيبًا ،ل يدخل فيها مهر َبغِي ول بيع ربا ،ول مظلمة أحد
من الناس.
عمَر ( )1بن مَخزُوم
قال ابن إسحاق :والناس ينحلون هذا الكلم الوليد بن المغيرة بن عبد ال بن ُ
(.)2
قال :ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة ،فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ،وكان ما بين الركن
السود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ،وكان ظهر الكعبة لبني
جمَح وسهم ،وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي ،ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي ،
ُ
ولبني عدي بن كعب بن لؤي ،وهو الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا َهدْمها وفَرقُوا ( )3منه ،فقال الوليد بن المغيرة :أنا أبدؤكم في هَدْمها :فأخذ
المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول :اللهم لم تَرعْ ،اللهم إنا ل نريد إل الخير .ثم هدم من ناحية
الركنين ،فتربص الناس تلك الليلة ،وقالوا :ننظر ،فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ،ورددناها
كما كانت ،وإن لم يصبه شيء فقد رضي ال ما صنعنا .فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على
عمَله ،فهدم وهدم الناس معه ،حتى إذا انتهى الهدم [بهم] ( )4إلى الساس ،أساس إبراهيم ،
َ
عليه السلم ،أفضوا إلى حجارة خضر كالسنة آخذ بعضها بعضًا (.)5
قال [محمد بن إسحاق] ( )6فحدثني بعض من يروي الحديث :أن رجل من قريش ،ممن كان
يهدمها ،أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ،فلما تحرك الحجر تنقضت مكة
بأسرها ،فانتهوا عن ذلك الساس (.)7
جمَعت الحجارة لبنائها ،كل قبيلة تجمع على حدة ،ثم
قال ابن إسحاق :ثم إن القبائل من قريش َ
بنوها ،حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني الحجر السود -فاختصموا فيه ،كل قبيلة تريد
أن ترفعه إلى موضعه دون الخرى ،حتى تحاوروا وتخالفوا ،وأعدوا للقتال .فقربت بنو عبد
الدار جفنة مملوءة دما ،ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ،وأدخلوا أيديهم
في ذلك الدم في تلك الجفنة ،فسموا :ل َعقَة الدم .فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا .ثم
إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
عمَر بن مخزوم -وكان عامئذ
فزعم بعض أهل الرواية :أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد ال بن ُ
أسن
__________
( )1في أ " :الوليد بن المغيرة بن عمر بن عبد ال".
( )2السيرة النبوية لبن إسحاق (نص رقم )103ط ،حميد ال ،المغرب.
( )3في جـ " :وخافوا".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5السيرة النبوية لبن إسحاق (نص رقم )105ط ،حميد ال ،المغرب.
( )6زيادة من جـ ،ط.
( )7السيرة النبوية لبن إسحاق (نص رقم )106ط ،حميد ال ،المغرب.
( )1/437
قريش كلهم -قال ( : )1يا معشر قريش ،اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب
هذا المسجد ،يقضي بينكم ،فيه .ففعلوا ،فكان أول داخل رسول ال صلى ال عليه وسلم .فلما
رأوه قالوا :هذا المين رضينا ،هذا محمد ،فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ،قال [رسول ال] (
)2صلى ال عليه وسلم " :هَُل ّم إليّ ثوبًا" فأتي به ،فأخذ الركن -يعني الحجر السود -فوضعه
فيه بيده ،ثم قال " :لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب" ،ثم [قال] (" : )3ارفعوه جميعا" .ففعلوا ،
حتى إذا بلغوا به موضعه ،وضعه هو بيده صلى ال عليه وسلم ،ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي :المين .فلما
فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ،قال الزبير بن عبد المطلب ،فيما كان من أمر الحية
التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
عجبت َلمَا تصوبت ( )4ال ُعقَاب ...إلى الثعبان وهي لها اضطراب...
وقد كانت يكون لها كشيش ...وأحيانًا يكون لها وثَاب...
شدّتُ ...تهَيّبُنُا البناءَ وقد ُتهَابُ...
إذا قمنا إلى التأسيس َ
خشِينا الزّجْرَ جاءت ...عقاب تَتْلَ ِئبّ لها انصباب...
فلما أن َ
خلّت ...لنا البنيانَ ليس له حجاب...
فضمتها إليها ثم َ
َفقُمْنَا حاشدين إلى بناء ...لنا منه القواعدُ والتراب...
سوّينا ثياب...
غداة نُ َرفّع التأسيس منه ...وليس على ُم َ
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي ...فليسَ لصله م ْنهُم ذَهاب...
حشَ َدتْ هُنَاك بنو عَديّ ...ومُرّة قد َتقَ ّدمَها كلب...
وقد َ
فَ َبوّأنا المليك بذاكَ عزّا ...وعند ال ُيلْ َتمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق :وكانت الكعبة على عهد النبي صلى ال عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا ،وكانت
تكسى القباطي ،ثم كُسِيت بعدُ البُرود ،وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
قلت :ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت ( )5في أول إمارة عبد ال بن الزبير بعد سنة
ستين .وفي آخر ولية يزيد بن معاوية ،لما حاصروا ابن الزبير ،فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى
الرض وبناها على قواعد إبراهيم ،عليه السلم ،وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيّا وبابًا
غربيّا ملصقين
__________
( )1في جـ ،ط " :فقال".
( )2زيادة من جـ.
( )3زيادة من ط.
( )4في ط " :صوبت".
( )5في أ ،و " :احترقت".
( )1/438
بالرض ،كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ،رضي ال عنها ،عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم .ولم تزل كذلك ُمدّة إمارته حتى قتله الحجاج ،فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد
الملك بن مَرْوان له بذلك ،كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا هَنّاد بن السّري ،حدثنا ابن أبي زائدة ،أخبرنا ابن أبي سليمان ،عن عطاء ،قال :لما
احترق البيت َزمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ،وكان من أمره ما كان ،تركه ابن
الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن ُيجَرّئَهم -أو يُحزبهم -على أهل الشام ،فلما صدر الناس
قال :يا أيها الناس ،أشيروا عليّ في الكعبة ،أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها ؟
قال ابن عباس :فإني ( )1قد فَرِقَ لي رأي فيها ،أرى أن ُتصْلِحَ ما وَهى منها ،وتدع بيتًا أسلم
الناس عليه ( )2وأحجارًا أسلم الناس عليها ،وبعث عليها النبي صلى ال عليه وسلم .فقال ابن
الزبير :لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ،فكيف بيت ربكم ،عز وجل ؛ إني
مستخير ربي ثلثًا ثم عازم على أمري .فلما مضَت ثلث أجمع رأيه على أن ينقضها .فتحاماها
الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء ،حتى صعده رجل ،فألقى منه حجارة ،
فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا ،فنقضوه حتى بلغوا به الرض .فجعل ابن الزبير أعمدة
يستر ( )3عليها الستور ،حتى ارتفع بناؤه .وقال ابن الزبير :إني سمعت عائشة ،رضي ال
عنها ،تقول :إن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :لول أن الناس حديث عهدُهم بكفر ،وليس
عندي من النفقة ما ُيقَوّيني على بنائه ،لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ،ولجعلت له بابًا
يدخل الناس منه ،وبابًا يخرجون منه ( .)4قال :فأنا أجد ما أنفق ،ولست أخاف الناس .قال :
فزاد فيه خمسة ( )5أذرع من الحجر ،حتى أبدى له أسا (َ )6نظَر الناس إليه فبنى عليه البناء.
وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ،فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة ( )7أذرع ،
وجعل له بابين :أحدهما يدخل منه ،والخر يخرج منه .فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجّاج إلى
عبد الملك يخبره بذلك ،ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل
مكة ،فكتب إليه عبد الملك :إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ،أما ما زاده في طوله
فأقره .وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ،وسد الباب الذي فتحه .فنقضه وأعاده إلى بنائه
(.)8
وقد رواه النسائي في سننه ،عن هناد ،عن يحيى بن أبي زائدة ،عن عبد الملك بن أبي
سليمان ،عن عطاء ،عن ابن الزبير ،عن عائشة بالمرفوع منه ( .)9ولم يذكر القصة ،وقد
كانَت السنة إقرار ما فعله عبد ال بن الزبير ،رضي ال عنه ؛ لنه هو الذي وَدّه رسول ال
صلى ال عليه وسلم .ولكن خشي أن تنكره
__________
( )1في جـ " :فإنه".
( )2في جـ ،ط " :عليها".
( )3في جـ ،ط " :فستر".
( )4في جـ " :وبابا يخرج الناس منه".
( )5في جـ ،ط " :خمس".
( )6في جـ " :أساسا" وفي أ " :أشيا" وفي و " :أشا".
( )7في جـ " :عشر".
( )8صحيح مسلم برقم (.)1333
( )9سنن النسائي (.)5/218
( )1/439
قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالسلم وقربِ عهدهم من الكفر .ولكن خفيت هذه السّنةُ على
عبد الملك ؛ ولهذا ( )1لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،قال :وددنا أنا تركناه وما تولى .كما قال مسلم :
حدثني محمد بن حاتم ( )2حدثنا محمد بن بكر ( )3أخبرنا ابن جُرَيج ،سمعت عبد ال بن عُبَيد
بن عمير والوليد بن عطاء ،يحدثان عن الحارث بن عبد ال بن أبي ربيعة ،قال عبد ال بن
عبيد َ :وفَدَ الحارث بن عبد ال على عبد الملك بن مروان في خلفته ،فقال عبد الملك :ما أظن
أبا خُبَيبٍ -يعني ابن الزبير -سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها .قال الحارث :
بلى ،أنا سمعته منها .قال :سمعتها تقول ماذا ؟ قال :قالت :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :إن قومك استقصروا من بنيان البيت ،ولول حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ،
فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه َفهَُلمّي لريك ما تركوا منه" .فأراها قريبًا من سبعة ( )4أذرع (
.)5
هذا حديث عبد ال بن عُبيد [بن عمير] ( .)6وزاد عليه الوليد بن عطاء :قال النبي صلى ال
عليه وسلم " :ولجعلت لها بابين موضوعين في الرض شرقيّا وغربيّا ،وهل تدرين لم كان قومك
رفعوا بابها ؟" قالت :قلت :ل .قال َ " :تعَزّزًا أل يدخلها إل من أرادوا .فكان الرجل إذا هو أراد
أن يدخلها ،يَدَعونه حتى ( )7يرتقي ،حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك :فقلت
ت أني
للحارث :أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال :نعم .قال :فَ َن َكتَ ساعة بعصاه ،ثم قال :وَدِ ْد ُ
حمّل.
تركت وما َت َ
حمَيْد ،
قال مسلم :وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ،حدثنا أبو عاصم(ح) وحدثنا عَبْدُ بن ُ
أخبرنا عبد الرزاق ،كلهما عن ابن جُرَيج بهذا السناد ،مثلَ حديث ابن ( )8بكر (.)9
قال :وحدثني محمد بن حاتم ،حدثنا عبد ال بن بكر السهمي ،حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة ،عن
أبي قَزَعَة أنّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال :قاتل ال ابن الزبير حيث
يكذب على أمّ المؤمنين ،يقول :سمعتها تقول :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا
ن قومك
عائشة ،لول حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها ( )10من الحجر ،فإ ّ
قصروا في البناء" .فقال الحارث بن عبد ال بن أبي ربيعة :ل تقل هذا يا أمير المؤمنين ،فأنا
سمعت أم المؤمنين تحدث هذا .قال :لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير
(.)11
__________
( )1في أ " :ولكن".
( )2في جـ " :محمد بن بكر حاتم".
( )3في أ " :بن بكير".
( )4في جـ ،ط ،أ ،و " :سبع".
( )5صحيح مسلم برقم (.)1333
( )6زيادة من و.
( )7في أ ،و " :حين".
( )8في أ " :مثل حديث أبي".
( )9صحيح مسلم برقم (.)1333
( )10في جـ ،ط ،أ ،و " :فيه".
( )11صحيح مسلم برقم (.)1333
( )1/440
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ،لنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة متعددة
عن السود بن يزيد ،والحارث بن عبد ال بن أبي ربيعة ،وعبد ال بن الزبير ،وعبد ال بن
محمد بن أبي بكر الصديق ،وعروة بن الزبير .فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير .فلو
ترك لكان جيدًا.
ولكن بعد ما رجع المر إلى هذا الحال ،فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله ،كما ذكر عن
أمير المؤمنين هارون الرشيد -أو أبيه المهدي -أنه سأل المام مالكًا عن هدم الكعبة وردّها إلى
ما فعله ابن الزبير .فقال له مالك :يا أمير المؤمنين ،ل تجعل كعبة ال مَ ْلعَبَة للملوك ،ل يشاء
أحد ( )1أن يهدمها إل هدمها .فترك ذلك الرشيد.
نقله عياض والنواوي ،ول تزال -وال أعلم -هكذا إلى آخر الزمان ،إلى أن يخرّبَها ذو
السويقتين من الحبشة ،كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى
سوَيقتين من الحبشة" .أخرجاه (.)2
ال عليه وسلم " :يخرب الكعبة ذو ال ّ
وعن عبد ال بن عباس ،رضي ال عنهما ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :كأني به
ج ،يقلعها حجرًا حجرًا" .رواه البخاري (.)3
أسودَ أفحَ َ
وقال المام أحمد بن حنبل في مسنده :حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرّاني ،حدثنا محمد بن
سلمة ،عن ابن إسحاق ،عن بن أبي نجيح ،عن مجاهد ،عن عبد ال بن عمرو بن العاص ،
رضي ال عنهما ( )4قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ُ " :يخَرّب الكعبة ذو
السويقتين من الحبشة ،ويسلبها حلْيتها ( )5ويجردها من كسوتها .ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ
يضرب عليها ِب ِمسْحَاته ومِعْوله" (.)6
الفَدَع :زيغ بين القدم وعظم الساق.
وهذا -وال أعلم -إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ،لما جاء في صحيح ( )7البخاري
عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل ُيحَجّنّ
البيتُ ول ُيعْ َتمَرَنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" (.)8
ك َومِنْ
جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ،عليهما السلم { :رَبّنَا وَا ْ
سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }
ك وَأَرِنَا مَنَا ِ
ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ
__________
( )1في أ ،و " :ل يشاء ال".
( )2صحيح البخاري برقم ( )1596وصحيح مسلم برقم (.)2909
( )3صحيح البخاري برقم (.)1595
( )4في جـ " :عنه".
( )5في جـ " :ويسلبها قال حليتها".
( )6المسند (.)2/220
( )7في جـ " :في حديث".
( )8صحيح البخاري برقم (.)1593
( )1/441
قال ابن جرير :يعنيان بذلك ،واجعلنا مستسلمين ( )1لمرك ،خاضعين لطاعتك ،ل نشرك
معك في الطاعة أحدًا سواك ،ول في العبادة غيرك.
حصْني القرشي ،حدثنا
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان ال ِ
جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َلكَ } قال :مخلصين لك َ { ،ومِنْ ذُرّيّتِنَا
معقل بن عبيد ال ،عن عبد الكريم { :وَا ْ
ُأمّةً مُسِْل َمةً َلكَ } قال :مخلصة.
وقال أيضا :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا المقدمي ،حدثنا سعيد بن عامر ،عن سلم بن أبي
جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ } قال :كانا مسلمين ،ولكنهما سأله الثبات.
مطيع في هذه الية { وَا ْ
جعَلْنَا ُمسِْلمَيْنِ َلكَ } قال ال :قد فعلتَ { .ومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َلكَ }
وقال عكرمة { :رَبّنَا وَا ْ
قال ال :قد فعلت.
وقال السدي َ { :ومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً ُمسِْلمَةً َلكَ } يعنيان العرب.
قال ابن جرير :والصواب أنه يعمّ العرب وغيرهم ؛ لن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ،وقد
ق وَبِهِ َيعْ ِدلُونَ } [ العراف ] 159 :
حّقال ال تعالى َ { :ومِنْ َقوْمِ مُوسَى ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ
قلت :وهذا الذي قاله ابن جرير ل ينفيه السدي ؛ فإن تخصيصهم بذلك ل ينفي من عداهم ،
والسياق إنما هو في العرب ؛ ولهذا قال بعده { :رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ َرسُول مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَا ِتكَ
ح ْكمَ َة وَيُ َزكّيهِمْ } الية ،والمراد بذلك محمّد صلى ال عليه وسلم ،وقد بعث
وَ ُيعَّلمُهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ
فيهم كما قال تعالى ُ { :هوَ الّذِي َب َعثَ فِي المّيّينَ رَسُول مِ ْنهُمْ } [ الجمعة ] 2 :ومع هذا ل ينفي
جمِيعًا }
رسالته إلى الحمر والسود ،لقوله تعالى ُ { :قلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي َرسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ
[ العراف ، ] 158 :وغير ذلك من الدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ،عليهما السلم ،كما أخبر ال تعالى عن عباده المتقين
جعَلْنَا
ن وَا ْ
المؤمنين ،في قوله { :وَالّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا َهبْ لَنَا مِنْ أَ ْزوَاجِنَا َوذُرّيّاتِنَا قُ ّرةَ أَعْيُ ٍ
لِ ْلمُ ّتقِينَ ِإمَامًا } [ الفرقان .] 74 :وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا ،فإن من تمام محبة عبادة ال
تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد ال وحده ل شريك له ؛ ولهذا لما قال ال تعالى
عهْدِي
لبراهيم ،عليه السلم { :إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } قال َ { :ومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ
الظّاِلمِينَ } وهو قوله { :وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَنْ َنعْ ُب َد الصْنَامَ } [ إبراهيم .] 35 :وقد ثبت في صحيح
مسلم ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إذا مات ابن
آدم انقطع عمله إل من ثلث :صدقة جارية ،أو علم ينتفع به ،أو ولد صالح يدعو له" ()2
__________
( )1في جـ ،أ " :واجعلنا مسلمين".
( )2صحيح مسلم برقم (.)1631
( )1/442
( )1/443
النبيين ،وإن آدم لمنجدل في طينته ،وسأنبئكم بأول ذلك ،دعوة أبي إبراهيم ،وبشارة عيسى بي
،ورؤيا أمي التي رأت ،وكذلك أمهات النبيين ( )1يَرَيْنَ" (.)2
وكذلك ( )3رواه ابن وهب ،والليث ،وكاتبه عبد ال بن صالح ،عن معاوية بن صالح ،وتابعه
أبو بكر بن أبي مريم ،عن سعيد بن سُويَد ،به.
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا أبو النضر ،حدثنا الفرج ،حدثنا لقمان بن عامر :سمعت أبا
أمامة قال :قلت :يا رسول ال ،ما كان أول َبدْء أمرك ؟ قال " :دعوة أبي إبراهيم ،وبشرى
عيسى بي ،ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (.)4
والمراد أن أول من َنوّه بذكره وشهره في الناس ،إبراهيم ( )5عليه السلم .ولم يزل ذكره في
الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا ،وهو عيسى ابن
مريم ،عليه السلم ،حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا ،وقال { :إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ ُمصَ ّدقًا
حمَدُ } [ الصف ]6 :؛ ولهذا قال
سمُهُ َأ ْ
ِلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ َومُبَشّرًا بِ َرسُولٍ يَأْتِي مِنْ َبعْدِي ا ْ
في هذا الحديث " :دعوة أبي إبراهيم ،وبشرى عيسى بن مريم".
وقوله " :ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل :كان منامًا رأته حين
حملت به ،وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم ،وكان ذلك توطئة .وتخصيص الشام
بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلد الشام ،ولهذا تكون الشام في آخر الزمان
معقل للسلم وأهله ،وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها.
ولهذا جاء في الصحيحين " :ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ل يضرهم من خذلهم
ول من خالفهم حتى يأتي أمر ال وهم كذلك" ( .)6وفي صحيح البخاري " :وهم بالشام" (.)7
قال ( )8أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،في قوله { :رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ
رَسُول مِ ْن ُهمْ } يعني :أمة محمد صلى ال عليه وسلم .فقيل له :قد استجيبت لك ،وهو كائن في
آخر الزمان .وكذا قال السدي وقتادة.
ح ْكمَةَ } يعني :السنة ،قاله الحسن ،
وقوله تعالى { :وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَابَ } يعني :القرآن { وَالْ ِ
__________
( )1في أ " :المؤمنين".
( )2المسند (.)4/127
( )3في جـ ،ط " :وكذا".
( )4المسند (.)5/262
( )5في جـ " :إبراهيم الخليل".
( )6هذا لفظ حديث ثوبان في صحيح مسلم برقم ( )1920ورواه أيضا بنحوه من حديث معاوية
برقم ( )1037وهو في صحيح البخاري برقم ( )7460من حديث معاوية رضي ال عنه برقم (
)7459من حديث المغيرة رضي ال عنه.
( )7صحيح البخاري برقم ( )7460من حديث معاذ رضي ال عنه.
( )8في جـ ،ط " :وقال".
( )1/444
طفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الَْآخِ َرةِ َلمِنَ
س ُه وََلقَدِ اصْ َ
سفِهَ َنفْ َ
غبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلّا مَنْ َ
َومَنْ يَرْ َ
الصّالِحِينَ ( )130إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (َ )131ووَصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
طفَى َلكُمُ الدّينَ فَلَا َتمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ ُمسِْلمُونَ ()132
وَ َيعْقُوبُ يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ
وقتادة ،ومقاتل بن حيان ،وأبو مالك وغيرهم .وقيل :الفهم في الدين .ول منافاة.
{ وَيُ َزكّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :يعني طاعة ال ،والخلص.
ح ْكمَةَ } قال :يعلمهم الخير فيفعلوه ،والشر فيتقوه ،
ب وَالْ ِ
وقال محمد بن إسحاق { وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ
ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته ،وتجنبوا ما سخط من معصيته.
حكِيمُ } أي :العزيز الذي ل يعجزه شيء ،وهو قادر على كل شيء
وقوله { :إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
،الحكيم في أفعاله وأقواله ،فيضع الشياء في محالها ؛ وحكمته وعدله.
طفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ
سفِهَ َنفْسَ ُه وََلقَدِ اصْ َ
غبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِل مَنْ َ
{ َومَنْ يَرْ َ
الصّالِحِينَ ( )130إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (َ )131ووَصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
طفَى َلكُمُ الدّينَ فَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ (} )132
وَ َيعْقُوبُ يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ
يقول تبارك وتعالى رَدّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بال ،المخالف لملة إبراهيم
الخليل ،إمام الحنفاء ،فإنه جَرد توحيد ربه تبارك وتعالى ،فلم َيدْع معه غيره ،ول أشرك به
طرفة عين ،وتبرأ من كل معبود سواه ،وخالف في ذلك سائر قومه ،حتى تبرأ من أبيه ،فقال
سمَاوَاتِ وَال ْرضَ حَنِيفًا َومَا
جهِيَ لِلّذِي فَطَرَ ال ّ
ج ْهتُ َو ْ
{ :يَا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ِممّا تُشْ ِركُونَ* إِنّي وَ ّ
أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [ النعام ، ] 79 ، 78 :وقال تعالى { :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لبِي ِه َو َقوْمِهِ إِنّنِي
بَرَاءٌ ِممّا َتعْبُدُونَ* إِل الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَ َيهْدِينِ } [ الزخرف ، ] 27 ، 26 :وقال تعالى َ { :ومَا
كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إبْرَاهِيمَ لبِيهِ إل عَنْ َموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إيّاهُ فََلمَا تَبَيّنَ لَهُ أنّه عَ ُدوٌ ل تَبَرّأَ مِنْهُ إنّ إبْرَاهِيمَ
لوّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة ] 114 :وقال تعالى { :إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ
ا ْلمُشْ ِركِينَ* شَاكِرًا ل ْن ُعمِهِ اجْتَبَا ُه وَهَدَاهُ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَإِنّهُ فِي
غبُ عَنْ
الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } [ النحل ، ]122 - 120 :ولهذا وأمثاله قال تعالى َ { :ومَنْ يَرْ َ
سفِهَ َنفْسَهُ } أي :ظلم
مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ } أي :عن طريقته ومنهجه .فيخالفها ويرغب عنها { إِل مَنْ َ
نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلل ،حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا
للهداية والرشاد ،من حَداثة سنّه ( )1إلى أن اتخذه ال خليل وهو في الخرة من الصالحين
السعداء -فترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضللة والغي ،فأي سفه أعظم من
هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى { :إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ عَظِيمٌ }
وقال أبو العالية وقتادة :نزلت هذه الية في اليهود ؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند ال وخالفوا ملّة
إبراهيم فيما أخذوه ( ، )2ويشهد لصحة هذا القول قول ال تعالى { :مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل
َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ* إِنّ َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُوهُ
ي وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّ ُه وَِليّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [ آل عمران .] 68 ، 67 :
وَهَذَا النّ ِب ّ
__________
( )1في أ " :من حداثة بنيته".
( )2في جـ ،ط ،أ ،و " :فيما أحدثوه".
( )1/445
وقوله تعالى { :إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :أمره ال ( )1بالخلص له
والستسلم والنقياد ،فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله َ { :و َوصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ َيعْقُوبُ } أي :وصى بهذه الملة ( )2وهي السلم ل [أو
يعود الضمير على الكلمة وهي قوله { :أَسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } ] ( .)3لحرصهم عليها ومحبتهم
جعََلهَا كَِلمَةً
لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم ؛ كقوله تعالى َ { :و َ
عقِبِهِ } [ الزخرف ] 28 :وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا على بنيه ،
بَاقِيَةً فِي َ
كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك ،وقد ادعى القشيري ،
فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ،ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ؛
والظاهر ،وال أعلم ،أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ؛ لن البشارة وقعت بهما
ن وَرَاءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ } [ هود ] 71 :وقد قرئ بنصب يعقوب
ق َومِ ْ
سحَا َ
في قوله { :فَبَشّرْنَاهَا بِإِ ْ
هاهنا على نزع الخافض ،فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق
جعَلْنَا
ق وَ َي ْعقُوبَ وَ َ
كبير فائدة ،وأيضًا فقد قال ال تعالى في سورة العنكبوت َ { :ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَا َ
ب وَآتَيْنَاهُ أَجْ َرهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } [ الية ] 27 :
فِي ذُرّيّتِهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَا َ
ق وَ َيعْقُوبَ نَافَِلةً } [ النبياء ] 72 :وهذا يقتضي أنه
وقال في الية الخرى َ { :ووَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَا َ
وجد في حياته ،وأيضًا فإنه باني بيت المقدس ،كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ،وثبت في
الصحيحين من حديث أبي ذر قلت :يا رسول ال ،أي مسجد وضع أول ؟ قال " :المسجد
الحرام" ،قلت :ثم أي ؟ قال " :بيت المقدس" .قلت :كم بينهما ؟ قال " :أربعون سنة" الحديث (
.)4فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس -وإنما كان جدّده بعد
خرابه وزخرفه -وبين إبراهيم أربعين سنة ،وهذا مما أنكر على ابن حبان ،فإن المدة بينهما
تزيد على ألوف سنين ،وال أعلم ،وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا ،
وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين.
طفَى َلكُمُ الدّينَ فَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ } أي :أحسنوا في حال
وقوله { :يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ
الحياة والزموا هذا ليرزقكم ( )5ال الوفاة عليه .فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه ،
ويبعث على ما مات عليه .وقد أجرى ال الكريم عادته بأن من قصد الخير ُوفّق له ويسر ()6
عليه .ومن نوى صالحًا ثبت عليه .وهذا ل يعارض ما جاء ،في الحديث [الصحيح] (" )7إن
الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إل بَاعٌ أو ذراع ،فيسبق عليه الكتاب ،
فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ( .)8وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها
إل باع أو ذراع ،فيسبق عليه الكتاب ،
__________
( )1في جـ ،ط ،أ ،و " :أمره تعالى".
( )2في أ " :أي رضي بهذه المسألة".
( )3زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )4صحيح البخاري برقم ( )3366وصحيح مسلم برقم (.)520
( )5في جـ " :يرزقكم".
( )6في ط " :ويسره".
( )7زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )8في جـ ،ط ،أ ،و " :فيدخل النار".
( )1/446
فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" ؛ لنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث " :فيعمل بعمل أهل
الجنة فيما يبدو للناس ،ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس .وقد قال ال تعالى { :فََأمّا مَنْ
حسْنَى*
خلَ وَاسْ َتغْنَى* َوكَ ّذبَ بِالْ ُ
أَعْطَى وَا ّتقَى* َوصَدّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُ َيسّ ُرهُ لِلْيُسْرَى* وََأمّا مَنْ َب ِ
فَسَنُيَسّ ُرهُ ِل ْلعُسْرَى } [ الليل .] 10 - 5 :
حضَرَ َيعْقُوبَ ا ْل َموْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َهكَ وَإِلَهَ
شهَدَاءَ إِذْ َ
{ َأمْ كُنْتُمْ ُ
ل وَإِسْحَاقَ إَِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ ( )133تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ َلهَا مَا
سمَاعِي َ
آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (} )134
ت وََلكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَل تُسْأَلُونَ َ
كَسَ َب ْ
يقول تعالى محتجّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ،وعلى الكفار من بني إسرائيل -
وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم ( )1السلم -بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه
بعبادة ال وحده ل شريك له ،فقال لهم { :مَا َتعْبُدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َهكَ وَإِلَهَ آبَا ِئكَ
سمَاعِيلَ وَِإسْحَاقَ } وهذا من باب التغليب لن إسماعيل عمه.
إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
قال النحاس :والعرب تسمي العم أبًا ،نقله القرطبي ؛ وقد استدل بهذه الية من جعل الجد أبًا
وحجب به الخوة ،كما هو قول الصديق -حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير
،ثم قال البخاري :ولم يختلف عليه ،وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ،وبه يقول الحسن
البصري وطاوس وعطاء ،وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف ؛ وقال
مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الخوة ؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي
وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ،واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي :
أبو يوسف ،ومحمد بن الحسن ،ولتقريرها موضع آخر.
وقوله { :إَِلهًا وَاحِدًا } أي ُ :نوَحّدُه باللوهية ،ول نشرك به شيئا غيره { وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ } أي
طوْعًا َوكَرْهًا وَإِلَيْهِ
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ َ
:مطيعون خاضعون كما قال تعالى { :وَلَهُ أَسَْلمَ مَنْ فِي ال ّ
جعُونَ وسلم } [ آل عمران ] 83 :والسلم هو ملة النبياء قاطبة ،وإن تنوّعت شرائعهم
يُرْ َ
سلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِل نُوحِي إِلَ ْيهِ أَنّهُ ل إَِلهَ إِل
واختلفت مناهجهم ،كما قال تعالى َ { :ومَا أَرْ َ
أَنَا فَاعْبُدُونِ } [النبياء .]25 :واليات في هذا كثيرة والحاديث ،فمنها قوله صلى ال عليه
وسلم " :نحن َمعْشَرَ النبياء أولد عَلت ديننا واحد" (.)2
ت وََلكُمْ مَا كَسَبْ ُتمْ } أي :إن السلف
وقوله تعالى { :تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ } أي :مضت { َلهَا مَا كَسَ َب ْ
الماضين من آبائكم من النبياء والصالحين ل ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود
__________
( )1في ط " :عليه".
( )2صحيح البخاري برقم ( )3443من حديث أبي هريرة رضي ال عنه .وأولد العلت :هم
الخوة من الب وأمهاتهم شتى.
( )1/447
( )1/448
َوقَالُوا كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()135
ط َومَا
ق وَ َيعْقُوبَ وَالْأَسْبَا ِ
سمَاعِيلَ وَإِسْحَا َ
قُولُوا َآمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
حدٍ مِ ْنهُ ْم وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ ()136
أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
{ َوقَالُوا كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (} )135
قال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن أبي محمد ،حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ،عن ابن
عباس ،قال :قال عبد ال بن صُوريا العورُ لرسول ال صلى ال عليه وسلم :ما الهدى إل ما
نحن عليه ،فاتبعنا يا محمد تهتد ( .)1وقالت النصارى مثل ذلك .فأنزل ال عز وجل َ { :وقَالُوا
كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْ َتدُوا }
وقوله { َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " أي :ل نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية ،بل نتبع {
مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي :مستقيما .قاله محمد بن كعب القرظي ،وعيسى بن جارية.
خصِيف عن مجاهد :مخلصًا .وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :حاجّا .وكذا
وقال َ
روي عن الحسن والضحاك وعطية ،والسدي.
حجّه عليه إن استطاع إليه
وقال أبو العالية :الحنيف الذي يستقبل البيت بصلته ،ويرى أن َ
سبيل.
وقال مجاهد ،والربيع بن أنس :حنيفًا ،أي :متبعًا .وقال أبو قلبة :الحنيف الذي يؤمن بالرسل
كلهم من أولهم إلى آخرهم.
وقال قتادة :الحنيفية :شهادة أن ل إله إل ال .يدخل فيها تحري ُم المهات والبنات والخالت
والعمات وما حرم ال ،عز وجل ( )2والختانُ.
ط َومَا
ب وَالسْبَا ِ
ق وَ َي ْعقُو َ
سحَا َ
ل وَإِ ْ
سمَاعِي َ
{ قُولُوا آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ (
} )136
أرشد ال تعالى عباده المؤمنين إلى اليمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى ال عليه
وسلم مفصل وبما أنزل على النبياء المتقدمين مجمل ونص على أعيان من الرسل ،وأجمل ذكر
بقية النبياء ،وأن ( )3ل يفرقوا بين أحد منهم ،بل يؤمنوا بهم كلّهم ،ول يكونوا كمن قال ال
ض وَيُرِيدُونَ أَنْ
ض وَ َنكْفُرُ بِ َب ْع ٍ
فيهم { :وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُِل ِه وَيَقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ
حقّا } [ النساء .]151 ، 150 :
خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيل * أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ
يَتّ ِ
__________
( )1في جـ " :تهتدي" ،وفي ط " :تهدى".
( )2في جـ " :ال تعالى".
( )3في أ " :أنهم".
( )1/448
( )1/449
سمِيعُ
شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ
فَإِنْ َآمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا َآمَنْتُمْ ِبهِ َفقَدِ اهْ َت َدوْا وَإِنْ َتوَلّوْا فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ
ا ْلعَلِيمُ ( )137صِ ْبغَةَ اللّهِ َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَ ًة وَنَحْنُ لَهُ عَا ِبدُونَ ()138
بن أبي حميد ،عن أبي المليح ،عن َمعْقل بن يسار قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
سعْكمُ القرآن" (.)1
"آمنوا بالتوراة والزبور والنجيل ولي َ
سمِيعُ
شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِيكَهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ
{ فَإِنْ آمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْ ُتمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَ َدوْا وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا هُمْ فِي ِ
ا ْلعَلِيمُ ( )137صِ ْبغَةَ اللّهِ َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَ ًة وَنَحْنُ لَهُ عَا ِبدُونَ (} )138
يقول تعالى { :فَإِنْ آمَنُوا } أي ( : )2الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها
المؤمنون ،من اليمان بجميع كتب ال ورسله ،ولم يفرقوا بين أحد منهم { َفقَدِ اهْ َت َدوْا } أي :فقد
أصابوا الحق ،وأرشدوا إليه { وَإِنْ َتوَّلوْا } أي :عن الحق إلى الباطل ،بعد قيام الحجة عليهم
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }
ظفِرُك بهم { وَ ُهوَ ال ّ
شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّهُ } أي :فسينصرك عليهم ويُ ْ
{ فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ
وقال ابن أبي حاتم :قرئ على يونس بن عبد العلى حدثنا ابن وهب ،حدثنا زياد بن يونس ،
حدثنا نافع بن أبي ُنعَيم ،قال :أرسل إليّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه .قال
زياد :فقلت له :إن الناس يقولون :إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل ،فوقع الدم على
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } فقال نافع َ :بصُرت عيني بالدم على هذه الية وقد قَدُم (.)3
{ َفسَ َيكْفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ
وقوله { :صِ ْبغَةَ اللّهِ } قال الضحاك ،عن ابن عباس :دين ال وكذا روي عن مجاهد ،وأبي
العالية ،وعكرمة ،وإبراهيم ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،وعبد ال بن كثير ،وعطية
العوفي ،والربيع بن أنس ،والسدي ،نحو ذلك.
وانتصاب { صِ ْبغَةَ اللّهِ } إما على الغراء كقوله { ِفطْ َرتَ اللّهِ } [ الروم ] 30 :أي :الزموا ذلك
عليكموه .وقال بعضهم :بدل من قوله { :مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ } وقال سيبويه :هو مصدر مؤكد انتصب
عن قوله { :آمَنّا بِاللّهِ } كقوله { وَاعْبُدُوا اللّهَ } [ النساء .] 36 :
وقد ورد ( )4في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه ،من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر
بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير ،عن ابن عباس أن نبي ال ( )5قال " :إن بني إسرائيل قالوا
:يا موسى ،هل َيصْبُغ ربك ؟ فقال :اتقوا ال .فناداه ربه :يا موسى ،سألوك هل َيصْبُغ ربك ؟
فقل :نعم ،أنا أصبُغ اللوان :الحمر والبيض والسود ،واللوان كلها من صَبْغي" .وأنزل ال
على نبيه صلى ال عليه وسلم { :صِ ْبغَةَ اللّ ِه َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَةً } (.)6
كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا ،وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف ،وهو أشبه ،إن
صح إسناده ،وال أعلم (.)7
__________
( )1تفسير ابن أبي حاتم ( )1/400وفي إسناده عبيد ال بن أبي حميد متفق على ضعفه ويروي
عن أبي المليح عجائب .انظر :الميزان ( )3/5والتهذيب (.)7/9
( )2في و " :يعني".
( )3تفسير ابن أبي حاتم (.)1/402
( )4في ط " :وقد روى".
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :نبي ال صلى ال عليه وسلم".
( )6تفسير ابن أبي حاتم ( )1/403ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة برقم (.)138
( )7في جـ " :وال تبارك وتعالى أعلم".
( )1/450
( )1/451
عمّا َت ْعمَلُونَ } [فيه] ( )1تهديد ووعيد شديد ،أي [ :أن] ( )2علمه محيط
وقوله َ { :ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
بعملكم ،وسيجزيكم عليه.
ت وََلكُمْ مَا كَسَبْ ُتمْ } أي :لهم
ثم قال تعالى { :تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ } أي :قد مضت { َلهَا مَا كَسَ َب ْ
عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ،من
أعمالهم ولكم أعمالكم { وَل تُسْأَلُونَ َ
غير متابعة منكم لهم ،ول تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لوامر ال
واتباع رسله ،الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ،فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ،
ول سيما من كفر بسيد النبياء ،وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع النس والجن
من سائر المكلفين ،صلوات ال وسلمه عليه وعلى سائر أنبياء ال ( )3أجمعين (.)4
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )3في جـ " :وعلى سائر أنبيائه".
( )4في أ " :أجمعين أبدا دائما إلى يوم الدين ورضي ال تعالى عن أصحابه وأصحابهم المتبعين
إلى يوم الحشر واليقين".
( )1/452
( )1/452
وقال محمد بن إسحاق :حدثني إسماعيل ( )1بن أبي خالد ،عن أبي إسحاق ،عن البراء ،قال :
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ،ويكثر النظر إلى السماء ينتظر (
ج َهكَ
سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ وَ ْ
ج ِهكَ فِي ال ّ
ب وَ ْ
)2أمر ال ،فأنزل ال { :قَدْ نَرَى َتقَلّ َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ } فقال رجال ( )3من المسلمين :وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن
شطْرَ ا ْلمَ ْ
َ
ُنصْرف إلى القبلة ،وكيف بصلتنا نحو بيت المقدس ؟ فأنزل ال َ { :ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ
} وقال السفهاء من الناس ،وهم أهل الكتاب :ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل ال :
س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ } إلى آخر الية.
{ سَ َيقُولُ ال ّ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زرعة ،حدثنا الحسن بن عطية ،حدثنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق
،عن البراء قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو
ج ِهكَ فِي
سبعة عشر شهرا ،وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة ،فأنزل ال { :قَدْ نَرَى َتقَّلبَ َو ْ
جدِ الْحَرَامِ } قال َ :فوُجّه نحو الكعبة .وقال
ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ
سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ َو ْ
ال ّ
السفهاء من الناس ،وهم اليهود { :مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِت ِهمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا } فأنزل ال { ُقلْ لِلّهِ
ق وَا ْل َمغْرِبُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }
ا ْلمَشْ ِر ُ
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم لمّا هاجر إلى
المدينة ،أمَره ال أن يستقبل بيت المقدس ،ففرحت اليهود ،فاستقبلها رسول ال صلى ال عليه
وسلم بضعة عشر شهرا ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يُحِب قبلة إبراهيم ،فكان يدعو
شطْ َرهُ } أي :نحوه .فارتاب من
ال وينظر إلى السماء ،فأنزل ال عز وجل َ { :فوَلّوا وُجُو َه ُكمْ َ
ذلك اليهود ،وقالوا :ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل ال ُ { :قلْ لِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ
وَا ْل َمغْرِبُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }.
وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة ،وحاصلُ المر أنه قد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم
أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس ،فكان بمكة ُيصَلّي بين الركنين ،فتكون بين يديه الكعبة
وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ،فلما هاجر إلى المدينة َتعَذّر الجمعُ بينهما ،فأمره ال بالتوجه
إلى بيت المقدس ،قاله ابن عباس والجمهور ،ثم اختلف هؤلء هل كان المر به بالقرآن أو
بغيره ؛ على قولين ،وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن
التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلة والسلم .والمقصود أن التوجه إلى بيت
المقدس بعد مقدمه صلى ال عليه وسلم المدينة ،فاستم ّر المرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهرا ،
وكان يكثر الدعا َء والبتهالَ أنْ ُيوَجّه إلى الكعبة ،التي هي قبلة إبراهيم ،عليه السلم ،فأجيب
إلى ذلك ،وأمر بالتوجّه إلى البيت العتيق ،فخطب رسولُ ال صلى ال عليه وسلم الناس ،
وأعلمهم بذلك .وكان أول صلة صلها إليها صلة العصر ،كما تقدم في الصحيحين من رواية
البراء .ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى :أنها الظهر ( .)4وأما أهل قُبَاء ،فلم
يبلغهم الخبر إلى صلة الفجر من اليوم الثاني ،كما جاء في الصحيحين ،عن ابن عمر أنه قال :
بينما الناس بقباء في صلة الصبح ،إذ جاءهم آت فقال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد
أنزل عليه الليلة قرآن وقد
__________
( )1في أ " :حدثني المعلى".
( )2في ط " :وينتظر".
( )3في أ " :فقال رجل".
( )4سنن النسائي الكبرى برقم (.)11004
( )1/453
أمر أن يستقبل الكعبة ،فاستقبلوها .وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (.)1
وفي هذا دليل على أن الناسخ ل يلزم حكمه إل بعد العلم به ،وإن تقدم نزوله وإبلغه ؛ لنهم لم
يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ،وال أعلم.
ولما وقع هذا حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود -ارتياب وزيغ
عن الهدى وتخبيط وشك ،وقالوا { :مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا } أي :ما لهؤلء تارة
يستقبلون كذا ،وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل ال جوابهم في قوله ُ { :قلْ لِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ }
أي :الحكم والتصرف والمر كله ل ،وحيثما تولوا فثمّ وجه ال ،و { لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا
ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } [ البقرة ]177 :أي :الشأن كله في
وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ
امتثال أوامر ال ،فحيثما وجهنا توجهنا ،فالطاعة في امتثال أمره ،ولو وجهنا في كل يوم
جهَنا توجهنا ،وهو تعالى
مرات إلى جهات متعددة ،فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدّامُه ،حيثما و ّ
له بعبده ورسوله محمد -صلوات ال وسلمه عليه ( - )2وأمتِه عناية عظيمة ؛ إذ هداهم إلى
قبلة إبراهيم ،خليل الرحمن ،وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده ل شريك
له ،أشرف بيوت ال في الرض ،إذ هي بناء إبراهيم الخليل ،عليه السلم ،ولهذا قال ُ { :قلْ
ق وَا ْل َمغْ ِربُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }.
لِلّهِ ا ْلمَشْرِ ُ
عمَر ( )3بن
وقد روى المام أحمد ،عن علي بن عاصم ،عن حصين بن عبد الرحمن ،عن ُ
قيس ،عن محمد بن الشعث ،عن عائشة قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم -يعني
في أهل الكتاب " : -إنهم ل يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة ،التي هدانا ال
لها وضلوا عنها ،وعلى القبلة التي هدانا ال لها وضلوا عنها ،وعلى قولنا خلف المام :آمين"
(.)4
شهِيدًا
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ
علَى النّا ِ
شهَدَاءَ َ
سطًا لِ َتكُونُوا ُ
جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَ َ
وقوله تعالى َ { :وكَذَِلكَ َ
حوّلناكم إلى قبلة ( )5إبراهيم ،عليه السلم ،واخترناها لكم ( )6لنجعلكم
} يقول تعالى :إنما َ
شهَداء على المم ؛ لن الجميع ( )7معترفون ( )8لكم بالفضل.
خيار المم ،لتكونوا يوم القيامة ُ
والوسط هاهنا :الخيار والجود ،كما يقال :قريش أوسطُ العرب نسبا ودارا ،أي :خيرها.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وسطا في قومه ،أي :أشرفهم نسبا ،ومنه الصلة
الوسطى ،التي هي أفضل الصلوات ،وهي العصر ،كما ثبت في الصحاح وغيرها ،ولما جعل
خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح ( )9المذاهب ،كما قال تعالى :
ال هذه المة وسطا َ
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ
ج َعلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلّةَ أَبِي ُكمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ َ
{ ُهوَ اجْتَبَاكُ ْم َومَا َ
ش َهدَاءَ عَلَى النّاسِ } [ الحج ]78 :
شهِيدًا عَلَ ْيكُ ْم وَ َتكُونُوا ُ
َوفِي َهذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )403وصحيح مسلم برقم (.)526
( )2في ط " :صلى ال عليه وسلم".
( )3في ط ،أ ،و " :عن عمرو".
( )4المسند (.)6/134
( )5في ط " :ملة".
( )6في أ " :واحترفناها لكم" ،وفي و " :واخترناكم لها".
( )7في أ " :المم".
( )8في ط " :معترفين" وهو خطأ..
( )9في جـ " :وأصح".
( )1/454
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،عن العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي سعيد قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :يدعى نوح يوم القيامة فيقال له :هل بلّغت ؟ فيقول :نعم .فيدعى
قومه فيقال لهم :هل بلغكم ؟ فيقولون :ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ،فيقال لنوح :من
جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا } (.)1
يشهد لك ؟ فيقول :محمد وأمته" قال :فذلك قوله َ { :وكَذَِلكَ َ
قال :الوسط ( : )2العدل ،فتدعون ،فتشهدون له بالبلغ ،ثم أشهد عليكم (.)3
رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن العمش [ ،به] (.)5( )4
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي سعيد
الخدري قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يجيء النبي يوم القيامة [ومعه الرجل
والنبي] ( )6ومعه الرجلن وأكثر من ذلك فيدعى قومه ،فيقال [لهم] ( )7هل بلغكم هذا ؟
فيقولون :ل .فيقال له :هل بلغت قومك ؟ فيقول :نعم .فيقال [له] ( )8من يشهد لك ؟ فيقول :
محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته ،فيقال لهم :هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون :نعم .فيقال :وما
علمكم ؟ فيقولون :جاءنا نبينا صلى ال عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا" فذلك قوله عز
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ
شهَدَاءَ عَلَى النّا ِ
جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا } قال " :عدل { لِ َتكُونُوا ُ
وجل َ { :وكَذَِلكَ َ
شهِيدًا } " (.)9
عَلَ ْيكُمْ َ
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي سعيد
سطًا } قال :
جعَلْنَاكُمْ ُأمّ ًة وَ َ
الخدري ،عن النبي صلى ال عليه وسلم في قوله تعالى َ { :وكَذَِلكَ َ
"عدل" (.)10
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد ،عن أبي مالك
الشجعي ،عن المغيرة بن عتيبة ( )11بن نهاس :حدثني مكتب لنا ( )12عن جابر بن عبد
ال ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال :أنا وأمّتي يوم القيامة على َكوْم مُشرفين على ()13
الخلئق .ما من الناس أحد إل ودّ أنه منّا .وما من نبي كَذّبه قومه إل ونحن نشهدُ أنه قد بلغ
رسالةَ ربه ،عز وجل (.)14
__________
( )1المسند (.)3/32
( )2في جـ ،ط " :قال :والوسط".
( )3في جـ " :بقول يشهد عليكم" وفي ط " :وأشهد عليكم".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5صحيح البخاري برقم ( )4487 ، 3339وسنن الترمذي برقم ( )2961وسنن النسائي الكبرى
برقم ( )11007وسنن ابن ماجة برقم (.)4284
( )6زيادة من جـ ،أ ،والمسند.
( )7زيادة من جـ ،أ ،والمسند.
( )8زيادة من جـ ،والمسند.
( )9المسند (.)3/58
( )10المسند (.)3/9
( )11في جـ " :بن عيينة".
( )12في و " :مكاتب لنا".
( )13في جـ " :مشرف على".
( )14ورواه الطبري في تفسيره ( )3/147من طريق ابن فضيل عن أبي مالك الشجعي به.
( )1/455
وروى الحاكم ،في مستدركه وابن مَرْدُويَه أيضا ،واللفظ له ،من حديث مصعب بن ثابت ،عن
محمد بن كعب القُرَظي ،عن جابر بن عبد ال ،قال :شهد رسولُ ال صلى ال عليه وسلم
جنازة ،في بني سلمة ،وكنت إلى جانب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال بعضهم :وال -
يا رسولَ ال -لنعم المرءُ كان ،لقد كان عفيفا مسلما وكان ...وأثنوا عليه خيرا .فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :أنت بما تقول" .فقال الرجل :ال أعلم بالسرائر ،فأما الذي بدا لنا منه
شهِد جنازة في بني حَارِثة ،وكنتُ إلى
فذاك .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :وجبت" .ثم َ
جانب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال بعضهم :يا رسولَ ال ،بئس المرءُ كان ،إن كان
لفَظّا غليظا ،فأثنوا عليه شرا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لبعضهم " :أنت بالذي تقول".
فقال الرجل :ال أعلم بالسرائر ،فأما الذي بدا لنا منه فذاك .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :وجبت".
قال مصعب بن ثابت :فقال لنا عند ذلك محمد بن َكعْب :صدقَ رسُول ال صلى ال عليه
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ
علَى النّا ِ
شهَدَاءَ َ
سطًا لِ َتكُونُوا ُ
جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَ َ
وسلم ،ثم قرأ َ { :وكَذَِلكَ َ
شهِيدًا }
َ
ثم قال الحاكم :هذا حديث صحيح السناد ،ولم يخرجاه (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا يونس بن محمد ،حدثنا داود بن أبي الفرات ،عن عبد ال بن بُريدة ،
عن أبي السود أنه قال :أتيتُ المدينة فوافقتها ،وقد وقع بها مرض ،فهم يموتون موتا ذَريعا.
فجلست إلى عمر بن الخطاب ،فمرّت به جنازة ،فَأثْ ِنيَ على صاحبها خير .فقال :وجبت
وجَبَت .ثم مُرّ بأخرى فَأُثْ ِنيَ عليها شرّ ،فقال عمر :وجبت [وجبت] ( .)2فقال أبو السود :ما
شهِد له
وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال :قلت كما قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم " :أيّما مسلم َ
أربعة بخير أدخله ال الجنة" .قال :فقلنا .وثلثة ؟ قال " :وثلثة" .قال ،فقلنا :واثنان ؟ قال :
"واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاري ،والترمذي ،والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات ،به (.)3
قال ابن مَرْدويه :حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ،حدثنا أبو قِلبة الرقاشي ،حدثني أبو الوليد ،
حدثنا نافع بن عمر ،حدثني أمية بن صفوان ،عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي ،عن أبيه ،قال
:سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم بالنّباوَة ( )4يقول " :يوشك أن تعلموا خياركم من
شراركم" قالوا :بم يا رسول ال ؟ قال :بالثناء الحسن والثناء السّيّئ ،أنتم شهداء ال في
الرض" .ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ،عن يزيد بن هارون ( .)5ورواه المام
أحمد ،عن يزيد بن هارون ،وعبد الملك بن عمر ( )6وشريح ،عن نافع عن ابن عمر ،به (
.)7
__________
( )1المستدرك ( )2/268وتعقبه الذهبي بقوله " :فيه مصعب بن ثابت ليس بالقوي".
( )2زيادة من أ.
( )3المسند ( )1/22وصحيح البخاري برقم ( )1368وسنن الترمذي برقم ( )1059وسنن
النسائي (.)4/50
( )4في جـ " :بالبناوة".
( )5سنن ابن ماجة برقم ( )4221وقال البوصيري في الزوائد (" )3/301إسناد صحيح ،رجاله
ثقات".
( )6في جـ ،ط " :بن عمرو".
( )7لم أجده في المطبوع من المسند بهذا الطريق ،وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (
.)6/231
( )1/456
عقِبَيْهِ
جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّ ِبعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَلِبُ عَلَى َ
وقوله تعالى َ { :ومَا َ
وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً إِل عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ } يقول تعالى :إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه
أول إلى بيت المقدس ،ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ،ليظهر حالُ من يَتّبعك ويُطيعك ويستقبل
معك حيثما توجهتَ ِممّن ينقلب على عَقبَيْه ،أي :مُرْتَدّا عن ( )1دينه { وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً } أي :
هذه الفعلة ،وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ،أي :وإن كان هذا المر عظيما
في النفوس ،إل على الذين هدى ال قلوبهم ،وأيقنُوا بتصديق الرسُول ،وأنّ كلّ ما جاء به فهو
الحقّ الذي ل مرْية فيه ،وأن ال يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ،فله أن يكلّف عباده بما شاء ()2
،وينسخ ما يشاء ،وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ،بخلف الذين في قلوبهم
مرض ،فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّا ،كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق ،كما قال
ال تعالى { :وَإِذَا مَا أُنزَلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَ ِذهِ إِيمَانًا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَ ْت ُهمْ
سهِمْ } [ التوبة :
جِجسًا إِلَى رِ ْ
إِيمَانًا وَهُمْ َيسْتَبْشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ْت ُهمْ رِ ْ
ن ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ
شفَا ٌء وَالّذِي َ
]125 ، 124وقال تعالى ُ { :قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ ِ
حمَةٌ
شفَاءٌ وَرَ ْ
عمًى } [ فصلت ]44 :وقال تعالى { :وَنُنزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
علَ ْيهِمْ َ
وَ ُهوَ َ
خسَارًا } [ السراء .]82 :ولهذا كان مَن ( )3ثَ َبتَ على تصديق
لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِل َ
الرسول صلى ال عليه وسلم واتباعه في ذلك ،وتوجه حيثُ أمره ال من غير شك ول رَيْب ،
من سادات الصحابة .وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين الولين من المهاجرين والنصار هم
الذين صلّوا القبلتين.
وقال البخاري في تفسير هذه الية :
حدثنا مُسَدّد ،حدثنا يحيى ،عن سُفيان ،عن عبد ال بن دينار ،عن ابن عمر قال :بينا الناسُ
يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال :قد أنزل على النبي صلى ال عليه وسلم
قرآن ،وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها .فتوجهوا إلى الكعبة (.)4
وقد رواه مسلم من وجه آخر ،عن ابن عمر ( .)5ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري ()6
وعنده :أنهم كانوا ركوعا ،فاستداروا كما هم إلى الكعبة ،وهم ركوع .وكذا رواه مسلم من
حمّاد بن سلمة ،عن ثابت ،عن أنس ،مثله ( ، )7وهذا يدل على كمال طاعتهم ل
حديث َ
ورسوله ،وانقيادهم لوامر ال عز وجل ،رضي ال عنهم أجمعين.
__________
( )1في جـ " :مرتدا على".
( )2في أ " :بما يشاء".
( )3في جـ " :من كان".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4488
( )5صحيح مسلم برقم (.)526
( )6سنن الترمذي برقم (.)341
( )7صحيح مسلم برقم (.)527
( )1/457
وقوله َ { :ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي :صلتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ل يضيع ()1
ثوابها عند ال ،وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السّبِيعي ،عن البراء ،قال :مات قوم
كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس :ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل ال تعالى َ { :ومَا كَانَ
اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } (.)2
[ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه (.)4( ] )3
وقال ابن إسحاق :حَدّثني محمد بن أبي محمد ،عن عكرمة أو سعيد بن جبير ،عن ابن عباس :
{ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي :بالقبلة الولى ،وتصديقكم نبيكم ،واتباعه إلى القبلة
الخرى .أي :لَ ُيعْطيكم ( )5أجرَهما جميعا { .إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ }
وقال الحسن البصري َ { :ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي :ما كان ال ليضيع محمدا صلى ال
عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف { إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وفي الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها ،
فجعلت كُلّما وجدت صبيًا من السبي أخذته فألصقته بصدرها ،وهي تَدُور على ،ولدها ،فلما
وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أترون هذه طارحة
ولدها في النار ،وهي تقدر على أل تطرحه ؟" قالوا :ل يا رسول ال .قال " :فوال ،ل أرحم
بعباده من هذه بولدها" (.)6
جدِ ا ْلحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا
ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ
ل وَ ْ
سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا َف َو ّ
ج ِهكَ فِي ال ّ
{ َقدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ
عمّا
حقّ مِنْ رَ ّبهِ ْم َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ شَطْ َر ُه وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ
َي ْعمَلُونَ (} )144
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :كان أوّل ما نُسخَ من القرآن القبلة ،وذلك أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة ،وكان أكثر أهلها اليهود ،فأمره ال أن يستقبل بيت
ضعَةَ عَشَرَ شهرًا ،وكان
المقدس ،ففرحت اليهود ،فاستقبلها رسول ال صلى ال عليه وسلم ب ْ
ج ِهكَ فِي
يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى ال وينظر إلى السماء ،فأنزل ال َ { :قدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ
شطْ َرهُ } فارتاب من ذلك اليهود ،وقالوا { :مَا وَلهُمْ عَنْ
سمَاءِ } إلى قوله َ { :فوَلّوا ُوجُو َهكُمْ َ
ال ّ
ق وَا ْل َمغْ ِربُ [ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ] ( } )7وقال
قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا ُقلْ لِلّهِ ا ْل َمشْرِ ُ
جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ
{ :فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ اللّهِ } [البقرة ]115 :وقال ال تعالى َ { :ومَا َ
عقِبَيْهِ }
عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَِلبُ عَلَى َ
__________
( )1في ط ،أ " :ما يضيع".
( )2سبق تخريج الحديث قريبا.
( )3سنن الترمذي برقم (.)2964
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )5في أ " :ليضيعنكم" وفي و " :ليعطينكم".
( )6صحيح البخاري برقم ( )5999وصحيح مسلم برقم (.)2754
( )7زيادة من ط.
( )1/458
وروى ابن مَرْدريه من حديث القاسم ال ُعمَري ،عن عمه عُبيد ال بن عمر ،عن داود بن
الحصين ،عن عكرمة ،عن ابن عباس :قال :كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا سلم من
ج َهكَ
صلته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل ال { :فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ وَ ْ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ } إلى الكعبة إلى الميزاب َ ،يؤُم به جبرائيل ( )1عليه السلم.
شطْرَ ا ْلمَ ْ
َ
وروى الحاكم ،في مستدركه ،من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء ،عن يحيى بن قمطة قال :
رأيت عبد ال بن عمرو ( )2جالسا في المسجد الحرام ،بإزاء الميزاب ،فتل هذه الية :
{ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } قال :نحو ميزاب الكعبة.
ثم قال :صحيح السناد ،ولم يخرجاه (.)3
ورواه ابن أبي حاتم ،عن الحسن بن عرفة ،عن هُشَيْم ،عن يعلى بن عطاء ،به.
وهكذا قال غيره ،وهو أحد قولي الشافعي ،رحمه ال :إن الغرض إصابة عين القبلة .والقول
الخر وعليه الكثرون :أن المراد المواجهة ( )4كما رواه الحاكم من حديث محمد بن ()5
سجِدِ
شطْرَ ا ْلمَ ْ
ج َهكَ َ
ل وَ ْ
إسحاق ،عن عمير بن زياد الكندي ،عن علي ،رضي ال عنه َ { ،فوَ ّ
الْحَرَامِ } قال :شطره :قبله .ثم قال :صحيح السناد ولم يخرجاه.
وهذا قول أبي العالية ،ومجاهد ،وعكرمة ،وسعيد بن جُبَير ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،
وغيرهم .وكما تقدم في الحديث الخر :ما بين المشرق والمغرب قبلة.
[وقال القرطبي :روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال " :ما بين المشرق والمغرب قبلة لهل المسجد ،والمسجد قبلة لهل الحرم ،والحرم قبلة
لهل الرض في مشارقها ومغاربها من أمتي (.)7( ]" )6
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين :
حدثنا زهير ،عن أبي إسحاق ،عن البراء أن النبي صلى ال عليه وسلم صلّى قبلَ بيت المقدس
ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ،وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلة العصر ،
وصلى معه قوم ،فخرج رجل ممن كان يصلي معه ،فمر على أهل المسجد وهم راكعون ،فقال
:أشهد بال لقد صَلّيت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل مكّة ،فداروا كما هم قبل البيت (
.)8
__________
( )1في ط " :جبريل".
( )2في أ " :بن عمر".
( )3المستدرك (.)2/269
( )4في ط ،أ ،و " :الوجهة".
( )5في ط " :محمد أبي".
( )6رواه البيهقي في السنن الكبرى ( )10 ، 9 /2من طريق عمر بن حفص عن ابن جريج به ،
وقال البيهقي " :تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف ل يحتج به ،وروى بإسناد آخر
ضعيف ،عن عبد ال بن حبش كذلك مرفوعا ،ول يحتج بمثله ،وال أعلم".
( )7زيادة من ج ،ط ،أ.
( )8رواه البخاري في صحيحه برقم ( )4486عن أبي نعيم.
( )1/459
وقال عبد الرزاق :أخبرنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن البراء [قال] ( )1لما قدم رسول ال
صلى ال عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ،وكان
ج ِهكَ فِي
رسول ال صلى ال عليه وسلم يُحِب أن يحوّل نحو الكعبة ،فنزلت َ { :قدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ
سمَاءِ [فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا] ( } )2فصرف إلى الكعبة.
ال ّ
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال :كنا َنغْدُو إلى المسجد على عهد رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فنمر على المسجد فنصلي فيه ،فمررنا يومًا -ورسول ال صلى ال عليه وسلم
قاعد على المنبر -فقلت :لقد حَدث أمر ،فجلست ،فقرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه
سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } حتى فرغ من الية .فقلت
ج ِهكَ فِي ال ّ
الية { :قَدْ نَرَى َتقَّلبَ َو ْ
لصاحبي :تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول ال صلى ال عليه وسلم فنكون أول من صلى
،فتوارينا فصليناهما .ثم نزل النبي صلى ال عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ (.)3
وكذا روى ابن مَرْدويه ،عن ابن عمر :أن أول صلة صلها رسول ال صلى ال عليه وسلم
إلى الكعبة صَلةُ الظهر ،وأنها الصلة الوُسطى .والمشهور أن أول صلة صلها إلى الكعبة
صلة العصر ،ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلة الفجر.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه :حدثنا سليمان بن أحمد ،حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتَري ،
حدثنا رجاء بن محمد السقطي ،حدثنا إسحاق بن إدريس ،حدثنا إبراهيم بن جعفر ،حدثني
أبي ،عن جدته أم أبيه ُنوَيلة بنت مسلم ،قالت :صَلّينا الظهر -أو العصر ( - )4في مسجد بني
حارثة ،فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ،ثم جاء مَنْ يحدثنا أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قد استقبل البيت الحرام ،فتحول النساءُ مكان ( )5الرجال ،والرجالُ مكان ( )6النساء ،
فصلينا السجدتين الباقيتين ،ونحن مستقبلون ( )7البيت الحرام .فحدثني رجل من بني حارثة أن
النبي صلى ال عليه وسلم قال " :أولئك رجال يؤمنون بالغيب" (.)8
وقال ابن مردويه أيضًا :حدثنا محمد بن علي بن ُدحَيْم ،حدثنا أحمد بن حازم ،حدثنا مالك بن
عمَارة بن أوس قال :بينما نحن في
إسماعيل النهدي ،حدثنا قيس ،عن زياد بن علقة ،عن ُ
حوّلت إلى الكعبة.
الصلة نحو بيت المقدس ،ونحن ركوع ،إذ أتى مناد بالباب :أن القبلة قد ُ
قال :فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوّل هو والرّجال والصبيان ،وهم ركوع ،نحو الكعبة (
.)9
شطْ َرهُ } أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات
وقوله { :وَحَيْ ُثمَا كُنْ ُتمْ َفوَلّوا ُوجُو َهكُمْ َ
الرض ،شرقًا وغربًا وشمال وجنوبًا ،ول يستثنى من هذا شَيء ،سوى النافلة في حال السفر ،
فإنه
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،و.
( )2زيادة من جـ.
( )3سنن النسائي الكبرى (.)11004
( )4في جـ " :الظهر والعصر".
( )5في أ " :موضع".
( )6في أ " :موضع".
( )7في أ " :ونحن مستقبلو".
( )8المعجم الكبير ( )25/43وقال الهيثمي في المجمع (" )2/14فيه إسحاق بن إدريس السواري
وهو ضعيف متروك".
( )9ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )1/335عن شبابة عن قيس عن زياد به
( )1/460
يصليها حيثما توجه قَالبُه ،وقَلْبُه نحو الكعبة .وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل
حال ،وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ،وإن كان مخطئًا في نفس المر ،لن ال
تعالى ل يكلف نفسًا إل وسعها.
مسألة :وقد استدل المالكية بهذه الية على أن المصلي ينظر أمامه ل إلى موضع سجوده كما
سجِدِ ا ْلحَرَامِ }
شطْرَ ا ْلمَ ْ
ج َهكَ َ
ل وَ ْ
ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ،قال المالكية لقوله َ { :ف َو ّ
فلو نظر إلى موضع سجوده لحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من النحناء وهو ينافي كمال القيام.
وقال بعضهم :ينظر المصلي في قيامه إلى صدره .وقال شريك القاضي :ينظر في حال قيامه
إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة ،لنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد
به الحديث ،وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه ،وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي
حال قعوده إلى حجره.
حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ } أي :واليهودُ -الذين أنكروا
وقوله { :وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ
استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس -يعلمون أن ال تعالى سَيُوجهك إليها ،بما في
كتبهم عن أنبيائهم ،من النعت والصفة لرسول ال صلى ال عليه وسلم وأمّته ،وما خصه ال
تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ،ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا
عمّا َي ْعمَلُونَ } (.)1
وعنادًا ؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله َ { :ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
ضهُمْ بِتَابِعٍ قِبَْلةَ
ك َومَا أَ ْنتَ بِتَا ِبعٍ قِبْلَ َتهُ ْم َومَا َب ْع ُ
{ وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آ َيةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ
َب ْعضٍ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَهُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِ ّنكَ ِإذًا َلمِنَ الظّاِلمِينَ (} )145
يخبر تعالى ( )2عن كُفر اليهود وعنادهم ،ومخالفتهم ما ( )3يعرفونه من شأن رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به ،لما اتبعوه وتركوا
حقّتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ * وََلوْ جَاءَ ْت ُهمْ ُكلّ آيَةٍ
أهواءهم ( )4كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ َ
حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ اللِيمَ } [ يونس ]97 ، 96 :ولهذا قال هاهنا { :وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ
ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َتكَ }.
ضهُمْ بِتَا ِبعٍ قِبْلَةَ َب ْعضٍ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول
وقوله { َومَا أَ ْنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَ َتهُمْ [ َومَا َب ْع ُ
صلى ال عليه وسلم لما أمره ال تعالى به ،وأنه كما هم مُسْ َتمْسكون ( )5بآرائهم وأهوائهم ،فهو
أيضًا مستمسك ( )6بأمر ال وطاعته واتباع مرضاته ،وأنه ل يتبع أهواءهم في جميع أحواله ،
وما كان ( )7متوجها إلى بيت المقدس ؛ لنها ( )8قبلة اليهود ،وإنما ذلك عن أمر ال تعالى (
.)9ثم حذر [ال] ( )10تعالى عن مخالفة
__________
( )1في جـ ،ط " :تعلمون".
( )2في جـ " :يخبر تبارك وتعالى".
( )3في جـ " :ومخالفتهم لما".
( )4في جـ " :وتركوا أهوائهم " وهو خطأ.
( )5في جـ ،ط " :متمسكون".
( )6في جـ ،ط " :متمسك".
( )7في جـ ،ط " :ول كان".
( )8في جـ ،ط " :لكونها".
( )9في جـ " :ال تعالى وطاعته".
( )10زيادة من جـ.
( )1/461
الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره .ولهذا قال مخاطبا
ك َومَا أَ ْنتَ بِتَابِعٍ
للرسول ،والمراد المة { :وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ
ضهُمْ بِتَابِعٍ قِبَْلةَ َب ْعضٍ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَهُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِ ّنكَ ِإذًا َلمِنَ
قِبْلَ َتهُ ْم َومَا َب ْع ُ
الظّاِلمِينَ } [البقرة .]145 :
( )1/462
ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ (
حّالّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَا َءهُ ْم وَإِنّ فَرِيقًا مِ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ
ج َهةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا فَاسْتَ ِبقُوا ا ْلخَيْرَاتِ أَيْنَ
)146ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ ( )147وَِل ُكلّ وِ ْ
شيْءٍ َقدِيرٌ ()148
علَى ُكلّ َ
جمِيعًا إِنّ اللّهَ َ
مَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ
ق وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ (
{ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُه ْم وَإِنّ فَرِيقًا مِ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ ا ْلحَ ّ
)146ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ (} )147
يخبر تعالى ( )1أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى ال عليه وسلم
[كما يعرفون أبناءهم] ( )2كما يعرف أحدُهم ولده ،والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء
بهذا ،كما جاء في الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لرجل معه صغير " :ابنك
هذا ؟" قال :نعم يا رسول ال ،أشهد به .قال " :أما إنه ل َيجْنِي عليك ول تجْنِي عليه" (.)3
[قال القرطبي :ويروى أن عمر قال لعبد ال بن سلم :أتعرف محمدًا صلى ال عليه وسلم كما
تعرف ولدك ابنك ،قال :نعم وأكثر ،نزل المين من السماء على المين ،في الرض بنعته
فعرفته ،وإني ل أدري ما كان من أمره .قلت :وقد يكون المراد { َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ
أَبْنَاءَ ُهمْ } من بين أبناء الناس ل يشك أحد ول يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس
كلهم] (.)4
حقّ } أي :ليكتمون الناس ما
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق ( )5والتقان العلمي { لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ
في كتبهم من صفة النبي صلى ال عليه وسلم { وَهُمْ َيعَْلمُونَ }
ثم ثبّت تعالى نبيه ( )6والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء ( )7به الرسول ( )8صلى ال عليه وسلم
هو الحق الذي ل مرية فيه ول شك ،فقال { :ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ }
شيْءٍ
جمِيعًا إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
جهَةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْ َنمَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِب ُكمُ اللّهُ َ
ل وِ ْ
{ وَِل ُك ّ
قَدِيرٌ (} )148
جهَةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا } يعني بذلك :أهل الديان ،يقول :لكل
ل وِ ْ
قال العوفي ،عن ابن عباس { :وَِل ُك ّ
قبلة يرضونها ،ووجهة ال حيث توجه المؤمنون.
وقال أبو العالية :لليهودي وجهة هو موليها ،وللنصراني وجهة هو موليها ،وهَداكم أنتم أيتها
المة [الموقنون] ( )9للقبلة التي هي القبلة .وروي عن مجاهد ،وعطاء ،والضحاك ،والربيع
بن أنس ،والسدي نحو هذا.
__________
( )1في جـ " :يخبر تبارك وتعالى".
( )2زيادة من ط.
( )3رواه أحمد في المسند ( )228 ، 2/226وأبو داود في السنن برقم (.)4495
( )4زيادة من ج ،ط ،أ.
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :التحقيق".
( )6في جـ " :النبي صلى ال عليه وسلم".
( )7في ط " :ما جاءهم به".
( )8في جـ " :النبي".
( )9زيادة من جـ.
( )1/462
عمّا
ك َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
سجِدِ الْحَرَا ِم وَإِنّهُ لَ ْلحَقّ مِنْ رَ ّب َ
شطْرَ ا ْلمَ ْ
ج َهكَ َ
ل وَ ْ
جتَ َفوَ ّ
َومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ
سجِدِ الْحَرَا ِم وَحَ ْيثُ مَا كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ
شطْرَ ا ْلمَ ْ
ج َهكَ َ
ل وَ ْ
جتَ َفوَ ّ
َت ْعمَلُونَ (َ )149ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ
شوْنِي وَلِأُتِمّ ِن ْعمَتِي عَلَ ْيكُمْ
شوْهُ ْم وَاخْ َ
خَحجّةٌ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ فَلَا تَ ْ
شطْ َرهُ لِئَلّا َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ ُ
َ
وََلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ ()150
وقال مجاهد في الرواية الخرى :ولكن أمَ َر كلّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة.
وقرأ ابن عباس ،وأبو جعفر الباقر ،وابن عامر " :ولكلٍ وجهة هو ُموَلها".
ح َدةً
جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْعَ ًة َومِ ْنهَاجًا وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ
وهذه الية شبيهة بقوله تعالى ِ { :ل ُكلّ َ
جمِيعًا } [المائدة .]48 :
ج ُع ُكمْ َ
وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَ ِبقُوا ا ْلخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْ ِ
شيْءٍ َقدِيرٌ } أي :هو قادر على
جمِيعًا إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
وقال هاهنا { :أَيْ َنمَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ
جمعكم من الرض ،وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
عمّا
ك َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
حقّ مِنْ رَ ّب َ
جدِ ا ْلحَرَا ِم وَإِنّهُ لَلْ َ
ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ
ل وَ ْ
جتَ َف َو ّ
{ َومِنْ حَ ْيثُ خَرَ ْ
سجِدِ الْحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ
شطْرَ ا ْلمَ ْ
ج َهكَ َ
ل وَ ْ
جتَ َفوَ ّ
َت ْعمَلُونَ (َ )149ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ
شوْنِي وَلتِمّ ِن ْعمَتِي
شوْهُ ْم وَاخْ َ
شطْ َرهُ لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ إِل الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ فَل َتخْ َ
َ
عَلَ ْيكُ ْم وََلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ (} )150
هذا أمر ثالث من ال تعالى ( )1باستقبال المسجد الحرام ،من جميع أقطار الرض.
وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلث مرات ،فقيل :تأكيد لنه أول ناسخ وقع ،في السلم
على ما نص عليه ابن عباس وغيره ،وقيل :بل هو منزل على أحوال ،فالمر الول لمن هو
مشاهد الكعبة ،والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها ،والثالث لمن هو في بقية البلدان ،هكذا
وجهه فخر الدين الرازي .وقال القرطبي :الول لمن هو بمكة ،والثاني لمن هو في بقية
المصار ،والثالث لمن خرج ،في السفار ،ورجح هذا الجواب القرطبي ،وقيل :إنما ذكر
سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ
ج ِهكَ فِي ال ّ
ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق ،فقال :أول { قَدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ
قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } إلى قوله { :وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ِه ْم َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ
عمّا َي ْعمَلُونَ } فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها
َ
ج َهكَ شَطْرَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَا ِم وَإِنّهُ
جتَ َف َولّ وَ ْ
ويرضاها ؛ وقال في المر الثاني َ { :ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ
عمّا َت ْعمَلُونَ } فذكر أنه الحق من ال وارتقى عن المقام الول ،
ك َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
حقّ مِنْ رَ ّب َ
لَلْ َ
حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى ال عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من ال يحبه
ويرتضيه ،وذكر في المر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون
باستقبال الرسول إلى قبلتهم ،وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم ،
عليه السلم ،إلى الكعبة ،وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى ال
عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف ،وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم
استقبال الرسول صلى ال عليه وسلم إليها ،وقيل غير ذلك من الجوبة عن حكمة التكرار ،وقد
بسطها فخر الدين وغيره ،وال -سبحانه وتعالى -أعلم.
__________
( )1في جـ " :من ال تبارك وتعالى".
( )1/463
وقوله { :لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ } أي :أهل الكتاب ؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه المة
التوجه إلى الكعبة ،فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين أو لئل يحتجوا
بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس .وهذا أظهر.
قال أبو العالية { :لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا :صُرف محمد
إلى الكعبة.
وقالوا :اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ( )1ودين قومه .وكان حجتهم على النبي صلى ال عليه وسلم
انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا :سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
قال ابن أبي حاتم :وروى عن مجاهد ،وعطاء ،والضحاك ،والربيع بن أنس ،وقتادة ،
والسدي ،نحو هذا.
وقال هؤلء في قوله { :إِل الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ } يعني :مشركي قريش.
ووجه بعضهم حُجّة الظلمة -وهي داحضة -أن قالوا :إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين
إبراهيم :فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم ،فلم رجع عنه ؟ والجواب :أن ال
تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أول لما له تعالى في ذلك من الحكمة ،فأطاع ربه تعالى
في ذلك ،ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم -وهي الكعبة -فامتثل أمر ال في ذلك أيضًا ،فهو ،
صلوات ال وسلمه عليه ،مطيع ل في جميع أحواله ،ل يخرج عن أمر ال طرفة عين ،وأمتهُ
تَبَع له.
شوْنِي } أي :ل تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين ،وأفْرِدُوا الخشية لي ،
شوْهُمْ وَاخْ َ
وقوله { :فَل َتخْ َ
فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه.
علَ ْيكُمْ } عطف على { لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ } أي :ولتم نعمتي
وقوله { :وَلتِمّ ِن ْعمَتِي َ
عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة ،لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها { وََلعَّلكُمْ
َتهْتَدُونَ } أي :إلى ما ضَلّت عنه المم هديناكم إليه ،وخَصصْناكم به ،ولهذا كانت هذه المة
ف المم وأفضلها.
أشر َ
ح ْكمَ َة وَ ُيعَّل ُمكُمْ مَا َلمْ
ب وَالْ ِ
{ َكمَا أَ ْرسَلْنَا فِيكُمْ رَسُول مِ ْنكُمْ يَتْلُو عَلَ ْيكُمْ آيَاتِنَا وَيُ َزكّيكُ ْم وَ ُيعَّل ُمكُمُ ا ْلكِتَا َ
شكُرُوا لِي وَل َت ْكفُرُونِ (} )152
َتكُونُوا َتعَْلمُونَ ( )151فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ وَا ْ
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى ال عليه وسلم إليهم ،
يتلو عليهم آيات ال مبينات وَيُ َزكّيهم ،أي :يطهرهم من رذائل الخلق ودَنَس النفوس وأفعال
الجاهلية ،ويخرجهم من الظلمات إلى النور ،ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي
جهْلء يُس َفهُون بالقول الفرَى ،
السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون .فكانوا في الجاهلية ال َ
فانتقلوا ببركة رسالته ،ويُمن سفارته ،إلى حال الولياء ،وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس
علمًا ،وأبرهم قلوبًا ،وأقلهم تكلفًا ،وأصدقهم لهجة .وقال تعالى َ { :لقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ إِذْ
سهِمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِ ِه وَيُ َزكّيهِمْ }
َب َعثَ فِي ِهمْ رَسُول مِنْ أَ ْنفُ ِ
__________
( )1في أ " :في بيت ال".
( )1/464
الية [آل عمران .]164 :وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة ،فقال تعالى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ
بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ } [ إبراهيم .]28 :
قال ابن عباس :يعني بنعمة ال محمدًا صلى ال عليه وسلم ؛ ولهذا نَدَب ال المؤمنين إلى
شكُرُوا لِي وَل
العتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره ،فقال { :فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ وَا ْ
َت ْكفُرُونِ }.
قال مجاهد في قوله َ { :كمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُول مِ ْنكُمْ } ( )1يقول :كما فعلت فاذكروني.
قال عبد ال بن وهب ،عن هشام بن سعيد ،عن زيد بن أسلم :أن موسى ،عليه السلم ،قال :
يا رب ،كيف أشكرك ؟ قال له ربه :تذكرُني ول تنساني ،فإذا ذكرتني فقد شكرتني ،وإذا
نسيتني فقد كفرتني.
وقال الحسن البصري ،وأبو العالية ،والسدي ،والربيع بن أنس ،إن ال يذكر من ذكره ،ويزيد
من شكره ويعذب من كفره.
حقّ ُتقَاتِهِ } [آل عمران ]102 :قال :هو أن
وقال بعض السلف في قوله تعالى { :ا ّتقُوا اللّهَ َ
شكَرَ فل ُيكْفَر.
يطاع فل يعصى ،ويذكر فل يُ ْنسَى ،ويُ ْ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،أخبرنا يزيد بن هارون ،أخبرنا عمارة
الصيدلني ،حدثنا مكحول الزدي قال :قلت لبن عمر :أرأيت قاتل النفس ،وشارب الخمر
والسارق والزاني يذكر ال ،وقد قال ال تعالى { :فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ } ؟ قال :إذا ذكر ال هذا
ذكره ال بلعنته ،حتى يسكت.
وقال الحسن البصري في قوله { :فَا ْذكُرُونِي َأ ْذكُ ْركُمْ } قال :اذكروني ،فيما افترضت عليكم
أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي.
وعن سعيد بن جبير :اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ،وفي رواية :برحمتي.
وعن ابن عباس في قوله { فَا ْذكُرُونِي َأ ْذكُ ْركُمْ } ( )2قال :ذكر ال إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وفي الحديث الصحيح " :يقول ال تعالى :من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،ومن ذكرني في
مل ذكرته في مل خير منه".
قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن قتادة ،عن أنس قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :قال ال عز وجل :يا ابن آدم ،إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ،
وإن ذكرتني في مل ذكرتك ،في مل من الملئكة -أو قال [ :في] ( )3مل خير منهم -وإن
دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا ،وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ،وإن أتيتني تمشي
أتيتك أهرول"
صحيح السناد :أخرجه البخاري من حديث قتادة ( .)4وعنده قال قتادة :ال أقرب بالرحمة.
شكُرُوا لِي وَل َت ْكفُرُونِ } أمر ال تعالى بشكره ،ووعده على شكره بمزيد
وقوله تعالى { :وَا ْ
عذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم :
شكَرْ ُتمْ لزِيدَ ّنكُ ْم وَلَئِنْ َكفَرْتُمْ إِنّ َ
الخير ،فقال { :وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّب ُكمْ لَئِنْ َ
.]7
وقال المام أحمد :حدثنا روح ،حدثنا شعبة ،عن الفضيل ( )5بن فضالة -رجل من قيس -
__________
( )1في ط " :فيكم" وهو خطأ.
( )2في هـ " :اذكروني" والمثبت من ط.
( )3زيادة من أ ،والمسند.
( )4المسند ( )3/138وصحيح البخاري برقم (.)7536
( )5في أ " :عن الفضل".
( )1/465
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا اسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلَاةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ ()153
حدثنا أبو رجاء العطاردي ،قال :خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره (
)1عليه قبل ذلك ول بعده ،فقال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من أنعم ال عليه
نعمة فإن ال يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه" .وقال روح مرة " :على عبده" (.)2
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (} )153
__________
( )1في أ " :لم يرد".
( )2المسند (.)4/438
( )1/446
شعُرُونَ ()154
وَلَا َتقُولُوا ِلمَنْ ُيقْ َتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ َبلْ َأحْيَا ٌء وََلكِنْ لَا َت ْ
( )1/446
ت وَبَشّرِ الصّابِرِينَ (
س وَال ّثمَرَا ِ
ع وَ َنقْصٍ مِنَ الَْأ ْموَالِ وَالْأَنْفُ ِ
ف وَالْجُو ِ
خوْ ِ
شيْءٍ مِنَ ا ْل َ
وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ بِ َ
جعُونَ ( )156أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ صََلوَاتٌ مِنْ
)155الّذِينَ ِإذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ
حمَةٌ وَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ ()157
رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ
فقال :ماذا تبغون ؟ فقالوا :يا ربنا ،وأيّ شيء نبغي ،وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك ؟
ثم عاد إليهم بمثل هذا ،فلما رأوا أنهم ل يُتْ َركُون من أن يسألوا ،قالوا :نريد أن تردنا إلى الدار
الدنيا ،فنقاتل في سبيلك ،حتى نقتل فيك مرة أخرى ؛ لما يرون من ثواب الشهادة -فيقول الرب
جلّ جلله :إني كتبتُ أنّهم إليها ل يرجعون" (.)1
وفي الحديث الذي رواه المام أحمد ،عن المام الشافعي ،عن المام مالك ،عن الزهري ،عن
سمَةُ
عبد الرحمن بن كعب بن مالك ،عن أبيه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :نَ َ
المؤمن طائر َتعْلَقُ في شجر الجنة ،حتى يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" (.)2
صصُوا ( )3بالذكر في القرآن ،تشريفًا
ففيه دللة لعموم المؤمنين أيضًا ،وإن كان الشهداء قد خ ّ
لهم وتكريمًا وتعظيما (.)4
س وَال ّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ (
ف وَالْجُوعِ وَ َن ْقصٍ مِنَ المْوَالِ وَال ْنفُ ِ
خ ْو ِ
شيْءٍ مِنَ الْ َ
{ وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ ِب َ
جعُونَ ( )156أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ صََلوَاتٌ مِنْ
)155الّذِينَ ِإذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ
حمَةٌ وَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ (} )157
رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ
أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [المؤمنين] ( )5أي :يختبرهم ويمتحنهم ،كما قال تعالى { :وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ
ن وَنَبُْلوَ َأخْبَا َركُمْ } [محمد ]31 :فتارة بالسراء ،وتارة
حَتّى َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِ ْنكُ ْم وَالصّابِرِي َ
خوْفِ } [النحل :
بالضراء من خوف وجوع ،كما قال تعالى { :فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
]112فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ؛ ولهذا قال :لباس الجوع والخوف .وقال
خ ْوفِ وَا ْلجُوعِ } أي :بقليل من ذلك { وَ َن ْقصٍ مِنَ المْوَالِ } أي :ذهاب
شيْءٍ مِنَ الْ َ
هاهنا { بِ َ
بعضها { وَالنْفُسِ } كموت الصحاب والقارب والحباب { وَال ّثمَرَاتِ } أي :ل ُت ِغلّ الحدائق
والمزارع كعادتها .كما قال بعض السلف :فكانت بعض النخيل ل تثمر غير واحدة .وكل هذا
وأمثاله مما يختبر ال به عباده ،فمن صبر أثابه [ال] ( )6ومن قنط أحل [ال] ( )7به عقابه.
ولهذا قال { :وَبَشّرِ الصّابِرِينَ }
وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف ( )8هاهنا :خوف ال ،وبالجوع :صيام
رمضان ،ونقص ( )9الموال :الزكاة ،والنفس :المراض ،والثمرات :الولد.
وفي هذا نظر ،وال أعلم.
ن تعالى مَنِ الصابرون ( )10الذين شكرهم ،قال { :الّذِينَ إِذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّهِ
ثم بيَ ّ
جعُونَ } أي :تسلّوا بقولهم هذا عما أصابهم ،وعلموا أنّهم ملك ل يتصرف في عبيده
وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )1887من حديث ابن مسعود رضي ال عنه ولفظه مختلف لكن معناه
واحد.
( )2المسند (.)3/455
( )3في جـ " :قد خصوا".
( )4في جـ " :تعظيما وتكريما".
( )5زيادة من جـ.
( )6زيادة من جـ.
( )7زيادة من جـ.
( )8في جـ " :أن المراد بالخوف".
( )9في جـ " :وبنقص".
( )10في جـ " :الصابرين".
( )1/467
بما ( )1يشاء ،وعلموا أنه ل يضيع لديه مثْقال ذرّة يوم القيامة ،فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم
عبيده ،وأنهم إليه راجعون في الدار الخرة .ولهذا أخبر تعالى عما ( )2أعطاهم على ذلك فقال :
{ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِمْ } أي :ثناء من ال عليهم ورحمة.
قال سعيد بن جبير :أي َأمَنَةٌ من العذاب { وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ } قال أمير المؤمنين عمر بن
حمَةٌ } فهذان العدلن {
الخطاب :نعم العدْلن ونعمت العلوة { أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِ ْم صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ
وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ } فهذه العلوة ،وهي ما توضع بين العدلين ،وهي زيادة في الحمل وكذلك
هؤلء ،أعطوا ثوابهم وزيدوا ( )3أيضًا.
جعُونَ } عند المصائب
وقد ورد في ثواب السترجاع ،وهو قول ( { )4إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ
أحاديث كثيرة .فمن ذلك ما رواه المام أحمد :
حدثنا يونس ،حدثنا ليث -يعني ابن سعد -عن يزيد بن عبد ال بن أسامة بن الهاد ،عن عمرو
عمْرو ،عن المطلب ،عن أم سلمة قالت :أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول ال صلى
بن أبي َ
ال عليه وسلم ،فقال :لقد سمعت من رسول ال صلى ال عليه وسلم قول سُر ْرتُ به .قال " :ل
يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ،ثم يقول :اللهم أجُرني في مصيبتي
واخلُف لي خيرًا منها ،إل ُفعِل ذلك به" .قالت أم سلمة :فحفظت ذلك منه ،فلما توفي أبو سلمة
استرجعت وقلت :اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه ،ثم رجعت إلى نفسي .فقلت :
من أين لي خير ( )5من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدّتي استأذن علي رسول ال صلى ال عليه
وسلم -وأنا أدبغ إهابا لي -فغسلت يدي من القَرَظ ( )6وأذنت له ،فوضعت له وسادة أدم
شوُها ليف ،فقعد عليها ،فخطبني إلى نفسي ،فلما فرغ من مقالته قلت :يا رسول ال ،ما بي
حَْ
أل يكون بك الرغبة ،ولكني امرأة ،فيّ غَيْرة شديدة ،فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني ال به ،
وأنا امرأة قد دخلتُ في السن ،وأنا ذات عيال ،فقال " :أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها (
)7ال ،عز وجل عنك .وأما ما ذكرت من السّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك ،وأما ما ذكرت
من العيال فإنما عيالك عيالي" .قالت :فقد سّل ْمتُ لرسول ال صلى ال عليه وسلم .فتزوجها
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالت أم سلمة بعد :أبدلني ال بأبي سلمة خيرًا منه ،رسولُ
ال صلى ال عليه وسلم (.)8
وفي صحيح مسلم ،عنها أنها قالت :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ما من عبد
جعُونَ } اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا
تصيبه مصيبة فيقول { :إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ
منها ،إل آجره ال من مصيبته ،وأخلف له خيرا منها" قالت :فلما ُتوُفي أبو سلمة قلت كما
أمرني رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأخلف ال لي خيرا منه :رسولَ ال صلى ال عليه
وسلم (.)9
__________
( )1في جـ " :كيف".
( )2في جـ " :بما".
( )3في جـ " :ويزيدوا".
( )4في جـ " :وهو قوله".
( )5في ط " :خيرا".
( )6في أ " :القذى".
( )7في جـ " :من الغيرة فسيذهبها".
( )8المسند (.)4/27
( )9صحيح مسلم برقم (.)918
( )1/468
وقال المام أحمد :حدثنا يزيد ،وعَبّاد بن عباد قال حدثنا هشام بن أبي هشام ،حدثنا عباد بن
زياد ،عن أمه ،عن فاطمة ابنة ( )1الحسين ،عن أبيها الحسين بن علي ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم قال " :ما من مسلم ول مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وقال عباد
:قدم عهدها -فيحدث لذلك استرجاعا ،إل جدد ال له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب"
(.)2
ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه ،عن أبي بكر بن أبي شيبة ،عن َوكِيع ،عن هشام بن زياد ،عن أمه
،عن فاطمة بنت الحسين ،عن أبيها [الحسين] (.)4( )3
وقد رواه إسماعيل بن عُلَية ،ويزيد بن هارون ،عن هشام بن زياد ( )5عن أبيه ،كذا عن ،
فاطمة ،عن أبيها.
وقال المام أحمد :حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني ،أخبرنا حماد بن سلمة ،عن أبي سنان قال
:دفنتُ ابنًا لي ،فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة -يعني الخولني -فأخرجني ،وقال لي
:أل أبشرك ؟ قلت :بلى .قال :حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزَب ،عن أبي موسى ،
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قال ال ( : )6يا ملك الموت ،قبضتَ ولد عبدي ؟
حمِدَك واسترجع ،قال :ابنو
قبضت قُرّة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال نعم .قال :فما ( )7قال ؟ قال َ :
له بيتًا في الجنة ،وسمّوه بيتَ الحمد".
ثم رواه عن علي بن إسحاق ،عن عبد ال بن المبارك .فذكره ( .)8وهكذا رواه الترمذي عن
سوَيد بن نصر ،عن ابن المبارك ،به )9( .وقال :حسن غريب .واسم أبي سنان :عيسى بن
ُ
سنان.
ط ّوفَ ِب ِهمَا َومَنْ
شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَل جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَ ّ
{ إِنّ الصّفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ
ط ّوعَ خَيْرًا فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (} )158
تَ َ
قال المام أحمد :حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ،أخبرنا إبراهيم بن سعد ،عن الزهري ،عن
شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ
عروة ،عن عائشة قالت :قلت :أرأيت قول ال تعالى { :إِنّ الصّفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ
ط ّوفَ ِب ِهمَا } قلت :فوال ما على أحد جناح أن ل يطّوف
حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَل جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَ ّ
بهما ؟ فقالت عائشة :بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها ( )10عليه كانت :فل
جناح عليه
__________
( )1في جـ " :بنت".
( )2المسند (.)1/201
( )3زيادة من ط.
( )4سنن ابن ماجة برقم ( )1600وقال البوصيري في الزوائد (" )1/528هذا إسناد فيه هشام بن
زياد وهو ضعيف".
( )5في جـ ،ط " :بن يزيد".
( )6في و " :إذا مات ولد العبد قال ال".
( )7في جـ " :فماذا".
( )8المسند (.)4/415
( )9سنن الترمذي برقم (.)1021
( )10في جـ " :كما أولتها".
( )1/469
أل يطوف بهما ،ولكنها إنما أنزلت أن النصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا ُيهِلّون لمناة الطاغية ،
التي كانوا يعبدونها عند المُشلّل .وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوّف بالصفا والمروة ،فسألوا
عن ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالوا :يا رسول ال ،إنا كنا نتحرج أن نطّوف
شعَائِرِ اللّهِ } إلى
صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ
بالصفا والمروة في الجاهلية .فأنزل ال عز وجل { :إِنّ ال ّ
طوّفَ ِب ِهمَا } قالت عائشة :ثم قد سنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم
قوله { :فَل جُنَاحَ عَلَ ْيهِ أَنْ َي ّ
الطواف بهما ،فليس لحد أن يَدع الطواف بهما .أخرجاه في الصحيحين (.)1
وفي رواية عن الزهري أنه قال :فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن
هشام ،فقال :إن هذا العلم ،ما كنت سمعته ،ولقد سمعتُ رجال ( )2من أهل العلم يقولون ()3
إن الناس -إل من ذكرتْ عائشة -كانوا يقولون :إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر
الجاهلية .وقال آخرون من النصار :إنما أمرنا بالطواف بالبيت ،ولم نؤمر بالطواف بين الصفا
شعَائِرِ اللّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن :
صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ
والمروة ،فأنزل ال تعالى { :إِنّ ال ّ
فلعلها نزلت في هؤلء وهؤلء.
ورواه البخاري من حديث مالك ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة ( )4بنحو ما تقدم.
ثم قال البخاري :حدثنا محمد بن يوسف ،حدثنا سفيان ،عن عاصم بن سُليمان قال :سألت أنسًا
عن الصفا والمروة قال :كنا نرى ذلك ( )5من أمر الجاهلية ،فلما جاء السلم أمسكنا عنهما ،
شعَائِرِ اللّهِ } (.)6
صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ
فأنزل ال عز وجل { :إِنّ ال ّ
وذكر القرطبي ( )7في تفسيره عن ابن عباس قال :كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة
الليل كله ،وكانت بينهما آلهة ،فلما جاء السلم سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،عن
الطواف بينهما ،فنزلت هذه الية .وقال الشعبي :كان إساف على الصفا ،وكانت نائلة على
المروة ،وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد السلم من الطواف بينهما ،فنزلت هذه الية .قلت :
وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة ( )8أن إسافا ونائلة كانا بشرين ،فزنيا داخل الكعبة فمسخا
حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ،فلما طال عهدهما عبدا ،ثم حول إلى
الصفا والمروة ،فنصبا هنالك ،فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ،ولهذا يقول أبو طالب
،في قصيدته المشهورة :
وحيث ينيخ الشعرون ركابهم ...بمفضى السيول من إساف ونائل...
وفي صحيح مسلم [من] ( )9حديثُ جابر الطويلُ ،وفيه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما
فرغ من طوافه
__________
( )1المسند ( )6/144وصحيح البخاري برقم (.)1643
( )2في جـ " :رجل".
( )3في جـ " :يقول".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4495
( )5في جـ " :أنها".
( )6صحيح البخاري برقم (.)4496
( )7في أ " :وذكر الطبري".
( )8السيرة النبوية لبن إسحاق (رقم النص )4ط ،حميد ال ،المغرب.
( )9زيادة من جـ.
( )1/470
بالبيت ،عاد إلى الركن فاستلمه ،ثم خرج من باب الصفا ،وهو يقول { :إِنّ الصّفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ
شعَائِرِ اللّهِ } ثم قال " :أبدأ بما بدأ ال به" .وفي رواية النسائي " :ابدؤوا بما بدأ ال به" (.)1
َ
وقال المام أحمد :حدثنا شريح ،حدثنا عبد ال بن المؤمل ،عن عطاء بن أبي رباح ،عن
صفية بنت شيبة ،عن حَبِيبة بنت أبي تجراة ( )2قالت :رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم
يطوف بين الصفا والمروة ،والناس بين يديه ،وهو وراءهم ،وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من
شدة السعي يدور به إزاره ،وهو يقول " :اسعَوا ،فإن ال كتب عليكم السعي" (.)3
ثم رواه المام أحمد ،عن عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن واصل -مولى أبي عُيَينة -عن
موسى بن عبيدة ( )4عن صفية بنت شيبة ،أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى ال عليه
وسلم بين الصفا والمروة يقول " :كتب عليكم السعي ،فاسعوا" (.)5
وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ،كما
هو مذهب الشافعي ،ومن وافقه [ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك] ( .)6وقيل :إنه
واجب ،وليس بركن [فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة
وقيل :بل مستحب ،وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين ،وروي عن أنس
وابن عمر وابن عباس ،وحكي عن مالك في العتبية ،قال القرطبي :واحتجوا بقوله َ { :فمَنْ
ط ّوعَ خَيْرًا } ] ( .)7وقيل :بل مستحب .والقول الول أرجح ،لنه عليه السلم طاف بينهما ،
تَ َ
وقال " :لتأخذوا عني مناسككم" .فكل ما فعله في حَجته تلك واجب ل بد من فعله في الحج ،إل ما
خرج بدليل ،وال أعلم [وقد تقدم قوله عليه السلم " :اسعوا فإن ال كتب عليكم السعي"] (.)8
فقد بين ال -تعالى -أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر ال ،أي :مما شرع ال تعالى
لبراهيم الخليل في مناسك الحج ،وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف
( )9هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها ،لما نفد ماؤها وزادُها ،حين
تركهما إبراهيم -عليه السلم -هنالك ليس عندهما أحد من الناس ،فلما خافت الضيعة على
ولدها هنالك ،ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من ال ،عز وجل ،فلم تزل تردد ( )10في
هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى ال ،عز وجل ،
حتى كشف ال كربتها ،وآنس غربتها ،وفرج شدتها ،وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم ،
وشفاء سقم ،فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى ال في هداية قلبه
وصلح حاله وغفران ذنبه ،وأن يلتجئ إلى ال ،
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)1218
( )2في جـ " :بنت أبي تجر".
( )3المسند (.)6/421
( )4في أ " :بن عبدة".
( )5المسند (.)6/437
( )6زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )7زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )8زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )9في جـ " :تطوف" وفي أ " :طواف".
( )10في جـ " :تزل تتردد".
( )1/471
إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْلكِتَابِ أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُنهُمُ اللّهُ
وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللّاعِنُونَ ( )159إِلّا الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا وَبَيّنُوا فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ وَأَنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (
ج َمعِينَ ()161
)160إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةُ اللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ وَالنّاسِ أَ ْ
خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَلَا هُمْ يُ ْنظَرُونَ ()162
خَاِلدِينَ فِيهَا لَا ُي َ
عز وجل ،ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب ،وأن يهديه إلى الصراط المستقيم ( )1وأن
يثبته عليه إلى مماته ،وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي ،إلى حال
الكمال والغُفران والسداد والستقامة ،كما فعل بهاجر -عليها السلم.
طوّعَ خَيْرًا } ( )2قيل :زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة
وقوله َ { :فمَنْ َت َ
ونحو ذلك .وقيل :يطوف بينهما ( )3في حجة تطوع ،أو عمرة تطوع .وقيل :المراد تطوع
خيرًا في سائر العبادات .حكى ذلك [فخر الدين] ( )4الرازي ،وعزي الثالث إلى الحسن البصري
،وال أعلم .وقوله { :فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي :يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء
ع ْفهَا وَيُ ْؤتِ مِنْ لَدُ ْنهُ أَجْرًا
حسَنَةً ُيضَا ِ
فل يبخس أحدا ثوابه و { ل َيظْلِمُ مِ ْثقَالَ ذَ ّر ٍة وَإِنْ َتكُ َ
عَظِيمًا } [النساء .]40 :
ت وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْلكِتَابِ أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُنهُمُ
{ إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ
اللّ ُه وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللعِنُونَ ( )159إِل الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا وَبَيّنُوا فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ وَأَنَا ال ّتوّابُ
ج َمعِينَ (
الرّحِيمُ ( )160إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةُ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ أَ ْ
خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَل ُهمْ يُنْظَرُونَ (} )162
)161خَالِدِينَ فِيهَا ل ُي َ
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدللت البينة على المقاصد الصحيحة والهدى
النافع للقلوب ،من بعد ما بينه ال -تعالى -لعباده في كتبه ،التي أنزلها على رسله.
قال ( )5أبو العالية :نزلت في أهل الكتاب ،كتمُوا صفة محمد صلى ال عليه وسلم ثم أخبر أنهم
( .)6يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك ،فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء ،حتى الحوت في
الماء والطير في الهواء ،فهؤلء ( )7بخلف العلماء [الذين يكتمون] ( )8فيلعنهم ال ويلعنهم
اللعنون .وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا ،عن أبي هريرة ،وغيره :
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من سُئِل عن علم فكتمه ،ألجم يوم القيامة بلجام من
نار" ( .)9والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال :لول آية في كتاب ال ما حدثتُ أحدًا شيئًا
ت وَا ْلهُدَى } الية (.)10
{ :إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن عرفة ،حدثنا عمار بن محمد ،عن ليث بن أبي سليم ،
__________
( )1في جـ " :إلى صراط مستقيم" ،وفي ط " :إلى صراطه المستقيم".
( )2في أ ،و " :ومن".
( )3في أ " :بها".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )5في جـ " :وقال".
( )6في جـ " :أنه".
( )7في جـ " :فهو".
( )8زيادة من جـ ،ط.
( )9المسند ( )2/263وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف" (- 1/252
)257في ذكر طرق هذا الحديث.
( )10صحيح البخاري برقم ( )118وصحيح مسلم برقم (.)2492
( )1/472
( )1/473
من الئمة ،يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ؛ فأما الكافر المعين ،فقد ذهب جماعة من العلماء
إلى أنه ل يلعن لنا ل ندري بما يختم له ،واستدل بعضهم بهذه الية { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا
ج َمعِينَ } وقالت طائفة أخرى :بل يجوز لعن
وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْنَةُ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ َأ ْ
الكافر المعين .واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ،ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ،
واستدل غيره بقوله ،عليه السلم ،في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران
فيحده ،فقال رجل :لعنه ال ،ما أكثر ما يؤتى به ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل
تلعنه فإنه يحب ال ورسوله" ( )1قالوا :فعلّة المنع من لعنه ؛ بأنه يحب ال ورسوله فدل على أن
من ل يحب ال ورسوله يلعن ،وال أعلم.
حمَنُ الرّحِيمُ (} )163
حدٌ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الرّ ْ
{ وَإَِل ُهكُمْ ِإلَ ٌه وَا ِ
يُخبرُ تعالى عن تفرده باللهية ،وأنه ل شريك له ول عَديل له ،بل هو ال الواحد الحد الفرد
الصمد ،الذي ل إله إل هو وأنه الرحمن الرحيم .وقد تقدم تفسير هذين السمين في أول السورة
( .)2وفي الحديث عن شهر بن حوشب ،عن أسماء بنت يزيد بن السكن ،عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أنه قال " :اسم ال العظم في هاتين اليتين { :وَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ ل إَِلهَ إِل ُهوَ
حيّ ا ْلقَيّومُ } [آل عمران )3( " ]2 ، 1 :
حمَنُ الرّحِيمُ } و { الم * اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ
الرّ ْ
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( )6780من حديث عمر رضي ال عنه.
( )2في جـ ،ط ،أ ،و " :في أول الفاتحة".
( )3رواه أبو داود في السنن برقم ( )1496والترمذي في السنن برقم ( )3478وقال الترمذي :
"هذا حديث حسن صحيح".
( )1/474
ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ
ت وَالْأَ ْرضِ وَاخْتِلَافِ اللّ ْي ِ
سمَاوَا ِ
إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ
سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا ِبهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ
س َومَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ
النّا َ
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ ()164
سخّرِ بَيْنَ ال ّ
ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ
وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ
{ إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ
سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا ِب ِه الَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ
س َومَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ
النّا َ
ض ليَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ (} )164
سمَا ِء وَالَرْ ِ
سخّرِ بَيْنَ ال ّ
ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ
وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ
ثم ذكر الدليل على تفرده باللهية [بتفرده] ( )1بخلق السموات والرض وما فيهما ،وما بين ذلك
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ
مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته ،فقال { :إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ
سمَاءِ مِنْ
س َومَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ
ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّا َ
وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ
سخّرِ بَيْنَ
ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ
مَاءٍ فَأَحْيَا بِ ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا وَبَثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّ ٍة وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } تلك في
ض ليَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } يقول تعالى { :إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ
سمَاءِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
[لطافتها و] ( )2ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ،وهذه الرض في
عمْرانها وما فيها من المنافع
[كثافتها و] ( )3انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها َووِهَادها و ُ
ل وَال ّنهَارِ } هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الخر ويعقبه ،ل ( )4يتأخر عنه لحظة ،
{ وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ
شمْسُ يَنْ َبغِي َلهَا أَنْ تُدْ ِركَ ا ْلقَمَ َر وَل اللّ ْيلُ سَابِقُ ال ّنهَا ِر َوكُلّ فِي فََلكٍ
كما قال تعالى { :ل ال ّ
يَسْ َبحُونَ } [يس ]40 :وتارة يطول هذا ويقصر هذا ،وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان ،كما
قال تعالى { :يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ } [الحج ]61 :أي :يزيد من هذا في
هذا ،ومن هذا في هذا { وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّاسَ }
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )2زيادة من أ.
( )3زيادة من أ.
( )4في ط " :ول".
( )1/474
أي :في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس ،والنتفاع بما عند أهل
سمَاءِ مِنْ
ذلك القليم ،ونقل هذا إلى هؤلء وما عند أولئك إلى هؤلء (َ { )1ومَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ
مَاءٍ فَأَحْيَا بِ ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا } كما قال تعالى { :وَآ َيةٌ َلهُ ُم الَ ْرضُ ا ْلمَيْتَةُ َأحْيَيْنَاهَا وََأخْرَجْنَا
ب َوفَجّرْنَا فِيهَا مِنَ ا ْلعُيُونِ * لِيَ ْأكُلُوا
ل وَأَعْنَا ٍ
جعَلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مِنْ نَخِي ٍ
مِ ْنهَا حَبّا َفمِنْهُ يَ ْأكُلُونَ * َو َ
ت الَ ْرضُ
شكُرُونَ * سُ ْبحَانَ الّذِي خََلقَ ال ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُنْ ِب ُ
عمِلَ ْتهُ أَيْدِيهِمْ َأفَل يَ ْ
مِنْ َثمَ ِرهِ َومَا َ
س ِه ْم َو ِممّا ل َيعَْلمُونَ } [يس {]36 - 33 :وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ } أي :على اختلف
َومِنْ أَ ْنفُ ِ
أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها ،وهو يعلم ذلك كله ويرزقه ل يخفى عليه شيء من
عهَا
ذلك ،كما قال تعالى َ { :ومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الَرْضِ إِل عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
ُكلّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود {]6 :وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ } أي :تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي
بالعذاب ،تارة ( )2تأتي مبشرة ( )3بين يدي السحاب ،وتارة تسوقه ،وتارة تجمعه ،وتارة
تفرقه ،وتارة تصرفه [ ،ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية ،وتارة تأتي من ناحية اليمن
وتارة صبا ،وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة ،وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر
الكعبة والرياح تسمى كلها بحسب مرورها على الكعبة .وقد صنف الناس في الرياح والمطر
والنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها ،وبسط ذلك يطول هاهنا ،وال أعلم] (.)4
سمَا ِء وَالَرْضِ } [أي :سائر بين السماء والرض] (ُ )5يسَخّر إلى ما
سخّرِ بَيْنَ ال ّ
{ وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ
يشاء ال ( )6من الراضي والماكن ،كما يصرفه تعالى { :ليَاتٍ ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ } أي :في هذه
ت وَالَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
الشياء دللت بينة على وحدانية ال تعالى ،كما قال تعالى { :إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ
ت لولِي اللْبَابِ * الّذِينَ يَ ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا َو ُقعُودًا وَعَلَى جُنُو ِبهِمْ
ل وَال ّنهَارِ ليَا ٍ
وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ رَبّنَا مَا خََل ْقتَ هَذَا بَاطِل سُبْحَا َنكَ َفقِنَا عَذَابَ النّارِ } [آل
وَيَتَ َفكّرُونَ فِي خَلْقِ ال ّ
عمران .]191 ، 190 :وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه :أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ،
حدثنا أبو سعيد الدّشْ َت ِكيّ ،حدثني أبي ،عن أبيه ،عن أشعث بن إسحاق ،عن جعفر بن أبي
المغيرة ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :أتت قريش محمدًا صلى ال عليه وسلم فقالوا
:يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ،فنشتري به الخيل والسلح ،فنؤمن
بك ونقاتل معك .قال " :أوثقوا ( )7لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا ل ُتؤْمنُنّ بي" فأوثقوا
له ،فدعا ربه ،فأتاه جبريل فقال :إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك
عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين .قال محمد صلى ال عليه وسلم " :ربّ ل بل دعني
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ
وقومي فلدعهم يومًا بيوم" .فأنزل ال هذه الية { :إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ
ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّاسَ } الية.
اللّ ْي ِ
__________
( )1في جـ " :أولئك لهؤلء".
( )2في جـ " :وتارة".
( )3في أ " :مسيرة".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )5زيادة من جـ ،أ ،و.
( )6في جـ " :مسخرا إلى ما شاء ال" وفي ط " :مسخر إلى ما يشاء ال".
( )7في أ " :أوقفوا".
( )1/475
ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ،عن جعفر بن أبي المغيرة ،به ( .)1وزاد في آخره :وكيف
يسألونك عن الصفا وهم يرون من اليات ما هو أعظم من الصفا.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا :حدثنا أبي ،حدثنا أبو حذيفة ،حدثنا شبل ،عن ابن أبي نَجيح ،عن
عطاء ،قال :نزلت على النبي صلى ال عليه وسلم بالمدينة { :وَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ ل إَِلهَ إِل ُهوَ
حمَنُ الرّحِيمُ } فقال كفار قريش بمكة :كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل ال تعالى { :إِنّ فِي
الرّ ْ
ل وَال ّنهَا ِر وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي َتجْرِي فِي الْبَحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّاسَ }
ض وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
خَ ْلقِ ال ّ
إلى قوله { :ليَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }
فبهذا يعلمون أنه إله واحد ،وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء.
وقال وكيع :حدثنا سفيان ،عن أبيه ،عن أبي الضحى قال :لما نزلت { :وَإَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }
خلْقِ
إلى آخر الية ،قال المشركون :إن كان هكذا فليأتنا بآية .فأنزل ال عز وجل { :إِنّ فِي َ
ل وَال ّنهَارِ } إلى قوله َ { :ي ْعقِلُونَ }
ض وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
ورواه آدم بن أبي إياس ،عن أبي جعفر -هو الرازي -عن سعيد بن مسروق ،والد سفيان ،
عن أبي الضحى ،به.
شدّ حُبّا لِلّ ِه وََلوْ يَرَى
حبّ اللّ ِه وَالّذِينَ آمَنُوا أَ َ
{ َومِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا يُحِبّو َنهُمْ َك ُ
شدِيدُ ا ْل َعذَابِ (ِ )165إذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا
جمِيعًا وَأَنّ اللّهَ َ
الّذِينَ ظََلمُوا إِذْ يَ َروْنَ ا ْل َعذَابَ أَنّ ا ْل ُق ّوةَ لِلّهِ َ
ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ (َ )166وقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً
ب وَ َتقَ ّ
مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُوا وَرََأوُا ا ْلعَذَا َ
عمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَ ْيهِ ْم َومَا ُهمْ بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ (
فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّءُوا مِنّا كَ َذِلكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَ ْ
} )167
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الخرة ،حيث جعلوا [له] ( )2أندادًا ،
أي :أمثال ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ،وهو ال ل إله إل هو ،ول ضد له ول ندّ له
،ول شريك معه .وفي الصحيحين عن عبد ال بن مسعود قال :قلت :يا رسول ال ،أي الذنب
أعظم ؟ قال " :أن تجعل ل ندًا وهو خَلقَك" (.)3
شدّ حُبّا لِلّهِ } ولحبهم ل وتمام معرفتهم به ،وتوقيرهم وتوحيدهم له ،ل
وقوله { :وَالّذِينَ آمَنُوا أَ َ
يشركون به شيئًا ،بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ،ويلجؤون في جميع أمورهم إليه .ثم َتوَعّدَ
تعالى المشركين به ،الظالمين لنفسهم بذلك فقال { :وََلوْ يَرَى الّذِينَ ظََلمُوا إِذْ يَ َروْنَ ا ْلعَذَابَ أَنّ
جمِيعًا }.
ا ْل ُقوّةَ لِلّهِ َ
__________
( )1ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )12/12من طريق يحيى الحماني عن يعقوب القمي ،
عن جعفر بن أبي المغيرة به نحوه.
( )2زيادة من جـ.
( )3صحيح البخاري برقم ( )4477وصحيح مسلم برقم (.)68
( )1/476
قال بعضهم :تقدير الكلم :لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة ل جميعًا ،أي :إن الحكم له
( )1وحده ل شريك له ،وأن جميع الشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه { وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْلعَذَابِ }
ق وَثَاقَهُ َأحَدٌ } [الفجر ]26 ، 25 :يقول :لو
حدٌ * وَل يُوثِ ُ
كما قال { :فَ َي ْومَئِذٍ ل ُيعَ ّذبُ عَذَا َبهُ أَ َ
علموا ما يعاينونه ( )2هنالك ،وما يحل بهم من المر الفظيع المنكر الهائل على شركهم
وكفرهم ،لنتهوا عما هم فيه من الضلل.
ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين ،فقال { :إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا مِنَ
ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ] ( } )3تبرأت منهم الملئكة الذين كانوا
الّذِينَ اتّ َبعُوا [وَرََأوُا ا ْل َعذَابَ وَتَقَ ّ
يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا ،فتقول الملئكة { :تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْبُدُونَ }
ت وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْبُدُونَ ا ْلجِنّ َأكْثَرُهُمْ ِب ِهمْ
[القصص ]63 :ويقولون { :سُ ْبحَا َنكَ أَ ْن َ
ُم ْؤمِنُونَ } [سبأ ]41 :والجن أيضًا تتبرأ منهم ،ويتنصلون من عبادتهم لهم ،كما قال تعالى :
ن ل َيسْتَجِيبُ َلهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ عَنْ دُعَا ِئهِمْ غَافِلُونَ
ضلّ ِممّنْ َيدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَ ْ
{ َومَنْ َأ َ
عدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ } [الحقاف ]6 ، 5 :وقال تعالى :
* وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَ ْ
{ وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آِل َهةً لِ َيكُونُوا َل ُهمْ عِزّا * كَل سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِ ْم وَ َيكُونُونَ عَلَ ْي ِه ْم ضِدّا }
[مريم ]82 ، 81 :وقال الخليل لقومه { :إِ ّنمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِن ُكمْ فِي الْحَيَاةِ
ضكُمْ َب ْعضًا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ
ضكُمْ بِ َب ْعضٍ وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ
الدّنْيَا ُثمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ
نَاصِرِينَ } [العنكبوت ]25 :وقال تعالى { :وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ َموْقُوفُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ يَ ْرجِعُ
ضعِفُوا لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َلوْل أَنْ ُتمْ َلكُنّا ُم ْؤمِنِينَ * قَالَ الّذِينَ
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ ا ْلقَ ْولَ َيقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ
َب ْع ُ
ن صَدَدْنَا ُكمْ عَنِ ا ْلهُدَى َب ْعدَ إِذْ جَا َء ُكمْ َبلْ كُنْتُمْ مُجْ ِرمِينَ * َوقَالَ الّذِينَ
ض ِعفُوا أَ َنحْ ُ
اسْ َتكْبَرُوا لِلّذِينَ اسْ ُت ْ
ج َعلَ َلهُ أَنْدَادًا وَأَسَرّوا
ل وَال ّنهَارِ إِذْ تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َن ْكفُرَ بِاللّ ِه وَ َن ْ
ض ِعفُوا لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َبلْ َمكْرُ اللّ ْي ِ
اسْ ُت ْ
جعَلْنَا الغْللَ فِي أَعْنَاقِ الّذِينَ َكفَرُوا َهلْ ُيجْ َزوْنَ إِل مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
ب وَ َ
النّدَا َمةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ
ضيَ المْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ ا ْلحَقّ
[سبأ ]33 - 31 :وقال تعالى َ { :وقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَل تَلُومُونِي وَلُومُوا
َووَعَدْ ُتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ لِي عَلَ ْيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِل أَنْ دَ َ
خيّ إِنّي َكفَرْتُ ِبمَا أَشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ
خ ُك ْم َومَا أَنْتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
سكُمْ مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ
أَ ْنفُ َ
عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم .]22 :
ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ } أي :عَاينوا عذاب ال ،وتقطّعت بهم الح َيلُ
ب وَ َتقَ ّ
وقوله { :وَرََأوُا ا ْلعَذَا َ
وأسباب الخلص ولم يجدوا عن النار َمعْدل ول َمصْرفا.
ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ } قال :المودة .وكذا قال مجاهد في رواية
قال عطاء عن ابن عباس { :وَ َتقَ ّ
ابن أبي نجيح.
عوْدة ()4
وقوله َ { :وقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّءُوا مِنّا } أي :لو أن لنا َ
إلى
__________
( )1في جـ ،ط " :إن الحكم ل".
( )2في جـ " :ما يعاينوه".
( )3زيادة من جـ.
( )4في ط " :دعوة".
( )1/477
( )1/478
( )1/479
وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ آَبَاؤُ ُهمْ لَا َي ْعقِلُونَ شَيْئًا
ع ْميٌ
سمَعُ إِلّا دُعَا ًء وَنِدَا ًء صُمّ ُب ْكمٌ ُ
وَلَا َيهْتَدُونَ (َ )170ومَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا َكمَثَلِ الّذِي يَ ْنعِقُ ِبمَا لَا َي ْ
شكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ
َفهُمْ لَا َي ْعقِلُونَ ( )171يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ
علَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وََلحْمَ ا ْلخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ
َتعْبُدُونَ ( )172إِ ّنمَا حَرّمَ َ
غفُورٌ رَحِيمٌ ()173
بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ
( )1/480
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أيها الناس ،إن ال طيب ل يقبل إل طيبًا ،وإن ال
عمَلُوا صَالِحًا إِنّي
سلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَا ْ
أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ،فقال { :يَا أَ ّيهَا الرّ ُ
ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون ]51 :وقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ } ثم
ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر ،يمدّ يديه إلى السماء :يا رب ،يا رب ،ومطعمه حرام
ومشربه حرام ،وملبسه حرام ،وغُذي بالحرام ،فأنى يستجاب لذلك".
ورواه مسلم في صحيحه ،والترمذي من حديث [فضيل] ( )1بن مرزوق (.)2
ولما امتن تعالى عليهم برزقه ،وأرشدهم إلى الكل من طيبه ،ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك
إل الميتة ،وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ،وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو
مُتَردّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع.
طعَامُهُ مَتَاعًا َلكُمْ
حلّ َلكُ ْم صَيْدُ الْ َبحْ ِر وَ َ
وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى ُ { :أ ِ
وَلِلسّيّا َرةِ } [المائدة ]96 :على ما سيأتي ،وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ
والسنن قوله ،عليه السلم ،في البحر " :هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد
وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا " :أحل لنا ميتتان ودمان :السمك والجراد ،
والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة (.)3
ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لنه جزء منها .وقال مالك في
رواية :هو طاهر إل أنه ينجس بالمجاورة ،وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلف والمشهور عندهم
أنها نجسة ،وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ،فقال القرطبي في تفسيره
هاهنا :يخالط اللبن منها يسير ،ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع .وقد روى
ابن ماجة من حديث سيف بن هارون ،عن سليمان التيمي ،عن أبي عثمان النهدي ،عن سلمان
سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ،فقال " :الحلل ما أحل ال في
كتابه ،والحرام ما حرم ال في كتابه ،وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (.)4
خلُ شَحْمه في حكم لحمه (
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ،سواء ُذكّي أو مات حَتْف أنفه ،ويد ُ
)5إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك ،أو بطريق القياس على رأي .و[كذلك] ( )6حَرّم عليهم ما
أ ِهلّ به لغير ال ،وهو ما ذبح على غير اسمه ( )7تعالى من النصاب والنداد والزلم ،ونحو
ذلك
__________
( )1زيادة من أ.
( )2المسند ( )2/328وصحيح مسلم برقم ( )1015وسنن الترمذي برقم (.)2989
( )3وسيأتي تخريج الحديثين عند تفسير أول سورة المائدة.
( )4سنن ابن ماجة برقم ( )3367ورواه الترمذي في السنن برقم ( )1726من طريق سيف بن
هارون به وقال " :هذا حديث غريب ل نعرفه مرفوعا إل من هذا الوجه" .وروى سفيان وغيره
عن سليمان التيمي ،عن أبي عثمان ،عن سلمان قوله ،وكأن الحديث الموقوف أصح ،وسألت
البخاري عن هذا الحديث فقال :ما أراه محفوظا ،روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي
عثمان ،عن سلمان موقوفا ،قال البخاري " :وسيف بن هارون مقارب الحديث ،وسيف بن
محمد ،عن عاصم ذاهب الحديث".
( )5في جـ " :ويدخل لحمه في حكم شحمه".
( )6زيادة من جـ ،أ ،و.
( )7في جـ " :غير اسم ال".
( )1/481
مما كانت الجاهلية ينحرون له[ .وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري :أنه
سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال :ل تؤكل لنها ذبحت لصنم ؛ وأورد
القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين ،فقالت :ما
ذبح لذلك اليوم فل تأكلوه ،وكلوا من أشجارهم] ( .)1ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة
ضطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَل عَادٍ } أي :
والحتياج إليها ،عند فقد غيرها من الطعمة ،فقال َ { :فمَنِ ا ْ
غفُورٌ
في غير بغي ول عدوان ،وهو مجاوزة الحد { فَل إِثْمَ عَلَ ْيهِ } أي :في أكل ذلك { إِنّ اللّهَ َ
رَحِيمٌ }
وقال مجاهد :فمن اضطر غير باغ ول عاد ،قاطعًا للسبيل ،أو مفارقًا للئمة ،أو خارجًا في
معصية ال ،فله الرخصة ،ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية ال فل رخصة له ،وإن
اضطر إليه ،وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال سعيد -في رواية عنه -ومقاتل بن حيان :غير باغ :يعني غير مستحله .وقال السدي :
غير باغ يبتغي فيه شهوته ،وقال عطاء الخراساني في قوله { :غَيْرَ بَاغٍ } [قال] ( )2ل يشوي
من الميتة ليشتهيه ول يطبخه ،ول يأكل إل العُ ْلقَة ،ويحمل معه ما يبلغه الحلل ،فإذا بلغه ألقاه
[وهو قوله { :وَل عَادٍ } يقول :ل يعدو به الحلل] (.)3
وعن ابن عباس :ل يشبع منها .وفسره السدي بالعدوان .وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَل عَادٍ }
قال { :غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَل عَادٍ } في أكله .وقال قتادة :فمن اضطر غير باغ ول عاد في
( )4أكله :أن يتعدى حلل إلى حرام ،وهو يجد عنه مندوحة.
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله َ { :فمَنِ اضْطُرّ } أي :أكره على ذلك بغير اختياره.
مسألة :ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث ل قطع فيه ول أذى ،فإنه ل
يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بل خلف -كذا قال -ثم قال :وإذا أكله ،والحالة هذه ،
هل يضمنه أم ل ؟ فيه قولن هما روايتان عن مالك ،ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث
شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية :سمعت عباد بن العنزي ( )5قال :أصابتنا عامًا
مخمصة ،فأتيت المدينة ( .)6فأتيت حائطا ،فأخذت سنبل ففركته وأكلته ،وجعلت منه في
كسائي ،فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ،فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم
فأخبرته ،فقال للرجل " :ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا ،ول علمته إذ كان جاهل" (.)7
فأمره فرد إليه ثوبه ،وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ،إسناد صحيح قوي جيد وله
شواهد كثيرة :من ذلك حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده :سئل رسول ال صلى ال
عليه وسلم عن الثمر المعلق ،فقال " :من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة ( )8فل
شيء عليه" ( )9الحديث.
__________
( )1زيادة من جـ ،أ.
( )2زيادة من جـ.
( )3زيادة من و.
( )4في جـ " :ول عاد أي".
( )5في أ " :شرحيل الفتوى" وفي ط " :بشر العنزي" والصواب ما أثبتناه.
( )6في أ " :فأتيت الحتفية".
( )7سنن ابن ماجة برقم (.)2298
( )8في أ " :غير منحن جيبه".
( )9رواه الترمذي في السنن برقم ( )1289وقال " :هذا حديث حسن".
( )1/482
ب وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنًا قَلِيلًا أُولَ ِئكَ مَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ إِلّا
إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
عذَابٌ أَلِيمٌ ( )174أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّلَالَةَ
النّا َر وَلَا ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَا يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ
ق وَإِنّ
حّبِا ْلهُدَى وَا ْلعَذَابَ بِا ْل َم ْغفِ َرةِ َفمَا َأصْبَرَ ُهمْ عَلَى النّارِ ( )175ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
شقَاقٍ َبعِيدٍ ()176
الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ َلفِي ِ
( )1/483
( )1/484
ب وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ َآمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَا ْلمَلَا ِئكَةِ
لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا ُوجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِ ِ
ل وَالسّائِلِينَ
ن وَآَتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ َذوِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِي ِ
وَا ْلكِتَابِ وَالنّبِيّي َ
ب وََأقَامَ الصّلَا َة وَآَتَى ال ّزكَا َة وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْ ِدهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
َوفِي ال ّرقَا ِ
ن صَ َدقُوا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ ()177
وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَ ْأسِ أُولَ ِئكَ الّذِي َ
ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ
{ لَ ْيسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْل َمشْرِ ِ
ن وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ َذوِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ
ب وَالنّبِيّي َ
وَا ْلمَل ِئكَةِ وَا ْلكِتَا ِ
ن َوفِي ال ّرقَابِ وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْدِهِمْ إِذَا عَا َهدُوا وَالصّابِرِينَ فِي
وَالسّائِلِي َ
ن صَ َدقُوا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ (} )177
الْبَأْسَا ِء وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَ ْأسِ أُولَ ِئكَ الّذِي َ
اشتملت هذه الية الكريمة ،على جمَل عظيمة ،وقواعد عميمة ،وعقيدة مستقيمة ،كما قال ابن
أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عُبيد ( )1بن هشام الحلبي ،حدثنا عبيد ال بن عمرو ،عن عامر
شفَي ،عن عبد الكريم ،عن مجاهد ،عن أبي ذر :أنه سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم
بن ُ
:ما اليمان ؟ فتل عليه { :لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا ُوجُو َهكُمْ } إلى آخر الية .قال :ثم سأله أيضًا ،
فتلها عليه ( )2ثم سأله .فقال " :إذا عملت حسنة أحبها ( )3قلبك ،وإذا عملت سيئة أبغضها ()4
قلبك" (.)5
وهذا منقطع ؛ فإن ( )6مجاهدًا لم يدرك أبا ذر ؛ فإنه مات قديمًا.
وقال المسعودي :حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ،قال :جاء رجل إلى أبي ذر ،فقال :ما اليمان
؟ فقرأ ( )7عليه هذه الية { :لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ } حتى فرغ منها .فقال الرجل :ليس
عن البر سأل ُتكَ .فقال أبو ذر :جاء رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأله عما سألتني
عنه ،فقرأ عليه هذه الية ،فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] ( )8أ ن ترضى فقال له رسول ال
صلى ال عليه وسلم -وأشار بيده " : -المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها ،وإذا عمل
سيئة أحزنته وخاف عقابها" (.)9
رواه ابن مَرْدُويه ،وهذا أيضًا منقطع ،وال أعلم.
وأما الكلم على تفسير هذه الية ،فإن ال تعالى لما أمر المؤمنين أول بالتوجه إلى بيت
المقدس ،ثم حوّلهم إلى الكعبة ،شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ،
فأنزل ال تعالى بيان حكمته في ذلك ،وهو أن المراد إنما هو طاعة ال عز وجل ،وامتثال
أوامره ،والتوجه حيثما وجه ،واتباع ما شرع ،فهذا هو البر والتقوى واليمان الكامل ،وليس
في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ول طاعة ،إن لم يكن عن أمر ال
ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ
وشرعه ؛ ولهذا قال { :لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ
بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ } الية ،كما قال في الضاحي والهدايا { :لَنْ يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَل ِدمَاؤُهَا
وََلكِنْ يَنَالُهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ } [الحج .]37 :
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الية :ليس البر أن ُتصَلّوا ول تعملوا .فهذا حين تحول من
مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ،فأمر ال بالفرائض والعمل بها.
__________
( )1في جـ " :حدثنا عبيدة".
( )2في جـ " :فتل عليه".
( )3في جـ " :فأحبها".
( )4في جـ " :فأبغضها".
( )5ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلة" برقم ( )409من طريق عبد الرزاق ،عن
معمر ،عن عبد الكريم ،عن مجاهد به.
( )6في جـ " :لن".
( )7في جـ " :فتل".
( )8زيادة من أ.
( )9ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلة" برقم ( )408من طريق عبد ال بن يزيد
والملئي ،كلهما عن المسعودي به نحوه ،ورواه الحاكم ( )2/272من طريق موسى بن
أعين ،عن عبد الكريم به نحوه ،وقال " :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"
وتعقبه الذهبي " :قلت :وهو منقطع".
( )1/485
( )1/486
الحديث " :الصدقة على المساكين ( )1صدقة ،وعلى ذوي الرحم ثنتان :صدقة وصلة" .فهم
أولى الناس بك وببرك وإعطائك .وقد أمر ال تعالى بالحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه
العزيز.
{ وَالْيَتَامَى } هم :الذين ل كاسب ( )2لهم ،وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ
والقدرة على التكسب ،وقد قال عبد الرزاق :أنبأنا َم ْعمَر ،عن جويبر ،عن الضحاك ،عن
حلُم".
النزال بن سبرة ،عن علي ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يُتْم بعد ُ
سدّ به
{ وَا ْلمَسَاكِينَ } وهم :الذين ل يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ،فيعطون ما تُ َ
حاجتهم وخلتهم .وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ليس
المسكين بهذا الطوّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ،ولكن المسكين الذي ل يجد
غنى يغنيه ،ول يفطن له ( )3فَيُ َتصَدق عليه (.)4
{ وَابْنَ السّبِيلِ } وهو :المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ،وكذا
الذي يريد سفرا في طاعة ،فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ،ويدخل في ذلك الضيف ،كما قال
علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس أنه قال :ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ،
وكذا قال مجاهد ،وسعيد بن جبير ،وأبو جعفر الباقر ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك
والزهري ،والربيع بن أنس ،ومقاتل بن حيان.
{ وَالسّا ِئلِينَ } وهم :الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ،كما قال المام
أحمد :
حدثنا َوكِيع وعبد الرحمن ،قال حدثنا سفيان ،عن مصعب بن محمد ،عن يعلى بن أبي يحيى ،
عن فاطمة بنت الحسين ،عن أبيها ( - )5قال عبد الرحمن :حسين بن علي -قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :للسائل حق وإن جاء على فرس" .رواه أبو داود.
{ َوفِي ال ّرقَابِ } وهم :المكاتبون الذين ل يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلم على كثير من هذه الصناف ( )6في آية الصدقات من براءة ،إن شاء ال تعالى.
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا يحيى بن عبد الحميد ،حدثنا شريك ،عن أبي حمزة ،
عن الشعبي ،حدثتني فاطمة بنت قيس :أنها سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم :أفي المال
حق سوى الزكاة ؟ قالت :فتل علي { وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ } (.)7
ورواه ابن مَ ْردُويه من حديث آدم بن أبي إياس ،ويحيى بن عبد الحميد ،كلهما ،عن شريك ،
__________
( )1في أ " :على المسلمين".
( )2في أ " :ل مكاسب".
( )3في أ " :ل يجد ما يغنيه ول ينظر له".
( )4صحيح البخاري برقم ( )1479وصحيح مسلم برقم (.)1039
( )5في جـ " :فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ " :فاطمة بنت حسين بن علي ،عن حسين بن
علي".
( )6في جـ " :من الصناف هذه".
( )7هو في صحيح البخاري برقم ( )33وصحيح مسلم برقم ( )59من حديث أبي هريرة رضي
ال عنه.
( )1/487
عن أبي حمزة عن الشعبي ،عن فاطمة بنت قيس ،قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
ق وَا ْل َمغْرِبِ } إلى
"في المال حق سوى الزكاة" ثم تل ( { )1لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ
قوله َ { :وفِي ال ّرقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي ( )2وضعف أبا حمزة ميمونًا ( )3العور ،قال :وقد رواه
بيان ( )4وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (.)5
وقوله { :وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ } أي :وأتم أفعال الصلة في أوقاتها بركوعها ،وسجودها ،
وطمأنينتها ،وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله { :وَآتَى ال ّزكَاةَ } يُحْ َت َملُ أن يكون المراد به زكاة النفس ،وتخليصها من الخلق الدنية (
)6الرذيلة ،كقوله { :قَدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا * َوقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا } [الشمس ]10 ، 9 :وقول
خشَى } [النازعات ]19 ، 18 :
موسى لفرعون َ { :هلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى * وَأَ ْهدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ فَتَ ْ
وقوله تعالى َ { :ووَيْلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ * الّذِينَ ل ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ } [فصلت .]7 ، 6 :
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال ( )7كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ،ويكون
المذكور من إعطاء ( )8هذه الجهات والصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ؛ ولهذا
تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس :أن في المال حقا سوى الزكاة ،وال أعلم.
وقوله { :وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْ ِدهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا } كقوله { :الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ وَل يَ ْن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ }
[الرعد ]20 :وعكس هذه الصفة النفاق ،كما صح في الحديث " :آية المنافق ثلث :إذا حدث
كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤتمن خان" .وفي الحديث الخر " :إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر
،وإذا خاصم فجر" (.)9
وقوله { :وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَأْسِ } أي :في حال الفقر ،وهو البأساء ،
وفي حال المرض والسقام ،وهو الضراء { .وَحِينَ الْبَ ْأسِ } أي :في حال القتال والتقاء
العداء ،قاله ابن مسعود ،وابن عباس ،وأبو العالية ،ومُرّة الهمداني ،ومجاهد ،وسعيد بن
جبير ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،والسدي ،ومقاتل بن حيان ،وأبو مالك ،
والضحاك ،وغيرهم.
صبَ { وَالصّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الحوال لشدته وصعوبته ،
وإنما ُن ِ
وال أعلم ،وهو المستعان وعليه التكلن.
ن صَ َدقُوا } أي :هؤلء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في
وقوله { :أُولَ ِئكَ الّذِي َ
إيمانهم ؛ لنهم حققوا اليمان القلبي بالقوال والفعال ،فهؤلء هم الذين صدقوا { وَأُولَ ِئكَ ُهمُ
ا ْلمُ ّتقُونَ }
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :ثم قرأ".
( )2سنن الترمذي برقم ( )659وسنن ابن ماجة برقم ( )1789وقال الترمذي " :هذا حديث ليس
إسناده بذاك ،وأبو حمزة يضعف في الحديث ،وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي
قوله ،وهو أصح".
( )3في أ " :عونا".
( )4في جـ " :سيار" والصواب ما أثبتناه".
( )5زيادة من جـ ،أ.
( )6في جـ " :الذميمة".
( )7في جـ " :زكاة الملك".
( )8في أ ،و " :من أعطى".
( )9رواه مسلم في صحيحه برقم ( )58من حديث عبد ال بن عمرو رضي ال عنه.
( )1/488
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى الْحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَ ْب ِد وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى َفمَنْ
حمَةٌ َفمَنِ
خفِيفٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَرَ ْ
ف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ ذَِلكَ تَ ْ
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُو ِ
عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ
ُ
اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( )178وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ ()179
( )1/489
ونساؤهم ،وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله { :ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ }.
مسألة :مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ،وإليه ذهب الثوري وابن أبي
ليلى وداود ،وهو مروي عن علي ،وابن مسعود ،وسعيد بن المسيب ،وإبراهيم النخعي ،
وقتادة ،والحكم ،وقال البخاري ،وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه :
ويقتل السيد بعبده ؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة " :من قتل عبده قتلناه ،ومن جذعه جذعناه ،
ومن خصاه خصيناه" ( )1وخالفهم الجمهور وقالوا :ل يقتل الحر بالعبد ؛ لن العبد سلعة لو قتل
خطأ لم تجب فيه دية ،وإنما تجب فيه قيمته ،وأنه ل يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى ،
وذهب الجمهور إلى أن المسلم ل يقتل بالكافر ،كما ثبت في البخاري عن علي ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل يقتل مسلم بكافر" ( )2ول يصح حديث ول تأويل يخالف هذا
،وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة :قال الحسن وعطاء :ل يقتل الرجل بالمرأة لهذه الية ،وخالفهم الجمهور لية المائدة ؛
ولقوله عليه السلم " :المسلمون تتكافأ دماؤهم" ( )3وقال الليث :إذا قتل الرجل امرأته ل يقتل
بها خاصة.
مسألة :ومذهب الئمة الربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ؛ قال عمر بن الخطاب
رضي ال عنه في غلم قتله سبعة فقتلهم ،وقال :لو تمال عليه أهل صنعاء لقتلتهم ،ول يعرف
له في زمانه مخالف من الصحابة ،وذلك كالجماع .وحكي عن المام أحمد رواية :أن الجماعة
ل يقتلون بالواحد ،ول يقتل بالنفس إل نفس واحدة .وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير ،
وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ؛ ثم قال ابن المنذر :
وهذا أصح ،ول حجة لمن أباح قتل الجماعة ( .)4وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ،وإذا
اختلف الصحابة فسبيله النظر.
حسَانٍ } قال مجاهد عن ابن
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَ ْيهِ بِإِ ْ
ع ِفيَ َلهُ مِنْ َأخِيهِ َ
وقوله َ { :فمَنْ ُ
شيْءٌ } فالعفو :أن يَقبل الدية في العمد ،وكذا روي عن أبي
عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ
عباس َ { :فمَنْ ُ
العالية ،وأبي الشعثاء ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،وعطاء ،والحسن ،وقتادة ،ومقاتل بن
حيان.
شيْءٌ } يقول :فمن ترك له من أخيه
عفِيَ َلهُ مِنْ أَخِيهِ َ
وقال الضحاك عن ابن عباس َ { :فمَنْ ُ
شيء يعني [ :بعد] ( )5أخذ الدّية بعد استحقاق الدم ،وذلك العفو { فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ } يقول :
فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ } يعني :من القاتل من غير
ضرر ول َمعْك ،يعني :المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان ،عن عمرو ،عن مجاهد ،عن ابن عباس :ويؤدي المطلوب
__________
( )1رواه أبو داود في السنن برقم ( )4516 ، 4515والترمذي في السنن برقم ( )1414وقال
الترمذي " :هذا حديث حسن غريب".
( )2صحيح البخاري برقم (.)111
( )3رواه ابن ماجة في السنن برقم ( )2683من حديث ابن عباس رضي ال عنهما.
( )4في أ " :قتل جماعة بواحد".
( )5زيادة من جـ ،أ.
( )1/490
بإحسان .وكذا قال سعيد بن جُبَير ،وأبو الشعثاء جابر بن زَيد ،والحسن ،وقتادة ،وعطاء
الخراساني ،والربيع بن أنس ،والسدي ،ومقاتل بن حيان.
مسألة :قال مالك -رحمه ال -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور ،وأبو حنيفة وأصحابه
والشافعي في أحد قوليه :ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إل برضا القاتل ،وقال الباقون :له
أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل ،وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو ،منهم
الحسن ،وقتادة ،والزهري ،وابن شبرمة ،والليث ،والوزاعي ،وخالفهم الباقون.
حمَةٌ } يقول تعالى :إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا
خفِيفٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَرَ ْ
وقوله { :ذَِلكَ تَ ْ
من ال عليكم ورحمة بكم ،مما كان محتوما على المم قبلكم من القتل أو العفو ،كما قال سعيد
بن منصور :
حدثنا سفيان ،عن عمرو بن دينار ،أخبرني مجاهد ،عن ابن عباس ،قال :كتب على بني
إسرائيل القصاص في القتلى ،ولم يكن فيهم العفو ،فقال ال لهذه المة ( { )1كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ
شيْءٌ } فالعفو
عفِيَ َلهُ مِنْ أَخِيهِ َ
ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْدِ وَالنْثَى بِالنْثَى َفمَنْ ُ
أن يقبل الدية في العمد ،ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] ( )2مما كتب على من كان قبلكم ،
فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (.)3
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] ( )4وأخرجه ابن حبان في صحيحه ،عن عمرو بن
دينار ،به ([ .)5وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] ( )6؛ ورواه جماعة عن مجاهد
عن ابن عباس ،بنحوه.
خفِيفٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ } رحم ال هذه المة وأطعمهم الدية ،ولم تحل لحد قبلهم ،
وقال قتادة { :ذَِلكَ تَ ْ
فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش ( )7وكان أهل النجيل إنما هو عفو
أمروا به ،وجعل لهذه المة القصاص والعفو والرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير ،ومقاتل بن حيان ،والربيع بن أنس ،نحو هذا.
وقوله َ { :فمَنِ اعْ َتدَى َبعْدَ َذِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ َألِيمٌ } يقول تعالى :فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ،
فله عذاب من ال أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس ،ومجاهد ،وعطاء ،وعكرمة ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،
والسدي ،ومقاتل بن حيان :أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ،كما قال محمد بن إسحاق ،عن
الحارث بن فضيل ،عن سفيان بن أبي العوجاء ،عن أبي شريح الخزاعي :أن النبي صلى ال
عليه وسلم قال :
__________
( )1في أ " :فقال ال في هذه الية".
( )2زيادة من جـ.
( )3سنن سعيد بن منصور برقم ( )246بتحقيق د .الحميد.
( )4زيادة من جـ.
( )5صحيح ابن حبان (" )7/601الحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه :حاشية
الدكتور سعد الحميد -حفظه ال -على سنن سعيد بن منصور.
( )6زيادة من جـ ،أ.
( )7في جـ " :أثر".
( )1/491
حقّا عَلَى
حضَرَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ وَالَْأقْرَبِينَ بِا ْل َمعْرُوفِ َ
كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمْ إِذَا َ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()181
س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْث ُمهُ عَلَى الّذِينَ يُ َبدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ َ
ا ْلمُ ّتقِينَ (َ )180فمَنْ بَدَّلهُ َبعْ َدمَا َ
"من أصيب بقتل أو خَبْل ( )1فإنه يختار إحدى ثلث :إما أن يقتص ،وإما أن يعفو ،وإما أن
يأخذ الدية ؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه .ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها"
رواه ( )2أحمد (.)3
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن سمرة ،قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :ل أعافي رجل قتل بعد أخذ الدية -يعني :ل أقبل منه الدية -بل أقتله" (.)4
وقوله { :وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى :وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -
صوْنها ؛ لنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه ،
حكمة عظيمة لكم ،وهي بقاء ال ُمهَج و َ
ل أنفى للقتل .فجاءت هذه العبارة في القرآن
فكان في ذلك حياة النفوس .وفي الكتب المتقدمة :القت ُ
أفصح ،وأبلغ ،وأوجز.
{ وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية :جعل ال القصاص حياة ،فكم من رجل يريد أن
يقتُل ،فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد ،وسعيد بن جبير ،وأبي مالك ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،
ومقاتل بن حيان { ،يَا أُولِي اللْبَابِ َلعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ } يقول :يا أولي العقول والفهام والنهى ،لعلكم
تنزجرون فتتركون محارم ال ومآثمه ،والتقوى :اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
حقّا
ن وَالقْرَبِينَ بِا ْل َمعْرُوفِ َ
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْ ِ
حضَرَ أَ َ
{ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا َ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()181
س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْث ُمهُ عَلَى الّذِينَ يُ َبدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ َ
عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ (َ )180فمَنْ بَدَّلهُ َبعْ َدمَا َ
}
__________
( )1في أ " :أو ختل".
( )2في جـ " :ورواه".
( )3المسند (.)4/31
( )4ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )1/421وعزاه لسمويه في فوائده ،وروى البيهقي في
السنن الكبرى ( )8/54من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسل بنحوه ،
وروى أبو داود في السنن برقم ( )4507من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد
ال رضي ال عنه مرفوعا بنحوه.
( )1/492
( )1/492
سيرين ،قال :جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [على] ( )1هذه الية { :إِنْ تَ َركَ
ن وَالقْرَبِينَ } فقال :نسخت هذه الية.
خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْ ِ
وكذا رواه سعيد بن منصور ،عن هشيم ،عن يونس ،به .ورواه الحاكم في مستدركه وقال :
صحيح على شرطهما (.)2
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله { :ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ وَالقْرَبِينَ } قال :كان ل
يرث مع الوالدين غيرهما إل وصية للقربين ،فأنزل ال آية الميراث ( )3فبيّن ميراث الوالدين ،
وأقر وصية القربين في ثلث مال الميت.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا حجاج بن محمد ،أخبرنا ابن
جريج ،وعثمان بن عطاء ،عن عطاء ،عن ابن عباس ،في قوله { :ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ
ن وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا
ن وَالقْرَبُو َ
وَالقْرَبِينَ } نسختها هذه الية { :لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ
ن وَالقْرَبُونَ ِممّا َقلّ مِنْهُ َأوْ كَثُرَ َنصِيبًا َمفْرُوضًا } [ النساء .]7 :
تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ
ثم قال ابن أبي حاتم :وروي عن ابن عمر ( )4وأبي موسى ،وسعيد بن المسيّب ،والحسن ،
ومجاهد ،وعطاء ،وسعيد بن جُبَير ،ومحمد بن سيرين ،وعكرمة ،وزيد بن أسلم ،والربيع
بن أنس ،وقتادة ،والسدي ،ومقاتل بن حَيّان ،وطاوس ،وإبراهيم النّخَعي ،وشُرَيح ،
والضحاك ،والزهري :أن هذه الية منسوخة نسختها آية الميراث.
والعجب من أبي عبد ال محمد بن عمر ( )5الرازي -رحمه ال -كيف حكى في تفسيره الكبير
عن أبي مسلم الصفهاني ( )6أن هذه الية غير منسوخة ،وإنما هي ُمفَسرة بآية المواريث ،
ومعناه :كتب عليكم ما أوصى ال به من توريث ( )7الوالدين والقربين .من قوله { :يُوصِيكُمُ
اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ } [ النساء ]11 :قال :وهو قولُ أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء .قال :
ومنهم من قال :إنها منسوخة فيمن يرث ،ثابتة فيمن ل يرث ،وهو مذهب ابن عباس ،والحسن
،ومسروق ،وطاوس ،والضحاك ،ومسلم بن يَسَار ،والعلء بن زياد.
قلت :وبه قال أيضًا سعيدُ بن جُبَير ،والربيع بن أنس ،وقتادة ،ومقاتل بن حيان .ولكن على
قول هؤلء ( )8ل يسمى هذا نسخا في اصطلحنا المتأخر ؛ لن آية الميراث إنما رفعت حكم
بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ،لن "القربين" أعم ممن يرث ومن ( )9ل يرث ،
فرفع حكم من يرث بما عين له ،وبقي الخر على ما دلت عليه الية الولى .وهذا إنما يتأتى
على قول بعضهم :أن الوصاية في ابتداء السلم إنما كانت ندبا حتى نسخت .فأما من يقول :
إنها كانت واجبة وهو الظاهر من
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2سنن سعيد بن منصور برقم ( )252بتحقيق االدكتور الحميد ،والمستدرك (.)2/273
( )3في أ " :المواريث".
( )4في جـ " :ابن أبي عمر".
( )5في جـ " :ابن أبي عمر".
( )6في أ " :الصبهاني".
( )7في جـ " :من تواريث".
( )8في أ " :على قول هذا".
( )9في أ " :وممن".
( )1/493
سياق الية -فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ،كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من
الفقهاء ؛ فإنّ وجوب الوصية للوالدين والقربين [الوارثين] ( )1منسوخ بالجماع .بل منهي عنه
للحديث المتقدم " :إن ال قد أعطى كل ذي حق حقه فل وصية لوارث" .فآية الميراث حكم مستقل
،ووجوب من عند ال لهل الفروض وللعصبات ( ، )2رفع بها حكم هذه بالكلية .بقي القارب
الذين ل ميراث لهم ،يستحب له أن يُوصَى لهم من الثلث ،استئناسًا بآية الوصية وشمولها ،ولما
ثبت في الصحيحين ،عن ابن عمر ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما حق امرئ
مسلم له شيء يوصي فيه ،يبيت ليلتين إل ووصيته مكتوبة عنده" .قال ابن عمر ما مرت عََليّ
ليلة منذ سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ذلك إل وعندي وصيتي (.)3
واليات والحاديث بالمر ببر القارب والحسان إليهم ،كثيرة جدا.
وقال عبد بن حميد في مسنده :أخبرنا عبيد ال ،عن مبارك بن حسان ،عن نافع قال :قال عبد
ال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يقول ال تعالى :يا ابن آدم ،ثنتان لم يكن لك واحدة
منهما :جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ؛ لطهرك به وأزكيك ،وصلة عبادي
عليك بعد انقضاء أجلك".
وقوله { :إِنْ تَ َركَ خَيْرًا } أي :مال .قاله ابن عباس ،ومجاهد ،وعطاء ،وسعيد بن جُبَير ،
وأبو العالية ،وَعَطية ال َعوْفي ،والضحاك ،والسدي ،والربيع بن أنس ،ومقاتل بن حيان ،
وقتادة ،وغيرهم.
ل المال أو كثُر كالوراثة ( )4ومنهم من قال :إنما
ثم منهم من قال :الوصية مشروعة سواء َق ّ
يُوصِي إذا ترك مال جزيل ثم اختلفوا في مقداره ،فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقري ،أخبرنا سفيان ،عن هشام بن عُ ْروَة ،عن أبيه ،قال :
قيل لعلي ،رضي ال عنه :إن رجل من قريش قد مات ،وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ()5
ولم يوص .قال :ليس بشيء ،إنما قال ال { :إِنْ تَ َركَ خَيْرًا }.
قال :وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ،حدثنا عَبْدة -يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة
،عن أبيه :أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ،فقال له :أوصي ؟ فقال له علي :إنما
قال ال تعالى { :إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ } إنما تركت شيئًا يسيرا ،فاتركه لولدك.
وقال الحكم ( )6بن أبان :حدثني عن عكرمة ،عن ابن عباس { :إِنْ تَ َركَ خَيْرًا } قال ابن
عباس :من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرًا ،قال الحكم ( : )7قال طاوس :لم يترك خيرًا
من لم يترك ثمانين دينارا .وقال قتادة :كان يقال :ألفا فما فوقها.
وقوله { :بِا ْل َمعْرُوفِ } أي :بالرفق والحسان ،كما قال ابن أبي حاتم :
__________
( )1زيادة من جـ ،أ ،و.
( )2في جـ " :والعصبات".
( )3صحيح البخاري برقم ( )2738وصحيح مسلم برقم (.)1627
( )4في أ " :كالوارثة".
( )5في أ ،و " :أربعمائة دينار".
( )6في جـ " :الحاكم".
( )7في جـ " :الحاكم".
( )1/494
حدثنا الحسن بن أحمد ،حدثنا إبراهيم بن عبد ال بن يسار ( ، )1حدثني سرور بن المغيرة عن
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ } فقال َ :نعَم ،
حضَرَ أَ َ
عباد بن منصور ،عن الحسن ،قوله { :كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا َ
الوصية حق ،على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المُنكر.
والمراد بالمعروف :أن يوصي لقربيه وَصيّةً ل تجحف بورثته ،من غير إسراف ول تقتير ،
كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال :يا رسول ال ،إن لي مال ول يرثني إل ابنة لي ،
أفأوصي بثُلُ َثيْ مالي ؟ قال " :ل" قال :فبالشّطْر ؟ قال " :ل" قال :فالثلث ( )2؟ قال " :الثلث ،
والثلث كثير ؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وفي صحيح البخاري :أن ابن عباس قال :لو أن الناس غَضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال " :الثلث ،والثلث كثير" (.)3
وروى المام أحمد ،عن أبي سعيد مولى بني هاشم ،عن ذيال بن عبيد بن حنظلة ،سمعت
حنظلة بن حذيم ( )4بن حنيفة :أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من البل ،فشقّ ذلك
على بنيه ،فارتفعوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال حنيفة :إني أوصيت ليتيم لي بمائة
من البل ،كنا نسميها المطيبة .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " ،ل ل ل .الصدقة :خمس ،
وإل فعَشْر ،وإل فخمس عشرة ،وإل فعشرون ،وإل فخمس وعشرون ،وإل فثلثون ،وإل
فخمس وثلثون ،فإن أكثرت فأربعون".
وذكر الحديث بطوله (.)5
س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْثمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ } يقول تعالى :فمن بدل الوصية
وقوله َ { :فمَنْ َبدّلَهُ َبعْ َدمَا َ
وحرفها ،فغير حكمها وزاد فيها أو نقص -ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الولى { -فَإِ ّنمَا
إِ ْثمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ } قال ابن عباس وغير واحد :وقد وقع أجر الميت على ال ،وتعلّق الثم
علِيمٌ } أي :قد اطلع على ما أوصى به الميت ،وهو عليم
سمِيعٌ َ
بالذين بدلوا ذلك { إِنّ اللّهَ َ
بذلك ،وبما بدله الموصى إليهم.
وقوله َ { :فمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَ َنفًا َأوْ إِ ْثمًا } قال ابن عباس ،وأبو العالية ،ومجاهد ،
والضحاك ،والربيع بن أنس ،والسدي :الجَنَف :الخطأ .وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها ،بأن
زاد وارثا بواسطة أو وسيلة ،كما إذا أوصى ببيعه الشي َء الفُلنيّ محاباة ،أو أوصى لبن ابنته
ليزيدها ،أو نحو ذلك من الوسائل ،إما مخطئًا غير عامد ،بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر
،أو متعمدًا آثمًا في ذلك ،فللوصيّ -والحالة هذه -أن يصلح القضية ( )6ويعدلَ في الوصية
على الوجه الشرعي .ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الشياء إليه وأشبه
المور به ( )7جمعا بين مقصود الموصي
__________
( )1في أ ،و " :بن بشار".
( )2في جـ " :فبالثلث".
( )3صحيح البخاري برقم (.)2743
( )4في أ " :جديم" ،وفي و " :جذيم".
( )5المسند (.)5/67
( )6في أ " :القصة".
( )7في جـ " :المأمور به".
( )1/495
والطريق الشرعي .وهذا الصلح والتوفيق ليس من التبديل في شيء .ولهذا عطف هذا -فبينه (
- )1على النهي لذلك ،ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل ،وال أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد ،قراءة ،أخبرني أبي ،عن الوزاعي ،
قال الزهري :حدثني عروة ،عن عائشة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم :أنه قال " :يُرَدّ من
صَدقة الحائف ( )2في حياته ما يردّ من وصية المجنف ( )3عند موته" (.)4
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْ ُدوَيه ،من حديث العباس بن الوليد ،به.
قال ابن أبي حاتم :وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد .وهذا الكلم إنما هو عن عروة فقط .وقد رواه
الوليد بن مسلم ،عن الوزاعي ،فلم يجاوز به عروة.
وقال ابن مَرْدويه أيضًا :حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ،حدثنا إبراهيم بن يوسف ،حدثنا
هشام بن عمار ،حدثنا عمر بن المغيرة ،عن داود بن أبي هند ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،
عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :الحيف في الوصية من الكبائر" (.)5
وهذا في رفعه أيضًا نظر ( .)6وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق :
حوْشَب ،عن أبي هريرة قال :قال رسول
شهْر بن َ
حدثنا َم ْعمَر ،عن أشعثَ بن عبد ال ،عن َ
ل بعمل أهل الخير سبعينَ سنة ،فإذا أوصى حاف في
ال صلى ال عليه وسلم " :إن الرجل ليعم ُ
وصيته فيختم له بشر عمله ،فيدخل النار ،وإن الرجل ليعمل ب َعمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة ،
فيعدل في وصيته ،فيختم له بخير عمله ،فيدخل الجنة" ( .)7قال أبو هريرة :اقرؤوا إن شئتم :
{ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْ َتدُوهَا } [البقرة .]229 :
__________
( )1في أ " :فنبه".
( )2في أ " :الخائف".
( )3في أ " :المخيف".
( )4ورواه أبو داود في المراسيل برقم ( )194من طريق عباس بن الوليد بن مزيد ،عن أبيه ،
عن الوزاعي ،به .قال العباس :حدثنا به مرة ،عن عروة ،ومرة عن عروة ،عن عائشة عن
النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم رواه أبو داود برقم ( )195عن عروة مرسل ،وبرقم ( )196عن
الزهري مرسل.
( )5ورواه الدارقطني في السنن ( )4/151والعقيلي في الضعفاء ( )3/189والبيهقي في السنن
الكبرى ( )6/271من طريق عمر بن المغيرة به نحوه ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى (
)6/271من طريق هشيم عن داود به موقوفا ،وقال " :هذا هو الصحيح موقوف ،وكذلك رواه
ابن عيينة وغيره عن داود موقوفا ،وروى من وجه آخر مرفوعا ،ورفعه ضعيف".
( )6في جـ " :وهذا أيضا في رفعه نظر".
( )7في جـ " :تقديم وتأخير في العبارتين".
( )1/496
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ ( )183أَيّامًا
طعَامُ
سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَ َر وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ
َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ
ط ّوعَ خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ ()184
سكِينٍ َفمَنْ تَ َ
مِ ْ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ ( )183أَيّامًا
طعَامُ
سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَ َر وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ
َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ
ط ّوعَ خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (} )184
سكِينٍ َفمَنْ تَ َ
مِ ْ
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه المة وآمرًا لهم بالصيام ،وهو :المساك عن الطعام
والشراب والوقاع بنية خالصة ل ( )1عز وجل ،لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من
الخلط الرديئة والخلق الرذيلة .وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم ،
فلهم فيه أسوة ،وَليَجتهد هؤلء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ،كما قال تعالى :
ح َد ًة وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
جعََل ُكمْ ُأمّ ًة وَا ِ
ع ًة َومِ ْنهَاجًا وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْ َ
{ ِل ُكلّ َ
فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ } [المائدة ]48 :؛ ولهذا قال هاهنا { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ
َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } لن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان
؛ ولهذا ثبت في الصحيحين " :يا معشر الشباب ،من استطاع منكم الباءة فليتزوج ،ومن لم
يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ( )2ثم بين مقدار الصوم ،وأنه ليس في كل يوم ،لئل يشق
على النفوس فتضعف عن حمله ( )3وأدائه ،بل في أيام معدودات .وقد كان هذا في ابتداء
السلم يصومون من كل شهر ثلثة أيام ،ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان ،كما سيأتي بيانه.
وقد رُوي أن الصيام كان أول كما كان عليه المم قبلنا ،من كل شهر ثلثة أيام -عن معاذ ،
وابن مسعود ،وابن عباس ،وعطاء ،وقتادة ،والضحاك بن مزاحم .وزاد :لم يزل هذا
مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ ال ذلك بصيام شهر رمضان.
وقال عباد بن منصور ،عن الحسن البصري { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ
عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ * أَيّامًا َمعْدُودَاتٍ } فقال :نعم ،وال لقد كُتب الصيام على كل
أمة قد خلت كما كتب ( )4علينا شهرًا كامل وأياما معدودات :عددا معلوما .وروي عن السدي ،
نحوه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري ،حدثنا سعيد بن أبي أيوب ،حدثني عبد
ال بن الوليد ،عن أبي الربيع ،رجل من أهل المدينة ،عن عبد ال بن عمر قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :صيام رمضان كتبه ال على المم قبلكم "..في حديث طويل اختصر
منه ذلك (.)5
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عمن حدثه عن ابن عمر ،قال أنزلت { :كُ ِتبَ
عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ [َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ] ( } )6كتب عليهم إذا صلى أحدهم
العتمة ونام حرم [ال] ( )7عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن ابن عباس ،وأبي العالية ،وعبد الرحمن بن أبي ليلى ،
ومجاهد ،وسعيد بن جُبَير ،ومقاتل بن حَيّان ،والربيع بن أنس ،وعطاء الخراساني ،نحو ذلك.
وقال عطاء الخراساني ،عن ابن عباس َ { :كمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ } يعني بذلك :أهل
الكتاب .وروي عن الشعبي والسّدي ( )8وعطاء الخراساني ،مثله.
__________
( )1في جـ " :خالصة لوجه ال تعالى".
( )2صحيح البخاري برقم ( )5066وصحيح مسلم برقم ( )1400من حديث عبد ال بن مسعود
رضي ال عنه.
( )3في أ " :ليشق على النفوس فتضعف عن حكمه".
( )4في أ " :كما كتبه ال".
( )5عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح ( )8/178لبن أبي حاتم وقال " :في إسناده مجهول".
( )6زيادة من جـ.
( )7زيادة من جـ.
( )8في جـ " :عن السدي والشعبي".
( )1/497
ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه المر في ابتداء السلم ،فقال َ { :فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا
سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } أي :المريض والمسافر ل يصومان في حال المرض والسفر ؛
َأوْ عَلَى َ
لما في ذلك من المشقة عليهما ،بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر .وأما الصحيح المقيم
الذي يُطيق الصيام ،فقد كان مخيّرًا بين الصيام وبين الطعام ،إن شاء صام ،وإن شاء أفطر ،
وأطعم عن كل يوم مسكينا ،فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ،فهو خير ،وإن صام فهو
أفضل من الطعام ،قاله ابن مسعود ،وابن عباس ،ومجاهد ،وطاوس ،ومقاتل بن حيان ،
طوّعَ
سكِينٍ َفمَنْ َت َ
طعَامُ مِ ْ
وغيرهم من السلف ؛ ولهذا قال تعالى { :وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ ِفدْيَةٌ َ
خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }
وقال المام أحمد :حدثنا أبو النضر ،حدثنا المسعودي ،حدثنا عمرو بن مُرّة ،عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى ،عن معاذ بن جبل ،رضي ال عنه ،قال :أحيلت الصلة ثلثة أحوال ،وأحيل
الصيام ثلثة أحوال ؛ فأما أحوال الصلة فإن النبي صلى ال عليه وسلم قدم المدينة ،وهو يصلي
ج ِهكَ
ب وَ ْ
( )1سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ،ثم إن ال عز وجل أنزل عليه َ { :قدْ نَرَى َتقَلّ َ
سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } [البقرة ]144 :فوجهَهُ الُ إلى مكة .هذا حول.
فِي ال ّ
قال :وكانوا يجتمعون للصلة و ُيؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى َنقَسُوا أو كادوا يَ ْنقُسُون .ثم إنّ
رجل من النصار ،يقال له :عبد ال بن زيد ،أتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا
رسول ال ،إني رأيت فيما يرى النائم -ولو قلتُ :إني لم أكن نائمًا لصدقتُ -أني ( )2بينا أنا
بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران ،فاستقبل القبلة ،فقال :ال أكبر ال
أكبر ،أشهد أن ل إله إل ال -مثنى حتى فرغ من الذان ،ثم أمهل ساعة ،ثم قال مثل الذي
قال ،غير أنه يزيد في ذلك :قد قامت الصلة -مرتين -قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"علمها بلل فَلْيؤذن بها" .فكان بلل أول من أذن بها .قال :وجاء عمر بن الخطاب ،رضي ال
عنه ،فقال :يا رسول ال [ ،إنه] ( )3قد طاف بي مثل الذي طاف به ،غير أنه سبقني ،فهذان
حالن (.)4
قال :وكانوا يأتون الصلة -قد سبقهم النّبيّ صلى ال عليه وسلم ببعضها ،فكان الرجل يشير
إلى الرجل إذًا كم صلى ،فيقول :واحدة أو اثنتين ،فيصليهما ،ثم يدخل مع القوم في صلتهم.
قال :فجاء معاذ فقال :ل أجده على حال أبدًا إل كنتُ عليها ،ثم قضيتُ ما سبقني .قال :فجاء
وقد سَبَقه النبي صلى ال عليه وسلم ببعضها ،قال :فثَ َبتَ معه ،فلما قضى رسول ال صلى ال
عليه وسلم قام فقضى ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إنه قَد سن لكم ُمعَاذ ،فهكذا
فاصنعوا" .فهذه ثلثة أحوال (.)5
وأما أحوال الصيام فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قدم المدينة ،فجعل يصومُ من كل شهر
ثلثة أيام ،وصام عاشوراء ،ثم إن ال فرض عليه الصيام ،وأنزل ال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ }.
__________
( )1في جـ " :فصلى".
( )2في جـ " :وأني".
( )3زيادة من جـ ،أ ،و.
( )4في جـ ،أ ،و " :حولن".
( )5المسند (.)5/246
( )1/498
( )1/499
عمْرو بن
وقال البخاري أيضًا :حدثنا إسحاق ،أخبرنا روح ،حدثنا زكريا بن إسحاق ،حدثنا َ
ط ّوقُونه فدية طعام مسكين " .قال ابن
دينار ،عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ " :وعلى الذين يُ َ
عباس :ليست منسوخة ،هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة ل يستطيعان أن يصوما ،فيطعمان
مكان كل يوم مسكينًا (.)1
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،نحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة :حدثنا عبد الرحيم ،عن أشعث بن سوار ،عن عكرمة ،عن ابن
سكِينٍ } في الشيخ الكبير
طعَامُ ِم ْ
عباس [قال] ( )2نزلت هذه الية { :وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ
الذي ل يطيق الصوم ثم ضعف ،فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَ ْردُويه :حدثنا محمد بن أحمد ،حدثنا الحسين بن محمد بن ِبهْرام
المحرمي ،حدثنا وهب بن َبقِيّة ،حدثنا خالد بن عبد ال ،عن ابن أبي ليلى ،قال :دخلت على
عطاء في رمضان ،وهو يأكل ،فقال :قال ابن عباس :نزلت هذه الية { :وَعَلَى الّذِينَ
سكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ،ثم نزلت هذه
طعَامُ مِ ْ
يُطِيقُونَهُ فِدْ َيةٌ َ
الية فنسخت الولى ،إل الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر .فحاصل المر
شهْرَ
شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ
أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه ،بقوله َ { :فمَنْ َ
صمْهُ } وأما الشيخ الفاني [الهرم] ( )3الذي ل يستطيع الصيام فله أن يفطر ول قضاء عليه ،
فَلْ َي ُ
لنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ،ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] ( )4أن
يطعم عن ( )5كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة ؟ فيه قولن للعلماء ،أحدهما :ل يجب عليه إطعام
؛ لنه ضعيف عنه لسنّه ،فلم يجب عليه فدية كالصبي ؛ لن ال ل يكلف نفسًا إل وسعها ،وهو
أحد قولي الشافعي .والثاني -وهو الصحيح ،وعليه أكثر العلماء : -أنه يجب عليه فدية عن كل
يوم ،كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ { :وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ } أي :
يتجشمونه ،كما قاله ابن مسعود وغيره ،وهو اختيار البخاري فإنه قال :وأما الشيخ الكبير إذا
لم يطق الصيام ،فقد أطعم أنس -بعد أن ( )6كبر عامًا أو عامين -كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما
،وأفطر (.)7
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ،فقال :حدثنا عُبَيد ال
بن ُمعَاذ ،حدثنا أبي ،حدثنا عمران ،عن أيوب بن أبي تميمة ( )8قال :ضعف أنس [بن مالك]
( )9عن الصوم ،فصنع جفنة من ثريد ،فدعا ثلثيِن مسكينًا فأطعمهم (.)10
ورواه عبد بن حميد ،عن روح بن عبادة ،عن عمران -وهو ابن حُدَير ( - )11عن أيوب ،
به.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4505
( )2زيادة من أ ،و.
( )3زيادة من جـ ،أ ،و.
( )4زيادة من جـ ،أ ،و.
( )5في أ " :في".
( )6في جـ " :بعد ما".
( )7صحيح البخاري (" )8/179فتح".
( )8في جـ ،أ " :بن أبي تميم".
( )9زيادة من أ.
( )10مسند أبي يعلى ( )7/204وقال الهيثمي في المجمع (" : )3/164رجاله رجال الصحيح"
لكنه منقطع.
( )11في و " :وهو ابن خدير".
( )1/500
شهْرَ
شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ
س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ
شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآَنُ ُهدًى لِلنّا ِ
َ
سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَلَا يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ
صمْ ُه َومَنْ كَانَ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ
فَلْ َي ُ
شكُرُونَ ()185
وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْل ِع ّدةَ وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَا ُك ْم وََلعَّلكُمْ تَ ْ
ورواه عبد أيضًا ،من حديث ستة من أصحاب أنس ،عن أنس -بمعناه.
ومما يلتحق بهذا المعنى :الحامل والمرضع ،إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ،ففيهما خلف
كثير بين العلماء ،فمنهم من قال :يفطران ويفديان ويقضيان .وقيل :يفديان فقط ،ول قضاء.
وقيل :يجب القضاء بل فدية .وقيل :يفطران ،ول فدية ول قضاء .وقد بسطنا هذه المسألة
مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ( .)1ول الحمد والمنة.
ش ِهدَ مِ ْنكُمُ
س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْل ُهدَى وَالْفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ
شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ هُدًى لِلنّا ِ
{ َ
سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ يُرِيدُ اللّهُ ِب ُكمُ الْيُسْرَ وَل يُرِيدُ ِبكُمُ
صمْ ُه َومَنْ كَانَ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ
شهْرَ فَلْ َي ُ
ال ّ
شكُرُونَ (} )185
ا ْلعُسْ َر وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِ ّد َة وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا َهدَاكُ ْم وََلعَّلكُمْ َت ْ
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ،بأن اختاره من بينهن لنزال القرآن العظيم فيه ،
وكما اختصه بذلك ،قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب اللهية تنزل فيه على النبياء.
قال المام أحمد بن حنبل ،رحمه ال :حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ،حدثنا عمْران أبو العوام
،عن قتادة ،عن أبي المليح ،عن واثلة -يعني ابن السقع -أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
ستّ َمضَين من رمضان
صحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان .وأنزلت التوراة ل ِ
قال " :أنزلت ُ
عشَ َرةَ خلت من رمضان ( )2وأنزل ال القرآن لربع وعشرين خلت من
،والنجيل لثلث َ
رمضان" (.)3
وقد روي من حديث جابر بن عبد ال وفيه :أن الزبور أنزل ( )4لثنتَي عشرة [ليلة] ( )5خلت
من رمضان ،والنجيل لثماني عشرة ،والباقي كما تقدم .رواه ابن مَردُويه.
أما الصحف والتوراة والزبور والنجيل -فنزل كل منها ( )6على النبي الذي أنزل عليه جملة
واحدة ،وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ،وكان ذلك في شهر
رمضان ،في ليلة القدر منه ،كما قال تعالى { :إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } [القدر .]1 :وقال { :
إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ } [الدخان ، ]3 :ثم نزل بعدُ مف ّرقًا ( )7بحسب الوقائع على رسول ال
صلى ال عليه وسلم .هكذا روي من غير وجه ،عن ابن عباس ،كما قال إسرائيل ،عن
السّدي ،عن محمد بن أبي المجالد عن ِمقْسَم ،عن ابن عباس أنه سأله عطية بن السود ،فقال :
شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } وقوله :
وقع ( )8في قلبي الشك من قول ال تعالى َ { :
{ إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ } وقوله { :إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } وقد ( )9أنزل في شوال ،وفي
ذي القعدة ،وفي ذي الحجة ،وفي المحرم ،وصفر ،وشهر ربيع .فقال ابن عباس :إنه أنزل
في رمضان ،في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ،ثم أنزل ( )10على مواقع النجوم
ترتيل ( )11في الشهور واليام .رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ،وهذا لفظه.
__________
( )1في أ " :الذي أوردناه".
( )2في"أ" بعدها " :وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان".
( )3المسند (.)4/107
( )4في جـ " :نزلت" ،وفي أ " :نزل".
( )5زيادة من أ.
( )6في جـ " :منهما".
( )7في و " :متفرقا".
( )8في و " :أوقع".
( )9في جـ " :وهذا".
( )10في جـ " :ثم نزل".
( )11في أ " :رسل".
( )1/501
وفي رواية سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن عباس قال :أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى
سماء الدنيا فجعل في بيت العِزّة ،ثم أنزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم في عشرين سنة
لجواب كلم الناس.
وفي رواية عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه
السماء الدنيا جملة واحدة ،وكان ال يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ،ول يجيء المشركون بمثَل يخاصمون
ح َدةً
جمْلَ ًة وَا ِ
به إل جاءهم ال بجوابه ،وذلك قوله َ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْل نزلَ عَلَ ْيهِ ا ْلقُرْآنُ ُ
حسَنَ َتفْسِيرًا }
ق وَأَ ْ
حّكَذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيل * وَل يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ إِل جِئْنَاكَ بِالْ َ
[الفرقان .]33 ، 32 :
[قال فخر الدين :ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من
اللوح إلى سماء الدنيا ،وتوقف ،هل هذا أولى أو الول ؟ وهذا الذي جعله احتمال نقله القرطبي
عن مقاتل بن حيان ،وحكى الجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى
بيت العزة في السماء الدنيا ،وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله { :الّذِي
أُنزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } أي :في فضله أو وجوب صومه ،وهذا غريب جدا] (.)1
س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله ال هدى لقلوب
وقوله ُ { :هدًى لِلنّا ِ
العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيّنَاتٍ } أي :ودلئل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها
وتدبّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلل ،والرشد المخالف للغي ،ومفرقًا
بين الحق والباطل ،والحلل ،والحرام.
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال :إل "شهر رمضان" ول يقال " :رمضان" ؛ قال ابن
أبي حاتم :
حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن بكار بن الريّان ،حدثنا أبو معشر ،عن محمد بن كعب القُرَظي ،
وسعيد -هو المقْبُري -عن أبي هريرة ،قال :ل تقولوا :رمضان ،فإن رمضان اسم من
أسماء ال تعالى ،ولكن قولوا :شهر رمضان.
قال ( )2ابن أبي حاتم :وقد روي عن مجاهد ،ومحمد بن كعب نحو ذلك ،ورَخّص فيه ابن
عباس وزيد بن ثابت.
قلت :أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] ( )3المغازي ،والسير ،ولكن فيه
ضعف ،وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ،عن أبي هريرة ،وقد أنكره عليه الحافظ ابن
عدي ( - )4وهو جدير بالنكار -فإنه متروك ،وقد وهم في رفع هذا الحديث ،وقد انتصر
البخاري ،رحمه ال ،في كتابه لهذا فقال " :باب يقال ( )5رمضان" ( )6وساق أحاديث في ذلك
منها " :من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
__________
( )1زيادة من جـ ،أ.
( )2في جـ " :قال لي".
( )3زيادة من جـ.
( )4الكامل لبن عدي (.)7/53
( )5في جـ " :باب بأن يقال".
( )6الترجمة في الصحيح (" : )4/112باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ،ومن رأى كله
واسعا".
( )1/502
( )1/503
حمْرة بن
"عليكم برخصة ال التي رخص لكم" ( )1وقالت طائفة :هما سواء لحديث عائشة :أن َ
عمرو السلمي قال :يا رسول ال ،إني كثير الصيام ،أفأصوم في السفر ؟ فقال " :إن شئت
فصم ،وإن شئت فأفطر" .وهو في الصحيحين ( .)2وقيل :إن شق الصيام فالفطار أفضل
لحديث جابر :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رجل قد ظُّللَ عليه ،فقال " :ما هذا ؟ "
قالوا :صائم ،فقال " :ليس من البر الصيام في السفر" .أخرجاه ( .)3فأما إن رغب عن السنة ،
ورأى أن الفطر مكروه إليه ،فهذا يتعين عليه الفطار ،ويحرم عليه الصيام ،والحالة هذه ،لما
خصَةَ ال كان
جاء في مسند المام أحمد وغيره ،عن ابن عمر وجابر ،وغيرهما :من لم يقبل رُ ْ
عليه من الثم مثل جبال عرفة (.)4
الرابعة :القضاء ،هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولن :أحدهما :أنه يجب
التتابع ،لن القضاء يحكي الداء .والثاني :ل يجب التتابع ،بل إن شاء فَرّق ،وإن شاء تابع.
وهذا قول جُمهور السلف والخلف ،وعليه ثبتت الدلئل ( )5؛ لن التتابع إنما وجب في الشهر
لضرورة أدائه في الشهر ،فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام ع ّدةَ ما أفطر .ولهذا قال
تعالى َ { :فعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } ثم قال { :يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْ ُيسْ َر وَل يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ } قال المام
أحمد :
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ،حدثنا ابن ( )6هلل ،عن حميد بن هلل العدوي ،عن أبي قتادة ،
عن العرابي الذي سمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :إن خير دينكم أيسره ،إن خير دينكم
أيسره" (.)7
وقال أحمد أيضًا :حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا عاصم بن هلل ،حدثنا غاضرة بن عُرْوة
الفُقَيْمي ،حدثني أبي عُ ْروَة ،قال :كنا ننتظر النبي صلى ال عليه وسلم فخرج رَجل (َ )8يقْطُرُ
رأسه من وضوء أو غسل ،فصلى ،فلما قضى الصلة جعل الناس يسألونه :علينا حرج في كذا
؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن دين ال في يسر" ثلثًا يقولها (.)9
ورواه المام أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسير هذه الية من حديث مسلم بن إبراهيم ،عن عاصم بن
هلل ،به.
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة قال :حدثنا أبو التيّاح ،سمعت أنس بن
مالك يقول :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يسروا ،ول تعسروا ،وسكّنُوا ول
تُ َنفّروا" .أخرجاه في الصحيحين ( .)10وفي الصحيحين أيضا :أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن " :بشرا ول تنفرا ،ويسرا ول تعسرا ،
وتطاوعا ول تختلفا" .وفي السنن والمسانيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
__________
( )1هذا لفظ حديث جابر وسيأتي.
( )2صحيح البخاري برقم ( )1943وصحيح مسلم برقم (.)1121
( )3صحيح البخاري برقم ( )1946وصحيح مسلم برقم (.)1121
( )4المسند (.)2/71
( )5في جـ " :تثبت الدلة".
( )6في أ ،و " :حدثنا أبو".
( )7المسند (.)3/479
( )8في أ ،و " :فخرج رجل".
( )9المسند (.)5/69
( )10صحيح البخاري برقم ( )69وصحيح مسلم برقم(.)1734
( )1/504
ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ فَلْ َيسْتَجِيبُوا لِي وَلْ ُي ْؤمِنُوا بِي َلعَّلهُمْ
وَإِذَا سََأَلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ
يَرْشُدُونَ ()186
( )1/505
أعرابيًا قال :يا رسول ال ،أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى ال عليه
ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ } (.)1
وسلم ،فأنزل ال { :وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ
ورواه ابن مَ ْردُويه ،وأبو الشيخ الصبهاني ،من حديث محمد بن أبي حميد ،عن جرير ،به.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا جعفر بن سليمان ،عن عوف ،عن الحسن ،قال :سأل أصحاب
رسول ال صلى ال عليه وسلم [النبي صلى ال عليه وسلم] ( : )2أين ربنا ؟ فأنزل ال عز وجل
ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ } الية (.)3
{ :وَِإذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ
جبْ َلكُمْ } [غافر :
وقال ابن جُرَيج عن عطاء :أنه بلغه لما نزلت َ { :وقَالَ رَ ّب ُكمُ ادْعُونِي أَسْ َت ِ
]60قال الناس :لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت { :وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ
ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ }
دَ ْ
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ،حدثنا خالد الحذاء ،عن أبي عثمان
النهدي ،عن أبي موسى الشعري ،قال :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في غَزَاة
فجعلنا ل نصعد شَ َرفًا ،ول نعلو شَ َرفًا ،ول نهبط واديًا إل رفعنا أصواتنا بالتكبير .قال :فدنا منا
فقال " :يا أيها الناس ،أرْبعُوا على أنفسكم ؛ فإنّكم ل تدعون أصمّ ول غائبًا ،إنما تدعون سميعًا
بصيرًا ،إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته .يا عبد ال بن قيس ،أل أعلمك كلمة
من كنوز الجنة ؟ ل حول ول قوة إل بال".
أخرجاه في الصحيحين ،وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي ،واسمه عبد الرحمن بن
مُل ( ، )4عنه ،بنحوه (.)5
وقال المام أحمد :حدثنا سليمان بن داود ،حدثنا شعبة ،حدثنا قتادة ،عن أنس رضي ال عنه :
أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يقول ال تعالى :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا
دعاني" (.)6
وقال المام أحمد :حدثنا علي بن إسحاق ،أخبرنا عبد ال ،أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن
جابر ،حدثنا إسماعيل بن عبيد ال ،عن كريمة بنت الخشخاش المزنية ،قالت :حدثنا أبو
هريرة :أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :قال ال :أنا مع عبدي ما ذكرني ،
وتحركت بي شفتاه" (.)7
حسِنُونَ } [النحل ، ]128 :
قلت :وهذا كقوله تعالى { :إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ ا ّت َقوْا وَالّذِينَ ُهمْ مُ ْ
سمَ ُع وَأَرَى } [طه .]46 :والمراد من
وكقوله لموسى وهارون ،عليهما السلم { :إِنّنِي َم َع ُكمَا َأ ْ
هذا :أنه تعالى ل يخيب دعاء داع ،ول يشغله عنه شيء ،بل هو سميع الدعاء .وفيه ترغيب
في الدعاء ،وأنه ل يضيع لديه تعالى ،كما قال المام أحمد :
__________
( )1ورواه الطبري في تفسيره ( )3/480من طريق جرير به ،وانظر حاشيته ففيها كلم جيد
حول الصلب بن حكيم.
( )2زيادة من جـ ،أ ،و.
( )3ورواه الطبري في تفسيره ( )3/481من طريق عبد الرزاق به.
( )4في جـ " :بن ملبك".
( )5المسند (.)4/402
( )6المسند (.)3/210
( )7المسند (.)2/540
( )1/506
حدثنا يزيد ،حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان -هو النهدي -يحدث عن سلمان -يعني الفارسي
-رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إن ال تعالى ليستحيي أن يبسط
العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما خائبتين".
قال يزيد :سموا لي هذا الرجل ،فقالوا :جعفر بن ميمون (.)1
وقد رواه أبو داود ،والترمذي ،وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون ،صاحب النماط ،به (
.)2وقال الترمذي :حسن غريب .ورواه بعضهم ،ولم يرفعه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي ،رحمه ال ،في أطرافه :وتابعه أبو همام محمد بن
الزبرقان ،عن سليمان التيمي ،عن أبي عثمان النهدي ،به (.)3
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا أبو عامر ،حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو المتوكل الناجي ،عن أبي
سعيد :أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما من مسلم يدعو ال عز وجل بدعوة ليس فيها إثم
ول قطيعة رحم ،إل أعطاه ال بها إحدى ثلث خصال :إما أن يعجّل له دعوته ،وإما أن
يَدّخرها له في الخرة ،وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا :إذًا نكثر .قال " :ال أكثر (
.)5( " )4
وقال عبد ال بن المام أحمد :حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ،أخبرنا محمد بن يوسف ،
حدثنا ابن ثوبان ،عن أبيه ،عن مكحول ،عن جُبَير بن نفير ،أن عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن
النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما على ظهر الرض من رجل ُمسْلِم يدعو ال ،عز وجل ،
بدعوة إل آتاه ال إياها ،أو كف عنه من السوء مثلها ،ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" (.)6
ورواه الترمذي ،عن عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي ،عن محمد بن يوسف الفرْيابي ،عن ابن
ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -به ( .)7وقال :حسن صحيح غريب من هذا
الوجه.
وقال المام مالك ،عن ابن شهاب ،عن أبي عبيد -مولى ابن أزهر -عن أبي هريرة :أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ُ " :يسْتَجَاب لحدكم ما لم َيعْجل ،يقول :دعوتُ فلم يستجب
لي".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ،به ( .)8وهذا لفظ البخاري ،رحمه ال ،وأثابه الجنة.
وقال مسلم أيضًا ( : )9حدثني أبو الطاهر ،حدثنا ابن وهب ،أخبرني معاوية بن صالح ،عن
خوْلني ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
ربيعة ابن يزيد ،عن أبي إدريس ال َ
قال " :ل يزال يستجاب للعبد ما لم يَ ْدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل" .قيل :يا رسول ال ،
ما الستعجال ؟ قال " :يقول :قد
__________
( )1المسند (.)5/438
( )2سنن أبي داود برقم ( )1488وسنن الترمذي برقم ( )1488وسنن ابن ماجة برقم (.)3865
( )3تحفة الشراف (.)4/29
( )4في جـ " :أكثروا".
( )5المسند (.)3/18
( )6زوائد المسند (.)5/329
( )7سنن الترمذي برقم (.)3573
( )8الموطأ ( )1/213وصحيح البخاري برقم (.)684
( )9في جـ ،أ " :وقال مسلم في صحيحه".
( )1/507
دعوتُ ،وقد دَعَوتُ ،فلم أرَ يستجابُ لي ،فَ َيسْتَحسر عند ذلك ،ويترك ( )1الدعاء" (.)2
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد ،حدثنا ابن ( )3هلل ،عن قتادة ،عن أنس :أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يزال العبد بخير ما لم يستعجل" .قالوا :وكيف يستعجل ؟ قال :
"يقول :قد دعوتُ ربي فلم َيسُتَجبْ لي" (.)4
وقال المام أبو جعفر الطبري في تفسيره :حدثني يونس بن عبد العلى ،حدثنا ابن وهب ،
حدثني أبو صخر :أن يزيد بن عبد ال بن قسَيط حدثه ،عن عروة بن الزبير ،عن عائشة ،
رضي ال عنها ،أنها قالت :ما من عَبْد مؤمن يدعو ال بدعوة فتذهب ،حتى ُتعَجّل له في الدنيا
أو تُدّخر له في الخرة ،إذا لم ( )5يعجل أو يقنط .قال عروة :قلت :يا أمّاه ( )6كيف عجلته
جبْ.
وقنوطه ؟ قالت :يقول :سألت فلم أعْطَ ،ودعوت فلم أ َ
قال ابن قُسَيْط :وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء.
وقال المام أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثنا بكر بن عمرو ،عن أبي عبد الرحمن
الحُبُليّ ،عن عبد ال بن عمرو ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :القلوب أوعية ،
وبعضها أوعى من بعض ،فإذا سألتم ال أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالجابة ،فإنه ل
يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" (.)7
وقال ابن مَ ْردُويه :حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ،حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيّ بن نافع
ابن معد يكرب ببغداد ،حدثني أبي بن نافع ،حدثني أبي نافع بن معد يكرب ،قال :كنت أنا
ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ } قال :
وعائشة سألتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم عن الية ُ { :أجِيبُ دَ ْ
"يا رب ،مسألة عائشة" .فهبط جبريل فقال :ال يقرؤك السلم ،هذا عبدي الصالح ( )8بالنية
الصادقة ،وقلبُه نقي ( )9يقول :يا رب ،فأقول :لبيك .فأقضي حاجته.
هذا حديث غريب من هذا الوجه (.)10
وروى ابن مَ ْردُويه من حديث الكلبي ،عن أبي صالح ،عن ابن عباس :حدثني جابر بن عبد ال
ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا
أن النبي صلى ال عليه وسلم قرأ { :وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ
دَعَانِ } الية .فقال رسول
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :ويدع".
( )2صحيح مسلم برقم (.)2735
( )3في جـ " :حدثنا أبو".
( )4المسند (.)3/210
( )5في جـ ،أ " :إذا هو لم".
( )6في أ ،و " :يا أمتاه".
( )7المسند (.)2/177
( )8في جـ " :عبدي أصلح".
( )9في جـ " :وقلبه تقي".
( )10ذكره ابن الثير في أسد الغابة ( )4/530وقال " :روى حديثه محمد بن إسحاق ،عن
إسحاق بن إبراهيم بن أبي بن نافع بن معد يكرب عن جده أبي ،عن أبيه نافع بن معد يكرب أنه
قال ،فذكر مثله" ثم قال ابن الثير " :أخرجه أبو موسى وقال :عند ابن إسحاق هذا ،وعند غيره
:عن إسحاق بن إبراهيم أحاديث".
( )1/508
ال صلى ال عليه وسلم " :اللهم أمرت بالدعاء ،وتوكّ ْلتَ بالجابة ،لبيك اللهم لبيك ،لبيك ل
صمَد لم تلد
شريك لك ،لبيك إن الحمد والنعمة لك ،والملك ل شريك لك ،أشهد أنك فرد أحد َ
ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد ،وأشهد أن وعدك حق ،ولقاءك حق ،والجنة حق ،والنار حق ،
والساعة آتية ل ريب فيها ،وأنت تبعث من في القبور" (.)1
وقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا الحسن بن يحيى الرزي ( )2ومحمد بن يحيى القُطَعي ()3
قال حدثنا الحجاج بن مِنْهال ،حدثنا صالح المُرّي ،عن الحسن ،عن أنس ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم قال " :يقول ال تعالى :يا ابن آدم ،واحدة لك وواحدة لي ،وواحدة فيما بيني وبينك ؛
فأما التي لي فتعبدني ل تشرك بي شيئا ،وأما التي لك فما عملتَ من شيء َوفّيْتُكَه ( )4وأما التي
بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الجابة" (.)5
وفي ذكره تعالى ( )6هذه الية الباعثة على الدعاء ،متخللة بين أحكام الصيام ،إرشاد إلى
الجتهاد في الدعاء عند إكمال ال ِعدّة ،بل وعن َد كلّ فطر ،كما رواه المام أبو داود الطيالسي في
مسنده :
عمْرو -هو ابن شعيب بن محمد بن عبد ال بن عمرو ،عن
حدثنا أبو محمد المليكي ،عن َ
أبيه ،عن جده عبد ال بن عمرو ،قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :للصائم
عند إفطاره دعوة مستجابة" .فكان عبد ال بن عمرو إذ أفطر دعا أهله ،وولده ودعا (.)7
وقال أبو عبد ال محمد بن يزيد بن ماجة في سننه :حدثنا هشام بن عمار ،أخبرنا الوليد بن
مسلم ،عن إسحاق بن عبيد ال ( )8المدني ،عن عَبْد ال ( )9بن أبي مُلَيْكة ،عن ( )10عبد ال
عمْرو ،قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :إن للصائم عند فطره دَعْوةً ما تُرَدّ" .قال عَبْد
بن َ
عمْرو يقول إذا أفطر :اللهم إني أسألك برحمتك التي
ال ( )11بن أبي مُليَكة :سمعت عبد ال بن َ
وس َعتْ كل شيء أن تغفر لي (.)12
وفي مسند المام أحمد ،وسنن الترمذي ،والنسائي ،وابن ماجة ،عن أبي هريرة قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلثة ل ترد دعوتهم :المام العادل ،والصائم حتى ()13
يفطر ،ودعوة المظلوم يرفعها ال دون ( )14الغمام يوم القيامة ،وتفتح لها أبواب السماء ،
ويقول :بعزتي لنصرنك ولو بعد حين" (.)15
__________
( )1ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم ( )1798وابن أبي الدنيا في الدعاء كما في الدر
المنثور ( )1/474وإسناده واه.
( )2في جـ " :الزدي".
( )3في جـ " :المقطعي".
( )4في أ ،و " :من شيء أو من عمل وفيتكه".
( )5مسند البزار برقم (" )19كشف الستار" وقال البزار " :تفرد به صالح المري ،وصالح
المري ضعفه الئمة".
( )6في جـ " :وفي ذكره تبارك وتعالى".
( )7مسند الطيالسي برقم (.)2262
( )8في هـ " :عبد ال" ،والصواب ما أثبتناه.
( )9في و " :عبيد ال".
( )10في جـ " :سمعت".
( )11في و " :عبيد ال".
( )12سنن ابن ماجة برقم ( )1753وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/38هذا إسناد صحيح
رجاله ثقات" وحسنه الحافظ ابن حجر في "نتائج الفكار".
( )13في و " :حين".
( )14في أ " :فوق".
( )15المسند ( )2/445وسنن الترمذي برقم ( )3598وسنن ابن ماجة برقم ()1752
( )1/509
حلّ َلكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ هُنّ لِبَاسٌ َل ُك ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ تَخْتَانُونَ
أُ ِ
ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُ ْم َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ
عفَا عَ ْنكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُ ّ
سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ
أَ ْنفُ َ
ن وَأَنْتُمْ
ل وَلَا تُبَاشِرُوهُ ّ
س َودِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْي ِ
َلكُمُ ا ْلخَيْطُ الْأَبْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ الْأَ ْ
جدِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا َتقْرَبُوهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آَيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ ()187
عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَا ِ
حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى ِنسَا ِئكُمْ هُنّ لِبَاسٌ َلكُ ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ
{ ُأ ِ
ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ
عفَا عَ ْنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُ ّ
سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ
أَ ْنفُ َ
ن وَأَنْتُمْ
ل وَل تُبَاشِرُوهُ ّ
س َودِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْي ِ
َلكُمُ ا ْلخَيْطُ البْيَضُ مِنَ ا ْلخَيْطِ ال ْ
جدِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتقْرَبُوهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ (} )187
عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَا ِ
( )1/509
هذه ُرخْصة من ال تعالى للمسلمين ،و َرفْع لما كان عليه المر في ابتداء السلم ،فإنه كان إذا
أفطر أحدهم إنما يحل له الكل والشرب والجماع إلى صلة العشاء أو ينام قبل ذلك ،فمتى نام أو
صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة .فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة.
والرفث هنا هو :الجماع .قاله ( )1ابن عباس ،وعطاء ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،
عمْرو بن دينار ( )2والحسن ،وقتادة ،والزهري ،والضحاك ،
وطاوس ،وسالم بن عبد ال ،و َ
وإبراهيم النّخَعي ،والسّدي ،وعطاء الخراساني ،ومقاتل بن حيان.
وقوله { :هُنّ لِبَاسٌ َلكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وسعيد بن جُبَير ،
سكَن لكم ،وأنتم سكن لهن.
والحسن ،وقتادة ،والسدي ،ومقاتل بن حيان :يعني هن َ
وقال الربيع بن أنس :هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن.
وحاصله أنّ الرجل والمرأة كل منهما يخالط الخر و ُيمَاسه ويضاجعه ،فناسب أن يُرَخّص لهم
في المجامعة في ليل رمضانَ ،لئل يشقّ ذلك عليهم ،ويحرجوا ،قال الشاعر ( )3إذا ما
عتْ فكانت عليه لباسا...
الضجيع ثَنَى جيدهاَ ...تدَا َ
وكان السبب في نزول هذه الية كما تقدم في حديث معاذ الطويلِ ،وقال أبو إسحاق عن البراء
ابن عازب قال :كان أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر
،لم يأكل إلى مثلها ،وإن قَيْس بن صِرْمة ( )4النصاري كان صائمًا ،وكان يومه ذاك يعمل في
حضَر الفطار أتى امرأته فقال :هل عندك طعام ؟ قالت :ل ولكن أنطلق فأطلب
أرضه ،فلما َ
لك .فغلبته عينُه فنام ،وجاءت امرأته ،فلما رأته نائما قالت :خيبة لك! أنمت ؟ فلما انتصف
حلّ َل ُكمْ لَيْلَةَ
النهار غُشي عليه ،فذكر ذلك للنبي صلى ال عليه وسلم ،فنزلت هذه الية { :أُ ِ
الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئ ُكمْ } إلى قوله َ { :وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ
سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ } ففرحوا بها فرحًا شديدًا (.)5
ال ْ
ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق :سمعت البراء قال :لما نزل صو ُم رمضان كانوا ل
__________
( )1في أ " :كما قال".
( )2في جـ " :بن يسار".
( )3هو النابغة الجعدي ،والبيت في تفسير الطبري (.)3/490
( )4في و " :قيس بن أبي صرمة".
( )5هذا اللفظ رواه الطبري في تفسيره (.)3/495
( )1/510
يقرَبُون النساء َ ،ر َمضَان كُلّه ،وكان رجَال يخونون أنفسهم ،فأنزل ال { :عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ
سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ وَعَفَا عَ ْنكُمْ } (.)1
تَخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس قال :كان المسلمون في شهر رمضان إذا صَلّوا العشاء
حَرُم عليهم ( )2النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ،ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء
والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ،منهم عمر بن الخطاب ،فشكوا ذلك إلى رسول ال صلى
سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ وَعَفَا عَ ْنكُمْ
ال عليه وسلم ،فأنزل ال تعالى { :عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ
فَالنَ بَاشِرُوهُنّ } وكذا روى العوفي عن ابن عباس.
وقال موسى بن عقبة ،عن كُرَيْب ،عن ابن عباس ،قال :إن الناس كانوا قبل أن ينزل في
الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ،ويحل لهم شأن النساء ،فإذا نام أحدهُم لم يطعم ولم
عمَر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه
يشرَب ول يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ،فبلغنا أن ُ
الصوْ ُم َوقَع على أهله ،ثم جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :أشكو إلى ال وإليك الذي
سوَّلتْ لي نفسي ،فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا
صنعت .قال " :وماذا صنعت ؟ " قال :إني َ
أريد الصوم .فزعموا أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما كنت خليقًا أن تفعل" .فنزل الكتاب :
حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى ِنسَا ِئكُمْ }
{ ُأ ِ
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ،عن قيس بن سعد ( ، )3عن عطاء بن أبي رباح ،عن أبي هريرة
حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ ِإلَى ِنسَا ِئكُمْ } إلى قوله ُ { :ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ
في قول ال تعالى (ُ { )4أ ِ
إِلَى اللّ ْيلِ } قال :كانَ المسلمون قبلَ أن تنزل هذه الية إذا صلوا العشاء الخرة حَرُمَ عليهم
الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ،وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلة العشاء ،
وأن صِرْمة بن قيس النصاري غلبته عينه بعد صلة المغرب ،فنام ولم يشبع من الطعام ،ولم
يستيقظ حتى صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم العشاء ،فقام فأكل وشرب ،فلما أصبح أتى
حلّ َلكُمْ لَ ْيلَةَ الصّيَامِ
رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبره ( )5بذلك ،فأنزل ال عند ذلك { :أُ ِ
ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ } يعني بالرفث :مجامعة النساء { هُنّ لِبَاسٌ َل ُك ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ
سكُمْ } يعني :تجامعون النساء ،وتأكلون وتشربون بعد العشاء { فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ
كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ
وَعَفَا عَ ْنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنّ } يعني :جامعوهن { وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ } يعني :الولد { َوكُلُوا
سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ُثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ ِإلَى اللّ ْيلِ }
وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ
فكان ذلك عفوًا من ال ورحمة.
وقال ُهشَيم ،عن حصين بن عبد الرحمن ،عن عبد الرحمن بن أبِي ليلى ،قال :قام عمر بن
الخطاب ،رضي ال عنه ،فقال :يا رسول ال ،إني أردت أهلي البارحة ( )6على ما يريد
حلّ َلكُمْ لَيْلَةَ
ل ،فواقعتها ،فنزل في عمر { :أُ ِ
الرجلُ أهل ُه فقالت :إنها قد نامت ،فظننتها تعْت ّ
الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئ ُكمْ }
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4508
( )2في جـ " :حرم ال عليهم".
( )3في جـ " :سعد بن قيس".
( )4في جـ " :في قوله تعالى".
( )5في جـ " :فأخبراه".
( )6في جـ " :البارحة أهلي".
( )1/511
( )1/512
غسّان محمد بن مُطَرّف ،حدثني أبو حازم ،عن سهل بن سعد ،قال :أنزلت
مريم ،حدثنا أبو َ
سوَدِ } ولم يُنزلْ { مِنَ ا ْلفَجْرِ }
َ { :وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َل ُكمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ
وكان رجال إذا أرادوا الصوم ،رَ َبطَ أحدُهم في رجليه الخيط البيض والخيط السود ،فل يزال
يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ،فأنزل ال بعد { :مِنَ ا ْلفَجْرِ } فعلموا أنما يعني :الليل والنهار (
.)1
حصَين ،عن الشعبي ،أخبرني عَديّ بن حاتم قال :لما
وقال المام أحمد :حدثنا هُشَيم ،أخبرنا ُ
عمَدت إلى
سوَدِ } َ
نزلت هذه الية َ { :وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ
عقالين ،أحدُهما أسود والخر أبيض ،قال :فجعلتهما تحت وسادتي ،قال :فجعلت أنظر إليهما
فل تَبَيّن ( )2لي السود من البيض ،ول البيض من السود ،فلما أصبحت غدوت على رسول
ال صلى ال عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت .فقال " :إنّ وسادك إذًا لعريض ،إنما ذلك بياض
النهار وسواد ( )3الليل" (.)4
أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ،عن عَديّ ( .)5ومعنى قوله " :إن وسادك إذًا لعريض" أي
:إن كان يسعُ لوضع الخيط السود والخيط البيض المرادين من هذه الية تحتها ،فإنهما بياض
النهار وسواد الليل .فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب.
وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا :أخبرنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا أبو عوانة ،عن
حصَين ،عن الشعبي ،عن عَ ِديّ قال :أخذ عَدي عقال أبيض وعقال أسود ،حتى كان بعض
ُ
الليل نظر فلم يتبينا ( .)6فلما أصبح قال :يا رسول ال ،جعلت تحت وسادتي .قال " :إن وسادك
إذًا لعريض ،إنْ كان الخيط البيض والسود تحت وسادتك" (.)7
وجاء في بعض اللفاظ :إنك لعريض القفا .ففسره بعضهم بالبلدة ،وهو ضعيف .بل يرجع إلى
هذا ؛ لنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضًا عريض ،وال أعلم .ويفسره رواية البخاري أيضًا :
حدثنا قتيبة ،حدثنا جرير ،عن ُمطَرّف ،عن الشعبي ،عن عدي بن حاتم قال :قلت :يا رسول
ال ،ما الخيط البيض من الخيط السود ،أهما الخيطان ؟ قال " :إنك لعريض القفا إن أبصرت
الخيطين" .ثم قال " :ل بل هو ( )8سواد الليل وبياض النهار" (.)9
وفي إباحته تعالى جوا َز الكل إلى طلوع الفجر ،دليل على استحباب السّحُور ؛ لنه من باب
الرخصة ،والخذ بها محبوب ؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم
بالحث على السّحور [لنه من باب الرخصة والخذ بها] ( )10ففي الصحيحين عن أنس قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم َ " :تسَحّرُوا فإن في السّحور بركة" ( .)11وفي صحيح مسلم ،
عن عمرو بن العاص رضي ال عنه ،قال :قال
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4511
( )2في جـ " :فلما يتبين".
( )3في جـ " :من سواد".
( )4المسند (.)4/377
( )5صحيح البخاري برقم ( )4509 ، 1916وصحيح مسلم برقم (.)1090
( )6في أ ،و " :فلم يستبينا".
( )7صحيح البخاري برقم (.)4509
( )8في جـ " :بل هما".
( )9صحيح البخاري برقم (.)4510
( )10زيادة من جـ.
( )11صحيح البخاري برقم ( )1923وصحيح مسلم برقم (.)1095
( )1/513
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن َفصْل ( )1ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحَر (
.)3( " )2
وقال المام أحمد :حدثنا إسحاق بن عيسى ( )4هو ابن الطباع ،حدثنا عبد الرحمن بن زيد ،
عن أبيه ،عن عطاء بن يسار ،عن أبي سعيد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"السّحور أكُْلهُ بركة ؛ فل تدعوه ،ولو أنّ أحدكم يَجْرَع جرعة من ماء ،فإن ال وملئكته يصلون
على المتسحرين" (.)5
وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء ،تشبهًا ( )6بالكلين.
ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر ،كما جاء في الصحيحين ،عن أنس بن مالك ،عن
زيد بن ثابت ،قال :تسحرنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ثم قمنا إلى الصلة .قال أنس
:قلت لزيد :كم كان بين الذان والسحور ؟ قال :قدر خمسين آية (.)7
وقال المام أحمد :حدثنا موسى بن داود ،حدثنا ابن َلهِيعة ،عن سالم بن غيلن ،عن سليمان (
)8بن أبي عثمان ،عن عَديّ بن حاتم الحمصي ،عن أبي ذَرّ قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :ل تزال أمتي بخير ما عَجّلوا الفطار وأخّروا السحور" ( .)9وقد ورد في أحاديث
كثيرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سمّاه الغَدَاء المبارك ،وفي الحديث الذي رواه المام
أحمد ،والنسائي ،وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة ،عن عاصم بن بهدلة ،عن زرّ بن
حبيش ،عن حذيفة بن اليمان قال :تسحّرْنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان النهار إل
أن الشمس لم تطلع ( .)10وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النّجُود ،قاله النسائي ،وحمله على
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ فَا ِرقُوهُنّ
أن المراد قربُ النهار ،كما قال تعالى { :فَإِذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ
ِب َمعْرُوفٍ } [الطلق ]2 :أي :قاربن انقضاء العدة ،فإما إمساك ( )11أو تَرْك للفرَاق .وهذا
الذي قاله هو المتعيّن حملُ الحديث عليه :أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ،حتى أن
بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك .وقد رُوي عن طائفة كثيرة من السلف أنّهم تسامحوا
( )12في السحور عند مقاربة الفجر .روي مثل هذا عن أبي بكر ،وعمر ،وعلي ،وابن مسعود
،وحذيفة ،وأبي هريرة ،وابن عمر ،وابن عباس ،وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من
خعَي ،وأبو الضّحَى ،
التابعين ،منهم :محمد بن علي بن الحسين ،وأبو مِجْلز ،وإبراهيم النّ َ
وأبو وائل ،وغيره ( )13من أصحاب ابن مسعود وعطاء ،والحسن ،والحكم بن عيينة ()14
ومجاهد ،وعروة بن الزبير ،وأبو الشعثاء جابر بن زيد .وإليه ذهب العمش معمر ( )15بن
راشد .وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب
__________
( )1في أ " :إن أفضل".
( )2في أ " :السحور".
( )3صحيح مسلم برقم (.)1096
( )4في جـ " :بن إسحاق".
( )5المسند (.)3/44
( )6في أ " :تشبيها".
( )7صحيح البخاري برقم ( )1921وصحيح مسلم برقم (.)1097
( )8في جـ " :عن سلمان".
( )9المسند (.)5/172
( )10المسند ( )5/396وسنن النسائي ( )4/142وسنن ابن ماجة برقم (.)1695
( )11في جـ " :إمساك بمعروف".
( )12في أ " :أنهم سامحوا".
( )13في أ " :وغيرهما".
( )14في جـ " :ابن قتيبة" ،وفي و " :ابن عتيبة".
( )15في جـ ،أ " :ومعمر".
( )1/514
( )1/516
صلى ال عليه وسلم ( )1وفي سنن النسائي ( )2عنه ،عن أسامة بن زيد ،والفضل بن عباس
ولم يرفعه ( .)3فمن العلماء من علّل هذا الحديث بهذا ،ومنهم من ذهب إليه ،ويُحْكى هذا عن
أبي هريرة ،وسالم ،وعطاء ،وهشام بن عروة ،والحسن البصري .ومنهم من ذهب إلى التفرقة
بين أن يصبح جنبًا نائمًا فل عليه ،لحديث عائشة وأم سلمة ،أو مختارًا فل صومَ له ،لحديث
أبي هريرة .يحكى ( )4هذا عن عُروة ،وطاوس ،والحسن .ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه
ويقضيه وأما ال ّنفْل فل يضره .رواه الثوري ،عن منصور ،عن إبراهيم النخَعي .وهو رواية
عن الحسن البصري أيضًا ،ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ،
ولكن ل تاريخ معه.
وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الية الكريمة ،وهو بعيد أيضًا ،وأبعد ؛ إذ ل تاريخ ،بل
الظاهر من التاريخ خلفه .ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال "فل صوم له"
لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز .وهذا المسلك أقرب القوال وأجمعها ،وال أعلم.
وقوله تعالى { :ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } يقتضي الفطار عند غُرُوب الشمس حكمًا شرعيًا ،
كما جاء في الصحيحين ،عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ،فقد أفطر
الصائم" (.)5
وعن سهل بن سعد الساعدي ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل
يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه أيضًا (.)6
وقال المام أحمد :حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا الوزاعي ،حدثنا قُرّة بن عبد الرحمن ،عن
الزهري ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم " :يقول ال ،عز
وجل :إن أحبّ عبادي إلي أعجلُهم فِطْرًا".
ورواه الترمذي من غير وجه ،عن الوزاعي ،به ( .)7وقال :هذا حديث حسن غريب.
وقال أحمد أيضًا :حدثنا عفان ،حدثنا عبيد ال ( )8بن إياد ،سمعت إياد بن لقيط قال :سمعت
خصَاصِيّة ،قالت :أردت أن أصو َم يومين مواصلة ،فمنعني بشير وقال :
ليلى امرأة بَشِير بن ال َ
إن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى عنه .وقال " :يفعل ذلك النصارى ،ولكنْ صُوموا كما
أمركم ال ،وأتموا الصيامَ إلى الليل ،فإذا كان الليل فأفطروا" (.)9
[وروى الحافظ ابن عساكر ،حدثنا بكر بن سهل ،حدثنا عبد ال بن يوسف ،حدثنا يحيى بن
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )1925وصحيح مسلم برقم (.)1109
( )2في أ " :وفي سنن أبي داود والنسائي".
( )3سنن النسائي الكبرى برقم (.)2934 ، 2933
( )4في جـ " :ويحكي".
( )5صحيح البخاري برقم ( )1954وصحيح مسلم برقم (.)1100
( )6صحيح البخاري برقم ( )1957وصحيح مسلم برقم (.)1098
( )7المسند ( )2/238وسنن الترمذي برقم (.)701 ، 700
( )8في أ " :عبد ال".
( )9المسند (.)5/225
( )1/517
حمزة ،عن ثور بن يزيد ،عن علي بن أبي طلحة ،عن عبد الملك بن أبي ذر ،أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم واصل يومين وليلة ؛ فأتاه جبريل فقال :إن ال قد قبل وصالك ،ول يحل
لحدٍ بعدك ،وذلك بأن ال قال { :ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } فل صيام بعد الليل ،وأمرني
بالوتر قبل الفجر ،وهذا إسناد ل بأس به ،أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه] (
.)2( )1
ولهذا ورد في الحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ،وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر ،ول
يأكل بينهما شيئًا .قال المام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تواصلوا" .قالوا :يا رسول ال ،إنك تواصل .قال " :فإني
لست مثلكم ،إني أبِيتُ ُيطْعمني ربي ويسقيني" .قال :فلم ينتهوا عن الوصال ،فواصل بهم النبي
صلى ال عليه وسلم يومين وليلتين ،ثم رأوا الهلل ،فقال " :لو تأخر الهلل لزدتكم" كالمُنكّل
بهم (.)3
وأخرجاه في الصحيحين ،من حديث الزهري به ( .)4وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من
حديث أنس وابن عمر (.)5
وعن عائشة ،رضي ال عنها ،قالت :نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوصال ،
رحمة لهم ،فقالوا :إنك تواصل .قال " :إني لست كهيئتكم ،إني يطعمني ربي ويسقيني" (.)6
فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ،وثبت أنه من خصائص النبي صلى ال عليه وسلم ،وأنه كان
يقوى على ذلك ويعان ،والظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويًا ل حسيًا ،
وإل فل يكون مواصل مع الحسي ،ولكن كما قال الشاعر :
شغَلها ...عن الشراب وتُلْهيها عَن الزادِ...
لها أحاديثُ من ذكراك تَ ْ
وأما من أحبّ أن ُيمْسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ،كما في حديث أبي سعيد
الخدري ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تواصلوا ،فأيكم أراد
أن يواصل فليواصل إلى السحر" .قالوا :فإنك تواصِل يا رسول ال .قال " :إني ( )7لست
طعِم يطعمني ،وساق يسقيني" .أخرجاه في الصحيحين أيضًا (.)8
كهيئتكم ،إني أبيت لي ُم ْ
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُريْب ،حدثنا أبو نعيم ،حدثنا أبو إسرائيل العَبْسي ( )9عن أبي بكر
ابن حفص ،عن أمّ ولد حاطب بن أبي بَلْتعة :أنها مرت برسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
يتسحر ،فدعاها إلى الطعام .فقالت :إني صائمة .قال :وكيف تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي
صلى ال عليه وسلم ،فقال " :أين أنت من
__________
( )1زيادة من جـ أ ،و.
( )2انظر :مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (.)15/192
( )3في جـ " :لهم".
( )4صحيح البخاري برقم ( )6851وصحيح مسلم برقم (.)1105
( )5حديث أنس في صحيح البخاري برقم ( )1961وفي صحيح مسلم برقم ( ، )1104وحديث
ابن عمر في صحيح البخاري برقم ( )1962وفي صحيح مسلم برقم (.)1102
( )6صحيح البخاري برقم ( )1964وصحيح مسلم برقم (.)1105
( )7في جـ " :فإني".
( )8صحيح البخاري برقم ( )1963ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
( )9في أ " :القيسي".
( )1/518
( )1/519
العتكاف في الصيام ،أو في آخر ( )1شهر الصيام ،كما ثبتت السنة عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم :أنه كان يعتكف العشرَ الواخر من شهر رمضان ،حتى توفاه ال ،عز وجل .ثم
اعتكف أزواجُه من بعده .أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ،رضي ال عنها ( ، )2وفي
الصحيحين أن صَفيّة بنت حُيي كانت ( )3تزور النبي صلى ال عليه وسلم وهو معتكف في
المسجد ،فتحدثت عنده ساعة ،ثم قامت لترجع إلى منزلها -وكان ذلك ليل -فقام النبي صلى
ال عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ،وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب
المدينة ،فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلن من النصار ،فلما رأيا النبي صلى ال عليه وسلم
أسرعا -وفي رواية :تواريا -أي حياء من النبي صلى ال عليه وسلم لكون أهله معه (، )4
فقال لهما النبي صلى ال عليه وسلم " :على ِرسْلكما إنها صفية بنت حيي" أي :ل تسرعا ،
واعلما أنها صفية بنت حيي ،أي :زوجتي .فقال سبحان ال يا رسول ال ،فقال عليه الصلة
والسلم " :إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ،وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا"
أو قال " :شرّا" (.)5
قال الشافعي ،رحمه ال :أراد ،عليه السلم ،أنْ يعلم أمّته التبري من الّت ْهمَة في محلها ،لئل
يقعا في محذور ،وهما كانا أتقى ل أن يظنا بالنبي صلى ال عليه وسلم شيئًا .وال أعلم.
ثم المراد بالمباشرة :إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ،ومعانقة ونحو ذلك ،فأما معاطاة
الشيء ونحوه فل بأس به ؛ فقد ثبت في الصحيحين ،عن عائشة ،رضي ال عنها ،أنها قالت :
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يُدْني إليّ رأسه فأرجّلُه وأنا حائض ،وكان ل يدخل البيت إل
ض يكون في البيت فما أسأل عنه إل وأنا مارة (
لحاجة النسان .قالت عائشة :ولقد كان المري ُ
.)6
وقوله { :تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ } أي :هذا الذي بيناه ،وفرضناه ،وحددناه من الصيام ،وأحكامه ،
وما أبحنا فيه وما حرّمنا ،و ِذكْر ( )7غاياته ورخصه وعزائمه ،حدود ال ،أي :شرعها ال
وبيّنها بنفسه { فَل َتقْرَبُوهَا } أي :ل تجاوزوها ،وتعتدوها (.)8
حدُودُ اللّهِ } أي :المباشرة في العتكاف.
وكان الضحاك ومقاتل يقولن في قوله تعالى { :تِ ْلكَ ُ
حلّ َل ُكمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :يعني هذه الحدود الربعة ،ويقرأ ( { )9أُ ِ
ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ } حتى بلغ ُ { :ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } قال :وكان أبي وغيره من مَشْيَختنا
( )10يقولون هذا ويتلونه علينا.
{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ } أي :كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ،كذلك يبين
سائر الحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم { لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } أي :
َيعْرفون كيف يهتدون ،وكيف يطيعون كما قال تعالى ُ { :هوَ الّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ
جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ [ وَإِنّ اللّهَ ِبكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } ] ([ .)11الحديد .]9 :
لِيُخْ ِر َ
__________
( )1في أ ،و " :أو في أواخر".
( )2صحيح البخاري برقم ( )2033وصحيح مسلم برقم ( )1172واللفظ لمسلم.
( )3في جـ ،أ " :جاءت".
( )4في جـ " :معه أهله".
( )5صحيح البخاري برقم ( )6219 ، 2035وصحيح مسلم برقم ( )2175من حديث صفية
رضي ال عنها.
( )6صحيح البخاري برقم ( )2029وصحيح مسلم برقم (.)297
( )7في جـ " :وذكرنا".
( )8في جـ " :تتجاوزوها أو تعتدوها".
( )9في جـ " :ويقول".
( )10في أ " :من مشايخنا".
( )11زيادة من و ،وفي جـ ،ط ،أ ،هـ " :الية".
( )1/520
( )1/521
قال العوفي عن ابن عباس :سأل الناسُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم عن الهلة ،فنزلت هذه
حلّ دَيْنهم ،وعدّة
الية { :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ [وَالْحَجّ] ( } )1يعلمون بها ِ
حجّهم.
نسائهم ،ووقتَ َ
وقال أبو جعفر ،عن الربيع ،عن أبي العالية :بلغنا أنّهم قالوا :يا رسول ال ،لم خُِلقَتْ
صوْم
جعََلهَا ال مواقيت ل َ
الهلة ؟ فأنزل ال { يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ } يقول َ :
حلّ دَيْنهم.
المسلمين وإفطارهم ،وعدة نسائهم ،ومَ َ
وكذا رُوي عن عَطَاء ،والضحاك ،وقتادة ،والسدي ،والربيع بن أنس ،نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق ،عن عبد العزيز بن أبي َروّاد ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :جعل ال الهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ،فإن غم
عليكم َفعُدّوا ثلثين يومًا".
ورواه الحاكم في مستدركه ،من حديث ابن أبي رواد ،به ( .)2وقال :كان ثقة عابدًا مجتهدًا
شريف النسب ،فهو صحيح السناد ،ولم يخرجاه.
وقال محمد بن جابر ،عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"جعل ال الهلّة ،فإذا رأيتم الهلل فصُوموا ،وإذا رأيتموه فأفطروا ،فإن أغْمي عليكم فأكملوا
العدة ثلثين" ( .)3وكذا روي من حديث أبي هريرة ،ومن كلم عليّ بن أبي طالب ،رضي ال
عنه (.)5( )4
ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا }
وقوله { :وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ
قال البخاري :حدثنا عبيد ال ( )6بن موسى ،عن إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن البراء قال :
كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أ َتوْا البيت من ظهره ،فأنزل ال { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا } (.)7
ُ
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ،عن شعبة ،عن أبي إسحاق ،عن البراء ،قال :كانت النصار
سفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ،فنزلت هذه الية.
إذا قدموا من َ
حمْس ،وكانوا يدخلون من
وقال العمش ،عن أبي سفيان ،عن جابر :كانت قريش تدعى ال ُ
البواب في الحرام ،وكانت النصار وسائر العرب ل يدخلون من باب في الحرام ،فبينا
رسول ال
__________
( )1زيادة من أ.
( )2المستدرك (.)1/423
( )3رواه أحمد في المسند ( )4/23من طريق محمد بن جابر به.
( )4في جـ " :عنهم".
( )5حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم ( )1909ومسلم في صحيحه برقم (
.)1081
( )6في أ " :عبد ال".
( )7صحيح البخاري برقم (.)4512
( )1/522
صلى ال عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ،وخرج معه ُقطْبة بن عامر النصاري ،فقالوا
:يا رسول ال ،إن قطبة ابن عامر رجل تاجر ( )1وإنه خرج معك من الباب .فقال له " :ما
ت كما فعلتَ .فقال " :إني [رجل] ( )2أحمس".
حملك على ما صنعت ؟ " قال :رأيتك فعلتَه ففعل ُ
ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى
قال له :فإن ديني دينك .فأنزل ال { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا } رواه ابن أبي حاتم .ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه .وكذا روي
عن مجاهد ،والزهري ،وقتادة ،وإبراهيم النخعي ،والسدي ،والربيع بن أنس.
وقال الحسن البصري :كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد
سفره الذي خرج له ،ثم بدا له َبعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ،لم يدخل البيت من بابه ،ولكن
ظهُورِهَا [وََلكِنّ
يتسوّره من قبل ظهره ،فقال ( )3ال تعالى { :وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ
الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى] ( } )4الية.
وقال محمد بن كعب :كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ،فأنزل ال هذه
الية.
وقال عطاء بن أبي رباح :كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها
ظهُورِهَا }
ويَ َروْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ،فقال ال تعالى { :وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ
وقوله { :وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } أي :اتقوا ال فافعلوا ما أمركم به ،واتركوا ما نهاكم عنه {
َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ،فيجزيكم ( )5بأعمالكم على التمام ،والكمال.
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ ( )190وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ
{ َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَل َتعْ َتدُوا إِنّ اللّهَ ل ُي ِ
ل وَل ُتقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ
َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ ا ْلقَتْ ِ
غفُورٌ
حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ ( )191فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ
ع ْدوَانَ إِل عَلَى الظّاِلمِينَ
رَحِيمٌ (َ )192وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْ َت َهوْا فَل ُ
(} )193
قال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية في قوله تعالى َ { :وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ } قال :هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ،فلما نزلت كان رسول ال
عمّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد
صلى ال عليه وسلم يقاتل من قاتله ،ويكف َ
جدْ ُتمُوهُمْ }
ث وَ َ
الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال :هذه منسوخة بقوله { :فَاقْتُلُوا ا ْل ُمشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
[التوبة ]5 :وفي هذا نظر ؛ لن قوله { :الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ } إنما هو َتهْييج وإغراء بالعداء الذين
همّتْهم قتال السلم وأهله ،أي :كما
__________
( )1في جـ " :فاجر".
( )2زيادة من جـ ،أ.
( )3في أ " :فأنزل".
( )4زيادة من جـ.
( )5في جـ ،أ " :فيجازيكم".
( )1/523
يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ،كما قال َ { :وقَاتِلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ كَافّةً َكمَا ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَافّةً } [التوبة ]36 :؛
ولهذا قال في هذه الية { :وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُمْ } أي :لتكن
همتكم منبعثة على قتالهم ،كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ،وعلى إخراجهم من بلدهم التي
أخرجوكم منها ،قصاصًا.
وقد حكى عن أبي بكر الصديق ،رضي ال عنه ،أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ،
{ ُأذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ظُِلمُوا } الية [الحج ]39 :وهو الشهر وبه ورد الحديث.
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ } أي :قاتلوا في سبيل ال ول تعتدوا في ذلك
وقوله { :وَل َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ ل يُ ِ
ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسن البصري -من المَثُلة ،والغُلُول ،وقتل النساء
والصبيان والشيوخ الذين ل رأي لهم ول قتال فيهم ،والرهبان وأصحاب الصوامع ،وتحريق
الشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ،كما قال ذلك ابن عباس ،وعمر بن عبد العزيز ،ومقاتل
بن حيان ،وغيرهم .ولهذا جاء في صحيح مسلم ،عن بُرَيدة أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم
كان يقول " :اغزوا في سبيل ال ،قاتلوا من كفر بال ،اغزوا ول َتغُلّوا ،ول َتغْدروا ،ول
ُتمَثّلُوا ،ول تقتلوا وليدًا ،ول أصحاب الصوامع" .رواه المام أحمد (.)1
وعن ابن عباس قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا َبعَث جيوشه قال " :اخرجوا بسم
ال ،قاتلوا في سبيل ال من كفر بال ،ل تغدروا ول تغلوا ،ول ُتمَثلوا ،ول تقتلوا الولدان ول
أصحاب الصّوامع" .رواه المام أحمد (.)2
ولبي داود ،عن أنس مرفوعًا ،نحوه ( .)3وفي الصحيحين عن ابن عمر قال :وجُدت امرأة
في بعض مغازي النبيّ صلى ال عليه وسلم مقتولة ،فأنكر رسولُ ال صلى ال عليه وسلم قتلَ
النساء والصبيان (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا مُصعب بن سَلم ،حدثنا الجلح ،عن قيس بن أبي مسلم ،عن رِبْعي
حذَيفة يقول :ضرب لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أمثال واحدًا ،
ابن حِرَاش ،قال :سمعت ُ
وثلثة ،وخمسة ،وسبعة ،وتسعة ،وأحدَ عشَرَ ،فضرب لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم
ضعْف ومسكنة ،قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ،
منها مثل وترك سائرَها ،قال " :إن قومًا كانوا أهلَ َ
عدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا ال عليهم إلى
فأظهر ال أهل الضعف عليهم ،فعمدوا إلى َ
يوم يلقونه" (.)5
هذا حديث حَسَنُ السناد .ومعناه :أن هؤلء الضعفاء لما قدروا على القوياء ،فاعتَدوا عليهم
واستعملوهم فيما ل يليق بهم ،أسخطوا ال عليهم بسبب ( )6هذا العتداء .والحاديث والثار في
هذا كثيرة جدًا.
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )1731والمسند (.)5/352
( )2المسند (.)1/300
( )3سنن أبي داود برقم (.)2614
( )4صحيح البخاري برقم ( )3015وصحيح مسلم برقم (.)1744
( )5المسند (.)5/407
( )6في جـ " :لسبب".
( )1/524
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ،نبّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون ( )1عليه
من
__________
( )1في جـ " :مقيمون".
( )1/524
الكفر بال والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال { :وَا ْلفِتْنَةُ
شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } قال أبو مالك :أي :ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل.
أَ َ
وقال أبو العالية ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،وعكرمة ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،
شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } يقول :الشرك أشد من القتل.
والربيع ابن أنس في قوله { :وَا ْلفِتْنَةُ أَ َ
جدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين " :إن هذا البلد حرّمه ال
وقوله { :وَل ُتقَاتِلُو ُهمْ عِنْدَ ا ْل َمسْ ِ
يوم خلق السموات والرض ،فهو حرام بحرمة ال إلى يوم القيامة ،ولم يحل لي إل ساعة من
نهار ،وإنها ساعتي هذه ،حَرَام بحرمة ال إلى يوم القيامة ،ل ُي ْعضَد شجره ،ول ُيخْتَلى خَله.
فإن أحد ترخص بقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا :إن ال أذن لرسوله ولم يأذن لكم"
(.)1
يعني بذلك -صلوات ال وسلمه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ،فإنه فتحها عنوة ،وقتلت
رجال منهم عند الخَنْدمَة ،وقيل :صلحًا ؛ لقوله :من أغلق بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد
فهو آمن ،ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
[وقد حكى القرطبي :أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ .قال قتادة :نسخها قوله :
خذُوهُمْ } [التوبة .]5 :قال مقاتل
جدْ ُتمُوهُ ْم وَ ُ
ث وَ َ
شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
{ فَِإذَا انْسَلَخَ ال ْ
جدْ ُتمُوهُمْ } وفي هذا
ث وَ َ
شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
بن حيان :نسخها قوله { :فَِإذَا انْسَلَخَ ال ْ
نظر] (.)2
وقوله { :حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ } يقول تعالى :ل تقاتلوهم
عند المسجد الحرام إل أن يَ ْبدَؤوكم بالقتال فيه ،فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال ( )3كما
بايع النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال َ ،لمّا تألبت عليه
بطونُ قريش ومن والهم من أحياء ثقيف والحابيش عامئذ ،ثم كف ال القتال بينهم فقال :
ظفَرَكُمْ عَلَ ْيهِمْ } [الفتح :
{ وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَ ْيدِ َيهُمْ عَ ْنكُمْ وَأَيْدِ َيكُمْ عَ ْنهُمْ بِبَطْنِ َمكّةَ مِنْ َب ْعدِ أَنْ َأ ْ
ن وَنِسَاءٌ ُمؤْمِنَاتٌ لَمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ تَطَئُو ُهمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ
، ، ]24وقال { :وََلوْل رِجَالٌ ُم ْؤمِنُو َ
حمَتِهِ مَنْ َيشَاءُ َلوْ تَزَيّلُوا َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْن ُهمْ عَذَابًا َألِيمًا }
خلَ اللّهُ فِي َر ْ
علْمٍ لِ ُيدْ ِ
َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ ِ
[الفتح .]25 :
غفُورٌ َرحِيمٌ } أي :فإن تَركُوا القتال في الحرم ،وأنابوا إلى
وقوله { :فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ
السلم والتوبة ،فإن ال [غفور رحيم] ( )4يغفر ذنوبهم ،ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم
ن يغفره لمن تاب منْه إليه.
ظمُه ذَنْب أ ْ
ال ،فإنه تعالى ل يتعا َ
ثم أمر تعالى بقتال الكفّار { :حَتّى ل َتكُونَ فِتْ َنةٌ } أي :شرك .قاله ابن عباس ،وأبو العالية ،
ومجاهد ،والحسن ،وقتادة ،والربيع ،ومقاتل بن حيان ،والسّدي ،وزيد بن أسلم.
{ وَ َيكُونَ الدّينُ ِللّهِ } أي :يكونَ دينُ ال هو الظاهر [العالي] ( )5على سائر الديان ،كما ثبت
في الصحيحين :عن أبي موسى الشعري ،قال :سُئِل النبي ( )6صلى ال عليه وسلم عن
الرجل يُقاتل شجاعة ،ويقاتل حَميّة ،ويقاتل رياء ،أيّ ذلك في سبيل ال ؟ فقال " :من قاتل
لتكون كلمة ال هي العليا فهو
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )1834وصحيح مسلم برقم ( )1353من حديث ابن عباس رضي ال
عنهما.
( )2زيادة من جـ ،أ.
( )3في أ " :للقتال".
( )4زيادة من جـ.
( )5زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )6في جـ ،ط " : ،سئل رسول ال".
( )1/525
شهْرِ ا ْلحَرَا ِم وَا ْلحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى
شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ
ال ّ
عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ ()194
في سبيل ال" ( .)1وفي الصحيحين " :أم ْرتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا :ل إله إل ال ،فإذا
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها ،وحسابهم على ال" ( )2وقوله { :فَإِنِ انْ َت َهوْا فَل
عُ ْدوَانَ إِل عَلَى الظّاِلمِينَ } يقول :فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ،وقتال المؤمنين ،ف ُكفّوا
عنهم ،فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ،ول عُدوانَ إل على الظالمين ،وهذا معنى قول مجاهد
خّلصُوا من الظلم ،وهو الشرك .فل
:ل ُيقَاتَلُ إل من قاتل .أو يكون تقديره ؛ فإن انتهوا فقد تَ َ
عدوان عليهم بعد ذلك ،والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة ،كقوله َ { :فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ } وقوله { :وَجَزَاءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ مِثُْلهَا } [الشورى ، ]40 :
{ وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل .]126 :ولهذا قال عكرمة وقتادة :الظالم :
الذي أبى أن يقول :ل إله إل ال.
وقال البخاري :قوله َ { :وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ [وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ] ( } )3الية :حدثنا محمد
بن بشار ،حدثنا عبد الوهاب ،حدثنا عُبَيد ال ،عن نافع ،عن ابن عمر ،قال :أتاه رجلن في
فتنة ابن الزبير فقال ( : )4إن الناس صنعوا ( )5وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى ال عليه
وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال :يمنعني أن ال حرم دم أخي .قال ألم يقل ال َ { :وقَاتِلُوهُمْ حَتّى
ل َتكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال :قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين ل ،وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى
تكون فتنة ويكون الدين لغير ال .زاد عثمان ابن صالح ( )6عن ابن وهب قال :أخبرني فلن
وحيوة بن شريح ،عن بكر بن عمرو المعافري ( )7أن ُبكَير بن عبد ال حدثه ،عن نافع :أن
رجل أتى ابن عمر فقال [له] ( )8يا أبا عبد الرحمن ،ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر ()9
عامًا ،وتترك الجهاد في سبيل ال ،وقد علمت ما رغب ال فيه ؟ فقال :يا ابن أخي ،بُني
السلم على خمس :اليمان بال ورسوله ،والصلوات الخمس ،وصيام رمضان ،وأداء
الزكاة ،وحج البيت .قال :يا أبا عبد الرحمن ،أل تسمع ما ذكر ال في كتابه { :وَإِنْ طَا ِئفَتَانِ
علَى الخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ
مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا َ
إِلَى َأمْرِ اللّهِ } [الحجرات َ { ، ]9 :وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ } قال :فعلنا على عهد النبي (
)10صلى ال عليه وسلم وكان السلم قليل وكان الرجل يفتن في دينه :إما قتلوه أو عذبوه (
)11حتى كثر السلم فلم تكن فتنة ،قال :فما قولك في علي وعثمان ؟ قال :أما عثمان فكان
ال عفا عنه ،وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا ( )12عنه ،وأما علي فابن عم رسول ال صلى ال
عليه وسلم وختنه ،وأشار بيده فقال :هذا بيته حيث ترون (.)13
شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَى
شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ
{ ال ّ
عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ (} )194
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )3126 ، 2810وصحيح مسلم برقم (.)1904
( )2صحيح البخاري برقم ( )25وصحيح مسلم برقم ( )22من حديث عبد ال بن عمرو رضي
ال عنهما.
( )3زيادة من جـ ،ط.
( )4في ط " :فقالوا".
( )5في و " :ضيعوا".
( )6في جـ " :عثمان بن أبي صالح".
( )7في أ " :المغافري".
( )8زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )9في و " :وتقيم".
( )10في جـ " :رسول ال".
( )11في أ ،و " :أو يعذبوه".
( )12في جـ " :يعفو".
( )13صحيح البخاري برقم (.)4515 - 4513
( )1/526
قال عكرمة ،عن ابن عباس ،والضحاك ،والسدي ،و ِمقْسَم ،والربيع بن أنس ،وعطاء
وغيرهم :لما سار رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ُمعْ َتمِرًا في سنة ست من الهجرة ،وحَبَسَه
المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ،وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة ،
وهو شهر حرام ،حتى قاضاهم على الدخول من قابل ،فدخلها في السنة التية ،هو ومن كان
شهْرِ
شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ
[معه] ( )1من المسلمين ،وأقَصه ال منهم ،فنزلت في ذلك هذه الية { :ال ّ
الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ }
وقال المام أحمد :حدثنا إسحاق بن عيسى ،حدثنا ليث بن سعد ،عن أبي الزبير ،عن جابر بن
عبد ال ،قال :لم يكن رسولُ ال صلى ال عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إل أن ُيغْزى
و ُيغْزَوا ( )2فإذا حضره أقام حتى ينسلخ (.)3
هذا إسناد صحيح ؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى ال عليه وسلم -وهو مُخَيّم بالحديبية -أن عثمان
قد قتل -وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين -بايع أصحابه ،وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ
الشجرة على قتال المشركين ،فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك ،وجنح إلى المسالمة
والمصالحة ،فكان ما كان.
عدَل إليها ،فحاصَرَها ودخل
حصّن فَلّهم بالطائف َ ،
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَ َ
ذو ال َقعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ،واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا ،كما ثبت في
الصحيحين عن أنس ( .)4فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم ُتفْتَحْ ،ثم كر راجعًا إلى
عمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام
مكة واعتمر من الجعرانه ،حيث قسم غنائم حُنين .وكانت ُ
ثمان ،صلوات ال وسلمه عليه.
وقوله َ { :فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَ ْيهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَى عَلَ ْيكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين
:كما قال { :وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل .]126 :وقال { :وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ
سَيّئَةٌ مِثُْلهَا } [الشورى .]40 :
علَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله َ { :فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا َ
اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ } نزلت بمكة حيث ل شوكة ول جهَاد ،ثم نسخ بآية الجهاد ( )5بالمدينة .وقد َردّ
عمْرة القَضيّة ،وعزا ذلك إلى مجاهد
هذا القول ابنُ جرير ،وقال :بل [هذه] ( )6الية مدنية بعد ُ
،رحمه ال.
وقد أطلق هاهنا العتداء على القتصاص ،من باب المقابلة ،كما قال عمرو بن أم كلثوم :
أل ل يجهلن أحدٌ علينا ...فنجهل فوق جهل الجاهلينا...
وقال ابن دريد :
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2في جـ " :إل يغزوا الغزو" ،وفي أ " :إل أن يقر ويقروا".
( )3المسند (.)3/345
( )4الحديث بهذا المعنى في صحيح مسلم برقم (.)1059
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :بآية القتال".
( )6زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )1/527
( )1/528
وعلى أهل الشام رجل ،يريد بن َفضَالة بن عُبَيد -فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم ،
حمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم :ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه
فصففنا لهم ف َ
فقالوا :سبحان ال ،ألقى بيده إلى التهلكة .فقال أبو أيوب :يا أيها الناس ،إنكم لتتأولون هذه
الية على غير التأويل ،وإنما نزلت فينا معشر النصار ،وإنا لما أعز ال دينه ،وكثر ناصروه
قلنا فيما بيننا :لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها .فأنزل ال هذه الية.
وقال أبو بكر بن عياش ،عن أبي إسحاق السّبِيعي قال :قال رجل للبراء بن عازب :إن حملتُ
على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة ؟ قال :ل قال ال لرسوله َ { :فقَا ِتلْ فِي
سكَ } [النساء ، ]84 :إنما هذا في النفقة .رواه ابن مردويه وأخرجه
سَبِيلِ اللّهِ ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ
الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،به .وقال :صحيح على شرط
الشيخين ،ولم يخرجاه ( .)1ورواه الثوري ،وقيس بن الربيع ،عن أبي إسحاق ،عن البراء -
سكَ } ولكن التهلكة أن يُذْ ِنبَ الرجلُ الذنبَ ،فيلقي بيده
فذكره .وقال بعد قوله { :ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ
إلى التهلكة ول يتوب.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو صالح -كاتب الليث -حدثني الليث ،حدثنا عبد
الرحمن بن خالد بن مسافر ،عن ابن شهاب ،عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
:أن عبد الرحمن بن السود بن عبد يغوث أخبره :أنهم حاصروا دمشق ،فانطلق رجل من أزد
عمْرو بن
شنوءة ،فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ،فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى َ
العاص ،فأرسل إليه عمرو فَرَدّه ،وقال عمرو :قال ال { :وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ }
وقال عطاء بن السائب ( )2عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس في قوله { :وَأَ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَل تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } ليس ( )3ذلك في القتال ،إنما هو في النفقة أن ُتمْسكَ بيدك عن
النفقة في سبيل ال .ول تلق بيدك إلى التهلكة.
وقال حماد بن سلمة ،عن داود ،عن الشعبي ،عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة ( )4قال :كانت
النصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ،فأصابتهم سَنَة ،فأمسكوا عن النفقة في سبيل ال فنزلت
{ :وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ }
وقال الحسن البصري { :وَل تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } قال :هو البخل.
سمَاك بن حرب ،عن النعمان بن بشير في قوله { :وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } أن يذنب
وقال ِ
الرجل الذنب ،فيقول :ل يغفر لي ،فأنزل ال { :وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَ ِة وََأحْسِنُوا إِنّ اللّهَ
حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ } رواه ابن مَرْدويه.
يُ ِ
وقال ابن أبي حاتم :ورُويَ عن عُبيدَة السلماني ،والحسن ،وابن سيرين ،وأبي قلبة -نحو
ذلك .يعني :نح ُو قول النعمان بن بشير :إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه ل يغفر له ،
فيلقي بيده إلى التهلكة ،أي :يستكثر من الذنوب فيهلك .ولهذا َروَى علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس :
__________
( )1المستدرك (.)2/275
( )2في أ " :عطاء بن أبي السائب".
( )3في جـ " :وليس".
( )4في أ " :بن أبي صبرة".
( )1/529
( )1/530
( )1/531
"وأقيموا ( )1الحج والعمرة إلى البيت" ل تُجاوز بالعمرة البيت .قال إبراهيم :فذكرت ذلك لسعيد
ابن جبير ،فقال :كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن العمش ،عن إبراهيم ،عن علقمة أنه قال " :وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت"
وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم ،عن منصور ،عن إبراهيم أنه قرأ " :وأقيموا الحج
والعمرة إلى البيت".
وقرأ الشعبي " :وأتموا ( )2الحج والعمرةُ ل" برفع العمرة ،وقال :ليست بواجبة .وروي عنه
خلف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ،عن أنس وجماعة من الصحابة :أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ،وثبت عنه في الصحيح أنه قال لصحابه :
"من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة" (.)3
وقال في الصحيح أيضًا " :دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقد روى المام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الية حديثًا غريبًا فقال :حدثنا علي
ط ْهمَان ،عن
بن الحسين ،حدثنا أبو عبد ال الهروي ،حدثنا غسان الهروي ،حدثنا إبراهيم بن َ
عطاء ،عن صفوان بن أمية أنه قال :جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم متضمخ
بالزعفران ،عليه جبة ،فقال :كيف تأمرنى يا رسول ال في عمرتي ؟ قال :فأنزل ال :
{ وَأَ ِتمّوا الْحَجّ وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم " :أين السائل عن ال ُعمْرة ؟ "
فقال :ها أنا ذا .فقال له " :ألق عنك ثيابك ،ثم اغتسل ،واستنشق ما استطعت ،ثم ما كنت
صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك" ( )4هذا حديث غريب وسياق عجيب ،والذي ورد في
الصحيحين ،عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى ال عليه وسلم وهو
بالجعرانة فقال :كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق ؟ فسكت رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ثم جاءه الوحي ،ثم رفع رأسه فقال " :أين السائل ؟ " فقال :ها أنا ذا ،فقال :
"أما الجبة فانزعها ،وأما الطيب الذي بك فاغسله ،ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في
عمْرتك" ( .)5ولم يذكر فيه الغسل والستنشاق ( )6ول ذكر نزول الية ( ، )7وهو عن يعلى بن
ُ
أمية ،ل [عن] ( )8صفوان بن أمية ،وال أعلم.
حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } ذكروا أنّ هذه الية نزلت في سنة ست ،أيْ عام
وقوله { :فَإِنْ ُأ ْ
الحديبية ،حين حال المشركون بين رسُول ال صلى ال عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ،
خصَةً :أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان
وأنزل ال في ذلك سورةَ الفتح بكمالها ،وأنزل لهم ُر ْ
سبعين بدنة ،وأن يَتَحَللوا من
__________
( )1في أ ،و " :وأتموا".
( )2في جـ " :وأقيموا".
( )3صحيح مسلم برقم ( )1236من حديث أسماء رضي ال عنها.
( )4صحيح مسلم برقم ( )1218من حديث جابر رضي ال عنه.
( )5ورواه ابن عبد البر في التمهيد ( )2/251من طريق محمد بن سابق ،عن إبراهيم بن طهمان
،عن أبي الزبير ،عن عطاء ،عن صفوان بن أمية به.
( )6في جـ " :ول الستنشاق".
( )7في ط " :نزول الحق".
( )8زيادة من جـ ،ط.
( )1/532
إحرامهم ،فعند ذلك أمرهم عليه السلم بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا .فلم يفعلوا انتظارا للنسخ
حتى خرج فحلق رأسه ،ففعل الناس وكان منهم من َقصّر رأسه ولم يحلقه ،فلذلك قال صلى ال
عليه وسلم " :رَحِم ال ال ُمحَلّقين" .قالوا :والمقصرين يا رسول ال ؟ فقال في الثالثة :
"والمقصرين" ( .)1وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك ُ ،كلّ سبعة في َبدَنة ،وكانوا ألفًا
وأربعمائة ،وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ،وقيل :بل كانوا على طَرف الحرم ،فال
أعلم.
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ،فل يتحلل إل من حصره عَدُو ،ل مرض ول
غيره ؟ على قولين :
فقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقري ،حدثنا سفيان ،عَنْ عمرو بن دينار
،عن ابن عباس ،وابن طاوس ،عن أبيه ،عن ابن عباس ،وابن أبي نَجِيح [ومجاهد] ( )2عن
حصْرَ إل حصرُ العدو ،فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلل فليس
ابن عباس ،أنه قال :ل َ
عليه شيء ،إنما قال ال تعالى { :فَإِذَا َأمِنْتُمْ } فليس المن حصرًا.
قال :وروي عن ابن عمر ،وطاوس ،والزهري ،وزيد بن أسلم ،نحو ذلك.
والقول الثاني :أن الحصر أعمّ من أن يكون بع ُدوّ أو مرض أو ضلل -وهو ال ّتوَهان عن
الطريق أو نحو ذلك .قال المام أحمد :حدثنا يحيى بن سعيد ،حدثنا حَجّاج بن الصوّافُ ،عن
يحيى بن أبي كثير ،عن عكرمة ،عن الحجاج بن عمرو ( )3النصاري ،قال :سمعت رسول
ال صلى ال عليه وسلم يقول " :من كُسِر أو عَرِج فقد حل ،وعليه حجة أخرى".
قال :فذكرت ذلك لبن عباس وأبي هريرة فقال صدق.
وأخرجه ( )4أصحاب الكتب الربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ،به ( .)5وفي رواية لبي
داود وابن ماجة :من عرج أو كُسر أو مَرض -فذكر معناه .ورواه ابن أبي حاتم ،عن الحسن
بن عرفة ،عن إسماعيل بن عُلَيّة ،عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ،به .ثم قال :وروي
عن ابن مسعود ،وابن الزبير ،وعلقمة ،وسعيد بن المسيب ،وعروة بن الزبير ،ومجاهد ،
والنخعي ،وعطاء ،ومقاتل بن حيان ،أنهم قالوا :الحصار من عدو ،أو مرض ،أو كسر.
وقال الثوري :الحصار من كل شيء آذاه .وثبت في الصحيحين عن عائشة :أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم َدخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ،فقالت :يا رسول ال ،إني
حجّي واشترطي :أنّ َمحِلّي حيثُ ح َبسْتَني" ( .)6ورواه مسلم عن
أريد الحج وأنا شاكية .فقال ُ " :
ابن عباس بمثله ( .)7فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الشتراط في الحج لهذا الحديث .وقد
علق المام محمد بن إدريس
__________
( )1رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1301من حديث عبد ال بن عمر رضي ال عنه.
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3في أ " :بن عمر".
( )4في جـ " :وقد أخرجه".
( )5المسند ( )3/450وسنن أبي داود برقم ( )1862وسنن الترمذي برقم ( )940وسنن النسائي (
)198 /5وسنن ابن ماجة برقم (.)3078
( )6صحيح البخاري برقم ( )5089وصحيح مسلم برقم (.)1207
( )7صحيح مسلم برقم (.)1208
( )1/533
الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث .قال البيهقي وغيره من الحفاظ :فقد
صح ،ول الحمد.
وقوله َ { :فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } قال المام مالك ،عن جعفر بن محمد ،عن أبيه ،عن علي
ابن أبي طالب أنه كان يقول َ { :فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ } شاة .وقال ابن عباس :الهَدْي من
الزواج الثمانية :من البل والبقر والمعز والضأن.
وقال الثوري ،عن حبيب ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس في قوله َ { :فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
ا ْلهَ ْديِ } قال :شاة .وكذا قال عطاء ،ومجاهد ،وطاوس ،وأبو العالية ،ومحمد بن علي بن
الحسين ،وعبد الرحمن بن القاسم ،والشعبي ،والنّخعي ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،
ومقاتل بن حيان ،وغيرهم مثلَ ذلك ،وهو مذهب الئمة الربعة.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو خالد الحمر ،عن يحيى بن سعيد ،عن
القاسم ،عن عائشة وابن عمر :أنهما كانا ل يريان ما استيسر من الهدي إل من البل والبقر.
قال :ورُوِي عن سالم ،والقاسم ،وعروة بن الزبير ،وسعيد بن جبير -نحوُ ذلك.
قلت :والظاهر أن مستند هؤلء فيما ذهبوا إليه قضية ( )1الحديبية ،فإنه لم يُ ْنقَل عن أحد منهم
أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ،وإنما ذبحوا البل والبقر ،ففي الصحيحين عن جابر قال :أمرنا
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن نشترك في البل والبقر كل سبعة منا في بقرة (.)2
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن ابن طاوس ،عن أبيه ،عن ابن عباس في قوله َ { :فمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } قال :بقدر يَسَارته (.)3
وقال العوفي ،عن ابن عباس :إن كان موسرًا فمن البل ،وإل فمن البقر ،وإل فمن الغنم.
وقال هشام بن عروة ،عن أبيه َ { :فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } قال :إنما ذلك فيما بين الرّخص
والغلء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الحصار :أن ال
أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ،أي :مهما تيسر مما يسمى هديًا ،والهَدْي من بهيمة النعام ،
وهي البل والبقر والغنم ،كما قاله الحَبْر البحر ( )4ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى ال
عليه وسلم .وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين ،رضي ال عنها ،قالت :أهْدَى
النبي صلى ال عليه وسلم مَرة غنمًا (.)5
سكُمْ حَتّى يَبْلُغَ ا ْل َه ْديُ مَحِلّهُ } معطوف على قوله { :وَأَ ِتمّوا الْحَجّ
وقوله { :وَل تَحِْلقُوا رُءُو َ
حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } كما زعمه ابن
وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } وليس معطوفًا على قوله { :فَإِنْ ُأ ْ
جرير ،رحمه ال ؛ لن النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار
قريش عن الدخول إلى الحرم ،حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ،فأما في حال المن والوصول
إلى الحرم فل يجوز الحلق { حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلهَ ْديُ َمحِلّهُ }
__________
( )1في جـ ،أ " :قصة".
( )2صحيح مسلم برقم (.)1318
( )3في أ " :يساره".
( )4في ط " :البحر الحبر".
( )5صحيح البخاري برقم ( )1701وصحيح مسلم برقم (.)1321
( )1/534
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ،إن كان قارنًا ،أو من فعْل أحدهما إن كان ُمفْردًا أو
حفْصَةَ أنها قالت :يا رسول ال ،ما شأن ( )1الناس حَلّوا
متمتعًا ،كما ثبت في الصحيحين عن َ
حلّ أنت من عمرتك ؟ فقال " :إني لَبّ ْدتُ رأسي وقلّدت هَدْيي ،فل أحلّ حتى
من العمرة ،ولم َت ِ
أنحر" (.)2
سكٍ } قال
ن صِيَامٍ َأوْ صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ
سهِ َففِدْيَةٌ مِ ْ
وقوله َ { :فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْ ِ
البخاري :حدثنا آدم ،حدثنا شعبة ،عن عبد الرحمن بن الصبهاني :سمعت عبد ال بن َمعْقل ،
عجْ َرةَ في هذا المسجد -يعني مسجد الكوفة -فسألته عن { فَفِدْ َيةٌ مِنْ
قال :فعدت إلى كعب بن ُ
صِيَامٍ } فقال :حُم ْلتُ إلى النبي صلى ال عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي .فقال " :ما كنتُ
أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة ؟ " قلت :ل .قال " :صُمْ ثلثة أيام ،أو أطعم ستة
مساكين ،لكل مسكين نصف صاع من طعام ،واحلق رأسك" .فنزلت فيّ خاصة ،وهي لكم
عامة (.)3
وقال المام أحمدُ :حدثنا إسماعيلُ ،حدثنا أيوب ،عن مجاهد ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،
عن كعب بن عُجْرَة قال :أتى عََليّ النبي صلى ال عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ،وال َق ْملُ يتناثَرُ
على وجهي -أو قال :حاجبي -فقال ُ " :يؤْذيك (َ )4هوَامّ رأسك ؟ " .قلت :نعم .قال :
"فاحلقه ،وصم ثلثة أيام ،أو أطعم ستة مساكين ،أو انسك نسيكة" .قال أيوب :ل أدري بأيتهن
بدأ (.)5
وقال أحمد أيضا :حدثنا هُشَيْم ،أخبرنا أبو بشر ( )6عن مجاهد ،عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ،عن كعب بن عجرة قال :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم بالحديبية ،ونحن
محرمون وقد حصره المشركون ( )7وكانت لي َوفْرة ،فجعلت الهوام َتسَاقَطُ على وجهي ،فمر
بي رسول ال ( )8صلى ال عليه وسلم فقال " :أيؤذيك هوام رأسك ؟ " فأمره أن يحلق .قال :
ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َد َقةٍ َأوْ
ونزلت هذه الية َ { :فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ بِهِ َأذًى مِنْ رَأْسِهِ َففِدْيَةٌ مِ ْ
سكٍ } (.)9
نُ ُ
وكذا رواه عفان ،عن شعبة ،عن أبي بشر ،وهو جعفر بن إياس ،به .وعن شعبة ،عن الحكم
،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،به ( .)10وعن شعبة ،عن داود ،عن الشعبي ،عن كعب بن
عُجْرَة ،نحوه.
ورواه المام مالك عن حميد بن قيس ،عن مجاهد ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن كعب
ابن عجرة -فذكر نحوه (.)11
وقال سعد ( )12بن إسحاق بن كعب بن عجرة ،عن أبان بن صالح ،عن الحسن البصري :أنه
__________
( )1في جـ " :ما بال".
( )2صحيح البخاري برقم ( )1725وصحيح مسلم برقم (.)1229
( )3صحيح البخاري برقم (.)4517
( )4في جـ " :أيؤذيك".
( )5المسند (.)4/241
( )6في جـ " :حدثنا يونس".
( )7في جـ " :العدو".
( )8في جـ ،ط ،أ " :فمر بي النبي".
( )9المسند (.)4/241
( )10رواه أحمد في المسند كما في أطرافه لبن حجر (.)5/219
( )11الموطأ (.)1/417
( )12في طـ ،أ " :وقال سعيد".
( )1/535
سمع كعب بن عُجْرَة يقول :فذبحت شاة .رواه ابن مَرْ ُدوَيه .وروي أيضًا من حديث عمر بن
قيس ،سندل -وهو ضعيف ( - )1عن عطاء ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :النسك شاة ،والصيام ثلثة أيام ،والطعام ( )2فَرَق ،بين ستة" (.)3
وكذا رُوي عن علي ،ومحمد بن كعب ،وعكرمة ( )4وإبراهيم [النخعي] ( )5ومجاهد ،
وعطاء ،والسدي ،والربيع بن أنس.
وقال ابن أبي حاتم :أخبرنا يونس بن عبد العلى ،أخبرنا عبد ال بن وهب :أن مالك بن أنس
حدثه ( )6عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ،عن مجاهد ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن
عجْرة :أنه كان مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فآذاه القَمْل في رأسه ،فأمره
كعب ابن ُ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن يحلق رأسه ،وقال " :صم ثلثة أيام ،أو أطعم ستة مساكين ،
مُدّين مدّين لكل إنسان ،أو انسُك شاة ،أيّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك" (.)7
ن صِيَامٍ َأوْ
وهكذا روى ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد ،عن ابن عباس في قوله َ { :ففِدْ َيةٌ مِ ْ
سكٍ } قال :إذا كان "أو" فأيه أخذتَ أجزأ عنك.
صَ َدقَةٍ َأوْ ُن ُ
قال ابن أبي حاتم :وروي عن مجاهد ،وعكرمة ،وعطاء ،وطاوس ،والحسن ،وحُميد
العرج ،وإبراهيم النخَعي ،والضحاك ،نحو ذلك.
قلت :وهو مذهب الئمة الربعة وعامة العلماء أنه يُخَيّر ( )8في هذا المقام ،إن شاء صام ،
وإن شاء تصدّق بفَرق ،وهو ثلثة آصع ،لكل مسكين نصفُ صاع ،وهو مُدّان ،وإن شاء ذبح
شاة وتصدّق بها على الفقراء ،أيّ ذلك فعل أجزأه .ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ
سكٍ } ولما أمَرَ النبي صلى ال عليه وسلم
ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ
بالسهل فالسهل َ { :ففِدْ َيةٌ مِ ْ
كعبَ بن عجرة بذلك ،أرشده إلى الفضل ،فالفضل فقال :انسك شاة ،أو أطعم ستة مساكين
أو صم ثلثة أيام .فكلّ حسن في مقامه .ول الحمد والمنة.
وقال ابن جرير :حدّثنا أبو كُرَيْب ،حدّثنا أبو بكر بن عياش قال :ذكر العمشُ قال :سأل
حكَم
سكٍ } فأجابه يقول ُ :ي ْ
ن صِيَامٍ َأوْ صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ
إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الية َ { :ففِدْيَةٌ مِ ْ
عليه طعام ،فإن كان عنده اشترى شاة ،وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم ،وجعل مكانها طعام
فتصدق ،وإل صام بكل نصف صاع يومًا ،قال إبراهيم :كذلك سمعت علقمة يذكر .قال :لما
قال لي سعيد بن جبير :من هذا ؟ ما أظرفه! قال :قلت :هذا إبراهيم .فقال :ما أظرفه! كان
يجالسنا .قال :فذكرت ذلك لبراهيم ،قال :فلما قلت " :يجالسنا" انتفض منها (.)9
__________
( )1في جـ " :سنده عنه ضعيف".
( )2في جـ " :والطعام".
( )3ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )1/515وعزاه لبن مردويه والواحدي.
( )4في جـ ،ط ،أ " :وعلقمة".
( )5زيادة من جـ ،ط.
( )6في جـ " :حدثهم".
( )7الحديث في الموطأ (.)1/417
( )8في جـ ،ط " :مخيرا" ،وفي و " :محير".
( )9تفسير الطبري (.)4/74
( )1/536
وقال ابن جرير أيضًا :حدثنا ابن أبي عمران ،حدثنا عبُيَد ال ( )1بن معاذ ،عن أبيه ،عن
سكٍ } قال :إذا كان بال ُمحْرِم أذى
ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َد َقةٍ َأوْ نُ ُ
أشعث ،عن الحسن في قوله َ { :ففِدْيَةٌ مِ ْ
من رأسه ،حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلثة شاء ،والصيام عشرة أيام ،والصدقة على عشرة
مساكين ،كلّ مسكين َمكّوكين :مكوكا من تمر ،ومكوكا من بُر ،والنسك شاة.
سكٍ } قال :إطعام
وقال قتادة ،عن الحسن وعكرمة في قوله َ { :ففِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ َأ ْو صَ َدقَةٍ َأوْ ُن ُ
عشرة مساكين.
وهذان القولن من سعيد بن جبير ،وعلقمة ،والحسن ،وعكرمة قولن غريبان فيهما نظر ؛
عجْرة بصيام ثلثة أيام [ ،ل عشرة و] ( )2ل ستة ،أو
لنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن ُ
إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ،وأن ذلك على التخيير كما َدلّ عليه سياق القرآن .وأما هذا
الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد ،كما هو نص القرآن .وعليه أجمع الفقهاء هناك ،
بخلف هذا ،وال أعلم.
وقال ُهشَيم :أخبرنا ليث ،عن طاوس :أنه كان يقول :ما كان من دم أو طعام ( )3فبمكة ،وما
كان من صيام فحيث شاء .وكذا قال عطاء ،ومجاهد ،والحسن.
وقال ُهشَيم :أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء :أنه كان يقول :ما كان من دم
فبمكة ،وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
وقال هشيم :أخبرنا يحيى بن سعيد ،عن يعقوب بن خالد ،أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ،
قال :حج عثمان بن عفان ،ومعه علي والحسين ( )4بن علي ،فارتحل عثمان .قال أبو أسماء :
وكنت مع ابن جعفر ،فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ،قال :فقلت :أيها النؤوم (.)5
سقْيا قال :فأرسل إلى
فاستيقظ ،فإذا الحسين ( )6بن علي .قال :فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به ال ّ
علي ومعه أسماء بنت عميس .قال :فمرضناه نحوا من عشرين ليلة .قال :قال علي للحسين :
ما الذي تجد ؟ قال :فأومأ بيده إلى رأسه .قال :فأمر به عَليّ َفحَلَق رأسه ،ثم دعا ببدنَةٍ
فنحرها .فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة .وإن كانت عن ( )7التحلل
فواضح.
وقوله { :فَِإذَا َأمِنْتُمْ َفمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى ا ْلحَجّ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } أي :إذا تمكنتم من أداء
المناسك ،فمن كان منكم مُتَم ّتعًا بالعُمرة إلى الحج ،وهو يشمل من أحرم بهما ،أو أحرم بالعمرة
أول فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ،وهو المعروف في كلم الفقهاء .والتمتع
العام يشمل القسمين ،كما دلت عليه الحاديثُ الصحاح ،فإن من الرُواة من يقولُ :تمتع رسول
ال صلى ال عليه وسلم .وآخر يقول :قَرَن .ول خلف أنّه ساق الهدي (.)8
وقال تعالى َ { :فمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } أي :فليذبح ما قدر عليه من
الهدي ،وأقله شاة ،وله أن يذبح البقر ؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم ذبح عن نسائه
البقر .وقال الوزاعي ،
__________
( )1في جـ ،أ " :عبد ال".
( )2زيادة من جـ ،أ.
( )3في جـ " :أو إطعام".
( )4في جـ " :الحسن".
( )5في أ " :أيها النائم".
( )6في جـ " :الحسن".
( )7في أ " :من".
( )8في أ ،و " :أنه ساق هديا".
( )1/537
عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي سلمة ( )1عن أبي هريرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
ذبح بقرة عن نسائه ،وكن متمتعات .رواه أبو بكر بن مَرْدويه (.)2
وفي هذا دليل على شرعية ( )3التمتع ،كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال :
نزلت آية المتعة ( )4في كتاب ال ،وفعلناها مع رسول ال صلى ال عليه وسلم .ثم لم يُنزل
قرآن ُيحَرّمه ،ولم يُ ْنهَ عنها ،حتى مات .قال رجل بِرَأيه ما شاء ( .)5قال البخاري :يقال :إنه
عمَر .وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر ،رضي ال عنه ،كان ينهى الناس
ُ
عن التمتع ،ويقول :إن ( )6نأخذ بكتاب ال فإنّ ال يأمر بالتمام .يعني قوله { :وَأَ ِتمّوا ا ْلحَجّ
وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } وفي نفس المر لم يكن عمر ،رضي ال عنه ،ينهى عنها محَ ّرمًا لها ،إنما كان
يَ ْنهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ،كما قد صرح به ،رضي ال عنه.
جعْ ُتمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ } يقول تعالى
ج وَسَ ْبعَةٍ ِإذَا رَ َ
جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَ ّ
وقوله َ { :فمَنْ َلمْ يَ ِ
:فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلثة أيام في الحج ،أي :في أيام المناسك .قال العلماء :والولى أن
يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر ( ، )7قاله عطاء .أو من حين يحرم ،قاله ابن عباس وغيره ،
لقوله { :فِي ا ْلحَجّ } ومنهم من يجوّز صيامها من أول شوال ،قاله طاوس ومجاهد وغير واحد.
سدّي ،
وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ،وكذا قال مجاهد ،وسعيد بن جُبَير ،وال ّ
وعطاء ،وطاوس ،والحكم ،والحسن ،وحماد ،وإبراهيم ،وأبو جعفر الباقر ،والربيع ،
ومقاتل بن حَيّان .وقال العوفي ،عن ابن عباس :إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلثة أيام في الحج
قبل يوم عرفة ،فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله .وكذا َروَى
أبو إسحاق عن وبرة ،عن ابن عمر ،قال :يصوم يومًا قبل التروية ،ويوم التروية ،ويوم
عرفة .وكذا َروَى عن جعفر بن محمد ،عن أبيه ،عن علي أيضًا.
صمْها أو بعضها قبل [يوم] ( )8العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولن
فلو لم َي ُ
للعلماء ،وهما للمام الشافعي أيضًا ،القديم منهما أنه يجوزُ له صيامها لقول عائشة وابن عمر
في صحيح البخاري :لم ي َرخّص في أيام التشريق أن ُيصَمن ( )9إل لمن ل يجد الهَدي (.)10
وكذا رواه مالك ،عن الزّهري ،عن عروة ،عن عائشة .وعن سالم ،عن ابن عمر [إنما قالوا
ج وَسَ ْبعَةٍ } ] ( )12( .)11وقد روي من غير وجه
ذلك لعموم قوله َ { :فصِيَامُ ثَل َثةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَ ّ
عنهما .ورواه سفيان ،عن جعفر بن محمد ،عن أبيه ،عن علي أنه كان يقول :من فاته صيام
ثلثة أيام في الحج صامهن أيام
__________
( )1في هـ " :أبي مسلم" ،والصواب ما أثبتناه من جـ ،أ.
( )2ورواه أبو داود في السنن برقم ( )1751من طريق الوليد عن الوزاعي به.
( )3في جـ " :على مشروعية".
( )4في أ " :آية التمتع".
( )5صحيح البخاري برقم ( )4518وصحيح مسلم برقم (.)1226
( )6في أ " :إنا".
( )7في أ " :في العشرة".
( )8زيادة من أ.
( )9في أ " :أن يصوم".
( )10صحيح البخاري برقم (.)1997
( )11زيادة من جـ ،أ.
( )12الموطأ .)1/426( :
( )1/538
عمَير الليثي ( )1وعكرمة ،والحسن البصري ،وعروة بن
التشريق .وبهذا يقول عُبَيد بن ُ
الزبير ؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله َ { :فصِيَامُ ثَل َثةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَجّ } والجديد من القولين :أنه ل
يجوز صيامها أيام التشريق ،لما رواه مسلم عن نبَ ْيشَة ( )2الهذلي ،رضي ال عنه ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر ال" (.)3
جعْتُمْ } فيه قولن :
وقوله { :وَسَ ْبعَةٍ إِذَا َر َ
أحدهما :إذا رجعتم في الطريق .ولهذا قال مجاهد :هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق.
وكذا قال عطاء بن أبي رباح.
والقول الثاني :إذا رجعتم إلى أوطانكم ؛ قال عبد الرزاق :أخبرنا الثوري ،عن يحيى بن
ج وَسَ ْبعَةٍ ِإذَا
جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَ ّ
سعيد ،عن سالم ،سمعت ابن عمر قال َ { :فمَنْ َلمْ يَ ِ
جعْتُمْ } قال :إذا رَجَع إلى أهله ( ، )4وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ،وأبي العالية ،ومجاهد ،
رَ َ
وعطاء ،وعكرمة ،والحسن ،وقتادة ،والزهري ،والربيع بن أنس .وحكى على ذلك أبو جعفر
بن جرير الجماع.
عقَيل ،عن ابن شهاب ،عن سالم
وقد قال البخاري :حدثنا يحيى بن ُبكَير ،حدثنا الليث ،عن ُ
حجّة الوداع بالعمرة إلى
بن عبد ال أن ابن عمر قال :تمتع رسول ال صلى ال عليه وسلم في َ
الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة ،وبدأ رسول ال صلى ال عليه وسلم فأهلّ بالعمرة
،ثم أهلّ بالحج ،فتمتع الناس مع النبي صلى ال عليه وسلم بالعمرة إلى الحج .فكان مِنَ الناس
مَنْ أهدى فساق الهَدْي ،ومنهم من لم ُيهْد .فلما قدم النبي صلى ال عليه وسلم مكة قال للناس :
"من كان منكم أهدى فإنه ل يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه ،ومَنْ لم يكن منكم أهدى
طفْ بالبيت وبالصفا والمروة ،وَلْيُ َقصّر وليَحللْ ( )5ثم ل ُي ِهلّ بالحج ،فمن لم يجد هديًا فليصُمْ
فَلْيَ ُ
ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" .وذكر تمام الحديث (.)6
قال الزهري :وأخبرني عروة ،عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في
الصحيحين من حديث الزهري ،به (.)7
عشَ َرةٌ كَامِلَةٌ } قيل :تأكيد ،كما تقول العرب :رأيت بعيني ،وسمعت بأذني
وقوله { :تِ ْلكَ َ
وكتبت بيدي .وقال ال تعالى { :وَل طَائِرٍ َيطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [النعام ]38 :وقال { :وَل َتخُطّهُ
بِ َيمِي ِنكَ } [العنكبوت ، ]48 :وقال َ { :ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلثِينَ لَيْلَةً وَأَ ْت َممْنَاهَا ِب َعشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ
أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً } [العراف .]142 :
وقيل :معنى { كَامِلَةٌ } المْ ُر بإكمالها وإتمامها ،اختاره ابنُ جرير .وقيل :معنى { كَامِلَةٌ } أي :
مُجْزئة عن الهَدْي .قال ( )8هُشَيْم ،عن عباد بن راشد ،عن الحسن البصري ،في قوله { :تِ ْلكَ
عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ } قال :مِنَ الهَدْي.
__________
( )1في جـ " :المكثي".
( )2في جـ " :عن ابن نبيشة".
( )3صحيح مسلم برقم (.)1141
( )4تفسير عبد الرزاق (.)1/93
( )5في جـ " :وليتحلل".
( )6صحيح البخاري برقم (.)1691
( )7صحيح البخاري برقم ( )1692وصحيح مسلم برقم (.)1228
( )8في أ " :قاله".
( )1/539
ل التأويل
جدِ ا ْلحَرَامِ } قال ابن جرير :اختلف أه ُ
وقوله { :ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَسْ ِ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ } بعد إجماع جميعهم على أن أهل
فيمن عُني بقوله ِ { :لمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ
الحرم َمعْنِيّون به ،وأنه ل متعة لهم ،فقال بعضهم :عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
حدثنا ابن بشار ،حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان -هو الثوري -قال :قال ابن عباس
ومجاهد :هم أهل الحَرَم .وكذا روى ابن المبارك ،عن الثوري ،وزاد :الجماعة عليه.
وقال قتادة :ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول :يا أهل مكة ،ل متعة لكم ،أحلت لهل الفاق
وحُرّمت عليكم ،إنما يقطع أحدكم واديا -أو قال :يجعل بينه وبين الحرم واديًا ( - )1ثم ُي ِهلّ
بعمرة.
وقال عبد الرزاق :حدثنا (َ )2م ْعمَر ،عن ابن طاوس ،عن أبيه قال :المتعةُ للناس -ل لهل
مكة -مَنْ لم يكن أهله من الحرم .وذلك قول ال عز وجل { :ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
سجِدِ ا ْلحَرَامِ } قال :وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس.
ا ْلمَ ْ
وقال آخرون :هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت ،كما قال عبد الرزاق :أخبرنا معمر عن
رجل ،عن عطاء ،قال :من كان أهله دون المواقيت ،فهو كأهل مكة ،ل يتمتع (.)3
وقال عبد ال بن المبارك ،عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ،عن مكحول ،في قوله { :ذَِلكَ
جدِ ا ْلحَرَامِ } قال :من كان دون الميقات.
ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَسْ ِ
جدِ الْحَرَامِ } قال :عرفة ،
وقال ابن جُرَيْج عن عطاء { :ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَ ْهلُهُ حَاضِرِي ا ْل َمسْ ِ
ومَرّ ،وعُرَنة ،وضَجْنان ،والرجيع (.)4
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،سمعت الزهري يقول :من كان أهله على يوم أو َنحْوه تَمتّع.
وفي رواية عنه :اليوم واليومين .واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ،
ومن كان منه على مسافة ل ُت ْقصَر منها ( )5الصلة ؛ لن من كان كذلك يعد حاضرا ل
مسافرًا ،وال أعلم.
شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } أي :
وقوله { :وَا ّتقُوا اللّهَ } أي :فيما أمركم ( )6وما نهاكم { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ
لمن خالف ( )7أمره ،وارتكب ما عنه زجره.
__________
( )1في ط " :واديا واديا".
( )2في ط " :أخبرنا".
( )3تفسير عبد الرزاق (.)93 /1
( )4في و " :الضجيع".
( )5في جـ ،ط ،أ ،و " :فيها".
( )6في ط " :فيما أمركم به".
( )7في ط " :لمن خاف".
( )1/540
( )1/540
بن حنبل ،وإسحاق بن رَاهويه ،وبه يقول إبراهيم النخَعي ،والثوري ،والليث بن سعد .واحْتَجّ
لهم بقوله تعالى َ { :يسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [البقرة ]189 :وبأنه أحد
النسكين .فصح الحرام به في جميع السّ َن ِة كالعمرة.
وذهب الشافعي ،رحمه ال ،إلى أنه ل يصح الحرام بالحج إل في أشهره ( )1فلو أحرم به قبلها
عمْرة ؟ فيه قولن عنه .والقول بأنه ل يصح الحرام بالحج إل
لم ينعقد إحرامه به ،وهل ينعقد ُ
في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس ،وجابر ،وبه يقول عطاء ،وطاوس ،ومجاهد ،رحمهم ال ،
شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الخر الذي ذهب إليه
والدليل عليه قوله تعالى { :ا ْلحَجّ أَ ْ
النحاة ،وهو أن :وقت الحج أشهر َمعْلُومات ،فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ،فدلّ
على أنه ل يصح قبلها ،كميقات الصلة.
عطَاء ،عن
عمَر بن َ
قال الشافعي ،رحمه ال :أخبرنا مسلم بن خالد ،عن ابن جريج ،أخبرني ُ
عكرمة ،عن ابن عباس ،أنه قال :ل ينبغي لحد أن ُيحْرِم بالحج إل في شهور ( )2الحج ،من
شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } وكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن أحمد بن يحيى بن مالك
أجل قول ال { :ا ْلحَجّ َأ ْ
السوسي ،عن حجاج بن محمد العور ،عن ابن جريج ،به .ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من
طريقين ،عن حجاج بن أرطاة ،عن الحكم بن عُتَيبة ( )3عن ِمقْسَم ،عن ابن عباس :أنه قال :
من السّنّة أل يحرم [بالحج] ( )4إل في أشهر الحج.
وقال ابن خزيمة في صحيحه :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا أبو خالد الحمر ،عن شعبة ،عن الحكم
،عن مقْسَم ،عن ابن عباس ،قال :ل يحرم بالحج إل في أشهر الحج ،فإن من سنة الحج أن
يحرم بالحج في أشهر الحج ( .)5وهذا إسناد صحيح ،وقول الصحابي " :من السنة كذا" في حكم
المرفوع عند الكثرين ،ول سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ،وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع ،قال ( )6ابن مردويه :حدثنا عبد الباقي بن قانع ( )7حدثنا الحسن
بن المُثَنى ،حدثنا أبو حذيفة ،حدثنا سفيان ،عن أبي الزبير ،عن جابر ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم أنه قال " :ل ينبغي لحد أن يحرم بالحج إل في أشهر الحج".
وإسناده ل بأس به .لكن ( )8رواه الشافعي ،والبيهقي من طُرق ،عن ابن جريج ،عن أبي
الزبير ،أنه سمع جابر بن عبد ال يسأل :أ ُي َهلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال :ل (.)9
ح وأثبت من المرفوع ،ويبقى حينئذ مذهب صحابي ،يتقوّى بقول ابن عباس
وهذا الموقوف أص ّ
" :من السنة أن ل يحرم بالحج إل في أشهره" .وال أعلم.
شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } قال البخاري :قال ابن عمر :هي شوال ،وذو ال َقعْدة ،وعشر من
وقوله َ { :أ ْ
ذي الحجة ( .)10وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصول حدثنا
أحمد بن
__________
( )1في جـ " :إل في أشهر الحج".
( )2في أ " :في أشهر".
( )3في أ ،و " :بن عيينة".
( )4زيادة من جـ.
( )5صحيح ابن خزيمة برقم (.)2596
( )6في جـ " :وقال".
( )7في جـ " :بن نافع".
( )8في جـ " :ولكن".
( )9الم للشافعي ( )2/136والسنن الكبرى للبيهقي (.)4/343
( )10صحيح البخاري (" )3/419فتح".
( )1/541
حازم بن أبي غَرْزة ( )1حدثنا أبو نعيم ،حدثنا ورقاء ،عن عبد ال بن دينار ،عن ابن عمر { :
شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } قال :شوال ،وذو القعدة وعشر من ذي الحجة (.)2
الْحَجّ أَ ْ
إسناد ( )3صحيح ،وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه ،عن الصم ،عن الحسن بن علي بن
عفان ،عن عبد ال بن نمير ،عن عبيد ال ( )4عن نافع ،عن ابن عمر -فذكره وقال :على
شرط الشيخين (.)5
عمَر ،وعليّ ،وابن مسعود ،وعبد ال بن الزبير ،وابن عباس ،
قلت :وهو مَرْويّ عن ُ
وعطاء ،وطاوس ،ومجاهد ،وإبراهيم النخعي ،والشعبي ،والحسن ،وابن سيرين ،
ومكحول ،وقتادة ،والضحاك بن مزاحم ،والربيع بن أنس ،ومقاتل بن حَيّان .وهو مذهب
الشافعي ،وأبي حنيفة ،وأحمد بن حنبل ،وأبي يوسف ،وأبي َثوْر ،رحمهم ال .واختار هذا
القول ابن جرير ،قال :وصح إطلق الجمع ( )6على شهرين وبعض الثالث للتغليب ،كما تقول
العرب " :زرته العام ،ورأيته اليوم" .وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ؛ قال ال تعالى :
جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَل إِثْمَ عَلَ ْيهِ } [البقرة ]203 :وإنما تعجل في يوم ونصف.
{ َفمَنْ َت َع ّ
وقال المام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] ( : )7هي ( : )8شوال وذو القعدة وذو الحجة
عمَر أيضًا ؛ قال ابن جرير :
بكماله .وهو رواية عَن ابن ُ
حدثنا أحمد بن إسحاق ،حدثنا أبو أحمد ،حدثنا شريك ،عن إبراهيم بن مهاجر ،عن مجاهد ،
عن ابن عمر قال :شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره :حدثنا يونس بن عبد العلى ،حدثنا ابن وهب ،أخبرني ابن
شهُور الحج ؟ قال :نعم ،كان عبد
عمَر يسمي ُ
جريج ،قال :قلت لنافع :أسمعت عبد ال بن ُ
ال يسمي " :شوال وذو القعدة وذو الحجة" .قال ( )9ابن جريج :وقال ذلك ابن شُهاب ،
وعطاء ،وجابر بن عبد ال صاحب النبي صلى ال عليه وسلم ،وهذا إسناد صحيح إلى ابن
جريج .وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس ،ومجاهد ،وعروة بن الزبير ،والربيع بن أنس ،
حصَين
وقتادة .وجاء فيه حديث مرفوع ،ولكنه موضوع ،رواه الحافظ بن مَرْدويه ،من طريق ُ
حوْشَب ،عن أبي أمامة ،
بن مخارق -وهو متهم بالوضع -عن يونس بن عبيد ،عن شهر بن َ
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الحج أشهر معلومات :شوال وذو القعدة وذو الحجة"
(.)10
وهذا كما رأيت ل يَصح رفعه ،وال أعلم.
وفائدة مذهب مالك أنّه إلى آخر ذي الحجة ،بمعنى أنه مختص بالحج ،فيكره العتمار في بقية
__________
( )1في جـ " :بن أبي عزرة".
( )2تفسير الطبري (.)4/116
( )3في جـ " :إسناده".
( )4في هـ ،أ " :عبد ال" ،والصواب ما أثبتناه من جـ ،ط ،و.
( )5المستدرك (.)2/276
( )6في ط " :الجميع".
( )7زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )8في جـ " :هو".
( )9في جـ " :وقال".
( )10ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )1693مجمع البحرين" من طريق محمد بن
ثواب عن حصين بن مخارق به.
( )1/542
( )1/543
ورواه العمش ،عن زياد بن حصين ،عن أبي العالية ،عن ابن عباس ،فذكره.
وقال ابن جرير أيضًا :حدثنا ابن أبي عدي ،عن عَون ( )1حدثني زياد بن حصين ،حدثني أبي
ج ،وكنت خليل له ،فلما كان بعد
ص َع ْدتُ مع ابن عباس في الحا ّ
حصين بن قيس ،قال :أ ْ
إحرامنا قال ابن عباس ،فأخذ بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[هو] ( )2يرتجز ،ويقول :
وَهُنّ َيمْشِينَ بنَا َهمِيسَا ...إنْ َيصْدُق الطّيْرُ نَ َنلْ لَميسَا...
قال :فقلت :أترفث وأنت محرم ؟ فقال :إنما الرفث ما قيل عند النساء (.)3
ث وَل ُفسُوقَ
وقال عبد ال بن طاوس ،عن أبيه :سألت ابن عباس عن قول ال تعالى { :فَل َر َف َ
} قال :الرفث التعريض بذكر الجماع ،وهي العَرَابَة في كلم العرب ،وهو أدنى الرفث.
وقال عطاء بن أبي رباح :الرفثُ :الجماع ،وما دونه من قول الفحش ،وكذا قال عمرو بن
دينار .وقال عطاء :كانوا يكرهون العَرَابة ،وهو التعريض بذكر الجماع وهو مُحْرِم.
وقال طاوس :هو أن تقُول للمرأة :إذا حَلَلْت أصبتُك .وكذا قال أبو العالية.
غشْيان النساء والقُبَل وال َغمْز ،وأن ُيعَرّض
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :الرفث ِ :
لهَا بالفحش ( )4من الكلم ،ونحو ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر :الرفثُ :غشيانُ النساء .وكذا قال سعيدُ بن جُبَير ،وعكرمة ،
ومجاهد ،وإبراهيم ،وأبو العالية ،وعطاء ،ومكحول ،وعطاء بن يسار ،وعطية ،وإبراهيم
النّخَعي ،والربيع ،والزهري ،والسدي ،ومالك بن أنس ،ومقاتل بن حَيّان ،وعبد الكريم بن
مالك ،والحسن ،وقتادة والضحاك ،وغيرهم.
وقوله { :وَل فُسُوقَ } قال مِقْسَم وغير واحد ،عن ابن عباس :هي المعاصي .وكذا قال عطاء ،
ومجاهد ،وطاوس ،وعكرمة ،وسعيد بن جُبَير ،ومحمد بن كعب ،والحسن ،وقتادة ،
وإبراهيم النخعي ،والزهري ،ومكحول ،وابن أبان ،والربيع بن أنس ،وعطاء بن يسار ،
وعطاء الخراساني ،ومقاتل بن حيان.
وقال محمد بن إسحاق ،عن نافع ،عن ابن عمر ( )5قال :الفسوق :ما أصيبَ من معاصي ال
به صَيْد أو غيره .وكذا روى ابن وهب ،عن يونس ،عن نافع أن عبد ال بن عمر كان يقول :
الفسوق إتيان معاصي ال في الحرم.
وقال آخرون :الفسوقُ هاهنا السباب ،قاله ابن عباس ،وابن عمر ،وابن الزبير ،ومجاهد ،
والسدي ،وإبراهيم والحسن .وقد يتمسك لهؤلء ( )6بما ثبت في الصحيح (" )7سباب المسلم
فسوق ،وقتاله كفر".
__________
( )1في جـ ،ط ،أ " :عن عوف".
( )2زيادة من جـ ،ط ،أ.
( )3تفسير الطبري (.)4/126
( )4في جـ " :يعرض لها الفحشاء".
( )5في جـ " :أن عبد ال بن عمر".
( )6في جـ " :هؤلء".
( )7في أ " :الصحيحين".
( )1/544
ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم ،رحمه ال ،من حديث سفيان الثوري عن يزيد (
)1عن أبي وائل ،عن عبد ال ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :سباب المسلم فسوق ،
وقتاله كفر" ( .)2وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد ال بن مسعود عن أبيه ( )3ومن حديث
أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه (.)5( ] )4
سقًا
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :الفسوق هاهنا :الذبح للصنام .قال ال تعالى َ { :أوْ فِ ْ
أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ } [النعام .]145 :
وقال الضحاك :الفسوق :التنابز باللقاب.
والذين قالوا :الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ،معهم الصواب ،كما نهى تعالى عن الظلم في
الشهر الحرم ،وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه ،إل أنه في الشهر الحرم آ َكدُ ؛ ولهذا قال :
س ُكمْ } [التوبة ، ]36 :وقال في الحرم :
{ مِ ْنهَا أَرْ َبعَةٌ حُرُمٌ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَل َتظِْلمُوا فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
عذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج .]25 :
{ َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِ ْلحَادٍ ِبظُلْمٍ ُن ِذقْهُ مِنْ َ
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا :هو ارتكاب ما نُهي عنه في الحرام ،من قتل الصيد ،
وحَلْق الشعر ،وقَلْم الظفار ،ونحو ذلك ،كما تقدم عن ابن عمر .وما ذكرناه أولى ،وال أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ،خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (.)6
جدَالَ فِي ا ْلحَجّ } فيه قولن :
وقوله { :وَل ِ
أحدهما :ول مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ،وقد بينه ال أ َتمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح.
كما قال َوكِيع ،عن العلء بن عبد الكريم :سمعت مجاهدًا يقول { :وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قد بين
ال أشهر الحَج ،فليس فيه جدال بين الناس.
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد { :وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال :ل شهر يُ ْنسَأ ،ول جدال في
الحج ،قد تَبَيّن ،ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم ال به.
جدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال :قد
وقال الثوري ،عن عبد العزيز بن ُرفَيع ،عن مجاهد في قوله { :وَل ِ
استقام الحج ،فل جدَال فيه .وكذا قال السدي.
وقال ُهشَيم :أخبرنا حجاج ،عن عطاء ،عن ابن عباس { :وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال :المراء
في الحج.
__________
( )1في أ " :عن زيد" ،وفي و " :عن زبيد".
( )2ورواه البخاري في صحيحه برقم ( )6044ومسلم في صحيحه برقم ( )63من طريق
منصور بن المعتمر عن أبي وائل به.
( )3رواه الترمذي في السنن برقم ( )2634والنسائي في السنن (.)122 /7
( )4رواه ابن ماجة في السنن برقم (.)3941
( )5زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )6صحيح البخاري برقم ( )1521وصحيح مسلم برقم (.)1350
( )1/545
وقال عبد ال بن وهب :قال مالك :قال ال تعالى { :وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ } فالجدال في الحج -
وال أعلم -أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ،وكانت العرب ،وغيرهم يقفون
بعَرفَة ،وكانوا يتجادلون ،يقول هؤلء :نحن أصوب .ويقول هؤلء :نحن أصوب .فهذا فيما
نرى ،وال أعلم.
وقال ابن وهب ،عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :كانوا يقفُون َموَاقف مختلفة يتجادلون ،كُلّهم
يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه ال حين أعلم نَبّيه بالمناسك.
وقال ابن وهب ،عن أبي صخر ،عن محمد بن كعب ،قال :كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال
هؤلء :حجّنا أتّم من حجكم .وقال هؤلء :حجّنا أتم من حَجكم.
وقال حماد بن سلمة عن جبر ( )1بن حبيب ،عن القاسم بن محمد أنه قال :الجِدَال في الحج أن
يقول بعضهم :الحجّ غدًا .ويقول بعضهم :اليوم.
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه القوال ،وهو قطع التنازع في مناسك الحج.
والقول الثاني :أن المراد بالجدال هاهنا :المخاصمة.
قال ابن جرير :حدثنا عبد الحميد بن بيان ( )2حدثنا إسحاق ،عن شريك ،عن أبي إسحاق ،
عن أبي الحوص ،عن عبد ال -هو ابن مسعود -في قوله { :وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ } قال :أنْ
تماري صاحبك حتى تغضبه.
وبهذا السناد إلى أبي إسحاق ،عن التميمي :سألت ابن عباس عن "الجدال" قال :المراء ،
تماري صاحبك حتى تغضبه .وكذا روى ِمقْسَم والضحاك ،عن ابن عباس .وكذا قال أبو العالية ،
وعطاء ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،وعكرمة ،وجابر بن زيد ،وعطاء الخراساني ،ومكحول ،
وعمرو بن دينار ،والسدي ،والضحاك ،والربيع بن أنس ،وإبراهيم النّخَعي ،وعطاء بن يسار
،والحسن ،وقتادة ،والزهري ،ومقاتل بن حيّان.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال الجدال :المراء والملحاة
،حتى تغضب أخاك وصاحبك ،فنهى ال عن ذلك.
وقال إبراهيم النخعي { :وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال :كانوا يكرهون الجدال .وقال محمد بن
إسحاق ،عن نافع ،عن ابن عمر ،قال :الجدال :السباب والمنازعة .وكذا روى ابن وهب ،
عن يونس ،عن نافع :أن ابن عمر كان يقول :الجدال في الحج :السباب ،والمراء ،
والخصومات ،وقال ابن أبي حاتم :وروي عن ابن الزبير ،والحسن ،وإبراهيم ،وطاوس ،
ومحمد بن كعب ،قالوا :الجدال المراء.
وقال عبد ال بن المبارك ،عن يحيى بن بشر ( )3عن عكرمة { :وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ } والجدال
الغضب ،أن ُتغْضب عليك مسلمًا ،إل أن تستعتب مملوكًا ف ُتغْضبه من غير أن تضربه ،فل
بأس عليك ،إن شاء ال.
__________
( )1في جـ " :عن حسين" ،وفي أ " :عن جبير".
( )2في جـ " :بن سنان".
( )3في أ " :بن بشير".
( )1/546
قلت :ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا .والدليل على ذلك ما رواه المام أحمد :حدثنا عبد ال بن
إدريس ،حدثنا محمد بن إسحاق ،عن يحيى بن عباد بن عبد ال بن الزبير ،عن أبيه :أنّ
أسماء بنت أبي بكر قالت :خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم حُجّاجًا ،حتى إذا كنا
بالعَرْج نزل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فجلست عائشةُ إلى جنب رسول ال ،وجلستُ إلى
جَنْب أبي .وكانت (ِ )1زمَالة أبي بكر و ِزمَالة رسول ال صلى ال عليه وسلم واحدة مع غلم أبي
بكر ،فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه ،فأطَْلعَ وليس معه بعيره ،فقال :أين بعيرك ؟
فقال :أضللتُه البارحة .فقال أبو بكر :بعير واحد تُضلّه ؟ فطفق يضربه ،ورسول ال صلى ال
عليه وسلم يتبسم ويقول " :انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ ".
وهكذا أخرجه أبو داود ،وابن ماجة ،من حديث ابن إسحاق ( .)2ومن هذا الحديث حكى بعضُهم
عن بعض السلف أنه قال :من تمام الحج ضَ ْربُ الجمال .ولكن يستفاد من قول النبي صلى ال
عليه وسلم عن أبي بكر " :انظروا إلى هذا ال ُمحْرِم ما يصنع ؟ " -كهيئة النكار اللطيف -أن
الولى تركُ ذلك ،وال أعلم.
وقد قال المام عبد بن حميد في مسنده :حدثنا عبيد ال بن موسى ،عن موسى بن عبيدة ،عن
أخيه عبد ال بن عبيدة ( )3عن جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من
سكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده ،غفر له ما تقدم من ذنبه (.)5( " )4
قضَى نُ ُ
وقوله َ { :ومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ } لما نهاهم عن إتيان القبيح قول وفعْل حَثّهم على فعل
الجميل ،وأخبرهم أنه عالم به ،وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة.
وقوله { :وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى } قال العوفي ،عن ابن عباس :كان أناس يخرجون
من أهليهم ليست ( )6معهم أزْودة ،يقولون :نَحُجّ بيت ال ول يطعمنا ..فقال ال :تزودوا ()7
ما يكف وجوهكم عن الناس.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقري ،حدثنا سفيان ،عن عمرو بن
دينار ،عن عكرمة :قال :إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد ،فأنزل ال { :وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ
الزّادِ ال ّتقْوَى }
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو -وهو الفَلس ( - )8عن ابن عيينة.
قال ابن أبي حاتم :وقد روى هذا الحديث و َرقْاء ،عن عمرو بن دينار ،عن عكرمة ،عن ابن
عباس .قال :وما يرويه عن ابن عيينة أصح.
__________
( )1في ط " :وكان".
( )2المسند ( )6/344وسنن أبي داود برقم ( )1818وسنن ابن ماجة برقم (.)2933
( )3في جـ " :عن أخيه عن عبد ال".
( )4في جـ " :ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
( )5المنتخب لعبد بن حميد برقم ( )1148وموسى بن عبيدة ضعيف.
( )6في جـ " :ليس".
( )7في أ " :وتزودوا".
( )8في جـ " :وهو ابن العلء" وفي أ " :أبو الفلس".
( )1/547
قلت :قد رواه النسائي ،عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ،عن سفيان بن عيينة ،عن
عمرو بن دينار ،عن عكرمة ،عن ابن عباس [قال] ( )1كان نَاس يحجون بغير زاد ،فأنزل ال
{ :وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى } ( .)2وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري ،عن ( )3يحيى
بن بشر ،عن ( )4شَبَابة ( .)5وأخرجه أبو داود ،عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ،
ومحمد بن عبد ال المُخَرّمي ،عن شبابة ،عن ورقاء ،عن عمرو بن دينار ،عن عكرمة ،عن
ابن عباس ،قال :كان أهل اليمن يَحُجون ول يتزودون ،ويقولون :نحن المتوكلون ( .)6فأنزل
ال { :وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى } (.)7
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ،عن شَبابة [به] ( .)8ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث
شبابة ،به.
عمْرو بن عبد الغفار [عن محمد بن سوقة] ( )9عن
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث َ
نافع ،عن ابن عمر ،قال :كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم -رموا بها ،واستأنفوا زادًا
آخر ( )10؛ فأنزل ال تعالى { :وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى } فَنُهوا عن ذلك ،وأمِرُوا أن
يتزودوا الكعك والدقيق والسويق .وكذا قال ابن الزبير ،وأبو العالية ،ومجاهد ،وعكرمة ،
والشعبي ،والنخعي ،وسالم بن عبد ال ،وعطاء الخراساني ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،
ومقاتل بن حيان.
وقال سعيد بن جبير :فتزودوا ( )11الدقيق والسويق والكعك ( )12وقال وكيع [بن الجراح] ()13
في تفسيره :حدثنا سفيان ،عن محمد بن سوقة ( )14عن سعيد بن جبير { :وَتَ َزوّدُوا } قال :
الخشكنانج والسويق .وقال وكيع أيضًا :حدثنا إبراهيم المكي ،عن ابن أبي نَجِيح ،عن مجاهد ،
عن ابن عمر ،قال :إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر .وزاد فيه حماد بن سلمة ،عن
جوْزَة (.)15
أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه ال َ
وقوله { :فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الخرة ،
وهو استصحاب التقوى إليها ،كما قال { :وَرِيشًا وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَى ذَِلكَ خَيْرٌ } [العراف .]26 :
لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي ،وهو الخشوع ،والطاعة ( )16والتقوى ،
وذكر أنه خير من هذا ،وأنفع.
قال عطاء الخراساني في قوله { :فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى } يعني :زاد الخرة.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا عبدان ،حدثنا هشام بن عمار ،حدثنا مروان بن
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)11033
( )3في ط " :حدثنا".
( )4في أ " :بن بشير نبا".
( )5في ط " :شبابة قال".
( )6في ط " :نحن متوكلون".
( )7صحيح البخاري برقم ( )1523وسنن أبي داود برقم (.)1730
( )8زيادة من أ ،و.
( )9زيادة من الطبري.
( )10تفسير الطبري (.)156 /4
( )11في جـ ،ط ،و " :يتزودوا" وفي أ " :تزودوا".
( )12في أ " :كما بينه".
( )13زيادة من أ.
( )14في جـ " :صوفة".
( )15في ط ،أ ،و " :الجودة".
( )16في أ " :الخشوع في الطاعة".
( )1/548
شعَرِ
لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ
الْحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ ()198
معاوية ،عن إسماعيل عن قيس ،عن جرير بن عبد ال ،عن النبي ،صلى ال عليه وسلم
[قال ] " )1( :من يتزود في الدنيا يَ ْنفَعه في الخرة" (.)2
وقال مقاتل بن حيان :لما نزلت هذه الية { :وَتَ َزوّدُوا } قام رجل من فقراء المسلمين فقال :يا
رسول ال ،ما نجد زادًا نتزوده .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :تزود ما تكف به وجهك
عن الناس ،وخير ما تزودتم التقوى" .رواه ابن أبي حاتم.
وقوله { :وَا ّتقُونِ يَا أُولِي اللْبَابِ } يقول :واتقوا عقابي ،ونكالي ،وعذابي ،لمن خالفني ولم
يأتمر بأمري ،يا ذوي العقول والفهام.
شعَرِ
{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِنْدَ ا ْلمَ ْ
الْحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ (} )198
عمْرو ،عن ابن عباس ،قال :كانت
قال البخاري :حدثنا محمد ،أخبرني ابن عيينة ،عن َ
عكاظ ومَجَنّة ،وذو المجاز أسواق الجاهلية ،فتأثّموا أن يتجروا في المواسم ( )3فنزلت { :لَ ْيسَ
عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } في مواسم الحج (.)4
وهكذا رواه عبد الرزاق ،وسعيد بن منصور ،وغير واحد ،عن سفيان بن عيينة ،به (.)5
ولبعضهم :فلما جاء السلم تأثموا أن يتجروا ،فسألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن
ذلك ،فأنزل ال هذه الية .وكذلك ( )6رواه ابن جريج ،عن عمرو بن دينار ،عن ابن عباس ،
ظ ومَجّنةُ وذو المجاز ،فلما كان ( )7السلم كأنهم
قال :كان متجر الناس في الجاهلية عكا ُ
كرهوا ذلك ،حتى نزلت هذه الية.
وروى أبو داود ،وغيره ،من حديث يزيد بن أبي زياد ،عن مجاهد ،عن ابن عباس ،قال :
كانوا يَتّقون البيوع والتجارة في الموسم ،والحج ،يقولون :أيام ذكر ،فأنزل ال { :لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } (.)8
وقال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ُهشَيْم ،أخبرنا حجاج ،عن عطاء ،عن ابن
عباس :أنه قال " :ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضل من ربكم في مواسم الحج".
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في هذه الية :ل حرج عليكم في الشراء والبيع قبل
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2المعجم الكبير ( )2/305وقال الهيثمي في المجمع (" : )311 /10رجاله رجال الصحيح".
( )3في جـ ،ط " :في الموسم".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4519
( )5تفسير عبد الرزاق ( )1/65وسنن سعيد بن منصور برقم (.)347
( )6في ط " :وكذا".
( )7في جـ ،ط " :فلما جاء".
( )8سنن أبي داود برقم (.)1731
( )1/549
( )1/550
حذيفة ،عن الثوري ،مرفوعًا .وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا (.)1
وقال ( )2ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن عرفة ،حدثنا عباد بن العوام ،عن العلء بن
المسيب ،عن أبي أمامة التيمي ،قال :قلت لبن عمر :إنا أناس ُنكْرَي في هذا الوجه إلى مكة ،
وإن أناسا يزعمون أنّه ل حج لنا ،فهل ترى لنا حجا ؟ قال :ألستم تحرمون ،وتطوفون بالبيت ،
وتقفون ( )3المناسك ؟ قال :قلت :بلى .قال :فأنتم حجاج .ثم قال :جاء رجل إلى النبي صلى
ال عليه وسلم فسأله عن [مثل] ( )4الذي سألت ،فلم َيدْر ما يعود عليه -أو قال :فلم يَرُدّ عليه
شيئا -حتى نزلت { :لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } فدعا الرجل ،فتلها عليه ،
وقال " :أنتم حجاج" (.)5
وكذا رواه مسعود بن سعد ،وعبد الواحد بن زياد ،وشَريك القاضي ،عن العلء بن المسيب به
مرفوعا.
وقال ابن جرير :حدثني طليق ( )6بن محمد الواسطي ،حدثنا أسباط -هو ابن محمد -أخبرنا
عمْرو -هو الفقَيْمِي -عن أبي أمامة التيمي .قال :قلت لبن عمر :إنا قوم ُنكْرَي ،
الحسن بن َ
فهل لنا من حج ؟ فقال :أليس تطوفون بالبيت ،وتأتون ال ُمعَرّف ،وترمون الجمار ،وتحلقون
رؤوسكم ؟ قلنا :بلى .قال ( )7جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،فسأله عن الذي سألتني
عنه ،فلم يدر ما يقول له ،حتى نزل جبريل ،عليه السلم ،بهذه الية { :لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } إلى آخر الية ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أنتم حجاج" (.)8
وقال ابن جرير :حدثني أحمد بن إسحاق ،حدثنا أبو أحمد ،حدثنا مَنْدل ،عن عبد الرحمن بن
المهاجر ،عن أبي صالح مولى عمر ،قال :قلت :يا أمير المؤمنين ،كنتم تتجرون في الحج ؟
قال :وهل كانت معايشهم إل في الحج ؟
شعَرِ ا ْلحَرَامِ }
وقوله تعالى { :فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ
جمْع كمسلمات ومؤمنات ،
إنما صَ َرفَ "عرفات" وإن كان علما على مؤنث ؛ لنه في الصل َ
سمي به بقعة معينة ،فروعي فيه الصل ،فصرف .اختاره ابن جرير.
وعرفة :موضع الموقف ( )9في الحج ،وهي عمدة أفعال الحج ؛ ولهذا روى المام أحمدُ ،
وأهل السنن ،بإسناد صحيح ،عن الثوري ،عن بكير بن ( )10عطاء ،عن عبد الرحمن بن
َيعْمر الديَلي ،
__________
( )1وانظر ذكر هذه الطرق في :حاشية الشيخ سعد الحميد على سنن سعيد بن منصور برقم (
)352فقد أجاد وأفاد ،ولول خشية الطالة لنقلته هاهنا.
( )2في جـ ،ط ،أ ،و " :فقال".
( )3في جـ ،ط ،أ ،و " :تقضون".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )5ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم ( )3051من طريق مروان بن معاوية عن العلء بن
المسيب به ،ورواه أبو داود في السنن برقم ( )1733من طريق عبد الواحد بن زياد عن العلء
بن المسيب به.
( )6في جـ " :طلق".
( )7في جـ ،ط " :فقال".
( )8تفسير الطبري (.)4/164
( )9في جـ ،ط ،و " :موضع الوقوف" وفي أ " :مواضع الوقوف".
( )10في جـ ،ط ،أ ،و " :عن" والمثبت من أ.
( )1/551
قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :الحج عرفات -ثلثا -فمن أدرك عرفة
قبل أن يطلع الفجر ،فقد أدرك .وأيام منى ثلثة ( )1فمن تعجل في يومين فل إثم عليه ،ومن
تأخر فل إثم عليه" (.)2
ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر ؛ لنّ النبيّ صلى ال
عليه وسلم وقف في حجة الوداع ،بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس ،وقال " :لتأخُذوا
عني مناسككم" (.)3
وقال في هذا الحديث " :فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك ،وأبي
حنيفة ،والشافعي رحمهم ال .وذهب المام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عَرَفة.
واحتجوا بحديث الشعبي ،عن عروة بن ُمضَرّس بن حارثة بن لم ( )4الطائي قال :أتيت
رسول ال صلى ال عليه وسلم بالمزدلفة ،حين خرج إلى الصلة ،فقلت :يا رسول ال ،إني
جئت من جَبَليْ ( )5طيئ ،أكللت ( )6راحلتي ،وأتعبت نفسي ،وال ما تركت من جبل إل
شهِد صلتنا هذه ،
وقفت عليه ،فهل لي من حَج ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من َ
حجّه ،وقضى َتفَثَه".
فوقف معنا حتى ندفع ،وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليل أو نهارا ،فقد تم َ
رواه المام أحمد ،وأهل السنن ،وصححه الترمذي (.)7
ثم قيل :إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق :أخبرني ابن جريج قال :قال ابن المسيب :
قال علي بن أبي طالب :بعث ال جبريل ،عليه السلم ،إلى إبراهيم ،عليه السلم ،فحج به ،
حتى إذا أتى عرفة قال :عرفت ،وكان قد ( )8أتاها مرة قبل ذلك ،فلذلك سميت عَرَفة.
وقال ابن المبارك ،عن عبد الملك بن أبي سليمان ،عن عطاء ،قال :إنما سميت عرفة ،أنّ
جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك ،فيقول :عَ َر ْفتُ عَ َر ْفتُ .فسمي "عرفات" .وروي نحوه عن
ابن عباس ،وابن عمر وأبي مِجْلز ،فال أعلم.
وتسمى عرفات المشعر الحلل ،والمشعر ( )9القصى ،وإلل -على وزن هلل -ويقال
للجبل في وسطها :جَ َبلُ الرحمة .قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وبالمشعَر القصى إذا قصدوا له ...إلل إلى تلك الشّراج ال َقوَابل ()10
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا حماد بن الحسن بن عَنْبَسَة ،حدثنا أبو عامر ،عن زمعة -هو ابن
__________
( )1في أ " :ثلث".
( )2المسند ( )4/335وسنن أبي داود برقم ( )1949وسنن الترمذي برقم ( )2975وسنن النسائي
( )5/264وسنن ابن ماجة برقم (.)3015
( )3رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1297من حديث جابر رضي ال عنه.
( )4في جـ " :ابن المام".
( )5في جـ ،ط ،أ : :من جبل".
( )6في جـ " :أظللت".
( )7المسند ( )4/15وسنن أبي داود برقم ( )1950وسنن الترمذي برقم ( )891وسنن النسائي (
)5/263وسنن ابن ماجة برقم (.)3016
( )8في جـ " :وقد كان".
( )9في ط " :المشعر الحرام".
( )10البيت في السيرة النبوية لبن هشام (.)1/274
( )1/552
صالح -عن سلمة -هو ابن وَهْرَام ( - )1عن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :كان أهل
الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال ،كأنها العمائم على رؤوس
الرجال ،دفعوا ،فأخر رسول ال صلى ال عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس.
ورواه ابن مَ ْردُويه ،من حديث زمعة بن صالح ،وزاد :ثم وقف بالمزدلفة ،وصلى الفجر
بغَلَس ،حتى إذا أسفر ( )2كل شيء وكان في الوقت الخر ،دفع .وهذا حَسَنُ السناد.
خطَبنا رسولُ ال صلى ال
سوَر بن مَخْرَمة قال َ :
وقال ابن جُرَيْج ،عن محمد بن قيس ،عن الم ْ
عليه وسلم ،وهو بعرفات ،فحمد ال وأثنى عليه .ثم قال " :أما بعد -وكان إذا خطب خطبة قال
ج الكبر ،أل وإن أهلَ الشرك والوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم
:أما بعد -فإن هذا اليوم الح َ
قبل أن تغيب الشمس ،إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال ،كأنها عمائم الرجال في وجوهها ،
وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس ،وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس ،إذا
كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ،
مُخَالفا هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك".
هكذا رواه ابن مَرْدُيَه وهذا لفظه ،والحاكم في مستدركه ،كلهما من حديث عبد الرحمن بن
المبارك العيشي ،عن عبد الوارث بن سعيد ،عن ابن جريج ،به .وقال الحاكم :صحيح على
سوَر من رسول ال
شرط الشيخين ،ولم يخرجاه .قال :وقد صح وثَبَت بما ذكرناه سماع المِ ْ
صلى ال عليه وسلم ،ل كما يتوهمه رعاع أصحابنا أنّه ممن له رؤية ( )3بل سماع (.)4
وقال َوكِيع ،عن شعبة ،عن إسماعيل بن رجاء [الزبيدي] ( )5عن المعرور بن سويد ،قال :
رأيت عمر ،رضي ال عنه ،حين دفع من عرفة ،كأني أنظر إليه رَجُل أصلع على بعير له ،
يُوضِع ( )6وهو يقول :إنا وجدنا الفاضة هي اليضاع.
وفي حديث جابر بن عبد ال الطويل ،الذي في صحيح مسلم ،قال فيه :فلم يزل واقفا -يعني
صفْرَة قليل حتى غاب القُرْصُ ،وأردف أسامة
بعرفة -حتى غربت الشمس ،وذهبت ( )7ال ّ
ق للقصواء الزّمام ،حتى إنّ رأسها ليصيب
خلفه ،ودفعَ رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد شَ َن َ
َموْرك رحله ،ويقول بيده اليمنى " :أيها الناس ،السكينة السكينة" .كلما أتى جبل من الجبال
أرْخَى لها قليل حتى تصعد ،حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد
وإقامتين ،ولم يُسَبّحْ بينهما شيئا ،ثم اضطجع حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيّن له الصبح
بأذان وإقامة ،ثم ركب القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام ،فاستقبل القبلة ،فدعا ال وكبره وهَلّله
ووحّده ،فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ،فدفع قبل أن تطلُع الشمس ( )8وفي الصحيح ( )9عن
أسامة بن زيد ،أنه سُئِل كيف كان يسير رسول ال صلى ال عليه وسلم حين َدفَعَ ؟
__________
( )1في جـ " :هو ابن هشام".
( )2في أ " :إذا استقر".
( )3في جـ " :ممن له رواية".
( )4المستدرك (.)2/277
( )5زيادة من و.
( )6في أ " :فوضع".
( )7في جـ ،ط ،أ ،و " :وبدت".
( )8صحيح مسلم برقم (.)1218
( )9في جـ ،ط ،أ ،و " :وفي الصحيحين".
( )1/553
( )1/554
( )1/555
( )1/556
س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ كَ ِذكْ ِركُمْ آَبَا َءكُمْ َأوْ َأشَدّ ِذكْرًا َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي
فَإِذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ
حسَنَ ًة َوفِي الْآَخِ َرةِ
الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الْآَخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ (َ )200ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي الدّنْيَا َ
حسَابِ ()202
حسَنَ ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ ( )201أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ
َ
( )1/557
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِا َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ } [الصافات َ { ، ]147 :فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى } [النجم :
.]9فليست هاهنا للشك قطعًا ،وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه .ثم إنه تعالى
أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره ،فإنه مظنة الجابة ،و َذمّ من ل يسأله إل في أمر دنياه ،وهو
معرض عن أخراه ،فقال َ { :فمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ
} أي :مِنْ َنصِيب ول حظ .وتضمّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه ( )1بمن هو كذلك .قال سعيد بن
جبير ،عن ابن عباس :كان قوم من العراب يجيئون إلى الموقف ،فيقولون :اللهم اجعله عام
غَيث وعام خصْب وعام ولد حسن .ل يذكرون ( )2من أمر الخرة شيئًا ،فأنزل ال فيهم :
{ َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ } ( )3وكان يجيء بعدهم
عذَابَ
آخرون [من المؤمنين] ( )4فيقولون { :رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَنَ ًة َوقِنَا َ
النّارِ } فأنزل ال { :أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } ولهذا مدح من يسأله
عذَابَ
للدنيا والخرى ،فقال َ { :ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَنَةً َوقِنَا َ
ل كلّ
النّارِ } فجمعت هذه الدعوةُ كلّ خير في الدنيا ،وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشم ُ
مطلوب دنيوي ،من عافية ،ودار رحبة ،وزوجة حسنة ،ورزق واسع ،وعلم نافع ،وعمل
صالح ،ومركب هنيء ،وثناء جميل ،إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين ،ول
منافاة بينها ،فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا .وأما الحسنة في الخرة فأعلى ذلك دخول
الجنة وتوابعه من المن ( )5من الفزع الكبر في العَرَصات ،وتيسير الحساب وغير ذلك من
أمور الخرة الصالحة ،وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ،من اجتناب
المحارم والثام وترك الشبهات والحرام (.)6
وقال القاسم بن ( )7عبد الرحمن :من أعطي قلبا شاكرًا ،ولسانًا ذاكرًا ،وجسدًا صابرًا ،فقد
أوتي في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة ،ووقي عذاب النار.
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء .فقال البخاري :حدثنا أبو معمر ،حدثنا عبد الوارث
،عن عبد العزيز ،عن أنس بن مالك قال :كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :اللّهم ربّنا ،
آتنا في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة وقنا عذاب النار" (.)8
وقال المام أحمد :حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،حدثنا عبد العزيز بن صهيب ،عن أنس ( )9قال
:كان أكثر دعوة يدعو بها رسول ال صلى ال عليه وسلم [يقول] (" : )10اللهم ربّنا ،آتنا في
الدنيا حسنة ،وفي الخرة حسنة ،وقنا عذاب النار" (.)11
__________
( )1في أ " :عن التشبيه".
( )2في جـ " :ل يذرون".
( )3في و " :فمن الناس من" وهو الصواب.
( )4زيادة من أ ،و.
( )5في جـ " :وتوابع ذلك المن".
( )6في جـ " :في الحرام" ،وفي أ " :واجتناب الحرام".
( )7في أ ،و " :قال القاسم أبو".
( )8صحيح البخاري برقم (.)4522
( )9في و " :حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال :سأل قتادة أنسا :أي دعوة كان أكثر يدعو بها
النبي صلى ال عليه وسلم ؟ ".
( )10زيادة من و.
( )11المسند (.)3/101
( )1/558
[وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ،وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه] (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو نعيم ،حدثنا عبد السلم بن شداد -يعني أبا طالوت
-قال :كنت عند أنس بن مالك ،فقال له ثابت :إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم .فقال :اللهم
آتنا في الدنيا حسنة ،وفي الخرة حسنة ،وقنا عذاب النار .وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا
القيام ،قال ( : )2يا أبا حمزة ،إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال :تريدون أن أشَققَ لكم
المور ،إذا آتاكم ال في الدنيا حسنة ،وفي الخرة حسنة ،ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير
كله.
وقال أحمد أيضًا :حدثنا محمد بن أبي عدي ،عن حميد [ ،وعبد ال بن بكر السهمي ،حدثنا
حميد] ( )3عن أنس ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عاد رَجُل من المسلمين قد صار مثل
الفَرْخ .فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :هل تدعو ( )4ال بشيء أو تسأله إيّاه ؟ " قال :
نعم ،كنت أقول :اللهم ما كنت معاقبي به في الخرة فعجله لي في الدنيا .فقال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :سبحان ال! ل تطيقه -أو ل تستطيعه -فهل قلت { :رَبّنَا ( )5آتِنَا فِي الدّنْيَا
حسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ } " .قال :فدعا ال ،فشفاه.
َ
انفرد بإخراجه مسلم ،فرواه من حديث ابن أبي عدي -به (.)6
وقال المام الشافعي :أخبرنا سعيد بن سالم القداح ،عن ابن جريج ،عن يحيى بن عبيد -مولى
السائب -عن أبيه ،عن عبد ال بن السائب :أنه سمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول فيما بين
الركن اليماني والركن السود { :رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ } (
.)7ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك.
وروى ابن ماجة ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،نحو ذلك .وفي سنده
ضعف ( )8وال أعلم.
وقال ابن مَرْدويه :حدثنا عبد الباقي ،أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور ،حدثنا سعيد بن سليمان
،عن إبراهيم بن سليمان ،عن عبد ال بن هرمز ،عن مجاهد ،عن ابن عباس قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما مررت على الركن إل رأيت عليه ملكًا يقول :آمين .فإذا
مررتم عليه فقولوا { :رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ }
__________
( )1زيادة من أ ،و.
( )2في أ " :قالوا".
( )3زيادة من مسند المام أحمد (.)3/107
( )4في جـ ،ط " :هل كنت تدعو".
( )5في جـ ،ط " :اللهم" وهو خطأ.
( )6المسند (.)3/107
( )7ورواه البغوي في شرح السنة ( )7/128من طريق الشافعي به ،ورواه ابن حبان في
صحيحه برقم (" )1001موارد" من طريق يحيى القطان عن ابن جريج به نحوه.
( )8سنن ابن ماجة برقم (.)2957
( )1/559
وقال الحاكم في مستدركه :أخبرنا أبو زكريا العنبري ،حدثنا محمد بن عبد السلم ،حدثنا
إسحاق بن إبراهيم ،أخبرنا جرير ،عن العمش ،عن مُسْلم البطين ،عن سعيد بن جبير قال :
جاء رَجُل إلى ابن عباس فقال :إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني ،ووضعت لهم من
أجرتي على أن يَدعُوني أحج معهم ،أفيجزي ذلك ؟ فقال :أنت من الذين قال ال [فيهم] (: )1
{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } ثم قال الحاكم :صحيح على شرط
الشيخين ،ولم يخرجاه (.)2
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2المستدرك (.)2/277
( )1/560
جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ َومَنْ تََأخّرَ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَى
وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ َتعَ ّ
وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّن ُكمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ ()203
( )1/560
وحدثنا يعقوب ،حدثنا هُشَيم ،عن سفيان بن حسين ،عن الزهري ،قال :بعث رسول ال صلى
ال عليه وسلم عبد ال بن حذافة ،فنادى في أيام التشريق فقال " :إن هذه اليام أيام أكل وشرب
صوْم من هَدْي".
وذكر ال ،إل من كان عليه َ
زيادة حسنة ولكن مرسلة .وبه قال هُشَيم ،عن عبد الملك بن أبي سليمان ،عن عمرو بن دينار :
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث بشْرَ بن سحيم ،فنادى في أيام التشريق فقال " :إن هذه
اليام أيام أكل وشرب وذكر ال".
وقال ُهشَيم ،عن ابن أبي ليلى ،عن عطاء ،عن عائشة قالت :نهى رسول ال صلى ال عليه
وسلم عن صوم أيام التشريق ،قال " :هي أيام أكل وشرب وذكر ال".
وقال محمد بن إسحاق ،عن حكيم بن حكيم ،عن مسعود بن الحاكم الزّرَقي ،عن أمه قالت :
لكأني ( )1أنظر إلى عليّ على بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم البيضاء ،حتى وقف ()2
على شعب النصار وهو يقول " :يا أيها الناس ،إنها ليست بأيام صيام ،إنما هي أيام أكل
وشرب وذكر" (.)3
وقال ِمقْسَم عن ابن عباس :اليام المعدودات :أيام التشريق ،أربعة أيام :يوم النحر ،وثلثة
[أيام] ( )4بعده ،ورُوي عن ابن عمر ،وابن الزبير ،وأبي موسى ،وعطاء ،ومجاهد ،
وعكرمة ،وسعيد ابن جُبَير ،وأبي مالك ،وإبراهيم النخَعي [ ،ويحيى بن أبي كثير] ( )5والحسن
،وقتادة ،والسدي ،والزهري ،والربيع بن أنس ،والضحاك ،ومقاتل بن حيّان ،وعطاء
الخراساني ،ومالك بن أنس ،وغيرهم -مثل ذلك.
وقال علي بن أبي طالب ( : )6هي ثلثة ،يوم النحر ويومان بعده ،اذبح في أيّهنّ شئت ،
وأفضلها أولها.
جلَ فِي َي ْومَيْنِ
والقول الول هو المشهور وعليه دل ظاهر الية الكريمة ،حيث قال َ { :فمَنْ َت َع ّ
فَل إِثْمَ عَلَ ْي ِه َومَنْ تَأَخّرَ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ } فدل على ثلثة بعد النحر.
ويتعلق بقوله { :وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ } ذكْرُ ال على الضاحي ،وقد تقدم ،وأن
الراجح في ذلك مذهب الشافعي ،رحمه ال ،وهو أن وقت الضحية من يوم النحر إلى آخر أيام
التشريق .ويتعلق به أيضًا الذكر المؤقت خلف الصلوات ،والمطلق في سائر الحوال .وفي وقته
أقوال ( )7للعلماء ،وأشهرها الذي عليه العمل أنّه من صلة الصبح يوم عرفة إلى صلة العصر
من آخر أيام التشريق ،وهو آخر ال ّنفْر الخِر .وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني ،ولكن ل
يصح مرفوعا ( )8وال أعلم .وقد ثبت أن عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،كان يكبر في قبته
،فيكبر أهل السوق
__________
( )1في أ " :وكأني".
( )2في أ " :حتى وقفت".
( )3رواه الطبري في تفسيره ( )4/213من طريق ابن علية عن ابن إسحاق به.
( )4زيادة من أ ،و.
( )5زيادة من أ ،و.
( )6في أ " :وقال علي بن أبي طلحة رضي ال عنه".
( )7في جـ " :وفيه أقوال".
( )8سنن الدارقطني ( )50 ، 2/49من طرق عن جابر رضي ال عنه.
( )1/561
خصَامِ ()204
شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ
َومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ
حبّ ا ْلفَسَادَ ( )205وَإِذَا قِيلَ
ل وَاللّهُ لَا ُي ِ
سَث وَالنّ ْ
سدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ
سعَى فِي الْأَ ْرضِ لِ ُيفْ ِ
وَإِذَا َتوَلّى َ
جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (َ )206ومِنَ النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ
حسْبُهُ َ
خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالْإِ ْثمِ فَ َ
لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ
ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ ()207
( )1/562
العسل ،وقلوبهم أمَرّ من الصّبر ،لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين َ ،يجْترّون الدنيا بالدين.
قال ال تعالى :عليّ ( )1تجترئون! وبي تغترون! .وعزتي لبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم منهم
حيران .فقال محمد بن كعب :هذا في كتاب ال .فقال سعيد :وأين هو من كتاب ال ؟ قال :قول
ال َ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } الية .فقال سعيد :قد عرفتُ فيمن أنزلت
هذه الية .فقال محمد بن كعب :إن الية تنزل في الرجل ،ثم تكون عامة بعد .وهذا الذي قاله
القرظي حسن صحيح.
شهَدُ الُ" بفتح الياء ،وضم
علَى مَا فِي قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن " :ويَ ْ
ش ِهدُ اللّهَ َ
وأما قوله { :وَيُ ْ
علَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناها :أن هذا وإن أظهر لكم الحيل ( )2لكن ال يعلم من قلبه
الجللة { َ
شهَدُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ
القبيح ،كقوله تعالى { :إِذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا َن ْ
ش َهدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ } [المنافقون .]1 :
وَاللّهُ يَ ْ
شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناه :أنه يُظْهرُ
وقراءة الجمهور بضم الياء ،ونصب الجللة { وَيُ ْ
س وَل
خفُونَ مِنَ النّا ِ
للناس السلم ويبارزُ ال بما في قلبه من الكفر والنفاق ،كقوله تعالى َ { :يسْتَ ْ
خفُونَ مِنَ اللّهِ } الية [النساء ]108 :هذا معنى ما رواه ابن إسحاق ،عن محمد بن أبي محمد
يَسْ َت ْ
،عن ( )3عكرمة ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس.
وقيل :معناه أنه إذا أظهر للناس السلم حَلَف وأشهد ال لهم :أن الذي في قلبه موافق للسانه.
وهذا المعنى صحيح ،وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،واختاره ابن جرير ،وعزاه إلى ابن
عباس ،وحكاه عن مجاهد ،وال أعلم.
خصَامِ } اللد في اللغة [ :هو] ( )4العوج { ،وَتُنْذِرَ ِبهِ َق ْومًا ُلدّا } [مريم :
وقوله { :وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ
]97أي :عُوجًا .وهكذا المنافق في حال خصومته ،يكذب ،ويَ ْزوَرّ عن الحق ول يستقيم معه ،
بل يفتري ويفجر ،كما ثبت في الصحيح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :آية
المنافق ثلث :إذا حدث كذب ،وإذا عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر".
وقال البخاري :حدثنا قَبيصةُ ،حدثنا سفيان ،عن ابن جُرَيج ،عن ابن أبي مُلَيْكة ،عن عائشة
تَ ْر َفعُه قال " :أبغض الرجال إلى ال اللَدّ الخَصم" (.)5
قال :وقال عبد ال بن يزيد :حدثنا سفيان ،حدثني ابن جريج ،عن ابن أبي مُلَيكة ،عن عائشة
،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن أبغض الرجال إلى ال اللد الخصم" (.)6
خصَامِ } عن ابن جريج ،عن ابن
وهكذا رواه عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر في قوله { :وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ
أبي مليكة ،عن عائشة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن أبغض الرجال إلى ال اللد
الخصم" (.)7
__________
( )1في أ " :أعلي".
( )2في جـ ،و " :الجميل".
( )3في جـ ،ط " :أو".
( )4زيادة من جـ ،ط.
( )5صحيح البخاري برقم (.)4523
( )6صحيح البخاري برقم (.)4523
( )7تفسير عبد الرزاق (.)1/97
( )1/563
( )1/564
خلّون عني ؟
وتخرج أنت ومالك! وال ل يكون ذلك أبدًا .فقلت لهم :أرأيتم إن َد َف ْعتُ إليكم مالي تُ َ
قالوا :نعم .فدفعتُ إليهم مالي ،فخلّوا عني ،فخرجت حتى قدمتُ المدينة .فبلغ ذلك النبي صلى
ال عليه وسلم فقال " :رَبح صهيبُ ،ربح صهيب" مرتين (.)1
وقال حماد بن سلمة ،عن علي بن زيد ،عن سعيد بن المسيب قال :أقبل صهيب مهاجرًا نحو
النبي صلى ال عليه وسلم فاتبعه َنفَر من قريش ،فنزل عَنْ راحلته ،وانتثل ما في كنانته .ثم قال
( )2يا معشر قريش ،قد علمتم أنّي من أرماكم رجل وأنتم وال ل تصلون إلي حتى أرمي ُكلّ
شيْء ،ثم افعلوا ما شئتم ،وإن شئتم
سهم في كنانتي ،ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه َ
دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلّيتم سبيلي ؟ قالوا :نعم .فلما قَدم على النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :ربح البيع ،ربح البيع" .قال :ونزلت َ { :ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ
اللّ ِه وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ }
وأما الكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل ال ،كما قال تعالى { :إِنّ
ن وَ ُيقْتَلُونَ
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُو َ
اللّهَ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ
ن َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَ ْبشِرُوا بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي
ل وَا ْلقُرْآ ِ
حقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالنْجِي ِ
وَعْدًا عَلَيْهِ َ
بَا َيعْتُمْ بِهِ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } [التوبة .]111 :ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ،أنكر
عمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ،وتلوا هذه الية َ { :ومِنَ
عليه بعضُ الناس ،فردّ عليهم ُ
النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّ ِه وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ }
طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ ()208
خُخلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً وَل تَتّ ِبعُوا ُ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْ ُ
حكِيمٌ (} )209
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله :أنْ يأخذوا بجميع عُرَى السلم وشرائعه
،والعمل بجميع أوامره ،وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.
قال العوفي ،عن ابن عباس ،ومجاهد ،وطاوس ،والضحاك ،وعكرمة ،وقتادة ،والسّدّي ،
وابن زيد ،في قوله { :ا ْدخُلُوا فِي السّلْمِ } يعني :السلم.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس ،وأبو العالية ،والربيعُ بن أنس { :ادْخُلُوا فِي السّ ْلمِ } يعني :
الطاعة .وقال قتادة أيضًا :الموادعة.
وقوله { :كَافّةً } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وأبو العالية ،وعكرمة ،والربيع ،والسّدي ،
ومقاتل بن حَيّان ،وقتادة والضحاك :جميعًا ،وقال مجاهد :أي اعملوا بجميع العمال ووجوه
البر.
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ،كعبد ال بن سلم ،وثعلبة وأسَد
__________
( )1ورواه ابن سعد في الطبقات ( )2/227عن هوذة ،عن عوف ،عن أبي عثمان قال :بلغني
أن صهيبا ،فذكر نحوه ،ورواه ابن سعد في الطبقات ( )2/228وأبو نعيم في الحلية ()1/151
من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ،فذكر نحو القصة.
( )2في جـ " :وقال" ،وفي أ ،و " :كما قال".
( )1/565
بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في أن يُسْبتوا ،وأن يقوموا بالتوراة
ليل .فأمرهم ال بإقامة شعائر السلم والشتغال بها عما عداها .وفي ذكر عبد ال بن سلم مع
هؤلء نظر ،إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ،وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه
وبطلنه ،والتعويض عنه بأعياد السلم.
ومن المفسرين من يجعل قوله { :كَافّةً } حال من الداخلين ،أي :ادخلوا في السلم كلكم.
والصحيح الول ،وهو أنّهم أمروا [كلهم] ( )1أن يعملوا بجميع شعب اليمان وشرائع السلم ،
وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها .وقال ( )2ابن أبي حاتم :أخبرنا علي بن الحسين ،أخبرنا
أحمد بن الصباح ،أخبرني الهيثم بن يمان ،حدثنا إسماعيل بن زكريا ،حدثني محمد بن عون ،
عن عكرمة ،عن ابن عباس { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْدخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً } -كذا قرأها بالنصب
-يعني مؤمني أهل الكتاب ،فإنهم كانوا مع اليمان بال مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع
التي أنزلت فيهم ،فقال ال { :ادْخُلُوا فِي السّ ْلمِ كَافّةً } يقول :ادخلوا في شرائع دين محمد صلى
ال عليه وسلم ول َتدَعَوا منها شيئًا وحسبكم باليمان بالتوراة وما فيها.
طوَاتِ الشّ ْيطَانِ } أي :اعملوا الطاعات ( ، )3واجتنبوا ما يأمركم به
وقوله { :وَل تَتّ ِبعُوا خُ ُ
الشيطان فـ { إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُر ُكمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَا ِء وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ } [البقرة ، ]169 :
سعِيرِ } [فاطر ]6 :؛ ولهذا قال { :إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ
و { إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ
} قال مُطَرّف :أغش عباد ال لعَبِيد ال الشيطان.
حجَجُ
وقوله { :فَإِنْ زَلَلْ ُتمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُكمُ الْبَيّنَاتُ } أي :عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم ال ُ
،فاعلموا أن ال عزيز [أي] ( )4في انتقامه ،ل يفوته هارب ،ول يَغلبه غالب .حكيم في أحكامه
ونقضه وإبرامه ؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس :عزيز في نقمته ،حكيم في
أمره .وقال محمد بن إسحاق :العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء ،الحكيم في عذره وحجته
إلى عباده.
ضيَ المْ ُر وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ
{ َهلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَ ُة َو ُق ِ
المُورُ (} )210
يقول تعالى ُمهَ ّددًا للكافرين بمحمد صلوات ال وسلمه عليه َ { :هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َي ُهمُ اللّهُ فِي
ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ وَا ْلمَلئِكَةُ } يعني :يوم القيامة ،لفصل القضاء بين الولين والخرين ،فيجزي
جعُ
ي المْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ
ُكلّ عامل بعمله ،إن خيرًا فخير ،وإن شرًا فشر ،ولهذا قال َ { :و ُقضِ َ
صفّا* وَجِيءَ َي ْومَئِذٍ
صفّا َ
ك وَا ْلمََلكُ َ
المُورُ } كما قال { :كَل إِذَا ُد ّكتِ ال ْرضُ َدكّا َدكّا* وَجَاءَ رَ ّب َ
ن وَأَنّى لَهُ ال ّذكْرَى } [الفجر ، ]23 - 21 :وقال َ { :هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ
جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ يَتَ َذكّرُ النْسَا ُ
بِ َ
تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ } الية [النعام :
.]158
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2في جـ ،ط " :كما قال".
( )3في أ " :اعملوا بالطاعات".
( )4زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )1/566
وقد ذكر المام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله ،عن أبي هريرة ،عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم .وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد
وغيرهم ،وفيه " :أنّ الناس إذا اهتموا لموقفهم ( )1في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالنبياء
واحدًا واحدًا ،من آدم فمن بعده ،فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد ،صلوات ال وسلمه
عليه ،فإذا جاؤوا إليه قال :أنا لها ،أنا لها .فيذهب فيسجد ل تحت العرش ،ويشفع عند ال في
ظلَل من الغمام بعد ما تنشق ()2
أن يأتي لفصل القضاء بين العباد ،فيُشفّعه ال ،ويأتي في ُ
السماء الدنيا ،وينزل من فيها من الملئكة ،ثم الثانية ،ثم الثالثة إلى السابعة ،وينزل ( )3حملة
العرش والكَرُوبيّون ( ، )4قال :وينزل الجبار ،عز وجل ،في ظُلَل من الغمام والملئكةُ ،ولهم
زَجَل مِنْ تسبيحهم يقولون :سبحان ذي الملك والملكوت ،سبحان رب العرش ذي الجبروت ()5
سبحان الحي الذي ل يموت ،سبحان الذي يميت الخلئق ول يموت ،سُبّوح قدوس ،رب
الملئكة والروح ،قدوس قدوس ،سبحان ربنا العلى ،سبحان ذي السلطان والعظمة ،سبحانه
أبدًا أبدًا" (.)6
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه هاهنا أحاديث فيها غرابة وال أعلم ؛ فمنها ما رواه من
حديث المنهال بن عمرو ،عن أبي عبيدة بن عبد ال بن مسعود ،عن مسروق ،عن ابن مسعود
،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يجمع ال الولين والخرين لميقات يوم معلوم ،قيامًا
شاخصة أبصارهم إلى السماء ،ينتظرون َفصْل القضاء ،وينزل ال في ظُلَل من الغمام من
العرش إلى الكرسي" (.)7
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم ،حدثنا معتمر بن
سليمان ،سمعت عبد الجليل القَيْسي ،يحدّث عن عبد ال بن عمرو َ { :هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ
حجَاب ،
اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ } الية ،قال :يهبط حين يهبط ،وبينه وبين خَلْقه سبعون ألف ِ
منها :النور ،والظلمة ،والماء .فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب.
قال :وحدثنا أبي :حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ،حدثنا الوليد قال :سألت زهير بن محمد ،
عن قول ال َ { :هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ } قال :ظلل من الغمام ،
منظوم من الياقوت ( )8مكلّل بالجوهر والزبَرْجَد.
ط إل
وقال ابن أبي نجيح ،عن مجاهد { فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ } قال :هو غير السحاب ،ولم يكن َق ّ
لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية َ { :هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ
فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَةُ }
__________
( )1في ط " :لمواقفهم".
( )2في جـ " :بعد ما تشقق".
( )3في طـ " :وتنزل".
( )4في أ " :الكرسيون".
( )5في جـ " :والجبروت".
( )6تفسير الطبري ( )4/266وسيأتي الحديث بطوله عند تفسير الية 73 :من سورة النعام.
( )7ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )417 ، 9/416من طريقين عن المنهال بن عمرو به
مطول ،وقال الذهبي " :إسناده حسن".
( )8في أ ،و " :منظوم بالياقوت".
( )1/567
[قال] ( : )1يقول :والملئكة يجيئون في ظلل من الغمام ،وال تعالى يجيء فيما يشاء -وهي
في بعض القراءة " :هل ينظرون إل أن يأتيهم ال والملئكة في ظُلَل من الغمام" وهي كقوله :
سمَاءُ بِا ْل َغمَا ِم وَنزلَ ا ْلمَل ِئكَةُ تَنزيل } [الفرقان .]25 :
شقّقُ ال ّ
{ وَ َيوْمَ َت َ
__________
( )1زيادة من جـ ،ط.
( )1/568
سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيّنَ ٍة َومَنْ يُبَ ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ
َ
ا ْل ِعقَابِ ( )211زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُوا الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ ا ّتقَوْا َف ْو َقهُمْ َيوْمَ
ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ ()212
شدِيدُ
سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ َومَنْ يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ
{ َ
ا ْل ِعقَابِ ( )211زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُوا الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ ا ّتقَوْا َف ْو َقهُمْ َيوْمَ
ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ (} )212
يقول تعالى ُمخْبرًا عن بني إسرائيل :كم قد شاهدوا مع موسى { مِنْ آيَةٍ بَيّ َنةٍ } أي :حجة قاطعة
على صدقه فيما جاءهم به ،كَيَدهِ وعصاه وفَلْقه البحر وضَرْبه الحجر ،وما كان من تظليل الغمام
ن والسلوى وغير ذلك من اليات الدالت على وجود الفاعل
عليهم في شدة الحر ،ومن إنزال المَ ّ
المختار ،وصدق من جرت هذه الخوارق على يَدَيه ،ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ،وبَدلوا
نعمة ال [كفرًا] ( )1أي :استبدلوا باليمان بها الكفر بها ،والعراض عنهاَ { .ومَنْ يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ
شدِيدُ ا ْلعِقَابِ } كما قال إخبارًا عن كفار قريش { :أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ
اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ
جهَنّمَ َيصَْلوْنَهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } [إبراهيم ، 28 :
بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ * َ
.]29
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين ُرضُوا بها واطمأنّوا إليها ،وجمعوا الموال
ن مصارفها التي أمروا بها مما يُ ْرضِي ال عنهم ،وسخروا من الذين آمنوا الذين
ومنعوها عَ ْ
أعرضوا عنها ،وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم ،وبذلوا ابتغاء وجه ال ؛ فلهذا فازوا
بالمقام السعد والحظ الوفر يوم معادهم ،فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم ،ومسيرهم
ومأواهم ،فاستقروا في الدرجات في أعلى علّيين ،وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين ؛
حسَابٍ } أي :يرزق من يشاء من خَلْقه ،ويعطيه
ولهذا قال تعالى { :وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ
عطاء كثيرًا جزيل بل حصر ول تعداد في الدنيا والخرة ( )2كما جاء في الحديث " :ابن آدم ،
أَنْفقْ أُنْفقْ عليك" ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أنفق بلل ول تخش من ذي العرش إقلل"
شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُهُ } [سبأ ، ]39 :وفي ( )4الصحيح أن مَلَكين
( .)3وقال تعالى َ { :ومَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َ
ينزلن من السماء صَبيحة كل يوم ،يقول ( )5أحدهما :اللهم أعط منفقًا خلفًا .ويقول الخر :
اللهم أعط ُممْسكا تلفًا .وفي الصحيح (" )6يقول
__________
( )1زيادة من جـ ،ط ،أ ،و.
( )2في طـ " :في الدنيا ول في الخرة".
( )3رواه الطبراني في المعجم الكبير ( )10/192من طريق يحيى بن وثاب ،عن مسروق ،عن
عبد ال بن مسعود رضي ال عنه مرفوعا ،وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (.)2/51
( )4في جـ ،أ ،و " :وهو في".
( )5في جـ ،ط " :فيقول".
( )6في أ " :وفي الصحيحين".
( )1/568
حكُمَ بَيْنَ
ن وَأَنْ َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َي ْ
ن َومُنْذِرِي َ
كَانَ النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِلّا الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َن ُهمْ َفهَدَى
اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()213
ت ،وما تصدقت
ستَ فأبلي َ
ابن آدم :مالي ،مالي! وهل لك من مالك إل ما أكلت فأفنيت ،وما لَب ْ
فأمضيت ( )1؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وفي مسند المام أحمد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال " :الدنيا دار من ل دار له ،ومال
من ل مال له ،ولها يَجمَعُ من ل عقل له" (.)2
ح ُكمَ بَيْنَ
حقّ لِيَ ْ
ن وَأَنزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
ن َومُنْذِرِي َ
ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
{ كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ
النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِل الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َنهُمْ َفهَدَى
اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (} )213
قال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا أبو داود ،أخبرنا َهمّام ،عن قتادة ،عن عكرمة ،
عن ابن عباس ،قال :كان بين نوح وآدم ( )3عشرة قرون ،كلهم على شريعة من الحق.
فاختلفوا ،فبعث ال النبيين مبشرين ومنذرين .قال :وكذلك هي في قراءة عبد ال " :كَانَ النّاسُ
ح َدةً فَاخْتََلفُوا".
ُأمّ ًة وَا ِ
ورواه الحاكم في مستدركه ،من حديث بُنْدَار عن محمد بن بشار .ثم قال :صحيح ولم يخرجاه (
.)4
وكذا روى أبو جعفر الرازي ،عن أبي العالية ،عن أبي بن كعب :أنه كان يقرؤها " :كَانَ
ن َومُنْذِرِينَ".
النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَاخْتََلفُوا فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّيّنَ مُبَشّرِي َ
ح َدةً } قال :كانوا
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن قتادة في قوله { :كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ
على الهدى جميعًا " ،فاختلفوا فبعث ال النبيين مبشرين منذرين" فكان أول نَبي بعث نوحًا .وهكذا
قال مجاهد ،كما قال ابن عباس أول.
ح َدةً } يقول :كانوا كفارًا { ،فَ َب َعثَ اللّهُ
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ
ن َومُنْذِرِينَ }
النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
والقول الول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى ؛ لن الناس كانوا على ملة آدم ،عليه السلم ،
حتى عبدوا الصنام ،فبعث ال إليهم نوحًا ،عليه السلم ،فكان أول رسول بعثه ال إلى أهل
الرض.
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِي ِه َومَا اخْ َتَلفَ فِيهِ إِل
حقّ لِ َي ْ
ولهذا قال { :وَأَنزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َنهُمْ }
__________
( )1في أ " :فأبقيت".
( )2المسند ( )6/71من حديث عائشة رضي ال عنها.
( )3في ط " :كان بين آدم ونوح".
( )4تفسير الطبري ( )4/275والمستدرك (.)2/546
( )1/569
أي :من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إل البغي من بعضهم على بعض ،
حقّ بِإِذْ ِن ِه وَاللّهُ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }
{ َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ الْ َ
وقال عبد الرزاق :حدثنا َم ْعمَر ،عن سليمان العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة في
قوله َ { :فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِهِ } قال :قال النبي صلى ال عليه
وسلم " :نحن الخرون الولون ( )1يوم القيامة ،نحن أ ّولُ الناس دخول الجنة ،بيد أنهم أوتوا
الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ،فهدانا ال لما اختلفوا فيه من الحق ،فهذا اليوم الذي اختلفوا
فيه ،فهدانا له ( )2فالناس لنا فيه تبع ،فغدًا لليهود ،وبعد غد للنصارى".
ثم رواه عبد الرزاق ،عن معمر ،عن ابن طاوس ،عن أبيه ،عن أبي هريرة (.)3
وقال ابن وهب ،عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،عن أبيه في قوله َ { :فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا
ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِإِذْنِهِ } فاختلفوا في يوم الجمعة ،فاتخذ اليهود يوم السبت ،والنصارى
يوم الحد .فهدى ال أمة محمد ليوم الجمعة .واختلفوا في القبلة ؛ فاستقبلت النصارى المشرق ،
واليهود بيت المقدس ،فهدى ال أمة محمد للقبلة .واختلفوا في الصلة ؛ فمنهم من يركع ول
يسجد ،ومنهم من يسجد ول يركع ،ومنهم من يصلي وهو يتكلم ،ومنهم من يصلي وهو
يمشي ،فهدى ال أمة محمد للحق من ذلك .واختلفوا في الصيام ،فمنهم من يصوم بعض
النهار ،ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ،فهدى ال أمة محمد للحق من ذلك .واختلفوا في
إبراهيم ،عليه السلم ،فقالت اليهود :كان يهوديًا ،وقالت النصارى :كان نصرانيًا ،وجعله ال
حنيفًا مسلمًا ،فهدى ال أمة محمد للحق من ذلك .واختلفوا في عيسى ،عليه السلم ،فكذّبت به
اليهود ،وقالوا لمه بهتانًا عظيمًا ،وجعلته النصارى إلهًا وولدًا ،وجعله ال روحه ،وكلمته ،
فهدى ال أمة محمد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك.
وقال الربيع بن أنس في قوله َ { :فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِإِذْنِهِ } أي :عند
الختلف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الختلف ،أقاموا على الخلص ل عز وجل
وحده ،وعبادته ل شريك له ،وإقام الصلة وإيتاء الزكاة ،فأقاموا على المر الول الذي كان
قبل الختلف ،واعتزلوا الختلف ،وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودًا ( )4على قوم
نوح ،وقوم هود ،وقوم صالح ،وقوم شعيب ،وآل فرعون ،أنّ رسلهم قد بلغوهم ،وأنهم قد
كذبوا رسلهم.
علَى النّاسِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ،وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ
شهَدَاءَ َ
وفي ( )5قراءة أبي بن كعب " :وَلِ َيكُونُوا ُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ" ،وكان أبو العالية يقول :في هذه الية المخرج من الشبهات والضللت
والفتن.
وقوله { :بِِإذْنِهِ } أي :بعلمه ،بما هداهم له .قاله ابن جرير { :وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي :منْ
__________
( )1في أ " :السابقون".
( )2في أ " :فهدانا ال له".
( )3تفسير عبد الرزاق ( )1/99والحديث مخرج في الصحيحين.
( )4في أ " :شهدوا".
( )5في أ ،و " :وهي في".
( )1/570
أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا
ل وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ()214
حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ
خلقه { إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :وله الحكم ( )1والحجة البالغة .وفي صحيح البخاري ومسلم
عن عائشة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول " :اللهم ،رب
جبريل وميكائيل وإسرافيل ،فاطر السموات والرض ،عالم الغيب والشهادة أنت تحكم ( )2بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك ،إنك تهدي من تشاء إلى
حقّا وارزقنا اتباعه ،وأرنا الباطل
صراط مستقيم" ( .)3وفي الدعاء المأثور :اللهم ،أرنا الحق َ
جعَلْه ملتبسًا علينا فنضل ،واجعلنا للمتقين إمامًا.
باطل ووفّقنا لجتنابه ،ول َت ْ
حسِبْتُمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا الْجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِت ُكمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْت ُهمُ الْبَأْسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا
{ َأمْ َ
ل وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (} )214
حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ
حسِبْتُمْ أَنْ َتدْخُلُوا ا ْلجَنّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا ،كما فعل بالذين
يقول تعالى َ { :أمْ َ
من قبلكم من المم ؛ ولهذا قال { :وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ َمسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّاءُ }
وهي :المراض ؛ والسقام ،واللم ،والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود ،وابن عباس ،وأبو العالية ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،ومُرّة ال َهمْداني ،
والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،والربيع ،والسّدي ،ومقاتل بن حَيّان { :الْبَ ْأسَاءُ } الفقر .قال ابن
عباس { :وَالضّرّاءُ } السّقم.
خ ْوفًا من العداء زلْزال شديدًا ،وامتحنوا امتحانًا عظيمًا ،كما جاء في الحديث
{ وَزُلْزِلُوا } َ
الصحيح عن خَبّاب بن ال َرتّ قال :قلنا :يا رسول ال ،أل تستنصر لنا ؟ أل تدعو ال لنا ؟
فقال " :إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه ،ل
َيصْرفه ( )4ذلك عن دينه ،و ُيمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ،ل يصرفه ذلك عن
دينه" .ثم قال " :وال ليتمن ال هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخاف
إل ال والذئب على غنمه ،ولكنكم قوم تستعجلون".
سبَ النّاسُ أَنْ يُتْ َركُوا أَنْ َيقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ ل ُيفْتَنُونَ* وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ
وقال ال تعالى { :الم* َأحَ ِ
مِنْ قَبِْلهِمْ فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَ َدقُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت .]3 - 1 :
وقد حصل من هذا ( )5جانب عظيم للصحابة ،رضي ال عنهم ،في يوم الحزاب ،كما قال ال
غتِ ال ْبصَا ُر وَبََل َغتِ ا ْلقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
سفَلَ مِ ْنكُ ْم وَإِذْ زَا َ
تعالى ِ { :إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ َف ْوقِكُمْ َومِنْ َأ ْ
ن وَالّذِينَ
شدِيدًا* وَإِذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُو َ
وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا* هُنَاِلكَ ابْتُِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَال َ
فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ مَا وَعَدَنَا اللّ ُه وَرَسُولُهُ إِل غُرُورًا }
__________
( )1في و " :وله الحكمة".
( )2في أ " :أنت الحكيم".
( )3صحيح مسلم برقم (.)770
( )4في ط " :ل يفتنه".
( )5في أ " :من ذلك".
( )1/571
ن وَابْنِ السّبِيلِ
ن وَالَْأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ
يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ
َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ ()215
( )1/572
كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُمْ وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ تُحِبّوا شَيْئًا وَ ُهوَ
شَرّ َل ُك ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ ()216
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبّوا شَيْئًا
{ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
وَ ُهوَ شَرّ َلكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْ ُت ْم ل َتعَْلمُونَ (} )216
حوْزة السلم.
هذا إيجاب من ال تعالى للجهاد على المسلمين :أن ي ُكفّوا شرّ العداء عن َ
( )1/572
جدِ
شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َوكُفْرٌ بِهِ وَا ْلمَسْ ِ
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَلَا يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَ ُردّوكُمْ
عمَاُلهُمْ فِي
طتْ أَ ْ
عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ
صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ( )217إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا
الدّنْيَا وَالَْآخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأ ْ
غفُورٌ رَحِيمٌ ()218
حمَةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ
وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ
وقال الزهري :الجهادُ واجب على كلّ أحد ،غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ ،
وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ،وإذا استُنْفرَ أن ينفر ،وإن لم يُحتَجْ إليه قعد.
قلت :ولهذا ثَبَت في الصحيح (" )1من مات ولم يغز ،ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية" (
.)2وقال عليه السلم يوم الفتح " :ل هجرة ،ولكن جهاد ونيّة ،إذا استنفرتم فانفروا" (.)3
وقوله { :وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُمْ } أي :شديد عليكم ومشقة .وهو كذلك ،فإنه إما أن ُيقْتَلَ أو يجرحَ مع (
)4مشقة السفر ومجالدَة العداء.
ل يعقبه النصر والظفر
ثم قال تعالى { :وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َل ُكمْ } أي :لنّ القتا َ
على العداء ،والستيلء على بلدهم ،وأموالهم ،وذرَاريهم ،وأولدهم.
حبّ المرءُ شيئًا ،وليس
{ وَعَسَى أَنْ ُتحِبّوا شَيْئًا وَ ُهوَ شَرّ َلكُمْ } وهذا عام في المور كلّها ،قد ُي ِ
له فيه خيرة ول مصلحة .ومن ذلك القُعُود عن القتال ،قد َي ْعقُبُه استيلء العدو على البلد والحكم.
ثم قال تعالى { :وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ } أي :هو أعلم بعواقب المور منكم ،وأخبَرُ بما فيه
صلحكم في دنياكم وأخراكم ؛ فاستجيبوا له ،وانقادوا لمره ،لعلكم ترشدون.
سجِدِ
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ
{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَل يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَرُدّوكُمْ
عمَاُلهُمْ فِي
طتْ أَ ْ
عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ
الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( )217إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا
غفُورٌ رَحِيمٌ (} )218
حمَةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ
وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ،حدثنا المعتمر بن سليمان ،
حضْرَمي ،عن أبي السّوار ،عن جُ ْندَب بن عبد ال ،أن رسول ال صلى ال
عن أبيه ،حدثني ال َ
عليه وسلم َب َعثَ رَهْطًا ،وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح [أو عبيدة بن الحارث] ( )5فلما ذهب
ينطلق َ ،بكَى صَبَابة ( )6إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم َ ،فجَلَس ،فبعث عليهم مكانه عبد
ال بن جحش ،وكتب له كتابًا ،وأمره أل يقرأ
__________
( )1في أ " :في الصحيحين".
( )2صحيح مسلم برقم ( )1910من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم ( )2825 ، 2783 ، 1834ومسلم في صحيحه برقم (
)1353من حديث ابن عباس رضي ال عنهما.
( )4في أ " :على".
( )5زيادة من طـ ،أ ،و.
( )6في جـ " :بكى صبيانه".
( )1/573
الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ،وقال :ل ُتكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك .فلما قرأ
الكتابَ استرجع ،وقال :سمعًا وطاعة ل ولرسوله .فخبّرهم الخبر ،وقرأ عليهم الكتاب ،فرجع
حضْرَمي فقتلوه ،ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من
رجلن ،وبقي بقيّتُهم ،فلقوا ابن ال َ
شهْرِ
جمَادى .فقال المشركون للمسلمين :قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل ال { :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
ُ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الية.
وقال السدي ،عن أبي مالك ،وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مُرّة ،عن ابن مسعود :
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أن رسول ال صلى ال عليه
{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
عمّار بن ياسر ،
وسلم بعث سَرِيّة ،وكانوا سَ ْبعَة نفر ،عليهم عبد ال بن جَحْش السدي ،وفيهم َ
وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة ،وسعد بن أبي َوقّاص ،وعتبة بن غَزْوان السّلمي -حليف لبني
سهَيل بن بيضاء ،وعامر بن فُهيرة ،وواقد بن عبد ال اليَرْبوعي ،حليف لعمر بن
َنوْفل -و ُ
الخطاب .وكتب لبن جحش كتابًا ،وأمره أل يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل ( )1فلما نزل بطن مَلَل (
)2فتح الكتاب ،فإذا فيه :أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة .فقال لصحابه :مَنْ كان يريد الموت
فَلْيمض ولْيوص ،فإنني مُوص وماض لمر رسول ال صلى ال عليه وسلم .فسار ،فتخلف عنه
سعد بن أبي وقّاص ،وعتبة ،وأضل راحلة لهما فَأتيا ُبحْران ( )3يطلبانها ،وسار ابنُ جحش
إلى بطن نخلة ،فإذا هو بالحكم بن كيسان ،والمغيرة بن عثمان ،وعمرو بن الحضرمي ،وعبد
ال بن المغيرة .وانفلت [ابن] ( )4المغيرة [ ،فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة] ( )5وقُتِل
عمْرو ،قتله واقد بن عبد ال .فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم.
َ
فلما رجعوا إلى المدينة بالسيرين ( )6وما أصابوا المال ،أراد أهل مكة أن يفادوا السيرين ،
فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :حتى ننظر ما فعل صاحبانا" فلما رجع سعد وصاحبه ،فادى
بالسيرين ،ففجر عليه المشركون وقالوا :إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة ال ،وهو أول من
استحل الشهر الحرام ،وقتل صاحبنا في رجب .فقال المسلمون :إنما قتلناه في جمادى -وقيل :
في أول رجب ،وآخر ليلة من جمادى -وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب .فأنزل
شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ل يحل ،وما
ال ُيعَيّر أهل مكة { :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ،حين كفرتم بال ،وصدَدْتم عنه
محمدًا صلى ال عليه وسلم وأصحابَه ،وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه ،حين أخرجوا محمدًا
صلى ال عليه وسلم أكبر من القتل عند ال.
شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
أنّ المشركين صَدّوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وَرَدوه عن المسجد [الحرام] ( )7في شهر
حرام ،ففتح ال على نبيه في شهر حَرَام من العام المقبل .فعاب المشركون على رسول ال صلى
سجِدِ الْحَرَامِ
ال عليه وسلم القتالَ في شهر حرام .فقال ال َ { :وصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ
عمْرو
وَإِخْرَاجُ َأهْلِهِ مِنْهُ َأكْبَرُ } من القتال فيه .وأنّ محمدًا صلى ال عليه وسلم بعث سرية فلقوا َ
بن الحضرمي ،وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ،وأوّل ليلة من
__________
( )1في جـ " :مالك".
( )2في جـ " :مالك".
( )3في أ ،و " :يجوبان".
( )4زيادة من أ.
( )5زيادة من أ.
( )6في جـ ،ط ،أ ،و " :بأسيرين".
( )7زيادة من أ.
( )1/574
رجب .وأنّ أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ،وكانت
أول رجب ولم يشعروا ،فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه .وأنّ المشركين أرسلوا يعيرونه
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وغير ذلك أكبر منه :
بذلك .فقال ال { :يَسَْألُو َنكَ عَنِ ال ّ
صَدّ عن سبيل ال ،وكفر به والمسجد الحرام ،وإخراجُ أهله منه ( ، )1إخراج أهل المسجد
الحرام أكبر من الذي أصابَ أصحابُ محمد صلى ال عليه وسلم ،والشرك أشد منه.
وهكذا روى أبو سَعد ( )2البقّال ،عن عكرمة ،عن ابن عباس أنها أنزلت ( )3في سَريّة عبد ال
بن جحش ،وقتْل عمرو بن الحضرمي.
وقال محمد بن إسحاق :حدثني محمد بن السائب الكلبي ،عن أبي صالح ،عن ابن عباس قال :
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى
عمْرو بن الحضرمي َ { :يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
نزل فيما كان من مصاب َ
آخر الية.
وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ،عن زياد بن عبد ال البكائي ،عن محمد بن إسحاق بن
يسار المدني ،رحمه ال ،في كتاب السيرة له ،أنّه قال :وبعث -يعني رسول ال صلى ال
عليه وسلم -عبد ال بن جَحش بن رئاب السدي في رجب َ ،مقْفَله من بدر الولى ،وبعث معه
ثمانية رهط من المهاجرين ،ليس فيهم من النصار أحد ،وكتب له كتابًا ،وأمره أل ينظر فيه
حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ،فيمضي لما أمره به ،ول َيسْتكره من أصحابه أحدًا .وكان
أصحاب عبد ال بن جحش من المهاجرين .ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف :أبو حذيفة بن
عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ،ومن حلفائهم :عبد ال بن جحش ،وهو أمير القوم
عكّاشة بن محْصن بن حُرْثان ،أحد بني أسد ابن خزيمة ،حليف لهم .ومن بني نَوفل بن عبد
،وُ
مناف :عتبة بن غَ ْزوَان بن جابر ،حليف لهم .ومن بني زُهرة بن كلب :سعد بن أبي وقاص.
ومن بني عدي بن كعب :عامر بن ربيعة ،حليف لهم من عَنز بن وائل ،وواقد بن عبد ال بن
عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع ،أحد بني تميم ،حليف لهم .وخالد بن ال ُبكَير أحد بني
سهَيل بن بيضاء.
سعد بن ليث ،حليف لهم .ومن بني الحارث بن ِفهْر ُ :
فلما سار عبد ال بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه " :إذا نظرت في كتابي هذا
فامض حتى تنزل نخلة ،بين مكة والطائف ،ترصد بها قريشًا ،وتعلم لنا من أخبارهم" .فلما
نظر عبد ال بن جحش في الكتاب قال :سمعًا وطاعة .ثم قال لصحابه :قد أمرني رسول ال
صلى ال عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ،أرصد بها قريشًا ،حتى آتيه منهم بخبر ،وقد نهاني
أن أستكره أحدًا منكم .فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق ،ومن كره ذلك
فليرجع ،فأما أنا فماض لمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فمضى ومضى معه أصحابه لم
يتخلف عنه منهم أحد.
فسلك على الحجاز ،حتى إذا كان ِب َمعْدن ،فوق الفُرْع ،يقال له ُ :بحْران ( )4أضلّ سعد بن
__________
( )1في جـ " :منه أكبر عند ال".
( )2في ط " :أبو سعيد".
( )3في جـ ،أ " :أنها نزلت".
( )4في جـ " :نجران".
( )1/575
أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما ،كانا َيعْتقبانه ،فتخلفا عليه في طلبه ،ومضى عبد ال
بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ،فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من
تجارة قريش ،فيها :عمرو بن الحضرمي ،وعثمان بن عبد ال بن المغيرة ،وأخوه نوفل بن
عبد ال المخزوميان ،والحكم بن كَيسان ،مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم ،فأشرف لهم عكاشة بن محصن ،وكان قد حلق
عمّار ،ل بأس عليكم منهم .وتشاور القوم فيهم ،وذلك في آخر
رأسه ،فلما رأوه أمنُوا وقالوا ُ :
يوم من رجب ،فقال القوم :وال لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم ،فليمتنعنّ منكم به ،
ولئن قتلتموهم لتقْتُلنّهم في الشهر الحرام .فتردد القوم ،وهابوا القدام عليهم ،ثم شجعوا أنفسهم
عليهم ،وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم ،وأخْذ ما معهم .فرمى واقدُ بن عبد ال التميمي
( )1عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله ،واستأسر عثمانَ بن عبد ال والحكم بن كيسان ،وأفلت
القوم نوفلُ بن عبد ال فأعجزهم .وأقبل عبد ال بن جحش وأصحابه بالعير والسيرين ،حتى
قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة.
قال ابن إسحاق :وقد ذكر بعض آل عبد ال بن جحش :أن عبد ال قال لصحابه :إن لرسول
ال صلى ال عليه وسلم مما غنمنا الخمس ،وذلك قبل أن َيفْرض ال الخمس من المغانم ،فعزل
لرسول ال صلى ال عليه وسلم خمس العير ،وقسم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق :فلما قدموا على رسول ال قال " :ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" .فوقّف
العير والسيرين ،وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا ،فلما قال ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم
أسقط في أيدي القوم ،وظنوا أنهم قد هلكوا ،وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا .وقالت
قريش :قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام ،وسفكوا فيه ( )2الدم ،وأخذوا فيه الموال ،
وأسروا فيه الرجال .فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة :إنما أصابوا ما أصابوا في
شعبان.
وقالت :يهودُ َتفَاءلُ بذلك على رسول ال صلى ال عليه وسلم :عمرو بن الحضرمي قتله واقد
بن عبد ال :عمرو :عمرت الحرب ،والحضرمي :حضرت الحرب ،وواقد بن عبد ال :
وقدت الحرب .فجعل ال عليهم ذلك ل لهم.
شهْرِ
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل ال على رسوله صلى ال عليه وسلم َ { :يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
جدِ ا ْلحَرَا ِم وَِإخْرَاجُ أَهِْلهِ مِنْهُ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َو ُكفْرٌ ِب ِه وَا ْلمَسْ ِ
َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } أي :إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل
ال مع الكفر به ،وعن المسجد الحرام ،وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند ال من قتل من قتلتم
( )3منهم { ،وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } أي :قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ،حتى يردوه إلى
الكفر بعد إيمانه ( )4فذلك أكبر عند ال من القتل :
__________
( )1في أ " :السهمي".
( )2في جـ " :فيها".
( )3في جـ " :من قتل".
( )4في أ " :يفتنون المسلمين في دينهم حتى يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم".
( )1/576
{ وَل يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَرُدّوكُمْ عَنْ دِي ِنكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } أي :ثم هم مقيمون على أخبث
ذلك وأعظمه ،غير تائبين ول نازعين.
قال ابن إسحاق :فلما نزل القرآن بهذا من المر ،وفرج ال عن المسلمين ما كانوا فيه من
شفَق قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم العير والسيرين ،وبعثت إليه قريش في فداء عثمان
ال ّ
بن عبد ال ،والحكم بن كيسان ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :ل ُنفْديكموهما حتى يقدم
صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غَزْوان -فإنا نخشاكم عليهما ،فإن تقتلوهما
نقتل صاحبيكم .فقدم سعد وعتبة ،فأفداهما رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلمه ،وأقام عند رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى قتل
يوم بئر معونة شهيدًا .وأما عثمان بن عبد ال فلحق بمكة ،فمات بها كافرًا.
قال ابن إسحاق :فلما تجلى عن عبد ال بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ،
طَمعُوا في الجر ،فقالوا :يا رسول ال ،أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطَى فيها أجر المجاهدين
[المهاجرين] ( )1؟ فأنزل ال عز وجل { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ
غفُورٌ َرحِيمٌ } فوضعهم ال من ذلك على أعظم الرجاء.
ح َمةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ
أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ رَ ْ
قال ابن إسحاق :والحديث في هذا عن الزهري ،ويزيد بن رُومان ،عن عروة.
وقد روى يونس بن ُبكَيْر ،عن محمد بن إسحاق ،عن يزيد بن رومان ،عن عروة بن الزبير
قريبًا من هذا السياق .وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه ،نحو ذلك.
وروى شعيب بن أبي حَمزة ،عن الزهري ،عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضًا ،وفيه :
فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ،فركب وفد من كفار قريش حتى
ل القتالُ في الشهر الحرام ؟ فأنزل
قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم بالمدينة فقالوا :أيح ّ
شهْرِ ا ْلحَرَامِ [قِتَالٍ فِيهِ] ( } )2الية .وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر
ال َ { :يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
البيهقي في كتاب "دلئل النبوة".
ثم قال ابن هشام عن زياد ،عن ابن إسحاق :وقد ذكر عن بعض آل عبد ال [بن جحش] ( )3أن
ال قسم الفيء حين أحلّه ،فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه ،وخمسًا إلى ال ورسوله .فوقع على
ما كان عبد ال بن جحش صنع في تلك العير (.)4
قال ابن هشام :وهي أول غنيمة غنمها المسلمون .وعمرو بن الحضرمي أول من قتل
المسلمون ،وعثمان بن عبد ال ،والحكم بن كَيْسان أول من أسر المسلمون (.)5
قال ابن إسحاق :فقال أبو بكر الصديق ،رضي ال عنه ،في غزوة عبد ال بن جحش ،ويقال :
بل عبد ال بن جحش قالها ،حين قالت قريش :قد أحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ،فسفكوا
فيه
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2زيادة من جـ ،ط.
( )3زيادة من أ.
( )4السيرة النبوية لبن هشام (.)1/605
( )5السيرة النبوية لبن هشام (.)1/605
( )1/577
الدم ،وأخذوا فيه المال ،وأسروا فيه الرجال .قال ابن هشام :هي لعبد ال بن جحش :
َتعُدّون قَتْل في الحرام عظيمةً ...وأعظم منه لو يَرى الرشد راشد...
صدودُك ُم عما يقول محمد ...وكفر به وال راءٍ وشاهدُ...
وإخراجُكمْ من مسجد ال أهلَه ...لئل يُرَى ل في البيت ساجدُ...
فإنّا وإن عَيّرْتمونا بقتله ...وأرجف بالسلم باغٍ وحاسدُ...
سقَيَنْا من ابن الحضرميّ رماحَنَا ...بنخلةَ لمّا أوقَدَ الحربَ واقدُ...
َ
غلّ من القدّ عاندُ...
دما وابنُ عبد ال عثمانُ بيننا ...ينازعه ُ
س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْف ِع ِهمَا وَيَسْأَلُو َنكَ
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ
مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ اليَاتِ َلعَّل ُكمْ تَ َت َفكّرُونَ (} )219
( )1/578
( )1/578
( )1/579
وكذا روي عن ابن عمر ،ومجاهد ،وعطاء ،وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،ومحمد بن كعب ،
والحسن ،وقتادة ،والقاسم ،وسالم ،وعطاء الخراساني ،والربيع بن أنس ،وغير واحد :أنهم
قالوا في قوله ُ { :قلِ ا ْل َع ْفوَ } يعني الفضل.
وعن طاوس :اليسير من كل شيء ،وعن الربيع أيضًا :أفضل مالك ،وأطيبه.
والكل يرجع إلى الفضل.
وقال عبد بن حميد في تفسيره :حدثنا هوذة بن خليفة ،عن عوف ،عن الحسن { :وَيَسَْألُو َنكَ
مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ } قال :ذلك أل تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس.
ويدل على ذلك ما رواه ابنُ جرير :حدثنا علي بن مسلم ،حدثنا أبو عاصم ،عن ابن عَجْلن ،
عن ال َمقْبُريّ ،عن أبي هريرة قال :قال رجل :يا رسول ال ،عندي دينار ؟ قال " :أنفقه على
نفسك" .قال :عندي آخر ؟ قال " :أنفقه على أهلك" .قال :عندي آخر ؟ قال " :أنفقه على ولدك".
قال :عندي آخر ؟ قال " :فأنت أبصَرُ".
وقد رواه مسلم في صحيحه ( .)1وأخرج مسلم أيضًا عن جابر :أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال لرجل " :ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ،فإن َفضَل شيء فلهلك ،فإن فضل شيء عن
أهلك فلذي قرابتك ،فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" (.)2
وعنده عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :خير
ظهْر غنى ،واليد العليا خير من اليد السفلى ،وابدأ بمن تعول" (.)3
الصدقة ما كان عن َ
وفي الحديث أيضًا " :ابن آدم ،إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك ،وإن تمسكه شر لك ،ول تُلم على
َكفَافٍ" (.)4
ثم قد قيل :إنها منسوخة بآية الزكاة ،كما رواه علي بن أبي طلحة ،والعوفي عن ابن عباس ،
وقاله عطاء الخراساني والسدي ،وقيل :مبينة بآية الزكاة ،قاله مجاهد وغيره ،وهو أوجه.
وقوله { :كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ * فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ } أي :كما فصّل لكم
هذه الحكام وبينَها وأوضحها ،كذلك يبين لكم سائر اليات في أحكامه ووعده ،ووعيده ،لعلكم
تتفكرون في الدنيا والخرة.
__________
( )1تفسير الطبري ( ، )4/340وأما قول الحافظ بأنه في صحيح مسلم ،فقد قال الشيخ أحمد
شاكر -رحمه ال " : -وهم -رحمه ال -فإن الحديث ليس في صحيح مسلم على اليقين بعد
طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود" .قلت :لم يذكره المزي في تحفة الشراف معزوا لمسلم
،وإنما عزاه لبي داود وغيره.
( )2صحيح مسلم برقم (.)997
( )3هو في صحيح البخاري برقم ( )1428من حديث أبي هريرة رضي ال عنه ،وهو في
صحيح مسلم برقم ( )1034من حديث حكيم بن حزام رضي ال عنه.
( )4رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1036من حديث أبي أمامة رضي ال عنه.
( )1/580
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :يعني في زوال الدنيا وفنائها ،وإقبال الخرة وبقائها.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنَافسي ،حدثنا أبو أسامة ،عن الصعّق
العيشي ( )1قال :شهدت الحسن -وقرأ هذه الية من البقرة َ { :لعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ * فِي الدّنْيَا
وَالخِ َرةِ } قال :هي وال لمن تفكر فيها ،ليعلم أن الدنيا دار بلء ،ثم دار فناء ،وليعلم أن
الخرة دار جزاء ،ثم دار بقاء.
وهكذا قال قتادة ،وابن جُرَيْج ،وغيرهما.
وقال عبد الرزاق عن َم ْعمَر ،عن قتادة :لتعلموا فضل الخرة على الدنيا .وفي رواية عن قتادة
:فآثرُوا الخرة على الولى.
ض وَاخْتِلفِ
ت وَالرْ ِ
سمَاوَا ِ
[وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران { :إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ
ت لولِي اللْبَابِ } [آل عمران ]190 :آثارًا كثيرة عن السلف في معنى التفكر
ل وَال ّنهَارِ ليَا ٍ
اللّ ْي ِ
والعتبار] (.)2
خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ ا ْل ُمفْسِدَ
وقوله { :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ تُخَاِلطُوهُمْ فَِإ ْ
ح وََلوْ شَاءَ اللّهُ لعْنَ َتكُمْ } الية :قال ابن جرير :
مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ
حدثنا سفيان بن َوكِيع ،حدثنا جرير ،عن عطاء بن السائب ،عن سعيد بن جُبَير ،عن ابن
عباس قال :لما نزلت { :وَل َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِل بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ } [السراء ]34 :و { إِنّ
سعِيرًا } [النساء ]10 :
الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُ ْلمًا إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ نَارًا وَسَ َيصَْلوْنَ َ
انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ،وشرابه من شرابه ،فجعل يفضُل له الشيء
من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ،فاشتد ذلك عليهم ،فذكروا ذلك لرسول ال صلى ال
خوَا ُنكُمْ }
عليه وسلم ،فأنزل ال { :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِ ْ
فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم (.)3
وهكذا رواه أبو داود ،والنسائي ،وابن أبي حاتم ،وابن مَرْدويه ،والحاكم في مستدركه من
طرق ،عن عطاء بن السائب ،به ( .)4وكذا رواه علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس .وكذا
رواه السدي ،عن أبي مالك وعن أبي صالح ،عن ابن عباس -وعن مرة ،عن ابن مسعود -
بمثله .وهكذا ذكر ( )5غير واحد في سبب نزول هذه الية كمجاهد ،وعطاء ،والشعبي ،وابن
أبي ليلى ،وقتادة ،وغير واحد من السلف والخلف.
قال َوكِيع بن الجراح :حدثنا هشام الدّسْتَوائي ( )6عن حماد ،عن إبراهيم قال :قالت عائشة :
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :التميمي".
( )2زيادة من جـ.
( )3تفسير الطبري (.)4/350
( )4سنن أبي داود برقم ( )2871وسنن النسائي ( )6/256والمستدرك (.)2/278
( )5في جـ " :وهكذا رواه".
( )6في جـ " :حدثنا صاحب الدستوائي" ،وفي أ " :حدثنا هشام صاحب الدستوائي".
( )1/581
ن وَلََأمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ ُمشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْتكُ ْم وَلَا تُ ْن ِكحُوا
وَلَا تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ
ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ
ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ
يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آَيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ ()221
إني لكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة ( )1حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
خوَا ُنكُمْ } أي :وإن خلطتم
فقوله ُ { :قلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْرٌ } أي :على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِ ْ
طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ،فل بأس عليكم ؛ لنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال :
{ وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِ } أي :يعلم مَنْ َقصْدُه ونيته الفسادَ أو الصلح.
حكِيمٌ } أي :ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم ()2
وقوله { :وََلوْ شَاءَ اللّهُ لعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
ولكنه وَسّع عليكم ،وخفّف عنكم ،وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ،كما قال { :وَل َتقْرَبُوا
حسَنُ } [النعام ، ، ]152 :بل قد جوز الكل منه للفقير بالمعروف ،إما
مَالَ الْيَتِيمِ إِل بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
بشرط ضمان البدل لمن أيسر ،أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ،إن شاء ال ،وبه
الثقة.
عجَبَ ْتكُ ْم وَل تُ ْن ِكحُوا
ن وَلمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَ ْ
{ وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ
ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ
ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ
يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ (} )221
هذا تحريم من ال ع ّز وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الوثان .ثم إن كان
عمومُها مرادًا ،وأنّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ،فقد خَص من ذلك نساء أهل
حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ إِذَا
ت وَا ْلمُ ْ
حصَنَاتُ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنَا ِ
الكتاب بقوله { :وَا ْلمُ ْ
حصِنِينَ غَيْرَ مُسَا ِفحِينَ [وَل مُتّخِذِي َأخْدَانٍ] ([ } )3المائدة .]5 :
آتَيْ ُتمُوهُنّ ُأجُورَهُنّ مُ ْ
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله { :وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ } استثنى
ال من ذلك نساء أهل الكتاب .وهكذا قال مجاهد ،وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،ومكحول ،
والحسن ،والضحاك ،وزيد بن أسلم ،والربيع بن أنس ،وغيرهم.
وقيل :بل المراد بذلك المشركون ( )4من عبدة الوثان ،ولم يُردْ أهل الكتاب بالكلية ،والمعنى
قريب من الول ،وال أعلم.
فأما ما رواه ابن جرير :حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلني ،حدثنا أبي ،حدثنا عبد
حوْشَب قال :سمعت عبد ال بن عباس يقول :نهى
شهْر بن َ
الحميد بن َبهْرَام الفزاري ،حدثنا َ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن أصناف النساء ،إل ما كان من المؤمنات المهاجرات ،وحرّم
عمَلُهُ } [المائدة :
كل ذات دين غير السلم ،قال ال عز وجل َ { :ومَنْ َي ْكفُرْ بِاليمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ
.]5وقد نكح طلحة بن عُبَيد ال يهودية ،ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ،فغضب عمر بن
الخطاب غضبًا شديدًا ،حتى هَمّ أن يسطو عليهما .فقال نحن نطَلق يا أمير المؤمنين ،ول
صغَرَة قَمأة ( - )5فهو
حلّ طلقهن لقد حل نكاحهن ،ولكني أنتزعهن منكم َ
تغضب! فقال :لئن َ
حديث غريب جدًا .وهذا الثر عن عمر غريب أيضًا.
__________
( )1في جـ " :عندي حدة".
( )2في أ ،و " :وأخرجكم".
( )3زيادة من جـ.
( )4في أ ،و " :المشركين".
( )5تفسير الطبري (.)4/364
( )1/582
قال أبو جعفر بن جرير ،رحمه ال ،بعد حكايته الجماع على إباحة تزويج الكتابيات :وإنما
كره عمر ذلك ،لئل يزهد الناس في المسلمات ،أو لغير ذلك من المعاني ،كما حدثنا أبو
كُرَيْب ،حدثنا ابن إدريس ،حدثنا الصلت بن بهرام ،عن شقيق قال :تزوج حذيفة يهودية ،
فكتب إليه عمر :خَل سبيلها ،فكتب إليه :أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها ؟ فقال :ل أزعم أنها
حرام ،ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن (.)1
وهذا إسناد صحيح ،وروى الخلل عن محمد بن إسماعيل ،عن َوكِيع ،عن الصلت ( )2نحوه.
وقال ابن جرير :حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ،حدثنا محمد بن بشر ،حدثنا سفيان
( )3بن سعيد ،عن يزيد بن أبي زياد ،عن زيد بن وهب قال :قال [لي] ( )4عمر بن الخطاب :
المسلم يتزوج النصرانية ،ول يتزوج النصراني المسلمة.
قال :وهذا أصح إسنادًا من الول (.)6( )5
ثم قال :وقد حدثنا تميم بن المنتصر ،أخبرنا إسحاق الزرق ( )7عن شريك ،عن أشعث بن
سوار ،عن الحسن ،عن جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :نتزوج
نساء أهل الكتاب ول يتزوجون نساءنا".
ثم قال :وهذا الخبر -وإن كان في إسناده ما فيه -فالقول به لجماع الجميع من المة على
صحة القول ( )8به (.)9
كذا قال ابن جرير ،رحمه ال.
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن إسماعيل الحمسي ،حدثنا َوكِيع ،عن جعفر بن بُرْقان ،
عن ميمون بن ِمهْران ،عن ابن عمر :أنه كره نكاح أهل الكتاب ،وتأول ( { )10وَل تَ ْنكِحُوا
ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ }
وقال البخاري :وقال ابن عمر :ل أعلم شركًا أعظم من أن تقول :ربها ( )11عيسى (.)12
وقال أبو بكر الخلل الحنبلي :حدثنا محمد بن هارون ( )13حدثنا إسحاق بن إبراهيم(ح)
وأخبرني محمد بن علي ،حدثنا صالح بن أحمد :أنهما سأل أبا عبد ال أحمد بن حنبل ،عن
قول
__________
( )1تفسير الطبري (.)4/366
( )2في جـ " :عن الفضل".
( )3في أ " :شقيق".
( )4زيادة من جـ.
( )5في جـ " :وهذا إسناد أصح من الول".
( )6تفسير الطبري (.)4/367
( )7في أ " :وقد حدثنا تميم بن المنتصر ،أخبرنا عثمان بن المنتصر ،أخبرنا إسحاق الزرق".
( )8في جـ ،أ ،و " :الجميع من المة عليه".
( )9تفسير الطبري (.)4/367
( )10في جـ " :ول يتأول".
( )11في أ " :ربنا".
( )12صحيح البخاري برقم ( )5285وهو هنا موصول عن ابن عمر.
( )13في أ ،و " :محمد بن أبي هارون".
( )1/583
طهُرْنَ فَإِذَا
ض وَلَا َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ
وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ
طهّرِينَ ( )222نِسَا ُؤكُمْ
حبّ ا ْلمُ َت َ
ن وَيُ ِ
حبّ ال ّتوّابِي َ
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ يُ ِ
تَ َ
سكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلَاقُو ُه وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (
حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ
)223
ال { :وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ } قال :مشركات العرب الذين يعبدون الوثان (.)1
عجَبَ ْتكُمْ } قال السدي :نزلت في عبد ال بن رواحة
وقوله { :وَلمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر َك ٍة وََلوْ أَ ْ
،كانت له أمة سوداء ،فغضب عليها فلطمها ،ثم فزع ،فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
فأخبره خبرها .فقال له " :ما هي ؟" قال :تصوم ،وتصلي ،وتحسن الوضوءَ ،وتشهد أن ل إله
إل ال وأنك رسول ال .فقال " :يا أبا عبد ال ،هذه مؤمنة" .فقال :والذي بعثك بالحق لعتقَنّها
ولتزوجَنها ( .)2ففعل ،فطعن عليه ناس من المسلمين ،وقالوا :نكح أمَة .وكانوا يريدون أن
ينكحوا إلى المشركين ،ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم ،فأنزل ال { :وَلمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
عجَ َبكُمْ }
ك وََلوْ أَ ْ
مُشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ } { وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ
وقال عبد بن حميد :حدثنا جعفر بن عون ،حدثنا عبد الرحمن بن زياد الفريقي ،عن عبد ال
عمْرو ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ل تنكحوا النساء
بن يزيد ،عن عبد ال بن َ
لحسنهن ،فعسى حسنهن أن يرديهن ،ول تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ()3
وانكحوهن على الدين ،فلمة سوداء خَرْماء ذات دين أفضل" ( .)4والفريقي ضعيف.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :تنكح المرأة
لربع :لمالها ،ولحسبها ولجمالها ،ولدينها ؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك" ( .)5ولمسلم عن
جابر مثله ( .)6وله ،عن ابن عمر :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :الدنيا متاع ،
وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (.)7
وقوله { :وَل تُ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا } أي :ل تُ َزوّجوا الرجال المشركين النساء
حلّ َلهُ ْم وَل هُمْ َيحِلّونَ َلهُنّ } [الممتحنة .]10 :
المؤمنات ،كما قال تعالى { :ل هُنّ ِ
ك وََلوْ أَعْجَ َبكُمْ } أي :ولرجل مؤمن -ولو كان عبدًا
ثم قال تعالى { :وََلعَبْدٌ ُمؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ
حبشيًا -خير من مشرك ،وإن كان رئيسًا سَرِيًا ( { )8أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ } أي :معاشَرتهم
ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الخرة ،وعاقبة ذلك وخيمة
{ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِهِ } أي :بشرعه وما أمر به وما نهى عنه { وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ
لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ }
طهُرْنَ
ض وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ
{ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َمحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ
طهّرِينَ ( )222نِسَا ُؤكُمْ
حبّ ا ْلمُتَ َ
حبّ ال ّتوّابِينَ وَيُ ِ
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ ُي ِ
فَإِذَا َت َ
سكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلقُو ُه وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (
حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُوا لنْفُ ِ
} )223
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :الصنام".
( )2في أ " :لعتقها ولتزوجنها".
( )3في جـ " :أن يطغيهن".
( )4المنتخب لعبد بن حميد برقم (.)328
( )5صحيح البخاري برقم ( )5090وصحيح مسلم برقم (.)1466
( )6صحيح مسلم برقم (.)715
( )7صحيح مسلم برقم (.)1457
( )8في جـ " :شريفا".
( )1/584
قال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن ثابت ،عن أنس :
أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم ُيؤَاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ،فسأل أصحابُ
النبي [النبيّ] ( )1صلى ال عليه وسلم فأنزل ال عز وجل { :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ
طهّرْنَ } حتى فرغ من الية.
طهُرْنَ فَإِذَا تَ َ
ض وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ
أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اصنعوا كل شيء إل النكاح" .فبلغ ذلك اليهود ،فقالوا :
حضَير وعبّاد بن بشر
ما يريد هذا الرجل أن يَدع من أمرنا شيئًا إل خالفنا فيه! فجاء أسيد بن ُ
فقال يا رسول ال ،إن اليهود قالت كذا وكذا ،أفل نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول ال صلى ال
جدَ عليهما ،فخرجا ،فاستقبلتهما ( )3هدية من لبن إلى رسول
عليه وسلم حتى ظننا أن ( )2قد وَ َ
( )4ال صلى ال عليه وسلم ،فأرسل في آثارهما ،فسقاهما ،فعرفا أن لم يَجدْ عليهما.
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة (.)5
فقوله { :فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِيضِ } يعني [في] ( )6الفَرْج ،لقوله " :اصنعوا كل شيء إل
النكاح" ( )7؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا
الفرج.
قال أبو داود :حدثنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا حماد ،عن أيوب ،عن عكرمة ،عن بعض
أزواج النبي صلى ال عليه وسلم أنّ النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا ،
ألقى على فرجها ثوبًا (.)8
وقال أبو داود أيضًا :حدثنا ال َقعْنَ ِبيّ ،حدثنا عبد ال -يعني ابن عمر بن غانم -عن عبد
الرحمن -يعني ابن زياد -عن عمارة بن غُرَاب :أن عمّة له حدثته :أنها سألت عائشة قالت :
إحدانا تحيض ،وليس لها ولزوجها فراش إل فراش واحد ؟ قالت :أخبرك بما صنع رسول ال
صلى ال عليه وسلم :دخل فمضى إلى مسجده -قال أبو داود :تعني مسجد بيتها -فما
انصرف حتى غلبتني عيني ،وأوجعه البرد ،فقال " :ادني مني" .فقلت :إني حائض .فقال :
"اكشفي عن فخذيك" .فكشفت فخذي ،فوضع خدّه وصدره على فخذي ،وحنَيت ( )9عليه حتى
دفئ ونام صلى ال عليه وسلم (.)10
وقال :أبو جعفر بن جرير :حدثنا ابن بشار ،حدثنا عبد الوهاب ،حدثنا أيوب عن كتاب أبي
قلبة :أن مسروقًا ركب إلى عائشة ،فقال :السلم على النبي وعلى أهله ( .)11فقالت عائشة :
أبو ()12
__________
( )1زيادة من أ ،و.
( )2في جـ " :أنه".
( )3في أ ،و " :فاستقبلهما".
( )4في جـ " :من لبن لرسول".
( )5المسند ( )3/132وصحيح مسلم برقم (.)302
( )6زيادة من أ.
( )7في جـ ،أ ،و " :إل الجماع".
( )8سنن أبي داود برقم ()272
( )9في أ " :وحننت".
( )10سنن أبي داود برقم (.)270
( )11في جـ " :الصلة على النبي وعلى آله".
( )12في أ " :ابن".
( )1/585
عائشة! مرحبًا مرحبًا .فأذنوا له فدخل ،فقال :إني أريد أن أسألك ( )1عن شيء ،وأنا أستحي.
فقالت :إنما أنا أمّك ،وأنت ابني .فقال :ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت :له كل
شيء إل فرجها (.)2
جوْشن ،
ورواه أيضًا عن حميد بن مسعدة ،عن يزيد بن زريع ،عن عيينة بن عبد الرحمن بن َ
عن مروان الصفر ،عن مسروق قال :قلت لعائشة :ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت
حائضًا ؟ قالت :كل شيء إل الجماع.
وهذا قول ابن عباس ،ومجاهد ،والحسن ،وعكرمة.
وروى ابن جرير أيضًا ،عن أبي كُرَيْب ،عن ابن أبي زائدة ،عن حجاج ،عن ميمون بن
ِمهْران ،عن عائشة قالت :له ما فوق الزار.
قلت :وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بل خلف .قالت عائشة :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم
يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ،وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ،فيقرأ القرآن ( .)3وفي
الصحيح عنها قالت :كنت أتعرّق العَرْق وأنا حائض ،فأعطيه النبي صلى ال عليه وسلم ،
فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ،وأشرب الشراب فأناوله ،فيضع فمه في
الموضع الذي كنت أشرب (.)4
سدّد ،حدثنا يحيى ،عن جابر بن صُبْح ( )5سمعت خلسًا الهَجَري قال
وقال أبو داود :حدثنا مُ َ
:سمعت عائشة تقول :كنت أنا ورسول ال صلى ال عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ،وإني
حائض طامث ،فإن أصابه مني شيء ،غسل مكانه لم َيعْدُه ،وإن أصاب -يعني ثوبه -شيء
غسل مكانه لم َيعْدُه ،وصلى فيه (.)6
فأما ما رواه أبو داود :حدثنا سعيد بن عبد الجبار ،حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد -عن
ضتُ نزلت عن المثَال على
أبي اليمان ،عن أم ذرة ،عن عائشة :أنها قالت :كنتُ إذا ح ْ
الحصير ،فلم نقرب رسول ال صلى ال عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر ( - )7فهو محمول
( )8على التنزه والحتياط.
وقال آخرون :إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الزار ،كما ثبت في الصحيحين ،عن
ميمونة بنت الحارث الهللية قالت :كان النبي ( )9صلى ال عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة
من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض ( .)10وهذا لفظ البخاري .ولهما عن عائشة نحوه (.)11
وروى المام أحمد ،وأبو داود ،والترمذي ،وابن ماجة من حديث العلء بن الحارث ،عن
حزام
__________
( )1في أ " :إني سائلك".
( )2تفسير الطبري (.)4/378
( )3رواه مسلم في صحيحه برقم (.)297
( )4صحيح مسلم برقم (.)300
( )5في جـ ،أ ،و " :صبيح".
( )6سنن أبي داود برقم (.)269
( )7سنن أبي داود برقم (.)271
( )8في جـ " :فمحمول".
( )9في جـ " :كان رسول ال".
( )10صحيح البخاري برقم ( )303وصحيح مسلم برقم (.)294
( )11صحيح البخاري برقم ( )300وصحيح مسلم برقم (.)293
( )1/586
بن حكيم ،عن عمه عبد ال بن سعد النصاري :أنه سأل رسولَ ال صلى ال عليه وسلم :ما
يَحِل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال " :ما ( )1فوق الزار" (.)2
ولبي داود أيضًا ،عن معاذ بن جبل قال :سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عما يحل لي
من امرأتي وهي حائض ( .)3قال " :ما فوق الزار والتعفف عن ذلك أفضل" .وهو رواية عن
عائشة -كما تقدم -وابن عباس ،وسعيد بن المسيب ،وشريح.
فهذه الحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الزار منها ،وهو أحد القولين في
مذهب الشافعي رحمه ال ،الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم .ومأخذهم ( )4أنه حريم
الفرج ،فهو حرام ،لئل يتوصل إلى تعاطي ما حرم ال عز وجل ،الذي أجمع العلماء على
تحريمه ،وهو المباشرة في الفرج .ثم من فعل ذلك فقد أثم ،فيستغفر ال ويتوب إليه .وهل يلزمه
مع ذلك كفارة أم ل ؟ فيه قولن :
أحدهما :نعم ،لما رواه المام أحمد ،وأهل السنن ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض " :يتصدق بدينار ،أو نصف دينار" ( .)5وفي لفظ
للترمذي " :إذا كان دمًا أحمر فدينار ،وإن كان دمًا أصفر فنصف دينار" .وللمام أحمد أيضًا ،
عنه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ،دينارًا فإن أصابها وقد أدبر
الدم عنها ولم تغتسل ،فنصف دينار.
والقول الثاني :وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ،وقول الجمهور :أنه ل شيء في
ذلك ،بل يستغفر ال عز وجل ،لنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ،فإنه [قد] ( )6روي
مرفوعًا كما تقدم وموقوفًا ،وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ،فقوله تعالى { :وَل
طهُرْنَ } تفسير لقوله { :فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِيضِ } ونهي عن قربانهن
َتقْرَبُوهُنّ حَتّى يَ ْ
بالجماع ما دام الحيض موجودًا ،ومفهومه حله إذا انقطع [ ،وقد قال به طائفة من السلف .قال
القرطبي :وقال مجاهد وعكرمة وطاوس :انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ] (.)7
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد
وقوله { :فَِإذَا تَ َ
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ
الغتسال .وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ،لقوله { :فَِإذَا تَ َ
حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } وليس له في ذلك مستند ،لن هذا أمر بعد الحظر .وفيه أقوال لعلماء الصول
،منهم من يقول :إنه للوجوب كالمطلق .وهؤلء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ،ومنهم من يقول
:إنه للباحة ،ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ،وفيه نظر .والذي
ينهض عليه الدليل أنه يُ َردّ الحكم إلى ما كان عليه المر قبل النهي ،فإن كان واجبًا فواجب ،
كقوله تعالى :
__________
( )1في جـ " :لك ما".
( )2المسند ( )4/342وسنن أبي داود برقم ( )212وسنن الترمذي برقم ( )133وسنن ابن ماجة
برقم (.)651
( )3سنن أبي داود برقم (.)213
( )4في أ ،و " :ومأخذه".
( )5المسند ( )1/230وسنن أبي داود برقم ( )266وسنن الترمذي برقم ( )136وسنن النسائي
الكبرى برقم (.)282
( )6زيادة من جـ.
( )7زيادة من جـ ،أ.
( )1/587
شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ } [التوبة ، ]5 :أو مباحًا فمباح ،كقوله تعالى :
{ فَِإذَا انْسَلَخَ ال ْ
{ وَإِذَا حَلَلْ ُتمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة { ، ]2 :فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّلةُ فَانْ َتشِرُوا فِي ال ْرضِ } [الجمعة :
]10وعلى هذا القول تجتمع الدلة ،وقد حكاه الغزالي وغيره ،واختاره بعض أئمة المتأخرين ،
وهو الصحيح.
وقد اتفق العلماء ( )1على أن المرأة إذا انقطع حيضُها ل تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ،إن (
)2تعذر ذلك عليها بشرطه [ ،إل يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ،فإنه
ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ،ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم
أيضا ،وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم] ( .)3إل أن أبا حنيفة ،
رحمه ال ،يقول ( )4فيما إذا انقطع دمها لكثر الحيض ،وهو عشرة أيام عنده :إنها تحل
بمجرد النقطاع ول تفتقر إلى غسل [ول يصح لقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل
عليها وقت صلة إل أن تكون دمثة ،فيدخل بمجرد انقطاعه] ( )5وال أعلم.
طهّرْنَ } أي :بالماء .وكذا قال مجاهد ،
طهُرْنَ } أي :من الدم { فَإِذَا َت َ
وقال ابن عباس { :حَتّى يَ ْ
وعكرمة ،والحسن ،ومقاتل بن حيان ،والليث بن سعد ،وغيرهم.
وقوله { :مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وغير واحد :يعني الفَرْج ؛ قال علي
بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } يقول في الفرج ول َتعْدوه ()6
إلى غيره ،فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى.
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة { :فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َر ُكمُ اللّهُ } أي :أن تعتزلوهن .وفيه
دللة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ،كما سيأتي تقريره قريبًا.
وقال أبو رَزين ،وعكرمة ،والضحاك وغير واحد { :فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } يعني :
حبّ ال ّتوّابِينَ } أي :من الذنب وإن تكرر (
طاهرات غير حُيّض ،ولهذا قال تعالى { :إِنّ اللّهَ ُي ِ
طهّرِينَ } أي :المتنزهين عن ( )8القذار والذى ،وهو ما نهوا عنه
حبّ ا ْلمُتَ َ
)7غشْيانه { ،وَيُ ِ
من إتيان الحائض ،أو في غير المأتى.
وقوله ِ { :نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ } قال ابن عباس :الحرث موضع الولد { فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ }
أي :كيف شئْتم مقبلة ومدبرة في صِمام واحد ،كما ثبتت بذلك الحاديث.
قال البخاري :حدثنا أبو نُعيم ،حدثنا سفيان عن ابن الم ْنكَدر قال :سَمعت جابرًا قال :كانت
اليهود تقول :إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ،فنزلت { :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ
أَنّى شِئْتُمْ } ورواه داود ( )9من حديث سفيان الثوري به (.)10
__________
( )1في جـ " :جمهور العلماء".
( )2في جـ " :أو".
( )3زيادة من جـ ،أ.
( )4في جـ " :إل أبا حنيفة وصاحبيه فإنهم رحمهم ال يقولون".
( )5زيادة من جـ.
( )6في جـ " :ول تعداه".
( )7في جـ " :وإن تكون".
( )8في جـ ،أ " :من".
( )9في جـ ،أ ،و " :ورواه مسلم وأبو داود".
( )10صحيح البخاري برقم (.)4528
( )1/588
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني مالك بن أنس
وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري :أن محمد بن المنكدر حدثهم :أن ( )1جابر بن عبد ال
أخبره :أن اليهود قالوا للمسلمين :من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ،فأنزل ال عز
وجل ِ { :نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ }
قال ابن جريج في الحديث :فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مقبلة ومدبرة ،إذا كان ذلك
في الفرج".
وفي حديث َبهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري ،عن أبيه ،عن جده أنه قال :يا رسول
ال ،نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال " :حرثك ،ائت حرثك أنى شئت ،غير أل تضربَ
الوجه ،ول تقبح ،ول تهجر إل في المبيت ( .)2الحديث ،رواه أحمد ،وأهل السنن (.)3
حديث آخر :قال ابن أبي حاتم :حدثنا يونس ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني ابن َلهِيعة عن يزيد
ابن أبي حبيب ،عن عامر بن يحيى ،عن حنش بن عبد ال ،عن عبد ال بن عباس قال :أتى
ناس من حمير إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فسألوه عن أشياء ،فقال له رجل :إني
أجبي النساء ،فكيف ترى في ذلك ،فأنزل ال ِ { :نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ } (.)4
حديث آخر :قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه "مشكل الحديث" :حدثنا أحمد بن داود بن
موسى ،حدثنا يعقوب بن كاسب ،حدثنا عبد ال بن نافع ،عن هشام بن سعد ،عن زيد بن أسلم
،عن عطاء بن يسار ،عن أبي سعيد الخدري :أن رجل أصاب امرأة في دبرها ،فأنكر الناس
عليه ذلك ،فأنزل ال ِ { :نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } ورواه ابن جرير عن يونس
وعن يعقوب ،به (.)5
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا وهيب ،حدثنا عبد ال بن عثمان بن خُثَيْم (
)6عن عبد الرحمن بن سابط قال :دخلت على حفصة ابنة ( )7عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت :
إني سائلك عن أمر ،وإنى ( )8أستحيي أن أسألك .قالت :فل تستحي يا ابن أخي .قال :عن
إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت :حدثتني أم سلمة أن النصار كانوا ل يَجُبّون النساء ،وكانت
اليهود تقول :إنه من جَبّى امرأته كان الولد أحول ،فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء
النصار ،فجبّوهُنّ ،فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت :لن تفعل ذلك حتى آتي رسول ال
صلى ال عليه وسلم .فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ،فقالت :اجلسي حتى يأتي رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،فلما جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم استحيت النصارية أن
تسأله ،فخرجت ،فحدثت أم سلمة رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :ادعي النصارية" :
فدُع َيتْ ،فتل عليها هذه الية { " :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َل ُكمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } صمامًا واحدًا".
__________
( )1في جـ " :عن".
( )2في جـ ،أ ،و " :في البيت".
( )3المسند ( )5/3وسنن أبي داود برقم ( )2143وسنن النسائي الكبرى برقم (.)9160
( )4ورواه الطبري في تفسيره ( )4/413والطبراني في المعجم الكبير ( )12/237من طريق ابن
لهيعة به.
( )5مشكل الثار برقم (.)6118
( )6في جـ " :بن خيثم".
( )7في أ " :بنت".
( )8في جـ " :وأنا".
( )1/589
ورواه الترمذي ،عن بُنْدَار ،عن ابن مهدي ،عن سفيان ،عن ابن خُثَيْم ( )1به ( .)2وقال :
حسن.
قلت :وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة ،عن أبيه ،عن ابن خُثَيْم ( )3عن يوسف بن
ماهَك ،عن حفصة أم المؤمنين :أن امرأة أتتها فقالت :إن زوجي يأتيني مُحيّيَة ومستقبلة
فكرهته ،فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال " :ل بأس إذا كان في صمام واحد" (.)4
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا يعقوب -يعني القَمي ( - )5عن جعفر ،
عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :جاء عمر بن الخطاب إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم فقال :يا رسول ال ،هلكت! قال " :ما الذي أهلكك ؟ " قال :حولت رحلي البارحة! قال :
فلم يرد عليه شيئًا .قال :فأوحى ال إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية { :نِسَا ُؤكُمْ
حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } أقبل وأدبر ،واتق الدبر والحيضة".
رواه الترمذي ،عن عبد بن حميد ،عن حسن بن موسى الشيب ،به ( .)6وقال :حسن غريب.
وقال المام أحمد :حدثنا يحيى بن غَيْلن ،حدثنا رِشْدين ،حدثني الحسن بن ثوبان ،عن عامر
بن يحيى المعافري ،عن حَنَش ،عن ابن عباس قال :أنزلت هذه الية ِ { :نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ }
في أناس من النصار ،أتوا النبي صلى ال عليه وسلم ،فسألوه ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم
" :آتها على كل حال ،إذا كان في الفرج" (.)7
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا الحارث بن سريج ( )8حدثنا عبد ال بن نافع ،حدثنا هشام بن سعد
،عن زيد بن أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن أبي سعيد قال :أثفر رجل امرأته على عهد
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالوا :أثفر فلن امرأته ،فأنزل ال عز وجل { :نِسَا ُؤكُمْ
حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } (.)9
وقال أبو داود :حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الصبغ ،قال :حدثني محمد -يعني ابن سلمة
-عن محمد ابن إسحاق ،عن أبان بن صالح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس قال :إن ابن عمر
-وال يغفر له -أوهم ،إنما كان أهل هذا الحي من النصار -وهم أهل وثن -مع أهل هذا
الحي من يهود -وهم أهل كتاب -وكانوا يرون لهم فضل عليهم في العلم ،فكانوا يقتدون بكثير
من فعلهم ،وكان من أمر أهل الكتاب ل يأتون النساء إل على حرف ،وذلك أستر ما تكون
المرأة ،فكان هذا الحي من النصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ،وكان هذا الحي من قريش
يَشْرَحون النساء شرحًا منكرًا ،ويتلذذون بهن مقبلت ومدبرات ومستلقيات .فلما قدم المهاجرون
المدينة تزوج رجل منهم امرأة من
__________
( )1في جـ " :خيثم".
( )2المسند ( )6/304وسنن الترمذي برقم (.)2979
( )3في جـ " :خيثم".
( )4مسند أبي حنيفة برقم (.)102
( )5في جـ " :العمى".
( )6المسند ( )1/297وسنن الترمذي برقم (.)2980
( )7المسند (.)1/268
( )8في هـ " :شريح".
( )9مسند أبي يعلى ( )2/354وقال الهيثمي في المجمع (" : )6/319شيخه الحارث بن سريج ،
ضعيف كذاب" ولكنه توبع ،تابعه يعقوب بن حميد ،فرواه عن عبد ال بن نافع عن هشام ،عن
زيد بن أسلم به ،أخرجه الطحاوي في مشكل الثار برقم ( )6118وقد سبق.
( )1/590
النصار ،فذهب يصنع بها ذلك ،فأنكرته عليه ،وقالت :إنما كنا نُؤتى على حرف .فاصنع ذلك
وإل فاجتنبني ،فسرى أمرهما ،فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأنزل ال ِ { :نسَا ُؤكُمْ
حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } أي :مقبلت ،ومدبرات ،ومستلقيات -يعني بذلك موضع
الولد (.)1
تفرد به أبو داود ،ويشهد ( )2له بالصحة ما تقدم من الحاديث ،ول سيما رواية أم سلمة ،فإنها
مشابهة لهذا السياق.
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ،عن أبان بن
صالح ،عن مجاهد قال :عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ،أوقفه ()3
عند كل آية منه ( )4وأسأله عنها ،حتى انتهيت إلى هذه الية { :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ
أَنّى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس :إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون ( )5النساء بمكة ،ويتلذذون
بهن ..فذكر القصة بتمام سياقها (.)6
وقول ابن عباس " :إن ابن عمر -وال يغفر له -أوهم" .كأنه يشير إلى ما رواه البخاري :
حدثنا إسحاق ،حدثنا النضر بن شميل ،أخبرنا ابن عون عن نافع قال :كان ابن عمر إذا قرأ
القرآن لم يتكلم حتى يفرغُ منه ،فأخذت عليه يومًا فقرأ سورة البقرة ،حتى انتهى إلى مكان قال
( : )7أتدري فيم أنزلت ؟ قلت :ل .قال :أنزلت في كذا وكذا .ثم مضى .وعن عبد الصمد قال
:حدثني أبي ،حدثني أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر { :فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } قال :يأتيها
في.)8( ..
هكذا رواه البخاري ،وقد تفرد به من هذه الوجوه (.)9
وقال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُلَيّة ،حدثنا ابن عون ،عن نافع قال :
قرأت ذات يوم { :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر :أتدري فيم نزلت ؟
قلت :ل .قال :نزلت في إتيان النساء في أدبارهن (.)10
وحدثني أبو قلبة ،حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ،حدثني أبي ،عن أيوب ،عن نافع ،عن
ابن عمر { :فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } قال :في الدبر (.)11
وروي من حديث مالك ،عن نافع ،عن ابن عمر ،ول يصح.
وروى النسائي ،عن محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ،عن أبي بكر بن أبي أويس ،عن سليمان
بن بلل ،عن زيد بن أسلم ،عن ابن عمر :أن رجل أتى امرأته في دبرها ،فوجد في نفسه من
ذلك
__________
( )1سنن أبي داود برقم (.)2164
( )2في جـ " :وشهد".
( )3في حـ ،أ ،و " :أوقفه عليه".
( )4في جـ " :فيه".
( )5في جـ " :يشرخون".
( )6المعجم الكبير (.)11/77
( )7في جـ " :فقال".
( )8بياض في جميع النسخ ،وفي فتح الباري " : 8/130كذا وقع في جميع النسخ ،لم يذكر ما
بعد الظرف وهو المجرور ،ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي :يأتيها في الفرج .وهو
من عنده بحسب ما فهمه" ومستفادا من هامش ط .الشعب.
( )9صحيح البخاري برقم (.)4526
( )10تفسير الطبري (.)4/404
( )11تفسير الطبري (.)4/406
( )1/591
وجدًا شديدًا ،فأنزل ال { :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َل ُكمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } (.)1
قال أبو حاتم الرازي :لو كان هذا عند زيد بن أسلم ،عن ابن عمر لما أولع ( )2الناس بنافع.
وهذا تعليل منه لهذا الحديث.
وقد رواه عبد ال بن نافع ،عن داود بن قيس ،عن زيد بن أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن ابن
عمر -فذكره.
وهذا محمول على ما تقدم ،وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ،لما رواه النسائي أيضًا عن علي
بن عثمان النفيلي ،عن سعيد بن عيسى ،عن المفضل ( )3بن فضالة عن عبد ال بن سليمان
الطويل ،عن كعب بن علقمة ،عن أبي النضر :أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر :إنه قد
أكثر عليك القول :إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال :كذبوا علي
،ولكن سأحدثك كيف كان المر :إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده ،حتى بلغ :
{ ِنسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } فقال :يا نافعُ ،هل تعلم من أمر هذه الية ؟ قلت (
: )4ل .قال :إنا كنا معشر قريش نُجبّي ( )5النساء ،فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء النصار ،
أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ،وكانت نساء النصار قد أخذن
بحال اليهود ،إنما يؤتين على جنوبهن ،فأنزل ال { :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُمْ }
(.)6
وهذا إسناد صحيح ،وقد رواه ابن مردويه ،عن الطبراني ،عن الحسين بن إسحاق ،عن زكريا
( )7بن يحيى الكاتب العمري ،عن مفضل بن فضالة ،عن عبد ال بن عياش ( )8عن كعب بن
علقمة ،فذكره .وقد روينا عن ابن عمر خلف ذلك صريحا ،وأنه ل يباح ول يحل كما سيأتي ،
وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ،وعزاه بعضهم إلى المام مالك
في كتاب السر ( )9وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن المام مالك ،رحمه ال .وقد وردت
الحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه ؛ فقال الحسن بن عرفة :
حدثنا إسماعيل بن عياش ( )10عن سهيل ( )11بن أبي صالح ،عن محمد بن المنكدر ،عن
جابر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :استحيوا ،إن ال ل يستحيي من الحق ،ل
يحل مأتى النساء في حشوشهن" (.)12
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان ،عن عبد ( )13بن شداد عن رجل عن
خزيمة بن ثابت :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها (
.)14
__________
( )1سنن النسائي الكبرى برقم (.)8981
( )2في جـ " :لما ولع".
( )3في جميع المخطوطات " :الفضل" ،والصواب ما أثبتناه.
( )4في جـ ،أ " :قال".
( )5في أ " :نجب".
( )6سنن النسائي الكبرى برقم (.)8978
( )7في أ " :عن أبي زكريا".
( )8في أ " :عباس".
( )9في أ " :السير".
( )10في أ " :عباس".
( )11في جـ ،أ " :عن سهل".
( )12ورواه الدارقطني في السنن ( )3/288من طريق الحسن بن عرفة به.
( )13في جـ ،أ " :عن عبد ال".
( )14المسند ( )5/215وسنن النسائي الكبرى برقم ( )8986 ، 8985وسنن ابن ماجة برقم (
)1924وانظر الختلف فيه في :سنن النسائي (.)319 - 5/316
( )1/592
طريق أخرى :قال أحمد :حدثنا يعقوب ،سمعت أبي يحدث ،عن يزيد بن عبد ال بن أسامة
ابن الهاد :أن عبيد ال بن الحصين الوالبي حَدّثه أن هرمي بن عبد ال الواقفي حدثه :أن خزيمة
بن ثابت الخطمي حدثه :أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يستحيي ال من الحق ،ل
يستحي ال من الحق -ثلثا -ل تأتوا النساء في أعجازهن".
ورواه النسائي ،وابن ماجة من طرق ،عن خزيمة بن ثابت .وفي إسناده اختلف كثير.
حديث آخر :قال أبو عيسى الترمذي ،والنسائي :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو خالد
الحمر ،عن الضحاك بن عثمان ،عن مَخْرمة بن سليمان ،عن كُرَيْب ،عن ابن عباس قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل ينظر ال إلى رجل أتى رجل أو امرأة في الدبر" .ثم
قال الترمذي :هذا حديث حسن غريب ( .)1وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه ( .)2وصححه
ابن حزم أيضًا .ولكن رواه النسائي ،عن هناد ،عن وكيع ،عن الضحاك ،به ( )3موقوفًا.
وقال عبد :أخبرنا عبد الرزاق ،أخبرنا معمر عن ابن طاوس ،عن أبيه :أن رجل سأل ابن
عباس عن إتيان المرأة في دبرها ،قال ( : )4تسألني عن الكفر! [إسناد صحيح] (.)5
وكذا رواه النسائي ،من طريق ابن المبارك ،عن معمر ( - )6به نحوه.
عمْرو بن
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد ،حدثنا همام ،حدثنا قتادة ،عن َ
شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :الذي يأتي امرأته في دبرها
هي اللوطية الصغرى" (.)7
وقال عبد ال بن أحمد :حدثني هدبة ،حدثنا همام ،قال :سُئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في
دبرها .فقال قتادة :حدثنا عمرو بن شعيب ،عن أبيه عن جده :أن النبي صلى ال عليه وسلم
قال " :هي اللوطية الصغرى".
قال قتادة :وحدثني عقبة بن وسّاج ،عن أبي الدرداء قال :وهل يفعل ذلك إل كافر ؟ (.)8
وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان ،عن سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة ،عن أبي
أيوب ،عن عبد ال بن عمرو ( )9بن العاص ،قوله .وهذا أصح ،وال أعلم.
وكذلك رواه عبد بن حميد ،عن يزيد بن هارون ،عن حميد العرج ،عن عمرو بن شعيب ،
عن أبيه ،عن عبد ال بن عمرو ،موقوفًا من قوله.
طريق أخرى :قال جعفر الفريابي :حدثنا قتيبة ،حدثنا ابن لهيعة ،عن عبد الرحمن بن زياد بن
العم ،عن أبي عبد الرحمن الحُبلي ،عن عبد ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :سبعة ل ينظر
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )1165وسنن النسائي الكبرى برقم (.)9001
( )2صحيح ابن حبان برقم (" )1302موارد".
( )3سنن النسائي الكبرى برقم (.)9002
( )4في جـ " :فقال".
( )5زيادة من جـ ،أ ،و.
( )6في هـ " :عن عكرمة" وهو خطأ.
( )7المسند (.)2/210
( )8زوائد المسند (.)2/210
( )9في جـ " :عمر".
( )1/593
ال إليهم يوم القيامة ول يزكيهم ،ويقول :ادخلوا النار مع الداخلين :الفاعل والمفعول به ،
والناكح يده ،وناكح البهيمة ،وناكح المرأة في دبرها ،وجامع بين المرأة وابنتها ،والزاني
بحليلة جاره ،والمؤذي جاره حتى يلعنه" (.)1
ابن لَهيعة وشيخه ضعيفان.
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا سفيان ،عن عاصم ،عن عيسى بن
حطان ،عن مُسْلم بن سَلم ،عن علي بن طلق ،قال :نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن
تؤتى النساء في أدبارهن ؛ فإن ال ل يستحيي من الحق (.)2
وأخرجه أحمد أيضًا ،عن أبي معاوية ،وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضًا ،عن
عاصم الحول [به] ( )3وفيه زيادة ،وقال :هو حديث حسن (.)4
ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب ،كما وقع في مسند المام أحمد
بن حنبل ( )5والصحيح أنه علي بن طلق.
سهَيل بن أبي صالح ،
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن ُ
عن الحارث بن مُخلّد ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الذي
يأتي امرأته في دبرها ل ينظر ال إليه".
وحدثنا عفان ،حدثنا وهيب ،حدثنا سهيل ،عن الحارث بن مخلد ،عن أبي هريرة قال :قال
رسول ال ( )6صلى ال عليه وسلم " :ل ينظر ال إلى رجل جامع امرأته في دبرها".
وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل (.)7
وحدثنا َوكِيع ،حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ،عن الحارث بن مخلد ،عن أبي هريرة
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ملعون من أتى امرأة في دبرها".
وهكذا رواه أبو داود ،والنسائي من طريق َوكِيع ،به (.)8
طريق أخرى :قال الحافظ أبو نعيم الصبهاني :أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ،حدثنا أبو
عبد الرحمن النسائي ،حدثنا هناد ،ومحمد بن إسماعيل -واللفظ له -قال حدثنا وكيع ،حدثنا
سفيان ،عن سهيل بن أبي صالح ،عن أبيه ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :ملعون من أتى امرأة في دبرها" (.)9
__________
( )1ورواه أبو الشيخ في مجلس من حديثه ( ، )2 ، 62/1وابن بشران في المالي ()2 ، 86/1
من طرق عن عبد الرحمن بن زياد الفريقي به .أ .هـ مستفادا من إرواء الغليل لللباني (
.)8/59
( )2ذكره ابن حجر في أطراف المسند ( )4/384ولم أجده في المطبوع.
( )3زيادة من جـ ،أ.
( )4ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند ( )4/384وسنن الترمذي برقم (.)1164
( )5المسند (.)1/86
( )6في أ ،و " :عن أبي هريرة عن النبي".
( )7المسند ( )2/344وسنن ابن ماجة برقم (.)1923
( )8المسند ( )2/444وسنن أبي داود برقم ( )2162وسنن النسائي الكبرى برقم (.)9015
( )9رواه أبو نعيم في جزء له عال عن أحمد بن القاسم بن الريان ،قال الذهبي " :فيه ما ينكر".
( )1/594
ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ،وإنما الذي فيه عن سهيل ،عن الحارث بن مخلد ،كما
تقدم.
قال شيخنا الحافظ أبو عبد ال الذهبي :ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا
السند ،وَهْمٌ منه ،وقد ضعفوه.
طريق أخرى :رواها ( )1مسلم بن خالد الزّنْجي ،عن العلء بن عبد الرحمن ،عن أبيه ،عن
أبي هريرة ،عن النبي صلى عليه وسلم قال " :ملعون من أتى النساء في أدبارهن".
ومسلم بن خالد فيه كلم ،وال أعلم.
طريق أخرى :رواها المام أحمد ،وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة ،عن حكيم الثرم ،
عن أبي تميمة الهُجيْمي ،عن أبي هريرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من أتى
حائضًا أو امرأة في دبرها ،أو كاهنًا فصدقه ،فقد كفر بما أنزل على محمد" (.)2
وقال الترمذي :ضعف البخاري هذا الحديث .والذي قاله البخاري في حديث حكيم [الثرم] ()3
عن أبي تميمة :ل يتابع في حديثه (.)4
طريق أخرى :قال النسائي :حدثنا عثمان بن عبد ال ،حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من
كتابه ،عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ،عن سعيد بن عبد العزيز ،عن الزهري ،عن أبي
سلمة ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :استحيوا من ال حق الحياء ،ل
تأتوا النساء في أدبارهن" (.)5
تفرد به النسائي من هذا الوجه.
قال حمزة بن محمد الكنَاني الحافظ :هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ،ومن حديث أبي
سلمة ومن حديث سعيد ؛ فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ،فإنما سمعه بعد الختلط ،وقد
رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك ،فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى ال
عليه وسلم فل .انتهى كلمه.
وقد أجاد وأحسن النتقاد ؛ إل أن عبد الملك [بن محمد] ( )6الصنعاني ل يعرف أنه اختلط ،ولم
يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني ،وهو ثقة ،ولكن تكلم فيه ُدحَيْم ،وأبو حاتم ،وابن حبان ،
وقال :ل يجوز الحتجاج به ،فال أعلم .وقد تابعه زيد بن يحيى بن ( )7عبيد ،عن سعيد بن
عبد العزيز .وروي من طريقين آخرين ،عن أبي سلمة .ول يصح منها شيء.
طريق أخرى :قال النسائي :حدثنا إسحاق بن منصور ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن
سفيان الثوري ،عن ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد ،عن أبي هريرة قال :إتيان الرجال النساء
( )8في
__________
( )1في جـ " :رواية" ،وفي أ ،و " :ورواه".
( )2المسند ( )2/408وسنن أبي داود برقم ( )3904وسنن الترمذي برقم ( )135وسنن النسائي
الكبرى برقم ( )9016وسنن ابن ماجة برقم (.)639
( )3زيادة من جـ ،أ ،وفي و " :حكيم الترمذي".
( )4التاريخ الكبير (.)3/17
( )5سنن النمسائي الكبرى برقم (.)9010
( )6زيادة من جـ ،أ ،و.
( )7في جـ " :عن".
( )8في جـ ،أ " :والنساء".
( )1/595
( )1/596
رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :محاش النساء حرام" (.)1
وقد رواه إسماعيل بن علية ،وسفيان الثوري ،وشعبة ،وغيرهم ،عن أبي عبد ال الشقري -
واسمه سلمة بن تمام :ثقة -عن أبي القعقاع ،عن ابن مسعود -موقوفًا .وهو أصح.
طريق أخرى :قال ابن عدي :حدثنا أبو عبد ال المحاملي ،حدثنا سعيد بن يحيى الموي ،
حدثنا محمد بن حمزة ،عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة ،عن عبد ال قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ل تأتوا النساء في أعجازهن" ( )2محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه ،
فيهما مقال.
وقد روي من حديث أبي بن كعب ( )3والبراء بن عازب ،وعقبة بن عامر ( )4وأبي ذر ،
وغيرهم .وفي كل منها ( )5مقال ل يصح معه الحديث ،وال أعلم.
وقال الثوري ،عن الصّلت بن َبهْرام ،عن أبي المعتمر ،عن أبي جويرية ( )6قال :سأل رجل
سفّلَ ال بك! ألم تسمع إلى قول ال عز وجل { :
عليا عن إتيان امرأة في دبرها ،فقال :سفلت َ ،
حدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف .]80 :
أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ
وقد تقدم قول ابن مسعود ،وأبي الدرداء ،وأبي هريرة ،وابن عباس ،وعبد ال بن عمرو في
تحريم ذلك ،وهو الثابت بل شك عن عبد ال بن عمر ،رضي ال عنهما ،أنه يحرمه.
قال أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده :حدثنا عبد ال بن صالح ،حدثنا
الليث ،عن الحارث بن يعقوب ،عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال :قلت لبن عمر :ما تقول
في الجواري ،أنحمض لهن ؟ قال :وما التحميض ؟ فذكر الدّبر .فقال :وهل يفعل ذلك أحد من
المسلمين ؟
وكذا رواه ابن وهب وقتيبة ،عن الليث ،به .وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ،
فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم (.)7
وقال ابن جرير :حدثني عبد الرحمن بن عبد ال بن عبد الحكم ،حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن
أحمد بن أبي الغمر ( )8حدثني عبد الرحمن بن القاسم ،عن مالك بن أنس أنه قيل له :يا أبا عبد
ال ،إن الناس يروون عن سالم بن عبد ال أنه قال :كذب العبد ،أو العلج ،على أبي [عبد ال]
( )9فقال مالك :أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ،عن سالم بن عبد ال ،عن ابن عمر
مثل ما قال نافع .فقيل له :فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار :أنه
سأل ابن عمر فقال له :يا أبا عبد الرحمن ،إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال :وما
التحميض ؟ فذكر له الدبر .فقال ابن عمر :أف! أف! أيفعل ذلك مؤمن -أو قال :مسلم -فقال
مالك :أشهد على ربيعة
__________
( )1ورواه الدولبي في الكنى (.)2/85
( )2الكامل لبن عدي (.)3/206
( )3حديث أبي بن كعب رواه البيهقي في شعب اليمان برقم ( )5457من طريق أبي قلبة ،عن
زر بن حبيش ،عن أبي بن كعب به
( )4حديث عقبة بن عامر رواه ابن عدي في الكامل ( )4/148من طريق ابن لهيعة ،عن مشرح
بن هاعان ،عن عقبة به.
( )5في أ " :منهما".
( )6في جـ " :عن أبي جرير به" ،وفي أ " :عن أبي جويرة".
( )7في جـ ،أ " :هذا الحكم".
( )8في جـ ،أ ،و " :أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر".
( )9زيادة من جـ.
( )1/597
لخبرني عن أبي الحباب ،عن ابن عمر ،مثل ما قال نافع (.)1
وروى النسائي ،عن الربيع بن سليمان ،عن أصبغ بن الفرج الفقيه ،حدثنا عبد الرحمن بن
القاسم قال :قلت لمالك :إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب ،عن
سعيد ( )2بن يسار ،قال :قلت لبن عمر :إنا نشتري الجواري ،فنحمض لهن ؟ قال :وما
التحميض ؟ قلت :نأتيهن في أدبارهن .فقال :أف! أف! أو يعمل هذا مسلم ؟ فقال لي مالك :
فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ،فقال :ل بأس به (.)3
وروى النسائي أيضًا من طريق يزيد بن رومان ،عن عبيد ال بن عبد ال بن عمر أن ابن عمر
( )4كان ل يرى بأسًا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها (.)5
وروى معن ( )6بن عيسى ،عن مالك :أنّ ذلك حرام.
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري :حدثني إسماعيل بن حصين ،حدثني إسماعيل ( )7بن روح
:سألت مالك بن أنس :ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن :قال :ما أنتم قوم عرب .هل
يكون الحرث إل موضع الزرع ،ل تعدو الفرج.
قلت :يا أبا عبد ال ،إنهم يقولون :إنك تقول ذلك ؟! قال :يكذبون علي ،يكذبون علي.
فهذا هو الثابت عنه ،وهو قول أبي حنيفة ،والشافعي ،وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة .وهو
قول سعيد بن المسيب ،وأبي سلمة ،وعكرمة ،وطاوس ،وعطاء ،وسعيد بن جبير ،وعروة
بن الزبير ،ومجاهد بن جبر ( )8والحسن وغيرهم من السلف :أنهم أنكروا ذلك أشد النكار ،
ومنهم من يطلق على فاعله ( )9الكفر ،وهو مذهب جمهور العلماء.
وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة ،حتى حكوه عن المام مالك ،وفي صحته عنه
نظر.
[وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الحوص بن وهب إباحته] (
.)10
قال الطحاوي :روى أصبغ بن الفرج ،عن عبد الرحمن بن القاسم قال :ما أدركت أحدًا أقتدي
به في ديني يشك أنه حلل .يعني وطء المرأة في دبرها ،ثم قرأ { :نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َل ُكمْ } ثم قال
:فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي.
وقد روى ( )11الحاكم ،والدارقطني ،والخطيب البغدادي ،عن المام مالك من طرق ما
يقتضي
__________
( )1تفسير الطبري (.)4/405
( )2في أ " :عن سفيان".
( )3سنن النسائي الكبرى برقم (.)8979
( )4في أ ،و " :أن عبد ال بن عمر".
( )5سنن النسائي الكبرى برقم (.)8980
( )6في هـ " :معمر" والصواب ما أثبتناه من جـ ،أ ،و.
( )7في جـ ،أ ،و " :حدثني إسرائيل".
( )8في جـ " :بن جبير".
( )9في أ ،و " :على فعله".
( )10زيادة من جـ ،أ ،و.
( )11في جـ " :وقد أورد".
( )1/598
إباحة ذلك .ولكن في السانيد ضعف شديد ،وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد ال الذهبي في
جزء جمعه في ذلك ،فال أعلم.
وقال الطحاوي :حكى لنا محمد بن عبد ال بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول :ما صح عن
النبي صلى ال عليه وسلم في تحليله ول تحريمه شيء .والقياس أنه حلل .وقد روى ذلك أبو
بكر الخطيب ،عن أبي سعيد الصيرفي ،عن أبي العباس الصم ،سمعت محمد بن عبد ال بن
عبد الحكم ،سمعت الشافعي يقول ...فذكر .قال أبو نصر الصباغ :كان الربيع يحلف بال الذي
ل إله إل هو :لقد كذب -يعني ابن عبد الحكم -على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على
تحريمه في ستة ( )1كتب من كتبه ،وال أعلم.
وقال القرطبي في تفسيره :وممن ينسب إليه هذا القول -وهو إباحة وطء المرأة في دبرها -
سعيد ابن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون .وهذا
القول في العتبية .وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر ،وحذاق أصحاب مالك
ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ،ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر ووقع هذا القول في
العتبية ،وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين
وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن هذا لفظه قال :وحكى الكيا
الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي أنه استدل على جواز ذلك بقوله { :أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ
جكُمْ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ عَادُونَ } الشعراء ، 165[ :
مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خََلقَ َلكُمْ رَ ّب ُكمْ مِنْ أَ ْزوَا ِ
.]166
يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق ال لهم من فروج النساء ل أدبارهن قلت :
وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحًا إليه فخطأ .وقد صنف الناس في هذه المسألة
مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إطهار إدبار من أجاز الوطء في الدبار.
سكُمْ } أي :من فعل الطاعات ،مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك
وقوله تعالى َ { :وقَ ّدمُوا لنْفُ ِ
المحرمات ؛ ولهذا قال { :وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلقُوهُ } أي :فيحاسبكم على أعمالكم جميعًا.
{ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } أي :المطيعين ل فيما أمرهم ،التاركين ما عنه ( )2زجرهم.
وقال ابن جرير :حدثنا القاسم ،حدثنا حسين ،حدثني محمد بن كثير ،عن عبد ال بن واقد ،
سكُمْ } قال :يقول " :باسم ال" ،
عن عطاء -قال :أراه عن ابن عباس َ { : -وقَ ّدمُوا ل ْنفُ ِ
التسمية عند الجماع.
وقد ثبت في صحيح البخاري ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو أن
أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال :باسم ال ،اللهم جَنّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ،
فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا" (.)3
سمِيعٌ عَلِيمٌ (} )224
س وَاللّهُ َ
جعَلُوا اللّهَ عُ ْرضَ ًة ل ْيمَا ِنكُمْ أَنْ تَبَرّوا وَتَ ّتقُوا وَ ُتصْلِحُوا بَيْنَ النّا ِ
{ وَل تَ ْ
__________
( )1في جـ " :في ست".
( )2في أ " :ما عنهم".
( )3صحيح البخاري برقم (.)141
( )1/599
( )1/599
يقول تعالى :ل تجعلوا أيمانكم بال تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها ،
ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ
سعَةِ أَنْ ُيؤْتُوا أُولِي ا ْلقُرْبَى وَا ْلمَسَاكِي َ
ضلِ مِ ْنكُ ْم وَال ّ
كقوله تعالى { :وَل يَأْ َتلِ أُولُو ا ْلفَ ْ
غفُورٌ رَحِيمٌ } [النور ، ]22 :
صفَحُوا أَل تُحِبّونَ أَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُك ْم وَاللّهُ َ
فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلْ َي ْعفُوا وَلْ َي ْ
فالستمرار على اليمين آثَمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير .كما قال البخاري :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ،أخبرنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن همام بن منبه ،قال :هذا ما
حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :نحن الخرون السابقون يوم القيامة" ،
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :وال لن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثمُ له عند ال من أن
يُعطي كفارته التي افترض ال عليه".
وهكذا رواه مسلم ،عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ،به .ورواه أحمد ،عنه ،به.
ثم قال البخاري :حدثنا إسحاق بن منصور ،حدثنا يحيى بن صالح ،حدثنا معاوية ،هو ابن
سلم ،عن يحيى ،وهو ابن أبي كثير ،عن عكرمة ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :من استلج في أهله بيمين ،فهو أعظم إثمًا ،ليس تغني الكفارة".
جعَلُوا اللّهَ عُ ْرضَ ًة ل ْيمَا ِنكُمْ } قال
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { :وَل تَ ْ
:ل تجعلن عرضة ليمينك أل تصنع الخير ،ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
وهكذا قال مسروق ،والشعبي ،وإبراهيم النخعي ،ومجاهد ،وطاوس ،وسعيد بن جبير ،
وعطاء ،وعكرمة ،ومكحول ،والزهري ،والحسن ،وقتادة ،ومقاتل بن حيان ،والربيع بن
أنس ،والضحاك ،وعطاء الخراساني ،والسدي .ويؤيد ما قاله هؤلء الجمهور ما ثبت في
الصحيحين ،عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :إني وال -إن شاء ال -ل أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إل أتيت الذي هو خير
وتحللتها" وثبت فيهما أيضًا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة " :يا
عبد الرحمن بن سمرة ،ل تسأل المارة ،فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ،وإن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ،وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر
عن يمينك".
وروى مسلم ،عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من حلف على يمين
فرأى غيرها خيرًا
( )1/600
( )1/601
إبراهيم -حدثنا إبراهيم -يعني الصائغ -عن عطاء :في اللغو في اليمين ،قال :قالت عائشة
:إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :هو كلم الرجل في بيته :كل وال وبلى وال".
ثم قال أبو داود :رواه داود بن أبي الفرات ،عن إبراهيم الصائغ ،عن عطاء ،عن عائشة
موقوفًا .ورواه الزهري ،وعبد الملك ،ومالك بن ِمعْول ،كلهم عن عطاء ،عن عائشة ،موقوفًا
أيضًا.
قلت :وكذا رواه ابن جريج ،وابن أبي ليلى ،عن عطاء ،عن عائشة ،موقوفًا.
ورواه ابن جرير ،عن هناد ،عن َوكِيع ،وعبدة ،وأبي معاوية ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه
خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُكمْ } [المائدة ]89 :قالت :ل وال ،بلى
،عن عائشة في قوله { :ل ُيؤَا ِ
وال.
ثم رواه عن محمد بن حميد ،عن سلمة ،عن ابن إسحاق ،عن هشام ،عن أبيه ،عنها .وبه ،
عن ابن إسحاق ،عن الزهري ،عن القاسم ،عنها .وبه ،عن سلمة عن ابن أبي نَجِيح ،عن
عطاء ،عنها.
خ ُذكُمُ
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن الزهري ،عن عروة عن عائشة في قوله { :ل ُيؤَا ِ
اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } قالت :هم القوم يتدارؤون في المر ،فيقول هذا :ل وال ،وبلى وال ،
وكل وال يتدارؤون في المر :ل تعقد عليه قلوبهم.
وقد قال ابن أبي حاتم :أخبرنا هارون بن إسحاق الهمداني ،حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان -
عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة في قول ال { :ل ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ }
قالت :هو قول الرجل :ل وال ،وبلى وال.
وحدثنا أبي ،حدثنا أبو صالح كاتب الليث ،حدثني ابن لهيعة ،عن أبي السود ،عن عروة قال
:كانت عائشة تقول :إنما اللغو في المزاحة والهزل ،وهو قول الرجل :ل وال ،وبلى وال.
فذاك ل كفارة فيه ،إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ،ثم ل يفعله.
ثم قال ابن أبي حاتم :وروي عن ابن عمر ،وابن عباس في أحد أقواله ،والشعبي ،وعكرمة
في أحد قوليه ،وعطاء ،والقاسم بن محمد ،ومجاهد في أحد قوليه ،وعروة بن الزبير ،وأبي
صالح ،والضحاك في أحد قوليه ،وأبي قلبة ،والزهري ،نحو ذلك.
الوجه الثاني :قرئ على يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني الثقة ،عن ابن
شهاب ،عن عروة ،عن عائشة :أنها كانت تتأول هذه الية -يعني قوله { :ل ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ
بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } وتقول :هو الشيء يحلف عليه أحدكم ،ل يريد منه إل الصدق ،فيكون على
غير ما حلف عليه.
ثم قال :وروي عن أبي هريرة ،وابن عباس -في أحد قوليه -وسليمان بن يسار ،وسعيد بن
جبير ،ومجاهد -في أحد قوليه -وإبراهيم النخعي -في أحد قوليه -والحسن ،وزرارة بن
أوفى ،
( )1/602
وأبي مالك ،وعطاء الخراساني ،وبكر بن عبد ال ،وأحد قولي عكرمة ،وحبيب بن أبي
ثابت ،والسدي ،ومكحول ،ومقاتل ،وطاوس ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،ويحيى بن سعيد ،
وربيعة ،نحو ذلك.
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن موسى الحرشي حدثنا عبد ال بن ميمون المرالي ،حدثنا عوف
العرابي عن الحسن بن أبي الحسن ،قال :مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوم ينتضلون -
يعني :يرمون -ومع رسول ال صلى ال عليه وسلم رجل من أصحابه ،فرمى رجل من القوم
فقال :أصبت وال وأخطأت وال .فقال الذي مع النبي صلى ال عليه وسلم :حنث الرجل يا
رسول ال .قال " :كل أيمان الرماة لغو ل كفارة فيها ول عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن.
وقال ابن أبي حاتم :وروي عن عائشة القولن جميعًا.
حدثنا عصام بن رواد ،أخبرنا آدم ،أخبرنا شيبان ،عن جابر ،عن عطاء بن أبي رباح ،عن
عائشة قالت :هو قوله :ل وال ،وبلى وال ،وهو يرى أنه صادق ،ول يكون كذلك.
أقوال أخر :قال عبد الرزاق ،عن هشيم ،عن مغيرة ،عن إبراهيم :هو الرجل يحلف على
الشيء ثم ينساه.
وقال زيد بن أسلم :هو قول الرجل :أعمى ال بصري إن لم أفعل كذا وكذا ،أخرجني ال من
مالي إن لم آتك غدا ،فهو هذا.
قال ابن أبي حاتم :وحدثنا علي بن الحسين ،حدثنا مسدد ،حدثنا خالد ،أخبرنا عطاء ،عن
طاوس ،عن ابن عباس قال :لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وأخبرني أبي ،أخبرنا أبو الجماهر ،حدثنا سعيد بن بشير ،حدثني أبو بشر ،عن سعيد بن جبير
،عن ابن عباس قال :لغو اليمين أن تحرم ما أحل ال لك ،فذلك ما ليس عليك فيه كفارة ،وكذا
روي عن سعيد بن جبير.
وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب" :حدثنا محمد بن المنهال ،أنبأنا يزيد بن زريع ،حدثنا
حبيب المعلم ،عن عمرو بن شعيب ،عن سعيد بن المسيب :أن أخوين من النصار كان بينهما
ميراث ،فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال :إن عدت تسألني عن القسمة ،فكل مالي في رتاج
الكعبة .فقال له عمر :إن الكعبة غنية عن مالك ،كفر عن يمينك وكلم أخاك ،سمعت رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقول " :ل يمين عليك ،ول نذر في معصية الرب عز وجل ،ول في
قطيعة الرحم ،ول فيما ل تملك".
خ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد :هو أن يحلف
وقوله { :وََلكِنْ ُيؤَا ِ
عقّدْ ُتمُ
على الشيء وهو يعلم أنه كاذب .قال مجاهد وغيره :وهي كقوله { :وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا َ
ال ْيمَانَ } الية [المائدة ]89 :
( )1/603
( )1/604
فسأل عمر ابنته حفصة ،رضي ال عنها :كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت :ستة
أشهر أو أربعة أشهر .فقال عمر :ل أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك.
وقال :محمد بن إسحاق ،عن السائب بن جبير ،مولى ابن عباس -وكان قد أدرك أصحاب
النبي صلى ال عليه وسلم -قال :ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف
بالمدينة ،وكان يفعل ذلك كثيرا ؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [وهي] تقول .تطاول
هذا الليل وازورّ جانبه ...وأرقني أل ضجيعَ ألعِبُهْ...
ألعبه طورًا وطورًا كأنما ...بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه...
يسرّ به من كان يلهو بقربه ...لطيف الحشا ل يحتويه أقاربه...
فوال لول ال ل شيء غيره ...لنقض من هذا السرير جوانبه...
ولكنني أخشى رقيبًا موكل ...بأنفسنا ل َيفْتُر الدهرَ كاتبه...
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم ،أو نحوه .وقد روى هذا من طرق ،وهو من المشهورات.
وقوله { :وَإِنْ عَ َزمُوا الطّلقَ } فيه دللة على أنه ل يقع الطلق بمجرد مضي الربعة أشهر
كقول الجمهور ،وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي الربعة أشهر تطليقة ،وهو مروي بأسانيد
صحيحة عن عمر ،وعثمان ،وعلي ،وابن مسعود ،وابن عباس ،وابن عمر ،وزيد بن
ثابت ،وبه يقول ابن سيرين [ ،ومسروق] والقاسم ،وسالم ،والحسن ،وأبو سلمة ،وقتادة ،
وشريح القاضي ،وقبيصة بن ذؤيب ،وعطاء ،وأبو سلمة بن عبد الرحمن ،وسليمان بن
طرخان التيمي ،وإبراهيم النخعي ،والربيع بن أنس ،والسدي.
ثم قيل :إنها تطلق بمضي الربعة أشهر طلقة رجعية ؛ قاله سعيد بن المسيب ،وأبو بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام ،ومكحول ،وربيعة ،والزهري ،ومروان بن الحكم .وقيل إنها
تطلق طلقة بائنة ،روي عن علي ،وابن مسعود ،وعثمان ،وابن عباس ،وابن عمر ،وزيد بن
ثابت ،وبه يقول :عطاء وجابر بن زيد ،ومسروق وعكرمة ،والحسن ،وابن سيرين ،ومحمد
بن الحنفية ،وإبراهيم ،وقبيصة بن ذؤيب ،وأبو حنيفة ،والثوري ،والحسن بن صالح ،وكل
من قال :إنها تطلق بمضي الربعة أشهر أوجب عليها العدة ،إل ما روي عن ابن عباس وأبي
الشعثاء :أنها إن كانت حاضت ثلث حيض فل عدة عليها ،وهو قول الشافعي ،والذي عليه
الجمهور أنه يوقف فيطالب إما بهذا أو هذا ول يقع عليها بمجرد مضيها طلق.
( )1/605
حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ
سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُو ٍء وَلَا يَ ِ
وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ َأحَقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلَاحًا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ
حكِيمٌ ()228
ف وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
بِا ْل َمعْرُو ِ
وروى مالك ،عن نافع ،عن عبد ال بن عمر أنه قال :إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه
طلق وإن مضت أربعة أشهر ،حتى يوقف ،فإما أن يطلق ،وإما أن يفيء .وأخرجه البخاري.
وقال الشافعي ،رحمه ال :أخبرنا سفيان بن عيينة ،عن يحيى بن سعيد ،عن سليمان بن يسار
قال :أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم كلهم يوقف المولي قال الشافعي
:وأقل ذلك ثلثة عشر .ورواه الشافعي عن علي رضي ال عنه :أنه وقف المولي .ثم قال :
وهكذا نقول ،وهو موافق لما رويناه عن عمر ،وابن عمر ،وعائشة ،وعن عثمان ،وزيد بن
ثابت ،وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم .هكذا قال الشافعي ،رحمه ال.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن أبي مريم ،حدثنا يحيى بن أيوب ،عن عبيد ال بن عمر ،عن
سهيل بن أبي صالح ،عن أبيه قال :سألت اثني عشر رجل من الصحابة عن الرجل يولي من
امرأته ،فكلهم يقول :ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف ،فإن فاء وإل طلق.
ورواه الدارقطني من طريق سهيل.
قلت :وهو مروي عن عمر ،وعثمان ،وعلي ،وأبي الدرداء ،وعائشة أم المؤمنين ،وابن
عمر ،وابن عباس .وبه يقول سعيد بن المسيب ،وعمر بن عبد العزيز ،ومجاهد ،وطاوس ،
ومحمد بن كعب ،والقاسم .وهو مذهب مالك ،والشافعي ،وأحمد بن حنبل ،وأصحابهم ،
رحمهم ال ،وهو اختيار ابن جرير أيضًا ،وهو قول الليث [بن سعد] وإسحاق بن راهويه ،وأبي
عبيد ،وأبي ثور ،وداود ،وكل هؤلء قالوا :إن لم يفئ ألزم بالطلق ،فإن لم يطلق طلق عليه
الحاكم ،والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة.
وانفرد مالك بأن قال :ل يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا.
حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ
سهِنّ ثَلثَةَ قُرُو ٍء وَل يَ ِ
طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
{ وَا ْلمُ َ
حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحًا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي
كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ
حكِيمٌ (})228
ف وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُو ِ
هذا المر من ال سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات القراء ،بأن يتربصن
بأنفسهن ثلثة قروء ،أي :بأن تمكث إحداهن بعد طلق زوجها لها ثلثة قروء ؛ ثم تتزوج إن
طلّقت ،فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ،
شاءت ،وقد أخرج الئمة الربعة من هذا العموم المَة إذا ُ
لنها على النصف من الحرة ،والقُرْء ل يتبعض ف ُكمّل لها قرءان .ولما رواه ابن جريح عن
مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ،عن القاسم ،عن عائشة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال " :طلق المة تطليقتان وعدتها حيضتان".
( )1/606
رواه أبو داود ،والترمذي وابن ماجة .ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية .وقال الحافظ الدارقطني
وغيره :الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه.
ورواه ابن ماجة من طريق عطية ال َع ْوفِي عن ابن عمر مرفوعًا .قال الدارقطني :والصحيح ما
رواه سالم ونافع ،عن ابن عمر قوله .وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب .قالوا :ولم يعرف بين
الصحابة خلف .وقال بعض السلف :بل عدتها كعدة الحرة لعموم الية ؛ ولن هذا أمر جِبِلي
فكان الماء والحرائر في هذا سواء ،وال أعلم ،حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ،
عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ،وضعفه.
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو اليمان ،حدثنا إسماعيل -يعني ابن عَيّاش -عن
عمرو بن مهاجر ،عن أبيه :أن أسماء بنت يزيد بن السكن النصارية قالت :طُلّقت على عهد
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولم يكن للمطلقة عدة ،فأنزل ال ،عز وجل ،حين طلقت
أسماء العدة للطلق ،فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلق ،يعني { :وَا ْل ُمطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ
سهِنّ ثَلثَةَ قُرُوءٍ }.
بِأَ ْنفُ ِ
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد اختلف السلف والخلف والئمة في المراد بالقْرَاء ما هو ؟ على قولين :
أحدهما :أن المراد بها :الطهار ،وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ،عن عروة ،عن
عائشة أنها قالت :انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ،حين دخلت في الدم من الحيضة
الثالثة ،قال الزهري :فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ،فقالت :صدق عروة .وقد جادلها
في ذلك ناس فقالوا :إن ال تعالى يقول في كتابه " :ثلثة قروء " فقالت عائشة :صدقتم ،
وتدرون ما القراءُ ؟ إنما القراء :الطهارُ.
وقال مالك :عن ابن شهاب ،سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول :ما أدركت أحدًا من فقهائنا
إل وهو يقول ذلك ،يريد قول عائشة .وقال مالك :عن نافع ،عن عبد ال بن عمر ،أنه كان
يقول :إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها .وقال
مالك :وهو المر عندنا .ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ،وسالم ،والقاسم ،
وعروة ،وسليمان بن يسار ،وأبي بكر بن عبد الرحمن ،وأبان بن عثمان ،وعطاء ابن أبي
رباح ،وقتادة ،والزهري ،وبقية الفقهاء السبعة ،وهو مذهب مالك ،والشافعي [وغير واحد ،
وداود وأبي ثور ،وهو رواية عن أحمد ،واستدلوا عليه بقوله تعالى { :فَطَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ }
[الطلق ]1 :أي :في الطهار .ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ،دل على أنه أحد
القراء الثلثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلء :إن المعتدة
( )1/607
تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ،وأقل مدة تصدق فيها المرأة في
انقضاء عدتها اثنان وثلثون يومًا ولحظتان].
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر -وهو العشى : -
ش ّد لقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا...
ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة ...تَ ُ
ُموَرّثة عدّا ،وفي الحيّ رفعة ...لما ضاع فيها من قُروء نسائكا...
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ،حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم
يواقعهن فيها.
والقول الثاني :أن المراد بالقراء :الحيض ،فل تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ،
زاد آخرون :وتغتسل منها .وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلثة وثلثون يومًا
ولحظة .قال الثوري :عن منصور ،عن إبراهيم ،عن علقمة قال :كنا عند عمر بن الخطاب ،
رضي ال عنه ،فجاءته امرأة فقالت :إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت
مائي] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي .فقال عمر لعبد ال -يعني ابن مسعود [ -ما ترى ؟ قال] :
أراها امرأته ،ما دون أن تحل لها الصلة .قال [عمر ] :وأنا أرى ذلك.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ،وعمر ،وعثمان ،وعلي ،وأبي الدرداء ،وعبادة بن
الصامت ،وأنس بن مالك ،وابن مسعود ،ومعاذ ،وأبي بن كعب ،وأبي موسى الشعري ،
وابن عباس ،وسعيد بن المسيب ،وعلقمة ،والسود ،وإبراهيم ،ومجاهد ،وعطاء ،
وطاوس ،وسعيد بن جبير ،وعكرمة ،ومحمد بن سيرين ،والحسن ،وقتادة ،والشعبي ،
والربيع ،ومقاتل بن حيان ،والسدي ،ومكحول ،والضحاك ،وعطاء الخراساني ،أنهم قالوا :
القراء :الحيض.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ،وأصح الروايتين عن المام أحمد بن حنبل ،وحكى عنه
الثرم أنه قال :الكابر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون :القراء الحيض.
وهو مذهب الثوري ،والوزاعي ،وابن أبي ليلى ،وابن شبرمة ،والحسن بن صالح بن حي ،
وأبي عبيد ،وإسحاق بن راهويه.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ،من طريق المنذر بن المغيرة ،عن
عروة بن الزبير ،عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لها " :دعي
الصلة أيام
( )1/608
أقرائك" .فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ،ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم
:مجهول ليس بمشهور .وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن جرير :أصلُ القرء في كلم العرب " :الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت
معلوم ،ولدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم" .وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين
هذا وهذا ،وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الصوليين فال أعلم .وهذا قول الصمعي :أن القرء
هو الوقت .وقال أبو عمرو بن العلء :العرب تسمي الحيض :قُ ْرءًا ،وتسمي الطهر :قرءا ،
وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا :قرءا .وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر :ل يختلف أهل العلم
بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ،وإنما اختلفوا في المراد من
الية ما هو على قولين.
حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ } أي :من حَبَل أو حيض .قاله ابن
وقوله { :وَل يَ ِ
عمَر ،ومجاهد ،والشعبي ،والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ،والضحاك ،
عباس ،وابن ُ
وغير واحد.
وقوله { :إِنْ كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } تهديد لهن على قول خلف الحق .ودل هذا على أن
المرجع في هذا إليهن ؛ لنه أمر ل يعلم إل من جهتين ،وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ،فردّ
المر إليهن ،وتُوُعّدْنَ فيه ،لئل تخبر بغير الحق إما استعجال منها لنقضاء العدة ،أو رغبة
منها في تطويلها ،لما لها في ذلك من المقاصد .فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة
ول نقصان.
حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحًا } أي :وزوجها الذي طلقها أحق
وقوله { :وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ
بردتها ما دامت في عدتها ،إذا كان مراده بردتها الصلح والخير .وهذا في الرجعيات .فأما
المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الية مطلقة بائن ،وإنما صار ذلك لما حُصروا في
الطلقات الثلث ،فأما حال نزول هذه الية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة
مرة ،فلما قصروا في الية التي بعدها على ثلث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن.
وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الصوليين ،من استشهادهم على مسألة عود
الضمير -هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم ل ؟ -بهذه الية الكريمة ،فإن
التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ،وال أعلم.
وقوله { :وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي :ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال
عليهن ،فلْيؤد كل واحد منهما إلى الخر ما يجب عليه بالمعروف ،كما ثبت في صحيح مسلم ،
عن جابر ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال في خطبته ،في حجة الوداع " :فاتقوا ال في
النساء ،فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة ال ،واستحللتم فروجهن بكلمة ال ،ولكم عليهن أل يُوطِئْنَ
فُرُشَكم أحدًا تكرهونه ،فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرّح ،ولهن رزقهن وكسوتهن
بالمعروف" .وفي حديث بهز بن حكيم ،عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ،عن أبيه ،عن جده ،أنه
قال :يا رسول ال ،ما حق زوجة أحدنا ؟
( )1/609
قال " :أن تطعمها إذا طع ْمتَ ،وتكسوها إذا اكتسيت ،ول تضرب الوجه ،ول ُتقَبّح ،ول تهجر
إل في البيت" .وقال َوكِيع عن بشير بن سليمان ،عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :إني لحب
أن أتزيّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لن ال يقول { :وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ
بِا ْل َمعْرُوفِ } رواه ابن جرير ،وابن أبي حاتم.
جةٌ } أي :في الفضيلة في الخُلُق ،والمنزلة ،وطاعة المر ،
وقوله { :وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَ َ
والنفاق ،والقيام بالمصالح ،والفضل في الدنيا والخرة ،كما قال تعالى { :الرّجَالُ َقوّامُونَ
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ وَ ِبمَا أَ ْن َفقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ } [النساء .]34 :
عَلَى النّسَاءِ ِبمَا َفضّلَ اللّهُ َب ْع َ
حكِيمٌ } أي :عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ،حكيم في أمره
وقوله { :وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
وشرعه وقدره.
خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا
حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ
ن وَل يَ ِ
{ الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَا ٍ
حدُودَ اللّهِ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ ِبهِ تِ ْلكَ
خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا ُ
حدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ
إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ
حلّ لَهُ مِنْ
حدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ ( )229فَإِنْ طَّل َقهَا فَل َت ِ
ُ
جعَا إِنْ ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ
َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َز ْوجًا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ
وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ (})230
هذه الية الكريمة رافعة لما كان عليه المر في ابتداء السلم ،من أن الرجل كان أحق برجعة
امرأته ،وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ،فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم
ال عز وجل إلى ثلث طلقات ،وأباح الرجعة في المرة والثنتين ،وأبانها بالكلية في الثالثة ،
فقال { :الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ }
قال أبو داود ،رحمه ال ،في سننه " :باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلث" :حدثنا أحمد
ابن محمد المروزي ،حدثني علي بن الحسين بن واقد ،عن أبيه ،عن يزيد النحوي ،عن
حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا
سهِنّ ثَلثَةَ قُرُو ٍء وَل يَ ِ
عكرمة ،عن ابن عباس { :وَا ْل ُمطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
خََلقَ اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ } الية :وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ،وإن
طلقها ثلثا ،فنسخ ذلك فقال { :الطّلقُ مَرّتَانِ } الية.
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى ،عن إسحاق بن إبراهيم ،عن علي بن الحسين ،به.
( )1/610
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا هارون بن إسحاق ،حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان -عن هشام بن
عروة ،عن أبيه ،أن رجل قال لمرأته :ل أطلقك أبدًا ول آويك أبدًا .قالت :وكيف ذلك ؟ قال
:أطلقك ،حتى إذا دنا أجلك راجعتك .فأتت رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرت ذلك فأنزل
ال عز وجل { :الطّلقُ مَرّتَانِ }
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد الحميد ،وابن إدريس .ورواه عبد بن
حمَيد في تفسيره ،عن جعفر بن عون ،كلهم عن هشام ،عن أبيه .قال :كان الرجل أحق
ُ
برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ،ما دامت في العدة ،وإن رجل من النصار غضب على
امرأته فقال :وال ل آويك ول أفارقك .قالت :وكيف ذلك .قال :أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ،
ثم أطلقك ،فإذا دنا أجلك راجعتك .فذكرت ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأنزل ال عز
وجل { :الطّلقُ مَرّتَانِ } قال :فاستقبل الناس الطلق ،من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وقد رواه أبو بكر بن مَرْ ُدوَيه ،من طريق محمد بن سليمان ،عن يعلى بن شبيب -مولى الزبير
-عن هشام ،عن أبيه ،عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم .ورواه الترمذي ،عن قتيبة ،عن يعلى
بن شبيب به .ثم رواه عن أبي كريب ،عن ابن إدريس ،عن هشام ،عن أبيه مرسل .قال :هذا
أصح .ورواه الحاكم في مستدركه ،من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب ،عن يعلى بن شبيب
به ،وقال صحيح السناد.
ثم قال ابن مَردُويه :حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ،حدثنا إسماعيل بن عبد ال ،حدثنا محمد
بن حميد ،حدثنا سلمة بن الفضل ،عن محمد بن إسحاق ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن
عائشة قالت :لم يكن للطلق وقت ،يطلقُ الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة ،وكان
بين رَجل من النصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس فقال :وال لتركنك ل أ ّيمًا ول ذات
زوج ،فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ،ففعل ذلك مرارًا ،فأنزل ال عز
وجل فيه { :الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فو ّقتَ الطلق ثلثًا ل رجعة
فيه بعد الثالثة ،حتى تنكح زوجًا غيره .وهكذا رُوي عن قتادة مرسل .وذكره السدي ،وابن
زيد ،وابن جرير كذلك ،واختار أن هذا تفسير هذه الية.
حسَانٍ } أي :إذا طلقتها واحدة أو اثنتين ،فأنت مخير
وقوله { :فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ
فيها ما دامت عدتها باقية ،بين أن تردها إليك ناويًا الصلح بها والحسان إليها ،وبين أن
تتركها حتى تنقضي عدتها ،فتبين منك ،وتطلق سراحها محسنًا إليها ،ل تظلمها من حقها
شيئًا ،ول
( )1/611
تُضارّ بها.
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس قال :إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ،فليتق ال في
الثالثة ،فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [بإحسان] فل يظلمها من حقها
شيئا.
وقال ابن أبي حاتم :أخبرنا يونس بن عبد العلى قراءة ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني سفيان
الثوري ،حدثني إسماعيل بن سميع ،قال :سمعت أبا رَزِين يقول :جاء رجل إلى النبي صلى
ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،أرأيت قول ال عز وجل { :فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ
حسَانٍ } أين الثالثة ؟ قال " :التسريح بإحسان".
بِإِ ْ
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ،ولفظه :أخبرنا يزيد بن أبي حكيم ،عن سفيان ،عن إسماعيل
بن سميع ،أن أبا رزين السدي يقول :قال رجل :يا رسول ال ،أرأيت قول ال " :الطلق
مرتان " ،فأين الثالثة ؟ قال " :التسريح بإحسان الثالثة".
ورواه المام أحمد أيضًا .وهكذا رواه سعيد بن منصور ،عن خالد بن عبد ال ،عن إسماعيل بن
زكريا وأبي معاوية ،عن إسماعيل بن سميع ،عن أبي رزين ،به .وكذا رواه قيس بن الربيع ،
عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسل .ورواه ابن مردويه [أيضا] من طريق عبد
الواحد بن زياد ،عن إسماعيل بن سميع ،عن أنس بن مالك ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،
فذكره .ثم قال :حدثنا عبد ال بن أحمد بن عبد الرحيم ،حدثنا أحمد بن يحيى ،حدثنا عبيد ال
بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك قال :
جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،ذكر ال الطلق مرتين ،فأين
الثالثة ؟ قال " :إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
حدُودَ اللّهِ ] } أي :
خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا [ إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ
حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ
وقوله { :وَل يَ ِ
ل
( )1/612
يحل لكم أن ُتضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن ،ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الصدقة أو
شةٍ
ببعضه ،كما قال تعالى { :وَل َت ْعضُلُوهُنّ لِتَ ْذهَبُوا بِ َب ْعضِ مَا آتَيْ ُتمُوهُنّ إِل أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِ َ
مُبَيّنَةٍ } [النساء ]19 :فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها .فقد قال تعالى { :فَإِنْ طِبْنَ
شيْءٍ مِنْهُ َنفْسًا َفكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [النساء ]4 :وأما إذا تشاقق الزوجان ،ولم تقم المرأة
َلكُمْ عَنْ َ
بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته ،فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ،ول حرج
حلّ َلكُمْ أَنْ تَ ْأخُذُوا ِممّا
عليها في بذلها ،ول عليه في قبول ذلك منها ؛ ولهذا قال تعالى { :وَل َي ِ
خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا
آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ
افْتَ َدتْ بِهِ } الية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الفتداء منه ،فقد قال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار ،حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن علية -قال جميعا
:حدثنا أيوب ،عن أبي قِلبة ،عمن حدثه ،عن ثوبان ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
" :أيما امرأة سألت زوجها طلقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة".
وهكذا رواه الترمذي ،عن بندار ،عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به .وقال حسن :قال :
ويروى ،عن أيوب ،عن أبي قلبة ،عن أبي أسماء ،عن ثوبان .ورواه بعضهم ،عن أيوب
بهذا السناد .ولم يرفعه.
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا حماد بن زيد ،عن أيوب ،عن أبي قلبة -قال :
وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان -قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أيما امرأة سألت
زوجها الطلق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة".
وهكذا رواه أبو داود ،وابن ماجة ،وابن جرير ،من حديث حماد بن زيد ،به.
طريق أخرى :قال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا المعتمر بن سليمان ،عن ليث
،عن أبي إدريس ،عن ثوبان مولي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم أنه قال " :أيما امرأة سألت زوجها الطلق في غير ما بأس ،حَرّم ال عليها رائحة الجنة".
وقال " :المختلعات هن المنافقات".
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا ،عن أبي كريب ،عن مزاحم بن َذوّاد بن عُلْبَة ،عن أبيه ،
عن ليث ،هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب ،عن أبي زُرْعَة ،عن أبي إدريس ،عن ثوبان
قال :
( )1/613
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :المختلعات هن المنافقات" .ثم قال الترمذي :غريب من هذا
الوجه ،وليس إسناده بالقوي.
حديث آخر :قال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر ،حدثنا قيس بن الربيع ،
عن أشعث بن سوار ،عن الحسن عن ثابت بن يزيد ،عن عقبة بن عامر قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب من هذا الوجه ضعيف.
حديث آخر :قال ابن ماجة :حدثنا بكر بن خلف أبو بشر ،حدثنا أبو عاصم ،عن جعفر بن
يحيى بن َثوْبان ،عن عمه عمارةَ بن ثوبان ،عن عطاء ،عن ابن عباس ،أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال " :ل تسألُ امرأة زوجها الطلق في غير كُ ْنهِه فَ َتجِدَ ريح الجنة ،وإن ريحها
ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا وهيب ،حدثنا أيوب ،عن الحسن عن أبي
هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم " :المختلعات والمنتزعات هن المنافقات".
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف :إنه ل يجوز الخلع إل أن يكون الشقاق والنشوز
خذُوا
حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ
من جانب المرأة ،فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ،واحتجوا بقوله { :وَل يَ ِ
حدُودَ اللّهِ ] } .قالوا :فلم يشرع الخلع إل في هذه الحالة
ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا [إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ
ع َدمُه ،وممن ذهب إلى هذا ابن عباس ،وطاوس ،
،فل يجوز في غيرها إل بدليل ،والصل َ
وإبراهيم ،وعطاء [ ،والحسن] والجمهور ،حتى قال مالك والوزاعي :لو أخذ منها شيئًا وهو
مضارّ لها وجب ردّه إليها ،وكان الطلق رجعيًا .قال مالك :وهو المر الذي أدركتُ الناسَ
عليه .وذهب الشافعي ،رحمه ال ،إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق ،وعند التفاق بطريق
الولى والحرى ،وهذا قول جميع أصحابه قاطبة .وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب
"الستذكار" له ،عن بكر بن عبد ال المزني ،أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله { :وآتَيْ ُتمْ
خذُوا مِنْهُ شَيْئًا } [النساء .]20 :ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف
حدَاهُنّ قِ ْنطَارًا فَل تَأْ ُ
إِ ْ
ومأخذ مردود على قائله .وقد ذكر ابن جرير ،رحمه ال ،أن هذه الية نزلت في شأن ثابت بن
شمّاس وامرأته حبيبة بنت عبد ال بن أبي ابن سلول .ولنذكر طرق حديثها ،واختلف
قيس بن َ
ألفاظه :
( )1/614
( )1/615
نحوه.
وهكذا رواه البخاري أيضًا من طرق ،عن أيوب ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،به .وفي
بعضها أنها قالت :ل أطيقه ،تعني :بغضًا .وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه.
ثم قال :حدثنا سليمان بن حرب ،حدثنا حماد بن زيد ،عن أيوب ،عن عكرمة ،أن جميلة
رضي ال عنها .كذا قال ،والمشهور أن اسمها حبيبة [كما تقدم].
قال الحافظ أبو بكر بن مَردويه في تفسيره :حدثنا موسى بن هارون ،حدثنا أزهر بن مروان
الرقاشي ،حدثنا عبد العلى ،حدثنا سعيد ،عن قتادة ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،أن جميلة
بنت سلول أتت النبي صلى ال عليه وسلم فقالت :وال ما أعتب على ثابت بن قيس بن شماس
في دين ول خلق ،ولكنني أكره الكفر بعد السلم ،ل أطيقه بغضًا .فقال النبي صلى ال عليه
وسلم " :تردين عليه حديقته ؟ " قالت :نعم ،فأمره رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يأخذ منها
حديقته ول يزداد.
وهكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان ،بإسناده مثله سواء ،وهو إسناد جيد مستقيم ورواه
أيضا أبو القاسم البغوي ،عن عبيد ال القواريري ،عن عبد العلى ،مثله ،لكن قال ابن جرير
:
حدثنا ابن حميد ،حدثنا يحيى بن واضح ،حدثنا الحسين بن واقد ،عن ثابت ،عن عبد ال بن
رباح عن جميلة بنت أبي ابن سلول :أنها كانت تحت ثابت بن قيس ،فنشزت عليه ،فأرسل
إليها النبي صلى ال عليه وسلم فقال " :يا جميلة ،ما كرهت من ثابت ؟ " قالت :وال ما كرهت
منه دينًا ول خلقًا ،إل أني كرهت دمامته! فقال لها " :أتردين الحديقة ؟ " قالت :نعم .فردت
الحديقة ،وفرق بينهما.
قال ابن جرير أيضا :حدثنا محمد بن عبد العلى ،حدثنا المعتمر بن سليمان قال :قرأت على
فضيل ،عن أبي جرير أنه سأل عكرمة :هل كان للخلع أصل ؟ قال :كان ابن عباس يقول :إن
أول خلع كان في السلم في أخت عبد ال بن أبي ،أنها أتت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
فقالت :يا رسول ال ،ل يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا ،إني رفعتُ جانب الخباء ،فرأيته أقبل
في عدة ،فإذا هو أشدهم سوادًا ،وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا .قال زوجها :يا رسول ال ،
إني قد أعطيتها أفضل مالي ،حديقة لي ،فإن ردت عليّ حديقتي ؟ قال " :ما تقولين ؟ " قالت :
نعم ،وإن شاء زدته .قال :ففرق بينهما.
( )1/616
حديث آخر :قال ابن ماجة :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا أبو خالد الحمر ،عن حجاج ،عن عمرو
بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده قال :كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس ،
وكان رجل دميمًا ،فقالت :يا رسول ال ،وال لول مخافة ال إذا دخل عليّ بصقت في وجهه!
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أتردين عليه حديقته ؟ " قالت :نعم .فردت عليه حديقته.
قال ففرق بينهما رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وقد اختلف الئمة ،رحمهم ال ،في أنه :هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها ؟ فذهب
الجمهور إلى جواز ذلك ،لعموم قوله تعالى { :فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِهِ } وقال ابن جرير
:حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن علية ،أخبرنا أيوب ،عن كثير مولى سمرة :أن عمر
أتي بامرأة ناشز ،فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ،ثم دعا بها فقال :كيف وجدت ؟ فقالت :ما
وجدت راحة منذ كنت عنده إل هذه الليلة التي حبستني .فقال لزوجها :اخلعها ولو من قرطها
ورواه عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن أيوب ،عن كثير مولى سمرة ،فذكر مثله ،وزاد :
فحبسها فيه ثلثة أيام.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ،عن قتادة ،عن حميد بن عبد الرحمن :أن امرأة أتت عمر بن
الخطاب ،فشكت زوجها ،فأباتها في بيت الزبل .فلما أصبحت قال لها :كيف وجدت مكانك ؟
قالت :ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة .فقال :خذ ولو عقاصها.
وقال البخاري :وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن عبد ال بن محمد بن عقيل :أن الربيع بنت معوذ بن
عفراء حدثته قالت :كان لي زوج ُيقِلّ عليّ الخير إذا حضرني ،ويحرمني إذا غاب عني .قالت
:فكانت مني زلة يومًا ،فقلت له :أختلع منك بكل شيء أملكه ؟ قال :نعم .قالت :ففعلت .قالت
فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ،فأجاز الخلع ،وأمره أن يأخذ عقاص رأسي
فما دونه ،أو قالت :ما دون عقاص الرأس.
ومعنى هذا :أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ،ول يترك لها سوى عقاص
شعرها .وبه يقول ابن عمر ،وابن عباس ،ومجاهد ،وعكرمة ،وإبراهيم النخعي ،وقبيصة بن
ذؤيب ،والحسن بن صالح ،وعثمان البتي .وهذا مذهب مالك ،والليث ،والشافعي ،وأبي
ثور ،واختاره ابن جرير.
( )1/617
وقال أصحاب أبي حنيفة ،رحمهم ال :إن كان الضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما
أعطاها ،ول تجوز الزيادة عليه ،فإن ازداد جاز في القضاء :وإن كان الضرار من جهته لم
يجز أن يأخذ منها شيئا ،فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال المام أحمد ،وأبو عبيد ،وإسحاق بن راهويه :ل يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
وهذا قول سعيد بن المسيب ،وعطاء ،وعمرو بن شعيب ،والزهري ،وطاوس ،والحسن ،
والشعبي ،وحماد بن أبي سليمان ،والربيع بن أنس.
وقال معمر ،والحكم :كان علي يقول :ل يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها .وقال الوزاعي :
القضاة ل يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها.
قلت :ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،في قصة
ثابت بن قيس :فأمره رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ول يزداد ،وبما
روى عبد بن حميد حيث قال :أخبرنا قبيصة ،عن سفيان ،عن ابن جريج ،عن عطاء :أن
النبي صلى ال عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الية
حلّ
على معنى { فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ ِبهِ } أي :من الذي أعطاها ؛ لتقدم قوله { :وَل [ َي ِ
خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ
خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِل أَنْ َيخَافَا أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ
َلكُمْ أَنْ ] تَأْ ُ
فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْ َت َدتْ ِبهِ } أي :من ذلك .وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس " :فَل جُنَاحَ
عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِه مِنْهُ" رواه ابن جرير ؛ ولهذا قال بعده { :تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْ َتدُوهَا َومَنْ
يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }
فصل
قال الشافعي :اختلف أصحابنا في الخلع ،فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ،عن طاوس ،
عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ،يتزوجها إن شاء ؛ لن ال
جعَا } قال الشافعي :وأخبرنا سفيان ،عن
تعالى يقول { :الطّلقُ مَرّتَانِ } قرأ إلى { :أَنْ يَتَرَا َ
عمرو [بن دينار] عن عكرمة قال :كل شيء أجازه المال فليس بطلق.
وروى غير الشافعي ،عن سفيان بن عيينة ،عن عمرو بن دينار ،عن طاوس ،عن ابن عباس
:أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال :رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ،
أيتزوجها ؟ قال :نعم ،ليس الخلع بطلق ،ذكر ال الطلق في أول الية وآخرها ،والخلع فيما
حسَانٍ }
بين ذلك ،فليس الخلع بشيء ،ثم قرأ { :الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ
حلّ لَهُ مِنْ َب ْعدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ }
وقرأ { :فَإِنْ طَّل َقهَا فَل َت ِ
( )1/618
وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي ال عنهما -من أن الخلع ليس بطلق ،وإنما هو فسخ -
هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،وابن عمر .وهو قول طاوس ،وعكرمة .وبه
يقول أحمد بن حنبل ،وإسحاق بن راهويه ،وأبو ثور ،وداود بن علي الظاهري .وهو مذهب
الشافعي في القديم ،وهو ظاهر الية الكريمة.
والقول الثاني في الخلع :إنه طلق بائن إل أن ينوي أكثر من ذلك .قال مالك ،عن هشام بن
جمْهان مولى السلميين عن أم بكر السلمية :أنها اختلعت من زوجها
عروة ،عن أبيه ،عن ُ
عبد ال بن خالد بن أسيد ،فأتيا عثمان بن عفان في ذلك ،فقال :تطليقة ؛ إل أن تكون سميت
جمْهان .وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الثر ،
شيئًا فهو ما سميت .قال الشافعي :ول أعرف ُ
وال أعلم.
وقد روي نحوه عن عمر ،وعلي ،وابن مسعود ،وابن عمر .وبه يقول سعيد بن المسيب ،
والحسن ،وعطاء ،وشريح ،والشعبي ،وإبراهيم ،وجابر بن زيد .وإليه ذهب مالك ،وأبو
حنيفة ،وأصحابه ،والثوري ،والوزاعي ،وعثمان التبي ،والشافعي في الجديد .غير أن
الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة .وإن نوى
ثلثًا فثلث .وللشافعي قول آخر في الخلع ،وهو :أنه متى لم يكن بلفظ الطلق ،وعري عن
النية فليس هو بشيء بالكلية.
مسألة :
وذهب مالك ،وأبو حنيفة ،والشافعي ،وأحمد وإسحاق في رواية عنهما ،وهي المشهورة ؛ إلى
أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلثة قروء ،إن كانت ممن تحيض .وروي ذلك عن عمر ،
وعلي ،وابن عمر .وبه يقول سعيد بن المسيب ،وسليمان بن يسار ،وعروة ،وسالم ،وأبو
سلمة ،وعمر بن عبد العزيز ،وابن شهاب ،والحسن ،والشعبي ،وإبراهيم النخعي ،وأبو
عياض ،وجُلس بن عمرو ،وقتادة ،وسفيان الثوري ،والوزاعي ،والليث بن سعد ،وأبو
عبيد .قال الترمذي :وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم .ومأخذهم في هذا أن الخلع
طلق ،فتعتد كسائر المطلقات.
والقول الثاني :أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها .قال ابن أبي شيبة :حدثنا يحيى بن
سعيد ،عن عبيد ال بن عمر ،عن نافع أن الربيع اختلعت من زوجها ،فأتى عمها عثمان ،
رضي ال عنه ،فقال :تعتد حيضة .قال :وكان ابن عمر يقول :تعتد ثلث حيض ،حتى قال
هذا عثمان ،فكان ابن عمر يفتي به ويقول :عثمان خيرنا وأعلمنا.
وحدثنا عبدة ،عن عبيد ال ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :عدة المختلعة حيضة.
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ،عن ليث ،عن طاوس ،عن ابن عباس قال :عدتها
حيضة .وبه يقول عكرمة ،وأبان بن عثمان ،وكل من تقدم ذكره ممن يقول :إن الخلع فسخ -
يلزمه
( )1/619
القول بهذا ،واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود ،والترمذي ،حيث قال كل واحد منهما :حدثنا
محمد بن عبد الرحيم البغدادي ،حدثنا علي بن بحر ،حدثنا هشام بن يوسف ،عن معمر ،عن
عمرو بن مسلم ،عن عكرمة ،عن ابن عباس :أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على
عهد النبي صلى ال عليه وسلم ،فأمرها النبي صلى ال عليه وسلم أن تعتد بحيضة .ثم قال
الترمذي :حسن غريب .وقد رواه عبد الرزاق ،عن معمر ،عن عمرو بن مسلم ،عن عكرمة
مرسل.
حديث آخر :قال الترمذي :حدثنا محمود بن غيلن ،حدثنا الفضل بن موسى ،عن سفيان ،
حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة ،عن سليمان بن يسار ،عن الربيع بنت معوذ
بن عفراء :أنها اختلعت على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمرها النبي -أو أمرت -
أن تعتد بحيضة .قال الترمذي :الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة.
طريق أخرى :قال ابن ماجة :حدثنا علي بن سلمة النيسابوري ،حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن
سعد ،حدثنا أبي عن ابن إسحاق ،أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ،عن الربيع
بنت معوذ بن عفراء قال :قلت لها :حدثيني حديثك .قالت :اختلعت من زوجي ،ثم جئت
عثمان ،فسألت :ماذا علي من العدة ؟ قال :ل عدة عليك ،إل أن يكون حديث عهد بك فتمكثين
عنده حتى تحيضي حيضة .قالت :وإنما تبع في ذلك قضاء رسول ال صلى ال عليه وسلم في
مريم المغالية ،وكانت تحت ثابت بن قيس ،فاختلعت منه.
وقد روى ابن لهيعة ،عن أبي السود ،عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ،عن
الربيع بنت معوذ قالت :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين
اختلعت منه أن تعتد بحيضة.
مسألة :
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الئمة الربعة وجمهور العلماء ؛
لنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء .وروي عن عبد ال بن أبي أوفى ،وماهان
الحنفي ،وسعيد بن المسيب ،والزهري أنهم قالوا :إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في
العدة بغير رضاها ،وهو اختيار أبي ثور ،رحمه ال .وقال سفيان الثوري :إن كان الخلع بغير
لفظ الطلق فهو فرقة ول سبيل له عليها .وإن كان سمى طلقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في
العدة .وبه يقول داود بن علي الظاهري :واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة.
وحكى الشيخ أبو عمر
( )1/620
بن عبد البر ،عن فرقة أنه ل يجوز له ذلك ،كما ل يجوز لغيره ،وهو قول شاذ مردود.
مسألة :
وهل له أن يوقع عليها طلقا آخر في العدة ؟ فيه ثلثة أقوال للعلماء :
أحدهما :ليس له ذلك ؛ لنها قد ملكت نفسها وبانت منه .وبه يقول ابن عباس ،وابن الزبير ،
وعكرمة ،وجابر بن زيد ،والحسن البصري ،والشافعي ،وأحمد بن حنبل ،وإسحاق بن
راهويه ،وأبو ثور.
والثاني :قال مالك :إن أتبع الخلع طلقا من غير سكوت بينهما وقع ،وإن سكت بينهما لم يقع.
قال ابن عبد البر :وهذا يشبه ما روي عن عثمان ،رضي ال عنه.
والثالث :أنه يقع عليها الطلق بكل حال ما دامت في العدة ،وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ،
والثوري ،والوزاعي .وبه يقول سعيد بن المسيب ،وشريح ،وطاوس ،وإبراهيم ،والزهري ،
والحكم وحماد بن أبي سليمان .وروي ذلك عن ابن مسعود ،وأبي الدرداء قال ابن عبد البر :
وليس ذلك بثابت عنهما.
حدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } أي :هذه
وقوله { :تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ ُ
الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده ،فل تتجاوزوها .كما ثبت في الحديث الصحيح " :إن ال حد
حدودًا فل تعتدوها ،وفرض فرائض فل تضيعوها ،وحرم محارم فل تنتهكوها ،وسكت عن
أشياء رحمة لكم من غير نسيان ،فل تسألوا عنها".
وقد يستدل بهذه الية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلث بكلمة واحدة حرام ،كما هو مذهب
المالكية ومن وافقهم ،وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة ،لقوله { :الطّلقُ مَرّتَانِ } ثم
قال { :تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } و ُيقَوّون ذلك
بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال :حدثنا سليمان بن داود ،أخبرنا
ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ،عن محمود بن لبيد قال :أخبر رسول ال صلى ال
عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلث تطليقات جميعًا فقام غضبان ،ثم قال " :أيلعب بكتاب ال
وأنا بين أظهركم ؟! " حتى قام رجل فقال يا رسول ال ،أل أقتله ؟ فيه انقطاع.
حلّ َلهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ } أي :أنه إذا طلق الرجل
طّلقَهَا فَل َت ِ
وقوله تعالى { :فَإِنْ َ
امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلق مرتين ،فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره ،
أي :حتى يطأها
( )1/621
زوج آخر في نكاح صحيح ،فلو وطئها واطئ في غير نكاح ،ولو في ملك اليمين لم تحل للول
؛ لنه ليس بزوج ،وهكذا لو تزوجت ،ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للول ،واشتهر بين
كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب ،رحمه ال ،أنه يقول :يحصل المقصود من تحليلها
للول بمجرد العقد على الثاني .وفي صحته عنه نظر ،على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد
حكاه عنه في الستذكار ،فال أعلم.
وقد قال أبو جعفر بن جرير ،رحمه ال :حدثنا ابن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،عن شعبة ،
عن علقمة بن مرثد ،عن سالم بن رزين ،عن سالم بن عبد ال عن سعيد بن المسيب ،عن ابن
عمر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ،
فيتزوجها زوج آخر فيطلقها ،قبل أن يدخل بها :أترجع إلى الول ؟ قال " :ل حتى تذوق
عسيلته ويذوق عسيلتها".
هكذا وقع في رواية ابن جرير ،وقد رواه المام أحمد فقال :
حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن علقمة بن مرثد ،سمعت سالم بن رزين يحدث عن
سالم بن عبد ال ،يعني :ابن عمر ،عن سعيد بن المسيب ،عن ابن عمر ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم :في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ،ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها ،
فترجع إلى زوجها الول ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :حتى يذوق العسيلة".
وهكذا رواه النسائي ،عن عمرو بن علي الفلس ،وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار كلهما
عن محمد بن جعفر غندر ،عن شعبة ،به كذلك .فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر
مرفوعًا ،على خلف ما يحكى عنه ،فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ،وال أعلم.
وقد روى أحمد أيضا ،والنسائي ،وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري ،عن علقمة
بن مرثد ،عن رزين بن سليمان الحمري ،عن ابن عمر قال :سئل النبي صلى ال عليه وسلم
عن الرجل يطلق امرأته ثلثا فيتزوجها آخر ،فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها ،قبل أن
يدخل بها :هل تحل للول ؟ قال " :ل حتى يذوق العسيلة".
وهذا لفظ أحمد ،وفي رواية لحمد :سليمان بن رزين.
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا محمد بن دينار ،حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي
،عن أنس بن مالك :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها
ثلثا فتزوجت بعده رجل فطلقها قبل أن يدخل بها :أتحل لزوجها الول ؟ فقال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :ل حتى يكون الخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته".
( )1/622
ورواه ابن جرير ،عن محمد بن إبراهيم النماطي ،عن هشام بن عبد الملك ،حدثنا محمد بن
دينار ،فذكره.
قلت :ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الزدي ثم الطاحي البصري ،ويقال له :ابن أبي
الفرات :اختلفوا فيه ،فمنهم من ضعفه ،ومنهم من قواه وقبله وحسن له .وقال أبو داود :أنه
تغير قبل موته ،فال أعلم.
حديث آخر :قال ابن جرير :حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلني ،حدثنا أبي ،حدثنا
شيبان ،حدثنا يحيى بن أبي كثير ،عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلثا فتتزوج زوجا غيره ،فيطلقها قبل أن
يدخل بها ،فيريد الول أن يراجعها ،قال " :ل حتى يذوق الخر عسيلتها".
ثم رواه من وجه آخر عن شيبان ،وهو ابن عبد الرحمن ،به .وأبو الحارث غير معروف.
حديث آخر :قال ابن جرير :
حدثنا ابن مثنى ،حدثنا يحيى ،عن عبيد ال ،حدثنا القاسم ،عن عائشة :أن رجل طلق امرأته
ثلثا ،فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها ،فسئل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أتحل للول
؟ فقال " :ل حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الول".
أخرجه البخاري ،ومسلم ،والنسائي ،من طرق ،عن عبيد ال بن عمر العمري ،عن القاسم
بن عبد الرحمن بن أبي بكر ،عن عمته عائشة ،به.
طريق أخرى :قال ابن جرير :
حدثنا عبيد ال بن إسماعيل الهباري ،وسفيان بن وكيع ،وأبو هشام الرفاعي قالوا :حدثنا أبو
معاوية ،عن العمش ،عن إبراهيم ،عن السود ،عن عائشة قالت :سئل رسول ال صلى ال
عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ،فتزوجت رجل غيره ،فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها :
أتحل لزوجها الول ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تحل لزوجها الول حتى يذوق
الخر عسيلتها وتذوق عسيلته".
وكذا رواه أبو داود عن مسدد ،والنسائي عن أبي كريب ،كلهما عن أبي معاوية ،وهو محمد
بن حازم الضرير ،به.
طريق أخرى :قال مسلم في صحيحه :
( )1/623
حدثنا محمد بن العلء الهمداني ،حدثنا أبو أسامة ،عن هشام ،عن أبيه ،عن عائشة :أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ،فتتزوج رجل فيطلقها
قبل أن يدخل بها :أتحل لزوجها الول ؟ قال " :ل حتى يذوق عسيلتها".
قال مسلم :وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ،حدثنا ابن فضيل :وحدثنا أبو كريب ،حدثنا أبو
معاوية جميعا ،عن هشام بهذا السناد.
وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم ،عن هشام به .وتفرد به مسلم من
الوجهين الخرين .وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد ال بن المبارك ،عن هشام بن عروة ،
عن أبيه ،عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله .وهذا إسناد جيد .وكذا رواه ابن جرير أيضا ،من
طريق علي بن زيد بن جدعان ،عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري :حدثنا عمرو بن علي ،
حدثنا يحيى ،عن هشام ،حدثني أبي ،عن عائشة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم .وحدثنا
عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا عبدة ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة :أن رفاعة
القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ،فتزوجت آخر فأتت النبي صلى ال عليه وسلم ،فذكرت له أنه ل
يأتيها ،وأنه ليس معه إل مثل هدبة الثوب فقال " :ل حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ".
تفرد به من هذين الوجهين.
طريق أخرى :قال المام أحمد :حدثنا عبد العلى ،عن معمر ،عن الزهري ،عن عروة ،
عن عائشة قالت :دخلت امرأة رفاعة القرظي -وأنا وأبو بكر عند النبي صلى ال عليه وسلم -
فقالت :إن رفاعة طلقني البتة ،وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ،وإنما عنده مثل الهدبة ،
وأخذت هدبة من جلبابها ،وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له ،فقال :يا أبا بكر ،أل
تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم! فما زاد رسول ال صلى ال
عليه وسلم على التبسم ،وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كأنك تريدين أن ترجعي إلى
رفاعة ،ل حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وهكذا رواه البخاري من حديث عبد ال بن المبارك ،ومسلم من حديث عبد الرزاق ،والنسائي
من حديث يزيد بن زريع ،ثلثتهم عن معمر به .وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم :أن
( )1/624
رفاعة طلقها آخر ثلث تطليقات .وقد رواه الجماعة إل أبا داود من طريق سفيان بن عيينة ،
والبخاري من طريق عقيل ،ومسلم من طريق يونس بن يزيد [وعنده ثلث تطليقات ،والنسائي
من طريق أيوب بن موسى ،ورواه صالح بن أبي الخضر] كلهم عن الزهري ،عن عروة ،
عن عائشة ،به.
وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير :أن رفاعة بن
سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثا ،فنكحت عبد
الرحمن بن الزبير ،فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ،ففارقها ،فأراد رفاعة أن ينكحها ،
وهو زوجها الول الذي كان طلقها ،فذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فنهاه عن
تزويجها ،وقال " :ل تحل لك حتى تذوق العسيلة" كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه
ط ْهمَان ،وعبد ال بن وهب ،عن مالك ،عن رفاعة ،عن الزبير
انقطاع .وقد رواه إبراهيم بن َ
بن عبد الرحمن ،عن أبيه ،فوصله.
فصل
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ،قاصدا لدوام عشرتها ،كما هو المشروع
من التزويج ،واشترط المام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحًا ،فلو وطئها وهي محرمة
أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف ،لم تحل للول
بهذا الوطء .وكذا لو كان الزوج الثاني ذميًا لم تحل للمسلم بنكاحه ؛ لن أنكحة الكفار باطلة عنده.
واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ،
وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه السلم " :حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ،ويلزم على
هذا أن تنزل المرأة أيضا .وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه المام أحمد والنسائي ،عن
عائشة رضي ال عنها :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :أل إن العسيلة الجماع" فأما إذا
كان الثاني إنما قصده أن يحلها للول ،فهذا هو المحلل الذي وردت الحاديث بذمه ولعنه ،
ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الئمة.
ذكر الحاديث الواردة في ذلك
الحديث الول :عن ابن مسعود .قال المام أحمد :
( )1/625
حدثنا الفضل بن ُدكَيْن ،حدثنا سفيان ،عن أبي قيس ،عن الهذيل ،عن عبد ال قال :لعن
رسول ال صلى ال عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ،والمحلل والمحلل
له ،وآكل الربا وموكله.
ثم رواه أحمد ،والترمذي ،والنسائي من غير وجه ،عن سفيان ،وهو الثوري ،عن أبي قيس
واسمه عبد الرحمن بن ثروان الودي ،عن هزيل بن شرحبيل الودي ،عن عبد ال بن مسعود
عن النبي صلى ال عليه وسلم به .ثم قال الترمذي :هذا حديث حسن صحيح .قال :والعمل على
هذا عند أهل العلم من الصحابة ،منهم :عمر ،وعثمان ،وابن عمر .وهو قول الفقهاء من
التابعين ،ويروى ذلك عن علي ،وابن مسعود ،وابن عباس.
طريق أخرى :عن ابن مسعود .قال المام أحمد :حدثنا زكريا بن عدي ،حدثنا عبيد ال ،عن
عبد الكريم ،عن أبي الواصل ،عن ابن مسعود ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :لعن
ال المحلل والمحلل له".
طريق أخرى :روى المام أحمد ،والنسائي ،من حديث العمش ،عن عبد ال بن مرة ،عن
الحارث العور ،عن عبد ال بن مسعود قال :آكل الربا وموكله ،وشاهداه وكاتبه إذا علموا
به ،والواصلة ،والمستوصلة ،ولوي الصدقة ،والمتعدي فيها ،والمرتد على عقبيه إعراضا
بعد هجرته ،والمحلل والمحلل له ،ملعونون على لسان محمد صلى ال عليه وسلم يوم القيامة.
الحديث الثاني :عن علي رضي ال عنه .قال المام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا سفيان ،عن جابر [وهو ابن يزيد الجعفي] عن الشعبي ،عن الحارث
،عن علي قال :لعن رسول ال صلى ال عليه وسلم آكل الربا وموكله ،وشاهديه وكاتبه ،
والواشمة والمستوشمة للحُسْن ،ومانع الصدقة ،والمحلل ،والمحلل له ،وكان ينهى عن النوح.
وكذا رواه عن غندر ،عن شعبة ،عن جابر ،وهو ابن يزيد الجعفي ،عن الشعبي عن
الحارث ،عن علي ،به.
وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد ،وحصين بن عبد الرحمن ،ومجالد بن سعيد ،وابن
عون ،عن عامر الشعبي ،به.
( )1/626
وقد رواه أبو داود ،والترمذي ،وابن ماجة من حديث الشعبي ،به .ثم قال أحمد :
حدثنا محمد بن عبد ال ،حدثنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن الحارث ،عن علي قال :لعن
رسول ال صلى ال عليه وسلم صاحب الربا ،وآكله ،وكاتبه ،وشاهده ،والمحلل ،والمحلل
له.
الحديث الثالث :عن جابر :قال الترمذي :
حدثنا أبو سعيد الشج ،أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي ،حدثنا مجالد ،عن
الشعبي ،عن جابر بن عبد ال وعن الحارث ،عن علي :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
لعن المحلل والمحلل له ثم قال :وليس إسناده بالقائم ،ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم ،
منهم أحمد بن حنبل .قال :ورواه ابن نمير ،عن مجالد ،عن الشعبي ،عن جابر بن عبد ال ،
عن علي .قال :وهذا وهم من ابن نمير ،والحديث الول أصح.
الحديث الرابع :عن عقبة بن عامر :قال أبو عبد ال محمد بن يزيد بن ماجة :
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ،حدثنا أبي ،سمعت الليث بن سعد يقول :قال أبو
مصعب مشرح هو :ابن عاهان ،قال عقبة بن عامر :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أل
أخبركم بالتيس المستعار ؟ " قالوا :بلى يا رسول ال .قال " :هو المحلّل ،لعن ال المحلل
والمحلل له".
تفرد به ابن ماجة .وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ،عن عثمان بن صالح ،عن
الليث ،به ،ثم قال :كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا.
قلت :عثمان هذا أحد الثقات ،روى عنه البخاري في صحيحه .ثم قد تابعه غيره ،فرواه جعفر
الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد ال بن صالح ،عن الليث به ،
فبرئ من عهدته وال أعلم.
الحديث الخامس :عن ابن عباس .قال ابن ماجة :
حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا أبو عامر ،عن زمعة بن صالح ،عن سلمة بن وهرام ،عن
عكرمة ،عن ابن عباس قال :لعن رسول ال صلى ال عليه وسلم المحلل والمحلل له.
طريق أخرى :قال المام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني
السعدي :حدثنا ابن أبي مريم ،حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ،
عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن نكاح المحلل قال :
"ل إل نكاح
( )1/627
( )1/628
( )1/629
سكُوهُنّ ضِرَارًا
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ وَلَا ُت ْم ِ
وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فََأ ْم ِ
خذُوا آَيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم َومَا أَنْ َزلَ
س ُه وَلَا تَتّ ِ
لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ ()231
ظكُمْ ِب ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
ح ْكمَةِ َيعِ ُ
ب وَالْ ِ
عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
سكُوهُنّ
ف وَل ُت ْم ِ
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُو ٍ
{ وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ
ضِرَارًا لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْسَ ُه وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ
شيْءٍ عَلِيمٌ (
ظ ُكمْ بِ ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
ح ْكمَةِ َيعِ ُ
َومَا أَنزلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَالْ ِ
} )231
هذا أمر من ال عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلقا له عليها فيه رجعة ،أن يحسن في
أمرها إذا انقضت عدتها ،ولم يبق منها إل مقدار ما يمكنه فيه رجعتها ،فإما أن يمسكها ،أي :
يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف ،وهو أن يشهد على رجعتها ،وينوي عشرتها بالمعروف ،
أو يسرحها ،أي :يتركها حتى تنقضي عدتها ،ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن ،من غير
ن ضِرَارًا لِ َتعْتَدُوا } قال ابن
سكُوهُ ّ
شقاق ول مخاصمة ول تقابح ،قال ال تعالى { :وَل ُتمْ ِ
عباس ،ومجاهد ،ومسروق ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،والربيع ،ومقاتل بن حيان وغير
واحد :كان الرجل يطلق المرأة ،فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا ،لئل تذهب إلى
غيره ،ثم يطلقها فتعتد ،فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ،فنهاهم ال عن
ذلك ،وتوعدهم عليه فقال َ { :ومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظََلمَ َنفْسَهُ } أي :بمخالفته أمر ال تعالى.
خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } قال ابن جرير :عند هذه الية :
وقوله { :وَل تَتّ ِ
أخبرنا أبو كُرَيْب ،أخبرنا إسحاق بن منصور ،عن عبد السلم بن حرب ،عن يزيد بن عبد
الرحمن ،عن أبي العلء الودي ،عن حميد بن عبد الرحمن ،عن أبي موسى :أن رسول ال
( )1/629
صلى ال عليه وسلم غضب على الشعريين ،فأتاه أبو موسى فقال :يا رسول ال ،أغضبت
على الشعريين ؟! فقال :يقول أحدكم :قد طلقت ،قد راجعت ،ليس هذا طلق المسلمين ،
طلقوا المرأة في قُبُل عدتها" (.)1
ثم رواه من وجه آخر ( )2عن أبي خالد الدالني ،وهو يزيد بن عبد الرحمن ،وفيه كلم.
وقال مسروق :هو ( )3الذي يطلق في غير كنهه ،ويضار امرأته بطلقها وارتجاعها ،لتطول
عليها العدة.
وقال الحسن ،وقتادة ،وعطاء الخراساني ،والربيع ،ومقاتل بن حيان :هو الرجل يطلق ويقول
:كنت لعبًا أو يعتق أو ينكح ويقول :كنت لعبًا .فأنزل ال { :وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا }
فألزم ال بذلك.
وقال ابن مردويه :حدثنا إبراهيم بن محمد ،حدثنا أبو أحمد الصيرفي ،حدثني جعفر بن محمد
السمسار ،عن إسماعيل بن يحيى ،عن سفيان ،عن ليث ،عن مجاهد ،عن ابن عباس قال :
خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا }
طلق رجل امرأته وهو يلعب ،ل يريد الطلق ؛ فأنزل ال { :وَل تَتّ ِ
فألزمه رسول ال صلى ال عليه وسلم الطلق.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا عصام بن زوّاد ،حدثنا آدم ،حدثنا المبارك بن فضالة ،عن الحسن ،
هو البصري ،قال :كان الرجل يطلق ويقول :كنت لعبًا أو يعتق ( )4ويقول :كنت لعبًا
وينكح ويقول :كنت لعبًا فأنزل ال { :وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } وقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح ،جادًا أو لعبًا ،فقد جاز عليه".
وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري ،عن سليمان بن أرقم ،عن الحسن ،مثله .وهذا مرسل
( .)5وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد ،عن الحسن ،عن أبي الدرداء ،موقوفًا
عليه .وقال أيضًا :
حدثنا أحمد بن الحسن ( )6بن أيوب ،حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب ،حدثنا يحيى بن عبد
الحميد ،حدثنا أبو معاوية ،عن إسماعيل بن سلمة ،عن الحسن ،عن عبادة بن الصامت ،في
خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } قال :كان الرجل على عهد النبي صلى ال عليه
قول ال تعالى { :وَل تَتّ ِ
وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول :كنت لعبًا .ويقول :قد أعتقت ،ويقول :كنت لعبًا
خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلث من
فأنزل ال { :وَل تَتّ ِ
قالهن لعبًا أو غير لعب ،فهن جائزات عليه :الطلق ،والعتاق ،والنكاح" (.)7
__________
( )1تفسير الطبري (.)5/14
( )2في جـ " :ثم رواه ابن ماجة من وجه آخر".
( )3في جـ " :وهو".
( )4في جـ " :ويعتق".
( )5تفسير الطبري ( )5/13ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )5/106من طريق آخر ،فرواه
عن عيسى بن يونس ،عن عمرو ،عن الحسن به.
( )6في جـ " :بن الحسين".
( )7ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (" )501زوائده" من طريق آخر ،فرواه من
طريق ابن لهيعة ،عن عبيد ال بن أبي جعفر ،عن عبادة بن الصامت به مرفوعا.
( )1/630
والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود ،والترمذي ،وابن ماجة من طريق عبد الرحمن
بن حبيب بن أردك ،عن عطاء ،عن ابن ماهك ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :ثلث جدهن جد ،وهزلهن جد :النكاح ،والطلق ،والرجعة" ( .)1وقال الترمذي
:حسن غريب.
وقوله { :وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } أي :في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم { َومَا أَنزلَ
ظكُمْ بِهِ } أي :يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على
ح ْكمَةِ } أي :السنة { َيعِ ُ
ب وَالْ ِ
عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
ارتكاب المحارم { وَا ّتقُوا اللّهَ } أي :فيما تأتون وفيما تذرون { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
أي :فل يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية ،وسيجازيكم على ذلك.
ضوْا بَيْ َن ُهمْ بِا ْل َمعْرُوفِ
جهُنّ إِذَا تَرَا َ
{ وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فَل َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْنكِحْنَ أَ ْزوَا َ
طهَ ُر وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ ل
ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ َذِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُ ْم وَأَ ْ
َتعَْلمُونَ (} )232
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :نزلت هذه الية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو
طلقتين ،فتنقضي عدتها ،ثم يبدو له أن يتزوجها ( )2وأن يراجعها ،وتريد المرأة ذلك ،فيمنعها
أولياؤها من ذلك ،فنهى ال أن يمنعوها .وكذا ( )3روى العوفي ،عنه ،وكذا قال مسروق ،
وإبراهيم النخعي ،والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك .وهذا الذي قالوه ظاهر من الية ،
وفيها دللة على أن المرأة ل تملك أن تزوج نفسها ،وأنه ل بد في تزويجها ( )4من ولي ،كما
قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الية ،كما جاء في الحديث :ل تزوج المرأةُ المرأ َة ،ول
تزوج المرأة نفسها ،فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ( .)5وفي الثر الخر :ل نكاح إل بولي
مرشد ،وشاهدي عدل .وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ،
وقد قررنا ذلك في كتاب "الحكام" ،ول الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ،فقال البخاري ،رحمه ال ،في
كتابه الصحيح عند تفسير هذه الية :
حدثنا عبيد ال بن سعيد ،حدثنا أبو عامر العقدي ،حدثنا عباد بن راشد ،حدثنا الحسن قال :
حدثني معقل بن يسار قال :كانت لي أخت تخطب إلي -قال البخاري :وقال إبراهيم ،عن
يونس ،عن الحسن :حدثني معقل بن يسار .وحدثنا أبو َم ْعمَر ،حدثنا عبد الوارث ،حدثنا يونس
،عن الحسن :أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ،فتركها حتى انقضت عدتها ،فخطبها ،
فأبى معقل ،
__________
( )1سنن أبي داود برقم ( )2194وسنن الترمذي برقم ( )1184وسنن ابن ماجة برقم (.)2039
( )2في جـ " :ثم يبدو له تزويجها".
( )3في جـ " :وكذلك".
( )4في جـ ،أ " :في النكاح".
( )5رواه ابن ماجة في السنن برقم ( )1882من طريق محمد بن مروان عن هشام بن حسان ،
عن محمد بن سيرين ،عن أبي هريرة مرفوعا به ،وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/84هذا
إسناد مختلف فيه".
( )1/631
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُنّ
ضعْنَ َأوْلَادَهُنّ َ
وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
س َعهَا لَا ُتضَارّ وَاِل َدةٌ ِبوَلَدِهَا وَلَا َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِد ِه وَعَلَى
سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ لَا ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِلّا وُ ْ
َوكِ ْ
ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ
ضعُوا َأوْلَا َدكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا
تَسْتَ ْر ِ
َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ()233
جهُنّ } (.)1
فنزلت { :فَل َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْن ِكحْنَ أَ ْزوَا َ
وهكذا رواه أبو داود ،والترمذي ،وابن ماجة ،وابن أبي حاتم ،وابن جرير ،وابن مردويه من
طرق متعددة ،عن الحسن ،عن معقل بن يسار ،به ( .)2وصححه الترمذي أيضًا ،ولفظه عن
معقل ابن يسار :أنه زوج أخته رجل من المسلمين ،على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
فكانت عنده ما كانت ،ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ،فهويها وهويته ،ثم
خطبها مع الخطاب ،فقال له :يا لكع ( )3أكرمتك بها وزوجتكها ،فطلقتها! وال ل ترجع إليك
أبدًا ،آخر ما عليك قال :فعلم ال حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ،فأنزل ال { :وَإِذَا طَّلقْتُمُ
سمْعٌ لربي وطاعة
النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ } إلى قوله { :وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ } فلما سمعها معقل قال َ :
ثم دعاه ،فقال :أزوجك وأكرمك ،زاد ابن مردويه :وكفرت عن يميني.
وروى ابن جرير ( )4عن ابن جريج قال :هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ،وقال
سفيان الثوري ،عن أبي إسحاق السبيعي قال :هي فاطمة بنت يسار .وهكذا ذكر غير واحد من
السلف :أن هذه الية نزلت في معقل بن يسار وأخته .وقال السدي :نزلت في جابر بن عبد
ال ،وابنة عم له ،والصحيح الول ،وال أعلم.
وقوله { :ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } أي :هذا الذي نهيناكم عنه من
منع الوليا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ،يأتمر به ويتعظ به وينفعل له
{ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ } أيها الناس { ُي ْؤمِنّ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ } أي :يؤمن بشرع ال ،ويخاف وعيد
طهَرُ } أي :اتباعكم
ال وعذابه في الدار الخرة ( )5وما فيها من الجزاء { ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُ ْم وََأ ْ
شرع ال في رد الموليات إلى أزواجهن ،وترك الحمية في ذلك ،أزكى لكم وأطهر لقلوبكم
{ وَاللّهُ َيعْلَمُ } أي :من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ } أي :الخيرة فيما
تأتون ول فيما تذرون.
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ َلهُ رِ ْز ُقهُنّ
ضعْنَ َأوْلدَهُنّ َ
{ وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
س َعهَا ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَ ِدهَا وَل َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِد ِه وَعَلَى
سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ ل ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِل وُ ْ
َوكِ ْ
ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَال عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَ َردْتُمْ أَنْ
ضعُوا َأوْل َد ُكمْ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا
تَسْتَ ْر ِ
َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (} )233
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4529
( )2سنن أبي داود برقم ( )2087وسنن الترمذي برقم ( )2981وتفسير الطبري ()18 ، 5/17
ولم يعزه المزي في تحفة الشراف لسنن ابن ماجة.
( )3في أ " :فقال له وكيع".
( )4في جـ " :ابن جريج".
( )5في جـ " :في الدنيا والخرة".
( )1/632
هذا إرشاد من ال تعالى ( ) 1للوالدات :أن يرضعن أولدهن كمال الرضاعة ،وهي سنتان ،فل
اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ؛ ولهذا ( )2قال ِ { :لمَنْ أَرَادَ أَنْ يُ ِتمّ ال ّرضَاعَةَ } وذهب أكثر الئمة
إلى أنه ل يحرم من الرضاعة إل ما كان دون الحولين ،فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم
يحرم.
قال ( )3الترمذي " :باب ما جاء أن الرضاعة ل تحرم إل في الصغر ( )4دون الحولين" :حدثنا
قتيبة ،حدثنا أبو عوانة ،عن هشام بن عروة ،عن فاطمة بنت المنذر ،عن أم سلمة قالت :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل يحرم من الرضاع إل ما فتق المعاء في الثدي ،وكان قبل
الفطام" .وقال :هذا حديث حسن صحيح ،والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب
رسول ال صلى ال عليه وسلم وغيرهم :أن الرضاعة ل تحرم إل ما كان دون الحولين ،وما
كان بعد الحولين الكاملين فإنه ل يحرم شيئًا .وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام ،وهي
امرأة هشام بن عروة (.)5
قلت :تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ،ورجاله على شرط الصحيحين ،ومعنى قوله :إل ما
كان في الثدي ،أي :في محل ( )6الرضاعة قبل الحولين ،كما جاء في الحديث ،الذي رواه
أحمد ،عن َوكِيع وغندر ،عن شعبة ،عن عدي بن ثابت ،عن البراء بن عازب قال :لما مات
إبراهيم ابن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن له مرضعًا ( )7في الجنة" .وهكذا أخرجه
البخاري من حديث شعبة ( )8وإنما قال ،عليه السلم ،ذلك ؛ لن ابنه إبراهيم ،عليه السلم ،
مات وله سنة وعشرة أشهر ،فقال " :إن له مرضعًا في الجنة" يعني :تكمل رضاعه ،ويؤيده ما
رواه الدارقطني ،من طريق الهيثم بن جميل ،عن سفيان بن عيينة ،عن عمرو بن دينار ،عن
ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل يحرم من الرضاع إل ما كان في
الحولين" ،ثم قال :لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ،وهو ثقة حافظ (.)9
قلت :وقد رواه المام مالك في الموطأ ،عن ثور بن زيد ،عن ابن عباس موقوفًا (.)11( )10
ورواه الدراوردي عن ثور ،عن عكرمة ،عن ابن عباس وزاد " :وما كان بعد الحولين فليس
بشيء" ،وهذا أصح.
وقال أبو داود الطيالسي ،عن جابر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل رضاع بعد
فصال ،ول يُتْم بعد احتلم" ،وتمام الدللة من هذا الحديث في قوله َ { :و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ }
شهْرًا } [الحقاف .]15 :والقول بأن الرضاعة ل
حمُْل ُه َو ِفصَالُهُ ثَلثُونَ َ
[لقمان .]14 :وقال { :وَ َ
تحرم بعد الحولين مروي عن
__________
( )1في جـ " :من ال تبارك وتعالى".
( )2في جـ " :فلهذا".
( )3في جـ " :وقال".
( )4في أ " :في الصغير".
( )5سنن الترمذي برقم (.)1152
( )6في جـ ،أ " :في حال".
( )7في أ ،و " :إن ابني مات وإن له مرضعا".
( )8المسند ( )4/300وصحيح البخاري برقم (.)1382
( )9سنن الدارقطني (.)4/174
( )10في هـ " :مرفوعا" والصواب ما أثبتناه من جـ ،أ ،و ،وهو ما نبه عليه الشيخ أحمد
شاكر -رحمه ال.
( )11الموطأ (.)2/602
( )1/633
علي ،وابن عباس ،وابن مسعود ،وجابر ،وأبي هريرة ،وابن عمر ،وأم سلمة ،وسعيد بن
المسيب ،وعطاء ،والجمهور .وهو مذهب الشافعي ،وأحمد ،وإسحاق ،والثوري ،وأبي
يوسف ،ومحمد ،ومالك في رواية ،وعنه :أن مدته سنتان وشهران ،وفي رواية :وثلثة
أشهر .وقال أبو حنيفة :سنتان وستة أشهر ،وقال زفر بن الهذيل :ما دام يرضع فإلى ثلث
سنين ،وهذا رواية عن الوزاعي .قال مالك :ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد
فصاله لم يحرم ؛ لنه قد صار بمنزلة الطعام ،وهو رواية عن الوزاعي ،وقد روي عن عمر
وعلي أنهما قال ل رضاع بعد فصال ،فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور ،سواء فطم
أو لم يفطم ،ويحتمل أنهما أرادا الفعل ،كقول مالك ،وال أعلم.
وقد روي في الصحيح ( )1عن عائشة ،رضي ال عنها :أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر
في التحريم ،وهو قول عطاء بن أبي رباح ،والليث بن سعد ،وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن
يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ،وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة
حيث أمر النبي صلى ال عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه ،وكان كبيرًا ،فكان يدخل
عليها بتلك الرضاعة ،وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى ال عليه وسلم ،ورأين ( )2ذلك من
الخصائص ،وهو قول الجمهور .وحجة الجمهور -منهم الئمة الربعة ،والفقهاء السبعة ،
والكابر من الصحابة ،وسائر أزواج رسول ال صلى ال عليه وسلم سوى عائشة -ما ثبت في
الصحيحين ،عن عائشة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :انظرْنَ من إخوانكن ،فإنما
الرضاعة من المجاعة" ( .)3وسيأتي الكلم على مسائل الرضاع ،وفيما يتعلق برضاع الكبير ،
ضعْنَكُمْ } [النساء ]23 :
عند قوله تعالى { :وَُأ ّمهَا ُتكُمُ اللتِي أَ ْر َ
سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي :وعلى والد الطفل نفقة الوالدات
ن َوكِ ْ
وقوله { :وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُ ّ
وكسوتهن بالمعروف ،أي :بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ول إقتار ،
سعَتِهِ َومَنْ ُقدِرَ
سعَةٍ مِنْ َ
بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره ،كما قال تعالى { :لِيُ ْنفِقْ ذُو َ
عسْرٍ يُسْرًا }
ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ ُ
عَلَيْهِ رِ ْز ُقهُ فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّهُ ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل مَا آتَاهَا سَ َي ْ
[الطلق .]7 :قال الضحاك :إذا طلّقَ [الرجل] ( )4زوجته وله منها ولد ،فأرضعت له ولده ،
وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.
وقوله { :ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَ ِدهَا } أي :ل تدفعه ( )5عنها لتضر أباه بتربيته ،ولكن ليس لها
دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ ( )6الذي ل يعيش بدون تناوله غالبًا ،ثم بعد هذا لها رفعه عنها
إذا شاءت ،ولكن إن كانت مضارة لبيه فل يحل لها ذلك ،كما ل يحل له انتزاعه منها لمجرد
الضّرار لها .ولهذا قال { :وَل َموْلُودٌ لَهُ ِبوََل ِدهِ } أي :بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا
بها ،قاله مجاهد ،وقتادة ،والضحاك ،والزهري ،والسدي ،والثوري ،وابن زيد ،وغيرهم.
__________
( )1في أ " :في الصحيحين".
( )2في جـ " :ويروى".
( )3صحيح البخاري برقم ( )2647وصحيح مسلم برقم (.)1455
( )4زيادة من جـ.
( )5في أ ،و " :بأن تدفعه".
( )6في جـ " :اللبأة".
( )1/634
وقوله { :وَعَلَى ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ } قيل :في عدم الضرار لقريبه ( )1قاله مجاهد ،والشعبي ،
والضحاك .وقيل :عليه مثل ما على والد الطفل من النفاق على والدة الطفل ،والقيام بحقوقها
وعدم الضرار بها ،وهو قول الجمهور .وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره .وقد استدل
بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة القارب بعضهم على بعض ،وهو مروي
عن عمر بن الخطاب ،وجمهور السلف ،ويرشح ذلك بحديث الحسن ،عن سَمرة مرفوعًا :من
ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه (.)2
وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت ( )3الولد إما في بدنه أو عقله ،وقد قال سفيان
الثوري ،عن العمش ،عن إبراهيم ،عن علقمة :أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين .فقال :ل
ترضعيه.
وقوله { :فَإِنْ أَرَادَا ِفصَال عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا } أي :فإن اتفقا والدا
الطفل على فطامه قبل الحولين ،ورأيا في ذلك مصلحة له ،وتشاورا في ذلك ،وأجمعا ( )4عليه
،فل جناح عليهما في ذلك ،فيؤْخَذُ منه :أن انفراد أحدهما بذلك دون الخر ل يكفي ،ول يجوز
لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الخر ،قاله الثوري وغيره ،وهذا فيه احتياط
للطفل ،وإلزام للنظر في أمره ،وهو من رحمة ال ( )5بعباده ،حيث حجر على الوالدين في
ضعْنَ َلكُمْ
تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلق { :فَإِنْ أَ ْر َ
ن وَأْ َتمِرُوا بَيْ َنكُمْ ِب َمعْرُوفٍ وَإِنْ َتعَاسَرْ ُتمْ فَسَتُ ْرضِعُ لَهُ ُأخْرَى } [الطلق .]6 :
فَآتُوهُنّ أُجُورَهُ ّ
ضعُوا َأوْل َدكُمْ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي :
وقوله { :وَإِنْ أَ َردْتُمْ أَنْ َتسْتَ ْر ِ
إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد ( )6إما لعذر منها ،أو عذر له ،فل جناح
عليهما في بذله ،ول عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ،واسترضع
لولده غيرها بالجرة بالمعروف .قاله غير واحد.
وقوله { :وَا ّتقُوا اللّهَ } أي :في جميع أحوالكم { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي :فل
يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
__________
( )1في أ " :بقرينه" ،وفي و " :بقريبه".
( )2رواه أبو داود في السنن برقم ( )3949والترمذي في السنن برقم ( )1365من طريق عاصم
الحول عن الحسن به ،وقال الترمذي " :هذا حديث ل نعرفه مسندا إل من حديث حماد بن سلمة
،وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن ،عن عمر شيئا من هذا" ،ولفظه عندهما :
"من ملك ذا رحم محرم فهو حر".
( )3في أ " :جزت".
( )4في جـ ،أ " :واجتمعا".
( )5في جـ " :من رحمه ال تعالى".
( )6في أ ،و " :الولد ويسترضع له غيرها".
( )1/635
( )1/635
عمُوم الية الكريمة ،وهذا الحديث الذي رواه المام أحمد وأهل السنن وصححه
المدخول بها ُ
الترمذي :أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها ،ولم يفرض لها ؟
فترددوا إليه مرارًا ( )1في ذلك فقال :أقول فيها برأيي ،فإن يكن صوابًا فمن ال ،وإن يكُن
خطأ فمني ومن الشيطان ،وال ورسوله بريئان منه [ :أرى] ( )2لها الصداق كامل .وفي لفظ :
شطَط ،وعليها العدّة ،ولها الميراث .فقام معقل بن سنان ()3
لها صداق مثلها ،ل وكس ،ول َ
الشجعي فقال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم قَضى به في بَ ْروَع بنت واشق .ففرح عبد
ال بذلك فرحًا شديدًا .وفي رواية :فقام رجال من أشجع ،فقالوا :نشهد أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم قضى به في بَ ْروَع بنت وَاشِق (.)4
ول يخرج من ذلك إل المتوفى عنها زوجها ،وهي حامل ،فإن عدّتها بوضع الحمل ،ولو لم
حمَْلهُنّ } [الطلق :
ضعْنَ َ
حمَالِ أَجَُلهُنّ أَنْ َي َ
تمكث بعده سوى لحظة ؛ لعموم قوله { :وَأُولتُ ال ْ
.]4وكان ابن عباس يرى :أن عليها أن تتربص بأبعد الجلين من الوضع ،أو أربعة أشهر
وعشر ،للجمع بين اليتين ،وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ،لول ما ثبتت به السنة في حديث
سبيعة السلمية ،المخرج في الصحيحين من غير وجه :أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة ،
وهي حامل ،فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ،وفي رواية :فوضعت حملها بعده بليال ،
خطّاب ،فدخل عليها أبو السنابل بن َب ْعكَك ،فقال لها :ما لي أراك
فلما َتعَّلتْ من نفاسها تجملت لل ُ
جمّلة ؟ لعلك ترجين النكاح .وال ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر .قالت
مُتَ َ
سبيعة :فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت ،فأتيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فسألته عن ذلك ،فأفتاني بأني قد حَلَلتُ حين وضعتُ ،وأمرني بالتزويج إن بدا لي (.)5
قال أبو عمر بن عبد البر :وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة ،يعني لما احتج عليه
به .قال :ويصحح ذلك عنه :أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة ،كما هو ( )6قول أهل العلم
قاطبة.
وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ،فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ،شهران
حدّ ،فكذلك ()7
وخمس ليال ،على قول الجمهور ؛ لنها لما كانت على النصف من الحرة في ال َ
فلتكن على النصف منها في العدة .ومن العلماء -كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية -من
يسوي بين الزوجات الحرائر والماء في هذا المقام ؛ لعموم الية ،ولن العدة من باب المور
الجبلية ( )8التي تستوي فيها الخليقة .وقد ذكر سعيدُ بن المسيب ،وأبو العالية وغيرهما :أن
الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا ؛ لحتمال اشتمال الرحم على حمل ،فإذا انتظر
به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا ،كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين
وغيرهما " :إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ،ثم يكون علقة مثل ذلك ،ثم
يكون مضغة مثل ذلك ،ثم يبعث إليه الملك
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :إليه شهرا".
( )2زيادة من أ ،و.
( )3في هـ ،جـ ،ط ،أ " :معقل بن يسار" والمثبت هو الصواب.
( )4المسند ( )4/280وسنن أبي داود برقم ( )2215 ، 2214وسنن الترمذي برقم ( )1145وسنن
النسائي ( )6/121وسنن ابن ماجة برقم (.)1891
( )5صحيح البخاري برقم ( )5319وصحيح مسلم برقم (.)1484
( )6في جـ " :وهو".
( )7في جـ " :وكذلك".
( )8في أ " :الجلية".
( )1/636
فينفخ فيه الروح" ( .)1فهذه ثلث أربعينات بأربعة أشهر ،والحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص
بعض الشهور ،ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ،وال أعلم.
قال سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة :سألت سعيد بن المسيب :ما بال العشرة ؟ قال :فيه ينفخ
الروح .وقال الربيع بن أنس :قلت لبي العالية ِ :لمَ صارت هذه العشر مع الشهر الربعة ؟ قال
:لنه ينفخ فيها الروح .رواهما ابن جرير .ومن هاهنا ذهب المام أحمد ،في رواية عنه ،إلى
أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ؛ لنها صارت فراشا كالحرائر ،وللحديث الذي رواه المام
أحمد ،عن يزيد بن هارون ،عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ،عن قتادة ،عن رجاء بن حيوة ،عن
قبيصة بن ذؤيب ،عن عمرو بن العاص أنه قال :ل تُلْبِسوا علينا سنة نبينا ،عدة أم الولد إذا
توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ( )2ورواه أبو داود ،عن قتيبة ،عن غُنْدَر -وعن ابن
المثنى ،عن عبد العلى .وابن ماجة ،عن علي بن محمد ،عن َوكِيع -ثلثتهم عن سعيد بن
أبي عَرُوبة ،عن مَطَر الوراق ،عن رجاء بن حيوة ،عن قبيصة ،عن عمرو بن العاص ،
فذكره (.)3
عمْرًا ،وقد ذهب
وقد روي عن المام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ،وقيل :إن قبيصة لم يسمع َ
إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ،منهم :سعيد بن المسيب ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،
والحسن ،وابن سيرين ،وأبو عياض ( ، )4والزهري ،وعمر بن عبد العزيز .وبه كان يأمر
يزيد بن عبد الملك بن مروان ،وهو أمير المؤمنين .وبه يقول الوزاعي ،وإسحاق بن رَا ْهوَيه ،
وأحمد بن حنبل ،في رواية عنه .وقال طاوس وقتادة :عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ
عدة الحرة :شهران وخمس ليال .وقال أبو حنيفة وأصحابه ،والثوري ،والحسن بن صالح بن
حيّ :تعتد بثلث حيض .وهو قول علي ،وابن مسعود ،وعطاء ،وإبراهيم النخَعي .وقال مالك
َ
،والشافعي ،وأحمد في المشهور عنه :عدتها حيضة .وبه يقول ابن عمر ،والشعبي ،ومكحول
،والليث ،وأبو عبيد ،وأبو ثَور ،والجمهور.
قال الليث :ولو مات وهي حائض أجزأتها .وقال مالك :فلو كانت ممن ل تحيض فثلثة أشهر.
وقال الشافعي والجمهور :شهر ،وثلثة أحب إلي .وال أعلم.
سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
جَلهُنّ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
وقوله { :فَِإذَا بََلغْنَ أَ َ
خَبِيرٌ } يستفاد من هذا وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ،لما ثبت في
الصحيحين ،من غير وجه ،عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين ،أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :ل يحل لمرأة تؤمن
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )3208وصحيح مسلم برقم (.)2643
( )2المسند (.)4/203
( )3سنن أبي داود برقم ( )2308وسنن ابن ماجة برقم (.)2083
( )4في جـ " :وأبو عاص".
( )1/637
بال واليوم الخر أن تُحد على ميت فوق ثلث ،إل على زوج أربعة أشهر وعشرًا" ( .)1وفي
الصحيحين أيضا ،عن أم سلمة :أن امرأة قالت :يا رسول ال ،إن ابنتي تُوفي عنها زوجها ،
وقد اشتكت عينُها ،أفنكْحُلُها ؟ فقال " :ل " .كل ذلك يقول " :ل" مرتين أو ثلثًا .ثم قال " :إنما
هي أربعة أشهر وعشر ( )2وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة" .قالت زينب بنت أم سلمة
:كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا ،ولبست شر ثيابها ،ولم تمس طيبًا ول شيئًا ،
حتى تمر بها سنة ،ثم تخرج فتعطى َبعْرة فترمي بها ،ثم تؤتى بدابة -حمار أو شاة أو طير -
فَ َتفْتَضّ به فقلما تفتض بشيء إل مات (.)3
ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الية ناسخة للية التي بعدها ،وهي قوله :
حوْلِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ } [البقرة :
جهِمْ مَتَاعًا إِلَى ا ْل َ
{ وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لزْوَا ِ
، ]240كما قاله ابن عباس وغيره ،وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره.
والغرض أن الحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ،ولبس ما يدعوها إلى الزواج من
ثياب وحُِليّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قول واحدًا ،ول يجب في عدة الرجعية قول
واحدًا ،وهل يجب في عدة البائن ؟ فيه قولن.
ويجب الحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ،سواء في ذلك الصغيرة واليسة (
)4والحرة والمة ،والمسلمة والكافرة ،لعموم الية .وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه :ل
إحداد على الكافرة .وبه يقول أشهبُ ،وابنُ نافع من أصحاب مالك .وحجة قائل هذه المقالة قولهُ
صلى ال عليه وسلم (" : )5ل يحل لمرأة تؤمن بال واليوم الخر أن ُتحِدّ على ميت فوق
ثلث ،إل على زوج أربعة أشهر وعشرًا" :قالوا :فجعله تعبدًا ( .)6وألحق أبو حنيفة وأصحابه
والثوري الصغيرة بها ،لعدم التكليف .وألحق أبو حنيفة وأصحابه المة المسلمة لنقصها (.)7
ومحل تقرير ذلك كله في كتب الحكام والفروع ،وال الموفق للصواب.
جَلهُنّ } أي :انقضت عدتهن ( .)8قاله الضحاك والربيع بن أنس { ،فَل
وقوله { :فَِإذَا بََلغْنَ أَ َ
جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ } قال الزهري :أي :على أوليائها { فِيمَا َفعَلْنَ } يعني :النساء اللتي انقضت
عدتهن .قال العوفي ( )9عن ابن عباس :إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ،فإذا انقضت
عدتها فل جناح عليها أن تتزين وتتصنّع وتتعرض للتزويج ،فذلك المعروف .روي عن مقاتل بن
سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ }
حيان نحوه ،وقال ابن جريج عن مجاهد { :فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
قال :هو النكاح الحلل الطيب .وروي عن الحسن ،والزهري ،والسدي نحو ذلك.
سكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ
خطْبَةِ النّسَاءِ َأوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ
{ وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ
عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ
وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْل َمعْرُوفًا وَل َتعْ ِزمُوا ُ
غفُورٌ حَلِيمٌ (} )235
حذَرُوهُ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ
سكُمْ فَا ْ
وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )5337وصحيح مسلم برقم ( )1486من حديث زينب بنت جحش
رضي ال عنها ،وصحيح البخاري برقم ( )5334وصحيح مسلم برقم ( )1486من حديث أم
حبيبة رضي ال عنها.
( )2في جـ " :وعشرا".
( )3صحيح البخاري برقم ( )5336وصحيح مسلم برقم (.)1488
( )4في جـ " :الصغير والكبير".
( )5في جـ " :عليه السلم".
( )6في جـ " :مقيدا".
( )7في جـ " :لبعضها".
( )8في جـ ،أ ،و " :عدتها".
( )9في جـ " :قال الوالبي".
( )1/638
يقول تعالى { :وَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ } أن ُتعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من
غير تصريح .قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم ،عن منصور ،عن مجاهد ،عن ابن عباس
خطْبَةِ النّسَاءِ } قال :التعريض أن َتقُول :إني
في قوله { :وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ
أريد التزويج ،وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها -يعرض لها بالقول بالمعروف -وفي
صبُ للخِطْبة .وفي رواية :إني ل أريد أن
رواية :وددت أن ال رزقني امرأة ونحو هذا .ول يَ ْن ِ
أتزوج غيرَك إن شاء ال ،ولوددت أني وجدت امرأة صالحة ،ول ينصب لها ما دامت في
عدتها .ورواه البخاري تعليقًا ،فقال :قال لي طلق بن غَنّام ،عن زائدة ،عن منصور ،عن
خطْبَةِ النّسَاءِ } هو أن يقول :
علَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ ِبهِ مِنْ ِ
مجاهد ،عن ابن عباس { :وَل جُنَاحَ َ
إني أريد التزويج ،وإن النساء لمن حاجتي ،ولوددت أنه تَيَسّر لي امرأة صالحة (.)1
وهكذا قال مجاهد ،وطاوس ،وعكرمة ،وسعيد بن جُبير ،وإبراهيم النخَعي ،والشعبي ،
والحسنُ ،وقتادة ،والزهري ،ويزيد بن ُقسَيط ،ومقاتل بن حيّان ،والقاسم بن محمد ،وغير
واحد من السلف والئمة في التعريض :أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها
بالخطبة .وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم
حفْص :آخر ثلث تطليقات .فأمرها أن تعتد
عمْرو بن َ
لفاطمة بنت قيس ،حين طلقها زوجها أبو َ
في بيت ابن أم مكتوم ،وقال لها " :فإذا حَلَلْت فآذنيني" .فلما حّلتْ خطب عليها أسامة بن زيد
موله ،ف َزوّجها إياه (.)2
فأما المطلقة الرجعية :فل خلف في أنه ل يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ول التعريض
لها ،وال أعلم.
سكُمْ } أي :أضمرتم في أنفسكم خطْبَ َتهُنّ ( )3وهذا كقوله تعالى :
وقوله َ { :أوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ
خفَيْتُمْ
ن صُدُورُهُ ْم َومَا ُيعْلِنُونَ } [القصص ]69 :وكقوله { :وَأَنَا أَعْلَمُ ِبمَا َأ ْ
{ وَرَ ّبكَ (َ )4يعَْلمُ مَا ُتكِ ّ
علَنْتُمْ } [المتحنة ]1 :ولهذا قال { :عَلِمَ اللّهُ أَ ّن ُكمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ } أي :في أنفسكم ،فرفع
َومَا أَ ْ
الحرج عنكم في ذلك ،ثم قال { :وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } قال أبو مِجْلَز ،وأبو الشعثاء -
جابر بن زيد -والحسن البصري ،وإبراهيم النخعي وقتادة ،والضحاك ،والربيع بن أنس ،
وسليمان التيمي ،ومقاتل بن حيان ،والسدي :يعني الزنا .وهو معنى رواية العَوفي عن ابن
عباس ،واختاره ابن جرير.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5124
( )2رواه مسلم في صحيحه برقم (.)1480
( )3في جـ ،أ ،و " :من خطبتهن".
( )4في جـ " :وال" وهو خطأ.
( )1/639
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } ل تقل لها :إني عاشق ،
وعاهديني أل تتزوجي غيري ،ونحو هذا .وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير ،والشعبي ،
وعكرمة ،وأبي الضحى ،والضحاك ،والزهري ،ومجاهد ،والثوري :هو أن يأخذ ميثاقها أل
تتزوج غيره ،وعن مجاهد :هو قول الرجل للمرأة :ل تفوتيني بنفسك ،فإني ناكحك.
وقال قتادة :هو أن يأخذ عهد المرأة ،وهي في عدتها أل تنكح غيره ،فنهى ال عن ذلك وقدم
فيه ،وأحل الخطبة والقول بالمعروف.
وقال ابن زيد { :وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } هو أن يتزوجها في العدة سرًا ،فإذا حلت أظهر
ذلك.
وقد يحتمل أن تكون الية عامة في جميع ذلك ؛ ولهذا قال { :إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْل َمعْرُوفًا } قال (
)1ابن عباس ،ومجاهد وسعيد بن جبير ،والسدي ،والثوري ،وابن زيد :يعني به :ما تقدم
من إباحة التعريض .كقوله :إني فيك لراغب .ونحو ذلك.
وقال محمد بن سيرين :قلت لعَبِيدة :ما معنى قوله { :إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْل َمعْرُوفًا } ؟ قال :يقول
لوليها :ل تس ِبقْني بها ،يعني :ل تزوجها حتى تُعلمني .رواه ابن أبي حاتم.
عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَبْلُغَ ا ْلكِتَابُ َأجَلَهُ } يعني :ول تعقدوا العقد بالنكاح حتى
وقوله { :وَل َتعْ ِزمُوا ُ
تنقضي العدة .قال ابن عباس ،ومجاهد ،والشعبي ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،وأبو مالك ،
وزيد بن أسلم ،ومقاتل بن حيان ،والزهري ،وعطاء الخراساني ،والسدي ،والثوري ،
والضحاك { :حَتّى يَبْلُغَ ا ْلكِتَابُ َأجَلَهُ } يعني :حتى تنقضي العدة.
وقد أجمع العلماء على أنه ل يصح العقد في مدة العدة .واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها
فدخل بها ،فإنه يفرق بينهما ،وهل تحرم عليه أبدا ؟ على قولين :الجمهور على أنها ل تحرم
عليه ،بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها .وذهب المام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد.
واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب ،وسليمان بن يسار :أن عمر ،رضي ال عنه ،قال :
أيما امرأة نكحت في عدتها ،فإن زوجها الذي تزوجها ( )2لم يدخل بها ،فرق بينهما ،ثم
اعتدت بقية عدتها من زوجها الول ،ثم كان الخر خاطبا من الخطاب ،وإن كان دخل بها فرق
بينهما ،ثم اعتدت بقية عدتها من الول ( )3ثم اعتدت من الخر ،ثم لم ينكحها أبدًا (.)4
قالوا :ومأخذ هذا :أن الزوج لما استعجل ما أجل ال ،عوقب بنقيض قصده ،فحرمت عليه
على التأبيد ،كالقاتل يحرم ( )5الميراثَ .وقد روى الشافعي هذا الثر عن مالك .قال البيهقي :
وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد ،لقول علي :إنها تحل له.
قلت :ثم هو ( )6منقطع عن عمر .وقد روى الثوري ،عن أشعث ،عن الشعبي ،عن مسروق
:
__________
( )1في جـ " :وقال".
( )2في جـ ،أ ،و " :زوجها التي تزوج بها".
( )3في جـ " :من زوجها الول".
( )4الموطأ (.)2/535
( )5في جـ " :يحرم عليه".
( )6في جـ " :قلت وهو".
( )1/640
لَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ
حسِنِينَ ()236
حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ
قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ
( )1/641
ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِلّا أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ
وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ
سوُا ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَلَا تَ ْن َ
عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ
َي ْعفُوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ
َبصِيرٌ ()237
قول سعيد بن جُبير ،وأبي العالية ،والحسن البصري .وهو أحد قولي الشافعي ،ومنهم من جعله
الجديد الصحيح ،فال أعلم.
والقول الثاني :أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ،وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى :
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َن َكحْتُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ُثمّ طَّلقْتُمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُنّ َفمَا َل ُكمْ عَلَ ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ
جمِيل } [الحزاب ]49 :قال شعبة وغيره ،عن قتادة ،
ن وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا َ
َتعْتَدّو َنهَا َفمَ ّتعُوهُ ّ
عن سعيد بن المسيب قال :نسخت هذه الية التي في الحزاب الية التي في البقرة.
وقد روى البخاري في صحيحه ،عن سهل بن سعد ،وأبي أسَيد أنهما قال تزوج رسول ال
صلى ال عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ،فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما ( )1كرهت
ذلك ،فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين را ِزقِيّين (.)3( )2
والقول الثالث :أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ،ولم يفرض ( )4لها ،فإن كان قد
دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ،وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول ،
وجب لها عليه شطره ،فإن دخل بها استقر الجميع ،وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة ،وإنما
المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الية الكريمة على وجوب متعتها.
وهذا قول ابن عمر ،ومجاهد .ومن العلماء :من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة
قبل الدخول :وهذا ليس بمنكور ( )5وعليه تحمل آية التخيير في الحزاب ؛ ولهذا قال تعالى { :
حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ } [البقرة .]241 :
وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ
ومن العلماء من يقول :إنها مستحبة مطلقًا .قال ابن أبي حاتم :حدثنا كثير بن شهاب القزويني ،
حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ،حدثنا عمرو -يعني ابن أبي قيس -عن أبي إسحاق ،عن
الشعبي قال :ذكروا له المتعة ،أيحبس فيها ؟ فقرأ { :عَلَى ا ْلمُوسِعِ َقدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ قَدَ ُرهُ }
قال الشعبي :وال ما رأيت أحدا حبس ( )6فيها ،وال لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.
صفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِل أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ
ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِن ْ
{ وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ
ضلَ بَيْ َن ُكمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
سوُا ا ْل َف ْ
ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَل تَنْ َ
عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ
َي ْعفُوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ
َبصِيرٌ (} )237
وهذه الية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الية الولى ( )7حيث إنما
أوجب في هذه الية نصف المهر المفروض ،وإذا طلق الزوج قبل الدخول ،فإنه لو كان ثم
واجب آخر من
__________
( )1في أ ،و " :فكأنها".
( )2في جـ " :درافتين".
( )3صحيح البخاري برقم (.)5226
( )4في جـ " :ولم يعرض"
( )5في جـ " :بمعلوم".
( )6في جـ " :أحسن".
( )7في أ " :الكريمة".
( )1/642
متعة لبينها ( )1ل سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة ( )2وال أعلم.
وتشطير الصداق -والحالة هذه -أمر مجمع عليه بين العلماء ،ل خلف بينهم في ذلك ،فإنه
متى كان قد سمى لها صداقًا ثم فارقها قبل دخوله بها ،فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق
،إل أن عند الثلثة أنه يجب جميع الصداق إذا خل بها الزوج ،وإن لم يدخل بها ،وهو مذهب
الشافعي في القديم ،وبه حكم الخلفاء الراشدون ،لكن ( )3قال الشافعي :أخبرنا مسلم بن خالد ،
أخبرنا ابن جريج ،عن ليث بن أبي سليم ،عن طاوس ،عن ابن عباس أنه قال - :في الرجل
يتزوج المرأة فيخلو بها ول يمسها ثم يطلقها -ليس لها إل نصف الصداق ؛ لن ال يقول :
صفُ مَا فَ َرضْتُمْ } قال الشافعي
ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِن ْ
{ وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ
:هذا أقوى ( )4وهو ظاهر الكتاب.
قال البيهقي :وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج ( )5به ،فقد رويناه من حديث ابن أبي
طلحة ،عن ابن عباس فهو يقوله (.)6
وقوله { :إِل أَنْ َي ْعفُونَ } أي :النساء عما وجب لها على زوجها من النصف ،فل يجب لها عليه
شيء.
قال السدي ،عن أبي صالح ،عن ابن عباس في قوله { :إِل أَنْ َي ْعفُونَ } قال :إل أن تعفو
الثيب فتدع حقها .قال المام أبو محمد بن أبي حاتم ،رحمه ال :وروي عن شريح ،وسعيد بن
المسيب ،وعكرمة ،ومجاهد ،والشعبي ،والحسن ،ونافع ،وقتادة ،وجابر بن زيد ،وعطاء
الخراساني ،والضحاك ،والزهري ،ومقاتل بن حيان ،وابن سيرين ،والربيع بن أنس ،
والسدي ،نحو ذلك .قال :وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال { :إِل أَنْ َي ْعفُونَ } يعني :
الرجال ،وهو قول شاذ لم يتابع عليه .انتهى كلمه.
عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ } قال ابن أبي حاتم :ذكر عن ابن لهيعة ،حدثني عمرو
وقوله َ { :أوْ َي ْع ُفوَ الّذِي بِيَ ِدهِ ُ
بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،عن النبي صلى ال عليه وسلم [قال] (" : )7ولي عقدة النكاح
الزوج".
وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد ال بن لهيعة ،به ( .)8وقد أسنده ابن جرير ،عن ابن
لهيعة ،عن عمرو بن شعيب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فذكره ( )9ولم يقل :عن
أبيه ،عن جده فال أعلم.
ثم قال ابن أبي حاتم ،رحمه ال :وحدثنا يونس بن حبيب ،حدثنا أبو داود ،حدثنا جرير ،يعني
ابن حازم )10( ،عن عيسى -يعني ابن عاصم -قال :سمعت شريحًا يقول :سألني علي بن
طالب ()11
__________
( )1في أ " :لمسها".
( )2في جـ " :المتعة مهما دلت عليه الية الولى بتلك الحالة".
( )3في جـ " :ولكن".
( )4في جـ ،و " :بهذا أقول" ،وفي أ " :بهذا القول".
( )5في جـ " :غير صحيح".
( )6في أ ،و " :فهو مقوله".
( )7زيادة من جـ ،أ ،و.
( )8ورواه الدارقطني في السنن ( )3/279من طريق قتيبة عن ابن لهيعة به ،وذكر البيهقي في
السنن الكبرى ( )7/251وقال " :هذا غير محفوظ ،وابن لهيعة غير محتج به ،وال أعلم".
( )9تفسير الطبري (.)5/157
( )10في جـ " :يعني ابن أبي حازم".
( )11في أ " :علي بن أبي طلحة" ،وفي و " :علي بن أبي طالب".
( )1/643
عن الذي بيده عقدة النكاح .فقلت له :هو ولي المرأة .فقال علي :ل بل هو الزوج.
ثم قال :وفي إحدى الروايات عن ابن عباس ،وجبير بن مطعم ،وسعيد بن المسيب ،وشريح -
في أحد قوليه -وسعيد بن جبير ،ومجاهد ،والشعبي ،وعكرمة ،ونافع ،ومحمد بن سيرين ،
والضحاك ،ومحمد بن كعب القرظي ،وجابر بن زيد ،وأبي مِجْلز ،والربيع بن أنس ،وإياس
بن معاوية ،ومكحول ،ومقاتل بن حيان :أنه الزوج.
قلت :وهذا هو الجديد من قولي ( )1الشافعي ،ومذهب أبي حنيفة .وأصحابه ،والثوري ،وابن
شبرمة ،والوزاعي ،واختاره ابن جرير .ومأخذ هذا القول :أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة
الزوج ،فإن بيده ( )2عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها ،وكما أنه ل يجوز للولي أن يهب شيئًا
من مال المولية للغير ،فكذلك في الصداق.
قال ( )3والوجه الثاني :حدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي مريم ،حدثنا محمد بن مسلم ،حدثنا عمرو
بن دينار ،عن ابن عباس -في الذي ذكر ال بيده عقدة النكاح -قال :ذلك أبوها أو أخوها ،أو
من ل تنكح إل بإذنه ،وروي عن علقمة ،والحسن ،وعطاء ،وطاوس ،والزهري ،وربيعة ،
وزيد بن أسلم ،وإبراهيم النخعي ،وعكرمة في أحد قوليه ،ومحمد بن سيرين -في أحد قوليه :
أنه الولي .وهذا مذهب مالك ،وقول ( )4الشافعي في القديم ؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها
إياه ،فله التصرف فيه بخلف سائر مالها.
وقال ابن جرير :حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ،حدثنا سفيان ،عن عمرو بن دينار ،عن
عكرمة قال :أذن ال في العفو وأمر به ،فأي امرأة عفت جاز عفوها ،فإن شحت وضنت عفا
وليها وجاز عفوه.
وهذا يقتضي صحة عفو الولي ،وإن كانت رشيدة ،وهو مروي عن شريح .لكن أنكر عليه
الشعبي ،فرجع عن ذلك ،وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.
وقوله { :وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى } قال ابن جرير :قال بعضهم :خُوطب به الرجال ،والنساء.
حدثني يونس ،أخبرنا ابن وهب ،سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ،عن ابن
عباس { :وَأَنْ َتعْفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى } قال :أقربهما للتقوى الذي يعفو.
وكذا روي عن الشعبي وغيره ،وقال مجاهد ،والضحاك ،ومقاتل بن حيان ،والربيع بن أنس ،
والثوري :الفضل ( )5هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها ،أو إتمام الرجل الصداق لها .ولهذا قال
ضلَ [بَيْ َنكُمْ ] ( } )6أي :الحسان ،قاله سعيد .وقال الضحاك ،وقتادة ،
سوُا ا ْل َف ْ
{ :وَل تَنْ َ
والسدي ،وأبو وائل :المعروف ،يعني :ل تهملوه بل استعملوه بينكم.
وقد قال أبو بكر بن مردويه :حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ،حدثنا موسى بن إسحاق ،
__________
( )1في جـ " :من مذهب".
( )2في جـ " :فإن بيدها".
( )3في جـ " :وقال".
( )4في جـ " :وهو قول".
( )5في جـ :والفضل".
( )6زيادة من جـ.
( )1/644
حدثنا عقبة بن مكرم ،حدثنا يونس بن بكير ،حدثنا عبيد ال ( )1بن الوليد الوصافي ،عن عبد
ال بن عبيد ،عن علي بن أبي طالب ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ليأتينّ على
عضُوض َ ،ي َعضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل ،وقد قال ال تعالى :
الناس زمان َ
ضلَ بَيْ َنكُمْ } شرار يبايعون كل مضطر ،وقد نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم
سوُا ا ْل َف ْ
{ وَل تَنْ َ
عن بيع المضطر ،وعن بيع الغَرَر ،فإن كان عندك خير ف ُعدْ به على أخيك ،ول تزده هلكًا
إلى هلكه ،فإن المسلم أخو المسلم ل َيحْزُنه ( )2ول يحرمه" (.)3
وقال سفيان ،عن أبي هارون قال :رأيت عون بن عبد ال في مجلس القرظي ،فكان عون
يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول :صحبت الغنياء فكنت من أكثرهم َهمّا ،حين رأيتهم
أحسن ثيابًا ،وأطيب ريحًا ،وأحسن مركبًا [منى] ( .)4وجالست الفقراء فاسترحت بهم ،وقال :
ضلَ بَيْ َنكُمْ } إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْ َي ْدعُ له :رواه ابن أبي حاتم.
سوُا ا ْل َف ْ
{ وَل تَنْ َ
{ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي :ل يخفى عليه شيء من أموركم ( )5وأحوالكم ،وسيجزي كل
عامل بعمله.
__________
( )1في أ ،و " :عبد ال".
( )2في أ " :ل يخزيه".
( )3وقد جاء من وجه آخر ،رواه أحمد في المسند ( )1/116وأبو داود في السنن برقم ()3382
من طريق أبي عامر المزني عن شيخ من بني تميم عن علي موقوفا عليه بنحوه.
( )4زيادة من جـ ،أ ،و.
( )5في جـ " :من أعمالكم".
( )1/645
( )1/645
صلة هي ؟ فقيل :إنها الصبح .حكاه مالك في الموطأ بلغًا عن علي ،وابن عباس [قال :مالك
:وذلك رأيى] ( .)1وقال هشيم ،وابن عُليّة ،وغُ ْندَر ،وابن أبي عدي ،وعبد الوهاب ،وشَريك
وغيرهم ،عن عوف العرابي ،عن أبي رجاء العطاردي قال :صليت خلف ابن عباس الفجر ،
فقنتَ فيها ،ورفع يديه ،ثم قال :هذه الصلة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين .رواه ابن
جرير ( .)2ورواه أيضًا من حديث عوف ،عن خِلس بن عمرو ،عن ابن عباس ،مثله سواء (
.)3
وقال ابن جرير :حدثنا ابن بشار ،حدثنا عبد الوهاب ،حدثنا عوف ،عن أبي المنهال ،عن
أبي العالية ،عن ابن عباس :أنه صلى الغداة في مسجد ( )4البصرة ،فقنت قبل الركوع وقال :
سطَى
هذه الصلة الوسطى التي ذكرها ال في كتابه فقال { :حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ
َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ }
وقال أيضًا :حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني ،أخبرنا ابن المبارك ،أخبرنا الربيع بن أنس ،
عن أبي العالية قال :صليت خلف عبد ال بن قيس بالبصرة ( )5صلة الغداة ،فقلت لرجل من
أصحاب رسول ال ،صلى ال عليه وسلم ،إلى جانبي :ما الصلة الوسطى ؟ قال :هذه الصلة
(.)6
وروي من طريق أخرى عن الربيع ،عن أبي العالية :أنه صلى مع أصحاب رسول ال ،صلى
ال عليه وسلم ،صلة الغداة ،فلما فرغوا قال ،قلت لهم :أيّتهُنّ الصلة الوسطى ؟ قالوا :التي
قد صليتها قبل.
وقال أيضًا :حدثنا ابن بشار ،حدثنا ابن عَت َمةَ ،عن سعيد بن بشير ،عن قتادة ،عن جابر بن
عبد ال قال :الصلة الوسطى :صلة الصبح.
وحكاه ابن أبي حاتم ،عن ابن عمر ،وأبي أمامة ،وأنس ،وأبي العالية ،وعُبَيد بن عمير ،
وعطاء ،ومجاهد ،وجابر بن زيد ،وعكرمة ،والربيع بن أنس .ورواه ابن جرير ،عن عبد ال
بن شداد بن الهاد أيضا وهو الذي نص عليه الشافعي ،رحمه ال ،محتجا بقوله َ { :وقُومُوا ِللّهِ
قَانِتِينَ } والقنوت عنده في صلة الصبح[ .ونقله الدمياطي عن عمر ،ومعاذ ،وابن عباس ،وابن
عمر ،وعائشة على خلف منهم ،وأبي موسى ،وجابر ،وأنس ،وأبي الشعثاء ،وطاوس ،
وعطاء ،وعكرمة ،ومجاهد] (.)7
ومنهم من قال :هي الوسطى باعتبار أنها ل تقصر ،وهي بين صلتين رباعيتين مقصورتين.
وترد المغرب .وقيل :لنها بين صل َتيْ ليل ( )8جهريتين ،وصلتي نهار ( )9سريتين.
وقيل :إنها صلة الظهر .قال أبو داود الطيالسي في مسنده :حدثنا ابن أبي ذئب ،عن الزبرقان
-
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2تفسير الطبري (.)216 ، 5/215
( )3تفسير الطبري (.)5/218
( )4في جـ " :في جامع".
( )5في أ ،و " :بالبصرة وفرغت".
( )6في أ " :هذه الصلة الوسطى".
( )7زيادة من جـ ،أ.
( )8في أ ،و " :بين صلتين ليليتين".
( )9في أ ،و " :وصلتين نهاريتين".
( )1/646
يعني ابن عمرو -عن ( )1زهرة -يعني ابن معبد -قال :كنا جلوسا عند زيد بن ثابت ،
فأرسلوا إلى أسامة ،فسألوه عن الصلة الوسطى ،فقال :هي الظهر ،كان النبي ( )2صلى ال
عليه وسلم ،يصليها بالهجير (.)3
وقال [المام] ( )4أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،حدثني عمْرو بن أبي حكيم ،
سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير ،عن زيد بن ثابت قال :كان رسول ال صلى ال
عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ،ولم يكن ُيصَلّي صلة أشد على أصحاب النبي ،صلى ال
سطَى } وقال " :إن قبلها
ت وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ
عليه وسلم ،منها ،فنزلت { :حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ
صلتين وبعدها صلتين" ،ورواه أبو داود في سننه ،من حديث شعبة ،به (.)5
وقال أحمد أيضا :حدثنا يزيد ،حدثنا ابن أبي ذئب ( )6عن الزبرقان ( )7أن رهطًا من قريش
مر بهم زيد بن ثابت ،وهم مجتمعون ،فأرسلوا إليه غلمين لهم ؛ يسألنه عن الصلة
الوسطى ،فقال :هي العصر .فقام إليه رجلن منهم فسأله ،فقال :هي الظهر .ثم انصرفا إلى
أسامة بن زيد فسأله ،فقال :هي الظهر ؛ إن النبي صلى ال عليه وسلم كان يصلي الظهر
بالهجير ،فل يكون وراءه إل الصف والصفان ،والناس في قائلتهم وفي تجارتهم ،فأنزل ال { :
ت وَالصّلةِ ا ْلوُسْطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } قال :فقال رسول ال صلى ال
حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ
عليه وسلم " :ليَنْتَهيَنّ رجال أو لحرقن بيوتهم" (.)8
الزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري ،لم يدرك أحدا من الصحابة .والصحيح ما تقدم من
روايته ،عن زهرة بن معبد ،وعروة بن الزبير.
وقال شعبة وهمام ،عن قتادة ،عن سعيد بن المسيب ،عن ابن عمر ،عن زيد بن ثابت قال :
الصلة الوسطى :صلة الظهر.
وقال أبو داود الطيالسي وغيره ،عن شعبة ،أخبرني عمر بن سليمان ،من ولد عمر بن
الخطاب قال :سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان ،يحدث عن أبيه ،عن زيد بن ثابت قال :
الصلة الوسطى هي الظهر.
ورواه ابن جرير ،عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ،عن عبد الصمد ،عن شعبة ،عن عمر
بن سليمان ،به ،عن زيد بن ثابت ،في حديث رفعه قال :الصلة الوسطى صلة الظهر.
وممن روي عنه أنها الظهر :ابن عمر ،وأبو سعيد ،وعائشة على اختلف عنهم .وهو قول
عروة بن الزبير ،وعبد ال بن شداد بن الهاد .ورواية عن أبي حنيفة ،رحمهم ال.
وقيل :إنها صلة العصر .قال الترمذي والبغوي ،رحمهما ال :وهو قول أكثر علماء الصحابة
وغيرهم ،وقال القاضي الماوردي :وهو قول جمهور التابعين .وقال الحافظ أبو عمر بن عبد
البر :هو قول أكثر أهل الثر .وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره :هو قول جمهور الناس.
وقال الحافظ
__________
( )1في جـ " :وعن".
( )2في جـ " :رسول ال".
( )3مسند الطيالسي برقم (.)628
( )4زيادة من جـ.
( )5المسند ( )5/183وسنن أبي داود برقم (.)411
( )6في أ " :حدثنا ابن أبي وهب" ،وفي و " :أنبأنا أبي وهب".
( )7في أ " :ابن الزبرقان".
( )8المسند (.)5/206
( )1/647
أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى " :كشف المغطى ،في تبيين الصلة
الوسطى" :وقد نصر فيه أنها العصر ،وحكاه عن عمر ،وعلي ،وابن مسعود ،وأبي أيوب ،
سمُرة بن جُنْدُب ،وأبي هريرة ،وأبي سعيد ،وحفصة ،وأم حبيبة ،وأم
وعبد ال ابن عمرو ،و َ
سلمة .وعن ابن عمر ،وابن عباس ،وعائشة على ( )1الصحيح عنهم .وبه قال عبيدة ،وإبراهيم
النخعي ،وزر بن حبيش ،وسعيد بن جبير ،وابن سيرين ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،
والكلبي ،ومقاتل ،وعبيد بن أبي مريم ،وغيرهم وهو مذهب أحمد بن حنبل .قال القاضي
الماوردي :والشافعي .قال ابن المنذر :وهو الصحيح عن أبي حنيفة ،وأبي يوسف ،ومحمد ،
واختاره ابن حبيب المالكي ،رحمهم ال.
ذكر الدليل على ذلك :
قال المام أحمد :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش عن مسلم ،عن شتير بن شكل ( )2عن علي
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الحزاب " :شغلونا عن الصلة الوسطى ،صلة
العصر ،مل ال قلوبهم وبيوتهم نارًا" .ثم صلها بين العشاءين :المغرب والعشاء (.)3
وكذا رواه مسلم ،من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ،والنسائي من طريق عيسى
بن يونس ،كلهما عن العمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى ،عن شتير بن شكل ()4
بن حميد ،عن علي بن أبي طالب ،عن النبي صلى ال عليه وسلم مثله (.)5
وقد رواه مسلم أيضا ،من طريق شعبة ،عن الحكم بن عتيبة ( )6عن يحيى بن الجزار ،عن
علي ،به (.)7
وأخرجه الشيخان ،وأبو داود ،والترمذي ،والنسائي ،وغير واحد من أصحاب المساند ()8
والسنن ،والصحاح من طرق يطول ذكرها ،عن عبيدة السلماني ،عن علي ،به (.)9
ورواه الترمذي ،والنسائي من طريق الحسن البصري ،عن علي ،به ( .)10قال الترمذي :ول
يعرف سماعه منه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سنان ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن سفيان ،عن
عاصم ،عن زر :قال قلت لعبيدة :سل عليًا عن صلة الوسطى ،فسأله ،فقال :كنا نراها
الفجر -أو الصبح -حتى سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول يوم الحزاب " :شغلونا
عن الصلة الوسطى صلة العصر ،مل ال قبورهم وأجوافهم -أو بيوتهم -نارًا" ورواه ابن
جرير ،عن بندار ،عن ابن مهدي ،
__________
( )1في جـ " :في".
( )2في جـ " :بشير بن نكل".
( )3المسند (.)1/81
( )4في جـ " :بشير بن نكل".
( )5صحيح مسلم برقم ( )627وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11045
( )6في أ " :بن عيينة".
( )7صحيح مسلم برقم (.)627
( )8في أ " :المسانيد".
( )9صحيح البخاري برقم ( )4111 ، 2931وصحيح مسلم برقم ( )627وسنن أبي داود برقم (
)409وسنن الترمذي برقم ( )2984وسنن النسائي (.)1/236
( )10لم أقع على هذا الطريق ولم يذكره المزي في تحفة الشراف.
( )1/648
به (.)1
شغْل المشركين رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأصحابه عن أداء
وحديث يوم الحزاب ،و َ
صلة العصر يومئذ ،مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم ،وإنما المقصود رواية من
نص منهم في روايته أن الصلة الوسطى :هي صلة العصر .وقد رواه مسلم أيضا ،من حديث
ابن مسعود ،والبراء بن عازب -رضي ال عنهما (.)2
سمُرة :
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا همام ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن َ
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :صلة الوسطى :صلة العصر" (.)3
سمُرة :أن رسول ال ،
وحدثنا بهز ،وعفان قال حدثنا أبان ،حدثنا قتادة ،عن الحسن ،عن َ
سطَى } وسماها لنا أنها هي :
صلى ال عليه وسلم قال { :حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ
صلة العصر (.)4
سمُرة بن
وحدثنا محمد بن جعفر ،وروح ،قال حدثنا سعيد ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن َ
جندب :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :هي العصر" .قال ابن جعفر :سئل عن صلة
الوسطى (.)5
ورواه الترمذي ،من حديث سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن سمرة)6( .
سمِعَ منه.
وقال :حسن صحيح :وقد ُ
[حديث آخر] ( : )7وقال ابن جرير :حدثنا أحمد بن منيع ،حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ،عن
التيمي ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الصلة
الوسطى صلة العصر" (.)8
طريق أخرى ،بل حديث آخر :وقال ابن جرير :حدثني المثنى ،حدثنا سليمان بن أحمد
الجرشي الواسطي ،حدثنا الوليد بن مسلم .قال :أخبرني صدقة بن خالد ،حدثني خالد بن دهقان
،عن خالد بن سبلن ،عن كهيل بن حرملة .قال :سئل أبو هريرة عن الصلة الوسطى ،فقال
:اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ،ونحن بفناء بيت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وفينا الرجل
الصالح :أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ،فقال :أنا أعلم لكم ذلك :فقام فاستأذن
على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فدخل عليه ،ثم خرج إلينا فقال :أخبرنا أنها صلة
العصر ( )9غريب من هذا الوجه جدًا.
حديث آخر :قال ابن جرير :حدثنا أحمد بن إسحاق ،حدثنا أبو أحمد ،حدثنا عبد السلم ،عن
سالم مولى أبي بصير ( )10حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال :كنت جالسًا عند عبد العزيز
بن
__________
( )1تفسير الطبري (.)5/184
( )2صحيح مسلم برقم ( )628من حديث ابن مسعود رضي ال عنه وبرقم ( )630من حديث
البراء رضي ال عنه.
( )3المسند (.)5/22
( )4المسند (.)5/8
( )5المسند (.)13 ، 12 ، 5/7
( )6سنن الترمذي برقم (.)2983 ، 182
( )7زيادة من جـ ،أ.
( )8تفسير الطبري (.)5/189
( )9تفسير الطبري (.)5/191
( )10في أ " :أبي نصير".
( )1/649
مروان فقال :يا فلن ،اذهب إلى فلن فقل له :أي شيء سمعت من رسول ال ،صلى ال
عليه وسلم .في الصلة الوسطى ؟ فقال رجل جالس :أرسلني أبو بكر وعمر -وأنا غلم صغير
-أسأله عن الصلة الوسطى ،فأخذ إصبعي الصغيرة فقال :هذه الفجر ،وقبض التي تليها ،
فقال :هذه الظهر .ثم قبض البهام ،فقال :هذه المغرب .ثم قبض التي تليها ،فقال :هذه
العشاء .ثم قال :أي أصابعك بقيت ؟ فقلت :الوسطى .فقال :أي الصلة بقيت ؟ فقلت :العصر.
فقال :هي العصر ( .)1غريب أيضًا.
حديث آخر :قال ابن جرير :حدثني محمد بن عوف الطائي ،حدثنا محمد بن إسماعيل بن
عياش ( )2حدثني أبي ،حدثني ضمضم بن زرعة ،عن شريح بن عبيد ،عن أبي مالك
الشعري قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الصلة الوسطى صلة العصر" (.)3
إسناده ل بأس به.
حديث آخر :قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه :حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير ،حدثنا الجراح
بن مخلد ،حدثنا عمرو بن عاصم ،حدثنا همام عن قتادة عن ُموَرّق ( )4ال ِعجْلي ،عن أبي
الحوص ،عن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :صلة الوسطى صلة
العصر" (.)5
وقد روى الترمذي ،من حديث محمد بن طلحة بن مصرف ،عن زبيد اليامي ،عن مُرّة
الهَمداني ،عن ابن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :صلة الوسطى صلة
العصر " ( )6ثم قال :حسن صحيح.
وأخرجه مسلم في صحيحه ،من طريق ( )7محمد بن طلحة ،به ( )8ولفظه " :شغلونا عن
الصلة الوسطى صلة العصر" الحديث.
فهذه نصوص في المسألة ل تحتمل شيئا ،ويؤكد ذلك المر بالمحافظة عليها ،وقوله صلى ال
عليه وسلم في الحديث الصحيح ،من رواية الزهري ،عن سالم ،عن أبيه :أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال " :من فاتته صلة العصر فكأنما وتر أهله وماله ( .)10( " )9وفي الصحيح
أيضًا ،من حديث الوزاعي ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي قِلبة ،عن أبي المهاجر ()11
حصَيْب ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :بكروا بالصلة في يوم الغيم ،
عن بُرَيدة بن ال ُ
فإنه من ترك صلة العصر فقد حبط عمله" (.)13( )12
__________
( )1تفسير الطبري (.)5/196
( )2في أ " :بن عباس".
( )3تفسير الطبري ( )5/198وقول الحافظ :إسناده ل بأس به ،متعقب ؛ فإن في إسناده ضعف
وانقطاع ،وهذه نسخة مشهورة خرجها الطبراني في المعجم الكبير.
( )4وقع في هـ " :همام بن مورق" والتصحيح من الحسان.
( )5صحيح ابن حبان (" )3/121الحسان".
( )6سنن الترمذي برقم (.)181
( )7في جـ " :من حديث".
( )8صحيح مسلم برقم (.)628
( )9في جـ " :ماله وأهله".
( )10صحيح مسلم برقم (.)626
( )11في جـ " :عن أبي المهاجر عن أبي المليح".
( )12الذي في الصحيح إنما هو عن هشام عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي قلبة ،عن أبي
المليح ،عن بريدة رضي ال عنه ،وهو في صحيح البخاري برقم ( ، )553وهذا الثاني إنما هو
في سنن ابن ماجة برقم ( ، )694والول هو المحفوظ ،وقد وقع في نسخة "جـ" إثباته على
الصواب ،كما بينته ،لكن وقع تخليط في ذلك ؛ لنه أثبت كلمة " :وفي الصحيح" ثم تدارك ذلك.
( )13جاء في جـ " :كذا رواه ابن ماجة من حديث الوزاعي ،ورواه البخاري والنسائي من
حديث هشام الدستوائي ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي قلبة ،عن أبي المليح بن أسامة ،
عن بريدة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم " :من ترك صلة العصر فقد حبط عمله".
( )1/650
وقال المام أحمد :حدثنا يحيى بن إسحاق ،أخبرنا ابن لهيعة ،عن عبد ال بن هبيرة ،عن أبي
تميم ،عن أبي بصرة ( )1الغفاري قال :صلى بنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في واد من
خمّص صلة العصر ،فقال " :إن هذه الصلة صلة العصر عُ ِرضَت على
أوديتهم ،يقال له :الم َ
ضعّف له أجره مرتين ،أل ول صلة بعدها حتى
الذين من قبلكم فضيعوها ،أل ومن صلها ُ
تروا ( )2الشاهد".
ثم قال :رواه عن يحيى بن إسحاق ،عن الليث ،عن خير ( )3بن نُعيِم ،عن عبد ال بن
هبيرة ،به (.)4
وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا ،عن قتيبة ،عن الليث ( .)5ورواه مسلم أيضا من حديث
محمد بن إسحاق ،حدثني يزيد بن أبي حبيب كلهما عن خير بن نعيم الحضرمي ،عن عبد ال
ابن هبيرة السبائي (.)7( )6
فأما الحديث الذي رواه المام أحمد أيضا :حدثنا إسحاق ،أخبرني مالك ،عن زيد بن أسلم ،
عن القعقاع بن حكيم ،عن أبي يونس مولى عائشة قال :أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ،
ت وَالصّلةِ ا ْلوُسْطَى } فآذني .فلما بلغتها
قالت :إذا بلغت هذه الية { :حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ
آذنتها ،فأملت علي " :حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وصلة العصر وقوموا ل قانتين"
قالت :سمعتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم وهكذا رواه مسلم ،عن يحيى بن يحيى ،عن
مالك ،به (.)8
وقال ابن جرير :حدثني المثنى ،حدثنا الحجاج ،حدثنا حماد ،عن هشام بن عروة عن أبيه قال
:كان في مصحف عائشة " :حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وهي صلة العصر")9( .
وهكذا رواه من طريق الحسن البصري :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأها كذلك .وقد
روى المام مالك أيضا ،عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال :كنت أكتب مصحفا لحفصة
زوج النبي صلى ال عليه وسلم ،فقالت :إذا بلغت هذه الية فآذني { :حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ
سطَى } فلما بلغتها آذنتها .فأملت علي " :حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى
وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ
وصلة العصر وقوموا ل قانتين" (.)10
وهكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار ( )11فقال :حدثني أبو جعفر محمد بن علي ،ونافع مولى
بن عمر :أن عمر بن نافع قال ...فذكر مثله ،وزاد :كما حفظتها من النبي صلى ال عليه
وسلم.
__________
( )1جـ " :عن أبي نضرة".
( )2في أ " :حتى يزول".
( )3في جـ " :عن حسن".
( )4المسند (.)6/397
( )5صحيح مسلم برقم ( )830وسنن النسائي (.)1/259
( )6في أ " :الشيباني".
( )7صحيح مسلم برقم (.)830
( )8المسند ( )6/73وصحيح مسلم برقم (.)629
( )9تفسير الطبري (.)5/175
( )10الموطأ (.)1/139
( )11في جـ " :بن بشار".
( )1/651
طريق أخرى عن حفصة :قال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا
شعبة ،عن أبي بشر ،عن عبد ال بن يزيد الزدي ،عن سالم بن عبد ال :أن حفصة أمرت
ت وَالصّلةِ
علَى الصَّلوَا ِ
إنسانا أن يكتب لها مصحفا ،فقالت :إذا بلغت هذه الية { :حَا ِفظُوا َ
ا ْلوُسْطَى } فآذني .فلما بلغ آذنها فقالت :اكتب " :حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى
وصلة العصر" (.)1
طريق أخرى :قال ابن جرير :حدثني ابن المثنى عبد الوهاب ،حدثنا عبيد ال ،عن نافع ،أن
حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت :إذا بلغت هذه الية " :حافظوا على
الصلوات والصلة الوسطى " فل تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقرأها .فلما بلغها أمرته فكتبها " :حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وصلة العصر
وقوموا ل قانتين" .قال نافع :فقرأت ذلك المصحف فرأيت فيه "الواو" (.)2
وكذا روى ابن جرير ،عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرآ كذلك.
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عبدة ،حدثنا محمد بن عمرو ،حدثني أبو سلمة ،عن
عمرو بن رافع مولى عمر قال :كان في مصحف حفصة " :حافظوا على الصلوات والصلة
الوسطى وصلة العصر وقوموا ل قانتين" ( .)3وتقرير المعارضة أنه عطف صلة العصر على
الصلة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة ،فدل ذلك على أنها غيرها وأجيب عن ذلك
بوجوه :أحدها أن هذا إن روي على أنه خبر ،فحديث علي أصح وأصرح منه ،وهذا يحتمل أن
ت وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } [النعام :
صلُ اليَا ِ
تكون الواو زائدة ،كما في قوله َ { :وكَذَِلكَ ُن َف ّ
ت وَال ْرضِ وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ } [النعام ، ]75 :
سمَاوَا ِ
َ { ، ]55وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
أو تكون لعطف الصفات ل لعطف الذوات ،كقوله { :وََلكِنْ رَسُولَ اللّ ِه َوخَاتَمَ النّبِيّينَ } [الحزاب
سوّى * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَى * وَالّذِي
، ]40 :وكقوله { :سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ العْلَى * الّذِي خََلقَ فَ َ
أَخْرَجَ ا ْلمَرْعَى } [العلى ]4 - 1وأشباه ذلك كثيرة ،وقال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ...وليث الكتيبة في المزدحم...
وقال أبو دؤاد اليادي :
سلط الموت والمنون عليهم ...فلهم في صدى المقابر هام ()4
والموت هو المنون ؛ قال عدي بن زيد العبادي :
فقدمت الديم لراهشيه ...فألفى قولها كذبا ومينا ()5
والكذب :هو المين ،وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل :مررت بأخيك
وصاحبك ،ويكون الصاحب هو الخ نفسه ،وال أعلم.
__________
( )1تفسير الطبري (.)209 ، 5/208
( )2تفسير الطبري (.)5/209
( )3تفسير الطبري (.)5/211
( )4البيت في لسان العرب لبن منظور ،مادة "منن".
( )5البيت في لسان العرب لبن منظور ،مادة "مين".
( )1/652
وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر ،فل يثبت بمثل خبر الواحد قرآن ؛ ولهذا لم يثبته
أمير المؤمنين عثمان بن عفان في المصحف المام ،ول قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت
الحجة بقراءتهم ،ل من السبعة ول غيرهم .ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلوة المذكورة
في هذا الحديث .قال مسلم :حدثنا إسحاق بن راهويه ،أخبرنا يحيى بن آدم ،عن فضيل بن
مرزوق ،عن شقيق بن عقبة ،عن البراء بن عازب ،قال :نزلت " :حافظوا على الصلوات
وصلة العصر ( " )1فقرأناها على رسول ال صلى ال عليه وسلم ما شاء ال ،ثم نسخها ال ،
سطَى } فقال له زاهر -رجل كان مع
عز وجل ،فأنزل { :حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ
شقيق : -أفهي العصر ؟ قال :قد حدثتك كيف نزلت ،وكيف نسخها ال ،عز وجل.
قال مسلم :ورواه الشجعي ،عن الثوري ،عن السود ،عن شقيق (.)2
قلت :وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد ،وال أعلم .فعلى هذا تكون هذه
التلوة ،وهي تلوة الجادة ،ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ،ولمعناها ،إن كانت الواو دالة
على المغايرة ،وإل فللفظها فقط ،وال أعلم.
وقيل :إن الصلة الوسطى هي صلة المغرب .رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس .وفي إسناده
جمَاهر ( )3عن سعيد بن بشير ،عن قتادة ،عن أبي
نظر ؛ فإنه رواه عن أبيه ،عن أبي ال ُ
الخليل ،عن عمه ،عن ابن عباس قال :صلة الوسطى :المغرب .وحكى هذا القول ابن جرير
عن قبيصة بن ذؤيب وحكي أيضا عن قتادة على اختلف عنه .ووجه هذا القول بعضهم بأنها :
وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية ،وبأنها وتر المفروضات ،وبما جاء فيها من الفضيلة ،
وال أعلم.
وقيل :إنها العشاء الخرة ،اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور :وقيل :هي
واحدة من الخمس ،ل بعينها ،وأبهمت فيهن ،كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو
العشر .ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب ،وشريح القاضي ،ونافع مولى ابن عمر ،
والربيع بن خيثم ،ونقل أيضا عن زيد بن ثابت ،واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته.
وقيل :بل الصلة الوسطى مجموع الصلوات الخمس ،رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر ،وفي
صحته أيضا نظر والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النّمري ،إمام ما
وراء البحر ،وإنها لحدى الكبر ،إذ اختاره -مع اطلعه وحفظه -ما لم يقم عليه دليل من
كتاب ول سنة ول أثر .وقيل :إنها صلة العشاء وصلة الفجر ،وقيل :بل هي صلة الجماعة.
وقيل :صلة الجمعة .وقيل :صلة الخوف .وقيل :بل صلة عيد الفطر .وقيل :بل صلة عيد
الضحى .وقيل :الوتر .وقيل :الضحى .وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الدلة ،ولم
يظهر لهم وجه الترجيح .ولم يقع الجماع على قول واحد ،بل لم يزل التنازع ( )4فيها موجودا
من زمن الصحابة وإلى الن.
__________
( )1في جـ ،أ " :والصلة الوسطى صلة العصر".
( )2صحيح مسلم برقم (.)63
( )3في أ " :عن أبي الجماهير".
( )4في أ ،و " :النزاع".
( )1/653
قال ابن جرير :حدثني محمد بن بشار وابن مثنى ،قال حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة قال
:سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال :كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم
مختلفين في الصلة الوسطى هكذا ،وشَبّك بين أصابعه (.)1
[وقد حكى فخر الدين الرازي في تفسيره قول عن جمع من العلماء منهم زيد بن ثابت ،وربيع
ابن خيثم :أنها لم يرد بيانها ،وإنما أريد إبهامها ،كما أبهمت ليلة القدر في شهر رمضان ،
وساعة الجابة في يوم الجمعة ،والسم العظم في أسماء ال تعالى ،ووقت الموت على المكلف
؛ ليكون في كل وقت مستعدا ،وكذا أبهمت الليلة التي ينزل فيها من السماء وباء ليحذرها
الناس ،ويعطوا الهبة دائما ،وكذا وقت الساعة استأثر ال بعلمه ؛ فل تأتي إل بغته] (.)2
وكل هذه القوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ،وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح
والعصر .وقد ثبتت السنة بأنها العصر ،فتعين المصير إليها.
وقد روى المام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب "فضائل الشافعي" رحمه
ال :حدثنا أبي ،سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول :قال الشافعي :كل ما قلت فكان عن
النبي صلى ال عليه وسلم خلف قولي مما يصح ،فحديث النبي صلى ال عليه وسلم أولى ،ول
تقلدوني .وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل ،عن الشافعي .وقال موسى أبو الوليد
بن أبي الجارود ،عن الشافعي :إذا صح الحديث وقلت قول فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك.
فهذا من سيادته وأمانته ،وهذا نفس إخوانه من الئمة ،رحمهم ال ورضي عنهم أجمعين آمين.
ومن هاهنا قطع القاضي الماوردي بأن مذهب الشافعي ،رحمه ال ،أن صلة الوسطى هي
صلة العصر ،وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح ،لصحة الحاديث أنها العصر ،
وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب ،ول الحمد والمنة .ومن الفقهاء في
المذهب من ينكر أن تكون هي العصر مذهبا للشافعي ،وصمموا على أنها الصبح قول واحدا.
قال الماوردي :ومنهم من حكى في المسألة قولين ،ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر
غير هذا ،وقد أفردناه على حدة ،ول الحمد والمنة.
وقوله تعالى َ { :وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } أي :خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه ،وهذا المر مستلزم
( )3ترك الكلم في الصلة ،لمنافاته إياها ؛ ولهذا لما امتنع النبي صلى ال عليه وسلم من الرد
على ابن مسعود حين سلم عليه ،وهو في الصلة ،اعتذر إليه بذلك ،وقال" .إن في الصلة
لشغل" ،وفي صحيح مسلم أنه عليه السلم قال لمعاوية بن الحكم [السلمي] ( )4حين تكلم في
الصلة " :إن هذه الصلة ل يصلح ( )5فيها شيء من كلم الناس ،إنما هي التسبيح والتكبير
وذكر ال" (.)6
__________
( )1تفسير الطبري (.)5/221
( )2زيادة من جـ.
( )3في جـ " :يستلزم".
( )4زيادة من جـ ،أ ،و.
( )5في أ " :ل يصح".
( )6صحيح مسلم برقم (.)537
( )1/654
وقال المام أحمد ،حدثنا يحيى بن سعيد ،عن إسماعيل ،حدثني الحارث بن شبيل ،عن أبي
عمرو الشيباني ،عن زيد بن أرقم قال :كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى ال عليه
وسلم ،في الحاجة في الصلة ،حتى نزلت هذه الية َ { :وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت.
رواه الجماعة -سوى ابن ماجة ،به ،من طرق عن إسماعيل ،به (.)1
وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء ،حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلم في الصلة
كان بمكة ،قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة ،كما دل على ذلك حديث ابن
مسعود الذي في الصحيح ،قال :كنا نسلم على النبي صلى ال عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى
الحبشة وهو في الصلة ،فيرد علينا ،قال :فلما قدمنا سلمت عليه ،فلم يرد علي ،فأخذني ما
قرب وما بعد ،فلما سلم قال " :إني لم أرد عليك إل أني كنت في الصلة ،وإن ال يحدث من
أمره ما يشاء ،وإن مما أحدث أل تكلموا في الصلة" (.)2
وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديما ،وهاجر إلى الحبشة ،ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم ،
فهاجر إلى المدينة ،وهذه الية َ { :وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } مدنية ( )3بل خلف ،فقال قائلون :إنما
أراد زيد بن أرقم بقوله " :كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلة" الخبار عن جنس الناس ،
واستدل على تحريم ذلك بهذه الية بحسب ما فهمه منها ،وال أعلم.
وقال آخرون :إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ،ويكون ذلك فقد أبيح مرتين ،
وحرم مرتين ،كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم ،والول أظهر .وال أيضا أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا بشر بن الوليد ،حدثنا إسحاق بن يحيى ،عن المسيب ،عن ابن
مسعود قال :كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلة ،فمررت برسول ال صلى ال عليه وسلم
فسلمت عليه ،فلم يرد علي ،فوقع في نفسي أنه نزل فيّ شيء ،فلما قضى النبي صلى ال عليه
وسلم صلته قال " :وعليك السلم ،أيها المسلم ،ورحمة ال ،إن ال ،عز وجل ،يحدث من
أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلة فاقنتوا ول تكلموا" (.)4
خفْتُمْ فَرِجَال َأوْ ُركْبَانًا فَإِذَا َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا عَّل َمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ } لما
وقوله { :فَإِنْ ِ
أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات ،والقيام بحدودها ،وشدد المر بتأكيدها ذكر الحال
التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الكمل ،وهي حال القتال والتحام الحرب فقال :
خفْتُمْ فَرِجَال َأوْ ُركْبَانًا } ( )5أي :فصلوا على أي حال كان ،رجال أو ركبانا :يعني :
{ فَإِنْ ِ
مستقبلي القبلة
__________
( )1المسند ( )4/368وصحيح البخاري برقم ( )4534 ، 1200وصحيح مسلم برقم ()539
وسنن أبي داود برقم ( )949وسنن الترمذي برقم ( )2986وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)11047
( )2صحيح البخاري برقم ( )3875 ، 1199وصحيح مسلم برقم (.)538
( )3في و " :نزلت بالمدينة".
( )4ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )10/137من طريق عاصم عن المسيب عن ابن مسعود
به نحوه.
( )5في جـ " :وإن" وهو خطأ.
( )1/655
وغير مستقبليها كما قال مالك ،عن نافع :أن ( )1ابن عمر كان إذا سئل عن صلة الخوف
وصفها .ثم قال :فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجال على أقدامهم ،أو ركبانا مستقبلي
القبلة أو غير مستقبليها .قال نافع :ل أرى ابن عمر ذكر ذلك إل عن النبي صلى ال عليه وسلم.
ورواه البخاري -وهذا لفظه ( - )2ومسلم ورواه البخاري أيضا من وجه آخر عن ابن جريج
عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ،صلى ال عليه وسلم :نحوه أو قريبا منه
( )3ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال :فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ
إيماء (.)4
وفي حديث عبد ال بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى ال عليه وسلم ،إلى خالد بن سفيان
الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة -أو عرفات -فلما واجهه حانت صلة العصر قال :فخشيت أن
تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء .الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد ( )5وهذا
من رخص ال التي رخص لعباده و َوضْعِه الصار والغلل عنهم.
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الية :
يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه .قال :وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول
والسدي والحكم ومالك والوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك وزادوا :يومئ برأسه
أينما توجه (.)6
ثم قال :حدثنا أبي حدثنا أبو غسان حدثنا داود -يعني ابن علية -عن مطرف عن عطية عن
جابر بن عبد ال قال :إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه [إيماء] ( )7حيث كان وجهه فذلك قوله :
{ فَ ِرجَال َأوْ ُركْبَانًا }
وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك .وقد
ذهب المام أحمد فيما نص عليه ،إلى أن صلة الخوف تفعل في بعض الحيان ركعة واحدة إذا
تلحم الجيشان ،وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن
جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد ال اليشكري -زاد مسلم والنسائي :وأيوب بن
عائذ -كلهما عن بكير بن الخنس الكوفي ،عن مجاهد عن ابن عباس قال :فرض ال الصلة
على لسان نبيكم صلى ال عليه وسلم في الحضر أربعًا ،وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (
)8وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال :سألت الحكم وحمادا وقتادة
عن صلة المسايفة ،فقالوا :ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء.
__________
( )1في جـ " :عن".
( )2صحيح البخاري برقم (.)4535
( )3صحيح البخاري برقم (.)943
( )4صحيح مسلم برقم (.)839
( )5المسند ( )3/496وسنن أبي داود برقم (.)1249
( )6في أ " :إيماء بوجه".
( )7زيادة من و.
( )8صحيح مسلم برقم ( )687وسنن أبي داود برقم ( )1247وسنن النسائي (، 3/118 ، 1/226
)169 ، 119وسنن ابن ماجة برقم ( )1068وتفسير الطبري (.)5/247
( )1/656
وقال ابن جرير أيضا :حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا المسعودي
حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد ال قال :صلة الخوف .ركعة واختار هذا القول ابن جرير.
وقال البخاري " :باب الصلة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" وقال الوزاعي :إن كان تهيأ
الفتح ،ولم يقدروا على الصلة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على اليماء أخروا
الصلة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم
يقدروا ل يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا .وبه قال مكحول -وقال أنس بن مالك :
حضرت مناهضة حصن تسْتَر عند إضاءة الفجر ،واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلة
فلم نصل إل بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا .قال أنس :وما يسرني
بتلك الصلة الدنيا وما فيها.
هذا لفظ البخاري ( )1ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره ،عليه السلم ،صلة العصر يوم
الخندق بعذر المحاربة إلى ( )2غيبوبة الشمس وبقوله عليه السلم ،بعد ذلك لصحابه لما
جهزهم إلى بني قريظة " :ل يصلين أحد منكم العصر إل في بني قريظة" ،فمنهم من أدركته
الصلة في الطريق فصلوا وقالوا :لم يرد منا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إل تعجيل السير
ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة فلم يعنف واحدا ( )3من
الفريقين .وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول والجمهور على خلفه ويعولون على أن
صلة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ووردت ( )4بها الحاديث لم
تكن مشروعة في غزوة الخندق ،وإنما شرعت بعد ذلك .وقد جاء مصرحا بهذا في حديث أبي
سعيد وغيره وأما مكحول والوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلة الخوف بعد ذلك ل
تنافي جواز ذلك ؛ لن هذا حال نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن
عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر ،وال أعلم.
وقوله { :فَِإذَا َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ } أي :أقيموا صلتكم كما أمرتم فأتموا ( )5ركوعها وسجودها
وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها { َكمَا عَّل َمكُمْ مَا لَمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ } أي :مثل ما أنعم عليكم
وهداكم لليمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والخرة ،فقابلوه بالشكر والذكر ،كقوله بعد ذكر
طمَأْنَنْ ُتمْ فََأقِيمُوا الصّلةَ إِنّ الصّلةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابًا َم ْوقُوتًا }
صلة الخوف { :فَِإذَا ا ْ
[النساء ]103 :وستأتي الحاديث الواردة في صلة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله
تعالى { :وَإِذَا كُ ْنتَ فِيهِمْ فََأ َق ْمتَ َلهُمُ الصّلةَ } الية [النساء .]102 :
__________
( )1صحيح البخاري (.)2/434
( )2في جـ ،و " :إلى بعد".
( )3في جـ " :أحدا".
( )4في جـ " :وورد".
( )5في جـ " :وأتموا".
( )1/657
( )1/658
وقال البخاري :حدثنا إسحاق بن راهويه ،حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
{ :وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَ َيذَرُونَ أَ ْزوَاجًا } قال :كانت هذه العدة ،تعتد عند أهل زوجها واجب
ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ
ج ِهمْ مَتَاعًا إِلَى الْ َ
فأنزل ال { :وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لزْوَا ِ
سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ } قال :جعل ال لها تمام السنة
فَإِنْ خَ َرجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها ،وإن شاءت خرجت وهو قول ال
{ :غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ } فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد :
رحمه ال .وقال عطاء :وقال ابن عباس :نسخت هذه الية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت
وهو قول ال تعالى { :غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قال عطاء :إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في
سهِنّ] ( } )1قال
وصيتها ،وإن شاءت خرجت لقول ال { :فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ [فِي أَ ْنفُ ِ
عطاء :ثم جاء الميراث فنسخ السكنى ،فتعتد حيث شاءت ول سكنى لها ثم أسند البخاري عن
ابن عباس مثل ما تقدم عنه (.)2
فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الية لم تدل على وجوب العتداد سنة كما
زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخا بالربعة الشهر ( )3وعشرا ،وإنما دلت على أن ذلك
كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حول كامل
جهِمْ } أي :يوصيكم ال بهن وصية كقوله { :يُوصِيكُمُ
إن اخترن ذلك ولهذا قال َ { :وصِيّةً ل ْزوَا ِ
اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ } الية [النساء ]11 :وقال َ { :وصِيّةً مِنَ اللّهِ } [النساء ]12 :وقيل :إنما
انتصب على معنى :فلتوصوا بهن وصية .وقرأ آخرون بالرفع " َوصِيّةٌ" على معنى :كتب عليكم
وصية واختارها ابن جرير ول يمنعن من ذلك لقوله { :غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما إذا انقضت عدتهن
بالربعة الشهر والعشر أو بوضع الحمل ،واخترن الخروج والنتقال من ذلك المنزل فإنهن ل
سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ } وهذا
يمنعن من ذلك لقوله { فَإِنْ خَ َرجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
القول له اتجاه ،وفي اللفظ مساعدة له ،وقد اختاره جماعة منهم :المام أبو العباس بن تيمية (
)4ورده آخرون منهم :الشيخ أبو عمر بن عبد البر.
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الربعة أشهر
والعشر فمسلم ،وإن أرادوا أن سكنى الربعة الشهر وعشر ( )5ل تجب في تركة الميت فهذا
محل خلف بين الئمة ،وهما قولن للشافعي رحمه ال ،وقد استدلوا على وجوب السكنى في
منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ،عن عمته زينب
عجْرَة :أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي ال
بنت كعب بن ُ
عنهما أخبرتها :أنها جاءت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني
خُدرة ،فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ،حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه .قالت
:فسألت رسول ال صلى ال عليه وسلم
__________
( )1زيادة من أ.
( )2صحيح البخاري برقم (.)4531
( )3في جـ " :أشهر".
( )4في جـ " :بن تيمية رحمه ال".
( )5في أ " :والعشر".
( )1/659
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِ ْم وَ ُهمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ َفقَالَ َل ُهمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ أَحْيَا ُهمْ إِنّ اللّهَ
شكُرُونَ (َ )243وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َي ْ
ضلٍ عَلَى النّا ِ
لَذُو َف ْ
ضعَافًا كَثِي َرةً وَاللّهُ َيقْ ِبضُ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ( )244مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
َ
جعُونَ ()245
ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
وَيَبْسُ ُ
أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ول نفقة قالت :فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :نعم" قالت :فانصرفت ،حتى إذا كنت في الحجرة ناداني
رسول ال صلى ال عليه وسلم -أو أمر بي فنوديت له -فقال " :كيف قلت ؟" فرددت عليه
القصة التي ذكرت ( )1له من شأن زوجي .فقال " :امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت :
فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا .قالت :فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك
فأخبرته ،فاتبعه وقضى به (.)2
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به ( ، )3ورواه النسائي أيضا وابن ماجه
من طرق عن سعد بن إسحاق به ( ، )4وقال الترمذي :حسن صحيح.
حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :لما
وقوله { :وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ
حقّا عَلَى ا ْلمُحْسِنِينَ } [البقرة ]236 :قال رجل :إن شئتُ أحسنت
نزل قوله { :مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ
حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ }
ففعلت وإن شئتُ لم أفعل .فأنزل ال هذه الية { :وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ
وقد استدل بهذه الية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ،سواء كانت مفوضة أو
مفروضًا لها أو مطلقًا ( )5قبل المسيس أو مدخول بها ،وهو قول عن الشافعي ،رحمه ال.
وإليه ذهب سعيد بن جبير .وغيره من السلف واختاره ابن جرير .ومن لم يوجبها مطلقا يخصص
من هذا العموم بمفهوم قوله { :ل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُوا َلهُنّ
حسِنِينَ }
حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ
فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْلمُقْتِرِ قَدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ
وأجاب الولون :بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فل تخصيص على المشهور المنصور
،وال أعلم.
وقوله { :كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَا ِتهِ } أي :في إحلله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به
ونهاكم عنه بيّنه ( )6ووضحه وفسره ولم يتركه مجمل في وقت احتياجكم إليه { َلعَّلكُمْ َتعْقِلُونَ }
أي :تفهمون وتتدبرون.
{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ َأحْيَاهُمْ إِنّ
شكُرُونَ (َ )243وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ
ضلٍ عَلَى النّاسِ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل يَ ْ
اللّهَ لَذُو َف ْ
ضعَافًا كَثِي َرةً وَاللّهُ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ( )244مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
اللّهَ َ
جعُونَ (} )245
ط وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
سُض وَيَبْ ُ
َيقْبِ ُ
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلف وعنه :كانوا ثمانية آلف .وقال أبو صالح :تسعة
آلف وعن ابن عباس :أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك :كانوا بضعة وثلثين ألفًا
__________
( )1في جـ " :ما ذكرت".
( )2الموطأ (.)2/591
( )3سنن أبي داود برقم ( )2300وسنن الترمذي برقم ( )1204وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)11044
( )4سنن النسائي ( )200 ، 6/199وسنن ابن ماجة برقم (.)203
( )5في أ ،و " :أو مطلقة".
( )6في جـ " :وبينه".
( )1/660
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :كانوا أهل قرية يقال لها :داوردان .وكذا قال السدي
وأبو صالح وزاد :من قبل واسط .وقال سعيد بن عبد العزيز :كانوا من أهل أذرعات ،وقال
ابن جريج عن عطاء قال :هذا مثل .وقال علي بن عاصم :كانوا :من أهل داوردان :قرية
على فرسخ من واسط.
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره :حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي ،عن المنهال بن
عمرو السدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { :أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ
أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ } قال :كانوا أربعة آلف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا :نأتي أرضًا ليس
بها ( )1موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال ال لهم ( )2موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من
النبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم ،فذلك قوله عز وجل { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ } الية.
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا ()3
أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية ،فنزلوا واديًا أفيح ،فملوا
ما بين عدوتيه فأرسل ال إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والخر من أعله فصاحا بهم
صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور
[وفنوا] ( )4وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له :
حزقيل فسأل ال أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول :أيتها العظام البالية إن ال
يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ،ثم أمره فنادى :أيتها العظام إن
ال يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا .فكان ذلك ،وهو يشاهده ثم أمره فنادى :أيتها
الرواح إن ال يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره .فقاموا أحياء ينظرون قد
أحياهم ال بعد رقدتهم الطويلة ،وهم يقولون :سبحانك [اللهم ربنا وبحمدك] ( )5ل إله إل أنت.
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال { :إِنّ اللّهَ
ضلٍ عَلَى النّاسِ } أي :فيما يريهم من اليات الباهرة والحجج القاطعة والدللت الدامغة { ،
لَذُو َف ْ
شكُرُونَ } أي :ل يقومون بشكر ما أنعم ال به عليهم في دينهم ودنياهم.
وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل يَ ْ
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه ،ل ملجأ من ال إل إليه ،فإن
هؤلء فروا ( )6من الوباء طلبًا ( )7لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا
في آن واحد.
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه المام أحمد :حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك
وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد [ابن
أسلم] ( )8بن الخطاب عن عبد ال بن الحارث بن نوفل عن عبد ال بن عباس :أن عمر بن
__________
( )1في جـ " :ليس فيها".
( )2في جـ " :قال لهم ال".
( )3في جـ " :فاستوخموا".
( )4زيادة من أ ،و
( )5زيادة من أ.
( )6في أ ،و " :خرجوا فرارا".
( )7في أ ،و " :وطلبا".
( )8زيادة من جـ.
( )1/661
الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الجناد :أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه
فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض
حاجته فقال :إن عندي من هذا علما ،سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إذا كان
بأرض وأنتم فيها ( )1فل تخرجوا فرارًا منه ،وإذا سمعتم به بأرض فل تقدموا عليه" فحمد ال
عمر ثم انصرف.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به (.)2
طريق أخرى لبعضه :قال أحمد :حدثنا حجاج ويزيد العمّي قال أخبرنا ابن أبي ذئب عن
الزهري عن سالم عن عبد ال بن عامر بن ربيعة :أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر ،وهو
في الشام عن النبي صلى ال عليه وسلم " :أن هذا السقم عذب به المم قبلكم فإذا سمعتم به في
أرض فل تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها ( )3فل تخرجوا فرارًا منه" قال :فرجع عمر من
الشام.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه (.)4
سمِيعٌ عَلِيمٌ } أي :كما أن الحذر ل يغني من
وقوله َ { :وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ
القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه ل يقرب أجل ول يباعده ،بل الجل المحتوم والرزق
خوَا ِنهِ ْم َو َقعَدُوا َلوْ
المقسوم مقدر مقنن ل يزاد فيه ول ينقص منه كما قال تعالى { :الّذِينَ قَالُوا ل ْ
سكُمُ ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [آل عمران ]168 :وقال
أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ُقلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَ ْنفُ ِ
ل وَالخِ َرةُ
جلٍ قَرِيبٍ ُقلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِي ٌ
تعالى َ { :وقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَ ْبتَ عَلَيْنَا ا ْلقِتَالَ َلوْل َأخّرْتَنَا إِلَى َأ َ
خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى وَل ُتظَْلمُونَ فَتِيل * أَيْ َنمَا َتكُونُوا ُيدْرِككّمُ ا ْل َم ْوتُ وََلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ }
[النساء ]78 ، 77 :وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة السلم وسيف ال
المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي ال عنه ،أنه قال - :وهو في سياق
الموت :لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إل وفيه رمية أو طعنة أو ضربة
وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير!! فل نامت أعين الجبناء ( )5يعني :أنه يتألم
لكونه ما مات قتيل في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
ضعَافًا كَثِي َرةً } يحث تعالى عباده
عفَهُ َلهُ َأ ْ
وقوله { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ
على النفاق في سبيله ،وقد كرر تعالى هذه الية في كتابه العزيز في غير موضع .وفي حديث
النزول [أنه يقول تعالى] (" )6من يقرض غير عديم ول ظلوم" وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا
الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد العرج عن عبد ال بن الحارث عن عبد ال بن
مسعود قال :
__________
( )1في أ ،و " :وأنتم بها".
( )2المسند ( )1/194وصحيح البخاري برقم ( )5729وصحيح مسلم برقم (.)2219
( )3في جـ ،و " :وأنتم بها".
( )4المسند ( )1/193وصحيح البخاري برقم ( )5730وصحيح مسلم برقم (.)2219
( )5انظر :مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (.)8/26
( )6زيادة من و.
( )1/662
لما نزلت { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ } قال أبو الدحداح النصاري :يا
رسول ال وإن ال ليريد منا القرض ؟ قال " :نعم يا أبا الدحداح" قال :أرني يدك يا رسول ال.
قال :فناوله يده قال :فإني قد أقرضت ربي حائطي .قال :وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم
الدحداح فيه وعيالها .قال :فجاء أبو الدحداح فناداها :يا أم الدحداح .قالت :لبيك قال :اخرجي
فقد أقرضته ربي عز وجل .وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه (.)1
وقوله { :قَ ْرضًا حَسَنًا } روي عن عمر وغيره من السلف :هو النفقة في سبيل ال .وقيل :هو
النفقة على العيال.
ضعَافًا كَثِي َرةً } كما قال { :مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ
وقيل :هو التسبيح والتقديس وقوله { :فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنُْبلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ } الية [البقرة .]261 :
وسيأتي الكلم عليها.
وقال المام أحمد :حدثنا يزيد ( )2أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان
النهدي ،قال :أتيت أبا هريرة فقلت له :إنه بلغني أنك تقول :إن الحسنة تضاعف ألف ألف
حسنة .فقال :وما أعجبك من ذلك ؟ لقد سمعته من النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :إن ال
يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" (.)3
هذا حديث غريب ،وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ،لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه
آخر فقال :
حدثنا أبو خلد سليمان بن خلد المؤدب ،حدثنا يونس بن محمد المؤدب ،حدثنا محمد بن عقبة
الرباعي ( )4عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ،قال :لم يكن أحد أكثر مجالسة لبي
هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال :وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال :سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :إن ال يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت :ويحكم ،
وال ما كان أحد أكثر مجالسة لبي هريرة مني ،فما سمعت هذا الحديث .قال :فتحملت أريد أن
ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ،فلقيته لهذا فقلت :يا أبا
هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال :ما هو ؟ قلت :زعموا أنك تقول :إن
ال يضاعف الحسنة ألف ألف
__________
( )1جزء الحسن بن عرفة برقم ( )87ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم ( )417تحقيق
الدكتور الحميد ،ومن طريقه رواه الطبراني في المعجم الكبير ( )22/301عن خلف به نحوه ،
وحميد العرج ضعيف ،لكن للحديث شواهد من حديث أنس وعمر رضي ال عنهما.
( )2في جـ " :يزيد بن هارون".
( )3المسند (.)2/296
( )4كذا في أ ،و ،هـ .وفي الجرح لبن أبي حاتم (" : )4/1/36محمد بن عقبة ،روى عن
زياد الجصاص ،وروى عنه يونس بن محمد المؤدب .حدثنا عبد الرحمن قال :سألت أبي عنه
فقال :شيخ .قلت :فإن يونس بن محمد يقول :الرفاعي .قال :ليس هو الرفاعي ،هو من قبيلة
أخرى" ،مستفادا من هامش ط .الشعب.
( )1/663
حسنة .قال :يا أبا عثمان وما تعجب ( )1من ذا وال يقول { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا
ضعَافًا كَثِي َرةً } ويقول َ { :فمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الخِ َرةِ إِل قَلِيلٌ } [التوبة :
حسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
َ
]38والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إن ال يضاعف الحسنة
ألفي ألف حسنة" (.)2
وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد ال
بن عمر بن الخطاب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من دخل سوقًا من السواق فقال :
ل إله إل ال وحده ل شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب ال له ألف ألف
حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث (.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل
المؤدب ،عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال :لما نزلت { مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ
َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ } [البقرة ]261 :إلى آخرها فقال رسول ال
عفَهُ
صلى ال عليه وسلم " :رب زد أمتي" فنزلت { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ
ضعَافًا كَثِي َرةً } قال :رب زد أمتي .فنزل { :إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَهُمْ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }
لَهُ َأ ْ
[الزمر .)4( .]10 :
وروى ابن أبي حاتم أيضا عن كعب الحبار :أنه جاءه رجل فقال :إني سمعت رجل يقول :
من قرأ ُ { :قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ } [الخلص ]1 :مرة واحدة بنى ال له عشرة ( )5آلف ألف غرفة
من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك ؟ قال :نعم ،أو عجبت من ذلك ؟ قال :نعم وعشرين
حسَنًا
ألف ألف وثلثين ألف ألف وما يحصي ذلك إل ال ثم قرأ { مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ
ضعَافًا كَثِي َرةً } فالكثير من ال ل يحصى.
فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
سطُ } أي :أنفقوا ول تبالوا فال هو الرزاق يضيق على من يشاء من
ض وَيَبْ ُ
وقوله { :وَاللّهُ َيقْبِ ُ
جعُونَ } أي :يوم
عباده في الرزق ويوسعه على آخرين ،له الحكمة البالغة في ذلك { وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
القيامة.
__________
( )1في جـ " :وما يعجبك".
( )2ورواه أحمد في المسند ( )5/521من طريق علي بن زيد ،عن أبي عثمان به.
( )3سنن الترمذي برقم ( )3429وقال " :عمرو بن دينار هذا هو شيخ بصري ،وقد تكلم فيه
بعض أصحاب الحديث من غير هذا الوجه".
( )4ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (" )1648موارد" من طريق حفص المقرئ ،عن أبي
إسماعيل المؤدب به.
( )5في جـ " :عشر".
( )1/664
أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا ُنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَلّا ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَلّا ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ ُأخْرِجْنَا
اللّهِ قَالَ َهلْ َ
مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ ()246
{ أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َب ْعدِ مُوسَى ِإذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا ُنقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ
عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَل ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَل ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ
اللّهِ قَالَ َهلْ َ
أُخْ ِرجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِل قَلِيل مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ (
} )246
قال عبد الرزاق عن َم ْعمَر عن قتادة :هذا النبي هو يوشع بن نون .قال ابن جرير :يعني ابن
أفراثيم ( )1بن يوسف بن يعقوب .وهذا القول بعيد ؛ لن هذا كان بعد موسى بدهر طويل ،وكان
__________
( )1في جـ " :إفراثيم" ،وفي أ " :إبراهيم".
( )1/664
ذلك في زمان داود عليه السلم ،كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما
ينيف عن ألف سنة وال أعلم.
وقال السدي :هو شمعون ( )1وقال مجاهد :هو شمويل عليه السلم .وكذا قال محمد بن إسحاق
عن وهب بن منبه وهو :شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام ( )2بن إليهو بن تهو بن صوف (
)3بن علقمة بن ماحث ( )4بن عمرصا بن عزريا بن صفنيه ( )5بن علقمة بن أبي ياسف بن
قارون بن يصهر بن قاهث بن لوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلم.
وقال وهب بن منبه وغيره :كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلم على طريق ( )6الستقامة
مدة الزمان ،ثم أحدثوا الحداث وعبد بعضهم الصنام ،ولم يزل بين أظهرهم من النبياء من
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط ال
عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ،وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلدًا كثيرة ،ولم يكن
أحد يقاتلهم إل غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم ( )7الزمان وكان
ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلة والسلم ( )8فلم يزل بهم تماديهم (
)9على الضلل حتى استلبه ( )10منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم
ولم يبق من يحفظها فيهم إل القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط ( )11لوي
الذي يكون فيه النبياء إل امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها
لعل ال يرزقها غلمًا يكون نبيّا لهم ولم تزل [تلك] ( )12المرأة تدعو ال عز وجل أن يرزقها
غلمًا فسمع ال لها ووهبها غلمًا ،فسمته شمويل :أي :سمع ال .ومنهم من يقول :شمعون
وهو بمعناه فشب ذلك الغلم ونشأ فيهم وأنبته ( )13ال نباتًا حسنًا فلما بلغ سن النبياء أوحى ال
إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده ،فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه
أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم ( )14فقال لهم النبي :فهل عسيتم إن أقام ال لكم ملكًا أل
تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا َومَا لَنَا أَل ُنقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا } أي :وقد أخذت منا البلد وسبيت الولد ؟ قال ال تعالى { :فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ
َتوَّلوْا إِل قَلِيل مِ ْنهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } أي :ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم
وال عليم بهم.
__________
( )1في و " :شمويل".
( )2في جـ " :حام" وفي و " :نزخام".
( )3في جـ " :قهوص" ،وفي أ " :قهرص" ،وفي و " :بهرص".
( )4في أ " :بن ماحب".
( )5في جـ ،و " :بن صفيه".
( )6في جـ " :على طريقة".
( )7في و " :في قيد".
( )8في جـ ،أ ،و " :عليه أفضل الصلة والسلم".
( )9في جـ " :يردهم" ،وفي و " :عادتهم".
( )10في جـ " :حتى أسلبه".
( )11في جـ " :من وسط".
( )12زيادة من جـ ،أ.
( )13في جـ " ،فأنبته".
( )14في جـ " :منهم".
( )1/665
َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َل ُكمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ َلهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ َأحَقّ بِا ْلمُ ْلكِ
س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي
سطَةً فِي ا ْلعِلْ ِم وَا ْلجِ ْ
طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ وَزَا َدهُ بَ ْ
سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْ َ
مِنْ ُه وَلَمْ ُي ْؤتَ َ
سكِينَةٌ
سعٌ عَلِيمٌ (َ )247وقَالَ َل ُهمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ آَيَةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َيكُمُ التّابُوتُ فِيهِ َ
مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ
حمِلُهُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َيةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ َآلُ مُوسَى َو َآلُ هَارُونَ َت ْ
ُم ْؤمِنِينَ ()248
{ َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َلكُمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ َأحَقّ بِا ْلمُ ْلكِ
س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي
سطَةً فِي ا ْلعِلْ ِم وَا ْلجِ ْ
طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ وَزَا َدهُ بَ ْ
سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْ َ
مِنْ ُه وَلَمْ ُي ْؤتَ َ
سعٌ عَلِيمٌ (} )247
مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ
أي :لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجل من أجنادهم ولم
يكن من بيت الملك فيهم ؛ لن الملك فيهم كان في سبط يهوذا ،ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا
حقّ بِا ْلمُ ْلكِ مِنْ ُه وََلمْ ُي ْؤتَ
علَيْنَا } أي :كيف يكون ملكًا علينا { وَ َنحْنُ أَ َ
قالوا { :أَنّى َيكُونُ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ َ
سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ } أي :ثم هو مع هذا فقير ل مال له يقوم بالملك ،وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء
َ
وقيل :دباغًا .وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد
طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ } أي :اختاره لكم من بينكم وال أعلم به منكم .يقول :
صَأجابهم النبي قائل { إِنّ اللّهَ ا ْ
لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل ال أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَا َدهُ َبسْطَةً فِي ا ْلعِ ْلمِ
سمِ } أي :وهو مع هذا أعلم منكم ،وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا ( )1في الحرب
وَالْجِ ْ
ومعرفة بها أي :أتم علمًا وقامة منكم .ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة
شديدة في بدنه ونفسه ثم قال { :وَاللّهُ ُيؤْتِي مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَاءُ } أي :هو الحاكم الذي ما شاء فعل
ول يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه [وحكمته] ( )2ورأفته بخلقه ؛ ولهذا قال { :وَاللّ ُه وَاسِعٌ
عَلِيمٌ } أي :هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن ل يستحقه.
سكِينَةٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ
{ َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ آ َيةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ التّابُوتُ فِيهِ َ
ك ليَةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ (} )248
حمُِلهُ ا ْلمَل ِئكَةُ إِنّ فِي ذَِل َ
هَارُونَ تَ ْ
يقول نبيهم لهم :إن علمة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد ال عليكم التابوت الذي كان أخذ
منكم.
سكِينَةٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ } قيل :معناه فيه وقار ،وجللة.
{ فِيهِ َ
سكِينَةٌ } أي :وقار .وقال الربيع :رحمة ( .)3وكذا
قال عبد الرزاق عن َم ْعمَر عن قتادة { فِيهِ َ
سكِينَةٌ [مِنْ
روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج :سألت عطاء عن قوله { :فِيهِ َ
رَ ّبكُمْ] ( } )4قال :ما يعرفون من آيات ال فيسكنون ( )5إليه.
وقيل :السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب النبياء ،أعطاها ال موسى عليه السلم
فوضع فيها اللواح .ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.
وقال سفيان الثوري :عن سلمة بن ُكهَيْل عن أبي الحوص عن علي قال :السكينة لها وجه
كوجه النسان ثم هي روح هفافة.
وقال ابن جرير :حدثني [ابن] ( )6المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة ،وأبو
الحوص كلهم عن سِماك عن ( )7خالد بن عرعرة عن علي قال :السكينة ريح خجوج ولها
__________
( )1في أ " :وخبرا".
( )2زيادة من جـ ،و ،وفي أ " :وحلمه".
( )3في جـ " :رحمة ال".
( )4زيادة من جـ ،و.
( )5في أ " :تسكنون".
( )6زيادة من تفسير الطبري (.)5/327
( )7في جـ " :عن سماك بن".
( )1/666
رأسان.
وقال مجاهد :لها جناحان وذنب .وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه :السكينة رأس هرة
ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ،أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا بكار بن عبد ال أنه سمع وهب بن منبه ( )1يقول :السكينة روح من
ال تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
وقوله { :وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ابن جرير :أخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو
الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الية { :وَ َبقِيّةٌ ِممّا
تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال :عصاه ورضاض اللواح .وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن
أنس وعكرمة وزاد :والتوراة.
وقال أبو صالح { وَبَقِيّةٌ } يعني :عصا موسى وعصا هارون ولوحين ( )2من التوراة والمن.
وقال عطية بن سعد :عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض
اللواح.
وقال عبد الرزاق :سألت الثوري عن قوله { :وَبَقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } فقال :
منهم من يقول قفيز من مَنّ ،ورضاض اللواح .ومنهم من يقول :العصا والنعلن.
حمِلُهُ ا ْلمَل ِئكَةُ } قال ابن جريج :قال ابن عباس :جاءت الملئكة تحمل التابوت ()3
وقوله َ { :ت ْ
بين السماء والرض حتى وضعته بين يدي طالوت ،والناس ينظرون.
وقال السدي :أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه :جاءت به الملئكة تسوقه على عجلة على بقرة
وقيل :على بقرتين.
وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا ( )4وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت
صنمهم الكبير ،فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه
تحته فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا ،فعلموا أن هذا أمر من ال ل قبل لهم به فأخرجوا
التابوت من بلدهم ،فوضعوه في بعض القرى ( )5فأصاب أهلها داء في رقابهم ( )6فأمرتهم
جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء ،فحملوه
على بقرتين فسارتا به ل يقربه أحد إل مات ،حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين (
)7ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل :إنه تسلمه داود عليه السلم وأنه لما قام إليهما ()8
حجل من فرحه بذلك .وقيل :شابان منهم فال أعلم .وقيل :كان التابوت بقرية من قرى فلسطين
يقال لها :أزدرد.
وقوله { :إِنّ فِي ذَِلكَ ليَةً َلكُمْ } أي :على صدقي فيما جئتكم به من النبوة ،وفيما أمرتكم به من
__________
( )1في أ " :بن منصور".
( )2في جـ " :ولوحان".
( )3في جـ " :وتحمل التوابيت".
( )4في جـ " :كان تاريخا".
( )5في و " :بعض القرايا".
( )6في جـ " :في قلوبهم".
( )7في جـ " :النيرير".
( )8في جـ " :قام إليه" وفي و " :قام إليهما".
( )1/667
( )1/668
ط َعمْهُ فَإِنّهُ
صلَ طَالُوتُ بِا ْلجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَنْ َلمْ يَ ْ
فََلمّا َف َ
مِنّي إِلّا مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِنْهُ إِلّا قَلِيلًا مِ ْن ُهمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ ِبجَالُوتَ َوجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلَاقُو اللّهِ َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً
بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ َمعَ الصّابِرِينَ ()249
ط َعمْهُ
صلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِي ُكمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَنْ لَمْ َي ْ
{ فََلمّا َف َ
فَإِنّهُ مِنّي إِل مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِ ْنهُ إِل قَلِيل مِ ْنهُمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ
ت وَجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلقُو اللّهِ كَمْ مِنْ فِ َئةٍ قَلِيلَةٍ غَلَ َبتْ فِ َئةً
قَالُوا ل طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ بِجَالُو َ
كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ (} )249
يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من مل بني
إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فال أعلم ،أنه قال { :إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم
[بِ َنهَر] ( } )1قال ابن عباس وغيره :وهو نهر بين الردن وفلسطين يعني :نهر الشريعة
ط َعمْهُ
المشهور { َفمَنْ شَ ِربَ مِ ْنهُ فَلَيْسَ مِنّي } أي :فل يصحبني اليوم في هذا الوجه { َومَنْ لَمْ َي ْ
فَإِنّهُ مِنّي إِل مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ } أي :فل بأس عليه قال ال تعالى { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِل قَلِيل
مِ ْنهُمْ } قال ابن جريج :قال ابن عباس :من اغترف منه بيده روي ،ومن شرب منه لم يرو.
وكذا رواه السدي عن أبي مالك ،عن ابن عباس .وكذا قال قتادة وابن شوذب.
وقال السدي :كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلف كذا قال.
سعَر ( )2بن كدام عن أبي إسحاق
وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومِ ْ
السبيعي ،عن البراء بن عازب قال :كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم الذين
كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ،وما
جازه معه إل مؤمن .ورواه البخاري عن عبد ال بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي
إسحاق عن البراء ( )3قال " :كنا -أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم -نتحدث أن عدة
أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت ،الذين جازوا معه النهر ،ولم يجاوز معه إل مؤمن
بضعة عشر وثلثمائة" (.)4
ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير ،عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه ( )5ولهذا قال تعالى
ت وَجُنُو ِدهِ } أي :استقلوا
{ :فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ قَالُوا ل طَاقَةَ لَنَا الْ َي ْومَ بِجَالُو َ
أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [وهم] ( )6العالمون بأن وعد ال حق فإن
النصر من عند ال ليس عن ( )7كثرة عدد ول عدد .ولهذا قالوا َ { :كمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً
كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }
__________
( )1زيادة من أ ،و.
( )2في جـ " :ومسعود".
( )3في هـ ،أ ،و " :عن أبي إسحاق عن جده عن البراء" والمثبت من البخاري.
( )4صحيح البخاري برقم (.)3958
( )5صحيح البخاري برقم ( )3957من حديث زهير وبرقم ( )3959من حديث سفيان.
( )6زيادة من جـ.
( )7في أ " :ل من".
( )1/668
وََلمّا بَرَزُوا ِلجَالُوتَ وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ
ح ْكمَ َة وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ
ا ْلكَافِرِينَ (َ )250فهَ َزمُوهُمْ بِِإذْنِ اللّ ِه َوقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ وَالْ ِ
ضلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ( )251تِ ْلكَ
ض وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ الْأَ ْر ُ
وََلوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ()252
آَيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ
ت وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ
{ وََلمّا بَرَزُوا ِلجَالُو َ
ح ْكمَ َة وَعَّلمَهُ ِممّا َيشَاءُ
ك وَالْ ِ
ت وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ
ا ْلكَافِرِينَ (َ )250فهَ َزمُوهُمْ بِِإذْنِ اللّ ِه َوقَتَلَ دَاوُدُ جَالُو َ
ضلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ( )251تِ ْلكَ
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ ال ْرضُ وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ
وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ (} )252
آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ
أي :لما واجه حزب اليمان -وهم قليل -من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت -وهم
عدد كثير { -قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي :أنزل علينا صبرًا من عندك { وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا }
أي :في لقاء العداء وجنبنا الفرار والعجز { وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }
قال ال تعالى َ { :فهَ َزمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ } أي :غلبوهم وقهروهم بنصر ال لهم { َوقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ
} ذكروا في السرائيليات :أنه قتله بمقلع كان في يده رماه به فأصابه فقتله ،وكان طالوت قد
وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه ( )1في أمره فوفى له ثم آل ()2
الملك إلى داود عليه السلم مع ما منحه ال به من النبوة العظيمة ؛ ولهذا قال تعالى { :وَآتَاهُ اللّهُ
ا ْلمُ ْلكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي :النبوة بعد شمويل { وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ } أي :مما
يشاء ال من العلم الذي اختصه به صلى ال عليه وسلم ثم قال تعالى { :وََلوْل َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ ال ْرضُ } أي :لوله يدفع عن قوم بآخرين ،كما دفع عن بني إسرائيل
َب ْع َ
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َل ُه ّد َمتْ
بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال { :وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
سمُ اللّهِ كَثِيرًا } الية [الحج .]40 :
صوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ يُ ْذكَرُ فِيهَا ا ْ
َ
وقال ابن جرير ،رحمه ال :حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد
حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ ال ْرضُ } ( )3وهذا
البلء" .ثم قرأ ابن عمر { :وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد [هذا] ( )4هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدّا.
ثم قال ابن جرير :حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن
عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال
ليصلح بصلح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ،ول يزالون في حفظ
ال عز وجل ما دام فيهم" (.)5
وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا .وقال أبو بكر بن مردويه :حدثنا محمد بن أحمد بن
إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد
بن الحباب ،حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلبة عن أبي أسماء ( )6عن ثوبان -رفع
__________
( )1في جـ " :ويشاركه".
( )2في جـ " :بما آل".
( )3تفسير الطبري (.)5/374
( )4زيادة من أ ،و.
( )5تفسير الطبري (.)5/375
( )6في جـ " :بن أبي أسامة".
( )1/669
الحديث -قال " :ل يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر
ال" (.)1
وقال ابن مردويه أيضًا :وحدثنا محمد بن أحمد ( )2حدثنا محمد بن جرير بن يزيد ،حدثنا أبو
معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار ،عن عنبسة الخواص ،
عن قتادة عن أبي قِلبة عن أبي الشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :البدال في أمتي ثلثون بهم تقوم الرض ،وبهم تمطرون وبهم تنصرون"
قال قتادة :إني لرجو أن يكون الحسن منهم (.)3
علَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي :مَنّ عليهم ورحمة بهم ،يدفع عنهم ببعضهم
ضلٍ َ
وقوله { :وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ
بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } أي :هذه آيات ال التي
حّثم قال تعالى { :تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَ ْتلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ
قصصناها عليك من ( )4أمر الذين ذكرناهم بالحق أي :بالواقع الذي كان عليه المر ،المطابق
لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِ ّنكَ } يا محمد { َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ
} وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
__________
( )1ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم ( )20457عن معمر عن أيوب عن أبي قلبة مرسل.
( )2في جـ " :وحدثنا أحمد بن محمد".
( )3ورواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق محمد بن الفرج عن زيد بن الحباب به ،وقال
الهيثمي في المجمع (" : )10/63رواه الطبراني من طريق عمرو البزار عن عنبسة الخواص
وكلهما لم أعرفه ،وبقية رجاله رجال الصحيح".
فائدة :قال المام ابن القيم في المنار المنيف (ص " : )136أحاديث البدال والقطاب والغواث
والنقباء والنجباء والوتاد كلها باطلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم وأقرب ما فيها " :ل
تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدل ،كلما مات رجل منهم أبدل ال مكانه رجل آخر" ذكره أحمد ول
يصح أيضا ،فإنه منقطع".
( )4في جـ " :في".
( )1/670
ت وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ
ضهُمْ دَرَجَا ٍ
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ مِ ْنهُمْ مَنْ كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ
سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ
تِ ْلكَ الرّ ُ
ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ
مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ
ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ
ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ َآمَ َ
الْبَيّنَا ُ
()253
( )1/670
شفَاعَةٌ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَ ْيعٌ فِي ِه وَلَا خُلّ ٌة وَلَا َ
وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ ()254
على العالمين .فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال :أي خبيث وعلى محمد صلى ال
عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :ل تفضلوني على النبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول
من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فل أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فل
تفضلوني على النبياء" ( )1وفي رواية " :ل تفضلوا بين النبياء".
فالجواب من وجوه :
أحدها :أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.
الثاني :أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث :أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
الرابع :ل تفضلوا بمجرد الراء والعصبية.
الخامس :ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى ال عز وجل وعليكم النقياد والتسليم له واليمان
به.
وقوله { :وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ } أي :الحجج والدلئل القاطعات على صحة ما جاء
بني إسرائيل به ،من أنه عبد ال ورسوله إليهم { وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } يعني :أن ال أيده
بجبريل عليه السلم ثم قال تعالى { :وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َبعْ ِدهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُهمُ
ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي :بل كل ذلك عن
ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ آمَ َ
الْبَيّنَا ُ
قضاء ال وقدره ؛ ولهذا قال { :وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ }
شفَاعَةٌ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل بَ ْيعٌ فِي ِه وَل خُلّ ٌة وَل َ
وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (} )254
يأمر تعالى عباده بالنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم
وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َي ْومٌ } يعني :يوم القيامة { ل بَيْعٌ فِيهِ
شفَاعَةٌ } أي :ل يباع أحد من نفسه ول يفادى بمال لو بذله ،ولو جاء بملء الرض
وَل خُلّ ٌة وَل َ
ذهبًا ول تنفعه خلة أحد ،يعني :صداقته بل ول نسابته كما قال { :فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ فَل
شفَاعَةٌ } أي :ول تنفعهم شفاعة
أَنْسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِ ٍذ وَل يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون {]101 :وَل َ
الشافعين.
وقوله { :وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ } مبتدأ محصور في خبره أي :ول ظالم أظلم ممن وافى ال
يومئذ كافرا .وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه ( )2قال :الحمد ل الذي قال :
{ وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ } ولم يقل :والظالمون هم الكافرون.
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )3408وصحيح مسلم برقم (.)2373
( )2في جـ " :به".
( )1/671
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مَنْ ذَا الّذِي
حيّ ا ْلقَيّومُ لَا تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَلَا َنوْمٌ َلهُ مَا فِي ال ّ
اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ الْ َ
شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِلّا ِبمَا شَا َء وَسِعَ
خ ْلفَهُ ْم وَلَا ُيحِيطُونَ ِب َ
شفَعُ عِنْ َدهُ إِلّا بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ
يَ ْ
ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ ()255
حفْ ُ
ض وَلَا يَئُو ُدهُ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
كُرْسِيّهُ ال ّ
( )1/672
{ اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } قال :فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ،أو قال :فوضع يده
بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال " :ليهنك العلم يا أبا المنذر" (.)1
حديث آخر :عن السفع ( )2البكري .قال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا أبو يزيد
القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد ،عن ابن جريج أخبرني عمر
بن عطاء أن مولى ابن السفع ( - )3رجل صدق -أخبره عن السفع ( )4البكري :أنه سمعه
يقول :إن النبي صلى ال عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان :أي آية في القرآن
خ ُذهُ سِ َن ٌة وَل َنوْمٌ }
حيّ ا ْلقَيّومُ ل تَأْ ُ
أعظم ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم { :اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ
حتى انقضت الية.)5( .
حديث آخر :عن أنس قال المام أحمد :حدثنا عبد ال بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن
أنس بن مالك حدثه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سأل رجل من صحابته فقال " :أي فلن
حدٌ } " ؟
هل تزوجت" ؟ قال :ل وليس عندي ما أتزوج به .قال " :أوليس معك ُ { :قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
قال :بلى .قال " :ربع القرآن .أليس معك ُ { :قلْ يَا أَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ } " ؟ قال :بلى .قال " :ربع
القرآن .أليس معك { إِذَا زُلْ ِزَلتِ } " ؟ قال :بلى .قال " :ربع القرآن أليس معك { :إِذَا جَاءَ َنصْرُ
اللّهِ[وَالْفَتْحُ] ( " } )6؟ قال :بلى .قال " :ربع القرآن .أليس معك آية الكرسي { :اللّهُ ل إِلَهَ إِل
ُهوَ ( " } )7؟ قال :بلى .قال " :ربع القرآن" (.)8
حديث آخر :عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال المام أحمد :حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا
المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي ال عنه قال :
أتيت النبي صلى ال عليه وسلم وهو في المسجد فجلست .فقال " :يا أبا ذر هل صليت ؟" قلت :
ل .قال " :قم فصل" قال :فقمت فصليت ثم جلست فقال " :يا أبا ذر َت َعوّذ بال من شر شياطين
النس والجن" قال :قلت :يا رسول ال أوللنس شياطين ؟ قال " :نعم" قال :قلت :يا رسول ال
الصلة ؟ قال " :خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر" .قال :قلت :يا رسول ال فالصوم ؟
قال " :فرض ُمجْزِئ وعند ال مزيد" قلت :يا رسول ال فالصدقة ؟ قال " :أضعاف مضاعفة".
قلت :يا رسول ال فأيها أفضل ؟ قال " :جهد من مقل أو سر إلى فقير" قلت :يا رسول ال أي
النبياء كان أول ؟ قال " :آدم" قلت :يا رسول ال ونبي ( )9كان ؟ قال " :نعم نبي مكلم" قال :
قلت :يا رسول ال كم المرسلون ؟ قال " :ثلثمائة وبضعة عشر جمّا غفيرًا" وقال مرة " :وخمسة
عشر" قال :قلت :يا رسول ال أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال " :آية الكرسي { :اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ
حيّ ا ْلقَيّومُ } " ورواه النسائي (.)10
الْ َ
__________
( )1المسند (.)5/58
( )2في جـ ،أ " :عن السقع".
( )3في جـ " :ابن السقع".
( )4في جـ " :عن السقع".
( )5المعجم الكبير ( )1/334وقال الهيثمي في المجمع (" : )6/321فيه راو لم يسم وقد وثق ،
وبقية رجاله ثقات".
( )6زيادة من و.
( )7في أ " :هو الحي القيوم".
( )8المسند (.)3/221
( )9في جـ " :ونبي ال".
( )10المسند ( )5/178وسنن الترمذي (.)8/275
( )1/673
حديث آخر :عن أبي أيوب خالد بن زيد النصاري ،رضي ال عنه وأرضاه قال المام أحمد :
حدثنا سفيان ( )1عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب :أنه كان (
)2في سهوة له ،وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى ال عليه وسلم :فقال " :فإذا
رأيتها فقل :باسم ال أجيبي رسول ال" .قال :فجاءت فقال لها :فأخذها فقالت :إني ل أعود.
فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى ال عليه وسلم " :ما فعل أسيرك ؟" قال :أخذتها فقالت لي :
إني ل أعود ،إني ل أعود .فأرسلتها ،فقال (" : )3إنها عائدة" فأخذتها مرتين أو ثلثا كل ذلك
تقول :ل أعود .وأجيء ( )4إلى النبي صلى ال عليه وسلم فيقول " :ما فعل أسيرك ؟" فأقول :
أخذتها فتقول :ل أعود .فيقول " :إنها عائدة" فأخذتها فقالت :أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فل
يقربك شيء :آية الكرسي ،فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فأخبره فقال " :صدقت وهي كذوب".
ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به ( ، )5وقال :حسن
غريب.
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب "فضائل القرآن" وفي كتاب "الوكالة"
وفي "صفة إبليس" من صحيحه :قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن
سيرين عن أبي هريرة قال :وكلني رسول ال صلى ال عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني
آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت :لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :إني
محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة .قال :فخليت عنه .فأصبحت فقال النبي صلى ال عليه
وسلم " :يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قال :قلت يا رسول ال شكا حاجة شديدة وعيال
حمْتُه وخليت سبيله .قال " :أما إنه قد كَذَبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول ال صلى
فَر ِ
ال عليه وسلم " :إنه سيعود" فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت :لرفعنك إلى رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال :دعني فإني محتاج وعلي عيال ل أعود .فرحمته وخليت سبيله
فأصبحت فقال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت
( : )6يا رسول ال شكا حاجة وعيال فرحمته فخليت سبيله .قال " :أما إنه قد كذبك وسيعود"
فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت :لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم .وهذا آخر ثلث مرات أنّك تزعم أنك ل تعود ثم تعود .فقال :دعني أعلمك كلمات ينفعك
ال بها .قلت :ما هن ( .)7قال :إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { :اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ
حيّ ا ْلقَيّومُ } حتى تختم الية فإنك لن يزال عليك من ال حافظ ول يقربك شيطان حتى تصبح
الْ َ
فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت
:يا رسول ال زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني ال بها فخليت سبيله .قال " :ما هي ؟" قال :قال
حيّ
لي :إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الية { :اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ
ا ْلقَيّومُ } وقال لي :لن يزال عليك من ال حافظ ول يقربك شيطان حتى تصبح .وكانوا أحرص
شيء على الخير ،فقال النبي
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :قال المام أحمد :حدثنا أبو أحمد ،حدثنا سفيان".
( )2في جـ " :أنه بات".
( )3في جـ " :فقال النبي صلى ال عليه وسلم".
( )4في جـ ". :وتجيء"
( )5المسند ( )5/423وسنن الترمذي برقم (.)2880
( )6في جـ " :فقلت".
( )7في أ ،و " :ما هي".
( )1/674
صلى ال عليه وسلم " :أما إنه صدقك ( )1وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ ( )2ثلث ليال يا أبا
هريرة ؟" قلت ( : )3ل قال " :ذاك شيطان".
كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم ( )4وقد رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم بن
يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره ( )5وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب
من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره :
حدثنا محمد بن عبد ال بن عمرويه الصفار ،حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم بن
إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي :أن أبا هريرة كان معه
مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل
يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك .فشكا ذلك
أبو هريرة إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال له النبي صلى ال عليه وسلم " :تحب أن تأخذ
صاحبك هذا ؟" قال :نعم .قال " :فإذا فتحت الباب فقل :سبحان من سخرك محمد" ( )6فذهب
ففتح الباب فقال ( : )7سبحان من سخرك محمد ( .)8فإذا هو قائم بين يديه قال :يا عدو ال أنت
صاحب هذا ؟ قال :نعم دعني فإني ل أعود ما كنت آخذا إل لهل بيت من الجن فقراء ،فخلى
عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة .فقلت :أليس قد عاهدتني أل تعود ؟ ل أدعك اليوم حتى أذهب
بك إلى النبي ( )9صلى ال عليه وسلم قال :ل تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها
لم يقربك أحد من الجن صغير ول كبير ذكر ول أنثى قال له :لتفعلن ؟ قال :نعم .قال :ما
حيّ ا ْلقَيّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد
هن ؟ قال { :اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ
فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى ال عليه وسلم فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أما
علمت أن ذلك كذلك ؟".
وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد ال عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن
أبي المتوكل عن أبي هريرة به ( )10وقد تقدم لبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا فهذه ثلث
وقائع.
قصة أخرى :قال أبو عبيد في كتاب "الغريب" :حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن
الشعبي عن عبد ال بن مسعود قال :خرج رجل من النس فلقيه رجل من الجن فقال :هل لك
أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان ؟ فصارعه
فصرعه ( )11فقال :إني أراك ضئيل شخيتا ( )12كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها
الجن .كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال :إني بينهم ( )13لضليع فعاودني فصارعه ( )14فصرعه
النسي .فقال :تقرأ آية الكرسي فإنه ل يقرؤها أحد إذا دخل بيته إل خرج الشيطان وله خَبَخٌ
كخبج ( )15الحمار.
__________
( )1في جـ " :صدق".
( )2في و " :من" ،وفي أ " :منذ".
( )3في جـ " :قال".
( )4صحيح البخاري برقم (.)3275 ، 2311
( )5سنن النسائي الكبرى برقم (.)10795
( )6في جـ " :لمحمد".
( )7في جـ " :وقال".
( )8في جـ " :لمحمد".
( )9في جـ " :إلى رسول ال".
( )10سنن النسائي الكبرى برقم (.)10794
( )11في جـ ،أ ،و " :فصرعه عمر".
( )12في جـ " :صحيتا".
( )13في أ ،و " :إني منهم".
( )14في جـ " :فصارعن".
( )15في جـ " :وله خنيج كخنيج الحمار".
( )1/675
فقيل لبن مسعود :أهو عمر ؟ فقال :من عسى أن يكون إل عمر.
قال أبو عبيد :الضئيل :النحيف الجسم والخَبَج ( )1بالخاء المعجمة ويقال :بالحاء المهملة :
الضراط (.)2
حديث آخر عن أبي هريرة :قال الحاكم أبو عبد ال في مستدركه :حدثنا علي بن حمشاذ ()3
حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير السدي عن أبي صالح
عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن ل
تقرأ في بيت فيه شيطان إل خرج منه! آية الكرسي".
وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال :صحيح السناد ولم يخرجاه (
)4كذا قال ،وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [به] ( )5ولفظه " :لكل شيء سنام وسنام القرآن
سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن :آية الكرسي" .ثم قال :غريب ل نعرفه إل من
حديث حكيم بن جبير ،وقد تكلم فيه شعبة وضعفه (.)6
قلت :وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.
حديث آخر :قال ابن مَرْدُويه :حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي
أخبرنا عمر بن محمد البخاري ،أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُ ْنجَار عن عبد ال بن
كَيْسان ،أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر ( )7عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب :أنه
خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال :أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن ؟ فقال ابن
طتَ سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :أعظم آية في القرآن
سقَ ْ
مسعود :على الخبير َ
حيّ ا ْلقَيّومُ } (.)8
{ :اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ
حديث آخر في اشتماله على اسم ال العظم :قال المام أحمد :حدثنا محمد بن بكر ( )9أخبرنا
عبيد ال ( )10بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت (: )11
حيّ ا ْلقَيّومُ } و
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في هاتين اليتين { اللّهُ ل ِإلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ
حيّ ا ْلقَيّومُ } [آل عمران " ]2 ، 1 :إن فيهما اسم ال العظم" (.)12
{ الم * اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ
خشْرم ( )13وابن ماجة عن أبي بكر بن
وكذا رواه أبو داود عن مُسدّد والترمذي عن علي بن َ
أبي شيبة ثلثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد ال بن أبي زياد به ( )14وقال الترمذي :حسن
صحيح.
__________
( )1في جـ " :والخنيج".
( )2غريب الحديث لبي عبيد (.)3/316
( )3في أ " :حماد" وفي و " :جمشاذ".
( )4المستدرك (.)2/259
( )5زيادة من جـ ،أ ،و.
( )6المستدرك (.)2/259
( )7في أ " :ابن معمر".
( )8ورواه الجورقاني في الباطيل برقم ( )712من طريق عيسى بن موسى غنجار به.
( )9في أ " :بن بكير".
( )10في جـ ،أ " :عبد ال".
( )11في جـ " :قال".
( )12المسند (.)6/461
( )13في أ ،و " :ابن حزم".
( )14سنن أبي داود برقم ( )1496وسنن الترمذي برقم ( )3478وسنن ابن ماجة برقم (.)3855
( )1/676
حديث آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي ال عنه :قال ابن مَرْدُويه :أخبرنا عبد الرحمن
بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم ،
أخبرنا عبد ال بن العلء بن زيد :أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه
قال " :اسم ال العظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلث :سورة البقرة وآل عمران وطه" وقال
حيّ ا ْلقَيّومُ } وفي
هشام -وهو ابن عمار خطيب دمشق : -أما البقرة فـ { اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ
حيّ ا ْلقَيّومِ }
حيّ ا ْلقَيّومُ } وفي طه { :وَعَنَتِ ا ْلوُجُوهُ لِ ْل َ
آل عمران { :الم * اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ
[طه .)1( ]111 :
حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلة المكتوبة :قال أبو بكر بن مَرْدُويه :
حسَين بن
حدثنا محمد بن محرز بن مساور الدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا ال ُ
بشر ( )2بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :من قرأ دُبُر كل صلة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة
إل أن يموت".
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن الحسين بن بشر به ( )3وأخرجه ابن حبان في صحيحه
حمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو إسناد على شرط البخاري
من حديث محمد بن ِ
،وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع ( )4فال أعلم .وقد روى ابن مردويه من
حديث علي ( )5والمغيرة بن شعبة ( )6وجابر بن عبد ال نحو هذا الحديث .ولكن في إسناد كل
منها ضعف.
وقال ابن مردويه أيضا :حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن دُرُسْ ُتوَيه
المروزي ( )7أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن
عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :أوحى ال إلى موسى بن عمران
عليه السلم أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلة
مكتوبة أجعلْ له ( )8قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين ( )9وأعمال الصديقين ول
يواظب على ذلك إل نبي أو صديق أو عبد امتحنتُ ( )10قلبه لليمان أو أريد قتله في سبيل ال"
( )11وهذا حديث منكر جدّا.
حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل :قال أبو عيسى الترمذي :حدثنا
يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن
__________
( )1ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )8/282والطحاوي في مشكل الثار برقم ( )176من
طرق عن هشام بن عمار به نحوه.
( )2في أ " :بشير".
( )3سنن النسائي الكبرى برقم (.)9928
( )4الموضوعات (.)1/244
( )5حديث علي رواه أيضا البيهقي في شعب اليمان برقم ( )2395من طريق نهشل عن أبي
إسحاق الهمداني عن حبة العرني عن علي رضي ال عنه.
( )6حديث المغيرة رواه أبو نعيم في الحلية ( )3/221من طريق عمر بن إبراهيم عن محمد بن
كعب ،عن المغيرة بن شعبة رضي ال عنه.
( )7في جـ " :بن ساسويه المروبي".
( )8في جـ " :جعل ال".
( )9في جـ " :وثواب النبيين".
( )10في أ " :متحبب".
( )11وفيه محمد بن الحسن النقاش ،قال البرقاني كل حديثه منكر .وقال الخطيب :حديثه
مناكير .وروى نحوه من حديث جابر رضي ال عنه لكنه ضعيف.
( )1/677
زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من
قرأ { :حم } المؤمن إلى { :إِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن
قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال :هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم
في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من قبل حفظه (.)1
وقد ورد في فضيلتها ( )2أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث
على قراءتها عند الحجامة :أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد
اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك.
وهذه الية مشتملة على عشر جمل مستقلة.
حيّ ا ْلقَيّومُ } أي :
فقوله { :اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } إخبار بأنه المتفرد باللهية لجميع الخلئق { الْ َ
الحي في نفسه الذي ل يموت أبدًا القيم لغيره وكان عمر يقرأ " :القَيّام" فجميع الموجودات مفتقرة
سمَاءُ وَال ْرضُ
إليه وهو غني عنها ول قوام لها بدون أمره كقوله َ { :ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ َتقُومَ ال ّ
بَِأمْ ِرهِ } [الروم ]25 :وقوله { :ل تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَل َنوْمٌ } أي :ل يعتريه نقص ول غفلة ول ذهول
عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء ل يغيب عنه شيء ول يخفى
خ ُذهُ } أي :ل
عليه خافية ( ، )3ومن تمام القيومية أنه ل يعتريه سنة ول نوم ،فقوله { :ل تَأْ ُ
تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال { :وَل َنوْمٌ } لنه أقوى من السنة .وفي الصحيح عن
أبي موسى قال :قام فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بأربع كلمات فقال " :إن ال ل ينام ول
ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل
عمل النهار حجابه النور -أو النار -لو كشفه لحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من
خلقه" (.)4
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله { :
ل تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَل َنوْمٌ } أن موسى عليه السلم سأل الملئكة هل ينام ال عز وجل ؟ فأوحى ال
إلى الملئكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلثا ( )5فل يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم
تركوه وحذروه أن يكسرهما .قال :فجعل ينعس وهما في يده ( )6في كل يد واحدة قال :فجعل
ينعس وينبه ( )7وينعس وينبه ( )8حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالخرى فكسرهما قال
معمر :إنما هو مثل ضربه ال عز وجل يقول :فكذلك السموات والرض في يديه.
وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره ( )9وهو من أخبار بني
إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلم ل يخفى عليه مثل هذا من أمر ال عز وجل وأنه
منزه عنه.
__________
( )1سنن الترمذي برقم (.)2879
( )2في أ " :في فضلها".
( )3في أ " :عليه شيء".
( )4صحيح مسلم برقم (.)179
( )5في أ " :قليل".
( )6في أ " :يديه".
( )7في أ " :وينتبه".
( )8في أ " :وينتبه".
( )9تفسير الطبري (.)5/393
( )1/678
( )1/679
بما أعلمه ال عز وجل وأطلعه عليه .ويحتمل أن يكون المراد ل يطلعون على شيء من علم ذاته
وصفاته إل بما أطلعهم ال عليه كقوله { :وَل ُيحِيطُونَ بِهِ عِ ْلمًا } [طه .]110 :
سمَاوَاتِ وَال ْرضَ } قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج حدثنا ابن
وقوله { :وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في
قوله { :وَسِعَ كُرْسِيّهُ } قال :علمه ،وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد ال بن إدريس وهشيم
كلهما عن مطرف بن طريف به.
قال ابن أبي حاتم :وروي عن سعيد بن جبير مثله .ثم قال ابن جرير :وقال آخرون :الكرسي
موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين.
وقال شجاع بن مخلد في تفسيره :أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدّهْني عن مسلم
البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن قول ال :
سمَاوَاتِ وَال ْرضَ } قال " :كرسيه موضع قدميه والعرش ل يقدر قدره إل ال
سعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
{ وَ ِ
عز وجل".
كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلس ،فذكره ()1
وهو غلط وقد رواه َوكِيع في تفسيره :حدثنا سفيان عن عمار الدّهْنِي ( )2عن مسلم البطين عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :الكرسي موضع القدمين والعرش ل يقدر أحد قدره .وقد رواه
الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم
عن سفيان -وهو الثوري -بإسناده عن ابن عباس موقوفًا مثله وقال :صحيح على شرط
ظهَيْر الفزاري الكوفي -
الشيخين ولم يخرجاه ( )3وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ُ
وهو متروك -عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا ول يصح أيضًا.
وقال السدي عن أبي مالك :الكرسي تحت العرش .وقال السدي :السموات والرض في جوف
الكرسي والكرسي بين يدي العرش .وقال الضحاك عن ابن عباس :لو أن السموات السبع
والرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إل بمنزلة الحلقة
في المفازة.
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير :حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال :قال ابن زيد :حدثني أبي قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما السموات السبع في الكرسي إل كدراهم سبعة ألقيت في
تُرْس" .قال :وقال أبو ذر :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ما الكرسي في
العرش إل كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلة من الرض" (.)4
وقال أبو بكر بن مردويه :أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد ال بن وهيب ( )5الغزي
__________
( )1ورواه الخطيب في تاريخ دمشق ( )9/251من طريق شجاع بن مخلد به.
( )2في أ " :عن علي الذهبي".
( )3المستدرك ( )2/282ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم ( )61من طريق أبي عاصم
عن سفيان به موقوفا.
( )4تفسير الطبري ( )5/399وهو منقطع وقد جاء موصول فرواه ابن أبي شيبة في صفة العرش
برقم ( )58من طريق المختار بن غسان ،عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إدريس الخولني عن
أبي ذر الغفاري رضي ال عنه ،مرفوعا بنحوه .وسيأتي أيضا موصول من طريق آخر وهو
الذي يليه من رواية ابن مردويه.
( )5في هـ " :بن وهب" والتصويب من الكمال.
( )1/680
أخبرنا محمد بن أبي السّ ِريّ العسقلني أخبرنا محمد بن عبد ال ( )1التميمي عن القاسم بن محمد
الثقفي عن أبي إدريس الخولني عن أبي ذر الغفاري ،أنه سأل النبي صلى ال عليه وسلم عن
الكرسي فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :والذي نفسي بيده ما السموات السبع والرضون
السبع عند الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة ،وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلة
على تلك الحلقة" (.)2
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده :حدثنا زهير حدثنا ابن أبي ُبكَيْر ( )3حدثنا إسرائيل
عن أبي إسحاق عن عبد ال بن خليفة عن عمر ،رضي ال عنه قال :أتت امرأة إلى رسول ال
صلى ال عليه وسلم فقالت :ادع ال أن يدخلني الجنة .قال :فعظم الرب تبارك وتعالى وقال :
"إن كرسيه وسع السموات والرض وإن له أطيطًا كأطيط الرّحل الجديد من ثقله" (.)4
وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني
وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب "المختار" من حديث أبي إسحاق
( )5السبيعي عن عبد ال بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر ( )6ثم منهم
من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم من يرويه عنه مرسل ( )7ومنهم من يزيد في متنه زيادة
غريبة ومنهم من يحذفها.
وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من
سننه ( ، )8وال أعلم.
وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة
لفصل القضاء ،والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الية.
وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من السلميين :أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن
وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الثير ويقال له :الطلس .وقد رد ذلك عليهم
آخرون.
وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول :الكرسي هو العرش.
والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه ،كما دلت على ذلك الثار والخبار ،وقد
اعتمد ابن جرير على حديث عبد ال بن خليفة ،عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر وال
أعلم.
ظ ُهمَا } أي :ل يثقله ول ُيكْرثُهُ حفظ السموات والرض ومن فيهما ومن
حفْ ُ
وقوله { :وَل يَئُو ُدهُ ِ
__________
( )1في أ " :بن عبيد ال".
( )2وفي إسناده محمد بن أبي السري العسقلني ،ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين ،وقال ابن
عدي :كثير الغلط.
( )3في أ " :ابن أبي بكر".
( )4ورواه من طريقه الضياء في المختارة برقم (.)151
( )5في أ " :عن أبي القاسم".
( )6مسند البزار برقم (" )39كشف الستار" وتفسير الطبري ( )5/400والسنة لبن أبي عاصم
برقم ( )574والمختارة للضياء المقدسي برقم (.)154 - 151
( )7الرواية المرسلة في تفسير الطبري (.)5/400
( )8سنن أبي داود برقم (.)4726
( )1/681
( )1/682
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلل عن أُسَق قال
:كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي السلم فآبى فيقول { :ل
ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } ويقول :يا أُسَق لو أسلمت لستعنا بك على بعض أمور المسلمين.
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ
والتبديل إذا بذلوا الجزية .وقال آخرون :بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع
المم إلى الدخول في الدين الحنيف دين السلم فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل
عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
الجزية ،قوتل حتى يقتل .وهذا معنى الكراه قال ال تعالى { :سَتُدْ َ
ُتقَاتِلُو َنهُمْ َأوْ ُيسِْلمُون } [الفتح ]16 :وقال تعالى { :يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ جَا ِهدِ ا ْل ُكفّارَ وَا ْلمُنَا ِفقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَ ْيهِمْ } [التحريم ]9 :وقال تعالى { :يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ وَلْ َيجِدُوا
فِيكُمْ غِ ْلظَ ًة وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } [التوبة ]123 :وفي الصحيح " :عجب ربك من قوم
يقادون إلى الجنة في السلسل" ( )1يعني :السارى الذين يقدم بهم بلد السلم في الوثائق
والغلل والقيود والكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل
الجنة.
فأما الحديث الذي رواه المام أحمد :حدثنا يحيى عن حميد عن أنس :أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم قال لرجل " :أسلم" قال :إني أجدني كارها .قال " :وإن كنت كارها" ( )2فإنه ثلثي
صحيح ،ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى ال عليه وسلم على السلم بل دعاه
إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له " :أسلم وإن كنت كارهًا فإن ال سيرزقك
حسن النية والخلص".
سمِيعٌ
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ
ت وَ ُيؤْمِنْ بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ
وقوله َ { :فمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُو ِ
عَلِيمٌ } أي :من خلع النداد والوثان ( )3وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون
سكَ بِا ْلعُ ْروَةِ ا ْلوُ ْثقَى } أي :فقد ثبت
ال ،ووحد ال فعبده وحده وشهد أن ل إله إل هو { َفقَدِ اسْ َتمْ َ
في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.
قال أبو القاسم البغوي :حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الحوص سلم بن سليم ،عن أبي
إسحاق عن حسان -هو ابن فائد العبسي -قال :قال عمر رضي ال عنه :إن الجِبت :السحر
والطاغوت :الشيطان ،وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن ل
يعرف ويفر الجبان من ( )4أمه ،وإن كرم الرجل دينه ،وحسبه خلقه ،وإن كان فارسيّا أو
نبطيا .وهكذا رواه ابن جرير ( )5وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان
بن فائد العبسي عن عمر فذكره.
ومعنى قوله في الطاغوت :إنه الشيطان قوي جدّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ،
من عبادة الوثان والتحاكم إليها والستنصار بها.
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا } أي :فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ،
وقوله َ { :فقَدِ اسْ َتمْ َ
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )3010من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )2المسند (.)3/181
( )3في أ " :والديان".
( )4في جـ ،أ ،و " :عن".
( )5تفسير الطبري (.)5/417
( )1/683
وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي ل تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد
علِيمٌ }.
سمِيعٌ َ
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْنفِصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ
ولهذا قال َ { :فقَدِ اسْ َتمْ َ
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى } يعني :اليمان .وقال السدي :هو السلم وقال
قال مجاهد َ { :فقَدِ اسْ َتمْ َ
سعيد بن جبير والضحاك :يعني ل إله إل ال .وعن أنس ( )1بن مالك { :بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى } :
القرآن .وعن سالم بن أبي الجعد قال :هو الحب في ال والبغض في ال.
وكل هذه القوال صحيحة ول تنافي بينها.
وقال معاذ بن جبل في قوله { :ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا } أي :ل انقطاع لها دون دخول الجنة.
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا } ثم قرأ { :إِنّ اللّ َه ل
وقال مجاهد وسعيد بن جبير َ { :فقَدِ اسْ َتمْ َ
س ِهمْ } [الرعد .]11 :
ُيغَيّرُ مَا ِبقَوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ
وقال المام أحمد :حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال :
كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ،فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال
القوم :هذا رجل من أهل الجنة .فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما
استأنس ( )2قلت له :إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا .قال :سبحان ال ما ينبغي
لحد أن يقول ما ل يعلم وسأحدثك لم :إني رأيت رؤيا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم
فقصصتها عليه :رأيت كأني في روضة خضراء -قال ابن عون :فذكر من خضرتها وسعتها
-وسطها عمود حديد أسفله في الرض وأعله في السماء في أعله عروة ،فقيل لي :اصعد
عليه فقلت :ل أستطيع .فجاءني مِ ْنصَف -قال ابن عون :هو الوصيف ( - )3فرفع ثيابي من
خلفي ،فقال :اصعد .فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال :استمسك بالعروة .فاستيقظت وإنها لفي
يدي فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم فقصصتها عليه .فقال " :أما الروضة فروضة السلم
وأما العمود فعمود السلم وأما العروة فهي العروة الوثقى ،أنت على السلم حتى تموت" (.)4
قال :وهو عبد ال بن سلم أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد ال بن عون ( )5وأخرجه
البخاري من وجه آخر ،عن محمد بن سيرين به (.)6
طريق أخرى وسياق آخر :قال المام أحمد :حدثنا حسن بن موسى وعفان قال حدثنا حماد بن
سلمة ،عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرّ قال :قدمت المدينة
فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى ال عليه وسلم .فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال
القوم :من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .فقام خلف سارية فصلى
ركعتين فقمت إليه ،فقلت له :قال بعض القوم :كذا وكذا .فقال :الجنة ل يُدخلها ( )7من يشاء
وإني رأيت على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم رؤيا ،رأيت كأن رجل أتاني فقال :
انطلق .فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري ،فأردت أن أسلكها.
فقال :إنك لست من أهلها .ثم عرضت لي طريق عن
__________
( )1في أ " :وعن يونس".
( )2في جـ " :فلما أنس".
( )3في أ " :هو الوصف".
( )4المسند (.)5/452
( )5صحيح البخاري برقم ( )3813وصحيح مسلم برقم (.)2484
( )6صحيح البخاري برقم (.)7010
( )7في جـ " :سيدخلها".
( )1/684
يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل ( )1فإذا أنا على ذروته ،فلم أتقار ولم
أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل ( )2حتى أخذت بالعروة فقال
:استمسك .فقلت :نعم .فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ،فقصصتها على رسول ال
صلى ال عليه وسلم فقال " :رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر ( ، )3وأما الطريق التي
عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ،ولست من أهلها ،وأما الطريق التي عرضت عن يمينك
فطريق أهل الجنة ،وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ،وأما العروة التي استمسكت بها فعروة
السلم فاستمسك بها حتى تموت" .قال :فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة .قال :وإذا هو عبد
ال بن سلم (.)4
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ،وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ،عن
الحسن بن موسى الشيب كلهما عن حماد بن سلمة به نحوه ( .)5وأخرجه مسلم في صحيحه
سهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به (.)6
من حديث العمش عن سليمان بن مُ ْ
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :فدحا بي".
( )2في جـ ،أ ،و " :فدحا بي".
( )3في جـ " :فالمحن".
( )4المسند (.)453 ، 5/452
( )5سنن النسائي الكبرى برقم ( )7633وسنن ابن ماجة برقم (.)3920
( )6صحيح مسلم برقم (.)2484
( )1/685
جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ
اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ َآمَنُوا يُخْ ِر ُ
مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()257
( )1/685
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ()258
{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ ِإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (} )258
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل :نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح .ويقال
:نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والول قول مجاهد وغيره.
قال مجاهد :وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة :مؤمنان وكافران فالمؤمنان :سليمان بن داود
وذو القرنين .والكافران :نمرود [بن كنعان] ( )1وبختنصر .فال أعلم.
ومعنى قوله { :أَلَمْ تَرَ } أي :بقلبك يا محمد { ِإلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } أي [ :في] ()2
عِل ْمتُ َل ُكمْ مِنْ
وجود ربه .وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه { :مَا َ
إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص ]38 :وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إل
تجبره ،وطول مدته في الملك ؛ وذلك أنه يقال :إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ؛ ولهذا قال { :
أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليل على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم :
{ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي :الدليل على وجوده حدوث هذه الشياء المشاهدة بعد عدمها ،
وعدمها بعد وجودها .وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة ؛ لنها لم تحدث بنفسها فل
بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده ل شريك له .فعند ذلك قال
المحاج ( - )3وهو النمروذ { : -أَنَا ُأحْيِي وَُأمِيتُ }
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد :وذلك أني ( )4أوتى بالرجلين قد استحقا القتل
فآمر بقتل أحدهما فيقتل ،وبالعفو عن الخر فل يقتل .فذلك معنى الحياء والماتة.
والظاهر -وال أعلم -أنه ما أراد هذا ؛ لنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ول في معناه ؛ لنه
غير مانع لوجود الصانع .وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل
لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت ،كما اقتدى به فرعون في قوله { :مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْرِي
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ
} ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة { :فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
ا ْل َمغْ ِربِ } أي :إذا كنت كما تدعي من أنك [أنت الذي] ( )5تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو
الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من
المشرق ،فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب .فلما علم عجزه وانقطاعه
،وأنه ل يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي :أخرس فل يتكلم ،وقامت عليه الحجة .قال
ال تعالى ( { )6وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي :ل يلهمهم حجة ول برهانًا بل حجتهم
داحضة عند ربهم ،وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين :أن عدول إبراهيم عن المقام
الول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ،ومنهم من قد يطلق عبارة ردية .وليس
كما قالوه بل المقام الول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلن ما ادعاه نمروذ في الول والثاني ،
ول الحمد والمنة.
__________
( )1زيادة من جـ.
( )2زيادة من أ ،و.
( )3في جـ ،أ ،و " :الحاج".
( )4في أ " :وذلك أنه".
( )5زيادة من أ ،و.
( )6في جـ ،أ " :عز شأنه".
( )1/686
شهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي َه ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ
َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ
مِئَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِ َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى
س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا
جعََلكَ آَيَةً لِلنّا ِ
ك وَلِنَ ْ
حمَا ِر َ
ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ
طعَا ِم َ
َ
شيْءٍ َقدِيرٌ ()259
حمًا فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ثُمّ َنكْسُوهَا لَ ْ
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن
اجتمع بالملك إل في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم :أن النمروذ كان عنده ( )1طعام وكان الناس
يغدون ( )2إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط
إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام ،فلما قرب من أهله
عمد إلى كثيب من التراب فمل منه عدليه وقال :أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع
رحاله وجاء فاتكأ فنام .فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملنين طعامًا طيبًا فعملت منه
طعاما .فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال :أنى لكم هذا ؟ قالت :من الذي جئت به.
فعرف أنه رزق رزقهموه ال عز وجل .قال ( )3زيد بن أسلم :وبعث ال إلى ذلك الملك الجبار
ملكا يأمره باليمان بال فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال :اجمع جموعك
وأجمع جموعي .فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ،وأرسل ال عليهم بابا من
البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها ال عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما
بادية ،ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة ،عذبه ال بها
فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه ال بها.
شهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي هَ ِذهِ اللّهُ َب ْعدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ
{ َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْ َي ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ
مِائَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِا َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى
س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا
جعََلكَ آيَةً لِلنّا ِ
ك وَلِنَ ْ
حمَا ِر َ
ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ
طعَا ِم َ
َ
شيْءٍ َقدِيرٌ (} )259
حمًا فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ثُمّ َنكْسُوهَا لَ ْ
تقدم قوله تعالى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ [أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ] ( } )4وهو في قوة
قوله :هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ ولهذا عطف عليه بقوله َ { :أوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى
شهَا } اختلفوا في هذا المار من هو ؟ فروى ابن أبي حاتم عن عصام
علَى عُرُو ِ
قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ َ
بن َروّاد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي
طالب أنه قال :هو عزير.
ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه .وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة
والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة وهذا القول هو المشهور.
وقال وهب بن منبه وعبد ال بن عبيد بن عمير :هو أرميا بن حلقيا .قال محمد بن إسحاق ؛
عمن ل يتهم عن وهب بن منبه أنه قال :وهو اسم الخضر عليه السلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي قال :سمعت ( )5سليمان بن محمد اليساري الجاري -من أهل
الجار ،ابن عم مطرف -قال :سمعت رجل من أهل الشام يقول :إن الذي أماته ال مائة عام
ثم بعثه اسمه :حزقيل بن بورا.
وقال مجاهد بن جبر :هو رجل من بني إسرائيل.
__________
( )1في أ " :كان بيده".
( )2في أ " :يبدون" وفي و " :يفدون".
( )3في جـ " :وقال".
( )4زيادة من جـ ،أ.
( )5في جـ " :حدثنا".
( )1/687
[وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنه ؛ فبعثه ال وهو كذلك ،وكان له ابن فبلغ من
السن مائة وعشرين سنة ،وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد
بلغا الهرم ،وأنشدني به بعض الشعراء :
واسوَدّ رأس شاب من قبل ابنه ...ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر...
يرى أنه شيخا يدب على عصا ...ولحيته سوداء والرأس أشعر...
وما لبنه حبل ول فضل قوة ...يقوم كما يمشي الصغير فيعثر...
وعمر ابنه أربعون أمرها ...ولبن ابنه في الناس تسعين غبر] ()1
وأما القرية :فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها { .وَ ِهيَ
خَاوِيَة } أي :ليس فيها أحد من قولهم :خوت الدار تخوي خواءً وخُويا.
شهَا } أي :ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ،فوقف متفكرا فيما آل
وقوله { :عَلَى عُرُو ِ
أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال { :أَنّى يُحْيِي َه ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا } وذلك لما رأى من
دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال ال تعالى { :فََأمَاتَهُ اللّهُ مِا َئةَ عَامٍ
ثُمّ َبعَثَه } قال ( : )2وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت
بنو إسرائيل إليها .فلما بعثه ال عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا ال فيه عينيه لينظر بهما
إلى صنع ال فيه كيف يحيي بدنه ؟ فلما استقل سويا قال ال له -أي بواسطة الملك { : -كَمْ
لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْم } قالوا :وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه ال في آخر نهار ،
فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال َ { :أوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِا َئةَ عَامٍ
طعَا ِمكَ وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } وذلك :أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده
فَانْظُرْ إِلَى َ
كما فقده لم يتغير منه شيء ،ل العصير استحال ول التين حمض ول أنتن ول العنب تعفن
جعََلكَ آيَةً لِلنّاسِ } أي :
حمَارِك } أي :كيف يحييه ال عز وجل وأنت تنظر { وَلِ َن ْ
{ وَا ْنظُرْ إِلَى ِ
دليل على المعاد { وَانْظُرْ إِلَى ا ْلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِ ُزهَا } أي :نرفعها فتركب بعضها على بعض.
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي ُنعَيْم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن خارجة
بن زيد بن ثابت عن أبيه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ { :كَ ْيفَ نُنشِزُهَا } بالزاي ثم
قال :صحيح السناد ولم يخرجاه (.)3
حمًا }.
وقرئ ( :ننشرها) أي :نحييها قاله مجاهد { ثُمّ َن ْكسُوهَا لَ ْ
وقال السدي وغيره :تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا ( )4فنظر إليها وهي تلوح من
بياضها فبعث ال ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ،ثم ركب ( )5كل عظم في
موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام ل لحم عليها ثم كساها ال لحمًا وعصبًا وعروقًا
وجلدًا ،وبعث ال ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن ال عز وجل وذلك كله بمرأى من
شيْءٍ قَدِيرٌ } أي :أنا عالم بهذا
العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قَالَ أَعَْلمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون " :قَالْ اعَْلمْ" على أنه أمر له بالعلم.
__________
( )1زيادة من جـ ،أ.
( )2في أ ،و " :قالوا".
( )3المستدرك ( )2/234وتعقبه الذهبي بقوله " :فيه إسماعيل بن قيس من ولد بن ثابت وقد
ضعفوه".
( )4في أ ،و " :وشمال".
( )5في جـ ،أ " :ثم ركبت".
( )1/688
خذْ
طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَ ُ
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِي ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ
سعْيًا وَاعْلَمْ أَنّ
عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ
ج َعلْ عَلَى ُكلّ جَ َبلٍ مِ ْنهُنّ جُ ْزءًا ثُمّ ادْ ُ
أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ
حكِيمٌ ()260
اللّهَ عَزِيزٌ َ
( )1/688
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلم ،أسبابا ،منها :أنه لما قال لنمروذ { :رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي
وَ ُيمِيتُ } أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين ،وأن يرى ذلك مشاهدة فقال { :
طمَئِنّ قَلْبِي }
حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ َأوََلمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ
َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُ ْ
فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الية :حدثنا أحمد بن صالح ،حدثنا ابن وهب ،
أخبرني يونس ،عن ابن شهاب ،عن أبي سلمة وسعيد ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،قال
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :نحن أحق بالشك من إبراهيم ،إذ قال :رب أرني كيف
تحيى الموتى ؟ قال :أو لم تؤمن .قال :بلى ،ولكن ليطمئن قلبي" وكذا رواه مسلم ،عن حرملة
بن يحيى ،عن ابن وهب ( )1به -فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من ل علم عنده ،بل
خلف .وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة ،أحدها.)2( ...
خذْ أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ } اختلف المفسرون في هذه الربعة :ما هي ؟
وقوله { :قَالَ فَ ُ
وإن كان ل طائل تحت تعيينها ،إذ لو كان في ذلك مُتّهم لنص عليه القرآن ،فروي عن ابن
عباس أنه قال :هي الغرنوق ،والطاوس ،والديك ،والحمامة .وعنه أيضًا :أنه أخذ وزّا ،
ورأل -وهو فرخ النعام -وديكا ،وطاووسًا .وقال مجاهد وعكرمة :كانت حمامة ،وديكا ،
وطاووسًا ،وغرابًا.
وقوله َ { :فصُرْهُنّ إِلَيْك } أي :قطعهن .قاله ابن عباس ،وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،وأبو
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4537وصحيح مسلم برقم (.)151
( )2وقع هنا بياض بجميع النسخ ،ووقع في نسخة مساعدة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية في
هذا الموضع ،وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة
أحدها :قول إسماعيل المزني :لم يشك النبي صلى ال عليه وسلم ول إبراهيم ،عليه السلم ،
في أن ال سبحانه قادر على إحياء الموتى ،وإنما بدأ لجاهل يجيبهما إلى ما سأله .وقال الخطابي
في قوله " :نحن أحق بالشك من إبراهيم" :ليس اعتراف بالشك على نفسه ول على إبراهيم ،
ولكن فيه نفي الشك عنهما يقول :إذا لم أشك في قدرة ال على إحياء الموتى ،فإبراهيم أولى بأل
يشك ،قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس ،وكذلك قوله " :لو لبثت في السجن ما
لبث يوسف لجبت الداعي" وفيه العلم بأن المسألة من جهة إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ،
لكن من قبل زيادة العلم بالعيان ،لنه يفيد من المعرفة والطمأنينة ما ل يفيد الستدلل ،وقيل :
قال هذا صلى ال عليه وسلم تواضعا وتقديما لبراهيم قوله " :أو لم تؤمن قال :بلى قد آمنت".
وأظن هذا من تصرف الناسخ ،لنه كتب بالجانب بياض في الصل .قال الشيخ أحمد شاكر عند
هذا الموضع من كتابه "العمدة" الذي هو مختصر تفسير ابن كثير (.)2/170
"هنا بياض في المخطوطة الزهرية والمطبوعة ،لعل الحافظ ابن كثير تركه ليكتب القوال في
ذلك ،ثم لم يفعل سهوا أو نسيانا وقد أفاض الحافظ ابن حجر في الفتح ( )295 ، 6/294في ذكر
أقوال العلماء في ذلك .وأجود ذلك عندي قول ابن عطية " :إن الحديث مبني على نفي الشك ،
والمراد بالشك فيه :الخواطر التي ل تثبت .وأما الشك المصطلح -وهو التوقف بين المرين من
غير مزية لحدهما على الخر -فهو منفي عن الخليل قطعا ؛ لنه يبعد وقوعه ممن رسخ
اليمان في قلبه ،فكيف بمن بلغ رتبة النبوة ؟! وأيضا فإن السؤال لما وقع بـ (كيف) دل على
حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول ،كما تقول :كيف علم فلن فـ (كيف) في الية
سؤال عن هيئة الحياء ل عن نفس الحياء فإنه ثابت مقرر .وقال غيره :معناه :إذا لم نشك
نحن ،فإبراهيم أولى أل يشك ،أي :لو كان الشك متطرفا إلى النبياء ؛ لكنت أنا أحق به منه ،
وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك وإنما قال ذلك تواضعا منه".
( )1/689
( )1/690
مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ
عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ()261
ُيضَا ِ
{ مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبَُلةٍ مِائَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ
عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (} )261
ُيضَا ِ
هذا مثل ضربه ال تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ،وأن الحسنة
تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،فقال { :مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ }
قال سعيد بن جبير :في طاعة ال .وقال مكحول :يعني به :النفاق في الجهاد ،من رباط
الخيل وإعداد السلح وغير ذلك ،وقال شبيب بن بشر ،عن عكرمة ،عن ابن عباس :الجهاد
والحج ،يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ؛ ولهذا قال ال تعالى َ { :كمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ
سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبَُلةٍ مِائَةُ حَبّةٍ }
وهذا المثل أبلغ في النفوس ،من ذكر عدد السبعمائة ،فإن هذا فيه إشارة إلى أن العمال
الصالحة ينميها ال عز وجل ،لصحابها ،كما ينمي الزرع لمن بذره في الرض الطيبة ،وقد
وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف ،قال المام أحمد :
حدثنا زياد بن الربيع أبو خِدَاش ،حدثنا واصل مولى ابن عيينة ،عن بشار بن أبي سيف
الجرمي ،عن عياض بن غطيف قال :دخلنا على أبي عبيدة [بن الجراح] ( )1نعوده من شكوى
أصابه -وامرأته ُتحَ ْيفَة قاعدة عند رأسه -قلنا :كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت :وال لقد بات
بأجر ،قال أبو عبيدة :ما بت بأجر ،وكان مقبل بوجهه على الحائط ،فأقبل على القوم بوجهه ،
وقال :أل تسألوني عما قلت ؟ قالوا :ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه ،قال :سمعت رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقول " :من أنفق نفقة فاضلة في سبيل ال فبسبعمائة ،ومن أنفق على نفسه
وأهله ،أو عاد مريضا أو مازَ أذى ،فالحسنة بعشر أمثالها ،والصوم جنة ما لم يخرقها ،ومن
ابتله ال عز وجل ،ببلء في جسده فهو له حطة".
وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ،ومن وجه آخر موقوفا (.)2
حديث آخر :قال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن سليمان ،سمعت أبا
عمرو الشيباني ،عن ابن مسعود :أن رجل تصدق بناقة مخطومة في سبيل ال ،فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة".
ورواه مسلم والنسائي ،من حديث سليمان بن ِمهْران ،عن العمش ،به ( .)3ولفظ مسلم :جاء
رجل بناقة مخطومة ،فقال :يا رسول ال ،هذه في سبيل ال .فقال " :لك بها يوم القيامة
سبعمائة ناقة".
جمَع أبو المنذر الكندي ،أخبرنا إبراهيم الهجري ،
حديث آخر :قال أحمد :حدثنا عمرو بن َم ْ
عن أبي الحوص ،عن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال
عز وجل ،جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها ،إلى سبعمائة ضعف ،إل الصوم ،والصوم لي
وأنا أجزي به ،وللصائم فرحتان :فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ،ولخلوف فم الصائم
أطيب عند ال من ريح المسك" (.)4
__________
( )1زيادة من المسند (.)1/195
( )2المسند ( )1/195وسنن النسائي (.)168 ، 4/167
( )3صحيح مسلم برقم ( )1892وسنن النسائي (.)6/49
( )4المسند (.)1/446
( )1/691
حديث آخر :قال [المام] ( )1أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي
هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كل عمل ابن آدم يضاعف ،الحسنة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،إلى ما شاء ( )2ال ،يقول ال :إل الصوم ،فإنه لي وأنا أجزي به
،يدع طعامه وشهوته من أجلي ،وللصائم فرحتان :فرحة عند فطره ،وفرحة عند لقاء ربه ،
ولخُلُوف فِيه ( )3أطيب عند ال من ريح المسك .الصوم جنة ،الصوم جنة" .وكذا رواه مسلم ،
عن أبي بكر بن أبي شيبة ،وأبي سعيد الشج ،كلهما عن وكيع ،به (.)4
حديث آخر :قال أحمد :حدثنا حسين بن علي ،عن زائدة ،عن الركين ،عن يُسَيْر بن عميلة (
)5عن خريم بن فاتك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من أنفق نفقة في سبيل ال
تضاعف بسبعمائة ( )6ضعف" (.)7
حديث آخر :قال أبو داود :حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ،حدثنا ابن وهب ،عن يحيى بن
أيوب وسعيد بن أبي أيوب ،عن زبان بن فائد ،عن سهل بن معاذ ،عن أبيه قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :إن الصلة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل ال سبعمائة
ضعف" (.)8
حديث آخر :قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا هارون بن عبد ال بن مروان ،حدثنا ابن
أبي فديك ،عن الخليل بن عبد ال ،عن الحسن ،عن عمران بن حصين ،عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال " :من أرسل بنفقة في سبيل ال ،وأقام في بيته ( )9فله بكل درهم سبعمائة
درهم يوم القيامة ومن غزا ( )10في سبيل ال ،وأنفق في جهة ذلك ( )11فله بكل درهم ()12
عفُ ِلمَنْ َيشَاءُ } وهذا حديث غريب (.)13
سبعمائة ألف درهم" .ثم تل هذه الية { :وَاللّهُ ُيضَا ِ
وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي ،عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة ،
ضعَافًا كَثِي َرةً } [البقرة .]245 :
عفَهُ لَهُ َأ ْ
عند قوله { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ
حديث آخر :قال ابن مردويه :حدثنا عبد ال بن عبيد ال بن العسكري البزاز ،أخبرنا الحسن
بن علي بن شبيب ،أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي ،أخبرنا أبي ،عن عيسى بن المسيب ،عن
نافع ،عن ابن عمر قال :لما نزلت هذه الية { :مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه } قال
النبي صلى ال عليه وسلم " :رب زد أمتي" قال :فأنزل ال { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا
حسَابٍ }
حسَنًا } قال " :رب زد أمتي" قال :فأنزل ال { :إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ
َ
[الزمر .] 10 :
وقد رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ،عن حاجب بن أركين ،عن أبي عمر حفص بن عمر
بن عبد العزيز المقرئ ،عن أبي إسماعيل المؤدب ،عن عيسى بن المسيب ،عن نافع ،عن ابن
عمر ،فذكره (.)14
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في جـ ،أ ،و " :إلى ما يشاء".
( )3في جـ " :ولخلوف فمه".
( )4صحيح مسلم برقم (.)1151
( )5في أ " :عن الركن بن بشير بن جميلة" ،وفي و " :عن الركين ،عن بشير بن عميلة".
( )6في جـ ،و " :بسبعمائة وهو الصواب.
( )7المسند (.)4/345
( )8سنن أبي داود برقم (.)2498
( )9في أ " :في بنيته".
( )10في أ ،و " :من غزا بنفسه".
( )11في جـ ،أ ،و " :في وجهه ذلك".
( )12في جـ ،أ ،و " :درهم يوم القيامة".
( )13ورواه ابن ماجة في السنن برقم ( )2761عن هارون بن عبد ال به.
( )14صحيح ابن حبان برقم (" )1648موارده".
( )1/692
الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لَا يُتْ ِبعُونَ مَا أَ ْنفَقُوا مَنّا وَلَا أَذًى َلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَلَا
ن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا َأذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ (َ )262ق ْولٌ َمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ مِ ْ
َ
س وَلَا
ن وَالْأَذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّا ِ
حَلِيمٌ ( )263يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَ َدقَا ِت ُكمْ بِا ْلمَ ّ
صفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَهُ وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَ ْلدًا لَا َيقْدِرُونَ عَلَى
ل َ
ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِرِ َفمَثَلُهُ َكمَ َث ِ
شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ ()264
َ
علِيمٌ }
عفُ ِلمَنْ يَشَاءُ } أي :بحسب إخلصه في عمله { وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ
وقوله هاهنا { :وَاللّهُ ُيضَا ِ
أي :فضله واسع كثير أكثر من خلقه ،عليم بمن يستحق ومن ل يستحق.
{ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ ل يُتْ ِبعُونَ مَا أَ ْنفَقُوا مَنّا وَل َأذًى َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل
ص َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا أَذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ
ن َ
ف َو َمغْفِ َرةٌ خَيْرٌ مِ ْ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ (َ )262ق ْولٌ َمعْرُو ٌ
َ
س وَل
ن وَالذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّا ِ
حَلِيمٌ ( )263يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْبطِلُوا صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ
علَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَلْدًا ل َيقْدِرُونَ عَلَى
ص ْفوَانٍ َ
ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَُلهُ َكمَ َثلِ َ
شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ (} )264
َ
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل ال ،ثم ل يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات
منا على من ( )1أعطوه ،فل يمنون على أحد ،ول يمنون به ل بقول ول فعل.
وقوله { :وَل أَذًى } أي :ل يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من
الحسان .ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ،فقال َ { :لهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِم } أي :
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِم } أي :فيما يستقبلونه من أهوال يوم
ثوابهم على ال ،ل على أحد سواه { وَل َ
القيامة { وَل هُمْ يَحْزَنُونَ } أي [ :على] ( )2ما خلفوه من الولد وما فاتهم من الحياة الدنيا
وزهرتها ( )3ل يأسفون عليها ؛ لنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى َ { :ق ْولٌ َمعْرُوفٌ } أي :من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { َو َمغْفِرَة } أي :غفر ()4
ن صَ َد َقةٍ يَتْ َب ُعهَا أَذًى }
عن ظلم قولي أو فعلي { خَيْرٌ مِ ْ
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن نفيل قال :قرأت على معقل بن عبيد ال ،عن عمرو
بن دينار قال :بلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ما من صدقة أحب إلى ال من
قول معروف ،ألم تسمع قوله { :قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } " { وَاللّهُ
غَ ِنيّ } [أي] ( : )5عن خلقه.
{ حَلِيمٌ } أي :يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم.
وقد وردت الحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ،ففي صحيح مسلم ،من حديث شعبة ،عن
سهِر ،عن خرشة بن الحر ،عن أبي ذر قال :قال رسول ال صلى
العمش عن سليمان بن مُ ْ
ال عليه وسلم " :ثلثة ل يكلمهم ال يوم القيامة ،ول ينظر إليهم ،ول يزكيهم ،ولهم عذاب أليم
:المنان بما أعطى ،والمسبل إزاره ،والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" (.)6
وقال ابن مردويه :حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ،أخبرنا عثمان بن محمد الدوري ،أخبرنا
هشيم ( )7بن خارجة ،أخبرنا سليمان بن عقبة ،عن يونس بن ميسرة ،عن أبي إدريس ،عن
أبي الدرداء ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ل يدخل الجنة عاق ،ول منان ،ول مدمن
خمر ،ول مكذب بقدر"
__________
( )1في ج ،أ " :على ما".
( )2زيادة من جـ ،أ ،و.
( )3في و " :وزينتها".
( )4في جـ ،أ ،و " :أي عفو".
( )5زيادة من ج.
( )6صحيح مسلم برقم (.)106
( )7في و " :الهيثم".
( )1/693
وروى أحمد وابن ماجه ،من حديث يونس بن ميسرة نحوه (.)1
ثم روى ( )2ابن مردويه ،وابن حبان ،والحاكم في مستدركه ،والنسائي من حديث عبد ال بن
يسار العرج ،عن سالم بن عبد ال بن عمر ،عن أبيه قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :ثلثة ل ينظر ال إليهم يوم القيامة :العاق لوالديه ،ومدمن الخمر ،والمنان بما أعطى"
(.)3
وقد روى النسائي ،عن مالك بن سعد ،عن عمه روح بن عبادة ،عن عتاب بن بشير ،عن
خصيف الجزري ،عن مجاهد ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ل يدخل
الجنة مدمن خمر ،ول عاق لوالديه ،ول منان" (.)4
وقد رواه ابن أبي حاتم ،عن الحسن بن المنهال ( )5عن محمد بن عبد ال بن عمار الموصلي ،
خصَيف ،عن مجاهد ،عن ابن عباس (.)6
عن عتاب ،عن ُ
ورواه النسائي من حديث ،عبد الكريم بن مالك الجزري ،عن مجاهد ،قوله .وقد روي عن
مجاهد ،عن أبي سعيد ( )7وعن مجاهد ،عن أبي هريرة ،نحوه ( .)8ولهذا قال تعالى :
ن وَالذَى } فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن
{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْبطِلُوا صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ
والذى ،فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والذى.
ثم قال تعالى { :كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ } أي :ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى ،كما
تبطل صدقة من راءى بها الناس ،فأظهر لهم أنه يريد وجه ال وإنما قصده مدح الناس له أو
شهرته بالصفات الجميلة ،ليشكر بين الناس ،أو يقال :إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية
،مع قطع نظره عن معاملة ال تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ؛ ولهذا قال { :وَل ُي ْؤمِنُ
بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِر }
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه -قال الضحاك :والذي يتبع نفقته منا أو أذى -فقال :
صفْوانة ،ومنهم من يقول :الصفوان يستعمل مفردا أيضا ،
ص ْفوَانٍ } وهو جمع َ
ل َ
{ َفمَثَلُهُ َكمَثَ ِ
وهو الصفا ،وهو الصخر الملس { عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَهُ وَا ِبلٌ } وهو المطر الشديد { فَتَ َركَهُ صَلْدًا
} أي :فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا ،أي ( : )9أملس يابسًا ،أي :ل شيء عليه من ذلك
التراب ،بل قد ذهب كله ،أي :وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند ال ( )10وإن ظهر
شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّ ُه ل
علَى َ
لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ؛ ولهذا قال { :ل َيقْدِرُونَ َ
َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }.
__________
( )1المسند ( )6/441وسنن ابن ماجة برقم ( )3376وقال البوصيري في الزوائد (: )3/103
"هذا إسناد حسن ،سليمان بن عتبة مختلف فيه ،وباقي رجال السناد ثقات".
( )2في جـ " :وروي".
( )3المستدرك ( )4/146وسنن النسائي (.)5/80
( )4سنن النسائي الكبرى برقم (.)4921
( )5في جـ " :بن منهال" ،وفي أ " :بن منهلل".
( )6في جـ ،أ ،و " :ابن عباس في قوله".
( )7سنن النسائي الكبرى برقم (.)4920
( )8سنن النسائي الكبرى برقم (.)4922
( )9في جـ " :هكذا".
( )10في جـ " :عند ال تعالى".
( )1/694
سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ
َومَثَلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ()265
طّض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ
فَآَ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ
{ َومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّ ِه وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (} )265
طّض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ
فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
( )1/694
ل وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ
أَ َيوَدّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ َلهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِي ٍ
عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ
ض َعفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ
وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ
تَ َت َفكّرُونَ ()266
سهِمْ } أي
وهذا مثل المؤمنين المنفقين { َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
:وهم متحققون مُثَبتون أن ال سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ،ونظير هذا في المعنى ،قوله
عليه السلم ( )1في الحديث المتفق على صحته " :من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا " ...أي :
يؤمن أن ال شرعه ،ويحتسب عند ال ثوابه.
سهِمْ } أي :تصديقا ويقينا ( .)2وكذا قال قتادة ،وأبو صالح ،وابن
قال الشعبي { :وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
زيد .واختاره ابن جرير .وقال مجاهد والحسن :أي :يتثبتون أين يضعون ( )3صدقاتهم.
وقوله َ { :كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ } أي :كمثل بستان بربوة .وهو عند الجمهور :المكان المرتفع
المستوي من الرض .وزاد ابن عباس والضحاك :وتجري فيه النهار.
قال ابن جرير :وفي الربوة ثلث لغات هن ثلث قراءات :بضم الراء ،وبها قرأ عامة أهل
المدينة والحجاز والعراق .وفتحها ،وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ،ويقال :إنها لغة تميم.
وكسر الراء ،ويذكر أنها قراءة ابن عباس.
وقوله َ { :أصَا َبهَا ( )4وَا ِبلٌ } وهو المطر الشديد ،كما تقدم { ،فَآ َتتْ ُأكَُلهَا } أي :ثمرتها ()5
طلّ } قال الضحاك :هو
ض ْعفَيْن } أي :بالنسبة إلى غيرها من الجنان { .فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ
{ ِ
الرّذَاذ ،وهو اللين من المطر .أي :هذه الجنة بهذه الربوة ل تمحل أبدًا ؛ لنها إن لم يصبها وابل
فطل ،وأيا ما كان فهو كفايتها ،وكذلك عمل المؤمن ل يبور أبدًا ،بل يتقبله ال ويكثره وينميه ،
كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال { :وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي :ل يخفى عليه من أعمال عباده
شيء.
ل وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ َلهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ
ح ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِي ٍ
{ أَ َيوَدّ أَ َ
عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ اليَاتِ
ض َعفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ
وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ
َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ (} )266
قال البخاري عند تفسير هذه الية :حدثنا إبراهيم بن موسى ،حدثنا هشام -هو ابن يوسف -
عن ابن جريج :سمعت عبد ال ( )6بن أبي مُلَيكة ،يحدث عن ابن عباس ،وسمعت أخاه أبا
عمَير قال :قال عمر بن الخطاب يوما لصحاب النبي
بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن ُ
صلى ال عليه وسلم :فيمن ترون هذه الية نزلت { :أَ َيوَدّ َأحَ ُد ُكمْ أَنْ َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ
وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا :ال أعلم .فغضب عمر فقال :قولوا :نعلم أو ل نعلم ( .)7فقال ابن عباس :
في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين .فقال عمر :يا ابن أخي ،قل ول تحقر نفسك .فقال ابن
ي عملٍ ؟ قال ابن عباس :لعمل .قال عمر :لرجل
عباس :ضربت مثل لعمل .قال عمر :أ ّ
غني يعمل بطاعة ال .ثم بعث ال له الشيطان فعمِل بالمعاصي
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :صلى ال عليه وسلم".
( )2في و " :وتيقنا".
( )3في ج " :أي يضعوا".
( )4في جـ ،أ " :فأصابها" وهو خطأ.
( )5في جـ ،أ ،و " :أي ثمرها".
( )6في جـ ،أ ،و " :عبيد ال".
( )7في جـ " :فقالوا أتعلم أو ل تعلم".
( )1/695
ض وَلَا تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُت ْم َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِنَ الْأَ ْر ِ
حمِيدٌ ( )267الشّ ْيطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْرَ
تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بَِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِي ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ
ح ْكمَةَ مَنْ يَشَاءُ
سعٌ عَلِيمٌ (ُ )268يؤْتِي ا ْل ِ
وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َمغْفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْلًا وَاللّ ُه وَا ِ
ح ْكمَةَ َفقَدْ أُو ِتيَ خَيْرًا كَثِيرًا َومَا يَ ّذكّرُ إِلّا أُولُو الْأَلْبَابِ ()269
َومَنْ ُي ْؤتَ ا ْل ِ
( )1/696
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفاق -والمراد به الصدقة هاهنا ؛ قاله ابن عباس -من طيبات ما
رزقهم من الموال التي اكتسبوها .قال مجاهد :يعني التجارة بتيسيره إياها لهم.
وقال علي والسدي { :مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني :الذهب والفضة ،ومن الثمار والزروع التي
أنبتها لهم من الرض.
قال ابن عباس :أمرهم بالنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ،ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ
المال ودَنيه -وهو خبيثه -فإن ال طَيْب ل يقبل إل طيبًا ،ولهذا قال { :وَل تَ َي ّممُوا } أي :
تقصدوا { ا ْلخَبِيثَ مِ ْنهُ تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي :لو أعطيتموه ما أخذتموه ،إل أن تتغاضوا فيه
،فال أغنى عنه منكم ،فل تجعلوا ل ما تكرهون.
وقيل :معناه { :وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْن ِفقُونَ } أي :ل تعدلوا عن المال الحلل ،وتقصدوا
إلى الحرام ،فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه المام أحمد :حدثنا محمد بن عبيد ،حدثنا أبان بن إسحاق ،عن
الصباح بن محمد ،عن مُرّة ال َهمْداني ،عن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :إن ال قسم بينكم أخلقكم ،كما قسم بينكم أرزاقكم ،وإن ال يعطي الدنيا من يحب
ومن ل يحب ،ول يعطي الدين إل لمن أحبّ ،فمن أعطاه ال الدين فقد أحبه ،والذي نفسي بيده
،ل يسلم عَبْدّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه ،ول يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه" .قالوا :وما بوائقه يا
شمُه وظلمه ،ول يكسب ( )1عبد مال من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه ،
غَنبي ال ؟ .قال َ " :
ول يتصدقُ به فيقبل ( )2منه ،ول يتركه خلف ظهره إل كان زاده إلى النار ،إن ال ل يمحو
السيئ بالسيئ ،ولكن يمحو السيئ بالحسن ،إن الخبيث ل يمحو الخبيث" (.)3
والصحيح القول الول ؛ قال ابن جرير :حدثني الحسين بن عمرو العَ ْنقَزيّ ،حدثني أبي ،عن
أسباط ،عن السدّي ،عن عدي بن ثابت ،عن البراء بن عازب في قول ال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
ض وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُونَ }
آمَنُوا أَ ْنفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُت ْم َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِنَ ال ْر ِ
الية .قال :نزلت في النصار ،كانت النصار إذا كان أيام جذَاذ النخل ،أخرجت من حيطانها
أقناء ال ُبسْر ،فعلقوه على حبل بين السطوانتين في مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فيأكل
فقراء المهاجرين منه ،فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف ،فيدخله مع أقناء البسر ،يظن أن ذلك
جائز ،فأنزل ال فيمن فعل ذلك { :وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِ ْنهُ تُ ْنفِقُونَ }
ثم رواه ( )4ابن جرير ،وابن ماجه ،وابن مَرْ ُدوَيه ،والحاكم في مستدركه ،من طريق
السدي ،عن
__________
( )1في جـ ،أ " :ول يكتسب".
( )2في أ ،و " :فيتقبل".
( )3المسند (.)1/387
( )4في جـ " :ورواه".
( )1/697
عدي بن ثابت ،عن البراء ،بنحوه .وقال الحاكم :صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا عبيد ال ،عن إسرائيل ،عن السدي ،عن
ن وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ } قال
أبي مالك ،عن البراء { :وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُو َ
:نزلت فينا ،كنا أصحاب نخل ،وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ،فيأتي الرجل
بالقِنْو فيعلقه في المسجد ،وكان أهل الصفة ( )2ليس لهم طعام ،فكان أحدهم إذا جاع جاء
فضربه بعصاه ،فيسقط منه البسر والتمر ،فيأكل ،وكان أناس ممن ل يرغبون في الخير يأتي
حشَف والشّيص ،ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ،فنزلت { :وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
بالقِنْو فيه ال َ
تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ } قال :لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إل
على إغماض وحَياء ،فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
وكذا رواه الترمذي ،عن عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي ،عن عبيد ال -هو ابن موسى
العبسي -عن إسرائيل ،عن السدي -وهو إسماعيل بن عبد الرحمن -عن أبي مالك الغفاري
-واسمه غَزْوان -عن البراء ،فذكر نحوه (.)3
ثم قال ( : )4وهذا حديث حسن غريب.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو الوليد ،حدثنا سليمان بن كثير ،عن الزهري ،عن
أبي أمامة بن سهل بن حنيف ،عن أبيه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى عن لونين من
جعْرُور ولون الحُبَيق ( .)5وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم ( )6ثم يخرجونها في
التمر :ال ُ
الصدقة ،فنزلت { :وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُون } (.)7
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين ،عن الزهري [به] ( .)8ثم قال :أسنده أبو الوليد ،
جعْرُور
عن سليمان بن كثير ،عن الزهري ،ولفظه :نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ال ُ
ولون الحُبيق ( )9أن يؤخذا في الصدقة (.)10
حصُبي ،عن الزهري ،عن أبي
حمَيد ال َي ْ
وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن ُ
أمامة .ولم يقل :عن أبيه ،فذكر نحوه ( .)11وكذا رواه ابن وهب ،عن عبد الجليل.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا يحيى بن المغيرة ،حدثنا جرير ،عن عطاء بن السائب ،
عن عبد ال بن َمعْقل ( )12في هذه الية { :وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُون } قال :كسب المسلم
ل يكون خبيثًا ،ولكن ل يصدّق بالحشف ،والدرهم الزّيف ،وما ل خير فيه.
__________
( )1تفسير الطبري ( )560 ، 5/559وسنن ابن ماجة برقم ( )1822والمستدرك ( )2/285وقال
البوصيري في الزوائد (" : )2/58هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ،وله شاهد من حديث عوف بن
مالك رواه أصحاب السنن الربعة".
( )2في جـ ،أ ،و " :وكان أهل الصدقة".
( )3سنن الترمذي برقم (.)2987
( )4في جـ " :وقال".
( )5في جـ ،أ " :ولون الحشف".
( )6في جـ " :شر أثمارها".
( )7ورواه الحاكم في المستدرك ( )1/402والطبراني في المعجم الكبير ( )6/76من طريق أبي
الوليد الطيالسي به ،وقال الحاكم " :حديث صحيح على شرط البخاري".
( )8زيادة من جـ ،أ.
( )9في جـ " :ولون الحسف".
( )10سنن أبي داود برقم (.)1607
( )11سنن النسائي (.)5/43
( )12في جـ " :بن مغفل".
( )1/698
وقال المام أحمد :حدثنا أبو سعيد ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن حماد -هو ابن أبي سليمان -
عن إبراهيم ،عن السود ،عن عائشة قالت :أُتِي رسول ال صلى ال عليه وسلم بضب فلم
يأكله ولم ينه عنه .قلت :يا رسول ال ،نطعمه ( )1المساكين ؟ قال " :ل تطعموهم مما ل
تأكلون" (.)2
ثم رواه عن عفان ( )3عن حماد بن سلمة ،به .فقلت :يا رسول ال ،أل أطعمه المساكين ؟ قال
" :ل تطعموهم ما ل تأكلون".
وقال الثوري :عن السدي ،عن أبي مالك ،عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيه }
يقول :لو كان لرجل على رجل ،فأعطاه ذلك لم يأخذه ؛ إل أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه
ابن جرير.
خذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيه } يقول :لو كان
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وَلَسْ ُتمْ بِآ ِ
لكم على أحد حق ،فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه .قال :فذلك
قوله { :إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما ل ترضون لنفسكم ،وحقي عليكم من أطيب
أموالكم وأنفسه!!
رواه ابن أبي حاتم ،وابن جرير ،وزاد :وهو قوله { :لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا ُتحِبّون }
[آل عمران .]92 :ثم روى من طريق العوفي وغيره ،عن ابن عباس نحو ذلك ،وكذا ذكر
غير واحد.
حمِيدٌ } أي :وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني
قوله ( { : )4وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ
عنها ،وما ذاك إل ليساوي الغني الفقير ،كقوله { :لَنْ يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَل ِدمَاؤُهَا وََلكِنْ يَنَالُهُ
ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ } [الحج ]37 :وهو غني عن جميع خلقه ،وجميع خلقه فقراء إليه ،وهو واسع
الفضل ل ينفد ما لديه ،فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ،فليَعلمْ أن ال غني واسع العطاء ،
كريم جواد ،سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ول ظلوم ،وهو
الحميد ،أي :المحمود في جميع أفعاله وأقواله ( )5وشرعه وقدره ،ل إله إل هو ،ول رب
سواه.
حشَا ِء وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َم ْغفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْل وَاللّ ُه وَاسِعٌ
وقوله { :الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَ ْ
عَلِيمٌ } قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا هَنّاد بن السّرِي ،حدثنا أبو الحوص ،عن
عطاء بن السائب ،عن مرة ال َهمْداني ،عن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم "إن للشيطان لََلمّة ( )6بابن آدم ،وللمَلك لَمة ،فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب
بالحق ،وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق .فمن وجد ذلك فليعَلمْ أنه من ال ،فَلْيحمَد
ال ،ومن وجد الخرى فليتعوذ من الشيطان" .ثم قرأ { :الشّ ْيطَانُ َيعِ ُد ُكمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ
وَاللّهُ َيعِ ُد ُكمْ َمغْفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْل } الية.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي ( )7التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا ،عن هَنّاد بن السّرِي (
.)8
__________
( )1في جـ " :أل نطعمه".
( )2المسند (.)6/105
( )3في جـ " :عن عثمان".
( )4في جـ ،أ ،و " :وقوله".
( )5في جـ " :في جميع أقواله وأفعاله".
( )6في جـ " :لمة".
( )7في جـ " :في كتاب".
( )8سنن الترمذي برقم ( )2988وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11051
( )1/699
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ،عن أبي يعلى الموصلي ،عن هَنّاد ،به ( .)1وقال الترمذي :
حسن غريب ،وهو حديث أبي الحوص -يعني سلم بن سليم -ل نعرفه مرفوعًا إل من
حديثه .كذا قال .وقد رواه أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسيره ،عن محمد بن أحمد ،عن محمد بن
ضمْرة ( )2عن ابن شهاب ،عن عبيد ال بن
عبد ال بن رُسْتَه ،عن هارون الفَ ْروِي ،عن أبي َ
عبد ال ،عن ابن مسعود ،مرفوعًا نحوه.
ولكن رواه مِسْعر ،عن عطاء بن السائب ،عن أبي الحوص عوف بن مالك بن نضلة ،عن
ابن مسعود .فجعله من قوله ،وال أعلم.
ومعنى قوله تعالى { :الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ } أي :يخوفكم الفقر ،لتمسكوا ما بأيديكم فل تنفقوه
في مرضاة ال { ،وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ } أي :مع نهيه إياكم عن النفاق خشية الملق ،يأمركم
بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلق ،قال [ال] ( )3تعالى { :وَاللّهُ َيعِ ُد ُكمْ َمغْفِ َرةً مِنْهُ }
أي :في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء { َو َفضْل } أي :في مقابلة ما خوفكم الشيطان من
الفقر { وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
ح ْكمَةَ مَنْ َيشَاء } قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :يعني المعرفة
وقوله ُ { :يؤْتِي الْ ِ
بالقرآن ناسخه ومنسوخه ،ومحكمه ومتشابهه ،ومقدمه ومؤخره ،وحلله وحرامه ،وأمثاله.
جوَيْبر ،عن الضحاك ،عن ابن عباس مرفوعًا :الحكمة :القرآن ( .)4يعني :تفسيره ،
وروى ُ
قال ابن عباس :فإنه [قد] ( )5قرأه البر والفاجر .رواه ابن مَرْدُويه.
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد :يعني بالحكمة :الصابة في القول.
ح ْكمَةَ مَنْ َيشَاء } ليست بالنبوة ،ولكنه العلم
وقال ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد ُ { :يؤْتِي الْ ِ
والفقه والقرآن.
وقال أبو العالية :الحكمة خشية ال ،فإن خشية ال رأس كل حكمة.
جهَني ،عن أبي عمار السدي ،
وقد روى ابن مَرْدُويه ،من طريق بقية ،عن عثمان بن ُزفَر ال ُ
عن ابن مسعود مرفوعًا " :رأس الحكمة مخافة ال" (.)6
وقال أبو العالية في رواية عنه :الحكمة :الكتاب والفهم .وقال إبراهيم النخَعي :الحكمة :الفهم.
وقال أبو مالك :الحكمة :السنة .وقال ابن وهب ،عن مالك ،قال زيد بن أسلم :الحكمة :
العقل .قال مالك :وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين ال ،وأمْرٌ يدخله ال في القلوب
من رحمته وفضله ،ومما يبين ذلك ،أنك تجد الرجل عاقل في أمر الدنيا ذا نظر فيها ،وتجد
آخر ضعيفًا في أمر دنياه ،عالمًا بأمر دينه ،بصيرًا به ،يؤتيه ال إياه ويحرمه هذا ،فالحكمة :
الفقه في دين ال.
وقال السدي :الحكمة :النبوة.
__________
( )1صحيح ابن حبان برقم (" )40موارد".
( )2في جـ ،أ " :عن أبي حمزة".
( )3زيادة من جـ ،أ.
( )4عزاه السيوطي في الدر المنثور ( )2/66لبن مردويه في تفسيره وإسناده ضعيف جدا.
( )5زيادة من أ ،و.
( )6ورواه البيهقي وضعفه في شعب اليمان برقم ( )744من طريق محمد بن وصفى عن بقية
به ،ورواه البيهقي أيضا من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود.
( )1/700
والصحيح أن الحكمة -كما قاله الجمهور -ل تختص بالنبوة ،بل هي أعم منها ،وأعلها النبوة
،والرسالة أخص ،ولكن لتباع النبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ،كما جاء في بعض
الحاديث " :من حفظ القرآن فقد أدْ ِرجَت النبوة بين كتفيه ( )1غير أنه ل يوحى إليه" ( .)2رواه (
َ )3وكِيع بن الجراح في تفسيره ،عن إسماعيل بن رافع ( )4عن رجل لم يسمه ،عن عبد ال بن
عمر ( )5وقوله.
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ويزيد ( )6قال حدثنا إسماعيل -يعني ابن أبي خالد -عن قيس
-وهو ابن أبي حازم -عن ابن مسعود قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل
حسد إل في اثنتين :رجل آتاه ال مال فسلّطه على هَلَكته في الحق ،ورجل آتاه ال حكمة فهو
يقضي بها ويعلمها" (.)7
وهكذا رواه البخاري ،ومسلم ،والنسائي ،وابن ماجة -من طرق متعددة -عن إسماعيل بن
أبي خالد ،به (.)8
وقوله َ { :ومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ } أي :وما ينتفع بالموعظة والتذكار إل من له لب وعقل
يعي به الخطاب ومعنى الكلم.
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :بين جنبيه".
( )2وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن عدي :
أحاديثه كلها مما فيه نظر.
( )3في جـ " :ورواه".
( )4في أ ،و " :عن إسماعيل بن رافع أبي رافع".
( )5في أ ،و " :بن عمرو".
( )6في أ " :وزيد".
( )7المسند (.)1/432
( )8صحيح البخاري برقم ( )73وصحيح مسلم برقم ( )816وسنن النسائي الكبرى برقم ()5840
وسنن ابن ماجة برقم (.)4208
( )1/701
َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َن َفقَةٍ َأوْ َنذَرْتُمْ مِنْ َنذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْلمُ ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ ( )270إِنْ تُبْدُوا
خفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ا ْل ُفقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَ ُي َكفّرُ عَ ْنكُمْ مِنْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَاللّهُ ِبمَا
الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ وَإِنْ ُت ْ
َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ ()271
{ َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َنفَقَةٍ َأوْ نَذَرْ ُتمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْل ُم ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ ( )270إِنْ تُبْدُوا
خفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ا ْل ُفقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَ ُي َكفّرُ عَ ْنكُمْ مِنْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَاللّهُ ِبمَا
الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ وَإِنْ ُت ْ
َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (} )271
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات و َتضَمن ذلك
مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده .وتوعد من ل يعمل
بطاعته ،بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ،فقال َ { :ومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَار } أي :
يوم القيامة ينقذونهم ( )1من عذاب ال ونقمته.
وقوله { :إِنْ تُ ْبدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ } أي :إن أظهرتموها فنعم شيء هي.
خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُم } فيه دللة على أن إسرار الصدقة أفضل
وقوله { :وَإِنْ ُت ْ
من إظهارها ؛ لنه أبعد عن الرياء ،إل أن يترتب على الظهار مصلحة راجحة ،من اقتداء
الناس به ،فيكون أفضل من هذه الحيثية ،وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الجاهر
بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة" (.)2
والصل أن السرار أفضل ،لهذه الية ،ولما ثبت في الصحيحين ،عن أبي هريرة قال :قال
__________
( )1في أ ،و " :ينقذهم".
( )2رواه أحمد في المسند ( )4/151وأبو داود في السنن برقم ( )1333والترمذي في السنن برقم
( )2919من حديث عقبة بن عامر رضي ال عنه ،وقال الترمذي " :هذا حديث حسن غريب".
( )1/701
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله :إمام عادل ،
وشاب نشأ في عبادة ال ،ورجلن تحابا في ال اجتمعا عليه وتفرقا عليه ،ورجل قلبه معلق
بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ،ورجل ذكر ال خاليًا ففاضت عيناه ،ورجل دعته امرأة
ذات منصب وجمال فقال :إني أخاف ال ،ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما
تنفق يمينه" (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا العوام بن حوشب ،عن سليمان بن أبي
سليمان ،عن أنس بن مالك ،عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم قال " :لما خلق ال الرض
جعلت تميد ،فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ،فتعجبت ( )2الملئكة من خلق الجبال ،فقالت
:يا رب ،فهل من ( )3خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال :نعم ،الحديد .قالت :يا رب ،فهل
من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال :نعم ،النار .قالت :يا رب ،فهل من ( )4خلقك شيء أشد
من النار ؟ قال :نعم ،الماء .قالت :يا رب ،فهل من ( )5خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال :
نعم ،الريح .قالت :يا رب ،فهل من ( )6خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال :نعم ،ابنُ آدم
يتصدق بيمينه فيخفيها من ( )7شماله" (.)8
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي ،عن أبي ذر قال :قلت :يا رسول ال ،أي الصدقة أفضل ؟
قال " :سر إلى فقير ،أو جهد من مقِل" .رواه أحمد (.)9
ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد ،عن القاسم ،عن أبي أمامة ،عن أبي ذر فذكره.
خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ
ي وَإِنْ تُ ْ
وزاد :ثم نزع بهذه الية { :إِنْ تُبْدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِه َ
َلكُم } الية (.)10
وفي الحديث المروي " :صدقة السر تطفئ غضب الرب ،عز وجل" (.)11
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ،أخبرنا موسى
خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا
ي وَإِنْ ُت ْ
بن عمير ،عن عامر الشعبي في قوله { :إِنْ تُبْدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِه َ
ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُم } قال :أنزلت ( )12في أبي بكر وعمر ،رضي ال عنهما ،فأما عمر
فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى ال عليه وسلم :فقال له النبي صلى ال عليه وسلم :
"ما خلفت وراءك لهلك يا عمر ؟" .قال :خلفت لهم نصف مالي ،وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه
يكاد ( )13أن يخفيه من نفسه ،حتى دفعه إلى النبي صلى ال عليه وسلم .فقال له النبي صلى ال
عليه وسلم " :ما خلفت وراءك لهلك يا أبا بكر ؟" .فقال :عدة ال وعدةُ رسوله .فبكى عمر ،
رضي ال عنه ،وقال :بأبي أنت يا أبا بكر ،وال ما اسْتَ َبقْنا إلى باب خير قط إل كنت سابقا (
.)14
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )1423 ، 660وصحيح مسلم برقم (.)1031
( )2في أ " :فتعجب".
( )3في جـ " :في".
( )4في جـ " :في".
( )5في جـ " :في".
( )6في جـ " :في".
( )7في جـ " :عن".
( )8المسند (.)3/124
( )9المسند (.)5/178
( )10ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )8/269من طريق خالد بن أبي يزيد ،عن علي بن
يزيد به.
( )11رواه الترمذي في السنن برقم ( )2386من حديث أنس ،رضي ال عنه ،وروي عن
جماعة من الصحابة وهو حديث متواتر.
( )12في أ " :نزلت".
( )13في جـ " :وكاد".
( )14ورواه الصبهاني في الترغيب والترهيب برقم ( )1643من طريق محمد بن الصباح بن
موسى بن عيسى عن الشعبي به.
( )1/702
جهِ
سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ ِإلّا ابْ ِتغَا َء وَ ْ
لَيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وََلكِنّ اللّهَ َي ْهدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَ ْنفُ ِ
حصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا
اللّ ِه َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُيوَفّ إِلَ ْي ُك ْم وَأَنْتُمْ لَا ُتظَْلمُونَ ( )272لِ ْلفُقَرَاءِ الّذِينَ ُأ ْ
حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّتعَ ّففِ َتعْ ِر ُفهُمْ بِسِيمَا ُهمْ لَا يَسَْألُونَ النّاسَ
يَسْ َتطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَ ْرضِ يَ ْ
ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلَانِ َيةً
إِلْحَافًا َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( )273الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْي ِ
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ()274
فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَلَا َ
وهذا الحديث مروي من وجه آخر ،عن عمر ،رضي ال عنه ( .)1وإنما أوردناه هاهنا لقول
الشعبي :إن الية نزلت في ذلك ،ثم إن الية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل ،سواء كانت
مفروضة أو مندوبة .لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس ،في
تفسير هذه الية ،قال :جعل ال صدقة السر في التطوع تفضل علنيتها ،فقال :بسبعين ضعفًا.
وجعل صدقة الفريضة عَلنيتَها أفضلَ من سرها ،فقال :بخمسة وعشرين ضعفًا.
وقوله { :وَ ُي َكفّرُ عَ ْن ُكمْ مِنْ سَيّئَا ِتكُم } أي :بدل الصدقات ،ول سيما إذا كانت سرا يحصل لكم
الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات ،وقد قرئ " :وَيُ َكفّرُ عَ ْنكُمْ" بالضم ،وقرئ :
"وَ ُنكَفّرْ" بالجزم ،عطفًا على ( )2جواب الشرط ،وهو قوله { :فَ ِن ِعمّا هِي } كقوله " :فََأصّ َدقَ
وََأكُونَ" { وََأكُنْ }.
وقوله { وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي :ل يخفى عليه من ذلك شيء ،وسيجزيكم عليه [سبحانه
وبحمده] (.)3
سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ إِل ابْ ِتغَاءَ
{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَل ْنفُ ِ
حصِرُوا فِي سَبِيلِ
وَجْهِ اللّ ِه َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْيكُ ْم وَأَنْ ُت ْم ل ُتظَْلمُونَ ( )272لِ ْل ُفقَرَاءِ الّذِينَ أُ ْ
حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّتعَ ّففِ َتعْ ِر ُفهُمْ بِسِيمَا ُهمْ ل يَسْأَلُونَ
ن ضَرْبًا فِي ال ْرضِ يَ ْ
اللّهِ ل َيسْتَطِيعُو َ
النّاسَ إِ ْلحَافًا َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( )273الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ سِرّا
خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ (} )274
وَعَلنِيَةً فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ
قال أبو عبد الرحمن النسائي :أخبرنا محمد بن عبد ال ( )4بن عبد الرحيم ،أخبرنا ()5
الفِرْيَابي ،حدثنا سفيان ،عن العمش ،عن جعفر بن إياس ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن
عباس قال :كانوا يكرهون أن يرضخوا لنسابهم من المشركين فسألوا ،فرخص لهم ،فنزلت
سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ
هذه الية { :لَ ْيسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَل ْنفُ ِ
إِل ابْ ِتغَا َء وَجْهِ اللّ ِه َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُيوَفّ إِلَ ْيكُمْ وَأَنْتُمْ ل تُظَْلمُونَ } (.)6
حفَري ،عن سفيان -
وكذا رواه أبو حذيفة ،وابن المبارك ،وأبو أحمد الزبيري ،وأبو داود ال َ
وهو الثوري -به.
وقال ابن أبي حاتم :أخبرنا ( )7أحمد بن القاسم بن عطية ،حدثني أحمد بن عبد الرحمن -يعني
الدّشْ َت ِكيّ -حدثني أبي ،عن أبيه ،حدثنا أشعث بن إسحاق ،عن جعفر بن أبي المغيرة ،عن
سعيد
__________
( )1رواه أبو داود في السنن برقم ( )1678والترمذي في السنن برقم ( )3675من طريق هشام
بن سعد ،عن زيد بن أسلم ،عن أبيه ،عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،وقال الترمذي :
"هذا حديث حسن صحيح".
( )2في جـ ،أ ،و " :على محل".
( )3زيادة من و.
( )4في جـ ،أ ،و " :بن عبد السلم".
( )5في جـ " :حدثنا".
( )6سنن النسائي الكبرى برقم (.)11052
( )7في جـ " :حدثنا".
( )1/703
بن جبير ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم :أنه كان يأمر بأل يتصَدق إل على
أهل السلم ،حتى نزلت هذه الية { :لَيْسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُمْ } إلى آخرها ،فأمر بالصدقة بعدها
على كل من سألك من كل دين ( .)1وسيأتي عند قوله تعالى { :ل يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ
ن وَلَمْ ُيخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُم } الية [الممتحنة ]8 :حديث أسماء بنت الصديق في
ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ
ذلك [إن شاء ال تعالى] (.)2
ل صَالِحًا فَلِ َنفْسِه } [فصلت ، 46 :
ع ِم َ
سكُم } كقوله { مَنْ َ
وقوله َ { :ومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَل ْنفُ ِ
الجاثية ]15 :ونظائرها في القرآن كثيرة (.)3
وقوله َ { :ومَا تُ ْنفِقُونَ إِل ابْ ِتغَا َء وَجْهِ اللّهِ } قال الحسن البصري :نفقة المؤمن لنفسه ،ول ينفق
المؤمن -إذا أنفق -إل ابتغاء وجه ال.
وقال عطاء الخراساني :يعني إذا أعطيت لوجه ال ،فل عليك ما كان عملُه وهذا معنى حسن ،
وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه ال فقد وقع أجرُه على ال ،ول عليه ( )4في نفس
المر لمن أصاب :الِبَرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره ،هو مثاب على قصده ،ومستَنَدُ هذا تمام
الية َ { :ومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْي ُك ْم وَأَنْتُمْ ل تُظَْلمُونَ } والحديث المخرج في الصحيحين ،من
طريق أبي الزناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"قال رجل :لتصدقن الليلة بصدقة ،فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ،فأصبح الناس
يتحدثون ُ :تصُدقَ على زانية! فقال :اللهم لك الحمد على زانية ،لتصدقن الليلة بصدقة ،فخرج
بصدقته فوضعها في يد غني ،فأصبحوا يتحدثون ُ :تصُدق الليلة على غَني! فقال :اللهم لك
الحمد على غني ،لتصدقن الليلة بصدقة ،فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق ،فأصبحوا
يتحدثون :تُصدق الليلة على سارق! فقال :اللهم لك الحمد على زانية ،وعلى غني ،وعلى
سارق ،فأتي فقيل له :أما صدقتك فقد قبلت ؛ وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها ،
ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه ال ،ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته" (.)5
حصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } يعني :المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى ال وإلى
وقوله { :لِ ْل ُفقَرَاءِ الّذِينَ أُ ْ
رسوله ،وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم ( )6و { ل َيسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الرْض } يعني :سفرًا للتسبب في طلب المعاش .والضرب في الرض :هو السفر ؛
قال ال تعالى { :وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ال ْرضِ فَلَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ َتقْصُرُوا مِنَ الصّلةِ } [النساء :
علِمَ أَنْ سَ َيكُونُ مِ ْنكُمْ مَ ْرضَى وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي ال ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِنْ
، ]101وقال تعالى َ { :
ضلِ اللّ ِه وَآخَرُونَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } الية [المزمل .]20 :
َف ْ
وقوله َ { :يحْسَ ُبهُمُ الْجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّت َعفّفِ } أي :الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ،من
تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم .وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته ،عن أبي هريرة
قال :
__________
( )1وعزاه السيوطي في الدر المنثور ( )2/86لبن مردويه والضياء المقدسي.
( )2زيادة من جـ ،أ.
( )3في و " :كثير".
( )4في و " :ول يمكنه".
( )5صحيح البخاري برقم ( )1421وصحيح مسلم برقم (.)1022
( )6في أ " :بأنفسهم".
( )1/704
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ،
واللقمة واللقمتان ،والكلة والكلتان ،ولكن المسكين الذي ل يجد غنى يغنيه ،ول ُيفْطَنُ له
فَيُ َتصَدقَ عليه ،ول يسأل الناس شيئا" ( .)1وقد رواه أحمد ،من حديث ابن مسعود أيضًا (.)2
وقوله َ { :تعْ ِر ُفهُمْ ِبسِيمَاهُمْ } أي :بما يظهر لذوي اللباب من صفاتهم ،كما قال [ال] ( )3تعالى
{ :سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ } [الفتح ، ]29 :وقال { :وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي َلحْنِ ا ْل َقوْل } [محمد .]30 :
وفي الحديث الذي في السنن " :اتقوا فراسة المؤمن ،فإنه ينظر بنور ال" ،ثم قرأ { :إِنّ فِي ذَِلكَ
سمِينَ } [الحجر .)4( .]75 :
ليَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ
وقوله { :ل يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافًا } أي :ل يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما ل يحتاجون إليه
،فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال ،فقد ألحف في المسألة ؛ قال البخاري :
حدثنا ابن أبي مريم ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شريك بن أبي نمر :أن عطاء بن َيسَار وعبد
عمْرَة النصاري قال سمعنا أبا هريرة يقول :قال رسول ال صلى ال عليه
الرحمن بن أبي َ
وسلم " :ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان ،ول اللقمة واللقمتان ،إنما المسكين الذي
ف ؛ اقرؤوا إن شئتم -يعني قوله { : -ل يَسَْألُونَ النّاسَ إِ ْلحَافًا } (.)5
يتعفّ ُ
وقد رواه مُسْلِم ،من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ،عن شريك بن عبد ال بن أبي نَمر ،
عن عطاء بن يسار -وحده -عن أبي هريرة ،به (.)6
وقال أبو عبد الرحمن النسائي ( : )7أخبرنا علي بن حجر ،حدثنا إسماعيل ،أخبرنا شريك -
وهو ابن أبي نمر -عن عطاء بن يسار ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال :
"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ،واللقمة واللقمتان ،إنما المسكين المتعفف ؛ اقرؤوا
إن شئتم { :ل َيسْأَلُونَ النّاسَ إِ ْلحَافًا } " (.)8
وروى البخاري من حديث شعبة ،عن محمد بن زياد ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم ،نحوه (.)9
وقال ابن أبي حاتم :أخبرنا يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني ابن أبي ذئب ،
عن أبي الوليد ،عن أبي هريرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ليس المسكين
بالطواف عليكم ،فتطعمونه ( )10لقمة لقمة ،إنما المسكين المتعفف الذي ل يسأل الناس إلحافا".
وقال ابن جرير :حدثني معتمر ،عن الحسن بن ماتك ( )11عن صالح بن سويد ،عن أبي
هريرة
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4539وصحيح مسلم برقم (.)1039
( )2المسند (.)1/384
( )3زيادة من جـ.
( )4رواه الترمذي في السنن برقم ( )3127من طريق عمرو بن قيس ،عن عطية ،عن أبي
سعيد ،رضي ال عنه ،به مرفوعا ،وقال الترمذي " :هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا
الوجه ،وقد روي عن بعض أهل العلم".
( )5صحيح البخاري برقم (.)4539
( )6صحيح مسلم برقم (.)1039
( )7في و " :ورواه النسائي ولفظه".
( )8سنن النسائي الكبرى برقم (.)11053
( )9صحيح البخاري برقم (.)1476
( )10في جـ ،أ ،و " :فتعطونه".
( )11في جـ ،أ " :الحسن بن بابل" ،وفي و " :أيمن بن نابل".
( )1/705
قال :ليس المسكين الطواف الذي ترده الكلة والكلتان ،ولكن المسكين المتعفف في بيته ،ل
يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ؛ اقرؤوا إن شئتم { :ل يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافًا }
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا أبو بكر الحنفي ،حدثنا عبد الحميد بن جعفر ،عن أبيه ،عن
رجل من مزينة ،أنه قالت له أمه :أل تنطلق فتسأل رسول ال صلى ال عليه سلم كما يسأله
الناس ؟ فانطلقت أسأله ،فوجدته قائما يخطب ،وهو يقول " :ومن استعف أعفه ال ،ومن
استغنى أغناه ال ،ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا" .فقلت بيني وبين
نفسي :لناقة لي خير من خمس أواق ،ولغلمه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت
ولم أسأل (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا قتيبة ،حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ،عن عمارة بن غزية ،عن
عبد الرحمن بن أبي سعيد ،عن أبيه قال :سرحتني أمي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
أسأله ،فأتيته فقعدت ،قال :فاستقبلني فقال " :من استغنى أغناه ال ،ومن استعف أعفّه ال ،
ومن استكف كفاه ال ،ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف" .قال :فقلت :ناقتي الياقوتة خير من
أوقية .فرجعت ولم أسأله.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ،كلهما عن قتيبة .زاد أبو داود :وهشام بن عمار كلهما عن
عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده ،نحوه (.)2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو الجماهير ،حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ،عن
عمارة بن غزية ،عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال :قال أبو سعيد الخدري :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف" والوقية :أربعون درهما (.)3
وقال أحمد :حدثنا وكيع ،حدثنا سفيان ،عن زيد بن أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن رجل من
بني أسد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من سأل وله أوقية -أو عدلها -فقد سأل
إلحافا" (.)4
وقال المام أحمد أيضا :حدثنا وكيع ،حدثنا سفيان ،عن حكيم بن جبير ،عن محمد بن عبد
الرحمن بن يزيد ،عن أبيه ،عن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من سأل وله ما يغنيه ،جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا -أو كدوحا -في وجهه" .قالوا :يا
رسول ال ،وما غناه ؟ قال " :خمسون درهما ،أو حسابها من الذهب".
وقد رواه أهل السنن الربعة ،من حديث حكيم بن جبير السدي الكوفي ( .)5وقد تركه شعبة بن
الحجاج ،وضعفه غير واحد من الئمة من جراء هذا الحديث.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا محمد بن عبد ال الحضرمي ،حدثنا أبو حصين ()6
عبد ال
__________
( )1المسند (.)4/138
( )2المسند ( )3/9وسنن أبي داود برقم ( )1628وسنن النسائي (.)5/98
( )3ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم ( )2447وابن حبان في صحيحه برقم ( )846من طريق
عبد ال بن يوسف ،عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به.
( )4المسند (.)4/36
( )5المسند ( )1/388وسنن أبي داود برقم ( )1626وسنن الترمذي برقم ( )650وسنن النسائي (
)5/97وسنن ابن ماجة برقم (.)1840
( )6في هـ " :أبو حصن" وهو خطأ.
( )1/706
بن أحمد بن يونس ،حدثني أبي ،حدثنا أبو بكر بن عياش ،عن هشام بن حسان ،عن محمد بن
سيرين قال :بلغ الحارث -رجل كان بالشام من قريش -أن أبا ذر كان به عوز ،فبعث إليه
ثلثمائة دينار ،فقال :ما وجد عبد ال رجل هو أهون عليه مني ،سمعت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :من سأل وله أربعون فقد ألحف" ولل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة
وماهنان .قال أبو بكر بن عياش :يعني خادمين (.)1
وقال ابن مَ ْر ُدوَيه :حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ،أخبرنا إبراهيم بن محمد ،أنبأنا عبد الجبار
،أخبرنا سفيان ،عن داود بن سابور ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم قال " :من سأل وله أربعون درهمًا فهو مُلْحِف ،وهو مثل سف الملة" يعني
:الرمل.
ورواه النسائي ،عن أحمد بن سليمان ،عن يحيى بن آدم ،عن سفيان -وهو ابن عيينة -
بإسناده نحوه (.)2
قوله (َ { : )3ومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي :ل يخفى عليه شيء منه ،وسيجزي
عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة ،أحوج ما يكونون إليه.
خ ْوفٌ
ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلنِيَةً فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل َ
وقوله { :الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْي ِ
عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُون } هذا مدح منه تعالى للمنفقين ( )4في سبيله ،وابتغاء مرضاته في جميع
الوقات من ليل أو نهار ،والحوال من سر وجهار ،حتى إن النفقة على الهل تدخل في ذلك
أيضًا ،كما ثبت في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص -
حين عاده مريضًا عام الفتح ،وفي رواية عام حجة الوداع " : -وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها
وجه ال إل ازددت بها درجة ورفعة ،حتى ما تجعل في في امرأتك" (.)5
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر و َبهْز قال حدثنا شعبة ،عن عدي بن ثابت قال :
سمعت عبد ال بن يزيد ( )6النصاري ،يحدث عن أبي مسعود ،رضي ال عنه ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم ،أنه قال " :إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة"
أخرجاه من حديث شعبة ،به (.)7
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا ( )8سليمان بن عبد الرحمن ،حدثنا محمد بن
شعيب ،قال :سمعت سعيد بن يسار ،عن يزيد بن عبد ال بن عريب المليكي ،عن أبيه ،عن
جده ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :نزلت هذه الية { :الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْيلِ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُون] ( } )9في أصحاب
وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلنِيَةً فََلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ [وَل َ
الخيل" (.)10
__________
( )1المعجم الكبير ( )2/150وقال الهيثمي في المجمع (" : )9/331رجاله رجال الصحيح غير
عبد ال بن أحمد بن عبد ال بن يونس وهو ثقة".
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)2375
( )3في جـ " :وقوله".
( )4في جـ ،أ " :في حق المنفقين".
( )5صحيح البخاري برقم ( )6373 ، 4409وصحيح مسلم برقم (.)1628
( )6في جـ " :ابن زيد".
( )7المسند ( )4/122وصحيح البخاري برقم ( )55وصحيح مسلم برقم (.)1002
( )8في أ " :عن".
( )9زيادة من جـ ،أ.
( )10ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم ( )1283من طريق سليمان بن عبد الرحمن به ،وفي
إسناده سعيد بن سنان متروك.
( )1/707
وقال حنش ( )1الصنعاني :عن ابن عباس في هذه الية ،قال :هم الذين يعلفون الخيل في سبيل
ال .رواه ابن أبي حاتم ،ثم قال :وكذا روي عن أبي أمامة ،وسعيد بن المسيب ،ومكحول.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،أخبرنا يحيى بن يمان ،عن عبد الوهاب بن مجاهد
بن جبر ،عن أبيه قال :كان لعلي أربعة دراهم ،فأنفق درهمًا ليل ودرهمًا نهارًا ،ودرهمًا سرًا
ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلنِيَةً }
،ودرهما علنية ،فنزلت { :الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْي ِ
وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد ،وهو ضعيف .ولكن رواه ابن مردويه
من وجه آخر ،عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب.
وقوله { :فََلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّبهِم } أي :يوم القيامة على ما فعلوا من النفاق في الطاعات { وَل
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ } تقدم تفسيره.
َ
__________
( )1في ج " :وقال حسن".
( )1/708
الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا لَا َيقُومُونَ إِلّا َكمَا َيقُومُ الّذِي يَ َتخَبّطُهُ الشّ ْيطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا
ف وََأمْ ُرهُ
حلّ اللّهُ الْبَ ْي َع وَحَرّمَ الرّبَا َفمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ مَا سََل َ
الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا وََأ َ
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ()275
إِلَى اللّ ِه َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ
{ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا
ف وََأمْ ُرهُ
حلّ اللّهُ الْبَ ْي َع وَحَرّمَ الرّبَا َفمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ مَا سََل َ
الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا وََأ َ
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (} )275
إِلَى اللّ ِه َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ
لما ذكر تعالى البرار المؤدين النفقات ،المخرجين الزكوات ،المتفضلين بالبر والصلت لذوي
الحاجات والقرابات في جميع الحوال والنات -شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل
وأنواع الشبهات ،فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ،فقال
{ :الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ } أي :ل يقومون
من قبورهم يوم القيامة إل كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ؛ وذلك أنه يقوم
قياما منكرًا .وقال ابن عباس :آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا ُيخْنَق .رواه ابن أبي حاتم ،
قال :وروي عن عوف بن مالك ،وسعيد بن جبير ،والسدي ،والربيع بن أنس ،ومقاتل بن
حيان ،نحو ذلك.
وحكي عن عبد ال بن عباس ،وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،والحسن ،وقتادة ،ومقاتل بن حيان
أنهم قالوا في قوله { :الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَ َتخَبّطُهُ الشّ ْيطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ
} يعني :ل يقومون يوم القيامة .وكذا قال ابن أبي نَجيح ،عن مجاهد ،والضحاك ،وابن زيد.
وروى ابن أبي حاتم ،من حديث أبي بكر بن أبي مريم ،عن ضمرة بن حبيب ،عن ابن عبد ال
بن مسعود ،عن أبيه أنه كان يقرأ " :الذين يأكلون الربا ل يقومون إل كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس يوم القيامة "
وقال ابن جرير :حدثني المثنى ،حدثنا مسلم بن إبراهيم ،حدثنا ربيعة بن كلثوم ،حدثنا أبي ،
عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :يقال يوم القيامة لكل الربا :خذ سلحك للحرب .وقرأ
{ :ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ } قال :وذلك حين يقوم من قبره.
( )1/708
وفي حديث أبي سعيد في السراء ،كما هو مذكور في سورة سبحان :أنه ،عليه السلم ( )1مر
ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ،فسأل عنهم ،فقيل :هؤلء أكلة الربا .رواه البيهقي مطول.
وقال ابن ماجة :حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ،حدثنا الحسن بن موسى ،عن حماد بن سلمة ،
عن علي بن زيد ،عن أبي الصلت ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ،فيها الحيات ترى من خارج بطونهم .فقلت :من
هؤلء يا جبريل ؟ قال :هؤلء أكلة الربا".
ورواه المام أحمد ،عن حسن وعفان ،كلهما عن حماد بن سلمة ،به ( .)2وفي إسناده ضعف.
سمُرَة ( )3بن جندب في حديث المنام الطويل " :فأتينا على نهر -
وقد روى البخاري ،عن َ
حسبت أنه كان يقول :أحمر مثل الدم -وإذا في النهر رجل سابح يسبح ،وإذا على شط النهر
رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ،وإذا ذلك السابح يسبح [ ،ما يسبح] ( )4ثم يأتي ذلك الذي قد
جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه ( )5حجرًا" وذكر في تفسيره :أنه آكل الربا (.)6
حلّ اللّهُ الْبَيْ َع وَحَرّمَ الرّبَا } أي :إنما جُوزُوا
وقوله { :ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا الْبَ ْيعُ مِ ْثلُ الرّبَا وَأَ َ
بذلك لعتراضهم على أحكام ال في شرعه ،وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع ؛ لن
المشركين ل يعترفون ( )7بمشروعية أصل البيع الذي شرعه ال في القرآن ،ولو كان هذا من
باب القياس لقالوا :إنما الربا مثل البيع ،وإنما قالوا { :إِ ّنمَا الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا } أي :هو نظيره ،
فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ،أي :هذا مثل هذا ،وقد أحل هذا
وحرم هذا!
حلّ اللّهُ الْبَيْ َع وَحَرّمَ الرّبَا } يحتمل أن يكون من تمام الكلم ( )8ردًا عليهم ،
وقوله تعالى { :وَأَ َ
أي :قالوا :ما قالوه من العتراض ،مع علمهم بتفريق ال بين هذا وهذا حكما ،وهو الحكيم
العليم الذي ل معقب لحكمه ،ول يسأل عما يفعل وهم يسألون ،وهو العالم بحقائق المور
ومصالحها ،وما ينفع عباده فيبيحه لهم ،وما يضرهم فينهاهم عنه ،وهو أرحم بهم من الوالدة
ف وََأمْ ُرهُ إِلَى اللّهِ } أي
بولدها الطفل ؛ ولهذا قال َ { :فمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فََلهُ مَا سََل َ
:من بلغه نهي ال عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه .فله ما سلف من المعاملة ،لقوله :
عمّا سََلفَ } [المائدة ]95 :وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم يوم فتح مكة " :وكل
عفَا اللّهُ َ
{ َ
ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ،وأول ربا أضع ربا العباس" ( )9ولم يأمرهم برد
الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ،بل عفا عما سلف ،كما قال
__________
( )1في جـ " :أنه عليه الصلة والسلم".
( )2سنن ابن ماجة برقم ( )2273والمسند (.)2/353
( )3في جـ ،أ " :عن سلمة".
( )4زيادة من صحيح البخاري (.)7047
( )5في جـ " :فألقمه".
( )6صحيح البخاري برقم (.)7047
( )7في جـ " :ل يعرفون".
( )8في جـ " :يحتمل أن يكون من كلم ال".
( )9قال الشيخ أحمد شاكر ،رحمه ال ،في عمدة التفسير (" : )2/189وهم الحافظ ابن كثير ،
رحمه ال ،فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة ،بل كان في حجة الوداع في خطبته صلى ال عليه
وسلم بعرفه" .قلت :جاء هذا مصرحا في رواية عمرو بن الحوص قال :سمعت النبي صلى ال
عليه وسلم في حجة الوداع يقول " :أل إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع " ...فذكر الحديث ،
رواه أبو داود في السنن برقم ( )3334والترمذي في السنن برقم (.)3087
( )1/709
( )1/710
حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لن ما أفضى إلى الحرام حرام ،كما أن ما ل يتم الواجب إل به فهو
واجب .وقد ثبت في الصحيحين ،عن النعمان بن بشير ،قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :إن الحلل بين وإن الحرام بين ،وبين ذلك أمور مشتبهات ،فمن اتقى الشبهات
استبرأ لدينه وعرضه ،ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ،كالراعي يرعى حول الحمى
يوشك أن يرتع فيه (.)2( " )1
وفي السنن عن الحسن بن علي ،رضي ال عنهما ،قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :دع ما يريبك إلى ما ل يريبك" ( .)3وفي الحديث الخر " :الثم ما حاك في القلب
وترددت فيه النفس ،وكرهت أن يطلع عليه الناس" .وفي رواية " :استفت قلبك ،وإن أفتاك
الناس وأفتوك" (.)4
وقال الثوري :عن عاصم ،عن الشعبي ،عن ابن عباس قال :آخر ما نزل على رسول ال
صلى ال عليه وسلم آية الربا .رواه [البخاري] ( )5عن قبيصة ،عنه (.)6
وقال أحمد ،عن ( )7يحيى ،عن سعيد بن أبي عَرُوبة ،عن قتادة ،عن سعيد بن المسيب أن
عمر قال :من آخر ما نزل آية الربا ( )8وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قبض قبل أن
يفسرها لنا ،فدعوا الربا والريبة.
رواه ( )9ابن ماجه ( )10وابن مردويه.
وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام ،عن داود بن أبي هند ،عن أبي نضرة ( )11عن
أبي سعيد الخدري قال :خطبنا عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،فقال :إني لعلي أنهاكم عن
أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء ل تصلح لكم ،وإن من آخر القرآن نزول آية الربا ،وإنه قد
مات رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ولم يبينه لنا ،فدعوا ما يريبكم إلى ما ل يريبكم.
وقد قال ابن ماجة :حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ،حدثنا ابن أبي عدي ،عن شعبة ،عن زبيد
،عن إبراهيم ،عن مسروق ،عن عبد ال -هو ابن مسعود -عن النبي صلى ال عليه وسلم
قال " :الربا ثلثة وسبعون بابا" (.)12
ورواه الحاكم في مستدركه ،من حديث عمرو بن علي الفلس ،بإسناد مثله ،وزاد " :أيسرها أن
ينكح الرجل أمه ،وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" .وقال :صحيح على شرط الشيخين ،
ولم يخرجاه (.)13
__________
( )1في و " :يوشك أن يخالط الحمى".
( )2صحيح البخاري برقم ( )52وصحيح مسلم برقم (.)1599
( )3سنن الترمذي برقم ( )2518وسنن النسائي ( )8/327وقد أطنب في الكلم عليه الحافظ ابن
رجب في جامع العلوم والحكم ( )1/278ط .الرسالة.
( )4رواه أحمد في المسند ( )4/228من طريق الزبير بن عبد السلم ،عن أيوب ،عن وابصة ،
رضي ال عنه.
( )5زيادة من جـ ،أ ،و.
( )6صحيح البخاري برقم (.)4544
( )7في جـ " :حدثنا".
( )8في أ " :آخر ما أنزل ال الربا".
( )9في جـ " :ورواه".
( )10المسند ( )1/36وسنن ابن ماجة برقم ( )2276وقال البوصيري في الزوائد (: )2/198
"هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".
( )11في جـ ،أ " :عن أبي بصرة".
( )12سنن ابن ماجة برقم ( )2275وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/198هذا إسناد صحيح".
( )13المستدرك (.)2/37
( )1/711
عمِلُوا
حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ ( )276إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
حقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ وَاللّهُ لَا يُ ِ
َيمْ َ
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (
ت وََأقَامُوا الصّلَاةَ وَآَ َتوُا ال ّزكَاةَ َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَلَا َ
الصّالِحَا ِ
)277
وقال ابن ماجة :حدثنا عبد ال بن سعيد ،حدثنا عبد ال بن إدريس ،عن أبي معشر ،عن سعيد
المقبري ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الربا سبعون حوبا ،
أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا هُشَيْم ،عن عباد بن راشد ،عن سعيد بن أبي خَيرة ( )2حدثنا الحسن
-منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة -عن أبي هريرة ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال " :يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال :قيل له :الناس كلهم ؟ قال " :من لم يأكله
منهم ناله من غباره" وكذا رواه أبو داود ،والنسائي ،وابن ماجة من غير وجه ،عن سعيد بن
أبي خيرة ( )3عن الحسن ،به (.)4
ومن هذا القبيل ،وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه المام أحمد :
حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش ،عن مسلم بن صبيح ،عن مسروق ،عن عائشة قالت :لما
نزلت اليات من آخر البقرة في الربا خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المسجد ،فقرأهُن
،فحرم التجارة في الخمر.
وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ،من طرق ،عن العمش به ( )5وهكذا لفظ رواية البخاري
،عند تفسير الية :فحرم التجارة ،وفي لفظ له ،عن عائشة قالت :لما نزلت اليات من آخر
سورة البقرة في الربا قرأها رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس ،ثم حرم التجارة في
الخمر .قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الئمة :لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما
يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ،كما قال ،عليه السلم ( )6في الحديث المتفق عليه " :لعن ال
اليهود ،حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (.)7
وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ،عند لعن المحلل في تفسير قوله { :حَتّى تَ ْنكِحَ
َزوْجًا غَيْرَه } [البقرة ]230 :قوله صلى ال عليه وسلم " :لعن ال آكل الربا وموكله ،وشاهديه
وكاتبه" .قالوا :وما يشهد عليه ويكتب إل إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ،
فالعتبار بمعناه ل بصورته ؛ لن العمال بالنيات ،وفي الصحيح " :إن ال ل ينظر إلى
صوركم ول إلى أموالكم ،وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (.)8
وقد صنف المام ،العلمة أبو العباس ابن تيمية كتابا في "إبطال التحليل" ( )9تضمن النهي عن
تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ،وقد كفى في ذلك وشفى ،فرحمه ال ورضي عنه.
عمِلُوا
حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ ( )276إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ت وَاللّهُ ل ُي ِ
{ َي ْمحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَا ِ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ (
ت وََأقَامُوا الصّلةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل َ
الصّالِحَا ِ
} )277
__________
( )1سنن ابن ماجة برقم ( )2274وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/197هذا إسناد ضعيف".
( )2في أ " :عن سعيد بن جبير".
( )3في أ " :سعيد بن أبي جرة".
( )4المسند ( )2/494وسنن أبي داود برقم ( )1331وسنن النسائي ( )7/243وسنن ابن ماجة
برقم (.)2278
( )5المسند ( )6/46وصحيح البخاري برقم ( )4541 ، 4540وصحيح مسلم برقم ()1580
وسنن أبي داود برقم ( )3490وسنن النسائي الكبرى برقم ( )11055وسنن ابن ماجة برقم (
.)3382
( )6في و " :صلى ال عليه وسلم".
( )7رواه البخاري في صحيحه برقم ( )2223ومسلم في صحيحه برقم ( )1582من حديث عمر
بن الخطاب ،رضي ال عنه.
( )8صحيح مسلم برقم ( )2564من حديث أبي هريرة ،رضي ال عنه.
( )9وهو كتاب متين طبع حديثا طبعة محققة.
( )1/712
يخبر ال تعالى أنه يمحق الربا ،أي :يذهبه ،إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ،أو يَحْرمَه
لل
بركة ماله فل ينتفع به ،بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة .كما قال تعالى ُ { :ق ْ
ج َعلَ
عجَ َبكَ كَثْ َرةُ الْخَبِيثِ } [المائدة ، ]100 :وقال تعالى { :وَيَ ْ
ث وَالطّ ّيبُ وََلوْ أَ ْ
يَسْ َتوِي الْخَبِي ُ
جهَنّم } [النفال ، ]37 :وقال َ { :ومَا آتَيْ ُتمْ
جعَلَهُ فِي َ
جمِيعًا فَ َي ْ
الْخَبِيثَ َب ْعضَهُ عَلَى َب ْعضٍ فَيَ ْر ُكمَهُ َ
مِنْ رِبًا لِيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَل يَرْبُو عِ ْندَ اللّه } [الية] ([ )1الروم .]39 :
وقال ابن جرير :في قوله َ { :يمْحَقُ اللّهُ الرّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد ال بن
مسعود ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،أنه قال " :الربا وإن كثر فإلى ُقلّ".
وهذا الحديث قد رواه المام أحمد في مسنده ،فقال :حدثنا حجاج [قال] ( )2حدثنا شريك عن
الركين بن الربيع [بن عميلة الفزاري] ( )3عن أبيه ،عن ابن مسعود ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" ( )4وقد رواه ابن ماجة ،عن العباس
بن جعفر ،عن عمرو بن عون ،عن يحيى بن أبي زائدة ،عن إسرائيل ،عن الركين بن الربيع
بن عميلة الفزاري ،عن أبيه ،عن ابن مسعود ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال :
"ما أحد أكثر من الربا إل كان عاقبة أمره إلى قلة" (.)5
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ،كما قال المام أحمد :حدثنا أبو ( )6سعيد مولى بني
هاشم ،حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ،حدثني أبو يحيى -رجل ( )7من أهل مكة -عن فروخ
مولى عثمان :أن عمر -وهو يومئذ أمير المؤمنين -خرج إلى المسجد ،فرأى طعاما منثورًا.
فقال :ما هذا الطعام ؟ فقالوا :طعام جلب إلينا .قال :بارك ال فيه وفيمن جلبه .قيل :يا أمير
المؤمنين ،إنه قد احتكر .قال :ومن احتكره ؟ قالوا :فروخ مولى عثمان ،وفلن مولى عمر.
فأرسل إليهما فدعاهما فقال :ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قال يا أمير المؤمنين ،
نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :من احتكر
على المسلمين ( )8طعامهم ضربه ال بالفلس أو بجذام ( ." )9فقال فروخ عند ذلك :أعاهد ال
وأعاهدك أل أعود في طعام أبدًا .وأما مولى عمر فقال :إنما نشتري بأموالنا ونبيع .قال أبو
يحيى :فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.
ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع ،به ( .)10ولفظه " :من احتكر على المسلمين طعامهم
ضربه ال بالجذام والفلس".
وقوله { :وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف ،من "ربا الشيء يربو" و "أرباه يربيه"
__________
( )1زيادة من جـ ،أ ،و.
( )2زيادة من جـ ،أ ،و.
( )3زيادة من جـ.
( )4المسند (.)1/395
( )5سنن ابن ماجة برقم ( )2289وقال البوصيري في الزوائد (" : )2/199هذا إسناد صحيح
رجاله ثقات".
( )6في أ " :حدثنا ابن".
( )7في جـ " :رجل خرج".
( )8في أ " :على الناس".
( )9في جـ " :والجذام".
( )10المسند ( )1/21وسنن ابن ماجة برقم (.)2155
( )1/713
أي :كثّره ونماه ينميه .وقرئ " :ويُرَبّي" بالضم والتشديد ،من التربية ،كما قال البخاري :حدثنا
عبد ال بن منير ،سمع أبا النضر ،حدثنا عبد الرحمن بن عبد ال بن دينار ،عن أبيه ،عن أبي
صالح ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من تصدق بعدل تمرة من
كسب طيب ،ول يقبل ال إل الطيب ،وإن ال ليقبلها بيمينه ،ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم
فَُلوّه ،حتى يكون مثل الجبل".
كذا رواه في كتاب الزكاة .وقال في كتاب التوحيد :وقال خالد بن مخلد ،عن سليمان بن بلل ،
عن عبد ال بن دينار ،فذكر بإسناده ،نحوه (.)1
وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم ،عن خالد بن مخلد ،فذكره ( .)2قال
البخاري :ورواه مسلم بن أبي مريم ،وزيد بن أسلم ،وسهيل ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة
،عن النبي صلى ال عليه وسلم.
قلت :أما رواية مسلم بن أبي مريم :فقد تفرد البخاري بذكرها ،وأما طريق زيد بن أسلم :
فرواها مسلم في صحيحه ،عن أبي الطاهر بن السرح ،عن ابن وهب ،عن هشام بن سعد ،
عن زيد بن أسلم ،به ( .)3وأما حديث سهيل فرواه مسلم ،عن قتيبة ،عن يعقوب بن عبد
الرحمن ،عن سهيل ،به ( .)4وال أعلم.
قال البخاري :وقال ورقاء عن ابن دينار ،عن سعيد بن يسار ( )5عن أبي هريرة ،عن النبي
صلى ال عليه وسلم (.)6
وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي ،عن الحاكم وغيره ،عن الصم ،
عن العباس المروزي ( )7عن أبي النضر هاشم بن القاسم ،عن ورقاء -وهو ابن عمر
اليشكري -عن عبد ال بن دينار ،عن سعيد بن يسار ( )8عن أبي هريرة ،قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ،ول يصعد إلى ال إل
الطيب ،فإن ال يقبلها بيمينه ،فيربيها لصاحبها ،كما يربي أحدكم فلوه ،حتى تكون مثل أحد" (
.)9
وهكذا روى هذا الحديث مسلم ،والترمذي ،والنسائي جميعًا ،عن قتيبة ،عن الليث بن سعد ،
عن سعيد المقبري .وأخرجه النسائي -من رواية مالك ،عن يحيى بن سعيد النصاري -ومن
طريق يحيى القطان ،عن محمد بن عجلن ،ثلثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني ،
عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فذكره (.)10
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر ،فقال ابن أبي حاتم :حدثنا عمرو بن عبد ال الودي ،
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )1410وبرقم (.)7430
( )2صحيح مسلم برقم (.)1014
( )3صحيح مسلم برقم (.)1014
( )4صحيح مسلم برقم (.)1014
( )5في أ " :بن بشار".
( )6صحيح البخاري برقم (.)7430 ، 1410
( )7في أ ،و " :الدوري".
( )8في أ " :بن بشار".
( )9السنن الكبرى للبيهقي (.)4/176
( )10صحيح مسلم برقم ( )1014وسنن الترمذي برقم ( )661وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)7735
( )1/714
حدثنا َوكِيع ،عن عباد بن منصور ،حدثنا القاسم بن محمد قال :سمعت أبا هريرة يقول :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ،فيربيها لحدكم
كما يربي أحدكم مهره -أو فلوه -حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد" .وتصديق ذلك في كتاب ال
َ { :ي ْمحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ }.
وكذا رواه أحمد ،عن وكيع ،وهو في تفسير وكيع .ورواه الترمذي ،عن أبي كُرَيْب ،عن
وكيع ،به ( )1وقال :حسن صحيح ،وكذا رواه الثوري عن عباد ( )2بن منصور ،به .ورواه
أحمد أيضا ،عن خلف بن الوليد ،عن ابن المبارك ،عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن
منصور كلهما عن أبي نضرة ،عن القاسم ،به (.)3
وقد رواه ابن جرير ،عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق ( )4عن عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،
عن أيوب ،عن القاسم بن محمد ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"إن العبد إذا تصدق من طيب ،يقبلها ال منه ،فيأخذها بيمينه ،ويُرَبّيها كما يربي أحدكم ُمهْره
أو فصيله ( )5وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد ال -أو قال :في كف ال -حتى تكون
مثل أحد ،فتصدقوا" (.)6
وهكذا رواه أحمد ،عن عبد الرزاق ( .)7وهذا طريق غريب صحيح السناد ،ولكن لفظه عجيب
،والمحفوظ ما تقدم .وروي عن عائشة أم المؤمنين ،فقال المام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ،حدثنا حماد ،عن ثابت ،عن القاسم بن محمد ،عن عائشة أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :إن ال ليربي لحدكم التمرة واللقمة ،كما يربي أحدكم فَُلوّه أو
فصيله ،حتى يكون مثل أحد" .تفرد به أحمد من هذا الوجه (.)8
وقال البزار :حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور ،حدثنا إسماعيل ،حدثني أبي ،عن يحيى بن
سعيد ،عن عمرة ،عن عائشة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وعن الضحاك بن عثمان ،
عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب
الطيب ،ول يقبل ال إل الطيب ،فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها ،كما يربي أحدكم فلوه -أو
وَصيفه -أو قال :فصيله" ثم قال :ل نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إل أبو أويس
(.)9
حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ } أي :ل يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ،ول بد من
وقوله { :وَاللّهُ ل ُي ِ
مناسبة في ختم هذه الية بهذه الصفة ،وهي أن المرابي ل يرضى بما قسم ال له من الحلل ،
ول يكتفي بما شرع له من التكسب المباح ،فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ،بأنواع
المكاسب
__________
( )1المسند ( )2/471وسنن الترمذي برقم (.)662
( )2في جـ ،أ " :عن حماد".
( )3المسند (.)2/404
( )4في أ ،و " :عن محمد بن عبد الملك زنجويه".
( )5في جـ ،أ " :أو فلوه".
( )6تفسير الطبري (.)6/19
( )7المسند (.)2/268
( )8المسند (.)6/251
( )9مسند البزار برقم (" )931كشف الستار" وقال الحافظ ابن حجر " :أبو أويس لين ،وقد ذكر
البزار أنه تفرد به".
تنبيه :لم يقع في كشف الستار " :عن الضحاك ،عن أبي هريرة" ؛ وذلك لنه مخرج في
الصحيحين فليس من الزوائد.
( )1/715
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ( )278فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا فَ ْأذَنُوا
ن وَلَا تُظَْلمُونَ ( )279وَإِنْ كَانَ ذُو
بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِنْ تُبْتُمْ فََلكُمْ رُءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ لَا تَظِْلمُو َ
جعُونَ فِيهِ
عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َتصَ ّدقُوا خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ ( )280وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ
ت وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ ()281
إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ
الخبيثة ،فهو جحود لما عليه من النعمة ،ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم ،المطيعين أمره ،المؤدين شكره ،المحسنين إلى خلقه في
إقامة الصلة وإيتاء الزكاة ،مخبرًا عما أعد لهم من الكرامة ،وأنهم يوم القيامة من التبعات
ت وََأقَامُوا الصّل َة وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ َل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
آمنون ،فقال { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
علَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ }
خ ْوفٌ َ
رَ ّبهِ ْم وَل َ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَذَرُوا مَا َبقِيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ( )278فَإِنْ لَمْ َتفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِنْ تُبْتُمْ فََلكُمْ رُءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ ل َتظِْلمُونَ وَل تُظَْلمُونَ ( )279وَإِنْ كَانَ ذُو
جعُونَ فِيهِ
عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َتصَ ّدقُوا خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ ( )280وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ
ت وَهُمْ ل ُيظَْلمُونَ (} )281
إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ،ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه ،
فقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ } أي :خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا
} أي :اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الموال ،بعد هذا النذار { إِنْ كُنْتُمْ
ُم ْؤمِنِينَ } أي :بما شرع ال لكم من تحليل البيع ،وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم ،وابن جُرَيج ،ومقاتل بن حيان ،والسدي :أن هذا السياق نزل في بني
عمرو بن عمير من ثقيف ،وبني المغيرة من بني مخزوم ،كان بينهم ربا في الجاهلية ،فلما
جاء السلم ودخلوا فيه ،طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ،فتشاوروا ( )1وقالت بنو المغيرة :ل
نؤدي الربا في السلم فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فنزلت هذه الية فكتب بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إليه { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا
اللّ َه َوذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ َت ْفعَلُوا فَ ْأذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ }
فقالوا :نتوب إلى ال ،ونذر ما بقي من الربا ،فتركوه كلهم.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ،لمن استمر على تعاطي الربا بعد النذار ،قال ابن جريج :قال
ابن عباس { :فَأْذَنُوا ِبحَ ْربٍ } أي :استيقنوا بحرب من ال ورسوله .وتقدم من رواية ربيعة بن
كلثوم ،عن أبيه ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :يقال يوم القيامة لكل الربا :خذ
سلحك للحرب .ثم قرأ { :فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا فَ ْأذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ }
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا فَأْذَنُوا ِبحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُوِلهِ } فمن
كان مقيمًا على الربا ل ينزع عنه فحق ( )2على إمام المسلمين أن يستتيبه ،فإن نزع وإل ضرب
عنقه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا عبد العلى ،حدثنا
هشام بن حسان ،عن الحسن وابن سيرين ،أنهما قال وال إن هؤلء الصيارفة لكلة الربا ،
وإنهم قد أذنوا بحرب من ال ورسوله ،ولو كان على الناس إمام عادل لستتابهم ،فإن تابوا وإل
وضع فيهم السلح .وقال قتادة :أوعدهم ال بالقتل كما تسمعون ،وجعلهم بهرجا أينما أتوا (، )3
فإياكم وما خالط هذه البيوع
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :فتشاجروا".
( )2في أ " :يحق".
( )3في جـ ،أ ،و " :أينما ثقفوا".
( )1/716
من الربا ؛ فإن ال قد أوسع الحلل وأطابه ،فل تلجئنكم إلى معصيته فاقة .رواه ابن أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس :أوعد ال آكل الربا بالقتل .رواه ابن جرير.
وقال السهيلي :ولهذا قالت عائشة لم محبة ،مولة زيد بن أرقم ،في مسألة العينة :أخبريه أن
جهاده مع رسول ال صلى ال عليه وسلم قد بطل ،إل أن يتوب ،فخصت الجهاد ؛ لنه ضد
قوله { :فَأْذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ } قال :وهذا المعنى ذكره كثير ( .)1قال :ولكن هذا
إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال تعالى { :وَإِنْ تُبْ ُتمْ فََلكُمْ ُرءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ ل تَظِْلمُونَ } أي :بأخذ الزيادة ( { )2وَل تُظَْلمُونَ
} أي :بوضع رؤوس الموال أيضا ،بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ول نقص ( )3منه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب ،حدثنا عبيد ال بن موسى ،عن
شيبان ،عن شبيب بن غرقدة البارقي ،عن سليمان بن الحوص عن أبيه قال :خطب رسول ال
صلى ال عليه وسلم في حجة الوداع فقال " :أل إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله ،
لكم رؤوس أموالكم ل تظلمون ول تظلمون ،وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ،
موضوع كله" كذا وجدته :سليمان بن الحوص.
وقد قال ابن مردويه :حدثنا الشافعي ،حدثنا معاذ بن المثنى ،أخبرنا مسدد ،أخبرنا أبو
الحوص ،حدثنا شبيب بن غرقدة ،عن سليمان بن عمرو ،عن أبيه قال :سمعت رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقول " :أل إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ،فلكم رؤوس أموالكم ل
تظلمون ول تظلمون" (.)4
وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة ،عن علي بن زيد ،عن أبي حُرّة ( )5الرقاشي ،عن عمرو
-هو ابن خارجة -فذكره.
ص ّدقُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } :يأمر
عسْ َرةٍ فَنَظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َت َ
وقوله { :وَإِنْ كَانَ ذُو ُ
عسْ َرةٍ فَنَظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَرَة }
تعالى بالصبر على المعسر الذي ل يجد وفاء ،فقال { :وَإِنْ كَانَ ذُو ُ
[أي] )6( :ل كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين :إما أن تقضي وإما
أن تربي.
ص ّدقُوا
ثم يندب ( )7إلى الوضع عنه ،ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل ،فقال { :وَأَنْ َت َ
خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي :وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين .وقد وردت
الحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى ال عليه وسلم ،بذلك :
فالحديث الول :عن أبي أمامة أسعد بن زرارة [النقيب] )8( ،قال الطبراني :حدثنا عبد ال بن
محمد بن شعيب الرجاني ( )9حدثنا يحيى بن حكيم المقوم ،حدثنا محمد بن بكر البرساني ،حدثنا
عبد ال بن أبي زياد ،حدثني عاصم بن عبيد ال ،عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من سره أن يظله ال يوم ل ظل إل ظله ،فَلْيُيَسّر على معسر
أو ليضع عنه" (.)10
حديث آخر ( : )11عن بريدة ،قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا عبد الوارث ،حدثنا محمد
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :ذكره ابن بطال".
( )2في جـ ،أ " :بأخذ الربا".
( )3في جـ ،أ " :ول نقصان".
( )4ورواه أبو داود في السنن برقم ( )3334عن مسدد به ،ورواه ابن ماجة في السنن برقم (
)3055من طريق أبي الحوص به.
( )5في جـ " :عن أبي حمزة".
( )6زيادة من جـ ،أ ،و.
( )7في جـ " :ثم ندب".
( )8زيادة من جـ ،أ ،و.
( )9في جـ ،أ ،و " :المرجاني".
( )10المعجم الكبير ( )1/304وقال الهيثمي في المجمع (" : )4/134عاصم ضعيف ولم يدرك
أسعد بن زرارة".
( )11في جـ ،أ " :الحديث الثاني".
( )1/717
بن جحادة ،عن سليمان بن بريدة ،عن أبيه قال :سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :من
أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة " .قال :ثم سمعته يقول " :من أنظر معسرًا فله بكل يوم
مثله صدقة" .قلت :سمعتك -يا رسول ال -تقول " :من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله
صدقة" .ثم سمعتك تقول " :من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة" ؟! قال " :له بكل يوم مثله
صدقة قبل أن يحل الدين ،فإذا حل الدين فأنظره ،فله بكل يوم مثله صدقة" (.)1
حديث آخر ( : )2عن أبي قتادة الحارث بن ربعي النصاري ،قال [المام] ( )3أحمد :حدثنا
عفان حدثنا حماد بن سلمة ،أخبرنا أبو جعفر الخطمي ،عن محمد بن كعب القرظي :أن أبا
قتادة كان له دين على رجل ،وكان يأتيه يتقاضاه ،فيختبئ ( )4منه ،فجاء ذات يوم فخرج
صبي فسأله عنه ،فقال :نعم ،هو في البيت يأكل خزيرة فناداه :يا فلن ،اخرج ،فقد أخبرت
أنك هاهنا فخرج إليه ،فقال :ما يغيبك عني ؟ فقال :إني معسر ،وليس عندي .قال :آل إنك
معسر ؟ قال :نعم .فبكى أبو قتادة ،ثم قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :من
نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة" .ورواه مسلم في صحيحه (
.)5
حديث آخر ( : )6عن حذيفة بن اليمان ،قال الحافظ أبو يعلى الموصلي :حدثنا الخنس أحمد بن
عمران ( )7حدثنا محمد بن فضيل ،حدثنا أبو مالك الشجعي ،عن رِبْعي بن حراش ،عن
حذيفة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أتى ال بعبد من عبيده يوم القيامة ،قال :
ماذا عملت لي في الدنيا ؟ فقال :ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ،قالها
ثلث مرات ،قال العبد عند آخرها :يا رب ،إنك أعطيتني فضل مال ،وكنت رجل أبايع الناس
وكان من خلقي الجواز ،فكنت أيسر على الموسر ،وأنظر المعسر .قال :فيقول ال ،عز وجل
:أنا أحق من ييسر ،ادخل الجنة".
وقد أخرجه البخاري ،ومسلم ،وابن ماجه -من طرق -عن ربعي بن حراش ،عن حذيفة.
زاد مسلم :وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى ال عليه وسلم ( )8بنحوه .ولفظ
البخاري.
حدثنا هشام بن عمار ،حدثنا يحيى بن حمزة ،حدثنا الزهري ،عن عبد ال بن عبد ال أنه سمع
أبا هريرة رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :كان تاجر يداين الناس ،فإذا
رأى معسرا قال لفتيانه :تجاوزوا عنه ،لعل ال يتجاوز عنا ،فتجاوز ال عنه".
حديث آخر ( : )9عن سهل بن حنيف ،قال الحاكم في مستدركه :حدثنا أبو عبد ال محمد بن
يعقوب ،حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ،حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ،حدثنا عمرو بن
ثابت ،حدثنا عبد ال بن محمد بن عقيل ،عن عبد ال بن سهل بن حنيف ،أن سهل حدثه ،أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من أعان مجاهدًا في سبيل ال أو غازيا ،أو غارما في
عسرته ،أو مكاتبًا في
__________
( )1المسند (.)5/360
( )2في جـ ،أ " :الحديث الثالث".
( )3زيادة من جـ ،أ ،و.
( )4في جـ ،أ " :فيختفي".
( )5المسند ( )5/308ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ،وال أعلم.
( )6في جـ ،أ " :الحديث الرابع".
( )7هو أحمد بن عمران الخنسى ،والخنسى نسبة انظر :الجرح والتعديل (.)2/64
( )8صحيح البخاري برقم ( )3451 ، 2707 ، 2391وصحيح مسلم برقم (.)1560
( )9في جـ ،أ " :الحديث الخامس".
( )1/718
رقبته ،أظله ال ( )1يوم ل ظل إل ظله" ثم قال :صحيح السناد ،ولم يخرجاه (.)2
حديث آخر ( : )3عن عبد ال بن عمر ،قال المام أحمد :حدثنا محمد بن عبيد ،عن يوسف بن
صهيب ،عن زيد العمي ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من أراد أن
تستجاب دعوته ،وأن تكشف كربته ،فليفرج عن معسر" ،انفرد به أحمد (.)4
حديث آخر ( : )5عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ،قال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ،
أخبرنا أبو مالك ،عن ربعي بن حراش ،عن حذيفة ،أن رجل أتى به ال عز وجل ،فقال :
ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل :ما عملت مثقال ذرة من خير أرجوك بها ،فقالها له ثلثا
،وقال في الثالثة :أي رب كنت أعطيتني فضل من المال في الدنيا ،فكنت أبايع الناس ،فكنت
أتيسر على الموسر ،وأنظر المعسر .فقال تبارك وتعالى ( )6نحن أولى بذلك منك ،تجاوزوا
عن عبدي .فغفر له .قال أبو مسعود :هكذا سمعت من النبي صلى ال عليه وسلم ،وهكذا رواه
مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به (.)7
حديث آخر ( : )8عن عمران بن حصين ،قال المام أحمد :حدثنا أسود بن عامر ،أخبرنا أبو
بكر ،عن العمش ،عن أبي داود ،عن عمران بن حصين قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :من كان له على رجل حق فأخره ( )9كان له بكل يوم صدقة" (.)10
غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه.
حديث آخر ( : )11عن أبي اليسر كعب بن عمرو ،قال المام أحمد :حدثنا معاوية بن عمرو ،
حدثنا زائدة ،عن عبد الملك بن عمير ،عن ربعي ،قال :حدثني أبو اليسر ،أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله ال ،عز وجل ،في ظله يوم ل
ظل إل ظله" (.)12
وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر ،من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ،
قال :خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من النصار قبل أن يهلكوا ،فكان أول من لقينا
أبا اليسر صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومعه غلم له معه ضمامة من صحف ،
وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ،وعلى غلمه بردة ومعافري فقال له أبي :يا عم ،إني أرى
في وجهك سفعة من غضب ؟ قال أجل ،كان لي على فلن بن فلن الحرامي ( )13مال ،فأتيت
أهله فسلمت ،فقلت :أثم هو ؟ قالوا :ل فخرج علي ابن له جفر فقلت :أين أبوك ؟ فقال :سمع
صوتك فدخل أريكة أمي .فقلت :اخرج إلي فقد علمت أين أنت ؟ فخرج ،فقلت :ما حملك على
أن اختبأت مني ؟ قال :أنا وال أحدثك ثم ل أكذبك ؛ خشيت ( - )14وال -أن أحدثك فأكذبك ،
وأن أعدك فأخلفك ،وكنت
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :أظله ال في ظله".
( )2المستدرك ( ، )2/217وتعقبه الذهبي في التلخيص .قلت " :بل فيه عمرو بن ثابت وهو
رافضي متروك".
( )3في جـ ،أ " :الحديث السادس".
( )4المسند (.)2/23
( )5في جـ ،أ " :الحديث السابع".
( )6في جـ " :فقال تعالى وتبارك".
( )7المسند ( )4/118وصحيح مسلم برقم (.)1560
( )8في جـ ،أ " :الحديث الثامن".
( )9في جـ " :حق فمن أخره".
( )10المسند (.)4/442
( )11في ج ،أ " :الحديث التاسع".
( )12المسند (.)3/427
( )13في أ " :الحراني" ،وفي و " :الحزامي".
( )14في جـ " :خفت".
( )1/719
صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكنت -ال -معسرًا قال :قلت :آل ؟ قال :قلتُ :
آل ،قال :الِ .قلتُ :آل ؟ قال :ال .قال :فأتى بصحيفته فمحاها بيده ،ثم قال :فإن وجدت
قضاء فاقضني ،وإل فأنت في حل ،فأشهد بصر عيني -ووضع أصبعيه على عينيه -وسمع
أذني هاتين ،ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط ( )1قلبه -رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
يقول " :من أنظر معسرًا ،أو وضع عنه أظله ال في ظله" .وذكر تمام الحديث (.)2
حديث آخر ( : )3عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،قال عبد ال بن المام أحمد [في مسند
أبيه] ( )4حدثني ( )5أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم ،حدثنا الحسن بن بشر بن سلم
الكوفي ،حدثنا العباس بن الفضل النصاري ،عن هشام بن زياد القرشي ،عن أبيه ،عن
محجن مولى عثمان ،عن عثمان ،قال :سمعت رسول ال ،صلى ال عليه وسلم ،يقول :
"أظل ال عينا في ظله ،يوم ل ظل إل ظله من أنظر معسرًا ،أو ترك لغارم" (.)6
حديث آخر ( : )7عن ابن عباس ،قال المام أحمد :حدثنا عبد ال بن يزيد ،حدثنا نوح بن
جعونة السلمي الخراساني ،عن مقاتل بن حيان ،عن عطاء ،عن ابن عباس ،قال :خرج
رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المسجد ،وهو يقول بيده هكذا -وأومأ عبد الرحمن بيده إلى
الرض " : -من أنظر معسرًا أو وضع له ،وقاه ال من فيح جهنم ،أل إن عمل الجنة حزن
بربوة -ثلثًا -أل إن عمل النار سهل بسهوة ،والسعيد من وقي الفتن ،وما من جرعة أحب
إلى ال من جرعة غيظ يكظمها عبد ،ما كظمها عبد ل إل مل ال جوفه إيمانًا" تفرد به أحمد (
.)8
طريق أخرى :قال الطبراني :حدثنا أحمد بن محمد البُورَاني قاضي الحَدِيَثة من ديار ربيعة ،
حسَين بن علي الصّدَائي ،حدثنا الحكم بن الجارود ،حدثنا ابن أبي المتئد -خال ابن
حدثنا ال ُ
عيينة -عن أبيه ،عن عطاء ،عن ابن عباس ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من أنظر معسرًا إلى ميسرته أنظره ال بذنبه إلى توبته" (.)9
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الموال وغيرها ،وإتيان ()10
الخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ،ومجازاته إياهم بما كسبوا من
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا
خير وشر ،ويحذرهم عقوبته ،فقال { :وَاتّقُوا َي ْومًا تُرْ َ
ظَلمُونَ }
ت وَهُمْ ل يُ ْ
كَسَ َب ْ
وقد روي أن هذه الية آخرُ آية نزلت من القرآن العظيم ،فقال ابن َلهِيعة :حدثني عطاء بن
جعُونَ فِيهِ
دينار ،عن سعيد بن جبير ،قال :آخر ما نزل من القرآن كله ( { )11وَا ّتقُوا َي ْومًا تُ ْر َ
ت وَهُمْ ل ُيظَْلمُونَ } وعاش النبي صلى ال عليه وسلم بعد
إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ
نزول هذه الية تسع ليال ،ثم مات يوم الثنين ،لليلتين خلتا من ربيع الول .رواه ابن أبي حاتم.
__________
( )1في جـ ،أ ،و " :إلى نياط".
( )2صحيح مسلم برقم (.)306
( )3في جـ ،أ " :الحديث العاشر".
( )4زيادة من جـ ،أ ،و.
( )5في جـ " :حدثنا".
( )6زوائد المسند (.)1/73
( )7في جـ ،أ " :الحديث الحادي عشر".
( )8المسند (.)1/327
( )9المعجم الكبير ( ، )11/151وقال الهيثمي في المجمع (" : )4/135وفيه الحكم بن جارود
ضعفه الزدي ،وشيخ الحكم وشيخ شيخه لم أعرفهما".
( )10في جـ ،أ " :وإيثار".
( )11في أ " :من القرآن العظيم".
( )1/720
وقد رواه ابن مَرْدُويه من حديث المسعودي ،عن حبيب بن أبي ثابت ،عن سعيد بن جبير ،عن
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ }
ابن عباس ،قال :آخر آية نزلت { :وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ
وقد رواه النسائي ،من حديث يزيد النحوي ،عن عكرمة ،عن عبد ال بن عباس ،قال :آخر
ت وَهُمْ
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ
شيء ( )1نزل من القرآن { :وَاتّقُوا َي ْومًا تُ ْر َ
ل ُيظَْلمُونَ } (.)2
وكذا رواه الضحاك ،وال َعوْفي ،عن ابن عباس ،وروى الثوري ،عن الكلبي ،عن أبي صالح ،
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } فكان بين
عن ابن عباس ،قال :آخر آية أنزلت ( { : )3وَا ّتقُوا َي ْومًا تُ ْر َ
نزولها [وبين] ( )4موت النبي صلى ال عليه وسلم واحد وثلثون يومًا.
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } الية.
وقال ابن جريج :قال ابن عباس :آخر آية نزلت { :وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ
قال ابن جريج :يقولون :إن النبي صلى ال عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال ،وبدئ ( )5يوم
السبت ومات يوم الثنين ،رواه ابن جرير.
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى
ورواه عطية عن أبي سعيد ،قال :آخر آية أنزلت { :وَاتّقُوا َي ْومًا تُ ْر َ
ت وَ ُه ْم ل ُيظَْلمُونَ }.
ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ
__________
( )1في جـ ،أ " :آخر ما نزل".
( )2سنن النسائي الكبرى برقم (.)11057
( )3في جـ ،أ " :نزلت".
( )4زيادة من جـ ،أ ،و.
( )5في و " :ومرض".
( )1/721
سمّى فَاكْتُبُو ُه وَلْ َيكْ ُتبْ بَيْ َن ُكمْ كَا ِتبٌ بِا ْل َع ْدلِ وَلَا يَ ْأبَ
جلٍ مُ َ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ
ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِ ْنهُ شَيْئًا
حّب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ
كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ
ش ِهدُوا
ل وَاسْتَ ْ
ضعِيفًا َأوْ لَا َيسْتَطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْللْ وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْد ِ
سفِيهًا َأ ْو َ
فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ
ضلّ
شهَدَاءِ أَنْ َت ِ
ل وَامْرَأَتَانِ ِممّنْ تَ ْرضَوْنَ مِنَ ال ّ
جٌشهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُمْ فَإِنْ لَمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَ ُ
َ
صغِيرًا َأوْ
شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا َتسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الْأُخْرَى وَلَا يَ ْأبَ ال ّ
إِ ْ
شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَلّا تَرْتَابُوا إِلّا أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةً
سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ
كَبِيرًا إِلَى أَجَِلهِ ذَِل ُكمْ َأقْ َ
شهِيدٌ وَإِنْ
ب وَلَا َ
شهِدُوا ِإذَا تَبَا َيعْتُ ْم وَلَا ُيضَارّ كَا ِت ٌ
تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَلّا َتكْتُبُوهَا وَأَ ْ
علِيمٌ ()282
شيْءٍ َ
َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ ُفسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
ل وَل يَ ْأبَ
سمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْ َيكْ ُتبْ بَيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْد ِ
جلٍ مُ َ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َتدَايَنْتُمْ ِبدَيْنٍ إِلَى أَ َ
ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَل يَ ْبخَسْ مِنْهُ شَيْئًا
حّب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ
كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ
شهِدُوا
ل وَلِيّهُ بِا ْل َع ْدلِ وَاسْ َت ْ
ضعِيفًا َأوْ ل يَسْ َتطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْل ْ
سفِيهًا َأ ْو َ
فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ
ضلّ
شهَدَاءِ أَنْ َت ِ
ل وَامْرَأَتَانِ ِممّنْ تَ ْرضَوْنَ مِنَ ال ّ
جٌشهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُمْ فَإِنْ لَمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَ ُ
َ
صغِيرًا َأوْ
شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَل تَسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُو ُه َ
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الخْرَى وَل يَ ْأبَ ال ّ
إِ ْ
شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا إِل أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةً
سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ
كَبِيرًا إِلَى أَجَِلهِ ذَِل ُكمْ َأقْ َ
شهِي ٌد وَإِنْ
ب وَل َ
شهِدُوا إِذَا تَبَا َيعْ ُت ْم وَل ُيضَارّ كَا ِت ٌ
تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَل َتكْتُبُوهَا وََأ ْ
علِيمٌ (} )282
شيْءٍ َ
َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ ُفسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
هذه الية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ،وقد قال المام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا يونس ،أخبرنا ( )1ابن وهب ،أخبرني يونس ،عن ابن شهاب قال ،حدثني سعيد بن
المسيب :أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدّيْن.
__________
( )1في جـ " :أنبأنا".
( )1/721
وقال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن علي بن زيد ،عن يوسف بن
ِمهْران ،عن ابن عباس أنه قال :لما نزلت آية الدين قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن
أول من جحد آدم ،عليه السلم ،أن ال لما خلق آدم ،مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى
يوم القيامة ،فجعل يعرض ذريته عليه ،فرأى فيهم رجل يَزْهر ،فقال :أي رب ،من هذا ؟
قال :هو ابنك داود .قال :أي رب ،كم عمره ؟ قال :ستون عامًا ،قال :رب زد في عمره.
قال :ل إل أن أزيده من عمرك .وكان عمر آدم ألف سنة ،فزاده أربعين عامًا ،فكتب عليه
بذلك كتابا وأشهد عليه الملئكة ،فلما احتُضر آدم وأتته الملئكة قال :إنه قد بقي من عمري
أربعون عامًا ،فقيل له :إنك قد وهبتها لبنك داود .قال :ما فعلت .فأبرز ال عليه الكتاب ،
وأشهد عليه الملئكة".
وحدثنا أسود بن عامر ،عن حماد بن سلمة ،فذكره ،وزاد فيه " :فأتمها ال لداود مائة ،وأتمها
لدم ألف سنة" (.)1
وكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن يوسف بن حبيب ،عن أبي داود الطيالسي ،عن حماد بن سلمة
[به] (.)2
هذا حديث غريب جدا ،وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة .وقد رواه الحاكم في
مستدركه بنحوه ،من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب ( )3عن سعيد المقبري ،عن
أبي هريرة .ومن رواية داود بن أبي هند ،عن الشعبي ،عن أبي هريرة .ومن طريق محمد بن
عمرو ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة .ومن حديث هشام ( )4بن سعد ،عن زيد بن أسلم ،
عن أبي صالح ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فذكره بنحوه (.)5
سمّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده
جلٍ مُ َ
فقوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَ َ
المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملت مؤجلة أن يكتبوها ،ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها ،وأضبط
شهَا َدةِ
سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ
للشاهد فيها ،وقد نبه على هذا في آخر الية حيث قال { :ذَِلكُمْ َأقْ َ
وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا }
وقال سفيان الثوري ،عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد ،عن ابن عباس في قوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
سمّى فَاكْتُبُوهُ } قال :أنزلت في السّلَم إلى أجل معلوم.
جلٍ مُ َ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ
وقال قتادة ،عن أبي حَسّان ( )6العرج ،عن ابن عباس ،قال :أشهد أن السلف المضمون إلى
جلٍ
أجل مسمى أن ال أحله وأذن فيه ،ثم قرأ { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ
سمّى } رواه البخاري.
مُ َ
وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة ،عن ابن أبي نَجيح ،عن عبد ال بن كثير ،
عن أبي المِنْهال ،عن ابن عباس ،قال :قدم النبي صلى ال عليه وسلم المدينة وهم ُيسْلفُون في
الثمار السنتين والثلث ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من أسلف فليسلف في كيل معلوم
،ووزن معلوم ،إلى أجل معلوم" (.)7
__________
( )1المسند (.)252 ، 1/251
( )2زيادة من أ ،و.
( )3في أ " :بن أبي ذئاب".
( )4في جـ ،أ " :تمام".
( )5المستدرك (.)2/586 ، 1/64
( )6في جـ ،أ " :أبي حيان".
( )7صحيح البخاري برقم ( )2240وصحيح مسلم برقم (.)1604
( )1/722
وقوله { :فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [والحالة هذه] ( )1للتوثقة والحفظ ،فإن قيل :فقد ثبت
في الصحيحين ،عن عبد ال بن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إنا أمّة أمية ل
نكتب ول نحسب" ( )2فما الجمع بينه وبين المر بالكتابة ؟ فالجواب :أن الدّين من حيث هو
غير مفتقر إلى كتابة أصل ؛ لن كتاب ال قد سَهل ال ويسر حفظه على الناس ،والسنن أيضًا
محفوظة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والذي أمر ال بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع
بين الناس ،فأمروا أمْر إرشاد ل أمر إيجاب ،كما ذهب إليه بعضهم.
قال ابن جريج :من ادّان فليكتب ،ومن ابتاع فل ُيشْهد.
وقال قتادة :ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ ،كان رجل صحب كعبا ،فقال ذات يوم لصحابه
:هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا :وكيف [يكون] ( )3ذلك ؟ قال :رجل باع
بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب ،فلما حل ماله جحده صاحبه ،فدعا ربه فلم يستجب له ؛ لنه
قد عصى ربه.
وقال أبو سعيد ،والشعبي ،والربيع بن أنس ،والحسن ،وابن جريج ،وابن زيد ،وغيرهم :
ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ }
كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله { :فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ
قال المام أحمد :حدثنا يونس بن محمد ،حدثنا ليث ،عن جعفر بن ربيعة ،عن عبد الرحمن
بن هُ ْرمُز ،عن أبي هريرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه ذكر "أن رجل من بني
إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن ُيسْلفه ألف دينار ،فقال :ائتني بشهداء أشهدهم .قال :كفى
بال شهيدًا .قال :ائتني بكفيل .قال :كفى بال كفيل .قال :صدقت .فدفعها إليه إلى أجل مسمى ،
فخرج في البحر فقضى حاجته ،ثم التمس مركبًا يقدم عليه للجل الذي أجله ،فلم يجد مركبًا ،
فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ،ثم زَجج موضعها ،ثم
أتى بها البحر ،ثم قال :اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلنًا ألف دينار ،فسألني كفيل فقلت :
كفى بال كفيل .فرضي بذلك ،وسألني شهيدًا ،فقلت :كفى بال شهيدًا .فرضي بذلك ،وإني قد
جهِ ْدتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا ،وإني اسْ َتوْدعْ ُتكَها .فرمى بها
َ
في البحر حتى ولجت فيه ،ثم انصرف ،وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده ،فخرج الرجل
الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله ،فإذا بالخشبة التي فيها المال ،فأخذها لهله حطبًا
فلما كسرها وجد المال والصحيفة ،ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه ،فأتاه بألف دينار وقال :
وال ما زلت جاهدًا في طلب مركب لتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه .قال :هل
كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال :ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال :فإن
ال قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ،فانصرف بألفك راشدًا".
وهذا إسناد صحيح ( )4وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة ( )5معلقًا بصيغة
__________
( )1زيادة من جـ ،أ ،و.
( )2صحيح البخاري برقم ( )1913وصحيح مسلم برقم (.)1080
( )3زيادة من أ ،و.
( )4المسند (.)2/348
( )5في جـ ،أ ،و " :في صحيحه".
( )1/723
الجزم ،فقال :وقال الليث بن سعد ،فذكره ( .)1ويقال :إنه رواه في بعضها عن عبد ال بن
صالح كاتب الليث ،عنه.
وقوله { :لْ َيكْ ُتبْ بَيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْدلِ } أي :بالقسط والحق ،ول َيجُرْ في كتابته على أحد ،ول
يكتب إل ما اتفقوا عليه من غير زيادة ول نقصان.
وقوله { :وَل يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُتبْ } أي :ول يمتنع من يعرف الكتابة إذا
سُئِل أن يكتبَ للناس ،ول ضرورة عليه في ذلك ،فكما علمه ال ما لم يكن يعلم ،فَلْيتصدق على
غيره ممن ل يحسن الكتابة وليكتب ،كما جاء في الحديث " :إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو
تصنع لخْرَق" ( .)2وفي الحديث الخر " :من كتم علمًا َيعْلَمه أ ْلجِمَ يوم القيامة بلجام من نار" (
.)3
وقال مجاهد وعطاء :واجب على الكاتب أن يكتب.
ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } أي :وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته
وقوله { :وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَ ّ
من الدين ،وليتق ال في ذلك { ،وَل يَ ْبخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي :ل يكتم منه شيئًا { ،فَإِنْ كَانَ الّذِي
ضعِيفًا } أي :صغيرًا أو مجنونًا { َأ ْو ل
سفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه َ { ،أوْ َ
عَلَيْهِ ا ْلحَقّ َ
يَسْ َتطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه { .فَلْ ُيمِْللْ وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْدلِ }
شهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُم } أمْرٌ بالشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة { ،فَإِنْ َلمْ َيكُونَا
شهِدُوا َ
وقوله { وَاسْ َت ْ
ل وَامْرَأَتَانِ } وهذا إنما يكون في الموال وما يقصد به المال ،وإنما أقيمت المرأتان
جٌرَجُلَيْنِ فَ َر ُ
مقام الرجل لنقصان عقل المرأة ،كما قال مسلم في صحيحه :حدثنا قتيبة ،حدثنا إسماعيل بن
عمْرو ،عن ال َمقْبُري ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه
جعفر ،عن عمرو بن أبي َ
وسلم أنه قال " :يا معشر النساء ،تصدقن وأكثرن الستغفار ،فإني رأيتكُن أكثر أهل النار" ،
فقالت امرأة منهن جَزْلة :وما لنا -يا رسول ال -أكثر أهل النار ( )4؟ قال ُ " :تكْثرْنَ اللعن ،
وتكفُرْنَ العشير ،ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن" .قالت :يا رسول ال ،
ما نقصان العقل والدين ؟ قال " :أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين َتعْدل شهادة رجل ،فهذا
نقصان العقل ،وتمكث الليالي ل تصلي ،وتفطر في رمضان ،فهذا نقصان الدين" (.)5
شهَدَاءِ } فيه دللة على اشتراط العدالة في الشهود ،وهذا مقيّد ،
ضوْنَ مِنَ ال ّ
وقوله { :م ِممّنْ تَ ْر َ
حكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن ،من المر بالشهاد من غير اشتراط .وقد استدل من
َ
رد المستور بهذه الية الدالة على أن يكون الشاهد عدل مرضيًا.
حدَا ُهمَا الخْرَى } أي :
ضلّ ِإحْدَا ُهمَا } يعني :المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَ ُت َذكّرَ إِ ْ
وقوله { :أَنْ َت ِ
يحصل لها ذكرى بما وقع به الشهاد ،ولهذا قرأ آخرون " :فَتُذكر" بالتشديد من التذكار .ومن قال
:
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)2063 ، 6261 ، 2744 ، 2430 ، 2404 ، 2291 ، 1498
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )2518من حديث أبي ذر رضي ال عنه.
( )3رواه أحمد في المسند ( )2/304من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )4في جـ " :يا رسول ال وما لنا أكثر أهل النار".
( )5صحيح مسلم برقم (.)80
( )1/724
إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر ( )1فقد أبعد ،والصحيح الول .وال أعلم.
شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل :معناه :إذا دعوا للتحمل فعليهم الجابة ،وهو
وقوله { :وَل يَ ْأبَ ال ّ
قول قتادة والربيع بن أنس .وهذا كقوله { :وَل يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُتبْ } ومن
حمّل الشهادة فرض كفاية.
هاهنا استفيد أن َت َ
شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } للداء ،لحقيقة
وقيل -وهو مذهب الجمهور : -المراد بقوله { :وَل يَ ْأبَ ال ّ
شهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن ( )2تحمّل ،فإذا دعي لدائها ( )3فعليه الجابة إذا تعينت
قوله { :ال ّ
وإل فهو فرض كفاية ،وال أعلم.
وقال مجاهد وأبو مِجْلَز ،وغير واحد :إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ،وإذا شهدت فدعيت ()4
فأجب.
وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن ،من طريق مالك ،عن عبد ال بن أبي بكر بن محمد بن
عمْرَة ،
عمرو بن حَزْم ،عن أبيه ،عن عبد ال بن عمرو بن عثمان ،عن عبد الرحمن بن أبي َ
عن زيد بن خالد :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :أل أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي
يأتي بشهادته قبل أن يسألها" (.)5
فأما الحديث الخر في الصحيحين " :أل أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن
شهَدوا" ،وكذا قوله " :ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم وتسبق شهادَتُهم أيمانهم" .وفي رواية
يُستْ ْ
شهَدون" ( .)6فهؤلء شهود الزور .وقد روي عن ابن عباس
ش َهدُون ول يُسْ َت ْ
" :ثم يأتي قوم يَ ْ
حمّل والداء.
والحسن البصري :أنها تعم الحالين :الت َ
صغِيرًا َأوْ كَبِيرًا ِإلَى َأجَلِه } هذا من تمام الرشاد ،وهو المر
وقوله { :وَل تَسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ
بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا ،فقال { :وَل تَسَْأمُوا } أي :ل تملوا أن تكتبوا الحق على أي
حال كان من القلة والكثرة { إلى أجله }
شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا } أي :هذا الذي أمرناكم به من
سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ
وقوله { ذَِلكُمْ َأقْ َ
شهَا َدةِ } أي :أثبت
سطُ عِنْدَ اللّهِ } أي :أعدل { وََأ ْقوَمُ لِل ّ
الكتابة للحق إذا كان مؤجل هو { َأقْ َ
للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ،لحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ،كما هو الواقع
غالبًا { وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة ،بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي
كتبتموه ،فيفصل بينكم بل ريبة.
وقوله { :إِل أَنْ َتكُونَ تِجَا َرةً حَاضِ َرةً تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَل َتكْتُبُوهَا } أي :إذا
كان البيع بالحاضر يدا بيد ،فل بأس بعدم الكتابة لنتفاء المحذور في تركها.
شهِدُوا إِذَا تَبَا َيعْتُم } قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو
فأما الشهاد على البيع ،فقد قال تعالى { :وَأَ ْ
زُرْعَة ،حدثني يحيى بن عبد ال بن ُبكَيْر ،حدثني ابن َلهِيعة ،حدثني عطاء بن دينار ،عن
سعيد بن جبير
__________
( )1في و " :كشهادة رجل".
( )2في جـ " :فقد".
( )3في جـ " :فإن دعى إلى الدلء بها".
( )4في جـ " :وإذا دعيت".
( )5صحيح مسلم برقم ( )1719وسنن أبي داود برقم ( )3596وسنن الترمذي برقم (، 2295
)2296وسنن النسائي الكبرى برقم ( )6029وسنن ابن ماجة برقم (.)2364
( )6صحيح البخاري برقم ( )6428وصحيح مسلم برقم (.)2535
( )1/725
شهِدُوا إِذَا تَبَا َيعْتُم } يعني :أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن ،
في قول ال { :وَأَ ْ
فأشهدوا على حقكم على كل حال .قال :وروي عن جابر بن زيد ،ومجاهد ،وعطاء ،
والضحاك ،نحو ذلك.
ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ
وقال الشعبي والحسن :هذا المر منسوخ بقوله { :فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ
َأمَانَتَهُ }
وهذا المر محمول عند الجمهور على الرشاد والندب ،ل على الوجوب .والدليل على ذلك
حديث خُزَيمة بن ثابت النصاري ،وقد رواه المام أحمد :
حدثنا أبو اليمان ،حدثنا شعيب ،عن الزهري ،حدثني عمَارة بن خزيمة النصاري ،أن عمه
حدثه -وهو من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم ابتاع فرسًا من
أعرابي ،فاستتبعه النبي صلى ال عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ،فأسرع النبي صلى ال عليه
وسلم وأبطأ العرابي ،فطفق رجال يعترضون العرابي فيساومونه بالفرس ،ول يشعرون أن
النبي صلى ال عليه وسلم ابتاعه ،حتى زاد بعضهم العرابي في السوم على ثمن الفرس الذي
ابتاعه النبي صلى ال عليه وسلم ،فنادى العرابي النبي صلى ال عليه وسلم فقال :إن كنت
مبتاعًا هذا الفرس فاب َتعْه ،وإل بعتُه ،فقام النبي صلى ال عليه وسلم حين سمع نداء العرابي ،
قال " :أو ليس قد ابتعته منك ؟ " قال العرابي :ل وال ما بعتك .فقال النبي صلى ال عليه وسلم
" :بل ( )1قد ابتعته منك" .فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى ال عليه وسلم والعرابي وهما
يتراجعان ،فطفق العرابي يقول :هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك .فمن جاء من المسلمين قال
للعرابي :ويلك! إن النبي ( )2صلى ال عليه وسلم لم يكن يقول إل حقًا .حتى جاء خزَيْمة ،
فاستمع لمراجعة النبي صلى ال عليه وسلم ومراجعة العرابي يقول ( )3هلم شهيدًا يشهد أني (
)4بايعتك .قال خزيمة :أنا أشهد أنك قد بايعته .فأقبل النبي صلى ال عليه وسلم على خزيمة
فقال " :بم تشهد ؟" فقال :بتصديقك يا رسول ال .فجعل رسولُ ال صلى ال عليه وسلم شهادة
خُزَيمة بشهادة رجلين.
وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب ،والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري ( )5كلهما
عن الزهري ،به ( )6نحوه.
ولكن الحتياط هو الشهاد ،لما رواه المامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه والحاكم في مستدركه
من رواية معاذ بن معاذ العنبري ،عن شعبة ،عن فراس ،عن الشعبي ،عن أبي بُرْدة ،عن
أبي موسى ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ثلثة يدعون ال فل يستجاب لهم :رجل له
امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ،ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ،ورجل أقرض رجل مال فلم
يُشْهد".
ثم قال الحاكم :صحيح السناد على شرط الشيخين ،قال :ولم يخرجاه ،لتوقيف أصحاب شعبة
هذا الحديث على أبي موسى ،وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا السناد " :ثلثة يؤتون
أجرهم مرتين" (.)7
شهِيدٌ } قيل :معناه :ل يضار الكاتب ول الشاهد ،فيكتب هذا
وقوله { :وَل ُيضَارّ كَا ِتبٌ وَل َ
خلف ما يملي ،ويشهد هذا بخلف ما سمع أو يكتمها بالكلية ،وهو قول الحسن وقتادة
وغيرهما.
وقيل :معناه :ل يضر بهما ،كما قال ابن أبي حاتم :
__________
( )1في ج " :بلى".
( )2في و " :إن رسول ال".
( )3في جـ ،أ ،و " :وطفق العرابي يقول".
( )4في و " :أني قد".
( )5في جـ " :الزبيدي".
( )6المسند ( )5/213وسنن أبي داود برقم ( )3607وسنن النسائي (.)7/301
( )7المستدرك (.)2/302
( )1/726
حدثنا أسيد بن عاصم ،حدثنا الحسين -يعني ابن حفص -حدثنا سفيان ،عن يزيد بن أبي
شهِيدٌ } قال :يأتي
ب وَل َ
زياد ،عن مقْسَم ،عن ابن عباس في هذه الية { :وَل ُيضَارّ كَا ِت ٌ
الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ،فيقولن :إنا على حاجة فيقول :إنكما قد أمرتما أن
تجيبا .فليس له أن يضارهما.
ثم قال :وروي عن عكرمة ،ومجاهد ،وطاوس ،وسعيد بن جبير ،والضحاك ،وعطية ،
ومقاتل بن حَيّان ،والربيع بن أنس ،والسدي ،نحو ذلك.
وقوله { :وَإِنْ َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ ِب ُكمْ } أي :إن خالفتم ما أمرتم به ،وفعلتم ما َنهِيتم عنه ،فإنه
فسق كائن بكم ،أي :لزم لكم ل تحيدون عنه ول تنفكون عنه.
وقوله { :وَا ّتقُوا اللّهَ } أي :خافوه وراقبوه ،واتبعوا أمره واتركوا زجره ( { )1وَ ُيعَّل ُمكُمُ الُ }
ج َعلْ َلكُمْ فُ ْرقَانًا } [النفال ، ]29 :وكقوله { :يَا أَ ّيهَا
كقوله { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ّتقُوا اللّهَ َي ْ
ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ } [الحديد
حمَ ِت ِه وَيَ ْ
الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ
.]28 :
شيْءٍ عَلِيمٌ } أي :هو عالم بحقائق المور ومصالحها وعواقبها ،فل يخفى
وقوله { :وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
عليه شيء من الشياء ،بل علمه محيط بجميع الكائنات.
__________
( )1في و " :زواجره".
( )1/727
( )1/727
المستعان.
ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ } روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد ،عن
وقوله { :فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ
أبي سعيد الخدري أنه قال :هذه نسخت ما قبلها.
وقال الشعبي :إذا ائتمن بعضكم ( )1بعضًا فل بأس أل تكتبوا أو ل تُشهدوا.
وقوله { :وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّه } يعنى :المؤتَمن ،كما جاء في الحديث الذي رواه المام أحمد وأهل
سمُرة :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
السنن ،من رواية قتادة ،عن الحسن ،عن َ
"على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (.)2
شهَادَة } أي :ل تخفوها وتغلوها ول تظهروها .قال ابن عباس وغيره :
وقوله { :وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ
شهادة الزور من أكبر الكبائر ،وكتمانها كذلك .ولهذا قال َ { :ومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آ ِثمٌ قَلْبُهُ } قال
شهَا َدةَ اللّهِ إِنّا ِإذًا َلمِنَ ال ِثمِينَ }
السدي :يعني :فاجر قلبه ،وهذه كقوله تعالى { :وَل َنكْ ُتمُ َ
شهَدَاءَ لِلّ ِه وََلوْ عَلَى
[المائدة ، ]106 :وقال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ ُ
سكُمْ َأوِ ا ْلوَالِدَيْنِ وَالقْرَبِينَ إِنْ َيكُنْ غَنِيّا َأوْ َفقِيرًا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا فَل تَتّ ِبعُوا ا ْل َهوَى أَنْ َتعْدِلُوا
أَ ْنفُ ِ
وَإِنْ تَ ْلوُوا َأوْ ُتعْ ِرضُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء ، ]135 :وهكذا قال هاهنا :
شهَا َد َة َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آ ِثمٌ قَلْبُ ُه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ }
{ وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ
خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ فَ َي ْغفِرُ
س ُكمْ َأوْ تُ ْ
سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ
{ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
شيْءٍ قَدِيرٌ (} )284
ِلمَنْ يَشَاءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
يخبر تعالى أن له ملك السموات والرض وما فيهن وما بينهن ،وأنه المطلع على ما فيهن ،ل
تخفى عليه الظواهر ول السرائر والضمائر ،وإن دقت وخفيت ،وأخبر أنه سَيُحاسب عباده على
خفُوا مَا فِي صُدُو ِركُمْ َأوْ تُ ْبدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّهُ
ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال ُ { :قلْ إِنْ ُت ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران ، ]29 :وقال { :
سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
وَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
خفَى } [طه ، ]7 :واليات في ذلك ( )3كثيرة جدا ،وقد أخبر في هذه بمزيد على
َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ
العلم ،وهو :المحاسبة على ذلك ،ولهذا لما نزلت هذه الية اشتد ذلك على الصحابة ،رضي
ال عنهم ،وخافوا منها ،ومن محاسبة ال لهم على جليل العمال وحقيرها ،وهذا من شدة
إيمانهم وإيقانهم.
قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ،حدثني أبو ( )4عبد الرحمن -
__________
( )1في جـ " :بعضهم".
( )2المسند ( )5/12وسنن أبي داود برقم ( )3561وسنن الترمذي برقم ( )1266وسنن النسائي
الكبرى برقم ( )5783وسنن ابن ماجة برقم (.)2400
( )3في جـ ،أ " :في هذا".
( )4في جـ ،أ ،و " :حدثني ابن".
( )1/728
يعني العلء -عن أبيه ،عن أبي هريرة ،قال :لما نزلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم
خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّهُ فَ َي ْغفِرُ
سكُمْ َأوْ تُ ْ
سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ
ِ { :للّهِ مَا فِي ال ّ
شيْءٍ قَدِيرٌ } اشتد ذلك على أصحاب رسول ال صلى
ِلمَنْ يَشَاءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
ال عليه وسلم ،فأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ثم جثوا على الركب ،وقالوا :يا رسول
ال ،كلفنا من العمال ما نُطيق :الصلة والصيام والجهاد والصدقة ،وقد أنزل عليك هذه الية
ول نطيقها .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من
قبلكم :سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا :سمعنا وأطعنا ،غفرانك ربنا وإليك المصير" .فلما أقَر بها (
)1القوم وذلت بها ألسنتهم ،أنزل ال في أثرها { :آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ ِإلَيْهِ مِنْ رَبّهِ
طعْنَا
س ِمعْنَا وَأَ َ
حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ
وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
س َعهَا
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } فلما فعلوا ذلك نسخها ال فأنزل { :ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ
ُ
ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا } إلى آخره (.)2
َلهَا مَا كَسَ َب ْ
ورواه مسلم منفردًا به ،من حديث يزيد بن زريع ،عن روح بن القاسم ،عن العلء ،عن أبيه ،
عن أبي هريرة ،فذكر مثله ( )3ولفظه " :فلما فعلوا [ذلك] ( )4نسخها ال ،فأنزل { :ل ُيكَّلفُ
خطَأْنَا } قال :
خذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ أَ ْ
ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَا ِ
س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َب ْ
اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ
حمّلْنَا
حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال :نعم { ،رَبّنَا وَل ُت َ
ح ِملْ عَلَيْنَا ِإصْرًا َكمَا َ
نعم { ،رَبّنَا وَل َت ْ
حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ
غفِرْ لَنَا وَارْ َ
مَا ل طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال :نعم { ،وَاعْفُ عَنّا وَا ْ
ا ْلكَافِرِينَ } قال :نعم.
حديث ابن عباس في ذلك :قال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا سفيان ،عن آدم بن سليمان ،
سكُمْ َأوْ
سمعت سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :لما نزلت هذه الية { :وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ
خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّه } قال :دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ،قال :فقال
تُ ْ
رسول ال ،صلى ال عليه وسلم " :قولوا سمعنا وأطعنا وسَلّمنا" .فألقى ال اليمان في قلوبهم ،
فأنزل ال { .آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ ِإلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } إلى قوله :
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وَأَ َ
حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ
ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
{ فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }
وهكذا رواه مسلم ،عن أبي بكر بن أبي شيبة ،وأبي كُريب ،وإسحاق بن إبراهيم ،ثلثتهم عن
ح ِملْ
وكيع ،به ( )5وزاد { :رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا } قال :قد فعلت { رَبّنَا وَل َت ْ
حمّلْنَا مَا ل طَاقَةَ لَنَا
حمَلْ َتهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال :قد فعلت { ،رَبّنَا وَل ُت َ
عَلَيْنَا ِإصْرًا َكمَا َ
حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا [فَا ْنصُرْنَا] ( } )6قال :قد فعلت.
غفِرْ لَنَا وَارْ َ
عفُ عَنّا وَا ْ
بِهِ } قال :قد فعلت { وَا ْ
طريق أخرى عن ابن عباس :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن حميد
العرج ،عن مجاهد ،قال :دخلت على ابن عباس فقلت :يا أبا عباس ،كنت عند ابن عمر
فقرأ
__________
( )1في أ ،و " :فلما اقترأها".
( )2المسند (.)2/412
( )3صحيح مسلم برقم (.)125
( )4زيادة من صحيح مسلم (.)125
( )5المسند ( )1/233وصحيح مسلم برقم (.)126
( )6زيادة من جـ ،أ ،و.
( )1/729
( )1/730
( )1/731
يعملها كتبها ال عنده حسنة كاملة ،وإن هم بها فعملها كتبها ال سيئة واحدة" (.)1
ثم رواه مسلم ،عن يحيى بن يحيى ،عن جعفر بن سليمان ،عن الجعد أبي عثمان في هذا
السناد بمعنى حديث عبد الوارث ( )2وزاد " :ومحاها ال ،ول يَهلك على ال إل هالك".
وفي حديث سهيل ،عن أبيه ،عن أبي هريرة قال :جاء ناس من أصحاب رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فسألوه :إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به .قال " :وقد وجدتموه ؟" قالوا
:نعم .قال " :ذاك صريح اليمان".
لفظ مسلم ( )3وهو عند مسلم أيضًا من طريق العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة ،عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،به .وروى مسلم [أيضا] ( )4من حديث مغيرة ،عن إبراهيم ،
عن علقمة ،عن عبد ال ،قال :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوسوسة ،قال " :تلك
سكُمْ
صريح ( )5اليمان" ( .)6وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ
خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّه } فإنها لم تُنْسَخ ،ولكن ال إذا جمع الخلئق يوم القيامة يقول :إني
َأوْ تُ ْ
أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ،مما لم يطلع عليه ملئكتي ،فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما
حدثوا به أنفسهم ،وهو قوله ُ { :يحَاسِ ْبكُمْ ِبهِ اللّهُ } يقول :يخبركم ،وأما أهل الشك والريب
فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله { :فَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاء } وهو قوله :
خ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ } [البقرة ]225 :أي :من الشك والنفاق .وقد روى العوفي
{ وََلكِنْ ُيؤَا ِ
والضحاك عنه قريبًا من هذا.
وروى ابن جرير ،عن مجاهد والضحاك ،نحوه .وعن الحسن البصري أنه قال :هي مُحْكمة لم
تنسخ .واختار ابن جرير ذلك ،واحتج على أنه ل يلزم من المحاسبة المعاقبة ،وأنه تعالى ( )7قد
يحاسب ويغفر ،وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الية ،قائل حدثنا ابن بشار ،
حدثنا ابن أبي عدي ،عن سعيد وهشام ( ،ح) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُلَيّة ،
حدثنا هشام ،قال جميعًا في حديثهما :عن قتادة ،عن صفوان بن مُحْرز ،قال :بينما نحن
نطوف بالبيت مع عبد ال بن عمر ،وهو يطوف ،إذ عرض له رجل فقال :يا ابن عمر ،ما
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال :سمعت نبي ال ( )8صلى ال
عليه وسلم يقول " :يدنو المؤمن مِنْ ربه ،عز وجل ،حتى يضع عليه كَنَفَه ،فيقرره بذنوبه
فيقول :هل تعرف كذا ؟ فيقول :رب أعْرف -مرتين -حتى إذا بلغ به ما شاء ال أن يبلغ قال
:فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" .قال " :فيعطى صحيفة حسناته -أو كتابه
-بيمينه ،وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الشهاد َ { :هؤُلءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
رَ ّبهِمْ أَل َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ } ([ )9هود .]18 :
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)131
( )2صحيح مسلم برقم (.)131
( )3صحيح مسلم برقم (.)132
( )4زيادة من و.
( )5في أ ،و " :تلك محض".
( )6صحيح مسلم برقم (.)133
( )7في جـ " :وأنه سبحانه وتعالى".
( )8في جـ " :سمعت رسول ال".
( )9تفسير الطبري (.)120 ، 6/119
( )1/732
َآمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ َآمَنَ بِاللّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ ( )285لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وَأَ َ
حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ
أَ َ
ح ِملْ عَلَيْنَا
خذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا رَبّنَا وَلَا تَ ْ
س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َبتْ وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَ َبتْ رَبّنَا لَا ُتؤَا ِ
وُ ْ
عفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا
حمّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا ِب ِه وَا ْ
حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَلَا ُت َ
ِإصْرًا َكمَا َ
علَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ ()286
حمْنَا أَ ْنتَ َموْلَانَا فَا ْنصُرْنَا َ
وَارْ َ
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة ،عن قتادة ،به (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا سليمان بن حرب ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن علي بن
خفُوهُ
سكُمْ َأوْ ُت ْ
زيد ،عن أمية ( )2قالت :سألت عائشة عن هذه الية { :وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ
يُحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ } فقالت :ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عنها
فقال " :هذه مبايعة ال العبد ،وما يصيبه من الحمى ،والنّكبة ،والبضاعة يضعها في يد كمه ،
فيفتقدها فيفزع لها ،ثم يجدها في ضِبْنِه ،حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر
الحمر [من الكير] (." )3
وكذا رواه الترمذي ،وابن جرير من طريق حماد بن سلمة ،به ( .)4وقال الترمذي :غريب ل
نعرفه إل من حديثه.
قلت :وشيخه علي بن زيد بن جُدْعان ضعيف ،يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن
امرأة أبيه :أم محمد أمية بنت عبد ال ،عن عائشة ،وليس لها عنها في الكتب سواه.
{ آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّهِ َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ ( )285ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وَأَ َ
حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ
أَ َ
ح ِملْ عَلَيْنَا
خطَأْنَا رَبّنَا وَل تَ ْ
س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َبتْ وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ َنسِينَا َأوْ أَ ْ
وُ ْ
عفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا
حمّلْنَا مَا ل طَاقَةَ لَنَا ِب ِه وَا ْ
حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَل تُ َ
ِإصْرًا َكمَا َ
حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ ( } )286ذكر الحاديث الواردة في فضل هاتين
وَارْ َ
اليتين الكريمتين نفعنا ال بهما.
الحديث الول :قال البخاري :حدثنا محمد بن كثير ،أخبرنا شعبة ،عن سليمان ،عن إبراهيم ،
عن عبد الرحمن ،عن أبي مسعود ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :من قرأ باليتين" ،
وحدثنا أبو نعيم ،حدثنا سفيان ،عن منصور ،عن إبراهيم ،عن عبد الرحمن بن يزيد ،عن
أبي مسعود ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من قرأ باليتين من آخر سورة البقرة
في ليلة َكفَتَاه" (.)5
وقد أخرجه بقية الجماعة من طريق سليمان بن ِمهْران العمش ،بإسناده ،مثله ( .)6وهو في
الصحيحين من طريق الثوري ،عن منصور ،عن إبراهيم ،عن عبد الرحمن ،عنه ،به (.)7
وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن ،عن علقمة عن أبي مسعود -قال عبد الرحمن :ثم
لقيت أبا
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4685وصحيح مسلم برقم (.)1768
( )2في جـ " :عن آمنة".
( )3زيادة من تفسير الطبري (.)6/117
( )4سنن الترمذي برقم (.)2991
( )5صحيح البخاري برقم (.)5008
( )6صحيح مسلم برقم ( )808وسنن أبي داود برقم ( )1397وسنن الترمذي برقم ( )2881وسنن
النسائي الكبرى برقم ( )8019وسنن ابن ماجة برقم (.)1368
( )7صحيح البخاري برقم ( )5009وصحيح مسلم برقم ( )807؛ ولكنه فيه عن زهير ،عن
منصور به.
( )1/733
( )1/734
العرش ،لم يعطها أحد قبلي ،ول يعطاها أحد بعدي" (.)1
ثم رواه من حديث ُنعَيم بن أبي هندي ،عن ربعي ،عن حذيفة ،بنحوه.
الحديث السادس :قال ابن مردويه :حدثنا عبد الباقي بن نافع ،أنبأنا إسماعيل بن الفضل ،
أخبرنا محمد بن حاتم بن بزَيع ،أخبرنا جعفر بن عون ،عن مالك بن ِمغْول ،عن أبي إسحاق ،
عقِل السلم ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة ،
عن الحارث ،عن علي قال :ل أرى أحدًا َ
فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى ال عليه وسلم من تحت العرش.
ورواه َوكِيع عن إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن عمير بن عمرو الخارفي ،عن علي قال :ما
أرى أحدًا يعقل ،بلغه السلم ،ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ،فإنها من كنز
تحت العرش (.)2
الحديث السابع :قال أبو عيسى الترمذي :حدثنا بُنْدَار ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا
حماد بن سلمة ،عن أشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي ( )3عن أبي قِلبَة ،عن أبي الشعث
الصنعاني ،عن النعمان بن بشير ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن ال كتب كتابًا قبل
أن يخلق السموات والرض بألفي عام ،أنزل منه آيتين ختم بهما ( )4سورة البقرة ،ول يقرأن
في دار ثلث ليال فيقربها شيطان" .ثم قال :هذا حديث غريب .وهكذا رواه الحاكم في مستدركه
من حديث حماد بن سلمة به ،وقال :صحيح على شرط مسلم ،ولم يخرجاه (.)6( )5
الحديث الثامن :قال ابن مردويه :حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين ،أخبرنا الحسن بن
الجهم ،أخبرنا إسماعيل بن عمرو ،أخبرنا ابن أبي مريم ،حدثني يوسف بن أبي الحجاج ،عن
سعيد ،عن ابن عباس قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية
الكرسي ضحك ،وقال " :إنهما من كنز الرحمن تحت العرش" .وإذا قرأ { :مَنْ َي ْع َملْ سُوءًا يُجْزَ
س ْوفَ يُرَى * ثُمّ يُجْزَاهُ
سعْيَهُ َ
سعَى * وَأَنّ َ
بِه } [النساء { ، ]123 :وَأَنْ لَيْسَ لِلنْسَانِ إِل مَا َ
الْجَزَا َء ال ْوفَى } [النجم ، ]41 - 39 :استرجع واستكان (.)7
الحديث التاسع :قال ابن مردويه :حدثنا عبد ال بن محمد بن كوفي ،حدثنا أحمد بن يحيى بن
حمزة ،حدثنا محمد بن بكر ( )8حدثنا مكي بن إبراهيم ،حدثنا عبد ال بن أبي حميد ،عن أبي
مَلِيح ،عن معقل بن يسار ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أعطيت فاتحة الكتاب ،
وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ،والمُفَصل نافلة" (.)9
__________
( )1ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم ( )8022من طريق آدم بن أبي إياس ،عن أبي عوانة
به.
( )2ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم ( )169من طريق أبي إسحاق ،عن عمير بن
سعيد به ،قال النووي " :صحيح على شرط البخاري ومسلم".
( )3في أ " :الصنعاني".
( )4في جـ " :ختم بها".
( )5في أ " :ولم يخرجه".
( )6سنن الترمذي برقم ( )2882والمستدرك (.)1/562
( )7ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )2/7وعزاه لبن مردويه ،وفي إسناده مجاهيل.
( )8في أ " :بن بكير".
( )9ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ( )1/559من طريق عبيد ال بن أبي حميد به نحوه ،
وتعقبه الذهبي بقوله " :فيه عبيد ال بن أبي حميد تركوه".
( )1/735
الحديث العاشر :قد تقدم في فضائل الفاتحة ،من رواية عبد ال بن عيسى بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى ،عن سعيد بن جُبير ،عن ابن عباس قال :بينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده
جبريل ؛ إذ سمع نقيضا فوقه ،فرفع جبريل بصره إلى السماء ،فقال :هذا باب قد فتح من
السماء ما فُتِح قَط .قال :فنزل منه مَلَك ،فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :أبشر بنورين قد
أوتيتهما ،لم يؤتهما نبي قبلك :فاتحة الكتاب ،وخواتيم سورة البقرة ،لن تقرأ حرفا منهما إل
أوتيته ،رواه مسلم والنسائي ،وهذا لفظه (.)1
[الحديث الحادي عشر :قال أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده :حدثنا أبو
المغيرة ،حدثنا صفوان ،حدثنا أيفع بن عبد ال الكلعي ( )2قال :قال رجل :يا رسول ال ،
حيّ ا ْلقَيّومُ } قال :فأي
أي آية في كتاب ال أعظم ؟ قال " :آية الكرسي { :اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ
آية في كتاب ال تحب أن تصيبك وأمتك ؟ قال " :آخر سورة البقرة ،ولم يترك خيرًا في الدنيا
والخرة إل اشتملت عليه" (.)4( ] )3
فقوله تعالى { :آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّه } إخبار عن النبي صلى ال عليه وسلم بذلك.
قال ابن جرير :حدثنا بشر ،حدثنا يزيد ،حدثنا سعيد ،عن قتادة ،قال :ذكر لنا أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال لما نزلت هذه الية " :ويحق له أن يؤمن " (.)5
وقد روى الحاكم في مستدركه :حدثنا أبو النضر الفقيه :حدثنا معاذ بن نجدة القرشي ،حدثنا
خلد بن يحيى ،حدثنا أبو عقيل ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن أنس بن مالك ،قال :لما نزلت
هذه الية على النبي صلى ال عليه وسلم { آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّه } قال النبي صلى
ال عليه وسلم " :حق له أن يؤمن" .ثم قال الحاكم :صحيح السناد ،ولم يخرجاه.)6( .
وقوله { :وَا ْل ُم ْؤمِنُون } عطف على { الرّسُولُ } ثم أخبر عن الجميع فقال ُ { :كلّ آمَنَ بِاللّهِ
سلِهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِنْ ُرسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن ال واحد أحد ،فرد
َومَلئِكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُ ُ
صمد ،ل إله غيره ،ول رب سواه .ويصدقون بجميع النبياء والرسل والكتب المنزلة من
السماء على عباد ال المرسلين والنبياء ،ل يفرقون بين أحد منهم ،فيؤمنون ببعض ويكفرون
ببعض ،بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون َمهْديون هادون إلى سُبُل ( )7الخير ،وإن
كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن ال ،حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى ال عليه وسلم
خاتم النبياء والمرسلين ،الذي تقوم الساعة على شريعته ،ول تزال طائفة من أمته على الحق
ظاهرين.
طعْنَا } أي :سمعنا قولك يا ربنا ،وفهمناه ،وقمنا به ،وامتثلنا العمل
س ِمعْنَا وَأَ َ
وقوله َ { :وقَالُوا َ
غفْرَانَكَ رَبّنَا } سؤال لل َغفْر ( )8والرحمة واللطف.
بمقتضاه ُ { ،
قال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن حرب الموصلي ،حدثنا ابن فضيل ،عن عطاء بن السائب ،
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )806وسنن النسائي (.)2/138
( )2في الصابة " :أيفع بن عبد الكلعي".
( )3سنن الدارمي برقم ( )3380وقال الحافظ ابن حجر في الصابة (" : )1/139هو مرسل أو
معضل".
( )4زيادة من جـ.
( )5تفسير الطبري (.)6/124
( )6المستدرك ( )2/287وتعقبه الذهبي ،قلت " :منقطع" ،وذلك لن يحيى بن أبي كثير رأى
أنسا ولم يسمع منه.
( )7في أ " :إلى سبيل".
( )8في جـ ،أ " :بالعفو".
( )1/736
عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس في قول ال { :آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا } قال :قد غفرت لكم { ،وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } أي :إليك
وَا ْل ُمؤْمِنُونَ } إلى قوله ُ { :
المرجع والمآب يوم يقوم الحساب.
قال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا جرير ،عن بيان ،عن حكيم عن جابر قال :لما نزلت
على رسول ال صلى ال عليه وسلم { آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وَأَ َ
حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ
بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِل ِه ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
ا ْل َمصِيرُ } قال جبريل :إن ال قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ،فسل ُتعْطه .فسأل { :ل ُيكَّلفُ
س َعهَا } إلى آخر الية (.)1
اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ
س َعهَا } أي :ل يكلف أحدًا فوق طاقته ،وهذا من لطفه تعالى
وقوله { :ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ
بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ،وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ،في
خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّه } أي :هو وإن حاسب وسأل لكن ل
سكُمْ َأوْ تُ ْ
قوله { :وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ
يعذب إل بما يملك ( )2الشخص دفعه ،فأما ما ل يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ،فهذا
ل يكلف به النسان ،وكراهية الوسوسة السيئة من اليمان.
وقوله َ { :لهَا مَا كَسَ َبتْ } أي :من خير { ،وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ } أي :من شر ،وذلك في
العمال التي تدخل تحت التكليف ،ثم قال ( )3تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله ،وقد تكفل لهم
خذْنَا إِنْ [ َنسِينَا] ( } )4أي :إن تركنا
بالجابة ،كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا { :رَبّنَا ل ُتؤَا ِ
فرضًا على جهة النسيان ،أو فعلنا حرامًا كذلك َ { ،أوْ َأخْطَأْنَا } أي :الصوابَ في العمل ،جهل
منا بوجهه الشرعي.
وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة " :قال ال :نعم" ولحديث ( )5ابن عباس قال ال :
"قد فعلت".
وروى ابن ماجة في سننه ،وابن حبان في صحيحه ( )6من حديث أبي عمرو الوزاعي ،عن
عطاء -قال ابن ماجة في روايته :عن ابن عباس .وقال الطبراني وابن حبان :عن عطاء ،
عن عبيد بن عُمير ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال وضع (
)7عن أمتي الخطأ والنسيان ،وما استكرهوا عليه" .وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله ( )8أحمد
وأبو حاتم ( )9وال أعلم .وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا مسلم بن إبراهيم ،حدثنا أبو
بكر الهذلي ،عن شهر ،عن أم الدرداء ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن ال تجاوز
لمتي عن ثلث :عن الخطأ ،والنسيان ،والستكراه" قال أبو بكر :فذكرت ذلك للحسن ،فقال
:أجل ،أما تقرأ بذلك قرآنا { :رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا } (.)10
__________
( )1في أ ،و " :إلى آخر السورة".
( )2في أ ،و " :على ما يملك".
( )3في جـ " :وقال".
( )4زيادة من أ ،و.
( )5في جـ " :وبحديث".
( )6سنن ابن ماجة برقم ( )2045وصحيح ابن حبان برقم (" )1498موارد".
( )7في أ " :إن ال قد وضع".
( )8في جـ ،أ ،و " :وعلله".
( )9العلل لبن أبي حاتم ( )1/431والعلل للمام أحمد ( )1/227وانظر في تفصيل الكلم على
الحديث وعلته :جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب ( )2/361ط .الرسالة ،وفتح الباري
للحافظ ابن حجر (.)5/161
( )10ورواه ابن عدي في الكامل ( )3/325من طريق أبي بكر الهذلي ،عن شهر بن حوشب ،
عن أم الدرداء ،عن أبي الدرداء مرفوعا وليس عنده قول أبي بكر للحسن.
( )1/737
( )1/738
القرآن في قوله { :نزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ } وهو القرآن .وأما ما رواه ابن
أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد هاهنا بالفرقان :التوراة فضعيف أيضًا ؛ لتقدم ذكرها ،وال
أعلم
وقوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ } أي :جحدوا بها وأنكروها ،وردّوها بالباطل { َلهُمْ
شدِيدٌ } أي :يوم القيامة { وَاللّهُ عَزِيزٌ } أي :منيع الجناب عظيم السلطان { ذُو انْ ِتقَامٍ } أي
عَذَابٌ َ
:ممن كذب بآياته ( )1وخالف رسله الكرام ،وأنبياءه العظام.
صوّ ُركُمْ فِي ال ْرحَامِ كَ ْيفَ
سمَاءِ (ُ )5هوَ الّذِي ُي َ
ض وَل فِي ال ّ
شيْءٌ فِي ال ْر ِ
خفَى عَلَيْهِ َ
{ إِنّ اللّهَ ل َي ْ
حكِيمُ (} )6
يَشَاءُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والرض [ ،و] ( )2ل يخفى عليه شيء من ذلك.
صوّ ُركُمْ فِي ال ْرحَامِ كَ ْيفَ يَشَاءُ } أي :يخلقكم كما يشاء في الرحام من ذكر وأنثى ،
{ ُهوَ الّذِي ُي َ
حكِيمُ } أي :هو الذي خلق ،وهو
[و] ( )3حسن وقبيح ،وشقي وسعيد { ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
المستحق لللهية وحده ل شريك له ،وله العزة التي ل ترام ،والحكمة والحكام.
وهذه الية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق ،كما خلق ال سائر
البشر ؛ لن ال [تعالى] ( )4صوره في الرحم وخلقه ،كما يشاء ،فكيف يكون إلها كما زعمته
النصارى -عليهم لعائن ال -وقد تقلب في الحشاء ،وتنقل من حال إلى حال ،كما قال تعالى
َ } :يخُْل ُقكُمْ فِي بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ خَ ْلقًا مِنْ َب ْعدِ خَ ْلقٍ فِي ظُُلمَاتٍ ثَلثٍ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ ل إَِلهَ
إِل ُهوَ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ } [ الزمر ]6 :
ب وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَا ِ
{ ُهوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ ُم ْ
سخُونَ
قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِ ِه َومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّ ُه وَالرّا ِ
فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا َومَا َي ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ ( )7رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ
حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ ( )8رَبّنَا إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ ل رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ
هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ
اللّهَ ل ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ (} )9
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ،أي :بينات واضحات الدللة ،ل
التباس فيها على أحد من الناس ،ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدللة على كثير من الناس أو
بعضهم ،فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ،وحكم محكمه على متشابهه عنده ،فقد
ح َكمَاتٌ
اهتدى .ومن عكس انعكس ؛ ولهذا قال تعالى ُ { :هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُ ْ
هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ } أي :أصله
__________
( )1في جـ ،ر " :آياته".
( )2زيادة من جـ.
( )3زيادة من جـ ،و.
( )4زيادة من جـ.
( )2/6
الذي يرجع إليه عند الشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ } أي :تحتمل ( )1دللتها موافقة المحكم ،وقد
تحتمل ( )2شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب ،ل من حيث المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه ،فروي عن السلف عبارات كثيرة ،فقال علي بن أبي طلحة ،
عن ابن عباس [أنه قال] ( )3المحكمات ناسخه ،وحلله وحرامه ،وحدوده وفرائضه ،وما يؤمر
( )4به ويعمل به.
وكذا روي عن عكرمة ،ومجاهد ،وقتادة ،والضحاك ،ومُقاتل بن حَيّان ،والربيع بن أنس ،
والسّدّي أنهم قالوا :المحكم الذي يعمل به.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال :المحكمات [في] ( )5قوله تعالى ُ { :قلْ َتعَاَلوْا أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ
عَلَ ْيكُمْ أَل تُشْ ِركُوا بِهِ شَيْئًا } [ النعام ] 151 :واليتان بعدها ،وقوله تعالى َ { :و َقضَى رَ ّبكَ أَل
َتعْبُدُوا إِل إِيّاهُ } [ السراء ]23 :إلى ثلث آيات بعدها .رواه ابن أبي حاتم ،وحكاه عن سعيد بن
جُبَيْر [ثم] ( )6قال :حدثنا أبي ،حدثنا سليمان بن حرب ،حدّثنا حماد بن زيد ،عن إسحاق بن
سوَيْد أن يحيى بن َي ْعمَر وأبا فاختة تراجعا في هذه الية { :هُنّ (ُ )7أمّ ا ْلكِتَابِ } فقال أبو فاختة :
ُ
فواتح السور .وقال يحيى بن َي ْعمَر :الفرائض ،والمر والنهي ،والحلل والحرام (.)8
وقال ابن َلهِيعَة ،عن عطاء بن دينار ،عن سعيد بن جبير { :هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ } يقول :أصل
الكتاب ،وإنما سماهن أم الكتاب ؛ لنهن مكتوبات في جميع الكتب.
وقال مقاتل بن حيان :لنه ليس من أهل دين إل يرضى بهنّ.
وقيل في المتشابهات :إنهن المنسوخة ،والمقدم منه والمؤخر ،والمثال فيه والقسام ،وما
يؤمن به ول يعمل به .رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقيل :هي الحروف المقطعة في أوائل السور ،قاله مقاتل بن حيان.
وعن مجاهد :المتشابهات يصدق بعضهن بعضًا .وهذا إنما هو في تفسير قوله { :كِتَابًا مُتَشَا ِبهًا
مَثَا ِنيَ } [ الزمر ] 23 :هناك ذكروا :أن المتشابه هو الكلم الذي يكون في سياق واحد ،
والمثاني هو الكلم في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار ،وذكر حال البرار ثم حال ()9
الفجار ،ونحو ذلك فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم.
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ،وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ،رحمه ال ،
ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ } فيهن حجة الرب ،وعصمة العباد ،ودفع
حيث قال { :مِ ْنهُ آيَاتٌ مُ ْ
الخصوم والباطل ،ليس لهن تصريف ول تحريف عما وضعن ( )10عليه.
قال :والمتشابهات في الصدق ،لهن تصريف وتحريف وتأويل ،ابتلى ال فيهن العباد ،كما
ابتلهم في الحلل والحرام أل ( )11يصرفن إلى الباطل ،ول يحرّفن عن الحق.
__________
( )1في أ ،ر " :يحتمل".
( )2في أ ،ر " :يحتمل".
( )3زيادة من جـ ،ر ،أ ،و.
( )4في جـ ،ر " :يؤمن".
( )5زيادة من جـ ،ر.
( )6زيادة من أ ،و.
( )7في ر " :هي".
( )8تفسير ابن أبي حاتم (.)2/55
( )9في و " :وحال".
( )10في أ " :وصفن".
( )11في جـ " :ل".
( )2/7
ولهذا قال تعالى { :فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ } أي :ضلل وخروج عن الحق إلى الباطل
{ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَا َبهَ مِنْهُ } أي :إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم
الفاسدة ،وينزلوه عليها ،لحتمال لفظه لما يصرفونه ( )1فأما المحكم فل نصيب لهم فيه ؛ لنه
دامغ لهم وحجة عليهم ،ولهذا قال { :ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ } أي :الضلل لتباعهم ،إيهامًا لهم أنهم
يحتجون على بدعتهم بالقرآن ،وهذا حجة عليهم ل لهم ،كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد
نطق بأن عيسى هو روح ال وكلمته ألقاها إلى مريم ،وتركوا الحتجاج بقوله [تعالى] ( { )2إِنْ
خَلقَهُ مِنْ
ُهوَ إِل عَبْدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَ ْيهِ } [الزخرف ]59 :وبقوله { :إِنّ مَ َثلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ َكمَ َثلِ آ َدمَ َ
تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } [ آل عمران ] 59 :وغير ذلك من اليات المحكمة المصرحة بأنه
خلق من مخلوقات ال ،وعبد ،ورسول من رسل ال.
وقوله { :وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ } أي :تحريفه على ما يريدون ( )3وقال مقاتل والسدي :يبتغون أن
يعلموا ما يكون وما عواقب الشياء من ( )4القرآن.
وقد قال المام أحمد :حدثنا إسماعيل ،حدثنا أيوب عن عبد ال بن أبي مُلَ ْيكَة ،عن عائشة قالت
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ
:قرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم ُ { :هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُ ْ
ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ [فََأمّاالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ] ( } )5إلى قوله { :أُولُو اللْبَابِ } فقال " :فإذا
رأيتم الذين ُيجَادِلُون فيه فهم الذين عَنَى الُ فَاحْذَرُوهُمْ (.)6
هكذا وقع هذا الحديث في مسند المام أحمد ،رحمه ال ،من رواية ابن أبي مُلَ ْيكَة ،عن
عائشة ،ليس بينهما أحد.
علَيّة وعبد الوهاب الثقفي ،كلهما عن أيوب ،عن
وهكذا رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن ُ
عبد ال بن عبيد ال بن أبي مليكة ،عنها (.)7
ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي ،عن أيوب ،به .وكذا رواه عبد
الرزاق ،عن َم ْعمَر ( )8عن أيوب .وكذا رواه غير واحد عن أيوب .وقد رواه ابن حبان في
صحيحه ،من حديث أيوب ،به.
وتابع أيوب أبو عامر الخزاز ( )9وغيره عن ابن أبي مليكة ،فرواه الترمذي عن بُنْدار ،عن
أبي داود الطيالسي ،عن أبي عامر الخزاز ،فذكره .وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه ،
عن حماد بن يحيى البَحّ ،عن عبد ال بن أبي مليكة ،عن عائشة .ورواه ابن جرير ،من حديث
حيّ ،كلهما عن ابن أبي مليكة ،عن عائشة ،به .وقال نافع
جمَ ِ
روح بن القاسم ونافع بن عمر ال ُ
في روايته عن ابن أبي مليكة :حدثتني عائشةَ ،فذكره (.)10
__________
( )1في جـ " :تصرفونه".
( )2زيادة من جـ ،ر.
( )3في أ " :يريدونه".
( )4في جـ ،ر ،أ " :في".
( )5زيادة من جـ ،ر ،أ ،و.
( )6في أ " :فاحذرهم".
( )7المسند ( )6/48وابن ماجة في السنن برقم (.)47
( )8في ر " :يعمر".
( )9في هـ ،جـ ،ر ،أ " :الخراز"
( )10عبد الرزاق في تفسيره برقم ( )376وابن حبان في صحيحه (" )1/47الحسان" والترمذي
في السنن برقم ( )2993وسعيد بن منصور في السنن برقم ( )492وابن جرير في تفسيره (
.)6/191
( )2/8
وقد روى هذا الحديث البخاري ،رحمه ال ،عند تفسير هذه الية ،ومسلم في كتاب القدر من
صحيحه ،وأبو داود في السنة من سننه ،ثلثتهم ،عن ال َقعْنَبِيّ ،عن يزيد بن إبراهيم التّسْتَريّ ،
عن ابن أبي مليكة ،عن القاسم بن محمد ،عن عائشة ،رضي ال عنها ،قالت :تل رسول ال
ح َكمَاتٌ [هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَُأخَرُ
صلى ال عليه وسلم ُ { :هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ ُم ْ
مُتَشَا ِبهَاتٌ ] ( } )1إلى قوله َ { :ومَا َي ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ } قالت :قال رسول ال صلى ال عليه
حذَرُوهُمْ" لفظ البخاري (
سمّى الُ فَا ْ
وسلم " :فإذا رأيتَ الذين يتّ ِبعُون ما تشابه منه فأولئك الذين َ
.)2
وكذا رواه الترمذي أيضًا ،عن بندار ،عن أبي داود الطيالسي ،عن يزيد بن إبراهيم التستري ،
به .وقال :حسن صحيح .وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا السناد ،
وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة ،عن عائشة ،ولم يذكروا القاسم .كذا قال (.)3
سيّ -ولقبه
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السّدُو ِ
عارم -حدثنا حماد بن زيد ،حدثنا أيوب ،عن ابن أبي مليكة ،عن عائشة ،به (.)4
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال :حدثنا أبي ،حدثنا أبو الوليد الطيالسي ،حدثنا يزيد بن إبراهيم
حمّاد بن سلمة ،عن ابن أبي مليكة ،عن القاسم بن محمد ،عن عائشة قالت :سئل
التستري و َ
رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قول ال عز وجل { :فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا رأيتم الذين يَتّ ِبعُونَ ما تشابه من ُه فأولئك
سمّى الُ ،فَاحْذَرُو ُهمْ" (.)5
الذين َ
وقال ابن جرير :حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد ( )6بن مسلم ،عن حماد بن سلمة ،عن عبد
الرحمن بن القاسم ،عن أبيه ،عن عائشة قالت :نزع رسول ال صلى ال عليه وسلم بهذه الية
حذّ َركُمُ الُ ،
{ :فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَا َبهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قد َ
فإذا رأيْ ُتمُوهم فَاعْرفُوهُمْ" .ورواه ابن مَرْدُويه من طريق أخرى ،عن القاسم ،عن عائشة به (.)7
وقال المام أحمد :حدثنا أبو كامل ،حدثنا حماد ،عن أبي غالب قال :سمعت أبا أمامة يحدث ،
عن النبي صلى ال عليه وسلم في قوله { :فََأمّاالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ } قال
سوَ ّد ُوجُوهٌ }[.آل عمران ]106 :قال " :هم
ض وُجُو ٌه وَتَ ْ
" :هم الخوارج" ،وفي قوله َ { :يوْمَ تَبْ َي ّ
الخوارج".
وقد رواه ابن مردويه من غير وجه ،عن أبي غالب ،عن أبي أمامة مرفوعا ،فذكره (.)8
__________
( )1زيادة من جـ ،ر ،أ ،و.
( )2البخاري في صحيحه برقم ( )4547ومسلم برقم ( )2665وأبو داود في السنن برقم (
.)4598
( )3سنن الترمذي برقم (.)2994 ، 2993
( )4تفسير ابن المنذر كما في الدر ( )2/148ورواه البيهقي في دلئل النبوة ( )6/546من طريق
حماد بن زيد ،به.
( )5تفسير ابن أبي حاتم ( ، )2/64ومسند الطيالسي برقم (.)1433
( )6في أ " :أبو الوليد".
( )7تفسير الطبري ( ، )6/192ورواه الجري في الشريعة (ص .)332
( )8أحمد في المسند ( )5/262ورواه الطبراني في الكبير ( )8/325وابن أبي حاتم في تفسيره (
)2/60من طريق أبي غالب به.
( )2/9
وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلم الصحابي ،ومعناه صحيح ؛ فإن أوّل بدعة
وقعت في السلم فتنة الخوارج ،وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول ال ( )1صلى ال
عليه وسلم غنائم حُنَيْن ،فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ،ففاجؤوه بهذه
خوَيْصرة -بقر ال خاصرته -اعدل فإنك لم تعدل ،فقال له
المقالة ،فقال قائلهم -وهو ذو ال ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لقد خِ ْبتُ وخَس ْرتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل ،أيأمَنُني على أهل الرض
ول تَأمَنُونِي" .فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية :خالد بن الوليد [ -ول بُعد
في الجمع] ( - )2رسول ال في قتله ،فقال " :دَعْهُ فإنه يخرج من ضِ ْئضِئ هذا -أي :من
حقِرُ أحدكم صلته مع صلتهم ،وصيامه مع صيامهم ،وقراءته مع قراءتهم ،
جنسه -قوم َي ْ
َيمْ ُرقُونَ من الدين كما َيمْرُقُ السهم من ال ّرمِيّة ،فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ،فإن في قتلهم أجْرًا ()3
لمن قتلهم.
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب ،وقتلهم ( )4بال ّنهْروان ،ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل
ج ْهمِيّة ،وغير
حلٌ كثيرة منتشرة ،ثم نَ َبعَت القَدَرَيّة ،ثم المعتزلة ،ثم ال َ
وآراء وأهواء ومقالت ونِ َ
ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله " :وستفترق هذه المة على ثلث
وسبعين فِ ْرقَةً ،كلها في النار إل واحدة" قالوا [ :من] ( )5هم يا رسول ال ؟ قال " :من كان
على ما أنا عليه وأصحابي" أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة (.)6
وقال الحافظ أبو َيعْلَى :حدثنا أبو موسى ،حدثنا عمرو بن عاصم ،حدثنا المعتمر ،عن أبيه ،
عن قتادة ،عن الحسن عن جندب بن عبد ال أنه بلغه ،عن حذيفة -أو سمعه منه -يحدث عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه ذكر " :إن في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر ال ّدقَل ،
يَتَأوُّلوْنَهُ على غير تأويله"[ .لم] ( )7يخرجوه (.)8
[وقوله] (َ { )9ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّهُ } اختلف القراء في الوقف هاهنا ،فقيل :على الجللة ،
كما تقدم عن ابن عباس أنه قال :التفسير على أربعة أنحاء :فتفسير ل يعذر أحد في فهمه ،
وتفسير تعرفه ( )10العرب من لغاتها ،وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ،وتفسير ل يعلمه إل
ال عز وجل .ويروى هذا القول عن عائشة ،وعروة ،وأبي الشعثاء ،وأبي َنهِيك ،وغيرهم.
وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير :حدثنا هاشم بن مرثد ( )11حدثنا محمد بن
ضمْضَم بن زُرْعَة ،عن شُرَيْح بن عبيد ،عن أبي
إسماعيل بن عياش ،حدثني أبي ،حدثني َ
مالك الشعري أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل أخاف على أمّتي إل ثلث
خلل :أن يكثر لهم المال
__________
( )1في و " :النبي".
( )2زيادة من جـ ،ر.
( )3في ر " :أجر" وهو خطأ.
( )4في جـ ،ر " :فقتلهم".
( )5في جـ ،ر " :ومن".
( )6المستدرك ( )1/28من حديث عبد ال بن عمرو ،والزيادة هي قوله " :كلها في النار إل
واحدة" ،وقد ضعفها ابن الوزير ونسبه إلى ابن حزم ،وللشيخ ناصر اللباني بحث أثبت فيه
صحة هذه الزيادة فليراجع السلسلة الصحيحة برقم (.)204
( )7في جـ " :ولم".
( )8وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية ( )3/300وعزاه لبي يعلى ،لكنه ذكره من
حديث عائشة.
( )9زيادة من و.
( )10في ر " :يعرفه".
( )11في هـ ،جـ ،ر ،أ " :مزيد".
( )2/10
فيتحاسدوا فيقتتلوا ،وأن يفتح لهم الكتاب ( )1فيأخذه ( )2المؤمن يبتغي تأويله َ { ،ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ
إِل اللّ ُه وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ [ ُكلّ مِنْ عِ ْندِ رَبّنَا َومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ] (} )3
الية ،وأن يزداد علمهم فيضيعوه ول يبالون عليه " غريب جدا ( )4وقال الحافظ أبو بكر بن
مردويه :حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ،أخبرنا أحمد بن عمرو ،أخبرنا هشام بن عمار ،
أخبرنا ابن أبي حاتم ( )5عن أبيه ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن ابن العاص ،عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا ،فما عرفتم منه
فاعملوا به ،وما تشابه منه فآمنوا به" (.)6
وقال عبد الرزاق :أنبأنا َم ْعمَر ،عن ابن طاوس ،عن أبيه قال :كان ابن عباس يقرأ " :وما
يعلم تأويله إل ال ،ويقول الراسخون :آمنا به" ( )7وكذا رواه ابن جرير ،عن عمر بن عبد
العزيز ،ومالك بن أنس :أنهم يؤمنون به ول يعلمون تأويله .وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد
ال بن مسعود " :إن تأويله إل عند ال والراسخون في العلم يقولون آمنا به" .وكذا عن أبي بن
كعب .واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله { :وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الصول ،
وقالوا :الخطاب بما ل يفهم بعيد.
وقد روى ابن أبي نجَِيح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس أنه قال :أنا من الراسخين الذين يعلمون
تأويله .وقال ابن أبي نجيح ،عن مجاهد :والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به.
وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال محمد بن إسحاق ،عن محمد بن جعفر بن الزبير َ { :ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ } الذي أراد ما أراد
سخُونَ فِي ا ْلعِ ْلمِ َيقُولُونَ آمَنّا ِبهِ } ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل
{ إِل اللّ ُه وَالرّا ِ
ح َكمَة التي ل تأويل لحد فيها إل تأويل واحد ،فاتسق بقولهم الكتاب ،وصدق بعضه ()8
المُ ْ
بعضًا ،فنفذت الحجة ،وظهر به العذر ،وزاح به الباطل ،ودفع به الكفر.
وفي الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم دعا لبن عباس فقال " :اللهم فَ ّقهْهُ في الدين
وعلمه التأويل".
ومن العلماء من فصل في هذا المقام ،فقال :التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان ،أحدهما
:التأويل بمعنى حقيقة الشيء ،وما يؤول أمره إليه ،ومنه قوله تعالى { :وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى
حقّا } [ يوسف :
جعََلهَا رَبّي َ
سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ
ش وَخَرّوا َلهُ ُ
ا ْلعَرْ ِ
]100وقوله (َ { )9هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل تَ ْأوِيلَهُ َيوْمَ يَأْتِي تَ ْأوِيلُهُ } [ العراف ]53 :أي :حقيقة ما
أخبروا به من أمر المعاد ،فإن أريد
__________
( )1في ر ،أ " :الكتب" وفي و " :تفتح لهم الكتب".
( )2في جـ " :ليأخذ".
( )3زيادة من أ ،و.
( )4الطبراني في الكبير ( )3/292وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (" : )1/128فيه محمد بن
إسماعيل بن عياش عن أبيه ولم يسمع من أبيه".
( )5في جـ ،ر ،أ ،و " :حازم".
( )6ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن ،وابن سعد في الطبقات الكبرى ( )4/1/197وإسناده
حسن.
( )7عبد الرزاق في تفسيره برقم (.)377
( )8في جـ " :بعضهم".
( )9في أ " :وقال".
( )2/11
بالتأويل هذا ،فالوقف على الجللة ؛ لن حقائق المور وكنهها ل يعلمه على الجلية إل ال عز
سخُونَ فِي ا ْلعِ ْلمِ } مبتدأ و { َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ } خبره .وأما إن أريد
وجل ،ويكون قوله { :وَالرّا ِ
بالتأويل المعنى الخر ( )1وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى { :نَبّئْنَا
سخُونَ
بِتَ ْأوِيلِهِ } [ يوسف ] 36 :أي :بتفسيره ،فإن أريد به هذا المعنى ،فالوقف على { :وَالرّا ِ
فِي ا ْلعِلْمِ } لنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا العتبار ،وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق
الشياء على كنه ما هي عليه ،وعلى هذا فيكون قوله َ { :يقُولُونَ آمَنّا ِبهِ } حال ( )2منهم ،
وساغ هذا ،وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ،كقوله { :لِ ْلفُقَرَاءِ ا ْل ُمهَاجِرِينَ
الّذِينَ أُخْ ِرجُوا مِنْ دِيارِ ِه ْم وََأمْوَاِلهِمْ } إلى قوله [ { :وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َب ْعدِهِمْ ] (َ )3يقُولُونَ رَبّنَا
خوَانِنَا [الّذِينَ سَ َبقُونَا بِاليمَانِ] ( } )4الية [ الحشر ، ] 10 - 8 :وكقوله تعالى :
غفِرْ لَنَا وَل ْ
اْ
صفّا } [الفجر ] 22 :أي :وجاءت الملئكة صفوفًا صفوفًا.
ك صَفّا َ
ك وَا ْلمََل ُ
{ وَجَاءَ رَ ّب َ
وقوله إخبارًا عنهم أنهم { َيقُولُونَ آمَنّا ِبهِ } أي :بالمتشابه { ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا } أي :الجميع من
المحكم والمتشابه حق وصدق ،وكل واحد منهما يصدق الخر ويشهد له ؛ لن الجميع من عند
ن وََلوْ كَانَ مِنْ عِ ْندِ
ال وليس شيء من عند ال بمختلف ول متضاد لقوله َ { :أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآ َ
غَيْرِ اللّهِ َلوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلفًا كَثِيرًا } [ النساء ] 82 :ولهذا قال تعالى َ { :ومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو
اللْبَابِ } أي :إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم
المستقيمة.
صيّ ،حدثنا ُنعَيْم بن حماد ،حدثنا فياض
ح ْم َ
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عوف ال ِ
ال ّر ّقيّ ،حدّثنا عبد ال ( )5بن يزيد -وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم :أنسًا ،
وأبا أمامة ،وأبا الدرداء ،رضي ال عنهم ،قال :حدثنا أبو الدرداء ،أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ،فقال " :من بَرّت يمينه ،وصدق لسانه ،واستقام قلبه ،
عفّ ( )6بطنه وفرجه ،فذلك من الراسخين في العلم" (.)7
ومن أَ َ
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن عمر بن شعيب عن
أبيه ،عن جده قال :سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال " :إنما هلك من
كان قبلكم بهذا ،ضربوا كتاب ال بعضه ببعض ،وإنما أنزل ( )8كتاب ال ليصدق بعضه بعضًا
،فل تكذبوا بعضه ببعض ،فما علمتم منه فقولوا ،وما جهلتم َفكِلُوهُ إلى عَاِلمِه" (.)9
__________
( )1في أ " :الخير".
( )2في ر " :حال" وهو خطأ.
( )3زيادة من أ ،و.
( )4زيادة من أ ،و.
( )5في و " :عبيد ال".
( )6في أ ،و " :عف".
( )7تفسير ابن أبي حاتم ( )2/72ورواه الطبري ( )6/207والطبراني في الكبير كما في الدر (
)2/151من طريق عبد ال بن يزيد به .قال الهيثمي في مجمع الزوائد (" : )6/324عبد ال بن
يزيد ضعيف".
( )8في جـ ،ر ،أ ،و " :نزل".
( )9المسند ( )2/185ورواه ابن ماجة برقم ( )85والبغوي في شرح السنة ( )1/260من طريق
عمرو بن شعيب به .وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجة" (" : )1/58إسناده صحيح ورجاله
ثقات".
( )2/12
و[قد] ( )1تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث ،من طريق هشام بن عمار ،عن ابن أبي حازم (
)2عن أبيه ،عن عمرو بن شعيب ،به.
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده ،حدثنا زهير بن حرب ،
حدثنا أنس بن عياض ،عن أبي حازم ،عن أبي سلمة قال :ل أعلمه إل عن أبي هريرة ،أن (
)3رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :نزل القرآن على سبعة أحرف ،والمِرَاءُ في القرآن
كفر -ثلثًا -ما عرفتم منه فاعملوا به ،وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه".
وهذا إسناد صحيح ،ولكن فيه علة بسبب قول الراوي " :ل أعلمه إل عن أبي هريرة" (.)4
وقال ابن المنذر في تفسيره :أخبرنا محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ،أخبرنا ابن وهب قال :
أخبرني نافع بن يزيد قال :يقال :الراسخون في العلم المتواضعون ل ،المتذللون ل في
مرضاته ،ل يتعاطون ( )5من فوقهم ،ول يحقرون من دونهم[ .ولهذا قال تعالى َ { :ومَا َي ّذكّرُ
إِل أُولُو اللْبَابِ } أي :إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم
المستقيمة] (.)6
ثم قال تعالى عنهم مخبرًا أنهم ( )7دعوا ربهم قائلين { :رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا } أي :
ل تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ول تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ ،الذين يتبعون ما تشابه
من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ،ودينك القويم { وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ } أي :من
حمَةً } تثبت بها قلوبنا ،وتجمع بها شملنا ،وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا { إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ
عندك { رَ ْ
}
قال ابن أبي حاتم :حدثنا عمرو بن عبد ال الوْدِي -وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب -قال
حوْشَب ،عن أم سلمة ،رضي
جميعًا :حدثنا َوكِيع ،عن عبد الحميد بن َبهْرام ،عن شهر بن َ
ال عنها ،أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول " :يا ُمقَّلبَ القلوب ثَ ّبتْ قلبي على دينك" ثم قرأ
حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ } رواه ابن مردويه
{ :رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ
من طريق محمد بن َبكّار ،عن عبد الحميد بن بهرام ،عن شهر بن حوشب ،عن أم سلمة ،
وهي ( )8أسماء بنت يزيد ( )9بن السكن ،سمعها تحد ث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
كان يكثر في دعائه " :اللهم مقلب القلوب ،ثبت قلبي على دينك" قالت :قلت :يا رسول ال ،
وإن القلب ليتقلب ( )10؟ قال " :نعم ،ما خلق ال من بني آدم من بشر إل أن قلبه بين أصبعين
من أصابع ال عز وجل ،فإن شاء أقامه ،وإن شاء أزاغه" .فنسأل ال ربنا أل يزيغ قلوبنا بعد إذ
هدانا ،ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة ،إنه هو الوهاب.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى ،عن عبد الحميد بن بهرام ،به مثله .ورواه
أيضًا عن المثنى ،عن الحجاج بن مِ ْنهَال ،عن عبد الحميد بن بهرام ،به مثله ،وزاد " :قلت (
)11يا رسول ال ،
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في جـ ،ر ،أ " :حاتم".
( )3في أ " :فإن".
( )4أبو يعلى في المسند برقم ( )6016ومن طريقه رواه ابن حبان في صحيحه ()1/146
"الحسان" ورواه أحمد في المسند ( )2/300والنسائي في الكبرى ( )5/33من طريق أنس بن
عياض به .وليس في رواية النسائي الشك "ل أعلمه".
( )5في جـ ،أ " :يتعاظمون".
( )6زيادة من جـ ،ر ،أ.
( )7في جـ ،ر " :عنهم".
( )8في و " :عن".
( )9في أ " :زيد".
( )10في و " :ليقلب".
( )11في أ ،و " :وزاد " :قالت :قلت".
( )2/13
أل تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال " :بلى قولي :اللهم رب النبي محمد ،اغفر لي ذنبي ،
وأذهب غَيْظ قلبي ،وأجِرْنِي من ُمضِلتِ الفتن" (.)1
ثم قال ابن مردويه :حدثنا سليمان بن أحمد ،حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي ،أخبرنا
العباس بن الوليد الخلل ،أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد ال ،أخبرنا سعيد بن بشير ،عن
قتادة ،عن أبي حسان العرج ( )2عن عائشة ،رضي ال عنها ،قالت :كان رسول ال صلى
ال عليه وسلم كثيرًا ما يدعو " :يا مقلب القلوب ،ثبت قلبي على دينك" ،قلت :يا رسول ال ،
ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء .فقال " :ليس من قلب إل وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ،إذا
شاء أن يقيمه أقامه ،وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ،أما تسمعين قوله { :رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ إِذْ
حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ } .غريب من هذا الوجه ،ولكن أصله ثابت في
هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ
الصحيحين ،وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الية الكريمة.
وقد روى أبو داود والنسائي وابن مردويه ،من حديث أبي عبد الرحمن المقري -زاد النسائي
وابن حبان :وعبد ال بن وهب ،كلهما عن سعيد بن أبي أيوب حدّثني عبد ال بن الوليد
التّجيبي ،عن سعيد بن المسيب ،عن عائشة ،رضي ال عنها ،أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال " :ل إله إل أنت سبحانك ،اللهم إني أستغفرك لذنبي ،وأسألك
رحمة ،اللهم زدني علمًا ،ول تزغ قلبي بعد إذ هديتني ،وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب" لفظ ابن مردويه (.)3
سيّ
وقال عبد الرزاق ،عن مالك ،عن أبي عبيد -مولى سليمان بن عبد الملك -عن عبادة بن ُن َ
،أنه أخبره ،أنه سمع قيس بن الحارث يقول :أخبرني أبو عبد ال الصُنَابِحي ،أنه صلى وراء
أبي بكر الصديق المغرب ،فقرأ أبو بكر في الركعتين الوليين ( )4بأم القرآن وسورتين من
قصار المفصل ،وقرأ في الركعة الثالثة ،قال :فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ،
فسمعته يقرأ ( )5بأم القرآن وهذه الية { :رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا [وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ
حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ] (.} )7( )6
رَ ْ
سيّ :أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلفته ،فقال
قال أبو عبيد :وأخبرني عُبَادة بن نُ َ
عمر لقيس :كيف أخبرتني عن أبي عبد ال الصنابحي فأخبره بما سمع أبا عبد ال ثانيا .قال
عمر :فما تركناها منذ سمعناها منه ،وإن كنت ( )8قبل ذلك َلعَلَى غير ذلك .فقال له رجل :
على أي شيء كان
__________
( )1ابن أبي حاتم في تفسيره ( )2/84والطبري في تفسيره ( )6/213ورواه أحمد في المسند (
)6/315والترمذي في السنن ( )3522وابن أبي عاصم في السنة برقم ( )223من طريق أبي
كعب صاحب الحرير عن شهر بن حوشب به .وللحديث شواهد عن عائشة وأنس وجابر والنواس
بن سمعان رضي ال عنهم.
( )2في هـ ،جـ ،ر ،أ " :عن حسان العرج".
( )3أبو داود في السنن برقم ( )5061والنسائي في الكبرى برقم (.)10701
( )4في ر " :الولتين".
( )5في و " :يقرأ أي في الثالثة".
( )6زيادة من جـ ،ر ،أ ،و ،وفي هـ " :الية".
( )7رواه مالك في الموطأ (.)1/79
( )8في أ " :كعب".
( )2/14
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ ُه ْم َوقُودُ النّارِ (َ )10كدَ ْأبِ
خذَهُمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ()11
ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَ َ
عوْ َ
َآلِ فِرْ َ
{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْن ُهمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْلدُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَ ِئكَ هُمْ َوقُودُ النّارِ ()10
خذَ ُهمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (} )11
ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَ َ
عوْ َ
كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
يخبر تعالى عن الكفار أنهم وقود النار َ { ،يوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُتهُ ْم وََلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ
الدّارِ } [ غافر ] 52 :وليس ما أوتوه في الدنيا من الموال والولد بنافع لهم عند ال ،ول
بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه ،بل كما قال تعالى { :وَل ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُمْ وََأوْلدُ ُهمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ
سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة ] 85 :وقال تعالى { :ل ()1
أَنْ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَ ْنفُ ُ
جهَنّمُ وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } [ آل عمران 196 :
َيغُرّ ّنكَ َتقَلّبُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِلدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَ ْأوَا ُهمْ َ
] 197 :كما قال هاهنا { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أي :بآيات ال وكذبوا رسله ،وخالفوا كتابه ،ولم
ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْل ُدهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَ ِئكَ ُه ْم َوقُودُ
صبُ
ح َ
النّارِ } أي :حطبها الذي تسجر به وتوقد به ،كقوله { :إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
جهَنّمَ [أَنْتُمْ َلهَا وَارِدُونَ] } ([ )2النبياء .]98 :
َ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي مريم ،أخبرنا ابن َلهِيْعة ،أخبرني ابن الهاد ،
عن هند بنت الحارث ،عن أم الفضل أم عبد ال بن عباس قالت :بينما نحن بمكة قام رسول ال
صلى ال عليه وسلم من الليل ،فقال ( )3هل بلغت ،اللهم هل بلغت "...ثلثًا ،فقام عمر بن
الخطاب فقال :نعم .ثم أصبح فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :ليظهرن السلم حتى يرد الكفر
إلى مواطنه ،وَلَ َتخُوضُنّ ( )4البحار بالسلم ،وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن
ويقرؤونه ،ثم يقولون :قد قرأنا وعلمنا ،فمن هذا الذي هو خير منا ،فهل في أولئك من خير ؟"
قالوا :يا رسول ال ،فمن أولئك ؟ قال " :أولئك منكم ( )5وأولئك هم
__________
( )1في جـ ،ر " :ول" وهو خطأ.
( )2زيادة من جـ ،ر ،أ ،و ،وفي هـ " :الية".
( )3في أ ،و " :فنادى".
( )4في أ : " :وليخوضن".
( )5في جـ ،أ ،و :منهم".
( )2/15
وقود النار" .وكذا رأيته بهذا اللفظ.
وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد ال بن الهاد ،عن هند بنت الحارث ،امرأة عبد ال
بن شداد ،عن أم الفضل ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال " :هل بلغت"
يقولها ثلثا ،فقام عمر بن الخطاب -وكان أوّاها -فقال :اللهم نعم ،وحرصتَ وجهدتَ
ونصحتَ فاصبر .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :ليظهرن اليمان حتى ير ّد الكفر إلى
مواطنه ،وليخوضنّ رجال البحار بالسلم ( )1وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن ،
فيقرؤونه ويعلمونه ،فيقولون :قد قرأنا ،وقد علمنا ،فمن هذا الذي هو خير منا ؟ فما في أولئك
من خير" قالوا :يا رسول ال ،فمن أولئك ؟ قال " :أولئك منكم ،وأولئك هم وقود النار" ( )2ثم
رواه من طريق موسى بن عبيد ،عن محمد بن إبراهيم ،عن بنت الهاد ،عن العباس بن عبد
المطلب بنحوه.
عوْنَ } قال الضحاك ،عن ابن عباس :كصنيع آل فرعون .وكذا
وقوله تعالى { :كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
روي عن عكرمة ،ومجاهد ،وأبي مالك ،والضحاك ،وغير واحد ،ومنهم من يقول :كسنة آل
فرعون ،وكفعل آل فرعون وكشبه ( )3آل فرعون ،واللفاظ متقاربة .والدأب -بالتسكين ،
والتحريك أيضًا ك َنهْر و َنهَر : -هو الصنع ( )4والشأن والحال والمر والعادة ،كما يقال :ل
يزال هذا دأبي ودأبك ،وقال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي على مطيهم ...يقولون :ل تهلك ( )5أسى وتجمل ()6
كدأبك من أم الحويرث ( )7قبلها ...وجارتها أم الرباب بمأسل ()8
والمعنى :كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها.
والمعنى في الية :أن الكافرين ل تغني ( )9عنهم الولد ول الموال ،بل يهلكون ويعذبون ،
كما جرى لل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل ( )10فيما جاؤوا ( )11به من آيات ال
وحججه.
خذَهُمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِمْ ] ( )12وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }
ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَ َ
عوْ َ
{ [ َكدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
أي :شديد الخذ أليم العذاب ،ل يمتنع منه أحد ،ول يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد ،الذي
[قد] ( )13غلب كل شيء وذل له كل شيء ،ل إله غيره ول رب سواه.
__________
( )1في جـ " :بإسلمهم".
( )2تفسير ابن أبي حاتم ( )2/90وفيه ابن لهيعة ،وقد توبع ،تابعه عبد العزيز بن أبي حازم عن
يزيد بن الهاد به .أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( )12/250قال الهيثمي في مجمع الزوائد :
(" )1/186رجاله ثقات ،إل أن هند بنت الحارث الخثعمية التابعية لم أر من وثقها ول من
جرحها".
( )3في أ ،و " :وكشبيه".
( )4في جـ ،ر ،أ ،و " :الصنيع".
( )5في جـ ،ر ،أ ،و " :تأسف".
( )6في جـ ،ر ،أ " :تحملي" ،وفي و " :تحمل".
( )7في أ " :الحويرة".
( )8البيت في تفسير الطبري ( )6/225وديوان امرئ القيس ( ، )125والبيت من معلقته
المشهورة.
( )9في ر ،أ "يغني".
( )10في جـ ،ر " :بالرسل".
( )11في جـ ،ر ،أ ،و " :جاءوهم".
( )12زيادة من جـ ،ر ،أ ،و.
( )13زيادة من أ ،و.
( )2/16
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (َ )12قدْ كَانَ َلكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا
ُقلْ لِلّذِينَ َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى َ
ن وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ َيشَاءُ إِنّ فِي
فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْ ِ
ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ ()13
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ ( )12قَدْ كَانَ َل ُكمْ آ َيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا
حشَرُونَ إِلَى َ
ن وَتُ ْ
{ ُقلْ لِلّذِينَ َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُو َ
ن وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ َيشَاءُ إِنّ فِي
فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْ ِ
ذَِلكَ َلعِبْ َر ًة لولِي ال ْبصَارِ (} )13
يقول تعالى :قل يا محمد للكافرين { :سَ ُتغْلَبُونَ } أي :في الدنيا { ،وَتُحْشَرُونَ } أي :يوم
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ }.
القيامة { إِلَى َ
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن ( )1يسار ،عن عاصم بن عمر بن قتادة ؛ أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة ،جمع اليهود في سوق بني
قَيْ ُنقَاع وقال " :يا معشر يهود ،أسلموا قبل أن يصيبكم ال ما ( )2أصاب قريشًا" .فقالوا :يا
محمد ،ل يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا ل يعرفون القتال ،إنك وال لو
( )3قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ،وأنك لم تلق مثلنا ؟ فأنزل ال في ذلك من قولهم ُ { :قلْ لِلّذِينَ
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } إلى قوله َ { :لعِبْ َرةً ( )4لولِي ال ْبصَارِ } (
حشَرُونَ ِإلَى َ
ن وَتُ ْ
َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُو َ
.)5
وقد رواه ابن إسحاق أيضًا ،عن محمد بن أبي محمد ،عن سعيد أو عكرمة ،عن ابن عباس
فذكره ؛ ولهذا قال تعالى َ { :قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ } أي :قد كان لكم -أيها اليهود القائلون ما قلتم { -
آيَةٌ } أي :دللة على أن ال معز دينه ،وناصر رسوله ،ومظهر كلمته ،ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ
} أي :طائفتين { الْ َتقَتَا } أي :للقتال { فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وهم المسلمون { ،وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ
} وهم مشركو قريش يوم بدر.
وقوله { :يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ } قال بعض العلماء -فيما حكاه ابن جرير :يرى المشركون
يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ،أي :جعل ال ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة
السلم عليهم .وهذا ل إشكال عليه إل من جهة واحدة ،وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد
يومئذ قبل القتال يحزر ( )6لهم المسلمين ،فأخبرهم بأنهم ثلثمائة ،يزيدون قليل أو ينقصون
قليل .وهكذا كان المر ،كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجل ثم لما وقع القتال أمدّهم ال بألف من
خواص الملئكة وساداتهم.
والقول الثاني " :أن المعنى في قوله { :يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ } أي :ترى الفئة المسلمة
الفئة الكافرة مثليهم ،أي :ضعفيهم في العدد ،ومع هذا نصرهم ( )7ال عليهم .وهذا ل إشكال
فيه على ما رواه العوفي ،عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلثمائة وثلثة عشر رجل
والمشركين ( )8كانوا ستمائة وستة وعشرين رجل .وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الية ،
ولكنه خلف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ،وخلف المعروف عند الجمهور
من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى اللف كما رواه محمد بن إسحاق ،عن يزيد بن
رومان ،عن عروة بن الزبير ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما سأل ذلك العبد
__________
( )1في ر " :عن".
( )2في جـ ،ر " :بما".
( )3في جـ ،ر " :إن".
( )4في ر ،و " :عبرة".
( )5السيرة لبن إسحاق (ق 162ظاهرية).
( )6في أ ،و " :يحرز".
( )7في أ " :نصر".
( )8في جـ ،ر ،أ " :والمشركون".
( )2/17
السود لبني الحجاج عن عدّة قريش ،فقال :كثير ،قال " :كم ينحرون كل يوم ؟" قال :يومًا
تسعًا ( )1ويومًا عشرًا ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :القوم ما بين التسعمائة إلى اللف" (
.)2
وروى ( )3أبو إسحاق السّبِيعي ،عن حارثة ،عن علي ،قال :كانوا ألفًا ،وكذا قال ابن
مسعود .والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى اللف ،وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلثة أمثال
المسلمين ،وعلى هذا فيشكل هذا القول وال أعلم .لكن وجه ابن جرير هذا ،وجعله صحيحًا كما
تقول :عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ،وتكون ( )4محتاجًا إلى ثلثة آلف ،كذا قال .وعلى
هذا فل إشكال.
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ،وهو أن يقال :ما الجمع بين هذه الية وبين قوله
تعالى في قصة بدر { :وَِإذْ يُرِي ُكمُوهُمْ إِذِ الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِنكُمْ قَلِيل وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِنهِمْ لِ َي ْقضِيَ اللّهُ
َأمْرًا كَانَ َم ْفعُول } ؟ [ النفال ] 44 :والجواب :أن هذا كان في حال ،والخر كان في حال (
)5أخرى ،كما قال السّدّي ،عن [مرة] الطيب ( )6عن ابن مسعود في قوله َ { :قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ
فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا [فِ َئةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ ] ( } )7الية ،
ضعَفون علينا ،
قال :هذا يوم بدر .قال عبد ال بن مسعود :وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم ُي ْ
ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجل واحدًا ،وذلك قوله ( )8تعالى { :وَإِذْ يُرِي ُكمُوهُمْ ِإذِ
الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِنكُمْ قَلِيل وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِنهِمْ }.
وقال أبو إسحاق ،عن أبي عبيدة ،عن عبد ال بن مسعود ،رضي ال عنه ،قال :لقد قللوا في
أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي ( )9تراهم سبعين ؟ قال :أراهم مائة .قال :فأسرنا رجل منهم
فقلنا :كم كنتم ؟ قال :ألفا .فعندما عاين كل الفريقين الخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ،
أي :أكثر منهم بالضعف ،ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا العانة من ربهم ،عز وجل .ورأى
المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ،ثم لما حصل التصاف (
)10والتقى الفريقان قلل ال هؤلء في أعين هؤلء ،وهؤلء في أعين هؤلء ،ليقدم كل منهما
على الخر.
ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُول } أي :ليفرّق بين الحق والباطل ،فيظهر كلمة اليمان على الكفر
{ لِ َي ْق ِ
،ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ،كما قال تعالى { :وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْ ُتمْ أَذِلّةٌ } [ آل
عمران ] 123 :وقال هاهنا { :وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ يَشَاءُ إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َر ًة لولِي ال ْبصَارِ }
أي :إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم ال وأفعاله ،وقدره الجاري
بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد.
__________
( )1في جـ ،ر ،أ " :قال ينحرون يوما تسعا".
( )2السيرة النبوية لبن هشام (.)1/616
( )3في أ " :قال".
( )4في أ " :ويكون".
( )5في أ ،و " :حالة".
( )6في هـ " :عن الطيب".
( )7زيادة من جـ ،ر ،أ ،و.
( )8في جـ ،ر ،أ ،و " :قول".
( )9في جـ ،ر " :جنبي".
( )10في أ ،و " :المصاف".
( )2/18
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّ ِة وَالْخَ ْيلِ
حبّ ال ّ
زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
حسْنُ ا ْلمََآبِ (ُ )14قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ
س ّومَ ِة وَالْأَ ْنعَا ِم وَا ْلحَ ْرثِ ذَِلكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ
ا ْلمُ َ
طهّ َرةٌ
مِنْ ذَِلكُمْ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِنْدَ رَ ّب ِهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَ ْزوَاجٌ مُ َ
وَ ِرضْوَانٌ مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ ()15
( )2/19
الضحاك وغيره ،وقيل :ألف دينار .وقيل :ألف ومائتا دينار .وقيل :اثنا عشر ألفا .وقيل :
أربعون ألفا