You are on page 1of 1213

‫الكتاب ‪ :‬تفسير القرآن العظيم‬

‫المؤلف ‪ :‬أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ ‪774- 700‬‬
‫هـ ]‬
‫المحقق ‪ :‬سامي بن محمد سلمة‬
‫الناشر ‪ :‬دار طيبة للنشر والتوزيع‬
‫الطبعة ‪ :‬الثانية ‪1420‬هـ ‪ 1999 -‬م‬
‫عدد الجزاء ‪8 :‬‬
‫مصدر الكتاب ‪ :‬موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف‬
‫‪www.qurancomplex.com‬‬
‫[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ‪ ،‬والصفحات مذيلة بحواشي المحقق ]‬

‫مقدمة التحقيق‬
‫عمَالِنا ‪،‬‬
‫حمَدُه ‪ ،‬ونستعينُه ‪ ،‬ونستغف ُرهُ ‪ ،‬ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا ‪َ ،‬ومِنْ سيئاتِ أ ْ‬
‫حمْدَ ل ‪َ ،‬ن ْ‬
‫إنّ ال َ‬
‫ضلّ لَهُ ‪ ،‬ومن ُيضِْللْ ‪ ،‬فَل هَادِي َلهُ‪.‬‬
‫مَنْ َيهْدِه ال فَل ُم ِ‬
‫حمّدًا عبْدُه ورَسُولُه‪.‬‬
‫ل وَحْ َدهُ ل شَرِيكَ لَهُ ‪ ،‬وأشهدُ أنّ مُ َ‬
‫شهَدُ أنْ ل إَلهَ إل ا ُ‬
‫وأَ ْ‬
‫حقّ ُتقَاتِ ِه وَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ } [آل عمران ‪.]102 :‬‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َ‬
‫جهَا وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا رِجَال كَثِيرًا‬
‫س وَاحِ َد ٍة َوخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫{ يَاأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬
‫وَنِسَا ًء وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ ِب ِه وَالرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْي ُكمْ َرقِيبًا } [النساء ‪.]1 :‬‬
‫عمَاَلكُمْ وَ َيغْفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُ ْم َومَنْ ُيطِعِ‬
‫سدِيدًا * ُيصْلِحْ َلكُمْ أَ ْ‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َوقُولُوا َقوْل َ‬
‫اللّ َه وَرَسُوَلهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا عَظِيمًا } [الحزاب ‪.]71 ، 70 :‬‬
‫أما بعد ‪:‬‬
‫فهذا هو كِتَاب َتفْسِير القرآن العظيم ‪ ،‬للمام العلمة ‪ ،‬ال ُمفَسّر ‪ ،‬المُؤرّخ ‪ ،‬الحُجّةِ الحَا ِفظِ إسْماعيلَ‬
‫حمَه الُ ‪ُ -‬أ َق ّدمُه ِلقُرّاء العَرَبِيّةِ والعَالَم‬
‫شقِيّ ‪َ -‬ر ِ‬
‫شيّ الشّا ِف ِعيّ ال ّد َم ْ‬
‫ضوْءِ بْنِ كَثي ٍر القُرَ ِ‬
‫ن َ‬
‫عمَرَ بْ ِ‬
‫بْنِ ُ‬
‫السْل ِميّ ‪َ ،‬ب ْعدَ مُضيّ قَرْنٍ من الزمان على طبعته الولَى تقريبًا ‪ ،‬كادتْ ‪ -‬خِلل هذه الفَتْ َرةِ ‪-‬‬
‫ن صَحفيّينَ‬
‫ث الوَرّاقِين ‪ ،‬و ُممَارسَاتِ المتأكّلِين مِ ْ‬
‫أن تُخْفى َمعَاِلمُهُ ‪ ،‬وتَنمَحِي ُممَيّزَاتُهُ مِنْ جَرّاء عَ َب ِ‬
‫َوكَتْبِيين‪.‬‬
‫حوٍ يُيَسّر‬
‫حقِيقِ ِه وضَبْط َنصّهِ ‪ ،‬وتَخْرِيجِ أحَادِيثهِ وال ّتعْلِيق عَلَيْهِ ‪ ،‬عَلَى َن ْ‬
‫أق ّدمُه َبعْد أن ُق ْمتُ بِأعْبَاءِ َت ْ‬
‫الفَائِدةَ مِنْهُ ‪ ،‬ويُحقّقُ رَغْبَةَ أهْل العِلْم الذين طالما َتمَ ّنوْا أنْ يُ ْنشَرَ هَذَا ا ْلكِتَابُ نَشْ َرةً عِ ْلمِيّةً ُموَثّقةً ‪،‬‬
‫سقْط وال ّتصْحِيفِ‪.‬‬
‫خَالِيةً مِنَ التّحْريفِ ‪ ،‬وال ّ‬
‫جلّ كُ ُتبِ التفسير ‪ ،‬أ ْمضَى فيه ُمؤَلّفهُ ‪ -‬رحمه ال ‪-‬‬
‫وتَفْسير ابن كثير ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬من أعْظَم وأ َ‬
‫خطُر له ‪ ،‬أو حكاية قولٍ أ ْزمَعَ‬
‫عمُرا طويل وهو يُقّلبُ فيه بين الفَيْنَةِ والخرى ‪ ،‬مُحَلّيًا إيّاه ِبفَائِدةٍ تَ ْ‬
‫ُ‬
‫حقِيقهُ‪.‬‬
‫تَ ْ‬
‫وقد احْ َتوَى َتفْسي ُرهُ على الكثير من الحَاديثِ والثارِ من مصادر شَتّى ‪ ،‬حتى أتَى على مُسْ َندِ‬
‫المام أحمد َفكَادَ يَسْ َتوْعِبه ‪ ،‬كما َنقَل عن مصادر ل ِذكْرَ لها في عَاَلمِ المخطوطات ‪ ،‬كتفسير‬
‫حمَ ْيدٍ ‪ ،‬وتفسير المام ابن المنْذِر ‪ ،‬وغيرها‬
‫المام أبي َبكْر بن مَرْدُويه ‪ ،‬وتفسير المام عَبْد بْنِ ُ‬
‫كثير‪.‬‬
‫ث ال ِفقْهيّةِ والمسائل الّل َغوِيّةِ ‪ ،‬وقد قال‬
‫ح ِ‬
‫ضمّنَ تفسيرُ ابن كثير ‪ -‬رحمه ال ‪َ -‬ب ْعضَ المبا ِ‬
‫كما َت َ‬
‫المام‬

‫( ‪)1/7‬‬

‫طيّ ‪ :‬لم يُؤلّف على َن َمطٍ مِثْلُه‪.‬‬


‫السّيُو ِ‬
‫والطّرِيقةُ التي اتّ َبعَها الحافظُ ابنُ كَثِي ٍر في كِتَابِهِ أن يَ ْذكُرَ اليةَ ‪ ،‬ثم يَ ْذكُر َمعْناها العام ‪ ،‬ثم يُورِدُ‬
‫َتفْسيرَها من القُرْآنِ أو من السّنّةِ أو من أقوال الصّحَابِة والتّابِعينَ ‪ ،‬وأحْيانًا يَ ْذكُرُ ُكلّ ما يَتعلّقُ‬
‫ب الفِ ْقهِيّةِ‬
‫حكَامٍ ‪ ،‬ويَحْشُد لذلك الدِلةَ من الكِتَابِ والسّنةِ ‪ ،‬وَيذْكرُ أ ْقوَالَ المذاه ِ‬
‫باليةِ من َقضَايا أو أ ْ‬
‫وأدِل َتهَا والتّرْجِيحَ بَيْنَها‪.‬‬
‫وقد أبَانَ الحافظُ ابنُ كَثير عَنْ طَرِيقَتِ ِه في مُقدّمةِ َتفْسِيرِه ‪ ،‬قال ‪" :‬فَإنْ قَالَ قَا ِئلٌ ‪ :‬فمَا أحْسَنُ طُرُقِ‬
‫ج ِملَ في مكَانٍ فإنه‬
‫ال ّتفْسِيرِ ؟ فَالْجوابُ ‪ :‬إنّ أصَحّ الطّ ُرقِ في ذلك أنْ ُيفَسّرَ القرآنُ بالقرآنِ ‪ ،‬فما أُ ْ‬
‫ن َو ُم َوضّحةٌ له ‪ ،‬وحِينَئذٍ‬
‫ط في َم ْوضِعٍ آخرَ ‪ ،‬فإن أعْياكَ َفعَلَ ْيكَ بالسّنّة ؛ فإنها شَارِح ٌة للقُرْآ ِ‬
‫قد ُبسِ َ‬
‫جعْنا في ذلك إلى َأقْوالِ الصّحابةِ ؛ فإنهم أدْرَى بذلك‬
‫ن ول في السّنةِ َر َ‬
‫إذا لم َنجِدِ التفْسِيرَ فِي القُرآ ِ‬
‫لما شَا َهدُوا من القَرائِنِ والحْوالِ التي اخْ ُتصّوا بها ‪ ،‬ولِما لهم مِنَ ال َفهْمِ التّا ِم والعِلْم الصّحِيح‬
‫خلَفاءِ الرّاشِدين ‪ ،‬والئمة المهتدِينَ‬
‫وال َعمَلِ الصّالِحِ ‪ ،‬لسيّما عُلَما َءهُم وكُبَراءَ ُه ْم كالئمّةِ الربعةِ ال ُ‬
‫ن ول‬
‫جدِ التفْسِي َر في القُرآ ِ‬
‫الْمهدِيّينَ ‪ ،‬وعَبْدَ ال بن مَسْعودٍ ‪ -‬رضي ال عنهم أجمعين ‪ -‬وإذا لم تَ ِ‬
‫جعَ كَثير من الئمةِ في ذلك إلى أقوالِ التّابِعينَ"‪.‬‬
‫في السّن ِة ول وَجَدْ َتهُ عنِ الصّحابةِ فقد رَ َ‬
‫طَبَعاتُ الكتابِ ‪:‬‬
‫وقد طُ ِبعَ هذا التفسي ُر لوّلِ مرة في المطْ َبعَ ِة المِيريّة من سنة ‪ 1300‬هـ إلى سنة ‪ 1302‬هـ‬
‫حسَن خَان ‪ ،‬ثم طَبَعهُ الشيخُ رَشِيد ِرضَا ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬ومعه‬
‫بهامش تفسير "فَتْح البَيَان" لِصدّيقِ َ‬
‫سعُود ‪ -‬رحمه‬
‫س َعةِ مُجلّداتٍ بأمر جَللِة المِلكِ عبدِ ا ْلعَزيزِ بْنِ عبدِ الرّحْمنِ آلِ ُ‬
‫َتفْسيرُ ال َب َغ ِويّ في تِ ْ‬
‫ال ‪ -‬من سنة ‪ 1343‬هـ إلى سنة ‪ 1347‬هـ ‪ ،‬واجْتَهدَ ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬في تَصحِيحهِ ما اسْ َتطَاعَ‬
‫شيْءُ الكَثِيرُ‪.‬‬
‫‪ ،‬ولكن فَاتَهُ ال ّ‬
‫جعَةٌ ‪ ،‬وإنما‬
‫ق وَل مُرا َ‬
‫ثُمّ َتدَاولتِ المطَابِعُ طَ ْبعَهُ طبعاتٍ تِجاريّة ‪ ،‬ليس فيها َتصْحِيح ول تَحْقي ٌ‬
‫اعْ َتمَدُوا طَ ْبعَة "المنار" ‪ ،‬فأخذوها بما فيها من أغْلطٍ ‪ ،‬ثم زادوها ما استطاعوا من غَلَط أو‬
‫تَحْريفٍ‪.‬‬
‫جبُ‬
‫ط وَتَحْريفٍ ‪ ،‬يَ ِ‬
‫َفكَانَ انتفاعُ النّاسِ بهذا التفْسيرِ انتفاعًا قاصرًا ؛ لما امتلتْ بِهِ طَبَعاتُهُ مِنْ غََل ٍ‬
‫خطُوطةِ منه ما أ ْمكَنَ ‪ ،‬ثم‬
‫حقّقةً ‪ ،‬ويُرجَعُ فيها إلى النّسَخِ الم ْ‬
‫معهما أن يُعادَ طَ ْب ُعهُ طبعةً عِ ْلمِيةً مُ َ‬
‫الرجوع إلى مصادر السّنّةِ الّتِي يَ ْنقِلُ عنها الحافظُ ابْنُ كَثيرٍ ‪ ،‬وإلى كُ ُتبِ رِجَالِ الحديثِ والتّراجُمِ‬
‫ضخْمٌ (‪.)1‬‬
‫ل َتصْحِيحِ أسْماءِ الرجالِ في السانيدِ ‪ ،‬وهم شَيءٌ كثيرٌ وعدَ ٌد َ‬
‫ش ْعبِ ب َتحْقيقِ الساتذةِ ‪:‬‬
‫حتى جاءت سنة ‪ 1390‬هـ فَخَرجتْ طَبعةٌ جَديدةٌ لهذا ال ّتفْسير من دار ال ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (‪.)6 /1‬‬

‫( ‪)1/8‬‬

‫عبد العزيز غُنَيم ‪ ،‬ومُحمّد أحمد عاشور ‪ ،‬ومحمد إبراهيم البَنّا‪.‬‬


‫لكنهم اعْ َتمَدوا على نُسخةِ الزْهرِ ‪ ،‬وهي نسخةٌ قديمةٌ وجَيّدةٌ ‪ ،‬لكن بمقارنتها بِ َبقِيّةِ النّسَخِ فإ ّنهَا‬
‫سقْطُ وال ّتصْحِيفُ (‪.)1‬‬
‫َيكْثُر فيها ال ّ‬
‫وقد َت َعقّبَ الدكتورُ إسماعيلُ عبد العالِ هذه الطّ ْبعَة في كتابه "ابن كَثيرٍ ومنْهَجهُ في ال ّتفْسيرِ" (‪ُ )2‬ثمّ‬
‫قَالَ ‪:‬‬
‫ن الواجبِ عَلَى مَنْ يَتصدّى لتحقيقِ تفسيرِ ابْنِ كثيرِ ‪ -‬تحقيقًا عِلْميا َدقِيقًا سَلِيمًا مِنَ المآخِذ‬
‫"وأرَى مِ ْ‬
‫جمَعَ ُكلّ النّسَخِ المخطوط ِة والمطبوعةِ ‪ ،‬ويُوازِنَ‬
‫ح َدةٍ ‪ ،‬بل عليه أن يَ ْ‬
‫سخَةٍ وا ِ‬
‫‪ -‬أل َيعْتمِد عَلَى نُ ْ‬
‫بينها مع إثباتِ الزّيادةِ والنَ ْقصِ ‪ ،‬والتّحريفِ والتّصحيفِ"‪.‬‬
‫جمْعِ مَخْطوطاتِهِ ‪ ،‬وَ َتوْثِيقِ‬
‫حقِيقِ َهذَا ا ْلكِتابِ بِ َ‬
‫خمْسِ سَنَواتٍ قد بَدَأتُ ا ْل َع َملَ عَلَى َت ْ‬
‫وكُنْتُ مُنْذُ َ‬
‫سبُ‬
‫حَ‬‫ف و َن ْقصٍ ‪ ،‬حتى خَرَجَ في هَيْئةٍ أ ْ‬
‫ح ما َوقَعَ في طَبَعاتهِ السّابقةِ مِنْ تَحْري ٍ‬
‫ُنصُوصِ ِه وإصْل ِ‬
‫أنها أقْ َربُ ما َتكُونُ إلى ما أرَا َدهُ ال ُمصَ ّنفُ ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫شكْرِ‪.‬‬
‫ضلُ ‪ ،‬فََلهُمْ مِنّي خَالصُ الدّعاءِ وجَزِيلُ ال ّ‬
‫وقد سَاعَدنِي في كثيرٍ مِنَ مراحلِ ا ْلعَملِ إخْوةٌ أفَا ِ‬
‫وبعد ‪:‬‬
‫فقد مَ ّرتْ عليّ أثناء ا ْلعَملِ في هذا الكِتابِ سُنونَ شَديدةٌ ‪ ،‬الُ وح َدهُ بها عَلِيمٌ ‪ ،‬قَاسَيتُ فيها شَدائدَ ‪،‬‬
‫خ ْدمَتِهِ‪.‬‬
‫عقَباتٍ ‪ ،‬إل أنّ ِهمّتِي أَ َبتْ إل إتْمامَهُ ‪ ،‬ونَفْسِي تَاقتْ إلى التّشَ ّرفِ ب ِ‬
‫ج ْهتُ فيها َ‬
‫ووا َ‬
‫جهْدِي ‪ ،‬وبَذَ ْلتُ فيه مَالِي ‪ ،‬واسْتن َف ْقتُ له َوقْتِي ‪ ،‬فكَمْ من لَيالٍ أنْفق ُتهَا في‬
‫وقد كَابدتُ في هَذا الكتابِ َ‬
‫َتصْويبِ تَحْريفٍ ‪ ،‬أو َتقْويمِ َتصْحيفٍ‪.‬‬
‫ئ َوقَعَ على خَطَأ ‪َ ،‬فمِ ْثلُ هذَا ال َع َملِ‬
‫سقَط عَلَى زََللٍ ‪ ،‬أو قار ٍ‬
‫أقولُ ذلك ملتمِسًا العُذْرَ مِنْ عالِمٍ َ‬
‫ض الخطاءِ المطبعي ِة ‪ ،‬والوْهامِ الْ َيسِيرةِ ‪ ،‬وصَدَقَ المُزَنيّ ‪ -‬رحمه‬
‫الكبِيرِ ل بُدّ أنْ َتظْهرَ فيهِ َب ْع ُ‬
‫خطَأ ‪ ،‬أبَى الُ أن يكون صَحِيحًا غَيْر‬
‫ض كتابٌ سَبْعينَ مرةً َلوُجِدَ فيه َ‬
‫ال ‪ -‬حين قال ‪َ" :‬لوْ عُور َ‬
‫كِتابِهِ" ‪ ،‬فالمرْجُو من أ ْهلِ العِ ْلمِ أن يُ ْرسِلُوا لِي ما َلدَ ْيهِم من مُلحظاتٍ أو اسْ ِتدْراكٍ أو َتعْقِيبٍ حتى‬
‫أتدَاركَ ذلك في الطبعةِ اللحقةِ إن شَاءَ الُ‪.‬‬
‫ضلُ في تَنْشِئَتِي ‪،‬‬
‫شكْرِي إلى َمقَامِ والديّ الّلذَيْنِ كان لهما ال َف ْ‬
‫ول أ ْنسَى في خِتَامِ كَِلمَتي أنْ أ ْرفَعَ ُ‬
‫خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنًا‬
‫ي وَِلمَنْ دَ َ‬
‫غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ‬
‫وإرْشَادِي إلى العِ ْلمِ وحُبّهِ ‪ ،‬والجْتِهادِ فِي طَلَبِهِ ‪َ { :‬ربّ ا ْ‬
‫ت وَل تَ ِزدِ الظّاِلمِينَ إِل تَبَارًا } [نوح ‪.]28 :‬‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وقد سدت هذه الطبعة فراغًا آنذاك ‪ ،‬ولكن يتعين بعد اليوم عدم اعتمادها في دراسة أو قراءة‬
‫لكثرة ما فيها من السقط والوهام‪.‬‬
‫(‪ )2‬ص ‪.128‬‬

‫( ‪)1/9‬‬

‫ضلَ‪ /‬سعد بن صالح الطويل ‪ ،‬وكيلَ عِمادةِ شُؤون المكتبات بجَا ِمعَةِ المامِ‬
‫شكُرُ الستاذَ الفا ِ‬
‫وأ ْ‬
‫سمِ المخطوطات‬
‫محمد بن سعود السلمية سَا ِبقًا ‪ ،‬والستاذ الفاضل‪ /‬صالح الحجي ‪ ،‬مُدِير قِ ْ‬
‫شكُرُ ُكلّ أخٍ ساعدنِي أو شَجّعنِي لمواصلة طريقِي‪.‬‬
‫سعُود ‪ ،‬وأ ْ‬
‫بجامعة الملك ُ‬
‫جهِهِ ا ْلكَرِيم ‪ ،‬وأنْ َيكُونَ من الثّلث التي‬
‫جعَلَهُ خالصًا لِو ْ‬
‫والَ أسْألُ أنْ يَنْفعَ به الجميعَ ‪ ،‬وأنْ ي ْ‬
‫س َهمَ فيه الجْرَ والمثوبَةَ ‪ ،‬إنه وَِليّ‬
‫ع َملُ ابْنِ آدمَ إذا مات إل مِنْها ‪ ،‬وأنْ يكْ ُتبَ لجميع من أ ْ‬
‫يَنْقطِعُ َ‬
‫جمَعينَ‪ .‬وكتبه ‪:‬‬
‫حمّدٍ وعَلَى آلِ ِه وصَحْبِه أ ْ‬
‫ذلك والقادِرُ عليه ‪ ،‬وصَلّى الُ وسَلّمَ على نَبِيّنا مُ َ‬
‫سامي بن محمد بن عبد الرحمن بن سلمة‬
‫الرياض ‪1417 /5 /5 :‬هـ‬

‫( ‪)1/10‬‬

‫القسم الول‬
‫الدراسة‬
‫وقد اشتمل على مبحثين ‪:‬‬
‫المبحث الول ‪ :‬ترجمة الحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬كتاب تفسير القرآن العظيم‪.‬‬
‫( ‪)1/11‬‬

‫المبحث الول‬
‫ترجمة الحافظ ابن كثير‬
‫‪ - 1‬نسبه وميلده ‪:‬‬
‫هو المام الحافظ ‪ ،‬المحدث ‪ ،‬المؤرخ ‪ ،‬عماد الدين ‪ ،‬أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن‬
‫ضوء بن كثير بن ضوء بن درع القرشي الدمشقي الشافعي‪.‬‬
‫جدَل" من أعمال بصرى ‪ ،‬وهي قرية أمه ‪ ،‬سنة سبعمائة للهجرة أو بعدها بقليل‪.‬‬
‫ولد بقرية "مِ ْ‬
‫‪ - 2‬نشأته ‪:‬‬
‫نشأ الحافظ ابن كثير في بيت علم ودين ‪ ،‬فأبوه عمر بن حفص بن كثير أخذ عن النواوي‬
‫والفزاري وكان خطيب قريته ‪ ،‬وتوفى أبوه وعمره ثلث سنوات أو نحوها ‪ ،‬وانتقلت السرة بعد‬
‫موت والد ابن كثير إلى دمشق في سنة (‪ 707‬هـ) ‪ ،‬وخلف والده أخوه عبد الوهاب ‪ ،‬فقد بذل‬
‫جهدًا كبيرًا في رعاية هذه السرة بعد فقدها لوالدها ‪ ،‬وعنه يقول الحافظ ابن كثير ‪" :‬وقد كان لنا‬
‫شقيقا ‪ ،‬وبنا رفيقًا شفوقًا ‪ ،‬وقد تأخرت وفاته إلى سنة (‪ 750‬هـ) فاشتغلت على يديه في العلم‬
‫فيسر ال منه ما تيسر وسهل منه ما تعسر" (‪)1‬‬
‫‪ - 3‬شيوخه ‪:‬‬
‫‪ - 1‬شيخ السلم أبو العباس أحمد بن تيمية ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 2‬الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 3‬الحافظ أبو عبد ال محمد بن أحمد الذهبي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 4‬الشيخ أبو العباس أحمد الحجار الشهير بـ "ابن الشحنة"‪.‬‬
‫‪ - 5‬الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الفزاري ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 6‬الحافظ كمال الدين عبد الوهاب الشهير بـ "ابن قاضي شهبة"‪.‬‬
‫‪ - 7‬المام كمال الدين أبو المعالي محمد بن الزملكاني ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 8‬المام محيي الدين أبو زكريا يحيى الشيباني ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 9‬المام علم الدين محمد القاسم البرزالي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 10‬الشيخ شمس الدين أبو نصر محمد الشيرازي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 11‬الشيخ شمس الدين محمود الصبهاني ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 12‬عفيف الدين إسحاق بن يحيى المدي الصبهاني ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬البداية والنهاية (‪.)32 /14‬‬
‫( ‪)1/12‬‬

‫‪ - 13‬الشيخ بهاء الدين القاسم بن عساكر ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬


‫‪ - 14‬أبو محمد عيسى بن المطعم ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 15‬عفيف الدين محمد بن عمر الصقلي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 16‬الشيخ أبو بكر محمد بن الرضى الصالحي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 17‬محمد بن السويدي ‪ ،‬بارع في الطب‪.‬‬
‫‪ - 18‬الشيخ أبو عبد ال بن محمد بن حسين بن غيلن ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 19‬الحافظ أبو محمد عبد المؤمن الدمياطي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 20‬موسى بن علي الجيلي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 21‬جمال الدين سليمان بن الخطيب ‪ ،‬قاضي القضاة‪.‬‬
‫‪ - 22‬محمد بن جعفر اللباد ‪ ،‬شيخ القراءات‪.‬‬
‫‪ - 23‬شمس الدين محمد بن بركات ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 24‬شمس الدين أبو محمد عبد ال المقدسي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 25‬الشيخ نجم الدين بن العسقلني‪.‬‬
‫‪ - 26‬جمال الدين أبو العباس أحمد بن القلنسي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 27‬الشيخ عمر بن أبي بكر البسطي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 28‬ضياء الدين عبد ال الزربندي النحوي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 29‬أبو الحسن علي بن محمد بن المنتزه ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 30‬الشيخ محمد بن الزراد ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 4‬تلميذه ‪:‬‬
‫‪ - 1‬الحافظ علء الدين بن حجي الشافعي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 2‬محمد بن محمد بن خضر القرشي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 3‬شرف الدين مسعود النطاكي النحوي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 4‬محمد بن أبي محمد بن الجزري ‪ ،‬شيخ علم القراءات ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 5‬ابنه محمد بن إسماعيل بن كثير ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 6‬المام ابن أبي العز الحنفي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫‪ - 7‬الحافظ أبو المحاسن الحسَيني ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬

‫( ‪)1/14‬‬
‫‪ - 5‬مؤلفاته ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬في علوم القرآن ‪:‬‬
‫‪ - 1‬تفسير القرآن العظيم ‪ :‬وسيأتي الكلم عليه في المبحث الثاني إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫‪ - 2‬فضائل القرآن ‪ :‬وهو ملحق بالتفسير في النسخة البريطانية ‪ ،‬والنسخة المكية ‪ ،‬وقد اعتمدت‬
‫إلحاقه بالتفسير لقرب موضوعه من التفسير ؛ ولن هاتين النسختين هما آخر عهد ابن كثير‬
‫لتفسيره‪.‬‬
‫وقد طبعت مفردة بتحقيق الستاذ محمد البنا في مؤسسة علوم القرآن ببيروت‪.‬‬
‫ب ‪ -‬في السنة وعلومها ‪:‬‬
‫‪ - 3‬أحاديث الصول‪.‬‬
‫‪ - 4‬شرح صحيح البخاري‪.‬‬
‫‪ - 5‬التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والمجاهيل ‪ :‬منه نسخة بدار الكتب المصرية‬
‫برقم (‪ )24227‬في مجلدين ‪ ،‬وهي ناقصة ولديّ مصورة عنها‪.‬‬
‫‪ - 6‬اختصار علوم الحديث ‪ :‬نشر بمكة المكرمة سنة (‪ 1353‬هـ) بتحقيق الشيخ محمد عبد‬
‫الرزاق حمزة ‪ ،‬ثم شرحه الشيخ أحمد شاكر ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬وطبع بالقاهرة سنة (‪ 1355‬هـ)‪.‬‬
‫‪ - 7‬جامع المسانيد والسنن الهادي لقوم سنن ‪ :‬منه نسخة بدار الكتب المصرية برقم (‪)184‬‬
‫حديث ‪ ،‬ونشره مؤخرًا الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ‪ ،‬وطبع بدار الكتب العلمية ببيروت‪.‬‬
‫‪ - 8‬مسند أبي بكر الصديق ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫‪ - 9‬مسند عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ :‬نشره الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ‪ ،‬وطبع‬
‫بدار الوفاء بمصر‪.‬‬
‫‪ - 10‬الحكام الصغرى في الحديث‪.‬‬
‫‪ - 11‬تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فقه الشافعية‪.‬‬
‫‪ - 12‬تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب ‪ :‬طبع مؤخرًا بتحقيق الكبيسي ‪ ،‬ونشر في مكة‪.‬‬
‫‪ - 13‬مختصر كتاب "المدخل إلى كتاب السنن" للبيهقي‪.‬‬
‫‪ - 14‬جزء في حديث الصور‪.‬‬
‫‪ - 15‬جزء في الرد على حديث السجل‪.‬‬
‫‪ - 16‬جزء في الحاديث الواردة في فضل أيام العشرة من ذي الحجة‪.‬‬
‫‪ - 17‬جزء في الحاديث الواردة في قتل الكلب‪.‬‬
‫‪ - 18‬جزء في الحاديث الواردة في كفارة المجلس‪.‬‬

‫( ‪)1/15‬‬
‫جـ ‪ -‬في الفقه وأصوله ‪:‬‬
‫‪ - 19‬الحكام الكبرى‪.‬‬
‫‪ - 20‬كتاب الصيام‪.‬‬
‫‪ - 21‬أحكام التنبيه‪.‬‬
‫‪ - 22‬جزء في الصلة الوسطى‪.‬‬
‫‪ - 23‬جزء في ميراث البوين مع الخوة‪.‬‬
‫‪ - 24‬جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم ال عليها‪.‬‬
‫‪ - 25‬جزء في الرد على كتاب الجزية‪.‬‬
‫‪ - 26‬جزء في فضل يوم عرفة‪.‬‬
‫‪ - 27‬المقدمات في أصول الفقه‪.‬‬
‫د ‪ -‬في التاريخ والمناقب ‪:‬‬
‫‪ - 28‬البداية والنهاية ‪ :‬مطبوع عدة طبعات في مصر وبيروت ‪ ،‬أحسنها الطبعة التي حققها‬
‫الدكتور علي عبد الستار وآخرون‪.‬‬
‫والنهاية مطبوع في مصر بتحقيق أحمد عبد العزيز‪.‬‬
‫‪ - 29‬جزء مفرد في فتح القسطنطينية‪.‬‬
‫‪ - 30‬السيرة النبوية ‪ :‬مطبوع باسم الفصول في سيرة الرسول بدمشق‪.‬‬
‫‪ - 31‬طبقات الشافعية ‪ :‬منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا ‪ ،‬وقد طبع مؤخرًا في مصر‪.‬‬
‫‪ - 32‬الواضح النفيس في مناقب محمد بن إدريس ‪ :‬منه نسخة في شستربيتى بإيرلندا‪.‬‬
‫‪ - 33‬مناقب ابن تيمية‪.‬‬
‫‪ - 34‬مقدمة في النساب‪.‬‬
‫‪ - 6‬ثناء العلماء عليه ‪:‬‬
‫كان ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬من أفذاذ العلماء في عصره ‪ ،‬أثنى عليه معاصروه ومن بعدهم الثناء‬
‫الجم ‪:‬‬
‫فقد قال الحافظ الذهبي في طبقات شيوخه ‪" :‬وسمعت مع الفقيه المفتي المحدّث ‪ ،‬ذى الفضائل ‪،‬‬
‫عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الشافعي‪ ..‬سمع من ابن الشحنة وابن الزراد‬
‫وطائفة ‪ ،‬له عناية بالرجال والمتون والفقه ‪ ،‬خرّج وناظر وصنف وفسر وتقدم" (‪.)1‬‬
‫وقال عنه أيضًا في المعجم المختص ‪" :‬المام المفتي المحدّث البارع ‪ ،‬فقيه متفنن ‪ ،‬محدث متقن ‪،‬‬
‫مفسر نقال" (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬طبقات الحفاظ للذهبي (‪ )29 /4‬وعمدة التفسير لحمد شاكر (‪)25 /1‬‬
‫(‪ )2‬المعجم المختص للذهبي‪.‬‬
‫( ‪)1/16‬‬

‫وقال تلميذه الحافظ أبو المحاسن الحسيني ‪" :‬صاهر شيخنا أبا الحجاج المزي فأكثر ‪ ،‬وأفتى‬
‫ودرس وناظر ‪ ،‬وبرع في الفقه والتفسير والنحو وأمعن النظر في الرجال والعلل" (‪.)1‬‬
‫وقال العلمة ابن ناصر الدين ‪" :‬الشيخ المام العلمة الحافظ عماد الدين ‪ ،‬ثقة المحدثين ‪ ،‬عمدة‬
‫المؤرخين ‪ ،‬علم المفسرين" (‪.)2‬‬
‫وقال ابن تغري بردي ‪" :‬لزم الشتغال ‪ ،‬ودأب وحصل وكتب وبرع في الفقه والتفسير والفقه‬
‫والعربية وغير ذلك ‪ ،‬وأفتى ودرس إلى أن توفى" (‪.)3‬‬
‫وقال ابن حجر العسقلني ‪" :‬كان كثير الستحضار ‪ ،‬حسن المفاكهة ‪ ،‬سارت تصانيفه في البلد‬
‫في حياته ‪ ،‬وانتفع الناس بها بعد وفاته" (‪.)4‬‬
‫وقال ابن حبيب ‪" :‬إمام روى التسبيح والتهليل ‪ ،‬وزعيم أرباب التأويل ‪ ،‬سمع وجمع وصنف ‪،‬‬
‫وأطرب السماع بالفتوى وشنف ‪ ،‬وحدث وأفاد ‪ ،‬وطارت أوراق فتاويه إلى البلد ‪ ،‬واشتهر‬
‫بالضبط والتحرير ‪ ،‬وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ ‪ ،‬والحديث والتفسير" (‪.)5‬‬
‫وقال العيني ‪" :‬كان قدوة العلماء والحفاظ ‪ ،‬وعمدة أهل المعاني واللفاظ ‪ ،‬وسمع وجمع وصنف ‪،‬‬
‫ودرس ‪ ،‬وحدث ‪ ،‬وألف ‪ ،‬وكان له اطلع عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ ‪ ،‬واشتهر‬
‫بالضبط والتحرير ‪ ،‬وانتهى إليه رياسة علم التاريخ والحديث والتفسير وله مصنفات عديدة مفيدة"‬
‫(‪.)6‬‬
‫وقال تلميذه ابن حجي ‪" :‬أحفظ من أدركناه لمتون الحاديث ‪ ،‬وأعرفهم بجرحها ورجالها‬
‫وصحيحها وسقيمها ‪ ،‬وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك ‪ ،‬وكان يستحضر شيئا كثيرا من‬
‫الفقه والتاريخ ‪ ،‬قليل النسيان ‪ ،‬وكان فقيها جيد الفهم ‪ ،‬ويشارك في العربية مشاركة جيدة ‪ ،‬ونظم‬
‫الشعر ‪ ،‬وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إل واستفدت منه" (‪.)7‬‬
‫وقال الداودي ‪" :‬أقبل على حفظ المتون ‪ ،‬ومعرفة السانيد والتعلل والرجال والتاريخ حتى برع‬
‫في ذلك وهو شاب" (‪.)8‬‬
‫‪ - 7‬وفاته ورثاؤه ‪:‬‬
‫في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة توفي الحافظ ابن‬
‫كثير بدمشق ‪ ،‬ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن ناصر الدين أنه "كانت له جنازة حافلة مشهودة ‪ ،‬ودفن بوصية منه في تربة شيخ‬
‫السلم ابن تيمية بمقبرة الصوفية"‪.‬‬
‫وقد قيل في رثائه ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫لفقدك طلب العلوم تأسفوا‪ ...‬وجادوا بدمع ل يبير غزير‬
‫ولو مزجوا ماء المدامع بالدما‪ ...‬لكان قليل فيك يا بن كثير‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني ص ‪ ، 58‬وعمدة التفسير لحمد شاكر (‪.)26 /1‬‬
‫(‪ )2‬الرد الوافر‪.‬‬
‫(‪ )3‬النجوم الزاهرة (‪.)123 /11‬‬
‫(‪ )4‬الدرر الكامنة‪.‬‬
‫(‪ )5‬شذرات الذهب لبن العماد (‪.)232 /6‬‬
‫(‪ )6‬النجوم الزاهرة (‪.)123 /11‬‬
‫(‪ )7‬شذرات الذهب لبن العماد (‪.)232 /6‬‬
‫(‪ )8‬طبقات المفسرين‪.‬‬

‫( ‪)1/17‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫كتاب تفسير القرآن العظيم‬
‫‪ - 1‬تاريخ كتابته ‪:‬‬
‫لم يحدد الحافظ ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬تاريخ بدايته في كتابة هذا التفسير ول تاريخ انتهائه منه ‪،‬‬
‫لكن ثمة دلئل تدل على تاريخ انتهائه منه ‪ ،‬فإنه ذكر عند تفسير سورة النبياء شيخه المزي‬
‫ودعا له بطول العمر مما يفهم منه أنه قد ألف أكثر من نصف التفسير في حياة شيخه المزي‬
‫المتوفى سنة (‪ 742‬هـ)‪.‬‬
‫واقتبس منه المام الزيلعي في كتابه تخريج أحاديث الكشاف (‪ )180 - 2‬والزيلعي توفي سنة (‬
‫‪ 762‬هـ) ‪ ،‬مما يدل على أن كتاب الحافظ ابن كثير انتشر في هذه الفترة‪.‬‬
‫هذا وتعتبر النسخة المكية أقدم النسخ التي وقعت بأيدينا ‪ ،‬وقد جاء بآخرها ‪" :‬آخر كتاب فضائل‬
‫القرآن وبه تم التفسير للحافظ العلمة الرحلة الجهبذ مفيد الطالبين الشيخ عماد الدين إسماعيل‬
‫الشهير بابن كثير ‪ ،‬على يد أفقر العباد إلى ال الغني محمد بن أحمد بن معمر المقري البغدادي ‪،‬‬
‫عفا ال عنه ونفعه بالعلم ‪ ،‬ووفقه للعمل به آمين‪ ....‬بتاريخه يوم الجمعة عاشر جمادى الخرة‬
‫من سنة تسع وخمسين وسبعمائة هللية هجرية"‪.‬‬
‫‪ - 2‬أهميته ‪:‬‬
‫يعد تفسير الحافظ ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬من الكتب التي كتب ال لها القبول والنتشار ‪ ،‬فل تكاد‬
‫تخلو منه اليوم مكتبة سواء كانت شخصية أو عامة‪.‬‬
‫وقد نهج الحافظ ابن كثير فيه منهجًا علميًا أصيل وساقه بعبارة فصيحة وجمل رشيقة ‪ ،‬وتتجلى‬
‫لنا أهمية تفسير الحافظ ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في النقاط التالية ‪ - 1 :‬ذكر الحديث بسنده‪.‬‬
‫‪ - 2‬حكمه على الحديث في الغالب‪.‬‬
‫‪ - 3‬ترجيح ما يرى أنه الحق ‪ ،‬دون التعصب لرأي أو تقليد بغير دليل‪.‬‬
‫‪ - 4‬عدم العتماد على القصص السرائيلية التي لم تثبت في كتاب ال ول في صحيح سنة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وربما ذكرها وسكت عليها ‪ ،‬وهو قليل‪.‬‬
‫‪ - 5‬تفسيره ما يتعلق بالسماء والصفات على طريقة سلف المة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬من غير تحريف‬
‫ول تأويل ول تشبيه ول تعطيل‪.‬‬
‫‪ - 6‬استيعاب الحاديث التي تتعلق بالية ‪ ،‬فقد استوعب ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬الحاديث الواردة في‬
‫عذاب القبر ونعيمه عند قوله تعالى ‪ { :‬يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِا ْل َق ْولِ الثّا ِبتِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي‬
‫الخِ َرةِ }‬

‫( ‪)1/18‬‬

‫وكذا استوعب أحاديث السراء والمعراج عند قوله تعالى ‪ { :‬سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْل مِنَ‬
‫حوْلَهُ } وكذا الحاديث الواردة في الصلة على‬
‫ج ِد ال ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَى ا ْلمَسْ ِ‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫علَى النّ ِبيّ } وكذا الحاديث الواردة في‬
‫النبي عند قول ال تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّ َه َومَل ِئكَتَهُ ُيصَلّونَ َ‬
‫فضل أهل البيت عند تفسير قوله تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُ ْذ ِهبَ عَ ْن ُكمُ الرّجْسَ أَ ْهلَ الْبَ ْيتِ‬
‫طهِيرًا } وغير هذا كثير (‪.)1‬‬
‫طهّ َركُمْ َت ْ‬
‫وَيُ َ‬
‫وقد قال السيوطي في ترجمة الحافظ ابن كثير ‪" :‬له التفسير الذي لم يؤلف على نمط مثله"‪.‬‬
‫وقال الشوكاني ‪" :‬وله تصانيف ‪ ،‬منها التفسير المشهور وهو في مجلدات ‪ ،‬وقد جمع فيه‬
‫فأوعى ‪ ،‬ونقل المذاهب والخبار والثار ‪ ،‬وتكلم بأحسن كلم وأنفسه ‪ ،‬وهو من أحسن التفاسير‬
‫إن لم يكن أحسنها"‪.‬‬
‫‪ - 3‬مصادره ‪:‬‬
‫أما مصادر الحافظ ابن كثير في تفسيره فقد سردها الدكتور إسماعيل عبد العال في كتابه " ابن‬
‫كثير ومنهجه في التفسير" أنقلها هنا حسب ترتيب المواضيع ‪:‬‬
‫أول الكتب السماوية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ - 2‬التوراة ‪ ،‬وأشار أنه نقل من نسختين‪.‬‬
‫‪ - 3‬النجيل‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬في التفسير وعلوم القرآن ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬في التفسير ‪:‬‬
‫‪ - 4‬تفسير آدم بن أبي إياس ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 220 /‬هـ أو ‪ 221‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 5‬تفسير أبي بكر بن المنذر ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 318 /‬هـ ‪0‬‬
‫‪ - 6‬تفسير ابن أبي حاتم ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 223/‬هـ‪( ./‬ط) قسم منه‪.‬‬
‫‪ - 7‬تفسير أبو مسلم الصبهاني (محمد بن بحر) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 322/‬هـ ‪ ،‬واسم كتابه ‪" :‬جامع‬
‫التأويل لمحكم التنزيل"‪.‬‬
‫‪ - 8‬تفسير ابن أبي نجيح (عبد ال بن يسار العرج المكي مولى ابن عمر)‪.‬‬
‫‪ - 9‬تفسير البغوي (أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد الفراء) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ ، 516‬واسم‬
‫كتابه (معالم التنزيل)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 10‬تفسير ابن تيمية (تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 728‬هـ ‪،‬‬
‫وهو جزء في تفسير قوله تعالى ‪ { :‬ذَِلكَ لِ َيعَْلمَ أَنّي لَمْ َأخُنْهُ بِا ْلغَ ْيبِ } (ط)‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬مقدمة الشيخ مقبل الوادعي (ص ‪.)5‬‬

‫( ‪)1/19‬‬

‫‪ - 11‬تفسير الثعلبي (أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 427‬هـ‬
‫(مخطوط) في المكتبة المحمودية‪.‬‬
‫‪ - 12‬تفسير الجبائي (أبي علي) المتوفى سنة ‪ 303‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 13‬تفسير ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 597‬هـ ‪ ،‬واسم الكتاب (زاد‬
‫المسير في علم التفسير) وهو مخطوط بدار الكتب تحت رقم ‪ 123‬تفسير في أربعة مجلدات‪.‬‬
‫(ط)‪.‬‬
‫‪ - 14‬تفسير ابن دحيم ( أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪ 319‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 15‬تفسير الرازي (محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أبو عبد ال المشهور‬
‫بفخر الدين الرازي) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 606‬هـ ‪ ،‬وكتابه يسمى "التفسير الكبير" المشهور بمفاتيح‬
‫الغيب‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 16‬تفسير الزمخشري (جار ال أبي القاسم محمود بن عمر الخوارزمي) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪538‬‬
‫هـ وكتابه يدعى (الكشاف عن حقائق التنزيل ‪ ،‬وعيون القاويل في وجوه التأويل)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 17‬تفسير السدي الكبير ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 137‬هـ ‪ 745 -‬م‪.‬‬
‫‪ - 18‬تفسير سنيد بن داود ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 226‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 19‬تفسير شجاع بن مخلد ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 235‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 20‬تفسير الطبري ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 310‬هـ (ط)‪.‬‬
‫‪ - 21‬تفسيرعبد بن حميد ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 249‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 22‬تفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 182‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 23‬تفسير عبد الرزاق الصنعاني ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 211‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 24‬تفسير ابن عطية العوفي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 111‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 25‬تفسير القرطبي (أبي عبد ال محمد بن أحمد النصاري القرطبي) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 671‬هـ‬
‫‪ ،‬وتفسيره يسمى "الجامع لحكام القرآن الكريم"‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 26‬تفسير مالك بن أنس إمام دار الهجرة ‪ ،‬وهو جزء مجموع له‪.‬‬
‫‪ - 27‬تفسير الماوردي (أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 450‬هـ ‪ ،‬واسم‬
‫تفسيره "النكت والعيون"‪.‬‬
‫‪ - 28‬تفسير ابن مردويه‪.‬‬
‫‪ - 29‬تفسير الواحدي (علي بن أحمد بن محمد بن علي أبي الحسن) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 468‬هـ‪.‬‬
‫(ط) الوسيط‪.‬‬
‫‪ - 30‬تفسير وكيع بن الجراح ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 197‬هـ‪.‬‬

‫( ‪)1/20‬‬

‫ب ‪ -‬في علوم القرآن ‪:‬‬


‫‪" - 31‬البيان" لبي عمرو الداني (الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد‬
‫المعروف بالداني (‪ 444 - 371‬هـ) ‪ ،‬وهو حافظ محدث مفسر ‪ ،‬واسم الكتاب "جامع البيان في‬
‫القراءات السبع" وهو من أحسن مصنفاته يشتمل على نيف وخمسمائة رواية وطريق ‪ ،‬قيل ‪ :‬إنه‬
‫جمع فيه كل مايعلمه في هذا العلم‪.‬‬
‫‪" - 32‬التبيان" لبي زكريا النواوي (محيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة ‪ 677‬هـ)‬
‫‪ ،‬أما اسم الكتاب فهو "التبيان في آداب حملة القرآن" ‪ ،‬وقد رتب على عشرة أبواب ثم اختصره ‪،‬‬
‫وسماه "مختار التبيان" (ط)‪.‬‬
‫‪ - 33‬جزء فيمن جمع القرآن من المهاجرين للحافظ ابن السمعاني القاضي أبي سعيد عبد الكريم‬
‫بن أبي بكر ‪ ،‬محمد بن أبي المظفر المنصور التميمي المروزي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 512‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 34‬جميع مصاحف الئمة‪.‬‬
‫‪ - 35‬شرح الشاطبية للشيخ شهاب الدين أبي شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي‬
‫المتوفى سنة ‪ 665‬هـ)‪.‬‬
‫‪ - 36‬فضائل القرآن لبي عبيد القاسم بن سلم ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 224‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 37‬مصحف أبيّ بن كعب ‪ ،‬وهو أحد الربعة الذين جمعوا القرآن (زيد بن ثابت ‪ ،‬ومعاذ بن‬
‫جبل ‪ ،‬وأبو زيد النصاري) ‪ ،‬وقد توفى أبيّ سنة ‪ 19‬هـ وقيل ‪ 20‬أو ‪ 22‬أو ‪.23‬‬
‫‪ - 38‬معاني القرآن للزجاج (أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج المتوفى سنة ‪ 311‬هـ)‪.‬‬
‫(ط)‪.‬‬
‫‪ - 39‬الناسخ والمنسوخ لبي عبيد القاسم بن سلم‪( .‬ط)‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬كتب السنة وعلوم الحديث وشروحه ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الكتب الستة مضافًا إليها مسند أحمد بن حنبل ‪:‬‬
‫‪ - 40‬الجامع الصحيح للمام البخاري‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 41‬صحيح مسلم للمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ‪ ،‬المتوفى سنة (‬
‫‪ 261‬هـ ‪ 875 -‬م)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 42‬سنن أبي داود (سليمان بن الجارود بن الشعث الزدي السجستاني) ‪ ،‬المتوفى سنة ( ‪275‬‬
‫هـ ‪ 889‬م)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 43‬سنن الترمذي (الجامع) لبي عيسى محمد بن عيسى بن سهل الترمذي ‪ ،‬المتوفى (‪279‬‬
‫هـ ‪ 892 -‬م)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 44‬سنن النسائي (أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 303‬هـ ‪915 ،‬‬
‫م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 45‬سنن ابن ماجه (أبي عبد ال محمد بن يوسف بن ماجه القزويني) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 327‬هـ‬
‫‪ 886 -‬م‪( .‬ط)‪.‬‬

‫( ‪)1/21‬‬

‫‪ - 46‬مسند المام أحمد بن حنبل (أبي عبد ال أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي) ‪،‬‬
‫المتوفى ‪ 241‬هـ ‪ 855 -‬م ‪ ،‬وصاحب المذهب الحنبلي المشهور‪( .‬ط)‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بقية كتب السنة وعلوم الحديث وشروحه ‪:‬‬
‫‪ - 47‬أحاديث الصول للحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫‪ - 48‬الحوذي في شرح الترمذي للمام أبي بكر محمد بن العربي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 543‬هـ ‪،‬‬
‫واسم الكتاب (عارضة الحوذي في شرح الترمذي)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 49‬السماء والصفات للبيهقي (أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪ 453‬هـ ‪ ،‬والكتاب يتضمن الحاديث الواردة في أسماء ال تعالى وصفاته وهو مطبوع بمطبعة‬
‫أنوار أحمدي بالهند سنة ‪ 1313‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 50‬الربعين الطائية لبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي الهمداني ‪ ،‬المتوفى سنة ‪555‬‬
‫هـ‪ .‬وقد ذكر فيه أنه أملى أربعين حديثا من مسموعاته عن أربعين شيخا ‪ ،‬كل حديث عن واحد‬
‫من الصحابة ‪ ،‬فذكر ترجمته وفضائله ‪ ،‬وأورد عقيب كل حديث بعض ما اشتمل عليه من‬
‫الفوائد ‪ ،‬وشرح غريبه وأتبع بكلمات مستحسنة وسماه (الربعين في إرشاد السائرين إلى منازل‬
‫اليقين)‪.‬‬
‫‪ - 51‬الطراف لبي الحجاج المزي‪( .‬ط) باسم تحفة الشراف‪.‬‬
‫‪ - 52‬الفراد للدارقطني (أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني الشافعي) المولود في دار قطن من‬
‫محال بغداد (‪ 306‬هـ ‪ 918 -‬م) والمتوفى (‪ 385‬هـ ‪ 995 -‬م) أما اسم الكتاب فهو ‪( :‬فوائد‬
‫الفراد)‪.‬‬
‫‪ - 53‬المالي لحمد بن سليمان النجاد (أبي بكر أحمد بن سليمان بن الحسن الحنبلي المعروف‬
‫بالنجاد ‪ ،‬فقيه محدث) ‪ ،‬توفى ‪ 348‬هـ ‪ 960 -‬م ‪ ،‬ويبدو أن كتابه هذا هو ما أمله في دروسه‬
‫التي كان يعقدها بعد صلة الجمعة (وكانت له حلقتان في جامع المنصور ‪ :‬حلقة قبل الصلة‬
‫للفتوى على مذهب المام أحمد ‪ ،‬وبعد الصلة لملء الحديث ‪ ،‬واتسعت رواياته وانتشرت‬
‫أحاديثه ومصنفاته ‪ ،‬وكان رأسا في الفقه رأسا في الحديث)‪.‬‬
‫‪ - 54‬النواع والتقاسيم في الحديث لبن حبان (الحافظ محمد بن أحمد بن حبان البستي) المولود‬
‫في بست من نواحي سجستان بين هراه وغزنة ‪ ،‬والمتوفى (‪ 354‬هـ ‪ 965‬م) (ط) بترتيب‬
‫الفارسي‪.‬‬
‫‪ - 55‬الثقات لبن حبان‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 56‬جامع الصول لبن الثير (المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري‬
‫المتوفى ‪ 606‬هـ) أما الكتاب فهو (جامع الصول من أحاديث الرسول) جمع فيه ابن الثير‬
‫الصول الستة ‪ :‬البخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬والموطأ ‪ ،‬وأبو داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬وله مختصر‬
‫يسمى (تيسير الوصول إلى جامع الصول) لبن الديبع الشيباني ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 944‬هـ وهو‬
‫مطبوع بالمكتبة التجارية بتحقيق الشيخ حامد الفقي ‪ ،‬وبتحقيق الشيخ عبد القادر الرناؤوط‪.‬‬

‫( ‪)1/22‬‬

‫‪ - 57‬جامع الثوري (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪161‬هـ وجامعه يسمى‬
‫(الجامع الكبير) يجرى مجرى الحديث رواه عنه جماعة منهم يزيد بن أبي حكيم وعبد ال بن‬
‫الوليد ‪ ،‬وله أيضًا (كتاب الجامع الصغير وكتاب الفرائض)‪.‬‬
‫‪ - 58‬الجامع لداب الراوي والسامع ‪ :‬للخطيب البغدادي (أبي أحمد بن علي بن ثابت المعروف‬
‫بالخطيب) ‪ ،‬البغدادي والمتوفى سنة ‪ 463‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 59‬جامع المسانيد لبن الجوزي‪.‬‬
‫‪ - 60‬الجرح والتعديل لبن أبي حاتم‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 61‬جزء في الحاديث التي تنهى عن إتيان النساء في أدبارهن للذهبي‪.‬‬
‫‪ - 62‬جزء في الحاديث الواردة في الستغفار للدارقطني‪.‬‬
‫‪ - 63‬جزء في الحاديث الواردة في فضل اليام العشرة من ذي الحجة لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 64‬جزء في الحاديث الواردة في كفارة المجلس لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 65‬جزء في حديث الصور لبن كثير أيضًا‪.‬‬
‫‪ - 66‬جزء في الرد على حديث السجل لبن كثيركذلك‪.‬‬
‫‪ - 67‬الخلفيات للبيهقي‪ .‬قال السبكي في طبقات الشافعية ‪( :‬وأما كتاب الخلفيات فلم يسبق إلى‬
‫نوعه ‪ ،‬ولم يصنف مثله ‪ ،‬وهو طريقة مستقلة حديثة ل يقدر عليها إل مبرز في الفقه والحديث‬
‫قيم بالنصوص)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 68‬دلئل النبوة لبي زرعة الرازي (عبيد ال بن عبد الكريم بن يزيد فروخ الرازي (أبي‬
‫زرعة) محدث حافظ ‪ ،‬توفى (‪ 264‬هـ ‪ 878 -‬م)‪.‬‬
‫‪ - 69‬دلئل النبوة لبي نعيم الصبهاني (أحمد بن عبد ال الصبهاني) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪420‬‬
‫هـ ‪ ،‬صاحب حلية الولياء ‪ ،‬وكتابه ذاك ثلثة أجزاء ‪ ،‬ذكر منها مؤلفها الحاديث الواردة في‬
‫شأن النبي صلى ال عليه وسلم وما يتعلق بحياته ونشأته وبعثته وزواجه وغزواته إلخ‪ .‬وهو‬
‫مطبوع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة ‪ 1320‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 70‬دلئل النبوة للبيهقي ‪ ،‬وموضوعه كسالفه‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 71‬السنة للطبراني ‪( ،‬أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني) صاحب المعاجم الثلثة‬
‫(الكبير والوسط والصغر) (‪ 360 - 260‬هـ)‪.‬‬
‫‪ - 72‬السنن لبي بكر بن عاصم (الحافظ أحمد بن عمر الشيباني) ‪ ،‬المتوفى ‪ 287‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 73‬سنن أبي بكر الثرم ‪( ،‬من أصحاب أحمد بن حنبل واسمه أحمد بن محمد بن هاني ويكنى‬
‫أبا بكر) ‪ ،‬له من الكتب كتاب السنن في الفقه على مذهب أحمد وشواهده من الحديث ‪ ،‬وكتاب‬
‫التاريخ وكتاب العلل وكتاب الناسخ والمنسوخ في الحديث‪.‬‬
‫‪ - 74‬سنن أبي بكر البيهقي‪( .‬ط)‪.‬‬

‫( ‪)1/23‬‬

‫‪ - 75‬سنن الدارقطني‪( .‬ط)‪.‬‬


‫‪ - 76‬سنن سعيد بن منصور الخراساني ‪ ،‬المتوفى ‪ 227‬هـ ‪ ،‬وله تفسير كما ذكر الثعلبي في‬
‫الكشف (ط) قسم منه‪.‬‬
‫‪ - 77‬شرح البخاري للحافظ ابن كثير ‪ ،‬وهو من الكتب المفقودة‪.‬‬
‫‪ - 78‬شرح مسلم للنووي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 79‬صحيح ابن خزيمة (محمد بن إسحاق النيسابوري) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 311‬هـ‪( .‬ط)‪ .‬قسم‬
‫منه‪.‬‬
‫‪ - 80‬علل الخلل (أبي بكر أحمد بن محمد بن هارون البغدادي الحنبلي المعروف بالخلل) ‪،‬‬
‫المتوفى ‪ 311‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 81‬المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي (الحافظ أبي محمد الحسن بن عبد‬
‫الرحمن بن خلد الرامهرمزي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 26 0‬هـ ‪ 971‬م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 82‬المختارة للضياء المقدسي ‪ ،‬واسمه "الحاديث المختارة" يقول ابن كثير في كتابه (اختصار‬
‫علوم الحديث) ‪( :‬وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي في ذلك كتابا سماه‬
‫(المختارة) ‪ ،‬ولم يتم ‪ ،‬وكان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم وال أعلم) ‪،‬‬
‫وعلق الشيخ شاكر على هذا فقال ‪ :‬كأنه يعني شيخه الحافظ ابن تيمية ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬وقال‬
‫السيوطي في الللئ ‪( :‬ذكر الزركشي في تخريج الرافعي أن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح‬
‫الترمذي وابن حبان) وقال ابن كثير في البداية والنهاية ‪( :‬وهي أجود من مستدرك الحاكم لو‬
‫كمل)‪( .‬ط) قسم منه‪.‬‬
‫‪ - 83‬المراسيل لبي داود‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 84‬المستخرج على البخاري للحافظ أبي بكر البرقاني (أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب‬
‫الخوارزمي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 425‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 85‬المستخرج على الصحيحين للضياء المقدسي‪.‬‬
‫‪ - 86‬مستدرك الحاكم للنيسابوري (أبي عبد ال محمد بن عبد ال بن حمد بن نعيم الضبي‬
‫النيسابوري الشهير بالحاكم وبابن البيع) ‪ ،‬المتوفى ‪ 404‬هـ ‪ ،‬وكتابه يسمى (المستدرك على‬
‫الصحيحين) ‪ ،‬وفيه يدافع الحاكم عن كثير من الحاديث التي لم يدخلها البخاري ومسلم في‬
‫صحيحيهما ويبرهن على أنها مستكملة لشروطهما تمامًا وإن عدل عن ضمها إلى كتابيهما‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 87‬مسند أبي بكر البزار (أحمد بن عمرو البصري البزار) ‪ ،‬المتوفى ‪ 291‬هـ أو ‪.292‬‬
‫(ط)‪ .‬قسم منه‪.‬‬
‫‪ - 88‬مسند أبي بكر الحميدي (الحافظ عبد ال بن الزبير المكي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 219‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 89‬مسند أبي بكر الصديق لبن كثير‪.‬‬

‫( ‪)1/24‬‬

‫‪ - 90‬مسند أبي داود الطيالسي ‪ ،‬سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي الفارسي مولى بني‬
‫الزبير المتوفى ‪ 202‬هـ ‪ ،‬وقيل ‪ 204‬هـ ‪ ،‬والكتاب مطبوع بحيدر آباد بالهند سنة ‪1321‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 91‬مسند أبي يعلى الموصلي (الحافظ أحمد بن علي بن المثنى الموصلي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 307‬هـ‬
‫‪ 918 -‬م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 92‬مسند الحارث بن أبي أسامة (أبي محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التهيمي البغدادي)‬
‫‪ 282 - 186‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 93‬مسند الدارمي (عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي ‪ ،‬شيخ مسلم وأبي داود‬
‫والترمذي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 255‬هـ ‪ 869 -‬م ‪ ،‬وقد نشر الكتاب في حيدر آباد سنة ‪ 1309‬هـ ‪،‬‬
‫وفي دلهى سنة ‪ 1337‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 94‬مسند الشافعي (المام الكبير صاحب المذهب المعروف باسمه محمد بن إدريس الشافعي)‬
‫المولود (‪ 150‬هـ ‪ 767 -‬م) والمتوفى (‪ 204‬هـ ‪ 820 -‬م) (ط)‪.‬‬
‫‪ - 95‬مسند ابن عباس رضي ال عنه ‪ ،‬الجزء الثاني منه للحافظ أبي يعلى الموصلي‪.‬‬
‫‪ - 96‬مسند عبد بن حميد‪.‬‬
‫‪ - 98 ، 97‬مسند عمر بن الخطاب للحافظ ابن كثير‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 99‬المسند الكبير لبن كثير (واسمه جامع المسانيد والسنن الهادي لقوم سنن)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 100‬مسند محمد بن يحيى العبدي (الحافظ أبي عبد ال محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن‬
‫منده بن الوليد العبدي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 395‬هـ ‪ 1005 -‬م‪.‬‬
‫‪ - 101‬مسند الهيثم بن كليب (ابن شريح الشاشي أبي سعيد) ‪ ،‬المتوفى ‪ 335‬هـ ‪ 945 -‬م‬
‫وكتابه يسمى (المسند الكبير في الحديث) في مجلدين‪( .‬ط) قسم منه‪.‬‬
‫‪ - 102‬مشكل الحديث لبي جعفر الطحاوي (أحمد بن محمد بن سلمة الزدي المصري‬
‫الطحاوي) ‪ ،‬المتوفي ‪ ، 321‬وقيل ‪ 322 :‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 103‬مشكل الحديث لبن قتيبة (عبد ال بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبي محمد) ‪- 213 ،‬‬
‫‪ 276‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 104‬مصنف عبد الرزاق الصنعاني‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 105‬المطولت للطبراني‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 106‬معجم أبي العباس الدغولي ‪ ،‬المتوفى (‪ 325‬هـ ‪ 937 -‬م) (أبي العباس محمد بن عبد‬
‫الرحمن بن محمد بن عبد ال السرخسي الدغولي)‪.‬‬
‫‪ - 107‬معجم أبي القاسم البغوي (عبد ال بن محمد بن عبد العزيز البغوي ‪ ،‬ويعرف بابن بنت‬
‫منيع) المتوفى ‪ 317‬هـ ‪ ،‬وله المعجم الكبير والمعجم الصغير وكتاب السنن على مذاهب الفقهاء‪.‬‬
‫‪ - 108‬المعجم الكبير للطبراني‪( .‬ط)‪.‬‬

‫( ‪)1/25‬‬
‫‪ - 109‬الموضوعات لبي الفرج الجوزي‪ .‬قال ابن كثير عنه ‪( :‬وقد صنف الشيخ أبو الفرج‬
‫الجوزي كتابًا حافل في الموضوعات غير أنه أدخل فيه ما ليس منه وخرج عنه ما كان يلزمه‬
‫ذكره فسقط عليه ولم يهتد إليه)‪( .‬ط) الصغرى منه‪.‬‬
‫‪ - 110‬الموطأ للمام مالك‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 111‬نوادر الصول للترمذي واسم الكتاب كامل (نوادر الصول في معرفة أحاديث الرسول)‬
‫لبي عبد ال محمد بن علي الحكيم الترمذي‪( .‬ط)‪ .‬مجردا عن السانيد‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬مصادره في الفقه وأصوله ‪:‬‬
‫‪ - 112‬الحكام الكبرى للحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫‪ - 113‬الرشاد في أصول الفقه لمام الحرمين الجويني أبي المعالى عبد الملك بن عبد ال بن‬
‫يوسف المتوفى ‪ 478‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 114‬الستذكار لبي عمر بن عبد البر (يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الندلسي) ‪،‬‬
‫المتوفى ‪( .643‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 115‬الملء للمام الشافعي‪.‬‬
‫‪ - 116‬الم للمام الشافعي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 117‬الموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها لبي عبيد القاسم بن سلم‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 118‬اليجاز في علم الفرائض لبن اللبان (أبي الحسين محمد بن عبد ال بن اللبان‬
‫المصري) ‪ ،‬المتوفى ‪ 402‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 119‬اليضاح لبي علي الطبري (أبي علي الحسن بن القاسم الطبري الشافعي) ‪ ،‬المتوفى‬
‫‪ 305‬هـ ‪ ،‬واسم الكتاب (اليضاح في الفروع)‪.‬‬
‫‪ - 120‬الحواشي للمنذري (للحافظ عبد العظيم بن عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد ال المنذري‬
‫زكي الدين أبي محمد محدث فقيه)‪.‬‬
‫‪ - 121‬جزء في تطهير المساجد لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 122‬جزء في الذبيحة التي لم يذكر اسم ال عليها‪.‬‬
‫‪ - 123‬جزء في فضل يوم عرفة لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 124‬جزء في الميراث لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 125‬الشامل للصباغ (واسمه الشامل في فروع الشافعية) لبي نصر عبد السيد بن محمد‬
‫المعروف بابن الصباغ الشافعي ‪ ،‬المتوفى ‪ 477‬هـ ‪ ،‬قال ابن خلكان ‪ :‬وهو من أجود كتب‬
‫الشافعية وأصحها نقل‪.‬‬
‫‪ - 126‬شرح المهذب للنووي‪ .‬قال ابن كثير ‪( :‬اعتنى ‪ -‬النووي ‪ -‬بالتصنيف فجمع شيئًا كثيرًا ‪،‬‬
‫منها ما أكمله ‪ ،‬ومنها ما لم يكمله ‪ ،‬فما كمل شرح مسلم والروضة ‪ ،‬والمنهاج ‪ ،‬والرياض ‪،‬‬
‫والذكار ‪،‬‬
‫( ‪)1/26‬‬

‫والتبيان ‪ ،‬وتحرير التنبيه وتصحيحه وتهذيب السماء واللغات وطبقات الفقهاء وغير ذلك‪ .‬ومما‬
‫لم يتمه ‪ -‬ولو كمل لم يكن له نظير في بيان ‪ :‬شرح المهذب الذي سماه (المجموع) وصل فيه إلى‬
‫كتاب الربا فأبدع فيه وأجاد ‪ ،‬وأفاد وأحسن النتقاء وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره وحرر‬
‫الحديث على ما ينبغي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 127‬الشرح الكبير للرافعي ( أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني‬
‫الرافعي) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 623‬هـ ‪ ،‬وكتابه يسمى ‪( :‬العزيز في شرح الوجيز) وله أيضًا الشرح‬
‫الصغير) و (المحرر) و (شرح مسند الشافعي)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 128‬الصلة للمروزي (أبي عبد ال محمد بن نصر المروزي) كان من أشهر المحدثين في‬
‫زمانه) ‪ ،‬توفى ‪ 294‬هـ ‪ 906 -‬م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 129‬الصيام لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 130‬العبادة للكامل الهذلي (أبي القاسم يوسف بن علي بن جبارة بن محمد الهذلي المغربي‬
‫المتوفى ‪ 465‬هـ ‪ 1074 -‬م)‪.‬‬
‫‪ - 131‬العدة للرافعي‪.‬‬
‫‪ - 132‬فضائل الوقات للبيهقي‪.‬‬
‫‪ - 133‬فضائل الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم لحمد بن فارس اللغوي ‪ ،‬أبي الحسين‬
‫القزويني ‪ ،‬المتوفى (‪ 395‬هـ ‪ )1004 -‬م‪.‬‬
‫‪ - 134‬فضل الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل‬
‫الذري أبي إسحاق ‪ ،‬المتوفى ‪ 282‬هـ ‪ 896 -‬م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 135‬كتاب جمعه الذهبي في الكبائر‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 136‬كتاب لبن تيمية في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل‬
‫باطل‪( .‬ط)‪ .‬ضمن الفتاوى‪.‬‬
‫‪ - 137‬كشف الغطا في تبيين الصلة الوسطى للحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي‪.‬‬
‫‪ - 138‬المحلى لبن حزم ( أبي محمد بن حزم علي الظاهري) ‪ ،‬المتوفى ‪ 456‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 139‬المختصر للمام الشافعي‪.‬‬
‫‪ - 140‬مصنف للمام أبي عبد ال البخاري في مسألة القراءة خلف المام‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 141‬المقدمات لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 142‬النهاية للمام الجويني ‪ ،‬واسم الكتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب)‪.‬‬
‫‪ - 143‬الياسق لجنكيزخان المتوفى (‪ 624‬هـ) والكتاب عبارة عن أحكام اقتبست من شرائع‬
‫شتى من اليهودية والنصرانية والسلم وغير ذلك وكان دستور التتار‪.‬‬

‫( ‪)1/27‬‬

‫خامسا ‪ :‬في التاريخ والسير والتراجم ‪:‬‬


‫‪ - 144‬الستيعاب في معرفة الصحاب لبن عبد البر‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 145‬أسد الغابة في معرفة الصحابة لبن الثير‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 146‬أسماء الصحابة للحافظ أبي نعيم الصبهاني‪.‬‬
‫‪ - 147‬الكليل للهمذاني (أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمذاني اليمني) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪ 334‬هـ ‪ ،‬والكتاب يسمى "الكامل في أنساب حمير وأيام ملوكها" وهو كتاب عظيم الفائدة يتم‬
‫في عشر مجلدات ‪ ،‬ويشتمل على عشرة متون‪.‬‬
‫‪ - 148‬البداية والنهاية لبن كثير‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 149‬تاريخ الخطيب للبغدادي‪ ( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 150‬تاريخ ابن عساكر (علي بن الحسن) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 571‬هـ‪( .‬مخطوط)‪.‬‬
‫‪ - 151‬التاريخ الكبير للمام البخاري‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 152‬تاريخ مكة للزرقي (أبي الوليد محمد بن عبد ال الزرقي) ‪ ،‬توفى بعد سنة ‪ 244‬هـ‬
‫بقليل‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 153‬تهذيب السماء واللغات للنووي "جمع فيه السماء واللفاظ الموجودة في كتب ‪ :‬مختصر‬
‫أبي إبراهيم المزني ‪ ،‬والمهذب ‪ ،‬والتنبيه ‪ ،‬والوسيط ‪ ،‬والوجيز ‪ ،‬والروضة ‪ ،‬وهو الكتاب الذي‬
‫اختصرته من شرح الوجيز للمام أبي القاسم الرافعي"‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 154‬التنوير في مولد السراج المنير للحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية (عمر بن الحسن بن‬
‫علي بن محمد بن دحية الكلبي الندلسي الظاهري المذهب "مجد الدين ‪ -‬أبي الخطاب ‪ -‬أبي‬
‫الفضل ‪ -‬أبي حفص" ‪ ،‬المحدث الحافظ ‪ ،‬المتوفى ‪ 632‬هـ ‪ 1235 -‬م)‪.‬‬
‫‪ - 155‬جزء في فتح القسطنطينية للحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫‪ - 156‬الروض النف للسهيلي (عبد الرحمن بن عبد ال السهيلي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 581‬هـ ‪-‬‬
‫‪1185‬م ‪ ،‬وكتابه يدعى "الروض النف الباسم" في شرح السيرة‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 157‬سيرة عمر بن الخطاب لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 159 ، 158‬السيرة لبن كثير (مطولة وموجزة)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 160‬سيرة الفقهاء للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي أبي زكريا من أهل قرطبة‬
‫بالندلس‪.‬‬
‫‪ - 161‬الشفاء للقاضي عياض اليحصبي ‪ ،‬المتوفى (‪ 544‬هـ ‪ 1149 -‬م)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 162‬الطبقات الكبرى لبن سعد (أبي عبد ال محمد بن سعد بن منيع) تلميذ الواقدي‬
‫ومساعده ‪ ،‬فلقب من أجل ذلك ‪ ،‬كان الواقدي توفي (‪ 23 0‬هـ ‪ 845‬م)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 163‬معرفة الصحابة لبن منده (أبي عبد ال محمد بن إسحاق بن محمد المعروف بابن منده ‪،‬‬
‫حفيد أبي عبد ال محمد بن يحيى)‪.‬‬

‫( ‪)1/28‬‬

‫‪ - 164‬معرفة الصحابة للموصلي (الحافظ أبي يعلى الموصلي)‪.‬‬


‫‪ - 165‬مغازي الموي سعيد بن يحيى الموي‪.‬‬
‫‪ - 166‬مغازي عبد ال بن لهيعة ‪ ،‬المتوفى (‪ 174‬هـ ‪790‬م)‪.‬‬
‫‪ - 167‬المغازي لمحمد بن إسحاق بن يسار ‪ ،‬صاحب السيرة ‪ ،‬المتوفى (‪ 150‬أو ؟ هـ)‪( .‬ط)‬
‫قسم منه‪.‬‬
‫‪ - 168‬المغازي لموسى بن عقبة بن أبي العباس السدي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 141‬هـ‪.‬‬
‫‪( - 169‬نهاية البداية والنهاية) لبن كثير ‪ ،‬وقد ذكره بقوله (كتاب في التحذير من الفتن)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬في علوم اللغة ‪:‬‬
‫‪ - 170‬الجمل لبن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي‪.‬‬
‫‪ - 171‬الزاهر لبن النباري (أبي بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار المشهور بابن‬
‫النباري المتوفى ‪ 228‬هـ)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 172‬الصحاح لبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ‪ ،‬المتوفى ‪ 393‬هـ وقيل ‪ 398 :‬أو‬
‫‪ 400‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 173‬الغريب لبي عبيد القاسم بن سلم‪( .‬ط)‪.‬‬
‫هذه أربعة كتب في علوم اللغة ‪ ،‬منها ما ذكر مرة واحدة "كالزاهر" لبن النباري ‪ ،‬ومنها ما ذكر‬
‫كثيرًا كالغريب والصحاح ‪ :‬أما "الجمل" فكان يرجع إليه ابن كثير إذا احتاج إليه في مسألة نحوية‬
‫أو تركيب لغوي‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬مصادر في موضوعات مختلفة ‪:‬‬
‫‪ - 174‬إثبات عذاب القبر للبيهقي‪.‬‬
‫‪ - 175‬الذكار للنسائي‪.‬‬
‫‪ - 176‬الذكار للنووي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 177‬الذكار للمعري (الحسن بن علي بن شبيب بن المحدثين الفقهاء)‪.‬‬
‫‪ - 178‬الذكار وفضائل العمال للحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫‪ - 179‬الشراف على مذاهب الشراف للوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة ‪ ،‬المتوفى‬
‫‪ 560‬هـ ‪ 1165 -‬م‪.‬‬
‫‪ - 180‬العتقاد للبيهقي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 181‬النباه على ذكر أصول القبائل الرواة لبن عبد البر‪.‬‬
‫‪ - 182‬الهوال لبن أبي الدنيا (أبي بكر عبد ال أو عبد ال بن محمد بن أبي الدنيا القرشي‬
‫بالولء) ‪ ،‬المتوفى ‪ 281‬هـ ‪ 894 -‬م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 183‬التذكرة للقرطبي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 184‬التفكر والعتبار لبن أبي الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)1/29‬‬

‫‪ - 185‬التقوى لبن أبي الدنيا‪.‬‬


‫‪ - 186‬التوحيد للمام ابن إسحاق بن خزيمة‪.‬‬
‫‪ - 187‬جزء في السراء والمعراج للحسن بن عرفة بن يزيد العبدي البغدادي (أبي علي) ‪،‬‬
‫المحدث‪.‬‬
‫‪ - 188‬جزء في دخول مؤمن الجن الجنة لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 189‬جزء مجموع في الجراد لبن عساكر‪.‬‬
‫‪ - 190‬خطبة لمروان بن الحكم‪.‬‬
‫‪ - 191‬الخمول والتواضع لبن أبي الدنيا‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 192‬ذم الطفيليين للخطيب البغدادي‪.‬‬
‫‪ - 193‬ذم المسكر لبن أبي الدنيا‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 194‬الرد على الجهمية للمام أحمد بن حنبل‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 195‬الرد على الجهمية للدارمي (عثمان بن سعيد بن خالد التميمي الدارمي (أبي سعيد)‬
‫المتوفى ‪ 280‬هـ ‪ 894 -‬م)‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 196‬الزهد لعبد ال بن المبارك ‪ ،‬ويكنى أبا عبد الرحمن ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 181‬هـ‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 197‬السابق واللحق للخطيب البغدادي‪.‬‬
‫‪ - 198‬السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم ‪ ،‬المنسوب لبي عبد ال الرازي‪.‬‬
‫‪ - 199‬صفة أهل الجنة للحافظ أبي عبد ال المقدسي‪.‬‬
‫‪ - 200‬صفة العرش لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 297‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 201‬صفة النار للحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫‪ - 202‬العجائب الغريبة للحافظ محمد بن المنذر (أبي عبد الرحمن محمد بن المنذر بن سعيد بن‬
‫عثمان السلمي المعروف بشكر)‪.‬‬
‫‪ - 203‬الفكاهة للزبير بن بكار (أبي عبد ال الزبير بن بكار بن أحمد بن مصعب بن ثابت بن‬
‫عبد ال بن الزبير) ‪ ،‬المتوفى ‪ 256‬هـ ‪ 870 -‬م‪.‬‬
‫‪ - 204‬القبور لبن أبي الدنيا‪.‬‬
‫‪ - 205‬القصد والمم بمعرفة أصول أنساب العرب لبن عبد البر‪.‬‬
‫‪ - 206‬كتاب في الروح للحافظ أبي عبد ال بن منده‪.‬‬
‫‪ - 207‬ما قررته المجامع النصرانية سنة ‪ 400‬هـ نقل عن سعيد بن بطريق ‪ ،‬يعد من علماء‬
‫النصارى‪.‬‬
‫‪ - 208‬مسانيد الشعراء لبن مردويه‪.‬‬
‫‪ - 209‬مساوئ الخلق (الجزء الثاني منه) لبي بكر الخرائطي (محمد بن جعفر بن سهل‬
‫الخرائطي) ‪ ،‬المتوفى ‪ 327‬هـ ‪ 938 -‬م‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 210‬المستقصى للحافظ البهائي‪.‬‬

‫( ‪)1/30‬‬

‫‪ - 211‬المشهور في أسماء اليام والشهور للشيخ علم الدين السخاوي‪( .‬علي بن محمد بن عبد‬
‫الرحمن الهمذاني شيخ القراء بدمشق المتوفى ‪ 643‬هـ)‪.‬‬
‫‪ - 212‬المعارف لبن قتيبة‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 213‬مقدمة في النساب لبن كثير‪.‬‬
‫‪ - 214‬مقصورة ابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد المتوفى سنة ‪ 321‬هـ)‪.‬‬
‫‪ - 215‬مكارم الخلق للخرائطي‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 216‬النسب للزبير بن بكار‪( .‬ط)‪.‬‬
‫‪ - 217‬نوادر الصول للقرطبي‪.‬‬
‫هذه مصادر ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في تفسيره ‪ ،‬ومن خلل هذا العدد الهائل من المصادر يتضح‬
‫لنا الجهد العظيم الذي بذله الحافظ ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في إخراج كتابه‪.‬‬
‫‪ - 4‬رأيه في السرائيليات ‪:‬‬
‫الحافظ ابن كثير ‪ ،‬رحمه ال له كلمات قوية في شأن السرائيليات وروايتها ‪ ،‬وتفسيره يعد من‬
‫الكتب الخالية من السرائيليات ‪ ،‬اللهم إل القليل الذي يحكيه ثم ينبه عليه ‪ ،‬والنادر الذي يسكت‬
‫عنه ‪ ،‬وقد نبهت عليه في الحاشية‪.‬‬
‫ومن كلماته في السرائيليات (‪)1‬‬
‫قال في مقدمة تفسيره ‪ -‬بعد أن ذَكر حديثَ "بّلغُوا عنّي ولو آيةً ‪ ،‬وحدّثوا عن بني إسرائيل ول‬
‫حَرَجَ ‪ ،‬ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار" ‪" : -‬ولكن هذه الحاديث السرائيلية تُذكر‬
‫للستشهاد ‪ ،‬ل للعتضاد‪ .‬فإنها على ثلثة أقسام ‪ :‬أحدها ‪ :‬ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ‬
‫له بالصدق ‪ ،‬فذاك صحيح‪ .‬والثاني ‪ :‬ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه‪ .‬والثالث ‪ :‬ما هو‬
‫مسكوت عنه ‪ ،‬ل من هذا القبيل ول من هذا القبيل ‪ ،‬فل نؤمِنُ به ول نكذّبه ‪ ،‬وتجوزُ حكايتُه لما‬
‫تقدّم‪ .‬وغالبُ ذلك مما ل فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ‪ .‬ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل‬
‫هذا كثيرًا ‪ ،‬ويأتي عن المفسرين خلفٌ بسبب ذلك‪ .‬كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف‬
‫ولون كلبهم وعِدّتهم ‪ ،‬وعصا موسى من أيّ شجر كانت ؟ وأسماء الطيور التي أحياها ال‬
‫لبراهيم ‪ ،‬وتعيين البعض الذي ضُ ِربَ به القتيلُ من البقرة ‪ ،‬ونوع الشجرة التي كلّم ال منها‬
‫موسى إلى غير ذلك مما أبهمه ال تعالى في القرآن ‪ ،‬مما ل فائدة في تعيينه تعود على المكلفين‬
‫في دنياهم ول دينهم‪ .‬ولكن نقلُ الخلف عنهم في ذلك جائز‪ .‬كما قال تعالى ‪ { :‬سَ َيقُولُونَ ثَلثَةٌ‬
‫رَا ِب ُعهُمْ كَلْ ُبهُمْ } إلى آخر الية [الكهف ‪.]22 :‬‬
‫وقال عند تفسير الية ‪ )50( :‬من سورة الكهف ‪ -‬بعد أن ذكر أقوال في "إبليس" واسمه ومن أيّ‬
‫قبيلٍ هو ؟! ‪" : -‬وقد رُوى في هذا آثار كثيرة عن السلف ‪ ،‬وغالبُها من السرائيليات التي تُنقل‬
‫ليُنْظَر فيها ‪ ،‬وال أعلم بحال كثير منها ‪ ،‬ومنها ما قد ُيقْطَع بكذبه ‪ ،‬لمخالفته للحقّ الذي بأيدينا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬استفدت هذه الكلمات من عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (‪ )18 - 1/14‬ومن كتاب "ابن‬
‫كثير وتفسيره" للدكتور إسماعيل عبد العال (ص ‪.)232 - 228‬‬

‫( ‪)1/31‬‬

‫وفي القرآن غُنْ َيةٌ عن كلّ ما عداه من الخبار المتقدمة ؛ لنها ل تكاد تخلو من تبديل وزيادة‬
‫ونقصان ‪ ،‬وقد ُوضِعَ فيها أشياء كثيرة‪ .‬وليس لهم من الحفّاظ المُ ْتقِنين الذين يَ ْنفُون عنها تحريفَ‬
‫الغَالِين وانتحال المبطلين ‪ ،‬كما لهذه المة من الئمة والعلماء ‪ ،‬والسادة والتقياء ‪ ،‬والبررة‬
‫حفّاظ الجياد ‪ ،‬الذين َدوّنوا الحديث وحَرّرُوه ‪ ،‬وبيّنوا صحيحَه‬
‫والنجباء ‪ ،‬من الجهابذة النقّاد ‪ ،‬وال ُ‬
‫حسَنه من ضعيفه ‪ ،‬من منكَره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه ‪ ،‬وعرفوا الوضّاعِين والكذّابين‬
‫من َ‬
‫ي والمقام المحمديّ ‪،‬‬
‫والمجهولين ‪ ،‬وغير ذلك من أصناف الرجال‪ .‬كلّ ذلك صيانةً للجناب النبو ّ‬
‫ح ّدثَ عنه بما ليس منه‪.‬‬
‫خاتم الرسل وسيد البشر ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أن يُنْسَب إليه كذبٌ أو يُ َ‬
‫جعَل جنّاتِ الفردوس مأواهم‪ .‬وقد َف َعلَ"‪.‬‬
‫فرضي ال عنهم وأرضاهم ‪ ،‬و َ‬
‫وقال عند تفسير اليات (‪ )56 - 51‬من سورة النبياء ‪ ،‬بعد إشارته إلى حال إبراهيم ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬مع أبيه ‪ ،‬ونظره إلى الكواكب والمخلوقات ‪" : -‬وما َقصّه كثيرٌ من المفسّرين وغيرهم ‪،‬‬
‫فعَامّتُها أحاديثُ بني إسرائيل‪ .‬فما وافقَ منها الحقّ مما بأيدينا عن المعصوم قَبِلْناه ‪ ،‬لموافقته‬
‫الصحيح ‪ ،‬وما خالف منها شيئًا من ذلك ردَدْناه ‪ ،‬وما ليس فيه موافقةٌ ول مخالفةٌ ‪ ،‬ل نصدّقه ول‬
‫ب منها فقد رخّص كثير من السلف في روايته‪.‬‬
‫نكذّبه ‪ ،‬بل نجعله َو ْقفًا‪ .‬وما كان من هذا الضّ ْر ِ‬
‫وكثيرٌ من ذلك مما ل فائدة فيه ‪ ،‬ول حاصلَ له مما يُنْ َتفَع به في الدّين‪ .‬ولو كانت فائدتُه تعود‬
‫على المكلّفين في دينهم لبيّنَتْه هذه الشريعةُ الكاملةُ الشاملةُ‪ .‬والذي َنسُْلكُه في هذا التفسير‬
‫العراضُ عن كثير من الحاديث السرائيلية ‪ ،‬لما فيها من تضييع الزمان ‪ ،‬ولما اشتَمل عليه‬
‫كثي ٌر منها من الكذب المُ َروّج عليهم‪ .‬فإنهم ل َتفْ ِرقَةَ عندهم بين صحيحها وسقيمها‪ .‬كما حَرّره‬
‫حفّاظ المُ ْتقِنُون من هذه المة"‪.‬‬
‫الئمةُ ال ُ‬
‫وقال عند تفسير الية ‪ )102( :‬من سورة البقرة ‪" :‬وقد رُوي في قصة هاروتَ وماروتَ عن‬
‫جماعة من التابعين ‪ ،‬كمجاهد والسّدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والرّبيع بن‬
‫أنس ومقاتل ابن حيّان وغيرهم ‪ ،‬وقصّها خلقٌ من المفسّرين ‪ ،‬من المتقدّمين والمتأخرين‪.‬‬
‫ث مرفوع صحيح متّصلُ‬
‫وحاصلُها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ‪ ،‬إذ ليس فيها حدي ٌ‬
‫السناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي ل ينطق عن الهوى‪ .‬وظاهرُ سياق القرآن إجمالُ‬
‫ط ول إطنابٍ فيها ‪ ،‬فنحن نؤمِن بما ورد في القرآن على ما أراده ال تعالى ‪،‬‬
‫سٍ‬‫القصة من غير ب ْ‬
‫وال أعلم بحقيقة الحال"‪.‬‬
‫وقال في أول سورة ق ‪" :‬وقد رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا ‪ :‬ق ‪ ،‬جبل مُحيطٌ بجميع الرض‬
‫‪ ،‬يقال له جبل قاف!!! وكأنّ هذا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ‬
‫الناس ‪ِ ،‬لمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما ل يصدّق ول ُيكَذّب‪ .‬وعندي أن هذا وأمثالَه‬
‫وأشباهَه من اختلقِ بعض زنادقتهم ‪ ،‬يَلْ ِبسُون به على الناس أمرَ دينهم‪ .‬كما افْتُريَ في هذه المة‬
‫حفّاظها وأئمتها ‪ -‬أحاديثُ عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وما بال َعهْدِ‬
‫‪ -‬مع جللة قدر علمائها و ُ‬
‫حفّاظ الّنقّاد فيهم ‪ ،‬وشربهم الخمور ‪،‬‬
‫من قِدَمٍ‪ .‬فكيف بأمةِ بني إسرائيل ‪ ،‬مع طول المَدَى ‪ ،‬وقلة ال ُ‬
‫وتحريف علمائِهم الكلمَ عن َموَاضعه وتبديلِ كُتُب ال وآياتِه‪ .‬وإنما أباح الشارعُ الروايةَ عنهم في‬
‫حكَم‬
‫جوّزُه العقل‪ .‬فأما فيما تحِيلُه العقول ‪ ،‬و ُي ْ‬
‫قوله ‪" :‬وحدثوا عن بني إسرائيل ول حرج" فيما قد يُ َ‬
‫فيه بالبُطلن ‪ ،‬و َيغْلبُ على الظنون كذبُه ‪ ،‬فليس من هذا القبيل"‪.‬‬

‫( ‪)1/32‬‬

‫وقال عند تفسير اليات (‪ )44 - 41‬من سورة النمل ‪ -‬وقد ذكر في قصة ملكة سبأ أثرًا طويل‬
‫صفَه بأنه "منكر غريب جدًا" ‪ -‬ثم قال ‪" :‬والقربُ في مثل هذه السياقات أنها‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬وَ َ‬
‫متلقّاةٌ عن أهل الكتاب ‪ ،‬مما وُجد في صُحُفهم ‪ ،‬كروايات كعب ووَهْب ‪ ،‬سامحهما ال فيما نقله‬
‫إلى هذه المة من أخبار بني إسرائيل ‪ ،‬من الوابد والغرائب والعجائب ‪ ،‬مما كان وما لم يكن ‪،‬‬
‫ومما حُرِف وبدّل ونُسِخَ‪ .‬وقد أغنانا ال سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنف ُع وأوضحُ وأبلغُ‪.‬‬
‫ول الحمد والمنة"‪.‬‬
‫وقال عند تفسير الية ‪ )46( :‬من سورة العنكبوت ‪ -‬بعد أن َروَى الحديث ‪" :‬إذا حدثكم أهل‬
‫الكتاب فل تصدقوهم ول تكذبوهم" ‪ -‬قال ‪" :‬ثم ليُعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان‬
‫لنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل وما أقل الصدق فيه ‪ ،‬ثم ما أقل فائدته"‪.‬‬
‫وقال عند تفسير قوله تعالى ‪ { :‬وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَى } [طه ‪" : ]18 :‬أي مصالح ومنافع‬
‫وحاجات أخرى غير ذلك ‪ ،‬وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمته ‪ ،‬فقيل ‪:‬‬
‫كانت تضيء له بالليل ‪ ،‬وتحرس له الغنم إذا نام ‪ ،‬ويغرسها فتصير شجرة تظله ‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫المور الخارقة للعادة ‪ ،‬والظاهر أنها لم تكن كذلك ‪ ،‬ولو كانت كذلك لما استنكر موسى ‪ ،‬عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،‬صيرورتها ثعبانًا ‪ ،‬فما كان يفر منها هاربًا ‪ ،‬ولكن كل ذلك من الخبار‬
‫السرائيلية"‪.‬‬
‫‪ - 5‬العنوان والتوثيق ‪:‬‬
‫إن صحة نسبة كتاب التفسير للحافظ ابن كثير أمر مقطوع به ‪ ،‬ولول أن الباحثين اعتادوا ذكر‬
‫هذا الفصل وإل لما ذكرته لشهرة هذا التفسير‪.‬‬
‫وممن ذكر هذا التفسير وعزاه لمؤلفه ‪:‬‬
‫‪ - 1‬الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف‪.‬‬
‫‪ - 2‬الحافظ ابن حجر في فتح الباري‪.‬‬
‫‪ - 3‬ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية‪.‬‬
‫‪ - 4‬السيوطي في الدر المنثور‪.‬‬
‫‪ - 5‬الشوكاني في فتح القدير‪.‬‬
‫‪ - 6‬الشيخ سليمان بن عبد ال بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد‪.‬‬
‫‪ - 7‬الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فتح المجيد‪.‬‬
‫وأما عنوانه ‪ ،‬فالمشهور "تفسير القرآن العظيم" ‪ ،‬وجاء ذلك على طرة النسخة "ط" ‪ ،‬وبعض‬
‫النسخ تسميه ‪" :‬تفسيرابن كثير"‪.‬‬
‫‪ - 6‬نسخ الكتاب ‪:‬‬
‫يعتبر تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير من الكتب التي انتشرت في خزائن المكتبات‬
‫السلمية ‪ ،‬فقد وجدت نسخه في مكة والرياض ومصر واسطنبول والهند والمغرب وإيرلندا‬
‫وباريس‪.‬‬

‫( ‪)1/33‬‬
‫والختلف بين هذه النسخ اختلف كبير ‪ ،‬فالنسخ التي في الرياض مثل يغلب عليها الختصار‬
‫وحذف السانيد والتصرف في الكتاب ‪ ،‬هذا في الغالب فل يستغرب ‪ ،‬أو أقول ‪ :‬ل يعتمد أن‬
‫توجد نسخة ليس فيها قصة العتبي المذكورة في سورة النساء ؛ لن هذه النسخة حديثة جدًا مع ما‬
‫ذكرت من المنهج في النسخ الموجودة في نجد وغيرها من النسخ المعتمدة ذكر هذه القصة ‪ ،‬وقد‬
‫نبهت عليها في موضعها‪.‬‬
‫وكم يجد الباحث نفسه متحيرًا أمام إثبات نص ثبت في نسخة ولم يثبت في الخرى ‪ ،‬لذلك فقد‬
‫حاولت قدر المستطاع جمع مخطوطات الكتاب لكي تزول هذه العقبة فوقع لي ‪ -‬والحمد ل ‪ -‬قدر‬
‫منها ‪ ،‬وإليك وصفها ‪:‬‬
‫‪ - 1‬النسخة الزهرية (هـ) ‪:‬‬
‫وأحيانًا أطلق عليها الصل‪.‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة الزهر برقم (‪ )168‬تفسير ‪ ،‬وتحتوي على الكتاب كامل في سبعة‬
‫مجلدات ‪ ،‬وفي المجلد الثالث منها خروم‪.‬‬
‫وصفها الشيخ أحمد شاكر بأنها ‪ :‬نسخة يغلب عليها الصحة ‪ ،‬والخطأ فيها قليل‪.‬‬
‫وطبعت بدار الشعب سنة (‪ 1390‬هـ) بتحقيق عبد العزيز غنيم ‪ ،‬ومحمد أحمد عاشور ‪ ،‬ومحمد‬
‫إبراهيم البنا‪.‬‬
‫وبالتتبع فإنها نسخة جيدة ‪ ،‬لكنها ل توصف بأنها أصح النسخ ‪ ،‬بل غيرها أفضل منها لو كمل‪.‬‬
‫وقد اعتمدت على طبعة دار الشعب المأخوذة عن هذه النسخة لمرين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أني حاولت الحصول على مصورة لهذه النسخة فلم أستطع ‪ ،‬فأرسلت إلى المكتبة طلبًا‬
‫للتصوير ‪ ،‬ثم أرسلت الطلب بصورة رسمية عن طريق جامعة المام محمد بن سعود السلمية ‪،‬‬
‫ثم علمت بعد ذلك أن هذا دأب هذه المكتبة ‪ ،‬وأخبرت عن طرق لستخراج المخطوطة من هذه‬
‫المكتبة لكن هذه الطرق ليست موافقة لعملي‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن عمل الخوة في طبعة الشعب عمل جيد في إخراج النص حسب ما ورد في‬
‫المخطوطة ‪ ،‬ولهم اجتهادات أصابوا في بعضها وأخطؤوا في بعضها ‪ ،‬فأقررتهم على ما أصابوا‬
‫فيه ‪ ،‬ولم أوافقهم على ما ‪+‬أخطئوا فيه ‪ ،‬وقد اعتمدت إشاراتهم إلى المخطوطة في الهامش ‪،‬‬
‫فاستفدت منها وسلكت في ذلك مسلكًا جيدًا حتى كأن العمل على المخطوطة ل المطبوعة‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬محمد بن علي الصوفي‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬فرغ الكاتب من نسخها في العاشر من جمادى الولى سنة (‪ 825‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪.2195 :‬‬
‫‪ - 2‬نسخة تشستربتي (ط) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي بإيرلندا برقم (‪ ، )3430‬وتحتوي على الجزء الول ويبدأ‬
‫( ‪)1/34‬‬

‫من أول التفسير وينتهي بتفسير الية { إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ }‬
‫الية ‪[ :‬البقرة ‪ ، ]218 :‬وهو آخر الجزء التاسع من أجزاء المؤلف ‪ ،‬وفيها سقط وبها حواش من‬
‫خط المؤلف وعليها تصحيحات ‪ ،‬وهي من مصورات جامعة المام محمد بن سعود السلمية ‪،‬‬
‫وهي في غاية الدقة والحسن لو كملت‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬أحمد بن محمد بن المحب ‪ ،‬المتوفى سنة (‪ 776‬هـ) ‪ ،‬وله ترجمة في الدرر الكامنة (‬
‫‪.)244 \1‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬يظهر أنها كتبت في عهد المؤلف ‪ ،‬فيها حواش بخطه ‪ ،‬وكاتبها توفى سنة (‪776‬‬
‫هـ) أي بعد وفاة الحافظ ابن كثير بعامين‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ 224 :‬مقاس ‪ 26.7 × 18.3‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 27 :‬سطرا‪.‬‬
‫الخط ‪ :‬نسخ معتاد ممتاز‪.‬‬
‫‪ - 3‬نسخة تشستربتي (ب) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة تشستربتي بإيرلندا برقم (‪ ، )4052‬وتحتوي على الجزء الول ‪-‬‬
‫ناقص بشيء يسير من المقدمة ‪ -‬ويبدأ بـ "فإن قال قائل ‪ :‬فما أحسن طرق التفسير ؟ " وينتهي‬
‫بتفسير الية ‪ )47( :‬من سورة البقرة وهي قوله تعالى { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ‬
‫عَلَ ْيكُمْ }‬
‫بها حواش كثيرة وتصحيحات ‪ ،‬والحبر منتشر على بعض الصفحات‪.‬‬
‫وهي من مصورات جامعة المام محمد بن سعود السلمية‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف ‪ ،‬والظاهر أنه معاصر للمؤلف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬كتبت في القرن الثامن تقديرًا ‪ ،‬أي ‪ :‬في عهد المؤلف ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ 177 :‬مقاس ‪ 22 × 15.5‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 19 :‬سطرا‪.‬‬
‫الخط ‪ :‬نسخ معتاد جيد‪.‬‬
‫‪ - 4‬نسخة الحرم المكي (جـ) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكى بمكة المكرمة برقم (‪ )91‬وتحتوي على الجزء الول ‪،‬‬
‫ويبدأ بأول التفسير ‪ ،‬وينتهي عند قوله تعالى { إِنْ َتجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُ ْن َهوْنَ عَ ْنهُ } الية [النساء ‪:‬‬
‫‪.]31‬‬
‫وكأن النسخة ملفقة من نسختين ‪ ،‬فإن الخط يستمر نسخًا معتادًا إلى الية (‪ )255‬من سورة البقرة‬
‫ثم خط مغاير وهو أقدم من الول ويستمر إلى الية المذكورة‪.‬‬
‫وعلى النسخ أثر البلل في كثير من أوراقه‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬

‫( ‪)1/35‬‬

‫تاريخ النسخ ‪ :‬جاء بعد تفسير الية (‪ )255‬من سورة البقرة وهو نهاية الخط الول ‪" :‬وكان‬
‫الفراغ من نسخ هذا الجزء يوم السبت المبارك في ثمانية وعشرين مضين من شهر جمادى الخر‬
‫من شهور سنة ستة وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية" ‪ ،‬والخط الخر لعله من خطوط‬
‫القرن العاشر‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ 411 :‬مقاس ‪ 20× 29‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 25 - 20 :‬سطرًا‪.‬‬
‫‪ - 5‬نسخة الحميدية (أ) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بالمكتبة الحميدية بتركيا ‪ ،‬وتحتوي على الكتاب كامل وخطها دقيق ومزينة‬
‫بالذهب ‪ ،‬وهي حديثة ومنقولة عن نسخة معتمدة‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬كتبت سنة ( ؟)‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 40 - 35 :‬سطرا‪.‬‬
‫‪ - 6‬نسخة الحرم المكي (ف) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي بمكة المكرمة برقم (‪ )91‬وتحتوي على تفسير أول‬
‫سورة النمل إلى نهاية تفسير سورة الحزاب‪.‬‬
‫وهي نسخة رديئة وخطها متحد مع خط القسم الثاني من النسخة (ج) ‪ ،‬وبها أثر الرطوبة‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬لعله من خطوط القرن العاشر‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ 236 :‬مقاس ‪ 20 × 29‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 37 :‬سطرًا‪.‬‬
‫‪ - 7‬نسخة الحرم المكي (ك) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي بمكة برقم (‪ ، )91‬وتبدأ من أول سورة العراف ‪،‬‬
‫وتنتهي بنهاية تفسير سورة التوبة‪.‬‬
‫والنسخة جيدة ‪ ،‬وعليها تصويبات وتقييدات بالهامش وفيها أثر رطوبة‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬كتبت سنة (‪ 780‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ 228 :‬مقاس ‪ 18 ×27‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 26 :‬سطرًا‪.‬‬
‫الخط ‪ :‬نسخ معتاد قديم‪.‬‬

‫( ‪)1/36‬‬

‫‪ - 8‬نسخة جامعة الرياض (د) ‪:‬‬


‫وهي نسخة محفوظة بجامعة الملك سعود بالرياض برقم (‪ )4052‬وتبدأ من تفسير الية ‪ 31 :‬من‬
‫سورة النساء ‪ ،‬وتنتهي بتفسير الية ‪ 36‬من سورة التوبة‪.‬‬
‫وهي نسخة حديثة وخطها مقروء ‪ ،‬لكن يغلب عليها الختصار وحذف السانيد‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬كتبت في حدود سنة ( ‪ 1155‬هـ) أو بعدها بقليل‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪.218 :‬‬
‫عدد السطر ‪ 23 :‬سطرًا‪.‬‬
‫‪ - 9‬نسخة الحرم المكي (س) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي برقم (‪ ، )91‬وتبدأ بتفسير سورة سبأ وتنتهي بتفسير‬
‫سورة فصلت‪.‬‬
‫وهي نسخة مقابلة على أصل المؤلف ‪ ،‬كما جاء في آخر ورقة ‪ ،‬وعليها أثر البلل في كثير من‬
‫أوراقها‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬محمد بن بهاء الدين عبد ال الشجاعي‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬سنة (‪ 769‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ 178 :‬مقاس ‪ 18 × 26 :‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 24 :‬سطرًا‪.‬‬
‫الخط ‪ :‬نسخ معتاد‪.‬‬
‫‪ - 10‬نسخة مكتبة الوقاف ببغداد (م) ‪:‬‬
‫وهي نسخة قديمة ‪ ،‬وهي أقدم نسخ التفسير ‪ ،‬والموجود منها ثلثة أجزاء ‪ ،‬الجزء الرابع في‬
‫مكتبة تشستربتي برقم (‪ ، )3143‬ويبدأ بتفسير سورة النعام ‪ ،‬وينتهي بتفسير الية (‪ )60‬من‬
‫سورة النفال‪ .‬والجزآن التاسع والعاشر محفوظان بمكتبة الحرم المكي برقم (‪ )91‬ويبدأ الجزء‬
‫التاسع بتفسير سورة الشورى وينتهي العاشر بآخر الكتاب ‪ ،‬وبذيله كتاب فضائل القرآن ‪ ،‬وطرة‬
‫الجزآن مزخرفة بشكل بديع بالذهب ‪ ،‬ومكتوب فيها عنوان الكتاب ‪ ،‬وعلى النسخة أثر البلل في‬
‫كثير من أوراقه‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬محمد بن أحمد بن معمر المقري البغدادي‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬سنة (‪ 759‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ :‬المجلد الرابع ‪ ، 229 :‬والمجلد التاسع ‪ ، 275 :‬المجلد العاشر ‪ 238 :‬مقاس ‪:‬‬
‫‪ 19 × 29‬سم‪.‬‬
‫عدد السطر ‪ 21 :‬سطرًا‪.‬‬

‫( ‪)1/37‬‬

‫الخط ‪ :‬نسخ معتاد واضح‪.‬‬


‫‪ - 11‬نسخة آيا صوفيا (و) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة آياصوفيا بتركيا برقم (‪ ، )122‬وتبدأ بأول الكتاب ‪ ،‬وتنتهي بنهاية‬
‫تفسير سورة آل عمران ‪ ،‬وهي نسخة بديعة وقديمة ولو كملت لكانت أصح النسخ‪.‬‬
‫وقد ذكر بروكلمان في تاريخ الدب العربي أنها موجودة بعدة أرقام ‪ ،‬ففرحت بذلك ‪ ،‬وكلفت أحد‬
‫الخوة بالبحث عن هذه الرقام ‪ ،‬فزار المكتبة ووجد أن تلك الرقام هي أرقام لتفسير معالم‬
‫التنزيل للبغوي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وهذه النسخة مقابلة بنسخة مقروءة على المؤلف ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬سنة (‪ 806‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪.418 :‬‬
‫عدد السطر ‪ 17 :‬سطرًا‪.‬‬
‫‪ - 12‬نسخة ولي الدين جار ال (ر) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة ولي الدين جار ال بتركيا ‪ ،‬وتبدأ بتفسير سورة آل عمران وتنتهي‬
‫بتفسير الية ‪ 95 :‬من سورة المائدة‪ .‬وهذا هو الجزء الثاني من هذه النسخة‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬لم يعرف‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬سنة (‪ 837‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪.330 :‬‬
‫عدد السطر ‪ 23 :‬سطرًا‪.‬‬
‫‪ - 13‬نسخة ولي الدين جار ال (ت) ‪:‬‬
‫وهي نسخة محفوظة بمكتبة ولي الدين جار ال بتركيا ‪ ،‬وهي مجلدان ‪ :‬المجلد الرابع ‪ :‬ويبدأ من‬
‫تفسير سورة التوبة ‪ ،‬وينتهي بنهاية تفسير سورة الحج‪.‬‬
‫المجلد الخامس ‪ -‬هكذا وأظن صوابه السادس ‪ : -‬ويبدأ من تفسير أول القصص حتى آخر سورة‬
‫الحجرات‪.‬‬
‫الناسخ ‪ :‬علي بن يعقوب الشهير بابن المخلص‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬سنة (‪ 799‬هـ)‪.‬‬
‫عدد الوراق ‪ :‬المجلد الرابع ‪ 327 :‬والمجلد الخامس ‪.284 :‬‬
‫عدد السطر ‪ 27 - 25 :‬سطرًا‪.‬‬

‫( ‪)1/38‬‬

‫النسخ المساعدة ‪:‬‬


‫‪ - 14‬نسخة جامعة المام محمد بن سعود السلمية ‪:‬‬
‫وهي محفوظة برقم (‪ ، )3613‬وتحتوي على أول الكتاب إلى نهاية تفسير سورة آل عمران ‪،‬‬
‫وعدد أوراقها ‪.205 :‬‬
‫الناسخ ‪ :‬سعد بن كسران‪.‬‬
‫تاريخ النسخ ‪ :‬النسخة حديثة وتاريخها قريب فيما أظن وهي وقف على أهل بلدة الحريق ‪ ،‬قرب‬
‫الرياض‪.‬‬
‫‪ - 15‬نسخة مؤسسة الملك فيصل الخيرية ‪:‬‬
‫وهي نسخة حديثة كتبت سنة ‪ 1294‬هـ ‪ ،‬وتحتوي على أول الكتاب إلى نهاية تفسير سورة آل‬
‫عمران ‪ ،‬وهي مهداة للمؤسسة ‪ ،‬وعليها وقف باسم إبراهيم بن عبد اللطيف سنة ‪ 1306‬هـ‪.‬‬
‫وعدد أوراقها ‪.398 :‬‬
‫‪ - 16‬طبعة دار الراية بتحقيق الشيخ مقبل الوادعي ‪ ،‬حفظه ال ‪:‬‬
‫وهي طبعة معتمدة على ما سبقها من الطبعات ‪ ،‬والخطاء فيها كثيرة جدًا‪.‬‬

‫( ‪)1/39‬‬

‫توزيع النسخ على السور المفسرة السورة النسخ المخطوطة النسخ المساعدة البقرة أ هـ طـ ب‬
‫ج و جامعة المام‬
‫جامعة المام‬
‫ط ‪ -‬الوادعي مؤسسة فيصل‬
‫مؤسسة فيصل آل عمران أ هـ ر ج و النساء أ هـ ر د جـ المائدة أ هـ ر د النعام أ هـ م د‬
‫العراف أ هـ م د ك النفال أ هـ م د ك التوبة أ هـ ت د ك يونس أ هـ ت هود أ هـ ت‬
‫يوسف أ هـ ت الرعد أ هـ ت إبراهيم أ هـ ت الحجر أ هـ ت النحل أ هـ ت ف السراء أ‬
‫هـ ت ف الكهف أ هـ ت ف مريم أ هـ ت ف طه أ هـ ت ف النبياء أ هـ ت ف الحج أ‬
‫هـ ت ف المؤمنون أ هـ ف النور أ هـ ف الفرقان أ هـ ف الشعراء أ هـ ف النمل أ هـ ف‬
‫القصص أ هـ ف ت العنكبوت أ هـ ف ت الروم أ هـ ف ت لقمان أ هـ ف ت السجدة أ هـ‬
‫فت‬

‫( ‪)1/40‬‬

‫تابع توزيع النسخ على السور المفسرة السورة النسخ المخطوطة الحزاب أ هـ ف ت سبأ أ هـ‬
‫ت س فاطر أ هـ ت س يس أ هـ ت س الصافات أ هـ ت س ص أ هـ ت س الزمر أ هـ‬
‫ت س غافر أ هـ ت س فصلت أ هـ ت س الشورى أ هـ ت م الزخرف أ هـ ت م الدخان أ‬
‫هـ ت م الجاثية أ هـ ت م الحقاف أ هـ ت م محمد أ هـ ت م الفتح أ هـ ت م الحجرات أ‬
‫هـ ت م سور المفصل "من ق إلى الناس" أ هـ م فضائل القرآن ط م ج‬

‫( ‪)1/41‬‬

‫‪ - 7‬منهج التحقيق ‪:‬‬


‫‪ - 1‬إخراج نص التفسير على ما يغلب على الظن أنه نص المؤلف ‪ ،‬وذلك بمقابلة النسخ‬
‫المخطوطة ‪ ،‬وإثبات الصحيح من الفروق عند الختلف‪.‬‬
‫‪ - 2‬بذلت جهدي في تقويم النص بالرجوع إلى مصادر الحديث وكتب الرجال المطبوعة‬
‫والمخطوطة‪.‬‬
‫‪ - 3‬وضعت الزيادات التي تزيد بها نسخة على النسخ الخرى بين قوسين هكذا [ ] إذا كان ذلك‬
‫مستقيمًا مع سلمة النص‪.‬‬
‫‪ - 4‬تجنبت ذكر السقط في النسخ إل عند الحاجة لن ذلك يحتاج إلى إطالة في الهوامش لكثرة‬
‫السقط في بعض النسخ‪.‬‬
‫‪ - 5‬عزوت اليات القرآنية الكريمة التي يستشهد بها المؤلف في التفسير بجانبها مع مراعاة‬
‫ضبطها بالشكل‪.‬‬
‫‪ - 6‬خرجت الحاديث التي ذكرها الحافظ ابن كثير في تفسيره بعزوها إلى أماكنها إن كان‬
‫الحافظ ذكر مصادرها‪.‬‬
‫وما كان في الصحيحين أو أحدهما فأكتفي بالعزو إليه ‪ ،‬وإن كان في غيرهما ذكرت مواضع ما‬
‫أشار إليه الحافظ من مصادر وأزيد في ذلك أحيانًا ‪ ،‬وقد سلكت طريقة الختصار في التخريج ما‬
‫أمكن وموضعه إن شاء ال كتاب في تخريج أحاديث التفسير ‪ ،‬كما هي عادة الئمة ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫‪ - 7‬ضبطت بالشكل النصوص النبوية‪.‬‬
‫‪ - 8‬ضبطت السماء والكنى والنساب التي يحتاج إلى ضبطها‪.‬‬
‫‪ - 9‬شرح بعض المفردات الغريبة‪.‬‬
‫‪ - 10‬أحيانًا تدعو الحاجة إلى تعليق أو تعقيب على بعض المواطن في التفسير لبيان خطأ ‪ ،‬أو‬
‫بطلن قصة ‪ ،‬أو الشارة إلى بعض السرائيليات ونقدها‪.‬‬
‫‪ - 11‬إعادة توزيع النص وإخراجه بشكل يعين القارئ ويسهل عليه المراجعة والقراءة ‪ ،‬مع‬
‫العناية بعلمات الترقيم كالفاصلة والقواس والخطين للجمل العتراضية‪.‬‬
‫‪ - 12‬وضع اسم السورة ورقم الية في أعلى كل صفحة تيسيرًا للقارئ‪.‬‬
‫‪ - 13‬قمت بوضع ترجمة مختصرة للمؤلف ‪ ،‬ونبذة مختصرة عن الكتاب (‪.)1‬‬
‫‪ - 14‬قمت بوضع فهارس عامة للكتاب‪.‬‬
‫وقد ساعدني في كثير من مراحل هذا العمل أخوة أفاضل سواء في مقابلة النسخ أو في شكل‬
‫النص أو في تصحيح الملزم ‪ ،‬فال أسأل أن يثيبنا وإياهم ويجزينا وإياهم خير الجزاء‪} .‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وكنت قد وعدت أثناء الكتاب بوضع مبحث يتعلق بالنسخ التفسيرية ودراسة أسانيدها وأعتذر‬
‫عن هذا الن ‪ ،‬لكني رأيت إخراجه مستقل لتعلقه بالتفسير المأثور عموما ‪ ،‬وال الموفق‪.‬‬

‫( ‪)1/42‬‬

‫اللوحة الولى نسخة من "أ"‬

‫( ‪)1/43‬‬

‫اللوحة الولى من نسخة "ف"‬

‫( ‪)1/44‬‬

‫اللوحة الولى من نسخة "ر"‬

‫( ‪)1/45‬‬
‫اللوحة الولى نسخة من "س"‬

‫( ‪)1/46‬‬

‫اللوحة الخيرة من نسخة "س"‬

‫( ‪)1/47‬‬

‫اللوحة الولى من نسخة "ك"‬

‫( ‪)1/48‬‬

‫عنوان الجزء الرابع من نسخة "م" المحفوظة بشستربتي‬

‫( ‪)1/49‬‬

‫لوحة من نسخة "ت"‬

‫( ‪)1/50‬‬

‫لوحة من المجلد الرابع من نسخة "ت"‬

‫( ‪)1/51‬‬

‫اللوحة الولى من المجلد الخامس من نسخة "ت"‬

‫( ‪)1/52‬‬

‫لوحة من المجلد الخامس من نسخة "ت"‬

‫( ‪)1/53‬‬
‫لوحة من نسخة "د"‬

‫( ‪)1/54‬‬

‫عنوان نسخة "ب"‬

‫( ‪)1/55‬‬

‫اللوحة الولى من نسخة "ب"‬

‫( ‪)1/56‬‬

‫اللوحة الولى من نسخة "جـ"‬

‫( ‪)1/57‬‬

‫لوحة من نسخة "جـ"‬

‫( ‪)1/58‬‬

‫لوحة من نسخة "جـ" وهي بداية اختلف الخط‬

‫( ‪)1/59‬‬

‫إسنادي إلى المصنف‬


‫وأسانيدى إلى ابن كثير كثيرة ‪ ،‬وهي تمر بعدد من تلميذه ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫ما أرويه عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي ‪ ،‬والشيخ عبد الوهاب بن عبد العزيز‬
‫بن زيد الزيد ‪ ،‬كلهما عن الشيخين ‪ :‬محمد الشاذلي النيفر ‪ ،‬وعبد القادر بن كرامة ال‬
‫النجاري ‪ ،‬كلهما عن الشيخ عمر بن حمدان المحرسي ‪ ،‬عن محمد المكي بن مصطفى ‪-‬‬
‫المعروف بابن عزوز ‪ -‬عن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي ‪ ،‬عن الشيخ عبد الرحمن‬
‫ابن حسن بن شيخ السلم محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬عن جده شيخ السلم ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫إبراهيم بن سيف الفَرضِي النجدي ‪ ،‬عن أبي المواهب بن تقي الدين الحنبلي ‪ ،‬عن النجم الغزي ‪،‬‬
‫عن أبيه البدر محمد بن الرضي محمد الغزي الدمشقي ‪ ،‬عن الحافظ السيوطي ‪ ،‬عن بهاء الدين‬
‫أبي البقاء البلقيني ‪ ،‬عن ابن الحسباني ‪ ،‬عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن الفريوائي ‪ ،‬والزيد ‪ ،‬كلهما عن الشيخين ‪ :‬حماد بن محمد النصاري ‪ ،‬وأبي تراب‬
‫الظاهري ‪ ،‬كلهما عن والد الثاني ‪ :‬الشيخ عبد الحق الهاشمي ‪ ،‬عن أحمد بن عبد ال بن سالم‬
‫البغدادي ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ السلم محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬عن جده شيخ‬
‫السلم ‪ ،‬عن عبد ال بن إبراهيم بن سيف النجدي ‪ ،‬عن أبي المواهب محمد بن عبد الباقي بن‬
‫عبد الباقي الحنبلي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن المعمر عبد الرحمن البهوتي الحنبلي ‪ ،‬عن الجمال يوسف بن‬
‫زكريا ‪ ،‬عن أبيه القاضي زكريا النصاري ‪ ،‬عن الحافظ ابن حجر ‪ ،‬عن ابن الجزري ‪ ،‬عن ابن‬
‫كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ عبد العزيز بن عبد ال الزهراني ‪ ،‬عن الشيخ سليمان‬
‫بن حمدان ‪ ،‬عن الشيخ عبد الستار الدهلوي ‪ ،‬عن أبي بكر خوقير ‪ ،‬عن أحمد بن إبراهيم بن‬
‫عيسى ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ السلم محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬عن جده شيخ‬
‫السلم ‪ ،‬عن محمد حياة السندي ‪ ،‬عن عبد ال بن سالم البصري ‪ ،‬عن المسند زين العابدين‬
‫الطبري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن الشمس الرملى ‪ ،‬عن الحافظ السخاوي ‪ ،‬عن الحافظ ابن حجر ‪ ،‬عن‬
‫ابن عنقة البسكري ‪ ،‬عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ أبى تراب الظاهري ‪ ،‬عن الشيخ أحمد شاكر ‪ ،‬عن‬
‫عبد الستار الدهلوي ‪ ،‬عن أبي بكر خوقير ‪ ،‬عن أحمد بن إبراهيم بن عيسى ‪ ،‬عن عبد الرحمن‬
‫بن حسن ابن شيخ السلم محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬عن عبد الرحمن الجبرتي المصري ‪ ،‬عن‬
‫مرتضى الزبيدي ‪ ،‬عن عمر بن عقيل الحسيني ‪ ،‬عن عبد ال بن سالم البصري ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫محمد الديري الدمياطي ‪ ،‬عن سلطان المزاحي ‪ ،‬عن نور الدين علي الزيادي ‪ ،‬عن الجمال‬
‫يوسف بن عبد ال الرموني ‪ ،‬عن الحافظ السيوطي ‪ ،‬عن المحب أبي المعالى الطبري ‪،‬‬
‫والرضي أبي حامد المخزومي ‪ ،‬وأبي بكر المرشدي ‪ ،‬كلهم عن الشهاب بن حجي ‪ ،‬عن ابن‬
‫كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ عبد ال بن عبد الرحمن السعد ‪ ،‬عن الشيخ حمود‬

‫( ‪)1/73‬‬

‫التويجري ‪ ،‬عن الشيخ عبد ال بن عبد العزيز العنقري ‪ ،‬عن الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ‪ ،‬عن‬
‫ابن عيسى ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن حسن ‪ ،‬عن حسن القويسيني ‪ ،‬عن داود القلعي ‪ ،‬عن أحمد‬
‫الجوهري ‪ ،‬عن عبد ال بن سالم البصري ‪ ،‬عن المسند زين العابدين بن عبد القادر الطبري ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن المعمر عبد الواحد بن إبراهيم الحصاري ‪ ،‬عن الحافظ السخاوي ‪ ،‬عن الحافظ ابن‬
‫حجر ‪ ،‬عن سعد الدين النواوي ‪ ،‬عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الرحمن الفريوائي ‪ ،‬وعبد الوهاب الزيد ‪ ،‬كلهما عن الشيخ محمد بن عبد ال‬
‫ابن آدّ الشنقيطي ‪ ،‬عن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ‪ ،‬عن الشيخ علي بن ناصر أبي‬
‫وادى ‪ ،‬عن السيد نذير حسين الدهلوي ‪ ،‬عن محمد إسحاق ‪ ،‬عن عبد العزيز بن ولي ال‬
‫الدهلوي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي الطاهر الكردي ‪ ،‬عن الصفي أحمد بن محمد بن العجل اليمني ‪،‬‬
‫عن يحيى بن مكرم الطبري ‪ ،‬عن الحافظ السيوطي ‪ ،‬عن ابن مقبل الحلبي ‪ ،‬عن ابن اليونانية ‪،‬‬
‫عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الرحمن الفريوائي ‪ ،‬وعبد الوهاب الزيد ‪ ،‬كلهما عن الشيخ بديع الدين الراشدي‬
‫السندي ‪ ،‬وأبى تراب الظاهري ‪ ،‬كلهما عن أبي الوفاء ثناء ال الفرتسري ‪ ،‬عن السيد نذير‬
‫حسين ‪ ،‬عن محمد إسحاق ‪ ،‬عن عبد العزيز بن ولي ال الدهلوي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي الطاهر‬
‫محمد ابن إبراهيم الكردي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن الصفي القشاشي ‪ ،‬عن أبي المواهب الشناوي ‪ ،‬عن‬
‫الشمس الرملي ‪ ،‬عن الحافظ زكريا النصاري ‪ ،‬عن الحافظ ابن حجر ‪ ،‬عن ابن الحريري ‪ ،‬عن‬
‫ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ أحمد بن يحيى النجمي ‪ ،‬عن الشيخ عبد ال بن محمد‬
‫القرعاوي ‪ ،‬عن الشيخ أحمد ال القرشي ‪ ،‬عن السيد نذير حسين ‪ ،‬عن عبد الرحمن الكزبري ‪،‬‬
‫عن الشيخ مصطفى الرحمتي ‪ ،‬عن الشيخ عبد الغني النابلسي ‪ ،‬عن النجم الغزي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫الحافظ زكريا النصاري ‪ ،‬عن الحافظ ابن حجر ‪ ،‬عن محمد بن سلمان البغدادي ‪ -‬نزيل القاهرة‬
‫‪ -‬عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ عبد المنان بن عبد الحق النورفوري ‪ ،‬عن أبي الخير‬
‫السلفي ‪ ،‬عن الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ‪ ،‬عن السيد نذير‬
‫حسين عن محمد عابد السندي ‪ ،‬عن عبد ال ابن شيخ السلم محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬عن أبيه‬
‫شيخ السلم ‪ ،‬عن محمد حياة السندي ‪ ،‬عن حسن العجيحي ‪ ،‬عن أحمد بن محمد بن العجل‬
‫اليمني ‪ ،‬عن يحيى بن مكرم الطبري ‪ ،‬عن الحافظ السيوطي ‪ ،‬عن الشمس محمد بن محمد العقبي‬
‫‪ ،‬والنجم أبي القاسم بن عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن فهد المكي ‪ ،‬كلهما عن ابن‬
‫الجزري ‪ ،‬عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ محمد حياة السندي السلفي ‪ ،‬عن السيد نذير حسين ‪-‬‬
‫بالجازة العامة ‪ -‬عن عبد الرحمن الكزبري ‪ ،‬عن الزبيدى ‪ ،‬عن المعمر السابق بن عرام ‪ ،‬عن‬
‫البابلي ‪ ،‬عن محمد حجازي ‪ ،‬عن المعمر محمد بن أركماس الحنفي ‪ ،‬عن الحافظ ابن حجر عن‬
‫محمد الحبتي عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫( ‪)1/74‬‬

‫(وهذا من أعلى السانيد إلى الحافظ ابن كثير ‪ -‬رحمه ال)‪.‬‬


‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ شمس الدين بن محمد أشرف الفغاني ‪ ،‬والشيخ أحمد‬
‫ال الفيروزفوري ‪ ،‬كلهما عن الحافظ محمد الجوندلوي ‪ ،‬عن الحافظ عبد المنان الوزير آبادى ‪،‬‬
‫عن حسين بن محسن النصاري ‪ ،‬عن محمد بن ناصر الحازمي وأحمد بن محمد علي‬
‫الشوكاني ‪ ،‬كلهما عن والد الثاني المام الشوكاني ‪ ،‬عن السيد عبد القادر بن أحمد ‪ ،‬عن السيد‬
‫سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الهدل ‪ ،‬عن أحمد بن محمد الهدل ‪ ،‬عن أحمد النخلي ‪،‬‬
‫عن البابلي ‪ ،‬عن إبراهيم اللقاني ‪ ،‬عن الرملي ‪ ،‬عن الحافظ زكريا النصاري ‪ ،‬عن الحافظ ابن‬
‫حجر ‪ ،‬عن ابن الحسباني عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد ال بن أبي بكر الحسائي ‪ ،‬عن‬
‫عبد الحي الكتاني ‪ ،‬عن حسين بن محسن النصاري ‪ ،‬عن محمد بن ناصر الحازمي ‪ ،‬وأحمد بن‬
‫محمد بن علي الشوكاني ‪ ،‬كلهما عن والد الثاني المام الشوكاني ‪ ،‬عن يوسف بن محمد بن‬
‫علء الدين المزجاجي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده عن إبراهيم الكردي ‪ ،‬عن أحمد بن محمد المدني ‪،‬‬
‫عن الشمس الرملي ‪ ،‬عن الحافظ زكريا النصاري ‪ ،‬عن الحافظ ابن حجر ‪ ،‬عن الشهاب بن‬
‫حجي ‪ ،‬عن ابن كثير ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫وأروي عن عبد الوهاب الزيد ‪ ،‬عن الشيخ القاضي محمد إسماعيل العمراني اليماني ‪ ،‬عن‬
‫القاضي عبد ال حميد عن الشيخ علي السدمي ‪ ،‬عن جدّ العمراني القاضي محمد بن محمد‬
‫العمراني ‪ ،‬عن المام الشوكاني ‪ ،‬عن السيد عبد القادر الكوكباني ‪ ،‬عن عبد الخالق بن أبي بكر‬
‫المزجاجي ‪ ،‬عن أبي طاهر الكردي ‪ ،‬عن عبد ال بن سالم البصري ‪ ،‬عن الشمس محمد بن علي‬
‫المكتبي ‪ ،‬عن النجم محمد بن البدر الغزي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن الحافظ السيوطي ‪ ،‬عن ناصر الدين‬
‫أبي الفتح محمد بن شهاب الدين أحمد بن أبي بكر البوصيري ‪ ،‬عن محمد الحبتي ‪ ،‬عن ابن كثير‬
‫‪ -‬رحمه ال‪.‬‬

‫( ‪)1/75‬‬

‫مقدمة ابن كثير (‪)1‬‬


‫قال الشيخ المام الوحد ‪ ،‬البارع الحافظ المتقن ‪ ،‬عماد الدين أبو الفداء (‪ )2‬إسماعيل بن الخطيب‬
‫أبي حفص عمر بن كَثير البصروي الشافعي ‪ ،‬رحمه ال تعالى ‪ ،‬ورضي عنه ‪:‬‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ * مَاِلكِ َيوْمِ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * الرّ ْ‬
‫الحمد ل الذي افتتح كتابه بالحمد فقال ‪ { :‬الْ َ‬
‫ج َعلْ لَهُ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَابَ وََلمْ يَ ْ‬
‫الدّينِ } [الفاتحة ‪ ، ]4 - 2 :‬وقال تعالى ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫عوَجَا * قَ ّيمًا لِيُ ْنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُ ْن ُه وَيُبَشّرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ َأجْرًا‬
‫ِ‬
‫علْ ٍم وَل لبَائِهِمْ كَبُ َرتْ‬
‫حسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَ َبدًا * وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا * مَا َلهُمْ بِهِ مِنْ ِ‬
‫َ‬
‫كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ إِنْ َيقُولُونَ إِل كَذِبًا } [الكهف ‪ - 1 :‬ه] ‪ ،‬وافتتح خَلْقه بالحمد ‪ ،‬فقال‬
‫ت وَالنّورَ ثُمّ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّب ِهمْ‬
‫ج َعلَ الظُّلمَا ِ‬
‫ض وَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫َيعْدِلُونَ } [النعام ‪ ، ]1 :‬واختتمه بالحمد ‪ ،‬فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار ‪ { :‬وَتَرَى‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ‬
‫حمْدِ رَ ّب ِه ْم َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلحَقّ َوقِيلَ ا ْل َ‬
‫ح ْولِ ا ْلعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِ َ‬
‫ا ْلمَل ِئكَةَ حَافّينَ مِنْ َ‬
‫حمْدُ فِي‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ } [الزمر ‪ ]75 :‬؛ ولهذا قال [ال] (‪ )3‬تعالى ‪ { :‬وَ ُهوَ اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ لَهُ ا ْل َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ مَا‬
‫جعُونَ } [القصص ‪ ، ]70 :‬كما قال ‪ { :‬الْ َ‬
‫حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫الولَى وَالخِ َر ِة وَلَهُ ا ْل ُ‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ } [سبأ ‪.]1 :‬‬
‫حمْدُ فِي الخِ َر ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَلَهُ الْ َ‬
‫فِي ال ّ‬
‫فله الحمد في الولى والخرة ‪ ،‬أي في جميع ما خلق وما هو خالق ‪ ،‬هو المحمود في ذلك كله ‪،‬‬
‫كما يقول المصلى ‪" :‬اللهم ربنا لك الحمد ‪ ،‬ملء السماوات وملء الرض ‪ ،‬وملء ما شئت من‬
‫شيء بعد" (‪ )4‬؛ ولهذا يُ ْلهَم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يُ ْلهَمون ال ّنفَس ‪ ،‬أي يسبحونه‬
‫ويحمدونه عدد أنفاسهم ؛ لما يرون من عظيم نعمه عليهم ‪ ،‬وكمال قدرته وعظيم سلطانه ‪ ،‬وتوالى‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َيهْدِيهِمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ‬
‫مِنَنه ودوام إحسانه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّلهُ ّم وَتَحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَل ٌم وَآخِرُ‬
‫تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ ال ْنهَارُ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * دَ ْ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [ يونس ‪.]10 ، 9 :‬‬
‫عوَا ُهمْ أَنِ ا ْل َ‬
‫دَ ْ‬
‫سلِ }‬
‫ن َومُنْذِرِينَ لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ‬
‫والحمد ل الذي أرسل رسله { مُبَشّرِي َ‬
‫[النساء ‪ ، ]165 :‬وختمهم بالنبي المي العربي المكي الهادي لوضح السبل ‪ ،‬أرسله إلى جميع‬
‫خلقه من النس والجن ‪ ،‬من لدن بعثته إلى قيام الساعة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬بعدها في جـ ‪" :‬رب يسر ول تعسر" وفي ط ‪" :‬رب يسر وأعن يا كريم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬قال الشيخ العالم العلمة الوحد الحافظ ‪ ،‬المجتهد القدوة ‪ ،‬علمة العلماء ‪ ،‬وارث‬
‫النبياء ‪ ،‬بركة السلم ‪ ،‬حجة العلم ‪ ،‬محيي السنة ‪ ،‬ومن عظم ال به علينا المنة عماد الدين‬
‫أبو الفضل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬هذا اقتباس من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )771‬من حديث البراء بن عازب ‪،‬‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/5‬‬
‫ت وَال ْرضِ ل إَِلهَ إِل ُهوَ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫جمِيعًا الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫{ ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ َ‬
‫ي المّيّ الّذِي ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َوكَِلمَاتِ ِه وَاتّ ِبعُوهُ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ }‬
‫يُحْيِي وَ ُيمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النّ ِب ّ‬
‫[العراف ‪ ، ]158 :‬وقال تعالى ‪ { :‬لنْذِ َر ُكمْ بِ ِه َومَنْ بَلَغَ } [النعام ‪.]19 :‬‬
‫فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعَجَم ‪ ،‬وأسودَ وأحمرَ ‪ ،‬وإنس وجان ‪ ،‬فهو نذير له ؛ ولهذا قال‬
‫تعالى ‪َ { :‬ومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ مِنَ الحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ } [هود ‪ .]17 :‬فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا (‬
‫‪ )1‬فالنار موعده ‪ ،‬بنص ال تعالى ‪ ،‬وكما قال تعالى ‪ { :‬فَذَرْنِي َومَنْ ُيكَ ّذبُ ِبهَذَا ا ْلحَدِيثِ‬
‫ج ُهمْ مِنْ حَ ْيثُ ل َيعَْلمُونَ * وَُأمْلِي َلهُمْ } [القلم ‪.]45 ، 44 :‬‬
‫سَنَسْ َتدْرِ ُ‬
‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ُ " :‬بعِثتُ إلى الحمر والسود" (‪ .)2‬قال مجاهد ‪ :‬يعني ‪:‬‬
‫النس والجن‪ .‬فهو ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليه ‪ -‬رسول ال إلى جميع الثقلين ‪ :‬النس والجن ‪،‬‬
‫طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَل مِنْ‬
‫مُبَّلغًا لهم عن ال ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي { ل يَأْتِيهِ الْبَا ِ‬
‫حمِيدٍ } [فصلت ‪.]42 :‬‬
‫حكِيمٍ َ‬
‫خَ ْلفِهِ تَنزيلٌ مِنْ َ‬
‫ن وََلوْ كَانَ‬
‫وقد أعلمهم فيه عن ال تعالى أنه َندَبهم إلى َت َفهّمه ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ { :‬أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآ َ‬
‫جدُوا فِيهِ اخْتِلفًا كَثِيرًا } [ النساء ‪ ، ]82 :‬وقال تعالى ‪ { :‬كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ‬
‫مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ َلوَ َ‬
‫مُبَا َركٌ لِيَدّبّرُوا آيَا ِت ِه وَلِيَتَ َذكّرَ أُولُو اللْبَابِ } [ص ‪ ، ]29 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬أفَل يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ َأمْ‬
‫عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا } [محمد ‪.]24 :‬‬
‫فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلم ال ‪ ،‬وتفسير ذلك ‪ ،‬وطلبه من مظانه ‪ ،‬وتَعلّم ذلك‬
‫س وَل َتكْ ُتمُونَهُ‬
‫وتعليمه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّا ِ‬
‫ظهُورِهِ ْم وَاشْتَ َروْا بِهِ َثمَنًا قَلِيل فَبِ ْئسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران ‪ ، ]187 :‬وقال تعالى‬
‫فَنَبَذُو ُه وَرَاءَ ُ‬
‫‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ وَأَ ْيمَانِهِمْ َثمَنًا قَلِيل أُولَ ِئكَ ل خَلقَ َل ُهمْ فِي الخِ َر ِة وَل ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران ‪.]77 :‬‬
‫وَل يَ ْنظُرُ إِلَ ْيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وَل يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ‬
‫فذم ال تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب ال إليهم ‪ ،‬وإقبالهم على الدنيا وجمعها ‪،‬‬
‫واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب ال‪.‬‬
‫فعلينا ‪ -‬أيها المسلمون ‪ -‬أن ننتهي عما ذمّهم ال تعالى به ‪ ،‬وأن نأتمر بما أمرنا به ‪ ،‬من َتعَلّم‬
‫شعَ‬
‫كتاب ال المنزل إلينا وتعليمه ‪ ،‬وتفهمه وتفهيمه ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْ َ‬
‫ق وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ َفطَالَ عَلَ ْيهِ ُم المَدُ‬
‫حّ‬‫قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نزلَ مِنَ الْ َ‬
‫سقُونَ * اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ يُحْيِي ال ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا قَدْ بَيّنّا َل ُكمُ اليَاتِ‬
‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫َفقَ َ‬
‫َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } [الحديد ‪ .]17 ، 16 :‬ففي ذكره تعالى لهذه الية بعد التي قبلها تنبيه على أنه‬
‫تعالى كما يحيي الرض بعد موتها ‪ ،‬كذلك يلين القلوب باليمان بعد قسوتها من الذنوب‬
‫والمعاصي ‪ ،‬وال المؤمل المسؤول أن يفعل بنا ذلك ‪ ،‬إنه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ذكرناه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )521‬من حديث جابر ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/6‬‬

‫جواد كريم‪.‬‬
‫فإن قال قائل ‪ :‬فما أحسن طرق التفسير ؟‬
‫جمِل في مكان فإنه قد فُسّر‬
‫فالجواب ‪ :‬إن أصح الطرق في ذلك أن ُيفَسّر القرآن بالقرآن ‪ ،‬فما ُأ ْ‬
‫في موضع آخر ‪ ،‬فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ‪ ،‬بل قد قال‬
‫المام أبو عبد ال محمد بن إدريس الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬كل ما حكم به رسول ال صلى ال‬
‫حكُمَ بَيْنَ‬
‫عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن‪ .‬قال ال تعالى ‪ { :‬إِنّا أَنزلْنَا ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ‬
‫خصِيمًا } [ النساء ‪ ، ]105 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَأَنزلْنَا إِلَ ْيكَ‬
‫النّاسِ ِبمَا أَرَاكَ اللّ ُه وَل َتكُنْ لِلْخَائِنِينَ َ‬
‫ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نزلَ إِلَ ْيهِ ْم وََلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ } [ النحل ‪ ، ]44 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬ومَا أَنزلْنَا‬
‫حمَةً ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [النحل ‪.]64 :‬‬
‫عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ إِل لِتُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي اخْتََلفُوا فِي ِه وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫ولهذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أل إني أوتيت القرآن ومثله معه" (‪ )1‬يعني ‪ :‬السنة‪.‬‬
‫والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي ‪ ،‬كما ينزل (‪ )2‬القرآن ؛ إل أنها ل تتلى كما يتلى القرآن ‪ ،‬وقد‬
‫استدل المام الشافعي ‪ ،‬رحمه ال (‪ )3‬وغيره من الئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه ‪ ،‬فإن لم تجدْه فمن السنة ‪ ،‬كما قال رسولُ ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ‪" :‬بم تحكم ؟ "‪ .‬قال ‪ :‬بكتاب ال‪ .‬قال ‪" :‬فإن لم تجد ؟"‪ .‬قال‬
‫‪ :‬بسنة رسول ال‪ .‬قال ‪" :‬فإن لم تجد ؟ "‪ .‬قال ‪ :‬أجتهد برأيى‪ .‬قال ‪ :‬فضرب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم في صدره ‪ ،‬وقال ‪" :‬الحمد ل الذي وفّق َرسُولَ رسولِ ال لما يرضى رسول ال" (‪)4‬‬
‫وهذا الحديث في المساند (‪ )5‬والسنن بإسناد جيد ‪ ،‬كما هو مقرر في موضعه‪.‬‬
‫وحينئذ ‪ ،‬إذا لم نجد التفسير في القرآن ول في السنة ‪ ،‬رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ‪ ،‬فإنهم‬
‫أدرى بذلك ‪ ،‬لما شاهدوا من القرائن والحوال التي اختصوا بها ‪ ،‬ولما لهم من الفهم التام ‪،‬‬
‫والعلم الصحيح ‪ ،‬والعمل الصالح ‪ ،‬ل سيما علماؤهم وكبراؤهم ‪ ،‬كالئمة الربعة والخلفاء‬
‫الراشدين ‪ ،‬والئمة المهديين ‪ ،‬وعبد ال بن مسعود ‪ ،‬رضي ال عنه (‪.)6‬‬
‫قال المام أبو جعفر محمد بن جرير (‪ )7‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا جابر بن نوح ‪ ،‬حدثنا‬
‫العمش ‪ ،‬عن أبي الضّحَى ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عبد ال ‪ -‬يعني ابن مسعود ‪ : -‬والذي ل‬
‫إله غيره ‪ ،‬ما نزلت آية من (‪ )8‬كتاب ال إل وأنا أعلم فيمن نزلت ؟ وأين نزلت ؟ ولو أعلم‬
‫مكان أحد أعلم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه المام أحمد في المسند (‪ )131 /4‬وأبو داود في السنن برقم (‪ )4604‬من حديث المقدام‬
‫بن معدى كرب ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب ‪" :‬كما ينزله عليه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب ‪" :‬رحمة ال عليه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه المام أحمد في المسند (‪ )230 /5‬وأبو داود في السنن برقم (‪ )3592‬والترمذي في‬
‫السنن برقم (‪ )1328‬من طرق عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من‬
‫أصحاب معاذ عن معاذ به ‪ ،‬وقال الترمذي ‪" :‬هذا حديث ل نعرفه إل من هذا الوجه ‪ ،‬وليس‬
‫إسناده عندي بمتصل ‪ ،‬وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد ال"‪ .‬وللشيخ ناصر اللباني مبحث‬
‫ماتع بين فيه كلم العلماء في نقد الحديث‪ .‬انظر ‪ :‬السلسلة الضعيفة برقم (‪.)881‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬المسانيد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ب ‪" :‬عنهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ب ‪" :‬جرير الطبري"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ب ‪" :‬في"‪.‬‬

‫( ‪)1/7‬‬

‫بكتاب ال منى تناله المطايا لتيته (‪ .)1‬وقال العمش أيضًا ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬عن ابن مسعود‬
‫قال ‪ :‬كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ‪ ،‬والعمل بهن (‪.)2‬‬
‫وقال أبو عبد الرحمن السلمي ‪ :‬حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ‪ ،‬فتعلمنا‬
‫القرآن والعمل جميعا (‪.)3‬‬
‫ومنهم الحبر البحر عبد ال بن عباس ‪ ،‬ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وترجمان القرآن‬
‫وببركة دعاء رسول ال صلى ال عليه وسلم له حيث قال ‪" :‬اللهم فقهه في الدين ‪ ،‬وعلمه التأويل"‬
‫(‪.)4‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن مُسْلم‬
‫قال (‪ )5‬قال عبد ال ‪ -‬يعني ابن مسعود ‪ : -‬نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس (‪ .)6‬ثم رواه عن‬
‫يحيى بن داود ‪ ،‬عن إسحاق الزرق ‪ ،‬عن سفيانَ ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن مسلم بن صُبَيْح أبي‬
‫الضحى ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬عن ابن مسعود أنه قال ‪ :‬نعم الترجمان للقرآن ابن عباس (‪ .)7‬ثم رواه‬
‫عوْن ‪ ،‬عن العمش (‪ )8‬به كذلك‪.‬‬
‫عن بُنْدَار ‪ ،‬عن جعفر بن َ‬
‫فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود ‪ :‬أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة‪ .‬وقد مات ابن مسعود ‪،‬‬
‫عمّر بعده ابن عباس ستًا وثلثين‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬في سنة اثنتين وثلثين على الصحيح ‪ ،‬و ُ‬
‫سنة ‪ ،‬فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ؟‪.‬‬
‫وقال العمش عن أبي وائل ‪ :‬استخلف عِليّ عبد ال بن عباس على الموسم ‪ ،‬فخطب الناس ‪،‬‬
‫فقرأ في خطبته سورة البقرة ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬سورة النور ‪ ،‬ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم‬
‫والترك والديلم لسلموا (‪.)9‬‬
‫ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره ‪ ،‬عن هذين الرجلين ‪:‬‬
‫عبد ال بن مسعود وابن عباس ‪ ،‬ولكن في بعض الحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل‬
‫حدّثوا‬
‫الكتاب ‪ ،‬التي أباحها رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال ‪" :‬بَلّغوا عني ولو آية ‪ ،‬و َ‬
‫عن بني إسرائيل ول حَرَج ‪ ،‬ومن كذب عََلىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن‬
‫عبد ال (‪ )10‬؛ ولهذا كان عبد ال بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل‬
‫الكتاب ‪ ،‬فكان يحدث منهما بما فهمه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ )80 /1‬وجابر بن نوح ضعيف لكنه توبع ‪ ،‬فرواه البخاري في صحيحه‬
‫برقم (‪ )5002‬عن عمر بن حفص عن أبيه عن العمش به‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )80 /1‬من طريق الحسين بن واقد عن العمش به‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )80 /1‬من طريق جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه المام أحمد في المسند (‪ )327 ، 314 ، 266 /1‬وأصله في صحيح البخاري برقم (‬
‫‪.)75‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪" :‬كذا قال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)90 /1‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪ )90 /1‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )537 /3‬من طريق سفيان به‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪ )90 /1‬ورواه أبو خثيمة في العلم برقم (‪ )48‬من طريق جعفر بن عون به‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )81 /1‬والفسوي في تاريخه (‪ )495 /1‬من طريق العمش به‪.‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري برقم (‪.)3461‬‬

‫( ‪)1/8‬‬

‫من هذا الحديث من الذن في ذلك‪.‬‬


‫ولكن هذه الحاديث السرائيلية تذكر للستشهاد ‪ ،‬ل للعتضاد ‪ ،‬فإنها على ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ‪ ،‬فذاك صحيح (‪.)1‬‬
‫والثاني ‪ :‬ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬ما هو مسكوت عنه ل من هذا القبيل ول من هذا القبيل ‪ ،‬فل نؤمن به ول نكذبه ‪،‬‬
‫وتجوز حكايته لما تقدم ‪ ،‬وغالب ذلك مما ل فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ؛ ولهذا يختلف علماء‬
‫أهل الكتاب في هذا كثيرًا ‪ ،‬ويأتي عن المفسرين خلف بسبب ذلك ‪ ،‬كما يذكرون في مثل هذا‬
‫أسماء أصحاب الكهف ‪ ،‬ولون كلبهم ‪ ،‬وعدّتهم ‪ ،‬وعصا موسى من أي الشجر كانت ؟ وأسماء‬
‫الطيور التي أحياها ال لبراهيم ‪ ،‬وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ‪ ،‬ونوع‬
‫الشجرة التي كلّم ال منها موسى ‪ ،‬إلى غير ذلك مما أبهمه ال تعالى في القرآن ‪ ،‬مما ل فائدة في‬
‫تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ول دينهم‪ .‬ولكن َن ْقلُ الخلف عنهم في ذلك جائز ‪ ،‬كما قال‬
‫جمًا بِا ْلغَ ْيبِ وَيَقُولُونَ سَ ْبعَةٌ‬
‫سهُمْ كَلْ ُبهُمْ َر ْ‬
‫خمْسَةٌ سَا ِد ُ‬
‫تعالى ‪ { :‬سَ َيقُولُونَ ثَل َثةٌ رَا ِب ُعهُمْ كَلْ ُبهُمْ وَيَقُولُونَ َ‬
‫وَثَامِ ُنهُمْ كَلْ ُبهُمْ ُقلْ رَبّي أَعْلَمُ ِبعِدّ ِت ِهمْ مَا َيعَْل ُمهُمْ إِل قَلِيلٌ فَل ُتمَارِ فِيهِمْ إِل مِرَاءً ظَاهِرًا وَل تَسْ َت ْفتِ‬
‫فِيهِمْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا } [الكهف ‪ ، ]22 :‬فقد اشتملت هذه الية الكريمة على الدب في هذا المقام وتعليم‬
‫ما ينبغي في مثل هذا ‪ ،‬فإنه تعالى أخبر عنهم بثلثة أقوال ‪ ،‬ضعف القولين الولين وسكت عن‬
‫الثالث ‪ ،‬فدل على صحته إذ لو كان باطل لرده كما ردهما ‪ ،‬ثم أرشد على أن الطلع على‬
‫علَمُ ِبعِدّ ِت ِهمْ } فإنه ما يعلم بذلك إل قليل من‬
‫عدتهم ل طائل تحته ‪ ،‬فقال في مثل هذا ‪ُ { :‬قلْ رَبّي أَ ْ‬
‫الناس ‪ ،‬ممن أطلعه ال عليه ؛ فلهذا قال ‪ { :‬فَل ُتمَارِ فِيهِمْ إِل مِرَاءً ظَاهِرًا } أي ‪ :‬ل تجهد نفسك‬
‫فيما ل طائل تحته ‪ ،‬ول تسألهم عن ذلك فإنهم ل يعلمون من ذلك إل رجم الغيب‪ .‬فهذا أحسن ما‬
‫يكون في حكاية الخلف ‪ :‬أن تستوعب القوال في ذلك المقام ‪ ،‬وأن تنبه على الصحيح منها‬
‫وتبطل الباطل ‪ ،‬وتذكر فائدة الخلف وثمرته ؛ لئل يطول النزاع والخلف فيما ل فائدة تحته ‪،‬‬
‫فتشتغل به عن الهم فالهم‪ .‬فأما من حكى خلفًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو‬
‫ناقص ‪ ،‬إذ قد يكون الصواب في الذي تركه‪ .‬أو يحكي الخلف ويطلقه ول ينبه على الصحيح من‬
‫القوال ‪ ،‬فهو ناقص أيضًا‪ .‬فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب ‪ ،‬أو جاهل فقد‬
‫أخطأ ‪ ،‬وكذلك من نصب الخلف فيما ل فائدة تحته ‪ ،‬أو حكى أقوال متعددة لفظًا ويرجع حاصلها‬
‫إلى قول أو قولين معنى ‪ ،‬فقد ضيع الزمان ‪ ،‬وتكثر بما ليس بصحيح ‪ ،‬فهو كلبس ثوبي زور ‪،‬‬
‫وال الموفق للصواب‪.‬‬
‫[قال سفيان بن عيينة عن عبد ال بن أبي يزيد ‪ :‬كان ابن عباس إذا سئل عن الية في القرآن قال‬
‫به ‪ ،‬فإن لم يكن وكان عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبر به ‪ ،‬فإن لم يكن فعن أبي بكر‬
‫وعمر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬فإن لم يكن اجتهد برأيه] (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬صحيح للعتقاد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط ‪ ،‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/9‬‬
‫فصل‬
‫إذا لم تجد التفسير في القرآن ول في السنة ول وجدته عن الصحابة ‪ ،‬فقد رجع كثير من الئمة‬
‫في ذلك إلى أقوال التابعين ‪ ،‬كمجاهد بن جَبْر (‪ )1‬فإنه كان آية في التفسير ‪ ،‬كما قال محمد بن‬
‫ضتُ المصحف على ابن عباس ثلث‬
‫إسحاق ‪ :‬حدثنا أبان بن صالح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬عَر ْ‬
‫عرضات ‪ ،‬من فاتحته إلى خاتمته ‪ ،‬أوقفه عند كل آية منه ‪ ،‬وأسأله عنها (‪.)2‬‬
‫طلْق بن غنام ‪ ،‬عن عثمان المكي ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَ ْيكَة‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا َ‬
‫قال ‪ :‬رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ‪ ،‬ومعه ألواحه ‪ ،‬قال ‪ :‬فيقول له ابن عباس‬
‫‪ :‬اكتب ‪ ،‬حتى سأله عن التفسير كله (‪ .)3‬ولهذا كان سفيان الثوري يقول ‪ :‬إذا جاءك التفسير عن‬
‫مجاهد فحسبك به (‪.)4‬‬
‫عكْرِمة مولى ابن عباس ‪ ،‬وعطاء بن أبي رباح ‪ ،‬والحسن البصري ‪،‬‬
‫وكسعيد بن جُبَيْر ‪ ،‬و ِ‬
‫ومسروق ابن الجدع ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك‬
‫بن مُزاحم ‪ ،‬وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم ‪ ،‬فتذكر أقوالهم في الية فيقع في عباراتهم‬
‫تباين في اللفاظ ‪ ،‬يحسبها من ل علم عنده اختلفًا فيحكيها أقوال وليس كذلك ‪ ،‬فإن منهم من‬
‫يعبّر عن الشيء بلزمه أو بنظيره ‪ ،‬ومنهم من ينص على الشيء بعينه ‪ ،‬والكل بمعنى واحد في‬
‫كثير من الماكن ‪ ،‬فليتفطن اللبيب لذلك ‪ ،‬وال الهادي‪.‬‬
‫وقال شعبة بن الحجاج وغيره ‪ :‬أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ؟ فكيف تكون حجة في‬
‫التفسير ؟ يعني ‪ :‬أنها ل تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ‪ ،‬وهذا صحيح ‪ ،‬أما إذا أجمعوا‬
‫على الشيء فل يرتاب في كونه حجة ‪ ،‬فإن اختلفوا فل يكون بعضهم حجة على بعض ‪ ،‬ول على‬
‫من بعدهم ‪ ،‬ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب ‪ ،‬أو أقوال الصحابة في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ‪ ،‬لما رواه محمد بن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬حيث قال ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬حدثني عبد العلى ‪ ،‬هو ابن عامر‬
‫الثعلبي ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من قال‬
‫في القرآن برأيه ‪ ،‬أو بما ل يعلم ‪ ،‬فليتبوأ مقعده من النار " (‪.)5‬‬
‫وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي ‪ ،‬من طرق ‪ ،‬عن سفيان الثوري ‪ ،‬به‪ .‬ورواه أبو داود ‪ ،‬عن‬
‫عوَانة ‪ ،‬عن عبد العلى ‪ ،‬به (‪ .)6‬وقال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن‪.‬‬
‫مُسَدّد ‪ ،‬عن أبي َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬جبير"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبري في تفسيره (‪.)90 /1‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)1/90‬‬
‫(‪ )4‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )91 /1‬من طريق أبي بكر الحنفي سمعت سفيان فذكره‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)77 /1‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪ )2952‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )80 84‬وسنن أبي داود برقم (‬
‫‪ ، )3652‬والحديث مداره على عبد العلى بن عامر قال أبو زرعة ‪ :‬ضعيف ‪ ،‬وتركه ابن‬
‫مهدي‪.‬‬

‫( ‪)1/10‬‬

‫وهكذا رواه ابن جرير ‪ -‬أيضًا ‪ -‬عن يحيى بن طلحة اليربوعي ‪ ،‬عن شريك ‪ ،‬عن عبد العلى ‪،‬‬
‫به مرفوعا (‪ .)1‬ولكن رواه محمد بن حميد ‪ ،‬عن الحكم بن بشير ‪ ،‬عن عمرو بن قيس المُلئِي ‪،‬‬
‫عن عبد العلى ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬فوقفه (‪ .)2‬وعن محمد بن حميد ‪ ،‬عن جرير ‪،‬‬
‫عن ليث ‪ ،‬عن بكر ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس من قوله (‪ )3‬فال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا العباس بن عبد العظيم العَنْبَرِي ‪ ،‬حدثنا حَبّان بن هلل ‪ ،‬حدثنا سهيل أخو‬
‫جوْني ‪ ،‬عن جُنْدب ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من‬
‫حزم ‪ ،‬حدثنا أبو عمران ال َ‬
‫قال في القرآن برأيه فقد أخطأ " (‪.)4‬‬
‫وقد روى هذا الحديث أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القُطعي ‪،‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬غريب ‪ ،‬وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل (‪.)5‬‬
‫وفي لفظ لهم ‪" :‬من قال في كتاب ال برأيه ‪ ،‬فأصاب ‪ ،‬فقد أخطأ" أي ‪ :‬لنه قد تكلف ما ل علم‬
‫له به ‪ ،‬وسلك غير ما أمر به ‪ ،‬فلو أنه أصاب المعنى في نفس المر لكان قد أخطأ ؛ لنه لم يأت‬
‫المر من بابه ‪ ،‬كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار ‪ ،‬وإن وافق حكمه الصواب في‬
‫نفس المر ‪ ،‬لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬وهكذا سمى ال القَذَفة كاذبين ‪ ،‬فقال‬
‫شهَدَاءِ فَأُولَ ِئكَ عِ ْندَ اللّهِ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ } [النور ‪ ، ]13 :‬فالقاذف كاذب ‪ ،‬ولو كان‬
‫‪ { :‬فَِإذْ لَمْ يَأْتُوا بِال ّ‬
‫قد قذف من زنى في نفس المر ؛ لنه أخبر بما ل يحل له الخبار به ‪ ،‬ولو كان أخبر بما يعلم ؛‬
‫لنه تكلف ما ل علم له به ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ولهذا تَحَرّج جماعة من السلف عن تفسير ما ل علم لهم به ‪ ،‬كما روى شعبة ‪ ،‬عن سليمان ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن مرة ‪ ،‬عن أبي َم ْعمَر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال أبو بكر الصديق ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ :‬أيّ أرض تقلّني‬
‫وأي سماء تظلني ؟ إذا قلت في كتاب ال ما ل أعلم (‪.)6‬‬
‫حوْشَب ‪ ،‬عن إبراهيم‬
‫وقال أبو عبيد القاسم بن سلم ‪ :‬حدثنا محمد (‪ )7‬بن يزيد ‪ ،‬عن ال َعوّام بن َ‬
‫التّ ْيمِي ؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله ‪َ { :‬وفَا ِكهَ ًة وَأَبّا } [عبس ‪ ، ]31 :‬فقال ‪ :‬أي سماء‬
‫تظلني ‪ ،‬وأي أرض تقلني ؟ إذا أنا قلت في كتاب ال ما ل أعلم‪ .‬منقطع (‪.)8‬‬
‫وقال أبو عبيد أيضًا ‪ :‬حدثنا يزيد ‪ ،‬عن حميد ‪ ،‬عن أنس ؛ أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)77 /1‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪ )78 /1‬ورواه وكيع عن عبد العلى فوقفه ‪ ،‬رواه ابن أبي شيبة في‬
‫المصنف (‪.)512 /10‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)78 /1‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)79 /1‬‬
‫(‪ )5‬سنن أبي داود برقم (‪ )3652‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2953‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪)8086‬‬
‫(‪ )6‬رواه الطبري في تفسيره (‪.)78 /1‬‬
‫(‪ )7‬في ب ‪" :‬محمود"‪.‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪ )227‬ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )513 /10‬عن محمد بن عبيد‬
‫عن العوام بن حوشب به‪.‬‬

‫( ‪)1/11‬‬

‫{ َوفَا ِكهَ ًة وَأَبّا } [عبس ‪ ، ]31 :‬فقال ‪ :‬هذه الفاكهة قد عرفناها ‪ ،‬فما البّ ؟ ثم رجع إلى نفسه‬
‫فقال ‪ :‬إن هذا لهو التكلف يا عمر (‪.)1‬‬
‫حمَيْد ‪ :‬حدثنا سليمان بن حرب ‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد ‪ ،‬عن ثابت ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وقال عَبْد بن ُ‬
‫كنا عند عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وفي ظهر قميصه أربع رقاع ‪ ،‬فقرأ ‪َ { :‬وفَا ِكهَ ًة وَأَبّا‬
‫} فقال ‪ :‬ما الب ؟ ثم قال ‪ :‬إن هذا لهو التكلف (‪ )2‬فما عليك أل تدريه (‪.)3‬‬
‫وهذا كله محمول على أنهما ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬إنما أرادا استكشاف علم كيفية الب ‪ ،‬وإل‬
‫فكونه نبتا من الرض ظاهر ل يجهل ‪ ،‬لقوله ‪ { :‬فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّا وَعِنَبًا } الية [عبس ‪، 27 :‬‬
‫‪.]28‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن عُلَيّة ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَ ْيكَة ‪:‬‬
‫أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها ‪ ،‬فأبى أن يقول فيها (‪ .)4‬إسناده (‪)5‬‬
‫صحيح‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬قال ‪ :‬سأل رجل‬
‫ابن عباس عن { َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } [ السجدة ‪ ، ]5 :‬فقال له ابن عباس ‪ :‬فما { َيوْمٍ كَانَ‬
‫خمْسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ } [ المعارج ‪ ]4 :‬؟ فقال له الرجل ‪ :‬إنما سألتك لتحدثني‪ .‬فقال ابن‬
‫ِمقْدَا ُرهُ َ‬
‫عباس ‪ :‬هما يومان ذكرهما ال تعالى في كتابه ‪ ،‬ال أعلم بهما‪ .‬فكره أن يقول في كتاب ال ما ل‬
‫يعلم (‪.)6‬‬
‫علَيّة ‪ ،‬عن َمهْدي‬
‫وقال ‪ -‬أيضًا ‪ -‬ابن جرير ‪ :‬حدثني يعقوب ‪ -‬يعني ابن إبراهيم ‪ -‬حدثنا ابن ُ‬
‫بن ميمون ‪ ،‬عن الوليد بن مسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬جاء طَلْق بن حبيب إلى جُ ْندُب بن عبد ال ‪ ،‬فسأله عن‬
‫آية من القرآن ؟ فقال ‪ :‬أحرّج عليك إن كنت مسلمًا إل ما قمتَ عني ‪ ،‬أو قال ‪ :‬أن تجالسني (‪.)7‬‬
‫وقال مالك ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ :‬إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من‬
‫القرآن ‪ ،‬قال ‪ :‬إنا ل نقول في القرآن شيئًا (‪.)8‬‬
‫وقال الليث ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ :‬إنه كان ل يتكلم إل في المعلوم من‬
‫القرآن (‪.)9‬‬
‫وقال شعبة ‪ ،‬عن عمرو بن مُرّة ‪ ،‬قال ‪ :‬سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال ‪ :‬ل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪ )227‬ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )512 /10‬عن يزيد به ‪،‬‬
‫ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )514 /2‬من طريق يزيد عن حميد به ‪ ،‬وقال ‪" :‬صحيح على شرط‬
‫الشيخين ولم يخرجاه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬التكلف يا عمر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه ابن سعد في الطبقات (‪ ، )327 /3‬ورواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )7293‬عن‬
‫سليمان بن حرب به مختصرًا ولفظه ‪" :‬نهينا عن التكلف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)86 /1‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪" :‬إسناد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)228‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪.)86 /1‬‬
‫(‪ )8‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )85 /1‬من طريق ابن وهب عن مالك به‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )86 /1‬من طريق ابن وهب عن مالك به‪.‬‬

‫( ‪)1/12‬‬

‫تسألني عن القرآن ‪ ،‬وسل من يزعم أنه ل يخفى عليه منه شيء ‪ ،‬يعني ‪ :‬عكرمة (‪.)1‬‬
‫شوْذَب ‪ :‬حدثني يزيد بن أبي يزيد ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلل‬
‫وقال ابن َ‬
‫والحرام ‪ ،‬وكان أعلم الناس ‪ ،‬فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت ‪ ،‬كأن لم يسمع (‪.)2‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني أحمد بن عبدة الضّبّىّ ‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد ‪ ،‬حدثنا عبيد ال بن عمر ‪،‬‬
‫ت فقهاء المدينة ‪ ،‬وإنهم ليعظّمون القول في التفسير ‪ ،‬منهم ‪ :‬سالم بن عبد ال ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬لقد أدرك ُ‬
‫والقاسم بن محمد ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬ونافع (‪.)3‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن هشام بن عُ ْروَة ‪ ،‬قال ‪ :‬ما سمعت‬
‫أبي تَأوّل آية من كتاب ال قط (‪.)4‬‬
‫عوْن ‪ ،‬وهشام الدّسْتوائِي ‪ ،‬عن محمد بن سيرين ‪ :‬سألت عبَيدة السلماني ‪ ،‬عن‬
‫وقال أيوب ‪ ،‬وابن َ‬
‫آية من القرآن فقال ‪ :‬ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل (‪ )5‬القرآن ؟ فاتّق ال ‪ ،‬وعليك بالسداد (‬
‫‪.)6‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا معاذ ‪ ،‬عن ابن عون ‪ ،‬عن عبد ال بن مسلم بن يسار ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫إذا حدثت عن ال فقف ‪ ،‬حتى تنظر ما قبله وما بعده (‪.)7‬‬
‫حدثنا هُشَيْم ‪ ،‬عن مُغيرة ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬قال ‪ :‬كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه (‪.)8‬‬
‫سفْر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال الشعبي ‪ :‬وال ما من آية إل وقد سألت عنها ‪،‬‬
‫وقال شعبة عن عبد ال بن أبي ال ّ‬
‫ولكنها الرواية عن ال عز وجل (‪.)9‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا هشيم ‪ ،‬حدثنا عمر بن أبي زائدة ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫اتقوا التفسير ‪ ،‬فإنما هو الرواية عن ال (‪.)10‬‬
‫فهذه الثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلم في التفسير‬
‫بما ل علم لهم به ؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا ‪ ،‬فل حرج عليه ؛ ولهذا روي عن‬
‫هؤلء وغيرهم أقوال في التفسير ‪ ،‬ول منافاة ؛ لنهم تكلموا فيما علموه ‪ ،‬وسكتوا عما جهلوه ‪،‬‬
‫وهذا هو الواجب على كل أحد ؛ فإنه كما يجب السكوت عما ل علم له به ‪ ،‬فكذلك يجب القول‬
‫فيما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )87 /1‬وابن أبي شيبة في المصنف (‪ )511 /10‬من طريق محمد‬
‫بن جعفر عن شعبة به‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )86 /1‬عن العباس بن الوليد عن أبيه عن ابن شوذب به‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)85 /1‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)229‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬نزل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )86 /1‬من طريق ابن علية عن أيوب وابن عون به‪.‬‬
‫(‪ )7‬فضائل القرآن (ص ‪.)229‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪ )229‬ورواه أبو نعيم (‪ )222 /4‬من طريق جرير عن المغيرة به‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )87 /1‬من طريق سعيد بن عامر عن شعبة به‪.‬‬
‫(‪ )10‬فضائل القرآن (ص ‪.)229‬‬

‫( ‪)1/13‬‬
‫س وَل َتكْ ُتمُونَهُ } [آل عمران ‪ ، ]187 :‬ولما جاء‬
‫سئل عنه مما يعلمه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّا ِ‬
‫في الحديث المروى من طرق ‪" :‬من سئل عن علم فكتمه ‪ ،‬أ ْلجِم يوم القيامة بلجام من نار" (‪.)1‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير ‪:‬‬
‫حدثنا عباس بن عبد العظيم ‪ ،‬حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة ‪ ،‬حدثنا جعفر بن محمد بن‬
‫الزبيري ‪ ،‬حدثني هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬قالت ‪ :‬ما كان النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم يفسر شيئًا من القرآن إل آيا تُعد ‪ ،‬علمهن إيّاه جبريل ‪ ،‬عليه السلم‪ .‬ثم رواه عن أبي بكر‬
‫محمد بن يزيد الطرسوسي ‪ ،‬عن َمعْن بن عيسى ‪ ،‬عن جعفر بن خالد ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬به‪.)2( .‬‬
‫فإنه حديث منكر غريب ‪ ،‬وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي‬
‫الزبيري ‪ ،‬قال البخاري ‪ :‬ل يتابع في حديثه ‪ ،‬وقال الحافظ أبو الفتح الزدي ‪ :‬منكر الحديث‪.‬‬
‫وتكلّم عليه المام أبو جعفر بما حاصله أن هذه اليات مما ل يعلم إل بالتوقيف عن ال تعالى ‪،‬‬
‫مما وقفه عليها جبريل‪ .‬وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث ؛ فإن من القرآن ما استأثر ال تعالى‬
‫بعلمه ‪ ،‬ومنه ما يعلمه العلماء ‪ ،‬ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ‪ ،‬ومنه ما ل يعذر أحد في جهله‬
‫‪ ،‬كما صرح بذلك ابن عباس ‪ ،‬فيما قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا ُم َؤمّل ‪ ،‬حدثنا‬
‫سفيان ‪ ،‬عن أبي الزناد [عن العرج] (‪ )3‬قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬التفسير على أربعة أوجه ‪:‬‬
‫وجه تعرفه العرب من كلمها ‪ ،‬وتفسير ل يعذر أحد بجهالته ‪ ،‬وتفسير يعلمه العلماء ‪ ،‬وتفسير ل‬
‫يعلمه إل ال (‪.)4‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وقد روى نحوه في حديث في إسناده نظر ‪:‬‬
‫حدثني يونس بن عبد العلى الصدفي ‪ ،‬أنبأنا ابن وهب قال ‪ :‬سمعت عمرو بن الحارث يحدث‬
‫عن الكلبي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬مولى أم هانئ ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ‪ :‬أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم قال ‪" :‬أنزل القرآن على أربعة (‪ )5‬أحرف ‪ :‬حلل وحرام ‪ ،‬ل يعذر أحد بالجهالة به‪.‬‬
‫وتفسير تفسره [العرب ‪ ،‬وتفسير‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬جاء من حديث أبي هريرة ‪ ،‬ومن حديث أنس ‪ ،‬وأبي سعيد الخدري ‪ ،‬رضي ال عنهم‪ .‬أما‬
‫حديث أبي هريرة ‪ ،‬فرواه أحمد في المسند (‪ )263 /2‬وأبو داود في السنن برقم (‪)3658‬‬
‫والترمذي في السنن برقم (‪ )2649‬وابن ماجة في السنن برقم (‪ )261‬من طريق علي ابن الحكم‬
‫عن عطاء عن أبي هريرة ‪ ،‬وقال الترمذي ‪" :‬حديث حسن"‪ .‬وأما حديث أنس ‪ ،‬فرواه ابن ماجة‬
‫في السنن برقم (‪ )264‬من طريق يوسف بن إبراهيم عن أنس ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪/1‬‬
‫‪" : )117‬هذا إسناد ضعيف"‪ .‬وأما حديث أبي سعيد ‪ ،‬فرواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )265‬من‬
‫طريق محمد بن داب عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد ‪ ،‬وقال‬
‫البوصيري في الزوائد (‪" : )118 /1‬هذا إسناد ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪ )84 /1‬ورواه أبو يعلى في مسنده (‪ )23 /8‬من طريق معن القزاز عن‬
‫فلن بن محمد بن خالد ‪ ،‬عن هشام بن عروة به ‪ ،‬ورواه البزار في مسنده برقم (‪" )2185‬كشف‬
‫الستار" عن محمد بن المثنى ‪ ،‬عن محمد بن خالد بن عثمة ‪ ،‬عن حفص ‪ -‬أظنه ابن عبد ال ‪-‬‬
‫عن هشام عن أبيه به‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من نسخة مساعدة بجامعة المام محمد بن سعود السلمية‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)75 /1‬‬
‫(‪ )5‬في هـ ‪ ،‬ب ‪" :‬سبعة" والمثبت من جـ ‪ ،‬والطبري‪.‬‬

‫( ‪)1/14‬‬

‫تفسره] (‪ )1‬العلماء‪ .‬ومتشابه ل يعلمه إل ال عز وجل ‪ ،‬ومن ادعى علمه سوى ال فهو كاذب" (‬
‫‪.)2‬‬
‫والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي ؛ فإنه متروك الحديث ؛‬
‫لكن قد يكون إنما وهم في رفعه‪ .‬ولعله من كلم ابن عباس ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬وال أعلم بالصواب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬والطبري‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)76 /1‬‬

‫( ‪)1/15‬‬

‫كتاب فضائل القرآن‬


‫قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫كيف نزول الوحي وأول ما نزل ‪:‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬المهيمن المين القرآن ‪ ،‬أمين على كل كتاب قبله ‪ :‬حدثنا عبيد ال بن موسى‬
‫عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة قال ‪ :‬أخبرتني عائشة وابن عباس قال لبث النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن ‪ ،‬وبالمدينة عشرا (‪.)1‬‬
‫ذكر البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬كتاب "فضائل القرآن" بعد كتاب التفسير ؛ لن التفسير أهم ولهذا بدأ‬
‫به ‪[ ،‬ونحن قدمنا الفضائل قبل التفسير وذكرنا فضل كل سورة قبل تفسيرها ليكون ذلك باعثا‬
‫على حفظ القرآن وفهمه والعمل بما فيه وال المستعان] (‪.)2‬‬
‫وقول ابن عباس في تفسير المهيمن إنما يريد به البخاري قوله تعالى في المائدة بعد ذكر التوراة‬
‫والنجيل ‪ { :‬وَأَنزلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ َو ُمهَ ْيمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة ‪:‬‬
‫‪ .]48‬قال المام أبو جعفر بن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫حدثنا المثنى ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬حدثني معاوية عن علي ‪ -‬يعني ابن أبي طلحة ‪ -‬عن‬
‫ابن عباس في قوله ‪َ { :‬و ُمهَيْمِنًا عَلَ ْيهِ } قال ‪ :‬المهيمن ‪ :‬المين‪ .‬قال ‪ :‬القرآن أمين على كل كتاب‬
‫قبله (‪ .)3‬وفي رواية ‪ :‬شهيدا عليه (‪ .)4‬وقال سفيان الثوري وغير واحد من الئمة عن أبي‬
‫إسحاق السبيعي ‪ ،‬عن التميمي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬و ُمهَيْمِنًا عَلَيْهِ } قال ‪ :‬مؤتمنا (‪ .)5‬وبنحو ذلك‬
‫قال مجاهد والسدي وقتادة وابن جريج والحسن البصري وغير واحد من أئمة السلف‪ .‬وأصل‬
‫الهيمنة ‪ :‬الحفظ والرتقاب ‪ ،‬يقال إذا َرقَب الرجل الشيء وحفظه وشهده ‪ :‬قد هيمن فلن عليه ‪،‬‬
‫فهو يهيمن هيمنة وهو عليه مهيمن ‪ ،‬وفي أسماء ال تعالى ‪ :‬المهيمن ‪ ،‬وهو الشهيد على كل‬
‫شيء ‪ ،‬والرقيب ‪ :‬الحفيظ بكل شيء‪.‬‬
‫وأما الحديث الذي أسنده البخاري ‪ :‬أنه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أقام بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن ‪،‬‬
‫وبالمدينة عشرا ‪ ،‬فهو مما انفرد به البخاري دون مسلم ‪ ،‬وإنما رواه النسائي من حديث شيبان‬
‫وهو ابن عبد الرحمن ‪ ،‬عن يحيى وهو ابن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي سلمة عنها (‪.)6‬‬
‫وقال أبو عبيد القاسم بن سلم ‪ :‬حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫قال ‪ :‬أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ‪ ،‬ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة‬
‫‪ ،‬ثم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4979 ، 4978‬‬
‫(‪ )2‬جاء في م ‪" :‬فجرينا على منواله وسننه مقتدين به" وما أثبته من ط ‪ ،‬جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪ )379 /10‬ط‪ .‬المعارف‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪ )377 /10‬ط‪ .‬المعارف‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )378 /10‬ط‪ .‬المعارف‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)7977‬‬

‫( ‪)1/17‬‬

‫ث وَنزلْنَاهُ تَنزيل } [السراء ‪ .]106 :‬هذا إسناد‬


‫قرأ { َوقُرْآنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ عَلَى ُم ْك ٍ‬
‫صحيح (‪ .)1‬أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ما ل خلف فيه ‪ ،‬وأما إقامته بمكة بعد النبوة‬
‫فالمشهور ثلث عشرة سنة ؛ لنه ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬أوحى إليه وهو ابن أربعين سنة ‪،‬‬
‫وتوفى وهو ابن ثلث وستين سنة على الصحيح ‪ ،‬ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشرة‬
‫اختصارا في الكلم ؛ لن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور في كلمهم ‪ ،‬أو أنهما إنما اعتبرا قرن‬
‫جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬به عليه السلم‪ .‬فإنه (‪ )2‬قد روى المام أحمد أنه قرن به ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫ميكائيل في ابتداء المر ‪ ،‬يلقى إليه الكلمة والشيء ‪ ،‬ثم قرن به جبريل‪.‬‬
‫ووجه مناسبة هذا الحديث بفضائل القرآن ‪ :‬أنه ابتدئ بنزوله في مكان شريف ‪ ،‬وهو البلد الحرام‬
‫‪ ،‬كما أنه كان في زمن شريف وهو شهر رمضان ‪ ،‬فاجتمع له شرف الزمان والمكان ؛ ولهذا‬
‫يستحب إكثار تلوة القرآن في شهر رمضان ؛ لنه ابتدئ نزوله فيه ؛ ولهذا كان جبريل يعارض‬
‫به رسول ال صلى ال عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان ‪ ،‬فلما كان في السنة التي توفى‬
‫فيها عارضه به مرتين تأكيدا وتثبيتًا‪.‬‬
‫وأيضا في هذا الحديث بيان أنه من القرآن َمكّي ومنه مدني ‪ ،‬فالمكي ‪ :‬ما نزل قبل الهجرة ‪،‬‬
‫والمدني ‪ :‬ما نزل بعد الهجرة ‪ ،‬سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلد كان ‪ ،‬حتى ولو كان‬
‫بمكة أو عرفة‪ .‬وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأخر أنها من المدني ‪ ،‬واختلفوا في أخر ‪،‬‬
‫وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر ‪ ،‬ولكن قال بعضهم ‪ :‬كل سورة في‬
‫أولها شيء من الحروف المقطعة فهي مكية إل البقرة وآل عمران ‪ ،‬كما أن كل سورة فيها ‪:‬‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فهي مدنية وما فيها ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا النّاسُ } فيحتمل أن يكون من هذا ومن هذا ‪،‬‬
‫والغالب أنه مكي‪ .‬وقد يكون مدنيا كما في البقرة { يَاأَ ّيهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُ ْم وَالّذِينَ‬
‫مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } (‪[ )3‬البقرة ‪ { ، ]20 :‬يَاأَ ّيهَا النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي ال ْرضِ حَلل طَيّبًا وَل‬
‫ع ُدوّ مُبِينٌ } [البقرة ‪.]168 :‬‬
‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫تَتّ ِبعُوا خُ ُ‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا من سمع العمش يحدث عن إبراهيم بن علقمة ‪ :‬كل‬
‫شيء في القرآن ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فإنه أنزل بالمدينة ‪ ،‬وما كان { يَاأَ ّيهَا النّاسُ } فإنه أنزل‬
‫بمكة (‪ .)4‬ثم قال ‪ :‬حدثنا علي بن معبد ‪ ،‬عن أبي الملَيْح ‪ ،‬عن ميمون بن ِمهْران ‪ ،‬قال ‪ :‬ما كان‬
‫في القرآن ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا النّاسُ } و { يَابَنِي آ َدمَ } فإنه مكي ‪ ،‬وما كان ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فإنه‬
‫مدني (‪.)5‬‬
‫ومنهم من يقول ‪ :‬إن بعض السور نزل مرتين ‪ ،‬مرة بالمدينة ومرة بمكة ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ومنهم من‬
‫يستثني من المكي آيات يدعي أنها من المدني ‪ ،‬كما في سورة الحج وغيرها‪.‬‬
‫والحق في ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح ‪ ،‬فال أعلم‪ .‬وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪ )222‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )222 /2‬من طريق يزيد بن‬
‫هارون به ‪ ،‬وقال ‪" :‬هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬فكأنه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في م ‪" :‬اتقوا" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)222‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪.)222‬‬
‫( ‪)1/18‬‬

‫صالح ‪ ،‬عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت بالمدينة سورة البقرة ‪ ،‬وآل‬
‫عمران ‪ ،‬والنساء ‪ ،‬والمائدة ‪ ،‬والنفال ‪ ،‬والتوبة ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والنور ‪ ،‬والحزاب ‪ ،‬والذين كفروا ‪،‬‬
‫والفتح ‪ ،‬والحديد ‪ ،‬والمجادلة ‪ ،‬والحشر ‪ ،‬والممتحنة ‪ ،‬والحواريون ‪ ،‬والتغابن ‪ ،‬و { يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ‬
‫إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ } و { يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ } والفجر ‪ { ،‬وَاللّ ْيلِ إِذَا َيغْشَى } و { إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ‬
‫ا ْلقَدْرِ } و { لَمْ َيكُنِ الّذِينَ َكفَرُوا } و { إِذَا زُلْ ِزَلتِ } و { ِإذَا جَاءَ َنصْرُ اللّهِ } وسائر ذلك بمكة (‬
‫‪.)1‬‬
‫وهذا إسناد صحيح عن ابن أبي طلحة مشهور ‪ ،‬وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه‬
‫التفسير ‪ ،‬وقد ذكر في المدني سورا في كونها مدنية نظر ‪ ،‬وفاته الحجرات والمعوذات‪.‬‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬وقال البخاري ‪ :‬حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا معتمر قال ‪ :‬سمعت أبي عن‬
‫أبي عثمان قال ‪ :‬أنبئت أن جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أتى النبي صلى ال عليه وسلم وعنده أم‬
‫سلمة ‪ ،‬فجعل يتحدث ‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من هذا ؟" أو كما قال ‪ ،‬قالت ‪ :‬هذا‬
‫دحية الكلبي ‪ ،‬فلما قام قلت ‪ :‬وال ما حسبته إل إياه ‪ ،‬حتى سمعت خطبة النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم يُخبر خَبر جبريل‪ .‬أو كما قال ‪ ،‬قال أبي ‪ :‬فقلت لبي عثمان ‪ :‬ممن سمعت هذا ؟ فقال ‪:‬‬
‫من أسامة بن زيد‪ .‬وهكذا رواه أيضا في علمات النبوة عن عباس بن الوليد النرسي ‪ ،‬ومسلم في‬
‫فضائل أم سلمة عن عبد العلى بن حماد [ومحمد بن عبد العلى] (‪ )2‬كلهم عن معتمر بن‬
‫سليمان به (‪.)3‬‬
‫والغرض من إيراد هذا الحديث هاهنا أن السفير بين ال وبين محمد صلى ال عليه وسلم جبريل‬
‫علَى‬
‫عليه السلم وهو ملك كريم ذو وجاهة وجللة ومكانة كما قال ‪ { :‬نزلَ بِهِ الرّوحُ المِينُ * َ‬
‫قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } [الشعراء ‪ ، ]194 ، 193 :‬وقال تعالى ‪ { :‬إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *‬
‫ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * مُطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ * َومَا صَاحِ ُبكُمْ ِب َمجْنُونٍ } اليات [التكوير ‪19 :‬‬
‫‪ .]22 -‬فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدًا صلى ال عليه وسلم‬
‫وسنستقصي الكلم على تفسير هذا الكتاب (‪ )4‬في موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء ال تعالى وبه‬
‫الثقة‪.‬‬
‫وفي الحديث فضيلة عظيمة لم سلمة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ -‬كما بينه مسلم رحمه ال ‪ -‬لرؤيتها‬
‫لهذا الملك العظيم ‪ ،‬وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبي ‪ ،‬وذلك أن جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬كان‬
‫كثيرا ما يأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ‪ ،‬كلهم ينسبون إلى كلب بن وبرة وهم قبيلة‬
‫من قضاعة ‪ ،‬وقضاعة قيل ‪ :‬إنهم من عدنان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من قحطان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بطن مستقل بنفسه ‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)221‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ ، )3634( ، )4980‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2451‬‬
‫(‪ )4‬في جـ‪" .‬المكان"‪.‬‬

‫( ‪)1/19‬‬

‫الحديث الثالث ‪ :‬حدثنا عبد ال بن يوسف ‪ ،‬حدثنا الليث بن سعيد المقبري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال النبي (‪ )1‬صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما من النبياء نبي إل‬
‫أعطى ما مثله آمن عليه البشر ‪ ،‬وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه ال إليّ ‪ ،‬فأرجو أن أكون‬
‫أكثرهم تابعا يوم القيامة" (‪.)2‬‬
‫ورواه أيضا في [كتاب] (‪ )3‬العتصام عن عبد العزيز بن عبد ال ومسلم والنسائي عن قتيبة‬
‫جميعا ‪ ،‬عن الليث بن سعد ‪ ،‬عن سعيد بن أبي سعيد ‪ ،‬عن أبيه ‪ -‬واسمه كيسان المقبري ‪ -‬به‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من النبياء ‪ ،‬وعلى‬
‫كل كتاب أنزله ‪ ،‬وذلك أن معنى الحديث ‪ :‬ما من نبي إل أعطى من المعجزات ما آمن عليه‬
‫البشر ‪ ،‬أي ‪ :‬ما كان دليل على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر ‪ ،‬ثم لما مات‬
‫النبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إل ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه ‪ ،‬فأما الرسول الخاتم‬
‫للرسالة محمد صلى ال عليه وسلم فإنما كان معظم ما آتاه ال وحيا منه إليه منقول إلى الناس‬
‫بالتواتر ‪ ،‬ففي كل حين هو كما أنزل ‪ ،‬فلهذا قال ‪" :‬فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" ‪ ،‬وكذلك وقع ‪،‬‬
‫فإن أتباعه أكثر من أتباع النبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة ‪ ،‬واستمرار معجزته ؛‬
‫ولهذا قال ال ‪ { :‬تَبَا َركَ الّذِي نزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ عَلَى عَ ْب ِدهِ لِ َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان ‪ ، ]1 :‬وقال‬
‫س وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ هَذَا ا ْلقُرْآنِ ل يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ‬
‫تعالى ‪ُ { :‬قلْ لَئِنِ اجْ َت َمعَتِ النْ ُ‬
‫ظهِيرًا } [السراء ‪ ، ]88 :‬ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال ‪َ { :‬أمْ َيقُولُونَ‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫َب ْع ُ‬
‫طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ }‬
‫سوَرٍ مِثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ‬
‫افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِب َعشْرِ ُ‬
‫[هود ‪ ]13 :‬ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا‬
‫طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [يونس ‪ ، ]38 :‬وقصر التحدي‬
‫بِسُو َرةٍ مِثْلِ ِه وَادْعُوا مَنِ اسْتَ َ‬
‫على هذا المقام في السور (‪ )4‬المكية كما ذكرنا وفي المدنية أيضا كما في سورة البقرة ‪ ،‬حيث‬
‫شهَدَا َءكُمْ مِنْ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِنْ مِثِْل ِه وَادْعُوا ُ‬
‫س وَا ْلحِجَا َرةُ‬
‫دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * فَإِنْ لَمْ َتفْعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُو ُدهَا النّا ُ‬
‫أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ } [البقرة ‪ ]24 ، 23 :‬فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله ‪ ،‬وأنهم ل‬
‫يفعلون ذلك في المستقبل أيضا ‪ ،‬وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلغة والشعر وقريض الكلم‬
‫وضروبه ‪ ،‬لكن جاءهم من ال مال قبل لحد من البشرية من الكلم الفصيح البليغ ‪ ،‬الوجيز ‪،‬‬
‫المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة ‪ ،‬والخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والتية ‪،‬‬
‫ك صِ ْدقًا وَعَدْل } [النعام ‪.]115 :‬‬
‫والحكام العادلة والمحكمة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ‬
‫وقال المام أحمد بن حنبل ‪ :‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا محمد بن إسحاق قال ‪:‬‬
‫ذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد ال العور قال ‪ :‬قلت ‪ :‬لتين أمير المؤمنين ‪،‬‬
‫فلسألنه عما سمعت العشية [قال] (‪ )5‬فجئته بعد العشاء ‪ ،‬فدخلت عليه ‪ ،‬فذكر الحديث‪ .‬قال ‪ :‬ثم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)7274( ، )4981‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬السورة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‬

‫( ‪)1/20‬‬

‫قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" " :‬أتاني جبريل فقال ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬أمتك‬
‫مختلفة بعدك"‪ .‬قال ‪" :‬فقلت له ‪ :‬فأين المَخْرَج يا جبريل ؟" قال ‪ :‬فقال ‪" :‬كتاب ال به َي ْقصِم ال‬
‫كلّ جبار ‪ ،‬من اعتصم به نجا ‪ ،‬ومن تركه هلك ‪ ،‬مرتين ‪ ،‬قول َفصْل وليس بالهزل ‪ ،‬ل تخلقه‬
‫اللسن ‪ ،‬ول تفنى عجائبه ‪ ،‬فيه نبأ من كان قبلكم ‪ ،‬وفصل ما بينكم ‪ ،‬وخبر ما هو كائن بعدكم" "‬
‫هكذا رواه المام أحمد (‪ .)1‬وقال أبو عيسى الترمذي ‪ :‬حدثنا عبد بن حميد ‪ ،‬حدثنا حسين بن‬
‫علي الجعفي ‪ ،‬حدثنا حمزة الزيات ‪ ،‬عن أبي المختار الطائي ‪ ،‬عن ابن أخي الحارث العور ‪،‬‬
‫عن الحارث العور ‪ ،‬قال ‪ :‬مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الحاديث فدخلت علَى‬
‫عِليّ فقلت ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬أل ترى الناس قد خاضوا في الحاديث ؟ قال ‪ :‬أو قد فعلوها ؟‬
‫قلت ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬أما إني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬إنها ستكون فتنة" فقلت‬
‫حكْم ما‬
‫‪ :‬ما المَخْرج منها يا رسول ال ؟ قال ‪" :‬كتاب ال ‪ ،‬فيه نبأ ما قبلكم ‪ ،‬وخبر ما بعدكم ‪ ،‬و ُ‬
‫بينكم ‪ ،‬هو الفصل ليس بالهَزْل ‪ ،‬من تركه من جبار َقصَمه ال ‪ ،‬ومن ابتغى الهدى في غيره‬
‫أضله ال ‪ ،‬هو حبل ال المتين ‪ ،‬وهو الذكر الحكيم ‪ ،‬وهو الصراط المستقيم ‪ ،‬هو الذي ل تزيغ‬
‫به الهواء ‪ ،‬ول تَلْتَبِس به اللسنة ‪ ،‬ول يشبع منه العلماء ‪ ،‬ول يَخْلَق عن كثرة الرد ‪ ،‬ول‬
‫عجَبًا * َيهْدِي‬
‫س ِمعْنَا قُرْآنًا َ‬
‫تنقضي عجائبه ‪ ،‬هو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا ‪ { :‬إِنّا َ‬
‫شدِ فَآمَنّا بِهِ } [الجن ‪ ، ]2 ، 1 :‬من قال به صَدق ‪ ،‬ومن عمل به أجِر ‪ ،‬ومن حكم به‬
‫إِلَى الرّ ْ‬
‫عَدَل ‪ ،‬ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم"‪ .‬خذها إليك يا أعور ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هذا حديث غريب‬
‫ل نعرفه إل من حديث حمزة الزيات ‪ ،‬وإسناده مجهول وفي حديث الحارث مقال (‪.)2‬‬
‫قلت ‪ :‬لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات ‪ ،‬بل قد رواه محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫كعب القرظي ‪ ،‬عن الحارث العور ‪ ،‬فبرئ حمزة من عهدته ‪ ،‬على أنه وإن كان ضعيف‬
‫الحديث إل أنه إمام في القراءة والحديث ‪ ،‬مشهور من رواية الحارث العور وقد تكلموا فيه ‪ ،‬بل‬
‫قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده ‪ ،‬أما إنه تعمد الكذب في الحديث فل وال أعلم‪.‬‬
‫وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلم أمير المؤمنين علي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وقد وَهِم بعضهم‬
‫في رفعه ‪ ،‬وهو كلم حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد ال بن مسعود عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫قال المام العلم أبو عبيد القاسم بن سلم في كتابه فضائل القرآن ‪ :‬حدثنا أبو اليقظان ‪ ،‬حدثنا‬
‫عمار بن محمد الثوري أو غيره عن أبي إسحاق الهجري ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫مسعود ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬إن هذا القرآن مأدبة ال تعالى فتعلموا من مأدبته‬
‫صمَة لمن‬
‫ع ْ‬
‫ما استطعتم ‪ ،‬إن هذا القرآن حبل ال عز وجل ‪ ،‬وهو النور المبين ‪ ،‬والشفاء النافع ‪ِ ،‬‬
‫تمسك به ‪ ،‬ونجاة لمن تبعه ‪ ،‬ل يعوج فيقوم ‪ ،‬ل يزيغ فيستعتب ‪ ،‬ول تنقضي عجائبه ‪ ،‬ول َيخْلَق‬
‫عن كثرة الرد ‪ ،‬فاتلوه ‪ ،‬فإن ال يأجركم على تلوته بكل حرف عشر حسنات ‪ ،‬أما إني ل أقول‬
‫لكم الم حرف ‪ ،‬ولكن ألف عشر ‪ ،‬ولم عشر ‪ ،‬وميم عشر" (‪ .)3‬وهذا غريب من هذا الوجه ‪،‬‬
‫وقد رواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)91 /1‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪.)2906‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪ )21‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )555 /1‬من طريق الهجري به‪.‬‬

‫( ‪)1/21‬‬

‫الهجري ‪ ،‬واسمه إبراهيم بن مسلم ‪ ،‬وهو أحد التابعين ‪ ،‬ولكن تكلموا فيه كثيرا‪.‬‬
‫وقال أبو حاتم الرازي ‪ :‬لين ليس بالقوي‪ .‬وقال أبو الفتح الزدي ‪ :‬رفّاع كثير الوهم‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫فيحتمل ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬أن يكون وهم في رفع هذا الحديث ‪ ،‬وإنما هو من كلم ابن مسعود ‪ ،‬ولكن‬
‫له شاهد من وجه آخر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد أيضا ‪ :‬حدثنا حجاج عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن‬
‫عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬ل يسأل عبد عن نفسه إل القرآن ‪ ،‬فإن كان يحب القرآن فإنه يحب ال‬
‫ورسوله (‪.)1‬‬
‫الحديث الرابع ‪ :‬قال البخاري ‪ :‬حدثنا عمرو بن محمد ‪ ،‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا أبي ‪،‬‬
‫عن صالح بن كيسان ‪ ،‬عن ابن (‪ )2‬شهاب ‪ ،‬قال ‪ :‬أخبرني أنس بن مالك أن ال تابع الوحي على‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ‪ ،‬ثم توفى رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بعد‪ .‬وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن محمد هذا ‪ -‬وهو الناقد ‪ -‬وحسن الحلواني‬
‫وعبد بن حميد والنسائي عن إسحاق ابن منصور الكوسج ‪ ،‬أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن‬
‫سعد الزهري به (‪.)3‬‬
‫ومعناه ‪ :‬أن ال تعالى تابع نزول الوحي على رسول ال صلى ال عليه وسلم شيئًا بعد شيء كل‬
‫وقت بما يحتاج إليه ‪ ،‬ولم تقع فترة بعد الفترة الولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة بقوله ‪:‬‬
‫{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ } [العلق ‪ ]1 :‬فإنه استلبث الوحي بعدها حينا يقال ‪ :‬قريبا من سنتين أو أكثر ‪،‬‬
‫ثم حمي الوحي وتتابع ‪ ،‬وكان أول شيء نزل بعد تلك الفترة { يَاأَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ * قُمْ فَأَ ْنذِرْ } [المدثر‬
‫‪.]2 ، 1 :‬‬
‫الحديث الخامس ‪ :‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان عن السود بن قيس قال ‪ :‬سمعت جندبا يقول ‪:‬‬
‫اشتكى النبي صلى ال عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ‪ ،‬فأتته امرأة فقالت ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬ما أرى‬
‫ك َومَا قَلَى }‬
‫عكَ رَ ّب َ‬
‫سجَى * مَا وَدّ َ‬
‫شيطانك إل تركك ‪ ،‬فأنزل ال تعالى ‪ { :‬وَالضّحَى * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ‬
‫[ الضحى ‪.)4( ]3 - 1 :‬‬
‫وقد رواه البخاري في غير موضع أيضا ‪ ،‬ومسلم والترمذي والنسائي من طرق أخر (‪ )5‬عن‬
‫سفيان ‪ -‬وهو الثوري ‪ -‬وشعبة بن الحجاج كلهما عن السود بن قيس العبدي ‪ ،‬عن جندب بن‬
‫عبد ال البجلي ‪ ،‬به‪ .‬وسيأتي الكلم على هذا الحديث في تفسير سورة الضحى إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫والمناسبة في ذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل القرآن ‪ :‬أن ال تعالى له برسوله عناية‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)21‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬أبى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )4982‬وصحيح مسلم برقم (‪.)3016‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4983‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4951 ، 4950 ، 1152‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1797‬وسنن‬
‫الترمذي برقم (‪ )3345‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11681‬‬

‫( ‪)1/22‬‬
‫عظيمة ومحبة شديدة ‪ ،‬حيث جعل الوحي متتابعا عليه ولم يقطعه عنه ؛ ولهذا إنما أنزل عليه‬
‫القرآن مفرقا ليكون ذلك في أبلغ العناية والكرام‪.‬‬
‫قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬نزل القرآن بلسان قريش والعرب ‪ ،‬قرآنا عربيا ‪ ،‬بلسان عربي‬
‫مبين ‪ ،‬حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬حدثنا شعيب (‪ )1‬عن الزهري ‪ :‬أخبرني أنس بن مالك قال ‪ :‬فأمر‬
‫عثمان بن عفان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد ال بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن‬
‫هشام أن ينسخوها في المصاحف ‪ ،‬وقال لهم ‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية‬
‫القرآن ‪ ،‬فاكتبوها بلسان قريش ‪ ،‬فإن القرآن نزل بلسانهم ‪ ،‬ففعلوا (‪.)2‬‬
‫هذا الحديث قطعة من حديث سيأتي قريبا والكلم عليه ومقصود البخاري منه ظاهر ‪ ،‬وهو أن‬
‫القرآن نزل بلغة قريش ‪ ،‬وقريش خلصة العرب ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬حدثنا عبد‬
‫ال بن محمد بن خلد ‪ ،‬حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا شيبان ‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير ‪ ،‬عن جابر بن‬
‫سمرة ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت عمر بن الخطاب يقول ‪ :‬ل يملى في مصاحفنا هذه إل غلمان قريش أو‬
‫غلمان ثقيف‪ .‬وهذا إسناد صحيح (‪ .)3‬وقال أيضا ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن أسد ‪ ،‬حدثنا هوذة ‪ ،‬حدثنا‬
‫عوف ‪ ،‬عن عبد ال بن فضالة ‪ ،‬قال ‪ :‬لما أراد عمر أن يكتب المام أقعد له نفرا من أصحابه‬
‫وقال ‪ :‬إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر ‪ ،‬فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر صلى ال‬
‫عوَجٍ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } [الزمر ‪، ]28 :‬‬
‫عليه وسلم (‪ )4‬وقد قال ال تعالى ‪ { :‬قُرْءَانًا عَرَبِيّا غَيْرَ ذِي ِ‬
‫ح المِينُ * عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬وَإِنّهُ لَتَنزيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * نزلَ بِهِ الرّو ُ‬
‫ا ْلمُنْذِرِينَ * ِبلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مُبِينٍ } [الشعراء ‪ ، ]195 - 192 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَ َهذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ‬
‫ج ِميّ‬
‫جمِيّا َلقَالُوا َلوْل ُفصَّلتْ آيَاُتهُ أَاْعْ َ‬
‫جعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْ َ‬
‫مُبِينٌ } [النحل ‪ ، ]103 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وََلوْ َ‬
‫وَعَرَبِيّ } الية [فصلت ‪ ، ]44 :‬إلى غير ذلك من اليات الدالة على ذلك‪.‬‬
‫ثم ذكر البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول ‪ :‬ليتني أرى رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي‪ .‬فذكر الحديث الذي سأل عمن أحرم بعمرة وهو متمطخ‬
‫بطيب وعليه جبة ‪ ،‬وقال ‪ :‬فنظر رسول ال صلى ال عليه وسلم ساعة ثم فجأه الوحي ‪ ،‬فأشار‬
‫عمر إلى يعلى أي ‪ :‬تعال ‪ ،‬فجاء يعلى ‪ ،‬فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة ‪ ،‬ثم‬
‫سرى عنه ‪ ،‬فقال ‪" :‬أين الذي سألني عن العمرة آنفا ؟ " فذكر أمره بنزع الجبة وغسل الطيب‪.‬‬
‫وهذا الحديث رواه جماعة (‪ )5‬من طرق عديدة (‪ )6‬والكلم عليه في كتاب الحج ‪ ،‬ول تظهر‬
‫مناسبة ما بينه وبين هذه الترجمة ‪ ،‬ول يكاد ‪ ،‬ولو ذكر في الترجمة التي قبلها لكان أظهر وأبين ‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4984‬‬
‫(‪ )3‬المصاحف (ص ‪.)17‬‬
‫(‪ )4‬المصاحف (ص ‪.)17‬‬
‫(‪ )5‬ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬الجماعة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ ، )4985‬وبرقم (‪ )1789 ، 1847‬وصحيح مسلم برقم (‪)1180‬‬
‫وسنن أبي داود برقم (‪ )1820 ، 1819‬وسنن الترمذي برقم (‪ )836‬وسنن النسائي (‪.)130 /5‬‬

‫( ‪)1/23‬‬

‫جمع القرآن‬
‫قال المؤلف ‪ ،‬رحمه ال (‪ )1‬فائدة جليلة حسنة ‪ :‬ثبت في الصحيحين عن أنس قال ‪ :‬جمع القرآن‬
‫على عهد النبي صلى ال عليه وسلم أربعة ‪ ،‬كلهم من النصار ؛ أبي بن كعب ‪ ،‬ومعاذ بن جبل ‪،‬‬
‫وزيد بن ثابت ‪ ،‬وأبو زيد‪ .‬فقيل له ‪ :‬من أبو زيد ؟ قال ‪ :‬أحد عمومتي‪ .‬وفي لفظ للبخاري عن‬
‫أنس قال ‪ :‬مات النبي صلى ال عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ؛ أبو الدرداء ‪ ،‬ومعاذ بن‬
‫جبل ‪ ،‬وزيد بن ثابت ‪ ،‬وأبو زيد ‪ ،‬ونحن ورثناه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أبو زيد هذا ليس بمشهور ؛ لنه مات قديما ‪ ،‬وقد ذكروه في أهل بدر ‪ ،‬وقال بعضهم ‪:‬‬
‫سعيد بن عبيد‪ .‬ومعنى قول أنس ‪" :‬ولم يجمع القرآن"‪ .‬يعني من النصار سوى هؤلء ‪ ،‬وإل فمن‬
‫المهاجرين جماعة كانوا يجمعون القرآن كالصديق ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وسالم مولى أبي حذيفة‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو الحسن الشعري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬قد علم بالضطرار أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قدم أبا بكر في مرض الموت ليصلي بالناس ‪ ،‬وقد ثبت في الخبر المتواتر " أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ليؤم القوم أقرؤهم" " (‪ )2‬فلو لم يكن الصديق أقرأ القوم لما قدمه‬
‫عليهم‪ .‬نقله أبو بكر بن زنجويه في كتاب فضائل الصديق عن الشعري‪.‬‬
‫وحكى القرطبي في أوائل تفسيره عن القاضي أبي بكر الباقلني أنه قال ‪ -‬بعد ذكره حديث أنس‬
‫بن مالك هذا ‪ : -‬فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وتميم الداري ‪،‬‬
‫وعبادة بن الصامت ‪ ،‬وعبد ال بن عمرو بن العاص‪ .‬فقول أنس ‪" :‬لم يجمعه غير أربعة" يحتمل‬
‫لم يأخذه تلقيا من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم غير هؤلء الربعة ‪ ،‬وأن بعضهم تلقى‬
‫بعضه عن بعض‪ .‬قال ‪ :‬وقد تظاهرت الروايات بأن الئمة الربعة جمعوا القرآن على عهد النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم لجل سبقهم إلى السلم ‪ ،‬وإعظام الرسول لهم (‪.)3‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬لم يذكر القاضي ابن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة ‪ ،‬وهما ممن جمع القرآن (‬
‫‪[ .)4‬نقلت هذه من على ظهر الجزء الول من أجزاء المؤلف] (‪.)5‬أ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن سعد ‪ ،‬حدثنا ابن شهاب ‪ ،‬عن عبيد بن السباق ‪ ،‬أن‬
‫زيد بن ثابت قال ‪ :‬أرسل إلىّ أبو بكر ‪ -‬مقتل أهل اليمامة ‪ -‬فإذا عمر بن الخطاب عنده ‪ ،‬فقال‬
‫أبو بكر ‪ :‬إن عمر بن الخطاب أتاني ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن القتل قد اس َتحَ ّر بقُرّاء القرآن ‪ ،‬وإني أخشى أن‬
‫يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن ‪ ،‬وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن‪.‬‬
‫فقلت لعمر ‪ :‬كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال عمر ‪ :‬هذا وال‬
‫خير ‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح ال صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر‪ .‬قال‬
‫زيد ‪ :‬قال أبو بكر ‪ :‬إنك رجل شاب عاقل ل نتهمك ‪ ،‬وقد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في م ‪" :‬قال المؤلف ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬فيما وجد على ظهر الجزء الول من تفسيره" وسيأتي هذا‬
‫في ط في آخر الفائدة‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )672‬من حديث عقبة بن عمرو ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير القرطبي (‪.)57 /1‬‬
‫(‪ )4‬تفسير القرطبي (‪.)57 /1‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط‪.‬‬

‫( ‪)1/24‬‬

‫كنت تكتب الوحي لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فتتبع القرآن فاجمعه ‪ ،‬فوال لو كلفوني نقل‬
‫ي مما أمرني به من جمع القرآن‪ .‬قلت ‪ :‬كيف تفعلون شيئا لم‬
‫جبل من الجبال ما كان أثقل عل ّ‬
‫يفعله رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬هو وال خير‪ .‬فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح‬
‫ال صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ‪ ،‬رضي ال عنهما‪ .‬فتتبعت القرآن أجمعه من‬
‫العُسُب واللّخَاف وصدور الرجال ‪ ،‬ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة النصاري لم أجدها‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ } [التوبة ‪ ]128 :‬حتى خاتمة براءة ‪ ،‬فكانت‬
‫مع غيره ‪َ { :‬لقَدْ جَا َءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫الصحف عند أبي بكر حتى توفاه ال ‪ ،‬ثم عند عمر حياته ‪ ،‬ثم عند حفصة بنت عمر ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنهم (‪.)1‬‬
‫وقد روى البخاري هذا [الحديث] (‪ )2‬في غير موضع من كتابه ‪ ،‬ورواه المام أحمد والترمذي‬
‫والنسائي من طرق عن الزهري به (‪.)3‬‬
‫وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فإنه أقامه ال بعد النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم مقاما ل ينبغي لحد بعده ‪ ،‬قاتل العداء من مانعي الزكاة ‪ ،‬والمرتدين ‪ ،‬والفرس‬
‫والروم ‪ ،‬ونفذ الجيوش ‪ ،‬وبعث البعوث والسرايا ‪ ،‬ورد المر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه‬
‫وذهابه ‪ ،‬وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله ‪ ،‬وكان هذا‬
‫من سر قوله تعالى ‪ { :‬إِنّا نَحْنُ نزلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ َلحَافِظُونَ } [الحجر ‪ ]9 :‬فجمع الصديق الخير‬
‫وكف الشرور ‪ ،‬رضي ال عنه وأرضاه‪ .‬ولهذا روى غير واحد من الئمة منهم َوكِيع وابن زيد‬
‫وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير ‪ ،‬عن علي‬
‫بن أبي طالب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ‪ ،‬إن أبا بكر‬
‫كان أول من جمع القرآن بين اللوحين (‪ .)4‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف ‪ :‬حدثنا هارون بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا عبدة ‪ ،‬عن‬
‫هشام ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬يقول ‪ :‬ختمه‬
‫(‪ .)5‬صحيح أيضا‪ .‬وكان عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬هو الذي تنبه لذلك لما استحر‬
‫القتل بالقراء ‪ ،‬أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة ‪ ،‬يعني ‪ :‬يوم اليمامة ‪ ،‬يعني يوم‬
‫قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض اليمامة في حديقة الموت ‪ ،‬وذلك أن مسيلمة‬
‫التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف ‪ ،‬فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من‬
‫ثلثة عشر ألفًا ‪ ،‬فالتقوا معهم (‪ )6‬فانكشف الجيش السلمي لكثرة من فيه من العراب ‪ ،‬فنادى‬
‫القراء من كبار الصحابة ‪ :‬يا خالد ‪ ،‬يقولون ‪ :‬ميزنا من هؤلء العراب فتميزوا (‪ )7‬منهم ‪،‬‬
‫وانفردوا ‪ ،‬فكانوا قريبا من ثلثة آلف ‪ ،‬ثم صدقوا الحملة ‪ ،‬وقاتلوا قتال شديدا ‪ ،‬وجعلوا يتنادون‬
‫‪ :‬يا أصحاب سورة البقرة ‪ ،‬فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4986‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )4989 ، 4679‬والمسند (‪ )10 /1‬وسنن الترمذي برقم (‪)3103‬‬
‫وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)7995‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص ‪ )156‬وابن أبي داود في المصاحف (ص ‪.)11‬‬
‫(‪ )5‬المصاحف (ص ‪.)12‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فميزوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/25‬‬

‫عليهم ووَلّى جيش الكفار (‪ )1‬فارا ‪ ،‬وأتبعتهم السيوف المسلمة في [أقنيتهم] (‪ )2‬قتل وأسرا ‪،‬‬
‫وقتل ال مسيلمة ‪ ،‬وفرق شمل أصحابه ‪ ،‬ثم رجعوا إلى السلم ‪ ،‬ولكن قتل من القراء يومئذ‬
‫قريب من خمسمائة ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬فلهذا أشار عمر على الصّديق بأن يجمع القرآن ؛ لئل‬
‫يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال ‪ ،‬فإذا كتب‬
‫وحفظ صار ذلك محفوظا فل فرق بين حياة من بلغه أو موته ‪ ،‬فراجعه الصديق قليل ليثبت في‬
‫المر ‪ ،‬ثم وافقه ‪ ،‬وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا (‪ )3‬إلى ما رأياه ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنهم أجمعين ‪ ،‬وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت النصاري ؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي‬
‫داود ‪ :‬حدثنا عبد ال بن محمد بن خَلد ‪ ،‬حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا مبارك بن فضالة ‪ ،‬عن الحسن ؛ أن‬
‫عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب ال فقيل ‪ :‬كانت مع فلن فقتل يوم اليمامة ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنا‬
‫ل ‪ ،‬فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف (‪.)4‬‬
‫هذا منقطع ‪ ،‬فإن الحسن لم يدرك عمر ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬أشار بجمعه فجمع ؛ ولهذا كان مهيمنا على‬
‫حفظه وجمعه كما رواه ابن أبي داود حيث قال ‪ :‬حدثنا أبو الطاهر (‪ )5‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬حدثنا‬
‫عمر بن طلحة الليثي ‪ ،‬عن محمد بن عمرو بن علقمة ‪ ،‬عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ‪،‬‬
‫أن عمر لما جمع القرآن كان ل يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان (‪.)6‬‬
‫وذلك عن أمر الصديق له في ذلك ‪ ،‬كما قال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬حدثنا أبو الطاهر ‪ ،‬حدثنا ابن‬
‫وهب ‪ ،‬أخبرني ابن أبي الزناد ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬لما استحر القتل بالقراء‬
‫يومئذ فرق أبو بكر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أن يضيع ‪ ،‬فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت ‪ :‬فمن‬
‫جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب ال فاكتباه (‪ .)7‬منقطع حسن‪.‬‬
‫ولهذا قال زيد بن ثابت ‪ :‬وجدت آخر سورة التوبة ‪ ،‬يعني قوله تعالى ‪َ { :‬لقَدْ جَا َء ُكمْ رَسُولٌ مِنْ‬
‫سكُمْ } إلى آخر اليتين [التوبة ‪ ، ]129 ، 128 :‬مع أبي خزيمة النصاري ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬مع‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول ال صلى ال عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره‬
‫فكتبوها عنه لنه جعل رسول ال صلى ال عليه وسلم شهادته بشهادتين في قصة الفرس التي‬
‫ابتاعها رسول ال صلى ال عليه وسلم من العرابي ‪ ،‬فأنكر العرابي البيع ‪ ،‬فشهد خزيمة هذا‬
‫بتصديق رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمضى شهادته وقبض الفرس من العرابي‪ .‬والحديث‬
‫رواه أهل السنن (‪ )8‬وهو مشهور ‪ ،‬وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أن أبيّ‬
‫بن كعب أملها عليهم مع خزيمة بن ثابت (‪.)9‬‬
‫وقد روى ابن وهب عن عمرو (‪ )10‬بن طلحة الليثي ‪ ،‬عن محمد بن عمرو بن علقمة ‪ ،‬عن‬
‫يحيى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬الكفر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬أخفيتهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬صاروا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المصاحف (ص ‪.)16‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الظاهر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المصاحف (ص ‪.)17‬‬
‫(‪ )7‬المصاحف (ص ‪.)12‬‬
‫(‪ )8‬سنن أبي داود برقم (‪ )3607‬وسنن النسائي (‪.)302 /7‬‬
‫(‪ )9‬رواه أحمد في المسند (‪ )134 /5‬من طريق عمر بن شقيق عن أبي جعفر به‪.‬‬
‫(‪ )10‬في ط ‪" :‬عمر"‪.‬‬

‫( ‪)1/26‬‬

‫ابن عبد الرحمن بن حاطب ؛ أن عثمان شهد بذلك أيضًا (‪.)1‬‬


‫وأما قول زيد [بن ثابت] (‪" )2‬فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللّخاف وصدور الرجال" وفي‬
‫رواية ‪" :‬من العسب وال ّرقَاع والضلع ‪ ،‬وفي رواية ‪" :‬من الكتاف والقتاب وصدور الرجال"‪.‬‬
‫أما العُسُب فجمع عسيب‪ .‬قال أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري ‪ :‬وهو من السعف فويق‬
‫الكَرَب لم ينبت عليه الخوص ‪ ،‬وما نبت عليه الخوص فهو السعف‪.‬‬
‫خفَة وهي القطعة من الحجارة مستدقة ‪ ،‬كانوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير‬
‫واللّخاف ‪ :‬جمع لَ ْ‬
‫ذلك ‪ ،‬مما يمكنهم الكتابة عليه مما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه ‪ ،‬فكان يحفظه ‪ ،‬فتلقاه زيد بن ثابت من هذا من‬
‫عسيبه ‪ ،‬ومن هذا من لخافه ‪ ،‬ومن صدر هذا ‪ ،‬أي من حفظه ‪ ،‬وكانوا أحرص شيء على أداء‬
‫المانات وهذا من أعظم المانة ؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم أودعهم ذلك ليبلغوه إلى من‬
‫بعده كما قال [ال] (‪ )3‬تعالى ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ } [المائدة ‪، ]67 :‬‬
‫ففعل ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه ‪ ،‬ما أمر به ؛ ولهذا سألهم في حجة الوداع يوم عرفة على‬
‫رؤوس الشهاد ‪ ،‬والصحابة أوفر ما كانوا مجتمعين ‪ ،‬فقال ‪" :‬إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون‬
‫(‪ )4‬؟ "‪ .‬فقالوا ‪ :‬نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيت ونصحت ‪ ،‬فجعل يشير بأصبعه إلى السماء ‪ ،‬وينكبها‬
‫عليهم ويقول ‪" :‬اللهم اشهد ‪ ،‬اللهم اشهد ‪ ،‬اللهم اشهد"‪ .‬رواه مسلم عن جابر (‪ .)5‬وقد أمر أمته‬
‫أن يبلغ الشاهد الغائب وقال ‪" :‬بَلّغوا عني ولو آية" (‪ )6‬يعني ‪ :‬ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية‬
‫واحدة فليؤدها إلى من وراءه ‪ ،‬فبلّغوا عنه ما أمرهم به ‪ ،‬فأدوا القرآن قرآنا ‪ ،‬والسنة سنة ‪ ،‬لم‬
‫يلبسوا هذا بهذا ؛ ولهذا قال عليه الصلة والسلم ‪" :‬من كتب عني سوى القرآن فليمحه" (‪ )7‬أي ‪:‬‬
‫لئل يختلط بالقرآن ‪ ،‬وليس معناه ‪ :‬أل يحفظوا السنة ويرووها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫فلهذا نعلم بالضرورة أنه لم يبق من القرآن مما أداه الرسول صلى ال عليه وسلم إليهم إل وقد‬
‫بلغوه إلينا ‪ ،‬ول الحمد والمنة ‪ ،‬فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬من‬
‫أكبر المصالح الدينية وأعظمها ‪ ،‬من حفظهما كتاب ال في الصحف ؛ لئل يذهب منه شيء بموت‬
‫من تلقاه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته ‪ ،‬ثم‬
‫أخذها عمر بعده محروسة معظمة مكرمة ‪ ،‬فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنها ‪ ،‬حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬كما سنذكره إن شاء‬
‫ال تعالى‪.‬‬
‫قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن شهاب ‪ ،‬عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص ‪.)17‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من م‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من م‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬مجيبون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)1218‬‬
‫(‪ )6‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )3461‬من حديث عبد ال بن عمرو ‪ ،‬رضي ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )2299‬من حديث أبي سعيد ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/27‬‬

‫أنس بن مالك ‪ ،‬حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي ال عنهما وكان يغازي‬
‫أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ‪ ،‬فأفزع حذيفة اختلفهم في القراءة‪ .‬فقال‬
‫حذيفة لعثمان ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬أدرك هذه المة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلف اليهود‬
‫والنصارى‪ .‬فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها‬
‫إليك ‪ ،‬فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ‪ ،‬فأمر زيد بن ثابت وعبد ال بن الزبير وسعيد بن العاص‬
‫وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ‪ ،‬وقال عثمان للرهط القرشيين الثلثة‬
‫‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ‪ ،‬فإنما أنزل بلسانهم‪.‬‬
‫ففعلوا ‪ ،‬حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل‬
‫أفق بمصحف مما نسخوا ‪ ،‬وأمر بما سواه من القرآن في محل صحيفة أو مصحف أن يحرق‪.‬‬
‫قال ابن شهاب الزهري ‪ :‬فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت ‪ :‬سمع زيد بن ثابت قال ‪ :‬فقدت آية‬
‫من الحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ بها ‪،‬‬
‫التمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت النصاري ‪ { :‬مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِرجَالٌ صَ َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ‬
‫عَلَيْهِ } [الحزاب ‪ ، ]23 :‬فألحقناها في سورتها في المصحف (‪.)1‬‬
‫وهذا ‪ -‬أيضا ‪ -‬من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فإن الشيخين‬
‫سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة ؛ لئل يختلفوا في‬
‫القرآن ‪ ،‬ووافقه على ذلك جميع الصحابة ‪ ،‬وإنما روي عن عبد ال (‪ )2‬بن مسعود شيء من‬
‫التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان‬
‫بحرقه ماعدا المصحف المام ‪ ،‬ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا‪ .‬فاتفق الئمة (‪ )3‬أبو بكر وعمر وعثمان وعلي‬
‫‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬على أن ذلك من مصالح الدين ‪ ،‬وهم الخلفاء الذين قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ " :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " (‪ .)4‬وكان السبب في هذا حذيفة‬
‫بن اليمان ‪ ،‬رضي ال عنه لما (‪ )5‬كان غازيا في فتح أرمينية وأذربيجان ‪ ،‬وكان قد اجتمع هناك‬
‫أهل الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى ‪ ،‬ورأى منهم اختلفا‬
‫وافتراقا ‪ ،‬فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان ‪ :‬أدرك هذه المة قبل أن يختلفوا في الكتاب‬
‫اختلف اليهود والنصارى‪.‬‬
‫وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب ‪ ،‬فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة ‪،‬‬
‫والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا ‪ ،‬وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ول‬
‫حرف الياء ‪ ،‬والنصارى ‪ -‬أيضا ‪ -‬بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي مخالفة لنسختي اليهود‬
‫والسامرة ‪ ،‬وأما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4988 ، 4987‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬عبد الرحمن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬الربعة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد في المسند (‪ )126 /4‬وأبو داود في السنن برقم (‪ )46 07‬والترمذي في السنن‬
‫برقم (‪ )2676‬وقال الترمذي ‪" :‬حديث حسن صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬فإنه"‪.‬‬

‫( ‪)1/28‬‬

‫الناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة ‪ :‬إنجيل مرقس ‪ ،‬وإنجيل لوقا وإنجيل متى ‪ ،‬وإنجيل‬
‫يوحنا ‪ ،‬وهي مختلفة ‪ -‬أيضا ‪ -‬اختلفا كثيرا ‪ ،‬وهذه الناجيل الربعة كل منها لطيف الحجم منها‬
‫ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط ‪ ،‬ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو‬
‫بالضعف ‪ ،‬ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلمه وفيه شيء قليل مما يدعون أنه كلم‬
‫ال ‪ ،‬وهي مع هذا مختلفة ‪ ،‬كما قلنا ‪ ،‬وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف ‪ ،‬ثم هما‬
‫منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة‪.‬‬
‫فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التي‬
‫عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد ‪ ،‬وينفذه إلى الفاق ‪ ،‬ويجمع الناس على‬
‫القراءة به وترك ما سواه ‪ ،‬ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلء الربعة وهم زيد بن ثابت‬
‫النصاري ‪ ،‬أحد كتاب الوحي لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وعبد ال بن الزبير بن العوام‬
‫القرشي السدي ‪ ،‬أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعمل وأصل وفضل وسعيد بن العاص بن‬
‫سعيد بن العاص بن أمية القرشي الموي ‪ ،‬وكان كريما جوادا ممدحا ‪ ،‬وكان أشبه الناس لهجة‬
‫برسول ال صلى ال عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد ال بن‬
‫عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ‪ ،‬فجلس هؤلء النفر يكتبون القرآن نسخا ‪ ،‬وإذا اختلفوا في‬
‫وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان ‪ ،‬كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء ‪،‬‬
‫فقال زيد بن ثابت ‪ :‬إنما هو التابوه وقال الثلثة القرشيون ‪ :‬إنما هو التابوت فتراجعوا (‪ )1‬إلى‬
‫عثمان فقال ‪ :‬اكتبوه بلغة قريش ‪ ،‬فإن القرآن نزل بلغتهم‪.‬‬
‫وكان عثمان ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬رتب السور في المصحف ‪ ،‬وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين ؛ ولهذا‬
‫روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الئمة الكبار ‪ ،‬عن عوف‬
‫العرابي ‪ ،‬عن يزيد الفارسي ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قلت لعثمان بن عفان ‪ :‬ما حملكم أن عمدتم‬
‫إلى النفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ‪ ،‬فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر "بسم‬
‫ال الرحمن الرحيم" ‪ ،‬ووضعتموها في السبع الطوال ؟ ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان ‪ :‬كان‬
‫رسول ال مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ‪ ،‬فكان إذا نزل عليه الشيء‬
‫دعا بعض من كان يكتب فيقول ‪ :‬ضعوا هذه اليات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ‪ ،‬فإذا‬
‫أنزلت عليه الية فيقول ‪ :‬ضعوا هذه الية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ‪ ،‬وكانت النفال‬
‫من أول ما نزل بالمدينة ‪ ،‬وكانت براءة من آخر القرآن ‪ ،‬وكانت قصتها شبيهة بقصتها ‪،‬‬
‫وحسبت أنها منها وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ‪ ،‬فمن أجل ذلك‬
‫قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم ال الرحمن الرحيم" فوضعتها في السبع الطوال (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬فترافعوا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪ )102 /1‬وسنن أبي داود برقم (‪ )786‬وسنن الترمذي برقم (‪ )3086‬وسنن‬
‫النسائي الكبرى برقم (‪ )8007‬ويزيد الفارسي مجهول وقد انفرد بهذا الحديث‪.‬‬

‫( ‪)1/29‬‬

‫ففهم من هذا الحديث أن ترتيب اليات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪ ،‬رضي ال عنه ؛ ولهذا ليس‬
‫لحد أن يقرأ القرآن إل مرتبا ؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا‪ .‬وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء‬
‫بعثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬والولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬في‬
‫صلة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية ‪ ،‬فإن فرق جاز ‪،‬‬
‫كما صح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ في العيد بقاف واقتربت الساعة ‪ ،‬رواه مسلم عن‬
‫أبي واقد (‪ )1‬في الصحيحين عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ؛ أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم كان يقرأ في صلة الصبح يوم الجمعة ‪ :‬الم السجدة ‪ ،‬وهل أتى على النسان (‪.)2‬‬
‫وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا ‪ ،‬فقد روى حذيفة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران‪ .‬أخرجه مسلم (‪.)3‬‬
‫وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف‪ .‬ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة ‪ ،‬فلم تزل‬
‫عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت ‪ ،‬فأخذها من عبد ال بن‬
‫عمر فحرقها لئل يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الفاق ‪ ،‬مصحفا إلى‬
‫أهل مكة ‪ ،‬ومصحفا إلى البصرة ‪ ،‬وآخر إلى الكوفة ‪ ،‬وآخر إلى الشام ‪ ،‬وآخر إلى اليمن ‪ ،‬وآخر‬
‫إلى البحرين ‪ ،‬وترك عند أهل المدينة مصحفا ‪ ،‬رواه أبو بكر بن أبي داود عن أبي حاتم‬
‫السجستاني ‪ ،‬سمعه يقوله (‪ .)4‬وصحح القرطبي أنه إنما نفذ إلى الفاق أربعة مصاحف‪ .‬وهذا‬
‫غريب ‪ ،‬وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق لئل تختلف قراءات الناس في الفاق ‪،‬‬
‫وقد وافقه الصحابة في عصره على ذلك ولم ينكره أحد منهم ‪ ،‬وإنما نقم عليه ذلك أولئك الرهط‬
‫الذين تمالؤوا عليه وقتلوه ‪ ،‬قاتلهم ال ‪ ،‬وفي ذلك جملة ما أنكروه مما ل أصل له ‪ ،‬وأما سادات‬
‫المسلمين من الصحابة ‪ ،‬ومن نشأ في عصرهم ذلك من التابعين ‪ ،‬فكلهم وافقوه‪.‬‬
‫قال أبو داود الطيالسي وابن مهدي وغُنْدَر عن شعبة ‪ ،‬عن عَ ْلقَمة بن مَرْثَد ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن‬
‫سوَيد بن غفلة ‪ ،‬قال عليّ حين حرق عثمان المصاحف ‪ :‬لو لم يصنعه هو لصنعته (‪.)5‬‬
‫ُ‬
‫وقال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬حدثنا أحمد بن سِنَان ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا شعبة عن أبي‬
‫إسحاق (‪ )6‬عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ‪ ،‬قال ‪ :‬أدركت الناس متوافرين حين حرق‬
‫عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك ‪ ،‬أو قال ‪ :‬لم ينكر ذلك منهم أحد (‪ .)7‬وهذا إسناد صحيح‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ‪ ،‬حدثنا يحيى بن كثير ‪ ،‬حدثنا ثابت بن عمارة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪.)891‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )891‬وصحيح مسلم برقم (‪.)880‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)772‬‬
‫(‪ )4‬المصاحف لبن أبي داود (ص ‪.)43‬‬
‫(‪ )5‬رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص ‪.)19‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أبي مصعب"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المصاحف (ص ‪.)19‬‬

‫( ‪)1/30‬‬
‫الحنفي ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت غنيم بن قيس المازني قال ‪ :‬قرأت القرآن على الحرفين جميعا ‪ ،‬وال ما‬
‫يسرني أن عثمان لم يكتب المصحف ‪ ،‬وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلم ‪ ،‬فأصبح له مثل‬
‫ماله‪ .‬قال ‪ :‬قلنا له ‪ :‬يا أبا العنبر ‪ ،‬ولم ؟ قال ‪ :‬لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون‬
‫الشعر (‪.)1‬‬
‫حدثنا يعقوب بن سفيان ‪ ،‬حدثنا محمد بن عبد ال ‪ ،‬حدثني عمران بن حدير ‪ ،‬عن أبي مِجْلَز قال‬
‫‪ :‬لول أن عثمان كتب القرآن للفيت الناس يقرؤون الشعر‪ .‬حدثنا أحمد بن سنان قال ‪ :‬سمعت ابن‬
‫مهدي يقول ‪ :‬خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لبي بكر ول لعمر ‪ :‬صبره نفسه حتى قتل مظلومًا‬
‫‪ ،‬وجمعه الناس على المصحف (‪.)2‬‬
‫وأما عبد ال بن مسعود فقد قال إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن حميد (‪ )3‬بن مالك قال ‪ :‬لما‬
‫أمر عثمان بالمصاحف ‪ -‬يعني بتحريقها ‪ -‬ساء ذلك عبد ال بن مسعود وقال ‪ :‬من استطاع منكم‬
‫أن يغلّ مصحفًا فليغلل ‪ ،‬فإنه من غلّ شيئًا جاء بما غل يوم القيامة‪.‬‬
‫ثم قال عبد ال ‪ :‬لقد قرأت القرآن من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم سبعين سورة وزيد‬
‫صبي ‪ ،‬أفأترك ما أخذت من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم (‪.)4‬‬
‫وقال أبو بكر ‪ :‬حدثنا عبد ال بن محمد بن النعمان ‪ ،‬حدثنا سعيد بن سليمان (‪ )5‬حدثتا ابن (‪)6‬‬
‫شهاب ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬قال ‪ :‬خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال ‪َ { :‬ومَنْ َيغُْللْ‬
‫غلّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } [آل عمران ‪ ، ]161 :‬غلوا مصاحفكم ‪ ،‬وكيف تأمروني أن أقرأ على‬
‫يَ ْأتِ ِبمَا َ‬
‫قراءة زيد بن ثابت ‪ ،‬وقد قرأت القرآن من فِي رسول ال صلى ال عليه وسلم بضعا وسبعين‬
‫سورة ‪ ،‬وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ‪ ،‬وال ما نزل من القرآن شيء إل وأنا‬
‫أعلم في أي شيء نزل ‪ ،‬وما أحد أعلم بكتاب ال مني ‪ ،‬وما أنا بخيركم ‪ ،‬ولو أعلم مكانا تبلغه‬
‫البل أعلم بكتاب ال مني لتيته‪ .‬قال أبو وائل ‪ :‬فلما نزل عن (‪ )7‬المنبر جلست في الحلق ‪ ،‬فما‬
‫أحد ينكر ما قال (‪ .)8‬أصل هذا مخرج في الصحيحين (‪ )9‬وعندهما ‪ :‬ولقد علم أصحاب محمد‬
‫أني أعلمهم بكتاب ال‪ .‬وقول أبي وائل ‪" :‬فما أحد ينكر ما قال" ‪ ،‬يعني ‪ :‬من فضله وعلمه وحفظه‬
‫‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ل المصاحف وكتمانها ‪ ،‬فقد أنكره عليه غير واحد‪ .‬قال العمش عن إبراهيم ‪ ،‬عن‬
‫وأما أمره ب َغ ّ‬
‫علقمة ‪ ،‬قال ‪ :‬قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء ‪ ،‬فقال ‪ :‬كنا نعد عبد ال جبانا (‪ )10‬فما باله يواثب‬
‫المراء (‪ .)11‬وقال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬باب رضا عبد ال بن مسعود بجمع عثمان المصاحف‬
‫بعد ذلك ‪ :‬حدثنا عبد ال بن سعيد ومحمد بن عثمان العجلي قال حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬حدثني الوليد‬
‫بن قيس ‪ ،‬عن عثمان بن حسان العامري ‪ ،‬عن فُلفُلة الجعفي قال ‪ :‬فزعت فيمن فزع إلى عبد ال‬
‫في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المصاحف (ص ‪.)19‬‬
‫(‪ )2‬المصاحف (ص ‪.)19‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عمير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المصاحف (ص ‪.)21‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬سلمان"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬أبو"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المصاحف (ص ‪.)23‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪ )5000‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2462‬‬
‫(‪ )10‬في المصاحف ‪" :‬حنانا"‪.‬‬
‫(‪ )11‬المصاحف (ص ‪.)25‬‬

‫( ‪)1/31‬‬

‫المصاحف ‪ ،‬فدخلنا عليه ‪ ،‬فقال رجل من القوم ‪ :‬إنا لم نأتك زائرين ‪ ،‬ولكنا جئنا حين راعنا هذا‬
‫الخبر ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب ‪ ،‬على سبعة أحرف ‪ -‬أو حروف ‪-‬‬
‫وإن الكتاب قبلكم كان ينزل ‪ -‬أو نزل ‪ -‬من باب واحد على حرف واحد (‪ .)1‬وهذا الذي استدل‬
‫به أبو بكر ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬على رجوع ابن مسعود فيه نظر ‪ ،‬من جهة أنه ل يظهر من هذا اللفظ‬
‫رجوع عما كان يذهب إليه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال أبو بكر أيضا ‪ :‬حدثنا عمي ‪ ،‬حدثنا أبو رجاء ‪ ،‬حدثنا إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫مصعب بن سعد قال ‪ :‬قام عثمان فخطب الناس فقال ‪[ :‬يا] (‪ )2‬أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلث‬
‫عشرة وأنتم تمترون في القرآن ‪ ،‬وتقولون ‪ :‬قراءة أبي وقراءة عبد ال ‪ ،‬يقول الرجل ‪ :‬وال ما‬
‫تقيم قراءتك ‪ ،‬وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب ال لما جاء به ‪ ،‬فكان الرجل‬
‫يجيء بالورقة والديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ‪ ،‬ثم دخل عثمان فدعاهم رجل رجل‬
‫فناشدهم ‪ :‬لسمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم أمله عليك فيقول ‪ :‬نعم ‪ ،‬فلما فرغ من ذلك‬
‫عثمان قال ‪ :‬من أك َتبُ الناس ؟ قالوا ‪ :‬كاتب رسول ال صلى ال عليه وسلم زيد بن ثابت‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فأي الناس أعرب ؟ قالوا ‪ :‬سعيد بن العاص‪ .‬قال عثمان ‪ :‬فليمْل سعيد ‪ ،‬وليكتب زيد‪ .‬فكتب زيد‬
‫مصاحف ففرقها في الناس ‪ ،‬فسمعت بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون (‪)3‬‬
‫قد أحسن (‪ .)4‬إسناده (‪ )5‬صحيح‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ‪ ،‬حدثنا أبو بكر ‪ ،‬حدثنا هشام بن حسان ‪ ،‬عن‬
‫محمد بن سيرين ‪ ،‬عن كثير بن أفلح قال ‪ :‬لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني‬
‫عشر رجل من قريش والنصار ‪ ،‬فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ‪ ،‬قال ‪ :‬فبعثوا إلى الربعة‬
‫التي في بيت عمر فجيء بها ‪ ،‬قال ‪ :‬وكان عثمان يتعاهدهم ‪ ،‬وكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخره‪.‬‬
‫قال محمد ‪ :‬فقلت لكثير ‪ -‬وكان فيهم فيمن يكتب ‪ : -‬هل تدرون لم كانوا يؤخرونه ؟ قال ‪ :‬ل‪.‬‬
‫قال محمد ‪ :‬فظننت ظنا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الخيرة فيكتبونها‬
‫على قوله (‪ .)6‬صحيح أيضا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬الربعة هي الكتب المجتمعة ‪ ،‬وكانت عند حفصة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬فلما جمعها عثمان ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬في المصحف ‪ ،‬ردها إليها ‪ ،‬ولم يحرقها في جملة ما حرقه مما سواها ‪ ،‬إل أنها‬
‫هي بعينها الذي كتبه ‪ ،‬وإنما رتبه ‪ ،‬ثم إنه كان قد عاهدها على أن يردها إليها ‪ ،‬فما زالت عندها‬
‫حتى ماتت ‪ ،‬ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول في ذلك ما تأول (‪ )7‬عثمان ‪ ،‬كما رواه‬
‫أبو بكر بن أبي داود ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن عوف ‪ ،‬حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬حدثنا شعيب ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬أخبرني سالم بن عبد ال‬
‫‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المصاحف (ص ‪.)25‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬يقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المصاحف (ص ‪.)31‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إسناد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المصاحف (ص ‪.)33‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬أول"‪.‬‬

‫( ‪)1/32‬‬

‫أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن ‪ ،‬فتأبى حفصة أن تعطيه‬
‫إياها‪ .‬قال سالم ‪ :‬فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد ال بن‬
‫عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف ‪ ،‬فأرسل بها إليه عبد ال بن عمر فأمر بها مروان فشققت ‪ ،‬وقال‬
‫مروان ‪ :‬إنما فعلت هذا لن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف ‪ ،‬فخشيت إن طال بالناس زمان (‬
‫‪ )1‬أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أو يقول ‪ :‬إنه كان شيء منها لم يكتب (‪ .)2‬إسناد‬
‫صحيح‪.‬‬
‫وأما ما رواه الزهري (‪ )3‬عن خارجة عن أبيه في شأن آية الحزاب وإلحاقهم إياها في‬
‫سورتها ‪ ،‬فذكره (‪ )4‬لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر ‪ ،‬وإنما هذا كان حال جمع الصديق الصحف‬
‫كما جاء مصرحًا به في غير هذه الرواية عن الزهري ‪ ،‬عن عبيد بن السباق ‪ ،‬عن زيد بن‬
‫ثابت ‪ ،‬والدليل على ذلك أنه قال ‪" :‬فألحقناها (‪ )5‬في سورتها من المصحف" وليست هذه الية‬
‫ملحقة في الحاشية في المصاحف العثمانية‪ .‬فهذه الفعال (‪ )6‬من أكبر القربات التي بادر إليها‬
‫الئمة الراشدون أبو بكر وعمر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬حفظا على الناس القرآن ‪ ،‬جمعاه لئل يذهب‬
‫منه شيء ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على‬
‫العرضة الخيرة التي عارض بها جبريل رسول ال صلى ال عليه وسلم في آخر رمضان من‬
‫عمره ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬فإنه عارضه به عامئذ مرتين ؛ ولهذا قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لفاطمة ابنته لما مرض ‪" :‬وما أرى ذلك إل لقتراب أجلي"‪ .‬أخرجاه في الصحيحين (‬
‫‪.)7‬‬
‫وقد روي أن عليًا ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أراد أن يجمع القرآن بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫مرتبا بحسب نزوله أول فأول كما رواه (‪ )8‬ابن أبي داود حيث قال ‪ :‬حدثنا محمد بن إسماعيل‬
‫الحمسي ‪ ،‬حدثنا ابن فضيل ‪ ،‬عن أشعث ‪ ،‬عن محمد بن سيرين قال ‪ :‬لما توفي النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أقسم علي أل يرتدي برداء إل لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل ‪ ،‬فأرسل ‪،‬‬
‫إليه أبو بكر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬بعد أيام ‪ :‬أكرهت إمارتي يا أبا الحسن ؟ فقال ‪ :‬ل وال إل أني‬
‫أقسمت أل أرتدي برداء إل لجمعة‪ .‬فبايعه ثم رجع (‪ .)9‬هكذا رواه وفيه انقطاع ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬لم‬
‫يذكر المصحف أحد إل أشعث (‪ )10‬وهو لين الحديث (‪ )11‬وإنما رووا (‪ )12‬حتى أجمع‬
‫القرآن ‪ ،‬يعني أتم حفظه ‪ ،‬فإنه يقال للذي يحفظ القرآن ‪ :‬قد جمع القرآن‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ول‬
‫غير ذلك ‪ ،‬ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني ‪ ،‬يقال ‪ :‬إنها بخط علي ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬وفي ذلك نظر ‪ ،‬فإنه في بعضها ‪ :‬كتبه علي بن أبي طالب ‪ ،‬وهذا لحن من الكلم (‪ )13‬؛‬
‫وعلي ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬الزمان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المصاحف (ص ‪.)32‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص ‪ )37‬عن الزهري‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فذكر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في طـ ‪ ،‬جـ ‪" :‬وألحقناها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬اليات"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )6286 ، 6285‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2450‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬روى"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المصاحف (ص ‪.)16‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬الشعث"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬طـ ‪" :‬وهو ابن الحرث"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬طـ ‪" :‬رواه"‪.‬‬
‫(‪ )13‬وقد ذكر "كوركيس عواد" في كتابه "أقدم مخطوطات في العالم" بعض هذه المصاحف‬
‫وأماكنها وأرقامها في إيران وطاشقند ‪ ،‬ول يشك عاقل أنها ليست من خط علي ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/33‬‬

‫رضي ال عنه ‪ ،‬من أبعد الناس عن ذلك فإنه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم‬
‫النحو ‪ ،‬فيما رواه عنه أبو السود ظالم بن عمرو الدؤلي ‪ ،‬وأنه قسم الكلم إلى اسم وفعل وحرف‬
‫‪ ،‬وذكر أشياء أخر تممها أبو السود بعده ‪ ،‬ثم أخذه الناس عن أبي السود فوسعوه ووضحوه ‪،‬‬
‫وصار علما مستقل‪.‬‬
‫وأما المصاحف العثمانية الئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي‬
‫المقصورة المعمورة بذكر ال ‪ ،‬وقد كانت قديمًا بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود‬
‫ثمان عشرة وخمسمائة ‪ ،‬وقد رأيته كتابا عزيزا جليل عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر‬
‫محكم في رق أظنه من جلود البل ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬زاده ال تشريفا وتكريما وتعظيما (‪.)1‬‬
‫فأما عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فما يعرف أنه كتب بخطه هذه المصاحف ‪ ،‬وإنما كتبها زيد بن‬
‫ثابت في أيامه ‪ ،‬ربما وغيره ‪ ،‬فنسبت إلى عثمان لنها بأمره وإشارته ‪ ،‬ثم قرئت على الصحابة‬
‫بين يدي عثمان ‪ ،‬ثم نفذت إلى الفاق ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وقد قال أبو بكر بن أبي داود ‪:‬‬
‫حدثنا علي بن حرب الطائي ‪ ،‬حدثنا قريش (‪ )2‬بن أنس ‪ ،‬حدثنا سليمان التيمي ‪ ،‬عن أبي‬
‫نضرة ‪ ،‬عن أبي سعيد مولى بني (‪ )3‬أسيد ‪ ،‬قال ‪ :‬لما دخل المصريون على عثمان ضربوه‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } [البقرة ‪ ، ]137 :‬فمد يده‬
‫بالسيف على يده فوقعت على ‪ { :‬فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ‬
‫فوقعت ‪ :‬وال إنها لول يد خطت المفصل (‪.)4‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا أبو طاهر ‪ ،‬حدثنا ابن وهب قال ‪ :‬سألت مالكا عن مصحف عثمان ‪ ،‬فقال لي‬
‫‪ :‬ذَهَب‪ .‬يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده ‪ ،‬ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف‬
‫الذي تركه في المدينة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدًا ‪ ،‬وإنما أول ما تعلموا ذلك ما (‪ )5‬ذكره هشام بن‬
‫محمد بن السائب الكلبي وغيره ‪ :‬أن بشر بن عبد الملك أكيدر دومة تعلم الخط من النبار ‪ ،‬ثم‬
‫قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية فعلمه‬
‫حرب بن أمية وابنه سفيان ‪ ،‬وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية ‪ ،‬وتعلمه معاوية من‬
‫عمه سفيان بن حرب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن أول من تعلمه من النبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها‬
‫‪ :‬بقة ‪ ،‬ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس‪ .‬ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬حدثنا‬
‫عبد ال بن محمد الزهري ‪ ،‬حدثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال ‪ :‬سألنا المهاجرين من أين‬
‫تعلمتم الكتابة ؟ قالوا ‪ :‬من أهل الحيرة‪ .‬وسألنا أهل الحيرة ‪ :‬من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا ‪ :‬من‬
‫أهل النبار (‪.)6‬‬
‫قلت ‪ :‬والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المكتوفة ثم هذبها أبو علي مقلة الوزير ‪،‬‬
‫وصار‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ذكر "كوركيس عواد" في كتابه المتقدم ذكره (ص ‪ )34‬أن مصحفا في متحف الثار‬
‫السلمية بتركيا مكتوب على الرق كتب في آخره ‪ ،‬أنه مصحف عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وهو‬
‫في هذا المتحف برقم (‪.)457‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يونس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في طـ ‪ ،‬جـ ‪" :‬أبى"‪.‬‬
‫(‪ )4‬لم أجد هذا الثر والذي بعده في المصاحف‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬كما"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المصاحف (ص ‪.)9‬‬

‫( ‪)1/34‬‬

‫له في ذلك منهج وأسلوب في الكتابة ‪ ،‬ثم قربها علي بن هلل البغدادي المعروف بابن البواب‬
‫وسلك الناس وراءه‪ .‬وطريقته في ذلك واضحة جيدة‪ .‬والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك‬
‫الزمان لم تحكم جيدا ‪ ،‬وقع في كتابة المصاحف اختلف في وضع الكلمات من حيث صناعة‬
‫الكتابة ل من حيث المعنى ‪ ،‬وصنف الناس في ذلك ‪ ،‬واعتنى بذلك المام الكبير أبو عبيد القاسم‬
‫بن سلم ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في كتابه فضائل القرآن (‪ )1‬والحافظ أبو بكر بن أبي داود ‪ ،‬رحمه ال ‪،‬‬
‫فبوبا على ذلك (‪ )2‬وذكر قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ‪ ،‬ليست مقصدنا هاهنا ؛ ولهذا‬
‫نص المام مالك ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬على أنه ل توضع المصاحف إل على وضع كتابة المام ‪،‬‬
‫ورخص في ذلك غيره ‪ ،‬واختلفوا في الشكل والنقط فمن مرخص ومن مانع ‪ ،‬فأما كتابة السور‬
‫وآياتها والتعشير والجزاء والحزاب فكثير (‪ )3‬في مصاحف زماننا ‪ ،‬والولى اتباع السلف‬
‫الصالح‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬ذكر كُتّاب النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وأورد فيه من حديث الزهري ‪ ،‬عن ابن‬
‫السباق ‪ ،‬عن زيد ابن ثابت ‪ ،‬أن أبا بكر الصديق قال له ‪ :‬وكنت تكتب الوحي لرسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وذكر نحو ما تقدم في (‪ )4‬جمعه للقرآن (‪ )5‬وقد تقدم ‪ ،‬وأورد حديث زيد بن ثابت‬
‫في نزول ‪ { :‬ل َيسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ } [النساء ‪ )6( ]95 :‬وسيأتي‬
‫الكلم عليه في سورة النساء إن شاء ال تعالى ‪ ،‬ولم يذكر البخاري أحدًا من الكتّاب في هذا الباب‬
‫سوى زيد بن ثابت ‪ ،‬وهذا عجب ‪ ،‬وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وموضع هذا في كتاب السيرة عند ذكر كتّابه عليه السلم‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)243 - 237‬‬
‫(‪ )2‬المصاحف (ص ‪.)176 - 145‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬فكثر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)4989‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)4990‬‬

‫( ‪)1/35‬‬

‫أنزل القرآن على سبعة أحرف‬


‫حدثنا سعيد بن عفير ‪ ،‬حدثنا الليث ‪ ،‬حدثني عقيل عن ابن شهاب قال ‪ :‬حدثني عبيد ال بن عبد‬
‫ال ؛ أن عبد ال بن عباس حدثه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬أقرأني جبريل على‬
‫حرف فراجعته ‪ ،‬فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف " (‪.)1‬‬
‫وقد رواه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬في بدء الخلق ‪ ،‬ومسلم من حديث يونس ‪ ،‬ومسلم ‪ -‬أيضا ‪ -‬من حديث‬
‫معمر ‪ ،‬كلهما عن الزهري بنحوه (‪ )2‬ورواه ابن جرير من حديث الزهري به (‪ )3‬ثم قال‬
‫الزهري ‪ :‬بلغني أن تلك السبعة الحرف إنما هي في المر الذي يكون واحدا ل تختلف في حلل‬
‫ول في حرام‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4991‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬نحوه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )3219‬وصحيح مسلم برقم (‪ )819‬وتفسير الطبري (‪.)29 /1‬‬

‫( ‪)1/35‬‬

‫وهذا مبسوط في الحديث الذي رواه المام أبو عبيد القاسم بن سلم حيث قال ‪:‬‬
‫حدثنا يزيد ويحيى بن سعيد كلهما عن حميد الطويل ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب قال‬
‫‪ :‬ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت ‪ ،‬إل أنني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي فقلت ‪:‬‬
‫أقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أقرأتني آية كذا وكذا ؟ قال ‪" :‬نعم" ‪ ،‬وقال‬
‫الخر ‪ :‬أليس تقرأني آية كذا وكذا ؟ قال ‪" :‬نعم"‪ .‬فقال ‪" :‬إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل‬
‫عن يميني وميكائيل عن يساري ‪ ،‬فقال جبريل ‪ :‬اقرأ القرآن على حرف ‪ ،‬فقال ميكائيل ‪:‬‬
‫استزده ‪ ،‬حتى بلغ سبعة أحرف وكل حرف شاف كاف" (‪.)1‬‬
‫وقد رواه النسائي من حديث يزيد ‪ -‬وهو ابن هارون ‪ -‬ويحيى بن سعيد القطان كلهما عن حميد‬
‫الطويل ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب بنحوه (‪ .)2‬وكذا رواه ابن أبي عدي ومحمود (‪ )3‬بن‬
‫ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب كلهم عن حميد به (‪ .)4‬وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن‬
‫مرزوق ‪ ،‬حدثنا أبو الوليد ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن حميد ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬عن عبادة بن الصامت‬
‫‪ ،‬عن أبيّ بن كعب قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أنزل القرآن على سبعة أحرف"‬
‫فأدخل بينهما عبادة بن الصامت (‪.)5‬‬
‫وقال المام أحمد بن حنبل ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد ‪ ،‬حدثني‬
‫عبد ال بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت في المسجد‬
‫فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه ‪ ،‬ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ‪ ،‬فقمنا‬
‫جميعا ‪ ،‬فدخلنا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن هذا قرأ قراءة‬
‫أنكرتها عليه ‪ ،‬ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه ‪ ،‬فقال لهما النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬اقرآ" ‪ ،‬فقرآ ‪ ،‬فقال ‪" :‬أصبتما"‪ .‬فلما قال لهما النبي صلى ال عليه وسلم الذي قال ‪ ،‬كَبُر عليّ‬
‫ول إذا كنت في الجاهلية ‪ ،‬فلما رأى الذي غشينى ضرب في صدري ففضضت عرقًا ‪ ،‬وكأنما‬
‫أنظر إلى [رسول] (‪ )6‬ال فرقا فقال ‪" :‬يا أبيّ ‪ ،‬إن ربي أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف ‪،‬‬
‫فرددت إليه أن هون على أمتي ‪ ،‬فأرسل إليّ أن اقرأه على حرفين ‪ ،‬فرددت إليه أن هوّن على‬
‫أمتي ‪ ،‬فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف ‪ ،‬ولك بكل ردة مسألة تسألنيها"‪ .‬قال ‪" :‬قلت ‪ :‬اللهم‬
‫اغفر لمتي ‪ ،‬اللهم اغفر لمتي ‪ ،‬وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم عليه‬
‫السلم"‪ .‬وهكذا رواه مسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد به (‪.)7‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا محمد بن فضيل ‪ ،‬عن إسماعيل بن أبي خالد ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)201‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)7986‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬محمد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الطبري في تفسيره (‪.)33 /1‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)34 /1‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )127 /5‬وصحيح مسلم برقم (‪.)820‬‬

‫( ‪)1/36‬‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد ‪ ،‬فقلت ‪ :‬خفف‬
‫عن أمتي ‪ ،‬فقال (‪ )1‬اقرأه على حرفين ‪ ،‬فقلت ‪ :‬اللهم ربّ خفف عن أمتي ‪ ،‬فأمرني أن أقرأه‬
‫ف كافٍ" (‪.)2‬‬
‫على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة كلها شا ٍ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يونس عن ابن وهب ‪ :‬أخبرني هشام بن سعد ‪ ،‬عن عبيد ال بن عمر ‪،‬‬
‫عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬سمعت رجل يقرأ في سورة النحل‬
‫قراءة تخالف قراءتي ‪ ،‬ثم سمعت آخر يقرؤها بخلف ذلك ‪ ،‬فانطلقت بهما إلى رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فقلت ‪ :‬إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل فسألتهما ‪ :‬من أقرأكما (‪ )3‬؟ فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬لذهبن بكما إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ‬
‫خالفتما ما أقرأني رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لحدهما‬
‫‪" :‬اقرأ"‪ .‬فقرأ ‪ ،‬فقال ‪" :‬أحسنت" ثم قال للخر ‪" :‬اقرأ"‪ .‬فقرأ ‪ ،‬فقال ‪" :‬أحسنت"‪ .‬قال أبيّ ‪:‬‬
‫فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي ‪ ،‬فعرف ذلك رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم في وجهي ‪ ،‬فضرب يده في صدري ثم قال ‪" :‬اللهم أخسئ (‪ )4‬الشيطان عنه ‪ ،‬يا أبيّ ‪،‬‬
‫أتاني آت من ربي فقال ‪ :‬إن ال يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ‪ ،‬فقلت ‪ :‬رب ‪ ،‬خفف‬
‫عني ‪ ،‬ثم أتاني الثانية فقال ‪ :‬إن ال يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين (‪ )5‬فقلت ‪ :‬رب ‪ ،‬خفف‬
‫عن أمتي ‪ ،‬ثم أتاني الثالثة ‪ ،‬فقال ‪ :‬مثل ذلك وقلت له مثل ذلك ‪ ،‬ثم أتاني الرابعة فقال ‪ :‬إن ال‬
‫يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ‪ ،‬ولك بكل ردة مسألة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يارب ‪ ،‬اللهم اغفر‬
‫لمتي ‪ ،‬يارب ‪ ،‬اغفر لمتي ‪ ،‬واختبأت الثالثة شفاعة لمتي يوم القيامة" (‪ .)6‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا الشك الذي حصل لبيّ في تلك الساعة هو ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬السبب الذي لجله قرأ عليه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قراءة إبلغ وإعلم ودواء لما كان حصل له سورة { لَمْ َيكُنِ الّذِينَ‬
‫طهّ َرةً * فِيهَا كُ ُتبٌ‬
‫حفًا ُم َ‬
‫صُ‬‫َكفَرُوا } إلى آخرها لشتمالها على قوله تعالى ‪ { :‬رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو ُ‬
‫قَ ّيمَةٌ } [البينة ‪ ، ]3 ، 2 :‬وهذا نظير تلوته سورة الفتح حين أنزلت مرجعه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬من‬
‫الحديبية على عمر بن الخطاب ‪ ،‬وذلك لما كان تقدم له من السئلة لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ولبي (‪ )7‬بكر الصديق ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ { :‬لقَ ْد صَدَقَ اللّهُ َرسُولَهُ‬
‫حقّ لَتَ ْدخُلُنّ ا ْل َمسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ } [الفتح ‪.]27 :‬‬
‫ال ّرؤْيَا بِالْ َ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن الحكم ‪ ،‬عن‬
‫مجاهد ‪ ،‬عن ابن أبي ليلى ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان عند أخباة‬
‫بني غفار ‪ ،‬فأتاه جبريل فقال ‪ :‬إن ال يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف ‪ ،‬قال ‪" :‬أسأل ال‬
‫معافاته ومغفرته ‪ ،‬فإن أمتي ل تطيق ذلك"‪ .‬ثم أتاه الثانية فقال ‪ :‬إن ال يأمرك أن تقرئ أمتك‬
‫القرآن على حرفين‪ .‬قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)37 /1‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬أقرأهما"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬أذهب"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في طـ ‪ ،‬جـ ‪" :‬حرف واحد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)41 /1‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬ثم لبى"‪.‬‬

‫( ‪)1/37‬‬

‫"أسأل ال معافاته ومغفرته ‪ ،‬فإن أمتي ل تطيق ذلك"‪ .‬ثم جاءه الثالثة قال ‪ :‬إن ال يأمرك أن‬
‫تقرئ أمتك القرآن على ثلثة أحرف قال ‪" :‬أسأل ال معافاته ومغفرته ‪ ،‬وإن أمتي ل تطيق ذلك"‪.‬‬
‫ثم جاءه الرابعة فقال ‪ :‬إن ال يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا‬
‫عليه فقد أصابوا (‪.)1‬‬
‫ظ لبي داود عن أبيّ بن كعب قال‬
‫وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية شعبة به ‪ ،‬وفي لف ٍ‬
‫‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا أبيّ ‪ ،‬إني أقرئت القرآن فقيل لي ‪ :‬على حرف أو‬
‫حرفين ؟ فقال الملك الذي معي ‪ :‬قل على حرفين‪ .‬قلت ‪ :‬على حرفين‪ .‬فقيل لي ‪ :‬على حرفين أو‬
‫ثلثة ؟ فقال الملك الذي معي ‪ :‬قل على ثلثة‪ .‬قلت ‪ :‬على ثلثة‪ .‬حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ‪:‬‬
‫ليس منها إل شاف كاف إن قلت ‪ :‬سميعا عليما ‪ ،‬عزيزا حكيما ‪ ،‬ما لم تختم آية عذاب برحمة أو‬
‫آية رحمة بعذاب" (‪.)2‬‬
‫وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم (‪ )3‬ومن‬
‫كلم ابن مسعود ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا حسين بن علي الجعفي ‪ ،‬عن زائدة ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن أبي‬
‫قال ‪ :‬لقي رسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لجبريل ‪" :‬إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ العاسي ‪ ،‬والعجوز الكبيرة ‪ ،‬والغلم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" (‪.)4‬‬
‫وأخرجه الترمذي من حديث عاصم بن أبي النّجُود ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب ‪ ،‬به (‪ )5‬وقال ‪:‬‬
‫حسن صحيح‪.‬‬
‫وقد رواه أبو عبيد عن أبي النضر ‪ ،‬عن شيبان ‪ ،‬عن عاصم بن أبي النجود ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن‬
‫حذيفة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لقي جبريل عند أحجار المراء ‪ ،‬فذكر الحديث (‪ )6‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وهكذا رواه المام أحمد عن عفان ‪ ،‬عن حماد ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن حذيفة ؟ أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لقيت جبريل عند أحجار المراء ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا جبريل ‪ ،‬إني أرسلت‬
‫إلى أمة أمية ؛ الرجل ‪ ،‬والمرأة ‪ ،‬والغلم ‪ ،‬والجارية ‪ ،‬والشيخ الفاني ‪ ،‬الذي لم يقرأ كتابا قط‬
‫فقال ‪ :‬إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" (‪.)7‬‬
‫وقال أحمد أيضا ‪ :‬حدثنا َوكِيع وعبد الرحمن ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن إبراهيم بن مهاجر ‪ ،‬عن رِبْعى‬
‫بن حِراش ‪ :‬حدثني من لم يكذبني ‪ -‬يعني حذيفة ‪ -‬قال ‪ :‬لقي النبي صلى ال عليه وسلم جبريل‬
‫عند أحجار المراء‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)40 /1‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪ )820‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1478‬وسنن النسائي (‪.)153 /2‬‬
‫(‪ )3‬ورواه أحمد في المسند (‪ )440 ، 232 /2‬من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )132 /5‬ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (‪" )739‬موارد" من طريق زائدة به‬
‫مثله‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن الترمذي برقم (‪.)2944‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن لبي عبيد (ص ‪.)202‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)400 ، 391 /5‬‬

‫( ‪)1/38‬‬

‫فقال ‪ :‬إن أمتك ‪+‬يقرؤون القرآن على سبعة أحرف ‪ ،‬فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم ‪،‬‬
‫ول يرجع عنه‪ .‬وقال عبد الرحمن ‪ :‬إن في أمتك الضعيف ‪ ،‬فمن قرأ على حرف فل يتحول منه‬
‫إلى غيره رغبة عنه (‪ .)1‬وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه‪.‬‬
‫حديث آخر في معناه عن سليمان بن صرد ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ‪،‬‬
‫حدثنا شريك عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن سليمان بن صرد ‪ -‬يرفعه ‪ -‬قال ‪" :‬أتاني ملكان ‪ ،‬فقال‬
‫أحدهما ‪ :‬اقرأ‪ .‬قال ‪ :‬على كم ؟ قال ‪ :‬على حرف‪ .‬قال ‪ :‬زده ‪ ،‬حتى انتهى إلى سبعة أحرف" (‬
‫‪ .)2‬ورواه النسائي في اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلم عن إسحاق الزرق عن‬
‫حوْشَب ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن سليمان بن صرد قال ‪ :‬أتى أبيّ بن كعب رسول ال‬
‫ال َعوّام بن َ‬
‫صلى ال عليه وسلم برجلين اختلفا في القراءة ‪ ،‬فذكر الحديث (‪.)3‬‬
‫وهكذا رواه أحمد بن مَنِيع عن يزيد بن هارون ‪ ،‬عن العوام بن حوشب به ‪ ،‬ورواه أبو عبيد عن‬
‫يزيد بن هارون ‪ ،‬عن العوام ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن سليمان بن صرد ‪ ،‬عن أبيّ أنه أتى النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم برجلين ‪ ،‬فذكره (‪.)4‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا يحيى بن آدم ‪ ،‬حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫فلن العبدي ‪ -‬قال ابن جرير ‪ :‬ذهب عني اسمه ‪ -‬عن سليمان بن صرد ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب قال‬
‫‪ :‬رحت إلى المسجد ‪ ،‬فسمعت رجل يقرأ فقلت ‪ :‬من أقرأك ؟ قال ‪ :‬رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فانطلقت به إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬استقرئ هذا‪ .‬قال ‪ :‬فقرأ ‪ ،‬فقال‬
‫‪" :‬أحسنت"‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬إنك أقرأتني كذا وكذا! فقال ‪" :‬وأنت قد أحسنت"‪ .‬فقلت ‪ :‬قد أحسنت قد‬
‫أحسنت‪ .‬قال ‪ :‬فضرب بيده على صدري ثم قال ‪" :‬اللهم أذهب عن أبيّ الشك"‪ .‬قال ‪ :‬ففضت‬
‫عرقا ‪ ،‬وامتل جوفي فرقا‪ .‬قال ‪ :‬ثم قال ‪" :‬إن الملكين أتياني ‪ ،‬فقال أحدهما ‪ :‬اقرأ القرآن على‬
‫حرف ‪ ،‬وقال الخر ‪ :‬زده‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬زدني‪ .‬فقال (‪ )5‬اقرأه على حرفين ‪ ،‬حتى بلغ سبعة‬
‫أحرف فقال ‪ :‬اقرأه على سبعة أحرف" (‪.)6‬‬
‫وقد رواه أبو عبيد عن حجاج ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن شتير (‪ )7‬العبدي ‪ ،‬عن‬
‫سليمان بن صرد (‪ )8‬عن أبيّ ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم بنحو ذلك (‪ )9‬ورواه أبو داود‬
‫عن أبي داود الطيالسي ‪ ،‬عن همام ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن يحيى بن َي ْعمَر ‪ ،‬عن سليمان بن صرد ‪،‬‬
‫عن أبيّ بن كعب بنحوه (‪.)10‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)401 ، 385 /5‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)30 /1‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10506‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن لبي عبيد (ص ‪.)201‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)32 /1‬‬
‫(‪ )7‬في فضائل أبي عبيد ‪" :‬صقير"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬حدد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬فضائل القرآن (ص ‪.)202‬‬
‫(‪ )10‬سنن أبي داود برقم (‪.)1477‬‬
‫( ‪)1/39‬‬

‫فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب ‪ ،‬والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي‬
‫شاهد على ذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حديث آخر عن أبي بكرة ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن حماد بن‬
‫سلمة ‪ ،‬عن علي بن زيد ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪ " :‬أتاني جبريل وميكائيل ‪ ،‬عليهما السلم ‪ ،‬فقال جبريل ‪ :‬اقرأ القرآن على حرف‬
‫واحد ‪ ،‬فقال ميكائيل ‪ :‬استزده ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأ على سبعة أحرف ‪ ،‬كلها شاف كاف ‪ ،‬ما لم تختم آية‬
‫رحمة بآية عذاب (‪ )1‬أو آية عذاب برحمة " (‪.)2‬‬
‫وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب ‪ ،‬عن زيد بن الحباب ‪ ،‬عن حماد بن سلمة به ‪ ،‬وزاد في‬
‫آخره كقولك ‪ :‬هلم وتعال (‪.)3‬‬
‫حديث آخر عن سمرة ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا َبهْز وعفان كلهما عن حماد بن سلمة ‪ ،‬حدثنا‬
‫قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن سمرة ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬أنزل القرآن على‬
‫سبعة أحرف "‪ .‬إسناد صحيح ‪ ،‬ولم يخرجوه (‪.)4‬‬
‫حديث آخر عن أبي هريرة ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أنس بن عياض ‪ ،‬حدثني أبو حازم ‪ ،‬عن‬
‫أبي سلمة ‪ -‬ل أعلمه إل عن أبي هريرة ‪ -‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬نزل‬
‫القرآن على سبعة أحرف ‪ ،‬مراء في القرآن كفر ‪ -‬ثلث مرات ‪ -‬فما علمتم منه فاعملوا وما‬
‫جهلتم منه فردوه إلى عالمه "‪ .‬ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي ضمرة أنس بن عياض به (‪.)5‬‬
‫حديث آخر عن أم أيوب ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا سفيان عن عبيد ال وهو ابن أبي يزيد ‪ -‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن أم أيوب ‪ -‬يعني امرأة أبي أيوب النصارية ‪ -‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‬
‫‪ " :‬أنزل القرآن على سبعة أحرف ‪ ،‬أيها قرأت جزاك (‪ .)7( " )6‬وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه‬
‫أحد من أصحاب الكتب الستة‪.‬‬
‫حديث آخر عن أبي جهيم ‪ :‬قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن جعفر ‪ ،‬عن يزيد بن خصيفة ‪ ،‬عن‬
‫مسلم بن سعيد مولى الحضرمي (‪ )8‬وقال غيره ‪ :‬عن بسر بن سعيد ‪ ،‬عن أبي جهيم‬
‫النصاري ؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ‪ ،‬كلهما يزعم أنه تلقاها من رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فمشيا جميعا حتى أتيا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكر أبو جهيم أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ‪ ،‬فل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬ما لم تختم آية رحمة بعذاب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)41 /5‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)42 /1‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)16 /5‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )300 /2‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8093‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬أجزأه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)462 ، 433 /6‬‬
‫(‪ )8‬في فضائل أبي عبيد ‪" :‬مولى ابن الحضرمي"‪.‬‬

‫( ‪)1/40‬‬

‫تماروا ‪ ،‬فإن مراء فيه كفر" (‪ .)1‬هكذا رواه أبو عبيد على الشك (‪ )2‬وقد رواه المام أحمد على‬
‫الصواب ‪ ،‬فقال ‪ :‬حدثنا أبو سلمة الخزاعي ‪ ،‬حدثنا سليمان بن بلل ‪ ،‬حدثني يزيد بن خصيفة ‪،‬‬
‫أخبرني بسر بن سعيد ‪ ،‬حدثني أبو جهيم ؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا ‪ :‬تلقيتها‬
‫من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال هذا ‪ :‬تلقيتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأل‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ " :‬القرآن يقرأ على سبعة أحرف ‪ ،‬فل تماروا في القرآن ‪ ،‬فإن‬
‫مراء في القرآن كفر " (‪ .)3‬وهذا إسناد صحيح ‪ -‬أيضا ‪ -‬ولم يخرجوه‪.‬‬
‫ثم قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن صالح عن الليث ‪ ،‬عن يزيد بن الهاد ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫إبراهيم ‪ ،‬عن بسر (‪ )4‬بن سعيد ‪ ،‬عن أبي قيس ‪ -‬مولى عمرو بن العاص ‪ -‬أن رجل قرأ آية‬
‫من القرآن ‪ ،‬فقال له عمرو ‪ -‬يعني ابن العاص ‪ : -‬إنما هي كذا وكذا ‪ ،‬بغير ما قرأ الرجل ‪،‬‬
‫فقال الرجل ‪ :‬هكذا أقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم [فخرجا إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم] (‪ )5‬حتى أتياه ‪ ،‬فذكرا ذلك له ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن هذا القرآن‬
‫نزل على سبعة أحرف ‪ ،‬فأي ذلك قرأتم أصبتم ‪ ،‬فل تماروا في القرآن ‪ ،‬فإن مراء فيه كفر " (‬
‫‪ .)6‬ورواه المام أحمد عن أبي سلمة الخزاعي ‪ ،‬عن عبد ال بن جعفر بن عبد الرحمن بن‬
‫المسور بن مخرمة ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال بن أسامة بن الهاد ‪ ،‬عن بسر (‪ )7‬بن سعيد ‪ ،‬عن أبي‬
‫قيس مولى عمرو بن العاص به نحوه ‪ ،‬وفيه ‪" :‬فإن المراء فيه كفر أو إنه الكفر به (‪ ." )8‬وهذا‬
‫‪ -‬أيضا ‪ -‬حديث جيد (‪.)9‬‬
‫حديث آخر عن ابن مسعود ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪،‬‬
‫أخبرني حيوة بن شريح ‪ ،‬عن عقيل بن خالد ‪ ،‬عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبيه‬
‫‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪ " :‬كان الكتاب الول نزل من باب‬
‫واحد وعلى حرف واحد ‪ ،‬ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف ‪ :‬زاجر ‪ ،‬وآمر ‪،‬‬
‫وحلل ‪ ،‬وحرام ‪ ،‬ومحكم ‪ ،‬ومتشابه ‪ ،‬وأمثال ‪ ،‬فأحلوا حلله ‪ ،‬وحرّموا حرامه ‪ ،‬وافعلوا ما‬
‫أمرتم به ‪ ،‬وانتهوا عما نهيتم عنه ‪ ،‬واعتبروا بأمثاله ‪ ،‬واعملوا بمحكمه ‪ ،‬وآمنوا بمتشابهه ‪،‬‬
‫وقولوا ‪ :‬آمنا به كل من عند ربنا" (‪ .)10‬ثم رواه عن أبي كُرَيْب عن المحاربي ‪ ،‬عن ضمرة بن‬
‫حبيب ‪ ،‬عن القاسم بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن ابن مسعود من كلمه (‪ )11‬وهو أشبه (‪ .)12‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)202‬‬
‫(‪ )2‬قال الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على الطبري (‪" : )44 /1‬قوله ‪ :‬على الشك ‪ ،‬إنما للحديث‬
‫طريقان ‪ :‬الول ‪ :‬إسماعيل بن جعفر يرويه عن يزيد عن مسلم بن سعيد ‪ ،‬وسليمان يرويه عن‬
‫يزيد عن بسر ‪ -‬أخو مسلم ‪ ،‬فأشار أبو عبيد أثناء السناد إلى الرواية الخرى دون أن يذكر‬
‫إسنادهما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)170 /4‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بشر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬طـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)202‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬بشر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬آية الكفر"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)204 /4‬‬
‫(‪ )10‬تفسير الطبري (‪.)68 /1‬‬
‫(‪ )11‬تفسير الطبري (‪.)69 /1‬‬
‫(‪ )12‬قال الشيخ أحمد شاكر ‪" :‬وهو الصحيح ‪ ،‬حيث صرح بذلك الطبري بقوله ‪ :‬وروى عن ابن‬
‫مسعود من قبله ‪ ،‬أما السناد السابق فقد قال ابن عبد البر ‪ :‬حديث ل يثبت ؛ لنه من رواية أبي‬
‫سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ‪ ،‬ولم يلق ابن مسعود"‪.‬‬

‫( ‪)1/41‬‬

‫فصل‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬قد تواترت (‪ )1‬هذه الحاديث كلها عن الحرف السبعة إل ما حدثني عفان ‪ ،‬عن‬
‫حماد بن سلمة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن سمرة بن جندب ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬نزل القرآن على ثلثة أحرف" (‪.)2‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬ول نرى المحفوظ إل السبعة لنها المشهورة ‪ ،‬وليس معنى تلك السبعة أن يكون‬
‫الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه ‪ ،‬وهذا شيء غير موجود ‪ ،‬ولكنه عندنا أنه نزل سبع لغات‬
‫متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب ‪ ،‬فيكون الحرف الواحد منها بلغة قبيلة والثاني بلغة‬
‫أخرى سوى الولى ‪ ،‬والثالث بلغة أخرى سواهما ‪ ،‬كذلك إلى السبعة ‪ ،‬وبعض الحياء أسعد بها‬
‫وأكثر حظا فيها من بعض ‪ ،‬وذلك بين في أحاديث تترى ‪ ،‬قال ‪ :‬وقد روى الكلبي عن أبي صالح‬
‫عن ابن عباس قال ‪ :‬نزل القرآن على سبع لغات ‪ ،‬منها خمس بلغة العجز من هوازن (‪.)3‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬والعجز هم بنو أسعد (‪ )4‬بن بكر ‪ ،‬وجشم بن بكر ‪ ،‬ونصر بن معاوية ‪ ،‬وثقيف‬
‫هم عليا (‪ )5‬هوازن الذين قال أبو عمرو بن العلء ‪ :‬أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني‬
‫دارم‪ .‬ولهذا قال عمر ‪ :‬ل يملي في مصاحفنا إل غلمان قريش أو ثقيف (‪.)6‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬واللغتان الخريان ‪ :‬قريش وخزاعة رواه قتادة عن ابن عباس ‪ ،‬ولكن لم يلقه (‬
‫‪.)7‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬وحدثنا هُشَيْم عن حصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن عبيد ال بن عبد ال بن عتبة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ؛ أنه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر‪ .‬قال أبو عبيد ‪ :‬يعني ‪ :‬أنه كان‬
‫يستشهد به على التفسير (‪ .)8‬حدثنا هُشَيْم عن أبي بشر ‪ ،‬عن سعيد أو مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫ل َومَا وَسَقَ } [النشقاق ‪ ، ]17 :‬قال ‪ :‬ما جمع وأنشد ‪ :‬قد اتسقن لو يجدن سائقا‬
‫في قوله ‪ { :‬وَاللّ ْي ِ‬
‫(‪)9‬‬
‫حدثنا هُشَيْم ‪ ،‬أنبأنا (‪ )10‬حصين ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬فَِإذَا ُهمْ بِالسّاهِ َرةِ }‬
‫[النازعات ‪ ، ]14 :‬قال ‪ :‬الرض ‪ ،‬قال ‪ :‬وقال ابن عباس ‪ :‬قال أمية بن أبي الصلت ‪ :‬عندهم‬
‫لحم بحرٍ ولحم ساهرة (‪)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تواردت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪ )203‬ورواه من طريق البيهقي في السنن الكبرى (‪.)385 /2‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن ( ص ‪.)204‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬سعد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬علياء"‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)204‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪.)66 /1‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪.)205‬‬
‫(‪ )9‬فضائل القرآن (ص ‪.)206‬‬
‫(‪ )10‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )11‬فضائل القرآن (ص ‪ ، )206‬وكتب بين قوسين ‪ :‬وفيها لحم ساهر وبحر وما فاهوا به لهم‬
‫مقيم‬

‫( ‪)1/42‬‬
‫حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان ‪ ،‬عن إبراهيم بن مهاجر ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ت وَالرْضِ } [فاطر ‪ ، ]1 :‬حتى أتاني أعرابيان يختصمان في‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫كنت ل أدري ما { فَاطِرِ ال ّ‬
‫بئر ‪ ،‬فقال أحدهما ‪ :‬أنا فطرتها‪ .‬يقول ‪ :‬أنا ابتدأتها (‪ .)1‬إسناد جيد أيضا‪.‬‬
‫وقال المام أبو جعفر بن جرير الطبري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬بعد ما أورد طرفا مما تقدم ‪ :‬وصح وثبت‬
‫أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجمع (‪ )2‬إذا كان معلوما أن ألسنتها‬
‫ولغاتها أكثر من سبع بما يعجز عن إحصائه ثم قال ‪ :‬وما برهانك على ما قلته دون أن يكون‬
‫معناه ما قاله مخالفوك ‪ ،‬من أنه نزل بأمر وزجر ‪ ،‬وترغيب وترهيب ‪ ،‬وقصص ومثل ‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك من القوال فقد علمت قائل ذلك من سلف المة وخيار الئمة ؟ قيل له ‪ :‬إن الذين قالوا ذلك‬
‫لم يدعوا أن تأويل الخبار التي تقدم ذكرها ‪ ،‬هو ما زعمت أنهم قالوه في الحرف السبعة ‪ ،‬التي‬
‫نزل بها القرآن دون غيره فيكون ذلك لقولنا مخالفا ‪ ،‬وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة‬
‫أحرف ‪ ،‬يعنون بذلك أنه نزل على (‪ )3‬سبعة أوجه ‪ ،‬والذي قالوا من ذلك كما قالوا ‪ ،‬وقد روينا‬
‫بمثل الذي قالوا من ذلك عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة ‪ ،‬من أنه‬
‫نزل من سبعة أبواب الجنة ‪ ،‬كما تقدم‪ .‬يعني كما تقدم في رواية عن أبي بن كعب وعبد ال بن‬
‫مسعود ‪ :‬أن القرآن نزل من سبعة أبواب الجنة (‪.)4‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬والبواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها من المر والنهي ‪ ،‬والترغيب‬
‫والترهيب ‪ ،‬والقصص والمثل ‪ ،‬التي إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها المنتهي ‪ ،‬استوجب‬
‫بها الجنة‪.‬‬
‫ثم بسط القول في هذا بما حاصله ‪ :‬أن الشارع رخص للمة التلوة على سبعة أحرف ‪ ،‬ثم لما‬
‫رأى المام أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬اختلف الناس في القراءة ‪ ،‬وخاف‬
‫من تفرق كلمتهم ‪ -‬جمعهم على حرف واحد ‪ ،‬وهو هذا المصحف المام ‪ ،‬قال ‪ :‬واستوثقت له‬
‫المة على ذلك بالطاعة ‪ ،‬ورأت أن فيما فعله من ذلك الرشد والهداية ‪ ،‬وتركت القراءة الحرف‬
‫الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له ‪ ،‬ونظر منها لنفسها وعن بعدها من‬
‫سائر أهل ملتها ‪ ،‬حتى درست من المة معرفتها ‪ ،‬وتعفت آثارها ‪ ،‬فل سبيل اليوم لحد إلى‬
‫القراءة بها لدثورها وعفو آثارها‪ .‬إلى أن قال ‪ :‬فإن قال من ضعفت معرفته ‪ :‬وكيف جاز لهم‬
‫ترك قراءة اقرأهموها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأمرهم بقراءتها ؟ قيل ‪ :‬إن أمره إياهم‬
‫بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ‪ ،‬وإنما كان أمر إباحة ورخصة ؛ لن القراءة بها لو كانت‬
‫فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة ‪،‬‬
‫ويقطع خبره العذر ‪ ،‬ويزيل الشك من قراءة المة ‪ ،‬وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على‬
‫أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين‪ .‬إلى أن قال ‪ :‬فأما ما كان من اختلف القراءة في رفع حرف‬
‫ونصبه وجره وتسكين حرف وتحريكه ‪ ،‬ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)206‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬الجميع"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في طـ ‪ ،‬جـ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)47 /1‬‬

‫( ‪)1/43‬‬

‫الصورة في معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف "‬
‫بعزل ؛ لن المراء في مثل هذا ليس بكفر ‪ ،‬في قول أحد من علماء المة ‪ ،‬وقد أوجب صلى ال‬
‫عليه وسلم بالمراء في الحرف السبعة الكفر ‪ ،‬كما تقدم (‪.)1‬‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا سعيد بن عفير ‪ ،‬حدثنا الليث ‪ ،‬حدثنا عقيل ‪،‬‬
‫عن ابن شهاب قال ‪ :‬أخبرني عروة بن الزبير ‪ :‬أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبدٍ‬
‫القارئ حدثاه (‪ " )2‬أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول ‪ :‬سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة‬
‫الفرقان في حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف‬
‫كثيرة لم يقرأنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكدت أساوره في الصلة ‪ ،‬فتبصرت حتى‬
‫سلم فلببته بردائه فقلت ‪ :‬من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال ‪ :‬أقرأنيها رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقلت ‪ :‬كذبت ‪ ،‬فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما‬
‫قرأت ‪ ،‬فانطلقت به أقوده إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت ‪ :‬إني سمعت هذا يقرأ سورة‬
‫الفرقان على حروف لم تقرئنيها! فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أرسله ‪ ،‬اقرأ يا هشام" ‪،‬‬
‫فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬كذلك أنزلت" ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪" :‬اقرأ يا عمر" ‪ ،‬فقرأت القراءة التي أقرأني ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬كذلك‬
‫أنزلت‪ .‬إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ‪ ،‬فاقرؤوا ما تيسر منه " (‪.)3‬‬
‫وقد رواه المام أحمد والبخاري ‪ -‬أيضا ‪ -‬ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من طرق عن‬
‫الزهري (‪ )4‬ورواه المام أحمد ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن ابن مهدي ‪ ،‬عن مالك ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن‬
‫عروة ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن عبد ‪ ،‬عن عمر ‪ ،‬فذكر الحديث بنحوه (‪.)5‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا حرب بن ثابت ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن عبد ال بن أبي‬
‫طلحة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده قال ‪ " :‬قرأ رجل عند عمر فغير عليه فقال ‪ :‬قرأت على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فلم يغير عليّ قال ‪ :‬فاجتمعا عند النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقرأ الرجل‬
‫على النبي صلى ال عليه وسلم فقال له ‪" :‬قد أحسنت"‪ .‬قال ‪ :‬فكأن عمر وجد من ذلك ‪ ،‬فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا عمر ‪ ،‬إن القرآن كله صواب ‪ ،‬ما لم يجعل عذاب مغفرة أو‬
‫مغفرة عذابا " (‪.)6‬‬
‫وهذا إسناد حسن‪ .‬وحرب بن ثابت هذا يكنى بأبي ثابت ‪ ،‬ل نعرف أحدا جرحه‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الحرف وما أريد منها على أقوال ‪ :‬قال أبو عبد ال‬
‫محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح النصاري القرطبي المالكي في مقدمات تفسيره ‪ :‬وقد اختلف‬
‫العلماء في المراء بالحرف السبعة على خمسة وثلثين قول ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان‬
‫البستي ‪ ،‬ونحن نذكر منها خمسة أقوال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)49 /1‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬أخبراه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)4992‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )24 /1‬وصحيح البخاري برقم (‪ )2419‬وصحيح مسلم برقم (‪ )818‬وسنن أبي داود‬
‫برقم (‪ )1475‬وسنن النسائي (‪ )150 /2‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2943‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)40 /1‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)30 /4‬‬

‫( ‪)1/44‬‬

‫قلت ‪ :‬ثم سردها القرطبي ‪ ،‬وحاصلها ما أنا مورده ملخصا ‪:‬‬


‫فالول ‪ -‬وهو قول أكثر أهل العلم ‪ ،‬منهم سفيان بن عيينة ‪ ،‬وعبد ال بن وهب ‪ ،‬وأبو جعفر بن‬
‫جرير ‪ ،‬والطحاوي ‪ : -‬أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو ‪ :‬أقبل‬
‫وتعال وهلم‪ .‬وقال الطحاوي ‪ :‬وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال ‪ :‬جاء جبريل إلى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬اقرأ على حرف ‪ ،‬فقال ميكائيل ‪ :‬استزده فقال ‪ :‬اقرأ على‬
‫حرفين ‪ ،‬فقال ميكائيل ‪ :‬استزده ‪ ،‬حتى بلغ سبعة أحرف ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأ فكل شاف كاف إل أن‬
‫تخلط آية رحمة بآية عذاب ‪ ،‬أو آية عذاب بآية رحمة ‪ ،‬على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب‬
‫واسرع وعجل‪.‬‬
‫وروى عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب ‪ :‬أنه كان‬
‫يقرأ ‪َ { :‬يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُونَ وَا ْلمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ } [الحديد ‪: ]13 :‬‬
‫"للذين آمنوا أمهلونا" "للذين آمنوا أخرونا" "للذين آمنوا ارقبونا" ‪ ،‬وكان يقرأ ‪ { :‬كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ‬
‫شوْا فِيهِ } [البقرة ‪" : ]20 :‬مروا فيه " "سعوا فيه"‪ .‬قال الطحاوي‪ .‬وغيره ‪ :‬وإنما كان ذلك‬
‫مَ َ‬
‫رخصة أن يقرأ الناس القرآن على سبع لغات ‪ ،‬وذلك لما كان يتعسر على كثير من الناس التلوة‬
‫على لغة قريش ‪ ،‬وقرأه رسول ال صلى ال عليه وسلم لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان‬
‫الحفظ وقد ادعى الطحاوي والقاضي الباقلني والشيخ أبو عمرو بن عبد البر أن ذلك كان رخصة‬
‫في أول المر ‪ ،‬ثم نسخ بزوال العذر وتيسير الحفظ وكثرة الضبط وتعلم الكتابة‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬إنما كان الذي جمعهم على قراءة واحدة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬أحد الخلفاء الراشدين المهديين المأمور باتباعهم ‪ ،‬وإنما جمعهم عليها لما رأى‬
‫من اختلفهم في القراءة المفضية إلى تفرق المة وتكفير بعضهم بعضًا ‪ ،‬فرتب لهم المصاحف‬
‫الئمة على العرضة الخيرة التي عارض بها جبريل رسول ال صلى ال عليه وسلم في آخر‬
‫رمضان من عمره ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وعزم عليهم أل يقرؤوا بغيرها ‪ ،‬وأل يتعاطوا‬
‫الرخصة التي كانت لهم فيها سعة ‪ ،‬ولكنها أفضت إلى الفرقة والختلف ‪ ،‬كما ألزم عمر بن‬
‫الخطاب الناس بالطلق الثلثة المجموعة حين تتابعوا فيها وأكثروا منها ‪ ،‬قال ‪ :‬فلو أنا أمضيناه‬
‫عليهم ‪ ،‬فأمضاه عليهم‪ .‬وكان كذلك ينهى عن المتعة في أشهر الحج لئل ينقطع زيارة البيت في‬
‫غير أشهر الحج‪ .‬وقد كان أبو موسى يفتي بالتمتع فترك فتياه اتباعا لمير المؤمنين وسمعا‬
‫وطاعة لئمة المهديين‪.‬‬
‫القول الثاني ‪ :‬أن القرآن نزل على سبعة أحرف ‪ ،‬وليس المراد أن جميعه يقرأ على سبعة أحرف‬
‫‪ ،‬ولكن بعضه على حرف وبعضه على حرف آخر‪ .‬قال الخطابي ‪ :‬وقد يقرأ بعضه بالسبع لغات‬
‫كما في قوله ‪ { :‬وَعَبَدَ الطّاغُوتَ } [المائدة ‪ ]60 :‬و { يَرْتَ ْع وَيَ ْل َعبْ } [يوسف ‪ .]12 :‬قال القرطبي‬
‫‪ :‬ذهب إلى هذا القول أبو عبيد ‪ ،‬واختاره ابن عطية‪ .‬قال أبو عبيد ‪ :‬وبعض اللغات أسعدُ به من‬
‫بعض ‪ ،‬وقال القاضي الباقلني ‪ :‬ومعنى قول عثمان ‪ :‬إنه نزل بلسان قريش ‪ ،‬أي ‪ :‬معظمه ‪،‬‬
‫ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريش كله ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬قُرْآنًا عَرَبِيّا } [يوسف ‪ ، ]2 :‬ولم‬
‫يقل ‪ :‬قرشيا‪ .‬قال ‪ :‬واسم العرب يتناول جميع القبائل تناول واحدا ‪ ،‬يعني حجازها ويمنها ‪،‬‬
‫وكذلك قال الشيخ أبو عمر بن‬

‫( ‪)1/45‬‬

‫عبد البر ‪ ،‬قال ‪ :‬لن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات بتحقيق الهمزات ‪ ،‬فإن قريشا‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫ل تهمز‪ .‬وقال ابن عطية ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬ما كنت أدري ما معنى ‪ { :‬فَاطِرِ ال ّ‬
‫وَالرْضِ } [فاطر ‪ ، ]1 :‬حتى سمعت أعربيا يقول لبئر ابتدأ حفرها ‪ :‬أنا فطرتها‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬أن لغات القرآن السبع منحصرة في مضر على اختلف قبائلها خاصة ؛ لقول‬
‫عثمان ‪ :‬إن القرآن نزل بلغة (‪ )1‬قريش ‪ ،‬وقريش هم بنو النضر بن الحارث على الصحيح من‬
‫أقوال أهل النسب ‪ ،‬كما نطق به الحديث في سنن ابن ماجه وغيره‪.‬‬
‫القول الرابع ‪ -‬وحكاه الباقلني عن بعض العلماء ‪ : -‬أن وجوه القراءات ترجع إلى سبعة‬
‫ق صَدْرِي } [الشعراء ‪:‬‬
‫أشياء ‪ ،‬منها ما تتغير حركته ول تتغير صورته ول معناه مثل ‪ { :‬وَ َيضِي ُ‬
‫سفَارِنَا }‬
‫‪ ]13‬و "يضيقَ" ‪ ،‬ومنها ما ل تتغير صورته ويختلف معناه مثل ‪َ { :‬فقَالُوا رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَ ْ‬
‫[سبأ ‪ ]19 :‬و "باعَدَ بين أسفارنا" ‪ ،‬وقد يكون الختلف في الصورة والمعنى بالحرف مثل ‪:‬‬
‫{ نُ ْنشِزُهَا } [البقرة ‪ ، ]259 :‬و"نَنشُرُها" (‪ )2‬أو بالكلمة مع بقاء المعنى [مثل] (‪ { )3‬كَا ْل ِعهْنِ‬
‫ا ْلمَ ْنفُوشِ } [القارعة ‪ ، ]5 :‬أو "كالصوف المنفوش" أو باختلف الكلمة بالتقدم والتأخر مثل ‪:‬‬
‫سكْ َرةُ ا ْل َم ْوتِ بِا ْلحَقّ } [ق ‪ ، ]19 :‬أو "سكرة الحق بالموت" ‪ ،‬أو بالزيادة مثل "تسع‬
‫{ وَجَا َءتْ َ‬
‫وتسعون نعجة أنثى" ‪" ،‬وأما الغلم فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين" (‪" .)4‬فإن ال من بعد إكراههن‬
‫لهن غفور"‪.‬‬
‫القول الخامس ‪ :‬أن المراد بالحرف السبعة معاني القرآن وهي ‪ :‬أمر ‪ ،‬ونهي ‪ ،‬ووعد ‪ ،‬ووعيد ‪،‬‬
‫وقصص ‪ ،‬ومجادلة ‪ ،‬وأمثال‪ .‬قال ابن عطية ‪ :‬وهذا ضعيف ؛ لن هذه ل تسمى حروفا ‪ ،‬وأيضا‬
‫فالجماع أن التوسعة لم تقع في تحليل حلل (‪ )5‬ول في تغيير شيء من المعاني ‪ ،‬وقد أورد‬
‫القاضي الباقلني في هذا حديثًا ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬وليست هذه هي التي أجاز لهم القراء (‪ )6‬بها (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بلسان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ينشرها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬كذا في جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬حرام"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬القراءة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير القرطبي (‪.)47 - 42 /1‬‬

‫( ‪)1/46‬‬

‫فصل‬
‫قال القرطبي ‪ :‬قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة وغيرهما ‪ :‬هذه القراءات السبع‬
‫التي تنسب لهؤلء القراء السبعة ليست هي الحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة‬
‫بها ‪ ،‬وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف‪ .‬ذكره‬
‫ابن النحاس وغيره‪.‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬وقد سوغ كل واحد من القراء السبعة قراءة الخر وأجازها ‪ ،‬وإنما اختار القراءة‬
‫المنسوبة إليه لنه رآها أحسن والولى (‪ )1‬عنده‪ .‬قال ‪ :‬وقد أجمع المسلمون في هذه المصار‬
‫على العتماد على ما صح عن هؤلء الئمة فيما رووه ورأوه من القراءات ‪ ،‬وكتبوا في ذلك‬
‫مصنفات واستمر الجماع على الصواب وحصل ما وعد ال به من حفظ الكتاب (‪.)2‬‬
‫قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في م ‪" :‬وأولى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي (‪.)46 /1‬‬

‫( ‪)1/46‬‬

‫تأليف القرآن‬
‫حدثنا إبراهيم بن موسى ‪ ،‬حدثنا هشام بن يوسف ‪ :‬أن ابن جريج أخبرهم قال ‪ :‬وأخبرني يوسف‬
‫ابن ماهك قال ‪ :‬إني لعند عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬إذ جاءها عراقي فقال ‪ :‬أي‬
‫الكفن خير ؟ قالت ‪ :‬ويحك! وما يضرك ‪ ،‬قال ‪ :‬يا أم المؤمنين ‪ ،‬أريني مصحفك ‪ ،‬قالت ‪ :‬لم ؟‬
‫قال ‪ :‬لعلي أؤلف القرآن عليه ‪ ،‬فإنه يقرأ غير مؤلف ‪ ،‬قالت ‪ :‬وما يضرك أيه قرأت قبل ‪ ،‬إنما‬
‫أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ‪ ،‬حتى إذا ثاب الناس إلى السلم ‪،‬‬
‫نزل الحلل والحرام ولو نزل أول شيء ‪ :‬ول تشربوا الخمر ‪ ،‬لقالوا ‪ :‬ل ندع الخمر أبدًا ‪ ،‬ولو‬
‫نزل ‪ :‬ل تزنوا ‪ ،‬لقالوا ‪ :‬ل ندع الزنا أبدا ‪ ،‬لقد نزل بمكة على محمد صلى ال عليه وسلم وإني‬
‫لجارية ألعب ‪َ { :‬بلِ السّاعَةُ َموْعِدُ ُه ْم وَالسّاعَةُ أَدْهَى وََأمَرّ } [القمر ‪ ، ]46 :‬وما نزلت سورة‬
‫البقرة والنساء إل وأنا عنده ‪ ،‬قال ‪ :‬فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور (‪ .)1‬وهكذا‬
‫رواه النسائي من حديث ابن جريج به (‪ )2‬والمراد من التأليف هاهنا ترتيب سوره‪ .‬وهذا العراقي‬
‫سأل أول عن أي الكفن خير ‪ ،‬أي ‪ :‬أفضل ‪ ،‬فأخبرته عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬أن هذا ل ينبغي‬
‫أن يعتني بالسؤال عنه ول القصد له ول الستعداد ‪ ،‬فإن في هذا تكلفا ل طائل تحته ‪ ،‬وكانوا في‬
‫ذلك الزمان يصفون أهل العراق بالتعنت في السئلة ‪ ،‬كما سأل بعضهم عبد ال بن عمر عن دم‬
‫البعوض يصيب الثوب فقال عبد ال بن عمر ‪ :‬انظروا أهل العراق ‪ ،‬يسألون عن دم البعوضة ‪،‬‬
‫وقد قتلوا ابن بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم ! (‪ .)3‬ولهذا لم تبالغ معه عائشة ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنها ‪ ،‬في الكلم لئل يظن أن ذلك أمر مهم ‪ ،‬وإل فقد روى أحمد وأهل السنن من حديث سمرة‬
‫وابن عباس عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬البسوا من ثيابكم البياض ‪ ،‬وكفنوا فيها‬
‫موتاكم ‪ ،‬فإنها أطهر وأطيب " (‪ )4‬وصححه الترمذي من الوجهين‪.‬‬
‫وفي الصحيحين عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬أنها قالت ‪ :‬كفن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫في ثلثة أثواب بيض سحولية ‪ ،‬ليس فيها قميص ول عمامة (‪ .)5‬وهذا محرر في باب الكفن من‬
‫كتاب الجنائز‪.‬‬
‫ثم سألها عن ترتيب القرآن فانتقل إلى سؤال كبير ‪ ،‬وأخبرها أنه يقرأ غير مؤلف ‪ ،‬أي ‪ :‬غير‬
‫مرتب السور‪ .‬وكأن هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬إلى الفاق‬
‫بالمصاحف الئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم ‪ ،‬وقبل اللزام به ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ولهذا أخبرته ‪ :‬أنك ل يضرك بأي سورة بدأت ‪ ،‬وأن أول سورة نزلت فيها ذكر الجنة والنار ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)3993‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)7987‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪.)3753‬‬
‫(‪ )4‬حديث ابن عباس في المسند (‪ )247 ، 231 /1‬وسنن أبي داود برقم (‪ )3878‬وسنن النسائي‬
‫(‪ )149 /8‬وسنن الترمذي برقم (‪ )994‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ ، )1472‬وحديث سمرة في المسند‬
‫(‪ )20 /5‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2811‬وسنن النسائي (‪.)205 /8‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )1264‬وصحيح مسلم برقم (‪.)941‬‬

‫( ‪)1/47‬‬

‫وهذه إن لم تكن "اقرأ" فقد يحتمل أنها أرادت اسم جنس لسور المفصل التي فيها الوعد والوعيد ‪،‬‬
‫ثم لما انقاد الناس إلى التصديق أمروا ونهوا بالتدريج أول فأول وهذا من حكمة ال ورحمته ‪،‬‬
‫ومعنى هذا الكلم ‪ :‬أن هذه السورة أو السور التي فيها ذكر الجنة والنار ليس البداءة بها في أوائل‬
‫المصاحف ‪ ،‬مع أنها من أول ما نزل ‪ ،‬وهذه البقرة والنساء من أوائل ما في المصحف ‪ ،‬وقد‬
‫نزلت عليه في المدينة وأنا عنده‪.‬‬
‫فأما ترتيب اليات في السور فليس في ذلك رخصة ‪ ،‬بل هو أمر توقيفي عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬كما تقدم تقرير ذلك ؛ ولهذا لم ترخص له في ذلك ‪ ،‬بل أخرجت له مصحفها ‪،‬‬
‫فأملت عليه آي السور ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وقول عائشة ‪ :‬ل يضرك بأي سورة بدأت ‪ ،‬يدل على أنه لو‬
‫قدم بعض السور أو أخر ‪ ،‬كما دل عليه حديث حذيفة وابن مسعود ‪ ،‬وهو في الصحيح أنه ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء (‪ )1‬ثم آل عمران (‪ .)2‬وقد حكى القرطبي عن أبي‬
‫بكر بن النباري في كتاب الرد أنه قال ‪ :‬فمن أخّر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد‬
‫نظم اليات وغير الحروف واليات (‪ )3‬وكان مستنده اتباع مصحف عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪،‬‬
‫فإنه مرتب على هذا النحو المشهور ‪ ،‬والظاهر أن ترتيب السور فيه منه ما هو رجع إلى رأي‬
‫عثمان ‪ ،‬وذلك ظاهر في سؤال ابن عباس له في ترك البسملة في أول براءة ‪ ،‬وذكره النفال من‬
‫الطول ‪ ،‬والحديث في الترمذي وغيره بإسناد جيد وقوي‪ .‬وقد ذكرنا عن علي أنه كان قد عزم‬
‫على ترتيب القرآن بحسب نزوله‪.‬‬
‫ولقد حكى القاضي الباقلني ‪ :‬أن أول مصحفه كان ‪" :‬اقرأ باسم ربك الكرم" وأول مصحف ابن‬
‫مسعود ‪ { :‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } ثم البقرة ‪ ،‬ثم النساء على ترتب مختلف ‪ ،‬وأول مصحف أبيّ ‪:‬‬
‫حمْدُ ِللّهِ } ثم النساء ‪ ،‬ثم آل عمران ‪ ،‬ثم النعام ‪ ،‬ثم المائدة ‪ ،‬ثم كذا على اختلف شديد ‪ ،‬ثم‬
‫{ ا ْل َ‬
‫قال القاضي ‪ :‬ويحتمل أن ترتيب السور في المصحف على ما هو عليه اليوم من اجتهاد الصحابة‬
‫‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬وكذا ذكره مكي في تفسير سورة براءة قال ‪ :‬فأما ترتيب اليات والبسملة في‬
‫الوائل فهو من النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال ابن وهب في جامعه ‪ :‬سمعت سليمان بن بلل يقول ‪ :‬سئل ربيعة ‪ :‬لم قدمت البقرة وآل‬
‫عمران ‪ ،‬وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة ؟ فقال ‪ :‬قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه ‪،‬‬
‫وقد أجمعوا على العلم بذلك ‪ ،‬فهذا مما ينتهى إليه ول يسأل عنه‪ .‬قال ابن وهب ‪ :‬وسمعت مالكا‬
‫يقول ‪ :‬إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى ال عليه وسلم (‪.)4‬‬
‫قال أبو الحسن بن بطال ‪ :‬إنا نجد (‪ )5‬تأليف سوره في الرسم والخط خاصة ول يعلم أن أحدًا‬
‫منهم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بالنساء"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪.)772‬‬
‫(‪ )3‬تفسير القرطبي (‪.)60 /1‬‬
‫(‪ )4‬ذكره القرطبي في تفسيره (‪.)60 ، 59 /1‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬إنما يجب"‪.‬‬

‫( ‪)1/48‬‬

‫قال ‪ :‬إن ترتيب ذلك واجب في الصلة وفي قراءة القرآن ودرسه ‪ ،‬وأنه ل يحل لحد أن يقرأ‬
‫الكهف قبل البقرة ‪ ،‬ول الحج قبل (‪ )1‬الكهف ‪ ،‬أل ترى إلى قول عائشة ‪ :‬ول يضرك أيه قرأت‬
‫قبل‪ .‬وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأ في الصلة السورة في ركعة ‪ ،‬ثم يقرأ في الركعة‬
‫الخرى بغير السورة التي تليها‪.‬‬
‫وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا (‪ .)2‬وقال إنما ذلك‬
‫منكوس القلب ‪ ،‬فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسةً فيبتدئ بآخرها إلى أولها ‪ ،‬فإن ذلك‬
‫حرام محذور‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا آدم ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن أبي إسحاق قال ‪ :‬سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال‬
‫‪ :‬سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والنبياء ‪ :‬إنهن من العتاق الول‬
‫‪ ،‬وهن من تلدى (‪ .)3‬انفرد البخاري بإخراجه والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور في مصحف‬
‫ابن مسعود كالمصاحف العثمانية ‪ ،‬وقوله ‪" :‬من العتاق الول" أي ‪ :‬من قديم ما نزل ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫"وهن من تلدى" أي ‪ :‬من قديم ما قنيت وحفظت‪ .‬والتالد في لغتهم ‪ :‬قديم المال والمتاع ‪،‬‬
‫والطارف حديثه وجديده ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وحدثنا أبو الوليد ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬حدثنا أبو إسحاق ‪ :‬سمع البراء بن عازب يقول ‪ :‬تعلمت { سَبّحِ‬
‫سمَ رَ ّبكَ العْلَى } قبل أن يقدم النبي صلى ال عليه وسلم (‪ .)4‬وهذا متفق عليه ‪ ،‬وهو قطعة من‬
‫اْ‬
‫حديث الهجرة ‪ ،‬والمراد منه أن { سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ العْلَى } مكية نزلت قبل الهجرة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثنا ع ْبدَان ‪ ،‬عن أبي حمزة ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن شقيق قال ‪ :‬قال عبد ال ‪ :‬لقد علمت‬
‫النظائر التي (‪ )5‬كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأهن اثنين اثنين في كل ركعة ‪ ،‬فقام عبد ال‬
‫ودخل معه علقمة ‪ ،‬وخرج علقمة فسألناه فقال ‪ :‬عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬آخرهن من الحواميم حم الدخان وعم يتساءلون‪.‬‬
‫وهذا التأليف الذي عن ابن مسعود غريب مخالف لتأليف عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فإن المفصل‬
‫في مصحف عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬من سورة الحجرات إلى آخره وسورة الدخان ‪ ،‬ل تدخل‬
‫فيه بوجه ‪ ،‬والدليل على ذلك ما رواه المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن عبد الرحمن الطائفي ‪ ،‬عن عثمان بن عبد ال‬
‫ابن أوس الثقفي عن جده أوس بن حذيفة قال ‪ :‬كنت في الوفد الذين أتوا النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم فذكر حديثا فيه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يسمر معهم بعد العشاء فمكث عنا‬
‫ليلة لم يأتنا ‪ ،‬حتى طال ذلك علينا بعد العشاء‪ .‬قال ‪ :‬قلنا ‪ :‬ما أمكثك عنا يا رسول ال ؟ قال ‪:‬‬
‫"طرأ على حزب من القرآن ‪ ،‬فأردت أل أخرج حتى أقضيه "‪ .‬قال ‪ :‬فسألنا أصحاب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم حين أصبحنا ‪ ،‬قال ‪ :‬قلنا ‪ :‬كيف تحزبون القرآن ؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬بعد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬مقلوبا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)4994‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4995‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬الذي"‪.‬‬

‫( ‪)1/49‬‬

‫قالوا ‪ :‬نحزبه ثلث سور ‪ ،‬وخمس سور ‪ ،‬وسبع سور ‪ ،‬وتسع سور ‪ ،‬وإحدى عشرة سورة ‪،‬‬
‫وثلث عشرة سورة ‪ ،‬وحزب المفصل من قاف حتى يختم (‪.)1‬‬
‫ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد ال بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي به (‪ )2‬وهذا‬
‫إسناد حسن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)9 /4‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود برقم (‪ )1393‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1345‬‬

‫( ‪)1/50‬‬

‫فصل‬
‫فأما نقط المصحف وشكله ‪ ،‬فيقال ‪ :‬إن أول من أمر به عبد الملك بن مروان ‪ ،‬فتصدى لذلك‬
‫الحجاج وهو بواسط ‪ ،‬فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعل ذلك ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إن أول من‬
‫نقط المصحف أبو السود الدؤلي ‪ ،‬وذكروا أنه كان لمحمد بن سيرين مصحف قد نقطه له يحيى‬
‫بن يعمر (‪ )1‬وال أعلم‪.‬‬
‫وأما كتابة العشار على الحواشي فينسب إلى الحجاج أيضا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل أول من فعله المأمون ‪،‬‬
‫وحكى أبو عمرو الداني عن ابن مسعود أنه كره التعشير في المصحف ‪ ،‬وكان يحكه (‪ )2‬وكره‬
‫مجاهد ذلك أيضا‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬ل بأس به بالحبر ‪ ،‬فأما باللوان المصبغة فل‪ .‬وأكره تعداد آي السور في أولها في‬
‫المصاحف المهات ‪ ،‬فأما ما يتعلم فيه الغلمان فل أرى به بأسا‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬بدؤوا فنقطوا ‪ ،‬ثم خمسوا ‪ ،‬ثم عشروا‪ .‬وقال يحيى بن أبي كثير ‪ :‬أول ما أحدثوا‬
‫النقط على الباء والتاء والثاء ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل بأس به ‪ ،‬هو نور له ‪ ،‬أحدثوا نقطًا عند آخر الي ‪ ،‬ثم‬
‫أحدثوا الفواتح والخواتم‪.‬‬
‫ورأى إبراهيم النخعي فاتحة سورة كذا ‪ ،‬فأمر بمحوها وقال ‪ :‬قال ابن مسعود ‪ :‬ل تخلطوا بكتاب‬
‫ال ما ليس فيه‪ .‬قال أبو عمرو الداني ‪ :‬ثم قد أطبق المسلمون في ذلك في سائر الفاق على جواز‬
‫ذلك في المهات وغيرها‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال مسروق عن عائشة ‪ ،‬عن فاطمة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬أسر إليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ :‬أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ول أراه إل حضر أجلي‪.‬‬
‫هكذا ذكره معلقا وقد أسنده في موضع آخر (‪.)3‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثنا يحيى بن قزعة ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن سعد ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن عبد ال بن عبيد‬
‫ال ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص ‪.)160‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص ‪.)240‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري (‪" )43 /9‬فتح"‪.‬‬
‫( ‪)1/50‬‬

‫عن ابن عباس قال ‪ " :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم أجود الناس بالخير ‪ ،‬وأجود ما يكون في‬
‫شهر رمضان ؛ لن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم القرآن ‪ ،‬فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة " ‪،‬‬
‫وهذا الحديث متفق عليه (‪ )1‬وقد تقدم الكلم عليه في أول الصحيح وما فيه من الحكم والفوائد ‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثنا خالد بن يزيد ‪ ،‬حدثنا أبو بكر ‪ ،‬عن أبي حصين ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ " :‬كان يعرض على النبي صلى ال عليه وسلم القرآن كل عام مرة ‪ ،‬فعرض عليه‬
‫مرتين في العام الذي قبض فيه ‪ ،‬وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي‬
‫قبض "‪.‬‬
‫ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من غير وجه عن أبي بكر ‪ -‬وهو ابن عياش ‪ -‬عن أبي‬
‫حصين ‪ ،‬واسمه عثمان بن عاصم ‪ ،‬به (‪ .)2‬والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة ‪ :‬مقابلته‬
‫على ما أوحاه إليه عن ال تعالى ‪ ،‬ليبقى ما بقي ‪ ،‬ويذهب ما نسخ توكيدًا ‪ ،‬أو استثباتًا وحفظًا ؛‬
‫ولهذا عرضه في السنة الخيرة من عمره ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬على جبريل مرتين ‪ ،‬وعارضه به‬
‫جبريل كذلك ؛ ولهذا فهم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬اقتراب أجله ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬جمع‬
‫المصحف المام على العرضة الخيرة ‪ ،‬وخصّ بذلك رمضان من بين الشهور ؛ لن ابتداء‬
‫اليحاء كان فيه ؛ ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه ‪ ،‬ومن ثم اجتهاد الئمة فيه في تلوة‬
‫القرآن ‪ ،‬كما تقدم ذكرنا لذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4997‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2308‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )4998‬وسنن أبي داود برقم (‪ )2466‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪ )7992‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1769‬‬

‫( ‪)1/51‬‬

‫القراء من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‬


‫حدثنا حفص بن عمر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن عمرو ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن مسروق ‪ :‬ذكر عبد ال بن‬
‫عمر وعبد ال بن مسعود ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل أزال أحبه ‪ ،‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫" خذوا القرآن من أربعة ‪ :‬من عبد ال ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬ومعاذ بن جبل ‪ ،‬وأبي بن كعب " ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنهم (‪.)1‬‬
‫وقد أخرجه البخاري في المناقب في غير موضع ‪ ،‬ومسلم والنسائي من حديث شعبة ‪ ،‬عن عمرو‬
‫بن مرة به (‪.)2‬‬
‫وأخرجاه والترمذي والنسائي ‪ -‬أيضا ‪ -‬من حديث العمش عن أبي وائلٍ ‪ ،‬عن مسروق به (‪.)3‬‬
‫فهؤلء الربعة اثنان من المهاجرين الولين عبد ال بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ‪ ،‬وقد كان‬
‫سالم هذا من سادات المسلمين وكان يؤم الناس قبل مقدم النبي صلى ال عليه وسلم في المدينة ‪،‬‬
‫واثنان من النصار معاذ بن جبل ‪ ،‬وأبيّ بن كعب ‪ ،‬وهما سيدان كبيران ‪ ،‬رضي ال عنهم‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثنا عمر بن حفص ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬حدثنا شقيق بن سلمة قال ‪ :‬خطبنا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4999‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )3758 ، 3806‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2464‬وسنن النسائي الكبرى‬
‫برقم (‪.)7996‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )3760‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2464‬وسنن الترمذي برقم (‪)3810‬‬
‫وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)7997‬‬

‫( ‪)1/51‬‬

‫عبد ال فقال ‪ :‬وال لقد أخذت من في رسول ال صلى ال عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ‪ ،‬وال‬
‫لقد علم أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب ال وما أنا بخيرهم‪ .‬قال شقيق‬
‫‪ :‬فجلست في الحلق أسمع ما يقولون ‪ ،‬فما سمعت رادًا يقول غير ذلك (‪.)1‬‬
‫حدثنا محمد بن كثير ‪ ،‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة قال ‪ :‬كنا بحمص‬
‫‪ ،‬فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل ‪ :‬ما هكذا أنزلت ‪ ،‬فقال ‪ :‬قرأت على رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال ‪" :‬أحسنت" ووجد منه ريح الخمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬أتجترئ أن تكذب بكتاب ال‬
‫وتشرب الخمر ؟! فجلده الحد (‪.)2‬‬
‫حدثنا عمر بن حفص ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬حدثنا مسلم ‪ ،‬عن مسروق قال ‪ :‬قال عبد‬
‫ال ‪ :‬وال الذي ل إله غيره ‪ ،‬ما أنزلت (‪ )3‬سورة من كتاب ال إل وأنا أعلم أين نزلت ‪ ،‬ول‬
‫أنزلت آية من كتاب ال إل وأنا أعلم فيمن نزلت ‪ ،‬ولو أعلم أحدا أعلم منى تبلغه البل لركبت‬
‫إليه (‪.)4‬‬
‫وهذا كله حق وصدق ‪ ،‬وهو من إخبار الرجل بما يعلم عن نفسه ما قد يجهله غيره ‪ ،‬فيجوز ذلك‬
‫جعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ‬
‫للحاجة ‪ ،‬كما قال تعالى إخبارا عن يوسف لما قال لصاحب مصر ‪ { :‬ا ْ‬
‫حفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف ‪ ، ]55 :‬ويكفيه مدحا وثناء قول رسول ال صلى ال عليه‬
‫ال ْرضِ إِنّي َ‬
‫وسلم ‪" :‬استقرئوا القرآن من أربعة" ‪ ،‬فبدأ به‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا مصعب بن المقدام عن سفيان عن العمش عن إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة ‪ ،‬عن‬
‫عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأه على‬
‫حرف ابن أم عبد " (‪ .)5‬وهكذا رواه المام أحمد ‪ ،‬عن أبي معاوية ‪ ،‬عن العمش به مطول‬
‫وفيه قصة (‪ )6‬وأخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي معاوية وصححه الدارقطني (‪ )7‬وقد‬
‫ذكرته في مسند عمر (‪ )8‬وفي مسند المام أحمد ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن أبي هريرة أن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪ " :‬ومن أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " (‬
‫‪ )9‬وابن أم عبد هو عبد ال بن مسعود ‪ ،‬وكان يعرف بذلك‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا حفص بن عمر ‪ ،‬حدثنا همام ‪ ،‬حدثنا قتادة قال ‪ :‬سألت أنس بن مالك ‪:‬‬
‫من جمع القرآن على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬أربعة ‪ ،‬كلهم من النصار ‪:‬‬
‫أبيّ بن كعب ‪ ،‬ومعاذ بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5000‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5001‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ما نزلت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)5002‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪.)225‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)26 ، 25 /1‬‬
‫(‪ )7‬سنن الترمذي برقم (‪ )169‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8256‬‬
‫(‪ )8‬مسند عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬للمؤلف (ص ‪ )173 - 171‬وقال ‪" :‬وهذا‬
‫الحديث ل يشك أنه محفوظ ‪ ،‬وهذا الضطراب ل يضر صحته ‪ ،‬وال أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)446 /2‬‬

‫( ‪)1/52‬‬

‫جبل ‪ ،‬وزيد بن ثابت ‪ ،‬وأبو زيد‪ .‬ورواه مسلم من حديث همام (‪.)1‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬تابعه الفضل ‪ ،‬عن حسين بن واقد ‪ ،‬عن ثمامة ‪ ،‬عن أنس (‪.)2‬‬
‫حدثنا معلى بن أسد ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن المثنى قال ‪ :‬حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس بن‬
‫مالك قال ‪ :‬مات النبي صلى ال عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ‪ :‬أبو الدرداء ‪ ،‬ومعاذ بن‬
‫جبل ‪ ،‬وزيد بن ثابت ‪ ،‬وأبو زيد‪ .‬قال ‪ :‬ونحن ورثناه (‪.)3‬‬
‫فهذا الحديث ظاهره أنه لم يجمع القرآن من الصحابة سوى هؤلء الربعة فقط ‪ ،‬وليس هذا‬
‫هكذا ‪ ،‬بل الذي ل شك فيه أنه جمعه غير واحد من المهاجرين أيضا ‪ ،‬ولعل مراده ‪ :‬لم يجمع‬
‫القرآن من النصار ؛ ولهذا ذكر الربعة من النصار ‪ ،‬وهم أبي بن كعب في الرواية الولى‬
‫المتفق عليها وفي الثانية من أفراد البخاري ‪ :‬أبو الدرداء ‪ ،‬ومعاذ بن جبل ‪ ،‬وزيد بن ثابت ‪ ،‬وأبو‬
‫زيد ‪ ،‬وكلهم مشهورون إل أبا زيد هذا ‪ ،‬فإنه غير معروف إل في هذا الحديث ‪ ،‬وقد اختلف في‬
‫اسمه فقال الواقدي ‪ :‬اسمه قيس بن السكن بن قيس بن زعواء بن حرام بن جندب بن عامر بن‬
‫غنم بن عدى بن النجار (‪.)4‬‬
‫وقال ابن نمير ‪ :‬اسمه سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية من الوس‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هما اثنان جمعا القرآن ‪ ،‬حكاه أبو عمر بن عبد البر ‪ ،‬وهذا بعيد وقول الواقدي أصح لنه‬
‫خزرجي ؛ لن أنسًا قال ‪ :‬ونحن ورثناه ‪ ،‬وهم من الخزرج ‪ ،‬وفي بعض ألفاظه (‪ )5‬وكان أحد‬
‫عمومتي‪ .‬وقال قتادة عن أنس ‪ :‬افتخر الحيان الوس والخزرج ‪ ،‬فقالت الوس ‪ :‬منا غسيل‬
‫الملئكة حنظلة بن أبي عامر ‪ ،‬ومنا الذي حمته الدبُرُ عاصم بن ثابت ‪ ،‬ومنا الذي اهتز لموته‬
‫العرش سعد بن معاذ ‪ ،‬ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت‪.‬‬
‫فقالت الخزرج ‪ :‬منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أبيّ بن‬
‫كعب ‪ ،‬ومعاذ بن جبل ‪ ،‬وزيد بن ثابت ‪ ،‬وأبو زيد‪.‬‬
‫فهذا كله يدل على صحة قول الواقدي ‪ ،‬وقد شهد أبو زيد هذا بدرا ‪ ،‬فيما ذكره غير واحد‪ .‬وقال‬
‫موسى بن عقبة عن الزهري ‪ :‬قتل أبو زيد قيس بن السكن يوم جسر (‪ )6‬أبي عبيدة على رأس‬
‫خمس عشرة (‪ )7‬من الهجرة ‪ ،‬والدليل على أن (‪ )8‬من المهاجرين من جمع القرآن أن الصديق ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬قدّمه رسول ال صلى ال عليه وسلم في مرضه (‪ )9‬إماما على المهاجرين‬
‫والنصار ‪ ،‬مع أنه صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬يؤم القوم أقرؤهم لكتاب ال " (‪ )10‬فلول أنه كان‬
‫أقرؤهم لكتاب ال لما قدّمه عليهم‪ .‬هذا مضمون ما قرره‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )5003‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2465‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أنس بن مالك"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5004‬‬
‫(‪ )4‬انظر ‪ :‬الصابة (‪.)240 /3‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬اللفاظ"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬خيبر"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬عشرة سنة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬أنه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬زمنه"‪.‬‬
‫(‪ )10‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )672‬من حديث أبي مسعود النصاري‪.‬‬

‫( ‪)1/53‬‬

‫الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الشعري ‪ ،‬وهذا التقرير ل يُدفع ولشك (‪ )1‬فيه ‪ ،‬وقد جمع‬
‫الحافظ ابن السمعاني في ذلك جزءًا ‪ ،‬وقد بسطت تقرير ذلك في كتاب مسند الشيخين ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنهما‪ .‬ومنهم عثمان بن عفان وقد قرأه في ركعة ‪ -‬كما سنذكره ‪ -‬وعلي بن أبي طالب يقال ‪:‬‬
‫إنه جمعه على ترتيب ما أنزل ‪ ،‬وقد قدمنا هذا‪ .‬ومنهم عبد ال بن مسعود ‪ ،‬وقد تقدم عنه أنه قال‬
‫‪ :‬ما من آية من كتاب ال إل وأنا أعلم أين نزلت (‪ )2‬؟ وفيم نزلت ؟ ولو علمت أحدا أعلم مني‬
‫بكتاب ال تبلغه المطي لذهبت إليه‪ .‬ومنهم سالم مولى أبي حذيفة ‪ ،‬كان من السادات النجباء‬
‫والئمة التقياء وقد قتل يوم اليمامة شهيدا‪ .‬ومنهم الحبر البحر عبد ال بن عباس بن عبد المطلب‬
‫ابن عم رسول ال (‪ )3‬صلى ال عليه وسلم وترجمان القرآن ‪ ،‬وقد تقدم عن مجاهد أنه قال ‪:‬‬
‫قرأت القرآن على ابن عباس مرتين ‪ ،‬أقفه عند كل آية وأسأله عنها‪ .‬ومنهم عبد ال بن عمرو ‪،‬‬
‫كما رواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج عن عبد ال بن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن يحيى بن‬
‫حكيم بن صفوان ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو قال ‪ :‬جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة ‪ ،‬فبلغ ذلك‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬اقرأه في شهر"‪ .‬وذكر تمام الحديث (‪.)4‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا صدقة بن الفضل ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن حبيب بن أبي ثابت ‪،‬‬
‫عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال عمر ‪ :‬عليّ أقضانا ‪ ،‬وأُبيّ أقرأنا ‪ ،‬وإنا لَنَدع من‬
‫ي يقول ‪ :‬أخذته من في رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فل أتركه لشيء قال ال‬
‫لحنِ أُبيّ ‪ ،‬وأُب ّ‬
‫سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } [البقرة ‪.)5( ]106 :‬‬
‫تعالى ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُ ْن ِ‬
‫وهذا يدل على أن الرجل الكبير قد يقول الشيء يظنه صوابا وهو خطأ في نفس المر ؛ ولهذا‬
‫قال المام مالك ‪ :‬ما من أحد إل يؤخذ من قوله ويرد إل قول صاحب هذا القبر ‪ ،‬أي ‪ :‬فكله‬
‫مقبول ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه‪ .‬ثم ذكر البخاري فضل فاتحة الكتاب وغيرها ‪ ،‬وسنذكر فضل‬
‫كل سورة عندها ليكون ذلك أنسب‪ .‬ثم قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬ول يشك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪" :‬أنزلت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬الرسول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )80 64‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1346‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)5005‬‬
‫( ‪)1/54‬‬

‫نزول السكينة والملئكة عند القراءة‬


‫وقال الليث ‪ :‬حدثني يزيد بن الهاد ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم ‪ ،‬عن أسيد بن الحضير قال ‪ :‬بينما هو‬
‫يقرأ من الليل سورة البقرة ‪ ،‬وفرسه مربوطة عنده ‪ ،‬إذ جالت الفرس ‪ ،‬فسكت فسكنت ‪ ،‬ثم قرأ‬
‫فجالت (‪ )1‬فسكت فسكنت ‪ ،‬ثم قرأ فجالت الفرس ‪ ،‬فانصرف ‪ ،‬وكان ابنه يحيى قريبا منها ‪،‬‬
‫فأشفق أن تصيبه ‪ ،‬فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ‪ ،‬فلما أصبح حدث النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال ‪ " :‬اقرأ يا بن حضير ‪ ،‬اقرأ يا بن حضير"‪ .‬قال ‪ :‬فأشفقت يا رسول ال‬
‫أن تطأ يحيى وكان منها قريبا ‪ ،‬فرفعت رأسي وانصرفت إليه ‪ ،‬فرفعت رأسي إلى السماء فإذا‬
‫مثل الظّلّة ‪ ،‬فيها أمثال المصابيح ‪ ،‬فخرجت حتى ل أراها قال ‪" :‬أو تدري (‪ )2‬ما ذاك ؟ "‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ل قال ‪" :‬الملئكة دَ َنتْ لصوتك ‪ ،‬ولو قرأت لصبحت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فجالت الفرس"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬وتدري"‪.‬‬

‫( ‪)1/54‬‬

‫ينظر الناس إليها ل تتوارى منهم "‪ .‬قال ابن الهاد ‪ :‬وحدثني هذا الحديث عبد ال بن خباب عن‬
‫أبي سعيد الخدري عن أسيد بن الحضير (‪.)1‬‬
‫هكذا أورد البخاري هذا الحديث معلقا ‪ ،‬وفيه انقطاع في الرواية الولى ‪ ،‬فإن محمد بن إبراهيم‬
‫بن الحارث التيمي المدني تابعي صغير لم يدرك أسيدا لنه مات سنة عشرين ‪ ،‬وصلى عليه أمير‬
‫المؤمنين عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنهما‪ .‬ثم فيه غرابة من حيث إنه قال ‪ :‬وقال الليث ‪:‬‬
‫حدثني يزيد بن الهاد ولم أره بسند متصل عن الليث بذلك ‪ ،‬إل ما ذكره الحافظ أبو القاسم بن‬
‫عساكر في الطراف أن يحيى بن عبد ال بن بكير رواه عن الليث كذلك (‪.)2‬‬
‫وقد رواه المام أبو عبيد في فضائل القرآن فقال ‪ :‬حدثنا عبد ال بن صالح ويحيى بن بُكيْر ‪ ،‬عن‬
‫الليث ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال بن أسامة بن الهاد ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ‪ ،‬عن‬
‫أسيد بن حضير ‪ ،‬فذكر الحديث إلى آخره ‪ ،‬ثم قال ‪[ :‬قال] (‪ )3‬ابن الهاد ‪ :‬وحدثني عبد ال بن‬
‫خباب ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬عن أسيد بن حضير بهذا (‪.)4‬‬
‫وقد رواه النسائي في فضائل القرآن ‪ ،‬عن محمد بن عبد ال بن [عبد] (‪ )5‬الحكم عن شعيب بن‬
‫الليث ‪ ،‬وعن علي بن محمد بن علي ‪ ،‬عن داود بن منصور ‪ ،‬كلهما عن الليث ‪ ،‬عن خالد بن‬
‫يزيد ‪ ،‬عن سعيد بن أبي هلل ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال ‪ ،‬وهو ابن الهاد ‪ ،‬عن عبد ال بن خباب ‪،‬‬
‫عن أبي سعيد ‪ ،‬عن أسيد ‪ ،‬به (‪ .)6‬ورواه يحيى بن بكير ‪ ،‬عن الليث كذلك أيضا ‪ ،‬فجمع بين‬
‫السنادين‪ .‬ورواه في المناقب عن أحمد بن سعيد الرباطي ‪ ،‬عن يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬عن أبيه ‪،‬‬
‫عن يزيد بن الهاد ‪ ،‬عن عبد ال بن خباب ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة‬
‫يقرأ في مربده ‪ ،‬الحديث‪ .‬ولم يقل ‪ :‬عن أسيد ‪ ،‬ولكن ظاهره أنه عنه ‪ ،‬وال أعلم (‪.)7‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثني عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن ابن كعب بن‬
‫مالك ‪ ،‬عن أسيد بن حضير ‪ :‬أنه كان على ظهر بيته يقرأ القرآن وهو حسن الصوت ‪ ،‬ثم ذكر‬
‫مثل هذا الحديث أو نحوه (‪)8‬‬
‫حدثنا قبيصة ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬عن ثابت البناني ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن أسيد‬
‫بن حضير قال ‪ " :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬بينما أنا أقرأ البارحة بسورة ‪ ،‬فلما انتهيت إلى آخرها‬
‫سمعت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5018‬‬
‫(‪ )2‬انظر ‪ :‬تحفة الشراف للمزي (‪.)72 /1‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)26‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8074‬‬
‫(‪ )7‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8244‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪.)27‬‬

‫( ‪)1/55‬‬

‫وجبة من خلفي ‪ ،‬حتى ظننت أن فرسي تطلق ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ أبا‬
‫عتيك" [مرتين] (‪ )1‬قال ‪ :‬فالتفت إلى أمثال المصابيح ملء بين السماء والرض ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ أبا عتيك"‪ .‬فقال ‪ :‬وال ما استطعت أن أمضي فقال ‪" :‬تلك الملئكة‬
‫نزلت لقراءة القرآن ‪ ،‬أما إنك لو مضيت لرأيت العاجيب" " (‪.)2‬‬
‫وقال أبو داود الطيالسي ‪ :‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن أبي إسحاق سمع البراء يقول ‪ :‬بينما رجل يقرأ‬
‫سورة الكهف ليلة إذ رأى دابته تركض ‪ ،‬أو قال ‪ :‬فرسه يركض ‪ ،‬فنظر فإذا مثل الضبابة أو مثل‬
‫الغمامة ‪ ،‬فذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ " :‬تلك السكينة نزلت للقرآن ‪ ،‬أو‬
‫تنزلت على القرآن " (‪ .)3‬وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة (‪ .)4‬والظاهر أن هذا هو‬
‫أسيد بن الحضير ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فهذا ما يتعلق بصناعة السناد ‪ ،‬وهذا من أغرب تعليقات‬
‫البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬ثم سياق ظاهر فيما ترجم عليه من نزول السكينة والملئكة عند القراءة‪.‬‬
‫وقد اتفق نحو هذا الذي وقع لسيد بن الحضير لثابت بن قيس بن شماس كما قال أبو عبيد ‪:‬‬
‫حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم ‪ ،‬عن عمه جرير بن زيد (‪ )5‬أن أشياخ أهل المدينة‬
‫حدثوه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قيل له ‪ :‬ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره‬
‫البارحة تزهر مصابيح ؟ قال ‪" :‬فلعله قرأ سورة البقرة"‪ .‬قال ‪ :‬فسئل ثابت فقال ‪ :‬قرأت سورة‬
‫البقرة (‪.)6‬‬
‫وفي الحديث المشهور الصحيح ‪ " :‬ما اجتمع قوم في بيت من بيوت ال ‪ ،‬يتلون كتاب ال ‪،‬‬
‫حفّتْهم الملئكة ‪ ،‬وذكرهم‬
‫ويتدارسونه فيما بينهم ‪ ،‬إل نزلت عليهم السكينة ‪ ،‬وغشيتهم الرحمة ‪ ،‬و َ‬
‫ال فيمن عنده " رواه مسلم عن أبي هريرة (‪.)7‬‬
‫شهُودًا } [السراء ‪، ]78 :‬‬
‫ولهذا قال ال تبارك وتعالى ‪َ { :‬وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ َم ْ‬
‫وجاء في بعض التفاسير ‪ :‬أن الملئكة تشهده‪ .‬وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي‬
‫ال عنه ‪ ،‬قال ‪ " :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل وملئكة‬
‫بالنهار ‪ ،‬ويجتمعون في صلة الصبح وصلة العصر ‪ ،‬فيعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو‬
‫أعلم بهم ‪ :‬كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون ‪ :‬أتيناهم وهم يصلون ‪ ،‬وتركناهم وهم يصلون " (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)227‬‬
‫(‪ )3‬مسند الطيالسي برقم (‪.)714‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )3614‬وصحيح مسلم برقم (‪.)795‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬م ‪" :‬يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)27‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)2699‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪ )555‬وصحيح مسلم برقم (‪.)632‬‬

‫( ‪)1/56‬‬

‫من قال ‪ :‬لم يترك النبي صلى ال عليه وسلم إل ما بين الدفتين‬
‫حدثنا قتيبة بن سعيد ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عبد العزيز بن رفيع قال ‪ :‬دخلت أنا وشداد بن معقل‬
‫على ابن عباس ‪ ،‬فقال له شداد بن معقل ‪ :‬أترك النبي صلى ال عليه وسلم من شيء ؟ قال ‪ :‬ما‬
‫ترك إل ما بين الدفتين‪ .‬قال ‪ :‬ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال ‪ :‬ما ترك إل ما بين‬
‫الدفتين‪.‬‬
‫تفرد به البخاري (‪ )1‬ومعناه ‪ :‬أنه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬ما ترك مال ول شيئا يورث عنه ‪ ،‬كما قال‬
‫عمرو بن الحارث أخو جويرية بنت الحارث ‪ :‬ما ترك رسول ال صلى ال عليه وسلم دينارا ول‬
‫درهما ول عبدا ول أمة ول شيئا (‪ .)2‬وفي حديث أبي الدرداء ‪ " :‬إن النبياء لم يورثوا دينارا‬
‫ول درهما ‪ ،‬وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (‪ .)3‬ولهذا قال ابن عباس ‪ :‬وإنما ترك‬
‫ما بين الدفتين يعني ‪ :‬القرآن ‪ ،‬والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة له ‪ ،‬فهي تابعة له ‪ ،‬والمقصود‬
‫طفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الية‬
‫العظم كتاب ال تعالى ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬ثُمّ َأوْرَثْنَا ا ْلكِتَابَ الّذِينَ اصْ َ‬
‫[فاطر ‪ ، ]32 :‬فالنبياء ‪ ،‬عليهم السلم ‪ ،‬لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها ‪ ،‬إنما خلقوا‬
‫للخرة يدعون إليها ويرغبون فيها ؛ ولهذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل نورث ما‬
‫تركنا فهو صدقة " (‪ )4‬وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبو بكر الصديق ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬لما سئل عن ميراث النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأخبر عنه بذلك ‪ ،‬ووافقه على‬
‫نقله عنه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬غير واحد من الصحابة ؛ منهم عمر وعثمان وعلي والعباس وطلحة‬
‫والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة وغيرهم ‪ ،‬وهذا ابن عباس يقول ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫عنه عليه السلم ؟ رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5019‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪.)4461 ، 2739‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )3641‬وابن ماجة في السنن برقم (‪ )223‬وابن حبان في‬
‫صحيحه برقم (‪" )80‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )3093‬ومسلم في صحيحه برقم (‪.)1758‬‬

‫( ‪)1/57‬‬

‫فضل القرآن على سائر الكلم‬


‫حدثنا هُدْبة بن خالد أبو خالد ‪ ،‬حدثنا همام ‪ ،‬حدثنا قتادة ‪ ،‬حدثنا أنس بن مالك ‪ ،‬عن أبي موسى ‪،‬‬
‫رضي ال عنهما ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬مثل الذي يقرأ القرآن كمثل التْرُجة ‪،‬‬
‫طعمها طيب وريحها طيب‪ .‬والذي ل يقرأ القرآن كالتمرة ‪ ،‬طعمها طيب ول ريح لها ‪ ،‬ومثل‬
‫الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ‪ ،‬ريحها طيب وطعمها مر ‪ ،‬ومثل الفاجر الذي ل يقرأ‬
‫القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ول ريح لها " (‪ .)1‬وهكذا رواه في مواضع أخر مع بقية‬
‫الجماعة من طرق عن قتادة به (‪.)2‬‬
‫ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث ‪ :‬أن طيب الرائحة دار مع القرآن وجودا وعدما ‪ ،‬فدل على‬
‫سدّد ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪،‬‬
‫شرفه على ما سواه من الكلم الصادر من البر والفاجر‪ .‬ثم قال ‪ :‬حدثنا مُ َ‬
‫عن سفيان ‪ ،‬حدثني عبد ال بن دينار ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‬
‫‪ " :‬إنما أجلكم في أجل من خل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5020‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ ) 5427 ، 5059‬وصحيح مسلم برقم (‪ )797‬وسنن أبي داود برقم (‬
‫‪ )4830‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2865‬وسنن النسائي (‪ )125 ، 124 /8‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)214‬‬

‫( ‪)1/57‬‬

‫من المم كما بين صلة العصر ومغرب الشمس ‪ ،‬ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل‬
‫استعمل عمال فقال ‪ :‬من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود فقال ‪ :‬من يعمل‬
‫لي من نصف النهار إلى العصر ؟ فعملت النصارى ‪ ،‬ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب‬
‫بقيراطين قيراطين ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نحن أكثر عمل وأقل عطاءً! قال ‪ :‬هل ظلمتكم من حقكم ؟ قالوا ‪:‬‬
‫ل‪ .‬قال ‪ :‬فذلك فضلي أوتيه من شئت " (‪.)1‬‬
‫تفرد به من هذا الوجه ‪ ،‬ومناسبته للترجمة ‪ :‬أن هذه المة مع قصر مدتها فضَلتْ المم الماضية‬
‫جتْ لِلنّاسِ } [آل عمران ‪.]110 :‬‬
‫مع طول مدتها ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬
‫وفي المسند والسنن عن َبهْزِ بن حكيم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ " :‬أنتم توفون سبعين أمة ‪ ،‬أنتم خيرها وأكرمها على ال " (‪ .)2‬وإنما فازوا بهذا ببركة‬
‫الكتاب العظيم الذي شرفه ال تعالى على كل كتاب أنزله ‪ ،‬جعله مهيمنا عليه ‪ ،‬وناسخا له ‪،‬‬
‫وخاتما له ؛ لن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الرض جملة واحدة ‪ ،‬وهذا القرآن نزل منجما‬
‫بحسب الوقائع لشدة العتناء به وبمن أنزله عليه ‪ ،‬فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة ‪،‬‬
‫وأعظم المم المتقدمة هم اليهود والنصارى ‪ ،‬فاليهود استعملهم ال من لدن موسى إلى زمان‬
‫عيسى ‪ ،‬والنصارى من ثمّ إلى أن بعث محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم استعمل أمته إلى قيام‬
‫الساعة ‪ ،‬وهو المشبه بآخر النهار ‪ ،‬وأعطى ال المتقدمين قيراطا قيراطا ‪ ،‬وأعطى هؤلء‬
‫قيراطين قيراطين ‪ ،‬ضعفى ما أعطى أولئك ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أي ربنا ‪ ،‬ما لنا أكثر عمل وأقل أجرا ؟‬
‫فقال ‪ :‬هل ظلمتكم شيئا ؟ قالوا ‪ :‬ل قال ‪ :‬فذلك فضلى أي ‪ :‬الزائد على ما أعطيتكم أؤتيه من‬
‫ج َعلْ‬
‫حمَ ِت ِه وَيَ ْ‬
‫أشاء كما قال تعالى ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ‬
‫شيْءٍ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * لِئَل َيعَْلمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَل َيقْدِرُونَ عَلَى َ‬
‫َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ } [الحديد ‪.]29 ، 28 :‬‬
‫ضلِ اللّ ِه وَأَنّ ا ْل َفضْلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬
‫مِنْ َف ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5021‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )3 /5‬وسنن الترمذي برقم (‪ )3001‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )4288 ، 4287‬وقال‬
‫الترمذي ‪" :‬حديث حسن"‪.‬‬

‫( ‪)1/58‬‬

‫الوصايا بكتاب ال‬


‫حدثنا محمد بن يوسف ‪ ،‬حدثنا مالك بن ِمغْول ‪ ،‬حدثنا طلحة بن ُمصَرّف قال ‪ " :‬سألت عبد ال‬
‫بن أبي أوفى ‪ :‬أوصى النبي صلى ال عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬فقلت ‪ :‬كيف كتب على الناس‬
‫الوصية ‪ ،‬أمروا بها ولم يوص ؟ قال ‪ :‬أوصى بكتاب ال ‪ ،‬عز وجل " (‪.)1‬‬
‫وقد رواه في مواضع أخر مع بقية الجماعة ‪ ،‬إل أبا داود من طرق عن مالك بن مغول به (‪)2‬‬
‫وهذا نظير ما تقدم عن ابن عباس ‪ " :‬ما ترك إل ما بين الدفتين " ‪ ،‬وذلك أن الناس كتب عليهم‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ‬
‫حضَرَ أَ َ‬
‫الوصية في أموالهم كما قال تعالى ‪ { :‬كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمْ إِذَا َ‬
‫ن وَالقْرَبِينَ } [البقرة ‪ .]180 :‬وأما هو صلى ال عليه وسلم فلم يترك شيئا يورث عنه ‪،‬‬
‫لِ ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫وإنما ترك ماله صدقة جارية من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5022‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )4460 ، 2740‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1634‬وسنن الترمذي برقم (‬
‫‪ )2119‬وسنن النسائي (‪ )24 0 /6‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2696‬‬

‫( ‪)1/58‬‬

‫بعده ‪ ،‬فلم يحتج إلى وصية في ذلك ولم يوصِ إلى خليفة يكون بعده على التنصيص ؛ لن المر‬
‫كان ظاهرا من إشارته وإيمائه إلى الصديق ؛ ولهذا لما هم بالوصية إلى أبي بكر ثم عدل عن‬
‫ذلك فقال ‪" :‬يأبى ال والمؤمنون إل أبا بكر " (‪ )1‬وكان كذلك ‪ ،‬وإنما أوصى الناس باتباع كتاب‬
‫ال تعالى‪ .‬من لم يتغن بالقرآن وقول ال تعالى ‪:‬‬
‫{ َأوََلمْ َي ْكفِهِمْ أَنّا أَنزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } [العنكبوت ‪.]51 :‬‬
‫حدثنا يحيى بن بكير ‪ ،‬حدثنا الليث ‪ ،‬حدثنا عقيل ‪ ،‬عن ابن شهاب قال ‪ :‬أخبرني أبو سلمة بن عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أنه كان يقول ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ " :‬لم يأذن ال لشيء ‪ ،‬ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن " ‪ ،‬وقال صاحب له ‪ :‬يريد يجهر به فرد‬
‫من هذا الوجه‪ .‬ثم رواه عن علي بن عبد ال بن المديني ‪ ،‬عن سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن الزهري به‬
‫(‪ .)2‬قال سفيان ‪ :‬تفسيره ‪ :‬يستغنى به ‪ ،‬وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة (‬
‫‪ )3‬ومعناه ‪ :‬أن ال ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها ‪ ،‬وذلك أنه‬
‫يجتمع في قراءة النبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية ‪ ،‬وذلك هو الغاية في ذلك‪.‬‬
‫وهو ‪ ،‬سبحانه وتعالى ‪ ،‬يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم ‪ ،‬كما قالت عائشة ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنها ‪ :‬سبحان ال الذي وسع سمعه الصوات (‪ .)4‬ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم ‪،‬‬
‫ع َملٍ إِل كُنّا عَلَ ْيكُمْ‬
‫ن َومَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَل َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬
‫كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ‬
‫شهُودًا ِإذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ } الية [يونس ‪ ، ]61 :‬ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا‬
‫ُ‬
‫الحديث العظيم ‪ ،‬ومنهم من فسر الذن هاهنا بالمر ‪ ،‬والول أولى لقوله ‪" :‬ما أذن ال لشيء ما‬
‫أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن" أي ‪ :‬يجهر به ‪ ،‬والذن ‪ :‬الستماع ؛ لدللة السياق عليه ‪ ،‬وكما قال‬
‫حقّتْ * وَإِذَا ال ْرضُ ُم ّدتْ * وَأَلْ َقتْ مَا فِيهَا وَتَخَّلتْ‬
‫ش ّقتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ‬
‫سمَاءُ انْ َ‬
‫تعالى ‪ِ { :‬إذَا ال ّ‬
‫ح ّقتْ } [النشقاق ‪ ]5 - 1 :‬أي ‪ :‬وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه ‪ ،‬فالذن هو‬
‫* وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ‬
‫الستماع ؛ ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجة بسند جيد عن فضالة بن عبيد قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل أشد أذنا إلى الرجل (‪ )5‬الحسن الصوت بالقرآن [يجهر به] (‪)6‬‬
‫من صاحب القينة إلى قينته " (‪.)7‬‬
‫وقال سفيان بن عيينة ‪ :‬إن المراد بالتغني ‪ :‬يستغنى به ‪ ،‬فإن أراد ‪ :‬أنه يستغنى عن الدنيا ‪ ،‬وهو‬
‫الظاهر من كلمه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلم وغيره ‪ ،‬فخلف الظاهر من مراد‬
‫الحديث ؛ لنه قد فسره بعض رواته بالجهر ‪ ،‬وهو تحسين القراءة والتحزين بها (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )7217‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ )2387‬من حديث‬
‫عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5024 ، 5023‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ )792‬وسنن النسائي (‪.)180 /2‬‬
‫(‪ )4‬رواه النسائي في السنن (‪ )168 /6‬ورواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )7385‬معلقا‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬أذنا الرجل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ابن ماجة‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)1340‬‬
‫(‪ )8‬نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )70 /9‬عن ابن الجوزي أربعة أقوال في معنى يتغنى ‪:‬‬
‫تحسين الصوت ‪ ،‬الستغناء ‪ ،‬التحزن كما قال الشافعي ‪ ،‬التشاغل به‪ .‬قال ‪ :‬وحكى ابن النباري‬
‫قول خامسا وهو التلذذ والستحلء‪.‬‬
‫( ‪)1/59‬‬

‫قال حرملة ‪ :‬سمعت ابن عيينة يقول ‪ :‬معناه ‪ :‬يستغنى به ‪ ،‬فقال لي الشافعي ‪ :‬ليس هو هكذا ‪،‬‬
‫ولو كان هكذا لكان يتغانى به ‪ ،‬وإنما هو يتحزن ويترنم به ‪ ،‬ثم قال حرملة ‪ :‬وسمعت ابن وهب‬
‫يقول ‪ :‬يترنم به ‪ ،‬وهكذا نقل المزني والربيع عن الشافعي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وعلى هذا فتصدير البخاري الباب بقوله تعالى ‪َ { :‬أوَلَمْ َيكْ ِفهِمْ أَنّا أَنزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ‬
‫حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [العنكبوت ‪ ، ]51 :‬فيه نظر ؛ لن هذه الية الكريمة‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَ َر ْ‬
‫ذكرت ردا على الذين سألوا عن آيات تدل على صدقه ‪ ،‬حيث قال ‪َ { :‬وقَالُوا َلوْل أُنزلَ عَلَ ْيهِ‬
‫آيَاتٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِنْدَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا َنذِيرٌ مُبِينٌ * َأوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‬
‫يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ } الية [العنكبوت ‪ .]51 ، 50 :‬ومعنى ذلك ‪ :‬أو لم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا‬
‫القرآن عليك وأنت رجل أمي { َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبِْلهِ مِنْ كِتَابٍ وَل َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا لرْتَابَ‬
‫ا ْلمُبْطِلُونَ } [العنكبوت ‪ ]48 :‬أي ‪ :‬وقد جئت فيه بخبر الولين والخرين فأين هذا من التغني‬
‫بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الستغناء به عما عداه من أمور الدنيا ‪ ،‬فعلى كل تقدير ‪،‬‬
‫تصدير الباب بهذه الية الكريمة فيه نظر (‪.)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬قال الحافظ ابن حجر في الفتح (‪" : )68 /9‬أشار بهذه الية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة ‪:‬‬
‫يتغنى ‪ :‬يستغني كما سيأتي في هذا الباب عنه ‪ ،‬وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة ووكيع جميعًا ‪،‬‬
‫وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص ‪ ،‬وكذا قال أحمد عن وكيع ‪ :‬يستغني‬
‫به عن أخبار المم الماضية ‪ ،‬وقد أخرج الطبري وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن‬
‫جعدة قال ‪ :‬جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود ‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬كفى بقوم ضللة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره‬
‫إلى غيرهم" فنزل ‪ ( :‬أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم )‪ .‬وقد خفى وجه مناسبة‬
‫تلوة هذه الية على كثير من الناس كابن كثير ‪ ،‬فنفى أن يكون لذكرها وجه ‪ ،‬على أن ابن بطال‬
‫مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال ‪ :‬قال أهل التأويل في هذه الية ‪ ،‬فذكر أثر يحيى بن جعدة‬
‫مختصرًا قال ‪ :‬فالمراد بالية ‪ :‬الستغناء عن أخبار المم الماضية ‪ ،‬وليس المراد الستغناء الذي‬
‫هو ضد الفقر ‪ ،‬قال ‪ :‬وإتباع البخاري الترجمة بالية يدل على أنه يذهب إلى ذلك‪ .‬وقال ابن التين‬
‫‪ :‬يفهم من الترجمة ‪ :‬أن المراد بالتغني الستغناء ؛ لكونه أتبعه الية التي تضمن النكار على من‬
‫لم يستغن بالقرآن على غيره ‪ ،‬فحمله على الكتفاء به وعدم الفتقار إلى غيره ‪ ،‬وحمله على ضد‬
‫الفقر من جملة ذلك"‪.‬‬

‫( ‪)1/60‬‬
‫فصل‬
‫في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر‬
‫أحكام التلوة بالصوات‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن قباث بن رزين ‪ ،‬عن علي بن رباح اللخمي ‪ ،‬عن‬
‫عقبة بن عامر قال ‪ :‬خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس‬
‫القرآن ‪ ،‬فقال ‪ " :‬تعلموا كتاب ال واقتنوه "‪ .‬قال ‪ :‬وحسبت أنه قال ‪" :‬وتغنوا به ‪ ،‬فوالذي نفسي‬
‫بيده ‪ ،‬لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل" (‪.)1‬‬
‫وحدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن موسى بن علي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عقبة بن عامر عن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم مثل ذلك إل أنه قال ‪" :‬واقتنوه وتغنوا به" (‪ )2‬ولم يشك ‪ ،‬وهكذا رواه أحمد‬
‫والنسائي في فضائل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)29‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)29‬‬

‫( ‪)1/60‬‬

‫القرآن ‪ ،‬من حديث موسى بن علي ‪ ،‬عن أبيه به (‪ )1‬ومن حديث عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن قباث‬
‫بن رزين ‪ ،‬عن علي بن رباح ‪ ،‬عن عقبة ‪ ،‬وفي بعض ألفاظه ‪ :‬خرج علينا ونحن نقرأ القرآن‬
‫فسلم علينا ‪ ،‬وذكر الحديث‪ .‬ففيه دللة على السلم على القارئ‪.‬‬
‫ثم قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬عن أبي بكر بن عبد ال بن أبي مريم ‪ ،‬عن المهاصر بن‬
‫حبيب قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا أهل القرآن ‪ ،‬ل توسدوا القرآن ‪ ،‬واتلوه‬
‫حق تلوته آناء الليل والنهار ‪ ،‬وتغنوه واقتنوه ‪ ،‬واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون" (‪ )2‬وهذا مرسل‪.‬‬
‫ثم قال أبو عبيد ‪ :‬قوله ‪" :‬تغنوه" ‪ :‬يعني ‪ :‬اجعلوه غناءكم من الفقر ‪ ،‬ول تعدوا القلل منه فقرا‪.‬‬
‫وقوله ‪" :‬واقتنوه" ‪ ،‬يقول ‪ :‬اقتنوه ‪ ،‬كما تقتنون الموال ‪ :‬اجعلوه مالكم‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثني هشام بن عمار ‪ ،‬عن يحيى بن حمزة ‪ ،‬عن الوزاعي ‪ ،‬حدثني إسماعيل‬
‫ابن عبيد ال بن أبي المهاجر ‪ ،‬عن فضالة بن عبيد ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬ل‬
‫أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" (‪.)3‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول ‪ :‬عن إسماعيل بن عبيد ال عن مولى‬
‫فضالة عن فضالة ‪ ،‬وهكذا رواه ابن ماجة ‪ ،‬عن راشد بن سعيد بن أبي راشد ‪ ،‬عن الوليد ‪ ،‬عن‬
‫الوزاعي عن إسماعيل بن عبيد ال عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬ل أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن [ يجهر به] (‪ )4‬من صاحب القينة إلى‬
‫قينته " (‪ .)5‬قال أبو عبيد ‪ :‬يعني ‪ :‬الستماع‪ .‬وقوله في الحديث الخر ‪ " :‬ما أذن ال لشيء " أي‬
‫‪ :‬ما استمع‪.‬‬
‫وقال أبو القاسم البغوي ‪ :‬حدثنا محمد بن حميد ‪ ،‬حدثنا سلمة بن الفضل ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬حدثنا القاسم بن محمد ‪ ،‬حدثنا السائب قال ‪ :‬قال لي سعد ‪ :‬يا بن‬
‫أخي ‪ ،‬هل قرأت القرآن ؟ قلت ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬غَنّ به ‪ ،‬فإني سمعت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ‪ " :‬غنوا بالقرآن ‪ ،‬ليس منا من لم يغن بالقرآن ‪ ،‬وابكوا ‪ ،‬فإن لم تقدروا على البكاء‬
‫فتباكوا " (‪.)6‬‬
‫وقد روى أبو داود من حديث الليث وعمرو بن دينار كلهما عن عبد ال بن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن‬
‫عبيد ال بن أبي َنهِيك ‪ ،‬عن سعد بن أبي وقاص قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬‬
‫ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (‪.)7‬‬
‫ورواه ابن ماجة من حديث ابن أبي مليكة ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن السائب ‪ ،‬عن سعد بن أبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )146 /4‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8034‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)29‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)78 ، 77‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ابن ماجة‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)1340‬‬
‫(‪ )6‬وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وهو متروك‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن أبي داود برقم (‪.)1470 ، 1469‬‬

‫( ‪)1/61‬‬

‫وقاص قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن هذا القرآن نزل بحرف ‪ ،‬فإذا قرأتموه‬
‫فابكوا ‪ ،‬فإن لم تبكوا فتباكوا ‪ ،‬وتغنوا به ‪ ،‬فمن لم يتغن به فليس منا " (‪.)1‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا سعيد (‪ )2‬بن حسان المخزومي ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن أبي نهيك ‪ ،‬عن سعد بن أبي وقاص قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ليس منا‬
‫من لم يتغن بالقرآن " (‪[ .)3‬قال وكيع ‪ :‬يعني ‪ :‬يستغنى به] (‪.)4‬‬
‫ورواه (‪ )5‬أيضا عن الحجاج وأبي النضر ‪ ،‬كلهما عن الليث بن سعد ‪ ،‬وعن سفيان بن عيينة ‪،‬‬
‫عن عمرو بن دينار ‪ ،‬كلهما عن عبد ال بن أبي مليكة به (‪ .)6‬وفي هذا الحديث كلم طويل‬
‫يتعلق بسنده ليس هذا موضعه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال أبو داود ‪ :‬حدثنا عبد العلى بن حماد ‪ ،‬حدثنا عبد الجبار بن الورد ‪ ،‬سمعت ابن أبي‬
‫مُلَيْكة ‪ ،‬يقول ‪ :‬قال عبيد ال بن أبي يزيد ‪ :‬مرّ بنا أبو لُبَابة فاتّبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه ‪،‬‬
‫فإذا رجل َرثّ البيت ‪َ ،‬رثّ الهيئة ‪ ،‬فانتسبنا له ‪ ،‬فقال ‪ :‬تجار كسبة ‪ ،‬فسمعته يقول ‪ " :‬سمعت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬ليس منا من لم يتغن بالقرآن "‪ .‬قال ‪ :‬فقلت لبن أبي‬
‫مليكة ‪ :‬يا أبا محمد ‪ ،‬أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال ‪ :‬يحسنه ما استطاع‪ .‬تفرد به أبو داود‬
‫(‪.)7‬‬
‫فقد فهم من هذا أن السلف ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬إنما فهموا من التغني بالقرآن ‪ :‬إنما هو تحسين‬
‫الصوت به ‪ ،‬وتحزينه ‪ ،‬كما قاله الئمة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬ويدل على ذلك ‪ -‬أيضا ‪ -‬ما رواه أبو‬
‫داود حيث قال ‪ :‬حدثنا عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن طلحة ‪ ،‬عن عبد‬
‫عوْسَجة ‪ ،‬عن البراء بن عازب قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬زينوا‬
‫الرحمن بن َ‬
‫القرآن بأصواتكم " (‪.)8‬‬
‫وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث شعبة ‪ ،‬عن طلحة وهو ابن مصرف به (‪.)9‬‬
‫وأخرجه النسائي من طرق أخر عن طلحة (‪ )10‬وهذا إسناد جيد‪.‬‬
‫وقد وثق النسائي ‪ ،‬وابن حبان عبد الرحمن بن عوسجة هذا ‪ ،‬ونقل الزدي عن يحيى بن سعيد‬
‫القطان أنه قال ‪ :‬سألت عنه بالمدينة ‪ ،‬فلم أرهم يحمدونه (‪.)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )1337‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )434 /1‬هذا إسناد فيه أبو‬
‫رافع واسمه إسماعيل بن رافع ‪ ،‬ضعيف متروك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪ ،‬م ‪" :‬سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)172 /5‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬ورواه أحمد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)179 ، 175 /1‬‬
‫(‪ )7‬سنن أبي داود برقم (‪.)1471‬‬
‫(‪ )8‬سنن أبي داود برقم (‪.)1468‬‬
‫(‪ )9‬سنن النسائي (‪ )179 /2‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1342‬‬
‫(‪ )10‬سنن النسائي (‪.)179 /2‬‬
‫(‪ )11‬وانظر ‪ :‬تهذيب الكمال للمزي (‪ )322 /17‬وابن حجر ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬اختار توثيقه في‬
‫التقريب‪.‬‬

‫( ‪)1/62‬‬
‫وقال أبو عبيد القاسم بن سلم ‪ :‬حدثنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن شعبة قال ‪ :‬نهاني أيوب أن أحدث‬
‫بهذا الحديث ‪" :‬زينوا القرآن بأصواتكم"‪ .‬قال أبو عبيد ‪ :‬وإنما كره أيوب فيما نرى ‪ ،‬أن يتأول‬
‫الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول ال صلى ال عليه وسلم في اللحان المبتدعة ‪ ،‬فلهذا أنهاه‬
‫أن يحدث به (‪.)1‬‬
‫قلت ‪ :‬ثم إن شعبة روى الحديث متوكل على ال ‪ ،‬كما رُوي له ‪ ،‬ولو ترك كل حديث بتأول‬
‫مبطل لترك من السنة شيء كثير ‪ ،‬بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة وحملوها على غير‬
‫محاملها الشرعية المرادة ‪ ،‬وال المستعان ‪ ،‬وعليه التكلن ‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال‪.‬‬
‫والمراد من تحسين الصوت بالقرآن ‪ :‬تطريبه وتحزينه والتخشع به ‪ ،‬كما رواه الحافظ الكبير َب ِقيّ‬
‫بن مَخْلَد ‪ ،‬حيث قال ‪ :‬حدثنا أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا يحيى بن سعيد الموي ‪ ،‬حدثنا طلحة بن‬
‫يحيى بن طلحة ‪ ،‬عن أبي بردة بن أبي موسى ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة"‪ .‬قلت ‪ :‬أما وال لو علمت أنك تستمع قراءتي‬
‫لحبرتها لك تحبيرا‪ .‬ورواه مسلم من حديث طلحة به وزاد ‪ " :‬لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل‬
‫داود " (‪ .)2‬وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره البخاري ‪ ،‬والغرض أن أبا موسى قال ‪ :‬لو أعلم‬
‫أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا ‪ ،‬فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه ‪ ،‬وقد كان أبو موسى كما‬
‫قال ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قد أعطى صوتا حسنا كما سنذكره إن شاء ال ‪ ،‬مع خشية تامة ورقة أهل‬
‫اليمن الموصوفة ‪ ،‬فدل على أن هذا من المور الشرعية‪.‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن يونس ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن أبي‬
‫سلمة قال ‪ :‬كان عمر إذا رأى أبا موسى قال ‪ :‬ذكرنا ربنا يا أبا موسى ‪ ،‬فيقرأ عنده (‪.)3‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا سليمان التيمي ‪ ،‬أنبئت عنه ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫عثمان النهدي قال ‪ :‬كان أبو موسى يصلي بنا ‪ ،‬فلو قلت ‪ :‬إني لم أسمع صوت صنجٍ قط ‪ ،‬ول‬
‫بربطٍ قط ‪ ،‬ول شيئًا قط أحسن من صوته (‪.)4‬‬
‫وقال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا العباس بن عبد الرحمن (‪ )5‬الدمشقي ‪ ،‬حدثنا الوليد بن مسلم ‪ ،‬حدثني‬
‫حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت ‪ " :‬أبطأت‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة بعد العشاء ‪ ،‬ثم جئت فقال ‪" :‬أين كنت ؟"‪ .‬قلت ‪ :‬كنت‬
‫أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد ‪ ،‬قالت ‪ :‬فقام فقمت معه‬
‫حتى استمع له ‪ ،‬ثم التفت إلي فقال ‪" :‬هذا سالم مولى أبي حذيفة ‪ ،‬الحمد ل الذي جعل في أمتي‬
‫مثل هذا" " (‪ .)6‬إسناد جيد‪.‬‬
‫وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ في‬
‫المغرب بالطور ‪ ،‬فما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)81‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)793‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)79‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪ .)79‬وقال الحافظ ابن حجر ‪" :‬سنده صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عثمان"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)1338‬‬

‫( ‪)1/63‬‬

‫سمعت أحدا أحسن صوتًا أو قال ‪ :‬قراءة منه‪ .‬وفي بعض ألفاظه ‪ :‬فلما سمعته قرأ ‪َ { :‬أمْ خُِلقُوا‬
‫شيْءٍ َأمْ ُهمُ الْخَاِلقُونَ } [الطور ‪ ، ]35 :‬خلت أن فؤادي قد انصدع (‪ .)1‬وكان جبير لما‬
‫مِنْ غَيْرِ َ‬
‫سمع هذا بعدُ مشركا على دين قومه ‪ ،‬وإنما قدم في فداء الساري بعد بدر ‪ ،‬وناهيك بمن تؤثر‬
‫قراءته في المشرك المصر على الكفر! وكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءة ما كان‬
‫عن خشوع القلب ‪ ،‬كما قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن طاوس قال ‪:‬‬
‫أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم ل (‪.)2‬‬
‫حدثنا قبيصة ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬وعن الحسن بن مسلم ‪،‬‬
‫عن طاوس قال ‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬أي الناس أحسن صوتًا بالقرآن ؟ فقال‬
‫‪" :‬الذي إذا سمعته رأيته يخشى ال" " (‪.)3‬‬
‫وقد روى هذا متصل من وجه آخر ‪ ،‬فقال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا بشر بن معاذ الضرير ‪ ،‬حدثنا عبد‬
‫ال بن جعفر المديني ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ‪ ،‬عن أبي الزبير ‪ ،‬عن جابر قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتوه يقرأ‬
‫حسبتموه يخشى ال " (‪ )4‬ولكن عبد ال بن جعفر هذا ‪ ،‬وهو والد علي بن المديني ‪ ،‬وشيخه‬
‫ضعيفان ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه‬
‫والخشوع والخضوع والنقياد للطاعة ‪ ،‬فأما الصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الوزان‬
‫والوضاع الملهية والقانون الموسيقائي ‪ ،‬فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه‬
‫هذا المذهب ‪ ،‬وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك ‪ ،‬كما قال المام العلم أبو عبيد القاسم بن سلم ‪،‬‬
‫رحمه ال ‪:‬‬
‫حدثنا نعيم بن حماد ‪ ،‬عن َبقِيّة بن الوليد ‪ ،‬عن حصين بن مالك الفزاري ‪ :‬سمعت شيخًا يكنى أبا‬
‫محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرؤوا القرآن‬
‫بلحون العرب وأصواتها ‪ ،‬وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابيين ‪ ،‬ويجيء قوم من بعدي‬
‫يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ‪ ،‬ل يجاوز حناجرهم ‪ ،‬مفتونة قلوبهم وقلوب‬
‫الذين يعجبهم شأنهم " (‪.)5‬‬
‫حدثنا يزيد ‪ ،‬عن شريك ‪ ،‬عن أبي اليقظان عثمان بن عمير ‪ ،‬عن زاذان أبي عمر ‪ ،‬عن عليم‬
‫قال ‪ " :‬كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬قال يزيد ‪ :‬ل أعلمه‬
‫إل قال ‪ :‬عابس الغفاري ‪ ،‬فرأى الناس يخرجون في الطاعون فقال ‪ :‬ما هؤلء ؟ قالوا ‪ :‬يفرون‬
‫من الطاعون ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا طاعون خذني ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬تتمنى الموت وقد سمعت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يقول ‪" :‬ل يتمنين أحدكم الموت" ؟ فقال ‪ :‬إني أبادر خصال سمعت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم يتخوفهن على أمته ‪" :‬بيع الحكم ‪ ،‬والستخفاف بالدم ‪ ،‬وقطيعة الرحم ‪ ،‬وقوم‬
‫يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ول أفضلهم إل ليغنيهم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4854 ، 765‬وصحيح مسلم برقم (‪.)463‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)80‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)80‬‬
‫(‪ )4‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)1339‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪ )80‬وقال الذهبي في ترجمة حصين بن مالك في الميزان (‪: )553 /1‬‬
‫"تفرد عنه بقية ‪ ،‬ليس بمعتمد ‪ ،‬والخبر منكر"‪.‬‬

‫( ‪)1/64‬‬

‫[به] (‪ )1‬غناءً " وذكر خصلتين أخريين (‪.)2‬‬


‫وحدثنا إبراهيم بن يعقوب ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن عثمان بن عمير ‪ ،‬عن زاذان ‪ ،‬عن‬
‫عابس الغفاري ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه‪ .‬وحدثنا يعقوب بن إبراهيم ‪،‬‬
‫عن العمش ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ :‬أنه سمع رجل يقرأ القرآن بهذه اللحان التي‬
‫أحدث الناس ‪ ،‬فأنكر ذلك ونهى عنه (‪.)3‬‬
‫هذه طرق حسنة في باب الترهيب ‪ ،‬وهذا يدل على أنه محذور كبير ‪ ،‬وهو قراءة القرآن باللحان‬
‫التي يسلك بها مذاهب الغناء ‪ ،‬وقد نص الئمة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬على النهي عنه ‪ ،‬فأما إن خرج به‬
‫إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا ‪ ،‬فقد اتفق العلماء على تحريمه ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا محمد بن معمر ‪ ،‬حدثنا روح ‪ ،‬حدثنا عبيد ال بن الخنس ‪،‬‬
‫عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ليس منا من لم‬
‫يَ َتغَنّ بالقرآن " (‪.)4‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وإنما ذكرناه لنهم اختلفوا على ابن أبي مليكة فيه ‪ ،‬فرواه ابن عبد الجبار بن الورد عنه‬
‫عن أبي لبابة ‪ ،‬ورواه عمرو بن دينار والليث عنه عن أبي َنهِيك عن سعد ‪ ،‬ورواه عَسْل بن‬
‫سفيان عنه ‪ ،‬عن عائشة (‪ )5‬ورواه نافع مولى ابن عمر عنه ‪ ،‬عن ابن الزبير (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪ )81‬والخصلتين هما ‪ :‬إمرة السفهاء ‪ ،‬وكثرة الشرط‪.‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)81‬‬
‫(‪ )4‬مسند البزار برقم (‪" )2332‬كشف الستار"‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه البزار في مسنده برقم (‪" )2334‬كشف الستار" والحاكم في المستدرك (‪ )570 /1‬وقال‬
‫الحاكم ‪" :‬إسناده شاذ"‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه البزار في مسنده برقم (‪" )2335‬كشف الستار"‪.‬‬

‫( ‪)1/65‬‬

‫اغتباط صاحب القرآن‬


‫حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬أخبرنا شعيب ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬حدثني سالم بن عبد ال ‪ :‬أن عبد ال بن عمر‬
‫قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬ل حسد إل في (‪ )1‬اثنتين ‪ :‬رجل آتاه ال‬
‫الكتاب فقام به آناء الليل ‪ ،‬ورجل أعطاه ال مال فهو يتصدق به آناء الليل والنهار " (‪.)2‬‬
‫انفرد به البخاري من هذا الوجه ‪ ،‬واتفقا على إخراجه من رواية سفيان عن الزهري (‪ )3‬ثم قال‬
‫البخاري ‪ :‬حدثنا علي بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا روح ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن سليمان ‪ :‬سمعت َذكْوان ‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة ؛ " أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل حسد إل في اثنتين ‪ :‬رجل علمه ال‬
‫القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار" ‪ ،‬فسمعه جار له فقال ‪ :‬ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلن‬
‫فعملت مثل ما يعمل ‪" ،‬ورجل آتاه ال مال فهو يهلكه في الحق" ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬ليتني أوتيت مثل‬
‫ما أوتي فلن فعملت مثل ما يعمل" (‪.)4‬‬
‫ومضمون هذين الحديثين ‪ :‬أن صاحب القرآن في غبطة وهو حسن الحال ‪ ،‬فينبغي أن يكون شديد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬على"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5025‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )7529‬وصحيح مسلم برقم (‪.)815‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)5026‬‬
‫( ‪)1/65‬‬

‫الغتباط بما هو فيه ‪ ،‬ويستحب تغبيطه بذلك ‪ ،‬يقال ‪ :‬غبطه يغبِطه غبطًا ‪ :‬إذا تمنى ما هو فيه‬
‫من النعمة ‪ ،‬وهذا بخلف الحسد المذموم وهو تمني زوال نعمة المحسود عنه ‪ ،‬سواء حصلت‬
‫لذلك الحاسد أو ل وهذا مذموم شرعًا ‪ ،‬مهلكٌ ‪ ،‬وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬على ما منحه ال تعالى من الكرامة والحترام والعظام‪ .‬والحسد الشرعي الممدوح هو‬
‫تمني مثل حال ذلك الذي هو على حالة سارة ؛ ولهذا قال عليه السلم ‪" :‬ل حسد إل في اثنتين " ‪،‬‬
‫فذكر النعمة القاصرة وهي تلوة القرآن آناء الليل والنهار ‪ ،‬والنعمة المتعدية وهي إنفاق المال‬
‫بالليل والنهار " ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّ ِه وََأقَامُوا الصّل َة وَأَ ْنفَقُوا ِممّا‬
‫رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلنِيَةً يَ ْرجُونَ ِتجَا َرةً لَنْ تَبُورَ } [فاطر ‪ ، ]29 :‬وقد روي نحو هذا من وجه‬
‫آخر ‪ ،‬فقال عبد ال بن المام أحمد ‪ :‬وجدت في كتاب أبي بخط يده ‪ :‬كتب إليّ أبو توبة الربيع‬
‫بن نافع ‪ ،‬فكان في كتابه ‪ :‬حدثنا الهيثم بن حميد ‪ ،‬عن زيد بن واقد ‪ ،‬عن سليمان بن موسى ‪،‬‬
‫عن كثير بن مرة ‪ ،‬عن يزيد بن الخنس ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل تنافس‬
‫بينكم إل في اثنتين ‪ :‬رجل أعطاه ال القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ‪ ،‬ويتبع ما فيه ‪ ،‬فيقول‬
‫رجل ‪ :‬لو أن ال أعطاني مثل ما أعطى فلنا فأقوم (‪ )1‬كما يقوم به ‪ ،‬ورجل أعطاه ال مال فهو‬
‫ينفقه ويتصدق ‪ ،‬فيقول رجل ‪ :‬لو أن ال أعطاني مثل ما أعطى فلنا فأتصدق به" (‪ .)2‬وقريب‬
‫من هذا ما قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن نمير ‪ ،‬حدثنا عبادة بن مسلم ‪ ،‬حدثني يونس بن‬
‫خباب ‪ ،‬عن أبي سعيد البختري الطائي ‪ ،‬عن أبي كبشة قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ‪" :‬ثلث أقسم عليهن ‪ ،‬وأحدثكم حديثا فاحفظوه ‪ ،‬فأما الثلث التي أقسم عليهن ‪ :‬فإنه‬
‫ما نقص مال عبد من صدقة ‪ ،‬ول ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إل زاده ال بها عزا ‪ ،‬ول يفتح‬
‫عبد باب مسألة إل فتح ال له باب فقر ‪ ،‬وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه ‪ ،‬فإنه قال ‪ :‬إنما الدنيا‬
‫لربعة نفر ‪ :‬عبد رزقه ال مال وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه ‪ ،‬ويعمل ل فيه حقه" ‪،‬‬
‫قال ‪" :‬فهذا بأفضل المنازل ‪ ،‬وعبد رزقه ال علما ولم يرزقه مال فهو يقول ‪ :‬لو كان لي مال‬
‫عملت بعمل فلن" قال ‪" :‬فأجرهما سواء ‪ ،‬وعبد رزقه ال مال ولم يرزقه علما فهو يخبط في‬
‫ماله بغير علم ل يتقي فيه ربه ‪ ،‬ول يصل فيه رحمه ‪ ،‬ول يعمل ل فيه حقه ‪ ،‬فهذا بأخبث‬
‫المنازل ‪ ،‬وعبد لم يرزقه ال مال ول علما فهو يقول ‪ :‬لو كان لي مال لفعلت بعمل فلن"‪ .‬قال ‪:‬‬
‫"هي نيته فوزرهما فيه سواء " (‪.)3‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن سالم بن أبي الجعد ‪ ،‬عن أبي كبشة النماري قال‬
‫‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬مثل هذه المة مثل أربعة نفر ‪ :‬رجل آتاه ال مال‬
‫وعلما فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه ‪ ،‬ورجل آتاه ال علما ولم يؤته مال فهو يقول ‪ :‬لو كان‬
‫لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل"‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬فهما في‬
‫الجر سواء ‪ ،‬ورجل آتاه ال مال ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه ‪ ،‬ورجل لم‬
‫يؤته ال مال ول علما فهو يقول ‪ :‬لو كان لي مثل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬م ‪" :‬فيقوم به"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)105 /4‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)231 /4‬‬

‫( ‪)1/66‬‬

‫هذا عملت فيه مثل الذي يعمل"‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬فهما في الوزر سواء"‪.‬‬
‫إسناد صحيح (‪)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)230 /4‬‬

‫( ‪)1/67‬‬

‫خيركم من تعلم القرآن وعلمه‬


‫حدثنا حجاج بن مِنْهال ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬أخبرني علقمة بن مَرْثَد ‪ ،‬سمعت سعد بن عبيدة ‪ ،‬عن أبي‬
‫عبد الرحمن ‪ ،‬عن عثمان بن عفان ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬خيركم من تعلم‬
‫القرآن وعلمه"‪ .‬وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬حتى كان الحجاج قال‬
‫‪:‬‬
‫وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا (‪.)1‬‬
‫وقد أخرج الجماعة هذا الحديث سوى مسلم من رواية شعبة عن عَ ْلقَمة بن مرثد عن سعد بن‬
‫عبيدة عن أبي عبد الرحمن وهو عبد ال بن حبيب السلمي ‪ -‬رحمه ال (‪.)2‬‬
‫وحدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن علقمة بن مرثد ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن السلمي ‪ ،‬عن عثمان‬
‫بن عفان قال ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه " (‪.)3‬‬
‫وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طرقٍ عن سفيان ‪ ،‬عن علقمة ‪ ،‬عن أبي عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬من غير ذكر سعد بن عبيدة (‪ )4‬كما رواه شعبة ولم يختلف عليه فيه ‪ ،‬وهذا المقام مما‬
‫حكم لسفيان الثوري فيه على شعبة ‪ ،‬وخطأ بُ ْندَار يحيى بن سعيد في روايته ذلك عن سفيان ‪ ،‬عن‬
‫علقمة ‪ ،‬عن سعد بن عبيدة ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن وقال ‪ :‬رواه الجماعة من أصحاب سفيان‬
‫عنه ‪ ،‬بإسقاط سعد بن عبيدة ‪ ،‬ورواية سفيان أصحُ في هذا المقام المتعلق بصناعة السناد ‪ ،‬وفي‬
‫ذكره طول لول المللة لذكرناه ‪ ،‬وفيما ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫والغرض أنه ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬قال ‪ " :‬خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وهذه من صفات‬
‫المؤمنين المتبعين للرسل ‪ ،‬وهم الكُمل في أنفسهم ‪ ،‬المكملون لغيرهم ‪ ،‬وذلك جمع بين النفع‬
‫القاصر والمتعدي ‪ ،‬وهذا بخلف صفة الكفار الجبارين الذين ل ينفعون ‪ ،‬ول يتركون أحدا ممن‬
‫عذَابًا َفوْقَ ا ْلعَذَابِ‬
‫أمكنهم أن ينتفع ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ َ‬
‫} [النحل ‪ ، ]88 :‬وكما قال تعالى ‪ { :‬وَ ُهمْ يَ ْن َهوْنَ عَ ْن ُه وَيَنَْأوْنَ عَ ْنهُ } [النعام ‪ ، ]26 :‬في أصح‬
‫قولي (‪ )5‬المفسرين في هذا ‪ ،‬وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه ‪،‬‬
‫فجمعوا بين التكذيب والصد ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬فمَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ َك ّذبَ بِآيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا }‬
‫[النعام ‪ ، ]157 :‬فهذا شأن (‪ )6‬الكفار ‪ ،‬كما أن شأن خيار البرار أن يكمل في نفسه وأن يسعى‬
‫في تكميل غيره كما قال عليه السلم ‪ " :‬خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ‪ ،‬وكما قال [ال] (‪)7‬‬
‫ع ِملَ صَالِحًا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ } [ فصلت ‪:‬‬
‫حسَنُ َقوْل ِممّنْ دَعَا إِلَى اللّ ِه وَ َ‬
‫تعالى ‪َ { :‬ومَنْ أَ ْ‬
‫‪، ]33‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5027‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود برقم (‪ )1452‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2907‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪ )8037‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)311‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5028‬‬
‫(‪ )4‬سنن الترمذي برقم (‪ )2908‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )8038‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)312‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬قول"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪ ،‬جـ ‪" :‬شأن شرار"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ط‪.‬‬

‫( ‪)1/67‬‬

‫فجمع بين الدعوة إلى ال سواء كان بالذان أو بغيره من أنواع الدعوة من تعليم القرآن والحديث‬
‫والفقه وغير ذلك ‪ ،‬مما يُبتغى به وجه ال ‪ ،‬وعمل هو في نفسه صالحا ‪ ،‬وقال قول صالحا ‪ ،‬فل‬
‫أحد أحسن حال من هذا‪ .‬وقد كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي ‪ -‬أحد أئمة السلم ومشايخهم‬
‫‪ -‬من رغب في هذا المقام ‪ ،‬فقعد يعلم الناس في (‪ )1‬إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا ‪ :‬وكان‬
‫مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬وآتاه ال ما طلبه ودامه‪ .‬آمين‪.‬‬
‫قال (‪ )2‬البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا عمرو بن عون ‪ ،‬حدثنا حماد عن أبي حازم ‪ ،‬عن سهل بن‬
‫سعد قال ‪ " :‬أتت النبي صلى ال عليه وسلم امرأة فقالت ‪ :‬إنها قد وهبت نفسها ل ورسوله ‪ ،‬فقال‬
‫‪" :‬ما لي في النساء من حاجة"‪ .‬فقال رجل ‪ :‬زوّجنيها قال ‪"[ :‬أعطها ثوبًا" ‪ ،‬قال ‪ :‬ل أجد ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫"أعطها ولو خاتما من حديد" ‪ ،‬فاعتل له ‪ ،‬فقال] (‪" )3‬ما معك من القرآن"‪ .‬قال ‪ :‬كذا وكذا‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫"قد زوجتكها بما معك من القرآن " (‪.)4‬‬
‫وهذا الحديث متفق على إخراجه من طرق عديدة ‪ ،‬والغرض منه أن الذي قصده البخاري أن هذا‬
‫الرجل تعلم (‪ )5‬الذي تعلمه من القرآن ‪ ،‬وأمره النبي صلى ال عليه وسلم أن يعلمه تلك المرأة ‪،‬‬
‫ويكون ذلك صداقا لها على ذلك ‪ ،‬وهذا فيه نزاع بين العلماء ‪ ،‬وهل يجوز أن يجعل مثل هذا‬
‫صداقًا ؟ أو هل يجوز أخذ الجرة على تعليم القرآن ؟ وهل هذا كان خاصًا بذلك الرجل ؟ وما‬
‫معنى قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬زوجتكها بما معك من القرآن" ؟ أبسبب ما معك من القرآن ؟‬
‫كما قاله أحمد بن حنبل ‪ :‬نكرمك بذلك أو بعوض ما معك ‪ ،‬وهذا أقوى ‪ ،‬لقوله في صحيح مسلم ‪:‬‬
‫"فعلمها" (‪ )6‬وهذا هو الذي أراده البخاري هاهنا وتحرير باقي الخلف مذكور في كتاب النكاح‬
‫والجارة ‪ ،‬وال المستعان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ثم قال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)5029‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يعلمها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فتعلمها"‪.‬‬

‫( ‪)1/68‬‬

‫القراءة عن ظهر قلب‬


‫إنما أفرد البخاري في هذه الترجمة (‪ )1‬حديث أبي حازم عن سهل بن سعد ‪ ،‬الحديث الذي تقدم‬
‫الن ‪ ،‬وفيه أنه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قال لرجل ‪" :‬فما معك من القرآن ؟"‪ .‬قال ‪ :‬معي سورة كذا‬
‫وكذا ‪ ،‬لسور عددها‪ .‬قال ‪" :‬أتقرؤهن (‪ )2‬عن ظهر قلبك ؟"‪ .‬قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪" :‬اذهب فقد ملكتكها‬
‫بما معك من القرآن" (‪.)3‬‬
‫وهذه الترجمة من البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪ .‬ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل ؛ لنه‬
‫يشتمل على التلوة والنظر في المصحف وهو عبادة ‪ ،‬كما صرح به غير واحد من السلف ‪،‬‬
‫وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم ل ينظر في مصحفه ‪ ،‬واستدلوا على فضيلة التلوة في‬
‫المصحف بما رواه المام العلم (‪)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬هذا الوجه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أتقرأ"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5030‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬العالم"‪.‬‬

‫( ‪)1/68‬‬

‫أبو عبيد في كتاب (‪ )1‬فضائل القرآن حيث قال ‪:‬‬


‫حدثنا نعيم بن حماد ‪ ،‬عن بقية بن الوليد ‪ ،‬عن معاوية بن يحيى ‪ ،‬عن سليم بن مسلم ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن بعض أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا ‪ ،‬كفضل الفريضة على النافلة" (‪)2‬‬
‫وهذا السناد ضعيف (‪ )3‬فإن معاوية بن يحيى هو الصدفي أو الطرابلسي ‪ ،‬وأيهما كان فهو‬
‫ضعيف‪.‬‬
‫وقال الثوري عن عاصم ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن ابن مسعود قال ‪ :‬أديموا النظر في المصحف (‪.)4‬‬
‫وقال حماد بن سلمة ‪ ،‬عن علي بن زيد ‪ ،‬عن يوسف بن ماهك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن عمر ‪ :‬أنه‬
‫كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه (‪.)5‬‬
‫وقال حماد أيضا ‪ :‬عن ثابت ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ :‬أنه كان إذا‬
‫اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف ‪ ،‬فقرؤوا ‪ ،‬وفسر لهم (‪ .)6‬إسناد صحيح‪.‬‬
‫وقال حماد بن سلمة ‪ :‬عن حجاج بن أرطاة ‪ ،‬عن ثوير بن أبي فاختة ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬إذا‬
‫رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ (‪ .)7‬وقال العمش عن خَيْثَمة ‪ :‬دخلت على ابن‬
‫عمر وهو يقرأ في المصحف فقال ‪ :‬هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة (‪.)8‬‬
‫فهذه الثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئل يعطل المصحف فل يقرأ منه ‪ ،‬ولعله قد يقع لبعض‬
‫الحفظة نسيان فيتذكر منه ‪ ،‬أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير ‪ ،‬فالستثبات أولى ‪،‬‬
‫والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال ‪ ،‬فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن ؛ لن‬
‫الكتابة ل تدل على كمال الداء ‪ ،‬كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر‬
‫تصحيفه وغلطه ‪ ،‬وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على لفظ (‪ )9‬القرآن ‪،‬‬
‫فأما عند العجز عمن يلقن فل يكلف ال نفسا إل وسعها ‪ ،‬فيجوز عند الضرورة ما ل يجوز عند‬
‫الرفاهية ‪ ،‬فإذا قرأ في المصحف ‪ -‬والحالة هذه ‪ -‬فل حرج عليه ‪ ،‬ولو فرض أنه قد يحرف‬
‫بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه ‪ ،‬فقد قال المام أبو عبيد ‪:‬‬
‫حدثني هشام بن إسماعيل الدمشقي ‪ ،‬عن محمد بن شعيب ‪ ،‬عن الوزاعي ؛ أن رجل صحبهم في‬
‫سفر قال ‪ :‬فحدثنا حديثا ما أعلمه إل رفعه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬إن العبد‬
‫إذا قرأ فحرف أو أخطأ كتبه الملك كما أنزل " (‪.)10‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬كتابه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)46‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬وهذا السناد فيه ضعف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪ )46‬وقال ابن حجر ‪" :‬إسناده صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪.)46‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)47‬‬
‫(‪ )7‬فضائل القرآن (ص ‪.)46‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪.)47‬‬
‫(‪ )9‬في طـ ‪" :‬ألفاظ"‪.‬‬
‫(‪ )10‬فضائل القرآن (ص ‪.)47‬‬

‫( ‪)1/69‬‬

‫وحدثنا حفص بن غياث ‪ ،‬عن الشيباني (‪ )1‬عن بكير (‪ )2‬بن الخنس قال ‪ :‬كان يقال ‪ :‬إذا قرأ‬
‫العجمي والذي ل يقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل‪ .‬وقال بعض العلماء ‪ :‬المدار في هذه المسألة‬
‫على الخشوع في القراءة ‪ ،‬فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل ‪ ،‬وإن كان‬
‫عند النظر في المصحف (‪ )3‬فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى ؛ لنها أثبت وتمتاز‬
‫بالنظر في المصحف قال الشيخ أبو زكريا النووي (‪ )4‬رحمه ال ‪ ،‬في التبيان ‪ :‬والظاهر أن كلم‬
‫السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل‪.‬‬
‫تنبيه ‪:‬‬
‫إن كان البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬أراد بذكر (‪ )5‬حديث سهل للدللة على أن تلوة القرآن عن ظهر‬
‫قلب أفضل منها في المصحف ‪ ،‬ففيه نظر ؛ لنها قضية عين ‪ ،‬فيحتمل أن ذلك الرجل كان ل‬
‫يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم منه ‪ ،‬فل يدل على أن التلوة عن ظهر‬
‫قلب أفضل مطلقا في حق من يحسن ومن ل يحسن ‪ ،‬إذ لو دل هذا لكان ذكر حال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وتلوته عن ظهر قلب ‪ -‬لنه أمي ل يدري الكتابة ‪ -‬أولى من ذكر هذا‬
‫الحديث بمفرده‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن سياق الحديث إنما هو لجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ؛ ليمكنه‬
‫تعليمها لزوجته ‪ ،‬وليس المراد هاهنا ‪ :‬أن هذا أفضل من التلوة نظرا ‪ ،‬ول عدمه (‪ )6‬وال‬
‫سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬النسائي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بكر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬المصحف أكثر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬النواوي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬بذكره"‪.‬‬
‫(‪ )6‬قال الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )78 /9‬بعد أن ذكر كلم الحافظ ابن كثير هنا ‪" :‬ول يرد‬
‫على البخاري شيء مما ذكر ؛ لن المراد بقوله ‪ :‬باب القراءة عن ظهر قلب ‪ ،‬مشروعيتها أو‬
‫استحبابها ‪ ،‬والحديث مطابق لما ترجم به ‪ ،‬ولم يتعرض لكونها أفضل من القراءة نظرا ‪ ،‬وقد‬
‫صرح كثير من العلماء أن القراءة من المصحف نظرا أفضل من القراءة عن ظهر قلب"‪.‬‬

‫( ‪)1/70‬‬

‫استذكار القرآن وتعاهده‬


‫حدثنا عبد ال بن يوسف ‪ ،‬أخبرنا مالك ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ؛ أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪ " :‬إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب البل المعقّلة ‪ ،‬إن عاهد عليها أمسكها ‪ ،‬وإن‬
‫أطلقها ذهبت " هكذا رواه مسلم والنسائي من حديث مالك [به] (‪ .)1‬وقال المام أحمد (‪ )2‬حدثنا‬
‫عبد الرزاق ‪ ،‬حدثنا (‪ )3‬معمر ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ " :‬مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار ‪ ،‬كمثل رجل له إبل ‪،‬‬
‫فإن عقلها حفظها ‪ ،‬وإن أطلق عقالها ذهبت ‪ ،‬فكذلك صاحب القرآن "‪ .‬أخرجاه ‪ ،‬قاله (‪ )4‬ابن‬
‫الجوزي في جامع المسانيد ‪ ،‬وإنما هو من أفراد مسلم من حديث عبد الرزاق به (‪ )5‬وحدثنا‬
‫محمد بن عرعرة ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن أبي وائل ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )5 031‬وصحيح مسلم برقم (‪ )789‬وسنن النسائي (‪.)154 /2‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)35 /2‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬أخبرنا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)789‬‬
‫( ‪)1/70‬‬

‫عن عبد ال قال ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬بئس ما لحدهم أن يقول ‪ :‬نسيت آية كيت‬
‫سيَ ‪ ،‬واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصّيًا من صدور الرجال من النّعم " (‪.)1‬‬
‫وكيت ‪ ،‬بل نُ ِ‬
‫تابعه بشر‪ .‬هو ابن محمد السختياني ‪ ،‬عن ابن المبارك ‪ ،‬عن شعبة‪.‬‬
‫وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلن ‪ ،‬عن أبي داود الطيالسي ‪ ،‬عن شعبة به (‪ )2‬وقال ‪:‬‬
‫حسن صحيح‪ .‬وأخرجه النسائي من رواية شعبة (‪.)3‬‬
‫وحدثنا عثمان ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن منصور مثله‪ .‬وتابعه ابن جريج عن عبدة ‪ ،‬عن شقيق ‪:‬‬
‫سمعت عبد ال قال ‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم (‪ )4‬وهكذا أسنده مسلم من حديث ابن‬
‫جريج به (‪ )5‬ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث محمد بن جحادة ‪ ،‬عن عبدة (‪ )6‬وهو‬
‫ابن أبي لُبَابة به (‪ .)7‬وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن‬
‫جرير به (‪ )8‬وستأتي رواية البخاري له عن أبي نعيم ‪ ،‬عن سفيان الثوري ‪ ،‬عن منصور به ‪،‬‬
‫والنسائي من رواية ابن عيينة عن منصور به ‪ ،‬فقد رواه هؤلء عن منصور به مرفوعا في‬
‫رواية هؤلء كلهم (‪ )9‬وقد رواه النسائي عن قتيبة ‪ ،‬عن حماد بن زيد ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن أبي‬
‫وائل ‪ ،‬عن عبد ال موقوفا (‪ )10‬وهذا غريب وفي مسند أبي يعلى (‪ )11‬فإنما هو َنسِي بالتخفيف‬
‫(‪.)12‬‬
‫حدثنا محمد بن العلء ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬عن بريد ‪ ،‬عن أبي بردة ‪ ،‬عن أبي موسى ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬تعاهدوا القرآن ‪ ،‬فوالذي نفسي بيده ‪ ،‬لهو أشد تَفصّيا من البل في‬
‫عقلها "‪ .‬وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب محمد بن العلء وعبد ال بن برادٍ (‪ )13‬الشعري ‪،‬‬
‫كلهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به (‪.)14‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا علي بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن المبارك ‪ ،‬حدثنا موسى بن علي ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5032‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪.)4922‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي (‪.)154 /2‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري (‪" )79 /9‬فتح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)790‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬عبيدة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10560‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)790‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪ )5039‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8042‬‬
‫(‪ )10‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10564‬‬
‫(‪ )11‬مسند أبي يعلى (‪.)69 /9‬‬
‫(‪ )12‬قال القرطبي ‪ :‬معنى التثقيل ‪ :‬أنه عوقب بوقوع النسيان عليه التفريط في معاهدته‬
‫واستذكاره‪ .‬ومعنى التخفيف ‪ :‬أن الرجل ترك غير ملتفت إليه ‪ ،‬وهو كقوله تعالى ‪( :‬نسوا ال‬
‫فنسيهم) [التوبة ‪ ]67 :‬أي ‪ :‬تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬بردة"‪.‬‬
‫(‪ )14‬صحيح البخاري برقم (‪ )5033‬وصحيح مسلم برقم (‪.)791‬‬

‫( ‪)1/71‬‬

‫سمعت أبي يقول ‪ :‬سمعت عقبة بن عامر يقول ‪[ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم] (‪" )1‬‬
‫تعلموا كتاب ال ‪ ،‬وتعاهدوه وتغنوا به ‪ ،‬فوالذي نفسي بيده ‪ ،‬لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل‬
‫" (‪.)2‬‬
‫ومضمون هذه الحاديث الترغيب في كثرة تلوة القرآن واستذكاره وتعاهده ؛ لئل يعرضه حافظه‬
‫للنسيان (‪ )3‬فإن ذلك خطر كبير ‪ ،‬نسأل ال العافية منه ‪ ،‬فإنه قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا خلف بن الوليد ‪ ،‬حدثنا خالد ‪ ،‬عن يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬عن عيسى بن فائد ‪ ،‬عن رجل ‪،‬‬
‫عن سعد بن عبادة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ما من أمير عشرة إل ويؤتى به‬
‫يوم القيامة مغلول ل يفكه عن ذلك الغل إل العدل ‪ ،‬وما من رجل قرأ القرآن فنسيه إل لقي ال‬
‫يوم القيامة يلقاه وهو أجذم " (‪.)4‬‬
‫هكذا رواه جرير بن عبد الحميد ‪ ،‬ومحمد بن فضيل ‪ ،‬عن يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬كما رواه خالد بن‬
‫عبد ال (‪ .)5‬وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن العلء عن ابن إدريس ‪ ،‬عن يزيد بن أبي زياد ‪،‬‬
‫عن عيسى بن فائد ‪ ،‬عن سعد بن عبادة عن النبي صلى ال عليه وسلم بقصة نسيان القرآن ‪ ،‬ولم‬
‫يذكر الرجل المبهم (‪.)6‬‬
‫وكذا رواه أبو بكر بن عياش ‪ ،‬عن يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬وقد رواه شعبة عن يزيد فوهم في‬
‫إسناده ‪ ،‬ورواه وكيع عن أصحابه ‪ ،‬عن يزيد ‪ ،‬عن عيسى بن فائد ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم مرسل‪ .‬وقد رواه المام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت فقال ‪:‬‬
‫حدثنا عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا عبد العزيز بن مسلم ‪ ،‬حدثنا يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬عن عيسى بن فائد ‪،‬‬
‫عن عبادة بن الصامت قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ما من أمير عشرة إل يؤتى‬
‫به يوم القيامة مغلول ل يفكه منها إل عدله ‪ ،‬وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إل لقى ال يوم‬
‫القيامة أجذم " (‪.)7‬‬
‫وكذا رواه أبو عوانة ‪ ،‬عن يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬ففيه اختلف ‪ ،‬لكن هذا في باب الترهيب مقبول‬
‫‪ -‬وال أعلم ‪ -‬لسيما إذا كان له شاهد من وجه آخر ‪ ،‬كما قال أبو عبيد‪.‬‬
‫حدثنا حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج قال ‪ :‬حُدثت عن أنس بن مالك قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ " :‬عرضت على أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من المسجد ‪ ،‬وعرضت‬
‫عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أكبر من آية أو سورة من كتاب ال أوتيها رجل فنسيها "‪ .‬قال ابن‬
‫جريج ‪ :‬وحُدّثت عن سلمان الفارسي قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن أكبر ذنب‬
‫توافى به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب ال أوتيها رجل فنسيها " (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط ‪ ،‬والمسند‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)146 /4‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬إلى النسيان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)385 /5‬‬
‫(‪ )5‬رواه أبو عبيد في الفضائل (ص ‪ )103‬من طريق جرير ‪ ،‬ورواه ابن أبي شيبة في المصنف‬
‫(‪ )478 /10‬من طريق ابن فضيل‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن أبي داود برقم (‪.)1474‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)323 /5‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪.)103‬‬

‫( ‪)1/72‬‬

‫وقد روى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي رواد ‪ ،‬عن ابن‬
‫جريج ‪ ،‬عن المطلب بن عبد ال بن حنطب ‪ ،‬عن أنس بن مالك قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ " :‬عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ‪ ،‬وعرضت عليّ‬
‫ذنوب أمتي ‪ ،‬فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها " (‪.)1‬‬
‫قال الترمذي ‪ :‬غريب ل نعرفه إل من هذا الوجه ‪ ،‬وذاكرت به البخاري فاستغربه ‪ ،‬وحكى‬
‫البخاري عن عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي أنه أنكر سماع المطلب من أنس بن مالك‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد رواه محمد بن يزيد الدمي (‪ )2‬عن ابن أبي رواد ‪ ،‬عن ابن جريج عن الزهري ‪،‬‬
‫عن أنس بن مالك ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم به‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى ‪َ { :‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي فَإِنّ َلهُ َمعِيشَةً‬
‫عمَى َوقَدْ كُ ْنتُ َبصِيرًا * قَالَ َكذَِلكَ أَتَ ْتكَ‬
‫عمَى * قَالَ َربّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَ ْ‬
‫ضَ ْنكًا وَ َنحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَ ْ‬
‫آيَاتُنَا فَ َنسِي َتهَا َوكَذَِلكَ الْ َيوْمَ تُنْسَى } [طه ‪ ، ]126 - 124 :‬وهذا الذي قاله هذا ‪ -‬وإن لم يكن هو‬
‫المراد جميعه ‪ -‬فهو بعضه ‪ ،‬فإن العراض عن تلوة القرآن وتعريضه للنسيان وعدم العتناء‬
‫به فيه تهاون كثير وتفريط شديد ‪ ،‬نعوذ بال منه ؛ ولهذا قال عليه السلم ‪" :‬تعاهدوا القرآن" ‪،‬‬
‫وفي لفظ ‪ " :‬استذكروا القرآن ‪ ،‬فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم "‪.‬‬
‫ال ّت َفصّي ‪ :‬التخلص يقال ‪َ :‬ت َفصّى فلن من البلية ‪ :‬إذا تخلص منها ‪ ،‬ومنه ‪ :‬تفصى النوى من‬
‫التمرة ‪ :‬إذا تخلص منها ‪ ،‬أي ‪ :‬إن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير‬
‫عقال‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم قال ‪ :‬قال عبد ال ‪ -‬يعني ابن‬
‫مسعود ‪ : -‬إني لمقت القارئ أن أراه سمينا نسيا للقرآن (‪.)3‬‬
‫حدثنا عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن عبد العزيز بن أبي رواد قال ‪ :‬سمعت الضحاك بن مزاحم يقول‬
‫‪ :‬ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إل بذنب يحدثه ؛ لن ال تعالى يقول ‪َ { :‬ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ‬
‫ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى ‪ ، ]30 :‬وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب (‪.)4‬‬
‫ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره ‪ :‬يُكره لرجل أن يمر عليه أربعون يوما ل يقرأ فيها القرآن ‪،‬‬
‫كما أنه يُكره له أن يقرأ في أقل من ثلثة أيام ‪ ،‬كما سيأتي هذا ‪ ،‬حيث يذكره البخاري بعد هذا ‪،‬‬
‫وكان الليق أن يتبعه هذا الباب ‪ ،‬ولكن ذكر بعد هذا قوله ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود برقم (‪ )461‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2916‬ومسند أبي يعلى (‪.)253 /7‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬الموى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪ )104‬وفيه انقطاع بين النخعي وابن مسعود‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)104‬‬

‫( ‪)1/73‬‬

‫القراءة على الدابة‬


‫حدثنا حجاج ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬أخبرني أبو إياس قال ‪ :‬سمعت عبد ال بن مغفل ‪ ،‬رضي ال عنه ‪،‬‬

‫( ‪)1/73‬‬

‫قال ‪ " :‬رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح " (‬
‫‪.)1‬‬
‫وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن أبي إياس ‪ ،‬وهو‬
‫معاوية بن قرة به (‪ )2‬وهذا ‪ -‬أيضا ‪ -‬له تعلق بما تقدم من تعاهد القرآن وتلوته سفرا‬
‫وحضرا ‪ ،‬ول يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارئ في الطريق ‪ ،‬وقد نقله ابن أبي داود‬
‫عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق ‪ ،‬وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أذن في ذلك ‪،‬‬
‫وعن المام مالك أنه كره ذلك ‪ ،‬كما قال ابن أبي داود ‪ :‬وحدثني أبو الربيع ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب‬
‫[قال] (‪ )3‬سألت مالكا عن الرجل يصلي في آخر الليل ‪ ،‬فيخرج إلى المسجد ‪ ،‬وقد بقي من‬
‫السورة التي كان يقرأ فيها شيء ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أعلم القراءة تكون في الطريق‪.‬‬
‫وقال الشعبي ‪ :‬تكره قراءة القرآن في ثلثة مواطن ‪ :‬في الحمام ‪ ،‬وفي الحشوش ‪ ،‬وفي الرحى‬
‫وهي تدور‪ .‬وخالفه في القراءة في الحمام كثير من السلف ‪ :‬أنها ل تكره ‪ ،‬وهو مذهب مالك‬
‫والشافعي وإبراهيم النخعي وغيرهم ‪ ،‬وروى ابن أبي داود عن علي بن أبي طالب ‪ :‬أنه كره ذلك‬
‫‪ ،‬ونقله ابن المنذر عن أبي وائل شقيق بن سلمة ‪ ،‬والشعبي والحسن البصري ومكحول وقبيصة‬
‫بن ذؤيب ‪ ،‬وهو رواية عن إبراهيم النخعي ‪ ،‬ومحكيّ عن أبي حنيفة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬أن القراءة‬
‫في الحمام تكره وأما القراءة في الحشوش فكراهتها ظاهرة ‪ ،‬ولو قيل بتحريم ذلك صيانة لشرف‬
‫القرآن لكان مذهبا ‪ ،‬وأما القراءة في بيت الرحى وهي تدور فلئل يعلو غير القرآن عليه ‪ ،‬والحق‬
‫يعلو ول يُعلى ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5034‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪ )794‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1467‬والشمائل للترمذي برقم (‪)302‬‬
‫وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8062‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬

‫( ‪)1/74‬‬

‫تعليم الصبيان القرآن‬


‫حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا أبو عوانة ‪ ،‬عن أبي بشر ‪ ،‬عن سعيد بن جبير قال ‪ :‬إن الذي‬
‫تدعونه المفصل هو المحكم ‪ ،‬قال ‪ :‬وقال ابن عباس ‪ :‬توفي رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنا‬
‫ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم (‪.)1‬‬
‫حدثنا يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ُهشَيْم ‪ ،‬أخبرنا أبو بشر ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫قال ‪ :‬جمعت المحكم في عهد النبي صلى ال عليه وسلم فقلت له ‪ :‬وما المحكم ؟ قال ‪" :‬المفصل"‬
‫(‪.)2‬‬
‫انفرد بإخراجه البخاري ‪ ،‬وفيه دللة على جواز تعلم الصبيان القرآن ؛ لن ابن عباس أخبر عن‬
‫سنه حين موت الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقد كان جمع المفصل ‪ ،‬وهو من الحجرات ‪ ،‬كما‬
‫تقدم ذلك ‪ ،‬وعمره آنذاك عشر سنين‪ .‬وقد روى البخاري أنه قال ‪ :‬توفى رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وأنا مختون (‪ .)3‬وكانوا ل يختنون الغلم حتى يحتلم ‪ ،‬فيحتمل أنه تجوز في هذه‬
‫الرواية بذكر العشر ‪ ،‬وترك ما زاد عليها من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5035‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5036‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)6299‬‬

‫( ‪)1/74‬‬

‫الكسر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬


‫وعلى كل تقدير ‪ ،‬ففيه دللة على جواز تعليمهم القرآن في الصبا ‪ ،‬وهو ظاهر ‪ ،‬بل قد يكون‬
‫مستحبا أو واجبا ؛ لن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يصلي به ‪ ،‬وحفظه في الصغر‬
‫أولى من حفظه كبيرا ‪ ،‬وأشد علوقا بخاطره وأرسخ وأثبت ‪ ،‬كما هو المعهود من حال الناس ‪،‬‬
‫وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبي في ابتداء عمره قليل للعب ‪ ،‬ثم توفر همته على‬
‫القراءة ‪ ،‬لئل يلزم أول بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب ‪ ،‬وكره بعضهم تعليمهم القرآن وهو‬
‫ل يعقل ما يقال له ‪ ،‬ولكن يترك حتى إذا عقل وميز علم قليل قليل بحسب همته ونهمته وحفظه‬
‫وجودة ذهنه ‪ ،‬واستحب عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أن يلقن خمس آيات خمس آيات ‪،‬‬
‫رويناه عنه بسند جيد (‪.)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬مسند الفاروق للمؤلف (‪.)170 /1‬‬

‫( ‪)1/75‬‬

‫نسيان القرآن‬
‫وهل يقول ‪ :‬نسيت آية كذا وكذا ‪ ،‬وقول ال تعالى ‪:‬‬
‫{ سَ ُنقْرِئُكَ فَل تَنْسَى * إِل مَا شَاءَ اللّهُ } [العلى ‪]7 ، 6 :‬‬
‫حدثنا الربيع بن يحيى ‪ ،‬حدثنا زائدة ‪ ،‬حدثنا هشام ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬لقد سمع‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم رجل يقرأ في المسجد فقال ‪ " :‬يرحمه ال ‪ ،‬لقد أذكرني كذا وكذا من‬
‫سورة كذا "‪.‬‬
‫وحدثني محمد بن عبيد بن ميمون ‪ ،‬حدثنا عيسى بن يونس ‪ ،‬عن هشام وقال ‪ :‬أسقطتهن من‬
‫سورة كذا وكذا‪ .‬انفرد به أيضا‪ .‬تابعه علي بن مسهر وعبدة عن هشام (‪.)1‬‬
‫وقد أسندهما البخاري في موضع آخر ‪ ،‬ومسلم معه في عبدة (‪.)2‬‬
‫وحدثنا أحمد بن أبي رجاء ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة ‪،‬‬
‫رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ " :‬سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم رجل يقرأ في سورة بالليل فقال‬
‫‪" :‬يرحمه ال ‪ ،‬فقد (‪ )3‬أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا "‪ .‬ورواه مسلم من‬
‫حديث أبي أسامة حماد بن أسامة (‪)4‬‬
‫‪.‬‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬عن عبد ال ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬بئس ما لحدهم أن يقول ‪ :‬نسيت‬
‫آية كيت وكيت ‪ ،‬بل هو نُسّى " ورواه مسلم والنسائي ‪ ،‬من حديث منصور به (‪ .)5‬وقد تقدم‪.‬‬
‫سيَ " ‪ ،‬بالتخفيف ‪ ،‬هذا لفظه‪.‬‬
‫وفي مسند أبي يعلى ‪" :‬فإنما هو ُن ِ‬
‫وفي هذا الحديث ‪ -‬والذي قبله ‪ -‬دليل على أن حصول النسيان للشخص ليس بنقصٍ له إذا كان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5037‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )6335‬وصحيح مسلم برقم (‪.)788‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )5038‬وصحيح مسلم برقم (‪.)788‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )5039‬وصحيح مسلم برقم (‪ )790‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)8042‬‬

‫( ‪)1/75‬‬

‫بعد الجتهاد والحرص ‪ ،‬وفي حديث ابن مسعود أدب في التعبير عن حصول ذلك ‪ ،‬فل يقول ‪:‬‬
‫نسيت آية كذا ‪ ،‬فإن النسيان ليس من فعل العبد ‪ ،‬وقد يصدر عنه أسبابه من التناسي والتغافل‬
‫سيَ" ‪ ،‬مبني لما‬
‫والتهاون المفضي إلى ذلك ‪ ،‬فأما النسيان نفسه فليس بفعله ؛ ولهذا قال ‪" :‬بل هو نُ ِ‬
‫لم يسم فاعله ‪ ،‬وأدب ‪ -‬أيضا ‪ -‬في ترك إضافة ذلك إلى ال تعالى ‪ ،‬وقد أسند النسيان إلى العبد‬
‫في قوله ‪ { :‬وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ ِإذَا نَسِيتَ } [الكهف ‪ ]24 :‬وهو ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬من باب المجاز السائغ‬
‫بذكر المسبب وإرادة السبب ؛ لن النسيان إنما يكون عن سبب قد يكون ذنبا ‪ ،‬كما تقدم عن‬
‫الضحاك بن مزاحم ‪ ،‬فأمر ال تعالى بذكره ليذهب الشيطان عن القلب كما يذهب عند النداء‬
‫بالذان ‪ ،‬والحسنة تذهب السيئة ‪ ،‬فإذا زال السبب للنسيان انزاح ‪ ،‬فحصل الذكر لشيء بسبب ذكر‬
‫ال تعالى ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫( ‪)1/76‬‬

‫من لم ير بأسا أن يقول ‪:‬‬


‫سورة البقرة ‪ ،‬وسورة كذا وكذا‬
‫حدثنا عمر بن حفص بن غياث (‪ )1‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬حدثني إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة‬
‫وعبد الرحمن بن يزيد ‪ ،‬عن أبي مسعود النصاري قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬‬
‫اليتان من آخر سورة البقرة ‪ ،‬من قرأ بهما في ليلة كفتاه " (‪.)2‬‬
‫وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة من حديث عبد الرحمن بن يزيد وصاحبا الصحيح والنسائي‬
‫وابن ماجة من حديث علقمة ‪ ،‬كلهما عن أبي مسعود عقبة بن عامر النصاري البكري (‪.)3‬‬
‫سوَر وعبد الرحمن بن عبدٍ‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬ما رواه من حديث الزهري ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن المِ ْ‬
‫القارئ ‪ ،‬كلهما عن عمر قال ‪ :‬سمعت هشام بن حكيم [بن حزام] (‪ )4‬يقرأ سورة الفرقان‪...‬‬
‫وذكر الحديث بطوله ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬وكما سيأتي (‪.)5‬‬
‫الحديث الثالث ‪ :‬ما رواه من حديث هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ " :‬سمع رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل في المسجد ‪ ،‬فقال ‪" :‬يرحمه ال ‪ ،‬لقد أذكرني كذا‬
‫وكذا آية ‪ ،‬كنت أسقطتهن من سورة كذا وكذا " (‪.)6‬‬
‫وهكذا في الصحيحين عن ابن مسعود ‪ :‬أنه كان يرمي الجمرة من الوادي ويقول ‪ :‬هذا مقام الذي‬
‫أنزلت عليه سورة البقرة (‪ .)7‬وكره بعض السلف ذلك ‪ ،‬ولم يروا إل أن يقال ‪ :‬السورة التي‬
‫يذكر فيها كذا وكذا ‪ ،‬كما تقدم من رواية يزيد الفارسي عن ابن عباس ‪ ،‬عن عثمان أنه قال ‪ :‬إذا‬
‫نزل شيء من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عتاب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5040‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )5008 ، 5051 ، 4008‬وصحيح مسلم برقم (‪ )808 ، 807‬وسنن‬
‫أبي داود برقم (‪ )1397‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2881‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪، 8018‬‬
‫‪ )8019‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1369 ، 1368‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ط ‪ ،‬جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)5041‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)5042‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )1747‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1296‬‬

‫( ‪)1/76‬‬
‫القرآن يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬اجعلوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا‬
‫" ‪ ،‬ول شك أن هذا أحوط وأولى ‪ ،‬ولكن قد صحت الحاديث بالرخصة في الخر ‪ ،‬وعليه عملُ‬
‫الناس اليوم في ترجمة السور في مصاحفهم ‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬

‫( ‪)1/77‬‬

‫الترتيل في القراءة‬
‫وقول ال (‪ )1‬عز وجل ‪ { :‬وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيل } [المزمل ‪ ، ]4 :‬وقوله ‪َ { :‬وقُرْآنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ‬
‫عَلَى النّاسِ عَلَى ُم ْكثٍ } [السراء ‪ ، ]106 :‬يكره أن يهذ كهذ الشعر ‪ ،‬يفرق ‪ :‬يفصل ‪ ،‬قال ابن‬
‫عباس ‪ { :‬فَ َرقْنَاهُ } فصلناه‪.‬‬
‫حدثنا أبو النعمان ‪ ،‬حدثنا مهدي بن ميمون ‪ ،‬حدثنا واصل [وهو ابن حيان الحدب] (‪ )2‬عن أبي‬
‫وائل ‪ ،‬عن عبد ال قال ‪ :‬غدونا على عبد ال ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬قرأت المفصل البارحة ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا‬
‫كهذّ الشعر ‪ ،‬إنا قد سمعنا القراءة ‪ ،‬وإني لحفظ القراءات التي كان يقرأ بهن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ثمان عشرة سورة من المفصل ‪ ،‬وسورتين من آل حم (‪.)3‬‬
‫ورواه مسلم عن شيبان بن فَرّوخ ‪ ،‬عن مهدي بن ميمون ‪ ،‬عن واصل ‪ -‬وهو ابن حيان الحدب‬
‫‪ -‬عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود به (‪.)4‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا قتيبة ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن الحارث بن يزيد ‪ ،‬عن زياد بن نعيم ‪،‬‬
‫عن مسلم بن مِخْراق ‪ ،‬عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسا يقرؤون القرآن في الليل مرة أو مرتين ‪،‬‬
‫فقالت ‪ :‬أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا ‪ ،‬كنت أقوم مع النبي صلى ال عليه وسلم ليلة التمام ‪ ،‬فكان يقرأ‬
‫سورة البقرة وآل عمران والنساء ‪ ،‬فل يمر بآية فيها تخوف إل دعا ال واستعاذ ‪ ،‬ول يمر بآية‬
‫فيها استبشار إل دعا ال ورغب إليه (‪.)5‬‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬حدثنا قتيبة ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن موسى بن أبي عائشة ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪،‬‬
‫جلَ بِهِ } [القيامة ‪ : ]16 :‬كان رسول ال‬
‫عن ابن عباس في قوله تعالى ‪ { :‬ل ُتحَ ّركْ بِهِ ِلسَا َنكَ لِ َتعْ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي ‪ ،‬وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه‪.‬‬
‫وذكر تمام الحديث كما سيأتي ‪ ،‬وهو متفق عليه ‪ ،‬وفيه والذي قبله دليل على استحباب ترتيل‬
‫القراءة والترسل فيها من غير َهذْرَمة ول سرعة مفرطة ‪ ،‬بل بتأمل وتفكر ‪ ،‬قال ال تعالى ‪:‬‬
‫{ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لِ َيدّبّرُوا آيَاتِهِ } [ص ‪.]29 :‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن (‪ )6‬سفيان ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫عمرو ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬يقال لصاحب القرآن ‪ :‬اقرأ وارْقَ ‪ ،‬ورتل كما كنت‬
‫ترتل في الدنيا ‪ ،‬فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقوله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5043‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)822‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)92 /6‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)192 /2‬‬

‫( ‪)1/77‬‬

‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن مغيرة ‪ ،‬عن إبراهيم قال ‪ :‬قرأ علقمة على عبد ال ‪ ،‬فكأنه‬
‫عجل ‪ ،‬فقال عبد ال ‪ :‬فداك أبي وأمي ‪ ،‬رتل فإنه زين القرآن‪ .‬قال ‪ :‬وكان علقمة حسن الصوت‬
‫بالقرآن (‪.)1‬‬
‫وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن أبي جمرة قال ‪ :‬قلت لبن عباس ‪ :‬إني سريع‬
‫القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلث فقال ‪ :‬لن أقرأ البقرة (‪ )2‬في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إليّ‬
‫من أن أقرأ كما تقول (‪.)3‬‬
‫وحدثنا حجاج ‪ ،‬عن شعبة وحماد بن سلمة ‪ ،‬عن أبي جمرة ‪ ،‬عن ابن عباس نحو ذلك ‪ ،‬إل أن‬
‫في حديث حماد ‪ :‬أحب إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة (‪.)4‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)74‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬القرآن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)74‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)74‬‬

‫( ‪)1/78‬‬

‫مد القراءة‬
‫حدثنا مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا جرير بن حازم الزدي ‪ ،‬حدثنا قتادة قال ‪ :‬سألت أنس بن مالك‬
‫عن قراءة النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬كان يمد مدا (‪.)1‬‬
‫وهكذا رواه أهل السنن ‪ ،‬من حديث جرير بن حازم به (‪ )2‬وحدثنا عمرو بن عاصم ‪ ،‬حدثنا همام‬
‫‪ ،‬عن قتادة قال ‪ :‬سئل أنس بن مالك ‪ :‬كيف كانت قراءة النبي صلى ال عليه وسلم ؟ فقال ‪:‬‬
‫كانت مدًا ‪ ،‬ثم قرأ ‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬يمد بسم ال ‪ ،‬ويمد بالرحمن ‪ ،‬ويمد بالرحيم‪ .‬انفرد‬
‫به البخاري من هذا الوجه (‪ )3‬وفي معناه الحديث الذي رواه المام أبو عبيد ‪ :‬حدثنا أحمد بن‬
‫عثمان ‪ ،‬عن عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن الليث بن سعد ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَ ْيكَة ‪ ،‬عن يعلى بن‬
‫مَملك ‪ ،‬عن أم سلمة ‪ :‬أنها نعتت قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم قراءة مفسرة حرفًا حرفًا‬
‫(‪.)4‬‬
‫وهكذا رواه المام أحمد بن حنبل ‪ ،‬عن يحيى بن إسحاق ‪ ،‬وأبو داود عن يزيد بن خالد الرملي ‪،‬‬
‫والترمذي والنسائي ‪ ،‬كلهما عن قتيبة ‪ ،‬كلهم عن الليث بن سعد به (‪ .)5‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن‬
‫صحيح‪.‬‬
‫ثم قال أبو عبيد ‪ :‬وحدثنا يحيى بن سعيد الموي ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن أم‬
‫سلمة قالت ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقطع قراءته ؛ بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬الحمد‬
‫ل رب العالمين‪ .‬الرحمن الرحيم‪ .‬مالك يوم الدين‪ .‬وهكذا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5045‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود برقم (‪ )1465‬وسنن النسائي (‪ )179 /2‬والشمائل للترمذي برقم (‪ )308‬وسنن‬
‫ابن ماجة برقم (‪.)1353‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5046‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)74‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )300 /6‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1466‬وسنن النسائي (‪ )181 /2‬وسنن الترمذي‬
‫برقم (‪.)2923‬‬

‫( ‪)1/78‬‬

‫رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن جريج (‪ .)1‬وقال الترمذي ‪ :‬غريب وليس إسناده‬
‫بمتصل ‪ ،‬يعني ‪ :‬أن عبد ال بن عبيد ال بن أبي مُلَيْكة لم يسمعه من أم سلمة ‪ ،‬وإنما رواه عن‬
‫يعلى بن َممْلَك ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬الترجيع‬
‫حدثنا آدم بن أبي إياس ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬حدثنا أبو إياس قال ‪ :‬سمعت عبد ال بن مغفل قال ‪:‬‬
‫رأيت النبي صلى ال عليه وسلم وهو على ناقته ‪ -‬أو جمله ‪ -‬وهي تسير به ‪ ،‬وهو يقرأ سورة‬
‫الفتح قراءة لينة وهو يرجع (‪.)2‬‬
‫وقد تقدم هذا الحديث في القراءة على الدابة وأنه من المتفق عليه ‪ ،‬وفيه أن ذلك كان يوم الفتح ‪،‬‬
‫وأما الترجيع ‪ :‬فهو الترديد في الصوت كما جاء ‪ -‬أيضا ‪ -‬في البخاري أنه جعل يقول ‪( :‬آ آ‬
‫آ) ‪ ،‬وكان ذلك صدر من حركة الدابة تحته ‪ ،‬فدل على جواز التلوة عليها ‪ ،‬وإن أفضى إلى ذلك‬
‫ول يكون ذلك من باب الزيادة في الحروف ‪ ،‬بل ذلك مغتفر للحاجة ‪ ،‬كما يصلي على الدابة حيث‬
‫توجهت به ‪ ،‬مع إمكان تأخير ذلك الصلة إلى القبلة ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬حسن الصوت بالقراءة‬
‫حدثنا محمد بن خلف أبو بكر ‪ ،‬حدثنا أبو يحيى الحمّاني ‪ ،‬حدثنا بريد بن عبد ال بن أبي بردة ‪،‬‬
‫عن جده أبي بردة ‪ ،‬عن أبي موسى الشعري ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬يا أبا‬
‫موسى ‪ ،‬لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود " (‪ )3‬وهذا رواه الترمذي عن موسى بن عبد‬
‫الرحمن الكندي ‪ ،‬عن أبي يحيى الحمّاني (‪ - )4‬واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن ‪ -‬وقال ‪:‬‬
‫حسن صحيح‪ .‬وقد رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة ‪ ،‬عن أبي بردة ‪ ،‬عن أبي‬
‫موسى (‪ )5‬وفيه قصة ‪ ،‬وقد تقدم الكلم على تحسين الصوت عند قول البخاري ‪ :‬من لم يتغن‬
‫بالقرآن ‪ ،‬وذكرنا هنا أحكاما كافية عن إعادتها هاهنا ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬من أحب أن يسمع القرآن من‬
‫غيره‬
‫حدثنا عمر بن حفص بن غياث ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن إبراهيم بن عبيدة ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال قال ‪ " :‬قال لي النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ عليّ القرآن"‪ .‬قلت ‪ :‬عليك أقرأ وعليك أنزل‬
‫؟! قال ‪" :‬إني أحب أن أسمعه من غيري" "‪.‬‬
‫وقد رواه الجماعة إل ابن ماجه ‪ ،‬من طرق عن العمش (‪ )6‬وله طرق يطول ذكرها وبسطها ‪،‬‬
‫وقد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪ )75‬وسنن أبي داود برقم (‪ )4001‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2927‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5047‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5048‬‬
‫(‪ )4‬سنن الترمذي برقم (‪.)3855‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)793‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )5049‬وصحيح مسلم برقم (‪ )800‬وسنن أبي داود برقم (‪)3668‬‬
‫وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )8075‬وسنن الترمذي برقم (‪.)3025‬‬

‫( ‪)1/79‬‬

‫تقدم فيما رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة ‪ ،‬عن أبي بردة ‪ ،‬عن أبي موسى ‪ :‬أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له ‪" :‬يا أبا موسى ‪ ،‬لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة"‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أما وال لو أعلم أنك تستمع قراءتي لحَبّرْتها لك تحبيرا‪.‬‬
‫وقال الزهري ‪ ،‬عن أبي سلمة ‪ :‬كان عمر إذا رأى أبا موسى قال ‪ :‬ذكرنا ربنا يا أبا موسى‪.‬‬
‫فيقرأ عنده‪.‬‬
‫وقال أبو عثمان النهدي ‪ :‬كان أبو موسى يصلي بنا ‪ ،‬فلو قلت ‪ :‬إني لم أسمع صوت صنج قط‬
‫ول بربط قط ‪ ،‬ول شيئا قط أحسن من صوته‪ .‬قول المقريء للقارئ ‪ :‬حسبك‬
‫حدثنا محمد بن يوسف ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن عبيدة ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫قال ‪ " :‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ عليّ"‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬آقرأ عليك‬
‫وعليك أنزل ؟! قال ‪" :‬نعم" ‪ ،‬فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الية ‪َ { :‬فكَ ْيفَ إِذَا‬
‫شهِيدًا } [النساء ‪ ، ]41 :‬قال ‪" :‬حسبك الن" [فالتفت‬
‫شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلءِ َ‬
‫جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ‬
‫إليه فإذا عيناه تذرفان] (‪.)2( )1‬‬
‫أخرجه الجماعة إل ابن ماجه ‪ ،‬من رواية العمش به (‪ )3‬ووجه الدللة ظاهر ‪ ،‬وكذا الحديث‬
‫الخر ‪ " :‬اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ‪ ،‬فإذا اختلفتم فقوموا "‪ .‬في كم يقرأ القرآن وقول‬
‫ال تعالى ‪ { :‬فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنْهُ } [المزمل ‪]20 :‬‬
‫حدثنا علي ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬قال ‪ :‬قال لي ابن شبرمة ‪ :‬نظرت كم يكفي الرجل من القرآن فلم أجد‬
‫سورة أقل من ثلث آيات‪ .‬فقلت ‪ :‬ل ينبغي لحد أن يقرأ أقل من ثلث آيات‪ .‬قال سفيان ‪ :‬أخبرنا‬
‫منصور ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن يزيد ‪ ،‬أخبره علقمة عن أبي مسعود ‪ ،‬فلقيته وهو‬
‫يطوف بالبيت ‪ ،‬فذكر النبي صلى ال عليه وسلم أن من قرأ باليتين من آخر سورة البقرة في ليلة‬
‫كفتاه (‪.)4‬‬
‫وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه ‪ ،‬وقد جمع البخاري فيما بين عبد الرحمن بن يزيد وعلقمة‬
‫عن أبي مسعود وهو صحيح ؛ لن عبد الرحمن سمعه أول من علقمة ‪ ،‬ثم لقي أبا مسعود وهو‬
‫يطوف فسمعه منه ‪ ،‬وعليّ هذا هو ابن المديني وشيخه هو سفيان بن عيينة ‪ ،‬وما قاله عبد ال بن‬
‫شبرمة ‪ -‬فقيه الكوفة في زمانه ‪ -‬استنباط حسن ‪ ،‬وقد جاء في حديث في السنن ‪ " :‬ل صلة إل‬
‫بفاتحة الكتاب وثلث آيات " (‪ )5‬ولكن هذا الحديث ‪ -‬أعني حديث أبي مسعود ‪ -‬أصح وأشهر‬
‫وأخص ‪ ،‬ولكن وجه مناسبته‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5050‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ )800‬وسنن أبي داود برقم (‪ )3668‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪ )8078‬والشمائل للترمذي برقم (‪.)306‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)5051‬‬
‫(‪ )5‬كذا قال الحافظ ابن كثير ‪ ،‬ولم أقع عليه في السنن الربعة ‪ ،‬وقد رواه ابن عدي في الكامل (‬
‫‪ )29 /5‬من طريق عمر بن يزيد المدائني عن عطاء عن ابن عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬مرفوعا‬
‫بلفظ ‪" :‬ل تجزئ في المكتوبة إل بفاتحة الكتاب وثلث آيات فصاعدا"‪ .‬والمدائني منكر الحديث‬
‫كما قال ابن عدي‪.‬‬

‫( ‪)1/80‬‬

‫للترجمة التي ذكرها البخاري فيه نظر ‪ ،‬وال أعلم (‪.)1‬‬


‫عوَانة ‪ ،‬عن‬
‫والحديث الثاني أظهر في المناسبة وهو قوله ‪ :‬حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا أبو َ‬
‫مغيرة ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو قال ‪ :‬أنكحني أبي امرأة ذات حسب ‪ ،‬فكان يتعاهد‬
‫كِنّتَه فيسألها عن بعلها فتقول ‪ :‬نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ‪ ،‬ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه‬
‫‪ ،‬فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪" " :‬ألقنى به" ‪ ،‬فلقيته بعد ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫"كيف تصوم ؟"‪ .‬قلت ‪ :‬كل يوم‪ .‬قال ‪" :‬وكيف تختم ؟ "‪ .‬قلت ‪ :‬كل ليلة‪ .‬قال ‪" :‬صم كل شهر‬
‫ثلثة ‪ ،‬واقرأ القرآن في كل شهر" ‪ :‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬إني أطيق أكثر من ذلك‪ .‬قال ‪" :‬صم ثلثة أيام‬
‫في الجمعة"‪ .‬قلت ‪ :‬أطيق أكثر من ذلك‪ .‬قال ‪" :‬أفطر يومين وصوم يوما"‪ .‬قلت ‪ :‬أطيق أكثر من‬
‫ذلك‪ .‬قال ‪" :‬صم أفضل الصوم صوم داود ‪ ،‬صيام يوم وإفطار يوم ‪ ،‬واقرأ في كل سبع ليال مرةً"‬
‫‪ ،‬فليتني قبلت رخصة رسول ال صلى ال عليه وسلم! وذلك أني كبرت وضعفت ‪ ،‬فكان يقرأ‬
‫على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرأ يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل ‪،‬‬
‫وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام مثلهن ‪ ،‬كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬في ثلث وفي خمس وأكثرهم على سبع " (‪.)2‬‬
‫وقد رواه في الصوم ‪ ،‬والنسائي ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن بُنْدَار عن غُنْدَر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن مغيرة ‪،‬‬
‫والنسائي من حديث حصين ‪ ،‬كلهما عن مجاهد به (‪.)3‬‬
‫ثم روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن محمد بن عبد الرحمن ‪-‬‬
‫مولى بني زهرة (‪ - )4‬عن أبي سلمة ‪ :‬قال ‪ :‬وأحسبني قال ‪ :‬سمعت أنا من أبي سلمة ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن عمرو قال ‪ " :‬قال لي النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ القرآن في شهر"‪ .‬قلت ‪ :‬إني أجد‬
‫قوة‪ .‬قال ‪" :‬فاقرأه في سبع ول تزد على ذلك" " (‪ .)5‬فهذا السياق ظاهره يقتضي المنع من قراءة‬
‫القرآن في أقل من سبع ‪ ،‬وهكذا الحديث الذي رواه أبو عبيد ‪:‬‬
‫حدثنا حجاج وعمر بن طارق ويحيى بن بكير ‪ ،‬كلهم عن ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن حبان بن واسع ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن قيس بن أبي صعصعة ؛ أنه قال للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬يا رسول ال ‪ ،‬في كم‬
‫أقرأ القرآن ؟ فقال ‪" :‬في كل خمس عشرة"‪ .‬قال ‪ :‬إني أجد في أقوى من ذلك ‪ ،‬قال ‪" :‬ففي كل‬
‫جمعة" (‪.)6‬‬
‫وحدثنا حجاج عن شعبة ‪ ،‬عن محمد بن ذكوان ‪ -‬رجل من أهل الكوفة ‪ -‬قال ‪ :‬سمعت عبد‬
‫الرحمن بن عبد ال بن مسعود يقول ‪ :‬كان عبد ال بن مسعود يقرأ القرآن في غير رمضان من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬قال الحافظ ابن حجر في الفتح (‪" : )95 /9‬وقد خفيت مناسبة حديث أبي مسعود بالترجمة‬
‫على ابن كثير ‪ ،‬والذي يظهر أنها من جهة أن الية المترجم بها تناسب ما استدل به ابن عيينة‬
‫من حديث أبي مسعود ‪ ،‬والجامع بينهما أن كل من الية والحديث يدل على الكتفاء بخلف ما‬
‫قال ابن شبرمة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5052‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )1978‬وسنن النسائي (‪.)210 ، 209 /4‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬أبي هريرة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )5053‬وصحيح مسلم برقم (‪ : )1159‬وسنن أبي داود برقم (‪)1388‬‬
‫لكنه عند أبي داود من طريق أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم عن أبي‬
‫سلمة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)87‬‬

‫( ‪)1/81‬‬

‫الجمعة إلى الجمعة (‪.)1‬‬


‫وعن حجاج ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن أيوب ‪ :‬سمعت أبا قِلبة ‪ ،‬عن أبي المهلب قال ‪ :‬كان أبيّ بن كعب‬
‫يختم القرآن في كل ثمان‪.‬‬
‫وحدثنا علي بن عاصم ‪ ،‬عن خالد ‪ ،‬عن أبي قلبة قال ‪ :‬كان أبيّ بن كعب يختم القرآن في كل‬
‫ثمان‪.‬‬
‫وكان تميم الداري يختمه في كل سبع ‪ ،‬وحدثنا ُهشَيْم ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ :‬أنه كان يختم‬
‫القرآن في كل سبع (‪.)2‬‬
‫وحدثنا جرير ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم قال ‪ :‬كان السود يختم القرآن في كل ست ‪ ،‬وكان‬
‫علقمة يختمه في كل خمس (‪.)3‬‬
‫فلو تركنا ومجرد هذا لكان المر في ذلك جليا ‪ ،‬ولكن دلت أحاديث أخرجوها (‪ )4‬على جواز‬
‫قراءته فيما دون ذلك ‪ ،‬كما رواه المام أحمد في مسنده ‪ :‬حدثنا حسن ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثنا‬
‫حبان ابن واسع ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن سعد بن المنذر النصاري ؛ أنه قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أقرأ‬
‫القرآن في ثلث ؟ قال ‪" :‬نعم"‪ .‬قال ‪ :‬فكان يقرؤه حتى توفي (‪.)5‬‬
‫وهذا إسناد جيد قوي حسن ‪ ،‬فإن حسن بن موسى الشيب ثقة متفق على جللته روى له الجماعة‬
‫وابن َلهِيعة ‪ ،‬إنما يخشى من تدليسه وسوء حفظه ‪ ،‬وقد صرح هاهنا بالسماع ‪ ،‬وهو من الئمة‬
‫العلماء بالديار المصرية في زمانه ‪ ،‬وشيخه حبان بن واسع بن حبان وأبوه ‪ ،‬كلهما من رجال‬
‫مسلم ‪ ،‬والصحابي لم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة ‪ ،‬وهذا على شرط كثير منهم ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وقد رواه أبو عبيد ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬عن ابن كثير (‪ )6‬عن ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن حبان بن واسع ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن سعد بن المنذر النصاري أنه قال ‪ " :‬يا رسول ال ‪ ،‬أقرأ القرآن في ثلث ؟ قال ‪:‬‬
‫"نعم ‪ ،‬إن استطعت" "‪ .‬قال ‪ :‬فكان يقرؤه كذلك حتى توفي (‪.)7‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا يزيد ‪ ،‬عن همام ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال بن الشخير‬
‫‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل يفقه من قرأه في أقل‬
‫من ثلث "‪.‬‬
‫وهكذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن الربعة من حديث قتادة به (‪ .)8‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن‬
‫صحيح‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا يوسف بن الغرق ‪ ،‬عن الطيب بن سليمان ‪ ،‬حدثتنا عمرة بنت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)87‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)88‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)88‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬أخر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬لم أقع عليه في المطبوع من المسند ‪ ،‬وقد ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (‪/2‬‬
‫‪.)465‬‬
‫(‪ )6‬في طـ ‪" :‬بكير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬فضائل القرآن (ص ‪.)88‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪ )89‬والمسند (‪ )189 ، 165 /2‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1394‬وسنن‬
‫الترمذي برقم (‪ )2949‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )8067‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1347‬‬

‫( ‪)1/82‬‬

‫عبد الرحمن ‪ :‬أنها سمعت عائشة تقول ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يختم القرآن في‬
‫أقل من ثلث (‪.)1‬‬
‫هذا حديث غريب وفيه ضعف ‪ ،‬فإن الطيب بن سليمان هذا بصري ‪ ،‬ضعفه الدارقطني ‪ ،‬وليس‬
‫هو بذاك المشهور ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلث ‪ ،‬كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق‬
‫وابن راهويه وغيرهما من الخلف ‪ -‬أيضا ‪ -‬قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا يزيد ‪ ،‬عن هشام بن حسان ‪،‬‬
‫عن حفصة ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلث (‬
‫‪ .)2‬صحيح‪.‬‬
‫وحدثنا يزيد ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن علي بن بَذِيمة ‪ ،‬عن أبي عبيدة قال ‪[ :‬قال] (‪ )3‬عبد ال ‪ :‬من قرأ‬
‫القرآن في أقل من ثلث فهو راجز‪ .‬وحدثنا حجاج ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن علي بن بذيمة ‪ ،‬عن أبي‬
‫عبيدة ‪ ،‬عن عبد ال مثله سواء (‪.)4‬‬
‫وحدثنا حجاج ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن محمد بن َذ ْكوَان ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ؛ أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلث (‪ .)5‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫وفي المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا ‪" :‬اقرؤوا القرآن ‪ ،‬ول تغلوا فيه ‪ ،‬ول تجفوا عنه ‪،‬‬
‫ول تأكلوا به ‪ ،‬ول تستكثروا به" (‪.)6‬‬
‫فقوله ‪" :‬ل تغلوا فيه" أي ‪ :‬ل تبالغوا في تلوته بسرعة في أقصر مدة ‪ ،‬فإن ذلك ينافي التدبر‬
‫غالبا ؛ ولهذا قابله بقوله ‪" :‬ول تجفوا عنه" أي ‪ :‬ل تتركوا تلوته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)89 ، 88‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)89‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)89‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪.)90‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪ )428 /3‬من طريق زيد بن سلم عن جده عن أبي راشد عن عبد الرحمن بن شبل‬
‫به مرفوعا ‪ ،‬وقال الحافظ ابن حجر ‪" :‬سنده قوي"‪.‬‬

‫( ‪)1/83‬‬

‫فصل‬
‫وقد ترخص جماعة (‪ )1‬من السلف في تلوة القرآن في أقل من ذلك ؛ منهم أمير المؤمنين عثمان‬
‫بن عفان ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬أخبرني ابن خَصيفة ‪ ،‬عن السائب بن يزيد ‪ :‬أن‬
‫رجل سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلة طلحة بن عبيد (‪ )2‬فقال ‪ :‬إن شئت أخبرتك‬
‫عن صلة عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬لعلين الليلة على الحجر ‪ ،‬فقمت ‪،‬‬
‫فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمني ‪ ،‬فنظرت فإذا عثمان بن عفان ‪ ،‬فتأخرت عنه ‪ ،‬فصلى فإذا‬
‫هو يسجد سجود القرآن ‪ ،‬حتى إذا قلت ‪ :‬هذه هوادي الفجر ‪ ،‬أوتر بركعة لم يصل غيرها (‪.)3‬‬
‫وهذا إسناد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬جماعات"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬عبيد ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)90‬‬

‫( ‪)1/83‬‬

‫صحيح‪.‬‬
‫قال (‪ )1‬وحدثنا هُشَيْم ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن ابن سيرين قال ‪ :‬قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية‬
‫حيث دخلوا على عثمان ليقتلوه ‪ :‬إن يقتلوه أو يدعوه ‪ ،‬فقد كان يحيى الليل كله بركعة يجمع فيها‬
‫القرآن‪ .‬وهذا حسن أيضا (‪.)2‬‬
‫وقال ‪ -‬أيضا ‪ : -‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن عاصم بن سليمان ‪ ،‬عن ابن سيرين ‪ :‬إن تميما الداري‬
‫قرأ القرآن في ركعة (‪.)3‬‬
‫حدثنا حجاج بن شعبة ‪ ،‬عن حماد ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ :‬أنه قال ‪ :‬قرأت القرآن في ركعة في‬
‫البيت ‪ -‬يعني الكعبة (‪.)4‬‬
‫وحدثنا جرير ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة ‪ ،‬طاف بالبيت‬
‫أسبوعا ‪ ،‬ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالطول ‪ ،‬ثم طاف بالبيت أسبوعا ‪ ،‬ثم أتى المقام فصلى‬
‫عنده فقرأ بالمئين ‪ ،‬ثم طاف أسبوعا ‪ ،‬ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثانى ‪ ،‬ثم طاف بالبيت‬
‫أسبوعا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن (‪.)5‬‬
‫عفَيْر ‪،‬‬
‫وهذه كلها أسانيد صحيحة ‪ ،‬ومن أغرب ما هاهنا ‪ :‬ما رواه أبو عبيد ‪ :‬حدثنا سعيد بن ُ‬
‫عن بكر بن مضر ‪ ،‬أن سليم بن عتر التجيبي كان يختم القرآن في ليلة ثلث مرات ‪ ،‬ويجامع‬
‫ثلث مرات‪ .‬قال ‪ :‬فلما مات قالت امرأته ‪ :‬رحمك ال ‪ ،‬إن كنت لترضى ربك وترضى أهلك ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬وكيف ذلك ؟ قالت ‪ :‬كان يقوم من الليل فيختم القرآن ‪ ،‬ثم يلم بأهله ثم يغتسل ‪ ،‬ويعود‬
‫فيقرأ حتى يختم ثم يلم بأهله ‪ ،‬ثم يغتسل ‪ ،‬ويعود فيقرأ حتى يختم ‪ ،‬ثم يلم بأهله ثم يغتسل ‪،‬‬
‫ويخرج إلى صلة الصبح (‪.)6‬‬
‫قلت ‪ :‬كان سليم بن عتر تابعيا جليل ثقة نبيل وكان قاضيا بمصر أيام معاوية وقاصّها ‪ ،‬ثم قال‬
‫أبو حاتم ‪ :‬روى عن أبي الدرداء ‪ ،‬وعنه ابن زحر ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬حدثني محمد بن عوف ‪ ،‬عن أبي‬
‫صالح كاتب الليث ‪ ،‬حدثني حرملة بن عمران ‪ ،‬عن كعب بن علقمة قال ‪ :‬كان سليم بن عتر من‬
‫خير التابعين (‪.)7‬‬
‫وذكره ابن يونس في تاريخ مصر‪.‬‬
‫وقد روى ابن أبي داود عن مجاهد أنه كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء‪.‬‬
‫وعن منصور قال ‪ :‬كان علي الزدي يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من‬
‫رمضان‪.‬‬
‫وعن إبراهيم بن سعد قال ‪ :‬كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وروي عن منصور بن زاذان ‪ :‬أنه كان يختم فيما بين الظهر والعصر ‪ ،‬ويختم أخرى فيما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬ثم قال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)91‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن (ص ‪.)91‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.)91‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪.)91‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪.)91‬‬
‫(‪ )7‬الجرح والتعديل (‪.)212 ، 211 /4‬‬

‫( ‪)1/84‬‬

‫بين المغرب والعشاء ‪ ،‬وكانوا يؤخرونها قليل‪.‬‬


‫وعن المام الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬أنه كان يختم في اليوم والليلة من شهر رمضان ختمتين ‪ ،‬وفي‬
‫غيره ختمة‪.‬‬
‫وعن أبي عبد ال البخاري ‪ -‬صاحب الصحيح ‪ : -‬أنه كان يختم في الليلة ويومها من رمضان‬
‫ختمة‪.‬‬
‫ومن غريب هذا وبديعه ما ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي قال ‪ :‬سمعت الشيخ أبا‬
‫عثمان المغربي يقول ‪ :‬كان ابن الكاتب يختم بالنهار أربع ختمات ‪ ،‬وبالليل أربع ختمات‪.‬‬
‫وهذا نادر جدا‪ .‬فهذا وأمثالة من الصحيح عن السلف محمول إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث‬
‫مما تقدم ‪ ،‬أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو زكريا النووي في كتابه التبيان بعد ذكر طرف مما تقدم ‪( :‬والختيار أن ذلك‬
‫يختلف باختلف الشخاص ‪ ،‬فمن كان له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل‬
‫له كمال فهم ما يقرؤه ‪ ،‬وكذا من كان مشغول بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح‬
‫المسلمين العامة فليقتصر على قدر ل يحصل بسببه إخلل بما هو مرصد له ‪ ،‬وإن لم يكن من‬
‫هؤلء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهَذْرَمة) (‪.)1‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬التبيان (ص ‪.)76‬‬

‫( ‪)1/85‬‬

‫البكاء عند القراءة‬


‫وأورد فيه من رواية العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن عبيدة ‪ ،‬عن عبد ال ‪ -‬هو ابن مسعود ‪ -‬قال‬
‫‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ عليّ"‪ .‬قلت ‪ :‬أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال ‪" :‬إني‬
‫أشتهي أن أسمعه من غيري"‪ .‬قال ‪ :‬فقرأت النساء ‪ ،‬حتى إذا بلغت ‪َ { :‬فكَ ْيفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ‬
‫شهِيدًا } [النساء ‪ ، ]41 :‬قال لي ‪" :‬كفّ أو أمسك" ‪ ،‬فرأيت عيناه‬
‫شهِي ٍد َوجِئْنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلءِ َ‬
‫بِ َ‬
‫تذرفان " (‪.)1‬‬
‫وهذا من المتفق عليه كما تقدم ‪ ،‬وكما سيأتي إن شاء ال‪ .‬من راءى بقراءة القرآن‬
‫أو تَأكّل به أو فجر به‬
‫سوَيد بن غفلة ‪ ،‬قال (‬
‫حدثنا محمد بن كثير ‪ ،‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن خَيْثَمة ‪ ،‬عن ُ‬
‫‪ )2‬علي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ " :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬يأتي في آخر الزمان قوم‬
‫حدثاء السنان ‪ ،‬سفهاء الحلم ‪ ،‬يقولون من خير قول البرية ‪ ،‬يمرقون من السلم كما يمرق‬
‫السهم من الرّميّة ‪ ،‬ل يجاوز إيمانهم حناجرهم ‪ ،‬فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ‪ ،‬فإن قتلهم أجر لمن‬
‫قتلهم يوم القيامة" (‪.)3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5055‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5057‬‬

‫( ‪)1/85‬‬

‫وقد روى في موضعين آخرين ‪ ،‬ومسلم وأبو داود والنسائي ‪ ،‬من طرق عن العمش به (‪)1‬‬
‫حدثنا عبد ال بن يوسف ‪ ،‬حدثنا مالك ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم بن الحارث‬
‫التيمي ‪ ،‬عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬يخرج فيكم قوم تحقرون صلتكم مع صلتهم ‪ ،‬وصيامكم مع صيامهم ‪،‬‬
‫وعملكم مع عملهم ‪ ،‬ويقرؤون القرآن ل يجاوز تراقيهم ‪ ،‬يمرقون من الدين كما يمرق السهم من‬
‫الرمية ‪ ،‬ينظر في النصل (‪ )2‬فل يرى شيئًا ‪ ،‬وينظر في القدح فل يرى شيئا ‪ ،‬وينظر في الريش‬
‫فل يرى شيئا ‪ ،‬ويتمارى في الفوق " (‪.)3‬‬
‫ورواه في موضع آخر ‪ ،‬ومسلم ‪ -‬أيضا ‪ -‬والنسائي من طرق عن الزهري ‪ ،‬عن أبي سلمة به (‬
‫‪.)4‬‬
‫حدثنا مُسَدّد بن مسرهد ‪ ،‬حدثنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬عن‬
‫أبي موسى ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬مثل المؤمن الذي يقرأ‬
‫القرآن ويعمل به كالترجة طعمها طيب وريحها طيب ‪ ،‬والمؤمن الذي ل يقرأ القرآن ويعمل به‬
‫كالتمرة طعمها طيب ول ريح لها ‪ ،‬ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب‬
‫وطعمها مر ‪ ،‬ومثل المنافق الذي ل يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مرّ " (‪.)5‬‬
‫ورواه في موضع آخر مع بقية الجماعة من طرق ‪ ،‬عن قتادة به (‪.)6‬‬
‫ومضمون هذه الحاديث التحذير من المراءاة بتلوة القرآن التي هي من أعظم القرب ‪ ،‬كما جاء‬
‫في الحديث ‪ " :‬واعلم أنك لن تتقرب إلى ال بأعظم مما خرج منه " (‪ )7‬يعني ‪ :‬القرآن‪.‬‬
‫والمذكورون في حديث علي وأبي سعيد هم الخوارج ‪ ،‬وهم الذين ل يجاوز إيمانهم حناجرهم ‪،‬‬
‫وقد قال في الرواية الخرى ‪ " :‬يحقر أحدكم قراءته مع قراءتهم ‪ ،‬وصلته مع صلتهم ‪،‬‬
‫وصيامه مع صيامهم "‪ .‬ومع هذا أمر بقتلهم لنهم مراؤون في أعمالهم في نفس المر ‪ ،‬وإن كان‬
‫بعضهم قد ل يقصد ذلك ‪ ،‬إل أنهم أسسوا أعمالهم على اعتقاد غير صالح ‪ ،‬فكانوا في ذلك‬
‫كالمذمومين في قوله ‪َ { :‬أ َفمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َت ْقوَى مِنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ‬
‫جهَنّ َم وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } [التوبة ‪ ، ]109 :‬وقد‬
‫شفَا جُ ُرفٍ هَارٍ فَا ْنهَارَ بِهِ فِي نَارِ َ‬
‫عَلَى َ‬
‫اختلف العلماء في تكفير الخوارج وتفسيقهم ورد روايتهم ‪ ،‬كما سيأتي [تفصيله] (‪ )8‬في موضعه‬
‫إن شاء ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )6930 ، 3611‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1066‬وسنن أبي داود برقم (‬
‫‪ )4767‬وسنن النسائي (‪.)119 /7‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬السهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5058‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )6933 ، 3610‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1064‬وسنن النسائي الكبرى‬
‫برقم (‪.)8560‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)5059‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )7560 ، 5427‬وصحيح مسلم برقم (‪ )797‬وسنن أبي داو د برقم (‬
‫‪ )4830‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2865‬وسنن النسائي (‪ )124 /8‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)214‬‬
‫(‪ )7‬رواه أحمد في المسند (‪ )268 /5‬والترمذي في السنن برقم (‪ )2911‬من طريق ليث بن أبي‬
‫سليم عن زيد بن أرطأة عن أبي أمامة به مرفوعا ‪ ،‬وقال الترمذي ‪" :‬هذا حديث غريب ل نعرفه‬
‫إل من هذا الوجه"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من ط‪.‬‬

‫( ‪)1/86‬‬

‫والمنافق المشبه بالريحانة التي لها الريح ظاهر وطعمها مر هو المرائي بتلوته ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ع ُه ْم وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلةِ قَامُوا ُكسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ‬
‫‪ { :‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ‬
‫وَل َي ْذكُرُونَ اللّهَ إِل قَلِيل } [النساء ‪.]142 :‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم‬
‫حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عارم ‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد ‪ ،‬عن أبي عمران الجوني ‪ ،‬عن‬
‫جندب بن عبد ال ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬اقرؤوا القرآن ما‬
‫ائتلفت عليه قلوبكم ‪ ،‬فإذا اختلفتم فقوموا [عنه] (‪.)2( " )1‬‬
‫حدثنا عمرو بن علي بن بحر الفلس ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬حدثنا سلم بن أبي مطيع ‪،‬‬
‫عن أبي عمران الجوني ‪ ،‬عن جُنْدُب قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬اقرؤوا القرآن‬
‫ما ائتلفت عليه قلوبكم ‪ ،‬فإذا اختلفتم فقوموا [عنه] (‪.)4( " )3‬‬
‫تابعه الحارث بن عُبَيْد وسعيد بن زيد ‪ ،‬عن أبي عمران ‪ ،‬ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان‪.‬‬
‫وقال غُ ْندَر ‪ :‬عن شعبة ‪ ،‬عن أبي عمران قال ‪ :‬سمعت جُنْدُبا‪ .‬قوله ‪ :‬وقال ابن عون ‪ ،‬عن أبي‬
‫عمران ‪ ،‬عن عبد ال بن الصامت ‪ ،‬عن عمر قوله‪ .‬وجندب أصح وأكثر (‪.)6( )5‬‬
‫وقد رواه في موضع آخر ‪ ،‬ومسلم كلهما عن إسحاق بن منصور ‪ ،‬عن عبد الصمد ‪ ،‬عن‬
‫همام ‪ ،‬عن أبي عمران به (‪ )7‬ومسلم ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن يحيى بن يحيى ‪ ،‬عن الحارث بن عبيد أبي‬
‫قدامة ‪ ،‬عن أبي عمران به ‪ ،‬ورواه مسلم ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن أحمد بن سعيد ‪ ،‬عن حبان بن هلل ‪،‬‬
‫عن أبان العطار ‪ ،‬عن أبي عمران به مرفوعا (‪.)8‬‬
‫وقد حكى البخاري ‪ :‬أن أبان وحماد بن سلمة لم يرفعاه ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫ورواه النسائي والطبراني من حديث مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬عن هارون بن موسى العور النحوي ‪،‬‬
‫عن أبي عمران به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط والبخاري‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)5060‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من البخاري‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)5061‬‬
‫(‪ )5‬في النسخ ‪" :‬أكثر وأصح" والتصويب من البخاري‪.‬‬
‫(‪ )6‬قال الحافظ ابن حجر ‪" :‬أي أصح سندًا وأكثر طرقًا وهو كما قال ‪ ،‬فإن الجم الغفير رواه عن‬
‫أبي عمران عن جندب إل أنهم اختلفوا عليه في رفعه ووقفه ‪ ،‬والذين رفعوه ثقات حفاظ فالحكم‬
‫لهم ‪ ،‬وأما رواية ابن عون فشاذة لم يتابع عليها"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )7365‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2667‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)2667‬‬

‫( ‪)1/87‬‬

‫ورواه النسائي ‪ -‬أيضا ‪ -‬من طرق عن سفيان ‪ ،‬عن حجاج بن فرافصة ‪ ،‬عن أبي عمران به‬
‫مرفوعا (‪ )1‬وفي رواية عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن سفيان عن حجاج ‪،‬‬
‫عن أبي عمران ‪ ،‬عن جُنْدُب موقوفا ‪ ،‬ورواه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬عن إسحاق‬
‫الزرق ‪ ،‬عن عبد ال بن عون ‪ ،‬عن أبي عمران ‪ ،‬عن عبد ال بن الصامت ‪ ،‬عن عمر قوله‪.‬‬
‫قال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬لم يخطئ ابن عون في حديث قط إل في هذا ‪ ،‬والصواب عن جندب‪.‬‬
‫[ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن مسلم بن إبراهيم وسعيد بن منصور قال حدثنا‬
‫الحارث بن عبيد ‪ ،‬عن أبي عمران ‪ ،‬عن جندب مرفوعا] (‪.)3( )2‬‬
‫فهذا مما تيسر من ذكر طرق هذا الحديث على سبيل الختصار ‪ ،‬والصحيح منها ما أرشد إليه‬
‫شيخ هذه الصناعة (‪ )4‬أبو عبد ال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬من أن الكثر والصح ‪ :‬أنه عن‬
‫جندب بن عبد ال مرفوعا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومعنى الحديث أنه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أرشد وحض أمته على تلوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة‬
‫على تلوته ‪ ،‬متفكرة فيه ‪ ،‬متدبرة له ‪ ،‬ل في حال شغلها ومللها ‪ ،‬فإنه ل يحصل المقصود من‬
‫التلوة بذلك كما ثبت في الحديث أنه قال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬اكلفوا من العمل ما تطيقون ‪،‬‬
‫فإن ال ل يمل حتى تملوا (‪ )5‬وقال ‪ " :‬أحب العمال إلى ال ما داوم عليه صاحبه وإن قل " ‪،‬‬
‫وفي اللفظ الخر ‪ " :‬أحب العمال إلى ال أدومها [وإن قل] (‪.)7( " )6‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا سليمان بن حرب ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن عبد الملك بن ميسرة ‪ ،‬عن النزال‬
‫ابن سبرة ‪ ،‬عن عبد ال ‪ -‬هو ابن مسعود ‪ " -‬أنه سمع رجل يقرأ آية سمع النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم خلفها ‪ ،‬فأخذت بيده فانطلقت إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬كلكما محسن فاقرآ"‬
‫أكبر علمي قال ‪" :‬فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم ال عز وجل" "‪.‬‬
‫وأخرجه النسائي من رواية شعبة به (‪ )8‬وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه ‪ ،‬وأنه ينهى عن‬
‫الختلف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقريب من هذا ما رواه عبد ال بن المام أحمد في مسند أبيه ‪ :‬حدثنا أبو محمد سعيد بن محمد‬
‫الجرمي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن سعيد الموي ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن زر بن حبيش قال ‪:‬‬
‫قال عبد ال بن مسعود ‪ :‬تمارينا في سورة من القرآن فقلنا ‪ :‬خمس وثلثون آية ‪ ،‬ست وثلثون‬
‫آية قال ‪ :‬فانطلقنا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8096‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الكبير (‪.)163 /2‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬البضاعة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )43‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ )785‬من حديث عائشة‬
‫رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ط ‪ ،‬م‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )782‬من حديث عائشة رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪ )5062‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8095‬‬

‫( ‪)1/88‬‬

‫إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فوجدنا عليا بناصية فقلنا له ‪ :‬اختلفنا في القراءة ‪ ،‬فاحمر‬
‫وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال علي ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمركم أن‬
‫تقرؤوا كما قد علمتم (‪.)1‬‬
‫وهذا آخر ما أورده البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في كتاب (‪ )2‬فضائل القرآن ‪ ،‬جل منزله ‪ ،‬وتعالى‬
‫قائله ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زوائد المسند (‪.)106 ، 105 /1‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬كتابه"‪.‬‬

‫( ‪)1/89‬‬

‫كتاب الجامع‬
‫لحاديث شتى تتعلق بتلوة القرآن‬
‫وفضائله وفضل أهله‬
‫فصل‬
‫قال أحمد ‪ :‬حدثنا معاوية بن هشام ‪ ،‬حدثنا شيبان ‪ ،‬عن فراس ‪ ،‬عن عطية ‪ ،‬عن أبي سعيد قال ‪:‬‬
‫قال نبي ال عليه الصلة والسلم (‪ " )1‬يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة ‪ :‬اقرأ واصعد ‪ ،‬فيقرأ‬
‫ويصعد بكل آية درجة ‪ ،‬حتى يقرأ آخر شيء معه " (‪.)2‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا أبو عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا حَ ْيوَة ‪ ،‬حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولني ؛ أن‬
‫الوليد بن قيس التجيبي حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ‪ " :‬يكون خلف من بعد الستين سنة ‪ ،‬أضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون‬
‫غيا ‪ ،‬ثم يكون خلف يقرؤون القرآن ل يعدو تراقيهم ‪ ،‬ويقرأ القرآن ثلثة ‪ :‬مؤمن ومنافق وفاجر‬
‫"‪.‬‬
‫قال بشير ‪ :‬فقلت للوليد ‪ :‬ما هؤلء الثلثة ؟ قال ‪ :‬المنافق كافر به ‪ ،‬والفاجر يَتَأكّل به ‪ ،‬والمؤمن‬
‫يؤمن به (‪.)3‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا حجاج ‪ ،‬حدثنا الليث ‪ ،‬حدثني يزيد بن أبي حبيب ‪ ،‬عن أبي الخير ‪ ،‬عن أبي‬
‫الخطاب ‪ ،‬عن أبي سعيد أنه قال ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم عام تبوك خطب الناس‬
‫وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال ‪ " :‬أل أخبركم بخير الناس وشر الناس ؛ إن من خير الناس رجل‬
‫عمل في سبيل ال على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت ‪ ،‬وإن‬
‫من شر الناس رجل فاجرا جريئا يقرأ كتاب ال ‪ ،‬ل يرعوي إلى شيء منه " (‪.)4‬‬
‫قال الحافظ أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي ‪ ،‬حدثنا الحسين بن عبد‬
‫الول ‪ ،‬حدثنا محمد بن الحسن الهمداني ‪ ،‬عن عمرو بن قيس ‪ ،‬عن عطية ‪ ،‬عن أبي سعيد قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬يقول ال تعالى ‪ :‬من شغله قراءة القرآن عن دعائي‬
‫أعطيته أفضل ثواب السائلين "‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في طـ ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)40 /3‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)38 /3‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)58 ، 37 /3‬‬

‫( ‪)1/89‬‬

‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن فضل كلم ال على سائر الكلم كفضل ال على خلقه‬
‫" ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬تفرد به محمد بن الحسن ولم يتابع عليه (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو عبيدة الحداد ‪ ،‬حدثني عبد الرحمن بن بُدَيْل بن ميسرة ‪ ،‬حدثني‬
‫أبي ‪ ،‬عن أنس بن مالك قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن ل أهْلِين من الناس"‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬من هم يا رسول ال ؟ قال ‪" :‬أهْل القرآن هم أهل ال وخاصته" " (‪.)2‬‬
‫وقال أبو القاسم الطبراني ‪ :‬حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ‪ ،‬حدثنا خالد بن خِدَاش ‪،‬‬
‫حدثنا جعفر بن سليمان ‪ ،‬عن ثابت ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ :‬كان إذا ختم القرآن‬
‫جمع أهله وولده فدعا لهم (‪.)3‬‬
‫وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني ‪ :‬حدثنا عبد ال بن أحمد بن حنبل ‪ ،‬حدثنا محمد بن عباد‬
‫المكي ‪ ،‬حدثنا حاتم بن إسماعيل عن شريك ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن يزيد بن أبان ‪ ،‬عن الحسن ‪،‬‬
‫عن أنس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬القرآن غنى ل فقر بعده ول غنى دونه " (‬
‫‪.)4‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا سلمة بن شبيب ‪ ،‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن‬
‫المحرر ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬لكل شيء حلية ‪،‬‬
‫وحلية القرآن الصوت الحسن " (‪ .)5‬ابن المحرر ضعيف‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا حسن ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثنا بكر بن سوادة ‪ ،‬عن وفاء الخولني ‪،‬‬
‫عن أنس بن مالك قال ‪ :‬بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والسود والبيض ‪ ،‬إذ خرج علينا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ " :‬أنتم في خير تقرؤون كتاب ال وفيكم رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح ‪ ،‬يتعجلون أجورهم ول‬
‫يتأجلونها " (‪.)6‬‬
‫وقد رواه المام أحمد ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن حسن ‪ ،‬عن ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن بكر ‪ ،‬عن وفاء ‪ ،‬عن سهل بن‬
‫سعد ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم فذكره (‪.)7‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا يوسف بن موسى ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن الجهم ‪ ،‬حدثنا عمرو بن‬
‫أبي قيس ‪ ،‬عن عبد ربه بن عبد ال ‪ ،‬عن عمر بن نبهان ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن أنس ؛ أن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره ‪ ،‬والبيت الذي ل يقرأ فيه‬
‫القرآن يقل خيره " (‪.)8‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى ‪ :‬حدثنا الفضل بن الصباح ‪ ،‬حدثنا أبو عبيدة ‪ ،‬عن محتسب ‪ ،‬حدثني يزيد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الترمذي في السنن برقم (‪ )2926‬من طريق محمد بن الحسن الهمداني به ‪ ،‬وقال‬
‫الترمذي ‪" :‬هذا حديث حسن غريب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)128 /3‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الكبير (‪ )242 /1‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )172 /7‬رجاله ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المعجم الكبير (‪ )255 /1‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )158 /7‬رواه أبو يعلى وفيه يزيد بن‬
‫أبان الرقاشي وهو ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )5‬مسند البزار برقم (‪" )2330‬كشف الستار"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)146 /3‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)338 /5‬‬
‫(‪ )8‬مسند البزار برقم (‪" )2321‬كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )171 /7‬فيه عمر‬
‫بن نبهان ضعيف"‪.‬‬

‫( ‪)1/90‬‬

‫الرقاشي ‪ ،‬عن أنس قال ‪ :‬قعد أبو موسى في بيت واجتمع إليه ناس ‪ ،‬فأنشأ يقرأ عليهم القرآن ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬أفتستطيع أن تقعدني حيث ل يراني منهم أحد ؟"‪.‬‬
‫قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم فأقعده الرجل حيث ل يراه منهم أحد ‪،‬‬
‫فسمع قراءة أبي موسى فقال ‪ " :‬إنه ليقرأ على مزمار من مزامير داود ‪ ،‬عليه السلم " (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا مصعب بن سلم ‪ ،‬حدثنا جعفر ‪ -‬هو ابن محمد بن علي بن الحسين ‪-‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال قال ‪ " :‬خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فحمد ال وأثنى‬
‫عليه بما هو له أهل ‪ ،‬ثم قال ‪" :‬أما بعد ‪ ،‬فإن أصدق الحديث كتاب ال ‪ ،‬وإن أفضل الهدي هدي‬
‫محمد ‪ ،‬وشر المور محدثاتها ‪ ،‬وكل بدعة ضللة" ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ‪ ،‬ويشتد غضبه‬
‫إذا ذكر الساعة ‪ ،‬كأنه منذر جيش‪ .‬قال ‪ :‬ثم يقول ‪" :‬أتتكم الساعة هكذا ‪ -‬وأشار بأصبعيه السبابة‬
‫والوسطى ‪ -‬صبحتكم الساعة ومستكم ‪ ،‬من ترك مال فلهله ‪ ،‬ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليّ‬
‫وعليّ " (‪.)2‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الوهاب ‪ -‬يعني ابن عطاء ‪ -‬أنبأنا أسامة بن زيد الليثي ‪ ،‬عن‬
‫محمد بن الم ْنكَدِر ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال قال ‪ " :‬دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم المسجد ‪،‬‬
‫فإذا قوم يقرؤون القرآن فقال ‪" :‬اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬من قبل أن يأتي‬
‫بقوم يقيمونه إقامة القدح ‪ ،‬يتعجلونه ول يتأجلونه" (‪.)3‬‬
‫قال أحمد ‪ -‬أيضا ‪ : -‬حدثنا خلف بن الوليد ‪ ،‬حدثنا خالد ‪ ،‬حدثنا حميد العرج ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫المنكدر ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال قال ‪ " :‬خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم ونحن نقرأ‬
‫القرآن ‪ ،‬وفينا العجمي والعرابي قال ‪ :‬فاستمع فقال ‪" :‬اقرؤوا فكل حسن ‪ ،‬وسيأتي قوم يقيمونه‬
‫كما يقام القدح ‪ ،‬يتعجلونه ول يتأجلونه" (‪.)4‬‬
‫وقال أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلء ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن الجلح ‪ ،‬عن العمش‬
‫‪ ،‬عن المعلى الكندي ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود قال ‪ " :‬إن هذا القرآن شافع مشفع ‪ ،‬من اتبعه قاده‬
‫إلى الجنة ‪ ،‬ومن تركه أو أعرض عنه ‪ -‬أو كلمة نحوها ‪ -‬زج في قفاه إلى النار " (‪ .)5‬وحدثنا‬
‫أبو كريب ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن الجلح ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي سفيان ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم بنحوه (‪.)6‬‬
‫قال الحافظ أبو يعلى ‪ :‬حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن مروان أبو صخر ‪ ،‬حدثني بكر بن يونس ‪،‬‬
‫عن موسى بن علي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير اليمامي ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ؛ أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من قرأ ألف آية كتب ال له قنطارا ‪ ،‬والقنطار مائة رطل‬
‫‪ ،‬والرطل اثنتا عشرة أوقية ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬مسند أبي يعلى (‪ )135 - 133 /7‬وفيه يزيد الرقاشي ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)310 /3‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪)357 /3‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)397 /3‬‬
‫(‪ )5‬مسند البزار برقم (‪" )121‬كشف الستار"‪.‬‬
‫(‪ )6‬مسند البزار برقم (‪" )122‬كشف الستار"‪.‬‬

‫( ‪)1/91‬‬

‫والوقية ستة دنانير ‪ ،‬والدينار أربعة وعشرون قيراطا ‪ ،‬والقيراط مثل أحُد ‪ ،‬ومن قرأ ثلثمائة آية‬
‫قال ال لملئكته ‪ :‬نصب عبدي لي ‪ ،‬أشهدكم يا ملئكتي أنّي قد غفرت له ‪ ،‬ومن بلغه عن ال‬
‫فضيلة فعمل بها إيمانا به ورجاء ثوابه ‪ ،‬أعطاه ال ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك " (‪.)1‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن قابوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ " :‬إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب " (‪.)2‬‬
‫قال البزار ‪ :‬ل نعلمه يروى عن ابن عباس إل من هذا الوجه‪.‬‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثني أبي قال ‪ :‬وجدت في كتاب أبي‬
‫بخطه عن عمران بن أبي عمران ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬من اتبع كتاب ال هداه ال من الضللة ‪ ،‬ووقاه سوء الحساب يوم القيامة‬
‫شقَى } [طه ‪.)3( " ]123 :‬‬
‫ل وَل َي ْ‬
‫ضّ‬‫‪ ،‬وذلك أن ال عز وجل يقول ‪َ { :‬فمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَل َي ِ‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن عمرو بن‬
‫دينار ‪ ،‬عن طاووس ‪ ،‬عن ابن عباس ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬إن أحسن‬
‫الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به " (‪.)4‬‬
‫وقال ‪ -‬أيضا ‪ : -‬حدثنا أبو يزيد القراطيسي ‪ ،‬حدثنا نعيم بن حماد ‪ ،‬حدثنا عبدة بن سليمان ‪ ،‬عن‬
‫سعيد أبي سعد البقال ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫" أحسنوا الصوات بالقرآن " (‪.)5‬‬
‫وروى ‪ -‬أيضا ‪ -‬بسنده إلى الضحاك عن ابن عباس مرفوعا ‪ " :‬أشرف أمتي حملة القرآن " (‬
‫‪.)6‬‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا معاذ بن المثنى ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن أبي سويد الذارع (‪ )7‬حدثنا صالح‬
‫المرى ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال ‪ " :‬سأل رجل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم فقال ‪ :‬أي العمال أحب إلى ال ؟ فقال ‪" :‬الحال المرتحل"‪ .‬قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما‬
‫الحال المرتحل ؟ قال ‪" :‬صاحب القرآن يضرب في أوله حتى يبلغ آخره ‪ ،‬وفي آخره حتى يبلغ‬
‫أوله" " (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬معجم الشيوخ لبي يعلى (‪ )74‬وإسناده ضعيف لعلتين ‪ :‬العلة الولى ‪ :‬ضعف بكر بن يونس‬
‫‪ ،‬والعلة الثانية ‪ :‬النقطاع بين يحيى ابن أبي كثير وجابر‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)223 /1‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الكبير (‪ )48 /12‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )169 /1‬فيه أبو شيبة وهو ضعيف‬
‫جدآ"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المعجم الكبير (‪.)7 /11‬‬
‫(‪ )5‬المعجم الكبير (‪ )18 /12‬وأبو سعد البقال ضعيف ‪ ،‬والضحاك لم يسمع من ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )6‬المعجم الكبير (‪ )125 /12‬من طريق سعد الجرجاني عن نهشل ‪ -‬وكلهما ضعيف ‪ -‬عن‬
‫الضحاك به‪.‬‬
‫(‪ )7‬فى ط ‪" :‬الزرع"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المعجم الكبير (‪ )168 /12‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )568 /1‬من طريق صالح المري‬
‫به ‪ ،‬وقال ‪" :‬تفرد به صالح المري ‪ ،‬وهو من زهاد أهل البصرة"‪ .‬وتعقبه الذهبي فقال ‪" :‬صالح‬
‫متروك"‪.‬‬

‫( ‪)1/92‬‬

‫ذكر الدعاء المأثور‬


‫لحفظ القرآن وطرد النسيان‬
‫قال [الحافظ] (‪ )1‬أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ‪ :‬حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ‪،‬‬
‫حدثنا هشام بن عمار ‪ ،‬حدثنا محمد بن إبراهيم القرشي ‪ ،‬حدثنى أبو صالح وعكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس قال ‪ " :‬قال علي بن أبي طالب ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬القرآن يتفلت من صدري ‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أعلّمك كلمات ينفعك ال بهن وينفع من علمته"‪ .‬قال ‪ :‬قال ‪ :‬نعم بأبي‬
‫وأمي ‪ ،‬قال ‪" :‬صلّ ليلة الجمعة أربع ركعات تقرأ في الولى بفاتحة الكتاب ويس ‪ ،‬وفي الثانية‬
‫بفاتحة الكتاب وحم الدخان ‪ ،‬وفي الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة ‪ ،‬وفي الرابعة بفاتحة‬
‫الكتاب وتبارك المفصل ‪ ،‬فإذا فرغت من التشهد فاحمد ال واثن عليه ‪ ،‬وصل على النبيين ‪،‬‬
‫واستغفر للمؤمنين ‪ ،‬ثم قل ‪ :‬اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني ‪ ،‬وارحمني من أن‬
‫أتكلف ما ل يعنيني ‪ ،‬وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني ‪ ،‬اللهم بديع السماوات والرض ‪،‬‬
‫ذا الجلل والكرام والعزة التي ل ترام ‪ ،‬أسألك يا ال يا رحمن بجللك ونور وجهك أن تلزم‬
‫قلبي حفظ (‪ )2‬كتابك كما علمتني ‪ ،‬وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني ‪ ،‬وأسألك أن‬
‫تنور بالكتاب بصري ‪ ،‬وتطلق به لساني ‪ ،‬وتفرج به عن قلبي ‪ ،‬وتشرح به صدري ‪ ،‬وتستعمل‬
‫به بدني ‪ ،‬وتقويني على ذلك وتعينني على ذلك (‪ )3‬فإنه ل يعينني على الخير غيرك ‪ ،‬ول يوفق‬
‫له إل أنت ‪ ،‬فافعل ذلك ثلث جمع أو خمسا أو سبعا تحفظه بإذن ال وما أخطأ مؤمنا قط"‪ .‬فأتى‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بعد ذلك بسبع فأخبره بحفظ القرآن والحديث ‪ ،‬فقال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬مؤمن ورب الكعبة" ‪ ،‬علم أبو الحسن (‪ )4‬علم أبو الحسن (‪ " )5‬هذا سياق الطبراني‬
‫(‪.)6‬‬
‫وقال أبو عيسى الترمذي في كتاب الدعوات ‪ :‬حدثنا أحمد بن الحسن ‪ ،‬حدثنا سليمان بن عبد‬
‫الرحمن الدمشقي ‪ ،‬حدثنا الوليد بن مسلم ‪ ،‬حدثنا ابن جريج ‪ ،‬عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة‬
‫مولى ابن عباس ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ " :‬بينما نحن عند رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ‬
‫جاءه علي بن أبي طالب فقال ‪ :‬بأبي أنت وأمي ‪ ،‬تفلت هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدر‬
‫عليه ‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا أبا الحسن ‪ ،‬أفل أعلمك كلمات ينفعك ال بهن‬
‫‪ ،‬وينفع بهن من علمته ‪ ،‬ويثبت ما تعلمت في صدرك ؟" قال ‪ :‬أجل يا رسول ال ‪ ،‬فعلمني ‪ ،‬قال‬
‫‪" :‬إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الخر فإنها ساعة مشهودة ‪ ،‬والدعاء‬
‫س ْوفَ َأسْ َت ْغفِرُ َل ُكمْ رَبّي } [يوسف ‪ ، ]98 :‬يقول ‪:‬‬
‫فيها مستجاب ‪ ،‬وقد قال أخي يعقوب لبنيه ‪َ { :‬‬
‫حتى تأتي ليلة الجمعة ‪ ،‬فإن لم تستطع فقم في وسطها ‪ ،‬فإن لم تستطع فقم في أولها فصل أربع‬
‫ركعات ‪ ،‬تقرأ في الركعة الولى بفاتحة الكتاب وسورة يس ‪ ،‬وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب‬
‫وحم الدخان ‪ ،‬وفي الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة ‪ ،‬وفي الركعة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في المعجم الكبير ‪" :‬حب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في المعجم الكبير ‪" :‬عليه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في المعجم الكبير ‪" :‬أبا حسن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في المعجم الكبير ‪" :‬أبا حسن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المعجم الكبير (‪ )367 /11‬ورواه من طريق ابن الجوزي في الموضوعات (‪ )138 /2‬وقال‬
‫‪" :‬هذا حديث ل يصح ‪ ،‬ومحمد بن إبراهيم مجروح ‪ ،‬وأبو صالح ل نعلمه إل إسحاق بن نجيح‬
‫وهو متروك"‪.‬‬
‫( ‪)1/93‬‬

‫الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل ‪ ،‬فإذا فرغت من التشهد ‪ ،‬فاحمد ال وأحسن الثناء على ال‬
‫‪ ،‬وصل عليّ وأحسن وعلى سائر النبيين ‪ ،‬واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ‪ ،‬ولخوانك الذين‬
‫سبقوك باليمان ‪ ،‬ثم قل في آخر ذلك ‪ :‬اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني ‪ ،‬وارحمني‬
‫أن أتكلف ما ل يعنيني ‪ ،‬وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني ‪ ،‬اللهم بديع السماوات والرض‬
‫‪ ،‬ذا الجلل والكرام والعزة التي ل ترام ‪ ،‬أسألك يا أل يا رحمن بجللك ونور وجهك أن تلزم‬
‫قلبي حفظ كتابك كما علمتني ‪ ،‬وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني ‪ ،‬اللهم بديع‬
‫السماوات والرض ذا الجلل والكرام والعزة التي ل ترام ‪ ،‬أسألك يا ال يا رحمن بجللك ونور‬
‫وجهك ‪ ،‬أن تنور بكتابك بصري ‪ ،‬وأن تطلق به لساني ‪ ،‬وأن تفرج به عن قلبي ‪ ،‬وأن تشرح به‬
‫صدري ‪ ،‬وأن تغسل به بدني ‪ ،‬فإنه ل يعينني على الحق غيرك ول يؤتيه إل أنت ‪ ،‬ول حول ول‬
‫قوة إل بال العلي العظيم ‪ ،‬يا أبا الحسن ‪ ،‬تفعل ذلك ثلث جمع أو خمسا أو سبعا تجاب بإذن ال‬
‫تعالى ‪ ،‬والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمنا قط"‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬فوال ما لبث عليّ إل خمسا أو‬
‫سبعا حتى جاء [عليّ] (‪ )1‬رسول ال صلى ال عليه وسلم في مثل ذلك المجلس ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬وال إني كنت فيما خل ل آخذ إل أربع آيات أو نحوهن ‪ ،‬فإذا قرأ ُتهُن على نفسي‬
‫َتفَلّتْنَ وأنا أتعلّم اليوم أربعين آية أو نحوها ‪ ،‬فإذا قرأتها على نفسي فكأنما كتاب ال بين عَيْنِي ‪،‬‬
‫ولقد كنت أسمع الحديث ‪ ،‬فإذا َردّدْتُه َتفَلّت ‪ ،‬وأنا اليوم أسمع الحاديث ‪ ،‬فإذا تحدثتُ بها لم أخْرِم‬
‫منها حرفا ‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم عند ذلك ‪" :‬مؤمن ورب الكعبة يا أبا‬
‫الحسن"‪.‬‬
‫ثم قال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن غريب ل نعرفه إل من حديث الوليد بن مسلم‪ .‬كذا قال ‪ ،‬وقد‬
‫تقدم من غير طريقه‪ .‬ورواه الحاكم في مستدركه من طريق الوليد ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬على شرط الشيخين‬
‫حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج ‪ ،‬فال أعلم ‪ -‬فإنه في المتن غرابة بل نكارة (‪ )2‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا العمري ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬مثل القرآن مثل البل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها ‪ ،‬وإن تركها‬
‫ذهبت "‪.‬‬
‫ورواه ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن محمد بن عبيد ويحيى بن سعيد ‪ ،‬عن عبيد ال العمري به (‪.)3‬‬
‫ورواه ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر مرفوعًا‬
‫نحوه (‪.)4‬‬
‫وقال البزار ‪ :‬حدثنا محمد بن معمر ‪ ،‬حدثنا حميد بن حماد بن أبي الحوار ‪ ،‬حدثنا مِسْعر ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن دينار ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أي الناس أحسن‬
‫قراءة ؟ قال ‪" :‬من إذا سمعته يقرأ رؤيت أنه يخشى ال ‪ ،‬عز وجل" (‪.)5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من الترمذي‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪ )3570‬والمستدرك (‪ )317 ، 316 /1‬وأعل بثلث علل ‪ :‬الولى ‪:‬‬
‫عنعنة ابن جريج‪ .‬الثانية ‪ :‬تدليس بقية فإنه يدلس تدليس التسوية‪ .‬الثالثة ‪ :‬سليمان الدمشقي تكلم‬
‫فيه من جهة حفظه‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)30 ، 17 /2( ، )23 /2‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)35 /2‬‬
‫(‪ )5‬مسند البزار برقم (‪" )2336‬كشف الستار" وفيه حماد بن حميد ضعيف‪.‬‬

‫( ‪)1/94‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن زر ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫عمرو ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬يقال لصاحب القرآن ‪ :‬اقرأ وا ْرقَ ورَتّل كما كنت‬
‫ترتل في الدنيا ‪ ،‬فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " (‪.)1‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا حسن ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثني حيي بن عبد ال ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن‬
‫الحبلي ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو قال ‪ :‬جاء رجل إلى النبي (‪ )2‬صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬إني أقرأ القرآن فل أجد قلبي يعقل عليه ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬‬
‫إن قلبك حُ ِثيَ اليمان ‪ ،‬وإن العبد يعطى اليمان قبل القرآن " (‪.)3‬‬
‫وبهذا السناد ‪ :‬أن رجل جاء بابن له فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن ابني هذا يقرأ المصحف بالنهار‬
‫ويبيت بالليل ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ما تنقم أن ابنك يظل ذاكرا ويبيت سالما "‬
‫(‪.)4‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا موسى بن داود ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن حيي ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن عمرو ‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬يقول الصيام ‪ :‬أي رب ‪ ،‬منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ‪ ،‬ويقول القرآن ‪:‬‬
‫منعته النوم بالليل فشفعني فيه " ‪ ،‬قال ‪" :‬فيشفعان" (‪.)5‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا حسن ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثنا دراج ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن جبير ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن عمرو قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬أكثر منافقي أمتي قراؤها " (‬
‫‪.)6‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثني همام ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال بن الشخير ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن عمرو قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬من قرأ القرآن في أقل من ثلث لم‬
‫يفقه "‪.‬‬
‫ورواه ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن غُنْدَر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن قتادة به (‪ .)7‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫وقال أبو القاسم الطبراني ‪ :‬حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عيسى بن‬
‫يونس ‪ ،‬ويحيى بن أبي الحجاج التميمي ‪ ،‬عن إسماعيل بن رافع ‪ ،‬عن إسماعيل بن عبيد ال بن‬
‫أبي المهاجر ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من قرأ‬
‫القرآن فكأنما اس ُتدْرِجَت النب ّوةُ بين جنبيهِ ‪ ،‬غير أنه ل يُوحَى إليه ‪ ،‬ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدًا‬
‫صغّر ما عظّم ال ‪ ،‬وليس ينبغي لحامل‬
‫صغّر ال ‪ ،‬و َ‬
‫طىَ فقد عَظّم ما َ‬
‫ى أفضلَ مما أُعْ ِ‬
‫طَ‬‫أُعْ ِ‬
‫سفَه فيمن يسفه ‪ ،‬أو َي ْغضَب فيمن َي ْغضَب ‪ ،‬أو يَحْتَدّ فيمن يَحْتَدّ ‪ ،‬ولكن يعفو ويصفح ‪،‬‬
‫القرآن أن َي ْ‬
‫لِفضل القرآن " (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند ( ‪.)192 /2‬‬
‫(‪ )2‬في مسند أحمد ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)172 /2‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)173 /2‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)174 /2‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)175 /2‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)195 ، 193 ، 164 /2‬‬
‫(‪ )8‬قال الهيثمي في المجمع (‪" : )159 /7‬فيه إسماعيل بن رافع وهو متروك"‪.‬‬

‫( ‪)1/95‬‬

‫حسَن ‪ ،‬عن‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ‪ ،‬حدثنا عباد بن ميسرة ‪ ،‬عن ال َ‬
‫أبي هُرَيرةَ ؛ أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من استمع إلى آية من كتاب ال كُتِ َبتْ له‬
‫حسنةٌ مضاعفةٌ ‪ ،‬ومن تلها كانت له نورًا يوم القيامة " (‪.)1‬‬
‫وقال البزار ‪ :‬حدثنا محمد بن حرب ‪ ،‬حدثنا يحيى بن المتوكل ‪ ،‬حدثنا عَنْبَسة بن مهْران عن‬
‫سعِيدٍ وأبي سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬مراءٌ‬
‫الزهري ‪ ،‬عن َ‬
‫في القرآن كفرٌ "‪ .‬ثم قال ‪ :‬عنبسة ‪ :‬هذا ليس بالقويّ‪ .‬وعنده فيه إسناد آخر (‪.)2‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى ‪ :‬حدثنا أبو بكر ‪ ،‬حدثنا ابن إدريس ‪ ،‬حدثنا المقبري ‪ ،‬عن جدّه ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه (‪.)4( " )3‬‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا موسى بن حازم الصبهاني ‪ ،‬حدثنا محمد بن بكير الحضرمي ‪ ،‬حدثنا‬
‫إسماعيل بن عَيّاشٍ ‪ ،‬عن يحيى بن الحارث الذّماري ‪ ،‬عن القاسم أبي عبد الرحمن ‪ ،‬عن فضالة‬
‫بن عُبَيد ‪ ،‬و َتمِيمٍ الداريّ ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من قرأ عشر آيات في ليلة كُتِب‬
‫له قنطار ‪ ،‬والقنطار خير من الدنيا وما فيها ‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة يقول ربك ‪ ،‬عز وجل ‪ :‬اقرأ‬
‫وارق بكل آية درجة حتى ينتهي إلى آخر آية معه ‪ ،‬يقول ربك ‪ :‬اقبض ‪ ،‬فيقول العبد بيده ‪ :‬يا‬
‫رب أنت أعلم‪ .‬فيقول ‪ :‬بهذه الخلد وبهذه النعيم " (‪.)5‬‬
‫وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة معقس بن عمران بن حطان قال ‪ :‬قال ‪ :‬دخلت مع أبي‬
‫على أم الدرداء ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬فسألها أبي ‪ :‬ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأ ؟ قالت‬
‫جعِلت دَرَجُ الجنة على عدد آي القرآن ‪ ،‬فمن (‪ )6‬قرأ ثلث القرآن ثم‬
‫‪ :‬حدثتني عائشة قالت ‪ُ :‬‬
‫دخل الجنة كان على الثلث من دَرَجها ‪ ،‬ومن قرأ نصف القرآن كان على النصف من درَجها ‪،‬‬
‫ومن قرأ كُلّه كان في عِلّيّين ‪ ،‬لم يكن فوقه إل نبي أو صديق أو شهيد (‪.)7‬‬
‫سعْد العطارُ المكي ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن المنذر الحِزَامي ‪،‬‬
‫سعَ َدةُ (‪ )8‬بن َ‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا مَ ْ‬
‫حدثنا إسحاق بن إبراهيم مولى جميع بن حارثة النصاري ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن ماهان الزدي ‪،‬‬
‫حسَين بن علي ‪ ،‬عن أبيها قال ‪:‬‬
‫حدثني فائد مولى عُبَيد ال بن أبي رافع ‪ ،‬حدثتني سُكينة بنت ال ُ‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬حملة القرآن عُرَفاء أهل الجنة يوم القيامة " (‪.)9‬‬
‫وروى الطبراني من حديث بقيّة ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي مريم ‪ ،‬عن المهاصر بن حبيب ‪ ،‬عن‬
‫عبيدة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)341 /2‬‬
‫(‪ )2‬ورواه أبو نعيم في الحلية (‪ )192 /5‬من طريق محمد بن حرب الواسطي به ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫"غريب من حديث مكحول ‪ ،‬لم نكتبه إل من حديث ابن حرب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬غرابته"‪.‬‬
‫(‪ )4‬مسند أبي يعلى (‪ )436 /11‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )163 /7‬فيه عبد ال بن سعيد بن‬
‫أبي سعيد المقبري وهو متروك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المعجم الكبير (‪.)50 /2‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تاريخ دمشق (‪" 10 /17‬المخطوط")‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬مسورة"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المعجم الكبير (‪ )132 /3‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )161 /7‬فيه إسحاق المدني وهو‬
‫ضعيف"‪.‬‬

‫( ‪)1/96‬‬
‫المليكي ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول ‪ " :‬يا أهل القرآن ‪ ،‬ل توسّدوا القرآن‬
‫‪ ،‬واتلوه حَقّ تلوته من آناء الليل والنهار ‪ ،‬وتغنوه وتَقَنّوه ‪ ،‬واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ‪ ،‬ول‬
‫تستعجلوا ثوابه ‪ ،‬فإن له ثَوابَيْن (‪.)2( " )1‬‬
‫وفي حديث عقبة بن عامر نحوه ‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو سعيد ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعَة ‪ ،‬عن مِشْرَحٍ ‪ ،‬عن عقبة بن عامر قال ‪:‬‬
‫جعِل في إهابٍ ثم ألقي في النار ما احترق "‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬لو أن القرآن ُ‬
‫(‪.)3‬‬
‫تفرد به‪ .‬قيل ‪ :‬معناه ‪ :‬أن الجسد الذي يقرأ القرآن [ل تمسه النار] (‪.)4‬‬
‫وفي سُنَن ابن ماجة من طريق المغيرة بن َنهِيكٍ ‪ ،‬عن عقبة بن عامر مرفوعًا ‪ " :‬من تعلم القرآن‬
‫(‪ )5‬ثم تركه فقد عصاني" (‪.)6‬‬
‫وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق ليث ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن أبي سعيد مرفوعًا ‪ " :‬عليك بتقوى‬
‫ال ‪ ،‬فإنها رأس كل خير ‪ ،‬وعليك بالجهاد ‪ ،‬فإنه رهبانية السلم ‪ ،‬وعليك بِ ِذكْ ِر ال وتلوة‬
‫القرآن ‪ ،‬فإنّه نو ٌر لك في الرض وذكرٌ لك في السماء ‪ ،‬واخْزُنْ لسا َنكَ إل من خيرٍ ‪ ،‬فإنّك بذلك‬
‫َتغْلِب الشيطان " (‪.)7‬‬
‫وهكذا أذكُرُ آثارًا مرويّةً عن ابن أمّ عَبْد (‪ )8‬أحدِ قُرّاء القرآن مِنَ الصّحَاب ِة المأمورِ بالتلوة على‬
‫نحوهم (‪)9‬‬
‫روى الطبراني ‪ ،‬عن الدّبَ ِريّ ‪ ،‬عن عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَرٍ ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬قال ابن مسعود‬
‫‪ :‬كل آية في كتاب ال خيرٌ مما في السماء والرض (‪.)10‬‬
‫ومن طريق شعبة ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن مرّة قال ابن مسعود ‪ :‬من أراد العلم فلْيَتَبوّأْ من القرآن‬
‫‪ ،‬فإن فيه علم الولين والخرين (‪.)11‬‬
‫ومن طريق سُفيان وشعبة ‪ ،‬عن ساعد (‪ )12‬بن ُكهَيل ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال قال ‪:‬‬
‫إنّ هذا القرآن ليس فيه حرف إل له ح ّد ‪ ،‬ولكلّ حد َمطْلَعٌ (‪.)13‬‬
‫ومن حديث الثوري ‪ ،‬عن إسماعيل بن أبي خالد (‪ )14‬عن سيار أبي الحكم ‪ ،‬عن ابن مسعودٍ أنه‬
‫قال ‪ :‬أعربوا هذا القرآن فإنه عربيّ ‪ ،‬وسيجيءُ قوم يَ ْثقَفُونه وليسوا بخياركم (‪.)15‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬ثوابا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال الهيثمي في المجمع (‪" : )252 /2‬رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو بكر بن أبي مريم‬
‫وهو ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)151 /4‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬في سنن ابن ماجة ‪" :‬الرمى"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)2814‬‬
‫(‪ )7‬مسند أبي يعلى (‪ )284 /2‬وليث بن أبي سليم ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬عن ابن أم عبد عبد ال بن مسعود"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في طـ ‪" :‬حرفهم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المعجم الكبير (‪.)145 /9‬‬
‫(‪ )11‬المعجم الكبير (‪.)146 /9‬‬
‫(‪ )12‬في ط ‪" :‬سلمة"‪.‬‬
‫(‪ )13‬المعجم الكبير (‪.)146 /9‬‬
‫(‪ )14‬في ط ‪" :‬إسماعيل بن خالد"‪.‬‬
‫(‪ )15‬المعجم الكبير (‪.)150 /9‬‬

‫( ‪)1/97‬‬

‫والثوري ‪ ،‬عن عاصمٍ ‪ ،‬عن زِرّ ‪ ،‬عن ابن مسعود قال ‪ :‬أديموا النظر في المصحف ‪ ،‬وإذا‬
‫اختلفتم في ياءٍ أو تاءٍ فاجعلوها ياء ‪ ،‬ذكّروا القرآن فإنه مذكّر (‪.)1‬‬
‫شدّاد (‪ )2‬بن َم ْعقِل ‪ ،‬سَم ْعتُ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن عبد العزيز بن رفيع ‪ ،‬عن َ‬
‫ابن مسعود يقول ‪ :‬أول ما تفقدونَ من دينكم المانة ‪ ،‬وآخر ما يبقى من دينكم الصلة ‪ ،‬وَلَ ُيصَلّيَنّ‬
‫قومٌ ل خَلقَ لهم ‪ ،‬ولينزعنّ قومٌ من بين أظهركم‪ .‬قالوا ‪ :‬يا أبا عبد الرحمن ‪ ،‬ألسنا نقرأُ القرآن‬
‫وقد أثبتناه في مصاحفنا ؟ قال ‪ُ :‬يسْرَى على القرآن ليل فَيُ ْذ َهبُ به من أجواف الرجال فل يبقى‬
‫في الرض منه شيء ‪ -‬وفي رواية ‪ :‬ل يبقى في مصحف منه شيءٌ ‪ -‬ويصبح الناسُ ُفقَراءَ‬
‫علَيْنَا َوكِيل }‬
‫جدُ َلكَ بِهِ َ‬
‫كالبهائم‪ .‬ثم قرأ عبد ال ‪ { :‬وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ ُثمّ ل تَ ِ‬
‫[السراء ‪.)3( ]86 :‬‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا علي بن عبد العزيز ‪ ،‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثني شعبة ‪ ،‬عن علي بن بذيمةَ‬
‫ث فهو راجز (‪.)5‬‬
‫(‪ )4‬عن أبي عبيدة بن عبد ال ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬من قرأ القرآن في أ َقلّ من ثل ٍ‬
‫قال هشام عن الحسَنِ ‪ :‬إنه بلغه عن ابن مسعود مثلُ ذلك‪.‬‬
‫ومن طريق العمش ‪ ،‬عن أبي وائلٍ قال ‪ :‬كان عبد ال بن مسعود يقل الصوم ‪ ،‬فيقال له في ذلك‬
‫ب إليّ (‪.)6‬‬
‫ضعُ ْفتُ عن القراء ِة والصلة ‪ ،‬والقراءة والصلة أح ّ‬
‫ت َ‬
‫ص ْم ُ‬
‫‪ ،‬فيقول ‪ :‬إني إذا ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير (‪.)152 /9‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬مقداد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المعجم الكبير (‪ )152 /9‬والمصنف لعبد الرزاق (‪.)5980‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬علي بن زيد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المعجم الكبير (‪.)154 /9‬‬
‫(‪ )6‬المعجم الكبير (‪.)195 /9‬‬

‫( ‪)1/98‬‬

‫مقدمة مفيدة‬
‫قال أبو بكر بن النباري ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ‪ ،‬عن حجاج بن مِنْهال ‪ ،‬عن‬
‫همام ‪ ،‬عن قتادة قال ‪ :‬نزل في المدينة من القرآن البقرة ‪ ،‬وآل عمرانَ ‪ ،‬والنساء ‪ ،‬والمائدة ‪،‬‬
‫والنفال ‪ ،‬وبراءة ‪ ،‬والرعد ‪ ،‬والنحل ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والنّور ‪ ،‬والحزاب ‪ ،‬ومحمد ‪ ،‬والفتح ‪،‬‬
‫والحجرات ‪ ،‬والحديد ‪ ،‬والرحمن ‪ ،‬والمجادلة ‪ ،‬والحشر ‪ ،‬والممتحنة ‪ ،‬والصف ‪ ،‬والمنافقون ‪،‬‬
‫والتغابن ‪ ،‬والطلق ‪ ،‬ويا أيها النبي لمَ ُتحَرّم ‪ ،‬وإلى رأس العشر ‪ ،‬وإذا زلزلت ‪ ،‬وإذا جاء نصرُ‬
‫ال‪ .‬هؤلء السور نزلت بالمدينة ‪ ،‬وسائر القرآن نزل بمكة‪.‬‬
‫فأما عدد آيات القرآن فستة آلف آية ‪ ،‬ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال ‪ ،‬فمنهم من لم‬
‫يزد على ذلك ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬ومائتا آية وأربع آيات ‪ ،‬وقيل ‪ :‬وأربع عشرة آية ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫ومائتان وتسع عشرة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ومائتان وخمس وعشرون آية ‪ ،‬وست وعشرون آية ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫ومائتا آية ‪ ،‬وست وثلثون آية‪ .‬حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتاب البيان (‪.)1‬‬
‫وأما كلماته ‪ ،‬فقال الفضل بن شاذان ‪ ،‬عن عطاءِ بن يسار ‪ :‬سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة‬
‫وتسع وثلثون كلمة‪.‬‬
‫وأما حروفُه ‪ ،‬فقال عبد ال بن كثير ‪ ،‬عن مجاهد ‪ :‬هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلثُمائِة ألفِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)65 /1‬‬

‫( ‪)1/98‬‬

‫حرف وواحدٌ وعشرون ألفَ حَ ْرفٍ ومائَ ٌة وثمانونَ حرفًا‪.‬‬


‫وقال الفضل ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ :‬ثلثمائة ألف حرف وثلثة وعشرون ألفًا وخمسة عشر‬
‫حرفًا‪.‬‬
‫وقال سَلم أبو محمد الحمانيّ ‪ :‬إنّ الحجاج جمع القراء والحفاظ والكُتّاب فقال ‪ :‬أخبروني عن‬
‫القرآن كُلّه كم من حرفٍ هو ؟ قال ‪ :‬فحسبناه فأجمعوا أنه ثلثُمائة ألفِ حَرْف وأربعون ألفًا‬
‫وسبعمائة وأربعون حرفًا‪ .‬قال ‪ :‬فأخبروني عن نصفه‪ .‬فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف ‪:‬‬
‫طفْ } [الكهف ‪ ، ]19 :‬وثُلثه الول عند رأس مائة آية من براءة ‪ ،‬والثاني على رأس مائة‬
‫{ وَلْيَتََل ّ‬
‫أو إحدى ومائة من الشعراء ‪ ،‬والثالث إلى آخره‪ .‬وسُ ُبعُه الول إلى الدال من قوله ‪َ { :‬فمِ ْنهُمْ مَنْ‬
‫آمَنَ بِهِ َومِنْهُمْ مَنْ صَدّ عَنْهُ } [النساء ‪ .]55 :‬والسّبُع الثاني إلى الباء من قوله في العراف ‪:‬‬
‫طتْ } [العراف ‪ ، ]147 :‬والثالث إلى اللف الثانية من ‪ُ { :‬أكَُلهَا } في الرعد [الرعد ‪]35 :‬‬
‫{ حَبِ َ‬
‫سكًا } [الحج ‪ ، ]67 :‬والخامس إلى الهاء من‬
‫جعَلْنَا مَ ْن َ‬
‫‪ ،‬والرابع إلى اللف من قوله في الحج ‪َ { :‬‬
‫قوله في الحزاب ‪َ { :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ وَل ُم ْؤمِنَةٍ } [الحزاب ‪ ، ]36 :‬والسادس إلى الواو من‬
‫سوْءِ } [الفتح ‪ ، ]6 :‬والسابع إلى آخر القرآن‪ .‬قال سلم أبو‬
‫قوله في الفتح ‪ { :‬الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ ال ّ‬
‫محمد ‪ :‬عملنا ذلك في أربعة أشهر‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وكان الحجاج يقرأ في كلّ ليلةٍ ربع القرآن ‪ ،‬فالول إلى آخر النعام ‪ ،‬والثاني إلى‬
‫طفْ } [الكهف ‪ ، ]19 :‬والثالث إلى آخر الزمر ‪ ،‬والرابع إلى آخر القرآن‪ .‬وقد ذكر الشيخ‬
‫{ وَلْيَتََل ّ‬
‫أبو عمرو الداني في كتابه البيان خلفًا في هذا كله ‪ ،‬وال أعلم (‪.)1‬‬
‫وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الجزاء من ثلثين كما في الربعات في المدارس وغيرها ‪،‬‬
‫وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن ‪ ،‬والحديث في مسند أحمدَ وسُنَن‬
‫حذَيفة أَنّه سََألَ أصحابَ رسولِ ال صلى ال‬
‫أبي داودَ وابن ماجَهْ وغيرهما (‪ )2‬عن أوس بن ُ‬
‫عليه وسلم في حياته ‪ :‬كيف ُيحَزّبون القرآن ؟ قالوا ‪ :‬ثلث وخمس وسبع وتسع وإحدى عش َرةَ‬
‫وثلثَ عَشْ َرةَ ‪ ،‬وح ْزبُ ال ُمفَصّل من قاف حتى يختم (‪.)3‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬أجمعوا أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب العجمية ؟ وأجمعوا أن فيه أعلمًا‬
‫من العجمية كإبراهيم ونوح ‪ ،‬ولوط ‪ ،‬واختلفوا ‪ :‬هل فيه شيء من غير ذلك بالعجمية ؟ فأنكر‬
‫ذلك الباقلني والطبري وقال ما وقع فيه ما يوافق العجمية ‪ ،‬فهو من باب ما توافقت فيه اللغات‬
‫(‪.)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬تفسير القرطبي (‪.)64 /1‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬غيرهما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )9 /4‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1393‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)438‬‬
‫(‪ )4‬تفسير القرطبي (‪.)68 /1‬‬

‫( ‪)1/99‬‬

‫فصل‬
‫واختلفوا (‪ )1‬في معنى السورة ‪ :‬مِمّ هي مشتقة ؟ فقيل ‪ :‬من البانة والرتفاع‪ .‬قال النابغة ‪:‬‬
‫ألم تر أنّ ال أعطاكَ سو َرةً‪ ...‬تَرَى ُكلّ مَ ْلكٍ دُونها يَتَذَ ْب َذبُ (‪)2‬‬
‫فكأن القارئ يتنقل بها من منزلة إلى منزلة‪ .‬وقيل ‪ :‬لشرفها وارتفاعها كسور البلد‪ .‬وقيل ‪ :‬سميت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬واختلف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬البيت في تفسير الطبري (‪.)105 /1‬‬

‫( ‪)1/99‬‬

‫سُو َر ًة لكونها ِقطْعةً من القرآن وجزءًا منه ‪ ،‬مأخوذ من أسآر الناء وهو البقية ‪ ،‬وعلى هذا فيكون‬
‫أصلها مهموزًا ‪ ،‬وإنما خففت فأبدلت الهمزة واوًا لنضمام ما قبلها‪ .‬وقيل ‪ :‬لتمامها وكمالها لن‬
‫العرب يسمون الناقة التامة سُو َرةً‪.‬‬
‫سمّي سورُ البلد لحاطته بمنازِلِه‬
‫قلت ‪ :‬ويحتمل أن يكون من الجمع والحاطة لياتها كما ُ‬
‫ودُورِه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سوْرَات‪.‬‬
‫سوَرٌ بفتح الواو ‪ ،‬وقد تُجمع (‪ )1‬على سُورَاتٍ و ُ‬
‫وجمع السورة ُ‬
‫وأما الية فمن العلمَةِ على انقطاع الكلم الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصاله ‪ ،‬أي ‪ :‬هي بائنة‬
‫من أختها‪ .‬قال (‪ )2‬ال تعالى ‪ { :‬إِنّ آ َيةَ مُ ْلكِهِ } [البقرة ‪ ، ]248 :‬وقال النابغة ‪:‬‬
‫َتوَ ّه ْمتُ آياتٍ لها َفعَرفْتُها‪ ...‬لستّةِ أعوا ٍم وذا العامُ سابعُ‬
‫(‪)3‬‬
‫وقيل ‪ :‬لنها جماعةُ حروفٍ من القرآن وطائفة منه ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬خرج القوم بآيتهم ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫بجماعتهم‪ .‬قال الشاعر (‪)4‬‬
‫حىّ مِثلُنا‪ ...‬بآيتنا نزجِي اللقاحَ المَطَافِل‬
‫خَ َرجْنَا من النّقبين ل َ‬
‫جبٌ َيعْجِز البشر عن التكلّم بمثلها‪.‬‬
‫سمّيت آيةً لنها عَ َ‬
‫وقيل ‪ُ :‬‬
‫شجَرَة ‪ ،‬تحرّكت الياءُ وافتتح ما قبلها فقلبت ألفًا فصارت‬
‫قال سيبويه ‪ :‬وأصلها أَيَيَة مثل َأ َكمَة و َ‬
‫آية ‪ ،‬بهمزة بعدها مدة‪ .‬وقال الكسائي ‪ :‬آيِيَة على وزن آمِنة ‪َ ،‬فقُلِبت ألفًا ‪ ،‬ثم حُذفت للتباسها‪.‬‬
‫وقال الفَرّاء ‪ :‬أصلها أَيّة ‪ -‬بتشديد الياء ‪َ -‬فقُلِبَت الولى ألفًا ‪ ،‬كراهيةَ التشديد فصارت آية ‪،‬‬
‫وجمعُها ‪ :‬آىٌ وآياىٌ وآياتٌ‪.‬‬
‫وأما الكلمة فهي اللفظ الواحد ‪ ،‬وقد تكون على حرفين مثل ‪ :‬ما ول وله ولك ‪ ،‬وقد يكون أكثر‪.‬‬
‫وأكثر ما يكون (‪ )5‬عشرة أحرف ‪ { :‬لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ } [النور ‪ ، ]55 :‬و { أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا } [هود ‪]28 :‬‬
‫سقَيْنَا ُكمُوهُ } [الحجر ‪ ، ]22 :‬وقد تكون الكلمة آية ‪ ،‬مثل ‪ :‬والفجر ‪ ،‬والضحى ‪ ،‬وال َعصْر ‪،‬‬
‫‪ { ،‬فََأ ْ‬
‫وكذلك ‪ :‬الم ‪ ،‬وطه ‪ ،‬ويس ‪ ،‬وحم ‪ -‬في قول الكوفيين ‪ -‬و { حم عسق } عندهم كلمتان‪ .‬وغيرهم‬
‫عمْرو الدانيّ ‪ :‬ل أعلم كلمةً هي وحدها‬
‫سوَرِ‪ .‬وقال أبو َ‬
‫ل يسمى هذه آيات بل يقول ‪ :‬هي فواتح ال ّ‬
‫آيةٌ إل قوله ‪ُ { :‬مدْهَامّتَانِ } في سورة الرحمن [الرحمن ‪ .]64 :‬آخر المقدمة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬يجمع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬ومنه قول"‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيت في تفسير القرطبي (‪.)66 /1‬‬
‫(‪ )4‬البيت لبرج بن مسهر الطائي ‪ ،‬وهو في تفسير القرطبي (‪.)66 /1‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬تكون"‪.‬‬

‫( ‪)1/100‬‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪)1‬‬


‫بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬


‫فاتحة الكتاب‬
‫يقال لها ‪ :‬الفاتحة ‪ ،‬أي فاتحة الكتاب خطا ‪ ،‬وبها تفتح (‪ )1‬القراءة في الصلة (‪ )2‬ويقال لها‬
‫أيضا ‪ :‬أم الكتاب عند الجمهور ‪ ،‬وكره أنس ‪ ،‬والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك ‪ ،‬قال‬
‫الحسن وابن سيرين ‪ :‬إنما ذلك اللوح المحفوظ ‪ ،‬وقال الحسن ‪ :‬اليات المحكمات ‪ :‬هن أم الكتاب‬
‫‪ ،‬ولذا كرها (‪ - )3‬أيضا ‪ -‬أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في[الحديث] (‪ )4‬الصحيح عند‬
‫الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬الحمد ل أم‬
‫القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم " ويقال لها ‪ :‬الحمد ‪ ،‬ويقال لها ‪ :‬الصلة ‪،‬‬
‫لقوله عليه السلم (‪ )5‬عن ربه ‪ " :‬قسمت الصلة بيني وبين عبدي نصفين ‪ ،‬فإذا قال العبد ‪:‬‬
‫الحمد ل رب العالمين ‪ ،‬قال ال ‪ :‬حمدني عبدي " الحديث‪ .‬فسميت الفاتحة ‪ :‬صلة ؛ لنها شرط‬
‫فيها‪ .‬ويقال لها ‪ :‬الشفاء ؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا ‪ " :‬فاتحة الكتاب شفاء من كل‬
‫سم (‪ ." )6‬ويقال لها ‪ :‬الرقية ؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم ‪ ،‬فقال‬
‫له رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬وما يدريك أنها رقية ؟ "‪ .‬وروى الشعبي عن ابن عباس أنه‬
‫سماها ‪ :‬أساس القرآن ‪ ،‬قال ‪ :‬فأساسها (‪ )7‬بسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬وسماها سفيان بن عيينة ‪:‬‬
‫الواقية‪ .‬وسماها يحيى بن أبي كثير ‪ :‬الكافية ؛ لنها تكفي عما عداها ول يكفي ما سواها عنها ‪،‬‬
‫كما جاء في بعض الحاديث المرسلة ‪ " :‬أم القرآن عوض من غيرها ‪ ،‬وليس غيرها عوضا عنها‬
‫" (‪ .)8‬ويقال لها ‪ :‬سورة الصلة والكنز ذكرهما الزمخشري في كشافه‪ .‬وهي مكية ‪ ،‬قاله (‪)9‬‬
‫ابن عباس وقتادة وأبو العالية ‪ ،‬وقيل مدنية ‪ ،‬قاله (‪ )10‬أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار‬
‫والزهري‪ .‬ويقال ‪ :‬نزلت مرتين ‪ :‬مرة بمكة ‪ ،‬ومرة بالمدينة ‪ ،‬والول أشبه لقوله تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ‬
‫آتَيْنَاكَ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي } [الحجر ‪ ، ]87 :‬وال أعلم (‪ .)11‬وحكى أبو الليث السمرقندي أن‬
‫نصفها نزل بمكة ونصفها الخر نزل بالمدينة ‪ ،‬وهو غريب جدًا ‪ ،‬نقله القرطبي عنه‪ .‬وهي سبع‬
‫آيات بل خلف ‪[ ،‬وقال عمرو بن عبيد ‪ :‬ثمان ‪ ،‬وقال حسين الجعفي ‪ :‬ستة (‪ )12‬وهذان شاذان]‬
‫(‪ .)13‬وإنما اختلفوا في البسملة ‪ :‬هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة‬
‫وقول الجماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف ‪ ،‬أو بعض آية أو ل تعد من أولها‬
‫بالكلية ‪ ،‬كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء ؟ على ثلثة أقوال ‪ ،‬سيأتي تقريره (‪ )14‬في‬
‫موضعه إن شاء ال تعالى ‪ ،‬وبه الثقة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)5/26‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬التميمي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )5/26‬وأبو عثمان لم يوثقه سوى ابن حبان وأبوه ل يعرف ‪ ،‬وقد اتضح أن الحديث‬
‫مضطرب ‪ ،‬اختلف فيه على سليمان التميمي‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن أبي داود برقم (‪ )3121‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10913‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)1448‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪ )2878‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )2/259‬من طريق حكيم بن جبير‬
‫به‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬سهل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )2/284‬وصحيح مسلم برقم (‪ )780‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2877‬وسنن النسائي‬
‫الكبرى برقم (‪.)8015‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬أبي"‪.‬‬
‫(‪ )10‬فضائل القرآن (ص ‪.)121‬‬
‫(‪ )11‬فضائل القرآن لبي عبيد (ص ‪ )121‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10800‬والمستدرك (‬
‫‪.)2/260‬‬
‫(‪ )12‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10799‬ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (‪)3292‬‬
‫"مجمع البحرين" من طريق حلو بن السري ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫به مرفوعا وخالفهما ‪ -‬أي ابن عجلن وحلو بن السري ‪ -‬شعبة ‪ ،‬فرواه عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال فوقفه ‪ ،‬أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (‪ )176‬وشعبة‬
‫أوثق الناس في أبي إسحاق ‪ ،‬ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (‪ )165‬من طريق‬
‫إبراهيم ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال موقوفا‪.‬‬
‫(‪ )13‬سنن الدارمي برقم (‪.)3375‬‬
‫(‪ )14‬سنن الدارمي برقم (‪.)3377‬‬

‫( ‪)1/101‬‬

‫قالوا ‪ :‬وكلماتها خمس وعشرون كلمة ‪ ،‬وحروفها مائة وثلثة عشر حرفًا‪ .‬قال البخاري في أول‬
‫كتاب التفسير ‪ :‬وسميت أم الكتب ‪ ،‬أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ‪ ،‬ويبدأ بقراءتها في الصلة (‬
‫‪ )1‬وقيل ‪ :‬إنما (‪ )2‬سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله (‪ )3‬إلى ما تضمنته‪ .‬قال ابن جرير ‪:‬‬
‫والعرب تسمي كل جامع أمر (‪ )4‬أو مقدم لمر ‪ -‬إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع ‪-‬‬
‫ُأمّا ‪ ،‬فتقول (‪ )5‬للجلدة التي تجمع الدماغ ‪ ،‬أمّ الرأس ‪ ،‬ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي‬
‫يجتمعون تحتها ُأمّا ‪ ،‬واستشهد (‪ )6‬بقول ذي الرمة ‪:‬‬
‫على رأسه أم لنا نقتدي بها‪ ...‬جماع أمور ليس (‪ )7‬نعصي لها أمرا (‪)8‬‬
‫يعني ‪ :‬الرمح‪ .‬قال ‪ :‬وسميت مكة ‪ :‬أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫لن الرض دحيت منها‪.‬‬
‫ويقال لها أيضًا ‪ :‬الفاتحة ؛ لنها تفتتح بها القراءة ‪ ،‬وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف‬
‫المام ‪ ،‬وصح تسميتها بالسبع المثاني ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لنها تثنى في الصلة ‪ ،‬فتقرأ في كل ركعة ‪ ،‬وإن‬
‫كان للمثاني معنى آخر غير هذا ‪ ،‬كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء ال (‪.)9‬قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا يزيد بن هارون ‪ ،‬أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب ‪ ،‬عن المقبري ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لم القرآن ‪ " :‬هي أم القرآن ‪ ،‬وهي‬
‫السبع المثاني ‪ ،‬وهي القرآن العظيم (‪ .)11( " )10‬ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي‬
‫ذئب به ‪ ،‬وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ‪ :‬حدثني يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أنا ابن‬
‫وهب ‪ ،‬أخبرني ابن أبي ذئب ‪ ،‬عن سعيد المقبري ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬هي أم القرآن ‪ ،‬وهي فاتحة الكتاب ‪ ،‬وهي السبع المثاني "‬
‫(‪.)12‬وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره ‪ :‬حدثنا أحمد بن محمد بن‬
‫زياد ‪ ،‬ثنا محمد بن غالب بن حارث ‪ ،‬ثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي ‪ ،‬ثنا المعافى بن‬
‫عمران ‪ ،‬عن عبد الحميد بن جعفر ‪ ،‬عن نوح بن أبي بلل ‪ ،‬عن المقبري ‪ ،‬عن أبي هريرة قال‬
‫‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬الحمد ل رب العالمين سبع آيات ‪ :‬بسم ال الرحمن‬
‫الرحيم إحداهن ‪ ،‬وهي السبع المثاني والقرآن العظيم ‪ ،‬وهي أم الكتاب (‪.)14( " )13‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن الدارمي برقم (‪.)3383‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬ليل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬شيطان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬شيطان"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المعجم الكبير (‪ )6/163‬وصحيح ابن حبان برقم (‪" )1727‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬سورة البقرة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن الترمذي برقم (‪ )2876‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8749‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬فال تبارك وتعالى أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ب ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الحضير"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في ط ‪" :‬ثم قرأ"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحضير"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في أ ‪" :‬لصبح"‪.‬‬

‫( ‪)1/102‬‬

‫وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه (‪ )1‬أو مثله ‪ ،‬وقال ‪ :‬كلهم ثقات (‬
‫‪.)2‬وروى البيهقي عن علي (‪ )3‬وابن عباس (‪ )4‬وأبي هريرة (‪ )5‬أنهم فسروا قوله تعالى ‪:‬‬
‫{ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي } [الحجر ‪ ]87 :‬بالفاتحة ‪ ،‬وأن البسملة هي الية السابعة منها ‪ ،‬وسيأتي تمام‬
‫هذا عند البسملة‪.‬‬
‫وقد روى العمش عن إبراهيم قال ‪ :‬قيل لبن مسعود ‪ِ :‬لمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ قال ‪:‬‬
‫لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة‪ .‬قال أبو بكر بن أبي داود ‪ :‬يعني حيث يقرأ في الصلة ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها‪.‬‬
‫وقد قيل ‪ :‬إن الفاتحة أول شيء نزل من القرآن ‪ ،‬كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلئل‬
‫النبوة (‪ )6‬ونقله الباقلني أحد أقوال ثلثة هذا [أحدها] (‪ )7‬وقيل ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ } كما في‬
‫سمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ } [العلق ‪ ]1 :‬وهذا هو‬
‫حديث جابر في الصحيح (‪ .)8‬وقيل ‪ { :‬اقْرَأْ بِا ْ‬
‫الصحيح ‪ ،‬كما سيأتي تقريره في موضعه ‪ ،‬وال (‪ )9‬المستعان‪ .‬ذكر ما ورد في فضل الفاتحة‬
‫قال المام أحمد بن محمد بن حنبل ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في مسنده ‪ :‬حدثنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن شعبة ‪،‬‬
‫حدثني خبيب بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن حفص بن عاصم ‪ ،‬عن أبي سعيد بن ال ُمعَلّى ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت أصلي فدعاني رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلم أجبه حتى صلّيت وأتيته ‪،‬‬
‫فقال ‪ " :‬ما منعك أن تأتيني ؟ "‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني كنت أصلي‪ .‬قال ‪ " :‬ألم يقل ال‬
‫‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا ِللّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ِلمَا ُيحْيِيكُمْ } [النفال ‪ ]24 :‬ثم قال ‪" :‬‬
‫لعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد "‪ .‬قال ‪ :‬فأخذ بيدي ‪ ،‬فلما أراد أن‬
‫يخرج من المسجد قلت ‪ :‬يا رسول ال إنك قلت ‪ " :‬لعلمنك أعظم سورة في القرآن "‪ .‬قال ‪" :‬‬
‫نعم ‪ ،‬الحمد ل رب العالمين هي ‪ :‬السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته "‪.‬‬
‫وهكذا رواه البخاري عن مسدد ‪ ،‬وعلي بن المديني ‪ ،‬كلهما عن يحيى بن سعيد القطان ‪ ،‬به (‬
‫‪.)10‬ورواه في موضع آخر من التفسير ‪ ،‬وأبو داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجه من طرق عن شعبة‬
‫‪ ،‬به (‪.)11‬ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ النصاريّ ‪ ،‬عن خبيب بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن‬
‫حفص بن عاصم ‪ ،‬عن أبي سعيد بن ال ُمعَلّى ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪ ،‬فذكر نحوه‪.‬‬
‫وقد وقع في الموطأ للمام مالك بن أنس ‪ ،‬ما ينبغي التنبيه عليه ‪ ،‬فإنه رواه مالك عن العلء بن‬
‫عبد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5018‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)26‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وجوه أخر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سبق تخريجه في فضائل القرآن‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الشماس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬عن عمه جرير"‪.‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن لبي عبيد (ص ‪ )27‬وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬المهاجر"‪.‬‬

‫( ‪)1/103‬‬

‫الرحمن بن يعقوب الحُرَقي ‪ :‬أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم نادى أبي بن كعب ‪ ،‬وهو يصلي في المسجد ‪ ،‬فلما فرغ من صلته لحقه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فوضع النبي صلى ال عليه وسلم يده على يدي ‪ ،‬وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫" إني لرجو أل تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل (‪ )1‬في التوراة ول في النجيل‬
‫ول في الفرقان (‪ )2‬مثلها "‪ .‬قال أبيّ ‪ :‬فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ‪ ،‬ثم قلت ‪ :‬يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬ما السورة التي وعدتني ؟ قال ‪ " :‬كيف تقرأ إذا افتتحت (‪ )3‬الصلة ؟ قال ‪ :‬فقرأت عليه ‪:‬‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } حتى أتيت على (‪ )4‬آخرها ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬‬
‫{ ا ْل َ‬
‫هي هذه السورة ‪ ،‬وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " (‪.)5‬فأبو سعيد هذا ليس‬
‫بأبي سعيد بن ال ُمعَلّى ‪ ،‬كما اعتقده ابن الثير في جامع الصول ومن تبعه (‪ ، )6‬فإن ابن المعلى‬
‫صحابي أنصاري ‪ ،‬وهذا تابعي من موالي خزاعة ‪ ،‬وذاك الحديث متصل صحيح ‪ ،‬وهذا ظاهره‬
‫أنه منقطع ‪ ،‬إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبيّ بن كعب ‪ ،‬فإن كان قد سمعه منه فهو على‬
‫شرط مسلم ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬على أنه قد روي عن أبيّ بن كعب من غير وجه كما قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عفّان ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا العلء بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ :‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم على أبي بن كعب ‪ ،‬وهو يصلي ‪ ،‬فقال ‪ " :‬يا‬
‫أبي " ‪ ،‬فالتفت ثم لم يجبه ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬أبي ‪ ،‬فخفف‪ .‬ثم انصرف إلى رسول الل ه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬السلم عليك أيْ رسول ال‪ .‬فقال ‪ " :‬وعليك السلم " [قال] (‪ " )7‬ما منعك أيْ أبيّ‬
‫إذ (‪ )8‬دعوتك أن تجيبني ؟ "‪ .‬قال ‪ :‬أيْ رسول ال ‪ ،‬كنت في الصلة ‪ ،‬قال ‪ " :‬أولست تجد فيما‬
‫أوحى ال إلي (‪ { )9‬اسْ َتجِيبُوا لِلّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُمْ ِلمَا يُحْيِيكُمْ } [النفال ‪ ." ]24 :‬قال ‪ :‬بلى يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬ل أعود ‪ ،‬قال ‪ " :‬أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل ل في التوراة ول في النجيل ول‬
‫في الزبور ول في الفرقان (‪ )10‬مثلها ؟ " قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬أي رسول ال ‪ ،‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ " :‬إني لرجو أل أخرج من هذا الباب حتى تعلمها " قال ‪ :‬فأخذ رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم بيدي يحدثني ‪ ،‬وأنا أتبطأ (‪ ، )11‬مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث ‪ ،‬فلما دنونا‬
‫من الباب قلت ‪ :‬أيْ رسول ال ‪ ،‬ما السورة التي وعدتني (‪ )12‬قال ‪ " :‬ما تقرأ في الصلة ؟ "‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فقرأت عليه أم القرآن ‪ ،‬قال ‪ " :‬والذي نفسي بيده ما أنزل ال في التوراة ول في النجيل‬
‫ول في الزبور ‪ ،‬ول في الفرقان مثلها ؛ إنها السبع المثاني "‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عليهما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬المهاجر به"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )5/348‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3781‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬جيد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عن أهلهما يوم القيامة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬حسنة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)5/249‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح مسلم برقم (‪.)804‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬المتصلة"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬نواس"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬من طير صاف"‪.‬‬
‫( ‪)1/104‬‬

‫ورواه الترمذي ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن الدّرَاوَرْدِي ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬عن (‪ )1‬أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪،‬‬
‫فذكره (‪ ، )2‬وعنده ‪ :‬إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هذا حديث‬
‫حسن صحيح‪.‬‬
‫وفي الباب ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬ورواه عبد ال بن [المام] (‪ )3‬أحمد ‪ ،‬عن إسماعيل بن أبي‬
‫َم ْعمَر ‪ ،‬عن أبي أسامة ‪ ،‬عن عبد الحميد بن جعفر ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪،‬‬
‫عن أبي بن كعب ‪ ،‬فذكره مطول بنحوه ‪ ،‬أو قريبا منه (‪.)4‬وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا‬
‫عن أبي عمار حسين بن حريث ‪ ،‬عن الفضل بن موسى ‪ ،‬عن عبد الحميد بن جعفر ‪ ،‬عن العلء‬
‫‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن أبيّ بن كعب ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬‬
‫ما أنزل ال في التوراة ول في النجيل مثل أم القرآن ‪ ،‬وهي السبع المثاني ‪ ،‬وهي مقسومة بيني‬
‫وبين عبدي " ‪ ،‬هذا لفظ النسائي‪ .‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن عبيد ‪ ،‬حدثنا هاشم ‪ ،‬يعني ابن البريد (‪ )5‬حدثنا عبد ال بن‬
‫محمد بن عقيل ‪ ،‬عن ابن جابر ‪ ،‬قال ‪ :‬انتهيت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد أهراق‬
‫الماء ‪ ،‬فقلت ‪ :‬السلم عليك يا رسول ال‪ .‬فلم يرد عليّ ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬السلم عليك يا رسول‬
‫ال‪ .‬فلم يرد عليّ ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬السلم عليك يا رسول ال ‪ ،‬فلم يرد عليّ‪ .‬قال ‪ :‬فانطلق رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم يمشي ‪ ،‬وأنا خلفه حتى دخل رحله ‪ ،‬ودخلت أنا المسجد ‪ ،‬فجلست كئيبًا‬
‫حزينًا ‪ ،‬فخرج عليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد تطهر ‪ ،‬فقال ‪ " :‬عليك (‪ )6‬السلم‬
‫ورحمة ال ‪ ،‬وعليك السلم ورحمة ال ‪ ،‬وعليك السلم ورحمة ال " ثم قال ‪ " :‬أل أخبرك يا عبد‬
‫ال بن جابر بأَخْير سورة في القرآن ؟ " قلت ‪ :‬بلى يا رسول ال‪ .‬قال ‪ " :‬اقرأ ‪ :‬الحمد ل رب‬
‫العالمين ‪ ،‬حتى تختمها " (‪.)7‬هذا إسناد جيد ‪ ،‬وابن عقيل تحتج (‪ )8‬به الئمة الكبار ‪ ،‬وعبد ال‬
‫بن جابر هذا هو الصحابي ‪ ،‬ذكر ابن الجوزي أنه هو العبديّ ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ويقال ‪ :‬إنه عبد ال‬
‫بن جابر النصاري البياضي ‪ ،‬فيما ذكره الحافظ ابن عساكر (‪.)9‬واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله‬
‫على تفاضل بعض اليات والسور على بعض ‪ ،‬كما هو المحكي عن كثير من العلماء ‪ ،‬منهم ‪:‬‬
‫إسحاق بن راهويه ‪ ،‬وأبو بكر بن العربي ‪ ،‬وابن الحصار من المالكية‪ .‬وذهبت طائفة أخرى إلى‬
‫أنه ل تفاضل في ذلك ؛ لن الجميع كلم ال ‪ ،‬ولئل يوهم التفضيل نقص‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬صاحب لهما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )4/183‬وصحيح مسلم برقم (‪.)805‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪.)2883‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬أجاب"‪.‬‬
‫(‪ )5‬فضائل القرآن (ص ‪.)126‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أخاكم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬فضائل القرآن (ص ‪.)126‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من و‪.‬‬

‫( ‪)1/105‬‬

‫المفضل عليه ‪ ،‬وإن كان الجميع فاضل نقله القُرطُبي عن الشعريّ ‪ ،‬وأبي بكر الباقلني ‪ ،‬وأبي‬
‫حاتم بن حبان البستي ‪ ،‬ويحيى بن يحيى ‪ ،‬ورواية عن المام مالك [أيضا] (‪.)1‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال البخاري في فضائل القرآن ‪ :‬حدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا وهب ‪ ،‬حدثنا هشام‬
‫‪ ،‬عن محمد ‪ ،‬بن معبد ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا في مسير لنا ‪ ،‬فنزلنا ‪ ،‬فجاءت‬
‫جارية فقالت ‪ :‬إن سيد الحي سليم ‪ ،‬وإن َنفَرَنَا غُيّب ‪ ،‬فهل منكم (‪ )2‬راق ؟ فقام معها رجل ما‬
‫كنا نَأبِنُه برقية ‪ ،‬فرقاه ‪ ،‬فبرأ ‪ ،‬فأمر له بثلثين شاة ‪ ،‬وسقانا لبنا ‪ ،‬فلما رجع (‪ )3‬قلنا له ‪ :‬أكنت‬
‫تحسن رقية ‪ ،‬أو كنت ترقي ؟ قال ‪ :‬ل ما رقيت إل بأم الكتاب ‪ ،‬قلنا ‪ :‬ل تحدثوا شيئا حتى‬
‫نأتي ‪ ،‬أو نسأل رسول ال (‪ )4‬صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم فقال ‪ " :‬وما كان يُدْريه أنها رقية ‪ ،‬أقسموا واضربوا لي بسهم "‪.‬‬
‫وقال أبو معمر ‪ :‬حدثنا عبد الوارث ‪ ،‬حدثنا هشام ‪ ،‬حدثنا محمد بن سيرين ‪ ،‬حدثني معبد بن‬
‫سيرين ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري بهذا‪.‬‬
‫وهكذا رواه مسلم ‪ ،‬وأبو داود من رواية هشام ‪ ،‬وهو ابن حسان ‪ ،‬عن ابن سيرين ‪ ،‬به (‪ .)5‬وفي‬
‫بعض روايات مسلم لهذا الحديث ‪ :‬أن أبا سعيد هو الذي رقى ذلك السليم ‪ ،‬يعني ‪ :‬اللديغ يسمونه‬
‫بذلك تفاؤل‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬روى مسلم في صحيحه ‪ ،‬والنسائي في سننه ‪ ،‬من حديث أبي الحوص سلم بن‬
‫سليم ‪ ،‬عن عمار بن رُزَيق ‪ ،‬عن عبد ال بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬بينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده جبريل ‪ ،‬إذ سمع نقيضًا‬
‫فوقه ‪ ،‬فرفع جبريل بصره إلى السماء ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا باب قد فتح من السماء ‪ ،‬ما فتح قط‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فنزل منه ملك ‪ ،‬فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي‬
‫قبلك ‪ :‬فاتحة الكتاب ‪ ،‬وخواتيم سورة البقرة ‪ ،‬ولن تقرأ حرفًا منهما إل أوتيته‪ .‬وهذا لفظ النسائي‪.‬‬
‫ولمسلم نحوه حديث آخر ‪ :‬قال مسلم ‪ :‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ‪ ،‬هو ابن راهويه ‪،‬‬
‫حدثنا سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي (‪ )6‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ " :‬من صلى صلة لم يقرأ فيها أم (‪ )7‬القرآن فهي‬
‫خِداج ‪ -‬ثلثًا ‪ -‬غير تمام "‪ .‬فقيل لبي هريرة ‪ :‬إنا نكون وراء المام ‪ ،‬قال ‪ :‬اقرأ بها في‬
‫س ْمتُ الصلة‬
‫نفسك ؛ فإني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬قال ال عز وجل ‪ :‬قَ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الفاتحة ‪:‬‬
‫بيني وبين عبدي نصفين ‪ ،‬ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ }‬
‫‪ ، ]2‬قال ال ‪ :‬حمدني عبدي ‪ ،‬وإذا قال ‪ { :‬الرّ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.]127 ، 126‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يحدثه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (‪.)127‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬ورقاء"‪.‬‬
‫(‪ )7‬فضائل القرآن (ص ‪.)127‬‬

‫( ‪)1/106‬‬

‫[الفاتحة ‪ ، ]3 :‬قال ال ‪ :‬أثنى علي عبدي ‪ ،‬فإذا قال ‪ { :‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } [الفاتحة ‪ ، ]4 :‬قال (‬
‫‪ )1‬مجدني عبدي " ‪ -‬وقال مرة ‪ " :‬فوض إلي عبدي ‪ -‬فإذا قال ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }‬
‫[الفاتحة ‪ ، ]5 :‬قال ‪ :‬هذا بيني وبين عبدي ‪ ،‬ولعبدي ما سأل ‪ ،‬فإذا قال ‪ { :‬اهدنا الصّرَاطَ‬
‫ا ْلمُسْ َتقِيمَ* صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } [الفاتحة ‪، ]7 ، 6 :‬‬
‫قال (‪ )2‬هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "‪.‬‬
‫وهكذا رواه النسائي ‪ ،‬عن إسحاق بن راهويه (‪ .)3‬وقد روياه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬عن قتيبة ‪ ،‬عن مالك ‪،‬‬
‫عن العلء ‪ ،‬عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬به (‪ )4‬وفي هذا السياق ‪:‬‬
‫" فنصفها لي ونصفها لعبدي ‪ ،‬ولعبدي ما سأل "‪.‬‬
‫وكذا رواه ابن إسحاق ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬وقد رواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬عن أبي‬
‫السائب هكذا (‪.)5‬‬
‫ورواه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬من حديث ابن أبي أويس ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬عن أبيه وأبي السائب ‪ ،‬كلهما عن‬
‫أبي هريرة (‪.)6‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن ‪ ،‬وسألت أبا زُرْعَة عنه فقال ‪ :‬كل الحديثين صحيح ‪ ،‬من قال ‪:‬‬
‫عن العلء ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬وعن العلء عن أبي السائب (‪.)7‬‬
‫وقد روى هذا الحديث عبد ال ابن المام أحمد ‪ ،‬من حديث العلء ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪،‬‬
‫عن أبيّ بن كعب مطول (‪.)8‬‬
‫قال (‪ )9‬ابن جرير ‪ :‬حدثنا صالح بن مسمار المروزي ‪ ،‬حدثنا زيد بن الحباب ‪ ،‬حدثنا عَنْبسة بن‬
‫سعيد ‪ ،‬عن مُطَرّف بن طريف ‪ ،‬عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬قال ال تعالى ‪ :‬قسمت الصلة بيني وبين عبدي‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } قال ‪ :‬حمدني عبدي ‪ ،‬وإذا قال‬
‫نصفين ‪ ،‬وله ما سأل ‪ ،‬فإذا قال العبد ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ } قال ‪ :‬أثنى علي عبدي‪ .‬ثم قال ‪ :‬هذا لي وله ما بقي " (‪)10‬‬
‫‪ { :‬الرّ ْ‬
‫وهذا غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬والصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬قرأ بهن" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬قرأهن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحديث وقع لي في سنن النسائي (‪ )2/177‬من حديث حذيفة ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬وأعطيت السبع المثاني"‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (ص ‪ )120‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )1/100‬من طريق رواد بن الجراح‬
‫عن سعيد بن بشير به ‪ ،‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )1/100‬من طريق الطيالسي عن عمران ‪-‬‬
‫أبي العوام ‪ -‬عن قتادة به ‪ ،‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )1/101‬من طريق ليث بن أبي سليم عن‬
‫أبي بردة عن أبي المليح به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ب ‪" :‬قال أيضا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬عمر"‪.‬‬
‫(‪ )10‬فضائل القرآن (ص ‪.)120‬‬

‫( ‪)1/107‬‬

‫ثم الكلم على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة (‪ )1‬من وجوه ‪:‬‬
‫جهَرْ ِبصَل ِتكَ وَل‬
‫أحدها ‪ :‬أنه قد أطلق فيه لفظ الصلة ‪ ،‬والمراد القراءة كقوله تعالى ‪ { :‬وَل َت ْ‬
‫تُخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيل } [السراء ‪ ، ]110 :‬أي ‪ :‬بقراءتك كما جاء مصرحًا به في‬
‫الصحيح ‪ ،‬عن ابن عباس (‪ )2‬وهكذا قال في هذا الحديث ‪ " :‬قسمت الصلة بيني وبين عبدي‬
‫نصفين ‪ ،‬فنصفها لي ونصفها لعبدي ‪ ،‬ولعبدي ما سأل " ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة‬
‫الفاتحة فدل على عظم (‪ )3‬القراءة في الصلة ‪ ،‬وأنها من أكبر أركانها ‪ ،‬إذ أطلقت العبادة وأريد‬
‫بها (‪ )4‬جزء واحد منها وهو القراءة ؛ كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلة في قوله ‪:‬‬
‫شهُودًا } [السراء ‪ ، ]78 :‬والمراد صلة الفجر ‪ ،‬كما جاء‬
‫{ َوقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ‬
‫مصرحا به في الصحيحين ‪ :‬من أنه يشهدها ملئكة الليل وملئكة النهار ‪ ،‬فدل هذا كله على أنه‬
‫ل بد من القراءة في الصلة ‪ ،‬وهو اتفاق من العلماء‪.‬‬
‫ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني ‪ ،‬وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلة فاتحة‬
‫الكتاب ‪ ،‬أم تجزئ هي أو غيرها ؟ على قولين مشهورين ‪ ،‬فعند أبي حنيفة ومن وافقه من‬
‫أصحابه وغيرهم أنها ل تتعين ‪ ،‬بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلة ‪ ،‬واحتجوا بعموم‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ } [المزمل ‪ ، ]20 :‬وبما ثبت في الصحيحين ‪ ،‬من‬
‫حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلته (‪ )5‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له ‪ " :‬إذا‬
‫قمت إلى الصلة فكبر ‪ ،‬ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " (‪ )6‬قالوا ‪ :‬فأمره بقراءة ما تيسر ‪،‬‬
‫ولم يعين له الفاتحة ول غيرها ‪ ،‬فدل على ما قلناه‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلة ‪ ،‬ول تجزئ الصلة بدونها ‪ ،‬وهو قول بقية‬
‫الئمة ‪ :‬مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء ؛ واحتجوا على ذلك بهذا‬
‫الحديث المذكور ‪ ،‬حيث قال صلوات ال وسلمه عليه ‪ " :‬من صلى صلة لم يقرأ فيها بأم القرآن‬
‫فهي خِدَاج " والخداج هو ‪ :‬الناقص كما فسّر به في الحديث ‪ " :‬غير تمام "‪ .‬واحتجوا ‪ -‬أيضًا ‪-‬‬
‫بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهريّ ‪ ،‬عن محمود بن الربيع ‪ ،‬عن عبادة بن الصّامت ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل صلة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " (‪ .)7‬وفي‬
‫صحيح ابن خزيمة وابن حبان ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل‬
‫تجزئ صلة ل يقرأ فيها بأم القرآن " (‪ )8‬والحاديث في هذا الباب كثيرة ‪ ،‬ووجه المناظرة هاهنا‬
‫يطول ذكره ‪ ،‬وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫ثم إن مذهب الشافعيّ وجماعة من أهل العلم ‪ :‬أنه تجب قراءتها في كل ركعة‪ .‬وقال آخرون ‪:‬‬
‫إنما تجب قراءتها في معظم الركعات ‪ ،‬وقال الحسن وأكثر البصريين ‪ :‬إنما تجب قراءتها في‬
‫ركعة واحدة من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)6/73‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)6/82‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)6/73‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فل أدري"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬القارئ"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬خمس"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في هـ ‪" :‬عيسى"‪.‬‬
‫( ‪)1/108‬‬

‫الصلوات ‪ ،‬أخذا بمطلق الحديث ‪ " :‬ل صلة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والوزاعي ‪ :‬ل تتعين (‪ )1‬قراءتها ‪ ،‬بل لو قرأ بغيرها أجزأه‬
‫لقوله ‪ { :‬فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ } [المزمل ‪[ ، ]20 :‬كما تقدم] (‪ )2‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي ‪ ،‬عن أبي نضرة ‪ ،‬عن أبي سعيد مرفوعًا ‪" :‬‬
‫ل صلة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها " (‪ .)3‬وفي صحة هذا‬
‫نظر ‪ ،‬وموضح (‪ )4‬تحرير هذا كله في كتاب الحكام الكبير ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫الوجه الثالث ‪ :‬هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم ؟ فيه ثلثة أقوال للعلماء ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنه تجب عليه قراءتها ‪ ،‬كما تجب على إمامه ؛ لعموم الحاديث المتقدمة‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬ل تجب على المأموم قراءة بالكلية ل الفاتحة ول غيرها ‪ ،‬ل في الصلة الجهرية ول‬
‫السرية ‪ ،‬لما رواه المام أحمد بن حنبل في مسنده ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال ‪ " :‬من كان له إمام فقراءة المام له قراءة " ولكن في إسناده ضعف (‪.)5‬‬
‫ورواه مالك ‪ ،‬عن وهب بن كَيْسَان ‪ ،‬عن جابر من كلمه (‪ .)6‬وقد روي هذا الحديث من طرق ‪،‬‬
‫ول يصح شيء منها عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫والقول الثالث ‪ :‬أنه تجب القراءة على المأموم في السرية ‪ ،‬لما (‪ )7‬تقدم ‪ ،‬ول تجب (‪ )8‬في‬
‫الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم ‪ ،‬عن أبي موسى الشعري ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ " :‬إنما جعل المام ليؤتم به ؛ فإذا كبّر فكبّروا ‪ ،‬وإذا قرأ فأنصتوا " وذكر بقية الحديث‬
‫(‪.)9‬‬
‫وهكذا رواه أهل السنن ؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪ " :‬وإذا قرأ فأنصتوا " (‪ .)10‬وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا ‪،‬‬
‫فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬ورواية عن المام‬
‫أحمد بن حنبل (‪.)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الطبراني في الوسط برقم (‪" )3450‬مجمع البحرين" والبيهقي في شعب اليمان برقم (‬
‫‪ )2582‬من طريق عُبيس بن ميمون ‪ ،‬عن موسى بن أنس به ‪ ،‬وقال البيهقي ‪" :‬عُبيس بن ميمون‬
‫منكر الحديث ‪ :‬وهذا ل يصح ‪ ،‬وإنما روى عن ابن عمر من قوله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬ف جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬يقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )1747‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1296‬‬
‫(‪ )5‬في هـ ‪" :‬مربد" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬تأخرا في أصحابه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )17/133‬من طريق علي بن قتيبة عن شعبة عن عقيل‬
‫بن أبي طلحة به ‪ ،‬وجاء من حديث أنس ‪ ،‬رواه أبو يعلى في مسنده (‪ )6/289‬من طريق عمرو‬
‫بن عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ب ‪" :‬سورة البقرة"‪.‬‬
‫(‪ )9‬جاء من حديث العباس ‪ ،‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1775‬من طريق الزهري ‪ ،‬عن‬
‫كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬حبيش"‪.‬‬
‫(‪ )11‬رواه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )12/502‬من طريق هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه قال ‪:‬‬
‫"كان شعار أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم يوم مسيلمة ‪" :‬يا أصحاب سورة البقرة"‪.‬‬

‫( ‪)1/109‬‬

‫والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام ل تتعلق بغيرها من‬
‫السور ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا إبراهيم بن سعيد (‪ )1‬الجوهريّ ‪ ،‬حدثنا غسان بن عبيد ‪ ،‬عن‬
‫جوْني ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إذا وضعت جنبك‬
‫أبي عمران ال َ‬
‫على الفراش ‪ ،‬وقرأت فاتحة الكتاب و { ُقلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ } فقد أمنت من كل شيء إل الموت " (‬
‫‪)2‬‬
‫ف وَأَعْ ِرضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‬
‫خذِ ا ْل َع ْفوَ وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْر ِ‬
‫الكلم على تفسير الستعاذة (‪ )3‬قال ال تعالى ‪ُ { :‬‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ } [العراف ‪ ، ]200 ، 199 :‬وقال‬
‫* وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ‬
‫صفُونَ * َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ مِنْ َهمَزَاتِ‬
‫حسَنُ السّيّ َئةَ نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َي ِ‬
‫تعالى ‪ { :‬ادفع بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫حضُرُونِ } [المؤمنون ‪ ]98 - 96 :‬وقال تعالى ‪ { :‬ا ْد َفعْ بِالّتِي‬
‫الشّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ َي ْ‬
‫حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِل الّذِينَ صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫حسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫ِهيَ أَ ْ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } [فصلت ‪34 :‬‬
‫عظِيمٍ * وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫حظّ َ‬
‫ذُو َ‬
‫‪.]36 -‬‬
‫فهذه ثلث آيات ليس لهن رابعة في معناها ‪ ،‬وهو أن ال يأمر بمصانعة العدو النسي والحسان‬
‫إليه ‪ ،‬ليرده عنه طبعُهُ الطّيب الصل (‪ )4‬إلى الموادة (‪ )5‬والمصافاة ‪ ،‬ويأمر بالستعاذة به من‬
‫العدو الشيطاني ل محالة ؛ إذ ل يقبل مصانعة ول إحسانا ول يبتغي غير هلك ابن آدم ‪ ،‬لشدة‬
‫العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل ؛ كما قال تعالى ‪ { :‬يَا بَنِي آدَمَ ل َيفْتِنَ ّنكُمُ الشّيْطَانُ َكمَا َأخْرَجَ‬
‫ع ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ‬
‫خذُوهُ َ‬
‫أَ َبوَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلجَنّةِ } [العراف ‪ ]27 :‬وقال ‪ { :‬إِنّ الشّ ْيطَانَ َلكُمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ‬
‫سعِيرِ } [فاطر ‪ ]6 :‬وقال { َأفَتَتّخِذُونَ ُه وَذُرّيّ َتهُ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ‬
‫صحَابِ ال ّ‬
‫لِ َيكُونُوا مِنْ َأ ْ‬
‫بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ بَدَل } [الكهف ‪ ، ]50 :‬وقد أقسم للوالد إنه لمن الناصحين ‪ ،‬وكذب ‪ ،‬فكيف معاملته‬
‫ج َمعِينَ * إِل عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ } [ص ‪، ]83 ، 82 :‬‬
‫غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫لنا وقد قال ‪ { :‬فَ ِبعِزّ ِتكَ ل ْ‬
‫وقال (‪ )6‬تعالى ‪ { :‬فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى‬
‫الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } [النحل ‪]99 ، 98 :‬‬
‫قالت طائفة من القراء وغيرهم ‪ :‬نتعوذ بعد القراءة ‪ ،‬واعتمدوا على ظاهر سياق الية ‪ ،‬ولدفع‬
‫العجاب بعد فراغ العبادة ؛ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره (‪ )7‬ابن قلوقا عنه ‪ ،‬وأبو حاتم‬
‫السجستاني ‪ ،‬حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جُبارة الهذلي المغربي في كتاب " الكامل "‪.‬‬
‫وروي عن أبي هريرة ‪ -‬أيضا ‪ -‬وهو غريب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)1/154‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )891‬وصحيح مسلم برقم (‪.)880‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬السورة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وروي"‪.‬‬

‫( ‪)1/110‬‬

‫[ونقله فخر الدين محمد بن عمر الرازي (‪ )1‬في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال ‪:‬‬
‫وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الصبهاني الظاهري ‪ ،‬وحكى القرطبي عن أبي بكر بن‬
‫العربي عن المجموعة عن مالك ‪ ،‬رحمه ال تعالى ‪ ،‬أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة ‪ ،‬واستغربه ابن‬
‫العربي‪ .‬وحكى قول ثالث وهو الستعاذة أول وآخرا جمعا بين الدليلين نقله فخر الدين (‪.)3( ] )2‬‬
‫والمشهور الذي عليه الجمهور أن الستعاذة لدفع الوسواس فيها ‪ ،‬إنما تكون قبل التلوة ‪ ،‬ومعنى‬
‫الية عندهم ‪ { :‬فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ } [النحل ‪ ]98 :‬أي ‪ :‬إذا‬
‫غسِلُوا وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ } الية [المائدة ‪ ]6 :‬أي ‪:‬‬
‫أردت القراءة كقوله ‪ { :‬إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلةِ فَا ْ‬
‫إذا أردتم القيام‪ .‬والدليل على ذلك الحاديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك ؛ قال المام‬
‫أحمد بن حنبل رحمه ال ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن الحسن بن آتش (‪ )4‬حدثنا جعفر بن سليمان ‪ ،‬عن علي بن علي الرفاعي‬
‫اليشكري ‪ ،‬عن أبي المتوكل الناجي ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدريّ ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلته وكبّر قال ‪ " :‬سبحانك اللهم وبحمدك ‪ ،‬وتبارك‬
‫اسمك ‪ ،‬وتعالى جدك ‪ ،‬ول إله غيرك "‪ .‬ويقول ‪ " :‬ل إله إل (‪ )5‬ال " ثلثًا ‪ ،‬ثم يقول ‪ " :‬أعوذ‬
‫بال السميع العليم ‪ ،‬من الشيطان الرجيم ‪ ،‬من َهمْزه و َنفْخِه و َنفْثه "‪.‬‬
‫وقد رواه أهل السنن الربعة من رواية جعفر بن سليمان ‪ ،‬عن علي بن علي ‪ ،‬وهو الرّفاعي (‪)6‬‬
‫‪ ،‬وقال الترمذي ‪ :‬هو أشهر حديث في هذا الباب‪ .‬وقد فسَر الهمز بالموتة وهي الخنق ‪ ،‬والنّفخ‬
‫بالكبر ‪ ،‬والنفث بالشعر‪ .‬كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة ‪ ،‬عن عمرو بن مُرّة ‪،‬‬
‫عن عاصم العَنزيّ ‪ ،‬عن نافع بن جبير بن مطعم ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬رأيت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم حين دخل في الصلة ‪ ،‬قال ‪ " :‬ال أكبر كبيرًا ‪ ،‬ثلثًا ‪ ،‬الحمد ل كثيرا ‪ ،‬ثلثًا ‪،‬‬
‫سبحان ال بكرة وأصيل ثلثا ‪ ،‬اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من َهمْزه ونَفْخه ونفْثه "‪.‬‬
‫قال عمرو ‪ :‬وهمزه الموتة ‪ ،‬ونفخه الكبر ‪ ،‬ونفثه الشعر (‪.)7‬‬
‫وقال ابن ماجه ‪ :‬حدثنا علي بن المنذر ‪ ،‬حدثنا ابن فُضيل ‪ ،‬حدثنا عطاء بن السائب ‪ ،‬عن أبي‬
‫عبد الرحمن السلمي ‪ ،‬عن ابن مسعود عن النبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬اللهم إني أعوذ بك‬
‫من الشيطان الرجيم ‪ ،‬و َهمْزه ونفخه ونفثه "‪.‬‬
‫قال ‪ :‬همزه ‪ :‬الموتة ‪ ،‬و َنفْثُه ‪ :‬الشعر ‪ ،‬ونفخه ‪ :‬الكِبْر (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬اسمه اللطيف" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬اسم لطيف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬المجيد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فاللف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وما أشبهه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬هنا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬كل من"‪.‬‬
‫(‪ )8‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/212‬‬

‫( ‪)1/111‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن يوسف ‪ ،‬حدثنا شريك ‪ ،‬عن يعلى بن عطاء ‪ ،‬عن رجل‬
‫حدثه ‪ :‬أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا قام إلى الصلة‬
‫كبّر ثلثًا ‪ ،‬ثم قال ‪ " :‬ل إله إل ال " ثلث مرات ‪ ،‬وسبحان ال وبحمده " ‪ ،‬ثلث مرات‪ .‬ثم قال‬
‫‪ " :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم ‪ ،‬من همزه ونفخه ونفثه (‪.)1‬وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن‬
‫علي بن المثنى الموصلي في مسنده ‪ :‬حدثنا عبد ال بن عمر بن أبان الكوفي ‪ ،‬حدثنا علي بن‬
‫هشام بن البريد عن يزيد بن زياد ‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪،‬‬
‫عن أبي بن كعب ‪ ،‬قال ‪ :‬تلحى رجلن عند النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فَتَمزّع أنف أحدهما‬
‫غضبا ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إني لعلم شيئا لو قاله ذهب عنه ما يجد ‪ :‬أعوذ‬
‫بال من الشيطان الرجيم "‪.‬‬
‫وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ‪ ،‬عن يوسف بن عيسى المروزي ‪ ،‬عن الفضل بن موسى ‪،‬‬
‫عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد (‪ ، )2‬به (‪.)3‬‬
‫وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬عن زائدة ‪ ،‬وأبو داود عن يوسف بن‬
‫موسى ‪ ،‬عن جرير بن عبد الحميد ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي في اليوم والليلة عن بُنْدَار ‪ ،‬عن ابن‬
‫مهدي ‪ ،‬عن الثوري ‪ ،‬والنسائي ‪ -‬أيضًا ‪ -‬من حديث زائدة بن قدامة ‪ ،‬ثلثتهم عن عبد الملك بن‬
‫عمير ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن معاذ بن جبل ‪ ،‬قال ‪ :‬استَب رجلن عند النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيّل إليّ أن أحدهما يَتَمزّع أنفه من شدة‬
‫غضبه ‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إني لعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من‬
‫الغضب " قال ‪ :‬ما هي يا رسول ال ؟ قال ‪ " :‬يقول ‪ :‬اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم "‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فجعل معاذ يأمره ‪ ،‬فأبى [ومحك] (‪ ، )4‬وجعل يزداد غضبًا‪ .‬وهذا لفظ أبي داود (‪.)5‬وقال‬
‫الترمذي ‪ :‬مرسل ‪ ،‬يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل ‪ ،‬فإنه مات قبل سنة‬
‫عشرين‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبيّ بن كعب ‪ ،‬كما تقدم وبلغه عن معاذ بن‬
‫جبل ‪ ،‬فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة ‪ ،‬رضي ال عنهم‪ .‬قال البخاري ‪ :‬حدثنا‬
‫عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن عدي بن ثابت ‪ ،‬قال ‪ :‬قال سليمان بن‬
‫صُرَد ‪ :‬استب رجلن عند النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ونحن عنده جلوس ‪ ،‬فأحدهما يسب‬
‫صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه ‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إني لعلم كلمة لو قالها‬
‫لذهب عنه ما يجد ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/213‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي (‪ )1/156‬والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )2620‬من طريق يزيد‬
‫بن أبي زياد ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه به مرفوعا ‪ ،‬وقال‬
‫البوصيري في الزوائد (‪" : )2/334‬هذا إسناد ضعيف ‪ ،‬يزيد بن أبي زياد الدمشقي قال فيه‬
‫البخاري وأبو حاتم ‪ :‬منكر الحديث"‪.‬‬
‫تنبيه ‪ :‬وقع في بعض النسخ المساعدة ‪ :‬قال سفيان ‪ ،‬بدل شقيق ‪ ،‬والذي في تفسير القرطبي‬
‫موافق لما هاهنا ‪ ،‬وقد روي هذا القول عن سفيان الصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (‬
‫‪.)2329‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪ ،‬و ‪" :‬لخص" ‪ ،‬وفي جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬يخص"‪.‬‬

‫( ‪)1/112‬‬

‫لو قال ‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل ‪ :‬أل تسمع ما يقول رسول ال (‪ )1‬صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪ :‬إني لست بمجنون (‪.)2‬‬
‫وقد رواه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬مع مسلم ‪ ،‬وأبي داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬من طرق متعددة ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬به (‬
‫‪.)3‬‬
‫وقد جاء في الستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا ‪ ،‬وموطنها كتاب الذكار وفضائل‬
‫العمال ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وقد ُر ِويَ أن جبريل عليه السلم ‪ ،‬أوّل ما نزل بالقرآن على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أمره بالستعاذة ‪ ،‬كما قال المام أبو جعفر بن جرير ‪:‬‬
‫حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا عثمان بن سعيد ‪ ،‬حدثنا بشر بن عمارة ‪ ،‬حدثنا أبو روق ‪ ،‬عن الضحاك‬
‫‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬أول ما نزل جبريل على محمد صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يا‬
‫محمد ‪ ،‬استعذ‪ .‬قال ‪ " :‬أستعيذ بال السميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم قال ‪ :‬قل ‪ :‬بسم ال‬
‫سمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ } قال عبد ال ‪ :‬وهي أول سورة أنزلها ال‬
‫الرحمن الرحيم‪ .‬ثم قال ‪ { :‬اقْرَأْ بِا ْ‬
‫على محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بلسان جبريل (‪.)4‬وهذا الثر غريب ‪ ،‬وإنما ذكرناه ليعرف ‪،‬‬
‫فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬وجمهور العلماء على أن الستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها ‪ ،‬وحكى فخر‬
‫الدين عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلة وخارجها كلما أراد القراءة قال ‪ :‬وقال ابن‬
‫سيرين ‪ :‬إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب ‪ ،‬واحتج فخر الدين لعطاء‬
‫بظاهر الية ‪ { :‬فَاسْ َتعِذْ } وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى ال عليه وسلم عليها ‪،‬‬
‫ولنها تدرأ شر الشيطان وما ل يتم الواجب إل به فهو واجب ‪ ،‬ولن الستعاذة أحوط وهو أحد‬
‫مسالك الوجوب‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬كانت واجبة على النبي صلى ال عليه وسلم دون أمته ‪ ،‬وحكي‬
‫عن مالك أنه ل يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام شهر رمضان في أول ليلة منه‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬وقال الشافعي في الملء ‪ ،‬يجهر بالتعوذ ‪ ،‬وإن أسر فل يضر ‪ ،‬وقال في الم بالتخيير‬
‫لنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة ‪ ،‬واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الولى ‪ :‬هل‬
‫يستحب التعوذ فيها ؟ على قولين ‪ ،‬ورجح عدم الستحباب ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬فإذا قال المستعيذ ‪ :‬أعوذ‬
‫بال من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد (‪ )5‬بعضهم ‪ :‬أعوذ بال السميع‬
‫العليم ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬بل يقول ‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم إن ال هو السميع العليم ‪ ،‬قاله‬
‫الثوري والوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول ‪ :‬أستعيذ بال من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر‬
‫الية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور ‪ ،‬والحاديث الصحيحة ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬أولى بالتباع‬
‫من هذا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬ثم الستعاذة في الصلة إنما هي للتلوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد‪ .‬وقال أبو يوسف ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬وما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬إذا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب ‪" :‬ول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ل ينبغي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/113‬‬

‫بل للصلة ‪ ،‬فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان ل يقرأ ‪ ،‬ويتعوذ في العيد بعد الحرام وقبل‬
‫تكبيرات العيد ‪ ،‬والجمهور بعدها قبل القراءة‪.‬‬
‫ومن لطائف الستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث ‪ ،‬وتطييب له وتهيؤ‬
‫لتلوة كلم ال وهي استعانة بال واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا‬
‫العدو المبين الباطني الذي ل يقدر على منعه ودفعه إل ال الذي خلقه ‪ ،‬ول يقبل مصانعة ‪ ،‬ول‬
‫يدارى بالحسان ‪ ،‬بخلف العدو من نوع النسان كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلث من‬
‫ك َوكِيل } [السراء ‪، ]65 :‬‬
‫ن َو َكفَى بِرَ ّب َ‬
‫علَ ْيهِمْ سُ ْلطَا ٌ‬
‫المثاني ‪ ،‬وقال تعالى ‪ { :‬إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ َ‬
‫وقد نزلت الملئكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر ‪ ،‬ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا ‪ ،‬ومن قتله‬
‫العدو الباطني كان طرِيدًا ‪ ،‬ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا ‪ ،‬ومن قهره العدو الباطن كان‬
‫مفتونا أو موزورًا ‪ ،‬ولما كان الشيطان يرى النسان من حيث ل يراه استعاذ منه بالذي يراه ول‬
‫يراه الشيطان‪.‬‬
‫فصل ‪ :‬والستعاذة هي اللتجاء إلى ال واللتصاق بجنابه من شر كل ذي شر ‪ ،‬والعياذة تكون‬
‫لدفع الشر ‪ ،‬واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي ‪:‬‬
‫يا من ألوذ به فيما أؤمله‪ ...‬ومن أعوذ به ممن أحاذره‬
‫ل يجبر الناس عظما أنت كاسره‪ ...‬ول يهيضون عظما أنت جابره (‪)1‬‬
‫فصل معنى الستعاذة‬
‫ومعنى أعوذ بال من الشيطان الرجيم ‪ ،‬أي ‪ :‬أستجير بجناب ال من الشيطان الرجيم أن يضرني‬
‫في ديني أو دنياي ‪ ،‬أو يصدني عن فعل ما أمرت به ‪ ،‬أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ؛ فإن‬
‫الشيطان ل يكفّه عن النسان إل ال ؛ ولهذا أمر ال تعالى بمصانعة شيطان النس ومداراته (‪)2‬‬
‫بإسداء الجميل إليه ‪ ،‬ليرده طبعه عمّا هو فيه من الذى ‪ ،‬وأمر بالستعاذة به من شيطان الجن‬
‫لنه ل يقبل رشوة ول يؤثر فيه جميل ؛ لنه شرير بالطبع ول يكفه عنك إل الذي خلقه ‪ ،‬وهذا‬
‫المعنى في ثلث آيات من القرآن ل أعلم لهن رابعة ‪ ،‬قوله في العراف ‪ { :‬خُذِ ا ْلعَ ْف َو وَ ْأمُرْ‬
‫بِا ْلعُ ْرفِ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِين } [العراف ‪ ، ]199 :‬فهذا فيما يتعلق بمعاملة العداء من‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ } [العراف ‪:‬‬
‫البشر ‪ ،‬ثم قال ‪ { :‬وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ‬
‫‪ ، ]200‬وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون " ‪ { :‬ادفع بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ السّيّئَةَ َنحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا‬
‫حضُرُونِ } [المؤمنون‬
‫َيصِفُونَ * َو ُقلْ َربّ أَعُوذُ ِبكَ مِنْ َهمَزَاتِ الشّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ ِبكَ َربّ أَنْ يَ ْ‬
‫‪ ، ]98 - 96 :‬وقال تعالى في سورة " حم السجدة " ‪ { :‬وَل َتسْ َتوِي ا ْلحَسَ َن ُة وَل السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي‬
‫حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِل الّذِينَ صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫حسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫ِهيَ أَ ْ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } [فصلت ‪34 :‬‬
‫عظِيمٍ * وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫حظّ َ‬
‫ذُو َ‬
‫‪.]36 -‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬أنعم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أبو إياس"‪.‬‬

‫( ‪)1/114‬‬

‫والشيطان في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد ‪ ،‬فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر ‪ ،‬وبعيد‬
‫بفسقه عن كل خير ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مشتق من شاط لنه مخلوق من نار ‪ ،‬ومنهم من يقول ‪ :‬كلهما‬
‫صحيح في المعنى ‪ ،‬ولكن الول أصح ‪ ،‬وعليه يدل كلم العرب ؛ قال أمية بن أبي الصلت في‬
‫ذكر ما أوتي سليمان ‪ ،‬عليه (‪ )1‬السلم ‪:‬‬
‫أيما شاطِنٍ عصاه عكاه‪ ...‬ثمّ يُلْقى في السّجْن والغلل (‪)2‬‬
‫فقال ‪ :‬أيما شاطن ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬أيما شائط‪.‬‬
‫وقال النابغة الذبياني ‪ -‬وهو ‪ :‬زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة‬
‫بن سعد بن ذُبْيان ‪: -‬‬
‫شطُونُ‪ ...‬فبانت والفؤادُ بها رَهِينُ (‪)3‬‬
‫نأت بسعاد عنك َنوًى َ‬
‫يقول ‪ :‬بعدت بها طريق بعيدة‪.‬‬
‫[وقال سيبويه ‪ :‬العرب تقول ‪ :‬تشيطن فلن إذا َفعَل ِفعْل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا ‪:‬‬
‫تشيط] (‪.)4‬والشيطان (‪ )5‬مشتق من البعد على (‪ )6‬الصحيح ؛ ولهذا يسمون كل ما (‪ )7‬تمرد من‬
‫ع ُدوّا شَيَاطِينَ النْسِ‬
‫جعَلْنَا ِل ُكلّ نَ ِبيّ َ‬
‫جني وإنسي وحيوان شيطانًا ‪ ،‬قال ال تعالى ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ غُرُورًا } [النعام ‪ .]112 :‬وفي مسند المام‬
‫وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ‬
‫أحمد ‪ ،‬عن أبي ذر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬يا أبا ذر ‪،‬‬
‫تعوّذ بال من شياطين النس والجن " ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أو للنس شياطين ؟ قال ‪ " :‬نعم " (‪.)8‬وفي‬
‫صحيح مسلم عن أبي ذر ‪ -‬أيضًا ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬يقطع الصلة‬
‫المرأة والحمار والكلب السود "‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما بال الكلب السود من الحمر‬
‫والصفر (‪ )9‬فقال ‪ " :‬الكلب السود شيطان " (‪.)10‬وقال ابن وهب ‪ :‬أخبرني هشام بن سعد ‪،‬‬
‫عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬أن عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬ركب برْذونًا ‪ ،‬فجعل‬
‫يتبخْتر به ‪ ،‬فجعل ل يضربه فل يزداد إل تبخترًا ‪ ،‬فنزل عنه ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما حملتموني (‪ )11‬إل‬
‫على شيطان ‪ ،‬ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي‪ .‬إسناده (‪ )12‬صحيح (‪.)13‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬من يهود"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أجاءك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ما نعلمهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬تسعون" ‪ ،‬وفي ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ستون"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬إحدى وستون"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هل مع هذا غيره يا محمد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬ماذا"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬هذه"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬أبو إياس"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬إحدى وستون"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬أربع وثلثين سنة"‪.‬‬

‫( ‪)1/115‬‬

‫والرّجيم ‪ :‬فعيل بمعنى مفعول ‪ ،‬أي ‪ :‬إنه مرجوم مطرود عن الخير كله ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ‬
‫جعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } [الملك ‪ ، ]5 :‬وقال تعالى ‪ { :‬إِنّا زَيّنّا‬
‫ح وَ َ‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِي َ‬
‫زَيّنّا ال ّ‬
‫س ّمعُونَ إِلَى ا ْلمَل العْلَى‬
‫حفْظًا مِنْ ُكلّ شَيْطَانٍ مَا ِردٍ * ل يَ ّ‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا بِزِي َنةٍ ا ْل َكوَا ِكبِ * َو ِ‬
‫ال ّ‬
‫شهَابٌ‬
‫طفَةَ فَأَتْ َبعَهُ ِ‬
‫خ ْ‬
‫طفَ الْ َ‬
‫خِ‬‫عذَابٌ وَاصِبٌ * إِل مَنْ َ‬
‫وَيُقْ َذفُونَ مِنْ ُكلّ جَا ِنبٍ * دُحُورًا وََلهُمْ َ‬
‫سمَاءِ بُرُوجًا وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ *‬
‫جعَلْنَا فِي ال ّ‬
‫ثَا ِقبٌ } [الصافات ‪ ، ]10 - 6 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ َ‬
‫شهَابٌ مُبِينٌ } [الحجر ‪- 16 :‬‬
‫سمْعَ فَأَتْ َبعَهُ ِ‬
‫حفِظْنَاهَا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ رَجِيمٍ * إِل مَنِ اسْتَ َرقَ ال ّ‬
‫وَ َ‬
‫‪ ، ]18‬إلى غير ذلك من اليات‪.‬‬
‫[وقيل ‪ :‬رجيم بمعنى راجم ؛ لنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والول أشهر] (‪.)1‬‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪.} )1‬‬
‫{ ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫افتتح بها الصحابةُ كتاب ال ‪ ،‬واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل ‪ ،‬ثمّ اختلفوا ‪:‬‬
‫هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة ‪ ،‬أو من أول كل سورة كتبت في أوّلها ‪ ،‬أو أنها بعض آية‬
‫من أوّل كل سورة ‪ ،‬أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها ‪ ،‬أو أنها [إنما] (‪ )2‬كتبت للفصل ‪ ،‬ل‬
‫أنها (‪ )3‬آية ؟ على أقوال للعلماء سلفًا وخلفًا ‪ ،‬وذلك مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ } وأخرجه‬
‫عليه وسلم كان ل يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫الحاكم أبو عبد ال النيسابوري في مستدركه أيضًا (‪ ، )4‬وروي مرسل عن سعيد بن جُبَير‪ .‬وفي‬
‫صحيح ابن خزيمة ‪ ،‬عن أم سلمة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ البسملة في أول‬
‫الفاتحة في الصلة وعدّها آية ‪ ،‬لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي ‪ ،‬وفيه ضعف ‪ ،‬عن ابن‬
‫جُرَيْج ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَ ْيكَة ‪ ،‬عنها (‪.)5‬وروى له الدارقطني متابعًا ‪ ،‬عن أبي هريرة مرفوعًا (‬
‫‪ .)6‬وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما (‪.)7‬وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إل‬
‫براءة ‪ :‬ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وابن الزبير ‪ ،‬وأبو هريرة ‪ ،‬وعليّ‪ .‬ومن التابعين ‪ :‬عطاء ‪،‬‬
‫وطاوس ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وبه يقول عبد ال بن المبارك ‪ ،‬والشافعي ‪،‬‬
‫وأحمد بن حنبل ‪ ،‬في رواية عنه ‪ ،‬وإسحاق بن رَاهوَيه ‪ ،‬وأبو عبيد القاسم بن سلم ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه البخاري في التاريخ الكبير (‪ )2/208‬والطبري في تفسيره (‪ )1/217‬من طريق ابن‬
‫إسحاق ‪ ،‬وأطنب العلمة أحمد شاكر في الكلم عليه في حاشية تفسير الطبري‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬أطم وأعظم" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬أعظم وأعظم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" : ،‬أغرب"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ناس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬هو كعب بن مالك ‪ ،‬والبيت في اللسان ‪ ،‬مادة "ريب"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منزل"‪.‬‬

‫( ‪)1/116‬‬
‫وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ‪ :‬ليست آية من الفاتحة ول من غيرها من السور ‪ ،‬وقال‬
‫الشافعي في قول ‪ ،‬في بعض طرق مذهبه ‪ :‬هي آية من الفاتحة وليست من غيرها ‪ ،‬وعنه أنها‬
‫بعض آية من أول كل سورة ‪ ،‬وهما غريبان‪.‬‬
‫وقال داود ‪ :‬هي آية مستقلة في أول كل سورة ل منها ‪ ،‬وهذه رواية عن المام أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫وحكاه أبو بكر الرازي ‪ ،‬عن أبي الحسن الكرخي ‪ ،‬وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة ‪ ،‬رحمهم‬
‫ال (‪.)1‬هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم ل‪ .‬فأمّا ما يتعلق بالجهر بها ‪ ،‬فمفرّع على هذا ؛ فمن‬
‫رأى أنها ليست من الفاتحة فل يجهر بها ‪ ،‬وكذا من قال ‪ :‬إنها آية من (‪ )2‬أوّلها ‪ ،‬وأمّا من قال‬
‫بأنها من أوائل السور فاختلفوا ؛ فذهب الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة‬
‫والسورة ‪ ،‬وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا (‪ ، )3‬فجهر بها‬
‫من الصحابة أبو هريرة ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬ومعاوية ‪ ،‬وحكاه ابن عبد البر ‪ ،‬والبيهقي‬
‫عن عمر وعليّ ‪ ،‬ونقله الخطيب عن الخلفاء الربعة ‪ ،‬وهم ‪ :‬أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ‪،‬‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬وأبي قِلبة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وعليّ بن‬
‫وهو غريب‪ .‬ومن التابعين عن سعيد بن جبير ‪ ،‬و ِ‬
‫الحسين ‪ ،‬وابنه محمد ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬ومحمد بن‬
‫كعب القرظي ‪ ،‬وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ‪ ،‬وأبي وائل ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬ومحمد بن‬
‫الم ْنكَدِر ‪ ،‬وعلي بن عبد ال بن عباس ‪ ،‬وابنه محمد ‪ ،‬ونافع مولى ابن عمر ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪،‬‬
‫وعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬والزرق بن قيس ‪ ،‬وحبيب بن أبي ثابت ‪ ،‬وأبي الشعثاء ‪ ،‬ومكحول ‪،‬‬
‫وعبد ال بن َم ْعقِل بن ُمقَرّن‪ .‬زاد البيهقيّ ‪ :‬وعبد ال بن صفوان ‪ ،‬ومحمد بن الحنفية‪ .‬زاد ابن‬
‫عبد البر ‪ :‬وعمرو بن دينار‪.‬‬
‫حجّة في ذلك أنها بعض الفاتحة ‪ ،‬فيجهر بها كسائر أبعاضها ‪ ،‬وأيضًا فقد روى النسائي في‬
‫وال ُ‬
‫سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬عن أبي هريرة أنه صلى‬
‫فجهر في قراءته بالبسملة ‪ ،‬وقال بعد أن فرغ ‪ :‬إني لشبهكم صلة برسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ .‬وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم (‪.)4‬‬
‫وروى أبو داود والترمذي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يفتتح‬
‫الصلة ببسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬ثم قال الترمذي ‪ :‬وليس إسناده بذاك (‪.)5‬‬
‫وقد رواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يجهر‬
‫ببسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬صحيح (‪ )6‬وفي صحيح البخاري ‪ ،‬عن أنس بن مالك أنه‬
‫سئل عن قراءة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬نور"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يعني نورا للمؤمنين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يتعوذون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ب ‪" :‬البأس"‪.‬‬

‫( ‪)1/117‬‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬كانت قراءته مدا ‪ ،‬ثم قرأ بسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬يمد‬
‫بسم ال ‪ ،‬ويمد الرحمن ‪ ،‬ويمد الرحيم (‪.)1‬‬
‫وفي مسند المام أحمد ‪ ،‬وسنن أبي داود ‪ ،‬وصحيح ابن خزيمة ‪ ،‬ومستدرك الحاكم ‪ ،‬عن أم سلمة‬
‫‪ ،‬قالت (‪ : )2‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقطع قراءته ‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬الحمد‬
‫ل رب العالمين‪ .‬الرحمن الرحيم‪ .‬مالك يوم الدين‪ .‬وقال الدارقطني ‪ :‬إسناده صحيح (‪.)3‬‬
‫وروى الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬عن أنس ‪ :‬أن معاوية صلى بالمدينة ‪،‬‬
‫فترك البسملة ‪ ،‬فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك ‪ ،‬فلما صلى المرّة الثانية بسمل (‪.)4‬‬
‫وفي هذه الحاديث ‪ ،‬والثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الحتجاج لهذا القول عما عداها ‪ ،‬فأما‬
‫المعارضات والروايات الغريبة ‪ ،‬وتطريقها ‪ ،‬وتعليلها وتضعيفها ‪ ،‬وتقريرها ‪ ،‬فله موضع آخر‪.‬‬
‫وذهب آخرون إلى أنه ل يجهر بالبسملة في الصلة ‪ ،‬وهذا هو الثابت عن الخلفاء الربعة وعبد‬
‫ال بن مغفل ‪ ،‬وطوائف من سلف التابعين والخلف ‪ ،‬وهو مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وأحمد‬
‫بن حنبل‪.‬‬
‫وعند المام مالك ‪ :‬أنه ل يقرأ البسملة بالكلية ‪ ،‬ل جهرًا ول سرًا ‪ ،‬واحتجوا بما في صحيح مسلم‬
‫‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يفتتح الصلة‬
‫بالتكبير ‪ ،‬والقراءة بالحمد ل رب العالمين (‪ .)5‬وبما في الصحيحين ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫صلّ ْيتُ خلف النبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأبي بكر وعمر وعثمان ‪ ،‬فكانوا يستفتحون بالحمد ل‬
‫رب العالمين‪ .‬ولمسلم ‪ :‬ل يذكرون بسم ال الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ول في آخرها (‪.)6‬‬
‫ونحوه في السنن عن عبد ال بن ُم َغفّل ‪ ،‬رضي ال عنه (‪.)7‬‬
‫فهذه مآخذ الئمة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬في هذه المسألة وهي قريبة ؛ لنهم أجمعوا على صحة صلة من‬
‫جهر بالبسملة ومن أسر ‪ ،‬ول الحمد والمنة (‪ .)8‬فصل‬
‫في فضلها‬
‫قال المام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في تفسيره ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن الترمذي برقم (‪ )2451‬وسنن ابن ماجه برقم (‪.)4215‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/33‬وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )1857‬من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم ‪،‬‬
‫عن أبي أمامة رضي ال عنه ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/70‬هذا إسناد فيه علي بن‬
‫زيد بن جدعان وهو ضعيف ‪ ،‬وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وأفردنا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬بأن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬زيد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن سعيد بن منصور برقم (‪ )180‬تحقيق د‪ .‬الحميد‪.‬‬

‫( ‪)1/118‬‬

‫حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا جعفر بن مسافر ‪ ،‬حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني ‪ ،‬حدثنا سلم بن وهب‬
‫الجَنَديّ ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬عن طاوس ‪ ،‬عن ابن عباس ؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم عن بسم ال الرحمن الرحيم‪ .‬فقال ‪" :‬هو اسم من أسماء ال ‪ ،‬وما بينه وبين اسم‬
‫ال الكبر ‪ ،‬إل كما بين سواد العينين وبياضهما (‪ )1‬من القرب"‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه ‪ ،‬عن سليمان بن أحمد ‪ ،‬عن عليّ بن المبارك ‪ ،‬عن زيد بن‬
‫المبارك ‪ ،‬به (‪.)2‬‬
‫وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين ‪ ،‬عن إسماعيل بن عياش ‪ ،‬عن إسماعيل بن يحيى ‪،‬‬
‫سعَر ‪ ،‬عن عطية ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن عيسى‬
‫عن مِ ْ‬
‫ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه ‪ ،‬فقال المعلم ‪ :‬اكتب ‪ ،‬قال (‪ )3‬ما أكتب ؟ قال ‪ :‬بسم‬
‫ال ‪ ،‬قال له عيسى ‪ :‬وما باسم ال ؟ قال المعلم ‪ :‬ما أدري (‪ .)4‬قال له عيسى ‪ :‬الباء بَهاءُ ال ‪،‬‬
‫والسين سناؤه ‪ ،‬والميم مملكته ‪ ،‬وال إله اللهة ‪ ،‬والرحمن رحمن الدنيا والخرة ‪ ،‬والرحيم رحيم‬
‫الخرة"‪.‬‬
‫وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلء الملقب ‪ :‬زِبْرِيق ‪ ،‬عن إسماعيل بن عياش ‪ ،‬عن‬
‫إسماعيل بن يحيى ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عمن حدثه ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬ومسعر ‪ ،‬عن عطية ‪،‬‬
‫عن أبي سعيد ‪ ،‬عن النبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكره (‪ .)5‬وهذا غريب جدًا ‪ ،‬وقد يكون‬
‫صحيحًا إلى من دون رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ويكون من السرائيليات ل من‬
‫المرفوعات ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫جوَيبر (‪ ، )6‬عن الضحّاك ‪ ،‬نحوه من قبله‪.‬‬
‫وقد روى ُ‬
‫وقد روى ابن مَرْدُويه ‪ ،‬من حديث يزيد بن خالد ‪ ،‬عن سليمان بن بريدة ‪ ،‬وفي رواية عن عبد‬
‫الكريم أبي (‪ )7‬أمية ‪ ،‬عن ابن بريدة ‪ ،‬عن أبيه ؛ أن رسول ال (‪ )8‬صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ"‬
‫"أنزلت عليّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري ‪ ،‬وهي ِبسْمِ الِ الرّ ْ‬
‫(‪.)9‬‬
‫وروي بإسناده عن عبد الكبير (‪ )10‬بن المعافى بن عمران ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمر بن ذَرّ ‪ ،‬عن‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ } هرب‬
‫سمِ الِ الرّ ْ‬
‫عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬لما نزل { بِ ْ‬
‫الغيم إلى المشرق ‪ ،‬وسكنت الرياح ‪ ،‬وهاج البحر ‪ ،‬وأصغت البهائم بآذانها ‪ ،‬ورُجِمت الشياطين‬
‫من السماء ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/34‬والمستدرك (‪.)2/260‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في هـ ‪" :‬أسد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فعدنا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬أأحد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪ )4/106‬قال الحافظ ابن حجر في الصابة (‪" : )4/33‬واختلف فيه على الوزاعي ‪،‬‬
‫فقال الكثر ‪ :‬عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز‪ .‬وقال ابن شماسة ‪ :‬عن الوزاعي‬
‫عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري (‪" : )7/6‬إسناده حسن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬انصرفنا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )4/23‬عن بكر بن سهل عن عبد ال بن صالح به‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )4/23‬من طريق ضمرة بن ربيعة به‪.‬‬
‫(‪ )10‬جزء الحسن بن عرفة برقم (‪.)19‬‬

‫( ‪)1/119‬‬

‫وحلف ال تعالى بعزته وجلله (‪ )1‬أل يسمى اسمه على شيء إل بارك فيه (‪.)2‬‬
‫[وقال وكيع عن العمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال ‪ :‬من أراد أن ينجيه ال من الزبانية‬
‫التسعة عشر فليقرأ ‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬ليجعل ال له من كل حرف منها جنة من كل‬
‫واحد ‪ ،‬ذكره ابن عطية والقرطبي (‪ )3‬ووجهه ابن عطية ونصره بحديث ‪" :‬فقد رأيت بضعة‬
‫وثلثين ملكا يبتدرونها" (‪ )4‬لقول الرجل ‪ :‬ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ‪ ،‬من أجل‬
‫أنها بضعة وثلثون حرفا وغير ذلك] (‪.)5‬‬
‫وقال المام أحمد بن حنبل في مسنده ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫سمعت أبا تميمة يحدث ‪ ،‬عن رديف النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬عثر بالنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقلت ‪َ :‬تعِس الشيطان‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تقل تعس الشيطان‪ .‬فإنك إذا‬
‫قلت ‪ :‬تعس الشيطان تعاظم ‪ ،‬وقال ‪ :‬بقوتي صرعته ‪ ،‬وإذا قلت ‪ :‬باسم ال ‪ ،‬تصاغر حتى يصير‬
‫مثل الذباب"‪.‬‬
‫هكذا وقع في رواية المام أحمد (‪ )6‬وقد روى (‪ )7‬النسائي في اليوم والليلة ‪ ،‬وابن مَرْدُويه في‬
‫تفسيره ‪ ،‬من حديث خالد الحذاء ‪ ،‬عن أبي تميمة هو الهجيمي ‪ ،‬عن أبي المليح بن أسامة بن‬
‫عمير ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت رديف النبي صلى ال عليه وسلم فذكره وقال ‪" :‬ل تقل هكذا ‪ ،‬فإنه‬
‫يتعاظم حتى يكون كالبيت ‪ ،‬ولكن قل ‪ :‬بسم ال ‪ ،‬فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة" (‪.)8‬فهذا من‬
‫تأثير بركة بسم ال ؛ ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول‪ .‬فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء ‪:‬‬
‫"كل أمر (‪ )9‬ل يبدأ فيه ببسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬فهو أجذم" (‪[ ، )10‬وتستحب البسملة عند‬
‫دخول الخلء ولما ورد من الحديث في ذلك (‪ ، )12( ] )11‬وتستحب في أوّل الوضوء لما جاء‬
‫في مسند المام أحمد والسنن ‪ ،‬من رواية أبي هريرة ‪ ،‬وسعيد بن زيد ‪ ،‬وأبي سعيد مرفوعًا ‪" :‬ل‬
‫وضوء لمن لم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬مسند أبي يعلى (‪ )1/147‬والمستدرك (‪ )4/85‬وتعقب الذهبي الحاكم فقال ‪" :‬بل ضعفوه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البزار في مسنده (‪" )2840‬كشف الستار" من طريق سعيد بن بشير ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن‬
‫أنس رضي ال عنه ‪ ،‬وقال ‪" :‬غريب من حديث أنس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في هـ ‪" :‬نويلة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬المسجد القصى"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بيت ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مستقبلوا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/36‬وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري ‪" :‬تركه الناس"‪.‬‬
‫وقال ابن معين ‪" :‬يضع الحديث"‪ .‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )24/207‬من طريق‬
‫إبراهيم بن حمزة الزبيري ‪ ،‬عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إقام"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬تمام"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في طـ ‪" :‬إقام"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬لها"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬وإتمام الركوع والسجود"‪.‬‬

‫( ‪)1/120‬‬
‫يذكر اسم ال عليه" (‪ ، )1‬وهو حديث حسن‪ .‬ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا ‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال بوجوبها مطلقًا ‪ ،‬وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة ‪ ،‬وأوجبها آخرون‬
‫عند الذكر ‪ ،‬ومطلقا في قول بعضهم ‪ ،‬كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء ال ‪ ،‬وقد ذكر‬
‫الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها ‪ :‬عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪" :‬إذا أتيت أهلك فسم ال ؛ فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته‬
‫حسنات" وهذا ل أصل له ‪ ،‬ول رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ول غيرها‪.‬‬
‫وهكذا تستحب عند الكل لما في صحيح مسلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لربيبه عمر‬
‫بن أبي سلمة ‪" :‬قل ‪ :‬باسم ال ‪ ،‬وكل بيمينك ‪ ،‬وكل مما يليك" (‪ .)2‬ومن العلماء من أوجبها‬
‫والحالة هذه ‪ ،‬وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين ‪ ،‬عن ابن عباس أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال ‪ :‬باسم ال ‪ ،‬اللهم جنبنا الشيطان ‪،‬‬
‫وجنب الشيطان ما رزقتنا ‪ ،‬فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا" (‪.)3‬‬
‫ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك ‪ :‬باسم ال ‪ ،‬هل‬
‫هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن ؛ أما من قدره باسم ‪ ،‬تقديره ‪ :‬باسم ال ابتدائي ‪،‬‬
‫سمِ اللّهِ مَجْرَاهَا َومُرْسَاهَا إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رَحِيمٌ } [هود ‪:‬‬
‫فلقوله تعالى ‪َ { :‬وقَالَ ا ْركَبُوا فِيهَا بِ ْ‬
‫‪ ، ]41‬ومن قدره بالفعل [أمرًا وخبرًا نحو ‪ :‬أبدَأ ببسم ال أو ابتدأت ببسم ال] (‪ ، )4‬فلقوله ‪:‬‬
‫{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ } [العلق ‪ ]1 :‬وكلهما صحيح ‪ ،‬فإن الفعل ل بُدّ له من مصدر ‪ ،‬فلك‬
‫أن تقدر الفعل ومصدره ‪ ،‬وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله ‪ ،‬إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكل أو‬
‫شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلة ‪ ،‬فالمشروع ذكر [اسم] (‪ )5‬ال في الشروع في ذلك كله ‪،‬‬
‫تبركًا وتيمنًا واستعانة على التمام والتقبل ‪ ،‬وال أعلم ؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم ‪،‬‬
‫عمَارة ‪ ،‬عن أبي روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬إن أوّل ما‬
‫من حديث بشر بن ُ‬
‫نزل به جبريل على محمد (‪ )6‬صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬يا محمد قل ‪ :‬أستعيذ بالسميع العليم‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ } قال ‪ :‬قال له جبريل ‪ :‬قل ‪:‬‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫من الشيطان الرجيم ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬قل ‪ { :‬بِ ْ‬
‫باسم ال يا محمد ‪ ،‬يقول ‪ :‬اقرأ بذكر ال ربك ‪ ،‬وقم ‪ ،‬واقعد بذكر ال‪[ .‬هذا] (‪ )7‬لفظ ابن جرير‬
‫(‪.)8‬‬
‫وأما مسألة السم ‪ :‬هل هو المسمى أو غيره ؟ ففيها للناس ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫[أحدها ‪ :‬أن السم هو المسمى ‪ ،‬وهو قول أبي عبيدة وسيبويه ‪ ،‬واختاره الباقلني وابن فورك ‪،‬‬
‫وقال فخر الدين الرازي ‪ -‬وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري ‪ -‬في مقدمات‬
‫تفسيره ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬قربانا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )8‬وصحيح مسلم برقم (‪.)16‬‬
‫(‪ )4‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/242‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪" :‬الخر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/242‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيها"‪.‬‬

‫( ‪)1/121‬‬

‫قالت الحشوية والكرامية والشعرية ‪ :‬السم نفس المسمى وغير التسمية ‪ ،‬وقالت المعتزلة ‪ :‬السم‬
‫غير المسمى ونفس التسمية ‪ ،‬والمختار عندنا ‪ :‬أن السم غير المسمى وغير التسمية ‪ ،‬ثم نقول ‪:‬‬
‫إن كان المراد بالسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة ‪ ،‬فالعلم الضروري‬
‫حاصل أنه غير المسمى ‪ ،‬وإن كان المراد بالسم ذات المسمى ‪ ،‬فهذا يكون من باب إيضاح‬
‫الواضحات وهو عبث ‪ ،‬فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى‬
‫العبث‪.‬‬
‫ثم شرع يستدل على مغايرة السم للمسمى ‪ ،‬بأنه قد يكون السم موجودًا والمسمى مفقودًا كلفظة‬
‫المعدوم ‪ ،‬وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون السم واحدًا والمسميات‬
‫متعددة كالمشترك ‪ ،‬وذلك دال على تغاير السم والمسمى ‪ ،‬وأيضا فالسم لفظ وهو عرض‬
‫والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها ‪ ،‬وأيضًا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد‬
‫اللفظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك ‪ ،‬ول يقوله عاقل ‪ ،‬وأيضا فقد قال ال تعالى ‪:‬‬
‫سمَاءُ ا ْلحُسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا } [العراف ‪ ، ]180 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن‬
‫{ ولِ ال ْ‬
‫ل تسعة وتسعين اسمًا" (‪ ، )1‬فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو ال تعالى ‪ ،‬وأيضا فقوله ‪{ :‬‬
‫حسْنَى } أضافها إليه ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ } [الواقعة ‪]96 ، 74 :‬‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫ولِ ال ْ‬
‫ونحو ذلك‪ .‬والضافة تقتضي المغايرة وقوله ‪ { :‬فَادْعُوهُ ِبهَا } أي ‪ :‬فادعوا ال بأسمائه ‪ ،‬وذلك‬
‫دليل على أنها غيره ‪ ،‬واحتج من قال ‪ :‬السم هو المسمى ‪ ،‬بقوله تعالى ‪ { :‬تَبَا َركَ اسْمُ رَ ّبكَ }‬
‫[الرحمن ‪ ]78 :‬والمتبارك هو ال‪ .‬والجواب ‪ :‬أن السم معظم لتعظيم الذات المقدسة ‪ ،‬وأيضا فإذا‬
‫قال الرجل ‪ :‬زينب طالق ‪ ،‬يعني امرأته طالق ‪ ،‬طلقت ‪ ،‬ولو كان السم غير المسمى لما وقع‬
‫الطلق ‪ ،‬والجواب ‪ :‬أن المراد أن الذات المسماة بهذا السم طالق‪ .‬قال الرازي ‪ :‬وأما التسمية‬
‫فإنها جعل السم معينا لهذه الذات فهي غير السم أيضا ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)2‬‬
‫{ ال } عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى ‪ ،‬يقال ‪ :‬إنه السم العظم ؛ لنه يوصف بجميع الصفات ‪،‬‬
‫حمَنُ الرّحِيمُ * ُهوَ اللّهُ‬
‫شهَا َدةِ ُهوَ الرّ ْ‬
‫ب وَال ّ‬
‫كما قال تعالى ‪ُ { :‬هوَ اللّهُ الّذِي ل إِلَهَ إِل ُهوَ عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫عمّا‬
‫الّذِي ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلمَِلكُ ا ْلقُدّوسُ السّلمُ ا ْل ُم ْؤمِنُ ا ْل ُمهَ ْيمِنُ ا ْلعَزِيزُ الْجَبّارُ ا ْلمُ َتكَبّرُ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫حسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫صوّرُ لَهُ ال ْ‬
‫يُشْ ِركُونَ * ُهوَ اللّهُ الْخَاِلقُ الْبَا ِرئُ ا ْل ُم َ‬
‫حكِيمُ } [الحشر ‪ ، ]24 - 22 :‬فأجرى السماء الباقية كلها صفات له ‪،‬‬
‫ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫وَالرْ ِ‬
‫حسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا } وقال تعالى ‪ُ { :‬قلْ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬ولِ ال ْ‬
‫حسْنَى } [السراء ‪ ]110 :‬وفي الصحيحين ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪:‬‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ ال ْ‬
‫الرّ ْ‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ل تسعة وتسعين اسما ‪ ،‬مائة إل واحدًا من أحصاها‬
‫دخل الجنة" (‪ ، )3‬وجاء تعدادها في رواية الترمذي ‪[ ،‬وابن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬حاجاته"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬يكشفا"‪.‬‬

‫( ‪)1/122‬‬

‫ماجه (‪ )1‬وبين (‪ )2‬الروايتين اختلف زيادات ونقصان ‪ ،‬وقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره‬
‫عن بعضهم أن ل خمسة آلف اسم ‪ :‬ألف في الكتاب والسنة الصحيحة ‪ ،‬وألف في التوراة ‪،‬‬
‫وألف في النجيل ‪ ،‬وألف في الزبور ‪ ،‬وألف في اللوح المحفوظ] (‪.)3‬‬
‫وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ؛ ولهذا ل يعرف في كلم العرب له اشتقاق من فعل‬
‫ويفعل ‪ ،‬فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد ل اشتقاق له‪ .‬وقد نقل القرطبي عن جماعة‬
‫من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم ‪ ،‬وروي عن الخليل‬
‫وسيبويه أن اللف واللم فيه لزمة‪ .‬قال الخطابي ‪ :‬أل ترى أنك تقول ‪ :‬يا ال ‪ ،‬ول تقول ‪ :‬يا‬
‫الرحمن ‪ ،‬فلول أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على اللف واللم (‪.)4‬وقيل ‪:‬‬
‫إنه مشتق ‪ ،‬واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن العَجّاج ‪:‬‬
‫ل در الغانيات ال ُمدّه‪ ...‬سبحن واسترجعن من تألهي (‪)5‬‬
‫فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر ‪ ،‬وهو التأله ‪ ،‬من أله يأله إلهة وتألهًا ‪ ،‬كما روي أن ابن عباس‬
‫قرأ ‪" :‬ويذرك وَإلهَتَك" قال ‪ :‬عبادتك ‪ ،‬أي ‪ :‬أنه كان ُيعْبَد ول َيعْبُد ‪ ،‬وكذا قال مجاهد وغيره‪.‬‬
‫ت َوفِي ال ْرضِ } [النعام ‪]3 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله ‪ { :‬وَ ُهوَ اللّهُ فِي ال ّ‬
‫سمَاءِ إِلَهٌ َوفِي ال ْرضِ إِلَهٌ }‬
‫أي ‪ :‬المعبود في السماوات والرض ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي فِي ال ّ‬
‫[الزخرف ‪ ، ]84 :‬ونقل سيبويه عن الخليل ‪ :‬أن أصله ‪ :‬إله ‪ ،‬مثل فعال ‪ ،‬فأدخلت اللف واللم‬
‫بدل من الهمزة ‪ ،‬قال سيبويه ‪ :‬مثل الناس ‪ ،‬أصله ‪ :‬أناس ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أصل الكلمة ‪ :‬له ‪ ،‬فدخلت‬
‫اللف واللم للتعظيم وهذا اختيار سيبويه‪ .‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫له ابن عمك ل أفضلت في حسب‪ ...‬عني ول أنت دياني فتخزوني (‪)6‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬بالخاء المعجمة ‪ ،‬أي ‪ :‬فتسوسني ‪ ،‬وقال الكسائي والفراء ‪ :‬أصله ‪ :‬الله حذفوا‬
‫الهمزة وأدغموا اللم الولى في الثانية ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬لكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي } [الكهف ‪ ]38 :‬أي ‪ :‬لكن‬
‫أنا ‪ ،‬وقد قرأها كذلك الحسن ‪ ،‬قال القرطبي ‪ :‬ثم قيل ‪ :‬هو مشتق من وله ‪ :‬إذا تحير ‪ ،‬والوله‬
‫ذهاب العقل ؛ يقال ‪ :‬رجل واله ‪ ،‬وامرأة ولهى ‪ ،‬وماء موله ‪ :‬إذا أرسل في الصحاري ‪ ،‬فال‬
‫تعالى تتحير أولو اللباب والفكر في حقائق صفاته ‪ ،‬فعلى هذا يكون أصله ‪ :‬وله ‪ ،‬فأبدلت الواو‬
‫همزة ‪ ،‬كما قالوا في وشاح ‪ :‬أشاح ‪ ،‬ووسادة ‪ :‬أسادة ‪ ،‬وقال فخر الدين الرازي ‪ :‬وقيل ‪ :‬إنه‬
‫مشتق من ألهت إلى فلن ‪ ،‬أي ‪ :‬سكنت إليه ‪ ،‬فالعقول ل تسكن إل إلى ذكره ‪ ،‬والرواح ل تفرح‬
‫إل بمعرفته ؛ لنه الكامل على الطلق دون‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أحدها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬لمؤمني"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )97‬وصحيح مسلم برقم (‪.)154‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/123‬‬

‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ } [الرعد ‪ ]28 :‬قال ‪ :‬وقيل ‪ :‬من له يلوه ‪:‬‬


‫غيره قال ال تعالى ‪ { :‬أَل بِ ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ‬
‫إذا احتجب‪ .‬وقيل ‪ :‬اشتقاقه من أله الفصيل ‪ ،‬إذ ولع بأمه ‪ ،‬والمعنى ‪ :‬أن العباد مألوهون مولعون‬
‫بالتضرع إليه في كل الحوال ‪ ،‬قال ‪ :‬وقيل ‪ :‬مشتق من أله الرجل يأله ‪ :‬إذا فزع من أمر نزل‬
‫به فألهه ‪ ،‬أي ‪ :‬أجاره ‪ ،‬فالمجير لجميع الخلئق من كل المضار هو ال سبحانه ؛ لقوله تعالى ‪" :‬‬
‫{ وَ ُهوَ ُيجِي ُر وَل ُيجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون ‪ ، ]88 :‬وهو المنعم لقوله ‪َ { :‬ومَا ِبكُمْ مِنْ ِن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ‬
‫ط َعمُ } [النعام ‪ ]14 :‬وهو الموجد لقوله ‪:‬‬
‫طعِ ُم وَل يُ ْ‬
‫} [النحل ‪ ]53 :‬وهو المطعم لقوله ‪ { :‬وَ ُهوَ يُ ْ‬
‫{ ُقلْ ُكلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } [النساء ‪.]78 :‬‬
‫وقد اختار فخر الدين أنه اسم علم غير مشتق البتة ‪ ،‬قال ‪ :‬وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر‬
‫الصوليين والفقهاء ‪ ،‬ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أنه لو كان مشتقًا لشترك في معناه كثيرون ‪ ،‬ومنها ‪ :‬أن بقية السماء تذكر صفات له ‪،‬‬
‫فتقول ‪ :‬ال الرحمن الرحيم الملك القدوس ‪ ،‬فدل أنه ليس بمشتق ‪ ،‬قال ‪ :‬فأما قوله تعالى ‪:‬‬
‫حمِيدِ اللّهِ } [إبراهيم ‪ ]2 ، 1 :‬على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان ‪،‬‬
‫{ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬
‫سمِيّا } [مريم ‪ ، ]65 :‬وفي الستدلل بهذه على كون هذا السم‬
‫ومنها قوله تعالى ‪َ { :‬هلْ َتعْلَمُ َلهُ َ‬
‫جامدًا غير مشتق نظر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وحكى فخر الدين عن بعضهم أنه ذهب إلى أن اسم ال تعالى عبراني ل عربي ‪ ،‬ثم ضعفه ‪،‬‬
‫وهو حقيق بالتضعيف كما قال ‪ ،‬وقد حكى فخر الدين هذا القول ثم قال ‪ :‬واعلم أن الخلق قسمان‬
‫‪ :‬واصلون إلى ساحل بحر المعرفة ‪ ،‬ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة ؛ فكأنهم‬
‫قد فقدوا عقولهم وأرواحهم ‪ ،‬وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء‬
‫والجلل ‪ ،‬فتاهوا في ميادين الصمدية ‪ ،‬وبادوا في عرصة الفردانية ‪ ،‬فثبت أن الخلق كلهم‬
‫والهون في معرفته ‪ ،‬وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال ‪ :‬لن الخلق يألهون إليه بنصب اللم‬
‫وجرها لغتان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه مشتق من الرتفاع ‪ ،‬فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع ‪ :‬لها ‪،‬‬
‫وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس ‪ :‬لهت‪.‬‬
‫وأصل ذلك الله ‪ ،‬فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة ‪ ،‬فالتقت اللم التي هي عينها مع اللم‬
‫الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الخرى ‪ ،‬فصارتا في اللفظ لمًا واحدة مشددة ‪،‬‬
‫وفخمت تعظيما ‪ ،‬فقيل ‪ :‬ال‪.‬‬
‫{ الرحمن الرحيم } اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ‪ ،‬ورحمن أشد مبالغة من‬
‫رحيم ‪ ،‬وفي كلم ابن جرير ما ُي ْفهِم حكاية التفاق على هذا ‪ ،‬وفي تفسير بعض السلف ما يدل‬
‫على ذلك ‪ ،‬كما تقدم في الثر ‪ ،‬عن عيسى عليه السلم ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬والرحمن رحمن الدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬والرحيم رحيم الخرة‪.‬‬

‫( ‪)1/124‬‬

‫وقد زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لتصل بذكر المرحوم وقد قال ‪َ { :‬وكَانَ‬
‫بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرحِيمًا } [الحزاب ‪ ، ]43 :‬وحكى ابن النباري في الزاهر عن المبرد ‪ :‬أن الرحمن‬
‫اسم عبراني ليس بعربي ‪ ،‬وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن ‪ :‬وقال أحمد بن يحيى ‪:‬‬
‫الرحيم عربي ‪ ،‬والرحمن عبراني ‪ ،‬فلهذا جمع بينهما‪ .‬قال أبو إسحاق ‪ :‬وهذا القول مرغوب عنه‬
‫(‪ .)1‬وقال القرطبي ‪ :‬والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن‬
‫عوف ‪ ،‬أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬قال ال تعالى ‪ :‬أنا الرحمن خلقت الرحم‬
‫وشققت لها اسمًا من اسمي ‪ ،‬فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" (‪ .)2‬قال ‪ :‬وهذا نص في‬
‫الشتقاق فل معنى للمخالفة والشقاق‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وإنكار العرب لسم الرحمن لجهلهم بال وبما وجب له ‪ ،‬قال القرطبي ‪ :‬هما بمعنى واحد‬
‫كندمان ونديم قاله أبو عبيد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ليس بناء فعلن كفعيل ‪ ،‬فإن فعلن ل يقع إل على مبالغة‬
‫الفعل نحو قولك ‪ :‬رجل غضبان ‪ ،‬وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول ‪ ،‬قال أبو علي‬
‫الفارسي ‪ :‬الرحمن ‪ :‬اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به ال تعالى ‪ ،‬والرحيم إنما هو من‬
‫جهة المؤمنين ‪ ،‬قال ال تعالى ‪َ { :‬وكَانَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَحِيمًا } [الحزاب ‪ ، ]43 :‬وقال ابن عباس ‪:‬‬
‫هما اسمان رقيقان ‪ ،‬أحدهما أرق من الخر ‪ ،‬أي أكثر رحمة ‪ ،‬ثم حكي عن الخطابي وغيره ‪:‬‬
‫أنهم استشكلوا هذه الصفة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لعله أرفق كما جاء في الحديث ‪" :‬إن ال رفيق يحب الرفق‬
‫في المر كله وإنه يعطي على الرفق ما ل يعطي على العنف" (‪ .)3‬وقال ابن المبارك ‪ :‬الرحمن‬
‫إذا سئل أعطى ‪ ،‬والرحيم إذا لم يسأل يغضب ‪ ،‬وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي‬
‫وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من لم يسأل ال يغضب عليه" (‪ ، )4‬وقال بعض الشعراء ‪:‬‬
‫ل تطلبن بني آدم حاجة‪ ...‬وسل الذي أبوابه ل تغلق (‪)5‬‬
‫ال يغضب إن تركت سؤاله‪ ...‬وبني آدم حين يسأل يغضب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بما في أيديهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )7362 ، 4485‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من طـ ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)1/249‬‬

‫( ‪)1/125‬‬

‫قال (‪ )1‬ابن جرير ‪ :‬حدثنا السري بن يحيى التميمي ‪ ،‬حدثنا عثمان بن ُزفَر ‪ ،‬سمعت العَرْزَميّ‬
‫يقول ‪ :‬الرحمن الرحيم ‪ ،‬قال ‪ :‬الرحمن لجميع الخلق ‪ ،‬الرحيم ‪ ،‬قال ‪ :‬بالمؤمنين‪ .‬قالوا ‪ :‬ولهذا‬
‫حمَنُ عَلَى ا ْلعَرْشِ اسْ َتوَى }‬
‫حمَنُ } [الفرقان ‪ ]59 :‬وقال ‪ { :‬الرّ ْ‬
‫قال ‪ُ { :‬ثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ الرّ ْ‬
‫[طه ‪ ]5 :‬فذكر الستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ‪ ،‬وقال ‪َ { :‬وكَانَ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ‬
‫رَحِيمًا } [الحزاب ‪ ]43 :‬فخصهم باسمه الرحيم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في‬
‫الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه ‪ ،‬والرحيم خاصة بالمؤمنين ‪ ،‬لكن جاء في الدعاء‬
‫المأثور ‪ :‬رحمن الدنيا والخرة ورحيمهما‪.‬‬
‫واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى ‪ُ { :‬قلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا‬
‫حسْنَى } وقال تعالى ‪ { :‬وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ ُرسُلِنَا‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ ال ْ‬
‫الرّ ْ‬
‫حمَنِ آِلهَةً ُيعْبَدُونَ } ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه‬
‫جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ‬
‫أَ َ‬
‫ال جلباب الكذب وشهر به ؛ فل يقال إل مسيلمة الكذاب ‪ ،‬فصار يُضرب به المثل في الكذب بين‬
‫أهل الحضر من أهل المدر ‪ ،‬وأهل الوبر من أهل البادية والعراب‪.‬‬
‫وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن ؛ لنه أكد به ‪ ،‬والتأكيد (‪ )2‬ل يكون إل‬
‫أقوى من المؤكّد ‪ ،‬والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد (‪ ، )3‬وإنما هو من باب النعت [بعد‬
‫النعت] (‪ )4‬ول يلزم فيه ما ذكروه ‪ ،‬وعلى هذا فيكون تقدير اسم ال الذي لم يسم به أحد غيره ‪،‬‬
‫ووصفه أول بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ُ { :‬قلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا‬
‫حسْنَى } [السراء ‪ .]110 :‬وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ ال ْ‬
‫الرّ ْ‬
‫التسمي به ولم يتابعه على ذلك إل من كان معه في الضللة‪ .‬وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬
‫غيره حيث قال ‪َ { :‬لقَدْ جَا َءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫رَءُوفٌ َرحِيمٌ } [التوبة ‪ ]128 :‬كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله ‪ { :‬إِنّا خََلقْنَا النْسَانَ‬
‫سمِيعًا َبصِيرًا } [النسان ‪.]2 :‬‬
‫جعَلْنَاهُ َ‬
‫طفَةٍ َأمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ َف َ‬
‫مِنْ نُ ْ‬
‫والحاصل ‪ :‬أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ‪ ،‬ومنها ما ل يسمى به غيره ‪ ،‬كاسم ال‬
‫والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك ؛ فلهذا بدأ باسم ال ‪ ،‬ووصفه بالرحمن ؛ لنه أخص‬
‫وأعرف من الرحيم ؛ لن التسمية أول إنما تكون بأشرف (‪ )5‬السماء ‪ ،‬فلهذا ابتدأ بالخص‬
‫فالخص‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فإذا كان الرحمن أشد مبالغة ؛ فهل اكتفى به عن الرحيم ؟ فقد روي عن عطاء‬
‫الخراساني ما معناه ‪ :‬أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن ‪ ،‬جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم‬
‫بذلك ‪ ،‬فإنه ل يوصف بالرحمن الرحيم إل ال تعالى‪ .‬كذا رواه ابن جرير عن عطاء‪ .‬ووجهه‬
‫بذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد زعم بعضهم أن العرب ل تعرف الرحمن ‪ ،‬حتى رد ال عليهم ذلك بقوله ‪ُ { :‬قلِ ادْعُوا اللّهَ‬
‫سمَاءُ ا ْلحُسْنَى } [السراء ‪ ]110 :‬؛ ولهذا قال كفار قريش‬
‫حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فََلهُ ال ْ‬
‫َأوِ ادْعُوا الرّ ْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ }‬
‫يوم الحديبية لما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعَلي ‪" :‬اكتب { ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫" ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ل نعرف الرحمن ول الرحيم‪ .‬رواه البخاري (‪ ، )6‬وفي بعض الروايات ‪ :‬ل نعرف‬
‫جدُ‬
‫حمَنُ أَنَسْ ُ‬
‫حمَنِ قَالُوا َومَا الرّ ْ‬
‫جدُوا لِلرّ ْ‬
‫الرحمن إل رحمن اليمامة‪ .‬وقال تعالى ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اسْ ُ‬
‫ِلمَا تَ ْأمُرُنَا وَزَادَ ُهمْ ُنفُورًا } [الفرقان ‪.]60 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مقتطعا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/40‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬إل أنه من"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وقد"‪.‬‬
‫( ‪)1/126‬‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪ )3‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ (‪)4‬‬


‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪ )2‬الرّ ْ‬
‫الْ َ‬

‫والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم ؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في‬
‫جهّال (‪)2‬‬
‫الجاهلية (‪ )1‬تسمية ال تعالى بالرحمن ‪ ،‬قال ابن جرير ‪ :‬وقد أنشد لبعض الجاهلية ال ُ‬
‫ضبَ الرحمنُ رَبى يمينها (‪)3‬‬
‫أل ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ َهجِينَها‪ ...‬أل َق َ‬
‫وقال سلمة بن جندب الطهوي ‪:‬‬
‫حمَن َي ْعقِد ويُطِْلقِ (‪)4‬‬
‫عجْلَتينَا عليكُمُ‪ ...‬وما يَشَأ ال ّر ْ‬
‫عَجِلتم علينا َ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا عثمان بن سعيد ‪ ،‬حدثنا بشر بن عمارة ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬الرحمن ‪ :‬الفعلن من الرحمة ‪ ،‬وهو من‬
‫كلم العرب ‪ ،‬وقال ‪ { :‬الرحمن الرحيم } [الفاتحة ‪ ]3 :‬الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه ‪،‬‬
‫والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه ‪ ،‬وكذلك أسماؤه كلها‪.‬‬
‫سعَدة ‪ ،‬عن عوف ‪ ،‬عن‬
‫وقال ابن جرير أيضًا ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا حماد بن مَ ْ‬
‫الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬الرحمن اسم ممنوع (‪.)5‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد [بن] (‪ )6‬يحيى بن سعيد القطان ‪ ،‬حدثنا زيد بن الحباب ‪،‬‬
‫حدثني أبو الشهب ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬الرحمن ‪ :‬اسم ل يستطيع الناس أن ينتحلوه ‪ ،‬تسمى به‬
‫تبارك وتعالى (‪.)7‬‬
‫وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا حرفًا { بسم‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ * مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } (‪ ، )8‬فقرأ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * الرّ ْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ * الْ َ‬
‫اللّهِ الرّ ْ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله ‪ { :‬الْ َ‬
‫وكسرت الميم للتقاء الساكنين وهم الجمهور‪ .‬وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فنقلوا حركة‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ * الْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫الميم وصلة الهمزة فيقولون ‪ { :‬بِ ْ‬
‫الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ (‪ )9‬قوله تعالى ‪ { :‬الم اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } قال ابن عطية ‪:‬‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪.} )2‬‬
‫ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت (‪ { .)10‬الْ َ‬
‫القراء السبعة على ضم الدال من قوله ‪ { :‬الحمدُ لِله } وهو مبتدأ وخبر‪ .‬وروي عن سفيان بن‬
‫عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قال "الحمدَ لِله" بالنصب وهو على إضمار فعل ‪ ،‬وقرأ ابن أبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وتفسيره" ‪ ،‬وفي طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬ويفسره"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬القسم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/42‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وقال ‪ :‬الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت به"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هذا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬قال ‪ :‬ثم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وكانوا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬يرفع"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قال ابن جرير"‬

‫( ‪)1/127‬‬

‫عبلة ‪" :‬الحمدُ لُله" بضم الدال واللم إتباعًا للثاني الول وله شواهد لكنه شاذ ‪ ،‬وعن الحسن وزيد‬
‫بن علي ‪" :‬الحمدِ لِله" بكسر الدال إتباعًا للول الثاني‪.‬‬
‫قال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬معنى { الحمد ل } الشكر ل خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه ‪،‬‬
‫ودون كل ما برأ من خلقه ‪ ،‬بما أنعم على عباده من النعم التي ل يحصيها العدد ‪ ،‬ول يحيط‬
‫بعددها غيره أحد ‪ ،‬في تصحيح اللت لطاعته ‪ ،‬وتمكين جوارح أجسام المكلفين لداء فرائضه ‪،‬‬
‫مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ‪ ،‬وغذّاهم به من نعيم العيش ‪ ،‬من غير استحقاق منهم ذلك‬
‫عليه ‪ ،‬ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ‪ ،‬من السباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في‬
‫النعيم المقيم ‪ ،‬فلربنا الحمد على ذلك كله أول وآخرًا‪.‬‬
‫[وقال ابن جرير ‪ { :‬الحمد ل } ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه‬
‫قال ‪ :‬قولوا ‪ { :‬الحمد ل } ] (‪.)1‬‬
‫قال ‪ :‬وقد قيل ‪ :‬إن قول القائل ‪ :‬الحمد ل ‪" ،‬ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى (‪ ، )2‬وقوله ‪:‬‬
‫الشكر ل ثناء عليه بنعمه وأياديه ‪ ،‬ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان‬
‫العرب يوقعون كل من الحمد والشكر مكان (‪ )3‬الخر‪.‬‬
‫[وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية‪ .‬وقال ابن‬
‫عباس ‪ { :‬الحمد ل } كلمة كل شاكر ‪ ،‬وقد استدل القرطبي لبن جرير بصحة قول القائل ‪:‬‬
‫{ الحمد ل } شكرًا (‪.)5( ] )4‬‬
‫وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد‬
‫هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللزمة والمتعدية ‪ ،‬والشكر ل يكون إل على المتعدية ‪،‬‬
‫ويكون بالجنان واللسان والركان ‪ ،‬كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫أفادتكم النعماء مني ثلثة‪ ...‬يدي ولساني والضمير المحجبا‬
‫ولكنهم (‪ )6‬اختلفوا ‪ :‬أيهما أعم ‪ ،‬الحمد أو الشكر ؟ على قولين ‪ ،‬والتحقيق أن بينهما عمومًا‬
‫وخصوصًا ‪ ،‬فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لنه يكون على الصفات اللزمة‬
‫والمتعدية ‪ ،‬تقول ‪ :‬حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه‪ .‬وهو أخص لنه ل يكون إل بالقول ‪،‬‬
‫والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه (‪ ، )7‬لنه يكون بالقول والعمل (‪ )8‬والنية ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬وهو‬
‫أخص لنه ل يكون إل على الصفات المتعدية ‪ ،‬ل يقال ‪ :‬شكرته لفروسيته ‪ ،‬وتقول ‪ :‬شكرته‬
‫على كرمه وإحسانه إليّ‪ .‬هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حمِدت الرجل أحمده‬
‫حمّاد الجوهري ‪ :‬الحمد نقيض الذم ‪ ،‬تقول ‪َ :‬‬
‫وقال أبو نصر إسماعيل بن َ‬
‫حمدًا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ما صح به بنظره"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)1/260‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪ )3334‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )11658‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)4244‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬منها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فلذلك"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في و ‪" :‬ذكره ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬إلى نقض"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬فلذلك"‪.‬‬

‫( ‪)1/128‬‬

‫ومحمدة (‪ ، )1‬فهو حميد ومحمود ‪ ،‬والتحميد أبلغ من الحمد ‪ ،‬والحمد أعم من الشكر‪ .‬وقال في‬
‫الشكر ‪ :‬هو الثناء على المحسن بما أولكه من المعروف ‪ ،‬يقال ‪ :‬شكرته ‪ ،‬وشكرت له‪ .‬وباللم‬
‫أفصح (‪.)2‬‬
‫[وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لنه يكون للحي وللميت وللجماد ‪ -‬أيضا ‪ -‬كما يمدح الطعام‬
‫والمال ونحو ذلك ‪ ،‬ويكون قبل الحسان وبعده ‪ ،‬وعلى الصفات المتعدية واللزمة أيضًا فهو أعم]‬
‫(‪.)3‬‬
‫ذكر أقوال السلف في الحمد‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو معمر القطيعي ‪ ،‬حدثنا حفص ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيْكة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عمر ‪ :‬قد عَِلمْنا سبحان ال ‪ ،‬ول إله إل ال ‪ ،‬فما‬
‫الحمد ل ؟ فقال علي ‪ :‬كلمة رضيها ال لنفسه (‪.)4‬‬
‫ورواه غير أبي َم ْعمَر ‪ ،‬عن حفص ‪ ،‬فقال ‪ :‬قال عمر لعلي ‪ ،‬وأصحابه عنده ‪ :‬ل إله إل ال ‪،‬‬
‫وسبحان ال ‪ ،‬وال أكبر ‪ ،‬قد عرفناها ‪ ،‬فما الحمد ل ؟ قال (‪ )5‬علي ‪ :‬كلمة أحبها [ال] (‪)6‬‬
‫لنفسه ‪ ،‬ورضيها لنفسه ‪ ،‬وأحب أن تقال (‪.)7‬‬
‫جدْعَان ‪ ،‬عن يوسف بن ِمهْرَان ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬الحمد ل كلمة‬
‫وقال علي بن زيد بن ُ‬
‫الشكر ‪ ،‬وإذا قال العبد ‪ :‬الحمد ل ‪ ،‬قال ‪ :‬شكرني عبدي‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وروى ‪ -‬أيضًا ‪ -‬هو وابن جرير ‪ ،‬من حديث بشر بن عمارة ‪ ،‬عن أبي روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ :‬أنه قال ‪ :‬الحمد ل هو الشكر ل والستخذاء له ‪ ،‬والقرار له بنعمه وهدايته‬
‫وابتدائه وغير ذلك‪.‬‬
‫وقال كعب الحبار ‪ :‬الحمد ل ثناء ال‪ .‬وقال الضحاك ‪ :‬الحمد ل رداء الرحمن‪ .‬وقد ورد‬
‫الحديث بنحو ذلك‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثني سعيد بن عمرو السّكوني ‪ ،‬حدثنا بقية بن الوليد ‪ ،‬حدثني عيسى بن‬
‫إبراهيم ‪ ،‬عن موسى بن أبي حبيب ‪ ،‬عن الحكم بن عمير ‪ ،‬وكانت له صحبة قال ‪ :‬قال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إذا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)1/265‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فيحتمل"‪.‬‬

‫( ‪)1/129‬‬

‫قلت ‪ :‬الحمد ل رب العالمين ‪ ،‬فقد شكرت ال ‪ ،‬فزادك" (‪.)1‬‬


‫وقد روى المام أحمد بن حنبل ‪ :‬حدثنا روح ‪ ،‬حدثنا عوف ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن السود بن‬
‫سريع ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أل أنشدك محامد حمدت بها ربي ‪ ،‬تبارك وتعالى ؟ فقال ‪:‬‬
‫"أما إن ربك يحب الحمد" (‪.)2‬‬
‫ورواه النسائي ‪ ،‬عن علي بن حجر ‪ ،‬عن ابن علية ‪ ،‬عن يونس بن عبيد ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن‬
‫السود بن سريع ‪ ،‬به (‪.)3‬‬
‫وروى الترمذي ‪ ،‬والنسائي وابن ماجه ‪ ،‬من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير ‪ ،‬عن طلحة بن‬
‫خراش ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أفضل الذكر ل إله‬
‫إل ال ‪ ،‬وأفضل الدعاء الحمد ل" (‪ .)4‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما أنعم ال على‬
‫عبد نعمة فقال ‪ :‬الحمد ل إل كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" (‪ .)5‬وقال القرطبي في تفسيره ‪،‬‬
‫وفي نوادر الصول عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لو أن الدنيا بحذافيرها في يد‬
‫رجل من أمتي ثم قال ‪ :‬الحمد ل ‪ ،‬لكان الحمد ل أفضل من ذلك" (‪ .)6‬قال القرطبي وغيره ‪ :‬أي‬
‫لكان إلهامه الحمد ل أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ؛ لن ثواب الحمد ل يفنى ونعيم الدنيا ل يبقى‬
‫‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬المال وَالْبَنُونَ زِي َنةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَ ّبكَ َثوَابًا‬
‫وَخَيْرٌ َأمَل } [الكهف ‪ .]46 :‬وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم حدثهم ‪" :‬أن عبدًا من عباد ال قال ‪ :‬يا رب ‪ ،‬لك الحمد كما ينبغي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/264‬‬
‫(‪ )2‬البيت في تفسير الطبري (‪ )1/265‬وهو للحارث المخزومي‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬كما أنزلت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يتلبس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬تفسيره"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬يخدعون"‪.‬‬

‫( ‪)1/130‬‬

‫لجلل وجهك وعظيم سلطانك ‪ ،‬فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ‪ ،‬فصعدا إلى السماء‬
‫فقال يا رب ‪ ،‬إن عبدا قد قال مقالة ل ندري كيف نكتبها ‪ ،‬قال ال ‪ -‬وهو أعلم بما قال عبده ‪: -‬‬
‫ماذا قال عبدي ؟ قال يا رب إنه قد قال ‪ :‬يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلل وجهك وعظيم‬
‫سلطانك‪ .‬فقال ال لهما ‪ :‬اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" (‪ .)1‬وحكى القرطبي عن‬
‫طائفة أنهم قالوا ‪ :‬قول العبد ‪ :‬الحمد ل رب العالمين ‪ ،‬أفضل من قول ‪ :‬ل إله إل ال ؛ لشتمال‬
‫الحمد ل رب العالمين على التوحيد مع الحمد ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬ل إله إل ال أفضل لنها الفصل‬
‫بين اليمان والكفر ‪ ،‬وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا ‪ :‬ل إله إل ال كما ثبت في الحديث المتفق‬
‫عليه وفي الحديث الخر في السنن ‪" :‬أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي ‪" :‬ل إله إل ال وحده‬
‫ل شريك له" (‪ .)2‬وقد تقدم عن جابر مرفوعا ‪" :‬أفضل الذكر ل إله إل ال ‪ ،‬وأفضل الدعاء‬
‫الحمد ل"‪ .‬وحسنه الترمذي‪.‬‬
‫واللف واللم في الحمد لستغراق جميع أجناس الحمد ‪ ،‬وصنوفه ل تعالى كما جاء في الحديث ‪:‬‬
‫"اللهم لك الحمد كله ‪ ،‬ولك الملك كله ‪ ،‬وبيدك الخير كله ‪ ،‬وإليك يرجع المر كله" الحديث (‪.)3‬‬
‫{ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } والرب هو ‪ :‬المالك المتصرف ‪ ،‬ويطلق في اللغة على السيد ‪ ،‬وعلى المتصرف‬
‫للصلح ‪ ،‬وكل ذلك صحيح في حق ال تعالى‪.‬‬
‫[ول يستعمل الرب لغير ال ‪ ،‬بل بالضافة تقول ‪ :‬رب الدار رب كذا ‪ ،‬وأما الرب فل يقال إل ل‬
‫عز وجل ‪ ،‬وقد قيل ‪ :‬إنه السم العظم] (‪.)4‬والعالمين ‪ :‬جمع عالم ‪[ ،‬وهو كل موجود سوى ال‬
‫عز وجل] (‪ ، )5‬والعالم جمع ل واحد له من لفظه ‪ ،‬والعوالم أصناف المخلوقات [في السماوات‬
‫والرض] (‪ )6‬في البر والبحر ‪ ،‬وكل قرن منها وجيل يسمى عالمًا أيضًا‪.‬‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫قال بشر بن عمارة ‪ ،‬عن أبي روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬الْ َ‬
‫[الفاتحة ‪ ]2 :‬الحمد ل الذي له الخلق كله ‪ ،‬السماوات والرضون ‪ ،‬ومن فيهن وما بينهن ‪ ،‬مما‬
‫نعلم ‪ ،‬وما ل نعلم‪.‬‬
‫وفي رواية سعيد بن جبير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬رب الجن والنس‪ .‬وكذلك قال سعيد بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ل تمنع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما أظهره"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬السبي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بكأس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ويزيدها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بإسخاطهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/131‬‬

‫جبير ‪ ،‬ومجاهد وابن جريج ‪ ،‬وروي عن علي [نحوه] (‪ .)1‬وقال (‪ )2‬ابن أبي حاتم ‪ :‬بإسناد ل‬
‫يعتمد عليه‪.‬‬
‫واستدل القرطبي لهذا القول بقوله ‪ { :‬لِ َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان ‪ ]1 :‬وهم الجن والنس‪.‬‬
‫وقال الفراء وأبو عبيدة ‪ :‬العالم عبارة عما يعقل وهم النس والجن والملئكة والشياطين ول يقال‬
‫للبهائم ‪ :‬عالم ‪ ،‬وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلء (‪ )3‬كل ما له روح يرتزق‪ .‬وذكر‬
‫الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ‪ -‬وهو آخر خلفاء بني أمية‬
‫ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار ‪ -‬أنه قال ‪ :‬خلق ال سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل‬
‫الرض عالم واحد وسائر ذلك ل يعلمه (‪ )4‬إل ال ‪ ،‬عز وجل‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬رب العالمين ‪ ،‬كل صنف عالم‪ .‬وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن‬
‫أبي العالية في قوله تعالى { رب العالمين } قال ‪ :‬النس عالم ‪ ،‬والجن عالم ‪ ،‬وما سوى (‪ )5‬ذلك‬
‫ثمانية عشر ألف عالم ‪ ،‬أو أربعة عشر ألف عالم ‪ ،‬هو يشك ‪ ،‬من الملئكة على الرض ‪،‬‬
‫وللرض أربع زوايا ‪ ،‬في كل زاوية ثلثة آلف عالم ‪ ،‬وخمسمائة عالم ‪ ،‬خلقهم [ال] (‪)6‬‬
‫لعبادته‪ .‬رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‪.‬‬
‫[وهذا كلم غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح] (‪.)7‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا هشام بن خالد ‪ ،‬حدثنا الوليد بن مسلم ‪ ،‬حدثنا الفرات ‪،‬‬
‫يعني ابن الوليد ‪ ،‬عن معتب (‪ )8‬بن سمي ‪ ،‬عن تُبَيع ‪ ،‬يعني الحميري ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬رب‬
‫العالمين } قال ‪ :‬العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ‪ ،‬وأربعمائة في البر‪.‬‬
‫[وحكي مثله عن سعيد بن المسيب] (‪.)9‬‬
‫وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا عبيد بن واقد القيسي ‪ ،‬أبو عباد ‪ ،‬حدثني محمد بن عيسى بن‬
‫كيسان ‪ ،‬حدثنا محمد بن الم ْنكَدِر ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬قلّ الجراد في سنة من سني‬
‫عمر التي ولي فيها فسأل عنه ‪ ،‬فلم يخبر بشيء ‪ ،‬فاغتم لذلك ‪ ،‬فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ‪،‬‬
‫وآخر إلى الشام ‪ ،‬وآخر إلى العراق ‪ ،‬يسأل ‪ :‬هل رئي من الجراد شيء أم ل ؟ قال ‪ :‬فأتاه‬
‫الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ‪ ،‬فألقاها بين يديه ‪ ،‬فلما رآها كبر ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬سمعت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)1/273‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/46‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4902‬وصحيح مسلم برقم (‪.)3314‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )25‬وصحيح مسلم برقم (‪ )22‬من حديث ابن عمرو رضي ال‬
‫عنهما‪.‬‬
‫(‪ )7‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬ناس"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)1/288‬‬

‫( ‪)1/132‬‬

‫"خلق ال ألف أمة ‪ ،‬ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ‪ ،‬فأول شيء يهلك من هذه المم‬
‫الجراد ‪ ،‬فإذا هلك (‪ )1‬تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" (‪.)2‬محمد بن عيسى هذا ‪ -‬وهو الهللي‬
‫‪ -‬ضعيف‪.‬‬
‫وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال ‪ :‬ل ألف عالَم ؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر‬
‫‪ ،‬وقال وهب بن منبه ‪ :‬ل ثمانية عشر ألف عالَم ؛ الدنيا عالم منها‪ .‬وقال مقاتل ‪ :‬العوالم ثمانون‬
‫ألفًا‪ .‬وقال كعب الحبار ‪ :‬ل يعلم عدد العوالم إل ال عز وجل‪ .‬نقله كله البغوي ‪ ،‬وحكى‬
‫القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال ‪ :‬إن ل أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها‬
‫عالم واحد منها ‪ ،‬وقال الزجاج ‪ :‬العالم كل ما خلق ال في الدنيا والخرة‪ .‬قال القرطبي ‪ :‬وهذا‬
‫عوْنُ َومَا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * قَالَ َربّ‬
‫هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين ؛ كقوله ‪ { :‬قال فِرْ َ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } والعالم مشتق من العلمة(قلت) ‪ :‬لنه علم دال‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز ‪:‬‬
‫فيا عجبا كيف يعصى الله‪ ...‬أم كيف يجحده الجاحد‬
‫وفي كل شيء له آية‪ ...‬تدل على أنه واحد‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪.} )3‬‬
‫{ الرّ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬الرحمن الرحيم } تقدم الكلم عليه في البسملة بما أغنى عن إعادته‪.‬‬
‫{ مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ (‪} )4‬‬
‫قرأ بعض القراء ‪ { :‬مَلِك َي ْومِ الدّينِ } وقرأ آخرون ‪ { :‬مَاِلكِ } (‪.)3‬وكلهما صحيح متواتر في‬
‫السبع‪.‬‬
‫[ويقال ‪ :‬مليك أيضًا ‪ ،‬وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ ‪" :‬ملكي يوم الدين" وقد رجح كل من‬
‫القراءتين مرجحون من حيث المعنى ‪ ،‬وكلهما صحيحة حسنة ‪ ،‬ورجح الزمخشري ملك ؛ لنها‬
‫ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ } وحكي عن‬
‫قراءة أهل الحرمين ولقوله ‪ِ { :‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َي ْومَ } وقوله ‪َ { :‬قوْلُهُ ا ْلحَ ّ‬
‫أبي حنيفة أنه قرأ "مََلكَ يومَ الدين" على أنه فعل وفاعل ومفعول ‪ ،‬وهذا شاذ غريب جدا] (‪.)4‬وقد‬
‫روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال ‪ :‬حدثنا أبو عبد الرحمن الذْ َر ِميّ ‪،‬‬
‫حدثنا عبد الوهاب عن عدي (‪ )5‬بن الفضل ‪ ،‬عن أبي المطرف ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ :‬أنه بلغه أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا‬
‫يقرءون ‪ { :‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } وأول من أحدث "مَِلكِ" مروان (‪.)6‬قلت ‪ :‬مروان عنده علم بصحة‬
‫ما قرأه ‪ ،‬لم يطلع عليه ابن شهاب ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مَرْدُويه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقرؤها ‪:‬‬
‫{ مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } (‪ )7‬ومالك مأخوذ من الملْك ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬إِنّا َنحْنُ نَ ِرثُ ال ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا‬
‫جعُونَ } [مريم ‪ ]40 :‬وقال ‪ُ { :‬قلْ أَعُوذُ بِ َربّ النّاسِ * مَِلكِ النّاسِ } [الناس ‪]2 ، 1 :‬‬
‫وَإِلَيْنَا يُرْ َ‬
‫وملك ‪ :‬مأخوذ من الملك كما قال تعالى ‪ِ { :‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ } [غافر ‪]16 :‬‬
‫ن َوكَانَ َي ْومًا‬
‫حمَ ِ‬
‫حقّ لِلرّ ْ‬
‫ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ } [النعام ‪ ]73 :‬وقال ‪ { :‬ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ الْ َ‬
‫وقال ‪َ { :‬قوْلُهُ ا ْلحَ ّ‬
‫عَلَى ا ْلكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان ‪.]26 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)1/289‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)1/289‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬لحاله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من (أ)‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬كما قال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/133‬‬

‫إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ (‪)5‬‬

‫وتخصيص الملك بيوم الدين ل ينفيه عما عداه ‪ ،‬لنه قد تقدم الخبار بأنه رب العالمين ‪ ،‬وذلك‬
‫عام في الدنيا والخرة ‪ ،‬وإنما أضيف إلى يوم الدين لنه ل يدعي أحد هنالك شيئا ‪ ،‬ول يتكلم أحد‬
‫ن َوقَالَ‬
‫حمَ ُ‬
‫ح وَا ْلمَل ِئكَ ُة صَفّا ل يَ َتكَّلمُونَ إِل مَنْ َأذِنَ لَهُ الرّ ْ‬
‫إل بإذنه ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬يوْمَ َيقُومُ الرّو ُ‬
‫سمَعُ إِل َه ْمسًا } [طه ‪:‬‬
‫حمَنِ فَل تَ ْ‬
‫صوَاتُ لِلرّ ْ‬
‫ت ال ْ‬
‫ش َع ِ‬
‫صوَابًا } [النبأ ‪ ]38 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَخَ َ‬
‫َ‬
‫سعِيدٌ } [هود ‪.]105 :‬‬
‫ش ِقيّ وَ َ‬
‫‪ ، ]108‬وقال ‪َ { :‬يوْمَ يَ ْأتِ ل َتكَلّمُ َنفْسٌ إِل بِإِذْ ِنهِ َفمِ ْنهُمْ َ‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ { :‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } يقول ‪ :‬ل يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما ‪،‬‬
‫كملكهم في الدنيا‪ .‬قال ‪ :‬ويوم الدين يوم الحساب للخلئق ‪ ،‬وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن‬
‫خيرًا فخير وإن شرًا فشر ‪ ،‬إل من عفا عنه‪ .‬وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف ‪،‬‬
‫وهو ظاهر‪.‬‬
‫وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى تفسير { مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } أنه القادر على إقامته ‪ ،‬ثم‬
‫شرع يضعفه‪.‬‬
‫والظاهر أنه ل منافاة بين هذا القول وما تقدم (‪ ، )1‬وأن كل من القائلين بهذا وبما قبله يعترف‬
‫بصحة القول الخر ‪ ،‬ول ينكره ‪ ،‬ولكن السياق أدل على المعنى الول من هذا ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬
‫حمَنِ } [الفرقان ‪ ]26 :‬والقول الثاني يشبه قوله ‪ { :‬وَ َيوْمَ َيقُولُ كُنْ‬
‫حقّ لِلرّ ْ‬
‫{ المُْلكُ َي ْومَئِذٍ الْ َ‬
‫فَ َيكُونُ } ‪[ ،‬النعام ‪ ]73 :‬وال أعلم‪.‬‬
‫والمَلِك في الحقيقة هو ال عز وجل ؛ قال ال تعالى ‪ُ { :‬هوَ اللّهُ الّذِي ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلمَِلكُ ا ْلقُدّوسُ‬
‫السّلمُ } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه مرفوعًا أخنع اسم عند ال رجل تسمى‬
‫بملك الملك ول مالك إل ال ‪ ،‬وفيهما عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬يقبض ال‬
‫الرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الرض ؟ أين الجبارون ؟ أين‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ } فأما تسمية غيره في‬
‫المتكبرون ؟" وفي القرآن العظيم ‪ِ { :‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َلكُمْ طَالُوتَ مَِلكًا } ‪َ { ،‬وكَانَ‬
‫جعََلكُمْ مُلُوكًا } وفي الصحيحين ‪( :‬مثل الملوك على‬
‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء َو َ‬
‫وَرَاءَهُمْ مَِلكٌ } { إِذْ َ‬
‫السرة)‪.‬‬
‫حقّ } ‪ ،‬وقال ‪ { :‬أئنا‬
‫والدين الجزاء والحساب ؛ كما قال تعالى ‪َ { :‬ي ْومَئِذٍ ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َنهُمُ الْ َ‬
‫لمدينون } أي مجزيون محاسبون ‪ ،‬وفي الحديث ‪" :‬الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت"‬
‫أي حاسب نفسه لنفسه ؛ كما قال عمر رضي ال عنه ‪" :‬حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ‪ ،‬وزنوا‬
‫أنفسكم قبل أن توزنوا ‪ ،‬وتأهبوا للعرض الكبر على من ل تخفى عليه أعمالكم ‪َ { :‬ي ْومَئِذٍ‬
‫خفَى مِ ْنكُمْ خَافِ َيةٌ } "‪.‬‬
‫ُتعْ َرضُونَ ل تَ ْ‬
‫{ إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ (‪.} )5‬‬
‫[قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من { إياك } وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي‬
‫قراءة شاذة مردودة ؛ لن "إيا" ضوء الشمس‪ .‬وقرأ بعضهم ‪" :‬أياك" بفتح الهمزة وتشديد الياء ‪،‬‬
‫وقرأ بعضهم ‪" :‬هياك" بالهاء بدل الهمزة ‪ ،‬كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫فهياك والمر الذي إن تراحبت‪ ...‬موارده ضاقت عليك مصادره‬
‫و { نستعين } بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والعمش فإنهما‬
‫كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس] (‪.)2‬العبادة في اللغة من الذلة ‪ ،‬يقال ‪:‬‬
‫طريق ُمعَبّد ‪ ،‬وبعير ُمعَبّد ‪ ،‬أي ‪ :‬مذلل ‪ ،‬وفي الشرع ‪ :‬عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع‬
‫والخوف‪.‬‬
‫وقدم المفعول وهو { إياك } ‪ ،‬وكرر ؛ للهتمام والحصر ‪ ،‬أي ‪ :‬ل نعبد إل إياك ‪ ،‬ول نتوكل إل‬
‫عليك ‪ ،‬وهذا هو كمال الطاعة‪ .‬والدين يرجع كله (‪ )3‬إلى هذين المعنيين ‪ ،‬وهذا كما قال بعض‬
‫السلف ‪ :‬الفاتحة سر القرآن ‪ ،‬وسرها هذه الكلمة ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } [الفاتحة ‪]5 :‬‬
‫فالول تبرؤ من الشرك ‪ ،‬والثاني تبرؤ من الحول والقوة ‪ ،‬والتفويض‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أو ذهبوا أو خلصوا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الملفوظ"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)5/178‬‬

‫( ‪)1/134‬‬

‫إلى ال عز وجل‪ .‬وهذا المعنى في غير آية من القرآن ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْيهِ‬
‫حمَنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ َت َوكّلْنَا } [الملك ‪:‬‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ } [هود ‪ُ { ]123 :‬قلْ ُهوَ الرّ ْ‬
‫َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫‪َ { ]29‬ربّ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِبِ ل إِلَهَ إِل ُهوَ فَاتّخِ ْذ ُه َوكِيل } [المزمل ‪ ، ]9 :‬وكذلك هذه الية‬
‫الكريمة ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }‪.‬‬
‫وتحول الكلم من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب ‪ ،‬وهو مناسبة (‪ ، )1‬لنه لما أثنى على ال‬
‫فكأنه اقترب وحضر بين يدي ال تعالى ؛ فلهذا قال ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ َنسْ َتعِينُ } وفي هذا دليل‬
‫على أن أول السورة خبر من ال تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى ‪ ،‬وإرشاد‬
‫لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ؛ ولهذا ل تصح صلة من لم يقل ذلك ‪ ،‬وهو قادر عليه ‪ ،‬كما جاء في‬
‫الصحيحين ‪ ،‬عن عبادة بن الصامت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل صلة لمن لم‬
‫يقرأ بفاتحة الكتاب" (‪ .)2‬وفي صحيح مسلم ‪ ،‬من حديث العلء بن عبد الرحمن ‪ ،‬مولى الحُ َرقَة ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يقول ال تعالى ‪ :‬قسمت‬
‫الصلة بيني وبين عبدي نصفين ‪ ،‬فنصفها لي ونصفها لعبدي ‪ ،‬ولعبدي ما سأل ‪ ،‬إذا قال العبد ‪:‬‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الفاتحة ‪ ]2 :‬قال ‪ :‬حمدني عبدي ‪ ،‬وإذا قال ‪ { :‬الرحمن الرحيم }‬
‫{ ا ْل َ‬
‫[الفاتحة ‪ ]3 :‬قال ‪ :‬أثنى علي عبدي ‪ ،‬فإذا قال ‪ { :‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } [الفاتحة ‪ ]4 :‬قال ال ‪:‬‬
‫مجدني عبدي ‪ ،‬وإذا قال ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } [الفاتحة ‪ ]5 :‬قال ‪ :‬هذا بيني وبين عبدي‬
‫ولعبدي ما سأل ‪ ،‬فإذا قال ‪ { :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ‬
‫ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } [الفاتحة ‪ ]7 ، 6 :‬قال ‪ :‬هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (‪.)3‬وقال‬
‫الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬إياك نعبد } يعني ‪ :‬إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا ل غيرك‬
‫{ وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ َنسْ َتعِينُ } يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم‪.‬‬
‫وإنما قدم ‪ { :‬إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لن العبادة له هي المقصودة ‪ ،‬والستعانة وسيلة‬
‫إليها ‪ ،‬والهتمام والحزم هو أن يقدم (‪ )4‬ما هو الهم فالهم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فما معنى النون في قوله ‪ { :‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي‬
‫واحد ‪ ،‬وإن كانت للتعظيم فل تناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب ‪ :‬بأن المراد من ذلك الخبار عن‬
‫جنس العباد والمصلي فرد منهم ‪ ،‬ول سيما إن كان في جماعة أو إمامهم ‪ ،‬فأخبر عن نفسه وعن‬
‫إخوانه (‪ )5‬المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لجلها (‪ ، )6‬وتوسط لهم بخير ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬يجوز‬
‫أن تكون للتعظيم ‪ ،‬كأن العبد قيل له ‪ :‬إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل ‪:‬‬
‫{ إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } ‪ ،‬وإذا كنت خارج العبادة فل تقل ‪ :‬نحن ول فعلنا ‪ ،‬ولو كنت في‬
‫مائة ألف أو ألف ألف لفتقار الجميع إلى ال عز وجل‪ .‬ومنهم من قال ‪ :‬ألطف في التواضع من‬
‫إياك أعبد ‪ ،‬لما في الثاني من تعظيمه نفسه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مجازيهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ومعاقبهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)1/303‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ناس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ب ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/135‬‬

‫اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْل ُمسْ َتقِيمَ (‪)6‬‬

‫من جعله نفسه وحده أهل لعبادة ال تعالى الذي ل يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ‪ ،‬ول يثني‬
‫عليه كما يليق به ‪ ،‬والعبادة مقام عظيم (‪ )1‬يشرف به العبد لنتسابه إلى جناب ال تعالى ‪ ،‬كما‬
‫قال بعضهم ‪:‬‬
‫ل تدعني إل بيا عبدها‪ ...‬فإنه أشرف أسمائي‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَابَ‬
‫وقد سمى ال رسوله بعبده في أشرف مقاماته [فقال] (‪ { )2‬ا ْل َ‬
‫} [الكهف ‪ { ]1 :‬وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ } [الجن ‪ { ]19 :‬سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْل }‬
‫[السراء ‪ ]1 :‬فسماه عبدًا عند إنزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به ‪ ،‬وأرشده إلى القيام‬
‫بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له ‪ ،‬حيث يقول ‪ { :‬وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنكَ َيضِيقُ‬
‫جدِينَ * وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّى يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ }‬
‫ك َوكُنْ مِنَ السّا ِ‬
‫حمْدِ رَ ّب َ‬
‫صَدْ ُركَ ِبمَا َيقُولُونَ * فَسَبّحْ بِ َ‬
‫[الحجر ‪.]99 - 97 :‬‬
‫وقد حكى فخر الدين في تفسيره عن بعضهم ‪ :‬أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة ؛ لكون‬
‫العبادة تصدر (‪ )3‬من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق ؛ قال ‪ :‬ولن ال متولي‬
‫مصالح عبده ‪ ،‬والرسول متولي مصالح أمته (‪ )4‬وهذا القول خطأ ‪ ،‬والتوجيه أيضًا ضعيف ل‬
‫حاصل له ‪ ،‬ولم يتعرض له فخر الدين بتضعيف ول رده‪ .‬وقال بعض الصوفية ‪ :‬العبادة إما‬
‫لتحصيل ثواب ورد عقاب ؛ قالوا ‪ :‬وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده ‪ ،‬وإما‬
‫للتشريف بتكاليف ال تعالى ‪ ،‬وهذا ‪ -‬أيضًا ‪ -‬عندهم ضعيف ‪ ،‬بل العالي أن يعبد ال لذاته‬
‫المقدسة الموصوفة بالكمال ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ولهذا يقول المصلي ‪ :‬أصلي ل ‪ ،‬ولو كان لتحصيل الثواب‬
‫ودرء (‪ )5‬العذاب لبطلت صلته‪ .‬وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا ‪ :‬كون العبادة ل عز وجل ‪،‬‬
‫ل ينافي أن يطلب معها ثوابا ‪ ،‬ول أن يدفع عذابًا ‪ ،‬كما قال ذلك العرابي ‪ :‬أما إني ل أحسن‬
‫دندنتك ول دندنة معاذ إنما أسأل ال الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"حولها ندندن" (‪.)6‬‬
‫{ اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ (‪} )6‬‬
‫قراءة الجمهور بالصاد‪ .‬وقرئ ‪" :‬السراط" وقرئ بالزاي ‪ ،‬قال الفراء ‪ :‬وهي لغة بني عذرة‬
‫وبلقين (‪ )7‬وبني كلب‪.‬‬
‫لما تقدم الثناء على المسؤول ‪ ،‬تبارك وتعالى ‪ ،‬ناسب أن يعقب بالسؤال ؛ كما قال ‪" :‬فنصفها لي‬
‫ونصفها لعبدي ‪ ،‬ولعبدي ما سأل" وهذا أكمل أحوال السائل ‪ ،‬أن يمدح مسؤوله ‪ ،‬ثم يسأل حاجته‬
‫[وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله ‪ { :‬اهدنا } ] (‪ ، )8‬لنه أنجح للحاجة وأنجع للجابة ‪ ،‬ولهذا أرشد‬
‫ال تعالى إليه لنه الكمل ‪ ،‬وقد يكون السؤال بالخبار عن حال السائل واحتياجه ‪ ،‬كما قال‬
‫موسى عليه السلم ‪َ { :‬ربّ إِنّي ِلمَا أَنز ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } [القصص ‪ ]24 :‬وقد يتقدمه مع‬
‫ذلك وصف المسؤول ‪ ،‬كقول ذي النون ‪ { :‬ل إِلَهَ إِل أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }‬
‫[النبياء ‪ ]87 :‬وقد يكون بمجرد الثناء‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ضللتهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ضلل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من طـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في هـ ‪" :‬فأما" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬كما قد يكون"‪.‬‬

‫( ‪)1/136‬‬

‫على المسؤول ‪ ،‬كقول الشاعر ‪:‬‬


‫أأذكر حاجتي أم قد كفاني‪ ...‬حياؤك إن شيمتك الحياء‬
‫إذا أثنى عليك المرء يوما‪ ...‬كفاه من تعرضه الثناء‬
‫والهداية هاهنا ‪ :‬الرشاد والتوفيق ‪ ،‬وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا (‪ { )1‬اهْدِنَا الصّرَاطَ‬
‫ا ْلمُسْ َتقِيمَ } فتضمن معنى ألهمنا ‪ ،‬أو وفقنا ‪ ،‬أو ارزقنا ‪ ،‬أو اعطنا ؛ { وهديناه النجدين } [البلد ‪:‬‬
‫‪ ]10‬أي ‪ :‬بينا له الخير والشر ‪ ،‬وقد تعدى بإلى ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬اجْتَبَا ُه وَ َهدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ‬
‫مُسْ َتقِيمٍ } [النحل ‪ { ]121 :‬فَاهْدُو ُهمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلجَحِيمِ } [الصافات ‪ ]23 :‬وذلك بمعنى الرشاد‬
‫والدللة ‪ ،‬وكذلك قوله تعالى ‪ { :‬وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } [الشورى ‪ ]52 :‬وقد تعدى‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا ِلهَذَا } [العراف ‪ ]43 :‬أي وفقنا لهذا وجعلنا له‬
‫باللم ‪ ،‬كقول أهل الجنة ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫أهل (‪.)2‬وأما الصراط المستقيم ‪ ،‬فقال المام أبو جعفر بن جرير ‪ :‬أجمعت المة من أهل التأويل‬
‫جميعًا على أن "الصراط المستقيم" هو الطريق الواضح الذي ل اعوجاج فيه‪.‬‬
‫خطَفي ‪:‬‬
‫وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ‪ ،‬فمن ذلك قول جرير بن عطية ال َ‬
‫أمي ُر المؤمنين على صِراطٍ‪ ...‬إذا اعوج الموارِدُ مُسْتَقيمِ‬
‫قال ‪ :‬والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر ‪ ،‬قال ‪ :‬ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل‬
‫قول وعمل ‪ ،‬وصف باستقامة أو اعوجاج ‪ ،‬فتصف المستقيم باستقامته ‪ ،‬والمعوج باعوجاجه‪.‬‬
‫ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط ‪ ،‬وإن كان يرجع حاصلها‬
‫إلى شيء واحد ‪ ،‬وهو المتابعة ل وللرسول ؛ فروي أنه كتاب ال ‪ ،‬قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا‬
‫الحسن بن عرفة ‪ ،‬حدثني يحيى بن يمان ‪ ،‬عن حمزة الزيات ‪ ،‬عن سعد ‪ ،‬وهو أبو (‪ )3‬المختار‬
‫الطائي ‪ ،‬عن ابن أخي الحارث العور ‪ ،‬عن الحارث العور ‪ ،‬عن علي بن أبي طالب ‪ ،‬رضي‬
‫ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الصراط المستقيم كتاب ال" (‪.)4‬وكذلك‬
‫رواه ابن جرير ‪ ،‬من حديث حمزة بن حبيب الزيات ‪ ،‬وقد [تقدم في فضائل القرآن فيما] (‪)5‬‬
‫رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث العور ‪ ،‬عن علي مرفوعا ‪" :‬وهو حبل ال المتين ‪،‬‬
‫وهو الذكر الحكيم ‪ ،‬وهو الصراط المستقيم" (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬هم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )5‬البيت للشهب بن رميلة ‪ ،‬كما في اللسان ‪ ،‬مادة "فلج"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الوحدة"‪.‬‬

‫( ‪)1/137‬‬

‫وقد روي هذا موقوفا عن علي ‪ ،‬وهو أشبه (‪ ، )1‬وال أعلم‪.‬‬


‫وقال الثوري ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬الصراط المستقيم‪ .‬كتاب ال ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬هو السلم‪ .‬وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال جبريل لمحمد ‪ ،‬عليهما السلم ‪:‬‬
‫قل ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬اهدنا الصراط المستقيم‪ .‬يقول ‪ :‬اهدنا (‪ )2‬الطريق الهادي ‪ ،‬وهو دين ال الذي ل‬
‫عوج فيه‪.‬‬
‫وقال ميمون بن ِمهْرَان ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } قال ‪ :‬ذاك‬
‫السلم‪ .‬وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة الهمداني ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس من أصحاب النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ { :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } قالوا ‪ :‬هو السلم‪ .‬وقال عبد ال بن محمد بن عقيل ‪ ،‬عن‬
‫جابر ‪ { :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } قال ‪ :‬السلم ‪ ،‬قال ‪ :‬هو أوسع مما بين السماء والرض‪.‬‬
‫وقال ابن الحنفية في قوله تعالى ‪ { :‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } قال هو دين ال ‪ ،‬الذي ل يقبل من‬
‫العباد غيره‪ .‬وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬اهدنا الصراط المستقيم ‪ ،‬قال ‪ :‬هو السلم‪.‬‬
‫وفي [معنى] (‪ )3‬هذا الحديث الذي رواه المام أحمد في مسنده ‪ ،‬حيث قال ‪ :‬حدثنا الحسن بن‬
‫سوار أبو العلء ‪ ،‬حدثنا ليث يعني ابن سعد ‪ ،‬عن معاوية بن صالح ‪ :‬أن عبد الرحمن بن جبير‬
‫بن نفير ‪ ،‬حدثه عن أبيه ‪ ،‬عن النواس بن سمعان ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"ضرب ال مثل صراطًا مستقيما ‪ ،‬وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ‪ ،‬وعلى‬
‫البواب ستور مرخاة ‪ ،‬وعلى باب الصراط داع يقول ‪ :‬يا أيها الناس ‪ ،‬ادخلوا الصراط جميعا‬
‫ول تعوجوا ‪ ،‬وداع يدعو من فوق الصراط ‪ ،‬فإذا أراد النسان أن يفتح شيئًا من تلك البواب ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ويحك ‪ ،‬ل تفتحه ؛ فإنك إن تفتحه تلجه‪ .‬فالصراط السلم ‪ ،‬والسوران حدود ال ‪،‬‬
‫والبواب المفتحة محارم ال ‪ ،‬وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب ال ‪ ،‬والداعي من فوق‬
‫الصراط واعظ ال في قلب كل مسلم"‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن جرير من حديث الليث بن سعد به (‪.)4‬ورواه الترمذي والنسائي‬
‫جميعا ‪ ،‬عن علي بن حجر عن بقية ‪ ،‬عن بُجَيْر (‪ )5‬بن سعد ‪ ،‬عن خالد بن َمعْدَان ‪ ،‬عن جبير‬
‫بن نفير ‪ ،‬عن النواس بن سمعان ‪ ،‬به (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬سبيل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فبينما"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فبينما"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ما حوله ذهب ال بنورهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/138‬‬

‫وهو إسناد صحيح ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬


‫وقال مجاهد ‪ { :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } ‪ ،‬قال ‪ :‬الحق‪ .‬وهذا أشمل ‪ ،‬ول منافاة بينه وبين ما‬
‫تقدم‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ‪ ،‬من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ؛ حدثنا حمزة بن‬
‫المغيرة ‪ ،‬عن عاصم الحول ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ { :‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } قال ‪ :‬هو النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وصاحباه من بعده ‪ ،‬قال عاصم ‪ :‬فذكرنا ذلك للحسن ‪ ،‬فقال ‪ :‬صدق أبو العالية‬
‫ونصح‪.‬‬
‫وكل هذه القوال صحيحة ‪ ،‬وهي متلزمة ‪ ،‬فإن من اتبع النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬واقتدى‬
‫باللذين من بعده أبي بكر وعمر ‪ ،‬فقد اتبع الحق ‪ ،‬ومن اتبع الحق فقد اتبع السلم ‪ ،‬ومن اتبع‬
‫السلم فقد اتبع القرآن ‪ ،‬وهو كتاب ال وحبله المتين ‪ ،‬وصراطه المستقيم ‪ ،‬فكلها صحيحة‬
‫يصدق بعضها بعضا ‪ ،‬ول الحمد‪.‬‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا محمد بن الفضل السقطي ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن مهدي ال ِمصّيصي ‪ ،‬حدثنا‬
‫يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬الصراط‬
‫المستقيم الذي تركنا عليه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم (‪ .)1‬ولهذا قال المام أبو جعفر بن‬
‫جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬والذي هو أولى بتأويل هذه الية عندي ‪ -‬أعني { ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }‬
‫ن أنعمت عليه مِنْ عبادك ‪ ،‬من‬
‫‪ -‬أن يكون معنيًا به ‪ :‬وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له مَ ْ‬
‫قول وعمل ‪ ،‬وذلك هو الصراط المستقيم ؛ لن مَن وفق لما وُفق له من أنعم ال عليهم (‪ )2‬مِن‬
‫النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ‪ ،‬فقد وُفق للسلم ‪ ،‬وتصديق الرسل ‪ ،‬والتمسك‬
‫بالكتاب ‪ ،‬والعمل بما أمره ال به ‪ ،‬والنزجار عما زجره عنه ‪ ،‬واتباع منهاج النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ومنهاج الخلفاء الربعة ‪ ،‬وكل عبد صالح ‪ ،‬وكل ذلك من الصراط المستقيم‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬كيف (‪ )3‬يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلة وغيرها ‪ ،‬وهو متصف بذلك ؟‬
‫فهل (‪ )4‬هذا من باب تحصيل الحاصل أم ل ؟‬
‫فالجواب ‪ :‬أن ل ولول احتياجه ليل ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده ال إلى ذلك ؛ فإن العبد‬
‫مفتقر في كل ساعة وحالة إلى ال تعالى في تثبيته على الهداية ‪ ،‬ورسوخه فيها ‪ ،‬وتبصره ‪،‬‬
‫وازدياده منها ‪ ،‬واستمراره عليها ‪ ،‬فإن العبد ل يملك لنفسه نفعا ول ضرا إل ما شاء ال ‪،‬‬
‫فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق ‪ ،‬فالسعيد من وفقه ال‬
‫تعالى لسؤاله ؛ فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ‪ ،‬ول سيما المضطر المحتاج المفتقر‬
‫إليه آناء الليل وأطراف النهار ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ‬
‫الّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَا ْلكِتَابِ الّذِي أَنزلَ مِنْ قَ ْبلُ } الية [النساء ‪ ، ]136 :‬فقد أمر الذين آمنوا‬
‫باليمان ‪ ،‬وليس في ذلك تحصيل الحاصل ؛ لن المراد الثبات والستمرار والمداومة على‬
‫العمال المعينة على ذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا ‪ { :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ } وقد كان الصدّيق رضي ال عنه يقرأ بهذه الية في الركعة الثالثة من‬
‫رَ ْ‬
‫صلة المغرب بعد الفاتحة سرًا‪ .‬فمعنى قوله تعالى ‪ { :‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } استمر بنا عليه‬
‫ول تعدل بنا إلى غيره‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فإقباله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬استوقد نارا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فهو"‪.‬‬

‫( ‪)1/139‬‬

‫صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا الضّالّينَ (‪)7‬‬

‫{ صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َعمْتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ (‪} )7‬‬
‫قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد ‪ { :‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } إلى آخرها أن ال يقول ‪" :‬هذا‬
‫لعبدي ولعبدي ما سأل"‪ .‬وقوله ‪ { :‬صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْي ِهمْ } مفسر للصراط المستقيم‪ .‬وهو‬
‫بدل منه عند النحاة ‪ ،‬ويجوز أن يكون عطف بيان ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫علَ ْيهِمْ } (‪ )1‬هم المذكورون في سورة النساء ‪ ،‬حيث قال ‪َ { :‬ومَنْ يُطِعِ اللّهَ‬
‫و { الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ َ‬
‫حسُنَ‬
‫ن وَ َ‬
‫شهَدَا ِء وَالصّالِحِي َ‬
‫ن وَال ّ‬
‫ن وَالصّدّيقِي َ‬
‫وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مِنَ النّبِيّي َ‬
‫أُولَ ِئكَ َرفِيقًا * ذَِلكَ ا ْل َفضْلُ مِنَ اللّ ِه َوكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا } [النساء ‪.]70 ، 69 :‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ‪ ،‬من ملئكتك ‪،‬‬
‫وأنبيائك ‪ ،‬والصديقين ‪ ،‬والشهداء ‪ ،‬والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى ‪َ { :‬ومَنْ يُطِعِ‬
‫اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } الية [النساء ‪.]69 :‬‬
‫وقال أبو جعفر ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ { :‬صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ } قال ‪ :‬هم النبيون‪ .‬وقال‬
‫ابن جُرَيْج ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬هم المؤمنون‪ .‬وكذا قال مجاهد‪ .‬وقال َوكِيع ‪ :‬هم المسلمون‪ .‬وقال‬
‫عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬هم النبي صلى ال عليه وسلم ومن معه‪ .‬والتفسير المتقدم ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس أعم ‪ ،‬وأشمل ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ وَل الضّالّينَ } [قرأ الجمهور ‪" :‬غير" بالجر على النعت ‪،‬‬
‫قال الزمخشري ‪ :‬وقرئ بالنصب على الحال ‪ ،‬وهي قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم وعمر‬
‫بن الخطاب ‪ ،‬ورويت عن ابن كثير ‪ ،‬وذو الحال الضمير في { عليهم } والعامل ‪ { :‬أنعمت }‬
‫والمعنى] (‪ )2‬اهدنا الصراط المستقيم ‪ ،‬صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ‪،‬‬
‫وهم أهل الهداية والستقامة والطاعة ل ورسله ‪ ،‬وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ‪ ،‬غير‬
‫صراط المغضوب عليهم ‪[ ،‬وهم] (‪ )3‬الذين فسدت إرادتهم ‪ ،‬فعلموا الحق وعدلوا عنه ‪ ،‬ول‬
‫صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضللة ل يهتدون إلى الحق ‪ ،‬وأكد الكلم‬
‫بل ليدل على أن َثمّ مسلكين فاسدين ‪ ،‬وهما طريقتا اليهود والنصارى‪.‬‬
‫وقد زعم بعض النحاة أن { غير } هاهنا استثنائية ‪ ،‬فيكون على هذا منقطعًا لستثنائهم من المنعم‬
‫عليهم وليسوا منهم ‪ ،‬وما أوردناه أولى ‪ ،‬لقول الشاعر (‪ )4‬كأنّك من جِمال بني أقَيش‪ُ ...‬ي َقعْقَعُ‬
‫عند (‪ )5‬رِجْلَيْه بشَنّ‬
‫أي ‪ :‬كأنك جمل من جمال بني أقيش ‪ ،‬فحذف الموصوف واكتفى بالصفة (‪ ، )6‬وهكذا ‪ { ،‬غَيْرِ‬
‫ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬لنها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬علمه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬طعنوا بكفرهم به"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فبذلك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يصدقه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬إل هو"‪.‬‬

‫( ‪)1/140‬‬

‫أي ‪ :‬غير صراط المغضوب عليهم‪.‬‬


‫اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ‪ ،‬وقد دل عليه سياق الكلم ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ { :‬ا ْهدِنَا‬
‫الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ } ثم قال تعالى ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } ومنهم‬
‫من زعم أن(ل) في قوله ‪ { :‬ول الضالين } زائدة ‪ ،‬وأن تقدير الكلم عنده ‪ :‬غير المغضوب‬
‫شعَر (‪)2‬‬
‫عليهم والضالين ‪ ،‬واستشهد ببيت العجاج ‪ :‬في بئْر ل حُورٍ سرى (‪ )1‬وما َ‬
‫أي في بئر حور‪ .‬والصحيح ما قدمناه‪ .‬ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلم في كتاب فضائل‬
‫القرآن ‪ ،‬عن أبي معاوية ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن السود ‪ ،‬عن عمر بن الخطاب ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬أنه كان يقرأ ‪ " :‬غَيْرِ ال َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَغَيْر الضّالّين"‪ .‬وهذا إسناد صحيح (‪)3‬‬
‫‪[ ،‬وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك] (‪ )4‬وهو محمول على أنه صدر منه على وجه‬
‫التفسير ‪ ،‬فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي ‪[ ،‬لئل يتوهم أنه معطوف على‬
‫{ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ } ] (‪ ، )5‬وللفرق بين الطريقتين ‪ ،‬لتجتنب كل منهما ؛ فإن طريقة أهل‬
‫اليمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ‪ ،‬واليهود فقدوا العمل ‪ ،‬والنصارى فقدوا العلم ؛ ولهذا‬
‫كان الغضب لليهود ‪ ،‬والضلل للنصارى ‪ ،‬لن من علم وترك استحق الغضب ‪ ،‬بخلف من لم‬
‫يعلم‪ .‬والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم ل يهتدون إلى طريقه ‪ ،‬لنهم لم يأتوا المر من‬
‫بابه ‪ ،‬وهو اتباع الرسول الحق ‪ ،‬ضلوا ‪ ،‬وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ‪ ،‬لكن‬
‫ضبَ عَلَيْهِ } ] (‪[ )6‬المائدة ‪:‬‬
‫غ ِ‬
‫أخص أوصاف اليهود الغضب [كما قال فيهم ‪ { :‬مَنْ َلعَنَهُ اللّ ُه وَ َ‬
‫‪ ]60‬وأخص أوصاف النصارى الضلل [كما قال ‪ { :‬قَ ْد ضَلّوا مِنْ قَ ْبلُ وََأضَلّوا كَثِيرًا َوضَلّوا عَنْ‬
‫سوَاءِ السّبِيل"] (‪[ } )7‬المائدة ‪ ، ]77 :‬وبهذا جاءت الحاديث والثار‪[ .‬وذلك واضح بين] (‪.)8‬قال‬
‫َ‬
‫المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت سِماك بن حرب ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫سمعت عبّاد بن حُبَيش ‪ ،‬يحدث عن عدي بن حاتم ‪ ،‬قال ‪ :‬جاءت خيل رسول ال صلى ال عليه‬
‫صفّوا له ‪ ،‬فقالت‬
‫وسلم ‪ ،‬فأخذوا عمتي وناسًا ‪ ،‬فلما أتوا بهم إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ُ‬
‫‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ناء الوافد وانقطع الولد ‪ ،‬وأنا عجوز كبيرة ‪ ،‬ما بي من خدمة ‪ ،‬فمُنّ علي مَنّ‬
‫ال عليك ‪ ،‬قال ‪" :‬من وافدك ؟" قالت ‪ :‬عدي بن حاتم ‪ ،‬قال ‪" :‬الذي فر من ال ورسوله!" قالت ‪:‬‬
‫حمْلنا ‪ ،‬فسألته ‪،‬‬
‫فمنّ علي ‪ ،‬فلما رجع ‪ ،‬ورجل إلى جنبه (‪ ، )9‬ترى أنه علي ‪ ،‬قال ‪ :‬سليه ُ‬
‫فأمر لها ‪ ،‬قال ‪ :‬فأتتني فقالت ‪ :‬لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ‪ ،‬فإنه قد أتاه فلن فأصاب‬
‫منه ‪ ،‬وأتاه فلن فأصاب منه ‪ ،‬فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ‪ ،‬وذكر قربهم من النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬فعرفت أنه ليس بملك كسرى ول قيصر ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عمي خرس"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬وكذا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ل يؤمنون"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬البيت في اللسان ‪ ،‬مادة "صقع" وهو فيه ‪ :‬يحكون بالمصقولة القواطع‪ ...‬تشقق البرق عن‬
‫الصواقع‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬استضاءوا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/141‬‬

‫"يا عدي ‪ ،‬ما أفرك (‪ )1‬أن يقال (‪ )2‬ل إله إل ال ؟ فهل من إله إل ال ؟ قال ‪ :‬ما أفرك (‪ )3‬أن‬
‫يقال ‪ :‬ال أكبر ‪ ،‬فهل شيء أكبر (‪ )4‬من ال ‪ ،‬عز وجل ؟"‪ .‬قال ‪ :‬فأسلمت ‪ ،‬فرأيت وجهه‬
‫استبشر ‪ ،‬وقال ‪" :‬المغضوب (‪ )5‬عليهم اليهود ‪ ،‬وإن الضالين النصارى" (‪.)6‬وذكر الحديث ‪،‬‬
‫ورواه الترمذي ‪ ،‬من حديث سماك بن حرب (‪ ، )7‬وقال ‪ :‬حسن غريب ل نعرفه إل من حديثه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد رواه حماد بن سلمة ‪ ،‬عن سماك ‪ ،‬عن مُ ّريّ بن َقطَريّ ‪ ،‬عن عدي بن حاتم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قول ال ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْي ِهمْ } قال ‪" :‬هم اليهود"‬
‫{ ول الضالين } قال ‪" :‬النصارى هم الضالون"‪ .‬وهكذا رواه سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن إسماعيل بن‬
‫أبي خالد ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن عدي بن حاتم به (‪.)8‬وقد روي حديث عدي هذا من طرق ‪ ،‬وله‬
‫ألفاظ كثيرة يطول ذكرها‪.‬‬
‫شقِيق ‪ ،‬أنه أخبره من‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن ُبدَيْل ال ُعقَيْلي ‪ ،‬أخبرني عبد ال بن َ‬
‫سمع النبي صلى ال عليه وسلم وهو بوادي القُرَى ‪ ،‬وهو على فرسه ‪ ،‬وسأله رجل من بني القين‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬من هؤلء ؟ قال ‪ " :‬المغضوب عليهم ‪ -‬وأشار إلى اليهود ‪ -‬والضالون‬
‫حذّاء ‪ ،‬عن عبد ال بن شقيق ‪ ،‬فأرسلوه‬
‫هم النصارى" (‪.)9‬وقد رواه الجُرَيري وعروة ‪ ،‬وخالد ال َ‬
‫(‪ ، )10‬ولم يذكروا من سمع النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬ووقع في رواية عروة تسمية عبد ال بن‬
‫عمر ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫طهْمان ‪ ،‬عن بديل بن ميسرة ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫وقد روى ابن مَرْدُويه ‪ ،‬من حديث إبراهيم بن َ‬
‫شقيق ‪ ،‬عن أبي ذر قال ‪ :‬سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال ‪:‬‬
‫"اليهود" ‪[ ،‬قال] (‪ )11‬قلت ‪ :‬الضالين ‪ ،‬قال ‪" :‬النصارى" (‪.)12‬وقال السّدّي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪،‬‬
‫وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة الهمداني ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن أناس من‬
‫أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } هم اليهود ‪ { ،‬ول الضالين } هم‬
‫النصارى‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬وابن جُرَيْج ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } اليهود ‪ { ،‬ول الضالين‬
‫}‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬فيه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يكذبون" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬يكون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ومنهم من يمشي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أن نبي ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" ،‬أبين و"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬داود"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في و ‪" :‬يؤتى"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يؤتى"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬ويتقد"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬الطيالسي"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬عتيبة"‪.‬‬
‫( ‪)1/142‬‬

‫[هم] (‪ )1‬النصارى‪.‬‬
‫وكذلك قال الربيع بن أنس ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬وغير واحد ‪ ،‬وقال ابن أبي حاتم ‪:‬‬
‫ول أعلم بين المفسرين في هذا اختلفًا‪.‬‬
‫وشاهد ما قاله هؤلء الئمة من أن اليهود مغضوب عليهم ‪ ،‬والنصارى ضالون ‪ ،‬الحديث‬
‫سهُمْ أَنْ‬
‫سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫المتقدم ‪ ،‬وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة ‪ { :‬بِ ْئ َ‬
‫علَى‬
‫ضبٍ َ‬
‫َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضِْلهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ فَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫ضبٍ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ } [البقرة ‪ ، ]90 :‬وقال في المائدة (‪ُ { )2‬قلْ َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ ِبشَرّ مِنْ‬
‫غ َ‬
‫َ‬
‫ج َعلَ مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِي َر وَعَبَدَ الطّاغُوتَ‬
‫غضِبَ عَلَيْهِ وَ َ‬
‫ذَِلكَ مَثُوبَةً عِ ْندَ اللّهِ مَنْ َلعَنَهُ اللّ ُه وَ َ‬
‫سوَاءِ السّبِيلِ } [المائدة ‪ ، ]60 :‬وقال تعالى ‪ُ { :‬لعِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ‬
‫ضلّ عَنْ َ‬
‫أُولَ ِئكَ شَرّ َمكَانًا وََأ َ‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ * كَانُوا ل يَتَنَا َهوْنَ‬
‫ع َ‬
‫بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُ َد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَِلكَ ِبمَا َ‬
‫عَنْ مُ ْنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِ ْئسَ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ } [المائدة ‪.]79 ، 78 :‬‬
‫وفي السيرة (‪ )4( )3‬عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى‬
‫الشام يطلبون الدين الحنيف ‪ ،‬قالت له اليهود ‪ :‬إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك‬
‫من غضب ال‪ .‬فقال ‪ :‬أنا من غضب ال أفر‪ .‬وقالت له النصارى ‪ :‬إنك لن تستطيع الدخول معنا‬
‫سخَط ال فقال ‪ :‬ل أستطيعه‪ .‬فاستمر على فطرته ‪ ،‬وجانب عبادة الوثان‬
‫حتى تأخذ بنصيبك من َ‬
‫ودين المشركين ‪ ،‬ولم يدخل مع أحد من اليهود ول النصارى ‪ ،‬وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا‬
‫في دين النصرانية ؛ لنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك ‪ ،‬وكان منهم ورقة بن نوفل ‪،‬‬
‫حتى هداه ال بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(مسألة) ‪ :‬والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الخلل بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب‬
‫مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الضراس ‪ ،‬ومخرج‬
‫الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ‪ ،‬ولن كل من الحرفين من الحروف المجهورة‬
‫ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ‪ ،‬فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الخر لمن‬
‫ل يميز ذلك وال أعلم‪ .‬وأما حديث ‪" :‬أنا أفصح من نطق بالضاد" فل أصل له وال أعلم‪ .‬فصل‬
‫اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ‪ ،‬على حمد ال وتمجيده والثناء عليه ‪ ،‬بذكر أسمائه‬
‫الحسنى المستلزمة لصفاته العليا (‪ ، )5‬وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ‪ ،‬وعلى إرشاده عبيده (‬
‫‪ )6‬إلى سؤاله والتضرع إليه ‪ ،‬والتبرؤ من حولهم وقوتهم ‪ ،‬وإلى إخلص العبادة له وتوحيده‬
‫باللوهية تبارك وتعالى ‪ ،‬وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ‪ ،‬وإلى سؤالهم إياه‬
‫الهداية إلى الصراط المستقيم ‪ ،‬وهو الدين القويم ‪ ،‬وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز‬
‫الصراط الحسي يوم القيامة ‪ ،‬المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ‪ ،‬والصديقين ‪،‬‬
‫والشهداء ‪ ،‬والصالحين‪.‬‬
‫واشتملت على الترغيب في العمال الصالحة ‪ ،‬ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ‪ ،‬والتحذير من‬
‫مسالك الباطل ؛ لئل يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ‪ ،‬وهم المغضوب عليهم والضالون‪ .‬وما‬
‫أحسن ما جاء إسناد النعام إليه في قوله تعالى ‪ { :‬صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ } وحذف الفاعل في‬
‫الغضب في قوله تعالى ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة ‪ ،‬كما‬
‫ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } الية [المجادلة ‪، ]14 :‬‬
‫غ ِ‬
‫قال تعالى ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬تحير"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وهذا شبه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬المؤمنين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بالمصباح الذي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ :‬قدم الية الثامنة على الية الثالثة من سورة الحج‪.‬‬

‫( ‪)1/143‬‬

‫وكذلك إسناد الضلل إلى من قام به ‪ ،‬وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬مَنْ‬
‫َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ َتجِدَ َل ُه وَلِيّا مُرْشِدًا } [الكهف ‪ .]17 :‬وقال ‪ { :‬مَنْ ُيضِْللِ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [العراف ‪ .]186 :‬إلى غير ذلك من اليات‬
‫اللّهُ فَل هَا ِديَ َل ُه وَيَذَرُهُمْ فِي ُ‬
‫الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والضلل ‪ ،‬ل كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا‬
‫حذوهم ‪ ،‬من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه (‪ ، )1‬ويحتجون على بدعتهم (‪ )2‬بمتشابه‬
‫من القرآن ‪ ،‬ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم ‪ ،‬وهذا حال أهل الضلل والغي ‪ ،‬وقد‬
‫ورد في الحديث الصحيح ‪" :‬إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ‪ ،‬فأولئك الذين سمى ال‬
‫فاحذروهم" (‪ .)3‬يعني في قوله تعالى ‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ } [آل‬
‫عمران ‪ ، ]7 :‬فليس ‪ -‬بحمد ال ‪ -‬لمبتدع في القرآن حجة صحيحة ؛ لن القرآن جاء ليفصل‬
‫الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلل ‪ ،‬وليس فيه تناقض ول اختلف ؛ لنه من عند ال ‪،‬‬
‫تنزيل من حكيم حميد (‪.)4‬‬
‫فصل‬
‫يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها ‪ :‬آمين [مثل ‪ :‬يس] (‪ ، )5‬ويقال ‪ :‬أمين‪ .‬بالقصر أيضًا‬
‫[مثل ‪ :‬يمين] (‪ ، )6‬ومعناه ‪ :‬اللهم استجب ‪ ،‬والدليل على ذلك (‪ )7‬ما رواه المام أحمد وأبو داود‬
‫‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬عن وائل بن حجر ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم قرأ ‪ { :‬غَيْرِ‬
‫ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } فقال ‪" :‬آمين" ‪ ،‬مد (‪ )8‬بها صوته ‪ ،‬ولبي داود ‪ :‬رفع بها‬
‫صوته (‪ ، )9‬وقال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن‪ .‬وروي عن علي ‪ ،‬وابن مسعود وغيرهم‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا تل { غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ وَل‬
‫الضّالّينَ } قال ‪" :‬آمين" حتى يسمع من يليه من الصف الول ‪ ،‬رواه أبو داود ‪ ،‬وابن ماجه ‪،‬‬
‫وزاد ‪ :‬يرتج (‪ )10‬بها المسجد (‪ ، )11‬والدارقطني وقال ‪ :‬هذا إسناد حسن‪.‬‬
‫وعن بلل أنه قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ل تسبقني بآمين‪ .‬رواه أبو داود (‪.)12‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في أول البقرة وآخرها" ‪ ،‬وفي جـ ‪" :‬في أول سورة الواقعة وفي آخرها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فلخص"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )34‬وصحيح مسلم برقم (‪ )58‬ولفظه ‪" :‬أربع من كن فيه كان منافقا‬
‫خالصا ‪ -‬والرابعة ‪ -‬وإذا خاصم فجر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬المددين"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)3/17‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬ابن إسحاق"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬غير هذا الموضع"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬فراشا" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )12‬صحيح البخاري برقم (‪ )4761‬وصحيح مسلم برقم (‪.)68‬‬

‫( ‪)1/144‬‬

‫ونقل أبو نصر القشيري (‪ )1‬عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل ‪ { :‬آمّينَ‬
‫الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ } [المائدة ‪.]2 :‬‬
‫قال أصحابنا وغيرهم ‪ :‬ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلة ‪ ،‬ويتأكد في حق المصلي ‪ ،‬وسواء‬
‫كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا ‪ ،‬وفي جميع الحوال ‪ ،‬لما جاء في الصحيحين ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إذا أمن المام فأمنوا ‪ ،‬فإنه‬
‫من وافق تأمينه تأمين الملئكة ‪ ،‬غفر له ما تقدم من ذنبه" ولمسلم ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪" :‬إذا قال أحدكم في الصلة ‪ :‬آمين ‪ ،‬والملئكة (‪ )2‬في السماء ‪ :‬آمين ‪ ،‬فوافقت‬
‫إحداهما الخرى ‪ ،‬غفر له ما تقدم من ذنبه" (‪[.)3‬قيل ‪ :‬بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملئكة في‬
‫الزمان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬في الجابة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬في صفة الخلص] (‪.)4‬وفي صحيح مسلم عن أبي موسى‬
‫مرفوعا ‪" :‬إذا (‪ )5‬قال ‪ ،‬يعني المام ‪ { :‬ول الضالين } ‪ ،‬فقولوا ‪ :‬آمين‪ .‬يجبكم ال" (‪.)6‬وقال‬
‫جوَيبر ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما معنى آمين ؟ قال ‪:‬‬
‫ُ‬
‫"رب افعل" (‪.)7‬وقال الجوهري ‪ :‬معنى آمين ‪ :‬كذلك فليكن ‪ ،‬وقال الترمذي ‪ :‬معناه ‪ :‬ل تخيب‬
‫رجاءنا ‪ ،‬وقال الكثرون ‪ :‬معناه ‪ :‬اللهم استجب لنا ‪ ،‬وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق‬
‫وهلل بن كيسان ‪ :‬أن آمين اسم من أسماء ال تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ول يصح ‪،‬‬
‫قاله أبو بكر بن العربي المالكي (‪.)8‬وقال أصحاب مالك ‪ :‬ل يؤمن المام ويؤمن المأموم ‪ ،‬لما‬
‫س َميّ ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‬
‫رواه مالك عن ُ‬
‫‪" :‬وإذا قال ‪ ،‬يعني المام ‪ { :‬ول الضالين } ‪ ،‬فقولوا ‪ :‬آمين"‪ .‬الحديث (‪ .)9‬واستأنسوا ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫بحديث أبي موسى ‪" :‬وإذا قرأ ‪ { :‬ول الضالين } ‪ ،‬فقولوا ‪" :‬آمين"‪.‬‬
‫وقد قدمنا في المتفق عليه ‪" :‬إذا أمن المام فأمنوا" وأنه عليه الصلة والسلم كان يؤمن إذا قرأ (‬
‫‪ { )10‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ول"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )7373‬ومسلم في صحيحه برقم (‪.)30‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ليقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )4980‬من حديث حذيفة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬ورواه المام أحمد في المسند (‪ )5/72‬من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )2118‬عن هشام بن عمار ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن عبد الملك بن‬
‫عمير به ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/151‬هذا إسناد رجاله ثقات على شرط البخاري‬
‫لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أندادا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10825‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )2117‬وقال البوصيري في‬
‫الزوائد (‪" : )1/150‬هذا فيه الجلح بن عبد ال ‪ ،‬مختلف فيه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/145‬‬
‫وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ‪ ،‬وحاصل الخلف أن المام إن نسي‬
‫التأمين جهر المأموم به قول واحدًا ‪ ،‬وإن أمّن المام جهرًا فالجديد أنه ل يجهر المأموم وهو‬
‫مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬ورواية عن مالك ؛ لنه ذكر من الذكار فل يجهر به كسائر أذكار الصلة‪.‬‬
‫والقديم أنه يجهر به ‪ ،‬وهو مذهب المام أحمد بن حنبل ‪ ،‬والرواية الخرى عن مالك ‪ ،‬لما (‪)1‬‬
‫تقدم ‪" :‬حتى يرتج المسجد"‪.‬‬
‫ولنا قول آخر ثالث ‪ :‬أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم (‪ ، )2‬لنهم يسمعون قراءة‬
‫المام ‪ ،‬وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روى المام أحمد في مسنده ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ذكرت عنده اليهود ‪ ،‬فقال ‪" :‬إنهم لن يحسدونا (‪ )3‬على شيء كما يحسدونا (‪ )4‬على‬
‫الجمعة التي هدانا ال لها وضلوا عنها ‪ ،‬وعلى القبلة التي هدانا ال لها وضلوا عنها ‪ ،‬وعلى قولنا‬
‫خلف المام ‪ :‬آمين" (‪ ، )5‬ورواه ابن ماجه ‪ ،‬ولفظه ‪" :‬ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم‬
‫على السلم والتأمين" (‪ ، )6‬وله عن ابن عباس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما‬
‫حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول ‪ :‬آمين ‪ ،‬فأكثروا من قول ‪" :‬آمين" (‪ )7‬وفي‬
‫إسناده طلحة بن عمرو ‪ ،‬وهو ضعيف‪.‬‬
‫وروى ابن مَ ْردُويه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬آمين ‪ :‬خاتم‬
‫رب العالمين على عباده المؤمنين" (‪.)8‬وعن أنس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"أعطيت آمين في الصلة وعند الدعاء ‪ ،‬لم يعط أحد قبلي إل أن يكون موسى ‪ ،‬كان موسى يدعو‬
‫‪ ،‬وهارون يؤمن ‪ ،‬فاختموا الدعاء بآمين ‪ ،‬فإن ال يستجيبه لكم" (‪.)9‬‬
‫قلت ‪ :‬ومن هنا نزع بعضهم في الدللة بهذه الية الكريمة ‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪َ { :‬وقَالَ مُوسَى‬
‫طمِسْ‬
‫ن َومَلهُ زِي َن ًة وََأ ْموَال فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ‬
‫عوْ َ‬
‫رَبّنَا إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫عوَ ُت ُكمَا‬
‫عَلَى َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَل ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ اللِيمَ * قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ‬
‫فَاسْ َتقِيمَا وَل تَتّ ِبعَانّ سَبِيلَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ } [يونس ‪ ، ]89 ، 88 :‬فذكر الدعاء عن موسى‬
‫وحده ‪ ،‬ومن سياق الكلم ما يدل على أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬لن هذا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ال وحده"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عمله"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬سره"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ب ‪" :‬أطيب عند ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬نفسي منكم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬وصلى وزعم أنه مسلم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬وإن صلى وإن صام"‪.‬‬

‫( ‪)1/146‬‬

‫عوَ ُت ُكمَا } [يونس ‪ ، ]89 :‬فدلّ‬


‫هارون أمّن ‪ ،‬فنزل منزلة من دعا ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬قَدْ أُجِي َبتْ دَ ْ‬
‫ذلك على أن من أمّن على دعاء فكأنما قاله ؛ فلهذا قال من قال ‪ :‬إن المأموم ل يقرأ لن تأمينه‬
‫على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ؛ ولهذا جاء في الحديث ‪" :‬من كان له إمام فقراءة المام له‬
‫قراءة" ‪ ،‬وكان بلل يقول ‪ :‬ل تسبقني بآمين‪ .‬فدل هذا المنزع على أن المأموم ل قراءة عليه في‬
‫الجهرية ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن مَرْدُويه ‪ :‬حدثنا أحمد بن الحسن ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن محمد بن سلم ‪ ،‬حدثنا إسحاق‬
‫بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن كعب ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إذا قال المام ‪ { :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ } فقال ‪:‬‬
‫آمين ‪ ،‬فتوافق (‪ )1‬آمين أهل الرض آمين أهل السماء ‪ ،‬غفر ال للعبد ما تقدم من ذنبه ‪ ،‬ومثل‬
‫من ل يقول ‪ :‬آمين ‪ ،‬كمثل رجل غزا مع قوم ‪ ،‬فاقترعوا ‪ ،‬فخرجت سهامهم ‪ ،‬ولم يخرج سهمه ‪،‬‬
‫فقال ‪ِ :‬لمَ لَمْ يخرج سهمي ؟ فقيل ‪ :‬إنك لم تقل ‪ :‬آمين" (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بل بما سماهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)4/130‬‬

‫( ‪)1/147‬‬

‫[بسم ال الرحمن الرحيم] (‪)1‬‬


‫تفسير سورة البقرة‬
‫خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ‪ ،‬وستة آلف ومائة وعشرون كلمة ‪ ،‬ومائتان وستة‬
‫وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي ال عنه‪.‬‬
‫ذكر ما ورد في فضلها‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عارم ‪ ،‬حدثنا معتمر ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن معقل بن‬
‫يسار ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬البقرة سَنَام القرآن وذروته ‪ ،‬نزل مع كل آية‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ" [البقرة ‪ ]255 :‬من تحت العرش‬
‫منها ثمانون مََلكًا ‪ ،‬واستخرجت ‪" :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬
‫‪ ،‬فوصلت بها ‪ ،‬أو فوصلت بسورة البقرة ‪ ،‬ويس ‪ :‬قلب القرآن ‪ ،‬ل يقرؤها رجل يريد ال ‪،‬‬
‫والدار الخرة إل غفر له ‪ ،‬واقرؤوها على موتاكم " انفرد به أحمد (‪.)2‬‬
‫وقد رواه أحمد ‪ -‬أيضًا ‪ -‬عن عارم ‪ ،‬عن عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن سليمان التيمي (‪ )3‬عن أبي‬
‫عثمان ‪ -‬وليس بال ّنهْدي ‪ -‬عن أبيه ‪ ،‬عن َم ْعقِل بن يَسَار ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ " :‬اقرؤوها على موتاكم " يعني ‪ :‬يس (‪.)4‬‬
‫فقد بَيّنّا بهذا السناد معرفة المبهم في الرواية الولى‪ .‬وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في‬
‫الرواية الثانية أبو داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجه (‪.)5‬‬
‫وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير ‪ ،‬وفيه ضعف ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬لكل شيء سنام ‪ ،‬وإن سَنَام القرآن البقرة ‪ ،‬وفيها‬
‫آية هي سيدة آي القرآن ‪ :‬آية الكرسي " (‪.)6‬‬
‫وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي ‪ ،‬من حديث سهيل (‪ )7‬بن أبي صالح ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬ل تجعلوا بيوتكم قبورًا ‪ ،‬فإن‬
‫البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ل يدخله الشيطان " (‪ )8‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)5/26‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬التميمي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )5/26‬وأبو عثمان لم يوثقه سوى ابن حبان وأبوه ل يعرف ‪ ،‬وقد اتضح أن الحديث‬
‫مضطرب ‪ ،‬اختلف فيه على سليمان التميمي‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن أبي داود برقم (‪ )3121‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10913‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)1448‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪ )2878‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )2/259‬من طريق حكيم بن جبير‬
‫به‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬سهل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )2/284‬وصحيح مسلم برقم (‪ )780‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2877‬وسنن النسائي‬
‫الكبرى برقم (‪.)8015‬‬

‫( ‪)1/149‬‬

‫وقال أبو عبيد القاسم بن سلم ‪ :‬حدثني ابن أبي مريم ‪ ،‬عن ابن (‪ )1‬لهيعة ‪ ،‬عن يزيد بن أبي‬
‫حبيب ‪ ،‬عن سِنان بن سعد ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬‬
‫إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " (‪.)2‬‬
‫سنان بن سعد ‪ ،‬ويقال بالعكس ‪ ،‬وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن سلمة بن ُكهَيْل ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪،‬‬
‫عن عبد ال ‪ ،‬يعني ابن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة‪.‬‬
‫ورواه النسائي في اليوم والليلة ‪ ،‬وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة (‪ )3‬ثم قال الحاكم‬
‫‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وقال ابن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا أحمد بن كامل ‪ ،‬حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ‪ ،‬حدثنا أيوب بن سليمان‬
‫بن بلل ‪ ،‬حدثني أبو بكر بن أبي أويس ‪ ،‬عن سليمان بن بلل ‪ ،‬عن محمد بن عجلن ‪ ،‬عن أبي‬
‫إسحاق ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ " :‬ل أ ْلفَيَنّ أحَدَكم ‪َ ،‬يضَع إحدى رجليه على الخرى يتغنى ‪ ،‬ويدع سورة البقرة يقرؤها ‪ ،‬فإن‬
‫صفْر من كتاب ال‬
‫ج ْوفُ ال ّ‬
‫الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة ‪ ،‬وإن أصفْرَ البيوت ‪ ،‬ال َ‬
‫"‪.‬‬
‫وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ‪ ،‬عن محمد بن نصر ‪ ،‬عن أيوب بن سليمان ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال ‪ :‬ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إل خرج منه‬
‫الشيطان وله ضراط (‪ .)5‬وقال ‪ :‬إن لكل شيء سناما ‪ ،‬وإن سنام القرآن سورة البقرة ‪ ،‬وإن لكل‬
‫شيء لبابًا ‪ ،‬وإن لباب القرآن المفصل (‪ .)6‬وروى ‪ -‬أيضا ‪ -‬من طريق الشعبي قال ‪ :‬قال عبد‬
‫ال بن مسعود ‪ :‬من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة‬
‫أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلث آيات من آخرها (‪ )7‬وفي رواية ‪ :‬لم يقربه ول‬
‫أهله يومئذ شيطان ول شيء يكرهه ول يقرأن على مجنون إل أفاق‪.‬‬
‫وعن سهل بن سعد قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن لكل شيء سناما ‪ ،‬وإن سنام‬
‫القرآن البقرة ‪ ،‬من قرأها في بيته ليلة (‪ )8‬لم يدخله الشيطان (‪ )9‬ثلث ليال ‪ ،‬ومن قرأها في بيته‬
‫نهارًا لم يدخله‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أبي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬فضائل القرآن (ص ‪.)121‬‬
‫(‪ )3‬فضائل القرآن لبي عبيد (ص ‪ )121‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10800‬والمستدرك (‬
‫‪.)2/260‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10799‬ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (‪)3292‬‬
‫"مجمع البحرين" من طريق حلو بن السري ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫به مرفوعا وخالفهما ‪ -‬أي ابن عجلن وحلو بن السري ‪ -‬شعبة ‪ ،‬فرواه عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال فوقفه ‪ ،‬أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (‪ )176‬وشعبة‬
‫أوثق الناس في أبي إسحاق ‪ ،‬ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (‪ )165‬من طريق‬
‫إبراهيم ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال موقوفا‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن الدارمي برقم (‪.)3375‬‬
‫(‪ )6‬سنن الدارمي برقم (‪.)3377‬‬
‫(‪ )7‬سنن الدارمي برقم (‪.)3383‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬ليل"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬شيطان"‪.‬‬

‫( ‪)1/150‬‬

‫الشيطان (‪ )1‬ثلثة أيام "‪.‬‬


‫رواه أبو القاسم الطبراني ‪ ،‬وأبو حاتم ‪ ،‬وابن حبان في صحيحه (‪.)2‬‬
‫وقد روى الترمذي ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر ‪ ،‬عن سعيد‬
‫المقبري ‪ ،‬عن عطاء مولى أبي أحمد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬بعث رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بعثا وهم ذوو عدد ‪ ،‬فاستقرأهم فاستقرأ ُكلّ واحد منهم ‪ ،‬يعني ما معه من القرآن ‪ ،‬فأتى‬
‫على رجل من أحدثهم سنًا ‪ ،‬فقال ‪ " :‬ما معك يا فلن ؟ " قال ‪ :‬معي كذا وكذا وسورة البقرة ‪،‬‬
‫فقال ‪ " :‬أمعك سورة البقرة ؟" قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ " :‬اذهب فأنت أميرهم " فقال رجل من أشرافهم ‪:‬‬
‫وال ما منعني أن أتعلم البقرة (‪ )3‬إل أني خشيت أل أقوم بها‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ " :‬تعلموا القرآن واقرؤوه ‪ ،‬فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو‬
‫سكًا يفوح ريحه في كل مكان ‪ ،‬ومثل من تعلمه ‪ ،‬فيرقد وهو في جوفه ‪ ،‬كمثل جراب أوكِي‬
‫مْ‬
‫على مسك " (‪.)4‬‬
‫هذا لفظ رواية الترمذي ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هذا حديث حسن‪ .‬ثم رواه من حديث الليث ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن‬
‫عطاء مولى أبي أحمد مرسل فال أعلم (‪.)5‬‬
‫قال (‪ )6‬البخاري ‪ :‬وقال الليث ‪ :‬حدثني يزيد بن الهاد ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم ‪ ،‬عن أسَيد بن‬
‫حضَير (‪ )7‬قال ‪ :‬بينما هو يقرأ من الليل (‪ )8‬سورة البقرة ‪ ،‬وفرسه مربوطة عنده ‪ ،‬إذ جالت‬
‫ُ‬
‫الفرس ‪ ،‬فسكت ‪ ،‬فسكَنتْ ‪ ،‬فقرأ (‪ )9‬فجالت الفرس ‪ ،‬فسكت ‪ ،‬فسكنت ‪ ،‬ثم قرأ فجالت الفرس ‪،‬‬
‫فانصرف ‪ ،‬وكان ابنه يحيى قريبًا منها‪ .‬فأشفق أن تصيبه ‪ ،‬فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى‬
‫حضَير (‪ ." )10‬قال ‪:‬‬
‫ما يراها ‪ ،‬فلما أصبح حدث النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ " :‬اقرأ يا ابن ُ‬
‫فأشفقت يا رسول ال أن تطأ يحيى ‪ ،‬وكان منها قريبًا ‪ ،‬فرفعت رأسي وانصرفت إليه ‪ ،‬فرفعت‬
‫رأسي إلى السماء ‪ ،‬فإذا مثل الظّلّة فيها أمثال المصابيح ‪ ،‬فخرجت حتى ل أراها ‪ ،‬قال ‪" :‬‬
‫وتدري ما ذاك ؟ "‪ .‬قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ " :‬تلك الملئكة دنت لصوتك ولو قرأت لصبحت (‪ )11‬ينظر‬
‫الناس إليها ل تتوارى منهم (‪.)12‬‬
‫وهكذا رواه المام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلم ‪ ،‬في كتاب فضائل القرآن ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫صالح ‪ ،‬ويحيى بن بكير ‪ ،‬عن الليث به (‪.)13‬‬
‫وقد روي من وجه آخر (‪ )14‬عن أسيد بن حضير ‪ ،‬كما تقدم (‪ ، )15‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬شيطان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المعجم الكبير (‪ )6/163‬وصحيح ابن حبان برقم (‪" )1727‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬سورة البقرة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن الترمذي برقم (‪ )2876‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8749‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فال تبارك وتعالى أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ب ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الحضير"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ط ‪" :‬ثم قرأ"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحضير"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬لصبح"‪.‬‬
‫(‪ )12‬صحيح البخاري برقم (‪.)5018‬‬
‫(‪ )13‬فضائل القرآن (ص ‪.)26‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وجوه أخر"‪.‬‬
‫(‪ )15‬سبق تخريجه في فضائل القرآن‪.‬‬

‫( ‪)1/151‬‬

‫وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس ‪ )1( ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وذلك فيما رواه أبو عبيد‬
‫[القاسم] (‪ : )2‬حدثنا عباد بن عباد ‪ ،‬عن جرير بن حازم ‪ ،‬عن جرير (‪ )3‬بن يزيد ‪ :‬أن أشياخ‬
‫أهل المدينة حدثوه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قيل له ‪ :‬ألم تر ثابت بن قيس بن‬
‫شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ‪ ،‬قال ‪ " :‬فلعله قرأ سورة البقرة "‪ .‬قال ‪ :‬فسئل‬
‫ثابت ‪ ،‬فقال ‪ :‬قرأت سورة البقرة (‪.)4‬‬
‫وهذا إسناد جيد ‪ ،‬إل أن فيه إبهاما ‪ ،‬ثم هو مرسل ‪ ،‬وال أعلم‪[ .‬ذكر] (‪ )5‬ما ورد في فضلها مع‬
‫آل عمران‬
‫قال (‪ )6‬المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا بشير بن مهاجر (‪ )7‬حدثني عبد ال بن بريدة ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت جالسًا عند النبي صلى ال عليه وسلم فسمعته يقول ‪ " :‬تعلموا سورة البقرة ‪،‬‬
‫فإن أخذها بركة ‪ ،‬وتركها حسرة ‪ ،‬ول تستطيعها البطلة "‪ .‬قال ‪ :‬ثم سكت ساعة ‪ ،‬ثم قال ‪" :‬‬
‫تعلموا سورة البقرة ‪ ،‬وآل عمران ‪ ،‬فإنهما الزهراوان ‪ ،‬يُظلن صاحبهما يوم القيامة ‪ ،‬كأنهما‬
‫غمامتان أو غيايتان ‪ ،‬أو فرْقان من طير صَوافّ ‪ ،‬وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين‬
‫ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬هل تعرفني ؟ فيقول ‪ :‬ما أعرفك‪ .‬فيقول ‪ :‬أنا‬
‫صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ‪ ،‬وأسهرت ليلك ‪ ،‬وإن كل تاجر من وراء تجارته ‪،‬‬
‫وإنك اليوم من وراء كل تجارة‪ .‬فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ‪ ،‬ويوضع على رأسه تاج‬
‫الوقار ‪ ،‬ويكسى والداه حلتين ‪ ،‬ل يقوم لهما (‪ )8‬أهل الدنيا ‪ ،‬فيقولن ‪ :‬بم كسينا هذا ؟ فيقال ‪:‬‬
‫بأخذ ولدكما القرآن ‪ ،‬ثم يقال ‪ :‬اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها ‪ ،‬فهو في صعود ما دام يقرأ‬
‫هَذّا كان أو ترتيل "‪.‬‬
‫وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر (‪ )9‬بعضه (‪ ، )10‬وهذا إسناد حسن (‪ )11‬على‬
‫شرط مسلم ‪ ،‬فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم ‪ ،‬ووثقه ابن معين ‪ ،‬وقال النسائي ‪ :‬ليس به بأس ‪،‬‬
‫إل أن المام أحمد قال فيه ‪ :‬هو منكر الحديث ‪ ،‬قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب‪ .‬وقال‬
‫البخاري ‪ :‬يخالف في بعض حديثه‪ .‬وقال أبو حاتم الرازي ‪ :‬يكتب حديثه ول يحتج به‪ .‬وقال ابن‬
‫عدي ‪ :‬روى ما ل يتابع عليه‪ .‬وقال الدارقطني ‪ :‬ليس بالقوي‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ولكن لبعضه شواهد ؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي ؛ قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد‬
‫الملك بن عمرو حدثنا هشام ‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي سلم ‪ ،‬عن أبي أمامة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬اقرؤوا القرآن فإنه شافع لهله يوم القيامة ‪،‬‬
‫اقرؤوا الزهراوين ‪ :‬البقرة وآل عمران ‪ ،‬فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ‪ ،‬أو كأنهما‬
‫غيايتان ‪ ،‬أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " (‪ )12‬ثم قال ‪ " :‬اقرؤوا البقرة‬
‫فإن أخذها بركة (‪ ، )13‬وتركها حسرة ‪ ،‬ول تستطيعها‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الشماس"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬عن عمه جرير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن لبي عبيد (ص ‪ )27‬وتقدم تخريجه في فضائل القرآن أيضا‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬المهاجر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عليهما"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬المهاجر به"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪ )5/348‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3781‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬جيد"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬عن أهلهما يوم القيامة"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪" :‬حسنة"‪.‬‬

‫( ‪)1/152‬‬

‫البطلة " (‪.)1‬‬


‫وقد رواه مسلم في الصلة من حديث معاوية بن سلم ‪ ،‬عن أخيه زيد بن سلم ‪ ،‬عن جده أبي‬
‫شيّ ‪ ،‬عن أبي أمامة صُ َديّ بن عجلن [الباهلي] (‪ ، )2‬به (‪.)3‬‬
‫سلم َممْطور الحَ َب ِ‬
‫الزهراوان ‪ :‬المنيران ‪ ،‬والغياية ‪ :‬ما أظلك من فوقك‪ .‬والفِرْقُ ‪ :‬القطعة من الشيء ‪ ،‬والصواف ‪:‬‬
‫المصطفة المتضامة (‪ .)4‬والبطلة السحرة ‪ ،‬ومعنى " ل تستطيعها " أي ‪ :‬ل يمكنهم حفظها ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬ل تستطيع النفوذ في قارئها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سمْعان‪ .‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يزيد بن عبد ربه ‪ ،‬حدثنا الوليد‬
‫ومن ذلك حديث ال ّنوّاس (‪ )5‬بن ِ‬
‫بن مسلم ‪ ،‬عن محمد بن مهاجر ‪ ،‬عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ‪ ،‬عن جُبَير بن ُنفَير ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬سمعت النواس بن سمعان الكلبي ‪ ،‬يقول ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬‬
‫يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ‪ ،‬تقدمهم سورة البقرة وآل عمران "‪.‬‬
‫وضرب لهما رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثة أمثال ما نسيتهن بعد ‪ ،‬قال ‪ " :‬كأنهما غمامتان‬
‫صوَاف (‪ )6‬يُحَاجّان عن صاحبهما‬
‫أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق ‪ ،‬أو كأنهما ف ْرقَان من طير َ‬
‫" (‪.)7‬‬
‫ورواه مسلم ‪ ،‬عن إسحاق بن منصور ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ربه ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫والترمذي ‪ ،‬من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ‪ ،‬به (‪ .)9‬وقال ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا حجاج ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير ‪ ،‬قال ‪ :‬قال حماد ‪:‬‬
‫أحسبه عن أبي منيب ‪ ،‬عن عمه ؛ أن رجل قرأ البقرة وآل عمران ‪ ،‬فلما قضى صلته قال له‬
‫كعب ‪ :‬أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فوالذي نفسي بيده ‪ ،‬إن فيهما اسم ال الذي‬
‫إذا دعي به استجاب (‪ .)10‬قال ‪ :‬فأخبرني به‪ .‬قال ‪ :‬ل وال ل أخبرك ‪ ،‬ولو أخبرتك لوشكت‬
‫أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت (‪.)11‬‬
‫[قال أبو عبيد] (‪ : )12‬وحدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن معاوية بن صالح ‪ ،‬عن سليم بن عامر ‪:‬‬
‫أنه سمع أبا أمامة يقول ‪ :‬إن أخًا لكم (‪ )13‬أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر‬
‫طويل ‪ ،‬وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان ‪ :‬هل فيكم من يقرأ سورة البقرة ؟ وهل‬
‫فيكم من يقرأ سورة آل عمران ؟ قال ‪ :‬فإذا قال الرجل ‪ :‬نعم‪ .‬دنتا منه بأعذاقهما ‪ ،‬حتى يتعلق‬
‫بهما فتُخطران به‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)5/249‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)804‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬المتصلة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬نواس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬من طير صاف"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬صاحب لهما"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )4/183‬وصحيح مسلم برقم (‪.)805‬‬
‫(‪ )9‬سنن الترمذي برقم (‪.)2883‬‬
‫(‪ )10‬في ط ‪" :‬أجاب"‪.‬‬
‫(‪ )11‬فضائل القرآن (ص ‪.)126‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬أخاكم"‪.‬‬

‫( ‪)1/153‬‬

‫الجبل (‪.)1‬‬
‫[قال أبو عبيد] (‪ )2‬وحدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن معاوية بن صالح ‪ ،‬عن أبي عمران ‪ :‬أنه‬
‫سمع أم الدرداء تقول ‪ :‬إن رجل ممن قرأ القرآن أغار على جار له ‪ ،‬فقتله ‪ ،‬وإنه أقيدَ به (‪، )3‬‬
‫فقتل ‪ ،‬فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة ‪ ،‬حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ‪ ،‬ثم إن آل‬
‫ي َومَا أَنَا ِبظَلمٍ لِ ْلعَبِيدِ }‬
‫عمران انسلت منه ‪ ،‬وأقامت البقرة جمعة ‪ ،‬فقيل لها ‪ { :‬مَا يُ َب ّدلُ ا ْلقَ ْولُ لَ َد ّ‬
‫[ق ‪ ]29 :‬قال ‪ :‬فخرجت كأنها السحابة العظيمة (‪.)4‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬أراه ‪ ،‬يعني ‪ :‬أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه ‪ ،‬فكانتا من آخر ما‬
‫بقي معه من القرآن‪.‬‬
‫سهِر الغساني ‪ ،‬عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي ‪ :‬أن يزيد بن‬
‫وقال ‪ -‬أيضًا ‪ : -‬حدثنا أبو مُ ْ‬
‫السود الجُرَشي كان يحدث (‪ : )5‬أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم ‪ ،‬برئ من النفاق حتى‬
‫يمسي ‪ ،‬ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح ‪ ،‬قال ‪ :‬فكان يقرؤهما كل يوم وليلة‬
‫سوى جزئه (‪.)6‬‬
‫[قال أيضًا] (‪ : )7‬وحدثنا يزيد ‪ ،‬عن وقاء (‪ )8‬بن إياس ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عمر‬
‫بن الخطاب رضي ال عنه ‪ :‬من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان ‪ -‬أو كتب ‪ -‬من القانتين (‬
‫‪.)9‬‬
‫فيه انقطاع ‪ ،‬ولكن ثبت في الصحيحين (‪ : )10‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ بهما (‪)11‬‬
‫في ركعة واحدة (‪[ .)12‬ذكر] (‪ )13‬ما ورد في فضل السبع الطول‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ‪ ،‬عن محمد بن شعيب ‪ ،‬عن سعيد بن بشير ‪،‬‬
‫عن قتادة ‪ ،‬عن أبي المليح ‪ ،‬عن واثلة بن السقع ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬‬
‫أعطيت السبع الطّوال مكان التوراة ‪ ،‬وأعطيت المئين مكان النجيل ‪ ،‬وأعطيت المثاني (‪)14‬‬
‫مكان الزبور ‪ ،‬وفضلت بالمفصّل " (‪.)15‬‬
‫هذا حديث غريب ‪ ،‬وسعيد بن بشير ‪ ،‬فيه لين‪.‬‬
‫وقد رواه أبو عبيد [أيضا] (‪ ، )16‬عن عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن سعيد بن أبي هلل ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬بلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ ...‬فذكره ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ثم قال (‪ )17‬حدثنا‬
‫إسماعيل بن جعفر ‪ ،‬عن عمرو (‪ )18‬بن أبي عمرو ‪ ،‬مولى المطلب بن عبد ال بن حنطب ‪،‬‬
‫عن حبيب بن هند السلمي ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)126‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬فضائل القرآن (ص ‪.]127 ، 126‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يحدثه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬فضائل القرآن (‪.)127‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في هـ ‪" :‬ورقاء"‪.‬‬
‫(‪ )9‬فضائل القرآن (ص ‪.)127‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬والصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬قرأ بهن" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬قرأهن"‪.‬‬
‫(‪ )12‬الحديث وقع لي في سنن النسائي (‪ )2/177‬من حديث حذيفة ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )13‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )14‬في أ ‪" :‬وأعطيت السبع المثاني"‪.‬‬
‫(‪ )15‬فضائل القرآن (ص ‪ )120‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )1/100‬من طريق رواد بن الجراح‬
‫عن سعيد بن بشير به ‪ ،‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )1/100‬من طريق الطيالسي عن عمران ‪-‬‬
‫أبي العوام ‪ -‬عن قتادة به ‪ ،‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )1/101‬من طريق ليث بن أبي سليم عن‬
‫أبي بردة عن أبي المليح به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )16‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )17‬في ب ‪" :‬قال أيضا"‪.‬‬
‫(‪ )18‬في جـ ‪" :‬عمر"‪.‬‬

‫( ‪)1/154‬‬

‫عن عروة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من أخذ السبع فهو حَبْر" (‪.)1‬‬
‫وهذا أيضًا غريب ‪ ،‬وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة السلمي ‪ ،‬روى عنه عمرو بن‬
‫أبي عمرو وعبد ال بن أبي بكرة ‪ ،‬وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫وقد رواه المام أحمد ‪ ،‬عن سليمان بن داود ‪ ،‬وحسين ‪ ،‬كلهما عن إسماعيل بن جعفر ‪ ،‬به (‪.)2‬‬
‫ورواه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬عن أبي سعيد ‪ ،‬عن سليمان بن بلل ‪ ،‬عن حبيب بن هند ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن‬
‫عائشة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬من أخذ السبع الوَل من القرآن فهو حَبْر " (‬
‫‪.)3‬‬
‫قال أحمد ‪ :‬وحدثنا حسين ‪ ،‬حدثنا ابن أبي الزناد ‪ ،‬عن العرج ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم مثله (‪.)4‬‬
‫قال عبد ال بن أحمد ‪ :‬وهذا أرى فيه ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن العرج ‪ ،‬ولكن كذا كان في الكتاب بل "‬
‫أبي " (‪ ، )5‬أغفله أبي ‪ ،‬أو كذا هو مرسل ‪ ،‬ثم قال أبو عبيد ‪ :‬حدثنا هُشَيْم ‪ ،‬أخبرنا أبو بشر ‪،‬‬
‫عن سعيد بن جبير ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَ ْبعًا مِنَ ا ْلمَثَانِي } [الحجر ‪ ، ]87 :‬قال ‪:‬‬
‫هي السبع الطول ‪ :‬البقرة ‪ ،‬وآل عمران ‪ ،‬والنساء ‪ ،‬والمائدة ‪ ،‬والنعام ‪ ،‬والعراف ‪ ،‬ويونس‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقال مجاهد ‪ :‬هي السبع الطول‪ .‬وهكذا قال مكحول ‪ ،‬وعطية بن قيس ‪ ،‬وأبو محمد‬
‫الفارسي (‪ ، )6‬وشَداد بن عبيد ال ‪ ،‬ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الية بذلك ‪ ،‬وفي‬
‫تعدادها ‪ ،‬وأن يونس هي السابعة‪ .‬فصل‬
‫والبقرة جميعها مدنية بل خلف ‪ ،‬قال بعض العلماء ‪ :‬وهي مشتملة على ألف خبر ‪ ،‬وألف أمر ‪،‬‬
‫وألف نهي‪.‬‬
‫وقال العادون ‪ :‬آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات ‪ ،‬وكلماتها ستة آلف كلمة ومائة وإحدى‬
‫وعشرون كلمة ‪ ،‬وحروفها خمسة (‪ )7‬وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫قال ابن جُرَيْج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أنزل بالمدينة سورة البقرة‪.‬‬
‫وقال خَصيف ‪ :‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد ال بن الزبير ‪ ،‬قال ‪ :‬أنزل بالمدينة سورة البقرة‪.‬‬
‫وقال الواقدي ‪ :‬حدثني الضحاك بن عثمان ‪ ،‬عن أبي الزّناد ‪ ،‬عن خارجة بن زيد بن ثابت ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت البقرة بالمدينة‪.‬‬
‫وهكذا قال غير واحد من الئمة والعلماء ‪ ،‬والمفسرين ‪ ،‬ول خلف فيه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬فضائل القرآن (ص ‪.)120‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)6/73‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)6/82‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)6/73‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فل أدري"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬القارئ"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬خمس"‪.‬‬

‫( ‪)1/155‬‬

‫الم (‪)1‬‬

‫وقال ابن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا محمد بن َم ْعمَر ‪ ،‬حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [الفارسي] (‪ )1‬حدثنا‬
‫خلف بن هشام ‪ ،‬حدثنا عُبيس (‪ )2‬بن ميمون ‪ ،‬عن موسى بن أنس بن مالك ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل تقولوا ‪ :‬سورة البقرة ‪ ،‬ول سورة آل عمران ‪ ،‬ول‬
‫سورة النساء ‪ ،‬وكذا القرآن كله ‪ ،‬ولكن قولوا ‪ :‬السورة التي يذكر فيها البقرة ‪ ،‬والتي يذكر فيها‬
‫آل عمران ‪ ،‬وكذا القرآن كله " (‪.)3‬‬
‫هذا حديث غريب ل يصح رفعه ‪ ،‬وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص ‪ ،‬وهو ضعيف‬
‫الرواية ‪ ،‬ل يحتج به‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين (‪ ، )4‬عن ابن مسعود ‪ :‬أنه رمى الجمرة من بطن‬
‫الوادي ‪ ،‬فجعل البيت عن يساره ‪ ،‬ومنى عن يمينه ‪ ،‬ثم قال (‪ : )5‬هذا مقام الذي أنزلت عليه‬
‫سورة البقرة‪ .‬أخرجاه (‪.)6‬‬
‫وروى ابن مَ ْردُويه ‪ ،‬من حديث شعبة ‪ ،‬عن عقيل بن طلحة ‪ ،‬عن عتبة بن فرقد (‪ )7‬قال ‪ :‬رأى‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم في أصحابه تأخرًا (‪ ، )8‬فقال ‪ " :‬يا أصحاب سورة البقرة " (‪.)9‬‬
‫وأظن هذا كان يوم حنين ‪ ،‬حين ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم ‪ " :‬يا أصحاب الشجرة " ‪ ،‬يعني‬
‫أهل بيعة الرضوان‪ .‬وفي رواية ‪ " :‬يا أصحاب البقرة (‪ " )10‬؛ لينشطهم بذلك ‪ ،‬فجعلوا يقبلون‬
‫من كل وجه (‪ .)11‬وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة ‪ ،‬جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر (‬
‫‪ )12‬بني حنيفة ‪ ،‬فجعل المهاجرون والنصار يتنادون ‪ :‬يا أصحاب سورة البقرة ‪ ،‬حتى فتح ال‬
‫عليهم (‪ .)13‬رضي ال عن أصحاب رسول ال أجمعين‪.‬‬
‫حمَنِ الرّحِيم الم ‪} 1‬‬
‫{ ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬هي مما استأثر‬
‫ال بعلمه ‪ ،‬فردوا علمها إلى ال ‪ ،‬ولم يفسروها [حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر‬
‫وعثمان وعلي وابن مسعود رضي ال عنهم به ‪ ،‬وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن‬
‫خثيم ‪ ،‬واختاره‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في هـ ‪" :‬عيسى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبراني في الوسط برقم (‪" )3450‬مجمع البحرين" والبيهقي في شعب اليمان برقم (‬
‫‪ )2582‬من طريق عُبيس بن ميمون ‪ ،‬عن موسى بن أنس به ‪ ،‬وقال البيهقي ‪" :‬عُبيس بن ميمون‬
‫منكر الحديث ‪ :‬وهذا ل يصح ‪ ،‬وإنما روى عن ابن عمر من قوله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ف جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في و ‪" :‬يقول"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )1747‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1296‬‬
‫(‪ )7‬في هـ ‪" :‬مربد" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬تأخرا في أصحابه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )17/133‬من طريق علي بن قتيبة عن شعبة عن عقيل‬
‫بن أبي طلحة به ‪ ،‬وجاء من حديث أنس ‪ ،‬رواه أبو يعلى في مسنده (‪ )6/289‬من طريق عمرو‬
‫بن عاصم عن أبي العوام عن معمر عن الزهري عن أنس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )10‬في ب ‪" :‬سورة البقرة"‪.‬‬
‫(‪ )11‬جاء من حديث العباس ‪ ،‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1775‬من طريق الزهري ‪ ،‬عن‬
‫كثير بن عباس عن أبيه العباس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬حبيش"‪.‬‬
‫(‪ )13‬رواه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )12/502‬من طريق هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه قال ‪:‬‬
‫"كان شعار أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم يوم مسيلمة ‪" :‬يا أصحاب سورة البقرة"‪.‬‬

‫( ‪)1/156‬‬

‫أبو حاتم بن حبان (‪.)2( ] )1‬‬


‫ومنهم من فسّرها ‪ ،‬واختلف هؤلء في معناها ‪ ،‬فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬إنما هي‬
‫أسماء السور [قال العلمة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره ‪ :‬وعليه إطباق‬
‫الكثر ‪ ،‬ونقله عن سيبويه أنه نص عليه] (‪ ، )3‬ويعتضد هذا بما ورد في الصحيحين ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقرأ في صلة الصبح يوم الجمعة ‪ :‬الم السجدة ‪،‬‬
‫وهل أتى على النسان (‪.)4‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ :‬أنه قال ‪ :‬الم ‪ ،‬وحم ‪ ،‬والمص ‪ ،‬وص ‪،‬‬
‫فواتح افتتح ال بها القرآن‪.‬‬
‫وكذا قال غيره ‪ :‬عن مجاهد‪ .‬وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود ‪ ،‬عن شبل ‪،‬‬
‫عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عنه ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬الم ‪ ،‬اسم من أسماء القرآن‪.‬‬
‫وهكذا قال قتادة ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪ ،‬ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد ‪ :‬أنه اسم‬
‫من أسماء السور (‪ ، )5‬فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن ‪ ،‬فإنه يبعد أن يكون "المص" اسما‬
‫للقرآن كله ؛ لن المتبادر إلى فهم سامع من يقول ‪ :‬قرأت "المص" ‪ ،‬إنما ذلك عبارة عن سورة‬
‫العراف ‪ ،‬ل لمجموع القرآن‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هي اسم من أسماء ال تعالى‪ .‬فقال الشعبي ‪ :‬فواتح السور من أسماء ال تعالى ‪ ،‬وكذلك‬
‫قال سالم بن عبد ال ‪ ،‬وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ‪ ،‬وقال شعبة عن السدي ‪ :‬بلغني‬
‫أن ابن عباس قال ‪ :‬الم اسم من أسماء ال العظم‪ .‬هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير عن بُ ْندَار ‪ ،‬عن ابن َم ْهدِي ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬قال ‪ :‬سألت السدي عن حم وطس والم‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬هي اسم ال العظم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وحدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا أبو النعمان ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن إسماعيل‬
‫السدي ‪ ،‬عن مُرّة الهمداني قال ‪ :‬قال عبد ال ‪ ،‬فذكر نحوه [وحكي مثله عن علي وابن عباس] (‬
‫‪.)6‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬هو قسم أقسم ال به ‪ ،‬وهو من أسماء ال تعالى‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية ‪ ،‬عن خالد الحذاء ‪ ،‬عن عكرمة أنه قال ‪:‬‬
‫الم ‪ ،‬قسم‪.‬‬
‫ورويا (‪ - )7‬أيضًا ‪ -‬من حديث شريك بن عبد ال ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن أبي الضّحَى ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ :‬الم ‪ ،‬قال ‪ :‬أنا ال أعلم‪.‬‬
‫وكذا قال سعيد بن جبير ‪ ،‬وقال السّدّي عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)1/154‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )891‬وصحيح مسلم برقم (‪.)880‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬السورة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وروي"‪.‬‬
‫( ‪)1/157‬‬

‫مرّة الهمذاني عن ابن مسعود‪ .‬وعن ناس من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬الم‪ .‬قال ‪ :‬أما‬
‫الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء ال تعالى‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرّازي ‪ ،‬عن الرّبيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية في قوله تعالى ‪ { :‬الم } قال ‪ :‬هذه‬
‫الحرف الثلثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها اللسن كلها ‪ ،‬ليس منها حرف إل وهو‬
‫مفتاح اسم من أسمائه ‪ ،‬وليس منها حرف إل وهو من آلئه وبلئه ‪ ،‬وليس منها حرف إل وهو‬
‫في مدة أقوام وآجالهم‪ .‬قال عيسى ابن مريم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وعَجب ‪ ،‬فقال ‪ :‬وأعْجَب أنهم‬
‫ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه ‪ ،‬فكيف يكفرون به ؛ فاللف مفتاح اسم ال ‪ ،‬واللم مفتاح‬
‫اسمه لطيف (‪ )1‬والميم مفتاح اسمه مجيد (‪ )2‬فاللف آلء ال ‪ ،‬واللم لطف ال ‪ ،‬والميم مجد ال‬
‫‪ ،‬واللف (‪ )3‬سنة ‪ ،‬واللم ثلثون سنة ‪ ،‬والميم أربعون [سنة] (‪ .)4‬هذا لفظ ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫ونحوه رواه ابن جرير ‪ ،‬ثم شرع يوجه كل واحد من هذه القوال ويوفق بينها ‪ ،‬وأنه ل منافاة‬
‫بين كل واحد منها وبين الخر ‪ ،‬وأن الجمع ممكن ‪ ،‬فهي أسماء السور ‪ ،‬ومن أسماء ال تعالى‬
‫يفتتح بها السور ‪ ،‬فكل حرف منها َدلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ‪ ،‬كما افتتح سورا‬
‫كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه‪ .‬قال ‪ :‬ول مانع من دللة الحرف منها على اسم من أسماء ال ‪،‬‬
‫وعلى صفة من صفاته ‪ ،‬وعلى مدة وغير ذلك ‪ ،‬كما ذكره الرّبيع بن أنس عن أبي العالية ؛ لن‬
‫الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة ‪ ،‬كلفظة المة فإنها تطلق ويراد به الدين ‪ ،‬كقوله تعالى ‪{ :‬‬
‫جدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ } [الزخرف ‪ .]23 ، 22 :‬وتطلق ويراد بها الرجل المطيع ل ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫إِنّا وَ َ‬
‫{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ } [النحل ‪ ]120 :‬وتطلق ويراد بها‬
‫سقُونَ } [القصص ‪ ، ]23 :‬وقوله ‪ { :‬وََلقَدْ َبعَثْنَا‬
‫جدَ عَلَيْهِ ُأمّةً مِنَ النّاسِ َي ْ‬
‫الجماعة ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬وَ َ‬
‫فِي ُكلّ ُأمّةٍ َرسُول} [النحل ‪ ]36 :‬وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله ‪َ { :‬وقَالَ الّذِي نَجَا‬
‫مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ } [يوسف ‪ ]45 :‬أي ‪ :‬بعد حين على أصح القولين ‪ ،‬قال ‪ :‬فكذلك هذا‪.‬‬
‫هذا حاصل كلمه موجهًا ‪ ،‬ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية ‪ ،‬فإن أبا العالية زعم أن الحرف‬
‫دل على هذا ‪ ،‬وعلى هذا ‪ ،‬وعلى هذا معًا ‪ ،‬ولفظة المة وما أشبهها (‪ )5‬من اللفاظ المشتركة‬
‫في الصطلح ‪ ،‬إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلم ‪ ،‬فأما‬
‫حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الصول ‪ ،‬ليس هذا (‪)6‬‬
‫موضع البحث فيها ‪ ،‬وال أعلم ؛ ثم إن لفظ المة تدل على كل (‪ )7‬معانيه في سياق الكلم بدللة‬
‫الوضع ‪ ،‬فأما دللة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون‬
‫أحدهما أولى من الخر في التقدير أو الضمار بوضع ول بغيره ‪ ،‬فهذا مما ل يفهم إل بتوقيف ‪،‬‬
‫والمسألة مختلف فيها ‪ ،‬وليس فيها إجماع حتى يحكم به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬اسمه اللطيف" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬اسم لطيف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬المجيد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فاللف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وما أشبهه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬هنا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬كل من"‪.‬‬

‫( ‪)1/158‬‬

‫وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلق الحرف الواحد على بقية الكلمة ‪ ،‬فإن في السياق ما‬
‫يدل على ما حذف بخلف هذا ‪ ،‬كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫حسَبِي أنا نَسينا اليجاف (‪)1‬‬
‫قلنا قفي لنا فقالت قاف‪ ...‬ل تَ ْ‬
‫تعني ‪ :‬وقفت‪ .‬وقال الخر ‪:‬‬
‫ما للظليم عَالَ كَ ْيفَ ل يا‪ ...‬ينقَدّ عنه جلده إذا يا (‪)2‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬كأنه أراد أن يقول ‪ :‬إذا يفعل كذا وكذا ‪ ،‬فاكتفى بالياء من يفعل ‪ ،‬وقال الخر ‪:‬‬
‫بالخير خيرات وإن شرًا فا‪ ...‬ول أريد الشر إل أن تا (‪)3‬‬
‫يقول ‪ :‬وإن شرًا فشر ‪ ،‬ول أريد الشر إل أن تشاء ‪ ،‬فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن‬
‫بقيتهما ‪ ،‬ولكن هذا ظاهر من سياق الكلم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫[قال القرطبي ‪ :‬وفي الحديث ‪" :‬من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" (‪ )4‬الحديث‪ .‬قال شقيق ‪:‬‬
‫هو أن يقول في اقتل ‪ :‬اق] (‪.)5‬‬
‫وقال خصيف ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬فواتح السور كلها "ق وص وحم وطسم والر" وغير ذلك‬
‫هجاء موضوع‪ .‬وقال بعض أهل العربية ‪ :‬هي حروف من حروف المعجم ‪ ،‬استغنى بذكر ما‬
‫ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ‪ ،‬التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا ‪ ،‬كما يقول‬
‫القائل ‪ :‬ابني يكتب في ‪ :‬ا ب ت ث ‪ ،‬أي ‪ :‬في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر‬
‫بعضها عن مجموعها‪ .‬حكاه ابن جرير‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا ‪ ،‬وهي‬
‫‪ :‬ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن ‪ ،‬يجمعها قولك ‪ :‬نص حكيم قاطع له سر‪ .‬وهي نصف‬
‫الحروف عددًا ‪ ،‬والمذكور منها أشرف من المتروك ‪ ،‬وبيان ذلك من صناعة التصريف‪.‬‬
‫[قال الزمخشري ‪ :‬وهذه الحروف الربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من‬
‫المهموسة والمجهورة ‪ ،‬ومن الرخوة والشديدة ‪ ،‬ومن المطبقة والمفتوحة ‪ ،‬ومن المستعلية‬
‫والمنخفضة ومن حروف القلقلة‪ .‬وقد سردها مفصلة ثم قال ‪ :‬فسبحان الذي دقت في كل شيء‬
‫حكمته ‪ ،‬وهذه الجناس المعدودة ثلثون بالمذكورة منها ‪ ،‬وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل‬
‫منزلة كله] (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/212‬‬
‫(‪ )2‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/213‬‬
‫(‪ )3‬البيت في تفسير الطبري (‪ )1/213‬وينسب إلى القيم بن أوس كما ذكره المحقق الفاضل‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير القرطبي (‪ )1/156‬والحديث رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )2620‬من طريق يزيد‬
‫بن أبي زياد ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه به مرفوعا ‪ ،‬وقال‬
‫البوصيري في الزوائد (‪" : )2/334‬هذا إسناد ضعيف ‪ ،‬يزيد بن أبي زياد الدمشقي قال فيه‬
‫البخاري وأبو حاتم ‪ :‬منكر الحديث"‪.‬‬
‫تنبيه ‪ :‬وقع في بعض النسخ المساعدة ‪ :‬قال سفيان ‪ ،‬بدل شقيق ‪ ،‬والذي في تفسير القرطبي‬
‫موافق لما هاهنا ‪ ،‬وقد روي هذا القول عن سفيان الصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (‬
‫‪.)2329‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/159‬‬

‫ومن هاهنا لحظ (‪ )1‬بعضهم في هذا المقام كلمًا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل شك أن هذه الحروف لم ينزلها‬
‫سبحانه وتعالى عبثًا ول سدى ؛ ومن قال من الجهلة ‪ :‬إنّه في القرآن ما هو تعبد ل معنى له‬
‫بالكلية ‪ ،‬فقد أخطأ خطأ كبيرًا ‪ ،‬فتعين أن لها معنى في نفس المر ‪ ،‬فإن صح لنا فيها عن‬
‫المعصوم شيء قلنا به ‪ ،‬وإل وقفنا حيث وقفنا ‪ ،‬وقلنا ‪ { :‬آمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِ ْندِ رَبّنَا } [آل عمران ‪:‬‬
‫‪.]7‬‬
‫ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين ‪ ،‬وإنما اختلفوا ‪ ،‬فمن ظهر له بعض القوال بدليل فعليه‬
‫اتباعه ‪ ،‬وإل فالوقف حتى يتبين‪ .‬هذا مقام‪.‬‬
‫المقام الخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ‪ ،‬ما (‪ )2‬هي ؟ مع قطع‬
‫النظر عن معانيها في أنفسها‪ .‬فقال بعضهم ‪ :‬إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور‪ .‬حكاه ابن‬
‫جرير ‪ ،‬وهذا ضعيف ؛ لن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه ‪ ،‬وفيما ذكرت فيه بالبسملة‬
‫تلوة وكتابة‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬بل ابتدئ بها ل ُتفْتَحَ لستماعها أسماعُ المشركين ‪ -‬إذ (‪ )3‬تواصوا بالعراض عن‬
‫القرآن ‪ -‬حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلّف منه‪ .‬حكاه ابن جرير ‪ -‬أيضًا ‪ ، -‬وهو ضعيف‬
‫أيضًا ؛ لنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور ل (‪ )4‬يكون في بعضها ‪ ،‬بل غالبها ليس‬
‫كذلك ‪ ،‬ولو كان كذلك ‪ -‬أيضًا ‪ -‬لنبغى (‪ )5‬البتداء بها في أوائل الكلم معهم ‪ ،‬سواء كان‬
‫افتتاح سورة أو غير ذلك‪ .‬ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا‬
‫خطابًا للمشركين ‪ ،‬فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لعجاز القرآن‬
‫‪ ،‬وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ‪ ،‬هذا مع أنه [تركب] (‪ )6‬من هذه الحروف المقطعة‬
‫التي يتخاطبون بها‪.‬‬
‫ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فل بد أن يذكر فيها النتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ‪،‬‬
‫وهذا معلوم بالستقراء ‪ ،‬وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ‪ ،‬ولهذا يقول تعالى ‪ { :‬الم * ذَِلكَ‬
‫علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ * نزلَ َ‬
‫ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ } [البقرة ‪ { .]2 ، 1 :‬الم * اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬
‫حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ } [آل عمران ‪ { .]3 - 1 :‬المص * كِتَابٌ أُنزلَ إِلَ ْيكَ فَل َيكُنْ فِي‬
‫بِالْ َ‬
‫صَدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ } [العراف ‪ { .]2 ، 1 :‬الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ ِإلَ ْيكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى‬
‫النّورِ بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ } [إبراهيم ‪ {]1 :‬الم * تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ ل رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [السجدة ‪1 :‬‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ } [فصلت ‪ { .]2 ، 1 :‬حم * عسق * كَذَِلكَ يُوحِي إِلَ ْيكَ‬
‫‪ { .]2 ،‬حم * تَنزيلٌ مِنَ الرّ ْ‬
‫حكِيمُ } [الشورى ‪ ، ]3 - 1 :‬وغير ذلك من اليات الدالة على‬
‫وَإِلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكَ اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫صحة ما ذهب إليه هؤلء لمن أمعن (‪ )7‬النظر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬و ‪" :‬لخص" ‪ ،‬وفي جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬يخص"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬وما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬إذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ب ‪" :‬ول"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ل ينبغي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬أنعم"‪.‬‬

‫( ‪)1/160‬‬

‫وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد ‪ ،‬وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن‬
‫والملحم ‪ ،‬فقد ادعى ما ليس له ‪ ،‬وطار في غير مطاره ‪ ،‬وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ‪،‬‬
‫وهو مع ذلك أدل على بطلن هذا المسلك من التمسك به على صحته‪ .‬وهو ما رواه محمد بن‬
‫إسحاق بن يسار ‪ ،‬صاحب المغازي ‪ ،‬حدثني الكلبي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن‬
‫جابر بن عبد ال بن رئاب ‪ ،‬قال ‪ :‬مر أبو ياسر (‪ )1‬بن أخطب ‪ ،‬في رجال من يهود ‪ ،‬برسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ‪ { :‬الم * ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ [ هدى‬
‫للمتقين] (‪[ } )2‬البقرة ‪ ] 2 ، 1 :‬فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ‪ ،‬فقال ‪ :‬تعلمون‬
‫‪ -‬وال ‪ -‬لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل ال عليه ‪ { :‬الم * ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ } فقال ‪:‬‬
‫أنت سمعته ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود (‪ )3‬إلى رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬فقالوا ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل ال عليك ‪ { :‬الم * ذلك‬
‫الكتاب ل [ريب] } (‪ )4‬؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬بلى"‪ .‬فقالوا ‪ :‬جاءك (‪ )5‬بهذا‬
‫جبريل من عند ال ؟ فقال ‪" :‬نعم"‪ .‬قالوا ‪ :‬لقد بعث ال قبلك أنبياء ما نعلمه (‪ )6‬بين لنبي منهم ما‬
‫مدة ملكه وما أجل أمته غيرك‪ .‬فقام (‪ )7‬حيي بن أخطب ‪ ،‬وأقبل على من كان معه ‪ ،‬فقال لهم ‪:‬‬
‫اللف واحدة ‪ ،‬واللم ثلثون ‪ ،‬والميم أربعون ‪ ،‬فهذه إحدى وسبعون سنة ‪ ،‬أفتدخلون في دين نبي‬
‫‪ ،‬إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬هل مع هذا غيره ؟ فقال ‪" :‬نعم" ‪ ،‬قال ‪ :‬ما ذاك ؟ قال ‪" :‬المص" ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا‬
‫أثقل وأطول ‪ ،‬اللف واحدة ‪ ،‬واللم ثلثون ‪ ،‬والميم أربعون ‪ ،‬والصاد سبعون (‪ ، )8‬فهذه إحدى‬
‫وثلثون (‪ )9‬ومائة سنة‪ .‬هل مع هذا يا محمد غيره (‪ )10‬؟ قال ‪" :‬نعم" قال ‪ :‬ما ذاك (‪ )11‬؟ قال‬
‫‪" :‬الر"‪ .‬قال ‪ :‬هذا (‪ )12‬أثقل وأطول ‪ ،‬اللف واحدة ‪ ،‬واللم ثلثون ‪ ،‬والراء مائتان‪ .‬فهذه إحدى‬
‫وثلثون ومائتا سنة‪ .‬فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال ‪" :‬نعم" ‪ ،‬قال ‪ :‬ماذا ؟ قال ‪" :‬المر"‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فهذه أثقل وأطول ‪ ،‬اللف واحدة ‪ ،‬واللم ثلثون ‪ ،‬والميم أربعون ‪ ،‬والراء مائتان ‪ ،‬فهذه إحدى‬
‫وسبعون ومائتان ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬لقد لبس علينا أمرك يا محمد ‪ ،‬حتى ما ندري أقليل أعطيت أم كثيرا‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬قوموا عنه‪ .‬ثم قال أبو ياسر (‪ )13‬لخيه حيي بن أخطب ‪ ،‬ولمن معه من الحبار ‪ :‬ما‬
‫يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلثون (‪ )14‬ومائة وإحدى‬
‫وثلثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ‪ ،‬فذلك سبعمائة وأربع سنين (‪ .)15‬فقالوا ‪ :‬لقد تشابه‬
‫علينا أمره ‪ ،‬فيزعمون أن هؤلء اليات نزلت فيهم ‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَُأخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ } [آل عمران ‪.)16( ]7 :‬‬
‫مُ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أبو إياس"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬من يهود"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أجاءك"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ما نعلمهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬تسعون" ‪ ،‬وفي ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ستون"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬إحدى وستون"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هل مع هذا غيره يا محمد"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬ماذا"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬هذه"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬أبو إياس"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬إحدى وستون"‪.‬‬
‫(‪ )15‬في جـ ‪" :‬أربع وثلثين سنة"‪.‬‬
‫(‪ )16‬ورواه البخاري في التاريخ الكبير (‪ )2/208‬والطبري في تفسيره (‪ )1/217‬من طريق ابن‬
‫إسحاق ‪ ،‬وأطنب العلمة أحمد شاكر في الكلم عليه في حاشية تفسير الطبري‪.‬‬

‫( ‪)1/161‬‬

‫ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَا رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪)2‬‬

‫فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي ‪ ،‬وهو ممن ل يحتج بما انفرد به ‪ ،‬ثم كان مقتضى هذا‬
‫المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الربعة عشر التي ذكرناها ‪ ،‬وذلك‬
‫يبلغ منه جملة كثيرة ‪ ،‬وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم (‪ )1‬وال أعلم‪.‬‬
‫{ ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪} )2‬‬
‫قال ابن جُرَيج ‪ :‬قال ابن عباس ‪" :‬ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ" ‪ :‬هذا الكتاب‪ .‬وكذا قال مجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪،‬‬
‫وسعيد بن جبير ‪ ،‬والسديّ ومقاتل بن حيان ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪ ،‬وابن جريج ‪ :‬أن ذلك بمعنى هذا ‪،‬‬
‫والعرب تقارض بين هذين السمين من أسماء الشارة فيستعملون كل منهما مكان الخر ‪ ،‬وهذا‬
‫معروف في كلمهم‪.‬‬
‫و { ا ْلكِتَابُ } القرآن‪ .‬ومن قال ‪ :‬إن المراد بذلك الكتاب الشارة إلى التوراة والنجيل ‪ ،‬كما حكاه‬
‫جعَة وأغْرق (‪ )2‬في النزع ‪ ،‬وتكلف ما ل علم له به‪.‬‬
‫ابن جرير وغيره ‪ ،‬فقد أبعد النّ ْ‬
‫والرّيب ‪ :‬الشك ‪ ،‬قال السدي عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة‬
‫ال َهمْدانيّ عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن أناس (‪ )3‬من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬ل‬
‫رَ ْيبَ فِيهِ } ل شك فيه‪.‬‬
‫وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء‬
‫وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد‪ .‬وقال ابن‬
‫أبي حاتم ‪ :‬ل أعلم في هذا خلفًا‪.‬‬
‫[وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل ‪:‬‬
‫بثينة قالت يا جميل أربتني‪ ...‬فقلت كلنا يا بثين مريب‪...‬‬
‫واستعمل ‪ -‬أيضًا ‪ -‬في الحاجة كما قال بعضهم (‪: )4‬‬
‫قضينا من تهامة كل ريب‪ ...‬وخيبر ثم أجمعنا السيوفا] (‪)5‬‬
‫ومعنى الكلم ‪ :‬أن هذا الكتاب ‪ -‬وهو القرآن ‪ -‬ل شك فيه أنه نزل (‪ )6‬من عند ال ‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى في السجدة ‪ { :‬الم * تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ ل رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [السجدة ‪.]2 ، 1 :‬‬
‫[وقال بعضهم ‪ :‬هذا خبر ومعناه النهي ‪ ،‬أي ‪ :‬ل ترتابوا فيه] (‪.)7‬‬
‫ومن القراء من يقف على قوله ‪ { :‬ل رَ ْيبَ } ويبتدئ بقوله ‪ { :‬فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ } والوقف على‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬ل رَ ْيبَ فِيهِ } أولى للية التي ذكرنا ‪ ،‬ولنه يصير قوله ‪ { :‬هُدًى } صفة للقرآن ‪،‬‬
‫وذلك أبلغ من كون ‪ { :‬فِيهِ ُهدًى }‪.‬‬
‫و { ُهدًى } يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت ‪ ،‬ومنصوبًا على الحال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬أطم وأعظم" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬أعظم وأعظم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" : ،‬أغرب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ناس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬هو كعب بن مالك ‪ ،‬والبيت في اللسان ‪ ،‬مادة "ريب"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منزل"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/162‬‬

‫شفَا ٌء وَالّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ‬


‫وخصّت الهداية للمتّقين‪ .‬كما قال ‪ُ { :‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا ُهدًى وَ ِ‬
‫عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } [فصلت ‪ { .]44 :‬وَنُنزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ‬
‫َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ‬
‫خسَارًا } [السراء ‪ ]82 :‬إلى غير ذلك من اليات‬
‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِل َ‬
‫شفَا ٌء وَرَ ْ‬
‫ِ‬
‫الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن ؛ لنه هو في نفسه هدى ‪ ،‬ولكن ل يناله إل البرار‬
‫حمَةٌ‬
‫شفَاءٌ ِلمَا فِي الصّدُورِ وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫‪ ،‬كما قال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَاءَ ْتكُمْ َموْعِظَةٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ ِ‬
‫لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [يونس ‪.]57 :‬‬
‫وقد قال السدي عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة الهمداني ‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن أناس من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ُ { :‬هدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ } يعني ‪ :‬نورًا‬
‫(‪ )1‬للمتقين‪.‬‬
‫وقال الشعبي ‪ :‬هدى من الضللة‪ .‬وقال سعيد بن جبير ‪ :‬تبيان للمتّقين‪ .‬وكل ذلك صحيح‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة الهمداني ‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ُ { :‬هدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال ‪ :‬هم‬
‫المؤمنون (‪.)2‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬لِ ْلمُ ّتقِينَ } أي ‪ :‬الذين يحذرون من ال عقوبته في ترك ما يعرفون من‬
‫الهدى ‪ ،‬ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به‪.‬‬
‫وقال أبو َروْق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال ‪ :‬المؤمنين الذين يتّقون (‪)3‬‬
‫الشرك بي ‪ ،‬ويعملون بطاعتي‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن الحسن البصري ‪ ،‬قوله ‪ { :‬لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال ‪ :‬اتّقوا ما حرّم‬
‫ال عليهم ‪ ،‬وأدوا ما افترض عليهم‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن عياش ‪ :‬سألني العمش عن المتّقين ‪ ،‬قال ‪ :‬فأجبته‪ .‬فقال [لي] (‪ )4‬سل عنها‬
‫الكلبي ‪ ،‬فسألته فقال ‪ :‬الذين يجتنبون كبائر الثم‪ .‬قال ‪ :‬فرجعت إلى العمش ‪ ،‬فقال ‪ :‬نرى أنه‬
‫كذلك‪ .‬ولم ينكره‪.‬‬
‫وقال قتادة { لِ ْلمُ ّتقِينَ } هم الذين نعتهم ال بقوله ‪ { :‬الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ وَيُقِيمُونَ الصّلةَ } الية‬
‫والتي بعدها [البقرة ‪.]4 ، 3 :‬‬
‫واختار ابن جرير ‪ :‬أن الية َتعُمّ ذلك كله ‪ ،‬وهو كما قال‪.‬‬
‫وقد روى الترمذي وابن ماجه ‪ ،‬من رواية أبي عقيل عبد ال بن عقيل ‪ ،‬عن عبد ال بن يزيد ‪،‬‬
‫عن ربيعة بن يزيد ‪ ،‬وعطية بن قيس ‪ ،‬عن عطية السعدي ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬ل يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما ل بأس به حذرًا مما به بأس (‪ .)5‬ثم قال‬
‫الترمذي ‪ :‬حسن غريب (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬نور"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يعني نورا للمؤمنين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يتعوذون"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪" :‬البأس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪ )2451‬وسنن ابن ماجه برقم (‪.)4215‬‬
‫( ‪)1/163‬‬

‫الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْنفِقُونَ (‪)3‬‬

‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن عمران ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن سليمان ‪ ،‬يعني‬
‫الرازي ‪ ،‬عن المغيرة بن مسلم ‪ ،‬عن ميمون أبي حمزة ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت جالسًا عند أبي وائل ‪ ،‬فدخل‬
‫علينا رجل ‪ ،‬يقال له ‪ :‬أبو عفيف ‪ ،‬من أصحاب معاذ ‪ ،‬فقال له شقيق بن سلمة ‪ :‬يا أبا عفيف ‪،‬‬
‫أل تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال ‪ :‬بلى سمعته يقول ‪ :‬يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد ‪،‬‬
‫فينادي مناد ‪ :‬أين المتّقون ؟ فيقومون في كَ َنفٍ من الرّحمن ل يحتجب ال منهم ول يستتر‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫من المتّقون ؟ قال ‪ :‬قوم اتّقوا الشرك وعبادة الوثان ‪ ،‬وأخلصوا ل العبادة ‪ ،‬فيمرون إلى الجنة (‬
‫‪.)1‬‬
‫وأصل التقوى ‪ :‬التوقي مما يكره لن أصلها وقوى من الوقاية‪ .‬قال النابغة ‪:‬‬
‫سقط النصيف ولم ترد إسقاطه‪ ...‬فتناولته واتقتنا باليد‪...‬‬
‫وقال الخر ‪:‬‬
‫فألقت قناعا دونه الشمس واتقت‪ ...‬بأحسن موصولين كف ومعصم‪...‬‬
‫وقد قيل ‪ :‬إن عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ ،‬سأل أبيّ بن كعب عن التقوى ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أما‬
‫سلكت طريقًا ذا شوك ؟ قال ‪ :‬بلى قال ‪ :‬فما عملت ؟ قال ‪ :‬شمرت واجتهدت ‪ ،‬قال ‪ :‬فذلك‬
‫التقوى‪.‬‬
‫وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال ‪:‬‬
‫خل الذنوب صغيرها‪ ...‬وكبيرها ذاك التقى‪...‬‬
‫واصنع كماش فوق أر‪ ...‬ض الشوك يحذر ما يرى‪...‬‬
‫ل تحقرن صغيرة‪ ...‬إن الجبال من الحصى‪...‬‬
‫وأنشد أبو الدرداء يومًا ‪:‬‬
‫يريد المرء أن يؤتى مناه‪ ...‬ويأبى ال إل ما أرادا‪...‬‬
‫يقول المرء فائدتي ومالي‪ ...‬وتقوى ال أفضل ما استفادا‪...‬‬
‫وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما استفاد المرء‬
‫بعد تقوى ال خيرًا من زوجة صالحة ‪ ،‬إن نظر إليها سرته ‪ ،‬وإن أمرها أطاعته ‪ ،‬وإن أقسم‬
‫عليها أبرته ‪ ،‬وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" (‪.)2‬‬
‫{ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ (‪} )3‬‬
‫قال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن العلء بن المسيب بن رافع ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪،‬‬
‫عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬اليمان التصديق‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/33‬وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )1857‬من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم ‪،‬‬
‫عن أبي أمامة رضي ال عنه ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/70‬هذا إسناد فيه علي بن‬
‫زيد بن جدعان وهو ضعيف ‪ ،‬وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه"‪.‬‬

‫( ‪)1/164‬‬

‫وقال علي بن أبي طلحة وغيره ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ُ { ،‬ي ْؤمِنُونَ } يصدقون‪.‬‬
‫وقال َم ْعمَر عن الزهري ‪ :‬اليمان العمل‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ُ { :‬ي ْؤمِنُونَ } يخشون‪.‬‬
‫قال ابن جرير وغيره ‪ :‬والولى أن يكونوا موصوفين باليمان بالغيب قول واعتقادًا وعمل قال ‪:‬‬
‫وقد تدخل الخشية ل في معنى اليمان ‪ ،‬الذي هو تصديق القول بالعمل ‪ ،‬واليمان كلمة جامعةٌ‬
‫للقرار بال وكتبه ورسله ‪ ،‬وتصديق القرار بالفعل‪ .‬قلت ‪ :‬أما اليمان في اللغة فيطلق على‬
‫التصديق المحض ‪ ،‬وقد يستعمل في القرآن ‪ ،‬والمراد به ذلك ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ُ { :‬ي ْؤمِنُ بِاللّهِ‬
‫وَ ُيؤْمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [التوبة ‪ ، ]61 :‬وكما قال إخوة يوسف لبيهم ‪َ { :‬ومَا أَ ْنتَ ِب ُم ْؤمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنّا‬
‫صَا ِدقِينَ } [يوسف ‪ ، ]17 :‬وكذلك إذا استعمل مقرونا مع العمال ؛ كقوله ‪ { :‬إِل الّذِينَ آمَنُوا‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } [النشقاق ‪ ، 25 :‬والتين ‪ ، ]6 :‬فأما إذا استعمل مطلقًا فاليمان الشرعي‬
‫وَ َ‬
‫المطلوب ل يكون إل اعتقادًا وقول وعمل‪.‬‬
‫هكذا ذهب إليه أكثر الئمة ‪ ،‬بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا‬
‫‪ :‬أن اليمان قول وعمل يزيد وينقص‪ .‬وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا (‪ )1‬الكلم فيها‬
‫في أول شرح البخاري ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫شوْنَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَ ْيبِ } [الملك ‪ ، ]12 :‬وقوله‬
‫ومنهم من فسره بالخشية ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ يَخْ َ‬
‫حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ َوجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ } [ق ‪ ، ]33 :‬والخشية خلصة اليمان والعلم ‪،‬‬
‫شيَ الرّ ْ‬
‫‪ { :‬مَنْ خَ ِ‬
‫خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ } [فاطر ‪.]28 :‬‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا يَ ْ‬
‫وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ‪ ،‬وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع‬
‫مراد‪.‬‬
‫قال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله ‪ُ { :‬ي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } قال‬
‫‪ :‬يؤمنون بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ‪ ،‬وجنته وناره ولقائه ‪ ،‬ويؤمنون بالحياة بعد‬
‫الموت وبالبعث ‪ ،‬فهذا غيب كله‪.‬‬
‫وكذا قال قتادة بن دعامة‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة الهمداني عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من أصحاب النبي (‪ )2‬صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أما الغَيب فما غاب عن العباد‬
‫من أمر الجنة ‪ ،‬وأمر النار ‪ ،‬وما ذكر في القرآن‪.‬‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬أو عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن ِ‬
‫ابن عباس ‪ { :‬بِا ْلغَ ْيبِ } قال ‪ :‬بما جاء منه ‪ ،‬يعني ‪ :‬مِنَ ال تعالى‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن زِرّ ‪ ،‬قال ‪ :‬ا ْلغَيْب القرآن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وأفردنا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/165‬‬

‫وقال عطاء بن أبي رباح ‪ :‬من آمن بال فقد آمن بالغيب‪.‬‬
‫وقال إسماعيل بن أبي خالد ‪ُ { :‬ي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } قال ‪ :‬بغيب السلم‪.‬‬
‫وقال زيد بن أسلم ‪ { :‬الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } قال ‪ :‬بالقدر‪ .‬فكل هذه متقاربة في معنى واحد ؛‬
‫لن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب اليمان به‪.‬‬
‫وقال سعيد بن منصور ‪ :‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن عمارة بن عمير ‪ ،‬عن عبد‬
‫الرحمن بن يزيد (‪ )1‬قال ‪ :‬كنا عند عبد ال بن مسعود جلوسًا ‪ ،‬فذكرنا أصحَاب النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وما سبقوا به ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال عبد ال ‪ :‬إن أمر محمد صلى ال عليه وسلم كان بينا لمن‬
‫رآه ‪ ،‬والذي ل إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬الم * َذِلكَ‬
‫ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } إلى قوله ‪ { :‬ا ْل ُمفْلِحُونَ } [البقرة ‪- 1 :‬‬
‫‪.)2( ]5‬‬
‫وهكذا رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن مَرْدُويه ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬من طرق ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬به‬
‫(‪.)3‬‬
‫وقال الحاكم ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [المام] (‪ )4‬أحمد ‪ ،‬حدثنا أبو المغيرة ‪ ،‬أخبرنا الوزاعي ‪،‬‬
‫حدثني أسيد (‪ )5‬بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن خالد بن دُرَيك ‪ ،‬عن ابن مُحَيريز ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لبي جمعة‬
‫‪ :‬حدثنا حديثا سمعته من رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أحدثك حديثًا جيدًا ‪ :‬تغدينا (‬
‫‪ )6‬مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هل‬
‫أحد (‪ )7‬خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك‪ .‬قال ‪" :‬نعم" ‪ ،‬قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم‬
‫يروني" (‪.)8‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسيره ‪ :‬حدثنا عبد ال بن جعفر ‪ ،‬حدثنا إسماعيل‬
‫عن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬حدثنا معاوية بن صالح ‪ ،‬عن صالح بن جُبَيْر‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬قدم علينا أبو جمعة النصاري ‪ ،‬صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ببيت المقدس ‪،‬‬
‫ليصلي فيه ‪ ،‬ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة ‪ ،‬فلما انصرف (‪ )9‬خرجنا نشيعه ‪ ،‬فلما أراد‬
‫النصراف قال ‪ :‬إن لكم جائزة وحقا ؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬قلنا ‪ :‬هات رحمك ال قال ‪ :‬كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل‬
‫عاشر عشرة ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هل من قوم أعظم أجرًا منا ؟ آمنا بك واتبعناك ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬زيد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن سعيد بن منصور برقم (‪ )180‬تحقيق د‪ .‬الحميد‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/34‬والمستدرك (‪.)2/260‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في هـ ‪" :‬أسد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فعدنا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أأحد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )4/106‬قال الحافظ ابن حجر في الصابة (‪" : )4/33‬واختلف فيه على الوزاعي ‪،‬‬
‫فقال الكثر ‪ :‬عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز‪ .‬وقال ابن شماسة ‪ :‬عن الوزاعي‬
‫عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري (‪" : )7/6‬إسناده حسن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬انصرفنا"‪.‬‬

‫( ‪)1/166‬‬

‫"ما يمنعكم من ذلك ورسول ال بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ‪ ،‬بل قوم من بعدكم يأتيهم‬
‫كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه ‪ ،‬أولئك أعظم منكم أجرا" مرتين (‪.)1‬‬
‫ضمْرَة بن ربيعة ‪ ،‬عن مرزوق بن نافع ‪ ،‬عن صالح بن جبير ‪ ،‬عن أبي‬
‫ثم رواه من حديث َ‬
‫جمعة ‪ ،‬بنحوه (‪.)2‬‬
‫وهذا الحديث فيه دللة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث ‪ ،‬كما قررته في أول‬
‫شرح البخاري ؛ لنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية ل مطلقا‪.‬‬
‫وكذا الحديث الخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي ‪،‬‬
‫عن المغيرة بن قيس التميمي ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬الملئكة‪ .‬قال ‪" :‬وما لهم ل‬
‫يؤمنون وهم عند ربهم ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬فالنبيون‪ .‬قال ‪" :‬وما لهم ل يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟"‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فنحن‪ .‬قال ‪" :‬وما لكم ل تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟"‪ .‬قال ‪ :‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬أل إن أعجب الخلق إليّ إيمانا َل َقوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب‬
‫يؤمنون بما فيها" (‪.)3‬‬
‫قال أبو حاتم الرازي ‪ :‬المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده ‪ ،‬وابن مردويه في تفسيره ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬من‬
‫حديث محمد بن أبي حميد ‪ ،‬وفيه ضعف ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمر ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بمثله أو نحوه‪ .‬وقال الحاكم ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪ )4‬وقد روي‬
‫نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا (‪ ، )5‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن محمد المسندي ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن إدريس ‪،‬‬
‫أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة النصاري ‪ ،‬أخبرني جعفر بن محمود ‪ ،‬عن جدته‬
‫تويلة (‪ )6‬بنت أسلم ‪ ،‬قالت ‪ :‬صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ‪ ،‬فاستقبلنا مسجد‬
‫إيلياء (‪ ، )7‬فصلينا سجدتين ‪ ،‬ثم جاءنا من يخبرنا ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد استقبل‬
‫البيت (‪ )8‬الحرام ‪ ،‬فتحول النساء مكان الرجال ‪ ،‬والرجال مكان النساء ‪ ،‬فصلينا السجدتين‬
‫الباقيتين ‪ ،‬ونحن مستقبلون (‪ )9‬البيت الحرام‪.‬‬
‫قال إبراهيم ‪ :‬فحدثني رجال من بني حارثة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حين بلغه ذلك‬
‫قال ‪" :‬أولئك قوم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )4/23‬عن بكر بن سهل عن عبد ال بن صالح به‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )4/23‬من طريق ضمرة بن ربيعة به‪.‬‬
‫(‪ )3‬جزء الحسن بن عرفة برقم (‪.)19‬‬
‫(‪ )4‬مسند أبي يعلى (‪ )1/147‬والمستدرك (‪ )4/85‬وتعقب الذهبي الحاكم فقال ‪" :‬بل ضعفوه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه البزار في مسنده (‪" )2840‬كشف الستار" من طريق سعيد بن بشير ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن‬
‫أنس رضي ال عنه ‪ ،‬وقال ‪" :‬غريب من حديث أنس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬نويلة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬المسجد القصى"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بيت ال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مستقبلوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/167‬‬
‫آمنوا بالغيب" (‪.)1‬‬
‫هذا حديث غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫{ وَ ُيقِيمُونَ الصّل َة ومما رزقناهم ينفقون ‪} 3‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬أي ‪ :‬يقيمون الصلة بفروضها‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إقامة (‪ )2‬الصلة إتمام (‪ )3‬الركوع والسجود والتلوة‬
‫والخشوع والقبال عليها فيها‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬إقامة (‪ )4‬الصلة المحافظة على مواقيتها ووضوئها ‪ ،‬وركوعها وسجودها‪.‬‬
‫وقال مقاتل بن حيان ‪ :‬إقامتها ‪ :‬المحافظة على مواقيتها ‪ ،‬وإسباغ الطهور فيها (‪ )5‬وتمام‬
‫ركوعها وسجودها (‪ )6‬وتلوة القرآن فيها ‪ ،‬والتشهد والصلة على النبي صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فهذا إقامتها‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬وغيره عن ابن عباس ‪َ { :‬و ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ } قال ‪ :‬زكاة أموالهم‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة عن ابن مسعود ‪،‬‬
‫وعن أناس من أصحاب رسول ال (‪ )7‬صلى ال عليه وسلم { َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ } قال ‪ :‬هي‬
‫نفقة الرجل على أهله ‪ ،‬وهذا قبل أن تنزل الزكاة‪.‬‬
‫جوَيْبر ‪ ،‬عن الضحاك ‪ :‬كانت النفقات قربات (‪ )8‬يتقربون بها إلى ال على قدر ميسرتهم‬
‫وقال ُ‬
‫وجهدهم ‪ ،‬حتى نزلت فرائض الصدقات ‪ :‬سبعُ آيات في سورة براءة ‪ ،‬مما يذكر فيهن‬
‫الصدقات ‪ ،‬هن الناسخات المُثْبَتَات‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪َ { :‬و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْن ِفقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم ال ‪ ،‬هذه الموال عواري وودائع‬
‫عندك يا ابن آدم ‪ ،‬يوشك أن تفارقها‪.‬‬
‫واختار ابن جرير أن الية عامة في الزكاة والنفقات ‪ ،‬فإنه قال ‪ :‬وأولى التأويلت وأحقها بصفة‬
‫القوم ‪ :‬أن يكونوا لجميع اللزم لهم في أموالهم ُمؤَدّين ‪ ،‬زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته ‪،‬‬
‫من أهل أو عيال وغيرهم ‪ ،‬ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك ؛ لن ال تعالى عم‬
‫وصفهم ومدحهم بذلك ‪ ،‬وكل من النفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬كثيرًا ما يقرن ال تعالى بين الصلة والنفاق من الموال ‪ ،‬فإن الصلة حق ال وعبادته ‪،‬‬
‫وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ‪ ،‬وتمجيده والبتهال إليه ‪ ،‬ودعائه والتوكل عليه ؛‬
‫والنفاق هو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/36‬وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري ‪" :‬تركه الناس"‪.‬‬
‫وقال ابن معين ‪" :‬يضع الحديث"‪ .‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )24/207‬من طريق‬
‫إبراهيم بن حمزة الزبيري ‪ ،‬عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إقام"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬تمام"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في طـ ‪" :‬إقام"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬لها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وإتمام الركوع والسجود"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬قربانا"‪.‬‬

‫( ‪)1/168‬‬

‫الحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ‪ ،‬وأولى الناس بذلك القرابات والهلون والمماليك ‪،‬‬
‫ثم الجانب ‪ ،‬فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى ‪َ { :‬و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ‬
‫يُ ْنفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬بُ ِنيَ‬
‫السلم على خمس ‪ :‬شهادة أن ل إله إل ال ‪ ،‬وإقام الصلة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪،‬‬
‫وحج البيت" (‪ .)1‬والحاديث في هذا كثيرة‪.‬‬
‫وأصل الصلة في كلم العرب الدعاء ‪ ،‬قال العشى ‪:‬‬
‫حتْ صلى عليها و َزمْزَما (‪)2‬‬
‫لها حارس ل يبرحُ الدهرَ بَيْتَها‪ ...‬وإن ذُب َ‬
‫وقال أيضًا (‪ )3‬وقابلها الريح في دَنّها‪ ...‬وصلى على دَنّها وارتسم (‪)4‬‬
‫أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك‪.‬‬
‫وقال الخر ‪ -‬وهو العشى أيضًا ‪: -‬‬
‫جعَا‪...‬‬
‫تقول بنتي وقد قَرّبتُ مرتحل‪ ...‬يا رب جنب أبي الوصابَ والوَ َ‬
‫ك مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي‪ ...‬نوما فإن لِجَنب المرء ُمضْطجعا‪...‬‬
‫علي ِ‬
‫يقول ‪ :‬عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي‪ .‬وهذا ظاهر ‪ ،‬ثم استعملت الصلة في الشرع في‬
‫ذات الركوع والسجود والفعال المخصوصة في الوقات المخصوصة ‪ ،‬بشروطها المعروفة ‪،‬‬
‫وصفاتها ‪ ،‬وأنواعها [المشروعة] (‪ )5‬المشهورة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وأرى أن الصلة المفروضة سميت صلة ؛ لن المصلي يتعرض لستنجاح‬
‫طلبتَه من ثواب ال بعمله ‪ ،‬مع ما يسأل ربه من (‪ )6‬حاجته (‪.)7‬‬
‫[وقيل ‪ :‬هي مشتقة من الصَلوَيْن إذا تحركا في الصلة عند (‪ )8‬الركوع ‪ ،‬وهما عرقان يمتدان من‬
‫الظهر حتى يكتنفا (‪ )9‬عجب الذنب ‪ ،‬ومنه سمي المصلي ؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل ‪،‬‬
‫وفيه نظر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي مشتقة من الصلى ‪ ،‬وهو الملزمة للشيء من قوله ‪ { :‬ل َيصْلهَا } أي ‪:‬‬
‫شقَى } [الليل ‪ ]15 :‬وقيل ‪ :‬مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم ‪،‬‬
‫يلزمها ويدوم فيها { إِل ال ْ‬
‫حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ }‬
‫كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلة ‪ { :‬إِنّ الصّلةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ‬
‫[العنكبوت ‪ ]45 :‬واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)10‬‬
‫وأما الزكاة فسيأتي الكلم عليها في موضعه ‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )8‬وصحيح مسلم برقم (‪.)16‬‬
‫(‪ )2‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/242‬‬
‫(‪ )3‬في ب ‪" :‬الخر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/242‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬حاجاته"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬يكشفا"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/169‬‬

‫ك وَبِالْآَخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ (‪)4‬‬


‫وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكَ َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْل َ‬

‫ك وَبِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ (‪} )4‬‬


‫ك َومَا أُنزلَ مِنْ قَبِْل َ‬
‫{ وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْي َ‬
‫قال ابن عباس ‪ { :‬وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنزلَ ِإلَ ْيكَ َومَا أُنزلَ مِنْ قَبِْلكَ } أي ‪ :‬يصدقون بما جئت به‬
‫من ال ‪ ،‬وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين ‪ ،‬ل يفرقون بينهم ‪ ،‬ول يجحدون ما جاؤوهم به من‬
‫ربهم { وَبِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي ‪ :‬بالبعث والقيامة ‪ ،‬والجنة ‪ ،‬والنار ‪ ،‬والحساب ‪ ،‬والميزان‪.‬‬
‫وإنما سميت الخرة لنها بعد الدنيا ‪ ،‬وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا ‪ :‬هل هم‬
‫الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ وَ ُيقِيمُونَ الصّل َة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ‬
‫يُ ْنفِقُونَ } [البقرة ‪ ]3 :‬ومن هم ؟ على ثلثة أقوال حكاها ابن جرير ‪:‬‬
‫أحدهما (‪ : )1‬أن الموصوفين أوّل هم الموصوفون ثانيًا ‪ ،‬وهم كل مؤمن ‪ ،‬مؤمنو العرب ومؤمنو‬
‫أهل الكتاب وغيرهم ‪ ،‬قاله مجاهد ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬هما واحد ‪ ،‬وهم مؤمنو أهل الكتاب ‪ ،‬وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على‬
‫سوّى * وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَى *‬
‫صفات ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ العْلَى * الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫حوَى } [العلى ‪ ]5 - 1 :‬وكما قال الشاعر ‪:‬‬
‫جعَلَهُ غُثَاءً َأ ْ‬
‫وَالّذِي َأخْرَجَ ا ْلمَرْعَى * فَ َ‬
‫إلى الملك القَرْم وابن الهُمام‪ ...‬وليثِ الكتيبة في المُزْ َدحَم‪...‬‬
‫فعطف الصفات بعضها على بعض ‪ ،‬والموصوف واحد‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن الموصوفين أول مؤمنو العرب ‪ ،‬والموصوفون ثانيا بقوله ‪ { :‬وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا‬
‫ك َومَا أُنزلَ مِنْ قَبِْلكَ } الية مؤمنو (‪ )2‬أهل الكتاب ‪ ،‬نقله السدي في تفسيره ‪ ،‬عن ابن‬
‫أُنزلَ إِلَ ْي َ‬
‫عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ‪ ،‬واختاره ابن جرير ‪ ،‬ويستشهد لما قال بقوله تعالى ‪:‬‬
‫شعِينَ لِلّهِ } الية [آل‬
‫{ وَإِنّ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ َومَا أُنزلَ إِلَ ْي ُك ْم َومَا أُنزلَ ِإلَ ْيهِمْ خَا ِ‬
‫عمران ‪ ، ]199 :‬وبقوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلهِ هُمْ بِهِ ُي ْؤمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ‬
‫قَالُوا آمَنّا بِهِ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ ُمسِْلمِينَ * أُولَ ِئكَ ُيؤْتَوْنَ َأجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُوا‬
‫وَيَدْرَءُونَ بِا ْلحَسَنَةِ السّيّئَ َة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ } [القصص ‪ .]54 - 52 :‬وثبت في الصحيحين ‪،‬‬
‫من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ثلثة‬
‫يؤتون أجرهم مرتين ‪ :‬رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ‪ ،‬ورجل مملوك أدى حق ال‬
‫وحق مواليه ‪ ،‬ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" (‪.)3‬‬
‫وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إل بمناسبة ‪ ،‬وهي أن ال وصف في أول هذه‬
‫السورة المؤمنين والكافرين ‪ ،‬فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين ‪ :‬منافق وكافر ‪ ،‬فكذلك‬
‫المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن مجاهد‪ .‬ورواه غير واحد ‪ ،‬عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أحدها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬لمؤمني"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )97‬وصحيح مسلم برقم (‪.)154‬‬

‫( ‪)1/170‬‬

‫أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ (‪)5‬‬

‫ابن أبي نَجِيح ‪ ،‬عن مجاهد أنه قال ‪ :‬أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ‪ ،‬وآيتان‬
‫في نعت الكافرين ‪ ،‬وثلث عشرة في المنافقين ‪ ،‬فهذه اليات الربع عامة في كل مؤمن اتصف‬
‫بها من عربي وعجمي ‪ ،‬وكتابي من إنسي وجني ‪ ،‬وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون‬
‫الخرى ‪ ،‬بل كل واحدة مستلزمة للخرى وشرط معها ‪ ،‬فل يصح اليمان بالغيب وإقام الصلة‬
‫والزكاة إل مع اليمان بما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وما جاء به مَنْ قبله من الرسل‬
‫واليقان بالخرة ‪ ،‬كما أن هذا ل يصح إل بذاك ‪ ،‬وقد أمر ال تعالى المؤمنين بذلك ‪ ،‬كما قال ‪{ :‬‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي أَنزلَ مِنْ قَ ْبلُ‬
‫حسَنُ إِل الّذِينَ ظََلمُوا‬
‫} الية [النساء ‪ .]136 :‬وقال ‪ { :‬وَل ُتجَادِلُوا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ إِل بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫مِ ْنهُ ْم َوقُولُوا آمَنّا بِالّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَ ْيكُمْ وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَاحِدٌ } الية [العنكبوت ‪ .]46 :‬وقال‬
‫تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ آمِنُوا ِبمَا نزلْنَا ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } [النساء ‪ ]47 :‬وقال تعالى‬
‫ل َومَا أُنزلَ إِلَ ْي ُكمْ مِنْ رَ ّبكُمْ }‬
‫شيْءٍ حَتّى ُتقِيمُوا ال ّتوْرَا َة وَالنْجِي َ‬
‫‪ُ { :‬قلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َلسْتُمْ عَلَى َ‬
‫[المائدة ‪ ]68 :‬وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك ‪ ،‬فقال تعالى ‪ { :‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ‬
‫مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } الية‬
‫س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ‬
‫[البقرة ‪ ]285 :‬وقال ‪ { :‬وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ أُولَ ِئكَ َ‬
‫أُجُورَ ُهمْ } [النساء ‪ ]152 :‬وغير ذلك من اليات الدالة على أمْر جميع المؤمنين باليمان بال‬
‫ورسله وكتبه‪ .‬لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية ‪ ،‬وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم (‪ )1‬مفصل‬
‫فإذا دخلوا في السلم وآمنوا به مفصل كان لهم على ذلك الجر مرتين ‪ ،‬وأما غيرهم فإنما‬
‫يحصل له اليمان ‪ ،‬بما تقدم مجمل كما جاء في الصحيح ‪" :‬إذا حدثكم أهل الكتاب فل تصدقوهم‬
‫ول تكذبوهم ‪ ،‬ولكن قولوا ‪ :‬آمنا بالذي (‪ )2‬أنزل إلينا وأنزل إليكم" (‪ )3‬ولكن قد يكون إيمان كثير‬
‫من العرب بالسلم الذي بعث به محمد صلى ال عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان‬
‫من دخل منهم في السلم ‪ ،‬فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية ‪ ،‬فغيرهم [قد] (‪ )4‬يحصل‬
‫له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الجرين اللذين حصل لهم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ عَلَى ُهدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ (‪} )5‬‬
‫يقول ال تعالى ‪ { :‬أُولَ ِئكَ } أي ‪ :‬المتصفون بما تقدم ‪ :‬من اليمان بالغيب ‪ ،‬وإقام الصلة ‪،‬‬
‫والنفاق من الذي رزقهم ال ‪ ،‬واليمان بما أنزل ال إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل ‪ ،‬واليقان‬
‫بالدار الخرة ‪ ،‬وهو يستلزم الستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات‪.‬‬
‫{ عَلَى ُهدًى } أي ‪ :‬نور وبيان وبصيرة من ال تعالى‪ { .‬وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } أي ‪ :‬في الدنيا‬
‫والخرة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بما في أيديهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )7362 ، 4485‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من طـ ‪ ،‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/171‬‬

‫عكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ‪ ،‬عن ابن‬


‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن ِ‬
‫عباس ‪ { :‬أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِمْ } أي ‪ :‬على نور من ربهم ‪ ،‬واستقامة على ما جاءهم ‪،‬‬
‫{ وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } أي ‪ :‬الذين أدركوا ما طلبوا ‪ ،‬ونجوا من شر ما منه هربوا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وأما معنى قوله ‪ { :‬أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّب ِهمْ } فإن معنى ذلك ‪ :‬أنهم على‬
‫نور من ربهم ‪ ،‬وبرهان واستقامة وسداد ‪ ،‬بتسديد ال إياهم ‪ ،‬وتوفيقه لهم وتأويل قوله ‪ { :‬وَأُولَ ِئكَ‬
‫هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } أي المُ ْنجِحون المدركون ما طلبوا عند ال بأعمالهم وإيمانهم بال وكتبه ورسله ‪،‬‬
‫من الفوز بالثواب ‪ ،‬والخلود في الجنات ‪ ،‬والنجاة مما أعد ال لعدائه من العقاب (‪.)1‬‬
‫وقد حكى ابن جرير قول عن بعضهم أنه أعاد اسم الشارة في قوله تعالى ‪ { :‬أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى‬
‫مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُفِْلحُونَ } إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ } الية ‪ ،‬على ما تقدم من الخلف‪[ .‬قال] (‪ )2‬وعلى هذا فيجوز أن يكون‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ } منقطعا (‪ )3‬مما قبله ‪ ،‬وأن يكون مرفوعًا على‬
‫علَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَ] أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } (‪ )4‬واختار أنه عائد إلى‬
‫البتداء وخبره { [ أُولَ ِئكَ َ‬
‫جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب ‪ ،‬لما رواه السدي عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي‬
‫صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن أناس من أصحاب رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أما الذين يؤمنون بالغيب ‪ ،‬فهم المؤمنون من العرب ‪ ،‬والذين يؤمنون‬
‫بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب‪ .‬ثم جمع الفريقين فقال ‪ { :‬أُولَ ِئكَ‬
‫عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِمْ وَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة ‪،‬‬
‫والشارة عائدة عليهم ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وقد نقل هذا عن مجاهد ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا‬
‫ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثني عبيد ال بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫عمرو ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم وقيل له ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إنا نقرأ من القرآن فنرجو ‪،‬‬
‫ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس ‪ ،‬أو كما قال‪ .‬قال ‪ :‬فقال ‪" :‬أفل أخبركم عن أهل الجنة وأهل‬
‫النار ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬بلى يا رسول ال‪ .‬قال ‪ { " :‬الم * َذِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ } " إلى قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫ا ْل ُمفْلِحُونَ } هؤلء أهل الجنة"‪ .‬قالوا ‪ :‬إنا نرجو أن نكون هؤلء‪ .‬ثم قال ‪ { " :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا‬
‫عظِيمٌ } هؤلء أهل النار"‪ .‬قالوا ‪ :‬لسنا هم يا رسول ال‪ .‬قال ‪" :‬أجل‬
‫سوَاءٌ عَلَ ْي ِهمْ } " إلى قوله ‪َ { :‬‬
‫َ‬
‫" (‪.)5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)1/249‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مقتطعا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/40‬‬
‫( ‪)1/172‬‬

‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)6‬‬
‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ‬

‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَنْذَرْ َتهُمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ (‪} )6‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أي ‪ :‬غَطوا الحق وستروه ‪ ،‬وقد كتب ال تعالى عليهم ذلك ‪،‬‬
‫ح ّقتْ‬
‫سواء عليهم إنذارك وعدمه ‪ ،‬فإنهم ل يؤمنون بما جئتهم به ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َ‬
‫عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ * وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آيَةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ اللِيمَ } [يونس ‪]97 ، 96 :‬‬
‫وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب ‪ { :‬وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آ َيةٍ مَا تَ ِبعُوا‬
‫سعِد له ‪ ،‬ومن أضلّه‬
‫قِبْلَ َتكَ } الية [البقرة ‪ ]145 :‬أي ‪ :‬إن من (‪ )1‬كتب ال عليه الشقاوة فل ُم ْ‬
‫فل هادي له ‪ ،‬فل تذهب نفسك عليهم حسرات ‪ ،‬وبلّغهم الرّسالة ‪ ،‬فمن استجاب لك فله الحظ‬
‫غ وَعَلَيْنَا ا ْلحِسَابُ }‬
‫الوفر ‪ ،‬ومن تولى فل تحزن عليهم ول ُي ْهمِدَنّك ذلك ؛ { فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ‬
‫شيْءٍ َوكِيلٌ } [هود ‪.]12 :‬‬
‫[الرعد ‪ ، ]40 :‬و { إِ ّنمَا أَ ْنتَ نَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫علَ ْيهِمْ‬
‫سوَاءٌ َ‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا َ‬
‫أَأَنْذَرْ َت ُهمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن‬
‫جميع النّاس ويُتَابعوه على الهدى ‪ ،‬فأخبره ال تعالى أنه ل يؤمن إل من سبق له من ال السعادةُ‬
‫في الذكر الوّل ‪ ،‬ول يضل إل من سبق له من ال الشقاوة في الذكر الوّل‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫سوَاءٌ‬
‫عباس ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أي ‪ :‬بما أنزل إليك ‪ ،‬وإن قالوا ‪ :‬إنّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { َ‬
‫عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ تُنْذِرْ ُهمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } أي ‪ :‬إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ‪ ،‬وجحدوا ما‬
‫أخذ عليهم من الميثاق ‪ ،‬فقد (‪ )2‬كفروا بما جاءك ‪ ،‬وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ‪ ،‬فكيف‬
‫يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ‪ ،‬وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟!‬
‫وقال أبو جعفر الرّازي ‪ ،‬عن الرّبيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت هاتان اليتان في‬
‫قادة الحزاب ‪ ،‬وهم الذين قال ال فيهم ‪َ { :‬ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ‬
‫جهَنّمَ َيصَْلوْنَهَا } [إبراهيم ‪.]29 ، 28 :‬‬
‫دَارَ الْ َبوَارِ * َ‬
‫والمعنى الذي ذكرناه أوّل وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ‪ ،‬أظهر ‪،‬‬
‫ويفسر (‪ )3‬ببقية اليات التي في معناها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ‪ ،‬فقال ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح‬
‫المصري ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثني عبد ال بن المغيرة ‪ ،‬عن أبي الهيثم (‪ )4‬عن‬
‫عبد ال بن عمرو ‪ ،‬قال ‪ :‬قيل ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إنّا نقرأ من القرآن فنرجو ‪ ،‬ونقرأ فنكاد أن نيأس‬
‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫‪ ،‬فقال ‪" :‬أل أخبركم" ‪ ،‬ثم قال ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ‬
‫هؤلء أهل النار"‪ .‬قالوا ‪ :‬لسنا منهم يا رسول ال ؟ قال ‪" :‬أجل" (‪.)5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬إل أنه من"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وقد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وتفسيره" ‪ ،‬وفي طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬ويفسره"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬القسم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/42‬‬

‫( ‪)1/173‬‬

‫عظِيمٌ (‪)7‬‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَعَلَى أَ ْبصَارِهِمْ غِشَا َوةٌ وََلهُمْ عَذَابٌ َ‬
‫خَ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ‬

‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَنْذَرْ َتهُمْ أَمْ‬


‫[وقوله ‪ { :‬ل ُي ْؤمِنُونَ } محله من العراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها ‪َ { :‬‬
‫لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } أي هم كفار في كل الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله ‪ { :‬ل ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫ويحتمل أن يكون { ل ُي ْؤمِنُونَ } خبرًا لن تقديره ‪ :‬إن الذين كفروا ل يؤمنون ‪ ،‬ويكون قوله ‪:‬‬
‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ َأأَنْذَرْ َتهُمْ َأمْ َلمْ تُنْذِرْ ُهمْ } جملة معترضة ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)1‬‬
‫{ َ‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ (‪} )7‬‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَعَلَى أَ ْبصَارِهِمْ غِشَا َو ٌة وََلهُمْ َ‬
‫{ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ‬
‫قال السّدي ‪ { :‬خَتَمَ اللّهُ } أي ‪ :‬طبع ال ‪ ،‬وقال قتادة في هذه الية ‪ :‬استحوذ عليهم الشيطان إذ‬
‫أطاعوه ؛ فختم ال على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ‪ ،‬فهم ل يبصرون هدى ول‬
‫يسمعون ول يفقهون ول يعقلون‪.‬‬
‫وقال ابن جُرَيْج ‪ :‬قال مجاهد ‪ { :‬خَ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } قال ‪ :‬نبئت أن الذنوب على القلب تحف‬
‫به (‪ )2‬من كل نواحيه حتى تلتقي عليه ‪ ،‬فالتقاؤها عليه الطبع ‪ ،‬والطبع الختم ‪ ،‬قال ابن جريج ‪:‬‬
‫الختم على القلب والسمع‪.‬‬
‫قال ابن جُرَيْج ‪ :‬وحدثني عبد ال بن كَثير ‪ ،‬أنه سمع مجاهدًا يقول ‪ :‬الرّانُ أيسر من الطبع ‪،‬‬
‫والطبع أيسر من القفال ‪ ،‬والقفال أشد من ذلك كله‪.‬‬
‫وقال العمش ‪ :‬أرانا مجاهد بيده فقال ‪ :‬كانوا يرون أن القلب في مثل هذه (‪ - )3‬يعني ‪ :‬الكف‬
‫‪ -‬فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمّ منه ‪ ،‬وقال بأصبعه الخنصر هكذا ‪ ،‬فإذا أذنب ضَمّ‪ .‬وقال بأصبع‬
‫أخرى ‪ ،‬فإذا أذنب ضُمّ‪ .‬وقال بأصبع أخرى وهكذا ‪ ،‬حتى ضم أصابعه كلها ‪ ،‬ثم قال (‪ : )4‬يطبع‬
‫عليه بطابع‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬كانوا (‪ )5‬يرون أن ذلك ‪ :‬الرين‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير ‪ :‬عن أبي كُرَيْب ‪ ،‬عن َوكِيع ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬بنحوه‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬إنما معنى قوله ‪ { :‬خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } إخبار من ال عن‬
‫تكبرهم ‪ ،‬وإعراضهم عن الستماع لما دُعُوا إليه من الحق ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬إن فلنًا لصَمّ عن هذا‬
‫الكلم ‪ ،‬إذا امتنع من سماعه ‪ ،‬ورفع (‪ )6‬نفسه عن تفهمه تكبرًا‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهذا ل يصح ؛ لن ال قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم‪.‬‬
‫(قلت) ‪ :‬وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الية من خمسة أوجه‬
‫وكلها ضعيفة جدًا ‪ ،‬وما جرأه على ذلك إل اعتزاله ؛ لن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول‬
‫الحق إليها قبيح عنده ‪ -‬تعالى ال عنه في اعتقاده ‪ -‬ولو فهم قوله تعالى ‪ { :‬فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ‬
‫قُلُو َبهُمْ } وقوله { وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬
‫َي ْع َمهُونَ } وما أشبه ذلك من اليات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين‬
‫الهدى جزا ًء وفاقًا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق ‪ ،‬وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح‬
‫‪ ،‬فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬وأجمعت المة على أن ال عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب‬
‫الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال ‪َ { :‬بلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا ِب ُكفْرِهِمْ } وذكر حديث تقليب القلوب ‪:‬‬
‫"ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك" ‪ ،‬وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت‬
‫فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وقال ‪ :‬الطبع ينبت الذنوب على القلب فحفت به"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬قال ‪ :‬ثم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وكانوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬يرفع"‪.‬‬

‫( ‪)1/174‬‬

‫نكت فيه نكتة بيضاء ‪ ،‬حتى تصير على قلبين ‪ :‬على أبيض مثل الصفاء فل تضره فتنة ما دامت‬
‫السموات والرض ‪ ،‬والخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا ل يعرف معروفًا ول ينكر منكرًا"‬
‫الحديث‪.‬‬
‫قال (‪ )1‬والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره (‪ )2‬الخبرُ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫عجْلن ‪ ،‬عن القعقاع ‪،‬‬
‫وهو ما حدثنا به محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا صفوان بن عيسى ‪ ،‬حدثنا ابن َ‬
‫عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪( :‬إن المؤمن إذا‬
‫أذنب ذنبًا كانت ُنكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزعَ واستعتب صقل قلبه ‪ ،‬وإن زاد زادت حتى‬
‫تعلو قلبه ‪ ،‬فذلك الران الذي قال ال تعالى ‪ { :‬كَل َبلْ رَانَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ }‬
‫[المطففين ‪.)3( ]14 :‬‬
‫وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن الليث بن سعد ‪ ،‬وابن‬
‫ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ‪ ،‬ثلثتهم عن محمد بن عجلن ‪،‬‬
‫به (‪.)4‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب‬
‫أغلقتها ‪ ،‬وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل ال تعالى والطبع ‪ ،‬فل يكون لليمان إليها مسلك ‪،‬‬
‫ول للكفر عنها (‪ )5‬مخلص ‪ ،‬فذلك (‪ )6‬هو الختم والطبع الذي ذكر (‪ )7‬في قوله تعالى ‪ { :‬خَتَمَ‬
‫س ْم ِعهِمْ } نظير الطبع والختم على ما تدركه البصار من الوعية‬
‫علَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ‬
‫اللّهُ َ‬
‫والظروف ‪ ،‬التي ل يوصل إلى ما فيها إل بفض (‪ )8‬ذلك عنها ثم حلها ‪ ،‬فكذلك (‪ )9‬ل يصل‬
‫اليمان إلى قلوب من وصف ال أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إل بعد فض خاتمه وحَلّه‬
‫رباطه [عنها] (‪.)10‬‬
‫س ْم ِعهِمْ } ‪ ،‬وقوله { وَعَلَى‬
‫واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى ‪ { :‬خَ َتمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ‬
‫غشَا َوةٌ } جملة تامة ‪ ،‬فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع ‪ ،‬والغشاوة ‪ -‬وهي‬
‫أَ ْبصَارِهِمْ ِ‬
‫الغطاء ‪ -‬تكون على البصر ‪ ،‬كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس ‪ ،‬وعن مرّة ال َهمْداني ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن أناس من أصحاب رسول ال (‪)11‬‬
‫س ْم ِعهِمْ } يقول ‪ :‬فل يعقلون ول‬
‫صلى ال عليه وسلم في قوله ‪ { :‬خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ‬
‫يسمعون ‪ ،‬ويقول ‪ :‬وجعل على أبصارهم غشاوة ‪ ،‬يقول ‪ :‬على أعينهم فل يبصرون‪.‬‬
‫قال (‪ )12‬ابن جرير ‪ :‬حدثني محمد بن سعد (‪ )13‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثني عمي الحسين بن الحسن ‪،‬‬
‫س ْم ِعهِمْ } والغشاوة على‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى َ‬
‫أبصارهم‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا الحسين ‪ ،‬يعني ابن داود ‪ ،‬وهو سُنَيد ‪ ،‬حدثني حجاج ‪ ،‬وهو ابن‬
‫محمد العور ‪ ،‬حدثني ابن جريج قال ‪ :‬الختم على القلب والسمع ‪ ،‬والغشاوة على البصر ‪ ،‬قال‬
‫س ْمعِ ِه َوقَلْبِهِ‬
‫علَى َ‬
‫ال تعالى ‪ { :‬فَإِنْ َيشَأِ اللّهُ َيخْتِمْ عَلَى قَلْ ِبكَ } [الشورى ‪ ، ]24 :‬وقال { وَخَتَمَ َ‬
‫غشَا َوةً } [الجاثية ‪.)14( ]23 :‬‬
‫ج َعلَ عَلَى َبصَ ِرهِ ِ‬
‫وَ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قال ابن جرير"‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ما صح به بنظره"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)1/260‬‬
‫(‪ )4‬سنن الترمذي برقم (‪ )3334‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )11658‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)4244‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬منها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فلذلك"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬ذكره ال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬إلى نقض"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬فلذلك"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪" :‬سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )14‬تفسير الطبري (‪.)1/265‬‬

‫( ‪)1/175‬‬

‫َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ َآمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ (‪ُ )8‬يخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ َآمَنُوا َومَا‬
‫شعُرُونَ (‪)9‬‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫خدَعُونَ إِلّا أَ ْنفُ َ‬
‫يَ ْ‬

‫قال (‪ )1‬ابن جرير ‪ :‬ومن نصب غشاوة من قوله تعالى ‪ { :‬وَعَلَى أَ ْبصَارِ ِهمْ غِشَا َوةٌ } يحتمل (‪)2‬‬
‫أنه نصبها بإضمار فعل ‪ ،‬تقديره ‪ :‬وجعل على أبصارهم غشاوة ‪ ،‬ويحتمل أن يكون نصبها على‬
‫س ْم ِعهِمْ } كقوله تعالى ‪ { :‬وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة ‪ ، ]22 :‬وقول‬
‫التباع ‪ ،‬على محل { وَعَلَى َ‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫عََلفْتُها تبنًا وماء باردًا‪ ...‬حتى شَتتْ َهمّالَةً عيناها (‪)3‬‬
‫وقال الخر ‪:‬‬
‫ورأيت َزوْجَك في الوغى‪ ...‬متقلّدًا سيفًا و ُرمْحًا (‪)4‬‬
‫تقديره ‪ :‬وسقيتها ماء باردًا ‪ ،‬ومع َتقِل رمحًا‪.‬‬
‫لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ‪ ،‬ثم عرّف حال الكافرين بهاتين اليتين ‪،‬‬
‫شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون اليمان ويبطنون الكفر ‪ ،‬ولما كان أمرهم‬
‫يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة ‪ ،‬كل منها نفاق ‪ ،‬كما أنزل (‪)5‬‬
‫سورة براءة فيهم ‪ ،‬وسورة المنافقين فيهم ‪ ،‬وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور ‪ ،‬تعريفا‬
‫لحوالهم لتجتنب ‪ ،‬ويجتنب من تلبس (‪ )6‬بها أيضًا ‪ ،‬فقال تعالى ‪:‬‬
‫{ َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ (‪ُ )8‬يخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ آمَنُوا‬
‫شعُرُونَ (‪} )9‬‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫َومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ‬
‫النفاق ‪ :‬هو إظهار الخير وإسرار الشر ‪ ،‬وهو أنواع ‪ :‬اعتقادي ‪ ،‬وهو الذي يخلد صاحبه في‬
‫النار ‪ ،‬وعملي وهو من أكبر الذنوب ‪ ،‬كما سيأتي تفصيله (‪ )7‬في موضعه ‪ ،‬إن شاء ال تعالى ‪،‬‬
‫وهذا كما قال ابن جريج ‪ :‬المنافق يخالف َقوْلُه ِفعْلَهُ ‪ ،‬وسِرّه علنيته ‪ ،‬ومدخله مخرجه ‪ ،‬ومشهده‬
‫َمغِيبه‪.‬‬
‫وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية ؛ لن مكة لم يكن فيها نفاق ‪ ،‬بل كان خلفه ‪ ،‬من‬
‫الناس من كان يظهر الكفر ُمسْ َتكْرَها ‪ ،‬وهو في الباطن مؤمن ‪ ،‬فلمّا هاجر رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم إلى المدينة ‪ ،‬وكان بها النصار من الوس والخزرج ‪ ،‬وكانوا في جاهليتهم يعبدون‬
‫الصنام ‪ ،‬على طريقة مشركي العرب ‪ ،‬وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلفهم ‪،‬‬
‫وكانوا ثلث قبائل ‪ :‬بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج ‪ ،‬وبنو ال ّنضِير ‪ ،‬وبنو قُرَ ْيظَة حلفاء الوس ‪ ،‬فلمّا‬
‫قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة ‪ ،‬وأسلم من أسلم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فيحتمل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/264‬‬
‫(‪ )4‬البيت في تفسير الطبري (‪ )1/265‬وهو للحارث المخزومي‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬كما أنزلت"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬يتلبس"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬تفسيره"‪.‬‬

‫( ‪)1/176‬‬

‫من النصار من قبيلتي الوس والخزرج ‪ ،‬وقل من أسلم من اليهود إل عبد ال بن سَلم ‪ ،‬رضي‬
‫ال عنه ‪ ،‬ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا ؛ لنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف ‪ ،‬بل قد كان ‪،‬‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وَا َدعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة ‪ ،‬فلما كانت‬
‫وقعة بدر العظمى وأظهر ال كلمته ‪ ،‬وأعلى السلم وأهله ‪ ،‬قال عبد ال بن أبيّ بن سلول ‪،‬‬
‫وكان رأسا في المدينة ‪ ،‬وهو من الخزرج ‪ ،‬وكان سيد الطائفتين في الجاهلية ‪ ،‬وكانوا قد عزموا‬
‫على أن يملّكوه عليهم ‪ ،‬فجاءهم الخير وأسلموا ‪ ،‬واشتغلوا عنه ‪ ،‬فبقي في نفسه من السلم وأهله‬
‫‪ ،‬فلما كانت وقعة بدر قال ‪ :‬هذا أمر قد َتوَجّه فأظهر الدخول في السلم ‪ ،‬ودخل معه طوائف‬
‫ممن هو على طريقته ونحلته ‪ ،‬وآخرون من أهل الكتاب ‪ ،‬فمن َث ّم وُجِد النفاق في أهل المدينة‬
‫ومن حولها من العراب ‪ ،‬فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد ‪ ،‬لنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا ‪،‬‬
‫بل يهاجر ويترك ماله ‪ ،‬وولده ‪ ،‬وأرضه رغبة فيما عند ال في الدار الخرة‪.‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكْرِمة ‪ ،‬أو سعيد بن جُبَيْر ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الخِ ِر َومَا ُهمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ } يعني ‪ :‬المنافقين من‬
‫الوس والخزرج ومن كان على أمرهم‪.‬‬
‫وكذا فسّرها بالمنافقين أبو العالية ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي‪.‬‬
‫ولهذا نبّه ال ‪ ،‬سبحانه ‪ ،‬على صفات المنافقين لئل يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون ‪ ،‬فيقع بذلك‬
‫فساد عريض من عدم الحتراز منهم ‪ ،‬ومن اعتقاد إيمانهم ‪ ،‬وهم كفار في نفس المر ‪ ،‬وهذا من‬
‫المحذورات الكبار ‪ ،‬أن يظن بأهل الفجور خَيْر ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ‬
‫وَبِالْ َيوْمِ الخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُمؤْمِنِينَ } أي ‪ :‬يقولون ذلك قول ليس وراءه شيء آخر ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ش َهدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ } [المنافقون ‪ ]1 :‬أي ‪ :‬إنما يقولون ذلك إذا‬
‫{ ِإذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا نَ ْ‬
‫جاؤوك فقط ‪ ،‬ل في نفس المر ؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولم التأكيد في خبرها ؛ كما‬
‫أكّدوا قولهم ‪ { :‬آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الخِرِ } وليس المر كذلك ‪ ،‬كما أكْذبهم ال في شهادتهم ‪ ،‬وفي‬
‫شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ َلكَاذِبُونَ } [المنافقون ‪، ]1 :‬‬
‫خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم ‪ ،‬بقوله ‪ { :‬وَاللّهُ يَ ْ‬
‫وبقوله { َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬يُخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ آمَنُوا } أي ‪ :‬بإظهارهم ما أظهروه من اليمان مع إسرارهم‬
‫الكفر ‪ ،‬يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون ال بذلك ‪ ،‬وأن ذلك نافعهم عنده ‪ ،‬وأنه يروج عليه كما‬
‫جمِيعًا فَ َيحِْلفُونَ َلهُ َكمَا يَحِْلفُونَ َلكُمْ‬
‫يروج على بعض المؤمنين ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ‬
‫شيْءٍ أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } [المجادلة ‪ ]18 :‬؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم‬
‫وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ عَلَى َ‬
‫شعُرُونَ } يقول ‪ :‬وما َيغُرّون بصنيعهم هذا ول‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫ذلك بقوله ‪َ { :‬ومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ‬
‫يخدعون إل أنفسهم ‪ ،‬وما يشعرون بذلك من أنفسهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ ُيخَادِعُونَ‬
‫عهُمْ } [النساء ‪.]142 :‬‬
‫اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ‬
‫سهُمْ" ‪ ،‬وكل القراءتين ترجع إلى معنى واحد‪.‬‬
‫ومن القراء من قرأ ‪َ " :‬ومَا ُيخَادِعُونَ (‪ )1‬إِل أَنفُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬يخدعون"‪.‬‬

‫( ‪)1/177‬‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ (‪)10‬‬


‫فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَ َرضًا وََلهُمْ َ‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬فإن قال قائل ‪ :‬كيف يكون المنافق ل وللمؤمنين مخادعًا ‪ ،‬وهو ل يظهر بلسانه‬
‫خلف ما هو له معتقد إل تقية ؟‬
‫قيل ‪ :‬ل تمتنع (‪ )1‬العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ‪ ،‬لينجو مما هو‬
‫له خائف ‪ ،‬مخادعا ‪ ،‬فكذلك المنافق ‪ ،‬سمي مخادعا ل وللمؤمنين ‪ ،‬بإظهاره ما أظهر (‪ )2‬بلسانه‬
‫تقية ‪ ،‬مما تخلص به من القتل والسباء (‪ )3‬والعذاب العاجل ‪ ،‬وهو لغير ما أظهر ‪ ،‬مستبطن ‪،‬‬
‫وذلك من فعلِه ‪ -‬وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا ‪ -‬فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ‪،‬‬
‫ظهِر لها بفعله ذلك بها أنّه يعطيها أمنيّتها ‪ ،‬ويُسقيها كأس (‪ )4‬سرورها ‪ ،‬وهو موردها‬
‫لنه يُ ْ‬
‫حياض عطبها ‪ ،‬ومُجرّعها بها كأس عذابها ‪ ،‬ومُزيرُها (‪ )5‬من غضب ال وأليم عقابه ما ل ق َبلَ‬
‫لها به ‪ ،‬فذلك خديعته نفسه ‪ ،‬ظنًا منه ‪ -‬مع إساءته إليها في أمر معادها ‪ -‬أنه إليها محسن ‪ ،‬كما‬
‫شعُرُونَ } إعلمًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫قال تعالى ‪َ { :‬ومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ‬
‫سخَاطهم (‪ )6‬عليها ربهم بكفرهم ‪ ،‬وشكهم وتكذيبهم ‪ ،‬غير شاعرين ول‬
‫بإساءتهم إلى أنفسهم في إ ْ‬
‫دارين ‪ ،‬ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون (‪.)7‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أنبأنا عليّ بن المبارك ‪ ،‬فيما كتب إليّ ‪ ،‬حدثنا زيد بن المبارك ‪ ،‬حدثنا‬
‫محمد بن ثور ‪ ،‬عن ابن جُرَيْج ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬يُخَادِعُونَ اللّهَ } قال ‪ :‬يظهرون "ل إله إل‬
‫ال" يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ‪ ،‬وفي أنفسهم غير ذلك (‪.)8‬‬
‫وقال سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْ ِم الخِ ِر َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ *‬
‫شعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير ‪ :‬خَنعُ‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫يُخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ آمَنُوا َومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ‬
‫الخلق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ‪ ،‬يصبح على حال ويمسي على غيره ‪ ،‬ويمسي‬
‫ب معها‪.‬‬
‫على حال ويصبح على غيره ‪ ،‬ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبّت ريح ه ّ‬
‫{ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَ َرضًا وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ (‪} )10‬‬
‫قال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرّة الهمداني عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن أناس من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم في هذه الية ‪ { :‬فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ }‬
‫شكّ ‪ { ،‬فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَ َرضًا } قال ‪ :‬شكّا‪.‬‬
‫قال ‪َ :‬‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن‬
‫وقال [محمد] (‪ )9‬بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن ِ‬
‫ابن عباس [في قوله] (‪ : { )10‬فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } قال ‪ :‬شك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ل تمنع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما أظهره"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬السبي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بكأس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ويزيدها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بإسخاطهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪.)1/273‬‬
‫(‪ )8‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/46‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/178‬‬

‫وكذلك قال مجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن البصري ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬والرّبيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬
‫وعن عكرمة ‪ ،‬وطاوس ‪ { :‬فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } يعني ‪ :‬الرياء‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } قال ‪ :‬نفاق { فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَ َرضًا } قال ‪:‬‬
‫نفاقا ‪ ،‬وهذا كالول‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ { :‬فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } قال ‪ :‬هذا مرض في الدين ‪ ،‬وليس‬
‫مرضًا في الجساد ‪ ،‬وهم المنافقون‪ .‬والمرض ‪ :‬الشك الذي دخلهم في السلم { فَزَا َدهُمُ اللّهُ‬
‫مَ َرضًا } قال ‪ :‬زادهم رجسًا ‪ ،‬وقرأ ‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وََأمّا‬
‫سهِمْ } [التوبة ‪ ]125 ، 124 :‬قال ‪ :‬شرًا إلى‬
‫جِ‬‫جسًا إِلَى رِ ْ‬
‫الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ْت ُهمْ رِ ْ‬
‫شرهم وضللة إلى ضللتهم‪.‬‬
‫وهذا الذي قاله عبد الرحمن ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬حسن ‪ ،‬وهو الجزاء من جنس العمل ‪ ،‬وكذلك قاله‬
‫الولون ‪ ،‬وهو نظير قوله تعالى أيضًا ‪ { :‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ْقوَاهُمْ } [محمد ‪:‬‬
‫‪.]17‬‬
‫وقوله { ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ } وقرئ ‪" :‬يكذّبون" ‪ ،‬وقد كانوا متصفين بهذا وهذا ‪ ،‬فإنهم كانوا كذبة‬
‫يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا‪ .‬وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه ‪،‬‬
‫عليه السلم ‪ ،‬عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ‪ ،‬وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت‬
‫في الصحيحين ‪ :‬أنه قال لعمر ‪" :‬أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" (‪ )1‬ومعنى هذا‬
‫خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من العراب عن الدخول في السلم ول يعلمون حكمة قتله‬
‫لهم ‪ ،‬وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر ‪ ،‬فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون ‪ :‬إن‬
‫محمدًا يقتل أصحابه ‪ ،‬قال القرطبي ‪ :‬وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم‬
‫مع علمه بشر اعتقادهم‪ .‬قال ابن عطية ‪ :‬وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم‬
‫والقاضي إسماعيل والبهري وابن الماجشون‪ .‬ومنها ‪ :‬ما قال مالك ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬إنما كف رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم عن المنافقين ليبين لمته أن الحاكم ل يحكم بعلمه‪.‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي ل يقتل بعلمه ‪ ،‬وإن اختلفوا في‬
‫سائر الحكام ‪ ،‬قال ‪ :‬ومنها ما قال الشافعي ‪ :‬إنما منع رسول ال صلى ال عليه وسلم من قتل‬
‫المنافقين ما كانوا يظهرونه من السلم مع العلم بنفاقهم ؛ لن ما يظهرونه يجبّ ما قبله‪ .‬ويؤيد‬
‫هذا قوله ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما ‪:‬‬
‫"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل‬
‫بحقها ‪ ،‬وحسابهم على ال ‪ ،‬عز وجل" (‪ .)2‬ومعنى هذا ‪ :‬أن من قالها جرت عليه أحكام السلم‬
‫ظاهرًا ‪ ،‬فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الخرة ‪ ،‬وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الخرة‬
‫جريان الحكم عليه في الدنيا ‪ ،‬وكونه كان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4902‬وصحيح مسلم برقم (‪.)3314‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )25‬وصحيح مسلم برقم (‪ )22‬من حديث ابن عمرو رضي ال‬
‫عنهما‪.‬‬

‫( ‪)1/179‬‬

‫ن وََلكِنْ لَا‬
‫وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ لَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ (‪ )11‬أَلَا إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ‬
‫شعُرُونَ (‪)12‬‬
‫يَ ْ‬

‫سكُ ْم وَتَرَ ّبصْتُ ْم وَارْتَبْتُمْ‬


‫خليط أهل اليمان { يُنَادُو َنهُمْ أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ قَالُوا بَلَى وََلكِ ّنكُمْ فَتَنْ ُتمْ أَ ْنفُ َ‬
‫وَغَرّ ْتكُ ُم المَانِيّ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } الية [الحديد ‪ ، ]14 :‬فهم يخالطونهم في بعض المحشر ‪،‬‬
‫فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم { وَحِيلَ بَيْ َنهُ ْم وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ } [سبأ ‪ ]54 :‬ولم‬
‫يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الحاديث ‪ ،‬ومنها ما قاله بعضهم ‪ :‬أنه إنما لم يقتلهم‬
‫لنه كان يخاف من شرهم مع وجوده ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بين أظهرهم يتلو عليهم آيات ال مبينات ‪،‬‬
‫فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون ‪ ،‬قال مالك ‪ :‬المنافق في عهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم هو الزنديق اليوم‪ .‬قلت ‪ :‬وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر‬
‫هل يستتاب أم ل‪ .‬أو يفرق بين أن يكون داعية أم ل أو يتكرر منه ارتداده أم ل أو يكون إسلمه‬
‫ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه ؟ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها‬
‫كتاب الحكام‪.‬‬
‫(تنبيه) قول من قال ‪ :‬كان عليه الصلة والسلم يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث‬
‫حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا‬
‫برسول ال صلى ال عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة‬
‫ليسقط عنها فأوحى ال إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة‪ .‬ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من‬
‫هذه المدارك أو لغيرها وال أعلم‪.‬‬
‫ن َومِنْ َأ ْهلِ ا ْلمَدِينَةِ مَ َردُوا‬
‫حوَْلكُمْ مِنَ العْرَابِ مُنَافِقُو َ‬
‫فأما غير هؤلء فقد قال تعالى ‪َ { :‬و ِممّنْ َ‬
‫ن وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ‬
‫عَلَى ال ّنفَاقِ ل َتعَْل ُمهُمْ نَحْنُ َنعَْل ُمهُمْ } الية ‪ ،‬وقال تعالى ‪ { :‬لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫جفُونَ فِي ا ْلمَدِينَةِ لَ ُنغْرِيَ ّنكَ ِب ِهمْ ثُمّ ل ُيجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِل قَلِيل * مَ ْلعُونِينَ أَيْ َنمَا ُثقِفُوا‬
‫مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْر ِ‬
‫خذُوا َوقُتّلُوا َتقْتِيل } ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له‬
‫أُ ِ‬
‫صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى ‪ { :‬وََلوْ َنشَاءُ لرَيْنَا َكهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُمْ بِسِيمَاهُ ْم وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ‬
‫فِي َلحْنِ ا ْل َق ْولِ } وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد ال بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن‬
‫أرقم بذلك الكلم الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [صلى عليه] صلى ال عليه‬
‫وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين ‪ ،‬وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي ال عنه فيه فقال ‪:‬‬
‫"إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" وفي رواية في الصحيح "إني خيرت‬
‫فاخترت" وفي رواية "لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر ال له لزدت"‪.‬‬
‫ن وََلكِنْ‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ ل ُتفْسِدُوا فِي الرْضِ قَالُوا إِ ّنمَا َنحْنُ ُمصْلِحُونَ (‪ )11‬أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ‬
‫شعُرُونَ (‪} )12‬‬
‫ل َي ْ‬
‫قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مُرّة الطيب‬
‫الهمداني ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن أناس (‪ )1‬من أصحاب رسول ال (‪ )2‬صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ ل ُتفْسِدُوا فِي الرْضِ قَالُوا إِ ّنمَا َنحْنُ ُمصْلِحُونَ } أما ل تفسدوا في الرض ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫الفساد هو الكفر ‪ ،‬والعمل بالمعصية‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَِإذَا قِيلَ َلهُ ْم ل‬
‫ُتفْسِدُوا فِي الرْضِ } قال ‪ :‬يعني ‪ :‬ل تعصُوا في الرض ‪ ،‬وكان فسادهم ذلك معصية ال ؛ لنه‬
‫من عصى ال في الرض أو أمر بمعصية ال ‪ ،‬فقد أفسد في الرض ؛ لن صلح الرض‬
‫والسماء بالطّاعة‪.‬‬
‫وهكذا قال الربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬
‫وقال ابن جُرَيْج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ ل ُتفْسِدُوا فِي ال ْرضِ } قال ‪ :‬إذا ركبوا معصية‬
‫ال ‪ ،‬فقيل لهم ‪ :‬ل تفعلوا كذا وكذا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إنما نحن على الهدى ‪ ،‬مصلحون‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬ناس"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬النبي"‪.‬‬

‫( ‪)1/180‬‬
‫س َفهَاءُ وََلكِنْ لَا‬
‫س َفهَاءُ أَلَا إِ ّنهُمْ هُمُ ال ّ‬
‫وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َآمِنُوا َكمَا َآمَنَ النّاسُ قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا َآمَنَ ال ّ‬
‫َيعَْلمُونَ (‪)13‬‬

‫وقد قال َوكِيع ‪ ،‬وعيسى بن يونس ‪ ،‬وعثّام بن علي ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن المِ ْنهَال بن عمرو ‪ ،‬عن‬
‫عباد بن عبد ال السدي ‪ ،‬عن سلمان الفارسي ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ ل ُتفْسِدُوا فِي ال ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا‬
‫نَحْنُ ُمصِْلحُونَ } قال سلمان ‪ :‬لم يجئ أهل هذه الية بعد‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن شَريك ‪ ،‬حدثني أبي ‪،‬‬
‫عن العمش ‪ ،‬عن زيد بن وهب وغيره ‪ ،‬عن سلمان ‪ ،‬في هذه الية ‪ ،‬قال ‪ :‬ما جاء هؤلء َب ْعدُ (‬
‫‪.)1‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين‬
‫كانوا في زمان النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ل أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد (‪.)2‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬فأهل النفاق مفسدون في الرض بمعصيتهم فيها ربهم ‪ ،‬وركوبهم فيها ما نهاهم‬
‫عن ركوبه ‪ ،‬وتضييعهم فرائضه ‪ ،‬وشكّهم في دينه الذي ل ُيقْ َبلُ من أحد عمل إل بالتصديق به‬
‫واليقان بحقيقته ‪ ،‬وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ‪،‬‬
‫ومظاهرتهم أهل التكذيب بال وكتبه ورسله على أولياء ال ‪ ،‬إذا وجدوا إلى ذلك سبيل‪ .‬فذلك‬
‫إفساد المنافقين في الرض ‪ ،‬وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها (‪.)3‬‬
‫وهذا الذي قاله حسن ‪ ،‬فإن من الفساد في الرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ض َوفَسَادٌ كَبِيرٌ } [النفال ‪:‬‬
‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ إِل َت ْفعَلُوهُ َتكُنْ فِتْنَةٌ فِي ال ْر ِ‬
‫‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َب ْع ُ‬
‫خذُوا ا ْلكَافِرِينَ‬
‫‪ ]73‬فقطع ال الموالة بين المؤمنين والكافرين كما قال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّ ِ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ عَلَ ْيكُمْ سُ ْلطَانًا مُبِينًا } [النساء ‪ ]144 :‬ثم قال ‪:‬‬
‫َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَ ْ‬
‫جدَ َلهُمْ َنصِيرًا } [النساء ‪ ]145 :‬فالمنافق لما كان‬
‫س َفلِ مِنَ النّا ِر وَلَنْ تَ ِ‬
‫{ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ فِي الدّ ْركِ ال ْ‬
‫ظاهره اليمان اشتبه أمره على المؤمنين ‪ ،‬فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل ؛ لنه هو الذي‬
‫غَ ّر المؤمنين بقوله الذي ل حقيقة له ‪ ،‬ووالى الكافرين على المؤمنين ‪ ،‬ولو أنه استمر على حالته‬
‫(‪ )4‬الولى لكان شرّه أخف ‪ ،‬ولو أخلص العمل ل وتطابق قوله وعمله لفلح وأنجح ؛ ولهذا قال‬
‫سدُوا فِي ال ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ } أي ‪ :‬نريد أن نداري‬
‫تعالى ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َل ُه ْم ل ُتفْ ِ‬
‫الفريقين من المؤمنين والكافرين ‪ ،‬ونصطلح مع هؤلء وهؤلء ‪ ،‬كما قال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ ل ُتفْسِدُوا‬
‫فِي ال ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ } أي ‪ :‬إنما نريد الصلح بين الفريقين من المؤمنين وأهل‬
‫شعُرُونَ } يقول ‪ :‬أل إن هذا الذي يعتمدونه‬
‫سدُونَ وََلكِنْ ل يَ ْ‬
‫الكتاب‪ .‬يقول ال ‪ { :‬أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْلمُفْ ِ‬
‫ويزعمون أنه إصلح هو عين الفساد ‪ ،‬ولكن من جهلهم ل يشعرون بكونه فسادًا‪.‬‬
‫س َفهَاءُ وََلكِنْ ل‬
‫س َفهَاءُ أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ال ّ‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ آمِنُوا َكمَا آمَنَ النّاسُ قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا آمَنَ ال ّ‬
‫َيعَْلمُونَ (‪} )13‬‬
‫يقول [ال] (‪ )5‬تعالى ‪ :‬وإذا قيل للمنافقين ‪ { :‬آمِنُوا َكمَا آمَنَ النّاسُ } أي ‪ :‬كإيمان الناس بال‬
‫وملئكته‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)1/288‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)1/289‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)1/289‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬لحاله"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من (أ)‪.‬‬

‫( ‪)1/181‬‬

‫وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ َآمَنُوا قَالُوا َآمَنّا وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ إِ ّنمَا َنحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ (‪)14‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ (‪)15‬‬
‫اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِبهِ ْم وَ َيمُدّ ُهمْ فِي ُ‬

‫وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنّة والنّار وغير ذلك ‪ ،‬مما أخبر المؤمنين به وعنه ‪،‬‬
‫س َفهَاءُ } يعنون ‪-‬‬
‫وأطيعوا ال ورسوله في امتثال الوامر وترك الزواجر { قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا آمَنَ ال ّ‬
‫لعنهم ال ‪ -‬أصحابَ رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬قاله أبو العالية والسدي‬
‫في تفسيره ‪ ،‬بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة ‪ ،‬وبه يقول الربيع بن‬
‫أنس ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ‪ ،‬يقولون ‪ :‬أنصير نحن وهؤلء بمنزلة واحدة‬
‫وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!‬
‫والسفهاء ‪ :‬جمع سفيه ‪ ،‬كما أن الحكماء جمع حكيم [والحلماء جمع حليم] (‪ )1‬والسفيه ‪ :‬هو‬
‫الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ؛ ولهذا سمى ال النساء‬
‫ج َعلَ اللّهُ َل ُكمْ قِيَامًا } [النساء‬
‫س َفهَاءَ َأ ْموَاَلكُمُ الّتِي َ‬
‫والصبيان سفهاء ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَل ُتؤْتُوا ال ّ‬
‫‪ ]5 :‬قال عامة علماء السلف ‪ :‬هم النساء والصبيان‪.‬‬
‫سفَهَاءُ } فأكد‬
‫وقد تولى ال ‪ ،‬سبحانه ‪ ،‬جوابهم في هذه المواطن كلها ‪ ،‬فقال (‪ { )2‬أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ال ّ‬
‫وحصر السفاهة فيهم‪.‬‬
‫{ وََلكِنْ ل َيعَْلمُونَ } يعني ‪ :‬ومن تمام جهلهم أنهم ل يعلمون بحالهم في الضللة والجهل ‪ ،‬وذلك‬
‫أردى لهم وأبلغ في العمى ‪ ،‬والبعد عن الهدى‪.‬‬
‫{ وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَِإذَا خََلوْا ِإلَى شَيَاطِي ِنهِمْ قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ إِ ّنمَا نَحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ (‪)14‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ (‪} )15‬‬
‫اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِبهِ ْم وَ َيمُدّ ُهمْ فِي ُ‬
‫يقول [ال] (‪ )3‬تعالى ‪ :‬وإذا لقي هؤلء المنافقون المؤمنين قالوا ‪ { :‬آمَنّا } أي ‪ :‬أظهروا لهم‬
‫اليمان والموالة والمصافاة ‪ ،‬غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية ‪ ،‬ولِيَشركوهم فيما‬
‫أصابوا من خير ومغنم ‪ { ،‬وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِن ِهمْ } يعني ‪ :‬وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا (‪)4‬‬
‫إلى شياطينهم‪ .‬فضمن { خََلوْا } معنى انصرفوا ؛ لتعديته بإلى ‪ ،‬ليدل على الفعل المضمر والفعل‬
‫الملفوظ (‪ )5‬به‪ .‬ومنهم من قال ‪" :‬إلى" هنا بمعنى "مع" ‪ ،‬والول أحسن ‪ ،‬وعليه يدور كلم ابن‬
‫جرير‪.‬‬
‫وقال السدي عن أبي مالك ‪ { :‬خََلوْا } يعني ‪ :‬مضوا ‪ ،‬و { شَيَاطِي ِنهِمْ } يعني ‪ :‬سادتهم وكبراءهم‬
‫ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين‪.‬‬
‫قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرّة عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬عن ناس من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ } يعني ‪:‬‬
‫هم رؤوسهم من الكفر‪.‬‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ :‬وإذا خلوا إلى أصحابهم ‪ ،‬وهم شياطينهم‪.‬‬
‫عكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ‪ ،‬عن ابن‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬كما قال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أو ذهبوا أو خلصوا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الملفوظ"‪.‬‬

‫( ‪)1/182‬‬

‫عباس ‪ { :‬وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِن ِهمْ } من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلف ما جاء به‬
‫الرسول‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ } إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ { :‬وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ } قال ‪ :‬إلى رؤوسهم ‪ ،‬وقادتهم في الشرك ‪ ،‬والشر‪.‬‬
‫وبنحو ذلك فسّره أبو مالك ‪ ،‬وأبو العالية والسدي ‪ ،‬والرّبيع بن أنس‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وشياطين كل شيء مَرَدَتُه ‪ ،‬وتكون الشياطين من النس والجن ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ‬
‫س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ‬
‫ع ُدوّا شَيَاطِينَ النْ ِ‬
‫جعَلْنَا ِل ُكلّ نَ ِبيّ َ‬
‫‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫غُرُورًا } [النعام ‪.]112 :‬‬
‫وفي المسند عن أبي ذر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬نعوذ بال من شياطين النس‬
‫والجن"‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬وللنس شياطين ؟ قال ‪" :‬نعم" (‪.)1‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ } قال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪،‬‬
‫أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِ ّنمَا نَحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ } أي ‪:‬‬
‫إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫وكذلك قال الرّبيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬
‫طغْيَا ِن ِهمْ َي ْع َمهُونَ }‬
‫وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم ‪ { :‬اللّهُ يَسْ َتهْ ِزئُ ِبهِمْ وَ َيمُدّهُمْ فِي ُ‬
‫وقال (‪ )2‬ابن جرير ‪ :‬أخبر ال تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬يوْمَ َيقُولُ‬
‫جعُوا وَرَا َء ُكمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ‬
‫ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫حمَةُ وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَلِهِ ا ْلعَذَابُ } الية [الحديد ‪، ]13 :‬‬
‫َفضُ ِربَ بَيْ َنهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ‬
‫سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ لِيَ ْزدَادُوا إِ ْثمًا‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَل َيحْسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ خَيْ ٌر ل ْنفُ ِ‬
‫وََلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } [آل عمران ‪ .]178 :‬قال ‪ :‬فهذا وما أشبهه ‪ ،‬من استهزاء ال ‪ ،‬تعالى ذكره ‪،‬‬
‫وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين ‪ ،‬وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ‪ ،‬ومتأول هذا التأويل‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ‪ ،‬ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ‪،‬‬
‫والكفر به‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬هذا وأمثاله على سبيل الجواب ‪ ،‬كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به ‪ :‬أنا‬
‫الذي خدعتك‪ .‬ولم تكن منه خديعة ‪ ،‬ولكن قال ذلك إذ صار المر إليه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وكذلك قوله ‪:‬‬
‫{ َو َمكَرُوا َومَكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ } [آل عمران ‪ ]54 :‬و { اللّهُ يَسْ َتهْ ِزئُ ِبهِمْ } على‬
‫الجواب ‪ ،‬وال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)5/178‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬وقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/183‬‬

‫ل يكون منه المكر ول الهزء ‪ ،‬والمعنى ‪ :‬أن المكر والهُزْء حَاق بهم‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬قوله ‪ { :‬إِ ّنمَا نَحْنُ مُسْ َتهْزِئُونَ * اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِب ِهمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ‬
‫سخِرَ اللّهُ مِ ْنهُمْ } [التوبة ‪ ]79 :‬و { نَسُوا‬
‫سخَرُونَ مِ ْنهُمْ َ‬
‫عهُمْ } [النساء ‪ ، ]142 :‬وقوله { فَيَ ْ‬
‫خَادِ ُ‬
‫اللّهَ فَ َنسِ َيهُمْ } [التوبة ‪ ]67 :‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬إخبار من ال تعالى أنه يجازيهم (‪ )1‬جَزَاءَ الستهزاء‬
‫‪ ،‬ويعاقبهم (‪ )2‬عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم‬
‫الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ‪ ،‬وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى ‪ { :‬وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ‬
‫علَيْهِ } [البقرة ‪، ]194 :‬‬
‫مِثُْلهَا } [الشورى ‪ ]40 :‬وقوله تعالى ‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا َ‬
‫فالول ظلم ‪ ،‬والثاني عدل ‪ ،‬فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وإلى هذا المعنى وَجّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬إن معنى ذلك ‪ :‬أنّ ال أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا ‪:‬‬
‫إنا معكم على دينكم ‪ ،‬في تكذيب محمد صلى ال عليه وسلم وما جاء به ‪ ،‬وإنما نحن بما يظهر‬
‫لهم ‪ -‬من قولنا لهم ‪ :‬صدقنا بمحمد ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر ال تعالى أنه‬
‫يستهزئ بهم ‪ ،‬فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا ‪ ،‬يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلف الذي‬
‫لهم عنده في الخرة ‪ ،‬يعني من العذاب والنكال (‪.)3‬‬
‫ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب‬
‫والعبث منتف عن ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬بالجماع ‪ ،‬وأما على وجه النتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة‬
‫فل يمتنع ذلك‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا عثمان ‪ ،‬حدثنا بشر‬
‫‪ ،‬عن أبي روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬اللّهُ يَسْ َتهْ ِزئُ ِبهِمْ } قال ‪:‬‬
‫يسخر بهم للنقمة منهم‪.‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } قال السدي ‪ :‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪،‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَ َيمُدّهُمْ فِي ُ‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرّة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن أناس (‪ )4‬من الصحابة [قالوا] (‪ )5‬يَمدهم ‪:‬‬
‫يملي لهم‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬يزيدهم‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬والصواب يزيدهم على وجه الملء والترك لهم في عُ ُتوّهم و َتمَرّدهم ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [النعام ‪:‬‬
‫{ وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ وَ َنذَرُهُمْ فِي ُ‬
‫‪.]110‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في طـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مجازيهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ومعاقبهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)1/303‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ناس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ب ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/184‬‬
‫حتْ تِجَارَ ُت ُه ْم َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ (‪)16‬‬
‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّلَالَةَ بِا ْل ُهدَى َفمَا رَ ِب َ‬

‫حمَلْنَاكُمْ فِي ا ْلجَارِيَةِ } [الحاقة‬


‫طغَى ا ْلمَاءُ َ‬
‫والطغيان ‪ :‬هو المجاوزة في الشيء‪ .‬كما قال ‪ { :‬إِنّا َلمّا َ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } في كفرهم يترددون‪.‬‬
‫‪ ، ]11 :‬وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬فِي ُ‬
‫وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة ‪ ،‬وبه يقول أبو العالية ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والرّبيع بن أنس ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وأبو مالك ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد ‪ :‬في كفرهم وضللتهم‪.‬‬
‫عمُوهًا ‪ :‬إذا ضل‪.‬‬
‫ع َمهًا و ُ‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وال َعمَه ‪ :‬الضلل ‪ ،‬يقال ‪ :‬عمه فلن َي ْعمَه َ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } في ضللهم (‪ )1‬وكفرهم الذي غمرهم دَ َنسُه ‪ ،‬وعَلهم‬
‫قال ‪ :‬وقوله ‪ { :‬فِي ُ‬
‫رجْسه ‪ ،‬يترددون [حيارى] (‪ )2‬ضُلل (‪ )3‬ل يجدون إلى المخرج منه سبيل ؛ لن ال تعالى قد‬
‫طبع على قلوبهم وختم عليها ‪ ،‬وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ‪ ،‬فل يبصرون ُرشْدًا ‪ ،‬ول‬
‫يهتدون سبيل‪.‬‬
‫[وقال بعضهم ‪ :‬العمى في العين ‪ ،‬والعمه في القلب ‪ ،‬وقد يستعمل العمى في القلب ‪ -‬أيضا ‪: -‬‬
‫قال ال تعالى ‪ { :‬فَإِ ّنهَا ل َت ْعمَى ال ْبصَارُ وََلكِنْ َت ْعمَى ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } [الحج ‪]46 :‬‬
‫ويقال ‪ :‬عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه ‪ ،‬وجمعه عمّه ‪ ،‬وذهبت إبله العمهاء ‪ :‬إذا لم‬
‫يدر أين ذهبت (‪.)4‬‬
‫حتْ ِتجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ (‪} )16‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ بِا ْلهُدَى َفمَا رَبِ َ‬
‫قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مُرّة ‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ بِا ْلهُدَى } قال ‪ :‬أخذوا الضللة‬
‫وتركوا الهدى‪.‬‬
‫وقال [محمد] (‪ )5‬بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أو عن سعيد بن جبير ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ بِا ْلهُدَى } أي ‪ :‬الكفر باليمان‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬آمنوا ث ّم كفروا‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬استحبوا الضللة على الهدى [أي ‪ :‬الكفر باليمان] (‪ .)6‬وهذا الذي قاله قتادة يشبهه‬
‫في المعنى قوله تعالى في ثمود ‪ { :‬وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْ َتحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْل ُهدَى } [فصلت ‪:‬‬
‫‪.)7( ]17‬‬
‫عدَلوا عن الهدى إلى الضلل ‪ ،‬واعتاضوا عن‬
‫وحاصل قول المفسرين فيما تقدم ‪ :‬أن المنافقين َ‬
‫الهدى بالضللة ‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى ‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ بِا ْلهُدَى } أي بذلوا‬
‫الهدى ثمنا للضللة ‪ ،‬وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له اليمان ثم رجع عنه إلى الكفر ‪،‬‬
‫كما قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ضللتهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ضلل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من طـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في هـ ‪" :‬فأما" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/185‬‬

‫تعالى فيهم ‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } [المنافقون ‪ ، ]3 :‬أو أنهم استحبوا‬
‫الضللة على الهدى ‪ ،‬كما يكون (‪ )1‬حال فريق آخر منهم ‪ ،‬فإنهم أنواع وأقسام ؛ ولهذا قال‬
‫حتْ ِتجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ } أي ‪ :‬ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ‪َ { ،‬ومَا‬
‫تعالى ‪َ { :‬فمَا رَبِ َ‬
‫كَانُوا ُمهْ َتدِينَ } أي ‪ :‬راشدين في صنيعهم ذلك‪.‬‬
‫حتْ تِجَارَ ُتهُ ْم َومَا‬
‫قال (‪ )2‬ابن جرير ‪ :‬حدثنا بشر ‪ ،‬حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة { َفمَا رَ ِب َ‬
‫كَانُوا ُمهْ َتدِينَ } قد ‪ -‬وال ‪ -‬رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضللة ‪ ،‬ومن الجماعة إلى‬
‫الفرقة ‪ ،‬ومن المن إلى الخوف ‪ ،‬ومن السنة إلى البدعة‪ .‬وهكذا رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬من حديث‬
‫يزيد بن زُرَيْع ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬بمثله سواء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬كما قد يكون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/186‬‬

‫حوَْلهُ ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِ ْم وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ لَا‬


‫مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫جعُونَ (‪)18‬‬
‫ع ْميٌ َفهُمْ لَا يَ ْر ِ‬
‫يُ ْبصِرُونَ (‪ )17‬صُمّ ُبكْمٌ ُ‬

‫تل‬
‫حوْلَهُ ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِ ْم وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَا ٍ‬
‫{ مَثَُلهُمْ َكمَثَلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫جعُونَ (‪} )18‬‬
‫ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ‬
‫يُ ْبصِرُونَ (‪ )17‬صُمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫[يقال ‪ :‬مثل ومثل ومثيل ‪ -‬أيضا ‪ -‬والجمع أمثال ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬وَتِ ْلكَ المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا‬
‫س َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ } [العنكبوت ‪.)1( ]43 :‬‬
‫لِلنّا ِ‬
‫وتقدير هذا المثل ‪ :‬أن ال سبحانه ‪ ،‬شبّههم في اشترائهم الضللة بالهدى ‪ ،‬وصيرورتهم بعد‬
‫التبصرة إلى العمى ‪ ،‬بمن استوقد نارًا ‪ ،‬فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه‬
‫وشماله ‪ ،‬وتَأنّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ‪ ،‬وصار في ظلم شديد ‪ ،‬ل يبصر ول‬
‫يهتدي ‪ ،‬وهو مع ذلك أصم ل يسمع ‪ ،‬أبكم ل ينطق ‪ ،‬أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا ل‬
‫يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ‪ ،‬فكذلك هؤلء (‪ )2‬المنافقون في استبدالهم الضللة عوضًا عن‬
‫الهدى ‪ ،‬واستحبابهم ال َغيّ على الرّشَد‪ .‬وفي هذا المثل دللة على أنهم آمنوا ثم كفروا ‪ ،‬كما أخبر‬
‫عنهم تعالى في غير هذا الموضع ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال ‪ :‬والتشبيه هاهنا في‬
‫غاية الصحة ؛ لنهم بإيمانهم اكتسبوا أول نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة‬
‫عظيمة فإنه ل حيرة أعظم من حيرة الدين‪.‬‬
‫وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الوقات ‪ ،‬واحتج بقوله‬
‫تعالى ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الخِرِ َومَا هُمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ } [البقرة ‪.]8 :‬‬
‫والصواب ‪ :‬أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ‪ ،‬وهذا ل ينفي أنه كان حصل لهم إيمان‬
‫قبل ذلك ‪ ،‬ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ‪ ،‬ولم يستحضر ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬هذه الية هاهنا‬
‫وهي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬هم"‪.‬‬

‫( ‪)1/186‬‬

‫قوله تعالى ‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ ل َيفْ َقهُونَ } [المنافقون ‪ ]3 :‬؛‬
‫فلهذا وجه [ابن جرير] (‪ )1‬هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة اليمان ‪ ،‬أي في‬
‫الدنيا ‪ ،‬ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬رَأَيْ َتهُمْ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ تَدُورُ أَعْيُ ُنهُمْ كَالّذِي‬
‫ُيغْشَى عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َم ْوتِ } [الحزاب ‪ ]19 :‬أي ‪ :‬كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ‪،‬‬
‫ح َدةٍ } [لقمان ‪ ]28 :‬وقال تعالى ‪ { :‬مَ َثلُ الّذِينَ‬
‫س وَا ِ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬مَا خَ ْل ُقكُ ْم وَل َبعْ ُثكُمْ إِل كَ َنفْ ٍ‬
‫سفَارًا } [الجمعة ‪ ، ]5 :‬وقال بعضهم ‪ :‬تقدير‬
‫ح ِملُ َأ ْ‬
‫حمَارِ يَ ْ‬
‫حمِلُوهَا َكمَ َثلِ ا ْل ِ‬
‫حمّلُوا ال ّتوْرَاةَ ثُمّ لَمْ َي ْ‬
‫ُ‬
‫الكلم ‪ :‬مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬المستوقد واحد لجماعة معه‪ .‬وقال‬
‫آخرون ‪ :‬الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫وإن الذي حانت بفلج دماؤهم‪ ...‬هم القوم كل القوم يا أم خالد (‪)2‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد التفت في أثناء المثل من الواحد (‪ )3‬إلى الجمع ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬فََلمّا َأضَا َءتْ مَا‬
‫جعُونَ } وهذا‬
‫ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ‬
‫حوْلَهُ ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِ ْم وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ ل يُ ْبصِرُونَ * صُمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫َ‬
‫أفصح في الكلم ‪ ،‬وأبلغ في النظام ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } أي ‪ :‬ذهب عنهم ما‬
‫ينفعهم ‪ ،‬وهو النور ‪ ،‬وأبقى لهم ما يضرهم ‪ ،‬وهو الحراق والدخان { وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } وهو‬
‫ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ‪ { ،‬ل يُ ْبصِرُونَ } ل يهتدون إلى سبل (‪ )4‬خير ول‬
‫عمْيٌ } في‬
‫يعرفونها ‪ ،‬وهم مع ذلك { صُمّ } ل يسمعون خيرا { ُبكْمٌ } ل يتكلمون بما ينفعهم { ُ‬
‫ضللة وعماية البصيرة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَإِ ّنهَا ل َت ْعمَى ال ْبصَارُ وََلكِنْ َت ْعمَى ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي‬
‫الصّدُورِ } [الحج ‪ ]46 :‬فلهذا ل يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضللة‪.‬‬
‫ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه ‪:‬‬
‫قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرّة ‪ ،‬عن ابن‬
‫حوْلَهُ } زعم أن ناسًا‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫دخلوا في السلم َمقْدَم نبيّ ال صلى ال عليه وسلم المدينة ‪ ،‬ثم إنهم نافقوا ‪ ،‬فكان مثلهم كمثل‬
‫رجُل كان في ظلمة ‪ ،‬فأوقد نارًا ‪ ،‬فأضاءت ما حوله من قذى ‪ ،‬أو أذى ‪ ،‬فأبصره حتى عرف ما‬
‫يتقي منه (‪ )5‬فبينا (‪ )6‬هو كذلك إذ طفئت ناره ‪ ،‬فأقبل ل يدري ما يتقي من أذى ‪ ،‬فكذلك المنافق‬
‫‪ :‬كان في ظلمة الشرك فأسلم ‪ ،‬فعرف الحلل والحرام ‪ ،‬و[عرف] (‪ )7‬الخير والشر ‪ ،‬فبينا (‪)8‬‬
‫هو كذلك إذ كفر ‪ ،‬فصار ل يعرف الحلل من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )2‬البيت للشهب بن رميلة ‪ ،‬كما في اللسان ‪ ،‬مادة "فلج"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الوحدة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬سبيل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فبينما"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فبينما"‪.‬‬

‫( ‪)1/187‬‬

‫الحرام ‪ ،‬ول الخير من الشر‪.‬‬


‫حوَْلهُ } (‪ )1‬أما إضاءة النار فإقبالهم (‪ )2‬إلى المؤمنين ‪،‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫والهدى‪.‬‬
‫وقال عطاء الخرساني في قوله ‪ { :‬مَثَُل ُهمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا } قال ‪ :‬هذا مثل المنافق ‪ ،‬يبصر‬
‫أحيانًا ويعرف أحيانًا ‪ ،‬ثم يدركه عمى القلب‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن عكرمة ‪ ،‬والحسن والسدي ‪ ،‬والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء‬
‫الخرساني‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا } إلى آخر‬
‫الية ‪ ،‬قال ‪ :‬هذه صفة المنافقين‪ .‬كانوا قد آمنوا حتى أضاء اليمان في قلوبهم ‪ ،‬كما أضاءت‬
‫النار لهؤلء الذين استوقدوا (‪ )3‬ثم كفروا فذهب ال بنورهم فانتزعه ‪ ،‬كما ذهب بضوء هذه النار‬
‫فتركهم في ظلمات ل يبصرون‪.‬‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في هذه الية ‪ ،‬قال ‪ :‬أما النور ‪ :‬فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون‬
‫به ‪ ،‬وأمّا الظلمة ‪ :‬فهي ضللتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ‪ ،‬وهم قوم كانوا على هدى ‪ ،‬ثمّ‬
‫نزع منهم ‪ ،‬فعتوا بعد ذلك‪.‬‬
‫وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله تعالى ‪ { :‬مَثَُلهُمْ‬
‫َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا } قال ‪ :‬هذا مثل ضربه ال للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالسلم ‪،‬‬
‫فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ‪ ،‬فلما ماتوا سلبهم ال ذلك العِزّ ‪ ،‬كما سُلِب‬
‫صاحب النار ضَوءه‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الرّبيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ { :‬مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا }‬
‫فإنما ضوء النار ما أوقدتها ‪ ،‬فإذا خمدت ذهب نورها ‪ ،‬وكذلك المنافق ‪ ،‬كلما تكلم بكلمة‬
‫الخلص ‪ ،‬بل إله إل ال ‪ ،‬أضاء له ‪ ،‬فإذا شك وقع في الظلمة‪.‬‬
‫وقال الضحاك [في قوله] (‪َ { )4‬ذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به‪.‬‬
‫حوْلَهُ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ { :‬مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫} فهي (‪ )5‬ل إله إل ال ؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ‪ ،‬ونكحوا النساء ‪،‬‬
‫وحقنوا دماءهم ‪ ،‬حتى إذا ماتوا ذهب ال بنورهم وتركهم في ظلمات ل يبصرون‪.‬‬
‫وقال سعيد ‪ ،‬عن قتادة في هذه الية ‪ :‬إن المعنى ‪ :‬أن المنافق تكلم بل إله إل ال فأضاءت له‬
‫الدنيا ‪ ،‬فناكح بها المسلمين ‪ ،‬وغازاهم بها ‪ ،‬ووارثهم بها ‪ ،‬وحقن بها دمه وماله ‪ ،‬فلما كان عند‬
‫الموت ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ما حوله ذهب ال بنورهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فإقباله"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬استوقد نارا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فهو"‪.‬‬
‫( ‪)1/188‬‬

‫حذَرَ‬
‫صوَاعِقِ َ‬
‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آَذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ‬
‫سمَاءِ فِيهِ ظُُلمَاتٌ وَرَعْ ٌد وَبَرْقٌ َي ْ‬
‫َأوْ َكصَيّبٍ مِنَ ال ّ‬
‫شوْا فِي ِه وَإِذَا‬
‫طفُ أَ ْبصَارَهُمْ كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ مَ َ‬
‫ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ (‪َ )19‬يكَادُ الْبَ ْرقُ َيخْ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪)20‬‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫أَظَْلمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ‬

‫سلبها المنافق ؛ لنه (‪ )1‬لم يكن لها أصل في قلبه ‪ ،‬ول حقيقة في عمله (‪.)2‬‬
‫ظُلمَاتٍ } يقول ‪:‬‬
‫{ وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَتَ َر َكهُمْ فِي ُ‬
‫في عذاب إذا ماتوا‪.‬‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن ِ‬
‫عباس ‪ { :‬وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ‪ ،‬حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر‬
‫أطفئوه بكفرهم (‪ )3‬ونفاقهم فيه ‪ ،‬فتركهم ال في ظلمات الكفر ‪ ،‬فهم ل يبصرون هدى ‪ ،‬ول‬
‫يستقيمون على حق‪.‬‬
‫وقال السدي في تفسيره بسنده ‪ { :‬وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَاتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم‪.‬‬
‫ت ل يُ ْبصِرُونَ } فذلك (‪ )4‬حين يموت المنافق ‪ ،‬فيظلم‬
‫وقال الحسن البصري ‪ { :‬وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَا ٍ‬
‫عليه عمله عمل السوء ‪ ،‬فل يجد له عمل من خير عمل به يصدق (‪ )5‬به قول ‪ :‬ل إله إل ال (‬
‫‪.)6‬‬
‫ع ْميٌ } فهم خرس عمي (‪.)7‬‬
‫صمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫ع ْميٌ } قال السدي بسنده ‪ُ { :‬‬
‫{ صُمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫ع ْميٌ } يقول ‪ :‬ل يسمعون الهدى ول‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬صُمّ ُب ْكمٌ ُ‬
‫يبصرونه ول يعقلونه ‪ ،‬وكذا قال أبو العالية ‪ ،‬وقتادة بن دعامة‪.‬‬
‫جعُونَ } قال ابن عباس ‪ :‬أي ل يرجعون إلى هدى ‪ ،‬وكذلك (‪ )8‬قال الرّبيع بن أنس‪.‬‬
‫{ َفهُمْ ل يَ ْر ِ‬
‫جعُونَ } إلى السلم‪.‬‬
‫ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ‬
‫وقال السدي بسنده ‪ { :‬صُمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫جعُونَ } أي ل يتوبون (‪ )9‬ول هم يذكرون‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪َ { :‬فهُمْ ل يَ ْر ِ‬
‫صوَاعِقِ حَذَرَ‬
‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ‬
‫ت وَرَعْ ٌد وَبَ ْرقٌ يَ ْ‬
‫سمَاءِ فِيهِ ظُُلمَا ٌ‬
‫{ َأوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ‬
‫شوْا فِي ِه وَإِذَا‬
‫طفُ أَ ْبصَارَهُمْ كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ مَ َ‬
‫ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ (‪َ )19‬يكَادُ الْبَ ْرقُ َيخْ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪} )20‬‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫أَظَْلمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ‬
‫وهذا مثل آخر ضربه ال تعالى لضرب آخر من المنافقين ‪ ،‬وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ‪،‬‬
‫ويشكّون تارة أخرى ‪ ،‬فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { َكصَ ّيبٍ } والصيب ‪ :‬المطر ‪،‬‬
‫قاله ابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وناس من الصحابة ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪،‬‬
‫وعطاء ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬لنها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬علمه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬طعنوا بكفرهم به"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فبذلك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يصدقه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬إل هو"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬عمي خرس"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬وكذا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ل يؤمنون"‪.‬‬

‫( ‪)1/189‬‬

‫والحسن البصري ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وعطية ال َعوْفِي ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والسّدي ‪ ،‬والرّبيع بن أنس‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ :‬هو السحاب‪.‬‬
‫والشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ‪ ،‬وهي الشكوك والكفر والنفاق‪ { .‬وَرَعْدٌ }‬
‫وهو ما يزعج القلوب من الخوف ‪ ،‬فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫علَ ْيهِمْ [ هُمُ ا ْل َع ُدوّ ] (‪[ } )1‬المنافقون ‪ ]4 :‬وقال ‪ { :‬وَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ‬
‫ل صَيْحَةٍ َ‬
‫‪َ { :‬يحْسَبُونَ ُك ّ‬
‫َلمِ ْنكُ ْم َومَا هُمْ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ّنهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ * َلوْ َيجِدُونَ مَلْجَأً َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ مُدّخَل َلوَّلوْا إِلَيْ ِه وَ ُهمْ‬
‫ج َمحُونَ } [التوبة ‪.]57 ، 56 :‬‬
‫يَ ْ‬
‫والبرق ‪ :‬هو ما يلمع في قلوب هؤلء الضرب من المنافقين في بعض الحيان ‪ ،‬من نور‬
‫حذَرَ ا ْل َم ْوتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ‬
‫صوَاعِقِ َ‬
‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ‬
‫اليمان ؛ ولهذا قال ‪َ { :‬ي ْ‬
‫بِا ْلكَافِرِينَ } أي ‪ :‬ول يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا ؛ لن ال محيط [بهم] (‪ )2‬بقدرته ‪ ،‬وهم تحت‬
‫ن وَ َثمُودَ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي‬
‫عوْ َ‬
‫حدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْ َ‬
‫مشيئته وإرادته ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬هلْ أَتَاكَ َ‬
‫ن وَرَا ِئهِمْ مُحِيطٌ } [البروج ‪.]20 - 17 :‬‬
‫َتكْذِيبٍ * وَاللّهُ مِ ْ‬
‫[والصواعق ‪ :‬جمع صاعقة ‪ ،‬وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد ‪ ،‬وحكى الخليل بن‬
‫أحمد عن بعضهم صاعقة ‪ ،‬وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة ‪ ،‬ونقل عن الحسن البصري‬
‫أنه ‪ :‬قرأ "من الصواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لبي النجم ‪:‬‬
‫يحكوك بالمثقولة القواطع‪ ...‬شفق البرق عن الصواقع (‪)3‬‬
‫قال النحاس ‪ :‬وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة ‪ ،‬حكى ذلك‪.‬‬
‫طفُ أَ ْبصَارَهُمْ } أي ‪ :‬لشدته وقوته في نفسه ‪ ،‬وضعف بصائرهم ‪،‬‬
‫خَ‬‫ثم قال ‪َ { :‬يكَادُ الْبَ ْرقُ يَ ْ‬
‫وعدم ثباتها لليمان‪.‬‬
‫حكَمُ‬
‫طفُ أَ ْبصَارَ ُهمْ } يقول ‪ :‬يكاد مُ ْ‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬يكَادُ الْبَرْقُ َيخْ َ‬
‫القرآن يدل على عورات المنافقين‪.‬‬
‫وقال ابن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫طفُ أَ ْبصَارَ ُهمْ } أي لشدة ضوء الحق ‪ { ،‬كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا َأظْلَمَ‬
‫خَ‬‫‪َ { :‬يكَادُ الْبَرْقُ يَ ْ‬
‫عَلَ ْيهِمْ قَامُوا } أي كلما ظهر لهم من اليمان شيء استأنسوا (‪ )4‬به واتبعوه ‪ ،‬وتارة تعْرِض لهم‬
‫الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيت في اللسان ‪ ،‬مادة "صقع" وهو فيه ‪ :‬يحكون بالمصقولة القواطع‪ ...‬تشقق البرق عن‬
‫الصواقع‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬استضاءوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/190‬‬

‫شوْا فِيهِ } يقول ‪ :‬كلما أصاب‬


‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬كُّلمَا َأضَاءَ َل ُهمْ مَ َ‬
‫المنافقين من عز السلم اطمأنوا إليه ‪ ،‬وإن أصاب السلم نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر ‪ ،‬كقوله‬
‫طمَأَنّ ِبهِ [وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْ َنةٌ] (‪ } )1‬الية‬
‫‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫[الحج ‪.]11 :‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫شوْا فِي ِه وَإِذَا َأظْلَمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا } أي ‪ :‬يعرفون الحق ويتكلمون به ‪،‬‬
‫عباس ‪ { :‬كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ َم َ‬
‫فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه (‪ )2‬إلى الكفر { قَامُوا } أي ‪ :‬متحيرين‪.‬‬
‫وهكذا قال أبو العالية ‪ ،‬والحسن البصري ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي بسنده ‪ ،‬عن‬
‫الصحابة وهو أصح وأظهر‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وهكذا يكونون (‪ )3‬يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ‪ ،‬فمنهم من يعطى من‬
‫طفَأ نوره تارة‬
‫النور ما يضيء له مسيرة فراسخ ‪ ،‬وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ‪ ،‬ومنهم من ي ْ‬
‫ويضيء له أخرى ‪ ،‬فيمشي (‪ )4‬على الصراط تارة ويقف أخرى‪ .‬ومنهم من يطفأ نوره بالكلية‬
‫ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ‬
‫وهم الخُلّص من المنافقين ‪ ،‬الذين قال تعالى (‪ )5‬فيهم ‪َ { :‬يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُو َ‬
‫جعُوا وَرَا َء ُكمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا } [الحديد ‪ ]13 :‬وقال في حق‬
‫آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ا ْر ِ‬
‫سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ ُبشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ جَنّاتٌ‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ يَ ْ‬
‫المؤمنين ‪َ { :‬يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫سعَى‬
‫ي وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ نُورُ ُهمْ يَ ْ‬
‫} الية [الحديد ‪ ، ]12 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬ي ْو َم ل ُيخْزِي اللّهُ النّ ِب ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } [التحريم ‪:‬‬
‫بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَا أَ ْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫‪.]8‬‬
‫ذكر الحديث الوارد في ذلك ‪:‬‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ } الية‬
‫قال سعيد بن أبي عَرُوبة ‪ ،‬عن قتادة في قوله تعالى ‪َ { :‬يوْمَ تَرَى ا ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫[الحديد ‪ ، ]12 :‬ذكر لنا أن النبي (‪ )6‬صلى ال عليه وسلم كان يقول ‪" :‬من المؤمنين من يضيء‬
‫نوره من المدينة إلى عدن ‪ ،‬أو بين (‪ )7‬صنعاء ودون ذلك ‪ ،‬حتى إن من المؤمنين من ل يضيء‬
‫نوره إل موضع قدميه"‪ .‬رواه ابن جرير‪.‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر (‪ )8‬القطان ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬بنحوه‪.‬‬
‫وهذا كما قال المِ ْنهَال بن عمرو ‪ ،‬عن قيس بن السكن ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬يؤتون‬
‫نورهم على قدر أعمالهم ‪ ،‬فمنهم من يرى (‪ )9‬نوره كالنخلة ‪ ،‬ومنهم من يرى (‪ )10‬نوره‬
‫كالرجل القائم ‪ ،‬وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة و َيقِد (‪ )11‬مرة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬فيه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يكذبون" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬يكون"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ومنهم من يمشي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أن نبي ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" ،‬أبين و"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬داود"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬يؤتى"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يؤتى"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬ويتقد"‪.‬‬

‫( ‪)1/191‬‬

‫وهكذا رواه ابن جرير ‪ ،‬عن ابن مُثَنّى ‪ ،‬عن ابن إدريس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن المنهال‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا علي بن محمد الطّنَافسي (‪ )1‬حدثنا ابن إدريس ‪ ،‬سمعت‬
‫سعَى‬
‫أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ‪ ،‬عن قيس بن السكن ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ { :‬نُورُهُمْ َي ْ‬
‫بَيْنَ أَيْدِي ِهمْ } [التحريم ‪ ]8 :‬قال ‪ :‬على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ‪ ،‬منهم من نوره مثل‬
‫الجبل ‪ ،‬ومنهم من نوره مثل النخلة ‪ ،‬وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى‪.‬‬
‫حمّاني ‪ ،‬حدثنا‬
‫وقال ابن أبي حاتم أيضًا ‪ :‬حدثنا محمد بن إسماعيل الحمسي ‪ ،‬حدثنا أبو يحيى ال ِ‬
‫عُتْبَةُ (‪ )2‬بن اليقظان ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬ليس أحد من أهل التوحيد إل يعطى‬
‫نورًا يوم القيامة ‪ ،‬فأما المنافق فيطفأ نوره ‪ ،‬فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ‪،‬‬
‫فهم يقولون ‪ :‬ربنا أتمم لنا نورنا‪.‬‬
‫وقال الضحاك بن مزاحم ‪ :‬يعطى كل من كان يظهر اليمان في الدنيا يوم القيامة نورًا ؛ فإذا‬
‫انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ‪ ،‬فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا ‪ ،‬فقالوا ‪ " :‬ربنا أتمم لنا‬
‫نورنا "‪.‬‬
‫فإذا تقرر هذا صار الناس أقسامًا ‪ :‬مؤمنون خُلّص ‪ ،‬وهم الموصوفون باليات الربع في أول‬
‫البقرة ‪ ،‬وكفار خلص ‪ ،‬وهم الموصوفون باليتين بعدها ‪ ،‬ومنافقون ‪ ،‬وهم قسمان ‪ :‬خلص ‪ ،‬وهم‬
‫المضروب لهم المثل الناري ‪ ،‬ومنافقون يترددون ‪ ،‬تارة يظهر لهم ُلمَعٌ من اليمان وتارة يخبو (‬
‫‪ )3‬وهم أصحاب المثل المائي ‪ ،‬وهم أخف حال من الذين قبلهم‪.‬‬
‫وهذا المقام يشبه (‪ )4‬من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور ‪ ،‬من ضرب مثل المؤمن (‪)5‬‬
‫وما جعل ال في قلبه من الهدى والنور ‪ ،‬بالمصباح (‪ )6‬في الزجاجة التي كأنها كوكب دُرّي ‪،‬‬
‫وهي قلب المؤمن المفطور على اليمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من‬
‫غير كدر ول تخليط ‪ ،‬كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء ال‪.‬‬
‫ثم ضرب مثل العُبّاد من الكفار ‪ ،‬الذين يعتقدون أنهم على شيء ‪ ،‬وليسوا على شيء ‪ ،‬وهم‬
‫ظمْآنُ مَاءً‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫أصحاب الجهل المركب ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ‬
‫حَتّى إِذَا جَا َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئًا } الية [النور ‪.]39 :‬‬
‫ج ْهلَ البسيط ‪ ،‬وهم الذين قال [ال] (‪ )7‬فيهم ‪َ { :‬أوْ َكظُُلمَاتٍ فِي‬
‫جهّال ال َ‬
‫ثم ضرب مثل الكفار ال ُ‬
‫ضهَا َفوْقَ َب ْعضٍ إِذَا أَخْرَجَ َي َدهُ لَمْ‬
‫ظُلمَاتٌ َب ْع ُ‬
‫جيّ َيغْشَاهُ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ َموْجٌ مِنْ َف ْوقِهِ سَحَابٌ ُ‬
‫بَحْرٍ ُل ّ‬
‫ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورًا َفمَا َلهُ مِنْ نُورٍ } [النور ‪ ]40 :‬فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين‬
‫َيكَدْ يَرَاهَا َومَنْ َلمْ يَ ْ‬
‫‪ :‬داعية ومقلد ‪ ،‬كما ذكرهما في أول سورة الحج ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ‬
‫وَيَتّبِعُ ُكلّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } [الحج ‪]3 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬الطيالسي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عتيبة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬تحير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وهذا شبه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬المؤمنين"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بالمصباح الذي"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫( ‪)1/192‬‬

‫علْ ٍم وَل هُدًى وَل كِتَابٍ مُنِيرٍ } [الحج ‪)1( ]8 :‬‬


‫وقال بعده ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ ِ‬
‫وقد قسم ال (‪ )2‬المؤمنين في أول الواقعة وآخرها (‪ )3‬وفي سورة النسان ‪ ،‬إلى قسمين ‪:‬‬
‫سابقون وهم المقربون ‪ ،‬وأصحاب يمين وهم البرار‪.‬‬
‫فتلخص (‪ )4‬من مجموع هذه اليات الكريمات ‪ :‬أن المؤمنين صنفان ‪ :‬مقربون وأبرار ‪ ،‬وأن‬
‫الكافرين صنفان ‪ :‬دعاة ومقلدون ‪ ،‬وأن المنافقين ‪ -‬أيضًا ‪ -‬صنفان ‪ :‬منافق خالص ‪ ،‬ومنافق فيه‬
‫عمْرو ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫شعبة من نفاق ‪ ،‬كما جاء في الصحيحين ‪ ،‬عن عبد ال بن َ‬
‫وسلم ‪" :‬ثلث من كن فيه كان منافقًا خالصًا ‪ ،‬ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من‬
‫النفاق حتى َيدَعها ‪ :‬من إذا حَدّث كذب ‪ ،‬وإذا وعد أخلف ‪ ،‬وإذا اؤتمن خان" (‪.)5‬‬
‫عمَلي لهذا‬
‫استدلوا به على أن النسان قد تكون فيه شعبة من إيمان ‪ ،‬وشعبة من نفاق‪ .‬إما َ‬
‫الحديث ‪ ،‬أو اعتقادي ‪ ،‬كما دلت عليه الية ‪ ،‬كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء ‪،‬‬
‫كما تقدم ‪ ،‬وكما سيأتي ‪ ،‬إن شاء ال‪ .‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو النضر ‪ ،‬حدثنا أبو معاوية‬
‫يعني شيبان ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن عمرو بن مرة ‪ ،‬عن أبي البختري ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬القلوب أربعة ‪ :‬قلب أجرد ‪ ،‬فيه مثل السراج يُزْهر ‪ ،‬وقلب‬
‫أغلف مربوط على غلفه ‪ ،‬وقلب منكوس ‪ ،‬وقلب ُمصَفّح ‪ ،‬فأما القلب الجرد فقلب المؤمن ‪،‬‬
‫سراجه فيه نوره ‪ ،‬وأما القلب الغلف فقلب الكافر ‪ ،‬وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص ‪،‬‬
‫عرف ثم أنكر ‪ ،‬وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ‪ ،‬ومَثَل اليمان فيه كمثل البقلة ‪ ،‬يمدها‬
‫الماء الطيب ‪ ،‬ومثل النفاق فيه كمثل القرحة َيمُدّها القيح والدم ‪ ،‬فأي المدّتين (‪ )6‬غلبت على‬
‫الخرى غلبت عليه" (‪ .)7‬وهذا إسناد جيد حسن‪.‬‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } قال محمد بن‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِ ِهمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله‬
‫إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد عن ِ‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ } قال ‪ِ :‬لمَا تركوا من الحق بعد معرفته‪.‬‬
‫تعالى ‪ { :‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } قال ابن عباس (‪ )8‬أي إنّ ال على كل ما أراد بعباده من نقمة ‪،‬‬
‫{ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫أو عفو ‪ ،‬قدير‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬إنما وصف ال تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ؛ لنه حذر‬
‫المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط ‪ ،‬و [أنه] (‪ )9‬على إذهاب أسماعهم وأبصارهم‬
‫قدير ‪ ،‬ومعنى { قَدِيرٌ } قادر ‪ ،‬كما أن معنى { عَلِيمٌ } عالم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ :‬قدم الية الثامنة على الية الثالثة من سورة الحج‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬في أول البقرة وآخرها" ‪ ،‬وفي جـ ‪" :‬في أول سورة الواقعة وفي آخرها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فلخص"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )34‬وصحيح مسلم برقم (‪ )58‬ولفظه ‪" :‬أربع من كن فيه كان منافقا‬
‫خالصا ‪ -‬والرابعة ‪ -‬وإذا خاصم فجر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬المددين"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)3/17‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬ابن إسحاق"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/193‬‬

‫ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ‬


‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَ ّبكُمُ الّذِي خََل َقكُ ْم وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪ )21‬الّذِي َ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ال ّثمَرَاتِ رِ ْزقًا َلكُمْ فَلَا تَ ْ‬
‫سمَاءَ بِنَا ًء وَأَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫فِرَاشًا وَال ّ‬
‫وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪)22‬‬

‫[وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف‬
‫سمَاءِ } بمعنى الواو ‪ ،‬كقوله‬
‫واحد من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى ‪َ { :‬أوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬وَل ُتطِعْ مِ ْنهُمْ آ ِثمًا َأوْ َكفُورًا } [النسان ‪ ، ]24 :‬أو تكون للتخبير ‪ ،‬أي ‪ :‬اضرب لهم‬
‫مثل بهذا وإن شئت بهذا ‪ ،‬قاله القرطبي‪ .‬أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ‪ ،‬على ما‬
‫وجهه الزمخشري ‪ :‬أن كل منهما مساو للخر في إباحة الجلوس إليه ‪ ،‬ويكون معناه على قوله ‪:‬‬
‫سواء ضربت لهم مثل بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين ‪ ،‬فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها ال‬
‫تعالى في سورة براءة ‪ -‬ومنهم ‪ -‬ومنهم ‪ -‬ومنهم ‪ -‬يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من‬
‫الفعال والقوال ‪ ،‬فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لحوالهم وصفاتهم ‪ ،‬وال أعلم ‪،‬‬
‫كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ‬
‫جيّ َيغْشَاهُ َموْجٌ } الية‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ } إلى أن قال ‪َ { :‬أوْ َكظُُلمَاتٍ فِي َبحْرٍ لُ ّ‬
‫َكفَرُوا أَ ْ‬
‫[النور ‪ ، ]40 ، 39 :‬فالول للدعاة الذين هم في جهل مركب ‪ ،‬والثاني لذوي الجهل البسيط من‬
‫التباع المقلدين ‪ ،‬وال أعلم بالصواب] (‪.)1‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا النّاسُ اعْ ُبدُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُ ْم وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪ )21‬الّذِي َ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ال ّثمَرَاتِ رِ ْزقًا َلكُمْ فَل َت ْ‬
‫سمَاءَ بِنَا ًء وَأَنزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ال ْرضَ فِرَاشًا وَال ّ‬
‫أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪} )22‬‬
‫شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ‪ ،‬بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده ‪ ،‬بإخراجهم من‬
‫العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة ‪ ،‬بأن جعل لهم الرض فراشا ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫سمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف ‪ ،‬كما قال‬
‫مهدا كالفراش ُمقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ‪ { ،‬وَال ّ‬
‫حفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَا ِتهَا ُمعْ ِرضُونَ } [النبياء ‪]32 :‬‬
‫سقْفًا مَ ْ‬
‫سمَاءَ َ‬
‫جعَلْنَا ال ّ‬
‫في الية الخرى ‪َ { :‬و َ‬
‫وأنزل لهم من السماء ماء ‪ -‬والمراد به السحاب هاهنا ‪ -‬في وقته عند احتياجهم إليه ‪ ،‬فأخرج‬
‫لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقًا لهم ولنعامهم ‪ ،‬كما قرر هذا في غير‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ال ْرضَ قَرَارًا‬
‫موضع (‪ )2‬من القرآن‪ .‬ومنْ أشبه آية بهذه الية قوله تعالى ‪ { :‬اللّهُ الّذِي َ‬
‫صوَرَكُمْ وَرَ َزقَكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َذِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ‬
‫ن ُ‬
‫حسَ َ‬
‫صوّ َركُمْ فَأَ ْ‬
‫سمَاءَ بِنَا ًء َو َ‬
‫(‪ )3‬وَال ّ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ } [غافر ‪ ]64 :‬ومضمونه ‪ :‬أنه الخالق الرازق مالك الدار ‪ ،‬وساكنيها ‪ ،‬ورازقهم ‪ ،‬فبهذا‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ }‬
‫يستحق أن يعبد وحده ول يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال ‪ { :‬فَل تَ ْ‬
‫وفي الصحيحين عن ابن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أي الذنب أعظم ؟ قال ‪" :‬أن تجعل‬
‫ل ندا ‪ ،‬وهو خلقك" الحديث (‪ .)4‬وكذا حديث معاذ ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬غير هذا الموضع"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فراشا" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )4761‬وصحيح مسلم برقم (‪.)68‬‬

‫( ‪)1/194‬‬

‫"أتدري ما حق ال على عباده ؟ أن يعبدوه ل (‪ )1‬يشركوا به شيئًا" الحديث (‪ )2‬وفي الحديث‬


‫الخر ‪" :‬ل يقولن أحدكم ‪ :‬ما شاء ال وشاء فلن ‪ ،‬ولكن ليقل (‪ )3‬ما شاء ال ‪ ،‬ثم شاء فلن" (‬
‫‪.)4‬‬
‫وقال حماد بن سلمة ‪ :‬حدثنا عبد الملك بن عمير ‪ ،‬عن رِبْعيّ بن حِرَاش ‪ ،‬عن الطفيل بن‬
‫سخْبَرَة ‪ ،‬أخى عائشة أم المؤمنين لمها ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت فيما يرى النائم ‪ ،‬كأني أتيت على نفر من‬
‫َ‬
‫اليهود ‪ ،‬فقلت ‪ :‬من أنتم ؟ فقالوا ‪ :‬نحن اليهود ‪ ،‬قلت ‪ :‬إنكم لنتم القوم لول أنكم تقولون ‪ :‬عُزَير‬
‫ابن ال‪ .‬قالوا ‪ :‬وإنكم لنتم القوم لول أنكم تقولون ‪ :‬ما شاء ال وشاء محمد‪ .‬قال ‪ :‬ثم مررت‬
‫بنفر من النصارى ‪ ،‬فقلت ‪ :‬من أنتم ؟ قالوا ‪ :‬نحن النصارى‪ .‬قلت ‪ :‬إنكم لنتم القوم لول أنكم‬
‫تقولون ‪ :‬المسيح ابن ال‪ .‬قالوا ‪ :‬وإنكم لنتم القوم لول أنكم تقولون ‪ :‬ما شاء ال وشاء محمد‪.‬‬
‫فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت ‪ ،‬ثم أتيت النبي صلى ال عليه وسلم فأخبرته ‪ ،‬فقال ‪" :‬هل‬
‫أخبرت بها أحدًا ؟" فقلت ‪ :‬نعم‪ .‬فقام ‪ ،‬فحمد ال وأثنى عليه ثم قال ‪" :‬أما بعد ‪ ،‬فإن طُفيل رأى‬
‫رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ‪ ،‬وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ‪ ،‬فل تقولوا‬
‫‪ :‬ما شاء ال وشاء محمد ‪ ،‬ولكن قولوا ‪ :‬ما شاء ال وحده"‪ .‬هكذا رواه ابن مردويه في تفسير‬
‫هذه الية من حديث حماد بن سلمة ‪ ،‬به (‪ .)5‬وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ‪ ،‬عن عبد الملك‬
‫بن عمير به ‪ ،‬بنحوه (‪.)6‬‬
‫وقال سفيان بن سعيد الثوري ‪ ،‬عن الجلح بن عبد ال الكندي ‪ ،‬عن يزيد بن الصم ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رجل للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ما شاء ال وشئت‪ .‬فقال ‪" :‬أجعلتني ل ندا (‬
‫‪ )7‬؟ قل ‪ :‬ما شاء ال وحده"‪ .‬رواه ابن مردويه ‪ ،‬وأخرجه النسائي ‪ ،‬وابن ماجه من حديث عيسى‬
‫بن يونس ‪ ،‬عن الجلح ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫وهذا كله صيانة ‪ ،‬وحماية لجناب التوحيد ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَ ّب ُكمُ } للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين‬
‫‪ ،‬أي ‪ :‬وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم‪.‬‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَ ْندَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬ل تشركوا بال غيره من النداد‬
‫وبه عن ابن عباس ‪ { :‬فَل َت ْ‬
‫التي ل تنفع ول تضر ‪ ،‬وأنتم تعلمون أنه ل رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم‬
‫إليه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ول"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )7373‬ومسلم في صحيحه برقم (‪.)30‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ليقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )4980‬من حديث حذيفة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬ورواه المام أحمد في المسند (‪ )5/72‬من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )2118‬عن هشام بن عمار ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن عبد الملك بن‬
‫عمير به ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/151‬هذا إسناد رجاله ثقات على شرط البخاري‬
‫لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أندادا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )10825‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )2117‬وقال البوصيري في‬
‫الزوائد (‪" : )1/150‬هذا فيه الجلح بن عبد ال ‪ ،‬مختلف فيه"‪.‬‬

‫( ‪)1/195‬‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي ل شك فيه‪ .‬وهكذا قال قتادة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ‪ ،‬حدثنا أبي عمرو ‪ ،‬حدثنا أبي‬
‫الضحاك بن مخلد أبو عاصم ‪ ،‬حدثنا شبيب بن بشر ‪ ،‬حدثنا عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قول‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا [وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ] (‪ } )2‬قال ‪ :‬النداد هو الشرك ‪ ،‬أخفى‬
‫ال ‪ ،‬عز وجل (‪ { )1‬فَل تَ ْ‬
‫من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل ‪ ،‬وهو أن يقول ‪ :‬وال وحياتك يا فلن ‪،‬‬
‫وحياتي ‪ ،‬ويقول ‪ :‬لول كلبة هذا لتانا اللصوص ‪ ،‬ولول البطّ في الدار لتى اللصوص ‪ ،‬وقول‬
‫الرجل لصاحبه ‪ :‬ما شاء ال وشئتَ ‪ ،‬وقول الرجل ‪ :‬لول ال وفلن‪ .‬ل تجعل فيها "فلن"‪ .‬هذا (‬
‫‪ )3‬كله به شرك‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ :‬أن رجل قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم ما شاء ال وشئت ‪ ،‬فقال ‪" :‬أجعلتني‬
‫ل ندا"‪ .‬وفي الحديث الخر ‪" :‬نعم القوم أنتم ‪ ،‬لول أنكم تنددون ‪ ،‬تقولون ‪ :‬ما شاء ال ‪ ،‬وشاء‬
‫فلن"‪.‬‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا } أي عدلء شركاء‪ .‬وهكذا قال الربيع بن أنس ‪،‬‬
‫قال (‪ )4‬أبو العالية ‪ { :‬فَل تَ ْ‬
‫وقتادة ‪ ،‬والسّدي ‪ ،‬وأبو مالك ‪ :‬وإسماعيل بن أبي خالد‪.‬‬
‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ } قال ‪ :‬تعلمون أنه إله واحد في التوراة‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬فَل تَ ْ‬
‫والنجيل‪.‬‬
‫ذكر حديث في معنى هذه الية الكريمة ‪:‬‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ‪ ،‬وكان ُيعَد من ال ُبدَلء ‪ ،‬حدثنا‬
‫يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن زيد بن سلم ‪ ،‬عن جده ممطور ‪ ،‬عن الحارث الشعري ‪ ،‬أن نبي ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ال عز وجل ‪ ،‬أمر يحيى بن زكريا ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بخمس كلمات‬
‫أن يعمل بهن ‪ ،‬وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ‪ ،‬وكان يبطئ بها ‪ ،‬فقال له عيسى ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ :‬إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ‪ ،‬فإما أن‬
‫تبلغهن ‪ ،‬وإما أن أبلغهن‪ .‬فقال ‪ :‬يا أخي ‪ ،‬إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي"‪ .‬قال ‪:‬‬
‫"فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ‪ ،‬حتى امتل المسجد ‪ ،‬فقعد على الشرف ‪،‬‬
‫فحمد ال وأثنى عليه ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬إن ال أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ‪ ،‬وآمركم أن تعملوا‬
‫بهن ‪ ،‬وأولهن ‪ :‬أن تعبدوا ال (‪ )5‬ل تشركوا به شيئًا ‪ ،‬فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من‬
‫خالص ماله بوَرِق أو ذهب ‪ ،‬فجعل يعمل ويؤدي غلته (‪ )6‬إلى غير سيده فأيكم يسره (‪ )7‬أن‬
‫يكون عبده كذلك ؟ وأن ال خلقكم ورزقكم فاعبدوه ول تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلة ؛ فإن ال‬
‫ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ‪ ،‬فإذا صليتم فل تلتفتوا‪ .‬وأمركم بالصيام ‪ ،‬فإن مثل ذلك‬
‫كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ‪ ،‬كلهم يجد ريح المسك‪ .‬وإن خلوف فم الصائم عند‬
‫ال أطيب (‪ )8‬من ريح المسك‪ .‬وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ‪ ،‬فشدوا‬
‫يديه إلى عنقه ‪ ،‬وقدموه ليضربوا عنقه ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬هل لكم أن أفتدي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬لن هذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ال وحده"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عمله"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬سره"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ب ‪" :‬أطيب عند ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/196‬‬

‫نفسي (‪ )1‬؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه‪ .‬وأمركم بذكر ال كثيرًا ؛ وإن‬
‫مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره ‪ ،‬فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه ‪ ،‬وإن العبد‬
‫أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر ال"‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬وأنا آمركم بخمس ال أمرني بهن ‪ :‬الجماعة ‪،‬‬
‫والسمع ‪ ،‬والطاعة ‪ ،‬والهجرة ‪ ،‬والجهاد في سبيل ال ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد‬
‫خلع رِبْقة السلم من عنقه ‪ ،‬إل أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِ ِثيّ جهنم"‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫يا رسول ال ‪ ،‬وإن صام وصلى (‪ )2‬؟ فقال ‪" :‬وإن صلى وصام (‪ )3‬وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا‬
‫المسلمين بأسمائهم على ما سماهم (‪ )4‬ال عز وجل ‪ :‬المسلمين المؤمنين عباد ال" (‪.)5‬‬
‫هذا حديث حسن ‪ ،‬والشاهد منه في هذه الية قوله ‪" :‬وإن ال خلقكم ورزقكم فاعبدوه ول تشركوا‬
‫به شيئًا"‪.‬‬
‫وهذه الية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده ل شريك له ‪ ،‬وقد استدل به كثير من المفسرين‬
‫كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال ‪ :‬وهي دالة على ذلك بطريق الولى ‪ ،‬فإن من تأمل هذه‬
‫الموجودات السفلية والعلوية واختلف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع‬
‫النفع بها محكمة ‪ ،‬علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ‪ ،‬كما قال بعض‬
‫العراب ‪ ،‬وقد سئل ‪ :‬ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال ‪ :‬يا سبحان ال ‪ ،‬إن البعرة لتدل‬
‫على البعير ‪ ،‬وإن أثر القدام لتدل على المسير ‪ ،‬فسماء ذات أبراج ‪ ،‬وأرض ذات فجاج ‪ ،‬وبحار‬
‫ذات أمواج ؟ أل يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟‬
‫وحكى فخر الدين عن المام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلف اللغات والصوات‬
‫والنغمات ‪ ،‬وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬دعوني‬
‫فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر‬
‫وليس بها أحد يحرسها ول يسوقها ‪ ،‬وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق المواج‬
‫العظام حتى تتخلص منها ‪ ،‬وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد‪ .‬فقالوا ‪ :‬هذا شيء‬
‫ل يقوله عاقل ‪ ،‬فقال ‪ :‬ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت‬
‫عليه من الشياء المحكمة ليس لها صانع!! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه‪.‬‬
‫وعن الشافعي ‪ :‬أنه سئل عن وجود الصانع ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود‬
‫فيخرج منه البريسم ‪ ،‬وتأكله النحل فيخرج منه العسل ‪ ،‬وتأكله الشاة والبعير والنعام فتلقيه بعرًا‬
‫وروثا ‪ ،‬وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد‪.‬‬
‫وعن المام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال ‪ :‬هاهنا حصن حصين أملس ‪ ،‬ليس له باب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬نفسي منكم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وصلى وزعم أنه مسلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬وإن صلى وإن صام"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بل بما سماهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)4/130‬‬

‫( ‪)1/197‬‬

‫شهَدَا َء ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ‬


‫وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نَزّلْنَا عَلَى عَ ْبدِنَا فَأْتُوا بِسُو َرةٍ مِنْ مِثْلِ ِه وَادْعُوا ُ‬
‫حجَا َرةُ أُعِ ّدتْ‬
‫س وَالْ ِ‬
‫كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‪ )23‬فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ (‪)24‬‬

‫ول منفذ ‪ ،‬ظاهره كالفضة البيضاء ‪ ،‬وباطنه كالذهب البريز ‪ ،‬فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره‬
‫فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ‪ ،‬يعني بذلك البيضة إذا خرج منها‬
‫الدجاجة‪.‬‬
‫وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد ‪:‬‬
‫تأمل في نبات الرض وانظر‪ ...‬إلى آثار ما صنع المليك‪...‬‬
‫عيون من لجين شاخصات‪ ...‬بأحداق هي الذهب السبيك‪...‬‬
‫على قضب الزبرجد شاهدات‪ ...‬بأن ال ليس له شريك‪...‬‬
‫وقال ابن المعتز ‪:‬‬
‫فيا عجبًا كيف يعصى الله‪ ...‬أم كيف يجحده الجاحد‪...‬‬
‫وفي كل شيء له آية‪ ...‬تدل على أنه واحد‪...‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار‬
‫والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ‪ ،‬وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم‬
‫وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ‪ ،‬ونظر إلى البحار الملتفة للرض من كل جانب ‪،‬‬
‫والجبال الموضوعة في الرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلف أشكالها وألوانها كما قال ‪:‬‬
‫حمْرٌ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّاسِ وَال ّدوَابّ وَال ْنعَامِ‬
‫ض وَ ُ‬
‫{ َومِنَ ا ْلجِبَالِ جُ َددٌ بِي ٌ‬
‫خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ } [فاطر ‪ ]28 ، 27 :‬وكذلك هذه النهار‬
‫مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ َكذَِلكَ إِ ّنمَا يَ ْ‬
‫السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الرض من الحيوانات المتنوعة والنبات‬
‫المختلف الطعوم والراييح والشكال واللوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ‪ ،‬علم وجود الصانع‬
‫وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم ل إله غيره ول رب‬
‫سواه ‪ ،‬عليه توكلت وإليه أنيب ‪ ،‬واليات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا‪.‬‬
‫ش َهدَا َءكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ‬
‫{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِنْ مِثْلِ ِه وَادْعُوا ُ‬
‫حجَا َرةُ أُعِ ّدتْ‬
‫س وَالْ ِ‬
‫كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‪ )23‬فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ (‪} )24‬‬
‫ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه (‪ )1‬ل إله إل هو ‪ ،‬فقال مخاطبًا للكافرين ‪ { :‬وَإِنْ‬
‫كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } يعني ‪ :‬محمدا صلى ال عليه وسلم { فَأْتُوا بِسُو َرةٍ } من مثل‬
‫ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير ال ‪ ،‬فعارضوه بمثل ما جاء به ‪ ،‬واستعينوا على ذلك بمن‬
‫شئتم من دون ال ‪ ،‬فإنكم ل تستطيعون ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬بأن"‪.‬‬

‫( ‪)1/198‬‬

‫شهَدَا َءكُمْ } أعوانكم [أي ‪ :‬قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك] (‪.)1‬‬
‫قال ابن عباس ‪ُ { :‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ :‬شركاءكم [أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم] (‪.)2‬‬
‫ش َهدَا َءكُمْ } قال ‪ :‬ناس يشهدون به [يعني ‪ :‬حكام الفصحاء] (‪.)3‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬وَادْعُوا ُ‬
‫وقد تحداهم ال تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ‪ ،‬فقال في سورة القصص ‪ُ { :‬قلْ فَأْتُوا‬
‫ِبكِتَابٍ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ُهوَ أَ ْهدَى مِ ْن ُهمَا أَتّ ِبعْهُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [القصص ‪ ]49 :‬وقال في سورة‬
‫س وَا ْلجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ هَذَا ا ْلقُرْآنِ ل يَأْتُونَ ِبمِثِْل ِه وََلوْ كَانَ‬
‫سبحان ‪ُ { :‬قلْ لَئِنِ اجْ َت َم َعتِ النْ ُ‬
‫ظهِيرًا } [السراء ‪ ]88 :‬وقال في سورة هود ‪ { :‬أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبعَشْرِ‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫َب ْع ُ‬
‫طعْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } [هود ‪ ، ]13 :‬وقال في‬
‫سوَرٍ مِثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَ َ‬
‫ُ‬
‫سورة يونس ‪َ { :‬ومَا كَانَ َهذَا ا ْلقُرْآنُ أَنْ ُيفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّ ِه وََلكِنْ َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ َيدَيْ ِه وَ َت ْفصِيلَ‬
‫طعْتُمْ‬
‫ا ْلكِتَابِ ل رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا بِسُو َرةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ‬
‫مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [يونس ‪ ]38 ، 37 :‬وكل هذه اليات مكية‪.‬‬
‫ثم تحداهم [ال تعالى] (‪ )4‬بذلك ‪ -‬أيضًا ‪ -‬في المدينة ‪ ،‬فقال في هذه الية ‪ { :‬وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ‬
‫} أي ‪[ :‬في] (‪ )5‬شك { ِممّا نزلْنَا عَلَى عَ ْبدِنَا } يعني ‪ :‬محمدًا صلى ال عليه وسلم‪ { .‬فَأْتُوا بِسُو َرةٍ‬
‫مِنْ مِثْلِهِ } يعني ‪ :‬من مثل [هذا] (‪ )6‬القرآن ؛ قاله مجاهد وقتادة ‪ ،‬واختاره ابن جرير‪ .‬بدليل قوله‬
‫سوَرٍ مِثْلِهِ } [هود ‪ ]13 :‬وقوله ‪ { :‬ل يَأْتُونَ ِبمِثْلِهِ } [السراء ‪ ]88 :‬وقال بعضهم‬
‫‪ { :‬فَأْتُوا ِبعَشْرِ ُ‬
‫‪ :‬من مثل محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬يعني ‪ :‬من رجل أمي مثله‪ .‬والصحيح الول ؛ لن‬
‫التحدي عام لهم كلهم ‪ ،‬مع أنهم أفصح المم ‪ ،‬وقد (‪ )7‬تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة‬
‫‪ ،‬مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ‪ ،‬ومع هذا عجزوا عن ذلك ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬فَإِنْ َلمْ‬
‫َت ْفعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا } "ولن" ‪ :‬لنفي التأبيد (‪ )8‬أي ‪ :‬ولن تفعلوا ذلك أبدًا‪ .‬وهذه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬معجزة‬
‫أخرى ‪ ،‬وهو أنه أخبر أن هذا القرآن ل يعارض بمثله أبدا (‪ )9‬وكذلك وقع المر ‪ ،‬لم يعارض‬
‫من لدنه إلى زماننا هذا ول يمكن ‪ ،‬وَأنّى يَتَأتّى ذلك لحد ‪ ،‬والقرآن كلم ال خالق كل شيء ؟‬
‫وكيف يشبه كلم الخالق كلم المخلوقين ؟!‬
‫ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه العجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة‬
‫حكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود ‪، ]1 :‬‬
‫ح ِك َمتْ آيَاتُهُ ثُمّ ُفصَّلتْ مِنْ لَدُنْ َ‬
‫المعنى ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬الر كِتَابٌ أُ ْ‬
‫فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلف ‪ ،‬فكل من لفظه ومعناه فصيح ل يجارى‬
‫ول يدانى ‪ ،‬فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ‪ ،‬وأمر‬
‫بكل خير ‪ ،‬ونهى عن كل شر كما قال ‪ { :‬وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ صِ ْدقًا وَعَدْل } [النعام ‪ ]115 :‬أي ‪:‬‬
‫صدقًا في الخبار وعدل في الحكام ‪ ،‬فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ول كذب‬
‫ول افتراء ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬وهو قد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬التأبيد في المستقبل"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬أبد البدين ودهر الداهرين"‪.‬‬
‫( ‪)1/199‬‬

‫كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الكاذيب والمجازفات التي ل يحسن شعرهم إل بها ‪،‬‬
‫كما قيل في الشعر ‪ :‬إن أعذبه أكذبه ‪ ،‬وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف‬
‫النساء أو الخيل أو الخمر ‪ ،‬أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة‬
‫أو سبع ‪ ،‬أو شيء من المشاهدات المتعينة التي ل تفيد شيئًا إل قدرة المتكلم المعبر على التعبير‬
‫على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ‪ ،‬ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر‬
‫هي بيوت القصيد وسائرها هذر ل طائل تحته‪.‬‬
‫وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلغة عند من يعرف ذلك تفصيل وإجمال ممن فهم‬
‫كلم العرب وتصاريف التعبير ‪ ،‬فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلوة ‪ ،‬سواء كانت‬
‫مبسوطة أو وجيزة ‪ ،‬وسواء تكررت أم ل وكلما تكرر حل وعل ل يَخلق عن كثرة الرد ‪ ،‬ول‬
‫يمل منه العلماء ‪ ،‬وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ‪،‬‬
‫فما ظنك بالقلوب الفاهمات ‪ ،‬وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والذان ‪ ،‬ويشوق إلى دار السلم‬
‫خ ِفيَ َلهُمْ مِنْ قُ ّرةِ أَعْيُنٍ‬
‫ومجاورة عرش الرحمن ‪ ،‬كما قال في الترغيب ‪ { :‬فَل َتعَْلمُ َنفْسٌ مَا أُ ْ‬
‫ن وَأَنْتُمْ فِيهَا‬
‫س وَتَلَذّ العْيُ ُ‬
‫جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } [السجدة ‪ ]17 :‬وقال ‪َ { :‬وفِيهَا مَا تَشْ َتهِيهِ ال ْنفُ ُ‬
‫سفَ ِب ُكمْ جَا ِنبَ الْبَرّ } [السراء ‪:‬‬
‫خِ‬‫خَاِلدُونَ } [الزخرف ‪ ، ]71 :‬وقال في الترهيب ‪َ { :‬أفََأمِنْتُمْ أَنْ يَ ْ‬
‫سمَاءِ أَنْ‬
‫سفَ ِبكُمُ ال ْرضَ فَإِذَا ِهيَ َتمُورُ * َأمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ‬
‫سمَاءِ أَنْ َيخْ ِ‬
‫‪ { ، ]68‬أََأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ‬
‫خذْنَا‬
‫سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا فَسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ َنذِيرِ } [الملك ‪ ]17 ، 16 :‬وقال في الزجر ‪َ { :‬فكُل أَ َ‬
‫يُرْ ِ‬
‫بِذَنْبِهِ } [العنكبوت ‪ ، ]40 :‬وقال في الوعظ ‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ إِنْ مَ ّتعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمّ جَاءَ ُهمْ مَا كَانُوا‬
‫يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا ُيمَ ّتعُونَ } [الشعراء ‪ ]207 - 205 :‬إلى غير ذلك من أنواع‬
‫الفصاحة والبلغة والحلوة ‪ ،‬وإن جاءت اليات في الحكام والوامر والنواهي ‪ ،‬اشتملت على‬
‫المر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ‪ ،‬والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن‬
‫مسعود وغيره من السلف ‪ :‬إذا سمعت ال تعالى يقول في القرآن { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فأوعها‬
‫ف وَيَ ْنهَاهُمْ‬
‫سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه‪ .‬ولهذا قال تعالى ‪ { :‬يَ ْأمُرُ ُهمْ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫ت وَيُحَرّمُ عَلَ ْيهِمُ ا ْلخَبَا ِئثَ وَ َيضَعُ عَ ْن ُهمْ ِإصْرَهُمْ وَالغْللَ الّتِي كَا َنتْ‬
‫حلّ َلهُمُ الطّيّبَا ِ‬
‫عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُ ِ‬
‫عَلَ ْيهِمْ } الية [العراف ‪ ، ]157 :‬وإن جاءت اليات في وصف المعاد وما فيه من الهوال وفي‬
‫وصف الجنة والنار وما أعد ال فيهما لوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملذ والعذاب‬
‫الليم ‪ ،‬بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ‪ ،‬وزهدت في‬
‫الدنيا ورغبت في الخرى ‪ ،‬وثبتت على الطريقة المثلى ‪ ،‬وهدت إلى صراط ال المستقيم وشرعه‬
‫القويم ‪ ،‬ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫طيَ من اليات ما مثله آمن عليه البشر ‪ ،‬وإنما كان الذي‬
‫قال ‪" :‬ما من نبي من النبياء إل قد أعْ ِ‬
‫أوتيته وحيا أوحاه ال‬

‫( ‪)1/200‬‬

‫إليّ ‪ ،‬فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا (‪ )1‬يوم القيامة" لفظ (‪ )2‬مسلم‪ .‬وقوله ‪" :‬وإنما كان الذي‬
‫أوتيته وحيًا" أي ‪ :‬الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز (‪ )3‬للبشر أن يعارضوه ‪،‬‬
‫بخلف غيره من الكتب اللهية ‪ ،‬فإنها ليست معجزة [عند كثير من العلماء] (‪ )4‬وال أعلم‪ .‬وله‬
‫عليه الصلة والسلم من اليات الدالة على نبوته ‪ ،‬وصدقه فيما جاء به ما ل يدخل تحت حصر ‪،‬‬
‫ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫[وقد قرر بعض المتكلمين العجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه ل يستطيع البشر التيان بمثله ول في قواهم معارضته‬
‫‪ ،‬فقد حصل المدعى وهو المطلوب ‪ ،‬وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع‬
‫شدة عداوتهم له ‪ ،‬كان ذلك دليل على أنه من عند ال ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم‬
‫على ذلك ‪ ،‬وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لن القرآن في نفسه معجز ل يستطيع البشر‬
‫معارضته ‪ ،‬كما قررنا ‪ ،‬إل أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه‬
‫الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ‬
‫ا ْل َكوْثَرَ } ] (‪.)5‬‬
‫حجَا َرةُ أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ } أما ال َوقُود ‪ ،‬بفتح‬
‫س وَالْ ِ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ‬
‫الواو ‪ ،‬فهو ما يلقى في النار لضرامها كالحطب ونحوه ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬وََأمّا ا ْلقَاسِطُونَ َفكَانُوا‬
‫جهَنّمَ أَنْ ُتمْ َلهَا‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫حطَبًا } [الجن ‪ ]15 :‬وقال تعالى ‪ { :‬إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫جهَنّمَ َ‬
‫لِ َ‬
‫وَارِدُونَ } [النبياء ‪.]98 :‬‬
‫والمراد بالحجارة هاهنا ‪ :‬هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ‪ ،‬وهي أشد‬
‫الحجار حرا إذا حميت ‪ ،‬أجارنا ال منها‪.‬‬
‫قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد (‪ )6‬عن عبد الرحمن بن سابط ‪ ،‬عن عمرو بن ميمون ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن مسعود ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ { :‬وقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَا َرةُ } قال ‪ :‬هي حجارة من كبريت ‪،‬‬
‫خلقها ال يوم خلق السماوات والرض في السماء الدنيا ‪ ،‬يعدها للكافرين‪ .‬رواه ابن جرير ‪ ،‬وهذا‬
‫لفظه‪ .‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬والحاكم في مستدركه وقال ‪ :‬على شرط الشيخين (‪.)7‬‬
‫وقال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة عن ابن‬
‫حجَا َرةُ } أما الحجارة فهي‬
‫س وَالْ ِ‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ { :‬فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ‬
‫حجارة في النار من كبريت أسود ‪ ،‬يعذبون به مع النار‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬حجارة من كبريت أنتن من الجيفة‪ .‬وقال أبو جعفر محمد بن علي ‪[ :‬هي] (‪)8‬‬
‫حجارة من كبريت‪ .‬وقال ابن جريج ‪ :‬حجارة من كبريت أسود في النار ‪ ،‬وقال لي عمرو بن‬
‫دينار ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تبعا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ ، )4981‬وصحيح مسلم برقم (‪.)152‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬المفهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬الرزاز"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪ )1/381‬وتفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/85‬والمستدرك (‪.)2/61‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/201‬‬

‫أصلب من هذه الحجارة وأعظم‪.‬‬


‫[وقيل ‪ :‬المراد بها ‪ :‬حجارة الصنام والنداد التي كانت تعبد من دون ال كما قال ‪ { :‬إِ ّن ُك ْم َومَا‬
‫جهَنّمَ } الية [النبياء ‪ ، ]98 :‬حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫على الول ؛ قال ‪ :‬لن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ‪،‬‬
‫وهذا الذي قاله ليس بقوي ‪ ،‬؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها‬
‫وأقوى لسعيرها ‪ ،‬ول سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ‪ ،‬ثم إن‬
‫أخذ النار في هذه الحجارة ‪ -‬أيضا ‪ -‬مشاهد ‪ ،‬وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى‬
‫يصير كذلك‪ .‬وكذلك سائر الحجار تفخرها النار وتحرقها‪ .‬وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي‬
‫سعِيرًا } [السراء ‪.]97 :‬‬
‫وعدوا بها ‪ ،‬وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال ‪ { :‬كُّلمَا خَ َبتْ زِدْنَا ُهمْ َ‬
‫وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال ‪ :‬ليكون‬
‫ذلك أشد عذابًا لهلها ‪ ،‬قال ‪ :‬وقد جاء في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬كل‬
‫مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ول معروف (‪ )1‬ثم قال القرطبي ‪ :‬وقد فسر بمعنيين ‪،‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن كل من آذى الناس دخل النار (‪ ، )2‬والخر ‪ :‬كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به‬
‫أهلها من السباع والهوام وغير ذلك] (‪.)3‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ } الظهر أنّ الضمير في { أُعِ ّدتْ } عائد إلى النار التي وقودها‬
‫الناس والحجارة ‪ ،‬ويحتمل عوده على الحجارة ‪ ،‬كما قال ابن مسعود ‪ ،‬ول منافاة بين القولين في‬
‫المعنى ؛ لنهما متلزمان‪.‬‬
‫ع ّدتْ } أي ‪ :‬أرصدت وحصلت للكافرين بال ورسوله ‪ ،‬كما قال [محمد] (‪ )4‬بن إسحاق ‪،‬‬
‫و { أُ ِ‬
‫ع ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ } أي ‪ :‬لمن‬
‫عن محمد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬أُ ِ‬
‫كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر‪.‬‬
‫ع ّدتْ } أي ‪:‬‬
‫وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الية على أن النار موجودة الن لقوله ‪ { :‬أُ ِ‬
‫أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها ‪" :‬تحاجت الجنة والنار" ومنها ‪" :‬استأذنت‬
‫النار ربها فقالت ‪ :‬رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" ‪،‬‬
‫وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬هذا حجر‬
‫ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم (‪ )5‬وحديث صلة‬
‫الكسوف وليلة السراء وغير ذلك من الحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة‬
‫بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الندلس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه الخطيب في تاريخ بغداد (‪ )11/299‬من طريق المفيد عن الشج ‪ ،‬عن علي رضي ال‬
‫عنه به مرفوعًا‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬عذب في النار"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)2844‬‬

‫( ‪)1/202‬‬

‫تنبيه ينبغي الوقوف عليه ‪:‬‬


‫قوله ‪ { :‬فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِنْ مِثِْلهِ } وقوله في سورة يونس ‪ { :‬بِسُو َرةٍ مِثْلِهِ } [يونس ‪ ]38 :‬يعم كل‬
‫سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة ؛ لنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق‬
‫النفي عند المحققين من الصوليين كما هو مقرر في موضعه ‪ ،‬فالعجاز حاصل في طوال السور‬
‫وقصارها ‪ ،‬وهذا ما أعلم فيه نزاعًا بين الناس سلفًا وخلفًا ‪ ،‬وقد قال المام العلمة فخر الدين‬
‫الرازي في تفسيره ‪ :‬فإن قيل ‪ :‬قوله ‪ { :‬فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِنْ مِثِْلهِ } يتناول سورة الكوثر وسورة‬
‫العصر ‪ ،‬و { ُقلْ يَا أَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ } ونحن نعلم بالضرورة أن التيان بمثله أو بما يقرب منه‬
‫ممكن‪ .‬فإن قلتم ‪ :‬إن التيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة ‪ ،‬والقدام على‬
‫هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة (‪ )1‬إلى الدين ‪ :‬قلنا ‪ :‬فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ‪،‬‬
‫وقلنا ‪ :‬إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد العجاز فقد حصل المقصود ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ‪،‬‬
‫كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا (‪ ، )2‬فعلى التقديرين‬
‫يحصل المعجز (‪ ، )3‬هذا لفظه بحروفه‪ .‬والصواب ‪ :‬أن كل سورة من القرآن معجزة ل يستطيع‬
‫البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة‪.‬‬
‫قال الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم ‪ { :‬وَا ْل َعصْرِ * إِنّ النْسَانَ َلفِي‬
‫صوْا بِالصّبْرِ } [سورة العصر]‪.‬‬
‫ق وَ َتوَا َ‬
‫حّ‬‫صوْا بِالْ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ وَ َتوَا َ‬
‫خسْرٍ * إِل الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ُ‬
‫وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم ‪ ،‬فقال له مسيلمة ‪:‬‬
‫ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو ‪ :‬لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة‬
‫فقال ‪ :‬وما هي ؟ فقال ‪ { :‬وَا ْل َعصْرِ * إِنّ النْسَانَ َلفِي خُسْرٍ } ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال ‪:‬‬
‫ولقد أنزل عليّ مثلها ‪ ،‬فقال ‪ :‬وما هو ؟ فقال ‪ :‬يا وبْر يا وبْر ‪ ،‬إنما أنت أذنان وصدر ‪ ،‬وسائرك‬
‫حقر فقر ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو ‪ :‬وال إنك لتعلم أني لعلم إنك تكذب (‬
‫‪.)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬الفهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬معجز"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬العجز"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سيأتي الكلم على هذه القصة عند تفسير سورة العصر‪.‬‬

‫( ‪)1/203‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ‬
‫وَبَشّرِ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫طهّ َرةٌ وَهُمْ فِيهَا‬
‫ل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ ُم َ‬
‫َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْب ُ‬
‫خَاِلدُونَ (‪)25‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ‬
‫{ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫طهّ َرةٌ وَهُمْ فِيهَا‬
‫ل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ ُم َ‬
‫َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْب ُ‬
‫خَاِلدُونَ (‪} )25‬‬
‫لما ذكر تعالى ما أعده لعدائه من الشقياء الكافرين به (‪ )1‬وبرسله من العذاب والنكال ‪ ،‬عَطف‬
‫بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به (‪ )2‬وبرسله ‪ ،‬الذين صَدّقوا إيمانهم بأعمالهم‬
‫الصالحة ‪ ،‬وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على أصح أقوال (‪ )3‬العلماء ‪ ،‬كما سنبسطه في‬
‫موضعه ‪ ،‬وهو أن يذكر اليمان ويتبعه بذكر الكفر ‪ ،‬أو عكسه ‪ ،‬أو حال السعداء ثم الشقياء ‪ ،‬أو‬
‫عكسه‪ .‬وحاصله ذكر الشيء ومقابله‪ .‬وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ‪ ،‬كما سنوضحه إن‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا‬
‫شاء ال ؛ فلهذا قال تعالى ‪ { :‬وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ال ْنهَارُ } فوصفها بأنها تجري من تحتها‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬قولي"‪.‬‬

‫( ‪)1/203‬‬

‫النهار ‪ ،‬كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ‪ ،‬ومعنى { َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ } أي‬
‫‪ :‬من تحت أشجارها وغرفها ‪ ،‬وقد جاء في الحديث ‪ :‬أن أنهارها تجري من (‪ )1‬غير أخدود ‪،‬‬
‫وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ‪ ،‬ول منافاة بينهما ‪ ،‬وطينها المسك الذفر ‪،‬‬
‫وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ‪ ،‬نسأل ال من فضله [وكرمه] (‪ )2‬إنه هو البر الرحيم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬قرئ على الربيع بن سليمان ‪ :‬حدثنا أسد بن موسى ‪ ،‬حدثنا ابن ثوبان ‪ ،‬عن‬
‫عطاء بن قرّة ‪ ،‬عن عبد ال بن ضمرة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬أنهار الجنة ُتفَجّر من تحت تلل ‪ -‬أو من تحت جبال ‪ -‬المسك" (‪.)3‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا أبو سعيد ‪ ،‬حدثنا وكيع ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن عبد ال بن مرة ‪ ،‬عن مسروق ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال عبد ال ‪ :‬أنهار الجنة تفجر من جبل مسك‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْبلُ } قال السدي في‬
‫تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن‬
‫ناس من الصحابة ‪ { :‬قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْبلُ } قال ‪ :‬إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ‪ ،‬فلما‬
‫نظروا إليها قالوا ‪ :‬هذا الذي رزقنا من قبل في [دار] (‪ )4‬الدنيا‪.‬‬
‫وهكذا قال قتادة ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬ونصره ابن جرير‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪ { :‬قَالُوا َهذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْبلُ } قال ‪ :‬معناه ‪ :‬مثل الذي كان بالمس ‪ ،‬وكذا قال‬
‫الربيع بن أنس‪ .‬وقال مجاهد ‪ :‬يقولون ‪ :‬ما أشبهه به‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا (‪)5‬‬
‫لشدة مشابهة بعضه بعضًا ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَأُتُوا بِهِ مُ َتشَا ِبهًا } قال سُنَيْد بن داود ‪ :‬حدثنا شيخ‬
‫من أهل ال ِمصّيصة ‪ ،‬عن الوزاعي ‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬قال ‪ :‬يؤتى أحدهم بالصحفة (‪)6‬‬
‫من الشيء ‪ ،‬فيأكل منها ثم يؤتى (‪ )7‬بأخرى فيقول ‪ :‬هذا الذي أوتينا به من قبل‪ .‬فتقول الملئكة‬
‫‪ُ :‬كلْ ‪ ،‬فاللون واحد ‪ ،‬والطعم مختلف‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا سعيد بن سليمان ‪ ،‬حدثنا عامر (‪ )8‬بن َيسَاف ‪ ،‬عن يحيى‬
‫بن أبي كثير قال ‪ :‬عشب الجنة الزعفران ‪ ،‬وكثبانها المسك ‪ ،‬ويطوف عليهم الولدان بالفواكه‬
‫فيأكلونها (‪ )9‬ثم يؤتون بمثلها ‪ ،‬فيقول لهم أهل الجنة ‪ :‬هذا الذي أتيتمونا آنفا به ‪ ،‬فيقول لهم‬
‫الولدان ‪ :‬كلوا ‪ ،‬فإن اللون واحد ‪ ،‬والطعم مختلف‪ .‬وهو قول ال تعالى ‪ { :‬وَأُتُوا ِبهِ مُتَشَا ِبهًا }‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ { :‬وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا } قال ‪ :‬يشبه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/87‬ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (‪ )313‬من طريق الربيع‬
‫بن سليمان به ‪ ،‬ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (‪" )2622‬موارد" من طريق القراطيسي عن‬
‫أسد بن موسى عن ابن ثوبان به‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬هذه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬بالصحيفة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬يأتي"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬عباس"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬فيأكلون"‪.‬‬

‫( ‪)1/204‬‬

‫بعضه بعضًا ‪ ،‬ويختلف في الطعم‪.‬‬


‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬ورُوي عن مجاهد ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس وعن مُرّة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَأُتُوا بِهِ‬
‫مُتَشَا ِبهًا } يعني ‪ :‬في اللون والمرأى ‪ ،‬وليس يشتبه (‪ )1‬في الطعم‪.‬‬
‫وهذا اختيار ابن جرير‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪ { :‬وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا } قال ‪ :‬يشبه ثمر الدنيا ‪ ،‬غير أن ثمر الجنة أطيب‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي ظِبْيان ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬ل يشبه شَي ٌء مما في‬
‫الجنة ما في الدنيا إل في السماء ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬ليس في الدنيا مما في الجنة إل السماء‪ .‬رواه‬
‫ابن جرير ‪ ،‬من رواية الثوري ‪ ،‬وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلهما عن العمش ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله ‪ { :‬وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا } قال ‪ :‬يعرفون أسماءه كما‬
‫كانوا في الدنيا ‪ :‬التفاح بالتفاح ‪ ،‬والرمان بالرمان ‪ ،‬قالوا في الجنة ‪ :‬هذا الذي رزقنا من قبل في‬
‫الدنيا ‪ ،‬وأتوا به متشابها ‪ ،‬يعرفونه وليس هو مثله في الطعم‪.‬‬
‫طهّ َرةٌ } قال ابن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬مطهرة من‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ مُ َ‬
‫القذر والذى‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬مطهرة من الذى والمأثم‪ .‬وفي رواية عنه ‪ :‬ل حيض ول كلف‪ .‬وروي عن عطاء‬
‫والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أنبأنا ابن وهب ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن زيد بن‬
‫أسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬المطهرة التي ل تحيض‪ .‬قال ‪ :‬وكذلك خلقت حواء ‪ ،‬عليها السلم ‪ ،‬حتى عصت ‪،‬‬
‫فلما عصت قال ال تعالى ‪ :‬إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة‪ .‬وهذا غريب‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه ‪ :‬حدثنا إبراهيم بن محمد ‪ ،‬حدثني جعفر بن محمد بن حرب ‪،‬‬
‫وأحمد بن محمد الجُوري (‪ )2‬قال حدثنا محمد بن عبيد الكندي ‪ ،‬حدثنا عبد الرزاق بن عمر‬
‫البَزيعيّ ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن المبارك عن شعبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أبي نضرة ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪،‬‬
‫طهّ َرةٌ } قال ‪" :‬من الحيض‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم في قوله تعالى ‪ { :‬وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ مُ َ‬
‫والغائط والنخاعة والبزاق" (‪.)3‬‬
‫هذا حديث غريب‪ .‬وقد رواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬عن محمد بن يعقوب ‪ ،‬عن الحسن بن علي‬
‫بن عفان ‪ ،‬عن محمد بن عبيد ‪ ،‬به ‪ ،‬وقال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬يشبه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الجواري"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (‪ )363‬من طريق عبد ال بن محمد بن يعقوب عن‬
‫محمد بن عبيد به‪.‬‬

‫( ‪)1/205‬‬

‫حقّ مِنْ‬
‫إِنّ اللّهَ لَا يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَلًا مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا فََأمّا الّذِينَ َآمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ‬
‫ضلّ‬
‫ضلّ بِهِ كَثِيرًا وَ َيهْدِي بِهِ كَثِيرًا َومَا ُي ِ‬
‫رَ ّبهِ ْم وََأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَلًا ُي ِ‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مِيثَاقِ ِه وَ َيقْ َ‬
‫سقِينَ (‪ )26‬الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ‬
‫بِهِ إِلّا ا ْلفَا ِ‬
‫سدُونَ فِي الْأَ ْرضِ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ (‪)27‬‬
‫وَيُفْ ِ‬
‫وهذا الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي (‪ )1‬هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان‬
‫البُسْتي ‪ :‬ل يجوز الحتجاج به (‪.)2‬‬
‫قلت ‪ :‬والظهر أن هذا من كلم قتادة ‪ ،‬كما تقدم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا (‪ )3‬هو تمام السعادة ‪ ،‬فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين‬
‫من الموت والنقطاع فل آخر له ول انقضاء ‪ ،‬بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ‪ ،‬وال‬
‫المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ‪ ،‬إنه جواد كريم ‪ ،‬بر رحيم‪.‬‬
‫حقّ مِنْ‬
‫{ إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ‬
‫ضلّ‬
‫ضلّ بِهِ كَثِيرًا وَ َيهْدِي ِبهِ كَثِيرًا َومَا ُي ِ‬
‫رَ ّبهِ ْم وََأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل ُي ِ‬
‫صلَ‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُو َ‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِ ِه وَ َيقْ َ‬
‫سقِينَ (‪ )26‬الّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫بِهِ إِل ا ْلفَا ِ‬
‫سدُونَ فِي ال ْرضِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (‪} )27‬‬
‫وَيُفْ ِ‬
‫قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ :‬لما ضرب ال هذين المثلين للمنافقين ‪ ،‬يعني قوله ‪ { :‬مَثَُلهُمْ‬
‫سمَاءِ } [البقرة ‪ ]19 :‬اليات‬
‫َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا } [البقرة ‪ ]17 :‬وقوله { َأوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ‬
‫الثلث ‪ ،‬قال المنافقون ‪ :‬ال أعلى وأجل من أن يضرب هذه المثال ‪ ،‬فأنزل ال هذه الية إلى‬
‫قوله ‪ { :‬هُمُ الْخَاسِرُونَ }‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬لما ذكر ال العنكبوت والذباب ‪ ،‬قال المشركون ‪ :‬ما‬
‫بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل ال [تعالى هذه الية] (‪ { )4‬إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ‬
‫مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا } (‪.)5‬‬
‫وقال سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬أي إن ال ل يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما ‪ ،‬قل أو كثر ‪ ،‬وإن ال‬
‫حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضللة ‪ :‬ما أراد ال من ذكر هذا ؟ فأنزل ال ‪{ :‬‬
‫إِنّ اللّ َه ل َيسْتَحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا }‬
‫قلت ‪ :‬العبارة الولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الية مكية ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬وعبارة رواية سعيد‬
‫‪ ،‬عن قتادة أقرب وال أعلم‪ .‬وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الية قال ‪ :‬هذا مثل ضربه ال للدنيا ؛ إذ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬الربعي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المجروحين (‪.)2/160‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وهذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/64‬‬
‫( ‪)1/206‬‬

‫البعوضة تحيا ما جاعت ‪ ،‬فإذا سمنت ماتت‪ .‬وكذلك مثل هؤلء (‪ )1‬القوم الذين ضرب لهم هذا‬
‫المثل في القرآن ‪ ،‬إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم ال تعالى عند ذلك ‪ ،‬ثم تل { فََلمّا نَسُوا مَا‬
‫شيْءٍ } [النعام ‪.]44 :‬‬
‫ُذكّرُوا بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫هكذا رواه ابن جرير ‪ ،‬ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر ‪ ،‬عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية ‪،‬‬
‫بنحوه ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫فهذا اختلفهم في سبب النزول ‪ ،‬وقد اختار ابن جرير ما حكاه السّدي ؛ لنه أمس بالسورة ‪ ،‬وهو‬
‫مناسب ‪ ،‬ومعنى الية ‪ :‬أنه تعالى أخبر أنه ل يستحيي ‪ ،‬أي ‪ :‬ل يستنكف ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ل يخشى أن‬
‫يضرب مثل ما ‪ ،‬أي ‪ :‬أيّ مثل كان ‪ ،‬بأي شيء كان ‪ ،‬صغيرًا كان أو كبيرًا‪.‬‬
‫و "ما" هاهنا للتقليل (‪ )2‬وتكون { َبعُوضَةً } منصوبة على البدل ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬لضربن ضربًا‬
‫ما ‪ ،‬فيصدق بأدنى شيء [أو تكون "ما" نكرة موصوفة ببعوضة] (‪ .)3‬واختار ابن جرير أن ما‬
‫موصولة ‪ ،‬و { َبعُوضَةً } معربة بإعرابها ‪ ،‬قال ‪ :‬وذلك سائغ (‪ )4‬في كلم العرب ‪ ،‬أنهم يعربون‬
‫صلة ما ومن بإعرابهما لنهما يكونان معرفة تارة ‪ ،‬ونكرة أخرى ‪ ،‬كما قال حسان بن ثابت ‪:‬‬
‫حمّدٍ إيّانَا (‪)7‬‬
‫َوكَفَى (‪ )5‬بِنَا َفضْل عَلَى مَنْ غَيْرِنَا‪ ...‬حُب (‪ )6‬النّ ِبيّ ُم َ‬
‫قال ‪ :‬ويجوز أن تكون { َبعُوضَةً } منصوبة بحذف الجار ‪ ،‬وتقدير الكلم ‪ :‬إن ال ل يستحيي أن‬
‫يضرب مثل ما بين بعوضة إلى ما فوقها‪.‬‬
‫[وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء‪ .‬وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت "بعوضة"‬
‫حسَنَ }‬
‫بالرفع ‪ ،‬قال ابن جني ‪ :‬وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله ‪َ { :‬تمَامًا عَلَى الّذِي أَ ْ‬
‫[النعام ‪ ]154 :‬أي ‪ :‬على الذي أحسن هو أحسن ‪ ،‬وحكى سيبويه ‪ :‬ما أنا بالذي قائل لك شيئا ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬يعني بالذي هو قائل لك شيئًا] (‪.)8‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَا َف ْو َقهَا } فيه قولن ‪ :‬أحدهما ‪ :‬فما دونها في الصغر ‪ ،‬والحقارة ‪ ،‬كما إذا وصف‬
‫رجل باللؤم والشح ‪ ،‬فيقول السامع (‪ : )9‬نعم ‪ ،‬وهو فوق ذلك ‪ ،‬يعني فيما وصفت‪ .‬وهذا قول‬
‫الكسائي وأبي عبيدة ‪ ،‬قال الرازي ‪ :‬وأكثر المحققين ‪ ،‬وفي الحديث ‪" :‬لو أن الدنيا تزن عند ال‬
‫جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" (‪ .)10‬والثاني ‪ :‬فما فوقها ‪ :‬فما هو أكبر منها ؛ لنه‬
‫ليس شيء أحقر ول أصغر من البعوضة‪ .‬وهذا [قول قتادة بن دعامة و] (‪ )11‬اختيار ابن جرير‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬هذا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬للتقليل زائدة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬شائع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يكفي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬حث"‪.‬‬
‫(‪ )7‬البيت في تفسير الطبري (‪.)1/404‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬القابل"‪.‬‬
‫(‪ )10‬رواه الترمذي في السنن برقم (‪ )2320‬من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم ‪،‬‬
‫عن سهل بن سعد رضي ال عنه به مرفوعا ‪ ،‬وفيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/207‬‬

‫[ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إل كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" (‪.)2( ] )1‬‬
‫فأخبر أنه ل يستصغر (‪ )3‬شيئًا َيضْرب به مثل ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ‪ ،‬كما‬
‫[لم يستنكف عن خلقها كذلك ل يستنكف من] (‪ )4‬ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله ‪ { :‬يَا‬
‫س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا َلهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ َيخُْلقُوا ذُبَابًا وََلوِ اجْ َت َمعُوا لَهُ‬
‫أَ ّيهَا النّا ُ‬
‫ض ُعفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ } [الحج ‪ ، ]73 :‬وقال ‪ { :‬مَ َثلُ‬
‫وَإِنْ يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا ل يَسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْ ُه َ‬
‫خ َذتْ بَيْتًا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ َلوْ‬
‫الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ اتّ َ‬
‫ف ضَ َربَ اللّهُ مَثَل كَِلمَةً طَيّبَةً َكشَجَ َرةٍ‬
‫كَانُوا َيعَْلمُونَ } [العنكبوت ‪ ]41 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬ألَمْ تَرَ كَ ْي َ‬
‫سمَاءِ * ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِِإذْنِ رَ ّبهَا وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه المْثَالَ‬
‫عهَا فِي ال ّ‬
‫طَيّ َبةٍ َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ َوفَرْ ُ‬
‫لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ * َومَ َثلُ كَِلمَةٍ خَبِيثَةٍ َكشَجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُ ّثتْ مِنْ َفوْقِ ال ْرضِ مَا َلهَا مِنْ قَرَارٍ‬
‫ن وَ َيفْ َعلُ اللّهُ‬
‫ضلّ اللّهُ الظّاِلمِي َ‬
‫* يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِا ْل َق ْولِ الثّا ِبتِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة وَ ُي ِ‬
‫مَا يَشَاءُ } [إبراهيم ‪ ، ]27 - 24 :‬وقال تعالى ‪ { :‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَل عَ ْبدًا َممْلُوكًا ل َيقْدِرُ عَلَى‬
‫شيْءٍ [ َومَنْ رَ َزقْنَاهُ مِنّا رِ ْزقًا حَسَنًا] (‪ } )5‬الية [النحل ‪ ، ]75 :‬ثم قال ‪َ { :‬وضَرَبَ اللّهُ مَثَل‬
‫َ‬
‫جهْهُ ل يَ ْأتِ بِخَيْرٍ [ َهلْ يَسْ َتوِي‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ َكلّ عَلَى َموْلهُ أَيْ َنمَا ُيوَ ّ‬
‫رَجُلَيْنِ أَحَ ُد ُهمَا أَ ْبكَمُ ل َيقْدِرُ عَلَى َ‬
‫سكُمْ َهلْ َلكُمْ‬
‫ُه َو َومَنْ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْدلِ] (‪ } )6‬الية [النحل ‪ ، ]76 :‬كما قال ‪ { :‬ضَ َربَ َلكُمْ مَثَل مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫مِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ } الية [الروم ‪ .]28 :‬وقال ‪ { :‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَل‬
‫جلٍ] (‪ } )7‬الية [الزمر ‪ ، ]29 :‬وقد قال تعالى ‪:‬‬
‫رَجُل فِيهِ شُ َركَاءُ مُ َتشَاكِسُونَ [وَرَجُل سََلمًا لِرَ ُ‬
‫ك المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ } [العنكبوت ‪ ]43 :‬وفي القرآن أمثال‬
‫{ وَتِ ْل َ‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي ؛ لن ال تعالى يقول‬
‫س َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ }‬
‫ك المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّا ِ‬
‫‪ { :‬وَتِ ْل َ‬
‫وقال مجاهد قوله ‪ { :‬إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَل مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا } المثال صغيرها‬
‫وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ‪ ،‬ويهديهم ال بها‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ِهمْ } أي ‪ :‬يعلمون أنه كلم الرحمن ‪،‬‬
‫وأنه من عند ال‪.‬‬
‫وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبهِمْ } يعني ‪ :‬هذا المثل ‪ { :‬وََأمّا‬
‫جعَلْنَا َأصْحَابَ‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل } كما قال في سورة المدثر ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫عدّ َتهُمْ إِل فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا لِ َيسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ‬
‫جعَلْنَا ِ‬
‫النّارِ إِل مَل ِئكَ ًة َومَا َ‬
‫آمَنُوا إِيمَانًا وَل يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَلِ َيقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ وَا ْلكَافِرُونَ‬
‫ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ إِل ُهوَ }‬
‫مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل كَذَِلكَ ُي ِ‬
‫[المدثر ‪، ]31 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪)2572‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ل يستنكف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/208‬‬

‫سقِينَ }‬
‫ضلّ بِهِ إِل ا ْلفَا ِ‬
‫ضلّ ِبهِ كَثِيرًا وَ َيهْدِي بِهِ كَثِيرًا َومَا ُي ِ‬
‫وكذلك قال هاهنا ‪ُ { :‬ي ِ‬
‫قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪ ،‬عن ابن‬
‫ضلّ ِبهِ كَثِيرًا } يعني ‪ :‬المنافقين ‪ { ،‬وَ َيهْدِي ِبهِ كَثِيرًا }‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ُ { :‬ي ِ‬
‫يعني المؤمنين ‪ ،‬فيزيد هؤلء ضللة إلى ضللهم (‪ )1‬لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا ‪ ،‬من المثل‬
‫الذي ضربه ال بما ضربه لهم (‪ )2‬وأنه لما ضربه له موافق ‪ ،‬فذلك (‪ )3‬إضلل ال إياهم به‬
‫{ وَ َيهْدِي ِبهِ } يعني بالمثل كثيرًا من أهل اليمان والتصديق ‪ ،‬فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى‬
‫إيمانهم ‪ ،‬لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما (‪ )4‬ضربه ال له مثل وإقرارهم به ‪،‬‬
‫ضلّ بِهِ إِل ا ْلفَاسِقِينَ } قال ‪ :‬هم المنافقون (‪.)5‬‬
‫وذلك هداية من ال لهم به { َومَا ُي ِ‬
‫سقِينَ } قال ‪ :‬هم أهل النفاق‪ .‬وكذا قال الربيع بن أنس‪.‬‬
‫ضلّ بِهِ إِل ا ْلفَا ِ‬
‫وقال أبو العالية ‪َ { :‬ومَا ُي ِ‬
‫وقال ابن جريج عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬ومَا ُيضِلّ بِهِ إِل ا ْلفَاسِقِينَ } يقول ‪ :‬يعرفه‬
‫الكافرون فيكفرون به‪.‬‬
‫سقِينَ } فسقوا ‪ ،‬فأضلهم ال على فسقهم‪.‬‬
‫ضلّ ِبهِ إِل ا ْلفَا ِ‬
‫وقال قتادة ‪َ { :‬ومَا ُي ِ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان ‪ ،‬عن أبي سِنان ‪ ،‬عن عمرو بن مرة ‪ ،‬عن‬
‫ضلّ بِهِ كَثِيرًا } يعني الخوارج‪.‬‬
‫مصعب بن سعد ‪ ،‬عن سعد { ُي ِ‬
‫وقال شعبة ‪ ،‬عن عمرو بن مرة ‪ ،‬عن مصعب بن سعد ‪ ،‬قال ‪ :‬سألت أبي فقلت ‪ :‬قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى آخر الية ‪ ،‬فقال ‪ :‬هم الحرورية‪ .‬وهذا السناد إن‬
‫الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ‬
‫صح عن سعد بن أبي وقاص ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فهو تفسير على المعنى ‪ ،‬ل أن (‪ )6‬الية أريد‬
‫منها التنصيص على الخوارج ‪ ،‬الذين خرجوا على عليّ بالنهروان ‪ ،‬فإن أولئك لم يكونوا حال‬
‫نزول الية ‪ ،‬وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل ؛ لنهم سموا خوارج لخروجهم على (‬
‫‪ )7‬طاعة المام والقيام بشرائع السلم‪.‬‬
‫والفاسق في اللغة ‪ :‬هو الخارج عن الطاعة أيضًا‪ .‬وتقول العرب ‪ :‬فسقت الرطبة ‪ :‬إذا خرجت‬
‫جحْرها للفساد‪ .‬وثبت في‬
‫من قشرتها (‪ )8‬؛ ولهذا يقال للفأرة ‪ :‬فويسقة ‪ ،‬لخروجها عن ُ‬
‫الصحيحين ‪ ،‬عن عائشة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬خمس فواسق يُقتلن في الحل‬
‫والحرم ‪ :‬الغراب ‪ ،‬والحدأة ‪ ،‬والعقرب ‪ ،‬والفأرة ‪ ،‬والكلب العقور" (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ضللتهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬لما ضربه له"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فوافق ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬لما"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬أهل النفاق"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬لن" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬إل أن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬قشرها"‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪ )3314‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1198‬‬

‫( ‪)1/209‬‬
‫فالفاسق يشمل (‪ )1‬الكافر والعاصي ‪ ،‬ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش ‪ ،‬والمراد من الية الفاسق‬
‫ع ْهدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ‬
‫الكافر ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬بدليل (‪ )2‬أنه وصفهم بقوله ‪ { :‬الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ‬
‫ل وَ ُيفْسِدُونَ فِي ال ْرضِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَ َ‬
‫وَيَقْ َ‬
‫وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ‪ ،‬كما قال تعالى في سورة الرعد ‪َ { :‬أ َفمَنْ‬
‫عمَى إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو اللْبَابِ * الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ‬
‫حقّ َكمَنْ ُهوَ أَ ْ‬
‫َيعْلَمُ أَ ّنمَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ الْ َ‬
‫شوْنَ رَ ّبهُ ْم وَ َيخَافُونَ سُوءَ‬
‫ل وَيَخْ َ‬
‫صَ‬‫اللّ ِه وَل يَ ْن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ * وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُو َ‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْ َ‬
‫حسَابِ } اليات ‪ ،‬إلى أن قال ‪ { :‬وَالّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫الْ ِ‬
‫سدُونَ فِي ال ْرضِ أُولَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْنَةُ وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [الرعد ‪.]25 - 19 :‬‬
‫ل وَيُفْ ِ‬
‫صَ‬‫بِهِ أَنْ يُو َ‬
‫وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلء الفاسقين بنقضه ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬هو‬
‫وصية ال إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ‪ ،‬ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من‬
‫معصيته في كتبه ‪ ،‬وعلى لسان رسله ‪ ،‬ونقضهم (‪ )3‬ذلك هو تركهم العمل به‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬بل هي (‪ )4‬في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ‪ ،‬وعهد ال الذي نقضوه هو ما‬
‫أخذه ال عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى ال عليه وسلم إذا بعث‬
‫والتصديق به ‪ ،‬وبما جاء به من عند ربهم ‪ ،‬ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته‬
‫وإنكارهم ذلك ‪ ،‬وكتمانهم علم ذلك [عن] (‪ )5‬الناس بعد إعطائهم ال من أنفسهم الميثاق ليبيننه‬
‫للناس ول يكتمونه ‪ ،‬فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم ‪ ،‬واشتروا به ثمنًا قليل‪ .‬وهذا اختيار‬
‫ابن جرير رحمه ال وقول مقاتل بن حيان‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬بل عنى بهذه الية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق‪ .‬وعهده إلى جميعهم في‬
‫توحيده ‪ :‬ما وضع لهم (‪ )6‬من الدلة الدالة على ربوبيته ‪ ،‬وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج‬
‫به لرسله من المعجزات التي ل يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها (‪ )7‬الشاهدة لهم على‬
‫صدقهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ونقضهم ذلك ‪ :‬تركهم (‪ )8‬القرار بما ثبتت لهم صحته بالدلة وتكذيبهم الرسل‬
‫والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق ‪ ،‬وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان (‪ )9‬نحو هذا ‪ ،‬وهو‬
‫حسن ‪[ ،‬وإليه مال الزمخشري ‪ ،‬فإنه قال ‪ :‬فإن قلت ‪ :‬فما المراد بعهد ال ؟ قلت ‪ :‬ما ركز في‬
‫شهَدَ ُهمْ‬
‫عقولهم من الحجة على التوحيد ‪ ،‬كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله ‪ { :‬وَأَ ْ‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُوا بَلَى } [العراف ‪ ]172 :‬إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزلة‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫عليهم لقوله ‪ { :‬وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } [البقرة ‪.)10( ]40 :‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬العهد الذي ذكره [ال] (‪ )11‬تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬شمل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪" :‬الدليل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وبغضهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬هو"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إليهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬بمثله"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬عدم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن حيان أيضا"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/210‬‬

‫ش َهدَهُمْ عَلَى‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫صلب آدم الذي وصف في قوله ‪ { :‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِنْ بَنِي آ َدمَ مِنْ ُ‬
‫شهِدْنَا] } (‪ )1‬اليتين [العراف ‪ ]173 ، 172 :‬ونقضهم (‪ )2‬ذلك‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُوا بَلَى [ َ‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫تركهم الوفاء به‪ .‬وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا ‪ ،‬حكى هذه القوال ابن جرير في‬
‫تفسيره‪.‬‬
‫عهْدَ‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬الّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مِيثَاقِهِ } إلى قوله ‪ { :‬الْخَاسِرُونَ } قال ‪ :‬هي ست خصال من (‪ )3‬المنافقين إذا كانت‬
‫ظهْرَة (‪ )4‬على الناس أظهروا هذه الخصال ‪ :‬إذا حدثوا كذبوا ‪ ،‬وإذا وعدوا أخلفوا ‪ ،‬وإذا‬
‫فيهم ال ّ‬
‫اؤتمنوا خانوا ‪ ،‬ونقضوا عهد ال من بعد ميثاقه ‪ ،‬وقطعوا ما أمر ال به أن يوصل ‪ ،‬وأفسدوا في‬
‫ظهْ َرةُ (‪ )5‬عليهم أظهروا الخصال (‪ )6‬الثلث ‪ :‬إذا حدثوا كذبوا ‪ ،‬وإذا‬
‫الرض ‪ ،‬وإذا كانت ال ّ‬
‫وعدوا أخلفوا ‪ ،‬وإذا اؤتمنوا خانوا‪.‬‬
‫وكذا (‪ )7‬قال الربيع بن أنس أيضًا‪ .‬وقال السدي في تفسيره بإسناده ‪ ،‬قوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ‬
‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ } قال ‪ :‬هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه‪.‬‬
‫يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫صلَ } قيل ‪ :‬المراد به صلة الرحام والقرابات ‪ ،‬كما‬
‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ ِبهِ أَنْ يُو َ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَ َيقْ َ‬
‫طعُوا أَرْحَا َمكُمْ }‬
‫ض وَ ُتقَ ّ‬
‫فسره قتادة كقوله تعالى ‪َ { :‬ف َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِنْ َتوَلّيْتُمْ أَنْ ُتفْسِدُوا فِي الرْ ِ‬
‫[محمد ‪ ]22 :‬ورجحه ابن جرير‪ .‬وقيل ‪ :‬المراد أعم من ذلك فكل ما أمر ال بوصله وفعله‬
‫قطعوه وتركوه‪.‬‬
‫وقال مقاتل بن حيان في قوله ‪ { :‬أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ } قال (‪ )8‬في الخرة ‪ ،‬وهذا كما قال‬
‫تعالى ‪ { :‬أُولَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [الرعد ‪.]25 :‬‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ :‬كل شيء نسبه ال إلى غير أهل السلم من اسم مثل خاسر ‪،‬‬
‫فإنما يعني به الكفر ‪ ،‬وما نسبه إلى أهل السلم فإنما يعني به الذنب‪.‬‬
‫وقال ابن جرير في قوله ‪ { :‬أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ } الخاسرون ‪ :‬جمع خاسر ‪ ،‬وهم الناقصون‬
‫أنفسهم [و] (‪ )9‬حظوظهم بمعصيتهم ال من رحمته ‪ ،‬كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع‬
‫من رأس ماله في بيعه ‪ ،‬وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان ال إياه رحمته التي خلقها لعباده‬
‫في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ‪ ،‬يقال منه ‪ :‬خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا ‪،‬‬
‫كما قال جرير بن عطية (‪ )10‬إن سَلِيطًا في الخَسَارِ إنّه‪ ...‬أولدُ قَومٍ خُلقُوا أقِنّه (‪)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وبغضهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬الظهيرة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الظهيرة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أخفوا هذه الخصال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬أي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬خطيئة"‪.‬‬
‫(‪ )11‬اليت في تفسير الطبري (‪.)1/417‬‬

‫( ‪)1/211‬‬

‫جعُونَ (‪)28‬‬
‫كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَا ُكمْ ثُمّ ُيمِي ُت ُكمْ ثُمّ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ‬

‫جعُونَ (‪} )28‬‬


‫{ كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ ثُمّ ِإلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته ‪ ،‬وأنه الخالق المتصرف في عباده ‪ { :‬كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ‬
‫بِاللّهِ } أي ‪ :‬كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! { َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَا ُكمْ } أي ‪ :‬قد كنتم‬
‫شيْءٍ َأمْ ُهمُ الْخَاِلقُونَ * أَمْ‬
‫عدمًا فأخرجكم إلى الوجود ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬أَمْ خُِلقُوا مِنْ غَيْرِ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضَ بَل ل يُوقِنُونَ } [الطور ‪ ، ]36 ، 35 :‬وقال { َهلْ أَتَى عَلَى النْسَانِ‬
‫خََلقُوا ال ّ‬
‫حِينٌ مِنَ الدّهْرِ َلمْ َيكُنْ شَيْئًا مَ ْذكُورًا } [النسان ‪ ]1 :‬واليات في هذا كثيرة‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬رضي ال‬
‫ن وََأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [غافر ‪ ]11 :‬قال ‪ :‬هي التي في البقرة ‪َ { :‬وكُنْتُمْ‬
‫عنه ‪ { :‬قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْ ِ‬
‫َأ ْموَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ }‬
‫وقال ابن جُريج (‪ ، )1‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬كُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فََأحْيَاكُمْ } أمواتا في أصلب‬
‫آبائكم ‪ ،‬لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم ‪ ،‬ثم يميتكم موتة الحق ‪ ،‬ثم يحييكم حين يبعثكم‪ .‬قال ‪ :‬وهي‬
‫مثل قوله ‪[ { :‬رَبّنَا] (‪َ )2‬أمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ }‪.‬‬
‫ن وََأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال ‪ :‬كنتم ترابًا‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْ ِ‬
‫قبل أن يخلقكم (‪ ، )3‬فهذه ميتة ‪ ،‬ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ‪ ،‬ثم يميتكم فترجعون إلى القبور‬
‫فهذه ميتة أخرى ‪ ،‬ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى‪ .‬فهذه ميتتان وحياتان ‪ ،‬فهو كقوله ‪:‬‬
‫{ كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ }‬
‫وهكذا روي عن السدي بسنده ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪،‬‬
‫عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ‪ -‬وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد وقتادة‬
‫حوُ ذلك‪.‬‬
‫وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نَ ْ‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن السدي عن أبي صالح ‪ { :‬كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فََأحْيَاكُمْ ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ‬
‫جعُونَ } قال ‪ :‬يحييكم (‪ )4‬في القبر (‪ ، )5‬ثم يميتكم‪.‬‬
‫ثُمّ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫وقال ابن جرير عن يونس ‪ ،‬عن ابن وهب ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ خلقهم في (‪)6‬‬
‫ظهر آدم ثم أخذ (‪ )7‬عليهم الميثاق ‪ ،‬ثم أماتهم ثم خلقهم في الرحام ‪ ،‬ثم أماتهم ‪ ،‬ثم أحياهم يوم‬
‫ن وََأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ }‬
‫القيامة‪ .‬وذلك كقول ال تعالى ‪ { :‬قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬جرير"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أخلفكم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬يحيهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬القبور"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فأخذ"‪.‬‬

‫( ‪)1/212‬‬

‫س َموَاتٍ وَ ُهوَ ِب ُكلّ‬


‫سوّاهُنّ سَ ْبعَ َ‬
‫سمَاءِ فَ َ‬
‫جمِيعًا ُثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫ُهوَ الّذِي خَلَقَ َلكُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪)29‬‬
‫َ‬

‫وهذا غريب والذي قبله‪ .‬والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس ‪ ،‬وأولئك الجماعة من‬
‫ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِيهِ‬
‫التابعين ‪ ،‬وهو كقوله تعالى ‪ُ { :‬قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ َي ْ‬
‫وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل َيعَْلمُونَ } [الجاثية ‪.]26 :‬‬
‫[وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الحساس ‪ ،‬كما قال في‬
‫الصنام ‪َ { :‬أ ْموَاتٌ غَيْرُ َأحْيَاءٍ } [النحل ‪ ، ]21 :‬وقال { وَآ َيةٌ َلهُمُ ال ْرضُ ا ْلمَيْتَةُ َأحْيَيْنَاهَا وََأخْرَجْنَا‬
‫مِ ْنهَا حَبّا َفمِنْهُ يَ ْأكُلُونَ } [يس ‪.)1( ]33 :‬‬
‫سمَاوَاتٍ وَ ُهوَ ِب ُكلّ‬
‫سوّاهُنّ سَ ْبعَ َ‬
‫سمَاءِ فَ َ‬
‫جمِيعًا ُثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫خلَقَ َل ُكمْ مَا فِي ال ْرضِ َ‬
‫{ ُهوَ الّذِي َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪} )29‬‬
‫َ‬
‫لما ذكر تعالى دللةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ‪ ،‬ذكر دليل آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق‬
‫سمَاءِ }‬
‫جمِيعًا ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫السماوات والرض ‪ ،‬فقال ‪ُ { :‬هوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي ال ْرضِ َ‬
‫ضمّن (‪ )2‬معنى القصد والقبال ؛ لنه عدي بإلى‬
‫أي ‪ :‬قصد إلى السماء ‪ ،‬والستواء هاهنا َت َ‬
‫سوّاهُنّ }‪.‬‬
‫سوّاهُنّ } أي ‪ :‬فخلق السماء سبعًا ‪ ،‬والسماء هاهنا اسم جنس ‪ ،‬فلهذا قال ‪ { :‬فَ َ‬
‫{ َف َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } أي ‪ :‬وعلمه محيط بجميع ما خلق (‪ .)3‬كما قال ‪ { :‬أَل َيعَْلمُ مَنْ خََلقَ }‬
‫{ وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫[الملك ‪ ]14 :‬وتفصيل هذه الية في سورة حم السجدة وهو قوله ‪ُ { :‬قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ‬
‫سيَ مِنْ َف ْوقِهَا وَبَا َركَ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَ ْندَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫ال ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ‬
‫سمَا ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا‬
‫سوَاءً لِلسّائِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَى ِإلَى ال ّ‬
‫فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ وَأَوْحَى فِي‬
‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ * َف َقضَاهُنّ سَبْعَ َ‬
‫وَلِل ْرضِ اِئْتِيَا َ‬
‫حفْظًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ } [فصلت ‪- 9 :‬‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ وَ ِ‬
‫سمَاءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ‬
‫ُكلّ َ‬
‫‪.]12‬‬
‫ففي هذا دللة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الرض أول ثم خلق السماوات سبعًا ‪ ،‬وهذا شأن البناء‬
‫أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ‪ ،‬وقد صرح المفسرون بذلك ‪ ،‬كما سنذكره بعد هذا إن‬
‫سوّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيَْلهَا‬
‫س ْم َكهَا َف َ‬
‫سمَاءُ بَنَاهَا * َرفَعَ َ‬
‫شدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ‬
‫شاء ال‪ .‬فأما قوله تعالى ‪ { :‬أَأَنْ ُتمْ أَ َ‬
‫ج ضُحَاهَا * وَال ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِ ْنهَا مَا َءهَا َومَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا }‬
‫وَأَخْرَ َ‬
‫[النازعات ‪ ]32 - 27 :‬فقد قيل ‪ :‬إن { ثُمّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ‪ ،‬ل لعطف‬
‫الفعل على الفعل ‪ ،‬كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫قل لمن ساد ثم ساد أبوه‪ ...‬ثم قد ساد قبل ذلك جده (‪)4‬‬
‫حىَ كان بعد خلق السماوات ‪ ،‬رواه ابن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن الدّ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬مضمن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وعلمه محيط بجميع الخلق" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬وعلمه محيط بالشياء بجميع ما خلق"‪.‬‬
‫(‪ )4‬البيت في مغني اللبيب لبن هشام غير منسوب‪ .‬أ‪ .‬هـ‪ .‬مستفادا من حاشية الشعب‪.‬‬
‫( ‪)1/213‬‬

‫وقد قال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ -‬وعن أبي صالح عن ابن عباس ‪ -‬وعن مُرّة ‪ ،‬عن‬
‫جمِيعًا ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى‬
‫ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة { ُهوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي ال ْرضِ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ ] (‪ } )1‬قال ‪ :‬إن ال تبارك وتعالى كان‬
‫سمَاوَاتٍ [ َو ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫سوّاهُنّ سَ ْبعَ َ‬
‫سمَاءِ فَ َ‬
‫ال ّ‬
‫عرشه على الماء ‪ ،‬ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء‪ .‬فلما أراد أن يخلق الخلق ‪ ،‬أخرج من‬
‫الماء دخانًا ‪ ،‬فارتفع فوق الماء فسما عليه ‪ ،‬فسماه سماء‪ .‬ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ‪ ،‬ثم‬
‫فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الحد والثنين ‪ ،‬فخلق الرض على حوت ‪ ،‬والحوتُ هو‬
‫النون الذي ذكره ال في القرآن ‪ { :‬ن وَا ْلقَلَمِ (‪ } )2‬والحوت في الماء ‪ ،‬والماء على ظهر صفاة ‪،‬‬
‫والصفاة على ظهر مَلَك ‪ ،‬والملك على صخرة ‪ ،‬والصخرة في الريح ‪ ،‬وهي الصخرة التي ذكر (‬
‫‪ )3‬لقمان ‪ -‬ليست في السماء ول في الرض ‪ ،‬فتحرك الحوت فاضطرب ‪ ،‬فتزلزلت الرض ‪،‬‬
‫فأرسى عليها الجبال َفقَرّت ‪ ،‬فالجبال تفخر على الرض ‪ ،‬فذلك قوله تعالى ‪ { :‬وَأَلْقَى فِي ال ْرضِ‬
‫سيَ أَنْ َتمِيدَ ِبكُمْ (‪[ } )4‬النحل ‪ .]15 :‬وخلق الجبال فيها ‪ ،‬وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي‬
‫َروَا ِ‬
‫لها في يومين ‪ ،‬في الثلثاء والربعاء ‪ ،‬وذلك حين يقول ‪ُ { :‬قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََلقَ‬
‫سيَ مِنْ َف ْوقِهَا وَبَا َركَ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَ ْندَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫ال ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ‬
‫فِيهَا } [فصلت ‪ .]10 ، 9 :‬يقول ‪ :‬أنبت شجرها { َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا } يقول ‪ :‬أقواتها لهلها { فِي‬
‫سمَاءِ‬
‫سوَاءً لِلسّائِلِينَ } [فصلت ‪ ]10 :‬يقول ‪ :‬من سأل فهكذا المر‪ { .‬ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫وَ ِهيَ دُخَانٌ } [فصلت ‪ ]11 :‬وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ‪ ،‬فجعلها سماء واحدة ‪ ،‬ثم‬
‫فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ‪ ،‬في الخميس والجمعة ‪ ،‬وإنما سمي يوم الجمعة لنه جمع‬
‫سمَاءٍ َأمْرَهَا } [فضلت ‪ ]12 :‬قال ‪ :‬خلق ال في‬
‫فيه خلق السماوات والرض ‪ { ،‬وََأوْحَى فِي ُكلّ َ‬
‫كل سماء خلقها من الملئكة والخلق الذي (‪ )5‬فيها ‪ ،‬من البحار وجبال البَرَد وما ل نعلم ‪ ،‬ثم‬
‫حفَظُ من الشياطين‪ .‬فلما فرغ من خلق ما‬
‫زين السماء الدنيا بالكواكب ‪ ،‬فجعلها زينة وحفظًا (‪ُ )6‬ت ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى‬
‫أحب استوى على العرش ‪ ،‬فذلك حين يقول ‪ { :‬خَلَقَ ال ّ‬
‫عَلَى ا ْلعَرْشِ } [العراف ‪ ]54 :‬ويقول { كَانَتَا رَ ْتقًا فَفَ َتقْنَا ُهمَا } [النبياء ‪.]30 :‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي‬
‫سعيد ‪ ،‬عن عبد ال بن سلم أنه قال ‪ :‬إن ال بدأ الخلق يوم الحد ‪ ،‬فخلق الرضين في الحد‬
‫والثنين ‪ ،‬وخلق القوات والرواسي في الثلثاء والربعاء ‪ ،‬وخلق السماوات في الخميس‬
‫عجَل ‪ ،‬فتلك الساعة‬
‫والجمعة ‪ ،‬وفرغ في آخر (‪ )7‬ساعة من يوم الجمعة ‪ ،‬فخلق فيها آدم على َ‬
‫التي تقوم فيها الساعة‪.‬‬
‫جمِيعًا } قال ‪ :‬خلق ال الرض قبل‬
‫وقال مجاهد في قوله ‪ُ { :‬هوَ الّذِي خََلقَ َلكُمْ مَا فِي ال ْرضِ َ‬
‫سمَا ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ‬
‫السماء ‪ ،‬فلما خلق الرض ثار منها دخان ‪ ،‬فذلك حين يقول ‪ُ { :‬ثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫}‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬والقلم وما يسطرون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب ‪" :‬ذكرها"‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬وجعل لها رواسي أن تميد‬
‫بكم" ‪ ،‬وفي ب ‪" :‬وجعلنا في الرض رواسي أن تميد بكم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬الذين"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وحفظها"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وأخر"‪.‬‬

‫( ‪)1/214‬‬

‫سمَاوَاتٍ } قال ‪ :‬بعضهن فوق بعض ‪ ،‬وسبع أرضين ‪ ،‬يعني بعضهن تحت‬
‫سوّاهُنّ سَبْعَ َ‬
‫{ َف َ‬
‫بعض‪.‬‬
‫وهذه الية دالة على أن الرض خلقت قبل السماء ‪ ،‬كما قال في آية السجدة ‪ُ { :‬قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ‬
‫سيَ مِنْ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ َلهُ أَنْدَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫بِالّذِي خَلَقَ ال ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ‬
‫سمَا ِء وَ ِهيَ‬
‫سوَاءً لِلسّا ِئلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َب َعةِ أَيّامٍ َ‬
‫سمَاوَاتٍ فِي‬
‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ * فَ َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ‬
‫ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِل ْرضِ اِئْتِيَا َ‬
‫حفْظًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ }‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ وَ ِ‬
‫سمَاءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ‬
‫َي ْومَيْنِ وََأوْحَى فِي ُكلّ َ‬
‫[فصلت ‪ ]12 - 9 :‬فهذه وهذه دالتان على أن الرض خلقت قبل السماء ‪ ،‬وهذا ما ل أعلم فيه‬
‫نزاعًا بين العلماء إل ما نقله ابن جرير عن قتادة ‪ :‬أنه زعم أن السماء خلقت قبل الرض ‪ ،‬وقد‬
‫س ْم َكهَا‬
‫سمَاءُ بَنَاهَا * َرفَعَ َ‬
‫توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى ‪ { :‬أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ‬
‫ضحَاهَا * وَال ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ دَحَاهَا * َأخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا‬
‫ج ُ‬
‫غطَشَ لَيَْلهَا وَأَخْرَ َ‬
‫سوّاهَا * وَأَ ْ‬
‫فَ َ‬
‫َومَرْعَاهَا } [النازعات ‪ ]31 - 27 :‬قالوا ‪ :‬فذكر خلق السماء قبل الرض‪ .‬وفي صحيح البخاري‬
‫(‪ : )1‬أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ‪ ،‬فأجاب بأن الرض خلقت قبل السماء وأن الرض إنما‬
‫دحيت بعد خلق السماء ‪ ،‬وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ‪ ،‬وقد قررنا‬
‫ذلك في تفسير سورة النازعات ‪ ،‬وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله ‪ { :‬وَال ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ‬
‫َدحَاهَا * َأخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا َومَرْعَاهَا * وَا ْلجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات ‪ ]32 - 30 :‬ففسر الدحي‬
‫بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الرضية ثم السماوية‬
‫دحى بعد ذلك الرض ‪ ،‬فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ‪ ،‬فنبتت النباتات على اختلف‬
‫أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ‪ ،‬وكذلك جرت هذه الفلك فدارت بما فيها من الكواكب‬
‫الثوابت والسيارة ‪ ،‬وال سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في‬
‫التفسير ‪ -‬أيضًا ‪ -‬من رواية ابن جُرَيج قال ‪ :‬أخبرني إسماعيل بن أمية ‪ ،‬عن أيوب بن خالد ‪،‬‬
‫عن عبد ال بن رافع مولى أم سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بيدي فقال ‪" :‬خلق ال التربة يوم السبت ‪ ،‬وخلق الجبال فيها يوم الحد ‪ ،‬وخلق الشجر فيها يوم‬
‫الثنين ‪ ،‬وخلق المكروه يوم الثلثاء ‪ ،‬وخلق النور يوم الربعاء ‪ ،‬وبث فيها الدواب يوم‬
‫الخميس ‪ ،‬وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ‪ ،‬فيما بين العصر‬
‫إلى الليل" (‪.)2‬‬
‫وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ‪ ،‬وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من‬
‫الحفاظ ‪ ،‬وجعلوه من كلم كعب ‪ ،‬وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلم كعب الحبار ‪ ،‬وإنما اشتبه‬
‫على بعض الرواة فجعلوه (‪ )3‬مرفوعا ‪ ،‬وقد حرر ذلك البيهقي (‪.)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪" )8/555‬فتح"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/103‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2789‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)11010‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فجعله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬السماء والصفات (ص ‪ )276‬وللعلمة عبد الرحمن المعلمي كلم متين في تصحيح هذا‬
‫الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "النوار الكاشفة" (ص ‪ )190 - 185‬فليراجع فإنه مهم‪.‬‬

‫( ‪)1/215‬‬

‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫علٌ فِي الْأَ ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَ ْ‬
‫وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَا ِئكَةِ إِنّي جَا ِ‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لَا َتعَْلمُونَ (‪)30‬‬
‫حمْ ِد َ‬
‫وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ‬

‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَ ْ‬
‫{ وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ ِل ْلمَل ِئكَةِ إِنّي جَا ِ‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ (‪} )30‬‬
‫حمْ ِد َ‬
‫وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ‬
‫يخبر (‪ )1‬تعالى بامتنانه على بني آدم ‪ ،‬بتنويهه بذكرهم في المل العلى قبل إيجادهم ‪ ،‬فقال‬
‫تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ } أي ‪ :‬واذكر يا محمد إذ قال ربك للملئكة ‪ ،‬واقصص على‬
‫قومك ذلك‪ .‬وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [وهو أبو عبيدة] (‪ )2‬أنه زعم أن "إذ" هاهنا‬
‫زائدة ‪ ،‬وأن تقدير الكلم ‪ :‬وقال ربك‪ .‬ورده ابن جرير‪.‬‬
‫قال القرطبي ‪ :‬وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج ‪ :‬هذا اجتراء (‪ )3‬من أبي عبيدة‪.‬‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } أي ‪ :‬قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيل بعد جيل ‪،‬‬
‫{ إِنّي جَا ِ‬
‫جعَُلكُمْ خَُلفَاءَ‬
‫جعََل ُكمْ خَل ِئفَ ال ْرضِ } [النعام ‪ ]165 :‬وقال { وَيَ ْ‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ مَل ِئكَةً فِي ال ْرضِ َيخُْلفُونَ } [الزخرف ‪:‬‬
‫ال ْرضِ } [النمل ‪ .]62 :‬وقال { وَلَوْ نَشَاءُ َل َ‬
‫خَلفَ مِنْ َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ } [مريم ‪[ .]59 :‬وقرئ في الشاذ ‪" :‬إني جاعل في الرض‬
‫‪ .]60‬وقال { فَ َ‬
‫خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي] (‪ .)4‬وليس المراد هاهنا‬
‫بالخليفة آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فقط ‪ ،‬كما يقوله طائفة من المفسرين ‪ ،‬وعزاه القرطبي إلى ابن‬
‫مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ‪ ،‬وفي ذلك نظر ‪ ،‬بل الخلف في ذلك كثير ‪ ،‬حكاه فخر‬
‫الدين الرازي في تفسيره وغيره ‪ ،‬والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } فإنهم (‪ )5‬إنما أرادوا أن من هذا الجنس‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫الملئكة ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫من يفعل ذلك ‪ ،‬وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ‪ ،‬أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه‬
‫يخلق هذا الصنف من صَ ْلصَال من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس‬
‫ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم ‪ ،‬قاله القرطبي] (‪ )6‬أو أنهم قاسوهم على من‬
‫سبق ‪ ،‬كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك‪.‬‬
‫وقول الملئكة هذا ليس على وجه العتراض على ال ‪ ،‬ول على وجه الحسد لبني آدم ‪ ،‬كما قد‬
‫يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم ال تعالى بأنهم ل يسبقونه بالقول ‪ ،‬أي ‪ :‬ل يسألونه شيئا لم‬
‫يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الرض خلقًا‪ .‬قال قتادة ‪ :‬وقد تقدم إليهم أنهم‬
‫ج َعلُ فِيهَا } الية] (‪ )7‬وإنما هو سؤال استعلم واستكشاف عن الحكمة‬
‫يفسدون فيها فقالوا ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫في ذلك ‪ ،‬يقولون ‪ :‬يا ربنا ‪ ،‬ما الحكمة في خلق هؤلء مع أن منهم من يفسد في الرض ويسفك‬
‫الدماء ‪ ،‬فإن كان المراد عبادتك ‪ ،‬فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ‪ ،‬أي ‪ :‬نصلي لك كما سيأتي ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬ول يصدر منا شيء من ذلك ‪ ،‬وهل وقع القتصار علينا ؟ قال ال تعالى مجيبا لهم عن هذا‬
‫السؤال ‪ { :‬إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬إني أعلم من المصلحة (‪ )8‬الراجحة في خلق هذا‬
‫الصنف على المفاسد التي ذكرتموها (‪ )9‬ما ل تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم النبياء ‪ ،‬وأرسل‬
‫فيهم الرسل ‪ ،‬ويوجد فيهم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أخبر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬إجرام"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬فإن ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬بالمصلحة"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬الذي ذكروها"‪.‬‬

‫( ‪)1/216‬‬

‫الصديقون والشهداء ‪ ،‬والصالحون والعباد ‪ ،‬والزهاد والولياء ‪ ،‬والبرار والمقربون ‪ ،‬والعلماء‬


‫العاملون والخاشعون ‪ ،‬والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليهم‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح (‪ : )1‬أن الملئكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو‬
‫أعلم ‪ :‬كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون ‪ :‬أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون‪ .‬وذلك لنهم‬
‫يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلة الصبح وصلة العصر ‪ ،‬فيمكث هؤلء ويصعد أولئك بالعمال‬
‫كما قال عليه السلم ‪" :‬يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ‪ ،‬وعمل النهار قبل الليل" فقولهم ‪ :‬أتيناهم‬
‫وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله ‪ { :‬إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } وقيل ‪ :‬معنى‬
‫قوله جوابًا لهم ‪ { :‬إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلء والحالة ما ذكرتم‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ } فقال ‪ { :‬إِنّي أَعْلَمُ مَا‬
‫حمْ ِد َ‬
‫ل تعلمونها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه جواب لقولهم ‪ { :‬وَنَحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫ل َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به‪ .‬وقيل ‪ :‬بل تضمن‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا‬
‫حمْ ِد َ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَا َء وَ َنحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫قولهم ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫ل َتعَْلمُونَ } طلبًا منهم أن يسكنوا الرض بدل بني آدم ‪ ،‬فقال ال تعالى لهم ‪ { :‬إِنّي أَعَْلمُ مَا ل‬
‫َتعَْلمُونَ } من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم‪ .‬ذكرها فخر الدين مع غيرها من الجوبة‬
‫‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه ‪:‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثني القاسم بن الحسن قال ‪ :‬حدثنا الحسين قال ‪ :‬حدثني الحجاج ‪ ،‬عن جرير‬
‫بن حازم ‪ ،‬ومبارك ‪ ،‬عن الحسن وأبي بكر ‪ ،‬عن الحسن وقتادة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬قال ال للملئكة ‪ { :‬إِنّي‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } قال لهم ‪ :‬إني فاعل‪ .‬وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك‪.‬‬
‫جَا ِ‬
‫وقال السدي ‪ :‬استشار الملئكة في خلق آدم‪ .‬رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬قال (‪ : )2‬وروي عن قتادة‬
‫نحوه‪ .‬وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الخبار ففيها تساهل ‪ ،‬وعبارة الحسن وقتادة في رواية‬
‫ابن جرير أحسن ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫{ فِي ال ْرضِ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو سلمة ‪ ،‬حدثنا حماد (‪ )3‬حدثنا عطاء بن‬
‫السائب ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول ال (‪ )4‬صلى ال عليه وسلم قال ‪ُ " :‬دحِيت الرض‬
‫من مكة ‪ ،‬وأول من طاف بالبيت الملئكة ‪ ،‬فقال ال ‪ :‬إني جاعل في الرض خليفة ‪ ،‬يعني مكة"‬
‫(‪.)5‬‬
‫وهذا مرسل ‪ ،‬وفي سنده ضعف ‪ ،‬وفيه مُدْرَج ‪ ،‬وهو أن المراد بالرض مكة ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬فإن‬
‫الظاهر أن المراد بالرض أعم من ذلك‪.‬‬
‫{ خَلِيفَةً } قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪،‬‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ‬
‫عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة أن ال تعالى قال للملئكة ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫خَلِيفَةً }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪ )632‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أحمد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/108‬‬

‫( ‪)1/217‬‬

‫قالوا (‪ : )1‬ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال ‪ :‬يكون له ذرية يفسدون في الرض ويتحاسدون‬
‫ويقتل بعضهم بعضا‪.‬‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } مني ‪ ،‬يخلفني في‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬فكان تأويل الية على هذا ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫الحكم بين خلقي ‪ ،‬وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة ال والحكم (‪ )2‬بالعدل بين‬
‫خلقه‪ .‬وأما الفساد وسفك الدماء بغير حقها (‪ )3‬فمن غير خلفائه‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وإنما [كان تأويل الية على هذا] (‪ )4‬معنى الخلفة التي ذكرها ال إنما هي‬
‫خلفة قرن منهم قرنا‪.‬‬
‫قال ‪ :‬والخليفة الفعلية من قولك ‪ ،‬خلف فلن فلنا في هذا المر ‪ :‬إذا قام مقامه فيه بعده ‪ ،‬كما‬
‫جعَلْنَاكُمْ خَل ِئفَ فِي ال ْرضِ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لِنَنْظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } [يونس ‪.]14 :‬‬
‫قال تعالى ‪ { :‬ثُمّ َ‬
‫ومن ذلك قيل للسلطان العظم ‪ :‬خليفة ؛ لنه خلف الذي كان قبله ‪ ،‬فقام بالمر مقامه ‪ ،‬فكان منه‬
‫خََلفًا‪.‬‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } يقول ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وحدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا عثمان بن سعيد ‪ ،‬حدثنا بشر بن عمارة ‪ ،‬عن أبي‬
‫روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬أول من سكن الرض الجنّ ‪ ،‬فأفسدوا فيها وسفكوا‬
‫فيها الدماء ‪ ،‬وقتل بعضهم بعضا‪ .‬قال ‪ :‬فبعث ال إليهم إبليس ‪ ،‬فقتلهم إبليس ومن معه حتى‬
‫علٌ‬
‫ألحقهم (‪ )5‬بجزائر البحور وأطراف الجبال‪ .‬ثم خلق آدم وأسكنه إياها ‪ ،‬فلذلك قال ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫خلِيفَةً } (‪.)6‬‬
‫فِي ال ْرضِ َ‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن ابن سابط ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } قال ‪ :‬يعنون [به] (‪ )7‬بني آدم‪.‬‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫قَالُوا أَتَ ْ‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬قال ال للملئكة ‪ :‬إني أريد أن أخلق في الرض خلقا‬
‫وأجعل فيها خليفة وليس ل ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬خلق إل الملئكة ‪ ،‬والرض ليس فيها خلق ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] (‪ )8‬؟!‬
‫وقد تقدم ما رواه السدي ‪ ،‬عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ‪ :‬أن ال أعلم‬
‫الملئكة بما يفعل ذرّية آدم ‪ ،‬فقالت الملئكة ذلك‪ .‬وتقدم آنفا (‪ )9‬ما رواه الضحاك ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ :‬أن الجن أفسدوا في الرض قبل بني آدم ‪ ،‬فقالت الملئكة ذلك ‪ ،‬فقاسوا هؤلء بأولئك‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا علي بن محمد الطّنَافِسي ‪ ،‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فقالوا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وحكم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬حقها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ألحقوهم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)1/450‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أيضا"‪.‬‬

‫( ‪)1/218‬‬

‫العمش ‪ ،‬عن ُبكَير (‪ )1‬بن الخنس ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو ‪ ،‬قال ‪ :‬كان الجن بنو‬
‫الجان في الرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ‪ ،‬فأفسدوا في الرض ‪ ،‬وسفكوا الدماء ‪ ،‬فبعث ال‬
‫علٌ فِي‬
‫جندا من الملئكة فضربوهم ‪ ،‬حتى ألحقوهم بجزائر البحور ‪ ،‬فقال ال للملئكة ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫ال ْرضِ خَلِيفَةً } قالوا ‪ :‬أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال ‪ :‬إني أعلم ما ل تعلمون (‬
‫‪.)2‬‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية في قوله ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } [البقرة ‪ ]33 :‬قال ‪ :‬خلق ال الملئكة‬
‫خَلِيفَةً } إلى قوله ‪ { :‬وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫يوم الربعاء وخلق الجن يوم الخميس ‪ ،‬وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ‪ ،‬فكانت‬
‫الملئكة تهبط إليهم في الرض فتقاتلهم ‪ ،‬فكانت الدماء بينهم ‪ ،‬وكان الفساد في الرض ‪ ،‬فمن ثم‬
‫س َفكُوا‪.‬‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } كما َ‬
‫سدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَ ْ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫قالوا ‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا سعيد بن سليمان ‪ ،‬حدثنا مبارك‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } قال لهم ‪:‬‬
‫بن فضالة ‪ ،‬حدثنا الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ال للملئكة ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫إني فاعل‪ .‬فآمنوا بربهم (‪ ، )3‬فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه ‪ ،‬فقالوا بالعلم‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ }‬
‫سدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫الذي علمهم ‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫قال الحسن ‪ :‬إن الجن كانوا في الرض يفسدون (‪ )4‬ويسفكون الدماء ‪ ،‬ولكن جعل ال في قلوبهم‬
‫أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلّمهم‪.‬‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } كان [ال] (‪)5‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة في قوله ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫ج َعلُ فِيهَا‬
‫أعلمهم أنه إذا كان في الرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ‪ ،‬فذلك حين قالوا ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } (‪.)6‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا هشام الرازي ‪ ،‬حدثنا ابن المبارك ‪ ،‬عن معروف ‪ ،‬يعني‬
‫ل ملك ‪ ،‬وكان هاروت‬
‫جّ‬‫ابن خَرّبوذ المكي ‪ ،‬عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول ‪ :‬السّ ِ‬
‫وماروت من أعوانه ‪ ،‬وكان له في كل يوم ثلث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ‪ ،‬فنظر نظرة لم‬
‫تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من المور ‪ ،‬فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت ‪ ،‬وكانا‬
‫سدُ فِيهَا‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ َت ْ‬
‫من أعوانه ‪ ،‬فلما قال تعالى ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } قال ذلك استطالة على الملئكة‪.‬‬
‫وَيَ ْ‬
‫وهذا أثر غريب‪ .‬وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ‪ ،‬فهو نقله عن‬
‫أهل الكتاب ‪ ،‬وفيه نكارة توجب رده ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين‬
‫فقط ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬بكر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/109‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أفأمنوا برأيهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يفسدون في الرض"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/65‬‬

‫( ‪)1/219‬‬
‫وهو خلف السياق‪.‬‬
‫وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم ‪ -‬أيضًا ‪ -‬حيث قال ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا هشام بن أبي عَبْد ال‬
‫‪ ،‬حدثنا عبد ال بن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت أبي يقول ‪ :‬إن الملئكة الذين قالوا ‪:‬‬
‫ك وَنُقَدّسُ َلكَ } كانوا عشرة آلف ‪،‬‬
‫حمْ ِد َ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَا َء وَنَحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫سدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫{ أَ َت ْ‬
‫فخرجت نار من عند ال فأحرقتهم‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬أيضًا ‪ -‬إسرائيلي منكر كالذي قبله ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سدُ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫قال ابن جريج ‪ :‬إنما تكلموا بما أعلمهم ال أنه كائن من خلق آدم ‪ ،‬فقالوا ‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫سفِكُ ال ّدمَاءَ }‬
‫فِيهَا وَيَ ْ‬
‫س ِفكُ‬
‫سدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬إنما قالت الملئكة ما قالت ‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫ال ّدمَاءَ } ؛ لن ال أذن لهم (‪ )1‬في السؤال عن ذلك ‪ ،‬بعد ما أخبرهم (‪ )2‬أن ذلك كائن من بني‬
‫آدم ‪ ،‬فسألته الملئكة ‪ ،‬فقالت على التعجب منها ‪ :‬وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم! ؟‬
‫فأجابهم ربهم ‪ { :‬إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } يعني ‪ :‬أن ذلك كائن منهم ‪ ،‬وإن لم تعلموه أنتم ومن‬
‫بعض من ترونه لي طائعا‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬ذلك من الملئكة على وجه السترشاد عما لم يعلموا من ذلك ‪ ،‬فكأنهم قالوا‬
‫‪ :‬يا رب خبرنا ‪ ،‬مسألة [الملئكة] (‪ )3‬استخبار منهم ‪ ،‬ل على وجه النكار ‪ ،‬واختاره ابن‬
‫جرير‪.‬‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ خَلِيفَةً } فاستشار‬
‫وقال سعيد عن قتادة قوله ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ ِل ْلمَل ِئكَةِ إِنّي جَا ِ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاءَ } وقد علمت الملئكة‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫الملئكة في خلق آدم ‪ ،‬فقالوا ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫ح ْم ِدكَ‬
‫من علم ال أنه ل شيء أكره إلى ال من سفك الدماء والفساد في الرض { وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ‬
‫وَنُقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } فكان في علم ال أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل‬
‫وقوم صالحون وساكنو الجنة ‪ ،‬قال ‪ :‬وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول ‪ :‬إن ال لما أخذ في‬
‫خلق آدم قالت الملئكة ‪ :‬ما ال خالق خلقا أكرم عليه منا ول أعلم منا ‪ ،‬فابتلوا بخلق آدم ‪ ،‬وكل‬
‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ‬
‫خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والرض بالطاعة فقال ‪ { :‬اِئْتِيَا َ‬
‫} [فصلت ‪.]11 :‬‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ } قال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪:‬‬
‫حمْ ِد َ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ‬
‫التسبيحُ ‪ :‬التسبيحُ ‪ ،‬والتقديس ‪ :‬الصلة (‪.)4‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مُرّة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪-‬‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ } قال ‪ :‬يقولون ‪ :‬نصلي لك‪.‬‬
‫حمْ ِد َ‬
‫وعن ناس من الصحابة ‪ { :‬وَ َنحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫ح ْم ِدكَ وَنُقَدّسُ َلكَ } قال ‪ :‬نعظمك ونكبرك‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬وَنَحْنُ ُنسَبّحُ بِ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬لها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما أخبرها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/65‬‬

‫( ‪)1/220‬‬

‫وقال الضحاك ‪ :‬التقديس ‪ :‬التطهير‪.‬‬


‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ } قال ‪ :‬ل نعصي ول نأتي شيئًا‬
‫حمْ ِد َ‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ { :‬وَنَحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫تكرهه‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬التقديس ‪ :‬هو التعظيم والتطهير ‪ ،‬ومنه قولهم ‪ :‬سُبّوح قُدّوس ‪ ،‬يعني بقولهم ‪:‬‬
‫سُبوح ‪ ،‬تنزيه له ‪ ،‬وبقولهم ‪ :‬قدوس ‪ ،‬طهارة وتعظيم له‪ .‬ولذلك قيل للرض ‪ :‬أرض مقدسة ‪،‬‬
‫حمْ ِدكَ } ننزهك ونبرئك مما يضيفه‬
‫يعني بذلك المطهرة‪ .‬فمعنى قول الملئكة إذًا ‪ { :‬وَنَحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫إليك أهلُ الشرك بك { وَ ُنقَدّسُ َلكَ } ننسبك إلى ما هو من صفاتك ‪ ،‬من الطهارة من الدناس وما‬
‫أضاف إليك أهل الكفر بك‪.‬‬
‫[وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل ‪ :‬أي الكلم أفضل ؟ قال‬
‫‪" :‬ما اصطفى ال لملئكته سبحان ال وبحمده" (‪ )1‬وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في السماوات العل "سبحان العلي‬
‫العلى سبحانه وتعالى" (‪.)3( ] )2‬‬
‫{ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } قال قتادة ‪ :‬فكان في علم ال أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء‬
‫ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ‪ ،‬وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من‬
‫الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى ‪ { :‬قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ }‬
‫وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون‬
‫فيه ‪ ،‬ويقطع تنازعهم ‪ ،‬وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ‪ ،‬ويقيم الحدود ‪ ،‬ويزجر عن تعاطي‬
‫الفواحش ‪ ،‬إلى غير ذلك من المور المهمة التي ل يمكن إقامتها إل بالمام ‪ ،‬وما ل يتم الواجب‬
‫إل به فهو واجب‪.‬‬
‫والمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ‪ ،‬أو باليماء إليه كما يقول‬
‫آخرون منهم ‪ ،‬أو باستخلف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب ‪ ،‬أو بتركه‬
‫شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ‪ ،‬أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو‬
‫بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك (‪ )4‬إمام الحرمين الجماع ‪،‬‬
‫وال أعلم ‪ ،‬أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئل يؤدي ذلك إلى الشقاق والختلف ‪ ،‬وقد‬
‫نص عليه الشافعي‪.‬‬
‫وهل يجب الشهاد على عقد المامة ؟ فيه خلف ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬ل يشترط ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بلى‬
‫ويكفي شاهدان‪ .‬وقال الجبائي ‪ :‬يجب أربعة وعاقد ومعقود له ‪ ،‬كما ترك عمر رضي ال عنه ‪،‬‬
‫المر شورى بين ستة ‪ ،‬فوقع المر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ‪ ،‬ومعقود له وهو‬
‫عثمان ‪ ،‬واستنبط‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪.)2731‬‬
‫(‪ )2‬ورواه أبو نعيم في الحلية (‪ )2/7‬من طريق مسكين بن ميمون عن عروة بن رويم ‪ ،‬عن عبد‬
‫الرحمن بن قرط رضي ال عنه به مرفوعا وسيأتي من رواية الطبراني عند تفسير الية ‪44 :‬‬
‫من سورة السراء‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬تلك"‪.‬‬

‫( ‪)1/221‬‬

‫سمَاءِ َهؤُلَاءِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ (‪)31‬‬


‫ضهُمْ عَلَى ا ْلمَلَا ِئكَةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ‬
‫سمَاءَ كُّلهَا ُثمّ عَ َر َ‬
‫وَعَلّمَ َآدَمَ الْأَ ْ‬
‫سمَا ِئهِمْ فََلمّا‬
‫حكِيمُ (‪ )32‬قَالَ يَا َآدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ‬
‫قَالُوا سُبْحَا َنكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلّا مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫ن َومَا كُنْ ُتمْ‬
‫ض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫أَنْبَأَهُمْ بِأَ ْ‬
‫َتكْ ُتمُونَ (‪)33‬‬

‫وجوب الربعة الشهود من الربعة الباقين ‪ ،‬وفي هذا نظر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقل مسلمًا عدل مجتهدًا بصيرًا سليم العضاء خبيرًا بالحروب‬
‫والراء قرشيًا على الصحيح ‪ ،‬ول يشترط الهاشمي ول المعصوم من الخطأ خلفًا للغلة‬
‫الروافض ‪ ،‬ولو فسق المام هل ينعزل أم ل ؟ فيه خلف ‪ ،‬والصحيح أنه ل ينعزل لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪" :‬إل أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من ال فيه برهان" (‪ )1‬وهل له أن يعزل نفسه ؟‬
‫فيه خلف ‪ ،‬وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم المر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فأما نصب إمامين في الرض أو أكثر فل يجوز لقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬من جاءكم وأمركم‬
‫جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان" (‪ .)2‬وهذا قول الجمهور ‪ ،‬وقد حكى الجماع‬
‫على ذلك غير واحد ‪ ،‬منهم إمام الحرمين ‪ ،‬وقالت الكرامية ‪ :‬يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان‬
‫علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك‬
‫في المامة ؛ لن النبوة أعلى رتبة بل خلف ‪ ،‬وحكى إمام الحرمين عن الستاذ أبي إسحاق أنه‬
‫جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت القطار واتسعت القاليم بينهما ‪ ،‬وتردد إمام الحرمين في‬
‫ذلك ‪ ،‬قلت ‪ :‬وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والمويين بالمغرب‪.‬‬
‫سمَاءِ َهؤُلءِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‬
‫ضهُمْ عَلَى ا ْلمَل ِئكَةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ‬
‫سمَاءَ كُّلهَا ُثمّ عَ َر َ‬
‫{ وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ‬
‫سمَا ِئهِمْ‬
‫حكِيمُ (‪ )32‬قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ‬
‫‪ )31‬قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ ل عِ ْلمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫ن َومَا كُنْتُمْ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫فََلمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَ ْ‬
‫َتكْ ُتمُونَ (‪} )33‬‬
‫هذا مقام ذكر ال تعالى فيه شرف آدم على الملئكة ‪ ،‬بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء‬
‫دونهم ‪ ،‬وهذا كان بعد سجودهم له ‪ ،‬وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ‪ ،‬لمناسبة ما بين هذا المقام‬
‫وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ‪ ،‬حين سألوا عن ذلك ‪ ،‬فأخبرهم [ال] (‪ )3‬تعالى بأنه يعلم ما ل‬
‫يعلمون ؛ ولهذا ذكر تعالى (‪ )4‬هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في‬
‫سمَاءَ كُّلهَا }‬
‫العلم ‪ ،‬فقال تعالى ‪ { :‬وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ‬
‫سمَاءَ كُّلهَا } قال ‪ :‬عرض عليه أسماء‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عمن حدثه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ‬
‫ولده إنسانًا إنسانًا ‪ ،‬والدواب ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هذا الحمار ‪ ،‬هذا الجمل ‪ ،‬هذا الفرس‪.‬‬
‫سمَاءَ كُّلهَا } قال ‪ :‬هي هذه السماء التي يتعارف‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ { :‬وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )7055‬من حديث عبادة بن الصامت رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1852‬من حديث عرفجة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ذكر تبارك وتعالى" ‪ ،‬وفي ب ‪" :‬ذكر ال تعالى"‪.‬‬

‫( ‪)1/222‬‬

‫بها الناس ‪ :‬إنسان ‪ ،‬ودابة ‪ ،‬وسماء ‪ ،‬وأرض ‪ ،‬وسهل ‪ ،‬وبحر ‪ ،‬وجمل (‪ ، )1‬وحمار ‪ ،‬وأشباه‬
‫ذلك من المم وغيرها‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ‪ ،‬من حديث عاصم بن كليب ‪ ،‬عن سعيد بن معبد ‪ ،‬عن ابن‬
‫سمَاءَ كُّلهَا } قال ‪ :‬علمه اسم الصحفة والقِدر ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم حتى الفسوة‬
‫عباس ‪ { :‬وَعَلّمَ آدَمَ ال ْ‬
‫والفُسَيّة (‪.)2‬‬
‫سمَاءَ كُّلهَا } قال ‪ :‬علمه اسم كل دابة ‪ ،‬وكل طير ‪ ،‬وكل شيء‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬وَعَلّمَ آ َدمَ ال ْ‬
‫وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف ‪ :‬أنه علمه أسماء كل شيء ‪ ،‬وقال‬
‫الربيع في رواية عنه ‪ :‬أسماء الملئكة‪ .‬وقال حميد الشامي ‪ :‬أسماء النجوم‪ .‬وقال عبد الرحمن بن‬
‫زيد ‪ :‬علمه أسماء ذريته كلهم‪.‬‬
‫ضهُمْ } وهذا‬
‫واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملئكة وأسماء الذرية ؛ لنه قال ‪ُ { :‬ثمّ عَ َر َ‬
‫عبارة عما يعقل‪ .‬وهذا الذي رجح به ليس بلزم ‪ ،‬فإنه ل ينفي أن يدخل معهم غيرهم ‪ ،‬ويعبر‬
‫عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب‪ .‬كما قال ‪ { :‬وَاللّهُ خََلقَ ُكلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي‬
‫ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ َيخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ‬
‫عَلَى بَطْنِهِ َومِنْهُمْ مَنْ َي ْمشِي عَلَى ِرجْلَيْ ِ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } [النور ‪.]45 :‬‬
‫عَلَى ُكلّ َ‬
‫[وقد قرأ عبد ال بن مسعود ‪" :‬ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب ‪" :‬ثم عرضها" أي ‪ :‬السماوات] (‬
‫‪.)3‬‬
‫والصحيح أنه علمه أسماء الشياء كلها ‪ :‬ذواتها وأفعالها ؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة‬
‫والفُسَية‪ .‬يعني أسماء الذوات والفعال المكبر والمصغر ؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الية‬
‫من كتاب التفسير من صحيحه ‪ :‬حدثنا مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا مسلم ‪ ،‬حدثنا هشام ‪ ،‬حدثنا‬
‫قتادة ‪ ،‬عن أنس رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقال لي خليفة ‪ :‬حدثنا يزيد بن‬
‫زُرَيع ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة عن أنس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" : -‬يجتمع‬
‫المؤمنون يوم القيامة ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬لو استشفعنا إلى ربنا ؟ فيأتون آدم فيقولون ‪ :‬أنت أبو الناس ‪،‬‬
‫خلقك ال بيده ‪ ،‬وأسجد لك ملئكته ‪ ،‬وعلمك أسماء كل شيء ‪ ،‬فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا‬
‫ستُ هُنَاكُمْ ‪ ،‬ويذكر ذنبه فيستحي ؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه ال‬
‫من مكاننا هذا ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لَ ْ‬
‫إلى أهل الرض ‪ ،‬فيأتونه فيقول ‪ :‬لست هُنَاكُم‪ .‬ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي‪.‬‬
‫فيقول ‪ :‬ائتوا خليل الرحمن ‪ ،‬فيأتونه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لست هُنَاكم ؛ فيقول ‪ :‬ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه‬
‫ال ‪ ،‬وأعطاه التوراة ‪ ،‬فيأتونه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لست هُنَاكُمْ ‪ ،‬ويذكر قَ ْتلَ النفس بغير نفس ‪ ،‬فيستحي من‬
‫ربه ؛ فيقول ‪ :‬ائتوا عيسى عَ ْبدَ ال ورسولَه وكَلِمةَ ال وروحه ‪ ،‬فيأتونه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لست هُنَاكُم ‪،‬‬
‫غفَر ال له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ‪ ،‬فيأتوني ‪ ،‬فأنطلق حتى أستأذن على‬
‫ائتوا محمدًا عبدًا َ‬
‫ربي ‪ ،‬فيُؤذن لي ‪ ،‬فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا ‪ ،‬فيدعني ما شاء ال ‪ ،‬ثم يقال ‪ :‬ارفع رأسك ‪،‬‬
‫وسل تعطه ‪ ،‬وقل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وجبل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬الفشوة والفشية"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/223‬‬

‫شفّع ‪ ،‬فأرفع رأسي ‪ ،‬فأحمده بتحميد (‪ )1‬يعلمُنيه ‪ ،‬ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم‬
‫سمَع ‪ ،‬واشفع ُت َ‬
‫يُ ْ‬
‫الجنة ‪ ،‬ثم أعود إليه ‪ ،‬وإذا رأيت ربي مثله (‪ ، )2‬ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة (‪ ، )3‬ثم‬
‫أعود الرابعة فأقول ‪ :‬ما بقي في النار إل مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" (‪.)4‬‬
‫هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا‪ .‬وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام ‪ ،‬وهو ابن أبي‬
‫عبد ال الدّسْتُوائي ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬به (‪ .)5‬وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد ‪،‬‬
‫وهو ابن أبي عَرُوبَة ‪ ،‬عن قتادة (‪ .)6‬ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلة‬
‫والسلم ‪" :‬فيأتون آدم فيقولون ‪ :‬أنت أبو الناس خلقك ال بيده ‪ ،‬وأسجد لك ملئكته ‪ ،‬وعلمك‬
‫ضهُمْ‬
‫أسماء كل شيء" ‪ ،‬فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ؛ ولهذا قال ‪ { :‬ثُمّ عَ َر َ‬
‫عَلَى ا ْلمَل ِئكَةِ } يعني ‪ :‬المسميات ؛ كما قال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة قال ‪ :‬ثم عرض‬
‫سمَاءِ َهؤُلءِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ }‬
‫تلك السماء على الملئكة { َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ‬
‫وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪ ،‬عن ابن‬
‫سمَاءَ كُّلهَا } ثم عرض الخَلْق على الملئكة‪.‬‬
‫مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ { :‬وَعَلّمَ آدَمَ ال ْ‬
‫ضهُمْ } عرض أصحاب السماء على الملئكة‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ُ { :‬ثمّ عَ َر َ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا الحسين ‪ ،‬حدثني الحجاج ‪ ،‬عن جرير بن حازم ومبارك‬
‫بن فضالة ‪ ،‬عن الحسن ‪ -‬وأبي بكر ‪ ،‬عن الحسن وقتادة ‪ -‬قال علمه اسم كل شيء ‪ ،‬وجعل‬
‫يسمي كل شيء باسمه ‪ ،‬وعرضت عليه أمة أمة‪.‬‬
‫وبهذا السناد عن الحسن وقتادة في قوله ‪ { :‬إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } إني لم أخلق خلقًا إل كنتم أعلم‬
‫منه ‪ ،‬فأخبروني بأسماء هؤلء إن كنتم صادقين‪.‬‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ { :‬إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } إن كنتم تعلمون (‪ )7‬لم أجعل في الرض‬
‫خليفة‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة عن ابن مسعود ‪،‬‬
‫وعن ناس من الصحابة ‪ :‬إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الرض ويسفكون الدماء‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وأولى القوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ‪ ،‬ومعنى ذلك فقال ‪:‬‬
‫أنبئوني بأسماء من عَ َرضْتُه عليكم أيها الملئكة القائلون ‪ :‬أتجعل في الرض من يفسد فيها‬
‫ويسفك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تحميدا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فإذا رأيته عملت مثله"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه ‪ ،‬فإذا رأيت ربي عملت مثله ‪ ،‬ثم أشفع فيحد لي‬
‫حدا فأدخلهم الجنة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4476‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪ )193‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10984‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪ )193‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )11243‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)4312‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬إن كنتم عالمين"‪.‬‬

‫( ‪)1/224‬‬

‫الدماء ‪ ،‬من غيرنا أم منا ‪ ،‬فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم ‪ :‬إني إن‬
‫جعلتُ خليفتي في الرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ‪ ،‬وإن جعلتكم فيها‬
‫أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس ‪ ،‬فإذا كنتم ل تعلمون أسماء هؤلء الذين عرضت‬
‫عليكم وأنتم تشاهدونهم ‪ ،‬فأنتم بما هو غير موجود من المور الكائنة التي لم توجد أحرى أن‬
‫تكونوا غير عالمين‪.‬‬
‫حكِيمُ } هذا تقديس وتنزيه‬
‫[وقوله] (‪ { )1‬قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ ل عِ ْلمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ‬
‫من الملئكة ل تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إل بما شاء ‪ ،‬وأن يعلموا شيئا إل ما علمهم‬
‫حكِيمُ } أي ‪ :‬العليم‬
‫ال تعالى ‪ ،‬ولهذا قالوا ‪ { :‬سُبْحَا َنكَ ل عِلْمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫بكل شيء ‪ ،‬الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء ‪ ،‬لك الحكمة في ذلك‬
‫‪ ،‬والعدل التام‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا حفص بن غياث ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن أبي‬
‫مُلَ ْيكَة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬سبحان ال ‪ ،‬قال ‪ :‬تنزيه ال نفسه عن السوء‪[ .‬قال] (‪ )2‬ثم قال عمر‬
‫لعلي وأصحابه عنده ‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬قد عرفناها (‪ )3‬فما سبحان ال ؟ فقال له علي ‪ :‬كلمة أحبها‬
‫ال لنفسه ‪ ،‬ورضيها ‪ ،‬وأحب أن تقال (‪.)4‬‬
‫قال ‪ :‬وحدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن نفيل ‪ ،‬حدثنا النضر بن عربي قال ‪ :‬سأل رجل ميمون بن ِمهْرَان‬
‫عن "سبحان ال" ‪ ،‬فقال ‪ :‬اسم ُيعَظّمُ ال به ‪ ،‬ويُحَاشَى به من السوء‪.‬‬
‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ‬
‫سمَا ِئهِمْ فََلمّا أَنْبََأهُمْ بَِأ ْ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِ ْئ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫ض وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } قال زيد بن أسلم‪ .‬قال ‪ :‬أنت جبريل ‪،‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫أنت ميكائيل ‪ ،‬أنت إسرافيل ‪ ،‬حتى عدد السماء كلها ‪ ،‬حتى بلغ الغراب‪.‬‬
‫سمَا ِئهِمْ } قال ‪ :‬اسم الحمامة ‪ ،‬والغراب ‪ ،‬واسم كل‬
‫وقال مجاهد في قول ال ‪ { :‬يَا آ َدمُ أَنْبِ ْئهُمْ بَِأ ْ‬
‫شيء‪.‬‬
‫وروي عن سعيد بن جبير ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫فلما ظهر فضل آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬على الملئكة ‪ ،‬عليهم السلم ‪ ،‬في سرده ما علمه ال تعالى‬
‫ت وَالرْضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫علَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫من أسماء الشياء ‪ ،‬قال ال تعالى للملئكة ‪ { :‬أَلَمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَ ْ‬
‫وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } أي ‪ :‬ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي ‪ ،‬كما قال‬
‫خفَى } وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد‬
‫جهَرْ بِا ْلقَ ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ‬
‫[ال] (‪ )5‬تعالى ‪ { :‬وَإِنْ َت ْ‬
‫أنه قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬عرفناه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/117‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/225‬‬

‫خفُونَ َومَا‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ وَ َيعْلَمُ مَا تُ ْ‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫سجُدُوا لِلّهِ الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ‬
‫لسليمان ‪ { :‬أَل يَ ْ‬
‫ُتعْلِنُونَ * اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ }‪.‬‬
‫وقيل في [معنى] (‪ )1‬قوله تعالى ‪ { :‬وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } غيرُ ما ذكرناه ؛ فروى‬
‫ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } قال ‪ :‬يقول ‪ :‬أعلم السر كما‬
‫الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫أعلم العلنية ‪ ،‬يعني ‪ :‬ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والغترار‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪،‬‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا { َومَا كُنْتُمْ‬
‫وعن ناس من الصحابة ‪ ،‬قال ‪ :‬قولهم ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫َتكْ ُتمُونَ } يعني ‪ :‬ما أسر إبليس في نفسه من الكبر‪.‬‬
‫وكذلك قال سعيد بن جبير ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والثوري‪ .‬واختار ذلك ابن جرير‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ :‬هو قولهم ‪ :‬لم يخلق ربنا خلقا إل كنا‬
‫أعلم منه وأكرم‪.‬‬
‫ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } فكان الذي‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ { :‬وَأَعَْلمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا } وكان الذي كتموا بينهم قولهم ‪ :‬لن (‪ )2‬يخلق ربنا خلقا‬
‫أبدوا قولهم ‪ { :‬أَتَ ْ‬
‫إل كنا أعلم منه وأكرم‪ .‬فعرفوا أن ال فضل عليهم آدم في العلم ‪ ،‬والكرم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يونس ‪ ،‬حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬في قصة‬
‫الملئكة وآدم ‪ :‬فقال ال للملئكة ‪ :‬كما لم تعلموا هذه السماء فليس لكم علم ‪ ،‬إنما أردت أن‬
‫أجعلهم ليفسدوا فيها ‪ ،‬هذا عندي قد علمته ؛ ولذلك (‪ )3‬أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني‬
‫ج َمعِينَ } قال ‪ :‬ولم تعلم‬
‫جهَنّمَ مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫ومن يطيعني ‪ ،‬قال ‪ :‬وسَ َبقَ من ال { لمْلنّ َ‬
‫الملئكة ذلك ولم يدروه قال ‪ :‬ولما (‪ )4‬رأوا ما أعطى ال آدم من العلم أقروا له بالفضل (‪.)5‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وأولى القوال في ذلك قولُ ابن عباس ‪ ،‬وهو أن معنى قوله تعالى ‪ { :‬وَأَعْلَمُ مَا‬
‫تُبْدُونَ } وأعلم ‪ -‬مع علمي غيب السماوات والرض ‪ -‬ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون (‬
‫‪ )6‬في أنفسكم ‪ ،‬فل يخفى عََليّ شيء ‪ ،‬سواء عندي سرائركم ‪ ،‬وعلنيتكم‪.‬‬
‫والذي أظهروه بألسنتهم قولهم ‪ :‬أتجعل فيها من يفسد فيها ‪ ،‬والذي كانوا يكتمون ما كان عليه‬
‫منطويا إبليس من الخلف على ال في أوامره (‪ ، )7‬والتكبر عن طاعته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬لم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬فلذلك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فلما"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)1/497‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬تخفونه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬في أمره"‪.‬‬

‫( ‪)1/226‬‬

‫سجَدُوا إِلّا إِ ْبلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ (‪)34‬‬
‫سجُدُوا لِآَ َدمَ فَ َ‬
‫وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ‬

‫قال ‪ :‬وصح ذلك كما تقول العرب ‪ :‬قُتِل الجيش وهُزموا ‪ ،‬وإنما قتل الواحد أو البعض ‪ ،‬وهزم‬
‫الواحد أو البعض ‪ ،‬فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم ‪ ،‬كما قال‬
‫حجُرَاتِ } [الحجرات ‪ ] 4 :‬ذكر أن الذي نادى إنما كان‬
‫ن وَرَاءِ الْ ُ‬
‫تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ يُنَادُو َنكَ مِ ْ‬
‫ن َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ }‬
‫واحدا من بني تميم ‪ ،‬قال ‪ :‬وكذلك قوله ‪ { :‬وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬
‫سجَدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ (‪.} )34‬‬
‫سجُدُوا ل َدمَ فَ َ‬
‫{ وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ‬
‫وهذه كرامة عظيمة من ال تعالى لدم امتن بها على ذريته ‪ ،‬حيث أخبر أنه تعالى أمر الملئكة‬
‫بالسجود لدم‪ .‬وقد دل على ذلك أحاديث ‪ -‬أيضا ‪ -‬كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم ‪ ،‬وحديث‬
‫موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪َ " :‬ربّ ‪ ،‬أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه من الجنة" ‪ ،‬فلما اجتمع به قال ‪:‬‬
‫"أنت آدم الذي خلقه (‪ )1‬ال بيده ‪ ،‬ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملئكته"‪ .‬قال‪ ...‬وذكر الحديث‬
‫كما سيأتي‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيب ‪ ،‬حدثنا عثمان بن سعيد ‪ ،‬حدثنا بشْر بن عُمارة ‪ ،‬عن أبي‬
‫حيّ من أحياء الملئكة يقال لهم ‪:‬‬
‫روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان إبليس من َ‬
‫الجِنّ ‪ ،‬خلقوا من نار السموم ‪ ،‬من بين الملئكة ‪ ،‬وكان اسمه الحارث ‪ ،‬وكان خازنا من خزان‬
‫الجنة ‪ ،‬قال ‪ :‬وخلقت الملئكة كلهم من نور غير هذا الحي ‪ ،‬قال ‪ :‬وخلقت الجن الذين ذكروا في‬
‫القرآن من مارج من نار ‪[ ،‬وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال ‪ :‬وخلق النسان‬
‫من طين] (‪ .)2‬فأول من سكن الرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ‪ ،‬وقتل بعضهم بعضا‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فبعث ال إليهم إبليس في جند من الملئكة ‪ -‬وهم هذا الحي الذي يقال لهم ‪ :‬الجنّ ‪ -‬فقتلهم‬
‫إبليس ومن معه ‪ ،‬حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ‪ ،‬فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في‬
‫نفسه ‪ ،‬فقال ‪ :‬قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد‪ .‬قال ‪ :‬فاطلع ال على ذلك من قلبه ‪ ،‬ولم يطلع عليه‬
‫خلِيفَةً }‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ َ‬
‫الملئكة الذين كانوا معه ‪ ،‬فقال ال تعالى للملئكة الذين معه ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫سفِكُ ال ّدمَاءَ } كما أفسدت الجن وسفكت‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫فقالت الملئكة مجيبين له ‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫الدماء ‪ ،‬وإنما بعثتنا عليهم (‪ )3‬لذلك ؟ فقال ‪ { :‬إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ } يقول ‪ :‬إني قد اطلعت‬
‫من (‪ )4‬قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره ‪ ،‬قال ‪ :‬ثم أمر بتربة آدم فرفعت ‪،‬‬
‫فخلق ال آدم من طين لزب ‪ -‬واللزب ‪ :‬اللزج الصلب (‪ )5‬من حمإ مسنون منتن ‪ ،‬وإنما كان‬
‫حمَأ مسنونا بعد التراب‪ .‬فخلق منه آدم بيده ‪ ،‬قال ‪ :‬فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى‪ .‬فكان إبليس‬
‫َ‬
‫ن صَ ْلصَالٍ‬
‫يأتيه فيضربه برجله ‪ ،‬فيصلصل ‪ ،‬أي فيصوت‪ .‬قال ‪ :‬فهو قول ال تعالى ‪ { :‬مِ ْ‬
‫كَا ْلفَخّارِ } يقول ‪ :‬كالشيء المنفرج الذي ليس [ الرحمن ‪] 14 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬خلقك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬إليهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬على"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الطيب"‪.‬‬

‫( ‪)1/227‬‬

‫صمَت‪ .‬قال ‪ :‬ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ‪ ،‬ويدخل من (‪ )1‬دبره ‪ ،‬ويخرج من فيه‪ .‬ثم‬
‫ب ُم ْ‬
‫طتُ‬
‫طتُ عليك لهلكنك ‪ ،‬ولئن سُلّ ْ‬
‫يقول ‪ :‬لست شيئا ‪ -‬للصلصلة ‪ -‬ولشيء ما خلقت ‪ ،‬ولئن سُلّ ْ‬
‫علي لعْصيَنّك‪ .‬قال ‪ :‬فلما نفخ ال فيه من روحه ‪ ،‬أتت النفخة من قبل رأسه ‪ ،‬فجعل ل يجري‬
‫شيء منها في جسده إل صار لحمًا ودمًا ‪ ،‬فلما انتهت النفخة إلى سُرّته نظر إلى جسده فأعجبه ما‬
‫رأى من جسده ‪ ،‬فذهب لينهض فلم يقدر ‪ ،‬فهو قول ال تعالى ‪َ { :‬وكَانَ (‪ )2‬النْسَانُ عَجُول }‬
‫قال ‪ :‬ضجر ل صبر له على سراء ول ضراء‪ .‬قال ‪ :‬فلما تمت النفخة في جسده عطس ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫"الحمد ل رب العالمين" بإلهام ال‪ .‬فقال [ال] (‪ )3‬له ‪" :‬يرحمك ال يا آدم (‪ ." )4‬قال ثم قال [ال]‬
‫(‪ )5‬تعالى للملئكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملئكة الذين في السماوات ‪ :‬اسجدوا لدم‪.‬‬
‫فسجدوا كلهم أجمعون إل إبليس أبى واستكبر ‪ ،‬لما كان حدث نفسه من الكبر والغترار‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫ل أسجد له ‪ ،‬وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا ‪ ،‬خلقتني (‪ )6‬من نار وخلقته من طين‪ .‬يقول ‪:‬‬
‫إن النار أقوى من الطين‪ .‬قال ‪ :‬فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه ال ‪ ،‬أي ‪ :‬آيسه من الخير كله ‪،‬‬
‫عقُوبة لمعصيته ‪ ،‬ثم عَلّم آدم السماء كلها ‪ ،‬وهي هذه السماء التي يتعارف‬
‫وجعله شيطانا رجيما ُ‬
‫بها الناس ‪ :‬إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ‪ ،‬وأشباه ذلك من المم وغيرها‪ .‬ثم‬
‫عرض هذه السماء على أولئك الملئكة ‪ ،‬يعني ‪ :‬الملئكة الذين كانوا مع إبليس ‪ ،‬الذين خلقوا‬
‫سمَاءِ َهؤُلءِ } يقول ‪ :‬أخبروني بأسماء هؤلء { إِنْ كُنْ ُتمْ‬
‫من نار السموم ‪ ،‬وقال لهم ‪ { :‬أَنْبِئُونِي بِأَ ْ‬
‫صَا ِدقِينَ } إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الرض خليفة‪ .‬قال ‪ :‬فلما علمت الملئكة موجدة ال‬
‫عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب ‪ ،‬الذي ل يعلمه غيره ‪ ،‬الذي ليس لهم به علم قالوا ‪ :‬سبحانك‬
‫عّلمْتَنَا } تبريا منهم‬
‫‪ ،‬تنزيها ل من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ‪ ،‬وتبنا إليك { ل عِلْمَ لَنَا إِل مَا َ‬
‫سمَا ِئهِمْ } يقول ‪ :‬أخبرهم‬
‫من علم الغيب ‪ ،‬إل ما علمتنا كما علمت آدم ‪ ،‬فقال ‪ { :‬يَا آ َدمُ أَنْبِ ْئهُمْ بَِأ ْ‬
‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َل ُكمْ } أيها الملئكة خاصة‬
‫بأسمائهم { فََلمّا أَنْبَأَ ُهمْ } [يقول ‪ :‬أخبرهم] (‪ { )7‬بَِأ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ } ول يعلم غيري { وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ } يقول ‪ :‬ما تظهرون‬
‫{ إِنّي أَعَْلمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫{ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } يقول ‪ :‬أعلم السر كما أعلم العلنية ‪ ،‬يعني ‪ :‬ما كتم إبليس في نفسه من‬
‫الكبر والغترار (‪.)8‬‬
‫هذا سياق غريب ‪ ،‬وفيه أشياء فيها نظر ‪ ،‬يطول مناقشتها ‪ ،‬وهذا السناد إلى ابن عباس يروى به‬
‫تفسير مشهور‪.‬‬
‫وقال السدي في تفسيره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مُرّة ‪ ،‬عن ابن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في هـ ‪" :‬وخلق" ‪ ،‬والمثبت من باقي النسخ ‪ ،‬وهو الصواب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ ‪ ،‬و ‪:‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يرحمك يا آدم ربك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فخلقتني"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)1/455‬‬

‫( ‪)1/228‬‬

‫مسعود ‪ ،‬وعن أناس من أصحاب النبي (‪ )1‬صلى ال عليه وسلم ‪ :‬لما فرغ ال من خلق ما أحب‬
‫استوى على العرش ‪ ،‬فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا ‪ ،‬وكان من قبيلة من الملئكة يقال لهم‬
‫‪ :‬الجن ‪ ،‬وإنما سموا الجن لنهم خزان الجنة ‪ ،‬وكان إبليس مع مُلْكه خازنا ‪ ،‬فوقع في صدره كبر‬
‫وقال ‪ :‬ما أعطاني ال هذا إل لمزية لي على الملئكة‪ .‬فلما وقع ذلك الكبر في نفسه (‪ )2‬اطلع ال‬
‫خلِيفَةً } قالوا (‪ : )3‬ربنا ‪ ،‬وما يكون‬
‫علٌ فِي ال ْرضِ َ‬
‫على ذلك منه‪ .‬فقال ال للملئكة ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫ذلك الخليفة ؟ قال ‪ :‬يكون له ذرية يفسدون في الرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا‬
‫حمْ ِد َ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَا َء وَ َنحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫ربنا ‪ { ،‬أَتَ ْ‬
‫ل َتعَْلمُونَ } يعني ‪ :‬من شأن إبليس‪ .‬فبعث ال جبريل إلى الرض ليأتيه بطين منها ‪ ،‬فقالت‬
‫الرض ‪ :‬إني أعوذ بال منك أن َتقْبض (‪ )4‬مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ ‪ ،‬وقال ‪ :‬رب مني (‬
‫‪ )5‬عاذت بك فأعذتُها ‪ ،‬فبعث ميكائيل ‪ ،‬فعاذت منه فأعاذها ‪ ،‬فرجع فقال كما قال جبريل ‪ ،‬فبعث‬
‫مَلَك الموت فعاذت منه‪ .‬فقال ‪ :‬وأنا أعوذ بال أن أرجع ولم أنفذ أمره ‪ ،‬فأخذ من وجه الرض ‪،‬‬
‫وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد ‪ ،‬وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ‪ ،‬فلذلك خرج بنو آدم‬
‫مختلفين ‪ ،‬فَصعِد به فَ َبلّ التراب حتى عاد طينا لزبا ‪ -‬واللزب ‪ :‬هو الذي يلتزق بعضه ببعض‬
‫ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَ َقعُوا لَهُ‬
‫سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ‬
‫‪ -‬ثم قال للملئكة ‪ { :‬إِنّي خَالِقٌ َبشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا َ‬
‫سَاجِدِينَ } [ص ‪ ] 72 ، 71 :‬فخلقه ال بيده لئل يتكبر إبليس عنه ‪ ،‬ليقول له ‪ :‬تتكبر عما عملت‬
‫بيدي ‪ ،‬ولم أتكبر أنا عنه‪ .‬فخلقه (‪ )6‬بشرا ‪ ،‬فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم‬
‫الجمعة ‪ ،‬فمرت به الملئكة ففزعوا منه لما رأوه ‪ ،‬وكان أشدهم فزعا منه (‪ )7‬إبليس ‪ ،‬فكان يمر‬
‫به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة‪ .‬فذلك حين يقول ‪ { :‬مِنْ‬
‫صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ } [ الرحمن ‪ ] 14 :‬ويقول ‪ :‬لمر ما خُلقت‪ .‬ودخل من فيه فخرج من دبره ‪،‬‬
‫صمَدٌ وهذا أجوف‪ .‬لئن سلطت عليه لهلكنه ‪ ،‬فلما‬
‫وقال للملئكة ‪ :‬ل ترهبوا من هذا ‪ ،‬فإن ربكم َ‬
‫بلغ الحين الذي يريد ال عز وجل أن ينفخ فيه الروح ‪ ،‬قال للملئكة ‪ :‬إذا نفخت فيه من روحي‬
‫طسَ ‪ ،‬فقالت الملئكة ‪ :‬قل ‪ :‬الحمد‬
‫فاسجدوا له ‪ ،‬فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه ‪ ،‬عَ ِ‬
‫ل‪ .‬فقال ‪ :‬الحمد ل ‪ ،‬فقال له ال ‪ :‬رحمك ربك ‪ ،‬فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار‬
‫الجنة‪ .‬فلما دخل الروح في (‪ )8‬جوفه اشتهى الطعام ‪ ،‬فوثب قبل أن تبلغ (‪ )9‬الروح رجليه‬
‫جلٍ } [النبياء ‪37 :‬‬
‫عَ‬‫عجلن (‪ )10‬إلى ثمار الجنة ‪ ،‬فذلك حين يقول تعالى ‪ { :‬خُِلقَ النْسَانُ مِنْ َ‬
‫ج َمعُونَ * إِل إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ َيكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ } [الحجر ‪] 31 ، 30 :‬‬
‫جدَ ا ْلمَل ِئكَةُ كُّلهُمْ أَ ْ‬
‫]{ فَسَ َ‬
‫أبى واستكبر وكان من الكافرين‪ .‬قال ال له ‪ :‬ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال‬
‫‪ :‬أنا خير منه ‪ ،‬لم أكن لسجد لمن (‪ )11‬خلقته من طين‪ .‬قال ال له ‪ :‬اخرج منها فما يكون لك ‪،‬‬
‫يعني ‪ :‬ما ينبغي لك { أَنْ تَ َتكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِ ّنكَ مِنَ الصّاغِرِينَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬في صدره"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬فقالوا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬تنقص"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬رب إنها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بخلقه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬ط ‪" :‬أشدهم منه فزعا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬إلى"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬أن يدخل"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬عجل"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬لبشر"‪.‬‬

‫( ‪)1/229‬‬

‫سمَاءَ كُّلهَا } ثم عرض الخلق على‬


‫[العراف ‪ ]13 :‬والصغار ‪ :‬هو الذل‪ .‬قال ‪ { :‬وَعَلّمَ آدَمَ ال ْ‬
‫سمَاءِ َهؤُلءِ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } أن بني آدم يفسدون في الرض‬
‫الملئكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بَِأ ْ‬
‫حكِيمُ } قال ال ‪:‬‬
‫ويسفكون الدماء ‪ ،‬فقالوا (‪ { )1‬سُبْحَا َنكَ ل عِلْمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ‬
‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعَْلمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫سمَا ِئهِمْ فََلمّا أَنْبَأَ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫{ يَا آ َدمُ أَنْبِ ْئهُمْ بَِأ ْ‬
‫سدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫وَأَعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } قال ‪ :‬قولهم ‪ { :‬أَ َت ْ‬
‫"وأعلم ما تكتمون" يعني ‪ :‬ما أسر إبليس في نفسه من الكبر‪.‬‬
‫فهذا السناد إلى هؤلء الصحابة مشهور في تفسير السّدّي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ‪ ،‬فلعل‬
‫بعضها ُمدْرَج (‪ )2‬ليس من كلم الصحابة ‪ ،‬أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫والحاكم يروي في مستدركه بهذا السناد بعينه أشياء ‪ ،‬ويقول ‪[ :‬هو] (‪ )3‬على شرط البخاري‪.‬‬
‫والغرض أن ال تعالى لما أمر الملئكة بالسجود لدم دخل إبليس في خطابهم ؛ لنه ‪ -‬وإن لم‬
‫يكن من عُنْصرهم ‪ -‬إل أنه كان قد (‪ )4‬تشَبّه بهم وتوسم بأفعالهم ؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم ‪،‬‬
‫وذم في مخالفة المر‪ .‬وسنبسط المسألة إن ‪ -‬شاء ال تعالى ‪ -‬عند قوله ‪ { :‬إِل إِ ْبلِيسَ كَانَ مِنَ‬
‫سقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ } [ الكهف ‪.] 50 :‬‬
‫الْجِنّ فَفَ َ‬
‫ولهذا قال ‪ :‬محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن خلد ‪ ،‬عن (‪ )5‬عطاء ‪ ،‬عن طاوس ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪:‬‬
‫كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملئكة اسمه عزازيل (‪ ، )6‬وكان من سكان الرض ‪،‬‬
‫وكان من أشد الملئكة اجتهادا ‪ ،‬وأكثرهم علما ؛ فذلك دعاه إلى الكبر ‪ ،‬وكان من حي يسمون‬
‫جِنّا‪.‬‬
‫وفي رواية عن خلد ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن طاوس ‪ -‬أو مجاهد ‪ -‬عن ابن عباس ‪ ،‬أو غيره ‪،‬‬
‫بنحوه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا سعيد (‪ )7‬بن سليمان ‪ ،‬حدثنا عباد ‪ -‬يعني ‪ :‬ابن العوام ‪-‬‬
‫عن سفيان بن حسين ‪ ،‬عن يعلى بن مسلم ‪ ،‬عن سعيد بن جُبَير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان إبليس‬
‫اسمه عزازيل (‪ ، )8‬وكان من أشراف الملئكة من ذوي الجنحة الربعة ‪ ،‬ثم أبلس بعد‪.‬‬
‫وقال سُنَيْد (‪ ، )9‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬كان (‪ )10‬إبليس من‬
‫أشراف (‪ )11‬الملئكة وأكرمهم قبيلة ‪ ،‬وكان خازنا على الجنان ‪ ،‬وكان له سلطان سماء الدنيا ‪،‬‬
‫وكان له سلطان الرض‪.‬‬
‫وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس ‪ ،‬سواء‪.‬‬
‫وقال صالح مولى ال ّتوْأمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إن من الملئكة قَبيل يقال لهم ‪ :‬الجن ‪ ،‬وكان إبليس‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فقالوا له"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب ‪" :‬مدرجا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬قد كان"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬خلد بن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬عزرائيل"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ب ‪" :‬سعد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬عزرائيل"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬سعيد"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬وكان"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬من أشرف"‪.‬‬

‫( ‪)1/230‬‬

‫منهم ‪ ،‬وكان يسوس ما بين السماء والرض ‪ ،‬فعصى ‪ ،‬فمسخه ال شيطانا رجيما‪ .‬رواه ابن‬
‫جرير‪.‬‬
‫وقال قتادة عن سعيد بن المسيب ‪ :‬كان إبليس رئيس ملئكة سماء الدنيا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا عدي بن أبي عدي ‪ ،‬عن عوف ‪ ،‬عن الحسن ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ما كان إبليس من الملئكة طرفة عين قَط ‪ ،‬وإنه لصل الجن ‪ ،‬كما أن آدم أصل النس‪.‬‬
‫وهذا إسناد صحيح عن الحسن‪ .‬وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء‪.‬‬
‫حوْشَب ‪ :‬كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملئكة ‪ ،‬فأسره بعض الملئكة‬
‫شهْر بن َ‬
‫وقال َ‬
‫فذهب به إلى السماء ‪ ،‬رواه ابن جرير‪.‬‬
‫وقال سُنَيْد بن داود ‪ :‬حدثنا ُهشَيم ‪ ،‬أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى ‪ ،‬عن موسى بن نمير وعثمان بن‬
‫سعيد بن كامل ‪ ،‬عن سعد (‪ )1‬بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬كانت الملئكة تقاتل الجن ‪ ،‬فسبي إبليس وكان‬
‫صغيرا ‪ ،‬فكان مع الملئكة ‪ ،‬فتعبد معها ‪ ،‬فلما أمروا بالسجود لدم سجدوا ‪ ،‬فأبى إبليس‪ .‬فلذلك‬
‫قال تعالى ‪ { :‬إِل إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ } [الكهف ‪.] 50 :‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن سنان القزاز ‪ ،‬حدثنا أبو عاصم ‪ ،‬عن شريك ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن‬
‫عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬إن ال خلق خلقا ‪ ،‬فقال ‪ :‬اسجدوا لدم‪ .‬فقالوا ‪ :‬ل نفعل‪ .‬فبعث‬
‫ال عليهم نارا فأحرقتهم ‪ ،‬ثم خلق خلقا آخر ‪ ،‬فقال ‪" :‬إني خالق بشرا من طين ‪ ،‬اسجدوا لدم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فأبوا‪ .‬فبعث ال عليهم نارا فأحرقتهم‪ .‬ثم خلق هؤلء ‪ ،‬فقال ‪ :‬اسجدوا لدم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لدم (‪ .)2‬وهذا غريب ‪ ،‬ول يكاد يصح إسناده ‪ ،‬فإن‬
‫فيه رجل مبهما ‪ ،‬ومثله ل يحتج به ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سجُدُوا لدَمَ } فكانت الطاعة ل ‪ ،‬والسجدة أكر ال آدم‬
‫وقال قتادة في قوله ‪ { :‬وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ‬
‫بها أن أسجد له ملئكته‪.‬‬
‫وقال في قوله تعالى ‪َ { :‬فسَجَدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَرَ َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } حسد عدو ال إبليسُ‬
‫آدمَ ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬على ما أعطاه ال من الكرامة ‪ ،‬وقال ‪ :‬أنا ناريّ وهذا طينيّ ‪ ،‬وكان بدء‬
‫الذنوب الكبر ‪ ،‬استكبر عدوّ ال أن يسجد لدم ‪ ،‬عليه السلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬حدثنا صالح بن حيان ‪ ،‬حدثنا‬
‫عبد ال بن بُرَيدة ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } من الذين أبوا ‪ ،‬فأحرقتهم النار‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر ‪ ،‬عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية ‪َ { :‬وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } يعني ‪ :‬من العاصين‪.‬‬
‫وقال السدي ‪َ { :‬وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } الذين لم يخلقهم ال يومئذ يكونون بعد‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ "سعيد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)1/508‬‬

‫( ‪)1/231‬‬

‫ظيّ ‪ :‬ابتدأ ال خلق إبليس على الكفر والضللة ‪ ،‬وعمل بعمل الملئكة ‪،‬‬
‫وقال محمد بن كعب القُرَ ِ‬
‫فصيره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر ‪ ،‬قال ال تعالى ‪َ { :‬وكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫علَى‬
‫وقال بعض الناس ‪ :‬كان هذا سجود تحية وسلم وإكرام ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ َ‬
‫حقّا } [ يوسف ‪:‬‬
‫جعََلهَا رَبّي َ‬
‫سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ‬
‫ش وَخَرّوا َلهُ ُ‬
‫ا ْلعَرْ ِ‬
‫‪ ]100‬وقد كان هذا مشروعا في المم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا ‪ ،‬قال معاذ (‪ : )1‬قدمت الشام‬
‫فرأيتهم يسجدون لساقفتهم وعلمائهم ‪ ،‬فأنت يا رسول ال أحق أن يسجد لك ‪ ،‬فقال ‪" :‬ل لو كنت‬
‫آمرا بشرا أن يسجد لبشر لمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" (‪ )2‬ورجحه‬
‫شمْسِ‬
‫الرازي ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬بل كانت السجدة ل وآدم قبلة فيها كما قال ‪َ { :‬أ ِقمِ الصّلةَ لِدُلُوكِ ال ّ‬
‫} [السراء ‪ ] 78 :‬وفي هذا التنظير نظر ‪ ،‬والظهر أن القول الول أولى ‪ ،‬والسجدة لدم إكرامًا‬
‫وإعظامًا واحترامًا وسلمًا ‪ ،‬وهي طاعة ل ‪ ،‬عز وجل ؛ لنها امتثال لمره تعالى ‪ ،‬وقد قواه‬
‫الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الخرين وهما كونه جعل قبلة إذ ل يظهر فيه‬
‫شرف ‪ ،‬والخر ‪ :‬أن المراد بالسجود الخضوع ل النحناء ووضع الجبهة على الرض وهو‬
‫ضعيف كما قال‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد ثبت في الصحيح ‪" :‬ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر" (‪)3‬‬
‫وقد كان في قلب إبليس من الكبر ‪ -‬والكفر ‪ -‬والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة‬
‫وحضرة القدس ؛ قال بعض المعربين ‪ :‬وكان من الكافرين أي ‪ :‬وصار من الكافرين بسبب‬
‫امتناعه ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬فكَانَ مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ } [ هود ‪ ]43 :‬وقال { فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ } [ البقرة ‪:‬‬
‫‪ ] 35‬وقال الشاعر ‪:‬‬
‫بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها‪...‬‬
‫أي ‪ :‬قد صارت ‪ ،‬وقال ابن فورك ‪ :‬تقديره ‪ :‬وقد كان في علم ال من الكافرين ‪ ،‬ورجحه‬
‫القرطبي ‪ ،‬وذكر هاهنا مسألة فقال ‪ :‬قال علماؤنا من أظهر ال على يديه ممن ليس بنبي كرامات‬
‫وخوارق للعادات فليس ذلك دال على وليته ‪ ،‬خلفا لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه‪ .‬ثم‬
‫استدل على ما قال ‪ :‬بأنا ل نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي ال باليمان ‪ ،‬وهو‬
‫ل يقطع لنفسه بذلك ‪ ،‬يعني والولي الذي يقطع له بذلك في نفس المر‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي ‪ ،‬بل قد يكون على يد‬
‫الفاجر والكافر ‪ ،‬أيضا ‪ ،‬بما ثبت عن ابن صياد أنه قال ‪ :‬هو الدخ حين خبأ له رسول ال صلى‬
‫سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ } [الدخان ‪ ، ] 10 :‬وبما كان‬
‫ال تعالى عليه وسلم ‪ { :‬فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ‬
‫يصدر عنه أنه كان يمل الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد ال بن عمر ‪ ،‬وبما ثبتت به‬
‫الحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر‬
‫فتمطر ‪ ،‬والرض أن تنبت فتنبت ‪ ،‬وتتبعه كنوز الرض‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬معاوية"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد في المسند (‪.)5/227‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ )91‬من حديث عبد ال بن مسعود رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/232‬‬

‫جكَ ا ْلجَنّ َة َوكُلَا مِ ْنهَا رَغَدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَا َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ‬
‫سكُنْ أَ ْنتَ وَ َزوْ ُ‬
‫َوقُلْنَا يَا َآدَمُ ا ْ‬
‫الظّاِلمِينَ (‪)35‬‬
‫مثل اليعاسيب ‪ ،‬وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من المور المهولة‪ .‬وقد قال يونس‬
‫بن عبد العلى الصدفي ‪ :‬قلت للشافعي ‪ :‬كان الليث بن سعد يقول ‪ :‬إذا رأيتم الرجل يمشي على‬
‫الماء ويطير في الهواء فل تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ‪ ،‬فقال الشافعي ‪:‬‬
‫قصر الليث ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فل تغتروا به‬
‫حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ‪ ،‬وقد حكى فخر الدين وغيره قولين للعلماء ‪ :‬هل المأمور‬
‫بالسجود لدم خاص بملئكة الرض ‪ ،‬أو عام بملئكة السماوات والرض ‪ ،‬وقد رجح كل من‬
‫ج َمعُونَ * إِل إِبْلِيسَ }‬
‫جدَ ا ْلمَل ِئكَةُ كُّلهُمْ أَ ْ‬
‫القولين طائفة ‪ ،‬وظاهر الية الكريمة العموم ‪ { :‬فَسَ َ‬
‫[ الحجر ‪ ، 31 ، 30 :‬ص ‪ ، ] 74 ، 73 :‬فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫غدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَل َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا‬
‫جكَ ا ْلجَنّ َة َوكُل مِ ْنهَا رَ َ‬
‫ت وَ َزوْ ُ‬
‫سكُنْ أَ ْن َ‬
‫{ َوقُلْنَا يَا آ َدمُ ا ْ‬
‫مِنَ الظّاِلمِينَ (‪} )35‬‬
‫يقول ال تعالى إخبارا عما أكرم به آدم ‪ :‬بعد أن أمر الملئكة (‪ )1‬بالسجود له ‪ ،‬فسجدوا إل‬
‫إبليس ‪ :‬إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ‪ ،‬ويأكل منها ما شاء (‪ )2‬رَغَدًا ‪ ،‬أي ‪ :‬هنيئًا‬
‫واسعًا طيبًا‪.‬‬
‫وروى الحافظ أبو بكر بن مَ ْر ُدوَيه ‪ ،‬من حديث محمد بن عيسى الدامغاني ‪ ،‬حدثنا سلمة بن‬
‫الفضل ‪ ،‬عن ميكائيل ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن إبراهيم التيمي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي ذر ‪ :‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا‬
‫سكُنْ أَ ْنتَ‬
‫رسول ال ؛ أريت آدم ‪ ،‬أنبيّا كان ؟ قال ‪" :‬نعم ‪ ،‬نبيا رسول كلمه ال قِبَل فقال ‪ { :‬ا ْ‬
‫جكَ الْجَنّةَ } " (‪.)3‬‬
‫وَ َزوْ ُ‬
‫وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم ‪ ،‬أهي في السماء أم في الرض ؟ والكثرون على الول‬
‫[وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الرض] (‪ ، )4‬وسيأتي تقرير ذلك في‬
‫سورة العراف ‪ ،‬إن شاء ال تعالى ‪ ،‬وسياق الية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم (‪)5‬‬
‫الجنة ‪ ،‬وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق ‪ ،‬حيث قال ‪ :‬لما فرغ ال من معاتبة إبليس ‪ ،‬أقبل على‬
‫حكِيمُ‬
‫سمَا ِئهِمْ } إلى قوله ‪ { :‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫آدم وقد عَلّمه السماء كلها ‪ ،‬فقال ‪ { :‬يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ‬
‫} (‪ )6‬قال ‪ :‬ثم ألقيت السّ َنةُ على آدم ‪ -‬فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من‬
‫أهل العلم ‪ ،‬عن ابن عباس وغيره ‪ -‬ثم أخذ ضِلعًا من أضلعه من شِقه اليسر ‪ ،‬ولم مكانه لحما‬
‫‪ ،‬وآدم نائم لم يهب من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أمر ملئكته"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ما يشاء"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (‪ )1/10‬من طريق أبي عمر الشامي ‪ ،‬عن عبيد‬
‫الخشخاش ‪ ،‬عن أبي ذر بنحوه ‪ ،‬ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (‪ )1016‬من طريق جعفر بن‬
‫الزبير ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن أبي أمامة ‪ ،‬عن أبي ذر بنحوه ‪ ،‬ورواه أحمد في المسند(‪ )5/265‬من‬
‫طريق علي بن يزيد ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن أبي أمامة مرفوعا بنحوه‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪ ،‬و ‪" :‬آدم إلى"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وما كنتم تكتمون"‪.‬‬

‫( ‪)1/233‬‬

‫شفَ عنه‬
‫نومه ‪ ،‬حتى خلق ال من ضلعه تلك زوجته حواء ‪ ،‬فسواها امرأة ليسكن إليها‪ .‬فلما كُ ِ‬
‫السّنَة وهبّ من نومه ‪ ،‬رآها إلى جنبه ‪ ،‬فقال ‪ -‬فيما يزعمون وال أعلم ‪ : -‬لحمي ودمي‬
‫سكُنْ‬
‫وروحي (‪ .)1‬فسكن إليها‪ .‬فلما زوّجَه ال ‪ ،‬وجعل له سكنا من نفسه ‪ ،‬قال له قِبَل { يَا آدَمُ ا ْ‬
‫جكَ الْجَنّةَ َوكُل مِ ْنهَا رَغَدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ }‬
‫أَ ْنتَ وَزَوْ ُ‬
‫ويقال ‪ :‬إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة ‪ ،‬كما قال السدي في تفسيره (‪ ، )2‬ذكره عن أبي‬
‫مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وعن مرة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة‬
‫‪ :‬أخرج إبليس من الجنة ‪ ،‬وأسكن آدم الجنة ‪ ،‬فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليه ‪،‬‬
‫فنام نومة فاستيقظ ‪ ،‬وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها ال من ضلعه ‪ ،‬فسألها ‪ :‬ما أنت ؟ قالت ‪:‬‬
‫امرأة‪ .‬قال ‪ :‬ولم خلقت ؟ قالت ‪ :‬لتسكن إلي‪ .‬قالت له الملئكة ‪ -‬ينظرون ما بلغ من علمه ‪: -‬‬
‫ما اسمها يا آدم ؟ قال ‪ :‬حواء‪ .‬قالوا ‪ :‬ولم سميت حواء ؟ قال ‪ :‬إنها خلقت من شيء حي‪ .‬قال ال‬
‫جكَ ا ْلجَنّ َة َوكُل مِ ْنهَا رَغَدًا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا }‬
‫ت وَ َزوْ ُ‬
‫سكُنْ أَ ْن َ‬
‫‪ { :‬يَا آ َدمُ ا ْ‬
‫وأما قوله ‪ { :‬وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ } فهو اختبار من ال تعالى وامتحان لدم‪ .‬وقد اختلف في هذه‬
‫الشجرة ‪ :‬ما هي ؟‬
‫فقال السدي ‪ ،‬عمن حدثه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬الشجرة التي نهي عنها آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬هي‬
‫جعْدة بن هُبَيرة ‪ ،‬ومحمد بن قيس‪.‬‬
‫الكَرْم‪ .‬وكذا قال سعيد بن جبير ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬و َ‬
‫وقال السدي ‪ -‬أيضا ‪ -‬في خبر ذكره ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن‬
‫مرة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس من الصحابة ‪ { :‬وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ } هي الكرم‪ .‬وتزعم‬
‫يهود أنها الحنطة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير وابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الحمسي ‪ ،‬حدثنا أبو يحيى‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬الشجرة التي‬
‫حمّاني ‪ ،‬حدثنا النضر أبو عمر الخراز ‪ ،‬عن ِ‬
‫ال ِ‬
‫ُنهِي عنها آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬هي السنبلة‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك ‪ ،‬عن الحسن بن عمارة ‪ ،‬عن المنهال بن‬
‫عمرو ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬هي السنبلة‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن رجل من أهل العلم ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬هي البر‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وحدثني المثنى بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثني‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وزوجتي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في خبر"‪.‬‬

‫( ‪)1/234‬‬

‫ع ُدوّ وََلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ‬


‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫ج ُهمَا ِممّا كَانَا فِي ِه َوقُلْنَا اهْبِطُوا َب ْع ُ‬
‫فَأَزَّل ُهمَا الشّ ْيطَانُ عَ ْنهَا فَأَخْ َر َ‬
‫مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (‪)36‬‬

‫رجل من بني تميم ‪ ،‬أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ‪،‬‬
‫والشجرة التي تاب عندها آدم‪ .‬فكتب إليه أبو الجلد ‪ :‬سألتني عن الشجرة التي ُنهِي عنها آدم ‪،‬‬
‫عليه السلم ‪ ،‬وهي السنبلة ‪ ،‬وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة (‪.)1‬‬
‫وكذلك فسره الحسن البصري ‪ ،‬ووهب بن مُنَبّه ‪ ،‬وعطية العَوفي ‪ ،‬وأبو مالك ‪ ،‬ومحارب (‪ )2‬بن‬
‫دِثَار ‪ ،‬وعبد الرحمن بن أبي ليلى‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن بعض أهل اليمن ‪ ،‬عن وهب بن منبه ‪ :‬أنه كان يقول ‪ :‬هي البُر ‪،‬‬
‫ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر ‪ ،‬ألين من الزبد وأحلى من العسل‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن حصين ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ { :‬وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ } قال ‪ :‬النخلة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬وَل َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ } قال ‪ :‬تينة‪ .‬وبه قال قتادة وابن جريج‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ :‬كانت الشجرة من أكل منها‬
‫أحدث ‪ ،‬ول ينبغي أن يكون في الجنة حَ َدثٌ ‪ ،‬وقال عبد الرزاق ‪ :‬حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن‬
‫ُمهْرِب (‪ )3‬قال ‪ :‬سمعت وهب بن منبه يقول ‪ :‬لما أسكن ال آدم وزوجته الجنة ‪ ،‬ونهاه عن أكل‬
‫الشجرة ‪ ،‬وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من (‪ )4‬بعض ‪ ،‬وكان لها ثمر تأكله الملئكة‬
‫لخلدهم ‪ ،‬وهي الثمرة التي نهى ال عنها آدم وزوجته‪.‬‬
‫فهذه أقوال ستة في تفسير (‪ )5‬هذه الشجرة‪.‬‬
‫قال المام العلمة أبو جعفر بن جرير ‪ ،‬رحمه ال (‪ : )6‬والصواب في ذلك أن يقال ‪ :‬إن ال جل‬
‫ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة ‪ ،‬دون سائر أشجارها (‪ ، )7‬فأكل‬
‫منها ‪ ،‬ول علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ؟ لن ال لم يضع لعباده دليل على ذلك في‬
‫القرآن ول من السنة الصحيحة‪ .‬وقد قيل ‪ :‬كانت شجرة البر‪ .‬وقيل ‪ :‬كانت شجرة العنب ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫كانت شجرة التين‪ .‬وجائز أن تكون واحدة منها ‪ ،‬وذلك عِلْمٌ ‪ ،‬إذا علم ينفع العالمَ به علمُه ‪ ،‬وإن‬
‫جهله جاهلٌ لم يضرّه جهله به ‪ ،‬وال أعلم‪[ .‬وكذلك رجح المام فخر الدين الرازي في تفسيره‬
‫وغيره ‪ ،‬وهو الصواب] (‪.)8‬‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي‬
‫ج ُهمَا ِممّا كَانَا فِي ِه َوقُلْنَا اهْ ِبطُوا َب ْع ُ‬
‫{ فَأَزَّل ُهمَا الشّيْطَانُ عَ ْنهَا فََأخْرَ َ‬
‫ال ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ ِإلَى حِينٍ (‪} )36‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَأَزَّل ُهمَا الشّ ْيطَانُ عَ ْنهَا } يصح أن يكون الضمير في قوله ‪ { :‬عَ ْنهَا } عائدا إلى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)1/517‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬مجاهد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬مهدي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تعيين"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)521 ، 1/520‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬سائر الشجار"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/235‬‬

‫الجنة ‪ ،‬فيكون معنى الكلم كما قال (‪[ )1‬حمزة و] (‪ )2‬عاصم بن َبهْدلَة ‪ ،‬وهو ابن أبي النّجُود ‪،‬‬
‫فأزالهما ‪ ،‬أي ‪ :‬فنجّاهما‪ .‬ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين ‪ ،‬وهو الشجرة ‪ ،‬فيكون‬
‫معنى الكلم كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي ‪ :‬من قبيل (‪ )3‬الزلل ‪ ،‬فعلى هذا يكون تقدير‬
‫الكلم { فَأَزَّل ُهمَا الشّ ْيطَانُ عَ ْنهَا } أي ‪ :‬بسببها ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ُ { :‬ي ْؤ َفكُ عَ ْنهُ مَنْ ُأ ِفكَ } [الذاريات‬
‫ج ُهمَا ِممّا كَانَا فِيهِ } أي ‪:‬‬
‫‪ ] 9 :‬أي ‪ :‬يصرف بسببه من هو مأفوك ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬فََأخْرَ َ‬
‫من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة‪.‬‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي ال ْرضِ ُمسْ َتقَرّ َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي ‪ :‬قرار وأرزاق‬
‫{ َوقُلْنَا اهْ ِبطُوا َب ْع ُ‬
‫وآجال { إِلَى حِينٍ } أي ‪ :‬إلى وقت مؤقت ومقدار معين ‪ ،‬ثم تقوم القيامة‪.‬‬
‫وقد ذكر المفسرون من السلف كالسّدّي بأسانيده ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬ووهب بن مُنَبّه وغيرهم ‪ ،‬هاهنا‬
‫أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيّة ‪ ،‬وإبليس ‪ ،‬وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ‪،‬‬
‫وسنبسط ذلك إن شاء ال ‪ ،‬في سورة العراف ‪ ،‬فهناك القصة أبسط منها هاهنا ‪ ،‬وال الموفق‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا ‪ :‬حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ‪ ،‬حدثنا علي بن عاصم ‪ ،‬عن‬
‫سعيد بن أبي عَرُوبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫سحُوق ‪ ،‬فلما ذاق‬
‫طوَال كثير شعر الرأس ‪ ،‬كأنه نخلة َ‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال خلق آدم رجل ُ‬
‫الشجرة سقط عنه لباسه ‪ ،‬فأول ما بدا منه عورته ‪ ،‬فلما نظر إلى عورته جعل َيشْتَد (‪ )4‬في‬
‫شعْرَه شجرةٌ ‪ ،‬فنازعها ‪ ،‬فناداه الرحمن ‪ :‬يا آدم ‪ ،‬مني َتفِرّ! فلما سمع كلم‬
‫الجنة ‪ ،‬فأخذت َ‬
‫الرحمن قال ‪ :‬يا رب ‪ ،‬ل ولكن استحياء" (‪.)5‬‬
‫قال ‪ :‬وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي (‪ )6‬سنة أربع وخمسين ومائتين ‪ ،‬حدثنا سليم (‬
‫‪ )7‬بن منصور بن عمار ‪ ،‬حدثنا علي بن عاصم ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لما ذاق آدم من الشجرة فَرّ هاربا ؛ فتعلقت شجرة‬
‫بشعره ‪ ،‬فنودي ‪ :‬يا آدم ‪ ،‬أفِرارًا مني ؟ قال ‪ :‬بل حَيَاء منك ‪ ،‬قال ‪ :‬يا آدم اخرج من جواري ؛‬
‫فبعزتي ل يساكنني فيها من عصاني ‪ ،‬ولو خلقت مِثْلَك ملء الرض خَ ْلقًا ثم عصوني لسكنتهم‬
‫دار العاصين" (‪.)8‬‬
‫هذا حديث غريب ‪ ،‬وفيه انقطاع ‪ ،‬بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب ‪ ،‬رضي ال عنهما (‪.)9‬‬
‫وقال الحاكم ‪ :‬حدثنا أبو بكر بن بَالُويه (‪ ، )10‬عن محمد بن أحمد بن النضر ‪ ،‬عن معاوية بن‬
‫عمّار بن معاوية البَجَلي ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫عمرو ‪ ،‬عن زائدة ‪ ،‬عن َ‬
‫ما أسكن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬كما قرأ"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬من قبل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يستدير"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/129‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬القرشي"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في هـ ‪" :‬سليمان"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/130‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬عنه"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬مالويه"‪.‬‬

‫( ‪)1/236‬‬

‫آدم الجنة إل ما بين صلة العصر إلى غروب الشمس‪ .‬ثم قال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ‪،‬‬
‫ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وقال عبد بن حميد في تفسيره ‪ :‬حدثنا رَوح ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬لبث آدم في الجنة‬
‫ساعة من نهار ‪ ،‬تلك الساعة ثلثون ومائة سنة من أيام الدنيا‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬قال ‪ :‬خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو‬
‫العاشرة ‪ ،‬فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة ‪ ،‬على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الكليل‬
‫من ورق الجنة‪.‬‬
‫جمِيعًا } فهبطوا فنزل آدم بالهند ‪ ،‬ونزل معه الحجر‬
‫وقال السدي ‪ :‬قال ال تعالى ‪ { :‬اهْبِطُوا مِ ْنهَا َ‬
‫السود ‪ ،‬وقبضة (‪ )1‬من ورق الجنة فبثه بالهند ‪ ،‬فنبتت شجرة الطيب ‪ ،‬فإنما أصل ما يجاء به‬
‫من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم ‪ ،‬وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين‬
‫أخرج منها (‪.)2‬‬
‫وقال عمران بن عيينة ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫أهبط آدم من الجنة ِبدَحْنا ‪ ،‬أرض الهند‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن عطاء ‪،‬‬
‫عن سعيد عن ابن عباس قال ‪ :‬أهبط آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬إلى أرض يقال لها ‪َ :‬دحْنا ‪ ،‬بين مكة‬
‫والطائف‪.‬‬
‫وعن الحسن البصري قال ‪ :‬أهبط آدم بالهند ‪ ،‬وحواء بجدة ‪ ،‬وإبليس بدَسْ ُتمِيسان (‪ )3‬من البصرة‬
‫على أميال ‪ ،‬وأهبطت الحية بأصبهان‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ‪ ،‬حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ‪ ،‬حدثنا‬
‫عمرو بن أبي قيس ‪ ،‬عن ابن عدي (‪ ، )4‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬أهبط آدم بالصفا ‪ ،‬وحواء‬
‫بالمروة‬
‫وقال رجاء بن سلمة ‪ :‬أهبط آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه ‪ ،‬وأهبط إبليس‬
‫مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء‪.‬‬
‫عوْف عن قَسَامة بن زهير ‪ ،‬عن أبي موسى ‪ ،‬قال ‪ :‬إن‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬قال َم ْعمَر ‪ :‬أخبرني َ‬
‫ال حين أهبط آدم من الجنة إلى الرض ‪ ،‬عَلّمه صنعة كل شيء ‪ ،‬وزوده من ثمار الجنة ‪،‬‬
‫فثماركم هذه من ثمار الجنة ‪ ،‬غير أن هذه تتغير وتلك ل تتغير (‪.)5‬‬
‫وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز العرج ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فأنزل معه بالحجر السود ويقبضه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة حين أخرج‬
‫منها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬بدسمت ميسان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عمرو بن أبي قيس عن الزبير عن ابن عدي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/66‬‬
‫( ‪)1/237‬‬

‫فَتََلقّى َآدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَ ْيهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‪)37‬‬

‫"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ‪ ،‬فيه خلق آدم ‪ ،‬وفيه أدخل الجنة ‪ ،‬وفيه أخرج منها"‬
‫رواه مسلم والنسائي (‪.)1‬‬
‫وقال فخر الدين ‪ :‬اعلم أن في هذه اليات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه ‪ :‬الول ‪ :‬أن‬
‫من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من‬
‫المعاصي ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫يا ناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للمر غير مشاهد‪...‬‬
‫تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي‪ ...‬درج الجنان ونيل فوز العابد‪...‬‬
‫أنسيت ربك حين أخرج آدما‪ ...‬منها إلى الدنيا بذنب واحد‪...‬‬
‫قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال ‪ :‬كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ‪ ،‬فليس‬
‫لنا إل الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها‪ .‬فإن قيل ‪ :‬فإذا كانت جنة آدم التي‬
‫أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ‪ ،‬فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة ‪ ،‬وقد طرد‬
‫من هنالك طردًا قدريّا ‪ ،‬والقدري ل يخالف ول يمانع ؟ فالجواب ‪ :‬أن هذا بعينه استدل به من‬
‫يقول ‪ :‬إن الجنة التي كان فيها آدم في الرض ل في السماء ‪ ،‬وقد بسطنا هذا في أول كتابنا‬
‫البداية والنهاية ‪ ،‬وأجاب الجمهور بأجوبة ‪ ،‬أحدها ‪ :‬أنه منع من دخول الجنة مكرما ‪ ،‬فأما على‬
‫وجه الردع والهانة ‪ ،‬فل يمتنع ؛ ولهذا قال بعضهم ‪ :‬كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية‬
‫إلى الجنة ‪ ،‬وقد قال بعضهم ‪ :‬يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة ‪ ،‬وقال بعضهم ‪:‬‬
‫يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الرض ‪ ،‬وهما في السماء ‪ ،‬ذكرها الزمخشري وغيره‪ .‬وقد‬
‫أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ‪ ،‬فأجاد وأفاد (‪.)2‬‬
‫{ فَتََلقّى آ َدمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‪} )37‬‬
‫حمْنَا‬
‫قيل ‪ :‬إن هذه (‪ )3‬الكلمات مفسرة بقوله تعالى ‪ { :‬قَال رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ‬
‫لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ العراف ‪ ] 23 :‬روي هذا عن مجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وأبي العالية‬
‫‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬ومحمد بن كعب القُرَظي ‪ ،‬وخالد بن َمعْدان ‪ ،‬وعطاء‬
‫الخراساني ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬وقال أبو إسحاق السّبِيعي ‪ ،‬عن رجل من بني‬
‫تميم ‪ ،‬قال ‪ :‬أتيت ابن عباس ‪ ،‬فسألته ‪[ :‬قلت] (‪ : )4‬ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال ‪:‬‬
‫عُلم [آدم] (‪ )5‬شَأنَ الحج‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪ )854‬وسنن النسائي (‪.)3/89‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي (‪.)317 - 1/313‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬هؤلء‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من طـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/238‬‬

‫عمَير ‪ ،‬وفي‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن عبد العزيز بن (‪ُ )1‬رفَيع ‪ ،‬أخبرني من سمع عبيد بن ُ‬
‫رواية ‪[ :‬قال] (‪ : )2‬أخبرني مجاهد ‪ ،‬عن عبيد بن عمير ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬قال آدم ‪ :‬يا رب ‪ ،‬خطيئتي‬
‫التي أخطأت شيء كتبتُه علي قبل أن تخلقني ‪ ،‬أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال ‪ :‬بل شيء‬
‫كتبته عليك قبل أن أخلقك‪ .‬قال ‪ :‬فكما كتبته علي فاغفر (‪ )3‬لي‪ .‬قال ‪ :‬فذلك قوله تعالى ‪ { :‬فَتََلقّى‬
‫آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ }‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عمن حدثه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬فتلقى آدم من ربه كلمات ‪ ،‬قال ‪ :‬قال آدم ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ :‬يا رب ‪ ،‬ألم تخلقني بيدك ؟ قيل (‪ )4‬له ‪ :‬بلى‪ .‬ونفخت في من روحك ؟ قيل (‪ )5‬له ‪:‬‬
‫ت فقلتَ ‪ :‬يرحمك ال ‪ ،‬وسبقت رحمتُك غَضبَك ؟ قيل (‪ )6‬له ‪ :‬بلى ‪ ،‬وكتبت عليّ‬
‫بلى‪ .‬وعَطس ُ‬
‫أن أعمل هذا ؟ قيل (‪ )7‬له ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪ :‬أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وهكذا رواه العوفي ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وسعيد بن َمعْبَد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬بنحوه‪ .‬ورواه الحاكم‬
‫في مستدركه من حديث سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وقال ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه (‬
‫‪ )8‬وهكذا فسره السدي وعطية ال َعوْفي‪.‬‬
‫وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيهًا بهذا فقال ‪ :‬حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ‪ ،‬حدثنا‬
‫علي بن عاصم ‪ ،‬عن سعيد بن أبي عَرُوبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ :‬أرأيت يا رب إن تبتُ ورجعتُ ‪،‬‬
‫أعائدي إلى الجنة ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬فذلك قوله ‪ { :‬فَتََلقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ } (‪.)9‬‬
‫وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬فَتََلقّى آدَمُ مِنْ‬
‫رَبّهِ كَِلمَاتٍ } قال ‪ :‬إن آدم لما أصاب الخطيئة قال ‪ :‬يا رب ‪ ،‬أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ قال ال‬
‫‪ :‬إذن أرجعك إلى الجنة فهي من الكلمات‪ .‬ومن الكلمات أيضا ‪ { :‬رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َتغْفِرْ‬
‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } [العراف ‪.]23 :‬‬
‫لَنَا وَتَرْ َ‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد أنه كان يقول في قول ال تعالى ‪ { :‬فَتََلقّى آ َدمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ }‬
‫قال ‪ :‬الكلمات ‪ :‬اللهم ل إله إل أنت سبحانك وبحمدك ‪ ،‬رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير‬
‫الغافرين ‪ ،‬اللهم ل إله إل أنت سبحانك وبحمدك ‪ ،‬رب إني ظلمت نفسي فارحمني ‪ ،‬إنك (‪)10‬‬
‫خير الراحمين‪ .‬اللهم ل إله إل أنت سبحانك وبحمدك ‪ ،‬رب إني ظلمت نفسي فتب علي ‪ ،‬إنك‬
‫أنت التواب الرحيم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬فاغفره"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المستدرك (‪.)2/545‬‬
‫(‪ )9‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/135‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬فاغفر لي أنت"‪.‬‬

‫( ‪)1/239‬‬

‫@ ‪240 - 1‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ } أي ‪ :‬إنه يتوب على من تاب إليه وأناب ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬أَلَمْ‬
‫َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُهوَ َيقْ َبلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ } [ التوبة ‪ ]104 :‬وقوله ‪َ { :‬ومَنْ َي ْع َملْ سُوءًا َأوْ َيظْلِمْ‬
‫ع ِملَ صَالِحًا‬
‫ب وَ َ‬
‫غفُورًا َرحِيمًا } [النساء ‪ ، ]11 :‬وقوله ‪َ { :‬ومَنْ تَا َ‬
‫َنفْسَهُ ثُمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ َيجِدِ اللّهَ َ‬
‫فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتَابًا } [ الفرقان ‪ ] 71 :‬وغير ذلك من اليات الدالة على أنه تعالى يغفر‬
‫الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ‪ ،‬ل إله إل هو التواب الرحيم‪.‬‬
‫وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لما أهبط ال آدم إلى الرض طاف بالبيت سبعا ‪ ،‬وصلى خلف‬
‫المقام ركعتين ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬اللهم إنك تعلم سري وعلنيتي فاقبل معذرتي ‪ ،‬وتعلم حاجتي فأعطني‬
‫سؤلي ‪ ،‬وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي ‪ ،‬أسألك إيمانا يباشر قلبي ‪ ،‬ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن‬
‫يصيبني إل ما كتبت لي‪ .‬قال فأوحى ال إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني‬
‫به ‪ ،‬وفرجت همومه وغمومه ‪ ،‬ونزعت فقره من بين عينيه ‪ ،‬وأجرت له من وراء كل تاجر زينة‬
‫الدنيا وهي كلمات عهد وإن لم يزدها" رواه الطبراني في معجمه الكبير (‪.)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬جامع المسانيد والسنن برقم (‪ )742‬ولم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير‪.‬‬
‫( ‪)1/240‬‬

‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ (‬


‫جمِيعًا فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي هُدًى َفمَنْ تَ ِبعَ هُدَايَ فَلَا َ‬
‫قُلْنَا اهْ ِبطُوا مِ ْنهَا َ‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪)39‬‬
‫‪ )38‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬

‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ (‬


‫جمِيعًا فَِإمّا يَأْتِيَ ّن ُكمْ مِنّي هُدًى َفمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَل َ‬
‫{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِ ْنهَا َ‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪} )39‬‬
‫‪ )38‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى (‪ )1‬أهبطهم من الجنة ‪ ،‬والمراد الذرية‬
‫‪ :‬أنه سينزل الكتب ‪ ،‬ويبعث النبياء والرسل ؛ كما قال أبو العالية ‪ :‬ال ُهدَى النبياء والرسل‬
‫والبيان ‪ ،‬وقال مقاتل بن حَيّان ‪ :‬الهدى محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقال الحسن ‪ :‬الهدى القرآن‪.‬‬
‫وهذان القولن صحيحان ‪ ،‬وقول أبي العالية أعَمّ‪.‬‬
‫علَ ْيهِمْ }‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫{ َفمَنْ تَبِعَ هُدَايَ } أي ‪ :‬من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل { فَل َ‬
‫أي ‪ :‬فيما يستقبلونه من أمر الخرة { وَل ُهمْ َيحْزَنُونَ } على ما فاتهم من أمور الدنيا ‪ ،‬كما قال‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي ُهدًى َفمَنِ اتّبَعَ‬
‫جمِيعًا َب ْع ُ‬
‫في سورة طه ‪ { :‬قَالَ اهْ ِبطَا مِ ْنهَا َ‬
‫شقَى } [طه ‪ ] 123 :‬قال ابن عباس ‪ :‬فل يضل في الدنيا ول يشقى في‬
‫ل وَل َي ْ‬
‫ضّ‬‫هُدَايَ فَل َي ِ‬
‫عمَى } [طه ‪:‬‬
‫ش ًة ضَ ْنكًا وَ َنحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَ ْ‬
‫الخرة‪َ { .‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِي َ‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ‪:‬‬
‫‪ ] 124‬كما قال هاهنا ‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫مخلدون فيها ‪ ،‬ل محيد لهم عنها ‪ ،‬ول محيص‪.‬‬
‫وقد أورد ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬هاهنا حديثا ساقه من طريقين ‪ ،‬عن أبي مَسْلَمة سعيد بن‬
‫يزيد ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حين"‪.‬‬

‫( ‪)1/240‬‬

‫يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وََأوْفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َع ْه ِدكُ ْم وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (‬
‫‪ )40‬وَ َآمِنُوا ِبمَا أَنْزَ ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُ ْم وَلَا َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ بِ ِه وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي َثمَنًا قَلِيلًا وَإِيّايَ‬
‫فَا ّتقُونِ (‪)41‬‬

‫طعَة (‪ )1‬عن أبي سعيد ‪ -‬واسمه سعد بن مالك بن سِنَان‬


‫عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن ق ْ‬
‫خدْري ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم ل‬
‫ال ُ‬
‫يموتون فيها ول يحيون ‪ ،‬لكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم ‪ ،‬أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة ‪ ،‬حتى‬
‫إذا صاروا فحما أذنَ في الشفاعة"‪ .‬وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به (‪.)2‬‬
‫[وذكر هذا الهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للول ‪ ،‬وزعم بعضهم أنه تأكيد‬
‫وتكرير ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬قم قم ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬بل الهباط الول من الجنة إلى السماء الدنيا ‪،‬‬
‫والثاني من سماء الدنيا إلى الرض ‪ ،‬والصحيح الول ‪ ،‬وال تعالى أعلم بأسرار كتابه] (‪.)3‬‬
‫{ يَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وََأ ْوفُوا ِب َع ْهدِي أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (‬
‫‪ )40‬وَآمِنُوا ِبمَا أَنز ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُ ْم وَل َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ ِب ِه وَل تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنًا قَلِيل‬
‫وَإِيّايَ فَا ّتقُونِ (‪} )41‬‬
‫يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في السلم ‪ ،‬ومتابعة محمد عليه من ال أفضل الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬و ُمهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل ‪ ،‬وهو نبي ال يعقوب ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وتقديره ‪ :‬يا‬
‫بني العبد الصالح المطيع ل كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬يا ابن الكريم ‪ ،‬افعل‬
‫كذا‪ .‬يا ابن الشجاع ‪ ،‬بارز البطال ‪ ،‬يا ابن العالم ‪ ،‬اطلب العلم ونحو ذلك‪.‬‬
‫شكُورًا } [السراء ‪]3 :‬‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى ‪ { :‬ذُرّيّةَ مَنْ َ‬
‫فإسرائيل هو يعقوب عليه السلم ‪ ،‬بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي ‪ :‬حدثنا عبد الحميد بن بهرام‬
‫‪ ،‬عن شهر بن حَوشب ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثني عبد ال بن عباس قال ‪ :‬حضرت عصابة من اليهود نبي‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فقال لهم ‪" :‬هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬اللهم نعم‪ .‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اللهم اشهد (‪ )5( " )4‬وقال العمش ‪ ،‬عن إسماعيل بن رجاء ‪ ،‬عن‬
‫عمير مولى ابن عباس ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ؛ أن إسرائيل كقولك ‪ :‬عبد ال‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ } قال مجاهد ‪ :‬نعمة ال التي أنعم بها عليهم‬
‫سوَى ذلك ‪ ،‬فَجّر لهم الحجر ‪ ،‬وأنزل عليهم المن والسلوى ‪ ،‬وأنجاهم من عبودية‬
‫فيما سمى وفيما ِ‬
‫آل فرعون‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬قصعة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪ )1/552‬وصحيح مسلم برقم (‪.)185‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬اللهم فاشهد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد في المسند (‪ )1/273‬عن حسين ‪ ،‬عن عبد الحميد بن بهرام به‪.‬‬

‫( ‪)1/241‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬نعمته أن جعل منهم النبياء والرسل ‪ ،‬وأنزل عليهم الكتب‪.‬‬
‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ‬
‫قلت ‪ :‬وهذا كقول موسى عليه السلم لهم ‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ َ‬
‫جعََلكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا َلمْ ُي ْؤتِ أَحَدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [المائدة ‪ ]20 :‬يعني في زمانهم‪.‬‬
‫وَ َ‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُمْ } أي ‪ :‬بلئي عندكم وعند آبائكم ِلمَا كان‬
‫نجاهم به من فرعون وقومه { وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َعهْ ِد ُكمْ } قال ‪ :‬بعهدي الذي أخذت في (‪)1‬‬
‫أَعناقكم للنبي صلى ال عليه وسلم إذا جاءكم‪ { .‬أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } أي ‪ :‬أنجز لكم ما وعدتكم عليه‬
‫بتصديقه واتباعه ‪ ،‬بوضع ما كان عليكم من الصر والغلل التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي‬
‫كانت من أحداثكم‪.‬‬
‫ل وَ َبعَثْنَا مِ ْن ُهمُ اثْ َنيْ عَشَرَ‬
‫[وقال الحسن البصري ‪ :‬هو قوله ‪ { :‬وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫َنقِيبًا َوقَالَ اللّهُ إِنّي َم َعكُمْ لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّل َة وَآتَيْ ُتمُ ال ّزكَا َة وَآمَنْتُمْ بِ ُرسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُ ْم وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ‬
‫قَ ْرضًا حَسَنًا ل َكفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَلدْخِلَ ّنكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ } الية [المائدة ‪:‬‬
‫‪ .]12‬وقال آخرون ‪ :‬هو الذي أخذه ال عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما‬
‫يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى ال عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة‬
‫وجعل له أجران‪ .‬وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن النبياء عليهم السلم‬
‫بمحمد صلى ال عليه وسلم] (‪.)2‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ { :‬وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي } قال ‪ :‬عهده إلى عباده ‪ :‬دينه السلم أن يتبعوه‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ } قال ‪ :‬أرْض عنكم وأدخلكم الجنة‪.‬‬
‫وكذا قال السدي ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أي ‪ :‬فاخشون ؛ قاله أبو العالية ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫وقتادة‪.‬‬
‫وقال ابن عباس في قوله تعالى ‪ { :‬وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أي أنزل بكم ما أنزل (‪ )3‬بمن كان قبلكم‬
‫من آبائكم من ال ّن ِقمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره‪.‬‬
‫وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب ‪ ،‬فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ‪ ،‬لعلهم يرجعون إلى الحق‬
‫واتباع الرسول والتعاظ بالقرآن وزواجره ‪ ،‬وامتثال أوامره ‪ ،‬وتصديق أخباره ‪ ،‬وال الهادي لمن‬
‫يشاء إلى صراطه المستقيم ؛ ولهذا (‪ )4‬قال ‪ { :‬وَآمِنُوا ِبمَا أَنز ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } [ { ُمصَ ّدقًا }‬
‫ماضيًا منصوبًا على الحال من { ِبمَا } أي ‪ :‬بالذي أنزلت مصدقًا أو من الضمير المحذوف من‬
‫قولهم ‪ :‬بما أنزلته مصدقًا ‪ ،‬ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل وهو قوله ‪ِ { :‬بمَا أَنز ْلتُ‬
‫ُمصَ ِدقًا } ] (‪ )5‬يعني به ‪ :‬القرآن الذي أنزله على محمد النبي المي العربي بشيرًا ونذيرًا‬
‫وسراجًا منيرًا مشتمل على الحق من ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ما أنزلت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فلهذا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/242‬‬

‫تعالى ‪ ،‬مصدقًا لما بين يديه من التوراة والنجيل‪.‬‬


‫قال أبو العالية ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬وَآمِنُوا ِبمَا أَنز ْلتُ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعكُمْ } يقول ‪ :‬يا معشر‬
‫أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم يقول ‪ :‬لنهم يجدون محمدًا صلى ال عليه وسلم‬
‫مكتوبًا عندهم في التوراة والنجيل‪.‬‬
‫وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ بِهِ } [قال بعض المفسرين ‪ :‬أول فريق كافر به ونحو ذلك] (‪.)1‬‬
‫قال ابن عباس ‪ { :‬وَل َتكُونُوا َأوّلَ كَافِرٍ بِهِ } وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬يقول ‪ { :‬وَل َتكُونُوا َأ ّولَ [كَافِرٍ بِهِ } أول] (‪ )2‬من كفر بمحمد صلى ال عليه‬
‫وسلم [يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعهم بمحمد وبمبعثه] (‪.)3‬‬
‫وكذا قال الحسن ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس‪.‬‬
‫واختار ابن جرير أن الضمير في قوله ‪ { :‬بِهِ } عائد على القرآن ‪ ،‬الذي تقدم ذكره في قوله ‪:‬‬
‫{ ِبمَا أَنز ْلتُ }‬
‫وكل القولين صحيح ؛ لنهما متلزمان ‪ ،‬لن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ومن كفر بمحمد صلى ال عليه وسلم فقد كفر بالقرآن‪.‬‬
‫وأما قوله ‪َ { :‬أ ّولَ كَافِرٍ بِهِ } فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل ؛ لنه قد تقدمهم من كفار‬
‫قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير ‪ ،‬وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة ‪،‬‬
‫فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ‪ ،‬فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من‬
‫جنسهم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنًا قَلِيل } يقول ‪ :‬ل تعتاضوا عن اليمان بآياتي وتصديق رسولي‬
‫بالدنيا وشهواتها ‪ ،‬فإنها قليلة فانية ‪ ،‬كما قال عبد ال بن المبارك ‪ :‬أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن‬
‫جابر ‪ ،‬عن هارون بن زيد (‪ )4‬قال ‪ :‬سُئِل الحسن ‪ ،‬يعني البصري ‪ ،‬عن قوله تعالى ‪َ { :‬ثمَنًا‬
‫قَلِيل } قال ‪ :‬الثمن القليل الدنيا بحذافيرها‪.‬‬
‫وقال ابن َلهِيعة ‪ :‬حدثني عطاء بن دينار ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬وَل تَشْتَرُوا بِآيَاتِي‬
‫َثمَنًا قَلِيل } وإن آياته ‪ :‬كتابه الذي أنزله (‪ )5‬إليهم ‪ ،‬وإن الثمن القليل ‪ :‬الدنيا وشهواتها‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬وَل تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنًا قَلِيل } يقول ‪ :‬ل تأخذوا طمعًا قليل ول تكتموا (‪ )6‬اسم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬آياته التي أنزل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬وتكتموا"‪.‬‬

‫( ‪)1/243‬‬

‫ال لذلك الطمع وهو الثمن‪.‬‬


‫وقال أبو جعفر ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية في قوله تعالى ‪ { :‬وَل تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنًا‬
‫قَلِيل } يقول ‪ :‬ل تأخذوا عليه أجرًا‪ .‬قال ‪ :‬وهو مكتوب عندهم في الكتاب الول ‪ :‬يا ابن آدم عَلّم‬
‫مَجّانا كما عُلّمت مَجّانا‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬معناه ل تعتاضوا عن البيان واليضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس‬
‫لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب ‪ ،‬وفي سنن أبي داود عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه ال ل يتعلمه‬
‫إل ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" (‪ )1‬وأما تعليم العلم بأجرة ‪ ،‬فإن‬
‫كان قد تعين عليه فل يجوز أن يأخذ عليه أجرة ‪ ،‬ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به‬
‫حاله وعياله ‪ ،‬فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب ‪ ،‬فهو كما لم يتعين عليه ‪،‬‬
‫وإذا لم يتعين عليه ‪ ،‬فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ‪،‬‬
‫كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ ‪" :‬إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب ال"‬
‫(‪ )2‬وقوله في قصة المخطوبة ‪" :‬زوجتكها بما معك من القرآن" (‪ )3‬فأما حديث عبادة بن‬
‫الصامت ‪ ،‬أنه علم رجل من أهل الصفة شيئًا من القرآن فأهدى له قوسًا ‪ ،‬فسأل عنه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه ‪ ،‬رواه أبو داود (‪)4‬‬
‫وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعًا (‪ )5‬فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء‬
‫منهم ‪ :‬أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه ال لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب ال بذلك‬
‫القوس ‪ ،‬فأما إذا كان من أول المر على التعليم بالجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث‬
‫سهل في المخطوبة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫{ وَإِيّايَ فَا ّتقُونِ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو عمر الدوري ‪ ،‬حدثنا أبو إسماعيل المؤدب ‪ ،‬عن‬
‫عاصم الحول ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬عن طلق بن حبيب ‪ ،‬قال ‪ :‬التقوى أن تعمل بطاعة ال رجاء‬
‫رحمة ال على نور من ال ‪ ،‬والتقوى أن تترك معصية ال مخافة عذاب ال على نور من ال‪.‬‬
‫ومعنى قوله ‪ { :‬وَإِيّايَ فَا ّتقُونِ } أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلفه‬
‫(‪ )6‬ومخالفتهم الرسول ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود برقم (‪.)3664‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )5007‬وهذا اللفظ هو لفظ حديث ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )5149‬من حديث سهل بن سعد رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود برقم (‪.)3416‬‬
‫(‪ )5‬رواه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )6/125‬من طريق عبد الرحمن بن أبي مسلم ‪ ،‬عن عطية‬
‫بن قيس ‪ ،‬عن أبي بن كعب رضي ال عنه به مرفوعا ‪ ،‬وهو منقطع‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وإظهاره الباطل"‪.‬‬

‫( ‪)1/244‬‬

‫ق وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪ )42‬وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآَتُوا ال ّزكَا َة وَا ْر َكعُوا‬


‫ل وَ َتكْ ُتمُوا ا ْلحَ ّ‬
‫طِ‬‫وَلَا تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬
‫مَعَ الرّا ِكعِينَ (‪)43‬‬

‫ق وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ (‪ )42‬وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ‬


‫ل وَ َتكْ ُتمُوا ا ْلحَ ّ‬
‫طِ‬‫{ وَل تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬
‫وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ (‪} )43‬‬
‫يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه ‪ ،‬من تلبيس (‪ )1‬الحق بالباطل ‪ ،‬وتمويهه به (‪)2‬‬
‫ق وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ } (‪)3‬‬
‫حّ‬‫طلِ وَ َتكْ ُتمُوا الْ َ‬
‫حقّ بِالْبَا ِ‬
‫وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل ‪ { :‬وَل تَلْ ِبسُوا الْ َ‬
‫فنهاهم عن الشيئين معًا ‪ ،‬وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ؛ ولهذا قال الضحاك ‪ ،‬عن ابن‬
‫طلِ } ل تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب‪.‬‬
‫حقّ بِالْبَا ِ‬
‫عباس { وَل تَلْبِسُوا الْ َ‬
‫طلِ } يقول ‪ :‬ول تخلطوا الحق بالباطل ‪ ،‬وأدوا النصيحة‬
‫وقال أبو العالية ‪ { :‬وَل تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬
‫لعباد ال من أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ويروى (‪ )4‬عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫طلِ } [قال] (‪ )5‬ول تلبسوا اليهودية والنصرانية بالسلم ؛ إن‬
‫وقال قتادة ‪ { :‬وَل تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬
‫دين ال السلم ‪ ،‬واليهودية والنصرانية بدعة ليست من ال‪.‬‬
‫وروي عن الحسن البصري نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫ق وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬ل تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء‬
‫عباس ‪ { :‬وَ َتكْ ُتمُوا ا ْلحَ ّ‬
‫به ‪ ،‬وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم‪ .‬وروي عن أبي العالية نحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ { :‬وَ َتكْ ُتمُوا ا ْلحَقّ } يعني ‪ :‬محمدا صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫[قلت ‪ { :‬وَ َتكْ ُتمُوا } يحتمل أن يكون مجزومًا ‪ ،‬ويجوز أن يكون منصوبًا ‪ ،‬أي ‪ :‬ل تجمعوا بين‬
‫هذا وهذا كما يقال ‪ :‬ل تأكل السمك وتشرب اللبن‪ .‬قال الزمخشري ‪ :‬وفي مصحف ابن مسعود ‪:‬‬
‫"وتكتمون الحق" أي ‪ :‬في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضًا ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬وأنتم تعلمون‬
‫الحق ‪ ،‬ويجوز أن يكون المعنى ‪ :‬وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من‬
‫إضللهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع‬
‫من الحق لتروّجوه عليهم ‪ ،‬والبيان اليضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل] (‪.)6‬‬
‫{ وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَا َة وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ } قال مقاتل ‪ :‬قوله تعالى لهل الكتاب ‪:‬‬
‫{ وََأقِيمُوا الصّلةَ } أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى ال عليه وسلم { وَآتُوا ال ّزكَاةَ } أمرهم أن‬
‫يؤتوا الزكاة ‪ ،‬أي ‪ :‬يدفعونها إلى النبي صلى ال عليه وسلم { وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ } أمرهم أن‬
‫يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬تلبيسهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬تمويههم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وتكتمون" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وروي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/245‬‬

‫سكُ ْم وَأَنْ ُتمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ (‪)44‬‬


‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬

‫يقول ‪ :‬كونوا منهم ومعهم‪.‬‬


‫وقال علي بن طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { [ :‬وَآتُوا ال ّزكَاةَ } ] (‪ )1‬يعني بالزكاة ‪ :‬طاعة ال‬
‫والخلص‪.‬‬
‫عكْرِمة عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬وَآتُوا ال ّزكَاةَ } قال ‪ :‬ما‬
‫وقال َوكِيع ‪ ،‬عن أبي جَنَاب ‪ ،‬عن ِ‬
‫يوجب الزكاة ؟ قال ‪ :‬مائتان فصاعدا‪.‬‬
‫وقال مبارك بن فضالة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَآتُوا ال ّزكَاةَ } قال ‪ :‬فريضة واجبة ‪ ،‬ل‬
‫تنفع العمال إل بها وبالصلة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا جرير عن أبي حيان‬
‫[العجمي] (‪ )2‬التيمي ‪ ،‬عن الحارث العُكلي في قوله ‪ { :‬وَآتُوا ال ّزكَاةَ } قال ‪ :‬صدقة الفطر‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ } أي ‪ :‬وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ‪ ،‬ومن‬
‫أخص ذلك وأكمله (‪ )3‬الصلة‪.‬‬
‫[وقد استدل كثير من العلماء بهذه الية على وجوب الجماعة ‪ ،‬وبسط ذلك في كتاب الحكام‬
‫الكبير إن شاء ال ‪ ،‬وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والمامة فأجاد] (‪.)4‬‬
‫سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَل َت ْعقِلُونَ (‪} )44‬‬
‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫{ أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫يقول تعالى ‪ :‬كيف يليق بكم ‪ -‬يا معشر أهل الكتاب ‪ ،‬وأنتم تأمرون الناس بالبر ‪ ،‬وهو جماع‬
‫الخير ‪ -‬أن تنسوا أنفسكم ‪ ،‬فل تأتمروا بما تأمرون الناس به ‪ ،‬وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ‪،‬‬
‫وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر ال ؟ أفل تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم ؛ فتنتبهوا من‬
‫رَقدتكم ‪ ،‬وتتبصروا من عمايتكم‪ .‬وهذا كما قال عبد الرزاق عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة في قوله تعالى‬
‫سكُمْ } قال ‪ :‬كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة ال‬
‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫‪ { :‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫وبتقواه ‪ ،‬وبالبر ‪ ،‬ويخالفون ‪َ ،‬فعَيّرهم ال ‪ ،‬عز وجل‪ .‬وكذلك قال السدي‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ { :‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ } أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم‬
‫ن العملَ بما يأمرون به الناس ‪ ،‬فعيرهم ال بذلك ‪ ،‬فمن أمر بخير فليكن أشد‬
‫والصلة ‪ ،‬وَيَدَعُو َ‬
‫الناس فيه مسارعة‪.‬‬
‫سوْنَ‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَتَنْ َ‬
‫سكُمْ } أي ‪ :‬تتركون أنفسكم { وَأَنْ ُتمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَل َتعْقِلُونَ } أي ‪ :‬تنهون الناس عن الكفر‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫بما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وأجمله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/246‬‬
‫عندكم من النبوة وال َعهْد من التوراة ‪ ،‬وتتركون أنفسكم ‪ ،‬أي ‪ :‬وأنتم (‪ )1‬تكفرون بما فيها من‬
‫عهْدي إليكم في تصديق رسولي ‪ ،‬وتنقضون ميثاقي ‪ ،‬وتجحدون ما تعلمون (‪ )2‬من كتابي‪.‬‬
‫َ‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس في هذه الية ‪ ،‬يقول ‪ :‬أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم (‪ )3‬به من إقام الصلة ‪ ،‬وتنسون أنفسكم‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثني علي بن الحسن ‪ ،‬حدثنا مُسلم الجَرْمي ‪ ،‬حدثنا َمخْلَد بن الحسين‬
‫سوْنَ‬
‫‪ ،‬عن أيوب السختياني ‪ ،‬عن أبي قِلبة في قول ال تعالى ‪ { :‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ } قال ‪ :‬قال أبو الدرداء ‪ :‬ل يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫ذات ال ‪ ،‬ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الية ‪ :‬هؤلء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء‬
‫سوْنَ‬
‫ليس فيه حق ول رشوة ول شيء أمروه بالحق ‪ ،‬فقال ال تعالى ‪ { :‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَل َت ْعقِلُونَ }‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫والغرض أن ال تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم (‪ )4‬في حق أنفسهم ‪ ،‬حيث‬
‫كانوا يأمرون بالخير ول يفعلونه ‪ ،‬وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ‪ ،‬بل على‬
‫تركهم له ‪ ،‬فإن المر بالمعروف [معروف] (‪ )5‬وهو واجب على العالم ‪ ،‬ولكن [الواجب و] (‪)6‬‬
‫الولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ‪ ،‬ول يتخلف عنهم ‪ ،‬كما قال شعيب ‪ ،‬عليه السلم ‪َ { :‬ومَا‬
‫ت َومَا َت ْوفِيقِي إِل بِاللّهِ عَلَيْهِ‬
‫ط ْع ُ‬
‫أُرِيدُ أَنْ أُخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَ ْنهُ إِنْ أُرِيدُ إِل الصْلحَ مَا اسْتَ َ‬
‫ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود ‪َ .]88 :‬ف ُكلّ من المر بالمعروف وفعله واجب ‪ ،‬ل يسقط أحدهما بترك‬
‫َت َوكّلْ ُ‬
‫الخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف‪ .‬وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي ل‬
‫ينهى غيره عنها ‪ ،‬وهذا ضعيف ‪ ،‬وأضعف منه تمسكهم بهذه الية ؛ فإنه ل حجة لهم فيها‪.‬‬
‫والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف ‪ ،‬وإن لم يفعله ‪ ،‬وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ‪[ ،‬قال مالك‬
‫عن ربيعة ‪ :‬سمعت سعيد بن جبير يقول له ‪ :‬لو كان المرء ل يأمر بالمعروف ول ينهى عن‬
‫المنكر حتى ل يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ول نهى عن منكر‪ .‬وقال مالك ‪ :‬وصدق من‬
‫ذا الذي ليس فيه شيء ؟ قلت] (‪ )7‬ولكنه ‪ -‬والحالة هذه ‪ -‬مذموم على ترك (‪ )8‬الطاعة وفعله‬
‫المعصية ‪ ،‬لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ‪ ،‬فإنه ليس من يعلم كمن ل يعلم ؛ ولهذا جاءت‬
‫الحاديث في الوعيد على ذلك ‪ ،‬كما قال المام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ‪ :‬حدثنا‬
‫أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري ‪ ،‬قال حدثنا هشام بن عمار ‪ ،‬حدثنا علي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أي أنتم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بما تعملون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬مما أمرتكم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬خطاياهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬على تركه"‪.‬‬

‫( ‪)1/247‬‬

‫بن سليمان الكلبي ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن أبي تَميمة الهُجَيمي ‪ ،‬عن جندب بن (‪ )1‬عبد ال ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬مثل العالم الذي يعلم الناس الخير‬
‫ول يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" (‪.)2‬‬
‫هذا حديث غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد بن حنبل في مسنده ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن علي‬
‫بن زيد هو ابن جدعان ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم ُتقْرَض بمقاريض (‪ )3‬من نار‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬من‬
‫هؤلء ؟" قالوا ‪ :‬خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ‪ ،‬وهم‬
‫يتلون الكتاب أفل يعقلون ؟ (‪.)4‬‬
‫ورواه عبد بن حميد في مسنده ‪ ،‬وتفسيره ‪ ،‬عن الحسن بن موسى ‪ ،‬عن حماد بن سلمة به‪.‬‬
‫ورواه ابن مردويه في تفسيره ‪ ،‬من حديث يونس بن محمد المؤدب ‪ ،‬والحجاج بن مِ ْنهَال ‪،‬‬
‫كلهما عن حماد بن سلمة ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وكذا رواه يزيد بن هارون ‪ ،‬عن حماد بن سلمة به‪.‬‬
‫ثم قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد ال بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا موسى بن هارون ‪ ،‬حدثنا‬
‫إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ ‪ ،‬حدثنا مكي بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا عمر بن قيس ‪ ،‬عن علي بن‬
‫زيد (‪ )5‬عن ثمامة ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬مررت‬
‫ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار‪ .‬قلت ‪ :‬من هؤلء يا جبريل‬
‫؟" قال ‪ :‬هؤلء خطباء أمتك ‪ ،‬الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم‪.‬‬
‫وأخرجه ابن حبان في صحيحه ‪ ،‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن مردويه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬من حديث هشام‬
‫الدّستَوائيّ ‪ ،‬عن المغيرة ‪ -‬يعني ابن حبيب ‪ -‬ختن مالك بن دينار ‪ ،‬عن مالك بن دينار ‪ ،‬عن‬
‫ثمامة ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬لما عرج برسول ال صلى ال عليه وسلم مرّ بقوم ُتقْرض‬
‫شفاههم (‪ ، )6‬فقال ‪" :‬يا جبريل ‪ ،‬من هؤلء ؟" قال ‪ :‬هؤلء الخطباء من أمتك يأمرون الناس‬
‫بالبر وينسون أنفسهم ؛ أفل يعقلون ؟ (‪.)7‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يعلى بن عبيد ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬قال ‪ :‬قيل‬
‫لسامة ‪ -‬وأنا رديفه ‪ : -‬أل تكلم عثمان ؟ فقال ‪ :‬إنكم تُرَون أني ل أكلمه إل أسمعكم‪ .‬إني ل‬
‫أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا ‪ -‬ل أحب أن أكون أول من افتتحه ‪ ،‬وال ل أقول‬
‫لرجل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المعجم الكبير (‪ )2/165‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )1/185‬رجاله موثقون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬تقرض شفاههم بمقاريض"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)3/120‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬بن يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تقرض من شفاههم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح ابن حبان برقم (‪" )35‬موارد" وتفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/151‬‬

‫( ‪)1/248‬‬

‫إنك خير الناس‪ .‬وإن كان عليّ أميرًا ‪ -‬بعد أن (‪ )1‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يقول ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما سمعته يقول ؟ قال ‪ :‬سمعته يقول ‪ُ " :‬يجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ‪،‬‬
‫فتندلق به أقتابه (‪ ، )2‬فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ‪ ،‬فيطيف به أهلُ النار ‪،‬‬
‫فيقولون ‪ :‬يا فلن ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول ‪ :‬كنت‬
‫آمركم بالمعروف ول آتيه ‪ ،‬وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (‪.)3‬‬
‫ورواه البخاري ومسلم ‪ ،‬من حديث سليمان بن ِمهْرَان العمش ‪ ،‬به نحوه (‪.)4‬‬
‫[وقال أحمد ‪ :‬حدثنا سيار بن حاتم ‪ ،‬حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال يعافي الميين يوم القيامة ما ل يعافي العلماء" (‪ .)5‬وقد‬
‫ورد في بعض الثار ‪ :‬أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ‪ ،‬ليس من يعلم‬
‫كمن ل يعلم‪ .‬وقال تعالى ‪ُ { :‬قلْ َهلْ َيسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُونَ وَالّذِينَ ل َيعَْلمُونَ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو‬
‫اللْبَابِ } [الزمر ‪ .]9 :‬وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪" :‬إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون ‪ :‬بم دخلتم النار ؟‬
‫فوال ما دخلنا الجنة إل بما تعلمنا منكم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬إنا كنا نقول ول نفعل" (‪ )6‬رواه من حديث‬
‫الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان (‪ )7‬الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر‬
‫الداهري (‪ )8‬عن عبد ال بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة‬
‫فذكره] (‪.)9‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إنه جاءه رجل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا ابن عباس ‪ ،‬إني أريد أن آمر‬
‫بالمعروف وأنهى عن المنكر ‪ ،‬قال ‪ :‬أو بلغت ذلك ؟ قال ‪ :‬أرجو‪ .‬قال ‪ :‬إن لم تخش أن تفْتَضَح‬
‫بثلث آيات من كتاب ال فافعل‪ .‬قال ‪ :‬وما هن ؟ قال ‪ :‬قوله عز وجل (‪ { )10‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ‬
‫سكُمْ } أحكمت هذه ؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬فالحرف الثاني‪ .‬قال ‪ :‬قوله تعالى ‪ِ { :‬لمَ‬
‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫َتقُولُونَ مَا ل َتفْعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا ل َت ْفعَلُونَ } [الصف ‪ ]3 ، 2 :‬أحكمت‬
‫هذه ؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬فالحرفَ الثالث‪ .‬قال ‪ :‬قول العبد الصالح شعيب ‪ ،‬عليه السلم ‪َ { :‬ومَا‬
‫أُرِيدُ أَنْ أُخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَ ْنهُ } [هود ‪ ]88 :‬أحكمت هذه الية ؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬فابدأ‬
‫بنفسك‪.‬‬
‫رواه ابن مردويه في تفسيره‪.‬‬
‫وقال الطبراني (‪ )11‬حدثنا عبدان بن أحمد ‪ ،‬حدثنا زيد بن الحريش ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن خِرَاش ‪،‬‬
‫عن العوام بن حوشب ‪ ،‬عن [سعيد بن] (‪ )12‬المسيب بن رافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬إذ"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬شفتاه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)5/205‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )3267‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2989‬‬
‫(‪ )5‬ورواه أبو نعيم في الحلية (‪ )2/7‬من طريق المام أحمد وقال ‪" :‬هذا حديث غريب تفرد به‬
‫سيار عن جعفر ‪ ،‬ولم نكتبه إل من حديث أحمد بن حنبل"‪ .‬وقال عبد ال بن أحمد ‪" :‬هذا حديث‬
‫منكر حدثني به أبي ‪ ،‬وما حدثني به إل مرة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬انظر ‪ :‬مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (‪.)26/336‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬حماد" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬الزاهري" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬قوله تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬القرطبي"‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/249‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط ال‬
‫حتى يكف أو يعمل ما قال ‪ ،‬أو دعا إليه" (‪.)1‬‬
‫إسناده فيه ضعف ‪ ،‬وقال إبراهيم النخعي ‪ :‬إني لكره القصص لثلث آيات قوله تعالى ‪:‬‬
‫سكُمْ } وقوله { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا ل َتفْعَلُونَ *‬
‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫{ أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا ل َت ْفعَلُونَ } [الصف ‪ ]3 ، 2 :‬وقوله إخبارا عن شعيب ‪َ { :‬ومَا‬
‫ت َومَا َت ْوفِيقِي إِل بِاللّهِ عَلَيْهِ‬
‫ط ْع ُ‬
‫أُرِيدُ أَنْ أُخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَ ْنهُ إِنْ أُرِيدُ إِل الصْلحَ مَا اسْتَ َ‬
‫ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود ‪.]88 :‬‬
‫َت َوكّلْ ُ‬
‫وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو ‪:‬‬
‫ما أقبح التزهيد من واعظ‪ ...‬يزهد الناس ول يزهد‪...‬‬
‫لو كان في تزهيده صادقا‪ ...‬أضحى وأمسى بيته المسجد‪...‬‬
‫إن رفض الناس فما باله‪ ...‬يستفتح الناس ويسترقد‪...‬‬
‫الرزق مقسوم على من ترى‪ ...‬يسقى له البيض والسود‪...‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت ‪ ،‬ثم أنشأ‬
‫يقول ‪:‬‬
‫وغير تقي يأمر الناس بالتقى‪ ...‬طبيب يداوي والطبيب مريض‪...‬‬
‫قال ‪ :‬فضج الناس بالبكاء‪ .‬وقال أبو العتاهية الشاعر ‪:‬‬
‫وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى‪ ...‬وريح الخطايا من شأنك تقطع‪...‬‬
‫وقال أبو السود الدؤلي ‪:‬‬
‫ل تنه عن خلق وتأتي مثله‪ ...‬عار عليك إذا فعلت عظيم‪...‬‬
‫فابدأ بنفسك فانهها عن غيها‪ ...‬فإذا انتهت عنه فأنت حكيم‪...‬‬
‫فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى‪ ...‬بالقول منك وينفع التعليم‪...‬‬
‫وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال ‪ :‬دعوت ال‬
‫أن يريني رفيقي في الجنة ‪ ،‬فقيل لي في المنام ‪ :‬هي امرأة في الكوفة يقال لها ‪ :‬ميمونة‬
‫السوداء ‪ ،‬فقصدت الكوفة لراها‪ .‬فقيل لي ‪ :‬هي ترعى غنما بواد هناك ‪ ،‬فجئت إليها فإذا هي‬
‫قائمة تصلي والغنم ترعى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه أبو نعيم في الحلية (‪ )2/7‬من طريق الطبراني ‪ ،‬وقال الهيثمي في المجمع (‪: )7/276‬‬
‫"فيه عبد ال بن خراش وثقه ابن حبان وقال ‪ :‬يخطئ ‪ ،‬وضعفه الجمهور ‪ ،‬وبقية رجاله ثقات"‪.‬‬

‫( ‪)1/250‬‬

‫شعِينَ (‪ )45‬الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلَاقُو رَ ّبهِمْ‬


‫وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِلّا عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫جعُونَ (‪)46‬‬
‫وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫حولها وبينهن الذئاب ل ينفرن منه ‪ ،‬ول يسطو الذئاب عليهن‪ .‬فلما سلمت قالت ‪ :‬يا ابن زيد ‪،‬‬
‫ليس الموعد هنا إنما الموعد َثمّ ‪ ،‬فسألتها عن شأن الذئاب والغنم‪ .‬فقالت ‪ :‬إني أصلحت ما بيني‬
‫وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم‪ .‬فقلت لها ‪ :‬عظيني‪ .‬فقالت ‪ :‬يا عجبا من واعظ يوعظ ‪،‬‬
‫ثم قالت ‪ :‬يا ابن زيد ‪ ،‬إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما‬
‫فيها ‪ ،‬يا ابن زيد ‪ ،‬إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إل سلبه ال حب‬
‫الخلوة وبدله َبعْدَ القرب البعد وبعد النس الوحشة ثم أنشأت تقول ‪:‬‬
‫يا واعظًا قام ل حساب‪ ...‬يزجر قوما عن الذنوب‪...‬‬
‫تنه عنه وأنت السقيم حقا‪ ...‬هذا من المنكر العجيب‪...‬‬
‫تنه عن الغي والتمادي‪ ...‬وأنت في النهي كالمريب‪...‬‬
‫لو كنت أصلحت قبل هذا‪ ...‬غيك أو تبت من قريب‪...‬‬
‫كان لما قلت يا حبيبي‪ ...‬موضع صدق من القلوب (‪)1‬‬
‫شعِينَ (‪ )45‬الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلقُو رَ ّب ِهمْ‬
‫{ وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّل ِة وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِل عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫جعُونَ (‪} )46‬‬
‫وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫يقول تعالى (‪ )2‬آمرًا عبيده ‪ ،‬فيما يؤمّلون من خير الدنيا والخرة ‪ ،‬بالستعانة بالصبر والصلة ‪،‬‬
‫كما قال مقاتل بن حَيّان في تفسير هذه الية ‪ :‬استعينوا على طلب الخرة بالصبر على الفرائض ‪،‬‬
‫والصلة‪.‬‬
‫فأما الصبر فقيل ‪ :‬إنه الصيام ‪ ،‬نص عليه مجاهد‪.‬‬
‫[قال القرطبي وغيره ‪ :‬ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث] (‪.)3‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن جُ َريّ بن كُليب ‪ ،‬عن رجل من بني سليم ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الصوم نصف الصبر"‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬المراد بالصبر الكف عن المعاصي ؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلها ‪ :‬فعل الصلة‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن حمزة بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن سليمان ‪،‬‬
‫عن أبي سِنان ‪ ،‬عن عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬الصبر صبران ‪ :‬صبر عند‬
‫المصيبة حسن ‪ ،‬وأحسن منه الصبر عن محارم ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (‪.)15/253‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬تعالى مخبرا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/251‬‬
‫[قال] (‪ )1‬وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر‪.‬‬
‫وقال ابن المبارك عن ابن َلهِيعة عن مالك بن دينار ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬قال ‪ :‬الصبر اعتراف‬
‫العبد ل بما أصاب فيه ‪ ،‬واحتسابه عند ال ورجاء ثوابه ‪ ،‬وقد يجزع الرجل وهو يتجلد ‪ ،‬ل يرى‬
‫(‪ )2‬منه إل الصبر‪.‬‬
‫وقال أبو العالية في قوله ‪ { :‬وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلةِ } على مرضاة ال ‪ ،‬واعلموا أنها من‬
‫طاعة ال‪.‬‬
‫وأما قوله ‪ { :‬وَالصّلةِ } فإن الصلة من أكبر العون على الثبات في المر ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَلَ ِذكْرُ اللّهِ‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ وََأقِمِ الصّلةَ إِنّ الصّلةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ‬
‫{ ا ْتلُ مَا أُو ِ‬
‫َأكْبَرُ } الية [العنكبوت ‪.]45 :‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا خلف بن الوليد ‪ ،‬حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ‪ ،‬عن عكرمة بن‬
‫عمار ‪ ،‬عن محمد بن عبد ال الدؤلي ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عبد العزيز أخو حذيفة ‪ ،‬قال حذيفة ‪ ،‬يعني ابن‬
‫اليمان ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى‪ .‬ورواه أبو داود [عن محمد بن‬
‫عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي (‪.)4( ] )3‬‬
‫عكْرِمة بن عمار ‪ ،‬عن محمد بن عبيد بن أبي‬
‫وقد رواه ابن جرير ‪ ،‬من حديث ابن جُرَيج ‪ ،‬عن ِ‬
‫قدامة ‪ ،‬عن عبد العزيز بن اليمان ‪ ،‬عن حذيفة ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا‬
‫حزبه أمر فزع إلى الصلة (‪.)5‬‬
‫[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال ‪ :‬أخي حذيفة مرسل عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلة ‪ :‬حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود‬
‫(‪ )6‬العسكري ‪ ،‬حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال ‪ :‬قال عكرمة بن عمار ‪ :‬قال محمد بن‬
‫عبد ال الدؤلي ‪ :‬قال عبد العزيز ‪ :‬قال حذيفة ‪ :‬رجعت إلى النبي صلى ال عليه وسلم ليلة‬
‫الحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ‪ ،‬وكان إذا حزبه أمر صلى (‪ .)7‬وحدثنا عبيد ال بن معاذ‬
‫‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول ‪ :‬لقد رأيتنا‬
‫ليلة بدر وما فينا إل نائم غير رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح (‪( ] )8‬‬
‫‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فل يرى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )5/388‬وسنن أبي داود برقم (‪.)1319‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)5/26‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬ابن مسعود" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه‪.‬‬
‫(‪ )7‬تعظيم قدر الصلة برقم (‪.)212‬‬
‫(‪ )8‬تعظيم قدر الصلة برقم (‪.)213‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/252‬‬

‫قال ابن جرير ‪ :‬وروي عنه ‪ ،‬عليه الصلة والسلم ‪ ،‬أنه مر بأبي هريرة ‪ ،‬وهو منبطح على‬
‫بطنه ‪ ،‬فقال له ‪" :‬اشكنب درد" [قال ‪ :‬نعم] (‪ )1‬قال ‪" :‬قم فصل فإن الصلة شفاء" (‪[ )2‬ومعناه ‪:‬‬
‫أيوجعك بطنك ؟ قال ‪ :‬نعم] (‪ .)3‬قال ابن جرير ‪ :‬وقد حدثنا محمد بن العلء ويعقوب بن إبراهيم‬
‫‪ ،‬قال حدثنا ابن عُلَيّة ‪ ،‬حدثنا عُيَينة بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم‬
‫وهو في سفر ‪ ،‬فاسترجع ‪ ،‬ثم تنحّى عن الطريق ‪ ،‬فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ‪ ،‬ثم‬
‫شعِينَ }‬
‫قام يمشي إلى راحلته وهو يقول ‪ { :‬وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّل ِة وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِل عَلَى الْخَا ِ‬
‫(‪.)4‬‬
‫وقال سُنَيد ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن جرير ‪ { :‬وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلةِ } قال ‪ :‬إنهما َمعُونتان‬
‫على رحمة ال‪.‬‬
‫والضمير في قوله ‪ { :‬وَإِ ّنهَا } عائد إلى الصلة ‪ ،‬نص عليه مجاهد ‪ ،‬واختاره ابن جرير‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلم ‪ ،‬وهو الوصية بذلك ‪ ،‬كقوله تعالى في قصة‬
‫ع ِملَ صَالِحًا وَل يَُلقّاهَا إِل‬
‫ن وَ َ‬
‫قارون ‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ وَيَْلكُمْ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ آمَ َ‬
‫حسَنُ‬
‫الصّابِرُونَ } [القصص ‪ ]80 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَل َتسْ َتوِي ا ْلحَسَ َن ُة وَل السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫حظّ‬
‫ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل ذُو َ‬
‫حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِل الّذِي َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ َ‬
‫فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫عَظِيمٍ } [فصلت ‪]35 ، 34 :‬أي ‪ :‬وما يلقى هذه الوصية إل الذين صبروا { َومَا يَُلقّاهَا } أي ‪:‬‬
‫عظِيمٍ }‬
‫حظّ َ‬
‫يؤتاها ويلهمها { إِل ذُو َ‬
‫وعلى كل تقدير ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ { :‬وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ } أي ‪ :‬مشقة ثقيلة إل على الخاشعين‪ .‬قال ابن أبي‬
‫طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬يعني المصدّقين بما أنزل ال‪ .‬وقال مجاهد ‪ :‬المؤمنين حقا‪ .‬وقال أبو‬
‫العالية ‪ :‬إل على الخاشعين الخائفين ‪ ،‬وقال مقاتل بن حيان ‪ :‬إل على الخاشعين يعني به‬
‫المتواضعين‪ .‬وقال الضحاك ‪ { :‬وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ } قال ‪ :‬إنها لثقيلة إل على الخاضعين (‪ )5‬لطاعته ‪،‬‬
‫سطَواته ‪ ،‬المصدقين بوعده ووعيده‪.‬‬
‫الخائفين َ‬
‫وهذا يشبه ما جاء في الحديث ‪" :‬لقد سألت عن عظيم ‪ ،‬وإنه ليسير على من يسره ال عليه" (‪.)6‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬معنى الية ‪ :‬واستعينوا أيها الحبار من أهل الكتاب ‪ ،‬بحبس أنفسكم على طاعة‬
‫ال وبإقامة الصلة المانعة من الفحشاء والمنكر ‪ ،‬المقربة من رضا ال ‪ ،‬العظيمة إقامتها إل على‬
‫المتواضعين ل المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪ )2/13‬وانظر ما كتبه المحقق الفاضل عن معنى ‪" :‬اشكنب درد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)2/14‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الخاشعين"‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه أحمد في المسند (‪ )5/231‬من حديث معاذ رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/253‬‬

‫هكذا قال ‪ ،‬والظاهر أن الية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل ‪ ،‬فإنهم لم يقصدوا بها‬
‫على سبيل التخصيص ‪ ،‬وإنما هي عامة لهم ‪ ،‬ولغيرهم‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫جعُونَ } هذا من تمام الكلم الذي قبله‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِ ْم وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫‪ ،‬أي ‪ :‬وإن الصلة أو ال َوصَاة (‪ )1‬لثقيلة إل على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملقو ربهم ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫[يعلمون أنهم] (‪ )2‬محشورون إليه يوم القيامة ‪ ،‬معروضون عليه ‪ ،‬وأنهم إليه راجعون ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫سهُل‬
‫أمورهم راجعة إلى مشيئته ‪ ،‬يحكم فيها ما يشاء بعدله ‪ ،‬فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء َ‬
‫عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات‪.‬‬
‫فأما قوله ‪َ { :‬يظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِمْ } قال (‪ )3‬ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬العرب قد تسمي اليقين‬
‫ظنا ‪ ،‬والشك ظنًا ‪ ،‬نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة ‪ ،‬والضياء سُدفة ‪ ،‬والمغيث صارخا ‪ ،‬والمستغيث‬
‫صمّة ‪:‬‬
‫صارخًا ‪ ،‬وما أشبه ذلك من السماء التي يسمى بها الشيء وضدّه ‪ ،‬كما قال دُرَيد بن ال ّ‬
‫سيّ ال ُمسَرّدِ (‪)4‬‬
‫فقلت لهم ظُنّوا بألفي ُمدَجّجٍ‪ ...‬سَرَا ُتهُم في الفَار ِ‬
‫عمِيرة بن طارق ‪:‬‬
‫يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ‪ ،‬وقال َ‬
‫بِأنْ َيعْتَزُوا (‪ )5‬قومي وأقعُدَ فيكم‪ ...‬وأجعلَ مني الظنّ غيبا مرجمّا (‪)6‬‬
‫يعني ‪ :‬وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ‪ ،‬قال ‪ :‬والشواهد من أشعار العرب وكلمها على أن الظن‬
‫في معنى اليقين ‪ ،‬أكثر من أن تحصر ‪ ،‬وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ‪ ،‬ومنه قول ال تعالى‬
‫‪ { :‬وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّنهُمْ ُموَا ِقعُوهَا } [الكهف ‪.]53 :‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا أبو عاصم ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬عن‬
‫مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬كل ظن في القرآن يقين ‪ ،‬أي ‪ :‬ظننت وظَنوا‪.‬‬
‫حفَ ِريّ ‪ ،‬عن سفيان عن ابن أبي نَجيح ‪ ،‬عن‬
‫وحدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬حدثنا أبو داود ال َ‬
‫مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬كل ظن في القرآن فهو علم‪ .‬وهذا سند صحيح‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ َيظُنّونَ‬
‫أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِمْ } قال ‪ :‬الظن هاهنا يقين‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن مجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة نحو قول أبي العالية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬الوصية"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في طـ ‪ ،‬ب ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/18‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬نصروا" ‪ ،‬وفي ب ‪ ،‬أ ‪" :‬تعيروا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/18‬‬

‫( ‪)1/254‬‬

‫يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪)47‬‬

‫وقال سُنَيد ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ { :‬الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلقُو رَ ّب ِهمْ } علموا أنهم ملقو‬
‫حسَابِيَهْ } [الحاقة ‪ ]20 :‬يقول ‪ :‬علمت‪.‬‬
‫ربهم ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلقٍ ِ‬
‫وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وفي الصحيح ‪" :‬أن ال تعالى يقول للعبد يوم القيامة ‪ :‬ألم أزوجك ‪ ،‬ألم أكرمك ‪ ،‬ألم أسخر‬
‫لك الخيل والبل ‪ ،‬وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول ‪ :‬بلى‪ .‬فيقول ال تعالى ‪ :‬أفظننت أنك ملقي ؟‬
‫فيقول ‪ :‬ل‪ .‬فيقول ال ‪ :‬اليوم أنساك كما نسيتني"‪ .‬وسيأتي مبسوطا عند قوله ‪ { :‬نَسُوا اللّهَ فَنَسِ َيهُمْ‬
‫} [التوبة ‪ ]67 :‬إن شاء ال ‪ ،‬وال تعالى أعلم‪.‬‬
‫{ يَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪} )47‬‬
‫يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلفهم ‪ ،‬وما كان َفضّلهم به من إرسال الرسل منهم‬
‫علَى‬
‫وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر المم من أهل زمانهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وََلقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ َ‬
‫عِلْمٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } [الدخان ‪ ، ]32 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَِإذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ‬
‫جعََلكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا َلمْ ُي ْؤتِ أَحَدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [المائدة ‪.]20 :‬‬
‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء وَ َ‬
‫علَ ْيكُمْ إِذْ َ‬
‫اللّهِ َ‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ‬
‫عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } قال ‪ :‬بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان ؛‬
‫فإن لكل زمان عالما‪.‬‬
‫ورُوي عن مجاهد ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك ‪ ،‬ويجب الحمل‬
‫جتْ‬
‫على هذا ؛ لن هذه المة أفضل منهم ؛ لقوله تعالى خطابا لهذه المة ‪ { :‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ‬
‫ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَتُ ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وََلوْ آمَنَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرًا َلهُمْ }‬
‫لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫[آل عمران ‪ ]110 :‬وفي المسانيد والسنن (‪ )1‬عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أنتم تُوفُونَ سبعين أمة ‪ ،‬أنتم خيرها وأكرمها على ال"‪ .‬والحاديث في‬
‫جتْ لِلنّاسِ }‬
‫هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى ‪ { :‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬
‫[وقيل ‪ :‬المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ‪ ،‬ول يلزم تفضيلهم مطلقًا ‪ ،‬حكاه‬
‫فخر الدين الرازي وفيه نظر‪ .‬وقيل ‪ :‬إنهم فضلوا على سائر المم لشتمال أمتهم على النبياء‬
‫منهم ‪ ،‬حكاه القرطبي في تفسيره ‪ ،‬وفيه نظر ؛ لن { ا ْلعَاَلمِينَ } عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم‬
‫من النبياء ‪ ،‬فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ‪ ،‬ومحمد بعدهم وهو أفضل من‬
‫جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والخرة ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه وعلى إخوانه من النبياء‬
‫والمرسلين] (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وفي السنن والمسانيد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/255‬‬

‫ل وَلَا هُمْ‬
‫خذُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ‬
‫شفَاعَ ٌة وَلَا ُيؤْ َ‬
‫وَاتّقُوا َي ْومًا لَا تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَلَا ُيقْبَلُ مِ ْنهَا َ‬
‫يُ ْنصَرُونَ (‪)48‬‬

‫ل وَل هُمْ‬
‫خذُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ‬
‫شفَاعَةٌ وَل ُيؤْ َ‬
‫{ وَا ّتقُوا َي ْومًا ل تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَل ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫يُ ْنصَرُونَ (‪} )48‬‬
‫حلُول نقمه بهم يوم القيامة‬
‫لما ذكرهم [ال] (‪ )1‬تعالى بنعمه أول عطف على ذلك التحذير من ُ‬
‫فقال ‪ { :‬وَاتّقُوا َي ْومًا } يعني ‪ :‬يوم القيامة { ل َتجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا } أي ‪ :‬ل يغني أحد عن‬
‫أحد كما قال ‪ { :‬وَل تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى } [النعام ‪ ، ]164 :‬وقال ‪ِ { :‬ل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْن ُهمْ َي ْومَئِذٍ‬
‫شوْا َي ْومًا ل يَجْزِي وَاِلدٌ عَنْ‬
‫خَ‬‫شَأْنٌ ُيغْنِيهِ } [عبس ‪ ، ] 37 :‬وقال { يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُ ْم وَا ْ‬
‫ن وَالِ ِدهِ شَيْئًا } [لقمان ‪ ، ]33 :‬فهذه (‪ )2‬أبلغ المقامات ‪ :‬أن كل من‬
‫وَلَ ِد ِه وَل َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَ ْ‬
‫شفَاعَةٌ } يعني عن‬
‫الوالد وولده ل يغني أحدهما عن الخر شيئا ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬وَل ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ } [المدثر ‪ ، ]48 :‬وكما قال عن أهل النار ‪{ :‬‬
‫الكافرين ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬فمَا تَ ْن َف ُعهُمْ َ‬
‫حمِيمٍ } [الشعراء ‪ ، ]111 ، 110 :‬وقوله ‪ { :‬وَل ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا‬
‫َفمَا لَنَا مِنْ شَا ِفعِينَ * وَل صَدِيقٍ َ‬
‫عَ ْدلٌ } أي ‪ :‬ل يقبل منها فداء ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا َومَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْ‬
‫حدِهِمْ ِملْءُ الرْضِ ذَهَبًا وََلوِ افْتَدَى بِهِ } [آل عمران ‪ ] 91 :‬وقال ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْ أَنّ َلهُمْ‬
‫أَ َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫جمِيعًا َومِثْلَهُ َمعَهُ لِ َيفْتَدُوا ِبهِ مِنْ عَذَابِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَا ُتقُبّلَ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ َ‬
‫مَا فِي ال ْرضِ َ‬
‫[المائدة ‪ ] 36 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَإِنْ َتعْ ِدلْ ُكلّ عَ ْدلٍ ل ُيؤْخَذْ مِ ْنهَا } [النعام ‪ ، ] 70 :‬وقال ‪:‬‬
‫خذُ مِ ْنكُمْ ِفدْيَ ٌة وَل مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا } الية [الحديد ‪ ، ]15 :‬فأخبر تعالى أنهم إن لم‬
‫{ فَالْ َيوْمَ ل ُيؤْ َ‬
‫يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ‪ ،‬ووافوا ال يوم القيامة على ما هم عليه ‪ ،‬فإنه ل ينفعهم‬
‫قرابة قريب ول شفاعة ذي جاه ‪ ،‬ول يقبل منهم فداء ‪ ،‬ولو بملء الرض ذهبا ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫شفَاعَةٌ } [البقرة ‪ ، ]254 :‬وقال { ل بَ ْيعٌ فِي ِه وَل‬
‫{ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل بَيْعٌ فِي ِه وَل خُلّ ٌة وَل َ‬
‫خِللٌ } [إبراهيم ‪.] 31 :‬‬
‫خذُ‬
‫[وقال سنيد ‪ :‬حدثني حجاج ‪ ،‬حدثني ابن جريج ‪ ،‬قال ‪ :‬قال مجاهد ‪ :‬قال ابن عباس ‪ { :‬وَل ُيؤْ َ‬
‫مِ ْنهَا عَ ْدلٌ } قال ‪ :‬بدل ‪ ،‬والبدل ‪ :‬الفدية ‪ ،‬وقال السدي ‪ :‬أما عدل فيعدلها من العذاب يقول ‪ :‬لو‬
‫جاءت بملء الرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها ‪ ،‬وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪( ] ،‬‬
‫‪ .)3‬وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬وَل ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا‬
‫عَ ْدلٌ } يعني ‪ :‬فداء‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن أبي مالك ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس‬
‫‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا الثوري ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم التيمي ‪ ،‬عن أبيه عن علي ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬في حديث طويل ‪ ،‬قال ‪ :‬والصرف والعدل ‪ :‬التطوع والفريضة‪.‬‬
‫وكذا قال الوليد بن مسلم ‪ ،‬عن عثمان بن أبي العاتكة (‪ ، )4‬عن عمير بن هانئ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فهذا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬العالية"‪.‬‬

‫( ‪)1/256‬‬

‫وهذا القول غريب هنا ‪ ،‬والقول الول أظهر في تفسير هذه الية ‪ ،‬وقد ورد حديث يقويه ‪ ،‬وهو‬
‫ما قال ابن جرير ‪ :‬حدثني َنجِيح بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا علي بن حكيم ‪ ،‬حدثنا حميد بن عبد‬
‫عمْرو بن قيس الملئي (‪ ، )1‬عن رجل من بني أمية ‪ -‬من أهل الشام‬
‫الرحمن ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن َ‬
‫أحسن عليه الثناء ‪ -‬قال ‪ :‬قيل ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما العدل ؟ قال ‪" :‬العدل الفدية" (‪.)2‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ } أي ‪ :‬ول أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب ال ‪،‬‬
‫كما تقدم من أنه ل يعطف عليهم ذو قرابة ول ذو جاه ول يقبل منهم فداء‪ .‬هذا كله من جانب‬
‫التلطف ‪ ،‬ول لهم ناصر من أنفسهم ‪ ،‬ول من غيرهم ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬فمَا لَهُ مِنْ ُق ّوةٍ وَل نَاصِرٍ }‬
‫[الطارق ‪ ] 10 :‬أي ‪ :‬إنه تعالى ل يقبل فيمن كفر به ِفدْيَة ول شفاعة ‪ ،‬ول ينقذ أحدا من عذابه‬
‫منقذ ‪ ،‬ول يجيره منه أحد ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَ ُهوَ يُجِيرُ وَل ُيجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون ‪.] 88 :‬‬
‫حدٌ } [الفجر ‪ ، ] 26 25 :‬وقال { مَا َلكُ ْم ل‬
‫حدٌ * وَل يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَ َ‬
‫وقال { فَ َي ْومَئِ ٍذ ل ُي َع ّذبُ عَذَابَهُ أَ َ‬
‫تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ } [الصافات ‪ ، ] 26 ، 25 :‬وقال { فََلوْل َنصَرَ ُهمُ الّذِينَ‬
‫خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً َبلْ ضَلّوا عَ ْنهُمْ } الية [الحقاف ‪.]28 :‬‬
‫اتّ َ‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬مَا َلكُمْ ل تَنَاصَرُونَ } ما لكم اليوم ل تمانعون منا ؟‬
‫هيهات ليس ذلك لكم اليوم‪.‬‬
‫قال (‪ )3‬ابن جرير ‪ :‬وتأويل قوله ‪ { :‬وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ } يعني ‪ :‬أنهم يومئذ ل ينصرهم ناصر ‪،‬‬
‫كما ل يشفع لهم شافع ‪ ،‬ول يقبل منهم عدل ول فدية ‪َ ،‬بطَلت هنالك (‪ )4‬المحاباة واضمحلت‬
‫الرّشى والشفاعات ‪ ،‬وارتفع من القوم التعاون والتناصر ‪ ،‬وصار الحكم إلى عدل (‪ )5‬الجبار‬
‫الذي ل ينفع لديه الشفعاء والنصراء ‪ ،‬فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة (‪ )6‬أضعافها وذلك نظير‬
‫سِلمُونَ } [ الصافات‬
‫قوله تعالى ‪َ { :‬و ِقفُو ُهمْ إِ ّنهُمْ مَسْئُولُونَ* مَا َلكُمْ ل تَنَاصَرُونَ* َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَ ْ‬
‫‪] 26 - 24 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬المل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)2/34‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬هنا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬العدل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فيجزي بالسيئة مثلها والحسنة"‪.‬‬

‫( ‪)1/257‬‬

‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُك ْم َوفِي َذِلكُمْ‬
‫وَإِذْ َنجّيْنَاكُمْ مِنْ َآلِ فِرْ َ‬
‫ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ (‪)50‬‬
‫عوْ َ‬
‫بَلَاءٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَظِيمٌ (‪ )49‬وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْبَحْرَ فَأَ ْنجَيْنَاكُ ْم وَأَغْ َرقْنَا َآلَ فِرْ َ‬

‫عوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ أَبْنَا َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ ِنسَا َءكُ ْم َوفِي ذَِلكُمْ‬
‫{ وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْ َ‬
‫ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ (‪)50‬‬
‫عوْ َ‬
‫بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَظِيمٌ (‪ )49‬وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْبَحْرَ فَأَ ْنجَيْنَاكُ ْم وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ‬
‫}‬
‫عوْنَ" أي ‪:‬‬
‫يقول تعالى (‪ )1‬واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم "إِذْ َنجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬يقول ال تبارك وتعالى"‪.‬‬

‫( ‪)1/257‬‬

‫خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة (‪ )1‬موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وقد كانوا يسومونكم ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب‪ .‬وذلك أن فرعون ‪ -‬لعنه ال ‪ -‬كان قد رأى رؤيا‬
‫هالته ‪ ،‬رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلد مصر ‪ ،‬إل بيوت بني إسرائيل‬
‫‪ ،‬مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ‪ ،‬ويقال ‪ :‬بل تحدث سماره‬
‫عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم ‪ ،‬يكون لهم به دولة ورفعة ‪ ،‬وهكذا جاء في‬
‫حديث الفُتُون ‪ ،‬كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] (‪ )2‬إن شاء ال ‪ ،‬فعند ذلك أمر فرعون ‪-‬‬
‫لعنه ال ‪ -‬بقتل كل [ذي] (‪ )3‬ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل ‪ ،‬وأن تترك البنات ‪ ،‬وأمر‬
‫باستعمال بني إسرائيل في مشاق العمال وأراذلها‪.‬‬
‫وهاهنا فسر العذاب بذبح البناء ‪ ،‬وفي سورة إبراهيم عطف عليه ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬يسُومُو َنكُمْ سُوءَ‬
‫ب ويُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ } [إبراهيم ] وسيأتي تفسير (‪ )4‬ذلك في أول سورة‬
‫ا ْلعَذَا ِ‬
‫القصص ‪ ،‬إن شاء ال تعالى ‪ ،‬وبه الثقة والمعونة والتأييد‪.‬‬
‫ومعنى { َيسُومُو َنكُمْ } أي ‪ :‬يولونكم ‪ ،‬قاله أبو عبيدة ‪ ،‬كما يقال سامه خطة خسف إذا أوله إياها ‪،‬‬
‫قال عمرو بن كلثوم ‪:‬‬
‫إذا ما الملك سام الناس خسفا‪ ...‬أبينا أن نقر الخسف فينا‪...‬‬
‫وقيل ‪ :‬معناه ‪ :‬يديمون عذابكم ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬سائمة الغنم من إدامتها الرعي ‪ ،‬نقله القرطبي ‪ ،‬وإنما‬
‫قال هاهنا ‪ { :‬يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله ‪:‬‬
‫{ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ } ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْي ُكمْ } وأما في‬
‫سورة إبراهيم فلما قال ‪ { :‬وَ َذكّرْ ُهمْ بِأَيّامِ اللّهِ } [إبراهيم ‪ ، ]5 :‬أي ‪ :‬بأياديه ونعمه عليهم فناسب‬
‫أن يقول هناك ‪ { :‬يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ ويُذَبّحُونَ أَبْنَا َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ ِنسَا َءكُمْ } فعطف عليه‬
‫الذبح ليدل على تعدد النعم واليادي‪.‬‬
‫وفرعون علم على كل مَنْ مََلكَ مصر ‪ ،‬كافرًا من العماليق (‪ )5‬وغيرهم ‪ ،‬كما أن قيصر علم على‬
‫كل من ملك الروم مع الشام كافرًا ‪ ،‬وكسرى لكل من ملك الفرس ‪ ،‬وتُبّع لمن ملك اليمن كافرا‬
‫[والنجاشي لمن ملك الحبشة ‪ ،‬وبطليموس لمن ملك الهند] (‪ )6‬ويقال ‪ :‬كان اسم فرعون الذي كان‬
‫في زمن موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬الوليد بن مصعب بن الريان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مصعب بن الريان ‪ ،‬أيا ما‬
‫كان فعليه لعنة ال ‪[ ،‬وكان من سللة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح ‪ ،‬وكنيته أبو مرة ‪،‬‬
‫وأصله فارسي من استخر] (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بصحبة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬تفصيل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬العمالقة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/258‬‬

‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وفِي ذَِلكُمْ بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ عَظِيمٌ } قال ابن جرير ‪ :‬وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا‬
‫إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلء لكم من ربكم عظيم‪ .‬أي ‪ :‬نعمة عظيمة عليكم في‬
‫ذلك (‪.)1‬‬
‫عظِيمٌ } قال ‪ :‬نعمة‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس [في] (‪ )2‬قوله ‪ { :‬بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ َ‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬بَلءٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَظِيمٌ } قال ‪ :‬نعمة من ربكم عظيمة‪ .‬وكذا قال أبو العالية ‪ ،‬وأبو‬
‫مالك ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وأصل البلء ‪ :‬الختبار ‪ ،‬وقد يكون بالخير والشر ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَنَبْلُوكُمْ بِالشّ ّر وَا ْلخَيْرِ‬
‫ت وَالسّيّئَاتِ } [العراف ‪.]168 :‬‬
‫فِتْنَةً } [النبياء ‪ ، ]25 :‬وقال ‪ { :‬وَبََلوْنَاهُمْ بِا ْلحَسَنَا ِ‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وأكثر ما يقال في الشر ‪ :‬بلوته أبلوه بَلءً ‪ ،‬وفي الخير ‪ :‬أبليه إبلء وبلء ‪ ،‬قال‬
‫زهير بن أبي سلمى ‪:‬‬
‫جزى ال بالحسان ما َفعَل بكُم‪ ...‬وأبلهما خَيْرَ البلءِ الذي يَبْلُو (‪)3‬‬
‫قال ‪ :‬فجمع بين اللغتين ؛ لنه أراد فأنعم ال عليهما خير النعم التي َيخْتَبر بها عباده‪.‬‬
‫[وقيل ‪ :‬المراد بقوله ‪َ { :‬وفِي ذَِل ُكمْ بَلءٌ } إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح‬
‫البناء واستحياء النساء ؛ قال القرطبي ‪ :‬وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الول ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪ :‬وقال الجمهور ‪ :‬الشارة إلى الذبح ونحوه ‪ ،‬والبلء هاهنا في الشر ‪ ،‬والمعنى في الذبح‬
‫مكروه وامتحان] (‪.)4‬‬
‫ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } معناه ‪ :‬وبعد‬
‫عوْ َ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْبَحْرَ فَأَ ْنجَيْنَاكُ ْم وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ‬
‫أن أنقذناكم من آل فرعون ‪ ،‬وخرجتم مع موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬خرج (‪ )5‬فرعون في طلبكم ‪،‬‬
‫ففرقنا بكم البحر ‪ ،‬كما أخبر تعالى عن ذلك مفصل (‪ )6‬كما سيأتي في مواضعه (‪ )7‬ومن أبسطها‬
‫في سورة الشعراء إن شاء ال‪.‬‬
‫{ فَأَ ْنجَيْنَاكُمْ } أي ‪ :‬خلصناكم منهم ‪ ،‬وحجزنا بينكم وبينهم ‪ ،‬وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون‬
‫ذلك أشفى لصدوركم ‪ ،‬وأبلغ في إهانة عدوكم‪.‬‬
‫قال (‪ )8‬عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا َمعْمر ‪ ،‬عن أبي إسحاق ال َهمْداني ‪ ،‬عن عمرو بن ميمون الودي في‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْ َبحْرَ } إلى قوله ‪ { :‬وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } قال ‪ :‬لما خرج موسى ببني‬
‫إسرائيل ‪ ،‬بلغ ذلك فرعون فقال ‪ :‬ل تتبعوهم حتى تصيح الديكة‪ .‬قال ‪ :‬فوال ما صاح ليلتئذ ديك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أي نعمة عليكم عظيمة في ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/49‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وخرج"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬مفصل عن ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬مفصل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/259‬‬

‫حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة َفذُبحت ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬ل أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من‬
‫القبط‪ .‬فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ‪ ،‬فلما أتى موسى‬
‫البحر ‪ ،‬قال له رجل من أصحابه ‪ ،‬يقال له ‪ :‬يوشع بن نون ‪ :‬أين أمَرَ ربك ؟ قال ‪ :‬أمامك ‪،‬‬
‫يشير إلى البحر‪ .‬فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ ال َغمْرَ ‪ ،‬فذهب به الغمر ‪ ،‬ثم رجع‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوال ما كذبت ول كُذبت (‪ .)1‬فعل ذلك ثلث مرات ‪ ،‬ثم أوحى ال إلى‬
‫طوْدِ ا ْلعَظِيمِ } [الشعراء‬
‫موسى ‪ { :‬أَنِ اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَا ْنفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ‬
‫‪ ، ] 63 :‬يقول ‪ :‬مثل الجبل‪ .‬ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ‪ ،‬حتى إذا‬
‫ن وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } (‪.)2‬‬
‫عوْ َ‬
‫تتاموا فيه أطبقه ال عليهم فلذلك قال ‪ { :‬وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ‬
‫وكذلك قال غير واحد من السلف ‪ ،‬كما سيأتي بيانه في موضعه (‪ .)3‬وقد ورد أن هذا اليوم كان‬
‫يوم عاشوراء ‪ ،‬كما قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا عبد الوارث ‪ ،‬حدثنا أيوب ‪ ،‬عن عبد ال بن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم‬
‫عاشوراء ‪ ،‬فقال ‪" :‬ما هذا اليوم الذي تصومون ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬هذا يوم صالح ‪ ،‬هذا يوم نجى ال عز‬
‫وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم (‪ ، )4‬فصامه موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬أنا أحق بموسى منكم"‪ .‬فصامه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأمر بصومه‪.‬‬
‫وروى هذا الحديث البخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجه من طرق ‪ ،‬عن أيوب السختياني ‪،‬‬
‫به (‪ )5‬نحو ما تقدم‪.‬‬
‫وقال أبو يعلى الموصلي ‪ :‬حدثنا أبو الربيع ‪ ،‬حدثنا سلم ‪ -‬يعني ابن سليم ‪ -‬عن زيد ال َعمّيّ عن‬
‫يزيد الرقاشي عن أنس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬فلق ال البحر لبني إسرائيل يوم‬
‫عاشوراء " (‪.)6‬‬
‫وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا ال َع ّميّ فيه ضعف ‪ ،‬وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ول كذبت" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬وكذبت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/67‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬كما سيأتي في موضعه إن شاء ال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬من الغرق ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬من غرقهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )1/291‬وصحيح البخاري برقم (‪ )2004‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1130‬‬
‫(‪ )6‬مسند أبي يعلى (‪.)7/133‬‬

‫( ‪)1/260‬‬

‫ع َفوْنَا عَ ْنكُمْ مِنْ‬


‫جلَ مِنْ َبعْ ِدهِ وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ (‪ُ )51‬ثمّ َ‬
‫وَإِ ْذ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْ َبعِينَ لَيَْلةً ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬
‫ب وَا ْلفُ ْرقَانَ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ (‪ )53‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى‬
‫شكُرُونَ (‪ )52‬وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَا َ‬
‫َبعْدِ ذَِلكَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ‬
‫جلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫سكُمْ بِاتّخَا ِذ ُكمُ ا ْلعِ ْ‬
‫ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ إِ ّنكُمْ ظََلمْتُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‪)54‬‬

‫ع َفوْنَا عَ ْنكُمْ مِنْ‬


‫جلَ مِنْ َبعْ ِد ِه وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ (‪ )51‬ثُمّ َ‬
‫خذْتُمُ ا ْلعِ ْ‬
‫{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً ُثمّ اتّ َ‬
‫شكُرُونَ (‪} )52‬‬
‫َبعْدِ ذَِلكَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫يقول تعالى ‪ :‬واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم ‪َ ،‬لمّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات‬
‫ربه ‪ ،‬عند انقضاء أمَد المواعدة ‪ ،‬وكانت أربعين يومًا ‪ ،‬وهي المذكورة في العراف ‪ ،‬في قوله‬
‫تعالى ‪َ { :‬ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلثِينَ لَيْلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ } [العراف ‪ ]142 :‬قيل ‪ :‬إنها ذو القعدة‬
‫بكماله وعشر من ذي الحجة ‪ ،‬وكان ذلك بعد خلصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر‪.‬‬
‫{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ وَالْفُ ْرقَانَ َلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ (‪} )53‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } يعني ‪ :‬التوراة { وَا ْلفُ ْرقَانَ } وهو ما َيفْرق بين الحق‬
‫والباطل ‪ ،‬والهدى والضلل { َلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ } وكان ذلك ‪ -‬أيضا ‪ -‬بعد خروجهم من البحر ‪ ،‬كما‬
‫دل عليه سياق الكلم في سورة العراف‪ .‬ولقوله (‪ )1‬تعالى ‪ { :‬وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِنْ َب ْعدِ‬
‫حمَةً َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } [القصص ‪.]43 :‬‬
‫س وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫مَا أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الولَى َبصَائِرَ لِلنّا ِ‬
‫وقيل ‪ :‬الواو زائدة ‪ ،‬والمعنى ‪ :‬ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬عطف‬
‫عليه وإن كان المعنى واحدًا ‪ ،‬كما في قول الشاعر ‪:‬‬
‫وقدمت الديم لراقشيه‪ ...‬فألفى قولها كذبًا ومينا‪...‬‬
‫وقال الخر ‪:‬‬
‫أل حبذا هند وأرض بها هند‪ ...‬وهند أتى من دونها النأي والبعد‪...‬‬
‫فالكذب هو المين ‪ ،‬والنأي ‪ :‬هو البعد‪ .‬وقال عنترة ‪:‬‬
‫حييت من طلل تقادم عهده‪ ...‬أقوى وأقفر بعد أم الهيثم‪...‬‬
‫فعطف القفار على القواء وهو هو‪.‬‬
‫سكُمْ‬
‫جلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫س ُكمْ بِاتّخَا ِذكُمُ ا ْل ِع ْ‬
‫{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ إِ ّنكُمْ ظََلمْتُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫ذَِلكُمْ خَيْرٌ َل ُكمْ عِنْدَ بَارِ ِئ ُكمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‪.} )54‬‬
‫هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل ‪ ،‬قال الحسن البصري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في‬
‫جلَ } فقال ‪ :‬ذلك حين‬
‫سكُمْ بِاتّخَا ِذكُمُ ا ْلعِ ْ‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َقوْمِهِ يَا َقوْمِ إِ ّنكُمْ ظََلمْتُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫سقِطَ فِي أَيْدِي ِه ْم وَرََأوْا‬
‫وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال ال تعالى ‪ { :‬وََلمّا ُ‬
‫حمْنَا رَبّنَا وَ َيغْفِرْ لَنَا } الية [العراف ‪.]149 :‬‬
‫أَ ّنهُمْ َق ْد ضَلّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَ ْر َ‬
‫جلَ }‬
‫سكُمْ بِاتّخَا ِذكُمُ ا ْلعِ ْ‬
‫قال ‪ :‬فذلك حين يقول موسى ‪ { :‬يَا َقوْمِ إِ ّن ُكمْ ظََلمْ ُتمْ أَ ْنفُ َ‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ { :‬فَتُوبُوا إِلَى بَارِ ِئكُمْ } أي إلى خالقكم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وفي قوله هاهنا ‪ { :‬إِلَى بَارِ ِئ ُكمْ } تنبيه على عظم جرمهم ‪ ،‬أي ‪ :‬فتوبوا إلى الذي خلقكم‬
‫وقد عبدتم معه غيره‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" " :‬وكقوله"‪.‬‬

‫( ‪)1/261‬‬

‫وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ‪ ،‬من حديث يزيد بن هارون ‪ ،‬عن الصبغ بن زيد‬
‫الوراق عن القاسم بن أبي أيوب ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ال تعالى ‪:‬‬
‫إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد (‪ )1‬فيقتله بالسيف ‪ ،‬ول يبالي من‬
‫قتل في ذلك الموطن‪ .‬فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع ال من ذنوبهم ‪،‬‬
‫فاعترفوا بها ‪ ،‬وفعلوا ما أمروا به فغفر ال تعالى للقاتل والمقتول‪ .‬وهذا (‪ )2‬قطعة من حديث‬
‫الفُتُون ‪ ،‬وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله ‪ ،‬إن شاء ال (‪.)3‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني عبد الكريم بن الهيثم ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن بَشّار ‪ ،‬حدثنا سفيان بن عيينة ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال أبو سعيد ‪ :‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال موسى لقومه ‪ { :‬فَتُوبُوا إِلَى‬
‫سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ } قال ‪ :‬أمر‬
‫بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫موسى قومه ‪ -‬من أمر ربه عز وجل ‪ -‬أن يقتلوا أنفسهم قال ‪ :‬واحتبى الذين عبدوا (‪ )4‬العجل‬
‫فجلسوا ‪ ،‬وقام الذين لم يعكفوا على العجل ‪ ،‬فأخذوا الخناجر بأيديهم ‪ ،‬وأصابتهم ظُلّة (‪ )5‬شديدة ‪،‬‬
‫فجعل يقتل بعضهم بعضا ‪ ،‬فانجلت الظلّة (‪ )6‬عنهم ‪ ،‬وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل ‪ ،‬كل من‬
‫قتل منهم كانت له توبة ‪ ،‬وكل من بقي كانت له توبة‪.‬‬
‫وقال ابن جُرَيْج ‪ :‬أخبرني القاسم بن أبي بَزّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا يقولن في قوله‬
‫سكُمْ } قال قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا ‪ ،‬ل يحنو رجل‬
‫تعالى ‪ { :‬فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫شفَ عن سبعين ألف‬
‫على قريب ول بعيد ‪ ،‬حتى ألوى موسى بثوبه ‪ ،‬فطرحوا ما بأيديهم ‪ ،‬فكُ ِ‬
‫قتيل‪ .‬وإن ال أوحى إلى موسى ‪ :‬أن حَسْبي ‪ ،‬فقد اكتفيت ‪ ،‬فذلك حين ألوى موسى بثوبه ‪،‬‬
‫[وروي عن علي رضي ال عنه نحو ذلك] (‪.)7‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬أمر القوم بشديد من المر ‪ ،‬فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ‪ ،‬حتى بلغ‬
‫ال فيهم نقمته ‪ ،‬فسقطت الشفار من أيديهم ‪ ،‬فأمسك عنهم القتل ‪ ،‬فجعل لحيهم توبة ‪ ،‬وللمقتول‬
‫شهادة‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ :‬أصابتهم ظلمة حنْدس ‪ ،‬فقتل بعضهم بعضا [نقمة] (‪ )8‬ثم انكشف عنهم ‪،‬‬
‫فجعل توبتهم في ذلك‪.‬‬
‫س ُكمْ } قال ‪ :‬فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ‪،‬‬
‫وقال السدي في قوله ‪ { :‬فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا ‪ ،‬حتى كثر القتل ‪ ،‬حتى كادوا أن يهلكوا ‪ ،‬حتى قتل بينهم (‪)9‬‬
‫سبعون ألفًا ‪ ،‬وحتى دعا موسى وهارون ‪ :‬ربنا أهلكت بني إسرائيل ‪ ،‬ربنا البقيةَ البقيةَ ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬أو والد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وهذه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬وهو في سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )11326‬وسيأتي عند الموضع الذي أشار إليه الحافظ‬
‫ابن كثير‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬عكفوا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ظلمة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الظلمة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬وفي أ ‪ ،‬و ‪" :‬وروي عن علي رحمة ال عليه نحو ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬منهم"‪.‬‬
‫( ‪)1/262‬‬

‫عقَ ُة وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ (‪ )55‬ثُمّ‬


‫خذَ ْتكُمُ الصّا ِ‬
‫جهْ َرةً فَأَ َ‬
‫وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫شكُرُونَ (‪)56‬‬
‫َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬

‫فأمرهم أن يضعوا السلح وتاب عليهم ‪ ،‬فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا ‪ ،‬ومن بقي ُمكَفّرا‬
‫عنه ؛ فذلك قوله ‪ { :‬فَتَابَ عَلَ ْي ُكمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }‬
‫وقال الزهري ‪ :‬لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها ‪ ،‬برزوا ومعهم موسى ‪ ،‬فاضطربوا بالسيوف‬
‫‪ ،‬وتطاعنوا بالخناجر ‪ ،‬وموسى رافع يديه ‪ ،‬حتى إذا أفنوا بعضهم (‪ ، )1‬قالوا ‪ :‬يا نبي ال ‪ ،‬ادع‬
‫ال لنا‪ .‬وأخذوا بعضُديه يسندون يديه ‪ ،‬فلم يزل أمرهم على ذلك ‪ ،‬حتى إذا قبل ال توبتهم قبض‬
‫أيديهم ‪ ،‬بعضهم عن بعض ‪ ،‬فألقوا السلح ‪ ،‬وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم‬
‫‪ ،‬فأوحى ال ‪ ،‬جل ثناؤه ‪ ،‬إلى موسى ‪ :‬ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون ‪ ،‬وأما‬
‫من بقي فقد قبلت توبته‪ .‬فسُرّ بذلك موسى ‪ ،‬وبنو إسرائيل‪.‬‬
‫رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه‪.‬‬
‫وقال ابن إسحاق ‪ :‬لما رجع موسى إلى قومه ‪ ،‬وأحرق العجل وذَرّاه في اليم ‪ ،‬خرج إلى ربه بمن‬
‫اختار من قومه ‪ ،‬فأخذتهم الصاعقة ‪ ،‬ثم بُعثوا ‪ ،‬فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة‬
‫العجل‪ .‬فقال ‪ :‬ل إل أن يقتلوا أنفسهم قال ‪ :‬فبلغني أنهم قالوا لموسى ‪ :‬نَصبر لمر ال‪ .‬فأمر‬
‫موسى من لم يكن عبد العجل أن َيقْتُل من عبده‪ .‬فجلسوا بالفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف ‪،‬‬
‫فجعلوا يقتلونهم ‪ ،‬وبكى موسى ‪ ،‬وَ َبهَش إليه النساء والصبيان ‪ ،‬يطلبون العفو عنهم ‪ ،‬فتاب ال‬
‫عليهم ‪ ،‬وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬لما رجع موسى إلى قومه ‪ ،‬وكان (‪ )2‬سبعون (‪ )3‬رجل قد‬
‫اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه‪ .‬فقال لهم موسى ‪ :‬انطلقوا إلى موعد ربكم‪ .‬فقالوا ‪ :‬يا موسى‬
‫سكُمْ َذِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ } الية ‪،‬‬
‫‪ ،‬ما من (‪ )4‬توبة ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ { ،‬فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين‪ .‬قال ‪ :‬وبعث عليهم ضبابة‪ .‬قال ‪ :‬فجعلوا‬
‫يتلمسون باليدي ‪ ،‬ويقتل بعضهم بعضًا‪ .‬قال ‪ :‬ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ول يدري‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ويتنادون [فيها] (‪ : )5‬رحم ال عبدا صبر نفسه حتى يبلغ ال رضاه ‪ ،‬قال ‪ :‬فقتلهم شهداء ‪،‬‬
‫وتيب على أحيائهم ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬فَتَابَ عَلَ ْي ُكمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }‬
‫{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬بعضهم بعضا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وكانوا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬سبعين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬هل من"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/263‬‬

‫عقَ ُة وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ (‪ُ )55‬ثمّ َبعَثْنَاكُمْ مِنْ‬


‫خذَ ْتكُمُ الصّا ِ‬
‫جهْ َرةً فَأَ َ‬
‫مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫شكُرُونَ (‪} )56‬‬
‫َبعْدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫يقول تعالى ‪ :‬واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ‪ ،‬إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا ‪ ،‬مما‬
‫ل يستطاع (‪ )1‬لكم ول لمثالكم ‪ ،‬كما قال ابن جريج ‪ ،‬قال ابن عباس في هذه الية ‪ { :‬وَِإذْ قُلْتُمْ‬
‫جهْ َرةً } قال ‪ :‬علنية‪.‬‬
‫يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق ‪ ،‬عن أبي الحويرث ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬أنه قال‬
‫جهْ َرةً } أي علنية ‪ ،‬أي حتى نرى ال‪.‬‬
‫في قول ال تعالى ‪ { :‬لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫جهْ َرةً } أي عيانا‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ { :‬حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس ‪ :‬هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه‪ .‬قال ‪:‬‬
‫جهْ َرةً } قال ‪ :‬فسمعوا صوتًا فصعقوا ‪،‬‬
‫فسمعوا كلما ‪ ،‬فقالوا ‪ { :‬لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫يقول ‪ :‬ماتوا‪.‬‬
‫وقال مروان بن الحكم ‪ ،‬فيما خطب به على منبر مكة ‪ :‬الصاعقة ‪ :‬صيحة من السماء‪.‬‬
‫عقَةُ } الصاعقة ‪ :‬نار‪.‬‬
‫وقال السدي في قوله ‪ { :‬فَأَخَذَ ْت ُكمُ الصّا ِ‬
‫وقال عروة بن رويم في قوله ‪ { :‬وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ } قال ‪ :‬فصعق بعضهم وبعض ينظرون (‪، )2‬‬
‫ثم بعث هؤلء وصعق هؤلء‪.‬‬
‫عقَةُ } فماتوا ‪ ،‬فقام موسى يبكي ويدعو ال ‪ ،‬ويقول ‪ :‬رب ‪ ،‬ماذا‬
‫خذَ ْتكُمُ الصّا ِ‬
‫وقال السدي ‪ { :‬فَأَ َ‬
‫أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم { َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َتهُمْ مِنْ قَ ْبلُ وَإِيّايَ أَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ‬
‫س َفهَاءُ مِنّا } [العراف ‪ .]155 :‬فأوحى ال إلى موسى أن هؤلء السبعين ممن اتخذوا العجل ‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫ثم إن ال أحياهم فقاموا وعاشوا (‪ )3‬رجلٌ رجلٌ ‪ ،‬ينظر (‪ )4‬بعضهم إلى بعض ‪ :‬كيف يحيون ؟‬
‫شكُرُونَ }‬
‫قال ‪ :‬فذلك قوله تعالى ‪ُ { :‬ثمّ َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َب ْعدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ :‬كان موتهم عقوبة لهم ‪ ،‬فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم‪ .‬وكذا قال‬
‫قتادة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن حميد ‪ ،‬حدثنا سلمة بن الفضل ‪ ،‬عن محمد بن إسحاق ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ‪ ،‬وقال لخيه وللسامري ما قال ‪،‬‬
‫وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم ‪ ،‬اختار موسى منهم سبعين (‪ )5‬رجل الخَيّرَ فالخير ‪ ،‬وقال ‪ :‬انطلقوا‬
‫إلى ال وتوبوا إلى ال مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ‪ ،‬صوموا‬
‫وتطهروا وطهروا ثيابكم‪ .‬فخرج بهم إلى طور سيناء (‪ )6‬لميقات وقّتَه له ربه ‪ ،‬وكان ل يأتيه إل‬
‫بإذن منه وعِلْم ‪ ،‬فقال له السبعون ‪ ،‬فيما ذكر لي ‪ ،‬حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء ال ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬اطلب لنا إلى ربك نسمع كلم ربنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬أفعل‪ .‬فلما دنا موسى من الجبل ‪،‬‬
‫وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ‪ ،‬ودنا موسى فدخل فيه ‪ ،‬وقال للقوم ‪ :‬ادنوا‪ .‬وكان موسى‬
‫إذا كلمه ال (‪ )7‬وقع على جبهته نور ساطع ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬يتطلع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ينظر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وعاش"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فنظر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬سبعون" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬الطور سينين"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬كلمه ربه"‪.‬‬

‫( ‪)1/264‬‬

‫ل يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ‪ ،‬فضرب دونه (‪ )1‬بالحجاب ‪ ،‬ودنا القوم حتى إذا‬
‫دخلوا في الغمام وقعوا سجودا (‪ )2‬فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ‪ :‬افعل ول تفعل‪ .‬فلما‬
‫فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام ‪ ،‬فأقبل إليهم ‪ ،‬فقالوا لموسى ‪ { :‬لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى‬
‫جهْ َرةً } فأخذتهم الرجفة (‪ ، )3‬وهي الصاعقة ‪ ،‬فماتوا جميعًا‪ .‬وقام موسى يناشد ربه‬
‫نَرَى اللّهَ َ‬
‫ويدعوه ويرغب إليه ‪ ،‬ويقول ‪َ { :‬ربّ َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َت ُهمْ مِنْ قَ ْبلُ [وَإِيّايَ ] (‪[ } )4‬العراف ‪:‬‬
‫‪ ]155‬قد سفهوا ‪ ،‬أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي ‪ :‬إن هذا لهم‬
‫هلك‪ .‬اخترتُ منهم سبعين رجل الخَيّر فالخير ‪ ،‬أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما‬
‫الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ { إِنّا ُهدْنَا إِلَ ْيكَ } [العراف ‪ ]156 :‬فلم يزل موسى‬
‫يناشد ربه عز وجل ‪ ،‬ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم ‪ ،‬وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من‬
‫عبادة العجل ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل ؛ إل أن يقتلوا أنفسهم (‪.)5‬‬
‫هذا سياق محمد بن إسحاق‪.‬‬
‫وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ‪ :‬لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب ال‬
‫عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ‪ ،‬أمر ال موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل ‪،‬‬
‫يعتذرون إليه من عبادة العجل ‪ ،‬ووعدهم موسى ‪ ،‬فاختار موسى قومه سبعين رجل على عَينه ‪،‬‬
‫ثم ذهب بهم ليعتذروا‪ .‬وساق البقية‪.‬‬
‫[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله ‪ { :‬وَإِذْ قُلْ ُتمْ يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ‬
‫جهْ َرةً } والمراد السبعون المختارون منهم ‪ ،‬ولم يحك كثير من المفسرين‬
‫َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫سواه ‪ ،‬وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلء السبعين ‪ :‬أنهم بعد‬
‫إحيائهم قالوا ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬إنك ل تطلب من ال شيئا إل أعطاك ‪ ،‬فادعه أن يجعلنا أنبياء ‪ ،‬فدعا‬
‫بذلك فأجاب ال دعوته ‪ ،‬وهذا غريب جدا ‪ ،‬إذ ل يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم‬
‫يوشع بن نون ‪ ،‬وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلء رأوا ال عز وجل ‪ ،‬فإن موسى‬
‫الكليم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلء السبعون ؟‬
‫القول الثاني في الية] (‪ )6‬قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الية ‪ :‬قال لهم موسى‬
‫‪ -‬لما رجع من عند ربه باللواح ‪ ،‬قد كتب فيها التوراة ‪ ،‬فوجدهم يعبدون العجل ‪ ،‬فأمرهم بقتل‬
‫أنفسهم ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬فتاب ال عليهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن هذه اللواح فيها كتاب ال ‪ ،‬فيه (‪ )7‬أمركم الذي‬
‫أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه‪ .‬فقالوا ‪ :‬ومن يأخذه بقولك أنت ؟ ل وال حتى نرى ال جهرة ‪،‬‬
‫حتى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬دونهما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬سجدا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬الصاعقة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)2/77‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فيها كتاب ال الذي"‪.‬‬

‫( ‪)1/265‬‬

‫ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم َومَا ظََلمُونَا وََلكِنْ‬
‫وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ (‪)57‬‬
‫كَانُوا أَ ْنفُ َ‬

‫يطلع ال علينا فيقول ‪ :‬هذا كتابي فخذوه ‪ ،‬فما له ل يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول‬
‫جهْ َرةً } قال ‪ :‬فجاءت غضبة من ال ‪ ،‬فجاءتهم صاعقة بعد‬
‫ال ‪ { :‬لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫التوبة ‪ ،‬فصعقتهم فماتوا أجمعون‪ .‬قال ‪ :‬ثم أحياهم ال من بعد موتهم ‪ ،‬وقرأ قول ال ‪ { :‬ثُمّ‬
‫شكُرُونَ } فقال لهم موسى ‪ :‬خذوا كتاب ال‪ .‬فقالوا ‪ :‬ل فقال ‪ :‬أي‬
‫َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫شيء أصابكم ؟ فقالوا ‪ :‬أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا‪ .‬قال (‪ : )1‬خذوا كتاب ال‪ .‬قالوا ‪ :‬ل‪ .‬فبعث ال‬
‫ملئكة فنتقت الجبل فوقهم‪.‬‬
‫[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا‪ .‬وقد حكى الماوردي في ذلك قولين ‪ :‬أحدهما ‪:‬‬
‫أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم المر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق ؛ والثاني ‪:‬‬
‫أنهم مكلفون لئل يخلو عاقل من تكليف ‪ ،‬قال القرطبي ‪ :‬وهذا هو الصحيح لن معاينتهم للمور‬
‫الفظيعة ل تمنع تكليفهم ؛ لن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات ‪ ،‬وهم‬
‫في ذلك مكلفون وهذا واضح ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)2‬‬
‫ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُك ْم َومَا ظََلمُونَا وََلكِنْ‬
‫ظلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنزلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ (‪} )57‬‬
‫كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ‪ ،‬شرع يذكرهم ‪ -‬أيضا ‪ -‬بما أسبغ عليهم من النعم ‪ ،‬فقال‬
‫‪َ { :‬وظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَامَ } وهو جمع غمامة ‪ ،‬سمي بذلك لنه َيغُمّ السماء ‪ ،‬أي ‪ :‬يواريها‬
‫ويسترها‪ .‬وهو السحاب البيض ‪ ،‬ظُلّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس‪ .‬كما رواه النسائي وغيره‬
‫عن ابن عباس في حديث الفُتُون ‪ ،‬قال ‪ :‬ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن عمر ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وأبي مجلز ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫والسدي ‪ ،‬نحو قول ابن عباس‪.‬‬
‫وقال الحسن وقتادة ‪ { :‬وَظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَامَ } [قال] (‪ )3‬كان هذا في البرية (‪ )4‬ظلل عليهم الغمام‬
‫من الشمس‪.‬‬
‫وقال ابن جرير (‪ )5‬قال آخرون ‪ :‬وهو غمام أبرد من هذا ‪ ،‬وأطيب‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو حذيفة ‪ ،‬حدثنا شبل ‪ ،‬عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد‬
‫‪َ { :‬وظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَامَ } (‪ )6‬قال ‪ :‬ليس بالسحاب ‪ ،‬هو الغمام الذي يأتي ال فيه يوم القيامة ‪،‬‬
‫ولم يكن إل لهم‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن جرير ‪ ،‬عن المثنى بن إبراهيم ‪ ،‬عن أبي حذيفة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬في التيه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ابن جريج"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬عليهم" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/266‬‬
‫وكذا رواه الثوري ‪ ،‬وغيره ‪ ،‬عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬وكأنه يريد ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬أنه‬
‫ليس من ِزيّ هذا السحاب ‪ ،‬بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا ‪ ،‬كما قال سنيد في تفسيره عن‬
‫حجاج بن محمد ‪ ،‬عن ابن جريج قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ { :‬وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َغمَامَ } قال ‪ :‬غمام أبرد‬
‫من هذا وأطيب ‪ ،‬وهو الذي يأتي ال فيه في قوله ‪َ { :‬هلْ يَنْظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َي ُهمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ‬
‫ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَةُ } [البقرة ‪ ]210 :‬وهو الذي جاءت فيه الملئكة يوم بدر‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬وكان‬
‫معهم في التيه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَأَنزلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَنّ } اختلفت عبارات المفسرين في المن ‪ :‬ما هو ؟ فقال علي بن أبي‬
‫طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬كان المن ينزل عليهم على الشجار ‪ ،‬فيغدون إليه فيأكلون منه ما‬
‫شاؤوا‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬المن ‪ :‬صمغة‪ .‬وقال عكرمة ‪ :‬المن ‪ :‬شيء أنزله ال عليهم مثل الطل ‪ ،‬شبه ال ّربِ‬
‫الغليظ‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬قالوا ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل ال عليهم المن ‪ ،‬فكان‬
‫يسقط على شجر (‪ )1‬الزنجبيل‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬كان المن ينزل عليهم في محلتهم (‪ )2‬سقوط الثلج ‪ ،‬أشد بياضا من اللبن ‪ ،‬وأحلى‬
‫من العسل ‪ ،‬يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ‪ ،‬يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه‬
‫يومه ذلك ؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق ‪ ،‬حتى إذا كان يوم سادسه ‪ ،‬ليوم جمعته ‪ ،‬أخذ ما يكفيه‬
‫ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لنه كان يوم عيد ل يشخص فيه لمر معيشته ول يطلبه لشيء ‪ ،‬وهذا‬
‫كله في البرية‪.‬‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ :‬المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ‪ ،‬فيمزجونه بالماء ثم يشربونه‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه ‪ -‬وسئل عن المن ‪ -‬فقال ‪ :‬خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيّ‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثني أحمد بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد ‪ ،‬حدثنا إسرائيل ‪ ،‬عن جابر‬
‫‪ ،‬عن عامر وهو الشعبي ‪ ،‬قال ‪ :‬عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن‪.‬‬
‫وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬إنه العسل‪.‬‬
‫ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت ‪ ،‬حيث قال ‪:‬‬
‫فرأى ال أنهم بمضيع‪ ...‬ل بذي مزرع ول مثمورا‪...‬‬
‫فسناها عليهم غاديات‪ ...‬وترى مزنهم خليا وخورا‪...‬‬
‫عسل ناطفا وماء فراتا‪ ...‬وحليبا ذا بهجة مرمورا (‪)3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬الشجرة" ‪ ،‬وفي ب ‪" :‬الشجر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في نخلتهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيات في تفسير الطبري (‪.)95 ، 2/94‬‬

‫( ‪)1/267‬‬

‫فالناطف ‪ :‬هو السائل ‪ ،‬والحليب المرمور ‪ :‬الصافي منه‪.‬‬


‫والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن ‪ ،‬فمنهم من فسره بالطعام ‪ ،‬ومنهم من‬
‫فسره بالشراب ‪ ،‬والظاهر ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬أنه (‪ )1‬كل ما امتن ال به عليهم من طعام وشراب (‬
‫‪ ، )2‬وغير ذلك ‪ ،‬مما ليس لهم فيه عمل ول كد ‪ ،‬فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما‬
‫وحلوة ‪ ،‬وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ‪ ،‬وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر ‪ ،‬ولكن‬
‫ليس هو المراد من الية وحده ؛ والدليل على ذلك قول البخاري ‪:‬‬
‫حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عبد الملك ‪ ،‬عن عمر بن حريث (‪ )3‬عن سعيد (‪ )4‬بن زيد ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين"‪.‬‬
‫وهذا الحديث رواه المام أحمد ‪ ،‬عن سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن عبد الملك ‪ ،‬وهو ابن عمير ‪ ،‬به (‬
‫‪.)5‬‬
‫وأخرجه الجماعة في كتبهم ‪ ،‬إل أبا داود ‪ ،‬من طرق عن عبد الملك ‪ ،‬وهو ابن عمير ‪ ،‬به (‪.)6‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح ‪ ،‬ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم ‪ ،‬عن الحسن‬
‫العُرَني ‪ ،‬عن عمرو بن حريث ‪ ،‬به (‪.)7‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلن ‪ ،‬قال حدثنا سعيد بن عامر ‪،‬‬
‫عن محمد بن عمرو ‪ ،‬عن أبي سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬العجوة من الجنة ‪ ،‬وفيها شفاء من السم ‪ ،‬والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" (‪.)8‬‬
‫تفرد بإخراجه الترمذي ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هذا حديث حسن غريب ‪ ،‬ل نعرفه إل من حديث محمد بن‬
‫عمرو ‪ ،‬وإل من حديث سعيد (‪ )9‬بن عامر ‪ ،‬عنه ‪ ،‬وفي الباب عن سعيد بن زيد ‪ ،‬وأبي سعيد‬
‫وجابر‪.‬‬
‫كذا قال ‪ ،‬وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ‪ ،‬من طريق آخر ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬حدثنا أحمد بن الحسن (‪ )10‬بن أحمد البصري ‪ ،‬حدثنا أسلم بن سهل ‪ ،‬حدثنا القاسم بن‬
‫عيسى ‪ ،‬حدثنا طلحة بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن قتادة (‪ )11‬عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين"‪.‬‬
‫وهذا حديث غريب من هذا الوجه ‪ ،‬وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي ‪ ،‬يكنى بأبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أو شراب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬حوشب"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4478‬والمسند (‪.)1/187‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )4639‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2049‬وسنن الترمذي برقم (‪)2067‬‬
‫وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)6667‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )5708‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2049‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)10988‬‬
‫(‪ )8‬سنن الترمذي برقم (‪.)3013‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬محمد"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الحسين"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬عبادة"‪.‬‬

‫( ‪)1/268‬‬

‫محمد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي ‪ :‬روى عن قتادة أشياء ل‬
‫يتابع عليها (‪.)1‬‬
‫ثم قال [الترمذي] (‪ )2‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا معاذ بن هشام ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن‬
‫شهر بن حوشب ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن ناسا من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم قالوا ‪ :‬الكمأة‬
‫جدري الرض ‪ ،‬فقال نبي ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين ‪،‬‬
‫والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم"‪.‬‬
‫وهذا الحديث قد رواه النسائي ‪ ،‬عن محمد بن بشار ‪ ،‬به (‪ .)3‬وعنه ‪ ،‬عن غندر ‪ ،‬عن شعبة ‪،‬‬
‫عن أبي بشر جعفر بن إياس ‪ ،‬عن شهر بن حوشب ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬به (‪ .)4‬وعن محمد بن‬
‫بشار ‪ ،‬عن عبد العلى ‪ ،‬عن خالد الحذاء ‪ ،‬عن شهر بن حوشب‪ .‬بقصة الكمأة فقط (‪.)5‬‬
‫وروى النسائي ‪ -‬أيضا ‪ -‬وابن ماجه من حديث محمد بن بشار ‪ ،‬عن أبي عبد الصمد عبد‬
‫العزيز بن عبد الصمد ‪ ،‬عن مطر الوراق ‪ ،‬عن شهر ‪ :‬بقصة العجوة عند النسائي ‪ ،‬وبالقصتين‬
‫عند ابن ماجه (‪.)6‬‬
‫وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه (‪ )7‬منه ‪ ،‬بدليل ما رواه‬
‫النسائي في الوليمة من سننه ‪ ،‬عن علي بن الحسين الدرهمي (‪ )8‬عن عبد العلى ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫أبي عروبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن شهر بن حوشب ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن غَنْم ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة ‪ ،‬وبعضهم يقول (‪ )9‬جدري‬
‫الرض ‪ ،‬فقال ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين" (‪.)10‬‬
‫وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر ‪ ،‬كما قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا أسباط بن محمد ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن جعفر بن إياس ‪ ،‬عن شهر بن حوشب ‪ ،‬عن جابر‬
‫بن عبد ال وأبي سعيد الخدري ‪ ،‬قال قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الكامل لبن عدي (‪.)4/114‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬هو في سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )6671‬عن نصير بن الفرج ‪ ،‬عن معاذ بن هشام به ‪،‬‬
‫ولم أقع عليه عن محمد بن بشار ‪ ،‬وقد ذكره المزي عن محمد بن بشار في تحفة الشراف (‬
‫‪.)10/112‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)6673‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)6672‬‬
‫(‪ )6‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)3400‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬لم يسمع"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬الدهرمي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وبعضهم يذكرون"‪.‬‬
‫(‪ )10‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)6670‬‬

‫( ‪)1/269‬‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي‬
‫شفاء من السم" (‪.)1‬‬
‫قال (‪ )2‬النسائي في الوليمة أيضا ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪،‬‬
‫عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب ‪ ،‬عن أبي سعيد وجابر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪،‬‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين" (‪ .)3‬ثم رواه ‪-‬‬
‫أيضا ‪ ، -‬وابن ماجه من طرق ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي بشر ‪ ،‬عن شهر ‪ ،‬عنهما ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫وقد رويا (‪ - )5‬أعني النسائي (‪ )6‬وابن ماجه ‪ -‬من حديث سعيد بن مسلم (‪ )7‬كلهما عن‬
‫العمش ‪ ،‬عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬زاد النسائي ‪[ :‬وحديث] (‪)8‬‬
‫جابر ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين" (‪.)9‬‬
‫ورواه ابن مردويه ‪ ،‬عن أحمد بن عثمان ‪ ،‬عن عباس الدوري ‪ ،‬عن لحق بن صواب (‪ )10‬عن‬
‫عمار بن رزيق (‪ )11‬عن العمش ‪ ،‬كابن ماجه‪.‬‬
‫وقال ابن مردويه أيضا ‪ :‬حدثنا أحمد بن عثمان ‪ ،‬حدثنا عباس الدوري ‪ ،‬حدثنا الحسن (‪ )12‬بن‬
‫الربيع ‪ ،‬حدثنا أبو الحوص ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن المنهال بن عمرو ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي‬
‫ليلى ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬قال ‪ :‬خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وفي يده‬
‫كمآت ‪ ،‬فقال ‪" :‬الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين"‪.‬‬
‫وأخرجه النسائي ‪ ،‬عن عمرو بن منصور ‪ ،‬عن الحسن بن الربيع (‪ )13‬ثم [رواه] (‪ )14‬ابن‬
‫مردويه‪ .‬رواه أيضا عن عبد ال بن إسحاق عن الحسن بن سلم ‪ ،‬عن عبيد ال بن موسى ‪ ،‬عن‬
‫شيبان (‪ )15‬عن العمش به ‪ ،‬وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم ‪ ،‬عن عبيد ال بن‬
‫موسى [به] (‪.)17( )16‬‬
‫وقد روى من حديث أنس بن مالك ‪ ،‬رضي ال عنه كما قال ابن مردويه ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن عبد ال بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا حمدون بن أحمد ‪ ،‬حدثنا حوثرة بن أشرس ‪ ،‬حدثنا‬
‫حماد ‪ ،‬عن شعيب بن الحبحاب (‪ )18‬عن أنس ‪ :‬أن أصحاب رسول ال (‪ )19‬صلى ال عليه‬
‫وسلم تدارؤوا (‪ )20‬في الشجرة التي اجتثت من فوق الرض ما لها من قرار ‪ ،‬فقال بعضهم ‪:‬‬
‫نحسبه الكمأة‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ‪،‬‬
‫والعجوة من الجنة ‪ ،‬وفيها شفاء من السم" (‪.)21‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)3/48‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )3453‬ولم أقع عليه في سنن النسائي الكبرى المطبوعة‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وقد روياه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬النسائي من حديث جرير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬مسلمة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )6677 ، 6676‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )3453‬لكن وقع في‬
‫سنن النسائي عن جرير عن العمش وال أعلم‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬صوان"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬زريق"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬الحسين"‪.‬‬
‫(‪ )13‬لم أقع عليه في المطبوع من سنن النسائي الكبرى‪.‬‬
‫(‪ )14‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )15‬في جـ ‪" :‬سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )16‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )17‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)6678‬‬
‫(‪ )18‬في جـ ‪" :‬ابن الحجاب" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬ابن الحجاج"‪.‬‬
‫(‪ )19‬في جـ ‪" :‬أصحاب النبي"‪.‬‬
‫(‪ )20‬ف جـ ‪" :‬تذاكروا"‪.‬‬
‫(‪ )21‬ورواه ابن عدي في الكامل (‪ )2/370‬من طريق حسان بن سياه عن ثابت عن أنس بنحوه‪.‬‬

‫( ‪)1/270‬‬

‫وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة‪ .‬وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه‬
‫شيئا من هذا ‪ ،‬وال أعلم (‪.)2( )1‬‬
‫[وقد] (‪ )3‬روي عن شهر ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬كما رواه النسائي ‪ -‬أيضًا ‪ -‬في الوليمة ‪ ،‬عن أبي‬
‫بكر أحمد بن علي بن سعيد ‪ ،‬عن عبد ال بن عون الخَرّاز ‪ ،‬عن أبي عبيدة الحداد ‪ ،‬عن عبد‬
‫الجليل بن عطية ‪ ،‬عن شهر ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ‪ ،‬عن النبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"الكمأة من المن ‪ ،‬وماؤها شفاء للعين" (‪.)4‬‬
‫فقد اختلف ‪ -‬كما ترى فيه ‪ -‬على شهر بن حوشب ‪ ،‬ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه‬
‫الطرق كلها ‪ ،‬وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم ‪ ،‬فإن السانيد إليه جيدة ‪ ،‬وهو ل‬
‫يتعمد الكذب ‪ ،‬وأصل الحديث محفوظ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬كما تقدم من رواية‬
‫سعيد بن زيد‪.‬‬
‫سمّانى ‪ ،‬كانوا‬
‫وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ‪ :‬السلوى طائر شبيه بال ّ‬
‫يأكلون منه‪.‬‬
‫وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مُرّة ‪ ،‬عن‬
‫سمّانَى‪.‬‬
‫ابن مسعود ‪ ،‬وعن ناس (‪ )5‬من الصحابة ‪ :‬السلوى ‪ :‬طائر يشبه ال ّ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ‪،‬‬
‫حدثنا قرّة بن خالد ‪ ،‬عن جهضم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬السلوى ‪ :‬هو السمّانى‪.‬‬
‫وكذا قال مجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫وعن عكرمة ‪ :‬أما السلوى فطير (‪ )6‬كطير يكون بالجنة (‪ )7‬أكبر من العصفور ‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬السلوى من طير إلى الحمرة ‪ ،‬تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ‪ .‬وكان الرجل يذبح منها‬
‫قدر ما يكفيه يومه ذلك ‪ ،‬فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ‪ ،‬حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته (‪)8‬‬
‫أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لنه كان يوم عبادة ل يشخص فيه لشيء ول يطلبه‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه ‪ :‬السلوى ‪ :‬طير سمين مثل الحمام ‪ ،‬كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى‬
‫سبت‪ .‬وفي رواية عن وهب ‪ ،‬قال ‪ :‬سأَلتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلم ‪ ،‬اللحم ‪ ،‬فقال ال ‪:‬‬
‫لطعمنهم من أقل لحم يعلم في الرض ‪ ،‬فأرسل عليهم ريحًا ‪ ،‬فأذرت عند مساكنهم السلوى ‪،‬‬
‫وهو السمانى (‪ )9‬مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى (‪ )10‬السماء فخبّؤوا للغد فنتن اللحم وخنز‬
‫الخبز‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وال تبارك أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪ )3119‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11262‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)6669‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وعن أناس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فيطير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬في الجنة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬جمعة"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬السمان"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬

‫( ‪)1/271‬‬

‫وقال السدي ‪ :‬لما دخل بنو إسرائيل التيه ‪ ،‬قالوا لموسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ :‬كيف لنا بما هاهنا ؟ أين‬
‫الطعام ؟ فأنزل ال عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر (‪ )1‬الزنجبيل ‪ ،‬والسلوى وهو طائر يشبه‬
‫السمانى أكبر منه ‪ ،‬فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ‪ ،‬فإن كان سمينا ذبحه وإل أرسله ‪ ،‬فإذا‬
‫سمن أتاه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذا الطعام فأين الشراب ؟ فَُأمِر موسى فضرب بعصاه الحجر ‪ ،‬فانفجرت (‬
‫‪ )2‬منه اثنتا عشرة عينًا ‪ ،‬فشرب كل سبط من عين ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذا الشراب ‪ ،‬فأين الظل ؟ َفظَلّل‬
‫عليهم الغمام‪ .‬فقالوا ‪ :‬هذا الظل ‪ ،‬فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم (‪ )3‬تطول معهم كما يطول الصبيان‬
‫ن وَالسّ ْلوَى }‬
‫‪ ،‬ول يَنْخرق لهم ثوب ‪ ،‬فذلك قوله تعالى ‪َ { :‬وظَلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنزلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ‬
‫عشْ َرةَ عَيْنًا قَدْ‬
‫حجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫سقَى مُوسَى ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َ‬
‫وقوله { وَإِذِ اسْتَ ْ‬
‫عَلِمَ ُكلّ أُنَاسٍ َمشْرَ َبهُمْ } [البقرة ‪.]60 :‬‬
‫وروي عن وهب بن منبه ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي‪.‬‬
‫وقال سُنَيْد ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن جُرَيْج ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬خُلق لهم في التيه ثياب ل‬
‫تخرق (‪ )4‬ول تدرن ‪ ،‬قال ابن جريج ‪ :‬فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم‬
‫فسد ‪ ،‬إل أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فل يصبح فاسدًا‪.‬‬
‫[قال ابن عطية ‪ :‬السلوى ‪ :‬طير بإجماع المفسرين ‪ ،‬وقد غلط الهذلي في قوله ‪ :‬إنه العسل ‪،‬‬
‫وأنشد في ذلك مستشهدًا ‪:‬‬
‫وقاسمها بال جهدًا لنتم‪ ...‬ألذ من السلوى إذا ما أشورها‪...‬‬
‫قال ‪ :‬فظن أن السلوى عسل (‪ )5‬قال القرطبي ‪ :‬دعوى الجماع ل تصح ؛ لن المؤرخ أحد‬
‫علماء اللغة والتفسير قال ‪ :‬إنه العسل ‪ ،‬واستدل ببيت الهذلي هذا ‪ ،‬وذكر أنه كذلك في لغة كنانة ؛‬
‫لنه يسلى به ومنه عين سلوان ‪ ،‬وقال الجوهري ‪ :‬السلوى العسل ‪ ،‬واستشهد ببيت الهذلي ‪-‬‬
‫أيضا ‪ ، -‬والسلوانة بالضم خرزة ‪ ،‬كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سل‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫شربت على سلوانة ماء مزنة‪ ...‬فل وجديد العيش يا مي ما أسلو‪...‬‬
‫واسم ذلك الماء السلوان ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والطباء‬
‫يسمونه( ُمفَرّح) ‪ ،‬قالوا ‪ :‬والسلوى جمع بلفظ ‪ -‬الواحد ‪ -‬أيضًا ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬سمانى للمفرد‬
‫والجمع و ِدفْلَى كذلك ‪ ،‬وقال الخليل واحده سلواة ‪ ،‬وأنشد ‪:‬‬
‫وإني لتعروني لذكراك هزة‪ ...‬كما انتفض السلواة من بلل القطر‪...‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬على شجر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬فانفجر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬لباسهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ل تخلق"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المحرر الوجيز لبن عطية (‪.)1/229‬‬

‫( ‪)1/272‬‬

‫وقال الكسائي ‪ :‬السلوى واحدة وجمعه سلوي ‪ ،‬نقله كله القرطبي (‪.)2( ] )1‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ } أمر إباحة وإرشاد وامتنان‪ .‬وقوله ‪َ { :‬ومَا ظََلمُونَا‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ } [البقرة ‪ ، ]57 :‬أي أمرناهم بالكل مما رزقناهم وأن يعبدوا ‪ ،‬كما‬
‫وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫شكُرُوا لَهُ } [سبأ ‪ ]15 :‬فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم ‪ ،‬هذا مع ما‬
‫قال ‪ { :‬كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَ ّبكُ ْم وَا ْ‬
‫شاهدوه من اليات البينات والمعجزات القاطعات ‪ ،‬وخوارق العادات ‪ ،‬ومن هاهنا تتبين فضيلة‬
‫أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم (‪ )3‬ورضي عنهم ‪ ،‬على سائر أصحاب النبياء في صبرهم‬
‫وثباتهم وعدم تعنتهم ‪ ،‬كما كانوا معه في أسفاره وغزواته ‪ ،‬منها عام تبوك ‪ ،‬في ذلك القيظ‬
‫والحر الشديد والجهد ‪ ،‬لم يسألوا خرق عادة ‪ ،‬ول إيجاد أمر ‪ ،‬مع أن ذلك كان سهل على‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم‬
‫‪ ،‬فجاء قدر مَبْرك الشاة ‪ ،‬فدعا [ال] (‪ )4‬فيه ‪ ،‬وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم ‪ ،‬وكذا لما احتاجوا‬
‫إلى الماء سأل ال تعالى ‪ ،‬فجاءت سحابة فأمطرتهم ‪ ،‬فشربوا وسقوا البل وملؤوا أسقيتهم‪ .‬ثم‬
‫نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر‪ .‬فهذا هو الكمل في التباع ‪ :‬المشي مع قدر ال ‪ ،‬مع متابعة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)1/408‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/273‬‬

‫وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُتمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ َنغْفِرْ َلكُمْ‬
‫حسِنِينَ (‪ )58‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الّذِينَ‬
‫خطَايَاكُ ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُ ْ‬
‫َ‬
‫سقُونَ (‪)59‬‬
‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫ظََلمُوا ِرجْزًا مِنَ ال ّ‬

‫حطّةٌ َن ْغفِرْ‬
‫سجّدًا َوقُولُوا ِ‬
‫{ وَإِذْ قُلْنَا ا ْدخُلُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ‬
‫َلكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ (‪ )58‬فَ َب ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ فَأَنزلْنَا عَلَى الّذِينَ‬
‫سقُونَ (‪} )59‬‬
‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫ظََلمُوا ِرجْزًا مِنَ ال ّ‬
‫يقول تعالى لئمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول (‪ )1‬الرض المقدسة ‪ ،‬لما قدموا من بلد‬
‫مصر صحبة موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فأمروا بدخول الرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن‬
‫أبيهم إسرائيل ‪ ،‬وقتال من فيها من العماليق الكفرة ‪ ،‬فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ‪،‬‬
‫فرماهم ال في التيه عقوبة لهم ‪ ،‬كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن‬
‫هذه البلدة هي بيت المقدس ‪ ،‬كما نص على ذلك السدي ‪ ،‬والرّبيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪[ ،‬وأبو مسلم‬
‫سةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ }‬
‫الصفهاني وغير واحد وقد قال ال تعالى ‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْدخُلُوا الرْضَ ا ْل ُمقَدّ َ‬
‫اليات] (‪[.)2‬المائدة ‪]24 - 21 :‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬هي أريحا [ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد] (‪ )3‬وهذا بعيد ؛ لنها‬
‫ليست على طريقهم ‪ ،‬وهو قاصدون بيت المقدس ل أريحا [وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها‬
‫مصر ‪ ،‬حكاه فخر الدين في تفسيره ‪ ،‬والصحيح هو الول ؛ لنها بيت المقدس] (‪ .)4‬وهذا كان‬
‫لما خرجوا من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪" :‬عن دخولهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/273‬‬

‫التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وفتحها ال عليهم عشية جمعة ‪ ،‬وقد‬
‫حبست لهم الشمس يومئذ قليل حتى أمكن الفتح ‪ ،‬وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ‪،‬‬
‫ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب ‪ -‬باب البلد ‪ { -‬سُجّدًا } أي ‪ :‬شكرًا ل تعالى على ما أنعم به‬
‫عليهم من الفتح والنصر ‪ ،‬وردّ بلدهم (‪ )1‬إليهم وإنقاذهم من التيه والضلل‪.‬‬
‫سجّدًا } أي‬
‫قال العوفي في تفسيره ‪ ،‬عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله ‪ { :‬وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ‬
‫ركعا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد الزبيري ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن العمش ‪،‬‬
‫سجّدًا }‬
‫عن المنهال بن عمرو ‪ ،‬وعن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ‬
‫قال ‪ :‬ركعا (‪ )2‬من باب صغير‪.‬‬
‫رواه الحاكم من حديث سفيان ‪ ،‬به‪ .‬ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ‪ ،‬وهو الثوري ‪ ،‬به (‬
‫‪ .)3‬وزاد ‪ :‬فدخلوا من قبل أستاههم‪.‬‬
‫[وقال الحسن البصري ‪ :‬أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ‪ ،‬واستبعده الرازي ‪،‬‬
‫وحكى عن بعضهم ‪ :‬أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته] (‪.)4‬‬
‫وقال خصيف ‪ :‬قال عكرمة ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬كان الباب قبل القبلة‪.‬‬
‫وقال [ابن عباس و] (‪ )5‬مجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ :‬هو باب الحطة من باب إيلياء‬
‫ببيت المقدس ‪[ ،‬وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية] (‪.)6‬‬
‫خصِيف ‪ :‬قال عكرمة ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬فدخلوا على شق ‪ ،‬وقال السدي ‪ ،‬عن أبي سعيد‬
‫وقال َ‬
‫الزدي ‪ ،‬عن أبي الكنُود ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ :‬وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ‪ ،‬فدخلوا مقنعي‬
‫رؤوسهم ‪ ،‬أي ‪ :‬رافعي رؤوسهم خلف ما أمروا‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬وقُولُوا حِطّةٌ } قال الثوري عن العمش ‪ ،‬عن المنهال ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫حطّةٌ } قال ‪ :‬مغفرة ‪ ،‬استغفروا‪.‬‬
‫عباس ‪َ { :‬وقُولُوا ِ‬
‫وروي عن عطاء ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪َ { :‬وقُولُوا حِطّةٌ } قال ‪ :‬قولوا ‪ :‬هذا المر حق ‪ ،‬كما قيل لكم‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪ :‬قولوا ‪ :‬ل إله إل ال‪.‬‬
‫وقال الوزاعي ‪ :‬كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى ‪َ { :‬وقُولُوا حِطّةٌ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بلدهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أي ركعا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪ )2/113‬والمستدرك (‪ )2/262‬وتفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/182‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/274‬‬

‫فكتب إليه ‪ :‬أن أقروا بالذنب‪.‬‬


‫وقال الحسن وقتادة ‪ :‬أي احطط عنا خطايانا‪.‬‬
‫{ َن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُك ْم وَسَنزيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ } هذا جواب المر ‪ ،‬أي ‪ :‬إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم‬
‫الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات‪.‬‬
‫وحاصل المر ‪ :‬أنهم أمروا أن يخضعوا ل تعالى عند الفتح بالفعل والقول ‪ ،‬وأن يعترفوا بذنوبهم‬
‫ويستغفروا منها ‪ ،‬والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب ل تعالى ‪ ،‬كما قال‬
‫حمْدِ‬
‫تعالى ‪ِ { :‬إذَا جَاءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجًا * فَسَبّحْ ِب َ‬
‫ك وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ كَانَ َتوّابًا } [سورة النصر] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والستغفار عند‬
‫رَ ّب َ‬
‫الفتح والنصر ‪ ،‬وفسره ابن عباس بأنه نُعي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم أجله فيها ‪ ،‬وأقره‬
‫على ذلك عمر [بن الخطاب] (‪ )1‬رضي ال عنه‪ .‬ول منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ‪،‬‬
‫ونعي إليه روحه الكريمة أيضًا ؛ ولهذا كان عليه السلم يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر ‪،‬‬
‫كما روي أنه كان يوم الفتح ‪ -‬فتح مكة ‪ -‬داخل إليها من الثنية العليا ‪ ،‬وإنّه الخاضع لربه حتى‬
‫إن عُثْنونه ليمس َموْرِك رحله ‪ ،‬يشكر ال على ذلك‪ .‬ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني‬
‫ركعات وذلك ضُحى ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬هذه صلة الضحى ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬بل هي صلة الفتح ‪،‬‬
‫فاستحبوا للمام وللمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله ‪ ،‬كما فعل سعد‬
‫بن أبي وقاص رضي ال عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ‪ ،‬والصحيح أنه‬
‫يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل ‪ :‬يصليها كلها بتسليم واحد ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ } قال البخاري ‪ :‬حدثني محمد ‪ ،‬حدثنا‬
‫(‪ )2‬عبد الرحمن بن َمهْدي ‪ ،‬عن ابن المبارك ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن َهمّام بن مُنَبّه ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬قيل لبني إسرائيل ‪ { :‬ا ْدخُلُوا‬
‫سجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ } فدخلوا يزحفون على أستاههم ‪ ،‬فبدّلوا وقالوا ‪ :‬حطة ‪ :‬حبة في شعرة"‬
‫الْبَابَ ُ‬
‫(‪.)3‬‬
‫ورواه النسائي ‪ ،‬عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬عن (‪ )4‬عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا (‬
‫‪ )5‬وعن محمد بن عبيد بن محمد ‪ ،‬عن ابن المبارك ببعضه مسندًا ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬حِطّةٌ }‬
‫قال ‪ :‬فبدلوا‪ .‬فقالوا ‪ :‬حبة (‪.)7( )6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬حدثني محمد بن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)4479‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10989‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فقال حنطة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10990‬‬

‫( ‪)1/275‬‬

‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا معمر ‪ ،‬عن َهمّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول ‪ :‬قال رسول ال‬
‫حطّةٌ َن ْغفِرْ َلكُمْ‬
‫سجّدًا َوقُولُوا ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال ال لبني إسرائيل ‪ { :‬وَا ْدخُلُوا الْبَابَ ُ‬
‫خطَايَاكُمْ } فبدلوا ‪ ،‬ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬حبة في شعرة (‪." )1‬‬
‫َ‬
‫وهذا حديث صحيح ‪ ،‬رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ‪ ،‬ومسلم عن محمد بن رافع‪ .‬والترمذي‬
‫عن عبد بن حميد ‪ ،‬كلهم عن عبد الرزاق ‪ ،‬به (‪ .)2‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬كان تبديلهم (‪ )3‬كما حدثني صالح بن كيسان ‪ ،‬عن صالح مولى‬
‫التوأمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬وعمن ل أتهم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬دخلوا الباب ‪ -‬الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا ‪ -‬يزحفون على أستاههم ‪ ،‬وهم يقولون ‪:‬‬
‫حنطة في شعيرة" (‪.)4‬‬
‫وقال أبو داود ‪ :‬حدثنا أحمد بن صالح ‪ ،‬وحدثنا سليمان بن داود ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن وهب ‪ ،‬حدثنا‬
‫هشام بن سعد ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬رضي ال عنه‬
‫‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال ال لبني إسرائيل ‪ { :‬ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ‬
‫خطَايَاكُمْ } ثم قال أبو داود ‪ :‬حدثنا جعفر بن مسافر ‪ ،‬حدثنا ابن أبي فديك ‪ ،‬عن هشام‬
‫َن ْغفِرْ َل ُكمْ َ‬
‫بن سعد ‪ ،‬مثله (‪.)6( )5‬‬
‫هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا‪.‬‬
‫وقال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا عبد ال بن جعفر ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن مهدي ‪ ،‬حدثنا أحمد بن محمد بن‬
‫المنذر القَزّاز ‪ ،‬حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ‪ ،‬عن (‪ )7‬هشام بن سعد ‪ ،‬عن زيد بن‬
‫أسلم ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬قال ‪ :‬سرنا مع رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ‪ ،‬أجَزْنا في ثنية (‪ )8‬يقال لها ‪ :‬ذات الحنظل ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما مثل هذه الثنية الليلة إل كمثل الباب الذي قال ال لبني إسرائيل ‪:‬‬
‫خطَايَاكُمْ } (‪.)9‬‬
‫{ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُولُوا حِطّةٌ َنغْفِرْ َلكُمْ َ‬
‫س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ } [البقرة ‪:‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء ‪ { :‬سَ َيقُولُ ال ّ‬
‫‪ ]142‬قال اليهود ‪ :‬قيل لهم ‪ :‬ادخلوا الباب سجدًا ‪ ،‬قال ‪ :‬ركعًا ‪ ،‬وقولوا ‪ :‬حطة ‪ :‬أي مغفرة ‪،‬‬
‫فدخلوا على‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬شعيرة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )4641‬وصحيح مسلم برقم (‪ )3015‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2956‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬يتذيلهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه الطبراني في تفسيره (‪ )2/112‬عن محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن صالح بن كيسان ‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بمثله"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن أبي داود برقم (‪.)4006‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬ضربة"‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه البزار في مسنده برقم (‪ )1812‬عن إسحاق بن بهلول ‪ ،‬عن محمد بن إسماعيل بن‬
‫أبي فديك به نحوه ‪ ،‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )6/144‬رجاله ثقات"‪.‬‬

‫( ‪)1/276‬‬

‫أستاههم ‪ ،‬وجعلوا يقولون ‪ :‬حنطة حمراء فيها شعيرة (‪ ، )1‬فذلك قول ال تعالى ‪ { :‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ‬
‫ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ }‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن السدي ‪ ،‬عن أبي سعد الزدي ‪ ،‬عن أبي الكَنود ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪َ { :‬وقُولُوا‬
‫حطّةٌ } فقالوا ‪ :‬حنطة حبة حمراء فيها شعيرة (‪ ، )2‬فأنزل ال ‪ { :‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ‬
‫ِ‬
‫الّذِي قِيلَ َلهُمْ }‬
‫وقال أسباط ‪ ،‬عن السدي ‪ ،‬عن مرة ‪ ،‬عن ابن مسعود أنه قال ‪ :‬إنهم قالوا ‪ُ " :‬هطّي سمعاتا أزبة‬
‫مزبا" فهي بالعربية ‪ :‬حبة حنطة حمراء مثقوبة (‪ )3‬فيها شعرة سوداء ‪ ،‬فذلك قوله ‪ { :‬فَ َب ّدلَ الّذِينَ‬
‫ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ }‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن المنهال ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬ادْخُلُوا الْبَابَ‬
‫سجّدًا } ركعًا من باب صغير ‪ ،‬فدخلوا (‪ )4‬من قبل أستاههم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬حنطة ‪ ،‬فهو قوله تعالى ‪:‬‬
‫ُ‬
‫{ فَ َب ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َقوْل غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ }‬
‫وهكذا روي عن عطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫ويحيى بن رافع‪.‬‬
‫وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر (‪ )5‬ال لهم من الخضوع بالقول‬
‫والفعل ‪ ،‬فأمروا أن يدخلوا سجدًا ‪ ،‬فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي‬
‫رؤوسهم ‪ ،‬وأمروا أن يقولوا ‪ :‬حطة ‪ ،‬أي ‪ :‬احطط عنا ذنوبنا ‪ ،‬فاستهزؤوا فقالوا ‪ :‬حنطة في‬
‫شعرة (‪ .)6‬وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل ال بهم بأسه وعذابه‬
‫سمَاءِ ِبمَا‬
‫علَى الّذِينَ ظََلمُوا ِرجْزًا مِنَ ال ّ‬
‫بفسقهم ‪ ،‬وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال ‪ { :‬فَأَنزلْنَا َ‬
‫سقُونَ }‬
‫كَانُوا َيفْ ُ‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ :‬كل شيء في كتاب ال من "الرّجْز" يعني به العذاب‪.‬‬
‫وهكذا روي عن مجاهد ‪ ،‬وأبي مالك ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬أنه العذاب‪ .‬وقال أبو العالية‬
‫‪ :‬الرجز الغضب‪ .‬وقال الشعبي ‪ :‬الرجز ‪ :‬إما الطاعون ‪ ،‬وإما البرد‪ .‬وقال سعيد بن جبير ‪ :‬هو‬
‫الطاعون‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬عن (‪ )7‬سفيان ‪ ،‬عن حبيب بن أبي‬
‫ثابت ‪ ،‬عن إبراهيم بن سعد ‪ -‬يعني ابن أبي وقاص ‪ -‬عن سعد بن مالك ‪ ،‬وأسامة بن زيد ‪،‬‬
‫وخزيمة بن ثابت ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الطاعون‬
‫رجْز عذاب عُذّب (‪ )8‬به من كان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬شعرة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬شعرة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬منقوشة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يدخلون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بدلوا ما أمر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬شعيرة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬عذب ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/277‬‬
‫سقَى مُوسَى ِلقَ ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنًا َقدْ عَلِمَ ُكلّ‬
‫وَإِذِ اسْ َت ْ‬
‫أُنَاسٍ مَشْرَ َب ُهمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّ ِه وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ (‪)60‬‬

‫قبلكم" (‪.)1‬‬
‫وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به (‪ .)2‬وأصل الحديث في الصحيحين من حديث‬
‫حبيب بن أبي ثابت ‪" :‬إذا سمعتم بالطاعون بأرض فل تدخلوها" الحديث (‪.)3‬‬
‫قال (‪ )4‬ابن جرير ‪ :‬أخبرني يونس بن عبد العلى ‪ ،‬عن ابن وهب ‪ ،‬عن يونس ‪ ،‬عن الزهري ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص ‪ ،‬عن أسامة بن زيد عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذّب به بعض المم قبلكم" (‪ .)5‬وهذا الحديث أصله‬
‫مخرّج في الصحيحين ‪ ،‬من حديث الزهري ‪ ،‬ومن حديث مالك ‪ ،‬عن محمد بن المُنكَدِر ‪ ،‬وسالم‬
‫أبي النضر ‪ ،‬عن عامر بن سعد ‪ ،‬بنحوه (‪.)6‬‬
‫علِمَ ُكلّ‬
‫عشْ َرةَ عَيْنًا قَدْ َ‬
‫حجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫سقَى مُوسَى ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َ‬
‫{ وَإِذِ اسْتَ ْ‬
‫أُنَاسٍ مَشْرَ َب ُهمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّ ِه وَل َتعْ َثوْا فِي ال ْرضِ ُمفْسِدِينَ (‪} )60‬‬
‫يقول تعالى ‪ :‬واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬حين استسقاني لكم ‪،‬‬
‫حجَر يُحمل معكم ‪ ،‬وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي‬
‫وتيسيري لكم الماء ‪ ،‬وإخراجه لكم من َ‬
‫عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ‪ ،‬فكلوا من المن والسلوى ‪ ،‬واشربوا من هذا‬
‫الماء الذي أنبعته لكم بل سعي منكم ول كد ‪ ،‬واعبدوا الذي سخر لكم ذلك‪ { .‬وَل َتعْ َثوْا فِي‬
‫ال ْرضِ ُمفْسِدِينَ } ول تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها‪ .‬وقد بسطه المفسرون في كلمهم ‪ ،‬كما‬
‫جعِل بين ظهرانيهم حجر مربّع وأمر موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فضربه بعصاه ‪،‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬و ُ‬
‫فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ‪ ،‬في كل ناحية منه ثلث (‪ )7‬عيون ‪ ،‬وأعلم كل سبط عينهم ‪،‬‬
‫يشربون منها ل يرتحلون من مَ ْنقَلَة إل وجدوا ذلك معهم (‪ )8‬بالمكان الذي كان منهم بالمنزل‬
‫الول‪.‬‬
‫وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي ‪ ،‬وابن جرير ‪ ،‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬وهو حديث الفتون‬
‫الطويل (‪.)9‬‬
‫وقال عطية العوفي ‪ :‬وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور ‪ ،‬فإذا نزلوا منزل وضعوه‬
‫فضربه موسى بعصاه ‪ ،‬فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ‪ ،‬فإذا ساروا حملوه على ثور ‪ ،‬فاستمسك‬
‫الماء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/186‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)7523‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )5728‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2218‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)2/116‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )6974 ، 3473‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2218‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬ثلثة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬ذلك منهم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬سيأتي بطوله في تفسير سورة طه‪.‬‬

‫( ‪)1/278‬‬

‫طعَا ٍم وَاحِدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الْأَ ْرضُ مِنْ َبقِْلهَا‬
‫وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ‬
‫سهَا وَ َبصَِلهَا قَالَ أَتَسْتَ ْبدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْ ِبطُوا ِمصْرًا فَإِنّ‬
‫َوقِثّا ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَ َد ِ‬
‫ضبٍ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا َي ْكفُرُونَ بِآَيَاتِ‬
‫سكَنَ ُة وَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫علَ ْيهِمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ‬
‫َلكُمْ مَا سَأَلْتُ ْم َوضُرِ َبتْ َ‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ (‪)61‬‬
‫ع َ‬
‫اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ‬

‫وقال عثمان بن عطاء الخراساني ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬كان لبني إسرائيل حجر ‪ ،‬فكان يضعه هارون‬
‫ويضربه موسى بالعصا‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬كان حجرًا طوريًا ‪ ،‬من الطور ‪ ،‬يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه‪.‬‬
‫[وقال الزمخشري ‪ :‬وقيل ‪ :‬كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مثل رأس النسان ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى‪ .‬وله شعبتان تتقدان في الظلمة‬
‫وكان يحمل على حمار ‪ ،‬قال ‪ :‬وقيل ‪ :‬أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه ‪ ،‬حتى وقع إلى شعيب‬
‫فدفعه إليه مع العصا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ‪ ،‬فقال له جبريل ‪:‬‬
‫ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة ‪ ،‬فحمله في مخلته‪ .‬قال الزمخشري ‪ :‬ويحتمل أن‬
‫تكون اللم للجنس ل للعهد ‪ ،‬أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ‪ ،‬وعن الحسن لم يأمره أن‬
‫يضرب حجرًا بعينه ‪ ،‬قال ‪ :‬وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه‬
‫فينفجر ثم يضربه فييبس ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا ‪ ،‬فأوحى ال إليه أن يكلم‬
‫الحجارة فتنفجر ول يمسها بالعصا لعلهم يقرون] (‪.)1‬‬
‫وقال يحيى بن النضر ‪ :‬قلت لجويبر ‪ :‬كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال ‪ :‬كان موسى يضع‬
‫الحجر ‪ ،‬ويقوم من كل سبط رجل ‪ ،‬ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا فينضح‬
‫من كل عين على رجل ‪ ،‬فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارًا‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن أبي سعيد ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬ذلك في التيه ‪،‬‬
‫ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه (‪ )2‬اثنتا عشرة عينًا من ماء ‪ ،‬لكل سِبْط منهم عين يشربون‬
‫منها‪.‬‬
‫وقال مجاهد نحو قول ابن عباس‪.‬‬
‫وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة العراف ‪ ،‬ولكن تلك مكية ‪ ،‬فلذلك كان الخبار‬
‫عنهم بضمير الغائب ؛ لن ال تعالى يقص ذلك (‪ )3‬على رسوله صلى ال عليه وسلم عما فعل‬
‫بهم‪ .‬وأما في هذه السورة ‪ ،‬وهي البقرة فهي (‪ )4‬مدنية ؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم‪.‬‬
‫ستْ مِ ْنهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنًا } [العراف ‪ ]160 :‬وهو أول النفجار ‪،‬‬
‫جَ‬‫وأخبر هناك بقوله ‪ { :‬فَانْبَ َ‬
‫وأخبر هاهنا بما آل إليه المر (‪ )5‬آخرًا وهو النفجار فناسب ذكر النفجار (‪ )6‬هاهنا ‪ ،‬وذاك‬
‫هناك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره وأجاب عنها‬
‫بما عنده ‪ ،‬والمر في ذلك قريب وال تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه‪.‬‬
‫حدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ ال ْرضُ مِنْ َبقِْلهَا‬
‫طعَا ٍم وَا ِ‬
‫{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ‬
‫سهَا وَ َبصَِلهَا قَالَ أَتَسْتَ ْبدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْ ِبطُوا ِمصْرًا فَإِنّ‬
‫َوقِثّا ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَ َد ِ‬
‫َلكُمْ مَا سَأَلْتُمْ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬منه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬نص هنالك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬فإنها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬الحال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ذكر هذا"‪.‬‬

‫( ‪)1/279‬‬

‫يقول تعالى ‪ :‬واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ‪ ،‬طعامًا طيبًا نافعًا هنيئًا‬
‫سهل واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم (‪ )1‬وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالطعمة الدنيّة من‬
‫البقول ونحوها مما سألتم‪ .‬وقال الحسن البصري رحمه ال ‪ :‬فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ‪،‬‬
‫وذكروا عيشهم (‪ )2‬الذي كانوا فيه ‪ ،‬وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ‪ ،‬فقالوا ‪ { :‬يَا‬
‫حدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ُيخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ ال ْرضُ مِنْ َبقْلِهَا َوقِثّا ِئهَا‬
‫طعَا ٍم وَا ِ‬
‫علَى َ‬
‫مُوسَى لَنْ َنصْبِرَ َ‬
‫سهَا وَ َبصَِلهَا } [وهم يأكلون المن والسلوى ‪ ،‬لنه ل يتبدل ول يتغير كل يوم فهو‬
‫َوفُو ِمهَا وَعَدَ ِ‬
‫كأكل واحد] (‪ .)3‬فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة‪ .‬وأما "الفوم" فقد اختلف السلف‬
‫في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود "وثومها" بالثاء ‪ ،‬وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي‬
‫سليم ‪ ،‬عنه ‪ ،‬بالثوم‪ .‬وكذا الربيع بن أنس ‪ ،‬وسعيد بن جبير‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عمرو بن رافع ‪ ،‬حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق‬
‫البصري ‪ ،‬عن يونس ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬وفُو ِمهَا } قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬الثوم‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وفي اللغة القديمة ‪َ :‬ف ّومُوا لنا بمعنى ‪ :‬اختبزوا‪ .‬وقال ابن جرير ‪ :‬فإن كان ذلك صحيحًا ‪،‬‬
‫فإنه من الحروف المبدلة كقولهم ‪ :‬وقعوا في "عاثُور شَرّ ‪ ،‬وعافور شر ‪ ،‬وأثافي وأثاثي ‪،‬‬
‫ومغافير ومغاثير"‪ .‬وأشباه (‪ )4‬ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬الفوم الحنطة ‪ ،‬وهو البر الذي يعمل منه الخبز‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى قراءة ‪ ،‬أنبأنا ابن وهب قراءة ‪ ،‬حدثني نافع بن‬
‫أبي نعيم ‪ :‬أن ابن عباس سئِل عن قول ال ‪َ { :‬وفُو ِمهَا } ما فومها ؟ قال ‪ :‬الحنطة‪ .‬قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬أما سمعت قول أحيحة بن الجلح وهو يقول ‪:‬‬
‫قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا‪ ...‬وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم (‪)5‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا علي بن الحسن ‪ ،‬حدثنا مسلم الجرمي ‪ ،‬حدثنا عيسى بن يونس ‪ ،‬عن‬
‫رشدين بن كُرَيْب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قول ال تعالى ‪َ { :‬وفُو ِمهَا } قال ‪ :‬الفوم‬
‫الحنطة بلسان بني هاشم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬مما رزقناكم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬شيمهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬وما أشبه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/129‬‬

‫( ‪)1/280‬‬

‫وكذا قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬والضحاك (‪ )1‬وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم ‪ :‬الحنطة‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن ابن جُرَيْج ‪ ،‬عن مجاهد وعطاء ‪َ { :‬وفُو ِمهَا } قال وخبزها‪.‬‬
‫وقال ُهشَيْم عن يونس ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬وحصين ‪ ،‬عن أبي مالك ‪َ { :‬وفُو ِمهَا } قال ‪ :‬الحنطة‪.‬‬
‫وهو قول عكرمة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والحسن البصري ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪،‬‬
‫وغيرهم ‪ ،‬وال أعلم (‪.)2‬‬
‫[وقال الجوهري ‪ :‬الفوم ‪ :‬الحنطة‪ .‬وقال ابن دريد ‪ :‬الفوم ‪ :‬السنبلة ‪ ،‬وحكى القرطبي عن عطاء‬
‫وقتادة أن الفوم كل حب يختبز‪ .‬قال ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬هو الحمص لغة شامية ‪ ،‬ومنه يقال لبائعه ‪:‬‬
‫فامي مغير عن فومي] (‪.)3‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬الحبوب التي تؤكل كلها فوم‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬قَالَ أَتَسْتَبْ ِدلُونَ الّذِي ُهوَ َأدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ } فيه تقريع لهم وتوبيخ (‪ )4‬على ما‬
‫سألوا من هذه الطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد ‪ ،‬والطعام الهنيء الطيب النافع‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬اهْبِطُوا ِمصْرًا } هكذا هو منون مصروف مكتوب باللف في المصاحف الئمة‬
‫العثمانية ‪ ،‬وهو قراءة الجمهور بالصرف‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬ول أستجيز (‪ )5‬القراءة بغير ذلك ؛ لجماع المصاحف على ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن عباس ‪ { :‬اهْبِطُوا ِمصْرًا } قال ‪ :‬مصرًا من المصار ‪ ،‬رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬من حديث‬
‫أبي سعيد (‪ )6‬البقال سعيد بن المرزبان ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عنه‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وروي عن السدي ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود ‪" :‬اهبطوا مصر" من غير إجراء‬
‫يعني من غير صرف‪ .‬ثم روى عن أبي العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر‬
‫فرعون‪.‬‬
‫وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ‪ ،‬وعن العمش أيضًا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الجراء أيضًا‪ .‬ويكون ذلك‬
‫من باب التباع لكتابة المصحف ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪َ { :‬قوَارِيرَا * َقوَارِيرَا } [النسان ‪، 15 :‬‬
‫‪ .]16‬ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من المصار ؟‬
‫وهذا الذي قاله فيه نظر ‪ ،‬والحق أن المراد مصر من المصار كما روي عن ابن عباس وغيره ‪،‬‬

‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬عن الضحاك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فال أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وتوبيخ لهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ول أستحسن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أبي سعد"‪.‬‬

‫( ‪)1/281‬‬
‫والمعنى على ذلك لن موسى ‪ ،‬عليه السلم يقول لهم ‪ :‬هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ‪ ،‬بل هو‬
‫كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ‪ ،‬فليس يساوي مع دناءته وكثرته في المصار أن أسأل ال فيه‬
‫؛ ولهذا قال ‪ { :‬أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا ِمصْرًا فَإِنّ َلكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي ‪:‬‬
‫ما طلبتم ‪ ،‬ولما كان سؤالهم (‪ )1‬هذا من باب البطر والشر ول ضرورة فيه ‪ ،‬لم يجابوا إليه ‪،‬‬
‫وال أعلم‬
‫ضبٍ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ‬
‫سكَنَةُ وَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫{ َوضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ (‪} )61‬‬
‫ع َ‬
‫وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ‬
‫سكَنَةُ } أي ‪ :‬وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا ‪،‬‬
‫يقول تعالى ‪َ { :‬وضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ‬
‫أي ‪ :‬ل يزالون مستذلين ‪ ،‬من وجدهم استذلهم وأهانهم ‪ ،‬وضرب عليهم الصغار ‪ ،‬وهم مع ذلك‬
‫في أنفسهم أذلء متمسكنون (‪.)2‬‬
‫سكَنَةُ } قال ‪ :‬هم أصحاب‬
‫قال الضحاك عن ابن عباس في قوله ‪َ { :‬وضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ‬
‫النيالت (‪ )3‬يعني أصحاب الجزية‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن الحسن وقتادة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ { :‬وضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ } قال ‪:‬‬
‫يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون (‪ ، )4‬وقال الضحاك ‪َ { :‬وضُرِبَتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ } قال ‪:‬‬
‫الذل‪ .‬وقال الحسن ‪ :‬أذلهم ال فل منعة لهم ‪ ،‬وجعلهم ال تحت أقدام المسلمين‪ .‬ولقد أدركتهم هذه‬
‫المة وإن المجوس لتجبيهم الجزية‪.‬‬
‫وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي ‪ :‬المسكنة الفاقة‪ .‬وقال عطية العوفي ‪ :‬الخراج‪ .‬وقال‬
‫الضحاك ‪ :‬الجزية‪.‬‬
‫ضبٍ مِنَ اللّهِ } قال الضحاك ‪ :‬استحقوا الغضب من ال ‪ ،‬وقال الربيع‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫بن أنس ‪ :‬فح َدثَ عليهم غضب من ال‪ .‬وقال سعيد بن جبير ‪ { :‬وَبَاءُوا ِب َغضَبٍ مِنَ اللّهِ } يقول ‪:‬‬
‫ضبٍ مِنَ اللّهِ } انصرفوا ورجعوا ‪،‬‬
‫استوجبوا سخطًا ‪ ،‬وقال ابن جرير ‪ :‬يعني بقوله ‪ { :‬وَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫ول يقال ‪ :‬باؤوا إل موصول إما بخير وإما بشر ‪ ،‬يقال منه ‪ :‬باء فلن بذنبه يبوء به َبوْءًا وبواء‪.‬‬
‫ومنه قوله تعالى ‪ { :‬إِنّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ } [المائدة ‪ ]29 :‬يعني ‪ :‬تنصرف متحملهما‬
‫وترجع بهما ‪ ،‬قد صارا عليك دوني‪ .‬فمعنى الكلم إذًا ‪ :‬فرجعوا منصرفين متحملين غضب ال ‪،‬‬
‫قد صار عليهم من ال غضب ‪ ،‬ووجب عليهم من ال سخط‪.‬‬
‫حقّ } يقول تعالى ‪:‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَانُوا َيكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬كان سألهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬مستذلين" ‪ ،‬وفي ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مستكينين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬طـ ‪ ،‬و ‪" :‬القبالت" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬السالت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير عبد الرزاق (‪.)69 /1‬‬
‫( ‪)1/282‬‬

‫هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ‪ ،‬وإحلل الغضب بهم (‪ )1‬بسبب استكبارهم عن اتباع‬
‫الحق ‪ ،‬وكفرهم بآيات ال ‪ ،‬وإهانتهم حملة الشرع وهم النبياء وأتباعهم ‪ ،‬فانتقصوهم إلى (‪ )2‬أن‬
‫أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ‪ ،‬فل كبْر أعظم من هذا ‪ ،‬أنهم كفروا بآيات ال وقتلوا أنبياء ال‬
‫بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫غمْط الناس" (‪.)3‬‬
‫"الكبر بَطَر الحق ‪ ،‬و َ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسماعيل ‪ ،‬عن ابن عون ‪ ،‬عن عمرو بن سعيد ‪ ،‬عن حميد بن عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن مسعود ‪ :‬كنت ل أحجب عن النّجْوى ‪ ،‬ول عن كذا ول عن كذا قال ‪:‬‬
‫فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ‪ ،‬فأدركته (‪ )4‬من آخر‬
‫حديثه ‪ ،‬وهو يقول ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬قد قسم لي من الجمال ما ترى ‪ ،‬فما أحب أن أحدًا من الناس‬
‫َفضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال ‪" :‬ل ليس ذلك من البغي ‪ ،‬ولكن البغي‬
‫مَنْ بطر ‪ -‬أو قال ‪ :‬سفه الحق ‪ -‬وغَمط الناس"‪ .‬يعني ‪ :‬رد الحق وانتقاص الناس ‪ ،‬والزدراء‬
‫بهم والتعاظم عليهم‪ .‬ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات ال وقتل أنبيائهم ‪،‬‬
‫أحل ال بهم بأسه الذي ل يرد ‪ ،‬وكساهم ذل في الدنيا موصول بذل الخرة جزاء وفاقًا (‪.)5‬‬
‫قال أبو داود الطيالسي ‪ :‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن أبي معمر ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ‪ ،‬ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر‬
‫النهار‪.‬‬
‫وقد قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا أبان ‪ ،‬حدثنا عاصم ‪ ،‬عن أبي وائل ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال ‪ -‬يعني ابن مسعود ‪ -‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أشد الناس عذابًا يوم القيامة‬
‫رجل قتله نبي ‪ ،‬أو قتل نبيًا ‪ ،‬وإمام ضللة وممثل من الممثلين" (‪.)6‬‬
‫صوْا َوكَانُوا َيعْ َتدُونَ } وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ‪،‬‬
‫ع َ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬ذَِلكَ ِبمَا َ‬
‫أنهم كانوا يعصون ويعتدون ‪ ،‬فالعصيان فعل المناهي ‪ ،‬والعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه‬
‫أو المأمور به‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عليهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حتى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )91‬من حديث عبد ال بن مسعود رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قال فأدركت"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)1/385‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)1/407‬‬

‫( ‪)1/283‬‬

‫ع ِملَ صَالِحًا فََلهُمْ‬


‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ َآمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآَخِ ِر وَ َ‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ (‪)62‬‬
‫أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَلَا َ‬

‫ع ِملَ صَالِحًا‬
‫{ إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ (‪} )62‬‬
‫فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ‬
‫لما بين [ال] (‪ )1‬تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ‪ ،‬وتعدى في فعل ما ل إذن فيه‬
‫وانتهك المحارم ‪ ،‬وما أحلّ بهم من النكال ‪ ،‬نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من المم السالفة وأطاع‬
‫‪ ،‬فإن له جزاء الحسنى ‪ ،‬وكذلك المر إلى قيام الساعة ؛ ُكلّ من اتبع الرسول النبي المي فله‬
‫السعادة البدية ‪ ،‬ول خوف عليهم فيما يستقبلونه ‪ ،‬ول هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ‪،‬‬
‫علَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ } [يونس ‪ ]62 :‬وكما تقول‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬أَل إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ ل َ‬
‫الملئكة للمؤمنين عند الحتضار في قوله ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنزلُ عَلَ ْيهِمُ‬
‫ا ْلمَل ِئكَةُ أَل تَخَافُوا وَل تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت ‪.]30 :‬‬
‫قال (‪ )2‬ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن أبي عمر العَدني ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن ابن أبي‬
‫نَجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬قال سلمان ‪ :‬سألت النبي صلى ال عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم‬
‫‪ ،‬فذكرتُ من صلتهم وعبادتهم ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ‬
‫مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } إلى آخر الية‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ‬
‫ل صَالِحًا } الية ‪ :‬نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ‪ ،‬بينا هو يحدث النبي صلى ال عليه‬
‫عمِ َ‬
‫وَ َ‬
‫وسلم إذْ ذكر أصحابه ‪ ،‬فأخبره خبرهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ‪،‬‬
‫ويشهدون (‪ )3‬أنك ستبعث نبيًا ‪ ،‬فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ‪ ،‬قال له نبي ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬يا سلمان ‪ ،‬هم من أهل النار"‪ .‬فاشتد ذلك على سلمان ‪ ،‬فأنزل ال هذه الية ‪ ،‬فكان إيمان‬
‫اليهود ‪ :‬أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ‪ ،‬عليه السلم ؛ حتى جاء عيسى‪ .‬فلما جاء عيسى‬
‫كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ‪ ،‬فلم يدعها ولم يتبع عيسى ‪ ،‬كان هالكًا‪ .‬وإيمان‬
‫النصارى أن (‪ )4‬من تمسك بالنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبول منه حتى جاء محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فمن لم يتبعْ محمدًا صلى ال عليه وسلم منهم ويَ َدعْ (‪ )5‬ما كان عليه من‬
‫سنة عيسى والنجيل ‪ -‬كان هالكا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا ل ينافي ما روى عَليّ بن (‪ )6‬أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ‬
‫هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } الية فأنزل ال بعد ذلك ‪َ { :‬ومَنْ يَبْتَغِ‬
‫غَيْرَ السْلمِ دِينًا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِ ْن ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران ‪.]85 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ويشهدوا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬أنه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ولم يدع"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬عن ابن"‪.‬‬

‫( ‪)1/284‬‬

‫فإن هذا الذي قاله [ابن عباس] (‪ )1‬إخبار عن أنه ل يقبل من أحد طريقة ول عمل إل ما كان‬
‫موافقًا لشريعة محمد صلى ال عليه وسلم بعد أن بعثه [ال] (‪ )2‬بما بعثه به ‪ ،‬فأما قبل ذلك فكل‬
‫من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ‪ ،‬فاليهود أتباع موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم‪.‬‬
‫واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ { :‬إِنّا ُهدْنَا‬
‫إِلَ ْيكَ } [العراف ‪ ]156 :‬أي ‪ :‬تبنا ‪ ،‬فكأنهم سموا بذلك في الصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم‬
‫لبعض‪.‬‬
‫[وقيل ‪ :‬لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولد يعقوب عليه السلم ‪ ،‬وقال أبو عمرو بن العلء ‪ :‬لنهم‬
‫يتهودون ‪ ،‬أي ‪ :‬يتحركون عند قراءة التوراة] (‪.)3‬‬
‫فلما بعث عيسى صلى ال عليه وسلم (‪ )4‬وجب على بني إسرائيل اتباعه والنقياد له ‪ ،‬فأصحابه‬
‫وأهل دينه هم النصارى ‪ ،‬وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ‪ ،‬وقد يقال لهم ‪ :‬أنصار أيضًا ‪ ،‬كما‬
‫حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ } [آل عمران‬
‫قال عيسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ { :‬مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ‬
‫سمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة ‪ ،‬قاله قتادة وابن‬
‫‪ ]52 :‬وقيل ‪ :‬إنهم إنما ُ‬
‫جُرَيج ‪ ،‬وروي عن ابن عباس أيضًا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫والنصارى ‪ :‬جمع نصران (‪ )5‬كنشاوى جمع نشوان ‪ ،‬وسكارى جمع سكران ‪ ،‬ويقال للمرأة ‪:‬‬
‫نصرانة ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫نصرانة لم تَحَ ّنفِ (‪)6‬‬
‫فلما بعث ال محمدًا صلى ال عليه وسلم خاتمًا للنبيين ‪ ،‬ورسول إلى بني آدم على الطلق ‪،‬‬
‫وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر ‪ ،‬وطاعته فيما أمر ‪ ،‬والنكفاف عما عنه زجر‪ .‬وهؤلء هم‬
‫المؤمنون [حقا] (‪ .)7‬وسميت أمة محمد صلى ال عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ‪،‬‬
‫ولنهم يؤمنون بجميع النبياء الماضية والغيوب التية‪ .‬وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال‬
‫سفيان الثوري ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عليه السلم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬نصراني"‪.‬‬
‫(‪ )6‬البيت في تفسير الطبري (‪ )2/144‬وهو لبي الخز الحماني ‪ ،‬وهذا جزء منه وهو بتمامه ‪:‬‬
‫فكلتاهما خرت وأسجد رأسها‪ ...‬كما سجدت نصرانة لم تحنف‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/285‬‬

‫مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ‪ ،‬ليس لهم دين‪ .‬وكذا رواه ابن‬
‫أبي نجيح ‪ ،‬عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال أبو العالية والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وأبو الشعثاء جابر بن زيد ‪ ،‬والضحاك [وإسحاق بن‬
‫راهويه] (‪ )1‬الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور‪.‬‬
‫[ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق ‪ :‬ل بأس بذبائحهم ومناكحتهم] (‪.)2‬‬
‫وقال هشيم عن مطرف ‪ :‬كنا عند الحكم بن عتيبة (‪ )3‬فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن‬
‫أنه كان يقول في الصابئين ‪ :‬إنهم كالمجوس ‪ ،‬فقال الحكم ‪ :‬ألم أخبركم بذلك‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن معاوية بن عبد الكريم ‪ :‬سمعت الحسن ذكر الصابئين ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫هم قوم يعبدون الملئكة‪.‬‬
‫[وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ‪ ،‬عن الحسن‬
‫قال ‪ :‬أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس‪ .‬قال ‪ :‬فأراد أن يضع عنهم‬
‫الجزية‪ .‬قال ‪ :‬فخبر بعد أنهم يعبدون الملئكة] (‪.)4‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ :‬بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملئكة ‪ ،‬ويقرؤون الزبور ‪ ،‬ويصلون‬
‫إلى القبلة‪.‬‬
‫وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ‪ ،‬عن قتادة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني ابن أبي الزناد ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬الصابئون قوم مما يلي العراق ‪ ،‬وهم بكوثى ‪ ،‬وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ‪،‬‬
‫ويصومون من كل سنة ثلثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات‪.‬‬
‫وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ‪ ،‬فقال ‪ :‬الذي يعرف ال وحده ‪ ،‬وليست له شريعة يعمل بها‬
‫ولم يحدث كفرًا‪.‬‬
‫وقال عبد ال بن وهب ‪ :‬قال عبد الرحمن بن زيد ‪ :‬الصابئون أهل دين من الديان ‪ ،‬كانوا‬
‫بجزيرة الموصل يقولون ‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬وليس لهم عمل ول كتاب ول نبي إل قول ‪ :‬ل إله إل‬
‫ال ‪ ،‬قال ‪ :‬ولم يؤمنوا برسول ‪ ،‬فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه ‪ :‬هؤلء الصابئون ‪ ،‬يشبهونهم بهم ‪ ،‬يعني في قول ‪ :‬ل إله إل ال‪.‬‬
‫وقال الخليل (‪ )5‬هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ‪ ،‬إل أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ‪ ،‬يزعمون‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عيينة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬الخدري"‪.‬‬

‫( ‪)1/286‬‬

‫وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪ُ )63‬ثمّ‬
‫حمَتُهُ َلكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (‪)64‬‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ وَرَ ْ‬
‫َتوَلّيْتُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ فََلوْلَا َف ْ‬

‫أنهم على دين نوح ‪ ،‬عليه السلم‪ .‬وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح ‪ :‬أنهم قوم‬
‫تركب دينهم بين اليهود والمجوس ‪ ،‬ول تؤكل ذبائحهم ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬ول تنكح نساؤهم‪ .‬قال‬
‫القرطبي ‪ :‬والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير‬
‫النجوم ‪ ،‬وأنهم فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الصطخري بكفرهم للقادر بال حين سأله عنهم ‪،‬‬
‫واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن ال جعلها قبلة للعبادة‬
‫والدعاء ‪ ،‬أو بمعنى أن ال فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ‪ ،‬قال ‪ :‬وهذا القول هو المنسوب إلى‬
‫الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬رادًا عليهم ومبطل لقولهم‪.‬‬
‫وأظهر القوال ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬قول مجاهد ومتابعيه ‪ ،‬ووهب بن منبه ‪ :‬أنهم قوم ليسوا على دين‬
‫اليهود ول النصارى ول المجوس ول المشركين ‪ ،‬وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ول دين‬
‫مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ‪ ،‬أي ‪ :‬أنه قد خرج‬
‫عن سائر أديان أهل الرض إذ ذاك‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء ‪ :‬الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِبقُ ّو ٍة وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪)63‬‬
‫خذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْوقَكُمُ الطّورَ ُ‬
‫{ وَإِذْ أَ َ‬
‫حمَتُهُ َلكُنْ ُتمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (‪} )64‬‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫ثُمّ َتوَلّيْتُمْ مِنْ َبعْدِ َذِلكَ فََلوْل َف ْ‬
‫يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق باليمان به وحده ل شريك له‬
‫واتباع رسله ‪ ،‬وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما‬
‫عوهدوا عليه ‪ ،‬ويأخذوه (‪ )1‬بقوة وحزم وهمة وامتثال (‪ )2‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَإِذْ نَ َتقْنَا ا ْلجَ َبلَ‬
‫ظلّ ٌة وَظَنّوا أَنّ ُه وَاقِعٌ ِبهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَا ُكمْ ِب ُقوّ ٍة وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } [العراف‬
‫َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ ُ‬
‫‪ ]171 :‬الطور هو الجبل ‪ ،‬كما فسره بآية (‪ )3‬العراف ‪ ،‬ونص على ذلك ابن عباس ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس ‪ ،‬وغير واحد ‪ ،‬وهذا ظاهر (‪.)4‬‬
‫وفي رواية عن ابن عباس ‪ :‬الطور ما أنبت من الجبال ‪ ،‬وما لم ينبت فليس بطور‪.‬‬
‫وفي حديث الفتون ‪ :‬عن ابن عباس ‪ :‬أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا‬
‫[فسجدوا] (‪.)5‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬فلما أبوا أن يسجدوا أمر ال الجبل أن يقع عليهم ‪ ،‬فنظروا إليه وقد غشيهم ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فأخذوه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬امتثال أمر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فسرنا به آية"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬وهذا الظاهر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/287‬‬

‫جعَلْنَاهَا َنكَالًا ِلمَا بَيْنَ‬


‫وَلَقَدْ عَِلمْتُمُ الّذِينَ اعْتَ َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ (‪َ )65‬ف َ‬
‫يَدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪)66‬‬

‫فسقطوا سجدًا [فسجدوا] (‪ )1‬على شق ‪ ،‬ونظروا بالشق الخر ‪ ،‬فرحمهم ال فكشفه عنهم ‪ ،‬فقالوا‬
‫(‪ )2‬وال ما سجدة أحب إلى ال من سجدة كشف بها العذاب عنهم ‪ ،‬فهم يسجدون كذلك ‪ ،‬وذلك‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ (‪ )3‬الطّورَ }‪.‬‬
‫خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ } يعني التوراة‪.‬‬
‫وقال الحسن في قوله ‪ُ { :‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ِ { :‬ب ُق ّوةٍ } أي بطاعة‪ .‬وقال مجاهد ‪ :‬بقوة ‪ :‬بعمل بما فيه‪.‬‬
‫وقال قتادة { خُذُوا مَا آتَيْنَا ُكمْ ِبقُ ّوةٍ } القوة ‪ :‬الجد وإل قذفته (‪ )4‬عليكم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فأقروا بذلك ‪ :‬أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة‪ .‬ومعنى قوله ‪ :‬وإل قذفته عليكم ‪ ،‬أي (‪ )5‬أسقطه‬
‫عليكم ‪ ،‬يعني الجبل‪.‬‬
‫وقال أبو العالية والربيع ‪ { :‬وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ } يقول ‪ :‬اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬ثُمّ َتوَلّيْ ُتمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } يقول تعالى ‪ :‬ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم‬
‫حمَتُهُ } أي ‪ :‬توبته (‪ )6‬عليكم وإرساله النبيين‬
‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم وَرَ ْ‬
‫عنه وانثنيتم ونقضتموه { فََلوْل َف ْ‬
‫والمرسلين إليكم { َلكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا‬
‫{ وََلقَدْ عَِلمْتُمُ الّذِينَ اعْ َت َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ (‪ )65‬فَ َ‬
‫خ ْلفَهَا َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪} )66‬‬
‫بَيْنَ يَدَ ْيهَا َومَا َ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ عَِلمْتُمُ } يا معشر اليهود ‪ ،‬ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر ال‬
‫وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره ‪ ،‬إذ كان مشروعًا لهم ‪،‬‬
‫فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت ‪ ،‬بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك‬
‫قبل يوم السبت ‪ ،‬فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل ‪ ،‬فلم‬
‫تخلص منها يومها ذلك ‪ ،‬فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت‪ .‬فلما فعلوا ذلك مسخهم ال‬
‫إلى صورة القردة ‪ ،‬وهي أشبه شيء بالناسي في الشكل (‪ )7‬الظاهر وليست بإنسان حقيقة‪.‬‬
‫فكذلك أعمال هؤلء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن ‪ ،‬كان‬
‫جزاؤهم من جنس عملهم‪ .‬وهذه القصة مبسوطة في سورة العراف ‪ ،‬حيث يقول تعالى ‪:‬‬
‫{ وَاسْأَ ْل ُهمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْ َبحْرِ إِذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ إِذْ تَأْتِي ِهمْ حِيتَا ُن ُهمْ َيوْمَ سَبْ ِت ِهمْ‬
‫سقُونَ } [العراف ‪ ] 163 :‬القصة‬
‫شُرّعًا وَ َيوْمَ ل يَسْبِتُونَ ل تَأْتِيهِمْ كَ َذِلكَ نَبْلُوهُمْ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫بكمالها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فوقهم" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬دفنته"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬دفنته إل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أي بتوبته"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬بالناسي والشكل"‪.‬‬
‫( ‪)1/288‬‬

‫وقال السدي ‪ :‬أهل هذه القرية هم أهل "أيلة"‪ .‬وكذا قال قتادة ‪ ،‬وسنورد أقوال المفسرين هناك‬
‫مبسوطة إن شاء ال وبه الثقة (‪.)1‬‬
‫وقوله ‪ { :‬كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو حذيفة ‪ ،‬حدثنا شبل ‪،‬‬
‫عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪َ { :‬فقُلْنَا َل ُهمْ كُونُوا قِ َر َدةً خَاسِئِينَ } قال ‪ :‬مسخت قلوبهم ‪ ،‬ولم‬
‫سفَارًا } [الجمعة ‪.]5 :‬‬
‫ح ِملُ أَ ْ‬
‫حمَارِ َي ْ‬
‫يمسخوا قردة ‪ ،‬وإنما هو مثل ضربه ال { َكمَ َثلِ الْ ِ‬
‫ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن المثنى ‪ ،‬عن أبي (‪ )2‬حذيفة‪ .‬وعن محمد بن عمرو (‪ )3‬الباهلي ‪ ،‬عن‬
‫أبي عاصم ‪ ،‬عن عيسى ‪ ،‬عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وهذا سند جيد عن مجاهد ‪ ،‬وقول غريب خلف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره ‪،‬‬
‫ج َعلَ‬
‫غضِبَ عَلَيْهِ وَ َ‬
‫قال ال تعالى ‪ُ { :‬قلْ َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ ِبشَرّ مِنْ ذَِلكَ مَثُوبَةً عِ ْندَ اللّهِ مَنْ َلعَنَهُ اللّ ُه وَ َ‬
‫مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ } الية [المائدة ‪.]60 :‬‬
‫وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس ‪َ { :‬فقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } فجعل [ال] (‪ )4‬منهم‬
‫القردة والخنازير‪ .‬فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير‪.‬‬
‫وقال شيبان النحوي ‪ ،‬عن قتادة ‪َ { :‬فقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } فصار القوم قرودًا تعاوى لها‬
‫أذناب بعد ما كانوا رجال ونساء‪.‬‬
‫وقال عطاء الخراساني ‪ :‬نودوا ‪ :‬يا أهل القرية ‪ { ،‬كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } فجعل الذين نهوهم‬
‫يدخلون عليهم فيقولون ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬ألم ننهكم ؟ فيقولون برؤوسهم ‪ ،‬أي بلى‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا علي بن الحسين (‪ )5‬حدثنا عبد ال بن محمد بن ربيعة بالمصيصة ‪،‬‬
‫حدثنا محمد بن مسلم ‪ -‬يعني الطائفي ‪ -‬عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة ُفوَاقا ثم هلكوا‪ .‬ما كان للمسخ (‪ )6‬نسل (‪.)7‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬فمسخهم ال قردة بمعصيتهم ‪ ،‬يقول ‪ :‬إذ ل يحيون في الرض‬
‫إل ثلثة أيام ‪ ،‬قال ‪ :‬ولم يعش مسخ قط فوق ثلثة أيام ‪ ،‬ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل‪ .‬وقد‬
‫خلق ال القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها ال (‪ )8‬في كتابه ‪ ،‬فمسخ [ال]‬
‫(‪ )9‬هؤلء القوم في صورة القردة ‪ ،‬وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء‪ .‬ويحوله كما يشاء‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية في قوله ‪ { :‬كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } قال ‪:‬‬
‫يعني‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬وبه الثقة والعانة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عن أبو" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الحسن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬للمسيخ"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/209‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬التي ذكر ال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/289‬‬

‫أذلة صاغرين‪ .‬وروي عن مجاهد ‪ ،‬وقتادة والربيع ‪ ،‬وأبي مالك ‪ ،‬نحوه‪.‬‬


‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن داود بن الحصين ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬إن ال إنما‬
‫افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم ‪ -‬يوم الجمعة ‪ -‬فخالفوا إلى (‪)1‬‬
‫السبت فعظموه ‪ ،‬وتركوا ما أمروا به‪ .‬فلما أبوا إل لزوم السبت ابتلهم ال فيه ‪ ،‬فحرم عليهم ما‬
‫أحل لهم في غيره‪ .‬وكانوا في قرية بين أيلة والطور ‪ ،‬يقال لها ‪" :‬مدين" ؛ فحرم ال عليهم في‬
‫السبت الحيتان ‪ :‬صيدها وأكلها‪ .‬وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم ‪،‬‬
‫حتى إذا ذهب السبت ذهبن ‪ ،‬فلم يروا حوتًا صغيرًا ول كبيرًا‪ .‬حتى إذا كان يوم السبت أتين‬
‫شرعًا ‪ ،‬حتى إذا ذهب السبت ذهبن ‪ ،‬فكانوا كذلك ‪ ،‬حتى إذا طال عليهم المد وقرموا إلى‬
‫الحيتان ‪ ،‬عمد رجل (‪ )2‬منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت ‪ ،‬فخزمه بخيط ‪ ،‬ثم أرسله في الماء ‪،‬‬
‫وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه ‪ ،‬ثم تركه‪ .‬حتى إذا كان الغد جاء فأخذه ‪ ،‬أي ‪ :‬إني لم آخذه في‬
‫يوم السبت ثم انطلق به فأكله‪ .‬حتى إذا كان يوم السبت الخر ‪ ،‬عاد لمثل ذلك ‪ ،‬ووجد الناس ريح‬
‫الحيتان ‪ ،‬فقال أهل القرية ‪ :‬وال لقد وجدنا ريح الحيتان ‪ ،‬ثم عثروا على صنيع (‪ )3‬ذلك الرجل‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ففعلوا كما فعل ‪ ،‬وصنعوا (‪ )4‬سرًا زمانًا طويل لم يعجل ال عليهم العقوبة (‪ )5‬حتى‬
‫صادوها علنية وباعوها في بالسواق (‪ .)6‬فقالت طائفة منهم من أهل البقية ‪ :‬ويحكم ‪ ،‬اتقوا ال‪.‬‬
‫ونهوهم عما يصنعون‪ .‬فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ‪ ،‬ولم تنه القوم عما صنعوا ‪ { :‬لِمَ‬
‫َتعِظُونَ َق ْومًا اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَذّ ُبهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا َمعْذِ َرةً إِلَى رَ ّبكُمْ } لسخطنا أعمالهم { وََلعَّلهُمْ‬
‫يَ ّتقُونَ } [العراف ‪.]164 :‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا الناس فلم‬
‫يرونهم قال ‪ :‬فقال بعضهم لبعض ‪ :‬إن للناس لشأنًا! فانظروا ما هو‪ .‬فذهبوا ينظرون في دورهم ‪،‬‬
‫فوجدوها مغلقة عليهم ‪ ،‬قد دخلوها ليل فغلقوها على أنفسهم ‪ ،‬كما يغلق الناس على أنفسهم‬
‫فأصبحوا فيها قردة ‪ ،‬وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ‪ ،‬والمرأة بعينها وإنها لقردة ‪،‬‬
‫والصبي بعينه وإنه لقرد‪ .‬قال ‪ :‬يقول ابن عباس ‪ :‬فلول ما ذكر ال أنه أنجى الذين نهوا عن‬
‫السوء لقلنا (‪ )7‬أهلك الجميع منهم ‪ ،‬قال ‪ :‬وهي القرية التي قال ال جل ثناؤه لمحمد صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ { :‬وَاسْأَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْرِ } الية [العراف ‪ .]163 :‬وروى‬
‫الضحاك عن ابن عباس نحوًا من هذا‪.‬‬
‫قال (‪ )8‬السدي في قوله تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ عَِلمْتُمُ الّذِينَ اعْتَ َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َل ُهمْ كُونُوا قِ َر َدةً‬
‫خَاسِئِينَ } قال ‪ :‬فهم أهل "أيلة" ‪ ،‬وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ‪ ،‬فكانت الحيتان إذا كان‬
‫يوم السبت ‪ -‬وقد حرم ال على اليهود أن يعملوا (‪ )9‬في السبت شيئًا ‪ -‬لم يبق في البحر حوت‬
‫إل خرج ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إلي يوم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عمد رجل" وهو خطًا‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬على صنع"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وأكلوا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بعقوبة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬في السواق"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لقد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أن تعمل"‪.‬‬

‫( ‪)1/290‬‬

‫حتى يخرجن خراطيمهن من الماء ‪ ،‬فإذا كان يوم الحد لزمن مقل البحر ‪ ،‬فلم ير منهن شيء (‬
‫‪ )1‬حتى يكون يوم السبت ‪ ،‬فذلك قوله تعالى ‪ { :‬وَاسْأَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْرِ إِذْ‬
‫َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ إِذْ تَأْتِي ِهمْ حِيتَا ُن ُهمْ َيوْمَ سَبْ ِت ِهمْ شُرّعًا وَ َيوْمَ ل يَسْبِتُونَ ل تَأْتِيهِمْ [ َكذَِلكَ نَبْلُوهُمْ ِبمَا‬
‫سقُونَ ] (‪ .} )2‬فاشتهى بعضهم السمك ‪ ،‬فجعل الرجل يحفر الحفيرة ‪ ،‬ويجعل لها نهرًا‬
‫كَانُوا َيفْ ُ‬
‫إلى البحر ‪ ،‬فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ‪،‬‬
‫فيريد الحوت أن يخرج ‪ ،‬فل يطيق من أجل قلة ماء النهر ‪ ،‬فيمكث فإذا كان يوم الحد جاء فأخذه‬
‫‪ ،‬فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره ‪ ،‬فيصنع مثل ما صنع جاره ‪ ،‬حتى‬
‫فشا فيهم أكل السمك ‪ ،‬فقال لهم علماؤهم ‪ :‬ويحكم! إنما تصطادون يوم السبت ‪ ،‬وهو ل يحل‬
‫لكم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنما صدناه يوم الحد حين أخذناه‪ .‬فقال العلماء (‪ )3‬ل ولكنكم صدتموه يوم فتحكم (‬
‫‪ )4‬الماء فدخل ‪ ،‬قال ‪ :‬وغلبوا أن ينتهوا‪ .‬فقال بعض (‪ )5‬الذين نهوهم لبعض ‪ { :‬لِمَ َتعِظُونَ َق ْومًا‬
‫اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَذّ ُب ُهمْ عَذَابًا شَدِيدًا } يقول ‪ :‬لم تعظوهم ‪ ،‬وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال‬
‫بعضهم ‪َ { :‬معْذِ َرةً إِلَى رَ ّب ُك ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } [العراف ‪ ]164 :‬فلما أبوا قال المسلمون ‪ :‬وال ل‬
‫نساكنكم في قرية واحدة‪ .‬فقسموا القرية بجدار ‪ ،‬ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السبت بابًا ‪،‬‬
‫ولعنهم داود ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فجعل المسلمون يخرجون من بابهم ‪ ،‬والكفار من بابهم ‪ ،‬فخرج‬
‫المسلمون ذات يوم ‪ ،‬ولم يفتح الكفار بابهم ‪ ،‬فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط ‪،‬‬
‫فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ‪ ،‬ففتحوا عنهم ‪ ،‬فذهبوا في الرض ‪ ،‬فذلك قول ال تعالى ‪:‬‬
‫{ فََلمّا عَ َتوْا عَنْ مَا ُنهُوا عَنْهُ قُلْنَا َلهُمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } [العراف ‪ ] 166 :‬وذلك حين يقول ‪:‬‬
‫علَى ِلسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [المائدة ‪ .] 78 :‬فهم‬
‫{ ُلعِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ َ‬
‫القردة‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والغرض من هذا السياق عن هؤلء الئمة بيان خلف ما ذهب إليه مجاهد ‪ ،‬رحمه ال ‪،‬‬
‫من أن مسخهم إنما كان معنويًا ل صوريًا بل الصحيح أنه معنوي صوري ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ظةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال بعضهم ‪ :‬الضمير‬
‫جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا َومَوْعِ َ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَ َ‬
‫جعَلْنَاهَا } عائد على القردة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬على الحيتان ‪ ،‬وقيل ‪ :‬على العقوبة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬على‬
‫في { فَ َ‬
‫القرية ؛ حكاها ابن جرير‪.‬‬
‫والصحيح أن الضمير عائد على القرية ‪ ،‬أي ‪ :‬فجعل ال هذه القرية ‪ ،‬والمراد أهلها بسبب‬
‫اعتدائهم في سبتهم { َنكَال } أي ‪ :‬عاقبناهم عقوبة ‪ ،‬فجعلناها (‪ .)6‬عبرة ‪ ،‬كما قال ال عن‬
‫فرعون ‪ { :‬فََأخَ َذهُ اللّهُ َنكَالَ الخِ َر ِة وَالولَى } [النازعات ‪.]25 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬شيئًا" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الفقهاء"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فتحتم له"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬فقال بعضهم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فجعلناهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/291‬‬

‫وقوله ‪ِ { :‬لمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا } أي من القرى‪ .‬قال (‪ )1‬ابن عباس ‪ :‬يعني جعلناها بما أحللنا‬
‫حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى‬
‫بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى‪ .‬كما قال تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا مَا َ‬
‫جعُونَ } [الحقاف ‪ ، ]27 :‬ومنه قوله تعالى ‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َروْا أَنّا نَأْتِي‬
‫َوصَ ّرفْنَا اليَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا } الية [الرعد ‪ ، ] 41 :‬على أحد القوال ‪ ،‬فالمراد ‪ :‬لما بين يديها‬
‫ال ْرضَ نَ ْن ُق ُ‬
‫وما خلفها في المكان ‪ ،‬كما قال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن داود بن الحصين ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ :‬لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى‪ .‬وكذا قال سعيد بن جبير { ِلمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا‬
‫َومَا خَ ْل َفهَا } [قال] (‪ )2‬من بحضرتها من الناس يومئذ‪.‬‬
‫جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ يَدَيْها [ َومَا‬
‫وروي عن إسماعيل بن أبي خالد ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وعطية العوفي ‪َ { :‬ف َ‬
‫خَ ْل َفهَا] } (‪ )3‬قال ‪ :‬ما [كان] (‪ )4‬قبلها من الماضين في شأن السبت‪.‬‬
‫وقال أبو العالية والربيع وعطية ‪َ { :‬ومَا خَ ْل َفهَا } لما (‪ )5‬بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل‬
‫أن يعملوا مثل عملهم‪.‬‬
‫وكان هؤلء يقولون ‪ :‬المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان‪.‬‬
‫وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم ‪ ،‬وأما‬
‫بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلم أن تفسر الية به وهو أن يكون‬
‫عبرة لمن سبقهم ؟ هذا لعل أحدًا من الناس ل يقوله بعد تصوره ‪ ،‬فتعين أن المراد بما بين يديها‬
‫وما خلفها في المكان ‪ ،‬وهو ما حولها من القرى ؛ كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا } أي ‪:‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع عن أبي العالية ‪َ { :‬ف َ‬
‫عقوبة لما خل من ذنوبهم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم (‪ )6‬وروى عن عكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن‬
‫أنس ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وحكى القرطبي ‪ ،‬عن ابن عباس والسدي ‪ ،‬والفراء ‪ ،‬وابن عطية { ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا } بين ذنوب‬
‫القوم { َومَا خَ ْل َفهَا } لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب ‪ ،‬وحكى فخر الدين ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن المراد بما بين يديها وما خلفها ‪ :‬من تقدمها من القرى ‪ ،‬بما عندهم من العلم بخبرها ‪،‬‬
‫بالكتب المتقدمة ومن بعدها‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬المراد بذلك من بحضرتها من القرى والمم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬قاله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لمن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وقال ابن أبي جرير"‪.‬‬

‫( ‪)1/292‬‬
‫خذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ‬
‫وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً قَالُوا أَتَتّ ِ‬
‫مِنَ الْجَاهِلِينَ (‪)67‬‬

‫والثالث ‪ :‬أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده ‪ ،‬قال ‪ :‬وهذا قول‬
‫الحسن‪ .‬قلت ‪ :‬وأرجح القوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها ‪ :‬من بحضرتها من القرى التي‬
‫حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى َوصَ ّرفْنَا اليَاتِ َلعَّلهُمْ‬
‫يبلغهم خبرها ‪ ،‬وما حل بها ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬وََلقَدْ َأهَْلكْنَا مَا َ‬
‫عةٌ َأوْ‬
‫جعُونَ } [الحقاف ‪ ]27 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَل يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا ُتصِي ُبهُمْ ِبمَا صَ َنعُوا قَارِ َ‬
‫يَرْ ِ‬
‫صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا }‬
‫حلّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } [الرعد ‪ ، ]31 :‬وقال { َأفَل يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي ال ْرضَ نَ ْن ُق ُ‬
‫تَ ُ‬
‫[النبياء ‪ ، ] 44 :‬فجعلهم عبرة ونكال لمن في زمانهم ‪ ،‬وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر‬
‫عنهم ‪ ،‬ولهذا قال ‪َ { :‬و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن داود بن الحصين ‪ ،‬عن عكرمة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪َ { :‬و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } الذين من بعدهم إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وقال الحسن وقتادة ‪َ { :‬و َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } بعدهم ‪ ،‬فيتقون نقمة ال ‪ ،‬ويحذرونها‪.‬‬
‫ظةً لِ ْلمُ ّتقِينَ } قال ‪ :‬أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬وعطية العوفي ‪َ { :‬ومَوْعِ َ‬
‫قلت ‪ :‬المراد بالموعظة هاهنا الزاجر ‪ ،‬أي ‪ :‬جعلنا ما أحللنا بهؤلء من البأس والنكال في مقابلة‬
‫ما ارتكبوه من محارم ال ‪ ،‬وما تحيلوا به من الحيل ‪ ،‬فليحذر المتقون صنيعهم لئل يصيبهم ما‬
‫أصابهم ‪ ،‬كما قال المام أبو عبد ال بن بطة ‪ :‬حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ‪ ،‬حدثنا الحسن بن‬
‫محمد بن الصباح الزعفراني ‪ ،‬حدثنا يزيد بن هارون ‪ ،‬حدثنا محمد بن عمرو [عن أبي سلمة] (‬
‫‪ )1‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل ترتكبوا ما ارتكب (‪ )2‬اليهود ‪،‬‬
‫فتستحلوا محارم ال بأدنى الحيل" (‪.)3‬‬
‫وهذا إسناد جيد ‪ ،‬وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ‪ ،‬وباقي‬
‫رجاله مشهورون على شرط الصحيح‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً قَالُوا أَتَتّخِذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ‬
‫مِنَ الْجَاهِلِينَ (‪} )67‬‬
‫يقول تعالى ‪ :‬واذكروا ‪ -‬يا بني إسرائيل ‪ -‬نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة ‪،‬‬
‫وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء ال المقتول ‪ ،‬ونصه على من قتله منهم‪[ .‬مسألة البل تنحر‬
‫والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل ‪ :‬تذبح ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تنحر ‪ ،‬والذبح أولى لنص القرآن ولقرب‬
‫منحرها من مذبحها‪ .‬قال ابن المنذر ‪ :‬ول أعلم خلفا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح ‪،‬‬
‫غير أن مالكا كره ذلك‪ .‬وقد يكره النسان ما ل يحرم ‪ ،‬وقال أبو عبد ال ‪ :‬أعلم أن نزول قصة‬
‫البقرة على موسى ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما ارتكبت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬جزء الخلع وإبطال الحيل لبن بطة (ص ‪.)24‬‬

‫( ‪)1/293‬‬

‫عليه السلم ‪ ،‬في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التوراة‪.‬‬


‫بسط القصة] (‪ - )1‬كما قال ابن أبي حاتم ‪: -‬‬
‫حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا يزيد بن هارون ‪ ،‬أنبأنا هشام بن حسان ‪ ،‬عن محمد‬
‫بن سيرين ‪ ،‬عن (‪ )2‬عبيدة السلماني ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا ل يولد له ‪ ،‬وكان‬
‫له مال كثير ‪ ،‬وكان (‪ )3‬ابن أخيه وارثه ‪ ،‬فقتله ثم احتمله ليل فوضعه على باب رجل منهم ‪ ،‬ثم‬
‫أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا ‪ ،‬وركب بعضهم إلى (‪ )4‬بعض ‪ ،‬فقال ذوو الرأي منهم والنهى‬
‫‪ :‬علم يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول ال فيكم ؟ فأتوا موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فذكروا ذلك له ‪،‬‬
‫فقال ‪ { :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً قَالُوا أَتَتّخِذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ مِنَ الْجَا ِهلِينَ }‬
‫قال ‪ :‬فلو لم يعترضوا [البقر] (‪ )5‬لجزأت عنهم أدنى بقرة ‪ ،‬ولكنهم (‪ )6‬شددوا فشدد عليهم ‪،‬‬
‫حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ‪ ،‬فقال ‪ :‬وال ل‬
‫أنقصها من ملء جلدها ذهبا ‪ ،‬فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها ‪ ،‬فضربوه ببعضها فقام فقالوا ‪:‬‬
‫من قتلك ؟ فقال ‪ :‬هذا ‪ ،‬لبن أخيه‪ .‬ثم مال ميتًا ‪ ،‬فلم يعط من ماله شيئًا ‪ ،‬فلم يورث قاتل بعد‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير من حديث أيوب ‪ ،‬عن محمد بن سيرين ‪ ،‬عن عبيدة (‪ )7‬بنحو من ذلك (‪)8‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫ورواه عبد بن حميد في تفسيره ‪ :‬أنبأنا يزيد بن هارون ‪ ،‬به‪.‬‬
‫ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره ‪ ،‬عن أبي جعفر ‪ -‬هو الرازي ‪ -‬عن هشام بن حسان ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره ‪ :‬أنبأنا أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في‬
‫قول ال تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً } قال ‪ :‬كان رجل من بني إسرائيل ‪ ،‬وكان غنيًا‬
‫‪ ،‬ولم يكن له ولد ‪ ،‬وكان له قريب وكان وارثه ‪ ،‬فقتله ليرثه ‪ ،‬ثم ألقاه على مجمع الطريق ‪ ،‬وأتى‬
‫موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فقال له ‪ :‬إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم ‪ ،‬وإني ل أجد أحدًا يبين [لي]‬
‫(‪ )9‬من قتله غيرك يا نبي ال‪ .‬قال ‪ :‬فنادى موسى في الناس ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنشد ال من كان عنده من‬
‫هذا علم إل بينه لنا ‪[ ،‬قال] (‪ : )10‬فلم يكن عندهم علم ‪ ،‬فأقبل القاتل على موسى عليه السلم ‪،‬‬
‫فقال له ‪ :‬أنت نبي ال فاسأل لنا ربك أن يبين لنا ‪ ،‬فسأل ربه فأوحى ال إليه ‪ { :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ‬
‫أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً } فعجبوا من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وكان له"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬على"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ولكن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬عبدة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/214‬وتفسير الطبري (‪.)1/337‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/294‬‬

‫ذلك ‪ ،‬فقالوا ‪ { :‬أَتَتّخِذُنَا هُ ُزوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا‬
‫مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة ل فَا ِرضٌ } يعني ‪ :‬ل هرمة { وَل ِبكْرٌ } يعني ‪ :‬ول صغيرة‬
‫عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ } أي ‪ :‬نصف بين البكر والهرمة { قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ‬
‫{ َ‬
‫صفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } أي ‪ :‬صاف لونها { تَسُرّ النّاظِرِينَ } أي ‪ :‬تعجب الناظرين‬
‫َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ َ‬
‫{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ * قَالَ إِنّهُ َيقُولُ‬
‫إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل ذَلُولٌ } أي ‪ :‬لم يذللها (‪ )1‬العمل { تُثِيرُ ال ْرضَ } يعني ‪ :‬وليست بذلول تثير الرض‬
‫سقِي ا ْلحَ ْرثَ } يقول ‪ :‬ول تعمل في الحرث { مُسَّل َمةٌ } يعني ‪ :‬مسلمة من العيوب { ل شِيَةَ‬
‫{ وَل تَ ْ‬
‫حقّ فَذَ َبحُوهَا َومَا كَادُوا َيفْعَلُونَ } قال ‪ :‬ولو أن‬
‫فِيهَا } يقول ‪ :‬ل بياض فيها { قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِالْ َ‬
‫القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة ‪ ،‬استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ‪ ،‬لكانت إياها ‪ ،‬ولكنهم‬
‫شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ‪ ،‬ولول أن القوم استثنوا فقالوا ‪ { :‬وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ } لما‬
‫هدوا إليها أبدًا‪ .‬فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إل عند عجوز عندها يتامى ‪ ،‬وهي‬
‫القيمة عليهم ‪ ،‬فلما علمت أنه ل يزكو لهم (‪ )2‬غيرها ‪ ،‬أضعفت عليهم الثمن‪ .‬فأتوا موسى‬
‫فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إل عند فلنة ‪ ،‬وأنها سألتهم أضعاف ثمنها‪ .‬فقال لهم موسى ‪:‬‬
‫إن ال قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها‪ .‬ففعلوا ‪ ،‬واشتروها (‪)3‬‬
‫فذبحوها ‪ ،‬فأمرهم موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أن يأخذوا عظمًا (‪ )4‬منها فيضربوا به القتيل ‪،‬‬
‫ففعلوا ‪ ،‬فرجع إليه روحه ‪ ،‬فسمى لهم قاتله ‪ ،‬ثم عاد ميتًا كما كان ‪ ،‬فأخذ قاتله ‪ -‬وهو الذي كان‬
‫أتى موسى فشكا إليه [مقتله] (‪ - )5‬فقتله ال على أسوأ (‪ )6‬عمله‪.‬‬
‫وقال محمد بن جرير ‪ :‬حدثني ابن سعد (‪ )7‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثني عمي ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬عن أبيه‬
‫[عن جده] (‪ )8‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله في شأن البقرة ‪ :‬وذلك أن شيخًا من بني إسرائيل على‬
‫عهد موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬كان مكثرًا من المال ‪ ،‬وكان بنو أخيه فقراء ل مال لهم ‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ ل ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا ‪ :‬ليت (‪ )9‬عمنا قد مات فورثنا ماله ‪ ،‬وإنه لما تطاول‬
‫عليهم أل يموت عمهم ‪ ،‬أتاهم الشيطان فقال لهم ‪ :‬هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم ‪ ،‬فترثوا ماله ‪،‬‬
‫وَ ُتغْ ِرمُوا أهل المدينة التي لستم بها ديته ‪ ،‬وذلك أنهما كانتا مدينتين ‪ ،‬كانوا في إحداهما وكان‬
‫القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين (‪ )10‬قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما (‪ )11‬كانت أقرب‬
‫إليه غرمت الدية ‪ ،‬وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك ‪ ،‬وتطاول عليهم أل يموت عمهم عمدوا إليه‬
‫فقتلوه ‪ ،‬ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها‪ .‬فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو‬
‫أخي الشيخ ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬عمنا قتل على باب مدينتكم ‪ ،‬فوال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لم يذلها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬أنهم ل يتركوا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬واشتروا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عظمها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أشر" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬سوء"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ابن أبي سعيد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬يا ليت"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في ب ‪" :‬القريتين"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فأيتهما"‪.‬‬

‫( ‪)1/295‬‬

‫لتغرمن لنا دية عمنا‪ .‬قال أهل المدينة ‪ :‬نقسم بال ما قتلنا ول علمنا (‪ )1‬قاتل ول فتحنا باب‬
‫مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا‪ .‬وإنهم عمدوا إلى موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فلما أتوه قال بنو أخي‬
‫الشيخ ‪ :‬عمنا وجدناه مقتول على باب مدينتهم‪ .‬وقال أهل المدينة ‪ :‬نقسم بال ما قتلناه ول فتحنا‬
‫باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا ‪ ،‬وإنه جبريل (‪ )2‬جاء بأمر (‪ )3‬السميع العليم إلى‬
‫موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬قل لهم ‪ { :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً } فتضربوه ببعضها‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً } قال ‪ :‬كان رجل من بني‬
‫إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنة ‪ ،‬وكان له ابن أخ محتاج ‪ ،‬فخطب إليه ابن أخيه ابنته ‪،‬‬
‫فأبى أن يزوجه ‪ ،‬فغضب الفتى ‪ ،‬وقال ‪ :‬وال لقتلن عمي ‪ ،‬ولخذن ماله ‪ ،‬ولنكحن ابنته ‪،‬‬
‫ولكلن ديته‪ .‬فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا عم (‪ )4‬انطلق‬
‫معي فخذ لي من تجارة هؤلء القوم ‪ ،‬لعلي أن أصيب منها (‪ )5‬فإنهم إذا رأوك معي أعطوني‪.‬‬
‫فخرج العم مع الفتى ليل فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ‪ ،‬ثم رجع إلى أهله‪ .‬فلما أصبح جاء‬
‫كأنه يطلب عمه ‪ ،‬كأنه ل يدري أين هو ‪ ،‬فلم يجده‪ .‬فانطلق نحوه ‪ ،‬فإذا هو بذلك السبط مجتمعين‬
‫عليه ‪ ،‬فأخذهم وقال ‪ :‬قتلتم عمي ‪ ،‬فأدوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه ‪ ،‬وينادي‬
‫‪ :‬واعماه‪ .‬فرفعهم إلى موسى ‪ ،‬فقضى عليهم بالدية ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ادع ال لنا (‪)6‬‬
‫حتى يبين لنا من صاحبه ‪ ،‬فيؤخذ صاحب الجريمة (‪ )7‬فوال إن ديته علينا لهينة ‪ ،‬ولكنا نستحيي‬
‫أن نعير به فذلك حين يقول ال تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قَتَلْ ُتمْ َنفْسًا فَادّارَأْ ُتمْ فِيهَا وَاللّهُ ُمخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ‬
‫} فقال لهم موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ { :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ َتذْبَحُوا َبقَ َرةً } قالوا ‪ :‬نسألك عن القتيل‬
‫وعمن قتله ‪ ،‬وتقول ‪ :‬اذبحوا بقرة‪ .‬أتهزأ بنا! { قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لجزأت عنهم ‪ ،‬ولكنهم شددوا وتعنتوا [على] (‪ )8‬موسى‬
‫ض وَل ِبكْرٌ‬
‫فشدد ال عليهم‪ .‬فقالوا ‪ { :‬ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل فَا ِر ٌ‬
‫عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ } والفارض ‪ :‬الهرمة التي ل تلد ‪ ،‬والبكر التي لم تلد إل ولدًا واحدًا‪ .‬والعوان ‪:‬‬
‫َ‬
‫النصف التي بين ذلك ‪ ،‬التي قد ولدت وولد ولدها { فَا ْفعَلُوا مَا ُت ْؤمَرُونَ* قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ‬
‫لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة صَفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال ‪ :‬نقي لونها { تَسُرّ النّاظِرِينَ } قال ‪:‬‬
‫تعجب الناظرين { قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ‬
‫سقِي ا ْلحَ ْرثَ مُسَّلمَةٌ ل شِ َيةَ فِيهَا } من‬
‫َل ُمهْتَدُونَ* قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َر ٌة ل ذَلُولٌ تُثِيرُ ال ْرضَ وَل تَ ْ‬
‫بياض ول سواد ول حمرة { قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ } فطلبوها فلم يقدروا عليها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ما قتلناه ول علمناه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وإن جبريل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بأمر ربه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يا عمي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ادع لنا ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الفرصة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/296‬‬
‫وكان رجل في (‪ )1‬بني إسرائيل ‪ ،‬من أبر الناس بأبيه ‪ ،‬وإن رجل مر به معه لؤلؤ يبيعه ‪ ،‬وكان‬
‫أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح ‪ ،‬فقال له الرجل ‪ :‬تشتري (‪ )2‬مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا ؟ فقال له‬
‫الفتى ‪ :‬كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا‪ .‬فقال الخر ‪ :‬أيقظ أباك وهو لك بستين‬
‫ألفًا ‪ ،‬فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلثين ألفًا ‪ ،‬وزاد الخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ‬
‫حتى بلغ مائة ألف ‪ ،‬فلما أكثر عليه قال ‪ :‬وال ل أشتريه منك بشيء أبدًا ‪ ،‬وأبى أن يوقظ أباه ‪،‬‬
‫فعوضه ال من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ‪ ،‬فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا‬
‫البقرة عنده ‪ ،‬فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة ‪ ،‬فأبى ‪ ،‬فأعطوه ثنتين فأبى ‪ ،‬فزادوه حتى بلغوا‬
‫عشرا ‪ ،‬فأبى ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬وال ل نتركك حتى نأخذها منك‪ .‬فانطلقوا به إلى موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫فقالوا ‪ :‬يا نبي ال ‪ ،‬إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى ‪:‬‬
‫أعطهم بقرتك‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أنا أحق بمالي‪ .‬فقال ‪ :‬صدقت‪ .‬وقال للقوم ‪ :‬أرضوا‬
‫صاحبكم ‪ ،‬فأعطوه وزنها ذهبًا ‪ ،‬فأبى ‪ ،‬فأضعفوا (‪ )3‬له مثل ما أعطوه وزنها ‪ ،‬حتى أعطوه‬
‫وزنها عشر مرات ذهبًا ‪ ،‬فباعهم إياها وأخذ ثمنها ‪ ،‬فذبحوها‪ .‬قال ‪ :‬اضربوه ببعضها ‪ ،‬فضربوه‬
‫بالبضعة التي بين الكتفين ‪ ،‬فعاش ‪ ،‬فسألوه ‪ :‬من قتلك ؟ فقال لهم ‪ :‬ابن أخي ‪ ،‬قال ‪ :‬أقُْتلُهُ ‪ ،‬فآخذُ‬
‫مالَه ‪ ،‬وأنكح ابنتَه‪ .‬فأخذوا الغلم فقتلوه (‪.)4‬‬
‫وقال سنيد ‪ :‬حدثنا حجاج ‪ ،‬هو ابن محمد ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬وحجاج ‪ ،‬عن أبي‬
‫معشر ‪ ،‬عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ‪ -‬دخل حديث بعضهم في حديث بعض ‪-‬‬
‫قالوا ‪ :‬إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس ‪ ،‬بنوا مدينة فاعتزلوا شرور‬
‫الناس ‪ ،‬فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إل أدخلوه ‪ ،‬وإذا افتتحوا (‪ )5‬قام رئيسهم‬
‫فنظر وأشرف ‪ ،‬فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة ‪ ،‬فكانوا مع الناس حتى يمسوا‪ .‬قال ‪ :‬وكان رجل من‬
‫بني إسرائيل له مال كثير ‪ ،‬ولم يكن له وارث غير أخيه ‪ ،‬فطال عليه حياته فقتله ليرثه ‪ ،‬ثم حمله‬
‫فوضعه على باب المدينة ‪ ،‬ثم كمن في مكان هو وأصحابه‪ .‬قال ‪ :‬فأشرف (‪ )6‬رئيس المدينة‬
‫على باب المدينة فنظر ‪ ،‬فلم ير شيئًا ففتح الباب ‪ ،‬فلما رأى القتيل رد الباب ‪ ،‬فناداه أخو المقتول‬
‫وأصحابه ‪ :‬هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب‪ .‬وكان موسى لما رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني‬
‫إسرائيل ‪ ،‬كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم ‪ ،‬فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل‬
‫المدينة قتال ‪ ،‬حتى لبس الفريقان السلح ‪ ،‬ثم كف بعضهم عن بعض ‪ ،‬فأتوا موسى فذكروا له‬
‫شأنهم‪ .‬قالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن هؤلء قتلوا قتيل ثم ردوا الباب ‪ ،‬وقال أهل المدينة ‪ :‬يا رسول‬
‫ال قد عرفت اعتزالنا الشرور (‪ )7‬وبنينا مدينة ‪ ،‬كما رأيت ‪ ،‬نعتزل شرور الناس ‪ ،‬وال ما قتلنا‬
‫ول علمنا قاتل‪ .‬فأوحى ال تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬اشترى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فأضعفوه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)2/185‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وإذا أصبحوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في و ‪" :‬فتشرف"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬اعتزالنا عن الناس الشرور"‪.‬‬

‫( ‪)1/297‬‬

‫عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ فَا ْفعَلُوا‬


‫قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لَا فَا ِرضٌ وَلَا ِبكْرٌ َ‬
‫صفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا‬
‫مَا ُت ْؤمَرُونَ (‪ )68‬قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ َ‬
‫تَسُرّ النّاظِرِينَ (‪)69‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً } (‪.)1‬‬
‫وهذه السياقات [كلها] (‪ )2‬عن عبيدة (‪ )3‬وأبي العالية والسدي وغيرهم ‪ ،‬فيها اختلف ما ‪،‬‬
‫والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها (‪ )4‬ولكن ل نصدق ول نكذب‬
‫(‪ )5‬فلهذا ل نعتمد عليها إل ما وافق الحق عندنا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ‬
‫ض وَل ِبكْرٌ َ‬
‫{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَرَةٌ ل فَا ِر ٌ‬
‫صفْرَاءُ فَاقِعٌ‬
‫فَا ْفعَلُوا مَا ُت ْؤمَرُونَ (‪ )68‬قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ َ‬
‫َلوْ ُنهَا َتسُرّ النّاظِرِينَ (‪} )69‬‬
‫أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم‪ .‬ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق‬
‫عليهم ‪ ،‬ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ‪ ،‬كما قال ابن عباس وعبيدة وغير‬
‫واحد ‪ ،‬ولكنهم شددوا فشدد عليهم ‪ ،‬فقالوا ‪ { :‬ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ } ما هذه البقرة ؟ وأي‬
‫شيء صفتها ؟‬
‫قال (‪ )6‬ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كريب ‪ ،‬حدثنا عثام (‪ )7‬بن علي ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن المنهال بن‬
‫عمرو ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها ‪ ،‬ولكنهم‬
‫شددوا فشدد ال عليهم (‪.)8‬‬
‫إسناد صحيح ‪ ،‬وقد رواه غير واحد عن ابن عباس‪ .‬وكذا قال عبيدة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫وعكرمة ‪ ،‬وأبو العالية وغير واحد‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ :‬قال [لي] (‪ )9‬عطاء ‪ :‬لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم‪ .‬قال ابن جريج ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إنما أمروا بأدنى بقرة ‪ ،‬ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد ال‬
‫عليهم ؛ وايم ال لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر البد" (‪.)10‬‬
‫ض وَل ِبكْرٌ } أي ‪ :‬ل كبيرة هرمة ول صغيرة لم يلحقها (‪)11‬‬
‫{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل فَا ِر ٌ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )2/188‬من طريق سنيد‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬أبي عبيدة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬فعله"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ل تصدق ول تكذب"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬هشام"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)2/204‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )10‬رواه الطبري في تفسيره (‪.)2/205‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬يلقحها" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬ينكحها"‪.‬‬

‫( ‪)1/298‬‬

‫الفحل ‪ ،‬كما قاله أبو العالية ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وعطية العوفي ‪ ،‬وعطاء‬
‫الخراساني (‪ )1‬ووهب بن منبه ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وقاله ابن عباس أيضًا‪.‬‬
‫عوَانٌ بَيْنَ َذِلكَ } [يقول ‪ :‬نصف] (‪ )2‬بين الكبيرة والصغيرة ‪،‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس { َ‬
‫وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون‪ .‬وروي عن عكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وأبي‬
‫العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والضحاك نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬العوان ‪ :‬النصف التي بين ذلك التي ولدت ‪ ،‬وولد ولدها‪.‬‬
‫وقال هشيم ‪ ،‬عن جويبر ‪ ،‬عن كثير بن زياد ‪ ،‬عن الحسن في البقرة ‪ :‬كانت بقرة وحشية‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬من لبس نعل صفراء لم يزل في سرور ما دام‬
‫لبسها ‪ ،‬وذلك قوله (‪ )3‬تعالى ‪ { :‬صَفْرَاءُ فَا ِقعٌ َلوْ ُنهَا َتسُرّ النّاظِرِينَ } وكذا قال مجاهد ‪ ،‬ووهب‬
‫بن منبه أنها كانت صفراء‪.‬‬
‫وعن ابن عمر ‪ :‬كانت صفراء الظلف‪ .‬وعن سعيد بن جبير ‪ :‬كانت صفراء القرن والظلف‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا نصر بن علي ‪ ،‬حدثنا نوح بن قيس ‪ ،‬أنبأنا أبو رجاء ‪،‬‬
‫صفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال ‪ :‬سوداء شديدة السواد‪.‬‬
‫عن الحسن في قوله ‪َ { :‬بقَرَ ٌة َ‬
‫وهذا غريب ‪ ،‬والصحيح الول ‪ ،‬ولهذا أكد صفرتها بأنه { فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا }‬
‫وقال عطية العوفي ‪ { :‬فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } تكاد تسود من صفرتها‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ { :‬فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال ‪ :‬صافية اللون‪ .‬وروى عن أبي العالية ‪ ،‬والربيع بن‬
‫أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة نحوه‪.‬‬
‫وقال شريك ‪ ،‬عن َمغْراء (‪ )4‬عن ابن عمر ‪ { :‬فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } قال ‪ :‬صاف (‪.)5‬‬
‫وقال العوفي في تفسيره ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا } شديدة الصفرة ‪ ،‬تكاد من صفرتها‬
‫تبيض‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬تَسُرّ النّاظِرِينَ } أي ‪ :‬تعجب الناظرين (‪ )6‬وكذا قال أبو العالية ‪ ،‬وقتادة ‪،‬‬
‫والربيع بن أنس‪.‬‬
‫[وفي التوراة ‪ :‬أنها كانت حمراء ‪ ،‬فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الول ‪ :‬إنها كانت‬
‫شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬الخراساني وسيأتي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬قول ال تعالى" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬قول ال‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬عن ابن عباس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬صافي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أي تعجبهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/299‬‬

‫وقال وهب بن منبه ‪ :‬إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها‪.‬‬

‫( ‪)1/300‬‬

‫علَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ (‪ )70‬قَالَ إِنّهُ‬


‫قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ تَشَابَهَ َ‬
‫سقِي الْحَ ْرثَ مُسَّلمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ‬
‫ض وَلَا تَ ْ‬
‫َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَ ْر َ‬
‫فَذَ َبحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ (‪)71‬‬

‫{ قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ (‪} )70‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِنّ الْ َبقَرَ َتشَابَهَ عَلَيْنَا } أي ‪ :‬لكثرتها ‪ ،‬فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلّها لنا { وَإِنّا إِنْ‬
‫شَاءَ اللّهُ } إذا بينتها لنا { َل ُمهْتَدُونَ } إليها‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن يحيى الودي (‪ )1‬الصوفي ‪ ،‬حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود‬
‫الحداد ‪ ،‬حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ‪ ،‬ابن أخي منصور بن زاذان ‪ ،‬عن عباد بن‬
‫منصور ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن أبي رافع ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬لول أن بني إسرائيل قالوا ‪ { :‬وَإِنّا إِن شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ } لما أعطوا ‪ ،‬ولكن استثنوا" (‬
‫‪.)2‬‬
‫ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر ‪ ،‬عن سرور بن المغيرة ‪ ،‬عن (‪)3‬‬
‫زاذان ‪ ،‬عن عباد بن منصور ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن حديث أبي رافع ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لول أن بني إسرائيل قالوا ‪ { :‬وَإِنّا إِن شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ } ما‬
‫أعطوا أبدًا ‪ ،‬ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لجزأت عنهم ‪ ،‬ولكنهم شددوا ‪ ،‬فشدد ال‬
‫عليهم" (‪.)4‬‬
‫وهذا حديث غريب من هذا الوجه ‪ ،‬وأحسن أحواله أن يكون من كلم أبي هريرة ‪ ،‬كما تقدم مثله‬
‫(‪ )5‬عن السدي ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سّلمَةٌ ل شِيَةَ فِيهَا قَالُوا النَ‬
‫سقِي الْحَ ْرثَ مُ َ‬
‫ض وَل َت ْ‬
‫{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل َذلُولٌ تُثِيرُ ال ْر َ‬
‫جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ َفذَبَحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ (‪} )71‬‬
‫سقِي الْحَ ْرثَ } أي ‪ :‬إنها ليست مذللة بالحراثة‬
‫ض وَل َت ْ‬
‫{ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل َذلُولٌ تُثِيرُ ال ْر َ‬
‫سّلمَةٌ } صحيحة ل عيب فيها { ل‬
‫ول معدة للسقي في السانية ‪ ،‬بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُ َ‬
‫شِيَةَ فِيهَا } أي ‪ :‬ليس فيها لون غير لونها‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن قتادة { مُسَّلمَةٌ } يقول ‪ :‬ل عيب فيها ‪ ،‬وكذا قال أبو العالية‬
‫والربيع ‪ ،‬وقال مجاهد { مُسَّل َمةٌ } من الشية‪.‬‬
‫وقال عطاء الخراساني ‪ { :‬مُسَّلمَةٌ } القوائم والخلق { ل شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد ‪ :‬ل بياض ول‬
‫سواد‪ .‬وقال أبو العالية والربيع ‪ ،‬والحسن وقتادة ‪ :‬ليس فيها بياض‪ .‬وقال عطاء الخراساني ‪ { :‬ل‬
‫شِيَةَ فِيهَا } قال ‪ :‬لونها واحد بهيم‪ .‬وروي عن عطية العوفي ‪ ،‬ووهب بن منبه ‪ ،‬وإسماعيل بن‬
‫أبي خالد ‪ ،‬نحو ذلك‪ .‬وقال السدي ‪ { :‬ل شِيَةَ فِيهَا } من بياض ول سواد ول حمرة ‪ ،‬وكل هذه‬
‫القوال متقاربة [في المعنى ‪ ،‬وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى ‪ { :‬إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل‬
‫ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال ‪ { :‬تُثِيرُ ال ْرضَ } أي ‪ :‬يعمل عليها بالحراثة لكنها ل‬
‫تسقي الحرث ‪ ،‬وهذا ضعيف ؛ لنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها ل تثير الرض ول‬
‫تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره] (‪)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬الزدي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/223‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬بن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬قال الحافظ ابن حجر ‪" :‬فيه عباد بن منصور وهو ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬نقله"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/300‬‬

‫{ قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ } قال قتادة ‪ :‬الن بَيّ ْنتَ لنا ‪ ،‬وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬وقبل‬
‫ذلك ‪ -‬وال (‪ - )1‬قد جاءهم الحق‪.‬‬
‫{ َفذَبَحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ } قال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬كادوا أل يفعلوا ‪ ،‬ولم يكن ذلك‬
‫الذي أرادوا ‪ ،‬لنهم أرادوا أل يذبحوها‪.‬‬
‫يعني أنّهم مع هذا البيان (‪ )2‬وهذه السئلة ‪ ،‬والجوبة ‪ ،‬واليضاح ما ذبحوها إل بعد الجهد ‪،‬‬
‫وفي هذا ذم لهم ‪ ،‬وذلك أنه لم يكن غرضهم إل التعنت ‪ ،‬فلهذا ما كادوا يذبحونها‪.‬‬
‫وقال محمد بن كعب ‪ ،‬ومحمد بن قيس ‪ { :‬فَذَ َبحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ } لكثرة ثمنها‪.‬‬
‫وفي هذا نظر ؛ لن كثرة ثمنها لم يثبت إل من نقل بني إسرائيل ‪ ،‬كما تقدم من حكاية أبي العالية‬
‫والسدي ‪ ،‬ورواه العوفي عن ابن عباس‪ .‬وقال عبيدة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬ووهب بن منبه ‪ ،‬وأبو العالية ‪،‬‬
‫وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬إنهم اشتروها بمال كثير (‪ )3‬وفيه اختلف ‪ ،‬ثم قد قيل في ثمنها‬
‫غير ذلك‪ .‬وقال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا ابن عيينة ‪ ،‬أخبرني محمد بن سوقة ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬قال ‪ :‬ما‬
‫كان ثمنها إل ثلثة دنانير (‪ )4‬وهذا إسناد جيد عن عكرمة ‪ ،‬والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب‬
‫أيضًا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة ‪ ،‬إن اطلع ال على‬
‫قاتل القتيل الذي اختصموا فيه‪.‬‬
‫ولم يسنده عن أحد ‪ ،‬ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلء ثمنها ‪،‬‬
‫وللفضيحة‪ .‬وفي هذا نظر ‪ ،‬بل الصواب ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬ما تقدم من رواية الضحاك ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬على ما وجهناه‪ .‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬استدل بهذه الية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الطلق على‬
‫صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء‬
‫سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تنعت المرأةُ المرأةَ‬
‫لزوجها كأنه ينظر إليها" (‪ .)5‬وكما وصف النبي صلى ال عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ‬
‫وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث ‪ ،‬وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون ‪ :‬ل يصح السلم‬
‫في الحيوان لنه ل تنضبط أحواله ‪ ،‬وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن‬
‫بن سمرة وغيرهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وال أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬الشأن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب ‪" :‬بثمن كثير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/71‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)5241‬‬

‫( ‪)1/301‬‬

‫وَإِذْ قَتَلْتُمْ َنفْسًا فَادّارَأْ ُتمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ (‪َ )72‬فقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِ َب ْعضِهَا كَذَِلكَ ُيحْيِي‬
‫اللّهُ ا ْل َموْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ (‪)73‬‬

‫ضهَا كَذَِلكَ يُحْيِي‬


‫{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ َنفْسًا فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ (‪َ )72‬فقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِ َب ْع ِ‬
‫اللّهُ ا ْل َموْتَى وَيُرِيكُمْ آيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ (‪} )73‬‬
‫قال البخاري ‪ { :‬فَادّارَأْ ُتمْ } اختلفتم‪ .‬وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫أبي حذيفة ‪ ،‬عن شبْل عن ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬أنه قال في قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قَتَلْ ُتمْ َنفْسًا‬
‫فَادّارَأْ ُتمْ فِيهَا } اختلفتم‪.‬‬
‫وقال عطاء الخراساني ‪ ،‬والضحاك ‪ :‬اختصمتم فيها‪ .‬وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ َنفْسًا فَادّارَأْ ُتمْ‬
‫فِيهَا } قال ‪ :‬قال بعضهم أنتم قتلتموه‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬بل أنتم قتلتموه‪ .‬وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪.‬‬
‫{ وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ } قال مجاهد ‪ :‬ما ُتغَيبُون‪ .‬وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا عمرو بن‬
‫مسلم البصري ‪ ،‬حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ‪ ،‬حدثنا صدقة بن رستم ‪ ،‬سمعت المسيب بن‬
‫رافع يقول ‪ :‬ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إل أظهرها ال ‪ ،‬وما عمل رجل سيئة في سبعة‬
‫أبيات إل أظهرها ال ‪ ،‬وتصديق ذلك في كلم ال ‪ { :‬وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ* َفقُلْنَا‬
‫ضهَا } هذا البعض أيّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به‪.‬‬
‫اضْرِبُوهُ بِ َب ْع ِ‬
‫وخرق العادة به كائن ‪ ،‬وقد كان معينا في نفس المر ‪ ،‬فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في‬
‫أمر الدين أو الدنيا لبينه ال تعالى لنا ‪ ،‬ولكن أبهمه ‪ ،‬ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم‬
‫بيانه (‪ )1‬فنحن نبهمه كما أبهمه ال‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن سنان ‪ ،‬حدثنا عفّان بن مسلم ‪ ،‬حدثنا عبد الواحد بن زياد‬
‫حدثنا العمش ‪ ،‬عن المنهال بن عمرو ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬إن‬
‫أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له ‪ ،‬وكانت بقرة‬
‫تعجبه ‪ ،‬قال ‪ :‬فجعلوا يعطونه بها فيأبى ‪ ،‬حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير ‪ ،‬فذبحوها ‪ ،‬فضربوه‬
‫‪ -‬يعني القتيل ‪ -‬بعضو منها ‪ ،‬فقام َتشْخُب أوداجه دمًا [فسألوه] (‪ )2‬فقالوا له ‪ :‬من قتلك ؟ قال ‪:‬‬
‫(‪ )3‬قتلني فلن (‪.)4‬‬
‫وكذا قال الحسن ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬إنه ضرب ببعضها‪.‬‬
‫وفي رواية عن ابن عباس ‪ :‬إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا َم ْعمَر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال أيوب ‪ ،‬عن ابن سيرين ‪ ،‬عن عبيدة ‪ :‬ضربوا القتيل‬
‫ببعض لحمها‪ .‬وقال معمر ‪ :‬قال قتادة ‪ :‬فضربوه بلحم فخذها فعاش ‪ ،‬فقال ‪ :‬قتلني فلن‪.‬‬
‫ضهَا } [قال] (‪)5‬‬
‫وقال أبو أسامة ‪ ،‬عن النضر بن عربي ‪ ،‬عن عكرمة ‪َ { :‬فقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِ َب ْع ِ‬
‫فضرب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عن معصوم حدثنا به"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/229‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/302‬‬

‫بفخذها فقام ‪ ،‬فقال ‪ :‬قتلني فلن‪.‬‬


‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن مجاهد ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬فضربوه بال َبضْعة التي بين الكتفين فعاش ‪ ،‬فسألوه ‪ ،‬فقال ‪ :‬قتلني ابن أخي‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬أمرهم موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أن يأخذوا عظمًا من عظامها ‪ ،‬فيضربوا به‬
‫القتيل ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬فرجع إليه روحه ‪ ،‬فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬فضربوه ببعض آرابها [وقيل ‪ :‬بلسانها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بعجب‬
‫ذنبها] (‪.)1‬‬
‫وقوله ‪ { :‬كَ َذِلكَ يُحْيِي اللّهُ ا ْل َموْتَى } أي ‪ :‬فضربوه فحيى‪ .‬ونَبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى‬
‫بما شاهدوه من أمر القتيل ‪ :‬جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد ‪ ،‬وفاصل ما‬
‫كان بينهم من الخصومة والفساد (‪ ، )2‬وال تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في (‪ )3‬إحياء‬
‫الموتى ‪ ،‬في خمسة مواضع ‪ُ { :‬ثمّ َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َب ْعدِ َموْ ِتكُمْ } [البقرة ‪ .]56 :‬وهذه القصة ‪ ،‬وقصة‬
‫الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ‪ ،‬وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على‬
‫عروشها ‪ ،‬وقصة إبراهيم والطيور الربعة‪.‬‬
‫ونبه تعالى بإحياء الرض بعد موتها على إعادة الجسام بعد صيرورتها (‪ )4‬رميما ‪ ،‬كما قال أبو‬
‫عدُس ‪ ،‬يحدث‬
‫داود الطيالسي ‪ :‬حدثنا شعبة ‪ ،‬أخبرني يعلى بن عطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت َوكِيع بن ُ‬
‫عن أبي رَزِين ال ُعقَيلي ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬كيف يحيي ال الموتى ؟ قال ‪" :‬أما مررت‬
‫خضِرًا ؟" قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪" :‬كذلك النشور"‪ .‬أو قال ‪" :‬كذلك يحيي ال‬
‫بواد ُممْحِل ‪ ،‬ثم مررت به َ‬
‫الموتى" (‪ .)5‬وشاهد هذا قوله تعالى ‪ { :‬وَآيَةٌ َلهُمُ الرْضُ ا ْلمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِ ْنهَا حَبّا َفمِنْهُ‬
‫ب َوفَجّرْنَا فِيهَا مِنَ ا ْلعُيُون* لِيَ ْأكُلُوا مِنْ َثمَ ِر ِه َومَا‬
‫ل وَأَعْنَا ٍ‬
‫جعَلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مِنْ نَخِي ٍ‬
‫يَ ْأكُلُونَ* َو َ‬
‫شكُرُونَ } [يس ‪.]35 - 33 :‬‬
‫عمِلَتْهُ أَ ْيدِيهِمْ َأفَل يَ ْ‬
‫َ‬
‫مسألة ‪ :‬استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح ‪ :‬فلن قتلني لوثًا بهذه القصة ؛ لن القتيل لما‬
‫حيي سئل عمن قتله فقال ‪ :‬قتلني فلن ‪ ،‬فكان ذلك مقبول منه ؛ لنه ل يخبر حينئذ إل بالحق ‪،‬‬
‫ول يتهم والحالة هذه ‪ ،‬ورجحوا ذلك بحديث أنس ‪ :‬أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها ‪،‬‬
‫فرضخ رأسها بين حجرين فقيل ‪ :‬من فعل بك هذا ؟ أفلن ؟ أفلن ؟ حتى ذكر اليهودي ‪،‬‬
‫فأومأت برأسها ‪ ،‬فأخذ اليهودي ‪ ،‬فلم يزل به حتى اعترف ‪ ،‬فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫أن يرد رأسه بين حجرين (‪ )6‬وعند مالك ‪ :‬إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة ‪ ،‬وخالف‬
‫الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬والعناد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بعد صيرورتها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬مسند الطيالسي برقم (‪.)1089‬‬
‫(‪ )6‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪.)6885‬‬

‫( ‪)1/303‬‬

‫حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ الْأَ ْنهَارُ‬


‫س َو ًة وَإِنّ مِنَ الْ ِ‬
‫شدّ قَ ْ‬
‫حجَا َرةِ َأوْ أَ َ‬
‫ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ َف ِهيَ كَالْ ِ‬
‫ثُمّ َق َ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ‬
‫خشْيَةِ اللّ ِه َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْ ِبطُ مِنْ َ‬
‫وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ‬
‫(‪)74‬‬

‫ذلك لوثًا‪.‬‬
‫س َوةً وَإِنّ مِنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ ال ْنهَارُ‬
‫ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ َف ِهيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ َأشَدّ َق ْ‬
‫{ ُثمّ قَ َ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ‬
‫خشْيَةِ اللّ ِه َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْ ِبطُ مِنْ َ‬
‫وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ‬
‫(‪} )74‬‬
‫يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل ‪ ،‬وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات ال تعالى ‪ ،‬وإحيائه‬
‫ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } كله { َف ِهيَ كَالْحِجَا َرةِ } التي ل تلين أبدًا‪ .‬ولهذا نهى ال‬
‫الموتى ‪ { :‬ثُمّ َق َ‬
‫المؤمنين عن مثل حالهم فقال ‪ { :‬أََلمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نزلَ مِنَ‬
‫سقُونَ‬
‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫ق وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ فَطَالَ عَلَ ْيهِ ُم المَدُ َفقَ َ‬
‫حّ‬‫الْ َ‬
‫} [الحديد ‪.]16 :‬‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬في تفسيره ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان‬
‫قط ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬من قتلك ؟ فقال ‪ :‬بنو أخي قتلوني‪ .‬ثم قبض‪ .‬فقال بنو أخيه حين قبض ‪ :‬وال ما‬
‫ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ } يعني ‪:‬‬
‫قتلناه ‪ ،‬فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا (‪ .)1‬فقال (‪ )2‬ال ‪ { :‬ثُمّ قَ َ‬
‫س َوةً } فصارت قلوب بني (‪ )4‬إسرائيل مع طول‬
‫شدّ قَ ْ‬
‫حجَا َرةِ َأوْ أَ َ‬
‫بني (‪ )3‬أخي الشيخ { َف ِهيَ كَالْ ِ‬
‫المد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من اليات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة‬
‫التي ل علج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ‪ ،‬فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية‬
‫بالنهار ‪ ،‬ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ‪ ،‬وإن لم يكن جاريا ‪ ،‬ومنها ما يهبط من رأس الجبل‬
‫سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَال ْرضُ َومَنْ‬
‫من خشية ال ‪ ،‬وفيه إدراك لذلك بحسبه ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬تُسَبّحُ لَهُ ال ّ‬
‫غفُورًا } [السراء ‪:‬‬
‫حهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ‬
‫حمْ ِد ِه وََلكِنْ ل َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ‬
‫شيْءٍ إِل يُسَبّحُ ِب َ‬
‫ن وَإِنْ مِنْ َ‬
‫فِيهِ ّ‬
‫‪.]44‬‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد أنه كان يقول ‪ :‬كل حجر يتفجر منه الماء ‪ ،‬أو يتشقق عن ماء ‪،‬‬
‫أو يتردى من رأس جبل ‪ ،‬لمن خشية ال ‪ ،‬نزل بذلك القرآن‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫شقّقُ فَ َيخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا‬
‫حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ ال ْنهَا ُر وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ‬
‫عباس ‪ { :‬وَإِنّ مِنَ الْ ِ‬
‫عمّا تدعون إليه من الحق { َومَا‬
‫َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } أي وإن من الحجارة للين من قلوبكم َ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }‬
‫اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره ‪ { :‬وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } هو سقوط البرد من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و "إذ رأوه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ثم قال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يعني ابن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬قلوب بنوا" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/304‬‬
‫السحاب‪ .‬قال القاضي الباقلني ‪ :‬وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما‬
‫قال ؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بل دليل ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)1‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا هشام بن عمار ‪ ،‬حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ‪ ،‬حدثني‬
‫حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ‬
‫يحيى بن أبي طالب ‪ -‬يعني يحيى بن يعقوب ‪ -‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَإِنّ مِنَ الْ ِ‬
‫شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَاءُ } قال ‪ :‬قليل البكاء‬
‫مِنْهُ ال ْنهَارُ } قال ‪ :‬هو كثرة البكاء { وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ‬
‫{ وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْ َيةِ اللّهِ } قال ‪ :‬بكاء القلب ‪ ،‬من غير دموع العين‪.‬‬
‫وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الرادة‬
‫إلى الجدار في قوله ‪ { :‬يُرِيدُ أَنْ يَ ْن َقضّ } قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الئمة ‪ :‬ول حاجة‬
‫إلى هذا فإن ال تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى ‪ { :‬إِنّا عَ َرضْنَا المَانَةَ عَلَى‬
‫ج ُم وَالشّجَرُ‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا } الية ‪ ،‬وقال ‪ { :‬وَالنّ ْ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫شيْءٍ يَ َتفَيّأُ ظِللُهُ } الية ‪ { ،‬قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ } { َلوْ‬
‫سجُدَانِ } و { َأوَلَمْ يَ َروْا إِلَى مَا خََلقَ اللّهُ مِنْ َ‬
‫يَ ْ‬
‫طقَنَا اللّهُ } الية ‪،‬‬
‫شهِدْ ُتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَ ْن َ‬
‫أَنزلْنَا َهذَا ا ْلقُرْآنَ عَلَى جَ َبلٍ } الية ‪َ { ،‬وقَالُوا ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ َ‬
‫وفي الصحيح ‪" :‬هذا جبل يحبنا ونحبه" ‪ ،‬وكحنين الجذع المتواتر خبره ‪ ،‬وفي صحيح مسلم ‪:‬‬
‫"إني لعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لعرفه الن" وفي صفة الحجر السود‬
‫أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ‪ ،‬وغير ذلك مما في معناه‪ .‬وحكى القرطبي قول أنها‬
‫للتخيير ؛ أي مثل لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين‪ ..‬وكذا حكاه الرازي في‬
‫تفسيره وزاد قول آخر ‪ :‬إنها للبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا ‪ ،‬وهو‬
‫يعلم أيهما أكل ‪ ،‬وقال آخر ‪ :‬إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا ؛ أي ل يخرج عن واحد‬
‫منهما ؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها ل تخرج عن واحد من هذين الشيئين‪.‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫تنبيه ‪:‬‬
‫س َوةً } بعد الجماع على‬
‫شدّ قَ ْ‬
‫اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى ‪َ { :‬فهِيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ أَ َ‬
‫استحالة كونها للشك ‪ ،‬فقال بعضهم ‪" :‬أو" هاهنا بمعنى الواو ‪ ،‬تقديره ‪ :‬فهي كالحجارة وأشد‬
‫قسوة كقوله تعالى ‪ { :‬وَل ُتطِعْ مِ ْنهُمْ آ ِثمًا َأوْ كَفُورًا } [النسان ‪ ، ]24 :‬وكما قال النابغة الذبياني ‪:‬‬

‫قالت أل ليتما هذا الحمامُ لنا‪ ...‬إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ (‪)2‬‬
‫تريد ‪ :‬ونصفه ‪ ،‬قاله ابن جرير‪ .‬وقال جرير بن عطية ‪:‬‬
‫نال الخِلفَةَ أو كانت له قدرًا‪ ...‬كما أتى ربّه مُوسى على قَدَرِ (‪)3‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬يعني نال الخلفة ‪ ،‬وكانت له قدرًا‪.‬‬
‫وحكى القرطبي قول أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ‪،‬‬
‫وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قول آخر وهو ‪ :‬أنها للبهام وبالنسبة إلى المخاطب ‪،‬‬
‫كقول القائل ‪ :‬أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ‪ ،‬وقول آخر وهو أنها بمعنى قول القائل ‪:‬‬
‫أكلي حلو أو حامض ‪ ،‬أي ‪ :‬ل يخرج عن واحد منهما ‪ ،‬أي ‪ :‬وقلوبكم صارت في قسوتها‬
‫كالحجارة أو أشد قسوة منها ل يخرج عن واحد من هذين الشيئين وال أعلم‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪" :‬أو" هاهنا بمعنى بل ‪ ،‬تقديره (‪ )4‬فهي كالحجارة بل أشد قسوة ‪ ،‬وكقوله ‪ِ { :‬إذَا‬
‫شوْنَ النّاسَ كَخَشْ َيةِ اللّهِ َأوْ أَشَدّ خَشْ َيةً } [النساء ‪ {]77 :‬وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَ ْلفٍ َأوْ‬
‫فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَخْ َ‬
‫يَزِيدُونَ } [الصافات ‪َ {]147 :‬فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى } [النجم ‪ ]9 :‬وقال آخرون ‪ :‬معنى (‪)5‬‬
‫س َوةً } عندكم‪ .‬حكاه ابن جرير‪.‬‬
‫ذلك { َف ِهيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ َأشَدّ قَ ْ‬
‫وقال آخرون ‪ :‬المراد بذلك البهام على المخاطب ‪ ،‬كما قال أبو السود ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/236‬‬
‫(‪ )3‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/236‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فتقديره"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بمعنى"‪.‬‬

‫( ‪)1/305‬‬

‫أحبّ محمدًا حُبا شديدًا‪ ...‬وعبّاسا وحمز َة والوصيا (‪)1‬‬


‫فإن يك حُبّهم رشدا أصبه‪ ...‬ولست (‪ )2‬بمخطئ إن كان غيّا (‪)3‬‬
‫شدٌ ‪ ،‬ولكنه‬
‫سمّى رَ َ‬
‫حبّ من َ‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬قالوا ‪ :‬ول شك أن أبا السود لم يكن شاكّا في أن ُ‬
‫أبهم على من خاطبه ‪ ،‬قال ‪ :‬وقد ذكر عن أبي السود أنه لما قال هذه البيات قيل له ‪ :‬شككت ؟‬
‫فقال ‪ :‬كل وال‪ .‬ثم انتزع بقول ال تعالى ‪ { :‬وَإِنّا َأوْ إِيّا ُكمْ َلعَلَى هُدًى َأوْ فِي ضَللٍ مُبِينٍ } فقال ‪:‬‬
‫أوَ كان شاكّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلل (‪ )4‬؟‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬معنى ذلك ‪ :‬فقلوبكم ل تخرج عن أحد هذين المثلين ‪ ،‬إما أن تكون مثل الحجارة‬
‫في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬ومعنى ذلك على هذا التأويل ‪ :‬فبعضها كالحجارة قسوة ‪ ،‬وبعضها أشد قسوة من‬
‫الحجارة‪ .‬وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا القول الخير يبقى شبيها بقوله تعالى ‪ { :‬مَثَُل ُهمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارًا } [البقرة ‪:‬‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ‬
‫سمَاءِ } [البقرة ‪ ]19 :‬وكقوله ‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ‬
‫‪ ]17‬مع قوله ‪َ { :‬أوْ َكصَ ّيبٍ مِنَ ال ّ‬
‫جيّ } [النور ‪ ، ]40 :‬الية أي ‪ :‬إن منهم‬
‫ِبقِيعَةٍ } [النور ‪ ]39 :‬مع قوله ‪َ { :‬أوْ كَظُُلمَاتٍ فِي َبحْرٍ ُل ّ‬
‫من هو هكذا ‪ ،‬ومنهم من هو هكذا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال الحافظ أبو بكر بن مردويه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا محمد بن أيوب ‪ ،‬حدثنا‬
‫محمد بن عبد ال بن أبي الثلج ‪ ،‬حدثنا علي بن حفص ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن عبد ال بن حاطب ‪،‬‬
‫عن عبد ال بن دينار ‪ ،‬عن ابن عمر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل تكثروا الكلم‬
‫بغير ذكر ال ‪ ،‬فإن كثرة الكلم بغير ذكر ال قسوة القلب ‪ ،‬وإن أبعد الناس من ال القلب القاسي"‪.‬‬
‫رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ‪ ،‬عن محمد بن عبد ال بن أبي الثلج ‪ ،‬صاحب المام‬
‫أحمد ‪ ،‬به‪ .‬ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد ال بن الحارث بن حاطب ‪ ،‬به ‪ ،‬وقال ‪ :‬غريب‬
‫ل نعرفه إل من حديث إبراهيم (‪.)5‬‬
‫[وروى البزار عن أنس مرفوعا ‪" :‬أربع من الشقاء ‪ :‬جمود العين ‪ ،‬وقسي القلب ‪ ،‬وطول المل ‪،‬‬
‫والحرص على الدنيا" (‪.)7( .] )6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬أو عليا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وليس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬البيتان في تفسير الطبري (‪.)236 ، 2/235‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬من الضال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن الترمذي برقم (‪ )2411‬وأورده المام مالك في الموطأ (‪ )2/986‬بلغًا عن عيس عليه‬
‫السلم‪.‬‬
‫(‪ )6‬مسند البزار برقم (‪ )3230‬من طريق هانئ بن المتوكل ‪ ،‬عن عبد ال بن سليمان وأبان عن‬
‫أنس به مرفوعًا ‪ ،‬وقال البزار ‪" :‬عبد ال بن سليمان حدث بأحاديث لم يتابع عليها" ‪ ،‬وقال‬
‫الهيثمي في المجمع (‪" : )10/226‬وفيه هانئ بن المتوكل ‪ ،‬وهو ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/306‬‬

‫عقَلُو ُه وَهُمْ‬
‫س َمعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمّ يُحَ ّرفُونَهُ مِنْ َبعْدِ مَا َ‬
‫ط َمعُونَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا َل ُك ْم َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَ ْ‬
‫َأفَتَ ْ‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ‬
‫َيعَْلمُونَ (‪ )75‬وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ َآمَنُوا قَالُوا َآمَنّا وَِإذَا خَلَا َب ْع ُ‬
‫علَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَ ّبكُمْ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ (‪)76‬‬
‫اللّهُ َ‬

‫عقَلُوهُ‬
‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ ُثمّ يُحَ ّرفُونَهُ مِنْ َبعْدِ مَا َ‬
‫ط َمعُونَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا َلكُ ْم َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ َي ْ‬
‫{ َأفَ َت ْ‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا أَتُ َ‬
‫وَهُمْ َيعَْلمُونَ (‪ )75‬وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَل َب ْع ُ‬
‫فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ َأفَل َت ْعقِلُونَ (‪} )76‬‬
‫( ‪)1/307‬‬

‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ (‪)77‬‬


‫َأوَلَا َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ‬

‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ (‪} )77‬‬


‫{ َأوَل َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ‬
‫ط َمعُونَ } أيها المؤمنون { أَنْ ُي ْؤمِنُوا َل ُكمْ } أي ‪ :‬ينقاد (‪ )1‬لكم بالطاعة ‪ ،‬هؤلء‬
‫يقول تعالى ‪َ { :‬أفَ َت ْ‬
‫الفرقة الضالة من اليهود ‪ ،‬الذين شاهد آباؤهم (‪ )2‬من اليات البينات ما شاهدوه (‪ )3‬ثم قست‬
‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ ُثمّ يُحَ ّرفُونَهُ } أي ‪ :‬يتأولونه على‬
‫قلوبهم من بعد ذلك { َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ َي ْ‬
‫عقَلُوهُ } أي ‪ :‬فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وَهُمْ‬
‫غير تأويله { مِنْ َبعْدِ مَا َ‬
‫َيعَْلمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله ؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى ‪:‬‬
‫ضعِهِ } [المائدة ‪( .]13 :‬‬
‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِ َيةً يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَِلمَ عَنْ َموَا ِ‬
‫ضهِمْ مِيثَا َقهُمْ َلعَنّا ُه ْم وَ َ‬
‫{ فَ ِبمَا َن ْق ِ‬
‫‪.)4‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس أنه قال ‪ :‬ثم قال ال تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم‬
‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ } وليس قوله ‪:‬‬
‫ط َمعُونَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا َل ُك ْم َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَ ْ‬
‫منهم ‪َ { :‬أفَتَ ْ‬
‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ } يسمعون التوراة‪ .‬كلهم قد سمعها‪ .‬ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم‬
‫{ َي ْ‬
‫فأخذتهم الصاعقة فيها‪.‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬قد حيل بيننا‬
‫وبين رؤية ال تعالى ‪ ،‬فأسمعنا كلمه حين يكلمك‪ .‬فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫مُرْهم فليتطهروا ‪ ،‬وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ‪ ،‬ثم خرج بهم حتى أتوا الطور ‪ ،‬فلما‬
‫غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا ‪ ،‬فوقعوا سجودًا ‪ ،‬وكلمه ربه تعالى ‪ ،‬فسمعوا (‪ )5‬كلمه‬
‫يأمرهم وينهاهم ‪ ،‬حتى عقلوا عنه ما سمعوا‪ .‬ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل ‪ ،‬فلما جاءوهم‬
‫حَرّف فريق منهم ما أمرهم به ‪ ،‬وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل ‪ :‬إن ال قد أمركم بكذا‬
‫وكذا‪ .‬قال ذلك الفريق الذين ذكرهم ال ‪ :‬إنما قال كذا وكذا خلفًا لما قال ال عز وجل لهم ‪ ،‬فهم‬
‫الذين عنى ال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ ثُمّ ُيحَ ّرفُونَهُ } قال ‪ :‬هي التوراة ‪،‬‬
‫وقال السدي ‪َ { :‬وقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْن ُهمْ يَ ْ‬
‫حرفوها‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق ‪ ،‬وإن كان قد اختاره ابن جرير‬
‫لظاهر السياق‪ .‬فإنه ليس يلزم من سماع كلم ال أن يكون منه (‪ )6‬كما سمعه الكليم موسى بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ينقادوا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ما آتاهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬مما شاهدوه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬من بعد" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فلما سمعوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬لمن يكون منه" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬لمن تكون منه"‪.‬‬

‫( ‪)1/307‬‬

‫حدٌ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْتَجَا َركَ‬


‫عمران ‪ ،‬عليه الصلة والسلم (‪ ، )1‬وقد قال ال تعالى ‪ { :‬وَإِنْ أَ َ‬
‫سمَعَ كَلمَ اللّهِ } [التوبة ‪ ، ]6 :‬أي ‪ :‬مبّلغًا إليه ؛ ولهذا قال قتادة في قوله ‪ { :‬ثُمّ‬
‫فَأَجِ ْرهُ حَتّى َي ْ‬
‫عقَلُو ُه وَهُمْ َيعَْلمُونَ } قال ‪ :‬هم اليهود كانوا يسمعون كلم ال ثم يحرفونه من‬
‫يُحَ ّرفُونَهُ مِنْ َب ْعدِ مَا َ‬
‫بعد ما عقلوه ووعوه‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬عمدوا إلى ما أنزل ال في كتابهم ‪ ،‬من نعت (‪ )2‬محمد صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فحرفوه عن مواضعه‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬وَهُمْ َيعَْلمُونَ } أي أنهم أذنبوا‪ .‬وقال ابن وهب ‪ :‬قال ابن زيد في قوله ‪:‬‬
‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ ُثمّ يُحَ ّرفُونَهُ } قال ‪ :‬التوراة التي أنزلها ال عليهم يحرفونها يجعلون الحلل‬
‫{ َي ْ‬
‫فيها حرامًا ‪ ،‬والحرام فيها حلل والحق فيها باطل والباطل فيها حقًا ؛ إذا جاءهم المحق برشوة‬
‫أخرجوا له كتاب ال ‪ ،‬وإذا جاءهم المبطل (‪ )3‬برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب ‪ ،‬فهو فيه محق ‪،‬‬
‫وإن جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق ‪ ،‬ول رشوة ‪ ،‬ول شيء ‪ ،‬أمروه بالحق ‪ ،‬فقال ال لهم‬
‫سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَل َت ْعقِلُونَ } [البقرة ‪.]44 :‬‬
‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫‪ { :‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا } الية‪.‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثنا محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ { :‬وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا } أي بصاحبكم رسول ال ‪ ،‬ولكنه إليكم خاصة‪ { .‬وَإِذَا‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا } ل تحدثوا العرب بهذا ‪ ،‬فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ‪ ،‬فكان‬
‫خَل َب ْع ُ‬
‫منهم‪ .‬فأنزل ال ‪ { :‬وَِإذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَل َب ْعضُهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ‬
‫ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ } أي ‪ :‬تقرون بأنه نبي ‪ ،‬وقد علمتم أنه قد أخذ له‬
‫الميثاق عليكم باتباعه ‪ ،‬وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ‪ ،‬ونجد في كتابنا‪ .‬اجحدوه ول‬
‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ }‪.‬‬
‫تقروا به‪ .‬يقول ال تعالى ‪َ { :‬أوَل َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا يُسِرّو َ‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم قالوا ‪ :‬آمنا‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬هؤلء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا‪ .‬وكذا قال الربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة وغير‬
‫واحد من السلف والخلف ‪ ،‬حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬فيما رواه ابن وهب عنه ‪:‬‬
‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قال ‪" :‬ل يدخلن (‪ )4‬علينا قصبة المدينة إل مؤمن"‪ .‬فقال‬
‫رؤساؤهم (‪ )5‬من أهل الكفر والنفاق ‪ :‬اذهبوا فقولوا ‪ :‬آمنا ‪ ،‬واكفروا إذا رجعتم إلينا ‪ ،‬فكانوا‬
‫يأتون المدينة بال ُبكَر ‪ ،‬ويرجعون إليهم بعد العصر‪ .‬وقرأ قول ال تعالى ‪َ { :‬وقَاَلتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ أَ ْهلِ‬
‫جعُونَ } [آل عمران‬
‫ا ْلكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ ال ّنهَا ِر وَاكْفُرُوا آخِ َرهُ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫‪]72 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬كما سمعه الكليم عليه السلم" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه‬
‫الصلة والسلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬من نص"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬الباطل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ل يدخل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فقال رؤسائهم" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/308‬‬

‫وكانوا يقولون ‪ ،‬إذا دخلوا المدينة ‪ :‬نحن مسلمون‪ .‬ليعلموا خبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وأمره‪ .‬فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر‪ .‬فلما أخبر ال نبيه صلى ال عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم‬
‫يكونوا يدخلون‪ .‬وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون (‪ )1‬فيقولون ‪ :‬أليس قد قال ال لكم كذا وكذا‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ‬
‫؟ فيقولون ‪ :‬بلى‪ .‬فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء] (‪ )2‬قالوا ‪ { :‬أَتُ َ‬
‫عَلَ ْيكُمْ } الية (‪.)3‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ { :‬أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمْ } يعني ‪ :‬بما أنزل ال عليكم في كتابكم من نعت‬
‫(‪ )4‬محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ { :‬أَتُ َ‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ‬
‫رَ ّبكُمْ } قال ‪ :‬كانوا يقولون ‪ :‬سيكون نبي‪ .‬فخل بعضهم ببعض (‪ )5‬فقالوا ‪ { :‬أَتُ َ‬
‫علَ ْيكُمْ } (‪.)6‬‬
‫اللّهُ َ‬
‫قول آخر في المراد بالفتح ‪ :‬قال ابن جُرَيج ‪ :‬حدثني القاسم بن أبي بَزّة ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬في قوله‬
‫تعالى ‪ { :‬أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } قال ‪ :‬قام النبي صلى ال عليه وسلم يوم قريظة تحت‬
‫حصونهم ‪ ،‬فقال ‪" :‬يا إخوان (‪ )7‬القردة والخنازير ‪ ،‬ويا عبدة الطاغوت" ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬من أخبر بهذا‬
‫(‪ )8‬المر محمدًا ؟ ما خرج هذا القول (‪ )9‬إل منكم { أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } بما حكم ال‬
‫‪ ،‬للفتح ‪ ،‬ليكون لهم حجة عليكم‪ .‬قال ابن جريج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ :‬هذا حين أرسل إليهم عليا (‪)10‬‬
‫فآذوا محمدًا صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } من العذاب { لِيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِ ْندَ رَ ّبكُمْ } هؤلء ناس‬
‫وقال السدي ‪ { :‬أَتُ َ‬
‫من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذّبوا به‪ .‬فقال بعضهم لبعض ‪:‬‬
‫{ أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمْ } من العذاب ‪ ،‬ليقولوا ‪ :‬نحن أحب إلى ال منكم ‪ ،‬وأكرم على ال‬
‫منكم‪.‬‬
‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } يعني ‪ :‬بما قضى [ال] (‪ )11‬لكم‬
‫وقال عطاء الخراساني ‪ { :‬أَتُ َ‬
‫وعليكم‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ :‬هؤلء اليهود ‪ ،‬كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا ‪ :‬آمنا ‪ ،‬وإذا خل بعضهم‬
‫إلى بعض ‪ ،‬قال بعضهم ‪ :‬ل تحدثوا أصحاب محمد بما فتح ال عليكم مما في كتابكم ‪ ،‬فيحاجوكم‬
‫(‪ )12‬به عند ربكم ‪ ،‬فيخصموكم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أنهم يؤمنون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )2/254‬عن يونس عن ابن وهب به‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬من بعث"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فخل بعضهم ببعض"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/71‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أيا إخوان"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬من أخبر هذا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬هذا المر"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬حين أرسل عليًا إليهم"‪.‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ليحاجوكم"‪.‬‬

‫( ‪)1/309‬‬

‫ي وَإِنْ ُهمْ إِلّا َيظُنّونَ (‪َ )78‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ‬
‫َومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ لَا َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِلّا َأمَا ِن ّ‬
‫بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ َهذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ َثمَنًا قَلِيلًا َفوَيْلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِي ِه ْم َووَيْلٌ َلهُمْ ِممّا‬
‫َيكْسِبُونَ (‪)79‬‬
‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ } قال أبو العالية ‪ :‬يعني ما أسروا من‬
‫وقوله ‪َ { :‬أوَل َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ‬
‫كفرهم بمحمد صلى ال عليه وسلم وتكذيبهم به ‪ ،‬وهو (‪ )1‬يجدونه مكتوبًا عندهم‪ .‬وكذا قال قتادة‪.‬‬
‫وقال الحسن ‪ { :‬أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا ُيسِرّونَ } قال ‪ :‬كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم وخل بعضهم إلى بعض ‪ ،‬تناهوا أن يخبر أحد (‪ )2‬منهم أصحاب‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم بما فتح ال عليهم مما في كتابهم ‪ ،‬خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم بما في كتابهم عند (‪ )3‬ربهم‪َ { .‬ومَا ُيعْلِنُونَ } يعني ‪ :‬حين قالوا لصحاب‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم ‪ :‬آمنا‪ .‬وكذا قال أبو العالية ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬وقتادة‪.‬‬
‫ي وَإِنْ هُمْ إِل َيظُنّونَ (‪َ )78‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ‬
‫{ َومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِن ّ‬
‫بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ َهذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ َثمَنًا قَلِيل َفوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِي ِه ْم َووَيْلٌ َلهُمْ ِممّا‬
‫َيكْسِبُونَ (‪} )79‬‬
‫يقول تعالى ‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ } أي ‪ :‬ومن أهل الكتاب ‪ ،‬قاله مجاهد ‪ :‬والميون جمع أمي ‪ ،‬وهو‬
‫‪ :‬الرجل الذي ل يحسن الكتابة ‪ ،‬قاله أبو العالية ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وإبراهيم النّخَعي ‪ ،‬وغير‬
‫واحد (‪ )4‬وهو ظاهر في قوله تعالى ‪ { :‬ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ [إِل َأمَا ِنيّ] } (‪ )5‬أي ‪ :‬ل يدرون ما‬
‫فيه‪ .‬ولهذا في صفات النبي صلى ال عليه وسلم أنه أمي ؛ لنه لم يكن يحسن الكتابة ‪ ،‬كما قال‬
‫خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا لرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ } [العنكبوت ‪:‬‬
‫تعالى ‪َ { :‬ومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبِْلهِ مِنْ كِتَابٍ وَل تَ ُ‬
‫‪ ]48‬وقال عليه الصلة والسلم ‪" :‬إنا أمة أمية ‪ ،‬ل نكتب ول نحسب ‪ ،‬الشهر هكذا وهكذا وهكذا"‬
‫الحديث‪ .‬أي ‪ :‬ل نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ول حساب وقال تعالى ‪ُ { :‬هوَ الّذِي َب َعثَ‬
‫فِي المّيّينَ رَسُول مِ ْنهُمْ } [الجمعة ‪.]2 :‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬نسبت العرب من ل يكتب ول يَخُط من الرجال إلى أمّه في جهله بالكتاب دون‬
‫أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬وقد روي عن ابن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما (‪ )6‬قول خلف هذا ‪ ،‬وهو ما حدثنا به‬
‫أبو كُرَيب ‪ :‬حدثنا عثمان بن سعيد ‪ ،‬عن بشر بن عمارة ‪ ،‬عن أبي روق ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ } قال ‪ :‬الميون قوم لم يصدّقوا رسول أرسله ال ‪ ،‬ول‬
‫جهّال ‪ { :‬هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ } وقال ‪ :‬قد‬
‫كتابًا أنزله ال ‪ ،‬فكتبوا كتابًا بأيديهم ‪ ،‬ثم قالوا لقوم سَفلة ُ‬
‫أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ‪ ،‬ثم سماهم أميين ‪ ،‬لجحودهم كتب ال ورسله‪ .‬ثم قال ابن جرير ‪ :‬وهذا‬
‫التأويل (‪ )7‬على خلف ما يعرف من كلم العرب المستفيض بينهم‪ .‬وذلك أن المي عند العرب‬
‫‪ :‬الذي ل يكتب (‪.)8‬‬
‫قلت ‪ :‬ثم في صحة هذا عن ابن عباس ‪ ،‬بهذا السناد ‪ ،‬نظر‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يخبروا واحدًا" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬يخبروا أحد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وعند"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬وإبراهيم النخغي وغيرهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬رضي ال عنه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وهذا التأويل تأويل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)2/259‬‬

‫( ‪)1/310‬‬

‫قوله (‪ )1‬تعالى ‪ { :‬إِل َأمَانِيّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ‪ { :‬إِل َأمَا ِنيّ } إل أحاديث‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬إِل َأمَا ِنيّ } يقول ‪ :‬إل قول يقولونه بأفواههم كذبًا‪.‬‬
‫نل‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬إل كذبًا‪ .‬وقال سنيد ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج عن مجاهد ‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ ُأمّيّو َ‬
‫َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِنيّ } قال ‪ :‬أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا ‪ ،‬وكانوا‬
‫يتكلمون بالظن (‪ )2‬بغير ما في كتاب ال ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬هو من الكتاب ‪ ،‬أمانيّ يتمنونها‪ .‬وعن‬
‫الحسن البصري ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬والربيع وقتادة ‪ { :‬إِل َأمَا ِنيّ } يتمنون على ال ما ليس لهم‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ { :‬إِل َأمَا ِنيّ } قال ‪ :‬تمنوا فقالوا ‪ :‬نحن من أهل الكتاب‪.‬‬
‫وليسوا منهم‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬والشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس ‪ ،‬وقال مجاهد ‪ :‬إن الميين‬
‫الذين وصفهم ال أنهم ل يفقهون من الكتاب ‪ -‬الذي أنزل (‪ )3‬ال على موسى ‪ -‬شيئًا ‪ ،‬ولكنهم‬
‫يَتَخَ ّرصُون الكذب ويتخرصون الباطيل كذبًا وزورًا‪ .‬والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب‬
‫وتخرصه‪ .‬ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي ال عنه ‪" :‬ما تغنيت ول تمنيت"‪.‬‬
‫يعني ما تخرصت الباطل ول اختلقت الكذب (‪.)4‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ { :‬ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِنيّ وَإِنْ هُمْ إِل يَظُنّونَ } ول يدرون ما فيه ‪ ،‬وهم يجحدون (‬
‫‪ )5‬نبوتك بالظن‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬وَإِنْ ُهمْ إِل يَظُنّونَ } يكذبون‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬وأبو العالية ‪ ،‬والربيع ‪ :‬يظنون الظنون بغير الحق‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ َثمَنًا قَلِيل }‬
‫الية ‪ :‬هؤلء صنف (‪ )6‬آخر من اليهود ‪ ،‬وهم الدعاة إلى الضلل بالزور والكذب على ال ‪،‬‬
‫وأكل أموال الناس بالباطل‪.‬‬
‫والويل ‪ :‬الهلك والدمار ‪ ،‬وهي كلمة مشهورة في اللغة‪ .‬وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن زياد بن‬
‫فياض ‪ :‬سمعت أبا عياض يقول ‪ :‬ويل ‪ :‬صديد في أصل جهنم‪.‬‬
‫وقال عطاء بن يسار‪ .‬الويل ‪ :‬واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقوله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يتكلمون الظن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الذي أنزله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)1/262‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وهم يجدون"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬هو صنف"‪.‬‬

‫( ‪)1/311‬‬

‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني عمرو بن الحارث‬
‫‪ ،‬عن دَرّاج ‪ ،‬عن أبي الهيثم ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫قال ‪" :‬ويل واد في جهنم ‪ ،‬يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره"‪.‬‬
‫ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ‪ ،‬عن الحسن بن موسى ‪ ،‬عن ابن لهيعة ‪ ،‬عن دراج ‪ ،‬به (‪.)1‬‬
‫وقال ‪ :‬هذا حديث غريب ل نعرفه إل من حديث ابن لهيعة‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ‪ ،‬ولكن الفة ممن بعده ‪ ،‬وهذا الحديث بهذا السناد ‪-‬‬
‫مرفوعًا ‪ -‬منكر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا المثنى ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن عبد السلم بن صالح العشيري (‪ )2‬حدثنا علي‬
‫بن جرير ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬عن عبد الحميد بن جعفر ‪ ،‬عن كنانة العدوي ‪ ،‬عن عثمان بن‬
‫عفان ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا‬
‫َيكْسِبُونَ } قال ‪" :‬الويل جبل في النار‪ .‬وهو الذي أنزل في اليهود ؛ لنهم حَرّفوا التوراة ‪ ،‬زادوا‬
‫فيها ما أحبوا ‪ ،‬ومحوا منها ما يكرهون ‪ ،‬ومحوا اسم محمد صلى ال عليه وسلم من التوراة‪.‬‬
‫ولذلك غضب ال عليهم ‪ ،‬فرفع بعض التوراة ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَيْدِيهِمْ وَوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا‬
‫َيكْسِبُونَ } (‪.)3‬‬
‫وهذا غريب أيضا جدًا‪.‬‬
‫[وعن ابن عباس ‪ :‬الويل ‪ :‬السعير من العذاب ‪ ،‬وقال الخليل بن أحمد ‪ :‬الويل ‪ :‬شدة الشر ‪ ،‬وقال‬
‫سيبويه ‪ :‬ويل ‪ :‬لمن وقع في الهلكة ‪ ،‬وويح لمن أشرف عليها ‪ ،‬وقال الصمعي ‪ :‬الويل ‪ :‬تفجع‬
‫والويل ترحم ‪ ،‬وقال غيره ‪ :‬الويل الحزن (‪ .)4‬وقال الخليل ‪ :‬وفي معنى ويل ‪ :‬ويح وويش وويه‬
‫وويك وويب ‪ ،‬ومنهم من فرق بينها ‪ ،‬وقال بعض النحاة ‪ :‬إنما جاز البتداء بها وهي نكرة ؛ لن‬
‫فيها معنى الدعاء ‪ ،‬ومنهم من جوز نصبها ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬ألزمهم ويل‪ .‬قلت ‪ :‬لكن لم يقرأ بذلك أحد]‬
‫(‪.)5‬‬
‫وعن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ } قال ‪ :‬هم أحبار اليهود‪.‬‬
‫وكذا قال سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬هم اليهود‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن علقمة ‪ :‬سألت ابن عباس عن قوله تعالى ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ‬
‫لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ } قال ‪ :‬نزلت في المشركين وأهل الكتاب‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم ‪ ،‬يبيعونه من العرب ‪ ،‬ويحدثونهم أنه‬
‫من عند ال ‪ ،‬ليأخذوا (‪ )6‬به ثمنًا قليل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/243‬وسنن الترمذي برقم (‪.)3164‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬العيري"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)2/268‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬الخوف"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فيأخذوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/312‬‬

‫ع ْه َدهُ أَمْ َتقُولُونَ‬


‫عهْدًا فَلَنْ ُيخِْلفَ اللّهُ َ‬
‫خذْتُمْ عِ ْندَ اللّهِ َ‬
‫َوقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا َمعْدُو َدةً ُقلْ أَتّ َ‬
‫عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ (‪)80‬‬

‫وقال الزهري ‪ :‬أخبرني عبيد ال بن عبد ال ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬يا معشر المسلمين ‪،‬‬
‫كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ‪ ،‬وكتابكم الذي أنزل ال على نبيه ‪ ،‬أحدث أخبار ال تقرؤونه‬
‫حدّثكم ال تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب ال وغيروه ‪،‬‬
‫(‪ )1‬محضًا (‪ )2‬لم يشب ؟ وقد َ‬
‫وكتبوا بأيديهم الكتاب ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هو من عند ال ليشتروا به ثمنًا قليل ؛ أفل (‪ )3‬ينهاكم ما جاءكم‬
‫من العلم عن مُسَاءلتهم ؟ ول وال ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم‪ .‬رواه‬
‫البخاري (‪ )4‬من طرق عن الزهري‪.‬‬
‫وقال الحسن بن أبي الحسن البصري ‪ :‬الثمن القليل ‪ :‬الدنيا بحذافيرها‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ َل ُهمْ ِممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ َل ُهمْ ِممّا َيكْسِبُونَ } أي ‪ :‬فويل لهم مما كتبوا‬
‫بأيديهم من الكذب (‪ )5‬والبهتان ‪ ،‬والفتراء ‪ ،‬وويل لهم مما أكلوا به من السحت ‪ ،‬كما قال‬
‫الضحاك عن ابن عباس ‪َ { :‬فوَيْلٌ َلهُمْ } يقول ‪ :‬فالعذاب عليهم ‪ ،‬من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك‬
‫الكذب ‪ { ،‬وَوَ ْيلٌ َلهُمْ ِممّا َيكْسِبُونَ } يقول ‪ :‬مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم‪.‬‬
‫ع ْه َدهُ أَمْ َتقُولُونَ‬
‫عهْدًا فَلَنْ ُيخِْلفَ اللّهُ َ‬
‫خذْتُمْ عِ ْندَ اللّهِ َ‬
‫{ َوقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً ُقلْ أَتّ َ‬
‫عَلَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ (‪} )80‬‬
‫يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لنفسهم ‪ ،‬من أنهم لن تمسهم النار إل أيامًا‬
‫عهْدًا } (‪ )6‬أي ‪:‬‬
‫خذْتُمْ عِ ْندَ اللّهِ َ‬
‫معدودة ‪ ،‬ثم ينجون منها ‪ ،‬فرد ال عليهم ذلك بقوله ‪ُ { :‬قلْ أَتّ َ‬
‫بذلك ؟ فإن كان قد وقع عهد فهو ل يُخْلِف عهده (‪.)7‬‬
‫ولكن هذا ما جرى ول كان‪ .‬ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى ‪ :‬بل ‪ ،‬أي ‪ :‬بل تقولون على ال ما ل‬
‫تعلمون من الكذب والفتراء عليه‪.‬‬
‫قال (‪ )8‬محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن سيف بن سليمان (‪ )9‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن اليهود‬
‫كانوا يقولون ‪ :‬هذه الدنيا سبعة آلف سنة ‪ ،‬وإنما ُنعَذّب بكل ألف سنة يومًا في النار ‪ ،‬وإنما هي‬
‫سبعة أيام معدودة (‪ .)10‬فأنزل ال تعالى ‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } إلى قوله ‪:‬‬
‫{ خَالِدُونَ } [البقرة ‪.]82 :‬‬
‫ثم رواه عن محمد ‪ ،‬عن سعيد ‪ -‬أو عكرمة ‪ -‬عن ابن عباس ‪ ،‬بنحوه‪.‬‬
‫وقال العوفي عن ابن عباس ‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } اليهود قالوا (‪ : )11‬لن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬يعرفونه" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬تعرفونه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و ‪" :‬غضًا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أفلم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)7523 ، 7363 ، 2685‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬من الكتب"‪.‬‬
‫(‪ )6‬بعدها في جـ ‪" :‬فلن يخلف ال عهده"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وعده"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬سلمان"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أيام معدودات"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬وقالوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/313‬‬

‫تمسنا النار إل أربعين ليلة ‪[ ،‬زاد غيره ‪ :‬هي مدة عبادتهم العجل ‪ ،‬وحكاه القرطبي عن ابن‬
‫عباس وقتادة] (‪.)1‬‬
‫وقال الضحاك ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا ‪ :‬أن ما بين طرفي‬
‫جهنم مسيرة أربعين سنة ‪ ،‬إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ‪ ،‬التي هي نابتة في أصل الجحيم‪.‬‬
‫وقال أعداء ال ‪ :‬إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك‪ .‬فذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫{ َوقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً }‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } يعني ‪:‬‬
‫اليام التي عبدنا فيها العجل (‪.)2‬‬
‫وقال عكرمة ‪ :‬خاصمت اليهود رسول ال صلى ال عليه وسلم (‪ )3‬فقالوا ‪ :‬لن ندخل النار إل‬
‫أربعين ليلة ‪ ،‬وسيخلفنا إليها (‪ )4‬قوم آخرون ‪ ،‬يعنون (‪ )5‬محمدًا صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده على رءوسهم ‪" :‬بل أنتم خالدون مخلدون ل‬
‫يخلفكم إليها أحد"‪ .‬فأنزل ال ‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّامًا َمعْدُو َدةً } الية‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه ال ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن جعفر ‪ ،‬حدثنا محمد بن محمد‬
‫بن صخر ‪ ،‬حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ‪ ،‬حدثنا ليث بن سعد ‪ ،‬حدثني سعيد بن أبي سعيد ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬لما فتحت خيبر أهديت لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫شاة فيها سم ‪ ،‬فقال (‪ )6‬رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا"‬
‫فقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من أبوكم ؟" قالوا ‪ :‬فلن (‪ .)7‬قال ‪" :‬كذبتم ‪ ،‬بل‬
‫أبوكم فلن"‪ .‬فقالوا ‪ :‬صدقت وبَرِرْت ‪ ،‬ثم قال لهم ‪" :‬هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟‬
‫"‪ .‬قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬يا أبا القاسم ‪ ،‬وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا‪ .‬فقال لهم رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من أهل النار ؟" فقالوا ‪ :‬نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها‪ .‬فقال لهم رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اخسأوا ‪ ،‬وال ل نخلفكم فيها أبدًا"‪ .‬ثم قال لهم رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬نعم يا أبا القاسم‪ .‬فقال ‪" :‬هل‬
‫جعلتم في هذه الشاة سمّا ؟"‪ .‬فقالوا ‪ :‬نعم‪ .‬قال (‪" : )8‬فما حملكم على ذلك ؟"‪ .‬فقالوا ‪ :‬أردنا إن‬
‫كنت كاذبًا أن نستريح منك ‪ ،‬وإن كنت نبيًا لم يضرك‪.‬‬
‫ورواه أحمد ‪ ،‬والبخاري ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬من حديث الليث بن سعد ‪ ،‬بنحوه (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير عبد الرزاق (‪.)72 ، 1/71‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يعني" ‪ ،‬وفي ب ‪" :‬تعني"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فقال لهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬قالوا ‪ :‬أبونا فلن"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪ )2/451‬وصحيح البخاري برقم (‪ )4249 ، 3161‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)11355‬‬

‫( ‪)1/314‬‬

‫طتْ بِهِ خَطِيئَُتهُ فَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪ )81‬وَالّذِينَ َآمَنُوا‬
‫سبَ سَيّئَ ًة وََأحَا َ‬
‫بَلَى مَنْ كَ َ‬
‫صحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪)82‬‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫وَ َ‬

‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪ )81‬وَالّذِينَ‬


‫طتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫سبَ سَيّ َئ ًة وَأَحَا َ‬
‫{ بَلَى مَنْ كَ َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪} )82‬‬
‫آمَنُوا وَ َ‬
‫يقول تعالى ‪ :‬ليس المر كما تمنيتم ‪ ،‬ول كما تشتهون ‪ ،‬بل المر ‪ :‬أنه من عمل سيئة وأحاطت‬
‫به خطيئته ‪ ،‬وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة ‪ ،‬بل جميع عمله سيئات ‪ ،‬فهذا من أهل‬
‫النار ‪ ،‬والذين آمنوا بال ورسوله (‪ )1‬وعملوا الصالحات ‪ -‬من العمل الموافق للشريعة ‪ -‬فهم (‬
‫‪ )2‬من أهل الجنة‪ .‬وهذا المقام شبيه بقوله تعالى ‪ { :‬لَيْسَ بَِأمَانِ ّيكُ ْم وَل َأمَا ِنيّ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ َي ْع َملْ‬
‫جدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَل َنصِيرًا* َومَنْ َي ْعمَلْ مِنَ الصّاِلحَاتِ مِنْ َذكَرٍ َأوْ‬
‫سُوءًا ُيجْزَ بِ ِه وَل يَ ِ‬
‫أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّ َة وَل يُظَْلمُونَ َنقِيرًا } [النساء ‪.]124 ، 123 :‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد ‪ -‬أو عكرمة ‪ -‬عن ابن عباس ‪:‬‬
‫سبَ سَيّ َئةً } أي ‪ :‬عمل مثل أعمالكم ‪ ،‬وكفر بمثل ما كفرتم به ‪ ،‬حتى يحيط به كفره (‬
‫{ بَلَى مَنْ كَ َ‬
‫‪ )3‬فما له من حسنة‪.‬‬
‫وفي رواية عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬الشرك‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن أبي وائل ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬نحوه (‪.)4‬‬
‫وقال الحسن ‪ -‬أيضًا ‪ -‬والسدي ‪ :‬السيئة ‪ :‬الكبيرة من الكبائر‪.‬‬
‫طتْ بِهِ خَطِيئَُتهُ } قال ‪ :‬بقلبه‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬وَأَحَا َ‬
‫طتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قالوا ‪ :‬أحاط به‬
‫وقال أبو هريرة ‪ ،‬وأبو وائل ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والحسن ‪ { :‬وَأَحَا َ‬
‫شركه‪.‬‬
‫طتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال ‪ :‬الذي يموت‬
‫وقال العمش ‪ ،‬عن أبي رزين ‪ ،‬عن الربيع بن خُثَيم ‪ { :‬وَأَحَا َ‬
‫على خطايا (‪ )5‬من قبل أن يتوب‪ .‬وعن السدي ‪ ،‬وأبي رزين ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫طتْ‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬في رواية عنهما ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ { :‬وَأَحَا َ‬
‫بِهِ خَطِيئَُتهُ } الكبيرة الموجبة‪.‬‬
‫وكل هذه القوال متقاربة في المعنى ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه المام أحمد‬
‫حيث قال ‪:‬‬
‫حدثنا سليمان بن داود ‪ ،‬حدثنا عمرو بن قتادة (‪ )6‬عن عبد ربه ‪ ،‬عن أبي عياض ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬ورسله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فهو"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فمتى يحيط عمله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بنحوه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬على خطاياه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬عن عمر بن صادق"‪.‬‬

‫( ‪)1/315‬‬

‫وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا َتعْبُدُونَ إِلّا اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا َوذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ‬
‫َوقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآَتُوا ال ّزكَاةَ ثُمّ َتوَلّيْتُمْ إِلّا قَلِيلًا مِ ْنكُ ْم وَأَنْتُمْ ُمعْ ِرضُونَ (‪)83‬‬

‫بن مسعود ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إيّاكم ومحقرات الذنوب ‪ ،‬فإنهن يجتمعن‬
‫ن مثل كمثل قوم نزلوا‬
‫على الرجل حتى يهلكنه"‪ .‬وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم ضرب لهُ ّ‬
‫بأرض فلة ‪ ،‬فحضر صنيع القوم ‪ ،‬فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ‪ ،‬والرجل يجيء بالعود ‪،‬‬
‫حتى جمعوا سوادًا (‪ ، )1‬وأججوا نارًا ‪ ،‬فأنضجوا ما قذفوا فيها (‪.)2‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد ‪ ،‬عن سعيد ‪ -‬أو عكرمة ‪ -‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَالّذِينَ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } أي من آمن بما كفرتم به ‪،‬‬
‫آمَنُوا وَ َ‬
‫وعمل بما تركتم من دينه ‪ ،‬فلهم الجنة خالدين فيها‪ .‬يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على‬
‫أهله ‪ ،‬ل انقطاع له أبدًا (‪.)3‬‬
‫خذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ل َتعْبُدُونَ إِل اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا وَذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى‬
‫{ وَإِذْ أَ َ‬
‫ن َوقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وََأقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ ثُمّ َتوَلّيْ ُتمْ إِل قَلِيل مِ ْنكُ ْم وَأَنْتُمْ‬
‫وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ (‪} )83‬‬
‫يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الوامر ‪ ،‬وأخذ ميثاقهم على ذلك ‪ ،‬وأنهم تولوا‬
‫عن ذلك كله ‪ ،‬وأعرضوا قصدًا وعمدًا ‪ ،‬وهم يعرفونه ويذكرونه ‪ ،‬فأمرهم أن يعبدوه ول يشركوا‬
‫به شيئًا‪ .‬وبهذا أمر جميع خلقه ‪ ،‬ولذلك خلقهم كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ َرسُولٍ‬
‫إِل نُوحِي إِلَيْهِ أَنّ ُه ل إِلَهَ إِل أَنَا فَاعْ ُبدُونِ } [النبياء ‪ ]25 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ‬
‫رَسُول أَنِ اُعْبُدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ } [النحل ‪ ]36 :‬وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ‪ ،‬وهو‬
‫حق ال تعالى ‪ ،‬أن يعبد وحده ل شريك له ‪ ،‬ثم بعده حق المخلوقين ‪ ،‬وآكدهم وأولهم بذلك حق‬
‫شكُرْ لِي‬
‫الوالدين ‪ ،‬ولهذا يقرن ال تعالى بين حقه وحق الوالدين ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬أَنِ ا ْ‬
‫وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ } [لقمان ‪ ]14 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬و َقضَى رَ ّبكَ أَل َتعْ ُبدُوا إِل إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ‬
‫سكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ } [السراء ‪- 23 :‬‬
‫حقّهُ وَا ْلمِ ْ‬
‫حسَانًا } الية إلى أن قال ‪ { :‬وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ‬
‫إِ ْ‬
‫‪ ]26‬وفي الصحيحين ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أي العمل أفضل ؟ قال ‪" :‬الصلة‬
‫على وقتها"‪ .‬قلت ‪ :‬ثم أي ؟ قال ‪" :‬بر الوالدين"‪ .‬قلت ‪ :‬ثم أيّ ؟ قال ‪" :‬الجهاد في سبيل ال" (‪.)4‬‬
‫ولهذا جاء في الحديث الصحيح ‪ :‬أن رجل قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬من أبر ؟ قال ‪" :‬أمك"‪ .‬قال ‪ :‬ثم‬
‫من (‪ )5‬؟ قال ‪" :‬أمك"‪ .‬قال ‪ :‬ثم من ؟ قال ‪" :‬أباك‪ .‬ثم أدناك أدناك" (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬جمعوا أعوادًا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)1/402‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬أبدًا ل انقطاع له"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )7534 ، 5970 ، 527‬وصحيح مسلم برقم (‪.)85‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬ثم قال من"‪.‬‬
‫(‪ )6‬جاء من حديث معاوية بن حيدة ‪ ،‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ ، )5139‬ومن حديث كليب‬
‫بن منفعة عن أبيه عن جده ‪ ،‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪.)5140‬‬

‫( ‪)1/316‬‬

‫[وقوله ‪ { :‬ل َتعْبُدُونَ إِل اللّهَ } قال الزمخشري ‪ :‬خبر بمعنى الطلب ‪ ،‬وهو آكد‪ .‬وقيل ‪ :‬كان‬
‫أصله ‪ :‬أل تعبدوا كما قرأها بعض السلف (‪ )1‬فحذفت أن فارتفع ‪ ،‬وحكي عن أبي وابن مسعود ‪،‬‬
‫رضي ال عنهما ‪ ،‬أنهما قرآها ‪" :‬ل َتعْبُدُوا إِل اللّه"‪ .‬وقيل ‪ { :‬ل َتعْبُدُونَ } مرفوع على أنه قسم ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬وال ل تعبدون إل ال ‪ ،‬ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه‪ .‬وقال ‪ :‬اختاره‬
‫المبرد والكسائي والفراء] (‪.)2‬‬
‫قال ‪ { :‬وَالْيَتَامَى } وهم ‪ :‬الصغار الذين ل كاسب لهم من الباء‪[ .‬وقال أهل اللغة ‪ :‬اليتيم في بني‬
‫آدم من الباء ‪ ،‬وفي البهائم من الم ‪ ،‬وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الم أيضا]‬
‫(‪ { )3‬وَا ْلمَسَاكِينَ } الذين ل يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم ‪ ،‬وسيأتي الكلم على هذه‬
‫الصناف عند آية النساء ‪ ،‬التي أمرنا ال تعالى بها صريحًا في قوله ‪ { :‬وَاعْبُدُوا اللّ َه وَل ُتشْ ِركُوا‬
‫حسَانًا } الية [النساء ‪.]36 :‬‬
‫بِهِ شَيْئًا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا } أي ‪ :‬كلموهم طيبًا ‪ ،‬ولينُوا لهم جانبًا ‪ ،‬ويدخل في ذلك‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ‪ ،‬كما قال الحسن البصري في قوله ‪َ { :‬وقُولُوا‬
‫حسْن من القول ‪ :‬يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر ‪ ،‬ويحلم ‪ ،‬ويعفو ‪،‬‬
‫لِلنّاسِ حُسْنًا } فال ُ‬
‫ويصفح ‪ ،‬ويقول للناس حسنًا كما قال ال ‪ ،‬وهو كل خُلُق حسن رضيه ال‪.‬‬
‫جوْني ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا روح ‪ ،‬حدثنا أبو عامر الخَزّاز ‪ ،‬عن أبي عمران ال َ‬
‫بن الصامت ‪ ،‬عن أبي ذر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬ل تحقرن‬
‫من المعروف شيئًا ‪ ،‬وإن لم تجد فَا ْلقَ أخاك بوجه منطلق (‪." )4‬‬
‫وأخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬والترمذي [وصححه] (‪ )5‬من حديث أبي عامر الخزّاز ‪ ،‬واسمه‬
‫صالح بن رستم ‪ ،‬به (‪.)6‬‬
‫وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا ‪ ،‬بعد ما أمرهم بالحسان إليهم بالفعل ‪ ،‬فجمع بين‬
‫طرفي الحسان الفعلي والقولي‪ .‬ثم أكد المر بعبادته والحسان إلى الناس بالمُعيّن (‪ )7‬من ذلك ‪،‬‬
‫وهو الصلة والزكاة ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬تركوه وراء ظهورهم ‪ ،‬وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به ‪ ،‬إل القليل منهم ‪ ،‬وقد أمر‬
‫تعالى هذه المة بنظير ذلك في سورة النساء ‪ ،‬بقوله ‪ { :‬وَاعْبُدُوا اللّ َه وَل تُشْ ِركُوا بِهِ شَيْئًا‬
‫حبِ‬
‫ب وَالصّا ِ‬
‫ن وَالْجَارِ ذِي ا ْلقُرْبَى وَا ْلجَارِ الْجُ ُن ِ‬
‫حسَانًا وَبِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ‬
‫حبّ مَنْ كَانَ مُخْتَال َفخُورًا } [النساء ‪]36 :‬‬
‫ب وَابْنِ السّبِيلِ َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ إِنّ اللّهَ ل يُ ِ‬
‫بِالْجَ ْن ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬كما قرأها من قرأها من السلف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬بوجه طلق"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪ )5/173‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2626‬وسنن الترمذي برقم (‪.)1833‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بالمتعين"‪.‬‬

‫( ‪)1/317‬‬

‫فقامت هذه المة من ذلك بما لم تقم به أمة من المم قبلها ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره ‪:‬‬
‫حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا محمد بن خلف العسقلني ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن يوسف ‪ -‬يعني التّنّيسِي ‪ -‬حدثنا‬
‫خالد بن صَبِيح ‪ ،‬عن حميد بن عقبة ‪ ،‬عن أسد بن وَدَاعة ‪ :‬أنه كان يخرج من منزله فل يلقى‬
‫يهوديًا ول نصرانيًا إل سلم عليه ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬ما شأنك ؟ تسلم على اليهودي والنصراني‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫إن ال يقول ‪َ { :‬وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا } وهو ‪ :‬السلم‪ .‬قال ‪ :‬وروي عن عطاء الخراساني ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد ثبت في السنة أنهم ل يبدؤون بالسلم ‪ ،‬وال أعلم (‪.)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه برقم (‪ )2166‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل تبدؤوا اليهود ول النصارى بالسلم ‪ ،‬وإذا لقيتم أحدهم في طريق‬
‫فاضطروه إلى أضيقه"‪.‬‬

‫( ‪)1/318‬‬

‫شهَدُونَ (‬
‫سكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ ثُمّ َأقْرَرْتُ ْم وَأَنْتُمْ تَ ْ‬
‫س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَلَا ُتخْرِجُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُمْ لَا تَ ْ‬
‫علَ ْيهِمْ بِالْإِثْمِ‬
‫سكُ ْم وَتُخْ ِرجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِ ِهمْ تَظَاهَرُونَ َ‬
‫‪ )84‬ثُمّ أَنْ ُتمْ َهؤُلَاءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫جهُمْ َأفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ‬
‫ن وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ‬
‫وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬
‫وَ َتكْفُرُونَ بِ َب ْعضٍ َفمَا جَزَاءُ مَنْ َي ْف َعلُ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ إِلّا خِ ْزيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُ َردّونَ ِإلَى‬
‫خفّفُ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ (‪ )85‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالَْآخِ َرةِ فَلَا ُي َ‬
‫ب َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫شدّ ا ْلعَذَا ِ‬
‫أَ َ‬
‫عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ (‪)86‬‬

‫ش َهدُونَ (‬
‫سكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ ثُمّ َأقْرَرْ ُت ْم وَأَنْتُمْ تَ ْ‬
‫س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَل تُخْ ِرجُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫خذْنَا مِيثَا َقكُمْ ل تَ ْ‬
‫{ وَإِذْ أَ َ‬
‫سكُ ْم وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ َتظَاهَرُونَ عَلَ ْيهِمْ بِالثْمِ‬
‫‪ )84‬ثُمّ أَنْ ُتمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫جهُمْ َأفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ‬
‫ن وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ‬
‫وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬
‫وَ َتكْفُرُونَ بِ َب ْعضٍ َفمَا جَزَاءُ مَنْ َي ْف َعلُ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ إِل خِ ْزيٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى‬
‫خفّفُ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ (‪ )85‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ فَل ُي َ‬
‫ب َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫شدّ ا ْلعَذَا ِ‬
‫أَ َ‬
‫عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ (‪} )86‬‬
‫يقول ‪ ،‬تبارك وتعالى ‪ ،‬منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بالمدينة ‪ ،‬وما كانوا يعانونه من القتال مع الوس والخزرج ‪ ،‬وذلك أن الوس والخزرج ‪ ،‬وهم‬
‫النصار ‪ ،‬كانوا في الجاهلية عُبّاد أصنام ‪ ،‬وكانت بينهم حروب كثيرة ‪ ،‬وكانت يهود المدينة‬
‫ثلثَ قبائل ‪ :‬بنو قينقاع‪ .‬وبنو النضير حلفاء الخزرج‪ .‬وبنو قريظة حلفاء الوس‪ .‬فكانت الحرب‬
‫إذا نشبت (‪ )1‬بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ‪ ،‬فيقتل اليهودي أعداءه ‪ ،‬وقد يقتل اليهوديّ الخرُ‬
‫من الفريق الخر ‪ ،‬وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ‪ ،‬ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما‬
‫فيها من الثاث والمتعة والموال ‪ ،‬ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا السارى من الفريق‬
‫المغلوب ‪ ،‬عمل بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬أفَ ُتؤْمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ وَ َت ْكفُرُونَ بِ َب ْعضٍ }‬
‫سكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ } أي ‪:‬‬
‫س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَل ُتخْرِجُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم ل َت ْ‬
‫ل يقتل بعضكم بعضًا ‪ ،‬ول يخرجه من منزله ‪ ،‬ول يظاهر عليه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَتُوبُوا إِلَى‬
‫سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ } [البقرة ‪]54 :‬‬
‫بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬نشئت"‪.‬‬

‫( ‪)1/318‬‬

‫وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ‪ ،‬كما قال عليه الصلة والسلم ‪" :‬مثل المؤمنين‬
‫في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر‬
‫الجسد بالحمى والسهر"‪.‬‬
‫شهَدُونَ } أي ‪ :‬ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم‬
‫[وقوله] (‪ { )1‬ثُمّ َأقْرَرْتُ ْم وَأَنْتُمْ َت ْ‬
‫تشهدون به‪.‬‬
‫علَ ْيهِمْ بِالثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ‬
‫سكُ ْم وَتُخْ ِرجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِ ِهمْ تَظَاهَرُونَ َ‬
‫{ ُثمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫جهُمْ } قال محمد بن إسحاق بن يسار ‪ :‬حدثني‬
‫وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ‬
‫محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ -‬أو عكرمة ‪ -‬عن ابن عباس ‪ { :‬ثُمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ‬
‫سكُمْ } الية ‪ ،‬قال ‪ :‬أنبهم ال (‪ )2‬من فعلهم ‪ ،‬وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم (‪)3‬‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم ‪ ،‬فكانوا فريقين ‪ :‬طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم (‪ )4‬حلفاء‬
‫الخزرج ‪ ،‬والنضير ‪ ،‬وقريظة وإنهم (‪ )5‬حلفاء الوس ‪ ،‬فكانوا إذا كانت بين الوس والخزرج‬
‫حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ‪ ،‬وخرجت النضير وقريظة مع الوس ‪ ،‬يظاهر (‪ )6‬كل‬
‫واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ‪ ،‬حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ‪ ،‬وبأيديهم التوراة يعرفون‬
‫فيها ما عليهم وما لهم‪ .‬والوس والخزرج أهل شرك يعبدون الوثان ‪ ،‬ول يعرفون جنة ول‬
‫نارًا ‪ ،‬ول بعثًا ول قيامة ‪ ،‬ول كتابًا ‪ ،‬ول حلل ول حرامًا ‪ ،‬فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا‬
‫أسراهم ‪ ،‬تصديقًا لما في التوراة ‪ ،‬وأخذًا به ؛ بعضهم من بعض ‪ ،‬يفتدي بنو قينقاع ما كان من‬
‫أسراهم في أيدي (‪ )7‬الوس ‪ ،‬ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي (‪ )8‬الخزرج منهم ‪،‬‬
‫ويطلبون (‪ )9‬ما أصابوا من دمائهم (‪ )10‬وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ‪ ،‬مظاهرة لهل الشرك‬
‫ب وَ َتكْفُرُونَ‬
‫عليهم‪ .‬يقول ال تعالى ذكره حيث أَنّبهم (‪ )11‬بذلك ‪َ { :‬أفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫بِ َب ْعضٍ } أي ‪ :‬يفاديه بحكم التوراة ويقتله ‪ ،‬وفي حكم التوراة أل يفعل ‪ ،‬ول يُخرج (‪ )12‬من داره‬
‫‪ ،‬ول ُيظَاهَر عليه من يُشْرك بال ‪ ،‬ويعبد الوثان من دونه ‪ ،‬ابتغاء عرض الدنيا‪ .‬ففي ذلك من‬
‫فعلهم مع الوس والخزرج ‪ -‬فيما بلغني ‪ -‬نزلت هذه القصة (‪.)13‬‬
‫وقال أسباط عن السدي ‪ :‬كانت قريظة حلفاء الوس ‪ ،‬وكانت النضير حلفاء الخزرج ‪ ،‬فكانوا‬
‫سمَير ‪ ،‬فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ وحلفاءهم ‪ ،‬وكانت النضير تقاتل‬
‫يقتتلون في حرب ُ‬
‫قريظة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أنبأهم ال بذلك"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬سفك الدماء"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وهم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فظاهر"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬يدي"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬يدي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬يطلبون"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬من الدماء وقتلوا"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حين أنبأهم"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ويخرجه"‪.‬‬
‫(‪ )13‬انظر ‪ :‬السيرة النبوية لبن هشام (‪ )1/540‬وتفسير الطبري (‪.)2/305‬‬

‫( ‪)1/319‬‬

‫وحلفاءها ‪ ،‬ويغلبونهم ‪ ،‬فيخربون ديارهم ‪ ،‬ويخرجونهم منها ‪ ،‬فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما‬
‫‪ ،‬جمعوا له حتى يفدوه‪ .‬فتعيرهم العرب بذلك ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا ‪ :‬إنا‬
‫أمرنا أن نفديهم ‪ ،‬وحرّم علينا قتالهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فلم تقاتلونهم ؟ قالوا ‪ :‬إنّا نستحيى أن ُتسْتَذلّ حلفاؤنا‬
‫سكُ ْم وَتُخْ ِرجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ‬
‫(‪ .)1‬فذلك حين عيّرهم ال ‪ ،‬فقال ‪ُ { :‬ثمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫دِيَارِ ِهمْ }‬
‫سكُمْ‬
‫وقال شعبة ‪ ،‬عن السدي ‪ :‬نزلت هذه الية في قيس بن الخَطيم ‪ُ { :‬ثمّ أَنْتُمْ َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَا ِرهِمْ َتظَاهَرُونَ عَلَ ْيهِمْ بِالثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ }‬
‫وقال أسباط ‪ ،‬عن السدي ‪ ،‬عن عبد خير ‪ ،‬قال ‪ :‬غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بَلَ ْنجَر (‪)2‬‬
‫فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد ال بن سلم يهودية بسبعمائة ‪ ،‬فلما مرّ‬
‫برأس الجالوت نزل به ‪ ،‬فقال له عبد ال ‪ :‬يا رأس الجالوت ‪ ،‬هل لك في عجوز هاهنا من أهل‬
‫دينك ‪ ،‬تشتريها مني ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬أخذتها بسبعمائة درهم‪ .‬قال ‪ :‬فإني أرْبحُك سبعمائة‬
‫أخرى‪ .‬قال ‪ :‬فإني قد حلفت أل أنقصها من أربعة آلف‪ .‬قال ‪ :‬ل حاجة لي فيها ‪ ،‬قال ‪ :‬وال‬
‫لتشترينها مني ‪ ،‬أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه‪ .‬قال ‪ :‬ادن مني ‪ ،‬فدنا منه ‪ ،‬فقرأ في أذنه التي‬
‫في التوراة ‪ :‬إنك ل تجد مملوكًا من بني إسرائيل إل اشتريته فأعتقته { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ ُأسَارَى‬
‫ج ُهمْ } قال ‪ :‬أنت عبد ال بن سلم ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فجاء‬
‫ُتفَادُوهُ ْم وَ ُهوَ مُحَرّمٌ عَلَ ْيكُمْ ِإخْرَا ُ‬
‫بأربعة آلف ‪ ،‬فأخذ عبد ال ألفين ‪ ،‬ورد عليه ألفين‪.‬‬
‫وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره ‪ :‬حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ‪ ،‬حدثنا الربيع بن أنس ‪،‬‬
‫أخبرنا أبو العالية ‪ :‬أن عبد ال بن سلم مر على رأس الجالوت بالكوفة ‪ ،‬وهو يفادي من النساء‬
‫من لم يقع عليها العرب ‪ ،‬ول يفادي من وقع عليها العرب ‪ ،‬فقال (‪ )3‬عبد ال بن سلم ‪ :‬أما إنه‬
‫مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن‪.‬‬
‫والذي أرشدت إليه الية الكريمة ‪ ،‬وهذا السياق ‪ ،‬ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون‬
‫صحتها ‪ ،‬ومخالفة شرعها ‪ ،‬مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ‪ ،‬فلهذا ل يؤتمنون على ما‬
‫فيها ول على نقلها ‪ ،‬ول يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول ال (‪ )4‬صلى ال عليه وسلم‬
‫ونعته ‪ ،‬ومبعثه ومخرجه ‪ ،‬ومهاجره ‪ ،‬وغير ذلك من شؤونه ‪ ،‬التي قد أخبرت بها النبياء قبله‪.‬‬
‫واليهود عليهم لعائن ال يتكاتمونه بينهم ‪ ،‬ولهذا قال تعالى { َفمَا جَزَاءُ مَنْ َي ْفعَلُ َذِلكَ مِ ْنكُمْ إِل‬
‫خِ ْزيٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } أي ‪ :‬بسبب مخالفتهم شرع ال وأمره { وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى َأشَدّ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ* أُولَ ِئكَ‬
‫ا ْلعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب ال الذي بأيديهم { َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمُ‬
‫الّذِينَ اشْتَ َروُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ } أي ‪ :‬استحبوها على الخرة واختاروها { فَل ُي َ‬
‫ا ْلعَذَابُ } أي ‪ :‬ل يفتر عنهم ساعة واحدة { وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬نستذل بحلفائنا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بكنجر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فقال له"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬صفة محمد"‪.‬‬

‫( ‪)1/320‬‬

‫سلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ‬


‫وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َوقَفّيْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ بِالرّ ُ‬
‫سكُمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ َففَرِيقًا كَذّبْ ُت ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ (‪)87‬‬
‫ا ْلقُدُسِ َأ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ ِبمَا لَا َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬

‫أي ‪ :‬وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ‪ ،‬ول يجيرهم منه‪.‬‬
‫ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ‬
‫ل وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ‬
‫سِ‬‫ب َو َقفّيْنَا مِنْ َب ْع ِدهِ بِالرّ ُ‬
‫{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَا َ‬
‫س ُكمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُ ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ (‪} )87‬‬
‫ا ْلقُدُسِ َأ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬
‫ينعت ‪ ،‬تبارك وتعالى ‪ ،‬بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ‪ ،‬والستكبار على النبياء ‪ ،‬وأنهم‬
‫إنما يتبعون أهواءهم ‪ ،‬فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب ‪ -‬وهو التوراة ‪ -‬فحرفوها وبدلوها ‪،‬‬
‫وخالفوا أوامرها وأولوها‪ .‬وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته ‪ ،‬كما قال‬
‫حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ َأسَْلمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ‬
‫تعالى ‪ { :‬إِنّا أَنزلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَ ْ‬
‫ش َهدَاءَ } الية [المائدة ‪ ، ]44 :‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫حفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّ ِه َوكَانُوا عَلَ ْيهِ ُ‬
‫وَالحْبَارُ ِبمَا اسْ ُت ْ‬
‫سلِ } قال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ :‬أتبعنا‪ .‬وقال غيره ‪ :‬أردفنا‪ .‬والكل قريب‬
‫{ َو َقفّيْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ بِالرّ ُ‬
‫‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬ثُمّ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [المؤمنون ‪ ]44 :‬حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى‬
‫ابن مريم ‪ ،‬فجاء بمخالفة التوراة في بعض الحكام ‪ ،‬ولهذا أعطاه ال من البينات ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫المعجزات‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬من إحياء الموتى ‪ ،‬وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون‬
‫طيرًا بإذن ال ‪ ،‬وإبرائه السقام ‪ ،‬وإخباره بالغيوب ‪ ،‬وتأييده بروح القدس ‪ ،‬وهو جبريل عليه‬
‫حسَدهم وعنادهم‬
‫السلم ‪ -‬ما يدلهم (‪ )1‬على صدقه فيما جاءهم به‪ .‬فاشتد تكذيب بني إسرائيل له و َ‬
‫حلّ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ‬
‫لمخالفة التوراة في البعض ‪ ،‬كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى ‪ { :‬وَل ِ‬
‫عَلَ ْيكُ ْم وَجِئْ ُت ُكمْ بِآيَةٍ مِنْ رَ ّب ُكمْ } الية [آل عمران ‪ .]50 :‬فكانت بنو إسرائيل تعامل النبياء عليهم‬
‫السلم (‪ )2‬أسوأ المعاملة ‪ ،‬ففريقًا يكذبونه‪ .‬وفريقًا يقتلونه ‪ ،‬وما ذاك إل لنهم كانوا يأتونهم‬
‫بالمور المخالفة لهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ‪ ،‬فلهذا‬
‫كان يشق ذلك عليهم ‪ ،‬فيكذبونهم ‪ ،‬وربما قتلوا بعضهم ؛ ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ‬
‫سكُمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ َففَرِيقًا كَذّبْ ُت ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ }‬
‫ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬
‫والدليل على أن روح القدس هو جبريل ‪ ،‬كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الية ‪ ،‬وتابعه‬
‫على ذلك [ابن عباس و] (‪ )3‬محمد بن كعب القرظي ‪ ،‬وإسماعيل بن أبي خالد ‪ ،‬والسدي ‪،‬‬
‫ح المِينُ* عَلَى قَلْ ِبكَ‬
‫والربيع بن أنس ‪ ،‬وعطية العوفي ‪ ،‬وقتادة مع قوله تعالى ‪ { :‬نزلَ ِبهِ الرّو ُ‬
‫لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ* [بِِلسَانٍ عَرَ ِبيّ مُبِينٍ] (‪[ } )4‬الشعراء ‪ ]195 - 193 :‬ما قال البخاري ‪:‬‬
‫وقال ابن أبي الزناد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد ‪ ،‬فكان ينافح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" (‪ .)5‬وهذا‬
‫من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يدلهم به"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عليهم الصلة والسلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن نبيه"‪.‬‬
‫( ‪)1/321‬‬

‫البخاري تعليق (‪.)1‬‬


‫وقد رواه أبو داود في سننه ‪ ،‬عن ُلوَين ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬عن علي بن حجر ‪ ،‬وإسماعيل بن موسى‬
‫الفزاري ‪ ،‬ثلثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ‪ ،‬عن أبيه وهشام بن عروة ‪ ،‬كلهما عن عروة‬
‫‪ ،‬عن عائشة به (‪ .)2‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح ‪ ،‬وهو حديث أبي الزناد (‪.)3‬‬
‫وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ :‬أن عمر مر بحسان ‪ ،‬وهو ينشد الشعر في المسجد (‪ )4‬فلحظ إليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬قد كنت أنشد‬
‫فيه ‪ ،‬وفيه من هو خير منك‪ .‬ثم التفت إلى أبي هريرة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنشدك ال أسمعت رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬أجب عني ‪ ،‬اللهم أيده بروح القدس" ؟‪ .‬فقال ‪ :‬الّلهُمّ نعم (‪.)5‬‬
‫وفي بعض الروايات ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لحسان ‪" :‬أهجهم ‪ -‬أو ‪ :‬هاجهم ‪-‬‬
‫وجبريل معك"‪.‬‬
‫[وفي شعر حسان قوله ‪:‬‬
‫وجبريل رسول ال ينادي‪ ...‬وروح القدس ليس به خفاء] (‪)6‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني عبد ال بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ‪ ،‬عن شهر بن‬
‫حوشب الشعري ‪ :‬أن نفرًا من اليهود سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا ‪ :‬أخبرنا عن‬
‫الروح‪ .‬فقال ‪" :‬أنشدكم بال وبأيامه (‪ )7‬عند بني إسرائيل ‪ ،‬هل تعلمون أنه جبريل ؟ وهو الذي‬
‫يأتيني ؟" قالوا ‪ :‬نعم (‪.)8‬‬
‫[وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن روح‬
‫القدس نفخ (‪ )9‬في روعي ‪ :‬إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا ال وأجملوا في‬
‫الطلب" (‪.)11( ] )10‬‬
‫أقوال أخر ‪:‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا منْجاب بن الحارث ‪ ،‬حدثنا بشر ‪ ،‬عن أبي روق ‪،‬‬
‫عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } قال ‪ :‬هو السم العظم الذي كان عيسى يُحيي‬
‫به‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وكذا عزاه المزي في تحفة الشراف (‪ )12/10‬للبخاري ‪ ،‬وقال الحافظ ابن حجر في "النكت‬
‫الظراف" ‪" :‬لم أر هذا الموضع في صحيح البخاري ‪ ،‬وقد وصله أحمد والطبراني وصححه‬
‫الحاكم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود برقم (‪ )5015‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2846‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وهو حديث ابن أبي الزناد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وهو في المسجد ينشد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )3212‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2485‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬وبآياته"‪.‬‬
‫(‪ )8‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )2/320‬من طريق سلمة عن ابن إسحاق به‪.‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬نفث"‪.‬‬
‫(‪ )10‬ورواه البغوي في شرح السنة (‪ )14/304‬من طريق أبي عبيد عن هشيم عن إسماعيل بن‬
‫أبي خالد عن زبيد اليامي ‪ ،‬عمن أخبره ‪ ،‬عن ابن مسعود به مرفوعًا‪.‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/322‬‬

‫الموتى‪ .‬وقال ابن جرير ‪ :‬حُدثت عن المنجاب‪ .‬فذكره‪ .‬قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن سعيد بن‬
‫جبير نحو ذلك‪[ .‬ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير ‪ -‬أيضا ‪ -‬قال ‪ :‬وهو السم العظم] (‪.)1‬‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ :‬الروح هو حفظة على الملئكة‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ :‬القدس هو الرب تبارك وتعالى‪ .‬وهو قول كعب‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬القدس ‪ :‬البركة‪ .‬وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬القدس ‪ :‬الطهر‪.‬‬
‫[وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قال القدس ‪ :‬هو ال تعالى ‪ ،‬وروحه ‪:‬‬
‫جبريل ‪ ،‬فعلى هذا يكون القول الول] (‪.)2‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أنبأنا ابن وهب قال ‪ :‬قال ابن زيد (‪ )3‬في قوله‬
‫تعالى ‪ { :‬وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } قال ‪ :‬أيد ال عيسى بالنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا ‪،‬‬
‫كلهما روح من ال ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } [الشورى ‪.]52 :‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬وأولى التأويلت في ذلك بالصواب قولُ من قال ‪ :‬الروح في هذا الموضع‬
‫جبريل ‪ ،‬لن ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬أخبر أنه أيد عيسى به ‪ ،‬كما أخبر في قوله ‪ِ { :‬إذْ قَالَ اللّهُ يَا‬
‫ك وَعَلى وَالِدَ ِتكَ ِإذْ أَيّدْ ُتكَ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ ُتكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َم ْهدِ‬
‫عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ا ْذكُرْ ِن ْعمَتِي عَلَ ْي َ‬
‫ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَاةَ وَالنْجِيلَ } الية [المائدة ‪ .]110 :‬فذكر أنه أيده به ‪،‬‬
‫عّلمْ ُتكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬
‫َو َكهْل وَإِذْ َ‬
‫فلو كان الروح الذي أيده به هو النجيل ‪ ،‬لكان قوله ‪ِ { :‬إذْ أَيّدْ ُتكَ بِرُوحِ ا ْلقُ ُدسِ } { وَإِذْ عَّلمْ ُتكَ‬
‫ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَا َة وَالنْجِيلَ } تكرير قول ل معنى له ‪ ،‬وال أعز أن يخاطب عباده بما ل‬
‫ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ‬
‫يفيدهم به‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ؛ ول الحمد (‪.)4‬‬
‫وقال الزمخشري { بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } بالروح المقدسة ‪ ،‬كما يقول ‪ :‬حاتم الجود ورجل صدق‬
‫ووصفها بالقدس كما قال ‪ { :‬وَرُوحٌ مِ ْن ُه } فوصفه بالختصاص والتقريب تكرمة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬لنه لم‬
‫تضمه الصلب والرحام الطوامث ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بجبريل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بالنجيل ‪ ،‬كما قال في القرآن ‪{ :‬‬
‫رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } [الشورى ‪ ]52 :‬وقيل باسم ال العظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ‪ ،‬وتضمن‬
‫كلمه قول آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة‪.‬‬
‫وقال الزمخشري في قوله ‪َ { :‬ففَرِيقًا كَذّبْتُ ْم َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ } إنما لم يقل ‪ :‬وفريقًا قتلتم ؛ لنه أراد‬
‫بذلك وصفهم في المستقبل ‪ -‬أيضًا ‪ -‬لنهم حاولوا قتل النبي صلى ال عليه وسلم بالسم والسحر ‪،‬‬
‫وقد قال ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬في مرض موته ‪" :‬ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري"‬
‫‪ ،‬وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره (‪.)5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬قال ابن أبي زيد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ول الحمد والمنة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )2617‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2190‬‬

‫( ‪)1/323‬‬

‫َوقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ َلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيلًا مَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)88‬‬

‫{ َوقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ َلعَ َن ُهمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيل مَا ُي ْؤمِنُونَ (‪} )88‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } أي ‪ :‬في أكنة‪.‬‬
‫غ ْلفٌ } أي ‪ :‬ل تفقه‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا ُ‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } [قال] (‪ )1‬هي القلوب المطبوع عليها‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } عليها غشاوة‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪ :‬عليها طابع‪ .‬وقال أبو العالية ‪ :‬أي ل تفقه‪ .‬وقال السدي ‪ :‬يقولون ‪ :‬عليها غلف ‪،‬‬
‫وهو الغطاء‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } هو كقوله ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي‬
‫َأكِنّةٍ ِممّا تَدْعُونَا إِلَ ْيهِ } [فصلت ‪.]5 :‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬غُ ْلفٌ } قال ‪ :‬يقول ‪ :‬قلبي في غلف فل‬
‫يَخْلُص إليه ما تقول ‪ ،‬قرأ (‪َ { )2‬وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }‬
‫وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ‪ ،‬واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي ‪ ،‬عن أبي‬
‫البختري ‪ ،‬عن حذيفة ‪ ،‬قال ‪ :‬القلوب أربعة‪ .‬فذكر منها ‪ :‬وقلب أغلف َم ْغضُوب عليه ‪ ،‬وذاك قلب‬
‫الكافر‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي ‪ ،‬أنبأنا أبي ‪ ،‬عن جدي ‪ ،‬عن قتادة ‪،‬‬
‫عن الحسن في قوله ‪ { :‬قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } قال ‪ :‬لم تختن‪.‬‬
‫هذا (‪ )3‬القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ‪ ،‬وأنها بعيدة من الخير‪.‬‬
‫قول آخر ‪:‬‬
‫قال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } قال قالوا ‪ :‬قلوبنا مملوءة علمًا ل‬
‫تحتاج إلى علم محمد ‪ ،‬ول غيره‪.‬‬
‫وقال عطية العوفي ‪َ { :‬وقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ } أي ‪ :‬أوعية للعلم‪.‬‬
‫وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض النصار (‪ )4‬فيما حكاه ابن جرير ‪" :‬وقالوا قلوبنا غُلُف"‬
‫بضم اللم ‪ ،‬أي ‪ :‬جمع غلف ‪ ،‬أي ‪ :‬أوعية ‪ ،‬بمعنى أنهم ادعوا (‪ )5‬أن قلوبهم مملوءة بعلم ل‬
‫يحتاجون معه إلى علم آخر‪ .‬كما كانوا َيمُنّون (‪ )6‬بعلم التوراة‪ .‬ولهذا قال تعالى ‪ { :‬بَل ّلعَ َن ُهمُ اللّهُ‬
‫ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيل مّا ُي ْؤمِنُونَ } ‪ ،‬أي ‪ :‬ليس المر كما ادعوا بل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وقرأ"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وهذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بعض المصار"‪.‬‬
‫(‪ )5‬ف جـ ‪" :‬أنهم زعموا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬كما كانوا يكتمون"‪.‬‬

‫( ‪)1/324‬‬

‫قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ‪ ،‬كما قال في سورة النساء ‪َ { :‬وقَوِْلهِمْ قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ طَ َبعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا‬
‫ِب ُكفْرِهِمْ فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيل } [النساء ‪ .]155 :‬وقد اختلفوا في معنى قوله ‪َ { :‬فقَلِيل مّا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫وقوله ‪ { :‬فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيل } ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬فقليل من يؤمن منهم [واختاره فخر الدين‬
‫الرازي وحكاه عن قتادة والصم وأبي مسلم الصبهاني] وقيل ‪ :‬فقليل إيمانهم‪ .‬بمعنى أنهم‬
‫يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ‪ ،‬ولكنه إيمان ل ينفعهم ‪ ،‬لنه‬
‫مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ‪ ،‬وإنما قال ‪َ { :‬فقَلِيل مَا ُي ْؤمِنُونَ } وهم بالجميع‬
‫كافرون ‪ ،‬كما تقول العرب ‪ :‬قلما رأيت مثل هذا قط‪ .‬تريد ‪ :‬ما رأيت مثل هذا قط‪[ .‬وقال‬
‫الكسائي ‪ :‬تقول العرب ‪ :‬من زنى بأرض قلما تنبت ‪ ،‬أي ‪ :‬ل تنبت شيئًا]‪.)1( .‬‬
‫حكاه (‪ )2‬ابن جرير ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬حكاها"‪.‬‬

‫( ‪)1/325‬‬

‫وََلمّا جَا َءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا‬
‫جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ (‪)89‬‬

‫{ وََلمّا جَاءَ ُهمْ كِتَابٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا‬
‫جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ (‪} )89‬‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬وََلمّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ } وهو ‪ :‬القرآن الذي أنزل على‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم { ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ } يعني ‪ :‬من التوراة ‪ ،‬وقوله ‪َ { :‬وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ‬
‫يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } أي ‪ :‬وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون‬
‫بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ‪ ،‬يقولون ‪ :‬إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم‬
‫عمَر عن قتادة النصاري ‪ ،‬عن‬
‫معه قتل عاد وإرم ‪ ،‬كما قال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن عاصم بن ُ‬
‫أشياخ منهم قال ‪ :‬قالوا ‪ :‬فينا وال وفيهم ‪ -‬يعني في النصار ‪ -‬وفي اليهود الذين كانوا‬
‫جيرانهم ‪ ،‬نزلت هذه القصة يعني ‪ { :‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُوا مِنْ‬
‫قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا جَا َءهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ } قالوا (‪ )1‬كنا قد علوناهم دهرًا‬
‫في الجاهلية ‪ ،‬ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب ‪ ،‬فكانوا يقولون ‪ :‬إن نبيًا من [النبياء] (‪ )2‬يبعث‬
‫الن نتبعه ‪ ،‬قد أظل زمانه ‪ ،‬نقتلكم معه قتل عاد وإرم‪ .‬فلما بعث ال رسوله من قريش [واتبعناه]‬
‫(‪ )3‬كفروا به‪ .‬يقول ال تعالى ‪ { :‬فََلمّا جَاءَ ُهمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫[النساء ‪.]155 :‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } قال‬
‫‪ :‬يستظهرون يقولون ‪ :‬نحن نعين محمدًا عليهم ‪ ،‬وليسوا كذلك ‪ ،‬يكذبون‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/325‬‬

‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬أخبرني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس ‪ :‬أن يَهود (‪ )1‬كانوا يستفتحون على الوس والخزرج برسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قبل مبعثه‪ .‬فلما بعثه ال من العرب كفروا به ‪ ،‬وجحدوا ما كانوا يقولون فيه‪ .‬فقال لهم معاذ بن‬
‫جبل ‪ ،‬وبشر بن البراء بن َمعْرُور ‪ ،‬أخو بني سلمة (‪ )2‬يا معشر يهود ‪ ،‬اتقوا ال وأسلموا ‪ ،‬فقد‬
‫كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى ال عليه وسلم ونحن أهل شرك ‪ ،‬وتخبروننا بأنه مبعوث ‪،‬‬
‫وتصفُونه لنا بصفته‪ .‬فقال سَلم بن مِشْكم أخو بني النضير ‪ :‬ما جاءنا بشيء نعرفه ‪ ،‬وما هو‬
‫بالذي كنا نذكر لكم فأنزل ال في ذلك من قولهم ‪ { :‬وََلمّا جَا َءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا‬
‫َم َعهُ ْم َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى‬
‫ا ْلكَافِرِينَ } (‪)3‬‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } يقول ‪:‬‬
‫يستنصرون بخروج محمد صلى ال عليه وسلم على مشركي العرب ‪ -‬يعني بذلك أهل الكتاب ‪-‬‬
‫فلما بعث محمد صلى ال عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى ال عليه وسلم على مشركي العرب ‪،‬‬
‫يقولون ‪ :‬اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم‪ .‬فلما بعث‬
‫ال محمدًا صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ورأوا أنه (‪ )4‬من غيرهم ‪ ،‬كفروا به حسدًا للعرب ‪ ،‬وهم‬
‫يعلمون أنه رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ال ‪ { :‬فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ‬
‫عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫وقال قتادة ‪َ { :‬وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا } قال ‪ :‬كانوا يقولون ‪ :‬إنه سيأتي نبي‪.‬‬
‫{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ }‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } قال ‪ :‬هم اليهود‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يعقوب ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬عن ابن إسحاق ‪ ،‬حدثني صالح بن إبراهيم بن‬
‫عبد الرحمن بن عوف ‪ ،‬عن محمود بن لبيد ‪ ،‬أخي بني عبد الشهل عن سلمة بن سلمة بن‬
‫وقش ‪ ،‬وكان من أهل بدر قال ‪ :‬كان لنا جار يهودي في بني عبد الشهل قال ‪ :‬فخرج علينا يومًا‬
‫من بيته قبل مبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بيسير ‪ ،‬حتى وقف على مجلس بني عبد‬
‫الشهل‪ .‬قال سلمة ‪ :‬وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي‪ .‬فذكر‬
‫البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار‪ .‬قال ذلك لهل شرك أصحاب أوثان ل يرون‬
‫بعثًا كائنًا بعد الموت ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬ويحك يا فلن ‪ ،‬ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى‬
‫دار فيها جنة ونار ‪ ،‬يجزون فيها بأعمالهم ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬والذي يحلف به ‪ ،‬لود أن له بحظه من‬
‫تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ‪ ،‬وأن ينجو من تلك النار‬
‫غدًا‪ .‬قالوا له ‪ :‬ويحك وما آية ذلك ؟ قال ‪ :‬نبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أن يهودًا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وداود بن سلمة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر ‪ :‬السيرة النبوية لبن هشام (‪ )1/547‬وتفسير الطبري (‪.)2/233‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ورأوه"‪.‬‬

‫( ‪)1/326‬‬

‫علَى مَنْ َيشَاءُ مِنْ‬


‫سهُمْ أَنْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنَ ّزلَ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ َ‬
‫سمَا اشْتَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ‬
‫بِئْ َ‬
‫ضبٍ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ (‪)90‬‬
‫غ َ‬
‫ضبٍ عَلَى َ‬
‫عِبَا ِدهِ فَبَاءُوا ِب َغ َ‬

‫يبعث من نحو هذه البلد ‪ ،‬وأشار بيده نحو مكة واليمن‪ .‬قالوا ‪ :‬ومتى نراه ؟ قال ‪ :‬فنظر إليّ وأنا‬
‫من أحدثهم سنّا ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن يستنفذ هذا الغلم عمره يدركه‪ .‬قال سلمة ‪ :‬فوال ما ذهب الليل‬
‫والنهار حتى بعث ال رسوله صلى ال عليه وسلم وهو بين أظهرنا ‪ ،‬فآمنا به وكفر به بغيًا‬
‫وحسدًا‪.‬‬
‫فقلنا ‪ :‬ويلك يا فلن ‪ ،‬ألست بالذي قلت لنا ؟ قال ‪ :‬بلى وليس به‪ .‬تفرد به أحمد (‪.)1‬‬
‫وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ :‬أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان‬
‫الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان ‪ ،‬فدعا اليهود عند ذلك ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬اللهم إنا نسألك بحق النبي‬
‫المي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان ‪ ،‬إل نصرتنا عليهم‪ .‬قال ‪ :‬فنصروا عليهم‪ .‬قال ‪:‬‬
‫وكذلك كانوا يصنعون يدعون ال فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم‪ .‬قال ال تعالى ‪ { :‬فََلمّا‬
‫جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا } أي من الحق وصفة محمد صلى ال عليه وسلم " َكفَرُوا به" فلعنة ال على‬
‫الكافرين‪.‬‬
‫سهُمْ أَنْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ‬
‫سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫{ بِ ْئ َ‬
‫ضبٍ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ (‪} )90‬‬
‫غ َ‬
‫ضبٍ عَلَى َ‬
‫عِبَا ِدهِ فَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫حمّد‬
‫سهُمْ } يهودُ شَ َروُا الحقّ بالباطل ‪ ،‬وكتمانَ مَا جاءَ به مُ َ‬
‫سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫قال مجاهد ‪ { :‬بِ ْئ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم بأن يبينوه‪.‬‬
‫سهُمْ } يقول ‪ :‬باعوا به أنفسهم ‪ ،‬يعني ‪ :‬بئسما اعتاضوا‬
‫سمَا اشْتَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ‬
‫وقال السدي ‪ { :‬بِئْ َ‬
‫لنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل ال على محمد صلى ال عليه وسلم إلى‬
‫تصديقه ومؤازرته ونصرته] (‪.)2‬‬
‫وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ‬
‫} ول حسد أعظم من هذا‪.‬‬
‫سهُمْ أَنْ‬
‫سمَا اشْتَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ‬
‫قال ابن إسحاق عن محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬بِئْ َ‬
‫َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ َبغْيًا أَنْ يُنزلَ اللّهُ مِنْ َفضِْلهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } أي ‪ :‬إن ال جعله من‬
‫غضَبٍ } قال ابن عباس ‪ :‬فالغضب على الغضب ‪ ،‬فغضبه عليهم‬
‫ضبٍ عَلَى َ‬
‫غيرهم { فَبَاءُوا ِب َغ َ‬
‫فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ‪ ،‬وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث ال إليهم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا ‪ ،‬واستحقوا ‪ ،‬واستقروا بغضب على غضب‪ .‬وقال أبو العالية ‪:‬‬
‫غضب ال عليهم بكفرهم بالنجيل وعيسى ‪ ،‬ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد ‪ ،‬وبالقرآن (‪)3‬‬
‫عليهما السلم ‪[ ،‬وعن عكرمة وقتادة مثله] (‪.)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)3/467‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بكفرهم بمحمد والقرآن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/327‬‬

‫حقّ ُمصَ ّدقًا‬


‫وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َآمِنُوا ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا ُن ْؤمِنُ ِبمَا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا وَ َيكْفُرُونَ ِبمَا وَرَا َء ُه وَ ُهوَ الْ َ‬
‫ِلمَا َم َعهُمْ ُقلْ فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪ )91‬وََلقَدْ جَا َء ُكمْ مُوسَى بِالْبَيّنَاتِ ُثمّ‬
‫جلَ مِنْ َبعْ ِد ِه وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ (‪)92‬‬
‫خذْتُمُ ا ْل ِع ْ‬
‫اتّ َ‬

‫قال السدي ‪ :‬أما الغضب الول فهو حين غضب عليهم في ال ِعجْل ‪ ،‬وأما الغضب الثاني فغضب‬
‫عليهم حين كفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله] (‪.)1‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ‪ ،‬ومنشأ ذلك التكبر ‪،‬‬
‫قوبلوا بالهانة والصغار في الدنيا والخرة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي‬
‫جهَنّمَ دَاخِرِينَ } [غافر ‪[ ، ]60 :‬أي ‪ :‬صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] (‪.)2‬‬
‫سَيَ ْدخُلُونَ َ‬
‫وقد قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يحيى ‪ ،‬حدثنا ابن عَجْلن ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫جده ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور‬
‫الناس ‪ ،‬يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم ‪ ،‬يقال له ‪ :‬بُولَس فيعلوهم نار‬
‫النيار يسقون (‪ )3‬من طينة الخبال ‪ :‬عصارة أهل النار" (‪.)4‬‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ آمِنُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ قَالُوا ُن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَ َيكْفُرُونَ ِبمَا وَرَا َءهُ وَ ُهوَ ا ْلحَقّ‬
‫ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعهُمْ ُقلْ فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪ )91‬وََلقَدْ جَا َء ُكمْ مُوسَى‬
‫جلَ مِنْ َبعْ ِد ِه وَأَنْ ُتمْ ظَاِلمُونَ (‪} )92‬‬
‫بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ } أي ‪ :‬لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب { آمِنُوا ِبمَا أَنزلَ اللّهُ } [أي] (‬
‫‪ : )5‬على محمد صلى ال عليه وسلم وصدقوه واتبعوه { قَالُوا ُن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } أي ‪ :‬يكفينا‬
‫اليمان بما أنزل علينا من التوراة والنجيل ول نقر إل بذلك ‪ { ،‬وَ َي ْكفُرُونَ ِبمَا وَرَا َءهُ } يعنى ‪:‬‬
‫حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا َم َعهُمْ } أي ‪ :‬وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى ال عليه‬
‫بما بعده { وَ ُهوَ الْ َ‬
‫وسلم الحق (‪ُ { )6‬مصَ ّدقًا } (‪ )7‬منصوب على الحال ‪ ،‬أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة‬
‫والنجيل ‪ ،‬فالحجة قائمة عليهم بذلك ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا‬
‫َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة ‪ ]146 :‬ثم قال تعالى ‪ُ [ { :‬قلْ] (‪ )8‬فَِلمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ } أي ‪ :‬إن كنتم صادقين في دعواكم اليمان بما أنزل إليكم ‪ ،‬فلم قتلتم النبياء الذين‬
‫جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها ‪ ،‬وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم‬
‫بغيًا [وحسدًا] (‪ )9‬وعنادًا واستكبارًا على رسل ال ‪ ،‬فلستم تتبعون إل مجرد الهواء ‪ ،‬والراء‬
‫س ُكمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ‬
‫والتشهي (‪ )10‬كما قال تعالى { َأ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُولٌ ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬
‫َوفَرِيقًا َتقْتُلُونَ } [البقرة ‪.]87 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ويسقون"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)2/179‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في و ‪" :‬هو الحق"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬مصدقا لما معهم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬والشهوة"‪.‬‬

‫( ‪)1/328‬‬
‫عصَيْنَا‬
‫س ِمعْنَا وَ َ‬
‫س َمعُوا قَالُوا َ‬
‫وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ وَا ْ‬
‫سمَا يَ ْأمُ ُركُمْ ِبهِ إِيمَا ُنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)93‬‬
‫جلَ ِب ُكفْرِهِمْ ُقلْ بِئْ َ‬
‫وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ‬

‫وقال السدي ‪ :‬في هذه الية يعيرهم ال تعالى ‪ُ { :‬قلْ فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫وقال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬قل يا محمد ليهود بني إسرائيل ‪[ -‬الذين] (‪ )1‬إذا قلت لهم ‪ :‬آمنوا بما‬
‫أنزل ال قالوا ‪ُ { :‬ن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } ‪ : -‬لم تقتلون (‪ - )2‬إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين‬
‫بما أنزل ال عليكم ‪ -‬أنبياءه وقد حرم ال في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ‪ ،‬بل أمركم فيه‬
‫باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم ‪ ،‬وذلك من ال تكذيب لهم في قولهم ‪ُ { :‬ن ْؤمِنُ ِبمَا أُنزلَ عَلَيْنَا }‬
‫وتعيير لهم‪.‬‬
‫{ وََلقَدْ جَا َءكُمْ مُوسَى بِالْبَيّنَاتِ } أي ‪ :‬باليات الواضحات (‪ )3‬والدلئل القاطعة (‪ )4‬على أنه‬
‫رسول ال ‪ ،‬وأنه ل إله إل ال‪ .‬والبينات هي ‪ :‬الطوفان ‪ ،‬والجراد ‪ ،‬والقمل ‪ ،‬والضفادع ‪،‬‬
‫والدم ‪ ،‬والعصا ‪ ،‬واليد ‪ ،‬وفَلْق البحر ‪ ،‬وتظليلهم بالغمام ‪ ،‬والمن والسلوى ‪ ،‬والحجر ‪ ،‬وغير ذلك‬
‫جلَ } أي ‪ :‬معبودًا من دون ال في زمان موسى وآياته‪.‬‬
‫من اليات التي شاهدوها { ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬
‫وقوله { مِنْ َبعْ ِدهِ } أي ‪ :‬من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة ال كما قال تعالى ‪ { :‬وَاتّخَذَ‬
‫خوَارٌ } [العراف ‪ { ، ]148 :‬وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ } [أي‬
‫سدًا لَهُ ُ‬
‫َقوْمُ مُوسَى مِنْ َب ْع ِدهِ مِنْ حُلِ ّي ِهمْ عِجْل جَ َ‬
‫وأنتم ظالمون] (‪ )5‬في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل ‪ ،‬وأنتم تعلمون أنه ل إله‬
‫حمْنَا رَبّنَا‬
‫سقِطَ فِي أَيْدِيهِ ْم وَرََأوْا أَ ّنهُمْ قَ ْد ضَلّوا قَالُوا لَئِنْ َلمْ يَرْ َ‬
‫إل ال ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وََلمّا ُ‬
‫وَ َيغْفِرْ لَنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } [العراف ‪.]149 :‬‬
‫عصَيْنَا‬
‫س ِمعْنَا وَ َ‬
‫س َمعُوا قَالُوا َ‬
‫خذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ ِبقُ ّو ٍة وَا ْ‬
‫خذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْوقَكُمُ الطّورَ ُ‬
‫{ وَإِذْ أَ َ‬
‫سمَا يَ ْأمُ ُركُمْ ِبهِ إِيمَا ُنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪} )93‬‬
‫جلَ ِب ُكفْرِهِمْ ُقلْ بِئْ َ‬
‫وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ‬
‫يعدد ‪ ،‬تبارك وتعالى ‪ ،‬عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ‪ ،‬حتى رفع‬
‫عصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك‪.‬‬
‫س ِمعْنَا وَ َ‬
‫الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال ‪ { :‬قَالُوا َ‬
‫جلَ ِب ُكفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ { :‬وَأُشْرِبُوا فِي‬
‫{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل ِع ْ‬
‫جلَ [ ِب ُكفْرِهِمْ] (‪ } )6‬قال ‪ :‬أشربوا [في قلوبهم] (‪ )7‬حبه ‪ ،‬حتى خلص ذلك إلى قلوبهم‪.‬‬
‫قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ‬
‫وكذا قال أبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عصام بن خالد ‪ ،‬حدثني أبو بكر بن عبد ال بن أبي مريم الغساني ‪،‬‬
‫عن خالد بن محمد الثقفي ‪ ،‬عن بلل بن أبي الدرداء ‪ ،‬عن أبي الدرداء ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال ‪" :‬حُبّك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬تقتلون أنبياء ال من قبل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الواضحة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬القاطعات"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/329‬‬

‫الشيء ُي ْعمِي ويُصم"‪.‬‬


‫ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن َبقِيّة ‪ ،‬عن أبي بكر بن عبد ال بن أبي مريم به (‪ )1‬وقال‬
‫السدي ‪ :‬أخذ موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ‪ ،‬ثم ذراه في البحر ‪ ،‬فلم يبق‬
‫بحر يجري يومئذ إل وقع فيه شيء منه ‪ ،‬ثم قال لهم موسى ‪ :‬اشربوا منه‪ .‬فشربوا ‪ ،‬فمن كان‬
‫جلَ }‬
‫يحبه خرج على شاربيه الذهب‪ .‬فذلك حين يقول ال تعالى ‪ { :‬وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن رجاء ‪ ،‬حدثنا إسرائيل (‪ )2‬عن أبي إسحاق ‪،‬‬
‫عن عمارة بن عبد (‪ )3‬وأبي عبد الرحمن السلمي ‪ ،‬عن علي بن أبي طالب ‪ ،‬قال ‪ :‬عمد موسى‬
‫إلى العجل ‪ ،‬فوضع عليه المبارد ‪ ،‬فبرده بها ‪ ،‬وهو على شاطئ نهر ‪ ،‬فما شرب أحد من ذلك‬
‫الماء ممن كان يعبد العجل إل اصفر وجهه مثل الذهب (‪.)4‬‬
‫جلَ } قال ‪ :‬لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف ‪،‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ { :‬وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل ِع ْ‬
‫فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران‪.‬‬
‫وحكى القرطبي عن كتاب القشيري ‪ :‬أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إل جنّ [ثم قال‬
‫القرطبي] (‪ )5‬وهذا شيء غير ما هاهنا ؛ لن المقصود من هذا السياق ‪ ،‬أنه ظهر النقير على‬
‫شفاههم ووجوههم ‪ ،‬والمذكور هاهنا ‪ :‬أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ‪ ،‬يعني ‪ :‬في حال‬
‫عبادتهم له ‪ ،‬ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة ‪:‬‬
‫تغلغل حب عثمة في فؤادي‪ ...‬فباديه مع الخافي يسير‪...‬‬
‫تغلغل حيث لم يبلغ شراب‪ ...‬ول حزن ولم يبلغ سرور‪...‬‬
‫أكاد إذا ذكرت العهد منها‪ ...‬أطير لو أن إنسانا يطير‪...‬‬
‫سمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِهِ إِيمَا ُنكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } أي ‪ :‬بئسما تعتمدونه في قديم الدهر‬
‫وقوله ‪ُ { :‬قلْ بِئْ َ‬
‫وحديثه ‪ ،‬من كفركم بآيات ال ومخالفتكم النبياء ‪ ،‬ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ -‬وهذا أكبر ذنوبكم ‪ ،‬وأشد المور عليكم ‪ -‬إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد النبياء والمرسلين‬
‫المبعوث إلى الناس أجمعين ‪ ،‬فكيف تدّعون لنفسكم اليمان وقد فعلتم هذه الفاعيل القبيحة ‪ ،‬من‬
‫نقضكم المواثيق ‪ ،‬وكفركم بآيات ال ‪ ،‬وعبادتكم العجل ؟!‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )5/194‬وسنن أبي داود برقم (‪.)5130‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬حدثنا إسماعيل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في هـ ‪" :‬عبد ال" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/282‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/330‬‬

‫ُقلْ إِنْ كَا َنتْ َل ُكمُ الدّارُ الْآَخِ َرةُ عِ ْندَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‬
‫‪ )94‬وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ (‪ )95‬وَلَتَجِدَ ّن ُهمْ أَحْ َرصَ النّاسِ عَلَى‬
‫حَيَا ٍة َومِنَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َيوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَنَ ٍة َومَا ُهوَ ِبمُ َزحْزِحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ‬
‫وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ (‪)96‬‬

‫صةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‬
‫{ ُقلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ عِنْدَ اللّهِ خَاِل َ‬
‫‪ )94‬وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ (‪ )95‬وَلَتَجِدَ ّن ُهمْ أَحْ َرصَ النّاسِ عَلَى‬
‫حَيَا ٍة َومِنَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َيوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَنَ ٍة َومَا ُهوَ ِبمُ َزحْزِحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ‬
‫وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ (‪} )96‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ :‬يقول ال لنبيه صلى ال عليه وسلم ‪ُ { :‬قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّا ُر الخِ َرةُ عِنْدَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ‬
‫دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } أي ‪ :‬ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب‪ .‬فأبوا‬
‫ذلك على رسول ال صلى ال عليه وسلم { وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ‬
‫بِالظّاِلمِينَ } أي ‪ِ :‬بعِ ْل ِمهِم بما عندهم من العلم بك ‪ ،‬والكفر بذلك ‪ ،‬ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما‬
‫بقي على الرض يهودي إل مات‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ } فسلوا الموت‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن عبد الكريم الجزري ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬قوله ‪ { :‬فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َموْتَ‬
‫إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } قال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬لو تمنى اليهود الموت لماتوا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا علي بن محمد الطّنَافِسِي ‪ ،‬حدثنا عثام ‪ ،‬سمعت العمش‬
‫‪ -‬قال ‪ :‬ل أظنه إل عن المِنْهال ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ -‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬لو تمنوا الموت‬
‫لشرق أحدهم بريقه‪.‬‬
‫وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس‪.‬‬
‫وقال ابن جرير في تفسيره ‪ :‬وبلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لو أن اليهود تمنوا‬
‫الموت لماتوا‪ .‬ولرأوا مقاعدهم من النار‪ .‬ولو خرج الذين يُباهلون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫لرجعوا ل يجدون (‪ )1‬أهل ول مال"‪ .‬حدثنا بذلك أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا زكريا بن عدي ‪ ،‬حدثنا عبيد‬
‫ال (‪ )2‬بن عمرو ‪ ،‬عن عبد الكريم ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫ورواه المام أحمد عن إسماعيل بن يزيد (‪ )3‬الرقي [أبي يزيد] (‪ )4‬حدثنا فرات ‪ ،‬عن عبد الكريم‬
‫‪ ،‬به (‪.)5‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن أحمد [قال] (‪ : )6‬حدثنا إبراهيم بن عبد ال بن بشار ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ول يجدون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عن إسماعيل عن زيد" ‪ ،‬وفي أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن إسماعيل بن يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪ )2/362‬والمسند (‪.)1/248‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/331‬‬

‫حدثنا سرور بن المغيرة ‪ ،‬عن عباد بن منصور ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬قول ال ما كانوا ليتمنوه‬
‫بما قدمت أيديهم‪ .‬قلت ‪ :‬أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم ‪ :‬تمنوا ‪ ،‬أتراهم كانوا ميتين ؟‬
‫قال ‪ :‬ل وال ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت ‪ ،‬وما كانوا ليتمنوه ‪ ،‬وقد قال ال ما سمعت ‪:‬‬
‫{ وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ }‬
‫وهذا غريب عن الحسن‪ .‬ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الية هو المتعين ‪ ،‬وهو الدعاء على أي‬
‫الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ‪ ،‬ونقله (‪ )1‬ابن جرير عن قتادة ‪ ،‬وأبي‬
‫العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫عمْتُمْ أَ ّنكُمْ َأوْلِيَاءُ لِلّهِ‬
‫ونظير هذه الية قوله تعالى في سورة الجمعة ‪ُ { :‬قلْ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ هَادُوا إِنْ زَ َ‬
‫مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ* وَل يَ َتمَ ّنوْنَهُ أَبَدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ‬
‫شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئ ُكمْ‬
‫ب وَال ّ‬
‫بِالظّاِلمِينَ* ُقلْ إِنّ ا ْل َموْتَ الّذِي َتفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ مُلقِيكُمْ ثُمّ تُ َردّونَ إِلَى عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } [الجمعة ‪ ]8 - 6 :‬فهم ‪ -‬عليهم لعائن ال ‪ -‬لما زعموا أنهم أبناء ال‬
‫وأحباؤه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لن يدخل الجنة إل من كان هودًا أو نصارى ‪ ،‬دعوا إلى المباهلة والدعاء على‬
‫أكذب الطائفتين منهم ‪ ،‬أو من المسلمين‪ .‬فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد (‪ )2‬أنهم ظالمون ؛ لنهم‬
‫لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك ‪ ،‬فلما تأخروا علم كذبهم‪ .‬وهذا (‪ )3‬كما دعا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة ‪،‬‬
‫جكَ فِيهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ َف ُقلْ‬
‫وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ { :‬فمَنْ حَا ّ‬
‫ج َعلْ َلعْنَةَ اللّهِ عَلَى‬
‫سكُمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَنَ ْ‬
‫َتعَاَلوْا نَ ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَا َء ُك ْم وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وَأَ ْنفُ َ‬
‫يل‬
‫ا ْلكَاذِبِينَ } [آل عمران ‪ ]61 :‬فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض ‪ :‬وال لئن باهلتم هذا النب ّ‬
‫يبقى منكم عين تطرف‪ .‬فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ‪ ،‬فضربها‬
‫عليهم‪ .‬وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أمينًا‪ .‬ومثل هذا المعنى أو قريب منه‬
‫قوله تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم أن يقول للمشركين ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ فِي الضّللَةِ فَلْ َيمْ ُددْ لَهُ‬
‫حمَنُ َمدّا } [مريم ‪ ، ]75 :‬أي ‪ :‬من كان في الضللة منا أو منكم ‪ ،‬فزاده ال مما هو فيه ومَدّ‬
‫الرّ ْ‬
‫له ‪ ،‬واستدرجه ‪ ،‬كما سيأتي تقريره في موضعه ‪ ،‬إن شاء ال (‪.)4‬‬
‫فأما من فسر الية على معنى ‪ُ { :‬قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ عِ ْندَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ‬
‫فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َموْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } أي ‪ :‬إن كنتم صادقين في دعواكم ‪ ،‬فتمنوا الن الموت‪ .‬ولم‬
‫يتعرض هؤلء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ‪ ،‬ومال إليه ابن جرير بعد ما‬
‫قارب القول الول ؛ فإنه قال ‪ :‬القول في تفسير (‪ )5‬قوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ‬
‫عِنْدَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وهذه الية مما احتج ال به لنبيه‬
‫صلى ال عليه وسلم على اليهود الذين كانوا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ونقل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬واحد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وهكذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬إن شاء ال وبه الثقة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في تأويله"‪.‬‬

‫( ‪)1/332‬‬

‫بين ظهراني ُمهَاجَره ‪ ،‬وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ؛ وذلك أن ال تعالى أمر نبيه صلى ال‬
‫عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم ‪ ،‬فيما كان بينه وبينهم من الخلف ‪ ،‬كما أمره أن يدعو‬
‫الفريق الخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وجادلوه فيه ‪ ،‬إلى‬
‫فاصلة بينه وبينهم من المباهلة‪ .‬فقال لفريق [من] (‪ )1‬اليهود ‪ :‬إن كنتم محقين فتمنوا الموت ‪ ،‬فإن‬
‫ذلك غير ضار بكم (‪ )2‬إن كنتم محقين فيما تدعون من اليمان وقرب المنزلة من ال ‪ ،‬بل‬
‫أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ‪ ،‬فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر‬
‫عيشها ‪ ،‬والفوز بجوار ال في جناته (‪ )3‬إن كان المر كما تزعمون ‪ :‬من أن الدار الخرة لكم‬
‫خالصة دوننا‪ .‬وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ‪ ،‬وانكشف‬
‫أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الجابة إلى ذلك لعلمها (‪ )4‬أنها إن تمنت الموت هلكت ‪،‬‬
‫فذهبت دنياها وصارت إلى خزي البد في آخرتها ‪ ،‬كما امتنع فريق [من] (‪ )5‬النصارى‪.‬‬
‫فهذا الكلم منه أوله حسن ‪ ،‬وأما آخره فيه نظر ؛ وذلك أنه ل تظهر الحجة عليهم على هذا‬
‫التأويل ‪ ،‬إذ يقال ‪ :‬إنه ل يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنوا الموت‬
‫فإنه ل ملزمة بين وجود الصلح وتمني الموت ‪ ،‬وكم من صالح ل يتمنى الموت ‪ ،‬بل يود أن‬
‫يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪" :‬خيركم من طال عمره‬
‫وحسن عمله" (‪[ .)6‬وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت ‪ ،‬وفي بعض ألفاظه ‪" :‬ل يتمنين‬
‫أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد ‪ ،‬وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" (‪.)8( ] )7‬‬
‫ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا ‪ :‬فها أنتم تعتقدون ‪ -‬أيها المسلمون ‪ -‬أنكم أصحاب الجنة ‪،‬‬
‫وأنتم ل تتمنون في حال الصحة الموت ؛ فكيف تلزمونا بما ل نُلزمكم ؟‬
‫وهذا كله إنما نشأ من تفسير الية على هذا المعنى ‪ ،‬فأما على تفسير ابن عباس فل يلزم عليه‬
‫شيء من ذلك ‪ ،‬بل قيل لهم كلم َنصَف ‪ :‬إن كنتم تعتقدون أنكم (‪ )9‬أولياء ال من دون الناس ‪،‬‬
‫وأنكم أبناء ال وأحبّاؤه ‪ ،‬وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم [من] (‪ )10‬أهل النار ‪ ،‬فباهلوا على‬
‫ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ‪ ،‬واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب ل محالة‪.‬‬
‫فلما تيقّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق‬
‫من صفة الرسول صلى ال عليه وسلم ونعته ‪ ،‬وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه‪ .‬فعلم‬
‫كل أحد باطلهم ‪ ،‬وخزيهم ‪ ،‬وضللهم وعنادهم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬غير ضايركم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وجنانه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لعلمهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬جاء من حديث عبد ال بن يسر ‪ ،‬وأبي بكرة ‪ ،‬وأبي هريرة رضي ال عنهم ‪ ،‬فأما حديث‬
‫عبد ال بن بسر ‪ ،‬فرواه الترمذي في السنن برقم (‪ )2329‬وقال ‪" :‬هذا حديث حسن غريب من‬
‫هذا الوجه" وأما حديث أبي بكرة ‪ ،‬فرواه الترمذي في السنن برقم (‪ )2330‬وقال ‪" :‬هذا حديث‬
‫حسن صحيح" ‪ ،‬وأما حديث أبي هريرة ‪ ،‬فرواه أحمد في المسند (‪.)2/235‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )5671‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2680‬من حديث أنس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬أنهم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/333‬‬

‫‪ -‬عليهم لعائن ال المتتابعة (‪ )1‬إلى يوم القيامة‪.‬‬


‫[وسميت هذه المباهلة تمنيًا ؛ لن كل محق يود لو أهلك ال المبطل المناظر له ول سيما إذا كان‬
‫في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره ‪ ،‬وكانت المباهلة بالموت ؛ لن الحياة عندهم عزيزة‬
‫عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت] (‪.)2‬‬
‫جدَ ّنهُمْ َأحْ َرصَ‬
‫ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدًا ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ* وَلَتَ ِ‬
‫عمْر ‪ ،‬لما يعلمون من‬
‫النّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } ‪ :‬أي ‪[ :‬أحرص الخلق على حياة أي] (‪ : )3‬على طول ُ‬
‫مآلهم السيئ وعاقبتهم عند ال الخاسرة ؛ لن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ‪ ،‬فهم يودون لو‬
‫تأخروا عن مقام الخرة بكل ما أمكنهم‪ .‬وما يحذرون (‪ )4‬واقع بهم ل محالة ‪ ،‬حتى وهم أحرص‬
‫[الناس] (‪ )5‬من المشركين الذين ل كتاب لهم‪ .‬وهذا من باب عطف الخاص على العام‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن سنان ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن‬
‫العمش ‪ ،‬عن مسلم البطين ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬ومِنَ الّذِينَ َأشْ َركُوا } قال ‪:‬‬
‫العاجم‪.‬‬
‫ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري ‪ ،‬وقال ‪ :‬صحيح على شرطهما ‪ ،‬ولم يخرجاه‪ .‬قال‬
‫جدَ ّنهُمْ َأحْ َرصَ النّاسِ‬
‫‪ :‬وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي (‪ .)6‬وقال الحسن البصري ‪ { :‬وَلَتَ ِ‬
‫عَلَى حَيَاةٍ } قال ‪ :‬المنافق أحرص الناس على حياة ‪ ،‬وهو أحرص على الحياة من المشرك { َيوَدّ‬
‫حدُهُمْ } أي ‪ :‬أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق‪.‬‬
‫أَ َ‬
‫حدُهُمْ } يعني ‪ :‬المجوس ‪ ،‬وهو يرجع إلى الول‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪َ { :‬يوَدّ أَ َ‬
‫{ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } قال العمش ‪ ،‬عن مسلم البطين ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪:‬‬
‫حدُهُمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } قال ‪ :‬هو كقول الفارسي ‪" :‬زه هزارسال" يقول ‪ :‬عشرة آلف‬
‫{ َيوَدّ أَ َ‬
‫سنة‪ .‬وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضًا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ‪ :‬سمعت أبي يقول ‪ :‬حدثنا أبو‬
‫حمزة ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ { :‬يوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ‬
‫سَنَةٍ } قال ‪ :‬هو العاجم ‪" :‬هزارسال نوروزر مهرجان"‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪َ { :‬يوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَنَةٍ } قال ‪ :‬حببت إليهم الخطيئة طول العمر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬التابعة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬البالغة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬وما يجدون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )286 /1‬والمستدرك (‪.)263 /2‬‬

‫( ‪)1/334‬‬

‫ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى‬
‫ُقلْ مَنْ كَانَ َ‬
‫ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ (‪)98‬‬
‫ع ُدوّا لِلّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه وَرُسُِل ِه وَجِبْرِي َ‬
‫لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪ )97‬مَنْ كَانَ َ‬

‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد ‪ ،‬عن سعيد أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬ومَا ُهوَ‬
‫ِبمُزَحْ ِزحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ } أي ‪ :‬ما هو بمنجيه من العذاب‪ .‬وذلك أن المشرك ل يرجو بعثًا‬
‫بعد الموت ‪ ،‬فهو يحب طول الحياة (‪ )1‬وأن اليهودي قد عرف ما له في الخرة من الخزي بما‬
‫صنع (‪ )2‬بما عنده من العلم‪.‬‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬ومَا ُهوَ ِبمُزَحْ ِزحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ } قال ‪ :‬هم الذين عادوا‬
‫جبريل‪.‬‬
‫وقال أبو العالية وابن عمر (‪ )3‬فما ذاك بمغيثه (‪ )4‬من العذاب ول منجيه منه‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد (‪ )5‬بن أسلم [في هذه الية] (‪ )6‬يهود أحرص على [هذه] (‪ )7‬الحياة‬
‫من هؤلء ‪ ،‬وقد ود هؤلء أن (‪ )8‬يعمر أحدهم ألف سنة ‪ ،‬وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو‬
‫عمر ‪ ،‬كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا‪.‬‬
‫{ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ } أي ‪ :‬خبير بما يعمل عباده من خير وشر ‪ ،‬وسيجازي كل عامل‬
‫بعمله‪.‬‬
‫{ ُقلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزَلهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْ ِه وَ ُهدًى وَبُشْرَى‬
‫ع ُدوّا لِلّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ (‪} )98‬‬
‫لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪ )97‬مَنْ كَانَ َ‬
‫قال المام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه ال ‪ :‬أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا [على] (‪ )9‬أن‬
‫هذه الية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل ‪ ،‬إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ‪ ،‬وأن ميكائيل ولي‬
‫لهم ‪ ،‬ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك‪ .‬فقال بعضهم ‪ :‬إنما كان سبب قيلهم ذلك من‬
‫أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول ال صلى ال عليه وسلم في (‪ )10‬أمر نبوته‪ .‬ذكر من قال‬
‫ذلك‬
‫حوْشَب ‪ ،‬عن‬
‫شهْر بن َ‬
‫حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا يونس بن ُبكَيْر ‪ ،‬عن عبد الحميد بن بَهرام ‪ ،‬عن َ‬
‫ابن عباس أنه قال ‪ :‬حضرت عصابة من اليهود رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا أبا‬
‫القاسم ‪ ،‬حدثنا عن خلل نسألك عنهن ‪ ،‬ل يعلمهن إل نبي ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬سلوا عما شئتم ‪ ،‬ولكن اجعلوا لي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬طول العمر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب ‪" :‬بما ضيع"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وإن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ل ذاك بمغنيه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بز يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هؤلء لو"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬من"‪.‬‬

‫( ‪)1/335‬‬

‫ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه ‪ ،‬لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه لتتا ِبعُنّي على السلم"‪ .‬فقالوا ‪ :‬ذلك‬
‫لك‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬سلوني عما شئتم"‪ .‬فقالوا ‪ :‬أخبرنا عن أربع خلل‬
‫نسألك عنهن ‪ :‬أخبرنا أيّ الطعام حرم (‪ )1‬إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا‬
‫كيف ماء (‪ )2‬المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي المي‬
‫في النوم (‪ )3‬ووليه من الملئكة ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬عليكم عهد ال لئن أنا‬
‫أنبأتكم لتتابعنّي ؟" فأعطوه ما شاء ال من عهد وميثاق‪ .‬فقال ‪" :‬نشدتكم (‪ )4‬بالذي أنزل التوراة‬
‫على موسى ‪ ،‬هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه ‪ ،‬فنذر ل نذرًا‬
‫لئن عافاه ال من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ‪ ،‬وكان أحب الطعام إليه لحوم (‪)5‬‬
‫البل وأحب الشراب إليه ألبانها ؟"‪ .‬فقالوا ‪ :‬اللهم نعم‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"اللهم اشهد (‪ )6‬عليهم‪ .‬وأنشدكم بال الذي ل إله إل هو ‪ ،‬الذي أنزل التوراة على موسى ‪ ،‬هل‬
‫تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ‪ ،‬وأن ماء المرأة أصفر رقيق ‪ ،‬فأيهما عل كان له الولد‬
‫والشبه بإذن ال ‪ ،‬وإذا عل ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن ال ‪ ،‬وإذا عل ماء المرأة‬
‫ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن ال ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬اللهم نعم‪ .‬قال ‪" :‬اللهم اشهد"‪ .‬قال ‪" :‬وأنشدكم بال‬
‫الذي أنزل التوراة على موسى ‪ ،‬هل تعلمون أن هذا النبي المي تنام عيناه ول ينام قلبه ؟"‪ .‬قالوا‬
‫‪ :‬اللهم نعم‪ .‬قال ‪" :‬اللهم اشهد"‪ .‬قالوا ‪ :‬أنت الن ‪ ،‬فحدثنا من وليك من الملئكة ‪ ،‬فعندها نجامعك‬
‫أو نفارقك‪ .‬قال ‪" :‬فإن وليي جبريل ‪ ،‬ولم يبعث ال نبيًا قط إل وهو وليّه"‪ .‬قالوا ‪ :‬فعندها‬
‫نفارقك ‪ ،‬لو كان وليّك سواه من الملئكة تابعناك (‪ )7‬وصدقناك‪ .‬قال ‪" :‬فما مَنَعكم أن تصدقوه ؟"‬
‫قالوا ‪ :‬إنه عدونا‪ .‬فأنزل ال عز وجل ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } إلى قوله ‪َ { :‬لوْ كَانُوا‬
‫َيعَْلمُونَ } [البقرة ‪ ]103 :‬فعندها باؤوا بغضب على غضب (‪.)8‬‬
‫وقد رواه المام أحمد في مسنده ‪ ،‬عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن حميد في تفسيره ‪،‬‬
‫عن أحمد بن يونس ‪ ،‬كلهما عن عبد الحميد بن بَهرام ‪ ،‬به (‪.)9‬‬
‫ورواه المام أحمد ‪ -‬أيضا ‪ -‬عن الحسين بن محمد المروزي ‪ ،‬عن عبد الحميد ‪ ،‬بنحوه [به] (‬
‫‪.)11( )10‬‬
‫وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار ‪ :‬حدثني عبد ال بن عبد الرحمن بن أبي حسين ‪ ،‬عن شهر‬
‫بن حوشب ‪ ،‬فذكره مرسل وزاد فيه ‪ :‬قالوا ‪ :‬فأخبرنا عن الروح قال ‪" :‬أنشدكم بال وبآياته (‪)12‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬الذي حرم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬كيف يكون ماء"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬في التوراة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬أنشدكم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬لحم" ‪ ،‬وفي ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لحمان"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬اللهم أشهدك"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬لتابعناك" وفي ط ‪" : :‬بايعناك"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)2/377‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)1/278‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )11‬المسند (‪.)1/273‬‬
‫(‪ )12‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وبأيامه"‪.‬‬

‫( ‪)1/336‬‬

‫عند بني إسرائيل ‪ ،‬هل تعلمون أنه جبريل ‪ ،‬وهو الذي يأتيني ؟" قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ولكنه لنا عدو ‪،‬‬
‫وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ‪ ،‬فلول ذلك اتبعناك (‪ .)1‬فأنزل ال فيهم ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ‬
‫علَى قَلْ ِبكَ بِِإذْنِ اللّهِ } إلى قوله ‪ { :‬كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ } [البقرة ‪.]101 :‬‬
‫عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ َ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو أحمد (‪ )2‬حدثنا عبد ال بن الوليد العجلي ‪ ،‬عن بكير بن شهاب ‪،‬‬
‫عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬أقبلت يهود إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا‬
‫‪ :‬يا أبا القاسم ‪ ،‬إنا نسألك عن خمسة أشياء ‪ ،‬فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك‪ .‬فأخذ عليهم‬
‫ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال ‪ { :‬اللّهُ عَلَى مَا َنقُولُ َوكِيلٌ } [يوسف ‪ ]66 :‬قال ‪" :‬هاتوا"‪ .‬قالوا‬
‫‪ :‬أخبرنا عن علمة النبي‪ .‬قال ‪" :‬تنام عيناه ول ينام قلبه"‪ .‬قالوا ‪ :‬أخبرنا كيف تؤنث المرأة‬
‫وكيف يذكر الرجل ؟ قال ‪" :‬يلتقي الماءان فإذا عل ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ‪ ،‬وإذا عل ماء‬
‫المرأة ماء الرجل أنثت" ‪ ،‬قالوا ‪ :‬أخبرنا ما (‪ )3‬حرّم إسرائيل على نفسه‪ .‬قال ‪" :‬كان يشتكي‬
‫عِرْق النّساء ‪ ،‬فلم يجد شيئًا يلئمه إل ألبان كذا وكذا" ‪ -‬قال أحمد ‪ :‬قال بعضهم ‪ :‬يعني البل ‪،‬‬
‫فحرم لحومها ‪ -‬قالوا ‪ :‬صدقت‪ .‬قالوا ‪ :‬أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال "ملك من ملئكة ال ‪ ،‬عز‬
‫وجل ‪ ،‬موكل بالسحاب بيديه ‪ -‬أو في يده ‪ -‬مِخْراق من نار يزجر به السحاب ‪ ،‬يسوقه حيث‬
‫أمره ال عز وجل"‪ .‬قالوا ‪ :‬فما هذا الصوت الذي نسمعه ؟ قال ‪" :‬صوته"‪ .‬قالوا ‪ :‬صدقت‪ .‬إنما‬
‫بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا (‪ )4‬إنه ليس من نبي إل وله مَلَك يأتيه بالخبر ‪ ،‬فأخبرنا‬
‫من صاحبك ؟ قال ‪" :‬جبريل عليه السلم" ‪ ،‬قالوا ‪ :‬جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال‬
‫والعذاب عدونا ‪ ،‬لو قلت ‪ :‬ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان (‪ )5‬فأنزل ال عز‬
‫ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الية‪.‬‬
‫وجل ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ َ‬
‫ورواه الترمذي ‪ ،‬والنسائي من حديث عبد ال بن الوليد ‪ ،‬به (‪ .)6‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وقال سُنَيْد في تفسيره ‪ ،‬عن حجاج بن محمد ‪ ،‬عن ابن جُرَيْج ‪ :‬أخبرني القاسم بن أبي بَزّة أن‬
‫يهود سألوا النبي صلى ال عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل (‪ )7‬عليه بالوحي‪ .‬قال ‪" :‬جبريل"‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فإنه لنا عدو ‪ ،‬ول يأتي إل بالشدة والحرب والقتال‪ .‬فنزل ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ }‬
‫الية‪ .‬قال ابن جريج ‪ :‬وقال مجاهد ‪ :‬قالت يهود ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬ما ينزل (‪ )8‬جبريل إل بشدة‬
‫وحرب وقتال ‪ ،‬وإنه لنا عدو‪ .‬فنزل ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } الية‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬قوله ‪ { :‬مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } قال عكرمة ‪ :‬جبر ‪ ،‬وميك ‪ ،‬وإسراف ‪ :‬عبد‪.‬‬
‫حمَيد ‪ ،‬عن أنس بن‬
‫سمِع عبد ال بن بكر (‪ )10‬حدثنا ُ‬
‫وإيل ‪ :‬ال‪ .‬حدثنا عبد ال بن مُنير (‪َ )9‬‬
‫مالك ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬لتبعناك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أبو عمر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أخبرنا عما"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ب "أخبرتنا بها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬لكنا تابعناك"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪ )1/274‬وسنن الترمذي برقم (‪ )3117‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9072‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬نزل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬ما نزل"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن نمير"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬بن بكير"‪.‬‬

‫( ‪)1/337‬‬

‫قال ‪ :‬سمع عبد ال بن سلم بمقدم رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو في أرض يخترف‪ .‬فأتى‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬إني سائلك عن ثلث ل يعلمهن (‪ )1‬إل نبي ‪ :‬ما أول أشراط‬
‫الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال ‪" :‬أخبرني بِهن‬
‫جبريل آنفًا"‪ .‬قال ‪ :‬جبريل ؟ قال ‪" :‬نعم"‪ .‬قال ‪ :‬ذاك عدو اليهود من الملئكة ‪ ،‬فقرأ هذه الية ‪{ :‬‬
‫علَى قَلْ ِبكَ } "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من‬
‫مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ َ‬
‫المشرق إلى المغرب ‪ ،‬وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ‪ ،‬وإذا سبق ماء الرجل‬
‫ماء المرأة نزع الولد ‪ ،‬وإذا سبق ماء المرأة [ماء الرجل] (‪ )2‬نزعت"‪ .‬قال ‪ :‬أشهد أن ل إله إل‬
‫ال وأشهد أنك (‪ )3‬رسول ال‪ .‬يا رسول ال ‪ ،‬إن اليهود قوم ُبهُت ‪ ،‬وإنهم إن يعلموا بإسلمي قبل‬
‫أن تسألهم يبهتوني (‪ .)4‬فجاءت اليهود فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أي رجل عبد ال بن‬
‫سلم فيكم ؟" قالوا ‪ :‬خيرنا وابن خيرنا ‪ ،‬وسيدنا وابن سيدنا‪ .‬قال ‪" :‬أرأيتم إن أسلم عبد ال بن‬
‫سلم"‪ .‬فقالوا ‪ :‬أعاذه ال من ذلك‪ .‬فخرج عبد ال فقال ‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال وأشهد أن محمدًا‬
‫رسول ال‪ .‬فقالوا ‪ :‬شرنا وابن شرنا‪ .‬فانتقصوه‪.‬‬
‫قال (‪ )5‬هذا الذي كنت أخاف يا رسول ال‪.‬‬
‫انفرد به البخاري من هذا الوجه (‪ )6‬وقد أخرجه من وجه آخر ‪ ،‬عن أنس بنحوه (‪ )7‬وفي‬
‫صحيح مسلم ‪ ،‬عن ثوبان مولى رسول ال صلى ال عليه وسلم قريب من هذا السياق (‪ )8‬كما‬
‫سيأتي في موضعه (‪.)9‬‬
‫وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن "إيل" هو ال‪ .‬وقد رواه سفيان الثوري ‪ ،‬عن‬
‫خصِيف ‪ ،‬عن عكرمة‪.‬‬
‫َ‬
‫ورواه عبد بن حميد ‪ ،‬عن إبراهيم بن الحكم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن‬
‫الحسين بن يزيد الطحان ‪ ،‬عن إسحاق بن منصور ‪ ،‬عن قيس ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أنه‬
‫قال ‪ :‬إن جبريل اسمه عبد ال وميكائيل ‪ :‬عبيد ال‪ .‬إيل ‪ :‬ال‪.‬‬
‫ورواه يزيد النحوي ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬مثله سواء‪ .‬وكذا قال غير واحد من‬
‫السلف ‪ ،‬كما سيأتي قريبا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬ل يعرفهن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وأن محمدًا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بهتوني"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)4480‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )3329‬من طريق مروان بن معاوية عن حميد ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬وصحيح‬
‫البخاري برقم (‪ )3938‬من طريق بشر ابن المفضل ‪ ،‬عن حميد ‪ ،‬عن أنس‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)315‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬كما سيأتي في موضعه إن شاء ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/338‬‬

‫[وقال المام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب ‪ :‬حدثنا محمد بن سلمة ‪ ،‬حدثنا محمد بن‬
‫إسحاق ‪ ،‬حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال ‪ :‬قال لي علي بن الحسين ‪ :‬اسم جبريل عبد ال ‪،‬‬
‫واسم ميكائيل ‪ :‬عبيد ال] (‪.)1‬‬
‫ومن الناس من يقول ‪" :‬إيل" عبارة عن عبد ‪ ،‬والكلمة الخرى هي اسم ال ؛ لن كلمة "إيل" ل‬
‫تتغير في الجميع ‪ ،‬فوزانه ‪ :‬عبد ال ‪ ،‬عبد الرحمن ‪ ،‬عبد الملك ‪ ،‬عبد القدوس ‪ ،‬عبد السلم ‪،‬‬
‫عبد الكافي ‪ ،‬عبد الجليل‪ .‬فعبد موجودة في هذا كله ‪ ،‬واختلفت السماء المضاف إليها ‪ ،‬وكذلك‬
‫جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ونحو ذلك ‪ ،‬وفي كلم غير العرب يقدمون المضاف إليه‬
‫على المضاف ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن‬
‫الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬ذكر من قال ذلك ‪:‬‬
‫حدثني محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثني ربعي بن عُلَيّة ‪ ،‬عن داود بن أبي هند ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫نزل عمر الروحاء ‪ ،‬فرأى رجال يبتدرون أحجارًا يصلون إليها ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما بال هؤلء ؟ قالوا ‪:‬‬
‫يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم صلى هاهنا‪ .‬قال ‪ :‬فكفر ذلك‪ .‬وقال ‪ :‬إنما رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أدركته الصلة بواد صلها ثم ارتحل ‪ ،‬فتركه‪ .‬ثم أنشأ يحدثهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬كنت‬
‫أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم (‪ )2‬فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق‬
‫التوراة ؟ فبينما أنا عندهم ذات يوم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا ابن الخطاب ‪ ،‬ما من أصحابك أحد أحب إلينا‬
‫منك‪ .‬قلت ‪ :‬ولم ذلك ؟ قالوا ‪ :‬إنك تغشانا وتأتينا‪ .‬فقلت ‪ :‬إني آتيكم فأعجب من الفرقان (‪ )3‬كيف‬
‫يصدق التوراة ‪ ،‬ومن التوراة كيف تصدق الفرقان‪ .‬قال ‪ :‬ومر رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فقالوا ‪ :‬يا ابن الخطاب ‪ ،‬ذاك صاحبكم فالحق به ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت لهم عند ذلك ‪ :‬نشدتكم (‪ )4‬بال‬
‫الذي ل إله إل هو ‪ ،‬وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه ‪ :‬أتعلمون أنه رسول ال ؟ قال‬
‫‪ :‬فسكتوا‪ .‬فقال لهم عالمهم وكبيرهم ‪ :‬إنه قد غَلّظ عليكم فأجيبوه‪ .‬فقالوا ‪ :‬فأنت عالمنا وكبيرنا‬
‫فأجبه أنت‪ .‬قال ‪ :‬أما إذ نشدتنا بما نشدتنا به فإنا نعلم أنه رسول ال ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ويحكم فأنّي‬
‫هلكتم ؟! قالوا (‪ )5‬إنا لم نهلك (‪[ )6‬قال] (‪ : )7‬قلت ‪ :‬كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول ال [ثم]‬
‫(‪ )8‬ول تتبعونه ول تصدقونه ؟ قالوا ‪ :‬إن لنا عدوا من الملئكة وسِ ْلمًا من الملئكة ‪ ،‬وإنه قرن‬
‫بنبوته عدونا من الملئكة‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا ‪ :‬عدونا جبريل ‪ ،‬وسلمنا‬
‫ميكائيل‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬وفيم عاديتم جبريل ‪ ،‬وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا ‪ :‬إن جبريل مَلَك الفظاظة‬
‫والغلظة والعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ‪ ،‬وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف‬
‫ونحو هذا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬يوم مدارستهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬القرآن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬أنشدكم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فقالوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إياكم يهلك"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من ط‪.‬‬

‫( ‪)1/339‬‬

‫قال ‪ :‬قلت ‪ :‬وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا ‪ :‬أحدهما عن يمينه والخر عن يساره‪ .‬قال‬
‫‪ :‬قلت ‪ :‬فو [ال] (‪ )1‬الذي ل إله إل هو ‪ ،‬إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن‬
‫سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل‪ .‬ثم‬
‫خوْخة لبني فلن ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا ابن‬
‫قمت فاتبعت النبي صلى ال عليه وسلم فلحقته وهو خارج من َ‬
‫الخطاب ‪ ،‬أل أقرئك آيات نزلن (‪ )2‬قبل ؟" فقرأ عليّ ‪ { :‬مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى‬
‫قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ } حتى قرأ هذه اليات‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬بأبي وأمي يا رسول ال ‪،‬‬
‫والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك ‪ ،‬فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر (‬
‫‪.)3‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬عن مجالد ‪ ،‬أنبأنا عامر ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ‪ :‬هل تجدون‬
‫محمدًا في كتبكم ؟ قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا ‪ :‬إن ال لم يبعث رسول (‪)4‬‬
‫إل جعل له من الملئكة كفْل وإن جبريل َكفَل محمّدًا ‪ ،‬وهو الذي يأتيه ‪ ،‬وهو عدونا من‬
‫الملئكة ‪ ،‬وميكائيل سلمنا ؛ لو كان ميكائيل هو الذي يأتيه أسلمنا‪ .‬قال ‪ :‬فإني أنشدكم بال الذي‬
‫أنزل التوراة على موسى ‪ :‬ما منزلتهما من رب العالمين ؟ قالوا ‪ :‬جبريل عن يمينه وميكائيل عن‬
‫شماله‪ .‬قال عمر‪ .‬وإني أشهد ما ينزلن إل بإذن ال ‪ ،‬وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبريل ‪ ،‬وما‬
‫كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل‪ .‬فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا ‪ :‬هذا‬
‫صاحبك يا ابن الخطاب ‪ :‬فقام إليه عمر ‪ ،‬فأتاه ‪ ،‬وقد أنزل ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬عليه ‪ { :‬مَنْ كَانَ‬
‫ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } (‪.)5‬‬
‫سلِ ِه وَجِبْرِي َ‬
‫عَ ُدوّا لِلّ ِه َومَلئِكَتِ ِه وَرُ ُ‬
‫وهذان السنادان يدلن على أن الشعبي حدث به عن عمر ‪ ،‬ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر ‪،‬‬
‫فإنه لم يدرك وفاته (‪ ، )6‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا بشر (‪ )7‬حدثنا يزيد بن زُرَيع ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬قال ‪ :‬ذُكر لنا أن‬
‫عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود‪ .‬فلما أبصروه (‪ )8‬رحبوا به ‪ ،‬فقال لهم عمر ‪ :‬أما‬
‫وال ما جئت لحبكم ول للرغبة فيكم ‪ ،‬ولكن جئت لسمع منكم‪ .‬فسألهم وسألوه‪ .‬فقالوا ‪ :‬من‬
‫صاحب صاحبكم (‪ )9‬؟ فقال لهم ‪ :‬جبريل‪ .‬فقالوا ‪ :‬ذاك عدونا من أهل السماء ‪ ،‬يُطلع محمدًا‬
‫على سرنا ‪ ،‬وإذا جاء جاء الحرب والسّنَة ‪ ،‬ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ‪ ،‬وكان إذا جاء جاء‬
‫الخصب والسلم‪ .‬فقال لهم عمر ‪ :‬هل تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا صلى ال عليه وسلم ؟‬
‫ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬نزلت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)382 /2‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬نبيا رسول"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/290‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬زمانه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬محمد بن بشر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فلما انصرف"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬صاحبكم"‪.‬‬

‫( ‪)1/340‬‬
‫ليحدثه حديثهم ‪ ،‬فوجده قد أنزلت عليه هذه الية ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ‬
‫بِإِذْنِ اللّهِ } (‪.)1‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا آدم ‪ ،‬حدثنا أبو جعفر عن قتادة ‪ ،‬قال ‪ :‬بلغنا أن عمر أقبل إلى‬
‫اليهود يومًا ‪ ،‬فذكر نحوه‪ .‬وهذا ‪ -‬أيضًا ‪ -‬منقطع ‪ ،‬وكذلك رواه أسباط ‪ ،‬عن السدي ‪ ،‬عن عمر‬
‫مثل هذا أو نحوه ‪ ،‬وهو (‪ )2‬منقطع أيضًا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن عمار ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن ‪ -‬يعني الدّشْتَكي ‪ -‬حدثنا أبو‬
‫جعفر ‪ ،‬عن حصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا أتي (‪ )3‬عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا‪ .‬فقال عمر ‪ { :‬مَنْ كَانَ عَ ُدوّا لِلّهِ‬
‫ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } قال ‪ :‬فنزلت على لسان عمر ‪ ،‬رضي‬
‫سلِ ِه وَجِبْرِي َ‬
‫َومَلئِكَتِ ِه وَرُ ُ‬
‫ال عنه (‪.)4‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا هشيم ‪ ،‬أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن‬
‫ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ } قال ‪ :‬قالت اليهود للمسلمين ‪ :‬لو أن ميكائيل‬
‫ابن أبي ليلى في قوله ‪ { :‬مَنْ كَانَ َ‬
‫كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم ‪ ،‬فإنه ينزل بالرحمة والغيث ‪ ،‬وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ‪،‬‬
‫فإنه لنا عدو (‪ )5‬قال ‪ :‬فنزلت هذه الية‪.‬‬
‫حدثني يعقوب قال ‪ :‬حدثنا ُهشَيْم ‪ ،‬أخبرنا عبد الملك ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬بنحوه‪ .‬وقال عبد الرزاق ‪:‬‬
‫أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة في قوله ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ } قال ‪ :‬قالت اليهود ‪ :‬إن جبريل‬
‫عدونا ‪ ،‬لنه ينزل بالشدة والسّنَة ‪ ،‬وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ‪ ،‬فجبريل‬
‫عدونا‪ .‬فقال ال تعالى ‪ { :‬مَنْ كَانَ عَ ُدوّا لِجِبْرِيلَ } [الية] (‪.)6‬‬
‫ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ } أي ‪:‬‬
‫وأما تفسير الية فقوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ مَنْ كَانَ َ‬
‫من عادى جبريل فليعلم أنه الروح المين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من ال بإذنه له في‬
‫ذلك ‪ ،‬فهو رسول من رسل ال مَلَكي [عليه وعلى سائر إخوانه من الملئكة السلم] (‪ )7‬ومن‬
‫عادى رسول فقد عادى جميع الرسل ‪ ،‬كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه اليمان بجميع الرسل ‪،‬‬
‫وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ‬
‫ض وَيُرِيدُونَ أَنْ‬
‫ض وَ َن ْكفُرُ بِ َب ْع ٍ‬
‫بِاللّ ِه وَرُسُِل ِه وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُِل ِه وَ َيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ‬
‫حقّا وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابًا ُمهِينًا } [النساء ‪، 150 :‬‬
‫خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيل* أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ‬
‫يَتّ ِ‬
‫‪ ]151‬فحكم عليهم بالكفر المحقّق ‪ ،‬إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم (‪ )8‬وكذلك من عادى‬
‫جبريل فإنه عدو ل ؛‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)2/383‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬وهذا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لقي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )291 /1‬وهذا منقطع ‪ ،‬ابن أبي ليلي لم يدرك عمر‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فإنه عدونا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬وكفروا ببعض"‪.‬‬

‫( ‪)1/341‬‬

‫لن جبريل ل ينزل بالمر من تلقاء نفسه ‪ ،‬وإنما ينزل بأمر ربه كما قال ‪َ { :‬ومَا نَتَنزلُ إِل بَِأمْرِ‬
‫ك َومَا كَانَ رَ ّبكَ نَسِيّا } [مريم ‪ ]64 :‬وقال تعالى ‪:‬‬
‫رَ ّبكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذَِل َ‬
‫ح المِينُ* عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } [الشعراء ‪:‬‬
‫{ وَإِنّهُ لَتَنزيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ* نزلَ ِبهِ الرّو ُ‬
‫‪ ]194 - 192‬وقد روى البخاري في صحيحه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" (‪ .)1‬ولهذا غضب ال لجبريل على من‬
‫ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي ‪:‬‬
‫عاداه ‪ ،‬فقال ‪ { :‬مَنْ كَانَ َ‬
‫مِنَ الكتب المتقدمة { وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي ‪ :‬هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ‪ ،‬وليس‬
‫شفَا ٌء وَالّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ‬
‫ذلك إل للمؤمنين‪ .‬كما قال تعالى ‪ُ { :‬قلْ ُهوَ ِللّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ ِ‬
‫عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } [فصلت ‪ ، ]44 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَنُنزلُ مِنَ‬
‫َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ‬
‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِل خَسَارًا } [السراء ‪.]82 :‬‬
‫شفَا ٌء وَ َر ْ‬
‫ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫ل َومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ }‬
‫ع ُدوّا لِلّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه وَرُسُِل ِه وَجِبْرِي َ‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬مَنْ كَانَ َ‬
‫يقول تعالى ‪ :‬من عاداني وملئكتي ورسلي ‪ -‬ورسله تشمل رسله من الملئكة والبشر ‪ ،‬كما قال‬
‫طفِي مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ رُسُل َومِنَ النّاسِ } [الحج ‪.]75 :‬‬
‫تعالى ‪ { :‬اللّهُ َيصْ َ‬
‫ل َومِيكَالَ } (‪ )2‬وهذا من باب عطف الخاص على العام ‪ ،‬فإنهما دخل في الملئكة ‪ ،‬ثم‬
‫{ وَجِبْرِي َ‬
‫(‪ )3‬عموم الرسل ‪ ،‬ثم خصصا بالذكر ؛ لن السياق في النتصار لجبريل وهو السفير بين ال‬
‫وأنبيائه ‪ ،‬وقرن معه ميكائيل في اللفظ ؛ لن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم ‪،‬‬
‫فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الخر وعادى ال أيضًا ؛ لنه ‪ -‬أيضًا ‪ -‬ينزل على‬
‫النبياء بعض الحيان ‪ ،‬كما قُرن (‪ )4‬برسول ال صلى ال عليه وسلم في ابتداء المر ‪ ،‬ولكن‬
‫جبريل أكثر ‪ ،‬وهي وظيفته ‪ ،‬وميكائيل موكل بالقطر والنبات ‪ ،‬هذاك بالهدى وهذا بالرزق ‪ ،‬كما‬
‫أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم (‪ )5‬القيامة ؛ ولهذا جاء في الصحيح ‪ :‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول (‪" )6‬اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل (‪، )7‬‬
‫فاطر السموات والرض ‪ ،‬عالم الغيب والشهادة ‪ ،‬أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ‪،‬‬
‫اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك ‪ ،‬إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (‪ .)8‬وقد تقدم ما‬
‫حكاه البخاري ‪ ،‬ورواه ابن جرير (‪ )9‬عن عكرمة أنه قال ‪ :‬جبر ‪ ،‬وميك ‪ ،‬وإسراف ‪ :‬عُبَيد‪.‬‬
‫وإيل ‪ :‬ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)6502‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وميكائيل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬كما مر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ليوم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬رب جبريل وميكائيل وإسرافيل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪ )770‬من حديث عائشة رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ب ‪" :‬وغيره"‪.‬‬

‫( ‪)1/342‬‬

‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن سِنان ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن‬
‫العمش ‪ ،‬عن إسماعيل بن رجاء ‪ ،‬عن عمير (‪ )1‬مولى ابن عباس ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬إنما‬
‫قوله ‪" :‬جبريل" كقوله ‪" :‬عبد ال" و "عبد الرحمن"‪ .‬وقيل (‪ )2‬جبر ‪ :‬عبد‪ .‬وإيل ‪ :‬ال‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن علي بن الحسين ‪ ،‬قال ‪ :‬أتدرون (‪ )3‬ما اسم جبرائيل‬
‫(‪ )4‬من أسمائكم ؟ قلنا ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬اسمه عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟‬
‫قلنا ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬اسمه عبيد ال (‪ .)5‬وكل اسم مرجعه إلى "يل" (‪ )6‬فهو إلى ال‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك‪ .‬ثم قال ‪:‬‬
‫حوَارِي ‪ ،‬حدثني عبد العزيز بن عمير قال ‪ :‬اسم جبريل في‬
‫حدثني أبي ‪ ،‬حدثنا أحمد بن أبي ال َ‬
‫الملئكة خادم ال‪ .‬قال ‪ :‬فحدثت (‪ )7‬به أبا سليمان الداراني ‪ ،‬فانتفض وقال ‪ :‬لهذا الحديث أحبّ‬
‫إليّ من كل شيء [وكتبه] (‪ )8‬في دفتر كان بين يديه‪.‬‬
‫وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات ‪ ،‬تذكر في كتب اللغة والقراءات ‪ ،‬ولم نطوّل كتابنا هذا‬
‫بسَرد ذلك إل أن يدور فهم المعنى عليه ‪ ،‬أو يرجع الحكم في ذلك إليه ‪ ،‬وبال الثقة ‪ ،‬وهو‬
‫المستعان‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل ‪ :‬فإنه عدو‬
‫للكافرين‪ .‬قال ‪ { :‬فَإِنّ اللّهَ عَ ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ } كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫ل أرى الموتَ يسبق (‪ )9‬الموتَ شيء‪َ ...‬نغّص (‪ )10‬الموتُ ذا الغنى والفقيرا‪...‬‬
‫وقال آخر ‪:‬‬
‫ليتَ الغرابَ غداة ين َعبُ (‪ )11‬دائبا‪ ...‬كان الغرابُ مقطّع الوداج (‪)12‬‬
‫وإنما أظهر السم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ‪ ،‬وإعلمهم أن من عادى أولياء ال فقد‬
‫عادى ال ‪ ،‬ومن عادى ال فإن ال عدو له ‪ ،‬ومن كان ال عدوه فقد خسر الدنيا والخرة ‪ ،‬كما‬
‫تقدم الحديث ‪" :‬من عادى لي وليّا فقد بارزني بالحرب"‪ .‬وفي الحديث الخر ‪" :‬إني لثأر لوليائي‬
‫صمْتُه"‪.‬‬
‫خ َ‬
‫صمَه َ‬
‫خ ْ‬
‫كما يثأر الليث الحرب"‪ .‬وفي الحديث الصحيح ‪َ " :‬ومَن كنتُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬عمر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تدرون"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬جبريل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬إيل"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فحدث"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬سوى"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬سبق" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬مسبق" وفي و ‪" :‬يسبق"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬ينعق"‪.‬‬
‫(‪ )12‬البيت في تفسير الطبري (‪ )2/396‬وهو لجرير بن عطية‪.‬‬

‫( ‪)1/343‬‬

‫عهْدًا نَبَ َذهُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ‬


‫سقُونَ (‪َ )99‬أ َوكُّلمَا عَاهَدُوا َ‬
‫ت َومَا َي ْكفُرُ ِبهَا إِلّا ا ْلفَا ِ‬
‫وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ آَيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬
‫َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪ )100‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ‬
‫ظهُورِ ِهمْ كَأَ ّنهُمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)101‬‬
‫أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ُ‬

‫عهْدًا نَبَ َذهُ فَرِيقٌ‬


‫سقُونَ (‪َ )99‬أ َوكُّلمَا عَاهَدُوا َ‬
‫ت َومَا َي ْكفُرُ ِبهَا إِل ا ْلفَا ِ‬
‫{ وََلقَدْ أَنزلْنَا إِلَ ْيكَ آيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬
‫مِ ْنهُمْ َبلْ َأكْثَرُهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ (‪ )100‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ‬
‫ظهُورِهِمْ كَأَ ّن ُه ْم ل َيعَْلمُونَ (‪} )101‬‬
‫الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّ ِه وَرَاءَ ُ‬

‫( ‪)1/344‬‬
‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫حدٍ حَتّى َيقُولَا إِ ّنمَا َنحْنُ‬
‫ت َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ‬
‫ت َومَارُو َ‬
‫علَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُو َ‬
‫السّحْ َر َومَا أُنْ ِزلَ َ‬
‫حدٍ إِلّا‬
‫ج ِه َومَا هُمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ أَ َ‬
‫فِتْنَةٌ فَلَا َت ْكفُرْ فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ ِبهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْ ِ‬
‫بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُه ْم وَلَا يَ ْن َفعُهُمْ وَلَقَدْ عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الَْآخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ‬
‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪ )102‬وََلوْ أَ ّن ُهمْ َآمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ خَيْرٌ‬
‫وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪)103‬‬

‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ‬


‫{ وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫حدٍ حَتّى َيقُول إِ ّنمَا نَحْنُ‬
‫ت َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ‬
‫ت َومَارُو َ‬
‫علَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُو َ‬
‫السّحْ َر َومَا أُنزلَ َ‬
‫فِتْنَةٌ فَل َت ْكفُرْ فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ بِهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْجِهِ َومَا ُهمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِل‬
‫بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُه ْم وَل يَ ْن َف ُعهُ ْم وََلقَدْ عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ‬
‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪ )102‬وََلوْ أَ ّن ُهمْ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ خَيْرٌ‬
‫وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬
‫َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪} )103‬‬
‫قال المام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ أَنزلْنَا إِلَ ْيكَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } أي ‪ :‬أنزلنا إليك‬
‫يا محمد علمات واضحات [دللت] (‪ )1‬على نبوتك ‪ ،‬وتلك اليات هي ما حواه كتاب ال من‬
‫خفايا علوم اليهود ‪ ،‬ومكنونات سرائر أخبارهم ‪ ،‬وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ‪ ،‬والنبأ عما‬
‫تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إل أحبارُهم وعلماؤهم ‪ ،‬وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه‬
‫من أحكامهم ‪ ،‬التي كانت في التوراة‪ .‬فأطلع ال في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم ؛ فكان في ذلك من أمره اليات البينات لمن أنصف نفسه ‪ ،‬ولم يَدْعُه إلى هلكها‬
‫الحسد (‪ )2‬والبغي ‪ ،‬إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديقُ من أتى بمثل (‪ )3‬ما جاء به‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم من اليات البينات التي َوصَفَ ‪ ،‬من غير تعلّم تعلّمه من بَشَريّ (‪)4‬‬
‫ول أخذ شيئًا (‪ )5‬منه عن آدمي‪ .‬كما قال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَ ْيكَ آيَاتٍ‬
‫بَيّنَاتٍ } يقول ‪ :‬فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية ‪ ،‬وبين ذلك ‪ ،‬وأنت عندهم أمي ل‬
‫تقرأ (‪ )6‬كتابًا ‪ ،‬وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه‪ .‬يقول ال ‪ :‬في ذلك لهم عبرة وبيان ‪،‬‬
‫وعليهم حجة لو كانوا يعلمون‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن صُوريا الفطْيُوني لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬ما جئتنا‬
‫بشيء نعرفه ‪ ،‬وما أنزل ال عليك من آية بينة فنتبعك‪ .‬فأنزل ال في ذلك من قوله ‪ { :‬وََلقَدْ أَنزلْنَا‬
‫سقُونَ }‬
‫ت َومَا َيكْفُرُ ِبهَا إِل ا ْلفَا ِ‬
‫إِلَ ْيكَ آيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬هلكه بالحسد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬تصديق ذلك من أن يمثل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬من بشر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬شيء" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬لم تقرأ"‪.‬‬

‫( ‪)1/344‬‬

‫وقال مالك بن الصيف ‪ -‬حين بُعث رسولُ ال صلى ال عليه وسلم وذكرهم (‪ )1‬ما أخذ عليهم‬
‫عهِد إلينا في محمد صلى‬
‫من الميثاق ‪ ،‬وما عهد إليهم في محمد صلى ال عليه وسلم (‪ )2‬وال ما َ‬
‫عهْدًا نَبَ َذهُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ }‬
‫ال عليه وسلم ول أخذ [له] (‪ )3‬علينا ميثاقًا‪ .‬فأنزل ال ‪َ { :‬أ َوكُّلمَا عَاهَدُوا َ‬
‫عهْدٌ‬
‫وقال الحسن البصري في قوله ‪َ { :‬بلْ َأكْثَرُهُمْ ل ُي ْؤمِنُونَ } قال ‪َ :‬نعَم ‪ ،‬ليس في الرض َ‬
‫يعاهدون عليه إل نقضوه ونبذوه ‪ ،‬يعاهدون اليوم ‪ ،‬وينقضون غدًا‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬ل يؤمنون بما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقال قتادة ‪ { :‬نَبَ َذهُ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ }‬
‫أي ‪ :‬نقضه فريق منهم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬أصل النبذ ‪ :‬الطرح واللقاء ‪ ،‬ومنه سمي اللقيط ‪ :‬منبوذًا ‪ ،‬ومنه سمي النبيذ ‪،‬‬
‫وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء‪ .‬قال أبو السود الدؤلي ‪:‬‬
‫نظرتُ إلى عنوانه فنبذْتُه كنبذك َنعْل أخْل َقتْ من نعَالكا (‪)4‬‬
‫قلت ‪ :‬فالقوم ذمهم ال بنبذهم العهود التي تقدم الُ إليهم في التمسك بها والقيام بحقها‪ .‬ولهذا أعقبهم‬
‫ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ‪ ،‬الذي في كتبهم نعتُه وصفتُه وأخبارُه ‪،‬‬
‫وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ومناصرته ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِبيّ ال ّميّ‬
‫الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبًا عِنْ َدهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالنْجِيلِ } الية [العراف ‪ ، ]157 :‬وقال هاهنا ‪ { :‬وََلمّا‬
‫جَاءَهُمْ َرسُولٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَ َبذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّ ِه وَرَاءَ‬
‫ظهُورِهِمْ كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ } أي ‪ :‬اطّرَحَ طائفة منهم كتاب ال الذي بأيديهم ‪ ،‬مما فيه البشارة‬
‫ُ‬
‫بمحمد صلى ال عليه وسلم وراء ظهورهم ‪ ،‬أي ‪ :‬تركوها ‪ ،‬كأنهم ل يعلمون ما فيها ‪ ،‬وأقبلوا‬
‫سحَروه في ُمشْط‬
‫على تعلم السحر واتباعه‪ .‬ولهذا أرادوا كيْدًا برسول ال صلى ال عليه وسلم و َ‬
‫جفّ طَ ْلعَة ذَكر ‪ ،‬تحت راعوثة بئر ذي أروان‪ .‬وكان الذي تولى ذلك منهم رجل ‪ ،‬يقال‬
‫ومُشَاقة و ُ‬
‫له ‪ :‬لبيد بن العصم ‪ ،‬لعنه ال ‪ ،‬فأطلع ال على ذلك رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وشفاه منه‬
‫وأنقذه ‪ ،‬كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬كما‬
‫سيأتي بيانه (‪ )5‬قال (‪ )6‬السدي ‪ { :‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ } قال ‪ :‬لما‬
‫جاءهم محمد صلى ال عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ‪ ،‬فاتفقت التوراة والقرآن ‪،‬‬
‫فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ‪ ،‬فلم يوافق القرآن ‪ ،‬فذلك قوله ‪:‬‬
‫{ كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ }‬
‫وقال قتادة في قوله ‪ { :‬كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ } قال ‪ :‬إن القوم كانوا يعلمون ‪ ،‬ولكنهم نبذوا علمهم ‪،‬‬
‫وكتموه وجحدوا به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬وما ذكر لهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬وما عهد ال إليهم فيه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/401‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬كما سيأتي بيانه إن شاء ال وبه الثقة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬كما سيأتي بيانه إن شاء اله‬
‫تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/345‬‬

‫وقال العوفي في تفسيره ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله تعالى ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ‬
‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُ ْلكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫سُلَ ْيمَا َ‬
‫والنس واتبعوا الشهوات ‪ ،‬فلما رجع (‪ )1‬الُ إلى سليمان ملكَه ‪ ،‬وقام الناس على الدين كما كان‬
‫أوان سليمان ‪ ،‬ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ‪ ،‬وتوفي سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬حدثان‬
‫ذلك ‪ ،‬فظهر النس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هذا كتاب من ال نزل (‪)2‬‬
‫على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا‪ .‬فأنزل ال ‪ { :‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ‬
‫ظهُورِهِمْ كَأَ ّن ُه ْم ل َيعَْلمُونَ }‬
‫ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّ ِه وَرَاءَ ُ‬
‫واتبعوا الشهوات ‪[ ،‬أي] ‪ )3( :‬التي كانت [تتلو الشياطين] (‪ )4‬وهي المعازف واللعب وكل شيء‬
‫يصد عن ذكر ال‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن المنهال ‪ ،‬عن‬
‫سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان آصف كاتب سليمان ‪ ،‬وكان يعلم السم "العظم" ‪،‬‬
‫وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ‪ ،‬فلما مات سليمان أخرجه (‪)5‬‬
‫الشياطين ‪ ،‬فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هذا الذي كان سليمان يعمل بها (‪.)6‬‬
‫جهّالُ الناس وسبّوه ‪ ،‬ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه ‪ ،‬حتى أنزل ال على‬
‫قال ‪ :‬فأكفره ُ‬
‫ن وََلكِنّ‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫الشّيَاطِينَ َكفَرُوا } (‪.)7‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني أبو السائب سلم (‪ )8‬بن جنادة السوائي ‪ ،‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا عن‬
‫العمش ‪ ،‬عن المنهال ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان سليمان ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬إذا أراد أن يدخل الخلء ‪ ،‬أو يأتي شيئًا من نسائه ‪ ،‬أعطى الجرادة ‪ -‬وهي امرأة ‪-‬‬
‫خاتمه‪ .‬فلما أراد ال أن يبتلي سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بالذي ابتله به ‪ ،‬أعطى الجرادة ذات يوم‬
‫خاتَمه ‪ ،‬فجاء (‪ )9‬الشيطان في صورة سليمان فقال لها ‪ :‬هاتي خاتمي‪ .‬فأخذه فلبسه‪ .‬فلما لبسه‬
‫دانت له الشياطين والجن والنس‪ .‬قال ‪ :‬فجاءها سليمان ‪ ،‬فقال ‪ :‬هاتي خاتمي فقالت ‪ :‬كذبت ‪،‬‬
‫لست سليمان‪ .‬قال ‪ :‬فعرف سليمان أنه بلء ابتلي به‪ .‬قال ‪ :‬فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك‬
‫اليام كتبًا فيها سحر وكفر‪ .‬ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ‪ ،‬ثم أخرجوها وقرؤوها (‪ )10‬على‬
‫الناس ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب‪ .‬قال ‪ :‬فبرئ الناس من سليمان ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬وأكفروه حتى بعث ال محمدًا صلى ال عليه وسلم وأنزل عليه ‪َ { :‬ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ‬
‫وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا }‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن حميد ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن حصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن عمران ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فلما أرجع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أنزل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أخرجته"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬به" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/297‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬مسلم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬فجاءها"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬فقرؤوها"‪.‬‬

‫( ‪)1/346‬‬

‫وهو ابن الحارث قال ‪ :‬بينا نحن عند ابن عباس ‪ -‬رضي ال عنهما (‪ - )1‬إذ جاء (‪ )2‬رجل‬
‫فقال له ‪ :‬مِنْ أين جئت ؟ قال ‪ :‬من العراق‪ .‬قال ‪ :‬من أيّه ؟ قال ‪ :‬من الكوفة‪ .‬قال ‪ :‬فما الخبر ؟‬
‫قال ‪ :‬تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم‪ .‬ففزع ثم قال ‪ :‬ما تقول ؟ ل أبا لك! لو شعرنا ما‬
‫نكحنا نساءه ‪ ،‬ول قسمنا ميراثه ‪ ،‬أما إني سأحدثكم (‪ )3‬عن ذلك ‪ :‬إنه كانت الشياطين يسترقون‬
‫السمع من السماء ‪ ،‬فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ‪ ،‬فإذا جُ ّربَ منه صدق كذب معها سبعين‬
‫كذْبة ‪ ،‬قال ‪ :‬فَ َتشْرَبُها قلوب الناس‪ .‬فأطلع ال عليها سليمان‪ .‬عليه السلم ‪ ،‬فدفنها تحت كرسيه‪.‬‬
‫فلما توفي سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قام شيطانُ الطريق ‪ ،‬فقال ‪ :‬أفل أدلكم على كنزه الممنّع (‪)4‬‬
‫الذي ل كنز له مثله ؟ تحت الكرسي‪ .‬فأخرجوه ‪ ،‬فقالوا هذا سحره (‪ )5‬فتناسخا المم ‪ -‬حتى‬
‫علَى مُ ْلكِ‬
‫بقاياها ما يتحدث به أهل العراق ‪ -‬وأنزل ال عز وجل (‪ { )6‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ َ‬
‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا }‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫سُلَ ْيمَا َ‬
‫ورواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬عن أبي زكريا العَنْبري ‪ ،‬عن محمد بن عبد السلم ‪ ،‬عن إسحاق‬
‫بن إبراهيم ‪ ،‬عن جرير ‪ ،‬به (‪.)7‬‬
‫وقال السدي في قوله تعالى ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } أي ‪ :‬على عهد‬
‫سليمان‪ .‬قال ‪ :‬كانت الشياطين تصعد إلى السماء ‪ ،‬فتقعد منها مقاعد للسمع ‪ ،‬فيستمعون من كلم‬
‫الملئكة مما يكون في الرض من موت أو غيب (‪ )8‬أو أمر ‪ ،‬فيأتون الكهنة فيخبرونهم‪ .‬فتحدّث‬
‫الكهنة الناسَ فيجدونه كما قالوا‪ .‬حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم‪ .‬وأدخلوا فيه غيره ‪ ،‬فزادوا مع‬
‫كل كلمة سبعين كلمة ‪ ،‬فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب ‪ ،‬وفشا في بني إسرائيل أن الجن‬
‫تعلم الغيب‪ .‬فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق‪ .‬ثم دفنها تحت كرسيه‪.‬‬
‫ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إل احترق‪ .‬وقال ‪ :‬ل أسمع أحدًا يذكر أن‬
‫الشياطين يعلمون الغيب إل ضربت عنقه‪ .‬فلما مات سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وذهبت العلماء الذين‬
‫كانوا يعرفون أمر سليمان ‪ ،‬وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان ‪ ،‬ثم أتى‬
‫نفرًا من بني إسرائيل ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬هل أدلكم على كنز ل تأكلونه أبدًا ؟ قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فاحفروا‬
‫تحت الكرسي‪ .‬وذهب معهم وأراهم المكان ‪ ،‬وقام ناحية ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬فَادْنُ‪ .‬قال (‪ )9‬ل ولكنني‬
‫هاهنا في أيديكم ‪ ،‬فإن لم تجدوه فاقتلوني‪ .‬فحفروا فوجدوا تلك الكتب‪ .‬فلما أخرجوها قال الشيطان‬
‫‪ :‬إن سليمان إنما كان يضبط النس والشياطين (‪ )10‬والطير بهذا السحر‪ .‬ثم طار وذهب‪ .‬وفشا‬
‫في الناس أن سليمان كان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬عنه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬إذ جاءه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬سأحدثك"‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬الممتنع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هذا سحر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪ )415 /2‬والمستدرك (‪.)265 /2‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬أو عبس"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬والجن"‪.‬‬

‫( ‪)1/347‬‬

‫ساحرًا‪ .‬واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ‪ ،‬فلما جاء محمد صلى ال عليه وسلم خاصموه بها (‬
‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا }‬
‫‪ )1‬؛ فذلك حين يقول ال تعالى ‪َ { :‬ومَا كَفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ :‬إن اليهود سألوا محمدًا صلى ال عليه وسلم زمانًا عن أمور من التوراة ‪،‬‬
‫ل يسألونه عن شيء من ذلك إل أنزل ال تعالى عليه ما سألوه عنه ‪ ،‬فيخصمهم (‪ ، )2‬فلما رأوا‬
‫ذلك قالوا ‪ :‬هذا أعلم بما أنزل ال إلينا منا‪ .‬وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ‪ ،‬فأنزل ال عز‬
‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫وجل ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫عمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء ال من‬
‫ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } وإن الشياطين َ‬
‫ذلك ‪ ،‬فدفنوه تحت مجلس سليمان ‪ ،‬وكان [سليمان] (‪ )3‬عليه السلم ‪ ،‬ل يعلم الغيب‪ .‬فلما فارق‬
‫سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد‬
‫(‪ )4‬الناس عليه‪ .‬فأخبرهم النبي صلى ال عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ‪،‬‬
‫وأدحض ال حجتهم‪.‬‬
‫سلَ ْيمَانَ } قال ‪ :‬كانت الشياطين‬
‫وقال مجاهد في قوله ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ ُ‬
‫تستمع (‪ )5‬الوحي فما سمعوا من كلمة [إل] (‪ )6‬زادوا فيها مائتين مثلها‪ .‬فأرسِل سليمان ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬إلى ما كتبوا من ذلك‪ .‬فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] (‪ )7‬وهو‬
‫السحر‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ :‬كان سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه‬
‫منهم ‪ ،‬فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ‪ ،‬فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه ‪ ،‬فدبّت (‪ )8‬إلى‬
‫النس ‪ ،‬فقالوا لهم ‪ :‬أتدرون ما العلم (‪ )9‬الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير‬
‫ذلك ؟ قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬قالوا ‪ :‬فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه‪ .‬فاستثار به (‪ )10‬النسُ‬
‫واستخرجوه فعملوا (‪ )11‬بها‪ .‬فقال أهل الحجا ‪ :‬كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر‪ .‬فأنزل ال‬
‫تعالى على [لسان] (‪ )12‬نبيه محمد صلى ال عليه وسلم براءة سليمان عليه السلم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا }‬
‫{ وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫وقال محمد بن إسحاق بن يسار (‪ )13‬عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ‪ ،‬عليه‬
‫السلم (‪ )14‬فكتبوا أصناف السحر ‪" :‬من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا"‪ .‬حتى إذا‬
‫صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب‪ .‬ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان ‪ ،‬وكتبوا في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بهذا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فيخصهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ويحشر" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬ففسد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تسمع"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فدنت"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬أن العلم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فاستثارته"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬فعلموا"‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ، ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بشار"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪ ،‬ب ‪" :‬عليهما السلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/348‬‬

‫عُنْوانه ‪" :‬هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ‪ ،‬عليهما السلم (‪ )1‬من‬
‫ذخائر كنوز العلم"‪ .‬ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته (‪ )2‬بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا‬
‫ما أحدثوا‪ .‬فلما عثروا عليه قالوا ‪ :‬وال ما كان سليمان بن داود إل بهذا‪ .‬فأفشوا السحر في الناس‬
‫[وتعلموه وعلموه] (‪ .)3‬وليس هو في أحد أكثر (‪ )4‬منه في اليهود لعنهم ال‪ .‬فلما ذكر رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فيما نزل عليه من ال ‪ ،‬سليمان بن داود ‪ ،‬وعده فيمن عَدّه من المرسلين ‪،‬‬
‫قال من كان بالمدينة من يهود ‪ :‬أل تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا ‪ ،‬وال ما كان‬
‫ن َومَا‬
‫إل ساحرًا‪ .‬وأنزل ال [في] (‪ )5‬ذلك من قولهم ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ وََلكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } الية‪.‬‬
‫شهْر بن‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا حسين ‪ ،‬حدثنا الحجاج (‪ )6‬عن أبي بكر ‪ ،‬عن َ‬
‫حَوشب ‪ ،‬قال ‪ :‬لما سلب سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬ملكه ‪ ،‬كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة‬
‫سليمان‪ .‬فكتبت ‪" :‬من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ‪ ،‬وليقل كذا وكذا (‪ )7‬ومن أراد أن‬
‫يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا‪ .‬فكتبته وجعلت عنوانه ‪ :‬هذا ما كتب آصف بن‬
‫برخيا للملك سليمان [بن داود] (‪ )8‬من ذخائر كنوز العلم"‪ .‬ثم دفنته تحت كرسيه‪ .‬فلما مات‬
‫سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قام إبليس ‪ ،‬لعنه ال ‪ ،‬خطيبًا ‪[ ،‬ثم] (‪ )9‬قال ‪ :‬يا أيها الناس ‪ ،‬إن سليمان‬
‫لم يكن نَبيّا ‪ ،‬إنما كان ساحرًا ‪ ،‬فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته‪ .‬ثم دلهم على المكان الذي دفن‬
‫فيه‪ .‬فقالوا ‪ :‬وال لقد كان سليمان ساحرًا! هذا (‪ )10‬سحره ‪ ،‬بهذا َتعَبدنا ‪ ،‬وبهذا قهرنا‪ .‬وقال‬
‫المؤمنون ‪ :‬بل كان نبيًا مؤمنًا‪ .‬فلما بعث ال النبي صلى ال عليه وسلم جعل يذكر النبياء حتى‬
‫ذكر داود وسليمان‪ .‬فقالت اليهود [لعنهم ال] (‪ )11‬انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل‪ .‬يذكر‬
‫سليمان مع النبياء‪ .‬إنما كان ساحرًا يركب الريح ‪ ،‬فأنزل ال تعالى ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ‬
‫عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } الية‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد العلى الصنعاني ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا المعتمر بن سليمان ‪ ،‬قال‬
‫حدَير ‪ ،‬عن أبي مِجْلَز ‪ ،‬قال ‪ :‬أخذ سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬من كل دابة عهدًا‬
‫‪ :‬سمعت عمران بن ُ‬
‫‪ ،‬فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ‪ ،‬خلى عنه‪ .‬فزاد الناس السجع والسحر ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هذا يعمل‬
‫به‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬عليه السلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬واستخرجه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬اكبر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حجاج"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬كذا وكذا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬وهذا"‪.‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/349‬‬

‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } (‪.)1‬‬


‫سليمان‪ .‬فقال ال تعالى ‪َ { :‬ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا عصام بن َروّاد ‪ ،‬حدثنا آدم ‪ ،‬حدثنا المسعودي ‪ ،‬عن زياد مولى ابن‬
‫مصعب ‪ ،‬عن الحسن ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ } قال ‪ :‬ثلث الشعر ‪ ،‬وثلث السحر ‪ ،‬وثلث‬
‫الكهانة‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬حدثنا الحسن بن أحمد ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن عبد ال بن بشار الواسطي ‪ ،‬حدثني سُرور بن‬
‫المغيرة ‪ ،‬عن عباد بن منصور ‪ ،‬عن الحسن ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ }‬
‫واتبعته اليهود على ملكه‪ .‬وكان السحر قبل ذلك في الرض لم يزل بها ‪ ،‬ولكنه إنما اتبع على‬
‫ملك سليمان‪.‬‬
‫فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ‪ ،‬ول يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها ‪،‬‬
‫وأنه ل تعارض بين السياقات على اللبيب ال َفهِم ‪ ،‬وال الهادي‪ .‬وقوله تعالى ‪ { :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو‬
‫الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } أي ‪ :‬واتبعت اليهود ‪ -‬الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب‬
‫ال الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم ما تتلوه (‪ )2‬الشياطين ‪ ،‬أي ‪ :‬ما‬
‫ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان‪ .‬وعداه بعلى ؛ لنه تضمن تتلو ‪ :‬تكذب‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪" :‬على" (‪ )3‬هاهنا بمعنى "في" ‪ ،‬أي ‪ :‬تتلو في ملك سليمان‪ .‬ونقله عن ابن جُرَيج‬
‫‪ ،‬وابن إسحاق‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والتضمن أحسن وأولى ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقول الحسن البصري ‪ ،‬رحمه ال ‪" :‬قد كان السحر قبل زمان (‪ )4‬سليمان بن داود" صحيح ل‬
‫شك فيه ؛ لن السحرة كانوا في زمان (‪ )5‬موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وسليمان بن داود بعده ‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا‬
‫ُنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } الية [البقرة ‪ ، ]246 :‬ثم ذكر القصة بعدها ‪ ،‬وفيها ‪َ { :‬وقَ َتلَ دَاوُدُ جَالُوتَ‬
‫ح ْكمَةَ } [البقرة ‪ .]251 :‬وقال قوم صالح ‪ -‬وهم قبل إبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه‬
‫ك وَالْ ِ‬
‫وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ‬
‫سحّرِينَ } [الشعراء ‪ ]153 :‬أي ‪[ :‬من] (‪ )6‬المسحورين‬
‫السلم ‪ ،‬لنبيهم صالح ‪ { :‬إِ ّنمَا أَ ْنتَ مِنَ ا ْلمُ َ‬
‫على المشهور‪.‬‬
‫حدٍ حَتّى َيقُول‬
‫ت َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ‬
‫ت َومَارُو َ‬
‫علَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُو َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ َ‬
‫إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَل َت ْكفُرْ فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْجِهِ } اختلف الناس في هذا‬
‫علَى ا ْلمََلكَيْنِ } قال‬
‫المقام ‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية ‪ ،‬أعني التي في قوله ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ َ‬
‫القرطبي ‪" :‬ما" نافية ومعطوفة على قوله ‪َ { :‬ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ } ثم قال ‪ { :‬وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا‬
‫ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْ َر َومَا أُنزلَ } أي ‪ :‬السحر { عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } وذلك أن اليهود ‪ -‬لعنهم ال ‪-‬‬
‫كانوا يزعمون أنه نزل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)414 /2‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما تتلوه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" : ،‬وعلي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬قبل زمن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬زمن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/350‬‬
‫ت َومَارُوتَ } بدل من ‪ { :‬الشياطين‬
‫به جبريل وميكائيل فأكذبهم ال في ذلك وجعل قوله ‪ { :‬هَارُو َ‬
‫خ َوةٌ }‬
‫} قال ‪ :‬وصح ذلك ‪ ،‬إما لن الجمع قد يطلق على الثنين كما في قوله ‪ { :‬فَإِنْ كَانَ لَهُ إِ ْ‬
‫[النساء ‪ ]11 :‬أو يكون لهما أتباع ‪ ،‬أو ذكرا من بينهم لتمردهما ‪ ،‬فتقدير الكلم عنده ‪ :‬تعلمون‬
‫الناس السحر ببابل ‪ ،‬هاروت وماروت‪ .‬ثم قال ‪ :‬وهذا أولى ما حملت عليه الية وأصح ول‬
‫يلتفت إلى ما سواه‪.‬‬
‫وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ عَلَى‬
‫ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ َومَارُوتَ } يقول ‪ :‬لم ينزل ال السحر‪ .‬وبإسناده ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬في‬
‫قوله ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } قال ‪ :‬ما أنزل ال عليهما السحر‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬فتأويل الية على هذا ‪ :‬واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ‪،‬‬
‫وما كفر سليمان ‪ ،‬ول أنزل ال السحر على الملكين ‪ ،‬ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر‬
‫ببابل ‪ ،‬هاروت وماروت‪ .‬فيكون قوله ‪ { :‬بِبَا ِبلَ هَارُوتَ [ َومَارُوت (‪ } ] )1‬من المؤخر الذي‬
‫معناه المقدم‪ .‬قال ‪ :‬فإن قال لنا قائل ‪ :‬وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل ‪ :‬وجه تقديمه أن يقال ‪:‬‬
‫{ وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ } ‪" -‬من السحر" ‪َ { -‬ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ } وما أنزل‬
‫ال "السحر" على الملكين ‪ { ،‬وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } ببابل وهاروت‬
‫وماروت فيكون معنيا بالملكين ‪ :‬جبريل وميكائيل ‪ ،‬عليهما السلم ؛ لن سحرة اليهود فيما ذكر‬
‫كانت تزعم أن ال أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ‪ ،‬فأكذبهم ال‬
‫بذلك ‪ ،‬وأخبر نبيه محمدًا صلى ال عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزل بسحر ‪ ،‬وبرأ‬
‫سليمان ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬مما نحلوه من السحر ‪ ،‬وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ‪ ،‬وأنها‬
‫تعلم الناس ذلك ببابل ‪ ،‬وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلن ‪ ،‬اسم أحدهما هاروت ‪ ،‬واسم الخر‬
‫ماروت ‪ ،‬فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ‪ ،‬وردًا عليهم‪.‬‬
‫هذا لفظه بحروفه (‪.)2‬‬
‫حدّثت عن عُبَيد ال بن موسى ‪ ،‬أخبرنا فضيل بن مرزوق ‪ ،‬عن عطية {‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ُ :‬‬
‫َومَا أُنزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } قال ‪ :‬ما أنزل ال على جبريل وميكائيل السحر‪.‬‬
‫حدثنا (‪ )3‬الفضل بن شاذان ‪ ،‬حدثنا محمد بن عيسى ‪ ،‬حدثنا يعلى ‪ -‬يعني ابن أسد ‪ -‬حدثنا بكر‬
‫(‪ - )4‬يعني ابن مصعب ‪ -‬حدثنا الحسن بن أبي جعفر ‪ :‬أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها ‪:‬‬
‫"وما أنزل على الملكين داود وسليمان"‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬لم ينزل عليهما السحر ‪ ،‬يقول ‪ :‬علما اليمان والكفر ‪ ،‬فالسحر من الكفر ‪ ،‬فهما‬
‫ينهيان عنه أشد النهي‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)420 ، 419 /2‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬بكير"‪.‬‬

‫( ‪)1/351‬‬

‫ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ‪ ،‬وأن "ما" بمعنى الذي ‪ ،‬وأطال القول في ذلك ‪ ،‬وادعى (‬
‫‪ )1‬أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما ال إلى الرض ‪ ،‬وأذن لهما في تعليم السحر اختبارًا‬
‫لعباده وامتحانًا ‪ ،‬بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ‪ ،‬وادعى أن هاروت‬
‫وماروت مطيعان في تعليم ذلك ؛ لنهما امتثل ما أمرا به‪.‬‬
‫وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلن من الجن‬
‫[كما زعمه ابن حزم] (‪! )2‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم بإسناده‪ .‬عن الضحاك بن مزاحم ‪ :‬أنه كان يقرؤها ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ عَلَى‬
‫ا ْلمََلكَيْنِ } ويقول ‪ :‬هما علجان من أهل بابل‪.‬‬
‫َووَجّه أصحابُ هذا القول النزال بمعنى الخَلْق ‪ ،‬ل بمعنى اليحاء ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ عَلَى‬
‫ا ْلمََلكَيْنِ } كما قال تعالى ‪ { :‬وَأَنزلَ َلكُمْ مِنَ ال ْنعَامِ َثمَانِ َيةَ أَ ْزوَاجٍ } [الزمر ‪ { ، ]6 :‬وَأَنزلْنَا ا ْلحَدِيدَ‬
‫سمَاءِ رِ ْزقًا } [غافر ‪ .]13 :‬وفي الحديث ‪:‬‬
‫فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد ‪ { ، ]25 :‬وَيُنزلُ َلكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫"ما أنزل ال داء إل أنزل له دواء"‪ .‬وكما يقال ‪ :‬أنزل ال الخير والشر‪.‬‬
‫[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري ‪ :‬أنهم قرؤوا ‪َ " :‬ومَا‬
‫أُنزلَ عَلَى ا ْلمَِلكَيْنِ" بكسر اللم‪ .‬قال ابن أبزى ‪ :‬وهما داود وسليمان‪ .‬قال القرطبي ‪ :‬فعلى هذا‬
‫تكون "ما" نافية أيضًا] (‪.)3‬‬
‫وذهب آخرون إلى الوقف على قوله ‪ُ { :‬يعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ } [و "ما" نافية] (‪ )4‬قال ابن جرير‬
‫‪ :‬حدثني يونس ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرنا الليث ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن القاسم بن محمد ‪،‬‬
‫علَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ‬
‫وسأله رجل عن قول ال تعالى ‪ُ { :‬يعَّلمُونَ النّاسَ السّحْ َر َومَا أُنزلَ َ‬
‫َومَارُوتَ } قال الرجل ‪ :‬يعلمان الناس السحر ‪ ،‬ما أنزل عليهما (‪ )5‬أو يعلمان الناس ما لم ينزل‬
‫عليهما ؟ فقال القاسم ‪ :‬ما أبالي أيتهما كانت‪.‬‬
‫ثم روى عن يونس ‪ ،‬عن أنس بن عياض ‪ ،‬عن بعض أصحابه ‪ :‬أن القاسم قال في هذه القصة ‪:‬‬
‫ل أبالي أيّ ذلك كان ‪ ،‬إني آمنت به‪.‬‬
‫وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ‪ ،‬وأنهما أنزل إلى الرض ‪ ،‬فكان من‬
‫أمرهما ما كان‪ .‬وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه المام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء‬
‫ال تعالى‪ .‬وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلئل على عصمة الملئكة أن‬
‫هذين سبق في علم ال لهما هذا ‪ ،‬فيكون تخصيصًا لهما ‪ ،‬فل تعارض حينئذ ‪ ،‬كما سبق في علمه‬
‫من أمر إبليس‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وادعى على"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬إليهما"‪.‬‬

‫( ‪)1/352‬‬

‫جدُوا لدَمَ‬
‫ما سبق ‪ ،‬وفي قول ‪ :‬إنه كان من الملئكة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْ ُ‬
‫جدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى } [طه ‪ ، ]116 :‬إلى غير ذلك من اليات الدالة على ذلك‪ .‬مع أن شأن‬
‫فَسَ َ‬
‫هاروت وماروت ‪ -‬على ما ذكر ‪ -‬أخف مما وقع من إبليس لعنه ال‪.‬‬
‫[وقد حكاه القرطبي عن على ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وكعب الحبار ‪،‬‬
‫والسدي ‪ ،‬والكلبي] (‪.)1‬‬
‫ذكر الحديث الوارد في ذلك ‪ -‬إن صح سنده ورفعه ‪ -‬وبيان الكلم عليه ‪:‬‬
‫قال المام أحمد بن حنبل ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في مسنده ‪ :‬حدثنا يحيى بن [أبي] (‪ )2‬بكير ‪ ،‬حدثنا زهير‬
‫بن محمد ‪ ،‬عن موسى بن جبير ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن عبد ال بن عمر ‪ :‬أنه سمع نبي ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يقول ‪" :‬إن آدم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لما أهبطه ال إلى الرض قالت الملئكة ‪ :‬أي رب (‬
‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعَْلمُ مَا ل‬
‫حمْ ِد َ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَا َء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ‬
‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬
‫‪ { )3‬أَتَ ْ‬
‫َتعَْلمُونَ } [البقرة ‪ ، ]30 :‬قالوا ‪ :‬ربنا ‪ ،‬نحن أطوع لك من بني آدم‪ .‬قال ال تعالى للملئكة ‪:‬‬
‫هَلُموا ملكين من الملئكة حتى نهبطهما إلى الرض ‪ ،‬فننظر كيف يعملن ؟ قالوا ‪ :‬برَبّنا ‪،‬‬
‫هاروتَ وماروتَ‪ .‬فأهبطا إلى الرض ومثُلت لهما (‪ )4‬الزّهَرة امرأة من أحسن البشر ‪ ،‬فجاءتهما‬
‫‪ ،‬فسألها نفسها‪ .‬فقالت ‪ :‬ل وال حتى تتكلما بهذه الكلمة من الشراك‪ .‬فقال وال (‪ )5‬ل نشرك‬
‫بال شيئًا أبدًا‪ .‬فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ‪ ،‬فسألها نفسها‪ .‬فقالت ‪ :‬ل وال حتى تقتل‬
‫خمْر تحمله ‪ ،‬فسألها نفسها‪.‬‬
‫هذا الصبي‪ .‬فقال ل وال ل نقتله أبدًا‪ .‬ثم ذهبت فرجعت (‪ )6‬بقَدَح َ‬
‫فقالت ‪ :‬ل وال حتى تشربا هذا الخمر‪ .‬فشربا فسكرا ‪ ،‬فوقعا عليها ‪ ،‬وقتل الصبي‪ .‬فلما أفاقا‬
‫قالت المرأة ‪ :‬وال ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إل قد (‪ )7‬فعلتماه حين سكرتما‪ .‬فخيرَا بين عذاب‬
‫الدنيا وعذاب الخرة ‪ ،‬فاختارا عذاب الدنيا"‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ‪ ،‬عن الحسن عن سفيان ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي‬
‫شيبة ‪ ،‬عن يحيى بن بكير ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫وهذا حديث غريب من هذا الوجه ‪ ،‬ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ‪ ،‬إل موسى بن‬
‫جبير هذا ‪ ،‬وهو النصاري السلمي مولهم المديني الحذاء ‪َ ،‬روَى عن ابن عباس وأبي أمامة بن‬
‫سهل بن حنيف ‪ ،‬ونافع ‪ ،‬وعبد ال بن كعب بن مالك‪ .‬وروى عنه ابنه عبد السلم ‪ ،‬وبكر بن‬
‫مضر ‪ ،‬وزهير بن محمد ‪ ،‬وسعيد بن سلمة ‪ ،‬وعبد ال بن َلهِيعة ‪ ،‬وعمرو بن الحارث ‪ ،‬ويحيى‬
‫بن أيوب‪ .‬وروى له أبو داود ‪ ،‬وابن ماجه ‪ ،‬وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ‪ ،‬ولم‬
‫يحك فيه شيئًا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يا رب"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬لهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ل وال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ج ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فذهبت ثم رجعت"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وقد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )134 /2‬وصحيح ابن حبان برقم (‪" )1717‬موارد" وقال أبو حاتم في العلل (‪/2‬‬
‫‪" : )69‬هذا حديث منكر"‪.‬‬

‫( ‪)1/353‬‬

‫من هذا ول هذا ‪ ،‬فهو مستور الحال (‪ )1‬وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ‪ ،‬عن ابن عمر‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ‪ ،‬كما قال ابن مَرْدُويه ‪:‬‬
‫حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد ‪ ،‬حدثنا هشام [بن علي بن هشام] (‪ )2‬حدثنا عبد ال بن رجاء ‪ ،‬حدثنا سعيد‬
‫بن سلمة ‪ ،‬حدثنا موسى بن سَرْجِس ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬سمع النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫يقول‪ .‬فذكره بطوله‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا الحسين ‪ -‬وهو سنيد بن داود صاحب التفسير ‪-‬‬
‫حدثنا الفرج بن فضالة ‪ ،‬عن معاوية بن صالح ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬قال ‪ :‬سافرت مع ابن عمر ‪ ،‬فلما‬
‫كان من آخر الليل قال ‪ :‬يا نافع ‪ ،‬انظر ‪ ،‬طلعت الحمراء ؟ قلت ‪ :‬ل ‪ -‬مرتين أو ثلثًا ‪ -‬ثم قلت‬
‫‪ :‬قد طلعت‪ .‬قال ‪ :‬ل مرحبًا بها ول أهل ؟ قلت ‪ :‬سبحان ال! نجم مسخر سامع مطيع‪ .‬قال ‪ :‬ما‬
‫قلت لك إل ما سمعت من رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أو قال ‪ :‬قال لي رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" : -‬إن الملئكة قالت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬كيف صبرك على بني آدم في الخطايا (‪ )3‬والذنوب‬
‫؟ قال ‪ :‬إني ابتليتهم وعافيتكم‪ .‬قالوا ‪ :‬لو كنا مكانهم ما عصيناك‪ .‬قال ‪ :‬فاختاروا ملكين منكم‪ .‬قال‬
‫‪ :‬فلم يألوا جهدًا أن يختاروا ‪ ،‬فاختاروا هاروت وماروت" (‪.)4‬‬
‫وهذان ‪ -‬أيضا ‪ -‬غريبان جدّا‪ .‬وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد ال بن عمر ‪ ،‬عن كعب‬
‫الحبار ‪ ،‬ل عن النبي (‪ )5‬صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬كما قال عبد الرزاق في تفسيره ‪ ،‬عن‬
‫الثوري ‪ ،‬عن موسى بن عقبة ‪ ،‬عن سالم ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬عن كعب ‪ ،‬قال (‪ )6‬ذكرت الملئكة‬
‫أعمال بني آدم ‪ ،‬وما يأتون من الذنوب ‪ ،‬فقيل لهم ‪ :‬اختاروا منكم اثنين ‪ ،‬فاختاروا هاروت‬
‫وماروت‪ .‬فقال (‪ )7‬لهما ‪ :‬إني أرسل إلى بني آدم رسل وليس بيني وبينكم رسول ‪ ،‬انزل ل‬
‫تشركا بي شيئًا ول تزنيا ول تشربا الخمر‪ .‬قال كعب ‪ :‬فوال ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه‬
‫حتى استكمل جميع ما نهيا عنه‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير من طريقين ‪ ،‬عن عبد الرزاق ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن أحمد بن عصام ‪ ،‬عن ُم َؤمّل ‪ ،‬عن سفيان الثوري ‪ ،‬به (‪.)9‬‬
‫ورواه ابن جرير أيضًا ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا المعلى ‪ -‬وهو ابن أسد ‪ -‬حدثنا عبد العزيز بن‬
‫المختار ‪ ،‬عن موسى بن عقبة ‪ ،‬حدثني سالم أنه سمع عبد ال يحدث ‪ ،‬عن كعب الحبار ‪ ،‬فذكره‬
‫(‪.)10‬‬
‫فهذا أصح وأثبت إلى عبد ال بن عمر من السنادين المتقدمين ‪ ،‬وسالم أثبت في أبيه من موله‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الجرح والتعديل (‪ )139 /8‬وذكره ابن حبان في الثقات (‪ )7/451‬وقال ‪" :‬يخطئ ويخالف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الخطأ"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)2/433‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬فقيل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير عبد الرزاق (‪ .)74 ، 73 /1‬وتفسير الطبري (‪.)2/429‬‬
‫(‪ )9‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)306 /1‬‬
‫(‪ )10‬تفسير الطبري (‪.)430 /2‬‬

‫( ‪)1/354‬‬

‫نافع‪ .‬فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الحبار ‪ ،‬عن كتب بني إسرائيل ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ذكر الثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي ال عنهم أجمعين ‪:‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا الحجاج (‪ )1‬حدثنا حماد ‪ ،‬عن خالد الحذاء ‪ ،‬عن عمير بن‬
‫سعيد ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت عليًا ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬يقول ‪ :‬كانت الزّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس ‪،‬‬
‫وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ‪ ،‬فراوداها (‪ )2‬عن نفسها ‪ ،‬فأبت عليهما إل أن‬
‫يعلماها الكلم الذي إذا تكَلّم [المتكلم] (‪ )3‬به ُيعْرج به إلى السماء‪ .‬فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى‬
‫السماء‪ .‬فمسخت كوكبًا!‬
‫وهذا السناد [جيد و] (‪ )4‬رجاله ثقات ‪ ،‬وهو غريب جدا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الفضل بن شاذان ‪ ،‬حدثنا محمد بن عيسى ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن موسى ‪،‬‬
‫حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن [ابن أبي] (‪ )5‬خالد ‪ ،‬عن عمير بن سعيد ‪ ،‬عن علي قال ‪ :‬هما ملكان من‬
‫ملئكة السماء‪ .‬يعني ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ } (‪.)6‬‬
‫ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده ‪ ،‬عن مغيث ‪ ،‬عن موله جعفر بن محمد ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬عن علي ‪ -‬مرفوعًا‪ .‬وهذا ل يثبت من هذا الوجه‪.‬‬
‫ثم رواه من طريقين آخرين ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬عن أبي الطفيل ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لعن ال الزّهَرة ‪ ،‬فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت"‪ .‬وهذا‬
‫أيضًا ل يصح (‪ )7‬وهو منكر جدًا‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا الحجاج بن مِنْهال ‪ ،‬حدثنا حماد ‪ ،‬عن علي‬
‫بن زيد ‪ ،‬عن أبي عثمان النهدي ‪ ،‬عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قال جميعًا ‪ :‬لما كثر (‪)8‬‬
‫بنو آدم وعصوا ‪ ،‬دعت الملئكة عليهم والرض والجبال ربنا ل تهلكهم (‪ )9‬فأوحى ال إلى‬
‫الملئكة ‪ :‬إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ‪ ،‬ولو نزلتم لفعلتم أيضًا‪ .‬قال ‪ :‬فحدثوا أنفسهم‬
‫أن لو ابتلوا اعتصموا ‪ ،‬فأوحى ال إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم‪ .‬فاختاروا هاروت‬
‫وماروت‪ .‬فأهبطا إلى الرض ‪ ،‬وأنزلت الزّهَرة إليهما في صورة (‪ )10‬امرأة من أهل فارس‬
‫يسمونها بيذخت‪ .‬قال ‪ :‬فوقعا بالخطيّة (‪ .)11‬فكانت الملئكة يستغفرون للذين آمنوا ‪ { :‬رَبّنَا‬
‫حمَ ًة وَعِ ْلمًا } [غافر ‪]7 :‬‬
‫شيْءٍ َر ْ‬
‫س ْعتَ ُكلّ َ‬
‫وَ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬المثنى بن الحجاج"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فراودوها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)303 /1‬‬
‫(‪ )7‬ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (‪ )654‬من طريق عيسى بن يونس عن أخيه‬
‫إسرائيل عن جابر عن أبي الطفيل عن علي به‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬كثر سواد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬تمهلهم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬في أحسن صورة"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬بالخطيئة"‪.‬‬

‫( ‪)1/355‬‬

‫فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الرض أل إن ال هو الغفور الرحيم‪ .‬فخيرا بين عذاب الدنيا‬
‫وعذاب الخرة ‪ ،‬فاختاروا (‪ )1‬عذاب الدنيا (‪.)2‬‬
‫وقال ‪ :‬ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن جعفر الرقي ‪ ،‬أخبرنا عبيد ال ‪ -‬يعني ابن‬
‫عمرو ‪ -‬عن زيد بن أبي أنيسة ‪ ،‬عن المِنْهال بن عمرو ويونس بن خباب ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫كنت نازل على عبد ال بن عمر في سفر ‪ ،‬فلما كان (‪ )3‬ذات ليلة قال لغلمه ‪ :‬انظر ‪ ،‬هل‬
‫طلعت الحمراء ‪ ،‬ل مرحبًا بها ول أهل ول حياها ال هي صاحبة الملكين‪ .‬قالت الملئكة ‪ :‬يا‬
‫رب ‪ ،‬كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في‬
‫الرض! قال ‪ :‬إني ابتليتهم ‪ ،‬فعلّ (‪ )4‬إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون‪ .‬قالوا‬
‫‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬فاختاروا من خياركم اثنين‪ .‬فاختاروا هاروت وماروت‪ .‬فقال لهما ‪ :‬إني مهبطكما إلى‬
‫الرض ‪ ،‬وعاهد إليكما أل تشركا ول تزنيا ول تخونا‪ .‬فأهبطا إلى الرض وألقي عليهما الشّبَق ‪،‬‬
‫وأهبطت لهما الزّهَرة في أحسن صورة امرأة ‪ ،‬فتعرضت لهما ‪ ،‬فراوداها (‪ )5‬عن نفسها‪ .‬فقالت‬
‫‪ :‬إني على دين ل يصح (‪ )6‬لحد أن يأتيني إل من كان على مثله‪ .‬قال وما دينك ؟ قالت ‪:‬‬
‫المجوسية‪ .‬قال الشرك! هذا شيء ل نقر به‪ .‬فمكثت عنهما ما شاء ال‪ .‬ثم تعرضت لهما فأراداها‬
‫عن نفسها‪ .‬فقالت ‪ :‬ما شئتما ‪ ،‬غير أن لي زوجًا ‪ ،‬وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ‪،‬‬
‫فإن أقررتما لي بديني ‪ ،‬وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت‪ .‬فأقرا لها بدينها وأتياها‬
‫فيما يريان ‪ ،‬ثم صعدا بها إلى السماء‪ .‬فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ‪ ،‬وقطعت‬
‫أجنحتهما (‪ )7‬فوقعا خائفين نادمين يبكيان ‪ ،‬وفي الرض نبي يدعو بين الجمعتين ‪ ،‬فإذا كان يوم‬
‫الجمعة أجيب‪ .‬فقال لو أتينا فلنًا فسألناه فطلب (‪ )8‬لنا التوبة فأتياه ‪ ،‬فقال ‪ :‬رحمكما ال (‪)9‬‬
‫كيف يطلب التوبة أهل الرض لهل السماء! قال إنا قد ابتلينا‪ .‬قال ‪ :‬ائتياني (‪ )10‬يوم الجمعة‪.‬‬
‫فأتياه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أجبت فيكما بشيء ‪ ،‬ائتياني في الجمعة الثانية‪ .‬فأتياه ‪ ،‬فقال ‪ :‬اختارا ‪ ،‬فقد‬
‫خيرتما ‪ ،‬إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الخرة ‪ ،‬وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة‬
‫على حكم ال‪ .‬فقال أحدهما ‪ :‬إن الدنيا لم يمض منها إل القليل‪ .‬وقال الخر ‪ :‬ويحك ؟ إني قد‬
‫أطعتك في المر الول فأطعني الن ‪ ،‬إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى‪ .‬وإننا يوم القيامة على‬
‫حكم ال ‪ ،‬فأخاف أن يعذبنا‪ .‬قال ‪ :‬ل إني أرجو إن علم ال أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة‬
‫عذاب الخرة ل يجمعهما علينا‪ .‬قال ‪ :‬فاختارا عذاب الدنيا ‪ ،‬فجعل في بكرات من حديد في قَلِيب‬
‫مملوءة من نار ‪ ،‬عَالي ُهمَا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فاختارا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪)428 /2‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فلما كانت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بفعل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فأراداها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ل يصلح"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أجنحتها"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬يطلب"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ما رحمكم ال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬فأتياني"‪.‬‬

‫( ‪)1/356‬‬

‫سافلَهما (‪.)1‬‬
‫وهذا إسناد جيد إلى عبد ال بن عمر‪ .‬وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن‬
‫صالح ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عنه رفعه‪ .‬وهذا أثبت وأصح إسنادًا‪ .‬ثم هو ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬من رواية ابن‬
‫عمر عن كعب ‪ ،‬كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه‪ .‬وقوله ‪ :‬إن الزّهَرة نزلت في صورة‬
‫امرأة حسناء ‪ ،‬وكذا في المروي عن علي ‪ ،‬فيه غرابة جدًا‪.‬‬
‫وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا عصام بن روّاد ‪ ،‬حدثنا آدم ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫جعفر ‪ ،‬حدثنا الربيع بن أنس ‪ ،‬عن قيس بن عباد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما (‪ )2‬قال ‪:‬‬
‫لما وقع الناس من بعد آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بال ‪ ،‬قالت‬
‫الملئكة في السماء ‪ :‬يا رب ‪ ،‬هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ‪ ،‬قد وقعوا فيما وقعوا‬
‫فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام ‪ ،‬والزنا والسرقة وشرب الخمر‪ .‬فجعلوا يدعون‬
‫عليهم ‪ ،‬ول يعذرونهم ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنهم في غَيْب‪ .‬فلم يعذروهم‪ .‬فقيل لهم ‪ :‬اختاروا منكم من أفضلكم‬
‫ملكين ‪ ،‬آمرهما وأنهاهما‪ .‬فاختاروا هاروت وماروت‪ .‬فأهبطا إلى الرض ‪ ،‬وجعل لهما شهوات‬
‫بني آدم ‪ ،‬وأمرهما ال أن يعبداه ول يشركا به شيئًا ‪ ،‬ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال‬
‫الحرام ‪ ،‬وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر‪ .‬فلبثا في الرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق‬
‫وذلك في زمان إدريس عليه السلم‪ .‬وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزّهَرة في‬
‫سائر الكواكب ‪ ،‬وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إل أن يكونا‬
‫على أمرها وعلى دينها ‪ ،‬فسألها (‪ )3‬عن دينها ‪ ،‬فأخرجت لهما صنمًا فقالت ‪ :‬هذا أعبده‪ .‬فقال‬
‫ل حاجة لنا في عبادة هذا‪ .‬فذهبا فغَبَرا ما شاء ال‪ .‬ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ‪ ،‬ففعلت مثل‬
‫ذلك‪ .‬فذهبا ‪ ،‬ثم أتيا عليها فراوداها (‪ )4‬على نفسها ‪ ،‬فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت‬
‫لهما ‪ :‬اختارا إحدى الخلل الثلث ‪ :‬إما أن تعبدا هذا الصنم ‪ ،‬وإما أن تقتل هذه النفس ‪ ،‬وإما أن‬
‫تشربا هذا الخمر‪ .‬فقال كل هذا ل ينبغي ‪ ،‬وأهون هذا شرب الخمر‪ .‬فشربا الخمر فأخذت فيهما‬
‫فواقعا (‪ )5‬المرأة ‪ ،‬فخشيا أن يخبر النسان عنهما فقتله (‪ )6‬فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما‬
‫وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء ‪ ،‬فلم يستطيعا ‪ ،‬وحيل بينهما وبين ذلك ‪،‬‬
‫وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ‪ ،‬فنظرت الملئكة إلى ما وقعا فيه ‪ ،‬فعجبوا كل‬
‫العجب ‪ ،‬وعَرَفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ‪ ،‬فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في‬
‫حمْدِ رَ ّب ِه ْم وَيَسْ َت ْغفِرُونَ ِلمَنْ فِي ال ْرضِ }‬
‫الرض ‪ ،‬فنزل في ذلك ‪ { :‬وَا ْلمَل ِئكَةُ يُسَبّحُونَ بِ َ‬
‫[الشورى ‪ ]5 :‬فقيل لهما ‪ :‬اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الخرة فقال أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)307 ، 306 /1‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬عنه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فسأل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فأراداها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فوقعا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فقتلها"‪.‬‬

‫( ‪)1/357‬‬

‫ويذهب ‪ ،‬وأما عذاب الخرة فل انقطاع له‪ .‬فاختارا عذاب الدنيا ‪ ،‬فجعل ببابل ‪ ،‬فهما يعذبان (‬
‫‪.)1‬‬
‫وقد رواه الحاكم في مستدركه مطول عن أبي زكريا العنبري ‪ ،‬عن محمد بن عبد السلم ‪ ،‬عن‬
‫إسحاق بن راهويه ‪ ،‬عن حكام بن سلم (‪ )2‬الرازي ‪ ،‬وكان ثقة ‪ ،‬عن أبي جعفر الرازي ‪ ،‬به‪ .‬ثم‬
‫قال ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه‪ .‬فهذا أقرب ما روي في شأن الزّهَرة ‪ ،‬وال أعلم (‪.)3‬‬
‫حدّاني (‪ )4‬حدثنا يزيد ‪-‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا مسلم ‪ ،‬حدثنا القاسم بن الفضل ال ُ‬
‫يعني الفارسي ‪ -‬عن ابن عباس [قال] (‪ )5‬أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الرض فرأوهم‬
‫يعملون المعاصي (‪ )6‬فقالوا ‪ :‬يا رب أهل الرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال ال ‪ :‬أنتم‬
‫معي ‪ ،‬وهم غُيّب عني‪ .‬فقيل لهم ‪ :‬اختاروا منكم ثلثة ‪ ،‬فاختاروا منهم ثلثة على أن يهبطوا إلى‬
‫الرض ‪ ،‬على أن يحكموا بين أهل الرض ‪ ،‬وجعل فيهم شهوة الدميين ‪ ،‬فأمروا أل يشربوا‬
‫خمرًا ول يقتلوا نفسا ‪ ،‬ول يزنوا ‪ ،‬ول يسجدوا لوثن‪ .‬فاستقال منهم واحد ‪ ،‬فأقيل‪ .‬فأهبط اثنان‬
‫إلى الرض ‪ ،‬فأتتهما امرأة من أحسن الناس (‪ )7‬يقال لها ‪ :‬مناهية (‪َ .)8‬فهَويَاها جميعًا ‪ ،‬ثم أتيا‬
‫منزلها فاجتمعا عندها ‪ ،‬فأراداها فقالت لهما ‪ :‬ل حتى تشربا خمري ‪ ،‬وتقتل ابن جاري ‪ ،‬وتسجدا‬
‫لوثني‪ .‬فقال ل نسجد‪ .‬ثم شربا من الخمر ‪ ،‬ثم قتل ثم سجدا‪ .‬فأشرف أهل السماء عليهما‪ .‬فقالت (‬
‫‪ )9‬لهما ‪ :‬أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما‪ .‬فأخبراها فطارت فمسخت جمرة‪ .‬وهي هذه‬
‫الزهَرة‪ .‬وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪.‬‬
‫فاختارا عذاب الدنيا‪ .‬فهما مناطان بين السماء والرض (‪.)10‬‬
‫وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ‪ ،‬وال أعلم بالصواب‪.‬‬
‫علَى‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬قال َم ْعمَر ‪ :‬قال قتادة والزهري ‪ ،‬عن عبيد ال بن عبد ال ‪َ { :‬ومَا أُنزلَ َ‬
‫ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ َومَارُوتَ } كانا ملكين من الملئكة ‪ ،‬فأهبطا ليحكما بين الناس‪ .‬وذلك أن‬
‫الملئكة سخروا من حكام بني آدم ‪ ،‬فحاكمت إليهما امرأة ‪ ،‬فحافا لها‪ .‬ثم ذهبا يصعدان فحيل‬
‫بينهما وبين ذلك ‪ ،‬ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة ‪ ،‬فاختارا عذاب الدنيا‪ .‬وقال َم ْعمَر ‪:‬‬
‫قال قتادة ‪ :‬فكانا يعلمان الناس السحر ‪ ،‬فأخذ عليهما أل يعلما أحدا حتى يقول { إِ ّنمَا َنحْنُ فِتْنَةٌ فَل‬
‫َت ْكفُرْ } (‪.)11‬‬
‫وقال أسباط عن السدي أنه قال ‪ :‬كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الرض في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)305 /1‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬بن سالم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬وقد أبطل المام ابن حزم قصة هاروت وماروت ورد على من ادعى شربهما الخمر‬
‫وارتكابهما الزنا والقتل في كتابه الفصل (‪.)65 - 61 /4 ، 308 - 303 / 3‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬الحراني"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بالمعاصي"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬النساء"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬أناهيد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" : ،‬وقالت‪.‬‬
‫(‪ )10‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)308 /1‬‬
‫(‪ )11‬تفسير عبد الرزاق (‪.)73 /1‬‬

‫( ‪)1/358‬‬
‫أحكامهم ‪ ،‬فقيل لهما ‪ :‬إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات ‪ ،‬فبها (‪ )1‬يعصونني‪ .‬قال‬
‫هاروت وماروت ‪ :‬ربنا ‪ ،‬لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل‪ .‬فقال لهما ‪ :‬انزل فقد‬
‫أعطيتكما تلك الشهوات العشر ‪ ،‬فاحكما بين الناس‪ .‬فنزل ببابل دَنْباوَند ‪ ،‬فكانا يحكمان ‪ ،‬حتى إذا‬
‫أمسيا عرجا ‪ ،‬فإذا أصبحا هبطا ‪ ،‬فلم يزال كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ‪ ،‬فأعجبهما (‬
‫‪ )2‬حسنها ‪ -‬واسمها بالعربية "الزّهَرة" ‪ ،‬وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية "أناهيد" ‪ -‬فقال أحدهما‬
‫لصاحبه ‪ :‬إنها لتعجبني‪ .‬قال الخر ‪ :‬قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك‪ .‬فقال الخر ‪ :‬هل لك‬
‫أن أذكرها لنفسها ؟ قال ‪ :‬نعم ولكن كيف لنا بعذاب ال ؟ قال الخر ‪ :‬إنا لنرجو رحمة ال‪ .‬فلما‬
‫جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ل حتى تقضيا لي على زوجي‪ .‬فقضيا لها على‬
‫زوجها ‪ ،‬ثم واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها ‪ ،‬فأتياها لذلك‪ .‬فلما أراد الذي يواقعها قالت ‪:‬‬
‫ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلم تصعدان إلى السماء ‪ ،‬وبأي كلم تنزلن منها ؟‬
‫فأخبراها ‪ ،‬فتكلمت فصعدت ‪ ،‬فأنساها ال ما تنزل به ‪ ،‬فبقيت (‪ )3‬مكانها ‪ ،‬وجعلها (‪ )4‬ال‬
‫كوكبًا‪ .‬فكان عبد ال بن عمر كلما رآها لعنها ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذه التي فتنت هاروت وماروت ‪ ،‬فلما‬
‫كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ‪ ،‬فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪ .‬فاختارا‬
‫عذاب الدنيا ‪ ،‬فعلقا ببابل ‪ ،‬وجعل يكلمان الناس كلمهما وهو السحر‪.‬‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح (‪ )5‬عن مجاهد ‪ :‬أما شأن هاروت وماروت ‪ ،‬فإن الملئكة عجبت من ظلم‬
‫بني آدم ‪ ،‬وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ‪ ،‬فقال لهم ربهم تعالى ‪ :‬اختاروا منكم ملكين‬
‫أنزلهما يحكمان في الرض بين بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إل] (‪ )6‬هاروت وماروت ‪ ،‬فقال لهما‬
‫حين أنزلهما ‪ :‬أعجبتما (‪ )7‬من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم ‪ ،‬وإنما تأتيهم الرسل والكتب‬
‫[والبينات] (‪ )8‬من وَرَاء وَرَاء ‪ ،‬وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ‪ ،‬فافعل كذا وكذا ‪ ،‬ودعا كذا‬
‫وكذا ‪ ،‬فأمرهما بأمر ونهاهما ‪ ،‬ثم نزل على ذلك ليس أحد أطوع ل منهما ‪ ،‬فحكما فعدل‪ .‬فكانا‬
‫يحكمان في النهار بين بني آدم ‪ ،‬فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملئكة ‪ ،‬وينزلن حين يصبحان‬
‫فيحكمان فيعدلن ‪ ،‬حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم ‪ ،‬فقضيا عليها‪.‬‬
‫فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ‪ ،‬فقال أحدهما لصاحبه ‪ :‬وجدتَ مثل الذي وجدتُ ؟ قال‬
‫‪ :‬نعم‪ .‬فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك‪ .‬فلما رجعت قال وقضيا لها ‪ ،‬فأتتهما فتكشفا لها عن‬
‫عورتيهما ‪ ،‬وإنما كانت شهوتهما (‪ )9‬في أنفسهما ‪ ،‬ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها‪.‬‬
‫فلما بلغا ذلك واستحل افتُتنا ‪ ،‬فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت‪ .‬فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم‬
‫يؤذن لهما ‪ ،‬ولم تحملهما أجنحتهما‪ .‬فاستغاثا برجل من بني آدم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬فما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فأعجبهما من "‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فثبتت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬وخلقها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬جريج"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬أعجبتم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬سوآتهما"‪.‬‬

‫( ‪)1/359‬‬

‫فأتياه ‪ ،‬فقال ادع لنا ربك‪ .‬فقال ‪ :‬كيف يشفع أهل الرض لهل السماء ؟ قال سمعنا ربك يذكرك‬
‫بخير في السماء‪ .‬فوعدهما يومًا ‪ ،‬وغدا يدعو لهما ‪ ،‬فدعا لهما ‪ ،‬فاستجيب له ‪ ،‬فخيرا بين عذاب‬
‫الدنيا وعذاب الخرة ‪ ،‬فنظر أحدهما إلى صاحبه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أل تعلم أن أفواج عذاب ال في الخرة‬
‫كذا وكذا في الخلد ‪ ،‬وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزل ببابل ‪ ،‬فثَمّ عذابهما‪ .‬وزعم‬
‫أنهما معلقان في الحديد مطويان ‪ ،‬يصفقان بأجنحتهما‪.‬‬
‫وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ‪ ،‬كمجاهد والسدي والحسن‬
‫[البصري] (‪ )1‬وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ‪ ،‬وقصها‬
‫خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ‪ ،‬وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني‬
‫إسرائيل ‪ ،‬إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل السناد إلى الصادق المصدوق المعصوم‬
‫الذي ل ينطق عن الهوى ‪ ،‬وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ول إطناب فيها ‪،‬‬
‫فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده ال تعالى ‪ ،‬وال أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬
‫وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ‪ ،‬قال ‪ :‬المام أبو جعفر‬
‫بن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا الربيع بن سليمان ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني ابن أبي الزناد ‪،‬‬
‫حدثني هشام بن عُ ْروَة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم [رضي ال عنها‬
‫وعن أبيها] (‪ )2‬أنها قالت ‪ :‬قدمت امرأة عليّ من أهل دومة الجندل ‪ ،‬جاءت تبتغي رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك ‪ ،‬تسأله عن شيء (‪ )3‬دخلت فيه من أمر السحر ‪ ،‬ولم‬
‫تعمل به‪ .‬قالت عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬لعُ ْروَة ‪ :‬يا ابن أختي ‪ ،‬فرأيتها تبكي حين لم تجد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لرحمها ‪ ،‬وتقول ‪ :‬إني أخاف أن‬
‫أكون قد هلكت‪ .‬كان لي زوج فغاب عني ‪ ،‬فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إن‬
‫فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك‪ .‬فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ‪ ،‬فركبتُ أحدهما (‪)4‬‬
‫وركبت الخر ‪ ،‬فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ‪ ،‬وإذا برجلين معلقين بأرجلهما‪ .‬فقال ما جاء بك‬
‫؟ فقلتُ ‪ :‬أتعلم (‪ )5‬السحر‪ .‬فقال إنما نحن فتنة فل تكفري ‪ ،‬فارجعي‪ .‬فأبيت وقلت ‪ :‬ل‪ .‬قال‬
‫فاذهبي (‪ )6‬إلى ذلك التنور ‪ ،‬فبولي فيه‪ .‬فذهبت ففزعتُ ولم أفعل ‪ ،‬فرجعت إليهما ‪ ،‬فقال‬
‫أفعلت ؟ فقلت ‪ :‬نعم‪ .‬فقال هل رأيت شيئًا ؟ فقلت ‪ :‬لم أر شيئًا‪ .‬فقال لم تفعلي ‪ ،‬ارجعي إلى‬
‫بلدك ول تكفري [فإنك على رأس أمري] (‪ .)7‬فأرْبَبْت وأبيت (‪ .)8‬فقال اذهبي إلى ذلك التنور‬
‫فبولي فيه‪ .‬فذهبت فاقشعررت [وخفت] (‪ )9‬ثم رجعت إليهما فقلت ‪ :‬قد فعلت‪ .‬فقال فما رأيت ؟‬
‫فقلت ‪ :‬لم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن أشياء"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فركبت إحداهما"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فقلنا نتعلم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬فقال فاذهبا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬فأبت وأبيت"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/360‬‬

‫أر شيئًا‪ .‬فقال كذبت ‪ ،‬لم تفعلي ‪ ،‬ارجعي إلى بلدك ول تكفري (‪ )1‬؛ فإنك على رأس أمرك‪.‬‬
‫فأرببتُ وأبيتُ‪ .‬فقال اذهبي إلى ذلك التنور ‪ ،‬فبولي فيه‪ .‬فذهبت إليه فبلت فيه ‪ ،‬فرأيت فارسًا‬
‫مقنعًا (‪ )2‬بحديد خَرَج مني ‪ ،‬فذهب في السماء وغاب [عني] (‪ )3‬حتى ما أراه ‪ ،‬فجئتهما فقلت ‪:‬‬
‫قد فعلت‪ .‬فقال فما رأيت ؟ قلت ‪ :‬رأيت فارسًا مقنعًا خرج مني فذهب في السماء ‪ ،‬حتى ما أراه‪.‬‬
‫فقال صدقت ‪ ،‬ذلك إيمانك خرج منك ‪ ،‬اذهبي‪ .‬فقلت للمرأة ‪ :‬وال ما أعلم شيئًا وما قال لي شيئًا‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬بلى ‪ ،‬لم تريدي شيئًا إل كان ‪ ،‬خذي هذا القمح فابذري ‪ ،‬فبذرت ‪ ،‬وقلت ‪ :‬أطلعي (‪)4‬‬
‫فأطلعت (‪ )5‬وقلت ‪ :‬أحقلي فأحقلت (‪ )6‬ثم قلت ‪ :‬أفْركي فأف َر َكتْ‪ .‬ثم قلت ‪ :‬أيبسي فأيبست (‪.)7‬‬
‫ثم قلت ‪ :‬أطحني فأطحنت (‪ .)8‬ثم قلت ‪ :‬أخبزي فأخبزت (‪ .)9‬فلما رأيتُ أني ل أريد شيئًا إل‬
‫كان ‪ ،‬سقط في يدي وندمت ‪ -‬وال ‪ -‬يا أم المؤمنين وال ما فعلت شيئًا قط ول أفعله أبدًا (‪.)10‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ‪ ،‬به مطول كما تقدم (‪ .)11‬وزاد بعد قولها ‪ :‬ول أفعله‬
‫أبدًا ‪ :‬فسألت أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم حداثة وفاة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وهم يومئذ متوافرون ‪ ،‬فما دَرَوا ما يقولون لها ‪ ،‬وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما ل‬
‫يعلمه ‪ ،‬إل أنه قد قال لها ابن عباس ‪ -‬أو بعض من كان عنده ‪ : -‬لو كان أبواك حيين أو أحدهما‬
‫[لكان يكفيانك] (‪.)12‬‬
‫قال هشام ‪ :‬فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [قال] (‪ : )13‬قال ابن أبي الزناد ‪ :‬وكان هشام يقول ‪:‬‬
‫إنهم كانوا أهل الورع والخشية (‪ )14‬من ال‪ .‬ثم يقول هشام ‪ :‬لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى‬
‫أهل حمق وتكلف بغير علم‪.‬‬
‫فهذا إسناد جيد إلى عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها‪.‬‬
‫وقد استدل بهذا الثر من ذهب إلى أن (‪ )15‬الساحر له تمكن في قلب العيان ؛ لن هذه المرأة‬
‫بذرت واستغلت في الحال‪.‬‬
‫سحَرُوا أَعْيُنَ‬
‫وقال آخرون ‪ :‬بل ليس له قدرة إل على التخييل ‪ ،‬كما قال [ال] (‪ )16‬تعالى ‪َ { :‬‬
‫عظِيمٍ } [العراف ‪ ]116 :‬وقال تعالى ‪ُ { :‬يخَ ّيلُ إِلَيْهِ مِنْ‬
‫س وَاسْتَ ْرهَبُوهُ ْم وَجَاءُوا ِبسِحْرٍ َ‬
‫النّا ِ‬
‫سعَى } [طه ‪]66 :‬‬
‫سحْرِهِمْ أَ ّنهَا َت ْ‬
‫ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ولم تكفري"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬معلقا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬اطلع فطلع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬احقل فأحقل" ‪ ،‬وفي أ ‪ ،‬و ‪" :‬فطلعت"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬احقلى فأجعلت"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أيبس فيبس"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬اطحن فطحن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬اختبز فاختبز"‪.‬‬
‫(‪ )10‬تفسير الطبري (‪.)441 - 439 /2‬‬
‫(‪ )11‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )312 /1‬ورواه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )137 /8‬من طريق‬
‫الربيع بن سليمان به مطول ‪ ،‬وهذه الزيادة لم ترد في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم ‪ ،‬وقد نبه‬
‫إلى ذلك المحقق الفاضل ‪ ،‬جزاه ال خيرًا‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )13‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬وأهل خشية"‪.‬‬
‫(‪ )15‬في أ ‪" :‬من ذهب بأن"‪.‬‬
‫(‪ )16‬زيادة من أ‪.‬‬
‫( ‪)1/361‬‬

‫واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق ‪ ،‬ل بابل دُنْباوَنْد (‪ )1‬كما قاله‬
‫السدي وغيره‪ .‬ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال (‪ )2‬ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا علي بن‬
‫الحسين ‪ ،‬حدثنا أحمد بن صالح ‪ ،‬حدثني ابن وهب ‪ ،‬حدثني ابن َلهِيعة ويحيى بن أزهر ‪ ،‬عن‬
‫عمار بن سعد المرادي ‪ ،‬عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب ‪ ،‬رضي ال عنه [مر‬
‫ببابل وهو يسير ‪ ،‬فجاء المؤذن ُيؤْذنه بصلة العصر ‪ ،‬فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلة ‪،‬‬
‫فلما فرغ] قال ‪ :‬إن حبيبي صلى ال عليه وسلم نهاني أن أصلي [بأرض المقبرة ‪ ،‬ونهاني أن‬
‫أصلي] ببابل فإنها ملعونة (‪.)3‬‬
‫وقال أبو داود ‪ :‬حدثنا سليمان بن داود ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬حدثني ابن َلهِيعة ويحيى بن أزهر ‪،‬‬
‫عن عمار بن سعد المرادي ‪ ،‬عن أبي صالح الغفاري ‪ :‬أن عليا مر ببابل ‪ ،‬وهو يسير ‪ ،‬فجاءه‬
‫المؤذن يؤذنه بصلة العصر ‪ ،‬فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلة فلما فرغ قال ‪ :‬إن حبيبي‬
‫صلى ال عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ‪ ،‬ونهاني أن أصلي بأرض بابل ‪ ،‬فإنها ملعونة‪.‬‬
‫حدثنا أحمد بن صالح ‪ :‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة ‪ ،‬عن الحجاج بن‬
‫شداد ‪ ،‬عن أبي صالح الغفاري ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬بمعنى حديث سليمان بن داود ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما "خرج"‬
‫مكان "برز" (‪.)4‬‬
‫وهذا الحديث حسن عند المام أبي داود ‪ ،‬لنه رواه وسكت عنه (‪ )5‬؛ ففيه من الفقه كراهية‬
‫الصلة بأرض بابل ‪ ،‬كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الدخول‬
‫إلى منازلهم ‪ ،‬إل أن يكونوا باكين‪.‬‬
‫قال أصحاب الهيئة ‪ :‬و ُبعْدُ ما بين بابل ‪ ،‬وهي من إقليم العراق ‪ ،‬عن البحر المحيط الغربي ‪،‬‬
‫ويقال له ‪ :‬أوْقيانُوس (‪ )6‬سبعون درجة ‪ ،‬ويسمون هذا طول وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين‬
‫وسط الرض من ناحية الجنوب ‪ ،‬وهو المسامت لخط الستواء ‪ ،‬اثنان (‪ )7‬وثلثون درجة ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى َيقُول إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَل َت ْكفُرْ } قال أبو جعفر الرازي ‪،‬‬
‫عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن قيس (‪ )8‬بن عباد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬فإذا أتاهما التي يريد‬
‫السحر نهياه أشد النهي ‪ ،‬وقال له ‪ :‬إنما نحن فتنة فل تكفر ‪ ،‬وذلك أنهما علما الخير والشر‬
‫والكفر واليمان ‪ ،‬فعرفا أن السحر من الكفر (‪[ .)9‬قال] (‪ )10‬فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي‬
‫مكان كذا وكذا ‪ ،‬فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه ‪ ،‬فإذا تعلم خرج منه النور ‪ ،‬فنظر (‪ )11‬إليه‬
‫ساطعًا في السماء ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يا حسرتاه!‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ديناوند"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬ما قاله"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ ، )304 /1‬وما بين المعقوفين ليس في تفسير ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود برقم (‪.)491 ، 490‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وسكت عليه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ب ‪" :‬أوليانوس"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ثنتان"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬عن بشر"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ب ‪" :‬أن الكفر من السحر"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬فينظر"‪.‬‬

‫( ‪)1/362‬‬

‫يا ويله! ماذا أصنع (‪ )1‬؟‪.‬‬


‫وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الية ‪ :‬نعم ‪ ،‬أنزل الملكان بالسحر ‪ ،‬ليعلما (‪)2‬‬
‫الناس البلء الذي أراد ال أن يبتلي به الناس ‪ ،‬فأخذ عليهما الميثاق أن ل يعلما أحدًا حتى يقول‬
‫{ إِ ّنمَا َنحْنُ فِتْنَةٌ فَل َت ْكفُرْ } رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬وقال قتادة ‪ :‬كان أخذ عليهما أل يعلما أحدًا حتى‬
‫يقول { إِ ّنمَا َنحْنُ فِتْنَةٌ فَل َت ْكفُرْ } ‪ -‬أي ‪ :‬بلء ابتلينا به ‪ { -‬فَل َت ْكفُرْ }‬
‫وقال [قتادة و] (‪ )3‬السدي ‪ :‬إذا أتاهما إنسان يريد السحر ‪ ،‬وعظاه ‪ ،‬وقال له ‪ :‬ل تكفر ‪ ،‬إنما‬
‫نحن فتنة‪ .‬فإذا أبى قال له ‪ :‬ائت هذا الرماد ‪ ،‬ف ُبلْ عليه‪ .‬فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى‬
‫يدخل السماء ‪ ،‬وذلك اليمان‪ .‬وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلّ شيء‬
‫[منه] (‪ .)4‬وذلك غضب ال‪ .‬فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ‪ ،‬فذلك قول ال تعالى ‪َ { :‬ومَا‬
‫حدٍ حَتّى َيقُول إِ ّنمَا َنحْنُ فِتْنَةٌ فَل َت ْكفُرْ } الية‪.‬‬
‫ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ‬
‫وقال سُنَيد ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج في هذه الية ‪ :‬ل يجترئ على السحر إل كافر‪.‬‬
‫وأما الفتنة فهي المحنة والختبار ‪ ،‬ومنه قول الشاعر ‪:‬‬
‫س في دينهم‪ ...‬وخَلّى ابنُ عفان شرًا طويل (‪)5‬‬
‫وقد فُتن النّا ُ‬
‫وكذلك (‪ )6‬قولُه تعالى إخبارًا عن موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬حيث قال ‪ { :‬إِنْ ِهيَ إِل فِتْنَ ُتكَ } أي ‪:‬‬
‫ضلّ ِبهَا مَنْ تَشَا ُء وَ َتهْدِي مَنْ تَشَاءُ } [العراف ‪.)7( ]155 :‬‬
‫ابتلؤك واختبارك وامتحانك { ُت ِ‬
‫وقد استدل بعضهم بهذه الية على تكفير من تعلم السحر ‪ ،‬ويُستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ‬
‫أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن‬
‫همام ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول ‪ ،‬فقد كفر بما أنزل على‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذا إسناد جيد (‪ )8‬وله شواهد أخر‪.‬‬
‫جهِ } أي ‪ :‬فيتعلم الناس من هاروت‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ ِبهِ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْ ِ‬
‫وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الفاعيل المذمومة ‪ ،‬ما إنهم‬
‫ليفَ ّرقُون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والئتلف‪ .‬وهذا من صنيع الشياطين ‪ ،‬كما‬
‫رواه مسلم في صحيحه ‪ ،‬من حديث العمش ‪ ،‬عن أبي سفيان طلحة بن نافع ‪ ،‬عن جابر بن عبد‬
‫ال ‪ ،‬رضي ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ماذا صنع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ليعلموا" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬البيت في تفسير الطبري (‪ )444 /2‬وانظر هناك الختلف في قائله‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وكذا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وتهدي من تشاء الية"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬إسناد صحيح"‪.‬‬

‫( ‪)1/363‬‬

‫عنه (‪ )1‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ‪ ،‬ثم يبعث‬
‫سراياه في الناس ‪ ،‬فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ‪ ،‬يجيء أحدهم فيقول ‪ :‬ما زلت بفلن‬
‫حتى تركته وهو يقول كذا وكذا‪ .‬فيقول إبليس ‪ :‬ل وال ما صنعت شيئًا‪ .‬ويجيء أحدهم فيقول ‪:‬‬
‫ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله (‪ )2‬قال ‪ :‬فيقربه ويدنيه ويلتزمه ‪ ،‬ويقول ‪ِ :‬نعْم أنت (‪.)3‬‬
‫وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر ‪ :‬ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الخر من سوء منظر ‪،‬‬
‫أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو َبغْضه ‪ ،‬أو نحو ذلك من السباب المقتضية للفرقة‪.‬‬
‫والمرء عبارة عن الرجل ‪ ،‬وتأنيثه امرأة ‪ ،‬ويثنى كل منهما ول يجمعان ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حدٍ إِل بِإِذْنِ اللّهِ } قال سفيان الثوري ‪ :‬إل بقضاء ال‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا هُمْ ِبضَارّينَ ِبهِ مِنْ أَ َ‬
‫وقال محمد بن إسحاق إل بتخلية ال بينه وبين ما أراد‪ .‬وقال الحسن البصري ‪َ { :‬ومَا هُمْ‬
‫ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ َأحَدٍ إِل بِِإذْنِ اللّهِ } قال ‪َ :‬نعَم ‪ ،‬من شاء ال سلطهم عليه ‪ ،‬ومن لم يشأ ال لم‬
‫يسلط ‪ ،‬ول يستطيعون ضر أحد إل بإذن ال ‪ ،‬كما قال ال تعالى ‪ ،‬وفي رواية عن الحسن أنه‬
‫قال ‪ :‬ل يضر هذا السحر إل من دخل فيه‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُه ْم وَل يَ ْن َف ُعهُمْ } أي ‪ :‬يضرهم في دينهم ‪ ،‬وليس له نفع يوازي‬
‫ضرره‪.‬‬
‫{ وََلقَدْ عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ } أي ‪ :‬ولقد علم اليهود الذين استبدلوا‬
‫بالسحر عن متابعة الرسول (‪ )4‬صلى ال عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك ‪ ،‬أنه ما له في الخرة‬
‫من خلق‪.‬‬
‫قال ابن عباس ومجاهد والسدي ‪ :‬من نصيب‪ .‬وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬ما له‬
‫في الخرة من جهة عند ال (‪ )5‬وقال ‪ :‬وقال الحسن ‪ :‬ليس له دين‪.‬‬
‫وقال سعد (‪ )6‬عن قتادة ‪ { :‬مَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ } قال ‪ :‬ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد‬
‫ال إليهم أن الساحر ل خلق له في الخرة‪.‬‬
‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ* وََلوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَاتّ َقوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ‬
‫عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } يقول تعالى ‪ { :‬ولبئس } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا‬
‫عن اليمان ‪ ،‬ومتابعة الرسل (‪ )7‬لو كان لهم علم بما وعظوا به { وَلَوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ‬
‫مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ } أي ‪ :‬ولو أنهم آمنوا بال ورسله واتقوا المحارم ‪ ،‬لكان مثوبة ال على ذلك‬
‫خيرا لهم مما استخاروا لنفسهم ورضوا به ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْل َم وَيَْلكُمْ‬
‫ع ِملَ صَالِحًا وَل ُيَلقّاهَا إِل الصّابِرُونَ } [القصص ‪.]80 :‬‬
‫ن وَ َ‬
‫َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ آمَ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪" :‬عنهما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وبين زوجه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)2813‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬متابعة الرسل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ما له في الخرة من خلق"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬سعيد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬الرسول"‪.‬‬

‫( ‪)1/364‬‬

‫وقد استدل بقوله ‪ { :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَا ّت َقوْا } من ذهب إلى تكفير الساحر ‪ ،‬كما هو رواية عن‬
‫المام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف‪ .‬وقيل ‪ :‬بل ل يكفر ‪ ،‬ولكن حَده ضَ ْربُ عنقه ‪ ،‬لما رواه‬
‫الشافعي وأحمد بن حنبل ‪ ،‬رحمهما ال ‪ :‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬أنه سمع بجالة بن‬
‫عَبَ َد َة يقول ‪ :‬كتب [أمير المؤمنين] (‪ )1‬عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أن اقتلوا كل ساحر‬
‫وساحرة‪ .‬قال ‪ :‬فقتلنا ثلث سواحر (‪ .)2‬وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضًا (‪ .)3‬وهكذا‬
‫صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها ‪ ،‬فأمرت بها فقتلت (‪ .)4‬قال أحمد بن حنبل ‪:‬‬
‫صح من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم [أذنوا] (‪ )5‬في قتل الساحر‪.‬‬
‫وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن جندب الزدي أنه قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬حد الساحر ضَرْبُه بالسيف" (‪.)6‬‬
‫ثم قال ‪ :‬ل نعرفه مرفوعًا إل من هذا الوجه‪ .‬وإسماعيل بن مسلم يُضعّف في الحديث ‪ ،‬والصحيح‬
‫‪ :‬عن الحسن عن جُنْدُب موقوفًا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬قد رواه الطبراني من وجه آخر ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن جندب ‪ ،‬مرفوعًا (‪ .)7‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ‪ ،‬فكان يضرب‬
‫رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ‪ ،‬فقال الناس ‪ :‬سبحان ال! يحيي الموتى! ورآه رجل‬
‫من صالحي المهاجرين ‪ ،‬فلما كان الغد جاء مشتمل على سيفه ‪ ،‬وذهب يلعب لعبه ذلك ‪ ،‬فاخترط‬
‫الرجل سيفه فضرب (‪ )8‬عنق الساحر ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن كان صادقا (‪ )9‬فليحي نفسه‪ .‬وتل قوله تعالى‬
‫‪َ { :‬أفَتَأْتُونَ السّحْ َر وَأَنْ ُتمْ تُ ْبصِرُونَ } [النبياء ‪ ]3 :‬فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم‬
‫أطلقه ‪ )10( ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال (‪ )11‬أبو بكر الخلل ‪ :‬أخبرنا عبد ال بن أحمد بن حنبل ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن‬
‫سعيد ‪ ،‬حدثني أبو إسحاق ‪ ،‬عن حارثة قال ‪ :‬كان عند بعض المراء رجل يلعب فجاء جندب‬
‫مشتمل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه عبد ال بن أحمد في مسائل أبيه ‪ ،‬ط‪ .‬المكتب السلمي برقم (‪ )1542‬عن أبيه عن‬
‫سفيان به‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)3156‬‬
‫(‪ )4‬رواه عبد ال بن أحمد في مسائل أبيه ‪ ،‬ط‪ .‬المكتب السلمي برقم (‪ )1543‬عن أبيه عن‬
‫يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن عبيد ال ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أن حفصة سحرتها جاريتها ‪ ،‬فذكره‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪.)1460‬‬
‫(‪ )7‬المعجم الكبير (‪ )161 /2‬من طريق محمد بن الحسن بن سيار ‪ ،‬عن خالد العبد عن الحسن‬
‫عن سمرة به‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬وضرب"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬إن كان ساحرًا"‪.‬‬
‫(‪ )10‬الرجل الذي قتله هو جندب بن كعب ‪ ،‬انظر القصة في ‪ :‬أسد الغابة لبن الثير في ترجمة‬
‫جندب بن كعب (‪ )361/ 1‬وفي الصابة للحافظ ابن حجر (‪.)251 /1‬‬
‫(‪ )11‬في و ‪" :‬وقال المام"‪.‬‬

‫( ‪)1/365‬‬

‫على سيفه فقتله ‪ ،‬فقال ‪ :‬أراه كان ساحرًا ‪ ،‬وحمل الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬قصة عمر ‪ ،‬وحفصة (‬
‫سحْر يكون شركا‪ .‬وال أعلم‪ .‬فصل‬
‫‪ )1‬على ِ‬
‫حكى أبو عبد ال الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر ‪ ،‬قال ‪ :‬وربما كفروا‬
‫جوّزُوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ‪ ،‬ويقلب‬
‫من اعتقد وجوده‪ .‬قال ‪ :‬وأما أهل السنة فقد َ‬
‫النسان حمارًا ‪ ،‬والحمار إنسانًا ‪ ،‬إل أنهم قالوا ‪ :‬إن ال يخلق الشياء عندما يقول الساحر تلك‬
‫الرقى و [تلك] (‪ )2‬الكلمات ال ُمعَيّنة ‪ ،‬فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فل خلفًا‬
‫للفلسفة والمنجمين الصابئة ‪ ،‬ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق ال تعالى ‪ ،‬بقوله تعالى ‪{ :‬‬
‫حدٍ إِل بِإِذْنِ اللّهِ } ومن الخبار بأن رسول ال صلى ال عليه وسلم سُحِر‬
‫َومَا هُمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ أَ َ‬
‫عمِل فيه ‪ ،‬وبقصة تلك المرأة مع عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬وما ذكرت تلك المرأة‬
‫‪ ،‬وأن السحر َ‬
‫من إتيانها بابل وتعلمها السحر ‪ ،‬قال ‪ :‬وبما يذكر (‪ )3‬في هذا الباب من الحكايات الكثيرة ‪ ،‬ثم‬
‫قال بعد هذا ‪:‬‬
‫المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ول محظور ‪ :‬اتفق المحققون على ذلك ؛ لن (‬
‫‪ )4‬العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ َهلْ يَسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُونَ وَالّذِينَ ل َيعَْلمُونَ‬
‫} [الزمر ‪ ]9 :‬؛ ولن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ‪ ،‬والعلم بكون‬
‫المعجز ُمعْجِزًا واجب ‪ ،‬وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل‬
‫العلم بالسحر واجبًا ‪ ،‬وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا ؟!‬
‫هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة ‪ ،‬وهذا الكلم فيه نظر من وجوه ‪ ،‬أحدها ‪ :‬قولُهُ ‪" :‬العلم‬
‫بالسحر ليس بقبيح"‪ .‬إن عنى به ليس بقبيح عقل فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا (‪ )5‬وإن عنى‬
‫أنه ليس بقبيح شرعًا ‪ ،‬ففي هذه الية الكريمة تبشيع (‪ )6‬لتعلم السحر ‪ ،‬وفي الصحيح ‪" :‬من أتى‬
‫عرافًا أو كاهنًا ‪ ،‬فقد كفر بما أنزل على محمد" (‪ .)7‬وفي السنن ‪" :‬من عقد عقدة ونفث فيها فقد‬
‫سحر" (‪ .)8‬وقوله ‪ :‬ول محظور اتفق المحققون على ذلك"‪ .‬كيف ل يكون محظورًا مع ما ذكرناه‬
‫من الية والحديث ؟! واتفاق المحققين (‪ )9‬يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء‬
‫أو أكثرهم ‪ ،‬وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله [علم] (‪ )10‬السحر في عموم قوله ‪ُ { :‬قلْ َهلْ‬
‫ن وَالّذِينَ ل َيعَْلمُونَ } فيه نظر ؛ لن هذه الية إنما دلت على مدح العالمين‬
‫يَسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُو َ‬
‫بالعلم الشرعي ‪ ،‬ولم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬في قصة حفصة وعمر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وما يذكر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فإن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬متسع"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪ )2230‬من حديث بعض أزواج النبي صلى ال عليه وسلم وليس فيه ‪:‬‬
‫"كاهنًا" والعراف من جملة أنواع الكهان‪.‬‬
‫(‪ )8‬رواه النسائي في السنن (‪ )112 /7‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬المحدثين"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪ .‬وفي ط "تعلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/366‬‬

‫قلتَ إن هذا منه ؟ ثم تَرَقيه (‪ )1‬إلى وجوب تعلمه بأنه ل يحصل العلم بالمعجز إل به ‪ ،‬ضعيف‬
‫بل فاسد ؛ لن معظم (‪ )2‬معجزات رسولنا ‪ ،‬عليه الصلة والسلم (‪ )3‬هي القرآن العظيم ‪ ،‬الذي‬
‫ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه تنزيل من حكيم حميد‪ .‬ثم إن العلم بأنه معجز ل يتوقف‬
‫على علم السحر أصل ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم ‪،‬‬
‫كانوا يعلمون المعجز ‪ ،‬ويف ّرقُون بينه وبين غيره ‪ ،‬ولم يكونوا يعلمون السحر ول تعلموه ول‬
‫علموه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ثم قد ذكر أبو عبد ال الرازي أن أنواع السحر ثمانية ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬سحر الكلُدْانيين والكُشْدانيين ‪ ،‬الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة ‪ ،‬وهي‬
‫السيارة ‪ ،‬وكانوا يعتقدون أنها ُمدَبّرة العالم (‪ )4‬وأنها تأتي بالخير والشر ‪ ،‬وهم الذين بَعث (‪)5‬‬
‫إليهم إبراهيم الخليل صلى ال عليه وسلم مبطل لمقالتهم ورادا لمذهبهم (‪ )6‬وقد استقصى في‬
‫"كتاب السر المكتوم ‪ ،‬في مخاطبة الشمس والنجوم" المنسوب إليه فيما (‪ )7‬ذكره القاضي ابن‬
‫خلكان وغيره (‪ )8‬ويقال ‪ :‬إنه تاب منه‪ .‬وقيل (‪ )9‬إنه (‪ )10‬صنفه على وجه إظهار الفضيلة ل‬
‫على سبيل العتقاد‪ .‬وهذا هو المظنون به ‪ ،‬إل أنه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كل من هذه‬
‫الكواكب السبعة ‪ ،‬وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه ‪ ،‬وما يتنسكون به‪.‬‬
‫قال ‪ :‬والنوع الثاني ‪ :‬سحر أصحاب الوهام والنفوس القوية ‪ ،‬ثم استدلّ على أن الوهم له تأثير ‪،‬‬
‫بأن النسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الرض ‪ ،‬ول يمكنه المشي عليه‬
‫إذا كان ممدودًا على نهر أو نحوه‪ .‬قال ‪ :‬وكما أجمعت الطباء على نهي المَرْعُوف (‪ )11‬عن‬
‫حمْر ‪ ،‬والمصروع إلى الشياء القوية اللمعان أو الدوران ‪ ،‬وما ذاك إل لن‬
‫النظر إلى الشياء ال ُ‬
‫النفوس خلقت ُمطِيعة (‪ )12‬للوهام‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقد اتفق العقلء على أن الصابة بالعين حق‪.‬‬
‫وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬العين‬
‫حقّ ‪ ،‬ولو كان شيء سَا ِبقَ القدر لسبقته العين" (‪.)13‬‬
‫َ‬
‫قال ‪ :‬فإذا عرفت هذا ‪ ،‬فنقول ‪ :‬النفس التي تفعل هذه الفاعيل قد تكون قوية جدًا ‪ ،‬فتستغني في‬
‫هذه الفاعيل (‪ )14‬عن الستعانة باللت والدوات ‪ ،‬وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الستعانة‬
‫بهذه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬فرقته"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لن أعظم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬مدبرة للعالم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬بعث ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬لمذاهبهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ب ‪" :‬كما"‪.‬‬
‫(‪ )8‬وفيات العيان (‪.)381 /3‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ويقال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬بل"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬المرفوع" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬الموضوع"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬منطبعة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬منطبقة"‪.‬‬
‫(‪ )13‬صحيح مسلم برقم (‪ )2188‬من حديث عبد ال بن عباس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬هذه الفعال"‪.‬‬

‫( ‪)1/367‬‬

‫اللت‪ .‬وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية (‪ )1‬على البدن شديدة النجذاب إلى عالم السماوات ‪،‬‬
‫صارت كأنها رُوح من الرواح السماوية ‪ ،‬فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم‪ .‬وإذا‬
‫كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات (‪ )2‬البدنية ‪ ،‬فحينئذ ل يكون لها تصرف البتة إل في هذا‬
‫البدن‪ .‬ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ‪ ،‬والنقطاع عن الناس والرياء (‪.)3‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال ‪ ،‬وهو على قسمين ‪ :‬تارة تكون حال صحيحة‬
‫شرعية يتصرف بها فيما أمر ال ورسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ويترك ما نهى ال عنه ورسوله‬
‫‪ ،‬وهذه الحوال مواهب من ال تعالى وكرامات للصالحين من هذه المة ‪ ،‬ول يسمى هذا سحرًا‬
‫في الشرع‪ .‬وتارة تكون الحال فاسدة ل يمتثل صاحبها ما أمر ال ورسوله صلى ال عليه وسلم‬
‫ول يتصرف بها في ذلك‪ .‬فهذه (‪ )4‬حال الشقياء المخالفين للشريعة ‪ ،‬ول يدل إعطاء ال (‪)5‬‬
‫إيّاهم هذه الحوال على محبته لهم ‪ ،‬كما أن الدجّال ‪ -‬لعنه ال ‪ -‬له من الخوارق العادات (‪ )6‬ما‬
‫دلت عليه الحاديث الكثيرة ‪ ،‬مع أنه مذموم شرعًا لعنه ال‪ .‬وكذلك من شابهه من مخالفي‬
‫الشريعة المحمدية ‪ ،‬على صاحبها أفضل الصلة والسلم‪ .‬وبسط هذا يطول جدًا ‪ ،‬وليس هذا‬
‫موضعه‪.‬‬
‫قال ‪ :‬النوع الثالث من السحر ‪ :‬الستعانة بالرواح الرضية ‪ ،‬وهم الجن ‪ ،‬خلفًا للفلسفة‬
‫والمعتزلة ‪ :‬وهم على قسمين ‪ :‬مؤمنون ‪ ،‬وكفار ‪ ،‬وهم الشياطينُ‪ .‬قال ‪ :‬واتصال النفوس الناطقة‬
‫بها أسهل من اتصالها بالرواح السماوية ‪ ،‬لما بينهما من المناسبة (‪ )7‬والقرب ‪ ،‬ثم إن أصحاب‬
‫الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن التصال بهذه الرواح الرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة‬
‫من الرقى والدخل (‪ )8‬والتجريد‪ .‬وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير (‪.)9‬‬
‫النوع الرابع من السحر ‪ :‬التخيلت ‪ ،‬والخذ بالعيون والشعبذة ‪ ،‬ومبناه [على] (‪ )10‬أن البصر قد‬
‫يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ‪ ،‬أل ترى أن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يذهل‬
‫أذهان الناظرين به ‪ ،‬ويأخذ عيونهم إليه ‪ ،‬حتى إذا استفرغهم (‪ )11‬الشغل بذلك الشيء بالتحديق‬
‫عمَل بسرعة شديدة ‪ ،‬وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه‪.‬‬
‫ونحوه ‪ ،‬عمل شيئًا آخر َ‬
‫فيتعجّبون منه جدًا ‪ ،‬ولو أنه سكت ولم يتكلم بما (‪ )12‬يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن‬
‫يعمله ‪ ،‬ولم تتحرك النفوس والوهام إلى غير ما يريد إخراجه ‪ ،‬لفطن الناظرون لكل ما يفعله‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وكلما كانت الحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل (‪ )13‬أشد ‪ ،‬كان العمل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬مشتغلة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬مستقبلة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬اللذات"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬والرياضة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فهذا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬أعطاهم ال" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬على عطاء ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬والعادات"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬من المناسب"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬والدخن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وعمل تسخير"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬إذا استقر"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في ط ‪" :‬مما"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬الخلل"‪.‬‬

‫( ‪)1/368‬‬

‫أحسنَ ‪ ،‬مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا ‪ ،‬أو مظلم ‪ ،‬فل تقف القوة الناظرة (‪)1‬‬
‫على أحوالها بكللها (‪ )2‬والحالة هذه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد قال بعض المفسرين ‪ :‬إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ‪،‬‬
‫عظِيمٍ } [العراف‬
‫س وَاسْتَرْهَبُو ُه ْم وَجَاءُوا ِبسِحْرٍ َ‬
‫ولهذا قال تعالى ‪ { :‬فََلمّا أَ ْل َقوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّا ِ‬
‫سعَى } [طه ‪ ]66 :‬قالوا ‪ :‬ولم تكن تسعى في‬
‫‪ ]116 :‬وقال تعالى ‪ُ { :‬يخَ ّيلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِ ِهمْ أَ ّنهَا تَ ْ‬
‫نفس المر‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫النوع الخامس من السحر ‪ :‬العمال العجيبة التي تظهر من تركيب اللت المركبة من النسب‬
‫الهندسية ‪ ،‬كفارس على فرس في يده بوق ‪ ،‬كلما مضت ساعة من النهار ضرب (‪ )3‬بالبوق ‪،‬‬
‫صوّرها الرومُ والهند ‪ ،‬حتى ل يفرق الناظر بينها‬
‫من غير أن يمسه أحد‪ .‬ومنها الصور التي ُت َ‬
‫وبين النسان ‪ ،‬حتى يصورونها ضاحكة وباكية‪.‬‬
‫إلى أن قال ‪ :‬فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل‪ .‬قال ‪ :‬وكان سحر سحرة فرعون من هذا‬
‫القبيل‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬يعني ما قاله بعض المفسرين ‪ :‬أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي ‪ ،‬فحشوها زئبقًا‬
‫فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق ‪ ،‬فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها‪.‬‬
‫قال الرازي ‪ :‬ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ‪ ،‬ويندرج في هذا الباب علم جَ ّر الثقال‬
‫باللت الخفيفة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهذا في الحقيقة ل ينبغي أن يعد من باب السحر ؛ لن لها أسبابًا (‪ )4‬معلومة يقينية (‪)5‬‬
‫من اطلع عليها قدر عليها‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم ‪ ،‬بما يُرُونَهم إياه من النوار ‪ ،‬كقضية ُقمَامة‬
‫الكنيسة التي لهم ببلد (‪ )6‬المقدس ‪ ،‬وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة ‪ ،‬وإشعال‬
‫ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام (‪[ )7‬منهم] (‪ )8‬وأما الخواص فهم يعترفون بذلك ‪،‬‬
‫ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ‪ ،‬فيرون ذلك سائغًا لهم‪ .‬وفيه شبه (‪)9‬‬
‫للجهلة الغبياء من متعبدي (‪ )10‬الكَرّامية الذين يرون جواز وضع الحاديث في الترغيب‬
‫والترهيب ‪ ،‬فيدخلون في عداد من قال رسول ال صلى ال عليه وسلم فيهم (‪" : )11‬من كذب‬
‫عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الباصرة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬لكللها" وفي أ ‪" :‬بكمالها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ضرب مرة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬أنسابًا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬أ ‪" :‬متيقنة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ببيت" وفي و ‪" :‬بالبلد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬الطعام"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وفيه شبهة" ‪ ،‬في أ ‪" :‬وفيهم شبه"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬متعدي"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬من قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/369‬‬

‫النار (‪ ." )1‬وقوله ‪" :‬حدثوا عني ول تكذبوا عََليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار" (‪.)2‬‬
‫ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان ‪ ،‬وهو أنه سمع صوت طائر حزين (‪ )3‬الصوت ضعيف‬
‫الحركة ‪ ،‬فإذا سمعته الطيور تَ ِرقّ له فتذهب فتلقي في َوكْره من ثمر الزيتون ‪ ،‬ليتبلغ (‪ )4‬به ‪،‬‬
‫ف َعمَد هذا الراهبُ إلى صنعة طائر على شكله ‪ ،‬وتوصل إلى أن جعله أجوف ‪ ،‬فإذا دخلته الريح‬
‫يسمع له (‪ )5‬صوت كصوت ذلك الطائر ‪ ،‬وانقطع في صومعة ابتناها ‪ ،‬وزعم أنها على قبر‬
‫بعض صالحيهم ‪ ،‬وعلق ذلك الطائر في مكان منها ‪ ،‬فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيه ‪،‬‬
‫سمَعُ صوتها كذلك الطائر في شكله أيضًا ‪ ،‬فتأتي الطيور‬
‫فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة ‪ ،‬فَيُ ْ‬
‫فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فل ترى النصارى إل ذلك الزيتون في هذه الصومعة ‪ ،‬ول يدرون‬
‫ما سببه ؟ ففتنهم بذلك ‪ ،‬وأوهم (‪ )6‬أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر ‪ ،‬عليهم لعائن ال‬
‫المتتابعة (‪ )7‬إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫قال الرازي ‪ :‬النوع السادس من السحر ‪ :‬الستعانة بخواص الدوية يعني في الطعمة والدهانات‬
‫(‪ .)8‬قال ‪ :‬واعلم أن ل سبيل إلى إنكار الخواص ‪ ،‬فإن أثر المغناطيس مشاهد‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬يدخل في هذا القبيل كثير ممن َيدّعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص ‪ ،‬مدعيًا‬
‫أنها أحوال له (‪ )9‬من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالت‪.‬‬
‫قال ‪ :‬النوع السابع من السحر ‪ :‬تعليق (‪ )10‬القلب ‪ ،‬وهو أن يدعي الساحرُ أنه عرف السم‬
‫العظم ‪ ،‬وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر المور ‪ ،‬فإذا اتفق أن يكون ذلك السامع لذلك‬
‫ضعيف العقل (‪ )11‬قليل التمييز اعتقد أنه حق ‪ ،‬وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من‬
‫الرهب والمخافة ‪ ،‬فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة (‪ )12‬فحينئذ يتمكن الساحر أن‬
‫يفعل ما يشاء‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬هذا النمط يقال له التنبلة ‪ ،‬وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم‪ .‬وفي علم الفراسة‬
‫ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه ‪ ،‬فإذا كان المُتَنْ ِبلُ حاذقًا في علم الفراسة عرف من‬
‫ينقاد له مِنَ الناس مِنْ غيره‪.‬‬
‫قال ‪ :‬النوع الثامن من السحر ‪ :‬السعي بالنميمة والتضريب (‪ )13‬من وجوه خفيفة لطيفة ‪ ،‬وذلك‬
‫شائع في الناس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن النبي صلى ال عليه وسلم عدهم المام الطبراني في‬
‫جزء له فأوصلهم فوق الستين ‪ ،‬وانظره في ‪ :‬صحيح البخاري برقم (‪ )107‬من حديث الزبير‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬وفي مقدمة صحيح مسلم برقم (‪ )4 - 2‬من حديث أنس وأبي هريرة والمغيرة‬
‫رضي ال عنهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في مقدمة صحيحه برقم (‪ )1‬من حديث علي رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ك ‪" :‬حنين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬ليبتلع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يسمع منه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وأوهمهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬التابعة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬البالغة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬في الطعمة والدهان"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬أنها أحواله"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬تعلق"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬القلب"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬القوى الحسية"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في ب ‪" :‬التضرب"‪.‬‬

‫( ‪)1/370‬‬

‫قلت ‪ :‬النميمة على قسمين ‪ ،‬تارة تكون على وجه التحريش [بين الناس] (‪ )1‬وتفريق قلوب‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فهذا حرام متفق عليه‪ .‬فأما إذا (‪ )2‬كانت على وجه الصلح [بين الناس] (‪)3‬‬
‫وائتلف كلمة المسلمين ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪" :‬ليس بالكذاب من يَنمّ خيرًا" أو يكون على وجه‬
‫التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة" فهذا أمر مطلوب ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪" :‬الحرب خدعة"‪.‬‬
‫وكما فعل نعيم بن مسعود (‪ )4‬في تفريقه بين كلمة الحزاب وبين (‪ )5‬قريظة ‪ ،‬وجاء إلى هؤلء‬
‫فنمى إليهم عن هؤلء كلمًا ‪ ،‬ونقل من هؤلء إلى أولئك شيئًا آخر ‪ ،‬ثم لم بين ذلك ‪ ،‬فتناكرت‬
‫النفوس وافترقت‪ .‬وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة‪ .‬وال المستعان‪.‬‬
‫ثم قال الرازي ‪ :‬فهذه جملة الكلم في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وإنما أدخل كثيرًا من هذه النواع المذكورة في فَنّ السحر ‪ ،‬للطافة مداركها ؛ لن السحر‬
‫في اللغة ‪ :‬عبارة عما لطُف وخفي سببه‪ .‬ولهذا جاء في الحديث ‪" :‬إن من البيان لسحرًا (‪.)6‬‬
‫وسمي السحور لكونه يقع خفيًا آخر الليل (‪ )7‬والسّحْر ‪ :‬الرئة ‪ ،‬وهي محل الغذاء ‪ ،‬وسميت بذلك‬
‫لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ‪ ،‬كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة ‪ :‬انتفخ‬
‫سحرك (‪ )8‬أي ‪ :‬انتفخت رئته من الخوف‪ .‬وقالت عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ :‬توفي رسول صلى‬
‫ال عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري‪ .‬وقال ‪ { :‬سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ } أي ‪ :‬أخفوا عنهم عملهم ‪،‬‬
‫وال أعلم (‪.)9‬‬
‫[فصل] (‪ )10‬وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن هَبيرة بن محمد بن هبيرة في كتابه ‪:‬‬
‫"الشراف على مذاهب الشراف" بابًا في السحر ‪ ،‬فقال ‪ :‬أجمعوا على أن السحر له حقيقة إل أبا‬
‫حنيفة ‪ ،‬فإنه قال ‪ :‬ل حقيقة له عنده‪ .‬واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله ‪ ،‬فقال أبو حنيفة‬
‫ومالك وأحمد ‪ :‬يكفر بذلك‪ .‬ومن أصحاب أبي حنيفة من قال ‪ :‬إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فل يكفر‬
‫‪ ،‬ومن تعلمه معتقدًا جوازه أو أنه ينفعه َكفَر‪ .‬وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو‬
‫كافر‪ .‬وقال الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬إذا تعلم السحر قلنا له ‪ :‬صف لنا سحرك‪ .‬فإن وصف ما‬
‫يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة ‪ ،‬وأنها تفعل ما يلتمس منها‬
‫‪ ،‬فهو كافر‪ .‬وإن كان ل يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر‪.‬‬
‫قال ابن هبيرة ‪ :‬وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد ‪ :‬نعم‪ .‬وقال الشافعي وأبو‬
‫حنيفة ‪ :‬ل‪ .‬فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه ُيقْتل عند مالك والشافعي وأحمد‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬ل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فأما إن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ابن السود"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وبني"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬سحرًا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬الليلة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬سحره"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وال تبارك وتعالى أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/371‬‬

‫حقّ شخص (‪ )2‬معين‪ .‬وإذا قُتل فإنه ُيقْتَل حدًا‬


‫يقتل حتى يتكرر منه ذلك (‪ )1‬أو يقر بذلك في َ‬
‫عندهم إل الشافعي ‪ ،‬فإنه قال ‪ :‬يقتل ‪ -‬والحالة هذه ‪ -‬قصاصًا‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ‪ ،‬وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما ‪ :‬ل‬
‫تقبل‪ .‬وقال الشافعي وأحمد في الرواية الخرى ‪ :‬تقبل‪ .‬وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه‬
‫يقتل ‪ ،‬كما يقتل الساحر المسلم‪ .‬وقال مالك والشافعي وأحمد ‪ :‬ل يقتل‪ .‬يعني لقصة لبيد بن أعصم‬
‫(‪.)3‬‬
‫واختلفوا في المسلمة الساحرة ‪ ،‬فعند أبي حنيفة (‪ )4‬ل تقتل ‪ ،‬ولكن تحبس‪ .‬وقال الثلثة ‪ :‬حكمها‬
‫حكم الرجل ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الخلل ‪ :‬أخبرنا أبو بكر المروزي ‪ ،‬قال ‪ :‬قَرَأ على أبي عبد ال ‪ -‬يعني أحمد بن‬
‫عمَرُ بن هارون ‪ ،‬حدثنا يونس ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬قال ‪ :‬يقتل ساحر المسلمين ول يقتل‬
‫حنبل ‪ُ -‬‬
‫ساحر المشركين ؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها‪.‬‬
‫وقد نقل القرطبي عن مالك ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬أنه قال في الذمي إذا سحر يقتل إن قتل سحره ‪ ،‬وحكى‬
‫ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أنه يستتاب فإن أسلم وإل‬
‫قتل ‪ ،‬والثانية ‪ :‬أنه يقتل وإن أسلم ‪ ،‬وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرًا كفر عند الئمة‬
‫الربعة وغيرهم لقوله تعالى ‪َ " :‬ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّى َيقُول إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَل َت ْكفُرْ "‪ .‬لكن‬
‫قال مالك ‪ :‬إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لنه كالزنديق ‪ ،‬فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا‬
‫قبلناه ولم نقتله ‪ ،‬فإن قتل سحره قتل‪ .‬قال الشافعي ‪ :‬فإن قال ‪ :‬لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب‬
‫عليه الدية‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬وهل يسأل الساحر حل سحره ؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري ‪ ،‬وقال‬
‫عامر الشعبي ‪ :‬ل بأس بالنشرة ‪ ،‬وكره ذلك الحسن البصري ‪ ،‬وفي الصحيح عن عائشة ‪ :‬أنها‬
‫قالت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هل تنشرت ‪ ،‬فقال ‪" :‬أما ال فقد شفاني ‪ ،‬وخشيت أن أفتح على الناس‬
‫شرًا" (‪ .)5‬وحكى القرطبي عن وهب ‪ :‬أنه قال ‪ :‬يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين‬
‫ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلث حسوات ثم يغتسل بباقيه‬
‫فإنه يذهب ما به ‪ ،‬وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أنفع ما يستعمل لذهاب السحر ما أنزل ال على رسوله صلى ال عليه وسلم في إذهاب‬
‫ذلك وهما المعوذتان ‪ ،‬وفي الحديث ‪" :‬لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما" (‪ )6‬وكذلك قراءة آية الكرسي‬
‫فإنها مطردة للشيطان‪ .‬وقال أبو عبد ال القرطبي ‪ :‬وعندنا أن السحر حق ‪ ،‬وله حقيقة يخلق ال‬
‫عنده ما يشاء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬منه الفعل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في حق رجل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬لقضية لبيد بن العصم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فعند أبي حنيفة أنها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )5766‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2189‬‬
‫(‪ )6‬رواه النسائي في السنن (‪ )251 /8‬من حديث عقبة بن عامر رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/372‬‬

‫س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (‪ )104‬مَا َيوَدّ‬


‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا انْظُرْنَا وَا ْ‬
‫حمَتِهِ‬
‫ب وَلَا ا ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَ ّبكُمْ وَاللّهُ َيخْ َتصّ بِ َر ْ‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ (‪)105‬‬
‫مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬

‫خلفًا للمعتزلة وأبي إسحاق السفرايني من الشافعية حيث قالوا ‪ :‬إنه تمويه وتخيل‪ .‬قال ‪ :‬ومن‬
‫السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد ؛ لخفة سيره‪ .‬قال ابن فارس ‪ :‬هذه الكلمة‬
‫من كلم أهل البادية‪ .‬قال القرطبي ‪ :‬ومنه ما يكون كلمًا يحفظ ورقى من أسماء ال تعالى ‪ ،‬وقد‬
‫يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك‪ .‬قال ‪ :‬وقوله ‪ ،‬عليه السلم ‪" :‬إن من‬
‫البيان لسحرا" (‪ )1‬يحتمل أن يكون مدحًا كما تقوله طائفة ‪ ،‬ويحتمل أن يكون ذمًا للبلغة‪ .‬قال ‪:‬‬
‫وهذا الصح‪ .‬قال ‪ :‬لنها تصوب الباطل حين يوهم السامع أنه حق كما قال ‪" :‬فلعل بعضكم أن‬
‫يكون ألحن لحجته من بعض" فاقتضى له ‪ ،‬الحديث‪.‬‬
‫س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ َألِيمٌ (‪ )104‬مَا َيوَدّ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا انْظُرْنَا وَا ْ‬
‫حمَ ِتهِ‬
‫ب وَل ا ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَاللّهُ يَخْ َتصّ بِرَ ْ‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ (‪} )105‬‬
‫مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬
‫نهى ال تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ‪ ،‬وذلك أن اليهود كانوا ُيعَانُون‬
‫من الكلم ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ‪ -‬عليهم لعائن ال ‪ -‬فإذا أرادوا أن يقولوا ‪:‬‬
‫اسمع لنا يقولون ‪ :‬راعنا‪ .‬يورون (‪ )2‬بالرعونة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬مِنَ الّذِينَ هَادُوا ُيحَ ّرفُونَ‬
‫طعْنًا فِي‬
‫سمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بِأَلْسِنَ ِتهِمْ وَ َ‬
‫سمَعْ غَيْرَ مُ ْ‬
‫عصَيْنَا وَا ْ‬
‫س ِمعْنَا وَ َ‬
‫ضعِ ِه وَ َيقُولُونَ َ‬
‫ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَا ِ‬
‫سمَ ْع وَانْظُرْنَا َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وََأ ْقوَ َم وََلكِنْ َلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ‬
‫طعْنَا وَا ْ‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫ن وََلوْ أَ ّنهُمْ قَالُوا َ‬
‫الدّي ِ‬
‫فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيل } [النساء ‪ ]46 :‬وكذلك جاءت الحاديث بالخبار عنهم ‪ ،‬بأنهم كانوا إذا‬
‫سَلّموا إنما يقولون ‪ :‬السامُ عليكم‪ .‬والسام هو ‪ :‬الموت‪ .‬ولهذا (‪ )3‬أمرنا أن نرد عليهم بـ‬
‫"وعليكم"‪ .‬وإنما يستجاب لنا فيهم ‪ ،‬ول يستجاب لهم فينا‪.‬‬
‫والغرض ‪ :‬أن ال تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قول وفعل‪ .‬فقال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا ا ْنظُرْنَا وَا ْ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو النضر ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ‪ ،‬حدثنا حسان بن عطية ‪ ،‬عن‬
‫أبي مُنيب الجُرَشي ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬بعثت بين يدي الساعة بالسيف ‪ ،‬حتى يُعبد ال وحده ل شريك له‪ .‬وجعل رزقي تحت‬
‫ظل رمحي ‪ ،‬وجعلت الذلة والصّغارُ على من خالف أمري ‪ ،‬ومن تشبه بقوم فهو منهم"‪.‬‬
‫وروى أبو داود ‪ ،‬عن عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬عن أبي النضر هاشم بن القاسم به (‪" )4‬من تشبه‬
‫بقوم فهو منهم"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )5011‬والترمذي في السنن برقم (‪ )2845‬من حديث ابن‬
‫عباس رضي ال عنه ‪ ،‬ورواه أبو داود في السنن برقم (‪ )5012‬من حديث بريده رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ويورون" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬ويرون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ولقد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )2/92‬وسنن أبي دواد برقم (‪.)4031‬‬

‫( ‪)1/373‬‬

‫ففيه دللة على النهي الشديد والتهديد والوعيد ‪ ،‬على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ‪ ،‬ولباسهم‬
‫وأعيادهم ‪ ،‬وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ول ُنقَرر عليها‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا نعيم بن حماد ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن المبارك ‪ ،‬حدثنا‬
‫عوْن ‪ -‬أو أحدهما ‪ -‬أن رجل أتى عبد ال بن مسعود ‪ ،‬فقال ‪ :‬اعهد إلي‪.‬‬
‫سعَر ‪ ،‬عن َمعْن و َ‬
‫مِ ْ‬
‫سمْعك ‪ ،‬فإنه خير يأمر به أو شر ينهى‬
‫فقال ‪ :‬إذا سمعت ال يقول { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فأرعها َ‬
‫عنه (‪.)1‬‬
‫وقال العمش ‪ ،‬عن خيثمة ‪ ،‬قال ‪ :‬ما تقرؤون في القرآن ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } فإنه في التوراة‬
‫‪" :‬يا أيها المساكين"‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد بن جبير أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ { :‬راعنا } أي ‪ :‬أرعنا (‪ )2‬سمعك‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا } قال ‪ :‬كانوا يقولون للنبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أرعنا سمعك‪ .‬وإنما { راعنا } كقولك ‪ :‬عاطنا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن أبي العالية ‪ ،‬وأبي مالك ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وعطية العوفي ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬ل َتقُولُوا رَاعِنَا } ل تقولوا خلفا‪ .‬وفي رواية ‪ :‬ل تقولوا ‪ :‬اسمع منا ونسمع‬
‫منك‪.‬‬
‫وقال عطاء ‪ { :‬ل َتقُولُوا رَاعِنَا } كانت لُغة تقولها النصار فنهى ال عنها‪.‬‬
‫وقال الحسن ‪ { :‬ل َتقُولُوا رَاعِنَا } قال ‪ :‬الراعن من القول السخري منه‪ .‬نهاهم ال أن يسخروا‬
‫من قول محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وما يدعوهم إليه من السلم‪ .‬وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه‬
‫قال مثله‪.‬‬
‫س َمعُوا } قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال‬
‫وقال أبو صخر ‪ { :‬ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا انْظُرْنَا وَا ْ‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أرعنا (‪ )3‬سمعك‪ .‬فأعظم‬
‫ال رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقال ذلك له (‪.)4‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬كان رجل من اليهود من بني قينقاع ‪ ،‬يدعى رفاعة بن زيد (‪ )5‬يأتي النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فإذا لقيه فكلمه قال ‪ :‬أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع‪ .‬وكان المسلمون يحسبون‬
‫أن النبياء كانت ُتفَخم بهذا ‪ ،‬فكان ناس منهم يقولون ‪ :‬اسمع غير مسمع ‪ :‬غَيْرَ صاغر‪ .‬وهي‬
‫كالتي (‪ )6‬في سورة النساء‪ .‬فتقدم ال إلى المؤمنين أن ل يقولوا ‪ :‬راعنا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/317‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬أى راعنا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فيقول راعنا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬أن يقال له ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بن يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬هي التي"‪.‬‬

‫( ‪)1/374‬‬

‫وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬بنحو من هذا‪.‬‬


‫قال ابن جرير ‪ :‬والصواب من القول في ذلك عندنا ‪ :‬أن ال نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬راعنا ؛ لنها كلمة كرهها ال تعالى أن يقولها لنبيه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬نظير‬
‫الذي ذكر عن النبي قال ‪" :‬ل تقولوا للعنب الكرم ‪ ،‬ولكن قولوا ‪ :‬الحَبَلَة‪ .‬ول تقولوا ‪ :‬عبدي ‪،‬‬
‫ولكن قولوا ‪ :‬فتاي"‪ .‬وما أشبه ذلك‪.‬‬
‫ب وَل ا ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬مَا َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫رَ ّبكُمْ } يبين بذلك تعالى شدة عداوة (‪ )1‬الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ‪ ،‬الذين حذر تعالى‬
‫من مشابهتهم للمؤمنين ؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم‪ .‬وينبّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين‬
‫من الشرع التام الكامل ‪ ،‬الذي شرعه لنبيهم محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬حيث يقول تعالى ‪:‬‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ }‬
‫حمَتِهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫{ وَاللّهُ يَخْ َتصّ بِ َر ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬شدة عداوته"‪.‬‬

‫( ‪)1/375‬‬

‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪ )106‬أَلَمْ‬


‫سهَا نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ َأوْ نُنْ ِ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ (‪)107‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِ ّ‬
‫َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)106‬‬


‫سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫{ مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنْ ِ‬
‫ن وَِليّ وَل َنصِيرٍ (‪} )107‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ َومَا َل ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫قال ابن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من آية‪.‬‬
‫وقال ابن جُرَيج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي ‪ :‬ما نمح من آية‪.‬‬
‫حدّث به‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال ‪ :‬نثبت خطها ونبدل حكمها‪َ .‬‬
‫عن أصحاب عبد ال بن مسعود‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن أبي العالية ‪ ،‬ومحمد بن كعب القرظي ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫سكَ‪ .‬وقال عطاء ‪ :‬أما { مَا نَنْسَخْ } فما نترك (‪ )1‬من‬
‫وقال الضحاك ‪ { :‬مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نُ ْن ِ‬
‫القرآن‪ .‬وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬يعني ‪ :‬تُ ِركَ فلم ينزل على محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } نسخها ‪ :‬قبضها‪ .‬وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬يعني ‪ :‬قبضها ‪:‬‬
‫رفعها ‪ ،‬مثل قوله ‪ :‬الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة‪ .‬وقوله ‪" :‬لو كان لبن آدم واديان‬
‫من مال لبتغى لهما ثالثًا"‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ‪ ،‬وذلك أن‬
‫يُحوّل الحللُ حرامًا والحرام حلل والمباح محظورًا ‪ ،‬والمحظور مباحًا‪ .‬ول يكون ذلك إل في‬
‫المر والنهي والحظر والطلق والمنع والباحة‪ .‬فأما الخبار فل يكون فيها ناسخ ول منسوخ‪.‬‬
‫وأصل النسخ من نسخ الكتاب ‪ ،‬وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها ‪ ،‬فكذلك معنى نسخ الحكم‬
‫إلى غيره ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬فما ترك"‪.‬‬

‫( ‪)1/375‬‬

‫إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها‪ .‬وسواء نسخ حكمها أو خطها ‪ ،‬إذ هي في كلتا حالتيها‬
‫منسوخة‪ .‬وأما علماء الصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ‪ ،‬والمر في ذلك قريب ؛ لن‬
‫معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخّص (‪ )1‬بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر‪.‬‬
‫فاندرج في ذلك نسخ الخف بالثقل ‪ ،‬وعكسه ‪ ،‬والنسخ ل إلى بدل‪ .‬وأما تفاصيل أحكام النسخ‬
‫ن أصول الفقه‪.‬‬
‫وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَ ّ‬
‫وقال الطبراني ‪ :‬حدثنا أبو شبيل (‪ )2‬عبيد ال بن عبد الرحمن بن واقد ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا‬
‫العباس بن الفضل ‪ ،‬عن سليمان بن أرقم ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن سالم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬قرأ‬
‫رجلن سورة أقرأهما رسول ال صلى ال عليه وسلم فكانا يقرآن بها ‪ ،‬فقاما ذات ليلة يصليان ‪،‬‬
‫فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرا ذلك له ‪،‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إنها مما نسخ وأنسي ‪ ،‬فالهوا عنها"‪ .‬فكان الزهري يقرؤها‬
‫سهَا } (‪ )3‬بضم النون خفيفة (‪ .)4‬سليمان بن أرقم ضعيف‪.‬‬
‫‪ { :‬مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنْ ِ‬
‫[وقد روى أبو بكر بن النباري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن نصر بن داود ‪ ،‬عن أبي عبيد ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫صالح ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن يونس وعبيد وعقيل ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن أبي أمامة بن سهل بن‬
‫حنيف مثله مرفوعًا ‪ ،‬ذكره القرطبي (‪.)6( ] )5‬‬
‫سهَا } (‪ )7‬فقرئ على وجهين ‪" :‬ننسأها ونُنْسها"‪ .‬فأما من قرأها ‪" :‬نَنسأها"‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬أوْ نُنْ ِ‬
‫‪ -‬بفتح النون والهمزة بعد السين ‪ -‬فمعناه ‪ :‬نؤخرها‪ .‬قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪:‬‬
‫{ مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنسئهَا } يقول ‪ :‬ما نبدل من آية ‪ ،‬أو نتركها ل نبدلها‪.‬‬
‫وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود ‪َ { :‬أوْ نُنسِ َئهَا } نثبت خطها ونبدل حكمها‪ .‬وقال (‪ )8‬عبيد‬
‫بن عمير ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪َ { :‬أوْ نُنسِ َئهَا } نؤخرها ونرجئها‪ .‬وقال عطية العوفي ‪َ { :‬أوْ نُنسِ َئهَا‬
‫} نؤخرها فل ننسخها‪ .‬وقال السدي مثله أيضا ‪ ،‬وكذا [قال] (‪ )9‬الربيع بن أنس‪ .‬وقال الضحاك ‪:‬‬
‫{ مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنسِ َئهَا } يعني ‪ :‬الناسخ من المنسوخ‪ .‬وقال أبو العالية ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آ َيةٍ‬
‫َأوْ نُنسِ َئهَا } أي ‪ :‬نؤخرها عندنا‪.‬‬
‫وقال ابن حاتم ‪ :‬حدثنا عبيد ال بن إسماعيل البغدادي ‪ ،‬حدثنا خلف ‪ ،‬حدثنا الخفاف ‪ ،‬عن‬
‫إسماعيل ‪ -‬يعني ابن مسلم ‪ -‬عن حبيب بن أبي ثابت ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال‬
‫‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬ويخص"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في هـ ‪" :‬أبو سنبل" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬أو ننسيها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المعجم الكبير (‪.)12/288‬‬
‫(‪ )5‬ورواه الطحاوى في مشكل الثار برقم (‪ )2034‬من طريق ابن وهب ‪ ،‬عن يونس عن ابن‬
‫شهاب ‪ ،‬عن أبي أمامة به ‪ ،‬وبرقم (‪ )2035‬من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن‬
‫أبي أمامة به‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬أو ننساها"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬وكما قال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/376‬‬

‫سهَا } أي ‪:‬‬
‫خطبنا عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يقول ال عز وجل ‪ { :‬مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُن ِ‬
‫نؤخرها‪.‬‬
‫سهَا } فقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن قتادة في قوله ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ‬
‫وأما على قراءة ‪َ { :‬أوْ نُ ْن ِ‬
‫سهَا } قال ‪ :‬كان ال تعالى ينسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء‪.‬‬
‫نُنْ ِ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا سواد (‪ )1‬بن عبد ال ‪ ،‬حدثنا خالد بن الحارث ‪ ،‬حدثنا عوف ‪ ،‬عن‬
‫سهَا } (‪ )2‬قال ‪ :‬إن نبيكم صلى ال عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم‬
‫الحسن أنه قال في قوله ‪َ { :‬أوْ نُنْ ِ‬
‫نسيه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن ُنفَيل ‪ ،‬حدثنا محمد بن الزبير الحراني ‪ ،‬عن الحجاج‬
‫‪ -‬يعني الجزري (‪ - )3‬عن عِكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان مما ينزل على النبي صلى ال‬
‫سهَا نَ ْأتِ‬
‫عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ‪ ،‬فأنزل ال ‪ ،‬عز وجل ‪ { :‬مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُ ْن ِ‬
‫بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا }‬
‫قال أبو حاتم ‪ :‬قال لي أبو جعفر بن نفيل ‪ :‬ليس هو الحجاج بن أرطاة ‪ ،‬هو شيخ لنا جَزَري‪.‬‬
‫سهَا } نرفعها من عندكم‪.‬‬
‫وقال عبيد بن عمير ‪َ { :‬أوْ نُ ْن ِ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ُهشَيْم ‪ ،‬عن يعلى بن عطاء ‪ ،‬عن القاسم بن‬
‫سهَا" قال ‪ :‬قلت له ‪ :‬فإن‬
‫ربيعة قال ‪ :‬سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ ‪ " :‬ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو تَنْ َ‬
‫سعيد بن المسيّب يقرأ ‪" :‬أَو تُ ْنسَأها"‪ .‬قال ‪ :‬فقال (‪ )4‬سعد ‪ :‬إن القرآن لم ينزل على المسيب ول‬
‫على آل المسيب ‪ ،‬قال ال ‪ ،‬جل ثناؤه ‪ { :‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَل تَنْسَى } [العلى ‪ {]6 :‬وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ إِذَا‬
‫نَسِيتَ } [الكهف ‪.)5( .]24 :‬‬
‫وكذا رواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن هشيم (‪ )6‬وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي‬
‫‪ ،‬عن آدم ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن يعلى بن عطاء ‪ ،‬به‪ .‬وقال ‪ :‬على شرط الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن محمد بن كعب ‪ ،‬وقتادة وعكرمة ‪ ،‬نحو قول سعيد‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬أخبرنا يحيى ‪ ،‬حدثنا سفيان الثوري ‪ ،‬عن حبيب بن أبي ثابت ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عمر ‪ :‬عليّ أقضانا ‪ ،‬وأُبيّ أقرؤنا ‪ ،‬وإنا لندع بعض ما يقول‬
‫ي يقول ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ ،‬فلن أدعه لشيء‪ .‬وال يقول ‪{ :‬‬
‫أُبيّ ‪ ،‬وأب ّ‬
‫مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُنسِئَها نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا }‪.‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا عمرو بن علي ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن حبيب ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عمر ‪ :‬أقرؤنا أُبيّ ‪ ،‬وأقضانا علي ‪ ،‬وإنا لندع من قول أبيّ ‪،‬‬
‫وذلك أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حدثنا سوار"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬أو ننسئها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬الجوزي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فقال قال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)2/475‬‬
‫(‪ )6‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/75‬‬

‫( ‪)1/377‬‬

‫أبيا يقول ‪ :‬ل أدع شيئًا سمعته من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقد قال ال ‪ { :‬مَا نَ ْنسَخْ مِنْ‬
‫سهَا } (‪)1‬‬
‫آيَةٍ َأوْ نُنْ ِ‬
‫وقوله ‪ { :‬نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } أي ‪ :‬في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ‪ ،‬كما قال علي‬
‫بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا } يقول ‪ :‬خير لكم في المنفعة ‪ ،‬وأرفق بكم‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ { :‬مَا نَ ْنسَخْ مِنْ آ َيةٍ } فل نعمل بها ‪َ { ،‬أوْ نُنسئهَا } أي ‪ :‬نرجئها (‪ )2‬عندنا ‪،‬‬
‫نأت بها أو نظيرها‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ { :‬نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } يقول ‪ :‬نأت بخير من الذي نسخناه ‪ ،‬أو مثل الذي‬
‫تركناه‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ { :‬نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا } يقول ‪ :‬آية فيها تخفيف ‪ ،‬فيها رخصة ‪ ،‬فيها أمر ‪ ،‬فيها‬
‫نهي‪.‬‬
‫ض َومَا‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر ِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ* أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫علَى ُكلّ َ‬
‫وقوله ‪ { :‬أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َ‬
‫ي وَل َنصِيرٍ } يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء ‪،‬‬
‫ن وَِل ّ‬
‫َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫فله الخلق والمر وهو المتصرف ‪ ،‬فكما خلقهم كما يشاء ‪ ،‬ويسعد من يشاء ‪ ،‬ويشقي من يشاء ‪،‬‬
‫ويصح من يشاء ‪ ،‬ويمرض من يشاء ‪ ،‬ويوفق من يشاء ‪ ،‬ويخذل من يشاء ‪ ،‬كذلك يحكم في‬
‫عباده بما يشاء ‪ ،‬فيحل ما يشاء ‪ ،‬ويحرم ما يشاء ‪ ،‬ويبيح ما يشاء ‪ ،‬ويحظر ما يشاء ‪ ،‬وهو الذي‬
‫يحكم ما يريد ل معقب لحكمه‪ .‬ول يسأل عما يفعل وهم يسألون‪ .‬ويختبر عباده وطاعتهم لرسله‬
‫بالنسخ ‪ ،‬فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ‪ ،‬ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى‪..‬‬
‫فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا‪ .‬وامتثال ما أمروا‪ .‬وترك‬
‫ما عنه زجروا‪ .‬وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر (‪ )3‬اليهود وتزييف شبهتهم ‪ -‬لعنهم ال‬
‫(‪ - )4‬في دعوى استحالة النسخ إما عقل كما زعمه بعضهم جهل وكفرا ‪ ً ،‬وإما نقل كما‬
‫تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا‪.‬‬
‫قال المام أبو جعفر بن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬فتأويل الية ‪ :‬ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات‬
‫والرض وسلطانهما دون غيري ‪ ،‬أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ‪ ،‬وآمر فيهما وفيما فيهما بما‬
‫أشاء ‪ ،‬وأنهى عما أشاء ‪ ،‬وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا‬
‫أشاء ‪ ،‬وأقر فيهما ما أشاء‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وهذا الخبر وإن كان من ال تعالى خطابا لنبيه صلى ال عليه وسلم على وجه الخبر عن‬
‫عظمته ‪ ،‬فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا َنسْخَ أحكام التوراة ‪ ،‬وجحدوا نبوة عيسى ومحمد ‪،‬‬
‫عليهما الصلة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4481‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬نؤخرها" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬نركثها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬لكفار"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬لعنة ال عليهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/378‬‬

‫والسلم ‪ ،‬لمجيئهما (‪ )1‬بما جاءا به من عند ال بتغير ما غير ال من حكم التوراة‪ .‬فأخبرهم ال‬
‫أن له ملك السماوات والرض وسلطانهما ‪ ،‬وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع‬
‫والطاعة لمره ونهيه ‪ ،‬وأن له أمرهم بما يشاء ‪ ،‬ونهيهم عما يشاء ‪ ،‬ونسخ ما يشاء ‪ ،‬وإقرار ما‬
‫يشاء ‪ ،‬وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه‪.‬‬
‫[وأمر إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بذبح ولده ‪ ،‬ثم نسخه قبل الفعل ‪ ،‬وأمر جمهور بنى إسرائيل بقتل‬
‫من عبد العجل منهم ‪ ،‬ثم رفع عنهم القتل كيل يستأصلهم القتل (‪.] )2‬‬
‫قلت ‪ :‬الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ ‪ ،‬إنما هو الكفر والعناد ‪ ،‬فإنه ليس في‬
‫العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام ال تعالى ؛ لنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد ‪،‬‬
‫مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ‪ ،‬كما أحل لدم تزويج بناته من بنيه ‪ ،‬ثم‬
‫حلّ بعضها ‪،‬‬
‫حرم ذلك ‪ ،‬وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ‪ ،‬ثم نسخ ِ‬
‫وكان نكاح الختين مباح لسرائيل وبنيه ‪ ،‬وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها‪ .‬وأشياء‬
‫كثيرة يطول ذكرها ‪ ،‬وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه‪ .‬وما يجاب به عن هذه الدلة بأجوبة‬
‫لفظية ‪ ،‬فل تصرف الدللة في المعنى ‪ ،‬إذ هو المقصود ‪ ،‬وكما في كتبهم مشهورا من البشارة‬
‫بمحمد صلى ال عليه وسلم والمر باتباعه ‪ ،‬فإنه يفيد وجوب متابعته ‪ ،‬عليه والسلم ‪ ،‬وأنه ل‬
‫يقبل عمل إل على شريعته‪ .‬وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة ُمغَيّاة إلى بعثته ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فل‬
‫يسمى ذلك نسخًا كقوله ‪ُ { :‬ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } [البقرة ‪ ، ]187 :‬وقيل ‪ :‬إنها مطلقة ‪ ،‬وإن‬
‫شريعة محمد صلى ال عليه وسلم نسختها ‪ ،‬فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين (‪ )3‬لنه جاء‬
‫بكتاب هو آخر (‪ )4‬الكتب عهدا بال تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ‪ ،‬ردا على اليهود ‪ ،‬عليهم لعائن ال ‪ ،‬حيث قال تعالى ‪:‬‬
‫ض َومَا َلكُمْ مِنْ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر ِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ* أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫{ أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ن وَِليّ وَل َنصِيرٍ } الية ‪ ،‬فكما أن له الملك بل منازع ‪ ،‬فكذلك له الحكم بما يشاء ‪{ ،‬‬
‫دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫أَل لَهُ ا ْلخَلْقُ وَالمْرُ } [العراف ‪ ]54 :‬وقرئ في سورة آل عمران ‪ ،‬التي نزل صدرها خطابًا‬
‫طعَامِ كَانَ حِل لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مع أهل الكتاب ‪ ،‬وقوع النسخ عند اليهود في وقوله تعالى ‪ُ { :‬كلّ ال ّ‬
‫إِل مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى َنفْسِهِ } الية [آل عمران ‪ ]93 :‬كما سيأتي تفسيرها ‪ ،‬والمسلمون كلهم‬
‫متفقون على جواز النسخ في أحكام ال تعالى ‪ ،‬لما له في ذلك من الحكم البالغة ‪ ،‬وكلهم قال‬
‫بوقوعه‪ .‬وقال أبو مسلم الصبهاني المفسر ‪ :‬لم يقع شيء من ذلك في القرآن ‪ ،‬وقوله هذا ضعيف‬
‫مردود مرذول‪ .‬وقد تعسف في الجوبة عما وقع من النسخ ‪ ،‬فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر‬
‫وعشرا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلم مقبول ‪ ،‬وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة ‪ ،‬عن بيت‬
‫المقدس لم يجب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بمجيئها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬متعين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬هو أحدث"‪.‬‬

‫( ‪)1/379‬‬
‫سوَاءَ‬
‫ضلّ َ‬
‫ل َومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِالْإِيمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا َرسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْب ُ‬
‫السّبِيلِ (‪)108‬‬

‫بشيء ‪ ،‬ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الثنين ‪ ،‬ومن ذلك نسخ‬
‫وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى ال عليه وسلم وغير ذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سوَاءَ‬
‫ضلّ َ‬
‫{ َأمْ تُرِيدُونَ أَنْ َتسْأَلُوا رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ َومَنْ يَتَ َب ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِاليمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫السّبِيلِ (‪} )108‬‬
‫نهى ال تعالى في هذه الية الكريمة ‪ ،‬عن كثرة سؤال النبي صلى ال عليه وسلم عن الشياء قبل‬
‫س ْؤكُ ْم وَإِنْ َتسْأَلُوا‬
‫كونها ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَسَْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ َل ُكمْ تَ ُ‬
‫عَ ْنهَا حِينَ يُنزلُ ا ْلقُرْآنُ تُ ْبدَ َلكُمْ } [المائدة ‪ ]101 :‬أي ‪ :‬وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين‬
‫لكم ‪ ،‬ول تسألوا عن الشيء قبل كونه ؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة‪ .‬ولهذا جاء في‬
‫الصحيح ‪" :‬إن أعظم المسلمين جُ ْرمًا من سأل عن شيء لم يحرم ‪ ،‬فحرم من أجل مسألته" (‪.)1‬‬
‫ولما سُئِل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجل فإن تكلم تكلم بأمر‬
‫عظيم ‪ ،‬وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك ؛ فكره رسول ال صلى ال عليه وسلم المسائل وعابها‪.‬‬
‫ثم أنزل ال حكم الملعنة (‪ .)2‬ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة ‪ :‬أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ‪ ،‬وكثرة السؤال ‪ ،‬وإضاعة المال (‪)3‬‬
‫وفي صحيح مسلم ‪" :‬ذروني ما تركتكم ‪ ،‬فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على‬
‫أنبيائهم ‪ ،‬فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ‪ ،‬وإن (‪ )4‬نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" (‪ .)5‬وهذا‬
‫إنما قاله بعد ما أخبرهم أن ال كتب عليهم الحج‪ .‬فقال رجل ‪ :‬أكُل عام يا رسول ال ؟ فسكت عنه‬
‫ت ‪ ،‬ولو‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثًا‪ .‬ثم قال ‪ ،‬عليه السلم ‪" :‬ل ولو قلت ‪ :‬نعم لوجَ َب ْ‬
‫وَجَ َبتْ لما استطعتم"‪ .‬ثم قال ‪" :‬ذروني ما تركتكم" الحديث‪ .‬وهكذا قال أنس بن مالك ‪ :‬نُهينا أن‬
‫نسأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن شيء ‪ ،‬فكان يعجبنا أن يأتي (‪ )6‬الرجل من أهل البادية‬
‫فيسأله ونحن نسمع (‪.)7‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيب ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن سليمان ‪ ،‬عن‬
‫أبي سنان ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء بن عازب ‪ ،‬قال ‪ :‬إن كان ليأتي عَليّ السنة أريد أن‬
‫أسأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ‪ ،‬وإن كنا لنتمنى العراب‪.‬‬
‫وقال البزار ‪ :‬حدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا ابن فضيل ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ما‬
‫سألوه إل عن ثنْتَي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )7289‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2358‬من حديث سعد بن أبي وقاص‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )5259 ، 5308‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ )1492‬من‬
‫حديث سهل بن سعد رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )1477‬وصحيح مسلم برقم (‪.)593‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وإذا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪ )1337‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أن يجيء"‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪.)12‬‬

‫( ‪)1/380‬‬

‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ } [البقرة ‪ ، ]219 :‬و { يَسْأَلُو َنكَ‬


‫عشرة مسألة ‪ ،‬كلها في القرآن ‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫شهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة ‪ ، ]217 :‬و { وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى } [البقرة ‪ ]220 :‬يعني ‪ :‬هذا‬
‫عَنِ ال ّ‬
‫وأشباهه (‪.)1‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا َرسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ } أي ‪ :‬بل تريدون‪ .‬أو‬
‫هي (‪ )2‬على بابها في الستفهام ‪ ،‬وهو إنكاري ‪ ،‬وهو يعم المؤمنين والكافرين ‪ ،‬فإنه ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬رسول ال إلى الجميع ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابًا مِنَ‬
‫عقَةُ ِبظُ ْل ِمهِمْ } [النساء ‪:‬‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّا ِ‬
‫جهْ َرةً فَأَ َ‬
‫سمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫ال ّ‬
‫‪.]153‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد [بن جبير] (‪ )3‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رافع بن حُرَ ْيمَلة ‪ -‬أو وهب بن زيد ‪ : -‬يا محمد ‪ ،‬ائتنا بكتاب تُنزلُه علينا من‬
‫السماء نقرؤه ‪ ،‬وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك‪ .‬فأنزل ال من قولهم ‪ { :‬أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ }‬
‫ضلّ َ‬
‫رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ َومَنْ يَتَ َب ّدلِ ا ْلكُفْرَ بِاليمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية في قوله تعالى ‪ { :‬أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ } (‪)4‬‬
‫ضلّ َ‬
‫ل َومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِاليمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫تَسْأَلُوا رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْب ُ‬
‫قال ‪ :‬قال رجل ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬لو كانت َكفّاراتنا َكفّارات (‪ )5‬بني إسرائيل! فقال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬اللهم ل نبغيها ‪ -‬ثلثًا ‪ -‬ما أعطاكم ال خَيْر مما أعطى بني إسرائيل ‪ ،‬كانت (‬
‫‪ )6‬بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفّارتها ‪ ،‬فإن كفرها كانت له‬
‫خزْيًا في الدنيا ‪ ،‬وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الخرة‪ .‬فما أعطاكم ال خير مما أعطى بني‬
‫غفُورًا رَحِيمًا } [النساء‬
‫إسرائيل"‪ .‬قال ‪َ { :‬ومَنْ َي ْع َملْ سُوءًا َأوْ يَظِْلمْ َنفْسَهُ ُثمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ َ‬
‫‪ ، ]110 :‬وقال ‪" :‬الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن"‪ .‬وقال ‪" :‬من هم‬
‫بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ‪ ،‬وإن عملها كتبت سيئة واحدة ‪ ،‬ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت‬
‫له حسنة واحدة ‪ ،‬وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ‪ ،‬ول يهلك على ال إل هالك"‪ .‬فأنزل ال ‪:‬‬
‫{ َأمْ تُرِيدُونَ أَنْ َتسْأَلُوا رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ }‬
‫وقال مجاهد ‪ { :‬أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسَْألُوا َرسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ } أن يريهم ال جهرة ‪،‬‬
‫صفَا ذهبًا‪ .‬قال ‪" :‬نعم وهو لكم‬
‫قال ‪ :‬سألت قريش محمدا صلى ال عليه وسلم أن يجعل لهم ال ّ‬
‫كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم" ‪ ،‬فأبوا ورجعوا‪.‬‬
‫وعن السدي وقتادة نحو هذا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫والمراد أن ال ذمّ من سأل الرسولَ صلى ال عليه وسلم عن شَيء ‪ ،‬على وجه التعنّت‬
‫والقتراح ‪ ،‬كما سألت بنو إسرائيل موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬تعنتًا وتكذيبًا وعنادًا ‪ ،‬قال ال تعالى ‪:‬‬
‫{ َومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِاليمَانِ } أي ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )11/454‬من طريق عبد ال بن عمر بن أبان ‪ ،‬عن‬
‫محمد بن فضيل به مطولً‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وقيل بل هي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ككفارات"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬قال ‪ :‬كانت"‪.‬‬

‫( ‪)1/381‬‬

‫سهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ‬


‫حسَدًا مِنْ عِ ْندِ أَ ْنفُ ِ‬
‫وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ يَرُدّو َنكُمْ مِنْ َب ْعدِ إِيمَا ِنكُمْ ُكفّارًا َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪ )109‬وََأقِيمُوا‬
‫َلهُمُ ا ْلحَقّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ َتجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪)110‬‬
‫الصّلَا َة وَآَتُوا ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ‬

‫سوَاءَ السّبِيلِ } أي ‪ :‬فقد خرج عن (‪ )1‬الطريق المستقيم إلى‬


‫ضلّ َ‬
‫من يَشْتَر الكفر باليمان { َفقَ ْد َ‬
‫الجهل والضلل وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق النبياء واتباعهم والنقياد لهم ‪ ،‬إلى‬
‫مخالفتهم وتكذيبهم والقتراح عليهم بالسئلة التي ل يحتاجون إليها ‪ ،‬على وجه التعنت والكفر ‪،‬‬
‫جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َبدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ* َ‬
‫وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } [إبراهيم ‪.]29 ، 28 :‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬يتبدل الشدة بالرخاء‪.‬‬
‫س ِهمْ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ‬
‫سدًا مِنْ عِنْدِ أَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ يَ ُردّو َنكُمْ مِنْ َبعْدِ إِيمَا ِن ُكمْ ُكفّارًا حَ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪ )109‬وََأقِيمُوا‬
‫َلهُمُ ا ْلحَقّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِ ْندَ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪)110‬‬
‫الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُوا ل ْنفُ ِ‬
‫}‬
‫يحذر تعالى (‪ )2‬عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب ‪ ،‬ويعلمهم بعداوتهم لهم‬
‫في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ‪ ،‬مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم‪.‬‬
‫ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والحتمال ‪ ،‬حتى يأتي أمر ال من النصر والفتح‪ .‬ويأمرهم‬
‫بإقامة الصلة وإيتاء الزكاة‪ .‬ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ‪ ،‬كما قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني‬
‫محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان حُ َييّ بن‬
‫أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا ‪ ،‬إذْ خَصهم ال برسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم وكانا جَاهدَين في ردّ الناس عن السلم ما استطاعا ‪ ،‬فأنزل ال فيهما ‪ { :‬وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ‬
‫ا ْلكِتَابِ َلوْ يَ ُردّو َنكُمْ } الية‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر عن الزهري ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } قال ‪:‬‬
‫هو كعب بن الشرف‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬حدثنا شعيب ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬أخبرني عبد‬
‫الرحمن بن عبد ال بن كعب بن مالك ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن كعب بن الشرف اليهودي كان شاعرًا ‪،‬‬
‫وكان يهجو النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وفيه (‪ )3‬أنزل ال ‪َ { :‬ودّ كَثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ‬
‫يَرُدّو َنكُمْ } إلى قوله ‪ { :‬فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن رسول أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل (‪)4‬‬
‫واليات ‪ ،‬ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ‪ ،‬ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا ؛ ولذلك قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يحذر تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وفيهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬من الرسل والكتب"‪.‬‬

‫( ‪)1/382‬‬

‫سهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْلحَقّ } يقول ‪ :‬من بعد ما أضاء لهم‬
‫حسَدًا مِنْ عِ ْندِ أَ ْنفُ ِ‬
‫ال تعالى ‪ُ { :‬كفّارًا َ‬
‫الحق لم يجهلوا منه شيئا ‪ ،‬ولكن الحسد حملهم على الجحود ‪ ،‬فعيرّهم ووبخهم ولمهم أشدّ‬
‫الملمة ‪ ،‬وشرع لنبيه صلى ال عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق واليمان والقرار‬
‫بما أنزل (‪ )1‬عليهم وما أنزل من قبلهم ‪ ،‬بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم‪.‬‬
‫سهِمْ } من قبل أنفسهم‪ .‬وقال أبو العالية ‪ { :‬مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ { :‬مِنْ عِنْدِ أَ ْنفُ ِ‬
‫َلهُمُ ا ْلحَقّ } من بعد ما تبين [لهم] (‪ )2‬أن محمدا رسول ال يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة‬
‫والنجيل ‪ ،‬فكفروا به حسدا وبغيًا ؛ إذ كان من غيرهم‪ .‬وكذا قال قتادة والربيع والسدي‪.‬‬
‫س َمعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا‬
‫عفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ } مثل قوله تعالى ‪ { :‬وَلَتَ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬فَا ْ‬
‫ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُ ْم َومِنَ الّذِينَ َأشْ َركُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم المُورِ }‬
‫[آل عمران ‪.]186 :‬‬
‫عفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }‬
‫قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬فَا ْ‬
‫ن ل ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَل‬
‫جدْ ُتمُوهُمْ } وقوله ‪ { :‬قَاتِلُوا الّذِي َ‬
‫ث وَ َ‬
‫نسخ ذلك قوله ‪ { :‬فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫بِالْ َيوْمِ الخِرِ } إلى قوله ‪ { :‬وَهُ ْم صَاغِرُونَ } [التوبة ‪ ]29 :‬فنسخ هذا عفوه عن المشركين‪ .‬وكذا‬
‫قال أبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ :‬إنها منسوخة بآية السيف ‪ ،‬ويرشد إلى ذلك‬
‫أيضًا قوله ‪ { :‬حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو اليمان (‪ )3‬أخبرنا شعيب ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬أخبرني‬
‫عُ ْروَة بن الزبير ‪ :‬أن أسامة بن زيد أخبره ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‬
‫عفُوا‬
‫يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ‪ ،‬كما أمرهم ال ‪ ،‬ويصبرون على الذى ‪ ،‬قال ال ‪ { :‬فَا ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫يتأوّل من العفو ما أمره ال به ‪ ،‬حتى أذن ال فيهم بقتل ‪ ،‬فقتل ال به من قتل من صناديد قريش‬
‫(‪.)4‬‬
‫وهذا إسناده (‪ )5‬صحيح ‪ ،‬ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين عن‬
‫أسامة بن زيد رضي ال عنهما] (‪.)6‬‬
‫حثّ‬
‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ َتجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ } يَ ُ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وََأقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُوا لنْفُ ِ‬
‫(‪ )7‬تعالى على الشتغال بما ينفعهم و َتعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة ‪ ،‬من إقام الصلة وإيتاء‬
‫الزكاة ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أنزل ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬أبو الوليد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/333‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬وهذا إسناد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يحثهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/383‬‬

‫خلَ ا ْلجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ُقلْ هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ‬
‫َوقَالُوا لَنْ يَدْ ُ‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ (‬
‫حسِنٌ فَلَهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَلَا َ‬
‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ‬
‫(‪ )111‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬
‫‪)112‬‬

‫حتى يمكن لهم ال (‪ )1‬النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد { َيوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُت ُهمْ‬
‫وََلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [غافر ‪ ]52 :‬؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬
‫يعني ‪ :‬أنه تعالى ل يغفل عن عمل عامل ‪ ،‬ول يضيع لديه ‪ ،‬سواء كان خيرًا أو شرًا ‪ ،‬فإنه‬
‫سيجازي كل عامل بعمله‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } وهذا الخبر من ال للذين‬
‫خاطبهم بهذه اليات من المؤمنين ‪ ،‬أنهم مهما فعلوا من خير أو شر ‪ ،‬سرا أو علنية ‪ ،‬فهو به‬
‫بصير ل يخفى عليه منه شيء ‪ ،‬فيجزيهم بالحسان خيرًا ‪ ،‬وبالساءة مثلها‪ .‬وهذا الكلم وإن كان‬
‫خرج مخرج الخبر ‪ ،‬فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا‪ .‬وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير بجميع‬
‫أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدّخرًا (‪ )2‬لهم عنده ‪ ،‬حتى يثيبهم عليه ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬ومَا‬
‫جدُوهُ عِنْدَ اللّهِ } وليحذروا معصيته‪.‬‬
‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَ ِ‬
‫ُتقَ ّدمُوا ل ْنفُ ِ‬
‫قال ‪ :‬وأما قوله ‪ { :‬بصير } فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف مبدع إلى "بديع" ‪ ،‬ومؤلم‬
‫إلى "أليم" ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا ابن ُبكَير ‪ ،‬حدثني ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن يزيد بن أبي‬
‫حبيب ‪ ،‬عن أبي الخير ‪ ،‬عن عقبة بن عامر ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يفسر‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ } يقول ‪ :‬بكل شيء بصير (‪.)4‬‬
‫(‪ )3‬في هذه الية { َ‬
‫خلَ ا ْلجَنّةَ إِل مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ُقلْ هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ‬
‫{ َوقَالُوا لَنْ َيدْ ُ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ‬
‫حسِنٌ فَلَهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَل َ‬
‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ‬
‫صَا ِدقِينَ (‪ )111‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬
‫يَحْزَنُونَ (‪} )112‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬يمكن ال لهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬مذخورا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬يقرأ" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬يقترئ"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/336‬‬
‫( ‪)1/384‬‬

‫شيْ ٍء وَهُمْ يَتْلُونَ‬


‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬
‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَ ْي َ‬
‫ستِ ال ّنصَارَى عَلَى َ‬
‫َوقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ (‬
‫ا ْلكِتَابَ كَذَِلكَ قَالَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ فَاللّهُ يَ ْ‬
‫‪)113‬‬

‫شيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ‬


‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬
‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَيْ َ‬
‫ستِ ال ّنصَارَى عَلَى َ‬
‫{ َوقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ‬
‫حكُمُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ (‬
‫ا ْلكِتَابَ كَذَِلكَ قَالَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ فَاللّهُ َي ْ‬
‫‪} )113‬‬
‫يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ‪ ،‬حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى‬
‫أنه لن يدخل الجنة إل من كان على ملتها ‪ ،‬كما أخبر ال عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا ‪:‬‬
‫{ َنحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وََأحِبّا ُؤهُ } [المائدة ‪ .]18 :‬فأكذبهم ال تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ‪ ،‬ولو‬
‫كانوا كما ادعوا لما كان المر كذلك ‪ ،‬وكما تقدم من (‪ )1‬دعواهم أنه لن تمسهم النار إل أياما‬
‫معدودة ‪ ،‬ثم ينتقلون إلى الجنة‪ .‬وردّ عليهم تعالى في ذلك ‪ ،‬وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي‬
‫ادعوها بل دليل ول حجة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬في"‪.‬‬

‫( ‪)1/384‬‬

‫ول بينة ‪ ،‬فقال { تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ }‬


‫وقال أبو العالية ‪ :‬أماني تمنوها على ال بغير حق‪ .‬وكذا قال قتادة والربيع بن أنس‪.‬‬
‫ثم قال ‪ُ { :‬قلْ } أي ‪ :‬يا محمد ‪ { ،‬هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ }‬
‫وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس ‪ :‬حجتكم‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬بينتكم على ذلك‪ { .‬إِنْ‬
‫كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } كما تدعونه (‪.)1‬‬
‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ ُمحْسِنٌ } أي ‪ :‬من أخلص العمل ل وحده ل شريك‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬
‫ج ِهيَ لِلّ ِه َومَنِ اتّ َبعَنِ } الية [آل عمران ‪.]20 :‬‬
‫له ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَإِنْ حَاجّوكَ َف ُقلْ َأسَْل ْمتُ َو ْ‬
‫جهَهُ لِلّهِ } يقول ‪ :‬من أخلص ل‪.‬‬
‫وقال أبو العالية والربيع ‪ { :‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم َو ْ‬
‫جهَهُ } قال ‪ :‬دينه ‪ { ،‬وَ ُهوَ ُمحْسِنٌ } أي ‪:‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ { :‬بَلَى مَنْ َأسْلَمَ } أخلص ‪ { ،‬وَ ْ‬
‫متبع فيه الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬فإن للعمل (‪ )2‬المتقبل شرطين ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬أن يكون‬
‫خالصًا ل وحده والخر ‪ :‬أن يكون صوابًا موافقا للشريعة‪ .‬فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم‬
‫يتقبل ؛ ولهذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من عمل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"‪.‬‬
‫رواه مسلم من حديث عائشة ‪ ،‬عنه ‪ ،‬عليه السلم‪.‬‬
‫فعمل الرهبان ومن شابههم ‪ -‬وإن فرض أنهم مخلصون فيه ل ‪ -‬فإنه ل يتقبل منهم ‪ ،‬حتى يكون‬
‫ذلك متابعًا للرسول [محمد] (‪ )3‬صلى ال عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ‪ ،‬وفيهم‬
‫جعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان ‪:‬‬
‫ع َملٍ َف َ‬
‫عمِلُوا مِنْ َ‬
‫وأمثالهم ‪ ،‬قال ال تعالى ‪َ { :‬وقَ ِدمْنَا إِلَى مَا َ‬
‫ظمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَا َءهُ َلمْ‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫‪ ، ]23‬وقال تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ‬
‫ج ْدهُ شَيْئًا } [النور ‪.]39 :‬‬
‫يَ ِ‬
‫وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي‪.‬‬
‫وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة ‪ ،‬ولكن لم يخلص عامله القصد ل فهو‬
‫أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ يُخَادِعُونَ‬
‫س وَل َي ْذكُرُونَ اللّهَ إِل قَلِيل }‬
‫عهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النّا َ‬
‫اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ‬
‫ن صَل ِتهِمْ سَاهُونَ* الّذِينَ هُمْ‬
‫[النساء ‪ ، ]142 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬فوَ ْيلٌ ِل ْل ُمصَلّينَ* الّذِينَ ُهمْ عَ ْ‬
‫يُرَاءُونَ* وَ َيمْ َنعُونَ ا ْلمَاعُونَ } [الماعون ‪ ، ]7 - 4 :‬ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬فمَنْ كَانَ يَرْجُو ِلقَاَءَ رَبّهِ‬
‫عمَل صَالِحًا وَل يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا } [الكهف ‪ .]110 :‬وقال في هذه الية الكريمة ‪:‬‬
‫فَلْ َي ْع َملْ َ‬
‫حسِنٌ }‬
‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ‬
‫{ بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك‬
‫وقوله ‪ { :‬فََلهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَل َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ } فيما يستقبلونه ‪ { ،‬وَل‬
‫تحصيل الجور ‪ ،‬وآمنهم مما يخافونه من المحذور فـ { ل َ‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ }‬
‫هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه ‪ ،‬كما قال سعيد بن جبير ‪ :‬فـ { ل َ‬
‫يعني ‪ :‬في الخرة { وَل هُمْ َيحْزَنُونَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬أي فيما تدعونه" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬أي مما تدعونه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في العمل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/385‬‬

‫[يعني ‪ :‬ل يحزنون] (‪ )1‬للموت‪.‬‬


‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى‬
‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَيْ َ‬
‫ستِ ال ّنصَارَى عَلَى َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ‬
‫شيْ ٍء وَهُمْ يَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم‪ .‬كما قال محمد‬
‫َ‬
‫بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أتتهم أحبار يهود ‪،‬‬
‫فتنازعوا عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال رافع بن حُرَيْملة (‪ )2‬ما أنتم على شيء ‪،‬‬
‫وكفر بعيسى وبالنجيل‪ .‬وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ‪ :‬ما أنتم على شيء‪.‬‬
‫ستِ‬
‫وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة‪ .‬فأنزل ال في ذلك من قولهما (‪َ { )3‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ‬
‫شيْ ٍء وَهُمْ يَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ } قال ‪ :‬إن كل‬
‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬
‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَ ْي َ‬
‫ال ّنصَارَى عَلَى َ‬
‫يتلو في كتابه تصديق من كفر به ‪ ،‬أي ‪ :‬يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة ‪ ،‬فيها ما أخذ ال‬
‫عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ‪ ،‬وفي النجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ‪ ،‬وما‬
‫جاء (‪ )4‬من التوراة من عند ال ‪ ،‬وكل يكفر بما في يد (‪ )5‬صاحبه‪.‬‬
‫وقال مجاهد في تفسير هذه الية ‪ :‬قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء‪.‬‬
‫شيْءٍ } قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬قد كانت أوائل النصارى‬
‫ستِ ال ّنصَارَى عَلَى َ‬
‫وقال قتادة ‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ‬
‫شيْءٍ } قال ‪ :‬بلى قد‬
‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬
‫على شيء ‪ ،‬ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا‪َ { .‬وقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَ ْي َ‬
‫كانت أوائل اليهود على شيء ‪ ،‬ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا‪.‬‬
‫وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس في تفسير (‪ )6‬هذه الية ‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ‬
‫شيْءٍ } هؤلء أهل الكتاب الذين‬
‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬
‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَيْ َ‬
‫ستِ ال ّنصَارَى عَلَى َ‬
‫لَيْ َ‬
‫كانوا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذا القول يقتضي أن كل من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الخرى‪ .‬ولكن ظاهر سياق‬
‫الية يقتضي ذمهم فيما قالوه ‪ ،‬مع علمهم بخلف ذلك ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَهُمْ يَ ْتلُونَ ا ْلكِتَابَ }‬
‫أي ‪ :‬وهم يعلمون شريعة التوراة والنجيل ‪ ،‬كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ‪ ،‬ولكن‬
‫تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا (‪ )7‬ومقابلة للفاسد بالفاسد ‪ ،‬كما تقدم عن ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫وقتادة في الرواية الولى عنه في تفسيرها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ن ل َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ } يُبَيّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬كَذَِلكَ قَالَ الّذِي َ‬
‫تقابلوا من القول ‪ ،‬وهذا من باب اليماء والشارة‪ .‬وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ ل‬
‫َيعَْلمُونَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬بن خزيمة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬من قوله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬جاء به"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬بما في يدي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬في تفسيره"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬كفرا وعنادا"‪.‬‬
‫( ‪)1/386‬‬

‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ‬
‫سمُ ُه وَ َ‬
‫جدَ اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ مَ َنعَ مَسَا ِ‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ (‪)114‬‬
‫ي وََلهُمْ فِي الْآَخِ َرةِ َ‬
‫يَ ْدخُلُوهَا إِلّا خَا ِئفِينَ َل ُهمْ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬

‫ن ل َيعَْلمُونَ } قال وقالت النصارى مثل قول اليهود‬


‫فقال الربيع بن أنس وقتادة ‪ { :‬كَذَِلكَ قَالَ الّذِي َ‬
‫وقيلهم‪ .‬وقال ابن جُرَيج ‪ :‬قلت لعطاء ‪ :‬من هؤلء الذين ل يعلمون ؟ قال ‪ :‬أمم كانت قبل اليهود‬
‫والنصارى وقبل التوراة والنجيل‪ .‬وقال السدي ‪َ { :‬كذَِلكَ قَالَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ } فهم ‪ :‬العرب ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬ليس محمد على شيء‪.‬‬
‫واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ‪ ،‬وليس ثمّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه‬
‫القوال ‪ ،‬فالحمل على الجميع أولى ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } أي ‪ :‬أنه تعالى يجمع (‪)1‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَاللّهُ َي ْ‬
‫بينهم يوم المعاد ‪ ،‬ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي ل يجور فيه ول يظلم مثقال ذرة‪ .‬وهذا كقوله‬
‫س وَالّذِينَ‬
‫تعالى في سورة الحج ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئِينَ وَال ّنصَارَى وَا ْلمَجُو َ‬
‫شهِيدٌ } [الحج ‪ ، ]17 :‬وكما قال‬
‫شيْءٍ َ‬
‫أَشْ َركُوا إِنّ اللّهَ َي ْفصِلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫جمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ َيفْتَحُ بَيْنَنَا بِا ْلحَقّ وَ ُهوَ ا ْلفَتّاحُ ا ْلعَلِيمُ } [ سبأ ‪.]26 :‬‬
‫تعالى ‪ُ { :‬قلْ يَ ْ‬
‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َل ُهمْ أَنْ‬
‫سمُهُ وَ َ‬
‫{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ (‪} )114‬‬
‫ي وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬
‫يَ ْدخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ َلهُمْ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬
‫سعَوا في خرابها على قولين ‪:‬‬
‫اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد ال (‪ )2‬و َ‬
‫أحدهما ‪ :‬ما رواه العوفي في تفسيره ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪َ { :‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ‬
‫س ُمهُ } قال ‪ :‬هم النصارى‪ .‬وقال مجاهد ‪ :‬هم النصاري ‪ ،‬كانوا يطرحون في‬
‫اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫بيت المقدس الذى ‪ ،‬ويمنعون الناس أن يصلوا فيه‪.‬‬
‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا } هو بُخْتَ َنصّر‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة في قوله ‪ { :‬وَ َ‬
‫وأصحابه ‪ ،‬خَرّب بيت المقدس ‪ ،‬وأعانه على ذلك النصارى‪.‬‬
‫وقال سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬قال ‪ :‬أولئك أعداء ال النصارى ‪ ،‬حملهم بغض اليهود على أن أعانوا‬
‫بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه ‪ ،‬وأمر به أن تطرح‬
‫فيه الجيف ‪ ،‬وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا‪.‬‬
‫وروي نحوه عن الحسن البصري‪.‬‬
‫القول الثاني ‪ :‬ما رواه ابن جرير ‪ :‬حدثني يونس بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا ابن وهب قال ‪ :‬قال ابن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬يحكم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬مساجد ال أن يذكر فيها اسمه"‪.‬‬

‫( ‪)1/387‬‬

‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا } قال ‪:‬‬


‫سمُ ُه وَ َ‬
‫جدَ اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫زيد في قوله ‪َ { :‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَا ِ‬
‫هؤلء المشركون الذين حالوا بين رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الحديبية ‪ ،‬وبين أن يدخلوا‬
‫طوَى وهادنهم ‪ ،‬وقال لهم ‪ :‬ما كان أحد َيصُد عن هذا البيت ‪ ،‬وقد كان‬
‫مكة حتى نحر هديه بذي ُ‬
‫الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فل يصده‪ .‬فقالوا ‪ :‬ل يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق‪.‬‬
‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا } قال ‪ :‬إذ قطعوا من َي ْعمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة‪.‬‬
‫وفي قوله ‪ { :‬وَ َ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬ذكر عن سلمة قال ‪ :‬قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪،‬‬
‫عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫جدَ اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ‬
‫الصلة عند الكعبة في المسجد الحرام ‪ ،‬فأنزل ال ‪َ { :‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَا ِ‬
‫سمُهُ }‬
‫فِيهَا ا ْ‬
‫ثم اختار ابن جرير القول الول ‪ ،‬واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة‪ .‬وأما الروم فسعوا‬
‫في تخريب بيت المقدس‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬الذي (‪ )1‬يظهر ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬القول الثاني ‪ ،‬كما قاله ابن زيد ‪ ،‬وروي عن ابن عباس ؛‬
‫لن النصارى إذا منعت اليهود الصلة في البيت المقدس ‪ ،‬كأن دينهم أقوم من دين اليهود ‪،‬‬
‫وكانوا أقرب منهم ‪ ،‬ولم يكن ذكر ال من اليهود مقبول إذ ذاك ؛ لنهم لعنوا من قبل على لسان‬
‫داود وعيسى ابن مريم ‪ ،‬ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‪ .‬وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق‬
‫اليهود والنصارى ‪ ،‬شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه‬
‫من مكة ‪ ،‬ومنعوهم من الصلة في المسجد الحرام ‪ ،‬وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في‬
‫خراب الكعبة ‪ ،‬فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه ‪ ،‬واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا َل ُهمْ أَل ُيعَذّ َبهُمُ‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم َومَا كَانُوا َأوْلِيَا َءهُ إِنْ َأوْلِيَا ُؤهُ إِل ا ْلمُ ّتقُونَ وََلكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم ل‬
‫اللّ ُه وَ ُهمْ َيصُدّونَ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫جدَ اللّهِ شَا ِهدِينَ عَلَى‬
‫َيعَْلمُونَ } [النفال ‪ ، ]34 :‬وقال تعالى ‪ { :‬مَا كَانَ لِ ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ َي ْعمُرُوا مَسَا ِ‬
‫عمَاُل ُه ْم َوفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِ ّنمَا َي ْعمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫سهِمْ بِا ْل ُكفْرِ أُولَ ِئكَ حَبِ َ‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَا َة وَلَمْ يَخْشَ إِل اللّهَ َفعَسَى أُولَ ِئكَ أَنْ َيكُونُوا مِنَ ا ْل ُمهْ َتدِينَ }‬
‫جدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ‬
‫[التوبة ‪ ، ]18 ، 17 :‬وقال تعالى ‪ { :‬هُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَسْ ِ‬
‫َم ْعكُوفًا أَنْ يَبُْلغَ مَحِلّهُ وََلوْل رِجَالٌ ُم ْؤمِنُونَ وَنِسَاءٌ ُم ْؤمِنَاتٌ لَمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ َتطَئُوهُمْ ف َتصُيِ َبكُمْ مِ ْنهُمْ‬
‫حمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ َلوْ تَزَيّلُوا َل َعذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }‬
‫خلَ الُ فِي رَ ْ‬
‫علْمٍ لِ ُيدْ ِ‬
‫َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ ِ‬
‫جدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وََأقَامَ الصّلةَ‬
‫[الفتح ‪ ، ]25 :‬فقال تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا َي ْعمُرُ مَسَا ِ‬
‫خشَ إِل اللّهَ } [التوبة ‪ ، ]18 :‬فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا‬
‫وَآتَى ال ّزكَاةَ وَلَمْ يَ ْ‬
‫عنها ‪ ،‬فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ‪،‬‬
‫إنما عمارتها بذكر ال فيها وإقامة شرعه فيها ‪ ،‬ورفعها عن الدنس والشرك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬قلت والذي"‪.‬‬

‫( ‪)1/388‬‬

‫وقوله تعالى ‪ { :‬أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ َيدْخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ } هذا خبر معناه الطلب ‪ ،‬أي ل ُت َمكّنوا‬
‫هؤلء ‪ -‬إذا قَدَرُتم عليهم ‪ -‬من دخولها إل تحت الهدنة والجزية‪ .‬ولهذا لما فتح رسولُ ال صلى‬
‫حجّن (‪)1‬‬
‫ال عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى ‪" :‬أل ل يَ ُ‬
‫بعد العام مشرك ‪ ،‬ول يطوفن بالبيت عُريان ‪ ،‬ومن كان له أجل فأجله إلى مدته"‪ .‬وهذا كان‬
‫سجِدَ ا ْلحَرَامَ‬
‫تصديقًا وعمل بقوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَل َيقْرَبُوا ا ْلمَ ْ‬
‫َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا } الية [التوبة ‪ ، ]28 :‬وقال بعضهم ‪ :‬ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد ال إل‬
‫خائفين على حال التهيب ‪ ،‬وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ‪ ،‬فضل أن يستولوا‬
‫عليها ويمنعوا (‪ )2‬المؤمنين منها‪ .‬والمعنى ‪ :‬ما كان الحق والواجب إل ذلك ‪ ،‬لول ظلم الكفرة‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن هذا بشارة من ال للمسلمين أنه س ُيظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ‪،‬‬
‫وأنه يذل المشركين لهم حتى ل يدخل المسجد الحرام أحد منهم إل خائفا ‪ ،‬يخاف أن يؤخذ فيعاقب‬
‫أو يقتل إن لم يسلم‪ .‬وقد أنجز ال هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام‬
‫‪ ،‬وأوصى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ل يبقى بجزيرة العرب دينان ‪ ،‬وأن تجلى اليهود‬
‫والنصارى منها ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪ .‬وما ذاك إل تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة‬
‫[المباركة] (‪ )3‬التي بعث [ال] (‪ )4‬فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات ال وسلمه‬
‫عليه (‪ .)5‬وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ؛ لن الجزاء من جنس العمل‪ .‬فكما صدوا المؤمنين (‪)6‬‬
‫عذَابٌ‬
‫عن المسجد الحرام ‪ ،‬صُدوا عنه ‪ ،‬وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬
‫عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت ‪ ،‬وامتهنوه من نصب الصنام حوله ‪ ،‬والدعاء إلى غير‬
‫ال عنده والطواف به عريا ‪ ،‬وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها ال ورسوله‪.‬‬
‫وأما من َفسّر بيت (‪ )7‬المقدس ‪ ،‬فقال كعب الحبار ‪ :‬إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس‬
‫خربوه (‪ )8‬فلما بعث ال محمدا صلى ال عليه وسلم أنزل عليه ‪َ { :‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ‬
‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ َيدْخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ } الية ‪ ،‬فليس‬
‫س ُم ُه وَ َ‬
‫اللّهِ أَنْ يُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫في الرض نصراني يدخل بيت المقدس إل خائفا‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬فليس في الرض رومي يدخله اليوم إل وهو خائف أن ُيضْرَب (‪ )9‬عُ ُنقُه ‪ ،‬أو قد‬
‫أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬و ‪" :‬أل ل يحج" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬أن ل يحج"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ويمنعوا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬صلوات ال وسلمه عليه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬المسلمين"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪ ،‬ب ‪" :‬ببيت"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ :‬حرقوه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬أن تضرب"‪.‬‬

‫( ‪)1/389‬‬

‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ اللّهِ إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (‪)115‬‬
‫وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬

‫وقال قتادة ‪ :‬ل يدخلون المساجد إل مسارقة‪.‬‬


‫قلت ‪ :‬وهذا ل ينفي أن يكون داخل في معنى عموم الية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس ‪،‬‬
‫بامتهان الصخرة التي كانت يصلي (‪ )1‬إليها اليهود ‪ ،‬عوقبوا شرعًا وقَدَرا بالذلة فيه ‪ ،‬إل في‬
‫عصَوا ال فيه أيضا أعظم من‬
‫أحيان من الدهر امتحن (‪ )2‬بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما َ‬
‫عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم وال أعلم‪.‬‬
‫وفسر هؤلء الخزي من الدنيا ‪ ،‬بخروج المهدي عند السدي ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ووائل بن داود‪ .‬وفسره‬
‫قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون‪.‬‬
‫والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ‪ ،‬وقد ورد الحديث بالستعاذة من خزي الدنيا‬
‫وعذاب الخرة كما قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا الهيثم بن خارجة ‪ ،‬حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة‬
‫بن حَلبس (‪ )3‬سمعت أبي يحدث ‪ ،‬عن بُسْر (‪ )4‬بن أرطاة ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يدعو ‪" :‬اللهم أحسن عاقبتنا في المور كلها ‪ ،‬وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الخرة" (‪.)5‬‬
‫وهذا حديث حسن ‪ ،‬وليس في شيء من الكتب الستة ‪ ،‬وليس لصحابيه وهو بسر (‪ )6‬بن أرطاة ‪-‬‬
‫ويقال ‪ :‬ابن أبي أرطاة ‪ -‬حديث سواه ‪ ،‬وسوى [حديث] (‪" )7‬ل تقطع اليدي في الغزو"‪.‬‬
‫جهُ اللّهِ إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (‪} )115‬‬
‫{ وَلِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ‬
‫وهذا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬فيه تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه‬
‫الذين أخرجوا (‪ )8‬من مكة وفارقوا مسجدهم و ُمصَلهم ‪ ،‬وقد كان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه‪ .‬فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة‬
‫عشر شهرًا ‪ ،‬أو سبعة عشر شهرًا ‪ ،‬ثم صرفه ال إلى الكعبة بعدُ ‪ ،‬ولهذا يقول (‪ )9‬تعالى ‪:‬‬
‫جهُ اللّهِ }‬
‫{ وَلِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ‬
‫قال أبو عبيد القاسم بن سلم ‪ ،‬في كتاب الناسخ والمنسوخ ‪ :‬أخبرنا حجاج بن محمد ‪ ،‬أخبرنا ابن‬
‫جريج وعثمان بن عطاء ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ‬
‫لنا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬شأنُ القبلة ‪ :‬قال (‪ )10‬تعالى ‪ { :‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫اللّهِ } فاستقبل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬كانت تصلى" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬كانت تصل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬سخر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪" :‬بن حابس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬عن بشر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)4/181‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وهو بشر"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬الذين خرجوا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬يقول ال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ب ‪ ،‬و ‪" :‬قال ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/390‬‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ‪ ،‬وترك البيت العتيق ‪ ،‬ثم صرفه إلى‬
‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا‬
‫جتَ َف َولّ وَ ْ‬
‫بيته (‪ )1‬العتيق ونسخها ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬
‫كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ شَطْ َرهُ } (‪.)2‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان أول ما نسخ من القرآن القبلة‪ .‬وذلك أن‬
‫رسول صلى ال عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ‪ -‬وكان أهلُها اليهودَ ‪ -‬أمره ال أن يستقبل بيت‬
‫المقدس‪ .‬ففرحت اليهود فاستقبلها رسول ال صلى ال عليه وسلم بضعة عشر شهرا ‪ ،‬وكان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ‪ ،‬فكان يدعو وينظر إلى السماء ‪ ،‬فأنزل ال ‪{ :‬‬
‫شطْ َرهُ‬
‫سمَاءِ [فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا] } (‪ )3‬إلى قوله ‪َ { :‬فوَلّوا وُجُو َهكُمْ َ‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫قَدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ‬
‫} فارتاب من ذلك اليهود ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ‪ ،‬فأنزل ال ‪ُ { :‬قلْ لِلّهِ‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبُ [ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ] } (‪ )4‬وقال ‪ { :‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ اللّهِ }‬
‫ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫وقال عكرمة عن ابن عباس ‪ { :‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ } قال ‪ :‬قبلة ال أينما توجهت شرقًا أو‬
‫جهُ اللّهِ } [قال ‪ :‬قبلة ال] (‪ )5‬حيثما كنتم فلكم قبلة‬
‫غربًا‪ .‬وقال مجاهد ‪ { :‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ‬
‫تستقبلونها ‪ :‬الكعبة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الثر المتقدم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في نسخ القبلة ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عنه‬
‫‪ :‬وروي عن أبي العالية ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وزيد‬
‫بن أسلم ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل أنزل ال هذه الية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ‪ ،‬وإنما‬
‫أنزلها (‪ )6‬تعالى ليعلم نبيه صلى ال عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلة ‪،‬‬
‫حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب ؛ لنهم ل يوجهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إل‬
‫كان جل ثناؤه في ذلك الوجه (‪ )7‬وتلك الناحية ؛ لن له تعالى المشارق والمغارب ‪ ،‬وأنه ل يخلو‬
‫ك وَل َأكْثَرَ إِل ُهوَ َم َعهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة ‪:‬‬
‫منه مكان ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَل َأدْنَى مِنْ ذَِل َ‬
‫‪ ]7‬قالوا ‪ :‬ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فَ َرضَ عليهم التوجّهَ إلى المسجد الحرام‪.‬‬
‫هكذا قال ‪ ،‬وفي قوله ‪" :‬وإنه تعالى ل يخلو منه مكان" ‪ :‬إن أراد علمه تعالى فصحيح ؛ فإن علمه‬
‫تعالى محيط بجميع المعلومات ‪ ،‬وأما ذاته تعالى فل تكون محصورة في شيء من خلقه ‪ ،‬تعالى‬
‫ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬البيت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (‪ )1/346‬من طريق حجاج بن محمد به ‪ ،‬ورواه الحاكم في‬
‫المستدرك (‪ )2/267‬من طريق ابن جريج عن عطاء به وقال ‪" :‬هذا حديث صحيح على شرط‬
‫الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أنزلها ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬التوجيه"‪.‬‬

‫( ‪)1/391‬‬
‫عن ذلك علوًا كبيرًا‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل نزلت هذه الية على رسول ال صلى ال عليه وسلم إذنا من‬
‫ال أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب ‪ ،‬في مسيره في سفره ‪ ،‬وفي حال المسايفة‬
‫وشدة الخوف‪.‬‬
‫حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا ابن إدريس ‪ ،‬حدثنا عبد الملك ‪ -‬هو ابن أبي سليمان ‪ -‬عن سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته‪ .‬ويذكر أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم كان يفعل ذلك ‪ ،‬ويتأول هذه الية ‪ { :‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ }‬
‫ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مَرْ ُدوَيه ‪ ،‬من طرق ‪ ،‬عن عبد الملك بن أبي‬
‫سليمان ‪ ،‬به (‪ .)1‬وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة ‪ ،‬من غير ذكر‬
‫الية‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاري من حديث نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أنه كان إذا سئل عن صلة الخوف‬
‫وصفها‪ .‬ثم قال ‪ :‬فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجال قياما على أقدامهم ‪ ،‬وركبانا مستقبلي‬
‫القبلة وغير مستقبليها‪.‬‬
‫قال نافع ‪ :‬ول أرى ابن عمر ذكر ذلك إل عن النبي صلى ال عليه وسلم (‪.)2‬‬
‫مسألة ‪ :‬ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه ‪ ،‬بين سفر المسافة وسفر العدوي ‪ ،‬فالجميع عنه‬
‫يجوز التطوع فيه على الراحلة ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة خلفا لمالك وجماعته ‪ ،‬واختار أبو يوسف‬
‫وأبو سعيد الصطخري ‪ ،‬التطوع على الدابة في المصر ‪ ،‬وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬واختاره أبو جعفر الطبري ‪ ،‬حتى للماشي أيضا‪.‬‬
‫عمّيتْ عليهم القبلة ‪ ،‬فلم يعرفوا‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل نزلت هذه الية في قوم ُ‬
‫شَطرها ‪ ،‬فصلوا على أنحاء مختلفة ‪ ،‬فقال ال (‪ )3‬لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم‬
‫فهنالك وجهي ‪ ،‬وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلتكم ماضية‪.‬‬
‫حدثنا أحمد بن إسحاق الهوازي ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد الزبيري ‪ ،‬حدثنا أبو الربيع السمان ‪ ،‬عن‬
‫عاصم بن عبيد ال ‪ ،‬عن عبد ال بن عامر بن ربيعة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا مع رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ‪ ،‬فنزلنا منزل فجعل الرّجل يأخذُ الحجا َر فيعمل مسجدا‬
‫يصلي فيه‪ .‬فلما [أن] (‪ )4‬أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة‪ .‬فقلنا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬لقد‬
‫جهُ اللّهِ‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ‬
‫صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ؟ فأنزل ال تعالى ‪ { :‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ } الية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ )2/530‬وصحيح مسلم برقم (‪ )700‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2958‬وسنن‬
‫النسائي (‪ )1/244‬وتفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/344‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4535‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فقال ال لهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ط‪.‬‬

‫( ‪)1/392‬‬

‫ثم رواه عن سفيان بن َوكِيع ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي الربيع السمان ‪ ،‬بنحوه (‪.)1‬‬
‫ورواه الترمذي ‪ ،‬عن محمود بن غيلن ‪ ،‬عن َوكِيع‪ .‬وابن ماجه ‪ ،‬عن يحيى بن حكيم ‪ ،‬عن أبي‬
‫داود ‪ ،‬عن أبي الربيع السمان (‪.)2‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬عن سعيد (‪ )3‬بن سليمان ‪ ،‬عن أبي‬
‫الربيع السمان (‪ - )4‬واسمه أشعث بن سعيد البصري ‪ -‬وهو ضعيف الحديث‪.‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن‪ .‬ليس إسناده بذاك ‪ ،‬ول نعرفه إل من حديث أشعث السمان ‪،‬‬
‫ضعّف في الحديث‪.‬‬
‫وأشعث ُي َ‬
‫قلت ‪ :‬وشيخه عاصم أيضًا ضعيف (‪.)5‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬منكر الحديث‪ .‬وقال ابن معين ‪ :‬ضعيف ل يحتج به‪ .‬وقال ابن حبان ‪ :‬متروك ‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روي من طرق أخرى ‪ ،‬عن جابر‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسير هذه الية ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ‪،‬‬
‫حدثنا الحسن بن علي بن شبيب ‪ ،‬حدثني أحمد بن عبيد ال (‪ )6‬بن الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬وجدت في‬
‫كتاب أبي ‪ :‬حدثنا عبد الملك العرزمي ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬قال ‪َ :‬بعَث رسولُ ال صلى ال‬
‫عليه وسلم سَرِيّة كنت فيها ‪ ،‬فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ‪ ،‬فقالت طائفة منا ‪ :‬قد عرفنا القبلة ‪،‬‬
‫هي هاهنا قبل السماك (‪ .)7‬فصلّوا وخطّوا خطوطًا ‪ ،‬فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك‬
‫الخطوط لغير القبلة‪ .‬فلما قفلنا من سفرنا (‪ )8‬سألنا النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فسكت ‪ ،‬وأنزل‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ }‬
‫ال تعالى ‪ { :‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْرِ ُ‬
‫ثم رواه من حديث محمد بن عبيد ال العَرْزَمي ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬به (‪.)9‬‬
‫وقال الدارقطني ‪ :‬قرئ على عبد ال بن عبد العزيز ‪ -‬وأنا أسمع ‪ -‬حدثكم داود بن عمرو ‪،‬‬
‫حدثنا محمد بن يزيد (‪ )10‬الواسطي ‪ ،‬عن محمد بن سالم ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا‬
‫مع رسول ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)532 ، 531 /2‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪ )345‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1020‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬عن سعد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/344‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ضعيف الحديث"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬قبل الشمال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬سيرنا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه الدارقطني في السنن (‪ )1/271‬من طريق إسماعيل بن علي عن الحسن بن علي بن‬
‫شبيب به ‪ ،‬ورواه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )2/12‬من طريق محمد بن الحارث عن أحمد بن‬
‫عبيد ال قال ‪ :‬وجدت في كتاب أبي فذكر مثله ‪ ،‬ورواه أيضا (‪ )2/10‬من طريق محمد بن يزيد‬
‫الواسطي ‪ ،‬عن محمد بن عبيد ال العرزمي عن عطاء به‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬بن زيد"‪.‬‬

‫( ‪)1/393‬‬

‫صلى ال عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم ‪ ،‬فتحيرنا فاختلفنا في القبلة ‪ ،‬فصلى كل (‪ )1‬منا على‬
‫حدة ‪ ،‬وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا ‪ ،‬فذكرنا ذلك للنبي صلى ال عليه وسلم فلم يأمرنا‬
‫بالعادة ‪ ،‬وقال ‪" :‬قد أجزأت صلتكم"‪.‬‬
‫ثم قال الدارقطني ‪ :‬كذا قال ‪ :‬عن محمد بن سالم ‪ ،‬وقال غيره ‪ :‬عن محمد بن عبد ال‬
‫العرزمي ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬وهما ضعيفان (‪.)2‬‬
‫ثم رواه ابن مَ ْردُويه أيضا من حديث الكلبي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بعث سرِيّة فأخذتهم ضبابة ‪ ،‬فلم يهتدوا إلى القبلة ‪ ،‬فصلوا لغير القبلة‪ .‬ثم‬
‫استبان لهم بعد طلوع (‪ )3‬الشمس أنهم صلوا لغير القبلة‪ .‬فلما جاؤوا إلى رسول ال صلى ال‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَمّ‬
‫عليه وسلم حدّثُوه ‪ ،‬فأنزل ال عز وجل ‪ ،‬هذه الية ‪ { :‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫وَجْهُ اللّهِ }‬
‫وهذه السانيد فيها ضعف ‪ ،‬ولعله يشد بعضها بعضا‪ .‬وأما إعادة الصلة لمن تبين له خطؤه ففيها‬
‫قولن للعلماء ‪ ،‬وهذه دلئل على عدم القضاء ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬بل نزلت هذه الية في سبب النجاشي ‪ ،‬كما حدثنا محمد بن بشار‬
‫‪ ،‬حدثنا هشام بن معاذ (‪ )4‬حدثني أبي ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن أخا‬
‫لكم قد مات فصلوا عليه"‪ .‬قالوا ‪ :‬نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال ‪ :‬فنزلت ‪ { :‬وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ‬
‫شعِينَ لِلّهِ } [آل عمران ‪ ]199 :‬قال قتادة‬
‫ا ْلكِتَابِ َلمَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَا أُنزلَ إِلَ ْيكُ ْم َومَا أُنزلَ إِلَ ْيهِمْ خَا ِ‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ‬
‫‪ :‬فقالوا ‪ :‬فإنه كان ل يصلي إلى القبلة‪ .‬فأنزل ال ‪ { :‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫اللّهِ } (‪.)5‬‬
‫وهذا غريب وال أعلم‪.‬‬
‫وقد قيل ‪ :‬إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة ‪ ،‬كما حكاه القرطبي‬
‫عن قتادة ‪ ،‬وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذ بذلك من‬
‫ذهب إلى الصلة على الغائب ‪ ،‬قال ‪ :‬وهذا خاص عند أصحابنا من ثلثة أوجه ‪ :‬أحدها ‪ :‬أنه‬
‫عليه السلم ‪ ،‬شاهده حين صلى عليه طويت له الرض‪ .‬الثاني ‪ :‬أنه لما لم يكن عنده من يصلي‬
‫عليه صلى عليه ‪ ،‬واختاره ابن العربي ‪ ،‬قال القرطبي ‪ :‬ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد‬
‫من قومه على دينه ‪ ،‬وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلة على‬
‫الميت‪ .‬وهذا جواب جيد‪ .‬الثالث ‪ :‬أنه عليه الصلة والسلم إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف‬
‫لبقية الملوك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬كل رجل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الدارقطني (‪ )1/271‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )1/206‬من طريق داود بن عمرو‬
‫به ‪ ،‬وقال ‪" :‬هذا حديث صحيح رواته كلهم ثقات غير محمد بن سالم فإني ل أعرفه بعدالة ول‬
‫جرح"‪ .‬قال الذهبي ‪ :‬قلت ‪" :‬هو أبو سهل واه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بعدما طلعت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬ب ‪ ،‬أ ‪" :‬معاذ بن هشام"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)2/532‬‬

‫( ‪)1/394‬‬

‫وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الية من حديث أبي معشر ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫عمرو بن علقمة ‪ ،‬عن أبي سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ما بين المشرق والمغرب قبْلَة لهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق"‪.‬‬
‫وله مناسبة هاهنا ‪ ،‬وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر ‪ ،‬واسمه (‪ )1‬نَجِيح بن‬
‫عبد الرحمن السّندي المدني ‪ ،‬به (‪" )2‬ما بين المشرق والمغرب قبلة"‪.‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة‪ .‬وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر‬
‫من قبل حفظه ‪ ،‬ثم قال الترمذي ‪ :‬حدثني الحسن بن [أبي] (‪ )3‬بكر المروزي ‪ ،‬حدثنا المعلى بن‬
‫منصور ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن جعفر المخزومي ‪ ،‬عن عثمان بن محمد الخنسي ‪ ،‬عن سعيد (‪)4‬‬
‫المقبري ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما بين المشرق والمغرب قبلة"‬
‫(‪.)5‬‬
‫ثم قال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫وحكى عن البخاري أنه قال ‪ :‬هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح‪ .‬قال الترمذي ‪ :‬وقد روي‬
‫عن غير واحد من الصحابة ‪ :‬ما بين المشرق والمغرب قبلة ‪ -‬منهم عمر بن الخطاب ‪ ،‬وعلي ‪،‬‬
‫وابن عباس‪.‬‬
‫وقال ابن عمر ‪ :‬إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك ‪ ،‬فما بينهما قبلة ‪ ،‬إذا‬
‫استقبلت القبلة‪.‬‬
‫ثم قال ابن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا يعقوب بن يونس مولى بني‬
‫هاشم ‪ ،‬حدثنا شعيب بن أيوب ‪ ،‬حدثنا ابن نمير ‪ ،‬عن عبيد ال بن عمر ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬ما بين المشرق والمغرب قبلة"‪.‬‬
‫وقد رواه الدارقطني والبيهقي (‪ )6‬وقال المشهور ‪ :‬عن ابن عمر ‪ ،‬عن عمر ‪ ،‬قوله‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬ويحتمل ‪ :‬فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم‬
‫‪ ،‬كما حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا الحسين ‪ ،‬حدثني حجاج ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن جُرَيج ‪ :‬قال مجاهد ‪ :‬لما‬
‫جبْ َلكُمْ } [غافر ‪ ]60 :‬قالوا ‪ :‬إلى أين ؟ فنزلت ‪ { :‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ‬
‫نزلت ‪ { :‬ادْعُونِي َأسْتَ ِ‬
‫اللّهِ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬وابن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪ )342‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1011‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬عن شعبة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن الترمذي برقم (‪.)344‬‬
‫(‪ )6‬سنن الدارقطني (‪ )1/270‬وسنن البيهقي (‪ )2/9‬وهو معلول والصواب وقفه‪ .‬قال ابن أبي‬
‫حاتم في العلل (‪" : )1/184‬سئل أبو زرعة عن حديث رواه يزيد بن هارون ‪ ،‬عن محمد بن عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما بين المشرق والمغرب‬
‫قبلة" قال أبو زرعة ‪" :‬هذا وهم ‪ ،‬الحديث حديث ابن عمر موقوف"‪.‬‬

‫( ‪)1/395‬‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ُكلّ َلهُ قَانِتُونَ (‪َ )116‬بدِيعُ ال ّ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َوقَالُوا اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدًا سُبْحَا َنهُ َبلْ لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ وَِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ (‪)117‬‬

‫قال ابن جرير ‪ :‬ويعني قوله ‪ { :‬إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يسع خلقه كلهم بالكفاية ‪ ،‬والفضال والجود‬
‫(‪.)1‬‬
‫وأما قوله ‪ { :‬عليم } فإنه يعني ‪ :‬عليم بأعمالهم ‪ ،‬ما يغيب عنه منها شيء ‪ ،‬ول يعزب عن‬
‫علمه ‪ ،‬بل هو بجميعها عليم‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ (‪َ )116‬بدِيعُ‬
‫خذَ اللّ ُه وَلَدًا سُبْحَانَهُ َبلْ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫{ َوقَالُوا اتّ َ‬
‫ض وَإِذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ (‪} )117‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫اشتملت هذه الية الكريمة ‪ ،‬والتي تليها على الرد على النصارى ‪ -‬عليهم لعائن ال ‪ -‬وكذا من‬
‫أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ‪ ،‬ممن (‪ )2‬جعل الملئكة بنات ال ‪ ،‬فأكذب ال جميعهم‬
‫في دعواهم وقولهم ‪ :‬إن ل ولدا‪ .‬فقال تعالى ‪ { :‬سُبْحَا َنهُ } أي ‪ :‬تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ } أي ‪ :‬ليس المر كما افتروا ‪ ،‬وإنما له ملك‬
‫علوًا كبيرًا { َبلْ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫السماوات والرض ‪ ،‬وهو المتصرف فيهم ‪ ،‬وهو خالقهم ورازقهم ‪ ،‬و ُمقَدّرهم ومسخرهم ‪،‬‬
‫ومسيرهم ومصرفهم ‪ ،‬كما يشاء ‪ ،‬والجميع عبيد (‪ )3‬له وملك له ‪ ،‬فكيف يكون له ولد منهم ‪،‬‬
‫والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين ‪ ،‬وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ‪ ،‬ول مشارك في‬
‫ت وَال ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫عظمته وكبريائه ول صاحبة له ‪ ،‬فكيف يكون له ولد! كما قال تعالى ‪َ { :‬بدِيعُ ال ّ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } [النعام ‪ ]101 :‬وقال‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫أَنّى َيكُونُ َل ُه وَلَ ٌد وَلَمْ َتكُنْ لَ ُه صَاحِ َب ٌة وَخََلقَ ُكلّ َ‬
‫شقّ‬
‫سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْ ُه وَتَنْ َ‬
‫ن وََلدًا* َلقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا* َتكَادُ ال ّ‬
‫حمَ ُ‬
‫خذَ الرّ ْ‬
‫تعالى ‪َ { :‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫خ َذ وَلَدًا* إِنْ ُكلّ مَنْ‬
‫حمَنِ أَنْ يَتّ ِ‬
‫ن وَلَدًا* َومَا يَنْ َبغِي لِلرّ ْ‬
‫حمَ ِ‬
‫عوْا لِلرّ ْ‬
‫ال ْرضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ َهدّا* أَنْ دَ َ‬
‫عدّا* َوكُّلهُمْ آتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‬
‫حصَاهُ ْم وَعَدّهُمْ َ‬
‫حمَنِ عَ ْبدًا* َلقَدْ َأ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ إِل آتِي الرّ ْ‬
‫فِي ال ّ‬
‫صمَدُ* َلمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ‬
‫فَرْدًا } [مريم ‪ ]95 - 88 :‬وقال تعالى ‪ُ { :‬قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ* اللّهُ ال ّ‬
‫حدٌ } [سورة الخلص]‪.‬‬
‫َيكُنْ لَهُ ُك ُفوًا أَ َ‬
‫فقرر (‪ )4‬تعالى في هذه اليات الكريمة أنه السيد العظيم ‪ ،‬الذي ل نظير له ول شبيه له ‪ ،‬وأن‬
‫جميع الشياء غيره مخلوقة له مربوبة ‪ ،‬فكيف يكون له منها ولد! ولهذا قال البخاري في تفسير‬
‫هذه الية من البقرة ‪ :‬أخبرنا أبو اليمان ‪ ،‬أخبرنا شعيب ‪ ،‬عن عبد ال بن أبي حُسَين ‪ ،‬حدثنا نافع‬
‫بن جبير ‪ -‬هو ابن مطعم ‪ -‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬قال ال تعالى‬
‫‪ :‬كَذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ‪ ،‬وشتمني ولم يكن له ذلك ‪ ،‬فأما تكذيبه إيّاي فيزعم أني ل أقدر‬
‫أن أعيده كما كان ‪ ،‬وأما شتمه إياي فقوله ‪ :‬لي ولد‪ .‬فسبحاني (‪ )5‬أن أتخذ صاحبة أو ولدا"‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬بالكفاية والجود والفضال" ‪ ،‬وفي ب ‪" :‬بالكفاية والفضال والجود والفضال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب ‪ ،‬أ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬والجميع عبد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يقرر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬سبحاني"‪.‬‬
‫( ‪)1/396‬‬

‫انفرد به البخاري من هذا الوجه (‪.)1‬‬


‫وقال ابن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا أحمد بن كامل ‪ ،‬حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن‬
‫محمد الفَرْوي ‪ ،‬حدثنا مالك ‪ ،‬عن أبي الزناد ‪ ،‬عن العرج ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يقول ال عز وجل ‪ :‬كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني ‪ ،‬وشتمني‬
‫ولم ينبغ له أن يشتمني ‪ ،‬أما تكذيبه إياي فقوله ‪ :‬لن يعيدني كما بدأني‪ .‬وليس أول الخلق بأهون‬
‫علي من إعادته (‪ .)2‬وأما شتمه إياي فقوله ‪ :‬اتخذ ال ولدا‪ .‬وأنا ال الحد الصمد ‪ ،‬لم يلد ولم‬
‫يولد ‪ ،‬ولم يكن له كفوًا أحد" (‪.)3‬‬
‫وفي الصحيحين عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬ل أحد أصبر على أذى سمعه من‬
‫ال ؛ إنهم يجعلون له ولدا ‪ ،‬وهو يرزقهم ويعافيهم" (‪.)4‬‬
‫وقوله ‪ُ { :‬كلّ لَهُ قَانِتُونَ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا أسباط ‪ ،‬عن‬
‫مطرف ‪ ،‬عن عطية ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ { :‬قَانِتينَ } مصلين‪.‬‬
‫وقال عكرمة وأبو مالك ‪ُ { :‬كلّ َلهُ قَانِتُونَ } مُقرّون له بالعبودية‪ .‬وقال سعيد بن جبير ‪ُ { :‬كلّ لَهُ‬
‫قَانِتُونَ } يقول ‪ :‬الخلص‪ .‬وقال الربيع بن أنس ‪ :‬يقول كل له قائم يوم القيامة‪ .‬وقال السدي ‪:‬‬
‫{ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول ‪ :‬له مطيعون يوم القيامة‪.‬‬
‫وقال خَصيف ‪ ،‬عن مجاهد ‪ُ { :‬كلّ لَهُ قَانِتُونَ } قال ‪ :‬مطيعون ‪ ،‬كن إنسانًا فكان ‪ ،‬وقال ‪ :‬كن‬
‫حمارًا فكان‪.‬‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ُ { :‬كلّ لَهُ قَانِتُونَ } مطيعون ‪ ،‬يقول ‪ :‬طاعة الكافر في سجود‬
‫ظله وهو كاره‪.‬‬
‫وهذا القول عن مجاهد ‪ -‬وهو اختيار ابن جرير ‪ -‬يجمع القوال كلها ‪ ،‬وهو أن القنوت ‪ :‬هو‬
‫جدُ مَنْ فِي‬
‫الطاعة والستكانة إلى ال ‪ ،‬وذلك شرعي وقَدري ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَلِلّهِ يَسْ ُ‬
‫طوْعًا َوكَرْهًا وَظِلُل ُهمْ بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ } [الرعد ‪.]15 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ َ‬
‫ال ّ‬
‫وقد وَرَد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به ‪ ،‬كما قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا‬
‫يونُس بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني عمرو بن الحارث ‪ :‬أن دَرّاجًا أبا السمح‬
‫حدثه ‪ ،‬عن أبي الهيثم ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬كل‬
‫حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4482‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬بإعادته"‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )4974‬من طريق شعيب عن أبي الزناد به ‪ ،‬وفيه‬
‫‪" :‬ولم يكن لي كفوا أحد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )6099‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2804‬من حديث أبي موسى الشعري‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/397‬‬

‫الطاعة"‪.‬‬
‫وكذا رواه المام أحمد ‪ ،‬عن حسن بن موسى ‪ ،‬عن ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن دَرّاج بإسناده ‪ ،‬مثله (‪.)1‬‬
‫ولكن هذا السناد ضعيف ل يعتمد عليه‪ .‬ورفع هذا الحديث منكر ‪ ،‬وقد يكون من كلم الصحابي‬
‫أو مَنْ دونه ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وكثيرًا ما يأتي بهذا السناد تفاسير فيها َنكَارَة ‪ ،‬فل يغتر بها ‪ ،‬فإن السند‬
‫ضعيف ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ } أي ‪ :‬خالقهما على غير مثال سبق ‪ ،‬قال مجاهد‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬بَدِيعُ ال ّ‬
‫والسدي ‪ :‬وهو مقتضى اللغة ‪ ،‬ومنه يقال للشيء المحدث ‪ :‬بدعة‪ .‬كما جاء في الصحيح لمسلم ‪:‬‬
‫"فإن كل محدثة بدعة [وكل بدعة ضللة] (‪ .)3( " )2‬والبدعة على قسمين ‪ :‬تارة تكون بدعة‬
‫شرعية ‪ ،‬كقوله ‪ :‬فإن كل محدثة بدعة ‪ ،‬وكل بدعة ضللة‪ .‬وتارة تكون بدعة لغوية ‪ ،‬كقول أمير‬
‫المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه عن جمعه إياهم على صلة التراويح واستمرارهم ‪:‬‬
‫ن ْع َمتْ البدعةُ هذه‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬وبديع السماوات والرض ‪ :‬مبدعهما‪ .‬وإنما هو ُمفْعِل فصرف إلى فَعيل ‪ ،‬كما‬
‫صرف المؤلم إلى الليم ‪ ،‬والمسمع إلى السميع‪ .‬ومعنى المبدع ‪ :‬المنشئ والمحدث ما لم يسبقه‬
‫إلى إنشاء (‪ )4‬مثله وإحداثه أحد‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا ؛ لحداثه فيه ما لم يسبق (‪ )5‬إليه غيره ‪ ،‬وكذلك كل‬
‫محدث فعل أو قول لم يتقدمه فيه متقدم ‪ ،‬فإن العرب تسميه مبتدعا‪ .‬ومن ذلك قول أعشى (‪)6‬‬
‫ثعلبة ‪ ،‬في مدح هوذة بن علي الحَنفِي ‪:‬‬
‫يُرعى إلى َقوْل سادات الرّجال إذا‪ ...‬أب َدوْا له الح ْزمَ أو ما شاءه ابتدَعا (‪)7‬‬
‫أي ‪ :‬يحدث ما شاء‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬فمعنى الكلم ‪ :‬فسبحان ال أنى يكون ل ولد ‪ ،‬وهو مالك ما في السماوات‬
‫والرض ‪ ،‬تشهد له جميعها بدللتها عليه بالوَحْدانيّة ‪ ،‬وتقر له بالطاعة ‪ ،‬وهو بارئها وخالقها‬
‫وموجدها من غير أصل ول مثال احتذاها عليه‪ .‬وهذا إعلم من ال عباده أن ممن يشهد له بذلك‬
‫المسيح ‪ ،‬الذي أضافوا إلى ال بُ ُنوّته ‪ ،‬وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والرض من غير‬
‫أصل وعلى غير مثال ‪ ،‬هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/348‬والمسند (‪.)3/75‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في صحيح مسلم برقم (‪ )867‬من حديث جابر رضي ال عنه بلفظ ‪" :‬وشر المور‬
‫محدثاتها ‪ ،‬وكل بدعة ضللة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬إلى أشباه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ما لم يسبقه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في و ‪" :‬بن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬البيت في تفسير الطبري (‪.)2/540‬‬

‫( ‪)1/398‬‬

‫َوقَالَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ َلوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ َكذَِلكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ َتشَا َب َهتْ‬
‫قُلُو ُبهُمْ قَدْ بَيّنّا الْآَيَاتِ ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ (‪)118‬‬

‫وهذا من ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬كلم جيد وعبارة صحيحة‪.‬‬


‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَإِذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم‬
‫سلطانه ‪ ،‬وأنه إذا َقدّر أمرًا وأراد كونه ‪ ،‬فإنما يقول له ‪ :‬كن‪ .‬أي ‪ :‬مرة واحدة ‪ ،‬فيكون ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫فيوجد على وفق ما أراد ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا َأمْ ُرهُ ِإذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ َيقُولَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } [يس‬
‫شيْءٍ ِإذَا أَ َردْنَاهُ أَنْ َنقُولَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } [النحل ‪ ]40 :‬وقال‬
‫‪ ]82 :‬وقال تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا َقوْلُنَا لِ َ‬
‫تعالى ‪َ { :‬ومَا َأمْرُنَا إِل وَاحِ َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ } [القمر ‪ ، ]50 :‬وقال الشاعر ‪:‬‬
‫إذا ما أراد ال أمرًا فإنّما‪ ...‬يقول له كن قولة فيكونُ‪...‬‬
‫ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة ‪ :‬كن ‪ ،‬فكان كما أمره ال ‪ ،‬قال [ال] (‪ )1‬تعالى‬
‫‪ { :‬إِنّ مَ َثلَ عِيسَى عِ ْندَ اللّهِ َكمَ َثلِ آدَمَ خََلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } [آل عمران ‪.]59 :‬‬
‫{ َوقَالَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ َلوْل ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آ َيةٌ كَذَِلكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ تَشَا َب َهتْ‬
‫قُلُو ُبهُمْ قَدْ بَيّنّا اليَاتِ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ (‪} )118‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رافع بن حُرَيملة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬إن كنت رسول‬
‫من ال كما تقول ‪ ،‬فقل ل فَلْ ُيكَلمْنا حتى نسمع كلمه‪ .‬فأنزل ال في ذلك من قوله ‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ‬
‫ل َيعَْلمُونَ َلوْل ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }‬
‫وقال مجاهد [في قوله] (‪َ { )2‬وقَالَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ َلوْل ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } قال ‪ :‬النصارى‬
‫تقوله‪.‬‬
‫وهو اختيار ابن جرير ‪ ،‬قال ‪ :‬لن السياق فيهم‪ .‬وفي ذلك نظر‪.‬‬
‫[وحكى القرطبي { َلوْل ُيكَّلمُنَا اللّهُ } أي ‪ :‬لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد ‪ ،‬قلت ‪ :‬وظاهر السياق أعم‬
‫‪ ،‬وال أعلم] (‪.)3‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي في تفسير هذه الية ‪ :‬هذا قول كفار العرب‬
‫{ َكذَِلكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ [مّ ْثلَ َقوِْلهِمْ ] (‪ } )4‬قالوا ‪ :‬هم اليهود والنصارى‪ .‬ويؤيد هذا القول ‪،‬‬
‫وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب ‪ ،‬قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذَا جَاءَ ْت ُهمْ آ َيةٌ قَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ حَتّى ُنؤْتَى‬
‫صغَارٌ عِ ْندَ اللّهِ‬
‫ج َعلُ رِسَالَ َتهُ سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َأجْ َرمُوا َ‬
‫سلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَ ْيثُ يَ ْ‬
‫مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ رُ ُ‬
‫وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ِبمَا كَانُوا َي ْمكُرُونَ } [النعام ‪.]123 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/399‬‬

‫حقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ (‪)119‬‬


‫إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْ َ‬

‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ ال ْرضِ يَنْبُوعًا* َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مِنْ‬
‫سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِ َ‬
‫سمَاءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫ل وَعِ َنبٍ فَتُفَجّرَ ال ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرًا* َأوْ تُ ْ‬
‫نَخِي ٍ‬
‫سمَا ِء وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنزلَ‬
‫وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيل* َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ‬
‫عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُ ْنتُ إِل َبشَرًا رَسُول } [السراء ‪ ، ]93 - 90 :‬وقوله‬
‫تعالى ‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ ل يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا َلوْل أُنزلَ عَلَيْنَا ا ْلمَل ِئكَةُ َأوْ نَرَى رَبّنَا َلقَدِ اسْ َتكْبَرُوا فِي‬
‫حفًا‬
‫سهِ ْم وَعَ َتوْا عُ ُتوّا كَبِيرًا } [الفرقان ‪ ، ]21 :‬وقوله ‪َ { :‬بلْ يُرِيدُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيؤْتَى صُ ُ‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫مُنَشّ َرةً } [المدثر ‪ ]52 :‬إلى غير ذلك من اليات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم‬
‫وسؤالهم ما ل حاجة لهم به ‪ ،‬إنما هو الكفر والمعاندة ‪ ،‬كما قال من قبلهم من المم الخالية من‬
‫سمَاءِ َفقَدْ‬
‫أهل الكتابين وغيرهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابًا مِنَ ال ّ‬
‫جهْ َرةً } [النساء ‪ ]153 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَِإذْ قُلْتُمْ يَا‬
‫سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫جهْ َرةً } [البقرة ‪.]55 :‬‬
‫مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬تشَا َب َهتْ قُلُو ُبهُمْ } أي ‪ :‬أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد‬
‫والعتو ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬كَ َذِلكَ مَا أَتَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِل قَالُوا سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُونٌ*‬
‫أَ َتوَاصَوْا ِبهِ َبلْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات ‪.]53 ، 52 :‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬قدْ بَيّنّا اليَاتِ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ } أي ‪ :‬قد وضحنا الدللت على صدق الرسل بما ل يحتاج‬
‫معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى ‪ ،‬لمن أيقن (‪ )1‬وصدق واتبع الرسل ‪ ،‬وفهم ما جاؤوا به عن‬
‫ال تبارك وتعالى‪ .‬وأما من ختم ال على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال ال‬
‫ح ّقتْ عَلَ ْي ِهمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ* وََلوْ جَاءَ ْت ُهمْ ُكلّ آيَةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ‬
‫تعالى فيهم ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َ‬
‫اللِيمَ } [يونس ‪.]97 ، 96 :‬‬
‫[قوله تعالى] (‪)2‬‬
‫{ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ َبشِيرًا وَنَذِيرًا وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ (‪} )119‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن صالح ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن‬
‫عبيد ال الفزاري عن شيبان النحوي ‪ ،‬أخبرني قتادة ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي‬
‫حقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } قال ‪" :‬بشيرًا بالجنة‬
‫سلْنَاكَ بِالْ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أنزلت علي ‪ { :‬إِنّا أَرْ َ‬
‫‪ ،‬ونذيرًا من النار" (‪.)3‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ } قراءة أكثرهم (‪ { )4‬وَل ُتسَْألُ } بضم التاء على‬
‫الخبر‪ .‬وفي قراءة أبي بن كعب ‪" :‬وما تسأل" وفي قراءة ابن مسعود ‪" :‬ولن تسأل عن أصحاب‬
‫الجحيم"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬لمن اتقى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/354‬‬
‫(‪ )4‬في ب ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬قراءة بعضهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/400‬‬

‫حسَابُ‬
‫غ وَعَلَيْنَا الْ ِ‬
‫نقلهما (‪ )1‬ابن جرير ‪ ،‬أي ‪ :‬ل نسألك عن كفر من كفر بك ‪ { ،‬فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ‬
‫ستَ عَلَ ْيهِمْ بِمصَيْطِرٍ } الية [ الغاشية ‪:‬‬
‫} [الرعد ‪ ]40 :‬وكقوله تعالى ‪َ { :‬ف َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ* لَ ْ‬
‫‪ ] 22 ، 21‬وكقوله تعالى ‪ { :‬نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َيقُولُونَ َومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ فَ َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ‬
‫وَعِيدِ } [ ق ‪ ] 45 :‬وأشباه ذلك من اليات‪.‬‬
‫وقرأ آخرون (‪" )2‬ول تَسَْألْ عن أصحاب الجحيم" بفتح التاء على النهي ‪ ،‬أي ‪ :‬ل تسأل عن‬
‫حالهم ‪ ،‬كما قال عبد الرزاق ‪:‬‬
‫أخبرنا الثوري ‪ ،‬عن موسى بن عبيدة ‪ ،‬عن محمد بن كعب القرظي ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬ليت شعري ما فعل أبواي ‪ ،‬ليت شعري ما فعل أبواي ‪ ،‬ليت شعري ما فعل‬
‫جحِيمِ } فما ذكرهما (‪ )3‬حتى توفاه ال ‪ ،‬عز وجل‪.‬‬
‫أبواي ؟"‪ .‬فنزلت ‪ { :‬وَل ُتسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ الْ َ‬
‫ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن أبي كُرَيب ‪ ،‬عن َوكِيع ‪ ،‬عن موسى بن عبيدة ‪[ ،‬وقد تكلموا فيه عن‬
‫محمد بن كعب] (‪ )4‬بمثله (‪ )5‬وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي ‪:‬‬
‫وهذا كما يقال ل تسأل عن فلن ؛ أي ‪ :‬قد بلغ فوق ما تحسب ‪ ،‬وقد ذكرنا في التذكرة أن ال‬
‫أحيا له أبويه حتى آمنا ‪ ،‬وأجبنا عن قوله ‪( :‬إن أبي وأباك في النار)‪(.‬قلت) ‪ :‬والحديث المروي‬
‫في حياة أبويه عليه السلم ليس في شيء من الكتب الستة ول غيرها ‪ ،‬وإسناده ضعيف وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ثم قال [ابن جرير] (‪ )6‬وحدثني القاسم ‪ ،‬حدثنا الحسين ‪ ،‬حدثني حجاج ‪ ،‬عن ابن جُرَيج ‪،‬‬
‫أخبرني داود بن أبي عاصم ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ذات يوم ‪" :‬أين أبواي ؟"‪ .‬فنزلت‬
‫‪ { :‬إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ َبشِيرًا وَنَذِيرًا وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ } (‪.)7‬‬
‫وهذا مرسل كالذي قبله‪ .‬وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [القرظي] (‪)8‬‬
‫وغيره في ذلك ‪ ،‬لستحالة الشك من الرسول صلى ال عليه وسلم في أمر أبويه‪ .‬واختار القراءة‬
‫الولى‪ .‬وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ‪ ،‬لحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لبويه قبل أن‬
‫يعلم أمرهما ‪ ،‬فلما علم ذلك تبرأ منهما ‪ ،‬وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [كما ثبت ذلك في‬
‫الصحيح] (‪ )9‬ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ‪ ،‬ول يلزم ما ذكر (‪ )10‬ابن جرير‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا موسى بن داود ‪ ،‬حدثنا فُلَيح بن سليمان ‪ ،‬عن هلل بن علي ‪ ،‬عن‬
‫عمْرو بن العاص ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أخبرني عن صفة رسول ال‬
‫عطاء بن يسار ‪ ،‬قال ‪ :‬لقيت عبد ال بن َ‬
‫صلى ال عليه وسلم في التوراة‪ .‬فقال ‪ :‬أجل ‪ ،‬وال إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن ‪:‬‬
‫يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا ‪ ،‬وحرزًا للميين ‪ ،‬وأنت عبدي ورسولي ‪ ،‬سميتك‬
‫المتوكل ‪ ،‬ل فظّ ول غليظ ول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ ،‬ط ‪" :‬نقلهما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬وقرأ البصريون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فما ذكره"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير عبد الرزاق (‪ )2/78‬وتفسير الطبري (‪ )2/558‬وموسى بن عبيدة ضعيف جدا‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪.)2/559‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما ذكره"‪.‬‬

‫( ‪)1/401‬‬

‫سخّاب في السواق ‪ ،‬ول يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ‪ ،‬ولن يقبضه حتى يقيم به الملة‬
‫َ‬
‫صمّا ‪ ،‬وقلوبا غُ ْلفًا‪.‬‬
‫عمْيًا ‪ ،‬وآذانًا ُ‬
‫العوجاء ‪ ،‬بأن يقولوا ‪ :‬ل إله إل ال‪ .‬فيفتح به أعينا ُ‬
‫انفرد بإخراجه البخاري ‪ ،‬فرواه في البيوع عن محمد بن سنان ‪ ،‬عن فُلَيح ‪ ،‬به (‪ .)1‬وقال ‪ :‬تابعه‬
‫عبد العزيز بن أبي سلمة ‪ ،‬عن هلل‪ .‬وقال سعيد ‪ :‬عن هلل ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫سلم‪ .‬ورواه في التفسير عن عبد ال ‪ ،‬عن عبد العزيز بن أبي سلمة ‪ ،‬عن هلل ‪ ،‬عن عطاء ‪،‬‬
‫عن عبد ال بن عمرو بن العاص ‪ ،‬به (‪ .)2‬فذكر نحوه ‪ ،‬فعبد ال هذا هو ابن صالح ‪ ،‬كما‬
‫صرح به في كتاب الدب‪ .‬وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد ال بن رجاء‪.‬‬
‫وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الية من البقرة ‪ ،‬عن أحمد بن الحسن بن‬
‫أيوب ‪ ،‬عن محمد بن أحمد بن البراء ‪ ،‬عن المعافَى بن سليمان ‪ ،‬عن فليح ‪ ،‬به‪ .‬وزاد ‪ :‬قال‬
‫عطاء ‪ :‬ثم لقيت كعب الحبار ‪ ،‬فسألته فما اختلفا في حرف ‪ ،‬إل أن كعبًا قال بُلغَتِهِ ‪ :‬أعينًا‬
‫عمومى ‪ ،‬وآذانًا صمومى ‪ ،‬وقلوبًا غلوفًا (‪)3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )2/174‬وصحيح البخاري برقم (‪.)2125‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4838‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬وقلوبا غلفى"‪.‬‬

‫( ‪)1/402‬‬

‫وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَلَا ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ مِلّ َتهُمْ ُقلْ إِنّ ُهدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ (‪ )120‬الّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ‬
‫ن وَِل ّ‬
‫أَ ْهوَاءَ ُهمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ‬
‫حقّ تِلَاوَتِهِ أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه َومَنْ َي ْكفُرْ ِبهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ (‪)121‬‬
‫يَتْلُونَهُ َ‬

‫{ وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَل ال ّنصَارَى حَتّى تَتّبِعَ مِلّ َتهُمْ ُقلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ‬
‫ي وَل َنصِيرٍ (‪ )120‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ‬
‫ن وَِل ّ‬
‫أَ ْهوَاءَ ُهمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ‬
‫حقّ تِلوَتِهِ أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َومَنْ َيكْفُرْ بِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ (‪} )121‬‬
‫يَتْلُونَهُ َ‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬يعني بقوله (‪ )1‬جل ثناؤه ‪ { :‬وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَل ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ‬
‫مِلّ َتهُمْ } وليست اليهود ‪ -‬يا محمد ‪ -‬ول النصارى براضية عنك أبدًا ‪ ،‬فدع طلب ما يرضيهم‬
‫ويوافقهم ‪ ،‬وأقبل على طلب رضا ال في دعائهم إلى ما بعثك ال به من الحق‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ إِنّ ُهدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى } أي ‪ :‬قل يا محمد ‪ :‬إن هدى ال الذي بعثني به هو‬
‫الهدى ‪ ،‬يعني ‪ :‬هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل‪.‬‬
‫قال قتادة في قوله ‪ُ { :‬قلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى } قال ‪ :‬خصومة عَلّمها ال محمدًا صلى ال‬
‫عليه وسلم وأصحابه ‪ ،‬يخاصمون بها أهل الضللة‪ .‬قال قتادة ‪ :‬وبلغنا أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم كان يقول ‪" :‬ل تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين ‪ ،‬ل يضرهم من‬
‫خالفهم ‪ ،‬حتى يأتي أمر ال"‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬هذا الحديث ُمخَرّج في الصحيح (‪ )2‬عن عبد ال بن عمرو (‪.)3‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬في قوله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬في الصحيحين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1924‬‬

‫( ‪)1/402‬‬

‫ي وَل َنصِيرٍ } فيه تهديد‬


‫{ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَا َءهُمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِ ّ‬
‫ووعيد شديد للمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى ‪ ،‬بعد ما عَلِموا من القرآن والسنة ‪ ،‬عياذًا‬
‫بال من ذلك ‪ ،‬فإن الخطاب مع الرسول ‪ ،‬والمر لمته‪.‬‬
‫[وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله ‪ { :‬حَتّى تَتّبِعَ مِلّ َت ُهمْ } حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة‬
‫واحدة كقوله تعالى ‪َ { :‬ل ُكمْ دِي ُن ُك ْم وَِليَ دِينِ } [الكافرون ‪ ، ]6 :‬فعلى هذا ل يتوارث المسلمون‬
‫والكفار ‪ ،‬وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم ل ؛ لنهم كلهم ملة واحدة ‪ ،‬وهذا‬
‫مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه‪ .‬وقال في الرواية الخرى كقول مالك ‪ :‬إنه ل‬
‫يتوارث أهل ملتين شتى ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)1‬‬
‫حقّ تِلوَتِهِ } قال عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ يَتْلُونَهُ َ‬
‫‪ :‬هم اليهود والنصارى‪ .‬وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬واختاره ابن جرير‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬سعيد عن قتادة ‪ :‬هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن موسى ‪ ،‬وعبد ال بن عمران الصبهاني ‪،‬‬
‫حقّ‬
‫قال حدثنا يحيى بن يمان ‪ ،‬حدثنا أسامة بن زيد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمر بن الخطاب { يَتْلُونَهُ َ‬
‫تِلوَتِهِ } قال ‪ :‬إذا مر بذكر الجنة سأل ال الجنة ‪ ،‬وإذا مر بذكر النار تعوذ بال من النار (‪.)2‬‬
‫حلّ حلله ويحرم‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬قال ابن مسعود ‪ :‬والذي نفسي بيده ‪ ،‬إن حق تلوته أن ُي ِ‬
‫حرامه ويقرأه كما أنزله ال ‪ ،‬ول يحرف الكلم عن مواضعه ‪ ،‬ول يتأول منه شيئا على غير‬
‫تأويله‪.‬‬
‫وكذا رواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ومنصور بن المعتمر ‪ ،‬عن ابن مسعود‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬عن ابن عباس في هذه الية ‪ ،‬قال ‪ُ :‬يحِلّون حلله ويُحَ ّرمُون‬
‫حرامه ‪ ،‬ول ُيحَ ّرفُونه عن مواضعه‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن مسعود نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ :‬يعملون بمحكمه ‪ ،‬ويؤمنون بمتشابهه ‪َ ،‬يكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن موسى ‪ ،‬أخبرنا ابن أبي زائدة ‪ ،‬أخبرنا‬
‫داود بن أبي هند ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬يَتْلُونَهُ حَقّ تِلوَتِهِ } قال ‪ :‬يتبعونه‬
‫حق اتباعه ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬وَا ْل َقمَرِ ِإذَا تَلهَا } [ الشمس ‪ ، ] 2 :‬يقول ‪ :‬اتّ َبعَها‪ .‬قال ‪ :‬و ُر ِويَ عن‬
‫عكرمة ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وأبي رزين ‪ ،‬وإبراهيم النخَعي نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ :‬حدثنا زُبَيد ‪ ،‬عن مُرّة ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬يَتْلُونَهُ حَقّ‬
‫تِلوَتِهِ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/357‬‬

‫( ‪)1/403‬‬

‫يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َعمْتُ عَلَ ْيكُمْ وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪ )122‬وَا ّتقُوا َي ْومًا لَا‬
‫شفَاعَ ٌة وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ (‪)123‬‬
‫ل وَلَا تَ ْن َفعُهَا َ‬
‫تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَلَا ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ‬

‫قال ‪ :‬يتبعونه حق اتباعه‪.‬‬


‫قال القرطبي ‪ :‬وروى نصر بن عيسى ‪ ،‬عن مالك ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬عن النبي صلى‬
‫حقّ تِلوَتِهِ } قال ‪" :‬يتبعونه حق اتباعه" ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬في إسناده‬
‫ال عليه وسلم في قوله ‪ { :‬يَتْلُونَهُ َ‬
‫غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إل أن معناه صحيح‪ .‬وقال أبو موسى الشعري ‪:‬‬
‫من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة‪ .‬وعن عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ :‬هم الذين‬
‫إذا مروا بآية رحمة سألوها من ال ‪ ،‬وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها ‪ ،‬قال ‪ :‬وقد روي هذا‬
‫المعنى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا مرّ بآية رحمة سأل ‪ ،‬وإذا مرّ بآية عذاب تعوذ‪.‬‬
‫حقّ تِلوَتِهِ } أي ‪ :‬من أقام‬
‫وقوله ‪ { :‬أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ ِبهِ } خَبَر عن { الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ يَتْلُونَهُ َ‬
‫كتابه من أهل الكتب المنزلة على النبياء المتقدمين حق إقامته ‪ ،‬آمن بما أرسلتك به يا محمد ‪،‬‬
‫ل َومَا أُنزلَ إِلَ ْيهِمْ مِنْ رَ ّب ِه ْم لكَلُوا مِنْ َف ْو ِقهِمْ‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬وََلوْ أَ ّن ُهمْ َأقَامُوا ال ّتوْرَاةَ وَالنْجِي َ‬
‫شيْءٍ حَتّى‬
‫حتِ أَرْجُِل ِهمْ } الية [ المائدة ‪ .] 66 :‬وقال ‪ُ { :‬قلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َلسْتُمْ عَلَى َ‬
‫َومِنْ َت ْ‬
‫ُتقِيمُوا ال ّتوْرَا َة وَالنْجِيلَ َومَا أُنزلَ إِلَ ْي ُكمْ مِنْ رَ ّبكُمْ } [ المائدة ‪ ، ] 68 :‬أي ‪ :‬إذا أقمتموها حق‬
‫ق اليمان ‪ ،‬وصَدّقتم ما فيها من الخبار بمبعث محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫القامة ‪ ،‬وآمنتم بها حَ ّ‬
‫و َنعْتِه وصفته والمر باتباعه ونصره ومؤازرته ‪ ،‬قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا‬
‫جدُونَهُ َمكْتُوبًا عِ ْندَهُمْ فِي‬
‫ي ال ّميّ الّذِي يَ ِ‬
‫والخرة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ‬
‫ال ّتوْرَا ِة وَالنْجِيلِ } الية [ العراف ‪ ] 157 :‬وقال تعالى ‪ُ { :‬قلْ آمِنُوا بِهِ َأوْ ل ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ‬
‫ن وَعْدُ رَبّنَا‬
‫أُوتُوا ا ْلعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ يَخِرّونَ لِل ْذقَانِ سُجّدًا* وَ َيقُولُونَ سُ ْبحَانَ رَبّنَا إِنْ كَا َ‬
‫َل َمفْعُول } [ السراء ‪ ] 108 ، 107 :‬أي ‪ :‬إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم لواقعًا‪ .‬وقال تعالى ‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ُهمْ بِهِ ُي ْؤمِنُونَ* وَإِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ قَالُوا‬
‫آمَنّا بِهِ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ ُمسِْلمِينَ أُولَ ِئكَ ُيؤْتَوْنَ َأجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُوا‬
‫وَيَدْرَءُونَ بِا ْلحَسَنَةِ السّيّئَ َة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ } [ القصص ‪ .]54 - 52 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬و ُقلْ‬
‫غ وَاللّهُ‬
‫ب وَالمّيّينَ أََأسَْلمْتُمْ فَإِنْ َأسَْلمُوا َفقَدِ اهْتَ َدوْا وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ‬
‫لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَا َ‬
‫َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ } [ آل عمران ‪ ] 20 :‬ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬ومَنْ َي ْكفُرْ بِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الْخَاسِرُونَ }‬
‫كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَنْ َي ْكفُرْ بِهِ مِنَ الحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ } [ هود ‪ .] 17 :‬وفي الصحيح ‪:‬‬
‫"والذي نفسي بيده ل يسمع بي أحد من هذه المة ‪ :‬يهودي ول نصراني ‪ ،‬ثم ل يؤمن بي ‪ ،‬إل‬
‫دخل النار" (‪.)1‬‬
‫{ يَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪ )122‬وَا ّتقُوا َي ْومًا‬
‫شفَاعَ ٌة وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ (‪} )123‬‬
‫ل وَل تَ ْنفَ ُعهَا َ‬
‫ل َتجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئًا وَل ُيقْبَلُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ‬
‫قد تقدم نظير هذه الية في صدر السورة ‪ ،‬وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪ )153‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/404‬‬

‫ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ لَا يَنَالُ‬


‫وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَا َ‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ (‪)124‬‬
‫َ‬

‫المي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمه وأمره وأمته‪ .‬يحذرهم (‪ )1‬من كتمان هذا ‪،‬‬
‫وكتمان ما أنعم به عليهم ‪ ،‬وأمرهم أن يذكروا نعمة ال عليهم ‪ ،‬من النعم الدنيوية والدينية ‪ ،‬ول‬
‫عمّهم من العرب على ما رزقهم ال من إرسال الرسول الخاتم منهم‪ .‬ول يحملهم ذلك‬
‫يحسدوا بني َ‬
‫الحسدُ على مخالفته وتكذيبه ‪ ،‬والحيدة عن موافقته ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه دائمًا إلى يوم‬
‫الدين‪.‬‬
‫ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ‬
‫عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَا َ‬
‫{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَا ِ‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ (‪} )124‬‬
‫َ‬
‫يقول تعالى مُنَ ّبهًا على شرف إبراهيم خليله ‪ ،‬عليه السلم (‪ )2‬وأن ال تعالى جعله إماما للناس‬
‫يقتدى به في التوحيد ‪ ،‬حتى (‪ )3‬قام بما كلفه ال تعالى به من الوامر والنواهي ؛ ولهذا قال ‪:‬‬
‫{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ } أي ‪ :‬واذكر ‪ -‬يا محمد ‪ -‬لهؤلء المشركين وأهل الكتابين‬
‫الذين ينتحلون ملّة إبراهيم وليسوا عليها ‪ ،‬وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين (‪ )4‬معك من‬
‫المؤمنين ‪ ،‬اذكر لهؤلء ابتلء ال إبراهيم ‪ ،‬أي ‪ :‬اختباره له بما كلفه به من الوامر والنواهي‬
‫{ فَأَ َت ّمهُنّ } أي ‪ :‬قام (‪ )5‬بهن كلهن ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } [ النجم ‪، ] 37 :‬‬
‫أي ‪ :‬وفى جميع ما شرع له ‪ ،‬فعمل به صلوات ال عليه ‪ ،‬وقال تعالى ‪ { :‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً‬
‫قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ* شَاكِرًا ل ْنعُمِهِ اجْتَبَا ُه وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي‬
‫الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ* ثُمّ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ } [ النحل ‪ ، ] 123 - 120 :‬وقال تعالى ‪ُ { :‬قلْ إِنّنِي َهدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ‬
‫دِينًا قِ َيمًا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [ النعام ‪ ، ] 161 :‬وقال تعالى ‪ { :‬مَا كَانَ‬
‫إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ* إِنّ َأوْلَى النّاسِ‬
‫ي وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [ آل عمران ‪] 68 ، 67 :‬‬
‫بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُو ُه وَهَذَا النّ ِب ّ‬
‫وقوله تعالى ‪ِ { :‬بكَِلمَاتٍ } أي ‪ :‬بشرائع وأوامر ونواه ‪ ،‬فإن الكلمات تطلق ‪ ،‬ويراد بها الكلمات‬
‫القدرية ‪ ،‬كقوله تعالى عن مريم ‪ ،‬عليها السلم ‪َ { : ،‬وصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ‬
‫ك صِ ْدقًا‬
‫ا ْلقَانِتِينَ } [ التحريم ‪ .] 12 :‬وتطلق ويراد بها الشرعية ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ‬
‫وَعَدْل [ل مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ] (‪ [ } )6‬النعام ‪ ] 115 :‬أي ‪ :‬كلماته الشرعية‪ .‬وهي إما خبر صدق ‪،‬‬
‫وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا ‪ ،‬ومن ذلك هذه الية الكريمة ‪ { :‬وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ‬
‫ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } أي ‪ :‬قام بهن‪ .‬قال ‪ { :‬إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } أي ‪ :‬جزاء على ما َفعَل ‪ ،‬كما‬
‫قام بالوامر وتَ َركَ الزواجر ‪ ،‬جعله ال للناس قدوة وإمامًا يقتدى به ‪ ،‬ويحتذى حذوه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فحذرهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عليه الصلة والسلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬حين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فأنت والذي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬أي أقام"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من ط‪.‬‬
‫( ‪)1/405‬‬

‫وقد اختلف [العلماء] (‪ )1‬في تفسير (‪ )2‬الكلمات التي اختبر ال بها إبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه السلم‪.‬‬
‫فروي عن ابن عباس في ذلك روايات ‪:‬‬
‫فقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬ابتله ال بالمناسك‪ .‬وكذا رواه أبو‬
‫إسحاق السّبِيعي ‪ ،‬عن التميمي ‪ ،‬عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ -‬أيضًا ‪ : -‬أخبرنا معمر ‪ ،‬عن ابن طاووس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪:‬‬
‫{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ } قال ‪ :‬ابتله ال بالطهارة ‪ :‬خمس في الرأس ‪ ،‬وخمس في‬
‫الجسد ؛ في الرأس ‪ :‬قَص الشارب ‪ ،‬والمضمضة ‪ ،‬والستنشاق ‪ ،‬والسواك ‪ ،‬وفَرْق الرأس‪ .‬وفي‬
‫الجسد ‪ :‬تقليم الظفار ‪ ،‬وحلق العانة ‪ ،‬والختان ‪ ،‬ونَتْف البط ‪ ،‬وغسل أثر الغائط والبول بالماء (‬
‫‪.)3‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬و ُروِي عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والنّخَعي ‪ ،‬وأبي‬
‫صالح ‪ ،‬وأبي الجلد ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬عَشْرٌ من الفطرة ‪ :‬قص الشارب ‪ ،‬وإعفاء اللحية ‪ ،‬والسواك ‪،‬‬
‫واستنشاق الماء ‪ ،‬وقص الظفار ‪ ،‬وغسل البرَاجم ‪ ،‬ونتف البط ‪ ،‬وحلق العانة ‪ ،‬وانتقاص الماء"‬
‫[قال مصعب] (‪ )4‬ونسيت العاشرة إل أن تكون المضمضة‪.‬‬
‫قال َوكِيع ‪ :‬انتقاص الماء ‪ ،‬يعني ‪ :‬الستنجاء (‪.)5‬‬
‫وفي الصحيح ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬الفطرة خمس ‪:‬‬
‫الختان ‪ ،‬والستحداد ‪ ،‬وقص الشارب ‪ ،‬وتقليم الظفار ‪ ،‬ونتف البط"‪ .‬ولفظه لمسلم (‪.)6‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أنبأنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬قراءة ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني ابن‬
‫لهيعة ‪ ،‬عن ابن هُبيرة ‪ ،‬عن حَنَش (‪ )7‬بن عبد ال الصنعاني ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أنه كان يقول‬
‫عشْرٌ ‪ ،‬ست في النسان ‪ ،‬وأربع‬
‫في هذه الية ‪ { :‬وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } قال ‪َ :‬‬
‫في المشاعر‪ .‬فأما التي في النسان ‪ :‬حلق العانة ‪ ،‬ونتف البط ‪ ،‬والختان‪ .‬وكان ابن هبيرة يقول‬
‫‪ :‬هؤلء الثلثة واحدة‪ .‬وتقليم الظفار ‪ ،‬وقص الشارب ‪ ،‬والسواك ‪ ،‬وغسل يوم الجمعة‪.‬‬
‫والربعة التي في المشاعر ‪ :‬الطواف ‪ ،‬والسعي بين الصفا والمروة ‪ ،‬ورمي الجمار ‪ ،‬والفاضة‪.‬‬
‫عكْرِمة ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به‬
‫وقال داود بن أبي هند ‪ ،‬عن ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬تعيين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/76‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)261‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )5889‬وصحيح مسلم برقم (‪.)257‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬حنيش" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬حسين"‪.‬‬

‫( ‪)1/406‬‬

‫كله إل إبراهيم ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } قلت له ‪ :‬وما الكلماتُ‬
‫التي ابتلى ال إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال ‪ :‬السلم ثلثون سهمًا ‪ ،‬منها عشر آيات في براءة ‪:‬‬
‫{ التّائِبُونَ ا ْلعَا ِبدُونَ [الْحَا ِمدُونَ ] (‪ [ } )1‬التوبة ‪ ] 112 :‬إلى آخر الية (‪ )2‬وعشر آيات في أول‬
‫ب وَاقِعٍ } وعشر آيات في الحزاب ‪ { :‬إِنّ‬
‫سورة { َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } و { سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ‬
‫ن وَا ْلمُسِْلمَاتِ } [ الية ‪ ] 35 :‬إلى آخر الية ‪ ،‬فأتمهن كلهن ‪ ،‬فكتبت له براءة‪ .‬قال ال ‪:‬‬
‫ا ْلمُسِْلمِي َ‬
‫{ وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } [ النجم ‪.] 37 :‬‬
‫هكذا رواه الحاكم ‪ ،‬وأبو جعفر بن جرير ‪ ،‬وأبو محمد بن أبي حاتم ‪ ،‬بأسانيدهم إلى داود بن أبي‬
‫هند ‪ ،‬به (‪ .)3‬وهذا لفظ ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫الكلمات التي ابتلى ال بهن إبراهيم فأتمهن ‪ :‬فراق قومه ‪ -‬في ال ‪ -‬حين أمر بمفارقتهم‪.‬‬
‫ومحاجّته نمروذ (‪ - )4‬في ال ‪ -‬حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر المر الذي فيه خلفه‪.‬‬
‫وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه ‪ -‬في ال ‪ -‬على هول ذلك من أمرهم‪ .‬والهجرة بعد ذلك‬
‫من وطنه وبلده ‪ -‬في ال ‪ -‬حين أمره بالخروج عنهم ‪ ،‬وما أمره به من الضيافة والصبر عليها‬
‫بنفسه وماله ‪ ،‬وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه ‪ ،‬فلما مضى على ذلك من ال كله‬
‫وأخلصه للبلء (‪ )5‬قال ال له ‪َ { :‬أسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } على ما كان من خلف الناس‬
‫وفراقهم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن عُلَيّة ‪ ،‬عن أبي رجاء ‪ ،‬عن‬
‫الحسن ‪ -‬يعني البصري ‪ { : -‬وَِإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ [فَأَ َت ّمهُنّ] (‪ } )6‬قال ‪ :‬ابتله‬
‫بالكوكب فرضي عنه ‪ ،‬وابتله بالقمر فرضي عنه ‪ ،‬وابتله بالشمس فرضي عنه ‪ ،‬وابتله‬
‫بالهجرة فرضي عنه ‪ ،‬وابتله بالختان فرضي عنه ‪ ،‬وابتله بابنه فرضي عنه‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا بشر بن معاذ ‪ ،‬حدثنا يزيد بن زُرَيع ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫كان الحسن يقول ‪ :‬أي وال ‪ ،‬ابتله بأمر فصبر عليه ‪ :‬ابتله بالكوكب والشمس والقمر ‪ ،‬فأحسن‬
‫في ذلك ‪ ،‬وعرف أن ربه (‪ )7‬دائم ل يزول ‪ ،‬فوجه وجهه للذي فطر السموات والرض حنيفًا‬
‫وما كان من المشركين‪ .‬ثم ابتله بالهجرة فخرج من بلده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى ال‬
‫‪ ،‬ثم ابتله بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك‪ .‬وابتله ال بذبح ابنه (‪ )8‬والختان فصبر على ذلك‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عمن سمع الحسن يقول في قوله ‪ { :‬وَِإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ‬
‫ِبكَِلمَاتٍ [فَأَ َت ّمهُنّ] (‪} )9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬إلى آخر اليات"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪ )3/8‬وتفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/360‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ومحاجته بنمروذ"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ذلك من البلء كله وأخلصه للبلء"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أن ال ربه"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬بذبح ولده"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/407‬‬

‫قال ‪ :‬ابتله ال بذبح ولده ‪ ،‬وبالنار ‪ ،‬والكوكب (‪ )1‬والشمس ‪ ،‬والقمر‪.‬‬


‫وقال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا سَلْم بن قتيبة ‪ ،‬حدثنا أبو هلل ‪ ،‬عن الحسن {‬
‫وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ } قال ‪ :‬ابتله بالكوكب ‪ ،‬والشمس ‪ ،‬والقمر ‪ ،‬فوجده صابرًا‪.‬‬
‫وقال العوفي في تفسيره ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } فمنهن ‪:‬‬
‫سمَاعِيلُ }‬
‫ت وَإِ ْ‬
‫{ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } (‪ )2‬ومنهن ‪ { :‬وَِإذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ‬
‫ومنهن ‪ :‬اليات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لبراهيم ‪ ،‬والرزق الذي رزق ساكنو البيت ‪،‬‬
‫ومحمد بعث في دينهما‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا شبابة ‪ ،‬عن ورقاء ‪ ،‬عن ابن أبي‬
‫نَجِيح ‪ ،‬عن مجاهد في قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ } قال ال لبراهيم ‪:‬‬
‫لل‬
‫إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال ‪ :‬تجعلني للناس إمامًا‪ .‬قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬ومن ذريتي ؟ { قَا َ‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬وأمنًا‪ .‬قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪:‬‬
‫يَنَالُ َ‬
‫وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬وترزق أهله من الثمرات من‬
‫آمن منهم بال ؟ قال ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال ابن أبي نَجِيح ‪ :‬سمعته من عكرمة ‪ ،‬فعرضته على مجاهد ‪ ،‬فلم ينكره‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه ‪ ،‬عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬وَإِذِ ابْ َتلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }‬
‫عهْدِي‬
‫ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ‬
‫عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَا َ‬
‫قال ‪ :‬ابتلي باليات التي بعدها ‪ { :‬إِنّي جَا ِ‬
‫الظّاِلمِينَ }‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ { :‬وَِإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ [فَأَ َت ّمهُنّ] (‪} )3‬‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وََأمْنًا } وقوله‬
‫قال ‪ :‬الكلمات ‪ { :‬إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } وقوله ‪ { :‬وَإِذْ َ‬
‫سمَاعِيلَ } الية ‪ ،‬وقوله ‪{ :‬‬
‫عهِدْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫{ وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقوله ‪ { :‬وَ َ‬
‫سمَاعِيلُ } الية ‪ ،‬قال ‪ :‬فذلك كله من الكلمات التي ابتلي‬
‫وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْلقَوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ وَإِ ْ‬
‫بهن إبراهيم‪.‬‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ رَبّنَا‬
‫قال السدي ‪ :‬الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبّه ‪ { :‬رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َلكَ } ‪ { ،‬رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ رَسُول مِ ْنهُمْ [يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ‬
‫وَا ْ‬
‫آيَا ِتكَ] (‪.} )4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬والكواكب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قال إني"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/408‬‬

‫[وقال القرطبي ‪ :‬وفي الموطأ وغيره ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول ‪:‬‬
‫إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أول من اختتن وأول من ضاف الضيف ‪ ،‬وأول من استحد ‪ ،‬وأول من‬
‫قَلّم أظفاره ‪ ،‬وأول من قص الشارب ‪ ،‬وأول من شاب فلما رأى الشيب ‪ ،‬قال ‪ :‬ما هذا ؟ قال ‪:‬‬
‫وقار ‪ ،‬قال ‪ :‬يا رب ‪ ،‬زدني وقارًا‪ .‬وذكر ابن أبي شيبة ‪ ،‬عن سعد بن إبراهيم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫أول من خطب على المنابر إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قال غيره ‪ :‬وأول من برّد البريد ‪ ،‬وأول من‬
‫ضرب بالسيف ‪ ،‬وأول من استاك ‪ ،‬وأول من استنجى بالماء ‪ ،‬وأول من لبس السراويل ‪ ،‬وروي‬
‫عن معاذ بن جبل قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي‬
‫إبراهيم ‪ ،‬وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" قلت ‪ :‬هذا حديث ل يثبت ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ثم‬
‫شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الشياء من الحكام الشرعية] (‪.)1‬‬
‫قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله ‪ :‬أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ ما ذكر ‪ ،‬وجائز‬
‫أن يكون بعض ذلك ‪ ،‬ول يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ على التعيين إل بحديث أو إجماع‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ول بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له‪.‬‬
‫قال ‪ :‬غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى ال عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ‪ ،‬أحدهما ما‬
‫حدثنا به أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا رشدين بن سعد ‪ ،‬حدثني زبان بن فائد ‪ ،‬عن سهل بن معاذ بن أنس ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬أل أخبركم لم سمى ال إبراهيم خليله { الّذِي َوفّى }‬
‫[ النجم ‪ ] 37 :‬؟ لنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى ‪ { :‬فَسُ ْبحَانَ اللّهِ حِينَ ُت ْمسُونَ َوحِينَ‬
‫ُتصْبِحُونَ } [ الروم ‪ ] 17 :‬حتى يختم الية" (‪.)2‬‬
‫قال ‪ :‬والخر منهما ‪ :‬حدثنا به أبو كريب ‪ ،‬أخبرنا الحسن ‪ ،‬عن عطية ‪ ،‬أخبرنا إسرائيل ‪ ،‬عن‬
‫جعفر بن الزبير ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن أبي أمامة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫{ وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } أتدرون ما وفى ؟"‪ .‬قالوا ‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ .‬قال ‪" :‬وفّى عمل يومه ‪،‬‬
‫أربع ركعات في النهار"‪.‬‬
‫ورواه آدم في تفسيره ‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪ .‬وعبد بن حميد ‪ ،‬عن يونس بن محمد ‪ ،‬عن حماد بن‬
‫سلمة ‪ ،‬عن جعفر بن الزبير ‪ ،‬به (‪.)3‬‬
‫ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين ‪ ،‬وهو كما قال ؛ فإنه ل تجوز روايتهما إل ببيان‬
‫ضعفهما ‪ ،‬وضعفهما من وجوه عديدة ‪ ،‬فإن كل من السندين مشتمل على غير واحد من‬
‫الضعفاء ‪ ،‬مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [وال أعلم] (‪.)4‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬ولو قال قائل ‪ :‬إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)3/15‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)3/16‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/409‬‬

‫بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا ‪ ،‬فإن قوله ‪ { :‬إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } وقوله ‪:‬‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ } وسائر اليات التي هي نظير ذلك ‪،‬‬
‫سمَاعِيلَ أَنْ َ‬
‫عهِدْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫{ وَ َ‬
‫كالبيان عن الكلمات التي ذكر ال أنه ابتلى بهن إبراهيم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والذي قاله أول من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ‪ ،‬أقوى من هذا الذي جوزه من قول‬
‫مجاهد ومن قال مثله ؛ لن السياق يعطي غير ما قالوه وال أعلم‪.‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } لما جعل ال إبراهيم إمامًا ‪ ،‬سأل ال أن‬
‫ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ‬
‫وقوله ‪ { :‬قَا َ‬
‫تكون الئمةُ من بعده من ذريته ‪ ،‬فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ‪ ،‬وأنه ل‬
‫ينالهم عهد ال ‪ ،‬ول يكونون أئمة فل يقتدى بهم ‪ ،‬والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِ ِه قول ال (‪)1‬‬
‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ } [ العنكبوت ‪ ] 27 :‬فكل نبي‬
‫تعالى في سورة العنكبوت ‪ { :‬وَ َ‬
‫أرسله ال وكل كتاب أنزله ال بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات ال وسلمه عليه (‪.)2‬‬
‫خصِيف ‪ ،‬عن‬
‫ع ْهدِي الظّاِلمِينَ } فقد اختلفوا في ذلك ‪ ،‬فقال َ‬
‫ل ل يَنَالُ َ‬
‫وأما قوله تعالى ‪ { :‬قَا َ‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬إنه سيكون في ذريتك ظالمون‪.‬‬
‫مجاهد في قوله ‪ { :‬قَالَ ل يَنَالُ َ‬
‫ع ْهدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬ل يكون لي إمام ظالم‬
‫ل ل يَنَالُ َ‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { ،‬قَا َ‬
‫[يقتدى به] (‪ .)3‬وفي رواية ‪ :‬ل (‪ )4‬أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به‪ .‬وقال سفيان ‪ ،‬عن (‪ )5‬منصور‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬ل يكون إمام ظالم يقتدى به‪.‬‬
‫‪ ،‬عن مجاهد في قوله تعالى ‪ { :‬قَالَ ل يَنَالُ َ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثنا مالك بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا شريك ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن‬
‫مجاهد ‪ ،‬في قوله ‪َ { :‬ومِنْ ذُرّيّتِي } قال ‪ :‬أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به ‪،‬‬
‫وأما من كان ظالما فل ول ُن ْعمَةَ عَيْنٍ‪.‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } المراد به المشرك ‪ ،‬ل يكون إمام ظالم‪ .‬يقول ‪:‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫ل يكون إمام مشرك‪.‬‬
‫وقال ابن جُرَيج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬قال ‪ { :‬إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِنْ ذُرّيّتِي } فأبى أن يجعل‬
‫من ذريته إمامًا ظالمًا‪ .‬قلت لعطاء ‪ :‬ما عهده ؟ قال ‪ :‬أمره‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا عمرو بن ثور القيساري (‪ )6‬فيما كتب إلي ‪ ،‬حدثنا الفريابي ‪ ،‬حدثنا‬
‫إسرائيل ‪ ،‬حدثنا سماك بن حرب ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ال لبراهيم ‪ { :‬إِنّي‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ }‬
‫جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِنْ ذُرّيّتِي } فأبى أن يفعل ‪ ،‬ثم قال ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬قوله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وسلمه عليه وعليهم أجمعين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬أن ل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬سفيان بن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬النيسابوري"‪.‬‬

‫( ‪)1/410‬‬

‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬قَالَ‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } يخبره أنه كائن في ذريته ظالم ل ينال عهده ‪ -‬ول‬
‫َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ‬
‫ينبغي [له] (‪ )1‬أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ‪ -‬ومحسن ستنفذ فيه دعوته ‪،‬‬
‫وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته‪.‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬يعني ل عهدَ لظالم عليك في‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫ظلمه ‪ ،‬أن تطيعه فيه‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا المثنى ‪ ،‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن عبد ال ‪ ،‬عن إسرائيل ‪،‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬ليس‬
‫عن مسلم العور ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫للظالمين عهد ‪ ،‬وإن عاهدته فانتقضه (‪.)2‬‬
‫وروي عن مجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن هارون بن عنترة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬ليس لظالم عهد‪.‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪ :‬ل‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫ينال عهدُ ال في الخرة (‪ )3‬الظالمين ‪ ،‬فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ‪ ،‬وأكل وعاش‪.‬‬
‫وكذا قال إبراهيم النخعي ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وعكرمة‪.‬‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ :‬عهد ال الذي عهد إلى عباده ‪ :‬دينه ‪ ،‬يقول ‪ :‬ل ينال دينه الظالمين ‪ ،‬أل‬
‫ن وَظَالِمٌ لِ َنفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات‬
‫حسِ ٌ‬
‫ق َومِنْ ذُرّيّ ِت ِهمَا مُ ْ‬
‫ترى أنه قال ‪ { :‬وَبَا َركْنَا عَلَ ْي ِه وَعَلَى إِسْحَا َ‬
‫‪ ، ] 113 :‬يقول ‪ :‬ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق‪.‬‬
‫وكذا روي عن أبي العالية ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‪.‬‬
‫وقال جويبر ‪ ،‬عن الضحاك ‪ :‬ل ينال طاعتي عدو لي يعصيني ‪ ،‬ول أنحلها إل وليّا لي يطيعني‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ‪ ،‬حدثنا أحمد بن عبد ال‬
‫بن سعيد السدي ‪ ،‬حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ‪ ،‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن سعد بن‬
‫عبيدة ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن السلمي ‪ ،‬عن علي بن أبي طالب ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ } قال ‪" :‬ل طاعة إل في المعروف" (‪.)4‬‬
‫قال ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فأنقضه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬ل ينال عهد ال ظالم في الخرة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬قال البخاري في صحيحه برقم (‪ : )7257‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا غندر ‪ ،‬حدثنا‬
‫شعبة ‪ ،‬عن زيد ‪ ،‬عن سعد بن عبيدة ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن ‪ ،‬عن علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجل ‪ ،‬فأوقد نارا وقال ‪ :‬ادخلوها ‪ ،‬فأرادوا أن‬
‫يدخلوها ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬إنما فررنا منها ‪ ،‬فذكروا للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال للذين أرادوا‬
‫أن يدخلوها ‪" :‬لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة"‪ .‬وقال للخرين ‪" :‬ل طاعة في‬
‫المعصية ‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف"‪ .‬فهذا هو أصل هذا الحديث من دون ذكر الية ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫( ‪)1/411‬‬

‫سمَاعِيلَ‬
‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى وَ َ‬
‫س وََأمْنًا وَاتّ ِ‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّا ِ‬
‫وَإِذْ َ‬
‫ج َعلْ َهذَا بَلَدًا َآمِنًا‬
‫ن وَال ّركّعِ السّجُودِ (‪ )125‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلعَاكِفِي َ‬
‫أَنْ َ‬
‫ل َومَنْ كَفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلًا ُثمّ َأضْطَ ّرهُ‬
‫وَارْزُقْ أَ ْهلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ َآمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ قَا َ‬
‫إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ (‪)126‬‬

‫ع ْهدِي الظّاِلمِينَ } يقول ‪ :‬عهدي نبوتي‪.‬‬


‫وقال السدي ‪ { :‬ل يَنَالُ َ‬
‫فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الية على ما نقله ابن جرير ‪ ،‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬رحمهما ال‬
‫تعالى‪ .‬واختار ابن جرير أن هذه الية ‪ -‬وإن كانت ظاهرة في الخبر ‪ -‬أنه ل ينال عهد ال‬
‫بالمامة ظالما‪ .‬ففيها إعلم من ال لبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أنه سيوجد من ذريتك من هو‬
‫ظالم لنفسه ‪ ،‬كما تقدم عن مجاهد وغيره ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫س وََأمْنًا وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى (‪} )125‬‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّا ِ‬
‫{ وَإِذْ َ‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ } يقول ‪ :‬ل يقضون‬
‫قال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َ‬
‫منه وطرًا ‪ ،‬يأتونه ‪ ،‬ثم يرجعون إلى أهليهم ‪ ،‬ثم يعودون إليه‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬مَثَابَةً لِلنّاسِ } يقول ‪ :‬يثوبون‪.‬‬
‫رواهما (‪ )1‬ابن جرير‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا أبي ‪ ،‬أخبرنا عبد ال بن رجاء ‪ ،‬أخبرنا إسرائيل ‪ ،‬عن مسلم ‪ ،‬عن‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ } قال ‪ :‬يثوبون إليه ثم‬
‫مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َ‬
‫يرجعون‪ .‬قال ‪ :‬وروي عن أبي العالية ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ -‬في رواية ‪ -‬وعطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وعطية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬نحو ذلك‪ .‬وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني عبد‬
‫الكريم بن أبي عمير ‪ ،‬حدثني الوليد بن مسلم قال ‪ :‬قال أبو عمرو ‪ -‬يعني الوزاعي ‪ -‬حدثني‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ } قال ‪ :‬ل ينصرف عنه‬
‫عبدة بن أبي لبابة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َ‬
‫منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا‪.‬‬
‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَا َبةً لِلنّاسِ } قال ‪:‬‬
‫وحدثني يونس ‪ ،‬عن ابن وهب ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ابن زيد ‪ { :‬وَِإذْ َ‬
‫يثوبون إليه من البُلْدان كلها ويأتونه‪.‬‬
‫[وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى ‪ ،‬أورده القرطبي (‪: )2‬‬
‫جعل البيتُ مثابًا لهم‪ ...‬ليس منه الدهر يقضون الوَطَرْ] (‪)3‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ -‬في الرواية الخرى ‪ -‬وعكرمة ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وعطاء الخراساني { مَثَا َبةً‬
‫لِلنّاسِ } أي ‪ :‬مجمعا‪.‬‬
‫{ وََأمْنًا } قال الضحاك عن ابن عباس ‪ :‬أي أمنًا للناس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬رواه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي (‪.)2/110‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/412‬‬

‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ‬


‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ { :‬وَإِذْ َ‬
‫خطّف الناس من‬
‫حمَل فيه السلح ‪ ،‬وقد كانوا في الجاهلية يُتَ َ‬
‫وََأمْنًا } يقول ‪ :‬أمنًا من العدو ‪ ،‬وأن ُي ْ‬
‫حولهم ‪ ،‬وهم آمنون ل يُسْبَون‪.‬‬
‫وروي عن مجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬قالوا ‪ :‬من دخله كان آمنًا‪.‬‬
‫ومضمون ما فسر به هؤلء الئمة هذه الية ‪ :‬أن ال تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا‬
‫به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس ‪ ،‬أي ‪ :‬جعله مَحَل تشتاق إليه الرواح وتحن إليه ‪ ،‬ول‬
‫تقضي منه وطرًا ‪ ،‬ولو ترددَت إليه كلّ عام ‪ ،‬استجابة من ال تعالى لدعاء خليله إبراهيم ‪ ،‬عليه‬
‫ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مِنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ } إلى أن قال ‪ { :‬رَبّنَا وَتَقَ ّبلْ دُعَاءِ (‪} )1‬‬
‫السلم ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬فَا ْ‬
‫[ إبراهيم ‪ ] 40 - 37 :‬ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا ‪ ،‬من دخله أمن ‪ ،‬ولو كان قد فعل ما فعل‬
‫ثم دخله كان آمنًا‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فل َيعْرض له ‪ ،‬كما‬
‫ج َعلَ اللّهُ ا ْل َكعْبَةَ الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنّاسِ } [ المائدة ‪:‬‬
‫وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى (‪َ { )2‬‬
‫‪ ] 97‬أي ‪ :‬يُ ْرفَع عنهم بسبب تعظيمها (‪ )3‬السوءُ ‪ ،‬كما قال ابن عباس ‪ :‬لو لم يحج الناسُ هذا‬
‫البيت لطبق ال السما َء على الرض ‪ ،‬وما هذا الشرف إل لشرف بانيه أول وهو خليل‬
‫الرحمن ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَِإذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَنْ ل تُشْ ِركْ بِي شَيْئًا } [ الحج ‪:‬‬
‫ت ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَا َركًا وَهُدًى لِ ْلعَاَلمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ‬
‫‪ ] 26‬وقال تعالى ‪ { :‬إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ‬
‫َمقَامُ إِبْرَاهِيمَ َومَنْ دَخََلهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران ‪.] 97 ، 96 :‬‬
‫وفي هذه الية الكريمة نَبّه على مقام إبراهيم مع المر بالصلة عنده‪ .‬فقال ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ‬
‫إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو ؟ فقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا‬
‫عمر بن شَبّة النميري ‪ ،‬حدثنا أبو خلف ‪ -‬يعني عبد ال بن عيسى ‪ -‬حدثنا داود بن أبي هند ‪،‬‬
‫عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } قال ‪ :‬مقام إبراهيم ‪ :‬الحرم‬
‫كله‪ .‬وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك‪.‬‬
‫وقال [أيضا] (‪ )4‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا حجاج ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫سألت عطاء عن { وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } فقال ‪ :‬سمعت ابن عباس قال ‪ :‬أما مقام‬
‫إبراهيم الذي ذكر هاهنا ‪ ،‬فمقام إبراهيم هذا الذي (‪ )5‬في المسجد ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬و { َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ }‬
‫يعد كثير ‪ " ،‬مقام إبراهيم " الحج كله‪ .‬ثم فسره لي عطاء فقال ‪ :‬التعريف ‪ ،‬وصلتان بعرفة ‪،‬‬
‫والمشعر ‪ ،‬ومنى ‪ ،‬ورمي الجمار ‪ ،‬والطواف بين الصفا والمروة‪ .‬فقلت ‪ :‬أفسره ابن عباس ؟ قال‬
‫‪ :‬ل ولكن قال ‪ :‬مقام إبراهيم ‪ :‬الحج كله‪ .‬قلت ‪ :‬أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع‪ .‬قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬سمعته‬
‫منه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬دعائي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بقوله تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬لسبب تعظيمهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الذي هو"‪.‬‬

‫( ‪)1/413‬‬

‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن عبد ال بن مسلم ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫ُمصَلّى } قال ‪ :‬الحَجر مقام إبراهيم نبي ال ‪ ،‬قد جعله ال رحمة ‪ ،‬فكان يقوم عليه ويناوله‬
‫إسماعيل الحجارة‪ .‬ولو غَسل رأسَه كما يقولون لختلف رجله‪.‬‬
‫[وقال السدي ‪ :‬المقام ‪ :‬الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه‪.‬‬
‫حكاه القرطبي ‪ ،‬وضعفه ورجحه غيره ‪ ،‬وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة‬
‫والربيع بن أنس] (‪.)1‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ‪ ،‬عن ابن‬
‫جُرَيج ‪ ،‬عن جعفر بن محمد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬سمع جابرًا يحدث عن حجة النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪ :‬لما طاف النبي صلى ال عليه وسلم قال له عمر ‪ :‬هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } (‪.)2‬‬
‫‪ :‬أفل نتخذه مصلى ؟ فأنزل ال ‪ ،‬عز وجل ‪ { :‬وَاتّ ِ‬
‫وقال عثمان بن أبي شيبة ‪ :‬أخبرنا أبو أسامة ‪ ،‬عن زكريا ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي ميسرة‬
‫قال ‪ :‬قال عمر ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هذا مقام خليل ربنا ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬أفل نتخذه مصلى‬
‫؟ فنزلت ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } (‪.)3‬‬
‫وقال ابن مَرْدويه ‪ :‬حدثنا دَعْلَج بن أحمد ‪ ،‬حدثنا غيلن بن عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا مسروق بن‬
‫المرزبان ‪ ،‬حدثنا زكريا بن أبي زائدة ‪ ،‬عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن‬
‫الخطاب أنه مَرّ بمقام إبراهيم فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أليس نقوم مقام خليل ربنا (‪ )4‬؟ قال ‪" :‬بلى"‪.‬‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى }‬
‫قال ‪ :‬أفل نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إل يسيرًا حتى نزلت ‪ { :‬وَاتّ ِ‬
‫وقال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا محمد (‪ )5‬بن أحمد بن محمد القزويني ‪ ،‬حدثنا علي بن الحسين‬
‫الجنيد ‪ ،‬حدثنا هشام بن خالد ‪ ،‬حدثنا الوليد ‪ ،‬عن مالك بن أنس ‪ ،‬عن جعفر بن محمد عن أبيه ‪،‬‬
‫عن جابر ‪ ،‬قال ‪ :‬لما وقف رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم ‪ ،‬قال‬
‫له عمر ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هذا مقام إبراهيم الذي قال ال ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } ؟‬
‫خذُوا } قال ‪ :‬نعم‪ .‬هكذا وقع في هذه‬
‫قال ‪" :‬نعم"‪ .‬قال الوليد ‪ :‬قلت لمالك ‪ :‬هكذا حدثك { وَاتّ ِ‬
‫الرواية‪ .‬وهو غريب‪.‬‬
‫وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه (‪.)6‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬باب قوله ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } مثابة يثوبون يرجعون‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/370‬‬
‫(‪ )3‬ورواه الدارقطني في "الفراد" كما في "أطراف الغرائب والفراد" لبن القيسراني (ق ‪)31‬‬
‫وقال ‪" :‬غريب من حديث أبي إسحاق عن أبي ميسرة ‪ -‬عمرو بن شرحبيل ‪ -‬عن عمر ‪ ،‬تفرد‬
‫به زكريا بن أبي زائدة عنه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬خليل ال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬علي"‬
‫(‪ )6‬سنن النسائي (‪.)5/236‬‬

‫( ‪)1/414‬‬

‫حدثنا مُسدّد ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪ ،‬عن حميد ‪ ،‬عن أنس بن مالك‪ .‬قال ‪ :‬قال عمر بن الخطاب وافقتُ‬
‫ربي في ثلث ‪ ،‬أو وافقني ربي في ثلث ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬لو اتخذت من مقام إبراهيم‬
‫مصلى ؟ فنزلت ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقلت ‪ :‬يا رسول ال يدخل عليك البر‬
‫والفاجر ‪ ،‬فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل ال آية الحجاب‪ .‬وقال ‪ :‬وبلغني ُمعَاتبة‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بعض نسائه ‪ ،‬فدخلت عليهن (‪ )1‬فقلت ‪ :‬إن انتهيتن أو ليبدلَن ال‬
‫رسوله خيرًا منكن ‪ ،‬حتى أتيت إحدى نسائه ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا عمر ‪ ،‬أما في رسول ال ما يعظ نساءه‬
‫حتى تَعظهن أنت ؟! فأنزل ال ‪ { :‬عَسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } الية‬
‫[ التحريم ‪.] 5 :‬‬
‫وقال ابن أبي مريم ‪ :‬أخبرنا يحيى بن أيوب ‪ ،‬حدثني حميد ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت أنسًا عن عمر ‪،‬‬
‫رضي ال عنهما (‪.)2‬‬
‫هكذا ساقه البخاري هاهنا ‪ ،‬وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي‬
‫مريم المصري‪ .‬وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة‪ .‬وروى عنه‬
‫الباقون بواسطة ‪ ،‬وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين (‪ )3‬فيه اتصال إسناد الحديث ‪ ،‬وإنما لم‬
‫يسنده ؛ لن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ‪ ،‬كما قال المام أحمد فيه ‪ :‬هو سيئ الحفظ ‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫حمَيد ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عمر رضي ال عنه (‪)4‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا هُشَيم ‪ ،‬حدثنا ُ‬
‫وافقت ربي عز وجل في ثلث ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن نساءكَ يدخلُ عليهن البر‬
‫فنزلت ‪ { :‬وَاتّ ِ‬
‫والفاجر ‪ ،‬فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ فنزلت آية الحجاب‪ .‬واجتمع على رسول ال صلى ال عليه‬
‫عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُ ْبدِلَهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } [ التحريم‬
‫وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن ‪َ { :‬‬
‫‪ ] 5 :‬فنزلت كذلك (‪ )5‬ثم رواه أحمد ‪ ،‬عن يحيى وابن أبي عدي ‪ ،‬كلهما عن حميد ‪ ،‬عن‬
‫أنس ‪ ،‬عن عمر أنه قال ‪ :‬وافقت ربي في ثلث ‪ ،‬أو وافقني ربي في ثلث فذكره (‪.)6‬‬
‫عوْن والترمذي عن أحمد بن منيع ‪ ،‬والنسائي عن يعقوب بن‬
‫عمْرو بن َ‬
‫وقد رواه البخاري عن َ‬
‫إبراهيم الدورقي ‪ ،‬وابن ماجه عن محمد بن الصباح ‪ ،‬كلهم عن ُهشَيم بن بشير ‪ ،‬به (‪ .)7‬ورواه‬
‫الترمذي ‪ -‬أيضًا ‪ -‬عن عبد بن حُميد ‪ ،‬عن حجاج بن مِنهال ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬والنسائي‬
‫عن هناد ‪ ،‬عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عليهن بالحجاب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4483‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ليتبين"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ :‬رضي ال عنهما"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)1/23‬‬
‫(‪ )6‬رواية يحيى في المسند (‪ )1/36‬ورواية ابن أبي عدي (‪.)1/24‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )4916‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2960‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪ )11611‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1009‬‬

‫( ‪)1/415‬‬

‫يحيى بن أبي زائدة ‪ ،‬كلهما عن حميد ‪ ،‬وهو ابن تيرويه الطويل ‪ ،‬به (‪ .)1‬وقال الترمذي ‪:‬‬
‫حسن صحيح‪ .‬ورواه المام علي بن المديني عن يزيد بن زُرَيع ‪ ،‬عن حميد به‪ .‬وقال ‪ :‬هذا من‬
‫صحيح الحديث ‪ ،‬وهو بصري ‪ ،‬ورواه المام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ‪ ،‬ولفظ‬
‫آخر ‪ ،‬فقال ‪ :‬حدثنا عقبة بن ُمكْرَم ‪ ،‬أخبرنا سعيد بن عامر ‪ ،‬عن جويرية بن أسماء ‪ ،‬عن نافع ‪،‬‬
‫عن ابن عمر ‪ ،‬عن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬وافقت ربي في ثلث ‪ :‬في الحجاب ‪ ،‬وفي أسارى بدر ‪ ،‬وفي‬
‫مقام إبراهيم (‪.)2‬‬
‫وقال أبو حاتم الرازي ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد ال النصاري ‪ ،‬حدثنا حميد الطويل عن أنس بن‬
‫مالك قال ‪ :‬قال عمر بن الخطاب ‪ :‬وافقني ربي في ثلث ‪ -‬أو وافقت ربي ‪ -‬قلت (‪ )3‬يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } وقلت ‪:‬‬
‫يا رسول ال لو حجبت النساء ؟ فنزلت آية الحجاب‪ .‬والثالثة ‪ :‬لما مات عبد ال بن أبي جاء‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصلي عليه‪ .‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬تصلي على هذا الكافر‬
‫صلّ عَلَى َأحَدٍ مِ ْنهُم مَاتَ أَ َبدًا وَل َتقُمْ‬
‫المنافق! فقال ‪" :‬إيهًا عنك يا بن الخطاب" ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬وَل ُت َ‬
‫عَلَى قَبْ ِرهِ } [ التوبة ‪.)4( ] 84 :‬‬
‫وهذا إسناد صحيح أيضًا ‪ ،‬ول تعارض بين هذا ول هذا ‪ ،‬بل الكل صحيح ‪ ،‬ومفهوم العدد إذا‬
‫عارضه منطوق قُدم عليه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن جريج (‪ )5‬أخبرني جعفر بن محمد ‪ ،‬عن أبيه عن جابر ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫عمَد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين‬
‫وسلم رمل ثلثة أشواط ‪ ،‬ومشى أربعًا ‪ ،‬حتى إذا فرغ َ‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى }‬
‫‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬وَاتّ ِ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يوسف بن سلمان (‪ )6‬حدثنا حاتم بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا جعفر بن محمد‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن جابر قال ‪ :‬استلم رسول ال صلى ال عليه وسلم الركن ‪ ،‬فرمل ثلثًا ‪ ،‬ومشى‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } فجعل المقام بينه‬
‫أربعًا ‪ ،‬ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ‪ ،‬فقرأ ‪ { :‬وَاتّ ِ‬
‫وبين البيت ‪ ،‬فصلى ركعتين‪.‬‬
‫وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه ‪ ،‬من حديث حاتم بن إسماعيل (‪.)7‬‬
‫وروى البخاري بسنده ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت ابن عمر يقول ‪ :‬قدم رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ‪ ،‬وصلى خلف المقام ركعتين (‪.)8‬‬
‫حجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬يقوم عليه‬
‫فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو ال َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن الترمذي برقم (‪ )2959‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10998‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)2399‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬فقلت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )7/88‬من طريق أبي حاتم الرازي به‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ابن جرير"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬سليمان"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪ )3/36‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1218‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪.)1793 ، 395‬‬
‫( ‪)1/416‬‬

‫لبناء الكعبة ‪ ،‬لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة‬
‫فيضعها بيده لرفع الجدار ‪ ،‬كلّما َكمّل ناحية انتقل إلى الناحية الخرى ‪ ،‬يطوف حول الكعبة ‪،‬‬
‫وهو واقف عليه ‪ ،‬كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا ‪ ،‬حتى تم جدارات الكعبة ‪،‬‬
‫كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت ‪ ،‬من رواية ابن عباس عند البخاري‪.‬‬
‫وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ‪ ،‬ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها ؛ ولهذا قال أبو‬
‫طالب في قصيدته المعروفة اللمية ‪:‬‬
‫ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة‪ ...‬على قدميه حافيًا غير ناعل (‪)1‬‬
‫وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا‪ .‬وقال (‪ )2‬عبد ال بن وهب ‪ :‬أخبرني يونس بن يزيد ‪ ،‬عن‬
‫خمَص‬
‫ابن شهاب ‪ :‬أن أنس بن مالك حدثهم ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلم ‪ ،‬وإ ْ‬
‫قدميه ‪ ،‬غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا بشر بن معاذ ‪ ،‬حدثنا يزيد بن زُرَيع ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪:‬‬
‫{ وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه‪ .‬ولقد تكلفت‬
‫عقِبِه وأصابعه فيه (‪ )3‬فما زالت‬
‫هذه المة شيئًا ما تكلفته المم قبلها ‪ ،‬ولقد ُذكِرَ لنا من رأى أثر َ‬
‫هذه المة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ‪ ،‬ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي‬
‫الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ‪ ،‬وكان الخليل ‪ ،‬عليه السلم (‪ )4‬لما فرغ‬
‫من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ؛ ولهذا ‪ -‬وال أعلم‬
‫‪ -‬أمر بالصلة هناك عند فراغ الطواف ‪ ،‬وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء‬
‫عمَرُ بن الخطاب رضي ال عنه (‪)5‬‬
‫الكعبة فيه ‪ ،‬وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين ُ‬
‫[وهو] (‪ )6‬أحدُ الئمة المهديين والخلفاء الراشدين ‪ ،‬الذين ُأمِرْنا باتباعهم ‪ ،‬وهو أحد الرجلين‬
‫اللذين قال فيهما رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقتدوا باللّذَين من بعدي أبي بكر وعمر"‪ .‬وهو‬
‫الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلة عنده ؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة ‪ ،‬رضي ال عنهم‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫قال عبد الرزاق ‪ ،‬عن ابن جُرَيج ‪ ،‬حدثني عطاء وغيره من أصحابنا ‪ :‬قالوا ‪ :‬أول من نقله عمر‬
‫حمِيد العرج ‪ ،‬عن‬
‫بن الخطاب رضي ال عنه (‪ )7‬وقال عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن َ‬
‫مجاهد قال ‪ :‬أول من أخر المقام إلى موضعه الن ‪ ،‬عمر بن الخطاب رضي ال عنه (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬البيت في السيرة النبوية لبن هشام (‪.)1/273‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬كما قال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عليه الصلة والسلم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬رضي ال تعالى عنه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬المصنف لعبد الرزاق برقم (‪.)8955‬‬
‫(‪ )8‬المصنف لعبد الرزاق برقم (‪.)8953‬‬

‫( ‪)1/417‬‬

‫وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (‪ )1‬أخبرنا أبو [الحسين بن] (‪ )2‬الفضل‬
‫القطان ‪ ،‬أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ‪ ،‬حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي ‪،‬‬
‫حدثنا أبو ثابت ‪ ،‬حدثنا الدراوردي ‪ ،‬عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي ال عنها ‪:‬‬
‫أن المقام كان في زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ‪ ،‬ثم أخره‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن أبي عمر العَدَني قال ‪ :‬قال سفيان ‪[ -‬يعني ابن عيينة]‬
‫سقْع البيت على عهد رسول ال صلى ال‬
‫(‪ )3‬وهو إمام المكيين في زمانه ‪ -‬كان المقام في (‪ُ )4‬‬
‫خذُوا مِنْ َمقَامِ‬
‫عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى ال عليه وسلم وبعد قوله ‪ { :‬وَاتّ ِ‬
‫إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } قال ‪ :‬ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ‪ ،‬فرده عمر إليه‪.‬‬
‫وقال سفيان ‪ :‬ل أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله‪ .‬قال سفيان ‪ :‬ل أدري أكان (‪ )5‬لصقًا‬
‫بها أم ل ؟ (‪.)6‬‬
‫فهذه الثار متعاضدة على ما ذكرناه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫عمْرو ‪ ،‬حدثنا محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬حدثنا‬
‫وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه ‪ :‬حدثنا أبو َ‬
‫آدم ‪ ،‬حدثنا شريك ‪ ،‬عن إبراهيم بن مهاجر ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عمر ‪ :‬يا رسول ال لو‬
‫صلينا خلف المقام ؟ فأنزل ال ‪ { :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى } فكان المقام عند البيت‬
‫فحوله رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى موضعه هذا‪ .‬قال مجاهد ‪ :‬قد كان عمر يرى الرأي‬
‫فينزل به القرآن (‪.)7‬‬
‫هذا مرسل عن مجاهد ‪ ،‬وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن حميد‬
‫العرج ‪ ،‬عن مجاهد أن أول من أخّر المقام إلى موضعه الن عمر بن الخطاب رضي ال عنه‬
‫وهذا أصح من طريق ابن مَرْدُويه ‪ ،‬مع اعتضاد هذا بما تقدم ‪ ،‬وال أعلم (‪.)8‬‬
‫ن وَال ّركّعِ السّجُودِ (‪ )125‬وَإِذْ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِين وَا ْلعَاكِفِي َ‬
‫سمَاعِيلَ أَنْ َ‬
‫عهِدْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫{ وَ َ‬
‫ج َعلْ هَذَا َبلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهَْلهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ قَالَ‬
‫قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬
‫َومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيل ثُمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ (‪} )126‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬علي بن الحسين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في هـ ‪" :‬من" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬إن كان"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/372‬‬
‫(‪ )7‬قال الحافظ ابن حجر في الفتح (‪" : )8/169‬إسناده ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )8‬وقد ألف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬رسالتين فيما يتعلق بالمقام‬
‫‪ :‬الولى ‪ :‬في جواز نقل المقام سماها ‪" :‬الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مطبوعة‬
‫ضمن فتاواه (‪ .)55 - 5/17‬والثانية ‪ :‬في الرد على الشيخ سليمان بن حمدان في اعتراضه على‬
‫رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في جواز نقل المقام سماها ‪" :‬نصيحة الخوان ببيان بعض ما‬
‫في نقض المباني لبن حمدان من الخبط والجهل والبهتان" مطبوعة ضمن فتاواه (‪)132 - 5/56‬‬
‫وهما رسالتان قيمتان حشد فيهما ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬جواز نقل المقام ‪ ،‬واستشهد بكلم الحافظ ابن‬
‫كثير هنا وكلم الحافظ ابن حجر في فتح الباري ‪ ،‬وهما تدلن على تبحره وسعة علمه ‪ -‬رحمه‬
‫ال وأسكنه فسيح جناته‪.‬‬

‫( ‪)1/418‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪ )127‬رَبّنَا‬


‫سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْلقَوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ وَإِ ْ‬
‫سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‬
‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ‬
‫وَا ْ‬
‫‪)128‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪ )127‬رَبّنَا‬


‫سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫ت وَإِ ْ‬
‫{ وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ‬
‫سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‬
‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ‬
‫وَا ْ‬
‫‪} )128‬‬

‫( ‪)1/418‬‬
‫سمَاعِيلَ } قال ‪ :‬أمرهما ال أن يطهراه من‬
‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَِإ ْ‬
‫قال الحسن البصري ‪ :‬قوله ‪ { :‬وَ َ‬
‫الذى والنّجَس ول يصيبه من ذلك شيء‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ :‬قلت لعطاء ‪ :‬ما عهده ؟ قال ‪ :‬أمره‪.‬‬
‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } أي ‪ :‬أمرناه‪ .‬كذا قال‪ .‬والظاهر أن‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ { :‬وَ َ‬
‫ع ّديَ بإلى ‪ ،‬لنه في معنى تقدمنا وأوحينا‪.‬‬
‫هذا الحرف إنما ُ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلعَا ِكفِينَ } قال ‪ :‬من‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قوله ‪ { :‬أَنْ َ‬
‫الوثان‪.‬‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ } إن ذلك من الوثان والرفث وقول الزور‬
‫وقال مجاهد وسعيد بن جُبَير ‪َ { :‬‬
‫والرجس‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬ورُوي عن عُبَيد بن عمير ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ } أي ‪ :‬بل إله إل ال ‪ ،‬من الشرك‪.‬‬
‫وعطاء وقتادة ‪ { :‬أَنْ َ‬
‫وأما قوله تعالى ‪ { :‬لِلطّا ِئفِينَ } فالطواف بالبيت معروف‪ .‬وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله‬
‫تعالى ‪ { :‬لِلطّا ِئفِينَ } يعني ‪ :‬من أتاه من غُرْبة ‪ { ،‬وَا ْلعَاكِفِينَ } المقيمين فيه‪ .‬وهكذا روي عن‬
‫قتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ :‬أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه ‪ ،‬كما قال سعيد بن جبير‪.‬‬
‫وقال يحيى [بن] (‪ )1‬القطّان ‪ ،‬عن عبد الملك ‪ -‬هو ابن أبي سليمان ‪ -‬عن عطاء في قوله ‪:‬‬
‫{ وَا ْلعَا ِكفِينَ } قال ‪ :‬من انتابه (‪ )2‬من المصار فأقام عنده (‪ )3‬وقال لنا ‪ -‬ونحن مجاورون ‪: -‬‬
‫أنتم من العاكفين‪.‬‬
‫وقال وكيع ‪ ،‬عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال ‪ :‬إذا كان جالسًا فهو من‬
‫العاكفين‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬حدثنا ثابت‬
‫قال ‪ :‬قلنا لعبد ال بن عبيد بن عمير ‪ :‬ما أراني إل ُمكَلّم المير أن أمنع الذين ينامون في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬من أتى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فأقام عندنا"‪.‬‬

‫( ‪)1/419‬‬

‫المسجد الحرام فإنهم يجنبون (‪ )1‬ويُحدثون‪ .‬قال ‪ :‬ل تفعل ‪ ،‬فإن ابن عمر سئل عنهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬هم‬
‫العاكفون‪.‬‬
‫[ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة ‪ ،‬به] (‪.)2‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد ثبت في الصحيح أنّ ابن عمرَ كان ينام في مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫عَزَب (‪.)3‬‬
‫وأما قوله تعالى ‪ { :‬وَال ّركّعِ السّجُودِ } فقال وكيع ‪ ،‬عن أبي بكر الهذلي ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس { وَال ّركّعِ السّجُودِ } قال ‪ :‬إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود‪ .‬وكذا قال عطاء وقتادة‪.‬‬
‫وقال ابن جَرير رحمه ال ‪ :‬فمعنى الية ‪ :‬وأمَرْنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين‪.‬‬
‫والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيرُه من الصنام وعبادة الوثان فيه ومن الشرك‪ .‬ثم‬
‫أورد سؤال فقال ‪ :‬فإن قيل ‪ :‬فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر‬
‫بتطهيره منه ؟ وأجاب بوجهين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده َزمَان قوم نوح‬
‫من الصنام والوثان ليكون ذلك سُنّة لمن بعدهما إذ كان ال تعالى قد جعل إبراهيم إمامًا يقتدى‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ } قال ‪ :‬من الصنام التي يعبدون ‪ ،‬التي كان‬
‫به كما قال عبد الرحمن بن زيد ‪ { :‬أَنْ َ‬
‫المشركون يعظمونها‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا الجواب ُمفَرّع على أنه كان ُيعْبَدُ عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬ويحتاج إثبات‬
‫حمّد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫هذا إلى دليل عن المعصوم مُ َ‬
‫الجواب الثاني ‪ :‬أنه أمرهما أن يخلصا [في] (‪ )4‬بنائه ل وحده ل شريك له ‪ ،‬فيبنياه مطهرًا من‬
‫ضوَانٍ خَيْرٌ َأمْ‬
‫الشرك والرّيْب ‪ ،‬كما قال جل ثناؤه ‪َ { :‬أ َفمَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َت ْقوَى مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ‬
‫شفَا جُ ُرفٍ هَارٍ } [ التوبة ‪ ] 109 :‬قال ‪ :‬فكذلك قوله ‪ { :‬وَ َ‬
‫مَنْ أَسّسَ بُنْيَا َنهُ عَلَى َ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ } أي ‪ :‬ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب ‪ ،‬كما قال السدي ‪:‬‬
‫سمَاعِيلَ أَنْ َ‬
‫وَإِ ْ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ } ابنيا بيتي للطائفين‪.‬‬
‫{ أَنْ َ‬
‫وملخص هذا الجواب ‪ :‬أن ال تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم ‪ ،‬أن يبنيا الكعبة على‬
‫اسمه وحده ل شريك له للطائفين به والعاكفين عنده ‪ ،‬والمصلين إليه من الركع السجود ‪ ،‬كما قال‬
‫طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلقَا ِئمِينَ‬
‫تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَنْ ل تُشْ ِركْ بِي شَيْئًا وَ َ‬
‫وَال ّركّعِ السّجُودِ } اليات [ الحج ‪.] 37 - 26 :‬‬
‫[وقد اختلف الفقهاء ‪ :‬أيما أفضل ‪ ،‬الصلة عند البيت أو الطواف ؟ فقال مالك ‪ :‬الطواف به لهل‬
‫المصار أفضل من الصلة عنده ‪ ،‬وقال الجمهور ‪ :‬الصلة أفضل مطلقا ‪ ،‬وتوجيه كل منهما‬
‫يذكر في كتاب الحكام] (‪.)5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فإنهم يخبثون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)440‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ‪.‬‬
‫( ‪)1/320‬‬

‫والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بال عند بيته ‪ ،‬المؤسس على عبادته‬
‫وحده ل شريك له ‪ ،‬ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا‬
‫سوَاءً ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَا ِد َومَنْ يُ ِردْ فِيهِ‬
‫جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ َ‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ الّذِي َ‬
‫وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَ ْ‬
‫بِإِلْحَادٍ بِظُ ْلمٍ نُ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج ‪.] 25 :‬‬
‫ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد ال وحده ل شريك له ‪ ،‬إما بطواف أو صلة ‪ ،‬فذكر في‬
‫سورة الحج أجزاءها الثلثة ‪ :‬قيامها ‪ ،‬وركوعها ‪ ،‬وسجودها ‪ ،‬ولم يذكر العاكفين لنه تقدم‬
‫سوَاءً ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَادِ } وفي هذه الية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ‪ ،‬واجتزأ بذكر‬
‫{ َ‬
‫الركوع والسجود عن القيام ؛ لنه قد علم أنه ل يكون ركوع ول سجود إل بعد قيام‪ .‬وفي ذلك ‪-‬‬
‫أيضًا ‪ -‬رَدّ على من ل يحجه من أهل الكتابين ‪ :‬اليهود والنصارى ؛ لنهم يعتقدون فضيلة‬
‫إبراهيم الخليل وعظمته ‪ ،‬ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك‬
‫وللعتكاف والصلة عنده وهم ل يفعلون شيئًا من ذلك ‪ ،‬فكيف يكونون (‪ )1‬مقتدين بالخليل ‪ ،‬وهم‬
‫ل يفعلون ما شرع ال له ؟ وقد حَجّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من النبياء عليهم السلم ‪،‬‬
‫حيٌ يُوحَى } [ النجم ‪.] 4 :‬‬
‫كما أخبر بذلك المعصوم الذي ل ينطق عن الهوى { إِنْ ُهوَ إِل وَ ْ‬
‫سمَاعِيلَ } [أي ‪ :‬تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل]‬
‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫وتقدير الكلم إذًا ‪ { :‬وَ َ‬
‫ن وَال ّركّعِ السّجُودِ } أي ‪ :‬طهراه من الشرك والريب وابنياه‬
‫ن وَا ْلعَاكِفِي َ‬
‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِي َ‬
‫(‪ { )2‬أَنْ َ‬
‫خالصًا ل ‪ ،‬معقل للطائفين والعاكفين والركع السجود‪ .‬وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الية ‪،‬‬
‫س ُمهُ يُسَبّحُ َلهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ }‬
‫ومن قوله تعالى ‪ { :‬فِي بُيُوتٍ َأذِنَ اللّهُ أَنْ تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫[ النور ‪ ] 36 :‬ومن السنة من أحاديث كثيرة ‪ ،‬من المر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك ‪ ،‬من‬
‫صيانتها من الذى والنجاسات (‪ )3‬وما أشبه ذلك‪ .‬ولهذا قال عليه السلم ‪" :‬إنما بنيت المساجد لما‬
‫ج َم ْعتُ في ذلك جزءًا على حدة ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫بنيت له" (‪ .)4‬وقد َ‬
‫وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ‪ ،‬فقيل ‪ :‬الملئكة قبل آدم ‪ ،‬وروي هذا عن أبي جعفر‬
‫الباقر محمد بن علي بن الحسين ‪ ،‬ذكره القرطبي وحكى لفظه ‪ ،‬وفيه غرابة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬آدم عليه‬
‫السلم رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم ‪ :‬أن آدم بناه من‬
‫خمسة أجبل ‪ :‬من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي ‪ ،‬وهذا غريب أيضًا‪.‬‬
‫وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الحبار وقتادة وعن وهب بن منبه ‪ :‬أن أول من بناه شيث ‪،‬‬
‫عليه السلم ‪ ،‬وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب ‪ ،‬وهي مما ل يصدق ول‬
‫يكذب ول يعتمد عليها بمجردها ‪ ،‬وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فكيف يكون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬والنجاسة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )569‬من حديث بريدة رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/421‬‬

‫ج َعلْ َهذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬
‫بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ }‬
‫قال المام أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثنا ابن بشار قال ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن َمهْدي ‪ ،‬حدثنا‬
‫سفيان ‪ ،‬عن أبي الزبير ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن‬
‫إبراهيم حَرّم بيت ال وأمّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لبتيها فل ُيصَا ُد صيدها ول يقطع‬
‫عضاهها" (‪.)1‬‬
‫وهكذا رواه النسائي ‪ ،‬عن محمد بن بشار عن بُنْدَار به (‪.)2‬‬
‫عمْرو الناقد ‪ ،‬كلهما عن أبي أحمد الزبيري ‪ ،‬عن‬
‫وأخرجه مسلم ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬و َ‬
‫سفيان الثوري (‪.)3‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ -‬أيضًا ‪ : -‬حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قال حدثنا ابن إدريس ‪ ،‬وحدثنا أبو‬
‫كريب ‪ ،‬حدثنا عبد الرحيم الرازي ‪ ،‬قال جميعًا ‪ :‬سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن إبراهيم كان عبد ال وخليله وإني عبدُ ال ورسوله وإن‬
‫إبراهيم حَرّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لبتيها ‪ ،‬عضاهَها وصيدَها ‪ ،‬ل يحمل فيها سلح‬
‫لقتال ‪ ،‬ول يقطع منها شجرة إل لعلف بعير" (‪.)4‬‬
‫وهذه الطريق غريبة ‪ ،‬ليست في شيء من الكتب الستة ‪ ،‬وأصل الحديث في صحيح مسلم من‬
‫وجه آخر ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬كان الناس إذا رأوا أول الثمر ‪ ،‬جاؤوا به‬
‫إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإذا أخذه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬اللهم بارك‬
‫لنا في ثمرنا ‪ ،‬وبارك لنا في مدينتنا ‪ ،‬وبارك لنا في صاعنا ‪ ،‬وبارك لنا في مُدّنا ‪ ،‬اللهم إن‬
‫إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك ‪ ،‬وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما‬
‫صغَرَ وليد له ‪ ،‬فيعطيه ذلك الثمر‪ .‬وفي لفظ ‪" :‬بركة مع بركة"‬
‫دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أ ْ‬
‫ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان‪ .‬لفظ مسلم (‪.)5‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُريب ‪ ،‬حدثنا قتيبة بن سعيد ‪ ،‬حدثنا بكر بن مضر ‪ ،‬عن ابن‬
‫الهاد ‪ ،‬عن أبي بكر بن محمد ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو بن عثمان ‪ ،‬عن رافع بن خَديج ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن إبراهيم حرم مكة ‪ ،‬وإني أحرم ما بين لبتيها"‪.‬‬
‫انفرد بإخراجه مسلم ‪ ،‬فرواه عن قتيبة ‪ ،‬عن بكر بن مضر ‪ ،‬به (‪ .)6‬ولفظه كلفظه سواء‪ .‬وفي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ )3/48‬واللبتان ‪ :‬هما الحرتان بجانبي المدينة ‪ ،‬والعضاة ‪ :‬كل شجر عظيم‬
‫له شوك ‪ ،‬وقيل ‪ :‬العظيم من الشجر مطلقا‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)4284‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1362‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)3/48‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)1373‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)3/49‬‬

‫( ‪)1/422‬‬

‫الصحيحين عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لبي طلحة ‪" :‬التمس‬
‫لي غلمًا من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه ‪ ،‬فكنت أخدم رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم كلما نزل‪ .‬وقال في الحديث ‪ :‬ثم أقْ َبلَ حتى إذا بدا له أُحد قال ‪" :‬هذا جبل يُحبّنا‬
‫ونحبه"‪ .‬فلما أشرف على المدينة قال ‪" :‬اللهم إني أحرم ما بين جبليها ‪ ،‬مثلما حرم به إبراهيم مكة‬
‫‪ ،‬اللهم بارك لهم في مُدّهم وصاعهم"‪ .‬وفي لفظ لهما ‪" :‬اللهم بارك لهم في مكيالهم ‪ ،‬وبارك لهم‬
‫في صاعهم ‪ ،‬وبارك لهم في مدهم"‪ .‬زاد البخاري ‪ :‬يعني ‪ :‬أهل المدينة (‪.)1‬‬
‫ض ْعفَي ما‬
‫ولهما أيضا عن أنس ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬اللهم اجعل بالمدينة ِ‬
‫جعلته بمكة من البركة" (‪ )2‬وعن عبد ال بن زيد بن عاصم ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ " :‬إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ‪ ،‬وحَرّمتُ (‪ )3‬المدينة كما حرم إبراهيم مكة ‪،‬‬
‫ودعوت (‪ )4‬لها في مدها وصاعها (‪ )5‬مثل ما دعا إبراهيم لمكة"‬
‫رواه البخاري وهذا لفظه (‪ ، )6‬ومسلم ولفظه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن‬
‫إبراهيم حرم مكة ودعا لهلها‪ .‬وإني حرّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة ‪ ،‬وإني دعوت لها في‬
‫صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لهل مكة" (‪.)7‬‬
‫وعن أبي سعيد ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬اللهم إنّ إبراهيم حَرّم‬
‫مكة فجعلها حرامًا ‪ ،‬وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها ‪ ،‬ل يهراق فيها دم ‪ ،‬ول يحمل‬
‫فيها سلح لقتال ‪ ،‬ول يخبط فيها شجرة إل لعلف‪ .‬اللهم بارك لنا في مدينتنا ‪ ،‬اللهم بارك لنا في‬
‫صاعنا ‪ ،‬اللهم بارك لنا في ُمدّنا ‪ ،‬اللهم اجعل مع البركة بركتين"‪ .‬الحديث رواه مسلم (‪.)8‬‬
‫والحاديث في تحريم المدينة كثيرة ‪ ،‬وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬لمكة ‪ ،‬لما في ذلك في مطابقة الية الكريمة‪.‬‬
‫[وتَمسّك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنها محرمة‬
‫منذ خلقت مع الرض وهذا أظهر وأقوى] (‪.)9‬‬
‫وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن ال تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والرض ‪ ،‬كما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪.)1361‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )1885‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1369‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وإني حرمت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وإني دعوت"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬صاعها ومدها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)2129‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)1360‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)1374‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/423‬‬

‫جاء في الصحيحين ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يوم فتح مكة ‪" :‬إن هذا البلد حَرّمه ال يوم خلق السموات والرض ‪ ،‬فهو حرام بحرمة‬
‫ال إلى يوم القيامة‪ .‬وإنه لم يحِل القتال فيه لحد قبلي ‪ ،‬ولم يحل لي إل ساعة من نهار ‪ ،‬فهو‬
‫حرام بحرمة ال إلى يوم القيامة‪ .‬ل ُي ْعضَد شوكه ول ينفر صيده ‪ ،‬ول تُلْ َتقَط ُلقَطَتُه إل من عرّفها‬
‫‪ ،‬ول يختلى خَلهَا" فقال العباس ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إل الذْخَر فإنه لقَينهم ولبيوتهم‪ .‬فقال ‪" :‬إل‬
‫الذخر" وهذا لفظ مسلم (‪.)1‬‬
‫ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك (‪.)2‬‬
‫ثم قال البخاري بعد ذلك ‪ :‬قال (‪ )3‬أبان بن صالح ‪ ،‬عن الحسن بن مسلم ‪ ،‬عن صفية بنت شيبة‬
‫‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬مثله (‪.)4‬‬
‫وهذا الذي علقه البخاري رواه المام أبو عبد ال بن ماجة ‪ ،‬عن محمد بن عبد ال بن ُنمَير ‪ ،‬عن‬
‫يونس بن ُبكَيْر ‪ ،‬عن محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن أبان بن صالح ‪ ،‬عن الحسن بن مسلم بن يَنّاق ‪ ،‬عن‬
‫صفية بنت شيبة ‪ ،‬قالت ‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يخطب عام الفتح ‪ ،‬فقال ‪" :‬يا أيها‬
‫الناس ‪ ،‬إن ال حرم مكة يوم خلق السموات والرض ‪ ،‬فهي حَرَام إلى يوم القيامة ‪ ،‬ل ُي ْعضَد‬
‫شجرها ول يُ َنفّر صيدُها ‪ ،‬ول يأخذ ُلقَطَتَها إل مُنْشِد" فقال العباس ‪ :‬إل الذخر ؛ فإنه للبيوت‬
‫والقبور‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إل الذْخَر" (‪.)5‬‬
‫وعن أبي شُرَيح العدوي أنّه قال ل َعمْرو بن سعيد ‪ -‬وهو يبعث البعوث إلى مكة ‪ : -‬ائذن لي ‪-‬‬
‫س ِمعَته‬
‫أيها المير ‪ -‬أن أحدثَك قول قام به رسولُ ال صلى ال عليه وسلم الغَد من يوم الفتح ‪َ ،‬‬
‫أذناي ووعاه قلبي ‪ ،‬وأبصرته عيناي حين َتكَلّم به ‪ ،‬إنه حمد ال وأثنى عليه ‪ ،‬ثم قال ‪" :‬إن مكة‬
‫حرمها ال ولم يحرمها الناس ‪ ،‬فل يحل لمرئ يؤمن بال واليوم الخر أن يسفك بها دمًا ‪ ،‬ول‬
‫خصَ بقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا ‪ :‬إن ال أذن‬
‫يعضد بها شجرة ‪ ،‬فإن أحد تَ َر ّ‬
‫لرسوله صلى ال عليه وسلم ولم يأذن لكم‪ .‬وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ‪ ،‬وقد عادت حرمتها‬
‫اليوم كحرمتها بالمس ‪ ،‬فليبلغ الشاهد الغائب"‪ .‬فقيل لبي شُرَيح ‪ :‬ما قال لك عمرو ؟ قال ‪ :‬أنا‬
‫أعلم بذلك منك يا أبا شريح ‪ ،‬إن الحرم ل يعيذ عاصيًا ‪ ،‬ول فارّا بدم ‪ ،‬ول فارّا بخَرَبَة‪.‬‬
‫رواه البخاري ومسلم ‪ ،‬وهذا لفظه (‪.)6‬‬
‫فإذا علم هذا فل منافاة بين هذه الحاديث الدالة على أن ال حَرّم مكة يوم خلق السموات‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )3077 ، 3189 ، 1587 ، 1834‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1353‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )6880 ، 112‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1355‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)1349‬‬
‫(‪ )5‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)3109‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )1832‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1354‬‬

‫( ‪)1/424‬‬

‫والرض ‪ ،‬وبين الحاديث الدالة على أن إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬حَرّمها ؛ لن إبراهيم بَلّغ عن‬
‫حكْمه فيها وتحريمه إياها ‪ ،‬وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند ال قبل بناء إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫ال ُ‬
‫لها ‪ ،‬كما أنه قد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مكتوبًا عند ال خاتم النبيين ‪ ،‬وإن آدم‬
‫لمنجَدل في طينته ‪ ،‬ومع هذا قال إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ { :‬رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ رَسُول مِ ْنهُمْ } وقد‬
‫أجاب ال دعاءه بما سبق في علمه وقَدَره‪ .‬ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫أخبرنا عن بَدْءِ أمرك‪ .‬فقال ‪" :‬دعوة أبي إبراهيم ‪ ،‬وبشرى عيسى ابن مريم ‪ ،‬ورأت أمي كأنه (‬
‫‪ )1‬خرج منها نور أضاء ت له قصور الشام"‪.‬‬
‫أي ‪ :‬أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك‪ .‬كما سيأتي قريبًا ‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬
‫وأما مسألة تفضيل َمكّة على المدينة ‪ ،‬كما هو قول الجمهور ‪ ،‬أو المدينة على مكة ‪ ،‬كما هو‬
‫مذهب مالك وأتباعه ‪ ،‬فتذكر في موضع آخر بأدلتها ‪ ،‬إن شاء ال ‪ ،‬وبه الثقة‪.‬‬
‫ج َعلْ َهذَا بَلَدًا آمِنًا } أي ‪ :‬من الخوف ‪ ،‬ل‬
‫وقوله ‪ :‬تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال ‪َ { :‬ربّ ا ْ‬
‫خلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل‬
‫عبُ أهله ‪ ،‬وقد فعل ال ذلك شرعًا وقدرًا‪ .‬كقوله تعالى (‪َ { )2‬ومَنْ دَ َ‬
‫يَرْ َ‬
‫حوِْلهِمْ } [ العنكبوت ‪:‬‬
‫طفُ النّاسُ مِنْ َ‬
‫جعَلْنَا حَ َرمًا آمِنًا وَيُتَخَ ّ‬
‫عمران ‪ ] 97 :‬وقوله { َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ‬
‫‪ ] 67‬إلى غير ذلك من اليات‪ .‬وقد تقدمت الحاديث في تحريم القتال فيها‪ .‬وفي صحيح مسلم‬
‫عن جابر ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬ل يحل لحد أن يحمل بمكة السلح" (‬
‫ج َعلْ َهذَا بَلَدًا آمِنًا } أي ‪ :‬اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا ‪ ،‬وناسب‬
‫‪ .)3‬وقال في هذه السورة ‪َ { :‬ربّ ا ْ‬
‫ج َعلْ َهذَا بَلَدًا‬
‫هذا ؛ لنه قبل بناء الكعبة‪ .‬وقال تعالى في سورة إبراهيم ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬
‫آمِنًا } [ إبراهيم ‪ ] 35 :‬وناسب هذا هناك لنه ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬كأنه وقع دعاء ثانًيا (‪ )4‬بعد بناء‬
‫البيت واستقرار أهله به ‪ ،‬وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنّا من إسماعيل بثلث عشرة‬
‫سحَاقَ إِنّ‬
‫ل وَإِ ْ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ إِ ْ‬
‫سنة ؛ ولهذا قال في آخر الدعاء ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫سمِيعُ الدّعَاءِ } [ إبراهيم ‪] 39 :‬‬
‫رَبّي لَ َ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَارْزُقْ َأهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ قَالَ َومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ‬
‫ضطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫قَلِيل ثُمّ َأ ْ‬
‫ل َومَنْ‬
‫قال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪ { :‬قَا َ‬
‫عذَابِ النّا ِر وَبِئسَ ا ْل َمصِير } قال ‪ :‬هو قول ال تعالى‪ .‬وهذا قول‬
‫َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قليل ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إلى َ‬
‫مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال تعالى ‪ :‬قال ‪ :‬وقرأ آخرون ‪ { :‬قَالَ َومَنْ‬
‫عذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم ‪،‬‬
‫َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيل ُثمّ َأضْطَ ّرهُ ِإلَى َ‬
‫كما رواه أبو جعفر ‪ ،‬عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية قال ‪ :‬كان ابن عباس يقول ‪ :‬ذلك قول‬
‫إبراهيم ‪ ،‬يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬كأنها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬كما قال ال تعالى" ‪ ،‬وفي طـ ‪" :‬لقوله تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1356‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬طـ ‪ ،‬أ ‪" :‬دعاء مرة ثانية"‪.‬‬

‫( ‪)1/425‬‬

‫وقال أبو جعفر ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن مجاهد ‪َ { :‬ومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيل } يقول ‪ :‬ومن‬
‫كفر فأرزقه أيضًا { ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬لما عزل إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬الدعوة عمّن أبى ال أن يجعل له‬
‫الولية ‪ -‬انقطاعًا إلى ال ومحبته ‪ ،‬وفراقًا لمن خالف أمره ‪ ،‬وإن كانوا من ذريته ‪ ،‬حين عرف‬
‫أنه كائن منهم أنه ظالم أل يناله عهدُه ‪ ،‬بخبر ال له بذلك ‪ -‬قال ال ‪ :‬ومن كفر فإني أرزق البر‬
‫والفاجر وأمتعه قليل‪.‬‬
‫عمّار الدّهْني ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫حمَيد الخرّاط ‪ ،‬عن َ‬
‫وقال حاتم بن إسماعيل عن ُ‬
‫ج َعلْ هَذَا بََلدًا آمِنًا وَارْ ُزقْ أَهَْلهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّهِ‬
‫عباس في قوله تعالى ‪َ { :‬ربّ ا ْ‬
‫وَالْ َيوْمِ الخِرِ } قال ابن عباس ‪ :‬كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس ‪ ،‬فأنزل ال ومن‬
‫كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقًا ل أرزقهم ؟! أمتعهم قليل ثم أضطرهم إلى‬
‫ك َومَا كَانَ‬
‫عطَاءِ رَ ّب َ‬
‫عذاب النار وبئس المصير‪ .‬ثم قرأ ابن عباس ‪ { :‬كُل ُنمِدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ‬
‫حظُورًا } [ السراء ‪ .] 20 :‬رواه ابن مَرْدُويه‪ .‬ورُوي عن عكرمة ومجاهد نحو‬
‫عَطَاءُ رَ ّبكَ مَ ْ‬
‫ذلك أيضًا‪ .‬وهذا كقوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ ل ُيفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ُثمّ‬
‫ج ُعهُمْ ثُمّ ُنذِيقُهُمُ ا ْلعَذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ } [ يونس ‪ ، ] 70 ، 69 :‬وقوله تعالى ‪:‬‬
‫إِلَيْنَا مَرْ ِ‬
‫علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ* ُنمَ ّت ُعهُمْ‬
‫عمِلُوا إِنّ اللّهَ َ‬
‫ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫{ َومَنْ َكفَرَ فَل َيحْزُ ْنكَ ُكفْ ُرهُ ِإلَيْنَا مَرْ ِ‬
‫عذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان ‪ ، ] 24 ، 23 :‬وقوله ‪ { :‬وََلوْل أَنْ َيكُونَ النّاسُ ُأمّةً‬
‫ضطَرّهُمْ إِلَى َ‬
‫قَلِيل ثُمّ َن ْ‬
‫ظهَرُونَ* وَلِبُيُو ِتهِمْ أَ ْبوَابًا‬
‫سقُفًا مِنْ َفضّ ٍة َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا يَ ْ‬
‫حمَنِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ‬
‫جعَلْنَا ِلمَنْ َي ْكفُرُ بِالرّ ْ‬
‫وَاحِ َدةً لَ َ‬
‫وَسُرُرًا عَلَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ* وَزُخْ ُرفًا وَإِنْ ُكلّ ذَِلكَ َلمّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالخِ َرةُ عِ ْندَ رَ ّبكَ لِ ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫[ الزخرف ‪] 35 ، 33 :‬‬
‫وقوله { ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } أي ‪ :‬ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا‬
‫عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير‪ .‬ومعناه ‪ :‬أن ال تعالى يُنْظرُهم و ُيمْهلهُم ثم يأخذهم‬
‫أخذ عزيز مقتدر ‪ ،‬كقوله تعالى ‪َ { :‬وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ ثُمّ َأخَذْ ُتهَا وَإَِليّ‬
‫ا ْل َمصِيرُ } [ الحج ‪ ، ] 48 :‬وفي الصحيحين ‪" :‬ل أحد أصبر على أذى سمعه من ال ؛ إنهم‬
‫يجعلون له ولدا ‪ ،‬وهو يرزقهم ويعافيهم" (‪ )1‬وفي الصحيح أيضًا ‪" :‬إن ال ليملي (‪ )2‬للظالم حتى‬
‫خ َذهُ أَلِيمٌ‬
‫إذا أخذه لم يفلته"‪ .‬ثم قرأ قوله تعالى ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ أَ ْ‬
‫شَدِيدٌ } [ هود ‪.)3( ] 102 :‬‬
‫سمِيعُ‬
‫سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَبّلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫وأما قوله تعالى ‪ { :‬وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْلقَوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ وَإِ ْ‬
‫سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ‬
‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ‬
‫ا ْلعَلِيمُ*رَبّنَا وَا ْ‬
‫ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق تخريج هذا الحديث قريبا‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬طـ ‪" :‬يملي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )4686‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2583‬من حديث أبي موسى الشعري‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/426‬‬
‫فالقواعد ‪ :‬جمع قاعدة ‪ ،‬وهي السارية والساس ‪ ،‬يقول تعالى ‪ :‬واذكر ‪ -‬يا محمد ‪ -‬لقومك بناء‬
‫إبراهيم وإسماعيل ‪ ،‬عليهما السلم ‪ ،‬البيت ‪ ،‬ور ْفعَهما القواعدَ منه ‪ ،‬وهما يقولن ‪ { :‬رَبّنَا َتقَ ّبلْ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } فهما في عمل صالح ‪ ،‬وهما يسألن ال تعالى أن يتقبل منهما ‪ ،‬كما‬
‫مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي ‪ ،‬عن وهيب بن الورد ‪ :‬أنه قرأ ‪:‬‬
‫سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا } ثم يبكي ويقول ‪ :‬يا خليل الرحمن‬
‫ت وَإِ ْ‬
‫{ وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ‬
‫‪ ،‬ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت ُمشْفق أن ل يتقبل منك‪ .‬وهذا كما حكى ال تعالى عن حال‬
‫المؤمنين المخلصين (‪ )1‬في قوله تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آ َتوْا } أي ‪ :‬يعطون ما أعطوا من‬
‫الصدقات والنفقات والقربات { َوقُلُو ُبهُ ْم وَجَِلةٌ } [ المؤمنون ‪ ] 60 :‬أي ‪ :‬خائفة أل يتقبل منهم‪ .‬كما‬
‫جاء به الحديث الصحيح ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم كما سيأتي في‬
‫موضعه‪.‬‬
‫وقال بعض المفسرين ‪ :‬الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ‪ ،‬والداعي إسماعيل‪ .‬والصحيح أنهما‬
‫كانا يرفعان ويقولن ‪ ،‬كما سيأتي بيانه‪.‬‬
‫وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك‪ .‬قال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪:‬‬
‫حدثنا عبد ال بن محمد ‪ ،‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬حدثنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن أيوب السخيتاني (‪ )2‬وكثير بن‬
‫كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة ‪ -‬يزيد أحدُهما على الخر ‪ -‬عن سعيد بن جُبَير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬أول ما (‪ )3‬اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل ‪ ،‬عليهما (‬
‫‪ )4‬السلم اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة‪ .‬ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ‪ ،‬عليهما‬
‫السلم ‪ ،‬وهي ترضعه ‪ ،‬حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق َزمْزم في أعلى المسجد ‪،‬‬
‫سقَاء‬
‫وليس بمكة يومئذ أحد ‪ ،‬وليس بها ماء فوضعهما هنالك ‪ ،‬ووضع عندهما جرابًا فيه تمر و ِ‬
‫فيه ماء ‪ ،‬ثم َقفّى إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬منطلقًا‪ .‬فتبعته أم إسماعيل فقالت ‪ :‬يا إبراهيم ‪ ،‬أين‬
‫تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ول شيء ؟ فقالت له ذلك مرارًا ‪ ،‬وجعل ل يلتفت‬
‫إليها‪ .‬فقالت (‪ )5‬آل أمرك بهذا ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قالت ‪ :‬إذًا ل يضيعنا‪ .‬ثم رجعت‪ .‬فانطلق إبراهيم ‪،‬‬
‫عليه السلم ‪ ،‬حتى إذا كان عند الثنية حيث ل يرونه ‪ ،‬استقبل بوجهه البيت ‪ ،‬ثم دعا بهؤلء‬
‫سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِ ْندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ‬
‫الدعوات ‪ ،‬ورفع يديه ‪ ،‬قال ‪ { :‬رَبّنَا إِنّي َأ ْ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مِنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِ ْم وَارْ ُز ْقهُمْ مِنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّل ُهمْ يَ ْ‬
‫رَبّنَا لِ ُيقِيمُوا الصّلةَ فَا ْ‬
‫[ إبراهيم ‪ ، ] 37 :‬وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ‪ ،‬عليهما السلم ‪ ،‬وتشرب من ذلك الماء‬
‫‪ ،‬حتى إذا نفد ماء السقاء (‪ )6‬عطشت وعطش ابنها ‪ ،‬وجعلت تنظر إليه يتلوى ‪-‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬الخلص"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬السختياني"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أول من"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عليه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬فقالت له"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬نفد ما في السقاء"‪.‬‬

‫( ‪)1/427‬‬

‫أو قال ‪ :‬يتلبط ‪ -‬فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ‪ ،‬فوجدت الصفا أقربَ جبل في الرض يليها (‪)1‬‬
‫فقامت عليه ‪ ،‬ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا ؟ فلم تر أحدًا‪ .‬فهبطت من الصفا حتى إذا‬
‫س ْعيَ النسان المجهود حتى جاوزت الوادي‪ .‬ثم أتت‬
‫بلغت الوادي رفعت طَ ْرفَ درعها ‪ ،‬ثم سعت َ‬
‫حدًا ؟ فلم تر أحدًا‪ .‬ففعلت ذلك سبع مرات ‪ ،‬قال ابن‬
‫المروة ‪ ،‬فقامت عليها ونظرت هل ترى أ َ‬
‫عباس ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬فلذلك سعى الناس بينهما"‪.‬‬
‫سمّعت فسمعَت أيضًا‪.‬‬
‫فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت ‪ :‬صه ‪ ،‬تريد نفسها ‪ ،‬ثم تَ َ‬
‫غوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ‪ ،‬فبحث بعقبه ‪ -‬أو‬
‫فقالت ‪ :‬قد أسمعت إن كان عندك ُ‬
‫ح ّوضُ ُه ‪ ،‬وتقول بيدها هكذا ‪ ،‬وجعلت تغرف من‬
‫قال ‪ :‬بجناحه ‪ -‬حتى ظهر الماء ‪ ،‬فجعلت تُ َ‬
‫الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يرحم‬
‫ال أم إسماعيل ‪ ،‬لو تركت زمزم ‪ -‬أو قال ‪ :‬لو لم تغرف من الماء ‪ -‬لكانت زمزم عينًا مَعينًا"‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فشربت وأرضعت ولدها ‪ ،‬فقال لها الملك ‪ :‬ل تخافي الضيعة ؛ فإن هاهنا بيتًا ل ‪ ،‬عز‬
‫وجل ‪ ،‬يبنيه هذا الغلم وأبوه ‪ ،‬وإن ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬ل يضيع أهله‪ .‬وكان البيت مرتفعًا من‬
‫الرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ‪ ،‬فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من‬
‫جُرْهُم ‪ -‬أو أهل بيت من جُرْهم ‪ -‬مقبلين من طريق َكدَاء‪ .‬فنزلوا في أسفل مكة ‪ ،‬فرأوا طائرًا‬
‫عائفًا ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن هذا الطائر ليدور على الماء ‪ ،‬ل َعهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء‪ .‬فأرسلوا جَرِيّا‬
‫أو جَرِيّين ‪ ،‬فإذا هم بالماء‪ .‬فرجعوا فأخبروهم بالماء ‪ ،‬فأقبلوا‪ .‬قال ‪ :‬وأم إسماعيل عند الماء‪.‬‬
‫حقّ لكم في الماء‪ .‬قالوا ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬ولكن ل َ‬
‫قال ابن عباس (‪ )2‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب النس‪.‬‬
‫فنزلوا ‪ ،‬وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم‪ .‬حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلمُ ‪ ،‬وتعلم‬
‫العربية منهم ‪ ،‬وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب ‪ ،‬فلما أدرك زوجوه امرأة منهم‪ .‬وماتت أم إسماعيل ‪،‬‬
‫عليهما (‪ )3‬السلم ‪ ،‬فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَ ْركَتَه‪ .‬فلم يجد إسماعيل ‪ ،‬فسأل‬
‫امرأته عنه فقالت ‪ :‬خرج يبتغي لنا‪ .‬ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬نحن بشَرّ ‪ ،‬نحن في‬
‫ضيق وشدة‪ .‬وشكت إليه‪ .‬قال ‪ :‬فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلم ‪ ،‬وقولي له ‪ :‬يغير عتبة‬
‫بابه‪ .‬فلما جاء إسماعيل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬كأنه أنس شيئًا‪ .‬فقال ‪ :‬هل جاءكم من أحد ؟ قالت ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬جاءنا شيخ كذا وكذا ‪ ،‬فسأل (‪ )4‬عنك ‪ ،‬فأخبرته ‪ ،‬وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في‬
‫جهْد وشدّة‪ .‬قال ‪ :‬فهل أوصاك بشيء ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬أمرني أن أقرأ عليك السلم ‪ ،‬ويقول (‪)5‬‬
‫َ‬
‫غَيّرْ عتبة بابك‪ .‬قال ‪ :‬ذاك أبي‪ .‬وقد أمرني أن أفارقك ‪ ،‬فالحقي بأهلك‪َ .‬فطَّلقَها وتزوج منهم‬
‫بأخرى ‪ ،‬فلبث عنهم إبراهيم ما شاء ال ‪ ،‬ثم أتاهم بعد فلم يجده‪ .‬فدخل على امرأته ‪ ،‬فسألها‬
‫عنه ‪ ،‬فقالت ‪ :‬خرج يبتغي لنا‪ .‬قال ‪ :‬كيف أنتم ؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬إليها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬عبد ال بن عباس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬عليها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فسألنا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬يقول لك"‪.‬‬

‫( ‪)1/428‬‬

‫وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم‪ .‬فقالت ‪ :‬نحن بخير وسعة‪ .‬وأثنت على ال ‪ ،‬عز وجل‪ .‬فقال ‪ :‬ما‬
‫طعامكم ؟ قالت ‪ :‬اللحم‪ .‬قال ‪ :‬فما شرابكم ؟ قالت ‪ :‬الماء‪ .‬قال ‪ :‬اللهم بارك لهم في اللحم‬
‫والماء"‪ .‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ولم يكن لهم يومئذ حَب ‪ ،‬ولو كان لهم ‪ ،‬لدعا لهم فيه‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فهما ل يخلو عليهما أحد بغير مكة إل لم يوافقاه"‪ .‬قال ‪" :‬فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‬
‫السلم ‪ ،‬ومُريه يُثَبّت عتبة بابه ‪ ،‬فلما جاء إسماعيل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قال ‪ :‬هل أتاكم من أحد ؟‬
‫قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬أتانا شيخ حسن الهيئة ‪ ،‬وأثنت عليه (‪ )1‬فسألني عنك ‪ ،‬فأخبرته ‪ ،‬فسألني ‪ :‬كيف‬
‫عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير‪ .‬قال ‪ :‬فأوصاك بشيء ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬هو يقرأ عليك السلم ‪ ،‬ويأمرك‬
‫أن تثبت عتبة بابك‪ .‬قال ‪ :‬ذاك أبي ‪ ،‬وأنت العتبة ‪ ،‬أمرني أن أمسكك‪ .‬ثم لَبثَ عنهم ما شاء ال ‪،‬‬
‫عز وجل ‪ ،‬ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْل (‪ )2‬له تحت دوحة قريبًا من زمزم ‪ ،‬فلما رآه‬
‫قام إليه ‪ ،‬فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ‪ ،‬والوالد بالولد‪ .‬ثم قال ‪ :‬يا إسماعيل ‪ ،‬إن ال أمرني‬
‫بأمر‪ .‬قال ‪ :‬فاصنع ما أمرك ربك ‪ ،‬عز وجل‪ .‬قال ‪ :‬وتعينني ؟ قال ‪ :‬وأعينك‪ .‬قال ‪ :‬فإن ال‬
‫أمرني أن أبني هاهنا بيتًا ‪ -‬وأشار إلى أ َكمَ ٍة مرتفعة على ما حولها ‪ -‬قال ‪ :‬فعند ذلك َرفَعا‬
‫القواعد من البيت فجعل (‪ )3‬إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ‪ ،‬حتى إذا ارتفع البناء جاء‬
‫بهذا الحجر فوضعه له ‪ ،‬فقام عليه وهو يبني ‪ ،‬وإسماعيل يناوله الحجارة ‪ ،‬وهما يقولن ‪ { :‬رَبّنَا‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } " قال ‪" :‬فجعل يبنيان حتى يدورا حول البيت ‪ ،‬وهما يقولن ‪{ :‬‬
‫َتقَبّلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } (‪.)4‬‬
‫رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫[ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطول] (‪.)5‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن أبي عبد ال محمد بن حمّاد الظهراني‪ .‬وابن جرير ‪ ،‬عن أحمد بن‬
‫ثابت الرازي ‪ ،‬كلهما عن عبد الرزاق به مختصرًا (‪.)6‬‬
‫وقال أبو بكر بن مَرْدُويه ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا بشر بن موسى ‪ ،‬حدثنا‬
‫أحمد بن محمد الزرقي ‪ ،‬حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ‪ ،‬عن عبد الملك بن جُرَيج ‪ ،‬عن كثير بن‬
‫كثير ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ‪ ،‬وعبد ال بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس‬
‫مع سعيد بن جبير ‪ ،‬في أعلى المسجد ليل فقال سعيد بن جبير ‪ :‬سلوني قبل أن ل تروني‪ .‬فسألوه‬
‫عن المقام‪ .‬فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ‪ ،‬فذكر الحديث بطوله‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا عبد ال بن محمد‪ .‬حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو (‪ )7‬حدثنا‬
‫إبراهيم بن نافع ‪ ،‬عن كثير بن كثير ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬لما كان بين‬
‫إبراهيم وبين أهله ما كان ‪ ،‬خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ‪ ،‬ومعهم شَنّة فيها ماء ‪ ،‬فجعلت أم‬
‫إسماعيل تشرب من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وأثنت عليه خيرا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يبني له بيتا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬قال ‪ :‬فجعل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)3364‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/381‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬بن عمير"‪.‬‬

‫( ‪)1/429‬‬

‫الشنّة ‪ ،‬فيَدِرّ لبنها على صبيها ‪ ،‬حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ‪ ،‬ثم رجع إبراهيم إلى أهله ‪،‬‬
‫فاتبعته أم إسماعيل ‪ ،‬حتى (‪ )1‬بلغوا كَدَاء نادته (‪ )2‬من ورائه ‪ :‬يا إبراهيم ‪ ،‬إلى من تتركنا ؟‬
‫ج َعتْ ‪ ،‬فجعلت تشرب من الشنة ‪ ،‬ويَدر‬
‫قال ‪ :‬إلى ال ‪ ،‬عز وجل‪ .‬قالت ‪ :‬رضيت بال‪ .‬قال ‪ :‬فر َ‬
‫لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء قالت ‪ :‬لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا‪ .‬قال ‪ :‬فذهَ َبتْ‬
‫سعَت (‪)3‬‬
‫فصَعدت الصفا ‪ ،‬فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا ‪ ،‬فلم تحس أحدًا‪ .‬فلما بلغت الوادي َ‬
‫حتى أتت المروة ‪ ،‬ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت ‪ :‬لو ذهبت فنظرت ما فعل ‪ ،‬تعني الصبي ‪،‬‬
‫فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه يَ ْنشَ ُغ للموت ‪ ،‬فلم تقُرّها نفسها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬لو ذهبت فنظرت‬
‫لعلي أحس أحدًا‪ .‬قال ‪ :‬فذهبت فصعدت الصفا ‪ ،‬فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا ‪ ،‬حتى أتمت‬
‫سبعا ‪ ،‬ثم قالت ‪ :‬لو ذهبت فنظرت ما فعل ‪ ،‬فإذا هي بصوت ‪ ،‬فقالت ‪ :‬أغثْ إن كان عندك خير‪.‬‬
‫عقِبَه على الرض‪ .‬قال ‪ :‬فانبثق الماء‬
‫فإذا جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال بعقبه هكذا ‪ ،‬وغمز َ‬
‫شتْ أم إسماعيل ‪ ،‬فجعلت تحفر‪.‬‬
‫‪ ،‬فَدَ َه َ‬
‫قال ‪ :‬فقال أبو القاسم صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا (‪.)4‬‬
‫قال ‪ :‬فجعلت تشرب من الماء ويَدِرّ لبنها على صَبِيّها‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي ‪ ،‬فإذا هم بطير ‪ ،‬كأنهم أنكروا ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ما يكون‬
‫الطير إل على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ ‪ ،‬فإذا هو بالماء‪ .‬فأتاهم فأخبرهم‪ .‬فأتوا إليها فقالوا ‪ :‬يا‬
‫أم إسماعيل ‪ ،‬أتأذنين لنا أن نكون معك ‪ -‬ونسكن معك ؟ ‪ -‬فبلغ ابنها ونكح فيهم (‪ )5‬امرأة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ثم إنه بدا لبراهيم صلى ال عليه وسلم (‪ )6‬فقال لهله ‪ :‬إني مُطّلع تَ ْركَتي‪ .‬قال ‪ :‬فجاء‬
‫فسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬أين إسماعيل ؟ قالت امرأته ‪ :‬ذهب يصيد‪ .‬قال ‪ :‬قولي له إذا جاء ‪ :‬غير عتبة‬
‫بيتك‪ .‬فلما جاء أخبرته ‪ ،‬قال ‪ :‬أنت ذَاكِ ‪ ،‬فاذهبي إلى أهلك‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ثم إنه بدا لبراهيم ‪ ،‬فقال لهله ‪ :‬إني مُطّلع تَرْكتي‪ .‬قال ‪ :‬فجاء فقال ‪ :‬أين إسماعيل ؟‬
‫طعَم وتشرب ؟ فقال ‪ :‬ما طعامكم وما شرابكم ؟‬
‫فقالت امرأته ‪ :‬ذهب يصيد‪ .‬فقالت ‪ :‬أل تنزل فَ َت ْ‬
‫قالت ‪ :‬طعامنا اللحم ‪ ،‬وشرابنا الماء‪ .‬قال ‪ :‬اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فقال أبو القاسم صلى ال عليه وسلم ‪" :‬بَرَكة بدعوة إبراهيم"‬
‫قال ‪ :‬ثم إنه بدا لبراهيم صلى ال عليه وسلم فقال لهله ‪ :‬إني ُمطّلع تَرْكتي‪ .‬فجاء فوافق‬
‫إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْل له (‪ )7‬فقال ‪ :‬يا إسماعيل ‪ ،‬إن ربك ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬أمرني أن‬
‫أبني له بيتًا‪ .‬فقال ‪ :‬أطعْ ربك ‪ ،‬عز وجل‪ .‬قال ‪ :‬إنه قد أمرني أن تعينني عليه ؟ فقال ‪ :‬إذن أفعلَ‬
‫‪ -‬أو كما قال ‪ -‬قال ‪ :‬فقاما (‪[ )8‬قال] (‪ )9‬فجعل إبراهيم يبني ‪ ،‬وإسماعيل يناوله الحجارة ‪،‬‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫ويقولن ‪ { :‬رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬حتى لما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬سألته"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وسعت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ظاهر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬منهم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عليه السلم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬يصلح بيتا له"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فقام"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/430‬‬
‫حجَر المقام ‪ ،‬فجعل يناوله‬
‫ض ُعفَ الشيخ عن نقل الحجارة‪ .‬فقام على َ‬
‫قال ‪ :‬حتى ارتفع البناء و َ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫الحجارة ويقولن ‪ { :‬رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫هكذا (‪ )1‬رواه من هذين الوجهين في كتاب النبياء (‪.)2‬‬
‫والعجب أن الحافظ أبا عبد ال الحاكم رواه في كتابه المستدرك ‪ ،‬عن أبي العباس الصم ‪ ،‬عن‬
‫محمد بن سنان القَزّاز ‪ ،‬عن أبي علي عبيد ال بن عبد المجيد الحنفي ‪ ،‬عن إبراهيم بن نافع ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه‪ .‬كذا قال‪ .‬وقد رواه البخاري كما ترى ‪ ،‬من‬
‫حديث إبراهيم بن نافع ‪ ،‬كأن فيه اقتصارًا ‪ ،‬فإنه لم يذكر فيه [شأن] (‪ )3‬الذبح‪ .‬وقد جاء في‬
‫الصحيح ‪ ،‬أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ‪ ،‬وقد جاء أن إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬كان يزور‬
‫أهله بمكة على البراق سريعًا (‪ )4‬ثم يعود إلى أهله بالبلد (‪ )5‬المقدسة ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬والحديث ‪-‬‬
‫وال أعلم ‪ -‬إنما فيه ‪ -‬مرفوع ‪ -‬أماكن صَرح بها ابن عباس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ‪ ،‬كما قال ابن‬
‫جرير ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬ومحمد بن المثنى قال حدثنا مؤمل ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫حارثة بن مضرّب ‪ ،‬عن علي بن أبي طالب ‪ ،‬قال ‪ :‬لما أمر إبراهيم ببناء البيت ‪ ،‬خرج معه‬
‫إسماعيل وهاجر‪ .‬قال ‪ :‬فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ‪ ،‬فيه مثلُ‬
‫الرأس‪ .‬فكلمه ‪ ،‬قال ‪ :‬يا إبراهيم ‪ ،‬ابن على ظِلي ‪ -‬أو قال على قدري ‪ -‬ول تَزْد ول تنقص ‪:‬‬
‫فلما بنى خرج ‪ ،‬وخلف إسماعيل وهاجر ‪ ،‬فقالت هاجر ‪ :‬يا إبراهيم ‪ ،‬إلى من تكلنا ؟ قال ‪ :‬إلى‬
‫ال‪ .‬قالت ‪ :‬انطلق ‪ ،‬فإنه ل يضيعنا‪ .‬قال ‪ :‬فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا ‪ ،‬قال ‪ :‬فصعدت هاجر‬
‫إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ‪ ،‬حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ‪ ،‬ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم‬
‫تر شيئًا ‪ ،‬حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ‪ ،‬ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ‪ ،‬حتى فعلت‬
‫ذلك سبع مرات ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا إسماعيل ‪ ،‬مت حيث ل أراك‪ .‬فأتته وهو يفحص برجله من العطش‪.‬‬
‫فناداها جبريل فقال لها ‪ :‬من أنت ؟ قالت ‪ :‬أنا هاجر أم ولد إبراهيم‪ .‬قال ‪ :‬فإلى من َوكََلكُما ؟‬
‫قالت ‪ :‬وكلنا إلى ال‪ .‬قال ‪ :‬وكلكما إلى كافٍ‪ .‬قال ‪ :‬ففحص الغلم الرض بأصبعه ‪ ،‬فنبعت‬
‫زمزم‪ .‬فجعلت تحبس الماء فقال ‪ :‬دعيه فإنها َروَاء (‪.)6‬‬
‫ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ‪ ،‬وقد يحتمل ‪ -‬إن كان محفوظًا ‪ -‬أن يكون أول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬هكذا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)3365‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بمكة سريعا على البراق"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ثم يعود لهله إلى البلد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)3/69‬‬

‫( ‪)1/431‬‬

‫وضع له حوطًا وتحجيرًا ‪ ،‬ل أنه بناه إلى أعله ‪ ،‬حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا ‪ ،‬كما قال ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬أخبرنا هَنّاد بن السري ‪ ،‬حدثنا أبو الحوص ‪ ،‬عن سِماك ‪ ،‬عن خالد بن‬
‫عرعرة ‪ ،‬أن رجل قام إلى علي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أل تخبرني عن البيت ‪ ،‬أهو أول بيت‬
‫وضع في الرض ؟ فقال ‪ :‬ل ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة (‪ ، )1‬مقام إبراهيم ‪ ،‬ومن دخله‬
‫كان آمنًا ‪ ،‬وإن شئت أنبأتك كيف بني ‪ :‬إن ال أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الرض ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل ال السكينة ‪ -‬وهي ريح خجوج ‪ ،‬ولها رأسان ‪ -‬فأتْبَع‬
‫أحدهما صاحبه ‪ ،‬حتى انتهت إلى مكة ‪ ،‬فتطوت (‪ )2‬على موضع البيت كطي الحجفَة ‪ ،‬وأمر‬
‫إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة‪ .‬فبنى إبراهيم وبقي حجر ‪ ،‬فذهب الغلم يبغي شيئًا‪ .‬فقال‬
‫إبراهيم ‪ :‬أبغني حجرًا كما آمرك‪ .‬قال ‪ :‬فانطلق الغلم يلتمس له حجرًا ‪ ،‬فأتاه به ‪ ،‬فوجده قد‬
‫ركب الحجر السود في مكانه‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبه ‪ ،‬من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال ‪ :‬أتاني به من لن يَتّكل‬
‫(‪ )3‬على بنائك ‪ ،‬جاء به جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬من السماء‪ .‬فأتماه (‪.)4‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا حمد بن عبد ال بن يزيد المقري ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن بشر بن‬
‫عاصم ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن كعب الحبار ‪ ،‬قال ‪ :‬كان البيت غثاءة على الماء قبل أن‬
‫يخلق ال الرض بأربعين عامًا ‪ ،‬ومنه دحيت الرض‪.‬‬
‫قال سعيد ‪ :‬وحدثنا علي بن أبي طالب ‪ :‬أن إبراهيم أقبل من أرمينية ‪ ،‬ومعه السكينة تدله على‬
‫تَ ُبوّء (‪ )5‬البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا ‪ ،‬قال ‪ :‬فكشفت عن أحجار ل يُطيق (‪ )6‬الحجر إل‬
‫ثلثون رجل‪ .‬قلت ‪ )7( :‬يا أبا محمد ‪ ،‬فإن ال يقول ‪ { :‬وَِإذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ }‬
‫قال ‪ :‬كان ذلك بعد‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬إن ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬أمر إبراهيم أن يبني [البيت] (‪ )8‬هو وإسماعيل ‪ :‬ابنيا بيتي‬
‫للطائفين والعاكفين والركع السجود ‪ ،‬فانطلق إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬حتى أتى مكة ‪ ،‬فقام هو‬
‫وإسماعيل ‪ ،‬وأخَذَا المعاول ل يدريان أين البيت ؟ فبعث ال ريحًا ‪ ،‬يقال لها ‪ :‬ريح الخجوج ‪ ،‬لها‬
‫جناحان ورأس في صورة حية ‪ ،‬فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الول ‪ ،‬واتبعاها‬
‫بالمعاول يحفران حتى وضعا الساس‪ .‬فذلك حين يقول [ال] (‪ )9‬تعالى ‪ { :‬وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ‬
‫ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ } { وَإِذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ } [ الحج ‪ ] 26 :‬فلما بنيا القواعد فبلغا مكان‬
‫الركن‪ .‬قال إبراهيم لسماعيل ‪ :‬يا بني ‪ ،‬اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا‪ .‬قال ‪ :‬يا أبت ‪ ،‬إني‬
‫كسلن لَغب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في البركة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬فنظرت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬من ل يتكل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)3/70‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬حتى بنوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬ول يطيق"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فقلت"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/432‬‬

‫قال ‪ :‬عََليّ بذلك فانطلق فطلب (‪ )1‬له حجرًا ‪ ،‬فجاءه بحجر فلم يرضه ‪ ،‬فقال ائتني بحجر أحسن‬
‫من هذا ‪ ،‬فانطلق يطلب له حجرًا ‪ ،‬وجاءه جبريل بالحجر السود من الهند ‪ ،‬وكان أبيض ‪ ،‬ياقوتة‬
‫بيضاء مثل ال ّثغَامة ‪ ،‬وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ‪ ،‬فجاءه إسماعيل بحجر‬
‫فوجده عند الركن ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبه ‪ ،‬من جاءك بهذا ؟ قال ‪ :‬جاء به من هو أنشط منك‪ .‬فبنيا وهما‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ‬
‫يدعوان الكلمات التي ابتلى [بهن] (‪ )2‬إبراهيم ربه ‪ ،‬فقال ‪ { :‬رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬
‫}‬
‫وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم‪ .‬وإنما ُهدِي إبراهيمُ إليها‬
‫و ُبوّئ لها‪ .‬وقد ذهب إلى ذلك (‪ )3‬ذاهبون ‪ ،‬كما قال المام عبد الرزاق (‪ )4‬أخبرنا معمر ‪ ،‬عن‬
‫أيوب ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ } قال ‪)5( :‬‬
‫القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك (‪.)6‬‬
‫وقال عبد الرزاق أيضًا ‪ :‬أخبرنا هشام بن حسان ‪ ،‬عن سوار ‪ -‬ختن عطاء ‪ -‬عن عطاء ابن أبي‬
‫رباح ‪ ،‬قال ‪ :‬لما أهبط ال آدم من الجنة ‪ ،‬كانت رجله في الرض ورأسُه في السماء يسمع كلم‬
‫أهل السماء ودعاءهم ‪ ،‬يأنس إليهم ‪ ،‬فهابته (‪ )7‬الملئكة ‪ ،‬حتى شكت إلى ال في دعائها وفي‬
‫صلتها‪ .‬فخفضه ال إلى الرض ‪ ،‬فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى ال‬
‫في دعائه وفي صلته‪ .‬فوجه إلى مكة ‪ ،‬فكان موضع قَدَمه قريةً ‪ ،‬وخَطوُه مفازة ‪ ،‬حتى انتهى‬
‫إلى مكة ‪ ،‬وأنزل ال ياقوتة من ياقوت الجنة ‪ ،‬فكانت على موضع البيت الن‪ .‬فلم يزل يطوف به‬
‫حتى أنزل ال الطوفان ‪ ،‬فرفعت تلك الياقوتة ‪ ،‬حتى بعث ال إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فبناه‪ .‬وذلك‬
‫قول ال تعالى ‪ { :‬وَإِذْ َبوّأْنَا لبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ } [ الحج ‪.)8( ] 26 :‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا ابن جريج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬قال آدم ‪ :‬إني ل أسمع أصوات‬
‫الملئكة ؟! قال ‪ :‬بخطيئتك ‪ ،‬ولكن اهبط إلى الرض ‪ ،‬فابن لي بيتًا ثم احفف به ‪ ،‬كما رأيت‬
‫الملئكة تحف ببيتي الذي في السماء‪ .‬فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل ‪ :‬من حراء‪ .‬وطور‬
‫زيتا ‪ ،‬وطور سَيْناء ‪ ،‬وجبل لبنان ‪ ،‬والجودي‪ .‬وكان رَ َبضُه من حراء‪ .‬فكان هذا بناء آدم ‪ ،‬حتى‬
‫بناه إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بعد (‪.)9‬‬
‫وهذا صحيح إلى عطاء ‪ ،‬ولكن في بعضه نكارَة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق أيضًا ‪ :‬أخبرنا معمر ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬قال ‪ :‬وضع ال البيت مع آدم حين أهبط ال‬
‫آدم إلى الرض ‪ ،‬وكان مهبطه بأرض الهند‪ .‬وكان رأسه في السماء ورجله في الرض ‪ ،‬فكانت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬يطلب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬إلى هذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬عبد الرزاق أيضا وأحمد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬قالوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/78‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فهابت"‪.‬‬
‫(‪ )8‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )3/59‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )3/57‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬

‫( ‪)1/433‬‬

‫الملئكة تهابه ‪ ،‬فنُقص إلى ستين ذراعًا ؛ فحزن (‪ )1‬إذ فقد أصوات الملئكة وتسبيحهم‪ .‬فشكا‬
‫ذلك إلى ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬فقال ال ‪ :‬يا آدم ‪ ،‬إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما ُيطَاف حول‬
‫عرشي ‪ ،‬وتصلّي عنده كما يصلى عند عرشي ‪ ،‬فانطلق إليه آدم ‪ ،‬فخرج ومُدّ له في خطوه ‪،‬‬
‫فكان بين كل خطوتين مفازة‪ .‬فلم تزل تلك المفازة (‪ )2‬بعد ذلك‪ .‬فأتى آدم البيت فطاف به ‪ ،‬ومَن‬
‫بعده من النبياء (‪.)3‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن حميد (‪ )4‬حدثنا يعقوب ال ُقمّي ‪ ،‬عن حفص بن حميد ‪ ،‬عن عكرمة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬وضع ال البيت على أركان الماء ‪ ،‬على أربعة أركان ‪ ،‬قبل أن ُتخْلَق‬
‫الدنيا بألفي عام ‪ ،‬ثم دحِيت الرض من تحت البيت‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني [عبد ال] (‪ )5‬بن أبي نَجِيح ‪ ،‬عن مجاهد وغيره من أهل العلم ‪:‬‬
‫أن ال لما َبوّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ‪ ،‬وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر ‪،‬‬
‫وإسماعيل طفل صغير يرضع ‪ ،‬وحمُلوا ‪ -‬فيما حدثني ‪ -‬على البُرَاق ‪ ،‬ومعه جبريل َيدُلّه على‬
‫موضع البيت ومعالم الحَرم‪ .‬وخرج معه جبريل ‪ ،‬فكان ل يمر بقرية إل قال ‪ :‬أبهذه أمرت يا‬
‫سمُر ‪ ،‬وبها أناس‬
‫سلَم وَ َ‬
‫جبريل ؟ فيقول جبريل ‪ :‬امضِه‪ .‬حتى قدم به مكة ‪ ،‬وهي إذ ذاك عضَاة َ‬
‫يقال لهم ‪" :‬العماليق" خارج مكة وما حولها‪ .‬والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة ‪ ،‬فقال إبراهيم‬
‫لجبريل ‪ :‬أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ‪،‬‬
‫سكَ ْنتُ مِنْ ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ‬
‫وأمر هاجَرَ أمّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا ‪ ،‬فقال ‪ { :‬رَبّنَا (‪ )6‬إِنّي أَ ْ‬
‫شكُرُونَ } [ إبراهيم ‪.] 37 :‬‬
‫ذِي زَ ْرعٍ عِنْدَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ } إلى قوله ‪َ { :‬لعَّلهُمْ َي ْ‬
‫حمَيد ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬خلق ال موضعَ‬
‫حسّان ‪ ،‬أخبرني ُ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا هشام بن َ‬
‫هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة ‪ ،‬وأركانه في الرض السابعة (‪.)7‬‬
‫وكذا قال ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن مجاهد ‪ :‬القواعد في الرض السابعة‪.‬‬
‫عمْرو بن رافع ‪ ،‬أخبرنا (‪ )8‬عبد الوهاب بن معاوية ‪،‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا َ‬
‫عن عبد المؤمن بن خالد ‪ ،‬عن علياء بن أحمر ‪ :‬أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل‬
‫يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل‪ .‬فقال ‪ :‬ما لكما ولرضي ؟ فقال (‪ )9‬نحن عبدان مأموران ‪،‬‬
‫أمرنا ببناء هذه الكعبة‪ .‬قال ‪ :‬فهاتا بالبينة على ما تدعيان‪ .‬فقامت خمسة أكبش ‪ ،‬فقلن ‪ :‬نحن‬
‫نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ‪ ،‬أمرا ببناء هذه الكعبة‪ .‬فقال ‪ :‬قد رضيت وسلمت‪.‬‬
‫ثم مضى‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬فحزن آدم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬المفاوز"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )3/59‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬حدثنا أبو حميد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬رب" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )3/62‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/434‬‬
‫و َذكَرَ الزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بالبيت ‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على تقدم زمانه (‪ ، )1‬وال أعلم‪.‬‬
‫سمَاعِيلُ } الية‬
‫ت وَإِ ْ‬
‫وقال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬قوله تعالى ‪ { :‬وَِإذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ‬
‫‪ :‬القواعد ‪ :‬أساسه واحدها قاعدة‪ .‬والقواعد من النساء ‪ :‬واحدتها قاعدُ‪.‬‬
‫حدثنا إسماعيل ‪ ،‬حدثني مالك ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن سالم بن عبد ال ‪ :‬أن عبد ال بن محمد بن‬
‫عمَر ‪ ،‬عن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أن رسول ال‬
‫أبي بكر أخبر عبد ال بن ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ألم تَ َريْ أن قومك حين بنوا البيت (‪ )2‬اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟"‬
‫فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أل تَ ُردّها على قواعد إبراهيم ؟ قال ‪" :‬لول حِدْثان قومك بالكفر"‪ .‬فقال عبد‬
‫ال بن عمر ‪ :‬لئن كانت عائشة سَمعت هذا (‪ )3‬من رسول ال صلى ال عليه وسلم ما أرى‬
‫حجْر إل أن البيت لم يُ َتمّم على‬
‫رسُولَ ال صلى ال عليه وسلم ترك استلم الرّكنين اللذَين َيلِيان ال ِ‬
‫قواعد إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم (‪.)4‬‬
‫وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي ‪ ،‬وفي أحاديث النبياء عن عبد ال بن يوسف‪ .‬ومسلم عن يحيى‬
‫بن يحيى ‪ ،‬ومن حديث ابن وهب‪ .‬والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ‪ ،‬كلهم عن مالك به‬
‫(‪.)5‬‬
‫ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت عبد ال بن أبي بكر بن أبي قُحَافة يحدث عبدَ‬
‫عمَر ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لول أن قومك حديثو عهد‬
‫ال بن ُ‬
‫بجاهلية ‪ -‬أو قال ‪ :‬بكفر ‪ -‬لنفقت كنز الكعبة في سبيل ال ‪ ،‬ولجعلت بابها بالرض ‪ ،‬ولدخلت‬
‫فيها الحجر" (‪.)6‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬حدثنا عُبَيد ال بن موسى ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن السود ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قال لي ابنُ الزبير ‪ :‬كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا ‪ ،‬فما حدثتك في الكعبة ؟ قال قلت ‪ :‬قالت‬
‫لي ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا عائشة ‪ ،‬لول قومك حديث عهدهم ‪ -‬فقال ابن الزبير ‪:‬‬
‫بكفر ‪ -‬لنقضت الكعبة ‪ ،‬فجعلت لها بابين ‪ :‬بابًا يدخل منه الناس ‪ ،‬وبابًا يخرجون"‪ .‬ففعله ابن‬
‫الزبير‪.‬‬
‫انفرد بإخراجه البخاري ‪ ،‬فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه (‪.)7‬‬
‫وقال مسلم في صحيحه ‪ :‬حدثنا يحيى بن يحيى ‪ ،‬أخبرنا أبو معاوية ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لول حَدَاثة عهد قومك بالكفر‬
‫لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ‪ ،‬فإن قريشا حين بنت البيت (‪ )8‬استقصرت ‪،‬‬
‫ولجعلت لها خَ ْلفًا"‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تاريخ مكة (ص ‪.)74‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬بنوا الكعبة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬سمعت ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4484‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )3368 ، 1585‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1333‬وسنن النسائي (‬
‫‪.)5/214‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪.)126‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬بنت الكعبة"‪.‬‬

‫( ‪)1/435‬‬

‫قال ‪ :‬وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب ‪ ،‬قال حدثنا ابن ُنمَير ‪ ،‬عن هشام بهذا السناد‪.‬‬
‫انفرد به مسلم (‪ ، )1‬قال ‪ :‬وحدثني محمد بن حاتم ‪ ،‬حدثني ابن مهدي ‪ ،‬حدثنا سليم بن حَيّان ‪،‬‬
‫عن سعيد ‪ -‬يعني ابن ميناء ‪ -‬قال ‪ :‬سمعت عبد ال بن الزبير يقول ‪ :‬حدثتني خالتي ‪ -‬يعني‬
‫عائشة رضي ال عنها ‪ -‬قالت ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا عائشة ‪ ،‬لول قومك حديث‬
‫عهْد (‪ )2‬بشرك ‪ ،‬لهدمت الكعبة ‪ ،‬فألزقتها بالرض ‪ ،‬ولجعلت لها بابين ‪ :‬بابًا شرقيّا ‪ ،‬وبابًا‬
‫َ‬
‫غربيّا ‪ ،‬وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر ؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضًا‬
‫(‪ .)3‬ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بمدد (‪ )4‬طويلة‬
‫وقبل مبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بخمس سنين‬
‫وقد نقل معهم في الحجارة ‪ ،‬وله من العمر خمس وثلثون سنة‬
‫صلوات ال وسلمه عليه دائمًا إلى يوم الدين‬
‫قال محمد بن إسحاق بن يسار ‪ ،‬في السيرة ‪:‬‬
‫ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم خمسًا وثلثين سنة ‪ ،‬اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ‪،‬‬
‫وكانوا َي ُهمّون بذلك (‪ )5‬ليسقفوها ‪ ،‬ويهابون هَدْمها ‪ ،‬وإنما كانت رَضما فوق القامة ‪ ،‬فأرادوا‬
‫جوْف الكعبة ‪،‬‬
‫رفعها وتسقيفها ‪ ،‬وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة ‪ ،‬وإنما كان يكون في بئر في َ‬
‫وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك ‪ ،‬مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة ‪ ،‬فقطعت قريش يده‪.‬‬
‫جدّة ‪ ،‬لرجل‬
‫ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك‪ .‬وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى ُ‬
‫من تجار الروم ‪ ،‬فتحطمت ‪ ،‬فأخذوا خشبها فأعدّوه لتسقيفها‪ .‬وكان بمكة رجل قبطي نجار ‪ ،‬فهيأ‬
‫لهم ‪ ،‬في أنفسهم بعض ما يصلحها ‪ ،‬وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ ‪ ،‬فيها ما‬
‫ُيهْدَى ‪ 0‬لها كل يوم ‪ ،‬فَتَتشرق (‪ )6‬على جدار الكعبة ‪ ،‬وكانت مما يهابون‪ .‬وذلك أنه كان ل يدنو‬
‫منها أحد إل احزَألّت وكشت وفتحت فاها ‪ ،‬فكانوا يهابونها ‪ ،‬فبينا هي يوما تَتَشرّق على جدار‬
‫الكعبة ‪ ،‬كما كانت تصنع ‪ ،‬بعث ال إليها طائرًا فاختطفها ‪ ،‬فذهب بها‪ .‬فقالت قريش ‪ :‬إنا لنرجو‬
‫أن يكون ال قد رَضي ما أردنا ‪ ،‬عندنا عامل رفيق ‪ ،‬وعندنا خشب ‪ ،‬وقد كفانا ال الحية‪.‬‬
‫عمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن‬
‫فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ‪ ،‬قام أبو وهب بن َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬حديث عهدهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بمدة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬لذلك"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فتشرف"‪.‬‬

‫( ‪)1/436‬‬

‫مخزوم ‪ ،‬فتناول من الكعبة حجرًا ‪ ،‬فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه‪ .‬فقال ‪ :‬يا معشر قريش‬
‫‪ ،‬ل تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إل طيبًا ‪ ،‬ل يدخل فيها مهر َبغِي ول بيع ربا ‪ ،‬ول مظلمة أحد‬
‫من الناس‪.‬‬
‫عمَر (‪ )1‬بن مَخزُوم‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬والناس ينحلون هذا الكلم الوليد بن المغيرة بن عبد ال بن ُ‬
‫(‪.)2‬‬
‫قال ‪ :‬ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة ‪ ،‬فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ‪ ،‬وكان ما بين الركن‬
‫السود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ‪ ،‬وكان ظهر الكعبة لبني‬
‫جمَح وسهم ‪ ،‬وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي ‪ ،‬ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي ‪،‬‬
‫ُ‬
‫ولبني عدي بن كعب بن لؤي ‪ ،‬وهو الحَطيم‪.‬‬
‫ثم إن الناس هابوا َهدْمها وفَرقُوا (‪ )3‬منه ‪ ،‬فقال الوليد بن المغيرة ‪ :‬أنا أبدؤكم في هَدْمها ‪ :‬فأخذ‬
‫المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول ‪ :‬اللهم لم تَرعْ ‪ ،‬اللهم إنا ل نريد إل الخير‪ .‬ثم هدم من ناحية‬
‫الركنين ‪ ،‬فتربص الناس تلك الليلة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ننظر ‪ ،‬فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ‪ ،‬ورددناها‬
‫كما كانت ‪ ،‬وإن لم يصبه شيء فقد رضي ال ما صنعنا‪ .‬فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على‬
‫عمَله ‪ ،‬فهدم وهدم الناس معه ‪ ،‬حتى إذا انتهى الهدم [بهم] (‪ )4‬إلى الساس ‪ ،‬أساس إبراهيم ‪،‬‬
‫َ‬
‫عليه السلم ‪ ،‬أفضوا إلى حجارة خضر كالسنة آخذ بعضها بعضًا (‪.)5‬‬
‫قال [محمد بن إسحاق] (‪ )6‬فحدثني بعض من يروي الحديث ‪ :‬أن رجل من قريش ‪ ،‬ممن كان‬
‫يهدمها ‪ ،‬أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ‪ ،‬فلما تحرك الحجر تنقضت مكة‬
‫بأسرها ‪ ،‬فانتهوا عن ذلك الساس (‪.)7‬‬
‫جمَعت الحجارة لبنائها ‪ ،‬كل قبيلة تجمع على حدة ‪ ،‬ثم‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬ثم إن القبائل من قريش َ‬
‫بنوها ‪ ،‬حتى بلغ البنيان موضع الركن ‪ -‬يعني الحجر السود ‪ -‬فاختصموا فيه ‪ ،‬كل قبيلة تريد‬
‫أن ترفعه إلى موضعه دون الخرى ‪ ،‬حتى تحاوروا وتخالفوا ‪ ،‬وأعدوا للقتال‪ .‬فقربت بنو عبد‬
‫الدار جفنة مملوءة دما ‪ ،‬ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ‪ ،‬وأدخلوا أيديهم‬
‫في ذلك الدم في تلك الجفنة ‪ ،‬فسموا ‪ :‬ل َعقَة الدم‪ .‬فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا‪ .‬ثم‬
‫إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا‪.‬‬
‫عمَر بن مخزوم ‪ -‬وكان عامئذ‬
‫فزعم بعض أهل الرواية ‪ :‬أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد ال بن ُ‬
‫أسن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬الوليد بن المغيرة بن عمر بن عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬السيرة النبوية لبن إسحاق (نص رقم ‪ )103‬ط ‪ ،‬حميد ال ‪ ،‬المغرب‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وخافوا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬السيرة النبوية لبن إسحاق (نص رقم ‪ )105‬ط ‪ ،‬حميد ال ‪ ،‬المغرب‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )7‬السيرة النبوية لبن إسحاق (نص رقم ‪ )106‬ط ‪ ،‬حميد ال ‪ ،‬المغرب‪.‬‬

‫( ‪)1/437‬‬

‫قريش كلهم ‪ -‬قال (‪ : )1‬يا معشر قريش ‪ ،‬اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب‬
‫هذا المسجد ‪ ،‬يقضي بينكم ‪ ،‬فيه‪ .‬ففعلوا ‪ ،‬فكان أول داخل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فلما‬
‫رأوه قالوا ‪ :‬هذا المين رضينا ‪ ،‬هذا محمد ‪ ،‬فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ‪ ،‬قال [رسول ال] (‬
‫‪ )2‬صلى ال عليه وسلم ‪" :‬هَُل ّم إليّ ثوبًا" فأتي به ‪ ،‬فأخذ الركن ‪ -‬يعني الحجر السود ‪ -‬فوضعه‬
‫فيه بيده ‪ ،‬ثم قال ‪" :‬لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب" ‪ ،‬ثم [قال] (‪" : )3‬ارفعوه جميعا"‪ .‬ففعلوا ‪،‬‬
‫حتى إذا بلغوا به موضعه ‪ ،‬وضعه هو بيده صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم بنى عليه‪.‬‬
‫وكانت قريش تسمي رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي ‪ :‬المين‪ .‬فلما‬
‫فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ‪ ،‬قال الزبير بن عبد المطلب ‪ ،‬فيما كان من أمر الحية‬
‫التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها ‪:‬‬
‫عجبت َلمَا تصوبت (‪ )4‬ال ُعقَاب‪ ...‬إلى الثعبان وهي لها اضطراب‪...‬‬
‫وقد كانت يكون لها كشيش‪ ...‬وأحيانًا يكون لها وثَاب‪...‬‬
‫شدّت‪ُ ...‬تهَيّبُنُا البناءَ وقد ُتهَابُ‪...‬‬
‫إذا قمنا إلى التأسيس َ‬
‫خشِينا الزّجْرَ جاءت‪ ...‬عقاب تَتْلَ ِئبّ لها انصباب‪...‬‬
‫فلما أن َ‬
‫خلّت‪ ...‬لنا البنيانَ ليس له حجاب‪...‬‬
‫فضمتها إليها ثم َ‬
‫َفقُمْنَا حاشدين إلى بناء‪ ...‬لنا منه القواعدُ والتراب‪...‬‬
‫سوّينا ثياب‪...‬‬
‫غداة نُ َرفّع التأسيس منه‪ ...‬وليس على ُم َ‬
‫أعَزّ به المليكُ بني لُؤي‪ ...‬فليسَ لصله م ْنهُم ذَهاب‪...‬‬
‫حشَ َدتْ هُنَاك بنو عَديّ‪ ...‬ومُرّة قد َتقَ ّدمَها كلب‪...‬‬
‫وقد َ‬
‫فَ َبوّأنا المليك بذاكَ عزّا‪ ...‬وعند ال ُيلْ َتمَسُ الثواب‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وكانت الكعبة على عهد النبي صلى ال عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا ‪ ،‬وكانت‬
‫تكسى القباطي ‪ ،‬ثم كُسِيت بعدُ البُرود ‪ ،‬وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت (‪ )5‬في أول إمارة عبد ال بن الزبير بعد سنة‬
‫ستين‪ .‬وفي آخر ولية يزيد بن معاوية ‪ ،‬لما حاصروا ابن الزبير ‪ ،‬فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى‬
‫الرض وبناها على قواعد إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيّا وبابًا‬
‫غربيّا ملصقين‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬صوبت"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬احترقت"‪.‬‬

‫( ‪)1/438‬‬

‫بالرض ‪ ،‬كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬عن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ .‬ولم تزل كذلك ُمدّة إمارته حتى قتله الحجاج ‪ ،‬فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد‬
‫الملك بن مَرْوان له بذلك ‪ ،‬كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه ‪:‬‬
‫حدثنا هَنّاد بن السّري ‪ ،‬حدثنا ابن أبي زائدة ‪ ،‬أخبرنا ابن أبي سليمان ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬لما‬
‫احترق البيت َزمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ‪ ،‬وكان من أمره ما كان ‪ ،‬تركه ابن‬
‫الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن ُيجَرّئَهم ‪ -‬أو يُحزبهم ‪ -‬على أهل الشام ‪ ،‬فلما صدر الناس‬
‫قال ‪ :‬يا أيها الناس ‪ ،‬أشيروا عليّ في الكعبة ‪ ،‬أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها ؟‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬فإني (‪ )1‬قد فَرِقَ لي رأي فيها ‪ ،‬أرى أن ُتصْلِحَ ما وَهى منها ‪ ،‬وتدع بيتًا أسلم‬
‫الناس عليه (‪ )2‬وأحجارًا أسلم الناس عليها ‪ ،‬وبعث عليها النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال ابن‬
‫الزبير ‪ :‬لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ‪ ،‬فكيف بيت ربكم ‪ ،‬عز وجل ؛ إني‬
‫مستخير ربي ثلثًا ثم عازم على أمري‪ .‬فلما مضَت ثلث أجمع رأيه على أن ينقضها‪ .‬فتحاماها‬
‫الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء ‪ ،‬حتى صعده رجل ‪ ،‬فألقى منه حجارة ‪،‬‬
‫فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا ‪ ،‬فنقضوه حتى بلغوا به الرض‪ .‬فجعل ابن الزبير أعمدة‬
‫يستر (‪ )3‬عليها الستور ‪ ،‬حتى ارتفع بناؤه‪ .‬وقال ابن الزبير ‪ :‬إني سمعت عائشة ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنها ‪ ،‬تقول ‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬لول أن الناس حديث عهدُهم بكفر ‪ ،‬وليس‬
‫عندي من النفقة ما ُيقَوّيني على بنائه ‪ ،‬لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ‪ ،‬ولجعلت له بابًا‬
‫يدخل الناس منه ‪ ،‬وبابًا يخرجون منه (‪ .)4‬قال ‪ :‬فأنا أجد ما أنفق ‪ ،‬ولست أخاف الناس‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فزاد فيه خمسة (‪ )5‬أذرع من الحجر ‪ ،‬حتى أبدى له أسا (‪َ )6‬نظَر الناس إليه فبنى عليه البناء‪.‬‬
‫وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ‪ ،‬فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة (‪ )7‬أذرع ‪،‬‬
‫وجعل له بابين ‪ :‬أحدهما يدخل منه ‪ ،‬والخر يخرج منه‪ .‬فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجّاج إلى‬
‫عبد الملك يخبره بذلك ‪ ،‬ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل‬
‫مكة ‪ ،‬فكتب إليه عبد الملك ‪ :‬إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ‪ ،‬أما ما زاده في طوله‬
‫فأقره‪ .‬وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ‪ ،‬وسد الباب الذي فتحه‪ .‬فنقضه وأعاده إلى بنائه‬
‫(‪.)8‬‬
‫وقد رواه النسائي في سننه ‪ ،‬عن هناد ‪ ،‬عن يحيى بن أبي زائدة ‪ ،‬عن عبد الملك بن أبي‬
‫سليمان ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن الزبير ‪ ،‬عن عائشة بالمرفوع منه (‪ .)9‬ولم يذكر القصة ‪ ،‬وقد‬
‫كانَت السنة إقرار ما فعله عبد ال بن الزبير ‪ ،‬رضي ال عنه ؛ لنه هو الذي وَدّه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬ولكن خشي أن تنكره‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فإنه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬عليها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فستر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وبابا يخرج الناس منه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬خمس"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أساسا" وفي أ ‪" :‬أشيا" وفي و ‪" :‬أشا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬عشر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬
‫(‪ )9‬سنن النسائي (‪.)5/218‬‬

‫( ‪)1/439‬‬
‫قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالسلم وقربِ عهدهم من الكفر‪ .‬ولكن خفيت هذه السّنةُ على‬
‫عبد الملك ؛ ولهذا (‪ )1‬لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬وددنا أنا تركناه وما تولى‪ .‬كما قال مسلم ‪:‬‬
‫حدثني محمد بن حاتم (‪ )2‬حدثنا محمد بن بكر (‪ )3‬أخبرنا ابن جُرَيج ‪ ،‬سمعت عبد ال بن عُبَيد‬
‫بن عمير والوليد بن عطاء ‪ ،‬يحدثان عن الحارث بن عبد ال بن أبي ربيعة ‪ ،‬قال عبد ال بن‬
‫عبيد ‪َ :‬وفَدَ الحارث بن عبد ال على عبد الملك بن مروان في خلفته ‪ ،‬فقال عبد الملك ‪ :‬ما أظن‬
‫أبا خُبَيبٍ ‪ -‬يعني ابن الزبير ‪ -‬سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها‪ .‬قال الحارث ‪:‬‬
‫بلى ‪ ،‬أنا سمعته منها‪ .‬قال ‪ :‬سمعتها تقول ماذا ؟ قال ‪ :‬قالت ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬إن قومك استقصروا من بنيان البيت ‪ ،‬ولول حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ‪،‬‬
‫فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه َفهَُلمّي لريك ما تركوا منه"‪ .‬فأراها قريبًا من سبعة (‪ )4‬أذرع (‬
‫‪.)5‬‬
‫هذا حديث عبد ال بن عُبيد [بن عمير] (‪ .)6‬وزاد عليه الوليد بن عطاء ‪ :‬قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ولجعلت لها بابين موضوعين في الرض شرقيّا وغربيّا ‪ ،‬وهل تدرين لم كان قومك‬
‫رفعوا بابها ؟" قالت ‪ :‬قلت ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪َ " :‬تعَزّزًا أل يدخلها إل من أرادوا‪ .‬فكان الرجل إذا هو أراد‬
‫أن يدخلها ‪ ،‬يَدَعونه حتى (‪ )7‬يرتقي ‪ ،‬حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك ‪ :‬فقلت‬
‫ت أني‬
‫للحارث ‪ :‬أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فَ َن َكتَ ساعة بعصاه ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬وَدِ ْد ُ‬
‫حمّل‪.‬‬
‫تركت وما َت َ‬
‫حمَيْد ‪،‬‬
‫قال مسلم ‪ :‬وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ‪ ،‬حدثنا أبو عاصم(ح) وحدثنا عَبْدُ بن ُ‬
‫أخبرنا عبد الرزاق ‪ ،‬كلهما عن ابن جُرَيج بهذا السناد ‪ ،‬مثلَ حديث ابن (‪ )8‬بكر (‪.)9‬‬
‫قال ‪ :‬وحدثني محمد بن حاتم ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن بكر السهمي ‪ ،‬حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة ‪ ،‬عن‬
‫أبي قَزَعَة أنّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال ‪ :‬قاتل ال ابن الزبير حيث‬
‫يكذب على أمّ المؤمنين ‪ ،‬يقول ‪ :‬سمعتها تقول ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا‬
‫ن قومك‬
‫عائشة ‪ ،‬لول حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها (‪ )10‬من الحجر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫قصروا في البناء"‪ .‬فقال الحارث بن عبد ال بن أبي ربيعة ‪ :‬ل تقل هذا يا أمير المؤمنين ‪ ،‬فأنا‬
‫سمعت أم المؤمنين تحدث هذا‪ .‬قال ‪ :‬لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير‬
‫(‪.)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬ولكن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬محمد بن بكر حاتم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬بن بكير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬سبع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬حين"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬مثل حديث أبي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيه"‪.‬‬
‫(‪ )11‬صحيح مسلم برقم (‪.)1333‬‬

‫( ‪)1/440‬‬

‫فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬لنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة متعددة‬
‫عن السود بن يزيد ‪ ،‬والحارث بن عبد ال بن أبي ربيعة ‪ ،‬وعبد ال بن الزبير ‪ ،‬وعبد ال بن‬
‫محمد بن أبي بكر الصديق ‪ ،‬وعروة بن الزبير‪ .‬فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير‪ .‬فلو‬
‫ترك لكان جيدًا‪.‬‬
‫ولكن بعد ما رجع المر إلى هذا الحال ‪ ،‬فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله ‪ ،‬كما ذكر عن‬
‫أمير المؤمنين هارون الرشيد ‪ -‬أو أبيه المهدي ‪ -‬أنه سأل المام مالكًا عن هدم الكعبة وردّها إلى‬
‫ما فعله ابن الزبير‪ .‬فقال له مالك ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬ل تجعل كعبة ال مَ ْلعَبَة للملوك ‪ ،‬ل يشاء‬
‫أحد (‪ )1‬أن يهدمها إل هدمها‪ .‬فترك ذلك الرشيد‪.‬‬
‫نقله عياض والنواوي ‪ ،‬ول تزال ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬هكذا إلى آخر الزمان ‪ ،‬إلى أن يخرّبَها ذو‬
‫السويقتين من الحبشة ‪ ،‬كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫سوَيقتين من الحبشة"‪ .‬أخرجاه (‪.)2‬‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬يخرب الكعبة ذو ال ّ‬
‫وعن عبد ال بن عباس ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬كأني به‬
‫ج ‪ ،‬يقلعها حجرًا حجرًا"‪ .‬رواه البخاري (‪.)3‬‬
‫أسودَ أفحَ َ‬
‫وقال المام أحمد بن حنبل في مسنده ‪ :‬حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرّاني ‪ ،‬حدثنا محمد بن‬
‫سلمة ‪ ،‬عن ابن إسحاق ‪ ،‬عن بن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو بن العاص ‪،‬‬
‫رضي ال عنهما (‪ )4‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ُ " :‬يخَرّب الكعبة ذو‬
‫السويقتين من الحبشة ‪ ،‬ويسلبها حلْيتها (‪ )5‬ويجردها من كسوتها‪ .‬ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ‬
‫يضرب عليها ِب ِمسْحَاته ومِعْوله" (‪.)6‬‬
‫الفَدَع ‪ :‬زيغ بين القدم وعظم الساق‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ‪ ،‬لما جاء في صحيح (‪ )7‬البخاري‬
‫عن أبي سعيد الخدري ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل ُيحَجّنّ‬
‫البيتُ ول ُيعْ َتمَرَنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" (‪.)8‬‬
‫ك َومِنْ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َل َ‬
‫وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ‪ ،‬عليهما السلم ‪ { :‬رَبّنَا وَا ْ‬
‫سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }‬
‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ل يشاء ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )1596‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2909‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)1595‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عنه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ويسلبها قال حليتها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)2/220‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬في حديث"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪.)1593‬‬

‫( ‪)1/441‬‬

‫قال ابن جرير ‪ :‬يعنيان بذلك ‪ ،‬واجعلنا مستسلمين (‪ )1‬لمرك ‪ ،‬خاضعين لطاعتك ‪ ،‬ل نشرك‬
‫معك في الطاعة أحدًا سواك ‪ ،‬ول في العبادة غيرك‪.‬‬
‫حصْني القرشي ‪ ،‬حدثنا‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان ال ِ‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َلكَ } قال ‪ :‬مخلصين لك ‪َ { ،‬ومِنْ ذُرّيّتِنَا‬
‫معقل بن عبيد ال ‪ ،‬عن عبد الكريم ‪ { :‬وَا ْ‬
‫ُأمّةً مُسِْل َمةً َلكَ } قال ‪ :‬مخلصة‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا علي بن الحسين ‪ ،‬حدثنا المقدمي ‪ ،‬حدثنا سعيد بن عامر ‪ ،‬عن سلم بن أبي‬
‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ } قال ‪ :‬كانا مسلمين ‪ ،‬ولكنهما سأله الثبات‪.‬‬
‫مطيع في هذه الية { وَا ْ‬
‫جعَلْنَا ُمسِْلمَيْنِ َلكَ } قال ال ‪ :‬قد فعلت‪َ { .‬ومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َلكَ }‬
‫وقال عكرمة ‪ { :‬رَبّنَا وَا ْ‬
‫قال ال ‪ :‬قد فعلت‪.‬‬
‫وقال السدي ‪َ { :‬ومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً ُمسِْلمَةً َلكَ } يعنيان العرب‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬والصواب أنه يعمّ العرب وغيرهم ؛ لن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ‪ ،‬وقد‬
‫ق وَبِهِ َيعْ ِدلُونَ } [ العراف ‪] 159 :‬‬
‫حّ‬‫قال ال تعالى ‪َ { :‬ومِنْ َقوْمِ مُوسَى ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬
‫قلت ‪ :‬وهذا الذي قاله ابن جرير ل ينفيه السدي ؛ فإن تخصيصهم بذلك ل ينفي من عداهم ‪،‬‬
‫والسياق إنما هو في العرب ؛ ولهذا قال بعده ‪ { :‬رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ َرسُول مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَا ِتكَ‬
‫ح ْكمَ َة وَيُ َزكّيهِمْ } الية ‪ ،‬والمراد بذلك محمّد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقد بعث‬
‫وَ ُيعَّلمُهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬
‫فيهم كما قال تعالى ‪ُ { :‬هوَ الّذِي َب َعثَ فِي المّيّينَ رَسُول مِ ْنهُمْ } [ الجمعة ‪ ] 2 :‬ومع هذا ل ينفي‬
‫جمِيعًا }‬
‫رسالته إلى الحمر والسود ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي َرسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ‬
‫[ العراف ‪ ، ] 158 :‬وغير ذلك من الدلة القاطعة‪.‬‬
‫وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ‪ ،‬عليهما السلم ‪ ،‬كما أخبر ال تعالى عن عباده المتقين‬
‫جعَلْنَا‬
‫ن وَا ْ‬
‫المؤمنين ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬وَالّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا َهبْ لَنَا مِنْ أَ ْزوَاجِنَا َوذُرّيّاتِنَا قُ ّرةَ أَعْيُ ٍ‬
‫لِ ْلمُ ّتقِينَ ِإمَامًا } [ الفرقان ‪ .] 74 :‬وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا ‪ ،‬فإن من تمام محبة عبادة ال‬
‫تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد ال وحده ل شريك له ؛ ولهذا لما قال ال تعالى‬
‫عهْدِي‬
‫لبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ { :‬إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا } قال ‪َ { :‬ومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ‬
‫الظّاِلمِينَ } وهو قوله ‪ { :‬وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَنْ َنعْ ُب َد الصْنَامَ } [ إبراهيم ‪ .] 35 :‬وقد ثبت في صحيح‬
‫مسلم ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬إذا مات ابن‬
‫آدم انقطع عمله إل من ثلث ‪ :‬صدقة جارية ‪ ،‬أو علم ينتفع به ‪ ،‬أو ولد صالح يدعو له" (‪)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬واجعلنا مسلمين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)1631‬‬

‫( ‪)1/442‬‬

‫ح ْكمَ َة وَيُ َزكّيهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ‬


‫ك وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ‬
‫رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آَيَا ِت َ‬
‫حكِيمُ (‪)129‬‬
‫الْ َ‬

‫سكَنَا } أخرجها لنا ‪ ،‬عَّلمْنَاها (‪.)1‬‬


‫" وأرنا مناسكنا " قال ابن جُريج ‪ ،‬عن عطاء { وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫سكَنَا } مذابحنا‪ .‬ورُوى عن عطاء أيضًا ‪ ،‬وقتادة نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال مجاهد { وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫وقال سعيد بن منصور ‪ :‬حدثنا عتاب بن بشير ‪ ،‬عن خُصيف ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬قال إبراهيم ‪:‬‬
‫"أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل ‪ ،‬فأتى به البيت ‪ ،‬فقال ‪ :‬ارفع القواعد‪ .‬فرفع القواعد وأتم البنيان ‪ ،‬ثم‬
‫أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا من شعائر ال‪ .‬ثم انطلق به إلى المروة ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬وهذا من شعائر ال ؟‪ .‬ثم انطلق به نحو (‪ )2‬مِنًى ‪ ،‬فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند‬
‫الشجرة ‪ ،‬فقال ‪ :‬كَبّر وارمه‪ .‬فكبر ورماه‪ .‬ثم انطلق (‪ )3‬إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ‪ ،‬فلما‬
‫جاز به (‪ )4‬جبريل وإبراهيم قال له ‪ :‬كبر وارمه‪ .‬فكبر ورماه‪ .‬فذهب إبليس وكان الخبيث أراد‬
‫أن يُ ْدخِل في الحج شيئًا فلم يستطع ‪ ،‬فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا‬
‫المشعر الحرام‪ .‬فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات‪ .‬قال ‪ :‬قد عرفت ما أريتك ؟ قالها ‪ :‬ثلث‬
‫مرار‪ .‬قال ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وروي عن أبي مِجْلز وقتادة نحو ذلك‪ .‬وقال أبو داود الطيالسي ‪ :‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن أبي‬
‫العاصم الغنوي ‪ ،‬عن أبي الطفيل ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬إن إبراهيم لما أريَ أوامر المناسك ‪،‬‬
‫عرض له الشيطان عند المسعى ‪ ،‬فسابقه إبراهيم ‪ ،‬ثم انطلق به جبريل حتى أتى (‪ )5‬به منى ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬مُنَاخ الناس هذا‪ .‬فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان ‪ ،‬فرماه بسبع حصيات‬
‫حتى ذهب ‪ ،‬ثم أتى به الجمرة الوسطى ‪ ،‬فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات ‪ ،‬حتى ذهب ‪،‬‬
‫ثم أتى به الجمرة القصوى ‪ ،‬فعرض له الشيطان ‪ ،‬فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ‪ ،‬فأتى به‬
‫ج ْمعًا‪ .‬فقال ‪ :‬هذا المشعر‪ .‬ثم أتى به عرفة‪ .‬فقال ‪ :‬هذه عرفة‪ .‬فقال له جبريل ‪ :‬أعرفت ؟ (‪.)6‬‬
‫َ‬
‫ح ْكمَ َة وَيُ َزكّيهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫ك وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫{ رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ َرسُول مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَا ِت َ‬
‫حكِيمُ (‪} )129‬‬
‫ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لهل الحرم ‪ -‬أن يبعث ال فيهم رسول منهم ‪ ،‬أي من‬
‫ذرية إبراهيم‪ .‬وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ ال السابق في تعيين محمد ‪ -‬صلوات ال‬
‫وسلمه عليه (‪ - )7‬رسول في الميين إليهم ‪ ،‬إلى سائر العجمين ‪ ،‬من النس والجن ‪ ،‬كما قال‬
‫سوَيد‬
‫المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬حدثنا معاوية بن صالح ‪ ،‬عن سعيد بن ُ‬
‫الكلبي ‪ ،‬عن عبد العلى بن هلل السلمي ‪ ،‬عن العرباض بن سارية قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬إني عند ال لخاتم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وعلمناها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬إلى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فانطلق"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬فلما حاذاه" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬فلما حاذى به"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬حتى أراه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬مسند الطيالسي برقم (‪.)2697‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/443‬‬

‫النبيين ‪ ،‬وإن آدم لمنجدل في طينته ‪ ،‬وسأنبئكم بأول ذلك ‪ ،‬دعوة أبي إبراهيم ‪ ،‬وبشارة عيسى بي‬
‫‪ ،‬ورؤيا أمي التي رأت ‪ ،‬وكذلك أمهات النبيين (‪ )1‬يَرَيْنَ" (‪.)2‬‬
‫وكذلك (‪ )3‬رواه ابن وهب ‪ ،‬والليث ‪ ،‬وكاتبه عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن معاوية بن صالح ‪ ،‬وتابعه‬
‫أبو بكر بن أبي مريم ‪ ،‬عن سعيد بن سُويَد ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال المام أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا أبو النضر ‪ ،‬حدثنا الفرج ‪ ،‬حدثنا لقمان بن عامر ‪ :‬سمعت أبا‬
‫أمامة قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما كان أول َبدْء أمرك ؟ قال ‪" :‬دعوة أبي إبراهيم ‪ ،‬وبشرى‬
‫عيسى بي ‪ ،‬ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (‪.)4‬‬
‫والمراد أن أول من َنوّه بذكره وشهره في الناس ‪ ،‬إبراهيم (‪ )5‬عليه السلم‪ .‬ولم يزل ذكره في‬
‫الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا ‪ ،‬وهو عيسى ابن‬
‫مريم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا ‪ ،‬وقال ‪ { :‬إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ ُمصَ ّدقًا‬
‫حمَدُ } [ الصف ‪ ]6 :‬؛ ولهذا قال‬
‫سمُهُ َأ ْ‬
‫ِلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ َومُبَشّرًا بِ َرسُولٍ يَأْتِي مِنْ َبعْدِي ا ْ‬
‫في هذا الحديث ‪" :‬دعوة أبي إبراهيم ‪ ،‬وبشرى عيسى بن مريم"‪.‬‬
‫وقوله ‪" :‬ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل ‪ :‬كان منامًا رأته حين‬
‫حملت به ‪ ،‬وقَصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم ‪ ،‬وكان ذلك توطئة‪ .‬وتخصيص الشام‬
‫بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلد الشام ‪ ،‬ولهذا تكون الشام في آخر الزمان‬
‫معقل للسلم وأهله ‪ ،‬وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها‪.‬‬
‫ولهذا جاء في الصحيحين ‪" :‬ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ل يضرهم من خذلهم‬
‫ول من خالفهم حتى يأتي أمر ال وهم كذلك" (‪ .)6‬وفي صحيح البخاري ‪" :‬وهم بالشام" (‪.)7‬‬
‫قال (‪ )8‬أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ‬
‫رَسُول مِ ْن ُهمْ } يعني ‪ :‬أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقيل له ‪ :‬قد استجيبت لك ‪ ،‬وهو كائن في‬
‫آخر الزمان‪ .‬وكذا قال السدي وقتادة‪.‬‬
‫ح ْكمَةَ } يعني ‪ :‬السنة ‪ ،‬قاله الحسن ‪،‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَابَ } يعني ‪ :‬القرآن { وَالْ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬المؤمنين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)4/127‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وكذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)5/262‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬إبراهيم الخليل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬هذا لفظ حديث ثوبان في صحيح مسلم برقم (‪ )1920‬ورواه أيضا بنحوه من حديث معاوية‬
‫برقم (‪ )1037‬وهو في صحيح البخاري برقم (‪ )7460‬من حديث معاوية رضي ال عنه برقم (‬
‫‪ )7459‬من حديث المغيرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )7460‬من حديث معاذ رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬وقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/444‬‬
‫طفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الَْآخِ َرةِ َلمِنَ‬
‫س ُه وََلقَدِ اصْ َ‬
‫سفِهَ َنفْ َ‬
‫غبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلّا مَنْ َ‬
‫َومَنْ يَرْ َ‬
‫الصّالِحِينَ (‪ )130‬إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪َ )131‬ووَصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‬
‫طفَى َلكُمُ الدّينَ فَلَا َتمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ ُمسِْلمُونَ (‪)132‬‬
‫وَ َيعْقُوبُ يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬

‫وقتادة ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬وأبو مالك وغيرهم‪ .‬وقيل ‪ :‬الفهم في الدين‪ .‬ول منافاة‪.‬‬
‫{ وَيُ َزكّيهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬يعني طاعة ال ‪ ،‬والخلص‪.‬‬
‫ح ْكمَةَ } قال ‪ :‬يعلمهم الخير فيفعلوه ‪ ،‬والشر فيتقوه ‪،‬‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫وقال محمد بن إسحاق { وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫ويخبرهم برضاه عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته ‪ ،‬وتجنبوا ما سخط من معصيته‪.‬‬
‫حكِيمُ } أي ‪ :‬العزيز الذي ل يعجزه شيء ‪ ،‬وهو قادر على كل شيء‬
‫وقوله ‪ { :‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫‪ ،‬الحكيم في أفعاله وأقواله ‪ ،‬فيضع الشياء في محالها ؛ وحكمته وعدله‪.‬‬
‫طفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ‬
‫سفِهَ َنفْسَ ُه وََلقَدِ اصْ َ‬
‫غبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِل مَنْ َ‬
‫{ َومَنْ يَرْ َ‬
‫الصّالِحِينَ (‪ )130‬إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪َ )131‬ووَصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‬
‫طفَى َلكُمُ الدّينَ فَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ (‪} )132‬‬
‫وَ َيعْقُوبُ يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫يقول تبارك وتعالى رَدّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بال ‪ ،‬المخالف لملة إبراهيم‬
‫الخليل ‪ ،‬إمام الحنفاء ‪ ،‬فإنه جَرد توحيد ربه تبارك وتعالى ‪ ،‬فلم َيدْع معه غيره ‪ ،‬ول أشرك به‬
‫طرفة عين ‪ ،‬وتبرأ من كل معبود سواه ‪ ،‬وخالف في ذلك سائر قومه ‪ ،‬حتى تبرأ من أبيه ‪ ،‬فقال‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضَ حَنِيفًا َومَا‬
‫جهِيَ لِلّذِي فَطَرَ ال ّ‬
‫ج ْهتُ َو ْ‬
‫‪ { :‬يَا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ِممّا تُشْ ِركُونَ* إِنّي وَ ّ‬
‫أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [ النعام ‪ ، ] 79 ، 78 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لبِي ِه َو َقوْمِهِ إِنّنِي‬
‫بَرَاءٌ ِممّا َتعْبُدُونَ* إِل الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَ َيهْدِينِ } [ الزخرف ‪ ، ] 27 ، 26 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬ومَا‬
‫كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إبْرَاهِيمَ لبِيهِ إل عَنْ َموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إيّاهُ فََلمَا تَبَيّنَ لَهُ أنّه عَ ُدوٌ ل تَبَرّأَ مِنْهُ إنّ إبْرَاهِيمَ‬
‫لوّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة ‪ ] 114 :‬وقال تعالى ‪ { :‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ* شَاكِرًا ل ْن ُعمِهِ اجْتَبَا ُه وَهَدَاهُ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَإِنّهُ فِي‬
‫غبُ عَنْ‬
‫الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } [ النحل ‪ ، ]122 - 120 :‬ولهذا وأمثاله قال تعالى ‪َ { :‬ومَنْ يَرْ َ‬
‫سفِهَ َنفْسَهُ } أي ‪ :‬ظلم‬
‫مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ } أي ‪ :‬عن طريقته ومنهجه‪ .‬فيخالفها ويرغب عنها { إِل مَنْ َ‬
‫نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلل ‪ ،‬حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا‬
‫للهداية والرشاد ‪ ،‬من حَداثة سنّه (‪ )1‬إلى أن اتخذه ال خليل وهو في الخرة من الصالحين‬
‫السعداء ‪ -‬فترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضللة والغي ‪ ،‬فأي سفه أعظم من‬
‫هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ عَظِيمٌ }‬
‫وقال أبو العالية وقتادة ‪ :‬نزلت هذه الية في اليهود ؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند ال وخالفوا ملّة‬
‫إبراهيم فيما أخذوه (‪ ، )2‬ويشهد لصحة هذا القول قول ال تعالى ‪ { :‬مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل‬
‫َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ* إِنّ َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُوهُ‬
‫ي وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّ ُه وَِليّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [ آل عمران ‪.] 68 ، 67 :‬‬
‫وَهَذَا النّ ِب ّ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬من حداثة بنيته"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيما أحدثوه"‪.‬‬

‫( ‪)1/445‬‬

‫وقوله تعالى ‪ { :‬إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي ‪ :‬أمره ال (‪ )1‬بالخلص له‬
‫والستسلم والنقياد ‪ ،‬فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬و َوصّى ِبهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ َيعْقُوبُ } أي ‪ :‬وصى بهذه الملة (‪ )2‬وهي السلم ل [أو‬
‫يعود الضمير على الكلمة وهي قوله ‪ { :‬أَسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } ] (‪ .)3‬لحرصهم عليها ومحبتهم‬
‫جعََلهَا كَِلمَةً‬
‫لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم ؛ كقوله تعالى ‪َ { :‬و َ‬
‫عقِبِهِ } [ الزخرف ‪ ] 28 :‬وقد قرأ بعض السلف "ويعقوب" بالنصب عطفًا على بنيه ‪،‬‬
‫بَاقِيَةً فِي َ‬
‫كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك ‪ ،‬وقد ادعى القشيري ‪،‬‬
‫فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ‪ ،‬ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ؛‬
‫والظاهر ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ؛ لن البشارة وقعت بهما‬
‫ن وَرَاءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ } [ هود ‪ ] 71 :‬وقد قرئ بنصب يعقوب‬
‫ق َومِ ْ‬
‫سحَا َ‬
‫في قوله ‪ { :‬فَبَشّرْنَاهَا بِإِ ْ‬
‫هاهنا على نزع الخافض ‪ ،‬فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق‬
‫جعَلْنَا‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ وَ َ‬
‫كبير فائدة ‪ ،‬وأيضًا فقد قال ال تعالى في سورة العنكبوت ‪َ { :‬ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَا َ‬
‫ب وَآتَيْنَاهُ أَجْ َرهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ } [ الية ‪] 27 :‬‬
‫فِي ذُرّيّتِهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَا َ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ نَافَِلةً } [ النبياء ‪ ] 72 :‬وهذا يقتضي أنه‬
‫وقال في الية الخرى ‪َ { :‬ووَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَا َ‬
‫وجد في حياته ‪ ،‬وأيضًا فإنه باني بيت المقدس ‪ ،‬كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ‪ ،‬وثبت في‬
‫الصحيحين من حديث أبي ذر قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أي مسجد وضع أول ؟ قال ‪" :‬المسجد‬
‫الحرام" ‪ ،‬قلت ‪ :‬ثم أي ؟ قال ‪" :‬بيت المقدس"‪ .‬قلت ‪ :‬كم بينهما ؟ قال ‪" :‬أربعون سنة" الحديث (‬
‫‪ .)4‬فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس ‪ -‬وإنما كان جدّده بعد‬
‫خرابه وزخرفه ‪ -‬وبين إبراهيم أربعين سنة ‪ ،‬وهذا مما أنكر على ابن حبان ‪ ،‬فإن المدة بينهما‬
‫تزيد على ألوف سنين ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا ‪،‬‬
‫وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين‪.‬‬
‫طفَى َلكُمُ الدّينَ فَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ } أي ‪ :‬أحسنوا في حال‬
‫وقوله ‪ { :‬يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫الحياة والزموا هذا ليرزقكم (‪ )5‬ال الوفاة عليه‪ .‬فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه ‪،‬‬
‫ويبعث على ما مات عليه‪ .‬وقد أجرى ال الكريم عادته بأن من قصد الخير ُوفّق له ويسر (‪)6‬‬
‫عليه‪ .‬ومن نوى صالحًا ثبت عليه‪ .‬وهذا ل يعارض ما جاء ‪ ،‬في الحديث [الصحيح] (‪" )7‬إن‬
‫الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إل بَاعٌ أو ذراع ‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب ‪،‬‬
‫فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (‪ .)8‬وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها‬
‫إل باع أو ذراع ‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أمره تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬أي رضي بهذه المسألة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )3366‬وصحيح مسلم برقم (‪.)520‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يرزقكم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬ويسره"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيدخل النار"‪.‬‬

‫( ‪)1/446‬‬

‫ك وَإِلَهَ آَبَا ِئكَ‬


‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ َب ْعدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َه َ‬
‫شهَدَاءَ إِذْ َ‬
‫أَمْ كُنْ ُتمْ ُ‬
‫حدًا وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ (‪ )133‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ َلهَا مَا كَسَ َبتْ‬
‫سمَاعِيلَ وَِإسْحَاقَ إَِلهًا وَا ِ‬
‫إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)134‬‬
‫وََلكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ َ‬

‫فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" ؛ لنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ‪" :‬فيعمل بعمل أهل‬
‫الجنة فيما يبدو للناس ‪ ،‬ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس‪ .‬وقد قال ال تعالى ‪ { :‬فََأمّا مَنْ‬
‫حسْنَى*‬
‫خلَ وَاسْ َتغْنَى* َوكَ ّذبَ بِالْ ُ‬
‫أَعْطَى وَا ّتقَى* َوصَدّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُ َيسّ ُرهُ لِلْيُسْرَى* وََأمّا مَنْ َب ِ‬
‫فَسَنُيَسّ ُرهُ ِل ْلعُسْرَى } [ الليل ‪.] 10 - 5 :‬‬
‫حضَرَ َيعْقُوبَ ا ْل َموْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َهكَ وَإِلَهَ‬
‫شهَدَاءَ إِذْ َ‬
‫{ َأمْ كُنْتُمْ ُ‬
‫ل وَإِسْحَاقَ إَِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ (‪ )133‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ َلهَا مَا‬
‫سمَاعِي َ‬
‫آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪} )134‬‬
‫ت وََلكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَل تُسْأَلُونَ َ‬
‫كَسَ َب ْ‬
‫يقول تعالى محتجّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ‪ ،‬وعلى الكفار من بني إسرائيل ‪-‬‬
‫وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم (‪ )1‬السلم ‪ -‬بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه‬
‫بعبادة ال وحده ل شريك له ‪ ،‬فقال لهم ‪ { :‬مَا َتعْبُدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َهكَ وَإِلَهَ آبَا ِئكَ‬
‫سمَاعِيلَ وَِإسْحَاقَ } وهذا من باب التغليب لن إسماعيل عمه‪.‬‬
‫إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫قال النحاس ‪ :‬والعرب تسمي العم أبًا ‪ ،‬نقله القرطبي ؛ وقد استدل بهذه الية من جعل الجد أبًا‬
‫وحجب به الخوة ‪ ،‬كما هو قول الصديق ‪ -‬حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير‬
‫‪ ،‬ثم قال البخاري ‪ :‬ولم يختلف عليه ‪ ،‬وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬وبه يقول الحسن‬
‫البصري وطاوس وعطاء ‪ ،‬وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف ؛ وقال‬
‫مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الخوة ؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي‬
‫وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ‪ ،‬واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي ‪:‬‬
‫أبو يوسف ‪ ،‬ومحمد بن الحسن ‪ ،‬ولتقريرها موضع آخر‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إَِلهًا وَاحِدًا } أي ‪ُ :‬نوَحّدُه باللوهية ‪ ،‬ول نشرك به شيئا غيره { وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ } أي‬
‫طوْعًا َوكَرْهًا وَإِلَيْهِ‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضِ َ‬
‫‪ :‬مطيعون خاضعون كما قال تعالى ‪ { :‬وَلَهُ أَسَْلمَ مَنْ فِي ال ّ‬
‫جعُونَ وسلم } [ آل عمران ‪ ] 83 :‬والسلم هو ملة النبياء قاطبة ‪ ،‬وإن تنوّعت شرائعهم‬
‫يُرْ َ‬
‫سلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِل نُوحِي إِلَ ْيهِ أَنّهُ ل إَِلهَ إِل‬
‫واختلفت مناهجهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا أَرْ َ‬
‫أَنَا فَاعْبُدُونِ } [النبياء ‪ .]25 :‬واليات في هذا كثيرة والحاديث ‪ ،‬فمنها قوله صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬نحن َمعْشَرَ النبياء أولد عَلت ديننا واحد" (‪.)2‬‬
‫ت وََلكُمْ مَا كَسَبْ ُتمْ } أي ‪ :‬إن السلف‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ } أي ‪ :‬مضت { َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫الماضين من آبائكم من النبياء والصالحين ل ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬عليه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )3443‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وأولد العلت ‪ :‬هم‬
‫الخوة من الب وأمهاتهم شتى‪.‬‬

‫( ‪)1/447‬‬

‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬


‫نفعهُ عليكم ‪ ،‬فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم ‪ { :‬وَل تُسْأَلُونَ َ‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬وقتادة ‪ { :‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ } يعني ‪ :‬إبراهيم ‪ ،‬وإسماعيل ‪،‬‬
‫وإسحاق ‪ ،‬ويعقوب ‪ ،‬والسباط [ولهذا جاء ‪ ،‬في الثر ‪ :‬من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه] (‪)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/448‬‬
‫َوقَالُوا كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)135‬‬
‫ط َومَا‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ وَالْأَسْبَا ِ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِسْحَا َ‬
‫قُولُوا َآمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫حدٍ مِ ْنهُ ْم وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ (‪)136‬‬
‫أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬

‫{ َوقَالُوا كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪} )135‬‬
‫قال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عبد ال بن صُوريا العورُ لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ما الهدى إل ما‬
‫نحن عليه ‪ ،‬فاتبعنا يا محمد تهتد (‪ .)1‬وقالت النصارى مثل ذلك‪ .‬فأنزل ال عز وجل ‪َ { :‬وقَالُوا‬
‫كُونُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى َتهْ َتدُوا }‬
‫وقوله { َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " أي ‪ :‬ل نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية ‪ ،‬بل نتبع {‬
‫مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي ‪ :‬مستقيما‪ .‬قاله محمد بن كعب القرظي ‪ ،‬وعيسى بن جارية‪.‬‬
‫خصِيف عن مجاهد ‪ :‬مخلصًا‪ .‬وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ‪ :‬حاجّا‪ .‬وكذا‬
‫وقال َ‬
‫روي عن الحسن والضحاك وعطية ‪ ،‬والسدي‪.‬‬
‫حجّه عليه إن استطاع إليه‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬الحنيف الذي يستقبل البيت بصلته ‪ ،‬ويرى أن َ‬
‫سبيل‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ :‬حنيفًا ‪ ،‬أي ‪ :‬متبعًا‪ .‬وقال أبو قلبة ‪ :‬الحنيف الذي يؤمن بالرسل‬
‫كلهم من أولهم إلى آخرهم‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬الحنيفية ‪ :‬شهادة أن ل إله إل ال‪ .‬يدخل فيها تحري ُم المهات والبنات والخالت‬
‫والعمات وما حرم ال ‪ ،‬عز وجل (‪ )2‬والختانُ‪.‬‬
‫ط َومَا‬
‫ب وَالسْبَا ِ‬
‫ق وَ َي ْعقُو َ‬
‫سحَا َ‬
‫ل وَإِ ْ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫{ قُولُوا آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ (‬
‫‪} )136‬‬
‫أرشد ال تعالى عباده المؤمنين إلى اليمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم مفصل وبما أنزل على النبياء المتقدمين مجمل ونص على أعيان من الرسل ‪ ،‬وأجمل ذكر‬
‫بقية النبياء ‪ ،‬وأن (‪ )3‬ل يفرقوا بين أحد منهم ‪ ،‬بل يؤمنوا بهم كلّهم ‪ ،‬ول يكونوا كمن قال ال‬
‫ض وَيُرِيدُونَ أَنْ‬
‫ض وَ َنكْفُرُ بِ َب ْع ٍ‬
‫فيهم ‪ { :‬وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُِل ِه وَيَقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ‬
‫حقّا } [ النساء ‪.]151 ، 150 :‬‬
‫خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيل * أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ‬
‫يَتّ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تهتدي" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬تهدى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬أنهم"‪.‬‬
‫( ‪)1/448‬‬

‫عمَر ‪ ،‬أخبرنا علي بن المبارك ‪ ،‬عن‬


‫وقال البخاري ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا عثمان بن ُ‬
‫يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬كان أهل الكتاب‬
‫يقرؤون التوراة بالعبْرَانيّة ويفسرونها بالعربية لهل السلم ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬ل تصدقوا أهل الكتاب ول ُتكَذبوهم ‪ ،‬وقولوا ‪ :‬آمنا بال وما أنزل إلينا (‪.)2( " )1‬‬
‫وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم ‪ ،‬عن سعيد بن يَسار عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬قال ‪ ،‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر بـ‬
‫سِلمُونَ } [ آل عمران ‪:‬‬
‫شهَدْ بِأَنّا مُ ْ‬
‫{ آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنزلَ إِلَيْنَا } الية ‪ ،‬والخرى بـ { آمَنّا بِاللّهِ وَا ْ‬
‫‪ )3( .] 52‬وقال أبو العالية والربيع وقتادة ‪ :‬السباط ‪ :‬بنو يعقوب اثنا عشر رجل ؛ ولد كل (‪)4‬‬
‫رجل منهم أمة من الناس ‪ ،‬فسمّوا السباط‪.‬‬
‫وقال الخليل بن أحمد وغيره ‪ :‬السباط في بني إسرائيل ‪ ،‬كالقبائل في بني إسماعيل ؛ وقال‬
‫الزمخشري في الكشاف ‪ :‬السباط ‪ :‬حفدة يعقوب ذراري أبنائه الثنى عشر ‪ ،‬وقد نقله الرازي‬
‫عنه ‪ ،‬وقرره ولم يعارضه‪ .‬وقال البخاري ‪ :‬السباط ‪ :‬قبائل بني إسرائيل ‪ ،‬وهذا يقتضي أن‬
‫المراد بالسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل ‪ ،‬وما أنزل ال تعالى من الوحي على النبياء‬
‫جعََل ُكمْ‬
‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء وَ َ‬
‫الموجودين منهم ‪ ،‬كما قال موسى لهم ‪ { :‬ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ َ‬
‫طعْنَا ُهمُ اثْنَ َتيْ‬
‫مُلُوكًا وَآتَا ُكمْ مَا لَمْ ُي ْؤتِ َأحَدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [ المائدة ‪ ] 20 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬وقَ ّ‬
‫عَشْ َرةَ َأسْبَاطًا ُأ َممًا } [ العراف ‪ ] 160 :‬وقال القرطبي ‪ :‬وسموا السباط من السبط ‪ ،‬وهو‬
‫التتابع ‪ ،‬فهم جماعة متتابعون‪ .‬وقيل ‪ :‬أصله من السبط ‪ ،‬بالتحريك ‪ ،‬وهو الشجر ‪ ،‬أي ‪ :‬هم في‬
‫الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة‪ .‬قال الزجاج ‪ :‬ويبين لك هذا ‪ :‬ما حدثنا محمد بن جعفر‬
‫النباري ‪ ،‬حدثنا أبو نجيد الدقاق ‪ ،‬حدثنا السود بن عامر ‪ ،‬حدثنا إسرائيل عن سماك ‪ ،‬عن‬
‫عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كل النبياء من بني إسرائيل إل عشرة ‪ :‬نوح وهود وصالح‬
‫وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد ‪ -‬عليهم الصلة والسلم‪ .‬قال‬
‫القرطبي ‪ :‬والسبط ‪ :‬الجماعة والقبيلة ‪ ،‬الراجعون إلى أصل واحد‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬أمر ال المؤمنين أن يؤمنوا به ‪ ،‬ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله‪.‬‬
‫وقال سليمان بن حبيب ‪ :‬إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والنجيل ‪ ،‬ول نعمل بما فيهما‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن محمد بن ُمصْعب الصوري ‪ ،‬حدثنا ُم َؤمّل ‪ ،‬حدثنا عبيد ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وما أنزل ال" ‪ ،‬وفي جـ ‪" :‬وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4485‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ )727‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1259‬وسنن النسائي (‪.)2/155‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وكذا كل"‪.‬‬

‫( ‪)1/449‬‬

‫سمِيعُ‬
‫شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ‬
‫فَإِنْ َآمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا َآمَنْتُمْ ِبهِ َفقَدِ اهْ َت َدوْا وَإِنْ َتوَلّوْا فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ‬
‫ا ْلعَلِيمُ (‪ )137‬صِ ْبغَةَ اللّهِ َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَ ًة وَنَحْنُ لَهُ عَا ِبدُونَ (‪)138‬‬

‫بن أبي حميد ‪ ،‬عن أبي المليح ‪ ،‬عن َمعْقل بن يسار قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫سعْكمُ القرآن" (‪.)1‬‬
‫"آمنوا بالتوراة والزبور والنجيل ولي َ‬
‫سمِيعُ‬
‫شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِيكَهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ‬
‫{ فَإِنْ آمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْ ُتمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَ َدوْا وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا هُمْ فِي ِ‬
‫ا ْلعَلِيمُ (‪ )137‬صِ ْبغَةَ اللّهِ َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَ ًة وَنَحْنُ لَهُ عَا ِبدُونَ (‪} )138‬‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬فَإِنْ آمَنُوا } أي (‪ : )2‬الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } أيها‬
‫المؤمنون ‪ ،‬من اليمان بجميع كتب ال ورسله ‪ ،‬ولم يفرقوا بين أحد منهم { َفقَدِ اهْ َت َدوْا } أي ‪ :‬فقد‬
‫أصابوا الحق ‪ ،‬وأرشدوا إليه { وَإِنْ َتوَّلوْا } أي ‪ :‬عن الحق إلى الباطل ‪ ،‬بعد قيام الحجة عليهم‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫ظفِرُك بهم { وَ ُهوَ ال ّ‬
‫شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّهُ } أي ‪ :‬فسينصرك عليهم ويُ ْ‬
‫{ فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬قرئ على يونس بن عبد العلى حدثنا ابن وهب ‪ ،‬حدثنا زياد بن يونس ‪،‬‬
‫حدثنا نافع بن أبي ُنعَيم ‪ ،‬قال ‪ :‬أرسل إليّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه‪ .‬قال‬
‫زياد ‪ :‬فقلت له ‪ :‬إن الناس يقولون ‪ :‬إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل ‪ ،‬فوقع الدم على‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } فقال نافع ‪َ :‬بصُرت عيني بالدم على هذه الية وقد قَدُم (‪.)3‬‬
‫{ َفسَ َيكْفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ‬
‫وقوله ‪ { :‬صِ ْبغَةَ اللّهِ } قال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬دين ال وكذا روي عن مجاهد ‪ ،‬وأبي‬
‫العالية ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وعبد ال بن كثير ‪ ،‬وعطية‬
‫العوفي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وانتصاب { صِ ْبغَةَ اللّهِ } إما على الغراء كقوله { ِفطْ َرتَ اللّهِ } [ الروم ‪ ] 30 :‬أي ‪ :‬الزموا ذلك‬
‫عليكموه‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬بدل من قوله ‪ { :‬مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ } وقال سيبويه ‪ :‬هو مصدر مؤكد انتصب‬
‫عن قوله ‪ { :‬آمَنّا بِاللّهِ } كقوله { وَاعْبُدُوا اللّهَ } [ النساء ‪.] 36 :‬‬
‫وقد ورد (‪ )4‬في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه ‪ ،‬من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر‬
‫بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير ‪ ،‬عن ابن عباس أن نبي ال (‪ )5‬قال ‪" :‬إن بني إسرائيل قالوا‬
‫‪ :‬يا موسى ‪ ،‬هل َيصْبُغ ربك ؟ فقال ‪ :‬اتقوا ال‪ .‬فناداه ربه ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬سألوك هل َيصْبُغ ربك ؟‬
‫فقل ‪ :‬نعم ‪ ،‬أنا أصبُغ اللوان ‪ :‬الحمر والبيض والسود ‪ ،‬واللوان كلها من صَبْغي"‪ .‬وأنزل ال‬
‫على نبيه صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬صِ ْبغَةَ اللّ ِه َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَةً } (‪.)6‬‬
‫كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا ‪ ،‬وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف ‪ ،‬وهو أشبه ‪ ،‬إن‬
‫صح إسناده ‪ ،‬وال أعلم (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/400‬وفي إسناده عبيد ال بن أبي حميد متفق على ضعفه ويروي‬
‫عن أبي المليح عجائب‪ .‬انظر ‪ :‬الميزان (‪ )3/5‬والتهذيب (‪.)7/9‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬يعني"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1/402‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬وقد روى"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬نبي ال صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )1/403‬ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة برقم (‪.)138‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وال تبارك وتعالى أعلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/450‬‬

‫عمَاُلكُ ْم وَ َنحْنُ لَهُ ُمخِْلصُونَ (‪ )139‬أَمْ‬


‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫ُقلْ أَتُحَاجّونَنَا فِي اللّ ِه وَ ُهوَ رَبّنَا وَرَ ّبكُ ْم وَلَنَا أَ ْ‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى ُقلْ أَأَنْ ُتمْ أَعْلَمُ أَمِ‬
‫ل وَإِسْحَا َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫َتقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ (‪ )140‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ‬
‫شهَا َدةً عِ ْن َدهُ مِنَ اللّهِ َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫اللّ ُه َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)141‬‬
‫ت وََلكُمْ مَا كَسَبْ ُت ْم وَلَا تُسْأَلُونَ َ‬
‫َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬

‫عمَاُلكُ ْم وَنَحْنُ َلهُ مُخِْلصُونَ (‪َ )139‬أمْ‬


‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫{ ُقلْ أَ ُتحَاجّونَنَا فِي اللّ ِه وَ ُهوَ رَبّنَا وَرَ ّبكُ ْم وَلَنَا أَ ْ‬
‫علَمُ َأمِ‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ وَالسْبَاطَ كَانُوا هُودًا َأوْ َنصَارَى ُقلْ أَأَنْتُمْ أَ ْ‬
‫ل وَإِسْحَا َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫َتقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ (‪ )140‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ‬
‫شهَا َدةً عِ ْن َدهُ مِنَ اللّهِ َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫اللّ ُه َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪} )141‬‬
‫ت وََلكُمْ مَا كَسَبْ ُت ْم وَل تُسَْألُونَ َ‬
‫َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫يقول ال تعالى مرشدا نبيه صلوات ال وسلمه عليه (‪ )1‬إلى درء مجادلة المشركين ‪ُ { :‬قلْ‬
‫أَتُحَاجّونَنَا فِي اللّهِ } أي ‪ :‬أتناظروننا في توحيد ال والخلص له والنقياد ‪ ،‬واتباع أوامره وترك‬
‫زواجره { وَ ُهوَ رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ } المتصرف فينا وفيكم ‪ ،‬المستحق لخلص اللهية له وحده ل شريك‬
‫عمَاُلكُمْ } أي ‪ :‬نحن برآء منكم ‪ ،‬وأنتم بُرَآء منا ‪ ،‬كما قال في الية‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫له! { وَلَنَا أَ ْ‬
‫ل وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا‬
‫ع َم ُ‬
‫عمَُلكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫الخرى ‪ { :‬وَإِنْ َكذّبُوكَ َف ُقلْ لِي َ‬
‫جهِيَ لِلّ ِه َومَنِ اتّ َبعَنِ َوقُلْ لِلّذِينَ‬
‫َت ْعمَلُونَ } [ يونس ‪]41 :‬وقال تعالى ‪ { :‬فَإِنْ حَاجّوكَ َف ُقلْ َأسَْل ْمتُ َو ْ‬
‫غ وَاللّهُ َبصِيرٌ‬
‫أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَالمّيّينَ أَأَسَْلمْتُمْ فَإِنْ أَسَْلمُوا َفقَدِ اهْ َت َدوْا وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ‬
‫بِا ْلعِبَادِ } [ آل عمران ‪]20 :‬وقال تعالى إخبارا عن إبراهيم (‪ { )2‬وَحَاجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَتُحَاجّونّي فِي‬
‫شيْءٍ عِ ْلمًا َأفَل‬
‫اللّ ِه َوقَدْ هَدَانِ وَل َأخَافُ مَا ُتشْ ِركُونَ ِبهِ إِل أَنْ يَشَاءَ رَبّي شَيْئًا وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ‬
‫تَتَ َذكّرُونَ } [ النعام ‪ ]80 :‬وقال { أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } الية[ البقرة ‪.]258 :‬‬
‫عمَاُلكُمْ] (‪ )3‬وَنَحْنُ لَهُ ُمخِْلصُونَ } أي ‪ :‬نحن (‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫وقال في هذه الية الكريمة ‪[ { :‬وَلَنَا أَ ْ‬
‫‪ )4‬برآء منكم كما أنتم برآء منا ‪ ،‬ونحن له مخلصون ‪ ،‬أي في العبادة والتوجه‪.‬‬
‫ثم أنكر تعالى عليهم ‪ ،‬في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من النبياء والسباط كانوا على‬
‫ملتهم ‪ ،‬إما اليهودية وإما النصرانية (‪ )5‬فقال ‪ُ { :‬قلْ أَأَنْ ُتمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } يعني ‪ :‬بل ال أعلم ‪ ،‬وقد‬
‫أخبر أنهم لم يكونوا هودا ول نصارى ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا‬
‫وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } الية والتي بعدها[ آل عمران ‪.]68 ، 67 :‬‬
‫شهَا َدةً عِنْ َدهُ مِنَ اللّهِ } قال الحسن البصري ‪ :‬كانوا يقرؤون في‬
‫ظلَمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومَنْ أَ ْ‬
‫كتاب ال الذي أتاهم ‪ :‬إن الدين [عند ال] (‪ )6‬السلمُ ‪ ،‬وإن محمدا رسول ال ‪ ،‬وإن إبراهيم‬
‫وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية ‪ ،‬فشهِد ال بذلك ‪،‬‬
‫وأقروا به على أنفسهم ل ‪ ،‬فكتموا شهادة ال عندهم من ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عن إبراهيم عليه السلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أي ونحن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أو النصرانية"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/451‬‬

‫عمّا َت ْعمَلُونَ } [فيه] (‪ )1‬تهديد ووعيد شديد ‪ ،‬أي ‪[ :‬أن] (‪ )2‬علمه محيط‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫بعملكم ‪ ،‬وسيجزيكم عليه‪.‬‬
‫ت وََلكُمْ مَا كَسَبْ ُتمْ } أي ‪ :‬لهم‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ } أي ‪ :‬قد مضت { َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ‪ ،‬من‬
‫أعمالهم ولكم أعمالكم { وَل تُسْأَلُونَ َ‬
‫غير متابعة منكم لهم ‪ ،‬ول تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لوامر ال‬
‫واتباع رسله ‪ ،‬الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ‪ ،‬فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ‪،‬‬
‫ول سيما من كفر بسيد النبياء ‪ ،‬وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع النس والجن‬
‫من سائر المكلفين ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه وعلى سائر أنبياء ال (‪ )3‬أجمعين (‪.)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وعلى سائر أنبيائه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬أجمعين أبدا دائما إلى يوم الدين ورضي ال تعالى عن أصحابه وأصحابهم المتبعين‬
‫إلى يوم الحشر واليقين"‪.‬‬

‫( ‪)1/452‬‬

‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ َيهْدِي مَنْ‬


‫سفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا ُقلْ لِلّهِ ا ْل َمشْرِ ُ‬
‫سَ َيقُولُ ال ّ‬
‫س وَ َيكُونَ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّا ِ‬
‫سطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪َ )142‬وكَذَِلكَ َ‬
‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِلّا لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَِلبُ عَلَى‬
‫شهِيدًا َومَا َ‬
‫الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫عقِبَيْ ِه وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً إِلّا عَلَى الّذِينَ َهدَى اللّهُ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ‬
‫َ‬
‫لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (‪)143‬‬

‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ َيهْدِي‬


‫س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا ُقلْ لِلّهِ ا ْل َمشْرِ ُ‬
‫{ سَ َيقُولُ ال ّ‬
‫س وَ َيكُونَ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّا ِ‬
‫سطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪َ )142‬وكَذَِلكَ َ‬
‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَِلبُ عَلَى‬
‫شهِيدًا َومَا َ‬
‫الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫عقِبَيْ ِه وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً إِل عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّ ُه َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ‬
‫َ‬
‫لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (‪} )143‬‬
‫[قيل المراد بالسفهاء هاهنا ‪ :‬المشركون ؛ مشركو العرب ‪ ،‬قاله الزجاج‪ .‬وقيل ‪ :‬أحبار يهود ‪،‬‬
‫قاله مجاهد‪ .‬وقيل ‪ :‬المنافقون ‪ ،‬قاله السدي‪ .‬والية عامة في هؤلء كلهم ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)1‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا أبو ُنعَيم ‪ ،‬سمع ُزهَيرا ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء ‪ ،‬رضي ال عنه ؛ أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم صلى إلى بيت (‪ )2‬المقدس ستّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ‪،‬‬
‫وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ‪ ،‬وأنه صلى أول صلة صلها ‪ ،‬صلة العصر ‪ ،‬وصلى‬
‫معه قوم‪ .‬فخرج رجل (‪ )3‬ممن كان صلى معه ‪ ،‬فمر على أهل المسجد وهم راكعون ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أشهد بال لقد صليتُ مع النبي صلى ال عليه وسلم قبَل مكة ‪ ،‬فدارُوا كما هم قبل البيت‪ .‬وكان‬
‫حوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ‪ ،‬فأنزل ال عز‬
‫الذي مات على القبلة قبل أن ُت َ‬
‫وجل { َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }‬
‫انفرد به البخاري من هذا الوجه (‪ .)4‬ورواه مسلم من وجه آخر (‪.)5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬إلى البيت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬فخرج قوم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4486‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)525‬‬

‫( ‪)1/452‬‬

‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني إسماعيل (‪ )1‬بن أبي خالد ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ‪ ،‬ويكثر النظر إلى السماء ينتظر (‬
‫ج َهكَ‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ وَ ْ‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫ب وَ ْ‬
‫‪ )2‬أمر ال ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬قَدْ نَرَى َتقَلّ َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ } فقال رجال (‪ )3‬من المسلمين ‪ :‬وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫َ‬
‫ُنصْرف إلى القبلة ‪ ،‬وكيف بصلتنا نحو بيت المقدس ؟ فأنزل ال ‪َ { :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ‬
‫} وقال السفهاء من الناس ‪ ،‬وهم أهل الكتاب ‪ :‬ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل ال ‪:‬‬
‫س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ } إلى آخر الية‪.‬‬
‫{ سَ َيقُولُ ال ّ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زرعة ‪ ،‬حدثنا الحسن بن عطية ‪ ،‬حدثنا إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق‬
‫‪ ،‬عن البراء قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو‬
‫ج ِهكَ فِي‬
‫سبعة عشر شهرا ‪ ،‬وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬قَدْ نَرَى َتقَّلبَ َو ْ‬
‫جدِ الْحَرَامِ } قال ‪َ :‬فوُجّه نحو الكعبة‪ .‬وقال‬
‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ َو ْ‬
‫ال ّ‬
‫السفهاء من الناس ‪ ،‬وهم اليهود ‪ { :‬مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِت ِهمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا } فأنزل ال { ُقلْ لِلّهِ‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‬
‫ا ْلمَشْ ِر ُ‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم لمّا هاجر إلى‬
‫المدينة ‪ ،‬أمَره ال أن يستقبل بيت المقدس ‪ ،‬ففرحت اليهود ‪ ،‬فاستقبلها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بضعة عشر شهرا ‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يُحِب قبلة إبراهيم ‪ ،‬فكان يدعو‬
‫شطْ َرهُ } أي ‪ :‬نحوه‪ .‬فارتاب من‬
‫ال وينظر إلى السماء ‪ ،‬فأنزل ال عز وجل ‪َ { :‬فوَلّوا وُجُو َه ُكمْ َ‬
‫ذلك اليهود ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل ال ‪ُ { :‬قلْ لِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ‬
‫وَا ْل َمغْرِبُ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‪.‬‬
‫وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة ‪ ،‬وحاصلُ المر أنه قد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس ‪ ،‬فكان بمكة ُيصَلّي بين الركنين ‪ ،‬فتكون بين يديه الكعبة‬
‫وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ‪ ،‬فلما هاجر إلى المدينة َتعَذّر الجمعُ بينهما ‪ ،‬فأمره ال بالتوجه‬
‫إلى بيت المقدس ‪ ،‬قاله ابن عباس والجمهور ‪ ،‬ثم اختلف هؤلء هل كان المر به بالقرآن أو‬
‫بغيره ؛ على قولين ‪ ،‬وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن‬
‫التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلة والسلم‪ .‬والمقصود أن التوجه إلى بيت‬
‫المقدس بعد مقدمه صلى ال عليه وسلم المدينة ‪ ،‬فاستم ّر المرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهرا ‪،‬‬
‫وكان يكثر الدعا َء والبتهالَ أنْ ُيوَجّه إلى الكعبة ‪ ،‬التي هي قبلة إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فأجيب‬
‫إلى ذلك ‪ ،‬وأمر بالتوجّه إلى البيت العتيق ‪ ،‬فخطب رسولُ ال صلى ال عليه وسلم الناس ‪،‬‬
‫وأعلمهم بذلك‪ .‬وكان أول صلة صلها إليها صلة العصر ‪ ،‬كما تقدم في الصحيحين من رواية‬
‫البراء‪ .‬ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى ‪ :‬أنها الظهر (‪ .)4‬وأما أهل قُبَاء ‪ ،‬فلم‬
‫يبلغهم الخبر إلى صلة الفجر من اليوم الثاني ‪ ،‬كما جاء في الصحيحين ‪ ،‬عن ابن عمر أنه قال ‪:‬‬
‫بينما الناس بقباء في صلة الصبح ‪ ،‬إذ جاءهم آت فقال ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد‬
‫أنزل عليه الليلة قرآن وقد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬حدثني المعلى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬وينتظر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فقال رجل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11004‬‬

‫( ‪)1/453‬‬

‫أمر أن يستقبل الكعبة ‪ ،‬فاستقبلوها‪ .‬وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (‪.)1‬‬
‫وفي هذا دليل على أن الناسخ ل يلزم حكمه إل بعد العلم به ‪ ،‬وإن تقدم نزوله وإبلغه ؛ لنهم لم‬
‫يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ولما وقع هذا حصل لبعض الناس ‪ -‬من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ‪ -‬ارتياب وزيغ‬
‫عن الهدى وتخبيط وشك ‪ ،‬وقالوا ‪ { :‬مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا } أي ‪ :‬ما لهؤلء تارة‬
‫يستقبلون كذا ‪ ،‬وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل ال جوابهم في قوله ‪ُ { :‬قلْ لِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ }‬
‫أي ‪ :‬الحكم والتصرف والمر كله ل ‪ ،‬وحيثما تولوا فثمّ وجه ال ‪ ،‬و { لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } [ البقرة ‪]177 :‬أي ‪ :‬الشأن كله في‬
‫وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫امتثال أوامر ال ‪ ،‬فحيثما وجهنا توجهنا ‪ ،‬فالطاعة في امتثال أمره ‪ ،‬ولو وجهنا في كل يوم‬
‫جهَنا توجهنا ‪ ،‬وهو تعالى‬
‫مرات إلى جهات متعددة ‪ ،‬فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدّامُه ‪ ،‬حيثما و ّ‬
‫له بعبده ورسوله محمد ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليه (‪ - )2‬وأمتِه عناية عظيمة ؛ إذ هداهم إلى‬
‫قبلة إبراهيم ‪ ،‬خليل الرحمن ‪ ،‬وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده ل شريك‬
‫له ‪ ،‬أشرف بيوت ال في الرض ‪ ،‬إذ هي بناء إبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬ولهذا قال ‪ُ { :‬قلْ‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‪.‬‬
‫لِلّهِ ا ْلمَشْرِ ُ‬
‫عمَر (‪ )3‬بن‬
‫وقد روى المام أحمد ‪ ،‬عن علي بن عاصم ‪ ،‬عن حصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن ُ‬
‫قيس ‪ ،‬عن محمد بن الشعث ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يعني‬
‫في أهل الكتاب ‪" : -‬إنهم ل يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة ‪ ،‬التي هدانا ال‬
‫لها وضلوا عنها ‪ ،‬وعلى القبلة التي هدانا ال لها وضلوا عنها ‪ ،‬وعلى قولنا خلف المام ‪ :‬آمين"‬
‫(‪.)4‬‬
‫شهِيدًا‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫علَى النّا ِ‬
‫شهَدَاءَ َ‬
‫سطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫حوّلناكم إلى قبلة (‪ )5‬إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬واخترناها لكم (‪ )6‬لنجعلكم‬
‫} يقول تعالى ‪ :‬إنما َ‬
‫شهَداء على المم ؛ لن الجميع (‪ )7‬معترفون (‪ )8‬لكم بالفضل‪.‬‬
‫خيار المم ‪ ،‬لتكونوا يوم القيامة ُ‬
‫والوسط هاهنا ‪ :‬الخيار والجود ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬قريش أوسطُ العرب نسبا ودارا ‪ ،‬أي ‪ :‬خيرها‪.‬‬
‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم وسطا في قومه ‪ ،‬أي ‪ :‬أشرفهم نسبا ‪ ،‬ومنه الصلة‬
‫الوسطى ‪ ،‬التي هي أفضل الصلوات ‪ ،‬وهي العصر ‪ ،‬كما ثبت في الصحاح وغيرها ‪ ،‬ولما جعل‬
‫خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح (‪ )9‬المذاهب ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ال هذه المة وسطا َ‬
‫سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ‬
‫ج َعلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلّةَ أَبِي ُكمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ َ‬
‫{ ُهوَ اجْتَبَاكُ ْم َومَا َ‬
‫ش َهدَاءَ عَلَى النّاسِ } [ الحج ‪]78 :‬‬
‫شهِيدًا عَلَ ْيكُ ْم وَ َتكُونُوا ُ‬
‫َوفِي َهذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )403‬وصحيح مسلم برقم (‪.)526‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن عمرو"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)6/134‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬ملة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬واحترفناها لكم" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬واخترناكم لها"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬المم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬معترفين" وهو خطأ‪..‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وأصح"‪.‬‬

‫( ‪)1/454‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي سعيد قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يدعى نوح يوم القيامة فيقال له ‪ :‬هل بلّغت ؟ فيقول ‪ :‬نعم‪ .‬فيدعى‬
‫قومه فيقال لهم ‪ :‬هل بلغكم ؟ فيقولون ‪ :‬ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ‪ ،‬فيقال لنوح ‪ :‬من‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا } (‪.)1‬‬
‫يشهد لك ؟ فيقول ‪ :‬محمد وأمته" قال ‪ :‬فذلك قوله ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫قال ‪ :‬الوسط (‪ : )2‬العدل ‪ ،‬فتدعون ‪ ،‬فتشهدون له بالبلغ ‪ ،‬ثم أشهد عليكم (‪.)3‬‬
‫رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن العمش ‪[ ،‬به] (‪.)5( )4‬‬
‫وقال المام أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي سعيد‬
‫الخدري قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يجيء النبي يوم القيامة [ومعه الرجل‬
‫والنبي] (‪ )6‬ومعه الرجلن وأكثر من ذلك فيدعى قومه ‪ ،‬فيقال [لهم] (‪ )7‬هل بلغكم هذا ؟‬
‫فيقولون ‪ :‬ل‪ .‬فيقال له ‪ :‬هل بلغت قومك ؟ فيقول ‪ :‬نعم‪ .‬فيقال [له] (‪ )8‬من يشهد لك ؟ فيقول ‪:‬‬
‫محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته ‪ ،‬فيقال لهم ‪ :‬هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون ‪ :‬نعم‪ .‬فيقال ‪ :‬وما‬
‫علمكم ؟ فيقولون ‪ :‬جاءنا نبينا صلى ال عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا" فذلك قوله عز‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّا ِ‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطًا } قال ‪" :‬عدل { لِ َتكُونُوا ُ‬
‫وجل ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫شهِيدًا } " (‪.)9‬‬
‫عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫وقال المام أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي سعيد‬
‫سطًا } قال ‪:‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫الخدري ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم في قوله تعالى ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫"عدل" (‪.)10‬‬
‫وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد ‪ ،‬عن أبي مالك‬
‫الشجعي ‪ ،‬عن المغيرة بن عتيبة (‪ )11‬بن نهاس ‪ :‬حدثني مكتب لنا (‪ )12‬عن جابر بن عبد‬
‫ال ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬أنا وأمّتي يوم القيامة على َكوْم مُشرفين على (‪)13‬‬
‫الخلئق‪ .‬ما من الناس أحد إل ودّ أنه منّا‪ .‬وما من نبي كَذّبه قومه إل ونحن نشهدُ أنه قد بلغ‬
‫رسالةَ ربه ‪ ،‬عز وجل (‪.)14‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)3/32‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬قال ‪ :‬والوسط"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬بقول يشهد عليكم" وفي ط ‪" :‬وأشهد عليكم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4487 ، 3339‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2961‬وسنن النسائي الكبرى‬
‫برقم (‪ )11007‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)4284‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬والمسند‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬والمسند‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬والمسند‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)3/58‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪.)3/9‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬بن عيينة"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في و ‪" :‬مكاتب لنا"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬مشرف على"‪.‬‬
‫(‪ )14‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )3/147‬من طريق ابن فضيل عن أبي مالك الشجعي به‪.‬‬

‫( ‪)1/455‬‬

‫وروى الحاكم ‪ ،‬في مستدركه وابن مَرْدُويَه أيضا ‪ ،‬واللفظ له ‪ ،‬من حديث مصعب بن ثابت ‪ ،‬عن‬
‫محمد بن كعب القُرَظي ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬شهد رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‬
‫جنازة ‪ ،‬في بني سلمة ‪ ،‬وكنت إلى جانب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬وال ‪-‬‬
‫يا رسولَ ال ‪ -‬لنعم المرءُ كان ‪ ،‬لقد كان عفيفا مسلما وكان‪ ...‬وأثنوا عليه خيرا‪ .‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أنت بما تقول"‪ .‬فقال الرجل ‪ :‬ال أعلم بالسرائر ‪ ،‬فأما الذي بدا لنا منه‬
‫شهِد جنازة في بني حَارِثة ‪ ،‬وكنتُ إلى‬
‫فذاك‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬وجبت"‪ .‬ثم َ‬
‫جانب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬يا رسولَ ال ‪ ،‬بئس المرءُ كان ‪ ،‬إن كان‬
‫لفَظّا غليظا ‪ ،‬فأثنوا عليه شرا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لبعضهم ‪" :‬أنت بالذي تقول"‪.‬‬
‫فقال الرجل ‪ :‬ال أعلم بالسرائر ‪ ،‬فأما الذي بدا لنا منه فذاك‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬وجبت"‪.‬‬
‫قال مصعب بن ثابت ‪ :‬فقال لنا عند ذلك محمد بن َكعْب ‪ :‬صدقَ رسُول ال صلى ال عليه‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ‬
‫علَى النّا ِ‬
‫شهَدَاءَ َ‬
‫سطًا لِ َتكُونُوا ُ‬
‫جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَ َ‬
‫وسلم ‪ ،‬ثم قرأ ‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬
‫شهِيدًا }‬
‫َ‬
‫ثم قال الحاكم ‪ :‬هذا حديث صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يونس بن محمد ‪ ،‬حدثنا داود بن أبي الفرات ‪ ،‬عن عبد ال بن بُريدة ‪،‬‬
‫عن أبي السود أنه قال ‪ :‬أتيتُ المدينة فوافقتها ‪ ،‬وقد وقع بها مرض ‪ ،‬فهم يموتون موتا ذَريعا‪.‬‬
‫فجلست إلى عمر بن الخطاب ‪ ،‬فمرّت به جنازة ‪ ،‬فَأثْ ِنيَ على صاحبها خير‪ .‬فقال ‪ :‬وجبت‬
‫وجَبَت‪ .‬ثم مُرّ بأخرى فَأُثْ ِنيَ عليها شرّ ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬وجبت [وجبت] (‪ .)2‬فقال أبو السود ‪ :‬ما‬
‫شهِد له‬
‫وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال ‪ :‬قلت كما قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أيّما مسلم َ‬
‫أربعة بخير أدخله ال الجنة"‪ .‬قال ‪ :‬فقلنا‪ .‬وثلثة ؟ قال ‪" :‬وثلثة"‪ .‬قال ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬واثنان ؟ قال ‪:‬‬
‫"واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد‪.‬‬
‫وكذا رواه البخاري ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات ‪ ،‬به (‪.)3‬‬
‫قال ابن مَرْدويه ‪ :‬حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ‪ ،‬حدثنا أبو قِلبة الرقاشي ‪ ،‬حدثني أبو الوليد ‪،‬‬
‫حدثنا نافع بن عمر ‪ ،‬حدثني أمية بن صفوان ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم بالنّباوَة (‪ )4‬يقول ‪" :‬يوشك أن تعلموا خياركم من‬
‫شراركم" قالوا ‪ :‬بم يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬بالثناء الحسن والثناء السّيّئ ‪ ،‬أنتم شهداء ال في‬
‫الرض"‪ .‬ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬عن يزيد بن هارون (‪ .)5‬ورواه المام‬
‫أحمد ‪ ،‬عن يزيد بن هارون ‪ ،‬وعبد الملك بن عمر (‪ )6‬وشريح ‪ ،‬عن نافع عن ابن عمر ‪ ،‬به (‬
‫‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المستدرك (‪ )2/268‬وتعقبه الذهبي بقوله ‪" :‬فيه مصعب بن ثابت ليس بالقوي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند ( ‪ )1/22‬وصحيح البخاري برقم (‪ )1368‬وسنن الترمذي برقم (‪ )1059‬وسنن‬
‫النسائي (‪.)4/50‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بالبناوة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )4221‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" )3/301‬إسناد صحيح ‪ ،‬رجاله‬
‫ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بن عمرو"‪.‬‬
‫(‪ )7‬لم أجده في المطبوع من المسند بهذا الطريق ‪ ،‬وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (‬
‫‪.)6/231‬‬

‫( ‪)1/456‬‬

‫عقِبَيْهِ‬
‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّ ِبعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَلِبُ عَلَى َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً إِل عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ } يقول تعالى ‪ :‬إنما شرعنا لك ‪ -‬يا محمد ‪ -‬التوجه‬
‫أول إلى بيت المقدس ‪ ،‬ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ‪ ،‬ليظهر حالُ من يَتّبعك ويُطيعك ويستقبل‬
‫معك حيثما توجهتَ ِممّن ينقلب على عَقبَيْه ‪ ،‬أي ‪ :‬مُرْتَدّا عن (‪ )1‬دينه { وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً } أي ‪:‬‬
‫هذه الفعلة ‪ ،‬وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ‪ ،‬أي ‪ :‬وإن كان هذا المر عظيما‬
‫في النفوس ‪ ،‬إل على الذين هدى ال قلوبهم ‪ ،‬وأيقنُوا بتصديق الرسُول ‪ ،‬وأنّ كلّ ما جاء به فهو‬
‫الحقّ الذي ل مرْية فيه ‪ ،‬وأن ال يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ‪ ،‬فله أن يكلّف عباده بما شاء (‪)2‬‬
‫‪ ،‬وينسخ ما يشاء ‪ ،‬وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ‪ ،‬بخلف الذين في قلوبهم‬
‫مرض ‪ ،‬فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّا ‪ ،‬كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق ‪ ،‬كما قال‬
‫ال تعالى ‪ { :‬وَإِذَا مَا أُنزَلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَ ِذهِ إِيمَانًا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَ ْت ُهمْ‬
‫سهِمْ } [ التوبة ‪:‬‬
‫جِ‬‫جسًا إِلَى رِ ْ‬
‫إِيمَانًا وَهُمْ َيسْتَبْشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ْت ُهمْ رِ ْ‬
‫ن ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ‬
‫شفَا ٌء وَالّذِي َ‬
‫‪ ]125 ، 124‬وقال تعالى ‪ُ { :‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ ِ‬
‫حمَةٌ‬
‫شفَاءٌ وَرَ ْ‬
‫عمًى } [ فصلت ‪ ]44 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَنُنزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫علَ ْيهِمْ َ‬
‫وَ ُهوَ َ‬
‫خسَارًا } [ السراء ‪ .]82 :‬ولهذا كان مَن (‪ )3‬ثَ َبتَ على تصديق‬
‫لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِل َ‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم واتباعه في ذلك ‪ ،‬وتوجه حيثُ أمره ال من غير شك ول رَيْب ‪،‬‬
‫من سادات الصحابة‪ .‬وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين الولين من المهاجرين والنصار هم‬
‫الذين صلّوا القبلتين‪.‬‬
‫وقال البخاري في تفسير هذه الية ‪:‬‬
‫حدثنا مُسَدّد ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪ ،‬عن سُفيان ‪ ،‬عن عبد ال بن دينار ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬بينا الناسُ‬
‫يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال ‪ :‬قد أنزل على النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قرآن ‪ ،‬وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها‪ .‬فتوجهوا إلى الكعبة (‪.)4‬‬
‫وقد رواه مسلم من وجه آخر ‪ ،‬عن ابن عمر (‪ .)5‬ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري (‪)6‬‬
‫وعنده ‪ :‬أنهم كانوا ركوعا ‪ ،‬فاستداروا كما هم إلى الكعبة ‪ ،‬وهم ركوع‪ .‬وكذا رواه مسلم من‬
‫حمّاد بن سلمة ‪ ،‬عن ثابت ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬مثله (‪ ، )7‬وهذا يدل على كمال طاعتهم ل‬
‫حديث َ‬
‫ورسوله ‪ ،‬وانقيادهم لوامر ال عز وجل ‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬مرتدا على"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬بما يشاء"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬من كان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4488‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)526‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪.)341‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)527‬‬

‫( ‪)1/457‬‬

‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَحَ ْيثُ مَا‬


‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا َفوَ ّ‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫قَدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ‬
‫عمّا‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبهِ ْم َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ شَطْ َر ُه وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ‬
‫َي ْعمَلُونَ (‪)144‬‬

‫وقوله ‪َ { :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي ‪ :‬صلتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ل يضيع (‪)1‬‬
‫ثوابها عند ال ‪ ،‬وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السّبِيعي ‪ ،‬عن البراء ‪ ،‬قال ‪ :‬مات قوم‬
‫كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس ‪ :‬ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل ال تعالى ‪َ { :‬ومَا كَانَ‬
‫اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } (‪.)2‬‬
‫[ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه (‪.)4( ] )3‬‬
‫وقال ابن إسحاق ‪ :‬حَدّثني محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪:‬‬
‫{ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي ‪ :‬بالقبلة الولى ‪ ،‬وتصديقكم نبيكم ‪ ،‬واتباعه إلى القبلة‬
‫الخرى‪ .‬أي ‪ :‬لَ ُيعْطيكم (‪ )5‬أجرَهما جميعا‪ { .‬إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ }‬
‫وقال الحسن البصري ‪َ { :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ } أي ‪ :‬ما كان ال ليضيع محمدا صلى ال‬
‫عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف { إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }‬
‫وفي الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها ‪،‬‬
‫فجعلت كُلّما وجدت صبيًا من السبي أخذته فألصقته بصدرها ‪ ،‬وهي تَدُور على ‪ ،‬ولدها ‪ ،‬فلما‬
‫وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أترون هذه طارحة‬
‫ولدها في النار ‪ ،‬وهي تقدر على أل تطرحه ؟" قالوا ‪ :‬ل يا رسول ال‪ .‬قال ‪" :‬فوال ‪ ،‬ل أرحم‬
‫بعباده من هذه بولدها" (‪.)6‬‬
‫جدِ ا ْلحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا‬
‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫ل وَ ْ‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبَْلةً تَ ْرضَاهَا َف َو ّ‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫{ َقدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ‬
‫عمّا‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبهِ ْم َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ شَطْ َر ُه وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ‬
‫َي ْعمَلُونَ (‪} )144‬‬
‫قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ‪ :‬كان أوّل ما نُسخَ من القرآن القبلة ‪ ،‬وذلك أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة ‪ ،‬وكان أكثر أهلها اليهود ‪ ،‬فأمره ال أن يستقبل بيت‬
‫ضعَةَ عَشَرَ شهرًا ‪ ،‬وكان‬
‫المقدس ‪ ،‬ففرحت اليهود ‪ ،‬فاستقبلها رسول ال صلى ال عليه وسلم ب ْ‬
‫ج ِهكَ فِي‬
‫يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى ال وينظر إلى السماء ‪ ،‬فأنزل ال ‪َ { :‬قدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ‬
‫شطْ َرهُ } فارتاب من ذلك اليهود ‪ ،‬وقالوا ‪ { :‬مَا وَلهُمْ عَنْ‬
‫سمَاءِ } إلى قوله ‪َ { :‬فوَلّوا ُوجُو َهكُمْ َ‬
‫ال ّ‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ [ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ] (‪ } )7‬وقال‬
‫قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا ُقلْ لِلّهِ ا ْل َمشْرِ ُ‬
‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ‬
‫‪ { :‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم َوجْهُ اللّهِ } [البقرة ‪ ]115 :‬وقال ال تعالى ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫عقِبَيْهِ }‬
‫عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَِلبُ عَلَى َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪ ،‬أ ‪" :‬ما يضيع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريج الحديث قريبا‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪.)2964‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ليضيعنكم" وفي و ‪" :‬ليعطينكم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )5999‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2754‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ط‪.‬‬
‫( ‪)1/458‬‬

‫وروى ابن مَرْدريه من حديث القاسم ال ُعمَري ‪ ،‬عن عمه عُبيد ال بن عمر ‪ ،‬عن داود بن‬
‫الحصين ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬قال ‪ :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا سلم من‬
‫ج َهكَ‬
‫صلته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل ال ‪ { :‬فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ وَ ْ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ } إلى الكعبة إلى الميزاب ‪َ ،‬يؤُم به جبرائيل (‪ )1‬عليه السلم‪.‬‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫َ‬
‫وروى الحاكم ‪ ،‬في مستدركه ‪ ،‬من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء ‪ ،‬عن يحيى بن قمطة قال ‪:‬‬
‫رأيت عبد ال بن عمرو (‪ )2‬جالسا في المسجد الحرام ‪ ،‬بإزاء الميزاب ‪ ،‬فتل هذه الية ‪:‬‬
‫{ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } قال ‪ :‬نحو ميزاب الكعبة‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)3‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن الحسن بن عرفة ‪ ،‬عن هُشَيْم ‪ ،‬عن يعلى بن عطاء ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وهكذا قال غيره ‪ ،‬وهو أحد قولي الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬إن الغرض إصابة عين القبلة‪ .‬والقول‬
‫الخر وعليه الكثرون ‪ :‬أن المراد المواجهة (‪ )4‬كما رواه الحاكم من حديث محمد بن (‪)5‬‬
‫سجِدِ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫إسحاق ‪ ،‬عن عمير بن زياد الكندي ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪َ { ،‬فوَ ّ‬
‫الْحَرَامِ } قال ‪ :‬شطره ‪ :‬قبله‪ .‬ثم قال ‪ :‬صحيح السناد ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وهذا قول أبي العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫وغيرهم‪ .‬وكما تقدم في الحديث الخر ‪ :‬ما بين المشرق والمغرب قبلة‪.‬‬
‫[وقال القرطبي ‪ :‬روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬ما بين المشرق والمغرب قبلة لهل المسجد ‪ ،‬والمسجد قبلة لهل الحرم ‪ ،‬والحرم قبلة‬
‫لهل الرض في مشارقها ومغاربها من أمتي (‪.)7( ]" )6‬‬
‫وقال أبو نعيم الفضل بن دكين ‪:‬‬
‫حدثنا زهير ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء أن النبي صلى ال عليه وسلم صلّى قبلَ بيت المقدس‬
‫ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ‪ ،‬وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلة العصر ‪،‬‬
‫وصلى معه قوم ‪ ،‬فخرج رجل ممن كان يصلي معه ‪ ،‬فمر على أهل المسجد وهم راكعون ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬أشهد بال لقد صَلّيت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل مكّة ‪ ،‬فداروا كما هم قبل البيت (‬
‫‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬جبريل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المستدرك (‪.)2/269‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الوجهة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬محمد أبي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )10 ، 9 /2‬من طريق عمر بن حفص عن ابن جريج به ‪،‬‬
‫وقال البيهقي ‪" :‬تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف ل يحتج به ‪ ،‬وروى بإسناد آخر‬
‫ضعيف ‪ ،‬عن عبد ال بن حبش كذلك مرفوعا ‪ ،‬ول يحتج بمثله ‪ ،‬وال أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من ج ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )4486‬عن أبي نعيم‪.‬‬

‫( ‪)1/459‬‬

‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء [قال] (‪ )1‬لما قدم رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ‪ ،‬وكان‬
‫ج ِهكَ فِي‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يُحِب أن يحوّل نحو الكعبة ‪ ،‬فنزلت ‪َ { :‬قدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ‬
‫سمَاءِ [فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا] (‪ } )2‬فصرف إلى الكعبة‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال ‪ :‬كنا َنغْدُو إلى المسجد على عهد رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فنمر على المسجد فنصلي فيه ‪ ،‬فمررنا يومًا ‪ -‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قاعد على المنبر ‪ -‬فقلت ‪ :‬لقد حَدث أمر ‪ ،‬فجلست ‪ ،‬فقرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } حتى فرغ من الية‪ .‬فقلت‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫الية ‪ { :‬قَدْ نَرَى َتقَّلبَ َو ْ‬
‫لصاحبي ‪ :‬تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول ال صلى ال عليه وسلم فنكون أول من صلى‬
‫‪ ،‬فتوارينا فصليناهما‪ .‬ثم نزل النبي صلى ال عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ (‪.)3‬‬
‫وكذا روى ابن مَرْدويه ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أن أول صلة صلها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫إلى الكعبة صَلةُ الظهر ‪ ،‬وأنها الصلة الوُسطى‪ .‬والمشهور أن أول صلة صلها إلى الكعبة‬
‫صلة العصر ‪ ،‬ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلة الفجر‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه ‪ :‬حدثنا سليمان بن أحمد ‪ ،‬حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتَري ‪،‬‬
‫حدثنا رجاء بن محمد السقطي ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن إدريس ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن جعفر ‪ ،‬حدثني‬
‫أبي ‪ ،‬عن جدته أم أبيه ُنوَيلة بنت مسلم ‪ ،‬قالت ‪ :‬صَلّينا الظهر ‪ -‬أو العصر (‪ - )4‬في مسجد بني‬
‫حارثة ‪ ،‬فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ‪ ،‬ثم جاء مَنْ يحدثنا أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قد استقبل البيت الحرام ‪ ،‬فتحول النساءُ مكان (‪ )5‬الرجال ‪ ،‬والرجالُ مكان (‪ )6‬النساء ‪،‬‬
‫فصلينا السجدتين الباقيتين ‪ ،‬ونحن مستقبلون (‪ )7‬البيت الحرام‪ .‬فحدثني رجل من بني حارثة أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أولئك رجال يؤمنون بالغيب" (‪.)8‬‬
‫وقال ابن مردويه أيضًا ‪ :‬حدثنا محمد بن علي بن ُدحَيْم ‪ ،‬حدثنا أحمد بن حازم ‪ ،‬حدثنا مالك بن‬
‫عمَارة بن أوس قال ‪ :‬بينما نحن في‬
‫إسماعيل النهدي ‪ ،‬حدثنا قيس ‪ ،‬عن زياد بن علقة ‪ ،‬عن ُ‬
‫حوّلت إلى الكعبة‪.‬‬
‫الصلة نحو بيت المقدس ‪ ،‬ونحن ركوع ‪ ،‬إذ أتى مناد بالباب ‪ :‬أن القبلة قد ُ‬
‫قال ‪ :‬فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوّل هو والرّجال والصبيان ‪ ،‬وهم ركوع ‪ ،‬نحو الكعبة (‬
‫‪.)9‬‬
‫شطْ َرهُ } أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات‬
‫وقوله ‪ { :‬وَحَيْ ُثمَا كُنْ ُتمْ َفوَلّوا ُوجُو َهكُمْ َ‬
‫الرض ‪ ،‬شرقًا وغربًا وشمال وجنوبًا ‪ ،‬ول يستثنى من هذا شَيء ‪ ،‬سوى النافلة في حال السفر ‪،‬‬
‫فإنه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي الكبرى (‪.)11004‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬الظهر والعصر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬موضع"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬موضع"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬ونحن مستقبلو"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المعجم الكبير (‪ )25/43‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" )2/14‬فيه إسحاق بن إدريس السواري‬
‫وهو ضعيف متروك"‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )1/335‬عن شبابة عن قيس عن زياد به‬

‫( ‪)1/460‬‬

‫ضهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ‬


‫ك َومَا أَ ْنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَ َتهُمْ َومَا َب ْع ُ‬
‫وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آَيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ‬
‫َب ْعضٍ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَهُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِ ّنكَ ِإذًا َلمِنَ الظّاِلمِينَ (‪)145‬‬

‫يصليها حيثما توجه قَالبُه ‪ ،‬وقَلْبُه نحو الكعبة‪ .‬وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل‬
‫حال ‪ ،‬وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ‪ ،‬وإن كان مخطئًا في نفس المر ‪ ،‬لن ال‬
‫تعالى ل يكلف نفسًا إل وسعها‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬وقد استدل المالكية بهذه الية على أن المصلي ينظر أمامه ل إلى موضع سجوده كما‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ }‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ‪ ،‬قال المالكية لقوله ‪َ { :‬ف َو ّ‬
‫فلو نظر إلى موضع سجوده لحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من النحناء وهو ينافي كمال القيام‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬ينظر المصلي في قيامه إلى صدره‪ .‬وقال شريك القاضي ‪ :‬ينظر في حال قيامه‬
‫إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة ‪ ،‬لنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد‬
‫به الحديث ‪ ،‬وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه ‪ ،‬وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي‬
‫حال قعوده إلى حجره‪.‬‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ } أي ‪ :‬واليهودُ ‪ -‬الذين أنكروا‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ‬
‫استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس ‪ -‬يعلمون أن ال تعالى سَيُوجهك إليها ‪ ،‬بما في‬
‫كتبهم عن أنبيائهم ‪ ،‬من النعت والصفة لرسول ال صلى ال عليه وسلم وأمّته ‪ ،‬وما خصه ال‬
‫تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ‪ ،‬ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا‬
‫عمّا َي ْعمَلُونَ } (‪.)1‬‬
‫وعنادًا ؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله ‪َ { :‬ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫ضهُمْ بِتَابِعٍ قِبَْلةَ‬
‫ك َومَا أَ ْنتَ بِتَا ِبعٍ قِبْلَ َتهُ ْم َومَا َب ْع ُ‬
‫{ وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آ َيةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ‬
‫َب ْعضٍ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَهُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِ ّنكَ ِإذًا َلمِنَ الظّاِلمِينَ (‪} )145‬‬
‫يخبر تعالى (‪ )2‬عن كُفر اليهود وعنادهم ‪ ،‬ومخالفتهم ما (‪ )3‬يعرفونه من شأن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به ‪ ،‬لما اتبعوه وتركوا‬
‫حقّتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ * وََلوْ جَاءَ ْت ُهمْ ُكلّ آيَةٍ‬
‫أهواءهم (‪ )4‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َ‬
‫حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ اللِيمَ } [ يونس ‪ ]97 ، 96 :‬ولهذا قال هاهنا ‪ { :‬وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ‬
‫ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َتكَ }‪.‬‬
‫ضهُمْ بِتَا ِبعٍ قِبْلَةَ َب ْعضٍ] } إخبار عن شدة متابعة الرسول‬
‫وقوله { َومَا أَ ْنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَ َتهُمْ [ َومَا َب ْع ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم لما أمره ال تعالى به ‪ ،‬وأنه كما هم مُسْ َتمْسكون (‪ )5‬بآرائهم وأهوائهم ‪ ،‬فهو‬
‫أيضًا مستمسك (‪ )6‬بأمر ال وطاعته واتباع مرضاته ‪ ،‬وأنه ل يتبع أهواءهم في جميع أحواله ‪،‬‬
‫وما كان (‪ )7‬متوجها إلى بيت المقدس ؛ لنها (‪ )8‬قبلة اليهود ‪ ،‬وإنما ذلك عن أمر ال تعالى (‬
‫‪ .)9‬ثم حذر [ال] (‪ )10‬تعالى عن مخالفة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬تعلمون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يخبر تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ومخالفتهم لما"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وتركوا أهوائهم " وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬متمسكون"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬متمسك"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ول كان"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬لكونها"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ال تعالى وطاعته"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫( ‪)1/461‬‬

‫الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره‪ .‬ولهذا قال مخاطبا‬
‫ك َومَا أَ ْنتَ بِتَابِعٍ‬
‫للرسول ‪ ،‬والمراد المة ‪ { :‬وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ‬
‫ضهُمْ بِتَابِعٍ قِبَْلةَ َب ْعضٍ وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَهُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِ ّنكَ ِإذًا َلمِنَ‬
‫قِبْلَ َتهُ ْم َومَا َب ْع ُ‬
‫الظّاِلمِينَ } [البقرة ‪.]145 :‬‬

‫( ‪)1/462‬‬

‫ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ (‬
‫حّ‬‫الّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَا َءهُ ْم وَإِنّ فَرِيقًا مِ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ‬
‫ج َهةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا فَاسْتَ ِبقُوا ا ْلخَيْرَاتِ أَيْنَ‬
‫‪ )146‬ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ (‪ )147‬وَِل ُكلّ وِ ْ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)148‬‬
‫علَى ُكلّ َ‬
‫جمِيعًا إِنّ اللّهَ َ‬
‫مَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ‬

‫ق وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ (‬
‫{ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُه ْم وَإِنّ فَرِيقًا مِ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ ا ْلحَ ّ‬
‫‪ )146‬ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ (‪} )147‬‬
‫يخبر تعالى (‪ )1‬أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫[كما يعرفون أبناءهم] (‪ )2‬كما يعرف أحدُهم ولده ‪ ،‬والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء‬
‫بهذا ‪ ،‬كما جاء في الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لرجل معه صغير ‪" :‬ابنك‬
‫هذا ؟" قال ‪ :‬نعم يا رسول ال ‪ ،‬أشهد به‪ .‬قال ‪" :‬أما إنه ل َيجْنِي عليك ول تجْنِي عليه" (‪.)3‬‬
‫[قال القرطبي ‪ :‬ويروى أن عمر قال لعبد ال بن سلم ‪ :‬أتعرف محمدًا صلى ال عليه وسلم كما‬
‫تعرف ولدك ابنك ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم وأكثر ‪ ،‬نزل المين من السماء على المين ‪ ،‬في الرض بنعته‬
‫فعرفته ‪ ،‬وإني ل أدري ما كان من أمره‪ .‬قلت ‪ :‬وقد يكون المراد { َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ‬
‫أَبْنَاءَ ُهمْ } من بين أبناء الناس ل يشك أحد ول يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس‬
‫كلهم] (‪.)4‬‬
‫حقّ } أي ‪ :‬ليكتمون الناس ما‬
‫ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق (‪ )5‬والتقان العلمي { لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ‬
‫في كتبهم من صفة النبي صلى ال عليه وسلم { وَهُمْ َيعَْلمُونَ }‬
‫ثم ثبّت تعالى نبيه (‪ )6‬والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء (‪ )7‬به الرسول (‪ )8‬صلى ال عليه وسلم‬
‫هو الحق الذي ل مرية فيه ول شك ‪ ،‬فقال ‪ { :‬ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ }‬
‫شيْءٍ‬
‫جمِيعًا إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫جهَةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْ َنمَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِب ُكمُ اللّهُ َ‬
‫ل وِ ْ‬
‫{ وَِل ُك ّ‬
‫قَدِيرٌ (‪} )148‬‬
‫جهَةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا } يعني بذلك ‪ :‬أهل الديان ‪ ،‬يقول ‪ :‬لكل‬
‫ل وِ ْ‬
‫قال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَِل ُك ّ‬
‫قبلة يرضونها ‪ ،‬ووجهة ال حيث توجه المؤمنون‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬لليهودي وجهة هو موليها ‪ ،‬وللنصراني وجهة هو موليها ‪ ،‬وهَداكم أنتم أيتها‬
‫المة [الموقنون] (‪ )9‬للقبلة التي هي القبلة‪ .‬وروي عن مجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والربيع‬
‫بن أنس ‪ ،‬والسدي نحو هذا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬يخبر تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد في المسند (‪ )228 ، 2/226‬وأبو داود في السنن برقم (‪.)4495‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ج ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬التحقيق"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬النبي صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬ما جاءهم به"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/462‬‬

‫عمّا‬
‫ك َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَإِنّهُ لَ ْلحَقّ مِنْ رَ ّب َ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫جتَ َفوَ ّ‬
‫َومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَحَ ْيثُ مَا كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫جتَ َفوَ ّ‬
‫َت ْعمَلُونَ (‪َ )149‬ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬
‫شوْنِي وَلِأُتِمّ ِن ْعمَتِي عَلَ ْيكُمْ‬
‫شوْهُ ْم وَاخْ َ‬
‫خَ‬‫حجّةٌ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ فَلَا تَ ْ‬
‫شطْ َرهُ لِئَلّا َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫َ‬
‫وََلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ (‪)150‬‬

‫وقال مجاهد في الرواية الخرى ‪ :‬ولكن أمَ َر كلّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة‪.‬‬
‫وقرأ ابن عباس ‪ ،‬وأبو جعفر الباقر ‪ ،‬وابن عامر ‪" :‬ولكلٍ وجهة هو ُموَلها"‪.‬‬
‫ح َدةً‬
‫جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْعَ ًة َومِ ْنهَاجًا وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬
‫وهذه الية شبيهة بقوله تعالى ‪ِ { :‬ل ُكلّ َ‬
‫جمِيعًا } [المائدة ‪.]48 :‬‬
‫ج ُع ُكمْ َ‬
‫وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَ ِبقُوا ا ْلخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْ ِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } أي ‪ :‬هو قادر على‬
‫جمِيعًا إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وقال هاهنا ‪ { :‬أَيْ َنمَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ‬
‫جمعكم من الرض ‪ ،‬وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم‪.‬‬
‫عمّا‬
‫ك َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫حقّ مِنْ رَ ّب َ‬
‫جدِ ا ْلحَرَا ِم وَإِنّهُ لَلْ َ‬
‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫ل وَ ْ‬
‫جتَ َف َو ّ‬
‫{ َومِنْ حَ ْيثُ خَرَ ْ‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَحَيْ ُثمَا كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫جتَ َفوَ ّ‬
‫َت ْعمَلُونَ (‪َ )149‬ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬
‫شوْنِي وَلتِمّ ِن ْعمَتِي‬
‫شوْهُ ْم وَاخْ َ‬
‫شطْ َرهُ لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ إِل الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ فَل َتخْ َ‬
‫َ‬
‫عَلَ ْيكُ ْم وََلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ (‪} )150‬‬
‫هذا أمر ثالث من ال تعالى (‪ )1‬باستقبال المسجد الحرام ‪ ،‬من جميع أقطار الرض‪.‬‬
‫وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلث مرات ‪ ،‬فقيل ‪ :‬تأكيد لنه أول ناسخ وقع ‪ ،‬في السلم‬
‫على ما نص عليه ابن عباس وغيره ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل هو منزل على أحوال ‪ ،‬فالمر الول لمن هو‬
‫مشاهد الكعبة ‪ ،‬والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها ‪ ،‬والثالث لمن هو في بقية البلدان ‪ ،‬هكذا‬
‫وجهه فخر الدين الرازي‪ .‬وقال القرطبي ‪ :‬الول لمن هو بمكة ‪ ،‬والثاني لمن هو في بقية‬
‫المصار ‪ ،‬والثالث لمن خرج ‪ ،‬في السفار ‪ ،‬ورجح هذا الجواب القرطبي ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنما ذكر‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ‬
‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬
‫ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق ‪ ،‬فقال ‪ :‬أول { قَدْ نَرَى َتقَّلبَ وَ ْ‬
‫قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } إلى قوله ‪ { :‬وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ِه ْم َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ‬
‫عمّا َي ْعمَلُونَ } فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها‬
‫َ‬
‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَا ِم وَإِنّهُ‬
‫جتَ َف َولّ وَ ْ‬
‫ويرضاها ؛ وقال في المر الثاني ‪َ { :‬ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ } فذكر أنه الحق من ال وارتقى عن المقام الول ‪،‬‬
‫ك َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫حقّ مِنْ رَ ّب َ‬
‫لَلْ َ‬
‫حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى ال عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من ال يحبه‬
‫ويرتضيه ‪ ،‬وذكر في المر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون‬
‫باستقبال الرسول إلى قبلتهم ‪ ،‬وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم ‪،‬‬
‫عليه السلم ‪ ،‬إلى الكعبة ‪ ،‬وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف ‪ ،‬وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم‬
‫استقبال الرسول صلى ال عليه وسلم إليها ‪ ،‬وقيل غير ذلك من الجوبة عن حكمة التكرار ‪ ،‬وقد‬
‫بسطها فخر الدين وغيره ‪ ،‬وال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬من ال تبارك وتعالى"‪.‬‬

‫( ‪)1/463‬‬

‫ح ْكمَ َة وَ ُيعَّل ُمكُمْ مَا لَمْ‬


‫َكمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِ ْنكُمْ يَتْلُو عَلَ ْيكُمْ آَيَاتِنَا وَيُ َزكّيكُ ْم وَ ُيعَّل ُمكُمُ ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ‬
‫شكُرُوا لِي وَلَا َت ْكفُرُونِ (‪)152‬‬
‫َتكُونُوا َتعَْلمُونَ (‪ )151‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ وَا ْ‬

‫وقوله ‪ { :‬لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ } أي ‪ :‬أهل الكتاب ؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه المة‬
‫التوجه إلى الكعبة ‪ ،‬فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين أو لئل يحتجوا‬
‫بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس‪ .‬وهذا أظهر‪.‬‬
‫قال أبو العالية ‪ { :‬لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا ‪ :‬صُرف محمد‬
‫إلى الكعبة‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬اشتاق الرجل إلى بيت أبيه (‪ )1‬ودين قومه‪ .‬وكان حجتهم على النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا ‪ :‬سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروى عن مجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪،‬‬
‫والسدي ‪ ،‬نحو هذا‪.‬‬
‫وقال هؤلء في قوله ‪ { :‬إِل الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ } يعني ‪ :‬مشركي قريش‪.‬‬
‫ووجه بعضهم حُجّة الظلمة ‪ -‬وهي داحضة ‪ -‬أن قالوا ‪ :‬إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين‬
‫إبراهيم ‪ :‬فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم ‪ ،‬فلم رجع عنه ؟ والجواب ‪ :‬أن ال‬
‫تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أول لما له تعالى في ذلك من الحكمة ‪ ،‬فأطاع ربه تعالى‬
‫في ذلك ‪ ،‬ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم ‪ -‬وهي الكعبة ‪ -‬فامتثل أمر ال في ذلك أيضًا ‪ ،‬فهو ‪،‬‬
‫صلوات ال وسلمه عليه ‪ ،‬مطيع ل في جميع أحواله ‪ ،‬ل يخرج عن أمر ال طرفة عين ‪ ،‬وأمتهُ‬
‫تَبَع له‪.‬‬
‫شوْنِي } أي ‪ :‬ل تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين ‪ ،‬وأفْرِدُوا الخشية لي ‪،‬‬
‫شوْهُمْ وَاخْ َ‬
‫وقوله ‪ { :‬فَل َتخْ َ‬
‫فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه‪.‬‬
‫علَ ْيكُمْ } عطف على { لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَ ْيكُمْ حُجّةٌ } أي ‪ :‬ولتم نعمتي‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلتِمّ ِن ْعمَتِي َ‬
‫عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة ‪ ،‬لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها { وََلعَّلكُمْ‬
‫َتهْتَدُونَ } أي ‪ :‬إلى ما ضَلّت عنه المم هديناكم إليه ‪ ،‬وخَصصْناكم به ‪ ،‬ولهذا كانت هذه المة‬
‫ف المم وأفضلها‪.‬‬
‫أشر َ‬
‫ح ْكمَ َة وَ ُيعَّل ُمكُمْ مَا َلمْ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫{ َكمَا أَ ْرسَلْنَا فِيكُمْ رَسُول مِ ْنكُمْ يَتْلُو عَلَ ْيكُمْ آيَاتِنَا وَيُ َزكّيكُ ْم وَ ُيعَّل ُمكُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫شكُرُوا لِي وَل َت ْكفُرُونِ (‪} )152‬‬
‫َتكُونُوا َتعَْلمُونَ (‪ )151‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ وَا ْ‬
‫يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى ال عليه وسلم إليهم ‪،‬‬
‫يتلو عليهم آيات ال مبينات وَيُ َزكّيهم ‪ ،‬أي ‪ :‬يطهرهم من رذائل الخلق ودَنَس النفوس وأفعال‬
‫الجاهلية ‪ ،‬ويخرجهم من الظلمات إلى النور ‪ ،‬ويعلمهم الكتاب ‪ -‬وهو القرآن ‪ -‬والحكمة ‪ -‬وهي‬
‫جهْلء يُس َفهُون بالقول الفرَى ‪،‬‬
‫السنة ‪ -‬ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون‪ .‬فكانوا في الجاهلية ال َ‬
‫فانتقلوا ببركة رسالته ‪ ،‬ويُمن سفارته ‪ ،‬إلى حال الولياء ‪ ،‬وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس‬
‫علمًا ‪ ،‬وأبرهم قلوبًا ‪ ،‬وأقلهم تكلفًا ‪ ،‬وأصدقهم لهجة‪ .‬وقال تعالى ‪َ { :‬لقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ إِذْ‬
‫سهِمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِ ِه وَيُ َزكّيهِمْ }‬
‫َب َعثَ فِي ِهمْ رَسُول مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬في بيت ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/464‬‬
‫الية [آل عمران ‪ .]164 :‬وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة ‪ ،‬فقال تعالى ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ‬
‫بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ } [ إبراهيم ‪.]28 :‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬يعني بنعمة ال محمدًا صلى ال عليه وسلم ؛ ولهذا نَدَب ال المؤمنين إلى‬
‫شكُرُوا لِي وَل‬
‫العتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره ‪ ،‬فقال ‪ { :‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ وَا ْ‬
‫َت ْكفُرُونِ }‪.‬‬
‫قال مجاهد في قوله ‪َ { :‬كمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُول مِ ْنكُمْ } (‪ )1‬يقول ‪ :‬كما فعلت فاذكروني‪.‬‬
‫قال عبد ال بن وهب ‪ ،‬عن هشام بن سعيد ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ :‬أن موسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫يا رب ‪ ،‬كيف أشكرك ؟ قال له ربه ‪ :‬تذكرُني ول تنساني ‪ ،‬فإذا ذكرتني فقد شكرتني ‪ ،‬وإذا‬
‫نسيتني فقد كفرتني‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬إن ال يذكر من ذكره ‪ ،‬ويزيد‬
‫من شكره ويعذب من كفره‪.‬‬
‫حقّ ُتقَاتِهِ } [آل عمران ‪ ]102 :‬قال ‪ :‬هو أن‬
‫وقال بعض السلف في قوله تعالى ‪ { :‬ا ّتقُوا اللّهَ َ‬
‫شكَرَ فل ُيكْفَر‪.‬‬
‫يطاع فل يعصى ‪ ،‬ويذكر فل يُ ْنسَى ‪ ،‬ويُ ْ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬أخبرنا يزيد بن هارون ‪ ،‬أخبرنا عمارة‬
‫الصيدلني ‪ ،‬حدثنا مكحول الزدي قال ‪ :‬قلت لبن عمر ‪ :‬أرأيت قاتل النفس ‪ ،‬وشارب الخمر‬
‫والسارق والزاني يذكر ال ‪ ،‬وقد قال ال تعالى ‪ { :‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ } ؟ قال ‪ :‬إذا ذكر ال هذا‬
‫ذكره ال بلعنته ‪ ،‬حتى يسكت‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري في قوله ‪ { :‬فَا ْذكُرُونِي َأ ْذكُ ْركُمْ } قال ‪ :‬اذكروني ‪ ،‬فيما افترضت عليكم‬
‫أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي‪.‬‬
‫وعن سعيد بن جبير ‪ :‬اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬برحمتي‪.‬‬
‫وعن ابن عباس في قوله { فَا ْذكُرُونِي َأ ْذكُ ْركُمْ } (‪ )2‬قال ‪ :‬ذكر ال إياكم أكبر من ذكركم إياه‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح ‪" :‬يقول ال تعالى ‪ :‬من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ‪ ،‬ومن ذكرني في‬
‫مل ذكرته في مل خير منه"‪.‬‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال ال عز وجل ‪ :‬يا ابن آدم ‪ ،‬إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ‪،‬‬
‫وإن ذكرتني في مل ذكرتك ‪ ،‬في مل من الملئكة ‪ -‬أو قال ‪[ :‬في] (‪ )3‬مل خير منهم ‪ -‬وإن‬
‫دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا ‪ ،‬وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ‪ ،‬وإن أتيتني تمشي‬
‫أتيتك أهرول"‬
‫صحيح السناد ‪ :‬أخرجه البخاري من حديث قتادة (‪ .)4‬وعنده قال قتادة ‪ :‬ال أقرب بالرحمة‪.‬‬
‫شكُرُوا لِي وَل َت ْكفُرُونِ } أمر ال تعالى بشكره ‪ ،‬ووعده على شكره بمزيد‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَا ْ‬
‫عذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم ‪:‬‬
‫شكَرْ ُتمْ لزِيدَ ّنكُ ْم وَلَئِنْ َكفَرْتُمْ إِنّ َ‬
‫الخير ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّب ُكمْ لَئِنْ َ‬
‫‪.]7‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا روح ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن الفضيل (‪ )5‬بن فضالة ‪ -‬رجل من قيس ‪-‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬فيكم" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في هـ ‪" :‬اذكروني" والمثبت من ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ ‪ ،‬والمسند‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )3/138‬وصحيح البخاري برقم (‪.)7536‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬عن الفضل"‪.‬‬

‫( ‪)1/465‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا اسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّلَاةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (‪)153‬‬

‫حدثنا أبو رجاء العطاردي ‪ ،‬قال ‪ :‬خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره (‬
‫‪ )1‬عليه قبل ذلك ول بعده ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من أنعم ال عليه‬
‫نعمة فإن ال يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه"‪ .‬وقال روح مرة ‪" :‬على عبده" (‪.)2‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (‪} )153‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬لم يرد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)4/438‬‬

‫( ‪)1/446‬‬

‫شعُرُونَ (‪)154‬‬
‫وَلَا َتقُولُوا ِلمَنْ ُيقْ َتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ َبلْ َأحْيَا ٌء وََلكِنْ لَا َت ْ‬

‫شعُرُونَ (‪} )154‬‬


‫{ وَل َتقُولُوا ِلمَنْ ُيقْ َتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ َبلْ َأحْيَا ٌء وََلكِنْ ل تَ ْ‬
‫لما فرغ تعالى (‪ )1‬من بيان المر بالشكر شرع في بيان الصبر ‪ ،‬والرشاد إلى الستعانة بالصبر‬
‫والصلة ‪ ،‬فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ‪ ،‬أو في نقمة فيصبر عليها ؛ كما جاء في‬
‫الحديث ‪" :‬عجبًا للمؤمن‪ .‬ل يقضي ال له قضاء إل كان خيرًا له ‪ :‬إن أصابته سراء ‪ ،‬فشكر ‪،‬‬
‫كان خيرًا له ؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له"‪.‬‬
‫وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلة ‪ ،‬كما تقدم في قوله ‪:‬‬
‫شعِينَ } [البقرة ‪ .]45 :‬وفي الحديث كان‬
‫{ وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْ ِر وَالصّل ِة وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِل عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى (‪ .)2‬والصبر صبران ‪ ،‬فصبر على ترك‬
‫المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات‪ .‬والثاني أكثر ثوابًا لنه المقصود‪ .‬كما قال‬
‫عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬الصبر في بابين ‪ ،‬الصبر ل بما أحب ‪ ،‬وإن ثقل على النفس (‪)3‬‬
‫والبدان ‪ ،‬والصبر ل عما كره وإن نازعت إليه الهواء‪ .‬فمن كان هكذا ‪ ،‬فهو من الصابرين‬
‫الذين يسلم عليهم ‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬
‫وقال علي بن الحسين زين العابدين ‪ :‬إذا جمع ال الولين والخرين ينادي مناد ‪ :‬أين الصابرون‬
‫ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال ‪ :‬فيقوم عُنُق من الناس ‪ ،‬فتتلقاهم الملئكة ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬إلى أين‬
‫يا بني آدم ؟ فيقولون ‪ :‬إلى الجنة‪ .‬فيقولون ‪ :‬وقبل الحساب ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ومن أنتم ؟‬
‫قالوا ‪ :‬الصابرون ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما كان صبركم ؟ قالوا ‪ :‬صبرنا على طاعة ال ‪ ،‬وصبرنا عن‬
‫معصية ال ‪ ،‬حتى توفانا ال‪ .‬قالوا ‪ :‬أنتم كما قلتم ‪ ،‬ادخلوا الجنة ‪ ،‬فنعم أجر العاملين‪.‬‬
‫حسَابٍ } [الزمر ‪.]10 :‬‬
‫قلت ‪ :‬ويشهد لهذا قوله تعالى ‪ { :‬إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ :‬الصبر اعتراف العبد ل بما أصاب منه ‪ ،‬واحتسابه عند ال رجاء ثوابه ‪،‬‬
‫وقد يجزع الرجل وهو مُ َتجَلّد ل يرى منه إل الصبر‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَل َتقُولُوا ِلمَنْ ُيقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ َبلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في‬
‫بَرْزَخِهم أحياء يرزقون ‪ ،‬كما جاء في صحيح مسلم ‪" :‬إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر‬
‫تسرح في الجنة حيث شاءت (‪ )4‬ثم تأوي إلى قناديل ُمعَلّقة تحت العرش ‪ ،‬فاطّلع عليهم ربك‬
‫اطّلعَة ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬لما فرغ تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )1319‬من حديث حذيفة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وإن تقتل عليه النفس" وفي ط ‪" :‬فإن ثقل على النفس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬حيث ما شاءت"‪.‬‬

‫( ‪)1/446‬‬

‫ت وَبَشّرِ الصّابِرِينَ (‬
‫س وَال ّثمَرَا ِ‬
‫ع وَ َنقْصٍ مِنَ الَْأ ْموَالِ وَالْأَنْفُ ِ‬
‫ف وَالْجُو ِ‬
‫خوْ ِ‬
‫شيْءٍ مِنَ ا ْل َ‬
‫وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ بِ َ‬
‫جعُونَ (‪ )156‬أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ صََلوَاتٌ مِنْ‬
‫‪ )155‬الّذِينَ ِإذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫حمَةٌ وَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ (‪)157‬‬
‫رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ‬
‫فقال ‪ :‬ماذا تبغون ؟ فقالوا ‪ :‬يا ربنا ‪ ،‬وأيّ شيء نبغي ‪ ،‬وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك ؟‬
‫ثم عاد إليهم بمثل هذا ‪ ،‬فلما رأوا أنهم ل يُتْ َركُون من أن يسألوا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نريد أن تردنا إلى الدار‬
‫الدنيا ‪ ،‬فنقاتل في سبيلك ‪ ،‬حتى نقتل فيك مرة أخرى ؛ لما يرون من ثواب الشهادة ‪ -‬فيقول الرب‬
‫جلّ جلله ‪ :‬إني كتبتُ أنّهم إليها ل يرجعون" (‪.)1‬‬
‫وفي الحديث الذي رواه المام أحمد ‪ ،‬عن المام الشافعي ‪ ،‬عن المام مالك ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن‬
‫سمَةُ‬
‫عبد الرحمن بن كعب بن مالك ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬نَ َ‬
‫المؤمن طائر َتعْلَقُ في شجر الجنة ‪ ،‬حتى يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" (‪.)2‬‬
‫صصُوا (‪ )3‬بالذكر في القرآن ‪ ،‬تشريفًا‬
‫ففيه دللة لعموم المؤمنين أيضًا ‪ ،‬وإن كان الشهداء قد خ ّ‬
‫لهم وتكريمًا وتعظيما (‪.)4‬‬
‫س وَال ّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ (‬
‫ف وَالْجُوعِ وَ َن ْقصٍ مِنَ المْوَالِ وَال ْنفُ ِ‬
‫خ ْو ِ‬
‫شيْءٍ مِنَ الْ َ‬
‫{ وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ ِب َ‬
‫جعُونَ (‪ )156‬أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ صََلوَاتٌ مِنْ‬
‫‪ )155‬الّذِينَ ِإذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫حمَةٌ وَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ (‪} )157‬‬
‫رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ‬
‫أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [المؤمنين] (‪ )5‬أي ‪ :‬يختبرهم ويمتحنهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ‬
‫ن وَنَبُْلوَ َأخْبَا َركُمْ } [محمد ‪ ]31 :‬فتارة بالسراء ‪ ،‬وتارة‬
‫حَتّى َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِ ْنكُ ْم وَالصّابِرِي َ‬
‫خوْفِ } [النحل ‪:‬‬
‫بالضراء من خوف وجوع ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ‬
‫‪ ]112‬فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ؛ ولهذا قال ‪ :‬لباس الجوع والخوف‪ .‬وقال‬
‫خ ْوفِ وَا ْلجُوعِ } أي ‪ :‬بقليل من ذلك { وَ َن ْقصٍ مِنَ المْوَالِ } أي ‪ :‬ذهاب‬
‫شيْءٍ مِنَ الْ َ‬
‫هاهنا { بِ َ‬
‫بعضها { وَالنْفُسِ } كموت الصحاب والقارب والحباب { وَال ّثمَرَاتِ } أي ‪ :‬ل ُت ِغلّ الحدائق‬
‫والمزارع كعادتها‪ .‬كما قال بعض السلف ‪ :‬فكانت بعض النخيل ل تثمر غير واحدة‪ .‬وكل هذا‬
‫وأمثاله مما يختبر ال به عباده ‪ ،‬فمن صبر أثابه [ال] (‪ )6‬ومن قنط أحل [ال] (‪ )7‬به عقابه‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪ { :‬وَبَشّرِ الصّابِرِينَ }‬
‫وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف (‪ )8‬هاهنا ‪ :‬خوف ال ‪ ،‬وبالجوع ‪ :‬صيام‬
‫رمضان ‪ ،‬ونقص (‪ )9‬الموال ‪ :‬الزكاة ‪ ،‬والنفس ‪ :‬المراض ‪ ،‬والثمرات ‪ :‬الولد‪.‬‬
‫وفي هذا نظر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ن تعالى مَنِ الصابرون (‪ )10‬الذين شكرهم ‪ ،‬قال ‪ { :‬الّذِينَ إِذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّهِ‬
‫ثم بيَ ّ‬
‫جعُونَ } أي ‪ :‬تسلّوا بقولهم هذا عما أصابهم ‪ ،‬وعلموا أنّهم ملك ل يتصرف في عبيده‬
‫وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪ )1887‬من حديث ابن مسعود رضي ال عنه ولفظه مختلف لكن معناه‬
‫واحد‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)3/455‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬قد خصوا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬تعظيما وتكريما"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬أن المراد بالخوف"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وبنقص"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬الصابرين"‪.‬‬

‫( ‪)1/467‬‬

‫بما (‪ )1‬يشاء ‪ ،‬وعلموا أنه ل يضيع لديه مثْقال ذرّة يوم القيامة ‪ ،‬فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم‬
‫عبيده ‪ ،‬وأنهم إليه راجعون في الدار الخرة‪ .‬ولهذا أخبر تعالى عما (‪ )2‬أعطاهم على ذلك فقال ‪:‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِمْ } أي ‪ :‬ثناء من ال عليهم ورحمة‪.‬‬
‫قال سعيد بن جبير ‪ :‬أي َأمَنَةٌ من العذاب { وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ } قال أمير المؤمنين عمر بن‬
‫حمَةٌ } فهذان العدلن {‬
‫الخطاب ‪ :‬نعم العدْلن ونعمت العلوة { أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِ ْم صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ‬
‫وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ } فهذه العلوة ‪ ،‬وهي ما توضع بين العدلين ‪ ،‬وهي زيادة في الحمل وكذلك‬
‫هؤلء ‪ ،‬أعطوا ثوابهم وزيدوا (‪ )3‬أيضًا‪.‬‬
‫جعُونَ } عند المصائب‬
‫وقد ورد في ثواب السترجاع ‪ ،‬وهو قول (‪ { )4‬إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫أحاديث كثيرة‪ .‬فمن ذلك ما رواه المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا يونس ‪ ،‬حدثنا ليث ‪ -‬يعني ابن سعد ‪ -‬عن يزيد بن عبد ال بن أسامة بن الهاد ‪ ،‬عن عمرو‬
‫عمْرو ‪ ،‬عن المطلب ‪ ،‬عن أم سلمة قالت ‪ :‬أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول ال صلى‬
‫بن أبي َ‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬لقد سمعت من رسول ال صلى ال عليه وسلم قول سُر ْرتُ به‪ .‬قال ‪" :‬ل‬
‫يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ‪ ،‬ثم يقول ‪ :‬اللهم أجُرني في مصيبتي‬
‫واخلُف لي خيرًا منها ‪ ،‬إل ُفعِل ذلك به"‪ .‬قالت أم سلمة ‪ :‬فحفظت ذلك منه ‪ ،‬فلما توفي أبو سلمة‬
‫استرجعت وقلت ‪ :‬اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه ‪ ،‬ثم رجعت إلى نفسي‪ .‬فقلت ‪:‬‬
‫من أين لي خير (‪ )5‬من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدّتي استأذن علي رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ -‬وأنا أدبغ إهابا لي ‪ -‬فغسلت يدي من القَرَظ (‪ )6‬وأذنت له ‪ ،‬فوضعت له وسادة أدم‬
‫شوُها ليف ‪ ،‬فقعد عليها ‪ ،‬فخطبني إلى نفسي ‪ ،‬فلما فرغ من مقالته قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما بي‬
‫حْ‬‫َ‬
‫أل يكون بك الرغبة ‪ ،‬ولكني امرأة ‪ ،‬فيّ غَيْرة شديدة ‪ ،‬فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني ال به ‪،‬‬
‫وأنا امرأة قد دخلتُ في السن ‪ ،‬وأنا ذات عيال ‪ ،‬فقال ‪" :‬أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها (‬
‫‪ )7‬ال ‪ ،‬عز وجل عنك‪ .‬وأما ما ذكرت من السّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك ‪ ،‬وأما ما ذكرت‬
‫من العيال فإنما عيالك عيالي"‪ .‬قالت ‪ :‬فقد سّل ْمتُ لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فتزوجها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالت أم سلمة بعد ‪ :‬أبدلني ال بأبي سلمة خيرًا منه ‪ ،‬رسولُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم (‪.)8‬‬
‫وفي صحيح مسلم ‪ ،‬عنها أنها قالت ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬ما من عبد‬
‫جعُونَ } اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا‬
‫تصيبه مصيبة فيقول ‪ { :‬إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬
‫منها ‪ ،‬إل آجره ال من مصيبته ‪ ،‬وأخلف له خيرا منها" قالت ‪ :‬فلما ُتوُفي أبو سلمة قلت كما‬
‫أمرني رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأخلف ال لي خيرا منه ‪ :‬رسولَ ال صلى ال عليه‬
‫وسلم (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬كيف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ويزيدوا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وهو قوله"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬خيرا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬القذى"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬من الغيرة فسيذهبها"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)4/27‬‬
‫(‪ )9‬صحيح مسلم برقم (‪.)918‬‬

‫( ‪)1/468‬‬

‫ط ّوفَ ِب ِهمَا َومَنْ‬


‫علَيْهِ أَنْ َي ّ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَلَا جُنَاحَ َ‬
‫صفَا وَا ْلمَرْ َوةَ مِنْ َ‬
‫إِنّ ال ّ‬
‫ط ّوعَ خَيْرًا فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (‪)158‬‬
‫تَ َ‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يزيد ‪ ،‬وعَبّاد بن عباد قال حدثنا هشام بن أبي هشام ‪ ،‬حدثنا عباد بن‬
‫زياد ‪ ،‬عن أمه ‪ ،‬عن فاطمة ابنة (‪ )1‬الحسين ‪ ،‬عن أبيها الحسين بن علي ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال ‪" :‬ما من مسلم ول مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ‪ -‬وقال عباد‬
‫‪ :‬قدم عهدها ‪ -‬فيحدث لذلك استرجاعا ‪ ،‬إل جدد ال له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب"‬
‫(‪.)2‬‬
‫ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬عن َوكِيع ‪ ،‬عن هشام بن زياد ‪ ،‬عن أمه‬
‫‪ ،‬عن فاطمة بنت الحسين ‪ ،‬عن أبيها [الحسين] (‪.)4( )3‬‬
‫وقد رواه إسماعيل بن عُلَية ‪ ،‬ويزيد بن هارون ‪ ،‬عن هشام بن زياد (‪ )5‬عن أبيه ‪ ،‬كذا عن ‪،‬‬
‫فاطمة ‪ ،‬عن أبيها‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني ‪ ،‬أخبرنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن أبي سنان قال‬
‫‪ :‬دفنتُ ابنًا لي ‪ ،‬فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة ‪ -‬يعني الخولني ‪ -‬فأخرجني ‪ ،‬وقال لي‬
‫‪ :‬أل أبشرك ؟ قلت ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪ :‬حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزَب ‪ ،‬عن أبي موسى ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال ال (‪ : )6‬يا ملك الموت ‪ ،‬قبضتَ ولد عبدي ؟‬
‫حمِدَك واسترجع ‪ ،‬قال ‪ :‬ابنو‬
‫قبضت قُرّة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال نعم‪ .‬قال ‪ :‬فما (‪ )7‬قال ؟ قال ‪َ :‬‬
‫له بيتًا في الجنة ‪ ،‬وسمّوه بيتَ الحمد"‪.‬‬
‫ثم رواه عن علي بن إسحاق ‪ ،‬عن عبد ال بن المبارك‪ .‬فذكره (‪ .)8‬وهكذا رواه الترمذي عن‬
‫سوَيد بن نصر ‪ ،‬عن ابن المبارك ‪ ،‬به‪ )9( .‬وقال ‪ :‬حسن غريب‪ .‬واسم أبي سنان ‪ :‬عيسى بن‬
‫ُ‬
‫سنان‪.‬‬
‫ط ّوفَ ِب ِهمَا َومَنْ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَل جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَ ّ‬
‫{ إِنّ الصّفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬
‫ط ّوعَ خَيْرًا فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (‪} )158‬‬
‫تَ َ‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ‪ ،‬أخبرنا إبراهيم بن سعد ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ‬
‫عروة ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬قلت ‪ :‬أرأيت قول ال تعالى ‪ { :‬إِنّ الصّفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬
‫ط ّوفَ ِب ِهمَا } قلت ‪ :‬فوال ما على أحد جناح أن ل يطّوف‬
‫حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَل جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَ ّ‬
‫بهما ؟ فقالت عائشة ‪ :‬بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها (‪ )10‬عليه كانت ‪ :‬فل‬
‫جناح عليه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بنت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)1/201‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )1600‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" )1/528‬هذا إسناد فيه هشام بن‬
‫زياد وهو ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بن يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في و ‪" :‬إذا مات ولد العبد قال ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فماذا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)4/415‬‬
‫(‪ )9‬سنن الترمذي برقم (‪.)1021‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬كما أولتها"‪.‬‬
‫( ‪)1/469‬‬

‫أل يطوف بهما ‪ ،‬ولكنها إنما أنزلت أن النصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا ُيهِلّون لمناة الطاغية ‪،‬‬
‫التي كانوا يعبدونها عند المُشلّل‪ .‬وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوّف بالصفا والمروة ‪ ،‬فسألوا‬
‫عن ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إنا كنا نتحرج أن نطّوف‬
‫شعَائِرِ اللّهِ } إلى‬
‫صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬
‫بالصفا والمروة في الجاهلية‪ .‬فأنزل ال عز وجل ‪ { :‬إِنّ ال ّ‬
‫طوّفَ ِب ِهمَا } قالت عائشة ‪ :‬ثم قد سنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قوله ‪ { :‬فَل جُنَاحَ عَلَ ْيهِ أَنْ َي ّ‬
‫الطواف بهما ‪ ،‬فليس لحد أن يَدع الطواف بهما‪ .‬أخرجاه في الصحيحين (‪.)1‬‬
‫وفي رواية عن الزهري أنه قال ‪ :‬فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن‬
‫هشام ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن هذا العلم ‪ ،‬ما كنت سمعته ‪ ،‬ولقد سمعتُ رجال (‪ )2‬من أهل العلم يقولون (‪)3‬‬
‫إن الناس ‪ -‬إل من ذكرتْ عائشة ‪ -‬كانوا يقولون ‪ :‬إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر‬
‫الجاهلية‪ .‬وقال آخرون من النصار ‪ :‬إنما أمرنا بالطواف بالبيت ‪ ،‬ولم نؤمر بالطواف بين الصفا‬
‫شعَائِرِ اللّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن ‪:‬‬
‫صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬
‫والمروة ‪ ،‬فأنزل ال تعالى ‪ { :‬إِنّ ال ّ‬
‫فلعلها نزلت في هؤلء وهؤلء‪.‬‬
‫ورواه البخاري من حديث مالك ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة (‪ )4‬بنحو ما تقدم‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا محمد بن يوسف ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عاصم بن سُليمان قال ‪ :‬سألت أنسًا‬
‫عن الصفا والمروة قال ‪ :‬كنا نرى ذلك (‪ )5‬من أمر الجاهلية ‪ ،‬فلما جاء السلم أمسكنا عنهما ‪،‬‬
‫شعَائِرِ اللّهِ } (‪.)6‬‬
‫صفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬
‫فأنزل ال عز وجل ‪ { :‬إِنّ ال ّ‬
‫وذكر القرطبي (‪ )7‬في تفسيره عن ابن عباس قال ‪ :‬كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة‬
‫الليل كله ‪ ،‬وكانت بينهما آلهة ‪ ،‬فلما جاء السلم سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬عن‬
‫الطواف بينهما ‪ ،‬فنزلت هذه الية‪ .‬وقال الشعبي ‪ :‬كان إساف على الصفا ‪ ،‬وكانت نائلة على‬
‫المروة ‪ ،‬وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد السلم من الطواف بينهما ‪ ،‬فنزلت هذه الية‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة (‪ )8‬أن إسافا ونائلة كانا بشرين ‪ ،‬فزنيا داخل الكعبة فمسخا‬
‫حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ‪ ،‬فلما طال عهدهما عبدا ‪ ،‬ثم حول إلى‬
‫الصفا والمروة ‪ ،‬فنصبا هنالك ‪ ،‬فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ‪ ،‬ولهذا يقول أبو طالب‬
‫‪ ،‬في قصيدته المشهورة ‪:‬‬
‫وحيث ينيخ الشعرون ركابهم‪ ...‬بمفضى السيول من إساف ونائل‪...‬‬
‫وفي صحيح مسلم [من] (‪ )9‬حديثُ جابر الطويلُ ‪ ،‬وفيه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما‬
‫فرغ من طوافه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )6/144‬وصحيح البخاري برقم (‪.)1643‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬رجل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4495‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬أنها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)4496‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬وذكر الطبري"‪.‬‬
‫(‪ )8‬السيرة النبوية لبن إسحاق (رقم النص ‪ )4‬ط ‪ ،‬حميد ال ‪ ،‬المغرب‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/470‬‬

‫بالبيت ‪ ،‬عاد إلى الركن فاستلمه ‪ ،‬ثم خرج من باب الصفا ‪ ،‬وهو يقول ‪ { :‬إِنّ الصّفَا وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ } ثم قال ‪" :‬أبدأ بما بدأ ال به"‪ .‬وفي رواية النسائي ‪" :‬ابدؤوا بما بدأ ال به" (‪.)1‬‬
‫َ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا شريح ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن المؤمل ‪ ،‬عن عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬عن‬
‫صفية بنت شيبة ‪ ،‬عن حَبِيبة بنت أبي تجراة (‪ )2‬قالت ‪ :‬رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يطوف بين الصفا والمروة ‪ ،‬والناس بين يديه ‪ ،‬وهو وراءهم ‪ ،‬وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من‬
‫شدة السعي يدور به إزاره ‪ ،‬وهو يقول ‪" :‬اسعَوا ‪ ،‬فإن ال كتب عليكم السعي" (‪.)3‬‬
‫ثم رواه المام أحمد ‪ ،‬عن عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن واصل ‪ -‬مولى أبي عُيَينة ‪ -‬عن‬
‫موسى بن عبيدة (‪ )4‬عن صفية بنت شيبة ‪ ،‬أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم بين الصفا والمروة يقول ‪" :‬كتب عليكم السعي ‪ ،‬فاسعوا" (‪.)5‬‬
‫وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ‪ ،‬كما‬
‫هو مذهب الشافعي ‪ ،‬ومن وافقه [ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك] (‪ .)6‬وقيل ‪ :‬إنه‬
‫واجب ‪ ،‬وليس بركن [فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة‬
‫وقيل ‪ :‬بل مستحب ‪ ،‬وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين ‪ ،‬وروي عن أنس‬
‫وابن عمر وابن عباس ‪ ،‬وحكي عن مالك في العتبية ‪ ،‬قال القرطبي ‪ :‬واحتجوا بقوله ‪َ { :‬فمَنْ‬
‫ط ّوعَ خَيْرًا } ] (‪ .)7‬وقيل ‪ :‬بل مستحب‪ .‬والقول الول أرجح ‪ ،‬لنه عليه السلم طاف بينهما ‪،‬‬
‫تَ َ‬
‫وقال ‪" :‬لتأخذوا عني مناسككم"‪ .‬فكل ما فعله في حَجته تلك واجب ل بد من فعله في الحج ‪ ،‬إل ما‬
‫خرج بدليل ‪ ،‬وال أعلم [وقد تقدم قوله عليه السلم ‪" :‬اسعوا فإن ال كتب عليكم السعي"] (‪.)8‬‬
‫فقد بين ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر ال ‪ ،‬أي ‪ :‬مما شرع ال تعالى‬
‫لبراهيم الخليل في مناسك الحج ‪ ،‬وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف‬
‫(‪ )9‬هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها ‪ ،‬لما نفد ماؤها وزادُها ‪ ،‬حين‬
‫تركهما إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هنالك ليس عندهما أحد من الناس ‪ ،‬فلما خافت الضيعة على‬
‫ولدها هنالك ‪ ،‬ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬فلم تزل تردد (‪ )10‬في‬
‫هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى ال ‪ ،‬عز وجل ‪،‬‬
‫حتى كشف ال كربتها ‪ ،‬وآنس غربتها ‪ ،‬وفرج شدتها ‪ ،‬وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم ‪،‬‬
‫وشفاء سقم ‪ ،‬فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى ال في هداية قلبه‬
‫وصلح حاله وغفران ذنبه ‪ ،‬وأن يلتجئ إلى ال ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪.)1218‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بنت أبي تجر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)6/421‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬بن عبدة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)6/437‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬تطوف" وفي أ ‪" :‬طواف"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬تزل تتردد"‪.‬‬

‫( ‪)1/471‬‬

‫إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْلكِتَابِ أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُنهُمُ اللّهُ‬
‫وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللّاعِنُونَ (‪ )159‬إِلّا الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا وَبَيّنُوا فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ وَأَنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ (‬
‫ج َمعِينَ (‪)161‬‬
‫‪ )160‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةُ اللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَلَا هُمْ يُ ْنظَرُونَ (‪)162‬‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا لَا ُي َ‬

‫عز وجل ‪ ،‬ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب ‪ ،‬وأن يهديه إلى الصراط المستقيم (‪ )1‬وأن‬
‫يثبته عليه إلى مماته ‪ ،‬وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي ‪ ،‬إلى حال‬
‫الكمال والغُفران والسداد والستقامة ‪ ،‬كما فعل بهاجر ‪ -‬عليها السلم‪.‬‬
‫طوّعَ خَيْرًا } (‪ )2‬قيل ‪ :‬زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ َت َ‬
‫ونحو ذلك‪ .‬وقيل ‪ :‬يطوف بينهما (‪ )3‬في حجة تطوع ‪ ،‬أو عمرة تطوع‪ .‬وقيل ‪ :‬المراد تطوع‬
‫خيرًا في سائر العبادات‪ .‬حكى ذلك [فخر الدين] (‪ )4‬الرازي ‪ ،‬وعزي الثالث إلى الحسن البصري‬
‫‪ ،‬وال أعلم‪ .‬وقوله ‪ { :‬فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي ‪ :‬يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء‬
‫ع ْفهَا وَيُ ْؤتِ مِنْ لَدُ ْنهُ أَجْرًا‬
‫حسَنَةً ُيضَا ِ‬
‫فل يبخس أحدا ثوابه و { ل َيظْلِمُ مِ ْثقَالَ ذَ ّر ٍة وَإِنْ َتكُ َ‬
‫عَظِيمًا } [النساء ‪.]40 :‬‬
‫ت وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْلكِتَابِ أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُنهُمُ‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ‬
‫اللّ ُه وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللعِنُونَ (‪ )159‬إِل الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا وَبَيّنُوا فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ وَأَنَا ال ّتوّابُ‬
‫ج َمعِينَ (‬
‫الرّحِيمُ (‪ )160‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةُ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ وَل ُهمْ يُنْظَرُونَ (‪} )162‬‬
‫‪ )161‬خَالِدِينَ فِيهَا ل ُي َ‬
‫هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدللت البينة على المقاصد الصحيحة والهدى‬
‫النافع للقلوب ‪ ،‬من بعد ما بينه ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬لعباده في كتبه ‪ ،‬التي أنزلها على رسله‪.‬‬
‫قال (‪ )5‬أبو العالية ‪ :‬نزلت في أهل الكتاب ‪ ،‬كتمُوا صفة محمد صلى ال عليه وسلم ثم أخبر أنهم‬
‫(‪ .)6‬يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك ‪ ،‬فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء ‪ ،‬حتى الحوت في‬
‫الماء والطير في الهواء ‪ ،‬فهؤلء (‪ )7‬بخلف العلماء [الذين يكتمون] (‪ )8‬فيلعنهم ال ويلعنهم‬
‫اللعنون‪ .‬وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬وغيره ‪:‬‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من سُئِل عن علم فكتمه ‪ ،‬ألجم يوم القيامة بلجام من‬
‫نار" (‪ .)9‬والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال ‪ :‬لول آية في كتاب ال ما حدثتُ أحدًا شيئًا‬
‫ت وَا ْلهُدَى } الية (‪.)10‬‬
‫‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن عرفة ‪ ،‬حدثنا عمار بن محمد ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬إلى صراط مستقيم" ‪ ،‬وفي ط ‪" :‬إلى صراطه المستقيم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ومن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬بها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أنه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فهو"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪ )2/263‬وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف" (‪- 1/252‬‬
‫‪ )257‬في ذكر طرق هذا الحديث‪.‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري برقم (‪ )118‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2492‬‬
‫( ‪)1/472‬‬

‫عمَر (‪ )2‬عن البراء بن عازب ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا مع النبي‬


‫عن (‪ )1‬المنهال بن عمرو ‪ ،‬عن زاذان أبي ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم في جنازة ‪ ،‬فقال ‪" :‬إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ‪ ،‬فيسمع كل (‪)3‬‬
‫دابة غير الثقلين ‪ ،‬فتلعنه كل دابة سمعت صوته ‪ ،‬فذلك قول ال تعالى ‪ { :‬أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُنهُمُ اللّهُ‬
‫وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللعِنُونَ } يعني ‪ :‬دواب الرض" (‪.)4‬‬
‫[ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به] (‪.)5‬‬
‫وقال عطاء بن أبي رباح ‪ :‬كل دابة والجن والنس‪ .‬وقال مجاهد ‪ :‬إذا أجدبت الرض قالت‬
‫البهائم ‪ :‬هذا من أجل عُصاة بني آدم ‪ ،‬لعن ال عصاة بني آدم‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة { وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللعِنُونَ } يعني تلعنهم ملئكة ال ‪،‬‬
‫والمؤمنون‪.‬‬
‫[وقد جاء في الحديث ‪ ،‬أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ‪ ،‬وجاء في هذه الية ‪ :‬أن كاتم‬
‫العلم يلعنه ال والملئكة والناس أجمعون ‪ ،‬واللعنون أيضًا ‪ ،‬وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان‬
‫المقال ‪ ،‬أو الحال ‪ ،‬أو لو كان له عقل ‪ ،‬أو يوم القيامة ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)6‬‬
‫ثم استثنى ال تعالى من هؤلء من تاب إليه فقال ‪ { :‬إِل الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا وَبَيّنُوا } أي ‪:‬‬
‫رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه { فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ‬
‫عَلَ ْيهِ ْم وَأَنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ } وفي هذا دللة على أن الداعية إلى كفر ‪ ،‬أو بدعة إذا تاب إلى ال‬
‫تاب ال عليه‪.‬‬
‫وقد ورد أن المم السابقة لم تكن التوبة تقبل (‪ )7‬من مثل هؤلء منهم ‪ ،‬ولكن هذا من شريعة نبي‬
‫التوبة ونبي الرحمة صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن { عَلَ ْيهِمْ َلعْنَةُ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ‬
‫ج َمعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي ‪ :‬في اللعنة التابعة (‪ )8‬لهم إلى يوم القيامة (‪ )9‬ثم المصاحبة لهم في‬
‫أَ ْ‬
‫عمّا هم فيه { وَل هُمْ يُنْظَرُونَ }‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ } فيها ‪ ،‬أي ‪ :‬ل ينقص َ‬
‫نار جهنم التي { ل ُي َ‬
‫أي ‪ :‬ل يغير (‪ )10‬عنهم ساعة واحدة ‪ ،‬ول يفتّر ‪ ،‬بل هو متواصل دائم ‪ ،‬فنعوذ بال من ذلك‪.‬‬
‫وقال أبو العالية وقتادة ‪ :‬إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه ال ‪ ،‬ثم تلعنه الملئكة ‪ ،‬ثم يلعنه‬
‫الناس أجمعون‪.‬‬
‫فصل ‪ :‬ل خلف في جواز لعن الكفار ‪ ،‬وقد كان عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وعمن‬
‫بعده‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬زاذان بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يسمعها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬هذا قطعة من حديث طويل رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )4754 ، 4753‬والنسائي في‬
‫السنن (‪ )4/78‬من طريق زاذان به ‪ ،‬وسيأتي ذكره عند قوله تعالى ‪( :‬يثبت ال الذين آمنوا) في‬
‫تفسير سور إبراهيم‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬تقبل منهم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬الباقية"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬يوم الدين"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ل يفتر"‪.‬‬

‫( ‪)1/473‬‬

‫حمَنُ الرّحِيمُ (‪)163‬‬


‫وَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ الرّ ْ‬

‫من الئمة ‪ ،‬يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ؛ فأما الكافر المعين ‪ ،‬فقد ذهب جماعة من العلماء‬
‫إلى أنه ل يلعن لنا ل ندري بما يختم له ‪ ،‬واستدل بعضهم بهذه الية ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا‬
‫ج َمعِينَ } وقالت طائفة أخرى ‪ :‬بل يجوز لعن‬
‫وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْنَةُ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ َأ ْ‬
‫الكافر المعين‪ .‬واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ‪ ،‬ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ‪،‬‬
‫واستدل غيره بقوله ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران‬
‫فيحده ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬لعنه ال ‪ ،‬ما أكثر ما يؤتى به ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل‬
‫تلعنه فإنه يحب ال ورسوله" (‪ )1‬قالوا ‪ :‬فعلّة المنع من لعنه ؛ بأنه يحب ال ورسوله فدل على أن‬
‫من ل يحب ال ورسوله يلعن ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حمَنُ الرّحِيمُ (‪} )163‬‬
‫حدٌ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الرّ ْ‬
‫{ وَإَِل ُهكُمْ ِإلَ ٌه وَا ِ‬
‫يُخبرُ تعالى عن تفرده باللهية ‪ ،‬وأنه ل شريك له ول عَديل له ‪ ،‬بل هو ال الواحد الحد الفرد‬
‫الصمد ‪ ،‬الذي ل إله إل هو وأنه الرحمن الرحيم‪ .‬وقد تقدم تفسير هذين السمين في أول السورة‬
‫(‪ .)2‬وفي الحديث عن شهر بن حوشب ‪ ،‬عن أسماء بنت يزيد بن السكن ‪ ،‬عن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬اسم ال العظم في هاتين اليتين ‪ { :‬وَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ ل إَِلهَ إِل ُهوَ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } [آل عمران ‪)3( " ]2 ، 1 :‬‬
‫حمَنُ الرّحِيمُ } و { الم * اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫الرّ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )6780‬من حديث عمر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في أول الفاتحة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )1496‬والترمذي في السنن برقم (‪ )3478‬وقال الترمذي ‪:‬‬
‫"هذا حديث حسن صحيح"‪.‬‬

‫( ‪)1/474‬‬

‫ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ وَاخْتِلَافِ اللّ ْي ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا ِبهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ‬
‫س َومَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫النّا َ‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ (‪)164‬‬
‫سخّرِ بَيْنَ ال ّ‬
‫ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ‬
‫وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ‬

‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ‬
‫{ إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬
‫سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا ِب ِه الَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ‬
‫س َومَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫النّا َ‬
‫ض ليَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ (‪} )164‬‬
‫سمَا ِء وَالَرْ ِ‬
‫سخّرِ بَيْنَ ال ّ‬
‫ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ‬
‫وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ‬
‫ثم ذكر الدليل على تفرده باللهية [بتفرده] (‪ )1‬بخلق السموات والرض وما فيهما ‪ ،‬وما بين ذلك‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‬
‫مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته ‪ ،‬فقال ‪ { :‬إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬
‫سمَاءِ مِنْ‬
‫س َومَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّا َ‬
‫وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ‬
‫سخّرِ بَيْنَ‬
‫ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ‬
‫مَاءٍ فَأَحْيَا بِ ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا وَبَثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّ ٍة وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } تلك في‬
‫ض ليَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } يقول تعالى ‪ { :‬إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬
‫سمَاءِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫[لطافتها و] (‪ )2‬ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ‪ ،‬وهذه الرض في‬
‫عمْرانها وما فيها من المنافع‬
‫[كثافتها و] (‪ )3‬انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها َووِهَادها و ُ‬
‫ل وَال ّنهَارِ } هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الخر ويعقبه ‪ ،‬ل (‪ )4‬يتأخر عنه لحظة ‪،‬‬
‫{ وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ‬
‫شمْسُ يَنْ َبغِي َلهَا أَنْ تُدْ ِركَ ا ْلقَمَ َر وَل اللّ ْيلُ سَابِقُ ال ّنهَا ِر َوكُلّ فِي فََلكٍ‬
‫كما قال تعالى ‪ { :‬ل ال ّ‬
‫يَسْ َبحُونَ } [يس ‪ ]40 :‬وتارة يطول هذا ويقصر هذا ‪ ،‬وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان ‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى ‪ { :‬يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ } [الحج ‪ ]61 :‬أي ‪ :‬يزيد من هذا في‬
‫هذا ‪ ،‬ومن هذا في هذا { وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّاسَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬ول"‪.‬‬
‫( ‪)1/474‬‬

‫أي ‪ :‬في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس ‪ ،‬والنتفاع بما عند أهل‬
‫سمَاءِ مِنْ‬
‫ذلك القليم ‪ ،‬ونقل هذا إلى هؤلء وما عند أولئك إلى هؤلء (‪َ { )1‬ومَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫مَاءٍ فَأَحْيَا بِ ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا } كما قال تعالى ‪ { :‬وَآ َيةٌ َلهُ ُم الَ ْرضُ ا ْلمَيْتَةُ َأحْيَيْنَاهَا وََأخْرَجْنَا‬
‫ب َوفَجّرْنَا فِيهَا مِنَ ا ْلعُيُونِ * لِيَ ْأكُلُوا‬
‫ل وَأَعْنَا ٍ‬
‫جعَلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مِنْ نَخِي ٍ‬
‫مِ ْنهَا حَبّا َفمِنْهُ يَ ْأكُلُونَ * َو َ‬
‫ت الَ ْرضُ‬
‫شكُرُونَ * سُ ْبحَانَ الّذِي خََلقَ ال ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُنْ ِب ُ‬
‫عمِلَ ْتهُ أَيْدِيهِمْ َأفَل يَ ْ‬
‫مِنْ َثمَ ِرهِ َومَا َ‬
‫س ِه ْم َو ِممّا ل َيعَْلمُونَ } [يس ‪ {]36 - 33 :‬وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ } أي ‪ :‬على اختلف‬
‫َومِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها ‪ ،‬وهو يعلم ذلك كله ويرزقه ل يخفى عليه شيء من‬
‫عهَا‬
‫ذلك ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ { :‬ومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الَرْضِ إِل عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ‬
‫ُكلّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود ‪ {]6 :‬وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ } أي ‪ :‬تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي‬
‫بالعذاب ‪ ،‬تارة (‪ )2‬تأتي مبشرة (‪ )3‬بين يدي السحاب ‪ ،‬وتارة تسوقه ‪ ،‬وتارة تجمعه ‪ ،‬وتارة‬
‫تفرقه ‪ ،‬وتارة تصرفه ‪[ ،‬ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية ‪ ،‬وتارة تأتي من ناحية اليمن‬
‫وتارة صبا ‪ ،‬وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة ‪ ،‬وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر‬
‫الكعبة والرياح تسمى كلها بحسب مرورها على الكعبة‪ .‬وقد صنف الناس في الرياح والمطر‬
‫والنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها ‪ ،‬وبسط ذلك يطول هاهنا ‪ ،‬وال أعلم] (‪.)4‬‬
‫سمَا ِء وَالَرْضِ } [أي ‪ :‬سائر بين السماء والرض] (‪ُ )5‬يسَخّر إلى ما‬
‫سخّرِ بَيْنَ ال ّ‬
‫{ وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ‬
‫يشاء ال (‪ )6‬من الراضي والماكن ‪ ،‬كما يصرفه تعالى ‪ { :‬ليَاتٍ ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ } أي ‪ :‬في هذه‬
‫ت وَالَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫الشياء دللت بينة على وحدانية ال تعالى ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫ت لولِي اللْبَابِ * الّذِينَ يَ ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا َو ُقعُودًا وَعَلَى جُنُو ِبهِمْ‬
‫ل وَال ّنهَارِ ليَا ٍ‬
‫وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ رَبّنَا مَا خََل ْقتَ هَذَا بَاطِل سُبْحَا َنكَ َفقِنَا عَذَابَ النّارِ } [آل‬
‫وَيَتَ َفكّرُونَ فِي خَلْقِ ال ّ‬
‫عمران ‪ .]191 ، 190 :‬وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه ‪ :‬أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪،‬‬
‫حدثنا أبو سعيد الدّشْ َت ِكيّ ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أشعث بن إسحاق ‪ ،‬عن جعفر بن أبي‬
‫المغيرة ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬أتت قريش محمدًا صلى ال عليه وسلم فقالوا‬
‫‪ :‬يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ‪ ،‬فنشتري به الخيل والسلح ‪ ،‬فنؤمن‬
‫بك ونقاتل معك‪ .‬قال ‪" :‬أوثقوا (‪ )7‬لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا ل ُتؤْمنُنّ بي" فأوثقوا‬
‫له ‪ ،‬فدعا ربه ‪ ،‬فأتاه جبريل فقال ‪ :‬إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك‬
‫عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين‪ .‬قال محمد صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ربّ ل بل دعني‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ‬
‫وقومي فلدعهم يومًا بيوم"‪ .‬فأنزل ال هذه الية ‪ { :‬إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬
‫ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّاسَ } الية‪.‬‬
‫اللّ ْي ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أولئك لهؤلء"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وتارة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬مسيرة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬مسخرا إلى ما شاء ال" وفي ط ‪" :‬مسخر إلى ما يشاء ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬أوقفوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/475‬‬

‫حبّ اللّ ِه وَالّذِينَ َآمَنُوا َأشَدّ حُبّا لِلّهِ وََلوْ يَرَى‬


‫خذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا ُيحِبّو َنهُمْ كَ ُ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ يَتّ ِ‬
‫شدِيدُ ا ْل َعذَابِ (‪ِ )165‬إذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا‬
‫جمِيعًا وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا إِذْ يَ َروْنَ ا ْل َعذَابَ أَنّ ا ْل ُق ّوةَ لِلّهِ َ‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ الَْأسْبَابُ (‪َ )166‬وقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُوا وَرََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫عمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَ ْيهِ ْم َومَا ُهمْ بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ (‬
‫فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّءُوا مِنّا كَ َذِلكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَ ْ‬
‫‪)167‬‬

‫ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ‪ ،‬عن جعفر بن أبي المغيرة ‪ ،‬به (‪ .)1‬وزاد في آخره ‪ :‬وكيف‬
‫يسألونك عن الصفا وهم يرون من اليات ما هو أعظم من الصفا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم أيضًا ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو حذيفة ‪ ،‬حدثنا شبل ‪ ،‬عن ابن أبي نَجيح ‪ ،‬عن‬
‫عطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت على النبي صلى ال عليه وسلم بالمدينة ‪ { :‬وَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ ل إَِلهَ إِل ُهوَ‬
‫حمَنُ الرّحِيمُ } فقال كفار قريش بمكة ‪ :‬كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل ال تعالى ‪ { :‬إِنّ فِي‬
‫الرّ ْ‬
‫ل وَال ّنهَا ِر وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي َتجْرِي فِي الْبَحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّاسَ }‬
‫ض وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خَ ْلقِ ال ّ‬
‫إلى قوله ‪ { :‬ليَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }‬
‫فبهذا يعلمون أنه إله واحد ‪ ،‬وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء‪.‬‬
‫وقال وكيع ‪ :‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي الضحى قال ‪ :‬لما نزلت ‪ { :‬وَإَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }‬
‫خلْقِ‬
‫إلى آخر الية ‪ ،‬قال المشركون ‪ :‬إن كان هكذا فليأتنا بآية‪ .‬فأنزل ال عز وجل ‪ { :‬إِنّ فِي َ‬
‫ل وَال ّنهَارِ } إلى قوله ‪َ { :‬ي ْعقِلُونَ }‬
‫ض وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫ورواه آدم بن أبي إياس ‪ ،‬عن أبي جعفر ‪ -‬هو الرازي ‪ -‬عن سعيد بن مسروق ‪ ،‬والد سفيان ‪،‬‬
‫عن أبي الضحى ‪ ،‬به‪.‬‬
‫شدّ حُبّا لِلّ ِه وََلوْ يَرَى‬
‫حبّ اللّ ِه وَالّذِينَ آمَنُوا أَ َ‬
‫{ َومِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا يُحِبّو َنهُمْ َك ُ‬
‫شدِيدُ ا ْل َعذَابِ (‪ِ )165‬إذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا‬
‫جمِيعًا وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا إِذْ يَ َروْنَ ا ْل َعذَابَ أَنّ ا ْل ُق ّوةَ لِلّهِ َ‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ (‪َ )166‬وقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُوا وَرََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫عمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَ ْيهِ ْم َومَا ُهمْ بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ (‬
‫فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّءُوا مِنّا كَ َذِلكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَ ْ‬
‫‪} )167‬‬
‫يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الخرة ‪ ،‬حيث جعلوا [له] (‪ )2‬أندادًا ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬أمثال ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ‪ ،‬وهو ال ل إله إل هو ‪ ،‬ول ضد له ول ندّ له‬
‫‪ ،‬ول شريك معه‪ .‬وفي الصحيحين عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أي الذنب‬
‫أعظم ؟ قال ‪" :‬أن تجعل ل ندًا وهو خَلقَك" (‪.)3‬‬
‫شدّ حُبّا لِلّهِ } ولحبهم ل وتمام معرفتهم به ‪ ،‬وتوقيرهم وتوحيدهم له ‪ ،‬ل‬
‫وقوله ‪ { :‬وَالّذِينَ آمَنُوا أَ َ‬
‫يشركون به شيئًا ‪ ،‬بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ‪ ،‬ويلجؤون في جميع أمورهم إليه‪ .‬ثم َتوَعّدَ‬
‫تعالى المشركين به ‪ ،‬الظالمين لنفسهم بذلك فقال ‪ { :‬وََلوْ يَرَى الّذِينَ ظََلمُوا إِذْ يَ َروْنَ ا ْلعَذَابَ أَنّ‬
‫جمِيعًا }‪.‬‬
‫ا ْل ُقوّةَ لِلّهِ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )12/12‬من طريق يحيى الحماني عن يعقوب القمي ‪،‬‬
‫عن جعفر بن أبي المغيرة به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )4477‬وصحيح مسلم برقم (‪.)68‬‬

‫( ‪)1/476‬‬

‫قال بعضهم ‪ :‬تقدير الكلم ‪ :‬لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة ل جميعًا ‪ ،‬أي ‪ :‬إن الحكم له‬
‫(‪ )1‬وحده ل شريك له ‪ ،‬وأن جميع الشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه { وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْلعَذَابِ }‬
‫ق وَثَاقَهُ َأحَدٌ } [الفجر ‪ ]26 ، 25 :‬يقول ‪ :‬لو‬
‫حدٌ * وَل يُوثِ ُ‬
‫كما قال ‪ { :‬فَ َي ْومَئِذٍ ل ُيعَ ّذبُ عَذَا َبهُ أَ َ‬
‫علموا ما يعاينونه (‪ )2‬هنالك ‪ ،‬وما يحل بهم من المر الفظيع المنكر الهائل على شركهم‬
‫وكفرهم ‪ ،‬لنتهوا عما هم فيه من الضلل‪.‬‬
‫ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين ‪ ،‬فقال ‪ { :‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا مِنَ‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ] (‪ } )3‬تبرأت منهم الملئكة الذين كانوا‬
‫الّذِينَ اتّ َبعُوا [وَرََأوُا ا ْل َعذَابَ وَتَقَ ّ‬
‫يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا ‪ ،‬فتقول الملئكة ‪ { :‬تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْبُدُونَ }‬
‫ت وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُوا َيعْبُدُونَ ا ْلجِنّ َأكْثَرُهُمْ ِب ِهمْ‬
‫[القصص ‪ ]63 :‬ويقولون ‪ { :‬سُ ْبحَا َنكَ أَ ْن َ‬
‫ُم ْؤمِنُونَ } [سبأ ‪ ]41 :‬والجن أيضًا تتبرأ منهم ‪ ،‬ويتنصلون من عبادتهم لهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ن ل َيسْتَجِيبُ َلهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ عَنْ دُعَا ِئهِمْ غَافِلُونَ‬
‫ضلّ ِممّنْ َيدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَ ْ‬
‫{ َومَنْ َأ َ‬
‫عدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ } [الحقاف ‪ ]6 ، 5 :‬وقال تعالى ‪:‬‬
‫* وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَ ْ‬
‫{ وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آِل َهةً لِ َيكُونُوا َل ُهمْ عِزّا * كَل سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِ ْم وَ َيكُونُونَ عَلَ ْي ِه ْم ضِدّا }‬
‫[مريم ‪ ]82 ، 81 :‬وقال الخليل لقومه ‪ { :‬إِ ّنمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِن ُكمْ فِي الْحَيَاةِ‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ‬
‫ضكُمْ بِ َب ْعضٍ وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ‬
‫الدّنْيَا ُثمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ‬
‫نَاصِرِينَ } [العنكبوت ‪ ]25 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ َموْقُوفُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ يَ ْرجِعُ‬
‫ضعِفُوا لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َلوْل أَنْ ُتمْ َلكُنّا ُم ْؤمِنِينَ * قَالَ الّذِينَ‬
‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ ا ْلقَ ْولَ َيقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫َب ْع ُ‬
‫ن صَدَدْنَا ُكمْ عَنِ ا ْلهُدَى َب ْعدَ إِذْ جَا َء ُكمْ َبلْ كُنْتُمْ مُجْ ِرمِينَ * َوقَالَ الّذِينَ‬
‫ض ِعفُوا أَ َنحْ ُ‬
‫اسْ َتكْبَرُوا لِلّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫ج َعلَ َلهُ أَنْدَادًا وَأَسَرّوا‬
‫ل وَال ّنهَارِ إِذْ تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َن ْكفُرَ بِاللّ ِه وَ َن ْ‬
‫ض ِعفُوا لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا َبلْ َمكْرُ اللّ ْي ِ‬
‫اسْ ُت ْ‬
‫جعَلْنَا الغْللَ فِي أَعْنَاقِ الّذِينَ َكفَرُوا َهلْ ُيجْ َزوْنَ إِل مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫ب وَ َ‬
‫النّدَا َمةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫ضيَ المْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ ا ْلحَقّ‬
‫[سبأ ‪ ]33 - 31 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬وقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَل تَلُومُونِي وَلُومُوا‬
‫َووَعَدْ ُتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ لِي عَلَ ْيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِل أَنْ دَ َ‬
‫خيّ إِنّي َكفَرْتُ ِبمَا أَشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ‬
‫خ ُك ْم َومَا أَنْتُمْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫سكُمْ مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم ‪.]22 :‬‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ } أي ‪ :‬عَاينوا عذاب ال ‪ ،‬وتقطّعت بهم الح َيلُ‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَرََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫وأسباب الخلص ولم يجدوا عن النار َمعْدل ول َمصْرفا‪.‬‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ السْبَابُ } قال ‪ :‬المودة‪ .‬وكذا قال مجاهد في رواية‬
‫قال عطاء عن ابن عباس ‪ { :‬وَ َتقَ ّ‬
‫ابن أبي نجيح‪.‬‬
‫عوْدة (‪)4‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّءُوا مِنّا } أي ‪ :‬لو أن لنا َ‬
‫إلى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إن الحكم ل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ما يعاينوه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬دعوة"‪.‬‬

‫( ‪)1/477‬‬

‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ (‬


‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي الْأَ ْرضِ حَلَالًا طَيّبًا وَلَا تَتّ ِبعُوا خُ ُ‬
‫‪ )168‬إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَا ِء وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ (‪)169‬‬
‫الدار الدنيا حتى نَتَبَرّأ من هؤلء ومن عبادتهم ‪ ،‬فل نلتفت إليهم ‪ ،‬بل نوحد ال وحده بالعبادة‪.‬‬
‫وهم كاذبون في هذا ‪ ،‬بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه‪ .‬كما أخبر ال تعالى عنهم بذلك ؛ ولهذا‬
‫عمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَ ْيهِ ْم َومَا ُهمْ بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ } أي ‪ :‬تذهب‬
‫قال ‪ { :‬كَذَِلكَ يُرِي ِهمُ اللّهُ أَ ْ‬
‫جعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان ‪:‬‬
‫ع َملٍ فَ َ‬
‫عمِلُوا مِنْ َ‬
‫وتضمحل كما قال ال تعالى ‪َ { :‬وقَ ِدمْنَا إِلَى مَا َ‬
‫‪.]23‬‬
‫عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْتَ ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَاصِفٍ } الية‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬مَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ أَ ْ‬
‫ظمْآنُ مَاءً } الية‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫[إبراهيم ‪ ، ]18 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا أَ ْ‬
‫[النور ‪ ]39 :‬؛ ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬ومَا هُمْ بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ }‪.‬‬
‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ (‬
‫خُ‬‫{ يَا أَ ّيهَا النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي الَ ْرضِ حَلل طَيّبًا وَل تَتّ ِبعُوا ُ‬
‫‪ )168‬إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَا ِء وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ (‪} )169‬‬
‫لما بين تعالى أنه ل إله إل هو ‪ ،‬وأنه المستقل بالخلق ‪ ،‬شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه ‪ ،‬فذكر‬
‫[ذلك] (‪ )1‬في مقام المتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الرض في حال كونه حلل من ال‬
‫طيبًا ‪ ،‬أي ‪ :‬مستطابًا في نفسه غير ضار للبدان ول للعقول ‪ ،‬ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان‬
‫‪ ،‬وهي ‪ :‬طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم ال َبحَائر والسوائب والوصائل ونحوها‬
‫مما زَينه لهم في جاهليتهم ‪ ،‬كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم ‪ ،‬عن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬يقول ال تعالى ‪ :‬إن كل ما أمنحُه (‪ )2‬عبادي فهو لهم حلل"‬
‫وفيه ‪" :‬وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ‪ ،‬وحَرّمتْ عليهم ما‬
‫أحللتُ لهم" (‪.)3‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا سليمان بن أحمد ‪ ،‬حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة (‪)4‬‬
‫المصري ‪ ،‬حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الحتياطي ‪ ،‬حدثنا أبو عبد ال الجوزجاني (‪- )5‬‬
‫رفيق إبراهيم بن أدهم ‪ -‬حدثنا ابن جُرَيج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬تُليت هذه الية عند‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي الَ ْرضِ حَلل طَيّبًا } فقام سعد بن أبي‬
‫وقاص ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ادع ال أن يجعلني مستجاب الدعوة ‪ ،‬فقال‪" .‬يا سعد ‪ ،‬أطب‬
‫جوْفه‬
‫مطعمك تكن مستجاب الدعوة ‪ ،‬والذي نفس محمد بيده ‪ ،‬إن الرجل ل َيقْذفُ اللقمة الحرام في َ‬
‫ما يُتَقبّل منه أربعين يومًا ‪ ،‬وأيّما عبد نبت لحمه من السّحْت والربا فالنار أولى به" (‪.)6‬‬
‫خذُوهُ‬
‫ع ُدوّ مُبِينٌ } تنفير عنه وتحذير منه ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬إِنّ الشّ ْيطَانَ َلكُمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ‬
‫وقوله ‪ { :‬إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ‬
‫سعِيرِ } [فاطر ‪ ]6 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬أفَتَتّ ِ‬
‫عَ ُدوّا إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َل ُكمْ عَ ُدوّ بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ َبدَل } [الكهف ‪.]50 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬كل مال منحته"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)2865‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬شعبة" وفي هـ ‪" :‬شبة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الجرجاني"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المعجم الوسط للطبراني برقم (‪" )5026‬مجمع البحرين"‪.‬‬

‫( ‪)1/478‬‬

‫طوَاتِ الشّيْطَانِ } كل معصية ل فهي من خطوات‬


‫خُ‬‫وقال قتادة ‪ ،‬والسدي في قوله ‪ { :‬وَل تَتّ ِبعُوا ُ‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫وقال عكرمة ‪ :‬هي نزغات الشيطان ‪ ،‬وقال مجاهد ‪ :‬خطاه ‪ ،‬أو قال ‪ :‬خطاياه‪.‬‬
‫وقال أبو مِجْلزَ ‪ :‬هي النذور في المعاصي‪.‬‬
‫وقال الشعبي ‪ :‬نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش‪ .‬وقال ‪ :‬هذا من خطوات‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫وقال أبو الضحى ‪ ،‬عن مسروق ‪ :‬أتى عبد ال بن مسعود بضَرْع وملح ‪ ،‬فجعل يأكل ‪ ،‬فاعتزل‬
‫رجل من القوم ‪ ،‬فقال ابن مسعود ‪ :‬ناولوا صاحبكم‪ .‬فقال ‪ :‬ل أريده‪ .‬فقال ‪ :‬أصائم أنت ؟ قال ‪:‬‬
‫ل‪ .‬قال ‪ :‬فما شأنك ؟ قال ‪ :‬حرمت أن آكل ضَرْعًا أبدا‪ .‬فقال ابن مسعود ‪ :‬هذا من خطوات‬
‫ط َع ْم وكفّر عن يمينك‪.‬‬
‫الشيطان ‪ ،‬فا ْ‬
‫رواه (‪ )1‬ابن أبي حاتم ‪ ،‬وقال أيضًا ‪:‬‬
‫حسّان بن عبد ال المصْري ‪ ،‬عن سليمان التيمي ‪ ،‬عن أبي رافع ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا َ‬
‫غضبت على امرأتي ‪ ،‬فقالت ‪ :‬هي يومًا يهودية ويوما نصرانية ‪ ،‬وكل مملوك لها حر ‪ ،‬إن لم‬
‫تطلق امرأتك‪ .‬فأتيت عبد ال بن عمر فقال ‪ :‬إنما هذه من خطوات الشيطان‪ .‬وكذلك قالت زينب‬
‫بنت أم سلمة ‪ ،‬وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة‪ .‬وأتيت عاصمًا وابن عمر (‪ )2‬فقال مثل ذلك‪.‬‬
‫وقال عبد بن حميد ‪ :‬حدثنا أبو نعيم (‪ )3‬عن شريك ‪ ،‬عن عبد الكريم ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫غضَب ‪ ،‬فهو من خطوات الشيطان ‪ ،‬وكفارته كفارة‬
‫عباس قال ‪ :‬ما كان من يمين أو نذر في َ‬
‫يمين‪.‬‬
‫[وقال سعيد بن داود في تفسيره ‪ :‬حدثنا عبادة بن عباد المهلبي عن عاصم الحول ‪ ،‬عن عكرمة‬
‫في رجل قال لغلمه ‪ :‬إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق ‪ ،‬قال ‪ :‬ل يجلد غلمه ‪ ،‬ول تطلق‬
‫امرأته هذا من خطوات الشيطان] (‪.)4‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَا ِء وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬إنما يأمركم‬
‫عدوّكم الشيطان بالفعال السيئة ‪ ،‬وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه ‪ ،‬وأغلظ من ذلك وهو القول‬
‫على ال بل علم ‪ ،‬فيدخل (‪ )5‬في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬روى هذا" وفي ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬رواهن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬عاصم بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عبد ال بن نعيم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ج ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬فدخل"‪.‬‬

‫( ‪)1/479‬‬

‫وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ آَبَاؤُ ُهمْ لَا َي ْعقِلُونَ شَيْئًا‬
‫ع ْميٌ‬
‫سمَعُ إِلّا دُعَا ًء وَنِدَا ًء صُمّ ُب ْكمٌ ُ‬
‫وَلَا َيهْتَدُونَ (‪َ )170‬ومَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا َكمَثَلِ الّذِي يَ ْنعِقُ ِبمَا لَا َي ْ‬
‫شكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ‬
‫َفهُمْ لَا َي ْعقِلُونَ (‪ )171‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ‬
‫علَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وََلحْمَ ا ْلخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ‬
‫َتعْبُدُونَ (‪ )172‬إِ ّنمَا حَرّمَ َ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)173‬‬
‫بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬

‫علَيْهِ آبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ ل َي ْعقِلُونَ‬


‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا َ‬
‫سمَعُ إِل دُعَا ًء وَنِدَا ًء صُمّ ُب ْكمٌ‬
‫شَيْئًا وَل َيهْتَدُونَ (‪َ )170‬ومَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا َكمَثَلِ الّذِي يَ ْنعِقُ ِبمَا ل يَ ْ‬
‫ع ْميٌ َفهُمْ ل َي ْعقِلُونَ (‪} )171‬‬
‫ُ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ } لهؤلء الكفرة من المشركين ‪ { :‬اتّ ِبعُوا مَا أَنزلَ اللّهُ } على رسوله ‪،‬‬
‫واتركوا ما أنتم فيه (‪ )1‬من الضلل والجهل ‪ ،‬قالوا في جواب ذلك ‪َ { :‬بلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا } أي ‪:‬‬
‫وجدنا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي ‪ :‬من عبادة الصنام والنداد‪ .‬قال ال تعالى منكرًا عليهم ‪َ { :‬أوََلوْ كَانَ‬
‫آبَاؤُهُمْ } أي ‪ :‬الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { ل َي ْعقِلُونَ شَيْئًا وَل َيهْتَدُونَ } أي ‪ :‬ليس لهم فهم‬
‫ول هداية!!‪.‬‬
‫وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن عكرمة أو سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪:‬‬
‫أنها نزلت في طائفة من اليهود ‪ ،‬دعاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى السلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬بل‬
‫نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‪ .‬فأنزل ال هذه الية‪.‬‬
‫سوْءِ } [النحل ‪]60 :‬‬
‫ثم ضرب لهم تعالى مثل كما قال تعالى ‪ { :‬لِلّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ‬
‫فقال ‪َ { :‬ومَثَلُ الّذِينَ َكفَرُوا } أي ‪ :‬فيما هم فيه من الغي والضلل والجهل كالدواب السارحة التي‬
‫ل تفقه ما يقال لها ‪ ،‬بل إذا نعق بها راعيها ‪ ،‬أي ‪ :‬دعاها إلى ما يرشدها ‪ ،‬ل تفقه ما يقول ول‬
‫تفهمه ‪ ،‬بل إنما تسمع صوته فقط‪.‬‬
‫هكذا روي عن ابن عباس ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪،‬‬
‫وعطاء الخراساني والربيع بن أنس ‪ ،‬نحو هذا‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الصنام التي ل تسمع ول تبصر ول تعقل شيئًا ‪،‬‬
‫اختاره ابن جرير ‪ ،‬والول أولى ؛ لن الصنام ل تسمع شيئًا ول تعقله ول تبصره ‪ ،‬ول بطش‬
‫ع ْميٌ } أي ‪ :‬صُمّ عن سماع الحق ‪ُ ،‬بكْمٌ ل يتفوهون به‬
‫لها ول حياة فيها (‪ .)2‬وقوله ‪ { :‬صُمّ ُبكْمٌ ُ‬
‫ع ْميٌ عن رؤية طريقه ومسلكه { َفهُمْ ل َي ْعقِلُونَ } أي ‪ :‬ل يعقلون شيئًا ول يفهمونه ‪ ،‬كما قال‬
‫‪ُ ،‬‬
‫جعَلْهُ عَلَى‬
‫تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ َكذّبُوا بِآيَاتِنَا صُ ّم وَ ُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ مَنْ َيشَأِ اللّهُ ُيضْلِلْ ُه َومَنْ يَشَأْ َي ْ‬
‫صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } [النعام ‪.]39 :‬‬
‫شكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْ ُبدُونَ (‪ )172‬إِ ّنمَا‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ‬
‫غ وَل عَادٍ فَل إِثْمَ‬
‫ضطُرّ غَيْرَ بَا ٍ‬
‫حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َت َة وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزي ِر َومَا أُ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ ا ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪} )173‬‬
‫عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالكل من طَيبات ما رزقهم تعالى ‪ ،‬وأن يشكروه على ذلك ‪ ،‬إن‬
‫كانوا عبيده ‪ ،‬والكل من الحلل سبب لتقبل الدعاء والعبادة ‪ ،‬كما أن الكل من الحرام يمنع قبولَ‬
‫الدعاء والعبادة ‪ ،‬كما جاء في الحديث الذي رواه المامُ أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا أبو النضر ‪ ،‬حدثنا ال ُفضَيل بن مرزوق ‪ ،‬عن ع َديّ بن ثابت ‪ ،‬عن أبي حازم ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬ما أنتم عليه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬لن الصنام ل تسمع دعاء ول نداء بل هي جمادات ل تسمع شيئا"‪.‬‬

‫( ‪)1/480‬‬

‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أيها الناس ‪ ،‬إن ال طيب ل يقبل إل طيبًا ‪ ،‬وإن ال‬
‫عمَلُوا صَالِحًا إِنّي‬
‫سلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَا ْ‬
‫أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ‪ ،‬فقال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الرّ ُ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون ‪ ]51 :‬وقال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ } ثم‬
‫ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر ‪ ،‬يمدّ يديه إلى السماء ‪ :‬يا رب ‪ ،‬يا رب ‪ ،‬ومطعمه حرام‬
‫ومشربه حرام ‪ ،‬وملبسه حرام ‪ ،‬وغُذي بالحرام ‪ ،‬فأنى يستجاب لذلك"‪.‬‬
‫ورواه مسلم في صحيحه ‪ ،‬والترمذي من حديث [فضيل] (‪ )1‬بن مرزوق (‪.)2‬‬
‫ولما امتن تعالى عليهم برزقه ‪ ،‬وأرشدهم إلى الكل من طيبه ‪ ،‬ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك‬
‫إل الميتة ‪ ،‬وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ‪ ،‬وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو‬
‫مُتَردّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع‪.‬‬
‫طعَامُهُ مَتَاعًا َلكُمْ‬
‫حلّ َلكُ ْم صَيْدُ الْ َبحْ ِر وَ َ‬
‫وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى ‪ُ { :‬أ ِ‬
‫وَلِلسّيّا َرةِ } [المائدة ‪ ]96 :‬على ما سيأتي ‪ ،‬وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ‬
‫والسنن قوله ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬في البحر ‪" :‬هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد‬
‫وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا ‪" :‬أحل لنا ميتتان ودمان ‪ :‬السمك والجراد ‪،‬‬
‫والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة (‪.)3‬‬
‫ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لنه جزء منها‪ .‬وقال مالك في‬
‫رواية ‪ :‬هو طاهر إل أنه ينجس بالمجاورة ‪ ،‬وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلف والمشهور عندهم‬
‫أنها نجسة ‪ ،‬وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ‪ ،‬فقال القرطبي في تفسيره‬
‫هاهنا ‪ :‬يخالط اللبن منها يسير ‪ ،‬ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع‪ .‬وقد روى‬
‫ابن ماجة من حديث سيف بن هارون ‪ ،‬عن سليمان التيمي ‪ ،‬عن أبي عثمان النهدي ‪ ،‬عن سلمان‬
‫سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ‪ ،‬فقال ‪" :‬الحلل ما أحل ال في‬
‫كتابه ‪ ،‬والحرام ما حرم ال في كتابه ‪ ،‬وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (‪.)4‬‬
‫خلُ شَحْمه في حكم لحمه (‬
‫وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ‪ ،‬سواء ُذكّي أو مات حَتْف أنفه ‪ ،‬ويد ُ‬
‫‪ )5‬إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك ‪ ،‬أو بطريق القياس على رأي‪ .‬و[كذلك] (‪ )6‬حَرّم عليهم ما‬
‫أ ِهلّ به لغير ال ‪ ،‬وهو ما ذبح على غير اسمه (‪ )7‬تعالى من النصاب والنداد والزلم ‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )2/328‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1015‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2989‬‬
‫(‪ )3‬وسيأتي تخريج الحديثين عند تفسير أول سورة المائدة‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )3367‬ورواه الترمذي في السنن برقم (‪ )1726‬من طريق سيف بن‬
‫هارون به وقال ‪" :‬هذا حديث غريب ل نعرفه مرفوعا إل من هذا الوجه"‪ .‬وروى سفيان وغيره‬
‫عن سليمان التيمي ‪ ،‬عن أبي عثمان ‪ ،‬عن سلمان قوله ‪ ،‬وكأن الحديث الموقوف أصح ‪ ،‬وسألت‬
‫البخاري عن هذا الحديث فقال ‪ :‬ما أراه محفوظا ‪ ،‬روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي‬
‫عثمان ‪ ،‬عن سلمان موقوفا ‪ ،‬قال البخاري ‪" :‬وسيف بن هارون مقارب الحديث ‪ ،‬وسيف بن‬
‫محمد ‪ ،‬عن عاصم ذاهب الحديث"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ويدخل لحمه في حكم شحمه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬غير اسم ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/481‬‬
‫مما كانت الجاهلية ينحرون له‪[ .‬وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري ‪ :‬أنه‬
‫سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال ‪ :‬ل تؤكل لنها ذبحت لصنم ؛ وأورد‬
‫القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ما‬
‫ذبح لذلك اليوم فل تأكلوه ‪ ،‬وكلوا من أشجارهم] (‪ .)1‬ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة‬
‫ضطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَل عَادٍ } أي ‪:‬‬
‫والحتياج إليها ‪ ،‬عند فقد غيرها من الطعمة ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬فمَنِ ا ْ‬
‫غفُورٌ‬
‫في غير بغي ول عدوان ‪ ،‬وهو مجاوزة الحد { فَل إِثْمَ عَلَ ْيهِ } أي ‪ :‬في أكل ذلك { إِنّ اللّهَ َ‬
‫رَحِيمٌ }‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬فمن اضطر غير باغ ول عاد ‪ ،‬قاطعًا للسبيل ‪ ،‬أو مفارقًا للئمة ‪ ،‬أو خارجًا في‬
‫معصية ال ‪ ،‬فله الرخصة ‪ ،‬ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية ال فل رخصة له ‪ ،‬وإن‬
‫اضطر إليه ‪ ،‬وكذا روي عن سعيد بن جبير‪.‬‬
‫وقال سعيد ‪ -‬في رواية عنه ‪ -‬ومقاتل بن حيان ‪ :‬غير باغ ‪ :‬يعني غير مستحله‪ .‬وقال السدي ‪:‬‬
‫غير باغ يبتغي فيه شهوته ‪ ،‬وقال عطاء الخراساني في قوله ‪ { :‬غَيْرَ بَاغٍ } [قال] (‪ )2‬ل يشوي‬
‫من الميتة ليشتهيه ول يطبخه ‪ ،‬ول يأكل إل العُ ْلقَة ‪ ،‬ويحمل معه ما يبلغه الحلل ‪ ،‬فإذا بلغه ألقاه‬
‫[وهو قوله ‪ { :‬وَل عَادٍ } يقول ‪ :‬ل يعدو به الحلل] (‪.)3‬‬
‫وعن ابن عباس ‪ :‬ل يشبع منها‪ .‬وفسره السدي بالعدوان‪ .‬وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَل عَادٍ }‬
‫قال ‪ { :‬غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَل عَادٍ } في أكله‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬فمن اضطر غير باغ ول عاد في‬
‫(‪ )4‬أكله ‪ :‬أن يتعدى حلل إلى حرام ‪ ،‬وهو يجد عنه مندوحة‪.‬‬
‫وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله ‪َ { :‬فمَنِ اضْطُرّ } أي ‪ :‬أكره على ذلك بغير اختياره‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث ل قطع فيه ول أذى ‪ ،‬فإنه ل‬
‫يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بل خلف ‪ -‬كذا قال ‪ -‬ثم قال ‪ :‬وإذا أكله ‪ ،‬والحالة هذه ‪،‬‬
‫هل يضمنه أم ل ؟ فيه قولن هما روايتان عن مالك ‪ ،‬ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث‬
‫شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية ‪ :‬سمعت عباد بن العنزي (‪ )5‬قال ‪ :‬أصابتنا عامًا‬
‫مخمصة ‪ ،‬فأتيت المدينة (‪ .)6‬فأتيت حائطا ‪ ،‬فأخذت سنبل ففركته وأكلته ‪ ،‬وجعلت منه في‬
‫كسائي ‪ ،‬فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ‪ ،‬فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فأخبرته ‪ ،‬فقال للرجل ‪" :‬ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا ‪ ،‬ول علمته إذ كان جاهل" (‪.)7‬‬
‫فأمره فرد إليه ثوبه ‪ ،‬وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ‪ ،‬إسناد صحيح قوي جيد وله‬
‫شواهد كثيرة ‪ :‬من ذلك حديث عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ :‬سئل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم عن الثمر المعلق ‪ ،‬فقال ‪" :‬من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة (‪ )8‬فل‬
‫شيء عليه" (‪ )9‬الحديث‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ول عاد أي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬شرحيل الفتوى" وفي ط ‪" :‬بشر العنزي" والصواب ما أثبتناه‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬فأتيت الحتفية"‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)2298‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬غير منحن جيبه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه الترمذي في السنن برقم (‪ )1289‬وقال ‪" :‬هذا حديث حسن"‪.‬‬

‫( ‪)1/482‬‬

‫ب وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنًا قَلِيلًا أُولَ ِئكَ مَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ إِلّا‬
‫إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‪ )174‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّلَالَةَ‬
‫النّا َر وَلَا ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَا يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ‬
‫ق وَإِنّ‬
‫حّ‬‫بِا ْلهُدَى وَا ْلعَذَابَ بِا ْل َم ْغفِ َرةِ َفمَا َأصْبَرَ ُهمْ عَلَى النّارِ (‪ )175‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ (‪)176‬‬
‫الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ َلفِي ِ‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار ‪،‬‬


‫وقال مقاتل بن حيان في قوله ‪ { :‬فَل إِثْمَ عَلَ ْيهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫وبلغنا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬أنه ل يزاد (‪ )1‬على ثلث لقم‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ :‬غفور لما أكل من الحرام‪ .‬رحيم إذ أحل له الحرام في الضطرار‪.‬‬
‫وقال َوكِيع ‪ :‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن أبي الضحى ‪ ،‬عن مسروق قال ‪ :‬من (‪ )2‬اضطُرّ فلم يأكل ولم‬
‫يشرب ‪ ،‬ثم مات دخل النار‪.‬‬
‫[وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة ل رخصة‪ .‬قال أبو الحسن الطبري ‪ -‬المعروف‬
‫بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الشتغال ‪ :‬وهذا هو الصحيح عندنا ؛ كالفطار للمريض في‬
‫رمضان ونحو ذلك] (‪.)3‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنًا قَلِيل أُولَ ِئكَ مَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ إِل‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‪ )174‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ‬
‫النّا َر وَل ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وَل يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ‬
‫ق وَإِنّ‬
‫حّ‬‫بِا ْلهُدَى وَا ْلعَذَابَ بِا ْل َم ْغفِ َرةِ َفمَا َأصْبَرَ ُهمْ عَلَى النّارِ (‪ )175‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ نزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ (‪} )176‬‬
‫الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ َلفِي ِ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ } [مما يشهد له بالرسالة] (‪ { )4‬مَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ } يعني‬
‫اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى ال عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ‪ ،‬مما تشهد (‪ )5‬له‬
‫بالرسالة والنبوة ‪ ،‬فكتموا ذلك لئل تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا‬
‫والتحف على تعظيمهم إياهم ‪ ،‬فخشوا ‪ -‬لعنهم ال ‪ -‬إن أظهروا ذلك أن يَتّبعه الناس ويتركوهم ‪،‬‬
‫فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك ‪ ،‬وهو نزرٌ يسير ‪ ،‬فباعوا أنفسهم بذلك ‪،‬‬
‫واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول واليمان بما جاء عن ال بذلك النزر‬
‫اليسير ‪ ،‬فخابوا وخسروا في الدنيا والخرة ؛ أما في الدنيا فإن ال أظهر لعباده صِ ْدقَ رسوله ‪،‬‬
‫بما نصبه وجعله معه من اليات الظاهرات والدلئل القاطعات ‪ ،‬فصدقه الذين كانوا يخافون أن‬
‫يتبعوه ‪ ،‬وصاروا عونًا له على قتالهم ‪ ،‬وباؤوا بغضب على غضب ‪ ،‬وذمهم ال في كتابه في‬
‫غير (‪ )6‬موضع‪ .‬من ذلك هذه الية الكريمة ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ‬
‫وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنًا قَلِيل } وهو عرض الحياة الدنيا { أُولَ ِئكَ مَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ إِل النّارَ } أي ‪:‬‬
‫إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة‪ .‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫سعِيرًا } [النساء ‪:‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُ ْلمًا إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي ُبطُو ِنهِمْ نَارًا وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬
‫‪ ]10‬وفي الحديث الصحيح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬الذي يأكل أو يشرب‬
‫في آنية الذهب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬أنه ل يزيد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فمن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬كالعهد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في غير ما"‪.‬‬

‫( ‪)1/483‬‬

‫والفضة ‪ ،‬إنما ُيجَرْجرُ في بطنه نار جهنم" (‪.)1‬‬


‫وقوله ‪ { :‬وَل ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَل يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك لنه غضبانُ عليهم ‪،‬‬
‫لنهم كتموا وقد علموا ‪ ،‬فاستحقوا الغضب ‪ ،‬فل ينظر إليهم ول يزكيهم ‪ ،‬أي يثني (‪ )2‬عليهم‬
‫ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مَ ْر ُدوَيْه هاهنا [الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من] (‪ )3‬حديث‬
‫العمش ‪ ،‬عن أبي حازم ‪ ،‬عن أبي هريرة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ثلثة ل يكلمهم‬
‫ال ‪ ،‬ول ينظر إليهم ول يزكيهم [ولهم عذاب أليم] (‪ )4‬شيخ زان ‪ ،‬وملك كذاب ‪ ،‬وعائل مستكبر"‬
‫(‪.)5‬‬
‫ثم قال تعالى مخبرا عنهم ‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّلَلةَ بِا ْلهُدَى } أي ‪ :‬اعتاضوا عن الهدى ‪،‬‬
‫وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب النبياء واتباعه‬
‫وتصديقه ‪ ،‬استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضللة ‪ ،‬وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في‬
‫طوْه من أسبابه‬
‫كتبهم { وَا ْلعَذَابَ بِا ْل َمغْفِ َرةِ } أي ‪ :‬اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعا َ‬
‫المذكورة‪.‬‬
‫جبُ‬
‫علَى النّارِ } يخبر تعالى أنّهم في عذاب شديد عظيم هائل ‪ ،‬يتع ّ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬فمَا َأصْبَرَهُمْ َ‬
‫من رآهم فيها من صبرهم على ذلك ‪ ،‬مع (‪ )6‬شدة ما هم فيه من العذاب ‪ ،‬والنكال ‪ ،‬والغلل‬
‫عياذًا بال من ذلك‪.‬‬
‫[وقيل معنى قوله ‪َ { :‬فمَا َأصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ } أي ‪ :‬ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم‬
‫إلى النار] (‪.)7‬‬
‫وقوله ‪ { :‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ نزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ } أي ‪ :‬إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لن ال تعالى‬
‫أنزل على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم وعلى النبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل‬
‫‪ ،‬وهؤلء اتخذوا آيات ال هزوًا ‪ ،‬فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره ‪ ،‬فخالفوه وكذبوه‪ .‬وهذا‬
‫الرسول الخاتم يدعوهم إلى ال تعالى ‪ ،‬ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ‪ ،‬وهم يكذبونه‬
‫ويخالفونه ويجحدونه ‪ ،‬ويكتمون صفته ‪ ،‬فاستهزؤوا بآيات ال المنزلة على رسله ؛ فلهذا استحقوا‬
‫ق وَإِنّ الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ‬
‫العذاب والنكال ؛ ولهذا (‪ )8‬قال ‪ { :‬ذَِلكَ بِأَنّ الَ نزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَ ّ‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ }‪.‬‬
‫َلفِي ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )5634‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2065‬من حديث أم سلمة رضي ال‬
‫عنها‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬أي ‪ :‬ل يثني"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬وصحيح مسلم‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم في صحيحه رقم (‪.)107‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬فلهذا"‪.‬‬

‫( ‪)1/484‬‬

‫ب وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ َآمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَا ْلمَلَا ِئكَةِ‬
‫لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا ُوجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِ ِ‬
‫ل وَالسّائِلِينَ‬
‫ن وَآَتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ َذوِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِي ِ‬
‫وَا ْلكِتَابِ وَالنّبِيّي َ‬
‫ب وََأقَامَ الصّلَا َة وَآَتَى ال ّزكَا َة وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْ ِدهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ‬
‫َوفِي ال ّرقَا ِ‬
‫ن صَ َدقُوا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ (‪)177‬‬
‫وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَ ْأسِ أُولَ ِئكَ الّذِي َ‬

‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ‬
‫{ لَ ْيسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْل َمشْرِ ِ‬
‫ن وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ َذوِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ‬
‫ب وَالنّبِيّي َ‬
‫وَا ْلمَل ِئكَةِ وَا ْلكِتَا ِ‬
‫ن َوفِي ال ّرقَابِ وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْدِهِمْ إِذَا عَا َهدُوا وَالصّابِرِينَ فِي‬
‫وَالسّائِلِي َ‬
‫ن صَ َدقُوا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ (‪} )177‬‬
‫الْبَأْسَا ِء وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَ ْأسِ أُولَ ِئكَ الّذِي َ‬
‫اشتملت هذه الية الكريمة ‪ ،‬على جمَل عظيمة ‪ ،‬وقواعد عميمة ‪ ،‬وعقيدة مستقيمة ‪ ،‬كما قال ابن‬
‫أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عُبيد (‪ )1‬بن هشام الحلبي ‪ ،‬حدثنا عبيد ال بن عمرو ‪ ،‬عن عامر‬
‫شفَي ‪ ،‬عن عبد الكريم ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن أبي ذر ‪ :‬أنه سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بن ُ‬
‫‪ :‬ما اليمان ؟ فتل عليه ‪ { :‬لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا ُوجُو َهكُمْ } إلى آخر الية‪ .‬قال ‪ :‬ثم سأله أيضًا ‪،‬‬
‫فتلها عليه (‪ )2‬ثم سأله‪ .‬فقال ‪" :‬إذا عملت حسنة أحبها (‪ )3‬قلبك ‪ ،‬وإذا عملت سيئة أبغضها (‪)4‬‬
‫قلبك" (‪.)5‬‬
‫وهذا منقطع ؛ فإن (‪ )6‬مجاهدًا لم يدرك أبا ذر ؛ فإنه مات قديمًا‪.‬‬
‫وقال المسعودي ‪ :‬حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ‪ ،‬قال ‪ :‬جاء رجل إلى أبي ذر ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما اليمان‬
‫؟ فقرأ (‪ )7‬عليه هذه الية ‪ { :‬لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ } حتى فرغ منها‪ .‬فقال الرجل ‪ :‬ليس‬
‫عن البر سأل ُتكَ‪ .‬فقال أبو ذر ‪ :‬جاء رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأله عما سألتني‬
‫عنه ‪ ،‬فقرأ عليه هذه الية ‪ ،‬فأبى أن يرضى كما أبيت [أنت] (‪ )8‬أ ن ترضى فقال له رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وأشار بيده ‪" : -‬المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها ‪ ،‬وإذا عمل‬
‫سيئة أحزنته وخاف عقابها" (‪.)9‬‬
‫رواه ابن مَرْدُويه ‪ ،‬وهذا أيضًا منقطع ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وأما الكلم على تفسير هذه الية ‪ ،‬فإن ال تعالى لما أمر المؤمنين أول بالتوجه إلى بيت‬
‫المقدس ‪ ،‬ثم حوّلهم إلى الكعبة ‪ ،‬شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ‪،‬‬
‫فأنزل ال تعالى بيان حكمته في ذلك ‪ ،‬وهو أن المراد إنما هو طاعة ال عز وجل ‪ ،‬وامتثال‬
‫أوامره ‪ ،‬والتوجه حيثما وجه ‪ ،‬واتباع ما شرع ‪ ،‬فهذا هو البر والتقوى واليمان الكامل ‪ ،‬وليس‬
‫في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ول طاعة ‪ ،‬إن لم يكن عن أمر ال‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ‬
‫وشرعه ؛ ولهذا قال ‪ { :‬لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ } الية ‪ ،‬كما قال في الضاحي والهدايا ‪ { :‬لَنْ يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَل ِدمَاؤُهَا‬
‫وََلكِنْ يَنَالُهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ } [الحج ‪.]37 :‬‬
‫وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الية ‪ :‬ليس البر أن ُتصَلّوا ول تعملوا‪ .‬فهذا حين تحول من‬
‫مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ‪ ،‬فأمر ال بالفرائض والعمل بها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬حدثنا عبيدة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فتل عليه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فأحبها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فأبغضها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلة" برقم (‪ )409‬من طريق عبد الرزاق ‪ ،‬عن‬
‫معمر ‪ ،‬عن عبد الكريم ‪ ،‬عن مجاهد به‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬لن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فتل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلة" برقم (‪ )408‬من طريق عبد ال بن يزيد‬
‫والملئي ‪ ،‬كلهما عن المسعودي به نحوه ‪ ،‬ورواه الحاكم (‪ )2/272‬من طريق موسى بن‬
‫أعين ‪ ،‬عن عبد الكريم به نحوه ‪ ،‬وقال ‪" :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"‬
‫وتعقبه الذهبي ‪" :‬قلت ‪ :‬وهو منقطع"‪.‬‬

‫( ‪)1/485‬‬

‫وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك‪.‬‬


‫وقال أبو العالية ‪ :‬كانت اليهود ُتقْبل (‪ )1‬قبل المغرب ‪ ،‬وكانت النصارى ُتقْبل (‪ )2‬قبل المشرق ‪،‬‬
‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ } يقول ‪ :‬هذا كلم اليمان‬
‫فقال ال تعالى ‪ { :‬لَ ْيسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْل َمشْرِ ِ‬
‫وحقيقته (‪ )3‬العمل‪ .‬وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة ال ‪ ،‬عز وجل‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ :‬ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ { :‬وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } الية ‪ ،‬قال ‪ :‬هذه أنواع البر كلها‪ .‬وصدق رحمه‬
‫ال ؛ فإن من اتصف بهذه الية ‪ ،‬فقد دخل في عرى السلم كلها ‪ ،‬وأخذ بمجامع الخير كله ‪،‬‬
‫وهو اليمان بال ‪ ،‬وهو أنه ل إله إل هو ‪ ،‬وصدق بوجود الملئكة الذين هم سفرة بين ال ورسله‬
‫{ وَا ْلكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على النبياء ‪ ،‬حتى ختمت بأشرفها ‪،‬‬
‫وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ‪ ،‬الذي انتهى إليه كل خير ‪ ،‬واشتمل على كل سعادة‬
‫في الدنيا والخرة ‪ ،‬ونسخ [ال] (‪ )4‬به كل ما سواه من الكتب قبله ‪ ،‬وآمن بأنبياء ال كلهم من‬
‫أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات ال وسلمه عليه وعليهم أجمعين‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ } أي ‪ :‬أخرجه ‪ ،‬وهو مُحب له ‪ ،‬راغب فيه‪ .‬نص على ذلك ابن‬
‫مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي‬
‫هُرَيرة مرفوعًا ‪" :‬أفضل الصدقة أن َتصَدّقَ وأنت صحيح شحيح ‪ ،‬تأمل الغنى ‪ ،‬وتخشى الفقر"‪.‬‬
‫وقد روى الحاكم في مستدركه ‪ ،‬من حديث شعبة والثوري ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن زُبَيد ‪ ،‬عن مُرّة ‪،‬‬
‫عن ابن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ } أن (‪)5‬‬
‫تعطيه وأنت صحيح شحيح ‪ ،‬تأمل الغنى (‪ )6‬وتخشى الفقر"‪ .‬ثم قال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين‬
‫‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)7‬‬
‫قلت وقد رواه َوكِيع عن العمش ‪ ،‬وسفيان عن زبيد ‪ ،‬عن مرة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬موقوفًا ‪،‬‬
‫وهو أصح ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫جهِ اللّهِ ل‬
‫ط ِع ُمكُمْ ِلوَ ْ‬
‫سكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِ ّنمَا ُن ْ‬
‫طعَامَ عَلَى حُبّهِ مِ ْ‬
‫ط ِعمُونَ ال ّ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬وَ ُي ْ‬
‫شكُورًا } [النسان ‪.]9 ، 8 :‬‬
‫نُرِيدُ مِ ْنكُمْ جَزَاءً وَل ُ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا ُتحِبّونَ } [آل عمران ‪ ]92 :‬وقوله ‪ { :‬وَيُؤْثِرُونَ‬
‫خصَاصَةٌ } [الحشر ‪ ]9 :‬نمَط آخرُ أرفع من هذا [ومن هذا] (‪ )8‬وهو‬
‫سهِ ْم وََلوْ كَانَ ِب ِهمْ َ‬
‫عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ‪ ،‬وهؤلء أعطوا (‪ )9‬وأطعموا ما هم محبون له‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬ذوِي ا ْلقُرْبَى } وهم ‪ :‬قرابات الرجل ‪ ،‬وهم أولى من أعطى من الصدقة ‪ ،‬كما ثبت في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تتقبل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬تتقبل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وحقيقة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬أي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬العيش"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المستدرك (‪.)2/272‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وهؤلء أعطوه"‪.‬‬

‫( ‪)1/486‬‬

‫الحديث ‪" :‬الصدقة على المساكين (‪ )1‬صدقة ‪ ،‬وعلى ذوي الرحم ثنتان ‪ :‬صدقة وصلة"‪ .‬فهم‬
‫أولى الناس بك وببرك وإعطائك‪ .‬وقد أمر ال تعالى بالحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه‬
‫العزيز‪.‬‬
‫{ وَالْيَتَامَى } هم ‪ :‬الذين ل كاسب (‪ )2‬لهم ‪ ،‬وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ‬
‫والقدرة على التكسب ‪ ،‬وقد قال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن جويبر ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن‬
‫حلُم"‪.‬‬
‫النزال بن سبرة ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل يُتْم بعد ُ‬
‫سدّ به‬
‫{ وَا ْلمَسَاكِينَ } وهم ‪ :‬الذين ل يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ‪ ،‬فيعطون ما تُ َ‬
‫حاجتهم وخلتهم‪ .‬وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ليس‬
‫المسكين بهذا الطوّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ‪ ،‬ولكن المسكين الذي ل يجد‬
‫غنى يغنيه ‪ ،‬ول يفطن له (‪ )3‬فَيُ َتصَدق عليه (‪.)4‬‬
‫{ وَابْنَ السّبِيلِ } وهو ‪ :‬المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ‪ ،‬وكذا‬
‫الذي يريد سفرا في طاعة ‪ ،‬فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ‪ ،‬ويدخل في ذلك الضيف ‪ ،‬كما قال‬
‫علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ‪،‬‬
‫وكذا قال مجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وأبو جعفر الباقر ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك‬
‫والزهري ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‪.‬‬
‫{ وَالسّا ِئلِينَ } وهم ‪ :‬الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ‪ ،‬كما قال المام‬
‫أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا َوكِيع وعبد الرحمن ‪ ،‬قال حدثنا سفيان ‪ ،‬عن مصعب بن محمد ‪ ،‬عن يعلى بن أبي يحيى ‪،‬‬
‫عن فاطمة بنت الحسين ‪ ،‬عن أبيها (‪ - )5‬قال عبد الرحمن ‪ :‬حسين بن علي ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬للسائل حق وإن جاء على فرس"‪ .‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫{ َوفِي ال ّرقَابِ } وهم ‪ :‬المكاتبون الذين ل يجدون ما يؤدونه في كتابتهم‪.‬‬
‫وسيأتي الكلم على كثير من هذه الصناف (‪ )6‬في آية الصدقات من براءة ‪ ،‬إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن عبد الحميد ‪ ،‬حدثنا شريك ‪ ،‬عن أبي حمزة ‪،‬‬
‫عن الشعبي ‪ ،‬حدثتني فاطمة بنت قيس ‪ :‬أنها سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أفي المال‬
‫حق سوى الزكاة ؟ قالت ‪ :‬فتل علي { وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ } (‪.)7‬‬
‫ورواه ابن مَ ْردُويه من حديث آدم بن أبي إياس ‪ ،‬ويحيى بن عبد الحميد ‪ ،‬كلهما ‪ ،‬عن شريك ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬على المسلمين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬ل مكاسب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬ل يجد ما يغنيه ول ينظر له"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )1479‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1039‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فاطمة بنت حسين عن أبيها" وفي أ ‪" :‬فاطمة بنت حسين بن علي ‪ ،‬عن حسين بن‬
‫علي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬من الصناف هذه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬هو في صحيح البخاري برقم (‪ )33‬وصحيح مسلم برقم (‪ )59‬من حديث أبي هريرة رضي‬
‫ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/487‬‬

‫عن أبي حمزة عن الشعبي ‪ ،‬عن فاطمة بنت قيس ‪ ،‬قالت ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبِ } إلى‬
‫"في المال حق سوى الزكاة" ثم تل (‪ { )1‬لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫قوله ‪َ { :‬وفِي ال ّرقَابِ }‬
‫[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (‪ )2‬وضعف أبا حمزة ميمونًا (‪ )3‬العور ‪ ،‬قال ‪ :‬وقد رواه‬
‫بيان (‪ )4‬وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (‪.)5‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ } أي ‪ :‬وأتم أفعال الصلة في أوقاتها بركوعها ‪ ،‬وسجودها ‪،‬‬
‫وطمأنينتها ‪ ،‬وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَآتَى ال ّزكَاةَ } يُحْ َت َملُ أن يكون المراد به زكاة النفس ‪ ،‬وتخليصها من الخلق الدنية (‬
‫‪ )6‬الرذيلة ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬قَدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا * َوقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا } [الشمس ‪ ]10 ، 9 :‬وقول‬
‫خشَى } [النازعات ‪]19 ، 18 :‬‬
‫موسى لفرعون ‪َ { :‬هلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى * وَأَ ْهدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ فَتَ ْ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬ووَيْلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ * الّذِينَ ل ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ } [فصلت ‪.]7 ، 6 :‬‬
‫ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (‪ )7‬كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ‪ ،‬ويكون‬
‫المذكور من إعطاء (‪ )8‬هذه الجهات والصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ؛ ولهذا‬
‫تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس ‪ :‬أن في المال حقا سوى الزكاة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْ ِدهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا } كقوله ‪ { :‬الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ وَل يَ ْن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ }‬
‫[الرعد ‪ ]20 :‬وعكس هذه الصفة النفاق ‪ ،‬كما صح في الحديث ‪" :‬آية المنافق ثلث ‪ :‬إذا حدث‬
‫كذب ‪ ،‬وإذا وعد أخلف ‪ ،‬وإذا اؤتمن خان"‪ .‬وفي الحديث الخر ‪" :‬إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر‬
‫‪ ،‬وإذا خاصم فجر" (‪.)9‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَأْسِ } أي ‪ :‬في حال الفقر ‪ ،‬وهو البأساء ‪،‬‬
‫وفي حال المرض والسقام ‪ ،‬وهو الضراء‪ { .‬وَحِينَ الْبَ ْأسِ } أي ‪ :‬في حال القتال والتقاء‬
‫العداء ‪ ،‬قاله ابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬ومُرّة الهمداني ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬وأبو مالك ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫صبَ { وَالصّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الحوال لشدته وصعوبته ‪،‬‬
‫وإنما ُن ِ‬
‫وال أعلم ‪ ،‬وهو المستعان وعليه التكلن‪.‬‬
‫ن صَ َدقُوا } أي ‪ :‬هؤلء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في‬
‫وقوله ‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِي َ‬
‫إيمانهم ؛ لنهم حققوا اليمان القلبي بالقوال والفعال ‪ ،‬فهؤلء هم الذين صدقوا { وَأُولَ ِئكَ ُهمُ‬
‫ا ْلمُ ّتقُونَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ثم قرأ"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪ )659‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )1789‬وقال الترمذي ‪" :‬هذا حديث ليس‬
‫إسناده بذاك ‪ ،‬وأبو حمزة يضعف في الحديث ‪ ،‬وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي‬
‫قوله ‪ ،‬وهو أصح"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬عونا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬سيار" والصواب ما أثبتناه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬الذميمة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬زكاة الملك"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬من أعطى"‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )58‬من حديث عبد ال بن عمرو رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/488‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى الْحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَ ْب ِد وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى َفمَنْ‬
‫حمَةٌ َفمَنِ‬
‫خفِيفٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَرَ ْ‬
‫ف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ ذَِلكَ تَ ْ‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫ُ‬
‫اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (‪ )178‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪)179‬‬

‫لنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات‪.‬‬


‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْ ِد وَالنْثَى بِالنْثَى َفمَنْ‬
‫حمَةٌ َفمَنِ‬
‫خفِيفٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَرَ ْ‬
‫ف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ ذَِلكَ تَ ْ‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫ُ‬
‫اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (‪ )178‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي اللْبَابِ َلعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ (‪)179‬‬
‫}‬
‫ل في القصاص ‪ -‬أيّها المؤمنون ‪ -‬حُرّكم (‪ )1‬بحركم ‪ ،‬وعبدكم‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ } العد ُ‬
‫بعبدكم ‪ ،‬وأنثاكم بأنثاكم ‪ ،‬ول تتجاوزوا وتعتدوا ‪ ،‬كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم ال فيهم ‪،‬‬
‫وسبب ذلك قريظة و[بنو] (‪ )2‬النضير ‪ ،‬كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم‬
‫ي ل يقتل به ‪ ،‬بل ُيفَادَى بمائة وسق من التمر ‪ ،‬وإذا قتل القرظي‬
‫‪ ،‬فكان إذا قتل النضري القرظ ّ‬
‫النضري قتل به ‪ ،‬وإن فا َدوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (‪ )3‬القرظي ‪ ،‬فأمر ال‬
‫بالعدل في القصاص ‪ ،‬ول يتبع سبيل المفسدين المحرفين (‪ ، )4‬المخالفين لحكام ال فيهم ‪ ،‬كفرا‬
‫وبغيًا (‪ ، )5‬فقال تعالى ‪ { :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْ ِد وَالنْثَى‬
‫بِالنْثَى }‪.‬‬
‫وذكر في [سبب] (‪ )6‬نزولها ما رواه المام أبو محمد بن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا‬
‫يحيى بن عبد ال بن ُبكَير (‪ )7‬حدثني عبد ال بن لَهيعة ‪ ،‬حدثني عطاء بن دينار ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬في قول ال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى } يعني ‪ :‬إذا كان‬
‫عمْدا ‪ ،‬الحر بالحر‪ .‬وذلك أن حيّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل السلم بقليل ‪ ،‬فكان بينهم‬
‫َ‬
‫قتل وجراحات ‪ ،‬حتى قتلوا العبيد والنساء ‪ ،‬فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ‪ ،‬فكان أحد‬
‫الحيين يتطاول على الخر في العدة والموال ‪ ،‬فحلفوا أل يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم‬
‫‪ ،‬وبالمرأة منا الرجل منهم (‪ ، )8‬فنزلت فيهم‪.‬‬
‫{ ا ْلحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْدِ وَالنْثَى بِالنْثَى } منها منسوخة ‪ ،‬نسختها { ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ } [المائدة ‪:‬‬
‫‪.]45‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬وَالنْثَى بِالنْثَى } وذلك أنهم ل يقتلون الرجل‬
‫بالمرأة ‪ ،‬ولكن يقتلون الرجل بالرجل ‪ ،‬والمرأة بالمرأة فأنزل ال ‪ :‬النفس بالنفس والعين بالعين ‪،‬‬
‫فجعل الحرار في القصاص (‪ )9‬سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس ‪ ،‬وفيما‬
‫دون النفس ‪ ،‬وجعل العبيد مستوين (‪ )10‬فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فاقتلوا حركم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ضعف دم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬المجرمين"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬لهوا ولعبا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬بكر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬والمرأة منا بالرجل منهم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬القصاص والعبيد"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬مستويين"‪.‬‬

‫( ‪)1/489‬‬

‫ونساؤهم ‪ ،‬وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله ‪ { :‬ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ }‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ‪ ،‬وإليه ذهب الثوري وابن أبي‬
‫ليلى وداود ‪ ،‬وهو مروي عن علي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬والحكم ‪ ،‬وقال البخاري ‪ ،‬وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه ‪:‬‬
‫ويقتل السيد بعبده ؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة ‪" :‬من قتل عبده قتلناه ‪ ،‬ومن جذعه جذعناه ‪،‬‬
‫ومن خصاه خصيناه" (‪ )1‬وخالفهم الجمهور وقالوا ‪ :‬ل يقتل الحر بالعبد ؛ لن العبد سلعة لو قتل‬
‫خطأ لم تجب فيه دية ‪ ،‬وإنما تجب فيه قيمته ‪ ،‬وأنه ل يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى ‪،‬‬
‫وذهب الجمهور إلى أن المسلم ل يقتل بالكافر ‪ ،‬كما ثبت في البخاري عن علي ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل يقتل مسلم بكافر" (‪ )2‬ول يصح حديث ول تأويل يخالف هذا‬
‫‪ ،‬وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬قال الحسن وعطاء ‪ :‬ل يقتل الرجل بالمرأة لهذه الية ‪ ،‬وخالفهم الجمهور لية المائدة ؛‬
‫ولقوله عليه السلم ‪" :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم" (‪ )3‬وقال الليث ‪ :‬إذا قتل الرجل امرأته ل يقتل‬
‫بها خاصة‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬ومذهب الئمة الربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ؛ قال عمر بن الخطاب‬
‫رضي ال عنه في غلم قتله سبعة فقتلهم ‪ ،‬وقال ‪ :‬لو تمال عليه أهل صنعاء لقتلتهم ‪ ،‬ول يعرف‬
‫له في زمانه مخالف من الصحابة ‪ ،‬وذلك كالجماع‪ .‬وحكي عن المام أحمد رواية ‪ :‬أن الجماعة‬
‫ل يقتلون بالواحد ‪ ،‬ول يقتل بالنفس إل نفس واحدة‪ .‬وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير ‪،‬‬
‫وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ؛ ثم قال ابن المنذر ‪:‬‬
‫وهذا أصح ‪ ،‬ول حجة لمن أباح قتل الجماعة (‪ .)4‬وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ‪ ،‬وإذا‬
‫اختلف الصحابة فسبيله النظر‪.‬‬
‫حسَانٍ } قال مجاهد عن ابن‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَ ْيهِ بِإِ ْ‬
‫ع ِفيَ َلهُ مِنْ َأخِيهِ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ ُ‬
‫شيْءٌ } فالعفو ‪ :‬أن يَقبل الدية في العمد ‪ ،‬وكذا روي عن أبي‬
‫عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫عباس ‪َ { :‬فمَنْ ُ‬
‫العالية ‪ ،‬وأبي الشعثاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬ومقاتل بن‬
‫حيان‪.‬‬
‫شيْءٌ } يقول ‪ :‬فمن ترك له من أخيه‬
‫عفِيَ َلهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫وقال الضحاك عن ابن عباس ‪َ { :‬فمَنْ ُ‬
‫شيء يعني ‪[ :‬بعد] (‪ )5‬أخذ الدّية بعد استحقاق الدم ‪ ،‬وذلك العفو { فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ } يقول ‪:‬‬
‫فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ } يعني ‪ :‬من القاتل من غير‬
‫ضرر ول َمعْك ‪ ،‬يعني ‪ :‬المدافعة‪.‬‬
‫وروى الحاكم من حديث سفيان ‪ ،‬عن عمرو ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬ويؤدي المطلوب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )4516 ، 4515‬والترمذي في السنن برقم (‪ )1414‬وقال‬
‫الترمذي ‪" :‬هذا حديث حسن غريب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)111‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )2683‬من حديث ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬قتل جماعة بواحد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/490‬‬

‫بإحسان‪ .‬وكذا قال سعيد بن جُبَير ‪ ،‬وأبو الشعثاء جابر بن زَيد ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وعطاء‬
‫الخراساني ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬قال مالك ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور ‪ ،‬وأبو حنيفة وأصحابه‬
‫والشافعي في أحد قوليه ‪ :‬ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إل برضا القاتل ‪ ،‬وقال الباقون ‪ :‬له‬
‫أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل ‪ ،‬وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو ‪ ،‬منهم‬
‫الحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وابن شبرمة ‪ ،‬والليث ‪ ،‬والوزاعي ‪ ،‬وخالفهم الباقون‪.‬‬
‫حمَةٌ } يقول تعالى ‪ :‬إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا‬
‫خفِيفٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَرَ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬ذَِلكَ تَ ْ‬
‫من ال عليكم ورحمة بكم ‪ ،‬مما كان محتوما على المم قبلكم من القتل أو العفو ‪ ،‬كما قال سعيد‬
‫بن منصور ‪:‬‬
‫حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬أخبرني مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كتب على بني‬
‫إسرائيل القصاص في القتلى ‪ ،‬ولم يكن فيهم العفو ‪ ،‬فقال ال لهذه المة (‪ { )1‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ‬
‫شيْءٌ } فالعفو‬
‫عفِيَ َلهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْدِ وَالنْثَى بِالنْثَى َفمَنْ ُ‬
‫أن يقبل الدية في العمد ‪ ،‬ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (‪ )2‬مما كتب على من كان قبلكم ‪،‬‬
‫فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (‪.)3‬‬
‫وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (‪ )4‬وأخرجه ابن حبان في صحيحه ‪ ،‬عن عمرو بن‬
‫دينار ‪ ،‬به (‪[ .)5‬وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (‪ )6‬؛ ورواه جماعة عن مجاهد‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬بنحوه‪.‬‬
‫خفِيفٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ } رحم ال هذه المة وأطعمهم الدية ‪ ،‬ولم تحل لحد قبلهم ‪،‬‬
‫وقال قتادة ‪ { :‬ذَِلكَ تَ ْ‬
‫فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش (‪ )7‬وكان أهل النجيل إنما هو عفو‬
‫أمروا به ‪ ،‬وجعل لهذه المة القصاص والعفو والرش‪.‬‬
‫وهكذا روي عن سعيد بن جبير ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬نحو هذا‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَى َبعْدَ َذِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ َألِيمٌ } يقول تعالى ‪ :‬فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ‪،‬‬
‫فله عذاب من ال أليم موجع شديد‪.‬‬
‫وكذا رُوي عن ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫والسدي ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ :‬أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ‪ ،‬كما قال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫الحارث بن فضيل ‪ ،‬عن سفيان بن أبي العوجاء ‪ ،‬عن أبي شريح الخزاعي ‪ :‬أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬فقال ال في هذه الية"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن سعيد بن منصور برقم (‪ )246‬بتحقيق د‪ .‬الحميد‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح ابن حبان (‪" )7/601‬الحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه ‪ :‬حاشية‬
‫الدكتور سعد الحميد ‪ -‬حفظه ال ‪ -‬على سنن سعيد بن منصور‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أثر"‪.‬‬

‫( ‪)1/491‬‬

‫حقّا عَلَى‬
‫حضَرَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ وَالَْأقْرَبِينَ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمْ إِذَا َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)181‬‬
‫س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْث ُمهُ عَلَى الّذِينَ يُ َبدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ َ‬
‫ا ْلمُ ّتقِينَ (‪َ )180‬فمَنْ بَدَّلهُ َبعْ َدمَا َ‬

‫"من أصيب بقتل أو خَبْل (‪ )1‬فإنه يختار إحدى ثلث ‪ :‬إما أن يقتص ‪ ،‬وإما أن يعفو ‪ ،‬وإما أن‬
‫يأخذ الدية ؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه‪ .‬ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها"‬
‫رواه (‪ )2‬أحمد (‪.)3‬‬
‫وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن سمرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ل أعافي رجل قتل بعد أخذ الدية ‪ -‬يعني ‪ :‬ل أقبل منه الدية ‪ -‬بل أقتله" (‪.)4‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى ‪ :‬وفي شَرْع القصاص لكم ‪ -‬وهو قتل القاتل ‪-‬‬
‫صوْنها ؛ لنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه ‪،‬‬
‫حكمة عظيمة لكم ‪ ،‬وهي بقاء ال ُمهَج و َ‬
‫ل أنفى للقتل‪ .‬فجاءت هذه العبارة في القرآن‬
‫فكان في ذلك حياة النفوس‪ .‬وفي الكتب المتقدمة ‪ :‬القت ُ‬
‫أفصح ‪ ،‬وأبلغ ‪ ،‬وأوجز‪.‬‬
‫{ وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية ‪ :‬جعل ال القصاص حياة ‪ ،‬فكم من رجل يريد أن‬
‫يقتُل ‪ ،‬فتمنعه مخافة أن يُقتل‪.‬‬
‫وكذا روي عن مجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وأبي مالك ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫ومقاتل بن حيان ‪ { ،‬يَا أُولِي اللْبَابِ َلعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ } يقول ‪ :‬يا أولي العقول والفهام والنهى ‪ ،‬لعلكم‬
‫تنزجرون فتتركون محارم ال ومآثمه ‪ ،‬والتقوى ‪ :‬اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات‪.‬‬
‫حقّا‬
‫ن وَالقْرَبِينَ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫حضَرَ أَ َ‬
‫{ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)181‬‬
‫س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْث ُمهُ عَلَى الّذِينَ يُ َبدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ َ‬
‫عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ (‪َ )180‬فمَنْ بَدَّلهُ َبعْ َدمَا َ‬
‫}‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬أو ختل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ورواه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)4/31‬‬
‫(‪ )4‬ذكره السيوطي في الدر المنثور (‪ )1/421‬وعزاه لسمويه في فوائده ‪ ،‬وروى البيهقي في‬
‫السنن الكبرى (‪ )8/54‬من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسل بنحوه ‪،‬‬
‫وروى أبو داود في السنن برقم (‪ )4507‬من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد‬
‫ال رضي ال عنه مرفوعا بنحوه‪.‬‬

‫( ‪)1/492‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)182‬‬


‫َفمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَ َنفًا َأوْ إِ ْثمًا فََأصْلَحَ بَيْ َن ُهمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪} )182‬‬


‫{ َفمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَ َنفًا َأوْ إِ ْثمًا فََأصْلَحَ بَيْ َنهُمْ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫اشتملت هذه الية الكريمة على المر بالوصية للوالدين والقربين‪ .‬وقد كان ذلك واجبًا ‪ -‬على‬
‫أصح القولين ‪ -‬قبل نزول آية المواريث ‪ ،‬فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ‪ ،‬وصارت‬
‫المواريث المقدرة فريضة من ال ‪ ،‬يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ول تحمل منّة (‪)1‬‬
‫عمْرو بن خارجة قال ‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫الموصي ‪ ،‬ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن َ‬
‫صلى ال عليه وسلم يخطب وهو يقول ‪" :‬إن ال قد أعطى كلّ ذي حق حقه ‪ ،‬فل وصية لوارث"‬
‫(‪.)2‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَية ‪ ،‬عن يونس بن عبيد ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬مآنة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬مانة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الترمذي برقم (‪ )2121‬وسنن النسائي (‪ )6/247‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2712‬‬

‫( ‪)1/492‬‬
‫سيرين ‪ ،‬قال ‪ :‬جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [على] (‪ )1‬هذه الية ‪ { :‬إِنْ تَ َركَ‬
‫ن وَالقْرَبِينَ } فقال ‪ :‬نسخت هذه الية‪.‬‬
‫خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫وكذا رواه سعيد بن منصور ‪ ،‬عن هشيم ‪ ،‬عن يونس ‪ ،‬به‪ .‬ورواه الحاكم في مستدركه وقال ‪:‬‬
‫صحيح على شرطهما (‪.)2‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ وَالقْرَبِينَ } قال ‪ :‬كان ل‬
‫يرث مع الوالدين غيرهما إل وصية للقربين ‪ ،‬فأنزل ال آية الميراث (‪ )3‬فبيّن ميراث الوالدين ‪،‬‬
‫وأقر وصية القربين في ثلث مال الميت‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬حدثنا حجاج بن محمد ‪ ،‬أخبرنا ابن‬
‫جريج ‪ ،‬وعثمان بن عطاء ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ‬
‫ن وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا‬
‫ن وَالقْرَبُو َ‬
‫وَالقْرَبِينَ } نسختها هذه الية ‪ { :‬لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ‬
‫ن وَالقْرَبُونَ ِممّا َقلّ مِنْهُ َأوْ كَثُرَ َنصِيبًا َمفْرُوضًا } [ النساء ‪.]7 :‬‬
‫تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ‬
‫ثم قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن عمر (‪ )4‬وأبي موسى ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب ‪ ،‬والحسن ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬ومحمد بن سيرين ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪ ،‬والربيع‬
‫بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وإبراهيم النّخَعي ‪ ،‬وشُرَيح ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ ،‬والزهري ‪ :‬أن هذه الية منسوخة نسختها آية الميراث‪.‬‬
‫والعجب من أبي عبد ال محمد بن عمر (‪ )5‬الرازي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬كيف حكى في تفسيره الكبير‬
‫عن أبي مسلم الصفهاني (‪ )6‬أن هذه الية غير منسوخة ‪ ،‬وإنما هي ُمفَسرة بآية المواريث ‪،‬‬
‫ومعناه ‪ :‬كتب عليكم ما أوصى ال به من توريث (‪ )7‬الوالدين والقربين‪ .‬من قوله ‪ { :‬يُوصِيكُمُ‬
‫اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ } [ النساء ‪ ]11 :‬قال ‪ :‬وهو قولُ أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬إنها منسوخة فيمن يرث ‪ ،‬ثابتة فيمن ل يرث ‪ ،‬وهو مذهب ابن عباس ‪ ،‬والحسن‬
‫‪ ،‬ومسروق ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬ومسلم بن يَسَار ‪ ،‬والعلء بن زياد‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وبه قال أيضًا سعيدُ بن جُبَير ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‪ .‬ولكن على‬
‫قول هؤلء (‪ )8‬ل يسمى هذا نسخا في اصطلحنا المتأخر ؛ لن آية الميراث إنما رفعت حكم‬
‫بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ‪ ،‬لن "القربين" أعم ممن يرث ومن (‪ )9‬ل يرث ‪،‬‬
‫فرفع حكم من يرث بما عين له ‪ ،‬وبقي الخر على ما دلت عليه الية الولى‪ .‬وهذا إنما يتأتى‬
‫على قول بعضهم ‪ :‬أن الوصاية في ابتداء السلم إنما كانت ندبا حتى نسخت‪ .‬فأما من يقول ‪:‬‬
‫إنها كانت واجبة وهو الظاهر من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن سعيد بن منصور برقم (‪ )252‬بتحقيق االدكتور الحميد ‪ ،‬والمستدرك (‪.)2/273‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬المواريث"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ابن أبي عمر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ابن أبي عمر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬الصبهاني"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬من تواريث"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬على قول هذا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬وممن"‪.‬‬

‫( ‪)1/493‬‬

‫سياق الية ‪ -‬فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ‪ ،‬كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من‬
‫الفقهاء ؛ فإنّ وجوب الوصية للوالدين والقربين [الوارثين] (‪ )1‬منسوخ بالجماع‪ .‬بل منهي عنه‬
‫للحديث المتقدم ‪" :‬إن ال قد أعطى كل ذي حق حقه فل وصية لوارث"‪ .‬فآية الميراث حكم مستقل‬
‫‪ ،‬ووجوب من عند ال لهل الفروض وللعصبات (‪ ، )2‬رفع بها حكم هذه بالكلية‪ .‬بقي القارب‬
‫الذين ل ميراث لهم ‪ ،‬يستحب له أن يُوصَى لهم من الثلث ‪ ،‬استئناسًا بآية الوصية وشمولها ‪ ،‬ولما‬
‫ثبت في الصحيحين ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما حق امرئ‬
‫مسلم له شيء يوصي فيه ‪ ،‬يبيت ليلتين إل ووصيته مكتوبة عنده"‪ .‬قال ابن عمر ما مرت عََليّ‬
‫ليلة منذ سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ذلك إل وعندي وصيتي (‪.)3‬‬
‫واليات والحاديث بالمر ببر القارب والحسان إليهم ‪ ،‬كثيرة جدا‪.‬‬
‫وقال عبد بن حميد في مسنده ‪ :‬أخبرنا عبيد ال ‪ ،‬عن مبارك بن حسان ‪ ،‬عن نافع قال ‪ :‬قال عبد‬
‫ال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يقول ال تعالى ‪ :‬يا ابن آدم ‪ ،‬ثنتان لم يكن لك واحدة‬
‫منهما ‪ :‬جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك ؛ لطهرك به وأزكيك ‪ ،‬وصلة عبادي‬
‫عليك بعد انقضاء أجلك"‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِنْ تَ َركَ خَيْرًا } أي ‪ :‬مال‪ .‬قاله ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪،‬‬
‫وأبو العالية ‪ ،‬وَعَطية ال َعوْفي ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ل المال أو كثُر كالوراثة (‪ )4‬ومنهم من قال ‪ :‬إنما‬
‫ثم منهم من قال ‪ :‬الوصية مشروعة سواء َق ّ‬
‫يُوصِي إذا ترك مال جزيل ثم اختلفوا في مقداره ‪ ،‬فقال ابن أبي حاتم ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقري ‪ ،‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬عن هشام بن عُ ْروَة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫قيل لعلي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ :‬إن رجل من قريش قد مات ‪ ،‬وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة (‪)5‬‬
‫ولم يوص‪ .‬قال ‪ :‬ليس بشيء ‪ ،‬إنما قال ال ‪ { :‬إِنْ تَ َركَ خَيْرًا }‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ‪ ،‬حدثنا عَبْدة ‪ -‬يعني ابن سليمان ‪ -‬عن هشام بن عروة‬
‫‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أوصي ؟ فقال له علي ‪ :‬إنما‬
‫قال ال تعالى ‪ { :‬إِنْ تَ َركَ خَيْرًا ا ْل َوصِيّةُ } إنما تركت شيئًا يسيرا ‪ ،‬فاتركه لولدك‪.‬‬
‫وقال الحكم (‪ )6‬بن أبان ‪ :‬حدثني عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬إِنْ تَ َركَ خَيْرًا } قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرًا ‪ ،‬قال الحكم (‪ : )7‬قال طاوس ‪ :‬لم يترك خيرًا‬
‫من لم يترك ثمانين دينارا‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬كان يقال ‪ :‬ألفا فما فوقها‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬بِا ْل َمعْرُوفِ } أي ‪ :‬بالرفق والحسان ‪ ،‬كما قال ابن أبي حاتم ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬والعصبات"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )2738‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1627‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬كالوارثة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أربعمائة دينار"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬الحاكم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬الحاكم"‪.‬‬

‫( ‪)1/494‬‬

‫حدثنا الحسن بن أحمد ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن عبد ال بن يسار (‪ ، )1‬حدثني سرور بن المغيرة عن‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ } فقال ‪َ :‬نعَم ‪،‬‬
‫حضَرَ أَ َ‬
‫عباد بن منصور ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬قوله ‪ { :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا َ‬
‫الوصية حق ‪ ،‬على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المُنكر‪.‬‬
‫والمراد بالمعروف ‪ :‬أن يوصي لقربيه وَصيّةً ل تجحف بورثته ‪ ،‬من غير إسراف ول تقتير ‪،‬‬
‫كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن لي مال ول يرثني إل ابنة لي ‪،‬‬
‫أفأوصي بثُلُ َثيْ مالي ؟ قال ‪" :‬ل" قال ‪ :‬فبالشّطْر ؟ قال ‪" :‬ل" قال ‪ :‬فالثلث (‪ )2‬؟ قال ‪" :‬الثلث ‪،‬‬
‫والثلث كثير ؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاري ‪ :‬أن ابن عباس قال ‪ :‬لو أن الناس غَضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الثلث ‪ ،‬والثلث كثير" (‪.)3‬‬
‫وروى المام أحمد ‪ ،‬عن أبي سعيد مولى بني هاشم ‪ ،‬عن ذيال بن عبيد بن حنظلة ‪ ،‬سمعت‬
‫حنظلة بن حذيم (‪ )4‬بن حنيفة ‪ :‬أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من البل ‪ ،‬فشقّ ذلك‬
‫على بنيه ‪ ،‬فارتفعوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال حنيفة ‪ :‬إني أوصيت ليتيم لي بمائة‬
‫من البل ‪ ،‬كنا نسميها المطيبة‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" ،‬ل ل ل‪ .‬الصدقة ‪ :‬خمس ‪،‬‬
‫وإل فعَشْر ‪ ،‬وإل فخمس عشرة ‪ ،‬وإل فعشرون ‪ ،‬وإل فخمس وعشرون ‪ ،‬وإل فثلثون ‪ ،‬وإل‬
‫فخمس وثلثون ‪ ،‬فإن أكثرت فأربعون"‪.‬‬
‫وذكر الحديث بطوله (‪.)5‬‬
‫س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْثمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ } يقول تعالى ‪ :‬فمن بدل الوصية‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ َبدّلَهُ َبعْ َدمَا َ‬
‫وحرفها ‪ ،‬فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ‪ -‬ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الولى ‪ { -‬فَإِ ّنمَا‬
‫إِ ْثمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ } قال ابن عباس وغير واحد ‪ :‬وقد وقع أجر الميت على ال ‪ ،‬وتعلّق الثم‬
‫علِيمٌ } أي ‪ :‬قد اطلع على ما أوصى به الميت ‪ ،‬وهو عليم‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫بالذين بدلوا ذلك { إِنّ اللّهَ َ‬
‫بذلك ‪ ،‬وبما بدله الموصى إليهم‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَ َنفًا َأوْ إِ ْثمًا } قال ابن عباس ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ :‬الجَنَف ‪ :‬الخطأ‪ .‬وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها ‪ ،‬بأن‬
‫زاد وارثا بواسطة أو وسيلة ‪ ،‬كما إذا أوصى ببيعه الشي َء الفُلنيّ محاباة ‪ ،‬أو أوصى لبن ابنته‬
‫ليزيدها ‪ ،‬أو نحو ذلك من الوسائل ‪ ،‬إما مخطئًا غير عامد ‪ ،‬بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر‬
‫‪ ،‬أو متعمدًا آثمًا في ذلك ‪ ،‬فللوصيّ ‪ -‬والحالة هذه ‪ -‬أن يصلح القضية (‪ )6‬ويعدلَ في الوصية‬
‫على الوجه الشرعي‪ .‬ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الشياء إليه وأشبه‬
‫المور به (‪ )7‬جمعا بين مقصود الموصي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن بشار"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فبالثلث"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)2743‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬جديم" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬جذيم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)5/67‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬القصة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬المأمور به"‪.‬‬

‫( ‪)1/495‬‬

‫والطريق الشرعي‪ .‬وهذا الصلح والتوفيق ليس من التبديل في شيء‪ .‬ولهذا عطف هذا ‪ -‬فبينه (‬
‫‪ - )1‬على النهي لذلك ‪ ،‬ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد ‪ ،‬قراءة ‪ ،‬أخبرني أبي ‪ ،‬عن الوزاعي ‪،‬‬
‫قال الزهري ‪ :‬حدثني عروة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنه قال ‪" :‬يُرَدّ من‬
‫صَدقة الحائف (‪ )2‬في حياته ما يردّ من وصية المجنف (‪ )3‬عند موته" (‪.)4‬‬
‫وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْ ُدوَيه ‪ ،‬من حديث العباس بن الوليد ‪ ،‬به‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد‪ .‬وهذا الكلم إنما هو عن عروة فقط‪ .‬وقد رواه‬
‫الوليد بن مسلم ‪ ،‬عن الوزاعي ‪ ،‬فلم يجاوز به عروة‪.‬‬
‫وقال ابن مَرْدويه أيضًا ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن يوسف ‪ ،‬حدثنا‬
‫هشام بن عمار ‪ ،‬حدثنا عمر بن المغيرة ‪ ،‬عن داود بن أبي هند ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪،‬‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الحيف في الوصية من الكبائر" (‪.)5‬‬
‫وهذا في رفعه أيضًا نظر (‪ .)6‬وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق ‪:‬‬
‫حوْشَب ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول‬
‫شهْر بن َ‬
‫حدثنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن أشعثَ بن عبد ال ‪ ،‬عن َ‬
‫ل بعمل أهل الخير سبعينَ سنة ‪ ،‬فإذا أوصى حاف في‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن الرجل ليعم ُ‬
‫وصيته فيختم له بشر عمله ‪ ،‬فيدخل النار ‪ ،‬وإن الرجل ليعمل ب َعمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة ‪،‬‬
‫فيعدل في وصيته ‪ ،‬فيختم له بخير عمله ‪ ،‬فيدخل الجنة" (‪ .)7‬قال أبو هريرة ‪ :‬اقرؤوا إن شئتم ‪:‬‬
‫{ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْ َتدُوهَا } [البقرة ‪.]229 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬فنبه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬الخائف"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬المخيف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه أبو داود في المراسيل برقم (‪ )194‬من طريق عباس بن الوليد بن مزيد ‪ ،‬عن أبيه ‪،‬‬
‫عن الوزاعي ‪ ،‬به‪ .‬قال العباس ‪ :‬حدثنا به مرة ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬ومرة عن عروة ‪ ،‬عن عائشة عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم رواه أبو داود برقم (‪ )195‬عن عروة مرسل ‪ ،‬وبرقم (‪ )196‬عن‬
‫الزهري مرسل‪.‬‬
‫(‪ )5‬ورواه الدارقطني في السنن (‪ )4/151‬والعقيلي في الضعفاء (‪ )3/189‬والبيهقي في السنن‬
‫الكبرى (‪ )6/271‬من طريق عمر بن المغيرة به نحوه ‪ ،‬ورواه البيهقي في السنن الكبرى (‬
‫‪ )6/271‬من طريق هشيم عن داود به موقوفا ‪ ،‬وقال ‪" :‬هذا هو الصحيح موقوف ‪ ،‬وكذلك رواه‬
‫ابن عيينة وغيره عن داود موقوفا ‪ ،‬وروى من وجه آخر مرفوعا ‪ ،‬ورفعه ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وهذا أيضا في رفعه نظر"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬تقديم وتأخير في العبارتين"‪.‬‬

‫( ‪)1/496‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪ )183‬أَيّامًا‬
‫طعَامُ‬
‫سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَ َر وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ‬
‫َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫ط ّوعَ خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪)184‬‬
‫سكِينٍ َفمَنْ تَ َ‬
‫مِ ْ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ (‪ )183‬أَيّامًا‬
‫طعَامُ‬
‫سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَ َر وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ‬
‫َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫ط ّوعَ خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪} )184‬‬
‫سكِينٍ َفمَنْ تَ َ‬
‫مِ ْ‬
‫يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه المة وآمرًا لهم بالصيام ‪ ،‬وهو ‪ :‬المساك عن الطعام‬
‫والشراب والوقاع بنية خالصة ل (‪ )1‬عز وجل ‪ ،‬لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من‬
‫الخلط الرديئة والخلق الرذيلة‪ .‬وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم ‪،‬‬
‫فلهم فيه أسوة ‪ ،‬وَليَجتهد هؤلء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ح َد ًة وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ‬
‫جعََل ُكمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫ع ًة َومِ ْنهَاجًا وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْ َ‬
‫{ ِل ُكلّ َ‬
‫فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ } [المائدة ‪ ]48 :‬؛ ولهذا قال هاهنا ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ‬
‫َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } لن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان‬
‫؛ ولهذا ثبت في الصحيحين ‪" :‬يا معشر الشباب ‪ ،‬من استطاع منكم الباءة فليتزوج ‪ ،‬ومن لم‬
‫يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (‪ )2‬ثم بين مقدار الصوم ‪ ،‬وأنه ليس في كل يوم ‪ ،‬لئل يشق‬
‫على النفوس فتضعف عن حمله (‪ )3‬وأدائه ‪ ،‬بل في أيام معدودات‪ .‬وقد كان هذا في ابتداء‬
‫السلم يصومون من كل شهر ثلثة أيام ‪ ،‬ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان ‪ ،‬كما سيأتي بيانه‪.‬‬
‫وقد رُوي أن الصيام كان أول كما كان عليه المم قبلنا ‪ ،‬من كل شهر ثلثة أيام ‪ -‬عن معاذ ‪،‬‬
‫وابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك بن مزاحم‪ .‬وزاد ‪ :‬لم يزل هذا‬
‫مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ ال ذلك بصيام شهر رمضان‪.‬‬
‫وقال عباد بن منصور ‪ ،‬عن الحسن البصري ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ‬
‫عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ * أَيّامًا َمعْدُودَاتٍ } فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬وال لقد كُتب الصيام على كل‬
‫أمة قد خلت كما كتب (‪ )4‬علينا شهرًا كامل وأياما معدودات ‪ :‬عددا معلوما‪ .‬وروي عن السدي ‪،‬‬
‫نحوه‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري ‪ ،‬حدثنا سعيد بن أبي أيوب ‪ ،‬حدثني عبد‬
‫ال بن الوليد ‪ ،‬عن أبي الربيع ‪ ،‬رجل من أهل المدينة ‪ ،‬عن عبد ال بن عمر قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬صيام رمضان كتبه ال على المم قبلكم‪ "..‬في حديث طويل اختصر‬
‫منه ذلك (‪.)5‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عمن حدثه عن ابن عمر ‪ ،‬قال أنزلت ‪ { :‬كُ ِتبَ‬
‫عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ [َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ] (‪ } )6‬كتب عليهم إذا صلى أحدهم‬
‫العتمة ونام حرم [ال] (‪ )7‬عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن عباس ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬وعبد الرحمن بن أبي ليلى ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال عطاء الخراساني ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬كمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ } يعني بذلك ‪ :‬أهل‬
‫الكتاب‪ .‬وروي عن الشعبي والسّدي (‪ )8‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬مثله‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬خالصة لوجه ال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )5066‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1400‬من حديث عبد ال بن مسعود‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬ليشق على النفوس فتضعف عن حكمه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬كما كتبه ال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )8/178‬لبن أبي حاتم وقال ‪" :‬في إسناده مجهول"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬عن السدي والشعبي"‪.‬‬

‫( ‪)1/497‬‬

‫ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه المر في ابتداء السلم ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا‬
‫سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } أي ‪ :‬المريض والمسافر ل يصومان في حال المرض والسفر ؛‬
‫َأوْ عَلَى َ‬
‫لما في ذلك من المشقة عليهما ‪ ،‬بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر‪ .‬وأما الصحيح المقيم‬
‫الذي يُطيق الصيام ‪ ،‬فقد كان مخيّرًا بين الصيام وبين الطعام ‪ ،‬إن شاء صام ‪ ،‬وإن شاء أفطر ‪،‬‬
‫وأطعم عن كل يوم مسكينا ‪ ،‬فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ‪ ،‬فهو خير ‪ ،‬وإن صام فهو‬
‫أفضل من الطعام ‪ ،‬قاله ابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪،‬‬
‫طوّعَ‬
‫سكِينٍ َفمَنْ َت َ‬
‫طعَامُ مِ ْ‬
‫وغيرهم من السلف ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ ِفدْيَةٌ َ‬
‫خَيْرًا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو النضر ‪ ،‬حدثنا المسعودي ‪ ،‬حدثنا عمرو بن مُرّة ‪ ،‬عن عبد الرحمن‬
‫بن أبي ليلى ‪ ،‬عن معاذ بن جبل ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬أحيلت الصلة ثلثة أحوال ‪ ،‬وأحيل‬
‫الصيام ثلثة أحوال ؛ فأما أحوال الصلة فإن النبي صلى ال عليه وسلم قدم المدينة ‪ ،‬وهو يصلي‬
‫ج ِهكَ‬
‫ب وَ ْ‬
‫(‪ )1‬سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ‪ ،‬ثم إن ال عز وجل أنزل عليه ‪َ { :‬قدْ نَرَى َتقَلّ َ‬
‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا } [البقرة ‪ ]144 :‬فوجهَهُ الُ إلى مكة‪ .‬هذا حول‪.‬‬
‫فِي ال ّ‬
‫قال ‪ :‬وكانوا يجتمعون للصلة و ُيؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى َنقَسُوا أو كادوا يَ ْنقُسُون‪ .‬ثم إنّ‬
‫رجل من النصار ‪ ،‬يقال له ‪ :‬عبد ال بن زيد ‪ ،‬أتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬إني رأيت فيما يرى النائم ‪ -‬ولو قلتُ ‪ :‬إني لم أكن نائمًا لصدقتُ ‪ -‬أني (‪ )2‬بينا أنا‬
‫بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران ‪ ،‬فاستقبل القبلة ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال أكبر ال‬
‫أكبر ‪ ،‬أشهد أن ل إله إل ال ‪ -‬مثنى حتى فرغ من الذان ‪ ،‬ثم أمهل ساعة ‪ ،‬ثم قال مثل الذي‬
‫قال ‪ ،‬غير أنه يزيد في ذلك ‪ :‬قد قامت الصلة ‪ -‬مرتين ‪ -‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"علمها بلل فَلْيؤذن بها"‪ .‬فكان بلل أول من أذن بها‪ .‬قال ‪ :‬وجاء عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪[ ،‬إنه] (‪ )3‬قد طاف بي مثل الذي طاف به ‪ ،‬غير أنه سبقني ‪ ،‬فهذان‬
‫حالن (‪.)4‬‬
‫قال ‪ :‬وكانوا يأتون الصلة ‪ -‬قد سبقهم النّبيّ صلى ال عليه وسلم ببعضها ‪ ،‬فكان الرجل يشير‬
‫إلى الرجل إذًا كم صلى ‪ ،‬فيقول ‪ :‬واحدة أو اثنتين ‪ ،‬فيصليهما ‪ ،‬ثم يدخل مع القوم في صلتهم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فجاء معاذ فقال ‪ :‬ل أجده على حال أبدًا إل كنتُ عليها ‪ ،‬ثم قضيتُ ما سبقني‪ .‬قال ‪ :‬فجاء‬
‫وقد سَبَقه النبي صلى ال عليه وسلم ببعضها ‪ ،‬قال ‪ :‬فثَ َبتَ معه ‪ ،‬فلما قضى رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم قام فقضى ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إنه قَد سن لكم ُمعَاذ ‪ ،‬فهكذا‬
‫فاصنعوا"‪ .‬فهذه ثلثة أحوال (‪.)5‬‬
‫وأما أحوال الصيام فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قدم المدينة ‪ ،‬فجعل يصومُ من كل شهر‬
‫ثلثة أيام ‪ ،‬وصام عاشوراء ‪ ،‬ثم إن ال فرض عليه الصيام ‪ ،‬وأنزل ال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ }‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فصلى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وأني"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حولن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)5/246‬‬

‫( ‪)1/498‬‬

‫سكِينٍ } فكان مَنْ شاء صام ‪ ،‬ومن شاء أطعم‬


‫طعَامُ مِ ْ‬
‫إلى قوله ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْ َيةٌ َ‬
‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنزلَ‬
‫مسكينًا ‪ ،‬فأجزأ ذلك عنه‪ .‬ثم إن ال عز وجل أنزل الية الخرى ‪َ { :‬‬
‫صمْهُ } فأثبت الُ صيامَه على المقيم الصحيح‬
‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } إلى قوله ‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫خصَ فيه للمريض والمسافر ‪ ،‬وثبت الطعامُ للكبير (‪ )2‬الذي ل يستطيع الصيام ‪ ،‬فهذان‬
‫(‪ )1‬ور ّ‬
‫حالن (‪.)3‬‬
‫قال ‪ :‬وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ‪ ،‬فإذا ناموا امتنعوا ‪ ،‬ثم إن رجل من‬
‫النصار يقال له ‪ :‬صرمة ‪ ،‬كان يعمل صائمًا حتى أمسى ‪ ،‬فجاء إلى أهله فصلى العشاء ‪ ،‬ثم نام‬
‫فلم يأكل ولم يشرب ‪ ،‬حتى أصبح فأصبح صائما ‪ ،‬فرآه رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد جهد‬
‫جهِدْت جهدًا شديدا ؟ قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني عملت أمس‬
‫جهدًا شديدًا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما لي أراك قد َ‬
‫ت فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا‪ .‬قال ‪ :‬وكان عمر قد أصاب‬
‫فجئتُ حين جئ ُ‬
‫من النساء بعد ما نام ‪ ،‬فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فذكر ذلك له ‪ ،‬فأنزل ال عز وجل ‪:‬‬
‫حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى ِنسَا ِئكُمْ } إلى قوله ‪ُ { :‬ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ }‬
‫{ ُأ ِ‬
‫وأخرجه أبو داود في سننه ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬من حديث المسعودي ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن عائشة أنها قالت ‪ :‬كان‬
‫عاشوراء يصام ‪ ،‬فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر (‪ .)5‬وروى‬
‫البخاري عن ابن عمر وابن مسعود ‪ ،‬مثله (‪.)6‬‬
‫سكِينٍ } كما قال معاذ ‪ :‬كان (‪ )7‬في ابتداء المر ‪:‬‬
‫طعَامُ ِم ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ‬
‫من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا‪ .‬وهكذا روى البخاري عن سَلَمة بن‬
‫سكِينٍ } كان من أراد أن ُيفْطر‬
‫طعَامُ مِ ْ‬
‫الكوع أنه قال ‪ :‬لما نزلت ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْ َيةٌ َ‬
‫يفتدي ‪ ،‬حتى نزلت الية التي بعدها فنسختها (‪.)8‬‬
‫وروي أيضًا من حديث عبيد ال (‪ )9‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬هي منسوخة‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن مرة ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬لما نزلت هذه الية ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْ َيةٌ‬
‫سكِينٍ } قال ‪ :‬يقول ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ } أي ‪ :‬يتجشمونه ‪ ،‬قال عبد ال ‪ :‬فكان من‬
‫طعَامُ مِ ْ‬
‫َ‬
‫ط ّوعَ } قال ‪ :‬يقول ‪ :‬أطعم مسكينا آخر { َف ُهوَ‬
‫شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا { َفمَنْ َت َ‬
‫صمْهُ }‬
‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫خَيْرٌ َل ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ } فكانوا كذلك حتى نسختها ‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬الصحيح المقيم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬للنفر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬الحولن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود برقم (‪.)507 ، 506‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4502‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1125‬‬
‫(‪ )6‬حديث ابن عمر في صحيح البخاري برقم (‪ )4501‬وحديث ابن مسعود في صحيح البخاري‬
‫برقم (‪.)4503‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وكان"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪.)4507‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/499‬‬
‫عمْرو بن‬
‫وقال البخاري أيضًا ‪ :‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬أخبرنا روح ‪ ،‬حدثنا زكريا بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا َ‬
‫ط ّوقُونه فدية طعام مسكين "‪ .‬قال ابن‬
‫دينار ‪ ،‬عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ ‪ " :‬وعلى الذين يُ َ‬
‫عباس ‪ :‬ليست منسوخة ‪ ،‬هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة ل يستطيعان أن يصوما ‪ ،‬فيطعمان‬
‫مكان كل يوم مسكينًا (‪.)1‬‬
‫وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن أبي شيبة ‪ :‬حدثنا عبد الرحيم ‪ ،‬عن أشعث بن سوار ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫سكِينٍ } في الشيخ الكبير‬
‫طعَامُ ِم ْ‬
‫عباس [قال] (‪ )2‬نزلت هذه الية ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ‬
‫الذي ل يطيق الصوم ثم ضعف ‪ ،‬فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر بن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد ‪ ،‬حدثنا الحسين بن محمد بن ِبهْرام‬
‫المحرمي ‪ ،‬حدثنا وهب بن َبقِيّة ‪ ،‬حدثنا خالد بن عبد ال ‪ ،‬عن ابن أبي ليلى ‪ ،‬قال ‪ :‬دخلت على‬
‫عطاء في رمضان ‪ ،‬وهو يأكل ‪ ،‬فقال ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬نزلت هذه الية ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ‬
‫سكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ‪ ،‬ثم نزلت هذه‬
‫طعَامُ مِ ْ‬
‫يُطِيقُونَهُ فِدْ َيةٌ َ‬
‫الية فنسخت الولى ‪ ،‬إل الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر‪ .‬فحاصل المر‬
‫شهْرَ‬
‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه ‪ ،‬بقوله ‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫صمْهُ } وأما الشيخ الفاني [الهرم] (‪ )3‬الذي ل يستطيع الصيام فله أن يفطر ول قضاء عليه ‪،‬‬
‫فَلْ َي ُ‬
‫لنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ‪ ،‬ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] (‪ )4‬أن‬
‫يطعم عن (‪ )5‬كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة ؟ فيه قولن للعلماء ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬ل يجب عليه إطعام‬
‫؛ لنه ضعيف عنه لسنّه ‪ ،‬فلم يجب عليه فدية كالصبي ؛ لن ال ل يكلف نفسًا إل وسعها ‪ ،‬وهو‬
‫أحد قولي الشافعي‪ .‬والثاني ‪ -‬وهو الصحيح ‪ ،‬وعليه أكثر العلماء ‪ : -‬أنه يجب عليه فدية عن كل‬
‫يوم ‪ ،‬كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ } أي ‪:‬‬
‫يتجشمونه ‪ ،‬كما قاله ابن مسعود وغيره ‪ ،‬وهو اختيار البخاري فإنه قال ‪ :‬وأما الشيخ الكبير إذا‬
‫لم يطق الصيام ‪ ،‬فقد أطعم أنس ‪ -‬بعد أن (‪ )6‬كبر عامًا أو عامين ‪ -‬كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما‬
‫‪ ،‬وأفطر (‪.)7‬‬
‫وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ‪ ،‬فقال ‪ :‬حدثنا عُبَيد ال‬
‫بن ُمعَاذ ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عمران ‪ ،‬عن أيوب بن أبي تميمة (‪ )8‬قال ‪ :‬ضعف أنس [بن مالك]‬
‫(‪ )9‬عن الصوم ‪ ،‬فصنع جفنة من ثريد ‪ ،‬فدعا ثلثيِن مسكينًا فأطعمهم (‪.)10‬‬
‫ورواه عبد بن حميد ‪ ،‬عن روح بن عبادة ‪ ،‬عن عمران ‪ -‬وهو ابن حُدَير (‪ - )11‬عن أيوب ‪،‬‬
‫به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4505‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بعد ما"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري (‪" )8/179‬فتح"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬بن أبي تميم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )10‬مسند أبي يعلى (‪ )7/204‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )3/164‬رجاله رجال الصحيح"‬
‫لكنه منقطع‪.‬‬
‫(‪ )11‬في و ‪" :‬وهو ابن خدير"‪.‬‬

‫( ‪)1/500‬‬

‫شهْرَ‬
‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ‬
‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآَنُ ُهدًى لِلنّا ِ‬
‫َ‬
‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَلَا يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ‬
‫صمْ ُه َومَنْ كَانَ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫فَلْ َي ُ‬
‫شكُرُونَ (‪)185‬‬
‫وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْل ِع ّدةَ وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَا ُك ْم وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫ورواه عبد أيضًا ‪ ،‬من حديث ستة من أصحاب أنس ‪ ،‬عن أنس ‪ -‬بمعناه‪.‬‬
‫ومما يلتحق بهذا المعنى ‪ :‬الحامل والمرضع ‪ ،‬إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ‪ ،‬ففيهما خلف‬
‫كثير بين العلماء ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬يفطران ويفديان ويقضيان‪ .‬وقيل ‪ :‬يفديان فقط ‪ ،‬ول قضاء‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يجب القضاء بل فدية‪ .‬وقيل ‪ :‬يفطران ‪ ،‬ول فدية ول قضاء‪ .‬وقد بسطنا هذه المسألة‬
‫مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه (‪ .)1‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫ش ِهدَ مِ ْنكُمُ‬
‫س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْل ُهدَى وَالْفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ‬
‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ هُدًى لِلنّا ِ‬
‫{ َ‬
‫سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ يُرِيدُ اللّهُ ِب ُكمُ الْيُسْرَ وَل يُرِيدُ ِبكُمُ‬
‫صمْ ُه َومَنْ كَانَ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫ال ّ‬
‫شكُرُونَ (‪} )185‬‬
‫ا ْلعُسْ َر وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِ ّد َة وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا َهدَاكُ ْم وََلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ‪ ،‬بأن اختاره من بينهن لنزال القرآن العظيم فيه ‪،‬‬
‫وكما اختصه بذلك ‪ ،‬قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب اللهية تنزل فيه على النبياء‪.‬‬
‫قال المام أحمد بن حنبل ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ‪ ،‬حدثنا عمْران أبو العوام‬
‫‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أبي المليح ‪ ،‬عن واثلة ‪ -‬يعني ابن السقع ‪ -‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ستّ َمضَين من رمضان‬
‫صحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان‪ .‬وأنزلت التوراة ل ِ‬
‫قال ‪" :‬أنزلت ُ‬
‫عشَ َرةَ خلت من رمضان (‪ )2‬وأنزل ال القرآن لربع وعشرين خلت من‬
‫‪ ،‬والنجيل لثلث َ‬
‫رمضان" (‪.)3‬‬
‫وقد روي من حديث جابر بن عبد ال وفيه ‪ :‬أن الزبور أنزل (‪ )4‬لثنتَي عشرة [ليلة] (‪ )5‬خلت‬
‫من رمضان ‪ ،‬والنجيل لثماني عشرة ‪ ،‬والباقي كما تقدم‪ .‬رواه ابن مَردُويه‪.‬‬
‫أما الصحف والتوراة والزبور والنجيل ‪ -‬فنزل كل منها (‪ )6‬على النبي الذي أنزل عليه جملة‬
‫واحدة ‪ ،‬وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ‪ ،‬وكان ذلك في شهر‬
‫رمضان ‪ ،‬في ليلة القدر منه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } [القدر ‪ .]1 :‬وقال ‪{ :‬‬
‫إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ } [الدخان ‪ ، ]3 :‬ثم نزل بعدُ مف ّرقًا (‪ )7‬بحسب الوقائع على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬هكذا روي من غير وجه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬كما قال إسرائيل ‪ ،‬عن‬
‫السّدي ‪ ،‬عن محمد بن أبي المجالد عن ِمقْسَم ‪ ،‬عن ابن عباس أنه سأله عطية بن السود ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } وقوله ‪:‬‬
‫وقع (‪ )8‬في قلبي الشك من قول ال تعالى ‪َ { :‬‬
‫{ إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ } وقوله ‪ { :‬إِنّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } وقد (‪ )9‬أنزل في شوال ‪ ،‬وفي‬
‫ذي القعدة ‪ ،‬وفي ذي الحجة ‪ ،‬وفي المحرم ‪ ،‬وصفر ‪ ،‬وشهر ربيع‪ .‬فقال ابن عباس ‪ :‬إنه أنزل‬
‫في رمضان ‪ ،‬في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ‪ ،‬ثم أنزل (‪ )10‬على مواقع النجوم‬
‫ترتيل (‪ )11‬في الشهور واليام‪ .‬رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ‪ ،‬وهذا لفظه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬الذي أوردناه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في"أ" بعدها ‪" :‬وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)4/107‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬نزلت" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬نزل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬منهما"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬متفرقا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في و ‪" :‬أوقع"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وهذا"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬ثم نزل"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬رسل"‪.‬‬

‫( ‪)1/501‬‬

‫وفي رواية سعيد بن جُبَيْر ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى‬
‫سماء الدنيا فجعل في بيت العِزّة ‪ ،‬ثم أنزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم في عشرين سنة‬
‫لجواب كلم الناس‪.‬‬
‫وفي رواية عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه‬
‫السماء الدنيا جملة واحدة ‪ ،‬وكان ال يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ‪ ،‬ول يجيء المشركون بمثَل يخاصمون‬
‫ح َدةً‬
‫جمْلَ ًة وَا ِ‬
‫به إل جاءهم ال بجوابه ‪ ،‬وذلك قوله ‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْل نزلَ عَلَ ْيهِ ا ْلقُرْآنُ ُ‬
‫حسَنَ َتفْسِيرًا }‬
‫ق وَأَ ْ‬
‫حّ‬‫كَذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيل * وَل يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ إِل جِئْنَاكَ بِالْ َ‬
‫[الفرقان ‪.]33 ، 32 :‬‬
‫[قال فخر الدين ‪ :‬ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من‬
‫اللوح إلى سماء الدنيا ‪ ،‬وتوقف ‪ ،‬هل هذا أولى أو الول ؟ وهذا الذي جعله احتمال نقله القرطبي‬
‫عن مقاتل بن حيان ‪ ،‬وحكى الجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى‬
‫بيت العزة في السماء الدنيا ‪ ،‬وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله ‪ { :‬الّذِي‬
‫أُنزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } أي ‪ :‬في فضله أو وجوب صومه ‪ ،‬وهذا غريب جدا] (‪.)1‬‬
‫س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله ال هدى لقلوب‬
‫وقوله ‪ُ { :‬هدًى لِلنّا ِ‬
‫العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيّنَاتٍ } أي ‪ :‬ودلئل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها‬
‫وتدبّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلل ‪ ،‬والرشد المخالف للغي ‪ ،‬ومفرقًا‬
‫بين الحق والباطل ‪ ،‬والحلل ‪ ،‬والحرام‪.‬‬
‫وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال ‪ :‬إل "شهر رمضان" ول يقال ‪" :‬رمضان" ؛ قال ابن‬
‫أبي حاتم ‪:‬‬
‫حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا محمد بن بكار بن الريّان ‪ ،‬حدثنا أبو معشر ‪ ،‬عن محمد بن كعب القُرَظي ‪،‬‬
‫وسعيد ‪ -‬هو المقْبُري ‪ -‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬ل تقولوا ‪ :‬رمضان ‪ ،‬فإن رمضان اسم من‬
‫أسماء ال تعالى ‪ ،‬ولكن قولوا ‪ :‬شهر رمضان‪.‬‬
‫قال (‪ )2‬ابن أبي حاتم ‪ :‬وقد روي عن مجاهد ‪ ،‬ومحمد بن كعب نحو ذلك ‪ ،‬ورَخّص فيه ابن‬
‫عباس وزيد بن ثابت‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] (‪ )3‬المغازي ‪ ،‬والسير ‪ ،‬ولكن فيه‬
‫ضعف ‪ ،‬وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬وقد أنكره عليه الحافظ ابن‬
‫عدي (‪ - )4‬وهو جدير بالنكار ‪ -‬فإنه متروك ‪ ،‬وقد وهم في رفع هذا الحديث ‪ ،‬وقد انتصر‬
‫البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في كتابه لهذا فقال ‪" :‬باب يقال (‪ )5‬رمضان" (‪ )6‬وساق أحاديث في ذلك‬
‫منها ‪" :‬من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬قال لي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬الكامل لبن عدي (‪.)7/53‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬باب بأن يقال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬الترجمة في الصحيح (‪" : )4/112‬باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ‪ ،‬ومن رأى كله‬
‫واسعا"‪.‬‬

‫( ‪)1/502‬‬

‫صمْهُ } هذا إيجاب حَ ْتمٍ على من شهد استهلل الشهر ‪ -‬أي‬


‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫ش ِهدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ‪ ،‬وهو صحيح في بدنه ‪ -‬أن يصوم ل محالة‪.‬‬
‫ونَسَخت هذه الية الباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل‬
‫يوم ‪ ،‬كما تقدم بيانه‪ .‬ولما حتّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الفطار ‪ ،‬بشرط‬
‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ } معناه ‪ :‬ومن كان به مرض‬
‫القضاء فقال ‪َ { :‬ومَنْ كَانَ مَرِيضًا َأوْ عَلَى َ‬
‫في بدنه َيشُقّ عليه الصيام معه ‪ ،‬أو يؤذيه (‪ )1‬أو كان على سفر أي في حال سفر ‪ -‬فله أن يفطر‬
‫‪ ،‬فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من اليام ؛ ولهذا قال ‪ { :‬يُرِيدُ اللّهُ ِب ُكمُ الْيُسْرَ وَل يُرِيدُ‬
‫خصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ‪ ،‬مع تحتمه في حق‬
‫ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ } أي ‪ :‬إنما ر ّ‬
‫المقيم الصحيح ‪ ،‬تيسيرًا عليكم ورحمة بكم‪.‬‬
‫وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الية ‪:‬‬
‫إحداها ‪ :‬أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ‪،‬‬
‫صمْهُ } وإنما يباح‬
‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬
‫فليس له الفطار بعذر السفر والحالة هذه ‪ ،‬لقوله ‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫الفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ‪ ،‬وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه‬
‫المُحَلى ‪ ،‬عن جماعة من الصحابة والتابعين‪ .‬وفيما حكاه عنهم نظر ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬فإنه قد ثبتت‬
‫السنة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح ‪ ،‬فسار (‪)2‬‬
‫حتى بلغ الكَديد ‪ ،‬ثم أفطر ‪ ،‬وأمر الناس بالفطر‪ .‬أخرجه صاحبا الصحيح (‪.)3‬‬
‫الثانية ‪ :‬ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الفطار في السفر ‪ ،‬لقوله ‪َ { :‬فعِ ّدةٌ مِنْ‬
‫أَيّامٍ ُأخَرَ } والصحيح قول الجمهور ‪ ،‬أن المر في ذلك على التخيير ‪ ،‬وليس بحَتْم ؛ لنهم كانوا‬
‫يخرجون مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في شهر رمضان‪ .‬قال ‪" :‬فَمنا الصائم ومنا المفطر ‪،‬‬
‫فلم يعب الصائمُ على المفطر ‪ ،‬ول المفطر على الصائم (‪ ." )4‬فلو كان الفطار هو الواجب‬
‫لنكر عليهم (‪ )5‬الصيام ‪ ،‬بل الذي ثبت من فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه كان في مثل‬
‫هذه الحالة صائمًا ‪ ،‬لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] (‪ )6‬خرجنا مع رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم [في شهر رمضان] (‪ )7‬في حَرّ شديد ‪ ،‬حتى إن كان أحدنا ليضع يده على‬
‫رأسه [من شدة الحر] (‪ )8‬وما فينا صائم إل رسولُ ال صلى ال عليه وسلم وعبد ال بن رواحة‬
‫(‪.)9‬‬
‫الثالثة ‪ :‬قالت طائفة منهم الشافعي ‪ :‬الصيام في السفر أفضل من الفطار ‪ ،‬لفعل النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم كما تقدم ‪ ،‬وقالت طائفة ‪ :‬بل الفطار أفضل ‪ ،‬أخذا بالرخصة ‪ ،‬ولما ثبت عن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنه سئل عن الصوم في السفر ‪ ،‬فقال ‪" :‬من أفطر فحَسَن ‪ ،‬ومن صام‬
‫فل جناح عليه" (‪ .)10‬وقال في حديث آخر ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أو يمتد به"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فصام"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )4279 ، 1948‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1113‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1118‬من حديث أنس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬عليهم في الصيام"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪ )1945‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1122‬‬
‫(‪ )10‬هذا لفظ حديث حمزة بن عمرو السلمي في صحيح مسلم برقم (‪.)1121‬‬

‫( ‪)1/503‬‬

‫حمْرة بن‬
‫"عليكم برخصة ال التي رخص لكم" (‪ )1‬وقالت طائفة ‪ :‬هما سواء لحديث عائشة ‪ :‬أن َ‬
‫عمرو السلمي قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني كثير الصيام ‪ ،‬أفأصوم في السفر ؟ فقال ‪" :‬إن شئت‬
‫فصم ‪ ،‬وإن شئت فأفطر"‪ .‬وهو في الصحيحين (‪ .)2‬وقيل ‪ :‬إن شق الصيام فالفطار أفضل‬
‫لحديث جابر ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رجل قد ظُّللَ عليه ‪ ،‬فقال ‪" :‬ما هذا ؟ "‬
‫قالوا ‪ :‬صائم ‪ ،‬فقال ‪ " :‬ليس من البر الصيام في السفر"‪ .‬أخرجاه (‪ .)3‬فأما إن رغب عن السنة ‪،‬‬
‫ورأى أن الفطر مكروه إليه ‪ ،‬فهذا يتعين عليه الفطار ‪ ،‬ويحرم عليه الصيام ‪ ،‬والحالة هذه ‪ ،‬لما‬
‫خصَةَ ال كان‬
‫جاء في مسند المام أحمد وغيره ‪ ،‬عن ابن عمر وجابر ‪ ،‬وغيرهما ‪ :‬من لم يقبل رُ ْ‬
‫عليه من الثم مثل جبال عرفة (‪.)4‬‬
‫الرابعة ‪ :‬القضاء ‪ ،‬هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولن ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أنه يجب‬
‫التتابع ‪ ،‬لن القضاء يحكي الداء‪ .‬والثاني ‪ :‬ل يجب التتابع ‪ ،‬بل إن شاء فَرّق ‪ ،‬وإن شاء تابع‪.‬‬
‫وهذا قول جُمهور السلف والخلف ‪ ،‬وعليه ثبتت الدلئل (‪ )5‬؛ لن التتابع إنما وجب في الشهر‬
‫لضرورة أدائه في الشهر ‪ ،‬فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام ع ّدةَ ما أفطر‪ .‬ولهذا قال‬
‫تعالى ‪َ { :‬فعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ } ثم قال ‪ { :‬يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْ ُيسْ َر وَل يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ } قال المام‬
‫أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا أبو سلمة الخزاعي ‪ ،‬حدثنا ابن (‪ )6‬هلل ‪ ،‬عن حميد بن هلل العدوي ‪ ،‬عن أبي قتادة ‪،‬‬
‫عن العرابي الذي سمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬إن خير دينكم أيسره ‪ ،‬إن خير دينكم‬
‫أيسره" (‪.)7‬‬
‫وقال أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون ‪ ،‬أخبرنا عاصم بن هلل ‪ ،‬حدثنا غاضرة بن عُرْوة‬
‫الفُقَيْمي ‪ ،‬حدثني أبي عُ ْروَة ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا ننتظر النبي صلى ال عليه وسلم فخرج رَجل (‪َ )8‬يقْطُرُ‬
‫رأسه من وضوء أو غسل ‪ ،‬فصلى ‪ ،‬فلما قضى الصلة جعل الناس يسألونه ‪ :‬علينا حرج في كذا‬
‫؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن دين ال في يسر" ثلثًا يقولها (‪.)9‬‬
‫ورواه المام أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسير هذه الية من حديث مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬عن عاصم بن‬
‫هلل ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة قال ‪ :‬حدثنا أبو التيّاح ‪ ،‬سمعت أنس بن‬
‫مالك يقول ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬يسروا ‪ ،‬ول تعسروا ‪ ،‬وسكّنُوا ول‬
‫تُ َنفّروا"‪ .‬أخرجاه في الصحيحين (‪ .)10‬وفي الصحيحين أيضا ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن ‪" :‬بشرا ول تنفرا ‪ ،‬ويسرا ول تعسرا ‪،‬‬
‫وتطاوعا ول تختلفا"‪ .‬وفي السنن والمسانيد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬هذا لفظ حديث جابر وسيأتي‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )1943‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1121‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )1946‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1121‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)2/71‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬تثبت الدلة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬حدثنا أبو"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)3/479‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فخرج رجل"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)5/69‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري برقم (‪ )69‬وصحيح مسلم برقم(‪.)1734‬‬

‫( ‪)1/504‬‬
‫ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ فَلْ َيسْتَجِيبُوا لِي وَلْ ُي ْؤمِنُوا بِي َلعَّلهُمْ‬
‫وَإِذَا سََأَلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ‬
‫يَرْشُدُونَ (‪)186‬‬

‫قال ‪" :‬بعثت بالحنيفيّة السمحة" (‪.)1‬‬


‫وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ‪ :‬حدثنا عبد ال بن إسحاق بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا يحيى‬
‫ابن أبي طالب ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ‪ ،‬حدثنا أبو مسعود الجُرَيري ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫شقيق ‪ ،‬عن ِمحْجَن بن الدرع ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رجل يصلي فتراءاه‬
‫ببصره (‪ )2‬ساعة ‪ ،‬فقال ‪" :‬أتراه يصلي صادقًا ؟" قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هذا أكثر أهل‬
‫س ِمعْه فَتُهِلكَه"‪ .‬وقال ‪" :‬إن ال إنما أراد‬
‫المدينة صلة ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل ُت ْ‬
‫بهذه المة ال ُيسْر ‪ ،‬ولم يرد بهم العُسْر" (‪.)3‬‬
‫خصَ لكم‬
‫ومعنى قوله ‪ { :‬يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَل يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْ َر وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِ ّدةَ } أي ‪ :‬إنما أرْ َ‬
‫في الفطار للمرض (‪ )4‬والسفر ونحوهما من العذار لرادته بكم اليسر ‪ ،‬وإنما أمركم بالقضاء‬
‫لتكملوا عدّة شهركم‪.‬‬
‫علَى مَا هَدَاكُمْ } أي ‪ :‬ولتذكروا ال عند انقضاء عبادتكم ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ َ‬
‫شدّ ِذكْرًا } [البقرة ‪ ]200 :‬وقال ‪ { [ :‬فَإِذَا‬
‫س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَا َءكُمْ َأوْ أَ َ‬
‫{ فَِإذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ‬
‫َقضَيْتُمُ الصّلةَ فَا ْذكُرُوا اللّهَ قِيَامًا َو ُقعُودًا وَعَلَى جُنُو ِبكُمْ } ] (‪ [ )5‬النساء ‪ { ، ]103 :‬فَإِذَا ُقضِ َيتِ‬
‫ض وَابْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } [الجمعة ‪:‬‬
‫الصّلةُ فَانْتَشِرُوا فِي ال ْر ِ‬
‫ح ُه وَأَدْبَارَ‬
‫س َوقَبْلَ ا ْلغُرُوبِ * َومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّ ْ‬
‫شمْ ِ‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ ال ّ‬
‫‪ ]10‬وقال ‪ { :‬وَسَبّحْ ِب َ‬
‫السّجُودِ } [ق ‪ ]40 ، 39 :‬؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ‪ ،‬والتحميد والتكبير بعد‬
‫الصلوات المكتوبات‪.‬‬
‫وقال ابن عباس ‪ :‬ما كنا نعرف انقضاء صلة رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بالتكبير ؛ ولهذا‬
‫أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الية ‪ { :‬وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِ ّد َة وَلِ ُتكَبّرُوا‬
‫علَى مَا هَدَاكُمْ } حتى ذهب داود بن علي الصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛‬
‫اللّهَ َ‬
‫لظاهر المر في قوله { وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا َهدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة ‪ -‬رحمه ال‬
‫‪ -‬أنه ل ُيشْرَع التكبير في عيد الفطر‪ .‬والباقون على استحبابه ‪ ،‬على اختلف في تفاصيل بعض‬
‫الفروع بينهم‪.‬‬
‫شكُرُونَ } أي ‪ :‬إذا قمتم بما أمركم ال من طاعته بأداء فرائضه ‪ ،‬وترك‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫محارمه ‪ ،‬وحفظ حدوده ‪ ،‬فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك‪.‬‬
‫ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْ َتجِيبُوا لِي وَلْ ُيؤْمِنُوا بِي َلعَّلهُمْ‬
‫{ وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬
‫يَرْشُدُونَ (‪} )186‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن المغيرة ‪ ،‬أخبرنا جرير ‪ ،‬عن عبدة بن أبي برزة‬
‫السّجستاني (‪ )6‬عن الصّلْب (‪ )7‬بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬أن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4342 ، 4341‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1733‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ببصره"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه أحمد في المسند (‪ )5/32‬من طريق حماد عن الجريري ‪ ،‬عن عبد ال بن شقيق عن‬
‫محجن نحوه‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬للمريض"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬السختياني"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬الصلت"‪.‬‬

‫( ‪)1/505‬‬

‫أعرابيًا قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى ال عليه‬
‫ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ } (‪.)1‬‬
‫وسلم ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ‬
‫ورواه ابن مَ ْردُويه ‪ ،‬وأبو الشيخ الصبهاني ‪ ،‬من حديث محمد بن أبي حميد ‪ ،‬عن جرير ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا جعفر بن سليمان ‪ ،‬عن عوف ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬سأل أصحاب‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم [النبي صلى ال عليه وسلم] (‪ : )2‬أين ربنا ؟ فأنزل ال عز وجل‬
‫ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ } الية (‪.)3‬‬
‫‪ { :‬وَِإذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬
‫جبْ َلكُمْ } [غافر ‪:‬‬
‫وقال ابن جُرَيج عن عطاء ‪ :‬أنه بلغه لما نزلت ‪َ { :‬وقَالَ رَ ّب ُكمُ ادْعُونِي أَسْ َت ِ‬
‫‪ ]60‬قال الناس ‪ :‬لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت ‪ { :‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ‬
‫ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ }‬
‫دَ ْ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ‪ ،‬حدثنا خالد الحذاء ‪ ،‬عن أبي عثمان‬
‫النهدي ‪ ،‬عن أبي موسى الشعري ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في غَزَاة‬
‫فجعلنا ل نصعد شَ َرفًا ‪ ،‬ول نعلو شَ َرفًا ‪ ،‬ول نهبط واديًا إل رفعنا أصواتنا بالتكبير‪ .‬قال ‪ :‬فدنا منا‬
‫فقال ‪" :‬يا أيها الناس ‪ ،‬أرْبعُوا على أنفسكم ؛ فإنّكم ل تدعون أصمّ ول غائبًا ‪ ،‬إنما تدعون سميعًا‬
‫بصيرًا ‪ ،‬إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته‪ .‬يا عبد ال بن قيس ‪ ،‬أل أعلمك كلمة‬
‫من كنوز الجنة ؟ ل حول ول قوة إل بال"‪.‬‬
‫أخرجاه في الصحيحين ‪ ،‬وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي ‪ ،‬واسمه عبد الرحمن بن‬
‫مُل (‪ ، )4‬عنه ‪ ،‬بنحوه (‪.)5‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا سليمان بن داود ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬حدثنا قتادة ‪ ،‬عن أنس رضي ال عنه ‪:‬‬
‫أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬يقول ال تعالى ‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي ‪ ،‬وأنا معه إذا‬
‫دعاني" (‪.)6‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا علي بن إسحاق ‪ ،‬أخبرنا عبد ال ‪ ،‬أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن‬
‫جابر ‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن عبيد ال ‪ ،‬عن كريمة بنت الخشخاش المزنية ‪ ،‬قالت ‪ :‬حدثنا أبو‬
‫هريرة ‪ :‬أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬قال ال ‪ :‬أنا مع عبدي ما ذكرني ‪،‬‬
‫وتحركت بي شفتاه" (‪.)7‬‬
‫حسِنُونَ } [النحل ‪، ]128 :‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا كقوله تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ ا ّت َقوْا وَالّذِينَ ُهمْ مُ ْ‬
‫سمَ ُع وَأَرَى } [طه ‪ .]46 :‬والمراد من‬
‫وكقوله لموسى وهارون ‪ ،‬عليهما السلم ‪ { :‬إِنّنِي َم َع ُكمَا َأ ْ‬
‫هذا ‪ :‬أنه تعالى ل يخيب دعاء داع ‪ ،‬ول يشغله عنه شيء ‪ ،‬بل هو سميع الدعاء‪ .‬وفيه ترغيب‬
‫في الدعاء ‪ ،‬وأنه ل يضيع لديه تعالى ‪ ،‬كما قال المام أحمد ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )3/480‬من طريق جرير به ‪ ،‬وانظر حاشيته ففيها كلم جيد‬
‫حول الصلب بن حكيم‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )3/481‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بن ملبك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)4/402‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)3/210‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)2/540‬‬

‫( ‪)1/506‬‬

‫حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان ‪ -‬هو النهدي ‪ -‬يحدث عن سلمان ‪ -‬يعني الفارسي‬
‫‪ -‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬إن ال تعالى ليستحيي أن يبسط‬
‫العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما خائبتين"‪.‬‬
‫قال يزيد ‪ :‬سموا لي هذا الرجل ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬جعفر بن ميمون (‪.)1‬‬
‫وقد رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون ‪ ،‬صاحب النماط ‪ ،‬به (‬
‫‪ .)2‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن غريب‪ .‬ورواه بعضهم ‪ ،‬ولم يرفعه‪.‬‬
‫وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في أطرافه ‪ :‬وتابعه أبو همام محمد بن‬
‫الزبرقان ‪ ،‬عن سليمان التيمي ‪ ،‬عن أبي عثمان النهدي ‪ ،‬به (‪.)3‬‬
‫وقال المام أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا أبو عامر ‪ ،‬حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو المتوكل الناجي ‪ ،‬عن أبي‬
‫سعيد ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما من مسلم يدعو ال عز وجل بدعوة ليس فيها إثم‬
‫ول قطيعة رحم ‪ ،‬إل أعطاه ال بها إحدى ثلث خصال ‪ :‬إما أن يعجّل له دعوته ‪ ،‬وإما أن‬
‫يَدّخرها له في الخرة ‪ ،‬وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا ‪ :‬إذًا نكثر‪ .‬قال ‪" :‬ال أكثر (‬
‫‪.)5( " )4‬‬
‫وقال عبد ال بن المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ‪ ،‬أخبرنا محمد بن يوسف ‪،‬‬
‫حدثنا ابن ثوبان ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن مكحول ‪ ،‬عن جُبَير بن نفير ‪ ،‬أن عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما على ظهر الرض من رجل ُمسْلِم يدعو ال ‪ ،‬عز وجل ‪،‬‬
‫بدعوة إل آتاه ال إياها ‪ ،‬أو كف عنه من السوء مثلها ‪ ،‬ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" (‪.)6‬‬
‫ورواه الترمذي ‪ ،‬عن عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي ‪ ،‬عن محمد بن يوسف الفرْيابي ‪ ،‬عن ابن‬
‫ثوبان ‪ -‬وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ‪ -‬به (‪ .)7‬وقال ‪ :‬حسن صحيح غريب من هذا‬
‫الوجه‪.‬‬
‫وقال المام مالك ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن أبي عبيد ‪ -‬مولى ابن أزهر ‪ -‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ُ " :‬يسْتَجَاب لحدكم ما لم َيعْجل ‪ ،‬يقول ‪ :‬دعوتُ فلم يستجب‬
‫لي"‪.‬‬
‫أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ‪ ،‬به (‪ .)8‬وهذا لفظ البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬وأثابه الجنة‪.‬‬
‫وقال مسلم أيضًا (‪ : )9‬حدثني أبو الطاهر ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني معاوية بن صالح ‪ ،‬عن‬
‫خوْلني ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ربيعة ابن يزيد ‪ ،‬عن أبي إدريس ال َ‬
‫قال ‪" :‬ل يزال يستجاب للعبد ما لم يَ ْدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل"‪ .‬قيل ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫ما الستعجال ؟ قال ‪" :‬يقول ‪ :‬قد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)5/438‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود برقم (‪ )1488‬وسنن الترمذي برقم (‪ )1488‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3865‬‬
‫(‪ )3‬تحفة الشراف (‪.)4/29‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬أكثروا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)3/18‬‬
‫(‪ )6‬زوائد المسند (‪.)5/329‬‬
‫(‪ )7‬سنن الترمذي برقم (‪.)3573‬‬
‫(‪ )8‬الموطأ (‪ )1/213‬وصحيح البخاري برقم (‪.)684‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬وقال مسلم في صحيحه"‪.‬‬

‫( ‪)1/507‬‬
‫دعوتُ ‪ ،‬وقد دَعَوتُ ‪ ،‬فلم أرَ يستجابُ لي ‪ ،‬فَ َيسْتَحسر عند ذلك ‪ ،‬ويترك (‪ )1‬الدعاء" (‪.)2‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا ابن (‪ )3‬هلل ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس ‪ :‬أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل يزال العبد بخير ما لم يستعجل"‪ .‬قالوا ‪ :‬وكيف يستعجل ؟ قال ‪:‬‬
‫"يقول ‪ :‬قد دعوتُ ربي فلم َيسُتَجبْ لي" (‪.)4‬‬
‫وقال المام أبو جعفر الطبري في تفسيره ‪ :‬حدثني يونس بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪،‬‬
‫حدثني أبو صخر ‪ :‬أن يزيد بن عبد ال بن قسَيط حدثه ‪ ،‬عن عروة بن الزبير ‪ ،‬عن عائشة ‪،‬‬
‫رضي ال عنها ‪ ،‬أنها قالت ‪ :‬ما من عَبْد مؤمن يدعو ال بدعوة فتذهب ‪ ،‬حتى ُتعَجّل له في الدنيا‬
‫أو تُدّخر له في الخرة ‪ ،‬إذا لم (‪ )5‬يعجل أو يقنط‪ .‬قال عروة ‪ :‬قلت ‪ :‬يا أمّاه (‪ )6‬كيف عجلته‬
‫جبْ‪.‬‬
‫وقنوطه ؟ قالت ‪ :‬يقول ‪ :‬سألت فلم أعْطَ ‪ ،‬ودعوت فلم أ َ‬
‫قال ابن قُسَيْط ‪ :‬وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا حسن ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثنا بكر بن عمرو ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن‬
‫الحُبُليّ ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬القلوب أوعية ‪،‬‬
‫وبعضها أوعى من بعض ‪ ،‬فإذا سألتم ال أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالجابة ‪ ،‬فإنه ل‬
‫يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" (‪.)7‬‬
‫وقال ابن مَ ْردُويه ‪ :‬حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيّ بن نافع‬
‫ابن معد يكرب ببغداد ‪ ،‬حدثني أبي بن نافع ‪ ،‬حدثني أبي نافع بن معد يكرب ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت أنا‬
‫ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ } قال ‪:‬‬
‫وعائشة سألتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم عن الية ‪ُ { :‬أجِيبُ دَ ْ‬
‫"يا رب ‪ ،‬مسألة عائشة"‪ .‬فهبط جبريل فقال ‪ :‬ال يقرؤك السلم ‪ ،‬هذا عبدي الصالح (‪ )8‬بالنية‬
‫الصادقة ‪ ،‬وقلبُه نقي (‪ )9‬يقول ‪ :‬يا رب ‪ ،‬فأقول ‪ :‬لبيك‪ .‬فأقضي حاجته‪.‬‬
‫هذا حديث غريب من هذا الوجه (‪.)10‬‬
‫وروى ابن مَ ْردُويه من حديث الكلبي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬حدثني جابر بن عبد ال‬
‫ع َوةَ الدّاعِ ِإذَا‬
‫أن النبي صلى ال عليه وسلم قرأ ‪ { :‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ‬
‫دَعَانِ } الية‪ .‬فقال رسول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ويدع"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)2735‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬حدثنا أبو"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)3/210‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬إذا هو لم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يا أمتاه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)2/177‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬عبدي أصلح"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وقلبه تقي"‪.‬‬
‫(‪ )10‬ذكره ابن الثير في أسد الغابة (‪ )4/530‬وقال ‪" :‬روى حديثه محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫إسحاق بن إبراهيم بن أبي بن نافع بن معد يكرب عن جده أبي ‪ ،‬عن أبيه نافع بن معد يكرب أنه‬
‫قال ‪ ،‬فذكر مثله" ثم قال ابن الثير ‪" :‬أخرجه أبو موسى وقال ‪ :‬عند ابن إسحاق هذا ‪ ،‬وعند غيره‬
‫‪ :‬عن إسحاق بن إبراهيم أحاديث"‪.‬‬

‫( ‪)1/508‬‬

‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اللهم أمرت بالدعاء ‪ ،‬وتوكّ ْلتَ بالجابة ‪ ،‬لبيك اللهم لبيك ‪ ،‬لبيك ل‬
‫صمَد لم تلد‬
‫شريك لك ‪ ،‬لبيك إن الحمد والنعمة لك ‪ ،‬والملك ل شريك لك ‪ ،‬أشهد أنك فرد أحد َ‬
‫ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد ‪ ،‬وأشهد أن وعدك حق ‪ ،‬ولقاءك حق ‪ ،‬والجنة حق ‪ ،‬والنار حق ‪،‬‬
‫والساعة آتية ل ريب فيها ‪ ،‬وأنت تبعث من في القبور" (‪.)1‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار ‪ :‬حدثنا الحسن بن يحيى الرزي (‪ )2‬ومحمد بن يحيى القُطَعي (‪)3‬‬
‫قال حدثنا الحجاج بن مِنْهال ‪ ،‬حدثنا صالح المُرّي ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال ‪" :‬يقول ال تعالى ‪ :‬يا ابن آدم ‪ ،‬واحدة لك وواحدة لي ‪ ،‬وواحدة فيما بيني وبينك ؛‬
‫فأما التي لي فتعبدني ل تشرك بي شيئا ‪ ،‬وأما التي لك فما عملتَ من شيء َوفّيْتُكَه (‪ )4‬وأما التي‬
‫بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الجابة" (‪.)5‬‬
‫وفي ذكره تعالى (‪ )6‬هذه الية الباعثة على الدعاء ‪ ،‬متخللة بين أحكام الصيام ‪ ،‬إرشاد إلى‬
‫الجتهاد في الدعاء عند إكمال ال ِعدّة ‪ ،‬بل وعن َد كلّ فطر ‪ ،‬كما رواه المام أبو داود الطيالسي في‬
‫مسنده ‪:‬‬
‫عمْرو ‪ -‬هو ابن شعيب بن محمد بن عبد ال بن عمرو ‪ ،‬عن‬
‫حدثنا أبو محمد المليكي ‪ ،‬عن َ‬
‫أبيه ‪ ،‬عن جده عبد ال بن عمرو ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬للصائم‬
‫عند إفطاره دعوة مستجابة"‪ .‬فكان عبد ال بن عمرو إذ أفطر دعا أهله ‪ ،‬وولده ودعا (‪.)7‬‬
‫وقال أبو عبد ال محمد بن يزيد بن ماجة في سننه ‪ :‬حدثنا هشام بن عمار ‪ ،‬أخبرنا الوليد بن‬
‫مسلم ‪ ،‬عن إسحاق بن عبيد ال (‪ )8‬المدني ‪ ،‬عن عَبْد ال (‪ )9‬بن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن (‪ )10‬عبد ال‬
‫عمْرو ‪ ،‬قال ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن للصائم عند فطره دَعْوةً ما تُرَدّ"‪ .‬قال عَبْد‬
‫بن َ‬
‫عمْرو يقول إذا أفطر ‪ :‬اللهم إني أسألك برحمتك التي‬
‫ال (‪ )11‬بن أبي مُليَكة ‪ :‬سمعت عبد ال بن َ‬
‫وس َعتْ كل شيء أن تغفر لي (‪.)12‬‬
‫وفي مسند المام أحمد ‪ ،‬وسنن الترمذي ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجة ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ثلثة ل ترد دعوتهم ‪ :‬المام العادل ‪ ،‬والصائم حتى (‪)13‬‬
‫يفطر ‪ ،‬ودعوة المظلوم يرفعها ال دون (‪ )14‬الغمام يوم القيامة ‪ ،‬وتفتح لها أبواب السماء ‪،‬‬
‫ويقول ‪ :‬بعزتي لنصرنك ولو بعد حين" (‪.)15‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (‪ )1798‬وابن أبي الدنيا في الدعاء كما في الدر‬
‫المنثور (‪ )1/474‬وإسناده واه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬الزدي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬المقطعي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬من شيء أو من عمل وفيتكه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬مسند البزار برقم (‪" )19‬كشف الستار" وقال البزار ‪" :‬تفرد به صالح المري ‪ ،‬وصالح‬
‫المري ضعفه الئمة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وفي ذكره تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )7‬مسند الطيالسي برقم (‪.)2262‬‬
‫(‪ )8‬في هـ ‪" :‬عبد ال" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه‪.‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬عبيد ال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬سمعت"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في و ‪" :‬عبيد ال"‪.‬‬
‫(‪ )12‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )1753‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/38‬هذا إسناد صحيح‬
‫رجاله ثقات" وحسنه الحافظ ابن حجر في "نتائج الفكار"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في و ‪" :‬حين"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في أ ‪" :‬فوق"‪.‬‬
‫(‪ )15‬المسند (‪ )2/445‬وسنن الترمذي برقم (‪ )3598‬وسنن ابن ماجة برقم (‪)1752‬‬

‫( ‪)1/509‬‬

‫حلّ َلكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ هُنّ لِبَاسٌ َل ُك ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ تَخْتَانُونَ‬
‫أُ ِ‬
‫ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُ ْم َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ‬
‫عفَا عَ ْنكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُ ّ‬
‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫ن وَأَنْتُمْ‬
‫ل وَلَا تُبَاشِرُوهُ ّ‬
‫س َودِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْي ِ‬
‫َلكُمُ ا ْلخَيْطُ الْأَبْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ الْأَ ْ‬
‫جدِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا َتقْرَبُوهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آَيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ (‪)187‬‬
‫عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَا ِ‬
‫حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى ِنسَا ِئكُمْ هُنّ لِبَاسٌ َلكُ ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ‬
‫{ ُأ ِ‬
‫ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ‬
‫عفَا عَ ْنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُ ّ‬
‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫ن وَأَنْتُمْ‬
‫ل وَل تُبَاشِرُوهُ ّ‬
‫س َودِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْي ِ‬
‫َلكُمُ ا ْلخَيْطُ البْيَضُ مِنَ ا ْلخَيْطِ ال ْ‬
‫جدِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتقْرَبُوهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ (‪} )187‬‬
‫عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَا ِ‬

‫( ‪)1/509‬‬

‫هذه ُرخْصة من ال تعالى للمسلمين ‪ ،‬و َرفْع لما كان عليه المر في ابتداء السلم ‪ ،‬فإنه كان إذا‬
‫أفطر أحدهم إنما يحل له الكل والشرب والجماع إلى صلة العشاء أو ينام قبل ذلك ‪ ،‬فمتى نام أو‬
‫صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة‪ .‬فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة‪.‬‬
‫والرفث هنا هو ‪ :‬الجماع‪ .‬قاله (‪ )1‬ابن عباس ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪،‬‬
‫عمْرو بن دينار (‪ )2‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫وطاوس ‪ ،‬وسالم بن عبد ال ‪ ،‬و َ‬
‫وإبراهيم النّخَعي ‪ ،‬والسّدي ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬هُنّ لِبَاسٌ َلكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ } قال ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪،‬‬
‫سكَن لكم ‪ ،‬وأنتم سكن لهن‪.‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ :‬يعني هن َ‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ :‬هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن‪.‬‬
‫وحاصله أنّ الرجل والمرأة كل منهما يخالط الخر و ُيمَاسه ويضاجعه ‪ ،‬فناسب أن يُرَخّص لهم‬
‫في المجامعة في ليل رمضانَ ‪ ،‬لئل يشقّ ذلك عليهم ‪ ،‬ويحرجوا ‪ ،‬قال الشاعر (‪ )3‬إذا ما‬
‫عتْ فكانت عليه لباسا‪...‬‬
‫الضجيع ثَنَى جيدها‪َ ...‬تدَا َ‬
‫وكان السبب في نزول هذه الية كما تقدم في حديث معاذ الطويلِ ‪ ،‬وقال أبو إسحاق عن البراء‬
‫ابن عازب قال ‪ :‬كان أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر‬
‫‪ ،‬لم يأكل إلى مثلها ‪ ،‬وإن قَيْس بن صِرْمة (‪ )4‬النصاري كان صائمًا ‪ ،‬وكان يومه ذاك يعمل في‬
‫حضَر الفطار أتى امرأته فقال ‪ :‬هل عندك طعام ؟ قالت ‪ :‬ل ولكن أنطلق فأطلب‬
‫أرضه ‪ ،‬فلما َ‬
‫لك‪ .‬فغلبته عينُه فنام ‪ ،‬وجاءت امرأته ‪ ،‬فلما رأته نائما قالت ‪ :‬خيبة لك! أنمت ؟ فلما انتصف‬
‫حلّ َل ُكمْ لَيْلَةَ‬
‫النهار غُشي عليه ‪ ،‬فذكر ذلك للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فنزلت هذه الية ‪ { :‬أُ ِ‬
‫الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئ ُكمْ } إلى قوله ‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ‬
‫سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ } ففرحوا بها فرحًا شديدًا (‪.)5‬‬
‫ال ْ‬
‫ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق ‪ :‬سمعت البراء قال ‪ :‬لما نزل صو ُم رمضان كانوا ل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬كما قال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بن يسار"‪.‬‬
‫(‪ )3‬هو النابغة الجعدي ‪ ،‬والبيت في تفسير الطبري (‪.)3/490‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬قيس بن أبي صرمة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬هذا اللفظ رواه الطبري في تفسيره (‪.)3/495‬‬

‫( ‪)1/510‬‬

‫يقرَبُون النساء ‪َ ،‬ر َمضَان كُلّه ‪ ،‬وكان رجَال يخونون أنفسهم ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ‬
‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ وَعَفَا عَ ْنكُمْ } (‪.)1‬‬
‫تَخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان المسلمون في شهر رمضان إذا صَلّوا العشاء‬
‫حَرُم عليهم (‪ )2‬النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ‪ ،‬ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء‬
‫والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ‪ ،‬منهم عمر بن الخطاب ‪ ،‬فشكوا ذلك إلى رسول ال صلى‬
‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ وَعَفَا عَ ْنكُمْ‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فأنزل ال تعالى ‪ { :‬عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫فَالنَ بَاشِرُوهُنّ } وكذا روى العوفي عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقال موسى بن عقبة ‪ ،‬عن كُرَيْب ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬إن الناس كانوا قبل أن ينزل في‬
‫الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ‪ ،‬ويحل لهم شأن النساء ‪ ،‬فإذا نام أحدهُم لم يطعم ولم‬
‫عمَر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه‬
‫يشرَب ول يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ‪ ،‬فبلغنا أن ُ‬
‫الصوْ ُم َوقَع على أهله ‪ ،‬ثم جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أشكو إلى ال وإليك الذي‬
‫سوَّلتْ لي نفسي ‪ ،‬فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا‬
‫صنعت‪ .‬قال ‪" :‬وماذا صنعت ؟ " قال ‪ :‬إني َ‬
‫أريد الصوم‪ .‬فزعموا أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما كنت خليقًا أن تفعل"‪ .‬فنزل الكتاب ‪:‬‬
‫حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى ِنسَا ِئكُمْ }‬
‫{ ُأ ِ‬
‫وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ‪ ،‬عن قيس بن سعد (‪ ، )3‬عن عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ ِإلَى ِنسَا ِئكُمْ } إلى قوله ‪ُ { :‬ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ‬
‫في قول ال تعالى (‪ُ { )4‬أ ِ‬
‫إِلَى اللّ ْيلِ } قال ‪ :‬كانَ المسلمون قبلَ أن تنزل هذه الية إذا صلوا العشاء الخرة حَرُمَ عليهم‬
‫الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ‪ ،‬وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلة العشاء ‪،‬‬
‫وأن صِرْمة بن قيس النصاري غلبته عينه بعد صلة المغرب ‪ ،‬فنام ولم يشبع من الطعام ‪ ،‬ولم‬
‫يستيقظ حتى صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم العشاء ‪ ،‬فقام فأكل وشرب ‪ ،‬فلما أصبح أتى‬
‫حلّ َلكُمْ لَ ْيلَةَ الصّيَامِ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبره (‪ )5‬بذلك ‪ ،‬فأنزل ال عند ذلك ‪ { :‬أُ ِ‬
‫ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ } يعني بالرفث ‪ :‬مجامعة النساء { هُنّ لِبَاسٌ َل ُك ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ‬
‫سكُمْ } يعني ‪ :‬تجامعون النساء ‪ ،‬وتأكلون وتشربون بعد العشاء { فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫وَعَفَا عَ ْنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنّ } يعني ‪ :‬جامعوهن { وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ } يعني ‪ :‬الولد { َوكُلُوا‬
‫سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ُثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ ِإلَى اللّ ْيلِ }‬
‫وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ‬
‫فكان ذلك عفوًا من ال ورحمة‪.‬‬
‫وقال ُهشَيم ‪ ،‬عن حصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبِي ليلى ‪ ،‬قال ‪ :‬قام عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني أردت أهلي البارحة (‪ )6‬على ما يريد‬
‫حلّ َلكُمْ لَيْلَةَ‬
‫ل ‪ ،‬فواقعتها ‪ ،‬فنزل في عمر ‪ { :‬أُ ِ‬
‫الرجلُ أهل ُه فقالت ‪ :‬إنها قد نامت ‪ ،‬فظننتها تعْت ّ‬
‫الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئ ُكمْ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4508‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬حرم ال عليهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬سعد بن قيس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬في قوله تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فأخبراه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬البارحة أهلي"‪.‬‬

‫( ‪)1/511‬‬

‫عمْرو بن مُرّة ‪ ،‬عن ابن أبي ليلى ‪ ،‬به (‪.)1‬‬


‫وهكذا رواه شعبة ‪ ،‬عن َ‬
‫وقال أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا سويد ‪ ،‬أخبرنا ابن المبارك ‪ ،‬عن ابن َلهِيعة ‪،‬‬
‫حدثني موسى بن جبير ‪ -‬مولى بني سلمة ‪ -‬أنه سمع عبد ال بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه‬
‫قال ‪ :‬كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسَى فنام ‪ ،‬حُرّم عليه الطعام والشراب والنساء‬
‫حتى يفطر من الغد‪ .‬فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى ال عليه وسلم ذات ليلة وقد‬
‫سمَرَ عنده ‪ ،‬فوجد امرأته قد نامت ‪ ،‬فأرادها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إني قد نمت! فقال ‪ :‬ما نمت! ثم وقع بها‪.‬‬
‫َ‬
‫وصنع كعب بن مالك مثل ذلك‪ .‬فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى ال عليه وسلم فأخبره ‪،‬‬
‫عفَا عَ ْنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنّ } [الية]‬
‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ‬
‫فأنزل ال ‪ { :‬عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬
‫(‪.)3( )2‬‬
‫وهكذا روي عن مجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وغيرهم في سبب نزول هذه‬
‫الية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع ‪ ،‬وفي صِرْمة بن قيس ؛ فأباح الجماعَ والطعام‬
‫والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقًا‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ } قال أبو هريرة ‪ ،‬وابن عباس (‪ )4‬وأنس ‪ ،‬وشُرَيح القاضي ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪،‬‬
‫والحكم بن عتبة (‪ )5‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والحسن البصري ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وغيرهم ‪ :‬يعني‬
‫الولد‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ { :‬وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ } يعني ‪ :‬الجماع‪.‬‬
‫عمْرو بن مالك ال ّنكْري ‪ ،‬عن أبي الجوزاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ }‬
‫وقال َ‬
‫قال ‪ :‬ليلة القدر‪ .‬رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن جرير‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر قال ‪ :‬قال قتادة ‪ :‬وابتغوا الرخصة التي كتب ال لكم‪ .‬وقال‬
‫سعيد عن قتادة ‪ { :‬وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ } يقول ‪ :‬ما أحل ال لكم‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق أيضًا ‪ :‬أخبرنا ابن عُيَيْنة ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن عطاء بن أبي رباح ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قلت لبن عباس ‪ :‬كيف تقرأ هذه الية ‪ { :‬وَابْ َتغُوا } أو ‪" :‬اتبعوا" ؟ قال ‪ :‬أيتهما شئت ‪:‬‬
‫عليك بالقراءة الولى‪.‬‬
‫واختار ابن جرير أنّ الية أعمّ من هذا كله‪.‬‬
‫سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ُثمّ أَ ِتمّوا‬
‫وقوله ‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ‬
‫الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } أباح تعالى الكل والشرب ‪ ،‬مع ما تقدم من إباحة الجماع في أيّ الليل شاء‬
‫الصائمُ إلى أن يتبين ضياءُ الصباح من سواد الليل ‪ ،‬وعبر عن ذلك بالخيط البيض من الخيط‬
‫السود ‪ ،‬ورفع اللبس بقوله ‪ { :‬مِنَ ا ْلفَجْرِ } كما جاء في الحديث الذي رواه المام أبو عبد ال‬
‫البخاري ‪ :‬حدثنا ابن أبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن مردويه في تفسيره من طريق عمرو بن عون ‪ ،‬عن هشيم به‪ .‬قال الحافظ ابن كثير‬
‫في "مسند الفاروق" (‪" : )2/566‬هذا إسناد جيد وابن أبي ليلى مختلف في سماعه من عمر ‪ ،‬ولكن‬
‫قد روي من وجه آخر عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أن عمر فعل مثل هذا"‪ .‬ورواه الطبري‬
‫في تفسيره (‪ )3/493‬من طريق شعبة عن عمرو بن مرة به‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)3/496‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬قال الزهري عن ابن عباس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬عيينة" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬عتيبة"‪.‬‬

‫( ‪)1/512‬‬

‫غسّان محمد بن مُطَرّف ‪ ،‬حدثني أبو حازم ‪ ،‬عن سهل بن سعد ‪ ،‬قال ‪ :‬أنزلت‬
‫مريم ‪ ،‬حدثنا أبو َ‬
‫سوَدِ } ولم يُنزلْ { مِنَ ا ْلفَجْرِ }‬
‫‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َل ُكمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ‬
‫وكان رجال إذا أرادوا الصوم ‪ ،‬رَ َبطَ أحدُهم في رجليه الخيط البيض والخيط السود ‪ ،‬فل يزال‬
‫يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ‪ ،‬فأنزل ال بعد ‪ { :‬مِنَ ا ْلفَجْرِ } فعلموا أنما يعني ‪ :‬الليل والنهار (‬
‫‪.)1‬‬
‫حصَين ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬أخبرني عَديّ بن حاتم قال ‪ :‬لما‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا هُشَيم ‪ ،‬أخبرنا ُ‬
‫عمَدت إلى‬
‫سوَدِ } َ‬
‫نزلت هذه الية ‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َلكُمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ‬
‫عقالين ‪ ،‬أحدُهما أسود والخر أبيض ‪ ،‬قال ‪ :‬فجعلتهما تحت وسادتي ‪ ،‬قال ‪ :‬فجعلت أنظر إليهما‬
‫فل تَبَيّن (‪ )2‬لي السود من البيض ‪ ،‬ول البيض من السود ‪ ،‬فلما أصبحت غدوت على رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت‪ .‬فقال ‪" :‬إنّ وسادك إذًا لعريض ‪ ،‬إنما ذلك بياض‬
‫النهار وسواد (‪ )3‬الليل" (‪.)4‬‬
‫أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ‪ ،‬عن عَديّ (‪ .)5‬ومعنى قوله ‪" :‬إن وسادك إذًا لعريض" أي‬
‫‪ :‬إن كان يسعُ لوضع الخيط السود والخيط البيض المرادين من هذه الية تحتها ‪ ،‬فإنهما بياض‬
‫النهار وسواد الليل‪ .‬فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب‪.‬‬
‫وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا ‪ :‬أخبرنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا أبو عوانة ‪ ،‬عن‬
‫حصَين ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن عَ ِديّ قال ‪ :‬أخذ عَدي عقال أبيض وعقال أسود ‪ ،‬حتى كان بعض‬
‫ُ‬
‫الليل نظر فلم يتبينا (‪ .)6‬فلما أصبح قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬جعلت تحت وسادتي‪ .‬قال ‪" :‬إن وسادك‬
‫إذًا لعريض ‪ ،‬إنْ كان الخيط البيض والسود تحت وسادتك" (‪.)7‬‬
‫وجاء في بعض اللفاظ ‪ :‬إنك لعريض القفا‪ .‬ففسره بعضهم بالبلدة ‪ ،‬وهو ضعيف‪ .‬بل يرجع إلى‬
‫هذا ؛ لنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضًا عريض ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬ويفسره رواية البخاري أيضًا ‪:‬‬

‫حدثنا قتيبة ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن ُمطَرّف ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن عدي بن حاتم قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬ما الخيط البيض من الخيط السود ‪ ،‬أهما الخيطان ؟ قال ‪" :‬إنك لعريض القفا إن أبصرت‬
‫الخيطين"‪ .‬ثم قال ‪" :‬ل بل هو (‪ )8‬سواد الليل وبياض النهار" (‪.)9‬‬
‫وفي إباحته تعالى جوا َز الكل إلى طلوع الفجر ‪ ،‬دليل على استحباب السّحُور ؛ لنه من باب‬
‫الرخصة ‪ ،‬والخذ بها محبوب ؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بالحث على السّحور [لنه من باب الرخصة والخذ بها] (‪ )10‬ففي الصحيحين عن أنس قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪َ " :‬تسَحّرُوا فإن في السّحور بركة" (‪ .)11‬وفي صحيح مسلم ‪،‬‬
‫عن عمرو بن العاص رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4511‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فلما يتبين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬من سواد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)4/377‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4509 ، 1916‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1090‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فلم يستبينا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪.)4509‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬بل هما"‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪.)4510‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )11‬صحيح البخاري برقم (‪ )1923‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1095‬‬

‫( ‪)1/513‬‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن َفصْل (‪ )1‬ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحَر (‬
‫‪.)3( " )2‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن عيسى (‪ )4‬هو ابن الطباع ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن زيد ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن أبي سعيد قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"السّحور أكُْلهُ بركة ؛ فل تدعوه ‪ ،‬ولو أنّ أحدكم يَجْرَع جرعة من ماء ‪ ،‬فإن ال وملئكته يصلون‬
‫على المتسحرين" (‪.)5‬‬
‫وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء ‪ ،‬تشبهًا (‪ )6‬بالكلين‪.‬‬
‫ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر ‪ ،‬كما جاء في الصحيحين ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬عن‬
‫زيد بن ثابت ‪ ،‬قال ‪ :‬تسحرنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم قمنا إلى الصلة‪ .‬قال أنس‬
‫‪ :‬قلت لزيد ‪ :‬كم كان بين الذان والسحور ؟ قال ‪ :‬قدر خمسين آية (‪.)7‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا موسى بن داود ‪ ،‬حدثنا ابن َلهِيعة ‪ ،‬عن سالم بن غيلن ‪ ،‬عن سليمان (‬
‫‪ )8‬بن أبي عثمان ‪ ،‬عن عَديّ بن حاتم الحمصي ‪ ،‬عن أبي ذَرّ قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ل تزال أمتي بخير ما عَجّلوا الفطار وأخّروا السحور" (‪ .)9‬وقد ورد في أحاديث‬
‫كثيرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سمّاه الغَدَاء المبارك ‪ ،‬وفي الحديث الذي رواه المام‬
‫أحمد ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة ‪ ،‬عن عاصم بن بهدلة ‪ ،‬عن زرّ بن‬
‫حبيش ‪ ،‬عن حذيفة بن اليمان قال ‪ :‬تسحّرْنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكان النهار إل‬
‫أن الشمس لم تطلع (‪ .)10‬وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النّجُود ‪ ،‬قاله النسائي ‪ ،‬وحمله على‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ فَا ِرقُوهُنّ‬
‫أن المراد قربُ النهار ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَإِذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫ِب َمعْرُوفٍ } [الطلق ‪ ]2 :‬أي ‪ :‬قاربن انقضاء العدة ‪ ،‬فإما إمساك (‪ )11‬أو تَرْك للفرَاق‪ .‬وهذا‬
‫الذي قاله هو المتعيّن حملُ الحديث عليه ‪ :‬أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ‪ ،‬حتى أن‬
‫بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك‪ .‬وقد رُوي عن طائفة كثيرة من السلف أنّهم تسامحوا‬
‫(‪ )12‬في السحور عند مقاربة الفجر‪ .‬روي مثل هذا عن أبي بكر ‪ ،‬وعمر ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وابن مسعود‬
‫‪ ،‬وحذيفة ‪ ،‬وأبي هريرة ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من‬
‫خعَي ‪ ،‬وأبو الضّحَى ‪،‬‬
‫التابعين ‪ ،‬منهم ‪ :‬محمد بن علي بن الحسين ‪ ،‬وأبو مِجْلز ‪ ،‬وإبراهيم النّ َ‬
‫وأبو وائل ‪ ،‬وغيره (‪ )13‬من أصحاب ابن مسعود وعطاء ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬والحكم بن عيينة (‪)14‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وعروة بن الزبير ‪ ،‬وأبو الشعثاء جابر بن زيد‪ .‬وإليه ذهب العمش معمر (‪ )15‬بن‬
‫راشد‪ .‬وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬إن أفضل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬السحور"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1096‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بن إسحاق"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)3/44‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬تشبيها"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )1921‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1097‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬عن سلمان"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)5/172‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪ )5/396‬وسنن النسائي (‪ )4/142‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1695‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬إمساك بمعروف"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في أ ‪" :‬أنهم سامحوا"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪" :‬وغيرهما"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬ابن قتيبة" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬ابن عتيبة"‪.‬‬
‫(‪ )15‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬ومعمر"‪.‬‬

‫( ‪)1/514‬‬

‫الصيام المفرد ‪ ،‬ول الحمد‪.‬‬


‫وحكى أبو جَعفر بن جرير في تفسيره ‪ ،‬عن بعضهم ‪ :‬أنّه إنما يجب المساك من طلوع الشمس‬
‫كما يجوز الفطار بغروبها‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا القول ما أظنّ أحدًا من أهل العلم يستقر له قَدَم عليه ‪ ،‬لمخالفته نصّ القرآن في قوله ‪:‬‬
‫سوَدِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى‬
‫{ َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َل ُكمُ الْخَ ْيطُ البْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ ال ْ‬
‫اللّ ْيلِ } وقد وَرَدَ في الصحيحين من حديث القاسم ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫سحُوركم ‪ ،‬فإنه ينادي بليل ‪ ،‬فكلوا واشربوا حتى‬
‫وسلم قال ‪" :‬ل يمنعكم (‪ )1‬أذانُ بلل عن َ‬
‫تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه ل يؤذن حتى يطلع الفجر"‪ .‬لفظ البخاري (‪.)2‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا موسى بن داود ‪ ،‬حدثنا محمد بن جابر ‪ ،‬عن قيس بن طَلْق ‪ ،‬عن أبيه ‪:‬‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ليس الفجرُ المستطيل في الفق ولكنه المعترض‬
‫الحمر" (‪ .)3‬ورواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ولفظهما ‪" :‬كلوا واشربوا ول َيهِيدَ ّنكُمْ الساطع‬
‫المصعد ‪ ،‬فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الحمر" (‪.)4‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن شيخ‬
‫سمُرة بن جُنْدَب يقول ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل يغرنكم‬
‫من بني قشير ‪ :‬سمعت َ‬
‫نداء بلل وهذا البياض حتى ينفجر الفجر ‪ ،‬أو يطلع الفجر"‪.‬‬
‫ثم رواه من حديث شعبة وغيره ‪ ،‬عن سوادة بن حنظلة ‪ ،‬عن سمرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫سحُوركم أذان بلل ول الفجر المستطيل ‪ ،‬ولكن الفجر المستطير‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬ل يمنعكم من َ‬
‫في الفق" (‪.)5‬‬
‫قال ‪ :‬وحدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن عُلَية ‪ ،‬عن عبد ال بن سَوادة القُشَيري ‪ ،‬عن أبيه ‪،‬‬
‫عن سمرة بن جندب قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل يغرنكم أذان بلل ول هذا‬
‫البياض ‪ ،‬تعمدوا الصبح حين يستطير" (‪.)6‬‬
‫ورواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ‪ ،‬عن إسماعيل بن إبراهيم ‪ -‬يعني (‪ )7‬ابن علية ‪-‬‬
‫مثله سواء (‪.)8‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن حمَيد ‪ ،‬حدثنا ابن المبارك ‪ ،‬عن سُلَيمان التيمي ‪ ،‬عن أبي عثمان‬
‫النهدي ‪ ،‬عن ابن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل يمنعَنّ أحدكم أذان بلل‬
‫عن سحوره ‪ -‬أو قال نداء بلل ‪ -‬فإن بلل يؤذن ‪ -‬أو [قال] (‪ )9‬ينادي ‪ -‬لينبه نائمكم وليَرْجع‬
‫قائمكم ‪ ،‬وليس الفجر أن يقول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬ل يمنعنكم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )622 ، 1918‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1092‬وقوله ‪" :‬ل يمنعنكم أذان‬
‫بلل عن سحوركم" لم يقع في البخاري من حديث عائشة وإنما من حديث عبد ال بن مسعود ‪،‬‬
‫هذا ما ظهر لي بعد البحث ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)4/23‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود برقم (‪ )2348‬وسنن الترمذي برقم (‪.)705‬‬
‫(‪ )5‬هذا الحديث لم أجده في تفسير الطبري المطبوع‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬لعمود الصبح حتى يستطير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬هو"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)1094‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من و‪.‬‬
‫( ‪)1/515‬‬

‫هكذا أوهكذا ‪ ،‬حتى يقول هكذا"‪.‬‬


‫ورواه من وجه آخر عن التيمي ‪ ،‬به (‪.)1‬‬
‫وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئْب ‪ ،‬عن الحارث بن‬
‫عبد الرحمن ‪ ،‬عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"الفجر فجران ‪ ،‬فالذي كأنه ذنب السرحان ل يُحَرّم شيئًا ‪ ،‬وأما المستطير الذي يأخذ الفق ‪ ،‬فإنه‬
‫يحل الصلة ويحرّم الطعام" (‪ .)2‬وهذا مرسل جيد‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا ابن جريج ‪ ،‬عن عطاء قال ‪ :‬سمعت ابن عباس يقول ‪ :‬هما فجران ‪،‬‬
‫حلّ ول يحرّم شيئا ‪ ،‬ولكن الفجر الذي يستبين (‪ )3‬على‬
‫فأما الذي يسطع في السماء فليس ُي ِ‬
‫رؤوس الجبال ‪ ،‬هو الذي يحرّم الشراب‪ .‬قال عطاء ‪ :‬فأما إذا سطع سطوعًا في السماء ‪،‬‬
‫وسطوعه أن يذهب في السماء طول فإنه ل يحرم به شراب لصيام ول صلة ‪ ،‬ول يفوت به حج‬
‫(‪ )4‬ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال ‪ ،‬حرم الشراب للصيام وفات الحج‪.‬‬
‫وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ‪ ،‬وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫جعْله تعالى الفجرَ غاية لباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام ‪ ،‬يُسْتَ َدلّ‬
‫مسألة ‪ :‬ومِن َ‬
‫على أنه من أصبح جُنُبًا فليغتسل ‪ ،‬وليتم صومه ‪ ،‬ول حرج عليه‪ .‬وهذا مذهب الئمة الربعة‬
‫وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا ‪ ،‬لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنهما ‪ ،‬أنهما قالتا ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصبح جُنُبًا من جماع غير احتلم ‪ ،‬ثم‬
‫يغتسل ويصوم (‪ .)5‬وفي حديث أم سلمة عندهما ‪ :‬ثم ل يفطر ول يقضي‪ .‬وفي صحيح مسلم ‪،‬‬
‫عن عائشة ‪ :‬أن رجل قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬تُدْركني الصلة وأنا جنب ‪ ،‬فأصوم ؟ فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬وأنا تدركني الصلة وأنا جنب ‪ ،‬فأصوم"‪ .‬فقال ‪ :‬لست مثلنا ‪ -‬يا رسول‬
‫ال ‪ -‬قد غفرَ الُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪ .‬فقال ‪" :‬وال إني لرجو أن أكونَ أخشاكم ل‬
‫وأعلمكم بما أتقي" (‪ .)6‬فأما الحديث الذي رواه المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن همام ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال ‪" :‬إذا نودي للصلة ‪ -‬صلة الصبح ‪ -‬وأحدكم جنب فل يصم يومئذ" (‪ )7‬فإنه‬
‫حديث جيد السناد على شرط الشيخين ‪ ،‬كما ترى (‪ )8‬وهو في الصحيحين عن أبي هريرة ‪ ،‬عن‬
‫الفضل بن عباس عن النبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬لم أجد هذا الحديث في المطبوع من تفسير الطبري ورواه البخاري في صحيحه برقم (‬
‫‪ )5298 ، 621‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ )1093‬من طريق أبي عثمان النهدي به‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)3/514‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬حتى يستنير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬به الحج"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )1926 ، 1925‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1109‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)1109‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)2/314‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬كما ترى على شرط الشيخين"‪.‬‬

‫( ‪)1/516‬‬

‫صلى ال عليه وسلم (‪ )1‬وفي سنن النسائي (‪ )2‬عنه ‪ ،‬عن أسامة بن زيد ‪ ،‬والفضل بن عباس‬
‫ولم يرفعه (‪ .)3‬فمن العلماء من علّل هذا الحديث بهذا ‪ ،‬ومنهم من ذهب إليه ‪ ،‬ويُحْكى هذا عن‬
‫أبي هريرة ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وهشام بن عروة ‪ ،‬والحسن البصري‪ .‬ومنهم من ذهب إلى التفرقة‬
‫بين أن يصبح جنبًا نائمًا فل عليه ‪ ،‬لحديث عائشة وأم سلمة ‪ ،‬أو مختارًا فل صومَ له ‪ ،‬لحديث‬
‫أبي هريرة‪ .‬يحكى (‪ )4‬هذا عن عُروة ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والحسن‪ .‬ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه‬
‫ويقضيه وأما ال ّنفْل فل يضره‪ .‬رواه الثوري ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم النخَعي‪ .‬وهو رواية‬
‫عن الحسن البصري أيضًا ‪ ،‬ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ‪،‬‬
‫ولكن ل تاريخ معه‪.‬‬
‫وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الية الكريمة ‪ ،‬وهو بعيد أيضًا ‪ ،‬وأبعد ؛ إذ ل تاريخ ‪ ،‬بل‬
‫الظاهر من التاريخ خلفه‪ .‬ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال "فل صوم له"‬
‫لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز‪ .‬وهذا المسلك أقرب القوال وأجمعها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } يقتضي الفطار عند غُرُوب الشمس حكمًا شرعيًا ‪،‬‬
‫كما جاء في الصحيحين ‪ ،‬عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ‪ ،‬فقد أفطر‬
‫الصائم" (‪.)5‬‬
‫وعن سهل بن سعد الساعدي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل‬
‫يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه أيضًا (‪.)6‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا الوليد بن مسلم ‪ ،‬حدثنا الوزاعي ‪ ،‬حدثنا قُرّة بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن‬
‫الزهري ‪ ،‬عن أبي سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يقول ال ‪ ،‬عز‬
‫وجل ‪ :‬إن أحبّ عبادي إلي أعجلُهم فِطْرًا"‪.‬‬
‫ورواه الترمذي من غير وجه ‪ ،‬عن الوزاعي ‪ ،‬به (‪ .)7‬وقال ‪ :‬هذا حديث حسن غريب‪.‬‬
‫وقال أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا عبيد ال (‪ )8‬بن إياد ‪ ،‬سمعت إياد بن لقيط قال ‪ :‬سمعت‬
‫خصَاصِيّة ‪ ،‬قالت ‪ :‬أردت أن أصو َم يومين مواصلة ‪ ،‬فمنعني بشير وقال ‪:‬‬
‫ليلى امرأة بَشِير بن ال َ‬
‫إن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى عنه‪ .‬وقال ‪" :‬يفعل ذلك النصارى ‪ ،‬ولكنْ صُوموا كما‬
‫أمركم ال ‪ ،‬وأتموا الصيامَ إلى الليل ‪ ،‬فإذا كان الليل فأفطروا" (‪.)9‬‬
‫[وروى الحافظ ابن عساكر ‪ ،‬حدثنا بكر بن سهل ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن يوسف ‪ ،‬حدثنا يحيى بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )1925‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1109‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬وفي سنن أبي داود والنسائي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)2934 ، 2933‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ويحكي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )1954‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1100‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )1957‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1098‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )2/238‬وسنن الترمذي برقم (‪.)701 ، 700‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)5/225‬‬

‫( ‪)1/517‬‬

‫حمزة ‪ ،‬عن ثور بن يزيد ‪ ،‬عن علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن عبد الملك بن أبي ذر ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم واصل يومين وليلة ؛ فأتاه جبريل فقال ‪ :‬إن ال قد قبل وصالك ‪ ،‬ول يحل‬
‫لحدٍ بعدك ‪ ،‬وذلك بأن ال قال ‪ { :‬ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } فل صيام بعد الليل ‪ ،‬وأمرني‬
‫بالوتر قبل الفجر ‪ ،‬وهذا إسناد ل بأس به ‪ ،‬أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه] (‬
‫‪.)2( )1‬‬
‫ولهذا ورد في الحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ‪ ،‬وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر ‪ ،‬ول‬
‫يأكل بينهما شيئًا‪ .‬قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬حدثنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن أبي سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تواصلوا"‪ .‬قالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إنك تواصل‪ .‬قال ‪" :‬فإني‬
‫لست مثلكم ‪ ،‬إني أبِيتُ ُيطْعمني ربي ويسقيني"‪ .‬قال ‪ :‬فلم ينتهوا عن الوصال ‪ ،‬فواصل بهم النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم يومين وليلتين ‪ ،‬ثم رأوا الهلل ‪ ،‬فقال ‪" :‬لو تأخر الهلل لزدتكم" كالمُنكّل‬
‫بهم (‪.)3‬‬
‫وأخرجاه في الصحيحين ‪ ،‬من حديث الزهري به (‪ .)4‬وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من‬
‫حديث أنس وابن عمر (‪.)5‬‬
‫وعن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوصال ‪،‬‬
‫رحمة لهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنك تواصل‪ .‬قال ‪" :‬إني لست كهيئتكم ‪ ،‬إني يطعمني ربي ويسقيني" (‪.)6‬‬
‫فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ‪ ،‬وثبت أنه من خصائص النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأنه كان‬
‫يقوى على ذلك ويعان ‪ ،‬والظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويًا ل حسيًا ‪،‬‬
‫وإل فل يكون مواصل مع الحسي ‪ ،‬ولكن كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫شغَلها‪ ...‬عن الشراب وتُلْهيها عَن الزادِ‪...‬‬
‫لها أحاديثُ من ذكراك تَ ْ‬
‫وأما من أحبّ أن ُيمْسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ‪ ،‬كما في حديث أبي سعيد‬
‫الخدري ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تواصلوا ‪ ،‬فأيكم أراد‬
‫أن يواصل فليواصل إلى السحر"‪ .‬قالوا ‪ :‬فإنك تواصِل يا رسول ال‪ .‬قال ‪" :‬إني (‪ )7‬لست‬
‫طعِم يطعمني ‪ ،‬وساق يسقيني"‪ .‬أخرجاه في الصحيحين أيضًا (‪.)8‬‬
‫كهيئتكم ‪ ،‬إني أبيت لي ُم ْ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُريْب ‪ ،‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا أبو إسرائيل العَبْسي (‪ )9‬عن أبي بكر‬
‫ابن حفص ‪ ،‬عن أمّ ولد حاطب بن أبي بَلْتعة ‪ :‬أنها مرت برسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫يتسحر ‪ ،‬فدعاها إلى الطعام‪ .‬فقالت ‪ :‬إني صائمة‪ .‬قال ‪ :‬وكيف تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪" :‬أين أنت من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر ‪ :‬مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (‪.)15/192‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬لهم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )6851‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1105‬‬
‫(‪ )5‬حديث أنس في صحيح البخاري برقم (‪ )1961‬وفي صحيح مسلم برقم (‪ ، )1104‬وحديث‬
‫ابن عمر في صحيح البخاري برقم (‪ )1962‬وفي صحيح مسلم برقم (‪.)1102‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )1964‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1105‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فإني"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪ )1963‬ولم أقع عليه في صحيح مسلم‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬القيسي"‪.‬‬

‫( ‪)1/518‬‬

‫وصال آل محمد ‪ ،‬من السّحَر إلى السّحَر" (‪.)1‬‬


‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬حدثنا إسرائيل ‪ ،‬عن عبد العلى ‪ ،‬عن محمد بن علي ‪،‬‬
‫عن علي ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يواصل من السّحَر إلى السّحَر (‪.)2‬‬
‫وقد روى ابن جرير ‪ ،‬عن عبد ال بن الزّبير وغيره من السلف ‪ ،‬أنهم كانوا يواصلون اليام‬
‫المتعددة [وقد روى ابن جرير عن عبد ال بن الزبير وغيره من السلف] (‪ )3‬وحمله منهم على‬
‫أنهم كانُوا يفعلون ذلك رياضة لنفسهم ‪ ،‬ل أنهم كانوا يفعلونه عبادة‪ .‬وال أعلم‪ .‬ويحتمل أنهم‬
‫كانوا يفهمون من النهي أنه إرْشَاد ‪[ ،‬أي] (‪ )4‬من باب الشفقة ‪ ،‬كما جاء في حديث عائشة ‪:‬‬
‫"رحمة لهم" ‪ ،‬فكان ابن الزبير وابنُه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ‪ ،‬لنهم كانوا‬
‫يجدون قُوة عليه‪ .‬وقد ذُكرَ عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصّبِر لئل تتخرق‬
‫المعاء بالطعام أول‪ .‬وقد رُوي عن ابن الزبير أنّه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع‬
‫أقواهم وأجلدهم‪ .‬وقال أبو العالية ‪ :‬إنما فرض ال الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل‬
‫ومن شاء لم يأكل‪.‬‬
‫ن وَأَنْتُمْ عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَاجِدِ } قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَل تُبَاشِرُوهُ ّ‬
‫عباس ‪ :‬هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان ‪ ،‬فحرّم ال عليه أن‬
‫ينكح النساء ليل ونهارا (‪ )5‬حتى يقضي اعتكافه‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ :‬كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ‪ ،‬جامع إن شاء ‪ ،‬فقال ال تعالى ‪:‬‬
‫جدِ } أي ‪ :‬ل تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد (‪)6‬‬
‫ن وَأَنْتُمْ عَا ِكفُونَ فِي ا ْل َمسَا ِ‬
‫{ وَل تُبَاشِرُوهُ ّ‬
‫ول في غيره‪ .‬وكذا قال مجاهد ‪ ،‬وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الية‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن مسعود ‪ ،‬ومحمد بن كعب ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والحسن ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬والضحاك والسّدّي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬ومقاتل ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ل يقربها وهو معتكف‪ .‬وهذا‬
‫الذي حكاه عن هؤلء هو المر المتفق عليه عند العلماء ‪ :‬أن المعتكف يحرمُ عليه النساءُ ما دامَ‬
‫معتكفًا في مسجده ‪ ،‬ولو ذهب إلى منزله لحاجة ل بد له منها فل يحل له أن يتلبّث (‪ )7‬فيه إل‬
‫بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ‪ ،‬من قضاء الغائط ‪ ،‬أو أكل ‪ ،‬وليس له أن يقبل امرأته ‪ ،‬ول‬
‫يضمها إليه ‪ ،‬ول يشتغل بشيء سوى اعتكافه ‪ ،‬ول يعود المريض ‪ ،‬لكن يسأل عنه وهو مار في‬
‫طريقه‪.‬‬
‫وللعتكاف أحكام مفصلة في بابه ‪ ،‬منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ‪ ،‬ومنها ما هو مختلف فيه‬
‫طعَة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ‪ ،‬ول الحمد (‪.)9‬‬
‫(‪ .)8‬وقد ذكرنا قِ ْ‬
‫ولهذا كان الفقهاء المصنفون يُتْبِعون كتاب الصيام بكتاب العتكاف ‪ ،‬اقتداء بالقرآن العظيم ‪ ،‬فإنه‬
‫نبه على ذكر العتكاف بعد ذكر الصوم‪ .‬وفي ذكره تعالى العتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه‬
‫على‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)538 ، 3/537‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)141 ، 1/91‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬أو نهارا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬في المساجد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬أن يمكث"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ول الحمد والمنة"‪.‬‬

‫( ‪)1/519‬‬

‫العتكاف في الصيام ‪ ،‬أو في آخر (‪ )1‬شهر الصيام ‪ ،‬كما ثبتت السنة عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أنه كان يعتكف العشرَ الواخر من شهر رمضان ‪ ،‬حتى توفاه ال ‪ ،‬عز وجل‪ .‬ثم‬
‫اعتكف أزواجُه من بعده‪ .‬أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬رضي ال عنها (‪ ، )2‬وفي‬
‫الصحيحين أن صَفيّة بنت حُيي كانت (‪ )3‬تزور النبي صلى ال عليه وسلم وهو معتكف في‬
‫المسجد ‪ ،‬فتحدثت عنده ساعة ‪ ،‬ثم قامت لترجع إلى منزلها ‪ -‬وكان ذلك ليل ‪ -‬فقام النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ‪ ،‬وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب‬
‫المدينة ‪ ،‬فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلن من النصار ‪ ،‬فلما رأيا النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أسرعا ‪ -‬وفي رواية ‪ :‬تواريا ‪ -‬أي حياء من النبي صلى ال عليه وسلم لكون أهله معه (‪، )4‬‬
‫فقال لهما النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬على ِرسْلكما إنها صفية بنت حيي" أي ‪ :‬ل تسرعا ‪،‬‬
‫واعلما أنها صفية بنت حيي ‪ ،‬أي ‪ :‬زوجتي‪ .‬فقال سبحان ال يا رسول ال ‪ ،‬فقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪" :‬إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ‪ ،‬وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا"‬
‫أو قال ‪" :‬شرّا" (‪.)5‬‬
‫قال الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬أراد ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أنْ يعلم أمّته التبري من الّت ْهمَة في محلها ‪ ،‬لئل‬
‫يقعا في محذور ‪ ،‬وهما كانا أتقى ل أن يظنا بالنبي صلى ال عليه وسلم شيئًا‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫ثم المراد بالمباشرة ‪ :‬إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ‪ ،‬ومعانقة ونحو ذلك ‪ ،‬فأما معاطاة‬
‫الشيء ونحوه فل بأس به ؛ فقد ثبت في الصحيحين ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬أنها قالت ‪:‬‬
‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يُدْني إليّ رأسه فأرجّلُه وأنا حائض ‪ ،‬وكان ل يدخل البيت إل‬
‫ض يكون في البيت فما أسأل عنه إل وأنا مارة (‬
‫لحاجة النسان‪ .‬قالت عائشة ‪ :‬ولقد كان المري ُ‬
‫‪.)6‬‬
‫وقوله ‪ { :‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ } أي ‪ :‬هذا الذي بيناه ‪ ،‬وفرضناه ‪ ،‬وحددناه من الصيام ‪ ،‬وأحكامه ‪،‬‬
‫وما أبحنا فيه وما حرّمنا ‪ ،‬و ِذكْر (‪ )7‬غاياته ورخصه وعزائمه ‪ ،‬حدود ال ‪ ،‬أي ‪ :‬شرعها ال‬
‫وبيّنها بنفسه { فَل َتقْرَبُوهَا } أي ‪ :‬ل تجاوزوها ‪ ،‬وتعتدوها (‪.)8‬‬
‫حدُودُ اللّهِ } أي ‪ :‬المباشرة في العتكاف‪.‬‬
‫وكان الضحاك ومقاتل يقولن في قوله تعالى ‪ { :‬تِ ْلكَ ُ‬
‫حلّ َل ُكمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬يعني هذه الحدود الربعة ‪ ،‬ويقرأ (‪ { )9‬أُ ِ‬
‫ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ } حتى بلغ ‪ُ { :‬ثمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ } قال ‪ :‬وكان أبي وغيره من مَشْيَختنا‬
‫(‪ )10‬يقولون هذا ويتلونه علينا‪.‬‬
‫{ َكذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ } أي ‪ :‬كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ‪ ،‬كذلك يبين‬
‫سائر الحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم { لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } أي ‪:‬‬
‫َيعْرفون كيف يهتدون ‪ ،‬وكيف يطيعون كما قال تعالى ‪ُ { :‬هوَ الّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ‬
‫جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ [ وَإِنّ اللّهَ ِبكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } ] (‪[ .)11‬الحديد ‪.]9 :‬‬
‫لِيُخْ ِر َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أو في أواخر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )2033‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1172‬واللفظ لمسلم‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬جاءت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬معه أهله"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )6219 ، 2035‬وصحيح مسلم برقم (‪ )2175‬من حديث صفية‬
‫رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )2029‬وصحيح مسلم برقم (‪.)297‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وذكرنا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬تتجاوزوها أو تعتدوها"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ويقول"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬من مشايخنا"‪.‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من و ‪ ،‬وفي جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬هـ ‪" :‬الية"‪.‬‬

‫( ‪)1/520‬‬

‫حكّامِ لِتَ ْأكُلُوا فَرِيقًا مِنْ َأ ْموَالِ النّاسِ بِالْإِ ْث ِم وَأَنْتُمْ‬


‫طلِ وَ ُتدْلُوا ِبهَا إِلَى الْ ُ‬
‫وَلَا تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬
‫ج وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ‬
‫َتعَْلمُونَ (‪ )188‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَ ِهلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَ ّ‬
‫ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ (‪)189‬‬
‫ُ‬

‫حكّامِ لِتَ ْأكُلُوا فَرِيقًا مِنْ َأ ْموَالِ النّاسِ بِالثْ ِم وَأَنْتُمْ‬


‫طلِ وَتُدْلُوا ِبهَا إِلَى الْ ُ‬
‫{ وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬
‫َتعَْلمُونَ (‪} )188‬‬
‫قال علي ابن أبي طلحة ‪ ،‬وعن ابن عباس ‪ :‬هذا في الرجل يكون عليه مال ‪ ،‬وليس عليه فيه بَيّنة‬
‫‪ ،‬فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ‪ ،‬وهو يعرف أن الحق عليه ‪ ،‬وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ‪.‬‬
‫وكذا روي عن مجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتَادة ‪ ،‬والسدّي ‪ ،‬ومقاتل بن‬
‫حَيّان ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا ‪ :‬ل تُخَاصمْ وأنت تعلمُ أنّك ظالم‪ .‬وقد ورد (‪)1‬‬
‫في الصحيحين عن أم سلمة ‪ :‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أل إنما أنا بَشَر ‪ ،‬وإنما‬
‫يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ‪ ،‬فمن قضيت له بحق‬
‫مسلم ‪ ،‬فإنما هي قطعة من نار ‪ ،‬فَلْيَحْم ْلهَا ‪ ،‬أو ليذَرْها" (‪ .)2‬فدلت هذه الية الكريمة ‪ ،‬وهذا‬
‫الحديث على أنّ حكم الحاكم ل يغير الشيء في نفس المر ‪ ،‬فل يُحلّ في نفس المر حرامًا هو‬
‫حرام ‪ ،‬ول يحرم حلل هو حلل ‪ ،‬وإنما هو يلزم (‪ )3‬في الظاهر ‪ ،‬فإن طابق في (‪ )4‬نفس‬
‫المر فذاك ‪ ،‬وإل فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ‬
‫حكّامِ لِتَ ْأكُلُوا فَرِيقًا } [أي ‪ :‬طائفة] (‪ { )5‬مِنْ َأ ْموَالِ النّاسِ بِالثْمِ‬
‫طلِ وَتُدْلُوا ِبهَا إِلَى الْ ُ‬
‫بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬
‫وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬تعلمون بطلن ما تدعونه وتروجون في كلمكم‪.‬‬
‫قال قتادة ‪ :‬اعلم ‪ -‬يا ابن آدم ‪ -‬أن قضاء القاضي ل ُيحِل لك حرامًا ‪ ،‬ول يُحقّ لك باطل وإنما‬
‫يقضي القاضي بنحو ما يرى (‪ )6‬ويشهد به الشهود ‪ ،‬والقاضي َبشَر يخطئ ويصيب ‪ ،‬واعلموا‬
‫أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَ ْنقَض حتى يجمع ال بينهما يوم القيامة ‪ ،‬فيقضي على‬
‫المبطل للمحق بأجو َد مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬حكم الحاكم بطلق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس المر ‪ ،‬ولكنهما‬
‫عدلن عنده يحلها للزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلقها منه ‪ ،‬وقالوا‬
‫‪ :‬هذا كلعان المرأة ‪ ،‬إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه ‪ ،‬وإن كانت كاذبة في نفس المر ‪ ،‬ولو‬
‫علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى‪.‬‬
‫مسألة ‪ :‬قال القرطبي ‪ :‬أجمع أهل السنة على أن من أكل مال حرامًا ولو ما يصدق عليه اسم‬
‫المال أنه يفسق ‪ ،‬وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة ‪ :‬ل يفسق إل بأكل مائتى درهم‬
‫فما زاد ‪ ،‬ول يفسق بما دون ذلك ‪ ،‬وقال الجبائي ‪ :‬يفسق بأكل درهم فما فوقه إل بما دونه‪.‬‬
‫ظهُورِهَا وََلكِنّ‬
‫ج وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَ ّ‬
‫الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ (‪} )189‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وقد روي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )6967 ، 2458‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1713‬من حديث أم سلمة‬
‫رضي ال عنها‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬هو ملزم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ما في"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬على نحو ما ترى"‪.‬‬

‫( ‪)1/521‬‬

‫قال العوفي عن ابن عباس ‪ :‬سأل الناسُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم عن الهلة ‪ ،‬فنزلت هذه‬
‫حلّ دَيْنهم ‪ ،‬وعدّة‬
‫الية ‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ [وَالْحَجّ] (‪ } )1‬يعلمون بها ِ‬
‫حجّهم‪.‬‬
‫نسائهم ‪ ،‬ووقتَ َ‬
‫وقال أبو جعفر ‪ ،‬عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ :‬بلغنا أنّهم قالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬لم خُِلقَتْ‬
‫صوْم‬
‫جعََلهَا ال مواقيت ل َ‬
‫الهلة ؟ فأنزل ال { يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ } يقول ‪َ :‬‬
‫حلّ دَيْنهم‪.‬‬
‫المسلمين وإفطارهم ‪ ،‬وعدة نسائهم ‪ ،‬ومَ َ‬
‫وكذا رُوي عن عَطَاء ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن عبد العزيز بن أبي َروّاد ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬جعل ال الهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ‪ ،‬فإن غم‬
‫عليكم َفعُدّوا ثلثين يومًا"‪.‬‬
‫ورواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬من حديث ابن أبي رواد ‪ ،‬به (‪ .)2‬وقال ‪ :‬كان ثقة عابدًا مجتهدًا‬
‫شريف النسب ‪ ،‬فهو صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وقال محمد بن جابر ‪ ،‬عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"جعل ال الهلّة ‪ ،‬فإذا رأيتم الهلل فصُوموا ‪ ،‬وإذا رأيتموه فأفطروا ‪ ،‬فإن أغْمي عليكم فأكملوا‬
‫العدة ثلثين" (‪ .)3‬وكذا روي من حديث أبي هريرة ‪ ،‬ومن كلم عليّ بن أبي طالب ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنه (‪.)5( )4‬‬
‫ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا }‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا عبيد ال (‪ )6‬بن موسى ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء قال ‪:‬‬
‫كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أ َتوْا البيت من ظهره ‪ ،‬فأنزل ال { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ‬
‫ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا } (‪.)7‬‬
‫ُ‬
‫وكذا رواه أبو داود الطيالسي ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء ‪ ،‬قال ‪ :‬كانت النصار‬
‫سفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ‪ ،‬فنزلت هذه الية‪.‬‬
‫إذا قدموا من َ‬
‫حمْس ‪ ،‬وكانوا يدخلون من‬
‫وقال العمش ‪ ،‬عن أبي سفيان ‪ ،‬عن جابر ‪ :‬كانت قريش تدعى ال ُ‬
‫البواب في الحرام ‪ ،‬وكانت النصار وسائر العرب ل يدخلون من باب في الحرام ‪ ،‬فبينا‬
‫رسول ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬المستدرك (‪.)1/423‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد في المسند (‪ )4/23‬من طريق محمد بن جابر به‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عنهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )1909‬ومسلم في صحيحه برقم (‬
‫‪.)1081‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪.)4512‬‬

‫( ‪)1/522‬‬

‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ (‪ )190‬وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ‬


‫َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَلَا َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ‬
‫ل وَلَا ُتقَاتِلُوهُمْ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ ا ْلقَتْ ِ‬
‫غفُورٌ‬
‫حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ (‪ )191‬فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫رَحِيمٌ (‪َ )192‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا َتكُونَ فِتْنَ ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْ َت َهوْا فَلَا عُ ْدوَانَ إِلّا عَلَى الظّاِلمِينَ‬
‫(‪)193‬‬

‫صلى ال عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ‪ ،‬وخرج معه ُقطْبة بن عامر النصاري ‪ ،‬فقالوا‬
‫‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن قطبة ابن عامر رجل تاجر (‪ )1‬وإنه خرج معك من الباب‪ .‬فقال له ‪" :‬ما‬
‫ت كما فعلتَ‪ .‬فقال ‪" :‬إني [رجل] (‪ )2‬أحمس"‪.‬‬
‫حملك على ما صنعت ؟ " قال ‪ :‬رأيتك فعلتَه ففعل ُ‬
‫ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى‬
‫قال له ‪ :‬فإن ديني دينك‪ .‬فأنزل ال { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا } رواه ابن أبي حاتم‪ .‬ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه‪ .‬وكذا روي‬
‫عن مجاهد ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ :‬كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد‬
‫سفره الذي خرج له ‪ ،‬ثم بدا له َبعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ‪ ،‬لم يدخل البيت من بابه ‪ ،‬ولكن‬
‫ظهُورِهَا [وََلكِنّ‬
‫يتسوّره من قبل ظهره ‪ ،‬فقال (‪ )3‬ال تعالى ‪ { :‬وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى] (‪ } )4‬الية‪.‬‬
‫وقال محمد بن كعب ‪ :‬كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ‪ ،‬فأنزل ال هذه‬
‫الية‪.‬‬
‫وقال عطاء بن أبي رباح ‪ :‬كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها‬
‫ظهُورِهَا }‬
‫ويَ َروْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ‪ ،‬فقال ال تعالى ‪ { :‬وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } أي ‪ :‬اتقوا ال فافعلوا ما أمركم به ‪ ،‬واتركوا ما نهاكم عنه {‬
‫َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ‪ ،‬فيجزيكم (‪ )5‬بأعمالكم على التمام ‪ ،‬والكمال‪.‬‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ (‪ )190‬وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ‬
‫{ َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَل َتعْ َتدُوا إِنّ اللّهَ ل ُي ِ‬
‫ل وَل ُتقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ‬
‫َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ ا ْلقَتْ ِ‬
‫غفُورٌ‬
‫حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ (‪ )191‬فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫ع ْدوَانَ إِل عَلَى الظّاِلمِينَ‬
‫رَحِيمٌ (‪َ )192‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْ َت َهوْا فَل ُ‬
‫(‪} )193‬‬
‫قال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية في قوله تعالى ‪َ { :‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ‬
‫اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ } قال ‪ :‬هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ‪ ،‬فلما نزلت كان رسول ال‬
‫عمّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد‬
‫صلى ال عليه وسلم يقاتل من قاتله ‪ ،‬ويكف َ‬
‫جدْ ُتمُوهُمْ }‬
‫ث وَ َ‬
‫الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال ‪ :‬هذه منسوخة بقوله ‪ { :‬فَاقْتُلُوا ا ْل ُمشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫[التوبة ‪ ]5 :‬وفي هذا نظر ؛ لن قوله ‪ { :‬الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ } إنما هو َتهْييج وإغراء بالعداء الذين‬
‫همّتْهم قتال السلم وأهله ‪ ،‬أي ‪ :‬كما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬فاجر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فأنزل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬فيجازيكم"‪.‬‬

‫( ‪)1/523‬‬

‫يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ‪ ،‬كما قال ‪َ { :‬وقَاتِلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ كَافّةً َكمَا ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَافّةً } [التوبة ‪ ]36 :‬؛‬
‫ولهذا قال في هذه الية ‪ { :‬وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُمْ } أي ‪ :‬لتكن‬
‫همتكم منبعثة على قتالهم ‪ ،‬كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ‪ ،‬وعلى إخراجهم من بلدهم التي‬
‫أخرجوكم منها ‪ ،‬قصاصًا‪.‬‬
‫وقد حكى عن أبي بكر الصديق ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ‪،‬‬
‫{ ُأذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ظُِلمُوا } الية [الحج ‪ ]39 :‬وهو الشهر وبه ورد الحديث‪.‬‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ } أي ‪ :‬قاتلوا في سبيل ال ول تعتدوا في ذلك‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ ل يُ ِ‬
‫ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي ‪ -‬كما قاله الحسن البصري ‪ -‬من المَثُلة ‪ ،‬والغُلُول ‪ ،‬وقتل النساء‬
‫والصبيان والشيوخ الذين ل رأي لهم ول قتال فيهم ‪ ،‬والرهبان وأصحاب الصوامع ‪ ،‬وتحريق‬
‫الشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ‪ ،‬كما قال ذلك ابن عباس ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ومقاتل‬
‫بن حيان ‪ ،‬وغيرهم‪ .‬ولهذا جاء في صحيح مسلم ‪ ،‬عن بُرَيدة أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫كان يقول ‪" :‬اغزوا في سبيل ال ‪ ،‬قاتلوا من كفر بال ‪ ،‬اغزوا ول َتغُلّوا ‪ ،‬ول َتغْدروا ‪ ،‬ول‬
‫ُتمَثّلُوا ‪ ،‬ول تقتلوا وليدًا ‪ ،‬ول أصحاب الصوامع"‪ .‬رواه المام أحمد (‪.)1‬‬
‫وعن ابن عباس قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا َبعَث جيوشه قال ‪" :‬اخرجوا بسم‬
‫ال ‪ ،‬قاتلوا في سبيل ال من كفر بال ‪ ،‬ل تغدروا ول تغلوا ‪ ،‬ول ُتمَثلوا ‪ ،‬ول تقتلوا الولدان ول‬
‫أصحاب الصّوامع"‪ .‬رواه المام أحمد (‪.)2‬‬
‫ولبي داود ‪ ،‬عن أنس مرفوعًا ‪ ،‬نحوه (‪ .)3‬وفي الصحيحين عن ابن عمر قال ‪ :‬وجُدت امرأة‬
‫في بعض مغازي النبيّ صلى ال عليه وسلم مقتولة ‪ ،‬فأنكر رسولُ ال صلى ال عليه وسلم قتلَ‬
‫النساء والصبيان (‪.)4‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا مُصعب بن سَلم ‪ ،‬حدثنا الجلح ‪ ،‬عن قيس بن أبي مسلم ‪ ،‬عن رِبْعي‬
‫حذَيفة يقول ‪ :‬ضرب لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أمثال واحدًا ‪،‬‬
‫ابن حِرَاش ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت ُ‬
‫وثلثة ‪ ،‬وخمسة ‪ ،‬وسبعة ‪ ،‬وتسعة ‪ ،‬وأحدَ عشَرَ ‪ ،‬فضرب لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ضعْف ومسكنة ‪ ،‬قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ‪،‬‬
‫منها مثل وترك سائرَها ‪ ،‬قال ‪" :‬إن قومًا كانوا أهلَ َ‬
‫عدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا ال عليهم إلى‬
‫فأظهر ال أهل الضعف عليهم ‪ ،‬فعمدوا إلى َ‬
‫يوم يلقونه" (‪.)5‬‬
‫هذا حديث حَسَنُ السناد‪ .‬ومعناه ‪ :‬أن هؤلء الضعفاء لما قدروا على القوياء ‪ ،‬فاعتَدوا عليهم‬
‫واستعملوهم فيما ل يليق بهم ‪ ،‬أسخطوا ال عليهم بسبب (‪ )6‬هذا العتداء‪ .‬والحاديث والثار في‬
‫هذا كثيرة جدًا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪ )1731‬والمسند (‪.)5/352‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)1/300‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود برقم (‪.)2614‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪ )3015‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1744‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)5/407‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬لسبب"‪.‬‬

‫( ‪)1/524‬‬

‫ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ‪ ،‬نبّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون (‪ )1‬عليه‬
‫من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬مقيمون"‪.‬‬

‫( ‪)1/524‬‬

‫الكفر بال والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وَا ْلفِتْنَةُ‬
‫شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } قال أبو مالك ‪ :‬أي ‪ :‬ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل‪.‬‬
‫أَ َ‬
‫وقال أبو العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } يقول ‪ :‬الشرك أشد من القتل‪.‬‬
‫والربيع ابن أنس في قوله ‪ { :‬وَا ْلفِتْنَةُ أَ َ‬
‫جدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين ‪" :‬إن هذا البلد حرّمه ال‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل ُتقَاتِلُو ُهمْ عِنْدَ ا ْل َمسْ ِ‬
‫يوم خلق السموات والرض ‪ ،‬فهو حرام بحرمة ال إلى يوم القيامة ‪ ،‬ولم يحل لي إل ساعة من‬
‫نهار ‪ ،‬وإنها ساعتي هذه ‪ ،‬حَرَام بحرمة ال إلى يوم القيامة ‪ ،‬ل ُي ْعضَد شجره ‪ ،‬ول ُيخْتَلى خَله‪.‬‬
‫فإن أحد ترخص بقتال رسول ال صلى ال عليه وسلم فقولوا ‪ :‬إن ال أذن لرسوله ولم يأذن لكم"‬
‫(‪.)1‬‬
‫يعني بذلك ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليه ‪ -‬قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ‪ ،‬فإنه فتحها عنوة ‪ ،‬وقتلت‬
‫رجال منهم عند الخَنْدمَة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬صلحًا ؛ لقوله ‪ :‬من أغلق بابه فهو آمن ‪ ،‬ومن دخل المسجد‬
‫فهو آمن ‪ ،‬ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪.‬‬
‫[وقد حكى القرطبي ‪ :‬أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ‪ .‬قال قتادة ‪ :‬نسخها قوله ‪:‬‬
‫خذُوهُمْ } [التوبة ‪ .]5 :‬قال مقاتل‬
‫جدْ ُتمُوهُ ْم وَ ُ‬
‫ث وَ َ‬
‫شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫{ فَِإذَا انْسَلَخَ ال ْ‬
‫جدْ ُتمُوهُمْ } وفي هذا‬
‫ث وَ َ‬
‫شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬
‫بن حيان ‪ :‬نسخها قوله ‪ { :‬فَِإذَا انْسَلَخَ ال ْ‬
‫نظر] (‪.)2‬‬
‫وقوله ‪ { :‬حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ } يقول تعالى ‪ :‬ل تقاتلوهم‬
‫عند المسجد الحرام إل أن يَ ْبدَؤوكم بالقتال فيه ‪ ،‬فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال (‪ )3‬كما‬
‫بايع النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ‪َ ،‬لمّا تألبت عليه‬
‫بطونُ قريش ومن والهم من أحياء ثقيف والحابيش عامئذ ‪ ،‬ثم كف ال القتال بينهم فقال ‪:‬‬
‫ظفَرَكُمْ عَلَ ْيهِمْ } [الفتح ‪:‬‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَ ْيدِ َيهُمْ عَ ْنكُمْ وَأَيْدِ َيكُمْ عَ ْنهُمْ بِبَطْنِ َمكّةَ مِنْ َب ْعدِ أَنْ َأ ْ‬
‫ن وَنِسَاءٌ ُمؤْمِنَاتٌ لَمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ تَطَئُو ُهمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ‬
‫‪ ، ، ]24‬وقال ‪ { :‬وََلوْل رِجَالٌ ُم ْؤمِنُو َ‬
‫حمَتِهِ مَنْ َيشَاءُ َلوْ تَزَيّلُوا َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْن ُهمْ عَذَابًا َألِيمًا }‬
‫خلَ اللّهُ فِي َر ْ‬
‫علْمٍ لِ ُيدْ ِ‬
‫َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ ِ‬
‫[الفتح ‪.]25 :‬‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ } أي ‪ :‬فإن تَركُوا القتال في الحرم ‪ ،‬وأنابوا إلى‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫السلم والتوبة ‪ ،‬فإن ال [غفور رحيم] (‪ )4‬يغفر ذنوبهم ‪ ،‬ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم‬
‫ن يغفره لمن تاب منْه إليه‪.‬‬
‫ظمُه ذَنْب أ ْ‬
‫ال ‪ ،‬فإنه تعالى ل يتعا َ‬
‫ثم أمر تعالى بقتال الكفّار ‪ { :‬حَتّى ل َتكُونَ فِتْ َنةٌ } أي ‪ :‬شرك‪ .‬قاله ابن عباس ‪ ،‬وأبو العالية ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والسّدي ‪ ،‬وزيد بن أسلم‪.‬‬
‫{ وَ َيكُونَ الدّينُ ِللّهِ } أي ‪ :‬يكونَ دينُ ال هو الظاهر [العالي] (‪ )5‬على سائر الديان ‪ ،‬كما ثبت‬
‫في الصحيحين ‪ :‬عن أبي موسى الشعري ‪ ،‬قال ‪ :‬سُئِل النبي (‪ )6‬صلى ال عليه وسلم عن‬
‫الرجل يُقاتل شجاعة ‪ ،‬ويقاتل حَميّة ‪ ،‬ويقاتل رياء ‪ ،‬أيّ ذلك في سبيل ال ؟ فقال ‪" :‬من قاتل‬
‫لتكون كلمة ال هي العليا فهو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )1834‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1353‬من حديث ابن عباس رضي ال‬
‫عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬للقتال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" : ،‬سئل رسول ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/525‬‬

‫شهْرِ ا ْلحَرَا ِم وَا ْلحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى‬
‫شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ‬
‫ال ّ‬
‫عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ (‪)194‬‬

‫في سبيل ال" (‪ .)1‬وفي الصحيحين ‪" :‬أم ْرتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا ‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬فإذا‬
‫قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها ‪ ،‬وحسابهم على ال" (‪ )2‬وقوله ‪ { :‬فَإِنِ انْ َت َهوْا فَل‬
‫عُ ْدوَانَ إِل عَلَى الظّاِلمِينَ } يقول ‪ :‬فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ‪ ،‬وقتال المؤمنين ‪ ،‬ف ُكفّوا‬
‫عنهم ‪ ،‬فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ‪ ،‬ول عُدوانَ إل على الظالمين ‪ ،‬وهذا معنى قول مجاهد‬
‫خّلصُوا من الظلم ‪ ،‬وهو الشرك‪ .‬فل‬
‫‪ :‬ل ُيقَاتَلُ إل من قاتل‪ .‬أو يكون تقديره ؛ فإن انتهوا فقد تَ َ‬
‫عدوان عليهم بعد ذلك ‪ ،‬والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة ‪ ،‬كقوله ‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ‬
‫فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ } وقوله ‪ { :‬وَجَزَاءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ مِثُْلهَا } [الشورى ‪، ]40 :‬‬
‫{ وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل ‪ .]126 :‬ولهذا قال عكرمة وقتادة ‪ :‬الظالم ‪:‬‬
‫الذي أبى أن يقول ‪ :‬ل إله إل ال‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬قوله ‪َ { :‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ [وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ] (‪ } )3‬الية ‪ :‬حدثنا محمد‬
‫بن بشار ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب ‪ ،‬حدثنا عُبَيد ال ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬أتاه رجلن في‬
‫فتنة ابن الزبير فقال (‪ : )4‬إن الناس صنعوا (‪ )5‬وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال ‪ :‬يمنعني أن ال حرم دم أخي‪ .‬قال ألم يقل ال ‪َ { :‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّى‬
‫ل َتكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال ‪ :‬قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين ل ‪ ،‬وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى‬
‫تكون فتنة ويكون الدين لغير ال‪ .‬زاد عثمان ابن صالح (‪ )6‬عن ابن وهب قال ‪ :‬أخبرني فلن‬
‫وحيوة بن شريح ‪ ،‬عن بكر بن عمرو المعافري (‪ )7‬أن ُبكَير بن عبد ال حدثه ‪ ،‬عن نافع ‪ :‬أن‬
‫رجل أتى ابن عمر فقال [له] (‪ )8‬يا أبا عبد الرحمن ‪ ،‬ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر (‪)9‬‬
‫عامًا ‪ ،‬وتترك الجهاد في سبيل ال ‪ ،‬وقد علمت ما رغب ال فيه ؟ فقال ‪ :‬يا ابن أخي ‪ ،‬بُني‬
‫السلم على خمس ‪ :‬اليمان بال ورسوله ‪ ،‬والصلوات الخمس ‪ ،‬وصيام رمضان ‪ ،‬وأداء‬
‫الزكاة ‪ ،‬وحج البيت‪ .‬قال ‪ :‬يا أبا عبد الرحمن ‪ ،‬أل تسمع ما ذكر ال في كتابه ‪ { :‬وَإِنْ طَا ِئفَتَانِ‬
‫علَى الخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا َ‬
‫إِلَى َأمْرِ اللّهِ } [الحجرات ‪َ { ، ]9 :‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ } قال ‪ :‬فعلنا على عهد النبي (‬
‫‪ )10‬صلى ال عليه وسلم وكان السلم قليل وكان الرجل يفتن في دينه ‪ :‬إما قتلوه أو عذبوه (‬
‫‪ )11‬حتى كثر السلم فلم تكن فتنة ‪ ،‬قال ‪ :‬فما قولك في علي وعثمان ؟ قال ‪ :‬أما عثمان فكان‬
‫ال عفا عنه ‪ ،‬وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا (‪ )12‬عنه ‪ ،‬وأما علي فابن عم رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وختنه ‪ ،‬وأشار بيده فقال ‪ :‬هذا بيته حيث ترون (‪.)13‬‬
‫شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَى‬
‫شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ‬
‫{ ال ّ‬
‫عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ (‪} )194‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )3126 ، 2810‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1904‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )25‬وصحيح مسلم برقم (‪ )22‬من حديث عبد ال بن عمرو رضي‬
‫ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬فقالوا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في و ‪" :‬ضيعوا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬عثمان بن أبي صالح"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬المغافري"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬وتقيم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أو يعذبوه"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬يعفو"‪.‬‬
‫(‪ )13‬صحيح البخاري برقم (‪.)4515 - 4513‬‬

‫( ‪)1/526‬‬

‫قال عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬و ِمقْسَم ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وعطاء‬
‫وغيرهم ‪ :‬لما سار رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ُمعْ َتمِرًا في سنة ست من الهجرة ‪ ،‬وحَبَسَه‬
‫المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ‪ ،‬وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة ‪،‬‬
‫وهو شهر حرام ‪ ،‬حتى قاضاهم على الدخول من قابل ‪ ،‬فدخلها في السنة التية ‪ ،‬هو ومن كان‬
‫شهْرِ‬
‫شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ‬
‫[معه] (‪ )1‬من المسلمين ‪ ،‬وأقَصه ال منهم ‪ ،‬فنزلت في ذلك هذه الية ‪ { :‬ال ّ‬
‫الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ }‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن عيسى ‪ ،‬حدثنا ليث بن سعد ‪ ،‬عن أبي الزبير ‪ ،‬عن جابر بن‬
‫عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬لم يكن رسولُ ال صلى ال عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إل أن ُيغْزى‬
‫و ُيغْزَوا (‪ )2‬فإذا حضره أقام حتى ينسلخ (‪.)3‬‬
‫هذا إسناد صحيح ؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وهو مُخَيّم بالحديبية ‪ -‬أن عثمان‬
‫قد قتل ‪ -‬وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين ‪ -‬بايع أصحابه ‪ ،‬وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ‬
‫الشجرة على قتال المشركين ‪ ،‬فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك ‪ ،‬وجنح إلى المسالمة‬
‫والمصالحة ‪ ،‬فكان ما كان‪.‬‬
‫عدَل إليها ‪ ،‬فحاصَرَها ودخل‬
‫حصّن فَلّهم بالطائف ‪َ ،‬‬
‫وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَ َ‬
‫ذو ال َقعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ‪ ،‬واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا ‪ ،‬كما ثبت في‬
‫الصحيحين عن أنس (‪ .)4‬فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم ُتفْتَحْ ‪ ،‬ثم كر راجعًا إلى‬
‫عمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام‬
‫مكة واعتمر من الجعرانه ‪ ،‬حيث قسم غنائم حُنين‪ .‬وكانت ُ‬
‫ثمان ‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَ ْيهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَى عَلَ ْيكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين‬
‫‪ :‬كما قال ‪ { :‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل ‪ .]126 :‬وقال ‪ { :‬وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ‬
‫سَيّئَةٌ مِثُْلهَا } [الشورى ‪.]40 :‬‬
‫علَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا‬
‫وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله ‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَى عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُوا َ‬
‫اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ } نزلت بمكة حيث ل شوكة ول جهَاد ‪ ،‬ثم نسخ بآية الجهاد (‪ )5‬بالمدينة‪ .‬وقد َردّ‬
‫عمْرة القَضيّة ‪ ،‬وعزا ذلك إلى مجاهد‬
‫هذا القول ابنُ جرير ‪ ،‬وقال ‪ :‬بل [هذه] (‪ )6‬الية مدنية بعد ُ‬
‫‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وقد أطلق هاهنا العتداء على القتصاص ‪ ،‬من باب المقابلة ‪ ،‬كما قال عمرو بن أم كلثوم ‪:‬‬
‫أل ل يجهلن أحدٌ علينا‪ ...‬فنجهل فوق جهل الجاهلينا‪...‬‬
‫وقال ابن دريد ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬إل يغزوا الغزو" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬إل أن يقر ويقروا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)3/345‬‬
‫(‪ )4‬الحديث بهذا المعنى في صحيح مسلم برقم (‪.)1059‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بآية القتال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/527‬‬

‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ (‪)195‬‬


‫وَأَنْ ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَا تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ‬

‫لي استواء إن موالى استوا‪ ...‬لي التواء إن تعادى التوا‪...‬‬


‫وقال غيره ‪:‬‬
‫ولي فرس للحلم بالحلم ملجم‪ ...‬ولي فرس للجهل بالجهل مسرج‪...‬‬
‫ومن رام تقويمي فإني مقوم‪ ...‬ومن رام تعويجي فإني معوج‪...‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } أمْرٌ لهم بطاعة ال وتقواه ‪ ،‬وإخبارٌ بأنه تعالى‬
‫مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ (‪} )195‬‬
‫{ وَأَ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬أخبرنا النضر ‪ ،‬أخبرنا شعبة عن سليمان قال ‪ :‬سمعت أبا وائل ‪،‬‬
‫عن حذيفة ‪ { :‬وَأَ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَل تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } قال ‪ :‬نزلت في النفقة (‪.)1‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن الحسن بن محمد بن الصباح ‪ ،‬عن أبي معاوية عن العمش ‪ ،‬به مثله‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وروي عن ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال الليث بن سعد ‪ ،‬عن يزيد بن أبي حبيب ‪ ،‬عن أسلم أبي عمران قال ‪ :‬حمل رجل من‬
‫المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه ‪ ،‬ومعنا أبو أيوب النصاري ‪ ،‬فقال ناس ‪:‬‬
‫ألقى بيده إلى التهلكة‪ .‬فقال أبو أيوب ‪ :‬نحن أعلم بهذه الية إنما نزلت فينا ‪ ،‬صحبنا رسول ال‬
‫شهِدنا معه المشاهد ونصرناه ‪ ،‬فلما فشا السلم وظهر ‪ ،‬اجتمعنا معشر‬
‫صلى ال عليه وسلم و َ‬
‫النصار َنجِيَا ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬قد أكرمنا ال بصحبة نبيه صلى ال عليه وسلم و َنصْرِه ‪ ،‬حتى فشا السلم‬
‫وكثر أهلُه ‪ ،‬وكنا قد آثرناه على الهلين والموال والولد ‪ ،‬وقد وضعت الحرب أوزارها ‪،‬‬
‫فنرجع إلى أهلينا وأولدنا فنقيم فيهما‪ .‬فنزل (‪ )2‬فينا ‪ { :‬وَأَ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ‬
‫إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } فكانت التهلكة [في] (‪ )3‬القامة في الهل والمال وترك الجهاد‪.‬‬
‫حمَيد في تفسيره ‪ ،‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن جرير‬
‫رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وعَ ْبدُ بن ُ‬
‫(‪ )4‬وابن مَرْدُويه ‪ ،‬والحافظ أبو يعلى في مسنده ‪ ،‬وابن حبان في صحيحه ‪ ،‬والحاكم في‬
‫مستدركه ‪ ،‬كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب ‪ ،‬به (‪.)5‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح غريب‪ .‬وقال الحاكم ‪ :‬على شرط الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه‪ .‬ولفظ‬
‫أبي داود عن أسلم أبي عمران ‪ :‬كنا (‪ )6‬بالقسطنطينية ‪ -‬وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ؛‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4516‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فنقيم فيهم فنزلت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وابن جرير وابن أبي حاتم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن أبي داود برقم (‪ )2512‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2972‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪ )11029‬وتفسير الطبري (‪ )3/590‬وصحيح ابن حبان برقم (‪" )1667‬موارد" والمستدرك (‬
‫‪.)2/275‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬إنا كنا"‪.‬‬

‫( ‪)1/528‬‬

‫وعلى أهل الشام رجل ‪ ،‬يريد بن َفضَالة بن عُبَيد ‪ -‬فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم ‪،‬‬
‫حمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ‪ :‬ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه‬
‫فصففنا لهم ف َ‬
‫فقالوا ‪ :‬سبحان ال ‪ ،‬ألقى بيده إلى التهلكة‪ .‬فقال أبو أيوب ‪ :‬يا أيها الناس ‪ ،‬إنكم لتتأولون هذه‬
‫الية على غير التأويل ‪ ،‬وإنما نزلت فينا معشر النصار ‪ ،‬وإنا لما أعز ال دينه ‪ ،‬وكثر ناصروه‬
‫قلنا فيما بيننا ‪ :‬لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها‪ .‬فأنزل ال هذه الية‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن عياش ‪ ،‬عن أبي إسحاق السّبِيعي قال ‪ :‬قال رجل للبراء بن عازب ‪ :‬إن حملتُ‬
‫على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة ؟ قال ‪ :‬ل قال ال لرسوله ‪َ { :‬فقَا ِتلْ فِي‬
‫سكَ } [النساء ‪ ، ]84 :‬إنما هذا في النفقة‪ .‬رواه ابن مردويه وأخرجه‬
‫سَبِيلِ اللّهِ ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ‬
‫الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬به‪ .‬وقال ‪ :‬صحيح على شرط‬
‫الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪ .)1‬ورواه الثوري ‪ ،‬وقيس بن الربيع ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن البراء ‪-‬‬
‫سكَ } ولكن التهلكة أن يُذْ ِنبَ الرجلُ الذنبَ ‪ ،‬فيلقي بيده‬
‫فذكره‪ .‬وقال بعد قوله ‪ { :‬ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ‬
‫إلى التهلكة ول يتوب‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو صالح ‪ -‬كاتب الليث ‪ -‬حدثني الليث ‪ ،‬حدثنا عبد‬
‫الرحمن بن خالد بن مسافر ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام‬
‫‪ :‬أن عبد الرحمن بن السود بن عبد يغوث أخبره ‪ :‬أنهم حاصروا دمشق ‪ ،‬فانطلق رجل من أزد‬
‫عمْرو بن‬
‫شنوءة ‪ ،‬فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ‪ ،‬فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى َ‬
‫العاص ‪ ،‬فأرسل إليه عمرو فَرَدّه ‪ ،‬وقال عمرو ‪ :‬قال ال ‪ { :‬وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ }‬
‫وقال عطاء بن السائب (‪ )2‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬وَأَ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫وَل تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } ليس (‪ )3‬ذلك في القتال ‪ ،‬إنما هو في النفقة أن ُتمْسكَ بيدك عن‬
‫النفقة في سبيل ال‪ .‬ول تلق بيدك إلى التهلكة‪.‬‬
‫وقال حماد بن سلمة ‪ ،‬عن داود ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة (‪ )4‬قال ‪ :‬كانت‬
‫النصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ‪ ،‬فأصابتهم سَنَة ‪ ،‬فأمسكوا عن النفقة في سبيل ال فنزلت‬
‫‪ { :‬وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ }‬
‫وقال الحسن البصري ‪ { :‬وَل تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } قال ‪ :‬هو البخل‪.‬‬
‫سمَاك بن حرب ‪ ،‬عن النعمان بن بشير في قوله ‪ { :‬وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } أن يذنب‬
‫وقال ِ‬
‫الرجل الذنب ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ل يغفر لي ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَ ِة وََأحْسِنُوا إِنّ اللّهَ‬
‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ } رواه ابن مَرْدويه‪.‬‬
‫يُ ِ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬ورُويَ عن عُبيدَة السلماني ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬وأبي قلبة ‪ -‬نحو‬
‫ذلك‪ .‬يعني ‪ :‬نح ُو قول النعمان بن بشير ‪ :‬إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه ل يغفر له ‪،‬‬
‫فيلقي بيده إلى التهلكة ‪ ،‬أي ‪ :‬يستكثر من الذنوب فيهلك‪ .‬ولهذا َروَى علي بن أبي طلحة عن ابن‬
‫عباس ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المستدرك (‪.)2/275‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬عطاء بن أبي السائب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وليس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬بن أبي صبرة"‪.‬‬

‫( ‪)1/529‬‬

‫سكُمْ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلهَ ْديُ‬


‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ وَلَا َتحِْلقُوا ُرءُو َ‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ فَإِنْ ُأ ْ‬
‫وَأَ ِتمّوا ا ْلحَ ّ‬
‫سكٍ فَإِذَا َأمِنْ ُتمْ َفمَنْ‬
‫ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َدقَةٍ َأوْ ُن ُ‬
‫مَحِلّهُ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ ِبهِ أَذًى مِنْ َرأْسِهِ َففِدْ َيةٌ مِ ْ‬
‫ج وَسَ ْب َعةٍ إِذَا‬
‫َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ َفمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَ ّ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ وَاتّقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫جعْتُمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬
‫رَ َ‬
‫شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (‪)196‬‬

‫التهلكة ‪ :‬عذاب ال‪.‬‬


‫وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا ‪ :‬حدثنا يونس ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني أبو صخر ‪ ،‬عن‬
‫القُرَظي ‪ :‬أنه كان يقول في هذه الية ‪ { :‬وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } قال ‪ :‬كان القوم في سبيل‬
‫ال ‪ ،‬فيتزود الرجل‪ .‬فكان أفضل زادًا من الخر ‪ ،‬أنفق البائس (‪ )1‬من زاده ‪ ،‬حتى ل يبقى من‬
‫زاده شيء ‪ ،‬أحب أن يواسي صاحبه ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَأَنْ ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَل تُ ْلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى‬
‫ال ّتهُْلكَةِ } (‪.)2‬‬
‫وقال (‪ )3‬ابن وهب أيضًا ‪ :‬أخبرني عبد ال بن عياش (‪ )4‬عن زيد بن أسلم في قول ال ‪:‬‬
‫{ وَأَ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } وذلك أنّ رجال كانوا يخرجون في بعوث‬
‫يبعثها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بغير نفقة ‪ ،‬فإما ُيقْطَعُ بهم ‪ ،‬وإما كانوا عيال فأمرهم ال‬
‫أن يستنفقوا مما رزقهم ال ‪ ،‬ول يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ‪ ،‬والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }‬
‫العطش أو من المشي‪ .‬وقال لمن بيده فضل ‪ { :‬وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫ومضمون الية ‪ :‬المرُ بالنفاق في سبيل ال في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات ‪ ،‬وخاصّة‬
‫ف الموال في قتال العداء وبذلهَا فيما َي ْقوَى به المسلمون على عدوهم ‪ ،‬والخبار عن‬
‫(‪ )5‬صر َ‬
‫ترك فعل ذلك بأنه هلك ودمار إن (‪ )6‬لزمه واعتاده‪ .‬ثم عطف بالمر بالحسان ‪ ،‬وهو أعلى‬
‫حسِنِينَ }‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫مقامات الطاعة ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫سكُمْ حَتّى يَبْلُغَ‬
‫ي وَل تَحِْلقُوا رُءُو َ‬
‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْد ِ‬
‫{ وَأَ ِتمّوا الْحَجّ وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ فَإِنْ ُأ ْ‬
‫سكٍ فَِإذَا‬
‫ص َدقَةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫ن صِيَامٍ َأوْ َ‬
‫سهِ َففِدْيَةٌ مِ ْ‬
‫حلّهُ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ بِهِ َأذًى مِنْ رَأْ ِ‬
‫ا ْلهَ ْديُ مَ ِ‬
‫جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَجّ‬
‫َأمِنْتُمْ َفمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى ا ْلحَجّ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ وَاتّقُوا اللّهَ‬
‫جعْ ُتمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ ذَِلكَ ِلمَنْ َلمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬
‫وَسَ ْبعَةٍ ِإذَا رَ َ‬
‫وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (‪} )196‬‬
‫جهَاد ‪ ،‬ش َرعَ في بيان المناسك ‪ ،‬فأمرَ بإتمام الحجّ‬
‫طفَ بذكر ال ِ‬
‫عَ‬‫لما ذكر تعالى أحكام الصيام و َ‬
‫وال ُعمْرة ‪ ،‬وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما (‪ )7‬؛ ولهذا قال بعده ‪ { :‬فَإِنْ‬
‫صدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما‪ .‬ولهذا اتفق العلماء على أن‬
‫حصِرْتُمْ } أي ‪ُ :‬‬
‫أُ ْ‬
‫الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ ‪ ،‬سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ‪ ،‬كما هما قولن‬
‫للعلماء‪ .‬وقد ذكرناهما‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و ‪" :‬أنفقوا الباقين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)3/584‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬وبه قال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬بن عباس"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وحاصله"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬كمن" ‪ ،‬وفي ط ‪ ،‬أ ‪" :‬لمن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬فيها"‪.‬‬

‫( ‪)1/530‬‬

‫بدلئلهما في كتابنا "الحكام" مستقصى (‪ )1‬ول الحمد والمنة‪.‬‬


‫وقال شعبة ‪ ،‬عن عمرو بن مُرّة ‪ ،‬عن عبد ال بن سَلَمة ‪ ،‬عن علي ‪ :‬أنه قال في هذه الية ‪:‬‬
‫{ وَأَ ِتمّوا الْحَجّ وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } قال ‪ :‬أن تُحْرِم من ُدوَيرة أهلك‪.‬‬
‫وكذا قال ابن عباس ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وطاوس‪ .‬وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الية ‪:‬‬
‫إتمامهما (‪ )2‬أن تحرم من أهلك ‪ ،‬ل تريد إل الحج والعمرة ‪ ،‬و ُت ِهلّ من الميقات ليس أن تخرج‬
‫لتجارة ول لحاجة ‪ ،‬حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت ‪ :‬لو حججت أو اعتمرت ‪ ،‬وذلك يجزئ ‪،‬‬
‫ولكن التمام أن تخرج له ‪ ،‬ول تخرج لغيره‪.‬‬
‫وقال مكحول ‪ :‬إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر عن الزهري قال ‪ :‬بلغنا أنّ عمر قال في قول ال (‪: )3‬‬
‫ل واحد منهما من الخر ‪ ،‬وأن‬
‫{ وَأَ ِتمّوا الْحَجّ وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } [قال] (‪ : )4‬من تمامهما أن ُتفْرد ُك ّ‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ }‪.‬‬
‫تعتمر في غير أشهر الحج ؛ إن ال تعالى يقول ‪ { :‬الْحَجّ َأ ْ‬
‫وقال ُهشَيْم عن ابن عون قال ‪ :‬سمعت القاسم بن محمد يقول ‪ :‬إن العمرة في أشهر الحج ليست‬
‫بتامة (‪ )5‬فقيل له ‪ :‬العمرة في المحرم ؟ قال ‪ :‬كانوا يرونها تامة‪ .‬وكذا روي عن قتادة بن دعامة‬
‫‪ ،‬رحمهما ال‪.‬‬
‫عمَ ٍر كلها في‬
‫وهذا القول فيه نظر ؛ لنه قد ثبت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم اعتمر أربع ُ‬
‫ذي القعدة ‪ :‬عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ‪ ،‬وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ‪،‬‬
‫وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان ‪ ،‬وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة‬
‫عمْرة في رمضان‬
‫سنة عشر ‪ ،‬ول اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته ‪ ،‬ولكن قال لم هانئ (‪ُ " )6‬‬
‫تعدل حجة معي" (‪ .)7‬وما ذاك إل لنها [كانت] (‪ )8‬قد عزمت على الحج معه ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫فاعتا َقتْ عن ذلك بسبب الطهر ‪ ،‬كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ‪ ،‬و َنصّ سعيد بن جبير‬
‫على أنه من خصائصها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } أي ‪ :‬أقيموا الحج والعمرة‪ .‬وقال علي بن أبي‬
‫وقال السدي في قوله ‪ { :‬وَأَ ِتمّوا ا ْلحَ ّ‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } يقول ‪ :‬من أحرم بالحج أو‬
‫طلحة (‪ )9‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬وَأَ ِتمّوا الْحَ ّ‬
‫بالعمرة (‪ )10‬فليس له أن يحل حتى يتمهما ‪ ،‬تمام الحج يوم النحر ‪ ،‬إذا رمى جمرة العقبة ‪،‬‬
‫وطاف (‪ )11‬بالبيت ‪ ،‬وبالصفا ‪ ،‬والمروة ‪ ،‬فقد حل‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ ،‬عن زُرَارة ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬الحج عرفة ‪ ،‬والعمرة الطواف‪ .‬وكذا روى‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } قال ‪ :‬هي [في] (‪)12‬‬
‫العمش ‪ ،‬عن إبراهيم عن علقمة في قوله ‪ { :‬وَأَ ِتمّوا ا ْلحَ ّ‬
‫قراءة عبد ال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬المستقصى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬تمامهما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬في قوله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬تامة" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬بتمامها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬ولكن قال لتلك المرأة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬كذا وقع هنا أم هانئ وهو وهم ‪ ،‬والصواب ‪ :‬أم سنان ‪ ،‬والحديث في صحيح البخاري برقم (‬
‫‪.)1863‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬ابن أبي صالح"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬بحج أو عمرة"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و ‪" :‬وزار"‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/531‬‬

‫"وأقيموا (‪ )1‬الحج والعمرة إلى البيت" ل تُجاوز بالعمرة البيت‪ .‬قال إبراهيم ‪ :‬فذكرت ذلك لسعيد‬
‫ابن جبير ‪ ،‬فقال ‪ :‬كذلك قال ابن عباس‪.‬‬
‫وقال سفيان عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة أنه قال ‪" :‬وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت"‬
‫وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم أنه قرأ ‪" :‬وأقيموا الحج‬
‫والعمرة إلى البيت"‪.‬‬
‫وقرأ الشعبي ‪" :‬وأتموا (‪ )2‬الحج والعمرةُ ل" برفع العمرة ‪ ،‬وقال ‪ :‬ليست بواجبة‪ .‬وروي عنه‬
‫خلف ذلك‪.‬‬
‫وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ‪ ،‬عن أنس وجماعة من الصحابة ‪ :‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ‪ ،‬وثبت عنه في الصحيح أنه قال لصحابه ‪:‬‬
‫"من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة" (‪.)3‬‬
‫وقال في الصحيح أيضًا ‪" :‬دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"‪.‬‬
‫وقد روى المام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الية حديثًا غريبًا فقال ‪ :‬حدثنا علي‬
‫ط ْهمَان ‪ ،‬عن‬
‫بن الحسين ‪ ،‬حدثنا أبو عبد ال الهروي ‪ ،‬حدثنا غسان الهروي ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن َ‬
‫عطاء ‪ ،‬عن صفوان بن أمية أنه قال ‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم متضمخ‬
‫بالزعفران ‪ ،‬عليه جبة ‪ ،‬فقال ‪ :‬كيف تأمرنى يا رسول ال في عمرتي ؟ قال ‪ :‬فأنزل ال ‪:‬‬
‫{ وَأَ ِتمّوا الْحَجّ وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أين السائل عن ال ُعمْرة ؟ "‬
‫فقال ‪ :‬ها أنا ذا‪ .‬فقال له ‪" :‬ألق عنك ثيابك ‪ ،‬ثم اغتسل ‪ ،‬واستنشق ما استطعت ‪ ،‬ثم ما كنت‬
‫صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك" (‪ )4‬هذا حديث غريب وسياق عجيب ‪ ،‬والذي ورد في‬
‫الصحيحين ‪ ،‬عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫بالجعرانة فقال ‪ :‬كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق ؟ فسكت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم جاءه الوحي ‪ ،‬ثم رفع رأسه فقال ‪" :‬أين السائل ؟ " فقال ‪ :‬ها أنا ذا ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫"أما الجبة فانزعها ‪ ،‬وأما الطيب الذي بك فاغسله ‪ ،‬ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في‬
‫عمْرتك" (‪ .)5‬ولم يذكر فيه الغسل والستنشاق (‪ )6‬ول ذكر نزول الية (‪ ، )7‬وهو عن يعلى بن‬
‫ُ‬
‫أمية ‪ ،‬ل [عن] (‪ )8‬صفوان بن أمية ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } ذكروا أنّ هذه الية نزلت في سنة ست ‪ ،‬أيْ عام‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ ُأ ْ‬
‫الحديبية ‪ ،‬حين حال المشركون بين رسُول ال صلى ال عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ‪،‬‬
‫خصَةً ‪ :‬أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان‬
‫وأنزل ال في ذلك سورةَ الفتح بكمالها ‪ ،‬وأنزل لهم ُر ْ‬
‫سبعين بدنة ‪ ،‬وأن يَتَحَللوا من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وأتموا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وأقيموا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ )1236‬من حديث أسماء رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪ )1218‬من حديث جابر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬ورواه ابن عبد البر في التمهيد (‪ )2/251‬من طريق محمد بن سابق ‪ ،‬عن إبراهيم بن طهمان‬
‫‪ ،‬عن أبي الزبير ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن صفوان بن أمية به‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ول الستنشاق"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬نزول الحق"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/532‬‬
‫إحرامهم ‪ ،‬فعند ذلك أمرهم عليه السلم بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا‪ .‬فلم يفعلوا انتظارا للنسخ‬
‫حتى خرج فحلق رأسه ‪ ،‬ففعل الناس وكان منهم من َقصّر رأسه ولم يحلقه ‪ ،‬فلذلك قال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬رَحِم ال ال ُمحَلّقين"‪ .‬قالوا ‪ :‬والمقصرين يا رسول ال ؟ فقال في الثالثة ‪:‬‬
‫"والمقصرين" (‪ .)1‬وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك ‪ُ ،‬كلّ سبعة في َبدَنة ‪ ،‬وكانوا ألفًا‬
‫وأربعمائة ‪ ،‬وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل كانوا على طَرف الحرم ‪ ،‬فال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ‪ ،‬فل يتحلل إل من حصره عَدُو ‪ ،‬ل مرض ول‬
‫غيره ؟ على قولين ‪:‬‬
‫فقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقري ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عَنْ عمرو بن دينار‬
‫‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وابن أبي نَجِيح [ومجاهد] (‪ )2‬عن‬
‫حصْرَ إل حصرُ العدو ‪ ،‬فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلل فليس‬
‫ابن عباس ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬ل َ‬
‫عليه شيء ‪ ،‬إنما قال ال تعالى ‪ { :‬فَإِذَا َأمِنْتُمْ } فليس المن حصرًا‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وروي عن ابن عمر ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أن الحصر أعمّ من أن يكون بع ُدوّ أو مرض أو ضلل ‪ -‬وهو ال ّتوَهان عن‬
‫الطريق أو نحو ذلك‪ .‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬حدثنا حَجّاج بن الصوّافُ ‪ ،‬عن‬
‫يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن الحجاج بن عمرو (‪ )3‬النصاري ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬من كُسِر أو عَرِج فقد حل ‪ ،‬وعليه حجة أخرى"‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فذكرت ذلك لبن عباس وأبي هريرة فقال صدق‪.‬‬
‫وأخرجه (‪ )4‬أصحاب الكتب الربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬به (‪ .)5‬وفي رواية لبي‬
‫داود وابن ماجة ‪ :‬من عرج أو كُسر أو مَرض ‪ -‬فذكر معناه‪ .‬ورواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن الحسن‬
‫بن عرفة ‪ ،‬عن إسماعيل بن عُلَيّة ‪ ،‬عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ‪ ،‬به‪ .‬ثم قال ‪ :‬وروي‬
‫عن ابن مسعود ‪ ،‬وابن الزبير ‪ ،‬وعلقمة ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وعروة بن الزبير ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫والنخعي ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬أنهم قالوا ‪ :‬الحصار من عدو ‪ ،‬أو مرض ‪ ،‬أو كسر‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ :‬الحصار من كل شيء آذاه‪ .‬وثبت في الصحيحين عن عائشة ‪ :‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم َدخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني‬
‫حجّي واشترطي ‪ :‬أنّ َمحِلّي حيثُ ح َبسْتَني" (‪ .)6‬ورواه مسلم عن‬
‫أريد الحج وأنا شاكية‪ .‬فقال ‪ُ " :‬‬
‫ابن عباس بمثله (‪ .)7‬فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الشتراط في الحج لهذا الحديث‪ .‬وقد‬
‫علق المام محمد بن إدريس‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1301‬من حديث عبد ال بن عمر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وقد أخرجه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )3/450‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1862‬وسنن الترمذي برقم (‪ )940‬وسنن النسائي (‬
‫‪ )198 /5‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3078‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )5089‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1207‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)1208‬‬

‫( ‪)1/533‬‬

‫الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث‪ .‬قال البيهقي وغيره من الحفاظ ‪ :‬فقد‬
‫صح ‪ ،‬ول الحمد‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } قال المام مالك ‪ ،‬عن جعفر بن محمد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن علي‬
‫ابن أبي طالب أنه كان يقول ‪َ { :‬فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ } شاة‪ .‬وقال ابن عباس ‪ :‬الهَدْي من‬
‫الزواج الثمانية ‪ :‬من البل والبقر والمعز والضأن‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن حبيب ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪َ { :‬فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ‬
‫ا ْلهَ ْديِ } قال ‪ :‬شاة‪ .‬وكذا قال عطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬ومحمد بن علي بن‬
‫الحسين ‪ ،‬وعبد الرحمن بن القاسم ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والنّخعي ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫ومقاتل بن حيان ‪ ،‬وغيرهم مثلَ ذلك ‪ ،‬وهو مذهب الئمة الربعة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا أبو خالد الحمر ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن‬
‫القاسم ‪ ،‬عن عائشة وابن عمر ‪ :‬أنهما كانا ل يريان ما استيسر من الهدي إل من البل والبقر‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ورُوِي عن سالم ‪ ،‬والقاسم ‪ ،‬وعروة بن الزبير ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ -‬نحوُ ذلك‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والظاهر أن مستند هؤلء فيما ذهبوا إليه قضية (‪ )1‬الحديبية ‪ ،‬فإنه لم يُ ْنقَل عن أحد منهم‬
‫أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ‪ ،‬وإنما ذبحوا البل والبقر ‪ ،‬ففي الصحيحين عن جابر قال ‪ :‬أمرنا‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن نشترك في البل والبقر كل سبعة منا في بقرة (‪.)2‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪َ { :‬فمَا‬
‫اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } قال ‪ :‬بقدر يَسَارته (‪.)3‬‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إن كان موسرًا فمن البل ‪ ،‬وإل فمن البقر ‪ ،‬وإل فمن الغنم‪.‬‬
‫وقال هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪َ { :‬فمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } قال ‪ :‬إنما ذلك فيما بين الرّخص‬
‫والغلء‪.‬‬
‫والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الحصار ‪ :‬أن ال‬
‫أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ‪ ،‬أي ‪ :‬مهما تيسر مما يسمى هديًا ‪ ،‬والهَدْي من بهيمة النعام ‪،‬‬
‫وهي البل والبقر والغنم ‪ ،‬كما قاله الحَبْر البحر (‪ )4‬ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬أهْدَى‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم مَرة غنمًا (‪.)5‬‬
‫سكُمْ حَتّى يَبْلُغَ ا ْل َه ْديُ مَحِلّهُ } معطوف على قوله ‪ { :‬وَأَ ِتمّوا الْحَجّ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تَحِْلقُوا رُءُو َ‬
‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } كما زعمه ابن‬
‫وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } وليس معطوفًا على قوله ‪ { :‬فَإِنْ ُأ ْ‬
‫جرير ‪ ،‬رحمه ال ؛ لن النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار‬
‫قريش عن الدخول إلى الحرم ‪ ،‬حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ‪ ،‬فأما في حال المن والوصول‬
‫إلى الحرم فل يجوز الحلق { حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلهَ ْديُ َمحِلّهُ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬قصة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)1318‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬يساره"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬البحر الحبر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )1701‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1321‬‬

‫( ‪)1/534‬‬

‫ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ‪ ،‬إن كان قارنًا ‪ ،‬أو من فعْل أحدهما إن كان ُمفْردًا أو‬
‫حفْصَةَ أنها قالت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما شأن (‪ )1‬الناس حَلّوا‬
‫متمتعًا ‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين عن َ‬
‫حلّ أنت من عمرتك ؟ فقال ‪" :‬إني لَبّ ْدتُ رأسي وقلّدت هَدْيي ‪ ،‬فل أحلّ حتى‬
‫من العمرة ‪ ،‬ولم َت ِ‬
‫أنحر" (‪.)2‬‬
‫سكٍ } قال‬
‫ن صِيَامٍ َأوْ صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫سهِ َففِدْيَةٌ مِ ْ‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْ ِ‬
‫البخاري ‪ :‬حدثنا آدم ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن الصبهاني ‪ :‬سمعت عبد ال بن َمعْقل ‪،‬‬
‫عجْ َرةَ في هذا المسجد ‪ -‬يعني مسجد الكوفة ‪ -‬فسألته عن { فَفِدْ َيةٌ مِنْ‬
‫قال ‪ :‬فعدت إلى كعب بن ُ‬
‫صِيَامٍ } فقال ‪ :‬حُم ْلتُ إلى النبي صلى ال عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي‪ .‬فقال ‪" :‬ما كنتُ‬
‫أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة ؟ " قلت ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪" :‬صُمْ ثلثة أيام ‪ ،‬أو أطعم ستة‬
‫مساكين ‪ ،‬لكل مسكين نصف صاع من طعام ‪ ،‬واحلق رأسك"‪ .‬فنزلت فيّ خاصة ‪ ،‬وهي لكم‬
‫عامة (‪.)3‬‬
‫وقال المام أحمدُ ‪ :‬حدثنا إسماعيلُ ‪ ،‬حدثنا أيوب ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪،‬‬
‫عن كعب بن عُجْرَة قال ‪ :‬أتى عََليّ النبي صلى ال عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ‪ ،‬وال َق ْملُ يتناثَرُ‬
‫على وجهي ‪ -‬أو قال ‪ :‬حاجبي ‪ -‬فقال ‪ُ " :‬يؤْذيك (‪َ )4‬هوَامّ رأسك ؟ "‪ .‬قلت ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪:‬‬
‫"فاحلقه ‪ ،‬وصم ثلثة أيام ‪ ،‬أو أطعم ستة مساكين ‪ ،‬أو انسك نسيكة"‪ .‬قال أيوب ‪ :‬ل أدري بأيتهن‬
‫بدأ (‪.)5‬‬
‫وقال أحمد أيضا ‪ :‬حدثنا هُشَيْم ‪ ،‬أخبرنا أبو بشر (‪ )6‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي‬
‫ليلى ‪ ،‬عن كعب بن عجرة قال ‪ :‬كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم بالحديبية ‪ ،‬ونحن‬
‫محرمون وقد حصره المشركون (‪ )7‬وكانت لي َوفْرة ‪ ،‬فجعلت الهوام َتسَاقَطُ على وجهي ‪ ،‬فمر‬
‫بي رسول ال (‪ )8‬صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬أيؤذيك هوام رأسك ؟ " فأمره أن يحلق‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َد َقةٍ َأوْ‬
‫ونزلت هذه الية ‪َ { :‬فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ بِهِ َأذًى مِنْ رَأْسِهِ َففِدْيَةٌ مِ ْ‬
‫سكٍ } (‪.)9‬‬
‫نُ ُ‬
‫وكذا رواه عفان ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن أبي بشر ‪ ،‬وهو جعفر بن إياس ‪ ،‬به‪ .‬وعن شعبة ‪ ،‬عن الحكم‬
‫‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬به (‪ .)10‬وعن شعبة ‪ ،‬عن داود ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن كعب بن‬
‫عُجْرَة ‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫ورواه المام مالك عن حميد بن قيس ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن كعب‬
‫ابن عجرة ‪ -‬فذكر نحوه (‪.)11‬‬
‫وقال سعد (‪ )12‬بن إسحاق بن كعب بن عجرة ‪ ،‬عن أبان بن صالح ‪ ،‬عن الحسن البصري ‪ :‬أنه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ما بال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )1725‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1229‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)4517‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬أيؤذيك"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)4/241‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬حدثنا يونس"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬العدو"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬فمر بي النبي"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)4/241‬‬
‫(‪ )10‬رواه أحمد في المسند كما في أطرافه لبن حجر (‪.)5/219‬‬
‫(‪ )11‬الموطأ (‪.)1/417‬‬
‫(‪ )12‬في طـ ‪ ،‬أ ‪" :‬وقال سعيد"‪.‬‬

‫( ‪)1/535‬‬
‫سمع كعب بن عُجْرَة يقول ‪ :‬فذبحت شاة‪ .‬رواه ابن مَرْ ُدوَيه‪ .‬وروي أيضًا من حديث عمر بن‬
‫قيس ‪ ،‬سندل ‪ -‬وهو ضعيف (‪ - )1‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬النسك شاة ‪ ،‬والصيام ثلثة أيام ‪ ،‬والطعام (‪ )2‬فَرَق ‪ ،‬بين ستة" (‪.)3‬‬
‫وكذا رُوي عن علي ‪ ،‬ومحمد بن كعب ‪ ،‬وعكرمة (‪ )4‬وإبراهيم [النخعي] (‪ )5‬ومجاهد ‪،‬‬
‫وعطاء ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أخبرنا عبد ال بن وهب ‪ :‬أن مالك بن أنس‬
‫حدثه (‪ )6‬عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‪ ،‬عن‬
‫عجْرة ‪ :‬أنه كان مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فآذاه القَمْل في رأسه ‪ ،‬فأمره‬
‫كعب ابن ُ‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن يحلق رأسه ‪ ،‬وقال ‪" :‬صم ثلثة أيام ‪ ،‬أو أطعم ستة مساكين ‪،‬‬
‫مُدّين مدّين لكل إنسان ‪ ،‬أو انسُك شاة ‪ ،‬أيّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك" (‪.)7‬‬
‫ن صِيَامٍ َأوْ‬
‫وهكذا روى ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪َ { :‬ففِدْ َيةٌ مِ ْ‬
‫سكٍ } قال ‪ :‬إذا كان "أو" فأيه أخذتَ أجزأ عنك‪.‬‬
‫صَ َدقَةٍ َأوْ ُن ُ‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن مجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وحُميد‬
‫العرج ‪ ،‬وإبراهيم النخَعي ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهو مذهب الئمة الربعة وعامة العلماء أنه يُخَيّر (‪ )8‬في هذا المقام ‪ ،‬إن شاء صام ‪،‬‬
‫وإن شاء تصدّق بفَرق ‪ ،‬وهو ثلثة آصع ‪ ،‬لكل مسكين نصفُ صاع ‪ ،‬وهو مُدّان ‪ ،‬وإن شاء ذبح‬
‫شاة وتصدّق بها على الفقراء ‪ ،‬أيّ ذلك فعل أجزأه‪ .‬ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ‬
‫سكٍ } ولما أمَرَ النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫بالسهل فالسهل ‪َ { :‬ففِدْ َيةٌ مِ ْ‬
‫كعبَ بن عجرة بذلك ‪ ،‬أرشده إلى الفضل ‪ ،‬فالفضل فقال ‪ :‬انسك شاة ‪ ،‬أو أطعم ستة مساكين‬
‫أو صم ثلثة أيام‪ .‬فكلّ حسن في مقامه‪ .‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدّثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدّثنا أبو بكر بن عياش قال ‪ :‬ذكر العمشُ قال ‪ :‬سأل‬
‫حكَم‬
‫سكٍ } فأجابه يقول ‪ُ :‬ي ْ‬
‫ن صِيَامٍ َأوْ صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الية ‪َ { :‬ففِدْيَةٌ مِ ْ‬
‫عليه طعام ‪ ،‬فإن كان عنده اشترى شاة ‪ ،‬وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم ‪ ،‬وجعل مكانها طعام‬
‫فتصدق ‪ ،‬وإل صام بكل نصف صاع يومًا ‪ ،‬قال إبراهيم ‪ :‬كذلك سمعت علقمة يذكر‪ .‬قال ‪ :‬لما‬
‫قال لي سعيد بن جبير ‪ :‬من هذا ؟ ما أظرفه! قال ‪ :‬قلت ‪ :‬هذا إبراهيم‪ .‬فقال ‪ :‬ما أظرفه! كان‬
‫يجالسنا‪ .‬قال ‪ :‬فذكرت ذلك لبراهيم ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما قلت ‪" :‬يجالسنا" انتفض منها (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬سنده عنه ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬والطعام"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ذكره السيوطي في الدر المنثور (‪ )1/515‬وعزاه لبن مردويه والواحدي‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬وعلقمة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬حدثهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬الحديث في الموطأ (‪.)1/417‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬مخيرا" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬محير"‪.‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)4/74‬‬

‫( ‪)1/536‬‬

‫وقال ابن جرير أيضًا ‪ :‬حدثنا ابن أبي عمران ‪ ،‬حدثنا عبُيَد ال (‪ )1‬بن معاذ ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫سكٍ } قال ‪ :‬إذا كان بال ُمحْرِم أذى‬
‫ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َد َقةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫أشعث ‪ ،‬عن الحسن في قوله ‪َ { :‬ففِدْيَةٌ مِ ْ‬
‫من رأسه ‪ ،‬حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلثة شاء ‪ ،‬والصيام عشرة أيام ‪ ،‬والصدقة على عشرة‬
‫مساكين ‪ ،‬كلّ مسكين َمكّوكين ‪ :‬مكوكا من تمر ‪ ،‬ومكوكا من بُر ‪ ،‬والنسك شاة‪.‬‬
‫سكٍ } قال ‪ :‬إطعام‬
‫وقال قتادة ‪ ،‬عن الحسن وعكرمة في قوله ‪َ { :‬ففِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ َأ ْو صَ َدقَةٍ َأوْ ُن ُ‬
‫عشرة مساكين‪.‬‬
‫وهذان القولن من سعيد بن جبير ‪ ،‬وعلقمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وعكرمة قولن غريبان فيهما نظر ؛‬
‫عجْرة بصيام ثلثة أيام ‪[ ،‬ل عشرة و] (‪ )2‬ل ستة ‪ ،‬أو‬
‫لنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن ُ‬
‫إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ‪ ،‬وأن ذلك على التخيير كما َدلّ عليه سياق القرآن‪ .‬وأما هذا‬
‫الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد ‪ ،‬كما هو نص القرآن‪ .‬وعليه أجمع الفقهاء هناك ‪،‬‬
‫بخلف هذا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ُهشَيم ‪ :‬أخبرنا ليث ‪ ،‬عن طاوس ‪ :‬أنه كان يقول ‪ :‬ما كان من دم أو طعام (‪ )3‬فبمكة ‪ ،‬وما‬
‫كان من صيام فحيث شاء‪ .‬وكذا قال عطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والحسن‪.‬‬
‫وقال ُهشَيم ‪ :‬أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء ‪ :‬أنه كان يقول ‪ :‬ما كان من دم‬
‫فبمكة ‪ ،‬وما كان من طعام وصيام فحيث شاء‪.‬‬
‫وقال هشيم ‪ :‬أخبرنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن يعقوب بن خالد ‪ ،‬أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬حج عثمان بن عفان ‪ ،‬ومعه علي والحسين (‪ )4‬بن علي ‪ ،‬فارتحل عثمان‪ .‬قال أبو أسماء ‪:‬‬
‫وكنت مع ابن جعفر ‪ ،‬فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬أيها النؤوم (‪.)5‬‬
‫سقْيا قال ‪ :‬فأرسل إلى‬
‫فاستيقظ ‪ ،‬فإذا الحسين (‪ )6‬بن علي‪ .‬قال ‪ :‬فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به ال ّ‬
‫علي ومعه أسماء بنت عميس‪ .‬قال ‪ :‬فمرضناه نحوا من عشرين ليلة‪ .‬قال ‪ :‬قال علي للحسين ‪:‬‬
‫ما الذي تجد ؟ قال ‪ :‬فأومأ بيده إلى رأسه‪ .‬قال ‪ :‬فأمر به عَليّ َفحَلَق رأسه ‪ ،‬ثم دعا ببدنَةٍ‬
‫فنحرها‪ .‬فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة‪ .‬وإن كانت عن (‪ )7‬التحلل‬
‫فواضح‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬فَِإذَا َأمِنْتُمْ َفمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى ا ْلحَجّ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } أي ‪ :‬إذا تمكنتم من أداء‬
‫المناسك ‪ ،‬فمن كان منكم مُتَم ّتعًا بالعُمرة إلى الحج ‪ ،‬وهو يشمل من أحرم بهما ‪ ،‬أو أحرم بالعمرة‬
‫أول فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ‪ ،‬وهو المعروف في كلم الفقهاء‪ .‬والتمتع‬
‫العام يشمل القسمين ‪ ،‬كما دلت عليه الحاديثُ الصحاح ‪ ،‬فإن من الرُواة من يقولُ ‪ :‬تمتع رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وآخر يقول ‪ :‬قَرَن‪ .‬ول خلف أنّه ساق الهدي (‪.)8‬‬
‫وقال تعالى ‪َ { :‬فمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ } أي ‪ :‬فليذبح ما قدر عليه من‬
‫الهدي ‪ ،‬وأقله شاة ‪ ،‬وله أن يذبح البقر ؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم ذبح عن نسائه‬
‫البقر‪ .‬وقال الوزاعي ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أو إطعام"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬الحسن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬أيها النائم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬الحسن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أنه ساق هديا"‪.‬‬

‫( ‪)1/537‬‬

‫عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي سلمة (‪ )1‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ذبح بقرة عن نسائه ‪ ،‬وكن متمتعات‪ .‬رواه أبو بكر بن مَرْدويه (‪.)2‬‬
‫وفي هذا دليل على شرعية (‪ )3‬التمتع ‪ ،‬كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال ‪:‬‬
‫نزلت آية المتعة (‪ )4‬في كتاب ال ‪ ،‬وفعلناها مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ثم لم يُنزل‬
‫قرآن ُيحَرّمه ‪ ،‬ولم يُ ْنهَ عنها ‪ ،‬حتى مات‪ .‬قال رجل بِرَأيه ما شاء (‪ .)5‬قال البخاري ‪ :‬يقال ‪ :‬إنه‬
‫عمَر‪ .‬وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬كان ينهى الناس‬
‫ُ‬
‫عن التمتع ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إن (‪ )6‬نأخذ بكتاب ال فإنّ ال يأمر بالتمام‪ .‬يعني قوله ‪ { :‬وَأَ ِتمّوا ا ْلحَجّ‬
‫وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ } وفي نفس المر لم يكن عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬ينهى عنها محَ ّرمًا لها ‪ ،‬إنما كان‬
‫يَ ْنهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ‪ ،‬كما قد صرح به ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫جعْ ُتمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ } يقول تعالى‬
‫ج وَسَ ْبعَةٍ ِإذَا رَ َ‬
‫جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَ ّ‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫‪ :‬فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلثة أيام في الحج ‪ ،‬أي ‪ :‬في أيام المناسك‪ .‬قال العلماء ‪ :‬والولى أن‬
‫يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر (‪ ، )7‬قاله عطاء‪ .‬أو من حين يحرم ‪ ،‬قاله ابن عباس وغيره ‪،‬‬
‫لقوله ‪ { :‬فِي ا ْلحَجّ } ومنهم من يجوّز صيامها من أول شوال ‪ ،‬قاله طاوس ومجاهد وغير واحد‪.‬‬
‫سدّي ‪،‬‬
‫وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ‪ ،‬وكذا قال مجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬وال ّ‬
‫وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والحكم ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وحماد ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وأبو جعفر الباقر ‪ ،‬والربيع ‪،‬‬
‫ومقاتل بن حَيّان‪ .‬وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلثة أيام في الحج‬
‫قبل يوم عرفة ‪ ،‬فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله‪ .‬وكذا َروَى‬
‫أبو إسحاق عن وبرة ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬يصوم يومًا قبل التروية ‪ ،‬ويوم التروية ‪ ،‬ويوم‬
‫عرفة‪ .‬وكذا َروَى عن جعفر بن محمد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن علي أيضًا‪.‬‬
‫صمْها أو بعضها قبل [يوم] (‪ )8‬العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولن‬
‫فلو لم َي ُ‬
‫للعلماء ‪ ،‬وهما للمام الشافعي أيضًا ‪ ،‬القديم منهما أنه يجوزُ له صيامها لقول عائشة وابن عمر‬
‫في صحيح البخاري ‪ :‬لم ي َرخّص في أيام التشريق أن ُيصَمن (‪ )9‬إل لمن ل يجد الهَدي (‪.)10‬‬
‫وكذا رواه مالك ‪ ،‬عن الزّهري ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن عائشة‪ .‬وعن سالم ‪ ،‬عن ابن عمر [إنما قالوا‬
‫ج وَسَ ْبعَةٍ } ] (‪ )12( .)11‬وقد روي من غير وجه‬
‫ذلك لعموم قوله ‪َ { :‬فصِيَامُ ثَل َثةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَ ّ‬
‫عنهما‪ .‬ورواه سفيان ‪ ،‬عن جعفر بن محمد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن علي أنه كان يقول ‪ :‬من فاته صيام‬
‫ثلثة أيام في الحج صامهن أيام‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في هـ ‪" :‬أبي مسلم" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورواه أبو داود في السنن برقم (‪ )1751‬من طريق الوليد عن الوزاعي به‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬على مشروعية"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬آية التمتع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )4518‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1226‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬إنا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬في العشرة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬أن يصوم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري برقم (‪.)1997‬‬
‫(‪ )11‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )12‬الموطأ ‪.)1/426( :‬‬

‫( ‪)1/538‬‬
‫عمَير الليثي (‪ )1‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن البصري ‪ ،‬وعروة بن‬
‫التشريق‪ .‬وبهذا يقول عُبَيد بن ُ‬
‫الزبير ؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله ‪َ { :‬فصِيَامُ ثَل َثةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَجّ } والجديد من القولين ‪ :‬أنه ل‬
‫يجوز صيامها أيام التشريق ‪ ،‬لما رواه مسلم عن نبَ ْيشَة (‪ )2‬الهذلي ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر ال" (‪.)3‬‬
‫جعْتُمْ } فيه قولن ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَسَ ْبعَةٍ إِذَا َر َ‬
‫أحدهما ‪ :‬إذا رجعتم في الطريق‪ .‬ولهذا قال مجاهد ‪ :‬هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق‪.‬‬
‫وكذا قال عطاء بن أبي رباح‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬إذا رجعتم إلى أوطانكم ؛ قال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا الثوري ‪ ،‬عن يحيى بن‬
‫ج وَسَ ْبعَةٍ ِإذَا‬
‫جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَ ّ‬
‫سعيد ‪ ،‬عن سالم ‪ ،‬سمعت ابن عمر قال ‪َ { :‬فمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫جعْتُمْ } قال ‪ :‬إذا رَجَع إلى أهله (‪ ، )4‬وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫رَ َ‬
‫وعطاء ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والربيع بن أنس‪ .‬وحكى على ذلك أبو جعفر‬
‫بن جرير الجماع‪.‬‬
‫عقَيل ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن سالم‬
‫وقد قال البخاري ‪ :‬حدثنا يحيى بن ُبكَير ‪ ،‬حدثنا الليث ‪ ،‬عن ُ‬
‫حجّة الوداع بالعمرة إلى‬
‫بن عبد ال أن ابن عمر قال ‪ :‬تمتع رسول ال صلى ال عليه وسلم في َ‬
‫الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة ‪ ،‬وبدأ رسول ال صلى ال عليه وسلم فأهلّ بالعمرة‬
‫‪ ،‬ثم أهلّ بالحج ‪ ،‬فتمتع الناس مع النبي صلى ال عليه وسلم بالعمرة إلى الحج‪ .‬فكان مِنَ الناس‬
‫مَنْ أهدى فساق الهَدْي ‪ ،‬ومنهم من لم ُيهْد‪ .‬فلما قدم النبي صلى ال عليه وسلم مكة قال للناس ‪:‬‬
‫"من كان منكم أهدى فإنه ل يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه ‪ ،‬ومَنْ لم يكن منكم أهدى‬
‫طفْ بالبيت وبالصفا والمروة ‪ ،‬وَلْيُ َقصّر وليَحللْ (‪ )5‬ثم ل ُي ِهلّ بالحج ‪ ،‬فمن لم يجد هديًا فليصُمْ‬
‫فَلْيَ ُ‬
‫ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله"‪ .‬وذكر تمام الحديث (‪.)6‬‬
‫قال الزهري ‪ :‬وأخبرني عروة ‪ ،‬عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في‬
‫الصحيحين من حديث الزهري ‪ ،‬به (‪.)7‬‬
‫عشَ َرةٌ كَامِلَةٌ } قيل ‪ :‬تأكيد ‪ ،‬كما تقول العرب ‪ :‬رأيت بعيني ‪ ،‬وسمعت بأذني‬
‫وقوله ‪ { :‬تِ ْلكَ َ‬
‫وكتبت بيدي‪ .‬وقال ال تعالى ‪ { :‬وَل طَائِرٍ َيطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [النعام ‪ ]38 :‬وقال ‪ { :‬وَل َتخُطّهُ‬
‫بِ َيمِي ِنكَ } [العنكبوت ‪ ، ]48 :‬وقال ‪َ { :‬ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلثِينَ لَيْلَةً وَأَ ْت َممْنَاهَا ِب َعشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ‬
‫أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً } [العراف ‪.]142 :‬‬
‫وقيل ‪ :‬معنى { كَامِلَةٌ } المْ ُر بإكمالها وإتمامها ‪ ،‬اختاره ابنُ جرير‪ .‬وقيل ‪ :‬معنى { كَامِلَةٌ } أي ‪:‬‬
‫مُجْزئة عن الهَدْي‪ .‬قال (‪ )8‬هُشَيْم ‪ ،‬عن عباد بن راشد ‪ ،‬عن الحسن البصري ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬تِ ْلكَ‬
‫عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ } قال ‪ :‬مِنَ الهَدْي‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬المكثي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عن ابن نبيشة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1141‬‬
‫(‪ )4‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/93‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وليتحلل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)1691‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )1692‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1228‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬قاله"‪.‬‬

‫( ‪)1/539‬‬

‫ل التأويل‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ } قال ابن جرير ‪ :‬اختلف أه ُ‬
‫وقوله ‪ { :‬ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَسْ ِ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ } بعد إجماع جميعهم على أن أهل‬
‫فيمن عُني بقوله ‪ِ { :‬لمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬
‫الحرم َمعْنِيّون به ‪ ،‬وأنه ل متعة لهم ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم‪.‬‬
‫حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ -‬هو الثوري ‪ -‬قال ‪ :‬قال ابن عباس‬
‫ومجاهد ‪ :‬هم أهل الحَرَم‪ .‬وكذا روى ابن المبارك ‪ ،‬عن الثوري ‪ ،‬وزاد ‪ :‬الجماعة عليه‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول ‪ :‬يا أهل مكة ‪ ،‬ل متعة لكم ‪ ،‬أحلت لهل الفاق‬
‫وحُرّمت عليكم ‪ ،‬إنما يقطع أحدكم واديا ‪ -‬أو قال ‪ :‬يجعل بينه وبين الحرم واديًا (‪ - )1‬ثم ُي ِهلّ‬
‫بعمرة‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬حدثنا (‪َ )2‬م ْعمَر ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬المتعةُ للناس ‪ -‬ل لهل‬
‫مكة ‪ -‬مَنْ لم يكن أهله من الحرم‪ .‬وذلك قول ال عز وجل ‪ { :‬ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ } قال ‪ :‬وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس‪.‬‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫وقال آخرون ‪ :‬هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت ‪ ،‬كما قال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا معمر عن‬
‫رجل ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬من كان أهله دون المواقيت ‪ ،‬فهو كأهل مكة ‪ ،‬ل يتمتع (‪.)3‬‬
‫وقال عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ‪ ،‬عن مكحول ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬ذَِلكَ‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ } قال ‪ :‬من كان دون الميقات‪.‬‬
‫ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَسْ ِ‬
‫جدِ الْحَرَامِ } قال ‪ :‬عرفة ‪،‬‬
‫وقال ابن جُرَيْج عن عطاء ‪ { :‬ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَ ْهلُهُ حَاضِرِي ا ْل َمسْ ِ‬
‫ومَرّ ‪ ،‬وعُرَنة ‪ ،‬وضَجْنان ‪ ،‬والرجيع (‪.)4‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا معمر ‪ ،‬سمعت الزهري يقول ‪ :‬من كان أهله على يوم أو َنحْوه تَمتّع‪.‬‬
‫وفي رواية عنه ‪ :‬اليوم واليومين‪ .‬واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ‪،‬‬
‫ومن كان منه على مسافة ل ُت ْقصَر منها (‪ )5‬الصلة ؛ لن من كان كذلك يعد حاضرا ل‬
‫مسافرًا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } أي ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّهَ } أي ‪ :‬فيما أمركم (‪ )6‬وما نهاكم { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫لمن خالف (‪ )7‬أمره ‪ ،‬وارتكب ما عنه زجره‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬واديا واديا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬أخبرنا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير عبد الرزاق (‪.)93 /1‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬الضجيع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬فيما أمركم به"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬لمن خاف"‪.‬‬

‫( ‪)1/540‬‬

‫ج َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ‬


‫جدَالَ فِي الْحَ ّ‬
‫ق وَلَا ِ‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ َفمَنْ فَ َرضَ فِيهِنّ الْحَجّ فَلَا َر َفثَ وَلَا ُفسُو َ‬
‫الْحَجّ أَ ْ‬
‫خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّ ُه وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى وَا ّتقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (‪)197‬‬

‫ق وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ َومَا َت ْفعَلُوا‬


‫ث وَل ُفسُو َ‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ َفمَنْ فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ فَل َر َف َ‬
‫{ ا ْلحَجّ َأ ْ‬
‫مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّ ُه وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى وَا ّتقُونِ يَا أُولِي اللْبَابِ (‪} )197‬‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } فقال بعضهم ‪[ :‬تقديره] (‪ )1‬الحج حَجّ‬
‫اختلف أهل العربية في قوله ‪ { :‬ا ْلحَجّ َأ ْ‬
‫أشهر معلومات ‪ ،‬فعلى هذا التقدير يكون الحرام بالحج فيها أكمل من الحرام به فيما عداها ‪،‬‬
‫وإن كان ذاك صحيحا ‪ ،‬والقول بصحة الحرام بالحج في جميع السّ َنةِ مذهبُ مالك ‪ ،‬وأبي‬
‫حنيفة ‪ ،‬وأحمد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/540‬‬

‫بن حنبل ‪ ،‬وإسحاق بن رَاهويه ‪ ،‬وبه يقول إبراهيم النخَعي ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬والليث بن سعد‪ .‬واحْتَجّ‬
‫لهم بقوله تعالى ‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ الهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [البقرة ‪ ]189 :‬وبأنه أحد‬
‫النسكين‪ .‬فصح الحرام به في جميع السّ َن ِة كالعمرة‪.‬‬
‫وذهب الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬إلى أنه ل يصح الحرام بالحج إل في أشهره (‪ )1‬فلو أحرم به قبلها‬
‫عمْرة ؟ فيه قولن عنه‪ .‬والقول بأنه ل يصح الحرام بالحج إل‬
‫لم ينعقد إحرامه به ‪ ،‬وهل ينعقد ُ‬
‫في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس ‪ ،‬وجابر ‪ ،‬وبه يقول عطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬رحمهم ال ‪،‬‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الخر الذي ذهب إليه‬
‫والدليل عليه قوله تعالى ‪ { :‬ا ْلحَجّ أَ ْ‬
‫النحاة ‪ ،‬وهو أن ‪ :‬وقت الحج أشهر َمعْلُومات ‪ ،‬فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ‪ ،‬فدلّ‬
‫على أنه ل يصح قبلها ‪ ،‬كميقات الصلة‪.‬‬
‫عطَاء ‪ ،‬عن‬
‫عمَر بن َ‬
‫قال الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬أخبرنا مسلم بن خالد ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬أخبرني ُ‬
‫عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬ل ينبغي لحد أن ُيحْرِم بالحج إل في شهور (‪ )2‬الحج ‪ ،‬من‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } وكذا رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن أحمد بن يحيى بن مالك‬
‫أجل قول ال ‪ { :‬ا ْلحَجّ َأ ْ‬
‫السوسي ‪ ،‬عن حجاج بن محمد العور ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬به‪ .‬ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من‬
‫طريقين ‪ ،‬عن حجاج بن أرطاة ‪ ،‬عن الحكم بن عُتَيبة (‪ )3‬عن ِمقْسَم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أنه قال ‪:‬‬
‫من السّنّة أل يحرم [بالحج] (‪ )4‬إل في أشهر الحج‪.‬‬
‫وقال ابن خزيمة في صحيحه ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا أبو خالد الحمر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن الحكم‬
‫‪ ،‬عن مقْسَم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬ل يحرم بالحج إل في أشهر الحج ‪ ،‬فإن من سنة الحج أن‬
‫يحرم بالحج في أشهر الحج (‪ .)5‬وهذا إسناد صحيح ‪ ،‬وقول الصحابي ‪" :‬من السنة كذا" في حكم‬
‫المرفوع عند الكثرين ‪ ،‬ول سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ‪ ،‬وهو ترجمانه‪.‬‬
‫وقد ورد فيه حديث مرفوع ‪ ،‬قال (‪ )6‬ابن مردويه ‪ :‬حدثنا عبد الباقي بن قانع (‪ )7‬حدثنا الحسن‬
‫بن المُثَنى ‪ ،‬حدثنا أبو حذيفة ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن أبي الزبير ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال ‪" :‬ل ينبغي لحد أن يحرم بالحج إل في أشهر الحج"‪.‬‬
‫وإسناده ل بأس به‪ .‬لكن (‪ )8‬رواه الشافعي ‪ ،‬والبيهقي من طُرق ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن أبي‬
‫الزبير ‪ ،‬أنه سمع جابر بن عبد ال يسأل ‪ :‬أ ُي َهلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال ‪ :‬ل (‪.)9‬‬
‫ح وأثبت من المرفوع ‪ ،‬ويبقى حينئذ مذهب صحابي ‪ ،‬يتقوّى بقول ابن عباس‬
‫وهذا الموقوف أص ّ‬
‫‪" :‬من السنة أن ل يحرم بالحج إل في أشهره"‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } قال البخاري ‪ :‬قال ابن عمر ‪ :‬هي شوال ‪ ،‬وذو ال َقعْدة ‪ ،‬وعشر من‬
‫وقوله ‪َ { :‬أ ْ‬
‫ذي الحجة (‪ .)10‬وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصول حدثنا‬
‫أحمد بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬إل في أشهر الحج"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في أشهر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن عيينة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح ابن خزيمة برقم (‪.)2596‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬بن نافع"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬ولكن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬الم للشافعي (‪ )2/136‬والسنن الكبرى للبيهقي (‪.)4/343‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري (‪" )3/419‬فتح"‪.‬‬

‫( ‪)1/541‬‬

‫حازم بن أبي غَرْزة (‪ )1‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا ورقاء ‪ ،‬عن عبد ال بن دينار ‪ ،‬عن ابن عمر ‪{ :‬‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ } قال ‪ :‬شوال ‪ ،‬وذو القعدة وعشر من ذي الحجة (‪.)2‬‬
‫الْحَجّ أَ ْ‬
‫إسناد (‪ )3‬صحيح ‪ ،‬وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه ‪ ،‬عن الصم ‪ ،‬عن الحسن بن علي بن‬
‫عفان ‪ ،‬عن عبد ال بن نمير ‪ ،‬عن عبيد ال (‪ )4‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ -‬فذكره وقال ‪ :‬على‬
‫شرط الشيخين (‪.)5‬‬
‫عمَر ‪ ،‬وعليّ ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وعبد ال بن الزبير ‪ ،‬وابن عباس ‪،‬‬
‫قلت ‪ :‬وهو مَرْويّ عن ُ‬
‫وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وابن سيرين ‪،‬‬
‫ومكحول ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك بن مزاحم ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان‪ .‬وهو مذهب‬
‫الشافعي ‪ ،‬وأبي حنيفة ‪ ،‬وأحمد بن حنبل ‪ ،‬وأبي يوسف ‪ ،‬وأبي َثوْر ‪ ،‬رحمهم ال‪ .‬واختار هذا‬
‫القول ابن جرير ‪ ،‬قال ‪ :‬وصح إطلق الجمع (‪ )6‬على شهرين وبعض الثالث للتغليب ‪ ،‬كما تقول‬
‫العرب ‪" :‬زرته العام ‪ ،‬ورأيته اليوم"‪ .‬وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ؛ قال ال تعالى ‪:‬‬
‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَل إِثْمَ عَلَ ْيهِ } [البقرة ‪ ]203 :‬وإنما تعجل في يوم ونصف‪.‬‬
‫{ َفمَنْ َت َع ّ‬
‫وقال المام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] (‪ : )7‬هي (‪ : )8‬شوال وذو القعدة وذو الحجة‬
‫عمَر أيضًا ؛ قال ابن جرير ‪:‬‬
‫بكماله‪ .‬وهو رواية عَن ابن ُ‬
‫حدثنا أحمد بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد ‪ ،‬حدثنا شريك ‪ ،‬عن إبراهيم بن مهاجر ‪ ،‬عن مجاهد ‪،‬‬
‫عن ابن عمر قال ‪ :‬شوال وذو القعدة وذو الحجة‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم في تفسيره ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني ابن‬
‫شهُور الحج ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬كان عبد‬
‫عمَر يسمي ُ‬
‫جريج ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لنافع ‪ :‬أسمعت عبد ال بن ُ‬
‫ال يسمي ‪" :‬شوال وذو القعدة وذو الحجة"‪ .‬قال (‪ )9‬ابن جريج ‪ :‬وقال ذلك ابن شُهاب ‪،‬‬
‫وعطاء ‪ ،‬وجابر بن عبد ال صاحب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهذا إسناد صحيح إلى ابن‬
‫جريج‪ .‬وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعروة بن الزبير ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫حصَين‬
‫وقتادة‪ .‬وجاء فيه حديث مرفوع ‪ ،‬ولكنه موضوع ‪ ،‬رواه الحافظ بن مَرْدويه ‪ ،‬من طريق ُ‬
‫حوْشَب ‪ ،‬عن أبي أمامة ‪،‬‬
‫بن مخارق ‪ -‬وهو متهم بالوضع ‪ -‬عن يونس بن عبيد ‪ ،‬عن شهر بن َ‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الحج أشهر معلومات ‪ :‬شوال وذو القعدة وذو الحجة"‬
‫(‪.)10‬‬
‫وهذا كما رأيت ل يَصح رفعه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وفائدة مذهب مالك أنّه إلى آخر ذي الحجة ‪ ،‬بمعنى أنه مختص بالحج ‪ ،‬فيكره العتمار في بقية‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بن أبي عزرة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)4/116‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬إسناده"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في هـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عبد ال" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬المستدرك (‪.)2/276‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬الجميع"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬هو"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (‪" )1693‬مجمع البحرين" من طريق محمد بن‬
‫ثواب عن حصين بن مخارق به‪.‬‬

‫( ‪)1/542‬‬

‫ذي الحجة ‪ ،‬ل أنه يصح الحج بعد ليلة النحر‪.‬‬


‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن سِنان ‪ ،‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن قيس بن مُسلم‬
‫‪ ،‬عن طارق بن شهاب ‪ ،‬قال ‪ :‬قال عبد ال ‪ :‬الحج أشهر معلومات ‪ ،‬ليس فيها عمرة‪ .‬وهذا إسناد‬
‫صحيح‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أنّ هذه‬
‫الشهر ليست أشهر العمرة ‪ ،‬إنما هي للحج ‪ ،‬وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى ‪،‬‬
‫شكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل‬
‫كما قال محمد بن سيرين ‪ :‬ما أحد مِن أهل العلم يَ ُ‬
‫من عمرة في أشهر الحج‪.‬‬
‫وقال ابن عون ‪ :‬سألت القاسم بن محمد ‪ ،‬عن العمرة في أشهر الحج ‪ ،‬فقال ‪ :‬كانوا ل يرونها‬
‫تامة‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد ثبت عن عمر وعثمان ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬أنهما كانا يحبان (‪ )1‬العتمار في غير‬
‫أشهر الحج ‪ ،‬وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ } أي ‪ :‬أوجب بإحرامه حَجّا‪ .‬فيه دللة على لزوم الحرام بالحج‬
‫والمضي فيه‪ .‬قال ابن جرير ‪ :‬أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا اليجاب واللزام‪.‬‬
‫ج أو‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬فمَنْ فَ َرضَ فِيهِنّ الْحَجّ } يقول ‪ :‬من أحرم بحَ ّ‬
‫عمرة‪ .‬وقال عطاء ‪ :‬الفرضُ الحرامُ‪ .‬وكذا قال إبراهيم ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقال ابن جُرَيج ‪ :‬أخبرني عمر بن عطاء ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أنه قال { َفمَنْ فَ َرضَ‬
‫فِيهِنّ الْحَجّ } فل ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض‪ .‬قال ابن أبي حاتم ‪ :‬و َروُي عن ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن الزبير ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وإبراهيم النخَعي ‪ ،‬وعكرمة ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وسفيان الثوري ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان ‪ -‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال طاوس ‪ ،‬والقاسمُ بن محمد ‪ :‬هو التلبية‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬فَل َر َفثَ } أي ‪ :‬من أحرم بالحج أو العمرة ‪ ،‬فليجتنب الرفث ‪ ،‬وهو الجماع ‪ ،‬كما قال‬
‫حلّ َلكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئ ُكمْ } [البقرة ‪ ، ]187 :‬وكذلك يحرم تعاطي دواعيه‬
‫تعالى ‪ُ { :‬أ ِ‬
‫من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ‪ ،‬وكذا التكلم به بحضرة النساء‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثني يونس ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني يونس ‪ :‬أن نافعا أخبره ‪ :‬أن عبد ال‬
‫بن عمر كان يقول ‪ :‬الرفثُ إتيانُ النساء ‪ ،‬والتكلم بذلك ‪ :‬الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك‬
‫بأفواههم‪.‬‬
‫قال ابن وهب ‪ :‬وأخبرني أبو صخر ‪ ،‬عن محمد بن َكعْب ‪ ،‬مثله‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وحدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن‬
‫رجل ‪ ،‬عن أبي العالية الرّياحي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أنه كان يحدو ‪ -‬وهو محرم ‪ -‬وهو يقول ‪:‬‬
‫وَهُنّ َيمْشينَ بنَا َهمِيسَا‪ ...‬إنْ َيصْدُق الطّيْرُ نَ َنلْ لَميسَا‪...‬‬
‫قال أبو العالية فقلت ‪َ :‬تكَّلمُ بالرفث وأنت محرم ؟! قال ‪ :‬إنما الرفث ما قيل عند النساء (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬يحثان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)4/126‬‬

‫( ‪)1/543‬‬

‫ورواه العمش ‪ ،‬عن زياد بن حصين ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬فذكره‪.‬‬
‫وقال ابن جرير أيضًا ‪ :‬حدثنا ابن أبي عدي ‪ ،‬عن عَون (‪ )1‬حدثني زياد بن حصين ‪ ،‬حدثني أبي‬
‫ج ‪ ،‬وكنت خليل له ‪ ،‬فلما كان بعد‬
‫ص َع ْدتُ مع ابن عباس في الحا ّ‬
‫حصين بن قيس ‪ ،‬قال ‪ :‬أ ْ‬
‫إحرامنا قال ابن عباس ‪ ،‬فأخذ بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[هو] (‪ )2‬يرتجز ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫وَهُنّ َيمْشِينَ بنَا َهمِيسَا‪ ...‬إنْ َيصْدُق الطّيْرُ نَ َنلْ لَميسَا‪...‬‬
‫قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬أترفث وأنت محرم ؟ فقال ‪ :‬إنما الرفث ما قيل عند النساء (‪.)3‬‬
‫ث وَل ُفسُوقَ‬
‫وقال عبد ال بن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬سألت ابن عباس عن قول ال تعالى ‪ { :‬فَل َر َف َ‬
‫} قال ‪ :‬الرفث التعريض بذكر الجماع ‪ ،‬وهي العَرَابَة في كلم العرب ‪ ،‬وهو أدنى الرفث‪.‬‬
‫وقال عطاء بن أبي رباح ‪ :‬الرفثُ ‪ :‬الجماع ‪ ،‬وما دونه من قول الفحش ‪ ،‬وكذا قال عمرو بن‬
‫دينار‪ .‬وقال عطاء ‪ :‬كانوا يكرهون العَرَابة ‪ ،‬وهو التعريض بذكر الجماع وهو مُحْرِم‪.‬‬
‫وقال طاوس ‪ :‬هو أن تقُول للمرأة ‪ :‬إذا حَلَلْت أصبتُك‪ .‬وكذا قال أبو العالية‪.‬‬
‫غشْيان النساء والقُبَل وال َغمْز ‪ ،‬وأن ُيعَرّض‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬الرفث ‪ِ :‬‬
‫لهَا بالفحش (‪ )4‬من الكلم ‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر ‪ :‬الرفثُ ‪ :‬غشيانُ النساء‪ .‬وكذا قال سعيدُ بن جُبَير ‪ ،‬وعكرمة ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬وعطاء بن يسار ‪ ،‬وعطية ‪ ،‬وإبراهيم‬
‫النّخَعي ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومالك بن أنس ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان ‪ ،‬وعبد الكريم بن‬
‫مالك ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة والضحاك ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل فُسُوقَ } قال مِقْسَم وغير واحد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬هي المعاصي‪ .‬وكذا قال عطاء ‪،‬‬
‫ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬ومحمد بن كعب ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪،‬‬
‫وإبراهيم النخعي ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬وابن أبان ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وعطاء بن يسار ‪،‬‬
‫وعطاء الخراساني ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر (‪ )5‬قال ‪ :‬الفسوق ‪ :‬ما أصيبَ من معاصي ال‬
‫به صَيْد أو غيره‪ .‬وكذا روى ابن وهب ‪ ،‬عن يونس ‪ ،‬عن نافع أن عبد ال بن عمر كان يقول ‪:‬‬
‫الفسوق إتيان معاصي ال في الحرم‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬الفسوقُ هاهنا السباب ‪ ،‬قاله ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وابن الزبير ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫والسدي ‪ ،‬وإبراهيم والحسن‪ .‬وقد يتمسك لهؤلء (‪ )6‬بما ثبت في الصحيح (‪" )7‬سباب المسلم‬
‫فسوق ‪ ،‬وقتاله كفر"‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬عن عوف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)4/126‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يعرض لها الفحشاء"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬أن عبد ال بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬هؤلء"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬الصحيحين"‪.‬‬
‫( ‪)1/544‬‬

‫ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬من حديث سفيان الثوري عن يزيد (‬
‫‪ )1‬عن أبي وائل ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬سباب المسلم فسوق ‪،‬‬
‫وقتاله كفر" (‪ .)2‬وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد ال بن مسعود عن أبيه (‪ )3‬ومن حديث‬
‫أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه (‪.)5( ] )4‬‬
‫سقًا‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬الفسوق هاهنا ‪ :‬الذبح للصنام‪ .‬قال ال تعالى ‪َ { :‬أوْ فِ ْ‬
‫أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ } [النعام ‪.]145 :‬‬
‫وقال الضحاك ‪ :‬الفسوق ‪ :‬التنابز باللقاب‪.‬‬
‫والذين قالوا ‪ :‬الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ‪ ،‬معهم الصواب ‪ ،‬كما نهى تعالى عن الظلم في‬
‫الشهر الحرم ‪ ،‬وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه ‪ ،‬إل أنه في الشهر الحرم آ َكدُ ؛ ولهذا قال ‪:‬‬
‫س ُكمْ } [التوبة ‪ ، ]36 :‬وقال في الحرم ‪:‬‬
‫{ مِ ْنهَا أَرْ َبعَةٌ حُرُمٌ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَل َتظِْلمُوا فِيهِنّ أَ ْنفُ َ‬
‫عذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج ‪.]25 :‬‬
‫{ َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِ ْلحَادٍ ِبظُلْمٍ ُن ِذقْهُ مِنْ َ‬
‫واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا ‪ :‬هو ارتكاب ما نُهي عنه في الحرام ‪ ،‬من قتل الصيد ‪،‬‬
‫وحَلْق الشعر ‪ ،‬وقَلْم الظفار ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬كما تقدم عن ابن عمر‪ .‬وما ذكرناه أولى ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ‪ ،‬خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (‪.)6‬‬
‫جدَالَ فِي ا ْلحَجّ } فيه قولن ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل ِ‬
‫أحدهما ‪ :‬ول مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ‪ ،‬وقد بينه ال أ َتمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح‪.‬‬
‫كما قال َوكِيع ‪ ،‬عن العلء بن عبد الكريم ‪ :‬سمعت مجاهدًا يقول ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قد بين‬
‫ال أشهر الحَج ‪ ،‬فليس فيه جدال بين الناس‪.‬‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال ‪ :‬ل شهر يُ ْنسَأ ‪ ،‬ول جدال في‬
‫الحج ‪ ،‬قد تَبَيّن ‪ ،‬ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم ال به‪.‬‬
‫جدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال ‪ :‬قد‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن عبد العزيز بن ُرفَيع ‪ ،‬عن مجاهد في قوله ‪ { :‬وَل ِ‬
‫استقام الحج ‪ ،‬فل جدَال فيه‪ .‬وكذا قال السدي‪.‬‬
‫وقال ُهشَيم ‪ :‬أخبرنا حجاج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال ‪ :‬المراء‬
‫في الحج‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬عن زيد" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬عن زبيد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )6044‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ )63‬من طريق‬
‫منصور بن المعتمر عن أبي وائل به‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الترمذي في السنن برقم (‪ )2634‬والنسائي في السنن (‪.)122 /7‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪.)3941‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )1521‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1350‬‬

‫( ‪)1/545‬‬

‫وقال عبد ال بن وهب ‪ :‬قال مالك ‪ :‬قال ال تعالى ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ } فالجدال في الحج ‪-‬‬
‫وال أعلم ‪ -‬أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ‪ ،‬وكانت العرب ‪ ،‬وغيرهم يقفون‬
‫بعَرفَة ‪ ،‬وكانوا يتجادلون ‪ ،‬يقول هؤلء ‪ :‬نحن أصوب‪ .‬ويقول هؤلء ‪ :‬نحن أصوب‪ .‬فهذا فيما‬
‫نرى ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن وهب ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬كانوا يقفُون َموَاقف مختلفة يتجادلون ‪ ،‬كُلّهم‬
‫يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه ال حين أعلم نَبّيه بالمناسك‪.‬‬
‫وقال ابن وهب ‪ ،‬عن أبي صخر ‪ ،‬عن محمد بن كعب ‪ ،‬قال ‪ :‬كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال‬
‫هؤلء ‪ :‬حجّنا أتّم من حجكم‪ .‬وقال هؤلء ‪ :‬حجّنا أتم من حَجكم‪.‬‬
‫وقال حماد بن سلمة عن جبر (‪ )1‬بن حبيب ‪ ،‬عن القاسم بن محمد أنه قال ‪ :‬الجِدَال في الحج أن‬
‫يقول بعضهم ‪ :‬الحجّ غدًا‪ .‬ويقول بعضهم ‪ :‬اليوم‪.‬‬
‫وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه القوال ‪ ،‬وهو قطع التنازع في مناسك الحج‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أن المراد بالجدال هاهنا ‪ :‬المخاصمة‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا عبد الحميد بن بيان (‪ )2‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬عن شريك ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪،‬‬
‫عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال ‪ -‬هو ابن مسعود ‪ -‬في قوله ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ } قال ‪ :‬أنْ‬
‫تماري صاحبك حتى تغضبه‪.‬‬
‫وبهذا السناد إلى أبي إسحاق ‪ ،‬عن التميمي ‪ :‬سألت ابن عباس عن "الجدال" قال ‪ :‬المراء ‪،‬‬
‫تماري صاحبك حتى تغضبه‪ .‬وكذا روى ِمقْسَم والضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس‪ .‬وكذا قال أبو العالية ‪،‬‬
‫وعطاء ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وجابر بن زيد ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬ومكحول ‪،‬‬
‫وعمرو بن دينار ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وإبراهيم النّخَعي ‪ ،‬وعطاء بن يسار‬
‫‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ومقاتل بن حيّان‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال الجدال ‪ :‬المراء والملحاة‬
‫‪ ،‬حتى تغضب أخاك وصاحبك ‪ ،‬فنهى ال عن ذلك‪.‬‬
‫وقال إبراهيم النخعي ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي ا ْلحَجّ } قال ‪ :‬كانوا يكرهون الجدال‪ .‬وقال محمد بن‬
‫إسحاق ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬الجدال ‪ :‬السباب والمنازعة‪ .‬وكذا روى ابن وهب ‪،‬‬
‫عن يونس ‪ ،‬عن نافع ‪ :‬أن ابن عمر كان يقول ‪ :‬الجدال في الحج ‪ :‬السباب ‪ ،‬والمراء ‪،‬‬
‫والخصومات ‪ ،‬وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن الزبير ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وطاوس ‪،‬‬
‫ومحمد بن كعب ‪ ،‬قالوا ‪ :‬الجدال المراء‪.‬‬
‫وقال عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن يحيى بن بشر (‪ )3‬عن عكرمة ‪ { :‬وَل جِدَالَ فِي الْحَجّ } والجدال‬
‫الغضب ‪ ،‬أن ُتغْضب عليك مسلمًا ‪ ،‬إل أن تستعتب مملوكًا ف ُتغْضبه من غير أن تضربه ‪ ،‬فل‬
‫بأس عليك ‪ ،‬إن شاء ال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عن حسين" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬عن جبير"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بن سنان"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬بن بشير"‪.‬‬

‫( ‪)1/546‬‬

‫قلت ‪ :‬ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا‪ .‬والدليل على ذلك ما رواه المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن‬
‫إدريس ‪ ،‬حدثنا محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن يحيى بن عباد بن عبد ال بن الزبير ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أنّ‬
‫أسماء بنت أبي بكر قالت ‪ :‬خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم حُجّاجًا ‪ ،‬حتى إذا كنا‬
‫بالعَرْج نزل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فجلست عائشةُ إلى جنب رسول ال ‪ ،‬وجلستُ إلى‬
‫جَنْب أبي‪ .‬وكانت (‪ِ )1‬زمَالة أبي بكر و ِزمَالة رسول ال صلى ال عليه وسلم واحدة مع غلم أبي‬
‫بكر ‪ ،‬فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه ‪ ،‬فأطَْلعَ وليس معه بعيره ‪ ،‬فقال ‪ :‬أين بعيرك ؟‬
‫فقال ‪ :‬أضللتُه البارحة‪ .‬فقال أبو بكر ‪ :‬بعير واحد تُضلّه ؟ فطفق يضربه ‪ ،‬ورسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يتبسم ويقول ‪" :‬انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ "‪.‬‬
‫وهكذا أخرجه أبو داود ‪ ،‬وابن ماجة ‪ ،‬من حديث ابن إسحاق (‪ .)2‬ومن هذا الحديث حكى بعضُهم‬
‫عن بعض السلف أنه قال ‪ :‬من تمام الحج ضَ ْربُ الجمال‪ .‬ولكن يستفاد من قول النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم عن أبي بكر ‪" :‬انظروا إلى هذا ال ُمحْرِم ما يصنع ؟ " ‪ -‬كهيئة النكار اللطيف ‪ -‬أن‬
‫الولى تركُ ذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد قال المام عبد بن حميد في مسنده ‪ :‬حدثنا عبيد ال بن موسى ‪ ،‬عن موسى بن عبيدة ‪ ،‬عن‬
‫أخيه عبد ال بن عبيدة (‪ )3‬عن جابر بن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من‬
‫سكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده ‪ ،‬غفر له ما تقدم من ذنبه (‪.)5( " )4‬‬
‫قضَى نُ ُ‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ } لما نهاهم عن إتيان القبيح قول وفعْل حَثّهم على فعل‬
‫الجميل ‪ ،‬وأخبرهم أنه عالم به ‪ ،‬وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى } قال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬كان أناس يخرجون‬
‫من أهليهم ليست (‪ )6‬معهم أزْودة ‪ ،‬يقولون ‪ :‬نَحُجّ بيت ال ول يطعمنا‪ ..‬فقال ال ‪ :‬تزودوا (‪)7‬‬
‫ما يكف وجوهكم عن الناس‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقري ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عمرو بن‬
‫دينار ‪ ،‬عن عكرمة ‪ :‬قال ‪ :‬إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ‬
‫الزّادِ ال ّتقْوَى }‬
‫وكذا رواه ابن جرير عن عمرو ‪ -‬وهو الفَلس (‪ - )8‬عن ابن عيينة‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وقد روى هذا الحديث و َرقْاء ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس‪ .‬قال ‪ :‬وما يرويه عن ابن عيينة أصح‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬وكان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )6/344‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1818‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2933‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عن أخيه عن عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ما تقدم من ذنبه وما تأخر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المنتخب لعبد بن حميد برقم (‪ )1148‬وموسى بن عبيدة ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ليس"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬وتزودوا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬وهو ابن العلء" وفي أ ‪" :‬أبو الفلس"‪.‬‬

‫( ‪)1/547‬‬

‫قلت ‪ :‬قد رواه النسائي ‪ ،‬عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ‪ ،‬عن سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن‬
‫عمرو بن دينار ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس [قال] (‪ )1‬كان نَاس يحجون بغير زاد ‪ ،‬فأنزل ال‬
‫‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى } (‪ .)2‬وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري ‪ ،‬عن (‪ )3‬يحيى‬
‫بن بشر ‪ ،‬عن (‪ )4‬شَبَابة (‪ .)5‬وأخرجه أبو داود ‪ ،‬عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ‪،‬‬
‫ومحمد بن عبد ال المُخَرّمي ‪ ،‬عن شبابة ‪ ،‬عن ورقاء ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان أهل اليمن يَحُجون ول يتزودون ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬نحن المتوكلون (‪ .)6‬فأنزل‬
‫ال ‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى } (‪.)7‬‬
‫ورواه عبد بن حميد في تفسيره ‪ ،‬عن شَبابة [به] (‪ .)8‬ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث‬
‫شبابة ‪ ،‬به‪.‬‬
‫عمْرو بن عبد الغفار [عن محمد بن سوقة] (‪ )9‬عن‬
‫وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث َ‬
‫نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬كانوا إذا أحرموا ‪ -‬ومعهم أزوادهم ‪ -‬رموا بها ‪ ،‬واستأنفوا زادًا‬
‫آخر (‪ )10‬؛ فأنزل ال تعالى ‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى } فَنُهوا عن ذلك ‪ ،‬وأمِرُوا أن‬
‫يتزودوا الكعك والدقيق والسويق‪ .‬وكذا قال ابن الزبير ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪،‬‬
‫والشعبي ‪ ،‬والنخعي ‪ ،‬وسالم بن عبد ال ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫ومقاتل بن حيان‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جبير ‪ :‬فتزودوا (‪ )11‬الدقيق والسويق والكعك (‪ )12‬وقال وكيع [بن الجراح] (‪)13‬‬
‫في تفسيره ‪ :‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن محمد بن سوقة (‪ )14‬عن سعيد بن جبير ‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا } قال ‪:‬‬
‫الخشكنانج والسويق‪ .‬وقال وكيع أيضًا ‪ :‬حدثنا إبراهيم المكي ‪ ،‬عن ابن أبي نَجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪،‬‬
‫عن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر‪ .‬وزاد فيه حماد بن سلمة ‪ ،‬عن‬
‫جوْزَة (‪.)15‬‬
‫أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه ال َ‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الخرة ‪،‬‬
‫وهو استصحاب التقوى إليها ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬وَرِيشًا وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَى ذَِلكَ خَيْرٌ } [العراف ‪.]26 :‬‬
‫لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي ‪ ،‬وهو الخشوع ‪ ،‬والطاعة (‪ )16‬والتقوى ‪،‬‬
‫وذكر أنه خير من هذا ‪ ،‬وأنفع‪.‬‬
‫قال عطاء الخراساني في قوله ‪ { :‬فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى } يعني ‪ :‬زاد الخرة‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني ‪ :‬حدثنا عبدان ‪ ،‬حدثنا هشام بن عمار ‪ ،‬حدثنا مروان بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11033‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬بن بشير نبا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ط ‪" :‬شبابة قال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬نحن متوكلون"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )1523‬وسنن أبي داود برقم (‪.)1730‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من الطبري‪.‬‬
‫(‪ )10‬تفسير الطبري (‪.)156 /4‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و ‪" :‬يتزودوا" وفي أ ‪" :‬تزودوا"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في أ ‪" :‬كما بينه"‪.‬‬
‫(‪ )13‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬صوفة"‪.‬‬
‫(‪ )15‬في ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الجودة"‪.‬‬
‫(‪ )16‬في أ ‪" :‬الخشوع في الطاعة"‪.‬‬

‫( ‪)1/548‬‬

‫شعَرِ‬
‫لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫الْحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ (‪)198‬‬

‫معاوية ‪ ،‬عن إسماعيل عن قيس ‪ ،‬عن جرير بن عبد ال ‪ ،‬عن النبي ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‬
‫[قال ] ‪" )1( :‬من يتزود في الدنيا يَ ْنفَعه في الخرة" (‪.)2‬‬
‫وقال مقاتل بن حيان ‪ :‬لما نزلت هذه الية ‪ { :‬وَتَ َزوّدُوا } قام رجل من فقراء المسلمين فقال ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬ما نجد زادًا نتزوده‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬تزود ما تكف به وجهك‬
‫عن الناس ‪ ،‬وخير ما تزودتم التقوى"‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ّتقُونِ يَا أُولِي اللْبَابِ } يقول ‪ :‬واتقوا عقابي ‪ ،‬ونكالي ‪ ،‬وعذابي ‪ ،‬لمن خالفني ولم‬
‫يأتمر بأمري ‪ ،‬يا ذوي العقول والفهام‪.‬‬
‫شعَرِ‬
‫{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِنْدَ ا ْلمَ ْ‬
‫الْحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ (‪} )198‬‬
‫عمْرو ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كانت‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا محمد ‪ ،‬أخبرني ابن عيينة ‪ ،‬عن َ‬
‫عكاظ ومَجَنّة ‪ ،‬وذو المجاز أسواق الجاهلية ‪ ،‬فتأثّموا أن يتجروا في المواسم (‪ )3‬فنزلت ‪ { :‬لَ ْيسَ‬
‫عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } في مواسم الحج (‪.)4‬‬
‫وهكذا رواه عبد الرزاق ‪ ،‬وسعيد بن منصور ‪ ،‬وغير واحد ‪ ،‬عن سفيان بن عيينة ‪ ،‬به (‪.)5‬‬
‫ولبعضهم ‪ :‬فلما جاء السلم تأثموا أن يتجروا ‪ ،‬فسألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن‬
‫ذلك ‪ ،‬فأنزل ال هذه الية‪ .‬وكذلك (‪ )6‬رواه ابن جريج ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن ابن عباس ‪،‬‬
‫ظ ومَجّنةُ وذو المجاز ‪ ،‬فلما كان (‪ )7‬السلم كأنهم‬
‫قال ‪ :‬كان متجر الناس في الجاهلية عكا ُ‬
‫كرهوا ذلك ‪ ،‬حتى نزلت هذه الية‪.‬‬
‫وروى أبو داود ‪ ،‬وغيره ‪ ،‬من حديث يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫كانوا يَتّقون البيوع والتجارة في الموسم ‪ ،‬والحج ‪ ،‬يقولون ‪ :‬أيام ذكر ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } (‪.)8‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ُهشَيْم ‪ ،‬أخبرنا حجاج ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ :‬أنه قال ‪" :‬ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضل من ربكم في مواسم الحج"‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس في هذه الية ‪ :‬ل حرج عليكم في الشراء والبيع قبل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬المعجم الكبير (‪ )2/305‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )311 /10‬رجاله رجال الصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬في الموسم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4519‬‬
‫(‪ )5‬تفسير عبد الرزاق (‪ )1/65‬وسنن سعيد بن منصور برقم (‪.)347‬‬
‫(‪ )6‬في ط ‪" :‬وكذا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فلما جاء"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن أبي داود برقم (‪.)1731‬‬

‫( ‪)1/549‬‬

‫الحرام وبعده‪ .‬وهكذا َروَى العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس‪.‬‬


‫وقال َوكِيع ‪ :‬حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‪" :‬ليس‬
‫عليكم جناح أن تبتغوا فضل من ربكم في مواسم الحج"‪[ .‬وقال عبد الرزاق ‪ :‬عن أبيه عيينة ‪،‬‬
‫عن عبيد ال بن أبي يزيد ‪ :‬سمعت ابن الزبير يقول ‪" :‬ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضل من ربكم‬
‫في مواسم الحج" ] (‪.)1‬‬
‫ورواه عبد بن حميد ‪ ،‬عن محمد بن الفضل ‪ ،‬عن حماد بن زيد ‪ ،‬عن عبيد ال (‪ )2‬بن أبي‬
‫يزيد ‪ ،‬سمعت ابن الزبير يقرأ (‪ - )3‬فذكر مثله سواء (‪ .)4‬وهكذا فسرها مجاهد ‪ ،‬وسعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ومنصور بن المعتمر ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫سوّار ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن أبي أميمة (‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا الحسن بن عرفة ‪ ،‬حدثنا شبابة بن َ‬
‫‪ )5‬قال ‪ :‬سمعت ابن عمر ‪ -‬وسُئِل عن الرجل يحجّ ومعه تجارة ‪ -‬فقرأ ابن عمر ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ }‬
‫وهذا موقوف ‪ ،‬وهو قوي جيد (‪ .)6‬وقد روي مرفوعًا قال أحمد ‪ :‬حدثنا [أحمد بن] (‪ )7‬أسباط ‪،‬‬
‫عمْرو الفُقَيمي ‪ ،‬عن أبي أمامة التيمي ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لبن عمر ‪ :‬إنا ُنكْرَي ‪ ،‬فهل‬
‫حدثنا الحسن بن َ‬
‫ف ‪ ،‬وترمون الجمار ‪ ،‬وتحلقون‬
‫لنا من حج ‪ ،‬قال ‪ :‬أليس تطوفون بالبيت ‪ ،‬وتأتون ال ُمعَرّ َ‬
‫رؤوسكم ؟ قال ‪ :‬قلنا (‪ : )8‬بلى‪ .‬فقال ابن عمر ‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم فسأله‬
‫عن الذي سألتني فلم يجبه ‪ ،‬حتى نزل عليه جبريل بهذه الية ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا‬
‫َفضْل مِنْ رَ ّب ُكمْ } فدعاه النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪" :‬أنتم حجاج" (‪.)9‬‬
‫وقال (‪ )10‬عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا الثوري ‪ ،‬عن العلء بن المسيب ‪ ،‬عن رجل من بني تيم ال قال‬
‫‪ :‬جاء رَجُل إلى عبد ال بن عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا عبد الرحمن ‪ ،‬إنا قوم ُنكْرَي ‪ ،‬ويزعمون أنه‬
‫ليس لنا حج‪ .‬قال ‪ :‬ألستم تحرمون كما يحرمون ‪ ،‬وتطوفون كما يطوفون ‪ ،‬وترمون كما‬
‫يرمون ؟ قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪ :‬فأنت حاج (‪ .)11‬ثم قال ابن عمر ‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فسأله عما سألت عنه ‪ ،‬فنزلت هذه الية ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ‬
‫رَ ّبكُمْ } (‪.)12‬‬
‫ورواه عَبْد [بن حميد في تفسيره] (‪ )13‬عن عبد الرزاق به‪ .‬وهكذا روى هذا الحديث ابن (‪)14‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪ :‬يقرأ ‪" :‬ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضل من ربكم في مواسم الحج"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬عن أبي أمامة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬جدا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬قال ‪ :‬قلت"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)2/155‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وقد قال"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬فأنتم حجاج"‪.‬‬
‫(‪ )12‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )4/169‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )13‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أبو"‪.‬‬

‫( ‪)1/550‬‬

‫حذيفة ‪ ،‬عن الثوري ‪ ،‬مرفوعًا‪ .‬وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا (‪.)1‬‬
‫وقال (‪ )2‬ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن عرفة ‪ ،‬حدثنا عباد بن العوام ‪ ،‬عن العلء بن‬
‫المسيب ‪ ،‬عن أبي أمامة التيمي ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لبن عمر ‪ :‬إنا أناس ُنكْرَي في هذا الوجه إلى مكة ‪،‬‬
‫وإن أناسا يزعمون أنّه ل حج لنا ‪ ،‬فهل ترى لنا حجا ؟ قال ‪ :‬ألستم تحرمون ‪ ،‬وتطوفون بالبيت ‪،‬‬
‫وتقفون (‪ )3‬المناسك ؟ قال ‪ :‬قلت ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪ :‬فأنتم حجاج‪ .‬ثم قال ‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم فسأله عن [مثل] (‪ )4‬الذي سألت ‪ ،‬فلم َيدْر ما يعود عليه ‪ -‬أو قال ‪ :‬فلم يَرُدّ عليه‬
‫شيئا ‪ -‬حتى نزلت ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } فدعا الرجل ‪ ،‬فتلها عليه ‪،‬‬
‫وقال ‪" :‬أنتم حجاج" (‪.)5‬‬
‫وكذا رواه مسعود بن سعد ‪ ،‬وعبد الواحد بن زياد ‪ ،‬وشَريك القاضي ‪ ،‬عن العلء بن المسيب به‬
‫مرفوعا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني طليق (‪ )6‬بن محمد الواسطي ‪ ،‬حدثنا أسباط ‪ -‬هو ابن محمد ‪ -‬أخبرنا‬
‫عمْرو ‪ -‬هو الفقَيْمِي ‪ -‬عن أبي أمامة التيمي‪ .‬قال ‪ :‬قلت لبن عمر ‪ :‬إنا قوم ُنكْرَي ‪،‬‬
‫الحسن بن َ‬
‫فهل لنا من حج ؟ فقال ‪ :‬أليس تطوفون بالبيت ‪ ،‬وتأتون ال ُمعَرّف ‪ ،‬وترمون الجمار ‪ ،‬وتحلقون‬
‫رؤوسكم ؟ قلنا ‪ :‬بلى‪ .‬قال (‪ )7‬جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فسأله عن الذي سألتني‬
‫عنه ‪ ،‬فلم يدر ما يقول له ‪ ،‬حتى نزل جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬بهذه الية ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ‬
‫تَبْ َتغُوا َفضْل مِنْ رَ ّبكُمْ } إلى آخر الية ‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أنتم حجاج" (‪.)8‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني أحمد بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد ‪ ،‬حدثنا مَنْدل ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن‬
‫المهاجر ‪ ،‬عن أبي صالح مولى عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬كنتم تتجرون في الحج ؟‬
‫قال ‪ :‬وهل كانت معايشهم إل في الحج ؟‬
‫شعَرِ ا ْلحَرَامِ }‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫جمْع كمسلمات ومؤمنات ‪،‬‬
‫إنما صَ َرفَ "عرفات" وإن كان علما على مؤنث ؛ لنه في الصل َ‬
‫سمي به بقعة معينة ‪ ،‬فروعي فيه الصل ‪ ،‬فصرف‪ .‬اختاره ابن جرير‪.‬‬
‫وعرفة ‪ :‬موضع الموقف (‪ )9‬في الحج ‪ ،‬وهي عمدة أفعال الحج ؛ ولهذا روى المام أحمدُ ‪،‬‬
‫وأهل السنن ‪ ،‬بإسناد صحيح ‪ ،‬عن الثوري ‪ ،‬عن بكير بن (‪ )10‬عطاء ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن‬
‫َيعْمر الديَلي ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وانظر ذكر هذه الطرق في ‪ :‬حاشية الشيخ سعد الحميد على سنن سعيد بن منصور برقم (‬
‫‪ )352‬فقد أجاد وأفاد ‪ ،‬ولول خشية الطالة لنقلته هاهنا‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تقضون"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (‪ )3051‬من طريق مروان بن معاوية عن العلء بن‬
‫المسيب به ‪ ،‬ورواه أبو داود في السنن برقم (‪ )1733‬من طريق عبد الواحد بن زياد عن العلء‬
‫بن المسيب به‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬طلق"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)4/164‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬و ‪" :‬موضع الوقوف" وفي أ ‪" :‬مواضع الوقوف"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن" والمثبت من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/551‬‬

‫قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬الحج عرفات ‪ -‬ثلثا ‪ -‬فمن أدرك عرفة‬
‫قبل أن يطلع الفجر ‪ ،‬فقد أدرك‪ .‬وأيام منى ثلثة (‪ )1‬فمن تعجل في يومين فل إثم عليه ‪ ،‬ومن‬
‫تأخر فل إثم عليه" (‪.)2‬‬
‫ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر ؛ لنّ النبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم وقف في حجة الوداع ‪ ،‬بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس ‪ ،‬وقال ‪" :‬لتأخُذوا‬
‫عني مناسككم" (‪.)3‬‬
‫وقال في هذا الحديث ‪" :‬فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك ‪ ،‬وأبي‬
‫حنيفة ‪ ،‬والشافعي رحمهم ال‪ .‬وذهب المام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عَرَفة‪.‬‬
‫واحتجوا بحديث الشعبي ‪ ،‬عن عروة بن ُمضَرّس بن حارثة بن لم (‪ )4‬الطائي قال ‪ :‬أتيت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بالمزدلفة ‪ ،‬حين خرج إلى الصلة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني‬
‫جئت من جَبَليْ (‪ )5‬طيئ ‪ ،‬أكللت (‪ )6‬راحلتي ‪ ،‬وأتعبت نفسي ‪ ،‬وال ما تركت من جبل إل‬
‫شهِد صلتنا هذه ‪،‬‬
‫وقفت عليه ‪ ،‬فهل لي من حَج ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من َ‬
‫حجّه ‪ ،‬وقضى َتفَثَه"‪.‬‬
‫فوقف معنا حتى ندفع ‪ ،‬وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليل أو نهارا ‪ ،‬فقد تم َ‬
‫رواه المام أحمد ‪ ،‬وأهل السنن ‪ ،‬وصححه الترمذي (‪.)7‬‬
‫ثم قيل ‪ :‬إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق ‪ :‬أخبرني ابن جريج قال ‪ :‬قال ابن المسيب ‪:‬‬
‫قال علي بن أبي طالب ‪ :‬بعث ال جبريل ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬إلى إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فحج به ‪،‬‬
‫حتى إذا أتى عرفة قال ‪ :‬عرفت ‪ ،‬وكان قد (‪ )8‬أتاها مرة قبل ذلك ‪ ،‬فلذلك سميت عَرَفة‪.‬‬
‫وقال ابن المبارك ‪ ،‬عن عبد الملك بن أبي سليمان ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬قال ‪ :‬إنما سميت عرفة ‪ ،‬أنّ‬
‫جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك ‪ ،‬فيقول ‪ :‬عَ َر ْفتُ عَ َر ْفتُ‪ .‬فسمي "عرفات"‪ .‬وروي نحوه عن‬
‫ابن عباس ‪ ،‬وابن عمر وأبي مِجْلز ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫وتسمى عرفات المشعر الحلل ‪ ،‬والمشعر (‪ )9‬القصى ‪ ،‬وإلل ‪ -‬على وزن هلل ‪ -‬ويقال‬
‫للجبل في وسطها ‪ :‬جَ َبلُ الرحمة‪ .‬قال أبو طالب في قصيدته المشهورة ‪:‬‬
‫وبالمشعَر القصى إذا قصدوا له‪ ...‬إلل إلى تلك الشّراج ال َقوَابل (‪)10‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا حماد بن الحسن بن عَنْبَسَة ‪ ،‬حدثنا أبو عامر ‪ ،‬عن زمعة ‪ -‬هو ابن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬ثلث"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )4/335‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1949‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2975‬وسنن النسائي‬
‫(‪ )5/264‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3015‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1297‬من حديث جابر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ابن المام"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ : :‬من جبل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أظللت"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )4/15‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1950‬وسنن الترمذي برقم (‪ )891‬وسنن النسائي (‬
‫‪ )5/263‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3016‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬وقد كان"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ط ‪" :‬المشعر الحرام"‪.‬‬
‫(‪ )10‬البيت في السيرة النبوية لبن هشام (‪.)1/274‬‬

‫( ‪)1/552‬‬

‫صالح ‪ -‬عن سلمة ‪ -‬هو ابن وَهْرَام (‪ - )1‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان أهل‬
‫الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال ‪ ،‬كأنها العمائم على رؤوس‬
‫الرجال ‪ ،‬دفعوا ‪ ،‬فأخر رسول ال صلى ال عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس‪.‬‬
‫ورواه ابن مَ ْردُويه ‪ ،‬من حديث زمعة بن صالح ‪ ،‬وزاد ‪ :‬ثم وقف بالمزدلفة ‪ ،‬وصلى الفجر‬
‫بغَلَس ‪ ،‬حتى إذا أسفر (‪ )2‬كل شيء وكان في الوقت الخر ‪ ،‬دفع‪ .‬وهذا حَسَنُ السناد‪.‬‬
‫خطَبنا رسولُ ال صلى ال‬
‫سوَر بن مَخْرَمة قال ‪َ :‬‬
‫وقال ابن جُرَيْج ‪ ،‬عن محمد بن قيس ‪ ،‬عن الم ْ‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وهو بعرفات ‪ ،‬فحمد ال وأثنى عليه‪ .‬ثم قال ‪" :‬أما بعد ‪ -‬وكان إذا خطب خطبة قال‬
‫ج الكبر ‪ ،‬أل وإن أهلَ الشرك والوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم‬
‫‪ :‬أما بعد ‪ -‬فإن هذا اليوم الح َ‬
‫قبل أن تغيب الشمس ‪ ،‬إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال ‪ ،‬كأنها عمائم الرجال في وجوهها ‪،‬‬
‫وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس ‪ ،‬وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس ‪ ،‬إذا‬
‫كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ‪،‬‬
‫مُخَالفا هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك"‪.‬‬
‫هكذا رواه ابن مَرْدُيَه وهذا لفظه ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬كلهما من حديث عبد الرحمن بن‬
‫المبارك العيشي ‪ ،‬عن عبد الوارث بن سعيد ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬به‪ .‬وقال الحاكم ‪ :‬صحيح على‬
‫سوَر من رسول ال‬
‫شرط الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه‪ .‬قال ‪ :‬وقد صح وثَبَت بما ذكرناه سماع المِ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ل كما يتوهمه رعاع أصحابنا أنّه ممن له رؤية (‪ )3‬بل سماع (‪.)4‬‬
‫وقال َوكِيع ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن إسماعيل بن رجاء [الزبيدي] (‪ )5‬عن المعرور بن سويد ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫رأيت عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬حين دفع من عرفة ‪ ،‬كأني أنظر إليه رَجُل أصلع على بعير له ‪،‬‬
‫يُوضِع (‪ )6‬وهو يقول ‪ :‬إنا وجدنا الفاضة هي اليضاع‪.‬‬
‫وفي حديث جابر بن عبد ال الطويل ‪ ،‬الذي في صحيح مسلم ‪ ،‬قال فيه ‪ :‬فلم يزل واقفا ‪ -‬يعني‬
‫صفْرَة قليل حتى غاب القُرْصُ ‪ ،‬وأردف أسامة‬
‫بعرفة ‪ -‬حتى غربت الشمس ‪ ،‬وذهبت (‪ )7‬ال ّ‬
‫ق للقصواء الزّمام ‪ ،‬حتى إنّ رأسها ليصيب‬
‫خلفه ‪ ،‬ودفعَ رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد شَ َن َ‬
‫َموْرك رحله ‪ ،‬ويقول بيده اليمنى ‪" :‬أيها الناس ‪ ،‬السكينة السكينة"‪ .‬كلما أتى جبل من الجبال‬
‫أرْخَى لها قليل حتى تصعد ‪ ،‬حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد‬
‫وإقامتين ‪ ،‬ولم يُسَبّحْ بينهما شيئا ‪ ،‬ثم اضطجع حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيّن له الصبح‬
‫بأذان وإقامة ‪ ،‬ثم ركب القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام ‪ ،‬فاستقبل القبلة ‪ ،‬فدعا ال وكبره وهَلّله‬
‫ووحّده ‪ ،‬فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ‪ ،‬فدفع قبل أن تطلُع الشمس (‪ )8‬وفي الصحيح (‪ )9‬عن‬
‫أسامة بن زيد ‪ ،‬أنه سُئِل كيف كان يسير رسول ال صلى ال عليه وسلم حين َدفَعَ ؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬هو ابن هشام"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬إذا استقر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ممن له رواية"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المستدرك (‪.)2/277‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬فوضع"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وبدت"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)1218‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وفي الصحيحين"‪.‬‬

‫( ‪)1/553‬‬

‫جوَة نَص" (‪ .)1‬والعنق ‪ :‬هو انبساط السير ‪ ،‬والنص ‪ ،‬فوقه‪.‬‬


‫قال ‪" :‬كان يسير العَنَق ‪ ،‬فإذا وجد فَ ْ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي ‪ ،‬فيما كَتَب إليّ ‪ ،‬عن أبيه أو عمه ‪ ،‬عن‬
‫شعَرِ الْحَرَامِ } وهي‬
‫سفيان بن عيينة قوله ‪ { :‬فَِإذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِنْدَ ا ْل َم ْ‬
‫الصلتين (‪ )2‬جميعا‪.‬‬
‫عمْرو عن المشعر الحرام ‪،‬‬
‫وقال أبو إسحاق السّبِيعي ‪ ،‬عن عمرو بن ميمون ‪ :‬سألت عبد ال بن َ‬
‫فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال ‪ :‬أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر‬
‫الحرام‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن سالم قال ‪ :‬قال ابن عمر ‪ :‬المشعر الحرام‬
‫المزدلفة كلها (‪.)3‬‬
‫وقال ُهشَيم ‪ ،‬عن حجاج (‪ )4‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أنه سئل عن قوله ‪ { :‬فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِنْدَ‬
‫شعَرِ ا ْلحَرَامِ } قال ‪ :‬فقال ‪ :‬هو الجبل وما حوله‪.‬‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫عمَر يزدحمون‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن المغيرة ‪ ،‬عن إبراهيم قال ‪ :‬رآهم ابن ُ‬
‫على قُزَحَ ‪ ،‬فقال ‪ :‬عَلم يزدحم هؤلء ؟ كل ما هاهنا مشعر (‪.)5‬‬
‫وروي عن ابن عباس ‪ ،‬وسعيد بن جُبير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وقتادة أنهم قالوا ‪ :‬هو ما بين الجبلين‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ :‬قلت لعطاء ‪ :‬أين المزدلفة ؟ قال ‪ :‬إذا أ َفضْت (‪ )6‬من مَأزمي عرفة فذلك إلى‬
‫مُحَسّر‪ .‬قال ‪ :‬وليس المأزمان مَأزما عرفة من المزدلفة ‪ ،‬ولكن ُمفَاضَاهما (‪ .)7‬قال ‪ :‬فقِف (‪)8‬‬
‫بينهما إن شئت ‪ ،‬قال ‪ :‬وأحب أن تَقفَ دون قُزَح ‪ ،‬هَُلمّ إلينا من أجل طريق الناس‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والمشاعر هي المعالم الظاهرة ‪ ،‬وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام ؛ لنها داخل‬
‫الحرم ‪ ،‬وهل الوقوف بها ركن في الحج ل يصح إل به ‪ ،‬كما ذهب إليه طائفة من السلف ‪،‬‬
‫وبعض أصحاب الشافعي ‪ ،‬منهم ‪ :‬القفال ‪ ،‬وابن خُزَيمة ‪ ،‬لحديث عُرْوة بن ُمضَرَس ؟ أو‬
‫واجب ‪ ،‬كما هو أحد قولي الشافعي يجْبَر بدم ؟ أو مستحب ل يجب (‪ )9‬بتركه شيء كما هو‬
‫القول الخر ؟ في ذلك ثلثة أقوال للعلماء ‪ ،‬لبسطها موضع آخر غير هذا ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4413 ، 1666‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1286‬‬
‫(‪ )2‬كذا في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬وهو خطأ ‪ ،‬والصواب ‪" :‬الصلتان"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )4/176‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عن الحجاج"‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )178 ، 4/177‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬إذا أفضيت" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬إذا قضيت"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬مقضاهما"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬فتقف"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ل يجبره"‪.‬‬

‫( ‪)1/554‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ (‪)199‬‬


‫س وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫ثُمّ َأفِيضُوا مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّا ُ‬
‫وقال عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن سفيان الثوري ‪ ،‬عن زيد بن أسلم أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫جمْع كلها مَوقف إل مُحَسرًا" (‪.)2‬‬
‫وسلم قال ‪" :‬عَ َرفَ ُة كلها موقف ‪ ،‬وارفعوا عن عُرَنة (‪ ، )1‬و َ‬
‫هذا حديث مرسل‪ .‬وقد قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو المغيرة ‪ ،‬حدثنا سعيد بن عبد العزيز ‪ ،‬حدثني‬
‫سليمان بن موسى ‪ ،‬عن جبير بن مطعم (‪ ، )3‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬قال ‪" :‬كل‬
‫عرفات موقف ‪ ،‬وارفعوا عن عُرَنة (‪ .)4‬وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحَسّر ‪ ،‬وكل فجاج‬
‫مكة مَنْحر ‪ ،‬وكل أيام التشريق ذبح" (‪.)5‬‬
‫وهذا أيضا منقطع ‪ ،‬فإن سليمان بن موسى هذا ‪ -‬وهو الشدق ‪ -‬لم يدرك جُبَير بن مطعم‪ .‬ولكن‬
‫رواه الوليد بن مسلم ‪ ،‬وسويد بن عبد العزيز ‪ ،‬عن سعيد بن عبد العزيز ‪ ،‬عن سليمان ‪ ،‬فقال‬
‫الوليد ‪ :‬عن ابن لجبير (‪ )6‬بن مطعم ‪ ،‬عن أبيه‪ .‬وقال سويد ‪ :‬عن نافع بن جبير بن مطعم ‪ ،‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكره ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَاكُ ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبِْلهِ َلمِنَ الضّالّينَ } تنبيه لهم على ما أ ْنعَم به عليهم ‪،‬‬
‫من الهداية والبيان والرشاد إلى مشاعر الحج ‪ ،‬على ما كان عليه إبراهيم الخليل ‪ ،‬عليه السلم ؛‬
‫ولهذا قال ‪ { :‬وَإِنْ كُنْ ُتمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ } قيل ‪ :‬من قبل هذا الهدي ‪ ،‬وقبل القرآن ‪ ،‬وقبل‬
‫الرسول ‪ ،‬والكل متقارب ‪ ،‬ومتلزم ‪ ،‬وصحيح‪.‬‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪} )199‬‬
‫س وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫{ ُثمّ َأفِيضُوا مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّا ُ‬
‫"ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه ‪ ،‬كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن َي ْدفَع إلى‬
‫المزدلفة ‪ ،‬ليذكر ال عند المشعر الحرام ‪ ،‬وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات ‪ ،‬كما‬
‫كان جمهور الناس يصنعون ‪ ،‬يقفون بها إل قريشًا ‪ ،‬فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم ‪ ،‬فيقفون‬
‫في طرف الحرم عند أدنى الحِل (‪ ، )7‬ويقولون ‪ :‬نحن أهل ال في بلدته ‪ ،‬وقُطّان بيته‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬حدثنا علي بن عبد ال ‪ ،‬حدثنا محمد بن حازم ‪ ،‬حدثنا هشام ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫حمْس ‪ ،‬وكان (‪)8‬‬
‫سمّون ال ُ‬
‫عائشة قالت ‪ :‬كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ‪ ،‬وكانوا يُ َ‬
‫سائر العرب يقفون بعرفات‪ .‬فلما جاء السلم أمر ال نبيه صلى ال عليه وسلم أن يَأتَي عرفات ‪،‬‬
‫ثم يقف بها ثم يُفيض‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن عرفة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبري في التفسير (‪ )4/179‬وقد جاء موصول من حديث جابر رضي ال عنه ‪،‬‬
‫ورواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )3012‬وأصله في صحيح مسلم برقم (‪ )1218‬أ‪ .‬هـ مستفادا‬
‫من حاشية الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬عن جبير بن مطعم عن أبيه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬عرفات" وفي و ‪" :‬عرنات"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)4/82‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬عن جبير"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬الجبل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬وكانت"‪.‬‬

‫( ‪)1/555‬‬

‫منها ‪ ،‬فذلك قوله ‪ { :‬مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ } (‪.)1‬‬


‫وكذا قال ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وغيرهم‪ .‬واختاره ابن جرير ‪،‬‬
‫وحكى عليه الجماع ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫سفْيان ‪ ،‬عن عمرو ‪ ،‬عن محمد بن جبير بن مطعم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ ،‬حدثنا ُ‬
‫أضللتُ بعيرًا لي بعرفة ‪ ،‬فذهبت أطلبه ‪ ،‬فإذا النبي صلى ال عليه وسلم واقف ‪ ،‬قلت ‪ :‬إن هذا‬
‫حمْس (‪ )2‬ما شأنه هاهنا ؟‬
‫من ال َ‬
‫أخرجاه في الصحيحين (‪ .)3‬ثم روى البخاري من حديث موسى بن عقبة ‪ ،‬عن كُرَيب ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ما يقتضي أن المراد بالفاضة هاهنا هي الفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار (‪.)4‬‬
‫فال أعلم‪ .‬وحكاه ابنُ جرير ‪ ،‬عن الضحاك بن مزاحم فقط‪ .‬قال ‪ :‬والمراد بالناس ‪ :‬إبراهيم ‪،‬‬
‫عليه السلم‪ .‬وفي رواية عنه ‪ :‬المام‪ .‬قال ابن جرير (‪ )5‬ولول إجماع الحجة على خلفه لكان‬
‫هو الرجح‪.‬‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } كثيرًا ما يأمر ال بذكره بعد قضاء العبادات ؛‬
‫وقوله ‪ { :‬وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫ولهذا ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلة يستغفر‬
‫ثلثًا‪ .‬وفي الصحيحين أنّه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ‪ ،‬ثلثًا وثلثين ‪ ،‬ثلثًا وثلثين (‪.)6‬‬
‫وقد روى ابن جرير هاهنا حديث (‪ )7‬ابن عباس (‪ )8‬بن مرداس السلمي في استغفاره ‪ ،‬عليه‬
‫السلم ‪ ،‬لمته عَشِيّةَ عرفة ‪ ،‬وقد أوردناه (‪ )9‬في جُزْء جمعناه في فضل يوم عرفة (‪.)10‬‬
‫وأورد ابن مَرْدويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري ‪ ،‬عن شداد بن أوس قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬سيد الستغفار أن يقول العبد ‪ :‬اللهم أنت ربي ‪ ،‬ل إله إل أنت ‪ ،‬خلقتني‬
‫وأنا عبدك ‪ ،‬وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت ‪ ،‬أبوءُ لك‬
‫بنعمتك عََليّ ‪ ،‬وأبوء بذنبي ‪ ،‬فاغفر لي ‪ ،‬فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪ .‬من قالها في ليلة فمات في‬
‫ليلته دخل الجنة ‪ ،‬ومن قالها في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4520‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬الحميس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )4/80‬وصحيح البخاري برقم (‪ )1664‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1220‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)4521‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬ابن جريج"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ثلث وثلثين وثلث وثلثين"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ط ‪" :‬هاهنا حديثا حديث"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في ط ‪" :‬حديث العباس"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬أفردناه"‪.‬‬
‫(‪ )10‬قال الطبري في تفسيره (‪" : )4/192‬حدثني إسماعيل بن سيف العجلي قال ‪ :‬حدثنا عبد‬
‫القاهر بن السري السلمي قال ‪ :‬حدثنا ابن كنانة ‪ -‬ويكنى أبا كنانة ‪ -‬عن أبيه ‪ ،‬عن العباس بن‬
‫مرداس السلمي قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬دعوت ال يوم عرفة أن يغفر لمتي‬
‫ذنوبها ‪ ،‬فأجابني ‪ :‬أن قد غفرت ‪ ،‬إل ذنوبها بينها وبين خلقي ‪ ،‬فأعدت الدعاء يومئذ ‪ ،‬فلم أجب‬
‫بشيء ‪ ،‬فلما كان غداة المزدلفة قلت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلمته‬
‫وتغفر لهذا الظالم ‪ ،‬فأجابني ‪ :‬أن قد غفرت" قال ‪ :‬فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬فقلنا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه !! قال ‪" :‬ضحكت من عدو ال‬
‫إبليس لما سمع بما سمع ‪ ،‬إذ هو يدعو بالويل والثبور ‪ ،‬ويضع التراب على رأسه"‪.‬‬

‫( ‪)1/556‬‬

‫س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ كَ ِذكْ ِركُمْ آَبَا َءكُمْ َأوْ َأشَدّ ِذكْرًا َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي‬
‫فَإِذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ‬
‫حسَنَ ًة َوفِي الْآَخِ َرةِ‬
‫الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الْآَخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ (‪َ )200‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي الدّنْيَا َ‬
‫حسَابِ (‪)202‬‬
‫حسَنَ ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ (‪ )201‬أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫َ‬

‫يومه فمات دخل الجنة" (‪.)1‬‬


‫عمْرو ‪ :‬أن أبا بكر قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬عَلمني دعاء أدعو به‬
‫وفي الصحيحين عن عبد ال بن َ‬
‫في صلتي ؟ فقال ‪" :‬قل ‪ :‬اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ول يغفر الذنوب إل أنت ‪ ،‬فاغفر‬
‫لي َمغْفِرةً من عندك وارحمني ‪ ،‬إنّك أنت الغفور الرحيم" (‪.)2‬‬
‫والحاديث في الستغفار كثيرة‪.‬‬
‫شدّ ِذكْرًا َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي‬
‫س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَا َءكُمْ َأوْ أَ َ‬
‫{ فَِإذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ‬
‫الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ (‪َ )200‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ‬
‫حسَابِ (‪} )202‬‬
‫حسَنَ ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ (‪ )201‬أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫َ‬
‫يأمرُ تعالى بذكره والكثار منه بعد َقضَاء المناسك وفراغها‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬كَ ِذكْ ِر ُكمْ آبَا َء ُكمْ } اختلفوا في معناه ‪ ،‬فقال ابن جُرَيج ‪ ،‬عن عطاء ‪ :‬هو (‪ )3‬كقول‬
‫الصبي ‪" :‬أ َبهْ أمّهْ" ‪ ،‬يعني ‪ :‬كما يَ ْلهَج الصبي بذكر أبيه وأمه ‪ ،‬فكذلك أنتم ‪ ،‬فالهجوا بذكر ال بعد‬
‫قضاء النسك‪ .‬وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس‪ .‬وروى ابنُ جرير من طريق العوفي ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ -‬نحوه‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جُبَير ‪ ،‬عن ابن عباس [قال] (‪ : )4‬كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم (‪ )5‬فيقول‬
‫حمَالت [ويحمل الديات] (‪ .)6‬ليس لهم ذكر غير فعال‬
‫الرجل منهم ‪ :‬كان أبي يطعم ويحمل ال َ‬
‫شدّ ِذكْرًا }‬
‫آبائهم‪ .‬فأنزل ال على محمد صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬فَا ْذكُرُوا اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَا َءكُمْ َأوْ أَ َ‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬ورُوي عن أنس بن مالك ‪ ،‬وأبي وائل ‪ ،‬وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه ‪،‬‬
‫وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬وعكرمة في إحدى رواياته ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والربيع‬
‫بن أنس ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬ومحمد بن كعب ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬نحو ذلك‪ .‬وهكذا حكاه ابن‬
‫جرير أيضًا عن جماعة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫شدّ ِذكْرًا }‬
‫والمقصود منه الحث على كثرة الذكر ل عز وجل ؛ ولهذا كان انتصاب قوله ‪َ { :‬أوْ أَ َ‬
‫على التمييز ‪ ،‬تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا‪ .‬و"أو" هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ‪،‬‬
‫شوْنَ النّاسَ َكخَشْيَةِ اللّهِ َأوْ‬
‫س َوةً } [البقرة ‪ ، ]74 :‬وقوله ‪َ { :‬يخْ َ‬
‫كقوله ‪َ { :‬ف ِهيَ كَا ْلحِجَا َرةِ َأوْ َأشَدّ َق ْ‬
‫خشْيَةً } [النساء ‪، ]77 :‬‬
‫شدّ َ‬
‫أَ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)6306‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )7378‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2705‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وهو"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬في المواسم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/557‬‬

‫{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِا َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ } [الصافات ‪َ { ، ]147 :‬فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى } [النجم ‪:‬‬
‫‪ .]9‬فليست هاهنا للشك قطعًا ‪ ،‬وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه‪ .‬ثم إنه تعالى‬
‫أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره ‪ ،‬فإنه مظنة الجابة ‪ ،‬و َذمّ من ل يسأله إل في أمر دنياه ‪ ،‬وهو‬
‫معرض عن أخراه ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬فمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ‬
‫} أي ‪ :‬مِنْ َنصِيب ول حظ‪ .‬وتضمّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه (‪ )1‬بمن هو كذلك‪ .‬قال سعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬كان قوم من العراب يجيئون إلى الموقف ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬اللهم اجعله عام‬
‫غَيث وعام خصْب وعام ولد حسن‪ .‬ل يذكرون (‪ )2‬من أمر الخرة شيئًا ‪ ،‬فأنزل ال فيهم ‪:‬‬
‫{ َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ } (‪ )3‬وكان يجيء بعدهم‬
‫عذَابَ‬
‫آخرون [من المؤمنين] (‪ )4‬فيقولون ‪ { :‬رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَنَ ًة َوقِنَا َ‬
‫النّارِ } فأنزل ال ‪ { :‬أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } ولهذا مدح من يسأله‬
‫عذَابَ‬
‫للدنيا والخرى ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَنَةً َوقِنَا َ‬
‫ل كلّ‬
‫النّارِ } فجمعت هذه الدعوةُ كلّ خير في الدنيا ‪ ،‬وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشم ُ‬
‫مطلوب دنيوي ‪ ،‬من عافية ‪ ،‬ودار رحبة ‪ ،‬وزوجة حسنة ‪ ،‬ورزق واسع ‪ ،‬وعلم نافع ‪ ،‬وعمل‬
‫صالح ‪ ،‬ومركب هنيء ‪ ،‬وثناء جميل ‪ ،‬إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين ‪ ،‬ول‬
‫منافاة بينها ‪ ،‬فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا‪ .‬وأما الحسنة في الخرة فأعلى ذلك دخول‬
‫الجنة وتوابعه من المن (‪ )5‬من الفزع الكبر في العَرَصات ‪ ،‬وتيسير الحساب وغير ذلك من‬
‫أمور الخرة الصالحة ‪ ،‬وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ‪ ،‬من اجتناب‬
‫المحارم والثام وترك الشبهات والحرام (‪.)6‬‬
‫وقال القاسم بن (‪ )7‬عبد الرحمن ‪ :‬من أعطي قلبا شاكرًا ‪ ،‬ولسانًا ذاكرًا ‪ ،‬وجسدًا صابرًا ‪ ،‬فقد‬
‫أوتي في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة ‪ ،‬ووقي عذاب النار‪.‬‬
‫ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء‪ .‬فقال البخاري ‪ :‬حدثنا أبو معمر ‪ ،‬حدثنا عبد الوارث‬
‫‪ ،‬عن عبد العزيز ‪ ،‬عن أنس بن مالك قال ‪ :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬اللّهم ربّنا ‪،‬‬
‫آتنا في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة وقنا عذاب النار" (‪.)8‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا عبد العزيز بن صهيب ‪ ،‬عن أنس (‪ )9‬قال‬
‫‪ :‬كان أكثر دعوة يدعو بها رسول ال صلى ال عليه وسلم [يقول] (‪" : )10‬اللهم ربّنا ‪ ،‬آتنا في‬
‫الدنيا حسنة ‪ ،‬وفي الخرة حسنة ‪ ،‬وقنا عذاب النار" (‪.)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬عن التشبيه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ل يذرون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬فمن الناس من" وهو الصواب‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وتوابع ذلك المن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬في الحرام" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬واجتناب الحرام"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬قال القاسم أبو"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪.)4522‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال ‪ :‬سأل قتادة أنسا ‪ :‬أي دعوة كان أكثر يدعو بها‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ؟ "‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )11‬المسند (‪.)3/101‬‬

‫( ‪)1/558‬‬

‫[وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ‪ ،‬وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه] (‪.)1‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا عبد السلم بن شداد ‪ -‬يعني أبا طالوت‬
‫‪ -‬قال ‪ :‬كنت عند أنس بن مالك ‪ ،‬فقال له ثابت ‪ :‬إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم‪ .‬فقال ‪ :‬اللهم‬
‫آتنا في الدنيا حسنة ‪ ،‬وفي الخرة حسنة ‪ ،‬وقنا عذاب النار‪ .‬وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا‬
‫القيام ‪ ،‬قال (‪ : )2‬يا أبا حمزة ‪ ،‬إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال ‪ :‬تريدون أن أشَققَ لكم‬
‫المور ‪ ،‬إذا آتاكم ال في الدنيا حسنة ‪ ،‬وفي الخرة حسنة ‪ ،‬ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير‬
‫كله‪.‬‬
‫وقال أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا محمد بن أبي عدي ‪ ،‬عن حميد ‪[ ،‬وعبد ال بن بكر السهمي ‪ ،‬حدثنا‬
‫حميد] (‪ )3‬عن أنس ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عاد رَجُل من المسلمين قد صار مثل‬
‫الفَرْخ‪ .‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬هل تدعو (‪ )4‬ال بشيء أو تسأله إيّاه ؟ " قال ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬كنت أقول ‪ :‬اللهم ما كنت معاقبي به في الخرة فعجله لي في الدنيا‪ .‬فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬سبحان ال! ل تطيقه ‪ -‬أو ل تستطيعه ‪ -‬فهل قلت ‪ { :‬رَبّنَا (‪ )5‬آتِنَا فِي الدّنْيَا‬
‫حسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ } "‪ .‬قال ‪ :‬فدعا ال ‪ ،‬فشفاه‪.‬‬
‫َ‬
‫انفرد بإخراجه مسلم ‪ ،‬فرواه من حديث ابن أبي عدي ‪ -‬به (‪.)6‬‬
‫وقال المام الشافعي ‪ :‬أخبرنا سعيد بن سالم القداح ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن يحيى بن عبيد ‪ -‬مولى‬
‫السائب ‪ -‬عن أبيه ‪ ،‬عن عبد ال بن السائب ‪ :‬أنه سمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول فيما بين‬
‫الركن اليماني والركن السود ‪ { :‬رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ } (‬
‫‪ .)7‬ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك‪.‬‬
‫وروى ابن ماجة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬نحو ذلك‪ .‬وفي سنده‬
‫ضعف (‪ )8‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن مَرْدويه ‪ :‬حدثنا عبد الباقي ‪ ،‬أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور ‪ ،‬حدثنا سعيد بن سليمان‬
‫‪ ،‬عن إبراهيم بن سليمان ‪ ،‬عن عبد ال بن هرمز ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما مررت على الركن إل رأيت عليه ملكًا يقول ‪ :‬آمين‪ .‬فإذا‬
‫مررتم عليه فقولوا ‪ { :‬رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬قالوا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من مسند المام أحمد (‪.)3/107‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬هل كنت تدعو"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬اللهم" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪.)3/107‬‬
‫(‪ )7‬ورواه البغوي في شرح السنة (‪ )7/128‬من طريق الشافعي به ‪ ،‬ورواه ابن حبان في‬
‫صحيحه برقم (‪" )1001‬موارد" من طريق يحيى القطان عن ابن جريج به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)2957‬‬

‫( ‪)1/559‬‬

‫وقال الحاكم في مستدركه ‪ :‬أخبرنا أبو زكريا العنبري ‪ ،‬حدثنا محمد بن عبد السلم ‪ ،‬حدثنا‬
‫إسحاق بن إبراهيم ‪ ،‬أخبرنا جرير ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن مُسْلم البطين ‪ ،‬عن سعيد بن جبير قال ‪:‬‬
‫جاء رَجُل إلى ابن عباس فقال ‪ :‬إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني ‪ ،‬ووضعت لهم من‬
‫أجرتي على أن يَدعُوني أحج معهم ‪ ،‬أفيجزي ذلك ؟ فقال ‪ :‬أنت من الذين قال ال [فيهم] (‪: )1‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } ثم قال الحاكم ‪ :‬صحيح على شرط‬
‫الشيخين ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)2‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬المستدرك (‪.)2/277‬‬

‫( ‪)1/560‬‬

‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ َومَنْ تََأخّرَ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَى‬
‫وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ َتعَ ّ‬
‫وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّن ُكمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ (‪)203‬‬

‫علَيْ ِه َومَنْ تَأَخّرَ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ‬


‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَل إِثْمَ َ‬
‫{ وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ َت َع ّ‬
‫حشَرُونَ (‪} )203‬‬
‫ا ّتقَى وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ إِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫قال ابن عباس ‪" :‬اليام المعدودات" أيام التشريق ‪ ،‬و"اليام المعلومات" أيام العَشْر‪ .‬وقال عكرمة ‪:‬‬
‫{ وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ } يعني ‪ :‬التكبير أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات ‪ :‬ال‬
‫أكبر ‪ ،‬ال أكبر‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا موسى بن علي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت عقبة بن عامر‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يوم عَرَفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهل‬
‫السلم ‪ ،‬وهي أيام أكل وشرب" (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا هُشَيم ‪ ،‬أخبرنا خالد ‪ ،‬عن أبي المليح ‪ ،‬عن نُبَيشة الهذلي قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أيام التشريق أيامُ أكل وشرب وذكر ال"‪ .‬رواه (‪ )2‬مسلم‬
‫أيضًا (‪ )3‬وتقدم حديث جبير بن مطعم ‪" :‬عَ َرفَة كلها موقف ‪ ،‬وأيام التشريق كلها ذبح"‪ .‬وتقدم‬
‫[أيضًا] (‪ )4‬حديث عبد الرحمن بن َي ْعمَر الدّيلي (‪" )5‬وأيام منى ثلثة ‪ ،‬فمن تعجل في يومين فل‬
‫إثم عليه ‪ ،‬ومن تأخر فل إثم عليه"‪.‬‬
‫عمْرو بن أبي‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم وخلد بن أسلم ‪ ،‬قال حدثنا ُهشَيم ‪ ،‬عن َ‬
‫سلمة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أيام التشريق أيام‬
‫طعْم وذكر (‪.)7( " )6‬‬
‫ُ‬
‫وحدثنا خلد بن أسلم ‪ ،‬حدثنا َروْح ‪ ،‬حدثنا صالح ‪ ،‬حدثني ابن شهاب ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث عبد ال بن حُذافة يطوف في منى ‪" :‬ل‬
‫تصوموا هذه اليام ‪ ،‬فإنها أيام أكل وشرب ‪ ،‬وذكر ال ‪ ،‬عز وجل" (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)4/153‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬ورواه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )5/75‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1141‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬معمر الديلمي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وذكر ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪.)4/211‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)4/211‬‬

‫( ‪)1/560‬‬

‫وحدثنا يعقوب ‪ ،‬حدثنا هُشَيم ‪ ،‬عن سفيان بن حسين ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬قال ‪ :‬بعث رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم عبد ال بن حذافة ‪ ،‬فنادى في أيام التشريق فقال ‪" :‬إن هذه اليام أيام أكل وشرب‬
‫صوْم من هَدْي"‪.‬‬
‫وذكر ال ‪ ،‬إل من كان عليه َ‬
‫زيادة حسنة ولكن مرسلة‪ .‬وبه قال هُشَيم ‪ ،‬عن عبد الملك بن أبي سليمان ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪:‬‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث بشْرَ بن سحيم ‪ ،‬فنادى في أيام التشريق فقال ‪" :‬إن هذه‬
‫اليام أيام أكل وشرب وذكر ال"‪.‬‬
‫وقال ُهشَيم ‪ ،‬عن ابن أبي ليلى ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬نهى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن صوم أيام التشريق ‪ ،‬قال ‪" :‬هي أيام أكل وشرب وذكر ال"‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن حكيم بن حكيم ‪ ،‬عن مسعود بن الحاكم الزّرَقي ‪ ،‬عن أمه قالت ‪:‬‬
‫لكأني (‪ )1‬أنظر إلى عليّ على بغلة رسول ال صلى ال عليه وسلم البيضاء ‪ ،‬حتى وقف (‪)2‬‬
‫على شعب النصار وهو يقول ‪" :‬يا أيها الناس ‪ ،‬إنها ليست بأيام صيام ‪ ،‬إنما هي أيام أكل‬
‫وشرب وذكر" (‪.)3‬‬
‫وقال ِمقْسَم عن ابن عباس ‪ :‬اليام المعدودات ‪ :‬أيام التشريق ‪ ،‬أربعة أيام ‪ :‬يوم النحر ‪ ،‬وثلثة‬
‫[أيام] (‪ )4‬بعده ‪ ،‬ورُوي عن ابن عمر ‪ ،‬وابن الزبير ‪ ،‬وأبي موسى ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪،‬‬
‫وعكرمة ‪ ،‬وسعيد ابن جُبَير ‪ ،‬وأبي مالك ‪ ،‬وإبراهيم النخَعي ‪[ ،‬ويحيى بن أبي كثير] (‪ )5‬والحسن‬
‫‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬ومقاتل بن حيّان ‪ ،‬وعطاء‬
‫الخراساني ‪ ،‬ومالك بن أنس ‪ ،‬وغيرهم ‪ -‬مثل ذلك‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طالب (‪ : )6‬هي ثلثة ‪ ،‬يوم النحر ويومان بعده ‪ ،‬اذبح في أيّهنّ شئت ‪،‬‬
‫وأفضلها أولها‪.‬‬
‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ‬
‫والقول الول هو المشهور وعليه دل ظاهر الية الكريمة ‪ ،‬حيث قال ‪َ { :‬فمَنْ َت َع ّ‬
‫فَل إِثْمَ عَلَ ْي ِه َومَنْ تَأَخّرَ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ } فدل على ثلثة بعد النحر‪.‬‬
‫ويتعلق بقوله ‪ { :‬وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ } ذكْرُ ال على الضاحي ‪ ،‬وقد تقدم ‪ ،‬وأن‬
‫الراجح في ذلك مذهب الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬وهو أن وقت الضحية من يوم النحر إلى آخر أيام‬
‫التشريق‪ .‬ويتعلق به أيضًا الذكر المؤقت خلف الصلوات ‪ ،‬والمطلق في سائر الحوال‪ .‬وفي وقته‬
‫أقوال (‪ )7‬للعلماء ‪ ،‬وأشهرها الذي عليه العمل أنّه من صلة الصبح يوم عرفة إلى صلة العصر‬
‫من آخر أيام التشريق ‪ ،‬وهو آخر ال ّنفْر الخِر‪ .‬وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني ‪ ،‬ولكن ل‬
‫يصح مرفوعا (‪ )8‬وال أعلم‪ .‬وقد ثبت أن عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬كان يكبر في قبته‬
‫‪ ،‬فيكبر أهل السوق‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬وكأني"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬حتى وقفت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبري في تفسيره (‪ )4/213‬من طريق ابن علية عن ابن إسحاق به‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وقال علي بن أبي طلحة رضي ال عنه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وفيه أقوال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن الدارقطني (‪ )50 ، 2/49‬من طرق عن جابر رضي ال عنه‪.‬‬
‫( ‪)1/561‬‬

‫خصَامِ (‪)204‬‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫حبّ ا ْلفَسَادَ (‪ )205‬وَإِذَا قِيلَ‬
‫ل وَاللّهُ لَا ُي ِ‬
‫سَ‬‫ث وَالنّ ْ‬
‫سدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ‬
‫سعَى فِي الْأَ ْرضِ لِ ُيفْ ِ‬
‫وَإِذَا َتوَلّى َ‬
‫جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (‪َ )206‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ‬
‫حسْبُهُ َ‬
‫خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالْإِ ْثمِ فَ َ‬
‫لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ‬
‫ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ (‪)207‬‬

‫بتكبيره ‪ ،‬حتى ترتج منى تكبيرًا‪.‬‬


‫ويتعلق بذلك أيضًا التكبيرُ وذكر ال عند رمي الجمرات كلّ يوم من أيام التشريق‪ .‬وقد جاء في‬
‫الحديث الذي رواه أبو داود وغيره ‪" :‬إنما جعل الطواف بالبيت ‪ ،‬والسعي بين الصفا والمروة‬
‫ورمي الجمار ‪ ،‬لقامة ذكر ال عز وجل" (‪.)1‬‬
‫ولما ذكر ال تعالى ال ّنفْر الول والثاني ‪ ،‬وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر القاليم‬
‫والفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف ‪ ،‬قال ‪ { :‬وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ }‬
‫ض وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ }‬
‫[أي ‪ :‬تجتمعون يوم القيامة] (‪ ، )2‬كما قال ‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي ذَرََأ ُكمْ فِي الرْ ِ‬
‫[المؤمنون ‪.]79 :‬‬
‫خصَامِ (‪)204‬‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ‬
‫{ َومِنَ النّاسِ مَنْ ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫حبّ ا ْلفَسَادَ (‪ )205‬وَإِذَا‬
‫ل وَاللّ ُه ل ُي ِ‬
‫سَ‬‫ث وَالنّ ْ‬
‫سعَى فِي ال ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ‬
‫وَإِذَا َتوَلّى َ‬
‫جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (‪َ )206‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ‬
‫خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالثْمِ َفحَسْبُهُ َ‬
‫قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ‬
‫ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ (‪} )207‬‬
‫قال السدي ‪ :‬نزلت في الخنس بن شَرِيق الثقفي ‪ ،‬جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وأظهر السلم وفي باطنه خلف ذلك‪ .‬وعن ابن عباس ‪ :‬أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا‬
‫في خُبَيب وأصحابه الذين قتلوا بالرّجيع وعابُوهم ‪ ،‬فأنزل ال في ذم المنافقين ومدح خُبَيب‬
‫سهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ }‬
‫وأصحابه ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْ َ‬
‫وقيل ‪ :‬بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم‪ .‬وهذا قول قتادة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والرّبيع‬
‫ابن أنس ‪ ،‬وغير واحد ‪ ،‬وهو الصحيح‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يونس ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني الليث بن سعد ‪ ،‬عن خالد بن يزيد ‪،‬‬
‫عن سعيد بن أبي هلل ‪ ،‬عن القرظي ‪ ،‬عن َنوْف ‪ -‬وهو البكالي ‪ ،‬وكان ممن يقرأ الكتب ‪ -‬قال‬
‫‪ :‬إني لجد صفة ناس من هذه المة في كتاب ال المنزل ‪ :‬قَوم يحتالون على الدنيا بالدين ‪،‬‬
‫ألسنتهم أحلى من العسل ‪ ،‬وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ ‪ ،‬يلبسون للناس (‪ )3‬مُسوك الضأن ‪ ،‬وقلوبهم‬
‫قلوب الذئاب‪ .‬يقول ال تعالى ‪ :‬فعليّ يجترئون! وبي يغتَرون! حلفت بنفسي لبعثن عليهم فتنة‬
‫تترك الحليم فيها (‪ )4‬حيران‪ .‬قال القرظي ‪ :‬تدبرتها في القرآن ‪ ،‬فإذا هم المنافقون ‪ ،‬فوجدتها ‪{ :‬‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْ ِبهِ } الية‪.‬‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫وحدثني محمد بن أبي معشر ‪ ،‬أخبرني أبي أبو معشر َنجِيح قال ‪ :‬سمعت سعيدًا المقبري يذاكر‬
‫محمد بن كعب القرظي ‪ ،‬فقال سعيد ‪ :‬إن في بعض الكتب ‪ :‬إنّ [ل] (‪ )5‬عبادًا ألسنتهم أحلى من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود برقم (‪.)1888‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬يلبسون لباس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬فيهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/562‬‬

‫العسل ‪ ،‬وقلوبهم أمَرّ من الصّبر ‪ ،‬لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين ‪َ ،‬يجْترّون الدنيا بالدين‪.‬‬
‫قال ال تعالى ‪ :‬عليّ (‪ )1‬تجترئون! وبي تغترون!‪ .‬وعزتي لبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم منهم‬
‫حيران‪ .‬فقال محمد بن كعب ‪ :‬هذا في كتاب ال‪ .‬فقال سعيد ‪ :‬وأين هو من كتاب ال ؟ قال ‪ :‬قول‬
‫ال ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } الية‪ .‬فقال سعيد ‪ :‬قد عرفتُ فيمن أنزلت‬
‫هذه الية‪ .‬فقال محمد بن كعب ‪ :‬إن الية تنزل في الرجل ‪ ،‬ثم تكون عامة بعد‪ .‬وهذا الذي قاله‬
‫القرظي حسن صحيح‪.‬‬
‫شهَدُ الُ" بفتح الياء ‪ ،‬وضم‬
‫علَى مَا فِي قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن ‪" :‬ويَ ْ‬
‫ش ِهدُ اللّهَ َ‬
‫وأما قوله ‪ { :‬وَيُ ْ‬
‫علَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناها ‪ :‬أن هذا وإن أظهر لكم الحيل (‪ )2‬لكن ال يعلم من قلبه‬
‫الجللة { َ‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ‬
‫القبيح ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬إِذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا َن ْ‬
‫ش َهدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ } [المنافقون ‪.]1 :‬‬
‫وَاللّهُ يَ ْ‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناه ‪ :‬أنه يُظْهرُ‬
‫وقراءة الجمهور بضم الياء ‪ ،‬ونصب الجللة { وَيُ ْ‬
‫س وَل‬
‫خفُونَ مِنَ النّا ِ‬
‫للناس السلم ويبارزُ ال بما في قلبه من الكفر والنفاق ‪ ،‬كقوله تعالى ‪َ { :‬يسْتَ ْ‬
‫خفُونَ مِنَ اللّهِ } الية [النساء ‪ ]108 :‬هذا معنى ما رواه ابن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد‬
‫يَسْ َت ْ‬
‫‪ ،‬عن (‪ )3‬عكرمة ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬معناه أنه إذا أظهر للناس السلم حَلَف وأشهد ال لهم ‪ :‬أن الذي في قلبه موافق للسانه‪.‬‬
‫وهذا المعنى صحيح ‪ ،‬وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬واختاره ابن جرير ‪ ،‬وعزاه إلى ابن‬
‫عباس ‪ ،‬وحكاه عن مجاهد ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫خصَامِ } اللد في اللغة ‪[ :‬هو] (‪ )4‬العوج ‪ { ،‬وَتُنْذِرَ ِبهِ َق ْومًا ُلدّا } [مريم ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ‬
‫‪ ]97‬أي ‪ :‬عُوجًا‪ .‬وهكذا المنافق في حال خصومته ‪ ،‬يكذب ‪ ،‬ويَ ْزوَرّ عن الحق ول يستقيم معه ‪،‬‬
‫بل يفتري ويفجر ‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬آية‬
‫المنافق ثلث ‪ :‬إذا حدث كذب ‪ ،‬وإذا عاهد غدر ‪ ،‬وإذا خاصم فجر"‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬حدثنا قَبيصةُ ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن ابن جُرَيج ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬عن عائشة‬
‫تَ ْر َفعُه قال ‪" :‬أبغض الرجال إلى ال اللَدّ الخَصم" (‪.)5‬‬
‫قال ‪ :‬وقال عبد ال بن يزيد ‪ :‬حدثنا سفيان ‪ ،‬حدثني ابن جريج ‪ ،‬عن ابن أبي مُلَيكة ‪ ،‬عن عائشة‬
‫‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن أبغض الرجال إلى ال اللد الخصم" (‪.)6‬‬
‫خصَامِ } عن ابن جريج ‪ ،‬عن ابن‬
‫وهكذا رواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر في قوله ‪ { :‬وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ‬
‫أبي مليكة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن أبغض الرجال إلى ال اللد‬
‫الخصم" (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬أعلي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬الجميل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬أو"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)4523‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)4523‬‬
‫(‪ )7‬تفسير عبد الرزاق (‪.)1/97‬‬

‫( ‪)1/563‬‬

‫حبّ ا ْلفَسَادَ } أي‬


‫ل وَاللّهُ ل يُ ِ‬
‫سَ‬‫ث وَالنّ ْ‬
‫سدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ‬
‫سعَى فِي ال ْرضِ لِ ُيفْ ِ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِذَا َتوَلّى َ‬
‫‪ :‬هو أعوج المقال ‪ ،‬سيّئ الفعَال ‪ ،‬فذلك قوله ‪ ،‬وهذا فعله ‪ :‬كلمه َكذِب ‪ ،‬واعتقاده فاسد ‪ ،‬وأفعاله‬
‫قبيحة‪.‬‬
‫سعَى* َفحَشَرَ فَنَادَى* َفقَالَ‬
‫والسعي هاهنا هو ‪ :‬ال َقصْد‪ .‬كما قال إخبارًا عن فرعون ‪ُ { :‬ثمّ أَدْبَرَ َي ْ‬
‫خشَى } [النازعات ‪:‬‬
‫خ َذهُ اللّهُ َنكَالَ الخِ َر ِة وَالولَى* إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً ِلمَنْ يَ ْ‬
‫أَنَا رَ ّبكُمُ العْلَى* فَأَ َ‬
‫س َعوْا إِلَى ِذكْرِ‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫‪ ، ]26 - 22‬وقال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُو ِديَ لِلصّلةِ مِنْ َيوْمِ الْ ُ‬
‫اللّهِ } [الجمعة ‪ ]9 :‬أي ‪ :‬اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلة الجمعة ‪ ،‬فإن السعي الحسي إلى‬
‫س َعوْن ‪ ،‬وأتوها وعليكم‬
‫الصلة منهيّ عنه بالسنة النبوية ‪" :‬إذا أتيتم الصلة فل تأتوها وأنتم َت ْ‬
‫السكينةُ والوقار"‪.‬‬
‫فهذا المنافق ليس له همة إل الفساد في الرض ‪ ،‬وإهلك الحرث ‪ ،‬وهو ‪ :‬مَحل نماء الزروع‬
‫والثمار والنسل ‪ ،‬وهو ‪ :‬نتاج الحيوانات الذين ل قوَام للناس إل بهما‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬إذا سُعى في الرض فسادًا ‪ ،‬منع ال القَطْرَ ‪ ،‬فهلك الحرث والنسل‪ { .‬وَاللّ ُه ل‬
‫حبّ ا ْلفَسَادَ } أي ‪ :‬ل يحب من هذه صفَته ‪ ،‬ول من يصدر منه ذلك‪.‬‬
‫يُ ِ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُ اتّقِ اللّهَ أَخَذَ ْتهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالثْمِ } أي ‪ :‬إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله ‪،‬‬
‫وقيل له ‪ :‬اتق ال ‪ ،‬وانزع عن قولك وفعلك ‪ ،‬وارجع إلى الحق ‪ -‬امتنع وأبى ‪ ،‬وأخذته الحميّة‬
‫والغضب بالثم ‪ ،‬أي ‪ :‬بسبب ما اشتمل عليه من الثام ‪ ،‬وهذه الية شبيهة بقوله تعالى ‪ { :‬وَإِذَا‬
‫سطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَ ْيهِمْ‬
‫تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ َتعْ ِرفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُوا ا ْلمُ ْنكَرَ َيكَادُونَ يَ ْ‬
‫آيَاتِنَا ُقلْ َأفَأُنَبّ ُئكُمْ ِبشَرّ مِنْ ذَِل ُكمُ النّا ُر وَعَ َدهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُوا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } [الحج ‪، ]72 :‬‬
‫جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } أي ‪ :‬هي كافيته عقوبة في ذلك‪.‬‬
‫حسْبُهُ َ‬
‫ولهذا قال في هذه الية ‪ { :‬فَ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم‬
‫الذميمة ‪َ ،‬ذكَر صفات المؤمنين الحميدة ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ‬
‫}‬
‫قال ابن عباس ‪ ،‬وأنس ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وأبو عثمان النّهدي ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وجماعة ‪ :‬نزلت‬
‫في صُهيب بن سنَان الرومي ‪ ،‬وذلك أنّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ‪ ،‬منعه الناس أن يهاجر‬
‫بماله ‪ ،‬وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر ‪َ ،‬فعَل‪ .‬فتخلص منهم وأعطاهم ماله ‪ ،‬فأنزل ال فيه هذه‬
‫الية ‪ ،‬فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة‪ .‬فقالوا (‪ : )1‬رَبح البيع‪ .‬فقال ‪ :‬وأنتم‬
‫فل أخسر ال تجارتكم ‪ ،‬وما ذاك ؟ فأخبروه أنّ ال أنزل فيه هذه الية‪ .‬ويروى أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال له ‪" :‬ربِح البيع صهيب ‪ ،‬ربح البيع صهيب"‪.‬‬
‫قال ابن مَرْدُويه ‪ :‬حدثنا محمد بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا محمد بن عبد ال بن رُسْتَة ‪ ،‬حدثنا سليمان ابن‬
‫داود ‪ ،‬حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي ‪ ،‬حدثنا عوف ‪ ،‬عن أبي عثمان النهدي ‪ ،‬عن صهيب قال‬
‫‪ :‬لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى ال عليه وسلم قالت لي قريش ‪ :‬يا صهيبُ ‪ ،‬قَدمتَ‬
‫إلينا ول مَالَ لك ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬فقالوا له"‪.‬‬

‫( ‪)1/564‬‬

‫ع ُدوّ مُبِينٌ (‪)208‬‬


‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫خُ‬‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ْدخُلُوا فِي السّ ْلمِ كَافّ ًة وَلَا تَتّ ِبعُوا ُ‬
‫حكِيمٌ (‪)209‬‬
‫فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫خلّون عني ؟‬
‫وتخرج أنت ومالك! وال ل يكون ذلك أبدًا‪ .‬فقلت لهم ‪ :‬أرأيتم إن َد َف ْعتُ إليكم مالي تُ َ‬
‫قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬فدفعتُ إليهم مالي ‪ ،‬فخلّوا عني ‪ ،‬فخرجت حتى قدمتُ المدينة‪ .‬فبلغ ذلك النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال ‪" :‬رَبح صهيبُ ‪ ،‬ربح صهيب" مرتين (‪.)1‬‬
‫وقال حماد بن سلمة ‪ ،‬عن علي بن زيد ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب قال ‪ :‬أقبل صهيب مهاجرًا نحو‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم فاتبعه َنفَر من قريش ‪ ،‬فنزل عَنْ راحلته ‪ ،‬وانتثل ما في كنانته‪ .‬ثم قال‬
‫(‪ )2‬يا معشر قريش ‪ ،‬قد علمتم أنّي من أرماكم رجل وأنتم وال ل تصلون إلي حتى أرمي ُكلّ‬
‫شيْء ‪ ،‬ثم افعلوا ما شئتم ‪ ،‬وإن شئتم‬
‫سهم في كنانتي ‪ ،‬ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه َ‬
‫دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلّيتم سبيلي ؟ قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬فلما قَدم على النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪" :‬ربح البيع ‪ ،‬ربح البيع"‪ .‬قال ‪ :‬ونزلت ‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ‬
‫اللّ ِه وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ }‬
‫وأما الكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل ال ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬إِنّ‬
‫ن وَ ُيقْتَلُونَ‬
‫سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُو َ‬
‫اللّهَ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ‬
‫ن َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَ ْبشِرُوا بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي‬
‫ل وَا ْلقُرْآ ِ‬
‫حقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالنْجِي ِ‬
‫وَعْدًا عَلَيْهِ َ‬
‫بَا َيعْتُمْ بِهِ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } [التوبة ‪ .]111 :‬ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ‪ ،‬أنكر‬
‫عمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ‪ ،‬وتلوا هذه الية ‪َ { :‬ومِنَ‬
‫عليه بعضُ الناس ‪ ،‬فردّ عليهم ُ‬
‫النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّ ِه وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ }‬
‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ (‪)208‬‬
‫خُ‬‫خلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً وَل تَتّ ِبعُوا ُ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْ ُ‬
‫حكِيمٌ (‪} )209‬‬
‫فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله ‪ :‬أنْ يأخذوا بجميع عُرَى السلم وشرائعه‬
‫‪ ،‬والعمل بجميع أوامره ‪ ،‬وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك‪.‬‬
‫قال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والسّدّي ‪،‬‬
‫وابن زيد ‪ ،‬في قوله ‪ { :‬ا ْدخُلُوا فِي السّلْمِ } يعني ‪ :‬السلم‪.‬‬
‫وقال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬والربيعُ بن أنس ‪ { :‬ادْخُلُوا فِي السّ ْلمِ } يعني ‪:‬‬
‫الطاعة‪ .‬وقال قتادة أيضًا ‪ :‬الموادعة‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬كَافّةً } قال ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬والسّدي ‪،‬‬
‫ومقاتل بن حَيّان ‪ ،‬وقتادة والضحاك ‪ :‬جميعًا ‪ ،‬وقال مجاهد ‪ :‬أي اعملوا بجميع العمال ووجوه‬
‫البر‪.‬‬
‫وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ‪ ،‬كعبد ال بن سلم ‪ ،‬وثعلبة وأسَد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه ابن سعد في الطبقات (‪ )2/227‬عن هوذة ‪ ،‬عن عوف ‪ ،‬عن أبي عثمان قال ‪ :‬بلغني‬
‫أن صهيبا ‪ ،‬فذكر نحوه ‪ ،‬ورواه ابن سعد في الطبقات (‪ )2/228‬وأبو نعيم في الحلية (‪)1/151‬‬
‫من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬فذكر نحو القصة‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وقال" ‪ ،‬وفي أ ‪ ،‬و ‪" :‬كما قال"‪.‬‬
‫( ‪)1/565‬‬

‫ضيَ الَْأمْ ُر وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ الُْأمُورُ (‬


‫َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة َو ُق ِ‬
‫‪)210‬‬

‫بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في أن يُسْبتوا ‪ ،‬وأن يقوموا بالتوراة‬
‫ليل‪ .‬فأمرهم ال بإقامة شعائر السلم والشتغال بها عما عداها‪ .‬وفي ذكر عبد ال بن سلم مع‬
‫هؤلء نظر ‪ ،‬إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ‪ ،‬وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه‬
‫وبطلنه ‪ ،‬والتعويض عنه بأعياد السلم‪.‬‬
‫ومن المفسرين من يجعل قوله ‪ { :‬كَافّةً } حال من الداخلين ‪ ،‬أي ‪ :‬ادخلوا في السلم كلكم‪.‬‬
‫والصحيح الول ‪ ،‬وهو أنّهم أمروا [كلهم] (‪ )1‬أن يعملوا بجميع شعب اليمان وشرائع السلم ‪،‬‬
‫وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها‪ .‬وقال (‪ )2‬ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا علي بن الحسين ‪ ،‬أخبرنا‬
‫أحمد بن الصباح ‪ ،‬أخبرني الهيثم بن يمان ‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن زكريا ‪ ،‬حدثني محمد بن عون ‪،‬‬
‫عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْدخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً } ‪ -‬كذا قرأها بالنصب‬
‫‪ -‬يعني مؤمني أهل الكتاب ‪ ،‬فإنهم كانوا مع اليمان بال مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع‬
‫التي أنزلت فيهم ‪ ،‬فقال ال ‪ { :‬ادْخُلُوا فِي السّ ْلمِ كَافّةً } يقول ‪ :‬ادخلوا في شرائع دين محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم ول َتدَعَوا منها شيئًا وحسبكم باليمان بالتوراة وما فيها‪.‬‬
‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ } أي ‪ :‬اعملوا الطاعات (‪ ، )3‬واجتنبوا ما يأمركم به‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تَتّ ِبعُوا خُ ُ‬
‫الشيطان فـ { إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُر ُكمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَا ِء وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ } [البقرة ‪، ]169 :‬‬
‫سعِيرِ } [فاطر ‪ ]6 :‬؛ ولهذا قال ‪ { :‬إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ‬
‫و { إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫} قال مُطَرّف ‪ :‬أغش عباد ال لعَبِيد ال الشيطان‪.‬‬
‫حجَجُ‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ زَلَلْ ُتمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُكمُ الْبَيّنَاتُ } أي ‪ :‬عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم ال ُ‬
‫‪ ،‬فاعلموا أن ال عزيز [أي] (‪ )4‬في انتقامه ‪ ،‬ل يفوته هارب ‪ ،‬ول يَغلبه غالب‪ .‬حكيم في أحكامه‬
‫ونقضه وإبرامه ؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ‪ :‬عزيز في نقمته ‪ ،‬حكيم في‬
‫أمره‪ .‬وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء ‪ ،‬الحكيم في عذره وحجته‬
‫إلى عباده‪.‬‬
‫ضيَ المْ ُر وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ‬
‫{ َهلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَ ُة َو ُق ِ‬
‫المُورُ (‪} )210‬‬
‫يقول تعالى ُمهَ ّددًا للكافرين بمحمد صلوات ال وسلمه عليه ‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َي ُهمُ اللّهُ فِي‬
‫ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ وَا ْلمَلئِكَةُ } يعني ‪ :‬يوم القيامة ‪ ،‬لفصل القضاء بين الولين والخرين ‪ ،‬فيجزي‬
‫جعُ‬
‫ي المْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ‬
‫ُكلّ عامل بعمله ‪ ،‬إن خيرًا فخير ‪ ،‬وإن شرًا فشر ‪ ،‬ولهذا قال ‪َ { :‬و ُقضِ َ‬
‫صفّا* وَجِيءَ َي ْومَئِذٍ‬
‫صفّا َ‬
‫ك وَا ْلمََلكُ َ‬
‫المُورُ } كما قال ‪ { :‬كَل إِذَا ُد ّكتِ ال ْرضُ َدكّا َدكّا* وَجَاءَ رَ ّب َ‬
‫ن وَأَنّى لَهُ ال ّذكْرَى } [الفجر ‪ ، ]23 - 21 :‬وقال ‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ‬
‫جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ يَتَ َذكّرُ النْسَا ُ‬
‫بِ َ‬
‫تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ } الية [النعام ‪:‬‬
‫‪.]158‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬كما قال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬اعملوا بالطاعات"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/566‬‬

‫وقد ذكر المام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد‬
‫وغيرهم ‪ ،‬وفيه ‪" :‬أنّ الناس إذا اهتموا لموقفهم (‪ )1‬في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالنبياء‬
‫واحدًا واحدًا ‪ ،‬من آدم فمن بعده ‪ ،‬فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد ‪ ،‬صلوات ال وسلمه‬
‫عليه ‪ ،‬فإذا جاؤوا إليه قال ‪ :‬أنا لها ‪ ،‬أنا لها‪ .‬فيذهب فيسجد ل تحت العرش ‪ ،‬ويشفع عند ال في‬
‫ظلَل من الغمام بعد ما تنشق (‪)2‬‬
‫أن يأتي لفصل القضاء بين العباد ‪ ،‬فيُشفّعه ال ‪ ،‬ويأتي في ُ‬
‫السماء الدنيا ‪ ،‬وينزل من فيها من الملئكة ‪ ،‬ثم الثانية ‪ ،‬ثم الثالثة إلى السابعة ‪ ،‬وينزل (‪ )3‬حملة‬
‫العرش والكَرُوبيّون (‪ ، )4‬قال ‪ :‬وينزل الجبار ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬في ظُلَل من الغمام والملئكةُ ‪ ،‬ولهم‬
‫زَجَل مِنْ تسبيحهم يقولون ‪ :‬سبحان ذي الملك والملكوت ‪ ،‬سبحان رب العرش ذي الجبروت (‪)5‬‬
‫سبحان الحي الذي ل يموت ‪ ،‬سبحان الذي يميت الخلئق ول يموت ‪ ،‬سُبّوح قدوس ‪ ،‬رب‬
‫الملئكة والروح ‪ ،‬قدوس قدوس ‪ ،‬سبحان ربنا العلى ‪ ،‬سبحان ذي السلطان والعظمة ‪ ،‬سبحانه‬
‫أبدًا أبدًا" (‪.)6‬‬
‫وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه هاهنا أحاديث فيها غرابة وال أعلم ؛ فمنها ما رواه من‬
‫حديث المنهال بن عمرو ‪ ،‬عن أبي عبيدة بن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬عن ابن مسعود‬
‫‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬يجمع ال الولين والخرين لميقات يوم معلوم ‪ ،‬قيامًا‬
‫شاخصة أبصارهم إلى السماء ‪ ،‬ينتظرون َفصْل القضاء ‪ ،‬وينزل ال في ظُلَل من الغمام من‬
‫العرش إلى الكرسي" (‪.)7‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم ‪ ،‬حدثنا معتمر بن‬
‫سليمان ‪ ،‬سمعت عبد الجليل القَيْسي ‪ ،‬يحدّث عن عبد ال بن عمرو ‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ‬
‫حجَاب ‪،‬‬
‫اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ } الية ‪ ،‬قال ‪ :‬يهبط حين يهبط ‪ ،‬وبينه وبين خَلْقه سبعون ألف ِ‬
‫منها ‪ :‬النور ‪ ،‬والظلمة ‪ ،‬والماء‪ .‬فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وحدثنا أبي ‪ :‬حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ‪ ،‬حدثنا الوليد قال ‪ :‬سألت زهير بن محمد ‪،‬‬
‫عن قول ال ‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ } قال ‪ :‬ظلل من الغمام ‪،‬‬
‫منظوم من الياقوت (‪ )8‬مكلّل بالجوهر والزبَرْجَد‪.‬‬
‫ط إل‬
‫وقال ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد { فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَامِ } قال ‪ :‬هو غير السحاب ‪ ،‬ولم يكن َق ّ‬
‫لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا‪.‬‬
‫وقال أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن الربيع بن أنس ‪ ،‬عن أبي العالية ‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ‬
‫فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَةُ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ط ‪" :‬لمواقفهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بعد ما تشقق"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في طـ ‪" :‬وتنزل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬الكرسيون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬والجبروت"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪ )4/266‬وسيأتي الحديث بطوله عند تفسير الية ‪ 73 :‬من سورة النعام‪.‬‬
‫(‪ )7‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )417 ، 9/416‬من طريقين عن المنهال بن عمرو به‬
‫مطول ‪ ،‬وقال الذهبي ‪" :‬إسناده حسن"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬منظوم بالياقوت"‪.‬‬

‫( ‪)1/567‬‬

‫[قال] (‪ : )1‬يقول ‪ :‬والملئكة يجيئون في ظلل من الغمام ‪ ،‬وال تعالى يجيء فيما يشاء ‪ -‬وهي‬
‫في بعض القراءة ‪" :‬هل ينظرون إل أن يأتيهم ال والملئكة في ظُلَل من الغمام" وهي كقوله ‪:‬‬
‫سمَاءُ بِا ْل َغمَا ِم وَنزلَ ا ْلمَل ِئكَةُ تَنزيل } [الفرقان ‪.]25 :‬‬
‫شقّقُ ال ّ‬
‫{ وَ َيوْمَ َت َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬

‫( ‪)1/568‬‬
‫سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيّنَ ٍة َومَنْ يُبَ ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ‬
‫َ‬
‫ا ْل ِعقَابِ (‪ )211‬زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُوا الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ ا ّتقَوْا َف ْو َقهُمْ َيوْمَ‬
‫ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ (‪)212‬‬

‫شدِيدُ‬
‫سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ َومَنْ يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫{ َ‬
‫ا ْل ِعقَابِ (‪ )211‬زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُوا الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ ا ّتقَوْا َف ْو َقهُمْ َيوْمَ‬
‫ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ (‪} )212‬‬
‫يقول تعالى ُمخْبرًا عن بني إسرائيل ‪ :‬كم قد شاهدوا مع موسى { مِنْ آيَةٍ بَيّ َنةٍ } أي ‪ :‬حجة قاطعة‬
‫على صدقه فيما جاءهم به ‪ ،‬كَيَدهِ وعصاه وفَلْقه البحر وضَرْبه الحجر ‪ ،‬وما كان من تظليل الغمام‬
‫ن والسلوى وغير ذلك من اليات الدالت على وجود الفاعل‬
‫عليهم في شدة الحر ‪ ،‬ومن إنزال المَ ّ‬
‫المختار ‪ ،‬وصدق من جرت هذه الخوارق على يَدَيه ‪ ،‬ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ‪ ،‬وبَدلوا‬
‫نعمة ال [كفرًا] (‪ )1‬أي ‪ :‬استبدلوا باليمان بها الكفر بها ‪ ،‬والعراض عنها‪َ { .‬ومَنْ يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ‬
‫شدِيدُ ا ْلعِقَابِ } كما قال إخبارًا عن كفار قريش ‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ‬
‫اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫جهَنّمَ َيصَْلوْنَهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } [إبراهيم ‪، 28 :‬‬
‫بَدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرًا وَأَحَلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ * َ‬
‫‪.]29‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين ُرضُوا بها واطمأنّوا إليها ‪ ،‬وجمعوا الموال‬
‫ن مصارفها التي أمروا بها مما يُ ْرضِي ال عنهم ‪ ،‬وسخروا من الذين آمنوا الذين‬
‫ومنعوها عَ ْ‬
‫أعرضوا عنها ‪ ،‬وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم ‪ ،‬وبذلوا ابتغاء وجه ال ؛ فلهذا فازوا‬
‫بالمقام السعد والحظ الوفر يوم معادهم ‪ ،‬فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم ‪ ،‬ومسيرهم‬
‫ومأواهم ‪ ،‬فاستقروا في الدرجات في أعلى علّيين ‪ ،‬وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين ؛‬
‫حسَابٍ } أي ‪ :‬يرزق من يشاء من خَلْقه ‪ ،‬ويعطيه‬
‫ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫عطاء كثيرًا جزيل بل حصر ول تعداد في الدنيا والخرة (‪ )2‬كما جاء في الحديث ‪" :‬ابن آدم ‪،‬‬
‫أَنْفقْ أُنْفقْ عليك" ‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أنفق بلل ول تخش من ذي العرش إقلل"‬
‫شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُهُ } [سبأ ‪ ، ]39 :‬وفي (‪ )4‬الصحيح أن مَلَكين‬
‫(‪ .)3‬وقال تعالى ‪َ { :‬ومَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َ‬
‫ينزلن من السماء صَبيحة كل يوم ‪ ،‬يقول (‪ )5‬أحدهما ‪ :‬اللهم أعط منفقًا خلفًا‪ .‬ويقول الخر ‪:‬‬
‫اللهم أعط ُممْسكا تلفًا‪ .‬وفي الصحيح (‪" )6‬يقول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في طـ ‪" :‬في الدنيا ول في الخرة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )10/192‬من طريق يحيى بن وثاب ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن مسعود رضي ال عنه مرفوعا ‪ ،‬وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (‪.)2/51‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وهو في"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ط ‪" :‬فيقول"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وفي الصحيحين"‪.‬‬

‫( ‪)1/568‬‬

‫حكُمَ بَيْنَ‬
‫ن وَأَنْ َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َي ْ‬
‫ن َومُنْذِرِي َ‬
‫كَانَ النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِلّا الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َن ُهمْ َفهَدَى‬
‫اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)213‬‬

‫ت ‪ ،‬وما تصدقت‬
‫ستَ فأبلي َ‬
‫ابن آدم ‪ :‬مالي ‪ ،‬مالي! وهل لك من مالك إل ما أكلت فأفنيت ‪ ،‬وما لَب ْ‬
‫فأمضيت (‪ )1‬؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس"‪.‬‬
‫وفي مسند المام أحمد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬الدنيا دار من ل دار له ‪ ،‬ومال‬
‫من ل مال له ‪ ،‬ولها يَجمَعُ من ل عقل له" (‪.)2‬‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ‬
‫حقّ لِيَ ْ‬
‫ن وَأَنزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫ن َومُنْذِرِي َ‬
‫ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫{ كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِل الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َنهُمْ َفهَدَى‬
‫اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪} )213‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا أبو داود ‪ ،‬أخبرنا َهمّام ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن عكرمة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬كان بين نوح وآدم (‪ )3‬عشرة قرون ‪ ،‬كلهم على شريعة من الحق‪.‬‬
‫فاختلفوا ‪ ،‬فبعث ال النبيين مبشرين ومنذرين‪ .‬قال ‪ :‬وكذلك هي في قراءة عبد ال ‪" :‬كَانَ النّاسُ‬
‫ح َدةً فَاخْتََلفُوا"‪.‬‬
‫ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫ورواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬من حديث بُنْدَار عن محمد بن بشار‪ .‬ثم قال ‪ :‬صحيح ولم يخرجاه (‬
‫‪.)4‬‬
‫وكذا روى أبو جعفر الرازي ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ ،‬عن أبي بن كعب ‪ :‬أنه كان يقرؤها ‪" :‬كَانَ‬
‫ن َومُنْذِرِينَ"‪.‬‬
‫النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَاخْتََلفُوا فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّيّنَ مُبَشّرِي َ‬
‫ح َدةً } قال ‪ :‬كانوا‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة في قوله ‪ { :‬كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫على الهدى جميعًا ‪" ،‬فاختلفوا فبعث ال النبيين مبشرين منذرين" فكان أول نَبي بعث نوحًا‪ .‬وهكذا‬
‫قال مجاهد ‪ ،‬كما قال ابن عباس أول‪.‬‬
‫ح َدةً } يقول ‪ :‬كانوا كفارًا ‪ { ،‬فَ َب َعثَ اللّهُ‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫ن َومُنْذِرِينَ }‬
‫النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫والقول الول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى ؛ لن الناس كانوا على ملة آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫حتى عبدوا الصنام ‪ ،‬فبعث ال إليهم نوحًا ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فكان أول رسول بعثه ال إلى أهل‬
‫الرض‪.‬‬
‫حكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِي ِه َومَا اخْ َتَلفَ فِيهِ إِل‬
‫حقّ لِ َي ْ‬
‫ولهذا قال ‪ { :‬وَأَنزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َنهُمْ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬فأبقيت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )6/71‬من حديث عائشة رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ط ‪" :‬كان بين آدم ونوح"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪ )4/275‬والمستدرك (‪.)2/546‬‬

‫( ‪)1/569‬‬

‫أي ‪ :‬من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إل البغي من بعضهم على بعض ‪،‬‬
‫حقّ بِإِذْ ِن ِه وَاللّهُ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ }‬
‫{ َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ الْ َ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬حدثنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن سليمان العمش ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة في‬
‫قوله ‪َ { :‬فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِهِ } قال ‪ :‬قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬نحن الخرون الولون (‪ )1‬يوم القيامة ‪ ،‬نحن أ ّولُ الناس دخول الجنة ‪ ،‬بيد أنهم أوتوا‬
‫الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ‪ ،‬فهدانا ال لما اختلفوا فيه من الحق ‪ ،‬فهذا اليوم الذي اختلفوا‬
‫فيه ‪ ،‬فهدانا له (‪ )2‬فالناس لنا فيه تبع ‪ ،‬فغدًا لليهود ‪ ،‬وبعد غد للنصارى"‪.‬‬
‫ثم رواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة (‪.)3‬‬
‫وقال ابن وهب ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن أبيه في قوله ‪َ { :‬فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا‬
‫ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِإِذْنِهِ } فاختلفوا في يوم الجمعة ‪ ،‬فاتخذ اليهود يوم السبت ‪ ،‬والنصارى‬
‫يوم الحد‪ .‬فهدى ال أمة محمد ليوم الجمعة‪ .‬واختلفوا في القبلة ؛ فاستقبلت النصارى المشرق ‪،‬‬
‫واليهود بيت المقدس ‪ ،‬فهدى ال أمة محمد للقبلة‪ .‬واختلفوا في الصلة ؛ فمنهم من يركع ول‬
‫يسجد ‪ ،‬ومنهم من يسجد ول يركع ‪ ،‬ومنهم من يصلي وهو يتكلم ‪ ،‬ومنهم من يصلي وهو‬
‫يمشي ‪ ،‬فهدى ال أمة محمد للحق من ذلك‪ .‬واختلفوا في الصيام ‪ ،‬فمنهم من يصوم بعض‬
‫النهار ‪ ،‬ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ‪ ،‬فهدى ال أمة محمد للحق من ذلك‪ .‬واختلفوا في‬
‫إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فقالت اليهود ‪ :‬كان يهوديًا ‪ ،‬وقالت النصارى ‪ :‬كان نصرانيًا ‪ ،‬وجعله ال‬
‫حنيفًا مسلمًا ‪ ،‬فهدى ال أمة محمد للحق من ذلك‪ .‬واختلفوا في عيسى ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فكذّبت به‬
‫اليهود ‪ ،‬وقالوا لمه بهتانًا عظيمًا ‪ ،‬وجعلته النصارى إلهًا وولدًا ‪ ،‬وجعله ال روحه ‪ ،‬وكلمته ‪،‬‬
‫فهدى ال أمة محمد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك‪.‬‬
‫وقال الربيع بن أنس في قوله ‪َ { :‬فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِإِذْنِهِ } أي ‪ :‬عند‬
‫الختلف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الختلف ‪ ،‬أقاموا على الخلص ل عز وجل‬
‫وحده ‪ ،‬وعبادته ل شريك له ‪ ،‬وإقام الصلة وإيتاء الزكاة ‪ ،‬فأقاموا على المر الول الذي كان‬
‫قبل الختلف ‪ ،‬واعتزلوا الختلف ‪ ،‬وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودًا (‪ )4‬على قوم‬
‫نوح ‪ ،‬وقوم هود ‪ ،‬وقوم صالح ‪ ،‬وقوم شعيب ‪ ،‬وآل فرعون ‪ ،‬أنّ رسلهم قد بلغوهم ‪ ،‬وأنهم قد‬
‫كذبوا رسلهم‪.‬‬
‫علَى النّاسِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ‪ ،‬وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ‬
‫شهَدَاءَ َ‬
‫وفي (‪ )5‬قراءة أبي بن كعب ‪" :‬وَلِ َيكُونُوا ُ‬
‫إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ" ‪ ،‬وكان أبو العالية يقول ‪ :‬في هذه الية المخرج من الشبهات والضللت‬
‫والفتن‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬بِِإذْنِهِ } أي ‪ :‬بعلمه ‪ ،‬بما هداهم له‪ .‬قاله ابن جرير ‪ { :‬وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي ‪ :‬منْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬السابقون"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬فهدانا ال له"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير عبد الرزاق (‪ )1/99‬والحديث مخرج في الصحيحين‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬شهدوا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وهي في"‪.‬‬

‫( ‪)1/570‬‬

‫أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا‬
‫ل وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (‪)214‬‬
‫حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ‬

‫خلقه { إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي ‪ :‬وله الحكم (‪ )1‬والحجة البالغة‪ .‬وفي صحيح البخاري ومسلم‬
‫عن عائشة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول ‪" :‬اللهم ‪ ،‬رب‬
‫جبريل وميكائيل وإسرافيل ‪ ،‬فاطر السموات والرض ‪ ،‬عالم الغيب والشهادة أنت تحكم (‪ )2‬بين‬
‫عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ‪ ،‬اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك ‪ ،‬إنك تهدي من تشاء إلى‬
‫حقّا وارزقنا اتباعه ‪ ،‬وأرنا الباطل‬
‫صراط مستقيم" (‪ .)3‬وفي الدعاء المأثور ‪ :‬اللهم ‪ ،‬أرنا الحق َ‬
‫جعَلْه ملتبسًا علينا فنضل ‪ ،‬واجعلنا للمتقين إمامًا‪.‬‬
‫باطل ووفّقنا لجتنابه ‪ ،‬ول َت ْ‬
‫حسِبْتُمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا الْجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِت ُكمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْت ُهمُ الْبَأْسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا‬
‫{ َأمْ َ‬
‫ل وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (‪} )214‬‬
‫حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ‬
‫حسِبْتُمْ أَنْ َتدْخُلُوا ا ْلجَنّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا ‪ ،‬كما فعل بالذين‬
‫يقول تعالى ‪َ { :‬أمْ َ‬
‫من قبلكم من المم ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ َمسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّاءُ }‬
‫وهي ‪ :‬المراض ؛ والسقام ‪ ،‬واللم ‪ ،‬والمصائب والنوائب‪.‬‬
‫قال ابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وأبو العالية ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬ومُرّة ال َهمْداني ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬والسّدي ‪ ،‬ومقاتل بن حَيّان ‪ { :‬الْبَ ْأسَاءُ } الفقر‪ .‬قال ابن‬
‫عباس ‪ { :‬وَالضّرّاءُ } السّقم‪.‬‬
‫خ ْوفًا من العداء زلْزال شديدًا ‪ ،‬وامتحنوا امتحانًا عظيمًا ‪ ،‬كما جاء في الحديث‬
‫{ وَزُلْزِلُوا } َ‬
‫الصحيح عن خَبّاب بن ال َرتّ قال ‪ :‬قلنا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أل تستنصر لنا ؟ أل تدعو ال لنا ؟‬
‫فقال ‪" :‬إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه ‪ ،‬ل‬
‫َيصْرفه (‪ )4‬ذلك عن دينه ‪ ،‬و ُيمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ‪ ،‬ل يصرفه ذلك عن‬
‫دينه"‪ .‬ثم قال ‪" :‬وال ليتمن ال هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخاف‬
‫إل ال والذئب على غنمه ‪ ،‬ولكنكم قوم تستعجلون"‪.‬‬
‫سبَ النّاسُ أَنْ يُتْ َركُوا أَنْ َيقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ ل ُيفْتَنُونَ* وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ‬
‫وقال ال تعالى ‪ { :‬الم* َأحَ ِ‬
‫مِنْ قَبِْلهِمْ فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَ َدقُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت ‪.]3 - 1 :‬‬
‫وقد حصل من هذا (‪ )5‬جانب عظيم للصحابة ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬في يوم الحزاب ‪ ،‬كما قال ال‬
‫غتِ ال ْبصَا ُر وَبََل َغتِ ا ْلقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ‬
‫سفَلَ مِ ْنكُ ْم وَإِذْ زَا َ‬
‫تعالى ‪ِ { :‬إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ َف ْوقِكُمْ َومِنْ َأ ْ‬
‫ن وَالّذِينَ‬
‫شدِيدًا* وَإِذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا* هُنَاِلكَ ابْتُِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَال َ‬
‫فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ مَا وَعَدَنَا اللّ ُه وَرَسُولُهُ إِل غُرُورًا }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬وله الحكمة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬أنت الحكيم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)770‬‬
‫(‪ )4‬في ط ‪" :‬ل يفتنه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬من ذلك"‪.‬‬

‫( ‪)1/571‬‬

‫ن وَابْنِ السّبِيلِ‬
‫ن وَالَْأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ‬
‫َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ (‪)215‬‬

‫اليات [الحزاب ‪.]12 - 10 :‬‬


‫ولما سأل هرقلُ أبا سفيان ‪ :‬هل قاتلتموه ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬فكيف كان (‪ )1‬الحرب بينكم ؟ قال ‪:‬‬
‫سجَال يدال علينا ونُدَال عليه‪ .‬قال ‪ :‬كذلك الرسل تُبْتَلى ‪ ،‬ثم تكون لها العاقبة (‪.)3( )2‬‬
‫ِ‬
‫وقوله ‪ { :‬مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ } أي ‪ :‬سنتهم‪ .‬كما قال تعالى ‪ { :‬فَأَهَْلكْنَا َأشَدّ مِ ْنهُمْ َبطْشًا‬
‫َومَضَى مَ َثلُ الوّلِينَ } [الزخرف ‪.]8 :‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَزُلْزِلُوا حَتّى َيقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ } أي ‪ :‬يستفتحون على‬
‫أعدائهم ‪ ،‬ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج ‪ ،‬عند ضيق الحال والشدة‪ .‬قال ال تعالى ‪ { :‬أَل إِنّ‬
‫َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } كما قال ‪ { :‬فَإِنّ مَعَ ا ْل ُعسْرِ يُسْرًا إِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا } [ الشرح ‪.]6 ، 5 :‬‬
‫وكما تكون الشدة ينزل من النصر (‪ )4‬مثلُها ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } وفي‬
‫حديث أبي رَزين ‪" :‬عَجب ربّك (‪ )5‬من قُنُوط عباده ‪ ،‬وقُرْب غيثه (‪ )6‬فينظر إليهم قَنطين ‪،‬‬
‫فيظل يضحك ‪ ،‬يعلم أنّ فرجهم (‪ )7‬قريب" الحديث (‪.)8‬‬
‫ن وَابْنِ السّبِيلِ‬
‫ن وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫ن وَالقْرَبِي َ‬
‫{ َيسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ ُقلْ مَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَالِدَيْ ِ‬
‫َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ (‪} )215‬‬
‫قال ُمقَاتل بن حَيّان ‪ :‬هذه الية في نفقة التطوّع‪ .‬وقال السدي ‪ :‬نَسَختها الزكاة‪ .‬وفيه نظر‪ .‬ومعنى‬
‫الية ‪ :‬يسألونك كيف ينفقون ؟ قاله ابن عباس ومجاهد ‪ ،‬فبين لهم تعالى ذلك ‪ ،‬فقال ‪ُ { :‬قلْ مَا‬
‫ن وَابْنِ السّبِيلِ } أي ‪ :‬اصرفُوها في هذه‬
‫ن وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَالِدَيْنِ وَالقْرَبِي َ‬
‫الوجوه‪ .‬كما جاء في الحديث ‪" :‬أمك وأباك ‪ ،‬وأختك وأخاك ‪ ،‬ثم أدناك أدناك"‪ .‬وتل ميمون بن‬
‫ِمهْرَان هذه الية ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبل ول مزمارًا ‪ ،‬ول تصاوير‬
‫الخشب ‪ ،‬ول كُسوة الحيطان‪.‬‬
‫صدَرَ منكم من فعل معروف ‪،‬‬
‫ثم قال تعالى ‪َ { :‬ومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي ‪ :‬مهما َ‬
‫فإن ال يعَلمُه ‪ ،‬وسيجزيكم على ذلك أوفرَ الجزاء ؛ فإنه ل يظلم أحدًا مثقالَ ذَرّة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فكيف كانت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬الرجل يبتلى ثم تكون له العاقبة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬حديث هرقل رواه البخاري في صحيحه برقم (‪.)7‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬الصبر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬عجب ربكم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وقرب خيره"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬أن فرجكم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )181‬من طريق يعلى بن عطاء ‪ ،‬عن وكيع بن عدس ‪ ،‬عن‬
‫أبي رزين به ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )1/85‬هذا إسناد فيه مقال"‪.‬‬

‫( ‪)1/572‬‬
‫كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُمْ وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ تُحِبّوا شَيْئًا وَ ُهوَ‬
‫شَرّ َل ُك ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ (‪)216‬‬

‫ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبّوا شَيْئًا‬
‫{ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ‬
‫وَ ُهوَ شَرّ َلكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْ ُت ْم ل َتعَْلمُونَ (‪} )216‬‬
‫حوْزة السلم‪.‬‬
‫هذا إيجاب من ال تعالى للجهاد على المسلمين ‪ :‬أن ي ُكفّوا شرّ العداء عن َ‬

‫( ‪)1/572‬‬

‫جدِ‬
‫شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َوكُفْرٌ بِهِ وَا ْلمَسْ ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَلَا يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَ ُردّوكُمْ‬
‫عمَاُلهُمْ فِي‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪ )217‬إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا‬
‫الدّنْيَا وَالَْآخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)218‬‬
‫حمَةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬
‫وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ‬

‫وقال الزهري ‪ :‬الجهادُ واجب على كلّ أحد ‪ ،‬غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ ‪،‬‬
‫وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ‪ ،‬وإذا استُنْفرَ أن ينفر ‪ ،‬وإن لم يُحتَجْ إليه قعد‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ولهذا ثَبَت في الصحيح (‪" )1‬من مات ولم يغز ‪ ،‬ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية" (‬
‫‪ .)2‬وقال عليه السلم يوم الفتح ‪" :‬ل هجرة ‪ ،‬ولكن جهاد ونيّة ‪ ،‬إذا استنفرتم فانفروا" (‪.)3‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُمْ } أي ‪ :‬شديد عليكم ومشقة‪ .‬وهو كذلك ‪ ،‬فإنه إما أن ُيقْتَلَ أو يجرحَ مع (‬
‫‪ )4‬مشقة السفر ومجالدَة العداء‪.‬‬
‫ل يعقبه النصر والظفر‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َل ُكمْ } أي ‪ :‬لنّ القتا َ‬
‫على العداء ‪ ،‬والستيلء على بلدهم ‪ ،‬وأموالهم ‪ ،‬وذرَاريهم ‪ ،‬وأولدهم‪.‬‬
‫حبّ المرءُ شيئًا ‪ ،‬وليس‬
‫{ وَعَسَى أَنْ ُتحِبّوا شَيْئًا وَ ُهوَ شَرّ َلكُمْ } وهذا عام في المور كلّها ‪ ،‬قد ُي ِ‬
‫له فيه خيرة ول مصلحة‪ .‬ومن ذلك القُعُود عن القتال ‪ ،‬قد َي ْعقُبُه استيلء العدو على البلد والحكم‪.‬‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬هو أعلم بعواقب المور منكم ‪ ،‬وأخبَرُ بما فيه‬
‫صلحكم في دنياكم وأخراكم ؛ فاستجيبوا له ‪ ،‬وانقادوا لمره ‪ ،‬لعلكم ترشدون‪.‬‬
‫سجِدِ‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ‬
‫{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَل يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَرُدّوكُمْ‬
‫عمَاُلهُمْ فِي‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ‬
‫الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪ )217‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪} )218‬‬
‫حمَةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬
‫وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ‪ ،‬حدثنا المعتمر بن سليمان ‪،‬‬
‫حضْرَمي ‪ ،‬عن أبي السّوار ‪ ،‬عن جُ ْندَب بن عبد ال ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال‬
‫عن أبيه ‪ ،‬حدثني ال َ‬
‫عليه وسلم َب َعثَ رَهْطًا ‪ ،‬وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح [أو عبيدة بن الحارث] (‪ )5‬فلما ذهب‬
‫ينطلق ‪َ ،‬بكَى صَبَابة (‪ )6‬إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪َ ،‬فجَلَس ‪ ،‬فبعث عليهم مكانه عبد‬
‫ال بن جحش ‪ ،‬وكتب له كتابًا ‪ ،‬وأمره أل يقرأ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬في الصحيحين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪ )1910‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )2825 ، 2783 ، 1834‬ومسلم في صحيحه برقم (‬
‫‪ )1353‬من حديث ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬على"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من طـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بكى صبيانه"‪.‬‬

‫( ‪)1/573‬‬

‫الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ‪ ،‬وقال ‪ :‬ل ُتكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك‪ .‬فلما قرأ‬
‫الكتابَ استرجع ‪ ،‬وقال ‪ :‬سمعًا وطاعة ل ولرسوله‪ .‬فخبّرهم الخبر ‪ ،‬وقرأ عليهم الكتاب ‪ ،‬فرجع‬
‫حضْرَمي فقتلوه ‪ ،‬ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من‬
‫رجلن ‪ ،‬وبقي بقيّتُهم ‪ ،‬فلقوا ابن ال َ‬
‫شهْرِ‬
‫جمَادى‪ .‬فقال المشركون للمسلمين ‪ :‬قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل ال ‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫ُ‬
‫الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الية‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مُرّة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪:‬‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫عمّار بن ياسر ‪،‬‬
‫وسلم بعث سَرِيّة ‪ ،‬وكانوا سَ ْبعَة نفر ‪ ،‬عليهم عبد ال بن جَحْش السدي ‪ ،‬وفيهم َ‬
‫وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة ‪ ،‬وسعد بن أبي َوقّاص ‪ ،‬وعتبة بن غَزْوان السّلمي ‪ -‬حليف لبني‬
‫سهَيل بن بيضاء ‪ ،‬وعامر بن فُهيرة ‪ ،‬وواقد بن عبد ال اليَرْبوعي ‪ ،‬حليف لعمر بن‬
‫َنوْفل ‪ -‬و ُ‬
‫الخطاب‪ .‬وكتب لبن جحش كتابًا ‪ ،‬وأمره أل يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل (‪ )1‬فلما نزل بطن مَلَل (‬
‫‪ )2‬فتح الكتاب ‪ ،‬فإذا فيه ‪ :‬أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة‪ .‬فقال لصحابه ‪ :‬مَنْ كان يريد الموت‬
‫فَلْيمض ولْيوص ‪ ،‬فإنني مُوص وماض لمر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فسار ‪ ،‬فتخلف عنه‬
‫سعد بن أبي وقّاص ‪ ،‬وعتبة ‪ ،‬وأضل راحلة لهما فَأتيا ُبحْران (‪ )3‬يطلبانها ‪ ،‬وسار ابنُ جحش‬
‫إلى بطن نخلة ‪ ،‬فإذا هو بالحكم بن كيسان ‪ ،‬والمغيرة بن عثمان ‪ ،‬وعمرو بن الحضرمي ‪ ،‬وعبد‬
‫ال بن المغيرة‪ .‬وانفلت [ابن] (‪ )4‬المغيرة ‪[ ،‬فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة] (‪ )5‬وقُتِل‬
‫عمْرو ‪ ،‬قتله واقد بن عبد ال‪ .‬فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫َ‬
‫فلما رجعوا إلى المدينة بالسيرين (‪ )6‬وما أصابوا المال ‪ ،‬أراد أهل مكة أن يفادوا السيرين ‪،‬‬
‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬حتى ننظر ما فعل صاحبانا" فلما رجع سعد وصاحبه ‪ ،‬فادى‬
‫بالسيرين ‪ ،‬ففجر عليه المشركون وقالوا ‪ :‬إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة ال ‪ ،‬وهو أول من‬
‫استحل الشهر الحرام ‪ ،‬وقتل صاحبنا في رجب‪ .‬فقال المسلمون ‪ :‬إنما قتلناه في جمادى ‪ -‬وقيل ‪:‬‬
‫في أول رجب ‪ ،‬وآخر ليلة من جمادى ‪ -‬وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب‪ .‬فأنزل‬
‫شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ل يحل ‪ ،‬وما‬
‫ال ُيعَيّر أهل مكة ‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ‪ ،‬حين كفرتم بال ‪ ،‬وصدَدْتم عنه‬
‫محمدًا صلى ال عليه وسلم وأصحابَه ‪ ،‬وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه ‪ ،‬حين أخرجوا محمدًا‬
‫صلى ال عليه وسلم أكبر من القتل عند ال‪.‬‬
‫شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك‬
‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫أنّ المشركين صَدّوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وَرَدوه عن المسجد [الحرام] (‪ )7‬في شهر‬
‫حرام ‪ ،‬ففتح ال على نبيه في شهر حَرَام من العام المقبل‪ .‬فعاب المشركون على رسول ال صلى‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ‬
‫ال عليه وسلم القتالَ في شهر حرام‪ .‬فقال ال ‪َ { :‬وصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ‬
‫عمْرو‬
‫وَإِخْرَاجُ َأهْلِهِ مِنْهُ َأكْبَرُ } من القتال فيه‪ .‬وأنّ محمدًا صلى ال عليه وسلم بعث سرية فلقوا َ‬
‫بن الحضرمي ‪ ،‬وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ‪ ،‬وأوّل ليلة من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬مالك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬مالك"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يجوبان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بأسيرين"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ‪.‬‬

‫( ‪)1/574‬‬

‫رجب‪ .‬وأنّ أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ‪ ،‬وكانت‬
‫أول رجب ولم يشعروا ‪ ،‬فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه‪ .‬وأنّ المشركين أرسلوا يعيرونه‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وغير ذلك أكبر منه ‪:‬‬
‫بذلك‪ .‬فقال ال ‪ { :‬يَسَْألُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫صَدّ عن سبيل ال ‪ ،‬وكفر به والمسجد الحرام ‪ ،‬وإخراجُ أهله منه (‪ ، )1‬إخراج أهل المسجد‬
‫الحرام أكبر من الذي أصابَ أصحابُ محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬والشرك أشد منه‪.‬‬
‫وهكذا روى أبو سَعد (‪ )2‬البقّال ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس أنها أنزلت (‪ )3‬في سَريّة عبد ال‬
‫بن جحش ‪ ،‬وقتْل عمرو بن الحضرمي‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ :‬حدثني محمد بن السائب الكلبي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪:‬‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى‬
‫عمْرو بن الحضرمي ‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫نزل فيما كان من مصاب َ‬
‫آخر الية‪.‬‬
‫وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ‪ ،‬عن زياد بن عبد ال البكائي ‪ ،‬عن محمد بن إسحاق بن‬
‫يسار المدني ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في كتاب السيرة له ‪ ،‬أنّه قال ‪ :‬وبعث ‪ -‬يعني رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ -‬عبد ال بن جَحش بن رئاب السدي في رجب ‪َ ،‬مقْفَله من بدر الولى ‪ ،‬وبعث معه‬
‫ثمانية رهط من المهاجرين ‪ ،‬ليس فيهم من النصار أحد ‪ ،‬وكتب له كتابًا ‪ ،‬وأمره أل ينظر فيه‬
‫حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ‪ ،‬فيمضي لما أمره به ‪ ،‬ول َيسْتكره من أصحابه أحدًا‪ .‬وكان‬
‫أصحاب عبد ال بن جحش من المهاجرين‪ .‬ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف ‪ :‬أبو حذيفة بن‬
‫عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ‪ ،‬ومن حلفائهم ‪ :‬عبد ال بن جحش ‪ ،‬وهو أمير القوم‬
‫عكّاشة بن محْصن بن حُرْثان ‪ ،‬أحد بني أسد ابن خزيمة ‪ ،‬حليف لهم‪ .‬ومن بني نَوفل بن عبد‬
‫‪،‬وُ‬
‫مناف ‪ :‬عتبة بن غَ ْزوَان بن جابر ‪ ،‬حليف لهم‪ .‬ومن بني زُهرة بن كلب ‪ :‬سعد بن أبي وقاص‪.‬‬
‫ومن بني عدي بن كعب ‪ :‬عامر بن ربيعة ‪ ،‬حليف لهم من عَنز بن وائل ‪ ،‬وواقد بن عبد ال بن‬
‫عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع ‪ ،‬أحد بني تميم ‪ ،‬حليف لهم‪ .‬وخالد بن ال ُبكَير أحد بني‬
‫سهَيل بن بيضاء‪.‬‬
‫سعد بن ليث ‪ ،‬حليف لهم‪ .‬ومن بني الحارث بن ِفهْر ‪ُ :‬‬
‫فلما سار عبد ال بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه ‪" :‬إذا نظرت في كتابي هذا‬
‫فامض حتى تنزل نخلة ‪ ،‬بين مكة والطائف ‪ ،‬ترصد بها قريشًا ‪ ،‬وتعلم لنا من أخبارهم"‪ .‬فلما‬
‫نظر عبد ال بن جحش في الكتاب قال ‪ :‬سمعًا وطاعة‪ .‬ثم قال لصحابه ‪ :‬قد أمرني رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ‪ ،‬أرصد بها قريشًا ‪ ،‬حتى آتيه منهم بخبر ‪ ،‬وقد نهاني‬
‫أن أستكره أحدًا منكم‪ .‬فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق ‪ ،‬ومن كره ذلك‬
‫فليرجع ‪ ،‬فأما أنا فماض لمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فمضى ومضى معه أصحابه لم‬
‫يتخلف عنه منهم أحد‪.‬‬
‫فسلك على الحجاز ‪ ،‬حتى إذا كان ِب َمعْدن ‪ ،‬فوق الفُرْع ‪ ،‬يقال له ‪ُ :‬بحْران (‪ )4‬أضلّ سعد بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬منه أكبر عند ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ط ‪" :‬أبو سعيد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬أنها نزلت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬نجران"‪.‬‬

‫( ‪)1/575‬‬

‫أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما ‪ ،‬كانا َيعْتقبانه ‪ ،‬فتخلفا عليه في طلبه ‪ ،‬ومضى عبد ال‬
‫بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ‪ ،‬فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من‬
‫تجارة قريش ‪ ،‬فيها ‪ :‬عمرو بن الحضرمي ‪ ،‬وعثمان بن عبد ال بن المغيرة ‪ ،‬وأخوه نوفل بن‬
‫عبد ال المخزوميان ‪ ،‬والحكم بن كَيسان ‪ ،‬مولى هشام بن المغيرة‪.‬‬
‫فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم ‪ ،‬فأشرف لهم عكاشة بن محصن ‪ ،‬وكان قد حلق‬
‫عمّار ‪ ،‬ل بأس عليكم منهم‪ .‬وتشاور القوم فيهم ‪ ،‬وذلك في آخر‬
‫رأسه ‪ ،‬فلما رأوه أمنُوا وقالوا ‪ُ :‬‬
‫يوم من رجب ‪ ،‬فقال القوم ‪ :‬وال لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم ‪ ،‬فليمتنعنّ منكم به ‪،‬‬
‫ولئن قتلتموهم لتقْتُلنّهم في الشهر الحرام‪ .‬فتردد القوم ‪ ،‬وهابوا القدام عليهم ‪ ،‬ثم شجعوا أنفسهم‬
‫عليهم ‪ ،‬وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم ‪ ،‬وأخْذ ما معهم‪ .‬فرمى واقدُ بن عبد ال التميمي‬
‫(‪ )1‬عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله ‪ ،‬واستأسر عثمانَ بن عبد ال والحكم بن كيسان ‪ ،‬وأفلت‬
‫القوم نوفلُ بن عبد ال فأعجزهم‪ .‬وأقبل عبد ال بن جحش وأصحابه بالعير والسيرين ‪ ،‬حتى‬
‫قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وقد ذكر بعض آل عبد ال بن جحش ‪ :‬أن عبد ال قال لصحابه ‪ :‬إن لرسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم مما غنمنا الخمس ‪ ،‬وذلك قبل أن َيفْرض ال الخمس من المغانم ‪ ،‬فعزل‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم خمس العير ‪ ،‬وقسم سائرها بين أصحابه‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فلما قدموا على رسول ال قال ‪" :‬ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"‪ .‬فوقّف‬
‫العير والسيرين ‪ ،‬وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا ‪ ،‬فلما قال ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫أسقط في أيدي القوم ‪ ،‬وظنوا أنهم قد هلكوا ‪ ،‬وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا‪ .‬وقالت‬
‫قريش ‪ :‬قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام ‪ ،‬وسفكوا فيه (‪ )2‬الدم ‪ ،‬وأخذوا فيه الموال ‪،‬‬
‫وأسروا فيه الرجال‪ .‬فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة ‪ :‬إنما أصابوا ما أصابوا في‬
‫شعبان‪.‬‬
‫وقالت ‪ :‬يهودُ َتفَاءلُ بذلك على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬عمرو بن الحضرمي قتله واقد‬
‫بن عبد ال ‪ :‬عمرو ‪ :‬عمرت الحرب ‪ ،‬والحضرمي ‪ :‬حضرت الحرب ‪ ،‬وواقد بن عبد ال ‪:‬‬
‫وقدت الحرب‪ .‬فجعل ال عليهم ذلك ل لهم‪.‬‬
‫شهْرِ‬
‫فلما أكثر الناس في ذلك أنزل ال على رسوله صلى ال عليه وسلم ‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫جدِ ا ْلحَرَا ِم وَِإخْرَاجُ أَهِْلهِ مِنْهُ‬
‫الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َو ُكفْرٌ ِب ِه وَا ْلمَسْ ِ‬
‫َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } أي ‪ :‬إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل‬
‫ال مع الكفر به ‪ ،‬وعن المسجد الحرام ‪ ،‬وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند ال من قتل من قتلتم‬
‫(‪ )3‬منهم ‪ { ،‬وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } أي ‪ :‬قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ‪ ،‬حتى يردوه إلى‬
‫الكفر بعد إيمانه (‪ )4‬فذلك أكبر عند ال من القتل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬السهمي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فيها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬من قتل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬يفتنون المسلمين في دينهم حتى يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/576‬‬

‫{ وَل يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَرُدّوكُمْ عَنْ دِي ِنكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } أي ‪ :‬ثم هم مقيمون على أخبث‬
‫ذلك وأعظمه ‪ ،‬غير تائبين ول نازعين‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فلما نزل القرآن بهذا من المر ‪ ،‬وفرج ال عن المسلمين ما كانوا فيه من‬
‫شفَق قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم العير والسيرين ‪ ،‬وبعثت إليه قريش في فداء عثمان‬
‫ال ّ‬
‫بن عبد ال ‪ ،‬والحكم بن كيسان ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل ُنفْديكموهما حتى يقدم‬
‫صاحبانا ‪ -‬يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غَزْوان ‪ -‬فإنا نخشاكم عليهما ‪ ،‬فإن تقتلوهما‬
‫نقتل صاحبيكم‪ .‬فقدم سعد وعتبة ‪ ،‬فأفداهما رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم‪.‬‬
‫فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلمه ‪ ،‬وأقام عند رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى قتل‬
‫يوم بئر معونة شهيدًا‪ .‬وأما عثمان بن عبد ال فلحق بمكة ‪ ،‬فمات بها كافرًا‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فلما تجلى عن عبد ال بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ‪،‬‬
‫طَمعُوا في الجر ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطَى فيها أجر المجاهدين‬
‫[المهاجرين] (‪ )1‬؟ فأنزل ال عز وجل ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ } فوضعهم ال من ذلك على أعظم الرجاء‪.‬‬
‫ح َمةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬
‫أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ رَ ْ‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬والحديث في هذا عن الزهري ‪ ،‬ويزيد بن رُومان ‪ ،‬عن عروة‪.‬‬
‫وقد روى يونس بن ُبكَيْر ‪ ،‬عن محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن يزيد بن رومان ‪ ،‬عن عروة بن الزبير‬
‫قريبًا من هذا السياق‪ .‬وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وروى شعيب بن أبي حَمزة ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضًا ‪ ،‬وفيه ‪:‬‬
‫فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ‪ ،‬فركب وفد من كفار قريش حتى‬
‫ل القتالُ في الشهر الحرام ؟ فأنزل‬
‫قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم بالمدينة فقالوا ‪ :‬أيح ّ‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ [قِتَالٍ فِيهِ] (‪ } )2‬الية‪ .‬وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر‬
‫ال ‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫البيهقي في كتاب "دلئل النبوة"‪.‬‬
‫ثم قال ابن هشام عن زياد ‪ ،‬عن ابن إسحاق ‪ :‬وقد ذكر عن بعض آل عبد ال [بن جحش] (‪ )3‬أن‬
‫ال قسم الفيء حين أحلّه ‪ ،‬فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه ‪ ،‬وخمسًا إلى ال ورسوله‪ .‬فوقع على‬
‫ما كان عبد ال بن جحش صنع في تلك العير (‪.)4‬‬
‫قال ابن هشام ‪ :‬وهي أول غنيمة غنمها المسلمون‪ .‬وعمرو بن الحضرمي أول من قتل‬
‫المسلمون ‪ ،‬وعثمان بن عبد ال ‪ ،‬والحكم بن كَيْسان أول من أسر المسلمون (‪.)5‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فقال أبو بكر الصديق ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬في غزوة عبد ال بن جحش ‪ ،‬ويقال ‪:‬‬
‫بل عبد ال بن جحش قالها ‪ ،‬حين قالت قريش ‪ :‬قد أحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ‪ ،‬فسفكوا‬
‫فيه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬السيرة النبوية لبن هشام (‪.)1/605‬‬
‫(‪ )5‬السيرة النبوية لبن هشام (‪.)1/605‬‬

‫( ‪)1/577‬‬

‫س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْفعِ ِهمَا وَيَسْأَلُو َنكَ‬


‫خمْرِ وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ (‪)219‬‬

‫الدم ‪ ،‬وأخذوا فيه المال ‪ ،‬وأسروا فيه الرجال‪ .‬قال ابن هشام ‪ :‬هي لعبد ال بن جحش ‪:‬‬
‫َتعُدّون قَتْل في الحرام عظيمةً‪ ...‬وأعظم منه لو يَرى الرشد راشد‪...‬‬
‫صدودُك ُم عما يقول محمد‪ ...‬وكفر به وال راءٍ وشاهدُ‪...‬‬
‫وإخراجُكمْ من مسجد ال أهلَه‪ ...‬لئل يُرَى ل في البيت ساجدُ‪...‬‬
‫فإنّا وإن عَيّرْتمونا بقتله‪ ...‬وأرجف بالسلم باغٍ وحاسدُ‪...‬‬
‫سقَيَنْا من ابن الحضرميّ رماحَنَا‪ ...‬بنخلةَ لمّا أوقَدَ الحربَ واقدُ‪...‬‬
‫َ‬
‫غلّ من القدّ عاندُ‪...‬‬
‫دما وابنُ عبد ال عثمانُ بيننا‪ ...‬ينازعه ُ‬
‫س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْف ِع ِهمَا وَيَسْأَلُو َنكَ‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ اليَاتِ َلعَّل ُكمْ تَ َت َفكّرُونَ (‪} )219‬‬
‫( ‪)1/578‬‬

‫خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ‬


‫فِي الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةِ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلَاحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ ُتخَالِطُو ُهمْ فَإِ ْ‬
‫حكِيمٌ (‪)220‬‬
‫ح وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَأَعْنَ َت ُكمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ‬

‫خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ‬


‫{ فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ ُتخَالِطُوهُمْ فَإِ ْ‬
‫حكِيمٌ (‪} )220‬‬
‫ح وََلوْ شَاءَ اللّهُ لعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا خلف بن الوليد ‪ ،‬حدثنا إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي ميسرة ‪،‬‬
‫عن عمر أنّه قال ‪ :‬لما نزل تحريم الخمر قال ‪ :‬اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا‪ .‬فنزلت هذه‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ َومَنَافِعُ لِلنّاسِ] (‪} )1‬‬
‫الية التي في البقرة ‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫فدُعي عمر فقرئتْ عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا‪ .‬فنزلت الية التي في النساء ‪:‬‬
‫سكَارَى } [النساء ‪ ، ]43 :‬فكان منادي رسول ال‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقْرَبُوا الصّلةَ وَأَنْتُمْ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم إذا أقام الصلة نادى ‪ :‬أل يقربنّ الصلة سكرانُ‪ .‬فدُعي عمر فقرئت عليه ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا‪ .‬فنزلت الية التي في المائدة‪ .‬فدعي عمر ‪ ،‬فقرئت‬
‫عليه ‪ ،‬فلما بلغ ‪َ { :‬فهَلْ أَنْ ُتمْ مُنْ َتهُونَ } [المائدة ‪ ]91 :‬؟ قال عمر ‪ :‬انتهينا ‪ ،‬انتهينا (‪.)2‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي من طرق ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق (‪.)3‬‬
‫وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدويه من طريق الثوري ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن أبي ميسرة ‪،‬‬
‫واسمه عمرو بن شُ َرحْبِيل ال َهمْداني الكوفي ‪ ،‬عن عمر‪ .‬وليس له عنه سواه ‪ ،‬لكن قال أبو زُرْعَة‬
‫‪ :‬لم يسمع منه‪ .‬وال أعلم‪ .‬وقال علي بن المديني ‪ :‬هذا إسناد صالح وصحّحه الترمذي‪ .‬وزاد ابن‬
‫أبي حاتم ‪ -‬بعد قوله ‪ :‬انتهينا ‪ : -‬إنها تذهب المال وتذهب العقل‪ .‬وسيأتي هذا الحديث أيضا مع‬
‫ما رواه أحمد من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)1/53‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود برقم (‪ )3670‬وسنن الترمذي برقم (‪ )3049‬وسنن النسائي (‪.)8/286‬‬

‫( ‪)1/578‬‬

‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَال ْنصَابُ‬


‫طريق أبي هريرة أيضًا (‪ - )1‬عند قوله في سورة المائدة ‪ { :‬إِ ّنمَا ا ْل َ‬
‫ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفِْلحُونَ } [المائدة ‪ ]90 :‬اليات‪.‬‬
‫وَالزْلمُ ِرجْسٌ مِنْ َ‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ } أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ‪:‬‬
‫فقوله ‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫إنه كل ما خامر العقل‪ .‬كما سيأتي بيانُه في سورة المائدة ‪ ،‬وكذا الميسر ‪ ،‬وهو القمار‪.‬‬
‫وقوله ‪ُ { :‬قلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّاسِ } أما إثمهما فهو في الدين ‪ ،‬وأما المنافع فدنيوية ‪ ،‬من‬
‫ج الفضلت ‪ ،‬وتشحيذ بعض الذهان ‪،‬‬
‫حيث إن (‪ )2‬فيها نفع البدن ‪ ،‬وتهضيم الطعام ‪ ،‬وإخرا َ‬
‫ولذّة الشدّة المطربة التي فيها ‪ ،‬كما قال حسان بن ثابت في جاهليته ‪:‬‬
‫ونشربها فتتركنا ملوكًا‪ ...‬وأسْدًا ل يُ َنهْنهها اللقاءُ‪...‬‬
‫وكذا بيعها والنتفاع بثمنها‪ .‬وما كان ُي َقمّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله‪ .‬ولكن‬
‫هذه المصالح ل توازي مضرّته ومفسدته الراجحة ‪ ،‬لتعلقها بالعقل والدين ‪ ،‬ولهذا قال ‪ { :‬وَإِ ْث ُم ُهمَا‬
‫َأكْبَرُ مِنْ َن ْفعِ ِهمَا } ؛ ولهذا كانت هذه الية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ‪ ،‬ولم تكن مصرحة‬
‫بل معرضة ؛ ولهذا قال عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬لما قرئت عليه ‪ :‬اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا‬
‫خمْرُ وَا ْلمَيْسِرُ‬
‫شافيًا ‪ ،‬حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا ا ْل َ‬
‫ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ * إِ ّنمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ‬
‫وَالنْصَابُ وَالزْلمُ ِرجْسٌ مِنْ َ‬
‫خمْرِ وَا ْلمَيْسِ ِر وَ َيصُ ّدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه وَعَنِ الصّلةِ َف َهلْ أَنْتُمْ مُنْ َتهُونَ }‬
‫بَيْ َنكُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَاءَ فِي ا ْل َ‬
‫[المائدة ‪ ]91 ، 90 :‬وسيأتي الكلم على ذلك في سورة المائدة إن شاء ال ‪ ،‬وبه الثقة‪.‬‬
‫قال ابن عمر ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والرّبيع بن أنس ‪ ،‬وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪:‬‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ َومَنَافِعُ‬
‫هذه (‪ )3‬أوّل آية نزلت في الخمر ‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫لِلنّاسِ] (‪ } )4‬ثم نزلت الية التي في سورة النساء ‪ ،‬ثم التي في المائدة ‪ ،‬فحرمت الخمر (‪.)5‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ } قُرئ بالنصب وبالرفع (‪ )6‬وكلهما حسن متّجَه‬
‫قريب‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا أبان ‪ ،‬حدثنا يحيى أنه بلغه ‪:‬‬
‫أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال يا رسول ال ‪ ،‬إن لنا أرقاء‬
‫وأهلين [فما ننفق] (‪ )7‬من أموالنا‪ .‬فأنزل ال ‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ } (‪.)8‬‬
‫وقال الحكم ‪ ،‬عن ِمقْسَم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ } قال ‪ :‬ما يفضل‬
‫عن أهلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عنه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬إن كان فيها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬هذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬فحرمت الخمر فلله الحمد"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بالرفع والنصب"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬وهذا منقطع ‪ ،‬فإن يحيى بن سعيد بينه وبين معاذ قرن من الزمان‪.‬‬

‫( ‪)1/579‬‬

‫وكذا روي عن ابن عمر ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬ومحمد بن كعب ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والقاسم ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وغير واحد ‪ :‬أنهم‬
‫قالوا في قوله ‪ُ { :‬قلِ ا ْل َع ْفوَ } يعني الفضل‪.‬‬
‫وعن طاوس ‪ :‬اليسير من كل شيء ‪ ،‬وعن الربيع أيضًا ‪ :‬أفضل مالك ‪ ،‬وأطيبه‪.‬‬
‫والكل يرجع إلى الفضل‪.‬‬
‫وقال عبد بن حميد في تفسيره ‪ :‬حدثنا هوذة بن خليفة ‪ ،‬عن عوف ‪ ،‬عن الحسن ‪ { :‬وَيَسَْألُو َنكَ‬
‫مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ } قال ‪ :‬ذلك أل تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس‪.‬‬
‫ويدل على ذلك ما رواه ابنُ جرير ‪ :‬حدثنا علي بن مسلم ‪ ،‬حدثنا أبو عاصم ‪ ،‬عن ابن عَجْلن ‪،‬‬
‫عن ال َمقْبُريّ ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رجل ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬عندي دينار ؟ قال ‪" :‬أنفقه على‬
‫نفسك"‪ .‬قال ‪ :‬عندي آخر ؟ قال ‪" :‬أنفقه على أهلك"‪ .‬قال ‪ :‬عندي آخر ؟ قال ‪" :‬أنفقه على ولدك"‪.‬‬
‫قال ‪ :‬عندي آخر ؟ قال ‪" :‬فأنت أبصَرُ"‪.‬‬
‫وقد رواه مسلم في صحيحه (‪ .)1‬وأخرج مسلم أيضًا عن جابر ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قال لرجل ‪" :‬ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ‪ ،‬فإن َفضَل شيء فلهلك ‪ ،‬فإن فضل شيء عن‬
‫أهلك فلذي قرابتك ‪ ،‬فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" (‪.)2‬‬
‫وعنده عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬خير‬
‫ظهْر غنى ‪ ،‬واليد العليا خير من اليد السفلى ‪ ،‬وابدأ بمن تعول" (‪.)3‬‬
‫الصدقة ما كان عن َ‬
‫وفي الحديث أيضًا ‪" :‬ابن آدم ‪ ،‬إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك ‪ ،‬وإن تمسكه شر لك ‪ ،‬ول تُلم على‬
‫َكفَافٍ" (‪.)4‬‬
‫ثم قد قيل ‪ :‬إنها منسوخة بآية الزكاة ‪ ،‬كما رواه علي بن أبي طلحة ‪ ،‬والعوفي عن ابن عباس ‪،‬‬
‫وقاله عطاء الخراساني والسدي ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مبينة بآية الزكاة ‪ ،‬قاله مجاهد وغيره ‪ ،‬وهو أوجه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ * فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ } أي ‪ :‬كما فصّل لكم‬
‫هذه الحكام وبينَها وأوضحها ‪ ،‬كذلك يبين لكم سائر اليات في أحكامه ووعده ‪ ،‬ووعيده ‪ ،‬لعلكم‬
‫تتفكرون في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ ، )4/340‬وأما قول الحافظ بأنه في صحيح مسلم ‪ ،‬فقد قال الشيخ أحمد‬
‫شاكر ‪ -‬رحمه ال ‪" : -‬وهم ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬فإن الحديث ليس في صحيح مسلم على اليقين بعد‬
‫طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود"‪ .‬قلت ‪ :‬لم يذكره المزي في تحفة الشراف معزوا لمسلم‬
‫‪ ،‬وإنما عزاه لبي داود وغيره‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)997‬‬
‫(‪ )3‬هو في صحيح البخاري برقم (‪ )1428‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه ‪ ،‬وهو في‬
‫صحيح مسلم برقم (‪ )1034‬من حديث حكيم بن حزام رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1036‬من حديث أبي أمامة رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/580‬‬

‫قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬يعني في زوال الدنيا وفنائها ‪ ،‬وإقبال الخرة وبقائها‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا علي بن محمد الطّنَافسي ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬عن الصعّق‬
‫العيشي (‪ )1‬قال ‪ :‬شهدت الحسن ‪ -‬وقرأ هذه الية من البقرة ‪َ { :‬لعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ * فِي الدّنْيَا‬
‫وَالخِ َرةِ } قال ‪ :‬هي وال لمن تفكر فيها ‪ ،‬ليعلم أن الدنيا دار بلء ‪ ،‬ثم دار فناء ‪ ،‬وليعلم أن‬
‫الخرة دار جزاء ‪ ،‬ثم دار بقاء‪.‬‬
‫وهكذا قال قتادة ‪ ،‬وابن جُرَيْج ‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬لتعلموا فضل الخرة على الدنيا‪ .‬وفي رواية عن قتادة‬
‫‪ :‬فآثرُوا الخرة على الولى‪.‬‬
‫ض وَاخْتِلفِ‬
‫ت وَالرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫[وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران ‪ { :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫ت لولِي اللْبَابِ } [آل عمران ‪ ]190 :‬آثارًا كثيرة عن السلف في معنى التفكر‬
‫ل وَال ّنهَارِ ليَا ٍ‬
‫اللّ ْي ِ‬
‫والعتبار] (‪.)2‬‬
‫خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ ا ْل ُمفْسِدَ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ تُخَاِلطُوهُمْ فَِإ ْ‬
‫ح وََلوْ شَاءَ اللّهُ لعْنَ َتكُمْ } الية ‪ :‬قال ابن جرير ‪:‬‬
‫مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ‬
‫حدثنا سفيان بن َوكِيع ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن سعيد بن جُبَير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس قال ‪ :‬لما نزلت ‪ { :‬وَل َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِل بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ } [السراء ‪ ]34 :‬و { إِنّ‬
‫سعِيرًا } [النساء ‪]10 :‬‬
‫الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُ ْلمًا إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ نَارًا وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬
‫انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ‪ ،‬وشرابه من شرابه ‪ ،‬فجعل يفضُل له الشيء‬
‫من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ‪ ،‬فاشتد ذلك عليهم ‪ ،‬فذكروا ذلك لرسول ال صلى ال‬
‫خوَا ُنكُمْ }‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِ ْ‬
‫فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم (‪.)3‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن مَرْدويه ‪ ،‬والحاكم في مستدركه من‬
‫طرق ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬به (‪ .)4‬وكذا رواه علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس‪ .‬وكذا‬
‫رواه السدي ‪ ،‬عن أبي مالك وعن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬وعن مرة ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪-‬‬
‫بمثله‪ .‬وهكذا ذكر (‪ )5‬غير واحد في سبب نزول هذه الية كمجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وابن‬
‫أبي ليلى ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وغير واحد من السلف والخلف‪.‬‬
‫قال َوكِيع بن الجراح ‪ :‬حدثنا هشام الدّسْتَوائي (‪ )6‬عن حماد ‪ ،‬عن إبراهيم قال ‪ :‬قالت عائشة ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬التميمي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)4/350‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود برقم (‪ )2871‬وسنن النسائي (‪ )6/256‬والمستدرك (‪.)2/278‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وهكذا رواه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬حدثنا صاحب الدستوائي" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬حدثنا هشام صاحب الدستوائي"‪.‬‬

‫( ‪)1/581‬‬

‫ن وَلََأمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ ُمشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْتكُ ْم وَلَا تُ ْن ِكحُوا‬
‫وَلَا تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ‬
‫ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ‬
‫يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آَيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ (‪)221‬‬

‫إني لكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة (‪ )1‬حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي‪.‬‬
‫خوَا ُنكُمْ } أي ‪ :‬وإن خلطتم‬
‫فقوله ‪ُ { :‬قلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ خَيْرٌ } أي ‪ :‬على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِ ْ‬
‫طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ‪ ،‬فل بأس عليكم ؛ لنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال ‪:‬‬
‫{ وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِ } أي ‪ :‬يعلم مَنْ َقصْدُه ونيته الفسادَ أو الصلح‪.‬‬
‫حكِيمٌ } أي ‪ :‬ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم (‪)2‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ لعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ولكنه وَسّع عليكم ‪ ،‬وخفّف عنكم ‪ ،‬وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ‪ ،‬كما قال ‪ { :‬وَل َتقْرَبُوا‬
‫حسَنُ } [النعام ‪ ، ، ]152 :‬بل قد جوز الكل منه للفقير بالمعروف ‪ ،‬إما‬
‫مَالَ الْيَتِيمِ إِل بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫بشرط ضمان البدل لمن أيسر ‪ ،‬أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ‪ ،‬إن شاء ال ‪ ،‬وبه‬
‫الثقة‪.‬‬
‫عجَبَ ْتكُ ْم وَل تُ ْن ِكحُوا‬
‫ن وَلمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَ ْ‬
‫{ وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ‬
‫ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ‬
‫يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ (‪} )221‬‬
‫هذا تحريم من ال ع ّز وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الوثان‪ .‬ثم إن كان‬
‫عمومُها مرادًا ‪ ،‬وأنّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ‪ ،‬فقد خَص من ذلك نساء أهل‬
‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ إِذَا‬
‫ت وَا ْلمُ ْ‬
‫حصَنَاتُ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫الكتاب بقوله ‪ { :‬وَا ْلمُ ْ‬
‫حصِنِينَ غَيْرَ مُسَا ِفحِينَ [وَل مُتّخِذِي َأخْدَانٍ] (‪[ } )3‬المائدة ‪.]5 :‬‬
‫آتَيْ ُتمُوهُنّ ُأجُورَهُنّ مُ ْ‬
‫قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ } استثنى‬
‫ال من ذلك نساء أهل الكتاب‪ .‬وهكذا قال مجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬ومكحول ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل المراد بذلك المشركون (‪ )4‬من عبدة الوثان ‪ ،‬ولم يُردْ أهل الكتاب بالكلية ‪ ،‬والمعنى‬
‫قريب من الول ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫فأما ما رواه ابن جرير ‪ :‬حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلني ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد‬
‫حوْشَب قال ‪ :‬سمعت عبد ال بن عباس يقول ‪ :‬نهى‬
‫شهْر بن َ‬
‫الحميد بن َبهْرَام الفزاري ‪ ،‬حدثنا َ‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن أصناف النساء ‪ ،‬إل ما كان من المؤمنات المهاجرات ‪ ،‬وحرّم‬
‫عمَلُهُ } [المائدة ‪:‬‬
‫كل ذات دين غير السلم ‪ ،‬قال ال عز وجل ‪َ { :‬ومَنْ َي ْكفُرْ بِاليمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ‬
‫‪ .]5‬وقد نكح طلحة بن عُبَيد ال يهودية ‪ ،‬ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ‪ ،‬فغضب عمر بن‬
‫الخطاب غضبًا شديدًا ‪ ،‬حتى هَمّ أن يسطو عليهما‪ .‬فقال نحن نطَلق يا أمير المؤمنين ‪ ،‬ول‬
‫صغَرَة قَمأة (‪ - )5‬فهو‬
‫حلّ طلقهن لقد حل نكاحهن ‪ ،‬ولكني أنتزعهن منكم َ‬
‫تغضب! فقال ‪ :‬لئن َ‬
‫حديث غريب جدًا‪ .‬وهذا الثر عن عمر غريب أيضًا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عندي حدة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وأخرجكم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬المشركين"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)4/364‬‬

‫( ‪)1/582‬‬

‫قال أبو جعفر بن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬بعد حكايته الجماع على إباحة تزويج الكتابيات ‪ :‬وإنما‬
‫كره عمر ذلك ‪ ،‬لئل يزهد الناس في المسلمات ‪ ،‬أو لغير ذلك من المعاني ‪ ،‬كما حدثنا أبو‬
‫كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا ابن إدريس ‪ ،‬حدثنا الصلت بن بهرام ‪ ،‬عن شقيق قال ‪ :‬تزوج حذيفة يهودية ‪،‬‬
‫فكتب إليه عمر ‪ :‬خَل سبيلها ‪ ،‬فكتب إليه ‪ :‬أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها ؟ فقال ‪ :‬ل أزعم أنها‬
‫حرام ‪ ،‬ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن (‪.)1‬‬
‫وهذا إسناد صحيح ‪ ،‬وروى الخلل عن محمد بن إسماعيل ‪ ،‬عن َوكِيع ‪ ،‬عن الصلت (‪ )2‬نحوه‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ‪ ،‬حدثنا محمد بن بشر ‪ ،‬حدثنا سفيان‬
‫(‪ )3‬بن سعيد ‪ ،‬عن يزيد بن أبي زياد ‪ ،‬عن زيد بن وهب قال ‪ :‬قال [لي] (‪ )4‬عمر بن الخطاب ‪:‬‬
‫المسلم يتزوج النصرانية ‪ ،‬ول يتزوج النصراني المسلمة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهذا أصح إسنادًا من الول (‪.)6( )5‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وقد حدثنا تميم بن المنتصر ‪ ،‬أخبرنا إسحاق الزرق (‪ )7‬عن شريك ‪ ،‬عن أشعث بن‬
‫سوار ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬نتزوج‬
‫نساء أهل الكتاب ول يتزوجون نساءنا"‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وهذا الخبر ‪ -‬وإن كان في إسناده ما فيه ‪ -‬فالقول به لجماع الجميع من المة على‬
‫صحة القول (‪ )8‬به (‪.)9‬‬
‫كذا قال ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن إسماعيل الحمسي ‪ ،‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬عن جعفر بن بُرْقان ‪،‬‬
‫عن ميمون بن ِمهْران ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أنه كره نكاح أهل الكتاب ‪ ،‬وتأول (‪ { )10‬وَل تَ ْنكِحُوا‬
‫ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ }‬
‫وقال البخاري ‪ :‬وقال ابن عمر ‪ :‬ل أعلم شركًا أعظم من أن تقول ‪ :‬ربها (‪ )11‬عيسى (‪.)12‬‬
‫وقال أبو بكر الخلل الحنبلي ‪ :‬حدثنا محمد بن هارون (‪ )13‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم(ح)‬
‫وأخبرني محمد بن علي ‪ ،‬حدثنا صالح بن أحمد ‪ :‬أنهما سأل أبا عبد ال أحمد بن حنبل ‪ ،‬عن‬
‫قول‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)4/366‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عن الفضل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬شقيق"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وهذا إسناد أصح من الول"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)4/367‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬وقد حدثنا تميم بن المنتصر ‪ ،‬أخبرنا عثمان بن المنتصر ‪ ،‬أخبرنا إسحاق الزرق"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الجميع من المة عليه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)4/367‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬ول يتأول"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬ربنا"‪.‬‬
‫(‪ )12‬صحيح البخاري برقم (‪ )5285‬وهو هنا موصول عن ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬محمد بن أبي هارون"‪.‬‬
‫( ‪)1/583‬‬

‫طهُرْنَ فَإِذَا‬
‫ض وَلَا َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬
‫وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬
‫طهّرِينَ (‪ )222‬نِسَا ُؤكُمْ‬
‫حبّ ا ْلمُ َت َ‬
‫ن وَيُ ِ‬
‫حبّ ال ّتوّابِي َ‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫تَ َ‬
‫سكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلَاقُو ُه وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‬
‫حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ‬
‫‪)223‬‬

‫ال ‪ { :‬وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِنّ } قال ‪ :‬مشركات العرب الذين يعبدون الوثان (‪.)1‬‬
‫عجَبَ ْتكُمْ } قال السدي ‪ :‬نزلت في عبد ال بن رواحة‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر َك ٍة وََلوْ أَ ْ‬
‫‪ ،‬كانت له أمة سوداء ‪ ،‬فغضب عليها فلطمها ‪ ،‬ثم فزع ‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فأخبره خبرها‪ .‬فقال له ‪" :‬ما هي ؟" قال ‪ :‬تصوم ‪ ،‬وتصلي ‪ ،‬وتحسن الوضوءَ ‪ ،‬وتشهد أن ل إله‬
‫إل ال وأنك رسول ال‪ .‬فقال ‪" :‬يا أبا عبد ال ‪ ،‬هذه مؤمنة"‪ .‬فقال ‪ :‬والذي بعثك بالحق لعتقَنّها‬
‫ولتزوجَنها (‪ .)2‬ففعل ‪ ،‬فطعن عليه ناس من المسلمين ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬نكح أمَة‪ .‬وكانوا يريدون أن‬
‫ينكحوا إلى المشركين ‪ ،‬ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَلمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ‬
‫عجَ َبكُمْ }‬
‫ك وََلوْ أَ ْ‬
‫مُشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ } { وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ‬
‫وقال عبد بن حميد ‪ :‬حدثنا جعفر بن عون ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن زياد الفريقي ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫عمْرو ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل تنكحوا النساء‬
‫بن يزيد ‪ ،‬عن عبد ال بن َ‬
‫لحسنهن ‪ ،‬فعسى حسنهن أن يرديهن ‪ ،‬ول تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن (‪)3‬‬
‫وانكحوهن على الدين ‪ ،‬فلمة سوداء خَرْماء ذات دين أفضل" (‪ .)4‬والفريقي ضعيف‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬تنكح المرأة‬
‫لربع ‪ :‬لمالها ‪ ،‬ولحسبها ولجمالها ‪ ،‬ولدينها ؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك" (‪ .)5‬ولمسلم عن‬
‫جابر مثله (‪ .)6‬وله ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الدنيا متاع ‪،‬‬
‫وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (‪.)7‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تُ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا } أي ‪ :‬ل تُ َزوّجوا الرجال المشركين النساء‬
‫حلّ َلهُ ْم وَل هُمْ َيحِلّونَ َلهُنّ } [الممتحنة ‪.]10 :‬‬
‫المؤمنات ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬ل هُنّ ِ‬
‫ك وََلوْ أَعْجَ َبكُمْ } أي ‪ :‬ولرجل مؤمن ‪ -‬ولو كان عبدًا‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬وََلعَبْدٌ ُمؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ‬
‫حبشيًا ‪ -‬خير من مشرك ‪ ،‬وإن كان رئيسًا سَرِيًا (‪ { )8‬أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ } أي ‪ :‬معاشَرتهم‬
‫ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الخرة ‪ ،‬وعاقبة ذلك وخيمة‬
‫{ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِهِ } أي ‪ :‬بشرعه وما أمر به وما نهى عنه { وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ‬
‫لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ }‬
‫طهُرْنَ‬
‫ض وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬
‫{ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َمحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬
‫طهّرِينَ (‪ )222‬نِسَا ُؤكُمْ‬
‫حبّ ا ْلمُتَ َ‬
‫حبّ ال ّتوّابِينَ وَيُ ِ‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫فَإِذَا َت َ‬
‫سكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلقُو ُه وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‬
‫حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُوا لنْفُ ِ‬
‫‪} )223‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الصنام"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬لعتقها ولتزوجنها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أن يطغيهن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المنتخب لعبد بن حميد برقم (‪.)328‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )5090‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1466‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)715‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)1457‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬شريفا"‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬

‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن ثابت ‪ ،‬عن أنس ‪:‬‬
‫أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم ُيؤَاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ‪ ،‬فسأل أصحابُ‬
‫النبي [النبيّ] (‪ )1‬صلى ال عليه وسلم فأنزل ال عز وجل ‪ { :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ‬
‫طهّرْنَ } حتى فرغ من الية‪.‬‬
‫طهُرْنَ فَإِذَا تَ َ‬
‫ض وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬
‫أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اصنعوا كل شيء إل النكاح"‪ .‬فبلغ ذلك اليهود ‪ ،‬فقالوا ‪:‬‬
‫حضَير وعبّاد بن بشر‬
‫ما يريد هذا الرجل أن يَدع من أمرنا شيئًا إل خالفنا فيه! فجاء أسيد بن ُ‬
‫فقال يا رسول ال ‪ ،‬إن اليهود قالت كذا وكذا ‪ ،‬أفل نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول ال صلى ال‬
‫جدَ عليهما ‪ ،‬فخرجا ‪ ،‬فاستقبلتهما (‪ )3‬هدية من لبن إلى رسول‬
‫عليه وسلم حتى ظننا أن (‪ )2‬قد وَ َ‬
‫(‪ )4‬ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأرسل في آثارهما ‪ ،‬فسقاهما ‪ ،‬فعرفا أن لم يَجدْ عليهما‪.‬‬
‫رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة (‪.)5‬‬
‫فقوله ‪ { :‬فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِيضِ } يعني [في] (‪ )6‬الفَرْج ‪ ،‬لقوله ‪" :‬اصنعوا كل شيء إل‬
‫النكاح" (‪ )7‬؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا‬
‫الفرج‪.‬‬
‫قال أبو داود ‪ :‬حدثنا موسى بن إسماعيل ‪ ،‬حدثنا حماد ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن بعض‬
‫أزواج النبي صلى ال عليه وسلم أنّ النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا ‪،‬‬
‫ألقى على فرجها ثوبًا (‪.)8‬‬
‫وقال أبو داود أيضًا ‪ :‬حدثنا ال َقعْنَ ِبيّ ‪ ،‬حدثنا عبد ال ‪ -‬يعني ابن عمر بن غانم ‪ -‬عن عبد‬
‫الرحمن ‪ -‬يعني ابن زياد ‪ -‬عن عمارة بن غُرَاب ‪ :‬أن عمّة له حدثته ‪ :‬أنها سألت عائشة قالت ‪:‬‬
‫إحدانا تحيض ‪ ،‬وليس لها ولزوجها فراش إل فراش واحد ؟ قالت ‪ :‬أخبرك بما صنع رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬دخل فمضى إلى مسجده ‪ -‬قال أبو داود ‪ :‬تعني مسجد بيتها ‪ -‬فما‬
‫انصرف حتى غلبتني عيني ‪ ،‬وأوجعه البرد ‪ ،‬فقال ‪" :‬ادني مني"‪ .‬فقلت ‪ :‬إني حائض‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫"اكشفي عن فخذيك"‪ .‬فكشفت فخذي ‪ ،‬فوضع خدّه وصدره على فخذي ‪ ،‬وحنَيت (‪ )9‬عليه حتى‬
‫دفئ ونام صلى ال عليه وسلم (‪.)10‬‬
‫وقال ‪ :‬أبو جعفر بن جرير ‪ :‬حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب ‪ ،‬حدثنا أيوب عن كتاب أبي‬
‫قلبة ‪ :‬أن مسروقًا ركب إلى عائشة ‪ ،‬فقال ‪ :‬السلم على النبي وعلى أهله (‪ .)11‬فقالت عائشة ‪:‬‬
‫أبو (‪)12‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أنه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فاستقبلهما"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬من لبن لرسول"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )3/132‬وصحيح مسلم برقم (‪.)302‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬إل الجماع"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن أبي داود برقم (‪)272‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬وحننت"‪.‬‬
‫(‪ )10‬سنن أبي داود برقم (‪.)270‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬الصلة على النبي وعلى آله"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في أ ‪" :‬ابن"‪.‬‬

‫( ‪)1/585‬‬

‫عائشة! مرحبًا مرحبًا‪ .‬فأذنوا له فدخل ‪ ،‬فقال ‪ :‬إني أريد أن أسألك (‪ )1‬عن شيء ‪ ،‬وأنا أستحي‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬إنما أنا أمّك ‪ ،‬وأنت ابني‪ .‬فقال ‪ :‬ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت ‪ :‬له كل‬
‫شيء إل فرجها (‪.)2‬‬
‫جوْشن ‪،‬‬
‫ورواه أيضًا عن حميد بن مسعدة ‪ ،‬عن يزيد بن زريع ‪ ،‬عن عيينة بن عبد الرحمن بن َ‬
‫عن مروان الصفر ‪ ،‬عن مسروق قال ‪ :‬قلت لعائشة ‪ :‬ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت‬
‫حائضًا ؟ قالت ‪ :‬كل شيء إل الجماع‪.‬‬
‫وهذا قول ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وعكرمة‪.‬‬
‫وروى ابن جرير أيضًا ‪ ،‬عن أبي كُرَيْب ‪ ،‬عن ابن أبي زائدة ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن ميمون بن‬
‫ِمهْران ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬له ما فوق الزار‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بل خلف‪ .‬قالت عائشة ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ‪ ،‬وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ‪ ،‬فيقرأ القرآن (‪ .)3‬وفي‬
‫الصحيح عنها قالت ‪ :‬كنت أتعرّق العَرْق وأنا حائض ‪ ،‬فأعطيه النبي صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ‪ ،‬وأشرب الشراب فأناوله ‪ ،‬فيضع فمه في‬
‫الموضع الذي كنت أشرب (‪.)4‬‬
‫سدّد ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪ ،‬عن جابر بن صُبْح (‪ )5‬سمعت خلسًا الهَجَري قال‬
‫وقال أبو داود ‪ :‬حدثنا مُ َ‬
‫‪ :‬سمعت عائشة تقول ‪ :‬كنت أنا ورسول ال صلى ال عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ‪ ،‬وإني‬
‫حائض طامث ‪ ،‬فإن أصابه مني شيء ‪ ،‬غسل مكانه لم َيعْدُه ‪ ،‬وإن أصاب ‪ -‬يعني ثوبه ‪ -‬شيء‬
‫غسل مكانه لم َيعْدُه ‪ ،‬وصلى فيه (‪.)6‬‬
‫فأما ما رواه أبو داود ‪ :‬حدثنا سعيد بن عبد الجبار ‪ ،‬حدثنا عبد العزيز ‪ -‬يعني ابن محمد ‪ -‬عن‬
‫ضتُ نزلت عن المثَال على‬
‫أبي اليمان ‪ ،‬عن أم ذرة ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أنها قالت ‪ :‬كنتُ إذا ح ْ‬
‫الحصير ‪ ،‬فلم نقرب رسول ال صلى ال عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر (‪ - )7‬فهو محمول‬
‫(‪ )8‬على التنزه والحتياط‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الزار ‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين ‪ ،‬عن‬
‫ميمونة بنت الحارث الهللية قالت ‪ :‬كان النبي (‪ )9‬صلى ال عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة‬
‫من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض (‪ .)10‬وهذا لفظ البخاري‪ .‬ولهما عن عائشة نحوه (‪.)11‬‬
‫وروى المام أحمد ‪ ،‬وأبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬وابن ماجة من حديث العلء بن الحارث ‪ ،‬عن‬
‫حزام‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬إني سائلك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)4/378‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪.)297‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)300‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬صبيح"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن أبي داود برقم (‪.)269‬‬
‫(‪ )7‬سنن أبي داود برقم (‪.)271‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬فمحمول"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬كان رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري برقم (‪ )303‬وصحيح مسلم برقم (‪.)294‬‬
‫(‪ )11‬صحيح البخاري برقم (‪ )300‬وصحيح مسلم برقم (‪.)293‬‬

‫( ‪)1/586‬‬

‫بن حكيم ‪ ،‬عن عمه عبد ال بن سعد النصاري ‪ :‬أنه سأل رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ما‬
‫يَحِل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال ‪" :‬ما (‪ )1‬فوق الزار" (‪.)2‬‬
‫ولبي داود أيضًا ‪ ،‬عن معاذ بن جبل قال ‪ :‬سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عما يحل لي‬
‫من امرأتي وهي حائض (‪ .)3‬قال ‪" :‬ما فوق الزار والتعفف عن ذلك أفضل"‪ .‬وهو رواية عن‬
‫عائشة ‪ -‬كما تقدم ‪ -‬وابن عباس ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وشريح‪.‬‬
‫فهذه الحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الزار منها ‪ ،‬وهو أحد القولين في‬
‫مذهب الشافعي رحمه ال ‪ ،‬الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم‪ .‬ومأخذهم (‪ )4‬أنه حريم‬
‫الفرج ‪ ،‬فهو حرام ‪ ،‬لئل يتوصل إلى تعاطي ما حرم ال عز وجل ‪ ،‬الذي أجمع العلماء على‬
‫تحريمه ‪ ،‬وهو المباشرة في الفرج‪ .‬ثم من فعل ذلك فقد أثم ‪ ،‬فيستغفر ال ويتوب إليه‪ .‬وهل يلزمه‬
‫مع ذلك كفارة أم ل ؟ فيه قولن ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬نعم ‪ ،‬لما رواه المام أحمد ‪ ،‬وأهل السنن ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض ‪" :‬يتصدق بدينار ‪ ،‬أو نصف دينار" (‪ .)5‬وفي لفظ‬
‫للترمذي ‪" :‬إذا كان دمًا أحمر فدينار ‪ ،‬وإن كان دمًا أصفر فنصف دينار"‪ .‬وللمام أحمد أيضًا ‪،‬‬
‫عنه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ‪ ،‬دينارًا فإن أصابها وقد أدبر‬
‫الدم عنها ولم تغتسل ‪ ،‬فنصف دينار‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ‪ ،‬وقول الجمهور ‪ :‬أنه ل شيء في‬
‫ذلك ‪ ،‬بل يستغفر ال عز وجل ‪ ،‬لنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ‪ ،‬فإنه [قد] (‪ )6‬روي‬
‫مرفوعًا كما تقدم وموقوفًا ‪ ،‬وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ { :‬وَل‬
‫طهُرْنَ } تفسير لقوله ‪ { :‬فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِيضِ } ونهي عن قربانهن‬
‫َتقْرَبُوهُنّ حَتّى يَ ْ‬
‫بالجماع ما دام الحيض موجودًا ‪ ،‬ومفهومه حله إذا انقطع ‪[ ،‬وقد قال به طائفة من السلف‪ .‬قال‬
‫القرطبي ‪ :‬وقال مجاهد وعكرمة وطاوس ‪ :‬انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ] (‪.)7‬‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد‬
‫وقوله ‪ { :‬فَِإذَا تَ َ‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ‬
‫الغتسال‪ .‬وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ‪ ،‬لقوله ‪ { :‬فَِإذَا تَ َ‬
‫حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } وليس له في ذلك مستند ‪ ،‬لن هذا أمر بعد الحظر‪ .‬وفيه أقوال لعلماء الصول‬
‫‪ ،‬منهم من يقول ‪ :‬إنه للوجوب كالمطلق‪ .‬وهؤلء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ‪ ،‬ومنهم من يقول‬
‫‪ :‬إنه للباحة ‪ ،‬ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ‪ ،‬وفيه نظر‪ .‬والذي‬
‫ينهض عليه الدليل أنه يُ َردّ الحكم إلى ما كان عليه المر قبل النهي ‪ ،‬فإن كان واجبًا فواجب ‪،‬‬
‫كقوله تعالى ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬لك ما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )4/342‬وسنن أبي داود برقم (‪ )212‬وسنن الترمذي برقم (‪ )133‬وسنن ابن ماجة‬
‫برقم (‪.)651‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود برقم (‪.)213‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ومأخذه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )1/230‬وسنن أبي داود برقم (‪ )266‬وسنن الترمذي برقم (‪ )136‬وسنن النسائي‬
‫الكبرى برقم (‪.)282‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/587‬‬

‫شهُرُ الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ } [التوبة ‪ ، ]5 :‬أو مباحًا فمباح ‪ ،‬كقوله تعالى ‪:‬‬
‫{ فَِإذَا انْسَلَخَ ال ْ‬
‫{ وَإِذَا حَلَلْ ُتمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة ‪ { ، ]2 :‬فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّلةُ فَانْ َتشِرُوا فِي ال ْرضِ } [الجمعة ‪:‬‬
‫‪ ]10‬وعلى هذا القول تجتمع الدلة ‪ ،‬وقد حكاه الغزالي وغيره ‪ ،‬واختاره بعض أئمة المتأخرين ‪،‬‬
‫وهو الصحيح‪.‬‬
‫وقد اتفق العلماء (‪ )1‬على أن المرأة إذا انقطع حيضُها ل تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ‪ ،‬إن (‬
‫‪ )2‬تعذر ذلك عليها بشرطه ‪[ ،‬إل يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ‪ ،‬فإنه‬
‫ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ‪ ،‬ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم‬
‫أيضا ‪ ،‬وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم] (‪ .)3‬إل أن أبا حنيفة ‪،‬‬
‫رحمه ال ‪ ،‬يقول (‪ )4‬فيما إذا انقطع دمها لكثر الحيض ‪ ،‬وهو عشرة أيام عنده ‪ :‬إنها تحل‬
‫بمجرد النقطاع ول تفتقر إلى غسل [ول يصح لقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل‬
‫عليها وقت صلة إل أن تكون دمثة ‪ ،‬فيدخل بمجرد انقطاعه] (‪ )5‬وال أعلم‪.‬‬
‫طهّرْنَ } أي ‪ :‬بالماء‪ .‬وكذا قال مجاهد ‪،‬‬
‫طهُرْنَ } أي ‪ :‬من الدم { فَإِذَا َت َ‬
‫وقال ابن عباس ‪ { :‬حَتّى يَ ْ‬
‫وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والليث بن سعد ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } قال ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وغير واحد ‪ :‬يعني الفَرْج ؛ قال علي‬
‫بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } يقول في الفرج ول َتعْدوه (‪)6‬‬
‫إلى غيره ‪ ،‬فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى‪.‬‬
‫وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ‪ { :‬فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َر ُكمُ اللّهُ } أي ‪ :‬أن تعتزلوهن‪ .‬وفيه‬
‫دللة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ‪ ،‬كما سيأتي تقريره قريبًا‪.‬‬
‫وقال أبو رَزين ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والضحاك وغير واحد ‪ { :‬فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } يعني ‪:‬‬
‫حبّ ال ّتوّابِينَ } أي ‪ :‬من الذنب وإن تكرر (‬
‫طاهرات غير حُيّض ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ { :‬إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫طهّرِينَ } أي ‪ :‬المتنزهين عن (‪ )8‬القذار والذى ‪ ،‬وهو ما نهوا عنه‬
‫حبّ ا ْلمُتَ َ‬
‫‪ )7‬غشْيانه ‪ { ،‬وَيُ ِ‬
‫من إتيان الحائض ‪ ،‬أو في غير المأتى‪.‬‬
‫وقوله ‪ِ { :‬نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ } قال ابن عباس ‪ :‬الحرث موضع الولد { فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ }‬
‫أي ‪ :‬كيف شئْتم مقبلة ومدبرة في صِمام واحد ‪ ،‬كما ثبتت بذلك الحاديث‪.‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا أبو نُعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان عن ابن الم ْنكَدر قال ‪ :‬سَمعت جابرًا قال ‪ :‬كانت‬
‫اليهود تقول ‪ :‬إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ‬
‫أَنّى شِئْتُمْ } ورواه داود (‪ )9‬من حديث سفيان الثوري به (‪.)10‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬جمهور العلماء"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أو"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬إل أبا حنيفة وصاحبيه فإنهم رحمهم ال يقولون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ول تعداه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وإن تكون"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬من"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ورواه مسلم وأبو داود"‪.‬‬
‫(‪ )10‬صحيح البخاري برقم (‪.)4528‬‬

‫( ‪)1/588‬‬

‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني مالك بن أنس‬
‫وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري ‪ :‬أن محمد بن المنكدر حدثهم ‪ :‬أن (‪ )1‬جابر بن عبد ال‬
‫أخبره ‪ :‬أن اليهود قالوا للمسلمين ‪ :‬من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ‪ ،‬فأنزل ال عز‬
‫وجل ‪ِ { :‬نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ }‬
‫قال ابن جريج في الحديث ‪ :‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬مقبلة ومدبرة ‪ ،‬إذا كان ذلك‬
‫في الفرج"‪.‬‬
‫وفي حديث َبهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده أنه قال ‪ :‬يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال ‪" :‬حرثك ‪ ،‬ائت حرثك أنى شئت ‪ ،‬غير أل تضربَ‬
‫الوجه ‪ ،‬ول تقبح ‪ ،‬ول تهجر إل في المبيت (‪ .)2‬الحديث ‪ ،‬رواه أحمد ‪ ،‬وأهل السنن (‪.)3‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا يونس ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني ابن َلهِيعة عن يزيد‬
‫ابن أبي حبيب ‪ ،‬عن عامر بن يحيى ‪ ،‬عن حنش بن عبد ال ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس قال ‪ :‬أتى‬
‫ناس من حمير إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فسألوه عن أشياء ‪ ،‬فقال له رجل ‪ :‬إني‬
‫أجبي النساء ‪ ،‬فكيف ترى في ذلك ‪ ،‬فأنزل ال ‪ِ { :‬نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ } (‪.)4‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه "مشكل الحديث" ‪ :‬حدثنا أحمد بن داود بن‬
‫موسى ‪ ،‬حدثنا يعقوب بن كاسب ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن نافع ‪ ،‬عن هشام بن سعد ‪ ،‬عن زيد بن أسلم‬
‫‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري ‪ :‬أن رجل أصاب امرأة في دبرها ‪ ،‬فأنكر الناس‬
‫عليه ذلك ‪ ،‬فأنزل ال ‪ِ { :‬نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } ورواه ابن جرير عن يونس‬
‫وعن يعقوب ‪ ،‬به (‪.)5‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا وهيب ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن عثمان بن خُثَيْم (‬
‫‪ )6‬عن عبد الرحمن بن سابط قال ‪ :‬دخلت على حفصة ابنة (‪ )7‬عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت ‪:‬‬
‫إني سائلك عن أمر ‪ ،‬وإنى (‪ )8‬أستحيي أن أسألك‪ .‬قالت ‪ :‬فل تستحي يا ابن أخي‪ .‬قال ‪ :‬عن‬
‫إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت ‪ :‬حدثتني أم سلمة أن النصار كانوا ل يَجُبّون النساء ‪ ،‬وكانت‬
‫اليهود تقول ‪ :‬إنه من جَبّى امرأته كان الولد أحول ‪ ،‬فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء‬
‫النصار ‪ ،‬فجبّوهُنّ ‪ ،‬فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت ‪ :‬لن تفعل ذلك حتى آتي رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ‪ ،‬فقالت ‪ :‬اجلسي حتى يأتي رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلما جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم استحيت النصارية أن‬
‫تسأله ‪ ،‬فخرجت ‪ ،‬فحدثت أم سلمة رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬ادعي النصارية" ‪:‬‬
‫فدُع َيتْ ‪ ،‬فتل عليها هذه الية ‪ { " :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َل ُكمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } صمامًا واحدًا"‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في البيت"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )5/3‬وسنن أبي داود برقم (‪ )2143‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9160‬‬
‫(‪ )4‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )4/413‬والطبراني في المعجم الكبير (‪ )12/237‬من طريق ابن‬
‫لهيعة به‪.‬‬
‫(‪ )5‬مشكل الثار برقم (‪.)6118‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بن خيثم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬بنت"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬وأنا"‪.‬‬

‫( ‪)1/589‬‬

‫ورواه الترمذي ‪ ،‬عن بُنْدَار ‪ ،‬عن ابن مهدي ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن ابن خُثَيْم (‪ )1‬به (‪ .)2‬وقال ‪:‬‬
‫حسن‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن خُثَيْم (‪ )3‬عن يوسف بن‬
‫ماهَك ‪ ،‬عن حفصة أم المؤمنين ‪ :‬أن امرأة أتتها فقالت ‪ :‬إن زوجي يأتيني مُحيّيَة ومستقبلة‬
‫فكرهته ‪ ،‬فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪" :‬ل بأس إذا كان في صمام واحد" (‪.)4‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا حسن ‪ ،‬حدثنا يعقوب ‪ -‬يعني القَمي (‪ - )5‬عن جعفر ‪،‬‬
‫عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬جاء عمر بن الخطاب إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هلكت! قال ‪" :‬ما الذي أهلكك ؟ " قال ‪ :‬حولت رحلي البارحة! قال ‪:‬‬
‫فلم يرد عليه شيئًا‪ .‬قال ‪ :‬فأوحى ال إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ‬
‫حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } أقبل وأدبر ‪ ،‬واتق الدبر والحيضة"‪.‬‬
‫رواه الترمذي ‪ ،‬عن عبد بن حميد ‪ ،‬عن حسن بن موسى الشيب ‪ ،‬به (‪ .)6‬وقال ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يحيى بن غَيْلن ‪ ،‬حدثنا رِشْدين ‪ ،‬حدثني الحسن بن ثوبان ‪ ،‬عن عامر‬
‫بن يحيى المعافري ‪ ،‬عن حَنَش ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬أنزلت هذه الية ‪ِ { :‬نسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ }‬
‫في أناس من النصار ‪ ،‬أتوا النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فسألوه ‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬آتها على كل حال ‪ ،‬إذا كان في الفرج" (‪.)7‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى ‪ :‬حدثنا الحارث بن سريج (‪ )8‬حدثنا عبد ال بن نافع ‪ ،‬حدثنا هشام بن سعد‬
‫‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن أبي سعيد قال ‪ :‬أثفر رجل امرأته على عهد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أثفر فلن امرأته ‪ ،‬فأنزل ال عز وجل ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ‬
‫حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } (‪.)9‬‬
‫وقال أبو داود ‪ :‬حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الصبغ ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثني محمد ‪ -‬يعني ابن سلمة‬
‫‪ -‬عن محمد ابن إسحاق ‪ ،‬عن أبان بن صالح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬إن ابن عمر‬
‫‪ -‬وال يغفر له ‪ -‬أوهم ‪ ،‬إنما كان أهل هذا الحي من النصار ‪ -‬وهم أهل وثن ‪ -‬مع أهل هذا‬
‫الحي من يهود ‪ -‬وهم أهل كتاب ‪ -‬وكانوا يرون لهم فضل عليهم في العلم ‪ ،‬فكانوا يقتدون بكثير‬
‫من فعلهم ‪ ،‬وكان من أمر أهل الكتاب ل يأتون النساء إل على حرف ‪ ،‬وذلك أستر ما تكون‬
‫المرأة ‪ ،‬فكان هذا الحي من النصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ‪ ،‬وكان هذا الحي من قريش‬
‫يَشْرَحون النساء شرحًا منكرًا ‪ ،‬ويتلذذون بهن مقبلت ومدبرات ومستلقيات‪ .‬فلما قدم المهاجرون‬
‫المدينة تزوج رجل منهم امرأة من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬خيثم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )6/304‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2979‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬خيثم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬مسند أبي حنيفة برقم (‪.)102‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬العمى"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪ )1/297‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2980‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)1/268‬‬
‫(‪ )8‬في هـ ‪" :‬شريح"‪.‬‬
‫(‪ )9‬مسند أبي يعلى (‪ )2/354‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )6/319‬شيخه الحارث بن سريج ‪،‬‬
‫ضعيف كذاب" ولكنه توبع ‪ ،‬تابعه يعقوب بن حميد ‪ ،‬فرواه عن عبد ال بن نافع عن هشام ‪ ،‬عن‬
‫زيد بن أسلم به ‪ ،‬أخرجه الطحاوي في مشكل الثار برقم (‪ )6118‬وقد سبق‪.‬‬

‫( ‪)1/590‬‬

‫النصار ‪ ،‬فذهب يصنع بها ذلك ‪ ،‬فأنكرته عليه ‪ ،‬وقالت ‪ :‬إنما كنا نُؤتى على حرف‪ .‬فاصنع ذلك‬
‫وإل فاجتنبني ‪ ،‬فسرى أمرهما ‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأنزل ال ‪ِ { :‬نسَا ُؤكُمْ‬
‫حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } أي ‪ :‬مقبلت ‪ ،‬ومدبرات ‪ ،‬ومستلقيات ‪ -‬يعني بذلك موضع‬
‫الولد (‪.)1‬‬
‫تفرد به أبو داود ‪ ،‬ويشهد (‪ )2‬له بالصحة ما تقدم من الحاديث ‪ ،‬ول سيما رواية أم سلمة ‪ ،‬فإنها‬
‫مشابهة لهذا السياق‪.‬‬
‫وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن أبان بن‬
‫صالح ‪ ،‬عن مجاهد قال ‪ :‬عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ‪ ،‬أوقفه (‪)3‬‬
‫عند كل آية منه (‪ )4‬وأسأله عنها ‪ ،‬حتى انتهيت إلى هذه الية ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ‬
‫أَنّى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس ‪ :‬إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون (‪ )5‬النساء بمكة ‪ ،‬ويتلذذون‬
‫بهن‪ ..‬فذكر القصة بتمام سياقها (‪.)6‬‬
‫وقول ابن عباس ‪" :‬إن ابن عمر ‪ -‬وال يغفر له ‪ -‬أوهم"‪ .‬كأنه يشير إلى ما رواه البخاري ‪:‬‬
‫حدثنا إسحاق ‪ ،‬حدثنا النضر بن شميل ‪ ،‬أخبرنا ابن عون عن نافع قال ‪ :‬كان ابن عمر إذا قرأ‬
‫القرآن لم يتكلم حتى يفرغُ منه ‪ ،‬فأخذت عليه يومًا فقرأ سورة البقرة ‪ ،‬حتى انتهى إلى مكان قال‬
‫(‪ : )7‬أتدري فيم أنزلت ؟ قلت ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬أنزلت في كذا وكذا‪ .‬ثم مضى‪ .‬وعن عبد الصمد قال‬
‫‪ :‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثني أيوب ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ { :‬فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } قال ‪ :‬يأتيها‬
‫في‪.)8( ..‬‬
‫هكذا رواه البخاري ‪ ،‬وقد تفرد به من هذه الوجوه (‪.)9‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن عُلَيّة ‪ ،‬حدثنا ابن عون ‪ ،‬عن نافع قال ‪:‬‬
‫قرأت ذات يوم ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر ‪ :‬أتدري فيم نزلت ؟‬
‫قلت ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬نزلت في إتيان النساء في أدبارهن (‪.)10‬‬
‫وحدثني أبو قلبة ‪ ،‬حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن‬
‫ابن عمر ‪ { :‬فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } قال ‪ :‬في الدبر (‪.)11‬‬
‫وروي من حديث مالك ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬ول يصح‪.‬‬
‫وروى النسائي ‪ ،‬عن محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي أويس ‪ ،‬عن سليمان‬
‫بن بلل ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ :‬أن رجل أتى امرأته في دبرها ‪ ،‬فوجد في نفسه من‬
‫ذلك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود برقم (‪.)2164‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وشهد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في حـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أوقفه عليه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فيه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يشرخون"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المعجم الكبير (‪.)11/77‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬بياض في جميع النسخ ‪ ،‬وفي فتح الباري ‪" : 8/130‬كذا وقع في جميع النسخ ‪ ،‬لم يذكر ما‬
‫بعد الظرف وهو المجرور ‪ ،‬ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي ‪ :‬يأتيها في الفرج‪ .‬وهو‬
‫من عنده بحسب ما فهمه" ومستفادا من هامش ط‪ .‬الشعب‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪.)4526‬‬
‫(‪ )10‬تفسير الطبري (‪.)4/404‬‬
‫(‪ )11‬تفسير الطبري (‪.)4/406‬‬

‫( ‪)1/591‬‬

‫وجدًا شديدًا ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َل ُكمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } (‪.)1‬‬
‫قال أبو حاتم الرازي ‪ :‬لو كان هذا عند زيد بن أسلم ‪ ،‬عن ابن عمر لما أولع (‪ )2‬الناس بنافع‪.‬‬
‫وهذا تعليل منه لهذا الحديث‪.‬‬
‫وقد رواه عبد ال بن نافع ‪ ،‬عن داود بن قيس ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر ‪ -‬فذكره‪.‬‬
‫وهذا محمول على ما تقدم ‪ ،‬وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ‪ ،‬لما رواه النسائي أيضًا عن علي‬
‫بن عثمان النفيلي ‪ ،‬عن سعيد بن عيسى ‪ ،‬عن المفضل (‪ )3‬بن فضالة عن عبد ال بن سليمان‬
‫الطويل ‪ ،‬عن كعب بن علقمة ‪ ،‬عن أبي النضر ‪ :‬أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر ‪ :‬إنه قد‬
‫أكثر عليك القول ‪ :‬إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال ‪ :‬كذبوا علي‬
‫‪ ،‬ولكن سأحدثك كيف كان المر ‪ :‬إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده ‪ ،‬حتى بلغ ‪:‬‬
‫{ ِنسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُتمْ } فقال ‪ :‬يا نافعُ ‪ ،‬هل تعلم من أمر هذه الية ؟ قلت (‬
‫‪ : )4‬ل‪ .‬قال ‪ :‬إنا كنا معشر قريش نُجبّي (‪ )5‬النساء ‪ ،‬فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء النصار ‪،‬‬
‫أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ‪ ،‬وكانت نساء النصار قد أخذن‬
‫بحال اليهود ‪ ،‬إنما يؤتين على جنوبهن ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُمْ }‬
‫(‪.)6‬‬
‫وهذا إسناد صحيح ‪ ،‬وقد رواه ابن مردويه ‪ ،‬عن الطبراني ‪ ،‬عن الحسين بن إسحاق ‪ ،‬عن زكريا‬
‫(‪ )7‬بن يحيى الكاتب العمري ‪ ،‬عن مفضل بن فضالة ‪ ،‬عن عبد ال بن عياش (‪ )8‬عن كعب بن‬
‫علقمة ‪ ،‬فذكره‪ .‬وقد روينا عن ابن عمر خلف ذلك صريحا ‪ ،‬وأنه ل يباح ول يحل كما سيأتي ‪،‬‬
‫وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ‪ ،‬وعزاه بعضهم إلى المام مالك‬
‫في كتاب السر (‪ )9‬وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن المام مالك ‪ ،‬رحمه ال‪ .‬وقد وردت‬
‫الحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه ؛ فقال الحسن بن عرفة ‪:‬‬
‫حدثنا إسماعيل بن عياش (‪ )10‬عن سهيل (‪ )11‬بن أبي صالح ‪ ،‬عن محمد بن المنكدر ‪ ،‬عن‬
‫جابر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬استحيوا ‪ ،‬إن ال ل يستحيي من الحق ‪ ،‬ل‬
‫يحل مأتى النساء في حشوشهن" (‪.)12‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عبد (‪ )13‬بن شداد عن رجل عن‬
‫خزيمة بن ثابت ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها (‬
‫‪.)14‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8981‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬لما ولع"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جميع المخطوطات ‪" :‬الفضل" ‪ ،‬والصواب ما أثبتناه‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬نجب"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8978‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬عن أبي زكريا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬عباس"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬السير"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬عباس"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن سهل"‪.‬‬
‫(‪ )12‬ورواه الدارقطني في السنن (‪ )3/288‬من طريق الحسن بن عرفة به‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )14‬المسند (‪ )5/215‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )8986 ، 8985‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪ )1924‬وانظر الختلف فيه في ‪ :‬سنن النسائي (‪.)319 - 5/316‬‬

‫( ‪)1/592‬‬

‫طريق أخرى ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬حدثنا يعقوب ‪ ،‬سمعت أبي يحدث ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال بن أسامة‬
‫ابن الهاد ‪ :‬أن عبيد ال بن الحصين الوالبي حَدّثه أن هرمي بن عبد ال الواقفي حدثه ‪ :‬أن خزيمة‬
‫بن ثابت الخطمي حدثه ‪ :‬أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل يستحيي ال من الحق ‪ ،‬ل‬
‫يستحي ال من الحق ‪ -‬ثلثا ‪ -‬ل تأتوا النساء في أعجازهن"‪.‬‬
‫ورواه النسائي ‪ ،‬وابن ماجة من طرق ‪ ،‬عن خزيمة بن ثابت‪ .‬وفي إسناده اختلف كثير‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو عيسى الترمذي ‪ ،‬والنسائي ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا أبو خالد‬
‫الحمر ‪ ،‬عن الضحاك بن عثمان ‪ ،‬عن مَخْرمة بن سليمان ‪ ،‬عن كُرَيْب ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل ينظر ال إلى رجل أتى رجل أو امرأة في الدبر"‪ .‬ثم‬
‫قال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن غريب (‪ .)1‬وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه (‪ .)2‬وصححه‬
‫ابن حزم أيضًا‪ .‬ولكن رواه النسائي ‪ ،‬عن هناد ‪ ،‬عن وكيع ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬به (‪ )3‬موقوفًا‪.‬‬
‫وقال عبد ‪ :‬أخبرنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا معمر عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن رجل سأل ابن‬
‫عباس عن إتيان المرأة في دبرها ‪ ،‬قال (‪ : )4‬تسألني عن الكفر! [إسناد صحيح] (‪.)5‬‬
‫وكذا رواه النسائي ‪ ،‬من طريق ابن المبارك ‪ ،‬عن معمر (‪ - )6‬به نحوه‪.‬‬
‫عمْرو بن‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا همام ‪ ،‬حدثنا قتادة ‪ ،‬عن َ‬
‫شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬الذي يأتي امرأته في دبرها‬
‫هي اللوطية الصغرى" (‪.)7‬‬
‫وقال عبد ال بن أحمد ‪ :‬حدثني هدبة ‪ ،‬حدثنا همام ‪ ،‬قال ‪ :‬سُئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في‬
‫دبرها‪ .‬فقال قتادة ‪ :‬حدثنا عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه عن جده ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬هي اللوطية الصغرى"‪.‬‬
‫قال قتادة ‪ :‬وحدثني عقبة بن وسّاج ‪ ،‬عن أبي الدرداء قال ‪ :‬وهل يفعل ذلك إل كافر ؟ (‪.)8‬‬
‫وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان ‪ ،‬عن سعيد بن أبي عروبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أبي‬
‫أيوب ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو (‪ )9‬بن العاص ‪ ،‬قوله‪ .‬وهذا أصح ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وكذلك رواه عبد بن حميد ‪ ،‬عن يزيد بن هارون ‪ ،‬عن حميد العرج ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو ‪ ،‬موقوفًا من قوله‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال جعفر الفريابي ‪ :‬حدثنا قتيبة ‪ ،‬حدثنا ابن لهيعة ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن زياد بن‬
‫العم ‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن الحُبلي ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬سبعة ل ينظر‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن الترمذي برقم (‪ )1165‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9001‬‬
‫(‪ )2‬صحيح ابن حبان برقم (‪" )1302‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9002‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬فقال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬عن عكرمة" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)2/210‬‬
‫(‪ )8‬زوائد المسند (‪.)2/210‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬عمر"‪.‬‬

‫( ‪)1/593‬‬

‫ال إليهم يوم القيامة ول يزكيهم ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ادخلوا النار مع الداخلين ‪ :‬الفاعل والمفعول به ‪،‬‬
‫والناكح يده ‪ ،‬وناكح البهيمة ‪ ،‬وناكح المرأة في دبرها ‪ ،‬وجامع بين المرأة وابنتها ‪ ،‬والزاني‬
‫بحليلة جاره ‪ ،‬والمؤذي جاره حتى يلعنه" (‪.)1‬‬
‫ابن لَهيعة وشيخه ضعيفان‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن عيسى بن‬
‫حطان ‪ ،‬عن مُسْلم بن سَلم ‪ ،‬عن علي بن طلق ‪ ،‬قال ‪ :‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن‬
‫تؤتى النساء في أدبارهن ؛ فإن ال ل يستحيي من الحق (‪.)2‬‬
‫وأخرجه أحمد أيضًا ‪ ،‬عن أبي معاوية ‪ ،‬وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضًا ‪ ،‬عن‬
‫عاصم الحول [به] (‪ )3‬وفيه زيادة ‪ ،‬وقال ‪ :‬هو حديث حسن (‪.)4‬‬
‫ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب ‪ ،‬كما وقع في مسند المام أحمد‬
‫بن حنبل (‪ )5‬والصحيح أنه علي بن طلق‪.‬‬
‫سهَيل بن أبي صالح ‪،‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن ُ‬
‫عن الحارث بن مُخلّد ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن الذي‬
‫يأتي امرأته في دبرها ل ينظر ال إليه"‪.‬‬
‫وحدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا وهيب ‪ ،‬حدثنا سهيل ‪ ،‬عن الحارث بن مخلد ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال (‪ )6‬صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل ينظر ال إلى رجل جامع امرأته في دبرها"‪.‬‬
‫وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل (‪.)7‬‬
‫وحدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ‪ ،‬عن الحارث بن مخلد ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ملعون من أتى امرأة في دبرها"‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود ‪ ،‬والنسائي من طريق َوكِيع ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال الحافظ أبو نعيم الصبهاني ‪ :‬أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫عبد الرحمن النسائي ‪ ،‬حدثنا هناد ‪ ،‬ومحمد بن إسماعيل ‪ -‬واللفظ له ‪ -‬قال حدثنا وكيع ‪ ،‬حدثنا‬
‫سفيان ‪ ،‬عن سهيل بن أبي صالح ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ملعون من أتى امرأة في دبرها" (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه أبو الشيخ في مجلس من حديثه (‪ ، )2 ، 62/1‬وابن بشران في المالي (‪)2 ، 86/1‬‬
‫من طرق عن عبد الرحمن بن زياد الفريقي به‪ .‬أ‪ .‬هـ مستفادا من إرواء الغليل لللباني (‬
‫‪.)8/59‬‬
‫(‪ )2‬ذكره ابن حجر في أطراف المسند (‪ )4/384‬ولم أجده في المطبوع‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (‪ )4/384‬وسنن الترمذي برقم (‪.)1164‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)1/86‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن أبي هريرة عن النبي"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )2/344‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1923‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )2/444‬وسنن أبي داود برقم (‪ )2162‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9015‬‬
‫(‪ )9‬رواه أبو نعيم في جزء له عال عن أحمد بن القاسم بن الريان ‪ ،‬قال الذهبي ‪" :‬فيه ما ينكر"‪.‬‬

‫( ‪)1/594‬‬
‫ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ‪ ،‬وإنما الذي فيه عن سهيل ‪ ،‬عن الحارث بن مخلد ‪ ،‬كما‬
‫تقدم‪.‬‬
‫قال شيخنا الحافظ أبو عبد ال الذهبي ‪ :‬ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا‬
‫السند ‪ ،‬وَهْمٌ منه ‪ ،‬وقد ضعفوه‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬رواها (‪ )1‬مسلم بن خالد الزّنْجي ‪ ،‬عن العلء بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى عليه وسلم قال ‪" :‬ملعون من أتى النساء في أدبارهن"‪.‬‬
‫ومسلم بن خالد فيه كلم ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬رواها المام أحمد ‪ ،‬وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة ‪ ،‬عن حكيم الثرم ‪،‬‬
‫عن أبي تميمة الهُجيْمي ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من أتى‬
‫حائضًا أو امرأة في دبرها ‪ ،‬أو كاهنًا فصدقه ‪ ،‬فقد كفر بما أنزل على محمد" (‪.)2‬‬
‫وقال الترمذي ‪ :‬ضعف البخاري هذا الحديث‪ .‬والذي قاله البخاري في حديث حكيم [الثرم] (‪)3‬‬
‫عن أبي تميمة ‪ :‬ل يتابع في حديثه (‪.)4‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال النسائي ‪ :‬حدثنا عثمان بن عبد ال ‪ ،‬حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من‬
‫كتابه ‪ ،‬عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ‪ ،‬عن سعيد بن عبد العزيز ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن أبي‬
‫سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬استحيوا من ال حق الحياء ‪ ،‬ل‬
‫تأتوا النساء في أدبارهن" (‪.)5‬‬
‫تفرد به النسائي من هذا الوجه‪.‬‬
‫قال حمزة بن محمد الكنَاني الحافظ ‪ :‬هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ‪ ،‬ومن حديث أبي‬
‫سلمة ومن حديث سعيد ؛ فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ‪ ،‬فإنما سمعه بعد الختلط ‪ ،‬وقد‬
‫رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك ‪ ،‬فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم فل‪ .‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫وقد أجاد وأحسن النتقاد ؛ إل أن عبد الملك [بن محمد] (‪ )6‬الصنعاني ل يعرف أنه اختلط ‪ ،‬ولم‬
‫يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني ‪ ،‬وهو ثقة ‪ ،‬ولكن تكلم فيه ُدحَيْم ‪ ،‬وأبو حاتم ‪ ،‬وابن حبان ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬ل يجوز الحتجاج به ‪ ،‬فال أعلم‪ .‬وقد تابعه زيد بن يحيى بن (‪ )7‬عبيد ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫عبد العزيز‪ .‬وروي من طريقين آخرين ‪ ،‬عن أبي سلمة‪ .‬ول يصح منها شيء‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال النسائي ‪ :‬حدثنا إسحاق بن منصور ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن‬
‫سفيان الثوري ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬إتيان الرجال النساء‬
‫(‪ )8‬في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬رواية" ‪ ،‬وفي أ ‪ ،‬و ‪" :‬ورواه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )2/408‬وسنن أبي داود برقم (‪ )3904‬وسنن الترمذي برقم (‪ )135‬وسنن النسائي‬
‫الكبرى برقم (‪ )9016‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)639‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬وفي و ‪" :‬حكيم الترمذي"‪.‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ الكبير (‪.)3/17‬‬
‫(‪ )5‬سنن النمسائي الكبرى برقم (‪.)9010‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬والنساء"‪.‬‬

‫( ‪)1/595‬‬

‫أدبارهن كفر (‪.)1‬‬


‫ثم رواه ‪ ،‬عن بُ ْندَار ‪ ،‬عن عبد الرحمن ‪ ،‬به‪ .‬قال ‪ :‬من أتى امرأة (‪ )2‬في دبرها ملك (‪ )3‬كفره (‬
‫‪ .)4‬هكذا رواه النسائي ‪ ،‬من طريق الثوري ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن أبي هريرة موقوفًا‪.‬‬
‫وكذا رواه من طريق علي بن بذيمة ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ -‬موقوفًا (‪ .)5‬ورواه بكر بن‬
‫خنيس ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من أتى‬
‫شيئًا من الرجال والنساء في الدبار فقد كفر" والموقوف أصح ‪ ،‬وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد‬
‫من الئمة ‪ ،‬وتركه آخرون (‪.)6‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال محمد بن أبان البلخي ‪ :‬حدثنا وكيع ‪ ،‬حدثنا زمعة بن صالح ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ -‬وعن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن عبد ال بن يزيد بن الهاد قال قال عمر بن الخطاب ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال ل يستحيي من الحق ‪ ،‬ل تأتوا النساء في أدبارهن" (‪.)7‬‬
‫وقد رواه النسائي ‪ :‬حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ‪ ،‬عن عثمان بن اليمان ‪ ،‬عن زمعة بن‬
‫صالح ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن الهاد ‪ ،‬عن عمر قال ‪" :‬ل تأتوا النساء في أدبارهن"‬
‫(‪.)8‬‬
‫وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا يزيد بن أبي حكيم ‪ ،‬عن زمعة بن صالح ‪ ،‬عن عمرو بن دينار‬
‫‪ ،‬عن طاوس ‪ ،‬عن عبد ال بن الهاد الليثي قال ‪ :‬قال عمر رضي ال عنه ‪ :‬استحيوا من ال ‪،‬‬
‫فإن ال ل يستحيي من الحق ‪ ،‬ل تأتوا النساء في أدبارهن (‪ .)9‬الموقوف أصح‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا غُنْدَر ومعاذ بن معاذ قال حدثنا شعبة عن عاصم الحول ‪،‬‬
‫عن عيسى بن حطان ‪ ،‬عن مسلم بن سلم ‪ ،‬عن طلق بن يزيد ‪ -‬أو يزيد بن طلق ‪ -‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ال ل يستحيي من الحق ‪ ،‬ل تأتوا النساء في أستاههن" (‪.)10‬‬
‫وكذا رواه غير واحد ‪ ،‬عن شعبة‪ .‬ورواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن عاصم الحول ‪ ،‬عن‬
‫عيسى بن حطان ‪ ،‬عن مسلم بن سلم ‪ ،‬عن طلق بن علي ‪ ،‬والشبه أنه علي بن طلق ‪ ،‬كما تقدم‬
‫‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو بكر الثرم في سننه ‪ :‬حدثنا أبو مسلم الحَرَميّ ‪ ،‬حدثنا أخي أنيس بن‬
‫إبراهيم (‪ )11‬أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره ‪ ،‬عن أبيه أبي القعقاع ‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9018‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬امرأته"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬تلك" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬وذلك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9019‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9021‬‬
‫(‪ )6‬رواه العقيلي في الضعفاء الكبير (‪.)1/149‬‬
‫(‪ )7‬ذكره الدارقطني في العلل (‪ )2/167‬قال ‪" :‬ولم يذكر طاوسا في حديث عمرو بن دينار ‪،‬‬
‫وقول عثمان بن اليمان أصحها"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9008‬‬
‫(‪ )9‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9009‬‬
‫(‪ )10‬ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (‪ )4/384‬من طريق غندر في مسند علي بن‬
‫طلق ‪ ،‬ول أدري كيف وقع هنا يزيد بن طلق ‪ ،‬وقد بين الحافظ الصواب في ذلك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬أخي أنيس بن أبي تميم"‪.‬‬

‫( ‪)1/596‬‬

‫رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬محاش النساء حرام" (‪.)1‬‬
‫وقد رواه إسماعيل بن علية ‪ ،‬وسفيان الثوري ‪ ،‬وشعبة ‪ ،‬وغيرهم ‪ ،‬عن أبي عبد ال الشقري ‪-‬‬
‫واسمه سلمة بن تمام ‪ :‬ثقة ‪ -‬عن أبي القعقاع ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ -‬موقوفًا‪ .‬وهو أصح‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال ابن عدي ‪ :‬حدثنا أبو عبد ال المحاملي ‪ ،‬حدثنا سعيد بن يحيى الموي ‪،‬‬
‫حدثنا محمد بن حمزة ‪ ،‬عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة ‪ ،‬عن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تأتوا النساء في أعجازهن" (‪ )2‬محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه ‪،‬‬
‫فيهما مقال‪.‬‬
‫وقد روي من حديث أبي بن كعب (‪ )3‬والبراء بن عازب ‪ ،‬وعقبة بن عامر (‪ )4‬وأبي ذر ‪،‬‬
‫وغيرهم‪ .‬وفي كل منها (‪ )5‬مقال ل يصح معه الحديث ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ ،‬عن الصّلت بن َبهْرام ‪ ،‬عن أبي المعتمر ‪ ،‬عن أبي جويرية (‪ )6‬قال ‪ :‬سأل رجل‬
‫سفّلَ ال بك! ألم تسمع إلى قول ال عز وجل ‪{ :‬‬
‫عليا عن إتيان امرأة في دبرها ‪ ،‬فقال ‪ :‬سفلت ‪َ ،‬‬
‫حدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف ‪.]80 :‬‬
‫أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ‬
‫وقد تقدم قول ابن مسعود ‪ ،‬وأبي الدرداء ‪ ،‬وأبي هريرة ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وعبد ال بن عمرو في‬
‫تحريم ذلك ‪ ،‬وهو الثابت بل شك عن عبد ال بن عمر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬أنه يحرمه‪.‬‬
‫قال أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده ‪ :‬حدثنا عبد ال بن صالح ‪ ،‬حدثنا‬
‫الليث ‪ ،‬عن الحارث بن يعقوب ‪ ،‬عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال ‪ :‬قلت لبن عمر ‪ :‬ما تقول‬
‫في الجواري ‪ ،‬أنحمض لهن ؟ قال ‪ :‬وما التحميض ؟ فذكر الدّبر‪ .‬فقال ‪ :‬وهل يفعل ذلك أحد من‬
‫المسلمين ؟‬
‫وكذا رواه ابن وهب وقتيبة ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬به‪ .‬وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ‪،‬‬
‫فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم (‪.)7‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني عبد الرحمن بن عبد ال بن عبد الحكم ‪ ،‬حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن‬
‫أحمد بن أبي الغمر (‪ )8‬حدثني عبد الرحمن بن القاسم ‪ ،‬عن مالك بن أنس أنه قيل له ‪ :‬يا أبا عبد‬
‫ال ‪ ،‬إن الناس يروون عن سالم بن عبد ال أنه قال ‪ :‬كذب العبد ‪ ،‬أو العلج ‪ ،‬على أبي [عبد ال]‬
‫(‪ )9‬فقال مالك ‪ :‬أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ‪ ،‬عن سالم بن عبد ال ‪ ،‬عن ابن عمر‬
‫مثل ما قال نافع‪ .‬فقيل له ‪ :‬فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار ‪ :‬أنه‬
‫سأل ابن عمر فقال له ‪ :‬يا أبا عبد الرحمن ‪ ،‬إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال ‪ :‬وما‬
‫التحميض ؟ فذكر له الدبر‪ .‬فقال ابن عمر ‪ :‬أف! أف! أيفعل ذلك مؤمن ‪ -‬أو قال ‪ :‬مسلم ‪ -‬فقال‬
‫مالك ‪ :‬أشهد على ربيعة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الدولبي في الكنى (‪.)2/85‬‬
‫(‪ )2‬الكامل لبن عدي (‪.)3/206‬‬
‫(‪ )3‬حديث أبي بن كعب رواه البيهقي في شعب اليمان برقم (‪ )5457‬من طريق أبي قلبة ‪ ،‬عن‬
‫زر بن حبيش ‪ ،‬عن أبي بن كعب به‬
‫(‪ )4‬حديث عقبة بن عامر رواه ابن عدي في الكامل (‪ )4/148‬من طريق ابن لهيعة ‪ ،‬عن مشرح‬
‫بن هاعان ‪ ،‬عن عقبة به‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬منهما"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬عن أبي جرير به" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬عن أبي جويرة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬هذا الحكم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫( ‪)1/597‬‬

‫لخبرني عن أبي الحباب ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬مثل ما قال نافع (‪.)1‬‬
‫وروى النسائي ‪ ،‬عن الربيع بن سليمان ‪ ،‬عن أصبغ بن الفرج الفقيه ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن‬
‫القاسم قال ‪ :‬قلت لمالك ‪ :‬إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب ‪ ،‬عن‬
‫سعيد (‪ )2‬بن يسار ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لبن عمر ‪ :‬إنا نشتري الجواري ‪ ،‬فنحمض لهن ؟ قال ‪ :‬وما‬
‫التحميض ؟ قلت ‪ :‬نأتيهن في أدبارهن‪ .‬فقال ‪ :‬أف! أف! أو يعمل هذا مسلم ؟ فقال لي مالك ‪:‬‬
‫فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل بأس به (‪.)3‬‬
‫وروى النسائي أيضًا من طريق يزيد بن رومان ‪ ،‬عن عبيد ال بن عبد ال بن عمر أن ابن عمر‬
‫(‪ )4‬كان ل يرى بأسًا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها (‪.)5‬‬
‫وروى معن (‪ )6‬بن عيسى ‪ ،‬عن مالك ‪ :‬أنّ ذلك حرام‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري ‪ :‬حدثني إسماعيل بن حصين ‪ ،‬حدثني إسماعيل (‪ )7‬بن روح‬
‫‪ :‬سألت مالك بن أنس ‪ :‬ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن ‪ :‬قال ‪ :‬ما أنتم قوم عرب‪ .‬هل‬
‫يكون الحرث إل موضع الزرع ‪ ،‬ل تعدو الفرج‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬يا أبا عبد ال ‪ ،‬إنهم يقولون ‪ :‬إنك تقول ذلك ؟! قال ‪ :‬يكذبون علي ‪ ،‬يكذبون علي‪.‬‬
‫فهذا هو الثابت عنه ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة‪ .‬وهو‬
‫قول سعيد بن المسيب ‪ ،‬وأبي سلمة ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعروة‬
‫بن الزبير ‪ ،‬ومجاهد بن جبر (‪ )8‬والحسن وغيرهم من السلف ‪ :‬أنهم أنكروا ذلك أشد النكار ‪،‬‬
‫ومنهم من يطلق على فاعله (‪ )9‬الكفر ‪ ،‬وهو مذهب جمهور العلماء‪.‬‬
‫وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة ‪ ،‬حتى حكوه عن المام مالك ‪ ،‬وفي صحته عنه‬
‫نظر‪.‬‬
‫[وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الحوص بن وهب إباحته] (‬
‫‪.)10‬‬
‫قال الطحاوي ‪ :‬روى أصبغ بن الفرج ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن القاسم قال ‪ :‬ما أدركت أحدًا أقتدي‬
‫به في ديني يشك أنه حلل‪ .‬يعني وطء المرأة في دبرها ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َل ُكمْ } ثم قال‬
‫‪ :‬فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي‪.‬‬
‫وقد روى (‪ )11‬الحاكم ‪ ،‬والدارقطني ‪ ،‬والخطيب البغدادي ‪ ،‬عن المام مالك من طرق ما‬
‫يقتضي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)4/405‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬عن سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8979‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أن عبد ال بن عمر"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)8980‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬معمر" والصواب ما أثبتناه من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حدثني إسرائيل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬بن جبير"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬على فعله"‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬وقد أورد"‪.‬‬

‫( ‪)1/598‬‬

‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)224‬‬


‫س وَاللّهُ َ‬
‫جعَلُوا اللّهَ عُ ْرضَةً لِأَ ْيمَا ِنكُمْ أَنْ تَبَرّوا وَتَ ّتقُوا وَتُصِْلحُوا بَيْنَ النّا ِ‬
‫وَلَا تَ ْ‬

‫إباحة ذلك‪ .‬ولكن في السانيد ضعف شديد ‪ ،‬وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد ال الذهبي في‬
‫جزء جمعه في ذلك ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫وقال الطحاوي ‪ :‬حكى لنا محمد بن عبد ال بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول ‪ :‬ما صح عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم في تحليله ول تحريمه شيء‪ .‬والقياس أنه حلل‪ .‬وقد روى ذلك أبو‬
‫بكر الخطيب ‪ ،‬عن أبي سعيد الصيرفي ‪ ،‬عن أبي العباس الصم ‪ ،‬سمعت محمد بن عبد ال بن‬
‫عبد الحكم ‪ ،‬سمعت الشافعي يقول‪ ...‬فذكر‪ .‬قال أبو نصر الصباغ ‪ :‬كان الربيع يحلف بال الذي‬
‫ل إله إل هو ‪ :‬لقد كذب ‪ -‬يعني ابن عبد الحكم ‪ -‬على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على‬
‫تحريمه في ستة (‪ )1‬كتب من كتبه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال القرطبي في تفسيره ‪ :‬وممن ينسب إليه هذا القول ‪ -‬وهو إباحة وطء المرأة في دبرها ‪-‬‬
‫سعيد ابن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون‪ .‬وهذا‬
‫القول في العتبية‪ .‬وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر ‪ ،‬وحذاق أصحاب مالك‬
‫ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ‪ ،‬ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر ووقع هذا القول في‬
‫العتبية ‪ ،‬وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين‬
‫وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن هذا لفظه قال ‪ :‬وحكى الكيا‬
‫الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي أنه استدل على جواز ذلك بقوله ‪ { :‬أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ‬
‫جكُمْ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ عَادُونَ } الشعراء ‪، 165[ :‬‬
‫مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خََلقَ َلكُمْ رَ ّب ُكمْ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫‪.]166‬‬
‫يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق ال لهم من فروج النساء ل أدبارهن قلت ‪:‬‬
‫وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحًا إليه فخطأ‪ .‬وقد صنف الناس في هذه المسألة‬
‫مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إطهار إدبار من أجاز الوطء في الدبار‪.‬‬
‫سكُمْ } أي ‪ :‬من فعل الطاعات ‪ ،‬مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وقَ ّدمُوا لنْفُ ِ‬
‫المحرمات ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلقُوهُ } أي ‪ :‬فيحاسبكم على أعمالكم جميعًا‪.‬‬
‫{ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } أي ‪ :‬المطيعين ل فيما أمرهم ‪ ،‬التاركين ما عنه (‪ )2‬زجرهم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا حسين ‪ ،‬حدثني محمد بن كثير ‪ ،‬عن عبد ال بن واقد ‪،‬‬
‫سكُمْ } قال ‪ :‬يقول ‪ " :‬باسم ال" ‪،‬‬
‫عن عطاء ‪ -‬قال ‪ :‬أراه عن ابن عباس ‪َ { : -‬وقَ ّدمُوا ل ْنفُ ِ‬
‫التسمية عند الجماع‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح البخاري ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لو أن‬
‫أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال ‪ :‬باسم ال ‪ ،‬اللهم جَنّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ‪،‬‬
‫فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا" (‪.)3‬‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪} )224‬‬
‫س وَاللّهُ َ‬
‫جعَلُوا اللّهَ عُ ْرضَ ًة ل ْيمَا ِنكُمْ أَنْ تَبَرّوا وَتَ ّتقُوا وَ ُتصْلِحُوا بَيْنَ النّا ِ‬
‫{ وَل تَ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬في ست"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬ما عنهم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)141‬‬

‫( ‪)1/599‬‬

‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪)225‬‬


‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا َكسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ وَاللّهُ َ‬
‫لَا ُيؤَا ِ‬

‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪} )225‬‬


‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُك ْم وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ وَاللّهُ َ‬
‫{ ل ُيؤَا ِ‬

‫( ‪)1/599‬‬

‫يقول تعالى ‪ :‬ل تجعلوا أيمانكم بال تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها ‪،‬‬
‫ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ‬
‫سعَةِ أَنْ ُيؤْتُوا أُولِي ا ْلقُرْبَى وَا ْلمَسَاكِي َ‬
‫ضلِ مِ ْنكُ ْم وَال ّ‬
‫كقوله تعالى ‪ { :‬وَل يَأْ َتلِ أُولُو ا ْلفَ ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } [النور ‪، ]22 :‬‬
‫صفَحُوا أَل تُحِبّونَ أَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُك ْم وَاللّهُ َ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلْ َي ْعفُوا وَلْ َي ْ‬
‫فالستمرار على اليمين آثَمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير‪ .‬كما قال البخاري ‪:‬‬
‫حدثنا إسحاق بن إبراهيم ‪ ،‬أخبرنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن همام بن منبه ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا ما‬
‫حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬نحن الخرون السابقون يوم القيامة" ‪،‬‬
‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬وال لن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثمُ له عند ال من أن‬
‫يُعطي كفارته التي افترض ال عليه"‪.‬‬
‫وهكذا رواه مسلم ‪ ،‬عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ‪ ،‬به‪ .‬ورواه أحمد ‪ ،‬عنه ‪ ،‬به‪.‬‬
‫ثم قال البخاري ‪ :‬حدثنا إسحاق بن منصور ‪ ،‬حدثنا يحيى بن صالح ‪ ،‬حدثنا معاوية ‪ ،‬هو ابن‬
‫سلم ‪ ،‬عن يحيى ‪ ،‬وهو ابن أبي كثير ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من استلج في أهله بيمين ‪ ،‬فهو أعظم إثمًا ‪ ،‬ليس تغني الكفارة"‪.‬‬
‫جعَلُوا اللّهَ عُ ْرضَ ًة ل ْيمَا ِنكُمْ } قال‬
‫وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ‪ { :‬وَل تَ ْ‬
‫‪ :‬ل تجعلن عرضة ليمينك أل تصنع الخير ‪ ،‬ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير‪.‬‬
‫وهكذا قال مسروق ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪،‬‬
‫وعطاء ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والربيع بن‬
‫أنس ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والسدي‪ .‬ويؤيد ما قاله هؤلء الجمهور ما ثبت في‬
‫الصحيحين ‪ ،‬عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬إني وال ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬ل أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إل أتيت الذي هو خير‬
‫وتحللتها" وثبت فيهما أيضًا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة ‪" :‬يا‬
‫عبد الرحمن بن سمرة ‪ ،‬ل تسأل المارة ‪ ،‬فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ‪ ،‬وإن‬
‫أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ‪ ،‬وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر‬
‫عن يمينك"‪.‬‬
‫وروى مسلم ‪ ،‬عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من حلف على يمين‬
‫فرأى غيرها خيرًا‬

‫( ‪)1/600‬‬

‫منها ‪ ،‬فليكفر عن يمينه ‪ ،‬وليفعل الذي هو خير"‪.‬‬


‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ‪ ،‬حدثنا خليفة بن خياط ‪ ،‬حدثني عمرو بن‬
‫شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من حلف على يمين فرأى‬
‫غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها"‪.‬‬
‫ورواه أبو داود من طريق عبيد ال بن الخنس ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده قال‬
‫‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل نذر ول يمين فيما ل يملك ابن آدم ‪ ،‬ول في معصية‬
‫ال ‪ ،‬ول في قطيعة رحم ‪ ،‬ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليدعها ‪ ،‬وليأت الذي‬
‫هو خير ‪ ،‬فإن تركها كفارتها"‪.‬‬
‫ثم قال أبو داود ‪ :‬والحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم كلها ‪ " :‬فليكفر عن يمينه" وهي‬
‫الصحاح‪.‬‬
‫سهِر ‪ ،‬عن حارثة بن محمد ‪،‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا علي بن سعيد الكندي ‪ ،‬حدثنا علي بن مُ ْ‬
‫عن عمرة ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من حلف على قطيعة رحم‬
‫أو معصية ‪ ،‬فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه"‪.‬‬
‫وهذا حديث ضعيف ؛ لن حارثة [هذا] هو ابن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ‪ ،‬متروك‬
‫الحديث ‪ ،‬ضعيف عند الجميع‪.‬‬
‫ثم روى ابن جرير عن ابن جبير وسعيد بن المسيب ‪ ،‬ومسروق ‪ ،‬والشعبي ‪ :‬أنهم قالوا ‪ :‬ل يمين‬
‫في معصية ‪ ،‬ول كفارة عليها‪.‬‬
‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } أي ‪ :‬ل يعاقبكم ول يلزمكم بما صدر منكم من‬
‫وقوله ‪ { :‬ل ُيؤَا ِ‬
‫اليمان اللغية ‪ ،‬وهي التي ل يقصدها الحالف ‪ ،‬بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ول‬
‫تأكيد ‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري ‪ ،‬عن حميد بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من حلف فقال في حلفه ‪ :‬واللت والعزى ‪ ،‬فليقل ‪:‬‬
‫ل إله إل ال" فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية ‪ ،‬قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من‬
‫الحلف باللت من غير قصد ‪ ،‬فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الخلص ‪ ،‬كما تلفظوا بتلك الكلمة من‬
‫غفُورٌ‬
‫خ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫غير قصد ‪ ،‬لتكون هذه بهذه ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وََلكِنْ ُيؤَا ِ‬
‫عقّدْتُمُ ال ْيمَانَ } [المائدة ‪:‬‬
‫حَلِيمٌ } كما قال في الية الخرى في المائدة ‪ { :‬وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذ ُكمْ ِبمَا َ‬
‫‪.]89‬‬
‫قال أبو داود ‪ :‬باب لغو اليمين ‪ :‬حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حسان ‪ -‬يعني ابن‬

‫( ‪)1/601‬‬

‫إبراهيم ‪ -‬حدثنا إبراهيم ‪ -‬يعني الصائغ ‪ -‬عن عطاء ‪ :‬في اللغو في اليمين ‪ ،‬قال ‪ :‬قالت عائشة‬
‫‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬هو كلم الرجل في بيته ‪ :‬كل وال وبلى وال"‪.‬‬
‫ثم قال أبو داود ‪ :‬رواه داود بن أبي الفرات ‪ ،‬عن إبراهيم الصائغ ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن عائشة‬
‫موقوفًا‪ .‬ورواه الزهري ‪ ،‬وعبد الملك ‪ ،‬ومالك بن ِمعْول ‪ ،‬كلهم عن عطاء ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬موقوفًا‬
‫أيضًا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وكذا رواه ابن جريج ‪ ،‬وابن أبي ليلى ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬موقوفًا‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن هناد ‪ ،‬عن َوكِيع ‪ ،‬وعبدة ‪ ،‬وأبي معاوية ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه‬
‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُكمْ } [المائدة ‪ ]89 :‬قالت ‪ :‬ل وال ‪ ،‬بلى‬
‫‪ ،‬عن عائشة في قوله ‪ { :‬ل ُيؤَا ِ‬
‫وال‪.‬‬
‫ثم رواه عن محمد بن حميد ‪ ،‬عن سلمة ‪ ،‬عن ابن إسحاق ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عنها‪ .‬وبه ‪،‬‬
‫عن ابن إسحاق ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عنها‪ .‬وبه ‪ ،‬عن سلمة عن ابن أبي نَجِيح ‪ ،‬عن‬
‫عطاء ‪ ،‬عنها‪.‬‬
‫خ ُذكُمُ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا معمر ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن عروة عن عائشة في قوله ‪ { :‬ل ُيؤَا ِ‬
‫اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } قالت ‪ :‬هم القوم يتدارؤون في المر ‪ ،‬فيقول هذا ‪ :‬ل وال ‪ ،‬وبلى وال ‪،‬‬
‫وكل وال يتدارؤون في المر ‪ :‬ل تعقد عليه قلوبهم‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا هارون بن إسحاق الهمداني ‪ ،‬حدثنا عبدة ‪ -‬يعني ابن سليمان ‪-‬‬
‫عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة في قول ال ‪ { :‬ل ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ }‬
‫قالت ‪ :‬هو قول الرجل ‪ :‬ل وال ‪ ،‬وبلى وال‪.‬‬
‫وحدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو صالح كاتب الليث ‪ ،‬حدثني ابن لهيعة ‪ ،‬عن أبي السود ‪ ،‬عن عروة قال‬
‫‪ :‬كانت عائشة تقول ‪ :‬إنما اللغو في المزاحة والهزل ‪ ،‬وهو قول الرجل ‪ :‬ل وال ‪ ،‬وبلى وال‪.‬‬
‫فذاك ل كفارة فيه ‪ ،‬إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ‪ ،‬ثم ل يفعله‪.‬‬
‫ثم قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن ابن عمر ‪ ،‬وابن عباس في أحد أقواله ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وعكرمة‬
‫في أحد قوليه ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والقاسم بن محمد ‪ ،‬ومجاهد في أحد قوليه ‪ ،‬وعروة بن الزبير ‪ ،‬وأبي‬
‫صالح ‪ ،‬والضحاك في أحد قوليه ‪ ،‬وأبي قلبة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬قرئ على يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني الثقة ‪ ،‬عن ابن‬
‫شهاب ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أنها كانت تتأول هذه الية ‪ -‬يعني قوله ‪ { :‬ل ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ‬
‫بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } وتقول ‪ :‬هو الشيء يحلف عليه أحدكم ‪ ،‬ل يريد منه إل الصدق ‪ ،‬فيكون على‬
‫غير ما حلف عليه‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وروي عن أبي هريرة ‪ ،‬وابن عباس ‪ -‬في أحد قوليه ‪ -‬وسليمان بن يسار ‪ ،‬وسعيد بن‬
‫جبير ‪ ،‬ومجاهد ‪ -‬في أحد قوليه ‪ -‬وإبراهيم النخعي ‪ -‬في أحد قوليه ‪ -‬والحسن ‪ ،‬وزرارة بن‬
‫أوفى ‪،‬‬

‫( ‪)1/602‬‬

‫وأبي مالك ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬وبكر بن عبد ال ‪ ،‬وأحد قولي عكرمة ‪ ،‬وحبيب بن أبي‬
‫ثابت ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬ومقاتل ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬ويحيى بن سعيد ‪،‬‬
‫وربيعة ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن موسى الحرشي حدثنا عبد ال بن ميمون المرالي ‪ ،‬حدثنا عوف‬
‫العرابي عن الحسن بن أبي الحسن ‪ ،‬قال ‪ :‬مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوم ينتضلون ‪-‬‬
‫يعني ‪ :‬يرمون ‪ -‬ومع رسول ال صلى ال عليه وسلم رجل من أصحابه ‪ ،‬فرمى رجل من القوم‬
‫فقال ‪ :‬أصبت وال وأخطأت وال‪ .‬فقال الذي مع النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬حنث الرجل يا‬
‫رسول ال‪ .‬قال ‪" :‬كل أيمان الرماة لغو ل كفارة فيها ول عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن عائشة القولن جميعًا‪.‬‬
‫حدثنا عصام بن رواد ‪ ،‬أخبرنا آدم ‪ ،‬أخبرنا شيبان ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬عن عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬عن‬
‫عائشة قالت ‪ :‬هو قوله ‪ :‬ل وال ‪ ،‬وبلى وال ‪ ،‬وهو يرى أنه صادق ‪ ،‬ول يكون كذلك‪.‬‬
‫أقوال أخر ‪ :‬قال عبد الرزاق ‪ ،‬عن هشيم ‪ ،‬عن مغيرة ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ :‬هو الرجل يحلف على‬
‫الشيء ثم ينساه‪.‬‬
‫وقال زيد بن أسلم ‪ :‬هو قول الرجل ‪ :‬أعمى ال بصري إن لم أفعل كذا وكذا ‪ ،‬أخرجني ال من‬
‫مالي إن لم آتك غدا ‪ ،‬فهو هذا‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وحدثنا علي بن الحسين ‪ ،‬حدثنا مسدد ‪ ،‬حدثنا خالد ‪ ،‬أخبرنا عطاء ‪ ،‬عن‬
‫طاوس ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان‪.‬‬
‫وأخبرني أبي ‪ ،‬أخبرنا أبو الجماهر ‪ ،‬حدثنا سعيد بن بشير ‪ ،‬حدثني أبو بشر ‪ ،‬عن سعيد بن جبير‬
‫‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬لغو اليمين أن تحرم ما أحل ال لك ‪ ،‬فذلك ما ليس عليك فيه كفارة ‪ ،‬وكذا‬
‫روي عن سعيد بن جبير‪.‬‬
‫وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب" ‪ :‬حدثنا محمد بن المنهال ‪ ،‬أنبأنا يزيد بن زريع ‪ ،‬حدثنا‬
‫حبيب المعلم ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ :‬أن أخوين من النصار كان بينهما‬
‫ميراث ‪ ،‬فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال ‪ :‬إن عدت تسألني عن القسمة ‪ ،‬فكل مالي في رتاج‬
‫الكعبة‪ .‬فقال له عمر ‪ :‬إن الكعبة غنية عن مالك ‪ ،‬كفر عن يمينك وكلم أخاك ‪ ،‬سمعت رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬ل يمين عليك ‪ ،‬ول نذر في معصية الرب عز وجل ‪ ،‬ول في‬
‫قطيعة الرحم ‪ ،‬ول فيما ل تملك"‪.‬‬
‫خ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد ‪ :‬هو أن يحلف‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلكِنْ ُيؤَا ِ‬
‫عقّدْ ُتمُ‬
‫على الشيء وهو يعلم أنه كاذب‪ .‬قال مجاهد وغيره ‪ :‬وهي كقوله ‪ { :‬وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا َ‬
‫ال ْيمَانَ } الية [المائدة ‪]89 :‬‬

‫( ‪)1/603‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪ )226‬وَإِنْ عَ َزمُوا‬


‫شهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِنْ نِسَا ِئ ِهمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ َأ ْ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)227‬‬
‫الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ } أي ‪ :‬غفور لعباده ‪ ،‬حليم عليهم‪.‬‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪ )226‬وَإِنْ عَ َزمُوا‬
‫شهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫{ لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِنْ نِسَا ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َب َعةِ أَ ْ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪})227‬‬
‫الطّلقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫اليلء ‪ :‬الحلف ‪ ،‬فإذا حلف الرجل أل يجامع زوجته مدة ‪ ،‬فل يخلو ‪ :‬إما أن يكون أقل من‬
‫أربعة أشهر ‪ ،‬أو أكثر منها ‪ ،‬فإن كانت أقل ‪ ،‬فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ‪،‬‬
‫وعليها أن تصبر ‪ ،‬وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ‪ ،‬وهذا كما ثبت في الصحيحين عن‬
‫عائشة ‪ :‬أن رسول ال آلى من نسائه شهرًا ‪ ،‬فنزل لتسع وعشرين ‪ ،‬وقال ‪" :‬الشهر تسع‬
‫وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه‪ .‬فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر ‪ ،‬فللزوجة‬
‫مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر ‪ :‬إما أن يفيء ‪ -‬أي ‪ :‬يجامع ‪ -‬وإما أن يطلق ‪ ،‬فيجبره‬
‫الحاكم على هذا أو هذا لئل يضر بها‪ .‬ولهذا قال تعالى ‪ { :‬لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ } أي ‪ :‬يحلفون على ترك‬
‫الجماع من نسائهم ‪ ،‬فيه دللة على أن اليلء يختص بالزوجات دون الماء كما هو مذهب‬
‫شهُرٍ } أي ‪ :‬ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ‪ ،‬ثم يوقف‬
‫الجمهور‪ { .‬تَرَ ّبصُ أَرْ َب َعةِ أَ ْ‬
‫ويطالب بالفيئة أو الطلق‪ .‬ولهذا قال ‪ { :‬فَإِنْ فَاءُوا } أي ‪ :‬رجعوا إلى ما كانوا عليه ‪ ،‬وهو كناية‬
‫عن الجماع ‪ ،‬قاله ابن عباس ‪ ،‬ومسروق والشعبي ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وغير واحد ‪ ،‬ومنهم ابن‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ } أي ‪ :‬لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين‪.‬‬
‫جرير رحمه ال { فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } فيه دللة لحد قولي العلماء ‪ -‬وهو القديم عن‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫الشافعي ‪ :‬أن المولي إذا فاء بعد الربعة الشهر أنه ل كفارة عليه‪ .‬ويعتضد بما تقدم في الية‬
‫التي قبلها ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه عن جده أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والذي‬
‫عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل‬
‫حالف ‪ ،‬كما تقدم أيضا في الحاديث الصحاح‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء وغيرهم ‪ -‬في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر ‪ -‬الثر الذي رواه المام مالك‬
‫بن أنس ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في الموطأ ‪ ،‬عن عمرو بن دينار قال ‪ :‬خرج عمر بن الخطاب من الليل‬
‫فسمع امرأة تقول ‪:‬‬
‫تطا َولَ هذا الليلُ واسودّ جانِبُهْ‪ ...‬وأرقني أل خليلَ ألعِبُهْ‪...‬‬
‫فوال لول ال أني أراقبهْ‪ ...‬لح ّركَ من هذا السرير جوانبه‪...‬‬

‫( ‪)1/604‬‬

‫فسأل عمر ابنته حفصة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ :‬كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت ‪ :‬ستة‬
‫أشهر أو أربعة أشهر‪ .‬فقال عمر ‪ :‬ل أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن السائب بن جبير ‪ ،‬مولى ابن عباس ‪ -‬وكان قد أدرك أصحاب‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قال ‪ :‬ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف‬
‫بالمدينة ‪ ،‬وكان يفعل ذلك كثيرا ؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [وهي] تقول‪ .‬تطاول‬
‫هذا الليل وازورّ جانبه‪ ...‬وأرقني أل ضجيعَ ألعِبُهْ‪...‬‬
‫ألعبه طورًا وطورًا كأنما‪ ...‬بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه‪...‬‬
‫يسرّ به من كان يلهو بقربه‪ ...‬لطيف الحشا ل يحتويه أقاربه‪...‬‬
‫فوال لول ال ل شيء غيره‪ ...‬لنقض من هذا السرير جوانبه‪...‬‬
‫ولكنني أخشى رقيبًا موكل‪ ...‬بأنفسنا ل َيفْتُر الدهرَ كاتبه‪...‬‬
‫ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم ‪ ،‬أو نحوه‪ .‬وقد روى هذا من طرق ‪ ،‬وهو من المشهورات‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِنْ عَ َزمُوا الطّلقَ } فيه دللة على أنه ل يقع الطلق بمجرد مضي الربعة أشهر‬
‫كقول الجمهور ‪ ،‬وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي الربعة أشهر تطليقة ‪ ،‬وهو مروي بأسانيد‬
‫صحيحة عن عمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وزيد بن‬
‫ثابت ‪ ،‬وبه يقول ابن سيرين ‪[ ،‬ومسروق] والقاسم ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وأبو سلمة ‪ ،‬وقتادة ‪،‬‬
‫وشريح القاضي ‪ ،‬وقبيصة بن ذؤيب ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد الرحمن ‪ ،‬وسليمان بن‬
‫طرخان التيمي ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي‪.‬‬
‫ثم قيل ‪ :‬إنها تطلق بمضي الربعة أشهر طلقة رجعية ؛ قاله سعيد بن المسيب ‪ ،‬وأبو بكر بن عبد‬
‫الرحمن بن الحارث بن هشام ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬وربيعة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ومروان بن الحكم‪ .‬وقيل إنها‬
‫تطلق طلقة بائنة ‪ ،‬روي عن علي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وزيد بن‬
‫ثابت ‪ ،‬وبه يقول ‪ :‬عطاء وجابر بن زيد ‪ ،‬ومسروق وعكرمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬ومحمد‬
‫بن الحنفية ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وقبيصة بن ذؤيب ‪ ،‬وأبو حنيفة ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬والحسن بن صالح ‪ ،‬وكل‬
‫من قال ‪ :‬إنها تطلق بمضي الربعة أشهر أوجب عليها العدة ‪ ،‬إل ما روي عن ابن عباس وأبي‬
‫الشعثاء ‪ :‬أنها إن كانت حاضت ثلث حيض فل عدة عليها ‪ ،‬وهو قول الشافعي ‪ ،‬والذي عليه‬
‫الجمهور أنه يوقف فيطالب إما بهذا أو هذا ول يقع عليها بمجرد مضيها طلق‪.‬‬

‫( ‪)1/605‬‬

‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ‬
‫سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُو ٍء وَلَا يَ ِ‬
‫وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ َأحَقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلَاحًا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ‬
‫حكِيمٌ (‪)228‬‬
‫ف وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫وروى مالك ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن عبد ال بن عمر أنه قال ‪ :‬إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه‬
‫طلق وإن مضت أربعة أشهر ‪ ،‬حتى يوقف ‪ ،‬فإما أن يطلق ‪ ،‬وإما أن يفيء‪ .‬وأخرجه البخاري‪.‬‬
‫وقال الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬أخبرنا سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن سليمان بن يسار‬
‫قال ‪ :‬أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم كلهم يوقف المولي قال الشافعي‬
‫‪ :‬وأقل ذلك ثلثة عشر‪ .‬ورواه الشافعي عن علي رضي ال عنه ‪ :‬أنه وقف المولي‪ .‬ثم قال ‪:‬‬
‫وهكذا نقول ‪ ،‬وهو موافق لما رويناه عن عمر ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬وعن عثمان ‪ ،‬وزيد بن‬
‫ثابت ‪ ،‬وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬هكذا قال الشافعي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن أبي مريم ‪ ،‬حدثنا يحيى بن أيوب ‪ ،‬عن عبيد ال بن عمر ‪ ،‬عن‬
‫سهيل بن أبي صالح ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬سألت اثني عشر رجل من الصحابة عن الرجل يولي من‬
‫امرأته ‪ ،‬فكلهم يقول ‪ :‬ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف ‪ ،‬فإن فاء وإل طلق‪.‬‬
‫ورواه الدارقطني من طريق سهيل‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهو مروي عن عمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وأبي الدرداء ‪ ،‬وعائشة أم المؤمنين ‪ ،‬وابن‬
‫عمر ‪ ،‬وابن عباس‪ .‬وبه يقول سعيد بن المسيب ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪،‬‬
‫ومحمد بن كعب ‪ ،‬والقاسم‪ .‬وهو مذهب مالك ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأحمد بن حنبل ‪ ،‬وأصحابهم ‪،‬‬
‫رحمهم ال ‪ ،‬وهو اختيار ابن جرير أيضًا ‪ ،‬وهو قول الليث [بن سعد] وإسحاق بن راهويه ‪ ،‬وأبي‬
‫عبيد ‪ ،‬وأبي ثور ‪ ،‬وداود ‪ ،‬وكل هؤلء قالوا ‪ :‬إن لم يفئ ألزم بالطلق ‪ ،‬فإن لم يطلق طلق عليه‬
‫الحاكم ‪ ،‬والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة‪.‬‬
‫وانفرد مالك بأن قال ‪ :‬ل يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا‪.‬‬
‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ‬
‫سهِنّ ثَلثَةَ قُرُو ٍء وَل يَ ِ‬
‫طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَا ْلمُ َ‬
‫حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحًا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي‬
‫كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬
‫حكِيمٌ (‪})228‬‬
‫ف وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫هذا المر من ال سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات القراء ‪ ،‬بأن يتربصن‬
‫بأنفسهن ثلثة قروء ‪ ،‬أي ‪ :‬بأن تمكث إحداهن بعد طلق زوجها لها ثلثة قروء ؛ ثم تتزوج إن‬
‫طلّقت ‪ ،‬فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ‪،‬‬
‫شاءت ‪ ،‬وقد أخرج الئمة الربعة من هذا العموم المَة إذا ُ‬
‫لنها على النصف من الحرة ‪ ،‬والقُرْء ل يتبعض ف ُكمّل لها قرءان‪ .‬ولما رواه ابن جريح عن‬
‫مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬طلق المة تطليقتان وعدتها حيضتان"‪.‬‬

‫( ‪)1/606‬‬
‫رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي وابن ماجة‪ .‬ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية‪ .‬وقال الحافظ الدارقطني‬
‫وغيره ‪ :‬الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه‪.‬‬
‫ورواه ابن ماجة من طريق عطية ال َع ْوفِي عن ابن عمر مرفوعًا‪ .‬قال الدارقطني ‪ :‬والصحيح ما‬
‫رواه سالم ونافع ‪ ،‬عن ابن عمر قوله‪ .‬وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب‪ .‬قالوا ‪ :‬ولم يعرف بين‬
‫الصحابة خلف‪ .‬وقال بعض السلف ‪ :‬بل عدتها كعدة الحرة لعموم الية ؛ ولن هذا أمر جِبِلي‬
‫فكان الماء والحرائر في هذا سواء ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ‪،‬‬
‫عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ‪ ،‬وضعفه‪.‬‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬حدثنا إسماعيل ‪ -‬يعني ابن عَيّاش ‪ -‬عن‬
‫عمرو بن مهاجر ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن أسماء بنت يزيد بن السكن النصارية قالت ‪ :‬طُلّقت على عهد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولم يكن للمطلقة عدة ‪ ،‬فأنزل ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬حين طلقت‬
‫أسماء العدة للطلق ‪ ،‬فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلق ‪ ،‬يعني ‪ { :‬وَا ْل ُمطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ‬
‫سهِنّ ثَلثَةَ قُرُوءٍ }‪.‬‬
‫بِأَ ْنفُ ِ‬
‫هذا حديث غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫وقد اختلف السلف والخلف والئمة في المراد بالقْرَاء ما هو ؟ على قولين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن المراد بها ‪ :‬الطهار ‪ ،‬وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ‪ ،‬عن عروة ‪ ،‬عن‬
‫عائشة أنها قالت ‪ :‬انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ‪ ،‬حين دخلت في الدم من الحيضة‬
‫الثالثة ‪ ،‬قال الزهري ‪ :‬فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ‪ ،‬فقالت ‪ :‬صدق عروة‪ .‬وقد جادلها‬
‫في ذلك ناس فقالوا ‪ :‬إن ال تعالى يقول في كتابه ‪ " :‬ثلثة قروء " فقالت عائشة ‪ :‬صدقتم ‪،‬‬
‫وتدرون ما القراءُ ؟ إنما القراء ‪ :‬الطهارُ‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬عن ابن شهاب ‪ ،‬سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ‪ :‬ما أدركت أحدًا من فقهائنا‬
‫إل وهو يقول ذلك ‪ ،‬يريد قول عائشة‪ .‬وقال مالك ‪ :‬عن نافع ‪ ،‬عن عبد ال بن عمر ‪ ،‬أنه كان‬
‫يقول ‪ :‬إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها‪ .‬وقال‬
‫مالك ‪ :‬وهو المر عندنا‪ .‬ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬والقاسم ‪،‬‬
‫وعروة ‪ ،‬وسليمان بن يسار ‪ ،‬وأبي بكر بن عبد الرحمن ‪ ،‬وأبان بن عثمان ‪ ،‬وعطاء ابن أبي‬
‫رباح ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وبقية الفقهاء السبعة ‪ ،‬وهو مذهب مالك ‪ ،‬والشافعي [وغير واحد ‪،‬‬
‫وداود وأبي ثور ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد ‪ ،‬واستدلوا عليه بقوله تعالى ‪ { :‬فَطَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ }‬
‫[الطلق ‪ ]1 :‬أي ‪ :‬في الطهار‪ .‬ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ‪ ،‬دل على أنه أحد‬
‫القراء الثلثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلء ‪ :‬إن المعتدة‬

‫( ‪)1/607‬‬
‫تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ‪ ،‬وأقل مدة تصدق فيها المرأة في‬
‫انقضاء عدتها اثنان وثلثون يومًا ولحظتان]‪.‬‬
‫واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر ‪ -‬وهو العشى ‪: -‬‬
‫ش ّد لقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا‪...‬‬
‫ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة‪ ...‬تَ ُ‬
‫ُموَرّثة عدّا ‪ ،‬وفي الحيّ رفعة‪ ...‬لما ضاع فيها من قُروء نسائكا‪...‬‬
‫يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ‪ ،‬حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم‬
‫يواقعهن فيها‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أن المراد بالقراء ‪ :‬الحيض ‪ ،‬فل تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ‪،‬‬
‫زاد آخرون ‪ :‬وتغتسل منها‪ .‬وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلثة وثلثون يومًا‬
‫ولحظة‪ .‬قال الثوري ‪ :‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة قال ‪ :‬كنا عند عمر بن الخطاب ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬فجاءته امرأة فقالت ‪ :‬إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت‬
‫مائي] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي‪ .‬فقال عمر لعبد ال ‪ -‬يعني ابن مسعود ‪[ -‬ما ترى ؟ قال] ‪:‬‬
‫أراها امرأته ‪ ،‬ما دون أن تحل لها الصلة‪ .‬قال [عمر ‪ ] :‬وأنا أرى ذلك‪.‬‬
‫وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ‪ ،‬وعمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وأبي الدرداء ‪ ،‬وعبادة بن‬
‫الصامت ‪ ،‬وأنس بن مالك ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬ومعاذ ‪ ،‬وأبي بن كعب ‪ ،‬وأبي موسى الشعري ‪،‬‬
‫وابن عباس ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وعلقمة ‪ ،‬والسود ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪،‬‬
‫وطاوس ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ومحمد بن سيرين ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والشعبي ‪،‬‬
‫والربيع ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬أنهم قالوا ‪:‬‬
‫القراء ‪ :‬الحيض‪.‬‬
‫وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ‪ ،‬وأصح الروايتين عن المام أحمد بن حنبل ‪ ،‬وحكى عنه‬
‫الثرم أنه قال ‪ :‬الكابر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون ‪ :‬القراء الحيض‪.‬‬
‫وهو مذهب الثوري ‪ ،‬والوزاعي ‪ ،‬وابن أبي ليلى ‪ ،‬وابن شبرمة ‪ ،‬والحسن بن صالح بن حي ‪،‬‬
‫وأبي عبيد ‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪.‬‬
‫ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ‪ ،‬من طريق المنذر بن المغيرة ‪ ،‬عن‬
‫عروة بن الزبير ‪ ،‬عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لها ‪" :‬دعي‬
‫الصلة أيام‬

‫( ‪)1/608‬‬

‫أقرائك"‪ .‬فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ‪ ،‬ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم‬
‫‪ :‬مجهول ليس بمشهور‪ .‬وذكره ابن حبان في الثقات‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬أصلُ القرء في كلم العرب ‪" :‬الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت‬
‫معلوم ‪ ،‬ولدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم"‪ .‬وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين‬
‫هذا وهذا ‪ ،‬وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الصوليين فال أعلم‪ .‬وهذا قول الصمعي ‪ :‬أن القرء‬
‫هو الوقت‪ .‬وقال أبو عمرو بن العلء ‪ :‬العرب تسمي الحيض ‪ :‬قُ ْرءًا ‪ ،‬وتسمي الطهر ‪ :‬قرءا ‪،‬‬
‫وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا ‪ :‬قرءا‪ .‬وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر ‪ :‬ل يختلف أهل العلم‬
‫بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ‪ ،‬وإنما اختلفوا في المراد من‬
‫الية ما هو على قولين‪.‬‬
‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ } أي ‪ :‬من حَبَل أو حيض‪ .‬قاله ابن‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل يَ ِ‬
‫عمَر ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫عباس ‪ ،‬وابن ُ‬
‫وغير واحد‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِنْ كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } تهديد لهن على قول خلف الحق‪ .‬ودل هذا على أن‬
‫المرجع في هذا إليهن ؛ لنه أمر ل يعلم إل من جهتين ‪ ،‬وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ‪ ،‬فردّ‬
‫المر إليهن ‪ ،‬وتُوُعّدْنَ فيه ‪ ،‬لئل تخبر بغير الحق إما استعجال منها لنقضاء العدة ‪ ،‬أو رغبة‬
‫منها في تطويلها ‪ ،‬لما لها في ذلك من المقاصد‪ .‬فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة‬
‫ول نقصان‪.‬‬
‫حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحًا } أي ‪ :‬وزوجها الذي طلقها أحق‬
‫وقوله ‪ { :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬
‫بردتها ما دامت في عدتها ‪ ،‬إذا كان مراده بردتها الصلح والخير‪ .‬وهذا في الرجعيات‪ .‬فأما‬
‫المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الية مطلقة بائن ‪ ،‬وإنما صار ذلك لما حُصروا في‬
‫الطلقات الثلث ‪ ،‬فأما حال نزول هذه الية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة‬
‫مرة ‪ ،‬فلما قصروا في الية التي بعدها على ثلث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن‪.‬‬
‫وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الصوليين ‪ ،‬من استشهادهم على مسألة عود‬
‫الضمير ‪ -‬هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم ل ؟ ‪ -‬بهذه الية الكريمة ‪ ،‬فإن‬
‫التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي ‪ :‬ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال‬
‫عليهن ‪ ،‬فلْيؤد كل واحد منهما إلى الخر ما يجب عليه بالمعروف ‪ ،‬كما ثبت في صحيح مسلم ‪،‬‬
‫عن جابر ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال في خطبته ‪ ،‬في حجة الوداع ‪" :‬فاتقوا ال في‬
‫النساء ‪ ،‬فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة ال ‪ ،‬واستحللتم فروجهن بكلمة ال ‪ ،‬ولكم عليهن أل يُوطِئْنَ‬
‫فُرُشَكم أحدًا تكرهونه ‪ ،‬فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرّح ‪ ،‬ولهن رزقهن وكسوتهن‬
‫بالمعروف"‪ .‬وفي حديث بهز بن حكيم ‪ ،‬عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬أنه‬
‫قال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما حق زوجة أحدنا ؟‬
‫( ‪)1/609‬‬

‫خذُوا ِممّا آَتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا‬


‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ‬
‫ن وَلَا يَ ِ‬
‫حسَا ٍ‬
‫الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ‬
‫حدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْ َت َدتْ بِهِ تِ ْلكَ حُدُودُ‬
‫خفْتُمْ أَلّا ُيقِيمَا ُ‬
‫أَنْ يَخَافَا أَلّا ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫حلّ لَهُ مِنْ َبعْدُ‬
‫اللّهِ فَلَا َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ (‪ )229‬فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا تَ ِ‬
‫حدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ‬
‫جعَا إِنْ ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا ُ‬
‫حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ‬
‫حدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪)230‬‬
‫ُ‬

‫قال ‪" :‬أن تطعمها إذا طع ْمتَ ‪ ،‬وتكسوها إذا اكتسيت ‪ ،‬ول تضرب الوجه ‪ ،‬ول ُتقَبّح ‪ ،‬ول تهجر‬
‫إل في البيت"‪ .‬وقال َوكِيع عن بشير بن سليمان ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬إني لحب‬
‫أن أتزيّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لن ال يقول ‪ { :‬وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ } رواه ابن جرير ‪ ،‬وابن أبي حاتم‪.‬‬
‫جةٌ } أي ‪ :‬في الفضيلة في الخُلُق ‪ ،‬والمنزلة ‪ ،‬وطاعة المر ‪،‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَ َ‬
‫والنفاق ‪ ،‬والقيام بالمصالح ‪ ،‬والفضل في الدنيا والخرة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬الرّجَالُ َقوّامُونَ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ وَ ِبمَا أَ ْن َفقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ } [النساء ‪.]34 :‬‬
‫عَلَى النّسَاءِ ِبمَا َفضّلَ اللّهُ َب ْع َ‬
‫حكِيمٌ } أي ‪ :‬عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ‪ ،‬حكيم في أمره‬
‫وقوله ‪ { :‬وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫وشرعه وقدره‪.‬‬
‫خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ‬
‫ن وَل يَ ِ‬
‫{ الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَا ٍ‬
‫حدُودَ اللّهِ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ ِبهِ تِ ْلكَ‬
‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا ُ‬
‫حدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ‬
‫حلّ لَهُ مِنْ‬
‫حدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ (‪ )229‬فَإِنْ طَّل َقهَا فَل َت ِ‬
‫ُ‬
‫جعَا إِنْ ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ‬
‫َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َز ْوجًا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ‬
‫وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪})230‬‬
‫هذه الية الكريمة رافعة لما كان عليه المر في ابتداء السلم ‪ ،‬من أن الرجل كان أحق برجعة‬
‫امرأته ‪ ،‬وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ‪ ،‬فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم‬
‫ال عز وجل إلى ثلث طلقات ‪ ،‬وأباح الرجعة في المرة والثنتين ‪ ،‬وأبانها بالكلية في الثالثة ‪،‬‬
‫فقال ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ }‬
‫قال أبو داود ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في سننه ‪" :‬باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلث" ‪ :‬حدثنا أحمد‬
‫ابن محمد المروزي ‪ ،‬حدثني علي بن الحسين بن واقد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن يزيد النحوي ‪ ،‬عن‬
‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا‬
‫سهِنّ ثَلثَةَ قُرُو ٍء وَل يَ ِ‬
‫عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَا ْل ُمطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫خََلقَ اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ } الية ‪ :‬وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ‪ ،‬وإن‬
‫طلقها ثلثا ‪ ،‬فنسخ ذلك فقال ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ } الية‪.‬‬
‫ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى ‪ ،‬عن إسحاق بن إبراهيم ‪ ،‬عن علي بن الحسين ‪ ،‬به‪.‬‬

‫( ‪)1/610‬‬

‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا هارون بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا عبدة ‪ -‬يعني ابن سليمان ‪ -‬عن هشام بن‬
‫عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬أن رجل قال لمرأته ‪ :‬ل أطلقك أبدًا ول آويك أبدًا‪ .‬قالت ‪ :‬وكيف ذلك ؟ قال‬
‫‪ :‬أطلقك ‪ ،‬حتى إذا دنا أجلك راجعتك‪ .‬فأتت رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكرت ذلك فأنزل‬
‫ال عز وجل ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ }‬
‫وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد الحميد ‪ ،‬وابن إدريس‪ .‬ورواه عبد بن‬
‫حمَيد في تفسيره ‪ ،‬عن جعفر بن عون ‪ ،‬كلهم عن هشام ‪ ،‬عن أبيه‪ .‬قال ‪ :‬كان الرجل أحق‬
‫ُ‬
‫برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ‪ ،‬ما دامت في العدة ‪ ،‬وإن رجل من النصار غضب على‬
‫امرأته فقال ‪ :‬وال ل آويك ول أفارقك‪ .‬قالت ‪ :‬وكيف ذلك‪ .‬قال ‪ :‬أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ‪،‬‬
‫ثم أطلقك ‪ ،‬فإذا دنا أجلك راجعتك‪ .‬فذكرت ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأنزل ال عز‬
‫وجل ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ } قال ‪ :‬فاستقبل الناس الطلق ‪ ،‬من كان طلق ومن لم يكن طلق‪.‬‬
‫وقد رواه أبو بكر بن مَرْ ُدوَيه ‪ ،‬من طريق محمد بن سليمان ‪ ،‬عن يعلى بن شبيب ‪ -‬مولى الزبير‬
‫‪ -‬عن هشام ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم‪ .‬ورواه الترمذي ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن يعلى‬
‫بن شبيب به‪ .‬ثم رواه عن أبي كريب ‪ ،‬عن ابن إدريس ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬عن أبيه مرسل‪ .‬قال ‪ :‬هذا‬
‫أصح‪ .‬ورواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب ‪ ،‬عن يعلى بن شبيب‬
‫به ‪ ،‬وقال صحيح السناد‪.‬‬
‫ثم قال ابن مَردُويه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن عبد ال ‪ ،‬حدثنا محمد‬
‫بن حميد ‪ ،‬حدثنا سلمة بن الفضل ‪ ،‬عن محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫عائشة قالت ‪ :‬لم يكن للطلق وقت ‪ ،‬يطلقُ الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة ‪ ،‬وكان‬
‫بين رَجل من النصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس فقال ‪ :‬وال لتركنك ل أ ّيمًا ول ذات‬
‫زوج ‪ ،‬فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ‪ ،‬ففعل ذلك مرارًا ‪ ،‬فأنزل ال عز‬
‫وجل فيه ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فو ّقتَ الطلق ثلثًا ل رجعة‬
‫فيه بعد الثالثة ‪ ،‬حتى تنكح زوجًا غيره‪ .‬وهكذا رُوي عن قتادة مرسل‪ .‬وذكره السدي ‪ ،‬وابن‬
‫زيد ‪ ،‬وابن جرير كذلك ‪ ،‬واختار أن هذا تفسير هذه الية‪.‬‬
‫حسَانٍ } أي ‪ :‬إذا طلقتها واحدة أو اثنتين ‪ ،‬فأنت مخير‬
‫وقوله ‪ { :‬فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ‬
‫فيها ما دامت عدتها باقية ‪ ،‬بين أن تردها إليك ناويًا الصلح بها والحسان إليها ‪ ،‬وبين أن‬
‫تتركها حتى تنقضي عدتها ‪ ،‬فتبين منك ‪ ،‬وتطلق سراحها محسنًا إليها ‪ ،‬ل تظلمها من حقها‬
‫شيئًا ‪ ،‬ول‬

‫( ‪)1/611‬‬

‫تُضارّ بها‪.‬‬
‫قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ‪ ،‬فليتق ال في‬
‫الثالثة ‪ ،‬فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [بإحسان] فل يظلمها من حقها‬
‫شيئا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا يونس بن عبد العلى قراءة ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني سفيان‬
‫الثوري ‪ ،‬حدثني إسماعيل بن سميع ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت أبا رَزِين يقول ‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أرأيت قول ال عز وجل ‪ { :‬فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ‬
‫حسَانٍ } أين الثالثة ؟ قال ‪" :‬التسريح بإحسان"‪.‬‬
‫بِإِ ْ‬
‫ورواه عبد بن حميد في تفسيره ‪ ،‬ولفظه ‪ :‬أخبرنا يزيد بن أبي حكيم ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن إسماعيل‬
‫بن سميع ‪ ،‬أن أبا رزين السدي يقول ‪ :‬قال رجل ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أرأيت قول ال ‪ " :‬الطلق‬
‫مرتان " ‪ ،‬فأين الثالثة ؟ قال ‪" :‬التسريح بإحسان الثالثة"‪.‬‬
‫ورواه المام أحمد أيضًا‪ .‬وهكذا رواه سعيد بن منصور ‪ ،‬عن خالد بن عبد ال ‪ ،‬عن إسماعيل بن‬
‫زكريا وأبي معاوية ‪ ،‬عن إسماعيل بن سميع ‪ ،‬عن أبي رزين ‪ ،‬به‪ .‬وكذا رواه قيس بن الربيع ‪،‬‬
‫عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسل‪ .‬ورواه ابن مردويه [أيضا] من طريق عبد‬
‫الواحد بن زياد ‪ ،‬عن إسماعيل بن سميع ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فذكره‪ .‬ثم قال ‪ :‬حدثنا عبد ال بن أحمد بن عبد الرحيم ‪ ،‬حدثنا أحمد بن يحيى ‪ ،‬حدثنا عبيد ال‬
‫بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس بن مالك قال ‪:‬‬
‫جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ذكر ال الطلق مرتين ‪ ،‬فأين‬
‫الثالثة ؟ قال ‪" :‬إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"‪.‬‬
‫حدُودَ اللّهِ ] } أي ‪:‬‬
‫خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا [ إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل يَ ِ‬
‫ل‬

‫( ‪)1/612‬‬

‫يحل لكم أن ُتضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن ‪ ،‬ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الصدقة أو‬
‫شةٍ‬
‫ببعضه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَل َت ْعضُلُوهُنّ لِتَ ْذهَبُوا بِ َب ْعضِ مَا آتَيْ ُتمُوهُنّ إِل أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِ َ‬
‫مُبَيّنَةٍ } [النساء ‪ ]19 :‬فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها‪ .‬فقد قال تعالى ‪ { :‬فَإِنْ طِبْنَ‬
‫شيْءٍ مِنْهُ َنفْسًا َفكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [النساء ‪ ]4 :‬وأما إذا تشاقق الزوجان ‪ ،‬ولم تقم المرأة‬
‫َلكُمْ عَنْ َ‬
‫بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته ‪ ،‬فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ‪ ،‬ول حرج‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَ ْأخُذُوا ِممّا‬
‫عليها في بذلها ‪ ،‬ول عليه في قبول ذلك منها ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَل َي ِ‬
‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا‬
‫آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫افْتَ َدتْ بِهِ } الية‪.‬‬
‫فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الفتداء منه ‪ ،‬فقد قال ابن جرير ‪:‬‬
‫حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب ‪ -‬وحدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن علية ‪ -‬قال جميعا‬
‫‪ :‬حدثنا أيوب ‪ ،‬عن أبي قِلبة ‪ ،‬عمن حدثه ‪ ،‬عن ثوبان ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‬
‫‪" :‬أيما امرأة سألت زوجها طلقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة"‪.‬‬
‫وهكذا رواه الترمذي ‪ ،‬عن بندار ‪ ،‬عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به‪ .‬وقال حسن ‪ :‬قال ‪:‬‬
‫ويروى ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن أبي قلبة ‪ ،‬عن أبي أسماء ‪ ،‬عن ثوبان‪ .‬ورواه بعضهم ‪ ،‬عن أيوب‬
‫بهذا السناد‪ .‬ولم يرفعه‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن أبي قلبة ‪ -‬قال ‪:‬‬
‫وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أيما امرأة سألت‬
‫زوجها الطلق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود ‪ ،‬وابن ماجة ‪ ،‬وابن جرير ‪ ،‬من حديث حماد بن زيد ‪ ،‬به‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا المعتمر بن سليمان ‪ ،‬عن ليث‬
‫‪ ،‬عن أبي إدريس ‪ ،‬عن ثوبان مولي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال ‪" :‬أيما امرأة سألت زوجها الطلق في غير ما بأس ‪ ،‬حَرّم ال عليها رائحة الجنة"‪.‬‬
‫وقال ‪" :‬المختلعات هن المنافقات"‪.‬‬
‫ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا ‪ ،‬عن أبي كريب ‪ ،‬عن مزاحم بن َذوّاد بن عُلْبَة ‪ ،‬عن أبيه ‪،‬‬
‫عن ليث ‪ ،‬هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب ‪ ،‬عن أبي زُرْعَة ‪ ،‬عن أبي إدريس ‪ ،‬عن ثوبان‬
‫قال ‪:‬‬

‫( ‪)1/613‬‬

‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬المختلعات هن المنافقات"‪ .‬ثم قال الترمذي ‪ :‬غريب من هذا‬
‫الوجه ‪ ،‬وليس إسناده بالقوي‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر ‪ ،‬حدثنا قيس بن الربيع ‪،‬‬
‫عن أشعث بن سوار ‪ ،‬عن الحسن عن ثابت بن يزيد ‪ ،‬عن عقبة بن عامر قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب من هذا الوجه ضعيف‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا بكر بن خلف أبو بشر ‪ ،‬حدثنا أبو عاصم ‪ ،‬عن جعفر بن‬
‫يحيى بن َثوْبان ‪ ،‬عن عمه عمارةَ بن ثوبان ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬أن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل تسألُ امرأة زوجها الطلق في غير كُ ْنهِه فَ َتجِدَ ريح الجنة ‪ ،‬وإن ريحها‬
‫ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا وهيب ‪ ،‬حدثنا أيوب ‪ ،‬عن الحسن عن أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬المختلعات والمنتزعات هن المنافقات"‪.‬‬
‫ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف ‪ :‬إنه ل يجوز الخلع إل أن يكون الشقاق والنشوز‬
‫خذُوا‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ‬
‫من جانب المرأة ‪ ،‬فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ‪ ،‬واحتجوا بقوله ‪ { :‬وَل يَ ِ‬
‫حدُودَ اللّهِ ] }‪ .‬قالوا ‪ :‬فلم يشرع الخلع إل في هذه الحالة‬
‫ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا [إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ‬
‫ع َدمُه ‪ ،‬وممن ذهب إلى هذا ابن عباس ‪ ،‬وطاوس ‪،‬‬
‫‪ ،‬فل يجوز في غيرها إل بدليل ‪ ،‬والصل َ‬
‫وإبراهيم ‪ ،‬وعطاء ‪[ ،‬والحسن] والجمهور ‪ ،‬حتى قال مالك والوزاعي ‪ :‬لو أخذ منها شيئًا وهو‬
‫مضارّ لها وجب ردّه إليها ‪ ،‬وكان الطلق رجعيًا‪ .‬قال مالك ‪ :‬وهو المر الذي أدركتُ الناسَ‬
‫عليه‪ .‬وذهب الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق ‪ ،‬وعند التفاق بطريق‬
‫الولى والحرى ‪ ،‬وهذا قول جميع أصحابه قاطبة‪ .‬وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب‬
‫"الستذكار" له ‪ ،‬عن بكر بن عبد ال المزني ‪ ،‬أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله ‪ { :‬وآتَيْ ُتمْ‬
‫خذُوا مِنْهُ شَيْئًا } [النساء ‪ .]20 :‬ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف‬
‫حدَاهُنّ قِ ْنطَارًا فَل تَأْ ُ‬
‫إِ ْ‬
‫ومأخذ مردود على قائله‪ .‬وقد ذكر ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬أن هذه الية نزلت في شأن ثابت بن‬
‫شمّاس وامرأته حبيبة بنت عبد ال بن أبي ابن سلول‪ .‬ولنذكر طرق حديثها ‪ ،‬واختلف‬
‫قيس بن َ‬
‫ألفاظه ‪:‬‬

‫( ‪)1/614‬‬

‫عمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن‬


‫قال المام مالك في موطئه ‪ :‬عن يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن َ‬
‫زرارة ‪ ،‬أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل النصارية ‪ ،‬أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ‪،‬‬
‫وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغَلَس ‪،‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من هذه ؟ " قالت ‪ :‬أنا حبيبة بنت سهل‪ .‬فقال ‪" :‬ما‬
‫شأنك ؟ " فقالت ‪ :‬ل أنا ول ثابت بن قيس ‪ -‬لزوجها ‪ -‬فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء ال أن تذكر"‪ .‬فقالت‬
‫حبيبة ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬كل ما أعطاني عندي‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬خذ منها"‪.‬‬
‫فأخذ منها وجلست في أهلها‪.‬‬
‫وهكذا رواه المام أحمد ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن مالك بإسناده ‪ -‬مثله‪ .‬ورواه أبو داود‬
‫‪ ،‬عن القعنبي ‪ ،‬عن مالك‪ .‬والنسائي ‪ ،‬عن محمد بن مسلمة ‪ ،‬عن ابن القاسم ‪ ،‬عن مالك به‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬عن عائشة ‪ :‬قال أبو داود وابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن معمر ‪ ،‬حدثنا أبو عامر ‪،‬‬
‫حدثنا أبو عمرو السدوسي ‪ ،‬عن عبد ال ‪ -‬بن أبي بكر ‪ -‬عن عمرة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬أن حبيبة‬
‫بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ‪ ،‬فضربها فكسر نُغضها فأتت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه ‪ ،‬فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم ثابتا فقال ‪" :‬خذ بعض‬
‫مالها وفارقها"‪ .‬قال ‪ :‬ويصلح ذلك يا رسول ال ؟ قال ‪" :‬نعم"‪ .‬قال ‪ :‬فإني أصدقتها حديقتين ‪،‬‬
‫فهما بيدها‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬خذهما وفارقها"‪ .‬ففعل‪.‬‬
‫وهذا لفظ ابن جرير‪ .‬وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام‪.‬‬
‫حديث آخر فيه ‪ :‬عن ابن عباس رضي ال عنه ‪:‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا أزهر بن جميل ‪ ،‬أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ‪ ،‬حدثنا خالد ‪ ،‬عن عكرمة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس ‪ :‬أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬ما أعتب عليه في خلق ول دين ‪ ،‬ولكن أكره الكفر في السلم‪ .‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أتردين عليه حديقته ؟ " قالت ‪ :‬نعم‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"‪.‬‬
‫وكذا رواه النسائي ‪ ،‬عن أزهر بن جميل بإسناده ‪ ،‬مثله‪ .‬ورواه البخاري أيضًا ‪ ،‬عن إسحاق‬
‫الواسطي ‪ ،‬عن خالد هو ابن عبد ال الطحان ‪ ،‬عن خالد ‪ ،‬هو ابن مهران الحذاء ‪ ،‬عن عكرمة‬
‫به ‪،‬‬

‫( ‪)1/615‬‬

‫نحوه‪.‬‬
‫وهكذا رواه البخاري أيضًا من طرق ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬به‪ .‬وفي‬
‫بعضها أنها قالت ‪ :‬ل أطيقه ‪ ،‬تعني ‪ :‬بغضًا‪ .‬وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثنا سليمان بن حرب ‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬أن جميلة‬
‫رضي ال عنها‪ .‬كذا قال ‪ ،‬والمشهور أن اسمها حبيبة [كما تقدم]‪.‬‬
‫قال الحافظ أبو بكر بن مَردويه في تفسيره ‪ :‬حدثنا موسى بن هارون ‪ ،‬حدثنا أزهر بن مروان‬
‫الرقاشي ‪ ،‬حدثنا عبد العلى ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬أن جميلة‬
‫بنت سلول أتت النبي صلى ال عليه وسلم فقالت ‪ :‬وال ما أعتب على ثابت بن قيس بن شماس‬
‫في دين ول خلق ‪ ،‬ولكنني أكره الكفر بعد السلم ‪ ،‬ل أطيقه بغضًا‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬تردين عليه حديقته ؟ " قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬فأمره رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يأخذ منها‬
‫حديقته ول يزداد‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان ‪ ،‬بإسناده مثله سواء ‪ ،‬وهو إسناد جيد مستقيم ورواه‬
‫أيضا أبو القاسم البغوي ‪ ،‬عن عبيد ال القواريري ‪ ،‬عن عبد العلى ‪ ،‬مثله ‪ ،‬لكن قال ابن جرير‬
‫‪:‬‬
‫حدثنا ابن حميد ‪ ،‬حدثنا يحيى بن واضح ‪ ،‬حدثنا الحسين بن واقد ‪ ،‬عن ثابت ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫رباح عن جميلة بنت أبي ابن سلول ‪ :‬أنها كانت تحت ثابت بن قيس ‪ ،‬فنشزت عليه ‪ ،‬فأرسل‬
‫إليها النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬يا جميلة ‪ ،‬ما كرهت من ثابت ؟ " قالت ‪ :‬وال ما كرهت‬
‫منه دينًا ول خلقًا ‪ ،‬إل أني كرهت دمامته! فقال لها ‪" :‬أتردين الحديقة ؟ " قالت ‪ :‬نعم‪ .‬فردت‬
‫الحديقة ‪ ،‬وفرق بينهما‪.‬‬
‫قال ابن جرير أيضا ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد العلى ‪ ،‬حدثنا المعتمر بن سليمان قال ‪ :‬قرأت على‬
‫فضيل ‪ ،‬عن أبي جرير أنه سأل عكرمة ‪ :‬هل كان للخلع أصل ؟ قال ‪ :‬كان ابن عباس يقول ‪ :‬إن‬
‫أول خلع كان في السلم في أخت عبد ال بن أبي ‪ ،‬أنها أتت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقالت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ل يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا ‪ ،‬إني رفعتُ جانب الخباء ‪ ،‬فرأيته أقبل‬
‫في عدة ‪ ،‬فإذا هو أشدهم سوادًا ‪ ،‬وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا‪ .‬قال زوجها ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫إني قد أعطيتها أفضل مالي ‪ ،‬حديقة لي ‪ ،‬فإن ردت عليّ حديقتي ؟ قال ‪" :‬ما تقولين ؟ " قالت ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬وإن شاء زدته‪ .‬قال ‪ :‬ففرق بينهما‪.‬‬

‫( ‪)1/616‬‬

‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا أبو خالد الحمر ‪ ،‬عن حجاج ‪ ،‬عن عمرو‬
‫بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده قال ‪ :‬كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس ‪،‬‬
‫وكان رجل دميمًا ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬وال لول مخافة ال إذا دخل عليّ بصقت في وجهه!‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أتردين عليه حديقته ؟ " قالت ‪ :‬نعم‪ .‬فردت عليه حديقته‪.‬‬
‫قال ففرق بينهما رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد اختلف الئمة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬في أنه ‪ :‬هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها ؟ فذهب‬
‫الجمهور إلى جواز ذلك ‪ ،‬لعموم قوله تعالى ‪ { :‬فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِهِ } وقال ابن جرير‬
‫‪ :‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن علية ‪ ،‬أخبرنا أيوب ‪ ،‬عن كثير مولى سمرة ‪ :‬أن عمر‬
‫أتي بامرأة ناشز ‪ ،‬فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ‪ ،‬ثم دعا بها فقال ‪ :‬كيف وجدت ؟ فقالت ‪ :‬ما‬
‫وجدت راحة منذ كنت عنده إل هذه الليلة التي حبستني‪ .‬فقال لزوجها ‪ :‬اخلعها ولو من قرطها‬
‫ورواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن كثير مولى سمرة ‪ ،‬فذكر مثله ‪ ،‬وزاد ‪:‬‬
‫فحبسها فيه ثلثة أيام‪.‬‬
‫قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن حميد بن عبد الرحمن ‪ :‬أن امرأة أتت عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ،‬فشكت زوجها ‪ ،‬فأباتها في بيت الزبل‪ .‬فلما أصبحت قال لها ‪ :‬كيف وجدت مكانك ؟‬
‫قالت ‪ :‬ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة‪ .‬فقال ‪ :‬خذ ولو عقاصها‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا معمر ‪ ،‬عن عبد ال بن محمد بن عقيل ‪ :‬أن الربيع بنت معوذ بن‬
‫عفراء حدثته قالت ‪ :‬كان لي زوج ُيقِلّ عليّ الخير إذا حضرني ‪ ،‬ويحرمني إذا غاب عني‪ .‬قالت‬
‫‪ :‬فكانت مني زلة يومًا ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬أختلع منك بكل شيء أملكه ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قالت ‪ :‬ففعلت‪ .‬قالت‬
‫فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ‪ ،‬فأجاز الخلع ‪ ،‬وأمره أن يأخذ عقاص رأسي‬
‫فما دونه ‪ ،‬أو قالت ‪ :‬ما دون عقاص الرأس‪.‬‬
‫ومعنى هذا ‪ :‬أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ‪ ،‬ول يترك لها سوى عقاص‬
‫شعرها‪ .‬وبه يقول ابن عمر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬وقبيصة بن‬
‫ذؤيب ‪ ،‬والحسن بن صالح ‪ ،‬وعثمان البتي‪ .‬وهذا مذهب مالك ‪ ،‬والليث ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأبي‬
‫ثور ‪ ،‬واختاره ابن جرير‪.‬‬

‫( ‪)1/617‬‬

‫وقال أصحاب أبي حنيفة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ :‬إن كان الضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما‬
‫أعطاها ‪ ،‬ول تجوز الزيادة عليه ‪ ،‬فإن ازداد جاز في القضاء ‪ :‬وإن كان الضرار من جهته لم‬
‫يجز أن يأخذ منها شيئا ‪ ،‬فإن أخذ جاز في القضاء‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ ،‬وأبو عبيد ‪ ،‬وإسحاق بن راهويه ‪ :‬ل يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها‪.‬‬
‫وهذا قول سعيد بن المسيب ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وعمرو بن شعيب ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والحسن ‪،‬‬
‫والشعبي ‪ ،‬وحماد بن أبي سليمان ‪ ،‬والربيع بن أنس‪.‬‬
‫وقال معمر ‪ ،‬والحكم ‪ :‬كان علي يقول ‪ :‬ل يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها‪ .‬وقال الوزاعي ‪:‬‬
‫القضاة ل يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في قصة‬
‫ثابت بن قيس ‪ :‬فأمره رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ول يزداد ‪ ،‬وبما‬
‫روى عبد بن حميد حيث قال ‪ :‬أخبرنا قبيصة ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن عطاء ‪ :‬أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الية‬
‫حلّ‬
‫على معنى { فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ ِبهِ } أي ‪ :‬من الذي أعطاها ؛ لتقدم قوله ‪ { :‬وَل [ َي ِ‬
‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ‬
‫خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِل أَنْ َيخَافَا أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫َلكُمْ أَنْ ] تَأْ ُ‬
‫فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْ َت َدتْ ِبهِ } أي ‪ :‬من ذلك‪ .‬وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس ‪" :‬فَل جُنَاحَ‬
‫عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِه مِنْهُ" رواه ابن جرير ؛ ولهذا قال بعده ‪ { :‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْ َتدُوهَا َومَنْ‬
‫يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }‬
‫فصل‬
‫قال الشافعي ‪ :‬اختلف أصحابنا في الخلع ‪ ،‬فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن طاوس ‪،‬‬
‫عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ‪ ،‬يتزوجها إن شاء ؛ لن ال‬
‫جعَا } قال الشافعي ‪ :‬وأخبرنا سفيان ‪ ،‬عن‬
‫تعالى يقول ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ } قرأ إلى ‪ { :‬أَنْ يَتَرَا َ‬
‫عمرو [بن دينار] عن عكرمة قال ‪ :‬كل شيء أجازه المال فليس بطلق‪.‬‬
‫وروى غير الشافعي ‪ ،‬عن سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن طاوس ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫‪ :‬أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال ‪ :‬رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ‪،‬‬
‫أيتزوجها ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬ليس الخلع بطلق ‪ ،‬ذكر ال الطلق في أول الية وآخرها ‪ ،‬والخلع فيما‬
‫حسَانٍ }‬
‫بين ذلك ‪ ،‬فليس الخلع بشيء ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ‬
‫حلّ لَهُ مِنْ َب ْعدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ }‬
‫وقرأ ‪ { :‬فَإِنْ طَّل َقهَا فَل َت ِ‬

‫( ‪)1/618‬‬

‫وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي ال عنهما ‪ -‬من أن الخلع ليس بطلق ‪ ،‬وإنما هو فسخ ‪-‬‬
‫هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪ ،‬وابن عمر‪ .‬وهو قول طاوس ‪ ،‬وعكرمة‪ .‬وبه‬
‫يقول أحمد بن حنبل ‪ ،‬وإسحاق بن راهويه ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وداود بن علي الظاهري‪ .‬وهو مذهب‬
‫الشافعي في القديم ‪ ،‬وهو ظاهر الية الكريمة‪.‬‬
‫والقول الثاني في الخلع ‪ :‬إنه طلق بائن إل أن ينوي أكثر من ذلك‪ .‬قال مالك ‪ ،‬عن هشام بن‬
‫جمْهان مولى السلميين عن أم بكر السلمية ‪ :‬أنها اختلعت من زوجها‬
‫عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ُ‬
‫عبد ال بن خالد بن أسيد ‪ ،‬فأتيا عثمان بن عفان في ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬تطليقة ؛ إل أن تكون سميت‬
‫جمْهان‪ .‬وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الثر ‪،‬‬
‫شيئًا فهو ما سميت‪ .‬قال الشافعي ‪ :‬ول أعرف ُ‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روي نحوه عن عمر ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وابن عمر‪ .‬وبه يقول سعيد بن المسيب ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وشريح ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬وجابر بن زيد‪ .‬وإليه ذهب مالك ‪ ،‬وأبو‬
‫حنيفة ‪ ،‬وأصحابه ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬والوزاعي ‪ ،‬وعثمان التبي ‪ ،‬والشافعي في الجديد‪ .‬غير أن‬
‫الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة‪ .‬وإن نوى‬
‫ثلثًا فثلث‪ .‬وللشافعي قول آخر في الخلع ‪ ،‬وهو ‪ :‬أنه متى لم يكن بلفظ الطلق ‪ ،‬وعري عن‬
‫النية فليس هو بشيء بالكلية‪.‬‬
‫مسألة ‪:‬‬
‫وذهب مالك ‪ ،‬وأبو حنيفة ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأحمد وإسحاق في رواية عنهما ‪ ،‬وهي المشهورة ؛ إلى‬
‫أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلثة قروء ‪ ،‬إن كانت ممن تحيض‪ .‬وروي ذلك عن عمر ‪،‬‬
‫وعلي ‪ ،‬وابن عمر‪ .‬وبه يقول سعيد بن المسيب ‪ ،‬وسليمان بن يسار ‪ ،‬وعروة ‪ ،‬وسالم ‪ ،‬وأبو‬
‫سلمة ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬وابن شهاب ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬وأبو‬
‫عياض ‪ ،‬وجُلس بن عمرو ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وسفيان الثوري ‪ ،‬والوزاعي ‪ ،‬والليث بن سعد ‪ ،‬وأبو‬
‫عبيد‪ .‬قال الترمذي ‪ :‬وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم‪ .‬ومأخذهم في هذا أن الخلع‬
‫طلق ‪ ،‬فتعتد كسائر المطلقات‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها‪ .‬قال ابن أبي شيبة ‪ :‬حدثنا يحيى بن‬
‫سعيد ‪ ،‬عن عبيد ال بن عمر ‪ ،‬عن نافع أن الربيع اختلعت من زوجها ‪ ،‬فأتى عمها عثمان ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬تعتد حيضة‪ .‬قال ‪ :‬وكان ابن عمر يقول ‪ :‬تعتد ثلث حيض ‪ ،‬حتى قال‬
‫هذا عثمان ‪ ،‬فكان ابن عمر يفتي به ويقول ‪ :‬عثمان خيرنا وأعلمنا‪.‬‬
‫وحدثنا عبدة ‪ ،‬عن عبيد ال ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬عدة المختلعة حيضة‪.‬‬
‫وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن طاوس ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬عدتها‬
‫حيضة‪ .‬وبه يقول عكرمة ‪ ،‬وأبان بن عثمان ‪ ،‬وكل من تقدم ذكره ممن يقول ‪ :‬إن الخلع فسخ ‪-‬‬
‫يلزمه‬

‫( ‪)1/619‬‬

‫القول بهذا ‪ ،‬واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬حيث قال كل واحد منهما ‪ :‬حدثنا‬
‫محمد بن عبد الرحيم البغدادي ‪ ،‬حدثنا علي بن بحر ‪ ،‬حدثنا هشام بن يوسف ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن‬
‫عمرو بن مسلم ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على‬
‫عهد النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمرها النبي صلى ال عليه وسلم أن تعتد بحيضة‪ .‬ثم قال‬
‫الترمذي ‪ :‬حسن غريب‪ .‬وقد رواه عبد الرزاق ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن عمرو بن مسلم ‪ ،‬عن عكرمة‬
‫مرسل‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال الترمذي ‪ :‬حدثنا محمود بن غيلن ‪ ،‬حدثنا الفضل بن موسى ‪ ،‬عن سفيان ‪،‬‬
‫حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة ‪ ،‬عن سليمان بن يسار ‪ ،‬عن الربيع بنت معوذ‬
‫بن عفراء ‪ :‬أنها اختلعت على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمرها النبي ‪ -‬أو أمرت ‪-‬‬
‫أن تعتد بحيضة‪ .‬قال الترمذي ‪ :‬الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا علي بن سلمة النيسابوري ‪ ،‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن‬
‫سعد ‪ ،‬حدثنا أبي عن ابن إسحاق ‪ ،‬أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ‪ ،‬عن الربيع‬
‫بنت معوذ بن عفراء قال ‪ :‬قلت لها ‪ :‬حدثيني حديثك‪ .‬قالت ‪ :‬اختلعت من زوجي ‪ ،‬ثم جئت‬
‫عثمان ‪ ،‬فسألت ‪ :‬ماذا علي من العدة ؟ قال ‪ :‬ل عدة عليك ‪ ،‬إل أن يكون حديث عهد بك فتمكثين‬
‫عنده حتى تحيضي حيضة‪ .‬قالت ‪ :‬وإنما تبع في ذلك قضاء رسول ال صلى ال عليه وسلم في‬
‫مريم المغالية ‪ ،‬وكانت تحت ثابت بن قيس ‪ ،‬فاختلعت منه‪.‬‬
‫وقد روى ابن لهيعة ‪ ،‬عن أبي السود ‪ ،‬عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ‪ ،‬عن‬
‫الربيع بنت معوذ قالت ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين‬
‫اختلعت منه أن تعتد بحيضة‪.‬‬
‫مسألة ‪:‬‬
‫وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الئمة الربعة وجمهور العلماء ؛‬
‫لنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء‪ .‬وروي عن عبد ال بن أبي أوفى ‪ ،‬وماهان‬
‫الحنفي ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬والزهري أنهم قالوا ‪ :‬إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في‬
‫العدة بغير رضاها ‪ ،‬وهو اختيار أبي ثور ‪ ،‬رحمه ال‪ .‬وقال سفيان الثوري ‪ :‬إن كان الخلع بغير‬
‫لفظ الطلق فهو فرقة ول سبيل له عليها‪ .‬وإن كان سمى طلقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في‬
‫العدة‪ .‬وبه يقول داود بن علي الظاهري ‪ :‬واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة‪.‬‬
‫وحكى الشيخ أبو عمر‬

‫( ‪)1/620‬‬

‫بن عبد البر ‪ ،‬عن فرقة أنه ل يجوز له ذلك ‪ ،‬كما ل يجوز لغيره ‪ ،‬وهو قول شاذ مردود‪.‬‬
‫مسألة ‪:‬‬
‫وهل له أن يوقع عليها طلقا آخر في العدة ؟ فيه ثلثة أقوال للعلماء ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ليس له ذلك ؛ لنها قد ملكت نفسها وبانت منه‪ .‬وبه يقول ابن عباس ‪ ،‬وابن الزبير ‪،‬‬
‫وعكرمة ‪ ،‬وجابر بن زيد ‪ ،‬والحسن البصري ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأحمد بن حنبل ‪ ،‬وإسحاق بن‬
‫راهويه ‪ ،‬وأبو ثور‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬قال مالك ‪ :‬إن أتبع الخلع طلقا من غير سكوت بينهما وقع ‪ ،‬وإن سكت بينهما لم يقع‪.‬‬
‫قال ابن عبد البر ‪ :‬وهذا يشبه ما روي عن عثمان ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أنه يقع عليها الطلق بكل حال ما دامت في العدة ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ‪،‬‬
‫والثوري ‪ ،‬والوزاعي‪ .‬وبه يقول سعيد بن المسيب ‪ ،‬وشريح ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬والزهري ‪،‬‬
‫والحكم وحماد بن أبي سليمان‪ .‬وروي ذلك عن ابن مسعود ‪ ،‬وأبي الدرداء قال ابن عبد البر ‪:‬‬
‫وليس ذلك بثابت عنهما‪.‬‬
‫حدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } أي ‪ :‬هذه‬
‫وقوله ‪ { :‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ ُ‬
‫الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده ‪ ،‬فل تتجاوزوها‪ .‬كما ثبت في الحديث الصحيح ‪" :‬إن ال حد‬
‫حدودًا فل تعتدوها ‪ ،‬وفرض فرائض فل تضيعوها ‪ ،‬وحرم محارم فل تنتهكوها ‪ ،‬وسكت عن‬
‫أشياء رحمة لكم من غير نسيان ‪ ،‬فل تسألوا عنها"‪.‬‬
‫وقد يستدل بهذه الية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلث بكلمة واحدة حرام ‪ ،‬كما هو مذهب‬
‫المالكية ومن وافقهم ‪ ،‬وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة ‪ ،‬لقوله ‪ { :‬الطّلقُ مَرّتَانِ } ثم‬
‫قال ‪ { :‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } و ُيقَوّون ذلك‬
‫بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال ‪ :‬حدثنا سليمان بن داود ‪ ،‬أخبرنا‬
‫ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ‪ ،‬عن محمود بن لبيد قال ‪ :‬أخبر رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلث تطليقات جميعًا فقام غضبان ‪ ،‬ثم قال ‪" :‬أيلعب بكتاب ال‬
‫وأنا بين أظهركم ؟! " حتى قام رجل فقال يا رسول ال ‪ ،‬أل أقتله ؟ فيه انقطاع‪.‬‬
‫حلّ َلهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ } أي ‪ :‬أنه إذا طلق الرجل‬
‫طّلقَهَا فَل َت ِ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬فَإِنْ َ‬
‫امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلق مرتين ‪ ،‬فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬حتى يطأها‬

‫( ‪)1/621‬‬

‫زوج آخر في نكاح صحيح ‪ ،‬فلو وطئها واطئ في غير نكاح ‪ ،‬ولو في ملك اليمين لم تحل للول‬
‫؛ لنه ليس بزوج ‪ ،‬وهكذا لو تزوجت ‪ ،‬ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للول ‪ ،‬واشتهر بين‬
‫كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬أنه يقول ‪ :‬يحصل المقصود من تحليلها‬
‫للول بمجرد العقد على الثاني‪ .‬وفي صحته عنه نظر ‪ ،‬على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد‬
‫حكاه عنه في الستذكار ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫وقد قال أبو جعفر بن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬عن شعبة ‪،‬‬
‫عن علقمة بن مرثد ‪ ،‬عن سالم بن رزين ‪ ،‬عن سالم بن عبد ال عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ‪،‬‬
‫فيتزوجها زوج آخر فيطلقها ‪ ،‬قبل أن يدخل بها ‪ :‬أترجع إلى الول ؟ قال ‪" :‬ل حتى تذوق‬
‫عسيلته ويذوق عسيلتها"‪.‬‬
‫هكذا وقع في رواية ابن جرير ‪ ،‬وقد رواه المام أحمد فقال ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن علقمة بن مرثد ‪ ،‬سمعت سالم بن رزين يحدث عن‬
‫سالم بن عبد ال ‪ ،‬يعني ‪ :‬ابن عمر ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ‪ ،‬ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها ‪،‬‬
‫فترجع إلى زوجها الول ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬حتى يذوق العسيلة"‪.‬‬
‫وهكذا رواه النسائي ‪ ،‬عن عمرو بن علي الفلس ‪ ،‬وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار كلهما‬
‫عن محمد بن جعفر غندر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬به كذلك‪ .‬فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر‬
‫مرفوعًا ‪ ،‬على خلف ما يحكى عنه ‪ ،‬فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روى أحمد أيضا ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري ‪ ،‬عن علقمة‬
‫بن مرثد ‪ ،‬عن رزين بن سليمان الحمري ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬سئل النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫عن الرجل يطلق امرأته ثلثا فيتزوجها آخر ‪ ،‬فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها ‪ ،‬قبل أن‬
‫يدخل بها ‪ :‬هل تحل للول ؟ قال ‪" :‬ل حتى يذوق العسيلة"‪.‬‬
‫وهذا لفظ أحمد ‪ ،‬وفي رواية لحمد ‪ :‬سليمان بن رزين‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا محمد بن دينار ‪ ،‬حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي‬
‫‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها‬
‫ثلثا فتزوجت بعده رجل فطلقها قبل أن يدخل بها ‪ :‬أتحل لزوجها الول ؟ فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬ل حتى يكون الخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته"‪.‬‬

‫( ‪)1/622‬‬

‫ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم النماطي ‪ ،‬عن هشام بن عبد الملك ‪ ،‬حدثنا محمد بن‬
‫دينار ‪ ،‬فذكره‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الزدي ثم الطاحي البصري ‪ ،‬ويقال له ‪ :‬ابن أبي‬
‫الفرات ‪ :‬اختلفوا فيه ‪ ،‬فمنهم من ضعفه ‪ ،‬ومنهم من قواه وقبله وحسن له‪ .‬وقال أبو داود ‪ :‬أنه‬
‫تغير قبل موته ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلني ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا‬
‫شيبان ‪ ،‬حدثنا يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلثا فتتزوج زوجا غيره ‪ ،‬فيطلقها قبل أن‬
‫يدخل بها ‪ ،‬فيريد الول أن يراجعها ‪ ،‬قال ‪" :‬ل حتى يذوق الخر عسيلتها"‪.‬‬
‫ثم رواه من وجه آخر عن شيبان ‪ ،‬وهو ابن عبد الرحمن ‪ ،‬به‪ .‬وأبو الحارث غير معروف‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن جرير ‪:‬‬
‫حدثنا ابن مثنى ‪ ،‬حدثنا يحيى ‪ ،‬عن عبيد ال ‪ ،‬حدثنا القاسم ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن رجل طلق امرأته‬
‫ثلثا ‪ ،‬فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها ‪ ،‬فسئل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أتحل للول‬
‫؟ فقال ‪" :‬ل حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الول"‪.‬‬
‫أخرجه البخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬من طرق ‪ ،‬عن عبيد ال بن عمر العمري ‪ ،‬عن القاسم‬
‫بن عبد الرحمن بن أبي بكر ‪ ،‬عن عمته عائشة ‪ ،‬به‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال ابن جرير ‪:‬‬
‫حدثنا عبيد ال بن إسماعيل الهباري ‪ ،‬وسفيان بن وكيع ‪ ،‬وأبو هشام الرفاعي قالوا ‪ :‬حدثنا أبو‬
‫معاوية ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن السود ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬سئل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ‪ ،‬فتزوجت رجل غيره ‪ ،‬فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها ‪:‬‬
‫أتحل لزوجها الول ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تحل لزوجها الول حتى يذوق‬
‫الخر عسيلتها وتذوق عسيلته"‪.‬‬
‫وكذا رواه أبو داود عن مسدد ‪ ،‬والنسائي عن أبي كريب ‪ ،‬كلهما عن أبي معاوية ‪ ،‬وهو محمد‬
‫بن حازم الضرير ‪ ،‬به‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال مسلم في صحيحه ‪:‬‬

‫( ‪)1/623‬‬

‫حدثنا محمد بن العلء الهمداني ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ‪ ،‬فتتزوج رجل فيطلقها‬
‫قبل أن يدخل بها ‪ :‬أتحل لزوجها الول ؟ قال ‪" :‬ل حتى يذوق عسيلتها"‪.‬‬
‫قال مسلم ‪ :‬وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا ابن فضيل ‪ :‬وحدثنا أبو كريب ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫معاوية جميعا ‪ ،‬عن هشام بهذا السناد‪.‬‬
‫وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم ‪ ،‬عن هشام به‪ .‬وتفرد به مسلم من‬
‫الوجهين الخرين‪ .‬وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد ال بن المبارك ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله‪ .‬وهذا إسناد جيد‪ .‬وكذا رواه ابن جرير أيضا ‪ ،‬من‬
‫طريق علي بن زيد بن جدعان ‪ ،‬عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري ‪ :‬حدثنا عمرو بن علي ‪،‬‬
‫حدثنا يحيى ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وحدثنا‬
‫عثمان بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا عبدة ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن رفاعة‬
‫القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ‪ ،‬فتزوجت آخر فأتت النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكرت له أنه ل‬
‫يأتيها ‪ ،‬وأنه ليس معه إل مثل هدبة الثوب فقال ‪" :‬ل حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "‪.‬‬
‫تفرد به من هذين الوجهين‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد العلى ‪ ،‬عن معمر ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن عروة ‪،‬‬
‫عن عائشة قالت ‪ :‬دخلت امرأة رفاعة القرظي ‪ -‬وأنا وأبو بكر عند النبي صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫فقالت ‪ :‬إن رفاعة طلقني البتة ‪ ،‬وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ‪ ،‬وإنما عنده مثل الهدبة ‪،‬‬
‫وأخذت هدبة من جلبابها ‪ ،‬وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا بكر ‪ ،‬أل‬
‫تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم! فما زاد رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم على التبسم ‪ ،‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬كأنك تريدين أن ترجعي إلى‬
‫رفاعة ‪ ،‬ل حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"‪.‬‬
‫وهكذا رواه البخاري من حديث عبد ال بن المبارك ‪ ،‬ومسلم من حديث عبد الرزاق ‪ ،‬والنسائي‬
‫من حديث يزيد بن زريع ‪ ،‬ثلثتهم عن معمر به‪ .‬وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم ‪ :‬أن‬

‫( ‪)1/624‬‬

‫رفاعة طلقها آخر ثلث تطليقات‪ .‬وقد رواه الجماعة إل أبا داود من طريق سفيان بن عيينة ‪،‬‬
‫والبخاري من طريق عقيل ‪ ،‬ومسلم من طريق يونس بن يزيد [وعنده ثلث تطليقات ‪ ،‬والنسائي‬
‫من طريق أيوب بن موسى ‪ ،‬ورواه صالح بن أبي الخضر] كلهم عن الزهري ‪ ،‬عن عروة ‪،‬‬
‫عن عائشة ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير ‪ :‬أن رفاعة بن‬
‫سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثا ‪ ،‬فنكحت عبد‬
‫الرحمن بن الزبير ‪ ،‬فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ‪ ،‬ففارقها ‪ ،‬فأراد رفاعة أن ينكحها ‪،‬‬
‫وهو زوجها الول الذي كان طلقها ‪ ،‬فذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فنهاه عن‬
‫تزويجها ‪ ،‬وقال ‪" :‬ل تحل لك حتى تذوق العسيلة" كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه‬
‫ط ْهمَان ‪ ،‬وعبد ال بن وهب ‪ ،‬عن مالك ‪ ،‬عن رفاعة ‪ ،‬عن الزبير‬
‫انقطاع‪ .‬وقد رواه إبراهيم بن َ‬
‫بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬فوصله‪.‬‬
‫فصل‬
‫والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ‪ ،‬قاصدا لدوام عشرتها ‪ ،‬كما هو المشروع‬
‫من التزويج ‪ ،‬واشترط المام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحًا ‪ ،‬فلو وطئها وهي محرمة‬
‫أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف ‪ ،‬لم تحل للول‬
‫بهذا الوطء‪ .‬وكذا لو كان الزوج الثاني ذميًا لم تحل للمسلم بنكاحه ؛ لن أنكحة الكفار باطلة عنده‪.‬‬
‫واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ‪،‬‬
‫وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه السلم ‪" :‬حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ‪ ،‬ويلزم على‬
‫هذا أن تنزل المرأة أيضا‪ .‬وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه المام أحمد والنسائي ‪ ،‬عن‬
‫عائشة رضي ال عنها ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أل إن العسيلة الجماع" فأما إذا‬
‫كان الثاني إنما قصده أن يحلها للول ‪ ،‬فهذا هو المحلل الذي وردت الحاديث بذمه ولعنه ‪،‬‬
‫ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الئمة‪.‬‬
‫ذكر الحاديث الواردة في ذلك‬
‫الحديث الول ‪ :‬عن ابن مسعود‪ .‬قال المام أحمد ‪:‬‬
‫( ‪)1/625‬‬

‫حدثنا الفضل بن ُدكَيْن ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن أبي قيس ‪ ،‬عن الهذيل ‪ ،‬عن عبد ال قال ‪ :‬لعن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ‪ ،‬والمحلل والمحلل‬
‫له ‪ ،‬وآكل الربا وموكله‪.‬‬
‫ثم رواه أحمد ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي من غير وجه ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬وهو الثوري ‪ ،‬عن أبي قيس‬
‫واسمه عبد الرحمن بن ثروان الودي ‪ ،‬عن هزيل بن شرحبيل الودي ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم به‪ .‬ثم قال الترمذي ‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ .‬قال ‪ :‬والعمل على‬
‫هذا عند أهل العلم من الصحابة ‪ ،‬منهم ‪ :‬عمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وابن عمر‪ .‬وهو قول الفقهاء من‬
‫التابعين ‪ ،‬ويروى ذلك عن علي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وابن عباس‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬عن ابن مسعود‪ .‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا زكريا بن عدي ‪ ،‬حدثنا عبيد ال ‪ ،‬عن‬
‫عبد الكريم ‪ ،‬عن أبي الواصل ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬لعن‬
‫ال المحلل والمحلل له"‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬روى المام أحمد ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬من حديث العمش ‪ ،‬عن عبد ال بن مرة ‪ ،‬عن‬
‫الحارث العور ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬آكل الربا وموكله ‪ ،‬وشاهداه وكاتبه إذا علموا‬
‫به ‪ ،‬والواصلة ‪ ،‬والمستوصلة ‪ ،‬ولوي الصدقة ‪ ،‬والمتعدي فيها ‪ ،‬والمرتد على عقبيه إعراضا‬
‫بعد هجرته ‪ ،‬والمحلل والمحلل له ‪ ،‬ملعونون على لسان محمد صلى ال عليه وسلم يوم القيامة‪.‬‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬عن علي رضي ال عنه‪ .‬قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬عن جابر [وهو ابن يزيد الجعفي] عن الشعبي ‪ ،‬عن الحارث‬
‫‪ ،‬عن علي قال ‪ :‬لعن رسول ال صلى ال عليه وسلم آكل الربا وموكله ‪ ،‬وشاهديه وكاتبه ‪،‬‬
‫والواشمة والمستوشمة للحُسْن ‪ ،‬ومانع الصدقة ‪ ،‬والمحلل ‪ ،‬والمحلل له ‪ ،‬وكان ينهى عن النوح‪.‬‬
‫وكذا رواه عن غندر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن جابر ‪ ،‬وهو ابن يزيد الجعفي ‪ ،‬عن الشعبي عن‬
‫الحارث ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد ‪ ،‬وحصين بن عبد الرحمن ‪ ،‬ومجالد بن سعيد ‪ ،‬وابن‬
‫عون ‪ ،‬عن عامر الشعبي ‪ ،‬به‪.‬‬

‫( ‪)1/626‬‬

‫وقد رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬وابن ماجة من حديث الشعبي ‪ ،‬به‪ .‬ثم قال أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن عبد ال ‪ ،‬حدثنا إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن الحارث ‪ ،‬عن علي قال ‪ :‬لعن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم صاحب الربا ‪ ،‬وآكله ‪ ،‬وكاتبه ‪ ،‬وشاهده ‪ ،‬والمحلل ‪ ،‬والمحلل‬
‫له‪.‬‬
‫الحديث الثالث ‪ :‬عن جابر ‪ :‬قال الترمذي ‪:‬‬
‫حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي ‪ ،‬حدثنا مجالد ‪ ،‬عن‬
‫الشعبي ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال وعن الحارث ‪ ،‬عن علي ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫لعن المحلل والمحلل له ثم قال ‪ :‬وليس إسناده بالقائم ‪ ،‬ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم ‪،‬‬
‫منهم أحمد بن حنبل‪ .‬قال ‪ :‬ورواه ابن نمير ‪ ،‬عن مجالد ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال ‪،‬‬
‫عن علي‪ .‬قال ‪ :‬وهذا وهم من ابن نمير ‪ ،‬والحديث الول أصح‪.‬‬
‫الحديث الرابع ‪ :‬عن عقبة بن عامر ‪ :‬قال أبو عبد ال محمد بن يزيد بن ماجة ‪:‬‬
‫حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ‪ ،‬حدثنا أبي ‪ ،‬سمعت الليث بن سعد يقول ‪ :‬قال أبو‬
‫مصعب مشرح هو ‪ :‬ابن عاهان ‪ ،‬قال عقبة بن عامر ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أل‬
‫أخبركم بالتيس المستعار ؟ " قالوا ‪ :‬بلى يا رسول ال‪ .‬قال ‪" :‬هو المحلّل ‪ ،‬لعن ال المحلل‬
‫والمحلل له"‪.‬‬
‫تفرد به ابن ماجة‪ .‬وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ‪ ،‬عن عثمان بن صالح ‪ ،‬عن‬
‫الليث ‪ ،‬به ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬عثمان هذا أحد الثقات ‪ ،‬روى عنه البخاري في صحيحه‪ .‬ثم قد تابعه غيره ‪ ،‬فرواه جعفر‬
‫الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد ال بن صالح ‪ ،‬عن الليث به ‪،‬‬
‫فبرئ من عهدته وال أعلم‪.‬‬
‫الحديث الخامس ‪ :‬عن ابن عباس‪ .‬قال ابن ماجة ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا أبو عامر ‪ ،‬عن زمعة بن صالح ‪ ،‬عن سلمة بن وهرام ‪ ،‬عن‬
‫عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬لعن رسول ال صلى ال عليه وسلم المحلل والمحلل له‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال المام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني‬
‫السعدي ‪ :‬حدثنا ابن أبي مريم ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ‪،‬‬
‫عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن نكاح المحلل قال ‪:‬‬
‫"ل إل نكاح‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫رغبة ‪ ،‬ل نكاح ُدلْسَة ول استهزاء بكتاب ال ‪ ،‬ثم يذوق عسيلتها"‪.‬‬


‫ويتقوى هذان السنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬عن حميد بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن موسى‬
‫بن أبي الفرات ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوى كل‬
‫من هذا المرسل والذي قبله بالخر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫الحديث السادس ‪ :‬عن أبي هريرة‪ .‬قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا أبو عامر ‪ ،‬حدثنا عبد ال ‪ ،‬هو ابن جعفر ‪ ،‬عن عثمان بن محمد ‪ ،‬المقبري ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ :‬لعن رسول ال صلى ال عليه وسلم المحلل والمحلل له‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬والجوزجاني ‪ ،‬والبيهقي ‪ ،‬من طريق عبد ال بن جعفر‬
‫القرشي‪ .‬وقد وثقه أحمد بن حنبل ‪ ،‬وعلي بن المديني ‪ ،‬ويحيى بن معين وغيرهم‪ .‬وأخرج له‬
‫مسلم في صحيحه ‪ ،‬عن عثمان بن محمد الخنسي ‪ -‬وثقه ابن معين ‪ -‬عن سعيد المقبري ‪ ،‬وهو‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫الحديث السابع ‪ :‬عن ابن عمر‪ .‬قال الحاكم في مستدركه ‪:‬‬
‫حدثنا أبو العباس الصم ‪ ،‬حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا سعيد بن أبي مريم ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫غسان محمد بن مطرف المدني ‪ ،‬عن عمر بن نافع ‪ ،‬عن أبيه أنه قال ‪ :‬جاء رجل إلى ابن‬
‫عمر ‪ ،‬فسأله عن رجل طلق امرأته ثلثا ‪ ،‬فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ‪ ،‬ليحلها لخيه ‪:‬‬
‫هل تحل للول ؟ فقال ‪ :‬ل إل نكاح رغبة ‪ ،‬كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬ثم قال ‪ :‬هذا حديث صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬
‫وقد رواه الثوري ‪ ،‬عن عبد ال بن نافع ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬به‪ .‬وهذه الصيغة مشعرة‬
‫بالرفع‪ .‬وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬والجوزجاني ‪ ،‬وحرب الكرماني ‪ ،‬وأبو بكر الثرم ‪،‬‬
‫من حديث العمش ‪ ،‬عن المسيب بن رافع ‪ ،‬عن قبيصة بن جابر ‪ ،‬عن عمر أنه قال ‪ :‬ل أوتى‬
‫بمحلل ول محلل له إل رجمتهما‪.‬‬
‫وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة ‪ ،‬عن بكير بن الشج ‪ ،‬عن سليمان بن يسار ‪ :‬أن عثمان بن‬
‫عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ‪ ،‬ففرق بينهما‪ .‬وكذا روي عن علي ‪ ،‬وابن‬
‫عباس ‪،‬‬

‫( ‪)1/628‬‬

‫وغير واحد من الصحابة ‪ ،‬رضي ال عنهم‪.‬‬


‫جعَا } أي ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ طَّل َقهَا } أي ‪ :‬الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ‬
‫حدُودَ اللّهِ } أي ‪ :‬يتعاشرا بالمعروف [وقال مجاهد ‪ :‬إن‬
‫المرأة والزوج الول { إِنْ ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا ُ‬
‫حدُودُ اللّهِ } أي ‪ :‬شرائعه وأحكامه { يُبَيّ ُنهَا } أي ‪:‬‬
‫ظنا أن نكاحهما على غير دلسة] { وَتِ ْلكَ ُ‬
‫يوضحها { ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ }‬
‫وقد اختلف الئمة ‪ ،‬رحمهم ال ‪ ،‬فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين ‪ ،‬وتركها حتى‬
‫انقضت عدتها ‪ ،‬ثم تزوجت بآخر فدخل بها ‪ ،‬ثم طلقها فانقضت عدتها ‪ ،‬ثم تزوجها الول ‪ :‬هل‬
‫تعود إليه بما بقي من الثلث ‪ ،‬كما هو مذهب مالك ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأحمد بن حنبل ‪ ،‬وهو قول‬
‫طائفة من الصحابة ‪ ،‬رضي ال عنهم ؟ أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلق ‪ ،‬فإذا‬
‫عادت إلى الول تعود بمجموع الثلث ‪ ،‬كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم ال ؟‬
‫وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلث فلن يهدم ما دونها بطريق الولى والحرى ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/629‬‬

‫سكُوهُنّ ضِرَارًا‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ وَلَا ُت ْم ِ‬
‫وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فََأ ْم ِ‬
‫خذُوا آَيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم َومَا أَنْ َزلَ‬
‫س ُه وَلَا تَتّ ِ‬
‫لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪)231‬‬
‫ظكُمْ ِب ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫ح ْكمَةِ َيعِ ُ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬

‫سكُوهُنّ‬
‫ف وَل ُت ْم ِ‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُو ٍ‬
‫{ وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫ضِرَارًا لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْسَ ُه وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‬
‫ظ ُكمْ بِ ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫ح ْكمَةِ َيعِ ُ‬
‫َومَا أَنزلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَالْ ِ‬
‫‪} )231‬‬
‫هذا أمر من ال عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلقا له عليها فيه رجعة ‪ ،‬أن يحسن في‬
‫أمرها إذا انقضت عدتها ‪ ،‬ولم يبق منها إل مقدار ما يمكنه فيه رجعتها ‪ ،‬فإما أن يمسكها ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف ‪ ،‬وهو أن يشهد على رجعتها ‪ ،‬وينوي عشرتها بالمعروف ‪،‬‬
‫أو يسرحها ‪ ،‬أي ‪ :‬يتركها حتى تنقضي عدتها ‪ ،‬ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن ‪ ،‬من غير‬
‫ن ضِرَارًا لِ َتعْتَدُوا } قال ابن‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫شقاق ول مخاصمة ول تقابح ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬وَل ُتمْ ِ‬
‫عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬ومسروق ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬ومقاتل بن حيان وغير‬
‫واحد ‪ :‬كان الرجل يطلق المرأة ‪ ،‬فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا ‪ ،‬لئل تذهب إلى‬
‫غيره ‪ ،‬ثم يطلقها فتعتد ‪ ،‬فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ‪ ،‬فنهاهم ال عن‬
‫ذلك ‪ ،‬وتوعدهم عليه فقال ‪َ { :‬ومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظََلمَ َنفْسَهُ } أي ‪ :‬بمخالفته أمر ال تعالى‪.‬‬
‫خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } قال ابن جرير ‪ :‬عند هذه الية ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تَتّ ِ‬
‫أخبرنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬أخبرنا إسحاق بن منصور ‪ ،‬عن عبد السلم بن حرب ‪ ،‬عن يزيد بن عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬عن أبي العلء الودي ‪ ،‬عن حميد بن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبي موسى ‪ :‬أن رسول ال‬

‫( ‪)1/629‬‬
‫صلى ال عليه وسلم غضب على الشعريين ‪ ،‬فأتاه أبو موسى فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أغضبت‬
‫على الشعريين ؟! فقال ‪ :‬يقول أحدكم ‪ :‬قد طلقت ‪ ،‬قد راجعت ‪ ،‬ليس هذا طلق المسلمين ‪،‬‬
‫طلقوا المرأة في قُبُل عدتها" (‪.)1‬‬
‫ثم رواه من وجه آخر (‪ )2‬عن أبي خالد الدالني ‪ ،‬وهو يزيد بن عبد الرحمن ‪ ،‬وفيه كلم‪.‬‬
‫وقال مسروق ‪ :‬هو (‪ )3‬الذي يطلق في غير كنهه ‪ ،‬ويضار امرأته بطلقها وارتجاعها ‪ ،‬لتطول‬
‫عليها العدة‪.‬‬
‫وقال الحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والربيع ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ :‬هو الرجل يطلق ويقول‬
‫‪ :‬كنت لعبًا أو يعتق أو ينكح ويقول ‪ :‬كنت لعبًا‪ .‬فأنزل ال ‪ { :‬وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا }‬
‫فألزم ال بذلك‪.‬‬
‫وقال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا إبراهيم بن محمد ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد الصيرفي ‪ ،‬حدثني جعفر بن محمد‬
‫السمسار ‪ ،‬عن إسماعيل بن يحيى ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪:‬‬
‫خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا }‬
‫طلق رجل امرأته وهو يلعب ‪ ،‬ل يريد الطلق ؛ فأنزل ال ‪ { :‬وَل تَتّ ِ‬
‫فألزمه رسول ال صلى ال عليه وسلم الطلق‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا عصام بن زوّاد ‪ ،‬حدثنا آدم ‪ ،‬حدثنا المبارك بن فضالة ‪ ،‬عن الحسن ‪،‬‬
‫هو البصري ‪ ،‬قال ‪ :‬كان الرجل يطلق ويقول ‪ :‬كنت لعبًا أو يعتق (‪ )4‬ويقول ‪ :‬كنت لعبًا‬
‫وينكح ويقول ‪ :‬كنت لعبًا فأنزل ال ‪ { :‬وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } وقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح ‪ ،‬جادًا أو لعبًا ‪ ،‬فقد جاز عليه"‪.‬‬
‫وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري ‪ ،‬عن سليمان بن أرقم ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬مثله‪ .‬وهذا مرسل‬
‫(‪ .)5‬وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن أبي الدرداء ‪ ،‬موقوفًا‬
‫عليه‪ .‬وقال أيضًا ‪:‬‬
‫حدثنا أحمد بن الحسن (‪ )6‬بن أيوب ‪ ،‬حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب ‪ ،‬حدثنا يحيى بن عبد‬
‫الحميد ‪ ،‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬عن إسماعيل بن سلمة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن عبادة بن الصامت ‪ ،‬في‬
‫خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } قال ‪ :‬كان الرجل على عهد النبي صلى ال عليه‬
‫قول ال تعالى ‪ { :‬وَل تَتّ ِ‬
‫وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول ‪ :‬كنت لعبًا‪ .‬ويقول ‪ :‬قد أعتقت ‪ ،‬ويقول ‪ :‬كنت لعبًا‬
‫خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ثلث من‬
‫فأنزل ال ‪ { :‬وَل تَتّ ِ‬
‫قالهن لعبًا أو غير لعب ‪ ،‬فهن جائزات عليه ‪ :‬الطلق ‪ ،‬والعتاق ‪ ،‬والنكاح" (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)5/14‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ثم رواه ابن ماجة من وجه آخر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وهو"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ويعتق"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪ )5/13‬ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )5/106‬من طريق آخر ‪ ،‬فرواه‬
‫عن عيسى بن يونس ‪ ،‬عن عمرو ‪ ،‬عن الحسن به‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بن الحسين"‪.‬‬
‫(‪ )7‬ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (‪" )501‬زوائده" من طريق آخر ‪ ،‬فرواه من‬
‫طريق ابن لهيعة ‪ ،‬عن عبيد ال بن أبي جعفر ‪ ،‬عن عبادة بن الصامت به مرفوعا‪.‬‬

‫( ‪)1/630‬‬

‫ضوْا بَيْ َنهُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ‬


‫جهُنّ إِذَا تَرَا َ‬
‫وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَا َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫طهَ ُر وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ لَا‬
‫ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُمْ وَأَ ْ‬
‫َتعَْلمُونَ (‪)232‬‬

‫والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬وابن ماجة من طريق عبد الرحمن‬
‫بن حبيب بن أردك ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن ماهك ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ثلث جدهن جد ‪ ،‬وهزلهن جد ‪ :‬النكاح ‪ ،‬والطلق ‪ ،‬والرجعة" (‪ .)1‬وقال الترمذي‬
‫‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } أي ‪ :‬في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم { َومَا أَنزلَ‬
‫ظكُمْ بِهِ } أي ‪ :‬يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على‬
‫ح ْكمَةِ } أي ‪ :‬السنة { َيعِ ُ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫ارتكاب المحارم { وَا ّتقُوا اللّهَ } أي ‪ :‬فيما تأتون وفيما تذرون { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫أي ‪ :‬فل يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية ‪ ،‬وسيجازيكم على ذلك‪.‬‬
‫ضوْا بَيْ َن ُهمْ بِا ْل َمعْرُوفِ‬
‫جهُنّ إِذَا تَرَا َ‬
‫{ وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فَل َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫طهَ ُر وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ ل‬
‫ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ َذِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُ ْم وَأَ ْ‬
‫َتعَْلمُونَ (‪} )232‬‬
‫قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬نزلت هذه الية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو‬
‫طلقتين ‪ ،‬فتنقضي عدتها ‪ ،‬ثم يبدو له أن يتزوجها (‪ )2‬وأن يراجعها ‪ ،‬وتريد المرأة ذلك ‪ ،‬فيمنعها‬
‫أولياؤها من ذلك ‪ ،‬فنهى ال أن يمنعوها‪ .‬وكذا (‪ )3‬روى العوفي ‪ ،‬عنه ‪ ،‬وكذا قال مسروق ‪،‬‬
‫وإبراهيم النخعي ‪ ،‬والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك‪ .‬وهذا الذي قالوه ظاهر من الية ‪،‬‬
‫وفيها دللة على أن المرأة ل تملك أن تزوج نفسها ‪ ،‬وأنه ل بد في تزويجها (‪ )4‬من ولي ‪ ،‬كما‬
‫قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الية ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪ :‬ل تزوج المرأةُ المرأ َة ‪ ،‬ول‬
‫تزوج المرأة نفسها ‪ ،‬فإن الزانية هي التي تزوج نفسها (‪ .)5‬وفي الثر الخر ‪ :‬ل نكاح إل بولي‬
‫مرشد ‪ ،‬وشاهدي عدل‪ .‬وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ‪،‬‬
‫وقد قررنا ذلك في كتاب "الحكام" ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫وقد روي أن هذه الية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ‪ ،‬فقال البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في‬
‫كتابه الصحيح عند تفسير هذه الية ‪:‬‬
‫حدثنا عبيد ال بن سعيد ‪ ،‬حدثنا أبو عامر العقدي ‪ ،‬حدثنا عباد بن راشد ‪ ،‬حدثنا الحسن قال ‪:‬‬
‫حدثني معقل بن يسار قال ‪ :‬كانت لي أخت تخطب إلي ‪ -‬قال البخاري ‪ :‬وقال إبراهيم ‪ ،‬عن‬
‫يونس ‪ ،‬عن الحسن ‪ :‬حدثني معقل بن يسار‪ .‬وحدثنا أبو َم ْعمَر ‪ ،‬حدثنا عبد الوارث ‪ ،‬حدثنا يونس‬
‫‪ ،‬عن الحسن ‪ :‬أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ‪ ،‬فتركها حتى انقضت عدتها ‪ ،‬فخطبها ‪،‬‬
‫فأبى معقل ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود برقم (‪ )2194‬وسنن الترمذي برقم (‪ )1184‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2039‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ثم يبدو له تزويجها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وكذلك"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬في النكاح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )1882‬من طريق محمد بن مروان عن هشام بن حسان ‪،‬‬
‫عن محمد بن سيرين ‪ ،‬عن أبي هريرة مرفوعا به ‪ ،‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/84‬هذا‬
‫إسناد مختلف فيه"‪.‬‬

‫( ‪)1/631‬‬

‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُنّ‬
‫ضعْنَ َأوْلَادَهُنّ َ‬
‫وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫س َعهَا لَا ُتضَارّ وَاِل َدةٌ ِبوَلَدِهَا وَلَا َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِد ِه وَعَلَى‬
‫سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ لَا ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِلّا وُ ْ‬
‫َوكِ ْ‬
‫ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ‬
‫ضعُوا َأوْلَا َدكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا‬
‫تَسْتَ ْر ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪)233‬‬

‫جهُنّ } (‪.)1‬‬
‫فنزلت ‪ { :‬فَل َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْن ِكحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫وهكذا رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬وابن ماجة ‪ ،‬وابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن جرير ‪ ،‬وابن مردويه من‬
‫طرق متعددة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن معقل بن يسار ‪ ،‬به (‪ .)2‬وصححه الترمذي أيضًا ‪ ،‬ولفظه عن‬
‫معقل ابن يسار ‪ :‬أنه زوج أخته رجل من المسلمين ‪ ،‬على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فكانت عنده ما كانت ‪ ،‬ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ‪ ،‬فهويها وهويته ‪ ،‬ثم‬
‫خطبها مع الخطاب ‪ ،‬فقال له ‪ :‬يا لكع (‪ )3‬أكرمتك بها وزوجتكها ‪ ،‬فطلقتها! وال ل ترجع إليك‬
‫أبدًا ‪ ،‬آخر ما عليك قال ‪ :‬فعلم ال حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ‪ ،‬فأنزل ال ‪ { :‬وَإِذَا طَّلقْتُمُ‬
‫سمْعٌ لربي وطاعة‬
‫النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ } إلى قوله ‪ { :‬وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ } فلما سمعها معقل قال ‪َ :‬‬
‫ثم دعاه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أزوجك وأكرمك ‪ ،‬زاد ابن مردويه ‪ :‬وكفرت عن يميني‪.‬‬
‫وروى ابن جرير (‪ )4‬عن ابن جريج قال ‪ :‬هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ‪ ،‬وقال‬
‫سفيان الثوري ‪ ،‬عن أبي إسحاق السبيعي قال ‪ :‬هي فاطمة بنت يسار‪ .‬وهكذا ذكر غير واحد من‬
‫السلف ‪ :‬أن هذه الية نزلت في معقل بن يسار وأخته‪ .‬وقال السدي ‪ :‬نزلت في جابر بن عبد‬
‫ال ‪ ،‬وابنة عم له ‪ ،‬والصحيح الول ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ } أي ‪ :‬هذا الذي نهيناكم عنه من‬
‫منع الوليا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ‪ ،‬يأتمر به ويتعظ به وينفعل له‬
‫{ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ } أيها الناس { ُي ْؤمِنّ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ } أي ‪ :‬يؤمن بشرع ال ‪ ،‬ويخاف وعيد‬
‫طهَرُ } أي ‪ :‬اتباعكم‬
‫ال وعذابه في الدار الخرة (‪ )5‬وما فيها من الجزاء { ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُ ْم وََأ ْ‬
‫شرع ال في رد الموليات إلى أزواجهن ‪ ،‬وترك الحمية في ذلك ‪ ،‬أزكى لكم وأطهر لقلوبكم‬
‫{ وَاللّهُ َيعْلَمُ } أي ‪ :‬من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬الخيرة فيما‬
‫تأتون ول فيما تذرون‪.‬‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ َلهُ رِ ْز ُقهُنّ‬
‫ضعْنَ َأوْلدَهُنّ َ‬
‫{ وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫س َعهَا ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَ ِدهَا وَل َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِد ِه وَعَلَى‬
‫سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ ل ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِل وُ ْ‬
‫َوكِ ْ‬
‫ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَال عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَ َردْتُمْ أَنْ‬
‫ضعُوا َأوْل َد ُكمْ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا‬
‫تَسْتَ ْر ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪} )233‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4529‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود برقم (‪ )2087‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2981‬وتفسير الطبري (‪)18 ، 5/17‬‬
‫ولم يعزه المزي في تحفة الشراف لسنن ابن ماجة‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فقال له وكيع"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ابن جريج"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬في الدنيا والخرة"‪.‬‬

‫( ‪)1/632‬‬

‫هذا إرشاد من ال تعالى (‪ ) 1‬للوالدات ‪ :‬أن يرضعن أولدهن كمال الرضاعة ‪ ،‬وهي سنتان ‪ ،‬فل‬
‫اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ؛ ولهذا (‪ )2‬قال ‪ِ { :‬لمَنْ أَرَادَ أَنْ يُ ِتمّ ال ّرضَاعَةَ } وذهب أكثر الئمة‬
‫إلى أنه ل يحرم من الرضاعة إل ما كان دون الحولين ‪ ،‬فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم‬
‫يحرم‪.‬‬
‫قال (‪ )3‬الترمذي ‪" :‬باب ما جاء أن الرضاعة ل تحرم إل في الصغر (‪ )4‬دون الحولين" ‪ :‬حدثنا‬
‫قتيبة ‪ ،‬حدثنا أبو عوانة ‪ ،‬عن هشام بن عروة ‪ ،‬عن فاطمة بنت المنذر ‪ ،‬عن أم سلمة قالت ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل يحرم من الرضاع إل ما فتق المعاء في الثدي ‪ ،‬وكان قبل‬
‫الفطام"‪ .‬وقال ‪ :‬هذا حديث حسن صحيح ‪ ،‬والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وغيرهم ‪ :‬أن الرضاعة ل تحرم إل ما كان دون الحولين ‪ ،‬وما‬
‫كان بعد الحولين الكاملين فإنه ل يحرم شيئًا‪ .‬وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام ‪ ،‬وهي‬
‫امرأة هشام بن عروة (‪.)5‬‬
‫قلت ‪ :‬تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ‪ ،‬ورجاله على شرط الصحيحين ‪ ،‬ومعنى قوله ‪ :‬إل ما‬
‫كان في الثدي ‪ ،‬أي ‪ :‬في محل (‪ )6‬الرضاعة قبل الحولين ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪ ،‬الذي رواه‬
‫أحمد ‪ ،‬عن َوكِيع وغندر ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن عدي بن ثابت ‪ ،‬عن البراء بن عازب قال ‪ :‬لما مات‬
‫إبراهيم ابن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن له مرضعًا (‪ )7‬في الجنة"‪ .‬وهكذا أخرجه‬
‫البخاري من حديث شعبة (‪ )8‬وإنما قال ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬ذلك ؛ لن ابنه إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫مات وله سنة وعشرة أشهر ‪ ،‬فقال ‪" :‬إن له مرضعًا في الجنة" يعني ‪ :‬تكمل رضاعه ‪ ،‬ويؤيده ما‬
‫رواه الدارقطني ‪ ،‬من طريق الهيثم بن جميل ‪ ،‬عن سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل يحرم من الرضاع إل ما كان في‬
‫الحولين" ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ‪ ،‬وهو ثقة حافظ (‪.)9‬‬
‫قلت ‪ :‬وقد رواه المام مالك في الموطأ ‪ ،‬عن ثور بن زيد ‪ ،‬عن ابن عباس موقوفًا (‪.)11( )10‬‬
‫ورواه الدراوردي عن ثور ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس وزاد ‪" :‬وما كان بعد الحولين فليس‬
‫بشيء" ‪ ،‬وهذا أصح‪.‬‬
‫وقال أبو داود الطيالسي ‪ ،‬عن جابر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل رضاع بعد‬
‫فصال ‪ ،‬ول يُتْم بعد احتلم" ‪ ،‬وتمام الدللة من هذا الحديث في قوله ‪َ { :‬و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ }‬
‫شهْرًا } [الحقاف ‪ .]15 :‬والقول بأن الرضاعة ل‬
‫حمُْل ُه َو ِفصَالُهُ ثَلثُونَ َ‬
‫[لقمان ‪ .]14 :‬وقال ‪ { :‬وَ َ‬
‫تحرم بعد الحولين مروي عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬من ال تبارك وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فلهذا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬في الصغير"‪.‬‬
‫(‪ )5‬سنن الترمذي برقم (‪.)1152‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬في حال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬إن ابني مات وإن له مرضعا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )4/300‬وصحيح البخاري برقم (‪.)1382‬‬
‫(‪ )9‬سنن الدارقطني (‪.)4/174‬‬
‫(‪ )10‬في هـ ‪" :‬مرفوعا" والصواب ما أثبتناه من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪ ،‬وهو ما نبه عليه الشيخ أحمد‬
‫شاكر ‪ -‬رحمه ال‪.‬‬
‫(‪ )11‬الموطأ (‪.)2/602‬‬

‫( ‪)1/633‬‬

‫علي ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وجابر ‪ ،‬وأبي هريرة ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وأم سلمة ‪ ،‬وسعيد بن‬
‫المسيب ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬والجمهور‪ .‬وهو مذهب الشافعي ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وأبي‬
‫يوسف ‪ ،‬ومحمد ‪ ،‬ومالك في رواية ‪ ،‬وعنه ‪ :‬أن مدته سنتان وشهران ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬وثلثة‬
‫أشهر‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬سنتان وستة أشهر ‪ ،‬وقال زفر بن الهذيل ‪ :‬ما دام يرضع فإلى ثلث‬
‫سنين ‪ ،‬وهذا رواية عن الوزاعي‪ .‬قال مالك ‪ :‬ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد‬
‫فصاله لم يحرم ؛ لنه قد صار بمنزلة الطعام ‪ ،‬وهو رواية عن الوزاعي ‪ ،‬وقد روي عن عمر‬
‫وعلي أنهما قال ل رضاع بعد فصال ‪ ،‬فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور ‪ ،‬سواء فطم‬
‫أو لم يفطم ‪ ،‬ويحتمل أنهما أرادا الفعل ‪ ،‬كقول مالك ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روي في الصحيح (‪ )1‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ :‬أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر‬
‫في التحريم ‪ ،‬وهو قول عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬والليث بن سعد ‪ ،‬وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن‬
‫يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ‪ ،‬وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة‬
‫حيث أمر النبي صلى ال عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه ‪ ،‬وكان كبيرًا ‪ ،‬فكان يدخل‬
‫عليها بتلك الرضاعة ‪ ،‬وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ورأين (‪ )2‬ذلك من‬
‫الخصائص ‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ .‬وحجة الجمهور ‪ -‬منهم الئمة الربعة ‪ ،‬والفقهاء السبعة ‪،‬‬
‫والكابر من الصحابة ‪ ،‬وسائر أزواج رسول ال صلى ال عليه وسلم سوى عائشة ‪ -‬ما ثبت في‬
‫الصحيحين ‪ ،‬عن عائشة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬انظرْنَ من إخوانكن ‪ ،‬فإنما‬
‫الرضاعة من المجاعة" (‪ .)3‬وسيأتي الكلم على مسائل الرضاع ‪ ،‬وفيما يتعلق برضاع الكبير ‪،‬‬
‫ضعْنَكُمْ } [النساء ‪]23 :‬‬
‫عند قوله تعالى ‪ { :‬وَُأ ّمهَا ُتكُمُ اللتِي أَ ْر َ‬
‫سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي ‪ :‬وعلى والد الطفل نفقة الوالدات‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُ ّ‬
‫وكسوتهن بالمعروف ‪ ،‬أي ‪ :‬بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ول إقتار ‪،‬‬
‫سعَتِهِ َومَنْ ُقدِرَ‬
‫سعَةٍ مِنْ َ‬
‫بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬لِيُ ْنفِقْ ذُو َ‬
‫عسْرٍ يُسْرًا }‬
‫ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ ُ‬
‫عَلَيْهِ رِ ْز ُقهُ فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّهُ ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل مَا آتَاهَا سَ َي ْ‬
‫[الطلق ‪ .]7 :‬قال الضحاك ‪ :‬إذا طلّقَ [الرجل] (‪ )4‬زوجته وله منها ولد ‪ ،‬فأرضعت له ولده ‪،‬‬
‫وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَ ِدهَا } أي ‪ :‬ل تدفعه (‪ )5‬عنها لتضر أباه بتربيته ‪ ،‬ولكن ليس لها‬
‫دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ (‪ )6‬الذي ل يعيش بدون تناوله غالبًا ‪ ،‬ثم بعد هذا لها رفعه عنها‬
‫إذا شاءت ‪ ،‬ولكن إن كانت مضارة لبيه فل يحل لها ذلك ‪ ،‬كما ل يحل له انتزاعه منها لمجرد‬
‫الضّرار لها‪ .‬ولهذا قال ‪ { :‬وَل َموْلُودٌ لَهُ ِبوََل ِدهِ } أي ‪ :‬بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا‬
‫بها ‪ ،‬قاله مجاهد ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وابن زيد ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬في الصحيحين"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ويروى"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )2647‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1455‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بأن تدفعه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬اللبأة"‪.‬‬

‫( ‪)1/634‬‬

‫وقوله ‪ { :‬وَعَلَى ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ } قيل ‪ :‬في عدم الضرار لقريبه (‪ )1‬قاله مجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪،‬‬
‫والضحاك‪ .‬وقيل ‪ :‬عليه مثل ما على والد الطفل من النفاق على والدة الطفل ‪ ،‬والقيام بحقوقها‬
‫وعدم الضرار بها ‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ .‬وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره‪ .‬وقد استدل‬
‫بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة القارب بعضهم على بعض ‪ ،‬وهو مروي‬
‫عن عمر بن الخطاب ‪ ،‬وجمهور السلف ‪ ،‬ويرشح ذلك بحديث الحسن ‪ ،‬عن سَمرة مرفوعًا ‪ :‬من‬
‫ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه (‪.)2‬‬
‫وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت (‪ )3‬الولد إما في بدنه أو عقله ‪ ،‬وقد قال سفيان‬
‫الثوري ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن علقمة ‪ :‬أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين‪ .‬فقال ‪ :‬ل‬
‫ترضعيه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ أَرَادَا ِفصَال عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا } أي ‪ :‬فإن اتفقا والدا‬
‫الطفل على فطامه قبل الحولين ‪ ،‬ورأيا في ذلك مصلحة له ‪ ،‬وتشاورا في ذلك ‪ ،‬وأجمعا (‪ )4‬عليه‬
‫‪ ،‬فل جناح عليهما في ذلك ‪ ،‬فيؤْخَذُ منه ‪ :‬أن انفراد أحدهما بذلك دون الخر ل يكفي ‪ ،‬ول يجوز‬
‫لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الخر ‪ ،‬قاله الثوري وغيره ‪ ،‬وهذا فيه احتياط‬
‫للطفل ‪ ،‬وإلزام للنظر في أمره ‪ ،‬وهو من رحمة ال (‪ )5‬بعباده ‪ ،‬حيث حجر على الوالدين في‬
‫ضعْنَ َلكُمْ‬
‫تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلق ‪ { :‬فَإِنْ أَ ْر َ‬
‫ن وَأْ َتمِرُوا بَيْ َنكُمْ ِب َمعْرُوفٍ وَإِنْ َتعَاسَرْ ُتمْ فَسَتُ ْرضِعُ لَهُ ُأخْرَى } [الطلق ‪.]6 :‬‬
‫فَآتُوهُنّ أُجُورَهُ ّ‬
‫ضعُوا َأوْل َدكُمْ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } أي ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِنْ أَ َردْتُمْ أَنْ َتسْتَ ْر ِ‬
‫إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد (‪ )6‬إما لعذر منها ‪ ،‬أو عذر له ‪ ،‬فل جناح‬
‫عليهما في بذله ‪ ،‬ول عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ‪ ،‬واسترضع‬
‫لولده غيرها بالجرة بالمعروف‪ .‬قاله غير واحد‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّهَ } أي ‪ :‬في جميع أحوالكم { وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي ‪ :‬فل‬
‫يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬بقرينه" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬بقريبه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )3949‬والترمذي في السنن برقم (‪ )1365‬من طريق عاصم‬
‫الحول عن الحسن به ‪ ،‬وقال الترمذي ‪" :‬هذا حديث ل نعرفه مسندا إل من حديث حماد بن سلمة‬
‫‪ ،‬وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن ‪ ،‬عن عمر شيئا من هذا" ‪ ،‬ولفظه عندهما ‪:‬‬
‫"من ملك ذا رحم محرم فهو حر"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬جزت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬واجتمعا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬من رحمه ال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬الولد ويسترضع له غيرها"‪.‬‬

‫( ‪)1/635‬‬

‫شهُ ٍر وَعَشْرًا فَإِذَا بََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَا‬


‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ َأ ْ‬
‫وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (‪)234‬‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫شهُ ٍر وَعَشْرًا فَإِذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ فَل‬


‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬
‫{ وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (‪} )234‬‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫هذا أمر من ال (‪ )1‬للنساء اللتي يُ َتوّفى عنهن أزواجهن ‪ :‬أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال (‬
‫‪ )2‬وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالجماع ‪ ،‬ومستنده في غير‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬من ال تعالى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ليالي"‪.‬‬

‫( ‪)1/635‬‬

‫عمُوم الية الكريمة ‪ ،‬وهذا الحديث الذي رواه المام أحمد وأهل السنن وصححه‬
‫المدخول بها ُ‬
‫الترمذي ‪ :‬أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها ‪ ،‬ولم يفرض لها ؟‬
‫فترددوا إليه مرارًا (‪ )1‬في ذلك فقال ‪ :‬أقول فيها برأيي ‪ ،‬فإن يكن صوابًا فمن ال ‪ ،‬وإن يكُن‬
‫خطأ فمني ومن الشيطان ‪ ،‬وال ورسوله بريئان منه ‪[ :‬أرى] (‪ )2‬لها الصداق كامل‪ .‬وفي لفظ ‪:‬‬
‫شطَط ‪ ،‬وعليها العدّة ‪ ،‬ولها الميراث‪ .‬فقام معقل بن سنان (‪)3‬‬
‫لها صداق مثلها ‪ ،‬ل وكس ‪ ،‬ول َ‬
‫الشجعي فقال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم قَضى به في بَ ْروَع بنت واشق‪ .‬ففرح عبد‬
‫ال بذلك فرحًا شديدًا‪ .‬وفي رواية ‪ :‬فقام رجال من أشجع ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬نشهد أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم قضى به في بَ ْروَع بنت وَاشِق (‪.)4‬‬
‫ول يخرج من ذلك إل المتوفى عنها زوجها ‪ ،‬وهي حامل ‪ ،‬فإن عدّتها بوضع الحمل ‪ ،‬ولو لم‬
‫حمَْلهُنّ } [الطلق ‪:‬‬
‫ضعْنَ َ‬
‫حمَالِ أَجَُلهُنّ أَنْ َي َ‬
‫تمكث بعده سوى لحظة ؛ لعموم قوله ‪ { :‬وَأُولتُ ال ْ‬
‫‪ .]4‬وكان ابن عباس يرى ‪ :‬أن عليها أن تتربص بأبعد الجلين من الوضع ‪ ،‬أو أربعة أشهر‬
‫وعشر ‪ ،‬للجمع بين اليتين ‪ ،‬وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ‪ ،‬لول ما ثبتت به السنة في حديث‬
‫سبيعة السلمية ‪ ،‬المخرج في الصحيحين من غير وجه ‪ :‬أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة ‪،‬‬
‫وهي حامل ‪ ،‬فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬فوضعت حملها بعده بليال ‪،‬‬
‫خطّاب ‪ ،‬فدخل عليها أبو السنابل بن َب ْعكَك ‪ ،‬فقال لها ‪ :‬ما لي أراك‬
‫فلما َتعَّلتْ من نفاسها تجملت لل ُ‬
‫جمّلة ؟ لعلك ترجين النكاح‪ .‬وال ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر‪ .‬قالت‬
‫مُتَ َ‬
‫سبيعة ‪ :‬فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت ‪ ،‬فأتيت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فسألته عن ذلك ‪ ،‬فأفتاني بأني قد حَلَلتُ حين وضعتُ ‪ ،‬وأمرني بالتزويج إن بدا لي (‪.)5‬‬
‫قال أبو عمر بن عبد البر ‪ :‬وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة ‪ ،‬يعني لما احتج عليه‬
‫به‪ .‬قال ‪ :‬ويصحح ذلك عنه ‪ :‬أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة ‪ ،‬كما هو (‪ )6‬قول أهل العلم‬
‫قاطبة‪.‬‬
‫وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ‪ ،‬فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ‪ ،‬شهران‬
‫حدّ ‪ ،‬فكذلك (‪)7‬‬
‫وخمس ليال ‪ ،‬على قول الجمهور ؛ لنها لما كانت على النصف من الحرة في ال َ‬
‫فلتكن على النصف منها في العدة‪ .‬ومن العلماء ‪ -‬كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية ‪ -‬من‬
‫يسوي بين الزوجات الحرائر والماء في هذا المقام ؛ لعموم الية ‪ ،‬ولن العدة من باب المور‬
‫الجبلية (‪ )8‬التي تستوي فيها الخليقة‪ .‬وقد ذكر سعيدُ بن المسيب ‪ ،‬وأبو العالية وغيرهما ‪ :‬أن‬
‫الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا ؛ لحتمال اشتمال الرحم على حمل ‪ ،‬فإذا انتظر‬
‫به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا ‪ ،‬كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين‬
‫وغيرهما ‪" :‬إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ‪ ،‬ثم يكون علقة مثل ذلك ‪ ،‬ثم‬
‫يكون مضغة مثل ذلك ‪ ،‬ثم يبعث إليه الملك‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬إليه شهرا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في هـ ‪ ،‬جـ ‪ ،‬ط ‪ ،‬أ ‪" :‬معقل بن يسار" والمثبت هو الصواب‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )4/280‬وسنن أبي داود برقم (‪ )2215 ، 2214‬وسنن الترمذي برقم (‪ )1145‬وسنن‬
‫النسائي (‪ )6/121‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1891‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )5319‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1484‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وهو"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وكذلك"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬الجلية"‪.‬‬

‫( ‪)1/636‬‬

‫فينفخ فيه الروح" (‪ .)1‬فهذه ثلث أربعينات بأربعة أشهر ‪ ،‬والحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص‬
‫بعض الشهور ‪ ،‬ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال سعيد بن أبي عروبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ :‬سألت سعيد بن المسيب ‪ :‬ما بال العشرة ؟ قال ‪ :‬فيه ينفخ‬
‫الروح‪ .‬وقال الربيع بن أنس ‪ :‬قلت لبي العالية ‪ِ :‬لمَ صارت هذه العشر مع الشهر الربعة ؟ قال‬
‫‪ :‬لنه ينفخ فيها الروح‪ .‬رواهما ابن جرير‪ .‬ومن هاهنا ذهب المام أحمد ‪ ،‬في رواية عنه ‪ ،‬إلى‬
‫أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ؛ لنها صارت فراشا كالحرائر ‪ ،‬وللحديث الذي رواه المام‬
‫أحمد ‪ ،‬عن يزيد بن هارون ‪ ،‬عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن رجاء بن حيوة ‪ ،‬عن‬
‫قبيصة بن ذؤيب ‪ ،‬عن عمرو بن العاص أنه قال ‪ :‬ل تُلْبِسوا علينا سنة نبينا ‪ ،‬عدة أم الولد إذا‬
‫توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر (‪ )2‬ورواه أبو داود ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن غُنْدَر ‪ -‬وعن ابن‬
‫المثنى ‪ ،‬عن عبد العلى‪ .‬وابن ماجة ‪ ،‬عن علي بن محمد ‪ ،‬عن َوكِيع ‪ -‬ثلثتهم عن سعيد بن‬
‫أبي عَرُوبة ‪ ،‬عن مَطَر الوراق ‪ ،‬عن رجاء بن حيوة ‪ ،‬عن قبيصة ‪ ،‬عن عمرو بن العاص ‪،‬‬
‫فذكره (‪.)3‬‬
‫عمْرًا ‪ ،‬وقد ذهب‬
‫وقد روي عن المام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن قبيصة لم يسمع َ‬
‫إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ‪ ،‬منهم ‪ :‬سعيد بن المسيب ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪،‬‬
‫والحسن ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬وأبو عياض (‪ ، )4‬والزهري ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ .‬وبه كان يأمر‬
‫يزيد بن عبد الملك بن مروان ‪ ،‬وهو أمير المؤمنين‪ .‬وبه يقول الوزاعي ‪ ،‬وإسحاق بن رَا ْهوَيه ‪،‬‬
‫وأحمد بن حنبل ‪ ،‬في رواية عنه‪ .‬وقال طاوس وقتادة ‪ :‬عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ‬
‫عدة الحرة ‪ :‬شهران وخمس ليال‪ .‬وقال أبو حنيفة وأصحابه ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬والحسن بن صالح بن‬
‫حيّ ‪ :‬تعتد بثلث حيض‪ .‬وهو قول علي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وإبراهيم النخَعي‪ .‬وقال مالك‬
‫َ‬
‫‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأحمد في المشهور عنه ‪ :‬عدتها حيضة‪ .‬وبه يقول ابن عمر ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬ومكحول‬
‫‪ ،‬والليث ‪ ،‬وأبو عبيد ‪ ،‬وأبو ثَور ‪ ،‬والجمهور‪.‬‬
‫قال الليث ‪ :‬ولو مات وهي حائض أجزأتها‪ .‬وقال مالك ‪ :‬فلو كانت ممن ل تحيض فثلثة أشهر‪.‬‬
‫وقال الشافعي والجمهور ‪ :‬شهر ‪ ،‬وثلثة أحب إلي‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ‬
‫جَلهُنّ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وقوله ‪ { :‬فَِإذَا بََلغْنَ أَ َ‬
‫خَبِيرٌ } يستفاد من هذا وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ‪ ،‬لما ثبت في‬
‫الصحيحين ‪ ،‬من غير وجه ‪ ،‬عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل يحل لمرأة تؤمن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )3208‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2643‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)4/203‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود برقم (‪ )2308‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2083‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وأبو عاص"‪.‬‬

‫( ‪)1/637‬‬

‫علِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ‬


‫سكُمْ َ‬
‫خطْبَةِ النّسَاءِ َأوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬
‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ‬
‫وََلكِنْ لَا ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا إِلّا أَنْ َتقُولُوا َقوْلًا َمعْرُوفًا وَلَا َتعْ ِزمُوا ُ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪)235‬‬
‫حذَرُوهُ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫سكُمْ فَا ْ‬
‫وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫بال واليوم الخر أن تُحد على ميت فوق ثلث ‪ ،‬إل على زوج أربعة أشهر وعشرًا" (‪ .)1‬وفي‬
‫الصحيحين أيضا ‪ ،‬عن أم سلمة ‪ :‬أن امرأة قالت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن ابنتي تُوفي عنها زوجها ‪،‬‬
‫وقد اشتكت عينُها ‪ ،‬أفنكْحُلُها ؟ فقال ‪" :‬ل "‪ .‬كل ذلك يقول ‪" :‬ل" مرتين أو ثلثًا‪ .‬ثم قال ‪" :‬إنما‬
‫هي أربعة أشهر وعشر (‪ )2‬وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة"‪ .‬قالت زينب بنت أم سلمة‬
‫‪ :‬كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا ‪ ،‬ولبست شر ثيابها ‪ ،‬ولم تمس طيبًا ول شيئًا ‪،‬‬
‫حتى تمر بها سنة ‪ ،‬ثم تخرج فتعطى َبعْرة فترمي بها ‪ ،‬ثم تؤتى بدابة ‪ -‬حمار أو شاة أو طير ‪-‬‬
‫فَ َتفْتَضّ به فقلما تفتض بشيء إل مات (‪.)3‬‬
‫ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الية ناسخة للية التي بعدها ‪ ،‬وهي قوله ‪:‬‬
‫حوْلِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ } [البقرة ‪:‬‬
‫جهِمْ مَتَاعًا إِلَى ا ْل َ‬
‫{ وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لزْوَا ِ‬
‫‪ ، ]240‬كما قاله ابن عباس وغيره ‪ ،‬وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره‪.‬‬
‫والغرض أن الحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ‪ ،‬ولبس ما يدعوها إلى الزواج من‬
‫ثياب وحُِليّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قول واحدًا ‪ ،‬ول يجب في عدة الرجعية قول‬
‫واحدًا ‪ ،‬وهل يجب في عدة البائن ؟ فيه قولن‪.‬‬
‫ويجب الحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ‪ ،‬سواء في ذلك الصغيرة واليسة (‬
‫‪ )4‬والحرة والمة ‪ ،‬والمسلمة والكافرة ‪ ،‬لعموم الية‪ .‬وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ‪ :‬ل‬
‫إحداد على الكافرة‪ .‬وبه يقول أشهبُ ‪ ،‬وابنُ نافع من أصحاب مالك‪ .‬وحجة قائل هذه المقالة قولهُ‬
‫صلى ال عليه وسلم (‪" : )5‬ل يحل لمرأة تؤمن بال واليوم الخر أن ُتحِدّ على ميت فوق‬
‫ثلث ‪ ،‬إل على زوج أربعة أشهر وعشرًا" ‪ :‬قالوا ‪ :‬فجعله تعبدًا (‪ .)6‬وألحق أبو حنيفة وأصحابه‬
‫والثوري الصغيرة بها ‪ ،‬لعدم التكليف‪ .‬وألحق أبو حنيفة وأصحابه المة المسلمة لنقصها (‪.)7‬‬
‫ومحل تقرير ذلك كله في كتب الحكام والفروع ‪ ،‬وال الموفق للصواب‪.‬‬
‫جَلهُنّ } أي ‪ :‬انقضت عدتهن (‪ .)8‬قاله الضحاك والربيع بن أنس ‪ { ،‬فَل‬
‫وقوله ‪ { :‬فَِإذَا بََلغْنَ أَ َ‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ } قال الزهري ‪ :‬أي ‪ :‬على أوليائها { فِيمَا َفعَلْنَ } يعني ‪ :‬النساء اللتي انقضت‬
‫عدتهن‪ .‬قال العوفي (‪ )9‬عن ابن عباس ‪ :‬إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ‪ ،‬فإذا انقضت‬
‫عدتها فل جناح عليها أن تتزين وتتصنّع وتتعرض للتزويج ‪ ،‬فذلك المعروف‪ .‬روي عن مقاتل بن‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ }‬
‫حيان نحوه ‪ ،‬وقال ابن جريج عن مجاهد ‪ { :‬فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫قال ‪ :‬هو النكاح الحلل الطيب‪ .‬وروي عن الحسن ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬والسدي نحو ذلك‪.‬‬
‫سكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ‬
‫خطْبَةِ النّسَاءِ َأوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬
‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ‬
‫وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْل َمعْرُوفًا وَل َتعْ ِزمُوا ُ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪} )235‬‬
‫حذَرُوهُ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫سكُمْ فَا ْ‬
‫وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )5337‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1486‬من حديث زينب بنت جحش‬
‫رضي ال عنها ‪ ،‬وصحيح البخاري برقم (‪ )5334‬وصحيح مسلم برقم (‪ )1486‬من حديث أم‬
‫حبيبة رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وعشرا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪ )5336‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1488‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬الصغير والكبير"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عليه السلم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬مقيدا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬لبعضها"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عدتها"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬قال الوالبي"‪.‬‬

‫( ‪)1/638‬‬

‫يقول تعالى ‪ { :‬وَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ } أن ُتعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من‬
‫غير تصريح‪ .‬قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫خطْبَةِ النّسَاءِ } قال ‪ :‬التعريض أن َتقُول ‪ :‬إني‬
‫في قوله ‪ { :‬وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬
‫أريد التزويج ‪ ،‬وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها ‪ -‬يعرض لها بالقول بالمعروف ‪ -‬وفي‬
‫صبُ للخِطْبة‪ .‬وفي رواية ‪ :‬إني ل أريد أن‬
‫رواية ‪ :‬وددت أن ال رزقني امرأة ونحو هذا‪ .‬ول يَ ْن ِ‬
‫أتزوج غيرَك إن شاء ال ‪ ،‬ولوددت أني وجدت امرأة صالحة ‪ ،‬ول ينصب لها ما دامت في‬
‫عدتها‪ .‬ورواه البخاري تعليقًا ‪ ،‬فقال ‪ :‬قال لي طلق بن غَنّام ‪ ،‬عن زائدة ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن‬
‫خطْبَةِ النّسَاءِ } هو أن يقول ‪:‬‬
‫علَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ ِبهِ مِنْ ِ‬
‫مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَل جُنَاحَ َ‬
‫إني أريد التزويج ‪ ،‬وإن النساء لمن حاجتي ‪ ،‬ولوددت أنه تَيَسّر لي امرأة صالحة (‪.)1‬‬
‫وهكذا قال مجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جُبير ‪ ،‬وإبراهيم النخَعي ‪ ،‬والشعبي ‪،‬‬
‫والحسنُ ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ويزيد بن ُقسَيط ‪ ،‬ومقاتل بن حيّان ‪ ،‬والقاسم بن محمد ‪ ،‬وغير‬
‫واحد من السلف والئمة في التعريض ‪ :‬أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها‬
‫بالخطبة‪ .‬وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها ‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫حفْص ‪ :‬آخر ثلث تطليقات‪ .‬فأمرها أن تعتد‬
‫عمْرو بن َ‬
‫لفاطمة بنت قيس ‪ ،‬حين طلقها زوجها أبو َ‬
‫في بيت ابن أم مكتوم ‪ ،‬وقال لها ‪" :‬فإذا حَلَلْت فآذنيني"‪ .‬فلما حّلتْ خطب عليها أسامة بن زيد‬
‫موله ‪ ،‬ف َزوّجها إياه (‪.)2‬‬
‫فأما المطلقة الرجعية ‪ :‬فل خلف في أنه ل يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ول التعريض‬
‫لها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫سكُمْ } أي ‪ :‬أضمرتم في أنفسكم خطْبَ َتهُنّ (‪ )3‬وهذا كقوله تعالى ‪:‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬أوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫خفَيْتُمْ‬
‫ن صُدُورُهُ ْم َومَا ُيعْلِنُونَ } [القصص ‪ ]69 :‬وكقوله ‪ { :‬وَأَنَا أَعْلَمُ ِبمَا َأ ْ‬
‫{ وَرَ ّبكَ (‪َ )4‬يعَْلمُ مَا ُتكِ ّ‬
‫علَنْتُمْ } [المتحنة ‪ ]1 :‬ولهذا قال ‪ { :‬عَلِمَ اللّهُ أَ ّن ُكمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ } أي ‪ :‬في أنفسكم ‪ ،‬فرفع‬
‫َومَا أَ ْ‬
‫الحرج عنكم في ذلك ‪ ،‬ثم قال ‪ { :‬وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } قال أبو مِجْلَز ‪ ،‬وأبو الشعثاء ‪-‬‬
‫جابر بن زيد ‪ -‬والحسن البصري ‪ ،‬وإبراهيم النخعي وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫وسليمان التيمي ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والسدي ‪ :‬يعني الزنا‪ .‬وهو معنى رواية العَوفي عن ابن‬
‫عباس ‪ ،‬واختاره ابن جرير‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)5124‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪.)1480‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬من خطبتهن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وال" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/639‬‬

‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } ل تقل لها ‪ :‬إني عاشق ‪،‬‬
‫وعاهديني أل تتزوجي غيري ‪ ،‬ونحو هذا‪ .‬وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير ‪ ،‬والشعبي ‪،‬‬
‫وعكرمة ‪ ،‬وأبي الضحى ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والثوري ‪ :‬هو أن يأخذ ميثاقها أل‬
‫تتزوج غيره ‪ ،‬وعن مجاهد ‪ :‬هو قول الرجل للمرأة ‪ :‬ل تفوتيني بنفسك ‪ ،‬فإني ناكحك‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬هو أن يأخذ عهد المرأة ‪ ،‬وهي في عدتها أل تنكح غيره ‪ ،‬فنهى ال عن ذلك وقدم‬
‫فيه ‪ ،‬وأحل الخطبة والقول بالمعروف‪.‬‬
‫وقال ابن زيد ‪ { :‬وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } هو أن يتزوجها في العدة سرًا ‪ ،‬فإذا حلت أظهر‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقد يحتمل أن تكون الية عامة في جميع ذلك ؛ ولهذا قال ‪ { :‬إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْل َمعْرُوفًا } قال (‬
‫‪ )1‬ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد وسعيد بن جبير ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وابن زيد ‪ :‬يعني به ‪ :‬ما تقدم‬
‫من إباحة التعريض‪ .‬كقوله ‪ :‬إني فيك لراغب‪ .‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وقال محمد بن سيرين ‪ :‬قلت لعَبِيدة ‪ :‬ما معنى قوله ‪ { :‬إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْل َمعْرُوفًا } ؟ قال ‪ :‬يقول‬
‫لوليها ‪ :‬ل تس ِبقْني بها ‪ ،‬يعني ‪ :‬ل تزوجها حتى تُعلمني‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَبْلُغَ ا ْلكِتَابُ َأجَلَهُ } يعني ‪ :‬ول تعقدوا العقد بالنكاح حتى‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل َتعْ ِزمُوا ُ‬
‫تنقضي العدة‪ .‬قال ابن عباس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وأبو مالك ‪،‬‬
‫وزيد بن أسلم ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وعطاء الخراساني ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والثوري ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ { :‬حَتّى يَبْلُغَ ا ْلكِتَابُ َأجَلَهُ } يعني ‪ :‬حتى تنقضي العدة‪.‬‬
‫وقد أجمع العلماء على أنه ل يصح العقد في مدة العدة‪ .‬واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها‬
‫فدخل بها ‪ ،‬فإنه يفرق بينهما ‪ ،‬وهل تحرم عليه أبدا ؟ على قولين ‪ :‬الجمهور على أنها ل تحرم‬
‫عليه ‪ ،‬بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها‪ .‬وذهب المام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد‪.‬‬
‫واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب ‪ ،‬وسليمان بن يسار ‪ :‬أن عمر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫أيما امرأة نكحت في عدتها ‪ ،‬فإن زوجها الذي تزوجها (‪ )2‬لم يدخل بها ‪ ،‬فرق بينهما ‪ ،‬ثم‬
‫اعتدت بقية عدتها من زوجها الول ‪ ،‬ثم كان الخر خاطبا من الخطاب ‪ ،‬وإن كان دخل بها فرق‬
‫بينهما ‪ ،‬ثم اعتدت بقية عدتها من الول (‪ )3‬ثم اعتدت من الخر ‪ ،‬ثم لم ينكحها أبدًا (‪.)4‬‬
‫قالوا ‪ :‬ومأخذ هذا ‪ :‬أن الزوج لما استعجل ما أجل ال ‪ ،‬عوقب بنقيض قصده ‪ ،‬فحرمت عليه‬
‫على التأبيد ‪ ،‬كالقاتل يحرم (‪ )5‬الميراثَ‪ .‬وقد روى الشافعي هذا الثر عن مالك‪ .‬قال البيهقي ‪:‬‬
‫وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد ‪ ،‬لقول علي ‪ :‬إنها تحل له‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ثم هو (‪ )6‬منقطع عن عمر‪ .‬وقد روى الثوري ‪ ،‬عن أشعث ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن مسروق‬
‫‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬زوجها التي تزوج بها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬من زوجها الول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬الموطأ (‪.)2/535‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬يحرم عليه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬قلت وهو"‪.‬‬

‫( ‪)1/640‬‬

‫لَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ‬
‫حسِنِينَ (‪)236‬‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬

‫أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها ‪ ،‬وجعلهما يجتمعان‪.‬‬


‫سكُمْ فَاحْذَرُوهُ } توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من‬
‫وقوله ‪ { :‬وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫سهُم من رحمته ‪ ،‬ولم ُيقْنطهم من‬
‫أمور النساء ‪ ،‬وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ‪ ،‬ثم لم ُيؤْيِ ْ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ } (‪.)1‬‬
‫عائدته ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫{ ل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ‬
‫حسِنِينَ (‪} )236‬‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫أباح تبارك وتعالى طلق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها‪ .‬قال ابن عباس ‪ ،‬وطاوس ‪،‬‬
‫وإبراهيم ‪ ،‬والحسن البصري ‪ :‬المس ‪ :‬النكاح‪ .‬بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها ‪ ،‬والفرض‬
‫لها إن كانت مفوضة ‪ ،‬وإن كان في هذا انكسار لقلبها ؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها ‪ ،‬وهو‬
‫تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله ‪ ،‬على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن إسماعيل بن أمية ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬متعة الطلق‬
‫أعله الخادم ‪ ،‬ودون ذلك الورق ‪ ،‬ودون ذلك الكسوة‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬إن (‪ )2‬كان موسرا متعها بخادم ‪ ،‬أو شبه ذلك ‪ ،‬وإن‬
‫كان معسرا أمتعها بثلثة أثواب‪.‬‬
‫وقال الشعبي ‪ :‬أوسط ذلك ‪ :‬درع وخمار وملحفة وجلباب‪ .‬قال ‪ :‬وكان شريح يمتع بخمسمائة‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن ابن سيرين قال ‪ :‬كان يُمتع بالخادم ‪ ،‬أو‬
‫بالنفقة ‪ ،‬أو بالكسوة ‪ ،‬قال ‪ :‬ومتع الحسن بن علي بعشرة آلف (‪ )3‬ويروى أن المرأة قالت ‪:‬‬
‫متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ ُمفَارق‪...‬‬
‫وذهب أبو حنيفة ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه‬
‫نصف مهر مثلها‪ .‬وقال الشافعي في الجديد ‪ :‬ل يجبر الزوج على قدر معلوم ‪ ،‬إل على أقل ما‬
‫يقع عليه اسم المتعة ‪ ،‬وأحب ذلك إليّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلة‪ .‬وقال في القديم ‪ :‬ل‬
‫أعرف في المتعة قدرًا (‪ )4‬إل أني أستحسن ثلثين درهمًا ؛ لما روي عن ابن عمر ‪ ،‬رضي ال‬
‫عنهما (‪.)5‬‬
‫وقد اختلف العلماء أيضًا ‪ :‬هل تجب المتعة لكل مطلقة ‪ ،‬أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها‬
‫التي لم يفرض لها ؟ على أقوال ‪:‬‬
‫حقّا عَلَى‬
‫أحدها ‪ :‬أنه تجب المتعة لكل مطلقة ‪ ،‬لعموم قوله تعالى ‪ { :‬وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا‬
‫ا ْلمُ ّتقِينَ } [البقرة ‪ ]241 :‬ولقوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ُقلْ ل ْزوَا ِ‬
‫جمِيل } [الحزاب ‪ ]28 :‬وقد كن مفروضا لهن‬
‫حكُنّ سَرَاحًا َ‬
‫ن وَأُسَرّ ْ‬
‫وَزِينَ َتهَا فَ َتعَالَيْنَ ُأمَ ّت ْعكُ ّ‬
‫ومدخول بهن ‪ )6( ،‬وهذا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬غفور حليم" وهو الصواب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬إذا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه الطبري في تفسيره (‪ )5/123‬من طريق عبد الرزاق به‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وقتا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عنه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وقد كن مدخول بهن ومفروضا لهن"‪.‬‬

‫( ‪)1/641‬‬

‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِلّا أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ‬
‫وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ‬
‫سوُا ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ‬
‫ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَلَا تَ ْن َ‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ‬
‫َي ْعفُوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫َبصِيرٌ (‪)237‬‬
‫قول سعيد بن جُبير ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬والحسن البصري‪ .‬وهو أحد قولي الشافعي ‪ ،‬ومنهم من جعله‬
‫الجديد الصحيح ‪ ،‬فال أعلم‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ‪ ،‬وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى ‪:‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َن َكحْتُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ُثمّ طَّلقْتُمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُنّ َفمَا َل ُكمْ عَلَ ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ‬
‫جمِيل } [الحزاب ‪ ]49 :‬قال شعبة وغيره ‪ ،‬عن قتادة ‪،‬‬
‫ن وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا َ‬
‫َتعْتَدّو َنهَا َفمَ ّتعُوهُ ّ‬
‫عن سعيد بن المسيب قال ‪ :‬نسخت هذه الية التي في الحزاب الية التي في البقرة‪.‬‬
‫وقد روى البخاري في صحيحه ‪ ،‬عن سهل بن سعد ‪ ،‬وأبي أسَيد أنهما قال تزوج رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ‪ ،‬فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما (‪ )1‬كرهت‬
‫ذلك ‪ ،‬فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين را ِزقِيّين (‪.)3( )2‬‬
‫والقول الثالث ‪ :‬أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ‪ ،‬ولم يفرض (‪ )4‬لها ‪ ،‬فإن كان قد‬
‫دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ‪ ،‬وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول ‪،‬‬
‫وجب لها عليه شطره ‪ ،‬فإن دخل بها استقر الجميع ‪ ،‬وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة ‪ ،‬وإنما‬
‫المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الية الكريمة على وجوب متعتها‪.‬‬
‫وهذا قول ابن عمر ‪ ،‬ومجاهد‪ .‬ومن العلماء ‪ :‬من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة‬
‫قبل الدخول ‪ :‬وهذا ليس بمنكور (‪ )5‬وعليه تحمل آية التخيير في الحزاب ؛ ولهذا قال تعالى ‪{ :‬‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ } [البقرة ‪.]241 :‬‬
‫وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫ومن العلماء من يقول ‪ :‬إنها مستحبة مطلقًا‪ .‬قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا كثير بن شهاب القزويني ‪،‬‬
‫حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ‪ ،‬حدثنا عمرو ‪ -‬يعني ابن أبي قيس ‪ -‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫الشعبي قال ‪ :‬ذكروا له المتعة ‪ ،‬أيحبس فيها ؟ فقرأ ‪ { :‬عَلَى ا ْلمُوسِعِ َقدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ قَدَ ُرهُ }‬
‫قال الشعبي ‪ :‬وال ما رأيت أحدا حبس (‪ )6‬فيها ‪ ،‬وال لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة‪.‬‬
‫صفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِل أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ‬
‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِن ْ‬
‫{ وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ‬
‫ضلَ بَيْ َن ُكمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ‬
‫سوُا ا ْل َف ْ‬
‫ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَل تَنْ َ‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ‬
‫َي ْعفُوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫َبصِيرٌ (‪} )237‬‬
‫وهذه الية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الية الولى (‪ )7‬حيث إنما‬
‫أوجب في هذه الية نصف المهر المفروض ‪ ،‬وإذا طلق الزوج قبل الدخول ‪ ،‬فإنه لو كان ثم‬
‫واجب آخر من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فكأنها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬درافتين"‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)5226‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ولم يعرض"‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بمعلوم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أحسن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬الكريمة"‪.‬‬

‫( ‪)1/642‬‬

‫متعة لبينها (‪ )1‬ل سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة (‪ )2‬وال أعلم‪.‬‬
‫وتشطير الصداق ‪ -‬والحالة هذه ‪ -‬أمر مجمع عليه بين العلماء ‪ ،‬ل خلف بينهم في ذلك ‪ ،‬فإنه‬
‫متى كان قد سمى لها صداقًا ثم فارقها قبل دخوله بها ‪ ،‬فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق‬
‫‪ ،‬إل أن عند الثلثة أنه يجب جميع الصداق إذا خل بها الزوج ‪ ،‬وإن لم يدخل بها ‪ ،‬وهو مذهب‬
‫الشافعي في القديم ‪ ،‬وبه حكم الخلفاء الراشدون ‪ ،‬لكن (‪ )3‬قال الشافعي ‪ :‬أخبرنا مسلم بن خالد ‪،‬‬
‫أخبرنا ابن جريج ‪ ،‬عن ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن طاوس ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ - :‬في الرجل‬
‫يتزوج المرأة فيخلو بها ول يمسها ثم يطلقها ‪ -‬ليس لها إل نصف الصداق ؛ لن ال يقول ‪:‬‬
‫صفُ مَا فَ َرضْتُمْ } قال الشافعي‬
‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِن ْ‬
‫{ وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ‬
‫‪ :‬هذا أقوى (‪ )4‬وهو ظاهر الكتاب‪.‬‬
‫قال البيهقي ‪ :‬وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج (‪ )5‬به ‪ ،‬فقد رويناه من حديث ابن أبي‬
‫طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس فهو يقوله (‪.)6‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِل أَنْ َي ْعفُونَ } أي ‪ :‬النساء عما وجب لها على زوجها من النصف ‪ ،‬فل يجب لها عليه‬
‫شيء‪.‬‬
‫قال السدي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬إِل أَنْ َي ْعفُونَ } قال ‪ :‬إل أن تعفو‬
‫الثيب فتدع حقها‪ .‬قال المام أبو محمد بن أبي حاتم ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬وروي عن شريح ‪ ،‬وسعيد بن‬
‫المسيب ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬ونافع ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وجابر بن زيد ‪ ،‬وعطاء‬
‫الخراساني ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫والسدي ‪ ،‬نحو ذلك‪ .‬قال ‪ :‬وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال ‪ { :‬إِل أَنْ َي ْعفُونَ } يعني ‪:‬‬
‫الرجال ‪ ،‬وهو قول شاذ لم يتابع عليه‪ .‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬ذكر عن ابن لهيعة ‪ ،‬حدثني عمرو‬
‫وقوله ‪َ { :‬أوْ َي ْع ُفوَ الّذِي بِيَ ِدهِ ُ‬
‫بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم [قال] (‪" : )7‬ولي عقدة النكاح‬
‫الزوج"‪.‬‬
‫وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد ال بن لهيعة ‪ ،‬به (‪ .)8‬وقد أسنده ابن جرير ‪ ،‬عن ابن‬
‫لهيعة ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكره (‪ )9‬ولم يقل ‪ :‬عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن جده فال أعلم‪.‬‬
‫ثم قال ابن أبي حاتم ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬وحدثنا يونس بن حبيب ‪ ،‬حدثنا أبو داود ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬يعني‬
‫ابن حازم ‪ )10( ،‬عن عيسى ‪ -‬يعني ابن عاصم ‪ -‬قال ‪ :‬سمعت شريحًا يقول ‪ :‬سألني علي بن‬
‫طالب (‪)11‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬لمسها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬المتعة مهما دلت عليه الية الولى بتلك الحالة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ولكن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬بهذا أقول" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬بهذا القول"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬غير صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فهو مقوله"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬ورواه الدارقطني في السنن (‪ )3/279‬من طريق قتيبة عن ابن لهيعة به ‪ ،‬وذكر البيهقي في‬
‫السنن الكبرى (‪ )7/251‬وقال ‪" :‬هذا غير محفوظ ‪ ،‬وابن لهيعة غير محتج به ‪ ،‬وال أعلم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)5/157‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬يعني ابن أبي حازم"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬علي بن أبي طلحة" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬علي بن أبي طالب"‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬

‫عن الذي بيده عقدة النكاح‪ .‬فقلت له ‪ :‬هو ولي المرأة‪ .‬فقال علي ‪ :‬ل بل هو الزوج‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وفي إحدى الروايات عن ابن عباس ‪ ،‬وجبير بن مطعم ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬وشريح ‪-‬‬
‫في أحد قوليه ‪ -‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ونافع ‪ ،‬ومحمد بن سيرين ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ ،‬ومحمد بن كعب القرظي ‪ ،‬وجابر بن زيد ‪ ،‬وأبي مِجْلز ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬وإياس‬
‫بن معاوية ‪ ،‬ومكحول ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ :‬أنه الزوج‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا هو الجديد من قولي (‪ )1‬الشافعي ‪ ،‬ومذهب أبي حنيفة‪ .‬وأصحابه ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وابن‬
‫شبرمة ‪ ،‬والوزاعي ‪ ،‬واختاره ابن جرير‪ .‬ومأخذ هذا القول ‪ :‬أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة‬
‫الزوج ‪ ،‬فإن بيده (‪ )2‬عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها ‪ ،‬وكما أنه ل يجوز للولي أن يهب شيئًا‬
‫من مال المولية للغير ‪ ،‬فكذلك في الصداق‪.‬‬
‫قال (‪ )3‬والوجه الثاني ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن أبي مريم ‪ ،‬حدثنا محمد بن مسلم ‪ ،‬حدثنا عمرو‬
‫بن دينار ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ -‬في الذي ذكر ال بيده عقدة النكاح ‪ -‬قال ‪ :‬ذلك أبوها أو أخوها ‪ ،‬أو‬
‫من ل تنكح إل بإذنه ‪ ،‬وروي عن علقمة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬والزهري ‪ ،‬وربيعة ‪،‬‬
‫وزيد بن أسلم ‪ ،‬وإبراهيم النخعي ‪ ،‬وعكرمة في أحد قوليه ‪ ،‬ومحمد بن سيرين ‪ -‬في أحد قوليه ‪:‬‬
‫أنه الولي‪ .‬وهذا مذهب مالك ‪ ،‬وقول (‪ )4‬الشافعي في القديم ؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها‬
‫إياه ‪ ،‬فله التصرف فيه بخلف سائر مالها‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن‬
‫عكرمة قال ‪ :‬أذن ال في العفو وأمر به ‪ ،‬فأي امرأة عفت جاز عفوها ‪ ،‬فإن شحت وضنت عفا‬
‫وليها وجاز عفوه‪.‬‬
‫وهذا يقتضي صحة عفو الولي ‪ ،‬وإن كانت رشيدة ‪ ،‬وهو مروي عن شريح‪ .‬لكن أنكر عليه‬
‫الشعبي ‪ ،‬فرجع عن ذلك ‪ ،‬وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى } قال ابن جرير ‪ :‬قال بعضهم ‪ :‬خُوطب به الرجال ‪ ،‬والنساء‪.‬‬
‫حدثني يونس ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس ‪ { :‬وَأَنْ َتعْفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى } قال ‪ :‬أقربهما للتقوى الذي يعفو‪.‬‬
‫وكذا روي عن الشعبي وغيره ‪ ،‬وقال مجاهد ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫والثوري ‪ :‬الفضل (‪ )5‬هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها ‪ ،‬أو إتمام الرجل الصداق لها‪ .‬ولهذا قال‬
‫ضلَ [بَيْ َنكُمْ ] (‪ } )6‬أي ‪ :‬الحسان ‪ ،‬قاله سعيد‪ .‬وقال الضحاك ‪ ،‬وقتادة ‪،‬‬
‫سوُا ا ْل َف ْ‬
‫‪ { :‬وَل تَنْ َ‬
‫والسدي ‪ ،‬وأبو وائل ‪ :‬المعروف ‪ ،‬يعني ‪ :‬ل تهملوه بل استعملوه بينكم‪.‬‬
‫وقد قال أبو بكر بن مردويه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا موسى بن إسحاق ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬من مذهب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فإن بيدها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وهو قول"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ :‬والفضل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/644‬‬

‫حدثنا عقبة بن مكرم ‪ ،‬حدثنا يونس بن بكير ‪ ،‬حدثنا عبيد ال (‪ )1‬بن الوليد الوصافي ‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن عبيد ‪ ،‬عن علي بن أبي طالب ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ليأتينّ على‬
‫عضُوض ‪َ ،‬ي َعضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل ‪ ،‬وقد قال ال تعالى ‪:‬‬
‫الناس زمان َ‬
‫ضلَ بَيْ َنكُمْ } شرار يبايعون كل مضطر ‪ ،‬وقد نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫سوُا ا ْل َف ْ‬
‫{ وَل تَنْ َ‬
‫عن بيع المضطر ‪ ،‬وعن بيع الغَرَر ‪ ،‬فإن كان عندك خير ف ُعدْ به على أخيك ‪ ،‬ول تزده هلكًا‬
‫إلى هلكه ‪ ،‬فإن المسلم أخو المسلم ل َيحْزُنه (‪ )2‬ول يحرمه" (‪.)3‬‬
‫وقال سفيان ‪ ،‬عن أبي هارون قال ‪ :‬رأيت عون بن عبد ال في مجلس القرظي ‪ ،‬فكان عون‬
‫يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول ‪ :‬صحبت الغنياء فكنت من أكثرهم َهمّا ‪ ،‬حين رأيتهم‬
‫أحسن ثيابًا ‪ ،‬وأطيب ريحًا ‪ ،‬وأحسن مركبًا [منى] (‪ .)4‬وجالست الفقراء فاسترحت بهم ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫ضلَ بَيْ َنكُمْ } إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْ َي ْدعُ له ‪ :‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫سوُا ا ْل َف ْ‬
‫{ وَل تَنْ َ‬
‫{ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي ‪ :‬ل يخفى عليه شيء من أموركم (‪ )5‬وأحوالكم ‪ ،‬وسيجزي كل‬
‫عامل بعمله‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬ل يخزيه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬وقد جاء من وجه آخر ‪ ،‬رواه أحمد في المسند (‪ )1/116‬وأبو داود في السنن برقم (‪)3382‬‬
‫من طريق أبي عامر المزني عن شيخ من بني تميم عن علي موقوفا عليه بنحوه‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬من أعمالكم"‪.‬‬

‫( ‪)1/645‬‬

‫خفْتُمْ فَرِجَالًا َأوْ ُركْبَانًا فَإِذَا‬


‫ت وَالصّلَاةِ ا ْلوُسْطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ (‪ )238‬فَإِنْ ِ‬
‫حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا عَّل َمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ (‪)239‬‬

‫خفْتُمْ فَ ِرجَال َأوْ ُركْبَانًا‬


‫سطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ (‪ )238‬فَإِنْ ِ‬
‫{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬
‫عّل َمكُمْ مَا لَمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ (‪} )239‬‬
‫فَإِذَا َأمِنْ ُتمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا َ‬
‫يأمر ال تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها ‪ ،‬وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها ‪ ،‬كما‬
‫ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال ‪ :‬سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أي العمل‬
‫أفضل ؟ قال ‪" :‬الصلة على وقتها"‪ .‬قلت ‪ :‬ثم أي ؟ قال ‪" :‬الجهاد في سبيل ال"‪ .‬قلت ‪ :‬ثم أي ؟‬
‫قال ‪" :‬بر الوالدين"‪ .‬قال ‪ :‬حدثني بهن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولو استزدتُه لزادني (‬
‫‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يونس ‪ ،‬حدثنا ليث ‪ ،‬عن عبد ال بن عمر بن حفص بن عاصم ‪ ،‬عن‬
‫القاسم بن غنام ‪ ،‬عن جدته أم أبيه الدنيا ‪ ،‬عن جدته أم فَ ْروَة ‪ -‬وكانت ممن بايع رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬أنها سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وذكر العمال ‪ ،‬فقال ‪" :‬إن أحب‬
‫العمال (‪ )2‬إلى ال تعجيلُ الصلة لول وقتها"‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذي (‪ )3‬وقال ‪ :‬ل نعرفه إل من طريق العمري ‪ ،‬وليس بالقوي عند‬
‫أهل الحديث ‪:‬‬
‫وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلة الوسطى‪ .‬وقد اختلف السلف والخلف فيها ‪ :‬أي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )5970 ، 527‬وصحيح مسلم برقم (‪.)85‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬العمل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪ )6/274‬وسنن أبي داود برقم (‪ )426‬وسنن الترمذي برقم (‪.)170‬‬

‫( ‪)1/645‬‬

‫صلة هي ؟ فقيل ‪ :‬إنها الصبح‪ .‬حكاه مالك في الموطأ بلغًا عن علي ‪ ،‬وابن عباس [قال ‪ :‬مالك‬
‫‪ :‬وذلك رأيى] (‪ .)1‬وقال هشيم ‪ ،‬وابن عُليّة ‪ ،‬وغُ ْندَر ‪ ،‬وابن أبي عدي ‪ ،‬وعبد الوهاب ‪ ،‬وشَريك‬
‫وغيرهم ‪ ،‬عن عوف العرابي ‪ ،‬عن أبي رجاء العطاردي قال ‪ :‬صليت خلف ابن عباس الفجر ‪،‬‬
‫فقنتَ فيها ‪ ،‬ورفع يديه ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هذه الصلة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين‪ .‬رواه ابن‬
‫جرير (‪ .)2‬ورواه أيضًا من حديث عوف ‪ ،‬عن خِلس بن عمرو ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬مثله سواء (‬
‫‪.)3‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب ‪ ،‬حدثنا عوف ‪ ،‬عن أبي المنهال ‪ ،‬عن‬
‫أبي العالية ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬أنه صلى الغداة في مسجد (‪ )4‬البصرة ‪ ،‬فقنت قبل الركوع وقال ‪:‬‬
‫سطَى‬
‫هذه الصلة الوسطى التي ذكرها ال في كتابه فقال ‪ { :‬حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬
‫َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ }‬
‫وقال أيضًا ‪ :‬حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني ‪ ،‬أخبرنا ابن المبارك ‪ ،‬أخبرنا الربيع بن أنس ‪،‬‬
‫عن أبي العالية قال ‪ :‬صليت خلف عبد ال بن قيس بالبصرة (‪ )5‬صلة الغداة ‪ ،‬فقلت لرجل من‬
‫أصحاب رسول ال ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إلى جانبي ‪ :‬ما الصلة الوسطى ؟ قال ‪ :‬هذه الصلة‬
‫(‪.)6‬‬
‫وروي من طريق أخرى عن الربيع ‪ ،‬عن أبي العالية ‪ :‬أنه صلى مع أصحاب رسول ال ‪ ،‬صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬صلة الغداة ‪ ،‬فلما فرغوا قال ‪ ،‬قلت لهم ‪ :‬أيّتهُنّ الصلة الوسطى ؟ قالوا ‪ :‬التي‬
‫قد صليتها قبل‪.‬‬
‫وقال أيضًا ‪ :‬حدثنا ابن بشار ‪ ،‬حدثنا ابن عَت َمةَ ‪ ،‬عن سعيد بن بشير ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن جابر بن‬
‫عبد ال قال ‪ :‬الصلة الوسطى ‪ :‬صلة الصبح‪.‬‬
‫وحكاه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬وأبي أمامة ‪ ،‬وأنس ‪ ،‬وأبي العالية ‪ ،‬وعُبَيد بن عمير ‪،‬‬
‫وعطاء ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وجابر بن زيد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والربيع بن أنس‪ .‬ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫بن شداد بن الهاد أيضا وهو الذي نص عليه الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬محتجا بقوله ‪َ { :‬وقُومُوا ِللّهِ‬
‫قَانِتِينَ } والقنوت عنده في صلة الصبح‪[ .‬ونقله الدمياطي عن عمر ‪ ،‬ومعاذ ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وابن‬
‫عمر ‪ ،‬وعائشة على خلف منهم ‪ ،‬وأبي موسى ‪ ،‬وجابر ‪ ،‬وأنس ‪ ،‬وأبي الشعثاء ‪ ،‬وطاوس ‪،‬‬
‫وعطاء ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬ومجاهد] (‪.)7‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬هي الوسطى باعتبار أنها ل تقصر ‪ ،‬وهي بين صلتين رباعيتين مقصورتين‪.‬‬
‫وترد المغرب‪ .‬وقيل ‪ :‬لنها بين صل َتيْ ليل (‪ )8‬جهريتين ‪ ،‬وصلتي نهار (‪ )9‬سريتين‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنها صلة الظهر‪ .‬قال أبو داود الطيالسي في مسنده ‪ :‬حدثنا ابن أبي ذئب ‪ ،‬عن الزبرقان‬
‫‪-‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)216 ، 5/215‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)5/218‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬في جامع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بالبصرة وفرغت"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬هذه الصلة الوسطى"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بين صلتين ليليتين"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وصلتين نهاريتين"‪.‬‬

‫( ‪)1/646‬‬

‫يعني ابن عمرو ‪ -‬عن (‪ )1‬زهرة ‪ -‬يعني ابن معبد ‪ -‬قال ‪ :‬كنا جلوسا عند زيد بن ثابت ‪،‬‬
‫فأرسلوا إلى أسامة ‪ ،‬فسألوه عن الصلة الوسطى ‪ ،‬فقال ‪ :‬هي الظهر ‪ ،‬كان النبي (‪ )2‬صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬يصليها بالهجير (‪.)3‬‬
‫وقال [المام] (‪ )4‬أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬حدثني عمْرو بن أبي حكيم ‪،‬‬
‫سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير ‪ ،‬عن زيد بن ثابت قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ‪ ،‬ولم يكن ُيصَلّي صلة أشد على أصحاب النبي ‪ ،‬صلى ال‬
‫سطَى } وقال ‪" :‬إن قبلها‬
‫ت وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬منها ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫صلتين وبعدها صلتين" ‪ ،‬ورواه أبو داود في سننه ‪ ،‬من حديث شعبة ‪ ،‬به (‪.)5‬‬
‫وقال أحمد أيضا ‪ :‬حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا ابن أبي ذئب (‪ )6‬عن الزبرقان (‪ )7‬أن رهطًا من قريش‬
‫مر بهم زيد بن ثابت ‪ ،‬وهم مجتمعون ‪ ،‬فأرسلوا إليه غلمين لهم ؛ يسألنه عن الصلة‬
‫الوسطى ‪ ،‬فقال ‪ :‬هي العصر‪ .‬فقام إليه رجلن منهم فسأله ‪ ،‬فقال ‪ :‬هي الظهر‪ .‬ثم انصرفا إلى‬
‫أسامة بن زيد فسأله ‪ ،‬فقال ‪ :‬هي الظهر ؛ إن النبي صلى ال عليه وسلم كان يصلي الظهر‬
‫بالهجير ‪ ،‬فل يكون وراءه إل الصف والصفان ‪ ،‬والناس في قائلتهم وفي تجارتهم ‪ ،‬فأنزل ال ‪{ :‬‬
‫ت وَالصّلةِ ا ْلوُسْطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } قال ‪ :‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ليَنْتَهيَنّ رجال أو لحرقن بيوتهم" (‪.)8‬‬
‫الزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري ‪ ،‬لم يدرك أحدا من الصحابة‪ .‬والصحيح ما تقدم من‬
‫روايته ‪ ،‬عن زهرة بن معبد ‪ ،‬وعروة بن الزبير‪.‬‬
‫وقال شعبة وهمام ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن ابن عمر ‪ ،‬عن زيد بن ثابت قال ‪:‬‬
‫الصلة الوسطى ‪ :‬صلة الظهر‪.‬‬
‫وقال أبو داود الطيالسي وغيره ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬أخبرني عمر بن سليمان ‪ ،‬من ولد عمر بن‬
‫الخطاب قال ‪ :‬سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان ‪ ،‬يحدث عن أبيه ‪ ،‬عن زيد بن ثابت قال ‪:‬‬
‫الصلة الوسطى هي الظهر‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير ‪ ،‬عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ‪ ،‬عن عبد الصمد ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن عمر‬
‫بن سليمان ‪ ،‬به ‪ ،‬عن زيد بن ثابت ‪ ،‬في حديث رفعه قال ‪ :‬الصلة الوسطى صلة الظهر‪.‬‬
‫وممن روي عنه أنها الظهر ‪ :‬ابن عمر ‪ ،‬وأبو سعيد ‪ ،‬وعائشة على اختلف عنهم‪ .‬وهو قول‬
‫عروة بن الزبير ‪ ،‬وعبد ال بن شداد بن الهاد‪ .‬ورواية عن أبي حنيفة ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنها صلة العصر‪ .‬قال الترمذي والبغوي ‪ ،‬رحمهما ال ‪ :‬وهو قول أكثر علماء الصحابة‬
‫وغيرهم ‪ ،‬وقال القاضي الماوردي ‪ :‬وهو قول جمهور التابعين‪ .‬وقال الحافظ أبو عمر بن عبد‬
‫البر ‪ :‬هو قول أكثر أهل الثر‪ .‬وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره ‪ :‬هو قول جمهور الناس‪.‬‬
‫وقال الحافظ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وعن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬مسند الطيالسي برقم (‪.)628‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )5/183‬وسنن أبي داود برقم (‪.)411‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬حدثنا ابن أبي وهب" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬أنبأنا أبي وهب"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬ابن الزبرقان"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)5/206‬‬

‫( ‪)1/647‬‬
‫أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى ‪" :‬كشف المغطى ‪ ،‬في تبيين الصلة‬
‫الوسطى" ‪ :‬وقد نصر فيه أنها العصر ‪ ،‬وحكاه عن عمر ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وأبي أيوب ‪،‬‬
‫سمُرة بن جُنْدُب ‪ ،‬وأبي هريرة ‪ ،‬وأبي سعيد ‪ ،‬وحفصة ‪ ،‬وأم حبيبة ‪ ،‬وأم‬
‫وعبد ال ابن عمرو ‪ ،‬و َ‬
‫سلمة‪ .‬وعن ابن عمر ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وعائشة على (‪ )1‬الصحيح عنهم‪ .‬وبه قال عبيدة ‪ ،‬وإبراهيم‬
‫النخعي ‪ ،‬وزر بن حبيش ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪،‬‬
‫والكلبي ‪ ،‬ومقاتل ‪ ،‬وعبيد بن أبي مريم ‪ ،‬وغيرهم وهو مذهب أحمد بن حنبل‪ .‬قال القاضي‬
‫الماوردي ‪ :‬والشافعي‪ .‬قال ابن المنذر ‪ :‬وهو الصحيح عن أبي حنيفة ‪ ،‬وأبي يوسف ‪ ،‬ومحمد ‪،‬‬
‫واختاره ابن حبيب المالكي ‪ ،‬رحمهم ال‪.‬‬
‫ذكر الدليل على ذلك ‪:‬‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا العمش عن مسلم ‪ ،‬عن شتير بن شكل (‪ )2‬عن علي‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الحزاب ‪" :‬شغلونا عن الصلة الوسطى ‪ ،‬صلة‬
‫العصر ‪ ،‬مل ال قلوبهم وبيوتهم نارًا"‪ .‬ثم صلها بين العشاءين ‪ :‬المغرب والعشاء (‪.)3‬‬
‫وكذا رواه مسلم ‪ ،‬من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ‪ ،‬والنسائي من طريق عيسى‬
‫بن يونس ‪ ،‬كلهما عن العمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى ‪ ،‬عن شتير بن شكل (‪)4‬‬
‫بن حميد ‪ ،‬عن علي بن أبي طالب ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم مثله (‪.)5‬‬
‫وقد رواه مسلم أيضا ‪ ،‬من طريق شعبة ‪ ،‬عن الحكم بن عتيبة (‪ )6‬عن يحيى بن الجزار ‪ ،‬عن‬
‫علي ‪ ،‬به (‪.)7‬‬
‫وأخرجه الشيخان ‪ ،‬وأبو داود ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وغير واحد من أصحاب المساند (‪)8‬‬
‫والسنن ‪ ،‬والصحاح من طرق يطول ذكرها ‪ ،‬عن عبيدة السلماني ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬به (‪.)9‬‬
‫ورواه الترمذي ‪ ،‬والنسائي من طريق الحسن البصري ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬به (‪ .)10‬قال الترمذي ‪ :‬ول‬
‫يعرف سماعه منه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن سنان ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬عن سفيان ‪ ،‬عن‬
‫عاصم ‪ ،‬عن زر ‪ :‬قال قلت لعبيدة ‪ :‬سل عليًا عن صلة الوسطى ‪ ،‬فسأله ‪ ،‬فقال ‪ :‬كنا نراها‬
‫الفجر ‪ -‬أو الصبح ‪ -‬حتى سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول يوم الحزاب ‪" :‬شغلونا‬
‫عن الصلة الوسطى صلة العصر ‪ ،‬مل ال قبورهم وأجوافهم ‪ -‬أو بيوتهم ‪ -‬نارًا" ورواه ابن‬
‫جرير ‪ ،‬عن بندار ‪ ،‬عن ابن مهدي ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بشير بن نكل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)1/81‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بشير بن نكل"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪ )627‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11045‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬بن عيينة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)627‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬المسانيد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪ )4111 ، 2931‬وصحيح مسلم برقم (‪ )627‬وسنن أبي داود برقم (‬
‫‪ )409‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2984‬وسنن النسائي (‪.)1/236‬‬
‫(‪ )10‬لم أقع على هذا الطريق ولم يذكره المزي في تحفة الشراف‪.‬‬

‫( ‪)1/648‬‬

‫به (‪.)1‬‬
‫شغْل المشركين رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأصحابه عن أداء‬
‫وحديث يوم الحزاب ‪ ،‬و َ‬
‫صلة العصر يومئذ ‪ ،‬مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم ‪ ،‬وإنما المقصود رواية من‬
‫نص منهم في روايته أن الصلة الوسطى ‪ :‬هي صلة العصر‪ .‬وقد رواه مسلم أيضا ‪ ،‬من حديث‬
‫ابن مسعود ‪ ،‬والبراء بن عازب ‪ -‬رضي ال عنهما (‪.)2‬‬
‫سمُرة ‪:‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا همام ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن َ‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬صلة الوسطى ‪ :‬صلة العصر" (‪.)3‬‬
‫سمُرة ‪ :‬أن رسول ال ‪،‬‬
‫وحدثنا بهز ‪ ،‬وعفان قال حدثنا أبان ‪ ،‬حدثنا قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن َ‬
‫سطَى } وسماها لنا أنها هي ‪:‬‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ { :‬حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬
‫صلة العصر (‪.)4‬‬
‫سمُرة بن‬
‫وحدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬وروح ‪ ،‬قال حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن َ‬
‫جندب ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬هي العصر"‪ .‬قال ابن جعفر ‪ :‬سئل عن صلة‬
‫الوسطى (‪.)5‬‬
‫ورواه الترمذي ‪ ،‬من حديث سعيد بن أبي عروبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن سمرة‪)6( .‬‬
‫سمِعَ منه‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬حسن صحيح ‪ :‬وقد ُ‬
‫[حديث آخر] (‪ : )7‬وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أحمد بن منيع ‪ ،‬حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ‪ ،‬عن‬
‫التيمي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الصلة‬
‫الوسطى صلة العصر" (‪.)8‬‬
‫طريق أخرى ‪ ،‬بل حديث آخر ‪ :‬وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا سليمان بن أحمد‬
‫الجرشي الواسطي ‪ ،‬حدثنا الوليد بن مسلم‪ .‬قال ‪ :‬أخبرني صدقة بن خالد ‪ ،‬حدثني خالد بن دهقان‬
‫‪ ،‬عن خالد بن سبلن ‪ ،‬عن كهيل بن حرملة‪ .‬قال ‪ :‬سئل أبو هريرة عن الصلة الوسطى ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ‪ ،‬ونحن بفناء بيت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وفينا الرجل‬
‫الصالح ‪ :‬أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا أعلم لكم ذلك ‪ :‬فقام فاستأذن‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فدخل عليه ‪ ،‬ثم خرج إلينا فقال ‪ :‬أخبرنا أنها صلة‬
‫العصر (‪ )9‬غريب من هذا الوجه جدًا‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أحمد بن إسحاق ‪ ،‬حدثنا أبو أحمد ‪ ،‬حدثنا عبد السلم ‪ ،‬عن‬
‫سالم مولى أبي بصير (‪ )10‬حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال ‪ :‬كنت جالسًا عند عبد العزيز‬
‫بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)5/184‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪ )628‬من حديث ابن مسعود رضي ال عنه وبرقم (‪ )630‬من حديث‬
‫البراء رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)5/22‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)5/8‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪.)13 ، 12 ، 5/7‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪.)2983 ، 182‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير الطبري (‪.)5/189‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)5/191‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬أبي نصير"‪.‬‬

‫( ‪)1/649‬‬

‫مروان فقال ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬اذهب إلى فلن فقل له ‪ :‬أي شيء سمعت من رسول ال ‪ ،‬صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬في الصلة الوسطى ؟ فقال رجل جالس ‪ :‬أرسلني أبو بكر وعمر ‪ -‬وأنا غلم صغير‬
‫‪ -‬أسأله عن الصلة الوسطى ‪ ،‬فأخذ إصبعي الصغيرة فقال ‪ :‬هذه الفجر ‪ ،‬وقبض التي تليها ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬هذه الظهر‪ .‬ثم قبض البهام ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذه المغرب‪ .‬ثم قبض التي تليها ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذه‬
‫العشاء‪ .‬ثم قال ‪ :‬أي أصابعك بقيت ؟ فقلت ‪ :‬الوسطى‪ .‬فقال ‪ :‬أي الصلة بقيت ؟ فقلت ‪ :‬العصر‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬هي العصر (‪ .)1‬غريب أيضًا‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثني محمد بن عوف الطائي ‪ ،‬حدثنا محمد بن إسماعيل بن‬
‫عياش (‪ )2‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثني ضمضم بن زرعة ‪ ،‬عن شريح بن عبيد ‪ ،‬عن أبي مالك‬
‫الشعري قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الصلة الوسطى صلة العصر" (‪.)3‬‬
‫إسناده ل بأس به‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه ‪ :‬حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير ‪ ،‬حدثنا الجراح‬
‫بن مخلد ‪ ،‬حدثنا عمرو بن عاصم ‪ ،‬حدثنا همام عن قتادة عن ُموَرّق (‪ )4‬ال ِعجْلي ‪ ،‬عن أبي‬
‫الحوص ‪ ،‬عن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬صلة الوسطى صلة‬
‫العصر" (‪.)5‬‬
‫وقد روى الترمذي ‪ ،‬من حديث محمد بن طلحة بن مصرف ‪ ،‬عن زبيد اليامي ‪ ،‬عن مُرّة‬
‫الهَمداني ‪ ،‬عن ابن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬صلة الوسطى صلة‬
‫العصر " (‪ )6‬ثم قال ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫وأخرجه مسلم في صحيحه ‪ ،‬من طريق (‪ )7‬محمد بن طلحة ‪ ،‬به (‪ )8‬ولفظه ‪" :‬شغلونا عن‬
‫الصلة الوسطى صلة العصر" الحديث‪.‬‬
‫فهذه نصوص في المسألة ل تحتمل شيئا ‪ ،‬ويؤكد ذلك المر بالمحافظة عليها ‪ ،‬وقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم في الحديث الصحيح ‪ ،‬من رواية الزهري ‪ ،‬عن سالم ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪" :‬من فاتته صلة العصر فكأنما وتر أهله وماله (‪ .)10( " )9‬وفي الصحيح‬
‫أيضًا ‪ ،‬من حديث الوزاعي ‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي قِلبة ‪ ،‬عن أبي المهاجر (‪)11‬‬
‫حصَيْب ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬بكروا بالصلة في يوم الغيم ‪،‬‬
‫عن بُرَيدة بن ال ُ‬
‫فإنه من ترك صلة العصر فقد حبط عمله" (‪.)13( )12‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)5/196‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬بن عباس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪ )5/198‬وقول الحافظ ‪ :‬إسناده ل بأس به ‪ ،‬متعقب ؛ فإن في إسناده ضعف‬
‫وانقطاع ‪ ،‬وهذه نسخة مشهورة خرجها الطبراني في المعجم الكبير‪.‬‬
‫(‪ )4‬وقع في هـ ‪" :‬همام بن مورق" والتصحيح من الحسان‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح ابن حبان (‪" )3/121‬الحسان"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪.)181‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬من حديث"‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪.)628‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ماله وأهله"‪.‬‬
‫(‪ )10‬صحيح مسلم برقم (‪.)626‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬عن أبي المهاجر عن أبي المليح"‪.‬‬
‫(‪ )12‬الذي في الصحيح إنما هو عن هشام عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي قلبة ‪ ،‬عن أبي‬
‫المليح ‪ ،‬عن بريدة رضي ال عنه ‪ ،‬وهو في صحيح البخاري برقم (‪ ، )553‬وهذا الثاني إنما هو‬
‫في سنن ابن ماجة برقم (‪ ، )694‬والول هو المحفوظ ‪ ،‬وقد وقع في نسخة "جـ" إثباته على‬
‫الصواب ‪ ،‬كما بينته ‪ ،‬لكن وقع تخليط في ذلك ؛ لنه أثبت كلمة ‪" :‬وفي الصحيح" ثم تدارك ذلك‪.‬‬
‫(‪ )13‬جاء في جـ ‪" :‬كذا رواه ابن ماجة من حديث الوزاعي ‪ ،‬ورواه البخاري والنسائي من‬
‫حديث هشام الدستوائي ‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أبي قلبة ‪ ،‬عن أبي المليح بن أسامة ‪،‬‬
‫عن بريدة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من ترك صلة العصر فقد حبط عمله"‪.‬‬

‫( ‪)1/650‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يحيى بن إسحاق ‪ ،‬أخبرنا ابن لهيعة ‪ ،‬عن عبد ال بن هبيرة ‪ ،‬عن أبي‬
‫تميم ‪ ،‬عن أبي بصرة (‪ )1‬الغفاري قال ‪ :‬صلى بنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في واد من‬
‫خمّص صلة العصر ‪ ،‬فقال ‪" :‬إن هذه الصلة صلة العصر عُ ِرضَت على‬
‫أوديتهم ‪ ،‬يقال له ‪ :‬الم َ‬
‫ضعّف له أجره مرتين ‪ ،‬أل ول صلة بعدها حتى‬
‫الذين من قبلكم فضيعوها ‪ ،‬أل ومن صلها ُ‬
‫تروا (‪ )2‬الشاهد"‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬رواه عن يحيى بن إسحاق ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن خير (‪ )3‬بن نُعيِم ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫هبيرة ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن الليث (‪ .)5‬ورواه مسلم أيضا من حديث‬
‫محمد بن إسحاق ‪ ،‬حدثني يزيد بن أبي حبيب كلهما عن خير بن نعيم الحضرمي ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫ابن هبيرة السبائي (‪.)7( )6‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه المام أحمد أيضا ‪ :‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬أخبرني مالك ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪،‬‬
‫عن القعقاع بن حكيم ‪ ،‬عن أبي يونس مولى عائشة قال ‪ :‬أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ‪،‬‬
‫ت وَالصّلةِ ا ْلوُسْطَى } فآذني‪ .‬فلما بلغتها‬
‫قالت ‪ :‬إذا بلغت هذه الية ‪ { :‬حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫آذنتها ‪ ،‬فأملت علي ‪" :‬حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وصلة العصر وقوموا ل قانتين"‬
‫قالت ‪ :‬سمعتها من رسول ال صلى ال عليه وسلم وهكذا رواه مسلم ‪ ،‬عن يحيى بن يحيى ‪ ،‬عن‬
‫مالك ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا الحجاج ‪ ،‬حدثنا حماد ‪ ،‬عن هشام بن عروة عن أبيه قال‬
‫‪ :‬كان في مصحف عائشة ‪" :‬حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وهي صلة العصر"‪)9( .‬‬
‫وهكذا رواه من طريق الحسن البصري ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأها كذلك‪ .‬وقد‬
‫روى المام مالك أيضا ‪ ،‬عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال ‪ :‬كنت أكتب مصحفا لحفصة‬
‫زوج النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إذا بلغت هذه الية فآذني ‪ { :‬حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ‬
‫سطَى } فلما بلغتها آذنتها‪ .‬فأملت علي ‪" :‬حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى‬
‫وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬
‫وصلة العصر وقوموا ل قانتين" (‪.)10‬‬
‫وهكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار (‪ )11‬فقال ‪ :‬حدثني أبو جعفر محمد بن علي ‪ ،‬ونافع مولى‬
‫بن عمر ‪ :‬أن عمر بن نافع قال‪ ...‬فذكر مثله ‪ ،‬وزاد ‪ :‬كما حفظتها من النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬جـ ‪" :‬عن أبي نضرة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬حتى يزول"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عن حسن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)6/397‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪ )830‬وسنن النسائي (‪.)1/259‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬الشيباني"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)830‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪ )6/73‬وصحيح مسلم برقم (‪.)629‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)5/175‬‬
‫(‪ )10‬الموطأ (‪.)1/139‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬بن بشار"‪.‬‬

‫( ‪)1/651‬‬

‫طريق أخرى عن حفصة ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا‬
‫شعبة ‪ ،‬عن أبي بشر ‪ ،‬عن عبد ال بن يزيد الزدي ‪ ،‬عن سالم بن عبد ال ‪ :‬أن حفصة أمرت‬
‫ت وَالصّلةِ‬
‫علَى الصَّلوَا ِ‬
‫إنسانا أن يكتب لها مصحفا ‪ ،‬فقالت ‪ :‬إذا بلغت هذه الية ‪ { :‬حَا ِفظُوا َ‬
‫ا ْلوُسْطَى } فآذني‪ .‬فلما بلغ آذنها فقالت ‪ :‬اكتب ‪" :‬حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى‬
‫وصلة العصر" (‪.)1‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثني ابن المثنى عبد الوهاب ‪ ،‬حدثنا عبيد ال ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬أن‬
‫حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت ‪ :‬إذا بلغت هذه الية ‪ " :‬حافظوا على‬
‫الصلوات والصلة الوسطى " فل تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقرأها‪ .‬فلما بلغها أمرته فكتبها ‪" :‬حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وصلة العصر‬
‫وقوموا ل قانتين"‪ .‬قال نافع ‪ :‬فقرأت ذلك المصحف فرأيت فيه "الواو" (‪.)2‬‬
‫وكذا روى ابن جرير ‪ ،‬عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرآ كذلك‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ ،‬حدثنا عبدة ‪ ،‬حدثنا محمد بن عمرو ‪ ،‬حدثني أبو سلمة ‪ ،‬عن‬
‫عمرو بن رافع مولى عمر قال ‪ :‬كان في مصحف حفصة ‪" :‬حافظوا على الصلوات والصلة‬
‫الوسطى وصلة العصر وقوموا ل قانتين" (‪ .)3‬وتقرير المعارضة أنه عطف صلة العصر على‬
‫الصلة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة ‪ ،‬فدل ذلك على أنها غيرها وأجيب عن ذلك‬
‫بوجوه ‪ :‬أحدها أن هذا إن روي على أنه خبر ‪ ،‬فحديث علي أصح وأصرح منه ‪ ،‬وهذا يحتمل أن‬
‫ت وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } [النعام ‪:‬‬
‫صلُ اليَا ِ‬
‫تكون الواو زائدة ‪ ،‬كما في قوله ‪َ { :‬وكَذَِلكَ ُن َف ّ‬
‫ت وَال ْرضِ وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ } [النعام ‪، ]75 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫‪َ { ، ]55‬وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫أو تكون لعطف الصفات ل لعطف الذوات ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬وََلكِنْ رَسُولَ اللّ ِه َوخَاتَمَ النّبِيّينَ } [الحزاب‬
‫سوّى * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَى * وَالّذِي‬
‫‪ ، ]40 :‬وكقوله ‪ { :‬سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ العْلَى * الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫أَخْرَجَ ا ْلمَرْعَى } [العلى ‪ ]4 - 1‬وأشباه ذلك كثيرة ‪ ،‬وقال الشاعر ‪:‬‬
‫إلى الملك القرم وابن الهمام‪ ...‬وليث الكتيبة في المزدحم‪...‬‬
‫وقال أبو دؤاد اليادي ‪:‬‬
‫سلط الموت والمنون عليهم‪ ...‬فلهم في صدى المقابر هام (‪)4‬‬
‫والموت هو المنون ؛ قال عدي بن زيد العبادي ‪:‬‬
‫فقدمت الديم لراهشيه‪ ...‬فألفى قولها كذبا ومينا (‪)5‬‬
‫والكذب ‪ :‬هو المين ‪ ،‬وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل ‪ :‬مررت بأخيك‬
‫وصاحبك ‪ ،‬ويكون الصاحب هو الخ نفسه ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)209 ، 5/208‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪.)5/209‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)5/211‬‬
‫(‪ )4‬البيت في لسان العرب لبن منظور ‪ ،‬مادة "منن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬البيت في لسان العرب لبن منظور ‪ ،‬مادة "مين"‪.‬‬

‫( ‪)1/652‬‬

‫وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر ‪ ،‬فل يثبت بمثل خبر الواحد قرآن ؛ ولهذا لم يثبته‬
‫أمير المؤمنين عثمان بن عفان في المصحف المام ‪ ،‬ول قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت‬
‫الحجة بقراءتهم ‪ ،‬ل من السبعة ول غيرهم‪ .‬ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلوة المذكورة‬
‫في هذا الحديث‪ .‬قال مسلم ‪ :‬حدثنا إسحاق بن راهويه ‪ ،‬أخبرنا يحيى بن آدم ‪ ،‬عن فضيل بن‬
‫مرزوق ‪ ،‬عن شقيق بن عقبة ‪ ،‬عن البراء بن عازب ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت ‪" :‬حافظوا على الصلوات‬
‫وصلة العصر (‪ " )1‬فقرأناها على رسول ال صلى ال عليه وسلم ما شاء ال ‪ ،‬ثم نسخها ال ‪،‬‬
‫سطَى } فقال له زاهر ‪ -‬رجل كان مع‬
‫عز وجل ‪ ،‬فأنزل ‪ { :‬حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬
‫شقيق ‪ : -‬أفهي العصر ؟ قال ‪ :‬قد حدثتك كيف نزلت ‪ ،‬وكيف نسخها ال ‪ ،‬عز وجل‪.‬‬
‫قال مسلم ‪ :‬ورواه الشجعي ‪ ،‬عن الثوري ‪ ،‬عن السود ‪ ،‬عن شقيق (‪.)2‬‬
‫قلت ‪ :‬وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد ‪ ،‬وال أعلم‪ .‬فعلى هذا تكون هذه‬
‫التلوة ‪ ،‬وهي تلوة الجادة ‪ ،‬ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ‪ ،‬ولمعناها ‪ ،‬إن كانت الواو دالة‬
‫على المغايرة ‪ ،‬وإل فللفظها فقط ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن الصلة الوسطى هي صلة المغرب‪ .‬رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس‪ .‬وفي إسناده‬
‫جمَاهر (‪ )3‬عن سعيد بن بشير ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أبي‬
‫نظر ؛ فإنه رواه عن أبيه ‪ ،‬عن أبي ال ُ‬
‫الخليل ‪ ،‬عن عمه ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬صلة الوسطى ‪ :‬المغرب‪ .‬وحكى هذا القول ابن جرير‬
‫عن قبيصة بن ذؤيب وحكي أيضا عن قتادة على اختلف عنه‪ .‬ووجه هذا القول بعضهم بأنها ‪:‬‬
‫وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية ‪ ،‬وبأنها وتر المفروضات ‪ ،‬وبما جاء فيها من الفضيلة ‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنها العشاء الخرة ‪ ،‬اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور ‪ :‬وقيل ‪ :‬هي‬
‫واحدة من الخمس ‪ ،‬ل بعينها ‪ ،‬وأبهمت فيهن ‪ ،‬كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو‬
‫العشر‪ .‬ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬وشريح القاضي ‪ ،‬ونافع مولى ابن عمر ‪،‬‬
‫والربيع بن خيثم ‪ ،‬ونقل أيضا عن زيد بن ثابت ‪ ،‬واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬بل الصلة الوسطى مجموع الصلوات الخمس ‪ ،‬رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر ‪ ،‬وفي‬
‫صحته أيضا نظر والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النّمري ‪ ،‬إمام ما‬
‫وراء البحر ‪ ،‬وإنها لحدى الكبر ‪ ،‬إذ اختاره ‪ -‬مع اطلعه وحفظه ‪ -‬ما لم يقم عليه دليل من‬
‫كتاب ول سنة ول أثر‪ .‬وقيل ‪ :‬إنها صلة العشاء وصلة الفجر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل هي صلة الجماعة‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬صلة الجمعة‪ .‬وقيل ‪ :‬صلة الخوف‪ .‬وقيل ‪ :‬بل صلة عيد الفطر‪ .‬وقيل ‪ :‬بل صلة عيد‬
‫الضحى‪ .‬وقيل ‪ :‬الوتر‪ .‬وقيل ‪ :‬الضحى‪ .‬وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الدلة ‪ ،‬ولم‬
‫يظهر لهم وجه الترجيح‪ .‬ولم يقع الجماع على قول واحد ‪ ،‬بل لم يزل التنازع (‪ )4‬فيها موجودا‬
‫من زمن الصحابة وإلى الن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬والصلة الوسطى صلة العصر"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)63‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬عن أبي الجماهير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬النزاع"‪.‬‬

‫( ‪)1/653‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثني محمد بن بشار وابن مثنى ‪ ،‬قال حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة قال‬
‫‪ :‬سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال ‪ :‬كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫مختلفين في الصلة الوسطى هكذا ‪ ،‬وشَبّك بين أصابعه (‪.)1‬‬
‫[وقد حكى فخر الدين الرازي في تفسيره قول عن جمع من العلماء منهم زيد بن ثابت ‪ ،‬وربيع‬
‫ابن خيثم ‪ :‬أنها لم يرد بيانها ‪ ،‬وإنما أريد إبهامها ‪ ،‬كما أبهمت ليلة القدر في شهر رمضان ‪،‬‬
‫وساعة الجابة في يوم الجمعة ‪ ،‬والسم العظم في أسماء ال تعالى ‪ ،‬ووقت الموت على المكلف‬
‫؛ ليكون في كل وقت مستعدا ‪ ،‬وكذا أبهمت الليلة التي ينزل فيها من السماء وباء ليحذرها‬
‫الناس ‪ ،‬ويعطوا الهبة دائما ‪ ،‬وكذا وقت الساعة استأثر ال بعلمه ؛ فل تأتي إل بغته] (‪.)2‬‬
‫وكل هذه القوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ‪ ،‬وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح‬
‫والعصر‪ .‬وقد ثبتت السنة بأنها العصر ‪ ،‬فتعين المصير إليها‪.‬‬
‫وقد روى المام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب "فضائل الشافعي" رحمه‬
‫ال ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول ‪ :‬قال الشافعي ‪ :‬كل ما قلت فكان عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم خلف قولي مما يصح ‪ ،‬فحديث النبي صلى ال عليه وسلم أولى ‪ ،‬ول‬
‫تقلدوني‪ .‬وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل ‪ ،‬عن الشافعي‪ .‬وقال موسى أبو الوليد‬
‫بن أبي الجارود ‪ ،‬عن الشافعي ‪ :‬إذا صح الحديث وقلت قول فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك‪.‬‬
‫فهذا من سيادته وأمانته ‪ ،‬وهذا نفس إخوانه من الئمة ‪ ،‬رحمهم ال ورضي عنهم أجمعين آمين‪.‬‬
‫ومن هاهنا قطع القاضي الماوردي بأن مذهب الشافعي ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬أن صلة الوسطى هي‬
‫صلة العصر ‪ ،‬وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح ‪ ،‬لصحة الحاديث أنها العصر ‪،‬‬
‫وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪ .‬ومن الفقهاء في‬
‫المذهب من ينكر أن تكون هي العصر مذهبا للشافعي ‪ ،‬وصمموا على أنها الصبح قول واحدا‪.‬‬
‫قال الماوردي ‪ :‬ومنهم من حكى في المسألة قولين ‪ ،‬ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر‬
‫غير هذا ‪ ،‬وقد أفردناه على حدة ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } أي ‪ :‬خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه ‪ ،‬وهذا المر مستلزم‬
‫(‪ )3‬ترك الكلم في الصلة ‪ ،‬لمنافاته إياها ؛ ولهذا لما امتنع النبي صلى ال عليه وسلم من الرد‬
‫على ابن مسعود حين سلم عليه ‪ ،‬وهو في الصلة ‪ ،‬اعتذر إليه بذلك ‪ ،‬وقال‪" .‬إن في الصلة‬
‫لشغل" ‪ ،‬وفي صحيح مسلم أنه عليه السلم قال لمعاوية بن الحكم [السلمي] (‪ )4‬حين تكلم في‬
‫الصلة ‪" :‬إن هذه الصلة ل يصلح (‪ )5‬فيها شيء من كلم الناس ‪ ،‬إنما هي التسبيح والتكبير‬
‫وذكر ال" (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)5/221‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬يستلزم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ل يصح"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)537‬‬

‫( ‪)1/654‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ ،‬حدثنا يحيى بن سعيد ‪ ،‬عن إسماعيل ‪ ،‬حدثني الحارث بن شبيل ‪ ،‬عن أبي‬
‫عمرو الشيباني ‪ ،‬عن زيد بن أرقم قال ‪ :‬كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬في الحاجة في الصلة ‪ ،‬حتى نزلت هذه الية ‪َ { :‬وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت‪.‬‬
‫رواه الجماعة ‪ -‬سوى ابن ماجة ‪ ،‬به ‪ ،‬من طرق عن إسماعيل ‪ ،‬به (‪.)1‬‬
‫وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء ‪ ،‬حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلم في الصلة‬
‫كان بمكة ‪ ،‬قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة ‪ ،‬كما دل على ذلك حديث ابن‬
‫مسعود الذي في الصحيح ‪ ،‬قال ‪ :‬كنا نسلم على النبي صلى ال عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى‬
‫الحبشة وهو في الصلة ‪ ،‬فيرد علينا ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما قدمنا سلمت عليه ‪ ،‬فلم يرد علي ‪ ،‬فأخذني ما‬
‫قرب وما بعد ‪ ،‬فلما سلم قال ‪" :‬إني لم أرد عليك إل أني كنت في الصلة ‪ ،‬وإن ال يحدث من‬
‫أمره ما يشاء ‪ ،‬وإن مما أحدث أل تكلموا في الصلة" (‪.)2‬‬
‫وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديما ‪ ،‬وهاجر إلى الحبشة ‪ ،‬ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم ‪،‬‬
‫فهاجر إلى المدينة ‪ ،‬وهذه الية ‪َ { :‬وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ } مدنية (‪ )3‬بل خلف ‪ ،‬فقال قائلون ‪ :‬إنما‬
‫أراد زيد بن أرقم بقوله ‪" :‬كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلة" الخبار عن جنس الناس ‪،‬‬
‫واستدل على تحريم ذلك بهذه الية بحسب ما فهمه منها ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال آخرون ‪ :‬إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ‪ ،‬ويكون ذلك فقد أبيح مرتين ‪،‬‬
‫وحرم مرتين ‪ ،‬كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم ‪ ،‬والول أظهر‪ .‬وال أيضا أعلم‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى ‪ :‬حدثنا بشر بن الوليد ‪ ،‬حدثنا إسحاق بن يحيى ‪ ،‬عن المسيب ‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود قال ‪ :‬كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلة ‪ ،‬فمررت برسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فسلمت عليه ‪ ،‬فلم يرد علي ‪ ،‬فوقع في نفسي أنه نزل فيّ شيء ‪ ،‬فلما قضى النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم صلته قال ‪" :‬وعليك السلم ‪ ،‬أيها المسلم ‪ ،‬ورحمة ال ‪ ،‬إن ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬يحدث من‬
‫أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلة فاقنتوا ول تكلموا" (‪.)4‬‬
‫خفْتُمْ فَرِجَال َأوْ ُركْبَانًا فَإِذَا َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا عَّل َمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ } لما‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ ِ‬
‫أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات ‪ ،‬والقيام بحدودها ‪ ،‬وشدد المر بتأكيدها ذكر الحال‬
‫التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الكمل ‪ ،‬وهي حال القتال والتحام الحرب فقال ‪:‬‬
‫خفْتُمْ فَرِجَال َأوْ ُركْبَانًا } (‪ )5‬أي ‪ :‬فصلوا على أي حال كان ‪ ،‬رجال أو ركبانا ‪ :‬يعني ‪:‬‬
‫{ فَإِنْ ِ‬
‫مستقبلي القبلة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )4/368‬وصحيح البخاري برقم (‪ )4534 ، 1200‬وصحيح مسلم برقم (‪)539‬‬
‫وسنن أبي داود برقم (‪ )949‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2986‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)11047‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )3875 ، 1199‬وصحيح مسلم برقم (‪.)538‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬نزلت بالمدينة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )10/137‬من طريق عاصم عن المسيب عن ابن مسعود‬
‫به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وإن" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/655‬‬

‫وغير مستقبليها كما قال مالك ‪ ،‬عن نافع ‪ :‬أن (‪ )1‬ابن عمر كان إذا سئل عن صلة الخوف‬
‫وصفها‪ .‬ثم قال ‪ :‬فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجال على أقدامهم ‪ ،‬أو ركبانا مستقبلي‬
‫القبلة أو غير مستقبليها‪ .‬قال نافع ‪ :‬ل أرى ابن عمر ذكر ذلك إل عن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ورواه البخاري ‪ -‬وهذا لفظه (‪ - )2‬ومسلم ورواه البخاري أيضا من وجه آخر عن ابن جريج‬
‫عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ‪ :‬نحوه أو قريبا منه‬
‫(‪ )3‬ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال ‪ :‬فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ‬
‫إيماء (‪.)4‬‬
‫وفي حديث عبد ال بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إلى خالد بن سفيان‬
‫الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة ‪ -‬أو عرفات ‪ -‬فلما واجهه حانت صلة العصر قال ‪ :‬فخشيت أن‬
‫تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء‪ .‬الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد (‪ )5‬وهذا‬
‫من رخص ال التي رخص لعباده و َوضْعِه الصار والغلل عنهم‪.‬‬
‫وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الية ‪:‬‬
‫يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه‪ .‬قال ‪ :‬وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول‬
‫والسدي والحكم ومالك والوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك وزادوا ‪ :‬يومئ برأسه‬
‫أينما توجه (‪.)6‬‬
‫ثم قال ‪ :‬حدثنا أبي حدثنا أبو غسان حدثنا داود ‪ -‬يعني ابن علية ‪ -‬عن مطرف عن عطية عن‬
‫جابر بن عبد ال قال ‪ :‬إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه [إيماء] (‪ )7‬حيث كان وجهه فذلك قوله ‪:‬‬
‫{ فَ ِرجَال َأوْ ُركْبَانًا }‬
‫وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك‪ .‬وقد‬
‫ذهب المام أحمد فيما نص عليه ‪ ،‬إلى أن صلة الخوف تفعل في بعض الحيان ركعة واحدة إذا‬
‫تلحم الجيشان ‪ ،‬وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن‬
‫جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد ال اليشكري ‪ -‬زاد مسلم والنسائي ‪ :‬وأيوب بن‬
‫عائذ ‪ -‬كلهما عن بكير بن الخنس الكوفي ‪ ،‬عن مجاهد عن ابن عباس قال ‪ :‬فرض ال الصلة‬
‫على لسان نبيكم صلى ال عليه وسلم في الحضر أربعًا ‪ ،‬وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (‬
‫‪ )8‬وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال ‪ :‬سألت الحكم وحمادا وقتادة‬
‫عن صلة المسايفة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4535‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري برقم (‪.)943‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)839‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )3/496‬وسنن أبي داود برقم (‪.)1249‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬إيماء بوجه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪ )687‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1247‬وسنن النسائي (‪، 3/118 ، 1/226‬‬
‫‪ )169 ، 119‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )1068‬وتفسير الطبري (‪.)5/247‬‬

‫( ‪)1/656‬‬

‫وقال ابن جرير أيضا ‪ :‬حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا المسعودي‬
‫حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد ال قال ‪ :‬صلة الخوف‪ .‬ركعة واختار هذا القول ابن جرير‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪" :‬باب الصلة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" وقال الوزاعي ‪ :‬إن كان تهيأ‬
‫الفتح ‪ ،‬ولم يقدروا على الصلة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على اليماء أخروا‬
‫الصلة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم‬
‫يقدروا ل يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا‪ .‬وبه قال مكحول ‪ -‬وقال أنس بن مالك ‪:‬‬
‫حضرت مناهضة حصن تسْتَر عند إضاءة الفجر ‪ ،‬واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلة‬
‫فلم نصل إل بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا‪ .‬قال أنس ‪ :‬وما يسرني‬
‫بتلك الصلة الدنيا وما فيها‪.‬‬
‫هذا لفظ البخاري (‪ )1‬ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬صلة العصر يوم‬
‫الخندق بعذر المحاربة إلى (‪ )2‬غيبوبة الشمس وبقوله عليه السلم ‪ ،‬بعد ذلك لصحابه لما‬
‫جهزهم إلى بني قريظة ‪" :‬ل يصلين أحد منكم العصر إل في بني قريظة" ‪ ،‬فمنهم من أدركته‬
‫الصلة في الطريق فصلوا وقالوا ‪ :‬لم يرد منا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إل تعجيل السير‬
‫ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة فلم يعنف واحدا (‪ )3‬من‬
‫الفريقين‪ .‬وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول والجمهور على خلفه ويعولون على أن‬
‫صلة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ووردت (‪ )4‬بها الحاديث لم‬
‫تكن مشروعة في غزوة الخندق ‪ ،‬وإنما شرعت بعد ذلك‪ .‬وقد جاء مصرحا بهذا في حديث أبي‬
‫سعيد وغيره وأما مكحول والوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلة الخوف بعد ذلك ل‬
‫تنافي جواز ذلك ؛ لن هذا حال نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن‬
‫عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬فَِإذَا َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ } أي ‪ :‬أقيموا صلتكم كما أمرتم فأتموا (‪ )5‬ركوعها وسجودها‬
‫وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها { َكمَا عَّل َمكُمْ مَا لَمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬مثل ما أنعم عليكم‬
‫وهداكم لليمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والخرة ‪ ،‬فقابلوه بالشكر والذكر ‪ ،‬كقوله بعد ذكر‬
‫طمَأْنَنْ ُتمْ فََأقِيمُوا الصّلةَ إِنّ الصّلةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابًا َم ْوقُوتًا }‬
‫صلة الخوف ‪ { :‬فَِإذَا ا ْ‬
‫[النساء ‪ ]103 :‬وستأتي الحاديث الواردة في صلة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله‬
‫تعالى ‪ { :‬وَإِذَا كُ ْنتَ فِيهِمْ فََأ َق ْمتَ َلهُمُ الصّلةَ } الية [النساء ‪.]102 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪.)2/434‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬إلى بعد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أحدا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وورد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وأتموا"‪.‬‬

‫( ‪)1/657‬‬

‫ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا‬


‫ج ِهمْ مَتَاعًا إِلَى الْ َ‬
‫وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لِأَ ْزوَا ِ‬
‫طّلقَاتِ مَتَاعٌ‬
‫حكِيمٌ (‪ )240‬وَلِ ْلمُ َ‬
‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ (‪ )241‬كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آَيَاتِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ (‪)242‬‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫حوْلِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ‬
‫جهِمْ مَتَاعًا إِلَى ا ْل َ‬
‫{ وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لزْوَا ِ‬
‫طّلقَاتِ مَتَاعٌ‬
‫حكِيمٌ (‪ )240‬وَلِ ْلمُ َ‬
‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ (‪ )241‬كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ (‪} )242‬‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫شهُرٍ‬
‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ َأ ْ‬
‫قال الكثرون ‪ :‬هذه الية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله ‪ { :‬يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫وَعَشْرًا }‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زُرَيع عن حبيب عن ابن أبي مُلَيْكة ‪ ،‬قال ابن الزبير ‪:‬‬
‫قلت لعثمان بن عفان ‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا } قد نسختها الية الخرى فلم‬
‫تكتبها ‪ -‬أو تدعها ؟ قال ‪ :‬يا ابن أخي ل أغير شيئا منه من مكانه (‪.)1‬‬
‫ومعنى هذا الشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان ‪ :‬إذا كان حكمها قد نسخ بالربعة الشهر فما‬
‫الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها ‪ ،‬وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها ؟‬
‫فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي ‪ ،‬وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها‬
‫حيث وجدتها‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج‬
‫وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا‬
‫ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ } فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في‬
‫ج ِهمْ مَتَاعًا إِلَى الْ َ‬
‫َوصِيّةً لزْوَا ِ‬
‫الدار سنة ‪ ،‬فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج‪ .‬ثم قال ‪ :‬وروي‬
‫عن أبي موسى الشعري ‪ ،‬وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة‬
‫والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان ‪ ،‬وعطاء الخراساني والربيع بن أنس ‪ :‬أنها‬
‫منسوخة‪.‬‬
‫وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال ‪ :‬كان الرجل إذا مات وترك امرأته‬
‫اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل ال بعد ‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَ َيذَرُونَ أَ ْزوَاجًا‬
‫شهُ ٍر وَعَشْرًا }‬
‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬
‫يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إل أن تكون حامل فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال ‪ { :‬وََلهُنّ‬
‫الرّبُعُ ِممّا تَ َركْتُمْ إِنْ لَمْ َيكُنْ َلكُ ْم وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َل ُك ْم وَلَدٌ فََلهُنّ الّثمُنُ [ ِممّا تَ َركْ ُتمْ ] (‪[ } )2‬النساء ‪]12 :‬‬
‫فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫شهُ ٍر وَعَشْرًا }‬
‫نسختها { أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬
‫قال ‪ :‬وروي عن سعيد بن المسيب قال ‪ :‬نسختها التي في الحزاب ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا‬
‫طّلقْتُمُوهُنّ] (‪[ } )3‬الحزاب ‪.]49 :‬‬
‫َنكَحْتُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ [ ُثمّ َ‬
‫قلت ‪ :‬وروي عن [مقاتل و] (‪ )4‬قتادة ‪ :‬أنها منسوخة بآية الميراث‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)4530‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/658‬‬

‫وقال البخاري ‪ :‬حدثنا إسحاق بن راهويه ‪ ،‬حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد‬
‫‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَ َيذَرُونَ أَ ْزوَاجًا } قال ‪ :‬كانت هذه العدة ‪ ،‬تعتد عند أهل زوجها واجب‬
‫ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ‬
‫ج ِهمْ مَتَاعًا إِلَى الْ َ‬
‫فأنزل ال ‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لزْوَا ِ‬
‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ } قال ‪ :‬جعل ال لها تمام السنة‬
‫فَإِنْ خَ َرجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها ‪ ،‬وإن شاءت خرجت وهو قول ال‬
‫‪ { :‬غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ } فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد ‪:‬‬
‫رحمه ال‪ .‬وقال عطاء ‪ :‬وقال ابن عباس ‪ :‬نسخت هذه الية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت‬
‫وهو قول ال تعالى ‪ { :‬غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قال عطاء ‪ :‬إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في‬
‫سهِنّ] (‪ } )1‬قال‬
‫وصيتها ‪ ،‬وإن شاءت خرجت لقول ال ‪ { :‬فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ [فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫عطاء ‪ :‬ثم جاء الميراث فنسخ السكنى ‪ ،‬فتعتد حيث شاءت ول سكنى لها ثم أسند البخاري عن‬
‫ابن عباس مثل ما تقدم عنه (‪.)2‬‬
‫فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الية لم تدل على وجوب العتداد سنة كما‬
‫زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخا بالربعة الشهر (‪ )3‬وعشرا ‪ ،‬وإنما دلت على أن ذلك‬
‫كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حول كامل‬
‫جهِمْ } أي ‪ :‬يوصيكم ال بهن وصية كقوله ‪ { :‬يُوصِيكُمُ‬
‫إن اخترن ذلك ولهذا قال ‪َ { :‬وصِيّةً ل ْزوَا ِ‬
‫اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ } الية [النساء ‪ ]11 :‬وقال ‪َ { :‬وصِيّةً مِنَ اللّهِ } [النساء ‪ ]12 :‬وقيل ‪ :‬إنما‬
‫انتصب على معنى ‪ :‬فلتوصوا بهن وصية‪ .‬وقرأ آخرون بالرفع " َوصِيّةٌ" على معنى ‪ :‬كتب عليكم‬
‫وصية واختارها ابن جرير ول يمنعن من ذلك لقوله ‪ { :‬غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما إذا انقضت عدتهن‬
‫بالربعة الشهر والعشر أو بوضع الحمل ‪ ،‬واخترن الخروج والنتقال من ذلك المنزل فإنهن ل‬
‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ } وهذا‬
‫يمنعن من ذلك لقوله { فَإِنْ خَ َرجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫القول له اتجاه ‪ ،‬وفي اللفظ مساعدة له ‪ ،‬وقد اختاره جماعة منهم ‪ :‬المام أبو العباس بن تيمية (‬
‫‪ )4‬ورده آخرون منهم ‪ :‬الشيخ أبو عمر بن عبد البر‪.‬‬
‫وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الربعة أشهر‬
‫والعشر فمسلم ‪ ،‬وإن أرادوا أن سكنى الربعة الشهر وعشر (‪ )5‬ل تجب في تركة الميت فهذا‬
‫محل خلف بين الئمة ‪ ،‬وهما قولن للشافعي رحمه ال ‪ ،‬وقد استدلوا على وجوب السكنى في‬
‫منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ‪ ،‬عن عمته زينب‬
‫عجْرَة ‪ :‬أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي ال‬
‫بنت كعب بن ُ‬
‫عنهما أخبرتها ‪ :‬أنها جاءت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني‬
‫خُدرة ‪ ،‬فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ‪ ،‬حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه‪ .‬قالت‬
‫‪ :‬فسألت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4531‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬أشهر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬بن تيمية رحمه ال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬والعشر"‪.‬‬

‫( ‪)1/659‬‬

‫أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِ ْم وَ ُهمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ َفقَالَ َل ُهمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ أَحْيَا ُهمْ إِنّ اللّهَ‬
‫شكُرُونَ (‪َ )243‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َي ْ‬
‫ضلٍ عَلَى النّا ِ‬
‫لَذُو َف ْ‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً وَاللّهُ َيقْ ِبضُ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪ )244‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫َ‬
‫جعُونَ (‪)245‬‬
‫ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫وَيَبْسُ ُ‬

‫أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ول نفقة قالت ‪ :‬فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬نعم" قالت ‪ :‬فانصرفت ‪ ،‬حتى إذا كنت في الحجرة ناداني‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أو أمر بي فنوديت له ‪ -‬فقال ‪" :‬كيف قلت ؟" فرددت عليه‬
‫القصة التي ذكرت (‪ )1‬له من شأن زوجي‪ .‬فقال ‪" :‬امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت ‪:‬‬
‫فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا‪ .‬قالت ‪ :‬فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك‬
‫فأخبرته ‪ ،‬فاتبعه وقضى به (‪.)2‬‬
‫وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به (‪ ، )3‬ورواه النسائي أيضا وابن ماجه‬
‫من طرق عن سعد بن إسحاق به (‪ ، )4‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‪ :‬لما‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُحْسِنِينَ } [البقرة ‪ ]236 :‬قال رجل ‪ :‬إن شئتُ أحسنت‬
‫نزل قوله ‪ { :‬مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫ففعلت وإن شئتُ لم أفعل‪ .‬فأنزل ال هذه الية ‪ { :‬وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫وقد استدل بهذه الية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ‪ ،‬سواء كانت مفوضة أو‬
‫مفروضًا لها أو مطلقًا (‪ )5‬قبل المسيس أو مدخول بها ‪ ،‬وهو قول عن الشافعي ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وإليه ذهب سعيد بن جبير‪ .‬وغيره من السلف واختاره ابن جرير‪ .‬ومن لم يوجبها مطلقا يخصص‬
‫من هذا العموم بمفهوم قوله ‪ { :‬ل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُوا َلهُنّ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْلمُقْتِرِ قَدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫وأجاب الولون ‪ :‬بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فل تخصيص على المشهور المنصور‬
‫‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَا ِتهِ } أي ‪ :‬في إحلله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به‬
‫ونهاكم عنه بيّنه (‪ )6‬ووضحه وفسره ولم يتركه مجمل في وقت احتياجكم إليه { َلعَّلكُمْ َتعْقِلُونَ }‬
‫أي ‪ :‬تفهمون وتتدبرون‪.‬‬
‫{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ َأحْيَاهُمْ إِنّ‬
‫شكُرُونَ (‪َ )243‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ‬
‫ضلٍ عَلَى النّاسِ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل يَ ْ‬
‫اللّهَ لَذُو َف ْ‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً وَاللّهُ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪ )244‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫اللّهَ َ‬
‫جعُونَ (‪} )245‬‬
‫ط وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫سُ‬‫ض وَيَبْ ُ‬
‫َيقْبِ ُ‬
‫روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلف وعنه ‪ :‬كانوا ثمانية آلف‪ .‬وقال أبو صالح ‪ :‬تسعة‬
‫آلف وعن ابن عباس ‪ :‬أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك ‪ :‬كانوا بضعة وثلثين ألفًا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ما ذكرت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬الموطأ (‪.)2/591‬‬
‫(‪ )3‬سنن أبي داود برقم (‪ )2300‬وسنن الترمذي برقم (‪ )1204‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)11044‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي (‪ )200 ، 6/199‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)203‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬أو مطلقة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬وبينه"‪.‬‬

‫( ‪)1/660‬‬

‫وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ‪ :‬كانوا أهل قرية يقال لها ‪ :‬داوردان‪ .‬وكذا قال السدي‬
‫وأبو صالح وزاد ‪ :‬من قبل واسط‪ .‬وقال سعيد بن عبد العزيز ‪ :‬كانوا من أهل أذرعات ‪ ،‬وقال‬
‫ابن جريج عن عطاء قال ‪ :‬هذا مثل‪ .‬وقال علي بن عاصم ‪ :‬كانوا ‪ :‬من أهل داوردان ‪ :‬قرية‬
‫على فرسخ من واسط‪.‬‬
‫وقال وكيع بن الجراح في تفسيره ‪ :‬حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي ‪ ،‬عن المنهال بن‬
‫عمرو السدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ‬
‫أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ } قال ‪ :‬كانوا أربعة آلف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا ‪ :‬نأتي أرضًا ليس‬
‫بها (‪ )1‬موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال ال لهم (‪ )2‬موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من‬
‫النبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم ‪ ،‬فذلك قوله عز وجل ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ‬
‫دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ } الية‪.‬‬
‫وذكر غير واحد من السلف أن هؤلء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا (‪)3‬‬
‫أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية ‪ ،‬فنزلوا واديًا أفيح ‪ ،‬فملوا‬
‫ما بين عدوتيه فأرسل ال إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والخر من أعله فصاحا بهم‬
‫صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور‬
‫[وفنوا] (‪ )4‬وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له ‪:‬‬
‫حزقيل فسأل ال أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول ‪ :‬أيتها العظام البالية إن ال‬
‫يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ‪ ،‬ثم أمره فنادى ‪ :‬أيتها العظام إن‬
‫ال يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا‪ .‬فكان ذلك ‪ ،‬وهو يشاهده ثم أمره فنادى ‪ :‬أيتها‬
‫الرواح إن ال يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره‪ .‬فقاموا أحياء ينظرون قد‬
‫أحياهم ال بعد رقدتهم الطويلة ‪ ،‬وهم يقولون ‪ :‬سبحانك [اللهم ربنا وبحمدك] (‪ )5‬ل إله إل أنت‪.‬‬
‫وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال ‪ { :‬إِنّ اللّهَ‬
‫ضلٍ عَلَى النّاسِ } أي ‪ :‬فيما يريهم من اليات الباهرة والحجج القاطعة والدللت الدامغة ‪{ ،‬‬
‫لَذُو َف ْ‬
‫شكُرُونَ } أي ‪ :‬ل يقومون بشكر ما أنعم ال به عليهم في دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل يَ ْ‬
‫وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه ‪ ،‬ل ملجأ من ال إل إليه ‪ ،‬فإن‬
‫هؤلء فروا (‪ )6‬من الوباء طلبًا (‪ )7‬لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا‬
‫في آن واحد‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك‬
‫وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد [ابن‬
‫أسلم] (‪ )8‬بن الخطاب عن عبد ال بن الحارث بن نوفل عن عبد ال بن عباس ‪ :‬أن عمر بن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ليس فيها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬قال لهم ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فاستوخموا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬خرجوا فرارا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وطلبا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)1/661‬‬

‫الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الجناد ‪ :‬أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه‬
‫فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض‬
‫حاجته فقال ‪ :‬إن عندي من هذا علما ‪ ،‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬إذا كان‬
‫بأرض وأنتم فيها (‪ )1‬فل تخرجوا فرارًا منه ‪ ،‬وإذا سمعتم به بأرض فل تقدموا عليه" فحمد ال‬
‫عمر ثم انصرف‪.‬‬
‫وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به (‪.)2‬‬
‫طريق أخرى لبعضه ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬حدثنا حجاج ويزيد العمّي قال أخبرنا ابن أبي ذئب عن‬
‫الزهري عن سالم عن عبد ال بن عامر بن ربيعة ‪ :‬أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر ‪ ،‬وهو‬
‫في الشام عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أن هذا السقم عذب به المم قبلكم فإذا سمعتم به في‬
‫أرض فل تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها (‪ )3‬فل تخرجوا فرارًا منه" قال ‪ :‬فرجع عمر من‬
‫الشام‪.‬‬
‫وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه (‪.)4‬‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ } أي ‪ :‬كما أن الحذر ل يغني من‬
‫وقوله ‪َ { :‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه ل يقرب أجل ول يباعده ‪ ،‬بل الجل المحتوم والرزق‬
‫خوَا ِنهِ ْم َو َقعَدُوا َلوْ‬
‫المقسوم مقدر مقنن ل يزاد فيه ول ينقص منه كما قال تعالى ‪ { :‬الّذِينَ قَالُوا ل ْ‬
‫سكُمُ ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } [آل عمران ‪ ]168 :‬وقال‬
‫أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ُقلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ل وَالخِ َرةُ‬
‫جلٍ قَرِيبٍ ُقلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِي ٌ‬
‫تعالى ‪َ { :‬وقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَ ْبتَ عَلَيْنَا ا ْلقِتَالَ َلوْل َأخّرْتَنَا إِلَى َأ َ‬
‫خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى وَل ُتظَْلمُونَ فَتِيل * أَيْ َنمَا َتكُونُوا ُيدْرِككّمُ ا ْل َم ْوتُ وََلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ }‬
‫[النساء ‪ ]78 ، 77 :‬وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة السلم وسيف ال‬
‫المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي ال عنه ‪ ،‬أنه قال ‪ - :‬وهو في سياق‬
‫الموت ‪ :‬لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إل وفيه رمية أو طعنة أو ضربة‬
‫وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير!! فل نامت أعين الجبناء (‪ )5‬يعني ‪ :‬أنه يتألم‬
‫لكونه ما مات قتيل في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه‪.‬‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً } يحث تعالى عباده‬
‫عفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ‬
‫على النفاق في سبيله ‪ ،‬وقد كرر تعالى هذه الية في كتابه العزيز في غير موضع‪ .‬وفي حديث‬
‫النزول [أنه يقول تعالى] (‪" )6‬من يقرض غير عديم ول ظلوم" وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا‬
‫الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد العرج عن عبد ال بن الحارث عن عبد ال بن‬
‫مسعود قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وأنتم بها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )1/194‬وصحيح البخاري برقم (‪ )5729‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2219‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬وأنتم بها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )1/193‬وصحيح البخاري برقم (‪ )5730‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2219‬‬
‫(‪ )5‬انظر ‪ :‬مختصر تاريخ دمشق لبن منظور (‪.)8/26‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من و‪.‬‬

‫( ‪)1/662‬‬

‫لما نزلت ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ } قال أبو الدحداح النصاري ‪ :‬يا‬
‫رسول ال وإن ال ليريد منا القرض ؟ قال ‪" :‬نعم يا أبا الدحداح" قال ‪ :‬أرني يدك يا رسول ال‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فناوله يده قال ‪ :‬فإني قد أقرضت ربي حائطي‪ .‬قال ‪ :‬وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم‬
‫الدحداح فيه وعيالها‪ .‬قال ‪ :‬فجاء أبو الدحداح فناداها ‪ :‬يا أم الدحداح‪ .‬قالت ‪ :‬لبيك قال ‪ :‬اخرجي‬
‫فقد أقرضته ربي عز وجل‪ .‬وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن‬
‫أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه (‪.)1‬‬
‫وقوله ‪ { :‬قَ ْرضًا حَسَنًا } روي عن عمر وغيره من السلف ‪ :‬هو النفقة في سبيل ال‪ .‬وقيل ‪ :‬هو‬
‫النفقة على العيال‪.‬‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً } كما قال ‪ { :‬مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ‬
‫وقيل ‪ :‬هو التسبيح والتقديس وقوله ‪ { :‬فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنُْبلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ } الية [البقرة ‪.]261 :‬‬
‫وسيأتي الكلم عليها‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يزيد (‪ )2‬أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان‬
‫النهدي ‪ ،‬قال ‪ :‬أتيت أبا هريرة فقلت له ‪ :‬إنه بلغني أنك تقول ‪ :‬إن الحسنة تضاعف ألف ألف‬
‫حسنة‪ .‬فقال ‪ :‬وما أعجبك من ذلك ؟ لقد سمعته من النبي صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬إن ال‬
‫يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" (‪.)3‬‬
‫هذا حديث غريب ‪ ،‬وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ‪ ،‬لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه‬
‫آخر فقال ‪:‬‬
‫حدثنا أبو خلد سليمان بن خلد المؤدب ‪ ،‬حدثنا يونس بن محمد المؤدب ‪ ،‬حدثنا محمد بن عقبة‬
‫الرباعي (‪ )4‬عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ‪ ،‬قال ‪ :‬لم يكن أحد أكثر مجالسة لبي‬
‫هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال ‪ :‬وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال ‪ :‬سمعت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬إن ال يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت ‪ :‬ويحكم ‪،‬‬
‫وال ما كان أحد أكثر مجالسة لبي هريرة مني ‪ ،‬فما سمعت هذا الحديث‪ .‬قال ‪ :‬فتحملت أريد أن‬
‫ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ‪ ،‬فلقيته لهذا فقلت ‪ :‬يا أبا‬
‫هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال ‪ :‬ما هو ؟ قلت ‪ :‬زعموا أنك تقول ‪ :‬إن‬
‫ال يضاعف الحسنة ألف ألف‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬جزء الحسن بن عرفة برقم (‪ )87‬ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (‪ )417‬تحقيق‬
‫الدكتور الحميد ‪ ،‬ومن طريقه رواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )22/301‬عن خلف به نحوه ‪،‬‬
‫وحميد العرج ضعيف ‪ ،‬لكن للحديث شواهد من حديث أنس وعمر رضي ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬يزيد بن هارون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)2/296‬‬
‫(‪ )4‬كذا في أ ‪ ،‬و ‪ ،‬هـ‪ .‬وفي الجرح لبن أبي حاتم (‪" : )4/1/36‬محمد بن عقبة ‪ ،‬روى عن‬
‫زياد الجصاص ‪ ،‬وروى عنه يونس بن محمد المؤدب‪ .‬حدثنا عبد الرحمن قال ‪ :‬سألت أبي عنه‬
‫فقال ‪ :‬شيخ‪ .‬قلت ‪ :‬فإن يونس بن محمد يقول ‪ :‬الرفاعي‪ .‬قال ‪ :‬ليس هو الرفاعي ‪ ،‬هو من قبيلة‬
‫أخرى" ‪ ،‬مستفادا من هامش ط‪ .‬الشعب‪.‬‬

‫( ‪)1/663‬‬

‫حسنة‪ .‬قال ‪ :‬يا أبا عثمان وما تعجب (‪ )1‬من ذا وال يقول ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً } ويقول ‪َ { :‬فمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الخِ َرةِ إِل قَلِيلٌ } [التوبة ‪:‬‬
‫حسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫َ‬
‫‪ ]38‬والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬إن ال يضاعف الحسنة‬
‫ألفي ألف حسنة" (‪.)2‬‬
‫وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد ال‬
‫بن عمر بن الخطاب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من دخل سوقًا من السواق فقال ‪:‬‬
‫ل إله إل ال وحده ل شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب ال له ألف ألف‬
‫حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث (‪.)3‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل‬
‫المؤدب ‪ ،‬عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال ‪ :‬لما نزلت { مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ‬
‫َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ } [البقرة ‪ ]261 :‬إلى آخرها فقال رسول ال‬
‫عفَهُ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬رب زد أمتي" فنزلت ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً } قال ‪ :‬رب زد أمتي‪ .‬فنزل ‪ { :‬إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَهُمْ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }‬
‫لَهُ َأ ْ‬
‫[الزمر ‪.)4( .]10 :‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم أيضا عن كعب الحبار ‪ :‬أنه جاءه رجل فقال ‪ :‬إني سمعت رجل يقول ‪:‬‬
‫من قرأ ‪ُ { :‬قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ } [الخلص ‪ ]1 :‬مرة واحدة بنى ال له عشرة (‪ )5‬آلف ألف غرفة‬
‫من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أو عجبت من ذلك ؟ قال ‪ :‬نعم وعشرين‬
‫حسَنًا‬
‫ألف ألف وثلثين ألف ألف وما يحصي ذلك إل ال ثم قرأ { مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً } فالكثير من ال ل يحصى‪.‬‬
‫فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫سطُ } أي ‪ :‬أنفقوا ول تبالوا فال هو الرزاق يضيق على من يشاء من‬
‫ض وَيَبْ ُ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَاللّهُ َيقْبِ ُ‬
‫جعُونَ } أي ‪ :‬يوم‬
‫عباده في الرزق ويوسعه على آخرين ‪ ،‬له الحكمة البالغة في ذلك { وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫القيامة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬وما يعجبك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورواه أحمد في المسند (‪ )5/521‬من طريق علي بن زيد ‪ ،‬عن أبي عثمان به‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪ )3429‬وقال ‪" :‬عمرو بن دينار هذا هو شيخ بصري ‪ ،‬وقد تكلم فيه‬
‫بعض أصحاب الحديث من غير هذا الوجه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (‪" )1648‬موارد" من طريق حفص المقرئ ‪ ،‬عن أبي‬
‫إسماعيل المؤدب به‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عشر"‪.‬‬

‫( ‪)1/664‬‬

‫أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا ُنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ‬
‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَلّا ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَلّا ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ ُأخْرِجْنَا‬
‫اللّهِ قَالَ َهلْ َ‬
‫مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ (‪)246‬‬

‫{ أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َب ْعدِ مُوسَى ِإذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا ُنقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ‬
‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَل ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَل ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ‬
‫اللّهِ قَالَ َهلْ َ‬
‫أُخْ ِرجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِل قَلِيل مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ (‬
‫‪} )246‬‬
‫قال عبد الرزاق عن َم ْعمَر عن قتادة ‪ :‬هذا النبي هو يوشع بن نون‪ .‬قال ابن جرير ‪ :‬يعني ابن‬
‫أفراثيم (‪ )1‬بن يوسف بن يعقوب‪ .‬وهذا القول بعيد ؛ لن هذا كان بعد موسى بدهر طويل ‪ ،‬وكان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬إفراثيم" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬إبراهيم"‪.‬‬

‫( ‪)1/664‬‬

‫ذلك في زمان داود عليه السلم ‪ ،‬كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما‬
‫ينيف عن ألف سنة وال أعلم‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬هو شمعون (‪ )1‬وقال مجاهد ‪ :‬هو شمويل عليه السلم‪ .‬وكذا قال محمد بن إسحاق‬
‫عن وهب بن منبه وهو ‪ :‬شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام (‪ )2‬بن إليهو بن تهو بن صوف (‬
‫‪ )3‬بن علقمة بن ماحث (‪ )4‬بن عمرصا بن عزريا بن صفنيه (‪ )5‬بن علقمة بن أبي ياسف بن‬
‫قارون بن يصهر بن قاهث بن لوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلم‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه وغيره ‪ :‬كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلم على طريق (‪ )6‬الستقامة‬
‫مدة الزمان ‪ ،‬ثم أحدثوا الحداث وعبد بعضهم الصنام ‪ ،‬ولم يزل بين أظهرهم من النبياء من‬
‫يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط ال‬
‫عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ‪ ،‬وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلدًا كثيرة ‪ ،‬ولم يكن‬
‫أحد يقاتلهم إل غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم (‪ )7‬الزمان وكان‬
‫ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلة والسلم (‪ )8‬فلم يزل بهم تماديهم (‬
‫‪ )9‬على الضلل حتى استلبه (‪ )10‬منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم‬
‫ولم يبق من يحفظها فيهم إل القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط (‪ )11‬لوي‬
‫الذي يكون فيه النبياء إل امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها‬
‫لعل ال يرزقها غلمًا يكون نبيّا لهم ولم تزل [تلك] (‪ )12‬المرأة تدعو ال عز وجل أن يرزقها‬
‫غلمًا فسمع ال لها ووهبها غلمًا ‪ ،‬فسمته شمويل ‪ :‬أي ‪ :‬سمع ال‪ .‬ومنهم من يقول ‪ :‬شمعون‬
‫وهو بمعناه فشب ذلك الغلم ونشأ فيهم وأنبته (‪ )13‬ال نباتًا حسنًا فلما بلغ سن النبياء أوحى ال‬
‫إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده ‪ ،‬فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه‬
‫أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم (‪ )14‬فقال لهم النبي ‪ :‬فهل عسيتم إن أقام ال لكم ملكًا أل‬
‫تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا َومَا لَنَا أَل ُنقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِنْ دِيَارِنَا‬
‫وَأَبْنَائِنَا } أي ‪ :‬وقد أخذت منا البلد وسبيت الولد ؟ قال ال تعالى ‪ { :‬فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ‬
‫َتوَّلوْا إِل قَلِيل مِ ْنهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } أي ‪ :‬ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم‬
‫وال عليم بهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬شمويل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬حام" وفي و ‪" :‬نزخام"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬قهوص" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬قهرص" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬بهرص"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬بن ماحب"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬بن صفيه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬على طريقة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬في قيد"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عليه أفضل الصلة والسلم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬يردهم" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬عادتهم"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬حتى أسلبه"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬من وسط"‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" ،‬فأنبته"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬منهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/665‬‬

‫َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َل ُكمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ َلهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ َأحَقّ بِا ْلمُ ْلكِ‬
‫س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي‬
‫سطَةً فِي ا ْلعِلْ ِم وَا ْلجِ ْ‬
‫طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ وَزَا َدهُ بَ ْ‬
‫سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫مِنْ ُه وَلَمْ ُي ْؤتَ َ‬
‫سكِينَةٌ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ (‪َ )247‬وقَالَ َل ُهمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ آَيَةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َيكُمُ التّابُوتُ فِيهِ َ‬
‫مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫حمِلُهُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َيةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ َآلُ مُوسَى َو َآلُ هَارُونَ َت ْ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ (‪)248‬‬

‫{ َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َلكُمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ َأحَقّ بِا ْلمُ ْلكِ‬
‫س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي‬
‫سطَةً فِي ا ْلعِلْ ِم وَا ْلجِ ْ‬
‫طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ وَزَا َدهُ بَ ْ‬
‫سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫مِنْ ُه وَلَمْ ُي ْؤتَ َ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ (‪} )247‬‬
‫مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫أي ‪ :‬لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجل من أجنادهم ولم‬
‫يكن من بيت الملك فيهم ؛ لن الملك فيهم كان في سبط يهوذا ‪ ،‬ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا‬
‫حقّ بِا ْلمُ ْلكِ مِنْ ُه وََلمْ ُي ْؤتَ‬
‫علَيْنَا } أي ‪ :‬كيف يكون ملكًا علينا { وَ َنحْنُ أَ َ‬
‫قالوا ‪ { :‬أَنّى َيكُونُ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ َ‬
‫سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ } أي ‪ :‬ثم هو مع هذا فقير ل مال له يقوم بالملك ‪ ،‬وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء‬
‫َ‬
‫وقيل ‪ :‬دباغًا‪ .‬وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد‬
‫طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ } أي ‪ :‬اختاره لكم من بينكم وال أعلم به منكم‪ .‬يقول ‪:‬‬
‫صَ‬‫أجابهم النبي قائل { إِنّ اللّهَ ا ْ‬
‫لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل ال أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَا َدهُ َبسْطَةً فِي ا ْلعِ ْلمِ‬
‫سمِ } أي ‪ :‬وهو مع هذا أعلم منكم ‪ ،‬وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا (‪ )1‬في الحرب‬
‫وَالْجِ ْ‬
‫ومعرفة بها أي ‪ :‬أتم علمًا وقامة منكم‪ .‬ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة‬
‫شديدة في بدنه ونفسه ثم قال ‪ { :‬وَاللّهُ ُيؤْتِي مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَاءُ } أي ‪ :‬هو الحاكم الذي ما شاء فعل‬
‫ول يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه [وحكمته] (‪ )2‬ورأفته بخلقه ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وَاللّ ُه وَاسِعٌ‬
‫عَلِيمٌ } أي ‪ :‬هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن ل يستحقه‪.‬‬
‫سكِينَةٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ‬
‫{ َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ آ َيةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ التّابُوتُ فِيهِ َ‬
‫ك ليَةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ (‪} )248‬‬
‫حمُِلهُ ا ْلمَل ِئكَةُ إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫هَارُونَ تَ ْ‬
‫يقول نبيهم لهم ‪ :‬إن علمة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد ال عليكم التابوت الذي كان أخذ‬
‫منكم‪.‬‬
‫سكِينَةٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ } قيل ‪ :‬معناه فيه وقار ‪ ،‬وجللة‪.‬‬
‫{ فِيهِ َ‬
‫سكِينَةٌ } أي ‪ :‬وقار‪ .‬وقال الربيع ‪ :‬رحمة (‪ .)3‬وكذا‬
‫قال عبد الرزاق عن َم ْعمَر عن قتادة { فِيهِ َ‬
‫سكِينَةٌ [مِنْ‬
‫روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج ‪ :‬سألت عطاء عن قوله ‪ { :‬فِيهِ َ‬
‫رَ ّبكُمْ] (‪ } )4‬قال ‪ :‬ما يعرفون من آيات ال فيسكنون (‪ )5‬إليه‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب النبياء ‪ ،‬أعطاها ال موسى عليه السلم‬
‫فوضع فيها اللواح‪ .‬ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ :‬عن سلمة بن ُكهَيْل عن أبي الحوص عن علي قال ‪ :‬السكينة لها وجه‬
‫كوجه النسان ثم هي روح هفافة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني [ابن] (‪ )6‬المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة ‪ ،‬وأبو‬
‫الحوص كلهم عن سِماك عن (‪ )7‬خالد بن عرعرة عن علي قال ‪ :‬السكينة ريح خجوج ولها‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬وخبرا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬و ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬وحلمه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬رحمة ال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬تسكنون"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من تفسير الطبري (‪.)5/327‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬عن سماك بن"‪.‬‬

‫( ‪)1/666‬‬
‫رأسان‪.‬‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬لها جناحان وذنب‪ .‬وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه ‪ :‬السكينة رأس هرة‬
‫ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ‪ ،‬أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا بكار بن عبد ال أنه سمع وهب بن منبه (‪ )1‬يقول ‪ :‬السكينة روح من‬
‫ال تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ابن جرير ‪ :‬أخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو‬
‫الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الية ‪ { :‬وَ َبقِيّةٌ ِممّا‬
‫تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ‪ :‬عصاه ورضاض اللواح‪ .‬وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن‬
‫أنس وعكرمة وزاد ‪ :‬والتوراة‪.‬‬
‫وقال أبو صالح { وَبَقِيّةٌ } يعني ‪ :‬عصا موسى وعصا هارون ولوحين (‪ )2‬من التوراة والمن‪.‬‬
‫وقال عطية بن سعد ‪ :‬عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض‬
‫اللواح‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬سألت الثوري عن قوله ‪ { :‬وَبَقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } فقال ‪:‬‬
‫منهم من يقول قفيز من مَنّ ‪ ،‬ورضاض اللواح‪ .‬ومنهم من يقول ‪ :‬العصا والنعلن‪.‬‬
‫حمِلُهُ ا ْلمَل ِئكَةُ } قال ابن جريج ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬جاءت الملئكة تحمل التابوت (‪)3‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬ت ْ‬
‫بين السماء والرض حتى وضعته بين يدي طالوت ‪ ،‬والناس ينظرون‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه ‪ :‬جاءت به الملئكة تسوقه على عجلة على بقرة‬
‫وقيل ‪ :‬على بقرتين‪.‬‬
‫وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا (‪ )4‬وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت‬
‫صنمهم الكبير ‪ ،‬فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه‬
‫تحته فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا ‪ ،‬فعلموا أن هذا أمر من ال ل قبل لهم به فأخرجوا‬
‫التابوت من بلدهم ‪ ،‬فوضعوه في بعض القرى (‪ )5‬فأصاب أهلها داء في رقابهم (‪ )6‬فأمرتهم‬
‫جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء ‪ ،‬فحملوه‬
‫على بقرتين فسارتا به ل يقربه أحد إل مات ‪ ،‬حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين (‬
‫‪ )7‬ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل ‪ :‬إنه تسلمه داود عليه السلم وأنه لما قام إليهما (‪)8‬‬
‫حجل من فرحه بذلك‪ .‬وقيل ‪ :‬شابان منهم فال أعلم‪ .‬وقيل ‪ :‬كان التابوت بقرية من قرى فلسطين‬
‫يقال لها ‪ :‬أزدرد‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ ليَةً َلكُمْ } أي ‪ :‬على صدقي فيما جئتكم به من النبوة ‪ ،‬وفيما أمرتكم به من‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬بن منصور"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ولوحان"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وتحمل التوابيت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬كان تاريخا"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في و ‪" :‬بعض القرايا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬في قلوبهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬النيرير"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬قام إليه" وفي و ‪" :‬قام إليهما"‪.‬‬

‫( ‪)1/667‬‬

‫طاعة طالوت ‪ { :‬إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } أي ‪ :‬بال واليوم الخر‪.‬‬

‫( ‪)1/668‬‬

‫ط َعمْهُ فَإِنّهُ‬
‫صلَ طَالُوتُ بِا ْلجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَنْ َلمْ يَ ْ‬
‫فََلمّا َف َ‬
‫مِنّي إِلّا مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِنْهُ إِلّا قَلِيلًا مِ ْن ُهمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ قَالُوا لَا‬
‫طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ ِبجَالُوتَ َوجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلَاقُو اللّهِ َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً‬
‫بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ َمعَ الصّابِرِينَ (‪)249‬‬

‫ط َعمْهُ‬
‫صلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِي ُكمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَنْ لَمْ َي ْ‬
‫{ فََلمّا َف َ‬
‫فَإِنّهُ مِنّي إِل مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِ ْنهُ إِل قَلِيل مِ ْنهُمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ‬
‫ت وَجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلقُو اللّهِ كَمْ مِنْ فِ َئةٍ قَلِيلَةٍ غَلَ َبتْ فِ َئةً‬
‫قَالُوا ل طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ بِجَالُو َ‬
‫كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ (‪} )249‬‬
‫يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من مل بني‬
‫إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فال أعلم ‪ ،‬أنه قال ‪ { :‬إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم‬
‫[بِ َنهَر] (‪ } )1‬قال ابن عباس وغيره ‪ :‬وهو نهر بين الردن وفلسطين يعني ‪ :‬نهر الشريعة‬
‫ط َعمْهُ‬
‫المشهور { َفمَنْ شَ ِربَ مِ ْنهُ فَلَيْسَ مِنّي } أي ‪ :‬فل يصحبني اليوم في هذا الوجه { َومَنْ لَمْ َي ْ‬
‫فَإِنّهُ مِنّي إِل مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ } أي ‪ :‬فل بأس عليه قال ال تعالى { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِل قَلِيل‬
‫مِ ْنهُمْ } قال ابن جريج ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬من اغترف منه بيده روي ‪ ،‬ومن شرب منه لم يرو‪.‬‬
‫وكذا رواه السدي عن أبي مالك ‪ ،‬عن ابن عباس‪ .‬وكذا قال قتادة وابن شوذب‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلف كذا قال‪.‬‬
‫سعَر (‪ )2‬بن كدام عن أبي إسحاق‬
‫وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومِ ْ‬
‫السبيعي ‪ ،‬عن البراء بن عازب قال ‪ :‬كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم الذين‬
‫كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ‪ ،‬وما‬
‫جازه معه إل مؤمن‪ .‬ورواه البخاري عن عبد ال بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي‬
‫إسحاق عن البراء (‪ )3‬قال ‪" :‬كنا ‪ -‬أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم ‪ -‬نتحدث أن عدة‬
‫أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت ‪ ،‬الذين جازوا معه النهر ‪ ،‬ولم يجاوز معه إل مؤمن‬
‫بضعة عشر وثلثمائة" (‪.)4‬‬
‫ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير ‪ ،‬عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه (‪ )5‬ولهذا قال تعالى‬
‫ت وَجُنُو ِدهِ } أي ‪ :‬استقلوا‬
‫‪ { :‬فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ قَالُوا ل طَاقَةَ لَنَا الْ َي ْومَ بِجَالُو َ‬
‫أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [وهم] (‪ )6‬العالمون بأن وعد ال حق فإن‬
‫النصر من عند ال ليس عن (‪ )7‬كثرة عدد ول عدد‪ .‬ولهذا قالوا ‪َ { :‬كمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً‬
‫كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ومسعود"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في هـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن أبي إسحاق عن جده عن البراء" والمثبت من البخاري‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)3958‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )3957‬من حديث زهير وبرقم (‪ )3959‬من حديث سفيان‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬ل من"‪.‬‬

‫( ‪)1/668‬‬

‫وََلمّا بَرَزُوا ِلجَالُوتَ وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ‬
‫ح ْكمَ َة وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ‬
‫ا ْلكَافِرِينَ (‪َ )250‬فهَ َزمُوهُمْ بِِإذْنِ اللّ ِه َوقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ وَالْ ِ‬
‫ضلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪ )251‬تِ ْلكَ‬
‫ض وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ الْأَ ْر ُ‬
‫وََلوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)252‬‬
‫آَيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ‬

‫ت وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ‬
‫{ وََلمّا بَرَزُوا ِلجَالُو َ‬
‫ح ْكمَ َة وَعَّلمَهُ ِممّا َيشَاءُ‬
‫ك وَالْ ِ‬
‫ت وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ‬
‫ا ْلكَافِرِينَ (‪َ )250‬فهَ َزمُوهُمْ بِِإذْنِ اللّ ِه َوقَتَلَ دَاوُدُ جَالُو َ‬
‫ضلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪ )251‬تِ ْلكَ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ ال ْرضُ وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ‬
‫وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪} )252‬‬
‫آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ‬
‫أي ‪ :‬لما واجه حزب اليمان ‪ -‬وهم قليل ‪ -‬من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت ‪ -‬وهم‬
‫عدد كثير ‪ { -‬قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي ‪ :‬أنزل علينا صبرًا من عندك { وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا }‬
‫أي ‪ :‬في لقاء العداء وجنبنا الفرار والعجز { وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫قال ال تعالى ‪َ { :‬فهَ َزمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ } أي ‪ :‬غلبوهم وقهروهم بنصر ال لهم { َوقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ‬
‫} ذكروا في السرائيليات ‪ :‬أنه قتله بمقلع كان في يده رماه به فأصابه فقتله ‪ ،‬وكان طالوت قد‬
‫وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه (‪ )1‬في أمره فوفى له ثم آل (‪)2‬‬
‫الملك إلى داود عليه السلم مع ما منحه ال به من النبوة العظيمة ؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَآتَاهُ اللّهُ‬
‫ا ْلمُ ْلكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي ‪ :‬النبوة بعد شمويل { وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ } أي ‪ :‬مما‬
‫يشاء ال من العلم الذي اختصه به صلى ال عليه وسلم ثم قال تعالى ‪ { :‬وََلوْل َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ ال ْرضُ } أي ‪ :‬لوله يدفع عن قوم بآخرين ‪ ،‬كما دفع عن بني إسرائيل‬
‫َب ْع َ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َل ُه ّد َمتْ‬
‫بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال ‪ { :‬وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫سمُ اللّهِ كَثِيرًا } الية [الحج ‪.]40 :‬‬
‫صوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ يُ ْذكَرُ فِيهَا ا ْ‬
‫َ‬
‫وقال ابن جرير ‪ ،‬رحمه ال ‪ :‬حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد‬
‫حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ ال ْرضُ } (‪ )3‬وهذا‬
‫البلء"‪ .‬ثم قرأ ابن عمر ‪ { :‬وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد [هذا] (‪ )4‬هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدّا‪.‬‬
‫ثم قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن‬
‫عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال‬
‫ليصلح بصلح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ‪ ،‬ول يزالون في حفظ‬
‫ال عز وجل ما دام فيهم" (‪.)5‬‬
‫وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا‪ .‬وقال أبو بكر بن مردويه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن‬
‫إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد‬
‫بن الحباب ‪ ،‬حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلبة عن أبي أسماء (‪ )6‬عن ثوبان ‪ -‬رفع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬ويشاركه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بما آل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)5/374‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)5/375‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬بن أبي أسامة"‪.‬‬

‫( ‪)1/669‬‬

‫الحديث ‪ -‬قال ‪" :‬ل يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر‬
‫ال" (‪.)1‬‬
‫وقال ابن مردويه أيضًا ‪ :‬وحدثنا محمد بن أحمد (‪ )2‬حدثنا محمد بن جرير بن يزيد ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار ‪ ،‬عن عنبسة الخواص ‪،‬‬
‫عن قتادة عن أبي قِلبة عن أبي الشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬البدال في أمتي ثلثون بهم تقوم الرض ‪ ،‬وبهم تمطرون وبهم تنصرون"‬
‫قال قتادة ‪ :‬إني لرجو أن يكون الحسن منهم (‪.)3‬‬
‫علَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي ‪ :‬مَنّ عليهم ورحمة بهم ‪ ،‬يدفع عنهم ببعضهم‬
‫ضلٍ َ‬
‫وقوله ‪ { :‬وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ‬
‫بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله‪.‬‬
‫ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } أي ‪ :‬هذه آيات ال التي‬
‫حّ‬‫ثم قال تعالى ‪ { :‬تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَ ْتلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ‬
‫قصصناها عليك من (‪ )4‬أمر الذين ذكرناهم بالحق أي ‪ :‬بالواقع الذي كان عليه المر ‪ ،‬المطابق‬
‫لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِ ّنكَ } يا محمد { َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ‬
‫} وهذا توكيد وتوطئة للقسم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (‪ )20457‬عن معمر عن أيوب عن أبي قلبة مرسل‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وحدثنا أحمد بن محمد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق محمد بن الفرج عن زيد بن الحباب به ‪ ،‬وقال‬
‫الهيثمي في المجمع (‪" : )10/63‬رواه الطبراني من طريق عمرو البزار عن عنبسة الخواص‬
‫وكلهما لم أعرفه ‪ ،‬وبقية رجاله رجال الصحيح"‪.‬‬
‫فائدة ‪ :‬قال المام ابن القيم في المنار المنيف (ص ‪" : )136‬أحاديث البدال والقطاب والغواث‬
‫والنقباء والنجباء والوتاد كلها باطلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم وأقرب ما فيها ‪" :‬ل‬
‫تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدل ‪ ،‬كلما مات رجل منهم أبدل ال مكانه رجل آخر" ذكره أحمد ول‬
‫يصح أيضا ‪ ،‬فإنه منقطع"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬

‫( ‪)1/670‬‬
‫ت وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ‬
‫ضهُمْ دَرَجَا ٍ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ مِ ْنهُمْ مَنْ كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ‬
‫مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ‬
‫ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ‬
‫ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ َآمَ َ‬
‫الْبَيّنَا ُ‬
‫(‪)253‬‬

‫ضهُمْ دَ َرجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ‬


‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ مِ ْنهُمْ مَنْ كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫{ تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ‬
‫مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ‬
‫ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ‬
‫ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ آمَ َ‬
‫الْبَيّنَا ُ‬
‫(‪} )253‬‬
‫يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال ‪ { :‬وََلقَدْ َفضّلْنَا َب ْعضَ النّبِيّينَ عَلَى َب ْعضٍ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ مِ ْنهُمْ‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫وَآتَيْنَا دَا ُودَ زَبُورًا } [السراء ‪ ]55 :‬وقال هاهنا ‪ { :‬تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫مَنْ كَلّمَ اللّهُ } يعني ‪ :‬موسى ومحمدا صلى ال عليه وسلم وكذلك آدم ‪ ،‬كما ورد به الحديث‬
‫ضهُمْ دَ َرجَاتٍ } كما ثبت في‬
‫المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي ال عنه { وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫حديث السراء حين رأى النبي صلى ال عليه وسلم النبياء في السموات (‪ )1‬بحسب تفاوت‬
‫منازلهم عند ال عز وجل‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فما الجمع بين هذه الية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال ‪:‬‬
‫استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه ‪ :‬ل والذي اصطفى‬
‫موسى‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬في السماء"‪.‬‬

‫( ‪)1/670‬‬

‫شفَاعَةٌ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَ ْيعٌ فِي ِه وَلَا خُلّ ٌة وَلَا َ‬
‫وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (‪)254‬‬

‫على العالمين‪ .‬فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال ‪ :‬أي خبيث وعلى محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تفضلوني على النبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول‬
‫من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فل أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فل‬
‫تفضلوني على النبياء" (‪ )1‬وفي رواية ‪" :‬ل تفضلوا بين النبياء"‪.‬‬
‫فالجواب من وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬ل تفضلوا بمجرد الراء والعصبية‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى ال عز وجل وعليكم النقياد والتسليم له واليمان‬
‫به‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ } أي ‪ :‬الحجج والدلئل القاطعات على صحة ما جاء‬
‫بني إسرائيل به ‪ ،‬من أنه عبد ال ورسوله إليهم { وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ } يعني ‪ :‬أن ال أيده‬
‫بجبريل عليه السلم ثم قال تعالى ‪ { :‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َبعْ ِدهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُهمُ‬
‫ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي ‪ :‬بل كل ذلك عن‬
‫ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ آمَ َ‬
‫الْبَيّنَا ُ‬
‫قضاء ال وقدره ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ }‬
‫شفَاعَةٌ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل بَ ْيعٌ فِي ِه وَل خُلّ ٌة وَل َ‬
‫وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (‪} )254‬‬
‫يأمر تعالى عباده بالنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم‬
‫وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َي ْومٌ } يعني ‪ :‬يوم القيامة { ل بَيْعٌ فِيهِ‬
‫شفَاعَةٌ } أي ‪ :‬ل يباع أحد من نفسه ول يفادى بمال لو بذله ‪ ،‬ولو جاء بملء الرض‬
‫وَل خُلّ ٌة وَل َ‬
‫ذهبًا ول تنفعه خلة أحد ‪ ،‬يعني ‪ :‬صداقته بل ول نسابته كما قال ‪ { :‬فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ فَل‬
‫شفَاعَةٌ } أي ‪ :‬ول تنفعهم شفاعة‬
‫أَنْسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِ ٍذ وَل يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون ‪ {]101 :‬وَل َ‬
‫الشافعين‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ } مبتدأ محصور في خبره أي ‪ :‬ول ظالم أظلم ممن وافى ال‬
‫يومئذ كافرا‪ .‬وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه (‪ )2‬قال ‪ :‬الحمد ل الذي قال ‪:‬‬
‫{ وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ } ولم يقل ‪ :‬والظالمون هم الكافرون‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )3408‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2373‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬به"‪.‬‬

‫( ‪)1/671‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مَنْ ذَا الّذِي‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ لَا تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَلَا َنوْمٌ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ الْ َ‬
‫شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِلّا ِبمَا شَا َء وَسِعَ‬
‫خ ْلفَهُ ْم وَلَا ُيحِيطُونَ ِب َ‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ إِلّا بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ‬
‫يَ ْ‬
‫ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ (‪)255‬‬
‫حفْ ُ‬
‫ض وَلَا يَئُو ُدهُ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫كُرْسِيّهُ ال ّ‬

‫ت َومَا فِي ال ْرضِ مَنْ ذَا‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫حيّ ا ْلقَيّو ُم ل تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَل َنوْمٌ لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫{ اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِل ِبمَا شَاءَ‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ إِل بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم َومَا خَ ْلفَهُمْ وَل يُحِيطُونَ بِ َ‬
‫الّذِي َي ْ‬
‫ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ (‪} )255‬‬
‫حفْ ُ‬
‫ض وَل يَئُو ُدهُ ِ‬
‫ت وَالرْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بأنها أفضل‬
‫آية في كتاب ال‪ .‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي‬
‫السليل عن عبد ال بن رباح ‪ ،‬عن أبي ‪ -‬هو ابن كعب ‪ -‬أن النبي صلى ال عليه وسلم سأله ‪:‬‬
‫"أي آية في كتاب ال أعظم" ؟ قال ‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ .‬فرددها مرارًا ثم قال أبى ‪ :‬آية الكرسي‪.‬‬
‫قال ‪" :‬لِ َيهْنك العلم أبا المنذر ‪ ،‬والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق‬
‫العرش" وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد العلى بن عبد العلى عن الجريري‬
‫‪ -‬به (‪ )1‬وليس عنده زيادة ‪" :‬والذي نفسي بيده‪ "...‬إلخ‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬عن أبي أيضا في فضل آية الكرسي ‪ ،‬قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ‪ :‬حدثنا أحمد‬
‫بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن أبي لبابة (‪)2‬‬
‫عن عبد ال بن أبي بن كعب ‪ :‬أن أباه أخبره ‪ :‬أنه كان له جرن فيه تمر قال ‪ :‬فكان أبي يتعاهده‬
‫فوجده ينقص قال ‪ :‬فحرسه (‪ )3‬ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلم المحتلم قال ‪ :‬فسلمت عليه‬
‫فرد السلم‪ .‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬ما أنت ‪ ،‬جني أم إنسي ؟ قال ‪ :‬جني‪ .‬قلت ‪ :‬ناولني يدك‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فناولني ‪ ،‬فإذا يد (‪ )4‬كلب وشعر كلب‪ .‬فقلت ‪ :‬هكذا خَلْقُ الجن ؟ قال ‪ :‬لقد علمت الجن ما فيهم‬
‫أشد مني ‪ ،‬قلت ‪ :‬فما حملك على ما صنعت ؟ قال ‪ :‬بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن‬
‫نصيب من طعامك‪ .‬قال ‪ :‬فقال له (‪ )5‬فما الذي يجيرنا (‪ )6‬منكم ؟ قال ‪ :‬هذه الية ‪ :‬آية‬
‫الكرسي‪ .‬ثم غدا إلى النبي (‪ )7‬صلى ال عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"صدق الخبيث"‪.‬‬
‫وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن‬
‫أبي كثير عن الحضرمي بن لحق ‪ ،‬عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به (‪ .)8‬وقال‬
‫‪ :‬صحيح السناد ولم يخرجاه‪.‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث (‪ )9‬قال ‪ :‬سمعت‬
‫أبا السليل قال ‪ :‬كان رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه‬
‫فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أي آية في‬
‫القرآن أعظم ؟" فقال رجل ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )5/141‬وصحيح مسلم برقم (‪.)810‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬بن أبي كنانة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪"" :‬فحرسته"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬فإذا يده يد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فقال له أبي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬يحرسنا"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬إلى رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المستدرك (‪ )1/562‬وفيه انقطاع ‪ ،‬وقد جاء من طريق آخر ‪ ،‬فرواه ابن حبان في صحيحه‬
‫برقم (‪" )1724‬موارد" من طريق الوزاعي عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن ابن لبي بن كعب ‪،‬‬
‫عن أبيه كعب أنه أخبره فذكر نحوه‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬بن عتاب"‪.‬‬

‫( ‪)1/672‬‬

‫{ اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } قال ‪ :‬فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ‪ ،‬أو قال ‪ :‬فوضع يده‬
‫بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال ‪" :‬ليهنك العلم يا أبا المنذر" (‪.)1‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬عن السفع (‪ )2‬البكري‪ .‬قال الحافظ أبو القاسم الطبراني ‪ :‬حدثنا أبو يزيد‬
‫القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد ‪ ،‬عن ابن جريج أخبرني عمر‬
‫بن عطاء أن مولى ابن السفع (‪ - )3‬رجل صدق ‪ -‬أخبره عن السفع (‪ )4‬البكري ‪ :‬أنه سمعه‬
‫يقول ‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان ‪ :‬أي آية في القرآن‬
‫خ ُذهُ سِ َن ٌة وَل َنوْمٌ }‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ ل تَأْ ُ‬
‫أعظم ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫حتى انقضت الية‪.)5( .‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬عن أنس قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن‬
‫أنس بن مالك حدثه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سأل رجل من صحابته فقال ‪" :‬أي فلن‬
‫حدٌ } " ؟‬
‫هل تزوجت" ؟ قال ‪ :‬ل وليس عندي ما أتزوج به‪ .‬قال ‪" :‬أوليس معك ‪ُ { :‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪" :‬ربع القرآن‪ .‬أليس معك ‪ُ { :‬قلْ يَا أَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ } " ؟ قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪" :‬ربع‬
‫القرآن‪ .‬أليس معك { إِذَا زُلْ ِزَلتِ } " ؟ قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪" :‬ربع القرآن أليس معك ‪ { :‬إِذَا جَاءَ َنصْرُ‬
‫اللّهِ[وَالْفَتْحُ] (‪ " } )6‬؟ قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪" :‬ربع القرآن‪ .‬أليس معك آية الكرسي ‪ { :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل‬
‫ُهوَ (‪ " } )7‬؟ قال ‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪" :‬ربع القرآن" (‪.)8‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا‬
‫المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫أتيت النبي صلى ال عليه وسلم وهو في المسجد فجلست‪ .‬فقال ‪" :‬يا أبا ذر هل صليت ؟" قلت ‪:‬‬
‫ل‪ .‬قال ‪" :‬قم فصل" قال ‪ :‬فقمت فصليت ثم جلست فقال ‪" :‬يا أبا ذر َت َعوّذ بال من شر شياطين‬
‫النس والجن" قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال أوللنس شياطين ؟ قال ‪" :‬نعم" قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال‬
‫الصلة ؟ قال ‪" :‬خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر"‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال فالصوم ؟‬
‫قال ‪" :‬فرض ُمجْزِئ وعند ال مزيد" قلت ‪ :‬يا رسول ال فالصدقة ؟ قال ‪" :‬أضعاف مضاعفة"‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬يا رسول ال فأيها أفضل ؟ قال ‪" :‬جهد من مقل أو سر إلى فقير" قلت ‪ :‬يا رسول ال أي‬
‫النبياء كان أول ؟ قال ‪" :‬آدم" قلت ‪ :‬يا رسول ال ونبي (‪ )9‬كان ؟ قال ‪" :‬نعم نبي مكلم" قال ‪:‬‬
‫قلت ‪ :‬يا رسول ال كم المرسلون ؟ قال ‪" :‬ثلثمائة وبضعة عشر جمّا غفيرًا" وقال مرة ‪" :‬وخمسة‬
‫عشر" قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال ‪" :‬آية الكرسي ‪ { :‬اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } " ورواه النسائي (‪.)10‬‬
‫الْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)5/58‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن السقع"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ابن السقع"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬عن السقع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المعجم الكبير (‪ )1/334‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )6/321‬فيه راو لم يسم وقد وثق ‪،‬‬
‫وبقية رجاله ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬هو الحي القيوم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)3/221‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ونبي ال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪ )5/178‬وسنن الترمذي (‪.)8/275‬‬

‫( ‪)1/673‬‬

‫حديث آخر ‪ :‬عن أبي أيوب خالد بن زيد النصاري ‪ ،‬رضي ال عنه وأرضاه قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا سفيان (‪ )1‬عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب ‪ :‬أنه كان (‬
‫‪ )2‬في سهوة له ‪ ،‬وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬فقال ‪" :‬فإذا‬
‫رأيتها فقل ‪ :‬باسم ال أجيبي رسول ال"‪ .‬قال ‪ :‬فجاءت فقال لها ‪ :‬فأخذها فقالت ‪ :‬إني ل أعود‪.‬‬
‫فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما فعل أسيرك ؟" قال ‪ :‬أخذتها فقالت لي ‪:‬‬
‫إني ل أعود ‪ ،‬إني ل أعود‪ .‬فأرسلتها ‪ ،‬فقال (‪" : )3‬إنها عائدة" فأخذتها مرتين أو ثلثا كل ذلك‬
‫تقول ‪ :‬ل أعود‪ .‬وأجيء (‪ )4‬إلى النبي صلى ال عليه وسلم فيقول ‪" :‬ما فعل أسيرك ؟" فأقول ‪:‬‬
‫أخذتها فتقول ‪ :‬ل أعود‪ .‬فيقول ‪" :‬إنها عائدة" فأخذتها فقالت ‪ :‬أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فل‬
‫يقربك شيء ‪ :‬آية الكرسي ‪ ،‬فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فأخبره فقال ‪" :‬صدقت وهي كذوب"‪.‬‬
‫ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به (‪ ، )5‬وقال ‪ :‬حسن‬
‫غريب‪.‬‬
‫وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب "فضائل القرآن" وفي كتاب "الوكالة"‬
‫وفي "صفة إبليس" من صحيحه ‪ :‬قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن‬
‫سيرين عن أبي هريرة قال ‪ :‬وكلني رسول ال صلى ال عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني‬
‫آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت ‪ :‬لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬إني‬
‫محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة‪ .‬قال ‪ :‬فخليت عنه‪ .‬فأصبحت فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قال ‪ :‬قلت يا رسول ال شكا حاجة شديدة وعيال‬
‫حمْتُه وخليت سبيله‪ .‬قال ‪" :‬أما إنه قد كَذَبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول ال صلى‬
‫فَر ِ‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬إنه سيعود" فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت ‪ :‬لرفعنك إلى رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬دعني فإني محتاج وعلي عيال ل أعود‪ .‬فرحمته وخليت سبيله‬
‫فأصبحت فقال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت‬
‫(‪ : )6‬يا رسول ال شكا حاجة وعيال فرحمته فخليت سبيله‪ .‬قال ‪" :‬أما إنه قد كذبك وسيعود"‬
‫فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت ‪ :‬لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ .‬وهذا آخر ثلث مرات أنّك تزعم أنك ل تعود ثم تعود‪ .‬فقال ‪ :‬دعني أعلمك كلمات ينفعك‬
‫ال بها‪ .‬قلت ‪ :‬ما هن (‪ .)7‬قال ‪ :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ‪ { :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } حتى تختم الية فإنك لن يزال عليك من ال حافظ ول يقربك شيطان حتى تصبح‬
‫الْ َ‬
‫فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت‬
‫‪ :‬يا رسول ال زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني ال بها فخليت سبيله‪ .‬قال ‪" :‬ما هي ؟" قال ‪ :‬قال‬
‫حيّ‬
‫لي ‪ :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الية ‪ { :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫ا ْلقَيّومُ } وقال لي ‪ :‬لن يزال عليك من ال حافظ ول يقربك شيطان حتى تصبح‪ .‬وكانوا أحرص‬
‫شيء على الخير ‪ ،‬فقال النبي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو أحمد ‪ ،‬حدثنا سفيان"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬أنه بات"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪". :‬وتجيء"‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )5/423‬وسنن الترمذي برقم (‪.)2880‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فقلت"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ما هي"‪.‬‬

‫( ‪)1/674‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أما إنه صدقك (‪ )1‬وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ (‪ )2‬ثلث ليال يا أبا‬
‫هريرة ؟" قلت (‪ : )3‬ل قال ‪" :‬ذاك شيطان"‪.‬‬
‫كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم (‪ )4‬وقد رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم بن‬
‫يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره (‪ )5‬وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب‬
‫من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ‪:‬‬
‫حدثنا محمد بن عبد ال بن عمرويه الصفار ‪ ،‬حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم بن‬
‫إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي ‪ :‬أن أبا هريرة كان معه‬
‫مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل‬
‫يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك‪ .‬فشكا ذلك‬
‫أبو هريرة إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال له النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬تحب أن تأخذ‬
‫صاحبك هذا ؟" قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪" :‬فإذا فتحت الباب فقل ‪ :‬سبحان من سخرك محمد" (‪ )6‬فذهب‬
‫ففتح الباب فقال (‪ : )7‬سبحان من سخرك محمد (‪ .)8‬فإذا هو قائم بين يديه قال ‪ :‬يا عدو ال أنت‬
‫صاحب هذا ؟ قال ‪ :‬نعم دعني فإني ل أعود ما كنت آخذا إل لهل بيت من الجن فقراء ‪ ،‬فخلى‬
‫عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة‪ .‬فقلت ‪ :‬أليس قد عاهدتني أل تعود ؟ ل أدعك اليوم حتى أذهب‬
‫بك إلى النبي (‪ )9‬صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬ل تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها‬
‫لم يقربك أحد من الجن صغير ول كبير ذكر ول أنثى قال له ‪ :‬لتفعلن ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ :‬ما‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد‬
‫هن ؟ قال ‪ { :‬اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى ال عليه وسلم فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أما‬
‫علمت أن ذلك كذلك ؟"‪.‬‬
‫وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد ال عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن‬
‫أبي المتوكل عن أبي هريرة به (‪ )10‬وقد تقدم لبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا فهذه ثلث‬
‫وقائع‪.‬‬
‫قصة أخرى ‪ :‬قال أبو عبيد في كتاب "الغريب" ‪ :‬حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن‬
‫الشعبي عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬خرج رجل من النس فلقيه رجل من الجن فقال ‪ :‬هل لك‬
‫أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان ؟ فصارعه‬
‫فصرعه (‪ )11‬فقال ‪ :‬إني أراك ضئيل شخيتا (‪ )12‬كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها‬
‫الجن‪ .‬كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال ‪ :‬إني بينهم (‪ )13‬لضليع فعاودني فصارعه (‪ )14‬فصرعه‬
‫النسي‪ .‬فقال ‪ :‬تقرأ آية الكرسي فإنه ل يقرؤها أحد إذا دخل بيته إل خرج الشيطان وله خَبَخٌ‬
‫كخبج (‪ )15‬الحمار‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬صدق"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬من" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬منذ"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري برقم (‪.)3275 ، 2311‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10795‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬لمحمد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬لمحمد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬إلى رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)10794‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فصرعه عمر"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬صحيتا"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬إني منهم"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬فصارعن"‪.‬‬
‫(‪ )15‬في جـ ‪" :‬وله خنيج كخنيج الحمار"‪.‬‬

‫( ‪)1/675‬‬

‫فقيل لبن مسعود ‪ :‬أهو عمر ؟ فقال ‪ :‬من عسى أن يكون إل عمر‪.‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬الضئيل ‪ :‬النحيف الجسم والخَبَج (‪ )1‬بالخاء المعجمة ويقال ‪ :‬بالحاء المهملة ‪:‬‬
‫الضراط (‪.)2‬‬
‫حديث آخر عن أبي هريرة ‪ :‬قال الحاكم أبو عبد ال في مستدركه ‪ :‬حدثنا علي بن حمشاذ (‪)3‬‬
‫حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير السدي عن أبي صالح‬
‫عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن ل‬
‫تقرأ في بيت فيه شيطان إل خرج منه! آية الكرسي"‪.‬‬
‫وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال ‪ :‬صحيح السناد ولم يخرجاه (‬
‫‪ )4‬كذا قال ‪ ،‬وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [به] (‪ )5‬ولفظه ‪" :‬لكل شيء سنام وسنام القرآن‬
‫سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن ‪ :‬آية الكرسي"‪ .‬ثم قال ‪ :‬غريب ل نعرفه إل من‬
‫حديث حكيم بن جبير ‪ ،‬وقد تكلم فيه شعبة وضعفه (‪.)6‬‬
‫قلت ‪ :‬وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي‪.‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن مَرْدُويه ‪ :‬حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي‬
‫أخبرنا عمر بن محمد البخاري ‪ ،‬أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُ ْنجَار عن عبد ال بن‬
‫كَيْسان ‪ ،‬أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر (‪ )7‬عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب ‪ :‬أنه‬
‫خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال ‪ :‬أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن ؟ فقال ابن‬
‫طتَ سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬أعظم آية في القرآن‬
‫سقَ ْ‬
‫مسعود ‪ :‬على الخبير َ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } (‪.)8‬‬
‫‪ { :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫حديث آخر في اشتماله على اسم ال العظم ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن بكر (‪ )9‬أخبرنا‬
‫عبيد ال (‪ )10‬بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت (‪: )11‬‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } و‬
‫سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في هاتين اليتين { اللّهُ ل ِإلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } [آل عمران ‪" ]2 ، 1 :‬إن فيهما اسم ال العظم" (‪.)12‬‬
‫{ الم * اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬
‫خشْرم (‪ )13‬وابن ماجة عن أبي بكر بن‬
‫وكذا رواه أبو داود عن مُسدّد والترمذي عن علي بن َ‬
‫أبي شيبة ثلثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد ال بن أبي زياد به (‪ )14‬وقال الترمذي ‪ :‬حسن‬
‫صحيح‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬والخنيج"‪.‬‬
‫(‪ )2‬غريب الحديث لبي عبيد (‪.)3/316‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬حماد" وفي و ‪" :‬جمشاذ"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المستدرك (‪.)2/259‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬المستدرك (‪.)2/259‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬ابن معمر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬ورواه الجورقاني في الباطيل برقم (‪ )712‬من طريق عيسى بن موسى غنجار به‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬بن بكير"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عبد ال"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )12‬المسند (‪.)6/461‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ابن حزم"‪.‬‬
‫(‪ )14‬سنن أبي داود برقم (‪ )1496‬وسنن الترمذي برقم (‪ )3478‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3855‬‬

‫( ‪)1/676‬‬

‫حديث آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي ال عنه ‪ :‬قال ابن مَرْدُويه ‪ :‬أخبرنا عبد الرحمن‬
‫بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم ‪،‬‬
‫أخبرنا عبد ال بن العلء بن زيد ‪ :‬أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه‬
‫قال ‪" :‬اسم ال العظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلث ‪ :‬سورة البقرة وآل عمران وطه" وقال‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } وفي‬
‫هشام ‪ -‬وهو ابن عمار خطيب دمشق ‪ : -‬أما البقرة فـ { اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومِ }‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } وفي طه ‪ { :‬وَعَنَتِ ا ْلوُجُوهُ لِ ْل َ‬
‫آل عمران ‪ { :‬الم * اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫[طه ‪.)1( ]111 :‬‬
‫حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلة المكتوبة ‪ :‬قال أبو بكر بن مَرْدُويه ‪:‬‬
‫حسَين بن‬
‫حدثنا محمد بن محرز بن مساور الدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا ال ُ‬
‫بشر (‪ )2‬بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من قرأ دُبُر كل صلة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة‬
‫إل أن يموت"‪.‬‬
‫وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن الحسين بن بشر به (‪ )3‬وأخرجه ابن حبان في صحيحه‬
‫حمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو إسناد على شرط البخاري‬
‫من حديث محمد بن ِ‬
‫‪ ،‬وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع (‪ )4‬فال أعلم‪ .‬وقد روى ابن مردويه من‬
‫حديث علي (‪ )5‬والمغيرة بن شعبة (‪ )6‬وجابر بن عبد ال نحو هذا الحديث‪ .‬ولكن في إسناد كل‬
‫منها ضعف‪.‬‬
‫وقال ابن مردويه أيضا ‪ :‬حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن دُرُسْ ُتوَيه‬
‫المروزي (‪ )7‬أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن‬
‫عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أوحى ال إلى موسى بن عمران‬
‫عليه السلم أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلة‬
‫مكتوبة أجعلْ له (‪ )8‬قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين (‪ )9‬وأعمال الصديقين ول‬
‫يواظب على ذلك إل نبي أو صديق أو عبد امتحنتُ (‪ )10‬قلبه لليمان أو أريد قتله في سبيل ال"‬
‫(‪ )11‬وهذا حديث منكر جدّا‪.‬‬
‫حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل ‪ :‬قال أبو عيسى الترمذي ‪ :‬حدثنا‬
‫يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )8/282‬والطحاوي في مشكل الثار برقم (‪ )176‬من‬
‫طرق عن هشام بن عمار به نحوه‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬بشير"‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)9928‬‬
‫(‪ )4‬الموضوعات (‪.)1/244‬‬
‫(‪ )5‬حديث علي رواه أيضا البيهقي في شعب اليمان برقم (‪ )2395‬من طريق نهشل عن أبي‬
‫إسحاق الهمداني عن حبة العرني عن علي رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )6‬حديث المغيرة رواه أبو نعيم في الحلية (‪ )3/221‬من طريق عمر بن إبراهيم عن محمد بن‬
‫كعب ‪ ،‬عن المغيرة بن شعبة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬بن ساسويه المروبي"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬جعل ال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬وثواب النبيين"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬متحبب"‪.‬‬
‫(‪ )11‬وفيه محمد بن الحسن النقاش ‪ ،‬قال البرقاني كل حديثه منكر‪ .‬وقال الخطيب ‪ :‬حديثه‬
‫مناكير‪ .‬وروى نحوه من حديث جابر رضي ال عنه لكنه ضعيف‪.‬‬

‫( ‪)1/677‬‬

‫زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من‬
‫قرأ ‪ { :‬حم } المؤمن إلى ‪ { :‬إِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن‬
‫قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال ‪ :‬هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم‬
‫في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من قبل حفظه (‪.)1‬‬
‫وقد ورد في فضيلتها (‪ )2‬أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث‬
‫على قراءتها عند الحجامة ‪ :‬أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد‬
‫اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك‪.‬‬
‫وهذه الية مشتملة على عشر جمل مستقلة‪.‬‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } أي ‪:‬‬
‫فقوله ‪ { :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } إخبار بأنه المتفرد باللهية لجميع الخلئق { الْ َ‬
‫الحي في نفسه الذي ل يموت أبدًا القيم لغيره وكان عمر يقرأ ‪" :‬القَيّام" فجميع الموجودات مفتقرة‬
‫سمَاءُ وَال ْرضُ‬
‫إليه وهو غني عنها ول قوام لها بدون أمره كقوله ‪َ { :‬ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ َتقُومَ ال ّ‬
‫بَِأمْ ِرهِ } [الروم ‪ ]25 :‬وقوله ‪ { :‬ل تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَل َنوْمٌ } أي ‪ :‬ل يعتريه نقص ول غفلة ول ذهول‬
‫عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء ل يغيب عنه شيء ول يخفى‬
‫خ ُذهُ } أي ‪ :‬ل‬
‫عليه خافية (‪ ، )3‬ومن تمام القيومية أنه ل يعتريه سنة ول نوم ‪ ،‬فقوله ‪ { :‬ل تَأْ ُ‬
‫تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال ‪ { :‬وَل َنوْمٌ } لنه أقوى من السنة‪ .‬وفي الصحيح عن‬
‫أبي موسى قال ‪ :‬قام فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بأربع كلمات فقال ‪" :‬إن ال ل ينام ول‬
‫ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل‬
‫عمل النهار حجابه النور ‪ -‬أو النار ‪ -‬لو كشفه لحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من‬
‫خلقه" (‪.)4‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله ‪{ :‬‬
‫ل تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَل َنوْمٌ } أن موسى عليه السلم سأل الملئكة هل ينام ال عز وجل ؟ فأوحى ال‬
‫إلى الملئكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلثا (‪ )5‬فل يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم‬
‫تركوه وحذروه أن يكسرهما‪ .‬قال ‪ :‬فجعل ينعس وهما في يده (‪ )6‬في كل يد واحدة قال ‪ :‬فجعل‬
‫ينعس وينبه (‪ )7‬وينعس وينبه (‪ )8‬حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالخرى فكسرهما قال‬
‫معمر ‪ :‬إنما هو مثل ضربه ال عز وجل يقول ‪ :‬فكذلك السموات والرض في يديه‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره (‪ )9‬وهو من أخبار بني‬
‫إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلم ل يخفى عليه مثل هذا من أمر ال عز وجل وأنه‬
‫منزه عنه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن الترمذي برقم (‪.)2879‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬في فضلها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬عليه شيء"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)179‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬قليل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬يديه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬وينتبه"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬وينتبه"‪.‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)5/393‬‬

‫( ‪)1/678‬‬

‫وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير ‪:‬‬


‫حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن‬
‫عكرمة عن أبي هريرة قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يحكي عن موسى عليه‬
‫السلم على المنبر ‪ ،‬قال ‪" :‬وقع في نفس موسى ‪ :‬هل ينام ال ؟ فأرسل ال إليه ملكًا فأرقه ثلثًا‬
‫ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما"‪ .‬قال ‪" :‬فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان‬
‫فيستيقظ فيحبس إحداهما على الخرى ‪ ،‬حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان" قال‬
‫‪" :‬ضرب ال له مثل عز وجل ‪ :‬أن ال لو كان ينام لم تستمسك السماء والرض" (‪.)1‬‬
‫وهذا حديث غريب جدا والظهر أنه إسرائيلي ل مرفوع ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ‪ ،‬حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدّشْتكي‬
‫حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن‬
‫عباس ‪ :‬أن بني إسرائيل قالوا ‪ :‬يا موسى هل ينام ربك ؟ قال ‪ :‬اتقوا ال‪ .‬فناداه ربه عز وجل ‪:‬‬
‫يا موسى سألوك ‪ :‬هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل‬
‫ثلث نعس فوقع لركبتيه ‪ ،‬ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان‬
‫فانكسرتا‪ .‬فقال ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬لو كنت أنام لسقطت السموات والرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان‬
‫في يديك‪ .‬وأنزل ال على نبيه صلى ال عليه وسلم آية الكرسي‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره‬
‫وقوله ‪َ { :‬لهُ مَا فِي ال ّ‬
‫وسلطانه كقوله ‪:‬‬
‫حصَا ُه ْم وَعَدّهُمْ عَدّا * َوكُّلهُمْ آتِيهِ‬
‫حمَنِ عَبْدًا َلقَدْ أَ ْ‬
‫ت وَالرْضِ إِل آتِي الرّ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ إِنْ ُكلّ مَنْ فِي ال ّ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم ‪.]95 - 93 :‬‬
‫سمَاوَاتِ ل ُتغْنِي‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ إِل بِإِذْ ِنهِ } كقوله ‪َ { :‬وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ‬
‫وقوله ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي َي ْ‬
‫ش َفعُونَ‬
‫شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا إِل مِنْ َب ْعدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَيَ ْرضَى } [النجم ‪ ]26 :‬وكقوله ‪ { :‬وَل َي ْ‬
‫َ‬
‫إِل ِلمَنِ ارْ َتضَى } [النبياء ‪ ]28 :‬وهذا من عظمته وجلله وكبريائه عز وجل أنه ل يتجاسر أحد‬
‫على أن يشفع عنده إل بإذنه له (‪ )2‬في الشفاعة كما في حديث الشفاعة ‪" :‬آتي تحت العرش فأخر‬
‫(‪ )3‬ساجدًا فيدعني ما شاء ال أن يدعني ثم يقال ‪ :‬ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع" قال ‪:‬‬
‫"فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة" (‪.)4‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬يعَْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ‪ :‬ماضيها‬
‫وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارًا عن الملئكة ‪َ { :‬ومَا نَتَنزلُ إِل بَِأمْرِ رَ ّبكَ َلهُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِينَا َومَا‬
‫ك َومَا كَانَ رَ ّبكَ نَسِيّا } [مريم ‪.]64 :‬‬
‫خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذَِل َ‬
‫شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِل ِبمَا شَاءَ } أي ‪ :‬ل يطلع أحد من علم ال على شيء‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل يُحِيطُونَ ِب َ‬
‫إل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ )5/394‬وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة أمية بن شبل ‪" :‬له حديث منكر‬
‫رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا قال ‪" :‬وقع في نفس موسى عليه‬
‫السلم ‪ :‬هل ينام ال ؟" الحديث رواه هشام بن يوسف وخالفه معمر ‪ ،‬عن الحكم عن عكرمة‬
‫فوقفه ‪ ،‬وهذا أقرب ول يسوغ أن يكون هذا وقع في نفس موسى عليه السلم وإنما روى أن بني‬
‫إسرائيل سألوا موسى عن ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬إل أن يأذن له"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فأخر ل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬حديث الشفاعة مخرج في الصحيحين من حديث أنس رضي ال عنه ‪ ،‬وسيأتي سياقه وذكر‬
‫طرقه عند تفسير الية ‪ 79 :‬من سورة السراء‪.‬‬

‫( ‪)1/679‬‬

‫بما أعلمه ال عز وجل وأطلعه عليه‪ .‬ويحتمل أن يكون المراد ل يطلعون على شيء من علم ذاته‬
‫وصفاته إل بما أطلعهم ال عليه كقوله ‪ { :‬وَل ُيحِيطُونَ بِهِ عِ ْلمًا } [طه ‪.]110 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضَ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج حدثنا ابن‬
‫وقوله ‪ { :‬وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في‬
‫قوله ‪ { :‬وَسِعَ كُرْسِيّهُ } قال ‪ :‬علمه ‪ ،‬وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد ال بن إدريس وهشيم‬
‫كلهما عن مطرف بن طريف به‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬وروي عن سعيد بن جبير مثله‪ .‬ثم قال ابن جرير ‪ :‬وقال آخرون ‪ :‬الكرسي‬
‫موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين‪.‬‬
‫وقال شجاع بن مخلد في تفسيره ‪ :‬أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدّهْني عن مسلم‬
‫البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ‪ :‬سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن قول ال ‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَال ْرضَ } قال ‪" :‬كرسيه موضع قدميه والعرش ل يقدر قدره إل ال‬
‫سعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫{ وَ ِ‬
‫عز وجل"‪.‬‬
‫كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلس ‪ ،‬فذكره (‪)1‬‬
‫وهو غلط وقد رواه َوكِيع في تفسيره ‪ :‬حدثنا سفيان عن عمار الدّهْنِي (‪ )2‬عن مسلم البطين عن‬
‫سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ‪ :‬الكرسي موضع القدمين والعرش ل يقدر أحد قدره‪ .‬وقد رواه‬
‫الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم‬
‫عن سفيان ‪ -‬وهو الثوري ‪ -‬بإسناده عن ابن عباس موقوفًا مثله وقال ‪ :‬صحيح على شرط‬
‫ظهَيْر الفزاري الكوفي ‪-‬‬
‫الشيخين ولم يخرجاه (‪ )3‬وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ُ‬
‫وهو متروك ‪ -‬عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا ول يصح أيضًا‪.‬‬
‫وقال السدي عن أبي مالك ‪ :‬الكرسي تحت العرش‪ .‬وقال السدي ‪ :‬السموات والرض في جوف‬
‫الكرسي والكرسي بين يدي العرش‪ .‬وقال الضحاك عن ابن عباس ‪ :‬لو أن السموات السبع‬
‫والرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إل بمنزلة الحلقة‬
‫في المفازة‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال ‪ :‬قال ابن زيد ‪ :‬حدثني أبي قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ما السموات السبع في الكرسي إل كدراهم سبعة ألقيت في‬
‫تُرْس"‪ .‬قال ‪ :‬وقال أبو ذر ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬ما الكرسي في‬
‫العرش إل كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلة من الرض" (‪.)4‬‬
‫وقال أبو بكر بن مردويه ‪ :‬أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد ال بن وهيب (‪ )5‬الغزي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه الخطيب في تاريخ دمشق (‪ )9/251‬من طريق شجاع بن مخلد به‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬عن علي الذهبي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المستدرك (‪ )2/282‬ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (‪ )61‬من طريق أبي عاصم‬
‫عن سفيان به موقوفا‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪ )5/399‬وهو منقطع وقد جاء موصول فرواه ابن أبي شيبة في صفة العرش‬
‫برقم (‪ )58‬من طريق المختار بن غسان ‪ ،‬عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إدريس الخولني عن‬
‫أبي ذر الغفاري رضي ال عنه ‪ ،‬مرفوعا بنحوه‪ .‬وسيأتي أيضا موصول من طريق آخر وهو‬
‫الذي يليه من رواية ابن مردويه‪.‬‬
‫(‪ )5‬في هـ ‪" :‬بن وهب" والتصويب من الكمال‪.‬‬

‫( ‪)1/680‬‬

‫أخبرنا محمد بن أبي السّ ِريّ العسقلني أخبرنا محمد بن عبد ال (‪ )1‬التميمي عن القاسم بن محمد‬
‫الثقفي عن أبي إدريس الخولني عن أبي ذر الغفاري ‪ ،‬أنه سأل النبي صلى ال عليه وسلم عن‬
‫الكرسي فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬والذي نفسي بيده ما السموات السبع والرضون‬
‫السبع عند الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة ‪ ،‬وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلة‬
‫على تلك الحلقة" (‪.)2‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ‪ :‬حدثنا زهير حدثنا ابن أبي ُبكَيْر (‪ )3‬حدثنا إسرائيل‬
‫عن أبي إسحاق عن عبد ال بن خليفة عن عمر ‪ ،‬رضي ال عنه قال ‪ :‬أتت امرأة إلى رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فقالت ‪ :‬ادع ال أن يدخلني الجنة‪ .‬قال ‪ :‬فعظم الرب تبارك وتعالى وقال ‪:‬‬
‫"إن كرسيه وسع السموات والرض وإن له أطيطًا كأطيط الرّحل الجديد من ثقله" (‪.)4‬‬
‫وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني‬
‫وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب "المختار" من حديث أبي إسحاق‬
‫(‪ )5‬السبيعي عن عبد ال بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر (‪ )6‬ثم منهم‬
‫من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم من يرويه عنه مرسل (‪ )7‬ومنهم من يزيد في متنه زيادة‬
‫غريبة ومنهم من يحذفها‪.‬‬
‫وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من‬
‫سننه (‪ ، )8‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة‬
‫لفصل القضاء ‪ ،‬والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الية‪.‬‬
‫وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من السلميين ‪ :‬أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن‬
‫وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الثير ويقال له ‪ :‬الطلس‪ .‬وقد رد ذلك عليهم‬
‫آخرون‪.‬‬
‫وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول ‪ :‬الكرسي هو العرش‪.‬‬
‫والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه ‪ ،‬كما دلت على ذلك الثار والخبار ‪ ،‬وقد‬
‫اعتمد ابن جرير على حديث عبد ال بن خليفة ‪ ،‬عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ظ ُهمَا } أي ‪ :‬ل يثقله ول ُيكْرثُهُ حفظ السموات والرض ومن فيهما ومن‬
‫حفْ ُ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل يَئُو ُدهُ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬بن عبيد ال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬وفي إسناده محمد بن أبي السري العسقلني ‪ ،‬ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين ‪ ،‬وقال ابن‬
‫عدي ‪ :‬كثير الغلط‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬ابن أبي بكر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه من طريقه الضياء في المختارة برقم (‪.)151‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬عن أبي القاسم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬مسند البزار برقم (‪" )39‬كشف الستار" وتفسير الطبري (‪ )5/400‬والسنة لبن أبي عاصم‬
‫برقم (‪ )574‬والمختارة للضياء المقدسي برقم (‪.)154 - 151‬‬
‫(‪ )7‬الرواية المرسلة في تفسير الطبري (‪.)5/400‬‬
‫(‪ )8‬سنن أبي داود برقم (‪.)4726‬‬

‫( ‪)1/681‬‬

‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ‬


‫لَا ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ َقدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ َفمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)256‬‬
‫ا ْلوُ ْثقَى لَا ا ْن ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫بينهما ‪ ،‬بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت ‪ ،‬الرقيب على جميع‬
‫الشياء ‪ ،‬فل يعزب عنه شيء ول يغيب عنه شيء والشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة‬
‫صغيرة بالنسبة إليه ‪ ،‬محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما يريد ‪ ،‬الذي ل يسأل عما يفعل‬
‫وهم يسألون‪ .‬وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم ل إله غيره ول‬
‫رب سواه فقوله ‪ { :‬وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ } كقوله ‪ { :‬وَهُو [ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِير } وكقوله] (‪ { : )1‬ا ْلكَبِيرُ‬
‫ا ْلمُ َتعَال } [الرعد ‪.]9 :‬‬
‫وهذه اليات وما في معناها من الحاديث الصحاح الجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها‬
‫كما جاءت من غير تكييف ول تشبيه‪.‬‬
‫سكَ‬
‫{ ل ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ َفمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُ ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪} )256‬‬
‫بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬ل ِإكْرَاهَ فِي الدّين } أي ‪ :‬ل تكرهوا أحدًا على الدخول في دين السلم فإنه بين‬
‫واضح جلي دلئله وبراهينه ل يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ‪ ،‬بل من هداه ال‬
‫للسلم وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ‪ ،‬ومن أعمى ال قلبه وختم على سمعه‬
‫وبصره فإنه ل يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا‪ .‬وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الية في‬
‫قوم من النصار ‪ ،‬وإن كان حكمها عامّا‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫جبير عن ابن عباس قال ‪ :‬كانت المرأة تكون ِمقْلتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده‬
‫‪ ،‬فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء النصار فقالوا ‪ :‬ل ندع أبناءنا فأنزل ال عز وجل ‪:‬‬
‫{ ل ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ }‬
‫وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به (‪ )2‬ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه‪ .‬وقد‬
‫رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به (‪ ، )3‬وهكذا ذكر مجاهد وسعيد‬
‫بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم ‪ :‬أنها نزلت في ذلك‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن (‪ )4‬زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن‬
‫سعيد [بن جبير] (‪ )5‬عن ابن عباس قوله ‪ { :‬ل ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } قال ‪ :‬نزلت في رجل من‬
‫النصار من بني سالم بن عوف يقال له ‪ :‬الحصيني كان له ابنان نصرانيان ‪ ،‬وكان هو رجل‬
‫مسلمًا فقال للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أل أستكرههما فإنهما قد أبيا إل النصرانية ؟ فأنزل ال‬
‫فيه ذلك‪.‬‬
‫رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد ‪ :‬وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام‬
‫يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ‪ ،‬وطلب من رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يبعث في آثارهما ‪ ،‬فنزلت هذه الية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري (‪ )408 ، 5/407‬وسنن أبي داود برقم (‪ )2682‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)11048‬‬
‫(‪ )3‬صحيح ابن حبان برقم (‪" )1725‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬مولى"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬

‫( ‪)1/682‬‬

‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلل عن أُسَق قال‬
‫‪ :‬كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي السلم فآبى فيقول ‪ { :‬ل‬
‫ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } ويقول ‪ :‬يا أُسَق لو أسلمت لستعنا بك على بعض أمور المسلمين‪.‬‬
‫وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ‬
‫والتبديل إذا بذلوا الجزية‪ .‬وقال آخرون ‪ :‬بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع‬
‫المم إلى الدخول في الدين الحنيف دين السلم فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل‬
‫عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‬
‫الجزية ‪ ،‬قوتل حتى يقتل‪ .‬وهذا معنى الكراه قال ال تعالى ‪ { :‬سَتُدْ َ‬
‫ُتقَاتِلُو َنهُمْ َأوْ ُيسِْلمُون } [الفتح ‪ ]16 :‬وقال تعالى ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ جَا ِهدِ ا ْل ُكفّارَ وَا ْلمُنَا ِفقِينَ وَاغْلُظْ‬
‫عَلَ ْيهِمْ } [التحريم ‪ ]9 :‬وقال تعالى ‪ { :‬يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ وَلْ َيجِدُوا‬
‫فِيكُمْ غِ ْلظَ ًة وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } [التوبة ‪ ]123 :‬وفي الصحيح ‪" :‬عجب ربك من قوم‬
‫يقادون إلى الجنة في السلسل" (‪ )1‬يعني ‪ :‬السارى الذين يقدم بهم بلد السلم في الوثائق‬
‫والغلل والقيود والكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل‬
‫الجنة‪.‬‬
‫فأما الحديث الذي رواه المام أحمد ‪ :‬حدثنا يحيى عن حميد عن أنس ‪ :‬أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم قال لرجل ‪" :‬أسلم" قال ‪ :‬إني أجدني كارها‪ .‬قال ‪" :‬وإن كنت كارها" (‪ )2‬فإنه ثلثي‬
‫صحيح ‪ ،‬ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى ال عليه وسلم على السلم بل دعاه‬
‫إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له ‪" :‬أسلم وإن كنت كارهًا فإن ال سيرزقك‬
‫حسن النية والخلص"‪.‬‬
‫سمِيعٌ‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫ت وَ ُيؤْمِنْ بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬فمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُو ِ‬
‫عَلِيمٌ } أي ‪ :‬من خلع النداد والوثان (‪ )3‬وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْروَةِ ا ْلوُ ْثقَى } أي ‪ :‬فقد ثبت‬
‫ال ‪ ،‬ووحد ال فعبده وحده وشهد أن ل إله إل هو { َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم‪.‬‬
‫قال أبو القاسم البغوي ‪ :‬حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الحوص سلم بن سليم ‪ ،‬عن أبي‬
‫إسحاق عن حسان ‪ -‬هو ابن فائد العبسي ‪ -‬قال ‪ :‬قال عمر رضي ال عنه ‪ :‬إن الجِبت ‪ :‬السحر‬
‫والطاغوت ‪ :‬الشيطان ‪ ،‬وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن ل‬
‫يعرف ويفر الجبان من (‪ )4‬أمه ‪ ،‬وإن كرم الرجل دينه ‪ ،‬وحسبه خلقه ‪ ،‬وإن كان فارسيّا أو‬
‫نبطيا‪ .‬وهكذا رواه ابن جرير (‪ )5‬وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان‬
‫بن فائد العبسي عن عمر فذكره‪.‬‬
‫ومعنى قوله في الطاغوت ‪ :‬إنه الشيطان قوي جدّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ‪،‬‬
‫من عبادة الوثان والتحاكم إليها والستنصار بها‪.‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا } أي ‪ :‬فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ‪،‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )3010‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)3/181‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬والديان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)5/417‬‬

‫( ‪)1/683‬‬

‫وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي ل تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد‬
‫علِيمٌ }‪.‬‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْنفِصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫ولهذا قال ‪َ { :‬فقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى } يعني ‪ :‬اليمان‪ .‬وقال السدي ‪ :‬هو السلم وقال‬
‫قال مجاهد ‪َ { :‬فقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫سعيد بن جبير والضحاك ‪ :‬يعني ل إله إل ال‪ .‬وعن أنس (‪ )1‬بن مالك ‪ { :‬بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى } ‪:‬‬
‫القرآن‪ .‬وعن سالم بن أبي الجعد قال ‪ :‬هو الحب في ال والبغض في ال‪.‬‬
‫وكل هذه القوال صحيحة ول تنافي بينها‪.‬‬
‫وقال معاذ بن جبل في قوله ‪ { :‬ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا } أي ‪ :‬ل انقطاع لها دون دخول الجنة‪.‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا } ثم قرأ ‪ { :‬إِنّ اللّ َه ل‬
‫وقال مجاهد وسعيد بن جبير ‪َ { :‬فقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫س ِهمْ } [الرعد ‪.]11 :‬‬
‫ُيغَيّرُ مَا ِبقَوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال ‪:‬‬
‫كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ‪ ،‬فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال‬
‫القوم ‪ :‬هذا رجل من أهل الجنة‪ .‬فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما‬
‫استأنس (‪ )2‬قلت له ‪ :‬إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا‪ .‬قال ‪ :‬سبحان ال ما ينبغي‬
‫لحد أن يقول ما ل يعلم وسأحدثك لم ‪ :‬إني رأيت رؤيا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فقصصتها عليه ‪ :‬رأيت كأني في روضة خضراء ‪ -‬قال ابن عون ‪ :‬فذكر من خضرتها وسعتها‬
‫‪ -‬وسطها عمود حديد أسفله في الرض وأعله في السماء في أعله عروة ‪ ،‬فقيل لي ‪ :‬اصعد‬
‫عليه فقلت ‪ :‬ل أستطيع‪ .‬فجاءني مِ ْنصَف ‪ -‬قال ابن عون ‪ :‬هو الوصيف (‪ - )3‬فرفع ثيابي من‬
‫خلفي ‪ ،‬فقال ‪ :‬اصعد‪ .‬فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال ‪ :‬استمسك بالعروة‪ .‬فاستيقظت وإنها لفي‬
‫يدي فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم فقصصتها عليه‪ .‬فقال ‪" :‬أما الروضة فروضة السلم‬
‫وأما العمود فعمود السلم وأما العروة فهي العروة الوثقى ‪ ،‬أنت على السلم حتى تموت" (‪.)4‬‬
‫قال ‪ :‬وهو عبد ال بن سلم أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد ال بن عون (‪ )5‬وأخرجه‬
‫البخاري من وجه آخر ‪ ،‬عن محمد بن سيرين به (‪.)6‬‬
‫طريق أخرى وسياق آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا حسن بن موسى وعفان قال حدثنا حماد بن‬
‫سلمة ‪ ،‬عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرّ قال ‪ :‬قدمت المدينة‬
‫فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال‬
‫القوم ‪ :‬من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا‪ .‬فقام خلف سارية فصلى‬
‫ركعتين فقمت إليه ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬قال بعض القوم ‪ :‬كذا وكذا‪ .‬فقال ‪ :‬الجنة ل يُدخلها (‪ )7‬من يشاء‬
‫وإني رأيت على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم رؤيا ‪ ،‬رأيت كأن رجل أتاني فقال ‪:‬‬
‫انطلق‪ .‬فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري ‪ ،‬فأردت أن أسلكها‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬إنك لست من أهلها‪ .‬ثم عرضت لي طريق عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬وعن يونس"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فلما أنس"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬هو الوصف"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)5/452‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )3813‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2484‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)7010‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬سيدخلها"‪.‬‬

‫( ‪)1/684‬‬

‫يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل (‪ )1‬فإذا أنا على ذروته ‪ ،‬فلم أتقار ولم‬
‫أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل (‪ )2‬حتى أخذت بالعروة فقال‬
‫‪ :‬استمسك‪ .‬فقلت ‪ :‬نعم‪ .‬فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ‪ ،‬فقصصتها على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال ‪" :‬رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر (‪ ، )3‬وأما الطريق التي‬
‫عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ‪ ،‬ولست من أهلها ‪ ،‬وأما الطريق التي عرضت عن يمينك‬
‫فطريق أهل الجنة ‪ ،‬وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ‪ ،‬وأما العروة التي استمسكت بها فعروة‬
‫السلم فاستمسك بها حتى تموت"‪ .‬قال ‪ :‬فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة‪ .‬قال ‪ :‬وإذا هو عبد‬
‫ال بن سلم (‪.)4‬‬
‫وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ‪ ،‬وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬عن‬
‫الحسن بن موسى الشيب كلهما عن حماد بن سلمة به نحوه (‪ .)5‬وأخرجه مسلم في صحيحه‬
‫سهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به (‪.)6‬‬
‫من حديث العمش عن سليمان بن مُ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فدحا بي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فدحا بي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فالمحن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)453 ، 5/452‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪ )7633‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)3920‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)2484‬‬

‫( ‪)1/685‬‬

‫جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ‬
‫اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ َآمَنُوا يُخْ ِر ُ‬
‫مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪)257‬‬

‫ج ُهمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَالّذِينَ كَفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ‬


‫{ اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُوا ُيخْرِ ُ‬
‫يُخْ ِرجُو َنهُمْ مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪} )257‬‬
‫يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلم فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر‬
‫والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير ‪ ،‬وأن الكافرين إنما وليهم‬
‫الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالت والضللت ‪ ،‬ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ }‬
‫الحق إلى الكفر والفك { أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات ؛ لن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة‬
‫كما قال ‪ { :‬وَأَنّ َهذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيمًا فَاتّ ِبعُو ُه وَل تَتّ ِبعُوا السّ ُبلَ فَتَفَرّقَ ِبكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَِلكُ ْم َوصّاكُمْ‬
‫ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّور } [النعام ‪ ]1 :‬وقال‬
‫بِهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ } [النعام ‪ ]153 :‬وقال تعالى ‪َ { :‬و َ‬
‫شمَا ِئلِ } [النحل ‪ ]48 :‬إلى غير ذلك من اليات التي في لفظها إشعار‬
‫ن وَال ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬عَنِ الْ َيمِي ِ‬
‫بتفرد الحق ‪ ،‬وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى‬
‫بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال ‪ :‬يبعث أهل الهواء (‪ - )1‬أو قال ‪ :‬يبعث أهل الفتن ‪ -‬فمن‬
‫كان هواه اليمان كانت فتنته بيضاء مضيئة ‪ ،‬ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة ‪ ،‬ثم‬
‫جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ‬
‫قرأ هذه الية ‪ { :‬اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْ ِر ُ‬
‫الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬السواق"‪.‬‬

‫( ‪)1/685‬‬

‫أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ‬
‫قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (‪)258‬‬

‫{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ ِإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ‬
‫قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (‪} )258‬‬
‫هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل ‪ :‬نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح‪ .‬ويقال‬
‫‪ :‬نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والول قول مجاهد وغيره‪.‬‬
‫قال مجاهد ‪ :‬وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة ‪ :‬مؤمنان وكافران فالمؤمنان ‪ :‬سليمان بن داود‬
‫وذو القرنين‪ .‬والكافران ‪ :‬نمرود [بن كنعان] (‪ )1‬وبختنصر‪ .‬فال أعلم‪.‬‬
‫ومعنى قوله ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ } أي ‪ :‬بقلبك يا محمد { ِإلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } أي ‪[ :‬في] (‪)2‬‬
‫عِل ْمتُ َل ُكمْ مِنْ‬
‫وجود ربه‪ .‬وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه ‪ { :‬مَا َ‬
‫إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص ‪ ]38 :‬وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إل‬
‫تجبره ‪ ،‬وطول مدته في الملك ؛ وذلك أنه يقال ‪ :‬إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ؛ ولهذا قال ‪{ :‬‬
‫أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليل على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم ‪:‬‬
‫{ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي ‪ :‬الدليل على وجوده حدوث هذه الشياء المشاهدة بعد عدمها ‪،‬‬
‫وعدمها بعد وجودها‪ .‬وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة ؛ لنها لم تحدث بنفسها فل‬
‫بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده ل شريك له‪ .‬فعند ذلك قال‬
‫المحاج (‪ - )3‬وهو النمروذ ‪ { : -‬أَنَا ُأحْيِي وَُأمِيتُ }‬
‫قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد ‪ :‬وذلك أني (‪ )4‬أوتى بالرجلين قد استحقا القتل‬
‫فآمر بقتل أحدهما فيقتل ‪ ،‬وبالعفو عن الخر فل يقتل‪ .‬فذلك معنى الحياء والماتة‪.‬‬
‫والظاهر ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬أنه ما أراد هذا ؛ لنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ول في معناه ؛ لنه‬
‫غير مانع لوجود الصانع‪ .‬وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل‬
‫لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت ‪ ،‬كما اقتدى به فرعون في قوله ‪ { :‬مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْرِي‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ‬
‫} ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة ‪ { :‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫ا ْل َمغْ ِربِ } أي ‪ :‬إذا كنت كما تدعي من أنك [أنت الذي] (‪ )5‬تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو‬
‫الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من‬
‫المشرق ‪ ،‬فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب‪ .‬فلما علم عجزه وانقطاعه‬
‫‪ ،‬وأنه ل يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي ‪ :‬أخرس فل يتكلم ‪ ،‬وقامت عليه الحجة‪ .‬قال‬
‫ال تعالى (‪ { )6‬وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي ‪ :‬ل يلهمهم حجة ول برهانًا بل حجتهم‬
‫داحضة عند ربهم ‪ ،‬وعليهم غضب ولهم عذاب شديد‪.‬‬
‫وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين ‪ :‬أن عدول إبراهيم عن المقام‬
‫الول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ‪ ،‬ومنهم من قد يطلق عبارة ردية‪ .‬وليس‬
‫كما قالوه بل المقام الول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلن ما ادعاه نمروذ في الول والثاني ‪،‬‬
‫ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الحاج"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬وذلك أنه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عز شأنه"‪.‬‬

‫( ‪)1/686‬‬

‫شهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي َه ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ‬
‫َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫مِئَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِ َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى‬
‫س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا‬
‫جعََلكَ آَيَةً لِلنّا ِ‬
‫ك وَلِنَ ْ‬
‫حمَا ِر َ‬
‫ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ‬
‫طعَا ِم َ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)259‬‬
‫حمًا فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ثُمّ َنكْسُوهَا لَ ْ‬
‫وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن‬
‫اجتمع بالملك إل في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة‪.‬‬
‫وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم ‪ :‬أن النمروذ كان عنده (‪ )1‬طعام وكان الناس‬
‫يغدون (‪ )2‬إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط‬
‫إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام ‪ ،‬فلما قرب من أهله‬
‫عمد إلى كثيب من التراب فمل منه عدليه وقال ‪ :‬أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع‬
‫رحاله وجاء فاتكأ فنام‪ .‬فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملنين طعامًا طيبًا فعملت منه‬
‫طعاما‪ .‬فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال ‪ :‬أنى لكم هذا ؟ قالت ‪ :‬من الذي جئت به‪.‬‬
‫فعرف أنه رزق رزقهموه ال عز وجل‪ .‬قال (‪ )3‬زيد بن أسلم ‪ :‬وبعث ال إلى ذلك الملك الجبار‬
‫ملكا يأمره باليمان بال فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال ‪ :‬اجمع جموعك‬
‫وأجمع جموعي‪ .‬فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ‪ ،‬وأرسل ال عليهم بابا من‬
‫البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها ال عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما‬
‫بادية ‪ ،‬ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة ‪ ،‬عذبه ال بها‬
‫فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه ال بها‪.‬‬
‫شهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي هَ ِذهِ اللّهُ َب ْعدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ‬
‫{ َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْ َي ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫مِائَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِا َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى‬
‫س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا‬
‫جعََلكَ آيَةً لِلنّا ِ‬
‫ك وَلِنَ ْ‬
‫حمَا ِر َ‬
‫ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ‬
‫طعَا ِم َ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪} )259‬‬
‫حمًا فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ثُمّ َنكْسُوهَا لَ ْ‬
‫تقدم قوله تعالى ‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ [أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ] (‪ } )4‬وهو في قوة‬
‫قوله ‪ :‬هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ ولهذا عطف عليه بقوله ‪َ { :‬أوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى‬
‫شهَا } اختلفوا في هذا المار من هو ؟ فروى ابن أبي حاتم عن عصام‬
‫علَى عُرُو ِ‬
‫قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ َ‬
‫بن َروّاد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي‬
‫طالب أنه قال ‪ :‬هو عزير‪.‬‬
‫ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه‪ .‬وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة‬
‫والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة وهذا القول هو المشهور‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه وعبد ال بن عبيد بن عمير ‪ :‬هو أرميا بن حلقيا‪ .‬قال محمد بن إسحاق ؛‬
‫عمن ل يتهم عن وهب بن منبه أنه قال ‪ :‬وهو اسم الخضر عليه السلم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي قال ‪ :‬سمعت (‪ )5‬سليمان بن محمد اليساري الجاري ‪ -‬من أهل‬
‫الجار ‪ ،‬ابن عم مطرف ‪ -‬قال ‪ :‬سمعت رجل من أهل الشام يقول ‪ :‬إن الذي أماته ال مائة عام‬
‫ثم بعثه اسمه ‪ :‬حزقيل بن بورا‪.‬‬
‫وقال مجاهد بن جبر ‪ :‬هو رجل من بني إسرائيل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬كان بيده"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬يبدون" وفي و ‪" :‬يفدون"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬

‫( ‪)1/687‬‬

‫[وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنه ؛ فبعثه ال وهو كذلك ‪ ،‬وكان له ابن فبلغ من‬
‫السن مائة وعشرين سنة ‪ ،‬وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد‬
‫بلغا الهرم ‪ ،‬وأنشدني به بعض الشعراء ‪:‬‬
‫واسوَدّ رأس شاب من قبل ابنه‪ ...‬ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر‪...‬‬
‫يرى أنه شيخا يدب على عصا‪ ...‬ولحيته سوداء والرأس أشعر‪...‬‬
‫وما لبنه حبل ول فضل قوة‪ ...‬يقوم كما يمشي الصغير فيعثر‪...‬‬
‫وعمر ابنه أربعون أمرها‪ ...‬ولبن ابنه في الناس تسعين غبر] (‪)1‬‬
‫وأما القرية ‪ :‬فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها‪ { .‬وَ ِهيَ‬
‫خَاوِيَة } أي ‪ :‬ليس فيها أحد من قولهم ‪ :‬خوت الدار تخوي خواءً وخُويا‪.‬‬
‫شهَا } أي ‪ :‬ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ‪ ،‬فوقف متفكرا فيما آل‬
‫وقوله ‪ { :‬عَلَى عُرُو ِ‬
‫أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال ‪ { :‬أَنّى يُحْيِي َه ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا } وذلك لما رأى من‬
‫دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال ال تعالى ‪ { :‬فََأمَاتَهُ اللّهُ مِا َئةَ عَامٍ‬
‫ثُمّ َبعَثَه } قال (‪ : )2‬وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت‬
‫بنو إسرائيل إليها‪ .‬فلما بعثه ال عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا ال فيه عينيه لينظر بهما‬
‫إلى صنع ال فيه كيف يحيي بدنه ؟ فلما استقل سويا قال ال له ‪ -‬أي بواسطة الملك ‪ { : -‬كَمْ‬
‫لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْم } قالوا ‪ :‬وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه ال في آخر نهار ‪،‬‬
‫فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال ‪َ { :‬أوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِا َئةَ عَامٍ‬
‫طعَا ِمكَ وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } وذلك ‪ :‬أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده‬
‫فَانْظُرْ إِلَى َ‬
‫كما فقده لم يتغير منه شيء ‪ ،‬ل العصير استحال ول التين حمض ول أنتن ول العنب تعفن‬
‫جعََلكَ آيَةً لِلنّاسِ } أي ‪:‬‬
‫حمَارِك } أي ‪ :‬كيف يحييه ال عز وجل وأنت تنظر { وَلِ َن ْ‬
‫{ وَا ْنظُرْ إِلَى ِ‬
‫دليل على المعاد { وَانْظُرْ إِلَى ا ْلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِ ُزهَا } أي ‪ :‬نرفعها فتركب بعضها على بعض‪.‬‬
‫وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي ُنعَيْم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن خارجة‬
‫بن زيد بن ثابت عن أبيه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ ‪ { :‬كَ ْيفَ نُنشِزُهَا } بالزاي ثم‬
‫قال ‪ :‬صحيح السناد ولم يخرجاه (‪.)3‬‬
‫حمًا }‪.‬‬
‫وقرئ ‪( :‬ننشرها) أي ‪ :‬نحييها قاله مجاهد { ثُمّ َن ْكسُوهَا لَ ْ‬
‫وقال السدي وغيره ‪ :‬تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا (‪ )4‬فنظر إليها وهي تلوح من‬
‫بياضها فبعث ال ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ‪ ،‬ثم ركب (‪ )5‬كل عظم في‬
‫موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام ل لحم عليها ثم كساها ال لحمًا وعصبًا وعروقًا‬
‫وجلدًا ‪ ،‬وبعث ال ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن ال عز وجل وذلك كله بمرأى من‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } أي ‪ :‬أنا عالم بهذا‬
‫العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قَالَ أَعَْلمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون ‪" :‬قَالْ اعَْلمْ" على أنه أمر له بالعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬قالوا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المستدرك (‪ )2/234‬وتعقبه الذهبي بقوله ‪" :‬فيه إسماعيل بن قيس من ولد بن ثابت وقد‬
‫ضعفوه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وشمال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬ثم ركبت"‪.‬‬

‫( ‪)1/688‬‬

‫خذْ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَ ُ‬
‫وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِي ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ‬
‫سعْيًا وَاعْلَمْ أَنّ‬
‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬
‫ج َعلْ عَلَى ُكلّ جَ َبلٍ مِ ْنهُنّ جُ ْزءًا ثُمّ ادْ ُ‬
‫أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ‬
‫حكِيمٌ (‪)260‬‬
‫اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ‬


‫حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ‬
‫{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُ ْ‬
‫سعْيًا‬
‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬
‫ج َعلْ عَلَى ُكلّ جَ َبلٍ مِ ْنهُنّ جُ ْزءًا ثُمّ ادْ ُ‬
‫خذْ أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ‬
‫فَ ُ‬
‫حكِيمٌ (‪} )260‬‬
‫وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫( ‪)1/688‬‬

‫ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬أسبابا ‪ ،‬منها ‪ :‬أنه لما قال لنمروذ ‪ { :‬رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي‬
‫وَ ُيمِيتُ } أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين ‪ ،‬وأن يرى ذلك مشاهدة فقال ‪{ :‬‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي }‬
‫حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ َأوََلمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ‬
‫َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُ ْ‬
‫فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الية ‪ :‬حدثنا أحمد بن صالح ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪،‬‬
‫أخبرني يونس ‪ ،‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن أبي سلمة وسعيد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬نحن أحق بالشك من إبراهيم ‪ ،‬إذ قال ‪ :‬رب أرني كيف‬
‫تحيى الموتى ؟ قال ‪ :‬أو لم تؤمن‪ .‬قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬ولكن ليطمئن قلبي" وكذا رواه مسلم ‪ ،‬عن حرملة‬
‫بن يحيى ‪ ،‬عن ابن وهب (‪ )1‬به ‪ -‬فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من ل علم عنده ‪ ،‬بل‬
‫خلف‪ .‬وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة ‪ ،‬أحدها‪.)2( ...‬‬
‫خذْ أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ } اختلف المفسرون في هذه الربعة ‪ :‬ما هي ؟‬
‫وقوله ‪ { :‬قَالَ فَ ُ‬
‫وإن كان ل طائل تحت تعيينها ‪ ،‬إذ لو كان في ذلك مُتّهم لنص عليه القرآن ‪ ،‬فروي عن ابن‬
‫عباس أنه قال ‪ :‬هي الغرنوق ‪ ،‬والطاوس ‪ ،‬والديك ‪ ،‬والحمامة‪ .‬وعنه أيضًا ‪ :‬أنه أخذ وزّا ‪،‬‬
‫ورأل ‪ -‬وهو فرخ النعام ‪ -‬وديكا ‪ ،‬وطاووسًا‪ .‬وقال مجاهد وعكرمة ‪ :‬كانت حمامة ‪ ،‬وديكا ‪،‬‬
‫وطاووسًا ‪ ،‬وغرابًا‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬فصُرْهُنّ إِلَيْك } أي ‪ :‬قطعهن‪ .‬قاله ابن عباس ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬وأبو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4537‬وصحيح مسلم برقم (‪.)151‬‬
‫(‪ )2‬وقع هنا بياض بجميع النسخ ‪ ،‬ووقع في نسخة مساعدة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية في‬
‫هذا الموضع ‪ ،‬وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة‬
‫أحدها ‪ :‬قول إسماعيل المزني ‪ :‬لم يشك النبي صلى ال عليه وسلم ول إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪،‬‬
‫في أن ال سبحانه قادر على إحياء الموتى ‪ ،‬وإنما بدأ لجاهل يجيبهما إلى ما سأله‪ .‬وقال الخطابي‬
‫في قوله ‪" :‬نحن أحق بالشك من إبراهيم" ‪ :‬ليس اعتراف بالشك على نفسه ول على إبراهيم ‪،‬‬
‫ولكن فيه نفي الشك عنهما يقول ‪ :‬إذا لم أشك في قدرة ال على إحياء الموتى ‪ ،‬فإبراهيم أولى بأل‬
‫يشك ‪ ،‬قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس ‪ ،‬وكذلك قوله ‪" :‬لو لبثت في السجن ما‬
‫لبث يوسف لجبت الداعي" وفيه العلم بأن المسألة من جهة إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ‪،‬‬
‫لكن من قبل زيادة العلم بالعيان ‪ ،‬لنه يفيد من المعرفة والطمأنينة ما ل يفيد الستدلل ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫قال هذا صلى ال عليه وسلم تواضعا وتقديما لبراهيم قوله ‪" :‬أو لم تؤمن قال ‪ :‬بلى قد آمنت"‪.‬‬
‫وأظن هذا من تصرف الناسخ ‪ ،‬لنه كتب بالجانب بياض في الصل‪ .‬قال الشيخ أحمد شاكر عند‬
‫هذا الموضع من كتابه "العمدة" الذي هو مختصر تفسير ابن كثير (‪.)2/170‬‬
‫"هنا بياض في المخطوطة الزهرية والمطبوعة ‪ ،‬لعل الحافظ ابن كثير تركه ليكتب القوال في‬
‫ذلك ‪ ،‬ثم لم يفعل سهوا أو نسيانا وقد أفاض الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )295 ، 6/294‬في ذكر‬
‫أقوال العلماء في ذلك‪ .‬وأجود ذلك عندي قول ابن عطية ‪" :‬إن الحديث مبني على نفي الشك ‪،‬‬
‫والمراد بالشك فيه ‪ :‬الخواطر التي ل تثبت‪ .‬وأما الشك المصطلح ‪ -‬وهو التوقف بين المرين من‬
‫غير مزية لحدهما على الخر ‪ -‬فهو منفي عن الخليل قطعا ؛ لنه يبعد وقوعه ممن رسخ‬
‫اليمان في قلبه ‪ ،‬فكيف بمن بلغ رتبة النبوة ؟! وأيضا فإن السؤال لما وقع بـ (كيف) دل على‬
‫حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬كيف علم فلن فـ (كيف) في الية‬
‫سؤال عن هيئة الحياء ل عن نفس الحياء فإنه ثابت مقرر‪ .‬وقال غيره ‪ :‬معناه ‪ :‬إذا لم نشك‬
‫نحن ‪ ،‬فإبراهيم أولى أل يشك ‪ ،‬أي ‪ :‬لو كان الشك متطرفا إلى النبياء ؛ لكنت أنا أحق به منه ‪،‬‬
‫وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك وإنما قال ذلك تواضعا منه"‪.‬‬

‫( ‪)1/689‬‬

‫مالك ‪ ،‬وأبو السود الدؤلي ‪ ،‬ووهب بن منبه ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬


‫وقال العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪َ { :‬فصُرْهُنّ إِلَيْك } أوثقهن ‪ ،‬فلما أوثقهن ذبحهن ‪ ،‬ثم جعل على‬
‫كل جبل منهن جزءًا ‪ ،‬فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ‪ ،‬ثم قطعهن ونتف ريشهن ‪،‬‬
‫ومزقهن (‪ )1‬وخلط بعضهن في ببعض ‪ ،‬ثم جزأهن أجزاءً ‪ ،‬وجعل على كل جبل منهن جزءًا ‪،‬‬
‫قيل ‪ :‬أربعة أجبل (‪ .)2‬وقيل ‪ :‬سبعة‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬وأخذ رؤوسهن بيده ‪ ،‬ثم أمره ال عز‬
‫وجل ‪ ،‬أن يدعوهن ‪ ،‬فدعاهن كما أمره ال عز وجل ‪ ،‬فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى‬
‫الريش ‪ ،‬والدم إلى الدم ‪ ،‬واللحم إلى اللحم ‪ ،‬والجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض ‪،‬‬
‫حتى قام كل طائر على حدته ‪ ،‬وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها ‪ ،‬وجعل‬
‫كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬فإذا قدم له غير رأسه يأباه ‪ ،‬فإذا‬
‫حكِيمٌ }‬
‫قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول ال وقوته ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫أي ‪ :‬عزيز ل يغلبه شيء ‪ ،‬ول يمتنع منه شيء ‪ ،‬وما شاء كان بل ممانع لنه العظيم القاهر لكل‬
‫شيء ‪ ،‬حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره‪.‬‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي } قال ‪ :‬قال ابن‬
‫قال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن أيوب في قوله ‪ { :‬وََلكِنْ لِيَ ْ‬
‫عباس ‪ :‬ما في القرآن آية أرجى عندي منها (‪.)3‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني محمد بن المثنى ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬سمعت زيد بن‬
‫علي يحدث ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب قال ‪ :‬اتعد عبد ال بن عباس وعبد ال بن عمرو‬
‫بن العاص أن يجتمعا‪ .‬قال ‪ :‬ونحن شببة ‪ ،‬فقال أحدهما لصاحبه ‪ :‬أي آية في كتاب ال أرجى‬
‫سهِ ْم ل‬
‫لهذه المة ؟ فقال عبد ال بن عمرو ‪ :‬قول ال تعالى ‪ { :‬يَاعِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫جمِيعًا } الية [الزمر ‪ .]53 :‬فقال ابن عباس ‪ :‬أما إن‬
‫حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ‬
‫َتقْنَطُوا مِنْ رَ ْ‬
‫حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ‬
‫كنت تقول ‪ :‬إنها ‪ ،‬وإن أرجى منها لهذه المة قول إبراهيم ‪َ { :‬ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُت ْ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي } (‪.)4‬‬
‫َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِ َي ْ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن صالح كاتب الليث ‪ ،‬حدثني ابن أبي سلمة عن‬
‫محمد بن الم ْنكَدِر ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬التقى عبد ال بن عباس ‪ ،‬وعبد ال بن عمرو بن العاص ‪ ،‬فقال ابن‬
‫عباس لبن عمرو بن العاص ‪ :‬أي آية في القرآن أرجى عندك ؟ فقال عبد ال بن عمرو ‪ :‬قول‬
‫حمَةِ اللّه] (‪ } )5‬الية ‪ -‬فقال‬
‫سهِمْ ل َتقْنَطُوا [مِنْ َر ْ‬
‫ال عز وجل ‪ { :‬يَاعِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫حيِ ا ْل َموْتَى قَالَ‬
‫ابن عباس ‪ :‬لكن أنا أقول (‪ : )6‬قول ال ‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُت ْ‬
‫َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى } فرضي من إبراهيم قوله ‪ { :‬بَلَى } قال ‪ :‬فهذا لما يعترض (‪ )7‬في النفوس (‬
‫‪ )8‬ويوسوس به الشيطان‪.‬‬
‫وهكذا رواه الحاكم في المستدرك ‪ ،‬عن أبي عبد ال محمد بن يعقوب بن الخرم ‪ ،‬عن إبراهيم بن‬
‫عبد ال السعدي ‪ ،‬عن بشر بن عمر الزهراني ‪ ،‬عن عبد العزيز بن أبي سلمة ‪ ،‬بإسناده ‪ ،‬مثله‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬وفرقهن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬أربعة أجزاء"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ج ‪" :‬أرجى آية منها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)5/489‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ج ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )6‬في ج ‪ ،‬أ ‪" :‬إن كنت تقول"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬لما يعرض"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬في الصدور"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المستدرك (‪ )1/60‬وتعقبه الذهبي بأن فيه انقطاعا‪.‬‬

‫( ‪)1/690‬‬

‫مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ‬
‫عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (‪)261‬‬
‫ُيضَا ِ‬

‫{ مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبَُلةٍ مِائَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ‬
‫عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (‪} )261‬‬
‫ُيضَا ِ‬
‫هذا مثل ضربه ال تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ‪ ،‬وأن الحسنة‬
‫تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬فقال ‪ { :‬مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ }‬
‫قال سعيد بن جبير ‪ :‬في طاعة ال‪ .‬وقال مكحول ‪ :‬يعني به ‪ :‬النفاق في الجهاد ‪ ،‬من رباط‬
‫الخيل وإعداد السلح وغير ذلك ‪ ،‬وقال شبيب بن بشر ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬الجهاد‬
‫والحج ‪ ،‬يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ؛ ولهذا قال ال تعالى ‪َ { :‬كمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ‬
‫سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبَُلةٍ مِائَةُ حَبّةٍ }‬
‫وهذا المثل أبلغ في النفوس ‪ ،‬من ذكر عدد السبعمائة ‪ ،‬فإن هذا فيه إشارة إلى أن العمال‬
‫الصالحة ينميها ال عز وجل ‪ ،‬لصحابها ‪ ،‬كما ينمي الزرع لمن بذره في الرض الطيبة ‪ ،‬وقد‬
‫وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬قال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا زياد بن الربيع أبو خِدَاش ‪ ،‬حدثنا واصل مولى ابن عيينة ‪ ،‬عن بشار بن أبي سيف‬
‫الجرمي ‪ ،‬عن عياض بن غطيف قال ‪ :‬دخلنا على أبي عبيدة [بن الجراح] (‪ )1‬نعوده من شكوى‬
‫أصابه ‪ -‬وامرأته ُتحَ ْيفَة قاعدة عند رأسه ‪ -‬قلنا ‪ :‬كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت ‪ :‬وال لقد بات‬
‫بأجر ‪ ،‬قال أبو عبيدة ‪ :‬ما بت بأجر ‪ ،‬وكان مقبل بوجهه على الحائط ‪ ،‬فأقبل على القوم بوجهه ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬أل تسألوني عما قلت ؟ قالوا ‪ :‬ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬من أنفق نفقة فاضلة في سبيل ال فبسبعمائة ‪ ،‬ومن أنفق على نفسه‬
‫وأهله ‪ ،‬أو عاد مريضا أو مازَ أذى ‪ ،‬فالحسنة بعشر أمثالها ‪ ،‬والصوم جنة ما لم يخرقها ‪ ،‬ومن‬
‫ابتله ال عز وجل ‪ ،‬ببلء في جسده فهو له حطة"‪.‬‬
‫وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ‪ ،‬ومن وجه آخر موقوفا (‪.)2‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن سليمان ‪ ،‬سمعت أبا‬
‫عمرو الشيباني ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ :‬أن رجل تصدق بناقة مخطومة في سبيل ال ‪ ،‬فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة"‪.‬‬
‫ورواه مسلم والنسائي ‪ ،‬من حديث سليمان بن ِمهْران ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬به (‪ .)3‬ولفظ مسلم ‪ :‬جاء‬
‫رجل بناقة مخطومة ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هذه في سبيل ال‪ .‬فقال ‪" :‬لك بها يوم القيامة‬
‫سبعمائة ناقة"‪.‬‬
‫جمَع أبو المنذر الكندي ‪ ،‬أخبرنا إبراهيم الهجري ‪،‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬حدثنا عمرو بن َم ْ‬
‫عن أبي الحوص ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال‬
‫عز وجل ‪ ،‬جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها ‪ ،‬إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬إل الصوم ‪ ،‬والصوم لي‬
‫وأنا أجزي به ‪ ،‬وللصائم فرحتان ‪ :‬فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ‪ ،‬ولخلوف فم الصائم‬
‫أطيب عند ال من ريح المسك" (‪.)4‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من المسند (‪.)1/195‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )1/195‬وسنن النسائي (‪.)168 ، 4/167‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ )1892‬وسنن النسائي (‪.)6/49‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)1/446‬‬
‫( ‪)1/691‬‬

‫حديث آخر ‪ :‬قال [المام] (‪ )1‬أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬كل عمل ابن آدم يضاعف ‪ ،‬الحسنة بعشر‬
‫أمثالها إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬إلى ما شاء (‪ )2‬ال ‪ ،‬يقول ال ‪ :‬إل الصوم ‪ ،‬فإنه لي وأنا أجزي به‬
‫‪ ،‬يدع طعامه وشهوته من أجلي ‪ ،‬وللصائم فرحتان ‪ :‬فرحة عند فطره ‪ ،‬وفرحة عند لقاء ربه ‪،‬‬
‫ولخُلُوف فِيه (‪ )3‬أطيب عند ال من ريح المسك‪ .‬الصوم جنة ‪ ،‬الصوم جنة"‪ .‬وكذا رواه مسلم ‪،‬‬
‫عن أبي بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬وأبي سعيد الشج ‪ ،‬كلهما عن وكيع ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬حدثنا حسين بن علي ‪ ،‬عن زائدة ‪ ،‬عن الركين ‪ ،‬عن يُسَيْر بن عميلة (‬
‫‪ )5‬عن خريم بن فاتك قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من أنفق نفقة في سبيل ال‬
‫تضاعف بسبعمائة (‪ )6‬ضعف" (‪.)7‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال أبو داود ‪ :‬حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ‪ ،‬حدثنا ابن وهب ‪ ،‬عن يحيى بن‬
‫أيوب وسعيد بن أبي أيوب ‪ ،‬عن زبان بن فائد ‪ ،‬عن سهل بن معاذ ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن الصلة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل ال سبعمائة‬
‫ضعف" (‪.)8‬‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا هارون بن عبد ال بن مروان ‪ ،‬حدثنا ابن‬
‫أبي فديك ‪ ،‬عن الخليل بن عبد ال ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن عمران بن حصين ‪ ،‬عن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪" :‬من أرسل بنفقة في سبيل ال ‪ ،‬وأقام في بيته (‪ )9‬فله بكل درهم سبعمائة‬
‫درهم يوم القيامة ومن غزا (‪ )10‬في سبيل ال ‪ ،‬وأنفق في جهة ذلك (‪ )11‬فله بكل درهم (‪)12‬‬
‫عفُ ِلمَنْ َيشَاءُ } وهذا حديث غريب (‪.)13‬‬
‫سبعمائة ألف درهم"‪ .‬ثم تل هذه الية ‪ { :‬وَاللّهُ ُيضَا ِ‬
‫وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي ‪ ،‬عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة ‪،‬‬
‫ضعَافًا كَثِي َرةً } [البقرة ‪.]245 :‬‬
‫عفَهُ لَهُ َأ ْ‬
‫عند قوله ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ‬
‫حديث آخر ‪ :‬قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا عبد ال بن عبيد ال بن العسكري البزاز ‪ ،‬أخبرنا الحسن‬
‫بن علي بن شبيب ‪ ،‬أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي ‪ ،‬أخبرنا أبي ‪ ،‬عن عيسى بن المسيب ‪ ،‬عن‬
‫نافع ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬لما نزلت هذه الية ‪ { :‬مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه } قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬رب زد أمتي" قال ‪ :‬فأنزل ال ‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا‬
‫حسَابٍ }‬
‫حسَنًا } قال ‪" :‬رب زد أمتي" قال ‪ :‬فأنزل ال ‪ { :‬إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫َ‬
‫[الزمر ‪.] 10 :‬‬
‫وقد رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ‪ ،‬عن حاجب بن أركين ‪ ،‬عن أبي عمر حفص بن عمر‬
‫بن عبد العزيز المقرئ ‪ ،‬عن أبي إسماعيل المؤدب ‪ ،‬عن عيسى بن المسيب ‪ ،‬عن نافع ‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر ‪ ،‬فذكره (‪.)14‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬إلى ما يشاء"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ولخلوف فمه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)1151‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬عن الركن بن بشير بن جميلة" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬عن الركين ‪ ،‬عن بشير بن عميلة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬بسبعمائة وهو الصواب‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)4/345‬‬
‫(‪ )8‬سنن أبي داود برقم (‪.)2498‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬في بنيته"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬من غزا بنفسه"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في وجهه ذلك"‪.‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬درهم يوم القيامة"‪.‬‬
‫(‪ )13‬ورواه ابن ماجة في السنن برقم (‪ )2761‬عن هارون بن عبد ال به‪.‬‬
‫(‪ )14‬صحيح ابن حبان برقم (‪" )1648‬موارده"‪.‬‬

‫( ‪)1/692‬‬

‫الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لَا يُتْ ِبعُونَ مَا أَ ْنفَقُوا مَنّا وَلَا أَذًى َلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَلَا‬
‫ن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا َأذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ (‪َ )262‬ق ْولٌ َمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ مِ ْ‬
‫َ‬
‫س وَلَا‬
‫ن وَالْأَذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّا ِ‬
‫حَلِيمٌ (‪ )263‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَ َدقَا ِت ُكمْ بِا ْلمَ ّ‬
‫صفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَهُ وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَ ْلدًا لَا َيقْدِرُونَ عَلَى‬
‫ل َ‬
‫ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِرِ َفمَثَلُهُ َكمَ َث ِ‬
‫شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ (‪)264‬‬
‫َ‬

‫علِيمٌ }‬
‫عفُ ِلمَنْ يَشَاءُ } أي ‪ :‬بحسب إخلصه في عمله { وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ‬
‫وقوله هاهنا ‪ { :‬وَاللّهُ ُيضَا ِ‬
‫أي ‪ :‬فضله واسع كثير أكثر من خلقه ‪ ،‬عليم بمن يستحق ومن ل يستحق‪.‬‬
‫{ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ ل يُتْ ِبعُونَ مَا أَ ْنفَقُوا مَنّا وَل َأذًى َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل‬
‫ص َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا أَذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ‬
‫ن َ‬
‫ف َو َمغْفِ َرةٌ خَيْرٌ مِ ْ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ (‪َ )262‬ق ْولٌ َمعْرُو ٌ‬
‫َ‬
‫س وَل‬
‫ن وَالذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّا ِ‬
‫حَلِيمٌ (‪ )263‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْبطِلُوا صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ‬
‫علَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَلْدًا ل َيقْدِرُونَ عَلَى‬
‫ص ْفوَانٍ َ‬
‫ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَُلهُ َكمَ َثلِ َ‬
‫شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ (‪} )264‬‬
‫َ‬
‫يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل ال ‪ ،‬ثم ل يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات‬
‫منا على من (‪ )1‬أعطوه ‪ ،‬فل يمنون على أحد ‪ ،‬ول يمنون به ل بقول ول فعل‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل أَذًى } أي ‪ :‬ل يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من‬
‫الحسان‪ .‬ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬لهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِم } أي ‪:‬‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِم } أي ‪ :‬فيما يستقبلونه من أهوال يوم‬
‫ثوابهم على ال ‪ ،‬ل على أحد سواه { وَل َ‬
‫القيامة { وَل هُمْ يَحْزَنُونَ } أي ‪[ :‬على] (‪ )2‬ما خلفوه من الولد وما فاتهم من الحياة الدنيا‬
‫وزهرتها (‪ )3‬ل يأسفون عليها ؛ لنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك‪.‬‬
‫ثم قال تعالى ‪َ { :‬ق ْولٌ َمعْرُوفٌ } أي ‪ :‬من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { َو َمغْفِرَة } أي ‪ :‬غفر (‪)4‬‬
‫ن صَ َد َقةٍ يَتْ َب ُعهَا أَذًى }‬
‫عن ظلم قولي أو فعلي { خَيْرٌ مِ ْ‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن نفيل قال ‪ :‬قرأت على معقل بن عبيد ال ‪ ،‬عن عمرو‬
‫بن دينار قال ‪ :‬بلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما من صدقة أحب إلى ال من‬
‫قول معروف ‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪ { :‬قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } " { وَاللّهُ‬
‫غَ ِنيّ } [أي] (‪ : )5‬عن خلقه‪.‬‬
‫{ حَلِيمٌ } أي ‪ :‬يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم‪.‬‬
‫وقد وردت الحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ‪ ،‬ففي صحيح مسلم ‪ ،‬من حديث شعبة ‪ ،‬عن‬
‫سهِر ‪ ،‬عن خرشة بن الحر ‪ ،‬عن أبي ذر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫العمش عن سليمان بن مُ ْ‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬ثلثة ل يكلمهم ال يوم القيامة ‪ ،‬ول ينظر إليهم ‪ ،‬ول يزكيهم ‪ ،‬ولهم عذاب أليم‬
‫‪ :‬المنان بما أعطى ‪ ،‬والمسبل إزاره ‪ ،‬والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" (‪.)6‬‬
‫وقال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ‪ ،‬أخبرنا عثمان بن محمد الدوري ‪ ،‬أخبرنا‬
‫هشيم (‪ )7‬بن خارجة ‪ ،‬أخبرنا سليمان بن عقبة ‪ ،‬عن يونس بن ميسرة ‪ ،‬عن أبي إدريس ‪ ،‬عن‬
‫أبي الدرداء ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل يدخل الجنة عاق ‪ ،‬ول منان ‪ ،‬ول مدمن‬
‫خمر ‪ ،‬ول مكذب بقدر"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ج ‪ ،‬أ ‪" :‬على ما"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬وزينتها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أي عفو"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ج‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)106‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬الهيثم"‪.‬‬
‫( ‪)1/693‬‬

‫وروى أحمد وابن ماجه ‪ ،‬من حديث يونس بن ميسرة نحوه (‪.)1‬‬
‫ثم روى (‪ )2‬ابن مردويه ‪ ،‬وابن حبان ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬والنسائي من حديث عبد ال بن‬
‫يسار العرج ‪ ،‬عن سالم بن عبد ال بن عمر ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬ثلثة ل ينظر ال إليهم يوم القيامة ‪ :‬العاق لوالديه ‪ ،‬ومدمن الخمر ‪ ،‬والمنان بما أعطى"‬
‫(‪.)3‬‬
‫وقد روى النسائي ‪ ،‬عن مالك بن سعد ‪ ،‬عن عمه روح بن عبادة ‪ ،‬عن عتاب بن بشير ‪ ،‬عن‬
‫خصيف الجزري ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل يدخل‬
‫الجنة مدمن خمر ‪ ،‬ول عاق لوالديه ‪ ،‬ول منان" (‪.)4‬‬
‫وقد رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن الحسن بن المنهال (‪ )5‬عن محمد بن عبد ال بن عمار الموصلي ‪،‬‬
‫خصَيف ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس (‪.)6‬‬
‫عن عتاب ‪ ،‬عن ُ‬
‫ورواه النسائي من حديث ‪ ،‬عبد الكريم بن مالك الجزري ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قوله‪ .‬وقد روي عن‬
‫مجاهد ‪ ،‬عن أبي سعيد (‪ )7‬وعن مجاهد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬نحوه (‪ .)8‬ولهذا قال تعالى ‪:‬‬
‫ن وَالذَى } فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْبطِلُوا صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ‬
‫والذى ‪ ،‬فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والذى‪.‬‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ } أي ‪ :‬ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى ‪ ،‬كما‬
‫تبطل صدقة من راءى بها الناس ‪ ،‬فأظهر لهم أنه يريد وجه ال وإنما قصده مدح الناس له أو‬
‫شهرته بالصفات الجميلة ‪ ،‬ليشكر بين الناس ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية‬
‫‪ ،‬مع قطع نظره عن معاملة ال تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وَل ُي ْؤمِنُ‬
‫بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِر }‬
‫ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه ‪ -‬قال الضحاك ‪ :‬والذي يتبع نفقته منا أو أذى ‪ -‬فقال ‪:‬‬
‫صفْوانة ‪ ،‬ومنهم من يقول ‪ :‬الصفوان يستعمل مفردا أيضا ‪،‬‬
‫ص ْفوَانٍ } وهو جمع َ‬
‫ل َ‬
‫{ َفمَثَلُهُ َكمَثَ ِ‬
‫وهو الصفا ‪ ،‬وهو الصخر الملس { عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَهُ وَا ِبلٌ } وهو المطر الشديد { فَتَ َركَهُ صَلْدًا‬
‫} أي ‪ :‬فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا ‪ ،‬أي (‪ : )9‬أملس يابسًا ‪ ،‬أي ‪ :‬ل شيء عليه من ذلك‬
‫التراب ‪ ،‬بل قد ذهب كله ‪ ،‬أي ‪ :‬وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند ال (‪ )10‬وإن ظهر‬
‫شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّ ُه ل‬
‫علَى َ‬
‫لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ؛ ولهذا قال ‪ { :‬ل َيقْدِرُونَ َ‬
‫َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )6/441‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )3376‬وقال البوصيري في الزوائد (‪: )3/103‬‬
‫"هذا إسناد حسن ‪ ،‬سليمان بن عتبة مختلف فيه ‪ ،‬وباقي رجال السناد ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬وروي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المستدرك (‪ )4/146‬وسنن النسائي (‪.)5/80‬‬
‫(‪ )4‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)4921‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬بن منهال" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬بن منهلل"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ابن عباس في قوله"‪.‬‬
‫(‪ )7‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)4920‬‬
‫(‪ )8‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)4922‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬هكذا"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪" :‬عند ال تعالى"‪.‬‬

‫( ‪)1/694‬‬

‫سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ‬
‫َومَثَلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪)265‬‬
‫طّ‬‫ض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ‬
‫فَآَ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬

‫سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ‬
‫{ َومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّ ِه وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪} )265‬‬
‫طّ‬‫ض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ‬
‫فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬

‫( ‪)1/694‬‬

‫ل وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ‬
‫أَ َيوَدّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ َلهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِي ٍ‬
‫عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ‬
‫ض َعفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ‬
‫وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ‬
‫تَ َت َفكّرُونَ (‪)266‬‬

‫سهِمْ } أي‬
‫وهذا مثل المؤمنين المنفقين { َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫‪ :‬وهم متحققون مُثَبتون أن ال سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ‪ ،‬ونظير هذا في المعنى ‪ ،‬قوله‬
‫عليه السلم (‪ )1‬في الحديث المتفق على صحته ‪" :‬من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا‪ " ...‬أي ‪:‬‬
‫يؤمن أن ال شرعه ‪ ،‬ويحتسب عند ال ثوابه‪.‬‬
‫سهِمْ } أي ‪ :‬تصديقا ويقينا (‪ .)2‬وكذا قال قتادة ‪ ،‬وأبو صالح ‪ ،‬وابن‬
‫قال الشعبي ‪ { :‬وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫زيد‪ .‬واختاره ابن جرير‪ .‬وقال مجاهد والحسن ‪ :‬أي ‪ :‬يتثبتون أين يضعون (‪ )3‬صدقاتهم‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ } أي ‪ :‬كمثل بستان بربوة‪ .‬وهو عند الجمهور ‪ :‬المكان المرتفع‬
‫المستوي من الرض‪ .‬وزاد ابن عباس والضحاك ‪ :‬وتجري فيه النهار‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬وفي الربوة ثلث لغات هن ثلث قراءات ‪ :‬بضم الراء ‪ ،‬وبها قرأ عامة أهل‬
‫المدينة والحجاز والعراق‪ .‬وفتحها ‪ ،‬وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إنها لغة تميم‪.‬‬
‫وكسر الراء ‪ ،‬ويذكر أنها قراءة ابن عباس‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬أصَا َبهَا (‪ )4‬وَا ِبلٌ } وهو المطر الشديد ‪ ،‬كما تقدم ‪ { ،‬فَآ َتتْ ُأكَُلهَا } أي ‪ :‬ثمرتها (‪)5‬‬
‫طلّ } قال الضحاك ‪ :‬هو‬
‫ض ْعفَيْن } أي ‪ :‬بالنسبة إلى غيرها من الجنان‪ { .‬فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ‬
‫{ ِ‬
‫الرّذَاذ ‪ ،‬وهو اللين من المطر‪ .‬أي ‪ :‬هذه الجنة بهذه الربوة ل تمحل أبدًا ؛ لنها إن لم يصبها وابل‬
‫فطل ‪ ،‬وأيا ما كان فهو كفايتها ‪ ،‬وكذلك عمل المؤمن ل يبور أبدًا ‪ ،‬بل يتقبله ال ويكثره وينميه ‪،‬‬
‫كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال ‪ { :‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي ‪ :‬ل يخفى عليه من أعمال عباده‬
‫شيء‪.‬‬
‫ل وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ َلهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ‬
‫ح ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِي ٍ‬
‫{ أَ َيوَدّ أَ َ‬
‫عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ اليَاتِ‬
‫ض َعفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ‬
‫وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ‬
‫َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ (‪} )266‬‬
‫قال البخاري عند تفسير هذه الية ‪ :‬حدثنا إبراهيم بن موسى ‪ ،‬حدثنا هشام ‪ -‬هو ابن يوسف ‪-‬‬
‫عن ابن جريج ‪ :‬سمعت عبد ال (‪ )6‬بن أبي مُلَيكة ‪ ،‬يحدث عن ابن عباس ‪ ،‬وسمعت أخاه أبا‬
‫عمَير قال ‪ :‬قال عمر بن الخطاب يوما لصحاب النبي‬
‫بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬فيمن ترون هذه الية نزلت ‪ { :‬أَ َيوَدّ َأحَ ُد ُكمْ أَنْ َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ‬
‫وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا ‪ :‬ال أعلم‪ .‬فغضب عمر فقال ‪ :‬قولوا ‪ :‬نعلم أو ل نعلم (‪ .)7‬فقال ابن عباس ‪:‬‬
‫في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين‪ .‬فقال عمر ‪ :‬يا ابن أخي ‪ ،‬قل ول تحقر نفسك‪ .‬فقال ابن‬
‫ي عملٍ ؟ قال ابن عباس ‪ :‬لعمل‪ .‬قال عمر ‪ :‬لرجل‬
‫عباس ‪ :‬ضربت مثل لعمل‪ .‬قال عمر ‪ :‬أ ّ‬
‫غني يعمل بطاعة ال‪ .‬ثم بعث ال له الشيطان فعمِل بالمعاصي‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬وتيقنا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ج ‪" :‬أي يضعوا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬فأصابها" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أي ثمرها"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬عبيد ال"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فقالوا أتعلم أو ل تعلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/695‬‬
‫ض وَلَا تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُت ْم َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِنَ الْأَ ْر ِ‬
‫حمِيدٌ (‪ )267‬الشّ ْيطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْرَ‬
‫تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بَِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِي ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫ح ْكمَةَ مَنْ يَشَاءُ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ (‪ُ )268‬يؤْتِي ا ْل ِ‬
‫وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َمغْفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْلًا وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫ح ْكمَةَ َفقَدْ أُو ِتيَ خَيْرًا كَثِيرًا َومَا يَ ّذكّرُ إِلّا أُولُو الْأَلْبَابِ (‪)269‬‬
‫َومَنْ ُي ْؤتَ ا ْل ِ‬

‫حتى أغرق (‪ )1‬أعماله (‪.)2‬‬


‫ثم رواه البخاري ‪ ،‬عن الحسن بن محمد الزعفراني ‪ ،‬عن حجاج بن محمد العور ‪ ،‬عن ابن‬
‫جريج ‪ ،‬فذكره (‪ .)3‬وهو من أفراد البخاري ‪ ،‬رحمه ال‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الية ‪ ،‬وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أول‬
‫ثم بعد ذلك انعكس سيره ‪ ،‬فبدل الحسنات بالسيئات ‪ ،‬عياذًا بال من ذلك ‪ ،‬فأبطل بعمله الثاني ما‬
‫أسلفه فيما تقدم من الصالح (‪ )4‬واحتاج إلى شيء من الول في أضيق الحوال ‪ ،‬فلم يحصل له‬
‫عصَارٌ }‬
‫ضعَفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ‬
‫منه شيء ‪ ،‬وخانه أحوجَ ما كان إليه ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ { :‬وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ‬
‫وهو الريح الشديد (‪ { )5‬فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ } أي ‪ :‬أحرق (‪ )6‬ثمارَها وأباد أشجارها ‪ ،‬فأيّ حال‬
‫يكون حاله‪.‬‬
‫وقد روى ابن أبي حاتم ‪ ،‬من طريق ال َعوْفي ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬ضرب ال له مثل حسنًا ‪،‬‬
‫وكل أمثاله حسن ‪ ،‬قال ‪ { :‬أَ َيوَدّ َأحَ ُد ُكمْ أَنْ َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا‬
‫ال ْنهَارُ َلهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } يقول ‪ :‬ض ّيعَه في شيبته { وََأصَابَهُ ا ْلكِبَرُ } وولده وذريته‬
‫ضعاف عند آخر عمره ‪ ،‬فجاءه إعصار فيه نار فأحرق (‪ )7‬بستانه ‪ ،‬فلم يكن عنده قوة أن يغرس‬
‫مثله ‪ ،‬ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ‪ ،‬وكذلك الكافر يوم القيامة ‪ ،‬إذ ردّ إلى ال عز‬
‫وجل ‪ ،‬ليس له خير فُيسْ َتعْتَب ‪ ،‬كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ‪ ،‬ول يجده قدم لنفسه خيرا‬
‫يعود عليه ‪ ،‬كما لم ُيغْن عن هذا ولدُه ‪ ،‬وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه ‪ ،‬كما حرم هذا جنة ال‬
‫عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته‪.‬‬
‫وهكذا (‪ ، )8‬روى الحاكم في مستدركه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول في دعائه‬
‫‪" :‬اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري" (‪ )9‬؛ ولهذا قال تعالى ‪ { :‬كَذَِلكَ‬
‫يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ } أي ‪ :‬تعتبرون وتفهمون المثال والمعاني ‪ ،‬وتنزلونها على‬
‫ك المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َومَا َي ْعقُِلهَا إِل ا ْلعَاِلمُونَ } [العنكبوت‬
‫المراد منها ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وَتِ ْل َ‬
‫‪.]43 :‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَ ْنفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ َومِمّا َأخْرَجْنَا َل ُكمْ مِنَ ال ْرضِ وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ‬
‫حمِيدٌ (‪ )267‬الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ‬
‫ن وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِي ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫مِنْهُ تُ ْن ِفقُو َ‬
‫ح ْكمَةَ مَنْ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ (‪ُ )268‬يؤْتِي ا ْل ِ‬
‫ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَا ِء وَاللّهُ َي ِع ُدكُمْ َم ْغفِ َرةً مِنْهُ َوفَضْل وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫ح ْكمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا َومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ (‪} )269‬‬
‫يَشَاءُ َومَنْ ُي ْؤتَ الْ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬حتى أحرق"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪.)4538‬‬
‫(‪ )3‬لم أقع على هذا الطريق في صحيح البخاري ‪ ،‬ولم يذكره المزي في تحفة الشراف‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬من المصالح"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الشديدة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬أي ‪ :‬احترق"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬فأحرقت" ‪ ،‬وفي أ ‪ " :‬فاحترقت"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬ولهذا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المستدرك (‪ )1/542‬من طريق سعيد بن سليمان ‪ ،‬عن عيسى بن ميمون ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن‬
‫عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬مرفوعا ‪ ،‬وقال الحاكم ‪" :‬هذا حديث حسن السناد والمتن غريب في‬
‫الدعاء مستحب للمشايخ إل أن عيسى بن ميمون لم يحتج به الشيخان" قال الذهبي ‪ :‬قلت ‪" :‬عيسى‬
‫متهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/696‬‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفاق ‪ -‬والمراد به الصدقة هاهنا ؛ قاله ابن عباس ‪ -‬من طيبات ما‬
‫رزقهم من الموال التي اكتسبوها‪ .‬قال مجاهد ‪ :‬يعني التجارة بتيسيره إياها لهم‪.‬‬
‫وقال علي والسدي ‪ { :‬مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني ‪ :‬الذهب والفضة ‪ ،‬ومن الثمار والزروع التي‬
‫أنبتها لهم من الرض‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬أمرهم بالنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ‪ ،‬ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ‬
‫المال ودَنيه ‪ -‬وهو خبيثه ‪ -‬فإن ال طَيْب ل يقبل إل طيبًا ‪ ،‬ولهذا قال ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا } أي ‪:‬‬
‫تقصدوا { ا ْلخَبِيثَ مِ ْنهُ تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي ‪ :‬لو أعطيتموه ما أخذتموه ‪ ،‬إل أن تتغاضوا فيه‬
‫‪ ،‬فال أغنى عنه منكم ‪ ،‬فل تجعلوا ل ما تكرهون‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬معناه ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْن ِفقُونَ } أي ‪ :‬ل تعدلوا عن المال الحلل ‪ ،‬وتقصدوا‬
‫إلى الحرام ‪ ،‬فتجعلوا نفقتكم منه‪.‬‬
‫ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن عبيد ‪ ،‬حدثنا أبان بن إسحاق ‪ ،‬عن‬
‫الصباح بن محمد ‪ ،‬عن مُرّة ال َهمْداني ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬إن ال قسم بينكم أخلقكم ‪ ،‬كما قسم بينكم أرزاقكم ‪ ،‬وإن ال يعطي الدنيا من يحب‬
‫ومن ل يحب ‪ ،‬ول يعطي الدين إل لمن أحبّ ‪ ،‬فمن أعطاه ال الدين فقد أحبه ‪ ،‬والذي نفسي بيده‬
‫‪ ،‬ل يسلم عَبْدّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه ‪ ،‬ول يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه"‪ .‬قالوا ‪ :‬وما بوائقه يا‬
‫شمُه وظلمه ‪ ،‬ول يكسب (‪ )1‬عبد مال من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه ‪،‬‬
‫غَ‬‫نبي ال ؟‪ .‬قال ‪َ " :‬‬
‫ول يتصدقُ به فيقبل (‪ )2‬منه ‪ ،‬ول يتركه خلف ظهره إل كان زاده إلى النار ‪ ،‬إن ال ل يمحو‬
‫السيئ بالسيئ ‪ ،‬ولكن يمحو السيئ بالحسن ‪ ،‬إن الخبيث ل يمحو الخبيث" (‪.)3‬‬
‫والصحيح القول الول ؛ قال ابن جرير ‪ :‬حدثني الحسين بن عمرو العَ ْنقَزيّ ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬عن‬
‫أسباط ‪ ،‬عن السدّي ‪ ،‬عن عدي بن ثابت ‪ ،‬عن البراء بن عازب في قول ال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫ض وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُونَ }‬
‫آمَنُوا أَ ْنفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُت ْم َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِنَ ال ْر ِ‬
‫الية‪ .‬قال ‪ :‬نزلت في النصار ‪ ،‬كانت النصار إذا كان أيام جذَاذ النخل ‪ ،‬أخرجت من حيطانها‬
‫أقناء ال ُبسْر ‪ ،‬فعلقوه على حبل بين السطوانتين في مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فيأكل‬
‫فقراء المهاجرين منه ‪ ،‬فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف ‪ ،‬فيدخله مع أقناء البسر ‪ ،‬يظن أن ذلك‬
‫جائز ‪ ،‬فأنزل ال فيمن فعل ذلك ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِ ْنهُ تُ ْنفِقُونَ }‬
‫ثم رواه (‪ )4‬ابن جرير ‪ ،‬وابن ماجه ‪ ،‬وابن مَرْ ُدوَيه ‪ ،‬والحاكم في مستدركه ‪ ،‬من طريق‬
‫السدي ‪ ،‬عن‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬ول يكتسب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فيتقبل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)1/387‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ورواه"‪.‬‬

‫( ‪)1/697‬‬

‫عدي بن ثابت ‪ ،‬عن البراء ‪ ،‬بنحوه‪ .‬وقال الحاكم ‪ :‬صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (‪.)1‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬حدثنا عبيد ال ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن السدي ‪ ،‬عن‬
‫ن وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ } قال‬
‫أبي مالك ‪ ،‬عن البراء ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُو َ‬
‫‪ :‬نزلت فينا ‪ ،‬كنا أصحاب نخل ‪ ،‬وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ‪ ،‬فيأتي الرجل‬
‫بالقِنْو فيعلقه في المسجد ‪ ،‬وكان أهل الصفة (‪ )2‬ليس لهم طعام ‪ ،‬فكان أحدهم إذا جاع جاء‬
‫فضربه بعصاه ‪ ،‬فيسقط منه البسر والتمر ‪ ،‬فيأكل ‪ ،‬وكان أناس ممن ل يرغبون في الخير يأتي‬
‫حشَف والشّيص ‪ ،‬ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ‬
‫بالقِنْو فيه ال َ‬
‫تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ } قال ‪ :‬لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إل‬
‫على إغماض وحَياء ‪ ،‬فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده‪.‬‬
‫وكذا رواه الترمذي ‪ ،‬عن عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي ‪ ،‬عن عبيد ال ‪ -‬هو ابن موسى‬
‫العبسي ‪ -‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن السدي ‪ -‬وهو إسماعيل بن عبد الرحمن ‪ -‬عن أبي مالك الغفاري‬
‫‪ -‬واسمه غَزْوان ‪ -‬عن البراء ‪ ،‬فذكر نحوه (‪.)3‬‬
‫ثم قال (‪ : )4‬وهذا حديث حسن غريب‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو الوليد ‪ ،‬حدثنا سليمان بن كثير ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن‬
‫أبي أمامة بن سهل بن حنيف ‪ ،‬عن أبيه ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى عن لونين من‬
‫جعْرُور ولون الحُبَيق (‪ .)5‬وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم (‪ )6‬ثم يخرجونها في‬
‫التمر ‪ :‬ال ُ‬
‫الصدقة ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُون } (‪.)7‬‬
‫ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين ‪ ،‬عن الزهري [به] (‪ .)8‬ثم قال ‪ :‬أسنده أبو الوليد ‪،‬‬
‫جعْرُور‬
‫عن سليمان بن كثير ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬ولفظه ‪ :‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ال ُ‬
‫ولون الحُبيق (‪ )9‬أن يؤخذا في الصدقة (‪.)10‬‬
‫حصُبي ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن أبي‬
‫حمَيد ال َي ْ‬
‫وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن ُ‬
‫أمامة‪ .‬ولم يقل ‪ :‬عن أبيه ‪ ،‬فذكر نحوه (‪ .)11‬وكذا رواه ابن وهب ‪ ،‬عن عبد الجليل‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا يحيى بن المغيرة ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪،‬‬
‫عن عبد ال بن َمعْقل (‪ )12‬في هذه الية ‪ { :‬وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُون } قال ‪ :‬كسب المسلم‬
‫ل يكون خبيثًا ‪ ،‬ولكن ل يصدّق بالحشف ‪ ،‬والدرهم الزّيف ‪ ،‬وما ل خير فيه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪ )560 ، 5/559‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )1822‬والمستدرك (‪ )2/285‬وقال‬
‫البوصيري في الزوائد (‪" : )2/58‬هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ‪ ،‬وله شاهد من حديث عوف بن‬
‫مالك رواه أصحاب السنن الربعة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وكان أهل الصدقة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪.)2987‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬ولون الحشف"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬شر أثمارها"‪.‬‬
‫(‪ )7‬ورواه الحاكم في المستدرك (‪ )1/402‬والطبراني في المعجم الكبير (‪ )6/76‬من طريق أبي‬
‫الوليد الطيالسي به ‪ ،‬وقال الحاكم ‪" :‬حديث صحيح على شرط البخاري"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ولون الحسف"‪.‬‬
‫(‪ )10‬سنن أبي داود برقم (‪.)1607‬‬
‫(‪ )11‬سنن النسائي (‪.)5/43‬‬
‫(‪ )12‬في جـ ‪" :‬بن مغفل"‪.‬‬
‫( ‪)1/698‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو سعيد ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن حماد ‪ -‬هو ابن أبي سليمان ‪-‬‬
‫عن إبراهيم ‪ ،‬عن السود ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬أُتِي رسول ال صلى ال عليه وسلم بضب فلم‬
‫يأكله ولم ينه عنه‪ .‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬نطعمه (‪ )1‬المساكين ؟ قال ‪" :‬ل تطعموهم مما ل‬
‫تأكلون" (‪.)2‬‬
‫ثم رواه عن عفان (‪ )3‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬به‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أل أطعمه المساكين ؟ قال‬
‫‪" :‬ل تطعموهم ما ل تأكلون"‪.‬‬
‫وقال الثوري ‪ :‬عن السدي ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيه }‬
‫يقول ‪ :‬لو كان لرجل على رجل ‪ ،‬فأعطاه ذلك لم يأخذه ؛ إل أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه‬
‫ابن جرير‪.‬‬
‫خذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيه } يقول ‪ :‬لو كان‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَلَسْ ُتمْ بِآ ِ‬
‫لكم على أحد حق ‪ ،‬فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه‪ .‬قال ‪ :‬فذلك‬
‫قوله ‪ { :‬إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما ل ترضون لنفسكم ‪ ،‬وحقي عليكم من أطيب‬
‫أموالكم وأنفسه!!‬
‫رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬وابن جرير ‪ ،‬وزاد ‪ :‬وهو قوله ‪ { :‬لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا ُتحِبّون }‬
‫[آل عمران ‪ .]92 :‬ثم روى من طريق العوفي وغيره ‪ ،‬عن ابن عباس نحو ذلك ‪ ،‬وكذا ذكر‬
‫غير واحد‪.‬‬
‫حمِيدٌ } أي ‪ :‬وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني‬
‫قوله (‪ { : )4‬وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫عنها ‪ ،‬وما ذاك إل ليساوي الغني الفقير ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬لَنْ يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَل ِدمَاؤُهَا وََلكِنْ يَنَالُهُ‬
‫ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ } [الحج ‪ ]37 :‬وهو غني عن جميع خلقه ‪ ،‬وجميع خلقه فقراء إليه ‪ ،‬وهو واسع‬
‫الفضل ل ينفد ما لديه ‪ ،‬فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ‪ ،‬فليَعلمْ أن ال غني واسع العطاء ‪،‬‬
‫كريم جواد ‪ ،‬سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ول ظلوم ‪ ،‬وهو‬
‫الحميد ‪ ،‬أي ‪ :‬المحمود في جميع أفعاله وأقواله (‪ )5‬وشرعه وقدره ‪ ،‬ل إله إل هو ‪ ،‬ول رب‬
‫سواه‪.‬‬
‫حشَا ِء وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َم ْغفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْل وَاللّ ُه وَاسِعٌ‬
‫وقوله ‪ { :‬الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَ ْ‬
‫عَلِيمٌ } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا هَنّاد بن السّرِي ‪ ،‬حدثنا أبو الحوص ‪ ،‬عن‬
‫عطاء بن السائب ‪ ،‬عن مرة ال َهمْداني ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم "إن للشيطان لََلمّة (‪ )6‬بابن آدم ‪ ،‬وللمَلك لَمة ‪ ،‬فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب‬
‫بالحق ‪ ،‬وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق‪ .‬فمن وجد ذلك فليعَلمْ أنه من ال ‪ ،‬فَلْيحمَد‬
‫ال ‪ ،‬ومن وجد الخرى فليتعوذ من الشيطان"‪ .‬ثم قرأ ‪ { :‬الشّ ْيطَانُ َيعِ ُد ُكمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ‬
‫وَاللّهُ َيعِ ُد ُكمْ َمغْفِ َرةً مِنْ ُه َو َفضْل } الية‪.‬‬
‫وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي (‪ )7‬التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا ‪ ،‬عن هَنّاد بن السّرِي (‬
‫‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أل نطعمه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)6/105‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬عن عثمان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وقوله"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬في جميع أقواله وأفعاله"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬لمة"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬في كتاب"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن الترمذي برقم (‪ )2988‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11051‬‬

‫( ‪)1/699‬‬

‫وأخرجه ابن حبان في صحيحه ‪ ،‬عن أبي يعلى الموصلي ‪ ،‬عن هَنّاد ‪ ،‬به (‪ .)1‬وقال الترمذي ‪:‬‬
‫حسن غريب ‪ ،‬وهو حديث أبي الحوص ‪ -‬يعني سلم بن سليم ‪ -‬ل نعرفه مرفوعًا إل من‬
‫حديثه‪ .‬كذا قال‪ .‬وقد رواه أبو بكر بن مَ ْردُويه في تفسيره ‪ ،‬عن محمد بن أحمد ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫ضمْرة (‪ )2‬عن ابن شهاب ‪ ،‬عن عبيد ال بن‬
‫عبد ال بن رُسْتَه ‪ ،‬عن هارون الفَ ْروِي ‪ ،‬عن أبي َ‬
‫عبد ال ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬مرفوعًا نحوه‪.‬‬
‫ولكن رواه مِسْعر ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن أبي الحوص عوف بن مالك بن نضلة ‪ ،‬عن‬
‫ابن مسعود‪ .‬فجعله من قوله ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ومعنى قوله تعالى ‪ { :‬الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ } أي ‪ :‬يخوفكم الفقر ‪ ،‬لتمسكوا ما بأيديكم فل تنفقوه‬
‫في مرضاة ال ‪ { ،‬وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ } أي ‪ :‬مع نهيه إياكم عن النفاق خشية الملق ‪ ،‬يأمركم‬
‫بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلق ‪ ،‬قال [ال] (‪ )3‬تعالى ‪ { :‬وَاللّهُ َيعِ ُد ُكمْ َمغْفِ َرةً مِنْهُ }‬
‫أي ‪ :‬في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء { َو َفضْل } أي ‪ :‬في مقابلة ما خوفكم الشيطان من‬
‫الفقر { وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }‬
‫ح ْكمَةَ مَنْ َيشَاء } قال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬يعني المعرفة‬
‫وقوله ‪ُ { :‬يؤْتِي الْ ِ‬
‫بالقرآن ناسخه ومنسوخه ‪ ،‬ومحكمه ومتشابهه ‪ ،‬ومقدمه ومؤخره ‪ ،‬وحلله وحرامه ‪ ،‬وأمثاله‪.‬‬
‫جوَيْبر ‪ ،‬عن الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس مرفوعًا ‪ :‬الحكمة ‪ :‬القرآن (‪ .)4‬يعني ‪ :‬تفسيره ‪،‬‬
‫وروى ُ‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬فإنه [قد] (‪ )5‬قرأه البر والفاجر‪ .‬رواه ابن مَرْدُويه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي َنجِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ :‬يعني بالحكمة ‪ :‬الصابة في القول‪.‬‬
‫ح ْكمَةَ مَنْ َيشَاء } ليست بالنبوة ‪ ،‬ولكنه العلم‬
‫وقال ليث بن أبي سليم ‪ ،‬عن مجاهد ‪ُ { :‬يؤْتِي الْ ِ‬
‫والفقه والقرآن‪.‬‬
‫وقال أبو العالية ‪ :‬الحكمة خشية ال ‪ ،‬فإن خشية ال رأس كل حكمة‪.‬‬
‫جهَني ‪ ،‬عن أبي عمار السدي ‪،‬‬
‫وقد روى ابن مَرْدُويه ‪ ،‬من طريق بقية ‪ ،‬عن عثمان بن ُزفَر ال ُ‬
‫عن ابن مسعود مرفوعًا ‪" :‬رأس الحكمة مخافة ال" (‪.)6‬‬
‫وقال أبو العالية في رواية عنه ‪ :‬الحكمة ‪ :‬الكتاب والفهم‪ .‬وقال إبراهيم النخَعي ‪ :‬الحكمة ‪ :‬الفهم‪.‬‬
‫وقال أبو مالك ‪ :‬الحكمة ‪ :‬السنة‪ .‬وقال ابن وهب ‪ ،‬عن مالك ‪ ،‬قال زيد بن أسلم ‪ :‬الحكمة ‪:‬‬
‫العقل‪ .‬قال مالك ‪ :‬وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين ال ‪ ،‬وأمْرٌ يدخله ال في القلوب‬
‫من رحمته وفضله ‪ ،‬ومما يبين ذلك ‪ ،‬أنك تجد الرجل عاقل في أمر الدنيا ذا نظر فيها ‪ ،‬وتجد‬
‫آخر ضعيفًا في أمر دنياه ‪ ،‬عالمًا بأمر دينه ‪ ،‬بصيرًا به ‪ ،‬يؤتيه ال إياه ويحرمه هذا ‪ ،‬فالحكمة ‪:‬‬
‫الفقه في دين ال‪.‬‬
‫وقال السدي ‪ :‬الحكمة ‪ :‬النبوة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان برقم (‪" )40‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن أبي حمزة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )4‬عزاه السيوطي في الدر المنثور (‪ )2/66‬لبن مردويه في تفسيره وإسناده ضعيف جدا‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬ورواه البيهقي وضعفه في شعب اليمان برقم (‪ )744‬من طريق محمد بن وصفى عن بقية‬
‫به ‪ ،‬ورواه البيهقي أيضا من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود‪.‬‬

‫( ‪)1/700‬‬

‫والصحيح أن الحكمة ‪ -‬كما قاله الجمهور ‪ -‬ل تختص بالنبوة ‪ ،‬بل هي أعم منها ‪ ،‬وأعلها النبوة‬
‫‪ ،‬والرسالة أخص ‪ ،‬ولكن لتباع النبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ‪ ،‬كما جاء في بعض‬
‫الحاديث ‪" :‬من حفظ القرآن فقد أدْ ِرجَت النبوة بين كتفيه (‪ )1‬غير أنه ل يوحى إليه" (‪ .)2‬رواه (‬
‫‪َ )3‬وكِيع بن الجراح في تفسيره ‪ ،‬عن إسماعيل بن رافع (‪ )4‬عن رجل لم يسمه ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫عمر (‪ )5‬وقوله‪.‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ويزيد (‪ )6‬قال حدثنا إسماعيل ‪ -‬يعني ابن أبي خالد ‪ -‬عن قيس‬
‫‪ -‬وهو ابن أبي حازم ‪ -‬عن ابن مسعود قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬ل‬
‫حسد إل في اثنتين ‪ :‬رجل آتاه ال مال فسلّطه على هَلَكته في الحق ‪ ،‬ورجل آتاه ال حكمة فهو‬
‫يقضي بها ويعلمها" (‪.)7‬‬
‫وهكذا رواه البخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجة ‪ -‬من طرق متعددة ‪ -‬عن إسماعيل بن‬
‫أبي خالد ‪ ،‬به (‪.)8‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ } أي ‪ :‬وما ينتفع بالموعظة والتذكار إل من له لب وعقل‬
‫يعي به الخطاب ومعنى الكلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بين جنبيه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن عدي ‪:‬‬
‫أحاديثه كلها مما فيه نظر‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬ورواه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن إسماعيل بن رافع أبي رافع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن عمرو"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬وزيد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)1/432‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪ )73‬وصحيح مسلم برقم (‪ )816‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪)5840‬‬
‫وسنن ابن ماجة برقم (‪.)4208‬‬

‫( ‪)1/701‬‬

‫َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َن َفقَةٍ َأوْ َنذَرْتُمْ مِنْ َنذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْلمُ ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ (‪ )270‬إِنْ تُبْدُوا‬
‫خفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ا ْل ُفقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَ ُي َكفّرُ عَ ْنكُمْ مِنْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَاللّهُ ِبمَا‬
‫الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ وَإِنْ ُت ْ‬
‫َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (‪)271‬‬

‫{ َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َنفَقَةٍ َأوْ نَذَرْ ُتمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْل ُم ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ (‪ )270‬إِنْ تُبْدُوا‬
‫خفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ا ْل ُفقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَ ُي َكفّرُ عَ ْنكُمْ مِنْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَاللّهُ ِبمَا‬
‫الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ وَإِنْ ُت ْ‬
‫َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (‪} )271‬‬
‫يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات و َتضَمن ذلك‬
‫مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده‪ .‬وتوعد من ل يعمل‬
‫بطاعته ‪ ،‬بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَار } أي ‪:‬‬
‫يوم القيامة ينقذونهم (‪ )1‬من عذاب ال ونقمته‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِنْ تُ ْبدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ } أي ‪ :‬إن أظهرتموها فنعم شيء هي‪.‬‬
‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُم } فيه دللة على أن إسرار الصدقة أفضل‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِنْ ُت ْ‬
‫من إظهارها ؛ لنه أبعد عن الرياء ‪ ،‬إل أن يترتب على الظهار مصلحة راجحة ‪ ،‬من اقتداء‬
‫الناس به ‪ ،‬فيكون أفضل من هذه الحيثية ‪ ،‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الجاهر‬
‫بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة" (‪.)2‬‬
‫والصل أن السرار أفضل ‪ ،‬لهذه الية ‪ ،‬ولما ثبت في الصحيحين ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬ينقذهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد في المسند (‪ )4/151‬وأبو داود في السنن برقم (‪ )1333‬والترمذي في السنن برقم‬
‫(‪ )2919‬من حديث عقبة بن عامر رضي ال عنه ‪ ،‬وقال الترمذي ‪" :‬هذا حديث حسن غريب"‪.‬‬

‫( ‪)1/701‬‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله ‪ :‬إمام عادل ‪،‬‬
‫وشاب نشأ في عبادة ال ‪ ،‬ورجلن تحابا في ال اجتمعا عليه وتفرقا عليه ‪ ،‬ورجل قلبه معلق‬
‫بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ‪ ،‬ورجل ذكر ال خاليًا ففاضت عيناه ‪ ،‬ورجل دعته امرأة‬
‫ذات منصب وجمال فقال ‪ :‬إني أخاف ال ‪ ،‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما‬
‫تنفق يمينه" (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون ‪ ،‬أخبرنا العوام بن حوشب ‪ ،‬عن سليمان بن أبي‬
‫سليمان ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم قال ‪" :‬لما خلق ال الرض‬
‫جعلت تميد ‪ ،‬فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ‪ ،‬فتعجبت (‪ )2‬الملئكة من خلق الجبال ‪ ،‬فقالت‬
‫‪ :‬يا رب ‪ ،‬فهل من (‪ )3‬خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬الحديد‪ .‬قالت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬فهل‬
‫من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬النار‪ .‬قالت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬فهل من (‪ )4‬خلقك شيء أشد‬
‫من النار ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬الماء‪ .‬قالت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬فهل من (‪ )5‬خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬الريح‪ .‬قالت ‪ :‬يا رب ‪ ،‬فهل من (‪ )6‬خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬ابنُ آدم‬
‫يتصدق بيمينه فيخفيها من (‪ )7‬شماله" (‪.)8‬‬
‫وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي ‪ ،‬عن أبي ذر قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أي الصدقة أفضل ؟‬
‫قال ‪" :‬سر إلى فقير ‪ ،‬أو جهد من مقِل"‪ .‬رواه أحمد (‪.)9‬‬
‫ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن أبي أمامة ‪ ،‬عن أبي ذر فذكره‪.‬‬
‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ‬
‫ي وَإِنْ تُ ْ‬
‫وزاد ‪ :‬ثم نزع بهذه الية ‪ { :‬إِنْ تُبْدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِه َ‬
‫َلكُم } الية (‪.)10‬‬
‫وفي الحديث المروي ‪" :‬صدقة السر تطفئ غضب الرب ‪ ،‬عز وجل" (‪.)11‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ‪ ،‬أخبرنا موسى‬
‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا‬
‫ي وَإِنْ ُت ْ‬
‫بن عمير ‪ ،‬عن عامر الشعبي في قوله ‪ { :‬إِنْ تُبْدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِه َ‬
‫ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُم } قال ‪ :‬أنزلت (‪ )12‬في أبي بكر وعمر ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬فأما عمر‬
‫فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ما خلفت وراءك لهلك يا عمر ؟"‪ .‬قال ‪ :‬خلفت لهم نصف مالي ‪ ،‬وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه‬
‫يكاد (‪ )13‬أن يخفيه من نفسه ‪ ،‬حتى دفعه إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال له النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪" :‬ما خلفت وراءك لهلك يا أبا بكر ؟"‪ .‬فقال ‪ :‬عدة ال وعدةُ رسوله‪ .‬فبكى عمر ‪،‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬وقال ‪ :‬بأبي أنت يا أبا بكر ‪ ،‬وال ما اسْتَ َبقْنا إلى باب خير قط إل كنت سابقا (‬
‫‪.)14‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )1423 ، 660‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1031‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬فتعجب"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)3/124‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪.)5/178‬‬
‫(‪ )10‬ورواه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )8/269‬من طريق خالد بن أبي يزيد ‪ ،‬عن علي بن‬
‫يزيد به‪.‬‬
‫(‪ )11‬رواه الترمذي في السنن برقم (‪ )2386‬من حديث أنس ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬وروي عن‬
‫جماعة من الصحابة وهو حديث متواتر‪.‬‬
‫(‪ )12‬في أ ‪" :‬نزلت"‪.‬‬
‫(‪ )13‬في جـ ‪" :‬وكاد"‪.‬‬
‫(‪ )14‬ورواه الصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (‪ )1643‬من طريق محمد بن الصباح بن‬
‫موسى بن عيسى عن الشعبي به‪.‬‬

‫( ‪)1/702‬‬
‫جهِ‬
‫سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ ِإلّا ابْ ِتغَا َء وَ ْ‬
‫لَيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وََلكِنّ اللّهَ َي ْهدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَ ْنفُ ِ‬
‫حصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا‬
‫اللّ ِه َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُيوَفّ إِلَ ْي ُك ْم وَأَنْتُمْ لَا ُتظَْلمُونَ (‪ )272‬لِ ْلفُقَرَاءِ الّذِينَ ُأ ْ‬
‫حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّتعَ ّففِ َتعْ ِر ُفهُمْ بِسِيمَا ُهمْ لَا يَسَْألُونَ النّاسَ‬
‫يَسْ َتطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَ ْرضِ يَ ْ‬
‫ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلَانِ َيةً‬
‫إِلْحَافًا َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (‪ )273‬الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْي ِ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (‪)274‬‬
‫فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَلَا َ‬

‫وهذا الحديث مروي من وجه آخر ‪ ،‬عن عمر ‪ ،‬رضي ال عنه (‪ .)1‬وإنما أوردناه هاهنا لقول‬
‫الشعبي ‪ :‬إن الية نزلت في ذلك ‪ ،‬ثم إن الية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل ‪ ،‬سواء كانت‬
‫مفروضة أو مندوبة‪ .‬لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬في‬
‫تفسير هذه الية ‪ ،‬قال ‪ :‬جعل ال صدقة السر في التطوع تفضل علنيتها ‪ ،‬فقال ‪ :‬بسبعين ضعفًا‪.‬‬
‫وجعل صدقة الفريضة عَلنيتَها أفضلَ من سرها ‪ ،‬فقال ‪ :‬بخمسة وعشرين ضعفًا‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَ ُي َكفّرُ عَ ْن ُكمْ مِنْ سَيّئَا ِتكُم } أي ‪ :‬بدل الصدقات ‪ ،‬ول سيما إذا كانت سرا يحصل لكم‬
‫الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات ‪ ،‬وقد قرئ ‪" :‬وَيُ َكفّرُ عَ ْنكُمْ" بالضم ‪ ،‬وقرئ ‪:‬‬
‫"وَ ُنكَفّرْ" بالجزم ‪ ،‬عطفًا على (‪ )2‬جواب الشرط ‪ ،‬وهو قوله ‪ { :‬فَ ِن ِعمّا هِي } كقوله ‪" :‬فََأصّ َدقَ‬
‫وََأكُونَ" { وََأكُنْ }‪.‬‬
‫وقوله { وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي ‪ :‬ل يخفى عليه من ذلك شيء ‪ ،‬وسيجزيكم عليه [سبحانه‬
‫وبحمده] (‪.)3‬‬
‫سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ إِل ابْ ِتغَاءَ‬
‫{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَل ْنفُ ِ‬
‫حصِرُوا فِي سَبِيلِ‬
‫وَجْهِ اللّ ِه َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْيكُ ْم وَأَنْ ُت ْم ل ُتظَْلمُونَ (‪ )272‬لِ ْل ُفقَرَاءِ الّذِينَ أُ ْ‬
‫حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّتعَ ّففِ َتعْ ِر ُفهُمْ بِسِيمَا ُهمْ ل يَسْأَلُونَ‬
‫ن ضَرْبًا فِي ال ْرضِ يَ ْ‬
‫اللّهِ ل َيسْتَطِيعُو َ‬
‫النّاسَ إِ ْلحَافًا َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (‪ )273‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ سِرّا‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ (‪} )274‬‬
‫وَعَلنِيَةً فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ‬
‫قال أبو عبد الرحمن النسائي ‪ :‬أخبرنا محمد بن عبد ال (‪ )4‬بن عبد الرحيم ‪ ،‬أخبرنا (‪)5‬‬
‫الفِرْيَابي ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن جعفر بن إياس ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس قال ‪ :‬كانوا يكرهون أن يرضخوا لنسابهم من المشركين فسألوا ‪ ،‬فرخص لهم ‪ ،‬فنزلت‬
‫سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ‬
‫هذه الية ‪ { :‬لَ ْيسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَل ْنفُ ِ‬
‫إِل ابْ ِتغَا َء وَجْهِ اللّ ِه َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُيوَفّ إِلَ ْيكُمْ وَأَنْتُمْ ل تُظَْلمُونَ } (‪.)6‬‬
‫حفَري ‪ ،‬عن سفيان ‪-‬‬
‫وكذا رواه أبو حذيفة ‪ ،‬وابن المبارك ‪ ،‬وأبو أحمد الزبيري ‪ ،‬وأبو داود ال َ‬
‫وهو الثوري ‪ -‬به‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا (‪ )7‬أحمد بن القاسم بن عطية ‪ ،‬حدثني أحمد بن عبد الرحمن ‪ -‬يعني‬
‫الدّشْ َت ِكيّ ‪ -‬حدثني أبي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬حدثنا أشعث بن إسحاق ‪ ،‬عن جعفر بن أبي المغيرة ‪ ،‬عن‬
‫سعيد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )1678‬والترمذي في السنن برقم (‪ )3675‬من طريق هشام‬
‫بن سعد ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ ،‬وقال الترمذي ‪:‬‬
‫"هذا حديث حسن صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬على محل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬بن عبد السلم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11052‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬

‫( ‪)1/703‬‬

‫بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنه كان يأمر بأل يتصَدق إل على‬
‫أهل السلم ‪ ،‬حتى نزلت هذه الية ‪ { :‬لَيْسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُمْ } إلى آخرها ‪ ،‬فأمر بالصدقة بعدها‬
‫على كل من سألك من كل دين (‪ .)1‬وسيأتي عند قوله تعالى ‪ { :‬ل يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ‬
‫ن وَلَمْ ُيخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُم } الية [الممتحنة ‪ ]8 :‬حديث أسماء بنت الصديق في‬
‫ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫ذلك [إن شاء ال تعالى] (‪.)2‬‬
‫ل صَالِحًا فَلِ َنفْسِه } [فصلت ‪، 46 :‬‬
‫ع ِم َ‬
‫سكُم } كقوله { مَنْ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَل ْنفُ ِ‬
‫الجاثية ‪ ]15 :‬ونظائرها في القرآن كثيرة (‪.)3‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬ومَا تُ ْنفِقُونَ إِل ابْ ِتغَا َء وَجْهِ اللّهِ } قال الحسن البصري ‪ :‬نفقة المؤمن لنفسه ‪ ،‬ول ينفق‬
‫المؤمن ‪ -‬إذا أنفق ‪ -‬إل ابتغاء وجه ال‪.‬‬
‫وقال عطاء الخراساني ‪ :‬يعني إذا أعطيت لوجه ال ‪ ،‬فل عليك ما كان عملُه وهذا معنى حسن ‪،‬‬
‫وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه ال فقد وقع أجرُه على ال ‪ ،‬ول عليه (‪ )4‬في نفس‬
‫المر لمن أصاب ‪ :‬الِبَرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره ‪ ،‬هو مثاب على قصده ‪ ،‬ومستَنَدُ هذا تمام‬
‫الية ‪َ { :‬ومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْي ُك ْم وَأَنْتُمْ ل تُظَْلمُونَ } والحديث المخرج في الصحيحين ‪ ،‬من‬
‫طريق أبي الزناد ‪ ،‬عن العرج ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"قال رجل ‪ :‬لتصدقن الليلة بصدقة ‪ ،‬فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ‪ ،‬فأصبح الناس‬
‫يتحدثون ‪ُ :‬تصُدقَ على زانية! فقال ‪ :‬اللهم لك الحمد على زانية ‪ ،‬لتصدقن الليلة بصدقة ‪ ،‬فخرج‬
‫بصدقته فوضعها في يد غني ‪ ،‬فأصبحوا يتحدثون ‪ُ :‬تصُدق الليلة على غَني! فقال ‪ :‬اللهم لك‬
‫الحمد على غني ‪ ،‬لتصدقن الليلة بصدقة ‪ ،‬فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق ‪ ،‬فأصبحوا‬
‫يتحدثون ‪ :‬تُصدق الليلة على سارق! فقال ‪ :‬اللهم لك الحمد على زانية ‪ ،‬وعلى غني ‪ ،‬وعلى‬
‫سارق ‪ ،‬فأتي فقيل له ‪ :‬أما صدقتك فقد قبلت ؛ وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها ‪،‬‬
‫ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه ال ‪ ،‬ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته" (‪.)5‬‬
‫حصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } يعني ‪ :‬المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى ال وإلى‬
‫وقوله ‪ { :‬لِ ْل ُفقَرَاءِ الّذِينَ أُ ْ‬
‫رسوله ‪ ،‬وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم (‪ )6‬و { ل َيسْتَطِيعُونَ‬
‫ضَرْبًا فِي الرْض } يعني ‪ :‬سفرًا للتسبب في طلب المعاش‪ .‬والضرب في الرض ‪ :‬هو السفر ؛‬
‫قال ال تعالى ‪ { :‬وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ال ْرضِ فَلَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ أَنْ َتقْصُرُوا مِنَ الصّلةِ } [النساء ‪:‬‬
‫علِمَ أَنْ سَ َيكُونُ مِ ْنكُمْ مَ ْرضَى وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي ال ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِنْ‬
‫‪ ، ]101‬وقال تعالى ‪َ { :‬‬
‫ضلِ اللّ ِه وَآخَرُونَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } الية [المزمل ‪.]20 :‬‬
‫َف ْ‬
‫وقوله ‪َ { :‬يحْسَ ُبهُمُ الْجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّت َعفّفِ } أي ‪ :‬الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ‪ ،‬من‬
‫تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم‪ .‬وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫قال ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وعزاه السيوطي في الدر المنثور (‪ )2/86‬لبن مردويه والضياء المقدسي‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬في و ‪" :‬كثير"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬ول يمكنه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )1421‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1022‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬بأنفسهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/704‬‬

‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ‪،‬‬
‫واللقمة واللقمتان ‪ ،‬والكلة والكلتان ‪ ،‬ولكن المسكين الذي ل يجد غنى يغنيه ‪ ،‬ول ُيفْطَنُ له‬
‫فَيُ َتصَدقَ عليه ‪ ،‬ول يسأل الناس شيئا" (‪ .)1‬وقد رواه أحمد ‪ ،‬من حديث ابن مسعود أيضًا (‪.)2‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬تعْ ِر ُفهُمْ ِبسِيمَاهُمْ } أي ‪ :‬بما يظهر لذوي اللباب من صفاتهم ‪ ،‬كما قال [ال] (‪ )3‬تعالى‬
‫‪ { :‬سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ } [الفتح ‪ ، ]29 :‬وقال ‪ { :‬وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي َلحْنِ ا ْل َقوْل } [محمد ‪.]30 :‬‬
‫وفي الحديث الذي في السنن ‪" :‬اتقوا فراسة المؤمن ‪ ،‬فإنه ينظر بنور ال" ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ‬
‫سمِينَ } [الحجر ‪.)4( .]75 :‬‬
‫ليَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ‬
‫وقوله ‪ { :‬ل يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافًا } أي ‪ :‬ل يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما ل يحتاجون إليه‬
‫‪ ،‬فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال ‪ ،‬فقد ألحف في المسألة ؛ قال البخاري ‪:‬‬
‫حدثنا ابن أبي مريم ‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شريك بن أبي نمر ‪ :‬أن عطاء بن َيسَار وعبد‬
‫عمْرَة النصاري قال سمعنا أبا هريرة يقول ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫الرحمن بن أبي َ‬
‫وسلم ‪" :‬ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان ‪ ،‬ول اللقمة واللقمتان ‪ ،‬إنما المسكين الذي‬
‫ف ؛ اقرؤوا إن شئتم ‪ -‬يعني قوله ‪ { : -‬ل يَسَْألُونَ النّاسَ إِ ْلحَافًا } (‪.)5‬‬
‫يتعفّ ُ‬
‫وقد رواه مُسْلِم ‪ ،‬من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ‪ ،‬عن شريك بن عبد ال بن أبي نَمر ‪،‬‬
‫عن عطاء بن يسار ‪ -‬وحده ‪ -‬عن أبي هريرة ‪ ،‬به (‪.)6‬‬
‫وقال أبو عبد الرحمن النسائي (‪ : )7‬أخبرنا علي بن حجر ‪ ،‬حدثنا إسماعيل ‪ ،‬أخبرنا شريك ‪-‬‬
‫وهو ابن أبي نمر ‪ -‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ‪ ،‬واللقمة واللقمتان ‪ ،‬إنما المسكين المتعفف ؛ اقرؤوا‬
‫إن شئتم ‪ { :‬ل َيسْأَلُونَ النّاسَ إِ ْلحَافًا } " (‪.)8‬‬
‫وروى البخاري من حديث شعبة ‪ ،‬عن محمد بن زياد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬نحوه (‪.)9‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬أخبرنا يونس بن عبد العلى ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني ابن أبي ذئب ‪،‬‬
‫عن أبي الوليد ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ليس المسكين‬
‫بالطواف عليكم ‪ ،‬فتطعمونه (‪ )10‬لقمة لقمة ‪ ،‬إنما المسكين المتعفف الذي ل يسأل الناس إلحافا"‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني معتمر ‪ ،‬عن الحسن بن ماتك (‪ )11‬عن صالح بن سويد ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4539‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1039‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)1/384‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الترمذي في السنن برقم (‪ )3127‬من طريق عمرو بن قيس ‪ ،‬عن عطية ‪ ،‬عن أبي‬
‫سعيد ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬به مرفوعا ‪ ،‬وقال الترمذي ‪" :‬هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا‬
‫الوجه ‪ ،‬وقد روي عن بعض أهل العلم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)4539‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)1039‬‬
‫(‪ )7‬في و ‪" :‬ورواه النسائي ولفظه"‪.‬‬
‫(‪ )8‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11053‬‬
‫(‪ )9‬صحيح البخاري برقم (‪.)1476‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فتعطونه"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحسن بن بابل" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬أيمن بن نابل"‪.‬‬

‫( ‪)1/705‬‬

‫قال ‪ :‬ليس المسكين الطواف الذي ترده الكلة والكلتان ‪ ،‬ولكن المسكين المتعفف في بيته ‪ ،‬ل‬
‫يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ؛ اقرؤوا إن شئتم ‪ { :‬ل يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافًا }‬
‫وقال المام أحمد أيضًا ‪ :‬حدثنا أبو بكر الحنفي ‪ ،‬حدثنا عبد الحميد بن جعفر ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫رجل من مزينة ‪ ،‬أنه قالت له أمه ‪ :‬أل تنطلق فتسأل رسول ال صلى ال عليه سلم كما يسأله‬
‫الناس ؟ فانطلقت أسأله ‪ ،‬فوجدته قائما يخطب ‪ ،‬وهو يقول ‪" :‬ومن استعف أعفه ال ‪ ،‬ومن‬
‫استغنى أغناه ال ‪ ،‬ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا"‪ .‬فقلت بيني وبين‬
‫نفسي ‪ :‬لناقة لي خير من خمس أواق ‪ ،‬ولغلمه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت‬
‫ولم أسأل (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا قتيبة ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ‪ ،‬عن عمارة بن غزية ‪ ،‬عن‬
‫عبد الرحمن بن أبي سعيد ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬سرحتني أمي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫أسأله ‪ ،‬فأتيته فقعدت ‪ ،‬قال ‪ :‬فاستقبلني فقال ‪" :‬من استغنى أغناه ال ‪ ،‬ومن استعف أعفّه ال ‪،‬‬
‫ومن استكف كفاه ال ‪ ،‬ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف"‪ .‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬ناقتي الياقوتة خير من‬
‫أوقية‪ .‬فرجعت ولم أسأله‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود والنسائي ‪ ،‬كلهما عن قتيبة‪ .‬زاد أبو داود ‪ :‬وهشام بن عمار كلهما عن‬
‫عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده ‪ ،‬نحوه (‪.)2‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو الجماهير ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ‪ ،‬عن‬
‫عمارة بن غزية ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال ‪ :‬قال أبو سعيد الخدري ‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف" والوقية ‪ :‬أربعون درهما (‪.)3‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬حدثنا وكيع ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪ ،‬عن عطاء بن يسار ‪ ،‬عن رجل من‬
‫بني أسد قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من سأل وله أوقية ‪ -‬أو عدلها ‪ -‬فقد سأل‬
‫إلحافا" (‪.)4‬‬
‫وقال المام أحمد أيضا ‪ :‬حدثنا وكيع ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن حكيم بن جبير ‪ ،‬عن محمد بن عبد‬
‫الرحمن بن يزيد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من سأل وله ما يغنيه ‪ ،‬جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا ‪ -‬أو كدوحا ‪ -‬في وجهه"‪ .‬قالوا ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬وما غناه ؟ قال ‪" :‬خمسون درهما ‪ ،‬أو حسابها من الذهب"‪.‬‬
‫وقد رواه أهل السنن الربعة ‪ ،‬من حديث حكيم بن جبير السدي الكوفي (‪ .)5‬وقد تركه شعبة بن‬
‫الحجاج ‪ ،‬وضعفه غير واحد من الئمة من جراء هذا الحديث‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني ‪ :‬حدثنا محمد بن عبد ال الحضرمي ‪ ،‬حدثنا أبو حصين (‪)6‬‬
‫عبد ال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)4/138‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )3/9‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1628‬وسنن النسائي (‪.)5/98‬‬
‫(‪ )3‬ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (‪ )2447‬وابن حبان في صحيحه برقم (‪ )846‬من طريق‬
‫عبد ال بن يوسف ‪ ،‬عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)4/36‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )1/388‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1626‬وسنن الترمذي برقم (‪ )650‬وسنن النسائي (‬
‫‪ )5/97‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1840‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬أبو حصن" وهو خطأ‪.‬‬

‫( ‪)1/706‬‬

‫بن أحمد بن يونس ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثنا أبو بكر بن عياش ‪ ،‬عن هشام بن حسان ‪ ،‬عن محمد بن‬
‫سيرين قال ‪ :‬بلغ الحارث ‪ -‬رجل كان بالشام من قريش ‪ -‬أن أبا ذر كان به عوز ‪ ،‬فبعث إليه‬
‫ثلثمائة دينار ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما وجد عبد ال رجل هو أهون عليه مني ‪ ،‬سمعت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يقول ‪" :‬من سأل وله أربعون فقد ألحف" ولل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة‬
‫وماهنان‪ .‬قال أبو بكر بن عياش ‪ :‬يعني خادمين (‪.)1‬‬
‫وقال ابن مَ ْر ُدوَيه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬أخبرنا إبراهيم بن محمد ‪ ،‬أنبأنا عبد الجبار‬
‫‪ ،‬أخبرنا سفيان ‪ ،‬عن داود بن سابور ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من سأل وله أربعون درهمًا فهو مُلْحِف ‪ ،‬وهو مثل سف الملة" يعني‬
‫‪ :‬الرمل‪.‬‬
‫ورواه النسائي ‪ ،‬عن أحمد بن سليمان ‪ ،‬عن يحيى بن آدم ‪ ،‬عن سفيان ‪ -‬وهو ابن عيينة ‪-‬‬
‫بإسناده نحوه (‪.)2‬‬
‫قوله (‪َ { : )3‬ومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي ‪ :‬ل يخفى عليه شيء منه ‪ ،‬وسيجزي‬
‫عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة ‪ ،‬أحوج ما يكونون إليه‪.‬‬
‫خ ْوفٌ‬
‫ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلنِيَةً فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل َ‬
‫وقوله ‪ { :‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْي ِ‬
‫عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُون } هذا مدح منه تعالى للمنفقين (‪ )4‬في سبيله ‪ ،‬وابتغاء مرضاته في جميع‬
‫الوقات من ليل أو نهار ‪ ،‬والحوال من سر وجهار ‪ ،‬حتى إن النفقة على الهل تدخل في ذلك‬
‫أيضًا ‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص ‪-‬‬
‫حين عاده مريضًا عام الفتح ‪ ،‬وفي رواية عام حجة الوداع ‪" : -‬وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها‬
‫وجه ال إل ازددت بها درجة ورفعة ‪ ،‬حتى ما تجعل في في امرأتك" (‪.)5‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر و َبهْز قال حدثنا شعبة ‪ ،‬عن عدي بن ثابت قال ‪:‬‬
‫سمعت عبد ال بن يزيد (‪ )6‬النصاري ‪ ،‬يحدث عن أبي مسعود ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أنه قال ‪" :‬إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة"‬
‫أخرجاه من حديث شعبة ‪ ،‬به (‪.)7‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو زُرْعَة ‪ ،‬حدثنا (‪ )8‬سليمان بن عبد الرحمن ‪ ،‬حدثنا محمد بن‬
‫شعيب ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت سعيد بن يسار ‪ ،‬عن يزيد بن عبد ال بن عريب المليكي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫جده ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬نزلت هذه الية ‪ { :‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْيلِ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُون] (‪ } )9‬في أصحاب‬
‫وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلنِيَةً فََلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ [وَل َ‬
‫الخيل" (‪.)10‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير (‪ )2/150‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )9/331‬رجاله رجال الصحيح غير‬
‫عبد ال بن أحمد بن عبد ال بن يونس وهو ثقة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)2375‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وقوله"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬في حق المنفقين"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪ )6373 ، 4409‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1628‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬ابن زيد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )4/122‬وصحيح البخاري برقم (‪ )55‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1002‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )10‬ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (‪ )1283‬من طريق سليمان بن عبد الرحمن به ‪ ،‬وفي‬
‫إسناده سعيد بن سنان متروك‪.‬‬

‫( ‪)1/707‬‬

‫وقال حنش (‪ )1‬الصنعاني ‪ :‬عن ابن عباس في هذه الية ‪ ،‬قال ‪ :‬هم الذين يعلفون الخيل في سبيل‬
‫ال‪ .‬رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬وكذا روي عن أبي أمامة ‪ ،‬وسعيد بن المسيب ‪ ،‬ومكحول‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو سعيد الشج ‪ ،‬أخبرنا يحيى بن يمان ‪ ،‬عن عبد الوهاب بن مجاهد‬
‫بن جبر ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬كان لعلي أربعة دراهم ‪ ،‬فأنفق درهمًا ليل ودرهمًا نهارًا ‪ ،‬ودرهمًا سرًا‬
‫ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلنِيَةً }‬
‫‪ ،‬ودرهما علنية ‪ ،‬فنزلت ‪ { :‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْي ِ‬
‫وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد ‪ ،‬وهو ضعيف‪ .‬ولكن رواه ابن مردويه‬
‫من وجه آخر ‪ ،‬عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬فََلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّبهِم } أي ‪ :‬يوم القيامة على ما فعلوا من النفاق في الطاعات { وَل‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ } تقدم تفسيره‪.‬‬
‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ج ‪" :‬وقال حسن"‪.‬‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا لَا َيقُومُونَ إِلّا َكمَا َيقُومُ الّذِي يَ َتخَبّطُهُ الشّ ْيطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا‬
‫ف وََأمْ ُرهُ‬
‫حلّ اللّهُ الْبَ ْي َع وَحَرّمَ الرّبَا َفمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ مَا سََل َ‬
‫الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا وََأ َ‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪)275‬‬
‫إِلَى اللّ ِه َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬

‫{ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا‬
‫ف وََأمْ ُرهُ‬
‫حلّ اللّهُ الْبَ ْي َع وَحَرّمَ الرّبَا َفمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ مَا سََل َ‬
‫الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا وََأ َ‬
‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪} )275‬‬
‫إِلَى اللّ ِه َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫لما ذكر تعالى البرار المؤدين النفقات ‪ ،‬المخرجين الزكوات ‪ ،‬المتفضلين بالبر والصلت لذوي‬
‫الحاجات والقرابات في جميع الحوال والنات ‪ -‬شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل‬
‫وأنواع الشبهات ‪ ،‬فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ‪ ،‬فقال‬
‫‪ { :‬الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ } أي ‪ :‬ل يقومون‬
‫من قبورهم يوم القيامة إل كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ؛ وذلك أنه يقوم‬
‫قياما منكرًا‪ .‬وقال ابن عباس ‪ :‬آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا ُيخْنَق‪ .‬رواه ابن أبي حاتم ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬وروي عن عوف بن مالك ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬ومقاتل بن‬
‫حيان ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وحكي عن عبد ال بن عباس ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬ومقاتل بن حيان‬
‫أنهم قالوا في قوله ‪ { :‬الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَ َتخَبّطُهُ الشّ ْيطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ‬
‫} يعني ‪ :‬ل يقومون يوم القيامة‪ .‬وكذا قال ابن أبي نَجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وابن زيد‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم ‪ ،‬من حديث أبي بكر بن أبي مريم ‪ ،‬عن ضمرة بن حبيب ‪ ،‬عن ابن عبد ال‬
‫بن مسعود ‪ ،‬عن أبيه أنه كان يقرأ ‪" :‬الذين يأكلون الربا ل يقومون إل كما يقوم الذي يتخبطه‬
‫الشيطان من المس يوم القيامة "‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ربيعة بن كلثوم ‪ ،‬حدثنا أبي ‪،‬‬
‫عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬يقال يوم القيامة لكل الربا ‪ :‬خذ سلحك للحرب‪ .‬وقرأ‬
‫‪ { :‬ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ } قال ‪ :‬وذلك حين يقوم من قبره‪.‬‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫وفي حديث أبي سعيد في السراء ‪ ،‬كما هو مذكور في سورة سبحان ‪ :‬أنه ‪ ،‬عليه السلم (‪ )1‬مر‬
‫ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ‪ ،‬فسأل عنهم ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هؤلء أكلة الربا‪ .‬رواه البيهقي مطول‪.‬‬
‫وقال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا الحسن بن موسى ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪،‬‬
‫عن علي بن زيد ‪ ،‬عن أبي الصلت ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ‪ ،‬فيها الحيات ترى من خارج بطونهم‪ .‬فقلت ‪ :‬من‬
‫هؤلء يا جبريل ؟ قال ‪ :‬هؤلء أكلة الربا"‪.‬‬
‫ورواه المام أحمد ‪ ،‬عن حسن وعفان ‪ ،‬كلهما عن حماد بن سلمة ‪ ،‬به (‪ .)2‬وفي إسناده ضعف‪.‬‬
‫سمُرَة (‪ )3‬بن جندب في حديث المنام الطويل ‪" :‬فأتينا على نهر ‪-‬‬
‫وقد روى البخاري ‪ ،‬عن َ‬
‫حسبت أنه كان يقول ‪ :‬أحمر مثل الدم ‪ -‬وإذا في النهر رجل سابح يسبح ‪ ،‬وإذا على شط النهر‬
‫رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ‪ ،‬وإذا ذلك السابح يسبح ‪[ ،‬ما يسبح] (‪ )4‬ثم يأتي ذلك الذي قد‬
‫جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه (‪ )5‬حجرًا" وذكر في تفسيره ‪ :‬أنه آكل الربا (‪.)6‬‬
‫حلّ اللّهُ الْبَيْ َع وَحَرّمَ الرّبَا } أي ‪ :‬إنما جُوزُوا‬
‫وقوله ‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا الْبَ ْيعُ مِ ْثلُ الرّبَا وَأَ َ‬
‫بذلك لعتراضهم على أحكام ال في شرعه ‪ ،‬وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع ؛ لن‬
‫المشركين ل يعترفون (‪ )7‬بمشروعية أصل البيع الذي شرعه ال في القرآن ‪ ،‬ولو كان هذا من‬
‫باب القياس لقالوا ‪ :‬إنما الربا مثل البيع ‪ ،‬وإنما قالوا ‪ { :‬إِ ّنمَا الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا } أي ‪ :‬هو نظيره ‪،‬‬
‫فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ‪ ،‬أي ‪ :‬هذا مثل هذا ‪ ،‬وقد أحل هذا‬
‫وحرم هذا!‬
‫حلّ اللّهُ الْبَيْ َع وَحَرّمَ الرّبَا } يحتمل أن يكون من تمام الكلم (‪ )8‬ردًا عليهم ‪،‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَأَ َ‬
‫أي ‪ :‬قالوا ‪ :‬ما قالوه من العتراض ‪ ،‬مع علمهم بتفريق ال بين هذا وهذا حكما ‪ ،‬وهو الحكيم‬
‫العليم الذي ل معقب لحكمه ‪ ،‬ول يسأل عما يفعل وهم يسألون ‪ ،‬وهو العالم بحقائق المور‬
‫ومصالحها ‪ ،‬وما ينفع عباده فيبيحه لهم ‪ ،‬وما يضرهم فينهاهم عنه ‪ ،‬وهو أرحم بهم من الوالدة‬
‫ف وََأمْ ُرهُ إِلَى اللّهِ } أي‬
‫بولدها الطفل ؛ ولهذا قال ‪َ { :‬فمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فََلهُ مَا سََل َ‬
‫‪ :‬من بلغه نهي ال عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه‪ .‬فله ما سلف من المعاملة ‪ ،‬لقوله ‪:‬‬
‫عمّا سََلفَ } [المائدة ‪ ]95 :‬وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم يوم فتح مكة ‪" :‬وكل‬
‫عفَا اللّهُ َ‬
‫{ َ‬
‫ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ‪ ،‬وأول ربا أضع ربا العباس" (‪ )9‬ولم يأمرهم برد‬
‫الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ‪ ،‬بل عفا عما سلف ‪ ،‬كما قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أنه عليه الصلة والسلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )2273‬والمسند (‪.)2/353‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن سلمة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من صحيح البخاري (‪.)7047‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬فألقمه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)7047‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬ل يعرفون"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬يحتمل أن يكون من كلم ال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬قال الشيخ أحمد شاكر ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬في عمدة التفسير (‪" : )2/189‬وهم الحافظ ابن كثير ‪،‬‬
‫رحمه ال ‪ ،‬فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة ‪ ،‬بل كان في حجة الوداع في خطبته صلى ال عليه‬
‫وسلم بعرفه"‪ .‬قلت ‪ :‬جاء هذا مصرحا في رواية عمرو بن الحوص قال ‪ :‬سمعت النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم في حجة الوداع يقول ‪" :‬أل إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع‪ " ...‬فذكر الحديث ‪،‬‬
‫رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )3334‬والترمذي في السنن برقم (‪.)3087‬‬

‫( ‪)1/709‬‬

‫ف وََأمْ ُرهُ ِإلَى اللّهِ }‬


‫تعالى ‪ { :‬فَلَهُ مَا سََل َ‬
‫قال سعيد بن جبير والسدي ‪ { :‬فََلهُ مَا سََلفَ } فإنه (‪ )1‬ما كان أكل من الربا قبل التحريم‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬قرئ على محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني‬
‫جرير بن حازم ‪ ،‬عن أبي إسحاق الهمداني ‪ ،‬عن أم يونس ‪ -‬يعني امرأته العالية بنت أيفع ‪ -‬أن‬
‫عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم قالت لها أم محبة (‪ )2‬أم ولد لزيد بن أرقم ‪ : -‬يا أم‬
‫المؤمنين ‪ ،‬أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت ‪ :‬نعم‪ .‬قالت ‪ :‬فإني بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائة ‪،‬‬
‫فاحتاج إلى ثمنه ‪ ،‬فاشتريته قبل محل الجل بستمائة‪ .‬فقالت ‪ :‬بئس ما شريت! وبئس ما اشتريت!‬
‫أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول ال صلى ال عليه وسلم إن لم يتب قالت ‪ :‬فقلت ‪:‬‬
‫أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪َ { ،‬فمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ‬
‫مَا سََلفَ } (‪.)3‬‬
‫وهذا الثر مشهور ‪ ،‬وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ‪ ،‬مع ما جاء فيها من الحاديث المقررة في‬
‫كتاب الحكام ‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬
‫ثم قال تعالى ‪َ { :‬ومَنْ عَادَ } أي ‪ :‬إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي ال له عنه ‪ ،‬فقد استوجب‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ }‬
‫العقوبة ‪ ،‬وقامت عليه الحجة ؛ ولهذا قال ‪ { :‬فَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫وقد قال أبو داود ‪ :‬حدثنا يحيى بن معين ‪ ،‬أخبرنا عبد ال بن رجاء المكي ‪ ،‬عن عبد ال بن‬
‫عثمان بن خُثَيْم ‪ ،‬عن أبي الزبير ‪ ،‬عن جابر قال ‪ :‬لما نزلت ‪ { :‬الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا ل َيقُومُونَ‬
‫إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ } قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من لم يذر‬
‫المخابرة ‪ ،‬فليأذن بحرب من ال ورسوله" (‪.)4‬‬
‫ورواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬من حديث ابن خثيم ‪ ،‬وقال ‪ :‬صحيح على شرط مسلم ‪ ،‬ولم يخرجه‬
‫(‪.)6( )5‬‬
‫وإنما حرمت المخابرة وهي ‪ :‬المزارعة ببعض ما يخرج من الرض ‪ ،‬والمزابنة وهي ‪ :‬اشتراء‬
‫الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الرض ‪ ،‬والمحاقلة وهي ‪ :‬اشتراء الحب في سنبله‬
‫في الحقل بالحب على وجه الرض ‪ -‬إنما حرمت هذه الشياء وما شاكلها ‪ ،‬حسمًا لمادة الربا ؛‬
‫لنه ل يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف‪ .‬ولهذا قال الفقهاء ‪ :‬الجهل بالمماثلة كحقيقة‬
‫المفاضلة‪ .‬ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا ‪ ،‬والوسائل‬
‫الموصلة إليه ‪ ،‬وتفاوت (‪ )7‬نظرهم بحسب ما وهب ال لكل منهم من العلم ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪:‬‬
‫{ َو َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ } [يوسف ‪.]76 :‬‬
‫وباب الربا من أشكل البواب على كثير من أهل العلم ‪ ،‬وقد قال أمير المؤمنين عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ :‬ثلث وددت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عهد (‪ )8‬إلينا فيهن‬
‫عهدًا ننتهي إليه ‪ :‬الجد ‪ ،‬والكللة ‪ ،‬وأبواب من أبواب الربا (‪ ، )9‬يعني بذلك بعض المسائل التي‬
‫فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬و ‪" :‬فله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ :‬و ‪" :‬أم محنة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في هـ ‪" :‬من" والمثبت من ج ‪ ،‬أ هو الصواب‪.‬‬
‫(‪ )4‬سنن أبي داود برقم (‪.)3406‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ولم يخرجاه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المستدرك (‪ )2/286‬ووقع فيه ‪" :‬ولم يخرجاه"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬وتقارب"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان عهد"‪.‬‬
‫(‪ )9‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )5588‬ومسلم في صحيحه برقم (‪.)3032‬‬

‫( ‪)1/710‬‬
‫حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لن ما أفضى إلى الحرام حرام ‪ ،‬كما أن ما ل يتم الواجب إل به فهو‬
‫واجب‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين ‪ ،‬عن النعمان بن بشير ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ‪" :‬إن الحلل بين وإن الحرام بين ‪ ،‬وبين ذلك أمور مشتبهات ‪ ،‬فمن اتقى الشبهات‬
‫استبرأ لدينه وعرضه ‪ ،‬ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ‪ ،‬كالراعي يرعى حول الحمى‬
‫يوشك أن يرتع فيه (‪.)2( " )1‬‬
‫وفي السنن عن الحسن بن علي ‪ ،‬رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول ‪" :‬دع ما يريبك إلى ما ل يريبك" (‪ .)3‬وفي الحديث الخر ‪" :‬الثم ما حاك في القلب‬
‫وترددت فيه النفس ‪ ،‬وكرهت أن يطلع عليه الناس"‪ .‬وفي رواية ‪" :‬استفت قلبك ‪ ،‬وإن أفتاك‬
‫الناس وأفتوك" (‪.)4‬‬
‫وقال الثوري ‪ :‬عن عاصم ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬آخر ما نزل على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم آية الربا‪ .‬رواه [البخاري] (‪ )5‬عن قبيصة ‪ ،‬عنه (‪.)6‬‬
‫وقال أحمد ‪ ،‬عن (‪ )7‬يحيى ‪ ،‬عن سعيد بن أبي عَرُوبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب أن‬
‫عمر قال ‪ :‬من آخر ما نزل آية الربا (‪ )8‬وإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قبض قبل أن‬
‫يفسرها لنا ‪ ،‬فدعوا الربا والريبة‪.‬‬
‫رواه (‪ )9‬ابن ماجه (‪ )10‬وابن مردويه‪.‬‬
‫وروى ابن مَرْدويه من طريق هياج بن بسطام ‪ ،‬عن داود بن أبي هند ‪ ،‬عن أبي نضرة (‪ )11‬عن‬
‫أبي سعيد الخدري قال ‪ :‬خطبنا عمر بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬إني لعلي أنهاكم عن‬
‫أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء ل تصلح لكم ‪ ،‬وإن من آخر القرآن نزول آية الربا ‪ ،‬وإنه قد‬
‫مات رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ولم يبينه لنا ‪ ،‬فدعوا ما يريبكم إلى ما ل يريبكم‪.‬‬
‫وقد قال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ‪ ،‬حدثنا ابن أبي عدي ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن زبيد‬
‫‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬عن عبد ال ‪ -‬هو ابن مسعود ‪ -‬عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬الربا ثلثة وسبعون بابا" (‪.)12‬‬
‫ورواه الحاكم في مستدركه ‪ ،‬من حديث عمرو بن علي الفلس ‪ ،‬بإسناد مثله ‪ ،‬وزاد ‪" :‬أيسرها أن‬
‫ينكح الرجل أمه ‪ ،‬وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم"‪ .‬وقال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ‪،‬‬
‫ولم يخرجاه (‪.)13‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬يوشك أن يخالط الحمى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )52‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1599‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪ )2518‬وسنن النسائي (‪ )8/327‬وقد أطنب في الكلم عليه الحافظ ابن‬
‫رجب في جامع العلوم والحكم (‪ )1/278‬ط‪ .‬الرسالة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد في المسند (‪ )4/228‬من طريق الزبير بن عبد السلم ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬عن وابصة ‪،‬‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)4544‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬آخر ما أنزل ال الربا"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬ورواه"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪ )1/36‬وسنن ابن ماجة برقم (‪ )2276‬وقال البوصيري في الزوائد (‪: )2/198‬‬
‫"هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن أبي بصرة"‪.‬‬
‫(‪ )12‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )2275‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/198‬هذا إسناد صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )13‬المستدرك (‪.)2/37‬‬

‫( ‪)1/711‬‬

‫عمِلُوا‬
‫حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ (‪ )276‬إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫حقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ وَاللّهُ لَا يُ ِ‬
‫َيمْ َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (‬
‫ت وََأقَامُوا الصّلَاةَ وَآَ َتوُا ال ّزكَاةَ َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَلَا َ‬
‫الصّالِحَا ِ‬
‫‪)277‬‬

‫وقال ابن ماجة ‪ :‬حدثنا عبد ال بن سعيد ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن إدريس ‪ ،‬عن أبي معشر ‪ ،‬عن سعيد‬
‫المقبري ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬الربا سبعون حوبا ‪،‬‬
‫أيسرها أن ينكح الرجل أمه" (‪.)1‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا هُشَيْم ‪ ،‬عن عباد بن راشد ‪ ،‬عن سعيد بن أبي خَيرة (‪ )2‬حدثنا الحسن‬
‫‪ -‬منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة ‪ -‬عن أبي هريرة ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قال ‪" :‬يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال ‪ :‬قيل له ‪ :‬الناس كلهم ؟ قال ‪" :‬من لم يأكله‬
‫منهم ناله من غباره" وكذا رواه أبو داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬وابن ماجة من غير وجه ‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫أبي خيرة (‪ )3‬عن الحسن ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫ومن هذا القبيل ‪ ،‬وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا أبو معاوية ‪ ،‬حدثنا العمش ‪ ،‬عن مسلم بن صبيح ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬لما‬
‫نزلت اليات من آخر البقرة في الربا خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المسجد ‪ ،‬فقرأهُن‬
‫‪ ،‬فحرم التجارة في الخمر‪.‬‬
‫وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ‪ ،‬من طرق ‪ ،‬عن العمش به (‪ )5‬وهكذا لفظ رواية البخاري‬
‫‪ ،‬عند تفسير الية ‪ :‬فحرم التجارة ‪ ،‬وفي لفظ له ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬لما نزلت اليات من آخر‬
‫سورة البقرة في الربا قرأها رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس ‪ ،‬ثم حرم التجارة في‬
‫الخمر‪ .‬قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الئمة ‪ :‬لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما‬
‫يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ‪ ،‬كما قال ‪ ،‬عليه السلم (‪ )6‬في الحديث المتفق عليه ‪" :‬لعن ال‬
‫اليهود ‪ ،‬حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (‪.)7‬‬
‫وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ‪ ،‬عند لعن المحلل في تفسير قوله ‪ { :‬حَتّى تَ ْنكِحَ‬
‫َزوْجًا غَيْرَه } [البقرة ‪ ]230 :‬قوله صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لعن ال آكل الربا وموكله ‪ ،‬وشاهديه‬
‫وكاتبه"‪ .‬قالوا ‪ :‬وما يشهد عليه ويكتب إل إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ‪،‬‬
‫فالعتبار بمعناه ل بصورته ؛ لن العمال بالنيات ‪ ،‬وفي الصحيح ‪" :‬إن ال ل ينظر إلى‬
‫صوركم ول إلى أموالكم ‪ ،‬وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (‪.)8‬‬
‫وقد صنف المام ‪ ،‬العلمة أبو العباس ابن تيمية كتابا في "إبطال التحليل" (‪ )9‬تضمن النهي عن‬
‫تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ‪ ،‬وقد كفى في ذلك وشفى ‪ ،‬فرحمه ال ورضي عنه‪.‬‬
‫عمِلُوا‬
‫حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ (‪ )276‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ت وَاللّهُ ل ُي ِ‬
‫{ َي ْمحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَا ِ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ (‬
‫ت وََأقَامُوا الصّلةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل َ‬
‫الصّالِحَا ِ‬
‫‪} )277‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )2274‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/197‬هذا إسناد ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬عن سعيد بن جبير"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬سعيد بن أبي جرة"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪ )2/494‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1331‬وسنن النسائي (‪ )7/243‬وسنن ابن ماجة‬
‫برقم (‪.)2278‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )6/46‬وصحيح البخاري برقم (‪ )4541 ، 4540‬وصحيح مسلم برقم (‪)1580‬‬
‫وسنن أبي داود برقم (‪ )3490‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )11055‬وسنن ابن ماجة برقم (‬
‫‪.)3382‬‬
‫(‪ )6‬في و ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )2223‬ومسلم في صحيحه برقم (‪ )1582‬من حديث عمر‬
‫بن الخطاب ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )8‬صحيح مسلم برقم (‪ )2564‬من حديث أبي هريرة ‪ ،‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )9‬وهو كتاب متين طبع حديثا طبعة محققة‪.‬‬
‫( ‪)1/712‬‬

‫يخبر ال تعالى أنه يمحق الربا ‪ ،‬أي ‪ :‬يذهبه ‪ ،‬إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ‪ ،‬أو يَحْرمَه‬
‫لل‬
‫بركة ماله فل ينتفع به ‪ ،‬بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة‪ .‬كما قال تعالى ‪ُ { :‬ق ْ‬
‫ج َعلَ‬
‫عجَ َبكَ كَثْ َرةُ الْخَبِيثِ } [المائدة ‪ ، ]100 :‬وقال تعالى ‪ { :‬وَيَ ْ‬
‫ث وَالطّ ّيبُ وََلوْ أَ ْ‬
‫يَسْ َتوِي الْخَبِي ُ‬
‫جهَنّم } [النفال ‪ ، ]37 :‬وقال ‪َ { :‬ومَا آتَيْ ُتمْ‬
‫جعَلَهُ فِي َ‬
‫جمِيعًا فَ َي ْ‬
‫الْخَبِيثَ َب ْعضَهُ عَلَى َب ْعضٍ فَيَ ْر ُكمَهُ َ‬
‫مِنْ رِبًا لِيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَل يَرْبُو عِ ْندَ اللّه } [الية] (‪[ )1‬الروم ‪.]39 :‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬في قوله ‪َ { :‬يمْحَقُ اللّهُ الرّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد ال بن‬
‫مسعود ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أنه قال ‪" :‬الربا وإن كثر فإلى ُقلّ"‪.‬‬
‫وهذا الحديث قد رواه المام أحمد في مسنده ‪ ،‬فقال ‪ :‬حدثنا حجاج [قال] (‪ )2‬حدثنا شريك عن‬
‫الركين بن الربيع [بن عميلة الفزاري] (‪ )3‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪" :‬إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" (‪ )4‬وقد رواه ابن ماجة ‪ ،‬عن العباس‬
‫بن جعفر ‪ ،‬عن عمرو بن عون ‪ ،‬عن يحيى بن أبي زائدة ‪ ،‬عن إسرائيل ‪ ،‬عن الركين بن الربيع‬
‫بن عميلة الفزاري ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن مسعود ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"ما أحد أكثر من الربا إل كان عاقبة أمره إلى قلة" (‪.)5‬‬
‫وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ‪ ،‬كما قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو (‪ )6‬سعيد مولى بني‬
‫هاشم ‪ ،‬حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ‪ ،‬حدثني أبو يحيى ‪ -‬رجل (‪ )7‬من أهل مكة ‪ -‬عن فروخ‬
‫مولى عثمان ‪ :‬أن عمر ‪ -‬وهو يومئذ أمير المؤمنين ‪ -‬خرج إلى المسجد ‪ ،‬فرأى طعاما منثورًا‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ما هذا الطعام ؟ فقالوا ‪ :‬طعام جلب إلينا‪ .‬قال ‪ :‬بارك ال فيه وفيمن جلبه‪ .‬قيل ‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين ‪ ،‬إنه قد احتكر‪ .‬قال ‪ :‬ومن احتكره ؟ قالوا ‪ :‬فروخ مولى عثمان ‪ ،‬وفلن مولى عمر‪.‬‬
‫فأرسل إليهما فدعاهما فقال ‪ :‬ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قال يا أمير المؤمنين ‪،‬‬
‫نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬من احتكر‬
‫على المسلمين (‪ )8‬طعامهم ضربه ال بالفلس أو بجذام (‪ ." )9‬فقال فروخ عند ذلك ‪ :‬أعاهد ال‬
‫وأعاهدك أل أعود في طعام أبدًا‪ .‬وأما مولى عمر فقال ‪ :‬إنما نشتري بأموالنا ونبيع‪ .‬قال أبو‬
‫يحيى ‪ :‬فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا‪.‬‬
‫ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع ‪ ،‬به (‪ .)10‬ولفظه ‪" :‬من احتكر على المسلمين طعامهم‬
‫ضربه ال بالجذام والفلس"‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف ‪ ،‬من "ربا الشيء يربو" و "أرباه يربيه"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)1/395‬‬
‫(‪ )5‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )2289‬وقال البوصيري في الزوائد (‪" : )2/199‬هذا إسناد صحيح‬
‫رجاله ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬حدثنا ابن"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬رجل خرج"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬على الناس"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬والجذام"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪ )1/21‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2155‬‬

‫( ‪)1/713‬‬

‫أي ‪ :‬كثّره ونماه ينميه‪ .‬وقرئ ‪" :‬ويُرَبّي" بالضم والتشديد ‪ ،‬من التربية ‪ ،‬كما قال البخاري ‪ :‬حدثنا‬
‫عبد ال بن منير ‪ ،‬سمع أبا النضر ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن عبد ال بن دينار ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي‬
‫صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من تصدق بعدل تمرة من‬
‫كسب طيب ‪ ،‬ول يقبل ال إل الطيب ‪ ،‬وإن ال ليقبلها بيمينه ‪ ،‬ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم‬
‫فَُلوّه ‪ ،‬حتى يكون مثل الجبل"‪.‬‬
‫كذا رواه في كتاب الزكاة‪ .‬وقال في كتاب التوحيد ‪ :‬وقال خالد بن مخلد ‪ ،‬عن سليمان بن بلل ‪،‬‬
‫عن عبد ال بن دينار ‪ ،‬فذكر بإسناده ‪ ،‬نحوه (‪.)1‬‬
‫وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم ‪ ،‬عن خالد بن مخلد ‪ ،‬فذكره (‪ .)2‬قال‬
‫البخاري ‪ :‬ورواه مسلم بن أبي مريم ‪ ،‬وزيد بن أسلم ‪ ،‬وسهيل ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أما رواية مسلم بن أبي مريم ‪ :‬فقد تفرد البخاري بذكرها ‪ ،‬وأما طريق زيد بن أسلم ‪:‬‬
‫فرواها مسلم في صحيحه ‪ ،‬عن أبي الطاهر بن السرح ‪ ،‬عن ابن وهب ‪ ،‬عن هشام بن سعد ‪،‬‬
‫عن زيد بن أسلم ‪ ،‬به (‪ .)3‬وأما حديث سهيل فرواه مسلم ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن يعقوب بن عبد‬
‫الرحمن ‪ ،‬عن سهيل ‪ ،‬به (‪ .)4‬وال أعلم‪.‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬وقال ورقاء عن ابن دينار ‪ ،‬عن سعيد بن يسار (‪ )5‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم (‪.)6‬‬
‫وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي ‪ ،‬عن الحاكم وغيره ‪ ،‬عن الصم ‪،‬‬
‫عن العباس المروزي (‪ )7‬عن أبي النضر هاشم بن القاسم ‪ ،‬عن ورقاء ‪ -‬وهو ابن عمر‬
‫اليشكري ‪ -‬عن عبد ال بن دينار ‪ ،‬عن سعيد بن يسار (‪ )8‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ‪ ،‬ول يصعد إلى ال إل‬
‫الطيب ‪ ،‬فإن ال يقبلها بيمينه ‪ ،‬فيربيها لصاحبها ‪ ،‬كما يربي أحدكم فلوه ‪ ،‬حتى تكون مثل أحد" (‬
‫‪.)9‬‬
‫وهكذا روى هذا الحديث مسلم ‪ ،‬والترمذي ‪ ،‬والنسائي جميعًا ‪ ،‬عن قتيبة ‪ ،‬عن الليث بن سعد ‪،‬‬
‫عن سعيد المقبري‪ .‬وأخرجه النسائي ‪ -‬من رواية مالك ‪ ،‬عن يحيى بن سعيد النصاري ‪ -‬ومن‬
‫طريق يحيى القطان ‪ ،‬عن محمد بن عجلن ‪ ،‬ثلثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكره (‪.)10‬‬
‫وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر ‪ ،‬فقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا عمرو بن عبد ال الودي ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )1410‬وبرقم (‪.)7430‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)1014‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)1014‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)1014‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬بن بشار"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪.)7430 ، 1410‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬الدوري"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬بن بشار"‪.‬‬
‫(‪ )9‬السنن الكبرى للبيهقي (‪.)4/176‬‬
‫(‪ )10‬صحيح مسلم برقم (‪ )1014‬وسنن الترمذي برقم (‪ )661‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‬
‫‪.)7735‬‬

‫( ‪)1/714‬‬

‫حدثنا َوكِيع ‪ ،‬عن عباد بن منصور ‪ ،‬حدثنا القاسم بن محمد قال ‪ :‬سمعت أبا هريرة يقول ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ‪ ،‬فيربيها لحدكم‬
‫كما يربي أحدكم مهره ‪ -‬أو فلوه ‪ -‬حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد"‪ .‬وتصديق ذلك في كتاب ال‬
‫‪َ { :‬ي ْمحَقُ اللّهُ الرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ }‪.‬‬
‫وكذا رواه أحمد ‪ ،‬عن وكيع ‪ ،‬وهو في تفسير وكيع‪ .‬ورواه الترمذي ‪ ،‬عن أبي كُرَيْب ‪ ،‬عن‬
‫وكيع ‪ ،‬به (‪ )1‬وقال ‪ :‬حسن صحيح ‪ ،‬وكذا رواه الثوري عن عباد (‪ )2‬بن منصور ‪ ،‬به‪ .‬ورواه‬
‫أحمد أيضا ‪ ،‬عن خلف بن الوليد ‪ ،‬عن ابن المبارك ‪ ،‬عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن‬
‫منصور كلهما عن أبي نضرة ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬به (‪.)3‬‬
‫وقد رواه ابن جرير ‪ ،‬عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق (‪ )4‬عن عبد الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر ‪،‬‬
‫عن أيوب ‪ ،‬عن القاسم بن محمد ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إن العبد إذا تصدق من طيب ‪ ،‬يقبلها ال منه ‪ ،‬فيأخذها بيمينه ‪ ،‬ويُرَبّيها كما يربي أحدكم ُمهْره‬
‫أو فصيله (‪ )5‬وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد ال ‪ -‬أو قال ‪ :‬في كف ال ‪ -‬حتى تكون‬
‫مثل أحد ‪ ،‬فتصدقوا" (‪.)6‬‬
‫وهكذا رواه أحمد ‪ ،‬عن عبد الرزاق (‪ .)7‬وهذا طريق غريب صحيح السناد ‪ ،‬ولكن لفظه عجيب‬
‫‪ ،‬والمحفوظ ما تقدم‪ .‬وروي عن عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬فقال المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا عبد الصمد ‪ ،‬حدثنا حماد ‪ ،‬عن ثابت ‪ ،‬عن القاسم بن محمد ‪ ،‬عن عائشة أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ال ليربي لحدكم التمرة واللقمة ‪ ،‬كما يربي أحدكم فَُلوّه أو‬
‫فصيله ‪ ،‬حتى يكون مثل أحد"‪ .‬تفرد به أحمد من هذا الوجه (‪.)8‬‬
‫وقال البزار ‪ :‬حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور ‪ ،‬حدثنا إسماعيل ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬عن يحيى بن‬
‫سعيد ‪ ،‬عن عمرة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وعن الضحاك بن عثمان ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب‬
‫الطيب ‪ ،‬ول يقبل ال إل الطيب ‪ ،‬فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها ‪ ،‬كما يربي أحدكم فلوه ‪ -‬أو‬
‫وَصيفه ‪ -‬أو قال ‪ :‬فصيله" ثم قال ‪ :‬ل نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إل أبو أويس‬
‫(‪.)9‬‬
‫حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ } أي ‪ :‬ل يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ‪ ،‬ول بد من‬
‫وقوله ‪ { :‬وَاللّهُ ل ُي ِ‬
‫مناسبة في ختم هذه الية بهذه الصفة ‪ ،‬وهي أن المرابي ل يرضى بما قسم ال له من الحلل ‪،‬‬
‫ول يكتفي بما شرع له من التكسب المباح ‪ ،‬فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ‪ ،‬بأنواع‬
‫المكاسب‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪ )2/471‬وسنن الترمذي برقم (‪.)662‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن حماد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)2/404‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عن محمد بن عبد الملك زنجويه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬أو فلوه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬تفسير الطبري (‪.)6/19‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)2/268‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)6/251‬‬
‫(‪ )9‬مسند البزار برقم (‪" )931‬كشف الستار" وقال الحافظ ابن حجر ‪" :‬أبو أويس لين ‪ ،‬وقد ذكر‬
‫البزار أنه تفرد به"‪.‬‬
‫تنبيه ‪ :‬لم يقع في كشف الستار ‪" :‬عن الضحاك ‪ ،‬عن أبي هريرة" ؛ وذلك لنه مخرج في‬
‫الصحيحين فليس من الزوائد‪.‬‬

‫( ‪)1/715‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪ )278‬فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا فَ ْأذَنُوا‬
‫ن وَلَا تُظَْلمُونَ (‪ )279‬وَإِنْ كَانَ ذُو‬
‫بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِنْ تُبْتُمْ فََلكُمْ رُءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ لَا تَظِْلمُو َ‬
‫جعُونَ فِيهِ‬
‫عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َتصَ ّدقُوا خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪ )280‬وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ‬
‫ت وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ (‪)281‬‬
‫إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬

‫الخبيثة ‪ ،‬فهو جحود لما عليه من النعمة ‪ ،‬ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل‪.‬‬
‫ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم ‪ ،‬المطيعين أمره ‪ ،‬المؤدين شكره ‪ ،‬المحسنين إلى خلقه في‬
‫إقامة الصلة وإيتاء الزكاة ‪ ،‬مخبرًا عما أعد لهم من الكرامة ‪ ،‬وأنهم يوم القيامة من التبعات‬
‫ت وََأقَامُوا الصّل َة وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ َل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬
‫آمنون ‪ ،‬فقال ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫علَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ }‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫رَ ّبهِ ْم وَل َ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَذَرُوا مَا َبقِيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪ )278‬فَإِنْ لَمْ َتفْعَلُوا فَأْذَنُوا‬
‫بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِنْ تُبْتُمْ فََلكُمْ رُءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ ل َتظِْلمُونَ وَل تُظَْلمُونَ (‪ )279‬وَإِنْ كَانَ ذُو‬
‫جعُونَ فِيهِ‬
‫عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َتصَ ّدقُوا خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪ )280‬وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ‬
‫ت وَهُمْ ل ُيظَْلمُونَ (‪} )281‬‬
‫إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬
‫يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ‪ ،‬ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه ‪،‬‬
‫فقال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ } أي ‪ :‬خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا‬
‫} أي ‪ :‬اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الموال ‪ ،‬بعد هذا النذار { إِنْ كُنْتُمْ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ } أي ‪ :‬بما شرع ال لكم من تحليل البيع ‪ ،‬وتحريم الربا وغير ذلك‪.‬‬
‫وقد ذكر زيد بن أسلم ‪ ،‬وابن جُرَيج ‪ ،‬ومقاتل بن حيان ‪ ،‬والسدي ‪ :‬أن هذا السياق نزل في بني‬
‫عمرو بن عمير من ثقيف ‪ ،‬وبني المغيرة من بني مخزوم ‪ ،‬كان بينهم ربا في الجاهلية ‪ ،‬فلما‬
‫جاء السلم ودخلوا فيه ‪ ،‬طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ‪ ،‬فتشاوروا (‪ )1‬وقالت بنو المغيرة ‪ :‬ل‬
‫نؤدي الربا في السلم فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فنزلت هذه الية فكتب بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إليه ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا‬
‫اللّ َه َوذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ َت ْفعَلُوا فَ ْأذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ }‬
‫فقالوا ‪ :‬نتوب إلى ال ‪ ،‬ونذر ما بقي من الربا ‪ ،‬فتركوه كلهم‪.‬‬
‫وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ‪ ،‬لمن استمر على تعاطي الربا بعد النذار ‪ ،‬قال ابن جريج ‪ :‬قال‬
‫ابن عباس ‪ { :‬فَأْذَنُوا ِبحَ ْربٍ } أي ‪ :‬استيقنوا بحرب من ال ورسوله‪ .‬وتقدم من رواية ربيعة بن‬
‫كلثوم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬يقال يوم القيامة لكل الربا ‪ :‬خذ‬
‫سلحك للحرب‪ .‬ثم قرأ ‪ { :‬فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا فَ ْأذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ }‬
‫وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا فَأْذَنُوا ِبحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُوِلهِ } فمن‬
‫كان مقيمًا على الربا ل ينزع عنه فحق (‪ )2‬على إمام المسلمين أن يستتيبه ‪ ،‬فإن نزع وإل ضرب‬
‫عنقه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا علي بن الحسين ‪ ،‬حدثنا محمد بن بشار ‪ ،‬حدثنا عبد العلى ‪ ،‬حدثنا‬
‫هشام بن حسان ‪ ،‬عن الحسن وابن سيرين ‪ ،‬أنهما قال وال إن هؤلء الصيارفة لكلة الربا ‪،‬‬
‫وإنهم قد أذنوا بحرب من ال ورسوله ‪ ،‬ولو كان على الناس إمام عادل لستتابهم ‪ ،‬فإن تابوا وإل‬
‫وضع فيهم السلح‪ .‬وقال قتادة ‪ :‬أوعدهم ال بالقتل كما تسمعون ‪ ،‬وجعلهم بهرجا أينما أتوا (‪، )3‬‬
‫فإياكم وما خالط هذه البيوع‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فتشاجروا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪" :‬يحق"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أينما ثقفوا"‪.‬‬

‫( ‪)1/716‬‬

‫من الربا ؛ فإن ال قد أوسع الحلل وأطابه ‪ ،‬فل تلجئنكم إلى معصيته فاقة‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫وقال الربيع بن أنس ‪ :‬أوعد ال آكل الربا بالقتل‪ .‬رواه ابن جرير‪.‬‬
‫وقال السهيلي ‪ :‬ولهذا قالت عائشة لم محبة ‪ ،‬مولة زيد بن أرقم ‪ ،‬في مسألة العينة ‪ :‬أخبريه أن‬
‫جهاده مع رسول ال صلى ال عليه وسلم قد بطل ‪ ،‬إل أن يتوب ‪ ،‬فخصت الجهاد ؛ لنه ضد‬
‫قوله ‪ { :‬فَأْذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ } قال ‪ :‬وهذا المعنى ذكره كثير (‪ .)1‬قال ‪ :‬ولكن هذا‬
‫إسناده إلى عائشة ضعيف‪.‬‬
‫ثم قال تعالى ‪ { :‬وَإِنْ تُبْ ُتمْ فََلكُمْ ُرءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ ل تَظِْلمُونَ } أي ‪ :‬بأخذ الزيادة (‪ { )2‬وَل تُظَْلمُونَ‬
‫} أي ‪ :‬بوضع رؤوس الموال أيضا ‪ ،‬بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ول نقص (‪ )3‬منه‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب ‪ ،‬حدثنا عبيد ال بن موسى ‪ ،‬عن‬
‫شيبان ‪ ،‬عن شبيب بن غرقدة البارقي ‪ ،‬عن سليمان بن الحوص عن أبيه قال ‪ :‬خطب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم في حجة الوداع فقال ‪" :‬أل إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله ‪،‬‬
‫لكم رؤوس أموالكم ل تظلمون ول تظلمون ‪ ،‬وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ‪،‬‬
‫موضوع كله" كذا وجدته ‪ :‬سليمان بن الحوص‪.‬‬
‫وقد قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا الشافعي ‪ ،‬حدثنا معاذ بن المثنى ‪ ،‬أخبرنا مسدد ‪ ،‬أخبرنا أبو‬
‫الحوص ‪ ،‬حدثنا شبيب بن غرقدة ‪ ،‬عن سليمان بن عمرو ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬أل إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ‪ ،‬فلكم رؤوس أموالكم ل‬
‫تظلمون ول تظلمون" (‪.)4‬‬
‫وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة ‪ ،‬عن علي بن زيد ‪ ،‬عن أبي حُرّة (‪ )5‬الرقاشي ‪ ،‬عن عمرو‬
‫‪ -‬هو ابن خارجة ‪ -‬فذكره‪.‬‬
‫ص ّدقُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } ‪ :‬يأمر‬
‫عسْ َرةٍ فَنَظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َت َ‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِنْ كَانَ ذُو ُ‬
‫عسْ َرةٍ فَنَظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَرَة }‬
‫تعالى بالصبر على المعسر الذي ل يجد وفاء ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَإِنْ كَانَ ذُو ُ‬
‫[أي] ‪ )6( :‬ل كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين ‪ :‬إما أن تقضي وإما‬
‫أن تربي‪.‬‬
‫ص ّدقُوا‬
‫ثم يندب (‪ )7‬إلى الوضع عنه ‪ ،‬ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَأَنْ َت َ‬
‫خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي ‪ :‬وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين‪ .‬وقد وردت‬
‫الحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بذلك ‪:‬‬
‫فالحديث الول ‪ :‬عن أبي أمامة أسعد بن زرارة [النقيب] ‪ )8( ،‬قال الطبراني ‪ :‬حدثنا عبد ال بن‬
‫محمد بن شعيب الرجاني (‪ )9‬حدثنا يحيى بن حكيم المقوم ‪ ،‬حدثنا محمد بن بكر البرساني ‪ ،‬حدثنا‬
‫عبد ال بن أبي زياد ‪ ،‬حدثني عاصم بن عبيد ال ‪ ،‬عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من سره أن يظله ال يوم ل ظل إل ظله ‪ ،‬فَلْيُيَسّر على معسر‬
‫أو ليضع عنه" (‪.)10‬‬
‫حديث آخر (‪ : )11‬عن بريدة ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا عبد الوارث ‪ ،‬حدثنا محمد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬ذكره ابن بطال"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬بأخذ الربا"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬ول نقصان"‪.‬‬
‫(‪ )4‬ورواه أبو داود في السنن برقم (‪ )3334‬عن مسدد به ‪ ،‬ورواه ابن ماجة في السنن برقم (‬
‫‪ )3055‬من طريق أبي الحوص به‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬عن أبي حمزة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬ثم ندب"‪.‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬المرجاني"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المعجم الكبير (‪ )1/304‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )4/134‬عاصم ضعيف ولم يدرك‬
‫أسعد بن زرارة"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث الثاني"‪.‬‬

‫( ‪)1/717‬‬

‫بن جحادة ‪ ،‬عن سليمان بن بريدة ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬من‬
‫أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة "‪ .‬قال ‪ :‬ثم سمعته يقول ‪" :‬من أنظر معسرًا فله بكل يوم‬
‫مثله صدقة"‪ .‬قلت ‪ :‬سمعتك ‪ -‬يا رسول ال ‪ -‬تقول ‪" :‬من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله‬
‫صدقة"‪ .‬ثم سمعتك تقول ‪" :‬من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة" ؟! قال ‪" :‬له بكل يوم مثله‬
‫صدقة قبل أن يحل الدين ‪ ،‬فإذا حل الدين فأنظره ‪ ،‬فله بكل يوم مثله صدقة" (‪.)1‬‬
‫حديث آخر (‪ : )2‬عن أبي قتادة الحارث بن ربعي النصاري ‪ ،‬قال [المام] (‪ )3‬أحمد ‪ :‬حدثنا‬
‫عفان حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬أخبرنا أبو جعفر الخطمي ‪ ،‬عن محمد بن كعب القرظي ‪ :‬أن أبا‬
‫قتادة كان له دين على رجل ‪ ،‬وكان يأتيه يتقاضاه ‪ ،‬فيختبئ (‪ )4‬منه ‪ ،‬فجاء ذات يوم فخرج‬
‫صبي فسأله عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬هو في البيت يأكل خزيرة فناداه ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬اخرج ‪ ،‬فقد أخبرت‬
‫أنك هاهنا فخرج إليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما يغيبك عني ؟ فقال ‪ :‬إني معسر ‪ ،‬وليس عندي‪ .‬قال ‪ :‬آل إنك‬
‫معسر ؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬فبكى أبو قتادة ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬من‬
‫نفس عن غريمه ‪ -‬أو محا عنه ‪ -‬كان في ظل العرش يوم القيامة"‪ .‬ورواه مسلم في صحيحه (‬
‫‪.)5‬‬
‫حديث آخر (‪ : )6‬عن حذيفة بن اليمان ‪ ،‬قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ‪ :‬حدثنا الخنس أحمد بن‬
‫عمران (‪ )7‬حدثنا محمد بن فضيل ‪ ،‬حدثنا أبو مالك الشجعي ‪ ،‬عن رِبْعي بن حراش ‪ ،‬عن‬
‫حذيفة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أتى ال بعبد من عبيده يوم القيامة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ماذا عملت لي في الدنيا ؟ فقال ‪ :‬ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ‪ ،‬قالها‬
‫ثلث مرات ‪ ،‬قال العبد عند آخرها ‪ :‬يا رب ‪ ،‬إنك أعطيتني فضل مال ‪ ،‬وكنت رجل أبايع الناس‬
‫وكان من خلقي الجواز ‪ ،‬فكنت أيسر على الموسر ‪ ،‬وأنظر المعسر‪ .‬قال ‪ :‬فيقول ال ‪ ،‬عز وجل‬
‫‪ :‬أنا أحق من ييسر ‪ ،‬ادخل الجنة"‪.‬‬
‫وقد أخرجه البخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬وابن ماجه ‪ -‬من طرق ‪ -‬عن ربعي بن حراش ‪ ،‬عن حذيفة‪.‬‬
‫زاد مسلم ‪ :‬وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى ال عليه وسلم (‪ )8‬بنحوه‪ .‬ولفظ‬
‫البخاري‪.‬‬
‫حدثنا هشام بن عمار ‪ ،‬حدثنا يحيى بن حمزة ‪ ،‬حدثنا الزهري ‪ ،‬عن عبد ال بن عبد ال أنه سمع‬
‫أبا هريرة رضي ال عنه ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬كان تاجر يداين الناس ‪ ،‬فإذا‬
‫رأى معسرا قال لفتيانه ‪ :‬تجاوزوا عنه ‪ ،‬لعل ال يتجاوز عنا ‪ ،‬فتجاوز ال عنه"‪.‬‬
‫حديث آخر (‪ : )9‬عن سهل بن حنيف ‪ ،‬قال الحاكم في مستدركه ‪ :‬حدثنا أبو عبد ال محمد بن‬
‫يعقوب ‪ ،‬حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ‪ ،‬حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ‪ ،‬حدثنا عمرو بن‬
‫ثابت ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن محمد بن عقيل ‪ ،‬عن عبد ال بن سهل بن حنيف ‪ ،‬أن سهل حدثه ‪ ،‬أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من أعان مجاهدًا في سبيل ال أو غازيا ‪ ،‬أو غارما في‬
‫عسرته ‪ ،‬أو مكاتبًا في‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)5/360‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث الثالث"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬فيختفي"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )5/308‬ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث الرابع"‪.‬‬
‫(‪ )7‬هو أحمد بن عمران الخنسى ‪ ،‬والخنسى نسبة انظر ‪ :‬الجرح والتعديل (‪.)2/64‬‬
‫(‪ )8‬صحيح البخاري برقم (‪ )3451 ، 2707 ، 2391‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1560‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث الخامس"‪.‬‬

‫( ‪)1/718‬‬

‫رقبته ‪ ،‬أظله ال (‪ )1‬يوم ل ظل إل ظله" ثم قال ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)2‬‬
‫حديث آخر (‪ : )3‬عن عبد ال بن عمر ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا محمد بن عبيد ‪ ،‬عن يوسف بن‬
‫صهيب ‪ ،‬عن زيد العمي ‪ ،‬عن ابن عمر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من أراد أن‬
‫تستجاب دعوته ‪ ،‬وأن تكشف كربته ‪ ،‬فليفرج عن معسر" ‪ ،‬انفرد به أحمد (‪.)4‬‬
‫حديث آخر (‪ : )5‬عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون ‪،‬‬
‫أخبرنا أبو مالك ‪ ،‬عن ربعي بن حراش ‪ ،‬عن حذيفة ‪ ،‬أن رجل أتى به ال عز وجل ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل ‪ :‬ما عملت مثقال ذرة من خير أرجوك بها ‪ ،‬فقالها له ثلثا‬
‫‪ ،‬وقال في الثالثة ‪ :‬أي رب كنت أعطيتني فضل من المال في الدنيا ‪ ،‬فكنت أبايع الناس ‪ ،‬فكنت‬
‫أتيسر على الموسر ‪ ،‬وأنظر المعسر‪ .‬فقال تبارك وتعالى (‪ )6‬نحن أولى بذلك منك ‪ ،‬تجاوزوا‬
‫عن عبدي‪ .‬فغفر له‪ .‬قال أبو مسعود ‪ :‬هكذا سمعت من النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهكذا رواه‬
‫مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به (‪.)7‬‬
‫حديث آخر (‪ : )8‬عن عمران بن حصين ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أسود بن عامر ‪ ،‬أخبرنا أبو‬
‫بكر ‪ ،‬عن العمش ‪ ،‬عن أبي داود ‪ ،‬عن عمران بن حصين قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬من كان له على رجل حق فأخره (‪ )9‬كان له بكل يوم صدقة" (‪.)10‬‬
‫غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه‪.‬‬
‫حديث آخر (‪ : )11‬عن أبي اليسر كعب بن عمرو ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا معاوية بن عمرو ‪،‬‬
‫حدثنا زائدة ‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير ‪ ،‬عن ربعي ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثني أبو اليسر ‪ ،‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬في ظله يوم ل‬
‫ظل إل ظله" (‪.)12‬‬
‫وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر ‪ ،‬من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من النصار قبل أن يهلكوا ‪ ،‬فكان أول من لقينا‬
‫أبا اليسر صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ومعه غلم له معه ضمامة من صحف ‪،‬‬
‫وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ‪ ،‬وعلى غلمه بردة ومعافري فقال له أبي ‪ :‬يا عم ‪ ،‬إني أرى‬
‫في وجهك سفعة من غضب ؟ قال أجل ‪ ،‬كان لي على فلن بن فلن الحرامي (‪ )13‬مال ‪ ،‬فأتيت‬
‫أهله فسلمت ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أثم هو ؟ قالوا ‪ :‬ل فخرج علي ابن له جفر فقلت ‪ :‬أين أبوك ؟ فقال ‪ :‬سمع‬
‫صوتك فدخل أريكة أمي‪ .‬فقلت ‪ :‬اخرج إلي فقد علمت أين أنت ؟ فخرج ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما حملك على‬
‫أن اختبأت مني ؟ قال ‪ :‬أنا وال أحدثك ثم ل أكذبك ؛ خشيت (‪ - )14‬وال ‪ -‬أن أحدثك فأكذبك ‪،‬‬
‫وأن أعدك فأخلفك ‪ ،‬وكنت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أظله ال في ظله"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المستدرك (‪ ، )2/217‬وتعقبه الذهبي في التلخيص‪ .‬قلت ‪" :‬بل فيه عمرو بن ثابت وهو‬
‫رافضي متروك"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث السادس"‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)2/23‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث السابع"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪" :‬فقال تعالى وتبارك"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )4/118‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1560‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث الثامن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪" :‬حق فمن أخره"‪.‬‬
‫(‪ )10‬المسند (‪.)4/442‬‬
‫(‪ )11‬في ج ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث التاسع"‪.‬‬
‫(‪ )12‬المسند (‪.)3/427‬‬
‫(‪ )13‬في أ ‪" :‬الحراني" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬الحزامي"‪.‬‬
‫(‪ )14‬في جـ ‪" :‬خفت"‪.‬‬

‫( ‪)1/719‬‬

‫صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكنت ‪ -‬ال ‪ -‬معسرًا قال ‪ :‬قلت ‪ :‬آل ؟ قال ‪ :‬قلتُ ‪:‬‬
‫آل ‪ ،‬قال ‪ :‬الِ‪ .‬قلتُ ‪ :‬آل ؟ قال ‪ :‬ال‪ .‬قال ‪ :‬فأتى بصحيفته فمحاها بيده ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فإن وجدت‬
‫قضاء فاقضني ‪ ،‬وإل فأنت في حل ‪ ،‬فأشهد بصر عيني ‪ -‬ووضع أصبعيه على عينيه ‪ -‬وسمع‬
‫أذني هاتين ‪ ،‬ووعاه قلبي ‪ -‬وأشار إلى مناط (‪ )1‬قلبه ‪ -‬رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫يقول ‪" :‬من أنظر معسرًا ‪ ،‬أو وضع عنه أظله ال في ظله"‪ .‬وذكر تمام الحديث (‪.)2‬‬
‫حديث آخر (‪ : )3‬عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ‪ ،‬قال عبد ال بن المام أحمد [في مسند‬
‫أبيه] (‪ )4‬حدثني (‪ )5‬أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحيم ‪ ،‬حدثنا الحسن بن بشر بن سلم‬
‫الكوفي ‪ ،‬حدثنا العباس بن الفضل النصاري ‪ ،‬عن هشام بن زياد القرشي ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن‬
‫محجن مولى عثمان ‪ ،‬عن عثمان ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت رسول ال ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫"أظل ال عينا في ظله ‪ ،‬يوم ل ظل إل ظله من أنظر معسرًا ‪ ،‬أو ترك لغارم" (‪.)6‬‬
‫حديث آخر (‪ : )7‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد ال بن يزيد ‪ ،‬حدثنا نوح بن‬
‫جعونة السلمي الخراساني ‪ ،‬عن مقاتل بن حيان ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬خرج‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المسجد ‪ ،‬وهو يقول بيده هكذا ‪ -‬وأومأ عبد الرحمن بيده إلى‬
‫الرض ‪" : -‬من أنظر معسرًا أو وضع له ‪ ،‬وقاه ال من فيح جهنم ‪ ،‬أل إن عمل الجنة حزن‬
‫بربوة ‪ -‬ثلثًا ‪ -‬أل إن عمل النار سهل بسهوة ‪ ،‬والسعيد من وقي الفتن ‪ ،‬وما من جرعة أحب‬
‫إلى ال من جرعة غيظ يكظمها عبد ‪ ،‬ما كظمها عبد ل إل مل ال جوفه إيمانًا" تفرد به أحمد (‬
‫‪.)8‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال الطبراني ‪ :‬حدثنا أحمد بن محمد البُورَاني قاضي الحَدِيَثة من ديار ربيعة ‪،‬‬
‫حسَين بن علي الصّدَائي ‪ ،‬حدثنا الحكم بن الجارود ‪ ،‬حدثنا ابن أبي المتئد ‪ -‬خال ابن‬
‫حدثنا ال ُ‬
‫عيينة ‪ -‬عن أبيه ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من أنظر معسرًا إلى ميسرته أنظره ال بذنبه إلى توبته" (‪.)9‬‬
‫ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الموال وغيرها ‪ ،‬وإتيان (‪)10‬‬
‫الخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ‪ ،‬ومجازاته إياهم بما كسبوا من‬
‫جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا‬
‫خير وشر ‪ ،‬ويحذرهم عقوبته ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَاتّقُوا َي ْومًا تُرْ َ‬
‫ظَلمُونَ }‬
‫ت وَهُمْ ل يُ ْ‬
‫كَسَ َب ْ‬
‫وقد روي أن هذه الية آخرُ آية نزلت من القرآن العظيم ‪ ،‬فقال ابن َلهِيعة ‪ :‬حدثني عطاء بن‬
‫جعُونَ فِيهِ‬
‫دينار ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬قال ‪ :‬آخر ما نزل من القرآن كله (‪ { )11‬وَا ّتقُوا َي ْومًا تُ ْر َ‬
‫ت وَهُمْ ل ُيظَْلمُونَ } وعاش النبي صلى ال عليه وسلم بعد‬
‫إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬
‫نزول هذه الية تسع ليال ‪ ،‬ثم مات يوم الثنين ‪ ،‬لليلتين خلتا من ربيع الول‪ .‬رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬إلى نياط"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)306‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث العاشر"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬حدثنا"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زوائد المسند (‪.)1/73‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬الحديث الحادي عشر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬المسند (‪.)1/327‬‬
‫(‪ )9‬المعجم الكبير (‪ ، )11/151‬وقال الهيثمي في المجمع (‪" : )4/135‬وفيه الحكم بن جارود‬
‫ضعفه الزدي ‪ ،‬وشيخ الحكم وشيخ شيخه لم أعرفهما"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬وإيثار"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪" :‬من القرآن العظيم"‪.‬‬

‫( ‪)1/720‬‬

‫وقد رواه ابن مَرْدُويه من حديث المسعودي ‪ ،‬عن حبيب بن أبي ثابت ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن‬
‫جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ }‬
‫ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬آخر آية نزلت ‪ { :‬وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ‬
‫وقد رواه النسائي ‪ ،‬من حديث يزيد النحوي ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن عبد ال بن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬آخر‬
‫ت وَهُمْ‬
‫جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬
‫شيء (‪ )1‬نزل من القرآن ‪ { :‬وَاتّقُوا َي ْومًا تُ ْر َ‬
‫ل ُيظَْلمُونَ } (‪.)2‬‬
‫وكذا رواه الضحاك ‪ ،‬وال َعوْفي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬وروى الثوري ‪ ،‬عن الكلبي ‪ ،‬عن أبي صالح ‪،‬‬
‫جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } فكان بين‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬آخر آية أنزلت (‪ { : )3‬وَا ّتقُوا َي ْومًا تُ ْر َ‬
‫نزولها [وبين] (‪ )4‬موت النبي صلى ال عليه وسلم واحد وثلثون يومًا‪.‬‬
‫جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } الية‪.‬‬
‫وقال ابن جريج ‪ :‬قال ابن عباس ‪ :‬آخر آية نزلت ‪ { :‬وَا ّتقُوا َي ْومًا تُرْ َ‬
‫قال ابن جريج ‪ :‬يقولون ‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال ‪ ،‬وبدئ (‪ )5‬يوم‬
‫السبت ومات يوم الثنين ‪ ،‬رواه ابن جرير‪.‬‬
‫جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى‬
‫ورواه عطية عن أبي سعيد ‪ ،‬قال ‪ :‬آخر آية أنزلت ‪ { :‬وَاتّقُوا َي ْومًا تُ ْر َ‬
‫ت وَ ُه ْم ل ُيظَْلمُونَ }‪.‬‬
‫ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬آخر ما نزل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن النسائي الكبرى برقم (‪.)11057‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬نزلت"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في و ‪" :‬ومرض"‪.‬‬

‫( ‪)1/721‬‬

‫سمّى فَاكْتُبُو ُه وَلْ َيكْ ُتبْ بَيْ َن ُكمْ كَا ِتبٌ بِا ْل َع ْدلِ وَلَا يَ ْأبَ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ‬
‫ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِ ْنهُ شَيْئًا‬
‫حّ‬‫ب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ‬
‫كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ‬
‫ش ِهدُوا‬
‫ل وَاسْتَ ْ‬
‫ضعِيفًا َأوْ لَا َيسْتَطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْللْ وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْد ِ‬
‫سفِيهًا َأ ْو َ‬
‫فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ‬
‫ضلّ‬
‫شهَدَاءِ أَنْ َت ِ‬
‫ل وَامْرَأَتَانِ ِممّنْ تَ ْرضَوْنَ مِنَ ال ّ‬
‫جٌ‬‫شهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُمْ فَإِنْ لَمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَ ُ‬
‫َ‬
‫صغِيرًا َأوْ‬
‫شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا َتسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ‬
‫حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الْأُخْرَى وَلَا يَ ْأبَ ال ّ‬
‫إِ ْ‬
‫شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَلّا تَرْتَابُوا إِلّا أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةً‬
‫سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ‬
‫كَبِيرًا إِلَى أَجَِلهِ ذَِل ُكمْ َأقْ َ‬
‫شهِيدٌ وَإِنْ‬
‫ب وَلَا َ‬
‫شهِدُوا ِإذَا تَبَا َيعْتُ ْم وَلَا ُيضَارّ كَا ِت ٌ‬
‫تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَلّا َتكْتُبُوهَا وَأَ ْ‬
‫علِيمٌ (‪)282‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ ُفسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬

‫ل وَل يَ ْأبَ‬
‫سمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْ َيكْ ُتبْ بَيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْد ِ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا َتدَايَنْتُمْ ِبدَيْنٍ إِلَى أَ َ‬
‫ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَل يَ ْبخَسْ مِنْهُ شَيْئًا‬
‫حّ‬‫ب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ‬
‫كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ‬
‫شهِدُوا‬
‫ل وَلِيّهُ بِا ْل َع ْدلِ وَاسْ َت ْ‬
‫ضعِيفًا َأوْ ل يَسْ َتطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْل ْ‬
‫سفِيهًا َأ ْو َ‬
‫فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ‬
‫ضلّ‬
‫شهَدَاءِ أَنْ َت ِ‬
‫ل وَامْرَأَتَانِ ِممّنْ تَ ْرضَوْنَ مِنَ ال ّ‬
‫جٌ‬‫شهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُمْ فَإِنْ لَمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَ ُ‬
‫َ‬
‫صغِيرًا َأوْ‬
‫شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَل تَسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُو ُه َ‬
‫حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الخْرَى وَل يَ ْأبَ ال ّ‬
‫إِ ْ‬
‫شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا إِل أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةً‬
‫سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ‬
‫كَبِيرًا إِلَى أَجَِلهِ ذَِل ُكمْ َأقْ َ‬
‫شهِي ٌد وَإِنْ‬
‫ب وَل َ‬
‫شهِدُوا إِذَا تَبَا َيعْ ُت ْم وَل ُيضَارّ كَا ِت ٌ‬
‫تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَل َتكْتُبُوهَا وََأ ْ‬
‫علِيمٌ (‪} )282‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ ُفسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫هذه الية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ‪ ،‬وقد قال المام أبو جعفر بن جرير ‪:‬‬
‫حدثنا يونس ‪ ،‬أخبرنا (‪ )1‬ابن وهب ‪ ،‬أخبرني يونس ‪ ،‬عن ابن شهاب قال ‪ ،‬حدثني سعيد بن‬
‫المسيب ‪ :‬أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدّيْن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬أنبأنا"‪.‬‬
‫( ‪)1/721‬‬

‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن علي بن زيد ‪ ،‬عن يوسف بن‬
‫ِمهْران ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬لما نزلت آية الدين قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن‬
‫أول من جحد آدم ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬أن ال لما خلق آدم ‪ ،‬مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى‬
‫يوم القيامة ‪ ،‬فجعل يعرض ذريته عليه ‪ ،‬فرأى فيهم رجل يَزْهر ‪ ،‬فقال ‪ :‬أي رب ‪ ،‬من هذا ؟‬
‫قال ‪ :‬هو ابنك داود‪ .‬قال ‪ :‬أي رب ‪ ،‬كم عمره ؟ قال ‪ :‬ستون عامًا ‪ ،‬قال ‪ :‬رب زد في عمره‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ل إل أن أزيده من عمرك‪ .‬وكان عمر آدم ألف سنة ‪ ،‬فزاده أربعين عامًا ‪ ،‬فكتب عليه‬
‫بذلك كتابا وأشهد عليه الملئكة ‪ ،‬فلما احتُضر آدم وأتته الملئكة قال ‪ :‬إنه قد بقي من عمري‬
‫أربعون عامًا ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إنك قد وهبتها لبنك داود‪ .‬قال ‪ :‬ما فعلت‪ .‬فأبرز ال عليه الكتاب ‪،‬‬
‫وأشهد عليه الملئكة"‪.‬‬
‫وحدثنا أسود بن عامر ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬فذكره ‪ ،‬وزاد فيه ‪" :‬فأتمها ال لداود مائة ‪ ،‬وأتمها‬
‫لدم ألف سنة" (‪.)1‬‬
‫وكذا رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬عن يوسف بن حبيب ‪ ،‬عن أبي داود الطيالسي ‪ ،‬عن حماد بن سلمة‬
‫[به] (‪.)2‬‬
‫هذا حديث غريب جدا ‪ ،‬وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة‪ .‬وقد رواه الحاكم في‬
‫مستدركه بنحوه ‪ ،‬من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب (‪ )3‬عن سعيد المقبري ‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة‪ .‬ومن رواية داود بن أبي هند ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن أبي هريرة‪ .‬ومن طريق محمد بن‬
‫عمرو ‪ ،‬عن أبي سلمة ‪ ،‬عن أبي هريرة‪ .‬ومن حديث هشام (‪ )4‬بن سعد ‪ ،‬عن زيد بن أسلم ‪،‬‬
‫عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكره بنحوه (‪.)5‬‬
‫سمّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫فقوله ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَ َ‬
‫المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملت مؤجلة أن يكتبوها ‪ ،‬ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها ‪ ،‬وأضبط‬
‫شهَا َدةِ‬
‫سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ‬
‫للشاهد فيها ‪ ،‬وقد نبه على هذا في آخر الية حيث قال ‪ { :‬ذَِلكُمْ َأقْ َ‬
‫وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا }‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس في قوله ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫سمّى فَاكْتُبُوهُ } قال ‪ :‬أنزلت في السّلَم إلى أجل معلوم‪.‬‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ‬
‫وقال قتادة ‪ ،‬عن أبي حَسّان (‪ )6‬العرج ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬أشهد أن السلف المضمون إلى‬
‫جلٍ‬
‫أجل مسمى أن ال أحله وأذن فيه ‪ ،‬ثم قرأ ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ‬
‫سمّى } رواه البخاري‪.‬‬
‫مُ َ‬
‫وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة ‪ ،‬عن ابن أبي نَجيح ‪ ،‬عن عبد ال بن كثير ‪،‬‬
‫عن أبي المِنْهال ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قدم النبي صلى ال عليه وسلم المدينة وهم ُيسْلفُون في‬
‫الثمار السنتين والثلث ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من أسلف فليسلف في كيل معلوم‬
‫‪ ،‬ووزن معلوم ‪ ،‬إلى أجل معلوم" (‪.)7‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المسند (‪.)252 ، 1/251‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬بن أبي ذئاب"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬تمام"‪.‬‬
‫(‪ )5‬المستدرك (‪.)2/586 ، 1/64‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬أبي حيان"‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )2240‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1604‬‬

‫( ‪)1/722‬‬

‫وقوله ‪ { :‬فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [والحالة هذه] (‪ )1‬للتوثقة والحفظ ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬فقد ثبت‬
‫في الصحيحين ‪ ،‬عن عبد ال بن عمر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إنا أمّة أمية ل‬
‫نكتب ول نحسب" (‪ )2‬فما الجمع بينه وبين المر بالكتابة ؟ فالجواب ‪ :‬أن الدّين من حيث هو‬
‫غير مفتقر إلى كتابة أصل ؛ لن كتاب ال قد سَهل ال ويسر حفظه على الناس ‪ ،‬والسنن أيضًا‬
‫محفوظة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬والذي أمر ال بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع‬
‫بين الناس ‪ ،‬فأمروا أمْر إرشاد ل أمر إيجاب ‪ ،‬كما ذهب إليه بعضهم‪.‬‬
‫قال ابن جريج ‪ :‬من ادّان فليكتب ‪ ،‬ومن ابتاع فل ُيشْهد‪.‬‬
‫وقال قتادة ‪ :‬ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ ‪ ،‬كان رجل صحب كعبا ‪ ،‬فقال ذات يوم لصحابه‬
‫‪ :‬هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا ‪ :‬وكيف [يكون] (‪ )3‬ذلك ؟ قال ‪ :‬رجل باع‬
‫بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب ‪ ،‬فلما حل ماله جحده صاحبه ‪ ،‬فدعا ربه فلم يستجب له ؛ لنه‬
‫قد عصى ربه‪.‬‬
‫وقال أبو سعيد ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وابن جريج ‪ ،‬وابن زيد ‪ ،‬وغيرهم ‪:‬‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ }‬
‫كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله ‪ { :‬فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا يونس بن محمد ‪ ،‬حدثنا ليث ‪ ،‬عن جعفر بن ربيعة ‪ ،‬عن عبد الرحمن‬
‫بن هُ ْرمُز ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه ذكر "أن رجل من بني‬
‫إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن ُيسْلفه ألف دينار ‪ ،‬فقال ‪ :‬ائتني بشهداء أشهدهم‪ .‬قال ‪ :‬كفى‬
‫بال شهيدًا‪ .‬قال ‪ :‬ائتني بكفيل‪ .‬قال ‪ :‬كفى بال كفيل‪ .‬قال ‪ :‬صدقت‪ .‬فدفعها إليه إلى أجل مسمى ‪،‬‬
‫فخرج في البحر فقضى حاجته ‪ ،‬ثم التمس مركبًا يقدم عليه للجل الذي أجله ‪ ،‬فلم يجد مركبًا ‪،‬‬
‫فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ‪ ،‬ثم زَجج موضعها ‪ ،‬ثم‬
‫أتى بها البحر ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلنًا ألف دينار ‪ ،‬فسألني كفيل فقلت ‪:‬‬
‫كفى بال كفيل‪ .‬فرضي بذلك ‪ ،‬وسألني شهيدًا ‪ ،‬فقلت ‪ :‬كفى بال شهيدًا‪ .‬فرضي بذلك ‪ ،‬وإني قد‬
‫جهِ ْدتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا ‪ ،‬وإني اسْ َتوْدعْ ُتكَها‪ .‬فرمى بها‬
‫َ‬
‫في البحر حتى ولجت فيه ‪ ،‬ثم انصرف ‪ ،‬وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده ‪ ،‬فخرج الرجل‬
‫الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله ‪ ،‬فإذا بالخشبة التي فيها المال ‪ ،‬فأخذها لهله حطبًا‬
‫فلما كسرها وجد المال والصحيفة ‪ ،‬ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه ‪ ،‬فأتاه بألف دينار وقال ‪:‬‬
‫وال ما زلت جاهدًا في طلب مركب لتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه‪ .‬قال ‪ :‬هل‬
‫كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال ‪ :‬ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال ‪ :‬فإن‬
‫ال قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ‪ ،‬فانصرف بألفك راشدًا"‪.‬‬
‫وهذا إسناد صحيح (‪ )4‬وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة (‪ )5‬معلقًا بصيغة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )1913‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1080‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬المسند (‪.)2/348‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬في صحيحه"‪.‬‬

‫( ‪)1/723‬‬

‫الجزم ‪ ،‬فقال ‪ :‬وقال الليث بن سعد ‪ ،‬فذكره (‪ .)1‬ويقال ‪ :‬إنه رواه في بعضها عن عبد ال بن‬
‫صالح كاتب الليث ‪ ،‬عنه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬لْ َيكْ ُتبْ بَيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْدلِ } أي ‪ :‬بالقسط والحق ‪ ،‬ول َيجُرْ في كتابته على أحد ‪ ،‬ول‬
‫يكتب إل ما اتفقوا عليه من غير زيادة ول نقصان‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُتبْ } أي ‪ :‬ول يمتنع من يعرف الكتابة إذا‬
‫سُئِل أن يكتبَ للناس ‪ ،‬ول ضرورة عليه في ذلك ‪ ،‬فكما علمه ال ما لم يكن يعلم ‪ ،‬فَلْيتصدق على‬
‫غيره ممن ل يحسن الكتابة وليكتب ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪" :‬إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو‬
‫تصنع لخْرَق" (‪ .)2‬وفي الحديث الخر ‪" :‬من كتم علمًا َيعْلَمه أ ْلجِمَ يوم القيامة بلجام من نار" (‬
‫‪.)3‬‬
‫وقال مجاهد وعطاء ‪ :‬واجب على الكاتب أن يكتب‪.‬‬
‫ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } أي ‪ :‬وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَ ّ‬
‫من الدين ‪ ،‬وليتق ال في ذلك ‪ { ،‬وَل يَ ْبخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي ‪ :‬ل يكتم منه شيئًا ‪ { ،‬فَإِنْ كَانَ الّذِي‬
‫ضعِيفًا } أي ‪ :‬صغيرًا أو مجنونًا { َأ ْو ل‬
‫سفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه ‪َ { ،‬أوْ َ‬
‫عَلَيْهِ ا ْلحَقّ َ‬
‫يَسْ َتطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه‪ { .‬فَلْ ُيمِْللْ وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْدلِ }‬
‫شهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُم } أمْرٌ بالشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ‪ { ،‬فَإِنْ َلمْ َيكُونَا‬
‫شهِدُوا َ‬
‫وقوله { وَاسْ َت ْ‬
‫ل وَامْرَأَتَانِ } وهذا إنما يكون في الموال وما يقصد به المال ‪ ،‬وإنما أقيمت المرأتان‬
‫جٌ‬‫رَجُلَيْنِ فَ َر ُ‬
‫مقام الرجل لنقصان عقل المرأة ‪ ،‬كما قال مسلم في صحيحه ‪ :‬حدثنا قتيبة ‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن‬
‫عمْرو ‪ ،‬عن ال َمقْبُري ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه‬
‫جعفر ‪ ،‬عن عمرو بن أبي َ‬
‫وسلم أنه قال ‪" :‬يا معشر النساء ‪ ،‬تصدقن وأكثرن الستغفار ‪ ،‬فإني رأيتكُن أكثر أهل النار" ‪،‬‬
‫فقالت امرأة منهن جَزْلة ‪ :‬وما لنا ‪ -‬يا رسول ال ‪ -‬أكثر أهل النار (‪ )4‬؟ قال ‪ُ " :‬تكْثرْنَ اللعن ‪،‬‬
‫وتكفُرْنَ العشير ‪ ،‬ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن"‪ .‬قالت ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫ما نقصان العقل والدين ؟ قال ‪" :‬أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين َتعْدل شهادة رجل ‪ ،‬فهذا‬
‫نقصان العقل ‪ ،‬وتمكث الليالي ل تصلي ‪ ،‬وتفطر في رمضان ‪ ،‬فهذا نقصان الدين" (‪.)5‬‬
‫شهَدَاءِ } فيه دللة على اشتراط العدالة في الشهود ‪ ،‬وهذا مقيّد ‪،‬‬
‫ضوْنَ مِنَ ال ّ‬
‫وقوله ‪ { :‬م ِممّنْ تَ ْر َ‬
‫حكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن ‪ ،‬من المر بالشهاد من غير اشتراط‪ .‬وقد استدل من‬
‫َ‬
‫رد المستور بهذه الية الدالة على أن يكون الشاهد عدل مرضيًا‪.‬‬
‫حدَا ُهمَا الخْرَى } أي ‪:‬‬
‫ضلّ ِإحْدَا ُهمَا } يعني ‪ :‬المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَ ُت َذكّرَ إِ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬أَنْ َت ِ‬
‫يحصل لها ذكرى بما وقع به الشهاد ‪ ،‬ولهذا قرأ آخرون ‪" :‬فَتُذكر" بالتشديد من التذكار‪ .‬ومن قال‬
‫‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪.)2063 ، 6261 ، 2744 ، 2430 ، 2404 ، 2291 ، 1498‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )2518‬من حديث أبي ذر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد في المسند (‪ )2/304‬من حديث أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬يا رسول ال وما لنا أكثر أهل النار"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪.)80‬‬

‫( ‪)1/724‬‬

‫إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر (‪ )1‬فقد أبعد ‪ ،‬والصحيح الول‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل ‪ :‬معناه ‪ :‬إذا دعوا للتحمل فعليهم الجابة ‪ ،‬وهو‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل يَ ْأبَ ال ّ‬
‫قول قتادة والربيع بن أنس‪ .‬وهذا كقوله ‪ { :‬وَل يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُتبْ } ومن‬
‫حمّل الشهادة فرض كفاية‪.‬‬
‫هاهنا استفيد أن َت َ‬
‫شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } للداء ‪ ،‬لحقيقة‬
‫وقيل ‪ -‬وهو مذهب الجمهور ‪ : -‬المراد بقوله ‪ { :‬وَل يَ ْأبَ ال ّ‬
‫شهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن (‪ )2‬تحمّل ‪ ،‬فإذا دعي لدائها (‪ )3‬فعليه الجابة إذا تعينت‬
‫قوله ‪ { :‬ال ّ‬
‫وإل فهو فرض كفاية ‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫وقال مجاهد وأبو مِجْلَز ‪ ،‬وغير واحد ‪ :‬إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ‪ ،‬وإذا شهدت فدعيت (‪)4‬‬
‫فأجب‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن ‪ ،‬من طريق مالك ‪ ،‬عن عبد ال بن أبي بكر بن محمد بن‬
‫عمْرَة ‪،‬‬
‫عمرو بن حَزْم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو بن عثمان ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي َ‬
‫عن زيد بن خالد ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬أل أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي‬
‫يأتي بشهادته قبل أن يسألها" (‪.)5‬‬
‫فأما الحديث الخر في الصحيحين ‪" :‬أل أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن‬
‫شهَدوا" ‪ ،‬وكذا قوله ‪" :‬ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم وتسبق شهادَتُهم أيمانهم"‪ .‬وفي رواية‬
‫يُستْ ْ‬
‫شهَدون" (‪ .)6‬فهؤلء شهود الزور‪ .‬وقد روي عن ابن عباس‬
‫ش َهدُون ول يُسْ َت ْ‬
‫‪" :‬ثم يأتي قوم يَ ْ‬
‫حمّل والداء‪.‬‬
‫والحسن البصري ‪ :‬أنها تعم الحالين ‪ :‬الت َ‬
‫صغِيرًا َأوْ كَبِيرًا ِإلَى َأجَلِه } هذا من تمام الرشاد ‪ ،‬وهو المر‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل تَسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ‬
‫بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا ‪ ،‬فقال ‪ { :‬وَل تَسَْأمُوا } أي ‪ :‬ل تملوا أن تكتبوا الحق على أي‬
‫حال كان من القلة والكثرة { إلى أجله }‬
‫شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا } أي ‪ :‬هذا الذي أمرناكم به من‬
‫سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ‬
‫وقوله { ذَِلكُمْ َأقْ َ‬
‫شهَا َدةِ } أي ‪ :‬أثبت‬
‫سطُ عِنْدَ اللّهِ } أي ‪ :‬أعدل { وََأ ْقوَمُ لِل ّ‬
‫الكتابة للحق إذا كان مؤجل هو { َأقْ َ‬
‫للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ‪ ،‬لحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ‪ ،‬كما هو الواقع‬
‫غالبًا { وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة ‪ ،‬بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي‬
‫كتبتموه ‪ ،‬فيفصل بينكم بل ريبة‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬إِل أَنْ َتكُونَ تِجَا َرةً حَاضِ َرةً تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَل َتكْتُبُوهَا } أي ‪ :‬إذا‬
‫كان البيع بالحاضر يدا بيد ‪ ،‬فل بأس بعدم الكتابة لنتفاء المحذور في تركها‪.‬‬
‫شهِدُوا إِذَا تَبَا َيعْتُم } قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبو‬
‫فأما الشهاد على البيع ‪ ،‬فقد قال تعالى ‪ { :‬وَأَ ْ‬
‫زُرْعَة ‪ ،‬حدثني يحيى بن عبد ال بن ُبكَيْر ‪ ،‬حدثني ابن َلهِيعة ‪ ،‬حدثني عطاء بن دينار ‪ ،‬عن‬
‫سعيد بن جبير‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬كشهادة رجل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬فقد"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬فإن دعى إلى الدلء بها"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬وإذا دعيت"‪.‬‬
‫(‪ )5‬صحيح مسلم برقم (‪ )1719‬وسنن أبي داود برقم (‪ )3596‬وسنن الترمذي برقم (‪، 2295‬‬
‫‪ )2296‬وسنن النسائي الكبرى برقم (‪ )6029‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2364‬‬
‫(‪ )6‬صحيح البخاري برقم (‪ )6428‬وصحيح مسلم برقم (‪.)2535‬‬

‫( ‪)1/725‬‬

‫شهِدُوا إِذَا تَبَا َيعْتُم } يعني ‪ :‬أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن ‪،‬‬
‫في قول ال ‪ { :‬وَأَ ْ‬
‫فأشهدوا على حقكم على كل حال‪ .‬قال ‪ :‬وروي عن جابر بن زيد ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعطاء ‪،‬‬
‫والضحاك ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ‬
‫وقال الشعبي والحسن ‪ :‬هذا المر منسوخ بقوله ‪ { :‬فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫َأمَانَتَهُ }‬
‫وهذا المر محمول عند الجمهور على الرشاد والندب ‪ ،‬ل على الوجوب‪ .‬والدليل على ذلك‬
‫حديث خُزَيمة بن ثابت النصاري ‪ ،‬وقد رواه المام أحمد ‪:‬‬
‫حدثنا أبو اليمان ‪ ،‬حدثنا شعيب ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬حدثني عمَارة بن خزيمة النصاري ‪ ،‬أن عمه‬
‫حدثه ‪ -‬وهو من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم ابتاع فرسًا من‬
‫أعرابي ‪ ،‬فاستتبعه النبي صلى ال عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ‪ ،‬فأسرع النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم وأبطأ العرابي ‪ ،‬فطفق رجال يعترضون العرابي فيساومونه بالفرس ‪ ،‬ول يشعرون أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ابتاعه ‪ ،‬حتى زاد بعضهم العرابي في السوم على ثمن الفرس الذي‬
‫ابتاعه النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فنادى العرابي النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬إن كنت‬
‫مبتاعًا هذا الفرس فاب َتعْه ‪ ،‬وإل بعتُه ‪ ،‬فقام النبي صلى ال عليه وسلم حين سمع نداء العرابي ‪،‬‬
‫قال ‪" :‬أو ليس قد ابتعته منك ؟ " قال العرابي ‪ :‬ل وال ما بعتك‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬بل (‪ )1‬قد ابتعته منك"‪ .‬فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى ال عليه وسلم والعرابي وهما‬
‫يتراجعان ‪ ،‬فطفق العرابي يقول ‪ :‬هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك‪ .‬فمن جاء من المسلمين قال‬
‫للعرابي ‪ :‬ويلك! إن النبي (‪ )2‬صلى ال عليه وسلم لم يكن يقول إل حقًا‪ .‬حتى جاء خزَيْمة ‪،‬‬
‫فاستمع لمراجعة النبي صلى ال عليه وسلم ومراجعة العرابي يقول (‪ )3‬هلم شهيدًا يشهد أني (‬
‫‪ )4‬بايعتك‪ .‬قال خزيمة ‪ :‬أنا أشهد أنك قد بايعته‪ .‬فأقبل النبي صلى ال عليه وسلم على خزيمة‬
‫فقال ‪" :‬بم تشهد ؟" فقال ‪ :‬بتصديقك يا رسول ال‪ .‬فجعل رسولُ ال صلى ال عليه وسلم شهادة‬
‫خُزَيمة بشهادة رجلين‪.‬‬
‫وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب ‪ ،‬والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري (‪ )5‬كلهما‬
‫عن الزهري ‪ ،‬به (‪ )6‬نحوه‪.‬‬
‫ولكن الحتياط هو الشهاد ‪ ،‬لما رواه المامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه والحاكم في مستدركه‬
‫من رواية معاذ بن معاذ العنبري ‪ ،‬عن شعبة ‪ ،‬عن فراس ‪ ،‬عن الشعبي ‪ ،‬عن أبي بُرْدة ‪ ،‬عن‬
‫أبي موسى ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ثلثة يدعون ال فل يستجاب لهم ‪ :‬رجل له‬
‫امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ‪ ،‬ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ‪ ،‬ورجل أقرض رجل مال فلم‬
‫يُشْهد"‪.‬‬
‫ثم قال الحاكم ‪ :‬صحيح السناد على شرط الشيخين ‪ ،‬قال ‪ :‬ولم يخرجاه ‪ ،‬لتوقيف أصحاب شعبة‬
‫هذا الحديث على أبي موسى ‪ ،‬وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا السناد ‪" :‬ثلثة يؤتون‬
‫أجرهم مرتين" (‪.)7‬‬
‫شهِيدٌ } قيل ‪ :‬معناه ‪ :‬ل يضار الكاتب ول الشاهد ‪ ،‬فيكتب هذا‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل ُيضَارّ كَا ِتبٌ وَل َ‬
‫خلف ما يملي ‪ ،‬ويشهد هذا بخلف ما سمع أو يكتمها بالكلية ‪ ،‬وهو قول الحسن وقتادة‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬معناه ‪ :‬ل يضر بهما ‪ ،‬كما قال ابن أبي حاتم ‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ج ‪" :‬بلى"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في و ‪" :‬إن رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وطفق العرابي يقول"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في و ‪" :‬أني قد"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬الزبيدي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المسند (‪ )5/213‬وسنن أبي داود برقم (‪ )3607‬وسنن النسائي (‪.)7/301‬‬
‫(‪ )7‬المستدرك (‪.)2/302‬‬

‫( ‪)1/726‬‬

‫حدثنا أسيد بن عاصم ‪ ،‬حدثنا الحسين ‪ -‬يعني ابن حفص ‪ -‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن يزيد بن أبي‬
‫شهِيدٌ } قال ‪ :‬يأتي‬
‫ب وَل َ‬
‫زياد ‪ ،‬عن مقْسَم ‪ ،‬عن ابن عباس في هذه الية ‪ { :‬وَل ُيضَارّ كَا ِت ٌ‬
‫الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ‪ ،‬فيقولن ‪ :‬إنا على حاجة فيقول ‪ :‬إنكما قد أمرتما أن‬
‫تجيبا‪ .‬فليس له أن يضارهما‪.‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وروي عن عكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وعطية ‪،‬‬
‫ومقاتل بن حَيّان ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪ ،‬والسدي ‪ ،‬نحو ذلك‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَإِنْ َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ ِب ُكمْ } أي ‪ :‬إن خالفتم ما أمرتم به ‪ ،‬وفعلتم ما َنهِيتم عنه ‪ ،‬فإنه‬
‫فسق كائن بكم ‪ ،‬أي ‪ :‬لزم لكم ل تحيدون عنه ول تنفكون عنه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّهَ } أي ‪ :‬خافوه وراقبوه ‪ ،‬واتبعوا أمره واتركوا زجره (‪ { )1‬وَ ُيعَّل ُمكُمُ الُ }‬
‫ج َعلْ َلكُمْ فُ ْرقَانًا } [النفال ‪ ، ]29 :‬وكقوله ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا‬
‫كقوله { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ّتقُوا اللّهَ َي ْ‬
‫ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ } [الحديد‬
‫حمَ ِت ِه وَيَ ْ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ‬
‫‪.]28 :‬‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } أي ‪ :‬هو عالم بحقائق المور ومصالحها وعواقبها ‪ ،‬فل يخفى‬
‫وقوله ‪ { :‬وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫عليه شيء من الشياء ‪ ،‬بل علمه محيط بجميع الكائنات‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬زواجره"‪.‬‬

‫( ‪)1/727‬‬

‫ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ‬


‫سفَ ٍر وَلَمْ َتجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ َمقْبُوضَةٌ فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى َ‬
‫شهَا َد َة َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آَ ِثمٌ قَلْبُ ُه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ (‪)283‬‬
‫َأمَانَتَ ُه وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّ ُه وَلَا َتكْ ُتمُوا ال ّ‬

‫ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ‬


‫جدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ َمقْبُوضَةٌ فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫سفَرٍ وََلمْ تَ ِ‬
‫{ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى َ‬
‫شهَا َدةَ َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْ ُب ُه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ (‪} )283‬‬
‫َأمَانَتَ ُه وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّ ُه وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬
‫جدُوا كَاتِبًا }‬
‫سفَرٍ } أي ‪ :‬مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى { وَلَمْ تَ ِ‬
‫يقول تعالى ‪ { :‬وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى َ‬
‫يكتب لكم‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬أو وجدوه ولم يجد قرطاسًا أو دواة أو قلمًا فَرُهُن مقبوضة ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫فَلْيكن بدل الكتابة ِرهَان مقبوضة في يد صاحب الحق‪.‬‬
‫وقد استدل بقوله ‪ { :‬فَرِهَانٌ َمقْبُوضَة } على أن الرهن ل يلزم إل بالقبض ‪ ،‬كما هو مذهب‬
‫الشافعي والجمهور ‪ ،‬واستدل بها آخرون على أنه ل بد أن يكون الرهن مقبوضًا في يد المرتهن ‪،‬‬
‫وهو رواية عن المام أحمد ‪ ،‬وذهب إليه طائفة‪.‬‬
‫واستدل آخرون من السلف بهذه الية على أنه ل يكون الرهن مشروعا إل في السفر ‪ ،‬قاله‬
‫مجاهد وغيره‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيحين ‪ ،‬عن أنس ‪ ،‬أن رسُولَ ال صلى ال عليه وسلم تُوفّي وَدِرْعُه مرهونة‬
‫سقًا من شعير ‪ ،‬رهنها قوتًا لهله (‪ .)1‬وفي رواية ‪ :‬من يهود المدينة (‬
‫عند يهودي على ثلثين وَ ْ‬
‫‪ .)2‬وفي رواية الشافعي ‪ :‬عند أبي الشحم اليهودي (‪ .)3‬وتقرير هذه المسائل في كتاب "الحكام‬
‫الكبير" ‪ ،‬ول الحمد والمنة ‪ ،‬وبه‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )2508‬ولم أقع عليه في صحيح مسلم من حديث أنس وهو فيه من‬
‫حديث عائشة رضي ال عنها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الرواية في سنن النسائي (‪.)7/288‬‬
‫(‪ )3‬مسند الشافعي (ص ‪.)251‬‬

‫( ‪)1/727‬‬

‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ فَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ‬


‫سكُمْ َأوْ تُ ْ‬
‫ض وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)284‬‬
‫يَشَاءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫المستعان‪.‬‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ } روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد ‪ ،‬عن‬
‫وقوله ‪ { :‬فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫أبي سعيد الخدري أنه قال ‪ :‬هذه نسخت ما قبلها‪.‬‬
‫وقال الشعبي ‪ :‬إذا ائتمن بعضكم (‪ )1‬بعضًا فل بأس أل تكتبوا أو ل تُشهدوا‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّه } يعنى ‪ :‬المؤتَمن ‪ ،‬كما جاء في الحديث الذي رواه المام أحمد وأهل‬
‫سمُرة ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫السنن ‪ ،‬من رواية قتادة ‪ ،‬عن الحسن ‪ ،‬عن َ‬
‫"على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (‪.)2‬‬
‫شهَادَة } أي ‪ :‬ل تخفوها وتغلوها ول تظهروها‪ .‬قال ابن عباس وغيره ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬
‫شهادة الزور من أكبر الكبائر ‪ ،‬وكتمانها كذلك‪ .‬ولهذا قال ‪َ { :‬ومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آ ِثمٌ قَلْبُهُ } قال‬
‫شهَا َدةَ اللّهِ إِنّا ِإذًا َلمِنَ ال ِثمِينَ }‬
‫السدي ‪ :‬يعني ‪ :‬فاجر قلبه ‪ ،‬وهذه كقوله تعالى ‪ { :‬وَل َنكْ ُتمُ َ‬
‫شهَدَاءَ لِلّ ِه وََلوْ عَلَى‬
‫[المائدة ‪ ، ]106 :‬وقال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ ُ‬
‫سكُمْ َأوِ ا ْلوَالِدَيْنِ وَالقْرَبِينَ إِنْ َيكُنْ غَنِيّا َأوْ َفقِيرًا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا فَل تَتّ ِبعُوا ا ْل َهوَى أَنْ َتعْدِلُوا‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫وَإِنْ تَ ْلوُوا َأوْ ُتعْ ِرضُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء ‪ ، ]135 :‬وهكذا قال هاهنا ‪:‬‬
‫شهَا َد َة َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آ ِثمٌ قَلْبُ ُه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ }‬
‫{ وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬
‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ فَ َي ْغفِرُ‬
‫س ُكمْ َأوْ تُ ْ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫{ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪} )284‬‬
‫ِلمَنْ يَشَاءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫يخبر تعالى أن له ملك السموات والرض وما فيهن وما بينهن ‪ ،‬وأنه المطلع على ما فيهن ‪ ،‬ل‬
‫تخفى عليه الظواهر ول السرائر والضمائر ‪ ،‬وإن دقت وخفيت ‪ ،‬وأخبر أنه سَيُحاسب عباده على‬
‫خفُوا مَا فِي صُدُو ِركُمْ َأوْ تُ ْبدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّهُ‬
‫ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال ‪ُ { :‬قلْ إِنْ ُت ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران ‪ ، ]29 :‬وقال ‪{ :‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫خفَى } [طه ‪ ، ]7 :‬واليات في ذلك (‪ )3‬كثيرة جدا ‪ ،‬وقد أخبر في هذه بمزيد على‬
‫َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ‬
‫العلم ‪ ،‬وهو ‪ :‬المحاسبة على ذلك ‪ ،‬ولهذا لما نزلت هذه الية اشتد ذلك على الصحابة ‪ ،‬رضي‬
‫ال عنهم ‪ ،‬وخافوا منها ‪ ،‬ومن محاسبة ال لهم على جليل العمال وحقيرها ‪ ،‬وهذا من شدة‬
‫إيمانهم وإيقانهم‪.‬‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عفان ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ‪ ،‬حدثني أبو (‪ )4‬عبد الرحمن ‪-‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بعضهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪ )5/12‬وسنن أبي داود برقم (‪ )3561‬وسنن الترمذي برقم (‪ )1266‬وسنن النسائي‬
‫الكبرى برقم (‪ )5783‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2400‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬في هذا"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حدثني ابن"‪.‬‬

‫( ‪)1/728‬‬

‫يعني العلء ‪ -‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬لما نزلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّهُ فَ َي ْغفِرُ‬
‫سكُمْ َأوْ تُ ْ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫‪ِ { :‬للّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } اشتد ذلك على أصحاب رسول ال صلى‬
‫ِلمَنْ يَشَاءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ثم جثوا على الركب ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬كلفنا من العمال ما نُطيق ‪ :‬الصلة والصيام والجهاد والصدقة ‪ ،‬وقد أنزل عليك هذه الية‬
‫ول نطيقها‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من‬
‫قبلكم ‪ :‬سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا ‪ :‬سمعنا وأطعنا ‪ ،‬غفرانك ربنا وإليك المصير"‪ .‬فلما أقَر بها (‬
‫‪ )1‬القوم وذلت بها ألسنتهم ‪ ،‬أنزل ال في أثرها ‪ { :‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ ِإلَيْهِ مِنْ رَبّهِ‬
‫طعْنَا‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ‬
‫وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬
‫س َعهَا‬
‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } فلما فعلوا ذلك نسخها ال فأنزل ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫ُ‬
‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا } إلى آخره (‪.)2‬‬
‫َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫ورواه مسلم منفردًا به ‪ ،‬من حديث يزيد بن زريع ‪ ،‬عن روح بن القاسم ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬عن أبيه ‪،‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،‬فذكر مثله (‪ )3‬ولفظه ‪" :‬فلما فعلوا [ذلك] (‪ )4‬نسخها ال ‪ ،‬فأنزل ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ‬
‫خطَأْنَا } قال ‪:‬‬
‫خذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ أَ ْ‬
‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَا ِ‬
‫س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫حمّلْنَا‬
‫حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال ‪ :‬نعم ‪ { ،‬رَبّنَا وَل ُت َ‬
‫ح ِملْ عَلَيْنَا ِإصْرًا َكمَا َ‬
‫نعم ‪ { ،‬رَبّنَا وَل َت ْ‬
‫حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ‬
‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫مَا ل طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال ‪ :‬نعم ‪ { ،‬وَاعْفُ عَنّا وَا ْ‬
‫ا ْلكَافِرِينَ } قال ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫حديث ابن عباس في ذلك ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن آدم بن سليمان ‪،‬‬
‫سكُمْ َأوْ‬
‫سمعت سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬لما نزلت هذه الية ‪ { :‬وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّه } قال ‪ :‬دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال‬
‫تُ ْ‬
‫رسول ال ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قولوا سمعنا وأطعنا وسَلّمنا"‪ .‬فألقى ال اليمان في قلوبهم ‪،‬‬
‫فأنزل ال‪ { .‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ ِإلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ‬
‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } إلى قوله ‪:‬‬
‫طعْنَا ُ‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ‬
‫ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬
‫{ فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫وهكذا رواه مسلم ‪ ،‬عن أبي بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬وأبي كُريب ‪ ،‬وإسحاق بن إبراهيم ‪ ،‬ثلثتهم عن‬
‫ح ِملْ‬
‫وكيع ‪ ،‬به (‪ )5‬وزاد ‪ { :‬رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا } قال ‪ :‬قد فعلت { رَبّنَا وَل َت ْ‬
‫حمّلْنَا مَا ل طَاقَةَ لَنَا‬
‫حمَلْ َتهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال ‪ :‬قد فعلت ‪ { ،‬رَبّنَا وَل ُت َ‬
‫عَلَيْنَا ِإصْرًا َكمَا َ‬
‫حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا [فَا ْنصُرْنَا] (‪ } )6‬قال ‪ :‬قد فعلت‪.‬‬
‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫عفُ عَنّا وَا ْ‬
‫بِهِ } قال ‪ :‬قد فعلت { وَا ْ‬
‫طريق أخرى عن ابن عباس ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن حميد‬
‫العرج ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬قال ‪ :‬دخلت على ابن عباس فقلت ‪ :‬يا أبا عباس ‪ ،‬كنت عند ابن عمر‬
‫فقرأ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فلما اقترأها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)2/412‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)125‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من صحيح مسلم (‪.)125‬‬
‫(‪ )5‬المسند (‪ )1/233‬وصحيح مسلم برقم (‪.)126‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)1/729‬‬

‫خفُوهُ } قال ابن عباس ‪ ،‬إن‬


‫سكُمْ َأوْ ُت ْ‬
‫هذه الية فبكى‪ .‬قال ‪ :‬أيّة آية ؟ قلت ‪ { :‬وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫غمّت أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم غمًا شديدًا ‪ ،‬وغاظتهم‬
‫هذه الية حين أنزلت (‪َ )1‬‬
‫غيظًا شديدًا ‪ ،‬يعني ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬هلكنا ‪ ،‬إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ‪ ،‬فأما‬
‫قلوبنا فليست بأيدينا ‪ ،‬فقال لهم رسول ال ‪ ،‬صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قولوا ‪ :‬سمعنا وأطعنا"‪ .‬قالوا‬
‫‪ :‬سمعنا وأطعنا‪ .‬قال ‪ :‬فنسختها هذه الية ‪ { :‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُكلّ‬
‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ } فتَجوز لهم عن‬
‫س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫آمَنَ بِاللّهِ } إلى { ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫حديث النفس وأخذوا بالعمال (‪.)2‬‬
‫طريق أخرى عنه ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثني يونس ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب ‪ ،‬أخبرني يونس بن يزيد ‪،‬‬
‫عن ابن شهاب ‪ ،‬عن سعيد بن مَرْجانة ‪ ،‬سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد ال بن عمر تل‬
‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ‬
‫س ُكمْ َأوْ تُ ْ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫هذه الية ‪ { :‬لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫اللّهُ فَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَاءُ } الية‪ .‬فقال ‪ :‬وال لئن واخذنا ال بهذا لنهلكن ‪ ،‬ثم بكى ابن عمر حتى سُمع‬
‫نشيجه‪ .‬قال ابن مَرْجانة ‪ :‬فقمت حتى أتيت ابن عباس ‪ ،‬فذكرت له ما قال ابن عمر ‪ ،‬وما فعل‬
‫جدَ المسلمون منها‬
‫حين تلها ‪ ،‬فقال عبد ال بن عباس ‪ :‬يغفر ال لبي عبد الرحمن‪َ .‬ل َعمْري لقد وَ َ‬
‫س َعهَا }‬
‫حين أنزلت مثل ما وجد عبد ال بن عمر ‪ ،‬فأنزل ال بعدها ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫إلى آخر السورة ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬فكانت هذه الوسوسة مما ل طاقة للمسلمين بها ‪ ،‬وصار المر‬
‫إلى أن قضى ال ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل (‪.)3‬‬
‫طريق أخرى ‪ :‬قال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى ‪ ،‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬حدثنا يزيد بن هارون ‪ ،‬عن‬
‫خفُوهُ‬
‫سكُمْ َأوْ ُت ْ‬
‫سفيان بن حسين ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن سالم ‪ :‬أن أباه قرأ ‪ { :‬وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫يُحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ } فدمعت عيناه ‪ ،‬فبلغ صنيعه ابن عباس ‪ ،‬فقال ‪ :‬يرحم ال أبا عبد الرحمن ‪ ،‬لقد‬
‫صنع كما صنع أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم حين أنزلت ‪ ،‬فنسختها الية التي بعدها ‪:‬‬
‫س َعهَا } (‪.)4‬‬
‫{ ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس ‪ ،‬وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس‪.‬‬
‫قال البخاري ‪ :‬حدثنا إسحاق ‪ ،‬حدثنا روح ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن خالد الحذاء ‪ ،‬عن مَرْوان‬
‫الصفر ‪ ،‬عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أحسبُه ابن عمر ‪ { -‬وَإِنْ تُبْدُوا مَا‬
‫خفُوهُ } قال ‪ :‬نسختها الية التي بعدها (‪.)5‬‬
‫س ُكمْ َأوْ تُ ْ‬
‫فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وهكذا رُوي عن علي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وكعب الحبار ‪ ،‬والشعبي ‪ ،‬والنخَعي ‪ ،‬ومحمد بن كعب‬
‫القُرَظي ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وسعيد بن جُبَير ‪ ،‬وقتادة ‪ :‬أنها منسوخة بالتي بعدها‪.‬‬
‫وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة ‪ ،‬عن زرارة بن أوفى ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به‬
‫أنفسها ‪ ،‬ما لم تكلّم أو‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬نزلت"‪.‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)1/332‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطبري (‪.)6/106‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطبري (‪.)6/108‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)4546‬‬

‫( ‪)1/730‬‬

‫تعمل (‪.)2( " )1‬‬


‫وفي الصحيحين ‪ ،‬من حديث سفيان بن عُيَينة ‪ ،‬عن أبي الزناد ‪ ،‬عن العرج ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال ال ‪ :‬إذا هَم عبدي بسيئة فل تكتبوها عليه ‪ ،‬فإن‬
‫عملها فاكتبوها سيئة ‪ ،‬وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنَة ‪ ،‬فإن عملها فاكتبوها عشرًا"‪ .‬لفظ‬
‫مسلم (‪ )3‬وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفر ‪ ،‬عن العلء ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬قال ال ‪ :‬إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له‬
‫حسنة ‪ ،‬فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها‬
‫عليه ‪ ،‬فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" (‪.)4‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أخبرنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن هَمام بن منبه قال ‪ :‬هذا ما حدثنا أبو هريرة ‪ ،‬عن محمد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قال ال ‪ :‬إذا تحدث‬
‫عبدي بأن يعمل حسنة ‪ ،‬فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ‪ ،‬فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها ‪،‬‬
‫وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ‪ ،‬ما لم يعملها ‪ ،‬فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها"‪ .‬وقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قالت الملئكة ‪ :‬رب ‪ ،‬وإن عبدك يريد أن يعمل سيئة ‪ -‬وهو‬
‫أبصر به ‪ -‬فقال ‪ :‬ارقُبوه ‪ ،‬فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ‪ ،‬وإن تركها فاكتبوها له حسنة ‪ ،‬وإنما‬
‫تركها من جَراي"‪ .‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إذا أحسن أحد (‪ )5‬إسلمه ‪ ،‬فكل (‪)6‬‬
‫حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى ال عز‬
‫وجل"‪.‬‬
‫تفرد به مسلم عن محمد بن رافع ‪ ،‬عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ (‪ )7‬وبعضه في صحيح‬
‫البخاري‪.‬‬
‫وقال مسلم أيضا ‪ :‬حدثنا أبو كريب ‪ ،‬حدثنا أبو خالد الحمر ‪ ،‬عن هشام ‪ ،‬عن ابن سيرين ‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من َهمّ بحسنة فلم يعملها كتبت له‬
‫حسنة ‪ ،‬ومن هم بحسنة فعملها كتبت له [عشرا] (‪ )8‬إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬ومن هم بسيئة فلم‬
‫يعملها لم تكتب ‪ ،‬وإن عملها كُتِبَت"‪ .‬تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب (‪.)9‬‬
‫جعْد أبي عثمان ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫[وقال مسلم] (‪ )10‬حدثنا شيبان بن فروخ ‪ ،‬حدثنا عبد الوارث ‪ ،‬عن ال َ‬
‫رجاء العُطَاردي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما يروي عن ربه‬
‫تعالى قال ‪" :‬إن ال كتب الحسنات والسيئات ‪ ،‬ثم بين ذلك ‪ ،‬فمن َهمّ بحسنة فلم يعملها كَتَبها ال‬
‫عنده حسنة كاملة ‪ ،‬وإن هم بها فعملها كتبها ال عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬إلى‬
‫أضعاف كثيرة‪ .‬وإن هم بسيئة فلم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬تعمل به"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري برقم (‪ )5269‬وصحيح مسلم برقم (‪ )127‬وسنن أبي داود برقم (‪)2209‬‬
‫وسنن الترمذي برقم (‪ )1183‬وسنن النسائي (‪ )6/156‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)2040‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪ ، )128‬ولم أقع عليه من هذا الطريق في صحيح البخاري‪.‬‬
‫(‪ )4‬صحيح مسلم برقم (‪.)128‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أحدكم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬فإن له بكل" والمثبت من صحيح مسلم‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم برقم (‪.)129‬‬
‫(‪ )8‬زيادة من صحيح مسلم (‪.)130‬‬
‫(‪ )9‬صحيح مسلم برقم (‪.)130‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من و‪.‬‬

‫( ‪)1/731‬‬

‫يعملها كتبها ال عنده حسنة كاملة ‪ ،‬وإن هم بها فعملها كتبها ال سيئة واحدة" (‪.)1‬‬
‫ثم رواه مسلم ‪ ،‬عن يحيى بن يحيى ‪ ،‬عن جعفر بن سليمان ‪ ،‬عن الجعد أبي عثمان في هذا‬
‫السناد بمعنى حديث عبد الوارث (‪ )2‬وزاد ‪" :‬ومحاها ال ‪ ،‬ول يَهلك على ال إل هالك"‪.‬‬
‫وفي حديث سهيل ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أبي هريرة قال ‪ :‬جاء ناس من أصحاب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فسألوه ‪ :‬إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به‪ .‬قال ‪" :‬وقد وجدتموه ؟" قالوا‬
‫‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪" :‬ذاك صريح اليمان"‪.‬‬
‫لفظ مسلم (‪ )3‬وهو عند مسلم أيضًا من طريق العمش ‪ ،‬عن أبي صالح ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬به‪ .‬وروى مسلم [أيضا] (‪ )4‬من حديث مغيرة ‪ ،‬عن إبراهيم ‪،‬‬
‫عن علقمة ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوسوسة ‪ ،‬قال ‪" :‬تلك‬
‫سكُمْ‬
‫صريح (‪ )5‬اليمان" (‪ .)6‬وقال علي بن أبي طلحة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ { :‬وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّه } فإنها لم تُنْسَخ ‪ ،‬ولكن ال إذا جمع الخلئق يوم القيامة يقول ‪ :‬إني‬
‫َأوْ تُ ْ‬
‫أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ‪ ،‬مما لم يطلع عليه ملئكتي ‪ ،‬فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما‬
‫حدثوا به أنفسهم ‪ ،‬وهو قوله ‪ُ { :‬يحَاسِ ْبكُمْ ِبهِ اللّهُ } يقول ‪ :‬يخبركم ‪ ،‬وأما أهل الشك والريب‬
‫فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله ‪ { :‬فَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاء } وهو قوله ‪:‬‬
‫خ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ } [البقرة ‪ ]225 :‬أي ‪ :‬من الشك والنفاق‪ .‬وقد روى العوفي‬
‫{ وََلكِنْ ُيؤَا ِ‬
‫والضحاك عنه قريبًا من هذا‪.‬‬
‫وروى ابن جرير ‪ ،‬عن مجاهد والضحاك ‪ ،‬نحوه‪ .‬وعن الحسن البصري أنه قال ‪ :‬هي مُحْكمة لم‬
‫تنسخ‪ .‬واختار ابن جرير ذلك ‪ ،‬واحتج على أنه ل يلزم من المحاسبة المعاقبة ‪ ،‬وأنه تعالى (‪ )7‬قد‬
‫يحاسب ويغفر ‪ ،‬وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الية ‪ ،‬قائل حدثنا ابن بشار ‪،‬‬
‫حدثنا ابن أبي عدي ‪ ،‬عن سعيد وهشام ‪( ،‬ح) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا ابن عُلَيّة ‪،‬‬
‫حدثنا هشام ‪ ،‬قال جميعًا في حديثهما ‪ :‬عن قتادة ‪ ،‬عن صفوان بن مُحْرز ‪ ،‬قال ‪ :‬بينما نحن‬
‫نطوف بالبيت مع عبد ال بن عمر ‪ ،‬وهو يطوف ‪ ،‬إذ عرض له رجل فقال ‪ :‬يا ابن عمر ‪ ،‬ما‬
‫سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال ‪ :‬سمعت نبي ال (‪ )8‬صلى ال‬
‫عليه وسلم يقول ‪" :‬يدنو المؤمن مِنْ ربه ‪ ،‬عز وجل ‪ ،‬حتى يضع عليه كَنَفَه ‪ ،‬فيقرره بذنوبه‬
‫فيقول ‪ :‬هل تعرف كذا ؟ فيقول ‪ :‬رب أعْرف ‪ -‬مرتين ‪ -‬حتى إذا بلغ به ما شاء ال أن يبلغ قال‬
‫‪ :‬فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"‪ .‬قال ‪" :‬فيعطى صحيفة حسناته ‪ -‬أو كتابه‬
‫‪ -‬بيمينه ‪ ،‬وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الشهاد ‪َ { :‬هؤُلءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى‬
‫رَ ّبهِمْ أَل َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ } (‪[ )9‬هود ‪.]18 :‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪.)131‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم برقم (‪.)131‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم برقم (‪.)132‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬تلك محض"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)133‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬وأنه سبحانه وتعالى"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬سمعت رسول ال"‪.‬‬
‫(‪ )9‬تفسير الطبري (‪.)120 ، 6/119‬‬

‫( ‪)1/732‬‬

‫َآمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ َآمَنَ بِاللّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ‬
‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ (‪ )285‬لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا‬
‫طعْنَا ُ‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ‬
‫أَ َ‬
‫ح ِملْ عَلَيْنَا‬
‫خذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا رَبّنَا وَلَا تَ ْ‬
‫س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َبتْ وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَ َبتْ رَبّنَا لَا ُتؤَا ِ‬
‫وُ ْ‬
‫عفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا‬
‫حمّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا ِب ِه وَا ْ‬
‫حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَلَا ُت َ‬
‫ِإصْرًا َكمَا َ‬
‫علَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ (‪)286‬‬
‫حمْنَا أَ ْنتَ َموْلَانَا فَا ْنصُرْنَا َ‬
‫وَارْ َ‬

‫وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬به (‪.)1‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا سليمان بن حرب ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة ‪ ،‬عن علي بن‬
‫خفُوهُ‬
‫سكُمْ َأوْ ُت ْ‬
‫زيد ‪ ،‬عن أمية (‪ )2‬قالت ‪ :‬سألت عائشة عن هذه الية ‪ { :‬وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫يُحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ } فقالت ‪ :‬ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عنها‬
‫فقال ‪" :‬هذه مبايعة ال العبد ‪ ،‬وما يصيبه من الحمى ‪ ،‬والنّكبة ‪ ،‬والبضاعة يضعها في يد كمه ‪،‬‬
‫فيفتقدها فيفزع لها ‪ ،‬ثم يجدها في ضِبْنِه ‪ ،‬حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر‬
‫الحمر [من الكير] (‪." )3‬‬
‫وكذا رواه الترمذي ‪ ،‬وابن جرير من طريق حماد بن سلمة ‪ ،‬به (‪ .)4‬وقال الترمذي ‪ :‬غريب ل‬
‫نعرفه إل من حديثه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وشيخه علي بن زيد بن جُدْعان ضعيف ‪ ،‬يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن‬
‫امرأة أبيه ‪ :‬أم محمد أمية بنت عبد ال ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬وليس لها عنها في الكتب سواه‪.‬‬
‫{ آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّهِ َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ‬
‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ (‪ )285‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل‬
‫طعْنَا ُ‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ‬
‫أَ َ‬
‫ح ِملْ عَلَيْنَا‬
‫خطَأْنَا رَبّنَا وَل تَ ْ‬
‫س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َبتْ وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ َنسِينَا َأوْ أَ ْ‬
‫وُ ْ‬
‫عفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا‬
‫حمّلْنَا مَا ل طَاقَةَ لَنَا ِب ِه وَا ْ‬
‫حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَل تُ َ‬
‫ِإصْرًا َكمَا َ‬
‫حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ (‪ } )286‬ذكر الحاديث الواردة في فضل هاتين‬
‫وَارْ َ‬
‫اليتين الكريمتين نفعنا ال بهما‪.‬‬
‫الحديث الول ‪ :‬قال البخاري ‪ :‬حدثنا محمد بن كثير ‪ ،‬أخبرنا شعبة ‪ ،‬عن سليمان ‪ ،‬عن إبراهيم ‪،‬‬
‫عن عبد الرحمن ‪ ،‬عن أبي مسعود ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬من قرأ باليتين" ‪،‬‬
‫وحدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن يزيد ‪ ،‬عن‬
‫أبي مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من قرأ باليتين من آخر سورة البقرة‬
‫في ليلة َكفَتَاه" (‪.)5‬‬
‫وقد أخرجه بقية الجماعة من طريق سليمان بن ِمهْران العمش ‪ ،‬بإسناده ‪ ،‬مثله (‪ .)6‬وهو في‬
‫الصحيحين من طريق الثوري ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن إبراهيم ‪ ،‬عن عبد الرحمن ‪ ،‬عنه ‪ ،‬به (‪.)7‬‬
‫وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن ‪ ،‬عن علقمة عن أبي مسعود ‪ -‬قال عبد الرحمن ‪ :‬ثم‬
‫لقيت أبا‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4685‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1768‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬عن آمنة"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من تفسير الطبري (‪.)6/117‬‬
‫(‪ )4‬سنن الترمذي برقم (‪.)2991‬‬
‫(‪ )5‬صحيح البخاري برقم (‪.)5008‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪ )808‬وسنن أبي داود برقم (‪ )1397‬وسنن الترمذي برقم (‪ )2881‬وسنن‬
‫النسائي الكبرى برقم (‪ )8019‬وسنن ابن ماجة برقم (‪.)1368‬‬
‫(‪ )7‬صحيح البخاري برقم (‪ )5009‬وصحيح مسلم برقم (‪ )807‬؛ ولكنه فيه عن زهير ‪ ،‬عن‬
‫منصور به‪.‬‬
‫( ‪)1/733‬‬

‫مسعود ‪ ،‬فحدثني به (‪.)1‬‬


‫وهكذا رواه أحمد بن حنبل ‪ :‬حدثنا يحيى بن آدم ‪ ،‬حدثنا شريك ‪ ،‬عن عاصم ‪ ،‬عن المسيب بن‬
‫رافع ‪ ،‬عن علقمة ‪ ،‬عن أبي مسعود ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪" :‬من قرأ اليتين من‬
‫آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه" (‪.)2‬‬
‫الحديث الثاني ‪ :‬قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا حسين ‪ ،‬حدثنا شيبان ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن رِبعي ‪ ،‬عن‬
‫خَرشة بن الحُر ‪ ،‬عن المعرور بن سويد ‪ ،‬عن أبي ذر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪" :‬أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ‪ ،‬لم يعطهن نبي قبلي" (‪.)3‬‬
‫وقد رواه ابن مردويه ‪ ،‬من حديث الشجعي ‪ ،‬عن الثوري ‪ ،‬عن منصور ‪ ،‬عن رِ ْبعِي ‪ ،‬عن زيد‬
‫بن ظِبْيان ‪ ،‬عن أبي ذر قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أعطيت خواتيم سورة البقرة‬
‫من كنز تحت العرش" (‪.)4‬‬
‫الحديث الثالث ‪ :‬قال مسلم ‪ :‬حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ‪ ،‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬حدثنا مالك بن‬
‫مغْول(ح) وحدثنا ابن ُنمَير ‪ ،‬وزهير بن حرب جميعًا ‪ ،‬عن عبد ال بن نُمير ‪ -‬وألفاظهم متقاربة‬
‫‪ -‬قال ابن نمير ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا مالك بن ِم ْغوَل ‪ ،‬عن الزبير بن عدي (‪ )5‬عن طلحة ‪ ،‬عن‬
‫مُرَة ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬قال ‪ :‬لما أسْريَ برسول ال صلى ال عليه وسلم انْ ُت ِهيَ به إلى سدرة المنتهى‬
‫‪ ،‬وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما ُيعْرَج به من الرض فَيُقْبَض منها ‪ ،‬وإليها ينتهي ما‬
‫ُيهْبَطُ به من فوقها ف ُيقْبَض منها ‪ ،‬قال ‪ { :‬إِذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َي ْغشَى } [النجم ‪ ، ]16 :‬قال ‪ :‬فرَاش‬
‫طيَ الصلوات الخمس ‪،‬‬
‫عِ‬‫من ذهب‪ .‬قال ‪ :‬وأعطي رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثًا ‪ :‬أ ْ‬
‫وأعْطِي خواتيم سورة البقرة ‪ ،‬وغفر لمن لم يشرك بال من أمته شيئًا ال ُمقْحَماتُ (‪.)6‬‬
‫الحديث الرابع ‪ :‬قال أحمد ‪ :‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي ‪ ،‬حدثنا سلمة بن الفضل ‪ ،‬حدثني‬
‫محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن يزيد بن أبي حبيب ‪ ،‬عن مَرْثَد بن عبد ال اليزني ‪ ،‬عن عقبة بن عامر‬
‫الجهني قال ‪ :‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬اقرأ اليتين من آخر سورة البقرة فإني‬
‫أعطيتهما من تحت العرش"‪ .‬هذا إسناد حسن ‪ ،‬ولم يخرجوه في كتبهم (‪.)7‬‬
‫الحديث الخامس ‪ :‬قال ابن مَرْدُويه ‪ :‬حدثنا أحمد بن كامل ‪ ،‬حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ‪،‬‬
‫أخبرنا ُمسَدّد (‪ )8‬أخبرنا أبو (‪ )9‬عوانة ‪ ،‬عن أبي مالك ‪ ،‬عن ر ْبعِي ‪ ،‬عن حذيفة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬فضلنا على الناس بثلث ‪ ،‬أوتيت هؤلء اليات من آخر سورة‬
‫البقرة من بيت كنز تحت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري برقم (‪ )4008‬وصحيح مسلم برقم (‪.)808‬‬
‫(‪ )2‬المسند (‪.)4/118‬‬
‫(‪ )3‬المسند (‪.)5/151‬‬
‫(‪ )4‬ورواه البيهقي في شعب اليمان برقم (‪ )2404‬من طريق الشجعي به‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬بن علي"‪.‬‬
‫(‪ )6‬صحيح مسلم برقم (‪.)173‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪.)4/147‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬أخبرنا مسروق"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬عن أبي"‪.‬‬

‫( ‪)1/734‬‬

‫العرش ‪ ،‬لم يعطها أحد قبلي ‪ ،‬ول يعطاها أحد بعدي" (‪.)1‬‬
‫ثم رواه من حديث ُنعَيم بن أبي هندي ‪ ،‬عن ربعي ‪ ،‬عن حذيفة ‪ ،‬بنحوه‪.‬‬
‫الحديث السادس ‪ :‬قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا عبد الباقي بن نافع ‪ ،‬أنبأنا إسماعيل بن الفضل ‪،‬‬
‫أخبرنا محمد بن حاتم بن بزَيع ‪ ،‬أخبرنا جعفر بن عون ‪ ،‬عن مالك بن ِمغْول ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪،‬‬
‫عقِل السلم ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة ‪،‬‬
‫عن الحارث ‪ ،‬عن علي قال ‪ :‬ل أرى أحدًا َ‬
‫فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى ال عليه وسلم من تحت العرش‪.‬‬
‫ورواه َوكِيع عن إسرائيل ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن عمير بن عمرو الخارفي ‪ ،‬عن علي قال ‪ :‬ما‬
‫أرى أحدًا يعقل ‪ ،‬بلغه السلم ‪ ،‬ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ‪ ،‬فإنها من كنز‬
‫تحت العرش (‪.)2‬‬
‫الحديث السابع ‪ :‬قال أبو عيسى الترمذي ‪ :‬حدثنا بُنْدَار ‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ‪ ،‬حدثنا‬
‫حماد بن سلمة ‪ ،‬عن أشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي (‪ )3‬عن أبي قِلبَة ‪ ،‬عن أبي الشعث‬
‫الصنعاني ‪ ،‬عن النعمان بن بشير ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ال كتب كتابًا قبل‬
‫أن يخلق السموات والرض بألفي عام ‪ ،‬أنزل منه آيتين ختم بهما (‪ )4‬سورة البقرة ‪ ،‬ول يقرأن‬
‫في دار ثلث ليال فيقربها شيطان"‪ .‬ثم قال ‪ :‬هذا حديث غريب‪ .‬وهكذا رواه الحاكم في مستدركه‬
‫من حديث حماد بن سلمة به ‪ ،‬وقال ‪ :‬صحيح على شرط مسلم ‪ ،‬ولم يخرجاه (‪.)6( )5‬‬
‫الحديث الثامن ‪ :‬قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين ‪ ،‬أخبرنا الحسن بن‬
‫الجهم ‪ ،‬أخبرنا إسماعيل بن عمرو ‪ ،‬أخبرنا ابن أبي مريم ‪ ،‬حدثني يوسف بن أبي الحجاج ‪ ،‬عن‬
‫سعيد ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية‬
‫الكرسي ضحك ‪ ،‬وقال ‪" :‬إنهما من كنز الرحمن تحت العرش"‪ .‬وإذا قرأ ‪ { :‬مَنْ َي ْع َملْ سُوءًا يُجْزَ‬
‫س ْوفَ يُرَى * ثُمّ يُجْزَاهُ‬
‫سعْيَهُ َ‬
‫سعَى * وَأَنّ َ‬
‫بِه } [النساء ‪ { ، ]123 :‬وَأَنْ لَيْسَ لِلنْسَانِ إِل مَا َ‬
‫الْجَزَا َء ال ْوفَى } [النجم ‪ ، ]41 - 39 :‬استرجع واستكان (‪.)7‬‬
‫الحديث التاسع ‪ :‬قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا عبد ال بن محمد بن كوفي ‪ ،‬حدثنا أحمد بن يحيى بن‬
‫حمزة ‪ ،‬حدثنا محمد بن بكر (‪ )8‬حدثنا مكي بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا عبد ال بن أبي حميد ‪ ،‬عن أبي‬
‫مَلِيح ‪ ،‬عن معقل بن يسار ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أعطيت فاتحة الكتاب ‪،‬‬
‫وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ‪ ،‬والمُفَصل نافلة" (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (‪ )8022‬من طريق آدم بن أبي إياس ‪ ،‬عن أبي عوانة‬
‫به‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (‪ )169‬من طريق أبي إسحاق ‪ ،‬عن عمير بن‬
‫سعيد به ‪ ،‬قال النووي ‪" :‬صحيح على شرط البخاري ومسلم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬الصنعاني"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬ختم بها"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪" :‬ولم يخرجه"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن الترمذي برقم (‪ )2882‬والمستدرك (‪.)1/562‬‬
‫(‪ )7‬ذكره السيوطي في الدر المنثور (‪ )2/7‬وعزاه لبن مردويه ‪ ،‬وفي إسناده مجاهيل‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬بن بكير"‪.‬‬
‫(‪ )9‬ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (‪ )1/559‬من طريق عبيد ال بن أبي حميد به نحوه ‪،‬‬
‫وتعقبه الذهبي بقوله ‪" :‬فيه عبيد ال بن أبي حميد تركوه"‪.‬‬

‫( ‪)1/735‬‬

‫الحديث العاشر ‪ :‬قد تقدم في فضائل الفاتحة ‪ ،‬من رواية عبد ال بن عيسى بن عبد الرحمن بن‬
‫أبي ليلى ‪ ،‬عن سعيد بن جُبير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬بينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وعنده‬
‫جبريل ؛ إذ سمع نقيضا فوقه ‪ ،‬فرفع جبريل بصره إلى السماء ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا باب قد فتح من‬
‫السماء ما فُتِح قَط‪ .‬قال ‪ :‬فنزل منه مَلَك ‪ ،‬فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أبشر بنورين قد‬
‫أوتيتهما ‪ ،‬لم يؤتهما نبي قبلك ‪ :‬فاتحة الكتاب ‪ ،‬وخواتيم سورة البقرة ‪ ،‬لن تقرأ حرفا منهما إل‬
‫أوتيته ‪ ،‬رواه مسلم والنسائي ‪ ،‬وهذا لفظه (‪.)1‬‬
‫[الحديث الحادي عشر ‪ :‬قال أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده ‪ :‬حدثنا أبو‬
‫المغيرة ‪ ،‬حدثنا صفوان ‪ ،‬حدثنا أيفع بن عبد ال الكلعي (‪ )2‬قال ‪ :‬قال رجل ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } قال ‪ :‬فأي‬
‫أي آية في كتاب ال أعظم ؟ قال ‪" :‬آية الكرسي ‪ { :‬اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫آية في كتاب ال تحب أن تصيبك وأمتك ؟ قال ‪" :‬آخر سورة البقرة ‪ ،‬ولم يترك خيرًا في الدنيا‬
‫والخرة إل اشتملت عليه" (‪.)4( ] )3‬‬
‫فقوله تعالى ‪ { :‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّه } إخبار عن النبي صلى ال عليه وسلم بذلك‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا بشر ‪ ،‬حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬قال ‪ :‬ذكر لنا أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال لما نزلت هذه الية ‪" :‬ويحق له أن يؤمن " (‪.)5‬‬
‫وقد روى الحاكم في مستدركه ‪ :‬حدثنا أبو النضر الفقيه ‪ :‬حدثنا معاذ بن نجدة القرشي ‪ ،‬حدثنا‬
‫خلد بن يحيى ‪ ،‬حدثنا أبو عقيل ‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير ‪ ،‬عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬لما نزلت‬
‫هذه الية على النبي صلى ال عليه وسلم { آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّه } قال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪" :‬حق له أن يؤمن"‪ .‬ثم قال الحاكم ‪ :‬صحيح السناد ‪ ،‬ولم يخرجاه‪.)6( .‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ْل ُم ْؤمِنُون } عطف على { الرّسُولُ } ثم أخبر عن الجميع فقال ‪ُ { :‬كلّ آمَنَ بِاللّهِ‬
‫سلِهِ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِنْ ُرسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن ال واحد أحد ‪ ،‬فرد‬
‫َومَلئِكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُ ُ‬
‫صمد ‪ ،‬ل إله غيره ‪ ،‬ول رب سواه‪ .‬ويصدقون بجميع النبياء والرسل والكتب المنزلة من‬
‫السماء على عباد ال المرسلين والنبياء ‪ ،‬ل يفرقون بين أحد منهم ‪ ،‬فيؤمنون ببعض ويكفرون‬
‫ببعض ‪ ،‬بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون َمهْديون هادون إلى سُبُل (‪ )7‬الخير ‪ ،‬وإن‬
‫كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن ال ‪ ،‬حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى ال عليه وسلم‬
‫خاتم النبياء والمرسلين ‪ ،‬الذي تقوم الساعة على شريعته ‪ ،‬ول تزال طائفة من أمته على الحق‬
‫ظاهرين‪.‬‬
‫طعْنَا } أي ‪ :‬سمعنا قولك يا ربنا ‪ ،‬وفهمناه ‪ ،‬وقمنا به ‪ ،‬وامتثلنا العمل‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬وقَالُوا َ‬
‫غفْرَانَكَ رَبّنَا } سؤال لل َغفْر (‪ )8‬والرحمة واللطف‪.‬‬
‫بمقتضاه ‪ُ { ،‬‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا علي بن حرب الموصلي ‪ ،‬حدثنا ابن فضيل ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم برقم (‪ )806‬وسنن النسائي (‪.)2/138‬‬
‫(‪ )2‬في الصابة ‪" :‬أيفع بن عبد الكلعي"‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن الدارمي برقم (‪ )3380‬وقال الحافظ ابن حجر في الصابة (‪" : )1/139‬هو مرسل أو‬
‫معضل"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)6/124‬‬
‫(‪ )6‬المستدرك (‪ )2/287‬وتعقبه الذهبي ‪ ،‬قلت ‪" :‬منقطع" ‪ ،‬وذلك لن يحيى بن أبي كثير رأى‬
‫أنسا ولم يسمع منه‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬إلى سبيل"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬بالعفو"‪.‬‬
‫( ‪)1/736‬‬

‫عن سعيد بن جبير ‪ ،‬عن ابن عباس في قول ال ‪ { :‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ‬
‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا } قال ‪ :‬قد غفرت لكم ‪ { ،‬وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } أي ‪ :‬إليك‬
‫وَا ْل ُمؤْمِنُونَ } إلى قوله ‪ُ { :‬‬
‫المرجع والمآب يوم يقوم الحساب‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن حميد ‪ ،‬حدثنا جرير ‪ ،‬عن بيان ‪ ،‬عن حكيم عن جابر قال ‪ :‬لما نزلت‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم { آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ‬
‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ‬
‫طعْنَا ُ‬
‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ‬
‫بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِل ِه ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬
‫ا ْل َمصِيرُ } قال جبريل ‪ :‬إن ال قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ‪ ،‬فسل ُتعْطه‪ .‬فسأل ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ‬
‫س َعهَا } إلى آخر الية (‪.)1‬‬
‫اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫س َعهَا } أي ‪ :‬ل يكلف أحدًا فوق طاقته ‪ ،‬وهذا من لطفه تعالى‬
‫وقوله ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل وُ ْ‬
‫بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ‪ ،‬وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ‪ ،‬في‬
‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّه } أي ‪ :‬هو وإن حاسب وسأل لكن ل‬
‫سكُمْ َأوْ تُ ْ‬
‫قوله ‪ { :‬وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫يعذب إل بما يملك (‪ )2‬الشخص دفعه ‪ ،‬فأما ما ل يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ‪ ،‬فهذا‬
‫ل يكلف به النسان ‪ ،‬وكراهية الوسوسة السيئة من اليمان‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬لهَا مَا كَسَ َبتْ } أي ‪ :‬من خير ‪ { ،‬وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ } أي ‪ :‬من شر ‪ ،‬وذلك في‬
‫العمال التي تدخل تحت التكليف ‪ ،‬ثم قال (‪ )3‬تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله ‪ ،‬وقد تكفل لهم‬
‫خذْنَا إِنْ [ َنسِينَا] (‪ } )4‬أي ‪ :‬إن تركنا‬
‫بالجابة ‪ ،‬كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا ‪ { :‬رَبّنَا ل ُتؤَا ِ‬
‫فرضًا على جهة النسيان ‪ ،‬أو فعلنا حرامًا كذلك ‪َ { ،‬أوْ َأخْطَأْنَا } أي ‪ :‬الصوابَ في العمل ‪ ،‬جهل‬
‫منا بوجهه الشرعي‪.‬‬
‫وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة ‪" :‬قال ال ‪ :‬نعم" ولحديث (‪ )5‬ابن عباس قال ال ‪:‬‬
‫"قد فعلت"‪.‬‬
‫وروى ابن ماجة في سننه ‪ ،‬وابن حبان في صحيحه (‪ )6‬من حديث أبي عمرو الوزاعي ‪ ،‬عن‬
‫عطاء ‪ -‬قال ابن ماجة في روايته ‪ :‬عن ابن عباس‪ .‬وقال الطبراني وابن حبان ‪ :‬عن عطاء ‪،‬‬
‫عن عبيد بن عُمير ‪ ،‬عن ابن عباس قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال وضع (‬
‫‪ )7‬عن أمتي الخطأ والنسيان ‪ ،‬وما استكرهوا عليه"‪ .‬وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله (‪ )8‬أحمد‬
‫وأبو حاتم (‪ )9‬وال أعلم‪ .‬وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا مسلم بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫بكر الهذلي ‪ ،‬عن شهر ‪ ،‬عن أم الدرداء ‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ال تجاوز‬
‫لمتي عن ثلث ‪ :‬عن الخطأ ‪ ،‬والنسيان ‪ ،‬والستكراه" قال أبو بكر ‪ :‬فذكرت ذلك للحسن ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬أجل ‪ ،‬أما تقرأ بذلك قرآنا ‪ { :‬رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا } (‪.)10‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬إلى آخر السورة"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬على ما يملك"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬وقال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪" :‬وبحديث"‪.‬‬
‫(‪ )6‬سنن ابن ماجة برقم (‪ )2045‬وصحيح ابن حبان برقم (‪" )1498‬موارد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬إن ال قد وضع"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬وعلله"‪.‬‬
‫(‪ )9‬العلل لبن أبي حاتم (‪ )1/431‬والعلل للمام أحمد (‪ )1/227‬وانظر في تفصيل الكلم على‬
‫الحديث وعلته ‪ :‬جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب (‪ )2/361‬ط‪ .‬الرسالة ‪ ،‬وفتح الباري‬
‫للحافظ ابن حجر (‪.)5/161‬‬
‫(‪ )10‬ورواه ابن عدي في الكامل (‪ )3/325‬من طريق أبي بكر الهذلي ‪ ،‬عن شهر بن حوشب ‪،‬‬
‫عن أم الدرداء ‪ ،‬عن أبي الدرداء مرفوعا وليس عنده قول أبي بكر للحسن‪.‬‬

‫( ‪)1/737‬‬

‫حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي ‪ :‬ل تكلّفنا من العمال‬


‫ح ِملْ عَلَيْنَا ِإصْرًا َكمَا َ‬
‫وقوله ‪ { :‬رَبّنَا وَل تَ ْ‬
‫الشاقة وإن أطقناها ‪ ،‬كما شرعته للمم الماضية قبلنا من الغلل والصار التي كانت عليهم ‪،‬‬
‫التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى ال عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ‪ ،‬من‬
‫الدين الحنيف السهل السمح‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬قال ال‬
‫‪ :‬نعم"‪.‬‬
‫وعن ابن عباس ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬قال ال ‪ :‬قد فعلت"‪ .‬وجاء الحديث‬
‫من طرق ‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬بعثت بالحَنيفيّة السمحة" (‪.)1‬‬
‫حمّلْنَا مَا ل طَاقَةَ لَنَا ِبهِ } أي ‪ :‬من التكليف والمصائب والبلء ‪ ،‬ل تبتلينا بما‬
‫وقوله ‪ { :‬رَبّنَا وَل تُ َ‬
‫ل قبل لنا به‪.‬‬
‫حمّلْنَا مَا ل طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال ‪ :‬الغرْبة والغلمة ‪ ،‬رواه (‪)2‬‬
‫وقد قال مكحول في قوله ‪ { :‬رَبّنَا وَل ُت َ‬
‫ابن أبي حاتم ‪" ،‬قال ال ‪ :‬نعم" وفي الحديث الخر ‪" :‬قال ال ‪ :‬قد فعلت"‪.‬‬
‫عفُ عَنّا } أي ‪ :‬فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ‪ { ،‬وَاغْفِرْ لَنَا } أي ‪:‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَا ْ‬
‫حمْنَا } أي ‪ :‬فيما‬
‫فيما بيننا وبين عبادك ‪ ،‬فل تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ‪ { ،‬وَا ْر َ‬
‫يُسْتَقبل ‪ ،‬فل توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ‪ ،‬ولهذا قالوا ‪ :‬إن المذنب محتاج إلى ثلثة أشياء ‪ :‬أن‬
‫يعفو ال عنه فيما بينه وبينه ‪ ،‬وأن يستره عن عباده فل يفضحه به بينهم ‪ ،‬وأن يعصمه فل يوقعه‬
‫في نظيره‪ .‬وقد تقدم في الحديث أن ال قال ‪ :‬نعم‪ .‬وفي الحديث الخر ‪" :‬قال ال ‪ :‬قد فعلت"‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬أَ ْنتَ َموْلنَا } أي ‪ :‬أنت ولينا وناصرنا ‪ ،‬وعليك توكلنا ‪ ،‬وأنت المستعان ‪ ،‬وعليك‬
‫التّكلن ‪ ،‬ول حول ول قوة لنا إل بك (‪ { )3‬فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } أي ‪ :‬الذين جحدوا‬
‫دينك ‪ ،‬وأنكروا وحدانيتك ‪ ،‬ورسالة نبيك ‪ ،‬وعبدوا غيرك ‪ ،‬وأشركوا معك من عبادك ‪ ،‬فانصرنا‬
‫عليهم ‪ ،‬واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والخرة ‪ ،‬قال ال ‪ :‬نعم‪ .‬وفي الحديث الذي رواه مسلم‬
‫‪ ،‬عن ابن عباس ‪" :‬قال ال ‪ :‬قد فعلت"‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثني المثنى بن إبراهيم ‪ ،‬حدثنا أبو نعيم ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪،‬‬
‫أن معاذًا ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬كان إذا فرغ من هذه السورة (‪ { )4‬فانصرنا على القوم الكافرين }‬
‫قال ‪ :‬آمين (‪.)5‬‬
‫ورواه َوكِيع عن سفيان ‪ ،‬عن أبي إسحاق ‪ ،‬عن رجل ‪ ،‬عن معاذ بن جبل ‪ :‬أنه كان إذا ختم‬
‫البقرة قال ‪ :‬آمين (‪.)6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬جاء من حديث أبي أمامة ‪ ،‬وابن عباس ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬وجابر رضي ال عنهم ‪ ،‬أصحها حديث‬
‫ابن عباس رواه المام أحمد في المسند (‪ )1/236‬وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ورواه"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬إل بال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪" :‬من سورة البقرة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير الطبري (‪.)6/146‬‬
‫(‪ )6‬جاء في جـ ‪" :‬آخر تفسير سورة البقرة ول الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن الجميل ‪،‬‬
‫وحسبنا ال ونعم الوكيل ‪ ،‬وصلى ال على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ،‬يتلوه إن شاء‬
‫ال سورة آل عمران"‪.‬‬

‫( ‪)1/738‬‬

‫حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْ ِه وَأَنْ َزلَ‬


‫حيّ ا ْلقَيّومُ (‪ )2‬نَ ّزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫الم (‪ )1‬اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ا ْل َ‬
‫س وَأَنْ َزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللّهِ َل ُهمْ عَذَابٌ‬
‫ال ّتوْرَا َة وَالْإِنْجِيلَ (‪ )3‬مِنْ قَ ْبلُ ُهدًى لِلنّا ِ‬
‫شَدِي ٌد وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ (‪)4‬‬
‫تفسير سورة آل عمران‬
‫هي مدنية ؛ لن صدرها (‪ )1‬إلى ثلث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران ‪ ،‬وكان قدومهم في‬
‫سنة تسع من الهجرة ‪ ،‬كما سيأتي بيان ذلك ‪ ،‬إن شاء ال تعالى عند تفسير آية المباهلة منها ‪ ،‬وقد‬
‫ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير [سورة] (‪ )2‬البقرة‪.‬‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ (‪ )2‬نزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزلَ‬
‫{ الم (‪ )1‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫عذَابٌ‬
‫س وَأَنزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ َلهُمْ َ‬
‫ال ّتوْرَا َة وَالنْجِيلَ (‪ )3‬مِنْ قَ ْبلُ هُدًى لِلنّا ِ‬
‫شَدِي ٌد وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ (‪} )4‬‬
‫حيّ‬
‫وقد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم ال العظم في هاتين اليتين ‪ { :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } عند تفسير آية الكرسي ‪ ،‬وتقدم الكلم على قوله‬
‫ا ْلقَيّومُ } و { الم اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫تعالى ‪ { :‬الم } في أول سورة البقرة ‪ ،‬بما أغنى عن إعادته ‪ ،‬وتقدم أيضًا الكلم على قوله ‪:‬‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ } في تفسير آية الكرسي‪.‬‬
‫{ اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬
‫حقّ } أي ‪ :‬ل‬
‫حقّ } يعني ‪ :‬نزل عليك القرآن يا محمد { بِالْ َ‬
‫وقوله تعالى { نزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫شك فيه ول ريب ‪ ،‬بل هو منزل من عند ال [عز وجل] (‪ )3‬أنزله بعلمه والملئكة يشهدون ‪،‬‬
‫وكفى بال (‪ )4‬شهيدًا‪.‬‬
‫وقوله ‪ُ { :‬مصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي ‪ :‬من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد ال النبياء ‪،‬‬
‫فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان ‪ ،‬وهو يصدقها ؛ لنه طابق ما أخبرت به‬
‫وبشرت ‪ ،‬من الوعد من ال بإرسال محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإنزال القرآن العظيم عليه‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَأَنزلَ ال ّتوْرَاةَ } أي ‪ :‬على موسى بن عمران [عليه السلم] (‪ { )5‬وَالنْجِيلَ } أي ‪:‬‬
‫على عيسى ابن مريم‪.‬‬
‫{ مِنْ قَ ْبلُ } أي ‪ :‬من قبل هذا القرآن‪ُ { .‬هدًى لِلنّاسِ } أي ‪ :‬في زمانهما { وَأَنزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ } وهو‬
‫الفارق بين الهدى والضلل ‪ ،‬والحق والباطل ‪ ،‬والغي والرشاد ‪ ،‬بما يذكره ال تعالى من الحجج‬
‫والبينات ‪ ،‬والدلئل الواضحات ‪ ،‬والبراهين القاطعات ‪ ،‬ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ‪ ،‬ويرشد‬
‫إليه وينبه عليه من ذلك‪.‬‬
‫وقال قتادة والربيع بن أنس ‪ :‬الفرقان هاهنا القرآن‪ .‬واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا ؛ لتقدم‬
‫ذكر‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬صدورها" ‪ ،‬وفي أ ‪" :‬صورها"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬به"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫( ‪)2/5‬‬

‫صوّ ُركُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَ ْيفَ‬


‫سمَاءِ (‪ُ )5‬هوَ الّذِي ُي َ‬
‫شيْءٌ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا فِي ال ّ‬
‫خفَى عَلَيْهِ َ‬
‫إِنّ اللّهَ لَا يَ ْ‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ‬
‫حكِيمُ (‪ُ )6‬هوَ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُ ْ‬
‫يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ‬
‫سخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ َآمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا َومَا َي ّذكّرُ إِلّا أُولُو‬
‫َومَا َيعَْلمُ تَ ْأوِيلَهُ إِلّا اللّ ُه وَالرّا ِ‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ (‪ )8‬رَبّنَا‬
‫الْأَلْبَابِ (‪ )7‬رَبّنَا لَا تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َب ْعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ رَ ْ‬
‫إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ لَا رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ اللّهَ لَا ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ (‪)9‬‬

‫القرآن في قوله ‪ { :‬نزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ } وهو القرآن‪ .‬وأما ما رواه ابن‬
‫أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد هاهنا بالفرقان ‪ :‬التوراة فضعيف أيضًا ؛ لتقدم ذكرها ‪ ،‬وال‬
‫أعلم‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ } أي ‪ :‬جحدوا بها وأنكروها ‪ ،‬وردّوها بالباطل { َلهُمْ‬
‫شدِيدٌ } أي ‪ :‬يوم القيامة { وَاللّهُ عَزِيزٌ } أي ‪ :‬منيع الجناب عظيم السلطان { ذُو انْ ِتقَامٍ } أي‬
‫عَذَابٌ َ‬
‫‪ :‬ممن كذب بآياته (‪ )1‬وخالف رسله الكرام ‪ ،‬وأنبياءه العظام‪.‬‬
‫صوّ ُركُمْ فِي ال ْرحَامِ كَ ْيفَ‬
‫سمَاءِ (‪ُ )5‬هوَ الّذِي ُي َ‬
‫ض وَل فِي ال ّ‬
‫شيْءٌ فِي ال ْر ِ‬
‫خفَى عَلَيْهِ َ‬
‫{ إِنّ اللّهَ ل َي ْ‬
‫حكِيمُ (‪} )6‬‬
‫يَشَاءُ ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والرض ‪[ ،‬و] (‪ )2‬ل يخفى عليه شيء من ذلك‪.‬‬
‫صوّ ُركُمْ فِي ال ْرحَامِ كَ ْيفَ يَشَاءُ } أي ‪ :‬يخلقكم كما يشاء في الرحام من ذكر وأنثى ‪،‬‬
‫{ ُهوَ الّذِي ُي َ‬
‫حكِيمُ } أي ‪ :‬هو الذي خلق ‪ ،‬وهو‬
‫[و] (‪ )3‬حسن وقبيح ‪ ،‬وشقي وسعيد { ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫المستحق لللهية وحده ل شريك له ‪ ،‬وله العزة التي ل ترام ‪ ،‬والحكمة والحكام‪.‬‬
‫وهذه الية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق ‪ ،‬كما خلق ال سائر‬
‫البشر ؛ لن ال [تعالى] (‪ )4‬صوره في الرحم وخلقه ‪ ،‬كما يشاء ‪ ،‬فكيف يكون إلها كما زعمته‬
‫النصارى ‪ -‬عليهم لعائن ال ‪ -‬وقد تقلب في الحشاء ‪ ،‬وتنقل من حال إلى حال ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫‪َ } :‬يخُْل ُقكُمْ فِي بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ خَ ْلقًا مِنْ َب ْعدِ خَ ْلقٍ فِي ظُُلمَاتٍ ثَلثٍ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ ل إَِلهَ‬
‫إِل ُهوَ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ } [ الزمر ‪]6 :‬‬
‫ب وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَا ِ‬
‫{ ُهوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ ُم ْ‬
‫سخُونَ‬
‫قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِ ِه َومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّ ُه وَالرّا ِ‬
‫فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا َومَا َي ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ (‪ )7‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ (‪ )8‬رَبّنَا إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ ل رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ‬
‫هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ‬
‫اللّهَ ل ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ (‪} )9‬‬
‫يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ‪ ،‬أي ‪ :‬بينات واضحات الدللة ‪ ،‬ل‬
‫التباس فيها على أحد من الناس ‪ ،‬ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدللة على كثير من الناس أو‬
‫بعضهم ‪ ،‬فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ‪ ،‬وحكم محكمه على متشابهه عنده ‪ ،‬فقد‬
‫ح َكمَاتٌ‬
‫اهتدى‪ .‬ومن عكس انعكس ؛ ولهذا قال تعالى ‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُ ْ‬
‫هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ } أي ‪ :‬أصله‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬آياته"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من جـ‪.‬‬

‫( ‪)2/6‬‬

‫الذي يرجع إليه عند الشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ } أي ‪ :‬تحتمل (‪ )1‬دللتها موافقة المحكم ‪ ،‬وقد‬
‫تحتمل (‪ )2‬شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب ‪ ،‬ل من حيث المراد‪.‬‬
‫وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه ‪ ،‬فروي عن السلف عبارات كثيرة ‪ ،‬فقال علي بن أبي طلحة ‪،‬‬
‫عن ابن عباس [أنه قال] (‪ )3‬المحكمات ناسخه ‪ ،‬وحلله وحرامه ‪ ،‬وحدوده وفرائضه ‪ ،‬وما يؤمر‬
‫(‪ )4‬به ويعمل به‪.‬‬
‫وكذا روي عن عكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬ومُقاتل بن حَيّان ‪ ،‬والربيع بن أنس ‪،‬‬
‫والسّدّي أنهم قالوا ‪ :‬المحكم الذي يعمل به‪.‬‬
‫وعن ابن عباس أيضًا أنه قال ‪ :‬المحكمات [في] (‪ )5‬قوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ َتعَاَلوْا أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ‬
‫عَلَ ْيكُمْ أَل تُشْ ِركُوا بِهِ شَيْئًا } [ النعام ‪ ] 151 :‬واليتان بعدها ‪ ،‬وقوله تعالى ‪َ { :‬و َقضَى رَ ّبكَ أَل‬
‫َتعْبُدُوا إِل إِيّاهُ } [ السراء ‪ ]23 :‬إلى ثلث آيات بعدها‪ .‬رواه ابن أبي حاتم ‪ ،‬وحكاه عن سعيد بن‬
‫جُبَيْر [ثم] (‪ )6‬قال ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا سليمان بن حرب ‪ ،‬حدّثنا حماد بن زيد ‪ ،‬عن إسحاق بن‬
‫سوَيْد أن يحيى بن َي ْعمَر وأبا فاختة تراجعا في هذه الية ‪ { :‬هُنّ (‪ُ )7‬أمّ ا ْلكِتَابِ } فقال أبو فاختة ‪:‬‬
‫ُ‬
‫فواتح السور‪ .‬وقال يحيى بن َي ْعمَر ‪ :‬الفرائض ‪ ،‬والمر والنهي ‪ ،‬والحلل والحرام (‪.)8‬‬
‫وقال ابن َلهِيعَة ‪ ،‬عن عطاء بن دينار ‪ ،‬عن سعيد بن جبير ‪ { :‬هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ } يقول ‪ :‬أصل‬
‫الكتاب ‪ ،‬وإنما سماهن أم الكتاب ؛ لنهن مكتوبات في جميع الكتب‪.‬‬
‫وقال مقاتل بن حيان ‪ :‬لنه ليس من أهل دين إل يرضى بهنّ‪.‬‬
‫وقيل في المتشابهات ‪ :‬إنهن المنسوخة ‪ ،‬والمقدم منه والمؤخر ‪ ،‬والمثال فيه والقسام ‪ ،‬وما‬
‫يؤمن به ول يعمل به‪ .‬رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هي الحروف المقطعة في أوائل السور ‪ ،‬قاله مقاتل بن حيان‪.‬‬
‫وعن مجاهد ‪ :‬المتشابهات يصدق بعضهن بعضًا‪ .‬وهذا إنما هو في تفسير قوله ‪ { :‬كِتَابًا مُتَشَا ِبهًا‬
‫مَثَا ِنيَ } [ الزمر ‪ ] 23 :‬هناك ذكروا ‪ :‬أن المتشابه هو الكلم الذي يكون في سياق واحد ‪،‬‬
‫والمثاني هو الكلم في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار ‪ ،‬وذكر حال البرار ثم حال (‪)9‬‬
‫الفجار ‪ ،‬ونحو ذلك فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم‪.‬‬
‫وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ‪ ،‬وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ‪ ،‬رحمه ال ‪،‬‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ } فيهن حجة الرب ‪ ،‬وعصمة العباد ‪ ،‬ودفع‬
‫حيث قال ‪ { :‬مِ ْنهُ آيَاتٌ مُ ْ‬
‫الخصوم والباطل ‪ ،‬ليس لهن تصريف ول تحريف عما وضعن (‪ )10‬عليه‪.‬‬
‫قال ‪ :‬والمتشابهات في الصدق ‪ ،‬لهن تصريف وتحريف وتأويل ‪ ،‬ابتلى ال فيهن العباد ‪ ،‬كما‬
‫ابتلهم في الحلل والحرام أل (‪ )11‬يصرفن إلى الباطل ‪ ،‬ول يحرّفن عن الحق‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪ ،‬ر ‪" :‬يحتمل"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬ر ‪" :‬يحتمل"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬يؤمن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ر ‪" :‬هي"‪.‬‬
‫(‪ )8‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)2/55‬‬
‫(‪ )9‬في و ‪" :‬وحال"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪" :‬وصفن"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪" :‬ل"‪.‬‬

‫( ‪)2/7‬‬

‫ولهذا قال تعالى ‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ } أي ‪ :‬ضلل وخروج عن الحق إلى الباطل‬
‫{ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَا َبهَ مِنْهُ } أي ‪ :‬إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم‬
‫الفاسدة ‪ ،‬وينزلوه عليها ‪ ،‬لحتمال لفظه لما يصرفونه (‪ )1‬فأما المحكم فل نصيب لهم فيه ؛ لنه‬
‫دامغ لهم وحجة عليهم ‪ ،‬ولهذا قال ‪ { :‬ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ } أي ‪ :‬الضلل لتباعهم ‪ ،‬إيهامًا لهم أنهم‬
‫يحتجون على بدعتهم بالقرآن ‪ ،‬وهذا حجة عليهم ل لهم ‪ ،‬كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد‬
‫نطق بأن عيسى هو روح ال وكلمته ألقاها إلى مريم ‪ ،‬وتركوا الحتجاج بقوله [تعالى] (‪ { )2‬إِنْ‬
‫خَلقَهُ مِنْ‬
‫ُهوَ إِل عَبْدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَ ْيهِ } [الزخرف ‪ ]59 :‬وبقوله ‪ { :‬إِنّ مَ َثلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ َكمَ َثلِ آ َدمَ َ‬
‫تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } [ آل عمران ‪ ] 59 :‬وغير ذلك من اليات المحكمة المصرحة بأنه‬
‫خلق من مخلوقات ال ‪ ،‬وعبد ‪ ،‬ورسول من رسل ال‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ } أي ‪ :‬تحريفه على ما يريدون (‪ )3‬وقال مقاتل والسدي ‪ :‬يبتغون أن‬
‫يعلموا ما يكون وما عواقب الشياء من (‪ )4‬القرآن‪.‬‬
‫وقد قال المام أحمد ‪ :‬حدثنا إسماعيل ‪ ،‬حدثنا أيوب عن عبد ال بن أبي مُلَ ْيكَة ‪ ،‬عن عائشة قالت‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ‬
‫‪ :‬قرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُ ْ‬
‫ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ [فََأمّاالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ] (‪ } )5‬إلى قوله ‪ { :‬أُولُو اللْبَابِ } فقال ‪" :‬فإذا‬
‫رأيتم الذين ُيجَادِلُون فيه فهم الذين عَنَى الُ فَاحْذَرُوهُمْ (‪.)6‬‬
‫هكذا وقع هذا الحديث في مسند المام أحمد ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬من رواية ابن أبي مُلَ ْيكَة ‪ ،‬عن‬
‫عائشة ‪ ،‬ليس بينهما أحد‪.‬‬
‫علَيّة وعبد الوهاب الثقفي ‪ ،‬كلهما عن أيوب ‪ ،‬عن‬
‫وهكذا رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن ُ‬
‫عبد ال بن عبيد ال بن أبي مليكة ‪ ،‬عنها (‪.)7‬‬
‫ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي ‪ ،‬عن أيوب ‪ ،‬به‪ .‬وكذا رواه عبد‬
‫الرزاق ‪ ،‬عن َم ْعمَر (‪ )8‬عن أيوب‪ .‬وكذا رواه غير واحد عن أيوب‪ .‬وقد رواه ابن حبان في‬
‫صحيحه ‪ ،‬من حديث أيوب ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وتابع أيوب أبو عامر الخزاز (‪ )9‬وغيره عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬فرواه الترمذي عن بُنْدار ‪ ،‬عن‬
‫أبي داود الطيالسي ‪ ،‬عن أبي عامر الخزاز ‪ ،‬فذكره‪ .‬وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه ‪،‬‬
‫عن حماد بن يحيى البَحّ ‪ ،‬عن عبد ال بن أبي مليكة ‪ ،‬عن عائشة‪ .‬ورواه ابن جرير ‪ ،‬من حديث‬
‫حيّ ‪ ،‬كلهما عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬به‪ .‬وقال نافع‬
‫جمَ ِ‬
‫روح بن القاسم ونافع بن عمر ال ُ‬
‫في روايته عن ابن أبي مليكة ‪ :‬حدثتني عائشةَ ‪ ،‬فذكره (‪.)10‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬تصرفونه"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬يريدونه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬في"‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬فاحذرهم"‪.‬‬
‫(‪ )7‬المسند (‪ )6/48‬وابن ماجة في السنن برقم (‪.)47‬‬
‫(‪ )8‬في ر ‪" :‬يعمر"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في هـ ‪ ،‬جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬الخراز"‬
‫(‪ )10‬عبد الرزاق في تفسيره برقم (‪ )376‬وابن حبان في صحيحه (‪" )1/47‬الحسان" والترمذي‬
‫في السنن برقم (‪ )2993‬وسعيد بن منصور في السنن برقم (‪ )492‬وابن جرير في تفسيره (‬
‫‪.)6/191‬‬

‫( ‪)2/8‬‬

‫وقد روى هذا الحديث البخاري ‪ ،‬رحمه ال ‪ ،‬عند تفسير هذه الية ‪ ،‬ومسلم في كتاب القدر من‬
‫صحيحه ‪ ،‬وأبو داود في السنة من سننه ‪ ،‬ثلثتهم ‪ ،‬عن ال َقعْنَبِيّ ‪ ،‬عن يزيد بن إبراهيم التّسْتَريّ ‪،‬‬
‫عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬عن القاسم بن محمد ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬تل رسول ال‬
‫ح َكمَاتٌ [هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَُأخَرُ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ ُم ْ‬
‫مُتَشَا ِبهَاتٌ ] (‪ } )1‬إلى قوله ‪َ { :‬ومَا َي ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ } قالت ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫حذَرُوهُمْ" لفظ البخاري (‬
‫سمّى الُ فَا ْ‬
‫وسلم ‪" :‬فإذا رأيتَ الذين يتّ ِبعُون ما تشابه منه فأولئك الذين َ‬
‫‪.)2‬‬
‫وكذا رواه الترمذي أيضًا ‪ ،‬عن بندار ‪ ،‬عن أبي داود الطيالسي ‪ ،‬عن يزيد بن إبراهيم التستري ‪،‬‬
‫به‪ .‬وقال ‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا السناد ‪،‬‬
‫وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬ولم يذكروا القاسم‪ .‬كذا قال (‪.)3‬‬
‫سيّ ‪ -‬ولقبه‬
‫ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السّدُو ِ‬
‫عارم ‪ -‬حدثنا حماد بن زيد ‪ ،‬حدثنا أيوب ‪ ،‬عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬به (‪.)4‬‬
‫وقد رواه ابن أبي حاتم فقال ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا أبو الوليد الطيالسي ‪ ،‬حدثنا يزيد بن إبراهيم‬
‫حمّاد بن سلمة ‪ ،‬عن ابن أبي مليكة ‪ ،‬عن القاسم بن محمد ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬سئل‬
‫التستري و َ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قول ال عز وجل ‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا‬
‫تَشَابَهَ مِنْهُ } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إذا رأيتم الذين يَتّ ِبعُونَ ما تشابه من ُه فأولئك‬
‫سمّى الُ ‪ ،‬فَاحْذَرُو ُهمْ" (‪.)5‬‬
‫الذين َ‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد (‪ )6‬بن مسلم ‪ ،‬عن حماد بن سلمة ‪ ،‬عن عبد‬
‫الرحمن بن القاسم ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة قالت ‪ :‬نزع رسول ال صلى ال عليه وسلم بهذه الية‬
‫حذّ َركُمُ الُ ‪،‬‬
‫‪ { :‬فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَا َبهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ } فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قد َ‬
‫فإذا رأيْ ُتمُوهم فَاعْرفُوهُمْ"‪ .‬ورواه ابن مَرْدُويه من طريق أخرى ‪ ،‬عن القاسم ‪ ،‬عن عائشة به (‪.)7‬‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا أبو كامل ‪ ،‬حدثنا حماد ‪ ،‬عن أبي غالب قال ‪ :‬سمعت أبا أمامة يحدث ‪،‬‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم في قوله ‪ { :‬فََأمّاالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ } قال‬
‫سوَ ّد ُوجُوهٌ }‪[.‬آل عمران ‪ ]106 :‬قال ‪" :‬هم‬
‫ض وُجُو ٌه وَتَ ْ‬
‫‪" :‬هم الخوارج" ‪ ،‬وفي قوله ‪َ { :‬يوْمَ تَبْ َي ّ‬
‫الخوارج"‪.‬‬
‫وقد رواه ابن مردويه من غير وجه ‪ ،‬عن أبي غالب ‪ ،‬عن أبي أمامة مرفوعا ‪ ،‬فذكره (‪.)8‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )2‬البخاري في صحيحه برقم (‪ )4547‬ومسلم برقم (‪ )2665‬وأبو داود في السنن برقم (‬
‫‪.)4598‬‬
‫(‪ )3‬سنن الترمذي برقم (‪.)2994 ، 2993‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن المنذر كما في الدر (‪ )2/148‬ورواه البيهقي في دلئل النبوة (‪ )6/546‬من طريق‬
‫حماد بن زيد ‪ ،‬به‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ ، )2/64‬ومسند الطيالسي برقم (‪.)1433‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪" :‬أبو الوليد"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير الطبري (‪ ، )6/192‬ورواه الجري في الشريعة (ص ‪.)332‬‬
‫(‪ )8‬أحمد في المسند (‪ )5/262‬ورواه الطبراني في الكبير (‪ )8/325‬وابن أبي حاتم في تفسيره (‬
‫‪ )2/60‬من طريق أبي غالب به‪.‬‬

‫( ‪)2/9‬‬

‫وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلم الصحابي ‪ ،‬ومعناه صحيح ؛ فإن أوّل بدعة‬
‫وقعت في السلم فتنة الخوارج ‪ ،‬وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول ال (‪ )1‬صلى ال‬
‫عليه وسلم غنائم حُنَيْن ‪ ،‬فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ‪ ،‬ففاجؤوه بهذه‬
‫خوَيْصرة ‪ -‬بقر ال خاصرته ‪ -‬اعدل فإنك لم تعدل ‪ ،‬فقال له‬
‫المقالة ‪ ،‬فقال قائلهم ‪ -‬وهو ذو ال ُ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لقد خِ ْبتُ وخَس ْرتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل ‪ ،‬أيأمَنُني على أهل الرض‬
‫ول تَأمَنُونِي"‪ .‬فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب ‪ -‬وفي رواية ‪ :‬خالد بن الوليد ‪[ -‬ول بُعد‬
‫في الجمع] (‪ - )2‬رسول ال في قتله ‪ ،‬فقال ‪" :‬دَعْهُ فإنه يخرج من ضِ ْئضِئ هذا ‪ -‬أي ‪ :‬من‬
‫حقِرُ أحدكم صلته مع صلتهم ‪ ،‬وصيامه مع صيامهم ‪ ،‬وقراءته مع قراءتهم ‪،‬‬
‫جنسه ‪ -‬قوم َي ْ‬
‫َيمْ ُرقُونَ من الدين كما َيمْرُقُ السهم من ال ّرمِيّة ‪ ،‬فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ‪ ،‬فإن في قتلهم أجْرًا (‪)3‬‬
‫لمن قتلهم‪.‬‬
‫ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب ‪ ،‬وقتلهم (‪ )4‬بال ّنهْروان ‪ ،‬ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل‬
‫ج ْهمِيّة ‪ ،‬وغير‬
‫حلٌ كثيرة منتشرة ‪ ،‬ثم نَ َبعَت القَدَرَيّة ‪ ،‬ثم المعتزلة ‪ ،‬ثم ال َ‬
‫وآراء وأهواء ومقالت ونِ َ‬
‫ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله ‪" :‬وستفترق هذه المة على ثلث‬
‫وسبعين فِ ْرقَةً ‪ ،‬كلها في النار إل واحدة" قالوا ‪[ :‬من] (‪ )5‬هم يا رسول ال ؟ قال ‪ " :‬من كان‬
‫على ما أنا عليه وأصحابي" أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة (‪.)6‬‬
‫وقال الحافظ أبو َيعْلَى ‪ :‬حدثنا أبو موسى ‪ ،‬حدثنا عمرو بن عاصم ‪ ،‬حدثنا المعتمر ‪ ،‬عن أبيه ‪،‬‬
‫عن قتادة ‪ ،‬عن الحسن عن جندب بن عبد ال أنه بلغه ‪ ،‬عن حذيفة ‪ -‬أو سمعه منه ‪ -‬يحدث عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه ذكر ‪ " :‬إن في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر ال ّدقَل ‪،‬‬
‫يَتَأوُّلوْنَهُ على غير تأويله"‪[ .‬لم] (‪ )7‬يخرجوه (‪.)8‬‬
‫[وقوله] (‪َ { )9‬ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّهُ } اختلف القراء في الوقف هاهنا ‪ ،‬فقيل ‪ :‬على الجللة ‪،‬‬
‫كما تقدم عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬التفسير على أربعة أنحاء ‪ :‬فتفسير ل يعذر أحد في فهمه ‪،‬‬
‫وتفسير تعرفه (‪ )10‬العرب من لغاتها ‪ ،‬وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ‪ ،‬وتفسير ل يعلمه إل‬
‫ال عز وجل‪ .‬ويروى هذا القول عن عائشة ‪ ،‬وعروة ‪ ،‬وأبي الشعثاء ‪ ،‬وأبي َنهِيك ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير ‪ :‬حدثنا هاشم بن مرثد (‪ )11‬حدثنا محمد بن‬
‫ضمْضَم بن زُرْعَة ‪ ،‬عن شُرَيْح بن عبيد ‪ ،‬عن أبي‬
‫إسماعيل بن عياش ‪ ،‬حدثني أبي ‪ ،‬حدثني َ‬
‫مالك الشعري أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬ل أخاف على أمّتي إل ثلث‬
‫خلل ‪ :‬أن يكثر لهم المال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في و ‪" :‬النبي"‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ر ‪" :‬أجر" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬فقتلهم"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬ومن"‪.‬‬
‫(‪ )6‬المستدرك (‪ )1/28‬من حديث عبد ال بن عمرو ‪ ،‬والزيادة هي قوله ‪" :‬كلها في النار إل‬
‫واحدة" ‪ ،‬وقد ضعفها ابن الوزير ونسبه إلى ابن حزم ‪ ،‬وللشيخ ناصر اللباني بحث أثبت فيه‬
‫صحة هذه الزيادة فليراجع السلسلة الصحيحة برقم (‪.)204‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪" :‬ولم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (‪ )3/300‬وعزاه لبي يعلى ‪ ،‬لكنه ذكره من‬
‫حديث عائشة‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من و‪.‬‬
‫(‪ )10‬في ر ‪" :‬يعرفه"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في هـ ‪ ،‬جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬مزيد"‪.‬‬

‫( ‪)2/10‬‬
‫فيتحاسدوا فيقتتلوا ‪ ،‬وأن يفتح لهم الكتاب (‪ )1‬فيأخذه (‪ )2‬المؤمن يبتغي تأويله ‪َ { ،‬ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ‬
‫إِل اللّ ُه وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ [ ُكلّ مِنْ عِ ْندِ رَبّنَا َومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو اللْبَابِ] (‪} )3‬‬
‫الية ‪ ،‬وأن يزداد علمهم فيضيعوه ول يبالون عليه " غريب جدا (‪ )4‬وقال الحافظ أبو بكر بن‬
‫مردويه ‪ :‬حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ‪ ،‬أخبرنا أحمد بن عمرو ‪ ،‬أخبرنا هشام بن عمار ‪،‬‬
‫أخبرنا ابن أبي حاتم (‪ )5‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن ابن العاص ‪ ،‬عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا ‪ ،‬فما عرفتم منه‬
‫فاعملوا به ‪ ،‬وما تشابه منه فآمنوا به" (‪.)6‬‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ :‬أنبأنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن ابن طاوس ‪ ،‬عن أبيه قال ‪ :‬كان ابن عباس يقرأ ‪" :‬وما‬
‫يعلم تأويله إل ال ‪ ،‬ويقول الراسخون ‪ :‬آمنا به" (‪ )7‬وكذا رواه ابن جرير ‪ ،‬عن عمر بن عبد‬
‫العزيز ‪ ،‬ومالك بن أنس ‪ :‬أنهم يؤمنون به ول يعلمون تأويله‪ .‬وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد‬
‫ال بن مسعود ‪" :‬إن تأويله إل عند ال والراسخون في العلم يقولون آمنا به"‪ .‬وكذا عن أبي بن‬
‫كعب‪ .‬واختار ابن جرير هذا القول‪.‬‬
‫ومنهم من يقف على قوله ‪ { :‬وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الصول ‪،‬‬
‫وقالوا ‪ :‬الخطاب بما ل يفهم بعيد‪.‬‬
‫وقد روى ابن أبي نجَِيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال ‪ :‬أنا من الراسخين الذين يعلمون‬
‫تأويله‪ .‬وقال ابن أبي نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ :‬والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به‪.‬‬
‫وكذا قال الربيع بن أنس‪.‬‬
‫وقال محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن محمد بن جعفر بن الزبير ‪َ { :‬ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ } الذي أراد ما أراد‬
‫سخُونَ فِي ا ْلعِ ْلمِ َيقُولُونَ آمَنّا ِبهِ } ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل‬
‫{ إِل اللّ ُه وَالرّا ِ‬
‫ح َكمَة التي ل تأويل لحد فيها إل تأويل واحد ‪ ،‬فاتسق بقولهم الكتاب ‪ ،‬وصدق بعضه (‪)8‬‬
‫المُ ْ‬
‫بعضًا ‪ ،‬فنفذت الحجة ‪ ،‬وظهر به العذر ‪ ،‬وزاح به الباطل ‪ ،‬ودفع به الكفر‪.‬‬
‫وفي الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم دعا لبن عباس فقال ‪" :‬اللهم فَ ّقهْهُ في الدين‬
‫وعلمه التأويل"‪.‬‬
‫ومن العلماء من فصل في هذا المقام ‪ ،‬فقال ‪ :‬التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان ‪ ،‬أحدهما‬
‫‪ :‬التأويل بمعنى حقيقة الشيء ‪ ،‬وما يؤول أمره إليه ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى‬
‫حقّا } [ يوسف ‪:‬‬
‫جعََلهَا رَبّي َ‬
‫سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ‬
‫ش وَخَرّوا َلهُ ُ‬
‫ا ْلعَرْ ِ‬
‫‪ ]100‬وقوله (‪َ { )9‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل تَ ْأوِيلَهُ َيوْمَ يَأْتِي تَ ْأوِيلُهُ } [ العراف ‪ ]53 :‬أي ‪ :‬حقيقة ما‬
‫أخبروا به من أمر المعاد ‪ ،‬فإن أريد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ر ‪ ،‬أ ‪" :‬الكتب" وفي و ‪" :‬تفتح لهم الكتب"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪" :‬ليأخذ"‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬الطبراني في الكبير (‪ )3/292‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪" : )1/128‬فيه محمد بن‬
‫إسماعيل بن عياش عن أبيه ولم يسمع من أبيه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬حازم"‪.‬‬
‫(‪ )6‬ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن ‪ ،‬وابن سعد في الطبقات الكبرى (‪ )4/1/197‬وإسناده‬
‫حسن‪.‬‬
‫(‪ )7‬عبد الرزاق في تفسيره برقم (‪.)377‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪" :‬بعضهم"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬وقال"‪.‬‬

‫( ‪)2/11‬‬

‫بالتأويل هذا ‪ ،‬فالوقف على الجللة ؛ لن حقائق المور وكنهها ل يعلمه على الجلية إل ال عز‬
‫سخُونَ فِي ا ْلعِ ْلمِ } مبتدأ و { َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ } خبره‪ .‬وأما إن أريد‬
‫وجل ‪ ،‬ويكون قوله ‪ { :‬وَالرّا ِ‬
‫بالتأويل المعنى الخر (‪ )1‬وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى ‪ { :‬نَبّئْنَا‬
‫سخُونَ‬
‫بِتَ ْأوِيلِهِ } [ يوسف ‪ ] 36 :‬أي ‪ :‬بتفسيره ‪ ،‬فإن أريد به هذا المعنى ‪ ،‬فالوقف على ‪ { :‬وَالرّا ِ‬
‫فِي ا ْلعِلْمِ } لنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا العتبار ‪ ،‬وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق‬
‫الشياء على كنه ما هي عليه ‪ ،‬وعلى هذا فيكون قوله ‪َ { :‬يقُولُونَ آمَنّا ِبهِ } حال (‪ )2‬منهم ‪،‬‬
‫وساغ هذا ‪ ،‬وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬لِ ْلفُقَرَاءِ ا ْل ُمهَاجِرِينَ‬
‫الّذِينَ أُخْ ِرجُوا مِنْ دِيارِ ِه ْم وََأمْوَاِلهِمْ } إلى قوله ‪[ { :‬وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َب ْعدِهِمْ ] (‪َ )3‬يقُولُونَ رَبّنَا‬
‫خوَانِنَا [الّذِينَ سَ َبقُونَا بِاليمَانِ] (‪ } )4‬الية [ الحشر ‪ ، ] 10 - 8 :‬وكقوله تعالى ‪:‬‬
‫غفِرْ لَنَا وَل ْ‬
‫اْ‬
‫صفّا } [الفجر ‪ ] 22 :‬أي ‪ :‬وجاءت الملئكة صفوفًا صفوفًا‪.‬‬
‫ك صَفّا َ‬
‫ك وَا ْلمََل ُ‬
‫{ وَجَاءَ رَ ّب َ‬
‫وقوله إخبارًا عنهم أنهم { َيقُولُونَ آمَنّا ِبهِ } أي ‪ :‬بالمتشابه { ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا } أي ‪ :‬الجميع من‬
‫المحكم والمتشابه حق وصدق ‪ ،‬وكل واحد منهما يصدق الخر ويشهد له ؛ لن الجميع من عند‬
‫ن وََلوْ كَانَ مِنْ عِ ْندِ‬
‫ال وليس شيء من عند ال بمختلف ول متضاد لقوله ‪َ { :‬أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآ َ‬
‫غَيْرِ اللّهِ َلوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلفًا كَثِيرًا } [ النساء ‪ ] 82 :‬ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬ومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو‬
‫اللْبَابِ } أي ‪ :‬إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم‬
‫المستقيمة‪.‬‬
‫صيّ ‪ ،‬حدثنا ُنعَيْم بن حماد ‪ ،‬حدثنا فياض‬
‫ح ْم َ‬
‫وقد قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا محمد بن عوف ال ِ‬
‫ال ّر ّقيّ ‪ ،‬حدّثنا عبد ال (‪ )5‬بن يزيد ‪ -‬وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أنسًا ‪،‬‬
‫وأبا أمامة ‪ ،‬وأبا الدرداء ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا أبو الدرداء ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ‪ ،‬فقال ‪" :‬من بَرّت يمينه ‪ ،‬وصدق لسانه ‪ ،‬واستقام قلبه ‪،‬‬
‫عفّ (‪ )6‬بطنه وفرجه ‪ ،‬فذلك من الراسخين في العلم" (‪.)7‬‬
‫ومن أَ َ‬
‫وقال المام أحمد ‪ :‬حدثنا عبد الرزاق ‪ ،‬حدثنا َم ْعمَر ‪ ،‬عن الزهري ‪ ،‬عن عمر بن شعيب عن‬
‫أبيه ‪ ،‬عن جده قال ‪ :‬سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال ‪" :‬إنما هلك من‬
‫كان قبلكم بهذا ‪ ،‬ضربوا كتاب ال بعضه ببعض ‪ ،‬وإنما أنزل (‪ )8‬كتاب ال ليصدق بعضه بعضًا‬
‫‪ ،‬فل تكذبوا بعضه ببعض ‪ ،‬فما علمتم منه فقولوا ‪ ،‬وما جهلتم َفكِلُوهُ إلى عَاِلمِه" (‪.)9‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ ‪" :‬الخير"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ر ‪" :‬حال" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )5‬في و ‪" :‬عبيد ال"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬عف"‪.‬‬
‫(‪ )7‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )2/72‬ورواه الطبري (‪ )6/207‬والطبراني في الكبير كما في الدر (‬
‫‪ )2/151‬من طريق عبد ال بن يزيد به‪ .‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪" : )6/324‬عبد ال بن‬
‫يزيد ضعيف"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬نزل"‪.‬‬
‫(‪ )9‬المسند (‪ )2/185‬ورواه ابن ماجة برقم (‪ )85‬والبغوي في شرح السنة (‪ )1/260‬من طريق‬
‫عمرو بن شعيب به‪ .‬وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجة" (‪" : )1/58‬إسناده صحيح ورجاله‬
‫ثقات"‪.‬‬

‫( ‪)2/12‬‬

‫و[قد] (‪ )1‬تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث ‪ ،‬من طريق هشام بن عمار ‪ ،‬عن ابن أبي حازم (‬
‫‪ )2‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمرو بن شعيب ‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده ‪ ،‬حدثنا زهير بن حرب ‪،‬‬
‫حدثنا أنس بن عياض ‪ ،‬عن أبي حازم ‪ ،‬عن أبي سلمة قال ‪ :‬ل أعلمه إل عن أبي هريرة ‪ ،‬أن (‬
‫‪ )3‬رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬نزل القرآن على سبعة أحرف ‪ ،‬والمِرَاءُ في القرآن‬
‫كفر ‪ -‬ثلثًا ‪ -‬ما عرفتم منه فاعملوا به ‪ ،‬وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه"‪.‬‬
‫وهذا إسناد صحيح ‪ ،‬ولكن فيه علة بسبب قول الراوي ‪" :‬ل أعلمه إل عن أبي هريرة" (‪.)4‬‬
‫وقال ابن المنذر في تفسيره ‪ :‬أخبرنا محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ‪ ،‬أخبرنا ابن وهب قال ‪:‬‬
‫أخبرني نافع بن يزيد قال ‪ :‬يقال ‪ :‬الراسخون في العلم المتواضعون ل ‪ ،‬المتذللون ل في‬
‫مرضاته ‪ ،‬ل يتعاطون (‪ )5‬من فوقهم ‪ ،‬ول يحقرون من دونهم‪[ .‬ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬ومَا َي ّذكّرُ‬
‫إِل أُولُو اللْبَابِ } أي ‪ :‬إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم‬
‫المستقيمة] (‪.)6‬‬
‫ثم قال تعالى عنهم مخبرًا أنهم (‪ )7‬دعوا ربهم قائلين ‪ { :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا } أي ‪:‬‬
‫ل تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ول تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ ‪ ،‬الذين يتبعون ما تشابه‬
‫من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ‪ ،‬ودينك القويم { وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ } أي ‪ :‬من‬
‫حمَةً } تثبت بها قلوبنا ‪ ،‬وتجمع بها شملنا ‪ ،‬وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا { إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ‬
‫عندك { رَ ْ‬
‫}‬
‫قال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا عمرو بن عبد ال الوْدِي ‪ -‬وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا أبو كُرَيْب ‪ -‬قال‬
‫حوْشَب ‪ ،‬عن أم سلمة ‪ ،‬رضي‬
‫جميعًا ‪ :‬حدثنا َوكِيع ‪ ،‬عن عبد الحميد بن َبهْرام ‪ ،‬عن شهر بن َ‬
‫ال عنها ‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول ‪" :‬يا ُمقَّلبَ القلوب ثَ ّبتْ قلبي على دينك" ثم قرأ‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ } رواه ابن مردويه‬
‫‪ { :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ‬
‫من طريق محمد بن َبكّار ‪ ،‬عن عبد الحميد بن بهرام ‪ ،‬عن شهر بن حوشب ‪ ،‬عن أم سلمة ‪،‬‬
‫وهي (‪ )8‬أسماء بنت يزيد (‪ )9‬بن السكن ‪ ،‬سمعها تحد ث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫كان يكثر في دعائه ‪" :‬اللهم مقلب القلوب ‪ ،‬ثبت قلبي على دينك" قالت ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫وإن القلب ليتقلب (‪ )10‬؟ قال ‪" :‬نعم ‪ ،‬ما خلق ال من بني آدم من بشر إل أن قلبه بين أصبعين‬
‫من أصابع ال عز وجل ‪ ،‬فإن شاء أقامه ‪ ،‬وإن شاء أزاغه"‪ .‬فنسأل ال ربنا أل يزيغ قلوبنا بعد إذ‬
‫هدانا ‪ ،‬ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة ‪ ،‬إنه هو الوهاب‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى ‪ ،‬عن عبد الحميد بن بهرام ‪ ،‬به مثله‪ .‬ورواه‬
‫أيضًا عن المثنى ‪ ،‬عن الحجاج بن مِ ْنهَال ‪ ،‬عن عبد الحميد بن بهرام ‪ ،‬به مثله ‪ ،‬وزاد ‪" :‬قلت (‬
‫‪ )11‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬حاتم"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬فإن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬أبو يعلى في المسند برقم (‪ )6016‬ومن طريقه رواه ابن حبان في صحيحه (‪)1/146‬‬
‫"الحسان" ورواه أحمد في المسند (‪ )2/300‬والنسائي في الكبرى (‪ )5/33‬من طريق أنس بن‬
‫عياض به‪ .‬وليس في رواية النسائي الشك "ل أعلمه"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪" :‬يتعاظمون"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ‪.‬‬
‫(‪ )7‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬عنهم"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في و ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في أ ‪" :‬زيد"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في و ‪" :‬ليقلب"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وزاد ‪" :‬قالت ‪ :‬قلت"‪.‬‬

‫( ‪)2/13‬‬

‫أل تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال ‪" :‬بلى قولي ‪ :‬اللهم رب النبي محمد ‪ ،‬اغفر لي ذنبي ‪،‬‬
‫وأذهب غَيْظ قلبي ‪ ،‬وأجِرْنِي من ُمضِلتِ الفتن" (‪.)1‬‬
‫ثم قال ابن مردويه ‪ :‬حدثنا سليمان بن أحمد ‪ ،‬حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي ‪ ،‬أخبرنا‬
‫العباس بن الوليد الخلل ‪ ،‬أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد ال ‪ ،‬أخبرنا سعيد بن بشير ‪ ،‬عن‬
‫قتادة ‪ ،‬عن أبي حسان العرج (‪ )2‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬كان رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم كثيرًا ما يدعو ‪" :‬يا مقلب القلوب ‪ ،‬ثبت قلبي على دينك" ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء‪ .‬فقال ‪" :‬ليس من قلب إل وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ‪ ،‬إذا‬
‫شاء أن يقيمه أقامه ‪ ،‬وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ‪ ،‬أما تسمعين قوله ‪ { :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ إِذْ‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ }‪ .‬غريب من هذا الوجه ‪ ،‬ولكن أصله ثابت في‬
‫هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ‬
‫الصحيحين ‪ ،‬وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الية الكريمة‪.‬‬
‫وقد روى أبو داود والنسائي وابن مردويه ‪ ،‬من حديث أبي عبد الرحمن المقري ‪ -‬زاد النسائي‬
‫وابن حبان ‪ :‬وعبد ال بن وهب ‪ ،‬كلهما عن سعيد بن أبي أيوب حدّثني عبد ال بن الوليد‬
‫التّجيبي ‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال ‪" :‬ل إله إل أنت سبحانك ‪ ،‬اللهم إني أستغفرك لذنبي ‪ ،‬وأسألك‬
‫رحمة ‪ ،‬اللهم زدني علمًا ‪ ،‬ول تزغ قلبي بعد إذ هديتني ‪ ،‬وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت‬
‫الوهاب" لفظ ابن مردويه (‪.)3‬‬
‫سيّ‬
‫وقال عبد الرزاق ‪ ،‬عن مالك ‪ ،‬عن أبي عبيد ‪ -‬مولى سليمان بن عبد الملك ‪ -‬عن عبادة بن ُن َ‬
‫‪ ،‬أنه أخبره ‪ ،‬أنه سمع قيس بن الحارث يقول ‪ :‬أخبرني أبو عبد ال الصُنَابِحي ‪ ،‬أنه صلى وراء‬
‫أبي بكر الصديق المغرب ‪ ،‬فقرأ أبو بكر في الركعتين الوليين (‪ )4‬بأم القرآن وسورتين من‬
‫قصار المفصل ‪ ،‬وقرأ في الركعة الثالثة ‪ ،‬قال ‪ :‬فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ‪،‬‬
‫فسمعته يقرأ (‪ )5‬بأم القرآن وهذه الية ‪ { :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا [وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ] (‪.} )7( )6‬‬
‫رَ ْ‬
‫سيّ ‪ :‬أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلفته ‪ ،‬فقال‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬وأخبرني عُبَادة بن نُ َ‬
‫عمر لقيس ‪ :‬كيف أخبرتني عن أبي عبد ال الصنابحي فأخبره بما سمع أبا عبد ال ثانيا‪ .‬قال‬
‫عمر ‪ :‬فما تركناها منذ سمعناها منه ‪ ،‬وإن كنت (‪ )8‬قبل ذلك َلعَلَى غير ذلك‪ .‬فقال له رجل ‪:‬‬
‫على أي شيء كان‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ابن أبي حاتم في تفسيره (‪ )2/84‬والطبري في تفسيره (‪ )6/213‬ورواه أحمد في المسند (‬
‫‪ )6/315‬والترمذي في السنن (‪ )3522‬وابن أبي عاصم في السنة برقم (‪ )223‬من طريق أبي‬
‫كعب صاحب الحرير عن شهر بن حوشب به‪ .‬وللحديث شواهد عن عائشة وأنس وجابر والنواس‬
‫بن سمعان رضي ال عنهم‪.‬‬
‫(‪ )2‬في هـ ‪ ،‬جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬عن حسان العرج"‪.‬‬
‫(‪ )3‬أبو داود في السنن برقم (‪ )5061‬والنسائي في الكبرى برقم (‪.)10701‬‬
‫(‪ )4‬في ر ‪" :‬الولتين"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في و ‪" :‬يقرأ أي في الثالثة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪ ،‬وفي هـ ‪" :‬الية"‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه مالك في الموطأ (‪.)1/79‬‬
‫(‪ )8‬في أ ‪" :‬كعب"‪.‬‬

‫( ‪)2/14‬‬

‫حدٌ } [ الخلص ‪ ]1 :‬وقد روى هذا‬


‫أمير المؤمنين قبل ذلك ؟ قال ‪ :‬كنت أقرأ { ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫الثر الوليد بن مسلم ‪ ،‬عن مالك والوزاعي ‪ ،‬كلهما عن أبي عبيد ‪ ،‬به‪.‬ورواه الوليد أيضًا ‪،‬‬
‫عن ابن جابر ‪ ،‬عن يحيى بن يحيى الغساني ‪ ،‬عن محمود بن لبيد ‪ ،‬عن الصّنَابِحي ‪ :‬أنه صلى‬
‫خلف أبي بكر ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬المغرب فقرأ في الوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة ‪ ،‬يجهر‬
‫بالقراءة ‪ ،‬فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه ‪ ،‬فقرأ هذه الية ‪:‬‬
‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ ] (‪.} )1‬‬
‫{ رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا [ َبعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ رَ ْ‬
‫وقوله ‪ { :‬رَبّنَا إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ ل رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ اللّهَ ل يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ } أي ‪ :‬يقولون في‬
‫دعائهم ‪ :‬إنك ‪ -‬يا ربنا ‪ -‬ستجمع بين خلقك يوم معادهم ‪ ،‬وتفصل بينهم وتحكم فيهم (‪ )2‬فيما‬
‫اختلفوا فيه ‪ ،‬وتجزي كل بعمله ‪ ،‬وما كان عليه في الدنيا من خير وشر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من جـ ‪ ، ،‬أ ‪ ،‬و ‪ ،‬وفي هـ ‪" :‬الية"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬بينهم"‪.‬‬
‫( ‪)2/15‬‬

‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ ُه ْم َوقُودُ النّارِ (‪َ )10‬كدَ ْأبِ‬
‫خذَهُمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (‪)11‬‬
‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫َآلِ فِرْ َ‬

‫{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْن ُهمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْلدُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَ ِئكَ هُمْ َوقُودُ النّارِ (‪)10‬‬
‫خذَ ُهمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (‪} )11‬‬
‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫يخبر تعالى عن الكفار أنهم وقود النار ‪َ { ،‬يوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُتهُ ْم وََلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ‬
‫الدّارِ } [ غافر ‪ ] 52 :‬وليس ما أوتوه في الدنيا من الموال والولد بنافع لهم عند ال ‪ ،‬ول‬
‫بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه ‪ ،‬بل كما قال تعالى ‪ { :‬وَل ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُمْ وََأوْلدُ ُهمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ‬
‫سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة ‪ ] 85 :‬وقال تعالى ‪ { :‬ل (‪)1‬‬
‫أَنْ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَ ْنفُ ُ‬
‫جهَنّمُ وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } [ آل عمران ‪196 :‬‬
‫َيغُرّ ّنكَ َتقَلّبُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِلدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَ ْأوَا ُهمْ َ‬
‫‪ ] 197 :‬كما قال هاهنا ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أي ‪ :‬بآيات ال وكذبوا رسله ‪ ،‬وخالفوا كتابه ‪ ،‬ولم‬
‫ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْل ُدهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَ ِئكَ ُه ْم َوقُودُ‬
‫صبُ‬
‫ح َ‬
‫النّارِ } أي ‪ :‬حطبها الذي تسجر به وتوقد به ‪ ،‬كقوله ‪ { :‬إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫جهَنّمَ [أَنْتُمْ َلهَا وَارِدُونَ] } (‪[ )2‬النبياء ‪.]98 :‬‬
‫َ‬
‫وقال ابن أبي حاتم ‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬حدثنا ابن أبي مريم ‪ ،‬أخبرنا ابن َلهِيْعة ‪ ،‬أخبرني ابن الهاد ‪،‬‬
‫عن هند بنت الحارث ‪ ،‬عن أم الفضل أم عبد ال بن عباس قالت ‪ :‬بينما نحن بمكة قام رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم من الليل ‪ ،‬فقال (‪ )3‬هل بلغت ‪ ،‬اللهم هل بلغت‪ "...‬ثلثًا ‪ ،‬فقام عمر بن‬
‫الخطاب فقال ‪ :‬نعم‪ .‬ثم أصبح فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ليظهرن السلم حتى يرد الكفر‬
‫إلى مواطنه ‪ ،‬وَلَ َتخُوضُنّ (‪ )4‬البحار بالسلم ‪ ،‬وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن‬
‫ويقرؤونه ‪ ،‬ثم يقولون ‪ :‬قد قرأنا وعلمنا ‪ ،‬فمن هذا الذي هو خير منا ‪ ،‬فهل في أولئك من خير ؟"‬
‫قالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬فمن أولئك ؟ قال ‪" :‬أولئك منكم (‪ )5‬وأولئك هم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬ول" وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪ ،‬وفي هـ ‪" :‬الية"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬فنادى"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪ : " :‬وليخوضن"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪ :‬منهم"‪.‬‬

‫( ‪)2/15‬‬
‫وقود النار"‪ .‬وكذا رأيته بهذا اللفظ‪.‬‬
‫وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد ال بن الهاد ‪ ،‬عن هند بنت الحارث ‪ ،‬امرأة عبد ال‬
‫بن شداد ‪ ،‬عن أم الفضل ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال ‪" :‬هل بلغت"‬
‫يقولها ثلثا ‪ ،‬فقام عمر بن الخطاب ‪ -‬وكان أوّاها ‪ -‬فقال ‪ :‬اللهم نعم ‪ ،‬وحرصتَ وجهدتَ‬
‫ونصحتَ فاصبر‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ليظهرن اليمان حتى ير ّد الكفر إلى‬
‫مواطنه ‪ ،‬وليخوضنّ رجال البحار بالسلم (‪ )1‬وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن ‪،‬‬
‫فيقرؤونه ويعلمونه ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬قد قرأنا ‪ ،‬وقد علمنا ‪ ،‬فمن هذا الذي هو خير منا ؟ فما في أولئك‬
‫من خير" قالوا ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬فمن أولئك ؟ قال ‪" :‬أولئك منكم ‪ ،‬وأولئك هم وقود النار" (‪ )2‬ثم‬
‫رواه من طريق موسى بن عبيد ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم ‪ ،‬عن بنت الهاد ‪ ،‬عن العباس بن عبد‬
‫المطلب بنحوه‪.‬‬
‫عوْنَ } قال الضحاك ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬كصنيع آل فرعون‪ .‬وكذا‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫روي عن عكرمة ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وأبي مالك ‪ ،‬والضحاك ‪ ،‬وغير واحد ‪ ،‬ومنهم من يقول ‪ :‬كسنة آل‬
‫فرعون ‪ ،‬وكفعل آل فرعون وكشبه (‪ )3‬آل فرعون ‪ ،‬واللفاظ متقاربة‪ .‬والدأب ‪ -‬بالتسكين ‪،‬‬
‫والتحريك أيضًا ك َنهْر و َنهَر ‪ : -‬هو الصنع (‪ )4‬والشأن والحال والمر والعادة ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬ل‬
‫يزال هذا دأبي ودأبك ‪ ،‬وقال امرؤ القيس ‪:‬‬
‫وقوفا بها صحبي على مطيهم‪ ...‬يقولون ‪ :‬ل تهلك (‪ )5‬أسى وتجمل (‪)6‬‬
‫كدأبك من أم الحويرث (‪ )7‬قبلها‪ ...‬وجارتها أم الرباب بمأسل (‪)8‬‬
‫والمعنى ‪ :‬كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها‪.‬‬
‫والمعنى في الية ‪ :‬أن الكافرين ل تغني (‪ )9‬عنهم الولد ول الموال ‪ ،‬بل يهلكون ويعذبون ‪،‬‬
‫كما جرى لل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل (‪ )10‬فيما جاؤوا (‪ )11‬به من آيات ال‬
‫وحججه‪.‬‬
‫خذَهُمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِمْ ] (‪ )12‬وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }‬
‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫{ [ َكدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬
‫أي ‪ :‬شديد الخذ أليم العذاب ‪ ،‬ل يمتنع منه أحد ‪ ،‬ول يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد ‪ ،‬الذي‬
‫[قد] (‪ )13‬غلب كل شيء وذل له كل شيء ‪ ،‬ل إله غيره ول رب سواه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪" :‬بإسلمهم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ )2/90‬وفيه ابن لهيعة ‪ ،‬وقد توبع ‪ ،‬تابعه عبد العزيز بن أبي حازم عن‬
‫يزيد بن الهاد به‪ .‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )12/250‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد ‪:‬‬
‫(‪" )1/186‬رجاله ثقات ‪ ،‬إل أن هند بنت الحارث الخثعمية التابعية لم أر من وثقها ول من‬
‫جرحها"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬وكشبيه"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬الصنيع"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬تأسف"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬تحملي" ‪ ،‬وفي و ‪" :‬تحمل"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬الحويرة"‪.‬‬
‫(‪ )8‬البيت في تفسير الطبري (‪ )6/225‬وديوان امرئ القيس (‪ ، )125‬والبيت من معلقته‬
‫المشهورة‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ر ‪ ،‬أ "يغني"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬بالرسل"‪.‬‬
‫(‪ )11‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬جاءوهم"‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )13‬زيادة من أ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫( ‪)2/16‬‬

‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (‪َ )12‬قدْ كَانَ َلكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا‬
‫ُقلْ لِلّذِينَ َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى َ‬
‫ن وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ َيشَاءُ إِنّ فِي‬
‫فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْ ِ‬
‫ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ (‪)13‬‬

‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (‪ )12‬قَدْ كَانَ َل ُكمْ آ َيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا‬
‫حشَرُونَ إِلَى َ‬
‫ن وَتُ ْ‬
‫{ ُقلْ لِلّذِينَ َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُو َ‬
‫ن وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ َيشَاءُ إِنّ فِي‬
‫فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْ ِ‬
‫ذَِلكَ َلعِبْ َر ًة لولِي ال ْبصَارِ (‪} )13‬‬
‫يقول تعالى ‪ :‬قل يا محمد للكافرين ‪ { :‬سَ ُتغْلَبُونَ } أي ‪ :‬في الدنيا ‪ { ،‬وَتُحْشَرُونَ } أي ‪ :‬يوم‬
‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ }‪.‬‬
‫القيامة { إِلَى َ‬
‫وقد ذكر محمد بن إسحاق بن (‪ )1‬يسار ‪ ،‬عن عاصم بن عمر بن قتادة ؛ أن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة ‪ ،‬جمع اليهود في سوق بني‬
‫قَيْ ُنقَاع وقال ‪ " :‬يا معشر يهود ‪ ،‬أسلموا قبل أن يصيبكم ال ما (‪ )2‬أصاب قريشًا"‪ .‬فقالوا ‪ :‬يا‬
‫محمد ‪ ،‬ل يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا ل يعرفون القتال ‪ ،‬إنك وال لو‬
‫(‪ )3‬قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ‪ ،‬وأنك لم تلق مثلنا ؟ فأنزل ال في ذلك من قولهم ‪ُ { :‬قلْ لِلّذِينَ‬
‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } إلى قوله ‪َ { :‬لعِبْ َرةً (‪ )4‬لولِي ال ْبصَارِ } (‬
‫حشَرُونَ ِإلَى َ‬
‫ن وَتُ ْ‬
‫َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُو َ‬
‫‪.)5‬‬
‫وقد رواه ابن إسحاق أيضًا ‪ ،‬عن محمد بن أبي محمد ‪ ،‬عن سعيد أو عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫فذكره ؛ ولهذا قال تعالى ‪َ { :‬قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ } أي ‪ :‬قد كان لكم ‪ -‬أيها اليهود القائلون ما قلتم ‪{ -‬‬
‫آيَةٌ } أي ‪ :‬دللة على أن ال معز دينه ‪ ،‬وناصر رسوله ‪ ،‬ومظهر كلمته ‪ ،‬ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ‬
‫} أي ‪ :‬طائفتين { الْ َتقَتَا } أي ‪ :‬للقتال { فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وهم المسلمون ‪ { ،‬وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ‬
‫} وهم مشركو قريش يوم بدر‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ } قال بعض العلماء ‪ -‬فيما حكاه ابن جرير ‪ :‬يرى المشركون‬
‫يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ‪ ،‬أي ‪ :‬جعل ال ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة‬
‫السلم عليهم‪ .‬وهذا ل إشكال عليه إل من جهة واحدة ‪ ،‬وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد‬
‫يومئذ قبل القتال يحزر (‪ )6‬لهم المسلمين ‪ ،‬فأخبرهم بأنهم ثلثمائة ‪ ،‬يزيدون قليل أو ينقصون‬
‫قليل‪ .‬وهكذا كان المر ‪ ،‬كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجل ثم لما وقع القتال أمدّهم ال بألف من‬
‫خواص الملئكة وساداتهم‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ " :‬أن المعنى في قوله ‪ { :‬يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ } أي ‪ :‬ترى الفئة المسلمة‬
‫الفئة الكافرة مثليهم ‪ ،‬أي ‪ :‬ضعفيهم في العدد ‪ ،‬ومع هذا نصرهم (‪ )7‬ال عليهم‪ .‬وهذا ل إشكال‬
‫فيه على ما رواه العوفي ‪ ،‬عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلثمائة وثلثة عشر رجل‬
‫والمشركين (‪ )8‬كانوا ستمائة وستة وعشرين رجل‪ .‬وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الية ‪،‬‬
‫ولكنه خلف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ‪ ،‬وخلف المعروف عند الجمهور‬
‫من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى اللف كما رواه محمد بن إسحاق ‪ ،‬عن يزيد بن‬
‫رومان ‪ ،‬عن عروة بن الزبير ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما سأل ذلك العبد‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ر ‪" :‬عن"‪.‬‬
‫(‪ )2‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬بما"‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬إن"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ر ‪ ،‬و ‪" :‬عبرة"‪.‬‬
‫(‪ )5‬السيرة لبن إسحاق (ق ‪ 162‬ظاهرية)‪.‬‬
‫(‪ )6‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬يحرز"‪.‬‬
‫(‪ )7‬في أ ‪" :‬نصر"‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬والمشركون"‪.‬‬

‫( ‪)2/17‬‬
‫السود لبني الحجاج عن عدّة قريش ‪ ،‬فقال ‪ :‬كثير ‪ ،‬قال ‪" :‬كم ينحرون كل يوم ؟" قال ‪ :‬يومًا‬
‫تسعًا (‪ )1‬ويومًا عشرًا ‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬القوم ما بين التسعمائة إلى اللف" (‬
‫‪.)2‬‬
‫وروى (‪ )3‬أبو إسحاق السّبِيعي ‪ ،‬عن حارثة ‪ ،‬عن علي ‪ ،‬قال ‪ :‬كانوا ألفًا ‪ ،‬وكذا قال ابن‬
‫مسعود‪ .‬والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى اللف ‪ ،‬وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلثة أمثال‬
‫المسلمين ‪ ،‬وعلى هذا فيشكل هذا القول وال أعلم‪ .‬لكن وجه ابن جرير هذا ‪ ،‬وجعله صحيحًا كما‬
‫تقول ‪ :‬عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ‪ ،‬وتكون (‪ )4‬محتاجًا إلى ثلثة آلف ‪ ،‬كذا قال‪ .‬وعلى‬
‫هذا فل إشكال‪.‬‬
‫لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ‪ ،‬وهو أن يقال ‪ :‬ما الجمع بين هذه الية وبين قوله‬
‫تعالى في قصة بدر ‪ { :‬وَِإذْ يُرِي ُكمُوهُمْ إِذِ الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِنكُمْ قَلِيل وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِنهِمْ لِ َي ْقضِيَ اللّهُ‬
‫َأمْرًا كَانَ َم ْفعُول } ؟ [ النفال ‪ ] 44 :‬والجواب ‪ :‬أن هذا كان في حال ‪ ،‬والخر كان في حال (‬
‫‪ )5‬أخرى ‪ ،‬كما قال السّدّي ‪ ،‬عن [مرة] الطيب (‪ )6‬عن ابن مسعود في قوله ‪َ { :‬قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ‬
‫فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا [فِ َئةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ ] (‪ } )7‬الية ‪،‬‬
‫ضعَفون علينا ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬هذا يوم بدر‪ .‬قال عبد ال بن مسعود ‪ :‬وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم ُي ْ‬
‫ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجل واحدًا ‪ ،‬وذلك قوله (‪ )8‬تعالى ‪ { :‬وَإِذْ يُرِي ُكمُوهُمْ ِإذِ‬
‫الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِنكُمْ قَلِيل وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِنهِمْ }‪.‬‬
‫وقال أبو إسحاق ‪ ،‬عن أبي عبيدة ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود ‪ ،‬رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬لقد قللوا في‬
‫أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي (‪ )9‬تراهم سبعين ؟ قال ‪ :‬أراهم مائة‪ .‬قال ‪ :‬فأسرنا رجل منهم‬
‫فقلنا ‪ :‬كم كنتم ؟ قال ‪ :‬ألفا‪ .‬فعندما عاين كل الفريقين الخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬أكثر منهم بالضعف ‪ ،‬ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا العانة من ربهم ‪ ،‬عز وجل‪ .‬ورأى‬
‫المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ‪ ،‬ثم لما حصل التصاف (‬
‫‪ )10‬والتقى الفريقان قلل ال هؤلء في أعين هؤلء ‪ ،‬وهؤلء في أعين هؤلء ‪ ،‬ليقدم كل منهما‬
‫على الخر‪.‬‬
‫ضيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َم ْفعُول } أي ‪ :‬ليفرّق بين الحق والباطل ‪ ،‬فيظهر كلمة اليمان على الكفر‬
‫{ لِ َي ْق ِ‬
‫‪ ،‬ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْ ُتمْ أَذِلّةٌ } [ آل‬
‫عمران ‪ ] 123 :‬وقال هاهنا ‪ { :‬وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ يَشَاءُ إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َر ًة لولِي ال ْبصَارِ }‬
‫أي ‪ :‬إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم ال وأفعاله ‪ ،‬وقدره الجاري‬
‫بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪" :‬قال ينحرون يوما تسعا"‪.‬‬
‫(‪ )2‬السيرة النبوية لبن هشام (‪.)1/616‬‬
‫(‪ )3‬في أ ‪" :‬قال"‪.‬‬
‫(‪ )4‬في أ ‪" :‬ويكون"‪.‬‬
‫(‪ )5‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬حالة"‪.‬‬
‫(‪ )6‬في هـ ‪" :‬عن الطيب"‪.‬‬
‫(‪ )7‬زيادة من جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و‪.‬‬
‫(‪ )8‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬قول"‪.‬‬
‫(‪ )9‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬جنبي"‪.‬‬
‫(‪ )10‬في أ ‪ ،‬و ‪" :‬المصاف"‪.‬‬

‫( ‪)2/18‬‬

‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّ ِة وَالْخَ ْيلِ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫حسْنُ ا ْلمََآبِ (‪ُ )14‬قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ‬
‫س ّومَ ِة وَالْأَ ْنعَا ِم وَا ْلحَ ْرثِ ذَِلكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ‬
‫ا ْلمُ َ‬
‫طهّ َرةٌ‬
‫مِنْ ذَِلكُمْ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِنْدَ رَ ّب ِهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَ ْزوَاجٌ مُ َ‬
‫وَ ِرضْوَانٌ مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ (‪)15‬‬

‫ب وَا ْل ِفضّةِ وَالْخَ ْيلِ‬


‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َه ِ‬
‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫{ زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫س ّومَ ِة وَال ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ ذَِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ (‪ُ )14‬قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ ِبخَيْرٍ‬
‫ا ْلمُ َ‬
‫طهّ َرةٌ‬
‫مِنْ ذَِلكُمْ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِنْدَ رَ ّب ِهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَأَ ْزوَاجٌ مُ َ‬
‫وَ ِرضْوَانٌ مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ (‪} )15‬‬
‫يخبر تعالى عما زُيّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملذ من النساء والبنين ‪ ،‬فبدأ بالنساء‬
‫لن الفتنة بهن أشد ‪ ،‬كما ثبت في الصحيح أنه ‪ ،‬عليه السلم ‪ ،‬قال (‪ )1‬مَا تَ َر ْكتُ َبعْدِي فِتْنَةً َأضَرّ‬
‫عَلَى الرّجَالِ مِنَ النّساء"‪ .‬فأما إذا كان القصد بهن العفاف وكثرة الولد ‪ ،‬فهذا مطلوب مرغوب‬
‫فيه مندوب إليه ‪ ،‬كما وردت الحاديث بالترغيب في التزويج والستكثار منه ‪" ،‬وإنّ خَيْرَ هَذه‬
‫عهَا المرْأةُ‬
‫المّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً" (‪ )2‬وقوله ‪ ،‬عليه السلم (‪ )3‬الدّنْيَا مَتَاع ‪ ،‬وخَيْرُ مَتَا ِ‬
‫حفِظْتُه في َنفْسهَا َومَالِهِ" (‬
‫الصّالحةُ ‪ ،‬إنْ َنظَرَ إلَيْها سَرّ ْتهُ ‪ ،‬وإنْ َأمَرَهَا َأطَاعَتْه ‪ ،‬وإنْ غَابَ عَنْها َ‬
‫‪ )4‬وقوله في الحديث الخر ‪" :‬حُ ّببَ إَليّ النّسَا ُء والطّيبُ (‪ )5‬وجُعَلتْ قُرة عَيْني فِي الصّلةِ" (‪)6‬‬
‫وقالت عائشة ‪ ،‬رضي ال عنها ‪ :‬لم يكن شيء أحب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم من‬
‫النساء إل الخيل ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬من الخيل إل النساء (‪.)7‬‬
‫وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا ‪ ،‬وتارة يكون لتكثير النسل ‪ ،‬وتكثير‬
‫أمة محمد صلى ال عليه وسلم ممن يعبد ال وحده ل شريك له ‪ ،‬فهذا محمود ممدوح ‪ ،‬كما ثبت‬
‫في الحديث ‪" :‬تَ َزوّجُوا ال َودُو َد الوَلُودَ ‪ ،‬فَإنّي ُمكَاثِرٌ ِبكُ ُم المَمَ َيوْ َم القِيَامَةِ" (‪)8‬‬
‫وحب المال ‪ -‬كذلك ‪ -‬تارة يكون للفخر والخيلء والتكبر على الضعفاء ‪ ،‬والتجبر على الفقراء ‪،‬‬
‫فهذا مذموم ‪ ،‬وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات ‪،‬‬
‫فهذا ممدوح محمود (‪ )9‬عليه شرعًا‪.‬‬
‫وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال ‪ ،‬وحاصلها ‪ :‬أنه المال الجزيل ‪ ،‬كما قاله‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في جـ ‪ ،‬ر ‪ ،‬أ ‪ ،‬و ‪" :‬أنه قال صلى ال عليه وسلم" ‪ ،‬وفي ر ‪" :‬أنه قال عليه السلم"‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري في صحيحه برقم (‪ )5069‬موقوفا على ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )3‬في جـ ‪" :‬صلى ال عليه وسلم"‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم في صحيحه برقم (‪ )1467‬والنسائي في السنن (‪ )6/69‬وابن ماجه في السنن برقم‬
‫(‪ )1855‬من حديث عبد ال بن عمرو بن العاص رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬في جـ ‪ ،‬ر ‪" :‬الطيب والنساء"‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه أحمد في المسند (‪ )3/128‬والنسائي في السنن (‪ )7/61‬من حديث أنس بن مالك رضي‬
‫ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه النسائي في الكبرى (‪ )4404‬من طريق سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك ‪ ،‬به‪ .‬وله‬
‫شاهد من حديث معقل بن يسار ‪ ،‬رواه أحمد في مسنده (‪.)5/27‬‬
‫(‪ )8‬رواه أبو داود في السنن برقم (‪ )2050‬والنسائي في السنن (‪ )6/65‬وابن حبان في صحيحه‬
‫برقم (‪" )1229‬موارد" والحاكم في المستدرك (‪ )2/162‬وصححه وأقره الذهبي من حديث معقل‬
‫بن يسار‪.‬‬
‫ورواه أحمد في المسند (‪ )3/158‬وابن حبان في صحيحه برقم (‪ )1228‬والبيهقي في السنن‬
‫الكبرى (‪ )82 ، 7/81‬من حديث أنس بن مالك‪.‬‬
‫(‪ )9‬في ر ‪" :‬محسود"‪.‬‬

‫( ‪)2/19‬‬

‫الضحاك وغيره ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ألف دينار‪ .‬وقيل ‪ :‬ألف ومائتا دينار‪ .‬وقيل ‪ :‬اثنا عشر ألفا‪ .‬وقيل ‪:‬‬
‫أربعون ألفا‪

You might also like