Professional Documents
Culture Documents
المؤلف :أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 774- 700
هـ ]
المحقق :سامي بن محمد سلمة
الناشر :دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة :الثانية 1420هـ 1999 -م
عدد الجزاء 8 :
مصدر الكتاب :موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
www.qurancomplex.com
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ،والصفحات مذيلة بحواشي المحقق ]
( )7/124
من تحتهم تَطّرد ،أنهار من ماء غير آسن -قال :صاف ،ل كدر فيه -وأنهار من لبن لم
يتغير طعمه -قال :لم يخرج من ضروع الماشية -وأنهار من خمر لذة للشاربين -قال :لم
تعصرها الرجال بأقدامهم -وأنهار من عسل مصفى -قال :لم يخرج من بطون النحل .يستجني
الثمار ،فإن شاء قائما ،وإن شاء قاعدا ،وإن شاء متكئا -ثم تل { وَدَانِ َيةً عَلَ ْيهِمْ ظِلُلهَا وَذُلَّلتْ
قُطُو ُفهَا تَذْلِيل } [النسان - ]14 :فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض -قال :وربما قال :أخضر.
قال - :فترفع أجنحتها ،فيأكل من جنوبها ،أي اللوان شاء ،ثم يطير فيذهب ( ، )1فيدخل
الملك فيقول :سلم عليكم ،تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون .ولو أن شعرة من شعر ()2
الحوراء وقعت لهل الرض ،لضاءت الشمس معها سوادًا في نور".
هذا حديث غريب ،وكأنه مرسل ،وال أعلم.
__________
( )1في س " :ثم تطير فتذهب".
( )2في ت " :شعور".
( )7/125
حمْدُ لِلّهِ
ق َوقِيلَ ا ْل َ
حمْدِ رَ ّب ِه ْم َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلحَ ّ
ح ْولِ ا ْلعَرْشِ يُسَبّحُونَ ِب َ
وَتَرَى ا ْلمَلَا ِئكَةَ حَافّينَ مِنْ َ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()75
حمْدُ ِللّهِ
ق َوقِيلَ ا ْل َ
حّضيَ بَيْ َنهُمْ بِالْ َ
ح ْمدِ رَ ّبهِ ْم َو ُق ِ
ح ْولِ ا ْلعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِ َ
{ وَتَرَى ا ْلمَل ِئكَةَ حَافّينَ مِنْ َ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (} )75
لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار ،وأنه نزل كُل في المحل الذي يليق به ويصلح له
وهو العادل في ذلك الذي ل يجور -أخبر عن ملئكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد ،
يسبحون بحمد ربهم ،ويمجدونه ( )1ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور ،وقد
ضيَ بَيْ َنهُمْ } أي :بين الخلئق
فصل القضية ،وقضى المر ،وحكم بالعدل ؛ ولهذا قال َ { :وقُ ِ
{ بِا ْلحَقّ }
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :ونطق الكون أجمعه ( - )2ناطقه وبهيمه -ل
ثم قال َ { :وقِيلَ ا ْل َ
رب العالمين ،بالحمد في حكمه وعدله ؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه ،فدل على أن
شهِدَت له بالحمد.
جميع المخلوقات َ
س َموَاتِ وَال ْرضَ } [النعام :
حمْدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ
قال قتادة :افتتح الخلق بالحمد في قوله { :ا ْل َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
ق َوقِيلَ ا ْل َ
حّ ]1واختتم بالحمد في قوله َ { :و ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِالْ َ
آخر تفسير سورة الزمر ول الحمد ([ )3أول وآخرًا ظاهرًا وباطنًا] ()4
__________
( )1في أ " :ويحمدونه".
( )2في ت ،س " :جميعه".
( )3في أ " :وال أعلم".
( )4زيادة من س.
( )7/125
( )7/0
ط ْولِ
ب َوقَا ِبلِ ال ّت ْوبِ شَدِيدِ ا ْل ِعقَابِ ذِي ال ّ
حم ( )1تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ ( )2غَافِرِ الذّ ْن ِ
لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ إِلَ ْيهِ ا ْل َمصِيرُ ()3
الليث الهمداني قال حدثنا موسى بن مسعود ،حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي ،عن
زرارة بن مصعب ،عن أبي سلمة ،عن أبي هُرَيرة ،رضي ال عنه ،قال :قال رسولُ ال
عصِم ذلك اليوم من كل سوء".
صلى ال عليه وسلم " :من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن ُ ،
ثم قال :ل نعلمه يُروى إل بهذا السناد .ورواه الترمذي من حديث المليكي ،وقال :تكلم فيه
بعض أهل العلم من قبل حفظه (.)1
بسم ال الرحمن الرحيم
شدِيدِ ا ْل ِعقَابِ ذِي
ب َوقَا ِبلِ ال ّت ْوبِ َ
{ حم ( )1تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ ( )2غَافِرِ الذّ ْن ِ
ط ْولِ ل إِلَهَ إِل ُهوَ إِلَ ْيهِ ا ْل َمصِيرُ (} )3
ال ّ
أما الكلم على الحروف المقطعة ،فقد تقدم في أول "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقد قيل :إن { حم } اسم من أسماء ال عز وجل ،وأنشدوا في ذلك ()2
يُ َذكّرُني حامِيمَ والرمحُ شَاجرَ ...فهَل تل حَاميمَ قَبْل التّقدّمِ...
وقد ورد ( )3في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ،من حديث الثوري ،عن أبي إسحاق ،
عن المهلب بن أبي صُفْرة قال :حدثني من سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إن بَيّتم
الليلة فقولوا :حم ،ل ينصرون" وهذا إسناد صحيح (.)4
واختار أبو عبيد أن يُروى " :فقولوا :حم ،ل ينصروا" أي :إن قلتم ذلك ل ينصروا ،جعله
جزاء لقوله :فقولوا.
وقوله { :تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ } أي :تنزيل هذا الكتاب -وهو القرآن -من ال
ذي العزة والعلم ،فل يرام جنابه ،ول يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه.
ب َوقَابِلِ ال ّت ْوبِ } أي :يغفر ما سلف من الذنب ،ويقبل التوبة في المستقبل
وقوله { :غَافِرِ الذّ ْن ِ
خضَع لديه.
لمن تاب إليه و َ
وقوله { :شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } أي :لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ،وعتا عن ( )5أوامر ال ،
وبغى [وقد اجتمع في هذه الية الرجاء والخوف] ( .)6وهذه كقوله تعالى { :نَ ّبئْ عِبَادِي أَنّي أَنَا
عذَابِي ُهوَ ا ْلعَذَابُ اللِيمُ } [ الحجر ]50 ، 49 :يقرن هذين الوصفين كثيرًا
ا ْل َغفُورُ الرّحِي ُم وَأَنّ َ
في مواضع متعددة من القرآن ؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.
ط ْولِ } قال ابن عباس :يعني :السعة والغنى .وكذا قال مجاهد وقتادة.
وقوله { :ذِي ال ّ
طوْلِ } يعني :الخير الكثير.
وقال يزيد بن الصم { :ذِي ال ّ
__________
( )1سنن الترمذي برقم (.)2879
( )2البين في تفسير الطبري ( )24/26وفي صحيح البخاري (" )8/553فتح" منسوبا إلى شريح
بن أوفى العبسي.
( )3في أ " :روى".
( )4سنن أبي داود برقم ( )2597وسنن الترمذي برقم (.)1682
( )5في أ " :على".
( )6زيادة من أ.
( )7/127
ط ْولِ } ذي المن.
وقال عكرمة { :ذِي ال ّ
وقال قتادة [ :يعني] ( )1ذي النعم والفواضل.
والمعنى :أنه المتفضل على عباده ،المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والنعام ،التي ل
حصُوهَا [إِنّ النْسَانَ لَظَلُومٌ َكفّارٌ] }
يطيقون القيام بشكر واحدة منها { ،وَإِنْ َت ُعدّوا ِن ْع َمتَ اللّ ِه ل ُت ْ
[ إبراهيم .)2( ]34 :
وقوله { :ل إِلَهَ إِل ُهوَ } أي :ل نظير له في جميع صفاته ،فل إله غيره ،ول رب سواه { ِإلَيْهِ
ا ْل َمصِيرُ } أي :المرجع والمآب ،فيجازي كل عامل بعمله { ،وَ ُهوَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } [ الرعد :
.]41
وقال أبو بكر بن عياش :سمعت أبا إسحاق السّبِيعي يقول :جاء رجل إلى عمر بن الخطاب
[رضي ال عنه] ( )3فقال :يا أمير المؤمنين إني قَتَ ْلتُ ،فهل لي من توبة ؟ فقرأ عليه { حم.
تَنزيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ .غَافِرِ الذّ ْنبِ َوقَا ِبلِ ال ّت ْوبِ شَدِيدِ ا ْل ِعقَابِ } وقال :اعمل ول
تيأس.
رواه ابن أبي حاتم -واللفظ له -وابن جرير (.)4
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا موسى بن مروان ال ّرقّي ،حدثنا عمر -يعني ابن أيوب
-أخبرنا جعفر بن بَرْقان ،عن يزيد بن الصم ( )5قال :كان رجل من أهل الشام ذو بأس ،
وكان يفد إلى عمر بن الخطاب [رضي ال عنه] ( ، )6ففقده عمر فقال :ما فعل فلن بن فلن ؟
فقالوا :يا أمير المؤمنين ،يتابع في هذا الشراب .قال :فدعا عمر كاتبه ،فقال :اكتب " :من
عمر بن الخطاب إلى فلن ابن فلن ،سلم عليك [ ،أما بعد] ( : )7فإني أحمد إليك ال الذي ل
إله إل هو ،غافر الذنب وقابل التوب ،شديد العقاب ،ذي الطول ،ل إله إل هو إليه المصير".
ثم قال لصحابه :ادعوا ال لخيكم أن ُيقْبِل بقلبه ،وأن يتوب ال عليه ( .)8فلما بلغ الرجل
كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده ،ويقول :غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ،قد حذرني
عقوبته ووعدني أن يغفر لي.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان ،وزاد " :فلم يزل يُرَدّدها على نفسه ،ثم بكى
ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر [رضي ال عنه] ( )9خبرهُ قال :هكذا فاصنعوا ،إذا رأيتم
أخاكم زل زلّة فسددوه ووفقوه ،وادعوا ال له أن يتوب عليه ،ول تكونوا أعوانًا للشيطان عليه (
.)10
عمَر الصفار ، -
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا عمر بن شَبّة ( ، )11حدثنا حماد بن واقد -أبو ُ
حدثنا ثابت البناني ،قال :كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة ،فدخلت حائطًا أصلي
ركعتين فافتتحت { :حم } المؤمن ،حتى بلغت { :ل إَِلهَ إِل ُهوَ إِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } فإذا رجل خلفي
على بغلة شهباء عليه ُمقَطّعات يمنية فقال :إذا قلت { :غَافِرِ الذّ ْنبِ } فقل " :يا غافر الذنب ،
اغفر لي ذنبي".
__________
( )1زيادة من ت.
( )2زيادة من ت ،وفي الصل " :الية".
( )3زيادة من ت ،أ.
( )4تفسير الطبري (.)24/27
( )5في ت " :وروى أيضا بإسناده عن يزيد بن الصم".
( )6زيادة من ت.
( )7زيادة من أ.
( )8في س ،أ " :أن يقبل بقلبه ويتوب عليه".
( )9زيادة من أ.
( )10حلية الولياء (.)4/97
( )11في أ " :ابن أبي شيبة".
( )7/128
مَا يُجَا ِدلُ فِي آَيَاتِ اللّهِ إِلّا الّذِينَ َكفَرُوا فَلَا َيغْرُ ْركَ َتقَلّ ُبهُمْ فِي الْبِلَادِ (َ )4كذّ َبتْ قَبَْل ُهمْ َقوْمُ نُوحٍ
حضُوا بِهِ ا ْلحَقّ فََأخَذْ ُت ُهمْ
طلِ لِيُ ْد ِ
وَالْأَحْزَابُ مِنْ َبعْدِ ِه ْم وَ َه ّمتْ ُكلّ ُأمّةٍ بِرَسُوِلهِمْ لِيَ ْأخُذُو ُه وَجَادَلُوا بِالْبَا ِ
صحَابُ النّارِ ()6
ح ّقتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ َأ ْ
عقَابِ (َ )5وكَذَِلكَ َ
َفكَ ْيفَ كَانَ ِ
( )7/129
حقّتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ َأصْحَابُ النّارِ } أي :كما حقت كلمةُ
وقوله َ { :وكَذَِلكَ َ
العذاب على الذين كفروا من المم السالفة ،كذلك حقت على المكذبين من هؤلء الذين كذبوك
وخالفوك يا محمد بطريق الولى والحرى ؛ لن من كذبّك ( )1فل وثوق له بتصديق غيرك.
حمْدِ رَ ّبهِ ْم وَ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ وَيَسْ َتغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا
حوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِ َ
حمِلُونَ ا ْلعَرْشَ َومَنْ َ
{ الّذِينَ َي ْ
جحِيمِ (} )7
عذَابَ الْ َ
ك َو ِقهِمْ َ
غفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا وَاتّ َبعُوا سَبِيَل َ
حمَ ًة وَعِ ْلمًا فَا ْ
شيْءٍ َر ْ
س ْعتَ ُكلّ َ
وَ ِ
__________
( )1في س " :كذب بك".
( )7/130
جهِ ْم وَذُرّيّا ِت ِهمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ
ن صَلَحَ مِنْ آَبَا ِئ ِه ْم وَأَ ْزوَا ِ
عدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُ ْم َومَ ْ
رَبّنَا وَأَ ْدخِ ْلهُمْ جَنّاتِ َ
حمْتَ ُه وَذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ ()9
حكِيمُ (َ )8و ِقهِمُ السّيّئَاتِ َومَنْ َتقِ السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ َر ِ
الْ َ
( )7/130
ح ِملُ عَ ْرشَ رَ ّبكَ َف ْو َقهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِيَةٌ } [الحاقة .]17 :
كما قال تعالى { :وَيَ ْ
وهنا سؤال وهو أن يقال :ما الجمع بين المفهوم من هذه الية ،ودللة هذا الحديث ؟ وبين
الحديث الذي رواه أبو داود :
عمِيرة (
حدثنا محمد بن الصباح البزار ،حدثنا الوليد بن أبي ثور ،عن سِماك ،عن عبد ال بن َ
، )1عن الحنف بن قيس ،عن العباس بن عبد المطلب ،قال :كنت بالبطحاء في عصابة فيهم
رسول ال صلى ال عليه وسلم فمرت بهم سحابة ،فنظر إليها فقال " :ما تسمون هذه ؟" قالوا :
السحاب .قال " :والمزن ؟" قالوا :والمزن .قال " :والعَنَان ؟" قالوا :والعنان -قال أبو داود :
ولم أتقن العنان جيدًا -قال " :هل تدرون ُب ْعدَ ما بين السماء والرض ؟" قالوا :ل ندري .قال :
"بُعد ما بينهما إما واحدة ،أو اثنتان ،أو ثلث ( )2وسبعون سنة ،ثم السماء فوقها كذلك" حتى
عَدّ سبع سموات "ثم فوق السماء السابعة بحر ( ، )3بين ( )4أسفله وأعله مثل ما بين سماء إلى
سماء ،ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال ،بين أظلفهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ،ثم على
ظهورهن العرش بين أسفله وأعله مثل ما بين سماء إلى سماء ،ثم ال ،عز وجل ،فوق ذلك"
ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ،من حديث سماك بن حرب ،به ( .)5وقال الترمذي :
حسن غريب.
حوْشَب :حملة العرش ثمانية ،أربعة
شهْر بن َ
وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية ،كما قال َ
يقولون " :سبحانك اللهم وبحمدك ،لك الحمد على حلمك بعد علمك" .وأربعة يقولون " :سبحانك
اللهم وبحمدك ،لك الحمد على عفوك بعد قدرتك".
حمَ ًة وَعِ ْلمًا } أي :إن
شيْءٍ َر ْ
س ْعتَ ُكلّ َ
ولهذا يقولون إذا استغفروا ( )6للذين آمنوا { :رَبّنَا وَ ِ
رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم ،وعلمك محيط بجميع أعمالهم [وأقوالهم] ( )7وحركاتهم وسكناتهم
غفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا وَاتّ َبعُوا سَبِيَلكَ } أي :فاصفح عن المسيئين ( )8إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما
{ ،فَا ْ
كانوا فيه ،واتبعوا ما أمرتهم به ،من فعل الخيرات وترك المنكرات َ { ،و ِقهِمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ }
أي :وزحزحهم عن عذاب الجحيم ،وهو العذاب الموجع الليم (.)9
ج ِه ْم وَذُرّيّا ِتهِمْ } أي :اجمع
عدْ َتهُ ْم َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِ ْم وَأَ ْزوَا ِ
{ رَبّنَا وََأدْخِ ْلهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَ َ
بينهم وبينهم ،لتقر بذلك أعينهم بالجتماع في منازل متجاورة ،كما قال [تعالى] ( { )10وَالّذِينَ
شيْءٍ } [الطور ( ]21 :
عمَِلهِمْ مِنْ َ
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ َ
آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُت ُهمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ
)11أي :ساوينا بين الكل في المنزلة ،لتقر أعينهم ،وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني ،بل
رفعنا الناقص في العمل ( ، )12فساويناه بكثير العمل ،تفضل منا ومنة.
__________
( )1في ت :عمرة".
( )2في ت ،س " :أو اثنين أو ثلثة".
( )3في ت " :ثم فوق السماء بحرا" وفي س " :ثم فوق السابعة بحر".
( )4في أ " :بحر ما بين".
( )5سنن أبي داود برقم ( )4725 - 4723وسنن الترمذي برقم ( )3320وسنن ابن ماجه برقم (
.)193
( )6في ت " :استغفروا للمؤمنين".
( )7زيادة من أ.
( )8في أ " :المسلمين".
( )9في ت " :المؤلم".
( )10زيادة من ت ،س ،أ.
( )11في س " :واتبعتهم ذريتهم".
( )12في ت ،أ " :رفعنا ناقص العمل".
( )7/131
قال سعيد بن جبير :إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه ،وأين هم ؟ فيقال :
حقُونَ به في الدرجة ،ثم
إنهم لم يبلغوا طبقتك ( )1في العمل فيقول :إني إنما عملت لي ولهم .فَيُل َ
تل سعيد بن جبير هذه الية { :رَبّنَا وَأَ ْدخِ ْلهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُمْ َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِمْ
حكِيمُ }.
جهِ ْم وَذُرّيّا ِتهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
وَأَ ْزوَا ِ
قال مُطرّف بن عبد ال بن الشّخّير :أنصحُ عبادِ ال للمؤمنين الملئكةُ ،ثم تل هذه الية { :رَبّنَا
عدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُمْ } وأغشّ عباد ال للمؤمنين الشياطينُ.
وَأَدْخِ ْل ُهمْ جَنّاتِ َ
حكِيمُ } أي :الذي ل يمانع ول يغالب ،وما شاء كان وما لم يشأ لم
وقوله { :إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
يكن ،الحكيم في أقوالك وأفعالك ،من شرعك وقدرك ()2
{ َو ِقهِمُ السّيّئَاتِ } أي :فعلها أو وَبالها ممن وقعت منه َ { ،ومَنْ تَقِ السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ } أي :يوم
حمْتَهُ } أي :لطفت به ونجيته من العقوبة { ،وَ َذِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ }.
القيامة َ { ،فقَدْ َر ِ
عوْنَ إِلَى اليمَانِ فَ َت ْكفُرُونَ ()10
سكُمْ إِذْ تُدْ َ
{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا يُنَا َدوْنَ َل َمقْتُ اللّهِ َأكْبَرُ مِنْ َمقْ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ
ن وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَ َرفْنَا بِذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ( )11ذَِل ُكمْ بِأَنّهُ ِإذَا
قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْ ِ
حكْمُ لِلّهِ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرِ (ُ )12هوَ الّذِي يُرِي ُكمْ آيَا ِتهِ
عيَ اللّهُ وَحْ َدهُ َكفَرْتُ ْم وَإِنْ يُشْ َركْ ِبهِ ُت ْؤمِنُوا فَا ْل ُ
دُ ِ
ن وََلوْ كَ ِرهَ
سمَاءِ رِ ْزقًا َومَا يَ َت َذكّرُ إِل مَنْ يُنِيبُ ( )13فَادْعُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّي َ
وَيُنزلُ َل ُكمْ مِنَ ال ّ
ا ْلكَافِرُونَ (} )14
غمَرات النيران يتلظون ،وذلك
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار :أنهم يُنَادَون يوم القيامة وهم في َ
عندما ( )3باشروا من عذاب ال ما ل قِبَل لحد به ،فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية
البغض ،بسبب ما أسلفوا ( )4من العمال السيئة ،التي كانت سبب دخولهم إلى النار ،فأخبرتهم
الملئكة عند ذلك إخبارا عاليا ،نادوهم [به] ( )5نداء بأن مقت ال لهم في الدنيا حين كان يُعرض
عليهم اليمان ،فيكفرون ،أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.
عوْنَ إِلَى اليمَانِ فَ َت ْكفُرُونَ } يقول :
سكُمْ إِذْ ُتدْ َ
قال قتادة في قوله َ { :ل َم ْقتُ اللّهِ َأكْبَرُ مِنْ َمقْ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ
لمقتُ ال أهل الضللة حين عُرض عليهم اليمان في الدنيا ،فتركوه وأبوا أن يقبلوه ،أكبر مما
مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب ال يوم القيامة (.)6
وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذَرّ بن عبد ال ( )7ال َهمْداني ،وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ،وابن جرير الطبري ،رحمهم ال.
__________
( )1في ت " :رقبتك".
( )2في أ " :وقدرتك".
( )3في أ " :بعدما".
( )4في ت ،س " :أسلفوه".
( )5زيادة من ت ،أ.
( )6في أ " :عذاب ال في يوم القيامة".
( )7في س " :عبيد ال".
( )7/132
وقوله { :قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال الثوري ،عن أبي ( )1إسحاق ،عن أبي
الحوص ،عن ابن مسعود [رضي ال عنه] ( : )2هذه الية كقوله تعالى { :كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ
جعُونَ } [البقرة ]28 :وكذا قال ابن عباس ،
َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ ثُمّ ِإلَيْهِ تُ ْر َ
والضحاك ،وقتادة ،وأبو مالك .وهذا هو الصواب الذي ل شك فيه ول مرية.
وقال السّدّي :أُميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ،ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.
وقال ابن زيد :أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم ،ثم خلقهم في الرحام ثم أماتهم [ثم
أحياهم] ( )3يوم القيامة.
وهذان القولن -من السدي وابن زيد -ضعيفان ؛ لنه يلزمهما على ما قال ثلث إحياءات
وإماتات .والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما .والمقصود من هذا كله :أن الكفار
يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي ال ،عز وجل ،في عرصات القيامة ،كما قال { :وََلوْ
جعْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا إِنّا
س ِمعْنَا فَا ْر ِ
سهِمْ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ رَبّنَا أَ ْبصَرْنَا وَ َ
تَرَى إِذِ ا ْلمُجْ ِرمُونَ نَاكِسُو رُءُو ِ
مُوقِنُونَ } [السجدة ، ]12 :فل يجابون .ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ،ونظروا إلى ما
فيها من العذاب والنّكال ،سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة ،فل يجابون ،قال ال تعالى { :
وََلوْ تَرَى ِإ ْذ ُو ِقفُوا عَلَى النّارِ َفقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدّ وَل ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ َبلْ بَدَا
خفُونَ مِنْ قَ ْبلُ وَلَوْ ُردّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُون } [النعام ]28 ، 27 :
َلهُمْ مَا كَانُوا يُ ْ
فإذا دخلوا النار وذاقوا مَسّها وحَسِيسها ومقامعها وأغللها ،كان سؤُالهم للرجعة أشد وأعظم ،
{ وَ ُهمْ َيصْطَ ِرخُونَ فِيهَا رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْع َملُ َأوَلَمْ ُن َعمّ ْركُمْ مَا يَ َت َذكّرُ فِيهِ
مَنْ تَ َذكّ َر وَجَا َءكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُوا َفمَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َنصِيرٍ } [فاطر { ، ]37 :رَبّنَا َأخْرِجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ .قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَل ُتكَّلمُونِ } [المؤمنون ، ]108 ، 107 :وفي هذه الية
الكريمة تلطفوا في السؤال ،وقدموا بين يدي كلمهم مُقدّمة ،وهي قولهم { :رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } أي :قدرتك عظيمة ،فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا ،ثم أمتنا ثم أحييتنا ،فأنت
قادر على ما تشاء ،وقد اعترفنا بذنوبنا ،وإننا كنا ظالمين لنفسنا في الدار الدنيا َ { ،ف َهلْ إِلَى
خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا ؟ فإنك قادر على ذلك ؛
لنعمل غير الذي كنا نعمل ،فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون .فأُجِيبُوا أل سبيل إلى عودكم
جحَده
ومرجعكم إلى الدار الدنيا .ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم ل تقبل الحق ول تقتضيه بل تَ ْ
عيَ اللّ ُه وَحْ َدهُ كَفَرْتُ ْم وَإِنْ ُيشْ َركْ بِهِ ُت ْؤمِنُوا } أي :أنتم
وتنفيه ؛ ولهذا قال تعالى { :ذَِل ُكمْ بِأَنّهُ ِإذَا دُ ِ
هكذا تكونون ،وإن رددتم إلى الدنيا ،كما قال تعالى { :وََلوْ ُردّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ
َلكَاذِبُونَ } [النعام .]28 :
حكْمُ لِلّهِ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرِ } أي :هو الحاكم في خلقه ،العادل الذي ل يجور ،فيهدي من
وقوله { :فَا ْل ُ
__________
( )1في أ " :ابن".
( )2زيادة من أ.
( )3زيادة من ت ،س ،أ.
( )7/133
يشاء ،ويضل من يشاء ،ويرحم من يشاء ،ويعذب من يشاء ،ل إله إل هو.
وقوله ُ { :هوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي :يظهر قدرته لخلقه ( )1بما يشاهدونه في خلقه العلوي
سمَاءِ
والسفلي من اليات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها { ،وَيُنزلُ َلكُمْ مِنَ ال ّ
رِ ْزقًا } ،وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس ،من اختلف
ألوانه وطعومه ،وروائحه وأشكاله وألوانه ،وهو ماء واحد ،فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه
الشياء َ { ،ومَا يَتَ َذكّرُ } أي :يعتبر ويتفكر في هذه الشياء ويستدل بها على عظمة خالقها { إِل
مَنْ يُنِيبُ } أي :من هو بصير منيب إلى ال ،عز وجل.
ن وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } أي :فأخلصوا ل وحده العبادة
وقوله { :فَادْعُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّي َ
والدعاء ،وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم.
قال ( )2المام أحمد :حدثنا عبد ال بن نمير ،حدثنا هشام -يعني بن عروة بن الزبير -عن
أبي الزبير محمد بن مسلم بن مدرس المكي قال :كان عبد ال بن الزبير يقول في دبر كل صلة
حين يسلم ( : )3ل إله إل ال ،وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء
قدير ،ل حول ول قوة إل بال ،ل إله إل ال ،ول نعبد إل إياه ،له النعمة وله الفضل ،وله
الثناء الحسن ،ل إله إل ال ،مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" قال :وكان رسول ال صلى
ال عليه وسلم ُيهَلّل بهن ( )4دبر كل صلة (.)5
ورواه مسلم وأبو داود والنسائي ،من طرق ،عن هشام بن عروة ،وحجاج بن أبي عثمان ،
وموسى بن عقبة ،ثلثتهم عن أبي الزبير ،عن عبد ال بن الزبير قال :كان رسول ال صلى
ال عليه وسلم يقول في دبر الصلة " :ل إله إل ال وحده ل شريك له ( )6وذكر تمامه (.)7
وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول عقب
الصلوات المكتوبات " :ل إله إل ال ،وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد ،وهو على كل
شيء قدير .ل حول ول قوة إل بال ،ل إله إل ال ول نعبد إل إياه ،له النعمة وله الفضل ،وله
الثناء الحسن ،ل إله إل ال مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" (.)8
خصِيب بن ناصح ،حدثنا صالح -يعني المِرّي -عن
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الربيع حدثنا ال َ
هشام بن حسان ،عن ابن سيرين عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :ادعوا ال
__________
( )1في أ " :بخلقه".
( )2في ت " :روى".
( )3في أ " :عقب الصلوات المكتوبات".
( )4في ت " :بهن في دبر".
( )5المسند (.)4/4
( )6في ت " :ل شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
( )7صحيح مسلم برقم (.)594
( )8صحيح مسلم برقم ( )594وسنن أبي داود برقم ( )1506والنسائي في السنن الكبرى برقم (
.)1262
( )7/134
َرفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو ا ْلعَرْشِ يُ ْلقِي الرّوحَ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ لِيُ ْنذِرَ َيوْمَ التّلَاقِ ()15
شيْءٌ ِلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ ()16
خفَى عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ
َيوْمَ ُهمْ بَارِزُونَ لَا يَ ْ
وأنتم موقنون بالجابة ،واعلموا أن ال ل يستجيب دعا ًء من قلب غافل له" (.)1
علَى مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ لِيُنْذِرَ َيوْمَ التّلقِ ()15
{ َرفِيعُ الدّ َرجَاتِ ذُو ا ْلعَرْشِ يُ ْلقِي الرّوحَ مِنْ َأمْ ِرهِ َ
شيْءٌ ِلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ (} )16
خفَى عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ
َيوْمَ ُهمْ بَارِزُونَ ل َي ْ
__________
( )1ورواه الترمذي في السنن برقم ( )3479عن معاوية بن صالح ورواه الحاكم في المستدرك (
)1/493عن عفان بن مسلم وموسى ابن إسماعيل ورواه الطبراني في كتاب الدعاء برقم ()62
عن مخلد بن خداش كلهم من طريق صالح المري به .قال اطبراني في المعجم الوسط " :لم يرو
هذا الحديث عن هشام بن حسان إل صالح المري" ومداره على صالح المري وهو متروك.
( )7/135
حسَابِ ()17
الْ َيوْمَ ُتجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ لَا ظُلْمَ الْ َيوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ
( )7/135
وقد يقال :إن يوم القيامة ( )1هو يشمل هذا كله ،ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمل من خير
وشر .كما قاله آخرون.
وقوله َ { :يوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي :ظاهرون بادون كلهم ،ل شيء يكنهم ول يظلهم ول يسترهم.
شيْءٌ } أي :الجميع في علمه على السواء.
خفَى عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ
ولهذا قال َ { :يوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ل َي ْ
وقوله ِ { :لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ } قد تقدم في حديث ابن عمر :أنه تعالى ( )2يطوي
السموات والرض بيده ،ثم يقول :أنا الملك ،أنا الجبار ،أنا المتكبر ،أين ملوك الرض ؟ أين
الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟.
وفي حديث الصور :أنه تعالى إذا قبض أرواح جميع خلقه ،فلم يبق سواه وحده ل شريك له ،
حينئذ يقول :لمن الملك اليوم ؟ ثلث مرات ،ثم يجيب نفسه قائل { لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ } أي :
الذي هو وحده قد َقهَر كل شيء وغلبه (.)3
وقد قال ( )4ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن غالب الدقاق ،حدثنا عبيد بن عبيدة ،حدثنا معتمر ،
عن أبيه ،حدثنا أبو َنضْرة ،عن ابن عباس [رضي ال عنهما] ( )5قال :ينادي مناد بين يدي
الساعة :يا أيها الناس ،أتتكم الساعة .فيسمعها الحياء والموات ،قال :وينزل ال [عز وجل] (
)6إلى سماء الدنيا ويقول ِ { :لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }.
حسَابِ } يخبر تعالى عن
وقوله { :الْ َيوْمَ تُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ ل ظُلْمَ الْ َيوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ
عدله في حكمه بين خلقه ،أنه ل يظلم مثقال ذرة من خير ول من شر ،بل يجزي بالحسنة عشر
أمثالها ،وبالسيئة واحدة ؛ ولهذا قال { :ل ظُ ْلمَ الْ َيوْمَ } كما ثبت في صحيح مسلم ( ، )7عن أبي
ذر ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم -فيما يحكي عن ربه عز وجل -أنه قال " :يا
عبادي ،إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فل تظالموا -إلى أن قال : -يا
عبادي ،إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ( )8ثم أوفيكم إياها ،فمن وجد خيرًا فليحمد ال ،ومن
وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه" (.)9
وقوله { :إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } أي :يحاسب الخلئق كلهم ،كما يحاسب نفسًا واحدة ،كما
س وَاحِ َدةٍ } [لقمان ، ]28 :وقال [تعالى] (َ { : )10ومَا َأمْرُنَا
قال { :مَا خَ ْل ُقكُمْ وَل َبعْ ُثكُمْ إِل كَ َنفْ ٍ
إِل وَاحِ َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ } [القمر .]50 :
شفِيعٍ ُيطَاعُ ()18
حمِي ٍم وَل َ
ظمِينَ مَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َ
{ وَأَنْذِ ْرهُمْ َيوْمَ ال ِزفَةِ إِذِ ا ْلقُلُوبُ لَدَى ا ْلحَنَاجِرِ كَا ِ
ق وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ ِه ل
خفِي الصّدُورُ ( )19وَاللّهُ َي ْقضِي بِا ْلحَ ّ
ن َومَا تُ ْ
َيعْلَمُ خَائِنَةَ العْيُ ِ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ (} )20
شيْءٍ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّ
َيقْضُونَ بِ َ
__________
( )1في ت ،س " :التلق".
( )2في ت " :أن ال".
( )3انظر حديث الصور بتمامه عند تفسير الية 73 :من سورة النعام.
( )4في ت " :وروى ابن أبي حاتم".
( )5زيادة من أ.
( )6زيادة من ت ،أ.
( )7في ت " :البخاري" وهو خطأ.
( )8في ت ،س " :لكم".
( )9صحيح مسلم برقم (.)2577
( )10زيادة من س.
( )7/136
يوم الزفة هو :اسم من أسماء يوم القيامة ،سميت بذلك لقترابها ،كما قال تعالى { :أَ ِز َفتِ
شقّ ا ْل َقمَرُ }
ع ُة وَانْ َ
شفَةٌ } [النجم ]58 ، 57 :وقال { اقْتَرَ َبتِ السّا َ
ال ِزفَةُ .لَيْسَ َلهَا مِنْ دُونِ اللّهِ كَا ِ
جلُوهُ }
[القمر ، ]1 :وقال { اقْتَ َربَ لِلنّاسِ حِسَا ُبهُمْ } [النبياء ]1 :وقال { أَتَى َأمْرُ اللّهِ فَل تَسْ َتعْ ِ
ت وُجُوهُ الّذِينَ َكفَرُوا َوقِيلَ َهذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ َتدّعُونَ }
[النحل ]1 :وقال { فََلمّا رََأ ْوهُ ُز ْلفَةً سِي َئ ْ
[الملك .]27 :
ظمِينَ } [أي ساكتين] ( ، )1قال قتادة :وقفت القلوب في
وقوله ِ { :إذِ ا ْلقُلُوبُ َلدَى الْحَنَاجِرِ كَا ِ
الحناجر من الخوف ،فل تخرج ول تعود إلى أماكنها .وكذا قال عكرمة ،والسدي ،وغير
واحد.
ظمِينَ } أي :ساكتين ،ل يتكلم أحد إل بإذنه { َيوْمَ َيقُومُ الرّوحُ وَا ْلمَل ِئكَةُ صَفّا ل
ومعنى { كَا ِ
صوَابًا } [النبأ .]38 :
ن َوقَالَ َ
حمَ ُ
يَ َتكَّلمُونَ إِل مَنْ َأذِنَ لَهُ الرّ ْ
ظمِينَ } أي :باكين.
وقال ابن جُرَيْج ( { : )2كَا ِ
شفِيعٍ يُطَاعُ } أي :ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بال من
حمِي ٍم وَل َ
وقوله { :مَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َ
قريب منهم ينفعهم ،ول شفيع يشفع فيهم ،بل قد تقطعت بهم السباب من كل خير.
خفِي الصّدُورُ } يخبر تعالى عن علمه التام المحيط بجميع
وقوله َ { :يعَْلمُ خَائِ َنةَ العْيُنِ َومَا ُت ْ
الشياء ،جليلها وحقيرها ،صغيرها وكبيرها ،دقيقها ولطيفها ؛ ليحذر الناس علمه فيهم ،
فيستحيوا من ال حَقّ الحياء ،ويَ ّتقُوهُ حق تقواه ،ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه ،فإنه تعالى
يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة ،ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر.
خفِي الصّدُورُ } وهو الرجل يدخل على أهل
ن َومَا تُ ْ
قال ابن عباس في قوله َ { :يعْلَمُ خَائِنَةَ العْيُ ِ
البيت بيتهم ،وفيهم المرأة الحسناء ،أو تمر به وبهم المرأة الحسناء ،فإذا غفلوا لحظ إليها ،فإذا
غضّ ،فإذا غفلوا لحظ ،فإذا فطنوا غض [بصره عنها] ( )3وقد اطلع ال من قلبه أنه وَدّ
فطنوا َ
أن لو اطلع على فرجها .رواه ابن أبي حاتم.
وقال الضحاك { :خَائِنَةَ العْيُنِ } هو الغمز ،وقول الرجل :رأيت ،ولم ير ؛ أو :لم أر ،وقد
رأى.
وقال ابن عباس :يعلم [ال] ( )4تعالى من العين في نظرها ،هل تريد الخيانة أم ل ؟ وكذا قال
مجاهد ،وقتادة.
خفِي الصّدُورُ } يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم
وقال ابن عباس في قوله َ { :ومَا تُ ْ
ل ؟.
خفِي الصّدُورُ } أي :من الوسوسة.
وقال السدي َ { :ومَا ُت ْ
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في ت " :جرير".
( )3زيادة من س ،أ.
( )4زيادة من س.
( )7/137
( )7/138
( )7/138
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى ال عليه وسلم ( )1في تكذيب من كذبه من قومه ،ومبشرًا له بأن
العاقبة والنصرة له في الدنيا والخرة ،كما جرى لموسى بن عمران ( ، )2فإن ال تعالى أرسله
باليات البينات ،والدلئل ( )3الواضحات ؛ ولهذا قال { :بِآيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } والسلطان هو :
الحُجة والبرهان.
عوْنَ } هو :ملك القبط بالديار المصرية { ،وَهَامَانَ } وهو :وزيره في مملكته
{ إِلَى فِرْ َ
{ َوقَارُونَ } وكان أكثر الناس في زمانه مال وتجارة { َفقَالُوا سَاحِرٌ َكذّابٌ } أي :كذبوه وجعلوه
ساحرًا ُممَخْ ِرقًا مموهًا كذابًا في أن ال أرسله .وهذه كقوله [تعالى] (َ { : )4كذَِلكَ مَا أَتَى الّذِينَ مِنْ
صوْا ِبهِ َبلْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات ، 52
قَبِْلهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِل قَالُوا سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُونٌ أَ َتوَا َ
.]53
{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِا ْلحَقّ مِنْ عِ ْندِنَا } أي :بالبرهان القاطع الدال على أن ال تعالى أرسله إليهم ،
{ قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الّذِينَ آمَنُوا َمعَ ُه وَاسْتَحْيُوا ِنسَاءَ ُهمْ } وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني
إسرائيل .أما الول :فكان لجل الحتراز من وجود موسى ،أو لذلل هذا الشعب وتقليل
عددهم ،أو لمجموع المرين .وأما المر الثاني :فللعلة الثانية ،لهانة هذا الشعب ،ولكي
يتشاءموا بموسى ،عليه السلم ؛ ولهذا قالوا { :أُوذِينَا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تَأْتِيَنَا َومِنْ َب ْعدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ
ع ُد ّوكُ ْم وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي ال ْرضِ فَيَنْظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } [العراف .]129 :
عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ ُيهِْلكَ َ
قال قتادة :هذا أمر بعد أمر.
قال ال تعالى َ { :ومَا كَيْدُ ا ْلكَافِرِينَ إِل فِي ضَللٍ } أي :وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل
عدد بني إسرائيل لئل يُنصروا عليهم ،إل ذاهب وهالك في ضلل.
عوْنُ ذَرُونِي َأقْ ُتلْ مُوسَى وَلْيَ ْدعُ رَبّهُ } وهذا عَ ْزمٌ من فرعون -لعنه ال -على قتل
{ َوقَالَ فِرْ َ
موسى ،عليه السلم ،أي :قال لقومه :دعوني حتى أقتل لكم هذا { ،وَلْيَ ْدعُ رَبّهُ } أي :ل
أبالي منه .وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد.
ظهِرَ فِي ال ْرضِ ا ْلفَسَادَ } يعني :
وقوله -قبحه ال { : -إِنّي َأخَافُ أَنْ يُبَ ّدلَ دِي َنكُمْ َأوْ أَنْ ُي ْ
ل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم .وهذا كما يقال في المثل
ضّموسى ،يخشى فرعون أن ُي ِ
" :صار فرعون ُم َذكّرًا" يعني :واعظا ،يشفق على الناس من موسى ،عليه السلم.
ظهِرَ فِي
وقرأ الكثرون " :أن يبدل دينكم وأن يُظهِر في الرض الفساد" وقرأ آخرون َ { :أوْ أَنْ يُ ْ
ظهَر في الرض الفسادُ" بالضم.
ال ْرضِ ا ْلفَسَادَ } وقرأ بعضهم َ " :ي ْ
ع ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ مِنْ ُكلّ مُ َتكَبّرٍ ل ُي ْؤمِنُ بِ َيوْمِ الْحِسَابِ } أي :لما بلغه قول
وقال موسى { :إِنّي ُ
فرعون { :ذَرُونِي َأقْ ُتلْ مُوسَى } قال موسى :استجرتُ بال وعُ ْذتُ به من شره وشر أمثاله ؛
ع ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ } أيها المخاطبون { ،مِنْ ُكلّ مُ َتكَبّرٍ } أي :عن الحق ،
ولهذا قال { :إِنّي ُ
مجرم { ،ل ُي ْؤمِنُ بِ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ } ؛
__________
( )1في س " :لنبيه محمد صلوات ال وسلمه عليه".
( )2في أ " :لموسى عليه السلم".
( )3في ت " :والدللت".
( )4زيادة من ت ،س.
( )7/139
عوْنَ َيكْتُمُ إِيمَا َنهُ أَ َتقْتُلُونَ َرجُلًا أَنْ َيقُولَ رَ ّبيَ اللّ ُه َوقَدْ جَا َءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ
جلٌ ُم ْؤمِنٌ مِنْ َآلِ فِرْ َ
َوقَالَ َر ُ
ك صَا ِدقًا ُيصِ ْبكُمْ َب ْعضُ الّذِي َيعِ ُد ُكمْ إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ
مِنْ رَ ّبكُ ْم وَإِنْ َيكُ كَاذِبًا َفعَلَ ْيهِ كَذِبُهُ وَإِنْ َي ُ
ُهوَ مُسْ ِرفٌ كَذّابٌ ( )28يَا َقوْمِ َلكُمُ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَ ْرضِ َفمَنْ يَ ْنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ
عوْنُ مَا أُرِي ُكمْ إِلّا مَا أَرَى َومَا أَ ْهدِيكُمْ إِلّا سَبِيلَ الرّشَادِ ()29
جَاءَنَا قَالَ فِرْ َ
ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى ،رضي ال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان
إذا خاف قوما قال " :اللهم ،إنا نعوذ بك من شرورهم ،وندرأ بك في نحورهم" (.)1
عوْنَ َيكْتُمُ إِيمَانَهُ أَ َتقْتُلُونَ رَجُل أَنْ َيقُولَ رَ ّبيَ اللّ ُه َوقَدْ جَا َءكُمْ
جلٌ ُم ْؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْ َ
{ َوقَالَ رَ ُ
ك صَا ِدقًا ُيصِ ْبكُمْ َب ْعضُ الّذِي َيعِ ُد ُكمْ إِنّ اللّ َه ل
بِالْبَيّنَاتِ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَإِنْ َيكُ كَاذِبًا َفعَلَ ْيهِ كَذِبُ ُه وَإِنْ َي ُ
َيهْدِي مَنْ ُهوَ مُسْ ِرفٌ كَذّابٌ ( )28يَا َقوْمِ َلكُمُ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ال ْرضِ َفمَنْ يَ ْنصُرُنَا مِنْ
عوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِل مَا أَرَى َومَا أَهْدِي ُكمْ إِل سَبِيلَ الرّشَادِ (} )29
بَأْسِ اللّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْ َ
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبْطيًا من آل فرعون.
قال السدي :كان ابن عم فرعون ،ويقال :إنه الذي نجا مع موسى .واختاره ابن جرير (، )2
وَرَ ّد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليّا ؛ لن فرعون انفعل لكلمه واستمعه ،وكف عن قتل
موسى ،عليه السلم ،ولو كان إسرائيليّا لوشك أن يعاجل ( )3بالعقوبة ؛ لنه منهم (.)4
وقال ابن جُرَيج عن ابن عباس :لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون ،
والذي قال { :يَا مُوسَى إِنّ ا ْلمَل يَأْ َتمِرُونَ ِبكَ لِ َيقْتُلُوكَ } [القصص ]20 :رواه ابن أبي حاتم.
وقد كان هذا الرجلُ يكتم إيمانه عن قومه القبط ،فلم يظهر إل هذا اليوم حين قال فرعون :
{ ذَرُونِي َأقْ ُتلْ مُوسَى } ،فأخذت الرجل غضبة ل عز وجل ،و"أفضل الجهاد كلمة عدل عند
سلطان جائر" ،كما ثبت بذلك الحديث ،ول أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله :
{ أَ َتقْتُلُونَ رَجُل أَنْ َيقُولَ رَ ّبيَ اللّهُ } [أي :لجل أن يقول ربي ال] ( ، )5اللهم إل ما رواه
البخاري في صحيحه حيث قال :
حدثنا علي بن عبد ال ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا الوزاعي ،حدثني يحيى بن أبي كثير ،
حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ،حدثني ( )6عروة بن الزبير قال :قلت لعبد ال بن عمرو بن
العاص :أخبرني بأشد شيء مما صنعه المشركون برسول ال صلى ال عليه وسلم قال :بينا
عقْبة بن أبي ُمعَيط ،فأخذ بمَنْكب
رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم ولَوَى ثوبه في عنقه ،فخنقه خنقًا شديدا ،فأقبل أبو بكر ،رضي
ال عنه ،فأخذ بمنكبة ( )7و َدفَع عن النبي صلى ال عليه وسلم ثم قال { :أَ َتقْتُلُونَ رَجُل أَنْ َيقُولَ
رَ ّبيَ اللّ ُه َوقَدْ جَا َءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِنْ رَ ّبكُمْ }.
__________
( )1رواه أحمد في مسنده (.)4/414
( )2تفسير الطبري (.)24/38
( )3في ت " :يقابل".
( )4في ت ،س " :متهم".
( )5زيادة من ت ،س ،أ.
( )6في ت " :في صحيحه بإسناده عن".
( )7في ت ،س " :بمنكبيه".
( )7/140
انفرد به البخاري من حديث الوزاعي قال :وتابعه محمد بن إسحاق ،عن يحيى بن عروة ،عن
أبيه ،به (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ،حدثنا عَبْدة عن هشام -يعني ابن عروة
-عن أبيه ،عن عمرو بن العاص أنه سُئِل :ما أشد ما رأيت قريشًا بلغوا من رسول ال صلى
ال عليه وسلم ؟ قال :مر بهم ذات يوم فقالوا له :أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ فقال " :أنا
ذاك" فقاموا إليه ،فأخذوا بمجامع ثيابه ،فرأيتُ أبا بكر محتضنه من ورائه ،وهو يصيح بأعلى
صوته ،وإن عينيه ليسيلن ،وهو يقول :يا قوم { ،أَ َتقْتُلُونَ َرجُل أَنْ َيقُولَ رَ ّبيَ اللّ ُه َوقَدْ جَا َء ُكمْ
بِالْبَيّنَاتِ مِنْ رَ ّبكُمْ } حتى فرغ من الية كلها.
وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة ،فجعله من مسند عمرو بن العاص ،رضي ال عنه (.)2
وقوله َ { :وقَدْ جَا َءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِنْ رَ ّبكُمْ } أي :كيف تقتلون رجل لكونه يقول " :ربي ال" ،وقد
أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق ؟ ثم تَنزل معهم في المخاطبة فقال { :وَإِنْ
ك صَا ِدقًا ُيصِ ْبكُمْ َب ْعضُ الّذِي َيعِ ُدكُمْ } يعني :إذا لم يظهر لكم صحة ما
َيكُ كَاذِبًا َفعَلَيْهِ َكذِبُ ُه وَإِنْ َي ُ
جاءكم به ،فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه ،فل تؤذوه ،فإن يك كاذبا فإن ال
سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والخرة ،وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي
يعدكم ،فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والخرة ،فمن الجائز عندكم أن يكون
صادقا ،فينبغي على هذا أل تتعرضوا له ،بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وهكذا أخبر ال [تعالى] ( )3عن موسى ،عليه السلم ،أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في
ن وَجَا َءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ .أَنْ أَدّوا إَِليّ عِبَادَ اللّهِ إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ
عوْ َ
قوله { :وَلَقَدْ فَتَنّا قَبَْل ُهمْ َقوْمَ فِرْ َ
جمُونِ .وَإِنْ
َأمِينٌ .وَأَنْ ل َتعْلُوا عَلَى اللّهِ إِنّي آتِيكُمْ ِبسُلْطَانٍ مُبِينٍ .وَإِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ أَنْ تَ ْر ُ
لَمْ ُت ْؤمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [الدخان ]21 - 17 :وهكذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لقريش
أن يتركوه يدعو إلى ال [تعالى] ( )4عباد ال ،ول يمسوه بسوء ،وأن يصلوا ما بينه وبينهم من
القرابة في ترك أذيته ،قال ال تعالى ُ { :قلْ ل َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِل ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى }
[الشورى ]23 :أي :إل أل تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة ،فل تؤذوني وتتركوا بيني
وبين الناس .وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية ،وكان فتحًا مبينًا.
وقوله { :إِنّ اللّهَ ل َيهْدِي مَنْ ُهوَ مُسْ ِرفٌ كَذّابٌ } أي :لو كان هذا الذي يزعم أن ال أرسله
إليكم كاذبا كما تزعمون ،لكان أمره بينا ،يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله ،كانت تكون في
غاية الختلف والضطراب ،وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما ،ولو كان من المسرفين
الكذابين لما هداه ال ،وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4815
( )2النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11462
( )3زيادة من ت ،س ،أ.
( )4زيادة من أ.
( )7/141
ح وَعَا ٍد وَ َثمُودَ
َوقَالَ الّذِي َآمَنَ يَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ عَلَ ْيكُمْ مِ ْثلَ َيوْمِ الَْأحْزَابِ ( )30مِ ْثلَ دَ ْأبِ َقوْمِ نُو ٍ
علَ ْيكُمْ َيوْمَ التّنَادِ (َ )32يوْمَ
وَالّذِينَ مِنْ َبعْ ِدهِ ْم َومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُ ْلمًا لِ ْلعِبَادِ ( )31وَيَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ َ
ُتوَلّونَ ُمدْبِرِينَ مَا َلكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِ ٍم َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَادٍ ()33
ثم قال المؤمن محذرًا قومه زوال نعمة ال عنهم ( )1وحلول نقمة ال بهم { :يَا َقوْمِ َل ُكمُ ا ْلمُ ْلكُ
الْ َيوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ال ْرضِ } أي :قد أنعم ال عليكم بهذا الملك والظهور في الرض بالكلمة
النافذة والجاه العريض ،فراعوا هذه النعمة بشكر ال ،وتصديق رسوله صلى ال عليه وسلم ،
واحذروا نقمة ال إن كذبتم رسوله َ { ،فمَنْ يَ ْنصُرُنَا مِنْ بَ ْأسِ اللّهِ إِنْ جَاءَنَا } أي :ل تغني عنكم
هذه الجنود وهذه العساكر ،ول ترد عنا شيئا من بأس ال إن أرادنا بسوء.
عوْنُ } لقومه ،رادّا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق
{ قَالَ فِرْ َ
بالملك من فرعون { :مَا أُرِيكُمْ إِل مَا أَرَى } أي :ما أقول لكم وأشير عليكم إل ما أراه لنفسي
وقد كذب فرعون ،فإنه كان يتحقق صدق موسى فيما جاء به ( )2من الرسالة { قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا
حدُوا
س َموَاتِ وَال ْرضِ َبصَائِرَ } [السراء ، ]102 :وقال ال تعالى { :وَجَ َ
أَنزلَ َهؤُلءِ إِل َربّ ال ّ
سهُمْ ظُ ْلمًا وَعُُلوّا } [النمل .]14 :
ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ
فقوله { :مَا أُرِيكُمْ إِل مَا أَرَى } كذب فيه وافترى ،وخان ال ورسوله ورعيته ،فغشهم وما
نصحهم وكذا قوله َ { :ومَا أَ ْهدِيكُمْ إِل سَبِيلَ الرّشَادِ } أي :وما أدعوكم إل إلى طريق الحق
والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك ،وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه ،قال ال تعالى { :
عوْنُ َقوْمَهُ
ضلّ فِرْ َ
عوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود ، ]97 :وقال تعالى { :وََأ َ
ن َومَا َأمْرُ فِرْ َ
عوْ َ
فَاتّ َبعُوا َأمْرَ فِرْ َ
َومَا هَدَى } [طه ، ]79 :وفي الحديث " :ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ،إل لم
يَرح رائحة الجنة ،وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" (.)3
ح وَعَا ٍد وَ َثمُودَ
{ َوقَالَ الّذِي آمَنَ يَا َقوْمِ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْي ُكمْ مِ ْثلَ َيوْمِ الحْزَابِ ( )30مِ ْثلَ دَ ْأبِ َقوْمِ نُو ٍ
علَ ْيكُمْ َيوْمَ التّنَادِ (َ )32يوْمَ
وَالّذِينَ مِنْ َبعْ ِدهِ ْم َومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُ ْلمًا لِ ْلعِبَادِ ( )31وَيَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ َ
ُتوَلّونَ ُمدْبِرِينَ مَا َلكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِ ٍم َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَادٍ (} )33
__________
( )1في س ،أ " :عليهم".
( )2في س " :جاءه".
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم ( )7151 ، 7150ومسلم في صحيحه برقم ( )142بنحوه
من حديث معقل بن يسار رضي ال عنه.
( )7/142
شكّ ِممّا جَا َء ُكمْ بِهِ حَتّى إِذَا هََلكَ قُلْتُمْ لَنْ يَ ْب َعثَ
سفُ مِنْ قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ
وَلَقَدْ جَا َء ُكمْ يُو ُ
ضلّ اللّهُ مَنْ ُهوَ مُسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ ( )34الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللّهِ
اللّهُ مِنْ َب ْع ِدهِ رَسُولًا كَذَِلكَ ُي ِ
ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ وَعِنْدَ الّذِينَ َآمَنُوا كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى ُكلّ قَ ْلبِ مُ َتكَبّرٍ جَبّارٍ (
)35
شكّ ِممّا جَا َءكُمْ ِبهِ حَتّى ِإذَا هََلكَ قُلْ ُتمْ لَنْ يَ ْب َعثَ
سفُ مِنْ قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْتُمْ فِي َ
{ وََلقَدْ جَا َءكُمْ يُو ُ
ضلّ اللّهُ مَنْ ُهوَ مُسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ ( )34الّذِينَ يُجَا ِدلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ
اللّهُ مِنْ َب ْع ِدهِ رَسُول كَذَِلكَ ُي ِ
ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ وَعِنْدَ الّذِينَ آمَنُوا كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى ُكلّ قَ ْلبِ مُ َتكَبّرٍ جَبّارٍ (
} )35
هذا إخبار من ال ،عز وجل ،عن هذا الرجل الصالح ،مؤمن آل فرعون :أنه حذر قومه بأس
ال في الدنيا والخرة فقال { :يَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ عَلَ ْيكُمْ مِ ْثلَ َيوْمِ الحْزَابِ } أي :الذين كذبوا
رسل ال في قديم الدهر ،كقوم نوح وعاد وثمود ،والذين من بعدهم من المم المكذبة ،كيف حل
بهم بأس ال ،وما رده عنهم راد ،ول صده عنهم صاد.
( )7/142
{ َومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُ ْلمًا لِ ْلعِبَادِ } أي :إنما أهلكهم ال بذنوبهم ،وتكذيبهم رسله ،ومخالفتهم أمره.
فأنفذ فيهم قدره ،ثم قال { :وَيَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ عَلَ ْيكُمْ َيوْمَ التّنَادِ } يعني :يوم القيامة ،وسمي
بذلك قال بعضهم :لما جاء في حديث الصور :إن الرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر
،وماجت وارتجت ،فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا.
وقال آخرون منهم الضحاك :بل ذلك إذا جيء بجهنم ،ذهب الناس هِرَابا ( ، )1فتتلقاهم الملئكة
فتردهم إلى مقام المحشر ،وهو قوله تعالى { :وَا ْلمََلكُ عَلَى أَرْجَا ِئهَا } [الحاقة ، ]17 :وقوله { يَا
س َموَاتِ وَال ْرضِ فَا ْنفُذُوا ل تَ ْنفُذُونَ إِل
طعْتُمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ
ن وَالنْسِ إِنِ اسْ َت َ
َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
بِسُ ْلطَانٍ } [الرحمن .]33 :
وقد روي عن ابن عباس ،والحسن ،والضحاك :أنهم قرؤوا " :يوم التنادّ" بتشديد الدال من ند
البعير :إذا شرد وذهب.
وقيل :لن الميزان عنده ملك ،وإذا وزن عمل العبد ( )2فرجح نادى بأعلى صوته :أل قد سعد
فلن بن فلن سعادة ل يشقى بعدها أبدا .وإن خف عمله نادى :أل قد شقي فلن بن فلن.
وقال قتادة :ينادي كل قوم بأعمالهم :ينادي أهل الجنة أهل الجنة ،وأهل النار أهل النار.
جدْتُمْ مَا
حقّا َف َهلْ وَ َ
وقيل :سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار { :أَنْ قَ ْد َوجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ
حقّا قَالُوا َن َعمْ } [العراف .]44 :ومناداة أهل النار أهل الجنة { :أَنْ َأفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
وَعَدَ رَ ّبكُمْ َ
ا ْلمَاءِ َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ قَالُوا إِنّ اللّهَ حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } [العراف ، ]50 :ولمناداة
أصحاب العراف أهل الجنة وأهل النار ،كما هو مذكور في سورة العراف.
واختار البغوي وغيره :أنه سمي بذلك لمجموع ذلك .وهو قول حسن جيد ،وال أعلم (.)3
وقوله َ { :يوْمَ ُتوَلّونَ مُدْبِرِينَ } أي :ذاهبين هاربين { ،كَل ل وَزَرَ .إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ }
[القيامة ، ]12 ، 11 :ولهذا قال { :مَا َل ُكمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي :ما لكم مانع يمنعكم من
بأس ال وعذابه َ { ،ومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي :من أضله [ال] ( )4فل هادي له
غيره.
سفُ مِنْ قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ } يعني :أهل مصر ،قد بعث ال فيهم رسول من
وقوله { :وََلقَدْ جَا َءكُمْ يُو ُ
قبل موسى ،وهو يوسف ،عليه السلم ،كان عزيز أهل مصر ،وكان رسول يدعو إلى ال
أمته ( )5القبط ،فما أطاعوه تلك الساعة ( )6إل لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ؛ ولهذا قال :
شكّ ِممّا جَا َءكُمْ بِهِ حَتّى إِذَا هََلكَ قُلْتُمْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ مِنْ َبعْ ِدهِ َرسُول } أي :يئستم
{ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ
ضلّ اللّهُ مَنْ ُهوَ
فقلتم طامعين { :لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ مِنْ َب ْع ِدهِ رَسُول } وذلك لكفرهم وتكذيبهم { َكذَِلكَ ُي ِ
مُسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ } أي :كحالكم هذا.
__________
( )1في س ،أ " :هرابا منه".
( )2في ت " :أعمال العبد".
( )3معالم التنزيل للبغوي (.)148 ، 7/147
( )4زيادة من ت ،س.
( )5في أ " :أمة".
( )6في ت ،س ،أ " :تلك الطاعة".
( )7/143
ثم قال { :الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ } أي :الذين يدفعون الحق بالباطل ،
ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من ال ،فإن ال يمقت على ذلك أشد المقت ؛ ولهذا قال
تعالى { :كَبُرَ َمقْتًا عِنْدَ اللّ ِه وَعِنْدَ الّذِينَ آمَنُوا } أي :والمؤمنون أيضا يُبغضُون من تكون هذه
صفته ،فإن من كانت هذه صفته ،يطبع ال على قلبه ،فل يعرف بعد ذلك معروفًا ،ول ينكر
منكرًا ؛ ولهذا قال َ { :كذَِلكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى ُكلّ قَ ْلبِ مُ َتكَبّرٍ } أي :على اتباع الحق { جَبّارٍ }.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة -وحكي عن الشعبي -أنهما قال ل يكون النسان جبارًا حتى
يقتل نفسين.
وقال أبو عمران الجوني وقتادة :آية الجبابرة القتل بغير حق.
س َموَاتِ فََأطّلِعَ ِإلَى إَِلهِ
عوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا َلعَلّي أَبُْلغُ السْبَابَ (َ )36أسْبَابَ ال ّ
{ َوقَالَ فِرْ َ
عوْنَ إِل فِي
ل َومَا كَ ْيدُ فِرْ َ
عمَلِ ِه َوصُدّ عَنِ السّبِي ِ
عوْنَ سُوءُ َ
مُوسَى وَإِنّي لظُنّهُ كَاذِبًا َوكَذَِلكَ زُيّنَ ِلفِرْ َ
تَبَابٍ (} )37
يقول تعالى مخبرا عن فرعون ،وعتوه ،وتمرده ،وافترائه في تكذيبه موسى ،عليه السلم ،
أنه أمر وزيره هامان أن يبني له صرحا ،وهو :القصر العالي المنيف الشاهق .وكان اتخاذه من
ج َعلْ لِي
الج ّر المضروب من الطين المشوي ،كما قال { :فََأ ْوقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَا ْ
صَرْحًا } [القصص ، ]38 :ولهذا قال إبراهيم النخعي :كانوا يكرهون البناء بالجر ،وأن
يجعلوه في قبورهم .رواه ابن أبي حاتم.
س َموَاتِ } قال سعيد بن جبير ،وأبو صالح :أبواب
وقوله َ { :لعَلّي أَبْلُغُ السْبَابَ َأسْبَابَ ال ّ
السموات .وقيل :طرق السموات { فَأَطّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنّي لظُنّهُ كَاذِبًا } ،وهذا من كفره
وتمرده ،أنه كذب موسى في أن ال ،عز وجل ،أرسله إليه ،قال ال تعالى َ { :وكَذَِلكَ زُيّنَ
عمَلِ ِه َوصُدّ عَنِ السّبِيلِ } أي :بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل
ِلفِرْعَوْنَ سُوءُ َ
عوْنَ إِل فِي
شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى ،عليه السلم ؛ ولهذا قال تعالى َ { :ومَا كَ ْيدُ فِرْ َ
تَبَابٍ } قال ابن عباس [رضي ال عنهما] ( ، )1ومجاهد :يعني إل في خسار.
{ َوقَالَ الّذِي آمَنَ يَا َقوْمِ اتّ ِبعُونِ أَ ْه ِدكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ ( )38يَا َقوْمِ إِ ّنمَا هَ ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ
ع ِملَ صَاِلحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ
ع ِملَ سَيّ َئةً فَل يُجْزَى إِل مِثَْلهَا َومَنْ َ
الخِ َرةَ ِهيَ دَارُ ا ْلقَرَارِ ( )39مَنْ َ
أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ يُرْ َزقُونَ فِيهَا ِبغَيْرِ حِسَابٍ (} )40
يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ،ونسي الجبار العلى ،فقال لهم { :يَا
َقوْمِ اتّ ِبعُونِ أَهْ ِد ُكمْ سَبِيلَ الرّشَادِ }
__________
( )1زيادة من س.
( )7/144
ل كما كذب فرعون في قوله َ { :ومَا َأهْدِيكُمْ إِل سَبِيلَ الرّشَادِ }.
ثم زهدهم في الدنيا التي [قد] ( )1آثروها على الخرى ،وصدتهم عن التصديق برسول ال
موسى [صلى ال عليه وسلم] ( ، )2فقال { :يَا َقوْمِ إِ ّنمَا هَ ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ } أي :قليلة زائلة
فانية عن قريب تذهب [وتزول] ( )3وتضمحل { ،وَإِنّ الخِ َرةَ ِهيَ دَارُ ا ْلقَرَارِ } أي :الدار التي
ل زوال لها ،ول انتقال منها ول ظعن عنها إلى غيرها ،بل إما نعيم وإما جحيم ،ولهذا قال
ع ِملَ صَاِلحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى
ع ِملَ سَيّ َئةً فَل يُجْزَى إِل مِثَْلهَا } أي :واحدة مثلها { َومَنْ َ
{ مَنْ َ
وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْ َزقُونَ فِيهَا ِبغَيْرِ حِسَابٍ } أي :ل يتقدر بجزاء بل يثيبه ال ،
ثوابا كثيرا ل انقضاء له ول نفاد.
__________
( )1زيادة من ت ،س ،أ.
( )2زيادة من ت.
( )3زيادة من ت.
( )7/145
وَيَا َقوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النّجَا ِة وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ (َ )41تدْعُونَنِي لَِأ ْكفُرَ بِاللّ ِه وَأُشْ ِركَ ِبهِ مَا
ع َوةٌ فِي
علْ ٌم وَأَنَا َأدْعُوكُمْ إِلَى ا ْلعَزِيزِ ا ْل َغفّارِ ( )42لَا جَرَمَ أَ ّنمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَ ْ
لَيْسَ لِي بِهِ ِ
الدّنْيَا وَلَا فِي الَْآخِ َر ِة وَأَنّ مَرَدّنَا إِلَى اللّ ِه وَأَنّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ ُهمْ َأصْحَابُ النّارِ (َ )43فسَتَ ْذكُرُونَ مَا َأقُولُ
َلكُ ْم وَُأ َف ّوضُ َأمْرِي ِإلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ (َ )44ف َوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَرُوا َوحَاقَ بَِآلِ
غ ُدوّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َأدْخِلُوا َآلَ
عوْنَ سُوءُ ا ْلعَذَابِ ( )45النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا ُ
فِرْ َ
عوْنَ أَشَدّ ا ْلعَذَابِ ()46
فِرْ َ
{ وَيَا َقوْمِ مَا لِي َأدْعُوكُمْ إِلَى النّجَا ِة وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ (َ )41تدْعُونَنِي ل ْكفُرَ بِاللّ ِه وَأُشْ ِركَ بِهِ مَا
ع َوةٌ فِي
علْ ٌم وَأَنَا َأدْعُوكُمْ إِلَى ا ْلعَزِيزِ ا ْل َغفّارِ ( )42ل جَرَمَ أَ ّنمَا َتدْعُونَنِي إِلَ ْيهِ لَيْسَ َلهُ دَ ْ
لَيْسَ لِي بِهِ ِ
الدّنْيَا وَل فِي الخِ َر ِة وَأَنّ مَرَدّنَا إِلَى اللّ ِه وَأَنّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ ُهمْ َأصْحَابُ النّارِ (َ )43فسَتَ ْذكُرُونَ مَا
َأقُولُ َل ُك ْم وَُأ َفوّضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ (َ )44ف َوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ
غ ُدوّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َأدْخِلُوا آلَ
عوْنَ سُوءُ ا ْلعَذَابِ ( )45النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا ُ
فِرْ َ
عوْنَ أَشَدّ ا ْلعَذَابِ (} )46
فِرْ َ
يقول لهم المؤمن :ما بالي أدعوكم إلى النجاة ،وهي عبادة ال وحده ل شريك له وتصديق
رسوله الذي بعثه { وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارَِ .تدْعُونَنِي ل ْكفُرَ بِاللّ ِه وَأُشْ ِركَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ } أي
:جهل ( )1بل دليل { وَأَنَا َأدْعُوكُمْ إِلَى ا ْلعَزِيزِ ا ْل َغفّارِ } أي :هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب
من تاب إليه { ،ل جَ َرمَ أَ ّنمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } يقول :حقا.
قال السدي وابن جرير :معنى قوله { :ل جَرَمَ } حقا.
وقال الضحاك { :ل جَ َرمَ } ل كذب.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :ل جَ َرمَ } يقول :بلى ،إن الذي تدعونني إليه من
ع َوةٌ فِي الدّنْيَا وَل فِي الخِ َرةِ }
الصنام والنداد { لَيْسَ َلهُ دَ ْ
قال مجاهد :الوثن ليس بشيء.
وقال قتادة :يعني الوثن ل ينفع ول يضر.
وقال السدي :ل يجيب داعيه ،ل في الدنيا ول في الخرة.
ضلّ ِممّنْ َيدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ ل َيسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ
وهذا كقوله تعالى َ { :ومَنْ َأ َ
حشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِت ِهمْ كَافِرِينَ } [الحقاف ، 5 :
عَنْ دُعَا ِئ ِهمْ غَافِلُونَ .وَِإذَا ُ
س ِمعُوا مَا اسْ َتجَابُوا َلكُمْ } [فاطر .]14 :
س َمعُوا دُعَا َءكُ ْم وََلوْ َ
{ ، ]6إِنْ تَدْعُوهُمْ ل َي ْ
__________
( )1في ت ،أ " :على جهل".
( )7/145
وقوله { :وَأَنّ مَرَدّنَا إِلَى اللّهِ } أي :في الدار الخرة ،فيجازي كل بعمله ؛ ولهذا قال { :وَأَنّ
ا ْلمُسْ ِرفِينَ ُهمْ َأصْحَابُ النّارِ } أي :خالدين فيها بإسرافهم ،وهو شركهم بال.
{ َفسَتَ ْذكُرُونَ مَا َأقُولُ َلكُمْ } أي :سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ،ونصحتكم
ووضحت لكم ،وتتذكرونه ،وتندمون حيث ل ينفعكم الندم { ،وَُأ َف ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ } أي :
وأتوكل على ال وأستعينه ،وأقاطعكم وأباعدكم { ،إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ } أي :هو بصير بهم ،
فيهدي من يستحق الهداية ،ويضل من يستحق الضلل ،وله الحجة البالغة ،والحكمة التامة ،
والقدر النافذ.
وقوله [تعالى] (َ { : )1ف َوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَرُوا } أي :في الدنيا والخرة ،أما في الدنيا فنجاه
عوْنَ سُوءُ ا ْلعَذَابِ } وهو :
ال مع موسى ،عليه السلم ،وأما في الخرة فبالجنة { وَحَاقَ بِآلِ فِرْ َ
الغرق في اليم ،ثم النقلة منه إلى الجحيم .فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساءً إلى قيام
الساعة ،فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ؛ ولهذا قال { :وَ َيوْمَ َتقُومُ
شدّ ا ْلعَذَابِ } أي :أشده ألما وأعظمه نكال .وهذه الية أصل كبير في
عوْنَ أَ َ
عةُ أَ ْدخِلُوا آلَ فِرْ َ
السّا َ
غ ُدوّا
استدلل أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور ،وهي قوله { :النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا ُ
وَعَشِيّا }.
ولكن هاهنا سؤال ،وهو أنه ل شك أن هذه الية مكية ،وقد استدلوا بها على عذاب القبر في
البرزخ ،وقد قال المام أحمد :
حدثنا هاشم -هو ابن القاسم أبو النضر -حدثنا إسحاق بن سعيد ( - )2هو ابن عمرو بن سعيد
بن العاص -حدثنا سعيد -يعني أباه -عن عائشة ؛ أن يهودية كانت تخدمها فل تصنع عائشة
إليها شيئا من المعروف إل قالت لها اليهودية :وقاك ال عذاب القبر .قالت :فدخل رسول ال
صلى ال عليه وسلم عليّ فقلت :يا رسول ال ،هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال " :ل وعم
ذلك ؟" قالت :هذه اليهودية ،ل نصنع إليها شيئا من المعروف إل قالت :وقاك ال عذاب القبر.
قال " :كذبت يهود ( .)3وهم على ال أكذب ،ل عذاب دون يوم القيامة" .ثم مكث بعد ذلك ما
شاء ال أن يمكث ،فخرج ذات يوم نصف النهار مشتمل بثوبه ،محمرة عيناه ،وهو ينادي
بأعلى صوته " :القبر كقطع الليل المظلمز أيها الناس ،لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم
قليل .أيها الناس ،استعيذوا بال من عذاب القبر ،فإن عذاب القبر حق" (.)4
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ،ولم يخرجاه.
وروى أحمد :حدثنا يزيد ،حدثنا سفيان ،عن الزهري ،عن عروة ،عن عائشة -قال :سألتها
امرأة يهودية فأعطتها ،فقالت لها :أعاذك ال من عذاب القبر .فأنكرت عائشة ذلك ،فلما رأت
رسول ال صلى ال عليه وسلم قالت له ،فقال " :ل" .قالت عائشة :ثم قال لنا رسول ال صلى
ال عليه وسلم بعد ذلك " :وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم".
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في أ " :سعد".
( )3في أ " :يهودية".
( )4المسند (.)6/81
( )7/146
( )7/147
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد ،حدثنا المحاربي ،حدثنا ليث ،عن عبد الرحمن بن ثروان
،عن هذيل ،عن عبد ال بن مسعود ( ، )1رضي ال عنه ،قال :إن أرواح الشهداء في أجواف
طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا ،وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير
تسرح في الجنة حيث شاءت ،فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ،وإن أرواح آل فرعون في
أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها ،فذلك عرضها.
وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهُزَيل ابن شرحبيل ،من كلمه في أرواح آل فرعون.
وكذلك قال السدي.
وفي حديث السراء من رواية أبي هارون العبدي ،عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال عنه ،
عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال فيه " :ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق ال ،رجالٌ
كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ،مصفدون على سابلة آل فرعون ،وآل فرعون
شدّ ا ْلعَذَابِ } وآل
عوْنَ أَ َ
عةُ أَ ْدخِلُوا آلَ فِرْ َ
يعرضون على النار غدوا وعشيا { .وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
فرعون كالبل المسومة ( )2يخبطون الحجارة والشجر ول يعقلون" (.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا زيد بن أخْرَم ،حدثنا عامر بن مُدْرِك
الحارثي ،حدثنا عتبة -يعني ابن يقظان -عن قيس بن مسلم ،عن طارق ،عن ( )4شهاب ،
عن ابن مسعود ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إل
أثابه ال" .قال :قلنا :يا رسول ال ما إثابة الكافر ؟ فقال " :إن كان قد وصل رحما أو تصدق
بصدقة أو عمل حسنة ،أثابه ال المال والولد والصحة وأشباه ذلك" .قلنا :فما إثابته في الخرة ؟
شدّ ا ْلعَذَابِ } ورواه البزار في مسنده ،
عوْنَ أَ َ
قال " :عذابا دون العذاب" وقرأ { :أَ ْدخِلُوا آلَ فِرْ َ
عن زيد بن أخْرَم ،ثم قال :ل نعلم له إسنادًا غير هذا (.)5
وقال ابن جرير :حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ،حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال :
سمعت ( )6الوزاعي وسأله رجل فقال :رحمك ال .رأينا طيورًا تخرج من البحر ،تأخذ ناحية
الغرب بيضا ،فوجا فوجا ،ل يعلم عددها إل ال ،عز وجل ،فإذا كان العشي رجع مثلها سودا.
قال :وفطنتم إلى ذلك ؟ قال :نعم .قال :إن تلك ( )7الطير في حواصلها أرواح آل فرعون ،
تعرض على النار غدوا وعشيا ،فترجع إلى وكورها وقد احترقت ريَاشُها وصارت سودا ،فينبت
عليها من الليل ريش أبيض ،ويتناثر السود ،ثم تغدو على النار غدوا وعشيا ،ثم ترجع إلى
شدّ
عوْنَ أَ َ
وكورها .فذلك دأبهم في الدنيا ،فإذا كان يوم القيامة قال ال تعالى َ { :أدْخِلُوا آلَ فِرْ َ
ا ْلعَذَابِ } قال :وكانوا
__________
( )1في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن مسعود".
( )2في س " :المنسومة".
( )3انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الية الولى من سورة السراء.
( )4في س " :ابن".
( )5مسند البزار برقم (" )945كشف الستار" ورواه الحاكم في المستدرك ( )2/253من طريق
علي بن الحسين به ،وقال " :صحيح السناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهب .قلت :فيه عتبة بن
يقظان وهو واه.
( )6في ت " :وروى ابن جرير بإسناده إلي".
( )7في ت " :ذلك".
( )7/148
ض َعفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا َنصِيبًا
وَإِذْ يَ َتحَاجّونَ فِي النّارِ فَ َيقُولُ ال ّ
ح َكمَ بَيْنَ ا ْلعِبَادِ (َ )48وقَالَ الّذِينَ فِي
مِنَ النّارِ ( )47قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا ُكلّ فِيهَا إِنّ اللّهَ َقدْ َ
خ ّففْ عَنّا َي ْومًا مِنَ ا ْلعَذَابِ ()49
جهَنّمَ ادْعُوا رَ ّب ُكمْ يُ َ
النّارِ ِلخَزَنَةِ َ
( )7/149
قَالُوا َأوَلَمْ َتكُ تَأْتِيكُمْ ُرسُُلكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ ()50
{ قَالُوا َأوَ َلمْ َتكُ تَأْتِيكُمْ ُرسُُلكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِل فِي ضَللٍ (
} )50
يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار ،وتخاصمهم ،وفرعون وقومه من جملتهم { فَ َيقُولُ
ضعَفَاءُ } وهم :التباع { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } وهم :القادة والسادة والكبراء { :إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا }
ال ّ
أي :أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلل َ { ،ف َهلْ أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا َنصِيبًا مِنَ
النّارِ } أي :قسطا تتحملونه عنا.
{ قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا ُكلّ فِيهَا } أي :ل نتحمل عنكم شيئا ،كفى بنا ما عندنا ،وما حملنا من
حكَمَ بَيْنَ ا ْلعِبَادِ } أي :يقسم ( )1بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا
العذاب والنكال { .إِنّ اللّهَ قَدْ َ
ض ْعفٌ وََلكِنْ ل َتعَْلمُونَ } [العراف .]38 :
،كما قال تعالى { :قَالَ ِل ُكلّ ِ
خفّفْ عَنّا َي ْومًا مِنَ ا ْلعَذَابِ } لما علموا أن ال ،
جهَنّمَ ادْعُوا رَ ّبكُمْ ُي َ
{ َوقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ َ
سؤُوا فِيهَا وَل ُتكَّلمُونِ }
سبحانه ،ل يستجيب منهم ول يستمع لدعائهم ،بل قد قال { :اخْ َ
[المؤمنون ]108 :سألوا الخزنة -وهم كالبوابين ( )2لهل النار -أن يدعوا لهم ال أن يخفف
عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب ،فقالت لهم الخزنة رادين عليهم َ { : :أوَ َلمْ َتكُ تَأْتِيكُمْ
رُسُُلكُمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي :أوما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل ؟ { قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا } أي :أنتم لنفسكم ،فنحن ل ندعو لكم ول نسمع منكم ول نود خلصكم ،ونحن منكم
برآء ،ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا ل يستجاب لكم ول يخفف عنكم ؛ ولهذا قالوا ()3
َ { :ومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِل فِي ضَللٍ } أي :إل من ذهاب ،ل يتقبل ول يستجاب.
__________
( )1في ت " :فقسم".
( )2في ت ،أ " :كالسجانين".
( )3في ت " :قال".
( )7/149
( )7/150
وهكذا نصر ال [سبحانه] ( )1نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه ،
وكذبه وعاداه ،فجعل كلمته هي العليا ،ودينه هو الظاهر على سائر الديان .وأمره بالهجرة من
بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية ،وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ،ثم منحه أكتاف المشركين
يوم بدر ،فنصره عليهم وخذلهم له ،وقتل صناديدهم ،وأسر سراتهم ،فاستاقهم مقرنين في
الصفاد ،ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ،ثم بعد مدة قريبة فتح [عليه] ( )2مكة ،فقرت عينه
ببلده ،وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ،فأنقذه ال به مما كان فيه من الشرك والكفر ،
وفتح له اليمن ،ودانت له جزيرة ( )3العرب بكمالها ،ودخل الناس في دين ال أفواجا .ثم قبضه
ال ،تعالى ،إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ،فأقام ال أصحابه خلفاء بعده ،فبلغوا عنه
دين ال ،ودعوا عباد ال إلى ال .وفتحوا البلد والرّساتيق والقاليم والمدائن والقرى والقلوب ،
حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الرض ومغاربها .ثم ل يزال هذا الدين قائما منصورا
ظاهرا إلى قيام ( )4الساعة ؛ ولهذا قال تعالى { :إِنّا لَنَ ْنصُرُ ُرسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا
شهَادُ } أي :يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل.
وَ َيوْمَ َيقُومُ ال ْ
قال مجاهد :الشهاد :الملئكة.
شهَادُ }.
وقوله َ { :يوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُتهُمْ } بدل من قوله { :وَ َيوْمَ َيقُومُ ال ْ
شهَادُ َيوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِين } ،وهم
وقرأ آخرون َ " :يوْمُ" بالرفع ،كأنه فسره به { وَيَوْمَ َيقُومُ ال ْ
المشركون { َمعْذِرَ ُتهُم } أي :ل يقبل منهم عذر ول فدية { ،وََلهُمُ الّلعْنَةُ } أي :البعاد والطرد
من الرحمة { ،وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } وهي النار .قاله السدي ،بئس المنزل والمقيل.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } أي :سوء العاقبة.
وقوله { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْل ُهدَى } وهو ما بعثه ال به من الهدى والنور { ،وََأوْرَثْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ } أي :جعلنا لهم العاقبة ،وأورثناهم ( )5بلد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه
،بما صبروا على طاعة ال واتباع رسوله موسى ،عليه السلم ،وفي الكتاب الذي أورثوه -
وهو التوراة ُ { -هدًى وَ ِذكْرَى لولِي اللْبَابِ } وهي :العقول الصحيحة السليمة.
وقوله { :فَاصْبِرْ } أي :يا محمد { ،إِنّ وَعْدَ اللّهِ } أي :وعدناك أنا سنعلي كلمتك ،ونجعل
العاقبة لك ولمن اتبعك ،وال ل يخلف الميعاد .وهذا الذي أخبرناك به حق ل مرية فيه ول شك.
شيّ } أي :
حمْدِ رَ ّبكَ بِا ْلعَ ِ
وقوله { :وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِبكَ } هذا تهييج للمة على الستغفار { ،وَسَبّحْ ِب َ
في أواخر النهار وأوائل الليل { ،وَال ْبكَارِ } وهي أوائل النهار وأواخر الليل.
وقوله { :إِنّ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ } أي :يدفعون الحق بالباطل ،
ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بل برهان ول حجة من ال { ،إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِل كِبْرٌ
مَا هُمْ بِبَاِلغِيهِ }
__________
( )1زيادة من أ.
( )2زيادة من ت ،وفي أ " :عليهم".
( )3في ت " :جزائر".
( )4في ت " :يوم".
( )5في ت " :وأورثنا بني إسرائيل".
( )7/151
ت وَالْأَ ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ (َ )57ومَا َيسْ َتوِي
سمَاوَا ِ
لَخَ ْلقُ ال ّ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ وَلَا ا ْلمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَ َت َذكّرُونَ ()58
عمَى وَالْ َبصِي ُر وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
الْأَ ْ
أي :ما في صدورهم إل كبر على اتباع الحق ،واحتقار لمن جاءهم به ،وليس ما يرومونه من
إخمال الحق وإعلء الباطل بحاصل لهم ،بل الحق هو المرفوع ،وقولهم وقصدهم هو الموضوع
سمِيعُ الْ َبصِيرُ } أو ( )1من شر ( )2مثل
{ ،فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ } أي :من حال مثل هؤلء { ،إِنّه ُهوَ ال ّ
هؤلء المجادلين في آيات ال بغير سلطان .هذا تفسير ابن جرير.
وقال كعب وأبو العالية :نزلت هذه الية في اليهود { :إِنّ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ ِبغَيْرِ
سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِل كِبْرٌ مَا ُهمْ بِبَاِلغِيهِ } قال أبو العالية :وذلك أنهم ادعوا أن
الدجال منهم ،وأنهم يملكون به الرض .فقال ال لنبيه صلى ال عليه وسلم آمرا له أن يستعيذ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }.
من فتنة الدجال ،ولهذا قال { :فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
وهذا قول غريب ،وفيه تعسف بعيد ،وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه ،وال أعلم.
{ َلخَلْقُ السّموَاتِ وَال ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل َيعَْلمُونَ (َ )57ومَا يَسْ َتوِي
ت وَل ا ْلمُسِيءُ قَلِيل مَا تَتَ َذكّرُونَ (} )58
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
عمَى وَالْ َبصِي ُر وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ال ْ
__________
( )1في ت " :أي".
( )2في أ " :شك".
( )7/152
عةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ ()59
إِنّ السّا َ
{ إِنّ السّاعَةَ لتِيَةٌ ل رَ ْيبَ فِيهَا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل ُي ْؤمِنُونَ (} )59
يقول تعالى منبها على أنه يعيد الخلئق يوم القيامة ،وأن ذلك سهل عليه ،يسير لديه -بأنه خلق
السموات والرض ،وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة ،فمن قدر على ذلك فهو قادر
س َموَاتِ
على ما دونه بطريق الولى والحرى ،كما قال تعالى َ { :أوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
شيْءٍ قَدِيرٌ } [الحقاف :
ض وَلَمْ َي ْعيَ بِخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
وَالرْ َ
سل
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
ت وَالرْضِ َأكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّا ِ
س َموَا ِ
.)1( ]33وقال هاهنا { :لَخَ ْلقُ ال ّ
َيعَْلمُونَ } ؛ فلهذا ل يتدبرون هذه الحجة ول يتأملونها ،كما كان كثير من العرب يعترفون بأن ال
خلق السموات والرض ،وينكرون المعاد ،استبعادا وكفرا وعنادا ،وقد اعترفوا بما هو أولى
مما أنكروا.
ت وَل ا ْل ُمسِيءُ } أي كما ل
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
عمَى وَالْ َبصِيرُ وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ثم قال َ { :ومَا َيسْ َتوِي ال ْ
يستوي العمى الذي ل يبصر شيئا ،والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره ،بل بينهما فرق
عظيم ،كذلك ل يستوي المؤمنون البرار والكفرة الفجار { ،قَلِيل مَا تَتَ َذكّرُونَ } أي :ما أقل ما
يتذكر كثير من الناس.
ع َة لتِيَةٌ } ( )2أي لكائنة وواقعة { ل رَ ْيبَ فِيهَا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل ُي ْؤمِنُونَ }
ثم قال { :إِنّ السّا َ
أي :ل يصدقون بها ،بل يكذبون بوجودها.
__________
( )1في ت ،أ " :أو ليس الذي خلق السموات والرض بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على
كل شيء قدير" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه حيث إن ناسخا المخطوطتين ت ،أ قد خلطا بين
الية الحادية والثمانين من سورة يس وبين الية الثالثة والثلثين من سورة الحقاف.
( )2في ت " :آتية وهو خطأ.
( )7/152
قال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ،حدثنا أشهب ،حدثنا مالك ،عن ()1
شيخ قديم من أهل اليمن -قدم من ثم -قال :سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلء على
الناس ،واشتد حر الشمس.
جهَنّمَ دَاخِرِينَ (} )60
جبْ َلكُمْ إِنّ الّذِينَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَ ْدخُلُونَ َ
{ َوقَالَ رَ ّبكُمُ ادْعُونِي أَسْ َت ِ
هذا من فضله ،تبارك وتعالى ،وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه ،وتكفل لهم بالجابة ،كما كان
سفيان الثوري يقول :يا مَنْ أحبّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله ،ويا من أبغض عباده إليه من
لم يسأله ،وليس كذلك ( )2غيرك يا رب.
رواه ابن أبي حاتم.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
ضبُ...
سؤَالهُ ...وَبُنيّ آدمَ حين يُسألُ َي ْغ َ
الُ َيغْضبُ إن تر ْكتَ ُ
وقال قتادة : :قال كعب الحبار :أعطيت هذه المة ثلثا لم تُعطهُن ( )3أمة قبلهم إل نبي :كان
إذا أرسل ال نبيا قيل له " :أنت شاهد على أمتك" ،وجَعلتُكم ( )4شهداء على الناس .وكان يقال
ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ }
له " :ليس عليك في الدين من حرج" .وقال لهذه المة َ { :ومَا َ
جبْ َلكُمْ }
[الحج .]78 :وكان يقال له " :ادعني ( )5أستجب لك "وقال لهذه المة { :ادْعُونِي َأسْتَ ِ
رواه ابن أبي حاتم.
وقال ( )6المام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده :حدثنا أبو إبراهيم
الترجماني ،حدثنا صالح المري قال :سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك ،رضي ال عنه ،
عن النبي صلى ال عليه وسلم -فيما يروي عن ربه عز وجل -قال " :أربع خصال ،واحدة
منهن لي ،وواحدة لك ،وواحدة فيما بيني وبينك ،وواحدة فيما بينك وبين عبادي ( : )7فأما التي
لي فتعبدني ل تشرك بي شيئا ،وأما التي لك عليّ فما عملت من خير جزيتك به ،وأما التي بيني
وبينك :فمنك الدعاء وعلي الجابة ،وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ( )8ترضى
لنفسك" (.)9
وقال ( )10المام أحمد :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش ،عن ذر ،عن يُسيع الكندي ،عن
النعمان بن بشير ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الدعاء هو
جهَنّمَ دَاخِرِينَ }.
جبْ َلكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَ َيدْخُلُونَ َ
العبادة" ثم قرأ { :ادْعُونِي َأسْتَ ِ
__________
( )1في ت " :روى ابن أبي حاتم عن".
( )2في ت ،أ " :وليس أحد كذلك".
( )3في س " :يعطهن".
( )4في ت " :وروى".
( )5في س " :ادعوني".
( )6في ت " :وروى".
( )7في ت " :العباد".
( )8في ت ،أ " :بما".
( )9مسند أبي يعلى ( )5/143ورواه البزار في مسنده برقم (" )19كشف الستار" من طريق
الحجاج بن المنهال عن صالح المري به وقال " :تفرد به صالح المري" قال الهيثمي في المجمع (
" )1/51في إسناده صالح المري وهو ضعيف وتدليس الحسن أيضا .والمحمل هنا على صالح بن
بشير المري فهو ضعيف جدا وقد تفرد به.
( )10في ت " :وروى".
( )7/153
وهكذا رواه أصحاب السنن :الترمذي ،والنسائي ،وابن ماجه ،وابن أبي حاتم ،وابن جرير ،
كلهم من حديث العمش ،به ( .)1وقال الترمذي :حسن صحيح.
ورواه أبو داود ،والترمذي ،والنسائي ،وابن جرير أيضا ،من حديث شعبة ،عن منصور ،
عن ذر ،به ( .)2وأخرجه الترمذي أيضا من حديث الثوري ،عن منصور والعمش ،كلهما
عن ذر ،به (.)3
ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما ،وقال الحاكم :صحيح السناد (.)4
وقال ( )5المام أحمد :حدثنا وكيع ،حدثني أبو مليح المدني -شيخ من أهل المدينة -سمعه
عن أبي صالح ،وقال مرة :سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة [رضي ال عنه] ( )6قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من لم يدع ال ،عز وجل ،غضب عليه".
تفرد به أحمد ( ، )7وهذا إسناد ل بأس به.
وقال ( )8المام أحمد أيضا :حدثنا مروان الفزاري ،حدثنا صُبيح أبو المليح :سمعت أبا صالح
يحدث عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من ل يسأله يغضب عليه" (
.)9
قال ابن معين :أبو المليح هذا اسمه :صُبَيْح .كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد .وأما أبو
شعَب الخوز ( .)12قاله البزار في مسنده .وكذا وقع
صالح هذا فهو ( )10الخُوزي ( ، )11سكن ِ
في روايته أبو المليح الفارسي ،عن أبي صالح الخُوزي ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :من ل يسأل ال يغضب عليه" (.)13
وقال ( )14الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمزي :حدثنا همام ،حدثنا إبراهيم
بن الحسن ،حدثنا نائل بن نجيح ،حدثني عائذ بن حبيب ،عن محمد بن سعيد قال :لما مات
محمد بن مسلمة النصاري ،وجدنا في ذؤابة ( )15سيفه كتابا " :بسم ال الرحمن الرحيم ،
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إن لربكم في بقية دهركم نفحات ( ، )16فتعرضوا
له ،لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد ( )17بها صاحبها سعادة ل يخسر بعدها أبدا" (.)18
__________
( )1المسند ( )4/271وسنن الترمذي برقم ( )3372والنسائي في السنن الكبرى برقم ()11464
وسنن ابن ماجه برقم ( )3828وتفسير الطبري (.)24/51
( )2سنن أبي داود برقم ( )1479وسنن الترمذي برقم ( )2969والنسائي في السنن الكبرى برقم
( )11446وتفسير الطبري (.)24/51
( )3سنن الترمذي برقم (.)3247
( )4صحيح ابن حبان برقم (" )2396موارد" والمستدرك (.)1/491
( )5في ت " :وروى".
( )6زيادة من ت.
( )7المسند ( )2/477وتفرد به أحمد بهذا اللفظ وإل فقد رواه ابن ماجه في السنن برقم ()3827
من طريق وكيع بهذا السناد بلفظ " :من لم يسأل ال يغضب عليه".
( )8في ت " :وروى".
( )9المسند (.)2/442
( )10في ت ،س " :وهو".
( )11في أ " :الجزري".
( )12في أ " :الجزر".
( )13ورواه الترمذي في السنن برقم ( )3373وقال " :أبو المليح اسمه صبيح ،وسمعت محمدا
يقوله وقال له :فارسي".
( )14في ت " :وروى".
( )15في ت " :رواية".
( )16في ت " :في بقية أيام نفحات" وفي س ،أ " :في بقية أيام دهركم نفحات".
( )17في ت " :يسعد".
( )18ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )19/233من وجه آخر.
( )7/154
س وََلكِنّ َأكْثَرَ
ضلٍ عَلَى النّا ِ
سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ اللّهَ َلذُو َف ْ
ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْيلَ لِتَ ْ
اللّهُ الّذِي َ
شيْءٍ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ ( )62كَذَِلكَ
شكُرُونَ ( )61ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ خَالِقُ ُكلّ َ
النّاسِ لَا َي ْ
سمَاءَ بِنَاءً
ج َعلَ َل ُكمُ الْأَ ْرضَ قَرَارًا وَال ّ
حدُونَ ( )63اللّهُ الّذِي َ
ُي ْؤ َفكُ الّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
صوَ َركُ ْم وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (ُ )64هوَ
ن ُ
َوصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()65
حيّ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ فَادْعُوهُ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ ا ْل َ
الْ َ
جهَنّمَ
وقوله { :إِنّ الّذِينَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } أي :عن دعائي وتوحيدي { ،سَيَ ْدخُلُونَ َ
دَاخِرِينَ } أي :صاغرين حقيرين ،كما قال ( )1المام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ،عن ابن عجلن ،حدثني عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،عن
النبي صلى ال عليه وسلم قال ُ " :يحْشَر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذّرّ ،في صور الناس ،
يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا ( )2سجنا في جهنم -يقال له :بولس -تعلوهم نار
النيار ،يسقون من طينة الخبال :عصارة أهل النار" (.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خُنَيْس :
سمعت أبي يحدث عن وُهَيب ( )4بن الورد :حدثني رجل قال :كنت أسير ذات يوم في أرض
الروم ،فسمعت هاتفا من فوق رأس جبل وهو يقول :يا رب ،عجبت لمن عرفك كيف يرجو
أحدا غيرك! يا رب ،عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك -قال :ثم ذهبت ،
ثم جاءت الطامة الكبرى -قال :ثم عاد الثانية فقال :يا رب ،عجبت لمن عرفك كيف يتعرض
لشيء من سخطك يُرضي ( )5غيرك .قال وهيب :وهذه الطامة الكبرى .قال :فناديته :أجني
أنت أم إنسي ؟ قال :بل إنسي ،أشغل نفسك بما َيعْنيك عما ل يعنيك.
س وََلكِنّ َأكْثَرَ
علَى النّا ِ
ضلٍ َ
سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ
ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْيلَ لِ َت ْ
{ اللّهُ الّذِي َ
شيْءٍ ل إِلَهَ إِل ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ (َ )62كذَِلكَ
شكُرُونَ ( )61ذَِل ُكمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ خَاِلقُ ُكلّ َ
النّاسِ ل يَ ْ
سمَاءَ بِنَاءً
ج َعلَ َل ُكمُ ال ْرضَ قَرَارًا وَال ّ
حدُونَ ( )63اللّهُ الّذِي َ
ُي ْؤ َفكُ الّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
صوَ َركُ ْم وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (ُ )64هوَ
ن ُ
َوصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (} )65
حيّ ل إِلَهَ إِل ُهوَ فَادْعُوهُ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ ا ْل َ
الْ َ
يقول تعالى ممتنا على خلقه ،بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات
ترددهم في المعايش بالنهار ،وجعل النهار مبصرا ،أي :مضيئا ،ليتصرفوا فيه بالسفار ،
سل
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
علَى النّا ِ
ضلٍ َ
وقطع القطار ،والتمكن من الصناعات { ،إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ
شكُرُونَ } ( )6أي :ل يقومون بشكر نعم ( )7ال عليهم.
يَ ْ
شيْءٍ ل إِلَهَ إِل ُهوَ } أي :الذي فعل هذه الشياء هو ال
ثم قال { :ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ خَاِلقُ ُكلّ َ
الواحد الحد ،خالق الشياء ،الذي ل إله غيره ،ول رب سواه { ،فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ } أي :فكيف
تعبدون غيره من الصنام ،التي ل تخلق شيئا ،بل هي مخلوقة منحوتة.
__________
( )1في ت " :روى".
( )2في ت " :يدخلون".
( )3المسند (.)2/179
( )4في ت " :وروى ابن أبي حاتم بسنده عن وهيب".
( )5في ت ،س " :يرضى".
( )6في ت " :ولكن أكثرهم" .وهو خطأ.
( )7في أ " :ما أنعم".
( )7/155
ُقلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َلمّا جَاءَ ِنيَ الْبَيّنَاتُ مِنْ رَبّي وَُأمِ ْرتُ أَنْ أُسِْلمَ
لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()66
( )7/156
طفْلًا ثُمّ لِتَ ْبُلغُوا َأشُ ّدكُمْ ثُمّ لِ َتكُونُوا
جكُمْ ِ
عَلقَةٍ ثُمّ ُيخْرِ ُ
طفَةٍ ثُمّ مِنْ َ
ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ ُن ْ
سمّى وََلعَّلكُمْ َتعْقِلُونَ (ُ )67هوَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ
شُيُوخًا َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى مِنْ قَ ْبلُ وَلِتَبُْلغُوا َأجَلًا مُ َ
فَإِذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ ()68
( )7/156
والوثان .وقد بين تعالى أنه ل يستحق العبادة أحد سواه ،في قوله ُ { :هوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ش ّدكُمْ ُثمّ لِ َتكُونُوا شُيُوخًا } أي :هو الذي
طفْل ثُمّ لِتَبُْلغُوا أَ ُ
جكُمْ ِ
طفَةٍ ثُمّ مِنْ عََلقَةٍ ُثمّ ُيخْرِ ُ
ثُمّ مِنْ ُن ْ
يقلبكم في هذه الطوار كلها ،وحده ل شريك له ،وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله ،
{ َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى مِنْ قَ ْبلُ } أي :من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم ،بل تسقطه أمه سقطا
،ومنهم من يتوفى صغيرا ،وشابا ،وكهل قبل الشيخوخة ،كقوله { :لِنُبَيّنَ َلكُ ْم وَ ُنقِرّ فِي
سمّى } [الحج ]5 :وقال هاهنا { :وََلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } قال ابن جريج ،
جلٍ مُ َ
الرْحَامِ مَا َنشَاءُ إِلَى َأ َ
تتذكرون البعث.
ثم قال ُ { :هوَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي :هو المتفرد بذلك ،ل يقدر على ذلك أحد سواه { ،فَإِذَا
َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ } أي :ل يخالف ول يمانع ،بل ما شاء كان [ل محالة] (.)1
{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ أَنّى ُيصْ َرفُونَ ( )69الّذِينَ كَذّبُوا بِا ْلكِتَابِ وَ ِبمَا أَ ْرسَلْنَا بِهِ
حمِيمِ ثُمّ فِي
سحَبُونَ ( )71فِي ا ْل َ
سلُ يُ ْ
سوْفَ َيعَْلمُونَ (ِ )70إذِ الغْللُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَالسّل ِ
رُسُلَنَا َف َ
سجَرُونَ ( )72ثُمّ قِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ُتشْ ِركُونَ ( )73مِنْ دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلّوا عَنّا َبلْ لَمْ
النّارِ يُ ْ
َنكُنْ نَدْعُو مِنْ قَ ْبلُ شَيْئًا كَ َذِلكَ ُيضِلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ ( )74ذَِل ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ َتفْرَحُونَ فِي ال ْرضِ ِبغَيْرِ
جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ (} )76
ق وَ ِبمَا كُنْتُمْ َتمْرَحُونَ ( )75ادْخُلُوا أَ ْبوَابَ َ
حّالْ َ
يقول تعالى :أل تعجب يا محمد من هؤلء المكذبين بآيات ال ،ويجادلون في الحق والباطل ،
ب وَ ِبمَا أَرْسَلْنَا ِبهِ رُسُلَنَا } أي
كيف تُصرّف عقولهم عن الهدى إلى الضلل { ،الّذِينَ كَذّبُوا بِا ْلكِتَا ِ
س ْوفَ َيعَْلمُونَ } هذا تهديد شديد ،ووعيد أكيد ،من الرب ،جل جلله ،
:من الهدى والبيان { ،فَ َ
لهؤلء ،كما قال تعالى { :وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } [المرسلت .]15 :
سلُ } أي :متصلة بالغلل ،بأيدي الزبانية يسحبونهم
وقوله ِ { :إذِ الغْللُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَالسّل ِ
حمِيمِ ثُمّ فِي
على وجوههم ،تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ؛ ولهذا قال ُ { :يسْحَبُونَ .فِي الْ َ
حمِيمٍ
جهَنّمُ الّتِي ُيكَ ّذبُ ِبهَا ا ْل ُمجْ ِرمُونَ َيطُوفُونَ بَيْ َنهَا وَبَيْنَ َ
سجَرُونَ } ،كما قال { :هَ ِذهِ َ
النّارِ يُ ْ
ج َعهُمْ للَى
آنٍ } [الرحمن .]44 ، 43 :وقال بعد ذكْره أكلهم الزقوم وشربهم الحميم ُ { :ثمّ إِنّ مَرْ ِ
ظلّ
حمِيمٍَ .و ِ
سمُو ٍم وَ َ
شمَالِ .فِي َ
شمَالِ مَا َأصْحَابُ ال ّ
جحِيمِ } [الصافات ]68 :وقال { وََأصْحَابُ ال ّ
الْ َ
شجَرٍ
حمُومٍ .ل بَارِدٍ وَل كَرِيمٍ } إلى أن قال { :ثُمّ إِ ّنكُمْ أَ ّيهَا الضّالّونَ ا ْل ُمكَذّبُونَ .لكِلُونَ مِنْ َ
مِنْ يَ ْ
حمِيمَِ .فشَارِبُونَ شُ ْربَ ا ْلهِيمَِ .هذَا نزُلهُمْ َيوْمَ
مِنْ َزقّومٍَ .فمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْ ُبطُونَ .فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْ َ
طعَامُ الثِيمِ .كَا ْل ُم ْهلِ َيغْلِي فِي الْبُطُونِ.
شجَ َرةَ ال ّزقّومَِ .
الدّينِ } [الواقعة .]56 - 41 :وقال { إِنّ َ
حمِيمِ .ذُقْ إِ ّنكَ
عذَابِ الْ َ
سوَاءِ ا ْلجَحِيمِ .ثُ ّم صُبّوا َفوْقَ رَ ْأسِهِ مِنْ َ
حمِيمِ .خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى َ
َكغَ ْليِ ا ْل َ
أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ .إِنّ هَذَا مَا كُنْ ُتمْ بِهِ َتمْتَرُونَ } [الدخان ، ]50 - 43 :
__________
( )1زيادة من س ،أ.
( )7/157
جعُونَ ()77
حقّ فَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِ ُدهُمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُرْ َ
ن وَعْدَ اللّهِ َ
فَاصْبِرْ إِ ّ
أي :يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ ،والتحقير والتصغير ،والتهكم والستهزاء بهم.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا أحمد بن منيع ،حدثنا منصور بن عمار ،
حدثنا بشير ( )1بن طلحة الخزامي ،عن خالد بن دُرَيْك ،عن يعلى بن مُنْيَه -رفع الحديث إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم -قال " :ينشئ ال سحابة لهل النار سوداء مظلمة ،ويقال :يا
أهل النار ،أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون :نسأل بَرْد الشراب ،
فتمطرهم أغلل تزيد في أغللهم ،وسلسل تزيد في سلسلهم ،وجمرا يُ ْل ِهبُ النار عليهم" .هذا
حديث غريب (.)2
وقوله ُ { :ثمّ قِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنْ ُتمْ تُشْ ِركُونَ .مِنْ دُونِ اللّهِ } أي :قيل لهم :أين الصنام التي كنتم
تعبدونها من دون ال ؟ هل ينصرونكم اليوم ؟ { قَالُوا ضَلّوا عَنّا } أي :ذهبوا فلم ينفعونا َ { ،بلْ
لَمْ َنكُنْ َندْعُو مِنْ قَ ْبلُ شَيْئًا } أي :جحدوا عبادتهم ،كقوله تعالى { :ثُمّ َلمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ إِل أَنْ قَالُوا
ضلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ }.
وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ } [النعام ]23 :؛ ولهذا قال َ { :كذَِلكَ ُي ِ
ق وَ ِبمَا كُنْتُمْ َتمْرَحُونَ } أي :تقول لهم
حّوقوله { :ذَِلكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َتفْرَحُونَ فِي ال ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
الملئكة :هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ،ومرحكم وأشركم وبطركم ،
جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ } أي :فبئس المْنزلُ والمَقِيلُ الذي فيه
{ ادْخُلُوا أَ ْبوَابَ َ
الهوان والعذاب الشديد ،لمن استكبر عن آيات ال ،واتباع دلئله وحُججه.
جعُونَ (} )77
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُرْ َ
{ فَاصْبِرْ إِ ّ
__________
( )1في أ " :بشر".
( )2ورواه الطبراني في الوسط برقم ( )4846وابن عدي في الكامل ( )6/394من طريق أحمد
بن منيع عن منصور به ،وقال الطبراني " :ل يروى إل بهذا السناد تفرد به منصور" .وقال
الهيثمي في المجمع (" : )10/390فيه من فيه ضعف قليل ،وفيه من لم أعرفه".
( )7/158
( )7/158
جةً
ج َعلَ َل ُكمُ الْأَ ْنعَامَ لِتَ ْركَبُوا مِ ْنهَا َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ ( )79وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَا َ
اللّهُ الّذِي َ
حمَلُونَ ( )80وَيُرِيكُمْ آَيَا ِتهِ فََأيّ آَيَاتِ اللّهِ تُ ْنكِرُونَ (َ )81أفََلمْ
صدُو ِركُمْ وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
فِي ُ
شدّ ُق ّوةً وَآَثَارًا فِي
يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأكْثَرَ مِ ْنهُ ْم وَأَ َ
الْأَ ْرضِ َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ ( )82فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ رُسُُل ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُوا ِبمَا عِ ْندَهُمْ مِنَ
ح َد ُه َوكَفَرْنَا ِبمَا كُنّا
ا ْلعِلْ ِم َوحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ ( )83فََلمّا رََأوْا بَأْسَنَا قَالُوا َآمَنّا بِاللّ ِه وَ ْ
خسِرَ
بِهِ مُشْ ِركِينَ ( )84فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِد ِه وَ َ
هُنَاِلكَ ا ْلكَافِرُونَ ()85
بأضعاف أضعاف ،كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ( ، )1ول الحمد والمنة.
وقوله َ { :ومَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ إِل بِِإذْنِ اللّهِ } أي :ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي
قومه بخارق للعادات ،إل أن يأذن ال ( )2له في ذلك ،فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به { ،
فَإِذَا جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين { ُقضِيَ بِا ْلحَقّ } فينجو المؤمنون ،ويهلك
خسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }
الكافرون ؛ ولهذا قال { :وَ َ
جةً
ج َعلَ َلكُمُ ال ْنعَامَ لِتَ ْركَبُوا مِ ْنهَا َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ ( )79وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَا َ
{ اللّهُ الّذِي َ
حمَلُونَ ( )80وَيُرِيكُمْ آيَا ِتهِ فََأيّ آيَاتِ اللّهِ تُ ْنكِرُونَ (} )81
صدُو ِركُمْ وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
فِي ُ
يقول تعالى ممتنا على عباده ،بما خلق لهم من النعام ،وهي البل والبقر والغنم { َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُمْ
َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ } [يس ، ]72 :فالبل تركب وتؤكل وتحلب ،ويحمل عليها الثقال في السفار
والرحال إلى البلد النائية ،والقطار الشاسعة .والبقر تؤكل ،ويشرب لبنها ،وتحرث عليها
الرض .والغنم تؤكل ،ويشرب لبنها ،والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها ،فيتخذ منها
الثاث والثياب والمتعة كما َفصّل وبَيّنَ في أماكن تقدم ذكرها في "سورة النعام" ( ، )3و "سورة
النحل" ( ، )4وغير ذلك ؛ ولهذا قال هاهنا { :لِتَ ْركَبُوا مِ ْنهَا َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ .وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
حمَلُونَ }.
جةً فِي صُدُو ِركُ ْم وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَا َ
وقوله { :وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي :حججه وبراهينه في الفاق وفي أنفسكم { ،فََأيّ آيَاتِ اللّهِ
تُ ْنكِرُونَ } أي :ل تقدرون على إنكار شيء من آياته ،إل أن تعاندوا وتكابروا.
شدّ ُق ّوةً
{ َأفََلمْ يَسِيرُوا فِي ال ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأكْثَرَ مِ ْنهُ ْم وَأَ َ
وَآثَارًا فِي ال ْرضِ َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ ( )82فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَ ِرحُوا ِبمَا
عِنْدَ ُهمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ وَحَاقَ ِب ِهمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ ( )83فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َدهُ
َوكَفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ ُمشْ ِركِينَ ( )84فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي
خسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلكَافِرُونَ (} )85
عِبَا ِد ِه وَ َ
يخبر تعالى عن المم المكذبة بالرسل في قديم الدهر ،وماذا حل بهم من العذاب الشديد ،مع
__________
( )1راجع تفسير الية 164 :من سورة النساء.
( )2في أ " :إل بإذن ال".
( )3راجع تفسير اليات 144 - 141 :من سورة النعام.
( )4راجع تفسير اليات 8 - 5 :من سورة النحل.
( )7/159
شدة قواهم ،وما أَثّروه في الرض ،وجمعوه من الموال ،فما أغنى عنهم ذلك شيئا ،ول رد
عنهم ذرة من بأس ال ؛ وذلك لنهم لما جاءتهم الرسل ( )1بالبينات ،والحجج القاطعات ،
والبراهين الدامغات ،لم يلتفتوا إليهم ،ول أقبلوا عليهم ،واستغنوا بما عندهم من العلم في
زعمهم عما جاءتهم به الرسل.
قال مجاهد :قالوا :نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب.
وقال السدي :فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم ،فأتاهم من بأس ال ما ل قِبَل لهم به.
{ وَحَاقَ ِبهِمْ } أي :أحاط بهم { مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي :يكذبون ويستبعدون وقوعه.
{ فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا } أي :عاينوا وقوع العذاب بهم { ،قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َدهُ َوكَفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ
مُشْ ِركِينَ } أي :وحدوا ال وكفروا بالطاغوت ،ولكن حيث ل ُتقَال العثرات ،ول تنفع المعذرة.
ل وَأَنَا
وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق { :آمَ ْنتُ أَنّهُ ل إِلَهَ إِل الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنُو ِإسْرَائِي َ
عصَ ْيتَ قَ ْبلُ َوكُ ْنتَ مِنَ
ن َوقَدْ َ
مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } [يونس ، ]90 :قال ال [تبارك و] ( )2تعالى { :آل َ
ا ْل ُمفْسِدِينَ } [يونس ]91 :أي :فلم يقبل ال منه ؛ لنه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين
شدُدْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَل ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ اللِيمَ } [يونس .]88 :و[هكذا] ()3
قال { :وَا ْ
هاهنا قال { :فَلَمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ } أي :هذا
حكم ال في جميع ( )4مَنْ تاب عند معاينة العذاب :أنه ل يقبل ؛ ولهذا جاء في الحديث " :إن ال
يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" ( )5أي :فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة ،وعاين الملك ،فل
توبة حينئذ ؛ ولهذا قال { :وَخَسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلكَافِرُونَ }
آخر تفسير "سورة غافر ( ، )6ول الحمد والمنة.
__________
( )1في أ " :رسلهم".
( )2زيادة من س ،أ.
( )3زيادة من س ،أ.
( )4في أ " :في جميع عباده".
( )5رواه الترمذي في السنن برقم ( )3537وابن ماجه في السنن برقم ( )4253من حديث عبد
ال بن عمر رضي ال عنهما.
( )6في س " :المؤمن".
( )7/160
حمَنِ الرّحِيمِ ( )2كِتَابٌ ُفصَّلتْ آَيَاتُهُ قُ ْرآَنًا عَرَبِيّا ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ ( )3بَشِيرًا
حم ( )1تَنْزِيلٌ مِنَ الرّ ْ
س َمعُونَ (َ )4وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ َوفِي َآذَانِنَا َوقْرٌ
وَنَذِيرًا فَأَعْ َرضَ َأكْثَرُهُمْ َفهُمْ لَا َي ْ
ع َملْ إِنّنَا عَامِلُونَ ()5
َومِنْ بَيْنِنَا وَبَيْ ِنكَ حِجَابٌ فَا ْ
( )7/161
سخْلةً قط أشأم على قومك ( )1منك ؛ فرقت جماعتنا ،وشتت أمرنا ،
قولك ،إنا وال ما رأينا َ
وعبت ديننا ،وفضحتنا في العرب ،حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ،وأن في قريش
كاهنا! وال ما ننظر ( )2إل مثل صيحة الحُبْلى أن يقوم بعضنا إلى ( )3بعض بالسيوف ،حتى
نتفانى! أيها الرجل ،إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجل ( )4وإن
كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش [شئت] ( )5فلنزوجك عشرا .فقال رسول ال صلى ال
غتَ ؟" قال :نعم فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { :بسم ال الرحمن
عليه وسلم " :فَرَ ْ
حمَنِ الرّحِيمِ } حتى بلغ { :فَإِنْ أَعْ َرضُوا َف ُقلْ أَنْذَرْ ُتكُمْ صَاعِقَةً مِ ْثلَ
الرحيم .حم .تَنزيلٌ مِنَ الرّ ْ
صَاعِقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ } فقال عتبة :حسبك! حسبك! ما عندك غير هذا ؟ قال " :ل" فرجع إلى قريش
فقالوا :ما وراءك ؟ قال :ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إل كلمته .قالوا :فهل أجابك ؟
[قال :نعم ،قالوا :فما قال ؟] ( )6قال :ل والذي نصبها بَنيّةً ما َف ِه ْمتُ شيئا مما قال ،غير أنه
أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .قالوا :ويلك! يكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال ؟!
قال :ل وال ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده ،مثله سواء
(.)7
وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن ُفضَيل ،عن الجلح -وهو ابن عبد ال الكندي
ض ّعفَ بعض الشيء عن الذّيّال بن حرملة ،عن جابر ،فذكر الحديث إلى
[الكوفي] ( - )8وقد ُ
عقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ } فأمسك عتبة على فيه ،
ل صَا ِ
قوله { :فَإِنْ أَعْ َرضُوا َف ُقلْ أَنْذَرْ ُتكُمْ صَاعِقَةً مِ ْث َ
وناشده بالرحم ،ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم .فقال أبو جهل :يا معشر
قريش ،وال ما نرى عتبة إل قد صَبَا إلى محمد ،وأعجبه طعامه ،وما ذاك إل من حاجة [قد] (
)9أصابته ،فانطلقوا بنا إليه .فانطلقوا إليه فقال أبو جهل :يا عتبة ،ما حبسك عنا إل أنك
صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه ،فإن كانت لك ( )10حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن
طعام محمد .فغضب عتبة ،وأقسم أل يكلم محمدا أبدا ،وقال :وال ،لقد علمتم أني من أكثر
قريش مال ولكني أتيته وقصصت عليه [القصة] ( )11فأجابني بشيء وال ما هو بشعر ول كهانة
عقَةِ عَادٍ
عقَةً مِ ْثلَ صَا ِ
ول سحر ،وقرأ السورة إلى قوله { :فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفقُلْ أَ ْنذَرْ ُتكُ ْم صَا ِ
وَ َثمُودَ } فأمسكت بفيه ،وناشدته بالرحم أن يكف ،وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ،
فخشيت أن ينزل بكم العذاب (.)12
وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى ،وال أعلم.
وقد أورد هذه القصة المام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلف هذا النمط ،
فقال :
__________
( )1في س " :جماعته".
( )2في س " :ننتظر".
( )3في أ " :على".
( )4في س ،أ " :رجل واحدا".
( )5زيادة من س ،أ.
( )6زيادة من أ.
( )7المنتخب لعبد بن حميد برقم ( )1121ومسند أبي يعلى ( )3/349وفي إسناده الجلح الكندي
ضعفه النسائي وغيره.
( )8زيادة من س ،أ.
( )9زيادة من أ.
( )10في س ،أ " :بك".
( )11زيادة من س ،أ.
( )12معالم التنزيل للبغوي (.)7/167
( )7/162
حدثني يزيد بن زياد ،عن محمد بن كعب القُرَظي قال :حُدّ ْثتُ أن عتبة بن ربيعة -وكان سيدا
-قال يوما وهو جالس في نادي قريش ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم جالس في المسجد
وحده :يا معشر قريش أل أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ،فنعطيه
أيّها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة ،ورأوا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم
يزيدون ويكثرون ،فقالوا :بلى يا أبا الوليد ،فقم إليه فكلمه (.)1فقام إليه عتبة حتى جلس إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا ابن أخي ،إنك منا حيث قد علمت من السّطَة في
العشيرة ،والمكان في النسب ،وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ،فرقت به جماعتهم ،وسفهت به
أحلمهم ،وعبت به آلهتهم ودينهم ،وكفرت به من مضى من آبائهم ،فاسمع مني أعرض عليك
أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها .قال :فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قل يا أبا
الوليد ،أسمع" .قال :يا ابن أخي ،إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من ( )2هذا المر مال جمعنا
لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموال ( .)3وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ،حتى ل
نقطع أمرًا دونك .وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا .وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه ل
تستطيع رده عن نفسك ،طلبنا لك الطب ،وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ،فإنه ربما غلب
التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه -أو كما قال له -حتى إذا فرغ عتبة ورسول ال صلى ال
عليه وسلم يستمع منه قال " :أفرغت يا أبا الوليد ؟" قال :نعم .قال " :فاستمع مني" قال :أفعل.
حمَنِ الرّحِيمِ .كِتَابٌ ُفصَّلتْ آيَاُتهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا
قال { :بسم ال الرحمن الرحيم .حم .تَنزيلٌ مِنَ الرّ ْ
س َمعُونَ } ثم مضى رسول ال صلى ال عليه
ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ .بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْ َرضَ َأكْثَرُهُمْ َفهُمْ ل يَ ْ
وسلم فيها يقرؤها عليه .فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع
منه ،ثم انتهى رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى السجدة منها ،فسجد ثم قال " :قد سمعت يا أبا
الوليد ما سمعت ،فأنت وذاك ( )4فقام عتبة إلى أصحابه ،فقال بعضهم لبعض :أقسم -يحلف (
)5بال -لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به .فلما جلس إليهم قالوا :ما وراءك يا أبا
الوليد ؟ قال :ورائي أني قد سمعت قول وال ما سمعت مثله قط ،وال ما هو بالسحر ول
بالشعر ول بالكهانة .يا معشر قريش ،أطيعوني واجعلوها لي ،خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه
فاعتزلوه ،فوال ليكونَنّ لقوله الذي سمعت نبأ ،فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ،وإن
يظهر على العرب فمُ ْلكُهُ ملككم ،وعزه عزكم ،وكنتم أسعد الناس به .قالوا :سحرك وال يا أبا
الوليد بلسانه! قال :هذا رأيي فيه ،فاصنعوا ما بدا لكم (.)6
وهذا السياق أشبه من الذي قبله ،وال أعلم.
__________
( )1في أ " :وكلمه".
( )2في أ " :في".
( )3في س " :مال".
( )4في أ " :وحالك".
( )5في س " :نحلف".
( )6انظر السيرة النبوية لبن هشام (.)1/293
( )7/163
ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْ َتقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْ َت ْغفِرُو ُه َووَيْلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ (
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َلهُمْ َأجْرٌ
)6الّذِينَ لَا ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالَْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ ( )7إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
غَيْرُ َممْنُونٍ ()8
حدٌ فَاسْ َتقِيمُوا إِلَيْ ِه وَاسْ َت ْغفِرُوهُ َووَ ْيلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ
{ ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَا ِ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َلهُمْ
( )6الّذِينَ ل ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَ ُهمْ بِالخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ ( )7إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
أَجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ (} )8
يقول تعالى ُ { :قلْ } يا محمد لهؤلء المكذبين المشركين { :إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا
إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ } ل كما تعبدونه ( )1من الصنام والنداد والرباب المتفرقين ،إنما ال إله
واحد { ،فَاسْ َتقِيمُوا إِلَيْهِ } أي :أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل ،
{ وَاسْ َت ْغفِرُوهُ } أي :لسالف الذنوب َ { ،ووَ ْيلٌ ِل ْلمُشْ ِركِينَ } أي :دمار لهم وهلك عليهم ،
{ الّذِينَ ل ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ } قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :يعني :الذين ل يشهدون أن
ل إله إل ال .وكذا قال عكرمة.
وهذا كقوله تعالى َ { :قدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا َوقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا } [الشمس ، ]10 ، 9 :وكقوله :
سمَ رَبّهِ َفصَلّى } [العلى ، ]15 ، 14 :وقوله { َف ُقلْ َهلْ َلكَ إِلَى أَنْ
{ َقدْ َأفْلَحَ مَنْ تَ َزكّى وَ َذكَرَ ا ْ
تَ َزكّى } [ النازعات ] 18 :والمراد بالزكاة هاهنا :طهارة النفس من الخلق الرذيلة ،ومن أهم
ذلك طهارة النفس من الشرك .وزكاة المال إنما سميت زكاة لنها تطهره من الحرام ،وتكون
سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه ،وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات.
وقال السدي َ { :ووَيْلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ الّذِينَ ل ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ } أي :ل يَدِينون بالزكاة.
وقال معاوية بن قرة :ليس هم من أهل الزكاة.
وقال قتادة :يمنعون زكاة أموالهم.
وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين ،واختاره ابن جرير .وفيه نظر ؛ لن إيجاب الزكاة إنما
كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة ،على ما ذكره غير واحد وهذه الية مكية ،اللهم إل
أن يقال :ل يبعد أن يكون أصل الزكاة الصدقة كان مأمورا به في ابتداء البعثة ،كقوله تعالى { :
حصَا ِدهِ } [النعام ، ]141 :فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بَيّن أمرها
حقّهُ َيوْمَ َ
وَآتُوا َ
بالمدينة ،ويكون هذا جمعا بين القولين ،كما أن أصل الصلة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل
غروبها في ابتداء البعثة ،فلما كان ليلة السراء قبل الهجرة بسنة ونصف ،فرض ال على
رسوله [صلى ال عليه وسلم] ( )2الصلوات الخمس ،وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها
بعد ذلك ،شيئا فشيئا ،وال أعلم.
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُمْ َأجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ } قال مجاهد وغيره :
ثم قال بعد ذلك { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ل مقطوع ول مجبوب ( ، )3كقوله { :مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } [الكهف ، ]3 :وكقوله تعالى { عَطَاءً
جذُوذٍ } [هود .]108 :
غَيْرَ مَ ْ
وقال السدي :غير ممنون عليهم .وقد رد عليه بعض الئمة هذا التفسير ،فإن المنة ل على أهل
الجنة ؛ قال ال تعالى َ { :بلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْيكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِليمَانِ } [الحجرات ، ]17 :وقال أهل
سمُومِ } [الطور ، ]27 :وقال رسول ال صلى ال عليه
الجنة َ { :فمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َو َوقَانَا عَذَابَ ال ّ
وسلم " :إل أن يتغمدني ال برحمة منه وفضل".
__________
( )1في س " :يعبدونه".
( )2زيادة من س ،أ.
( )3في أ " :غير مقطوع ول محسوب".
( )7/164
ج َعلَ
جعَلُونَ َلهُ أَنْدَادًا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ( )9وَ َ
ُقلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََلقَ الْأَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ
سوَاءً لِلسّائِلِينَ (ُ )10ثمّ اسْ َتوَى
سيَ مِنْ َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
فِيهَا َروَا ِ
طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ ()11
سمَا ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلْأَ ْرضِ اِئْتِيَا َ
إِلَى ال ّ
( )7/165
حفْظًا
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ وَ ِ
سمَاءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ
ن وََأوْحَى فِي ُكلّ َ
س َموَاتٍ فِي َي ْومَيْ ِ
َفقَضَاهُنّ سَبْعَ َ
ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ ()12
( )7/165
( )7/167
س َموَاتِ
ثم استراح .فغضب النبي صلى ال عليه وسلم غضبا شديدا ،فنزل { :وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ َومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ.فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ } [ق .)1( ] 38 :
وَالرْ َ
هذا الحديث فيه غرابة .فأما حديث ابن جريج ،عن إسماعيل بن أمية ،عن أيوب بن خالد ،عن
عبد ال بن رافع ،عن أبي هريرة قال :أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم بيدي فقال " :خلق
ال التربة يوم السبت ،وخلق فيها الجبال يوم الحد ،وخلق الشجر يوم الثنين ،وخلق المكروه
يوم الثلثاء ،وخلق النور يوم الربعاء ،وبث فيها الدواب يوم الخميس ،وخلق آدم بعد العصر
يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ،فيما بين العصر إلى الليل" فقد رواه
مسلم ،والنسائي في كتابيهما ،عن حديث ابن جريج ،به ( .)2وهو من غرائب الصحيح ،وقد
عَلّله البخاري في التاريخ فقال :رواه بعضهم عن أبي هريرة [رضي ال عنه] ( )3عن كعب
الحبار ،وهو الصح.
سلُ مِنْ بَيْنِ
ل صَاعِقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ ( )13إِذْ جَاءَ ْت ُهمُ الرّ ُ
عقَةً مِ ْث َ
{ فَإِنْ أَعْ َرضُوا َف ُقلْ أَ ْنذَرْ ُتكُ ْم صَا ِ
أَيْدِيهِمْ َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ أَل َتعْبُدُوا إِل اللّهَ قَالُوا َلوْ شَاءَ رَبّنَا لنزلَ مَل ِئكَةً فَإِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ (
ق َوقَالُوا مَنْ أَشَدّ مِنّا ُق ّوةً َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي
حّ )14فََأمّا عَادٌ فَاسْ َتكْبَرُوا فِي ال ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
جحَدُونَ ( )15فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا فِي أَيّامٍ
خََل َقهُمْ ُهوَ َأشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً َوكَانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْ
حسَاتٍ لِ ُنذِي َقهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ الخِ َرةِ َأخْزَى وَهُمْ ل يُ ْنصَرُونَ ( )16وََأمّا
نَ ِ
َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْ َتحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْلهُدَى فََأخَذَ ْتهُمْ صَاعِقَةُ ا ْل َعذَابِ ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ ()17
وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ (} )18
يقول تعالى :قل يا محمد لهؤلء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق :إن أعرضتم عما
جئتكم به من عند ال فإني أنذركم حلول نقمة ال بكم ،كما حلت بالمم الماضين من المكذبين
عقَةِ عَادٍ وَ َثمُودَ } أي :ومن شاكلهما ( )4ممن فعل كفعلهما.
عقَةً مِ ْثلَ صَا ِ
بالمرسلين { صَا ِ
سلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ } [الحقاف ، ]21 :كقوله تعالى { :وَا ْذكُرْ أَخَا
{ ِإذْ جَاءَ ْتهُمُ الرّ ُ
خ ْلفِهِ } [الحقاف ]21 :أي :في
ف َوقَدْ خََلتِ النّذُرُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ َ
حقَا ِ
عَادٍ ِإذْ أَنْذَرَ َق ْومَهُ بِال ْ
القرى المجاورة لبلدهم ،بعث ال إليهم الرسل
__________
( )1تفسير الطبري ( )24/31ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم 878والحاكم في المستدرك (
)2/543من طريق هناد به ،وقال الحاكم صحيح السناد وتعقبه الذهبي فقال :أبو سعيد البقال
قال ابن معين :ل يكتب حديثه".
( )2صحيح مسلم برقم ( )2789والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11010
( )3زيادة من ت.
( )4في أ " :شاكلهم".
( )7/168
يأمرون بعبادة ال وحده ل شريك له ،ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل ال بأعدائه من النقم ،
وما ألبس ( )1أولياءه من النعم ،ومع هذا ما آمنوا ول صدقوا ،بل كذبوا وجحدوا ،وقالوا :
{ َلوْ شَاءَ رَبّنَا لنزلَ مَل ِئكَةً } أي :لو أرسل ال رسل ( )2لكانوا ملئكة من عنده { ،فَإِنّا ِبمَا
أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ } أي :أيها البشر { كَافِرُونَ } أي :ل نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.
قال ال تعالى { :فََأمّا عَادٌ فَاسْ َتكْب َروُا فِي ال ْرضِ [ ِبغَيْرِ الحَقّ] } ( )3أي :بغوا وعتوا وعصوا ،
شدّ مِنّا ُق ّوةً } أي :منوا بشدة تركيبهم وقواهم ،واعتقدوا أنهم يمتنعون به من بأس
{ َوقَالُوا مَنْ أَ َ
شدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً } أي :أفما يتفكرون ( )4فيمن يبارزون
ال! { َأوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََل َقهُمْ ُهوَ أَ َ
بالعداوة ؟ فإنه العظيم الذي خلق الشياء وركب فيها قواها الحاملة لها ،وإن بطشه شديد ،كما
سعُونَ } [الذاريات ، ]47 :فبارزوا الجبار بالعداوة ،
سمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْ ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
قال تعالى { :وَال ّ
وجحدوا بآياته وعصوا رسوله ،فلهذا قال { :فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا } قال بعضهم :
وهي الشديدة الهبوب .وقيل :الباردة .وقيل :هي التي لها صوت.
والحق أنها متصفة بجميع ذلك ،فإنها كانت ريحا شديدة قوية ؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ }
اغتروا به من قواهم ،وكانت باردة شديدة البرد جدا ،كقوله تعالى { :بِرِي ٍ
[الحاقة ، ] 6 :أي :باردة شديدة ،وكانت ذات صوت مزعج ،ومنه سمي النهر المشهور ببلد
المشرق "صرصرا ( )5لقوة صوت جريه.
ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا } [ الحاقة ، ] 7 :
وقوله { :فِي أَيّامٍ نَحِسَاتٍ } أي :متتابعات { ،سَ ْبعَ لَيَا ٍ
كقوله { فِي َيوْمِ نَحْسٍ مُسْ َتمِرّ } [القمر ، ]19 :أي :ابتدئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم ،
واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم ،واتصل بهم خزي الدنيا
بعذاب الخرة ؛ ولهذا قال تعالى { :لِنُذِي َقهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ الخِ َرةِ
أَخْزَى } [أي] ( )6أشد خزيا لهم { ،وَهُمْ ل يُ ْنصَرُونَ } أي :في الخرى ( ، )7كما لم ينصروا
في الدنيا ،وما كان لهم من ال من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال.
وقوله { :وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ } قال ابن عباس ،وأبو العالية ،وسعيد بن جبير ،وقتادة ،
والسدي ،وابن زيد :بينا لهم (.)8
وقال الثوري :دعوناهم.
{ فَاسْتَحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْلهُدَى } أي :بصرناهم ،وبينا لهم ،ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم
صالح صلى ال عليه وسلم ( ، )9فخالفوه وكذبوه ،وعقروا ناقة ال التي جعلها آية وعلمة على
عقَةُ ا ْلعَذَابِ ا ْلهُونِ } أي :بعث ال عليهم صيحة ورجفة وذل وهوانا
صدق نبيهم { ،فَأَخَذَ ْت ُه ْم صَا ِ
وعذابا ونكال { ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } أي :من التكذيب والجحود.
__________
( )1في س " :ألبس ال".
( )2في ت " :رسول".
( )3زيادة من ت ،أ.
( )4في ت ،س " :أفما يفكرون" ،وفي أ " :فيما يتفكرون".
( )5في ت ،س " :صرصر".
( )6زيادة من أ.
( )7في ت " :الخرة".
( )8في ت " :وسعيد بن جبير وغيرهم".
( )9في ت ،س " :عليه السلم".
( )7/169
س ْم ُعهُمْ
شهِدَ عَلَ ْيهِمْ َ
وَ َيوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللّهِ إِلَى النّارِ َفهُمْ يُوزَعُونَ ( )19حَتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا َ
وَأَ ْبصَارُهُ ْم وَجُلُو ُدهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()20
{ وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُوا [ َوكَانُوا يَ ّتقُونَ] ( } )1أي :من بين أظهرهم ،لم يمسهم سوء ،ول نالهم من
ذلك ضرر ،بل نجاهم ال مع نبيهم صالح [عليه السلم] ( )2بإيمانهم ،وتقواهم ل ،عز وجل.
س ْم ُعهُمْ
شهِدَ عَلَ ْيهِمْ َ
عدَاءُ اللّهِ إِلَى النّارِ َفهُمْ يُوزَعُونَ ( )19حَتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا َ
{ وَ َيوْمَ ُيحْشَرُ أَ ْ
وَأَ ْبصَارُهُ ْم وَجُلُو ُدهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (} )20
__________
( )1زيادة من ت ،أ.
( )2زيادة من ت ،أ.
( )7/170
( )7/170
والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر ،عن أبي النضر ،عن عُبَيد ال بن عبد الرحمن
الشجعي ،عن الثوري به ( .)1ثم قال النسائي " :ل أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الشجعي".
وليس كما قال كما رأيت ،وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أحمد بن إبراهيم ،حدثنا إسماعيل بن عُلّية ،عن يونس
ابن عُبَيْد ،عن حُميد بن هلل قال :قال أبو بُ ْردَة :قال أبو موسى :ويدعى الكافر والمنافق
للحساب ،فيعرض عليه ربه -عز وجل -عمله ،فيجحد ويقول :أي رب ،وعزتك لقد كتب
على هذا الملك ما لم أعمل! فيقول له الملك :أما عملت كذا ،في يوم كذا ،في مكان كذا ؟ فيقول
:ل وعزتك ،أي رب ما عملته[ .قال] ( )2فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه -قال الشعري :فإني
لحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى.
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا زُهَيْر حدثنا حسن ،عن ابن َلهِيعة :قال دَرّاج عن أبي الهيثم ()3
عن أبى سعيد الخدري ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إذا كان يوم القيامة عُرّف الكافر
بعمله ،فجحد وخاصم ،فيقال :هؤلء جيرانك ،يشهدون عليك ؟ فيقول :كذبوا .فيقول :أهلك
[و] ( )4عشيرتك ؟ فيقول :كذبوا .فيقول :احلفوا فيحلفون ،ثم يصمتهم ال وتشهد عليهم
ألسنتهم ،ويدخلهم النار" (.)5
وقال ابن أبي حاتم :وحدثنا أبي ،حدثنا أحمد بن إبراهيم ،حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث :
سمعت أبي :حدثنا علي بن زيد ،عن مسلم بن صُبيْح أبي الضّحى ،عن ابن عباس :أنه قال
لبن الزرق :إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين ،ل ينطقون ول يعتذرون ول يتكلمون
حتى يؤذن لهم ،ثم يؤذن لهم فيختصمون ،فيجحد الجاحد بشركه بال ،فيحلفون له كما يحلفون
لكم ،فيبعث ال عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم ،جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ،
طقَ ُكلّ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنْ َ
ويختم على أفواههم ،ثم يفتح لهم الفواه فتخاصم الجوارح ،فتقول { :أَ ْن َ
جعُونَ } فتقر اللسنة بعد الجحود.
شيْ ٍء وَ ُهوَ خََل َقكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
َ
وقال ( )6ابن أبي حاتم :حدثنا عبدة بن سليمان ،حدثنا ابن المبارك ،حدثنا صفوان بن عمرو ،
عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي ،عن رافع أبي الحسن -وصف رجل جحد -قال :
فيشير ال إلى لسانه ،فيربو في فمه ( )7حتى يمله ،فل يستطيع أن ينطق بكلمة ،ثم يقول
لرابه ( )8كلها :تكلمي واشهدي عليه .فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده ،وفرجه ويداه ورجله
:صنعنا ،عملنا ،فعلنا.
وقد تقدم أحاديث كثيرة ،وآثار عند قوله تعالى في سورة يس { :الْ َيوْمَ َنخْتِمُ عَلَى َأ ْفوَا ِههِ ْم وَ ُتكَّلمُنَا
شهَدُ أَ ْرجُُلهُمْ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } [يس ، ]65 :بما أغنى عن إعادته هاهنا.
أَيْدِيهِمْ وَتَ ْ
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( ، )2969والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11653
( )2زيادة من أ.
( )3في ت " :وقال الحافظ أبو يعلى بإسناده".
( )4زيادة من أ.
( )5مسند أبي يعلى ( ، )5262ودراج عن أبي الهيثم ،ضعيف.
( )6في ت " :وروى".
( )7في ت ،س ،أ " :فيه".
( )8في أ " :لركانه".
( )7/171
وقال ابن أبي حاتم -رحمه ال : -حدثنا أبي ،حدثنا سويد بن سعيد ،حدثنا يحيى بن سُلَيم
الطائفي ،عن ابن خُثَيْم ،عن أبي الزبير ( ، )1عن جابر بن عبد ال قال :لما رجعت إلى النبي
( )2صلى ال عليه وسلم مهاجرة البحر قال " :أل تحدثون بأعاجيب ( )3ما رأيتم بأرض
الحبشة ؟" فقال فتية منهم :بلى يا رسول ال ،بينا ( )4نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من
عجائز رهابينهم ،تحمل على رأسها قلة من ماء ،فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين
كتفيها ،ثم دفعها فخرت على ركبتيها ،فانكسرت قلتها .فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت :سوف
غدَر ،إذا وضع ال الكرسي ،وجمع الولين والخرين ،وتكلمت اليدي والرجل بما
تعلم يا ُ
كانوا يكسبون ،فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا ؟ قال :يقول رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :صَ َد َقتْ [و] ( )5صدقت ،كيف يُقدس ال قوما ل يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟".
هذا حديث غريب من هذا الوجه .ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الهوال :أخبرنا إسحاق بن
إبراهيم قال :أخبرنا يحيى بن سليم ،به ()6
س ْم ُعكُ ْم وَل أَ ْبصَا ُركُ ْم وَل جُلُو ُدكُمْ } أي :تقول لهم
علَ ْيكُمْ َ
شهَدَ َ
وقوله َ { :ومَا كُنْتُمْ َتسْتَتِرُونَ أَنْ يَ ْ
العضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم :ما كنتم تتكتمون ( )7منا الذي كنتم تفعلونه
بل كنتم تجاهرون ال بالكفر والمعاصي ،ول تبالون منه في زعمكم ؛ لنكم كنتم ل تعتقدون أنه
يعلم جميع أفعالكم ؛ ولهذا قال { :وََلكِنْ ظَنَنْ ُتمْ أَنّ اللّهَ ل َيعْلَمُ كَثِيرًا ِممّا َت ْعمَلُونَ وَذَِلكُمْ ظَّنكُمُ الّذِي
ظَنَنْ ُتمْ بِرَ ّبكُمْ أَ ْردَاكُمْ } أي :هذا الظن الفاسد -وهو اعتقادكم أن ال ل يعلم كثيرا مما تعملون -
هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم { ،فََأصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي :في مواقف القيامة خسرتم
أنفسكم وأهليكم.
قال المام أحمد -رحمه ال : -حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش ،عن عمارة ،عن عبد
الرحمن ابن يزيد ( ، )8عن عبد ال قال :كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلثة نفر :قرشي ،
وختناه ثقفيان -أو ثقفي وختناه قرشيان -كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ،فتكلموا بكلم لم
أسمعه ،فقال أحدهم :أترون أن ال يسمع كلمنا هذا ؟ فقال الخر :إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه
( ، )9وإذا لم نرفعه لم يسمعه ،فقال الخر :إن سمع منه شيئا سمعه كله .قال :فذكرت ذلك
س ْم ُعكُمْ
شهَدَ عَلَ ْيكُمْ َ
للنبي صلى ال عليه وسلم ،فأنزل ال عز وجل َ { :ومَا كُنْتُمْ َتسْتَتِرُونَ أَنْ يَ ْ
وَل أَ ْبصَا ُركُ ْم وَل جُلُو ُد ُكمْ } إلى قوله { :مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }
وكذا رواه الترمذي عن هناد ،عن أبي معاوية ،بإسناده نحوه ( .)10وأخرجه أحمد ومسلم
والترمذي أيضا ،من حديث سفيان الثوري ،عن العمش ،عن عُمارة بن عمير ،عن وهب بن
__________
( )1في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
( )2في أ " :رسول ال".
( )3في ت " :بأعجب".
( )4في ت ،س ،أ " :بينما".
( )5زيادة من أ.
( )6الهوال لبن أبي الدنيا برقم ( )243ورواه ابن ماجه في السنن برقم ( )4010حدثنا سويد بن
سعيد فذكره .قال البوصيري في زوائد ابن ماجه " :هذا إسناد حسن ،سويد مختلف فيه".
( )7في أ " :تكتمون".
( )8في ت " :رواه المام أحمد بإسناده".
( )9في ت " :يسمعه".
( )10المسند ( )1/381وسنن الترمذي برقم (.)3249
( )7/172
ربيعة ،عن عبد ال بن مسعود ،رضي ال عنه ،بنحوه ( .)1ورواه البخاري ومسلم أيضا ،من
حديث السفيانين ،عن منصور ،عن مجاهد ،عن أبي معمر عبد ال بن سَخْبرة ،عن ابن
مسعود به (.)2
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن بهز بن حكيم ،عن أبيه ،عن جده ،عن النبي صلى ال
س ْم ُعكُ ْم وَل أَ ْبصَا ُركُ ْم وَل جُلُو ُدكُمْ } قال " :إنكم تُدعَون
علَ ْيكُمْ َ
شهَدَ َ
عليه وسلم في قوله { :أَنْ يَ ْ
ُمفَ ّدمًا على أفواهكم بالفدام ،فأول شيء يبين ( )3عن أحدكم فخذه وكفه (." )5( )4
قال معمر :وتل الحسن { :وَذَِلكُمْ ظَّنكُمُ الّذِي ظَنَنْ ُتمْ بِرَ ّبكُمْ أَ ْردَاكُمْ } ثم قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :قال ال أنا مع عبدي عند ظنه بي ،وأنا معه إذا دعاني" ثم أفترّ الحسن
ينظر في هذا فقال :أل إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم ،فأما المؤمن فأحسن الظن بربه
فأحسن العمل ،وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بال فأساءا العمل .ثم قال :قال ال تعالى :
س ْم ُعكُ ْم وَل أَ ْبصَا ُركُمْ } إلى قوله َ { :وذَِلكُمْ ظَّنكُمُ الّذِي ظَنَنْتُمْ
شهَدَ عَلَ ْيكُمْ َ
{ َومَا كُنْتُمْ َتسْتَتِرُونَ أَنْ يَ ْ
بِرَ ّبكُمْ أَ ْردَاكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }
وقال المام أحمد :حدثنا النضر بن إسماعيل القاص ( - )6وهو أبو المغيرة -حدثنا ابن أبي
ليلى ،عن أبي الزبير ،عن جابر ( )7قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل يموتن أحد
منكم إل وهو يحسن بال الظن ،فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بال ،فقال ال تعالى { :وَذَِل ُكمْ
ظَّنكُمُ الّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَ ّب ُكمْ أَرْدَا ُكمْ فََأصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (.)8
وقوله { :فَإِنْ َيصْبِرُوا فَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُ ْم وَإِنْ يَسْ َتعْتِبُوا َفمَا ُهمْ مِنَ ا ْل ُمعْتَبِينَ } أي :سواء عليهم
أصبروا أم لم يصبروا هم في النار ،ل محيد لهم عنها ،ول خروج لهم منها .وإن طلبوا أن
يستعتبوا ويبدوا أعذارا ( )9فما لهم أعذار ،ول ُتقَال لهم عثرات.
قال ابن جرير :ومعنى قوله { :وَإِنْ َيسْ َتعْتِبُوا } أي :يسألوا الرجعة إلى الدنيا ،فل جواب لهم
ش ْقوَتُنَا َوكُنّا َق ْومًا ضَالّينَ رَبّنَا
علَيْنَا ِ
-قال :وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم { :قَالُوا رَبّنَا غَلَ َبتْ َ
أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَل ُتكَّلمُونِ } [المؤمنون .]108 - 106 :
__________
( )1المسند ( )1/408وصحيح مسلم برقم ( )2775وسنن الترمذي برقم (.)3249
( )2صحيح البخاري برقم ( ، )4817وصحيح مسلم برقم (.)2775
( )3في أ " :ينطق".
( )4في أ " :وكتفه".
( )5تفسير عبد الرزاق ( ، )2/151والمصنف ( ، )20115ورواه النسائي في السنن ( )5/4وابن
ماجه في السنن برقم ( )2536من طريق عن بهز بن حكيم بنحوه.
( )6في أ " :القاضي".
( )7في ت " :وروى المام أحمد عن جابر".
( )8المسند (.)3/390
( )9في ت ،أ " :أعذارهم".
( )7/173
َوقَ ّيضْنَا َل ُهمْ قُرَنَاءَ فَزَيّنُوا َلهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ َومَا خَ ْل َفهُ ْم وَحَقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ فِي ُأمَمٍ َقدْ خََلتْ مِنْ قَبِْل ِهمْ
ن وَا ْل َغوْا فِيهِ
س َمعُوا ِل َهذَا ا ْلقُرْآَ ِ
مِنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (َ )25وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَا َت ْ
سوَأَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ ( )27ذَِلكَ
َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ ( )26فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَ ْ
حدُونَ (َ )28وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا
جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ النّارُ َلهُمْ فِيهَا دَارُ ا ْلخُلْدِ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا َيجْ َ
سفَلِينَ ()29
حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ الْأَ ْ
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
ن وَالْإِنْسِ نَ ْ
رَبّنَا أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّانَا مِنَ ا ْلجِ ّ
حقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولُ فِي ُأمَمٍ قَدْ خََلتْ مِنْ
{ َوقَ ّيضْنَا َلهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيّنُوا َلهُمْ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم وَ َ
ن وَا ْل َغوْا
س َمعُوا ِلهَذَا ا ْلقُرْآ ِ
ن وَالنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (َ )25وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا ل تَ ْ
قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
سوَأَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()27
شدِيدًا وَلَ َنجْزِيَ ّنهُمْ َأ ْ
عذَابًا َ
فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ ( )26فَلَ ُنذِيقَنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ
جحَدُونَ (َ )28وقَالَ الّذِينَ
عدَاءِ اللّهِ النّارُ َلهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُ ْلدِ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْ
ذَِلكَ جَزَاءُ أَ ْ
سفَلِينَ (} )29
حتَ َأ ْقدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ ال ْ
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
ن وَالنْسِ نَ ْ
َكفَرُوا رَبّنَا أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلنَا مِنَ ا ْلجِ ّ
يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين ،وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته ،وهو الحكيم في
أفعاله ،بما قَيّض لهم من القرناء من شياطين النس والجن { :فَزَيّنُوا َلهُمْ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا
حسّنوا لهم أعمالهم في الماضي ،وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إل
خَ ْل َفهُمْ } أي َ :
ن وَإِ ّنهُمْ
حمَنِ ُنقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا َف ُهوَ َلهُ قَرِي ٌ
محسنين ،كما قال تعالى َ { :ومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ } [الزخرف .]37 ، 36 :
حقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ } أي :كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ،
وقوله تعالى { :وَ َ
ممن فعل كفعلهم ،من الجن والنس { ،إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي :است َووَا هم وإياهم في الخسار
والدمار.
ن وَا ْل َغوْا فِيهِ } أي :تواصوا فيما بينهم أل
س َمعُوا ِلهَذَا ا ْلقُرْآ ِ
وقوله تعالى َ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا ل تَ ْ
يطيعوا للقرآن ،ول ينقادوا لوامره ( { ، )1وَا ْل َغوْا فِيهِ } أي :إذا تلي ل تسمعوا له .كما قال
مجاهد { :وَا ْلغَوْا فِيهِ } يعني :بالمكاء ( )2والصفير والتخليط في المنطق على رسول ال صلى
ال عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس { :وَا ْل َغوْا فِيهِ } عيبوه (.)3
وقال قتادة :اجحدوا به ،وأنكروه وعادوه.
{ َلعَّل ُكمْ َتغْلِبُونَ } هذا حال هؤلء الجهلة من الكفار ،ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن .وقد
أمر ال -سبحانه -عباده المؤمنين بخلف ذلك فقال { :وَإِذَا قُ ِرئَ ا ْلقُرْآنُ فَاسْ َت ِمعُوا لَ ُه وَأَ ْنصِتُوا
حمُونَ } [العراف .]204 :
َلعَّلكُمْ تُ ْر َ
ثم قال تعالى :منتصرا للقرآن ،ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران { :فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ َكفَرُوا
سوَأَ الّذِي كَانُوا
عَذَابًا شَدِيدًا } أي :في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه { ،وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ َأ ْ
عدَاءِ اللّهِ النّارُ َل ُهمْ فِيهَا دَارُ الْخُ ْلدِ جَزَاءً
َي ْعمَلُونَ } أي :بشَرّ أعمالهم وسيّئ أفعالهم { ذَِلكَ جَزَاءُ أَ ْ
حتَ
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
ن وَالنْسِ نَ ْ
ن َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا رَبّنَا أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلنَا مِنَ الْجِ ّ
جحَدُو َ
ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْ
سفَلِينَ }
َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ ال ْ
قال سفيان الثوري ،عن سلمة بن ُكهَيْل ،عن مالك بن الحصين الفزاري ،عن أبيه ( ، )4عن
علي ،
__________
( )1في ت " :لمره".
( )2في ت ،أ " :بالمكاء والتصدية".
( )3في ت ،س " :قعوا فيه ،عيبوه".
( )4في ت " :عن أبيه روى".
( )7/174
رضي ال عنه ،في قوله { :الّذَيْنِ َأضَلنَا } قال :إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.
وهكذا روى حبة العُرَنِي عن علي ،مثل ذلك.
وقال السدي ،عن علي :فإبليس يدعو به كل صاحب شرك ،وابن آدم يدعو به كل صاحب
كبيرة ،فإبليس -لعنه ال -هو الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه ،وابن آدم الول .كما
ثبت في الحديث " :ما قتلت نفس ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل من دمها ؛ لنه أول من
سن القتل" (.)1
حتَ َأقْدَامِنَا } أي :أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا ؛ ولهذا قالوا
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
وقوله (َ { )2ن ْ
سفَلِينَ } أي :في الدرك السفل من النار ،كما تقدم في "العراف" من سؤال
{ :لِ َيكُونَا مِنَ ال ْ
ض ْعفٌ وََلكِنْ ل َتعَْلمُونَ }
ل ِ
التباع من ال أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم ،قال ِ { :ل ُك ّ
[العراف ]38 :أي :إنه تعالى قد أعطى كل منهم ما يستحقه من العذاب والنكال ،بحسب عمله
عذَابًا َفوْقَ ا ْل َعذَابِ ِبمَا
وإفساده ،كما قال تعالى { :الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ َ
سدُونَ } [النحل .]88 :
كَانُوا ُيفْ ِ
__________
( )1الحديث أخرجه الجماعة سوى أبي داود ،وانظر تخريجه عند الية 29 :من سورة المائدة.
( )2في س " :وقولهم".
( )7/175
إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ أَلّا تَخَافُوا وَلَا َتحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ
سكُمْ
الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( )30نَحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الَْآخِ َرةِ وََلكُمْ فِيهَا مَا تَشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
غفُورٍ َرحِيمٍ ()32
وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ ( )31نُزُلًا مِنْ َ
{ إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَل ِئكَةُ أَل تَخَافُوا وَل تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ
سكُمْ
الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( )30نَحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا مَا َتشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
غفُورٍ رَحِيمٍ (} )32
وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ ( )31نزل مِنْ َ
يقول تعالى { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } أي :أخلصوا العمل ل ،وعملوا بطاعة ال
تعالى على ما شرع ال لهم.
شعِيري ،
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي :حدثنا الجراح ،حدثنا سلم ( )1بن قتيبة أبو قتيبة ال ّ
حدثنا سهيل ( )2بن أبي حزم ،حدثنا ثابت ( )3عن أنس بن مالك قال :قرأ علينا رسول ال
صلى ال عليه وسلم هذه الية { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } قد قالها ناس ثم كفر
أكثرهم ( ، )4فمن قالها حتى ( )5يموت فقد ( )6استقام عليها.
وكذا رواه النسائي في تفسيره ،والبزار وابن جرير ،عن عمرو بن علي الفلس ،عن سلم ()7
بن قتيبة ،به ( .)8وكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن أبيه ،عن الفلس ،به .ثم قال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار ،حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان ،عن أبي إسحاق ،عن عامر بن سعد ()9
__________
( )1في أ " :مسلم".
( )2في أ " :سهل".
( )3في ت " :قال الحافظ أبو يعلى الموصلي بسنده".
( )4في أ " :ثم كفروا".
( )5في ت " :حين".
( )6في ت ،س " :فهو ممن".
( )7في أ " :مسلم".
( )8مسند أبي يعلى ، )06/213والنسائي في السنن الكبرى برقم ( )11470وتفسير الطبري (
.)24/73
( )9في أ " :سعيد".
( )7/175
،عن سعيد ( )1بن نمران ( )2قال :قرأت ( )3عند أبي بكر الصديق هذه الية { :إِنّ الّذِينَ
قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } قال :هم الذين لم يشركوا بال شيئا.
ثم روي من حديث السود بن هلل قال :قال أبو بكر ،رضي ال عنه :ما تقولون في هذه
الية { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا } ؟ قال :فقالوا { :رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا } من ذنب.
فقال :لقد حملتموها على غير المحمل { ،قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا } فلم يلتفتوا إلى إله غيره.
وكذا قال مجاهد ،وعكرمة ،والسدي ،وغير واحد (.)4
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو عبد ال الظهراني ( ، )5أخبرنا حفص بن عمر العدني ،عن
الحكم بن أبان ،عن عكرمة قال :سئل ابن عباس ( ، )6رضي ال عنهما :أي آية في كتاب ال
أرخص ؟ قال قوله { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } على شهادة أن ل إله إل ال.
وقال الزهري :تل عمر هذه الية على المنبر ،ثم قال :استقاموا -وال -ل بطاعته ،ولم
يروغوا روغان الثعالب.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } على أداء فرائضه.
وكذا قال قتادة ،قال :وكان الحسن يقول :اللهم أنت ربنا ،فارزقنا الستقامة.
وقال أبو العالية ُ { :ثمّ اسْ َتقَامُوا } أخلصوا له العمل والدين.
وقال المام أحمد :حدثنا هُشَيْم ،حدثنا يعلى بن عطاء ،عن عبد ال بن سفيان الثقفي ،عن أبيه
( )7؛ أن رجل قال :يا رسول ال مرني بأمر في السلم ل أسأل عنه أحدا بعدك .قال " :قل
آمنت بال ،ثم استقم" قلت :فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه.
ورواه النسائي من حديث شعبة ،عن يعلى بن عطاء ،به (.)8
ثم قال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا إبراهيم بن سعد ،حدثني ابن شهاب ،عن
محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي ،عن سفيان ( )9بن عبد ال الثقفي قال :قلت :يا
رسول ال ،حدثني بأمر أعتصم به .قال " :قل ربي ال ،ثم استقم" قلت :يا رسول ال ما أكثر
ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم بطرف لسان نفسه ،ثم قال " :هذا".
وهكذا ( )10رواه الترمذي وابن ماجه ،من حديث الزهري ،به ( .)11وقال الترمذي :حسن
صحيح.
__________
( )1في ت " :رواه ابن جرير عن سعيد".
( )2في أ " :مهران".
( )3في ت " :قرنت".
( )4في ت " :مجاهد وغيره".
( )5في أ " :الطبراني".
( )6في ت " :وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن ابن عباس أنه سئل".
( )7في ت " :وروى المام أحمد بسنده".
( )8المسند ( )4/384والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11489
( )9في ت " :وروى أحمد عن سفيان".
( )10في أ " :هكذا وكذا".
( )11المسند ( ، )3/413وسنن الترمذي برقم ( )2410وسنن ابن ماجه برقم (.)3972
( )7/176
وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي ،من حديث هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن سفيان بن
عبد ال الثقفي قال :قلت :يا رسول ال ،قل لي في السلم قول ل أسأل عنه أحدا بعدك .قال :
"قل آمنت بال ،ثم استقم" وذكر تمام الحديث (.)1
وقوله { :تَتَنزلُ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَل ِئكَةُ } قال مجاهد ،والسدي ،وزيد بن أسلم ،وابنه :يعني عند
الموت قائلين { :أَل تَخَافُوا } قال مجاهد ،وعكرمة ،وزيد بن أسلم :أي مما تقدمون عليه من
أمر الخرة { ،وَل َتحْزَنُوا } [أي] ( )2على ما خلفتموه من أمر الدنيا ،من ولد وأهل ،ومال أو
عدُونَ } فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول
دين ،فإنا نخلفكم فيه { ،وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُو َ
الخير.
وهذا كما في حديث البراء ( ، )3رضي ال عنه " :إن الملئكة تقول لروح المؤمن :اخرجي
أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ،اخرجي إلى روح وريحان ،ورب غير
غضبان".
وقيل :إن الملئكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم .حكاه ابن جرير عن ابن عباس ،
والسدي.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا عبد السلم بن مطهر ،حدثنا جعفر بن سليمان :
سمعت ثابتا قرأ سورة "حم السجدة" ( )4حتى بلغ { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنزلُ
عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَل ِئكَةُ } فوقف فقال :بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه ال من قبره ،يتلقاه الملكان اللذان
كانا معه في الدنيا ،فيقولن له :ل تخف ول تحزن { ،وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ()5
قال :فيؤمن ال خوفه ،ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إل هي للمؤمن قرة
عين ،لما هداه ال ،ولما كان يعمل له في الدنيا.
وقال زيد بن أسلم :يبشرونه عند موته ،وفي قبره ،وحين يبعث .رواه ابن أبي حاتم.
وهذا القول يجمع القوال كلها ،وهو حسن جدا ،وهو الواقع.
وقوله َ { :نحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َرةِ } أي :تقول الملئكة للمؤمنين عند
الحتضار :نحن كنا أولياءكم ،أي :قرناءكم في الحياة الدنيا ،نسددكم ونوفقكم ،ونحفظكم بأمر
ال ،وكذلك نكون معكم في الخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور ،وعند النفخة في الصور ،
ونؤمنكم يوم البعث والنشور ،ونجاوز بكم الصراط المستقيم ،ونوصلكم إلى جنات النعيم { .وََلكُمْ
سكُمْ } أي :في الجنة من جميع ما تختارون ( )6مما تشتهيه النفوس ،وتقر به
فِيهَا مَا تَشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
العيون { ،وََلكُمْ فِيهَا مَا َتدّعُونَ } أي :مهما طلبتم وجدتم ،وحضر بين أيديكم [ ،أي] ( )7كما
اخترتم ،
غفُورٍ َرحِيمٍ } أي :ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم ،رحيم بكم رءوف ،
{ نزل مِنْ َ
حيث غفر ،وستر ،ورحم ،ولطف.
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)38
( )2زيادة من ت ،س ،أ.
( )3حديث البراء سبق تخريجه عند تفسير الية 40 :من سورة العراف إل أن هذا اللفظ هو
لفظ حديث أبي هريرة رضي ال عنه وهو مخرج في نفس الموضع.
( )4في ت :وروى ابن أبي حاتم عن ثابت أنه قرأ السجدة".
( )5في ت ،س ،أ " :وأبشر" وهو خطأ.
( )6في ت " :تختارونه".
( )7زيادة من ت.
( )7/177
سكُمْ
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث "سوق الجنة" عند قوله تعالى { :وََلكُمْ فِيهَا مَا تَشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
غفُورٍ َرحِيمٍ } ،فقال :
وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ نزل مِنْ َ
حدثنا أبي ،حدثنا هشام بن عمار ،حدثنا عبد الحميد بن حبيب ( )1بن أبي العشرين أبي سعيد ،
حدثنا الوزاعي ،حدثني حسان بن عطية ،عن سعيد بن المسيب :أنه لقي أبا هريرة [رضي ال
عنه] ( )2فقال أبو هريرة :نسأل ( )3ال أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة .فقال سعيد :أو
فيها سوق ؟ قال :نعم ،أخبرني رسول ال صلى ال عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها ،
نزلوا بفضل أعمالهم ،فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة في أيام الدنيا فيزورون ال ،عز وجل ،
ويبرز لهم عرشه ،ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ،وتوضع لهم منابر من نور ،
ومنابر من لؤلؤ ،ومنابر من ياقوت ،ومنابر من زبرجد ،ومنابر من ذهب ،ومنابر من فضة ،
ويجلس [فيه] ( )4أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور ،ما يرون بأن أصحاب
الكراسي بأفضل منهم مجلسا.
قال أبو هريرة :قلت :يا رسول ال ،وهل نرى ربنا [يوم القيامة] ( )5؟ قال " :نعم هل
تتمارون ( )6في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟" قلنا :ل .قال صلى ال عليه وسلم " :فكذلك ل
تتمارون في رؤية ربكم تعالى ،ول يبقى في ذلك المجلس أحد إل حاضره ال محاضرة ،حتى
إنه ليقول للرجل منهم :يا فلن بن فلن ،أتذكر يوم عملت كذا وكذا ؟ -يذكّره ببعض غدراته
في الدنيا -فيقول :أي رب ،أفلم تغفر لي ؟ فيقول :بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه .قال
:فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم ،فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا
قط" .قال :ثم يقول ربنا -عز وجل : -قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة ،وخذوا ما
حفّت به الملئكة ،فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ،ولم تسمع
اشتهيتم" .قال " :فنأتي سوقا قد َ
الذان ،ولم يخطر على القلوب .قال :فيحمل لنا ما اشتهينا ،ليس يباع فيه شيء ول يشترى ،
وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا" .قال " :فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة ،فيلقى
من هو دونه -وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس ،فما ينقضي آخر حديثه حتى
يتمثل عليه أحسن منه ؛ وذلك لنه ل ينبغي لحد أن يحزن فيها.
ثم ننصرف إلى منازلنا ،فيتلقانا أزواجنا فيقلن :مرحبا وأهل ِبحِبّنا ،لقد جئت وإن بك من
الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه .فيقول :إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار -عز وجل -
وبحقنا أن ننقلب بمثل ( )7ما انقلبنا به".
وقد رواه الترمذي في "صفة الجنة" من جامعه ،عن محمد بن إسماعيل ،عن هشام بن عمار ،
ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ،به نحوه ( .)8ثم قال الترمذي :هذا حديث غريب ،ل
نعرفه إل من هذا الوجه.
__________
( )1في أ " :الوليد".
( )2زيادة من ت.
( )3في أ " :أسأل".
( )4زيادة من أ.
( )5زيادة من أ.
( )6في ت ،س ،أ " :تمارون".
( )7في أ " :على".
( )8سنن الترمذي برقم ( )2549وسنن ابن ماجه برقم (.)4336
( )7/178
حسَنَةُ
ل صَالِحًا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ( )33وَلَا تَسْ َتوِي الْ َ
ع ِم َ
َومَنْ َأحْسَنُ َقوْلًا ِممّنْ دَعَا إِلَى اللّ ِه وَ َ
حمِيمٌ (َ )34ومَا ُيَلقّاهَا إِلّا
وَلَا السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ ( )35وَِإمّا يَنْزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ
الّذِي َ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ ()36
ُهوَ ال ّ
عدِي ،عن حميد ،عن أنس قال :قال رسول ال صلى ال
وقال المام أحمد :حدثنا ابن أبي َ
عليه وسلم " :من أحب لقاء ال أحب ال لقاءه ،ومن كره لقاء ال كره ال لقاءه" .قلنا ( )1يا
حضِر جاءه
رسول ال كلنا نكره الموت ؟ قال " :ليس ذلك كراهية الموت ،ولكن المؤمن إذا ُ
البشير من ال بما هو صائر إليه ،فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي ال فأحب ال لقاءه"
حضِر ( )2جاءه بما هو صائر إليه من الشر -أو :ما يلقى
قال " :وإن الفاجر -أو الكافر -إذا ُ
من الشر -فكره لقاء ال فكره ال لقاءه".
وهذا حديث صحيح ( ، )3وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه (.)4
ل صَالِحًا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ( )33وَل َتسْ َتوِي
ع ِم َ
{ َومَنْ َأحْسَنُ َقوْل ِممّنْ دَعَا إِلَى اللّ ِه وَ َ
حمِيمٌ (َ )34ومَا
حسَنَ ُة وَل السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
الْ َ
حظّ عَظِيمٍ ( )35وَِإمّا يَنزغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نزغٌ فَاسْ َتعِذْ
ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِل ذُو َ
يَُلقّاهَا إِل الّذِي َ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (} )36
بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
ل صَالِحًا
عمِ َ
حسَنُ َقوْل ِممّنْ دَعَا إِلَى اللّهِ } أي :دعا عباد ال إليه { ،وَ َ
يقول تعالى َ { :ومَنْ أَ ْ
َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } أي :وهو في نفسه مهتد بما يقوله ،فنفعه لنفسه ولغيره لزم ومُ َتعَدٍ ،
وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ول يأتونه ،وينهون عن المنكر ويأتونه ،بل يأتمر بالخير
ويترك الشر ،ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى .وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ،
وهو في نفسه مهتد ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم أولى الناس بذلك ،كما قال محمد بن
سيرين ،والسدي ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقيل :المراد بها المؤذنون الصلحاء ،كما ثبت في صحيح مسلم " :المؤذنون أطول الناس أعناقا
يوم القيامة" ( )5وفي السنن مرفوعا " :المام ضامن ،والمؤذن مؤتمن ،فأرشد ال الئمة ،
وغفر للمؤذنين" (.)6
وقال ( )7ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا محمد بن عَرُوبَة الهروي ،حدثنا غسان
قاضي هراة وقال أبو زرعة :حدثنا إبراهيم بن طهمان ،عن مطر ،عن الحسن ،عن سعد بن
أبي وقاص أنه قال " :سهام المؤذنين عند ال يوم القيامة كسهام المجاهدين ،وهو بين الذان
والقامة كالمتشحط في سبيل ال في دمه".
قال :وقال ابن مسعود " :لو كنت مؤذنا ما باليت أل أحج ول أعتمر ول أجاهد".
__________
( )1في أ " :قال".
( )2في أ " :احتضر".
( )3المسند (.)3/107
( )4رواه البخاري في صحيحه برقم ( )6507ومسلم في صحيحه برقم ( )2683من طريق قتادة
عن أنس عن عبادة بن الصامت بنحو الحديث المتقدم.
( )5صحيح مسلم برقم ( )387من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي ال عنه.
( )6رواه أحمد في مسنده ( )2/232وأبو داود في السنن برقم ( )8/5والترمذي في السنن برقم (
.)207
( )7في ت " :وروى".
( )7/179
قال :وقال عمر بن الخطاب :لو كنت مؤذنا لكمل أمري ،وما باليت أل أنتصب لقيام الليل ول
لصيام النهار ،سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :اللهم اغفر للمؤذنين" ثلثا ،قال :
فقلت :يا رسول ال ،تركتنا ،ونحن نجتلد على الذان بالسيوف .قال " :كل يا عمر ،إنه يأتي
( )1على الناس زمان يتركون الذان على ضعفائهم ،وتلك لحوم حرمها ال على النار ،لحوم
المؤذنين" (.)2
ع ِملَ صَاِلحًا َوقَالَ
قال :وقالت عائشة :ولهم هذه الية َ { :ومَنْ َأحْسَنُ َقوْل ِممّنْ دَعَا إِلَى اللّ ِه وَ َ
إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } قالت :فهو المؤذن إذا قال " :حي على الصلة" فقد دعا إلى ال.
وهكذا قال ابن عمر ،وعكرمة :إنها نزلت في المؤذنين.
ل صَالِحًا }
عمِ َ
وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي ،رضي ال عنه ،أنه قال في قوله { :وَ َ
قال :يعني صلة ركعتين بين الذان والقامة.
ثم أورد البغوي حديث "عبد ال بن المغفل" قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بين كل
أذانين صلة" .ثم قال في الثالثة " :لمن شاء" ( )3وقد أخرجه الجماعة في كتبهم ،من حديث عبد
ال بن بريدة ،عنه ( )4وحديث الثوري ،عن زيد العمي ،عن أبي إياس معاوية بن قرة ،عن
أنس بن مالك ،رضي ال عنه ،قال الثوري :ل أراه إل وقد رفعه إلى النبي صلى ال عليه
وسلم " :الدعاء ل يرد بين الذان والقامة".
ورواه أبو داود والترمذي ،والنسائي في "اليوم والليلة" كلهم من حديث الثوري ،به ( .)5وقال
الترمذي :هذا حديث حسن.
ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي ،عن قتادة ،عن أنس ،به (.)6
والصحيح أن الية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ،فأما حال نزول هذه الية فإنه لم يكن الذان
مشروعا بالكلية ؛ لنها مكية ،والذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ،حين أريه عبد ال بن زيد
بن عبد ربه النصاري في منامه ،فقصه على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمره أن يلقيه
على بلل فإنه أندى صوتا ،كما هو مقرر في موضعه ،فالصحيح إذًا أنها عامة ،كما قال عبد
حسَنُ َقوْل ِممّنْ دَعَا إِلَى
الرزاق ،عن معمر ،عن الحسن البصري :أنه تل هذه الية َ { :ومَنْ أَ ْ
ل صَالِحًا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } فقال :هذا حبيب ال ،هذا ولي ال ،هذا صفوة
ع ِم َ
اللّ ِه وَ َ
ال ،هذا خِيَرَة ال ،هذا أحب أهل الرض إلى ال ،أجاب ال في دعوته ،ودعا الناس إلى ما
أجاب ال فيه من دعوته ،وعمل صالحا في إجابته ،وقال :
__________
( )1في ت ،س " :سيأتي".
( )2ورواه السماعيلي في مسنده كما في مسند عمر لبن كثير ( )1/144من طريق إبراهيم بن
طهمان عن مطر عن الحسن البصري عن عمر به والحسن لم يسمع من عمر.
( )3معالم التنزيل للبغوي (.)7/174
( )4صحيح البخاري برقم ( )627وصحيح مسلم برقم ( )838وسنن أبي داود برقم ()2283
وسنن الترمذي برقم ( )185وسنن النسائي ( )2/28وسنن ابن ماجه برقم (.)1162
( )5سنن أبي داود برقم ( )521وسنن الترمذي برقم ( )212والنسائي في السنن الكبرى برقم (
.)9896
( )6النسائي في السنن الكبرى برقم (.)9899
( )7/180
( )7/181
( )7/182
ش َعةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّزتْ وَرَ َبتْ إِنّ الّذِي أَحْيَاهَا َلمُحْيِي
{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَ ّنكَ تَرَى ال ْرضَ خَا ِ
شيْءٍ قَدِيرٌ (} )39
ا ْل َموْتَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة ،وأنه الذي ل نظير له وأنه على ما يشاء قادر ،
س وَا ْل َقمَرُ } أي :أنه خلق الليل بظلمه ،والنهار بضيائه ،وهما
شمْ ُ
ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ اللّ ْي ُ
متعاقبان ل يقران ،والشمس ونورها وإشراقها ،والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه ،
واختلف سيره في سمائه ،ليُعرف باختلف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار ،والجمع
والشهور والعوام ،ويتبين بذلك حلول الحقوق ،وأوقات العبادات والمعاملت.
ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي ،نبه تعالى على
س وَل لِ ْل َقمَرِ
شمْ ِ
جدُوا لِل ّ
أنهما مخلوقان عبدان من عبيده ،تحت قهره وتسخيره ،فقال { :ل تَسْ ُ
جدُوا لِلّهِ الّذِي خََل َقهُنّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ } أي :ول تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع
وَاسْ ُ
عبادتكم لغيره ،فإنه ل يغفر أن يشرك به ؛ ولهذا قال { :فَإِنِ اسْ َتكْبَرُوا } أي :عن إفراد العبادة
له وأبوا إل أن يشركوا معه غيره { ،فَالّذِينَ عِنْدَ رَ ّبكَ } يعني :الملئكة ُ { ،يسَبّحُونَ لَهُ بِاللّ ْيلِ
وَال ّنهَارِ وَهُمْ ل يَسَْأمُونَ } ،كقوله { فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َق ْومًا لَيْسُوا ِبهَا ِبكَافِرِينَ }
[النعام .]89 :
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا سفيان -يعني ابن وكيع -حدثنا أبي ،عن ابن أبي ليلى ،عن
أبي الزبير ،عن جابر ( )1قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تسبوا الليل ول النهار
،ول الشمس ول القمر ،ول الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم ،وعذابا لقوم" (.)2
شعَةً } أي :
وقوله َ { :ومِنْ آيَا ِتهِ } أي :على قدرته على إعادة الموتى { أَ ّنكَ تَرَى ال ْرضَ خَا ِ
ت وَرَ َبتْ } أي :أخرجت من
هامدة ل نبات فيها ،بل هي ميتة { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّز ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ }
جميل ألوان الزروع والثمار { ،إِنّ الّذِي أَحْيَاهَا َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
__________
( )1في ت " :روى الحافظ أبو يعلى عن جابر".
( )2مسند أبي يعلى ( ، )4/139قال الهيثمي في المجمع (" : )8/71إسناده ضعيف".
( )7/182
خفَوْنَ عَلَيْنَا َأ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي النّارِ خَيْرٌ َأمْ مَنْ يَأْتِي َآمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ
حدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا َي ْ
إِنّ الّذِينَ يُلْ ِ
عمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ( )40إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ َلمّا جَا َءهُ ْم وَإِنّهُ َلكِتَابٌ عَزِيزٌ (
اْ
حمِيدٍ ( )42مَا ُيقَالُ َلكَ إِلّا مَا قَدْ
حكِيمٍ َ
طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَلَا مِنْ خَ ْلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ َ
)41لَا يَأْتِيهِ الْبَا ِ
عقَابٍ أَلِيمٍ ()43
سلِ مِنْ قَبِْلكَ إِنّ رَ ّبكَ َلذُو َم ْغفِ َرةٍ وَذُو ِ
قِيلَ لِلرّ ُ
خفَوْنَ عَلَيْنَا َأ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي النّارِ خَيْرٌ َأمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ
{ إِنّ الّذِينَ يُ ْلحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ل َي ْ
عمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ( )40إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ َلمّا جَا َءهُ ْم وَإِنّهُ َلكِتَابٌ عَزِيزٌ (
اْ
حمِيدٍ ( )42مَا ُيقَالُ َلكَ إِل مَا قَدْ
حكِيمٍ َ
طلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَل مِنْ خَ ْلفِهِ تَنزيلٌ مِنْ َ
)41ل يَأْتِيهِ الْبَا ِ
عقَابٍ أَلِيمٍ (} )43
سلِ مِنْ قَبِْلكَ إِنّ رَ ّبكَ َلذُو َم ْغفِ َرةٍ وَذُو ِ
قِيلَ لِلرّ ُ
حدُونَ فِي آيَاتِنَا } ،قال ابن عباس :اللحاد :وضع الكلم على غير
قوله { :إِنّ الّذِينَ يُلْ ِ
مواضعه.
وقال قتادة وغيره :هو الكفر والعناد.
خ َفوْنَ عَلَيْنَا } أي :فيه تهديد شديد ،ووعيد أكيد ،أي :إنه تعالى عالم بمن يلحد
وقوله { :ل يَ ْ
في آياته وأسمائه وصفاته ،وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ؛ ولهذا قال َ { :أ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي
النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } ؟ أي :أيستوي هذا وهذا ؟ ل يستويان.
عمَلُوا مَا شِئْ ُتمْ } قال مجاهد ،والضحاك ،وعطاء
ثم قال -عز وجل -تهديدًا ( )1للكفرة { :ا ْ
عمَلُوا مَا شِئْ ُتمْ } :وعيد ،أي :من خير أو شر ،إنه عليم بكم وبصير
الخراساني { :ا ْ
بأعمالكم ؛ ولهذا قال { :إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }
ثم قال { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ َلمّا جَا َءهُمْ } قال الضحاك ،والسدي ،وقتادة :وهو القرآن
{ وَإِنّهُ َلكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي :منيع الجناب ،ل يرام أن يأتي أحد بمثله ،
طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَل مِنْ خَ ْلفِهِ } أي :ليس للبطلن إليه سبيل ؛ لنه منزل من رب
{ ل يَأْتِيهِ الْبَا ِ
حمِيدٍ } أي :حكيم في أقواله وأفعاله ،حميد بمعنى
حكِيمٍ َ
العالمين ؛ ولهذا قال { :تَنزيلٌ مِنْ َ
محمود ،أي :في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته.
سلِ مِنْ قَبِْلكَ } قال قتادة ،والسدي ،وغيرهما :ما يقال
ثم قال { :مَا ُيقَالُ َلكَ إِل مَا قَدْ قِيلَ لِلرّ ُ
لك من التكذيب إل كما قد قيل للرسل من قبلك ،فكما قد كذبت فقد كذبوا ،وكما صبروا على
أذى قومهم لهم ،فاصبر أنت على أذى قومك لك .وهذا اختيار ابن جرير ،ولم يحك هو ،ول
ابن أبي حاتم غيره.
عقَابٍ أَلِيمٍ } أي :لمن
وقوله { :إِنّ رَ ّبكَ لَذُو َمغْفِ َرةٍ [لِلنّاسِ] } ( )2أي :لمن تاب إليه { وَذُو ِ
استمر على كفره ،وطغيانه ،وعناده ،وشقاقه ومخالفته.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا حماد ،عن علي بن زيد ()3
عن سعيد بن المسيب قال :لما نزلت هذه الية { :إِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ } قال رسول ال صلى ال
ش ،ولول وعيده وعقابه لتكل كل أحد"
غفْر ( )4ال وتجاوزه ما هَنَأ أحدا العي ُ
عليه وسلم " :لول َ
(.)5
__________
( )1في ت ،س ،أ " :مهددا".
( )2زيادة من أ.
( )3في ت " :روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب".
( )4في ت ،س ،أ " :عفو".
( )5إسناده مرسل ،وعلي بن زيد متفق على ضعفه.
( )7/183
شفَاءٌ
ج ِميّ وَعَرَ ِبيّ ُقلْ ُهوَ لِلّذِينَ َآمَنُوا هُدًى وَ ِ
عَجمِيّا َلقَالُوا َلوْلَا ُفصَّلتْ آَيَاُتهُ أَأَ ْ
عَجعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَ ْ
وََلوْ َ
عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ ( )44وََلقَدْ آَتَيْنَا
وَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ فِي آَذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ ()45
ضيَ بَيْ َن ُه ْم وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ
مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِي ِه وََلوْلَا كَِل َمةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُق ِ
ج ِميّ وَعَرَ ِبيّ ُقلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى
عَجمِيّا َلقَالُوا َلوْل ُفصّلَتْ آيَاتُهُ أَأَ ْ
جعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْ َ
{ وََلوْ َ
عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ ( )44وََلقَدْ
شفَا ٌء وَالّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ َ
وَ ِ
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ
ضيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ
آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِي ِه وََلوْل كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ َلقُ ِ
(} )45
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلغته ،وإحكامه في لفظه ومعناه ،ومع هذا لم يؤمن به
المشركون ،نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت ،كما قال { :وََلوْ نزلْنَاهُ عَلَى َب ْعضِ
علَ ْيهِمْ مَا كَانُوا بِهِ ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء .]199 ، 198 :وكذلك لو أنزل القرآن كله
جمِينَ َفقَرََأهُ َ
العْ َ
ج ِميّ وَعَرَ ِبيّ } أي :لقالوا :
عَبلغة العجم ،لقالوا على وجه التعنت والعناد َ { :لوْل ُفصَّلتْ آيَاتُهُ أَأَ ْ
هل أنزل مفصل بلغة العرب ،ولنكروا ذلك وقالوا :أعجمي وعربي ؟ أي :كيف ينزل كلم
أعجمي على مخاطب عربي ل يفهمه.
هكذا رُوي هذا المعنى عن ابن عباس ،ومجاهد ،وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،والسدي ،
وغيرهم.
ج ِميّ وَعَرَ ِبيّ } أي :هل أنزل بعضها بالعجمي ،
عَوقيل :المراد بقولهم َ { :لوْل ُفصَّلتْ آيَاتُهُ أَأَ ْ
وبعضها بالعربي.
ج ِميّ } وهو رواية عن
هذا قول الحسن البصري ،وكان يقرؤها كذلك بل استفهام في قوله { أَعْ َ
سعيد بن جبير وهو في [التعنت و] ( )1العناد أبلغ.
شفَاءٌ } أي :قل يا محمد :هذا القرآن لمن آمن به
ثم قال تعالى ُ { :قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا ُهدًى وَ ِ
هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك ( )2والريب { ،وَالّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ َوقْرٌ }
عمًى } أي :ل يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال
علَ ْيهِمْ َ
أي :ل يفهمون ما فيه { ،وَ ُهوَ َ
خسَارًا }
ح َمةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ إِل َ
شفَا ٌء وَرَ ْ
تعالى { :وَنُنزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
[السراء .]82 :
{ أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } قال مجاهد :يعني بعيد من قلوبهم.
قال ابن جرير :معناه :كأن من يخاطبهم يناديهم ( )3من مكان بعيد ،ل يفهمون ما يقول (.)4
سمَعُ إِل دُعَا ًء وَنِدَا ًء صُمّ
قلت :وهذا كقوله تعالى َ { :ومَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا َكمَ َثلِ الّذِي يَ ْنعِقُ ِبمَا ل يَ ْ
ع ْميٌ َفهُمْ ل َي ْعقِلُونَ } [البقرة .]171 :
ُبكْمٌ ُ
وقال الضحاك :ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم.
وقال السدي :كان عمر بن الخطاب [رضي ال عنه] ( )5جالسا عند رجل من المسلمين يقضي ،
إذ قال :يا لبّيكاه .فقال عمر :لِمَ تلبي ؟ هل رأيت أحدا ،أو دعاك أحد ؟ قال :دعاني داع من
وراء ( )6البحر .فقال عمر :أولئك ينادون من مكان بعيد .رواه ابن أبي حاتم.
وقوله { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخُْتِلفَ فِيهِ } أي :كذب وأوذي { ،فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو
سمّى } [الشورى :
جلٍ مُ َ
سلِ } [الحقاف { .]35 :وََلوْل كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ إِلَى أَ َ
ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ
]14بتأخير
__________
( )1زيادة من ت ،س.
( )2في أ " :الشرك".
( )3في أ " :يدعوهم".
( )4تفسير الطبري (.)24/81
( )5زيادة من ت.
( )6في ت ،س ،أ " :خلف".
( )7/184
ع ِملَ صَاِلحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ ()46
مَنْ َ
الحساب إلى يوم المعاد َ { ،ل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ } أي :لعجل لهم العذاب ،بل لهم موعد لن يجدوا من
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي :وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا ،
دونه موئل { وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ
بل كانوا شاكين فيما قالوا ( ، )1غير محققين لشيء كانوا فيه .هكذا وجهه ابن جرير ،وهو
محتمل ،وال أعلم.
س ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا َومَا رَ ّبكَ بِظَلمٍ لِ ْلعَبِيدِ (} )46
ل صَالِحًا فَلِ َنفْ ِ
ع ِم َ
{ مَنْ َ
__________
( )1في ت ،س " :قالوه".
( )7/185
( )7/185
( )7/186
أي :في كفر وعناد ومشاقة للحق ،ومَسْلَك بعيد من الهدى.
سهِمْ } أي :سنظهر لهم دللتنا وحُجَجنا على كون
ق َوفِي أَ ْنفُ ِ
ثم قال { :سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
القرآن حقا منزل من عند ال ،عز وجل ،على رسوله صلى ال عليه وسلم بدلئل خارجية { فِي
الفَاقِ } ،من الفتوحات وظهور السلم على القاليم وسائر الديان.
قال ( )1مجاهد ،والحسن ،والسدي :ودلئل في أنفسهم ،قالوا :وقعة َبدْر ،وفتح مكة ،ونحو
ذلك من الوقائع التي حَلّت بهم ،نصر ال فيها محمدا وصحبه ،وخذل فيها الباطل وحِزْبَه.
ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما النسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والخلط والهيئات
العجيبة ،كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى .وكذلك ما هو
مجبول عليه من الخلق المتباينة ،من حسن وقبيح وبين ذلك ،وما هو متصرف فيه تحت
القدار التي ل يقدر بحوله ،وقوته ،وحِيَله ،وحذره أن يجوزها ،ول يتعداها ،كما أنشده ابن
أبي الدنيا في كتابه "التفكر والعتبار" ،عن شيخه أبي جعفر القرشي :
وَإذَا َنظَ ْرتَ تُريدُ ُمعْتَبَرا ...فَانظُرْ إل ْيكَ َففِيكَ ُمعْتَبَرُ...
ح في ...الدنيا و ُكلّ أمُوره عبَرُ...
أنتَ الذي ُيمْسِي وَ ُيصْب ُ
صكَ الكِبَرُ...
خ ِ
صغَرٍُ ...ثمّ اس َت َقلّ بِشَ ْ
ن في ِ
أنتَ المصرّفُ كا َ
شعْرُ والبَشَرُ...
أنتَ الذي تَ ْنعَاه خ ْلقَتُه ...يَنْعاه منه ال ّ
أنتَ الذي ُت ْعطَى وَتُسْلَب ل ...يُنْجيه من أنْ يُسَْلبَ الحَذَرُ...
حقّ منْه ِبمَاله القَدَرُ...
أ ْنتَ الذي ل شَيءَ منْه لَهُ ...وَأ َ
شهِيدٌ } ؟ أي :كفى
شيْءٍ َ
حقّ َأوَلَمْ َي ْكفِ بِرَ ّبكَ أَنّهُ عَلَى ُكلّ َ
وقوله تعالى { :حَتّى يَتَبَيّنَ َل ُهمْ أَنّهُ الْ َ
بال ( )2شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم ،وهو يشهد أن محمدًا صادق فيما أخبر به عنه ،كما
شهَدُونَ } [النساء .]166 :
ش َهدُ ِبمَا أَنزلَ إِلَ ْيكَ أَنزلَهُ ِبعِ ْل ِم ِه وَا ْلمَل ِئكَةُ يَ ْ
قال َ { :لكِنِ اللّهُ يَ ْ
وقوله { :أَل إِ ّنهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ ِلقَاءِ رَ ّبهِمْ } أي :في شك من قيام الساعة ؛ ولهذا ل يتفكرون فيه
،ول يعملون له ،ول يحذرون منه ،بل هو عندهم َهدَ ٌر ل يعبئون به وهو واقع ل ريب فيه
وكائن ل محالة.
قال ابن أبي الدنيا :حدثنا أحمد بن إبراهيم ،حدثنا خلف بن تميم ،حدثنا عبد ال بن محمد بن
سعيد النصاري :أن عمر بن عبد العزيز صَعد المنبر ،فحمد ال وأثنى عليه ،ثم قال :أما بعد
،أيها الناس ،فإني لم أجمعكم لمر أحدثه فيكم ،ولكن فكرت في هذا المر الذي أنتم إليه
صائرون ،فعلمت أن المصدق بهذا المر أحمق ،والمكذب به هالك ثم نزل.
__________
( )1في ت ،أ " :قاله".
( )2في ت " :به".
( )7/187
ومعنى قوله ،رضي ال عنه " :أن المصدق به أحمق" أي :لنه ل يعمل له عمل مثله ،ول
يحذر منه ول يخاف من هوله ،وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه ،وهو مع ذلك يتمادى في
لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه ،فهو أحمق بهذا العتبار ،والحمق في اللغة :ضعيف العقل.
وقوله " :والمكذب به هالك" هذا واضح ،وال أعلم.
ثم قال تعالى -مقررا على أنه على كل شيء قدير ،وبكل شيء محيط ،وإقامة الساعة لديه
شيْءٍ ُمحِيطٌ } أي :المخلوقات كلها تحت قهره
يسير سهل عليه تبارك وتعالى { : -أَل إِنّهُ ِب ُكلّ َ
وفي قبضته ،وتحت طي علمه ،وهو المتصرف فيها كلها بحكمه ،فما شاء كان وما لم يشأ لم
يكن[ .آخر تفسير سورة فصلت] (.)1
__________
( )1زيادة من ت ،س ،أ.
( )7/188
( )7/189
ينقلبون" قال :فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ،ففسر كما قال ابن عباس ،رضي ال عنهما ،وقال :
قاف :قارعة من السماء تغشى الناس (.)1
حكِيمُ } أي :كما أنزل إليك هذا
وقوله { :كَ َذِلكَ يُوحِي إِلَ ْيكَ وَإِلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكَ اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
القرآن ،كذلك أنزل الكتب والصحف على النبياء قبلك .وقوله { :اللّهُ ا ْلعَزِيزُ } أي :في انتقامه
حكِيمُ } في أقواله وأفعاله.
{ ،الْ َ
قال :المام مالك -رحمه ال -عن هشام بن عُ ْروَة عن أبيه ،عن عائشة :أن الحارث بن
هشام سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :أحيانًا يأتيني مثل صَ ْلصَلَةِ الجَرَس ،وهو أشده عََليّ فيفصم عني قد
وَعَيت ما قال .وأحيانا يأتيني الملك رجُل فيكلمني ،فأعي ما يقول" قالت عائشة ( )2فلقد رأيته
ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ،فيفصم عنه ،وإن جبينه ليتفصّد عرقا.
أخرجاه في الصحيحين ،ولفظه للبخاري (.)3
وقد ( )4رواه الطبراني عن عبد ال ابن المام أحمد ،عن أبيه ،عن عامر بن صالح ،عن
هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة ،عن الحارث بن هشام ؛ أنه سأل رسول ال صلى ال
عليه وسلم :كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال " :مثل ( )5صلصلة الجرس فيفصمُ عني وقد وعَيتُ
ما قاله" قال " :وهو أشده علي" قال " :وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول" (
.)6
وقال :المام ( )7أحمد :حدثنا قتيبة ،حدثنا ابن َلهِيعة ،عن يزيد بن أبي حبيب ،عن عمرو بن
الوليد ،عن عبد ال بن عمرو ( ، )8رضي ال عنهما ،قال :سألت رسول ال صلى ال عليه
وسلم فقلت :يا رسول ال ،هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أسمع
صلصل ثم أسكت عند ذلك ،فما من مرة يوحى إليّ إل ظننت أن نفسي تُقبَض" تفرد به أحمد (
.)9
وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم في أول شرح البخاري ،بما
أغنى عن إعادته هاهنا ،ول الحمد والمنة.
ت َومَا فِي ال ْرضِ } أي :الجميع عبيد له وملك له ،تحت قهره
س َموَا ِ
وقوله تعالى { :لَهُ مَا فِي ال ّ
وتصريفه { ،وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ } كقوله تعالى { :ا ْلكَبِيرُ ا ْلمُ َتعَالِ } [ الرعد { ]9 :وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ
ا ْلكَبِيرُ } [ سبأ ] 23 :واليات في هذا كثيرة.
س َموَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْ َف ْو ِقهِنّ } قال ابن عباس ،والضحاك ،وقتادة ،والسدي ،
وقوله َ { :تكَادُ ال ّ
حمْدِ رَ ّب ِه ْم وَيَسْ َت ْغفِرُونَ ِلمَنْ فِي
وكعب الحبار :أي فرقًا ،من العظمة { وَا ْلمَل ِئكَةُ يُسَبّحُونَ ِب َ
حمْدِ رَ ّب ِه ْم وَ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ
حوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِ َ
ش َومَنْ َ
حمِلُونَ ا ْلعَرْ َ
ال ْرضِ } كقوله { :الّذِينَ يَ ْ
حمَةً وَعِ ْلمًا } [غافر .]7 :
شيْءٍ رَ ْ
س ْعتَ ُكلّ َ
وَيَسْ َت ْغفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا وَ ِ
__________
( )1ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور (.)7/336
( )2في ت " :عائشة رضي ال عنها".
( )3الموطأ ( )1/202وصحيح البخاري برقم ( )2وصحيح مسلم برقم (.)2333
( )4في أ " :ولقد".
( )5في أ " :فقال :في مثل".
( )6المعجم الكبير (.)3/259
( )7في ت " :وروى".
( )8في ت :عمر".
( )9المسند (.)2/222
( )7/190
.
وقوله { :أَل إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } إعلم بذلك وتنويه به.
حفِيظٌ عَلَ ْيهِمْ } أي :شهيد
خذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ } يعني :المشركين { ،اللّهُ َ
وقوله { :وَالّذِينَ اتّ َ
علَ ْيهِمْ ِب َوكِيلٍ } أي
على أعمالهم ،يحصيها ويعدها عدّا ،وسيجزيهم بها أوفر الجزاءَ { .ومَا أَ ْنتَ َ
:إنما أنت نذير وال على كل شيء وكيل.
جمْعِ ل رَ ْيبَ فِيهِ فَرِيقٌ
حوَْلهَا وَتُ ْنذِرَ َيوْمَ ا ْل َ
{ َوكَذَِلكَ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِتُنْذِرَ ُأمّ ا ْلقُرَى َومَنْ َ
حمَتِهِ
خلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَ ْ
جعََلهُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً وََلكِنْ ُيدْ ِ
سعِيرِ ( )7وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ
فِي الْجَنّةِ َوفَرِيقٌ فِي ال ّ
ي وَل َنصِيرٍ (} )8
ن وَِل ّ
وَالظّاِلمُونَ مَا َلهُمْ مِ ْ
يقول تعالى :وكما أوحينا إلى النبياء قبلك َ { ،أوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ قُرْآنًا عَرَبِيّا } أي :واضحا جليا بينا ،
حوَْلهَا } أي :من سائر البلد شرقا وغربا ،وسميت مكة
{ لِتُ ْنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَى } وهي مكة َ { ،ومَنْ َ
"أم القرى" ؛ لنها أشرف من سائر البلد ،لدلة كثيرة مذكورة في مواضعها .ومن أوجز ذلك
وأدله ما قال ( )1المام أحمد :
حدثنا أبو اليمان ،حدثنا شعيب ،عن الزّهْرِي ،أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد ال بن
عَدِي بن الحمراء الزهري أخبره :أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ( - )2وهو
واقف بالحَ ْزوَرَة في سوق مكة " : -وال ،إنك لخير أرض ال وأحب أرض ال إلى ال ،ولول
جتُ منك ما خرجت" (.)3
أني أُخْ ِر ْ
وهكذا رواية الترمذي ،والنسائي ،وابن ماجه ،من حديث الزهري ،به ( )4وقال الترمذي :
حسن صحيح.
جمْعِ } ،وهو يوم القيامة ،يجمع ال الولين والخرين في صعيد واحد.
وقوله { :وَتُنْذِرَ َي ْومَ الْ َ
وقوله { :ل رَ ْيبَ فِيهِ } أي :ل شك في وقوعه ،وأنه كائن ل محالة .وقوله { :فَرِيقٌ فِي ا ْلجَنّةِ
جمْعِ ذَِلكَ َيوْمُ ال ّتغَابُنِ } [التغابن ]9 :أي :
ج َم ُعكُمْ لِ َيوْمِ ا ْل َ
سعِيرِ } ،كقوله َ { :يوْمَ َي ْ
َوفَرِيقٌ فِي ال ّ
شهُو ٌد َومَا
جمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذَِلكَ َيوْمٌ مَ ْ
َيغْبَن أهل الجنة أهل النار ،وكقوله تعالى { :ذَِلكَ َيوْمٌ مَ ْ
سعِيدٌ } [هود ]105 - 103 :
ي وَ َ
ش ِق ّ
جلٍ َمعْدُودٍ َيوْمَ يَ ْأتِ ل َتكَلّمُ َنفْسٌ إِل بِإِذْ ِنهِ َفمِ ْنهُمْ َ
ُنؤَخّ ُرهُ إِل ل َ
(.)5
شفَيّ
قال ( )6المام أحمد :حدثنا هاشم بن القاسم ،حدثنا لَيْث ،حدثني أبو قبيل المعافري ،عن ُ
()7
__________
( )1في ت " :ما رواه".
( )2في ت " :قال".
( )3المسند (.)4/305
( )4سنن الترمذي برقم ( )3925والنسائي في السنن الكبرى برقم ( )4252وسنن ابن ماجه برقم
(.)3108
( )5قبلها في ت ،م ،أ (" :إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة)".
( )6في ت " :روى".
( )7في أ " :شقيق".
( )7/191
الصبحي ،عن عبد ال بن عمرو -رضي ال عنهما -قال :خرج علينا رسول ال صلى ال
عليه وسلم وفي يده كتابان ،فقال " :أتدرون ما هذان الكتابان ؟" قال :قلنا :ل إل أن تخبرنا يا
رسول ال قال للذي في يده اليمينى " :هذا كتاب من رب العالمين ،بأسماء أهل الجنة وأسماء
آبائهم وقبائلهم ،ثم أجمل على آخرهم -ل يزاد فيهم ول ينقص منهم أبدا" ثم قال للذي في يساره
" :هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ،ثم أجمل على آخرهم -ل يزاد فيهم ول
ينقص منهم أبدا" فقال أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم :فلي شيء إذًا نعمل إن كان هذا
سدّدُوا وقاربوا ،فإن صاحب
أمر قد فُرِغ منه ؟ فقال ( )1رسول ال صلى ال عليه وسلم َ " :
ع ِملَ أي عَمل ،وإن صاحب النار يختم له بعمل النار (، )3
الجنة يختم له بعمل الجنة ( ، )2وإن َ
وإن عمل أي عمل" ثم قال بيده فقبضها ،ثم قال " :فرغ ربكم عز وجل من العباد" ثم قال باليمنى
فنبذ بها فقال " :فريق في الجنة" ،ونبذ باليسرى فقال " :فريق في السعير"
وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ،عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر ،كلهما عن
شفَيّ بن ماتع ( )4الصبحي ،عن عبد ال بن عمرو ،به (.)5
أبي قبيل ،عن ُ
وقال الترمذي :حسن صحيح غريب.
وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر ( ، )6عن سعيد بن عثمان ،عن أبي
الزاهرية ،عن عبد ال بن عمرو ،عن النبي صلى ال عليه وسلم فذكره بنحوه .وعنده زيادات
منها :ثم قال " :فريق في الجنة وفريق في السعير ،عدل من ال عز وجل" (.)7
ورواه ( )8ابن أبي حاتم عن أبيه ،عن عبد ال بن صالح -كاتب الليث -عن الليث ،به.
ورواه ابن جرير عن يونس ،عن ابن وهب ،عن عمرو بن الحارث ،عن أبي قَبِيل ،عن
شفي ،عن رجل من الصحابة ،فذكره (.)9
ثم روي عن يونس ،عن ابن وَهْب ،عن عمرو بن الحارث وحَ ْيوَة بن ( )10شُرَيْح ،عن يحيى
بن أبي أسيد ؛ أن أبا فراس ( )11حدثه :أنه سمع عبد ال بن عمرو يقول :إن ال لما خلق آدم
نفضه نفض الم ْزوَد ( ، )12وأخرج منه كل ذريته ،فخرج أمثال ال ّنغَف ،فقبضهم قبضتين ،ثم
قال :شقي وسعيد ،ثم ألقاهما ،ثم قبضهما فقال :فريق في الجنة ،وفريق في السعير (.)13
وهذا الموقوف أشبه بالصواب ،وال أعلم.
__________
( )1في ت ،م " :قال".
( )2في م " :بعمل أهل الجنة".
( )3في م ،ت ،أ " :بعمل أهل النار"
( )4في أ " :رافع".
( )5المسند ( )2/167وسنن الترمذي برقم ( )2141والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11473
( )6في م " :بكير".
( )7معالم التنزيل للبغوي (.)7/185
( )8في ت " :روى".
( )9تفسير الطبري (.)25/7
( )10في أ " :عن".
( )11في ت " :عن أبي فراس".
( )12في م " :المرود".
( )13تفسير الطبري (.)25/7
( )7/192
( )7/193
سكُمْ أَ ْزوَاجًا َومِنَ الْأَ ْنعَامِ أَ ْزوَاجًا َيذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ لَيْسَ َكمِثْلِهِ
ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َ
فَاطِرُ ال ّ
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَقْدِرُ إِنّهُ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ يَبْ ُ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ ( )11لَهُ َمقَالِيدُ ال ّ
شيْ ٌء وَ ُهوَ ال ّ
َ
شيْءٍ عَلِيمٌ ()12
ِب ُكلّ َ
سكُمْ أَ ْزوَاجًا َومِنَ ال ْنعَامِ أَ ْزوَاجًا يَذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ لَيْسَ
ج َعلَ َل ُكمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
ت وَالرْضِ َ
س َموَا ِ
{ فَاطِرُ ال ّ
س َموَاتِ وَال ْرضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ َيقْدِرُ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ ( )11لَهُ َمقَالِيدُ ال ّ
شيْ ٌء وَ ُهوَ ال ّ
َكمِثْلِهِ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ (} )12
إِنّهُ ِب ُكلّ َ
يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون ال ،ومخبرا أنه هو الولي الحق
الذي ل تنبغي العبادة إل له وحده ،فإنه القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير.
ح ْكمُهُ إِلَى اللّهِ } أي :مهما اختلفتم فيه من المور وهذا عام
شيْءٍ فَ ُ
ثم قال َ { :ومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِنْ َ
ح ْكمُهُ إِلَى اللّهِ } أي :هو الحاكم فيه بكتابه ،وسنة نبيه صلى ال عليه
في جميع الشياء َ { ،ف ُ
شيْءٍ فَ ُردّوهُ إِلَى اللّ ِه وَالرّسُولِ } [النساء ..]59 :
وسلم ،كقوله { :فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي َ
ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي :أرجع في جميع
{ ذَِلكُمُ اللّهُ رَبّي } أي :الحاكم في كل شيء { ،عَلَيْهِ َت َوكّلْ ُ
المور.
( )7/193
سكُمْ أَ ْزوَاجًا }
ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
ت وَالرْضِ } أي :خالقهما وما بينهما َ { ،
س َموَا ِ
وقوله { :فَاطِرِ ال ّ
أي :من جنسكم وشكلكم ،منة عليكم وتفضل جعل من جنسكم ذكرا وأنثى َ { ،ومِنَ ال ْنعَامِ
أَ ْزوَاجًا } أي :وخلق لكم من النعام ثمانية أزواج.
وقوله َ { :يذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ } أي :يخلقكم فيه ،أي :في ذلك الخلق على هذه الصفة ل يزال يذرؤكم
( )1فيه ذكورا وإناثا ،خلقا من بعد خلق ،وجيل بعد جيل ،ونسل بعد نسل ،من الناس
والنعام.
وقال البغوي رحمه ال َ { :يذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ } أي :في الرحم .وقيل :في البطن .وقيل :في هذا
الوجه من الخلقة.
قال مجاهد :ونسل بعد نسل من الناس والنعام.
وقيل " :في" بمعنى "الباء" ،أي :يذرؤكم به.
شيْءٌ } أي :ليس كخالق الزواج كلها شيء ؛ لنه الفرد الصمد الذي ل نظير له ،
{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }
{ وَ ُهوَ ال ّ
ت وَالرْضِ } تقدم تفسيره في "سورة الزمر" ،وحاصل ذلك أنه
س َموَا ِ
وقوله َ { :لهُ َمقَالِيدُ ال ّ
سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ } أي :يوسع على من يشاء ،ويضيق
المتصرف الحاكم فيهما { ،يَبْ ُ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
على من يشاء ،وله الحكمة والعدل التام { ،إِنّهُ ِب ُكلّ َ
ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَى وَعِيسَى
{ شَ َرعَ َل ُكمْ مِنَ الدّينِ مَا َوصّى بِهِ نُوحًا وَالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْي َ
ن وَل تَ َتفَ ّرقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ا ْلمُشْ ِركِينَ مَا تَدْعُو ُهمْ إِلَيْهِ اللّهُ َيجْتَبِي ِإلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ
أَنْ َأقِيمُوا الدّي َ
وَ َيهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (َ )13ومَا َتفَ ّرقُوا إِل مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيًا بَيْ َنهُ ْم وََلوْل كَِل َمةٌ سَ َب َقتْ مِنْ
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ (} )14
سمّى َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ َب ْعدِهِمْ َلفِي َ
جلٍ مُ َ
رَ ّبكَ إِلَى أَ َ
يقول تعالى لهذه المة { :شَ َرعَ َلكُمْ مِنَ الدّينِ مَا َوصّى بِهِ نُوحًا وَالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ } ،فذكر أول
الرسل بعد آدم وهو نوح ،عليه السلم وآخرهم وهو محمد صلى ال عليه وسلم ،ثم ذكر من
بين ذلك من أولي العزم وهم :إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ،عليهم السلم .وهذه الية
خذْنَا مِنَ النّبِيّينَ مِيثَا َقهُمْ
انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية "الحزاب" عليهم في قوله { :وَِإذْ أَ َ
ح وَإِبْرَاهِي َم َومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الية[الحزاب .]7 :والدين الذي جاءت به
َومِ ْنكَ َومِنْ نُو ٍ
الرسل كلهم هو :عبادة ال وحده ل شريك له ،كما قال َ { :ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِل
نُوحِي إِلَيْهِ أَنّهُ ل إِلَهَ إِل أَنَا فَاعْ ُبدُونِ } [النبياء .]25 :وفي
__________
( )1في أ " :نوعكم".
( )7/194
ت وَلَا تَتّبِعْ َأ ْهوَاءَهُمْ َوقُلْ َآمَ ْنتُ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ وَُأمِ ْرتُ لِأَعْ ِدلَ
فَلِذَِلكَ فَا ْدعُ وَاسْ َتقِمْ َكمَا ُأمِ ْر َ
جمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ (
عمَاُلكُمْ لَا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ اللّهُ يَ ْ
عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ
بَيْ َنكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ لَنَا أَ ْ
)15
الحديث " :نحن معشر ( )1النبياء أولد علت ديننا واحد" أي :القدر المشترك بينهم هو عبادة
عةً
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْ َ
ال وحده ل شريك له ،وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ،كقوله تعالى ِ { :ل ُكلّ َ
ن وَل تَ َتفَ ّرقُوا فِيهِ } أي :وصى ال
َومِ ْنهَاجًا } [المائدة ]48 :؛ ولهذا قال هاهنا { :أَنْ َأقِيمُوا الدّي َ
[سبحانه و] ( )2تعالى جميع النبياء ،عليهم السلم ،بالئتلف والجماعة ،ونهاهم عن الفتراق
والختلف.
وقوله { :كَبُرَ عَلَى ا ْلمُشْ ِركِينَ مَا َتدْعُوهُمْ إِلَ ْيهِ } أي :شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد
من التوحيد.
ثم قال { :اللّهُ َيجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ } أي :هو الذي يُقدّر الهداية لمن
يستحقها ،ويكتب الضللة على من آثرها على طريق الرشد ؛ ولهذا قال َ { :ومَا َتفَ ّرقُوا إِل مِنْ
َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ } أي :إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم ،وقيام الحجة عليهم ،وما
حملهم على ذلك إل البغيُ والعنادُ والمشاقة.
سمّى } أي :لول الكلمة السابقة
جلٍ مُ َ
ثم قال [ال] ( )3تعالى { :وََلوْل كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ إِلَى أَ َ
من ال بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد ،لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا.
وقوله { :وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ َب ْعدِهِمْ } يعني :الجيل المتأخر بعد القرن الول المكذّب
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي :ليسوا على يقين من أمرهم ،وإنما هم مقلدون لبائهم
للحق { َلفِي َ
وأسلفهم ،بل دليل ول بُرهان ،وهم في حيرة من أمرهم ،وشك مريب ،وشقاق بعيد.
ع وَاسْ َتقِمْ َكمَا ُأمِ ْرتَ وَل تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ ُه ْم َوقُلْ آمَ ْنتُ ِبمَا أَنزلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ وَُأمِرْتُ
{ فَِلذَِلكَ فَا ْد ُ
جمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ
حجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ اللّهُ َي ْ
عمَاُلكُمْ ل ُ
عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ
لعْ ِدلَ بَيْ َنكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ لَنَا أَ ْ
ا ْل َمصِيرُ (} )15
اشتملت هذه الية الكريمة على عشر كلمات مستقلت ،كل منها منفصلة عن التي قبلها [ ،لها] (
)4حكم برأسه -قالوا :ول نظير لها سوى آية الكرسي ،فإنها أيضا عشرة ( )5فصول كهذه.
قوله ( { )6فَلِذَِلكَ فَا ْدعُ } أي :فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك
أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم ،فادعُ الناس إليه.
وقوله { :وَاسْ َتقِمْ َكمَا ُأمِ ْرتَ } أي :واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة ال ،كما أمركم ال عز
وجل.
وقوله { :وَل تَتّبِعْ أَ ْهوَا َءهُمْ } يعني :المشركين فيما اختلقوه ،وكذبوه وافتروه من عبادة الوثان.
وقوله َ { :و ُقلْ آمَ ْنتُ ِبمَا أَنزلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي :صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على
__________
( )1في ت ،م " :معاشر".
( )2زيادة من ت ،م ،أ.
( )3زيادة من م.
( )4زيادة من ت ،أ.
( )5في ت " :عشر".
( )6في ت " :فقوله".
( )7/195
( )7/196
ضبٌ وََلهُمْ
غ َ
حضَةٌ عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَعَلَ ْيهِمْ َ
وَالّذِينَ ُيحَاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مَا اسْ ُتجِيبَ لَهُ حُجّ ُتهُمْ دَا ِ
شدِيدٌ ( )16اللّهُ الّذِي أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ وَا ْلمِيزَانَ َومَا ُيدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ ()17
عَذَابٌ َ
ش ِفقُونَ مِ ْنهَا وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا ا ْلحَقّ أَلَا إِنّ الّذِينَ
جلُ ِبهَا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا وَالّذِينَ َآمَنُوا مُ ْ
يَسْ َتعْ ِ
ُيمَارُونَ فِي السّاعَةِ َلفِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ ()18
ب وََلهُمْ
غضَ ٌ
حضَةٌ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَعَلَ ْيهِمْ َ
حجّ ُتهُمْ دَا ِ
{ وَالّذِينَ يُحَاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا اسْتُجِيبَ َلهُ ُ
شدِيدٌ ( )16اللّهُ الّذِي أَنزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ وَا ْلمِيزَانَ َومَا ُيدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ ()17
عَذَابٌ َ
حقّ أَل إِنّ الّذِينَ
شفِقُونَ مِ ْنهَا وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا الْ َ
جلُ ِبهَا الّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا وَالّذِينَ آمَنُوا مُ ْ
يَسْ َتعْ ِ
ُيمَارُونَ فِي السّاعَةِ َلفِي ضَللٍ َبعِيدٍ (} )18
يقول تعالى -متوعدا الذين يصدون عن سبيل ال من آمن به { : -وَالّذِينَ ُيحَاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ
َبعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي :يجادلون المؤمنين المستجيبين ل ولرسوله ،ليصدوهم عما سلكوه من
ضبٌ } أي :
غ َ
حضَةٌ عِنْدَ رَ ّبهِمْ } أي :باطلة عند ال { ،وَعَلَ ْيهِمْ َ
حجّ ُتهُمْ دَا ِ
طريق الهدى ُ { ،
منه { ،وََلهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي :يوم القيامة.
قال ابن عباس ،ومجاهد :جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا ل ولرسوله ،ليصدوهم عن الهدى ،
وطمعوا أن تعود الجاهلية.
وقال قتادة :هم اليهود والنصارى ،قالوا لهم :ديننا خير من دينكم ،ونبينا قبل نبيكم ،ونحن
خير منكم ،وأولى بال منكم .وقد كذبوا في ذلك.
حقّ } يعني :الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه
ثم قال { :اللّهُ الّذِي أَنزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
{ والميزان } ،وهو :العدل والنصاف ،قاله مجاهد ،وقتادة .وهذه كقوله تعالى َ { :لقَدْ أَ ْرسَلْنَا
سطِ } [الحديد ]25 :وقوله :
ب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ
ت وَأَنزلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ
رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ
ط وَل تُخْسِرُوا
ط َغوْا فِي ا ْلمِيزَانِ .وََأقِيمُوا ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْ ِ
سمَاءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ .أَل َت ْ
{ وَال ّ
ا ْلمِيزَانَ } [الرحمن .]9 - 7 :
( )7/196
اللّهُ لَطِيفٌ ِبعِبَا ِدهِ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ وَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ ( )19مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الْآَخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي
حَرْ ِث ِه َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الَْآخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ (َ )20أمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ
شَرَعُوا َلهُمْ مِنَ الدّينِ مَا َلمْ يَأْذَنْ ِبهِ اللّ ُه وََلوْلَا كَِلمَةُ ا ْل َفصْلِ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ فِي
ش ِفقِينَ ِممّا كَسَبُوا وَ ُه َو وَاقِعٌ ِبهِمْ وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
أَلِيمٌ ( )21تَرَى الظّاِلمِينَ مُ ْ
ضلُ ا ْلكَبِيرُ ()22
َر ْوضَاتِ ا ْلجَنّاتِ َلهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َف ْ
وقوله َ { :ومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ } فيه ترغيب فيها ،وترهيب منها ،وتزهيد في الدنيا.
جلُ ِبهَا الّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا } أي :يقولون { :مَتَى هَذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ }
وقوله َ { :يسْ َتعْ ِ
شفِقُونَ
[سبأ ، ]29 :وإنما يقولون ( )1ذلك تكذيبا واستبعادا ،وكفرا وعنادا { ،وَالّذِينَ آمَنُوا مُ ْ
حقّ } أي :كائنة ل محالة ،فهم
مِ ْنهَا } أي :خائفون وجلون من وقوعها { وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا الْ َ
مستعدون لها عاملون من أجلها.
وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر ،في الصحاح والحسان ،والسنن والمسانيد ،وفي بعض
ج ْهوَ ِريّ ،وهو في بعض أسفاره
ألفاظه ؛ أن رجل سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم بصوت َ
فناداه فقال :يا محمد .فقال له النبي صلى ال عليه وسلم نحوا من صوته "هاؤم" .فقال :متى
الساعة ؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ويحك ،إنها كائنة ،فما أعددت لها ؟" فقال :
حُب ال ورسوله .فقال " :أنت مع من أحببت (.)2
فقوله في الحديث " :المرء مع من أحب" ،هذا متواتر ل محالة ،والغرض أنه لم يجبه عن وقت
الساعة ،بل أمره بالستعداد لها.
وقوله { :أَل إِنّ الّذِينَ ُيمَارُونَ فِي السّاعَةِ } أي :يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها َ { ،لفِي
ضَللٍ َبعِيدٍ } أي :في جهل بين ؛ لن الذي خلق السموات والرض قادر على إحياء الموتى
علَيْهِ } [الروم :
بطريق الولى والحرى ،كما قال { :وَ ُهوَ الّذِي يَبْدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ وَ ُهوَ َأ ْهوَنُ َ
.]27
{ اللّهُ َلطِيفٌ ِبعِبَا ِدهِ يَرْزُقُ مَنْ َيشَا ُء وَ ُهوَ ا ْل َق ِويّ ا ْلعَزِيزُ ( )19مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نزدْ لَهُ
فِي حَرْثِ ِه َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ (َ )20أمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ
ضيَ بَيْ َن ُه ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ
صلِ َل ُق ِ
شَرَعُوا َلهُمْ مِنَ الدّينِ مَا َلمْ يَأْذَنْ ِبهِ اللّ ُه وََلوْل كَِلمَةُ ا ْل َف ْ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ فِي
ش ِفقِينَ ِممّا كَسَبُوا وَ ُه َو وَاقِعٌ ِبهِمْ وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
أَلِيمٌ ( )21تَرَى الظّاِلمِينَ مُ ْ
ضلُ ا ْلكَبِيرُ (} )22
َر ْوضَاتِ ا ْلجَنّاتِ َلهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َف ْ
يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم ،ل ينسى أحدا منهم ،سواء في
رزقه البرّ والفاجر ،كقوله تعالى َ { :ومَا مِنْ دَابّةٍ فِي ال ْرضِ إِل عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا
عهَا ُكلّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود ]6 :ولها ( )3نظائر كثيرة.
َومُسْ َتوْدَ َ
وقوله { :يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ } أي :يوسع على من يشاء { ،وَ ُهوَ ا ْل َق ِويّ ا ْلعَزِيزُ } أي :ل يعجزه
شيء.
__________
( )1في ت " :يقول".
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )6167ومسلم في صحيحه برقم ( )2639من حديث أنس
بن مالك رضي ال عنه.
( )3في ت " :ولهذا".
( )7/197
ثم قال { :مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ } أي :عمل الخرة { نزدْ لَهُ فِي حَرْ ِثهِ } أي :نقويه
ونعينه على ما هو بصدده ،ونكثر نماءه ،ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،
إلى ما يشاء ال { َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ } أي :ومن
كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا ،وليس له إلى الخرة همّة ( )1البتة بالكلية ،حَرَمه ال
الخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها ،وإن لم يشأ لم يحصل ( )2له ل هذه ول هذه ،وفاز هذا
الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والخرة.
والدليل على هذا أن هذه الية هاهنا مقيدة بالية التي في "سبحان" وهي قوله تعالى { :مَنْ كَانَ
جهَنّمَ َيصْلهَا مَ ْذمُومًا مَدْحُورًا َومَنْ أَرَادَ
جعَلْنَا َلهُ َ
عجّلْنَا َلهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَنْ نُرِيدُ ُثمّ َ
يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ َ
عطَاءِ
شكُورًا كُل ُنمِدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ
سعْ ُيهُمْ مَ ْ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
سعَى َلهَا َ
الخِ َر َة وَ َ
ض وَلَلخِ َرةُ َأكْبَرُ دَرَجَاتٍ
ضهُمْ عَلَى َب ْع ٍ
عطَاءُ رَ ّبكَ َمحْظُورًا ا ْنظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ
ك َومَا كَانَ َ
رَ ّب َ
وََأكْبَرُ َت ْفضِيل } [السراء .]21 - 18 :
وقال الثوري ،عن مُغيرة ،عن أبي العالية ،عن أبي بن كعب [رضي ال عنه] ( )3قال :قال :
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بشر هذه المة بالسّنَاء والرفعة ،والنصر والتمكين في الرض
،فمن عمل منهم عمل الخرة للدنيا ،لم يكن له في الخرة من نصيب" (.)4
وقوله َ { :أمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ شَرَعُوا َل ُهمْ مِنَ الدّينِ مَا لَمْ يَ ْأذَنْ بِهِ اللّهُ } أي :هم ل يتبعون ما شرع ال
لك من الدين القويم ،بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والنس ،من تحريم ما حرموا
عليهم ،من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ،وتحليل الميتة والدم والقمار ،إلى نحو ذلك من
الضللت والجهالة ( )5الباطلة ،التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم ،من التحليل والتحريم ،
والعبادات الباطلة ،والقوال الفاسدة.
حيّ بن َق َمعَة
وقد ثبت في الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :رأيت عمرو بن لُ َ
يَجُر ُقصْبَه في النار" ( )6لنه أول من سيب السوائب .وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة ،وهو
حمَل قريشا على عبادة الصنام ،لعنه ال وقبحه ؛ ولهذا
أول من فعل هذه الشياء ،وهو الذي َ
ضيَ بَيْ َنهُمْ } أي :لعوجلوا بالعقوبة ،لول ما تقدم من النظار
صلِ َلقُ ِ
قال تعالى { :وََلوْل كَِلمَةُ ا ْل َف ْ
عذَابٌ أَلِيمٌ } أي :شديد موجع ( )7في جهنم وبئس المصير.
إلى يوم المعاد { ،وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ َ
ش ِفقِينَ ِممّا كَسَبُوا } أي :في عرصات القيامة { ،وَ ُه َو وَاقِعٌ ِبهِمْ
ثم قال تعالى { :تَرَى الظّاِلمِينَ مُ ْ
} أي :الذي يخافون منه واقع بهم ل محالة ،هذا حالهم يوم معادهم ،وهم في هذا الخوف
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فِي َر ْوضَاتِ الْجَنّاتِ َلهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ } فأين
والوجل { ،وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
هذا من هذا :
__________
( )1في ت " :وهم".
( )2في أ " :يجعل".
( )3زيادة من ت.
( )4رواه البغوي في شرح السنة ( )14/335من طريق الثوري به.
( )5في أ " :الجهالت".
( )6انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الية 103 :من سورة المائدة.
( )7في ت ،أ " :وجيع".
( )7/198
أين من هو في العَ َرصَات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ،ممن هو في روضات
الجنات ،فيما يشاء من مآكل ومشارب وملبس ومساكن ومناظر ومناكح وملذ ،فيما ل عين
رأت ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
قال :الحسن بن عرفة :حدثنا عمر بن عبد الرحمن البار ،حدثنا محمد بن سعد النصاري ()1
عن أبي طَيْبَة ،قال :إن الشّرْب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول :ما أ ْمطِ ُركُم .قال :فما
يدعو داع من ( )2القوم بشيء إل أمطرتهم ،حتى إن القائل منهم ليقول :أمطرينا كواعب أترابا.
رواه ابن جرير ،عن الحسن بن عرفة ،به.
ولهذا قال تعالى َ { :ذِلكَ ُهوَ ا ْل َفضْلُ ا ْلكَبِيرُ } أي :الفوز العظيم ،والنعمة التامة السابغة الشاملة
العامة.
__________
( )1في ت " :روى الحسن بن عرفة بسنده".
( )2في أ " :في".
( )7/199
عمِلُوا الصّالِحَاتِ ُقلْ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي
ذَِلكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَا َدهُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
شكُورٌ ( )23أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ
غفُورٌ َ
ا ْلقُرْبَى َومَنْ َيقْتَرِفْ حَسَنَةً نَ ِزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنّ اللّهَ َ
حقّ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَا ِتهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ (
ل وَيُ ِ
طَك وَ َيمْحُ اللّهُ الْبَا ِ
كَذِبًا فَإِنْ َيشَأِ اللّهُ َيخْتِمْ عَلَى قَلْ ِب َ
)24
عمِلُوا الصّالِحَاتِ ُقلْ ل َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِل ا ْل َموَ ّدةَ فِي
{ ذَِلكَ الّذِي يُ َبشّرُ اللّهُ عِبَا َدهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
شكُورٌ ( )23أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ
غفُورٌ َ
ا ْلقُرْبَى َومَنْ َيقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنّ اللّهَ َ
حقّ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَا ِتهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ (
ل وَيُ ِ
طَك وَ َيمْحُ اللّهُ الْبَا ِ
كَذِبًا فَإِنْ َيشَأِ اللّهُ َيخْتِمْ عَلَى قَلْ ِب َ
} )24
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة ،لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات { :ذَِلكَ الّذِي يُ َبشّرُ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي :هذا حاصل لهم كائن ل محالة ،ببشارة ال لهم
اللّهُ عِبَا َدهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
به.
وقوله ُ { :قلْ ل أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ َأجْرًا إِل ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى } أي :قل يا محمد لهؤلء المشركين من
كفار قريش :ل أسألكم على هذا البلغ والنصح لكم ما ل تعطونيه ،وإنما أطلب منكم أن تكفوا
شركم عني وتذروني أبلغ رسالت ( )1ربي ،إن لم تنصروني فل تؤذوني بما بيني وبينكم من
القرابة.
قال البخاري :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن عبد الملك بن
ميسرة قال :سمعت طاوسا ( )2عن ابن عباس :أنه سئل عن قوله تعالى { :إِل ا ْل َموَ ّدةَ فِي
عجِ ْلتَ إن النبي صلى ال عليه
ا ْلقُرْبَى } فقال سعيد بن جبير :قربى آل محمد .فقال ابن عباس َ :
وسلم لم يكن بطن من قريش إل كان له فيهم قرابة ،فقال :إل أن تصلوا ما بيني وبينكم من
القرابة .انفرد به البخاري (.)3
ورواه المام أحمد ،عن يحيى القطان ،عن شعبة به .وهكذا روى عامر الشعبي ،والضحاك ،
وعلي بن أبي طلحة ،وال َعوْفي ،ويوسف بن ِمهْران وغير واحد ،عن ابن عباس ،مثله .وبه
قال مجاهد ،وعكرمة ،وقتادة ،والسدي ،وأبو مالك ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،
وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني ( )4حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلنسي قال حدثنا
__________
( )1في ت ،م ،أ " :رسالة".
( )2في ت " :روى البخاري بسنده".
( )3صحيح البخاري برقم ( )4818والمسند (.)1/229
( )4في ت " :وروى الطبراني".
( )7/199
( )7/200
يزيد بن أبي زياد -وهو ضعيف -بإسناده مثله ،أو قريبا منه.
وفي الصحيحين -في قسم غنائم حنين -قريب من هذا السياق ،ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه
الية .وذكْ ُر نزولها في المدينة فيه نظر ؛ لن السورة مكية ،وليس يظهر بين هذه الية الكريمة
وبين السياق مناسبة ،وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا رجل سماه ،حدثنا حسين الشقر ،عن
لل
قيس ،عن العمش ،عن سعيد بن جبير ( )1عن ابن عباس قال :لما نزلت هذه الية ُ { :ق ْ
أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ َأجْرًا إِل ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى } قالوا :يا رسول ال ،من هؤلء الذين أمر ال
بمودتهم ؟ قال " :فاطمة وولدها ،عليهم السلم" (.)2
وهذا إسناد ( )3ضعيف ،فيه مبهم ل يعرف ،عن شيخ شيعي مُتَخَرّق ( ، )4وهو حسين
الشقر ،ول يقبل خبره في هذا المحل .وذكر نزول هذه الية في المدينة بعيد ؛ فإنها مكية ولم
يكن إذ ذاك لفاطمة أولد بالكلية ،فإنها لم تتزوج بعلي إل بعد بدر من ( )5السنة الثانية من
الهجرة.
والحق تفسير الية بما فسرها به المام حَبرُ المة ،وترجمان القرآن ،عبد ال بن عباس ،كما
رواه عنه البخاري [رحمه ال] ( )6ول تنكر الوصاة ( )7بأهل البيت ،والمر بالحسان إليهم ،
واحترامهم وإكرامهم ،فإنهم من ذرية طاهرة ،من أشرف بيت وجد على وجه الرض ،فخرًا
وحسبًا ونسبًا ،ول سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية ،كما كان عليه
سلفهم ،كالعباس وبنيه ،وعلي وأهل بيته وذريته ،رضي ال عنهم أجمعين.
و [قد ثبت] ( )8في الصحيح :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ :
"إني تارك فيكم الثقلين :كتاب ال وعترتي ،وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض" (.)9
وقال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ،عن يزيد بن أبي زياد
،عن عبد ال بن الحارث ( ، )10عن العباس بن عبد المطلب قال :قلت :يا رسول ال ،إن
قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن ،وإذا لقونا لقونا بوجوه ل نعرفها ؟ قال :فغضب
النبي صلى ال عليه وسلم غضبا شديدا ،وقال " :والذي نفسي بيده ،ل يدخل قلب الرجل اليمان
حتى يحبكم ل ولرسوله" (.)11
ثم قال أحمد ( )12حدثنا جرير ،عن يزيد بن أبي زياد ،عن عبد ال بن الحارث ،عن عبد
المطلب بن ربيعة قال :دخل العباس على رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :إنا لنخرج فنرى
قريشا تُحدث ،فإذا رأونا
__________
( )1في ت " :وروى ابن أبي حاتم بسنده".
( )2ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )11/444من طريق حرب الطحان عن حسين الشقر
به.
( )3في أ " :السناد".
( )4في أ " :مخترق".
( )5في أ " :في".
( )6زيادة من ت ،م ،أ.
( )7في ت " :ول ينكر الوصاية".
( )8زيادة من ت ،أ.
( )9صحيح مسلم برقم ( )2408بنحوه من حديث زيد بن الرقم.
( )10في ت " :وروى المام أحمد بإسناده".
( )11المسند (.)1/207
( )12في ت " :ثم روى المام أحمد".
( )7/201
سكتوا .فغضب رسول ال صلى ال عليه وسلم ودَرّ عِ ْرقُ بين عينه ( ، )1ثم قال " :وال ل يدخل
قلب امرئ ( )2إيمان حتى يحبكم ل ولقرابتي" (.)3
وقال البخاري :حدثنا عبد ال بن عبد الوهاب ،حدثنا خالد ،حدثنا شعبة ،عن واقد قال :
سمعتُ أبي يحدّث ( )4عن ابن عمر ،عن أبي بكر الصديق ،رضي ال عنه ،قال :ارقبوا
محمدا صلى ال عليه وسلم في أهل بيته (.)5
وفي الصحيح :أن الصديق قال لعلي ،رضي ال عنهما :وال لقرابة رسول ال صلى ال عليه
وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي (.)7( )6
وقال عمر بن الخطاب للعباس ،رضي ال عنهما :وال لسلمك يوم أسلمت كان أحب إليّ من
إسلم الخطاب لو أسلم ؛ لن إسلمك كان أحب إلى رسول ال من إسلم الخطاب.
فحال الشيخين ،رضي ال عنهما ،هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ؛ ولهذا كانا أفضل
المؤمنين بعد النبيين والمرسلين ،رضي ال عنهما ،وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال المام أحمد ،رحمه ال :حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،عن أبي حَيّان التيمي ،حدثني يزيد
ابن حيان قال :انطلقت أنا وحُسَيْن بن مَيْسَرة ،وعمر ( )8بن مسلم إلى زيد ( )9بن أرقم ،فلما
جلسنا إليه قال له حصين :لقد لقيتَ يا زيد ( )10خيرا كثيرا ،رأيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وسمعت حديثه وغزوت معه ،وصليت معه .لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا .حدثنا يا زيد
ما سمعت من رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال :يا ابن أخي ،وال كَبُرت ( )11سني ،
وقدم عهدي ،ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فما حدثتكم
فاقبلوه ،وما ل فل ُتكَلّفونيه .ثم قال :قام رسول ال صلى ال عليه وسلم يومًا خطيبًا فينا ،بماء
خمّا -بين مكة والمدينة -فحمد ال وأثنى عليه ،وذكر ووعظ ،ثم قال " :أما بعد ،أل
يدعى ُ
أيها الناس ،إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ،وإني تارك فيكم الثقلين ،أولهما :
كتاب ال ،فيه الهدى والنور ،فخذوا بكتاب ال واستمسكوا به" فحث على كتاب ال ورغب فيه ،
وقال " :وأهل بيتي أذكركم ال في أهل بيتي أذكركم ال في أهل بيتي" فقال له حصين :ومن أهل
بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال :إن نساءه من أهل بيته ،ولكن أهل بيته من حُرم
الصدقة بعده قال :ومن هم ؟ قال :هم آل علي ،وآل عقيل ،وآل جعفر ،وآل العباس ،قال :
أكل هؤلء حرم الصدقة ؟ قال :نعم.
وهكذا رواه مسلم [في فضائل] ( )12والنسائي من طرق عن يزيد بن حَيّان به (.)13
__________
( )1في ت ،أ " :عينيه".
( )2في ت ،أ " :امرئ مسلم".
( )3المسند (.)1/207
( )4في ت " :وروى البخاري بإسناده".
( )5صحيح البخاري برقم (.)3713
( )6في أ " :أحب إلي من أن أصل قرابتي".
( )7صحيح البخاري برقم (.)3712
( )8في ت ،أ " :وعمرو".
( )9في أ " :يزيد".
( )10في أ " :يزيد".
( )11في ت ،أ " :وال لقد كبرت".
( )12زيادة من ت ،م ،أ.
( )13المسند ( )4/366وصحيح مسلم برقم ( )2408والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)8175
( )7/202
وقال أبو عيسى الترمذي ( )1حدثنا علي بن المنذر الكوفي ،حدثنا محمد بن فضيل ،حدثنا
العمش ،عن عطية ،عن أبي سعيد -والعمش ،عن حبيب بن أبي ثابت ،عن زيد بن أرقم
-قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ،
أحدهما أعظم من الخر :كتاب ال حبل ممدود من ( )2السماء إلى الرض ،والخر عترتي :
أهل بيتي ،ولن يَ َتفَرّقا حتى يردا علي الحوض ،فانظروا كيف تخلفوني فيهما"
تفرد بروايته الترمذي ( )3ثم قال :هذا حديث حسن غريب.
وقال الترمذي أيضا ( )4حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ،حدثنا زيد بن الحسن ،عن جعفر
بن محمد ،عن أبيه ،عن جابر بن عبد ال ( )5قال :رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم في
حجته يوم عرفة ،وهو على ناقته القصواء يخطب ،فسمعته يقول " :يا أيها الناس ،إني تركت
فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا :كتاب ال ،وعترتي :أهل بيتي"
تفرد به الترمذي أيضا ( ، )6وقال :حسن غريب .وفي الباب عن أبي ذر ،وأبي سعيد ،وزيد
بن أرقم ،وحذيفة بن أسيد.
ثم قال الترمذي :حدثنا أبو داود سليمان بن الشعث ،حدثنا يحيى بن َمعِين ،حدثنا هشام بن
يوسف ،عن عبد ال بن سليمان النوفلي ،عن محمد بن علي بن عبد ال بن عباس ،عن أبيه ،
عن جده عبد ال بن عباس ( )7قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أحبوا ال لما يغذوكم
( )8من نعمه ،وأحبوني ( )9بحب ال ،وأحبوا أهل بيتي بحبي"
ثم قال ( )10حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه (.)11
وقد أوردنا أحاديث ُأخَر عند قوله تعالى { :إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيذْ ِهبَ عَ ْنكُمُ الرّجْسَ َأ ْهلَ الْبَ ْيتِ
طهِيرًا } [ الحزاب ، )12( ]33 :بما أغنى عن إعادتها هاهنا ،ول الحمد والمنة.
طهّ َركُمْ َت ْ
وَيُ َ
سعِيد ،حدثنا مفضل بن عبد ال ،عن أبي إسحاق ،عن
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا سويد بن َ
حَنَش قال :سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول :يا أيها الناس ،من عرفني فقد عرفني ،
ومن أنكرني فأنا أبو ذر ،سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إنما مثل أهل بيتي فيكم
مَثَل سفينة نوح ،
__________
( )1في ت " :وروى الترمذي".
( )2في ت " :بين".
( )3سنن الترمذي برقم (.)3788
( )4في ت " :وروى الترمذي".
( )5في ت " :عبد ال رضي ال عنه".
( )6سنن الترمذي برقم (.)3786
( )7قي ت " :وروى الترمذي أيضا عن ابن عباس".
( )8في ت " :يغدوكم به".
( )9في ت " :فأحبوني".
( )10في ت " :وقال".
( )11سنن الترمذي برقم (.)3789
( )12انظر تفسير الية 33 :من سورة لحزاب.
( )7/203
( )7/204
حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قال ( )1حدثنا عمر بن يونس ،حدثنا عكرمة بن عمار
،حدثنا إسحاق بن أبي طلحة ،حدثني أنس بن مالك -وهو عمه ( - )2قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ل أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه ،من أحدكم كان راحلته بأرض
فلة فانفلتت منه ،وعليها طعامه وشرابه ،فأيس منها ،فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ،قد أيس
من راحلته ،فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ،فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح :اللهم
أنت عبدي وأنا ربك -أخطأ من شدة الفرح" (.)3
وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد ال بن مسعود نحوه (.)5( )4
وقال عبد الرزاق ،عن معمر ،عن الزهري في قوله { :وَ ُهوَ الّذِي َيقْ َبلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ } :إن
أبا هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد
ضالته ( )6في المكان الذي يخاف أن يقتله العطش فيه" (.)7
وقال همام بن الحارث :سئل ابن مسعود عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال :ل بأس به
،وقرأ { :وَ ُهوَ الّذِي َيقْبَلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ } الية رواه ابن جرير ،وابن أبي حاتم من حديث
شريك القاضي ،عن إبراهيم بن مهاجر ،عن إبراهيم النخعي ،عن همام فذكره (.)8
وقوله { :وَ َي ْعفُو عَنِ السّيّئَاتِ } أي :يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي { ،
وَ َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ } أي :هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ،ومع هذا يتوب على من تاب
إليه.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } قال السدي :يعني يستجيب لهم .وكذا قال
وقوله { :وَيَسْ َتجِيبُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ابن جرير :معناه يستجيب الدعاء لهم ([ )9لنفسهم] ( )10ولصحابهم وإخوانهم .وحكاه عن
بعض النحاة ،وأنه جعلها كقوله { :فَاسْ َتجَابَ َلهُمْ رَ ّب ُهمْ } [آل عمران .]195 :
ثم روى هو وابن أبي حاتم ،من حديث العمش ،عن شقيق بن سلمة ،عن سلمة بن سبرة قال
:خطبنا معاذ بالشام فقال :أنتم المؤمنون ،وأنتم أهل الجنة .وال إني أرجو أن يدخل ال من
تسبون من فارس والروم الجنة ،وذلك بأن أحدكم إذا عمل له -يعني أحدُهم عمل -قال :
عمِلُوا
أحسنت رحمك ( )11ال ،أحسنت بارك ال فيك ،ثم قرأ { :وَيَسْ َتجِيبُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ت وَيَزِيدُ ُهمْ مِنْ َفضْلِهِ }
الصّالِحَا ِ
__________
( )1في أ " :قال".
( )2في ت " :عمه رضي ال عنه".
( )3صحيح مسلم برقم (.)2747
( )4في ت " :مثله".
( )5صحيح مسلم برقم (.)2744
( )6في ت " :راحلته".
( )7تفسير عبد الرزاق ( )2/156وقد روى متصل ،فرواه مسلم في صحيحه برقم ( )2675من
طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام ابن منبه عن أبي هريرة به.
( )8تفسير الطبري (.)25/18
( )9في ت ،م " :لهم الدعاء".
( )10زيادة من ت ،م.
( )11في ت ،م ،أ " :يرحمك".
( )7/205
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل ([ )1مثل] ( )2قوله { :وَيَسْتَجِيبُ الّذِينَ
آمَنُوا } كقوله { :الّذِينَ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْل َق ْولَ } [الزمر ]18 :أي :هم الذين يستجيبون للحق
س َمعُونَ وَا ْل َموْتَى يَ ْبعَ ُث ُهمُ اللّهُ } [النعام :
ويتبعونه ،كقوله تبارك وتعالى { :إِ ّنمَا يَسْ َتجِيبُ الّذِينَ يَ ْ
]36والمعنى الول أظهر ؛ لقوله ( )3تعالى { :وَيَزِيدُهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } أي :يستجيب دعاءهم
ويزيدهم فوق ذلك ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا محمد بن المصفى ،حدثنا بقية ،حدثنا إسماعيل بن عبد ال
الكندي ،حدثنا العمش ،عن شقيق عن عبد ال ( )4قال :قال :رسول ال صلى ال عليه وسلم
في قوله { :وَيَزِي ُدهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } قال " :الشفاعة لمن وجبت له النار ،ممن صنع إليهم معروفا (
)5في الدنيا" (.)6
عمِلُوا
وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله تعالى { :وَيَسْ َتجِيبُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
الصّالِحَاتِ } قال :يشفعون في إخوانهم { ،وَيَزِيدُ ُهمْ مِنْ َفضْلِهِ } قال :يشفعون في إخوان
إخوانهم.
عذَابٌ شَدِيدٌ } لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ،ذكر
وقوله { :وَا ْلكَافِرُونَ َلهُمْ َ
الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
سطَ اللّهُ الرّزْقَ ِلعِبَا ِدهِ لَ َب َغوْا فِي ال ْرضِ } أي :لو أعطاهم فوق حاجتهم من
وقوله { :وََلوْ بَ َ
الرزق ،لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض ،أشرا وبطرا.
وقال قتادة :كان يقال :خير العيش ما ل يلهيك ول يطغيك .وذكر قتادة حديث " :إنما أخاف
عليكم ما يخرج ال من زهرة الحياة الدنيا" وسؤال السائل :أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث.
وقوله { :وََلكِنْ يُنزلُ ِبقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنّهُ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرٌ َبصِيرٌ } أي :ولكن يرزقهم من الرزق ما
يختاره مما فيه صلحهم ،وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ،ويفقر من يستحق الفقر .كما
جاء في الحديث المروي " :إن من عبادي لمن ( )7ل يصلحه إل الغنى ،ولو أفقرته لفسدت
عليه دينه ،وإن من عبادي لمن ل يصلحه إل الفقر ،ولو أغنيته لفسدت عليه دينه"
وقوله { :وَ ُهوَ الّذِي يُنزلُ ا ْلغَ ْيثَ مِنْ َبعْدِ مَا قَنَطُوا } أي :من بعد إياس الناس من نزول المطر ،
ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه ،كقوله { :وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنزلَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ قَبِْلهِ
َلمُبْلِسِينَ } [الروم .]49 :
حمَتَهُ } أي :يعم بها الوجود على أهل ذلك القُطْر وتلك الناحية.
وقوله { :وَيَنْشُرُ َر ْ
__________
( )1في ت ،م " :جعله".
( )2زيادة من ت ،أ.
( )3في ت " :كقوله".
( )4في ت " :روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد ال".
( )5في أ " :المعروف".
( )6ورواه أبي عاصم في السنة برقم ( )846من طريق محمد بن مصفى عن بقية به ،وفي
إسيناده إسماعيل الكندي .قال الذهبي في الميزان (" : )1/235عن العمش ،وعنه بقية ،بخبر
عجيب منكر".
( )7في ت " :من".
( )7/206
قال قتادة :ذكر لنا أن رجل قال لعمر بن الخطاب :يا أمير المؤمنين ،قُحط المطر وقنط
الناس ؟ فقال عمر ،رضي ال عنه :مطرتم ،ثم قرأ { :وَ ُهوَ الّذِي يُنزلُ ا ْلغَ ْيثَ مِنْ َبعْدِ مَا
حمَتَهُ } (.)1
قَنَطُوا وَيَنْشُرُ َر ْ
حمِيدُ } أي :هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ،وهو المحمود
{ وَ ُهوَ ا ْلوَِليّ الْ َ
العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
ج ْم ِعهِمْ إِذَا َيشَاءُ َقدِيرٌ ()29
ت وَال ْرضِ َومَا َبثّ فِي ِهمَا مِنْ دَابّةٍ وَ ُهوَ عَلَى َ
س َموَا ِ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ خَ ْلقُ ال ّ
َومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِيكُمْ وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (َ )30ومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي ال ْرضِ
ن وَِليّ وَل َنصِيرٍ (} )31
َومَا َل ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ
س َموَاتِ
يقول تعالى َ { :ومِنْ آيَاتِهِ } :الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر { خَلْقُ ال ّ
ض َومَا َبثّ فِي ِهمَا } أي :ذرأ فيهما ،أي :في السموات والرض { ،مِنْ دَابّةٍ } وهذا
وَالرْ ِ
يشمل الملئكة والجن والنس وسائر الحيوانات ،على اختلف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم ،
وطباعهم وأجناسهم ،وأنواعهم ،وقد فرقهم في أرجاء أقطار الرض والسموات { ،وهو } مع
ج ْم ِعهِمْ ِإذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } أي :يوم القيامة يجمع الولين والخرين وسائر الخلئق
هذا كله { عَلَى َ
في صعيد واحد ،يسمعهم الداعي ،وينفذهم البصر ،فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِيكُمْ } أي :مهما أصابكم أيها الناس من
المصائب فإنما هو ( )2عن سيئات تقدمت لكم { وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي :من السيئات ،فل
ظهْ ِرهَا مِنْ دَابّةٍ }
خذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا مَا تَ َركَ عَلَى َ
يجازيكم عليها بل يعفو عنها { ،وََلوْ ُيؤَا ِ
[ فاطر ] 45 :وفي الحديث الصحيح " :والذي نفسي بيده ،ما يصيب المؤمن من نصب ول
َوصَب ول هم ول حُزَن ،إل كفر ال عنه بها من خطاياه ،حتى الشوكة ( )3يشاكها" (.)4
وقال ابن جرير :حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُليّة ،حدثنا أيوب قال :قرأت في كتاب
أبي قِلبَةَ قال :نزلت َ { :فمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرًا يَ َر ُه َومَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }
[الزلزلة ]8 ، 7 :وأبو بكر يأكل ،فأمسك وقال :يا رسول ال ،إني لراء ما عملت من خير
وشر ؟ فقال " :أرأيت ما رأيت مما تكره ،فهو من مثاقيل ذَرّ الشر ،وتدخر مثاقيل الخير حتى
تعطاه يوم القيامة" قال :قال أبو إدريس :فإني أرى مصداقها في كتاب ال َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ
ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِيكُمْ وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (.)5
ثم رواه من وجه آخر ،عن أبي قِلبَةَ ،عن أنس ( ، )6قال :والول أصح.
__________
( )1رواه الطبري في تفسيره (.)25/19
( )2في ت ،أ " :هي".
( )3في ت ،أ " :بالشوكة".
( )4صحيح البخاري برقم ( )5642 ، 5641وصحيح مسلم برقم (" )2573من حديث أبي سعيد
الخدري وأبي هريرة رضي ال عنهما".
( )5تفسير الطبري (.)25/20
( )6تفسير الطبري (.)25/21
( )7/207
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ،حدثنا مروان بن معاوية
خضْر بن ال َقوّاس البجلي ،عن أبي سخيلة ()1
الفَزَاري ،حدثنا الزهر بن راشد الكاهلي ،عن ال َ
عن علي ،رضي ال عنه قال :أل أخبركم بأفضل آية في كتاب ال عز وجل ،وحدثنا به
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي ُك ْم وَ َيعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ } .وسأفسرها لك يا علي " :ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلء في الدنيا ،فبما كسبت
أيديكم ( )2وال تعالى أحلم من أن يُثَنّى عليه العقوبة في الخرة ،وما عفا ال عنه في الدنيا فال
( )3تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه"
سخَيلة قال :قال علي ...فذكر
وكذا رواه المام أحمد ،عن مروان بن معاوية وعَبْدة ،عن أبي ُ
نحوه مرفوعا (.)4
ثم روى ابن أبي حاتم [نحوه] ( )5من وجه آخر موقوفا فقال :حدثنا أبي ،حدثنا منصور بن أبي
جحَيفَة قال :دخلت على
مزاحم ،حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح ،عن أبي الحسن ،عن أبي ُ
علي بن أبي طالب ،رضي ال عنه ،فقال :أل أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يَعيَه ( )6؟
قال :فسألناه فتل ( )7هذه الية َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي ُك ْم وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }
قال :ما عاقب ال به في الدنيا فال أحلم من أن يُثَنّي عليه العقوبة يوم القيامة ،وما عفا ال عنه
في الدنيا فال أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة.
وقال ( )8المام أحمد :حدثنا يعلى بن عبيد ،حدثنا طلحة -يعني ابن يحيى -عن أبي بُرْ َدةَ ،
عن معاوية -هو ابن أبي سفيان ،رضي ال عنهما ،قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إل َكفّرَ ال عنه به من سيئاته" (.)9
وقال أحمد أيضا :حدثنا حسين ،عن زائدة ،عن ليث ،عن مجاهد ( ، )10عن عائشة قالت :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا كثرت ذنوب العبد ،ولم يكن له ما يكفرها ،ابتله ال
بالحَزَنِ ليكفرها" (.)11
وقال ( )12ابن أبي حاتم :حدثنا عمرو بن عبد ال الودي ،حدثنا أبو أسامة ،عن إسماعيل بن
مسلم ،عن الحسن -هو البصري -قال في قوله َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا َكسَ َبتْ أَيْدِيكُمْ
وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال :لما نزلت قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :والذي نفس محمد بيده ،
خدْش عود ،ول اختلج عرق ،ول عَثْرة قدم ،إل بذنب وما يعفو ال عنه أكثر" (.)13
ما من َ
وقال ( )14أيضا :حدثنا أبي ،حدثنا عمر بن علي ،حدثنا هُشَيمْ ،عن منصور ،عن الحسن ،
عن
__________
( )1في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
( )2في أ " :أيديكم ويعفو عن كثير".
( )3في ت " :وال".
( )4المسند (.)1/85
( )5زيادة من أ.
( )6في أ " :يصيبه".
( )7في ت " :قبل".
( )8في ت " :وروى".
( )9المسند ( )4/98قال الهيثمي في المجمع (" : )3/301رجال أحمد رجال الصحيح".
( )10في ت ،م " :عن مجاهد ،وروى أيضا".
( )11المسند (.)6/157
( )12في ت " :وروى".
( )13ورواه هناد بن السري في الزهد برقم ( )431من طريق إسماعيل بن مسلم به مرسل.
( )14في ت " :وروى".
( )7/208
عمران بن حصين ،رضي ال عنه ،قال :دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده ،
فقال له بعضهم إنا لَنَبْتَئِسُ لك لما نرى فيك .قال :فل تبتئس بما ترى ،فإن ما ترى بذنب ،وما
يعفو ال عنه أكثر ،ثم تل هذه الية َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي ُك ْم وَ َيعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ }
[قال )1( ] :وحدثنا أبي :حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّاني ،حدثنا جرير عن أبي البلد ()2
قال :قلت للعلء بن بدر َ { :ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِيكُمْ } ،وقد ذهب بصري وأنا
غلم ؟ قال :فبذنوب والديك.
وحدثنا أبي :حدثنا علي بن محمد الطّنَافسي ،حدثنا وكيع ،عن عبد العزيز بن أبي راود ،عن
الضحاك ( )3قال :ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه ( )4إل بذنب ،ثم قرأ الضحاك َ { :ومَا
َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي ُك ْم وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .ثم يقول الضحاك :وأي مصيبة أعظم
من نسيان القرآن.
__________
( )1زيادة من ت ،أ.
( )2في أ " :أبي العل".
( )3في ت " :وروى أيضا عن الضحاك".
( )4في أ " :سيبه".
( )7/209
ظهْ ِرهِ إِنّ فِي
سكِنِ الرّيحَ فَ َيظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَى َ
جوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( )32إِنْ يَشَأْ يُ ْ
َومِنْ آَيَاتِهِ ا ْل َ
شكُورٍ (َ )33أوْ يُوبِ ْقهُنّ ِبمَا كَسَبُوا وَ َي ْعفُ عَنْ كَثِيرٍ ( )34وَ َيعْلَمَ الّذِينَ
ل صَبّارٍ َ
ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل ُك ّ
يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا َلهُمْ مِنْ َمحِيصٍ ()35
( )7/209
شيْءٍ َفمَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى لِلّذِينَ َآمَنُوا وَعَلَى رَ ّب ِهمْ يَ َت َوكّلُونَ (
َفمَا أُوتِيتُمْ مِنْ َ
غضِبُوا هُمْ َي ْغفِرُونَ ( )37وَالّذِينَ اسْ َتجَابُوا
ش وَإِذَا مَا َ
)36وَالّذِينَ َيجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْ ِم وَا ْل َفوَاحِ َ
لِرَ ّبهِ ْم وََأقَامُوا الصّلَا َة وََأمْرُهُمْ شُورَى بَيْ َنهُمْ َومِمّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْنفِقُونَ ( )38وَالّذِينَ ِإذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ
هُمْ يَنْ َتصِرُونَ ()39
وهذا القول هو يتضمن هلكها ،وهو مناسب للول ( ، )1وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح
فوقفت ،أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت .ولكن من لطفه ( )2ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة ،
كما يرسل المطر بقدر الكفاية ،ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان ،أو قليل لما أنبت الزرع ()3
والثمار ،حتى إنه يرسل إلى مثل بلد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها ( )4؛ لنهم ل
يحتاجون إلى مطر ،ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم ،وأسقط جدرانهم.
وقوله { :وَ َيعْلَمَ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا َل ُهمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي :ل محيد لهم عن بأسنا
ونقمتنا ،فإنهم مقهورون بقدرتنا.
شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ
{ َفمَا أُوتِيتُمْ مِنْ َ
غضِبُوا هُمْ َيغْفِرُونَ ( )37وَالّذِينَ اسْتَجَابُوا
ش وَإِذَا مَا َ
ح َ
( )36وَالّذِينَ َيجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الثْ ِم وَا ْلفَوَا ِ
لِرَ ّبهِ ْم وََأقَامُوا الصّلةَ وََأمْرُهُمْ شُورَى بَيْ َنهُ ْم َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ ( )38وَالّذِينَ إِذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ
هُمْ يَنْ َتصِرُونَ (} )39
يقول تعالى محقرا بشأن الحياة الدنيا وزينتها ،وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني ،بقوله َ { :فمَا
شيْءٍ َفمَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } أي :مهما حصلتم وجمعتم فل تغتروا به ،فإنما هو متاع
أُوتِيتُمْ مِنْ َ
الحياة الدنيا ،وهي دار دنيئة فانية زائلة ل محالة َ { ،ومَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي :وثواب ال
خير من الدنيا ،وهو باق سرمدي ،فل تقدموا الفاني على الباقي ؛ ولهذا قال { :لِلّذِينَ آمَنُوا }
أي :للذين صبروا على ترك الملذ في الدنيا { ،وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } أي :ليعينهم على
الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم قال { :وَالّذِينَ َيجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ال ْث ِم وَا ْلفَوَاحِشَ } وقد قدمنا الكلم على الثم والفواحش في
غضِبُوا هُمْ َي ْغفِرُونَ } أي :سجيتهم [وخلقهم وطبعهم] ( )5تقتضي
"سورة العراف" { وَإِذَا مَا َ
الصفح والعفو عن الناس ،ليس سجيتهم النتقام من الناس.
وقد ثبت في الصحيح :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط ،إل أن تنتهك
حرمات ال ( )6وفي حديث آخر " :كان يقول لحدنا ( )7عند المعتبة :ما له ؟ تربت جبينه" (
.)8
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي عمر ،حدثنا سفيان ،عن زائدة ،عن منصور (
، )9عن إبراهيم قال :كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا ،وكانوا إذا قدروا عفوا.
__________
( )1في ت ،أ " :للقول الول".
( )2في أ " :لطف ال".
( )3في ت ،م " :الزروع".
( )4في أ " :عليها".
( )5زيادة من أ.
( )6رواه البخاري في صحيحه برقم ( )6126من حديث عائشة بلفظ " :وما انتقم رسول ال
صلى ال عليه وسلم لنفسه في شيء قط ،إل أن تنتهك حرمة ال ،فينتقم بها ال".
( )7في أ " :للرجل".
( )8رواه البخاري في صحيحه برقم ( )6031من حديث أنس بن مالك رضي ال عنه.
( )9في ت " :وروى ابن أبي حاتم بسنده".
( )7/210
وقوله { :وَالّذِينَ اسْ َتجَابُوا لِرَ ّبهِمْ } أي :اتبعوا رسله وأطاعوا أمره ،واجتنبوا زجره { ،وََأقَامُوا
الصّلةَ } وهي أعظم العبادات ل عز وجل { ،وََأمْرُهُمْ شُورَى بَيْ َنهُمْ } أي :ل يبرمون أمرا حتى
يتشاوروا ( )1فيه ،ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها ،كما قال تعالى :
{ وَشَاوِرْ ُهمْ فِي المْرِ فَإِذَا عَ َز ْمتَ فَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ } [آل عمران ]159 :ولهذا كان عليه [الصلة]
( )2السلم ،يشاورهم في الحروب ونحوها ،ليطيب بذلك قلوبهم .وهكذا لما حضرت عمر بن
الخطاب [رضي ال عنه] ( )3الوفاة حين طعن ،جعل المر بعده شورى في ستة نفر ،وهم :
عثمان ،وعلي ،وطلحة ،والزبير ،وسعد ،وعبد الرحمن بن عوف ،رضي ال عنهم
أجمعين ،فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم ،رضي ال عنهم َ { ،و ِممّا
رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْن ِفقُونَ } وذلك بالحسان إلى خلق ال ،القرب إليهم منهم فالقرب.
وقوله { :وَالّذِينَ إِذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ هُمْ يَنْ َتصِرُونَ } أي :فيهم قوة النتصار ممن ظلمهم واعتدى
عليهم ،ليسوا بعاجزين ول أذلة ،بل يقدرون على النتقام ممن بغى عليهم ،وإن كانوا مع هذا
علَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ َي ْغفِرُ اللّهُ َلكُمْ
إذا قدروا وعفوا ،كما قال يوسف ،عليه السلم ،لخوته { :ل تَثْرِيبَ َ
حمِينَ] ([ } )4يوسف ، ]92 :مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم
حمُ الرّا ِ
[وَ ُهوَ أَرْ َ
إليه ،وكما عفا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام
الحديبية ،ونزلوا من جبل التنعيم ،فلما قدر عليهم مَنّ عليهم ( )5مع قدرته على النتقام ،وكذلك
غوْرَث بن الحارث ،الذي أراد الفتك به [عليه السلم] ( )6حين اخترط سيفه وهو
عفوه عن َ
نائم ،فاستيقظ ،عليه السلم ،وهو في يده صَلْتا ،فانتهره فوضعه من يده ،وأخذ رسول ال
صلى ال عليه وسلم السيف من يده ،ودعا أصحابه ،ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا
الرجل ،وعفا عنه .وكذلك عفا عن لبيد بن العصم ( ، )7الذي سحره ،عليه السلم ،ومع هذا
لم يعرض له ،ول عاتبه ،مع قدرته عليه .وكذلك عفوه ،عليه السلم ،عن المرأة اليهودية -
وهي زينب أخت ( )8مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة -التي سمت الذراع
يوم خيبر ،فأخبره الذراع بذلك ،فدعاها فاعترفت فقال " :ما حملك على ذلك" قالت :أردت إن
كنت نبيا لم يضرك ،وإن لم تكن نبيا استرحنا منك ،فأطلقها ،عليه الصلة والسلم ،ولكن لما
مات منه بشر بن البراء قتلها به ،والحاديث والثار في هذا كثيرة جدا ،والحمد ل (.)9
حبّ الظّاِلمِينَ ( )40وََلمَنِ
علَى اللّهِ إِنّهُ ل ُي ِ
عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ َ
{ وَجَزَاءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ مِثُْلهَا َفمَنْ َ
س وَيَ ْبغُونَ
انْ َتصَرَ َبعْدَ ظُ ْلمِهِ فَأُولَ ِئكَ مَا عَلَ ْيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ( )41إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ َيظِْلمُونَ النّا َ
غفَرَ إِنّ َذِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم المُورِ (
فِي ال ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( )42وََلمَنْ صَبَرَ وَ َ
} )43
علَ ْيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَ ْيهِ ِبمِ ْثلِ مَا
قوله تعالى { :وَجَزَاءُ سَيّ َئةٍ سَيّئَةٌ مِثُْلهَا } كقوله تعالى َ { :فمَنِ اعْتَدَى َ
اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ } [البقرة ]194 :
__________
( )1في أ " :يشاورون".
( )2زيادة من ت.
( )3زيادة من ت.
( )4زيادة من أ.
( )5في ت ،م ،أ " :عنهم".
( )6زيادة من ت.
( )7في ت " :أعصم".
( )8في ت ،م " :بنت".
( )9في أ " :ول الحمد والمنة".
( )7/211
( )7/212
النسائي (.)1
وقال البزار :حدثنا يوسف بن موسى ،حدثنا أبو غسان ،حدثنا أبو الحوص عن أبي حمزة ،
عن إبراهيم ،عن السود ( ، )2عن عائشة ،رضي ال عنها ،قالت :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :من دعا على من ظلمه فقد انتصر".
ورواه الترمذي من حديث أبي الحوص ،عن أبي حمزة -واسمه ميمون -ثم قال " :ل نعرفه
إل من حديثه ،وقد تكلم فيه من قبل حفظه" (.)3
س وَيَ ْبغُونَ فِي ال ْرضِ
ظِلمُونَ النّا َ
وقوله { :إِ ّنمَا السّبِيلُ } أي :إنما الحرج والعنت { عَلَى الّذِينَ يَ ْ
حقّ } أي :يبدؤون الناس بالظلم .كما جاء في الحديث الصحيح " :المستبان ما قال فعلى
ِبغَيْرِ الْ َ
البادئ ما لم َيعْتَد المظلوم".
{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي :شديد موجع.
قال أبو بكر بن أبي شيبة :حدثنا الحسن بن موسى ،حدثنا سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد -
حدثنا عثمان الشحام ،حدثنا ( )4محمد بن واسع قال :قدمت مكة فإذا على الخندق مَ ْنظَرَة ،
فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب ،وهو أمير على البصرة ،فقال :حاجتك يا أبا عبد
ال .قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي .قال :ومن أخو بني عدي ؟ قال :
العلء بن زياد ،استعمل صديقا له مرة على عمل ،فكتب إليه :أما بعد فإن استطعت أل تبيت
إل وظهرك خفيف ،وبطنك خميص ،وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم ،فإنك إذا فعلت (
س وَيَ ْبغُونَ فِي ال ْرضِ ِبغَيْرِ
)5ذلك لم يكن عليك سبيل { ،إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ َيظِْلمُونَ النّا َ
عذَابٌ أَلِيمٌ } فقال ( )6صدق وال ونصح ثم قال :ما حاجتك يا أبا عبد ال ؟ قلت
حقّ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َ
الْ َ
:حاجتي أن تلحقني بأهلي .قال :نعم رواه ابن أبي حاتم (.)7
ن صَبَرَ
ثم إنه تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص ،قال نادبا إلى العفو والصفح { :وََلمَ ْ
وَغَفَرَ } أي :صبر على الذى وستر السيئة { ،إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم المُورِ }
قال سعيد بن جبير [ :يعني] ( )8لمن حق المور التي أمر ال بها ،أي :لمن المور المشكورة
والفعال الحميدة ( )9التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي ،حدثنا عبد الصمد بن
يزيد -خادم الفضيل بن عياض -قال :سمعت ( )10الفضيل بن عياض يقول ( )11إذا أتاك
رجل
__________
( )1النسائي في السنن الكبرى برقم ( )11476وسنن ابن ماجه برقم ( )1981قال البوصيري في
الزوائد (" : )2/115هذا إسناد صحيح على شرط مسلم".
( )2في ت " :وروى البزار بسنده".
( )3سنن الترمذي برقم ( )3552ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ( )10/347وابن عدي في
الكامل ( )6/412من طريق أبي الحوص به ،وقال ابن عدي " :ل أعلم من يرويه عن أبي
حمزة غير أبي الحوص".
( )4في ت " :عن".
( )5في أ " :قبلت".
( )6في ت ،أ " :فقال مروان".
( )7المصنف لبن أبي شيبة (.)14/63
( )8زيادة من أ.
( )9في ت " :المحمودة".
( )10في ت " :وعن".
( )11في ت " :قال".
( )7/213
ن وَِليّ مِنْ َبعْ ِد ِه وَتَرَى الظّاِلمِينَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ َيقُولُونَ َهلْ إِلَى مَرَدّ مِنْ
َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِ ْ
سَبِيلٍ ()44
يشكو إليك رجل فقل " :يا أخي ،اعف عنه" .فإن العفو أقرب للتقوى ،فإن قال :ل يحتمل قلبي
العفو ،ولكن أنتصر كما أمرني ال ( )1عز وجل .فقل له ( )2إن كنت تحسن أن تنتصر وإل
فارجع إلى باب العفو ،فإنه باب واسع ،فإنه من عفا وأصلح فأجره على ال ،وصاحب العفو
ينام على فراشه بالليل ،وصاحب النتصار يقلب المور (.)3
عجْلن ،حدثنا سعيد بن أبي
وقال المام أحمد :حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد القطان -عن ابن َ
سعيد )4( ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه أن رجل شتم أبا بكر والنبي صلى ال عليه وسلم
جالس ،فجعل النبي صلى ال عليه وسلم يعجب ويتبسم ،فلما أكثر رد عليه بعض قوله ،فغضب
النبي صلى ال عليه وسلم وقام ،فلحقه أبو بكر فقال :يا رسول ال إنه كان يشتمني وأنت جالس
،فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال " :إنه كان معك ملك يرد عنك ،فلما رددت
عليه بعض قوله حضر ( )5الشيطان ،فلم أكن لقعد مع الشيطان" .ثم قال " :يا أبا بكر ،ثلث
كلهن حق ،ما من عبد ظُلم بمظلمة فيغضي عنها ل ،إل أعز ال بها َنصْرَه ،وما فتح رجل
باب عطية يريد بها صلة ،إل زاده ال بها كثرة ،وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة ،إل
زاده ال بها قلة"
وكذا رواه أبو داود ،عن عبد العلى بن حماد ،عن سفيان بن عيينة -قال :ورواه صفوان بن
عيسى ،كلهما عن محمد بن عَجْلن ( )6ورواه من طريق الليث ،عن سعيد ال َمقْبُرِي ،عن
بشير بن المحرر ،عن سعيد بن المسيب مرسل (.)7
وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى ،وهو سببُ سبه للصديق (.)8
ن وَِليّ مِنْ َب ْع ِد ِه وَتَرَى الظّاِلمِينَ َلمّا رََأوُا ا ْل َعذَابَ َيقُولُونَ َهلْ إِلَى مَرَدّ
{ َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِ ْ
مِنْ سَبِيلٍ (} )44
__________
( )1في ت " :ربي".
( )2في ت ،أ " :قال له الفضيل".
( )3بعدها " :رواه ابن أبي حاتم".
( )4في ت " :وروى المام أحمد بسنده".
( )5في ت ،م ،أ " :وقع".
( )6المسند ( )2/436وسنن أبي داود برقم (.)4897 ، 4896
( )7سنن أبي داود برقم (.)4897
( )8في ت ،أ " :وهذا الحديث في غاية الحسن وهو مناسب للصديق" ،وفي م " :وهذا الحديث
في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق".
( )7/214
( )7/214
اسْ َتجِيبُوا لِرَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا َلكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ َي ْومَئِ ٍذ َومَا َلكُمْ مِنْ َنكِيرٍ (
حمَةً
غ وَإِنّا إِذَا أَ َذقْنَا الْإِ ْنسَانَ مِنّا رَ ْ
علَ ْيكَ إِلّا الْبَلَا ُ
حفِيظًا إِنْ َ
)47فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ
فَرِحَ ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّ َئةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الْإِنْسَانَ َكفُورٌ ()48
الرجعة إلى الدنيا َ { ،يقُولُونَ َهلْ إِلَى مَرَدّ مِنْ سَبِيلٍ } ،كما قال [تعالى] ( { )1وََلوْ تَرَى إِذْ ُوقِفُوا
خفُونَ
عَلَى النّارِ َفقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَ ّد وَل ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َبلْ بَدَا َل ُهمْ مَا كَانُوا يُ ْ
مِنْ قَ ْبلُ وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَ ْن ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ } [النعام .]28 ، 27 :
شعِينَ مِنَ ال ّذلّ } أي :الذي قد اعتراهم
وقوله { :وَتَرَا ُهمْ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا } أي :على النار { خَا ِ
خ ِفيّ } قال مجاهد :يعني ذليل ،أي ينظرون
بما أسلفوا من عصيان ال { ،يَ ْنظُرُونَ مِنْ طَ ْرفٍ َ
إليها مُسَارقَة خوفا منها ،والذي يحذرون منه واقع بهم ل محالة ،وما هو أعظم مما في
نفوسهم ،أجارنا ال من ذلك.
{ َوقَالَ الّذِينَ آمَنُوا } أي :يقولون يوم القيامة { :إِنّ الْخَاسِرِينَ } أي :الخسار ( )2الكبر
سهُ ْم وَأَهْلِيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } أي :ذهب بهم إلى ( )3النار فعدموا لذتهم في دار
{ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ
البد ،وخسروا أنفسهم ،وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم )4( ،
عذَابٍ ُمقِيمٍ } أي :دائم سرمدي أبدي ،ل خروج لهم منها ول
فخسروهم { ،أَل إِنّ الظّاِلمِينَ فِي َ
محيد لهم عنها.
وقوله َ { :ومَا كَانَ َلهُمْ مِنْ َأوْلِيَاءَ يَ ْنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ } أي :ينقذونهم مما هم فيه من العذاب
والنكال َ { ،ومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ } أي :ليس له خلص.
{ اسْتَجِيبُوا لِرَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا َلكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ َي ْومَئِ ٍذ َومَا َلكُمْ مِنْ َنكِيرٍ
حمَةً
علَ ْيكَ إِل الْبَلغُ وَإِنّا ِإذَا أَ َذقْنَا النْسَانَ مِنّا رَ ْ
حفِيظًا إِنْ َ
( )47فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ
فَرِحَ ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّ َئةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ النْسَانَ َكفُورٌ (} )48
حذّر منه وأمر
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الهوال والمور العظام الهائلة َ
بالستعداد له ،فقال { :اسْتَجِيبُوا لِرَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْ ٌم ل مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ } أي :إذا أمر
بكونه فإنه كلمح البصر يكون ،وليس له دافع ول مانع.
وقوله { :مَا َل ُكمْ مِنْ مَلْجَإٍ َي ْومَئِ ٍذ َومَا َلكُمْ مِنْ َنكِيرٍ } أي :ليس لكم حصن تتحصنون فيه ،ول
مكان يستركم وتتنكرون فيه ،فتغيبون عن بصره ،تبارك وتعالى ،بل هو محيط بكم بعلمه
وبصره وقدرته ،فل ملجأ منه إل إليه َ { ،يقُولُ النْسَانُ َي ْومَئِذٍ أَيْنَ ا ْلمَفَرّ .كَل ل وَزَرَ إِلَى رَ ّبكَ
َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ } [القيامة .]12 - 10 :
حفِيظًا } أي :لست عليهم
وقوله { :فَإِنْ أَعْ َرضُوا } يعني :المشركين { َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ
بمصيطر .وقال تعالى { :لَيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ } [البقرة ، ]272 :وقال
حسَابُ } [الرعد ]40 :وقال هاهنا { :إِنْ عَلَ ْيكَ إِل الْبَلغُ }
غ وَعَلَيْنَا الْ ِ
تعالى { :فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ
أي :إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة ال إليهم.
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في أ " :الخاسر".
( )3في ت " :في".
( )4في ت " :وأقربائهم".
( )7/215
خلُقُ مَا َيشَاءُ َي َهبُ ِلمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَ َي َهبُ ِلمَنْ َيشَاءُ ال ّذكُورَ (َ )49أوْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ يَ ْ
لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
علِيمٌ قَدِيرٌ ()50
عقِيمًا إِنّهُ َ
ج َعلُ مَنْ يَشَاءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَ ْ
يُ َزوّ ُ
( )7/216
( )7/217
جعَلْنَاهُ نُورًا
{ َوكَذَِلكَ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا مَا كُ ْنتَ تَدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَل اليمَانُ وََلكِنْ َ
َنهْدِي بِهِ مَنْ َنشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ ( )52صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي
س َموَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ أَل ِإلَى اللّهِ َتصِي ُر المُورُ (} )53
ال ّ
هذه مقامات ( )1الوحي بالنسبة إلى جناب ال ،عز وجل ،وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع
النبي صلى ال عليه وسلم شيئا ل يتمارى فيه أنه من ال عز وجل ،كما جاء في صحيح ابن
حبان ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي :أن نفسا
لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ،فاتقوا ال وأجملوا في الطلب" (.)2
ن وَرَاءِ حِجَابٍ } كما كلم موسى ،عليه السلم ،فإنه سأل الرؤية بعد التكليم ،
وقوله َ { :أوْ مِ ْ
فحجب عنها.
وفي الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لجابر بن عبد ال " :ما كلم ال أحدا إل من
وراء حجاب ،وإنه كلم أباك كفاحا" الحديث ( ، )3وكان [أبوه] ( )4قد قتل يوم أحد ،ولكن هذا
في عالم البرزخ ،والية إنما هي في الدار ( )5الدنيا.
حيَ بِإِذْ ِنهِ مَا يَشَاءُ } كما ينزل جبريل [عليه السلم] ( )6وغيره من
سلَ َرسُول فَيُو ِ
وقوله َ { :أوْ يُرْ ِ
حكِيمٌ } ،فهو علي عليم خبير حكيم.
الملئكة على النبياء ،عليهم السلم { ،إِنّهُ عَِليّ َ
وقوله (َ { )7وكَذَِلكَ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } يعني :القرآن { ،مَا كُ ْنتَ َتدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَل
جعَلْنَاهُ } أي :القرآن { نُورًا
اليمَانُ } أي :على التفصيل الذي شرع لك في القرآن { ،وََلكِنْ َ
شفَا ٌء وَالّذِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ فِي
َنهْدِي بِهِ مَنْ َنشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } ،كقوله ُ { :قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ ِ
عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } [فصلت .]44 :
آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ َ
وقوله { :وَإِ ّنكَ } [أي] ( )8يا محمد { لَ َت ْهدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } ،وهو الخلق ( )9القويم .ثم
فسره بقوله { :صِرَاطِ اللّهِ [الّذِي] } ( )10أي :شرعه الذي أمر به ال { ،الّذِي لَهُ مَا فِي
س َموَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ } أي :ربهما ومالكهما ،والمتصرف فيهما ،الحاكم الذي ل معقب
ال ّ
لحكمه { ،أَل إِلَى اللّهِ َتصِيرُ المُورُ } ،أي :ترجع المور ،فيفصلها ويحكم فيها.
آخر تفسير سورة "[حم] ( )11الشورى" والحمد ل رب العالمين.
__________
( )1في ت " :مقدمات".
( )2ورواه البغوي في شرح السنة ( )14/304من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي
عمن أخبره عن ابن مسعود به.
( )3رواه الترمذي في السنن برقم ( )3010وقال " :هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
( )4زيادة من ت ،أ.
( )5في ت " :دار".
( )6زيادة من م.
( )7في ت " :فقوله".
( )8زيادة من م.
( )9في ت ،م ،أ " :الحق".
( )10زيادة من أ.
( )11زيادة من أ.
( )7/217
جعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيّا َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ ( )3وَإِنّهُ فِي أُمّ ا ْلكِتَابِ َلدَيْنَا َلعَِليّ
حم ( )1وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ ( )2إِنّا َ
صفْحًا أَنْ كُنْتُمْ َق ْومًا مُسْ ِرفِينَ (َ )5وكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَ ِبيّ فِي الَْأوّلِينَ
حكِيمٌ (َ )4أفَ َنضْ ِربُ عَ ْنكُمُ ال ّذكْ َر َ
َ
طشًا َو َمضَى مَ َثلُ الَْأوّلِينَ (
(َ )6ومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ ( )7فَأَ ْهَلكْنَا أَشَدّ مِ ْنهُمْ بَ ْ
)8
أوائل ( )1هذه المة لهلكوا ،ولكن ال عاد بعائدته ورحمته ،وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين
سنة ،أو ما شاء ال من ذلك.
وقول قتادة لطيف المعنى جدا ،وحاصله أنه يقول في معناه :أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه
ل يترك دعاءهم إلى الخير والذكر ( )2الحكيم -وهو القرآن -وإن كانوا مسرفين معرضين
عنه ،بل أمر ( )3به ليهتدي من قَدّر هدايته ،وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال تعالى -مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه ،وآمرا له بالصبر عليهم َ { : -وكَمْ
أَرْسَلْنَا مِنْ نَ ِبيّ فِي الوّلِينَ } أي :في شيع الولين َ { ،ومَا يَأْتِي ِهمْ مِنْ نَ ِبيّ إِل كَانُوا ِبهِ
يَسْ َتهْزِئُونَ } أي :يكذبونه ويسخرون به.
طشًا } أي :فأهلكنا المكذبين بالرسل ،وقد كانوا أشد بطشا من
وقوله { :فَأَهَْلكْنَا أَشَدّ مِ ْن ُهمْ بَ ْ
هؤلء المكذبين لك يا محمد .كقوله َ { :أفََلمْ يَسِيرُوا فِي ال ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ
شدّ ُق ّوةً } [غافر ]82 :واليات في ذلك كثيرة.
مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأكْثَرَ مِ ْنهُ ْم وَأَ َ
ل الوّلِينَ } قال مجاهد :سنتهم .وقال قتادة :عقوبتهم .وقال غيرهما :
وقوله َ { :و َمضَى مَ َث ُ
عبرتهم ،أي :جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ،كقوله في آخر
جعَلْنَاهُمْ سََلفًا َومَثَل لِلخِرِينَ } [الزخرف .]56 :وكقوله { :سُ ّنتَ اللّهِ الّتِي َقدْ
هذه السورة َ { :ف َ
جدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَ ْبدِيل } [الحزاب .]62 :
خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ } [غافر ]85 :وقال { :وَلَنْ تَ ِ
ج َعلَ َلكُمُ
خَلقَهُنّ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ ( )9الّذِي َ
س َموَاتِ وَال ْرضَ لَ َيقُولُنّ َ
{ وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خَلَقَ ال ّ
ج َعلَ َلكُمْ فِيهَا سُبُل َلعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ (} )10
ال ْرضَ َمهْدًا وَ َ
__________
( )1في ت " :أول".
( )2في ت ،م ،أ " :إلى الخير وإلى الذكر".
( )3في ت ،م " :يأمر".
( )7/219
سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا ِبهِ بَلْ َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ تُخْ َرجُونَ ( )11وَالّذِي خَلَقَ الْأَ ْزوَاجَ
وَالّذِي نَ ّزلَ مِنَ ال ّ
ظهُو ِرهِ ثُمّ َت ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ ِإذَا
ك وَالْأَ ْنعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ ( )12لِتَسْ َتوُوا عَلَى ُ
ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلفُ ْل ِ
كُّلهَا وَ َ
اسْ َتوَيْتُمْ عَلَ ْي ِه وَ َتقُولُوا سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ ( )13وَإِنّا إِلَى رَبّنَا َلمُ ْنقَلِبُونَ (
)14
سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْ َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ُتخْرَجُونَ ( )11وَالّذِي خََلقَ ال ْزوَاجَ
{ وَالّذِي نزلَ مِنَ ال ّ
ظهُو ِرهِ ُثمّ تَ ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ إِذَا
ك وَالنْعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ ( )12لِ َتسْ َتوُوا عَلَى ُ
ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلفُ ْل ِ
كُّلهَا وَ َ
اسْ َتوَيْتُمْ عَلَ ْي ِه وَ َتقُولُوا سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ ( )13وَإِنّا إِلَى رَبّنَا َلمُ ْنقَلِبُونَ (
} )14
يقول تعالى :ولئن سألت -يا محمد -هؤلء المشركين بال العابدين معه غيره { :مَنْ خََلقَ
س َموَاتِ وَال ْرضَ لَ َيقُولُنّ خََل َقهُنّ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ } أي :ليعترفن بأن الخالق لذلك هو ال [تعالى] (
ال ّ
)1وحده ل شريك له ،وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الصنام والنداد.
ج َعلَ َلكُمُ ال ْرضَ َمهْدًا } أي :فراشًا قرارًا ثابتة ،يسيرون عليها ويقومون
ثم قال { :الّذِي َ
وينامون وينصرفون ،مع أنها مخلوقة على تيار الماء ،لكنه أرساها بالجبال لئل تميد هكذا ول
ج َعلَ َلكُمْ فِيهَا سُبُل } أي :طرقا بين الجبال والودية { َلعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ } أي :في
هكذا { ،وَ َ
سيركم من بلد إلى بلد ،
__________
( )1زيادة من أ.
( )7/219
( )7/220
وهكذا رواه أبو داود ،والترمذي ،والنسائي ،من حديث أبي الحوص -زاد النسائي :
ومنصور -عن أبي إسحاق السّبِيعي ،عن علي بن ربيعة السدي الوالبي ،به ( .)2( )1وقال
الترمذي :حسن صحيح.
وقد قال عبد الرحمن بن َمهْ ِديّ ،عن شعبة :قلت لبي إسحاق السّبِيعي :ممن سمعت هذا
الحديث ؟ قال :من يونس بن خباب .فلقيت يونس بن خباب فقلت :ممن سمعته ؟ فقال :من
رجل سمعه من علي بن ربيعة .ورواه بعضهم عن يونس بن خباب ،عن شقيق بن عقبة السدي
،عن علي بن ربيعة الوالبي ،به)3( .
حديث عبد ال بن عباس ،رضي ال عنهما :
قال المام أحمد :حدثنا أبو المغيرة ،حدثنا أبو بكر بن عبد ال ،عن علي بن أبي طلحة ،عن
عبد ال بن عباس ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أردفه على دابته ،فلما استوى عليها كبّر
رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثا ،وحمد ( )4ثلثا ،وهلل ال واحدة .ثم استلقى عليه فضحك
،ثم أقبل عليه فقال " :ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت ،إل أقبل ال ،عز
وجل ،عليه ،فضحك إليه كما ضحكت إليك" .تفرد به أحمد)5( .
حديث عبد ال بن عمر ،رضي ال عنهما :
قال المام أحمد :حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة ،عن أبي الزبير ،عن علي بن عبد ال
البارقي ،عن عبد ال بن عمر ،رضي ال عنهما ؛ أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا ركب
راحلته كبر ثلثا ،ثم قال { :سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا َهذَا َومَا كُنّا لَهُ ُمقْرِنِينَ .وَإِنّا ِإلَى رَبّنَا
َلمُ ْنقَلِبُونَ } .ثم يقول " :اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ،ومن العمل ما ترضى.
اللهم ،هون علينا السفر واطو لنا البعيد .اللهم ،أنت الصاحب في السفر ،والخليفة في الهل.
اللهم ،اصحبنا في سفرنا ،واخلفنا في أهلنا" .وكان إذا رجع إلى أهله قال " :آيبون تائبون إن
شاء ال ،عابدون ،لربنا حامدون".
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ،من حديث ابن جريج ،والترمذي من حديث حماد بن
سلمة ،كلهما عن أبي الزبير ،به)6( .
حديث آخر :
قال المام أحمد :حدثنا محمد بن عبيد ،حدثنا محمد بن إسحاق ،عن محمد بن إبراهيم ،عن
__________
( )1في ت " :رواه المام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي".
( )2المسند ( )1/97وسنن أبي داود برقم ( )2602وسنن الترمذي برقم ( )3446والنسائي في
السنن الكبري برقم (.)8800
( )3تحفة الشراف للمزي (.)7/436
( )4في ت ،أ " :وحمد ال ثلثا".
( )5المسند ( )2/330قال الهيثمي في المجمع (" : )10/131فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو
ضعيف".
( )6المسند ( )2/144وصحيح مسلم برقم ( )1342وسنن أبي داود برقم ( )2599والنسائي في
السنن الكبرى برقم ( )10382وسنن الترمذي برقم (.)3447
( )7/221
جعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَا ِدهِ جُ ْزءًا إِنّ الْإِ ْنسَانَ َل َكفُورٌ مُبِينٌ ( )15أَمِ اتّخَذَ ِممّا َيخُْلقُ بَنَاتٍ وََأصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ
وَ َ
سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ (َ )17أ َومَنْ يُنَشّأُ فِي
ج ُههُ مُ ْ
ل وَ ْ
ظّحمَنِ مَثَلًا َ
حدُهُمْ ِبمَا ضَرَبَ لِلرّ ْ
( )16وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ
شهِدُوا
حمَنِ إِنَاثًا أَ َ
جعَلُوا ا ْلمَلَا ِئ َكةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّ ْ
خصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( )18وَ َ
الْحِلْ َي ِة وَ ُهوَ فِي الْ ِ
حمَنُ مَا عَ َبدْنَاهُمْ مَا َلهُمْ بِ َذِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
شهَادَ ُتهُ ْم وَيُسْأَلُونَ (َ )19وقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ
خَ ْل َقهُمْ سَ ُتكْ َتبُ َ
هُمْ إِلّا يَخْ ُرصُونَ ()20
عمرو بن الحكم بن ثوبان ( ، )1عن أبي لس الخزاعي قال :حملنا رسول ال صلى ال عليه
وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج .فقلنا :يا رسول ال ،ما نرى ( )2أن تحملنا هذه! فقال
" :ما من بعير إل في ذروته شيطان ،فاذكروا اسم ال عليها إذا ركبتموها كما آمركم ( ، )3ثم
امتهنوها لنفسكم ،فإنما يحمل ال عز وجل")4( .
أبو لس اسمه :محمد بن السود بن خَلَف.
حديث آخر في معناه :
قال أحمد :حدثنا عَتّاب ،أخبرنا عبد ال(ح) وعلي بن إسحاق ،أخبرنا عبد ال -يعني ابن
المبارك -أخبرنا أسامة بن زيد ،أخبرني محمد بن حمزة ؛ أنه سمع أباه يقول :سمعت رسول
ال صلى ال عليه وسلم يقول " :على ظهر كل بعير شيطان ،فإن ركبتموها فسموا ال ،عز
وجل ،ثم ل تقصروا عن حاجاتكم")5( .
صفَاكُمْ
ت وََأ ْ
خلُقُ بَنَا ٍ
جعَلُوا َلهُ مِنْ عِبَا ِدهِ جُزْءًا إِنّ النْسَانَ َل َكفُورٌ مُبِينٌ (َ )15أمِ اتّخَذَ ِممّا يَ ْ
{ وَ َ
سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ (َ )17أ َومَنْ
جهُهُ مُ ْ
ل وَ ْ
ظّحمَنِ مَثَل َ
حدُهُمْ ِبمَا ضَرَبَ لِلرّ ْ
بِالْبَنِينَ ( )16وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ
حمَنِ إِنَاثًا
جعَلُوا ا ْلمَل ِئكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّ ْ
خصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( )18وَ َ
يُنَشّأُ فِي ا ْلحِلْيَ ِة وَ ُهوَ فِي الْ ِ
حمَنُ مَا عَبَدْنَا ُهمْ مَا َلهُمْ بِذَِلكَ مِنْ
شهَادَ ُت ُه ْم وَيُسْأَلُونَ (َ )19وقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ
شهِدُوا خَ ْل َقهُمْ سَ ُتكْ َتبُ َ
أَ َ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِل َيخْ ُرصُونَ (} )20
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض النعام لطواغيتهم وبعضها
ث وَال ْنعَامِ
جعَلُوا لِلّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ
ل ،كما ذكر ال عنهم في سورة "النعام" ،في قوله { :وَ َ
صلُ إِلَى اللّ ِه َومَا كَانَ ِللّهِ َف ُهوَ
ع ِمهِ ْم وَهَذَا لِشُ َركَائِنَا َفمَا كَانَ لِشُ َركَا ِئهِمْ فَل َي ِ
َنصِيبًا َفقَالُوا َهذَا لِلّهِ بِزَ ْ
ح ُكمُونَ } [النعام .]136 :وكذلك جعلوا له من قسمي ( )6البنات
صلُ إِلَى شُ َركَا ِئهِمْ سَاءَ مَا يَ ْ
َي ِ
سمَةٌ
والبنين أخسّهما وأردأهما وهو البنات ،كما قال تعالى { :أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَهُ النْثَىِ .ت ْلكَ إِذًا ِق ْ
جعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَا ِدهِ جُ ْزءًا إِنّ النْسَانَ َل َكفُورٌ
ضِيزَى } [النجم .]22 ، 21 :وقال هاهنا { :وَ َ
مُبِينٌ }
صفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } وهذا إنكار عليهم غاية النكار .ثم ذكر تمام
ثم قال { :أَمِ اتّخَذَ ِممّا َيخْلُقُ بَنَاتٍ وََأ ْ
سوَدّا وَ ُهوَ َكظِيمٌ } أي :إذا
جهُهُ مُ ْ
ل وَ ْ
ظّحمَنِ مَثَل َ
النكار فقال { :وَإِذَا بُشّرَ َأحَدُ ُهمْ ِبمَا ضَ َربَ لِلرّ ْ
بشر أحد هؤلء بما جعلوه ل من البنات يأنف من ذلك غاية النفة ،وتعلوه كآبة من سوء ما بشر
به ،
__________
( )1في ت " :رواه المام أحمد بسنده".
( )2في م " :ما ترى".
( )3في ت " :أمرتم".
( )4المسند ( )4/221ورجاله ثقات.
( )5المسند ( )3/494وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/131رجاله رجال الصحيح غير محمد
بن حمزة وهو ثقة".
( )6في ت " :من كل قسم".
( )7/222
ويتوارى من القوم من خجله من ذلك ،يقول تعالى :فكيف تأنفون أنتم من ذلك ،وتنسبونه إلى
ال عز وجل ؟.
خصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } أي :المرأة ناقصة يكمل نقصها
ثم قال َ { :أ َومَنْ يُ َنشّأُ فِي الْحِلْ َي ِة وَ ُهوَ فِي ا ْل ِ
ن يكون
بلبس الحلي منذ تكون طفلة ،وإذا خاصمت فل عبارة لها ،بل هي عاجزة عَيِيّة ،أوَ مَ ْ
هكذا ينسب إلى جناب ال عز وجل ( )1؟! فالنثى ناقصة الظاهر والباطن ،في الصورة
والمعنى ،فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ،ليجبر ما فيها من نقص ،
كما قال بعض شعراء العرب :
َومَا الحَلْي إل زينَةٌ من نقيصةٍ ...يتمّمُ من حُسْن إذا الحُسْن َقصّرا...
حسْنك ،لم َيحْتَجْ إلى أن ي َزوّرا...
وأمّا إذَا كان الجمالُ موفّرا ...ك ُ
وأما نقص معناها ،فإنها ضعيفة عاجزة عن النتصار عند النتصار ،ل عبارة لها ول همة ،
كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت " :ما هي بنعم الولد :نصرها بالبكاء ،وبرها سرقة".
حمَنِ إِنَاثًا } أي :اعتقدوا فيهم ذلك ،فأنكر عليهم
جعَلُوا ا ْلمَل ِئكَةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ الرّ ْ
وقوله { :وَ َ
شهَادَ ُتهُمْ
ش ِهدُوا خَ ْل َقهُمْ } أي :شاهدوه وقد خلقهم ال إناثا { ،سَ ُتكْ َتبُ َ
تعالى قولهم ذلك ،فقال { :أَ َ
} أي :بذلك { ،ويسألون } عن ذلك يوم القيامة .وهذا تهديد شديد ،ووعيد أكيد.
حمَنُ مَا عَ َبدْنَاهُمْ } أي :لو أراد ال لحال بيننا وبين عبادة هذه الصنام ،التي
{ َوقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ
هي على صور ( )2الملئكة التي هي بنات ال ،فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه ،فجمعوا بين
أنواع كثيرة من الخطأ :
جعْلُهم ل ولدا ،تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا.
أحدها َ :
الثاني :دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ،فجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
الثالث :عبادتهم لهم مع ذلك كله ،بل دليل ول برهان ،ول إذن من ال عز وجل ،بل بمجرد
الراء والهواء ،والتقليد للسلف والكبراء والباء ،والخبط في الجاهلية الجهلء.
الرابع :احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَرا [والحجة إنما تكون بالشرع] ( ، )3وقد جهلوا في هذا
الحتجاج جهل كبيرًا ،فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد النكار ،فإنه منذ بعث الرسل وأنزل
الكتب يأمر بعبادته وحده ل شريك له ،وينهى عن عبادة ما سواه ،قال [تعالى] ( { ، )4وََلقَدْ
ح ّقتْ
َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ َرسُول أَنِ اُعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َهدَى اللّهُ َومِنْهُمْ مَنْ َ
عَلَيْهِ الضّلَلةُ فَسِيرُوا فِي الرْضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ } [النحل ، ]36 :وقال تعالى
حمَنِ آِلهَةً ُيعْبَدُونَ } [الزخرف :
جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ
{ :وَاسَْألْ مَنْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ َ
.]45
__________
( )1في ت " :ال تعالى" ،وفي م ،أ " :ال العظيم".
( )2في أ " :صورة".
( )3زيادة من أ.
( )4زيادة من أ.
( )7/223
وقال في هذه الية -بعد أن ذكر حجتهم هذه { : -مَا َلهُمْ ِبذَِلكَ مِنْ عِلْمٍ } أي :بصحة ما قالوه
واحتجوا به { إِنْ هُمْ إِل َيخْ ُرصُونَ } أي :يكذبون ويتقولون.
وقال مجاهد في قوله { :مَا َلهُمْ ِبذَِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِل َيخْ ُرصُونَ } أي ( )1ما يعلمون قدرة ال
على ذلك.
جدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى
سكُونَ (َ )21بلْ قَالُوا إِنّا وَ َ
{ َأمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبِْلهِ َفهُمْ بِهِ مُسْ َتمْ ِ
آثَارِ ِهمْ ُمهْتَدُونَ (} )22
__________
( )1في ت ،م " :يعني".
( )7/224
( )7/224
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِي ِه َو َق ْومِهِ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْبُدُونَ ( )26إِلّا الّذِي َفطَرَنِي فَإِنّهُ سَ َيهْدِينِ ()27
حقّ
جعُونَ (َ )28بلْ مَ ّتعْتُ َهؤُلَاءِ وَآَبَاءَ ُهمْ حَتّى جَاءَ ُهمُ الْ َ
عقِبِهِ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ
جعََلهَا كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ
وَ َ
سحْ ٌر وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ (َ )30وقَالُوا َلوْلَا نُ ّزلَ َهذَا
حقّ قَالُوا َهذَا ِ
وَرَسُولٌ مُبِينٌ ( )29وََلمّا جَاءَ ُهمُ الْ َ
سمْنَا بَيْ َنهُمْ َمعِيشَ َت ُهمْ فِي
حمَةَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ َر ْ
جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( )31أَ ُهمْ َيقْ ِ
ا ْلقُرْآَنُ عَلَى رَ ُ
حمَةُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ِممّا
ضهُمْ َب ْعضًا سُخْرِيّا وَ َر ْ
خذَ َب ْع ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لِيَتّ ِ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
س ُقفًا مِنْ ِفضّةٍ
حمَنِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ
جعَلْنَا ِلمَنْ َي ْكفُرُ بِالرّ ْ
ج َمعُونَ ( )32وََلوْلَا أَنْ َيكُونَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً َل َ
يَ ْ
ظهَرُونَ ()33
َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا َي ْ
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لبِي ِه َو َق ْومِهِ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْ ُبدُونَ ( )26إِل الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَ َيهْدِينِ ()27
جعُونَ (َ )28بلْ مَ ّتعْتُ َهؤُل ِء وَآبَاءَهُمْ حَتّى جَا َءهُمُ ا ْلحَقّ
عقِبِهِ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ
جعََلهَا كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ
وَ َ
سحْ ٌر وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ (َ )30وقَالُوا َلوْل نزلَ هَذَا
حقّ قَالُوا َهذَا ِ
وَرَسُولٌ مُبِينٌ ( )29وََلمّا جَاءَ ُهمُ الْ َ
سمْنَا بَيْ َنهُمْ َمعِيشَ َت ُهمْ فِي
حمَةَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ َر ْ
جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( )31أَ ُهمْ َيقْ ِ
ا ْلقُرْآنُ عَلَى رَ ُ
حمَةُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ِممّا
ضهُمْ َب ْعضًا سُخْرِيّا وَ َر ْ
خذَ َب ْع ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لِيَتّ ِ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
سقُفًا مِنْ َفضّةٍ
حمَنِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ
جعَلْنَا ِلمَنْ َي ْكفُرُ بِالرّ ْ
ج َمعُونَ ( )32وََلوْل أَنْ َيكُونَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً لَ َ
يَ ْ
ظهَرُونَ (} )33
َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا َي ْ
( )7/225
وَلِبُيُوتِهِمْ أَ ْبوَابًا وَسُرُرًا عَلَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ ( )34وَزُخْ ُرفًا وَإِنْ ُكلّ ذَِلكَ َلمّا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةُ
عِنْدَ رَ ّبكَ لِ ْلمُ ّتقِينَ ()35
{ وَلِبُيُو ِتهِمْ أَ ْبوَابًا وَسُرُرًا عَلَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ ( )34وَزُخْ ُرفًا وَإِنْ ُكلّ ذَِلكَ َلمّا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَالخِ َرةُ
عِنْدَ رَ ّبكَ لِ ْلمُ ّتقِينَ (} )35
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ،ووالد من بعث بعده من النبياء ،الذي
تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها :أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الوثان ،فقال :
عقِبِهِ } أي :هذه
جعََلهَا كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ
{ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْبُدُونَ .إِل الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَ َيهْدِينِ .وَ َ
الكلمة ،وهي عبادة ال تعالى وحده ل شريك له ،وخلع ما سواه من الوثان ،وهي "ل إله إل
ال" أي :جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه ال من ذرية إبراهيم ،عليه السلم ،
جعُونَ } أي :إليها.
{ َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ
جعََلهَا
وقال عكرمة ،ومجاهد ،والضحاك ،وقتادة ،والسدي ،وغيرهم ( )1في قوله تعالى َ { :و َ
عقِبِهِ } يعني :ل إله إل ال ،ل يزال في ذريته من يقولها .ورُوي نحوه عن ابن
كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ
عباس.
وقال ابن زيد :كلمة السلم .وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.
ثم قال تعالى َ { :بلْ مَ ّت ْعتُ َهؤُلءِ } يعني :المشركين { ،وآباءهم } أي :فتطاول عليهم العمر
ق وَرَسُولٌ مُبِينٌ } أي :بين الرسالة والنذارة.
حّفي ضللهم ( { ، )2حَتّى جَاءَهُمُ الْ َ
سحْ ٌر وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ } أي :كابروه وعاندوه ودفعوا ( )3بالصدور
حقّ قَالُوا َهذَا ِ
{ وََلمّا جَاءَ ُهمُ الْ َ
والراح كفرا وحسدا وبغيا { ،وقالوا } [أي] ( )4كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس :
جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي :هل كان إنزال هذا القرآن على رجل
{ َلوْل نزلَ هَذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَى رَ ُ
عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف .قاله ابن عباس ،وعكرمة ،ومحمد
بن كعب القرظي ،وقتادة والسدي ،وابن زيد.
__________
( )1في ت " :وغيرهما".
( )2في م " :ضللتهم".
( )3في أ " :ودفعوه".
( )4زيادة من ت ،م.
( )7/225
وقد ذكر غير واحد منهم ( : )1أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة ،وعروة بن مسعود الثقفي.
وقال مالك عن زيد بن أسلم ،والضحاك ،والسدي :يعنون الوليد بن المغيرة ،ومسعود بن
عمرو الثقفي.
وعن مجاهد :عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي .وعنه أيضا :أنهم يعنون الوليد بن المغيرة ،
وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
وعن مجاهد :يعنون عتبة بن ربيعة بمكة ،وابن عبد يا ليل بالطائف.
وقال السدي :عنوا [بذلك] ( )2الوليد بن المغيرة ،وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي.
والظاهر :أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان.
حمَةَ رَ ّبكَ } ؟ أي :ليس المر
سمُونَ رَ ْ
قال ال تعالى رادا عليهم في هذا العتراض َ { :أهُمْ َيقْ ِ
مردودا إليهم ،بل إلى ال ،عز وجل ،وال أعلم حيث يجعل رسالته ،فإنه ل ينزلها إل على
أزكى الخلق قلبا ونفسا ،وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصل.
ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الموال والرزاق والعقول والفهوم ،
سمْنَا بَيْ َنهُمْ َمعِيشَ َتهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا
وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ،فقال َ { :نحْنُ قَ َ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ }
وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
سخْرِيّا } قيل :معناه ليسخر ( )3بعضهم بعضا في العمال ،
ضهُمْ َب ْعضًا ُ
وقوله { :لِيَتّخِذَ َب ْع ُ
لحتياج هذا إلى هذا ،وهذا إلى هذا ،قاله السدي وغيره.
وقال قتادة والضحاك :ليملك بعضهم بعضا .وهو ( )4راجع إلى الول.
ج َمعُونَ } أي :رحمة ال بخلقه خير لهم مما بأيديهم من
ح َمتُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ِممّا َي ْ
ثم قال { :وَرَ ْ
الموال ومتاع الحياة الدنيا.
ثم قال تعالى { :وََلوْل أَنْ َيكُونَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً } أي :لول أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن
إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه ،فيجتمعوا على الكفر لجل المال -هذا معنى قول
سقُفًا
حمَنِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ
جعَلْنَا ِلمَنْ َي ْكفُرُ بِالرّ ْ
ابن عباس ،والحسن ،وقتادة ،والسدي ،وغيرهم َ { -ل َ
ظهَرُونَ] } ( )5أي :سللم ودرجا من فضة -قاله ابن عباس ،
مِنْ َفضّ ٍة َو َمعَارِجَ [عَلَ ْيهَا يَ ْ
ظهَرُونَ } ،أي :يصعدون.
ومجاهد ،وقتادة ،والسدي :وابن زيد ،وغيرهم { -عَلَ ْيهَا َي ْ
علَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ } ،أي :جميع ذلك
{ وَلِبُيُو ِتهِمْ أَ ْبوَابًا } ( )6أي :أغلقا على أبوابهم { وَسُرُرًا َ
يكون فضة { ،وزخرفا } ،أي :وذهبا .قاله ابن عباس ،وقتادة ،والسدي ،وابن زيد)7( .
__________
( )1في م ،أ " :منهم وقتادة".
( )2زيادة من أ.
( )3في أ " :لتسخير".
( )4في ت ،أ " :وهذا".
( )5زيادة من ت.
( )6في ت ( :أبوابا وسررا).
( )7في ت " :ابن عباس وغيرهم".
( )7/226
ثم قال { :وَإِنْ ُكلّ ذَِلكَ َلمّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي :إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند
ال [تعالى] ( )1أي :يعجل ( )2لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ،ليوافوا
الخرة وليس لهم عند ال حسنة يجزيهم بها ،كما ورد به الحديث الصحيح ([ .)3وقد] ( )4ورد
في حديث آخر " :لو أن الدنيا تزن عند ال جناح بعوضة ،ما سقى منها كافرا شربة ماء" ،أسنده
البغوي من رواية زكريا بن منظور ،عن أبى حازم ،عن سهل بن سعد ،عن النبي صلى ال
عليه وسلم فذكره ( )5ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح ،عن أبي حازم عن سهل بن
سعد عن النبي صلى ال عليه وسلم " :لو عدلت الدنيا جناح بعوضة ،ما أعطى كافرا منها شيئا".
()6
ثم قال { :وَالخِ َرةُ عِنْدَ رَ ّبكَ لِ ْلمُ ّتقِينَ } أي :هي لهم خاصة ل يشاركهم :فيها [أحد] ( )7غيرهم
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربه
لما آلى من نسائه ،فرآه [عمر] ( )8على رمال حصير قد أثر بجنبه ( )9فابتدرت عيناه بالبكاء
وقال :يا رسول ال هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة ال من خلقه .وكان رسول ال
صلى ال عليه وسلم متكئا فجلس وقال " :أوَ في ( )10شك أنت يا ابن الخطاب ؟" ثم قال " :أولئك
قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية " :أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الخرة
؟" ()11
وفي الصحيحين أيضا وغيرهما :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل تشربوا في آنية
الذهب والفضة ،ول تأكلوا في صحافها ،فإنها لهم في الدنيا ولنا في الخرة" .وإنما خولهم ال
تعالى في الدنيا لحقارتها ،كما روى الترمذي وابن ماجه ،من طريق أبي حازم ،عن سهل بن
سعد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو كانت الدنيا تزن عند ال جناح بعوضة ،ما
سقى منها كافرا شربة ماء أبدا" ،قال الترمذي :حسن صحيح (.)12
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في ت " :يجعل".
( )3رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2808من حديث أنس بن مالك رضي ال عنه.
( )4زيادة من م.
( )5معالم التنزيل للبغوي (.)7/213
( )6المعجم الكبير ( )6/178وفي إسناده زمعة بن صالح وهو ضعيف.
( )7زيادة من أ.
( )8زيادة من أ.
( )9في ت ،م ،أ " :بجلده".
( )10في ت " :أفي".
( )11انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الية 131 :من سورة طه.
( )12سنن الترمذي برقم ( )2320وسنن ابن ماجه برقم (.)4110
( )7/227
حمَنِ ُنقَ ّيضْ َلهُ شَ ْيطَانًا َف ُهوَ َلهُ قَرِينٌ ( )36وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِيلِ
َومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ ( )37حَتّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ ُبعْدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ ا ْلقَرِينُ (
سمِعُ الصّمّ َأوْ َتهْدِي
)38وَلَنْ يَ ْن َفعَكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ (َ )39أفَأَ ْنتَ تُ ْ
ا ْل ُع ْميَ َومَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( )40فَِإمّا َنذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ (َ )41أوْ نُرِيَ ّنكَ الّذِي
حيَ إِلَ ْيكَ إِ ّنكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()43
سكْ بِالّذِي أُو ِ
وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْيهِمْ ُمقْتَدِرُونَ ( )42فَاسْ َتمْ ِ
جعَلْنَا مِنْ دُونِ
س ْوفَ تُسْأَلُونَ ( )44وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ ُرسُلِنَا َأ َ
وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ َلكَ وَلِ َق ْو ِمكَ وَ َ
حمَنِ آَِلهَةً ُيعْبَدُونَ ()45
الرّ ْ
حمَنِ ُنقَ ّيضْ لَهُ شَيْطَانًا َف ُهوَ لَهُ قَرِينٌ ( )36وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِيلِ
{ َومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ ( )37حَتّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ ُبعْدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ ا ْلقَرِينُ (
سمِعُ الصّمّ َأوْ َتهْدِي
)38وَلَنْ يَ ْن َفعَكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ (َ )39أفَأَ ْنتَ تُ ْ
ا ْل ُع ْميَ َومَنْ كَانَ فِي ضَللٍ مُبِينٍ ( )40فَِإمّا َنذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ (َ )41أوْ نُرِيَ ّنكَ الّذِي
حيَ إِلَ ْيكَ إِ ّنكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()43
سكْ بِالّذِي أُو ِ
وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْيهِمْ ُمقْتَدِرُونَ ( )42فَاسْ َتمْ ِ
جعَلْنَا مِنْ دُونِ
س ْوفَ تُسْأَلُونَ ( )44وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ ُرسُلِنَا َأ َ
وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ َلكَ وَلِ َق ْو ِمكَ وَ َ
حمَنِ آِلهَةً ُيعْبَدُونَ (} )45
الرّ ْ
حمَنِ } والعشا في
يقول تعالى َ { :ومَنْ َيعْشُ } أي :يتعامى ويتغافل ويعرض { ،عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
العين :ضعف بصرها .والمراد هاهنا :عشا البصيرة ُ { ،نقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا َف ُهوَ َلهُ قَرِينٌ } كقوله
َ { :ومَنْ يُشَا ِققِ الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ ا ْل ُهدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى وَ ُنصْلِهِ
جهَنّمَ وَسَا َءتْ َمصِيرًا } [النساء ، ]115 :وكقوله { :فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } [الصف :
َ
علَ ْيهِمُ ا ْل َقوْلُ فِي ُأمَمٍ
، ]5وكقوله َ { :وقَيّضْنَا َلهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيّنُوا َلهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ وَحَقّ َ
ن وَالنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [فصلت ]25 :؛ ولهذا قال هاهنا :
قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ .حَتّى ِإذَا جَاءَنَا } أي :هذا الذي تغافل عن
ل وَيَ ْ
{ وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِي ِ
الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ،ويهديه إلى صراط الجحيم .فإذا وافى ال يوم القيامة
يتبرم بالشيطان الذي وكل به { ،قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ ُبعْدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ ا ْلقَرِينُ } [أي :فبئس
القرين كنت لي في الدنيا] ( )1وقرأ بعضهم " :حتى إذا جاءانا" يعني :القرين والمقارن.
قال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن سعيد الجُرَيري قال :بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم
سفَع بيده شيطان فلم يفارقه ،حتى يصيرهما ال تعالى إلى النار ،فذلك حين يقول { :يَا
القيامة َ
لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ ُبعْدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ ا ْلقَرِينُ } ()2
والمراد بالمشرقين هنا ( )3هو ما بين المشرق والمغرب .وإنما استعمل هاهنا تغليبا ،كما يقال (
)4القمران ،والعمران ،والبوان [ ،والعسران] ( .)5قاله ابن جرير وغيره.
[ولما كان الشتراك في المصيبة في الدنيا يحصل به تسلية لمن شاركه في مصيبته ،كما قالت
الخنساء تبكي أخاها :
حوْلي ...عَلَى قَتْلهم لقتلتُ َنفْسي...
وَلوْل كثرةُ الباكين َ
وما يَ ْبكُون مثلَ أخي ولكن ...أُسَلّي النفسَ عنه بالتأسّي...
قطع ال بذلك بين أهل النار ،فل يحصل لهم بذلك تأسي وتسلية ول تخفيف])6( .
ثم قال تعالى { :وَلَنْ يَ ْن َف َعكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْل َعذَابِ مُشْتَ ِركُونَ } أي :ل يغني عنكم
اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الليم.
ي َومَنْ كَانَ فِي ضَللٍ مُبِينٍ } أي :ليس ذلك إليك ،
سمِعُ الصّمّ َأوْ َتهْدِي ا ْل ُع ْم َ
وقوله َ { :أفَأَ ْنتَ تُ ْ
إنما عليك البلغ ،وليس عليك هداهم ،ولكن ال يهدي من يشاء ،ويضل من يشاء ،وهو الحكم
العدل ( )7في ذلك.
__________
( )1زيادة من ت.
( )2تفسير عبد الرزاق (.)2/161
( )3في ت ،م ،أ " :هاهنا".
( )4في ت ،م " :قيل".
( )5زيادة من أ.
( )6زيادة من ت ،أ.
( )7في ت ،م ،أ " :الحاكم العادل".
( )7/228
ثم قال { :فَِإمّا نَذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُمْ مُنْ َتقِمُونَ } أي :ل بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ،ولو ذهبت أنت
َ { ،أوْ ( )1نُرِيَ ّنكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْي ِهمْ ُمقْتَدِرُونَ } أي :نحن قادرون على هذا وعلى هذا.
ولم يقبض ال رسوله حتى أقر عينه من أعدائه ،وحكمه في نواصيهم ،وملكه ما تضمنته
صياصيهم .هذا معنى قول السدي ،واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير ( )2حدثنا ابن عبد العلى ،حدثنا ابن ( )3ثور ،عن معمر قال :تل قتادة :
{ فَِإمّا َنذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ } فقال :ذهب النبي صلى ال عليه وسلم وبقيت النقمة ،ولم
يُرِ ال ( )4نبيه صلى ال عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه ،حتى مضى ( ، )5ولم يكن نبي قط
إل ورأى ( )6العقوبة في أمته ،إل نبيكم صلى ال عليه وسلم .قال :وذُكر لنا أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم أ ِريَ ما يصيب أمته من بعده ،فما رُئِي ضاحكا منبسطا حتى قبضه ال عز
وجل)7( .
وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة نحوه .ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك
أيضا.
وفي الحديث " :النجوم أمنة للسماء ،فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ ،وأنا أمَنَة لصحابي
،فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون")8( .
حيَ إِلَ ْيكَ إِ ّنكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :خذ بالقرآن المنزل
سكْ بِالّذِي أُو ِ
ثم قال تعالى { :فَاسْ َتمْ ِ
على قلبك ،فإنه هو الحق ،وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط ال المستقيم ،الموصل
إلى جنات النعيم ،والخير الدائم المقيم.
ثم قال { :وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ َلكَ وَلِ َق ْو ِمكَ } قيل :معناه لشرف ( )9لك ولقومك ،قاله ابن عباس ،
ومجاهد ،وقتادة ،والسدي ،وابن زيد .واختاره ابن جرير ،ولم يحك سواه.
وأورد البغوي هاهنا حديث الزهري ،عن محمد بن جبير بن مطعم ،عن معاوية قال :سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إن هذا المر في قريش ل ينازعهم فيه أحد إل أكَبّه ال
على وجهه ما أقاموا الدين" .رواه البخاري)10( .
و[قيل] ( )11معناه :أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم ،فهم أفهم الناس له ،فينبغي أن
يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه ،وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخُلّص من
المهاجرين السابقين الولين ،ومن شابههم وتابعهم.
ك وَِل َق ْو ِمكَ } أي :لتذكير لك ولقومك ،وتخصيصهم بالذكر ل ينفي
وقيل :معناه { :وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ َل َ
من سواهم ،كقوله َ { :لقَدْ أَنزلْنَا إِلَ ْيكُمْ كِتَابًا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ َأفَل َت ْعقِلُونَ } [النبياء ، ]10 :وكقوله { :
ك القْرَبِينَ } [الشعراء .]214 :
وَأَنْذِرْ عَشِيرَ َت َ
__________
( )1في ت ،أ " :وإما" وهو خطأ.
( )2في ت " :وروى هو قال".
( )3في ت " :أبو".
( )4في أ " :ال تعالى".
( )5في ت ،م " :قبض".
( )6في ت ،م ،أ " :إل وقد رأى".
( )7تفسير الطبري (.)25/45
( )8رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2531من حديث أبي موسى الشعري رضي ال عنه.
( )9في م " :الشرف".
( )10معالم التنزيل للبغوي ( )7/215وصحيح البخاري برقم (.)3500
( )11زيادة من ت ،م.
( )7/229
عوْنَ َومَلَئِهِ َفقَالَ إِنّي رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ( )46فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِآَيَاتِنَا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْ َ
حكُونَ ()47
إِذَا هُمْ مِ ْنهَا َيضْ َ
س ْوفَ تُسْأَلُونَ } أي :عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والستجابة له.
{ وَ َ
حمَنِ آِل َهةً ُيعْبَدُونَ } ؟ أي :
جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ
وقوله { :وَاسَْألْ مَنْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رُسُلِنَا َأ َ
جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة ال وحده ل شريك له ،ونهوا عن عبادة
الصنام والنداد ،كقوله { :وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ رَسُول أَنِ اُعْ ُبدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ }
[النحل .]36 :قال مجاهد :في قراءة عبد ال بن مسعود " :واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك
رسلنا" .وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي ،عن ابن مسعود .وهذا كأنه تفسير ل تلوة ،وال
أعلم.
جمِعوا له .واختار ابن
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :واسألهم ليلة السراء ،فإن النبياء ُ
جرير الول [ ،وال أعلم] (.)1
ن َومَلَئِهِ َفقَالَ إِنّي َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ( )46فََلمّا جَاءَ ُهمْ
عوْ َ
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْ َ
حكُونَ (} )47
ضَبِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِ ْنهَا َي ْ
__________
( )1زيادة من أ.
( )7/230
( )7/230
عوْنُ فِي َق ْومِهِ قَالَ يَا َقوْمِ أَلَ ْيسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْ َر وَ َه ِذهِ الْأَ ْنهَارُ تَجْرِي مِنْ َتحْتِي َأفَلَا
وَنَادَى فِرْ َ
سوِ َرةٌ مِنْ
ن وَلَا َيكَادُ يُبِينُ ( )52فََلوْلَا أُ ْلقِيَ عَلَ ْيهِ أَ ْ
تُ ْبصِرُونَ (َ )51أمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ َهذَا الّذِي ُهوَ َمهِي ٌ
سقِينَ ()54
خفّ َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
ذَ َهبٍ َأوْ جَاءَ َمعَهُ ا ْلمَلَا ِئ َكةُ ُمقْتَرِنِينَ ( )53فَاسْتَ َ
جعَلْنَا ُهمْ سََلفًا َومَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ()56
ج َمعِينَ ( )55فَ َ
سفُونَا انْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ َأ ْ
فََلمّا آَ َ
عوْنُ فِي َق ْومِهِ قَالَ يَا َقوْمِ أَلَيْسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْ َر وَهَ ِذهِ ال ْنهَارُ تَجْرِي مِنْ َتحْتِي َأفَل
{ وَنَادَى فِرْ َ
سوِ َرةٌ مِنْ
ن وَل َيكَادُ يُبِينُ ( )52فََلوْل أُ ْلقِيَ عَلَ ْيهِ أَ ْ
تُ ْبصِرُونَ (َ )51أمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ َهذَا الّذِي ُهوَ َمهِي ٌ
سقِينَ ()54
خفّ َق ْومَهُ فََأطَاعُوهُ إِ ّن ُهمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
ذَ َهبٍ َأوْ جَاءَ َمعَهُ ا ْلمَل ِئكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( )53فَاسْ َت َ
جعَلْنَا ُهمْ سََلفًا َومَثَل لِلخِرِينَ (.} )56
ج َمعِينَ ( )55فَ َ
سفُونَا انْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ َأ ْ
فََلمّا آ َ
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده :أنه جمع قومه ،فنادى فيهم
متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها { :أَلَيْسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْ َر وَهَ ِذهِ ال ْنهَارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي } ،قال قتادة قد كانت لهم جنان وأنهار ماء َ { ،أفَل تُ ْبصِرُونَ } ؟ أي :أفل ترون ما أنا
فيه من العظمة والملك ،يعني :وموسى وأتباعه ( )1فقراء ضعفاء .وهذا كقوله تعالى َ { :فحَشَرَ
فَنَادَىَ .فقَالَ أَنَا رَ ّب ُكمُ العْلَى .فََأخَ َذهُ اللّهُ َنكَالَ الخِ َر ِة وَالولَى } [النازعات .]25 - 23 :
وقوله َ { :أمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الّذِي ُهوَ َمهِينٌ } قال السدي :يقول :بل أنا خير من هذا الذي هو
مهين .وهكذا قال بعض نحاة البصرة :إن "أم" هاهنا بمعنى "بل" .ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن
بعض القراء أنه قرأها " :أما أنا خير من هذا الذي هو مهين" .قال ابن جرير :ولو صحت هذه
القراءة لكان معناها صحيحا واضحا ،ولكنها خلف قراءة المصار ،فإنهم قرؤوا َ { :أمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هَذَا الّذِي ُهوَ َمهِينٌ } ؟ على الستفهام.
قلت :وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون -عليه اللعنة ( - )2أنه خير من موسى ،عليه السلم
،وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا ،فعليه لعائن ال المتتابعة إلى يوم القيامة.
ويعني بقوله { :مهين } كما قال سفيان :حقير .وقال قتادة والسدي :يعني :ضعيف .وقال ابن
جرير :يعني :ل ملك له ول سلطان ول مال.
{ وَل َيكَادُ يُبِينُ } يعني :ل يكاد يفصح عن كلمه ( ، )3فهو عيي حصر)4( .
قال السدي { :وَل َيكَادُ يُبِينُ } أي :ل يكاد يفهم .وقال قتادة ،والسدي ،وابن جرير :يعني
عيي اللسان .وقال سفيان :يعني في لسانه شيء من الجمرة حين ( )5وضعها في فيه وهو
صغير.
وهذا الذي قاله فرعون -لعنه ال -كذب واختلق ،وإنما حمله على هذا الكفر والعناد ،وهو
ينظر إلى موسى ،عليه السلم ،بعين كافرة شقية ،وقد كان موسى ( ، )6عليه السلم ،من
الجللة والعظمة والبهاء في صورة يبهر ( )7أبصار ذوي [البصار و] ( )8اللباب .وقوله :
{ مهين } كذب ،بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخلقا ودينا .وموسى [عليه السلم] ( )9هو الشريف
الرئيس الصادق البار
__________
( )1في أ " :ومن معه".
( )2في ت ،م ،أ " :لعنة ال".
( )3في ت " :بكلمه".
( )4في ت ،أ " :حصير".
( )5في ت " :التي".
( )6في ت " :الموسى".
( )7في ت ،م " :تبهر".
( )8زيادة من ت.
( )9زيادة من ت ،م.
( )7/231
الراشد ( .)1وقوله { :وَل َيكَادُ يُبِينُ } افتراء أيضا ،فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال
صغره شيء من جهة تلك الجمرة ،فقد سأل ال ،عز وجل ،أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا
سؤَْلكَ يَا مُوسَى } [طه :
قوله ،وقد استجاب ال ( )2له في [ذلك في] ( )3قوله { :قَالَ َقدْ أُوتِيتَ ُ
، ]26وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته ،كما قاله الحسن البصري ،وإنما سأل
زوال ما يحصل معه البلغ والفهام ،فالشياء الخلقية ( )4التي ليست من فعل العبد ل يعاب
بها ول يذم عليها ،وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا ،وإنما أراد الترويج على
علَيْهِ أَسَاوِ َرةٌ ( )5مِنْ ذَ َهبٍ } أي :
رعيته ،فإنهم كانوا جهلة أغبياء ،وهكذا كقوله { :فََلوْل أُ ْل ِقيَ َ
وهي ما يجعل في اليدي من الحلي ،قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد َ { ،أوْ جَاءَ َمعَهُ ا ْلمَل ِئكَةُ
ُمقْتَرِنِينَ } أي :يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه ،نظر ( )6إلى الشكل الظاهر ،ولم يفهم
خفّ َق ْومَهُ
السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه ،لو كان يعلم ؛ ولهذا قال تعالى { :فَاسْ َت َ
فَأَطَاعُوهُ } أي :استخف عقولهم ،فدعاهم إلى الضللة فاستجابوا له { ،إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا
سقِينَ }.
فَا ِ
ج َمعِينَ } ،قال علي بن أبي طلحة ،عن
سفُونَا انْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ أَ ْ
قال ال تعالى { :فََلمّا آ َ
ابن عباس { :آسفونا } أسخطونا.
وقال الضحاك ،عنه :أغضبونا .وهكذا قال ابن عباس أيضا ،ومجاهد ،وعكرمة ،وسعيد بن
جبير ،ومحمد بن كعب القرظي ،وقتادة ،والسدي ،وغيرهم ( )7من المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو عبيد ال ( )8ابن أخي ابن وهب ،حدثنا عمي ،حدثنا ابن لهيعة ،
عن عقبة بن مسلم التجيبي ( )9عن عقبة بن عامر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إذا
رأيت ال عز وجل يعطي العبد ما شاء ،وهو مقيم على معاصيه ،فإنما ذلك استدراج منه له" ثم
سفُونَا انْ َتقَمْنَا مِ ْنهُمْ } (.)10
تل { فََلمّا آ َ
حمّاني ،حدثنا قيس بن الربيع ،عن قيس بن مسلم (
وحدثنا أبي ،حدثنا يحيى بن عبد الحميد ال ِ
، )11عن طارق بن شهاب قال :كنت عند عبد ال فذكر عنده موت الفجأة ،فقال :تخفيف على
سفُونَا انْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ }.
المؤمن ،وحسرة على الكافر .ثم قرأ { :فََلمّا آ َ
سفُونَا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه :وجدت النقمة مع الغفلة ،يعني قوله { :فََلمّا آ َ
ج َمعِينَ }.
انْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ َأ ْ
جعَلْنَاهُمْ سََلفًا َومَثَل لِلخِرِينَ } :قال أبو مجلز { :سََلفًا } لمثل من عمل بعملهم.
وقوله َ { :ف َ
__________
( )1في ت " :الرشيد".
( )2في ت " :استجاب ال دعاءه له".
( )3زيادة من ت ،م.
( )4في ت " :الخلقية" ،وفي م " :الخلقة".
( )5في أ " :أسورة".
( )6في ت ،أ " :نظرا".
( )7في ت " :غير واحد".
( )8في أ " :عبد ال".
( )9في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
( )10ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )4926مجمع البحرين" ،والبيهقي في شعب
اليمان برقم ( )4540من طريق عبد ال ابن صالح عن حرملة بن عمران به ،ورواه أحمد في
مسنده ( )4/145عن رشدين بن سعد ،والدولبي في الكنى ( )1/111عن حجاج بن سليمان
كلهما عن حرملة بن عمران به ،وقد حسنه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الحياء.
( )11في ت " :وروى أيضا".
( )7/232
وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْ َيمَ مَثَلًا إِذَا َقوْ ُمكَ مِنْهُ َيصِدّونَ (َ )57وقَالُوا أَآَِلهَتُنَا خَيْرٌ َأمْ ُهوَ مَا ضَرَبُوهُ َلكَ إِلّا
جعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ()59
صمُونَ ( )58إِنْ ُهوَ إِلّا عَ ْبدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَيْهِ وَ َ
خ ِ
جدَلًا َبلْ هُمْ َقوْمٌ َ
َ
( )7/233
فيما يذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون ال .وعجب ( )1الوليد ومن حضره من حجته
وخصومته { :وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَل ِإذَا َق ْو ُمكَ مِ ْنهُ َيصِدّونَ } أي :يصدون عن أمرك بذلك
جعَلْنَاهُ مَثَل لِبَنِي إِسْرَائِيلَ .وََلوْ نَشَاءُ
علَيْ ِه وَ َ
من قوله .ثم ذكر عيسى فقال { :إِنْ ُهوَ إِل عَبْدٌ أَ ْن َعمْنَا َ
خُلفُونَ .وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ } أي :ما وضعت على يديه من اليات
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ مَل ِئكَةً فِي ال ْرضِ يَ ْ
لَ َ
من إحياء الموتى وإبراء السقام ،فكفى به دليل على علم الساعة ،يقول { :فَل َتمْتَرُنّ ِبهَا
وَاتّ ِبعُونِ َهذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ } (.)2
وذكر ابن جرير من رواية العَوفي ،عن ابن عباس قوله { :وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَل إِذَا َق ْومُكَ
جهَنّمَ
صبُ َ
ح َ
مِنْهُ َيصِدّونَ } قال :يعني قريشا ،لما قيل لهم { :إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
أَنْتُمْ َلهَا وَا ِردُونَ } [النبياء ]98 :إلى آخر اليات ،فقالت له قريش :فما ابن مريم ؟ قال " :ذاك
عبد ال ورسوله" .فقالوا :وال ما يريد هذا إل أن نتخذه ربا ،كما اتخذت النصارى عيسى ابن
صمُونَ }.
خ ِ
جدَل َبلْ هُمْ َقوْمٌ َ
مريم ربا ،فقال ال تعالى ( { )3مَا ضَرَبُوهُ َلكَ إِل َ
وقال ( )4المام أحمد :حدثنا هاشم بن القاسم ،حدثنا شيبان ،عن عاصم بن أبي النّجُود ،عن
أبي رَزِين ،عن أبي يحيى -مولى ابن عقيل النصاري -قال :قال ابن عباس :لقد علمت آية
من القرآن ما سألني عنها رجل قط ،فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها ،أم لم يفطنوا لها
فيسألوا عنها .قال :ثم طفق يحدثنا ،فلما قام تلومنا أل نكون سألناه عنها .فقلت :أنا لها إذا
راح غدا .فلما راح الغد قلت :يا ابن عباس ،ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل
قط ،فل تدري أعلمها الناس ( )5أم لم يفطنوا لها ؟ فقلت :أخبرني عنها وعن اللتي قرأت
قبلها .قال :نعم ،إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لقريش " :يا معشر قريش ،إنه ليس
أحد يعبد من دون ال فيه خير" ،وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم ،وما تقول
في محمد ،فقالوا :يا محمد ،ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد ال صالحا ،فإن
كنت صادقا كان ( )6آلهتهم كما تقولون ؟ قال :فأنزل ال { :وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَل ِإذَا
صدّونَ } .قلت :ما َيصِدون ؟ قال :يضحكون { ،وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ } قال :هو
َق ْومُكَ مِنْهُ َي ِ
خروج عيسى ابن مريم قبل القيامة)7( .
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي ،حدثنا آدم ،حدثنا شيبان ،عن عاصم بن
أبي النّجُود ،عن أبي أحمد مولى النصار ( ، )8عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :يا معشر قريش ،إنه ليس أحد يعبد من دون ال فيه خير" .فقالوا له :ألست تزعم
أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد ال صالحا ،فقد كان يُعبد من دون ال ؟ فأنزل ال عز وجل :
{ وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَل ِإذَا َق ْو ُمكَ مِ ْنهُ َيصِدّونَ }.
__________
( )1في أ " :وتعجب".
( )2انظر :السيرة النبوية لبن هشام (.)1/358
( )3في ت ،م " :عز وجل".
( )4في ت " :وروى".
( )5في أ " :أعلمها الناس فلم يسألوا عنها".
( )6في م ،أ " :فإن".
( )7المسند (.)1/318
( )8في أ " :النصاريين".
( )7/234
()1
وقال مجاهد في قوله { :وََلمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْ َيمَ مَثَل إِذَا َق ْو ُمكَ مِنْهُ َيصِدّونَ } :قالت قريش :إنما
يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى .ونحو هذا قال قتادة.
وقوله َ { :وقَالُوا أَآِلهَتُنَا خَيْرٌ َأمْ ُهوَ } :قال قتادة :يقولون :آلهتنا خير منه .وقال قتادة :قرأ ابن
مسعود " :وقالوا أآلهتنا خير أم هذا" ،يعنون محمدا صلى ال عليه وسلم.
جدَل } أي :مراء ،وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الية ؛ لنها
وقوله { :مَا ضَرَبُوهُ َلكَ إِل َ
جهَنّمَ } [النبياء .]98 :ثم هي
صبُ َ
ح َ
لما ل يعقل ،وهي قوله { :إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
خطاب لقريش ،وهم إنما كانوا يعبدون الصنام والنداد ،ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى
يوردوه ،فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدل منهم ،ليسوا يعتقدون صحتها.
وقد قال ( )2المام أحمد ،رحمه ال تعالى :حدثنا ابن نمير ،حدثنا حجاج بن دينار ،عن أبي
غالب ،عن أبي أمامة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما ضل قوم بعد هدى كانوا
صمُونَ }.
خ ِ
عليه ،إل أورثوا الجدل" ،ثم تل هذه الية { :مَا ضَرَبُوهُ َلكَ إِل جَدَل َبلْ ُهمْ َقوْمٌ َ
وقد رواه الترمذي ،وابن ماجه ،وابن جرير ،من حديث حجاج بن دينار ،به ( .)3ثم قال
الترمذي :حسن صحيح ل نعرفه إل من حديثه كذا قال.
وقد روي من وجه آخر عن أبي أمامة بزيادة فقال ابن أبي حاتم :حدثنا حميد بن عياش الرملي ،
حدثنا مؤمّل ،حدثنا حماد ،أخبرنا ابن مخزوم ،عن القاسم أبي عبد الرحمن الشامي ،عن أبي
أمامة -قال حماد :ل أدري رفعه ( )4أم ل ؟ -قال :ما ضلت أمة بعد نبيها إل كان أول
ضللها التكذيب بالقدر ،وما ضلت أمة بعد نبيها إل أعطوا الجدل ،ثم قرأ { :مَا ضَرَبُوهُ َلكَ إِل
صمُونَ } ()5
خ ِ
جدَل َبلْ ُهمْ َقوْمٌ َ
َ
وقال ابن جرير أيضا :حدثنا أبو كريب ،حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ،عن عباد بن عباد ،عن
جعفر ،عن القاسم ( ، )6عن أبي أمامة قال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج على
الناس وهم يتنازعون في القرآن ،فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صب على وجهه الخل ،ثم
قال " :ل تضربوا كتاب ال بعضه ببعض ،فإنه ما ضل قوم قط إل أوتوا ( )7الجدل" ،ثم تل
صمُونَ }
خ ِ
جدَل َبلْ ُهمْ َقوْمٌ َ
{ مَا ضَرَبُوهُ َلكَ إِل َ
__________
( )1ورواه الطبراني في المعجم الكبير (.)12/154
( )2في ت " :روى".
( )3المسند ( )5/256وسنن الترمذي برقم ( )3253وسنن ابن ماجه برقم ( )48وتفسير الطبري (
.)25/53
( )4في أ " :أرفعه".
( )5وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن الشامي ،ضعفه ابن حبان ،وقال " :كان يروى عن
أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم المعضلت".
( )6في أ " :جعفر بن القاسم".
( )7في ت " :أورثوا".
( )7/235
()1
وقوله { :إِنْ ُهوَ إِل عَ ْبدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَيْهِ } يعني :عيسى ،عليه السلم ،ما هو إل عبد [من عباد
جعَلْنَاهُ مَثَل لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي :دللة وحجة
ال] ( )2أنعم ال عليه بالنبوة والرسالة { ،وَ َ
وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء.
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ } أي :بدلكم ( { )3مَل ِئكَةً فِي ال ْرضِ يَخُْلفُونَ } ،قال السدي :
وقوله { :وََلوْ نَشَاءُ لَ َ
يخلفونك فيها .وقال ابن عباس ،وقتادة :يخلف بعضهم بعضا ،كما يخلف بعضكم بعضا .وهذا
القول يستلزم الول .وقال مجاهد :يعمرون الرض بدلكم.
وقوله { :وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ } :تقدم تفسير ابن إسحاق :أن المراد من ذلك :ما بُعث به عيسى ،
عليه السلم ،من إحياء الموتى وإبراء الكمه والبرص ،وغير ذلك من السقام .وفي هذا نظر.
وأبعد منه ما حكاه قتادة ،عن الحسن البصري وسعيد بن جبير :أي الضمير في { وإنه } ،عائد
على القرآن ،بل الصحيح أنه عائد على عيسى [عليه السلم] ( ، )4فإن السياق في ذكره ،ثم
المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة ،كما قال تبارك وتعالى { :وَإِنْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ إِل لَ ُي ْؤمِنَنّ ِبهِ
شهِيدًا }
علَ ْيهِمْ َ
قَ ْبلَ َموْتِهِ } أي :قبل موت عيسى ،عليه الصلة والسلم ،ثم { وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ َ
[النساء ، ]159 :ويؤيد هذا المعنى القراءة الخرى " :وإنه لعَلَم للساعة" أي :أمارة ودليل على
وقوع الساعة ،قال مجاهد { :وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ } أي :آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل
يوم القيامة .وهكذا روي عن أبي هريرة [رضي ال عنه] ( ، )5وابن عباس ،وأبي العالية ،
وأبي مالك ،وعكرمة ،والحسنن وقتادة ،والضحاك ،وغيرهم.
وقد تواترت الحاديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى [ابن مريم] ()6
،عليه السلم قبل يوم القيامة إماما عادل وحكما مقسطا.
وقوله { :فَل َتمْتَرُنّ ِبهَا } أي :ل تشكوا ( )7فيها ،إنها واقعة وكائنة ل محالة { ،واتبعون }
أي :فيما أخبركم به { َهذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ .وَل َيصُدّ ّنكُمُ الشّيْطَانُ } أي :عن اتباع الحق { إِنّهُ َلكُمْ
ح ْكمَةِ } أي :بالنبوة { وَلبَيّنَ َلكُمْ َب ْعضَ
عَ ُدوّ مُبِينٌ .وََلمّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ قَالَ َقدْ جِئْ ُت ُكمْ بِالْ ِ
الّذِي َتخْتَِلفُونَ فِيهِ }
قال ابن جرير :يعني من المور الدينية ل الدنيوية ( .)8وهذا الذي قاله حسن جيد ،ثم رد قول
من زعم أن "بعض" هاهنا بمعنى "كل" ،واستشهد بقول لبيد الشاعر :
__________
( )1تفسير الطبري (.)25/53
( )2زيادة من ت ،م.
( )3في ت " :بدل منكم".
( )4زيادة من ت.
( )5زيادة من ت.
( )6زيادة من ت ،م.
( )7في ت ،م ،أ " :تشكون".
( )8تفسير الطبري (.)25/55
( )7/236
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ مَلَا ِئكَةً فِي الْأَ ْرضِ َيخُْلفُونَ ( )60وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلَا َتمْتَرُنّ ِبهَا وَاتّ ِبعُونِ
وََلوْ َنشَاءُ َل َ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ ( )61وَلَا َيصُدّ ّن ُكمُ الشّ ْيطَانُ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ ( )62وََلمّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ
ح ْكمَةِ وَلِأُبَيّنَ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي َتخْتَِلفُونَ فِيهِ فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ ( )63إِنّ اللّهَ ُهوَ
قَالَ َقدْ جِئْ ُت ُكمْ بِالْ ِ
رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ ( )64فَاخْتََلفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ َفوَيْلٌ لِلّذِينَ ظََلمُوا مِنْ
عَذَابِ َيوْمٍ أَلِيمٍ ()65
تَرّاك أمْكنَة إذَا لم أ ْرضَها ( )1أو َيعْتَلق (َ )2ب ْعضَ النفوس حمَامُها ()3
وأولوه على أنه أراد جميع النفوس .قال ابن جرير :وإنما أراد نفسه فقط ،وعبر بالبعض عنها.
وهذا الذي قاله محتمل.
وقوله { :فَا ّتقُوا اللّهَ } أي [ :فيما] ( )4أمركم به { ،وأطيعون } ،فيما جئتكم به { ،إِنّ اللّهَ ُهوَ
رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ } أي :أنا وأنتم عبيد له ،فقراء إليه ،مشتركون في
عبادته وحده ل شريك له { ،هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ } أي :هذا الذي جئتكم به هو الصراط
المستقيم ،وهو عبادة الرب ،عز وجل ،وحده.
وقوله { :فَاخْتََلفَ الحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ } أي :اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه ،منهم من يقر بأنه
عبد ال ورسوله -وهو الحق -ومنهم من يدعي أنه ولد ال ،ومنهم من يقول :إنه ال -تعالى
عذَابِ َيوْمٍ أَلِيمٍ }
ال عن قولهم علوا كبيرا -ولهذا قال َ { :فوَ ْيلٌ ِللّذِينَ ظََلمُوا مِنْ َ
خُلفُونَ (} )60
جعَلْنَا مِ ْنكُمْ مَل ِئكَةً فِي ال ْرضِ يَ ْ
{ وََلوْ نَشَاءُ لَ َ
__________
( )1في أ " :أرمنها".
( )2في أ " :يقتلوا".
( )3البيت في تفسير الطبري ( )25/55وديوان لبيد العامري (ص .)313
( )4زيادة من ت ،م ،أ.
( )7/237
ع ُدوّ إِلّا
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
شعُرُونَ ( )66الَْأخِلّاءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ لَا َي ْ
خ ْوفٌ عَلَ ْي ُكمُ الْ َيوْ َم وَلَا أَنْ ُتمْ تَحْزَنُونَ ( )68الّذِينَ َآمَنُوا بِآَيَاتِنَا َوكَانُوا
ا ْلمُ ّتقِينَ ( )67يَا عِبَادِ لَا َ
جكُمْ ُتحْبَرُونَ (ُ )70يطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبصِحَافٍ مِنْ َذ َهبٍ وََأكْوَابٍ
مُسِْلمِينَ ( )69ا ْدخُلُوا الْجَنّةَ أَنْتُمْ وَأَ ْزوَا ُ
س وَتَلَذّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ( )71وَتِ ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْ ُتمْ
َوفِيهَا مَا َتشْ َتهِيهِ الْأَ ْنفُ ُ
َت ْعمَلُونَ (َ )72ل ُكمْ فِيهَا فَا ِكهَةٌ كَثِي َرةٌ مِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ ()73
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ
شعُرُونَ ( )66الخِلءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
{ َهلْ يَ ْنظُرُونَ إِل السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً وَهُمْ ل يَ ْ
خ ْوفٌ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ وَل أَنْ ُتمْ تَحْزَنُونَ ( )68الّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا
عَ ُدوّ إِل ا ْلمُ ّتقِينَ ( )67يَا عِبَادِ ل َ
جكُمْ تُحْبَرُونَ ( )70يُطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبصِحَافٍ مِنْ ذَ َهبٍ
َوكَانُوا مُسِْلمِينَ ( )69ادْخُلُوا ا ْلجَنّةَ أَنْتُ ْم وَأَ ْزوَا ُ
ن وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( )71وَتِ ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا
ب َوفِيهَا مَا َتشْ َتهِيهِ ال ْنفُسُ وَتَلَذّ العْيُ ُ
وََأكْوَا ٍ
ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (َ )72لكُمْ فِيهَا فَا ِكهَةٌ كَثِي َرةٌ مِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ (.} )73
يقول تعالى :هل ينتظر هؤلء المشركون المكذبون للرسل { إِل السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ َبغْتَ ًة وَهُمْ ل
شعُرُونَ } ؟ أي :فإنها كائنة ل محالة وواقعة ،وهؤلء غافلون عنها غير مستعدين [لها] ()1
يَ ْ
فإذا جاءت إنما تجيء وهم ل يشعرون بها ،فحينئذ يندمون كل الندم ،حيث ل ينفعهم ول يدفع
عنهم.
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ إِل ا ْلمُ ّتقِينَ } أي :كل صداقة وصحابة لغير ال
وقوله { :الخِلءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إل ما كان ل ،عز وجل ،فإنه دائم بدوامه .وهذا كما قال
خذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِن ُكمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ
إبراهيم ،عليه السلم ،لقومه { :إِ ّنمَا اتّ َ
ضكُمْ َب ْعضًا َومَأْوَاكُمُ النّا ُر َومَا َل ُكمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
ض وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ
ضكُمْ بِ َب ْع ٍ
َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ
[ العنكبوت .] 25 :
وقال عبد الرزاق :أخبرنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن الحارث ( ، )2عن علي ،رضي ال
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في ت " :وروى ابن أبي حاتم عن علي".
( )7/237
( )7/238
( )7/239
( )7/240
جهَنّمَ خَالِدُونَ ( )74لَا ُيفَتّرُ عَ ْنهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (َ )75ومَا ظََلمْنَا ُهمْ
عذَابِ َ
إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي َ
وََلكِنْ كَانُوا ُهمُ الظّاِلمِينَ ( )76وَنَا َدوْا يَا مَاِلكُ لِ َي ْقضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ قَالَ إِ ّن ُكمْ مَاكِثُونَ (َ )77لقَدْ جِئْنَاكُمْ
حسَبُونَ أَنّا لَا
ق وََلكِنّ َأكْثَ َركُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ (َ )78أمْ أَبْ َرمُوا َأمْرًا فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ (َ )79أمْ يَ ْ
حّبِالْ َ
جوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا َلدَ ْيهِمْ َيكْتُبُونَ ()80
سمَعُ سِرّهُ ْم وَ َن ْ
نَ ْ
جهَنّمَ خَالِدُونَ ( )74ل ُيفَتّرُ عَ ْنهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (َ )75ومَا ظََلمْنَا ُهمْ
{ إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي عَذَابِ َ
وََلكِنْ كَانُوا ُهمُ الظّاِلمِينَ ( )76وَنَا َدوْا يَا مَاِلكُ لِ َي ْقضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ قَالَ إِ ّن ُكمْ مَاكِثُونَ (َ )77لقَدْ جِئْنَاكُمْ
حسَبُونَ أَنّا ل
ق وََلكِنّ َأكْثَ َركُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ (َ )78أمْ أَبْ َرمُوا َأمْرًا فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ (َ )79أمْ يَ ْ
حّبِالْ َ
جوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا َلدَ ْيهِمْ َيكْتُبُونَ (.} )80
سمَعُ سِرّهُ ْم وَ َن ْ
نَ ْ
جهَنّمَ
عذَابِ َ
لما ذكر [تعالى] ( )1حال السعداء ،ثنى بذكر الشقياء ،فقال { :إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي َ
خَاِلدُونَ .ل ُيفَتّرُ عَ ْنهُمْ } أي :ساعة واحدة { وَ ُهمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي :آيسون من كل خير َ { ،ومَا
ظََلمْنَا ُه ْم وََلكِنْ كَانُوا هُمُ الظّاِلمِينَ } أي :بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجج عليهم وإرسال الرسل
إليهم ،فكذبوا وعصوا ،فجوزوا بذلك جزاء وفاقا ،وما ربك بظلم للعبيد.
{ وَنَا َدوْا يَامَاِلكُ } وهو :خازن النار.
قال البخاري :حدثنا حجاج بن مِنْهال ،حدثنا سفيان بن عيينة ،عن عمرو بن عطاء ( ، )2عن
صفوان بن يعلى ،عن أبيه قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ على المنبر :
{ وَنَا َدوْا يَامَاِلكُ لِ َي ْقضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ }
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في ت " :روى البخاري بإسناده".
( )7/240
عمّا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ
ن وََلدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ ( )81سُ ْبحَانَ َربّ ال ّ
حمَ ِ
ُقلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
َيصِفُونَ ( )82فَذَرْ ُهمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ ( )83وَ ُهوَ الّذِي فِي
ض َومَا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
حكِيمُ ا ْلعَلِيمُ ( )84وَتَبَا َركَ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
سمَاءِ إِلَ ٌه َوفِي الْأَ ْرضِ إِلَ ٌه وَ ُهوَ ا ْل َ
ال ّ
شفَاعَةَ إِلّا مَنْ
جعُونَ ( )85وَلَا َيمِْلكُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ال ّ
بَيْ َن ُهمَا وَعِنْ َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ ( )86وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ (َ )87وقِيلِهِ يَا َربّ
حّشهِدَ بِالْ َ
َ
سوْفَ َيعَْلمُونَ ()89
صفَحْ عَ ْنهُ ْم َو ُقلْ سَلَامٌ َف َ
إِنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ لَا ُي ْؤمِنُونَ ( )88فَا ْ
( )1أي :ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه ،فإنهم كما قال تعالى { :ل ُي ْقضَى عَلَ ْيهِمْ فَ َيمُوتُوا
شقَى .الّذِي َيصْلَى النّارَ
عذَا ِبهَا } [فاطر .]36 :وقال { :وَيَتَجَنّ ُبهَا ( )2ال ْ
خفّفُ عَ ْنهُمْ مِنْ َ
وَل ُي َ
ا ْلكُبْرَى .ثُمّ ل َيمُوتُ فِيهَا وَل يَحْيَى } [العلى ، ]13 - 11 :فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك ،
{ قَالَ إِ ّنكُمْ مَاكِثُونَ } :قال ابن عباس :مكث ألف سنة ،ثم قال :إنكم ماكثون .رواه ابن أبي
حاتم.
أي :ل خروج لكم منها ول محيد لكم عنها.
ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال َ { :لقَدْ جِئْنَاكُمْ بِا ْلحَقّ } أي :بيناه لكم
ووضحناه وفسرناه { ،وََلكِنّ َأكْثَ َركُمْ لِ ْلحَقّ كَا ِرهُونَ } أي :ولكن كانت سجاياكم ل تقبله ول تقبل
عليه ،وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ،وتصد عن الحق وتأباه ،وتبغض أهله ،فعودوا على أنفسكم
بالملمة ،واندموا حيث ل تنفعكم ( )3الندامة.
ثم قال تعالى َ { :أمْ أَبْ َرمُوا َأمْرًا فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ } قال مجاهد :أرادوا كيد شر فكدناهم.
شعُرُونَ } [النمل :
وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى َ { :و َمكَرُوا َمكْرًا َومَكَرْنَا َمكْرًا وَهُمْ ل َي ْ
، ]50وذلك لن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه ،فكادهم ال
جوَاهُمْ } أي :سرهم
سمَعُ سِرّهُ ْم وَ َن ْ
حسَبُونَ أَنّا ل نَ ْ
،ورد وبال ذلك عليهم ؛ ولهذا قال َ { :أمْ يَ ْ
وعلنيتهم { ،بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَ ْيهِمْ َيكْتُبُونَ } أي :نحن نعلم ما هم عليه ،والملئكة أيضا يكتبون
أعمالهم ،صغيرها وكبيرها.
عمّا
ت وَال ْرضِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ
س َموَا ِ
ن وَلَدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ ( )81سُبْحَانَ َربّ ال ّ
حمَ ِ
{ ُقلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
َيصِفُونَ ( )82فَذَرْ ُهمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ ( )83وَ ُهوَ الّذِي فِي
ت وَال ْرضِ َومَا
س َموَا ِ
حكِيمُ ا ْلعَلِيمُ ( )84وَتَبَا َركَ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
سمَاءِ إِلَ ٌه َوفِي الرْضِ إَِل ٌه وَ ُهوَ الْ َ
ال ّ
شفَاعَةَ إِل مَنْ
جعُونَ ( )85وَل َيمِْلكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ال ّ
بَيْ َن ُهمَا وَعِنْ َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ ( )86وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ (َ )87وقِيلِهِ يَا َربّ
حّشهِدَ بِالْ َ
َ
سوْفَ َيعَْلمُونَ (} )89
صفَحْ عَ ْنهُ ْم َو ُقلْ سَلمٌ َف َ
إِنّ َهؤُلءِ َقوْمٌ ل ُي ْؤمِنُونَ ( )88فَا ْ
ن وَلَدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } أي :لو فرض هذا
حمَ ِ
يقول تعالى ُ { :قلْ } يا محمد { :إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
لعبدته
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4819
( )2في م " :وسيجنبها".
( )3في ت ،م " :ل تنفع".
( )7/241
على ذلك لني عبد من عبيده ،مطيع لجميع ما يأمرني به ،ليس عندي استكبار ول إباء عن
عبادته ،فلو فرض كان هذا ،ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى ،والشرط ل يلزم منه الوقوع ول
طفَى ِممّا َيخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَا َنهُ
خ َذ وَلَدًا لصْ َ
الجواز أيضا ،كما قال تعالى َ { :لوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَتّ ِ
ُهوَ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْل َقهّارُ } [الزمر .]4 :
[و] ( )1قال بعض المفسرين في قوله { :فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } أي :النفين .ومنهم سفيان
الثوري ،والبخاري حكاه فقال :ويقال َ { :أ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } الجاحدين ،من عبد يعبد.
وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد العلى ،عن ابن وهب ،
حدثني ابن أبي ذئب ،عن أبي قُسَيْط ( ، )2عن َبعَجة بن زيد الجهني ؛ أن امرأة منهم دخلت
على زوجها -وهو رجل منهم أيضا -فولدت له في ستة أشهر ،فذكر ذلك زوجها لعثمان بن
عفان ،رضي ال عنه ،فأمر بها أن ترجم ،فدخل عليه علي بن أبي طالب ،رضي ال عنه ،
شهْرًا } [الحقاف ، ]15 :وقال
حمْلُهُ َوفِصَالُهُ ثَلثُونَ َ
فقال :إن ال يقول في كتابه { :وَ َ
{ َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان ، ]14 :قال :فوال ما عبد عثمان ،رضي ال عنه ،أن بعث
إليها :ترد -قال يونس :قال ابن وهب :عبد :استنكف)3( .
[و] ( )4قال الشاعر :
مَتَى مَا َيشَأ ذُو الوُدّ يصْ ِرمْ خَليله ...و َيعْبَدُ عَلَيه ل مِحَالَة ظَالمًا ()5
وهذا القول فيه نظر ؛ لنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره :إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا
فيه نظر ،فليتأمل .اللهم إل أن يقال " :إن" ليست شرطا ،وإنما هي نافية كما قال علي بن أبي
ن وَلَدٌ } ،يقول :لم يكن للرحمن ولد فأنا
حمَ ِ
طلحة ،عن ابن عباس في قوله ُ { :قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
أول الشاهدين.
ن وََلدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } أي :إن
حمَ ِ
وقال قتادة :هي كلمة من كلم العرب ُ { :قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
ذلك لم يكن فل ينبغي.
ن وَلَدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } أي :فأنا أول من عبده بأن ل ولد
حمَ ِ
وقال أبو صخر ُ { :قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
له ،وأول من وحده .وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد { :فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } أي :أول من عبده ووحده وكذبكم.
__________
( )1زيادة من ت ،م.
( )2في ت " :ما رواه بإسناده".
( )3تفسير الطبري (.)25/61
( )4زيادة من ت ،م.
( )5البيت في تفسير الطبري (.)25/60
( )7/242
وقال البخاري { :فَأَنَا َأوّلُ ا ْلعَا ِبدِينَ } النفين .وهما لغتان ،رجل عابد وعبد (.)1
والول أقرب على أنه شرط وجزاء ،ولكن هو ممتنع.
ن وَلَدٌ فَأَنَا َأوّلُ ا ْلعَابِدِينَ } يقول :لو كان له ولد
حمَ ِ
وقال السدي [في قوله] (ُ { )2قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
كنت أول من عبده ،بأن له ولدا ،لكن ل ولد له .وهو اختيار ابن جرير ،ور ّد قول من زعم أن
"إن" نافية.
عمّا َيصِفُونَ } أي :تعالى وتقدس
ت وَال ْرضِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ
س َموَا ِ
ولهذا قال { :سُبْحَانَ َربّ ال ّ
وتنزه خالق الشياء عن أن يكون له ولد ،فإنه فرد أحد صمد ،ل نظير له ول كفء له ،فل (
)3ولد له.
وقوله َ { :فذَرْهُمْ َيخُوضُوا } أي :في جهلهم وضللهم { وَيَ ْلعَبُوا } في دنياهم { حَتّى يُلقُوا َي ْو َمهُمُ
الّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة ،أي :فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ،ومآلهم ،وحالهم
في ذلك اليوم.
سمَاءِ إَِل ٌه َوفِي ال ْرضِ إِلَهٌ } أي :هو إله من في السماء ،وإله من في
وقوله { :وَ ُهوَ الّذِي فِي ال ّ
حكِيمُ ا ْلعَلِيمُ }
الرض ،يعبده أهلهما ،وكلهم خاضعون له ،أذلء بين يديه { ،وَ ُهوَ الْ َ
جهْ َركُ ْم وَ َيعْلَمُ مَا
س َموَاتِ َوفِي ال ْرضِ َيعَْلمُ سِ ّركُ ْم َو َ
وهذه الية كقوله تعالى { :وَ ُهوَ اللّهُ فِي ال ّ
َتكْسِبُونَ } [النعام ]3 :أي :هو المدعو ال في السموات والرض.
ت وَال ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا } أي :هو خالقهما ومالكهما والمتصرف
س َموَا ِ
{ وَتَبَا َركَ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
فيهما ،بل مدافعة ول ممانعة ،فسبحانه وتعالى عن الولد ،وتبارك :أي استقر له السلمة من
العيوب والنقائص ؛ لنه الرب العلي العظيم ،المالك للشياء ،الذي بيده أزمة المور نقضا
جعُونَ } أي :فيجازي
وإبراما { ،وَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّاعَةِ } أي :ل يجليها لوقتها إل هو { ،وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
كل بعمله ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر.
شفَاعَةَ } أي :
ثم قال تعالى { :وَل َيمِْلكُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي :من الصنام والوثان { ال ّ
شهِدَ بِا ْلحَقّ وَهُمْ َيعَْلمُونَ } هذا استثناء منقطع ،أي :لكن
ل يقدرون على الشفاعة لهم { ،إِل مَنْ َ
من شهد بالحق على بصيرة وعلم ،فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له.
ثم قال { :وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ } أي :ولئن سألت هؤلء المشركين
بال العابدين معه غيره { مَنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ } أي :هم يعترفون ( )4أنه الخالق للشياء
جميعها ،وحده ل شريك له في ذلك ،ومع هذا يعبدون معه غيره ،ممن ل يملك شيئا ول يقدر
على شيء ،فهم في
__________
( )1صحيح البخاري (" )8/568فتح الباري".
( )2زيادة من أ.
( )3في ت " :ول".
( )4في ت " :يعرفون".
( )7/243
ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل ؛ ولهذا قال { :فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ }
وقوله َ { :وقِيلِهِ ( )1يَا َربّ إِنّ َهؤُلءِ َقوْمٌ ل ُي ْؤمِنُونَ } أي :وقال :محمد :قيله ،أي :شكا إلى
ربه شكواه من قومه الذين كذبوه ،فقال :يا رب ،إن هؤلء قوم ل يؤمنون ،كما أخبر تعالى
في الية الخرى َ { :وقَالَ الرّسُولُ يَا َربّ إِنّ َق ْومِي اتّخَذُوا َهذَا ا ْلقُرْآنَ َمهْجُورًا } [الفرقان ]30 :
وهذا الذي قلناه هو [معنى] ( )2قول ابن مسعود ،ومجاهد ،وقتادة ،وعليه فسر ابن جرير (.)3
قال البخاري :وقرأ عبد ال -يعني ابن مسعود " : -وقال الرسول يا رب")4( .
وقال مجاهد في قوله َ { :وقِيلِهِ يَا َربّ إِنّ َهؤُلءِ َقوْمٌ ل ُي ْؤمِنُونَ } ،قال :فأبر ال قول محمد.
وقال قتادة :هو قول نبيكم صلى ال عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل.
ثم حكى ابن جرير في قوله َ { :وقِيلِهِ يَا َربّ } قراءتين ،إحداهما النصب ،ولها توجيهان :
جوَاهُمْ } [الزخرف ]80 :والثاني :أن يقدر
سمَعُ سِرّهُمْ وَنَ ْ
أحدهما أنه معطوف على قوله { :نَ ْ
عةِ } تقديره :
فعل ،وقال :قيلَه .والثانية :الخفض ،وقيلِهِ ،عطفا على قوله { :وَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ
وعِلم قيله.
صفَحْ عَ ْنهُمْ } أي :المشركين َ { ،وقُلْ سَلمٌ } أي :ل تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به
وقوله { :فَا ْ
سوْفَ َيعَْلمُونَ ( ، } )5هذا تهديد منه
من الكلم السيئ ،ولكن تألفهم واصفح عنهم فعل وقول { َف َ
تعالى لهم ،ولهذا أحل بهم بأسه الذي ل يرد ،وأعلى دينه وكلمته ،وشرع بعد ذلك الجهاد
والجلد ،حتى دخل الناس في دين ال أفواجا ،وانتشر السلم في المشارق والمغارب.
آخر تفسير سورة الزخرف
__________
( )1في ت " :وقيل هو".
( )2زيادة من ت ،أ.
( )3تفسير الطبري (.)25/62
( )4صحيح البخاري (" )8/568فتح الباري".
( )5في م " :تعلمون".
( )7/244
حم ( )1وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ ( )2إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ ( )3فِيهَا ُيفْرَقُ ُكلّ َأمْرٍ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (َ )6ربّ
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
سلِينَ (َ )5ر ْ
حكِيمٍ (َ )4أمْرًا مِنْ عِ ْندِنَا إِنّا كُنّا مُرْ ِ
َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( )7لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آَبَا ِئكُمُ
ال ّ
الَْأوّلِينَ ()8
( )7/245
عذَابٌ
سمَاءُ بِ ُدخَانٍ مُبِينٍ (َ )10يغْشَى النّاسَ َهذَا َ
شكّ يَ ْلعَبُونَ ( )9فَارْ َتقِبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
َبلْ هُمْ فِي َ
شفْ عَنّا ا ْلعَذَابَ إِنّا ُم ْؤمِنُونَ ( )12أَنّى َلهُمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (
أَلِيمٌ ( )11رَبّنَا ا ْك ِ
شفُوا ا ْلعَذَابِ قَلِيلًا إِ ّن ُكمْ عَائِدُونَ (َ )15يوْمَ نَ ْبطِشُ
)13ثُمّ َتوَّلوْا عَنْهُ َوقَالُوا ُمعَلّمٌ َمجْنُونٌ ( )14إِنّا كَا ِ
طشَةَ ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َت ِقمُونَ ()16
الْبَ ْ
وقد ذكرنا الحاديث ( )1الواردة في ذلك في "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته.
جعَة فإن نص
ومن قال :إنها ليلة النصف من شعبان -كما روي عن عكرمة -فقد أبعد النّ ْ
القرآن أنها في رمضان .والحديث الذي رواه عبد ال بن صالح ،عن الليث ،عن عقيل عن
الزهري :أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الخنس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال " :تقطع الجال من شعبان إلى شعبان ،حتى إن الرجل لينكح ويولد له ،وقد أخرج اسمه في
الموتى" ( )2فهو حديث مرسل ،ومثله ل يعارض به النصوص.
وقوله { :إِنّا كُنّا مُ ْنذِرِينَ } أي :معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعًا ،لتقوم حجة ال على
عباده.
حكِيمٍ } أي :في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر
وقوله { :فِيهَا ُيفْرَقُ ُكلّ َأمْرٍ َ
السنة ،وما يكون فيها من الجال والرزاق ،وما يكون فيها إلى آخرها .وهكذا روي عن ابن
عمر ،وأبي مالك ،ومجاهد ،والضحاك ،وغير واحد من السلف.
وقوله { :حكيم } أي :محكم ل يبدل ول يغير ؛ ولهذا قال َ { :أمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي :جميع ما
سلِينَ } أي :إلى الناس
يكون ويقدره ال تعالى وما يوحيه ( )3فبأمره وإذنه وعلمه { ،إِنّا كُنّا مُرْ ِ
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ
رسول يتلو عليهم آيات ال مبينات ،فإن الحاجة كانت ماسة إليه ؛ ولهذا قال َ { :ر ْ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } أي :الذي أنزل هذا القرآن هو رب
س َموَاتِ وَال ْر ِ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ َربّ ال ّ
إِنّهُ ُهوَ ال ّ
السموات والرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما { ،إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } أي :إن كنتم متحققين.
ثم قال { :ل إِلَهَ إِل ُهوَ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَا ِئكُ ُم الوّلِينَ } وهذه الية كقوله تعالى ُ { :قلْ
ت وَالرْضِ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ُيحْيِي
س َموَا ِ
جمِيعًا الّذِي َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي َرسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ
وَ ُيمِيتُ [فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ] } ( )4الية [ العراف .] 158 :
سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ (َ )10يغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ
شكّ يَ ْلعَبُونَ ( )9فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
{ َبلْ ُهمْ فِي َ
شفْ عَنّا ا ْلعَذَابَ إِنّا ُم ْؤمِنُونَ ( )12أَنّى َلهُمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (
أَلِيمٌ ( )11رَبّنَا ا ْك ِ
شفُوا ا ْلعَذَابِ قَلِيل إِ ّنكُمْ عَائِدُونَ (َ )15يوْمَ نَ ْبطِشُ
)13ثُمّ َتوَّلوْا عَنْهُ َوقَالُوا ُمعَلّمٌ َمجْنُونٌ ( )14إِنّا كَا ِ
طشَةَ ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َت ِقمُونَ (} )16
الْبَ ْ
يقول تعالى :بل هؤلء المشركون في شك يلعبون ،أي :قد جاءهم اليقين ( ، )5وهم يشكون فيه
سمَاءُ ِبدُخَانٍ
،ويمترون ول يصدقون به ،ثم قال متوعدا لهم ومتهددًا { :فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
مُبِينٍ }.
قال سليمان بن ِمهْرَان العمش ،عن أبي الضّحَى مسلم بن صُبَيْح ( ، )6عن مسروق قال :
دخلنا
__________
( )1في ت " :ألثار".
( )2رواه الطبراني في تفسيره ( )25/65والبيهقي في شعب اليمان برقم ( )3839من طريق
الليث عن عقيل به.
( )3في أ " :يوجبه".
( )4زيادة من ت ،أ.
( )5في ت " :المبين".
( )6في ت " :روى البخاري ومسلم في صحيحيهما".
( )7/246
المسجد -يعني مسجد الكوفة -عند أبواب كندة ،فإذا رجل يقص على أصحابه َ { :يوْمَ تَأْتِي
سمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة ،فيأخذ بأسماع
ال ّ
المنافقين وأبصارهم ،ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام .قال :فأتينا ابن مسعود فذكرنا ذلك له ،
وكان مضطجعًا ففزع فقعد ،وقال ( )1إن ال عز وجل قال لنبيكم صلى ال عليه وسلم ُ { :قلْ مَا
أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْ ٍر َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُ َتكَّلفِينَ } [ ص ، ] 86 :إن من العلم أن يقول الرجل لما ل
يعلم " :ال أعلم" سأحدثكم عن ذلك ،إن قريشا لما أبطأت عن السلم واستعصت ( )2على
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،دعا عليهم بسنين كسني يوسف ،فأصابهم من الجهد والجوع
حتى أكلوا العظام والميتة ،وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فل يرون إل الدخان -وفي
رواية :فجعل الرجل ينظر إلى السماء ،فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد [ -قال] (
سمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ َيغْشَى النّاسَ َهذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ،فأتى
)3قال ال تعالى { :فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقيل :يا رسول ال استسق ال لمضر ،فإنها قد هلكت .فاستسقى
شفُوا ا ْل َعذَابِ قَلِيل إِ ّنكُمْ عَا ِئدُونَ } قال :ابن مسعود :فيكشف العذاب
سقُوا فأنزل ال { :إِنّا كَا ِ
لهم فَ ُ
شةَ
عنهم يوم القيامة ،فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ،فأنزل ال َ { :يوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْ َ
ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َت ِقمُونَ } ،قال :يعني يوم بدر.
قال ابن مسعود :فقد مضى خمسة :الدخان ،والروم ،والقمر ،والبطشة ،واللّزام .وهذا
الحديث مخرج في الصحيحين )4( .ورواه المام أحمد في مسنده ،وهو عند الترمذي والنسائي
في تفسيرهما ( ، )5وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة ،عن العمش ،به ()6
وقد وافق ابن مسعود على تفسير الية بهذا ،وأن الدخان مضى ،جماعة من السلف كمجاهد ،
وأبي العالية ،وإبراهيم النخعي ،والضحاك ،وعطية العوفي ،وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا جعفر بن مسافر ،حدثنا يحيى بن حسان ،حدثنا ابن
سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ } قال :كان
َلهِيعة ،حدثنا ( )7عبد الرحمن العرج في قوله َ { :يوْمَ تَأْتِي ال ّ
يوم فتح مكة.
وهذا القول غريب جدًا بل منكر.
وقال آخرون :لم يمض الدخان بعد ،بل هو من أمارات ( )8الساعة ،كما تقدم من حديث أبي
سَرِيحة ( )9حذيفة بن أسيد الغفاري ،رضي ال عنه ،قال :أشرف علينا رسول ال صلى ال
عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ،فقال " :ل تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات :طلوع
الشمس من مغربها ،والدخان ،والدابة ،وخروج يأجوج ومأجوج ،وخروج عيسى ابن مريم ،
والدجال ،وثلثة خسوف :خسف بالمشرق ،وخسف بالمغرب ،وخسف بجزيرة العرب ،ونار
تخرج من قعر عدن تسوق الناس
__________
( )1في ت ،م " :فقال".
( )2في أ " :واستصعبت".
( )3زيادة من أ.
( )4صحيح البخاري برقم ( )4820وصحيح مسلم برقم (.)2798
( )5في م " :تفسيريهما".
( )6المسند ( )431 ، 1/380وسنن الترمذي برقم ( )3254والنسائي في السنن الكبرى برقم (
)11481وتفسير الطبري ()25/66
( )7في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن".
( )8في ت " :آيات".
( )9في ت " :أبي سريحة في".
( )7/247
-أو :تحشر الناس : -تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" تفرد بإخراجه مسلم في
صحيحه (.)1
وفي الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لبن الصياد " :إني خبأت لك خَبْأ" قال :
هو الدّخ .فقال له " :اخسأ فلن تعدو قدرك" قال :وخبأ له رسول ال صلى ال عليه وسلم :
سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ } (.)2
{ فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب ،وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان ،
وهم ُيقَرطمون العبارة ؛ ولهذا قال " :هو الدّخ" يعني :الدخان .فعندها عرف رسول ال صلى ال
عليه وسلم مادته وأنها شيطانية ،فقال له " :اخسأ فلن تعدو قدرك".
ثم قال ابن جرير :وحدثني عصام بن َروّاد بن الجراح ،حدثنا أبي ،حدثنا سفيان بن سعيد
الثوري ،حدثنا منصور بن المعتمر ،عن رِ ْبعِي بن حِرَاش قال :سمعت حذيفة بن اليمان يقول (
: )3قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أول اليات الدجال ،ونزول عيسى ابن مريم ،
ونار تخرج من قعر عدن أبين ،تسوق الناس إلى المحشر ،تقيل معهم إذا قالوا ،والدخان -قال
حذيفة :يا رسول ال ،وما الدخان ؟ فتل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية { :فَارْ َت ِقبْ
سمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ َيغْشَى النّاسَ َهذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } -يمل ما بين المشرق والمغرب ،
َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
يمكث أربعين يومًا وليلة ،أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ( ، )4وأما الكافر فيكون بمنزلة
السكران ،يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" (.)5
قال ابن جرير :لو صح هذا الحديث لكان فاصل وإنما لم أشهد له بالصحة ؛ لن محمد بن خلف
العسقلني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث :هل سمعه من سفيان ؟ فقال له :ل قال :
فقلت :أقرأته عليه ؟ قال :ل قال :فقلت له :فقرئ عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال :ل فقلت
له :فمن أين جئت به ؟ فقال :جاءني به قوم فعرضوه علي ،وقالوا لي :اسمعه منا .فقرءوه
عليّ ثم ذهبوا به ،فحدثوا به عني ،أو كما قال (.)6
وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا ،فإنه موضوع بهذا السند ،وقد أكثر ابن جرير من
سياقه في أماكن من هذا التفسير ،وفيه منكرات كثيرة جدًا ،ول سيما في أول سورة "بني
إسرائيل" في ذكر المسجد القصى ،وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زرعة ،حدثنا صفوان ،حدثنا الوليد ،حدثنا خليل ،عن الحسن ،
عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يهيج الدخان
بالناس ،فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة ،وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه".
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)2901
( )2صحيح البخاري برقم ( )3055وصحيح مسلم برقم ( )2930من حديث عبد ال بن عمر ،
رضي ال عنهما.
( )3في ت " :وروى ابن أبي حاتم عن حذيفة قال".
( )4في ت ،م " :الزكام".
( )5تفسير الطبري ( )25/68ومن طريقه رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج أحاديث
الكشاف للزيلعي ( )1174والبغوي في معالم التنزيل (.)7/230
( )6تفسير الطبري (.)25/68
( )7/248
ورواه سعيد بن أبي عَرُوبة ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن أبي سعيد الخدري موقوفًا .ورواه
عوف ،عن الحسن قوله.
وقال ابن جرير أيضًا :حدثني محمد بن عوف ،حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ،حدثني أبي
ض ْمضَم بن زُرعَة ،عن شُريح بن عبيد ،عن أبي مالك الشعري قال :قال رسول ال
،حدثني َ
صلى ال عليه وسلم " :إن ربكم أنذركم ثلثا :الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ،ويأخذ الكافر
فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال".
ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد ،عن محمد بن إسماعيل بن عياش ،به ( )1وهذا
إسناد جيد.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن صالح بن مسلم ،حدثنا إسرائيل ،عن أبي
إسحاق ،عن الحارث ،عن علي ،رضي ال عنه ،قال :لم تمض آية الدخان بعد ،يأخذ
المؤمن كهيئة الزكام ،وتنفخ الكافر حتى ينفذ.
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع ،عن عبد الملك بن المغيرة ،عن عبد الرحمن بن
البيلماني ،عن ابن عمر قال :يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ،ويدخل في مسامع
الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ ،أي :المشوي على الرّضف.
ثم قال ابن جرير :حدثني يعقوب ،حدثنا ابن عُلَيّة عن ابن جريج ( ، )2عن عبد ال بن أبي
مليكة قال :غدوت على ابن عباس ،رضي ال عنهما ،ذات يوم فقال :ما نمت الليلة حتى
أصبحت .قلت :لم ؟ قال :قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ،فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ،
فما نمت حتى أصبحت ( )3وهكذا رواه ابن أبي حاتم ( ، )4عن أبيه ،عن ابن عمر ،عن سفيان
،عن عبد ال بن أبي يزيد ،عن عبد ال بن أبي مليكة ،عن ابن عباس فذكره .وهذا إسناد
صحيح إلى ابن عباس حبر المة وترجمان القرآن .وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين
أجمعين ،مع الحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما ،التي أوردناها مما فيه مقنع
ودللة ظاهرة على أن الدخان من اليات المنتظرة ،مع أنه ظاهر القرآن.
سمَاءُ بِ ُدخَانٍ مُبِينٍ } أي :بين واضح يراه كل أحد .وعلى ما
قال ال تعالى { :فَارْ َتقِبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
فسر به ابن مسعود ،رضي ال عنه :إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد.
وهكذا قوله َ { :يغْشَى النّاسَ } أي :يتغشاهم و َيعُمهم ( ، )5ولو كان أمرا خياليّا يخص أهل مكة
المشركين لما
__________
( )1تفسير الطبري ( )25/68والمعجم الكبير ( )3/292وقول الحافظ ابن كثير هنا " :هذا إسناد
جيد" متعقب فإن لهذه النسخة ثلث علل :
الولى :محمد بن إسماعيل بن عياش قال أبو حاتم " :لم يسمع من أبيه شيئا ،حملوه على أن
يحدث فحدث".
الثانية :ضمضم بن زرعة ،ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين ومحمد بن إسماعيل بن عياش قال
أبو داود " :لم يكن بذاك".
الثالثة :شريح بن عبيد ،قد كلم في سماعه من أبي مالك الشعري قال أبو حاتم " :شريح بن
عبيد ،عن أبي مالك الشعري مرسل".
( )2في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
( )3تفسير الطبري (.)25/68
( )4في ت " :ورواه ابن جرير هكذا" ،وفي أ " :وهكذا رواه ابن جرير".
( )5في أ " :ويغمهم".
( )7/249
( )7/250
ن وَجَا َءهُمْ َرسُولٌ كَرِيمٌ ( )17أَنْ أَدّوا إَِليّ عِبَادَ اللّهِ إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ
عوْ َ
وَلَقَدْ فَتَنّا قَبَْلهُمْ َقوْمَ فِرْ َ
()18
وقوله تعالى َ { :يوْمَ نَ ْبطِشُ الْ َبطْشَةَ ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َتقِمُونَ } فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر .وهذا
قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم ،وروي أيضًا عن ابن عباس
[وجماعة] ( )1من رواية العوفي ،عنه .وعن أبي بن كعب وجماعة ،وهو محتمل.
والظاهر أن ذلك يوم القيامة ،وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا.
قال ( )2ابن جرير :حدثني يعقوب ،حدثنا ابن علية ،حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال :قال
ابن عباس :قال ابن مسعود :البطشة الكبرى :يوم بدر ،وأنا أقول :هي يوم القيامة (.)3
وهذا إسناد صحيح عنه ،وبه يقول الحسن البصري ،وعكرمة في أصح الروايتين ( ، )4عنه.
عوْنَ وَجَاءَ ُهمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( )17أَنْ أَدّوا إَِليّ عِبَادَ اللّهِ إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ
{ وََلقَدْ فَتَنّا قَبَْلهُمْ َقوْمَ فِرْ َ
َأمِينٌ (} )18
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في ت " :وروى".
( )3تفسير الطبري (.)25/70
( )4في ت " :القولين".
( )7/251
جمُونِ ()20
ع ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ أَنْ تَرْ ُ
وَأَنْ لَا َتعْلُوا عَلَى اللّهِ إِنّي آَتِيكُمْ بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ ( )19وَإِنّي ُ
وَإِنْ لَمْ ُت ْؤمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (َ )21فدَعَا رَبّهُ أَنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ ُمجْ ِرمُونَ ( )22فََأسْرِ ِبعِبَادِي لَيْلًا إِ ّن ُكمْ
ت وَعُيُونٍ ()25
مُتّ َبعُونَ ( )23وَاتْ ُركِ الْ َبحْرَ رَ ْهوًا إِ ّنهُمْ جُنْدٌ ُمغْ َرقُونَ ( )24كَمْ تَ َركُوا مِنْ جَنّا ٍ
ك وََأوْرَثْنَاهَا َق ْومًا آَخَرِينَ (َ )28فمَا
ع َومَقَامٍ كَرِيمٍ ( )26وَ َن ْعمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَا ِكهِينَ ( )27كَذَِل َ
وَزُرُو ٍ
سمَا ُء وَالْأَ ْرضُ َومَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ( )29وََلقَدْ َنجّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ (
َب َكتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ
عوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ ( )31وََلقَدِ اخْتَرْنَا ُهمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ()32
)30مِنْ فِرْ َ
وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ()33
جمُونِ ()20
{ وَأَنْ ل َتعْلُوا عَلَى اللّهِ إِنّي آتِيكُمْ بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ ( )19وَإِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ أَنْ تَ ْر ُ
وَإِنْ لَمْ ُت ْؤمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (َ )21فدَعَا رَبّهُ أَنّ َهؤُلءِ َقوْمٌ مُجْ ِرمُونَ ( )22فَأَسْرِ ِبعِبَادِي لَيْل إِ ّنكُمْ
ت وَعُيُونٍ ()25
مُتّ َبعُونَ ( )23وَاتْ ُركِ الْ َبحْرَ رَ ْهوًا إِ ّنهُمْ جُنْدٌ ُمغْ َرقُونَ ( )24كَمْ تَ َركُوا مِنْ جَنّا ٍ
ك وََأوْرَثْنَاهَا َق ْومًا آخَرِينَ (َ )28فمَا
ع َومَقَامٍ كَرِيمٍ ( )26وَ َن ْعمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَا ِكهِينَ ( )27كَذَِل َ
وَزُرُو ٍ
ض َومَا كَانُوا مُ ْنظَرِينَ ( )29وََلقَدْ نَجّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ
سمَا ُء وَالرْ ُ
َب َكتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ
عوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ ( )31وََلقَدِ اخْتَرْنَا ُهمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ()32
( )30مِنْ فِرْ َ
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ اليَاتِ مَا فِيهِ بَلءٌ مُبِينٌ (} )33
يقول تعالى :ولقد اختبرنا قبل هؤلء المشركين قوم فرعون ،وهم قبط مصر { ،وَجَاءَ ُهمْ رَسُولٌ
كَرِيمٌ } يعني :موسى كليمه ،عليه السلم ،
ل وَل ُتعَذّ ْب ُهمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ
سلْ (َ )1معَنَا بَنِي ِإسْرَائِي َ
{ أَنْ أَدّوا إَِليّ عِبَادَ اللّهِ } ،كقوله { :فَأَرْ ِ
ك وَالسّلمُ عَلَى مَنِ اتّ َبعَ ا ْلهُدَى } [ طه .] 47 :
رَ ّب َ
وقوله { :إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ } أي :مأمون على ما أبلغكموه.
وقوله { :وَأَنْ ل َتعْلُوا عَلَى اللّهِ } أي :ل تستكبروا عن اتباع آياته ،والنقياد لحججه واليمان
جهَنّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر 60 :
ببراهينه ( ، )2كقوله { :إِنّ الّذِينَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَ ْدخُلُونَ َ
].
{ إِنّي آتِيكُمْ بِسُ ْلطَانٍ [ مُبِينٍ ] } ( )3أي :بحجة ظاهرة واضحة ،وهي ما أرسله ال به من
اليات البينات والدلة القاطعة (.)4
__________
( )1في ت ،م ،أ " :وأن أرسل" وهو خطأ.
( )2في أ " :بألوهيته".
( )3زيادة من ت ،م ،أ.
( )4في ت ،من أ " :القاطعات".
( )7/251
جمُونِ } قال ابن عباس ،وأبو صالح :هو الرجم باللسان وهو
{ وَإِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ أَنْ تَ ْر ُ
الشتم.
وقال قتادة [ :هو] ( )1الرجم بالحجارة.
أي ( )2أعوذ بال الذي خلقني وخلقكم [من] ( )3أن تصلوا إليّ بسوء من قول أو فعل.
{ وَإِنْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي :فل تتعرضوا ( )4إليّ ،ودعوا المر بيني وبينكم مسالمة
إلى أن يقضي ال بيننا .فلما طال مقامه بين أظهرهم ،وأقام حجج ال عليهم ،كل ذلك وما زادهم
ذلك إل كفرًا وعنادًا ،دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم ،كما قال تعالى َ { :وقَالَ مُوسَى رَبّنَا إِ ّنكَ
علَى َأ ْموَاِلهِمْ
طمِسْ َ
ن َومَلهُ زِي َن ًة وََأمْوَال فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ
عوْ َ
آتَ ْيتَ فِرْ َ
عوَ ُت ُكمَا فَاسْ َتقِيمَا } [ يونس :
وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَل ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ اللِيمَ قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ
.] 89 ، 88وهكذا قال هاهنا { :فَدَعَا رَبّهُ أَنّ َهؤُلءِ َقوْمٌ مُجْ ِرمُونَ } فعند ذلك أمره ال تعالى أن
يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ؛ ولهذا قال :
{ فََأسْرِ ِبعِبَادِي لَيْل إِ ّنكُمْ مُتّ َبعُونَ } كما قال { :وََلقَدْ َأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي فَاضْ ِربْ
َلهُمْ طَرِيقًا فِي الْ َبحْرِ يَبَسًا ل َتخَافُ دَ َركًا وَل َتخْشَى } [ طه .]77 :
وقوله هاهنا { :وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ َر ْهوًا إِ ّنهُمْ جُنْدٌ ُمغْ َرقُونَ } وذلك أن موسى ،عليه السلم ،لما
جاوز هو وبنو إسرائيل البحر ،أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ،ليصير حائل
بينهم وبين فرعون ،فل يصل إليهم .فأمره ال ( )5أن يتركه على حاله ساكنًا ،وبشره بأنهم جند
مغرقون فيه ( ، )6وأنه ل يخاف دركًا ول يخشى.
قال ابن عباس { :وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ َر ْهوًا } كهيئته وامضِهْ .وقال مجاهد { رهوا } طريقًا يبسًا كهيئته
،يقول :ل تأمره يرجع ،اتركه حتى يرجع آخرهم .وكذا قال عكرمة ،والربيع بن أنس ،
سمَاك بن حرب ،وغير واحد (.)7
والضحاك ،وقتادة ،وابن زيد وكعب الحبار و ِ
ن وَزُرُوعٍ } والمراد بها النهار
ثم قال تعالى َ { :كمْ تَ َركُوا مِنْ جَنّاتٍ } وهي البساتين { وَعُيُو ٍ
والبار َ { ،ومَقَامٍ كَرِيمٍ } وهي المساكن الكريمة النيقة والماكن الحسنة.
وقال مجاهد ،وسعيد بن جبير َ { :و َمقَامٍ كَرِيمٍ } المنابر.
وقال ابن َلهِيعة ،عن وهب ( )8بن عبد ال المعافري ،عن عبد ال بن عمرو قال :نيل مصر
سيد النهار ،سخر ال له كل نهر بين المشرق والمغرب ،وذلّلَهُ له ،فإذا أراد ال أن يجري نيل
مصر أمر كل نهر أن يمده ،فأمدته النهار بمائها ،وفجر ال له الرض عيونًا ،فإذا انتهى
جريه إلى ما أراد ال ،أوحى ال إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في أ " :إني".
( )3زيادة من ت ،م.
( )4في أ " :تعترضوا".
( )5في ت " :تعالى".
( )6في ت " :أي في البحر" ،وفي أ " :أي فيه".
( )7في ت " :وغيرهما".
( )8في م " :ولهب".
( )7/252
( )7/253
بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دمًا .وإن حسين بن علي لما قتل احمرت السماء.
وحدثنا علي بن الحسين ،حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو -زُنَيج -حدثنا جرير ،عن يزيد بن
أبي زياد قال :لما قتل حسين ( )1بن علي ،رضي ال عنهما ،احمرت آفاق السماء أربعة
أشهر .قال يزيد :واحمرارها بكاؤها .وهكذا قال السدي الكبير.
وقال عطاء الخراساني :بكاؤها :أن تحمر أطرافها.
وذكروا ( )2أيضًا في مقتل الحسين أنه ما قلب حجر يومئذ إل وجد تحته دم عَبِيط ،وأنه كسفت
الشمس ،واحمر الفق ،وسقطت حجارة .وفي كل من ذلك نظر ،والظاهر أنه من سُخْف
الشيعة وكذبهم ،ليعظموا المر -ول شك أنه عظيم -ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه ،
وقد وقع ما هو أعظم من [ذلك] ( - )3قتل الحسين رضي ال عنه -ولم يقع شيء مما ذكروه ،
فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب ،وهو أفضل منه بالجماع ولم يقع ([ )4شيء من] ()5
ذلك ،وعثمان بن عفان قتل محصورًا مظلومًا ،ولم يكن شيء من ذلك .وعمر بن الخطاب ،
رضي ال عنه ،قتل في المحراب في صلة الصبح ،وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك
،ولم يكن شيء من ذلك .وهذا رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والخرة
يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه .ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى ال عليه وسلم خسفت
الشمس فقال الناس [ :الشمس] ( )6خسفت لموت إبراهيم ،فصلى بهم رسول ال صلى ال عليه
وسلم صلة الكسوف ،وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر ل ينخسفان لموت أحد ول لحياته (
.)7
عوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ }
وقوله { :وََلقَدْ َنجّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ مِنْ فِرْ َ
يمتن عليهم تعالى بذلك ،حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلله لهم ،وتسخيره
إياهم في ( )8العمال المهينة الشاقة.
عوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِيًا [مِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ ] } ( )9أي :مستكبرًا جبارًا عنيدًا ،كقوله :
وقوله { :مِنْ فِرْ َ
ج َعلَ أَهَْلهَا شِ َيعًا ] ( [ } )10القصص .] 4 :
عوْنَ عَل فِي ال ْرضِ [وَ َ
{ إِنّ فِرْ َ
وقوله { :فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا عَالِينَ } [ المؤمنون [ ، ] 46 :وقوله { فَاسْ َتكْبَرُوا فِي ال ْرضِ
َومَا كَانُوا سَا ِبقِينَ } ] ( [ )11العنكبوت [ ، ] 39 :فكان فرعون ] سِرفًا ( )12في أمره ،سخيف
الرأي على نفسه.
علَى عِ ْلمٍ عَلَى
علَى عِ ْلمٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } قال مجاهد { :اخْتَرْنَاهُمْ َ
وقوله { :وََلقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ َ
ا ْلعَاَلمِينَ } على من هم بين ظهريه .وقال قتادة :اختيروا على أهل زمانهم ذلك .وكان يقال :إن
__________
( )1في ت ،م " :الحسين".
( )2في ت " :وذكر".
( )3زيادة من أ.
( )4في ت ،أ " :يكن".
( )5زيادة من ت ،أ.
( )6زيادة من ت ،وفي أ " :خسفت الشمس".
( )7رواه البخاري في صحيحه برقم ( )1043ومسلم في صحيحه برقم (.)915
( )8في أ " :من".
( )9زيادة من أ.
( )10زيادة من أ.
([ )11فكان فرعون] زيادة من ت ،أ.
( )12في ت ،أ " :مسرفا".
( )7/255
إِنّ َهؤُلَاءِ لَ َيقُولُونَ ( )34إِنْ ِهيَ إِلّا َموْتَتُنَا الْأُولَى َومَا َنحْنُ ِبمُنْشَرِينَ ( )35فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ
صَا ِدقِينَ ( )36أَ ُهمْ خَيْرٌ َأمْ َقوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ أَهَْلكْنَاهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُوا مُجْ ِرمِينَ ()37
( )7/256
ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان ،فعظمها وطاف بها ( ، )1وكساها الملء والوصائل
والحبير .ثم كر راجعًا إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه ،وكان إذ ذاك دين موسى ،عليه
السلم ،فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح ،عليه السلم ،فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطولها المام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة ( )2وقد ترجمه الحافظ ابن
عساكر في تاريخه ترجمة حافلة ،أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا وما لم نذكر ( .)3وذكر أنه
ملك دمشق ،وأنه كان إذا استعرض الخيل صُفّت له من دمشق إلى اليمن ،ثم ساق من طريق
عبد الرزاق ،عن معمر ،عن ابن أبي ذئب ( ، )4عن المقبري ،عن أبي هريرة ،رضي ال
عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما أدري الحدود طهارة لهلها أم ل ؟ ول أدري تبع
لعينًا ( )5كان أم ل ؟ ول أدري ذو القرنين نبيّا كان أم ملكا ؟" وقال غيره " :أعزيرًا كان نبيّا أم
ل ؟" .وكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن محمد بن حماد الظهراني )6( ،عن عبد الرزاق (.)7
قال الدارقطني :تفرد به عبد الرزاق ( .)8ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كُرَيْب ،عن
أبيه ،عن ابن عباس ،رضي ال عنهما ،مرفوعا " :عُزيرُ ل أدري أنبيّا كان أم ل ؟ ول أدري
ألعين تُبّع أم ل ؟" (.)9
ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته ،كما سيأتي .وكأنه -وال أعلم -كان كافرًا ثم أسلم
وتابع دين الكليم ( )10على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة
المسيح ،عليه السلم ،وحج البيت في زمن الجُرهُميين ،وكساه الملء والوصائل من الحرير
والحبر ونحر عنده ستة آلف بدنة وعظمه وأكرمه .ثم عاد إلى اليمن .وقد ساق قصته بطولها
الحافظ ابن عساكر ،من طرق متعددة مطولة ( )11مبسوطة ،عن أبي بن كعب وعبد ال بن
سلم ،وعبد ال بن عباس وكعب الحبار .وإليه المرجع في ذلك كله ،وإلى عبد ال بن سلم
أيضًا ،وهو أثبت وأكبر وأعلم .وكذا روى قصته وهب بن مُنَبّه ،ومحمد بن إسحاق في السيرة
كما هو مشهور فيها .وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تُبّع هذا
بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل ،فإن تُ ّبعًا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه ،
ثم لما مات ( )12عادوا بعده إلى عبادة الصنام والنيران ،فعاقبهم ال تعالى كما ذكره في سورة
سبأ ،وقد بسطنا قصتهم هنالك ،ول الحمد والمنة.
وقال سعيد بن جبير :كسا تبع الكعبة ،وكان سعيد ينهى عن سبه.
__________
( )1في ت " :فمعظم الكعبة فطاف بها".
( )2انظر :السيرة النبوية لبن هشام (.)1/19
( )3تاريخ دمشق (" 3/500القسم المخطوط").
( )4في ت ،أ " :ذؤيب".
( )5في ت " :أمينا".
( )6في م " :الطبراني".
( )7ورواه الحاكم في المستدرك ( )1/36من طريق عبد الرزاق به ،ورواه أبو داود في سننه
برقم ( )4674من طريق عبد الرزاق به إل أنه قال " :عزيز" بدل " :ذو القرنين".
( )8قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (" : )2/50وحديث عبادة بن الصامت :
"إن الحدود كفارة لهلها" أصح وأثبت سندا" ثم ساقه من طريق البخاري بسنده إلى عبادة بن
الصامت.
( )9تاريخ دمشق (" 3/501القسم المخطوط").
( )10في ت ،م ،أ " :الخليل".
( )11في م " :طويلة".
( )12في ت ،م ،أ " :توفي".
( )7/257
وتُبّع هذا هو تُبّع الوسط ،واسمه أسعد أبو ( )1كُرَيْب بن مَلْكيكرب ( )2اليماني ذكروا أنه ملك
على قومه ثلثمائة سنة وستا ( )3وعشرين سنة ،ولم يكن في حمير أطول مدة منه ،وتوفي قبل
مبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بنحو من سبعمائة عام .وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من
يهود المدينة أن هذه البلدة ُمهَاجَرُ نبي آخر في الزمان ( ، )4اسمه أحمد ،قال في ذلك شعرا
واستودعه عند أهل المدينة .وكانوا يتوارثونه ويروونه خلفًا عن سلف .وكان ممن يحفظه أبو
أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول ال صلى ال عليه وسلم في داره ،وهو :
حمَدَ أنّهَ ...رسُولٌ مِنَ الِ بَاري النّسَمْ...
شهِ ْدتُ عَلَى َأ ْ
َ
عمْ ِرهَِ ...لكُنْت وَزيرا له وابن عَمْ...
عمْري إلى ُ
فَلَو مُدّ ُ
غمْ...
صدْرِه ُكلّ َ
ن َ
وَجَا َه ْدتُ بالسّيفِ أعْدَا َءهُ ...وَفرّجتُ عَ ْ
حفِر قبر بصنعاء في السلم ،فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين ،وعند
وذكر ابن أبي الدنيا أنه ُ
رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب " :هذا قبر حبي ولميس -وروي :حبي وتماضر -
ابنتي تُبّع ماتتا ،وهما تشهدان أن ل إله إل ال ول تشركان به شيئًا ،وعلى ذلك مات الصالحون
قبلهما.
وقد ذكرنا في "سورة سبأ" شعر سبأ في ذلك أيضًا.
قال قتادة :ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في تبع ُ :نعِت َنعْت الرجل الصالح ،ذم ال تعالى قومه ولم
يذمه ،قال :وكانت عائشة تقول :ل تسبوا تُ ّبعًا ؛ فإنه قد كان رجل صالحًا.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا صفوان ،حدثنا الوليد ،حدثنا عبد ال بن َلهِيعَة
عن أبي زُرْعَة -يعني عمرو بن جابر الحضرمي -قال :سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تسبوا تُ ّبعًا ؛ فإنه قد كان أسلم".
ورواه المام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى ،عن ابن َلهِيعة ،به (.)5
وقال الطبراني :حدثنا أحمد بن علي البار ،حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بَزّة ،حدثنا مؤمل ابن
عكْرِمة ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى
إسماعيل ،حدثنا سفيان ،عن سمَاك بن حرب ،عن ِ
ال عليه وسلم قال " :ل تسبوا تبعا ؛ فإنه قد أسلم" (.)6
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن ابن أبي ذئب ،عن المقْبُري ،عن أبي هريرة ،رضي
ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما أدري ،تُبّع نبيّا كان أم غير نبي" (
.)7
__________
( )1في ت " :بن".
( )2في م " :مليكرب".
( )3في ت ،م ،أ " :وستة".
( )4في ت ،م ،أ " :نبي في آخر الزمان".
( )5المسند ( )5/340قال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف " :فيه ابن لهيعة ،وعمرو بن
جابر ،وهما ضعيفان".
( )6المعجم الكبير ( )11/296وقال الهيثمي في المجمع (" : 8/769فيه أحمد بن أبي بزة المكي ،
ولم أعرفه ،وبقية رجاله ثقات".
( )7ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي ( )3/270من طريق عبد الرزاق
بهذا اللفظ.
( )7/258
وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر " :ل أدري تُبّع كان لعينًا ( )1أم
ل ؟" .فال أعلم.
ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى البدي ( ، )2عن عكرمة ،عن ابن عباس موقوفًا.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا عمران أبو الهذيل ،أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال :قال عطاء بن
أبي رباح :ل تسبوا تُ ّبعًا ؛ فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى ( )3عن سبه (.)4
ق وََلكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم ل
ت وَال ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا لعِبِينَ ( )38مَا خََلقْنَا ُهمَا إِل بِا ْلحَ ّ
س َموَا ِ
خَلقْنَا ال ّ
{ َومَا َ
َيعَْلمُونَ (} )39
__________
( )1في أ " :نبيا".
( )2في أ " :المدني".
( )3في ت ،أ " :قد نهى".
( )4تفسير عبد الرزاق (.)2/171
( )7/259
ج َمعِينَ (َ )40يوْمَ لَا ُيغْنِي َموْلًى عَنْ َموْلًى شَيْئًا وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ ( )41إِلّا
صلِ مِيقَا ُتهُمْ َأ ْ
إِنّ َيوْمَ ا ْل َف ْ
طعَامُ الْأَثِيمِ ( )44كَا ْل ُم ْهلِ َيغْلِي
شجَ َرةَ ال ّزقّومِ (َ )43
حمَ اللّهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ ( )42إِنّ َ
مَنْ رَ ِ
سوَاءِ ا ْلجَحِيمِ ( )47ثُ ّم صُبّوا َفوْقَ رَ ْأسِهِ
حمِيمِ ( )46خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى َ
فِي الْبُطُونِ (َ )45كغَ ْليِ ا ْل َ
حمِيمِ ( )48ذُقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ ( )49إِنّ هَذَا مَا كُنْ ُتمْ بِهِ َتمْتَرُونَ ()50
مِنْ عَذَابِ ا ْل َ
ج َمعِينَ (َ )40يوْمَ ل ُيغْنِي َموْلًى عَنْ َموْلًى شَيْئًا وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ ()41
{ إِنّ َيوْمَ ا ْل َفصْلِ مِيقَا ُتهُمْ أَ ْ
إِل مَنْ رَحِمَ اللّهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (} )42
يقول تعالى مخبرًا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل ،كقوله َ { :ومَا خََلقْنَا
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا بَاطِل ذَِلكَ ظَنّ الّذِينَ َكفَرُوا َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا مِنَ النّارِ } [ ص ]27 :
سمَاءَ وَال ْر َ
ال ّ
حقّ ل إِلَهَ إِل ُهوَ
جعُونَ فَ َتعَالَى اللّهُ ا ْلمَِلكُ الْ َ
حسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا ل تُ ْر َ
،وقال { َأفَ َ
َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلكَرِيمِ } [ المؤمنون .] 116 ، 115 :
صلِ } وهو يوم القيامة ،يفصل ال فيه بين الخلئق ،فيعذب الكافرين
ثم قال { :إِنّ َيوْمَ ا ْل َف ْ
ويثيب المؤمنين.
ج َمعِينَ } أي :يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم.
وقوله { :مِيقَا ُتهُمْ َأ ْ
{ َيوْمَ ل ُيغْنِي َموْلًى عَنْ َموْلًى شَيْئًا } أي :ل ينفع قريب قريبًا ،كقوله { :فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ
حمِيمًا.
حمِيمٌ َ
فَل أَنْسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِ ٍذ وَل يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون ، ] 101 :وكقوله { وَل يَسَْألُ َ
يُ َبصّرُونَهُمْ } [ المعارج ] 11 ، 10 :أي :ل يسأل أخًا له عن حاله وهو يراه عيانًا.
وقوله { :وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ } أي :ل ينصر القريب قريبه ،ول يأتيه نصره من خارج.
ثم قال { :إِل مَنْ رَحِمَ اللّهُ } أي :ل ينفع يومئذ إل من رحمه ال ،عز وجل ،لخلقه ( { )1إِنّهُ
ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } أي :هو عزيز ذو رحمة واسعة.
حمِيمِ ()46
طعَامُ الثِيمِ ( )44كَا ْل ُم ْهلِ َيغْلِي فِي الْبُطُونِ (َ )45كغَ ْليِ ا ْل َ
{ إِنّ شَجَ َرةَ ال ّزقّومِ (َ )43
حمِيمِ ( )48ذُقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ
سهِ مِنْ عَذَابِ ا ْل َ
جحِيمِ (ُ )47ث ّم صُبّوا َفوْقَ رَأْ ِ
سوَاءِ الْ َ
خذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى َ
ُ
ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ ( )49إِنّ هَذَا مَا كُنْ ُتمْ بِهِ َتمْتَرُونَ (} )50
طعَامُ
شجَ َرةَ ال ّزقّومِ َ
يقول تعالى مخبرًا عما يعذب به [عباده] ( )2الكافرين الجاحدين للقائه { :إِنّ َ
الثِيمِ }
__________
( )1في أ " :إل رحمة ال بخلقه".
( )2زيادة من ت ،أ.
( )7/259
والثيم أي :في قوله وفعله ،وهو الكافر .وذكر غير واحد أنه أبو جهل ،ول شك في دخوله في
هذه الية ،ولكن ليست خاصة به.
قال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان عن العمش ،عن
طعَامُ
شجَ َرةَ ال ّزقّومِ َ
إبراهيم ( )1عن همام بن الحارث ،أن أبا الدرداء كان يقرئ رجل { إِنّ َ
الثِيمِ } فقال :طعام اليتيم فقال أبو الدرداء قل :إن شجرة الزقوم طعام الفاجر .أي :ليس له
طعام غيرها.
قال مجاهد :ولو وقعت منها قطرة في ( )2الرض لفسدت على أهل الرض معايشهم .وقد تقدم
نحوه مرفوعا.
حمِيمِ } أي :من حرارتها
وقوله { :كَا ْل ُم ْهلِ } قالوا :كعكر الزيت { َيغْلِي فِي الْبُطُونَِ .كغَ ْليِ الْ َ
ورداءتها.
خذُوهُ }
وقوله { :خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي [ :خذوا] ( )3الكافر ،وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية { ُ
ابتدره سبعون ألفًا منهم.
{ فَاعْتِلُوهُ } أي :سوقوه سحبا ودفعا في ظهره.
قال مجاهد { :خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي :خذوه فادفعوه.
وقال الفرزدق :
لَيسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أَبَاهُمُ ...حَتّى تُ َردّ إلى عَطيّة ُتعْ َتلُ ()5( )4
جحِيمِ } أي :وسطها.
سوَاءِ الْ َ
{ إِلَى َ
صهَرُ ِبهِ مَا
حمِيمُُ .ي ْ
سهِمُ الْ َ
صبّ مِنْ َف ْوقِ رُءُو ِ
حمِيمِ } كقوله { ُي َ
سهِ مِنْ عَذَابِ ا ْل َ
{ ُث ّم صُبّوا َفوْقَ رَأْ ِ
فِي ُبطُو ِنهِ ْم وَالْجُلُودُ } [ الحج .] 20 ، 19 :
وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد ،تفتح ( )6دماغه ،ثم يصب الحميم على رأسه
فينزل في بدنه ،فيسلت ما في بطنه من أمعائه ،حتى تمرق ( )7من كعبيه -أعاذنا ال تعالى
من ذلك.
وقوله { :ذُقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ } أي :قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ.
وقال الضحاك عن ابن عباس :أي لست بعزيز ول كريم.
وقد قال ( )8الموي في مغازيه :حدثنا أسباط ،حدثنا أبو بكر الهذلي ،عن عكرمة قال :لقي
رسول ال صلى ال عليه وسلم أبا جهل -لعنه ال -فقال " :إن ال تعالى أمرني أن أقول لك :
{ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَىُ .ثمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } [ القيامة ] 35 ، 34 :قال :فنزع ثوبه من يده ( )9وقال
:ما تستطيع لي أنت ول صاحبك من شيء .ولقد علمت أني أمنع ( )10أهل البطحاء ،وأنا
العزيز الكريم .قال :فقتله ال تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ،وأنزل ُ { :ذقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ
ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ } (.)11
جهَنّمَ دَعّا .هَ ِذهِ النّارُ الّتِي
وقوله { :إِنّ هَذَا مَا كُنْ ُتمْ بِهِ َتمْتَرُونَ } ،كقوله { َيوْمَ يُدَعّونَ إِلَى نَارِ َ
كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ َأ َفسِحْرٌ َهذَا َأمْ أَنْتُمْ ل تُ ْبصِرُونَ } [ الطور ، ] 15 - 13 :
__________
( )1في ت " :وروى ابن جرير بإسناده".
( )2في ت " :على".
( )3زيادة من ت.
( )4في أ " :مقتل".
( )5البيت في تفسير الطبري (.)25/80
( )6في أ " :فيفتح".
( )7في أ " :يمزق".
( )8في ت " :روى".
( )9في ت ،أ " :بدنه".
( )10في ت " :أني من أمنع".
( )11ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )7/418وهو مرسل.
( )7/260
؛ ولهذا قال هاهنا { :إِنّ هَذَا مَا كُنْ ُتمْ بِهِ َتمْتَرُونَ }
ت وَعُيُونٍ ( )52يَلْ َبسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُ َتقَابِلِينَ (
{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي َمقَامٍ َأمِينٍ ( )51فِي جَنّا ٍ
ك وَ َزوّجْنَا ُهمْ بِحُورٍ عِينٍ (َ )54يدْعُونَ فِيهَا ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ آمِنِينَ ( )55ل يَذُوقُونَ فِيهَا ا ْل َم ْوتَ
)53كَذَِل َ
إِل ا ْل َموْتَ َة الولَى َو َوقَاهُمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ (َ )56فضْل مِنْ رَ ّبكَ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ( )57فَإِ ّنمَا
يَسّرْنَاهُ بِِلسَا ِنكَ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ ( )58فَارْ َتقِبْ إِ ّنهُمْ مُرْتَقِبُونَ (} )59
سمّي القرآن مثاني -فقال :
لما ذكر تعالى حال الشقياء عطف بذكر [حال] ( )1السعداء -ولهذا ُ
{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } أي :ل في الدنيا { فِي مَقَامٍ َأمِينٍ } أي :في الخرة وهو الجنة ،قد أمنوا فيها من
الموت والخروج ،ومن كل هم وحزن وجزع ( )2وتعب ونصب ،ومن الشيطان وكيده ،وسائر
الفات والمصائب.
ت وَعُيُونٍ } وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجر ( )3الزقوم ،وشرب الحميم.
{ فِي جَنّا ٍ
س وَإِسْتَبْ َرقٍ } وهو :رفيع الحرير ،كالقمصان ونحوها ()4
وقوله تعالى { :يَلْبَسُونَ مِنْ سُ ْندُ ٍ
{ وَإِسْتَبْ َرقٍ } وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش ،وما يلبس على أعالي القماش ،
{ مُ َتقَابِلِينَ } أي :على السرر ل يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.
وقوله { :كَ َذِلكَ وَزَوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ } أي :هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور
طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْلهُ ْم وَل جَانّ } [ الرحمن {] 74 ، 56 :كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُوتُ
العين الحسان اللتي { لَمْ َي ْ
وَا ْلمَرْجَانُ } [ الرحمن َ {] 58 :هلْ جَزَاءُ الحْسَانِ إِل الحْسَانُ } [ الرحمن .] 60 :
قال ( )5ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا نوح بن حبيب ،حدثنا نصر بن مزاحم العطار ،حدثنا
عمر بن سعد ،عن رجل عن أنس -رفعه نوح -قال :لو أن حوراء بَ َزقَت في بحر ُلجّي ،
لعَ ُذبَ ذلك الماء لعذوبة ريقها (.)6
وقوله َ { :يدْعُونَ فِيهَا ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ آمِنِينَ } أي :مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم ،وهم
آمنون من انقطاعه وامتناعه ،بل يحضر إليهم ( )7كلما أرادوا.
وقوله { :ل يَذُوقُونَ فِيهَا ا ْل َم ْوتَ إِل ا ْل َموْتَ َة الولَى } هذا استثناء يؤكد النفي ،فإنه استثناء منقطع
ومعناه :أنهم ل يذوقون فيها الموت أبدًا ،كما ثبت في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ،فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ،ثم يقال :يا
أهل الجنة خلود فل ( )8موت ،ويا أهل النار خلود فل ( )9موت" وقد تقدم الحديث في سورة
مريم (.)10
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في م " :وجوع".
( )3في ت ،م " :شرب".
( )4في ت " :وغيرها".
( )5في ت " :وروى".
( )6ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم ( )386من وجه آخر ،فرواه من طريق محمد بن
إسماعيل الحساني ،عن منصور الواسطي ،عن أبي النصر البار ،عن أنس مرفوعا بنحوه.
( )7في ت ،م ،أ " :لهم".
( )8في أ " :بل".
( )9في أ " :بل".
( )10انظر :تخريج الحديث عند الية 39 :من سورة مريم.
( )7/261
وقال عبد الرزاق :حدثنا سفيان الثوري ،عن أبي إسحاق ،عن أبي مسلم الغر ،عن أبي سعيد
وأبي هريرة ،رضي ال عنهما ،قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يقال لهل الجنة :
إن لكم أن تصحوا فل تسقموا أبدًا ،وإن لكم أن تعيشوا فل تموتوا أبدًا ،وإن لكم أن تنعموا فل
تَبْأسوا أبدًا ،وإن لكم أن تشبوا فل تهرموا أبدًا" .رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن
حميد ،كلهما عن عبد الرزاق به (.)1
هكذا يقول أبو إسحاق وأهل العراق "أبو مسلم الغر" ،وأهل المدينة يقولون " :أبو عبد ال
الغر" (.)2
وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني :حدثنا أحمد بن حفص ،عن أبيه ،عن إبراهيم بن
ط ْهمَان ،عن الحجاج -هو ابن حجاج ( - )3عن عبادة ( ، )4عن عبيد ال بن عمرو ،عن أبي
َ
هريرة ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من اتقى ال دخل الجنة ،
ينعم فيها ول يبأس ،ويحيا فيها فل يموت ،ل تبلى ثيابه ،ول يفنى شبابه" (.)5
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا أحمد بن يحيى ،حدثنا عمرو بن محمد الناقد ،حدثنا سليمان
بن عبيد ال الرقي ،حدثنا مصعب بن إبراهيم ،حدثنا عمران بن الربيع الكوفي ،عن يحيى بن
سعيد النصاري ،عن محمد بن المُ ْنكَدِر ،عن جابر ،رضي ال عنه ،قال :سُئل نبي ال صلى
ال عليه وسلم :أينام أهل الجنة ؟ فقال " :النوم أخو الموت ،وأهل الجنة ل ينامون" (.)6
وهكذا رواه أبو بكر بن مُرْدَويه في تفسيره :حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري ،حدثنا
المقدام بن داود ،حدثنا عبد ال بن المغيرة ،حدثنا سفيان الثوري ،عن محمد بن الْمن َكدِر ،عن
جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :النوم أخو الموت ،وأهل الجنة ل
ينامون" (.)7
وقال أبو بكر البزار في مسنده :حدثنا الفضل بن يعقوب ،حدثنا محمد بن يوسف الفِريابي ،عن
سفيان ،عن محمد بن المنكدر ،عن جابر قال :قيل :يا رسول ال ،هل ينام أهل الجنة ؟ قال :
"ل النوم أخو الموت" ثم قال " :ل نعلم أحدًا أسنده عن ابن المنكدر ،عن جابر إل الثوري ،ول
عن الثوري ،إل الفريابي" ( )8هكذا قال ،وقد تقدم خلف ذلك ،وال أعلم.
جحِيمِ } أي :مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم ،وسلمهم ونجاهم
عذَابَ الْ َ
وقوله َ { :و َوقَاهُمْ َ
وزحزحهم من ( )9العذاب الليم في دركات الجحيم ،فحصل لهم المطلوب ،ونجاهم من
المرهوب ؛
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)2837
( )2والول هو الصواب كما بين ذلك المام المزي في تهذيب الكمال.
( )3في أ " :الحجاج".
( )4في م ،أ " :قتادة".
( )5ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )4895مجمع البحرين" من طريق أحمد بن
حفص به.
( )6المعجم الوسط برقم (" )4875مجمع البحرين" وفي إسناده مصعب بن إبراهيم العبسي ،
منكر الحديث.
( )7ورواه أبو نعيم في الحلية ( )7/90من طريق أحمد بن القاسم عن المقدام بن داود به ،وقال
" :غريب من حديث الثوري ،تفرد به عبد ال".
( )8مسند البزار برقم (" )3517كشف الستار" قال الهيثمي في المجمع (" : )10/415رجال
البزار رجال الصحيح".
( )9في ت " :عن".
( )7/262
ولهذا قال َ { :فضْل مِنْ رَ ّبكَ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ } أي :إنما كان هذا ( )1بفضله عليهم
وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح ( )2عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :اعملوا
وسددوا وقاربوا ،واعلموا أن أحدًا لن يُدخله عمله الجنة" قالوا :ول أنت يا رسول ال ؟ قال :
"ول أنا إل أن يتغمّدني ال برحمة منه وفضل" (.)3
وقوله { :فَإِ ّنمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَا ِنكَ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } أي :إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهل
واضحًا بينًا جليًا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلها وأحلها وأعلها { َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ } أي
:يتفهمون ويعملون .ثم لما كان مع هذا البيان والوضوح من الناس من كفر وخالف وعاند ،قال
ال تعالى لرسوله مسليا له وواعدًا له بالنصر ،ومتوعدًا لمن كذبه بالعطب والهلك { :فَارْ َت ِقبْ }
أي :انتظر { إِ ّن ُهمْ مُرْ َتقِبُونَ } أي :فسيعلمون ( )4لمن يكون النصر والظفر وعُلُو الكلمة في
الدنيا والخرة ،فإنها لك يا محمد ولخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين ،
كما قال تعالى { :كَ َتبَ اللّهُ لغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ } [ المجادلة ، ] 21 :وقال
شهَادُ َيوْمَ ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ
تعالى { :إِنّا لَنَ ْنصُرُ ُرسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ َيقُومُ ال ْ
َمعْذِرَ ُتهُ ْم وََلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [ غافر .] 52 ، 51 :
آخر تفسير سورة الدخان ،ول الحمد والمنة ،وبه التوفيق والعصمة
__________
( )1في ت " :ذلك".
( )2في أ " :الصحيحين".
( )3صحيح البخاري برقم ( )6467من حديث عائشة ،رضي ال عنها.
( )4في م " :فستعلمون".
( )7/263
( )7/264
شكُرُونَ ( )12وَسَخّرَ
سخّرَ َلكُمُ الْبَحْرَ لِ َتجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ فِيهِ بَِأمْ ِر ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ
اللّهُ الّذِي َ
جمِيعًا مِنْهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ ()13
ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ َ
سمَاوَا ِ
َلكُمْ مَا فِي ال ّ
يقول تعالى :هذه آيات ال -يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات { -نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَقّ }
أي :متضمنة الحق من الحق ،فإذا كانوا ل يؤمنون بها ول ينقادون لها ،فبأي حديث بعد ال
وآياته يؤمنون ؟!
ثم قال { :وَ ْيلٌ ِل ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ } أي :أفاك في قوله كذاب ،حلف مهين أثيم في فعله وقيله ()1
سمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ } أي :تقرأ عليه { ثُمّ ُيصِرّ } أي :
كافر بآيات ال ؛ ولهذا قال َ { :ي ْ
س َم ْعهَا } أي :كأنه ما سمعها { ،فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ
على كفره وجحوده استكبارًا وعنادا { كَأَنْ َلمْ يَ ْ
} [أي] ( )2فأخبره أن له عند ال يوم القيامة عذابا أليما موجعا.
{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتّخَ َذهَا هُ ُزوًا } أي :إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريا
وهزوا { ،أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } أي :في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ؛ ولهذا روى
مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال :نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى
أرض العدو مخافة أن يناله العدو (.)3
جهَنّمُ } أي :كل من اتصف بذلك
ن وَرَا ِئهِمْ َ
ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده ( )4فقال { :مِ ْ
سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة { ،وَل ُيغْنِي عَ ْن ُهمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا } أي :ل تنفعهم أموالهم ول
أولدهم { ،وَل مَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ } أي :ول تغني عنهم اللهة التي عبدوها من دون
عظِيمٌ }
عذَابٌ َ
ال شيئًا { ،وََلهُمْ َ
عذَابٌ مِنْ رِجْزٍ َألِيمٌ }
ثم قال تعالى { :هَذَا هُدًى } يعني القرآن { وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ رَ ّب ِهمْ َلهُمْ َ
وهو المؤلم ( )5الموجع.
شكُرُونَ ()12
{ اللّهُ الّذِي سَخّرَ َلكُمُ الْ َبحْرَ لِ َتجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ فِيهِ بَِأمْ ِرهِ وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ َت ْ
ك ليَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ (} )13
جمِيعًا مِنْهُ إِنّ فِي ذَِل َ
س َموَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ َ
وَسَخّرَ َل ُكمْ مَا فِي ال ّ
__________
( )1في ت ،أ " :وقلبه".
( )2زيادة من ت ،م.
( )3صحيح مسلم برقم (.)1869
( )4في أ " :القيامة".
( )5في أ " :المقلق".
( )7/265
ع ِملَ
ُقلْ لِلّذِينَ َآمَنُوا َي ْغفِرُوا لِلّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِ َيجْ ِزيَ َق ْومًا ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ ( )14مَنْ َ
جعُونَ ()15
صَالِحًا فَلِ َنفْسِهِ َومَنْ َأسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ثُمّ إِلَى رَ ّب ُكمْ تُرْ َ
ع ِملَ
{ ُقلْ لِلّذِينَ آمَنُوا َي ْغفِرُوا لِلّذِينَ ل يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْ ِزيَ َق ْومًا ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ ( )14مَنْ َ
جعُونَ (} )15
صَالِحًا فَلِ َنفْسِهِ َومَنْ َأسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ثُمّ إِلَى رَ ّب ُكمْ تُرْ َ
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر { لِ َتجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ } ،وهي السفن فيه بأمره
تعالى ،فإنه هو الذي أمر البحر أن يحملها { وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ } أي :في المتاجر والمكاسب ،
شكُرُونَ } أي :على حصول المنافع المجلوبة إليكم من القاليم النائية والفاق القاصية.
{ وََلعَّلكُمْ َت ْ
( )7/265
ت َو َفضّلْنَاهُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (
ح ْك َم وَالنّ ُب ّوةَ وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَا ِ
ب وَالْ ُ
وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَا َ
)16وَآَتَيْنَا ُهمْ بَيّنَاتٍ مِنَ الَْأمْرِ َفمَا اخْتََلفُوا إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيًا بَيْ َنهُمْ إِنّ رَ ّبكَ َي ْقضِي
جعَلْنَاكَ عَلَى شَرِي َعةٍ مِنَ الَْأمْرِ فَاتّ ِب ْعهَا وَلَا تَتّبِعْ
بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ (ُ )17ثمّ َ
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ
أَ ْهوَاءَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ ( )18إِ ّنهُمْ لَنْ ُيغْنُوا عَ ْنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَإِنّ الظّاِلمِينَ َب ْع ُ
حمَةٌ ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ ()20
وَاللّ ُه وَِليّ ا ْلمُ ّتقِينَ ( )19هَذَا َبصَائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَ ْ
( )7/266
سوَاءً َمحْيَاهُمْ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َ
جعََلهُمْ كَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
سبَ الّذِينَ اجْتَ َرحُوا السّيّئَاتِ أَنْ َن ْ
أَمْ حَ ِ
ق وَلِتُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ
حّت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ
سمَاوَا ِ
خلَقَ اللّهُ ال ّ
ح ُكمُونَ ( )21وَ َ
َو َممَاتُهُمْ سَاءَ مَا َي ْ
وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ ()22
يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم ،وجعله
حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ وَرَ َزقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ }
الملك فيهم ؛ ولهذا قال { :وََلقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُ
أي :من المآكل والمشارب َ { ،و َفضّلْنَاهُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي :في زمانهم.
ن المْرِ } أي :حججا وبراهين وأدلة قاطعات ،فقامت ( )1عليهم الحجج ثم
{ وَآتَيْنَاهُمْ بَيّنَاتٍ مِ َ
اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ،وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا { ،إِنّ رَ ّبكَ }
يا محمد { َي ْقضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْ َتِلفُونَ } أي :سيفصل بينهم بحكمه العدل.
جعَلْنَاكَ عَلَى
وهذا فيه تحذير لهذه المة أن تسلك مسلكهم ،وأن تقصد منهجهم ؛ ولهذا قال { :ثُمّ َ
ن المْرِ فَاتّ ِب ْعهَا } أي :اتبع ما أوحي إليك من ربك ل إله إل هو ،وأعرض عن
شَرِيعَةٍ مِ َ
المشركين ،وقال هاهنا { :وَل تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ إِ ّن ُهمْ لَنْ ُيغْنُوا عَ ْنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَإِنّ
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ } أي :وماذا تغني ( )2عنهم وليتهم لبعضهم بعضا ،فإنهم ل
الظّاِلمِينَ َب ْع ُ
يزيدونهم إل خسارا ودمارا وهلكا { ،وَاللّ ُه وَِليّ ا ْلمُ ّتقِينَ } ،وهو تعالى يخرجهم من الظلمات
إلى النور ،والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
حمَةٌ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ }
ثم قال { :هَذَا َبصَائِرُ لِلنّاسِ } يعني :القرآن { وَهُدًى وَ َر ْ
سوَاءً مَحْيَا ُهمْ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َ
جعََل ُهمْ كَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
سبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئَاتِ أَنْ نَ ْ
حِ{ َأمْ َ
ق وَلِ ُتجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ
ت وَالرْضَ بِا ْلحَ ّ
س َموَا ِ
خلَقَ اللّهُ ال ّ
ح ُكمُونَ ( )21وَ َ
َو َممَاتُهُمْ سَاءَ مَا َي ْ
ظَلمُونَ (} )22
وَهُمْ ل يُ ْ
__________
( )1في ت " :فقامت به".
( )2في ت " :وما يغني".
( )7/267
غشَا َوةً
ج َعلَ عَلَى َبصَ ِرهِ ِ
س ْمعِ ِه َوقَلْبِ ِه وَ َ
علَى َ
خذَ إَِلهَهُ َهوَاهُ وََأضَلّهُ اللّهُ عَلَى عِ ْل ٍم وَخَتَمَ َ
َأفَرَأَ ْيتَ مَنِ اتّ َ
َفمَنْ َيهْدِيهِ مِنْ َب ْعدِ اللّهِ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ ()23
( )7/267
َوقَالُوا مَا ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا إِلّا الدّهْرُ َومَا َل ُهمْ بِذَِلكَ مِنْ عِ ْلمٍ إِنْ ُهمْ إِلّا
حجّ َتهُمْ ِإلّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ
يَظُنّونَ ( )24وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَا كَانَ ُ
ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِي ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ
(ُ )25قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ يَ ْ
()26
قال أبو القاسم صلى ال عليه وسلم " :كما أنه ل يجتنى من الشوك ( )1العنب ،كذلك ل ينال
الفجار منازل البرار" (.)2
هذا حديث غريب من هذا الوجه .وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب "السيرة" أنهم وجدوا حجرا
س الكعبة مكتوب ( )3عليه :تعملون السيئات وترجون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من
بمكة في أ ّ
الشوك العنب (.)4
وقد روى الطبراني من حديث شعبة ،عن عمرو بن مُرّة ،عن أبي الضحى ،عن مسروق (
سبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئَاتِ أَنْ
حِ ، )5أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الية َ { :أمْ َ
ح ُكمُونَ }
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } ؛ ولهذا قال تعالى { :سَاءَ مَا يَ ْ
جعََلهُمْ كَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
نَ ْ
ت وَال ْرضَ بِا ْلحَقّ } أي :بالعدل { ،وَلِتُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ
س َموَا ِ
،وقال (َ { )6وخَلَقَ اللّهُ ال ّ
ظَلمُونَ } (.)7
وَهُمْ ل يُ ْ
ثم قال [تعالى] (َ { )8أفَرَأَ ْيتَ مَنِ اتّخَذَ إَِلهَهُ َهوَاهُ } أي :إنما يأتمر بهواه ،فمهما رآه حسنا فعله ،
ومهما رآه قبيحا تركه :وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.
وعن مالك فيما روي عنه من التفسير :ل يهوى شيئا إل عبده.
وقوله { :وََأضَلّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين :
أحدها ( )9وأضله ال لعلمه أنه يستحق ذلك .والخر :وأضله ال بعد بلوغ العلم إليه ،وقيام
الحجة عليه .والثاني يستلزم الول ،ول ينعكس.
ج َعلَ عَلَى َبصَ ِرهِ غِشَا َوةً } أي :فل يسمع ما ينفعه ،ول يعي شيئا
س ْمعِ ِه َوقَلْبِهِ وَ َ
{ وَخَ َتمَ عَلَى َ
يهتدي به ،ول يرى حجة يستضيء بها ؛ ولهذا قال َ { :فمَنْ َي ْهدِيهِ مِنْ َبعْدِ اللّهِ َأفَل َت َذكّرُونَ }
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [ العراف .]186 :
كقوله { :مَنْ ُيضِْللِ اللّهُ فَل هَا ِديَ لَهُ ( )10وَيَذَرُ ُهمْ فِي ُ
{ َوقَالُوا مَا ِهيَ إِل حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا إِل الدّهْ ُر َومَا َلهُمْ ِبذَِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِل
حجّ َتهُمْ إِل أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ
يَظُنّونَ ( )24وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَا كَانَ ُ
س ل َيعَْلمُونَ
ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِي ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
(ُ )25قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ يَ ْ
(} )26
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد :
{ َوقَالُوا مَا ِهيَ إِل حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا }
__________
( )1في ت " :الشوكة".
( )2وذكره ابن حجر في المطالب العالية ( )3/154وعزاه لبي يعلى ،وأظنه في الكبير ،ويزيد
بن مرثد الهمداني روايته عن أبي ذر مرسله .تنبيه :وقع هنا "الباجي" ولم يقع لي هذه النسبة له.
( )3في ت ،م " :مكتوبا" وهو الصواب.
( )4انظر :السيرة النبوية لبن هشام (.)1/196
( )5في ت " :وقد روى الطبراني بسنده".
( )6في ت ،م ،أ " :وقوله".
( )7المعجم الكبير (.)2/50
( )8زيادة من ت.
( )9في أ " :أحدهما".
( )10في ت ،م " :ومن يضلل ال فما له من هاد" وهو خطأ.
( )7/268
أي :ما ثم إل هذه الدار ،يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ول قيامة وهذا يقوله مشركو (
)1العرب المنكرون للمعاد ،ويقوله الفلسفة اللهيون منهم ،وهم ينكرون البداءة ( )2والرجعة ،
ويقوله الفلسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلثين ألف سنة
يعود كل شيء إلى ما كان عليه .وزعموا أن هذا قد تكرر مرات ل تتناهى ،فكابروا المعقول (
)3وكذبوا المنقول ،ولهذا قالوا (َ { )4ومَا ُيهِْلكُنَا إِل الدّهْرُ } قال ال تعالى َ { :ومَا َل ُهمْ بِذَِلكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِل َيظُنّونَ } أي :يتوهمون ويتخيلون.
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح ،وأبو داود ،والنسائي ،من رواية سفيان بن عيينة ،
عن الزهري ،عن سعيد بن المسيب ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :يقول ال تعالى :يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر ،بيدي المر ،
أقلب ليله ونهاره" ( )5وفي رواية " :ل تسبوا الدهر ،فإن ال هو الدهر" (.)6
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا سفيان بن عيينة ،عن
الزهري ،عن سعيد بن المسيب ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :كان أهل الجاهلية يقولون :إنما يهلكنا الليل والنهار ،وهو الذي يهلكنا ،يميتنا
ويحيينا ،فقال ال في كتابه َ { :وقَالُوا مَا ِهيَ إِل حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا إِل الدّهْرُ }
قال " :ويسبون الدهر ،فقال ال عز وجل :يؤذيني ابن آدم ،يسب الدهر وأنا الدهر ،بيدي
المر أقلب الليل والنهار" (.)7
وكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن أحمد بن منصور ،عن شُرَيْح بن النعمان ،عن ابن عيينة مثله :
ثم روي عن يونس ،عن ابن وهب ،عن الزهري ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة :سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :قال ال تعالى :يسب ابن آدم الدهر ،وأنا الدهر ،بيدي
الليل والنهار".
وأخرجه ( )8صاحبا الصحيح والنسائي ،من حديث يونس بن زيد ،به (.)9
وقال محمد بن إسحاق عن العلء بن عبد الرحمن ،عن أبيه عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يقول ال :استقرضت عبدي فلم يعطني ،وسَبّنِي عبدي
،يقول :وادهراه .وأنا الدهر" (.)10
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الئمة في تفسير قوله ،عليه الصلة والسلم " :ل تسبوا
الدهر ؛ فإن ال هو الدهر" :كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلء أو نكبة ،قالوا :
يا
__________
( )1في أ " :منكرو".
( )2في أ " :البداوة".
( )3في ت ،أ " :وكابروا العقول".
( )4في ت ،أ " :قال".
( )5صحيح البخاري برقم ( )4826وصحيح مسلم برقم ( )2246وسنن أبي داود برقم ()5274
والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11687
( )6صحيح مسلم برقم (.)2246
( )7تفسير الطبري (.)25/92
( )8في ت " :أخرجاه" وهو خطأ ،والصواب " :أخرجه" ؛ حتى ل يجتمع عاملن على معمول
واحد.
( )9صحيح البخاري برقم ( )6181وصحيح مسلم برقم ( )2246والنسائي في السنن الكبرى برقم
(.)11686
( )10رواه الطبري في تفسيره ( )25/92من طريق سلمة عن محمد بن إسحاق به ،وخالفه يزيد
بن هارون ،فرواه عن محمد ابن إسحاق ،عن أبي الزناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة ،به
وأخرجه الحاكم في المستدرك ( )2/453وقال " :هذا حديث صحيح السناد على شرط مسلم".
( )7/269
ت وَالْأَ ْرضِ وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َي ْومَئِذٍ َيخْسَرُ ا ْلمُبْطِلُونَ ( )27وَتَرَى ُكلّ ُأمّةٍ جَاثِيَةً
سمَاوَا ِ
وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
حقّ إِنّا كُنّا
ُكلّ ُأمّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ( )28هَذَا كِتَابُنَا يَ ْنطِقُ عَلَ ْي ُكمْ بِالْ َ
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ()29
خيبة الدهر .فيسندون تلك الفعال إلى الدهر ويسبونه ،وإنما فاعلها هو ال [عز وجل] ()1
فكأنهم إنما سبوا ،ال عز وجل ؛ لنه فاعل ذلك في الحقيقة ،فلهذا نُهي ( )2عن سب الدهر بهذا
العتبار ؛ لن ال هو الدهر الذي يعنونه ،ويسندون إليه تلك الفعال.
هذا أحسن ما قيل في تفسيره ،وهو المراد ،وال أعلم .وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من
الظاهرية في عدهم الدهر من السماء الحسنى ،أخذا من هذا الحديث..
وقوله ( )3تعالى { :وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْي ِهمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ } ( )4أي :إذا استدل عليهم وبين لهم الحق ،
وأن ال قادر على إعادة البدان بعد فنائها وتفرقها { ،مَا كَانَ حُجّ َتهُمْ إِل أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ
كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } أي :أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا.
قال ال تعالى ُ { :قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ } أي :كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود ،
{ كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ } [ البقرة ]28 :أي :الذي قدر
على البداءة قادر على العادة بطريق الولى والحرى { ..وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدأُ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ
ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِيهِ } أي :إنما يجمعكم ليوم
أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم { ، ] 27ثُمّ يَ ْ
ج َم ُعكُمْ لِ َيوْمِ
القيامة ل يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا { :ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } { َيوْمَ َي ْ
صلِ } [ المرسلت َ { ، ] 13 ، 12 :ومَا
جمْعِ } [ التغابن { )5( ] 9 :ليّ َي ْومٍ أُجَّلتْ .لِ َيوْمِ ا ْلفَ ْ
الْ َ
ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِيهِ }
جلٍ َمعْدُودٍ } [ هود ] 104 :وقال هاهنا { :ثُمّ َي ْ
ُنؤَخّ ُرهُ إِل ل َ
أي :ل شك فيه { ،وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل َيعَْلمُونَ } أي :فلهذا ينكرون المعاد ،ويستبعدون قيام
الجساد ،قال ال تعالى { :إِ ّنهُمْ يَ َروْنَهُ َبعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [ المعارج ] 7 ، 6 :أي :يرون
وقوعه بعيدا ،والمؤمنون يرون ذلك سهل قريبا.
ض وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َي ْومَئِذٍ َيخْسَرُ ا ْلمُبْطِلُونَ ( )27وَتَرَى ُكلّ ُأمّةٍ
س َموَاتِ وَال ْر ِ
{ وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
حقّ
جَاثِ َيةً ُكلّ ُأمّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ( )28هَذَا كِتَابُنَا يَ ْنطِقُ عَلَ ْي ُكمْ بِالْ َ
إِنّا كُنّا نَسْتَ ْنسِخُ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (} )29
يخبر تعالى أنه مالك السموات والرض ،الحاكم فيهما ( )6في الدنيا والخرة ؛ ولهذا قال :
خسَرُ ا ْلمُبْطِلُونَ } وهم الكافرون بال الجاحدون بما
عةُ } أي :يوم ( )7القيامة { يَ ْ
{ وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
أنزله على رسله من اليات البينات والدلئل الواضحات.
وقال ابن أبي حاتم :قدم سفيان الثوري المدينة ،فسمع المعافري ( )8يتكلم ببعض ما يضحك به
الناس .فقال له :يا شيخ ،أما علمت أن ل يومًا يخسر فيه المبطلون ؟ قال :فما زالت تعرف في
المعافري ( )9حتى لحق بال ،عز وجل .ذكره ابن أبي حاتم.
__________
( )1زيادة من ت ،م.
( )2في أ " :أنهى".
( )3في ت " :وقال".
( )4في م " :عليه" وهو خطأ.
( )5في ت " :الفصل" وهو خطأ.
( )6في م " :فيما".
( )7في ت ،أ " :تقوم".
( )8في ت ،م ،أ " :العاضري".
( )9في ت ،م ،أ " :العاضري".
( )7/270
ثم قال { :وَتَرَى ُكلّ ُأمّةٍ جَاثِيَةً } أي :على ركبها من الشدة والعظمة ،ويقال :إن هذا [يكون] (
)1إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة ل يبقى أحد إل جثا لركبتيه ،حتى إبراهيم الخليل ،ويقول :
نفسي ،نفسي ،نفسي ل أسألك اليوم إل نفسي ،وحتى أن عيسى ليقول :ل أسألك اليوم إل
نفسي ،ل أسألك [اليوم] ( )2مريم التي ولدتني.
قال مجاهد ،وكعب الحبار ،والحسن البصري ُ { :كلّ ُأمّةٍ جَاثِ َيةً } أي :على الركب .وقال
عكْرِمة { :جاثية } متميزة على ناحيتها )3( ،وليس على الركب .والول أولى.
ِ
قال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد المقرئ ،حدثنا سفيان بن عيينة ،عن عمرو
،عن عبد ال بن باباه ( ، )4أن رسول ال [صلى ال عليه وسلم] ( )5قال " :كأني أراكم جاثين
بالكوم دون جهنم" (.)6
وقال إسماعيل بن رافع المديني ( ، )7عن محمد بن كعب ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،
مرفوعا في حديث الصورة ( : )8فيتميز الناس وتجثو المم ،وهي التي يقول ال { :وَتَرَى ُكلّ
ُأمّةٍ جَاثِيَةً ُكلّ ُأمّةٍ ُتدْعَى ِإلَى كِتَا ِبهَا } (.)9
وهذا فيه جمع بين القولين :ول منافاة ،وال أعلم.
ب وَجِيءَ
وقوله ُ { :كلّ ُأمّةٍ ُتدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا } يعني :كتاب أعمالها ،كقوله َ { :و ُوضِعَ ا ْلكِتَا ُ
شهَدَاءِ } [ الزمر ] 69 :؛ ولهذا قال { :الْ َيوْمَ تُجْ َزوْنَ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } أي :تجازون
ن وَال ّ
بِالنّبِيّي َ
بأعمالكم خيرها وشرها ،كقوله تعالى { :يُنَبّأُ النْسَانُ َي ْومَئِذٍ ِبمَا قَدّ َم وَأَخّرََ .بلِ النْسَانُ عَلَى َنفْسِهِ
َبصِي َرةٌ .وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } [ القيامة .] 15 - 13 :
حقّ } أي :يستحضر ( )11جميع أعمالكم من غير
طقُ عَلَ ْيكُمْ بِالْ َ
ثم قال { :هَذَا ( )10كِتَابُنَا يَنْ ِ
شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ
زيادة ول نقص ( ، )12كقوله تعالى َ { :ووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُ ْ
عمِلُوا حَاضِرًا وَل
حصَاهَا َووَجَدُوا مَا َ
صغِي َر ًة وَل كَبِي َرةً إِل َأ ْ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ ل ُيغَادِ ُر َ
حدًا } [ الكهف .]49 :
يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ
وقوله { :إِنّا كُنّا َنسْتَنْسِخُ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } أي :إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
قال ابن عباس وغيره :تكتب الملئكة أعمال العباد ،ثم تصعد بها إلى السماء ،فيقابلون الملئكة
الذين في ديوان العمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر ،
مما كتبه ( )13ال في القدم على العباد قبل أن يخلقهم ،فل يزيد حرفا ول ينقص حرفا ،ثم قرأ
{ :إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }.
__________
( )1زيادة من أ.
( )2زيادة من أ.
( )3في أ " :ناصيتها".
( )4في ت " :وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
( )5زيادة من ت.
( )6ورواه أبو نعيم في زوائد زهد ابن المبارك برقم ( )360وأبو نعيم في الحلية ( )7/299من
طريق سفيان بن عيينة به.
( )7في أ " :المدني".
( )8في ت ،م ،أ " :الصور".
( )9انظر تفسير حديث الصور عند الية 73 :من سورة النعام.
( )10في ت ،م ،أ " :ولهذا" وهو خطأ.
( )11في أ " :سيحضر".
( )12في م " :نقصان".
( )13في أ " :مما قد كتبه".
( )7/271
( )7/272
عمِلُوا وَحَاقَ ِب ِهمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ (َ )33وقِيلَ الْ َيوْمَ نَنْسَاكُمْ َكمَا َنسِيتُمْ ِلقَاءَ
وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ
َي ْو ِمكُمْ هَذَا َومَأْوَاكُمُ النّارُ َومَا َل ُكمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( )34ذَِل ُكمْ بِأَ ّنكُمُ اتّخَذْ ُتمْ آَيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَغَرّ ْتكُمُ
ت وَ َربّ
سمَاوَا ِ
حمْدُ َربّ ال ّ
الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْ َيوْمَ لَا يُخْ َرجُونَ مِ ْنهَا وَلَا هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ ( )35فَلِلّهِ ا ْل َ
حكِيمُ ()37
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
الْأَ ْرضِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ( )36وَلَهُ ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي ال ّ
عمِلُوا وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ (َ )33وقِيلَ الْ َيوْمَ نَنْسَاكُمْ َكمَا َنسِيتُمْ
{ وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ
ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا َومَأْوَاكُمُ النّارُ َومَا َل ُكمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( )34ذَِل ُكمْ بِأَ ّنكُمُ اتّخَذْ ُتمْ آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا
س َموَاتِ
حمْدُ َربّ ال ّ
وَغَرّ ْتكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْ َيوْمَ ل ُيخْرَجُونَ مِ ْنهَا وَل هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ ( )35فَلِلّهِ ا ْل َ
حكِيمُ (
ت وَال ْرضِ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
وَ َربّ ال ْرضِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ( )36وَلَهُ ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي السموا ِ
.} )37
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي :
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة ،فقال { :فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم العمال الصالحات ( ، )1وهي الخالصة الموافقة للشرع ،
حمَتِهِ } ،وهي الجنة ،كما ثبت في الصحيح أن ال قال للجنة " :أنت
{ فَ ُيدْخُِلهُمْ رَ ّبهُمْ فِي رَ ْ
رحمتي ،أرحم بك من أشاء" (.)2
{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ } أي :البين الواضح.
ثم قال { :وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا َأفَلَمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ فَاسْ َتكْبَرْتُمْ } أي :يقال لهم ذلك تقريعا
وتوبيخا :أما ( )3قرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها ،وأعرضتم عند ( )4سماعها
َ { ،وكُنْتُمْ َق ْومًا مُجْ ِرمِينَ } أي :في أفعالكم ،مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟
ق وَالسّاعَةُ ل رَ ْيبَ فِيهَا } أي :إذا قال لكم المؤمنون ذلك { ،قُلْ ُتمْ مَا
حّن وَعْدَ اللّهِ َ
{ وَإِذَا قِيلَ إِ ّ
نَدْرِي مَا السّاعَةُ } أي :ل نعرفها { ،إِنْ َنظُنّ إِل ظَنّا } أي :إن نتوهم وقوعها إل توهما ،أي
مرجوحا ( )5؛ ولهذا قال َ { :ومَا َنحْنُ ِبمُسْتَ ْيقِنِينَ } أي :بمتحققين ،قال ال تعالى { :وَبَدَا َلهُمْ
عمِلُوا } أي :وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة { ،وَحَاقَ ِبهِمْ } أي :أحاط بهم { مَا
سَيّئَاتُ مَا َ
كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي :من العذاب والنكال َ { ،وقِيلَ الْ َيوْمَ نَنْسَا ُكمْ } أي :نعاملكم معاملة
الناسي لكم في نار جهنم { َكمَا نَسِيتُمْ ِلقَاءَ َي ْومِكُمْ هَذَا } أي :فلم تعملوا له لنكم لم تصدقوا به { ،
َومَأْوَاكُمُ النّا ُر َومَا َل ُكمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
وقد ثبت في الصحيح أن ال تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة " :ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟
__________
( )1في ت ،أ " :الصالحة".
( )2صحيح البخاري برقم ( )4850من حديث أبي هريرة ،رضي ال عنه.
( )3في أ " :لما".
( )4في أ " :عن".
( )5في أ " :مرجوعا".
( )7/272
ألم أسخر لك الخيل والبل ،وأذرك ترأس وتَرْبَع ؟ فيقول :بلى ،يا رب .فيقول :أفظننت أنك
ي ؟ فيقول :ل .فيقول ال تعالى :فاليوم أنساك كما نسيتني" (.)1
مُلق ّ
قال ال تعالى { :ذَِل ُكمْ بِأَ ّنكُمُ اتّخَذْ ُتمْ آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } أي :إنما جازيناكم هذا الجزاء لنكم اتخذتم
حجج ال عليكم سخريا ،تسخرون وتستهزئون بها { ،وَغَرّ ْتكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } أي :خدعتكم
فاطمأننتم إليها ،فأصبحتم من الخاسرين ؛ ولهذا قال { :فَالْ َي ْو َم ل ُيخْرَجُونَ مِ ْنهَا } أي :من النار
{ وَل هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ } أي :ل يطلب منهم العتبى ،بل يعذبون بغير حساب ول عتاب ،كما تدخل
طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ول حساب.
حمْدُ َربّ السمواتِ وَ َربّ ال ْرضِ } أي :
ثم لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال { :فَلِلّهِ الْ َ
المالك لهما وما فيهما ؛ ولهذا قال َ { :ربّ ا ْلعَاَلمِينَ }.
ت وَال ْرضِ } قال مجاهد :يعني السلطان .أي :هو العظيم
ثم قال { :وَلَهُ ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي السموا ِ
الممجد ،الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه .وقد ورد في الحديث الصحيح " :يقول ال تعالى (
)2العظمة إزاري والكبرياء ردائي ،فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري" .ورواه مسلم من
حديث العمش ،عن أبي إسحاق ،عن الغر أبي مسلم ،عن أبي هريرة وأبي سعيد ،رضي
ال عنهما ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بنحوه (.)3
وقوله { :وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } أي :الذي ل يغالب ول يمانع { ،الحكيم } في أقواله وأفعاله ،وشرعه
وقدره ،تعالى وتقدس ،ل إله إل هو (.)4
آخر تفسير سورة الجاثية [ول الحمد والمنة] ()5
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )2968من حديث أبي هريرة ،رضي ال عنه.
( )2في ت " :أن ال تعالى يقول".
( )3صحيح مسلم برقم (.)2620
( )4في أ " :ل إله غيره ول رب سواه".
( )5زيادة من ت ،م ،أ.
( )7/273
( )7/274
وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا َل ُهمْ أَعْدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ ()6
حشِرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَاءً َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ (.} )6
{ وَإِذَا ُ
يخبر تعالى أنه نزل الكتاب على عبده ورسوله محمد ،صلوات ال وسلمه عليه دائما إلى يوم
الدين ،ووصف نفسه بالعزة التي ل ترام ،والحكمة في القوال والفعال ،ثم قال { :مَا خََلقْنَا
سمّى }
جلٌ مُ َ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِل بِا ْلحَقّ } أي :ل على وجه العبث والباطل { ،وَأَ َ
س َموَاتِ وَال ْر َ
ال ّ
أي :إلى مدة معينة مضروبة ل تزيد ول تنقص.
عمّا أُ ْنذِرُوا ُمعْ ِرضُونَ } أي :لهون ( )1عما يراد بهم ،وقد أنزل إليهم
قوله { :وَالّذِينَ َكفَرُوا َ
كتابا وأرسل إليهم رسول ،وهم معرضون عن ذلك كله ،أي :وسيعلمون غبّ ذلك.
ثم قال ُ { :قلْ } أي :لهؤلء المشركين العابدين مع ال غيره { :أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ
أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا مِنَ ال ْرضِ } أي :أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الرض { ،أَمْ
س َموَاتِ } أي :ول شرك لهم في السموات ول في الرض ،وما يملكون من
َلهُمْ شِ ْركٌ فِي ال ّ
قطمير ،إن المُلْك والتصرّف كله إل ال ،عز وجل ،فكيف تعبدون معه غيره ،وتشركون به ؟
من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟
ولهذا قال { :اِئْتُونِي ِبكِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا } أي :هاتوا كتابا من كتب ال المنزلة على النبياء (
، )2عليهم الصلة والسلم ،يأمركم بعبادة هذه الصنام َ { ،أوْ أَثَا َرةٍ مِنْ عِلْمٍ } أي :دليل بَيّن
على هذا المسلك الذي سلكتموه { إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ } أي :ل دليل لكم نقليًا ول عقليا على ذلك ؛
ولهذا قرأ آخرون " :أو أثَرَة من علم" أي :أو علم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم ،كما قال
علْمٍ } أو أحد يأثُر علما.
مجاهد في قوله َ { :أوْ أَثَا َرةٍ مِنْ ِ
__________
( )1في ت ،م ،أ " :لهين".
( )2في ت ،م ،أ " :هاتوا كتابا من الكتب المنزلة على أنبيائهم".
( )7/274
حقّ َلمّا جَاءَ ُهمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (َ )7أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ
وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلْ َ
شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ
ُقلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا َتمِْلكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئًا ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَا ُتفِيضُونَ فِيهِ َكفَى ِبهِ َ
سلِ َومَا َأدْرِي مَا ُي ْفعَلُ بِي وَلَا ِبكُمْ إِنْ أَتّ ِبعُ إِلّا مَا
وَ ُهوَ ا ْلغَفُورُ الرّحِيمُ (ُ )8قلْ مَا كُ ْنتُ بِدْعًا مِنَ الرّ ُ
ي َومَا أَنَا إِلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ()9
يُوحَى إَِل ّ
( )7/275
العقوبة ،ولم َيقْدرْ أحد من أهل الرض ،ل أنتم ول غيركم أن يجيرني منه ،كقوله ُ { :قلْ إِنّي
حدًا إِل بَلغًا مِنَ اللّهِ وَرِسَالتِهِ } [الجن ، 22 :
لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ َأحَ ٌد وَلَنْ َأجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ.
، ]23وقال تعالى { :وََلوْ َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ القَاوِيلِ .لخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ .ثُمّ َلقَ َ
حدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة ]47 - 44 :؛ ولهذا قال هاهنا ُ { :قلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَل
َفمَا مِ ْنكُمْ مِنْ أَ َ
شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ } ،هذا تهديد لهم ،
َتمِْلكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئًا ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَا ُتفِيضُونَ فِيهِ َكفَى بِهِ َ
ووعيد أكيد ،وترهيب شديد.
وقوله { :وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } ترغيب لهم إلى التوبة والنابة ،أي :ومع هذا كله إن رجعتم
وتبتم ،تاب عليكم وعفا عنكم ،وغفر [لكم] ( )1ورحم .وهذه الية كقوله في سورة الفرقان :
{ َوقَالُوا أَسَاطِي ُر الوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَى عَلَيْهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلُ .قلْ أَنزلَهُ الّذِي َيعْلَمُ السّرّ فِي
غفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان .]6 ، 5 :
س َموَاتِ وَال ْرضِ إِنّهُ كَانَ َ
ال ّ
سلِ } أي :لست بأول رسول طرق العالم ،بل قد جاءت
وقوله ُ { :قلْ مَا كُ ْنتُ بِدْعًا مِنَ الرّ ُ
الرسل من قبلي ،فما أنا بالمر الذي ل نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا ( )2بعثتي إليكم ،
فإنه قد أرسل ال قبلي جميع النبياء إلى المم.
سلِ } ما أنا بأول رسول .ولم يحك
قال ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ُ { :قلْ مَا كُ ْنتُ ِبدْعًا مِنَ الرّ ُ
ابن جرير ول ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله َ { :ومَا أَدْرِي مَا ُي ْف َعلُ بِي وَل ِبكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في هذه الية
ك َومَا تَأَخّرَ } [الفتح .]2 :وهكذا قال عكرمة ،
:نزل بعدها { لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
ك َومَا تََأخّرَ } ،قالوا :
والحسن ،وقتادة :إنها منسوخة بقوله { :لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
ولما نزلت هذه الية قال رجل من المسلمين :هذا قد بين ال ما هو فاعل بك يا رسول ال ،فما
ن وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ } [الفتح .]5 :
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
هو فاعل بنا ؟ فأنزل ال { :لِ ُيدْ ِ
هكذا قال ،والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا :هنيئا لك يا رسول ال ،فما لنا ؟
فأنزل ال هذه الية.
وقال الضحاك َ { :ومَا أَدْرِي مَا ُي ْف َعلُ بِي وَل ِبكُمْ } :ما أدري بماذا أومر ،وبماذا أنهى بعد
هذا ؟
وقال أبو بكر الهذِليّ ،عن الحسن البصري في قوله َ { :ومَا أَدْرِي مَا ُي ْف َعلُ بِي وَل ِبكُمْ } قال :
أما في الخرة فمعاذ ال ،قد علم أنه في الجنة ،ولكن قال :ل أدري ما يفعل بي ول بكم في
الدنيا ،أخرج كما أخرجت النبياء [من] ( )3قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت النبياء من قبلي ؟ ول
أدري أيخسف بكم أو تُرمون بالحجارة ؟
عوّل عليه ابن جرير ،وأنه ل يجوز غيره ،ول شك أن هذا هو اللئق به ،
وهذا القول هو الذي َ
صلوات ال وسلمه عليه ،فإنه بالنسبة إلى الخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ،
وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئُول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا :أيؤمنون أم
يكفرون ،فيعذبون
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في ت ،م ،أ " :وتستبعدون".
( )3زيادة من أ.
( )7/276
ن وَاسْ َتكْبَرْتُمْ
شهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ عَلَى مِثِْلهِ فََآمَ َ
ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِ ْندِ اللّ ِه َوكَفَرْتُمْ ِب ِه وَ َ
إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (َ )10وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ َآمَنُوا َلوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَ َبقُونَا إِلَيْهِ
حمَ ًة وَهَذَا كِتَابٌ
وَإِذْ َلمْ َيهْتَدُوا بِهِ َفسَ َيقُولُونَ هَذَا ِإ ْفكٌ قَدِيمٌ (َ )11ومِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ِإمَامًا وَرَ ْ
حسِنِينَ ( )12إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا
ُمصَدّقٌ ِلسَانًا عَرَبِيّا لِيُ ْنذِرَ الّذِينَ ظََلمُوا وَبُشْرَى لِ ْلمُ ْ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ َيحْزَنُونَ ( )13أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (
فَلَا َ
)14
فيستأصلون بكفرهم ( )1؟ فأما الحديث الذي رواه المام أحمد :
حدثنا يعقوب ،حدثنا أبي ،عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت ،عن أم العلء -وهي
امرأة من نسائهم -أخبرته -وكانت بايعت رسول ال صلى ال عليه وسلم -قالت :طار لهم
في السكنى حين اقترعت النصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون .فاشتكى عثمان
عندنا فَمرّضناه ،حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه ،فدخل علينا رسول ال فقلت :رحمة ال
عليك أبا السائب ،شهادتي عليك ،لقد أكرمك ال .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :وما
يدريك أن ال أكرمه ؟" فقلت :ل أدري بأبي أنت وأمي! فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"أما هو فقد جاءه ( )2اليقين من ربه ،وإني لرجو له الخير ،وال ما أدري وأنا رسول ال ما
يفعل بي!" قالت :فقلت :وال ل أزكي أحدا بعده أبدا .وأحزنني ذلك ،فنمت فرأيت لعثمان عينا
تجري ،فجئت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبرته بذلك ،فقال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :ذاك ( )3عمله".
فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ( ، )4وفي لفظ له " :ما أدري وأنا رسول ال ما يفعل به"
( .)5وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ،بدليل قولها " :فأحزنني ذلك" .وفي هذا وأمثاله دللة
على أنه ل يقطع لمعين بالجنة إل الذي ( )6نص الشارع على تعيينهم ،كالعشرة ،وابن سلم ،
والغُميصاء ،وبلل ،وسراقة ،وعبد ال بن عمرو بن حرام والد ( )7جابر ،والقراء السبعين
الذين قتلوا ببئر معونة ،وزيد بن حارثة ،وجعفر ،وابن رواحة ،وما أشبه هؤلء.
وقوله { :إِنْ أَتّبِعُ إِل مَا يُوحَى إَِليّ } أي :إنما أتبع ما ينزله ال عليّ من الوحي َ { ،ومَا أَنَا إِل
نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي :بين الّنذَارة ،وأمري ( )8ظاهر لكل ذي لب وعقل.
ش ِهدَ شَا ِهدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
{ ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللّ ِه َو َكفَرْتُمْ بِ ِه وَ َ
وَاسْ َتكْبَرْتُمْ إِنّ اللّهَ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (َ )10وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا َلوْ كَانَ خَيْرًا مَا
حمَةً
سَ َبقُونَا ِإلَيْ ِه وَإِذْ َلمْ َيهْتَدُوا ِبهِ فَسَ َيقُولُونَ َهذَا ِإ ْفكٌ قَدِيمٌ (َ )11ومِنْ قَبِْلهِ كِتَابُ مُوسَى ِإمَامًا وَرَ ْ
وَهَذَا كِتَابٌ ُمصَدّقٌ لِسَانًا عَرَبِيّا لِيُ ْنذِرَ الّذِينَ ظََلمُوا وَبُشْرَى لِ ْل ُمحْسِنِينَ ( )12إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ ( )13أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً ِبمَا
ثُمّ اسْ َتقَامُوا فَل َ
كَانُوا َي ْعمَلُونَ (.} )14
يقول تعالى ُ { :قلْ } يا محمد لهؤلء المشركين الكافرين بالقرآن { :أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ كَانَ } هذا القرآن
{ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ َوكَفَرْتُمْ ِبهِ } أي :ما ظنكم أن ال صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد
أنزله
__________
( )1في ت ،أ " :كغيرهم".
( )2في أ " :جاءه وال".
( )3في ت " :ذلك".
( )4المسند ( )6/436وصحيح البخاري برقم (.)1243
( )5صحيح البخاري برقم (.)2687
( )6في أ " :الذين".
( )7في ت " :أبو".
( )8في أ " :أرى".
( )7/277
( )7/278
( )7/279
شهْرًا حَتّى
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَاثُونَ َ
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْهًا َو َوضَعَتْهُ كُ ْرهًا وَ َ
َووَصّيْنَا الْإِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ ِإحْسَانًا َ
ي وَعَلَى وَالِ َديّ
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََل ّ
ش ّد ُه وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَ َنةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ َأ ْ
إِذَا َبلَغَ أَ ُ
ك وَإِنّي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ( )15أُولَ ِئكَ
ع َملَ صَاِلحًا تَ ْرضَا ُه وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
وَأَنْ أَ ْ
عمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ فِي َأصْحَابِ ا ْلجَنّ ِة وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُوا
الّذِينَ نَ َتقَ ّبلُ عَ ْنهُمْ َأحْسَنَ مَا َ
يُوعَدُونَ ()16
شهْرًا
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلثُونَ َ
ضعَتْهُ كُرْهًا وَ َ
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْهًا َو َو َ
{ َو َوصّيْنَا النْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا َ
ي وَعَلَى
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َعمْتَ عََل ّ
حَتّى إِذَا بَلَغَ َأشُ ّد ُه وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَنَةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ
ك وَإِنّي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ()15
ع َملَ صَالِحًا تَ ْرضَا ُه وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
ي وَأَنْ أَ ْ
وَالِ َد ّ
عمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِت ِهمْ فِي َأصْحَابِ الْجَنّ ِة وَعْدَ الصّ ْدقِ
أُولَ ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَ ّبلُ عَ ْنهُمْ َأحْسَنَ مَا َ
الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (.} )16
لما ذكر تعالى في الية الولى التوحيد له وإخلص العبادة والستقامة إليه ،عطف بالوصية
بالوالدين ،كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن ،كقوله َ { :و َقضَى رَ ّبكَ أَل َتعْبُدُوا إِل إِيّاهُ
شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ } [لقمان :
حسَانًا } [السراء ]23 :وقال { :أَنِ ا ْ
وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ
، ]14إلى غير ذلك من اليات الكثيرة .وقال هاهنا َ { :و َوصّيْنَا النْسَانَ ِبوَاِلدَيْهِ ِإحْسَانًا } أي :
أمرناه بالحسان إليهما والحنو عليهما.
سمَاك بن حرب قال :سمعت ُمصْعب بن سعد (
وقال أبو داود الطيالسي :حدثنا شعبة ،أخبرني ِ
)1يحدث عن سعد قال :قالت أم سعد لسعد :أليس قد أمر ال بطاعة الوالدين ،فل آكل
طعاما ،ول أشرب شرابا حتى تكفر بال .فامتنعت من الطعام والشراب ،حتى جعلوا يفتحون
فاها بالعصا ،ونزلت هذه الية َ { :و َوصّيْنَا النْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ حُسْنًا } الية [العنكبوت .]8 :
__________
( )1في أ " :حرب".
( )7/279
ورواه مسلم وأهل السنن إل ابن ماجه ،من حديث شعبة بإسناده ،نحوه وأطول منه (.)1
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْهًا } أي :قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا ،من ِوحَام وغشيان وثقل
{ َ
وكرب ،إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة َ { ،و َوضَعَتْهُ كُرْهًا } أي :بمشقة
شهْرًا }
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلثُونَ َ
أيضا من الطلق وشدته { ،وَ َ
وقد استدل علي ،رضي ال عنه ،بهذه الية مع التي في لقمان َ { :و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ } [البقرة
ضعْنَ َأوْلدَهُنّ َ
، ]14 :وقوله { :وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
، ]233 :على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ،وهو استنباط قوي صحيح .ووافقه عليه عثمان
وجماعة من الصحابة ،رضي ال عنهم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار ،عن يزيد بن عبد ال بن ُقسَيْط ،عن َبعْجَةَ ( )2بن عبد ال
جهَيْنة ،فولدت له لتمام ستة أشهر ،فانطلق زوجها إلى
الجهني قال :تزوج رجل منا امرأة من ُ
عثمان فذكر ذلك له ،فبعث إليها ،فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ،فقالت :ما يبكيك ؟!
فوال ما التبس بي أحد من خلق ال غيره قط ،فيقضي ال في ما شاء .فلما أتي بها عثمان أمر
برجمها ،فبلغ ذلك عليا فأتاه ،فقال له :ما تصنع ؟ قال :ولدت تماما لستة أشهر ،وهل يكون
حمْلُهُ
ذلك ؟ فقال له [علي] ( )3أما تقرأ القرآن ؟ قال :بلى .قال :أما سمعت ال يقول { :وَ َ
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ( ، )4فلم نجده بقي إل
ضعْنَ َأوْلدَهُنّ ] َ
شهْرًا } وقال [ { :يُ ْر ِ
َو ِفصَالُهُ ثَلثُونَ َ
ستة أشهر ،قال :فقال عثمان :وال ما فطنت لهذا ،علي بالمرأة فوجدوها قد فُ ِرغَ منها ،قال :
جةُ :فوال ما الغراب بالغراب ،ول البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه .فلما رآه أبوه قال :
فقال َبعْ َ
ابني إني وال ل أشك فيه ،قال :وأبله ( )5ال بهذه القرحة قرحة الكلة ،فما زالت تأكله حتى
مات (.)6
رواه ابن أبي حاتم ،وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله { :فَأَنَا َأوّلُ ا ْلعَابِدِينَ } [الزخرف :
.]81
سهَر ،عن داود
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا فَ ْروَة بن أبي ال َمغْرَاء ،حدثنا علي بن مِ ْ
عكْرِمة ،عن ابن عباس ( )7قال :إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من
بن أبي هند ،عن ِ
الرضاع أحد وعشرون شهرا ،وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلثة وعشرون
حمُْل ُه َو ِفصَالُهُ ثَلثُونَ
شهرًا ،وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين ؛ لن ال تعالى يقول { :وَ َ
شهْرًا }
َ
ش ّدهُ } أي :قوى وشب وارتجل { وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَنَةً } أي :تناهى عقله وكمل
{ حَتّى إِذَا بََلغَ أَ ُ
فهمه وحلمه .ويقال :إنه ل يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الربعين.
__________
( )1مسند الطيالسي برقم ( )208وصحيح مسلم يرقم ( )1748وسنن أبي داود برقم ()2740
وسنن الترمذي برقم ( )3079والنسائي في السنن الكبرى برقم ( )11196لكن النسائي لم يرو
الشاهد هنا وإنما روى أوله.
( )2في ت ،أ " :معمر".
( )3زيادة من ت ،أ.
( )4زيادة من أ.
( )5في ت ،م ،أ " :وابتله".
( )6ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي .)07/441
( )7في ت " :عن عكرمة وروى عن ابن عباس".
( )7/280
قال أبو بكر بن عياش ،عن العمش ،عن القاسم بن عبد الرحمن قال :قلت لمسروق :متى
خذْ حذرك.
يؤخذ الرجل بذنوبه ؟ قال :إذا بََل ْغتَ الربعين ،فَ ُ
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي :حدثنا عُبَيد ال القواريري ،حدثنا عَزْرَة بن قيس الزدي -
وكان قد بلغ مائة سنة -حدثنا أبو الحسن السلولي ( )1عنه وزادني ( )2قال :قال محمد بن
عمرو بن عثمان ،عن عثمان ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :العبد المسلم إذا بلغ أربعين
سنة خفف ال حسابه ،وإذا بلغ ( )3ستين سنة رزقه ال النابة إليه ،وإذا بلغ سبعين سنة أحبّه
أهل السماء ،وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت ال حسناته ومحا سيئاته ،وإذا بلغ تسعين سنة غفر ال له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،وشفّعه ال في أهل بيته ،وكتب في السماء :أسير ( )4ال في
أرضه" (.)5
وقد روي هذا من غير هذا الوجه ،وهو في مسند المام أحمد (.)7( )6
وقد قال الحجاج بن عبد ال الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق :تركت المعاصي والذنوب
أربعين سنة حياء من الناس ،ثم تركتها حياء من ال ،عز وجل.
وما أحسن قول الشاعر :
صَبَا ما صَبَا حَتى عَل الشّيبُ رأسَهُ ...فلمّا عَلهُ قال للباطل :ابطُل ()8
ع َملَ
ي وَأَنْ أَ ْ
ي وَعَلَى وَاِل َد ّ
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َعمْتَ عََل ّ
{ قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي } أي :ألهمني { أَنْ أَ ْ
صَالِحًا تَ ْرضَاهُ } أي :في المستقبل { ،وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي } أي :نسلي وعقبي { ،إِنّي تُ ْبتُ
ك وَإِنّي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الربعين أن يجدد التوبة والنابة إلى ال ،عز
إِلَ ْي َ
وجل ،ويعزم عليها.
وقد روى أبو داود في سننه ،عن ابن مسعود ،رضي ال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد " :اللهم ،ألف بين قلوبنا ،وأصلح ذات بيننا ،واهدنا سبُل
( )9السلم ،ونجنا من الظلمات إلى النور ،وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،وبارك لنا
في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ،وأزواجنا ،وذرياتنا ،وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ،
واجعلنا شاكرين لنعمتك ،مثنين بها قابليها ،وأتممها علينا" (.)10
عمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ } أي :هؤلء
قال ال تعالى { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَ ّبلُ عَ ْنهُمْ َأحْسَنَ مَا َ
المتصفون بما ذكرنا ،التائبون إلى ال المنيبون إليه ،المستدركون ما فات بالتوبة والستغفار ،
هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ،ويتجاوز عن سيئاتهم ،فيغفر لهم الكثير من الزلل ،
ويتقبل منهم اليسير من العمل { ،فِي َأصْحَابِ الْجَنّةِ } أي :هم في جملة أصحاب الجنة ،وهذا
حكمهم عند ال كما وعد
__________
( )1في م ،أ " :أبو الحسن الكوفي -عمر بن أوس".
( )2في ت " :وروى الحافظ".
( )3في ت ،م " :رزقه".
( )4في ت ،م ،أ " :أمين".
( )5قال الهيثمي في المجمع (" : )10/205رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس
الزدي ،وهو ضعيف".
( )6في ت " :وهذا الحديث في مسند المام أحمد".
( )7رواه المام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي ال عنه ،المسند (.)3/218
( )8في ت ،م ،أ " :أبعد".
( )9في ت " :سبيل".
( )10سنن أبي داود برقم (.)969
( )7/281
ال من تاب إليه وأناب ؛ ولهذا قال { :وَعْدَ الصّ ْدقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
قال ( )1ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ال ُمعْ َتمِر بن سليمان ،عن الحكم بن أبان ،
عن الغطْرِيف ،عن جابر بن زيد ،عن ابن عباس ( ، )2عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
عن الروح المين ،عليه ( )3السلم ،قال " :يؤتى ( )4بحسنات العبد وسيئاته ( ، )5فيقتص ()6
بعضها ببعض ،فإن بقيت حسنة وسع ال له في الجنة" قال :فدخلتُ على يزداد َفحُدّث بمثل هذا
عمِلُوا
الحديث قال :قلت :فإن ذهبت الحسنة ؟ قال { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَبّلُ عَ ْنهُمْ َأحْسَنَ مَا َ
صحَابِ الْجَنّةِ وَعْدَ الصّ ْدقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } (.)7
وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ فِي َأ ْ
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن أبيه ،عن محمد بن عبد العلى الصنعاني ،عن المعتمر بن
سليمان ،بإسناده مثله -وزاد عن الروح المين .قال :قال الرب ،جل جلله :يؤتى بحسنات
العبد وسيئاته ...فذكره ،وهو حديث غريب ،وإسنادٌ جيد ل بأس به.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا سليمان بن َمعْبَد ،حدثنا عمرو بن عاصم الكلئي ،حدثنا
أبو عوانة ،عن أبي بشر ( )8جعفر بن أبي وَحْشية ،عن يوسف بن سعد ( ، )9عن محمد بن
حاطب قال :ونزل في داري حيث ظهر علي على أهل البصرة ،فقال لي يوما :لقد شهدتُ أمير
المؤمنين عليا ،وعنده عمارا وصعصعة والشتر ومحمد بن أبي بكر ،فذكروا عثمان فنالوا
منه ،وكان علي ،رضي ال عنه ،على السرير ،ومعه عود في يده ،فقال قائل منهم :إن
عندكم من يفصل بينكم فسألوه ،فقال علي :كان عثمان من الذين قال ال { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَ ّبلُ
عمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ فِي َأصْحَابِ الْجَنّ ِة وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
عَ ْنهُمْ َأحْسَنَ مَا َ
قال :وال عثمان وأصحاب عثمان -قالها ثلثا -قال يوسف :فقلت لمحمد بن حاطب :آل
لسمعت هذا من عليّ ؟ قال :آل لسمعت هذا من علي ،رضي ال عنه.
__________
( )1في ت " :وروى".
( )2في ت " :ابن عباس رضي ال عنه".
( )3في م " :عليهما".
( )4في ت " :تؤتى".
( )5في أ " :وسيئاته يوم القيامة".
( )6في أ " :فيقبض".
( )7تفسير الطبري ( )26/12ورواه أبو نعيم في الحلية ( )3/91من طريق معتمر بن سليمان
به ،وقال أبو نعيم " :هذا حديث غريب من حديث جابر ،والغطويف تفرد به عنه الحكم بن أبان
العدني".
( )8في أ " :بشير".
( )9في ت " :وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
( )7/282
ج َوقَدْ خََلتِ ا ْلقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ ُهمَا َيسْ َتغِيثَانِ اللّ َه وَيَْلكَ
وَالّذِي قَالَ ِلوَالِدَيْهِ ُأفّ َل ُكمَا أَ َت ِعدَانِنِي أَنْ أُخْرَ َ
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَيَقُولُ مَا هَذَا ِإلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ ( )17أُولَ ِئكَ الّذِينَ حَقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ فِي ُأمَمٍ
َآمِنْ إِ ّ
عمِلُوا وَلِ ُي َوفّ َيهُمْ
ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( )18وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا َ
قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
عمَاَلهُ ْم وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ ( )19وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ َأذْهَبْتُمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ
أَ ْ
ق وَ ِبمَا
حّعذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْتُمْ تَسْ َتكْبِرُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا فَالْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ َ
سقُونَ ()20
كُنْتُمْ َتفْ ُ
( )7/283
بكر :سُنّة هرقل وقيصر .فقال مروان :هذا الذي أنزل ال فيه { :وَالّذِي قَالَ ِلوَالِدَيْهِ ُأفّ َل ُكمَا }
الية ،فبلغ ذلك عائشة فقالت :كذب مروان! وال ما هو به ،ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت
فيه لسميته ،ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه ،فمروان
ضضٌ ( )1من لعنة ال (.)2
َف َ
وقوله { :أَ َت ِعدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي [ :أن] ( )3أبعث { َوقَدْ خََلتِ ا ْلقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } أن ( )4قد
مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر { ،وَ ُهمَا َيسْ َتغِيثَانِ اللّهَ } أي :يسألن ال فيه أن يهديه
حقّ فَ َيقُولُ مَا َهذَا إِل أَسَاطِي ُر الوّلِينَ } قال ال
ن وَعْدَ اللّهِ َ
ويقولن لولدهما { :وَيَْلكَ آمِنْ إِ ّ
خَلتْ مِنْ قَبِْل ِهمْ مِنَ الْجِنّ وَالنْسِ إِ ّن ُهمْ كَانُوا
[تعالى] ( { )5أُولَ ِئكَ الّذِينَ حَقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ فِي ُأمَمٍ َقدْ َ
خَاسِرِينَ } أي :دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة.
وقوله { :أولئك } بعد قوله { :وَالّذِي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان
كذلك.
وقال الحسن وقتادة :هو الكافر الفاجر العاق لوالديه ،المكذب بالبعث.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود ،من طريق هشام بن عمار :حدثنا حماد
بن عبد الرحمن ،حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي ،عن سليمان بن حبيب المحاربي ،عن أبي
أمامة الباهلي ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :أربعة لعنهم ال من فوق عرشه ،وَأمّنتْ
عليهم الملئكة :مضل المساكين -قال خالد :الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول :هلم
أعطيك ،فإذا جاءه قال :ليس معي شيء -والذي يقول للمكفوف :اتق الدابة ،وليس بين يديه
شيء .والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها ،والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا" (
.)6غريب جدا.
عمَاَل ُه ْم وَهُ ْم ل
عمِلُوا } أي :لكل عذاب بحسب عمله { ،وَلِ ُيوَفّ َيهُمْ أَ ْ
وقوله { :وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا َ
يُظَْلمُونَ } أي :ل يظلمهم مثقال ذرة فما دونها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :درجات النار تذهب سفال ودرجات الجنة تذهب علوا.
وقوله { :وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النّارِ َأذْهَبْتُمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِت ُكمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا }
أي :يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا .وقد تورع [أمير المؤمنين] ( )7عمر بن الخطاب ،رضي ال
عنه ،عن ( )8كثير من طيبات المآكل والمشارب ،وتنزه عنها ،ويقول [ :إني] ( )9أخاف أن
أكون كالذين قال ال تعالى لهم وقَرّعهم { :أَذْهَبْ ُتمْ طَيّبَا ِت ُكمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا }
__________
( )1في أ " :بعض".
( )2النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11491
( )3زيادة من ت.
( )4في ت ،أ " :أي".
( )5زيادة من ت ،م.
( )6مختصر تاريخ دمشق لبن منظور ( )10/221ورواه الطبراني في المعجم الكبير ()4/251
من طريق هشام بن عمار به .قال ابن أبي حاتم في العلل (" : )2/413سألت أبي عن هذا الحديث
فقال :هذا حديث منكر" .قال الهيثمي في المجمع (" : )4/251حماد بن عبد الرحمن العكي عن
خالد بن الزبرقان ،وكلهما ضعيف".
( )7زيادة من ت ،م ،أ.
( )8في أ " :على".
( )9زيادة من ت ،م ،أ.
( )7/284
حسَنات كانت لهم في الدنيا ،فيقال لهم { :أَذْهَبْ ُتمْ طَيّبَا ِت ُكمْ فِي
ن أقوامٌ َ
وقال أبو مِجْلَز :ليتفقّدَ ّ
حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا }
ق وَ ِبمَا كُنْتُمْ
حّوقوله { :فَالْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْتُمْ َتسْ َتكْبِرُونَ فِي ال ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
سقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم ،فكما َنعّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق ،وتعاطوا
َتفْ ُ
الفسق والمعاصي ،جازاهم ال بعذاب الهون ،وهو الهانة والخزي واللم الموجعة ،
والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة ،أجارنا ال من ذلك كله.
( )7/285
حقَافِ َوقَدْ خََلتِ النّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ أَلّا َتعْ ُبدُوا إِلّا اللّهَ
وَا ْذكُرْ أَخَا عَادٍ ِإذْ أَنْذَرَ َقوْمَهُ بِالْأَ ْ
عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ ( )21قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا عَنْ آَِلهَتِنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ
إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
جهَلُونَ ( )23فََلمّا
الصّا ِدقِينَ ( )22قَالَ إِ ّنمَا ا ْلعِ ْلمُ عِنْدَ اللّ ِه وَأُبَّل ُغكُمْ مَا أُ ْرسِ ْلتُ بِ ِه وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ
رََأ ْوهُ عَا ِرضًا ُمسْ َتقْبِلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُوا هَذَا عَا ِرضٌ ُممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْ ُتمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فََأصْبَحُوا لَا يُرَى إِلّا َمسَاكِ ُنهُمْ كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ (
أَلِيمٌ (ُ )24ت َدمّرُ ُكلّ َ
)25
حقَافِ َوقَدْ خََلتِ النّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ أَل َتعْبُدُوا إِل اللّهَ
{ وَا ْذكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ َق ْومَهُ بِال ْ
عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ ( )21قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا عَنْ آِلهَتِنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ
إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
جهَلُونَ ( )23فََلمّا
الصّا ِدقِينَ ( )22قَالَ إِ ّنمَا ا ْلعِ ْلمُ عِنْدَ اللّ ِه وَأُبَّل ُغكُمْ مَا أُ ْرسِ ْلتُ بِ ِه وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ
رََأ ْوهُ عَا ِرضًا ُمسْ َتقْبِلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُوا هَذَا عَا ِرضٌ ُممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْ ُتمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فََأصْبَحُوا ل يُرَى إِل َمسَاكِ ُنهُمْ كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ (
أَلِيمٌ (ُ )24ت َدمّرُ ُكلّ َ
.} )25
يقول تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه { :وَا ْذكُرْ أَخَا عَادٍ } وهو هود ،عليه السلم
،بعثه ال إلى عاد الولى ،وكانوا يسكنون الحقاف -جمع حقْف وهو :الجبل من الرمل -
قاله ابن زيد .وقال عكرمة :الحقاف :الجبل والغار .وقال علي بن أبي طالب ،رضي ال عنه
:الحقاف :واد بحضرموت ،يدعى بُرْهوت ،تلقى فيه أرواح الكفار .وقال قتادة :ذُكر لنا أن
عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها :الشّحْر.
قال ابن ماجه " :باب إذا دعا فليبدأ بنفسه" :حدثنا الحسين بن علي الخلل ،حدثنا زيد بن الحباب
،حدثنا سفيان ،عن أبي إسحاق ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :يرحمنا ال ،وأخا عاد" (.)1
وقوله َ { :وقَدْ خََلتِ النّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ َومِنْ خَ ْلفِهِ } يعني :وقد أرسل ال إلى من حَول بلدهم
جعَلْنَاهَا َنكَال ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا } [البقرة ، ]66 :
من القرى مرسلين ومنذرين ،كقوله َ { :ف َ
سلُ مِنْ بَيْنِ
عقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ ِإذْ جَاءَ ْتهُمُ الرّ ُ
ل صَا ِ
وكقوله { :فَإِنْ أَعْ َرضُوا َف ُقلْ أَنْذَرْ ُتكُمْ صَاعِقَةً مِ ْث َ
أَيْدِيهِمْ َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ أَل َتعْبُدُوا إِل اللّهَ قَالُوا َلوْ شَاءَ رَبّنَا لنزلَ مَل ِئكَةً فَإِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ }
[فصلت )3( )2( ]14 ، 13 :أي :قال لهم هود ذلك ،فأجابه قومه قائلين { :أَجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا } أي
:لتصدنا { عَنْ آِلهَتِنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }
__________
( )1سنن ابن ماجه ( )3852وقال البوصيري في الزوائد (" : )3/204هذا إسناد صحيح وله
شواهد في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب".
( )2في م " :تولوا" ،وهو خطأ.
( )3في ت ،م ،أ ،هـ " :إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" ،والصواب ما أثبتناه.
( )7/285
( )7/286
إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ،ول إلى أسير فأفاديه ،اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه.
فمرت به سحابات سود ،فنودي منها " :اختر" ،فأومأ إلى سحابة منها سوداء ،فنودي منها :
"خذها رمادًا رمددًا ( ، )1ل تبقي من عاد أحدا" .قال :فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إل
كقدر ما يجري في خاتمي هذا ،حتى هلكوا -قال أبو وائل :وصدق -وكانت المرأة والرجل
إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا " :ل تكن كوافد عاد".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ،كما تقدم في سورة "العراف" (.)2
وقال المام أحمد :حدثنا هارون بن معروف ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرنا عمرو :أن أبا النضر
حدثه عن سليمان بن يسار ،عن عائشة ( )3أنها قالت :ما رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم
مستجمعًا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ،إنما كان يتبسم .قالت :وكان ( )4إذا رأى غيما -أو
ريحا -عرف ذلك في وجهه ،قالت :يا رسول ال ،الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون
فيه المطر ،وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ؟ فقال " :يا عائشة ،ما يؤمنني أن يكون
فيه عذاب ،قد عذب قوم بالريح ،وقد رأى قوم العذاب فقالوا :هذا عارض ممطرنا" .وأخرجاه
( )5من حديث ابن وهب (.)6
طريق أخرى :قال أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،عن سفيان ،عن المقدام بن شريح ،عن أبيه ،
عن عائشة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ،ترك
عمله ،وإن كان في صلته ،ثم يقول " :اللهم ،إني أعوذ بك من شر ما فيه" ( .)7فإن كشفه ال
حمد ال ،وإن أمطرت قال " :اللهم ،صيبا نافعا" (.)8
طريق أخرى :قال مسلم في صحيحه :حدثنا أبو الطاهر ،أخبرنا ابن وهب ،سمعت ابن جريج
يحدث عن عطاء بن أبي رباح ،عن عائشة قالت :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا
عصفت الريح قال " :اللهم ،إني أسألك خيرها ،وخير ما فيها ،وخير ما أرسلت به ،وأعوذ بك
من شرها ،وشر ما فيها ،وشر ما أرسلت به" .قالت :وإذا تَخَيّلت السماء تغير لونه ،وخرج
ودخل ،وأقبل وأدبر ،فإذا مطرت سري عنه ،فعرفت ذلك عائشة ،فسألته ،فقال " :لعله يا
عائشة كما قال قوم عاد { :فََلمّا رََأ ْوهُ عَا ِرضًا مُسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُوا هَذَا عَا ِرضٌ ُممْطِرُنَا } (.)9
وقد ذكرنا قصة هلك عاد ( )10في سورتي "العراف وهود" ( )11بما أغنى عن إعادته هاهنا ،
ول
__________
( )1في ت " :رمدا".
( )2المسند ( )3/482وانظر تخريج بقية هذا الحديث عند الية 73 :من سورة العراف.
( )3في ت " :عائشة رضي ال عنها".
( )4في ت ،م " :وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )5في ت " :أخرجه".
( )6المسند ( )6/66وصحيح البخاري برقم ( )4829 ، 4828وصحيح مسلم برقم (.)899
( )7في م " :من سوء عاقبته".
( )8المسند (.)6/190
( )9صحيح مسلم برقم (.)899
( )10في ت ،م ،أ " :هلك قوم عاد".
( )11راجع قصة هلك قوم عاد عند تفسير اليات 72 - 65 :من سورة العراف واليات :
60 - 50من سورة هود.
( )7/287
س ْم ُعهُ ْم وَلَا
س ْمعًا وَأَ ْبصَارًا وََأفْئِ َدةً َفمَا أَغْنَى عَ ْن ُهمْ َ
جعَلْنَا َلهُمْ َ
وَلَقَدْ َمكّنّاهُمْ فِيمَا إِنْ َمكّنّاكُمْ فِي ِه وَ َ
جحَدُونَ بِآَيَاتِ اللّ ِه وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ (
شيْءٍ إِذْ كَانُوا يَ ْ
أَ ْبصَارُهُ ْم وَلَا َأفْ ِئدَ ُتهُمْ مِنْ َ
جعُونَ ( )27فََلوْلَا َنصَرَ ُهمُ الّذِينَ
حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى َوصَ ّرفْنَا الْآَيَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
)26وََلقَدْ أَهَْلكْنَا مَا َ
خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آَِلهَةً َبلْ ضَلّوا عَ ْنهُمْ وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُ ْم َومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ ()28
اتّ َ
الحمد والمنة.
وقال الطبراني :حدثنا عبدان بن أحمد ،حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي ،حدثنا أبو مالك ،عن
مسلم الملئي ،عن مجاهد وسعيد بن جبير ( ، )1عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :ما فتح على عاد من الريح إل مثل موضع الخاتم ،ثم أرسلت عليهم [فحملتهم] البدو
إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا :هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا .وكان أهل
البوادي فيها ،فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا .قال :عتت على خزانها حتى
خرجت من خلل البواب (.)3( " )2
س ْم ُعهُ ْم وَل
س ْمعًا وَأَ ْبصَارًا وََأفْئِ َدةً َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ َ
جعَلْنَا َلهُمْ َ
{ وََلقَدْ َمكّنّاهُمْ فِيمَا إِنْ َمكّنّاكُمْ فِي ِه وَ َ
حدُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ (
شيْءٍ ِإذْ كَانُوا َيجْ َ
أَ ْبصَارُهُ ْم وَل َأفْئِدَ ُتهُمْ مِنْ َ
جعُونَ ( )27فََلوْل َنصَرَ ُهمُ الّذِينَ
حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى َوصَ ّرفْنَا اليَاتِ َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ
)26وََلقَدْ أَهَْلكْنَا مَا َ
خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً َبلْ ضَلّوا عَ ْنهُمْ وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُ ْم َومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ (.} )28
اتّ َ
يقول تعالى :ولقد مكنا المم السالفة في الدنيا من الموال والولد ،وأعطيناهم منها ( )4ما لم
س ْم ُعهُ ْم وَل
س ْمعًا وَأَ ْبصَارًا وََأفْئِ َدةً َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ َ
جعَلْنَا َلهُمْ َ
نعطكم مثله ول قريبا منه َ { ،و َ
حدُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي
شيْءٍ ِإذْ كَانُوا َيجْ َ
أَ ْبصَارُهُ ْم وَل َأفْئِدَ ُتهُمْ مِنْ َ
:وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ،أي :فاحذروا أيها
المخاطبون أن تكونوا مثلهم ،فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والخرة.
حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى } يعني :أهل مكة ،قد أهلك ال المم المكذبة بالرسل
وقوله { :وََلقَدْ أَهَْلكْنَا مَا َ
مما حولها كعاد ،وكانوا بالحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود ،وكانت منازلهم بينهم وبين
الشام ،وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ،ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة ،وكذلك بحيرة
قوم لوط ،كانوا يمرون بها أيضا.
جعُونَ فََلوْل َنصَرَهُمُ الّذِينَ اتّخَذُوا
وقوله َ { :وصَ ّرفْنَا اليَاتِ } أي :بيناها ووضحناها َ { ،لعَّلهُمْ يَ ْر ِ
مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَة } أي :فهل نصروهم عند احتياجهم إليهم َ { ،بلْ ضَلّوا عَ ْن ُهمْ } أي :بل
ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم { ،وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُمْ } أي :كذبهم َ { ،ومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } أي :
وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة ،وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها ،واعتمادهم عليها.
__________
( )1في ت " :وروى الطبراني بإسناده".
( )2في ت " :البيوت".
( )3المعجم الكبير ( ، )12/42قال الهيثمي في المجمع (" : )7/113فيه مسلم الملئي وهو
ضعيف".
( )4في ت " :فيها".
( )7/288
ي وَّلوْا إِلَى
ضَحضَرُوهُ قَالُوا أَ ْنصِتُوا فََلمّا ُق ِ
وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآَنَ فََلمّا َ
س ِمعْنَا كِتَابًا أُنْ ِزلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ َيهْدِي
َق ْومِهِمْ مُنْذِرِينَ ( )29قَالُوا يَا َق ْومَنَا إِنّا َ
عيَ اللّ ِه وَ َآمِنُوا بِهِ َي ْغفِرْ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُمْ
ق وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْ َتقِيمٍ ( )30يَا َق ْومَنَا أَجِيبُوا دَا ِ
حّإِلَى الْ َ
ض وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
عيَ اللّهِ فَلَيْسَ ِب ُمعْجِزٍ فِي الْأَ ْر ِ
جبْ دَا ِ
عذَابٍ أَلِيمٍ (َ )31ومَنْ لَا ُي ِ
وَيُجِ ْركُمْ مِنْ َ
َأوْلِيَاءُ أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ()32
( )7/289
( )7/290
فهذا مع الول من رواية ابن عباس يقتضي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يشعر
بحضورهم في هذه المرة وإنما استمعوا قراءته ،ثم رجعوا إلى قومهم ثم بعد ذلك وفدوا إليه
أرسال قوما بعد قوم ،وفوجا بعد فوج ،كما سيأتي بذلك الخبار في موضعها والثار ،مما
سنوردها ( )1هاهنا إن شاء ال تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعا ،عن أبي قدامة عبيد ال بن سعيد السرخسي ،عن أبي
أسامة حماد بن أسامة ،عن مسعر بن كدام ،عن معن بن عبد الرحمن قال :سمعت أبي قال :
سألت مسروقا :من آذن النبي صلى ال عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال :حدثني أبوك -
يعني ابن مسعود ( - )2أنه آذنته بهم شجرة ( - )3فيحتمل أن يكون هذا في المرة الولى ،
ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس ،ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات ،
وال أعلم .ويحتمل أن يكون في الولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم
الشجرة ،أي :أعلمته باستماعهم ،وال أعلم.
قال الحافظ البيهقي :وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي ال عنهما ( ، )4إنما هو في أول ما
سمعت ( )5الجن قراءة رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلمت حاله ،وفي ذلك الوقت لم يقرأ
عليهم ولم يرهم ،ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ،ودعاهم إلى ال ،عز وجل ،
كما رواه عبد ال بن مسعود ،رضي ال عنه (.)6
ذكر الرواية عنه بذلك :
قال المام أحمد :حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،حدثنا داود عن الشعبي -وابن أبي زائدة ،أخبرنا
داود ،عن الشعبي ( - )7عن علقمة قال :قلت لعبد ال بن مسعود :هل صحب رسول ال
صلى ال عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال :ما صحبه منا أحد ،ولكنا فقدناه ذات ليلة
بمكة ،فقلنا :اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال :فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ،فلما كان في وجه
الصبح -أو قال :في السحر -إذا نحن به يجيء من قبل حراء ،فقلنا :يا رسول ال -فذكروا
له الذي كانوا فيه -فقال " :إنه أتاني داعي الجن ،فأتيتهم فقرأت عليهم" .قال :فانطلق ،فأرانا
آثارهم وآثار نيرانهم -قال :وقال الشعبي :سألوه الزاد -قال عامر :سألوه بمكة ،وكانوا من
جن الجزيرة ،فقال " :كل عظم ذكر اسم ال عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان عليه لحما ،وكل
بعرة أو روثة علف لدوابكم -قال -فل تستنجوا بهما ،فإنهما زاد إخوانكم من الجن".
وهكذا رواه مسلم في صحيحه ،عن علي بن حجر ،عن إسماعيل بن علية ،به نحوه (.)8
وقال مسلم أيضا :حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا عبد العلى ،حدثنا داود -وهو ابن أبي هند -
عن عامر قال :سألت علقمة :هل كان ابن مسعود ،رضي ال عنه ،شهد مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم ليلة
__________
( )1في ت " :نوردها".
( )2في ت " :ابن مسعود رضي ال عنه".
( )3صحيح البخاري برقم ( )3859وصحيح مسلم برقم (.)450
( )4في م ،أ " :عنه".
( )5في أ " :ما استمعت".
( )6دلئل النبوة للبيهقي (.)2/227
( )7في ت " :فروى المام أحمد بسنده".
( )8المسند ( ، )1/436وصحيح مسلم برقم (.)450
( )7/291
الجن ؟ قال :فقال علقمة :أنا سألت ابن مسعود ؛ فقلت :هل شهد أحد منكم مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال :ل ولكنا كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه
فالتمسناه في الودية والشعاب ،فقلنا :استطير ؟ اغتيل ؟ قال :فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ،فلما
أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ،قال :فقلنا :يا رسول ال ،فقدناك فطلبناك فلم نجدك ،فبتنا
بشر ليلة بات بها قوم .فقال " :أتاني داعي الجن ،فذهبت معهم ،فقرأت عليهم القرآن" .قال :
فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ،وسألوه الزاد فقال " :كل عظم ذكر اسم ال عليه يقع في
أيديكم أوفر ما يكون لحما ،وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" .قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :فل تستنجوا بهما ،فإنهما طعام إخوانكم" (.)1
طريق أخرى عن ابن مسعود :قال أبو جعفر بن جرير :حدثني أحمد بن عبد الرحمن ،حدثني
عمي ،حدثني يونس ،عن الزهري ،عن عبيد ال بن عبد ال ؛ أن بن مسعود قال :سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :بت الليلة أقرأ على الجن ربعا ( )2بالحجون" (.)3
طريق أخرى :فيها أنه كان معه ليلة الجن ،قال ابن جرير رحمه ال :حدثني أحمد بن عبد
الرحمن بن وهب ،حدثنا عمي عبد ال بن وهب ،أخبرني يونس ،عن ابن شهاب ،عن أبي
عثمان بن سنة الخزاعي -وكان من أهل الشام ( - )4أن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم لصحابه وهو بمكة " :من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل".
فلم يحضر منهم أحد غيري ،قال :فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ،ثم
أمرني أن أجلس فيه ،ثم انطلق حتى قام ،فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ،
حتى ما أسمع صوته ،ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ،حتى بقي منهم رهط ،
ففرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم مع الفجر ،فانطلق فتبرز ،ثم أتاني فقال " :ما فعل
الرهط ؟" فقلت :هم أولئك يا رسول ال ،فأعطاهم عظما وروثا زادا ،ثم نهى أن يستطيب أحد
بروث أو عظم.
ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد ال بن عبد الحكم ،عن أبي زرعة وهب ال بن راشد ،عن
يونس بن يزيد اليلي ،به (.)5
ورواه البيهقي في الدلئل ،من حديث عبد ال بن صالح -كاتب الليث -عن الليث ،عن يونس
به (.)6
وقد روى إسحاق بن راهويه ،عن جرير ،عن قابوس بن أبي ظبيان ،عن أبيه ،عن ابن
مسعود ،فذكر نحو ما تقدم (.)7
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)450
( )2في م " :وقفا" ،وفي أ " :رفعا".
( )3تفسير الطبري ( )26/21ورواه أحمد في المسند ( )1/416من طريق يونس عن الزهري ،
به.
( )4في ت " :روى مسلم وروى ابن جرير بسنده".
( )5تفسير الطبري (.)26/21
( )6دلئل النبوة للبيهقي ( ، )2/330ورواه الحاكم في المستدرك ( )2/503من طريق عبد ال بن
صالح به ،قال الذهبي " :هو صحيح عند جماعة".
( )7وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان ،ضعفه أبو حاتم والنسائي وأحمد ،وقال ابن حبان :
"ينفرد عن أبيه بما ل أصل له ،فربما رفع المرسل وأسند الموقوف".
( )7/292
ورواه الحافظ أبو نعيم ،من طريق موسى بن عبيدة ،عن سعيد بن الحارث ،عن أبي المعلى (
، )1عن ابن مسعود فذكر نحوه أيضا (.)2
طريق أخرى :قال أبو نعيم :حدثنا أبو بكر بن مالك ،حدثنا عبد ال بن أحمد بن حنبل ،حدثني
أبي قال :حدثنا عفان وعكرمة قال حدثنا معتمر قال :قال أبي :حدثني أبو تميمة ،عن عمرو
-ولعله قد يكون قال :البكالي -يحدثه عمرو ،عن عبد ال بن مسعود ،رضي ال عنه ،قال
:استتبعني رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا ،فخط لي خطا
فقال " :كن بين ظهر هذه ل تخرج منها ؛ فإنك إن خرجت منها هلكت" فذكر الحديث بطوله وفيه
غرابة شديدة (.)3
طريق أخرى :قال ابن جرير :حدثنا ابن عبد العلى ،حدثنا ابن ثور ،عن معمر ،عن يحيى
بن أبي كثير ( ، )4عن عبد ال بن عمرو بن غيلن الثقفي ؛ أنه قال لبن مسعود :حدثت أنك
كنت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال :أجل .قال :فكيف كان ؟ فذكر
الحديث كله ،وذكر أن النبي صلى ال عليه وسلم خط عليه خطا ،وقال " :ل تبرح منها" فذكر
مثل العَجَاجة السوداء غشيت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فذعر ثلث مرات ،حتى إذا كان
قريبا من الصبح ،أتاني النبي ( )5صلى ال عليه وسلم فقال " :أنمت ؟" فقلت :ل وال ،ولقد
هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ،تقول " :اجلسوا" فقال " :لو
خرجت لم آمن أن يخطفك ( )6بعضهم" .ثم قال " :هل رأيت شيئا ؟" فقلت :نعم رأيت رجال
سودًا مستشعرين ( )7ثيابا بياضا .قال " :أولئك جن نصيبين سألوني المتاع -والمتاع :الزاد -
فمتعتهم بكل عظم حائل ،أو بعرة أو روثة" -فقلت :يا رسول ال ،وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال
" :إنهم ل يجدون عظما إل وجدوا عليه لحمه يوم أكل ،ول روثا إل وجدوا فيها حبها يوم
أكلت ،فل يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلء بعظم ول بعرة ول روثة" (.)8
طريق أخرى :قال الحافظ أبو بكر البيهقي :أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن قتادة
قال أخبرنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي ،حدثنا أبو عبد ال محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي ،
حدثنا روح بن صلح ،حدثنا موسى بن علي بن رباح ،عن أبيه ،عن عبد ال بن مسعود قال :
استتبعني رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :إن نفرا من الجن -خمسة عشر بني إخوة وبني
عم -يأتونني الليلة ،فأقرأ عليهم القرآن" ،فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد ،فخط لي خطا
وأجلسني فيه ،وقال لي " :ل تخرج من هذا" .فبت فيه حتى أتاني رسول ال صلى ال عليه وسلم
حمَمة فقال لي " :إذا ذهبت إلى الخلء فل تستنج بشيء من
مع السحر في يده عظم حائل وروثة ُ
هؤلء" .قال :فلما أصبحت قلت :لعلمن علمي حيث كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ،
فذهبت فرأيت موضع مبرك ( )9ستين بعيرا (.)10
طريق أخرى :قال البيهقي :أخبرنا أبو عبد ال الحافظ ،أخبرنا أبو العباس الصم ،حدثنا
العباس
__________
( )1في أ " :إسماعيل".
( )2ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )10/80من طريق موسى بن عبيدة الربذي ،به.
( )3لم أجده في دلئل النبوة وهو في المسند للمام أحمد (.)1/399
( )4في ت " :روى ابن جرير بسنده".
( )5في م " :رسول ال".
( )6في أ " :يختطفك".
( )7في ت ،أ " :مستثفرين".
( )8تفسير الطبري (.)26/21
( )9في أ " :منزل".
( )10دلئل النبوة للبيهقي (.)2/231
( )7/293
بن محمد الدّوري ،حدثنا عثمان بن عمر ( ، )1عن المستمر بن الريان ،عن أبي الجوزاء ،عن
عبد ال بن مسعود قال :انطلقت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة الجن ،حتى أتى
الحجون ،فخط لي خطًا ،ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه ،فقال سيد لهم يقال له " :وردان" :أنا
أرحلهم عنك .فقال :إني لن يجيرني من ال أحد (.)2
طريق أخرى :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا سفيان ،عن أبي فزارة العبسي ،
حدثنا أبو زيد -مولى عمرو بن حريث -عن ابن مسعود قال :لما كان ليلة الجن قال لي النبي
صلى ال عليه وسلم " :أمعك ماء ؟" قلت :ليس معي ماء ،ولكن معي إداوة فيها نبيذ .فقال النبي
" :تمرة طيبة وماء طهور" فتوضأ.
ورواه أبو داود ،والترمذي ،وابن ماجه ،من حديث أبي زيد ،به (.)3
طريق أخرى :قال أحمد :حدثنا يحيى بن إسحاق ،أخبرنا ابن لهيعة ،عن قيس بن الحجاج ،
عن حنش الصنعاني ،عن ابن عباس ،عن عبد ال بن مسعود ؛ أنه كان مع رسول ال صلى ال
عليه وسلم ليلة الجن ،فقال رسول ال " :يا عبد ال ،أمعك ماء ؟" قال :معي نبيذ في إداوة ،
فقال ( )4اصبب علي" .فتوضأ ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :يا عبد ال شراب وطهور" (
.)5
تفرد به أحمد من هذا الوجه ،وقد أورده الدارقطني من طريق آخر ،عن ابن مسعود [ ،به] ()6
(.)7
طريق أخرى :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرني أبي عن ميناء ،عن عبد ال قال :
كنت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة وفد الجن ،فلما انصرف تنفس ،فقلت :ما شأنك ؟
قال " :نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود".
هكذا رأيته في المسند مختصرا ( ، )8وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه "دلئل النبوة" ،فقال :
حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب ،حدثنا إسحاق بن إبراهيم -وحدثنا أبو بكر بن مالك ،حدثنا
عبد ال بن أحمد بن حنبل ،حدثنا أبي قال حدثنا عبد الرزاق ،عن أبيه ،عن ميناء ،عن ابن
مسعود قال :كنت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة وفد الجن ،فتنفس ،فقلت :ما لك يا
رسول ال ؟ قال " :نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" .قلت :استخلف .قال " :من ؟" قلت :أبا بكر.
فسكت ( ، )9ثم مضى ساعة فتنفس ،فقلت :ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول ال ؟ قال :
"نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" .قلت :استخلف .قال " :من ؟" قلت :عمر [بن الخطاب] (.)10
فسكت ،ثم مضى ساعة ،ثم تنفس فقلت :ما شأنك ؟ قال " :نعيت إلي نفسي" .قلت :فاستخلف.
قال صلى ال عليه وسلم " :من ؟" قلت :علي بن أبي طالب .قال صلى ال عليه وسلم " :أما
والذي نفسي بيده ،لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين.)11( .
__________
( )1في أ " :عن عمر".
( )2دلئل النبوة للبيهقي (.)2/231
( )3المسند ( ، )1/449وسنن أبي داود برقم ( )84وسنن الترمذي برقم ( )88وسنن ابن ماجه
برقم (.)384
( )4في م " :قال".
( )5المسند ( )1/398وقد تفرد به ابن لهيعة ،وهو ضعيف.
( )6زيادة من م.
( )7سنن الدارقطني ( )1/77من طريق داود بن أبي هند عن عامر بن علقمة بن قيس .قال :
قلت لعبد ال بن مسعود :أشهد رسول ال صلى ال عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟
قال :ل ،قال الدارقطني " :هذا الصحيح عن ابن مسعود".
( )8المسند (.)1/449
( )9في ت ،م " :أبو بكر .قال :فسكت".
( )10زيادة من م.
( )11المعجم الكبير للطبراني ( )10/82وفيه ميناء بن أبي ميناء ،كذاب.
( )7/294
وهو حديث غريب جدّا ،وأحرى به أل يكون محفوظا ،وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد
وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده ،فإن في ذلك الوقت في آخر المر لما فتحت مكة ،ودخل
الناس والجان أيضا في دين ال أفواجا ،نزلت سورة (ِ { )1إذَا جَاءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ .وَرَأَ ْيتَ
ك وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ كَانَ َتوّابًا } ،وهي السورة التي
ح ْمدِ رَ ّب َ
النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجًاَ .فسَبّحْ بِ َ
نعيت نفسه الكريمة فيها إليه ،كما قد نص على ذلك ابن عباس ،ووافقه عمر بن الخطاب عليه ،
وقد ورد في ذلك حديث سنورده عند تفسيرها ،وال أعلم .وقد رواه أبو نعيم أيضا ،عن
الطبراني ،عن محمد بن عبد ال الحضرمي ،عن علي بن الحسين بن أبي بردة ،عن يحيى بن
سعيد ( )2السلمي ،عن حرب بن صَبِيح ،عن سعيد بن مسلمة ،عن أبي مرة الصنعاني ،عن
أبي عبد ال الجدلي ،عن ابن مسعود ،فذكره وذكر فيه قصة الستخلف ( ، )3وهذا إسناد
غريب ،وسياق عجيب.
طريق أخرى :قال المام أحمد :حدثنا أبو سعيد ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن علي بن زيد ،
عن أبي رافع ،عن ابن مسعود أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ( )4خط حوله ،فكان أحدهم
( )5مثل سواد النحل ،وقال لي " :ل تبرح مكانك" ،فأقرأهم كتاب ال " ،فلما رأى الزّط قال :
كأنهم هؤلء .وقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أمعك ماء ؟" قلت :ل .قال " :أمعك نبيذ ؟" قلت
:نعم .فتوضأ به (.)6
طريق أخرى مرسلة :قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو عبد ال الظهراني ( ، )7أخبرنا حفص بن
عمر العدني ،حدثنا الحكم بن أبان ،عن عكرمة في قوله تعالى { :وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ
الْجِنّ } قال :هم اثنا عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم لبن
مسعود " :أنظرني حتى آتيك" ،وخط عليه خطا ،وقال " :ل تبرح حتى آتيك" .فلما خشيهم ابن
مسعود كاد أن يذهب ،فذكر قول رسول ال صلى ال عليه وسلم فلم يبرح ،فقال له النبي صلى
ال عليه وسلم " :لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة" (.)8
طريق أخرى مرسلة أيضا :قال سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة في قوله تعالى { :وَإِ ْذ صَ َرفْنَا
إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ الْجِنّ } قال :ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِي َنوَى ،وأن نبي ال صلى ال عليه
وسلم قال " :إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟" فأطرقوا ،ثم استتبعهم فأطرقوا ،ثم
استتبعهم الثالثة فقال رجل :يا رسول ال ،إن ذاك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود أخو هذيل ،قال :
فدخل النبي صلى ال عليه وسلم شعبا يقال له " :شعب الحجون" ،وخط عليه ،وخط على ابن
مسعود ليثبته بذلك ،قال :فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ،وسمعت لغطا
شديدا ،حتى خفت على نبي ال صلى ال عليه وسلم ،ثم تل القرآن ،فلما رجع رسول ال صلى
ال عليه وسلم قلت :يا رسول ال ،ما اللغط الذي سمعت ؟ قال " :اختصموا في قتيل ،فقضي
بينهم بالحق" .رواه ابن جرير ،وابن أبي حاتم (.)9
__________
( )1في ت " :سورة النصر".
( )2في أ " :يعلى".
( )3المعجم الكبير للطبراني ( )10/81وفي إسناده يحيى السلمي وهو ضعيف.
( )4في م ،أ " :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة الجن".
( )5في أ " :فكان يجيء أحدهم".
( )6المسند (.)1/455
( )7في م " :الطبراني".
( )8وفي إسناده الحكم بن أبان ،وهو ضعيف.
( )9تفسير الطبري (.)26/20
( )7/295
فهذه الطرق كلها تدل ( )1على أنه صلى ال عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا ،فتل عليهم القرآن
،ودعاهم إلى ال ،عز وجل ،وشرع ال لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت.
وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن [و] ( )2لم يشعر بهم ،كما قاله ابن عباس ،رضي
ال عنهما ( ، )3ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود .وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم ،وإنما كان بعيدا منه ،ولم
يخرج مع النبي صلى ال عليه وسلم أحد سواه ،ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة ،هذه طريقة
البيهقي.
وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه ابن مسعود ول غيره ،كما هو ظاهر سياق
الرواية الولى من طريق المام أحمد ،وهي عند مسلم .ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى ،وال
حيَ } ،من حديث ابن جريج قال :قال عبد
أعلم ،كما روى ابن أبي حاتم في تفسير ُ { :قلْ أُو ِ
العزيز بن عمر :أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ،وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن
نصيبين ،وتأوله البيهقي على أنه يقول " :فبتنا بشر ليلة بات بها قوم" ،على غير ابن مسعود
ممن لم يعلم بخروجه صلى ال عليه وسلم إلى الجن ،وهو محتمل على بعد ،وال أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي :أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد ال ( )4الديب ،أخبرنا أبو
بكر السماعيلي ،أخبرنا الحسن بن سفيان ،حدثني سويد بن سعيد ،حدثنا عمرو بن يحيى ،عن
جده سعيد بن عمرو ،قال ( )5كان أبو هريرة يتبع رسول ال صلى ال عليه وسلم بإداوة
لوضوئه وحاجته ،فأدركه يوما فقال " :من هذا ؟" قال :أنا أبو هريرة قال " :ائتني بأحجار
أستنج بها ،ول تأتني بعظم ول روثة" .فأتيته بأحجار في ثوبي ،فوضعتها إلى جنبه حتى إذا
فرغ وقام اتبعته ،فقلت :يا رسول ال ،ما بال العظم والروثة ( )6؟ قال " :أتاني وفد جن
نصيبين ،فسألوني الزاد ،فدعوت ال لهم أل يمروا بعظم ول بروثة إل وجدوه طعاما" (.)7
أخرجه البخاري في صحيحه ،عن موسى بن إسماعيل ،عن عمرو بن يحيى ،بإسناده قريبا منه
( )8فهذا يدل مع ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك .وسنذكر ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روي عن ابن عباس غير ما ذكر ( )9عنه أول من وجه جيد ،فقال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ،حدثنا عبد الحميد الحماني ،حدثنا النضر بن عربي ،عن عكرمة ،عن ابن
عباس في قوله { :وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ الْجِنّ } الية [ ،قال] ( )10كانوا سبعة نفر من أهل
نصيبين فجعلهم رسول ال صلى ال عليه وسلم رسل إلى قومهم (.)11
فهذا يدل على أنه قد روى القصتين.
__________
( )1في ت " :فهذه الحاديث التي ذكرناها كلها تدل".
( )2زيادة من ت.
( )3في ت ،أ " :عنه".
( )4في أ " :عبد الوهاب".
( )5في ت " :وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده".
( )6في ت " :الروث".
( )7دلئل النبوة للبيهقي (.)2/233
( )8صحيح البخاري برقم (.)3860
( )9في أ " :ما روي".
( )10زيادة من أ.
( )11تفسير الطبري (.)26/22
( )7/296
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا سويد بن عبد العزيز ،حدثنا رجل سماه ،
عن ابن جريج ،عن مجاهد { :وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ ا ْلجِنّ } الية ،قال :كانوا سبعة نفر ،
ثلثة من أهل حران ،وأربعة من أهل نصيبين ،وكانت أسماؤهم حيى وحسى ومسى ،وشاصر
وناصر ،والرد وإبيان والحقم.
وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم :بنو الشيصبان ،وكانوا أكثر الجن
عددا وأشرفهم نسبا ،وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري ،عن عاصم ،عن ذَرّ ،عن ابن مسعود :كانوا تسعة ،أحدهم زوبعة ،أتوه
من أصل نخلة.
وتقدم عنه أنهم كانوا خمسة عشر ،وفي رواية :أنهم كانوا على ستين راحلة ،وتقدم عنه أن
اسم سيدهم وردان ،وقيل :كانوا ثلثمائة ،وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثنى عشر ألفا ،فلعل
هذا الختلف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلوات ال وسلمه عليه ،ومما يدل على ذلك ما
قاله ( )1البخاري في صحيحه :
حدثنا يحيى بن سليمان ،حدثني ابن وهب ،حدثني عمر -هو ابن محمد -أن سالما حدثه ،عن
عبد ال بن عمر قال :ما سمعت عمر يقول لشيء قط " :إني لظنه كذا" إل كان كما يظن ،بينما
عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل ،فقال :لقد أخطأ ظني -أو :إن هذا على دينه
في الجاهلية -أو لقد كان كاهنهم -علي بالرجل ،فدعى له ( ، )2فقال له ذلك ،فقال :ما
رأيت كاليوم استقبل له رجل مسلم .قال :فإني أعزم عليك إل ما أخبرتني .قال :كنت كاهنهم في
الجاهلية .قال :فما أعجب ما جاءتك به جِنِيّتُك .قال :بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف
فيها الفزع ،فقالت :
سهَا ...ويَأسَها من بعد إ ْنكَاسِها...
ألم تَرْ الجِنّ وإبْل َ
ولُحوقَها بالقلص وَأَحْلسها
قال عمر :صدق ،بينما أنا نائم عند آلهتهم ،إذ جاء رجل بعجل فذبحه ،فصرخ به صارخ ،لم
أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول :يا جليح ،أمر نجيح ،رجل فصيح يقول " :ل إله إل
ال" فوثب ( )3القوم ،فقلت :ل أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ؟ ثم نادى يا جليح ،أمر نجيح ،
رجل فصيح يقول " :ل إله إل ال" .فقمت ،فما نشبنا أن قيل :هذا نبي.
هذا سياق البخاري ( ، )4وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب ،بنحوه ،ثم قال " :وظاهر هذه
الرواية يوهم أن عمر بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ،وكذلك هو صريح ()5
في رواية ضعيفة عن عمر في إسلمه ،وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر
بذلك عن
__________
( )1في م " :ما رواه".
( )2في ت ،م ،أ " :فدعى فجيء به له".
( )3في م ،أ " :قال :فوثب".
( )4صحيح البخاري برقم (.)3866
( )5في ت ،م ،أ " :صريحا" وهو خطأ.
( )7/297
( )7/298
قال :فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة ،وقع في قلبي حب السلم من أمر رسول ال صلى ال
عليه وسلم ما شاء ال ،قال :فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي ،فما حللت [عليه] ()1
نسعة ول عقدت أخرى حتى أتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإذا هو بالمدينة -يعني مكة
-والناس عليه كعرف الفرس ،فلما رآني النبي صلى ال عليه وسلم قال " :مرحبا بك يا سواد
بن قارب ،قد علمنا ما جاء بك" .قال :قلت :يا رسول ال ،قد قلت شعرا ،فاسمعه مني .قال
سواد :فقلت :
أتَانِي رئيّ بعد لُ َيلٍ وهَجْعةٍ ...وَلم َيكُ فيما َقدْ بَل َوتُ بكَاذبِ...
ثَلثٍ لَيَال قَولُه ُكلّ لَيْلَة ... :أتاك رسول ( )2من لُؤيّ بن غَالبِ...
شمّرتُ عن سَاقي الزَارَ ووسطت ...بي الدّعلب الوَجْنَاءُ عند السّبَاسبِ...
فَ َ
ل ل شَيء غَيْرهُ ...وَأَ ّنكَ مَ ْأمُونٌ عَلَى كُّل غَائبِ...
شهَدُ أنّ ا َ
فَأ ْ
ن الكرَمينَ الطايبِ...
شفَاعَة ...إلى الِ يا اب َ
وأَنّك أَدْنَى المُرْسَلِينَ َ
َفمُرنَا بمَا يَأتِيكَ يا خَيرَ مُرْسل ( )3وإنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيبُ ال ّذوَائبِ...
سوَاد بن قَاربِ...
سوَاك بِمغْنٍ عن َ
شفَاعةٍِ ...
شفِيعا يَومَ ل ذُو َ
َوكُنْ لي َ
قال :فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى بدت نواجذه ،وقال لي " :أفلحت يا سواد" :
فقال له عمر :هل يأتيك رئيك الن ؟ فقال :منذ قرأت القرآن لم يأتني ،ونعم العوض كتاب ال
من الجن (.)4
ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين ( .)5ومما يدل على وفادتهم إليه ،عليه السلم ( ، )6بعد ما
هاجر إلى المدينة ،الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب "دلئل النبوة" [فقال] (: )7
حدثنا سليمان بن أحمد ،حدثنا محمد بن عبدة المصيصي ،حدثنا أبو َتوْبَة الربيع بن نافع ،حدثنا
معاوية بن سلم ،عن زيد بن أسلم :أنه سمع أبا سلم يقول :حدثني من حدثه عمرو بن غيلن
الثقفي قال :أتيت عبد ال بن مسعود فقلت له :حدثت أنك كنت مع رسول ال صلى ال عليه
وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال :أجل قلت :حدثني كيف كان شأنه ؟ فقال :إن أهل الصفة أخذ كل
رجل منهم رجل ( )8يعشيه ،وتركت فلم يأخذني أحد منهم ،فمر بي رسول ال صلى ال عليه
وسلم فقال " :من هذا ؟" فقلت :أنا ابن مسعود .فقال " :ما أخذك أحد يعشيك ؟" فقلت :ل .قال :
"فانطلق لعلي أجد لك شيئا" .قال :فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة فتركني ( )9ودخل إلى أهله ،
ثم خرجت الجارية فقالت :يا ابن مسعود ،إن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يجد لك عشاء ،
فارجع إلى مضجعك .قال :فرجعت إلى المسجد ،فجمعت حصباء المسجد فتوسدته ،والتففت
بثوبي ،فلم ألبث إل قليل حتى جاءت الجارية ،فقالت :
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في ت ،م " :نبي".
( )3في ت " :من مشى".
( )4دلئل النبوة للبيهقي (.)1/248
( )5دلئل النبوة للبيهقي (.)1/252
( )6في أ " :على السلم".
( )7زيادة من أ.
( )8في ت ،أ " :رجل" وهو خطأ.
( )9في أ " :فتركني قائما".
( )7/299
أجب رسول ال ( .)1فاتبعتها وأنا أرجو العشاء ،حتى إذا بلغت مقامي ،خرج رسول ال صلى
ال عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل ،فعرض به على صدري فقال " :أتنطلق أنت معي ()2
حيث انطلقت ؟" قلت :ما شاء ال .فأعادها علي ثلث مرات ،كل ذلك أقول :ما شاء ال.
فانطلق وانطلقت معه ،حتى أتينا بقيع الغرقد ،فخط بعصاه خطا ،ثم قال " :اجلس فيها ،ول
تبرج حتى آتيك" .ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلل النخل ،حتى إذا كان من حيث ل أراه
ثارت ( )3العَجَاجة السوداء ،ففرقت فقلت :ألحق برسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإني أظن
أن ( )4هوازن مكروا برسول ال صلى ال عليه وسلم ليقتلوه ،فأسعى إلى البيوت ،فأستغيث
الناس .فذكرت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أوصاني :أن ل أبرح مكاني الذي أنا فيه ،
فسمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول " :اجلسوا" .فجلسوا حتى كاد ينشق
عمود الصبح ،ثم ثاروا وذهبوا ،فأتاني رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :أنمت بعدي ؟"
فقلت :ل ( ، )5ولقد فزعت الفزعة الولى ،حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس حتى
سمعتك تقرعهم بعصاك ،وكنت أظنها هوازن ،مكروا برسول ال صلى ال عليه وسلم ليقتلوه.
فقال " :لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما آمنهم ( )6عليك أن يختطفك بعضهم ،فهل رأيت من
شيء منهم ؟" فقلت :رأيت رجال سودا مستشعرين ( )7بثياب بيض ،فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :أولئك وفد جن نصيبين ،أتوني فسألوني الزاد والمتاع ،فمتعتهم بكل عظم حائل أو
روثة أو بعرة" .قلت :وما يغني عنهم ذلك ؟ قال " :إنهم ل يجدون عظما إل وجدوا عليه لحمه
الذي كان عليه يوم أكل ،ول روثة إل وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت ،فل يستنقي
أحد منكم بعظم ول بعرة (.)9( " )8
وهذا إسناد غريب جدًا ( ، )10ولكن فيه رجل مبهم لم يسم [وال أعلم] ( ، )11وقد روى الحافظ
أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد ،حدثني نمير بن زيد القنبر ( ، )12حدثنا أبي ،حدثنا قحافة
بن ربيعة ،حدثني الزبير بن العوام قال :صلى بنا رسول ال صلى ال عليه وسلم صلة الصبح
في مسجد المدينة ،فلما انصرف قال " :أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟" فأسكت القوم ثلثا ،
فمر بي فأخذ بيدي ،فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها ،وأفضينا إلى أرض
براز ،فإذا برجال طوال كأنهم الرماح ،مستشعرين ( )13بثيابهم من بين أرجلهم ،فلما رأيتهم
غشيتني رعدة شديدة ،ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم ( ، )14وهذا حديث غريب ،وال
أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم :حدثنا أبو محمد بن حيان ،حدثنا أبو الطيب
أحمد بن روح ،حدثنا يعقوب ال ّدوْرَقي ،حدثنا الوليد بن بكير التميمي ،حدثنا حصين بن عمر (
)15
__________
( )1في ت " :رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )2في ت ،م " :انطلق معي" ،وفي أ " :انطلق أنت معي".
( )3في ت ،م ،أ " :ثارت مثل العجاجة".
( )4في ت ،م ،أ " :هذه".
( )5في أ " :ل وال".
( )6في ت ،م " :ما أمنت" وفي أ " :ما آمن".
( )7في ت ،أ " :مستثفرين".
( )8في ت " :ول روثة".
( )9لم أجده في دلئل النبوة المطبوعة لبي نعيم.
( )10في تن أ " :وهذا سياق غريب".
( )11زيادة من ت ،أ.
( )12في ت ،أ " :حدثني بهز بن يزيد الليثي".
( )13في ت ،أ " :مستثفرين".
( )14لم أجده في دلئل النبوة المطبوعة لبي نعيم.
( )15في م " :عمير".
( )7/300
،أخبرني عبيد المُكتب ،عن إبراهيم قال :خرج نفر من أصحاب عبد ال ( )1يريدون الحج ،
حتى إذا كانوا في بعض الطريق ،إذا هم بحية تنثني ( )2على الطريق أبيض ،ينفخ منه ريح
المسك ،فقلت لصحابي :امضوا ،فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية.
قال :فما لبثت أن ماتت ،فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ،ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها ،
وأدركت أصحابي في المتعشى .قال :فوال إنا لقعود إذ أقبل ( )3أربع نسوة من قبل المغرب ،
فقالت واحدة منهن :أيكم دفن عمرًا ؟ قلنا :ومن عمرو ،قالت :أيكم دفن الحية ؟ قال :قلت :
أنا .قالت :أما وال لقد دفنت صواما قواما ،يأمر بما أنزل ال ،ولقد آمن بنبيكم ،وسمع صفته
من ( )4السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام .قال الرجل فحمدنا ( )5ال ،ثم قضينا حجتنا (، )6
ثم مررت بعمر بن الخطاب في المدينة ،فأنبأته بأمر الحية ،فقال :صدقت ،سمعت رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقول " :لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة" (.)7
وهذا حديث غريب جدا ،وال أعلم.
قال أبو نعيم :وقد روى الثوري ،عن أبي إسحاق ،عن الشعبي ،عن رجل من ثقيف ،بنحوه.
وروى عبد ال بن أحمد والّظهراني ،عن صفوان بن المعطل -هو الذي نزل ودفن تلك الحية
من بين الصحابة -وأنهم قالوا :أما إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول ال صلى ال عليه
وسلم يستمعون القرآن (.)8
جشُون ،عن عمه (
وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد ،عن عبد العزيز بن أبي سلمة الما ِ
، )9عن معاذ بن عُبَيْد ال ( )10بن معمر قال :كنت جالسا عند عثمان بن عفان ،فجاء رجل
فقال :يا أمير المؤمنين ،إني كنت بفلة من الرض ،فذكر أنه رأى ثعبانين ( )11اقتتل ثم قتل
أحدهما الخر ،قال :فذهبت إلى المعترك ،فوجدت حيات كثيرة مقتولة ،وإذ ينفح من بعضها
ريح المسك ،فجعلت أشمّها واحدة واحدة ،حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة ،فلففتها في
عمامتي ودفنتها .فبينا أنا أمشي إذ ناداني ( )12مناد :يا عبد ال ،لقد ُهدِيتَ! هذان حيان ()13
من الجن بنو أشعيبان وبنو أقيش التقوا ،فكان من القتلى ما رأيت ،واستشهد الذي دفنته ،وكان
من الذين سمعوا الوحي من رسول ال صلى ال عليه وسلم .قال :فقال عثمان لذلك الرجل :إن
كنت صادقا فقد رأيت عجبا ،وإن كنت كاذبا فعليك كذبك (.)14
فقوله تعالى { :وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ الْجِنّ } أي :طائفة من الجن َ { ،يسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآنَ فََلمّا
حضَرُوهُ قَالُوا أَ ْنصِتُوا }
َ
__________
( )1في م " :عبيد ال".
( )2في أ " :تمشي".
( )3في ت ،م " :جاء".
( )4في ت " :في".
( )5في أ " :فحمدت".
( )6في ت ،م ،أ " :حجنا".
( )7دلئل النبوة لبي نعيم (ص .)306
( )8لم أجده في دلئل النبوة المطبوعة لبي نعيم.
( )9في ت " :وروى أبو نعيم بإسناده".
( )10في ت ،م ،أ " :عبد ال".
( )11في ت ،أ ،م " :إعصارين".
( )12في أ " :هذا جان".
( )13في ت ،م " :نادى".
( )14دلئل النبوة لبي نعيم (ص .)305
( )7/301
( )7/302
صلى ال عليه وسلم بقصة نزول جبريل [عليه السلم] ( )1عليه أول مرة ،فقال :بَخ بَخ ،هذا
الناموس الذي كان يأتي موسى ،يا ليتني أكون فيها جَذَعًا.
حقّ }
{ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي :من الكتب المنزلة قبله على النبياء .وقولهم َ { :يهْدِي إِلَى الْ َ
أي :في العتقاد والخبار { ،وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْ َتقِيمٍ } في العمال ،فإن القرآن يشتمل على شيئين
ك صِ ْدقًا وَعَدْل }
( )2خبر وطلب ( ، )3فخبره صدق ،وطلبه عدل ،كما قال { :وَ َت ّمتْ كَِل َمةُ رَ ّب َ
سلَ رَسُوَلهُ بِا ْلهُدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ } [التوبة ، ]33 :فالهدى هو
[النعام ، ]115 :وقال { ُهوَ الّذِي أَرْ َ
حقّ } في
:العلم النافع ،ودين الحق :هو العمل الصالح .وهكذا قالت الجن َ { :ي ْهدِي إِلَى الْ َ
العتقادات { ،وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :في العمليات.
عيَ اللّهِ } فيه دللة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات ال وسلمه عليه ()4
{ يَا َق ْومَنَا َأجِيبُوا دَا ِ
إلى الثقلين النس والجن حيث دعاهم إلى ال ،وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ،
عيَ اللّ ِه وَآمِنُوا
وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم ،وهي سورة الرحمن ؛ ولهذا قال ( { )5أَجِيبُوا دَا ِ
بِهِ }
وقوله َ { :ي ْغفِرْ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُمْ } قيل :إن "من" هاهنا زائدة وفيه نظر ؛ لن زيادتها في الثبات
عذَابٍ أَلِيمٍ } أي :ويقيكم من عذابه الليم.
قليل ،وقيل :إنها على بابها للتبغيض { ،وَيُجِ ْركُمْ مِنْ َ
وقد استدل بهذه الية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين ل يدخلون الجنة ،وإنما جزاء
صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام ،وهو مقام تبجح
ومبالغة فلو كان لهم جزاء على اليمان أعلى من هذا لوشك أن يذكروه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي قال :حدثت عن جرير ،عن ليث ،عن مجاهد ،عن ابن عباس
قال :ل يدخل مؤمنو الجن الجنة ؛ لنهم من ذرية إبليس ،ول تدخل ذرية إبليس الجنة.
والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني النس يدخلون الجنة ،كما هو مذهب جماعة ( )6من السلف ،وقد
طمِ ْثهُنّ إِ ْنسٌ قَبَْلهُ ْم وَل جَانّ } [الرحمن ، ]74 :وفي هذا
استدل بعضهم لهذا بقوله َ { :لمْ َي ْ
الستدلل نظر ،وأحسن منه قوله تعالى { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
ُتكَذّبَانِ } [الرحمن ، ]47 ، 46 :فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ،وقد
قابلت الجِنّ هذه الية بالشكر القولي أبلغ من النس ،فقالوا " :ول ِبشَيء من آلئك ربنا نكذب ،
فلك الحمد" فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء ل يحصل لهم ،وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم
بالنار -وهو مقام عدل -فَلنْ يجازي مؤمنهم بالجنة -وهو مقام َفضْل -بطريق الولى
عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ
والحرى .ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نزل } [الكهف ، ]107 :وما
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في ت " :نوعين".
( )3في أ " :خبرا وطلبا".
( )4في ت " :صلى ال عليه وسلم".
( )5في م " :قالوا".
( )6في ت ،أ " :طائفة".
( )7/303
ت وَالْأَ ْرضَ وَلَمْ َي ْعيَ ِبخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى بَلَى
سمَاوَا ِ
َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََلقَ ال ّ
علَى النّارِ أَلَيْسَ َهذَا بِا ْلحَقّ قَالُوا بَلَى
شيْءٍ َقدِيرٌ ( )33وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا َ
إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
ل وَلَا
سِوَرَبّنَا قَالَ َفذُوقُوا ا ْل َعذَابَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْكفُرُونَ ( )34فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ
عةً مِنْ َنهَارٍ بَلَاغٌ َف َهلْ ُيهَْلكُ إِلّا ا ْلقَوْمُ
جلْ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَا َ
تَسْ َتعْ ِ
سقُونَ ()35
ا ْلفَا ِ
أشبه ذلك من اليات .وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ،ول الحمد والمنة .وهذه الجنة
ل يزال فيها فضل حتى ينشئ ال لها خلقا ،أفل يسكنها من آمن به وعمل له صالحا ؟ وما
ذكروه هاهنا من الجزاء على اليمان من تكفير الذنوب والجارة من العذاب الليم ،هو يستلزم
دخول الجنة ؛ لنه ليس في الخرة إل الجنة أو النار ،فمن أجير من النار دخل الجنة ل محالة.
ولم يرد معنا نص صريح ول ظاهر عن ( )1الشارع أن مؤمني الجن ل يدخلون الجنة وإن
أجيروا من النار ،ولو صح لقلنا به ،وال أعلم .وهذا نوح ،عليه السلم ،يقول لقومه َ { :ي ْغفِرْ
سمّى } [نوح )2( ، ]4 :ول خلف أن مؤمني قومه في
جلٍ مُ َ
َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَ ُيؤَخّ ْركُمْ إِلَى أَ َ
عمَر بن عبد العزيز :أنهم ل يدخلون
الجنة ،فكذلك هؤلء .وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن ُ
حةَ الجنة ،وإنما يكونون في رَبَضها وحولها وفي أرجائها .ومن الناس من زعم أنهم في
بُحْبُو َ
الجنة يراهم بنو آدم ول يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا .ومن الناس من قال :
عوَضا عن الطعام
ل يأكلون في الجنة ول يشربون ،وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس ِ ،
والشراب كالملئكة ،لنهم من جنسهم .وكل هذه القوال فيها نظر ،ول دليل عليها.
عيَ اللّهِ فَلَيْسَ ِب ُمعْجِزٍ فِي ال ْرضِ } أي :بل قدرة ال
جبْ دَا ِ
ثم قال مخبرا عنه َ { :ومَنْ ل ُي ِ
شاملة له ومحيطة به { ،وَلَيْسَ َلهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ } أي :ل يجيرهم منه أحدٌ { أُولَ ِئكَ فِي ضَللٍ
مُبِينٍ } وهذا مقامُ تهديد وترهيب َ ،فدَعَوا قومهم بالترغيب والترهيب ؛ ولهذا نجع في كثير منهم ،
وجاؤوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وفودا وفودا ،كما تقدم بيانه.
س َموَاتِ وَال ْرضَ وَلَمْ َي ْعيَ بِخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى
{ َأوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
حقّ قَالُوا بَلَى
شيْءٍ قَدِيرٌ ( )33وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْ َ
بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
ل وَل
سِوَرَبّنَا قَالَ َفذُوقُوا ا ْل َعذَابَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْكفُرُونَ ( )34فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ
جلْ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِل سَاعَةً مِنْ َنهَارٍ بَلغٌ َف َهلْ ُيهَْلكُ إِل ا ْل َقوْمُ
تَسْ َتعْ ِ
سقُونَ (.} )35
ا ْلفَا ِ
يقول تعالى َ { :أوَلَمْ يَ َروْا } أي :هؤلء المنكرون للبعث يوم القيامة ،المستبعدون لقيام الجساد
ض وَلَمْ َي ْعيَ بِخَ ْل ِقهِنّ } أي :ولم َيكْرثهُ خَ ْلقُهن ،بل
ت وَالرْ َ
س َموَا ِ
يوم المعاد { أَنّ اللّهَ الّذِي خََلقَ ال ّ
قال لها " :كوني" فكانت ،بل ممانعة ول مخالفة ،بل طائعة مجيبة خائفة وجلة ،أفليس ذلك
ت وَال ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ
س َموَا ِ
خلْقُ ال ّ
بقادر على أن يحيي الموتى ؟ كما قال في الية الخرى { :لَ َ
شيْءٍ
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل َيعَْلمُونَ } [غافر ، ]57 :ولهذا قال { :بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
خَ ْلقِ النّا ِ
قَدِيرٌ }.
__________
( )1في أ " :من".
( )2في ت ،أ " :ويجركم" وهو خطأ.
( )7/304
حقّ } أي
ثم قال متهددا ومتوعدا لمن كفر به { :وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ أَلَ ْيسَ هَذَا بِالْ َ
:يقال لهم :أما هذا حق ؟ أفسحر هذا ؟ أم أنتم ل تبصرون ؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا } أي :ل يسعهم
إل العتراف { ،قَالَ َفذُوقُوا ا ْل َعذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْكفُرُونَ } ثم قال تعالى آمرا رسوله ( )1صلى ال
سلِ }
عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه { ،فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ
أي :على تكذيب قومهم لهم .وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال ،وأشهرها أنهم :نوح
،وإبراهيم ،وموسى ،وعيسى ،وخاتم النبياء كلهم محمد صلى ال عليه وسلم ،قد نص ال
على أسمائهم من بين النبياء في آيتين من ( )2سُورَتَي "الحزاب" و "الشورى" ،وقد يحتمل أن
سلِ } لبيان الجنس ،
يكون المراد بأولي العزم جميع الرّسُل ،وتكون { مِنَ } في قوله { :مِنَ الرّ ُ
وال أعلم .وقد قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي ،حدثنا السري بن حَيّان ،حدثنا عباد بن عباد ،حدثنا مجالد
بن سعيد ،عن الشعبي ،عن مسروق قال :قالت لي عائشة [رضي ال عنها] ( : )3ظل رسول
ال صلى ال عليه وسلم صائما ثم طواه ،ثم ظل صائما ثم طواه ،ثم ظل صائما [ ،ثم] ( )4قال
" :يا عائشة ،إن الدنيا ل تنبغي لمحمد ول لل محمد .يا عائشة ،إن ال لم يرض من أولي
العزم من الرسل إل بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ،ثم لم يرض مني إل أن
سلِ } وإني -وال -لصبرن
يكلفني ما كلفهم ،فقال { :فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ
كما صبروا جَهدي ،ول قوة إل بال" ()5
جلْ َل ُهمْ } أي :ل تستعجل لهم حلول العقوبة بهم ،كقوله { :وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ أُولِي
{ وَل تَسْ َتعْ ِ
ال ّن ْعمَ ِة َو َمهّ ْلهُمْ قَلِيل } [المزمل ، ]11 :وكقوله { َف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدًا } [الطارق .]17 :
عةً مِنْ َنهَارٍ } ،كقوله { كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُوا
{ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِل سَا َ
عةً مِنَ
حشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِل سَا َ
ضحَاهَا } [النازعات ، ]46 :وكقوله { وَ َيوْمَ يَ ْ
إِل عَشِيّةً َأ ْو ُ
ال ّنهَارِ يَ َتعَا َرفُونَ بَيْ َن ُهمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِِلقَاءِ اللّ ِه َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ } [يونس ، ]45 :
[وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها
وطولها] (.)6
ث بلغ.
وقوله { :بَلغٌ } قال ابن جرير :يحتمل معنيين ،أحدهما :أن يكون تقديره :وذلك لَب َ
والخر :أن يكون تقديره :هذا القرآن بلغ.
وقوله َ { :ف َهلْ ُيهَْلكُ إِل ا ْلقَوْمُ ا ْلفَاسِقُونَ } أي :ل يهلك على ال إل هالك ،وهذا من عدله تعالى
أنه ل يعذب إل من يستحق العذاب.
آخر تفسير سورة الحقاف
__________
( )1في ت " :لرسوله".
( )2في ت " :في".
( )3زيادة من ت.
( )4زيادة من ت ،م ،أ.
( )5ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (" )8628مكرر" من طريق محمد بن حجاج
الحضرمي به.
( )6زيادة من ت ،أ.
( )7/305
ت وَ َآمَنُوا ِبمَا
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
عمَاَلهُمْ ( )1وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
ضلّ أَ ْ
الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َأ َ
حمّ ٍد وَ ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبهِمْ كَفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِ ْم وََأصْلَحَ بَاَلهُمْ ( )2ذَِلكَ بِأَنّ الّذِينَ َكفَرُوا
نُ ّزلَ عَلَى ُم َ
حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ َكذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ لِلنّاسِ َأمْثَاَلهُمْ ()3
ل وَأَنّ الّذِينَ َآمَنُوا اتّ َبعُوا الْ َ
طَاتّ َبعُوا الْبَا ِ
( )7/306
فَإِذَا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َفضَ ْربَ ال ّرقَابِ حَتّى ِإذَا أَثْخَنْ ُتمُو ُهمْ فَشُدّوا ا ْلوَثَاقَ فَِإمّا مَنّا َبعْ ُد وَِإمّا فِدَاءً
ك وََلوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانْ َتصَرَ مِ ْنهُ ْم وََلكِنْ لِيَبُْلوَ َب ْعضَكُمْ بِ َب ْعضٍ وَالّذِينَ
حَتّى َتضَعَ ا ْلحَ ْربُ َأوْزَارَهَا ذَِل َ
عمَاَلهُمْ ( )4سَ َيهْدِي ِه ْم وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ ( )5وَيُ ْدخُِلهُمُ الْجَنّةَ عَ ّر َفهَا َلهُمْ (
ضلّ أَ ْ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ ُي ِ
ضلّ
)6يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ ( )7وَالّذِينَ َكفَرُوا فَ َت ْعسًا َلهُ ْم وََأ َ
عمَاَلهُمْ ()9
عمَاَلهُمْ ( )8ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَرِهُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ فََأحْبَطَ أَ ْ
أَ ْ
{ فَإِذا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َفضَ ْربَ ال ّرقَابِ حَتّى إِذَا أَثْخَنْ ُتمُوهُمْ َفشُدّوا ا ْلوَثَاقَ فَِإمّا مَنّا َب ْع ُد وَِإمّا فِدَاءً
ض وَالّذِينَ
ضكُمْ بِ َب ْع ٍ
ك وََلوْ يَشَاءُ اللّهُ لنْتَصَرَ مِ ْنهُ ْم وََلكِنْ لِيَبُْلوَ َب ْع َ
حَتّى َتضَعَ ا ْلحَ ْربُ َأوْزَارَهَا ذَِل َ
عمَاَلهُمْ ( )4سَ َيهْدِي ِه ْم وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ ( )5وَيُ ْدخُِلهُمُ الْجَنّةَ عَ ّر َفهَا َلهُمْ (
ضلّ أَ ْ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ ُي ِ
ضلّ
)6يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ ( )7وَالّذِينَ َكفَرُوا فَ َت ْعسًا َلهُ ْم وََأ َ
عمَاَلهُمْ (.} )9
عمَاَلهُمْ ( )8ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللّهُ فََأحْبَطَ أَ ْ
أَ ْ
يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين { :فَإِذا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُوا
َفضَ ْربَ ال ّرقَابِ } أي :إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف { ،حَتّى إِذَا أَثْخَنْ ُتمُوهُمْ َفشُدّوا
} أي :أهلكتموهم قتل { فشدوا } [وثاق] ( )1السارى الذين تأسرونهم ،ثم أنتم بعد انقضاء
الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ،إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ،وإن
شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه .والظاهر أن هذه الية نزلت بعد وقعة
بدر ،فإن ال ،سبحانه ،عاتب المؤمنين على الستكثار من السارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء ،
والتقلل من القتل يومئذ فقال { :مَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َيكُونَ َلهُ أَسْرَى حَتّى يُ ْثخِنَ فِي ال ْرضِ تُرِيدُونَ
عذَابٌ
خذْتُمْ َ
س ُكمْ فِيمَا أَ َ
حكِيمٌ َلوْل كِتَابٌ مِنَ اللّهِ سَ َبقَ َلمَ ّ
عَ َرضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِي ُد الخِ َرةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
عَظِيمٌ } [ النفال .] 68 ، 67 :
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الية -المخيرة بين مفاداة السير والمن عليه -منسوخة بقوله
حصُرُو ُهمْ
خذُوهُ ْم وَا ْ
جدْ ُتمُوهُمْ [وَ ُ
ث وَ َ
شهُرُ ا ْلحُرُمُ فَاقْتُلُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ
تعالى { :فَإِذَا انْسَلَخَ ال ْ
وَا ْقعُدُوا َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ ] } ( )2الية [ التوبة ، ] 5 :رواه العوفي عن ابن عباس .وقاله قتادة ،
والضحاك ،والسدي ،وابن جُرَيْج.
وقال الخرون -وهم الكثرون : -ليست بمنسوخة.
ثم قال بعضهم :إنما المام ُمخَيّر بين المن على السير ومفاداته فقط ،ول يجوز له قتله.
وقال آخرون منهم :بل له أن يقتله إن شاء ،لحديث قتل النبي صلى ال عليه وسلم النضر بن
الحارث وعقبة بن أبي ُمعَيط من أسارى بدر ،وقال ثمامة بن أثال لرسول ال صلى ال عليه
وسلم حين قال له " :ما عندك يا ثمامة ؟" فقال :إن َتقْتَلْ َتقْ ُتلْ ذا َدمٍ ،وإن تمنن تمنن على
سلْ تُعطَ منه ما شئت (.)3
شاكر ،وإن كنت تريد المال فَ َ
وزاد الشافعي ،رحمه ال ،فقال :المام مخير بين قتله أو المن عليه ،أو مفاداته أو استرقاقه
أيضا .وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع ،وقد دللنا على ذلك في كتابنا "الحكام" ،ول الحمد
والمنة.
وقوله { :حَتّى َتضَعَ الْحَ ْربُ َأوْزَارَهَا } قال مجاهد :حتى ينزل عيسى ابن مريم
__________
( )1زيادة من ت ،أ.
( )2زيادة من أ.
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم ( )4372من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )7/307
[عليه السلم] )1( .وكأنه أخذه من قوله صلى ال عليه وسلم " :ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين
على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال" (.)2
وقال المام أحمد :حدثنا الحكم بن نافع ،حدثنا إسماعيل بن عياش ،عن إبراهيم بن سليمان ،
عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ( ، )3عن جُبَير بن نُفيَر ؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم :أنه
أتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :إني سَيّ ْبتُ الخيل ،وألقيت السلح ،ووضعت الحرب
أوزارها ،وقلت " :ل قتال" فقال له النبي صلى ال عليه وسلم " :الن جاء القتال ،ل تزال طائفة
من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ ( )4ال قلوب أقوام فيقاتلونهم :ويرزقهم ال ( )5منهم ،حتى
عقْرَ دار المؤمنين الشام ،والخيلُ معقود في نواصيها الخير
يأتي أمر ال وهم على ذلك .أل إن ُ
إلى يوم القيامة".
وهكذا رواه النسائي من طريقين ،عن جُبَيْر بن ُنفَير ،عن سلمة بن ُنفَيْل السكوني ،به (.)6
وقال أبو القاسم البغوي :حدثنا داود بن ُرشَيْد ،حدثنا الوليد بن مسلم ،عن محمد بن مهاجر ،
عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ،عن جبير بن ُنفَير ،عن النواس بن سمعان قال :لما فتح
على رسول ال صلى ال عليه وسلم فَتْح فقالوا :يا رسول ال ،سيبت الخيل ،ووضعت
السلح ،ووضعت الحرب أوزارها ،قالوا :ل قتال ،قال " :كذبوا ،الن ،جاء القتال ،ل
يزال ال يُ َرفّع ( )7قلوب قوم يقاتلونهم ،فيرزقهم منهم ،حتى يأتي أمر ال وهم على ذلك ،
وعُقْر دار المسلمين بالشام".
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد ،به ( .)8والمحفوظ أنه من رواية
سلمة بن ُنفَيْل كما تقدم .وهذا يقوي القول بعدم النسخ ،كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أل
يبقى حرب.
وقال قتادة { :حَتّى َتضَعَ الْحَ ْربُ َأوْزَارَهَا } حتى ل يبقى شرك .وهذا كقوله تعالى َ { :وقَاتِلُوهُمْ
حَتّى ل َتكُونَ فِتْ َن ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ } [ البقرة .] 193 :ثم قال بعضهم { :حَتّى َتضَعَ الْحَ ْربُ
َأوْزَارَهَا } أي :أوزار المحاربين ،وهم المشركون ،بأن يتوبوا إلى ال عز وجل .وقيل :أوزار
أهلها ( )9بأن يبذلوا الوسع في طاعة ال ،عز وجل.
ك وََلوْ َيشَاءُ اللّ ُه لنْ َتصَرَ مِ ْنهُمْ } أي :هذا ولو شاء ال لنتقم من الكافرين بعقوبة
وقوله { :ذَِل َ
ضكُمْ بِ َب ْعضٍ } أي :ولكن شرع لكم الجهاد وقتال العداء
و َنكَال من عنده { ،وََلكِنْ لِيَبُْلوَ َب ْع َ
ليختبركم ،ويبلو أخباركم .كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي "آل عمران" و "براءة"
خلُوا الْجَنّةَ وََلمّا َيعَْلمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُوا مِ ْن ُك ْم وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ } [ آل
حسِبْتُمْ أَنْ تَدْ ُ
في قوله َ { :أمْ َ
عمران .] 142 :
__________
( )1زيادة من ت.
( )2رواه أبو داود في السنن برقم ( )2484من حديث عمران بن حصين رضي ال عنه.
( )3في ت " :وروى المام أحمد بإسناده".
( )4في أ " :يرفع".
( )5في أ " :قاتلونهم ويرزقه ال".
( )6المسند ( )4/104وسنن النسائي (.)6/214
( )7في أ " :يرفع".
( )8ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (" )1617موارد" من طريق أبي يعلى عن داود بن رشيد
به ،ورواه النسائي في السنن ( )6/214من طريق إبراهيم بن أبي عبلة ،عن الوليد بن عبد
الرحمن الجرشي ،عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل مرفوعا بنحوه.
( )9في ت ،أ " :وقيل :أوزارها".
( )7/308
ف صُدُورَ َقوْمٍ
ش ِ
وقال في سورة براءة { :قَاتِلُوهُمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَيْدِي ُك ْم وَيُخْزِ ِه ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِ ْم وَيَ ْ
حكِيمٌ } [ التوبة .] 15 ، 14 :
ُم ْؤمِنِينَ وَيُ ْذ ِهبْ غَ ْيظَ قُلُو ِبهِ ْم وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثي ٌر من المؤمنين ،قال { :وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ
عمَاَل ُهمْ } أي :لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها .ومنهم من يجري عليه عمله في
ضلّ أَ ْ
ُي ِ
طول بَرْزَخه ،كما ورد بذلك الحديث الذي رواه المام أحمد في مسنده ،حيث قال :
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ،حدثنا ابن ثوبان ،عن أبيه ،عن مكحول ،عن كثير بن مُرّة (
، )1عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة -قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه ُ :يكَفر عنه كل خطيئة ،ويرى مقعده من
الجنة ،ويزوج من الحور العين ،ويؤمن من الفزع الكبر ،ومن عذاب القبر ،ويحلى حُلّة ()2
اليمان" ( .)3تفرد ( )4به أحمد رحمه ال.
حديث آخر :قال أحمد ( )5أيضا :حدثنا الحكم بن نافع ،حدثنا إسماعيل بن عياش ،عن بَحِير
( )6ابن سعيد ،عن خالد بن َمعْدان ،عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :إن للشهيد عند ال ست خصال :أن يغفر له في أول َد ْفعَة من دمه ،
ويرى مقعده من الجنة ،ويحلى حُلّة ( )7اليمان ،ويزوج من الحور العين ،ويجار من عذاب
القبر ،ويَأمَن من الفزع الكبر ،ويوضع على رأسه تاج الوقار ،الياقوتة منه خير من الدنيا وما
شفّع في سبعين إنسانا من أقاربه".
فيها ،ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ،ويُ َ
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه (.)8
عمْرو ،وعن أبي قتادة ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
وفي صحيح مسلم عن عبد ال بن َ
قال " :يُغفر للشهيد كل شيء إل الدّيْن" ( .)9وروي من حديث جماعة من الصحابة ،وقال أبو
الدرداء :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" .ورواه أبو
داود ( .)10والحاديث في فضل الشهيد ( )11كثيرة جدا.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َيهْدِي ِهمْ
وقوله { :سيهديهم } أي :إلى الجنة ،كقوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِت ِهمُ ال ْنهَارُ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ } [ يونس .] 9 :
__________
( )1في ت " :أحمد بإسناده".
( )2في أ " :بحلة".
( )3المسند ( )4/200قال الهيثمي في المجمع (" : )5/293فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبانن
وثقه أبو حاتم وجماعة وضعفه جماعة".
( )4في ت " :انفرد".
( )5في ت " :وروى أحمد".
( )6في م ،أ " :يحيى".
( )7في ت ،م ،أ " :حلية".
( )8المسند ( )4/131وسنن الترمذي برقم ( )1663وسنن ابن ماجه برقم (.)2799
( )9صحيح مسلم برقم (.)1886
( )10سنن أبي داود برقم (.)2522
( )11في ت ،م " :الشهداء".
( )7/309
وقوله { :وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ } أي :أمرهم وحالهم { ،وَيُ ْدخُِلهُمُ ا ْلجَنّةَ عَ ّر َفهَا َل ُهمْ } أي :عرفهم بها
وهداهم إليها.
قال مجاهد :يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ،وحيث قسم ال لهم منها ،ل يخطئون كأنهم
ساكنوها منذ خلقوا ،ل يستدلون عليها أحدا .وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا.
وقال محمد بن كعب :يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة ،كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من
الجمعة.
وقال مقاتل بن حَيّان :بلغنا أن الملك الذي كان ُوكّل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في
الجنة ،ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له ،فيعرّفه كل شيء أعطاه ال في الجنة ،
فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل [إلى] ( )1منزله وأزواجه ،وانصرف الملك عنه
ذكرهن ( )2ابن أبي حاتم ،رحمه ال.
وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا ،رواه البخاري من حديث قتادة ،عن أبي المتوكل
الناجي ،عن أبي سعيد الخدري [رضي ال عنه] ( )3؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ،يتقاصّون مظالم كانت بينهم في
الدنيا ،حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ،والذي نفسي بيده ،إن أحدهم بمنزله في
الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا" (.)4
ثم قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ } ،كقوله :
{ وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ } [ الحج ، ] 40 :فإن الجزاء من جنس العمل ؛ ولهذا قال :
{ وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ } ،كما جاء في الحديث " :من بَلّغ ذا سلطان حاجة مَنْ ل يستطيع إبلغها ،ثبت
ال قدمه على الصراط يوم القيامة".
ثم قال تعالى { :وَالّذِينَ َكفَرُوا فَ َتعْسًا َل ُهمْ } ،عكس تثبيت القدام للمؤمنين الناصرين ل ولرسوله
صلى ال عليه وسلم ،وقد ثبت في الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال َ " :تعِس
عبد الدينار ،تعس عبد الدرهم ،تعس عبد القَطِيفة [ -وفي رواية :تعس عبد الخميصة] (- )5
تعس وانتكس ،وإذا شِيكَ فل انتقش" ،أي :فل شفاه ال.
عمَاَلهُمْ } أي :أحبطها وأبطلها ؛ ولهذا قال { :ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللّهُ }
ضلّ أَ ْ
وقوله { :وََأ َ
عمَاَلهُمْ }
أي :ل يريدونه ول يحبونه { ،فَأَحْ َبطَ أَ ْ
__________
( )1زيادة من ت ،أ.
( )2في ت " :ذكر هذا".
( )3زيادة من ت.
( )4صحيح البخاري برقم (.)6535
( )5زيادة من تن أ.
( )7/310
َأفَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ َدمّرَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ وَلِ ْلكَافِرِينَ َأمْثَاُلهَا
( )10ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ َموْلَى الّذِينَ َآمَنُوا وَأَنّ ا ْلكَافِرِينَ لَا َموْلَى َلهُمْ ()11
{ َأفََلمْ يَسِيرُوا فِي ال ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َدمّرَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ وَلِ ْلكَافِرِينَ
َأمْثَاُلهَا ( )10ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ َموْلَى الّذِينَ آمَنُوا وَأَنّ ا ْلكَافِرِينَ ل َموْلَى َلهُمْ (} )11
( )7/311
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَالّذِينَ َكفَرُوا يَ َتمَ ّتعُونَ
خلُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ
وَيَ ْأكُلُونَ َكمَا تَ ْأ ُكلُ الْأَ ْنعَا ُم وَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُمْ (َ )12وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ِهيَ َأشَدّ ُق ّوةً مِنْ قَرْيَ ِتكَ الّتِي
أَخْ َرجَ ْتكَ أَهَْلكْنَا ُهمْ فَلَا نَاصِرَ َلهُمْ ()13
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَا ُر وَالّذِينَ َكفَرُوا
خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
{ إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
يَ َتمَ ّتعُونَ وَيَ ْأكُلُونَ َكمَا تَ ْأ ُكلُ ال ْنعَا ُم وَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُمْ (َ )12وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ِهيَ َأشَدّ ُق ّوةً مِنْ قَرْيَ ِتكَ
الّتِي أَخْ َرجَ ْتكَ أَهَْلكْنَا ُهمْ فَل نَاصِرَ َلهُمْ (.} )13
يقول تعالى َ { :أفََلمْ يَسِيرُوا } يعني :المشركين بال المكذبين لرسوله { فِي ال ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ
علَ ْيهِمْ } أي :عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم ،أي :ونجى المؤمنين
كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َدمّرَ اللّهُ َ
من بين أظهرهم ؛ ولهذا قال { :وَلِ ْلكَافِرِينَ َأمْثَاُلهَا }
ن ل َموْلَى َلهُمْ } ،ولهذا لما قال أبو سفيان
ثم قال { :ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ َموْلَى الّذِينَ آمَنُوا وَأَنّ ا ْلكَافِرِي َ
صخرُ بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وعن أبي
بكر وعمر فلم يجب ،وقال :أما هؤلء فقد هلكوا ،وأجابه عمر بن الخطاب فقال :كذبت يا
عدو ال ،بل أبقى ال لك ما يسوؤك ،وإن الذين عَدَدت لحياء [كلهم] ( .)1فقال أبو سفيان :
يوم بيوم بدر ،والحرب سِجال ،أما إنكم ستجدون مُثَْلةً لم آمر بها ولم تسؤني ،ثم ذهب يرتجز
ويقول :اعل هُبَل ،اعل هبل .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أل تجيبوه ؟" قالوا :يا
رسول ال ،وما نقول ؟ قال " :قولوا :ال أعلى وأجلّ" ثم قال أبو سفيان :لنا العزى ،ول عُزّى
لكم .فقال " :أل تجيبوه ؟" قالوا :وما نقول يا رسول ال ؟ قال " :قولوا :ال مولنا ول مولى
لكم" (.)2
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ }
خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
ثم قال [تعالى ( { )3إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ
ن وَيَ ْأكُلُونَ َكمَا تَ ْأ ُكلُ ال ْنعَامُ } أي :في دنياهم ،يتمتعون
أي :يوم القيامة { وَالّذِينَ َكفَرُوا يَ َتمَ ّتعُو َ
خضْما وقضما وليس لهم همة إل في ذلك .ولهذا ثبت في
بها ويأكلون منها كأكل النعام َ ،
الصحيح " :المؤمن يأكل في مِعيّ واحد ،والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (.)4
ثم قال { :وَالنّارُ مَ ْثوًى َل ُهمْ } أي :يوم جزائهم.
وقوله َ { :وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ِهيَ َأشَدّ ُق ّوةً مِنْ قَرْيَ ِتكَ الّتِي أَخْ َرجَ ْتكَ } يعني :مكة { ،أَهَْلكْنَا ُهمْ فَل
نَاصِرَ َلهُمْ } ،وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لهل مكة ،في تكذيبهم لرسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وهو سيد المرسلين ( )5وخاتم النبياء ،فإذا كان ال ،عز وجل ،قد أهلك المم الذين
كذبوا الرسل قبله بسببهم ،وقد كانوا أشد قوة من هؤلء ،فماذا ظن هؤلء أن يفعل ال بهم في
الدنيا والخرى ؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة ،
فإن العذاب يوفر على
__________
( )1زيادة من أ.
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )4043من حديث البراء رضي ال عنه.
( )3زيادة من أ.
( )4رواه البخاري في صحيحه برقم ( )5393ومسلم في صحيحه برقم ( )2060من حديث عبد
ال بن عمر رضي ال عنهما.
( )5في ت " :الرسل".
( )7/311
عمَلِ ِه وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ ( )14مَ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ
َأ َفمَنْ كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ َكمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ َ
خمْرٍ َل ّذةٍ لِلشّارِبِينَ
ط ْعمُ ُه وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ
ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَ َتغَيّرْ َ
ا ْلمُ ّتقُونَ فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِ ٍ
ت َو َمغْفِ َرةٌ مِنْ رَ ّبهِمْ َكمَنْ ُهوَ خَالِدٌ فِي النّارِ
سلٍ ُمصَفّى وََلهُمْ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَا ِ
عَوَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ
حمِيمًا َفقَطّعَ َأ ْمعَاءَ ُهمْ ()15
سقُوا مَاءً َ
وَ ُ
( )7/312
بن عامر خرج وافدا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قلت :يا رسول ال ،فعلم نطلع من
الجنة ؟ قال " :على أنهار عسل مصفى ،وأنهار من خمر ( )1ما بها صداع ول ندامة ،وأنهار
من لبن لم يتغير طعمه ،وماء غير آسن ،وفاكهة ،لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله ،
وأزواج مطهرة" قلت :يا رسول ال ،أو لنا فيها أزواج مصلحات ؟ قال " :الصالحات للصالحين
تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم ،غير أل توالد" (.)2
وقال أبو بكر عبد ال بن محمد بن أبي الدنيا :حدثنا يعقوب بن عبيدة ( ، )3عن يزيد بن هارون
،أخبرني الجريري ،عن معاوية بن قرة ،عن أبيه ( ، )4عن أنس بن مالك قال :لعلكم تظنون
أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الرض ،وال إنها لتجري سائحة على وجه الرض ،
حافاتها قباب اللؤلؤ ،وطينها المسك ال ْذفَر (.)5
وقد رواه أبو بكر ابن مَرْدُويه ،من حديث مهدي بن حكيم ،عن يزيد بن هارون ،به مرفوعا (
.)6
وقوله { :وََلهُمْ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } ،كقوله { :يَدْعُونَ فِيهَا ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان :
.]55وقوله { :فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َزوْجَانِ } [ الرحمن .] 52 :
وقوله َ { :و َم ْغفِرَةٌ مِنْ رَ ّبهِمْ } أي :مع ذلك كله.
وقوله َ { :كمَنْ ُهوَ خَالِدٌ فِي النّارِ } أي :أهؤلء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في
سقُوا
النار ؟ ليس هؤلء كهؤلء ،أي :ليس من هو في الدرجات كمن هو ( )7في الدركات { ،وَ ُ
حمِيمًا } أي :حارا ( )8شديد الحر ،ل يستطاعَ { .فقَطّعَ َأ ْمعَاءَهُمْ } أي :قطع ما في بطونهم
مَاءً َ
من المعاء والحشاء ،عياذا بال من ذلك.
__________
( )1في ت ،م ،أ " :كأس".
( )2المعجم الكبير ( )19/211من حديث طويل كأن الحافظ اختصره ،وصورة السند في المعجم
الكبير " :حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد ال بن الصقر العسكري -وصوابه :
السكري -قال :حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ،حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد ال
بن خالد بن حزام ،حدثني عبد الرحمن بن عياش النصاري ثم المسعودي عن دلهم بن السود
عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج ...الحديث" .وهناك عطف بالواو يوهم أن هناك
إسنادا آخر رواه الطبراني ،وليس عنده إل من هذا الطريق ،وقد رواه عبد ال بن المام أحمد
في زوائد المسند ( )4/13من طريق إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير عن عبد الرحمن بن
المغيرة الحزامي عن عبد ال بن عياش عن دلهم بن السود بن عبد ال بن حاجب بن عامر بن
المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر فذكره.
( )3في م " :عبيد".
( )4في ت " :وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
( )5وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ( )4/518وقال " :وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
( )6ورواه أبو نعيم في الحلية ( )6/205من طريق محمد بن أحمد الزهري عن مهدي بن حكيم
بن مهدي به مرفوعا.
( )7في م " :هو خالد".
( )8في ت " :صار".
( )7/314
َومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِ ْن ِدكَ قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مَاذَا قَالَ آَ ِنفًا أُولَ ِئكَ الّذِينَ
طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ ( )16وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا زَا َدهُمْ ُهدًى وَآَتَا ُهمْ َتقْوَا ُهمْ (َ )17ف َهلْ
طهَا فَأَنّى َلهُمْ إِذَا جَاءَ ْتهُمْ ِذكْرَا ُهمْ ( )18فَاعْلَمْ أَنّهُ
يَنْظُرُونَ إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً َفقَدْ جَاءَ َأشْرَا ُ
ت وَاللّهُ َيعْلَمُ مُ َتقَلّ َبكُ ْم َومَ ْثوَاكُمْ ()19
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ
ك وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ
لَا إِلَهَ إِلّا اللّ ُه وَاسْ َت ْغفِرْ ِلذَنْ ِب َ
{ َومِ ْنهُمْ مَنْ َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّى ِإذَا خَ َرجُوا مِنْ عِنْ ِدكَ قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آ ِنفًا أُولَ ِئكَ
الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ ( )16وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقْوَا ُهمْ ()17
طهَا فَأَنّى َلهُمْ إِذَا جَاءَ ْتهُمْ ِذكْرَا ُهمْ ( )18فَاعْلَمْ
َف َهلْ يَ ْنظُرُونَ إِل السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً َفقَدْ جَاءَ أَشْرَا ُ
ت وَاللّهُ َيعْلَمُ مُتَقَلّ َبكُ ْم َومَ ْثوَاكُمْ (.} )19
ن وَا ْل ُمؤْمِنَا ِ
ك وَلِ ْل ُم ْؤمِنِي َ
أَنّهُ ل إَِلهَ إِل اللّ ُه وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِب َ
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلدتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول ال صلى
ال عليه وسلم ويستمعون كلمه ول يفهمون منه شيئا ،فإذا خرجوا من عنده { قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا
ا ْلعِلْمَ } من الصحابة { :مَاذَا قَالَ آ ِنفًا } أي :الساعة ،ل يعقلون ما يقال ( ، )1ول يكترثون له.
قال ال تعالى { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ } أي :فل فهم صحيح ،ول
قصد صحيح.
ثم قال { :وَالّذِينَ اهْ َت َدوْا زَا َدهُمْ ُهدًى } أي :والذين قصدوا الهداية وفقهم ال لها فهداهم إليها ،
وثبتهم عليها وزادهم منها { ،وَآتَاهُمْ َت ْقوَاهُمْ } أي :ألهمهم رشدهم.
عةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً } أي :وهم غافلون عنها َ { ،فقَدْ جَاءَ
وقوله َ { :ف َهلْ يَنْظُرُونَ إِل السّا َ
طهَا } أي :أمارات اقترابها ،كقوله تعالى { :هَذَا َنذِيرٌ مِنَ النّذُرِ الولَى أَ ِز َفتِ ال ِزفَةُ }
أَشْرَا ُ
[ النجم ، ] 57 ، 56 :وكقوله { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ وَانْشَقّ ا ْلقَمَرُ } [ القمر ] 1 :وقوله { :أَتَى
غفْلَةٍ
َأمْرُ اللّهِ فَل تَسْ َتعْجِلُوهُ } [ النحل ، ]1 :وقوله { :اقْتَ َربَ لِلنّاسِ حِسَا ُب ُه ْم وَهُمْ فِي َ
ُمعْ ِرضُونَ } [ النبياء ، ] 1 :فبعثة رسول ال صلى ال عليه وسلم من أشراط الساعة ؛ لنه
خاتم الرسل الذي أكمل ال به الدين ،وأقام به الحجة على العالمين .وقد أخبر -صلوات ال
وسلمه عليه -بأمارات الساعة وأشراطها ،وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله ،كما
هو مبسوط في موضعه.
وقال الحسن البصري :بعثة محمد صلى ال عليه وسلم من أشراط الساعة .وهو كما قال ؛ ولهذا
جاء في أسمائه عليه السلم ،أنه نبي التوبة ،ونبي الملحمة ،والحاشر الذي يُحشَر الناس على
قدميه ،والعاقب الذي ليس بعده نبي.
وقال ( )2البخاري :حدثنا أحمد بن المقدام ،حدثنا فضيل بن سليمان ،حدثنا أبو حازم ،حدثنا (
)3سهل بن سعد قال :رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا ،بالوسطى
والتي تليها " :بعثت أنا والساعة كهاتين" (.)4
ثم قال تعالى { :فَأَنّى َلهُمْ إِذَا جَاءَ ْتهُمْ ِذكْرَا ُهمْ } أي :فكيف للكافرين بالتذكر ( )5إذا جاءتهم
ن وَأَنّى لَهُ ال ّذكْرَى }
القيامة ،حيث ل ينفعهم ذلك ( ، )6كقوله تعالى َ { :ي ْومَئِذٍ يَتَ َذكّرُ النْسَا ُ
[ الفجر ، ] 23 :
__________
( )1في أ " :ما يقول".
( )2في ت " :وروى".
( )3في ت " :عن".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4936
( )5في ت " :التذكير".
( )6في ت " :التذكير".
( )7/315
{ َوقَالُوا آمَنّا ِب ِه وَأَنّى َل ُهمُ التّنَاوُشُ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } [ سبأ .] 52 :
وقوله { :فَاعَْلمْ أَنّهُ ل إَِلهَ إِل اللّهُ } هذا إخبار :بأنه ل إله إل ال ،ول يتأتى ( )1كونه آمرا بعلم
ك وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ } وفي الصحيح أن
ذلك ؛ ولهذا عطف عليه بقوله { :وَاسْ َت ْغفِرْ ِلذَنْ ِب َ
رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول " :اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ،وإسرافي في أمري
عمْدي ،وكل ذلك عندي" (.)2
خطَئي و َ
،وما أنت أعلم به مني .اللهم اغفر لي هَزْلي وجدّي ،و َ
وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلة " :اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ،وما أسررت
وما أعلنت ،وما أسرفت ،وما أنت أعلم به مني ،أنت إلهي ل إله إل أنت" ( )3وفي الصحيح
أنه قال " :يا أيها الناس ،توبوا إلى ربكم ،فإني أستغفر ال وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين
مرة" ()4
وقال ( )5المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة عن عاصم الحول قال :سمعت ()6
عبد ال بن سرجس قال :أتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم فأكلت معه من طعامه ،فقلت :
غفر ال لك يا رسول ال فقلت :استغفر لك ( )7؟ فقال " :نعم ،ولكم" ،وقرأ { :وَاسْ َت ْغفِرْ ِلذَنْ ِبكَ
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ } ،ثم نظرت إلى ُنغْض كتفه اليمن -أو :كتفه اليسر شعبة الذي شك -
وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ
فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل.
رواه مسلم ،والترمذي ،والنسائي ( ، )8وابن جرير ،وابن أبي حاتم ،من طرق ،عن عاصم
الحول ،به (.)9
وفي الحديث الخر الذي رواه أبو يعلى :حدثنا ُمحَرّز بن عون ( ، )10حدثنا عثمان بن مطر ،
حدثنا عبد الغفور ،عن أبي َنصِيرَة ،عن أبي رجاء ،عن أبي بكر الصديق ،رضي ال عنه ،
عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :عليكم بل إله إل ال والستغفار ،فأكثروا منهما ،
فإن إبليس قال :أهلكت ( )11الناس بالذنوب ،وأهلكوني بـ "ل إله إل ال" ،والستغفار فلما
رأيت ذلك أهلكتهم بالهواء ،فهم يحسبون أنهم مهتدون" (.)12
وفي الثر المروي " :قال إبليس :وعزتك وجللك ل أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في
__________
( )1في أ " :إل هو ول ينافي".
( )2صحيح البخاري برقم (.)6398
( )3صحيح مسلم برقم (.)769
( )4صحيح البخاري برقم (.)6307
( )5في ت " :وروى".
( )6في ت " :عن".
( )7في ت ،م ،أ " :استغفر لك رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )8في ت " :والنسائي وابن ماجه".
( )9المسند ( )5/82وصحيح مسلم برقم ( )2346والشمائل للترمذي برقم ( )22والنسائي في
السنن الكبرى برقم (.)11496
( )10في م " :محمد بن عوف" وفي هـ " :محمد بن عون" .والتصويب من مسند أبي يعلى.
( )11في م " :قال :إنما أهلكت".
( )12مسند أبي يعلى ( ، )1/123وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/207فيه عثمان بن مطر
وهو ضعيف".
( )7/316
أجسادهم .فقال ال عز وجل :وعزتي وجللي ول أزال أغفر لهم ما استغفروني" ()1
والحاديث في فضل الستغفار كثيرة جدا.
وقوله { :وَاللّهُ َيعْلَمُ مُ َتقَلّ َبكُ ْم َومَ ْثوَاكُمْ } أي :يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم ،كقوله
ل وَ َيعْلَمُ مَا جَ َرحْتُمْ بِال ّنهَارِ } [ النعام ، ] 60 :وكقوله َ { :ومَا مِنْ دَابّةٍ
{ :وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ بِاللّ ْي ِ
عهَا ُكلّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود .] 6 :
فِي ال ْرضِ إِل عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ ُمسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
وهذا القول ذهب إليه ابن جريج ،وهو اختيار ابن جرير .وعن ابن عباس :متقلبكم في الدنيا ،
ومثواكم في الخرة.
وقال السدي :متقلبكم في الدنيا ،ومثواكم في قبوركم.
والول أولى وأظهر ،وال أعلم.
__________
( )1رواه أحمد في مسنده ( )3/29من حديث أبي سعيد الخدري رضي ال عنه.
( )7/317
( )7/317
أي :تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلء ،تسفكون الدماء وتقطعون الرحام ؛ ولهذا قال
عمَى أَ ْبصَارَ ُهمْ } وهذا نهي عن الفساد في الرض
ص ّمهُ ْم وَأَ ْ
{ :أُولَ ِئكَ الّذِينَ َلعَ َنهُمُ اللّهُ فََأ َ
عموما ،وعن قطع الرحام خصوصا ،بل قد أمر [ال] ( )1تعالى بالصلح في الرض وصلة
الرحام ،وهو الحسان إلى القارب في المقال والفعال وبذل الموال .وقد وردت الحاديث
الصحاح والحسان بذلك عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،من طرق عديدة ،ووجوه كثيرة.
قال البخاري :حدثنا خالد بن مَخْلَد ،حدثنا سليمان ،حدثني معاوية بن أبي مُزَرّد ،عن سعيد بن
يسار ( ، )2عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :خلق ال الخلق ،فلما فرغ
منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل ،فقال :مه! فقالت :هذا مقام العائذ بك من
القطيعة .فقال :أل ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت :بلى .قال :فذاك (
طعُوا
عسَيْتُمْ إِنْ َتوَلّيْ ُتمْ أَنْ ُتفْسِدُوا فِي ال ْرضِ وَ ُتقَ ّ
.)3قال أبو هريرة :اقرؤوا إن شئتم َ { :ف َهلْ َ
أَرْحَا َمكُمْ } (.)4
ثم رواه البخاري من طريقين آخرين ،عن معاوية بن أبي مزرد ،به .قال رسول ال صلى ال
طعُوا أَرْحَا َمكُمْ }
ض وَ ُتقَ ّ
عليه وسلم " :اقرؤوا إن شئتم َ { :ف َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِنْ َتوَلّيْتُمْ أَنْ ُتفْسِدُوا فِي ال ْر ِ
( )5ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد ،به (.)6
وقال ( )7المام أحمد :حدثنا إسماعيل أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ،عن أبيه ،عن
أبي بكرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما من ذنب أحرى أن يعجل ال عقوبته في
الدنيا ،مع ما يدخر لصاحبه في الخرة ،من البغي وقطيعة الرحم".
علَية -به ( .)8وقال
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ،من حديث إسماعيل -هو ابن ُ
الترمذي :هذا حديث صحيح.
وقال ( )9المام أحمد :حدثنا محمد بن بكر ،حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ،حدثنا محمد بن
عباد المخزومي ،عن ثوبان ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من سره النّساء في
الجل ،والزيادة في الرزق ،فليصل رحمه" ( .)10تفرد به أحمد ،وله شاهد في الصحيح.
__________
( )1زيادة من ت ،م ،أ.
( )2في ت " :فروى البخاري بسنده".
( )3في أ " :فذلك لك".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4830
( )5صحيح البخاري برقم ( )4832 ، 4831لكن زاد أبو الحباب بين معاوية وسعيد بن يسار.
( )6صحيح مسلم برقم ( )2554من طريق معاوية بن أبي مزرد عن عمه أبي الحباب عن سعيد
بن يسار به.
( )7في ت " :وروى".
( )8المسند ( )5/38وسنن أبي داود برقم ( )4902وسنن الترمذي برقم ( )2511وسنن ابن ماجه
برقم (.)4211
( )9في ت " :وروى".
( )10المسند ( )5/279وشاهده حديث أنس بن مالك رضي ال عنه مرفوعا " :من سره أن يبسط
عليه رزقه ،أو ينسأ في أثره فليصل رحمه" .رواه البخاري في صحيحه برقم ( )5986ومسلم
في صحيحه برقم ( )2557واللفظ لمسلم.
( )7/318
وقال ( )1أحمد أيضا :حدثنا يزيد بن هارون ،حدثنا حجاج بن أرطاة ،عن عمرو بن شعيب ،
عن أبيه ،عن جده قال :جاء رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال إن
لي ذوي أرحام ،أصل ويقطعون ،وأعفو ويظلمون ،وأحسن ويسيئون ،أفأكافئهم ؟ قال " :ل
إذن تتركون جميعا ،ولكن جُ ْد بالفضل وصلهم ؛ فإنه لن يزال معك ظهير من ال ،عز وجل ،
ما كنت على ذلك" (.)2
تفرد به من هذا الوجه ،وله شاهد ( )3من وجه آخر.
وقال المام أحمد :حدثنا َيعْلَى ،حدثنا ِفطْر ،عن مجاهد ،عن عبد ال بن عمرو ( )4قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الرحم معلقة بالعرش ،وليس الواصل بالمكافئ ،ولكن
الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" ،رواه البخاري (.)6( )5
وقال أحمد :حدثنا بهز ،حدثنا حماد بن سلمة ،أخبرنا قتادة ،عن أبي ثمامة الثقفي ،عن عبد
ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنَة
كحجنة المغزل ،تتكلم بلسان طُلَق ذُلَق ،فتصل من وصلها وتقطع من قطعها" (.)7
وقال ( )8المام أحمد :حدثنا سفيان ،حدثنا عمرو ،عن أبي قابوس ،عن عبد ال بن عمرو -
يبلغ به النبي صلى ال عليه وسلم -قال " :الراحمون يرحمهم الرحمن ،ارحموا أهل الرض (
شجْنَة من الرحمن ،من وصلها وصلته ،ومن قطعها بتته".
)9يرحمكم أهل السماء ،والرحم ُ
وقد رواه أبو داود ( )10والترمذي ،من حديث سفيان بن عيينة ،عن عمرو بن دينار ،به (
.)11وهذا هو الذي يروي بتسلسل الولية ( ، )12وقال الترمذي :حسن صحيح.
وقال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ،حدثنا هشام الدّسْتَوائي ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن
إبراهيم بن عبد ال بن قارظ ؛ أن أباه حدثه :أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض ،
فقال له عبد الرحمن :وصلتك رَحمٌ ،إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :قال ال عز وجل
:أنا الرحمن ،خلقت الرحم وشققت لها من اسمي ،فمن يصلها أصله ،ومن يقطعها أقطعه فأبته
-أو قال :من يبتها أبته".
تفرد به من هذا الوجه ( .)13ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري ،عن أبي سلمة ،عن الرداد
-
__________
( )1في ت " :وروى".
( )2المسند (.)2/181
( )3في أ " :شواهد".
( )4في ت " :عن ابن عمر".
( )5في ت " :انفرد به".
( )6المسند ( )2/163وصحيح البخاري برقم (.)5991
( )7المسند ( )2/189قال الهيثمي في المجمع (" : )8/150رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي
ثمامة الثقفي ،وثقه ابن حبان".
( )8في ت " :رواه".
( )9في أ " :ارحموا من في الرض".
( )10في ت " :وقد رواه أحمد وأبو داود".
( )11المسند ( )2/160وسنن أبي داود برقم ( )4941وسنن الترمذي برقم (.)1924
( )12وأروي هذا الحديث بالجازة مسلسل بأول ما سمع ،إل أن الولية تنقطع فيما فوق
سفيان ،وعلى هذا فشرط المسلسل غير كتحقق عند التدقيق.
( )13المسند (.)1/191
( )7/319
َأفَلَا يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأقْفَاُلهَا ( )24إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلَى َأدْبَارِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ
سوّلَ َلهُمْ وََأمْلَى َلهُمْ ( )25ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نَ ّزلَ اللّهُ سَنُطِي ُعكُمْ فِي
ا ْلهُدَى الشّيْطَانُ َ
ن وُجُو َههُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ()27
َب ْعضِ الَْأمْرِ وَاللّهُ َيعْلَمُ إِسْرَارَ ُهمْ (َ )26فكَ ْيفَ ِإذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُو َ
عمَاَلهُمْ ()28
ضوَانَهُ فََأحْبَطَ أَ ْ
خطَ اللّ َه َوكَرِهُوا ِر ْ
ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اتّ َبعُوا مَا أَسْ َ
أو أبي الردّاد -عن عبد الرحمن بن عوف ،به ( .)1ورواه أبو داود والترمذي ،من رواية أبي
سلمة ،عن أبيه ( .)2والحاديث في هذا كثيرة.
وقال الطبراني :حدثنا علي بن عبد العزيز ،حدثنا محمد بن عمار الموصلي ،حدثنا عيسى بن
يونس ،عن محمد بن عبد ال بن علثة ( ، )3عن الحجاج بن الفُرَافِصَة ،عن أبي عمر
البصري ،عن سلمان ( )4قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الرواح جنود مجندة ،
فما تَعارف منها ائتلف ، /وما تناكر منها اختلف" (.)5
وبه قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا ظهر القول ،وخزن العمل ،وائتلفت اللسنة ،
وتباغضت القلوب ،وقطع كل ذي رحم رحمه ،فعند ذلك لعنهم ال فأصمهم وأعمى أبصارهم" (
.)6
{ َأفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا ( )24إِنّ الّذِينَ ارْ َتدّوا عَلَى أَدْبَارِ ِهمْ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ
س ّولَ َلهُ ْم وََأمْلَى َلهُمْ ( )25ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمْ قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللّهُ سَ ُنطِي ُعكُمْ
َلهُمُ ا ْل ُهدَى الشّ ْيطَانُ َ
ن وُجُو َههُ ْم وََأدْبَارَهُمْ
ض المْ ِر وَاللّهُ َيعَْلمُ إِسْرَارَ ُهمْ (َ )26فكَ ْيفَ ِإذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ َيضْرِبُو َ
فِي َب ْع ِ
عمَاَلهُمْ (.} )28
خطَ اللّ َه َوكَرِهُوا ِرضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَ ْ
( )27ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمُ اتّ َبعُوا مَا أَسْ َ
يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه ،وناهيا عن العراض عنه ،فقال َ { :أفَل يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا } أي :بل على قلوب أقفالها ،فهي ُمطْ َبقَة ل يخلص إليها شيء من معانيه.
قال ابن جرير :حدثنا بشر ،قال :حدثنا يزيد قال :حدثنا سعيد قال :حدثنا ( )7حماد بن زيد ،
حدثنا هشام بن عروة ،عن أبيه قال :تل رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما َ { :أفَل يَتَدَبّرُونَ
ا ْلقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا } ،فقال شاب من أهل اليمن :بل عليها ( )8أقفالها حتى يكون ال
عز وجل يفتحها أو يفرجها .فما زال الشاب في نفس عمر ،رضي ال عنه ،حتى ولي ،
فاستعان به (.)9
ثم قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ ارْ َتدّوا عَلَى أَدْبَارِ ِهمْ } أي :فارقوا اليمان ورجعوا إلى الكفر { ،مِنْ
س ّولَ َل ُهمْ } أي :زين لهم ذلك وحسنه { ،وََأمْلَى َلهُمْ } أي :
َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َل ُهمُ ا ْلهُدَى الشّيْطَانُ َ
غرهم
__________
( )1المسند ( )1/194وقال الترمذي في السنن " :روى معمر عن الزهري هذا الحديث عن أبي
سلمة عن رداد الليثي عن عبد الرحمن ابن عوف ،قال محمد -يعني البخاري : -حديث معمر
خطأ" والصحيح الرواية التية في السنن.
( )2سنن أبي داود برقم ( )1624وسنن الترمذي برقم (.)1907
( )3في هـ " :الحجاج بن يونس" والتصويب من المعجم الكبير.
( )4في هـ " :سليمان" والتصويب من المعجم الكبير.
( )5المعجم الكبير ( )6/263وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/287فيه جماعة لم أعرفهم" .وله
شاهد من حديث أبي هريرة رواه أحمد في المسند (.)2/295
( )6المعجم الكبير ( )6/263والكلم عليه كالذي قبله.
( )7في ت ،م " :ابن".
( )8في تن م " :بل على قلوب".
( )9تفسير الطبري (.)26/37
( )7/320
ض المْرِ } أي :مالئوهم
وخدعهم { ،ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللّهُ سَنُطِي ُعكُمْ فِي َب ْع ِ
وناصحوهم في الباطن على الباطل ،وهذا شأن المنافقين يظهرون خلف ما يبطنون ؛ ولهذا قال
ال عز وجل { :وَاللّهُ َيعْلَمُ إِسْرَارَ ُهمْ } أي [ :يعلم] ( )1ما يسرون وما يخفون ،ال مطلع عليه
وعالم به ،كقوله { :وَاللّهُ َيكْ ُتبُ مَا يُبَيّتُونَ } [ النساء .] 81 :
ن وُجُو َههُ ْم وَأَدْبَا َرهُمْ } أي :كيف حالهم إذا جاءتهم
ثم قال َ { :فكَ ْيفَ ِإذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ َيضْرِبُو َ
الملئكة لقبض أرواحهم وتعصت الرواح في أجسادهم ،واستخرجتها الملئكة بالعنف والقهر
ن وُجُو َههُ ْم وََأدْبَارَهُمْ }
والضرب ،كما قال { :وََلوْ تَرَى ِإذْ يَ َت َوفّى الّذِينَ َكفَرُوا ا ْلمَل ِئكَةُ َيضْرِبُو َ
غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ وَا ْلمَلئِكَةُ بَاسِطُوا
الية [ النفال ، ] 50 :وقال { :وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ
سكُمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْتُمْ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ
أَيْدِيهِمْ } أي :بالضرب { أَخْ ِرجُوا أَ ْنفُ َ
ق َوكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ َتسْ َتكْبِرُونَ } [ النعام ] 93 :؛ ولهذا قال ها هنا { :ذَِلكَ بِأَ ّن ُهمُ اتّ َبعُوا
غَيْرَ ا ْلحَ ّ
عمَاَلهُمْ }
ضوَانَهُ فَأَحْ َبطَ أَ ْ
سخَطَ اللّ َه َوكَرِهُوا ِر ْ
مَا أَ ْ
ضغَا َنهُمْ (} )29
سبَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ أَنْ لَنْ ُيخْرِجَ اللّهُ َأ ْ
حِ{ َأمْ َ
__________
( )1زيادة من ت.
( )7/321
عمَاَلكُمْ ()30
{ وََلوْ نَشَاءُ لرَيْنَاكَهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُمْ بِسِيمَا ُه ْم وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي َلحْنِ ا ْل َق ْولِ وَاللّهُ َيعْلَمُ أَ ْ
ن وَنَبُْلوَ َأخْبَا َركُمْ (.} )31
وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ حَتّى َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِ ْنكُ ْم وَالصّابِرِي َ
ضغَا َنهُمْ } أي :اعتقد ()1
سبَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ أَنْ لَنْ ُيخْرِجَ اللّهُ َأ ْ
حِيقول تعالى َ { :أمْ َ
المنافقون أن ال ل يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ()2
ذوو البصائر ،وقد أنزل تعالى في ذلك سورة "براءة" ،فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من
الفعال الدالة على نفاقهم ؛ ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة .والضغان :جمع ضغن ،وهو ما
في النفوس من الحسد والحقد للسلم وأهله والقائمين بنصره.
وقوله { :وََلوْ نَشَاءُ لرَيْنَاكَهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُمْ بِسِيمَاهُمْ } يقول تعالى :ولو نشاء يا محمد لريناك
أشخاصهم ،فعرفتهم ( )3عيانا ،ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه
،وحمل للمور على ظاهر السلمة ،ورد السرائر إلى عالمها { ،وَلَ َتعْ ِرفَنّهُمْ فِي َلحْنِ ا ْل َقوْلِ }
أي :فيما يبدو من كلمهم الدال على مقاصدهم ،يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلمه
وفحواه ،وهو المراد من لحن القول ،كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،رضي ال عنه :
ما أسر أحد سريرة إل أبداها ال على صفحات وجهه ،وفلتات لسانه .وفي الحديث " :ما أسر
أحد سريرة إل كساه ال
__________
( )1في م " :أيعتقد".
( )2في أ " :يفهمه".
( )3في ت " :تعرفهم".
( )7/321
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَشَاقّوا الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َل ُهمُ ا ْلهُدَى لَنْ َيضُرّوا اللّهَ
عمَاَلكُمْ (
طلُوا أَ ْ
ل وَلَا تُبْ ِ
عمَاَل ُهمْ ( )32يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا َأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُو َ
شَيْئًا وَسَ ُيحْبِطُ أَ ْ
)33إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ ( )34فَلَا َتهِنُوا
عمَاَلكُمْ ()35
ن وَاللّهُ َم َعكُ ْم وَلَنْ يَتِ َركُمْ أَ ْ
وَتَدْعُوا إِلَى السّ ْل ِم وَأَنْتُمُ الْأَعَْلوْ َ
جلبابها ،إن خيرا فخير ،وإن شرّا فشر" ( .)1وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل ،وتكلمنا
على نفاق العمل والعتقاد ( )2في أول "شرح البخاري" ،بما أغنى عن إعادته ها هنا .وقد ورد
في الحديث تعيين جماعة من المنافقين .قال المام أحمد :
حدثنا وكيع ،حدثنا سفيان ،عن سلمة ،عن عياض بن عياض ،عن أبيه ،عن أبي مسعود عقبة
بن عمرو ،رضي ال عنه ،قال :خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم خطبة فحمد ال وأثنى
عليه ثم قال " :إن منكم ( )3منافقين ،فمن سميت فليقم" .ثم قال " :قم يا فلن ،قم يا فلن ،قم يا
فلن" .حتى سمى ستة وثلثين رجل ثم قال " :إن فيكم -أو :منكم ( - )4فاتقوا ال" .قال :فمر
عمر برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه ،فقال :ما لك ؟ فحدثه بما قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فقال :بعدًا لك سائر اليوم (.)5
وقوله { :وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ } أي :ولنختبرنكم بالوامر والنواهي { ،حَتّى َنعَْلمَ ا ْلمُجَاهِدِينَ مِ ْنكُمْ
وَالصّابِرِينَ وَنَبُْلوَ َأخْبَا َركُمْ } .وليس في تقدم علم ال تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ول
ريب ،فالمراد :حتى نعلم وقوعه ؛ ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا :إل لنعلم ،أي :لنرى.
{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَشَاقّوا الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْل ُهدَى لَنْ َيضُرّوا
طلُوا
عمَاَلهُمْ ( )32يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَل تُبْ ِ
اللّهَ شَيْئًا وَسَيُحْ ِبطُ أَ ْ
عمَاَلكُمْ ( )33إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ُثمّ مَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ ()34
أَ ْ
عمَاَل ُكمْ (.} )35
فَل َتهِنُوا وَ َتدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنْتُمُ العَْلوْنَ وَاللّهُ َم َعكُ ْم وَلَنْ يَتِ َركُمْ أَ ْ
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل ال ،وخالف الرسول وشاقه ،وارتد عن اليمان من بعد
ما تبين له الهدى :أنه لن يضر ال شيئًا ،وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ،وسيحبط ال
عمله فل يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير ،بل يحبطه
ويمحقه بالكلية ،كما أن الحسنات يذهبن السيئات.
وقد قال المام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلة :حدثنا أبو قدامة ،حدثنا وكيع ،حدثنا
أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية قال )6( :كان أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم يظنون أنه ل يضر مع "ل إله إل ال" ذنب ،كما ل ينفع مع الشرك عمل ،
عمَاَلكُمْ } kفخافوا أن يبطل الذنب العمل.
فنزلت َ { :أطِيعُوا اللّ َه وََأطِيعُوا الرّسُولَ وَل تُبْطِلُوا أَ ْ
__________
( )1سيأتي تخريج هذا الحديث عند تفسير الية 29 :من سورة الفتح.
( )2في أ " :النفاق العملي والعتقادي".
( )3في ت " :فيكم".
( )4في ت " :ومنكم".
( )5المسند ( )5/273قال الهيثمي في المجمع (" : )1/112فيه عياض بن أبي عياض عن أبيه
ولم أر من ترجمهما".
( )6في ت " :روى المام أحمد بإسناده".
( )7/322
ب وََل ْهوٌ وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَتّقُوا ُيؤْ ِتكُمْ ُأجُو َركُمْ وَلَا يَسْأَ ْلكُمْ َأ ْموَاَلكُمْ ( )36إِنْ
إِ ّنمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِع ٌ
عوْنَ لِتُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِ ْنكُمْ
ضغَا َنكُمْ ( )37هَا أَنْتُمْ َهؤُلَاءِ تُدْ َ
ح ِفكُمْ تَ ْبخَلُوا وَيُخْرِجْ َأ ْ
يَسْأَ ْل ُكمُوهَا فَيُ ْ
ي وَأَنْتُمُ ا ْل ُفقَرَا ُء وَإِنْ تَ َتوَّلوْا يَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ
س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
خلُ عَنْ َنفْ ِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ
ل َومَنْ يَبْ َ
خُمَنْ يَبْ َ
ثُمّ لَا َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ ()38
ثم روي من طريق عبد ال بن المبارك :أخبرني بكير بن معروف ،عن مقاتل بن حيان ،عن
نافع ،عن ابن عمر قال :كنا معشر أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم نرى أنه ليس شيء
عمَاَلكُمْ } ،
من الحسنات إل مقبول ،حتى نزلت َ { :أطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَل تُبْطِلُوا أَ ْ
فقلنا :ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا :الكبائر الموجبات والفواحش ،حتى نزلت { :إِنّ اللّ َه ل
َي ْغفِرُ أَنْ ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ َيشَاءُ } [ النساء ، ] 48 :فلما نزلت كففنا عن القول
في ذلك ،فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ،ونرجو لمن لم يصيبها (.)1
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والخرة ،ونهاهم
عمَاَلكُمْ } أي :بالردة ؛ ولهذا
عن الرتداد الذي هو مبطل للعمال ؛ ولهذا قال { :وَل تُ ْبطِلُوا أَ ْ
قال بعدها { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ } ،
كقوله { إِنّ اللّهَ ل َيغْفِرُ أَنْ ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ َيشَاءُ } الية.
ثم قال لعباده المؤمنين { :فَل َتهِنُوا } أي :ل تضعفوا عن العداء { ،وَتَدْعُوا إِلَى السّلْمِ } أي :
عدَدِكم وعُدَ ِدكُمْ ؛
المهادنة والمسالمة ،ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة َ
ولهذا قال { :فَل َتهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السّلْ ِم وَأَنْتُمُ العْلَوْنَ } أي :في حال علوكم على عدوكم ،
فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة ( )2بالنسبة إلى جميع المسلمين ،ورأى المام في المعاهدة
والمهادنة مصلحة ،فله أن يفعل ذلك ،كما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم حين صده كفار
قريش عن مكة ،ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين ،فأجابهم إلى ذلك.
عمَاَلكُمْ }
وقوله { :وَاللّهُ َم َعكُمْ } فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على العداء { ،وَلَنْ يَتِ َركُمْ أَ ْ
أي :ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها ،بل يوفيكم ثوابها ول ينقصكم منها شيئا.
{ إِ ّنمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَ ّتقُوا ُيؤْ ِتكُمْ أُجُو َركُ ْم وَل يَسْأَ ْلكُمْ َأ ْموَاَلكُمْ ( )36إِنْ
عوْنَ لِتُ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِ ْنكُمْ
ضغَا َنكُمْ ( )37هَا أَنْتُمْ َهؤُلءِ ُتدْ َ
ح ِفكُمْ تَ ْبخَلُوا وَيُخْرِجْ َأ ْ
يَسْأَ ْل ُكمُوهَا فَيُ ْ
ي وَأَنْتُمُ ا ْل ُفقَرَا ُء وَإِنْ تَ َتوَّلوْا يَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ
س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
خلُ عَنْ َنفْ ِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ
ل َومَنْ يَبْ َ
خُمَنْ يَبْ َ
ثُمّ ل َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ (.} )38
ب وََلهْوٌ } أي :حاصلها ذلك
يقول تعالى تحقيرًا لمر الدنيا وتهوينا لشأنها { :إِ ّنمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِع ٌ
إل ما كان منها ل عز وجل ؛ ولهذا قال { :وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَتّقُوا ُيؤْ ِتكُمْ أُجُو َركُ ْم وَل يَسْأَ ْل ُكمْ َأ ْموَاَلكُمْ
} أي :هو غني عنكم ل يطلب منكم شيئا ،وإنما فرض عليكم الصدقات من الموال مواساة
لخوانكم
__________
( )1تعظيم قدر الصلة للمروزي برقم (.)699 ، 698
( )2في ت " :فئة كثيرة".
( )7/323
( )7/324
ك وَ َيهْدِ َيكَ
ك َومَا تَأَخّ َر وَيُ ِتمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ
إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَتْحًا مُبِينًا ( )1لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا ( )2وَيَ ْنصُ َركَ اللّهُ َنصْرًا عَزِيزًا ()3
( )7/325
يرد علي ،قال :فقلت لنفسي :ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ،نزرت رسول ال صلى ال عليه
وسلم ثلث مرات فلم يرد عليك ؟ قال :فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء ،
قال :فإذا أنا بمناد ينادي :يا عمر ،أين عمر ؟ قال :فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء ،قال
:فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :نزلت ( )1علي الليلة ( )2سورة هي أحب إلي من الدنيا وما
ك َومَا تَأَخّرَ }.
فيها { :إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَ ْتحًا مُبِينًا .لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
ورواه البخاري ،والترمذي ،والنسائي من طرق ،عن مالك ،رحمه ال ( ، )3وقال علي بن
المديني :هذا إسناد مديني [جيد] ( )4لم نجده إل عندهم.
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا معمر ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك ،رضي ال
ك َومَا تََأخّرَ }
عنه ،قال :نزلت على النبي صلى ال عليه وسلم { :لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
مرجعه من الحديبية ،قال النبي صلى ال عليه وسلم " :لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على
الرض" ،ثم قرأها عليهم النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا :هنيئا مريئا يا نبي ال ،لقد بين
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ
ال ،عز وجل ،ماذا يفعل بك ،فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه { :لِيُ ْد ِ
جَنّاتٍ } حتى بلغ َ { :فوْزًا عَظِيمًا } [الفتح ، ]5 :أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به (.)5
جمّعُ بن يعقوب ،قال :سمعت أبي
وقال ( )6المام أحمد :حدثنا إسحاق بن عيسى ،حدثنا مُ َ
يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد النصاري عن عمه مجمع بن جارية النصاري -
وكان أحد ( )7القراء الذين قرءوا القرآن -قال :شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس
ينفرون الباعر ،فقال الناس بعضهم لبعض :ما للناس ؟ قالوا :أوحي إلى رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فخرجنا مع الناس نوجف ،فإذا رسول ال صلى ال عليه وسلم على راحلته عند
كراع الغميم ،فاجتمع الناس عليه ،فقرأ عليهم { :إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَ ْتحًا مُبِينًا } ،قال :فقال رجل
من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم :أي رسول ال ،وفتح هو ؟ قال " :إي والذي نفس
محمد بيده ،إنه لفتح" .فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إل من شهد
الحديبية ،فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ،وكان الجيش ألفا
وخمسمائة فارس ،فأعطى الفارس سهمين ،وأعطى الراجل سهما.
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى ،عن مجمع بن يعقوب ،به (.)8
وقال ( )9ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد ال بن بزيع ،حدثنا أبو بحر ،حدثنا شعبة ،حدثنا
جامع بن شداد ،عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ،قال :سمعت عبد ال بن مسعود يقول (: )10
لما
__________
( )1في م " :نزل".
( )2في ت ،م " :البارحة".
( )3المسند ( )1/31وصحيح البخاري برقم ( )4833وسنن الترمذي برقم ( )3262والنسائي في
السنن الكبرى برقم (.)11499
( )4زيادة من م.
( )5المسند ( )3/197وصحيح البخاري برقم ( )4148وصحيح مسلم برقم (.)1786
( )6في ت " :وروى".
( )7في ت " :أحب".
( )8المسند ( )3/420وسنن أبي داود برقم (.)2736
( )9في ت " :وروى".
( )10في ت " :عن ابن مسعود قال".
( )7/326
أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا ،فلم نستيقظ إل بالشمس قد طلعت ،فاستيقظنا ورسول ال صلى
ال عليه وسلم نائم ،قال :فقلنا " :امضوا" ( .)1فاستيقظ رسول ال صلى ال عليه وسلم :فقال :
"افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [يفعل] ( )2من نام أو نسي" .قال :وفقدنا ناقة رسول ال صلى ال
عليه وسلم فطلبنها ،فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ،فأتيته بها فركبها ( ، )3فبينا نحن نسير
إذ أتاه الوحي ،قال :وكان إذا أتاه [الوحي] ( )4اشتد عليه ،فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل
عليه { :إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحًا مُبِينًا }.
وقد رواه أحمد وأبو داود ،والنسائي من غير وجه ،عن جامع بن شداد به (.)5
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان عن زياد بن علقة ،قال :سمعت المغيرة
بن شعبة ( )6يقول :كان النبي ( )7صلى ال عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه ،فقيل له :أليس
قد غفر ال لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال " :أفل أكون عبدًا شكورًا".
أخرجاه ( )8وبقية الجماعة إل أبا داود من حديث زياد به (.)9
وقال المام أحمد :حدثنا هارون بن معروف ،حدثنا ابن وهب ،حدثني أبو صخر ،عن ابن
قسيط ،عن عروة بن الزبير ،عن عائشة ،قالت :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا صلى
قام حتى تتفطر رجله (.)10
فقالت له عائشة :يا رسول ال ،أتصنع هذا وقد غفر لك ال ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال :
"يا عائشة ،أفل أكون عبدا شكورا ؟".
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد ال بن وهب ،به (.)11
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا عبد ال بن عون الخراز -وكان ثقة بمكة -
حدثنا محمد بن بشر ( )12حدثنا مسعر ،عن قتادة ،عن أنس ،قال :قام رسول ال صلى ال
عليه وسلم حتى تورمت قدماه -أو قال ساقاه -فقيل له :أليس قد غفر ال لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر ؟ قال " :أفل أكون عبدًا شكورًا ؟" غريب من هذا الوجه (.)13
__________
( )1في م " :انصتوا".
( )2زيادة من ت ،أ.
( )3في ت " :فركب".
( )4زيادة من م.
( )5تفسير الطبري ( )26/43والمسند ( )1/464وسنن أبي داود برقم ( )447والنسائي في السنن
الكبرى برقم (.)8853
( )6في ت " :وروى المام أحمد بسنده".
( )7في أ " :رسول ال".
( )8في ت " :أخرجه البخاري ومسلم".
( )9المسند ( )4/55وصحيح البخاري برقم ( )4836وصحيح مسلم برقم ( )2819وسنن الترمذي
برقم ( )412وسنن النسائي ( )3/219وسنن ابن ماجه برقم (.)1419
( )10في أ " :ينفطر قدماه".
( )11المسند ( )6/115وصحيح مسلم برقم (.)2820
( )12في ا " :بشير".
( )13ورواه أبو يعلى في المسند ( )5/280من طريق عبد ال بن عون الخراز به ،ورواه البزار
في مسنده برقم (" )2380كشف الستار" من طريق الحسين بن السود عن محمد بن بشر به ،
وقال البزار " :ل نعلم أحدا حدث بهذا الحديث بهذا السناد إل الحسين بن بشر وعبد ال بن عون
الخزار ،وقد رواه غيرهما عن محمد بن بشر عن مسعر ،عن زياد بن علقة ،عن المغيرة بن
شعبةن وهو الصواب" فكلم المام البزار هنا موضح لقول الحافظ ابن كثير " :غريب من هذا
الوجه".
( )7/327
فقوله { :إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي :بينا ظاهرا ،والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه
خير جزيل ،وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض ( ، )1وتكلم المؤمن مع الكافر ،وانتشر العلم
النافع واليمان.
وقوله { :لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِبكَ َومَا تََأخّرَ } :هذا من خصائصه -صلوات ال وسلمه
عليه -التي ل يشاركه فيها غيره .وليس صحيح في ثواب العمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر .وهذا فيه تشريف عظيم لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو -صلوات ال وسلمه
عليه -في جميع أموره على الطاعة والبر والستقامة التي لم ينلها بشر سواه ،ل من الولين
ول من الخرين ،وهو أكمل البشر على الطلق ،وسيدهم في الدنيا والخرة .ولما كان أطوع
خلق ال ل ،وأكثرهم ( )2تعظيما لوامره ( )3ونواهيه .قال حين بركت به الناقة " :حبسها
حابس الفيل" ثم قال " :والذي نفسي بيده ،ل يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات ال إل
أجبتهم إليها" ( )4فلما أطاع ال في ذلك وأجاب إلى الصلح ،قال ال له { :إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَ ْتحًا
ك َومَا تَأَخّ َر وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ } أي :في الدنيا والخرة ،
مُبِينًا لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
ك صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا } أي :بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم.
{ وَ َيهْدِ َي َ
{ وَيَ ْنصُ َركَ اللّهُ َنصْرًا عَزِيزًا } أي :بسبب خضوعك لمر ال يرفعك ال وينصرك على أعدائك
،كما جاء في الحديث الصحيح " :وما زاد ال عبدا بعفو إل عزا ،وما تواضع أحد ل إل رفعه
ال" ( .)5وعن عمر بن الخطاب [رضي ال عنه] ( )6أنه قال :ما عاقبت -أي في الدنيا
والخرة -أحدا عصى ال تعالى فيك بمثل أن تطيع ال فيه.
س َموَاتِ
سكِي َنةَ فِي قُلُوبِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِنهِ ْم وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ
{ ُهوَ الّذِي أَنزلَ ال ّ
ن وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
حكِيمًا ( )4لِ ُيدْ ِ
ض َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ
وَالرْ ِ
عظِيمًا ( )5وَ ُيعَ ّذبَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلمُنَافِقَاتِ
خَاِلدِينَ فِيهَا وَ ُيكَفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِ ْم َوكَانَ ذَِلكَ عِ ْندَ اللّهِ َفوْزًا َ
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِ ْم وََلعَ َنهُمْ
غ ِ
سوْ ِء وَ َ
سوْءِ عَلَ ْي ِهمْ دَائِ َرةُ ال ّ
ن وَا ْلمُشْ ِركَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ ال ّ
وَا ْلمُشْ ِركِي َ
حكِيمًا (} )7
ض َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
ت وَالرْ ِ
س َموَا ِ
جهَنّ َم وَسَا َءتْ َمصِيرًا ( )6وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ
وَأَعَدّ َلهُمْ َ
سكِينَةَ } أي :جعل الطمأنينة .قاله ابن عباس ،وعنه :الرحمة.
يقول تعالى ُ { :هوَ الّذِي أَنزلَ ال ّ
وقال قتادة :الوقار في قلوب المؤمنين .وهم الصحابة يوم الحديبية ،الذين استجابوا ل ولرسوله
وانقادوا لحكم ال ورسوله ،فلما اطمأنت قلوبهم لذلك ،واستقرت ،زادهم إيمانًا مع إيمانهم.
__________
( )1في م " :بعضا".
( )2في ت ،أ " :وأشدهم"
( )3في ت " :لوامر ال".
( )4رواه البخاري في صحيحه برقم (.)2732 ، 2731
( )5رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2588من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )6زيادة من ت.
( )7/328
إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا َومُبَشّرًا وَنَذِيرًا ( )8لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ُتعَزّرُوهُ وَ ُت َوقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً
وََأصِيلًا ()9
وقد استدل بها البخاري وغيره من الئمة على تفاضل اليمان في القلوب.
س َموَاتِ وَال ْرضِ } أي :
ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لنتصر من الكافرين ،فقال { :وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ
ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لباد خضراءهم ،ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال ،
لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة ،والبراهين الدامغة ؛ ولهذا قال َ { :وكَانَ اللّهُ
حكِيمًا }
عَلِيمًا َ
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا } ،قد
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
ثم قال تعالى { :لِ ُيدْ ِ
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ
تقدم حديث أنس :قالوا :هنيئا لك يا رسول ال ،هذا لك فما لنا ؟ فأنزل ال { :لِيُ ْد ِ
وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا } أي :ماكثين فيها أبدا { .وَ ُيكَفّرَ عَ ْنهُمْ
سَيّئَا ِتهِمْ } أي :خطاياهم وذنوبهم ،فل يعاقبهم عليها ،بل يعفو ويصفح ويغفر ،ويستر ويرحم
خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ
ويشكر َ { ،وكَانَ َذِلكَ عِنْدَ اللّهِ َفوْزًا عَظِيمًا } ،كقوله { َفمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ
فَا َز َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِل مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ } [آل عمرن .]185 :
سوْءِ } أي :
ن وَا ْلمُشْ ِركَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ ال ّ
وقوله { :وَ ُيعَ ّذبَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلمُنَافِقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِي َ
يتهمون ال في حكمه ،ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ؛ ولهذا قال :
جهَنّمَ
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ وََلعَنَهُمْ } أي :أبعدهم من رحمته { وَأَعَدّ َل ُهمْ َ
غ ِ
سوْ ِء وَ َ
{ عَلَ ْي ِهمْ دَائِ َرةُ ال ّ
وَسَا َءتْ َمصِيرًا }.
ثم قال مؤكدا لقدرته على النتقام من العداء -أعداء السلم من الكفرة والمنافقين { : -وَلِلّهِ
حكِيمًا }.
س َموَاتِ وَال ْرضِ َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
جُنُودُ ال ّ
{ إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا َومُبَشّرًا وَنَذِيرًا ( )8لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُوِل ِه وَ ُتعَزّرُو ُه وَ ُت َوقّرُو ُه وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً
وََأصِيل (} )9
( )7/329
إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَا ِيعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ َفوْقَ أَ ْيدِيهِمْ َفمَنْ َن َكثَ فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى َنفْسِهِ َومَنْ َأ ْوفَى
عظِيمًا ()10
ِبمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَ ُيؤْتِيهِ َأجْرًا َ
{ إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَا ِيعُونَ اللّهَ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ َفمَنْ َن َكثَ فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى َنفْسِ ِه َومَنْ
َأ ْوفَى ِبمَا عَا َهدَ عَلَيْهُ اللّهَ َفسَ ُيؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (} )10
يقول تعالى لنبيه محمد -صلوات ال وسلمه عليه ( { )1إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا } أي :على
الخلق َ { ،ومُبَشّرًا } أي :للمؤمنين { ،وَنَذِيرًا } أي :للكافرين .وقد تقدم تفسيرها في سورة
"الحزاب" (.)2
{ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُوِل ِه وَ ُتعَزّرُوهُ } ،قال ابن عباس وغير واحد :يعظموه { ،وَ ُت َوقّرُوهُ } من
التوقير وهو الحترام والجلل والعظام { ،وَتُسَبّحُوهُ } أي :يسبحون ال ُ { ،بكْ َر ًة وََأصِيل }
أي :أول النهار وآخره.
ثم قال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما { :إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا
طعِ الرّسُولَ َفقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [النساء { ، ]80 :يَدُ اللّهِ َفوْقَ أَ ْيدِيهِمْ }
يُبَا ِيعُونَ اللّهَ } كقوله { مَنْ يُ ِ
أي :هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ،ويعلم ضمائرهم وظواهرهم ،فهو تعالى هو
المبايع بواسطة رسوله
__________
( )1في ت ،م " :صلى ال عليه وسلم".
( )2عند الية الخامسة والربعين.
( )7/329
( )7/330
وروى البخاري من حديث قتادة ،قلت لسعيد بن المسيب :كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟
قال :خمس عشرة مائة.
قلت :فإن جابر بن عبد ال ،رضي ال عنهما ،قال :كانوا أربع عشرة مائة .قال رحمه ال :
وهم ،هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة (.)1
قال البيهقي :هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول :خمس عشرة مائة ،ثم ذكر الوهم
فقال :أربع عشرة مائة (.)2
وروى العوفي عن ابن عباس :أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين .والمشهور الذي رواه
غير واحد عنه :أربع عشرة مائة ،وهذا هو الذي رواه البيهقي ،عن الحاكم ،عن الصم ،عن
العباس الدوري ،عن يحيى بن معين ،عن شبابة بن سوار ،عن شعبة ،عن قتادة ،عن سعيد
بن المسيب ،عن أبيه قال :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة (
.)3وكذلك هو في رواية سلمة بن الكوع ،ومعقل بن يسار ،والبراء بن عازب .وبه يقول غير
واحد من أصحاب المغازي والسير .وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة ،عن عمرو بن
مرة قال :سمعت عبد ال بن أبي أوفى يقول :كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة ،وكانت أسلم
يومئذ ثمن المهاجرين (.)4
وروى محمد بن إسحاق في السيرة ،عن الزهري ،عن عروة بن الزبير ،عن المسور بن
مخرمة ،ومروان بن الحكم ،أنهما حدثاه قال خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم عام الحديبية
يريد زيارة البيت ،ل يريد قتال وساق معه الهدي سبعين بدنة ،وكان الناس سبعمائة رجل ،كل
بدنة عن عشرة نفر ،وكان جابر بن عبد ال فيما بلغني عنه يقول :كنا أصحاب الحديبية أربع
عشرة مائة (.)5
كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه ،فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة
مائة.
ذكر سبب هذه البيعة العظيمة :
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة :ثم دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عمر بن
الخطاب ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ،فقال :يا رسول ال ،إني أخاف
قريشا على نفسي ،وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ،وقد عرفت قريش عداوتي
إياها ،وغلظي ( )6عليها ،ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ،عثمان بن عفان ،فبعثه إلى
أبي سفيان وأشراف قريش ،يخبرهم أنه لم يأت لحرب ،وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما
لحرمته.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4153
( )2دلئل النبوة للبيهقي (.)4/97
( )3دلئل النبوة للبيهقي (.)4/98
( )4صحيح البخاري برقم ( )4155وصحيح مسلم برقم (.)1857
( )5انظر :السيرة النبوية لبن هشام (.)2/308
( )6في ت ،م " :غلظتي".
( )7/331
فخرج عثمان إلى مكة ،فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ،أو قبل أن يدخلها ،
فحمله بين يديه ،ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فانطلق عثمان حتى
أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول ال [صلى ال عليه وسلم] ( )1ما أرسله به ،
فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم :إن شئت أن تطوف
بالبيت فطف .فقال :ما كنت لفعل حتى يطوف به رسول صلى ال عليه وسلم .واحتبسته قريش
عندها ،فبلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق :فحدثني عبد ال بن أبي بكر :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال حين بلغه
أن عثمان قد قتل " :ل نبرح حتى نناجز القوم" .ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم الناس إلى
البيعة .فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ،فكان الناس يقولون :بايعهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم على الموت .وكان جابر بن عبد ال يقول :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم
يبايعهم على الموت ،ولكن بايعنا على أل نفر.
فبايع الناس ،ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إل الجد بن قيس أخو بني سلمة ،فكان جابر
يقول :وال لكأني أنظر إليه لصقا بإبط ناقته ،قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس ،ثم أتى
رسول ال صلى ال عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل)2( .
وذكر ابن لهيعة عن السود ( .)3عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق ،وزاد في سياقه :
أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان [بن عفان] ( )4سهيل بن عمرو ،وحويطب بن عبد العزى ،
ومكرز بن حفص إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فبينما هم عندهم إذ وقع كلم بين ()5
بعض المسلمين وبعض المشركين ،وتراموا بالنبل والحجارة ،وصاح الفريقان كلهما ،وارتهن
كل من الفريقين من عنده من الرسل ،ونادى منادي رسول ال صلى ال عليه وسلم :أل إن
روح القدس قد نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأمر بالبيعة ،فاخرجوا على اسم ال
فبايعوا ،فسار المسلمون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على أل
يفروا أبدا ،فأرعب ذلك المشركين ( ، )6وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ،ودعوا إلى
الموادعة والصلح.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي :أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ،أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ،
حدثنا تمتام ( ، )7حدثنا الحسن بن بشر ( ، )8حدثنا الحكم بن عبد الملك ،عن قتادة ،عن أنس (
)9بن مالك قال :لما أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان
[رضي ال عنه] ( )10رسول رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى أهل مكة ،فبايع الناس ،فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اللهم إن عثمان في حاجة ال وحاجة رسوله" .فضرب بإحدى
يديه على الخرى ،فكانت يد رسول ال صلى ال عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لنفسهم (
.)11
__________
( )1زيادة من ت ،م.
( )2السيرة النبوية لبن هشام (.)2/315
( )3في ت " :أبي السود".
( )4زيادة من أ.
( )5في م " :من".
( )6في ت " :المشركون" وهو خطأ.
( )7في أ ،م " :هشام".
( )8في أ " :بشير".
( )9في ت " :وروى البيهقي بسنده".
( )10زيادة من ت.
( )11لم أجده في دلئل النبوة ولعله في غيره.
( )7/332
قال ابن هشام ( : )1حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له ،عن أبي مليكة ( ، )2عن ابن عمر
قال :بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم لعثمان ،فضرب بإحدى يديه على الخرى.
وقال عبد الملك بن هشام النحوي :فذكر وكيع ،عن إسماعيل بن أبي خالد ،عن الشعبي :أن
أول من بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان السدي (.)3
وقال أبو بكر عبد ال بن الزبير الحميدي :حدثنا سفيان ،حدثنا ابن أبي خالد ،عن الشعبي ،قال
:لما دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم الناس إلى البيعة ،كان أول من انتهى إليه أبو سنان
[السدي رضي ال عنه] ( ، )4فقال :ابسط يدك أبايعك .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :علم
تبايعني ؟" .فقال أبو سنان :على ما في نفسك .هذا أبو سنان [بن] ( )5وهب السدي [رضي ال
عنه] (.)7( )6
وقال البخاري :حدثنا شجاع بن الوليد ،سمع النضر بن محمد :حدثنا صخر [بن الربيع] (، )8
عن نافع ،قال :إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر ،وليس كذلك ،ولكن عمر يوم
الحديبية أرسل عبد ال إلى الفرس له عند رجل من النصار أن يأتي به ليقاتل عليه ،ورسول ال
صلى ال عليه وسلم يبايع عند الشجرة ،وعمر ل يدري بذلك ،فبايعه عبد ال ،ثم ذهب إلى
الفرس فجاء به إلى عمر ،وعمر يستلئم للقتال ،فأخبره أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يبايع
تحت الشجرة ،فانطلق ،فذهب معه حتى بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهي التي
يتحدث الناس أن ابن عمر ( )9أسلم قبل عمر.
ثم قال البخاري :وقال هشام بن عمار :حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا عمر بن محمد العمري ،
أخبرني نافع ،عن ابن عمر ،أن الناس كانوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الحديبية قد
تفرقوا في ظلل الشجر ،فإذا الناس محدقون بالنبي صلى ال عليه وسلم فقال -يعني عمر : -
يا عبد ال ،انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم .فوجدهم يبايعون ،
فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
وقد أسنده البيهقي عن أبي ( )10عمرو الديب ،عن أبي بكر السماعيلي ،عن الحسن بن سفيان
،عن دحيم :حدثني الوليد بن مسلم فذكره (.)11
وقال الليث ،عن أبي الزبير ،عن جابر ،قال :كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ،وعمر
آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ،وقال :بايعناه على أل نفر ،ولم نبايعه على الموت .رواه
مسلم عن قتيبة عنه (.)12
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى ،عن يزيد بن زريع ،عن خالد ،عن الحكم بن عبد ال بن
العرج ،عن معقل بن يسار ،قال :لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى ال عليه وسلم يبايع
الناس ( ، )13وأنا رافع
__________
( )1في أ " :شهاب".
( )2في أ " :عن أبي بكر بن أبي مليكة".
( )3السيرة النبوية (.)2/316
( )4زيادة من أ.
( )5زيادة من م ،أ.
( )6زيادة من م ،أ.
( )7ورواه البيهقي في دلئل النبوة ( )4/137من طريق الحميدي به.
( )8زيادة من ت ،أ.
( )9في أ " :عبد ال بن عمر".
( )10في أ " :ابن".
( )11صحيح البخاري برقم (.)4187
( )12صحيح مسلم برقم (.)1856
( )13في م " :والناس يبايعون النبي".
( )7/333
غصنا من أغصانها عن رأسه ،ونحن أربع عشرة مائة ،قال :ولم نبايعه على الموت ،ولكن
بايعناه على أل نفر (.)1
وقال البخاري :حدثنا المكي بن إبراهيم ،عن يزيد بن أبي عبيد ،عن سلمة بن الكوع ،قال :
بايعت رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة .قال يزيد :قلت :يا أبا مسلم ( ، )2على أي
شيء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال :على الموت (.)3
وقال البخاري أيضا :حدثنا أبو عاصم ،حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة ،قال :بايعت رسول
ال صلى ال عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت ،فقال " :يا سلمة أل تبايع ؟" قلت :بايعت ،قال
" :أقبل فبايع" .فدنوت فبايعته .قلت :علم بايعته يا سلمة ؟ قال :على الموت .وأخرجه مسلم من
وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد ( .)4وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم ،أنهم بايعوه على
الموت (.)5
وقال البيهقي :أخبرنا أبو عبد ال الحافظ ،أخبرنا أبو الفضل بن إبراهم ،حدثنا أحمد بن سلمة ،
حدثنا إسحاق بن إبراهم ،حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو ،حدثنا عكرمة بن عمار
اليمامي ،عن إياس بن سلمة ،عن أبيه سلمة ( )6بن الكوع قال :قدمنا الحديبية مع رسول ال
صلى ال عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة ،وعليها خمسون شاة ل ترويها ،فقعد رسول ال
صلى ال عليه وسلم على جباها -يعني الركي -فإما دعا وإما بصق فيها ،فجاشت ،فسقينا
واستقينا .قال :ثم إن رسول ال صلى ال عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة .فبايعته
أول الناس ،ثم بايع وبايع ،حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى ال عليه وسلم " :بايعني يا
سلمة" .قال :قلت :يا رسول ال ،قد بايعتك في أول الناس .قال " :وأيضا" .قال :ورآني رسول
ال صلى ال عليه وسلم عزل فأعطاني حجفة -أو درقة -ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس
قال صلى ال عليه وسلم " :أل تبايع يا سلمة ؟" قال :قلت :يا رسول ال ،قد بايعتك ( )7في
أول الناس وأوسطهم .قال " :وأيضا" .فبايعته الثالثة ،فقال " :يا سلمة ،أين حجفتك أو درقتك
التي أعطيتك ؟" .قال :قلت :يا رسول ال ،لقيني عامر عزل فأعطيتها إياه :فضحك رسول ال
صلى ال عليه وسلم ثم قال " :إنك كالذي قال الول :اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي"
قال :ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا.
قال :وكنت خادما لطلحة بن عبيد ال ،رضي ال عنه ،أسقي فرسه وأحسه ( )8وآكل من
طعامه ،وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى ال ورسوله .فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة ،واختلط
بعضنا ببعض ،أتيت شجرة فكسحت شوكها ،ثم اضطجعت ( )9في أصلها في ظلها ،فأتاني
أربعة من مشركي أهل مكة ،فجعلوا يقعون في رسول ال صلى ال عليه وسلم فأبغضتهم ،
وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلحهم واضطجعوا ،فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل
الوادي :يا للمهاجرين ،قتل ابن زنيم .فاخترطت سيفي ،فشددت على أولئك الربعة وهم
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)1858
( )2في م " :مسلمة".
( )3صحيح البخاري برقم (.)2960
( )4صحيح مسلم برقم (.)1860
( )5صحيح البخاري برقم (.)2959
( )6في ت " :وقال البيهقي بسنده عن سلمة".
( )7في ت " :بايعت".
( )8في ت ،م " :وأجنبه".
( )9في تن م ،أ " :واضطجعت".
( )7/334
رقود ،فأخذت سلحهم وجعلته ضغثا في يدي ،ثم قلت ( : )1والذي كرم وجه محمد صلى ال
عليه وسلم ،ل يرفع أحد منكم رأسه إل ضربت الذي فيه عيناه ،قال :ثم جئت بهم أسوقهم إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال :وجاء عمي عامر برجل من العَبَلت يقال له " :مكرز"
من المشركين يقوده ،حتى وقفنا بهم على رسول ال صلى ال عليه وسلم في سبعين من
المشركين ،فنظر إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال " :دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه"
،فعفا عنهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنزل ال [عز وجل] ( { : )2وَ ُهوَ الّذِي َكفّ
ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِمْ } الية [الفتح .]24 :
أَيْدِ َيهُمْ عَ ْنكُ ْم وَأَيْدِ َيكُمْ عَ ْنهُمْ بِ َبطْنِ َمكّةَ مِنْ َبعْدِ أَنْ أَ ْ
وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه ،أو قريبا منه (.)3
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة ،عن طارق ،عن سعيد بن المسيب ،قال :كان أبي
ممن بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة .قال :فانطلقنا من قابل حاجين ،فخفي
علينا مكانها ،فإن كان تبينت لكم ،فأنتم أعلم (.)4
وقال أبو بكر الحميدي :حدثنا سفيان ،حدثنا أبو الزبير ،حدثنا ( )5جابر ،قال :لما دعا
رسول ال صلى ال عليه وسلم الناس إلى البيعة ،وجدنا رجل منا يقال له "الجد بن قيس" مختبئا
تحت إبط بعيره".
رواه مسلم من حديث ابن جريج ،عن ابن الزبير ،به (.)6
وقال الحميدي أيضا :حدثنا سفيان ( ، )7عن عمرو ،سمع جابرا ،قال :كنا يوم الحديبية ألفا
وأربعمائة ،فقال لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم "أنتم خير أهل الرض اليوم" .قال جابر :لو
كنت أبصر ( )8لريتكم موضع الشجرة .قال سفيان :إنهم اختلفوا في موضعها .أخرجاه من
حديث سفيان (.)9
وقال المام أحمد :حدثنا يونس ،حدثنا الليث .عن أبي الزبير ،عن جابر ،عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أنه قال " :ل يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" (.)10
وقال ( )11ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن هارون الفلس المخرمي ،حدثنا سعد بن عمرو
الشعثي ،حدثنا محمد بن ثابت العبدي ،عن خداش بن عياش ،عن أبي الزبير ،عن جابر ،
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إل صاحب
الجمل الحمر" .قال :فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره ،فقلنا :تعال فبايع .فقال :أصيب
بعيري أحب إلي من أن أبايع (.)12
__________
( )1في تن م " :وقلت".
( )2زيادة من ت ،م.
( )3دلئل النبوة للبيهقي ( ، )4/138وصحيح مسلم برقم (.)1807
( )4صحيح البخاري برقم ( )4164وصحيح مسلم برقم ( )1859واللفظ لمسلم.
( )5في م " :عن".
( )6مسند الحميدي ( )2/537وصحيح مسلم برقم (.)1856
( )7في ت " :وفي الصحيحين من حديث سفيان".
( )8في ت ،م " :انظر".
( )9مسند الحميدي ( )2/514وصحيح البخاري برقم ( )4154وصحيح مسلم برقم (.)1856
( )10المسند (.)3/350
( )11في ت " :وروى".
( )12وفي إسناده محمد بن ثابت العبدي ،ضعفه ابن معين وشيخه خداش بن عياش وثقه ابن
حبان ،وقال الترمذي " :ل نعرف خداشا هذا من هو".
( )7/335
شغَلَتْنَا َأ ْموَالُنَا وَأَ ْهلُونَا فَاسْ َتغْفِرْ لَنَا َيقُولُونَ بَِألْسِنَ ِتهِمْ مَا لَ ْيسَ فِي
سَ َيقُولُ َلكَ ا ْل ُمخَّلفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ َ
قُلُو ِبهِمْ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ َل ُكمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ ِبكُمْ ضَرّا َأوْ أَرَادَ ِبكُمْ َنفْعًا َبلْ كَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
ل وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ إِلَى أَهْلِي ِهمْ أَبَدًا وَزُيّنَ ذَِلكَ فِي قُلُو ِبكُمْ
خَبِيرًا (َ )11بلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَ ْنقَلِبَ الرّسُو ُ
سعِيرًا
سوْ ِء َوكُنْتُمْ َق ْومًا بُورًا (َ )12ومَنْ لَمْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ فَإِنّا أَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ
وَظَنَنْتُمْ ظَنّ ال ّ
غفُورًا رَحِيمًا (
ت وَالْأَ ْرضِ َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء َوكَانَ اللّهُ َ
سمَاوَا ِ
( )13وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
)14
وقال عبد ال بن أحمد :حدثنا عبيد ال بن معاذ ،حدثنا أبي حدثنا قرة ،عن أبي الزبير (، )1
عن جابر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال " :من يصعد الثنية ،ثنية المرار ،فإنه يحط
عنه ما حط عن بني إسرائيل" .فكان أول من صعد خيل بني ( )2الخزرج ،ثم تبادر الناس بعد ،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كلكم مغفور له إل صاحب الجمل الحمر" .فقلنا :تعال
يستغفر لك رسول ال [صلى ال عليه وسلم] ( .)3فقال :وال لن أجد ضالتي أحب إلي من أن
يستغفر لي صاحبكم .فإذا هو رجل ينشد ضالة ( .)4رواه مسلم عن عبيد ال ،به (.)5
وقال ابن جريج :أخبرني أبو الزبير ،أنه سمع جابرا يقول :أخبرتني أم مبشر أنها سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول عند حفصة " :ل يدخل النار -إن شاء ال -من أصحاب
الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد" .قالت :بلى يا رسول ال .فانتهرها ،فقالت لحفصة { :وَإِنْ
مِ ْنكُمْ إِل وَارِدُهَا } [مريم ، ]71 :فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :قد قال ال ُ { :ثمّ نُنَجّي الّذِينَ
ا ّتقَوْا وَنَذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا جِثِيّا } [مريم ، ]72 :رواه مسلم (.)6
وفيه أيضا عن قتيبة ،عن الليث ،عن أبي الزبير ،عن جابر ؛ أن عبدًا لحاطب بن أبي بلتعة
جاء يشكو حاطبا ،فقال :يا رسول ال ،ليدخلن حاطب النار ،فقال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :كذبت ،ل يدخلها ؛ فإنه قد شهد بدرا والحديبية" (.)7
ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم { :إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَا ِيعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِيهِمْ َفمَنْ
َن َكثَ فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى َنفْسِ ِه َومَنْ َأ ْوفَى ِبمَا عَا َهدَ عَلَيْهُ اللّهَ َفسَ ُيؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح ، ]10 :
حتَ الشّجَ َرةِ َفعَِلمَ
ضيَ اللّهُ عَنِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ إِذْ يُبَا ِيعُونَكَ َت ْ
كما قال تعالى في الية الخرى َ { :لقَدْ َر ِ
سكِينَةَ عَلَ ْيهِمْ وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح .]18 :
مَا فِي قُلُو ِبهِمْ فَأَنزلَ ال ّ
شغَلَتْنَا َأ ْموَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْ َت ْغفِرْ لَنَا َيقُولُونَ بِأَلْسِنَ ِتهِمْ مَا لَ ْيسَ فِي
{ سَ َيقُولُ َلكَ ا ْلمُخَّلفُونَ مِنَ العْرَابِ َ
قُلُو ِبهِمْ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ َل ُكمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ ِبكُمْ ضَرّا َأوْ أَرَادَ ِبكُمْ َنفْعًا َبلْ كَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
ل وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ إِلَى أَهْلِي ِهمْ أَبَدًا وَزُيّنَ ذَِلكَ فِي قُلُو ِبكُمْ
خَبِيرًا (َ )11بلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَ ْنقَلِبَ الرّسُو ُ
سعِيرًا
سوْ ِء َوكُنْتُمْ َق ْومًا بُورًا (َ )12ومَنْ لَمْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ فَإِنّا أَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ
وَظَنَنْتُمْ ظَنّ ال ّ
غفُورًا َرحِيمًا ()14
ت وَال ْرضِ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَاءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء َوكَانَ اللّهُ َ
س َموَا ِ
( )13وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
}
__________
( )1في ت " :وقال عبد ال بن أحمد بسنده".
( )2في أ " :من".
( )3زيادة من ت.
( )4في أ " :ضالته".
( )5صحيح مسلم برقم (.)2780
( )6صحيح مسلم برقم (.)2496
( )7صحيح مسلم برقم (.)2494
( )7/336
خذُوهَا ذَرُونَا نَتّ ِب ْعكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدّلُوا كَلَامَ اللّهِ ُقلْ لَنْ
سَ َيقُولُ ا ْل ُمخَّلفُونَ إِذَا انْطََلقْتُمْ إِلَى َمغَانِمَ لِتَأْ ُ
سدُونَنَا َبلْ كَانُوا لَا َي ْف َقهُونَ إِلّا قَلِيلًا ()15
تَتّ ِبعُونَا َكذَِلكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ َفسَ َيقُولُونَ َبلْ تَحْ ُ
يقول تعالى مخبرا رسوله ( - )1صلوات ال وسلمه عليه ( - )2بما يعتذر به المخلفون من
العراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم ( ، )3وتركوا المسير مع رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فاعتذروا بشغلهم بذلك ،وسألوا أن يستغفر لهم الرسول ( )4صلى ال عليه وسلم ،
وذلك قول منهم ل على سبيل العتقاد ،بل على وجه التقية والمصانعة ؛ ولهذا قال تعالى :
{ َيقُولُونَ بِأَ ْلسِنَ ِتهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُو ِبهِمْ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ َلكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ ِبكُ ْم ضَرّا َأوْ أَرَادَ ِبكُمْ
َن ْفعًا } أي :ل يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس ،وهو العليم بسرائركم وضمائركم ،
وإن صانعتمونا وتابعتمونا ( )5؛ ولهذا قال َ { :بلْ كَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا }.
ثم قال َ { :بلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَ ْنقَِلبَ الرّسُولُ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَ َبدًا } أي :لم يكن تخلفكم تخلف
ل وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ
معذور ول عاص ،بل تخلف نفاق َ { ،بلْ ظَنَنْ ُتمْ أَنْ لَنْ يَ ْنقَِلبَ الرّسُو ُ
أَبَدًا } أي :اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم ،ول يرجع منهم مخبر ،
سوْ ِء َوكُنْتُمْ َق ْومًا بُورًا } أي :هلكى .قاله ابن عباس ،ومجاهد ،وغير واحد.
{ وَظَنَنْ ُتمْ ظَنّ ال ّ
وقال قتادة :فاسدين .وقيل :هي بلغة عمان.
ثم قال َ { :ومَنْ َلمْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ } أي :من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن ل ،فإن
ال تعالى سيعذبه في السعير ،وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلف ما هو عليه في نفس المر.
ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والرض َ { :ي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ
غفُورًا َرحِيمًا } أي :لمن تاب إليه وأناب ،وخضع لديه.
مَنْ يَشَاءُ َوكَانَ اللّهُ َ
{ سَ َيقُولُ ا ْلمُخَّلفُونَ إِذَا ا ْنطََلقْتُمْ إِلَى َمغَانِمَ لِتَ ْأخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّ ِب ْعكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُ َبدّلُوا كَلمَ اللّهِ ُقلْ لَنْ
سدُونَنَا َبلْ كَانُوا ل َيفْ َقهُونَ إِل قَلِيل (} )15
تَتّ ِبعُونَا َكذَِلكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ َفسَ َيقُولُونَ َبلْ تَحْ ُ
يقول تعالى مخبرًا عن العراب الذين تخلفوا عن النبي صلى ال عليه وسلم في غزوة ()6
الحديبية ،إذ ذهب النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتتحونها :أنهم يسألون أن
يخرجوا معهم إلى المغنم ،وقد تخلفوا عن وقت محاربة العداء ومجالدتهم ومصابرتهم ،فأمر
ال رسوله صلى ال عليه وسلم أل يأذن لهم في ذلك ،معاقبة لهم من جنس ذنبهم .فإن ال تعالى
قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم ل يشركهم فيها غيرهم من العراب المتخلفين ،فل (
)7يقع غير ذلك شرعا وقدرا ؛ ولهذا قال { :يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدّلُوا كَلمَ اللّهِ }
قال مجاهد ،وقتادة ،وجويبر :وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية .واختاره ابن جرير (.)8
__________
( )1في ت ،م " :لرسوله".
( )2في ت " :صلى ال عليه وسلم".
( )3في ت ،أ " :والشغل بهم".
( )4في م " :رسول ال".
( )5في ت " :أو نافقتمونا".
( )6في ت ،م ،أ " :عمرة".
( )7في ت " :ول".
( )8تفسير الطبري (.)26/50
( )7/337
ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَا ِئفَةٍ مِ ْنهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِ ْلخُرُوجِ َفقُلْ لَنْ َتخْرُجُوا
وقال ابن زيد :هو قوله { :فَإِنْ َر َ
َمعِيَ أَ َبدًا وَلَنْ ُتقَاتِلُوا َم ِعيَ عَ ُدوّا إِ ّنكُمْ َرضِيتُمْ بِا ْل ُقعُودِ َأوّلَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُوا مَعَ ا ْلخَاِلفِينَ } [التوبة :
.]83
وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر ؛ لن هذه الية التي في "براءة" نزلت في غزوة تبوك ،وهي
متأخرة عن غزوة ( )1الحديبية.
وقال ابن جريج { :يُرِيدُونَ أَنْ يُ َبدّلُوا كَلمَ اللّهِ } يعني :بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد.
{ ُقلْ لَنْ تَتّ ِبعُونَا كَذَِل ُكمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ } أي :وعد ال أهل الحديبية قبل سؤالكم ( )2الخروج
سدُونَنَا } أي :أن نشرككم في المغانم َ { ،بلْ كَانُوا ل َي ْف َقهُونَ إِل قَلِيل }
معهم َ { ،فسَ َيقُولُونَ َبلْ تَحْ ُ
أي :ليس المر كما زعموا ،ولكن ل فهم لهم (.)3
__________
( )1في ت ،م ،أ " :عمرة".
( )2في ت ،م " :قبل أن يسألوكم".
( )3في ت ،أ " :لنهم عدو لهم".
( )7/338
عوْنَ ِإلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ُتقَاتِلُو َنهُمْ َأوْ ُيسِْلمُونَ فَإِنْ ُتطِيعُوا
ُقلْ لِ ْلمُخَّلفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَ ُتدْ َ
عمَى
ُيؤْ ِتكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَ َتوَّلوْا َكمَا َتوَلّيْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ ُيعَذّ ْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( )16لَ ْيسَ عَلَى الْأَ ْ
ج َومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي
ج وَلَا عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ
ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ
حَرَ ٌ
عذَابًا أَلِيمًا ()17
مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر َومَنْ يَ َت َولّ ُيعَذّبْهُ َ
عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ُتقَاتِلُونَهُمْ َأوْ ُيسِْلمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
{ ُقلْ لِ ْل ُمخَّلفِينَ مِنَ العْرَابِ سَ ُتدْ َ
عمَى
ُيؤْ ِتكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَ َتوَّلوْا َكمَا َتوَلّيْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ ُيعَذّ ْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( )16لَ ْيسَ عَلَى ال ْ
خلْهُ جَنّاتٍ َتجْرِي
ج َومَنْ يُطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ يُدْ ِ
ج وَل عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ
ج وَل عَلَى العْرَجِ حَرَ ٌ
حَرَ ٌ
مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَا ُر َومَنْ يَ َتوَلّ ُيعَذّ ْبهُ عَذَابًا أَلِيمًا (} )17
اختلف المفسرون في هؤلء القوم الذين يدعون إليهم ،الذين هم أولو بأس شديد ،على أقوال :
أحدها :أنهم هوازن .رواه شعبة عن أبي ِبشْر ،عن سعيد بن جبير -أو عكرمة ( ، )1أو جميعا
-ورواه هُشيم عن أبي بشر ،عنهما .وبه يقول قتادة في رواية عنه.
الثاني :ثقف ،قاله الضحاك.
الثالث :بنو حنيفة ،قاله جويبر .ورواه محمد بن إسحاق ،عن الزهري .وروي مثله عن سعيد
وعكرمة.
الرابع :هم أهل فارس .رواه علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس ،وبه يقول عطاء ،ومجاهد ،
وعكرمة -في إحدى الروايات عنه.
وقال كعب الحبار :هم الروم .وعن ابن أبي ليلى ،وعطاء ،والحسن ،وقتادة :هم فارس
والروم .وعن مجاهد :هم أهل الوثان .وعنه أيضا :هم رجال أولو بأس شديد ،ولم يعين فرقة.
وبه يقول ابن جريج ،وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الشج ،حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري ،عن َم ْعمَر (، )2
عن
__________
( )1في ت " :هوازن قاله عكرمة".
( )2في ت " :وروى ابن أبي حاتم بسنده".
( )7/338
عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال :لم يأت أولئك بعد.
الزهري ،في قوله { :سَتُدْ َ
وحدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي عمر ،حدثنا سفيان ،عن ابن أبي خالد ،عن أبيه ،عن أبي هريرة
شدِيدٍ } قال :هم البارزون.
عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَ ْأسٍ َ
في قوله { :سَتُدْ َ
قال :وحدثنا سفيان ،عن الزهري ،عن سعيد بن المسيب ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى
ال عليه وسلم قال " :ل تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار العين ،ذلف النف ،كأن
وجوههم المجانّ المطرقة" .قال سفيان :هم الترك (.)1
قال ابن أبي عمر :وجدت في مكان ( )2آخر :ابن أبي خالد عن أبيه قال :نزل علينا أبو
شعْر" قال :هم
هريرة ففسر قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :تقاتلون قومًا نعالهم ال ّ
البارزون ،يعني الكراد (.)3
وقوله ُ { :تقَاتِلُو َنهُمْ َأوْ يُسِْلمُونَ } يعني :يشرع لكم جهادهم وقتالهم ،فل يزال ذلك مستمرا عليهم
،ولكم النصرة عليهم ،أو يسلمون فيدخلون في دينكم بل قتال بل باختيار.
ثم قال { :فَإِنْ تُطِيعُوا } أي :تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه ُ { ،يؤْ ِتكُمُ اللّهُ
أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَ َتوَّلوْا َكمَا َتوَلّيْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ } يعني :زمن الحديبية ،حيث دعيتم ( )4فتخلفتم ،
{ ُي َعذّ ْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
ثم ذكر العذار في ترك الجهاد ،فمنها لزم كالعمى والعرج المستمر ،وعارض كالمرض الذي
يطرأ أياما ثم يزول ،فهو في حال مرضه ملحق بذوي العذار اللزمة حتى يبرأ.
طعِ اللّ َه وَرَسُوَلهُ يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي
ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة ال ورسوله َ { :ومَنْ يُ ِ
عذَابًا أَلِيمًا }
مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَا ُر َومَنْ يَ َتوَلّ } أي :ينكل عن الجهاد ،ويقبل على المعاش { ُي َعذّبْهُ َ
في الدنيا بالمذلة ،وفي الخرة بالنار.
سكِينَةَ عَلَ ْيهِمْ
حتَ الشّجَ َرةِ َفعَلِمَ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ فَأَنزلَ ال ّ
ضيَ اللّهُ عَنِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ إِذْ يُبَا ِيعُو َنكَ تَ ْ
{ َلقَدْ َر ِ
حكِيمًا (} )19
وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (َ )18و َمغَانِمَ كَثِي َرةً يَ ْأخُذُو َنهَا َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة ،
وقد تقدم ذكر عدتهم ،وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ،وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.
__________
( )1ورواه ابن أبي شيبة في المصنف برقم ( )19199والبخاري في صحيحه برقم ( )2929من
طريق سفيان عن الزهري بإسناده " :ل تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان
المطرقة" ورواه البخاري في صحيحه برقم ( )2928من طريق صالح ،عن العرج عن أبي
هريرة بنحوه.
( )2في ت " :وقال ابن أبي عمرو حديث في موضع".
( )3وقد ذكر بعض المؤرخين أن أصحاب بابك المخرمي كانوا ينتعلون الشعر ،فهم المقصودون
بهذا الحديث.
( )4في ت " :ذهبتم".
( )7/339
جلَ َلكُمْ هَ ِذ ِه َو َكفّ أَ ْي ِديَ النّاسِ عَ ْن ُك ْم وَلِ َتكُونَ آَيَةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ
وَعَ َدكُمُ اللّهُ َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَ ْأخُذُو َنهَا َفعَ ّ
شيْءٍ
وَ َيهْدِ َيكُ ْم صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا ( )20وَُأخْرَى لَمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ ِبهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ
جدُونَ وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا ( )22سُنّةَ اللّهِ الّتِي
قَدِيرًا ( )21وََلوْ قَاتََلكُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوَّلوُا الَْأدْبَارَ ثُمّ لَا يَ ِ
قَدْ خََلتْ مِنْ قَ ْبلُ وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا ()23
قال البخاري :حدثنا محمود ،حدثنا عبيد ال ،عن إسرائيل ،عن طارق بن عبد الرحمن قال :
انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون ،فقلت ( )1ما هذا المسجد ؟ قالوا :هذه الشجرة ،حيث بايع
رسول ال صلى ال عليه وسلم بيعة الرضوان ،فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ،فقال سعيد :
حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة .قال :فلما خرجنا
من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ،فقال سعيد :إن أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم لم
يعلموها وعلمتموها أنتم ،فأنتم أعلم (.)2
سكِينَةَ } :
وقوله َ { :فعَلِمَ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ } أي :من الصدق والوفاء ،والسمع والطاعة { ،فَأَنزلَ ال ّ
وهي الطمأنينة { ،عَلَ ْيهِمْ وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } :وهو ما أجرى ال على أيديهم من الصلح بينهم
وبين أعدائهم ،وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ،ثم فتح
سائر البلد والقاليم عليهم ،وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والخرة ؛ ولهذا
حكِيمًا }
خذُو َنهَا (َ )3وكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
قال َ { :و َمغَانِمَ كَثِي َرةً يَأْ ُ
قال ( )4ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ،حدثنا عبيد ال بن
موسى ،أخبرنا موسى ،أخبرنا موسى -يعني ابن عبيدة -حدثني إياس ( )5بن سلمة ،عن
أبيه ،قال :بينما نحن قائلون .إذ نادى منادي رسول ال صلى ال عليه وسلم :أيها الناس ،
البيعة البيعة ،نزل روح القدس .قال :فَثُرنا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو تحت
حتَ
شجرة سمرة فبايعناه ،فذلك قول ال تعالى (َ { : )6لقَدْ َرضِيَ اللّهُ عَنِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ إِذْ يُبَا ِيعُو َنكَ تَ ْ
الشّجَ َرةِ } [قال] ( : )7فبايع لعثمان بإحد يديه على الخرى ،فقال الناس :هنيئا لبن عفان ،
طوف بالبيت ونحن ( )8هاهنا .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو مكث كذا كذا سنة ما
طاف حتى أطوف" (.)9
جلَ َل ُكمْ َه ِذهِ َوكَفّ أَيْ ِديَ النّاسِ عَ ْنكُ ْم وَلِ َتكُونَ آيَةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ
خذُو َنهَا َف َع ّ
{ وَعَ َد ُكمُ اللّهُ َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَأْ ُ
شيْءٍ
وَ َيهْدِ َيكُ ْم صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا ( )20وَُأخْرَى لَمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ ِبهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ
جدُونَ وَلِيّا وَل َنصِيرًا ( )22سُنّةَ اللّهِ الّتِي
قَدِيرًا ( )21وََلوْ قَاتََلكُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوَّلوُا الدْبَارَ ُثمّ ل يَ ِ
قَدْ خََلتْ مِنْ قَ ْبلُ وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيل (} )23
__________
( )1في م " :وقلت".
( )2صحيح البخاري برقم (.)4163
( )3في ت " :تأخذونها".
( )4في ت " :وروى".
( )5في ت " :عن أبان".
( )6في ت ،م " :فذلك قوله تعالى".
( )7زيادم من ت ،م.
( )8في ت ،م " :وذكر".
( )9ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )1/90من طريق عبيد ال بن موسى به ،قال الهيثمي
في المجمع (" : )9/84فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".
( )7/340
( )7/340
قال مجاهد في قوله { :وَعَ َدكُمُ اللّهُ َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَأْخُذُو َنهَا } :هي جميع المغانم إلى اليوم ،
جلَ َل ُكمْ َه ِذهِ } يعني :فتح خيبر.
{ َف َع ّ
جلَ َلكُمْ هَ ِذهِ } يعني :صلح الحديبية.
وروى العوفي عن ابن عباس َ { :فعَ ّ
{ َو َكفّ أَيْ ِديَ النّاسِ عَ ْنكُمْ } أي :لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة
والقتال .وكذلك كف أيدي الناس [عنكم] ( )1الذين خلفتموهم وراء أظهركم عن عيالكم وحريمكم ،
{ وَلِ َتكُونَ آيَةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي :يعتبرون بذلك ،فإن ال حافظهم وناصرهم على سائر العداء ،
مع قلة عددهم ،وليعلموا بصنيع ال هذا بهم أنه العليم بعواقب المور ،وأن الخيرة فيما يختاره
لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر ،كما قال { :وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُمْ }
[البقرة .]216 :
{ وَ َيهْدِ َيكُمْ صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا } أي :بسبب انقيادكم لمره واتباعكم طاعته ،وموافقتكم رسوله (.)2
شيْءٍ قَدِيرًا } أي :وغنيمة
وقوله { :وَأُخْرَى لَمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ ِبهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ
أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها ،قد يَسّرها ال عليكم ،وأحاط بها لكم ،فإنه
تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث ل يحتسبون.
وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ،ما المراد بها ؟ فقال ال َعوْفي عن ابن عباس :هي خيبر.
جلَ َلكُمْ َه ِذهِ } إنها صلح الحديبية .وقاله الضحاك ،وابن
وهذا على قوله في قوله تعالى َ { :ف َع ّ
إسحاق ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة :هي مكة .واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي ليلى ،والحسن البصري :هي فارس والروم.
وقال مجاهد :هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي :حدثنا شعبة ،عن سماك الحنفي ،عن ابن عباس { :وَُأخْرَى لَمْ َتقْدِرُوا
عَلَ ْيهَا قَدْ َأحَاطَ اللّهُ ِبهَا } قال :هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم (.)3
ن وَلِيّا وَل َنصِيرًا } يقول تعالى مبشرا
وقوله { :وََلوْ قَاتََلكُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوَّلوُا الدْبَارَ ُثمّ ل يَجِدُو َ
لعباده المؤمنين :بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر ال رسوله وعباده المؤمنين عليهم ،ولنهزم
جيش الكفار ( )4فارا مدبرا ل يجدون وليا ول نصيرا ؛ لنهم محاربون ل ولرسوله ولحزبه ()5
المؤمنين.
جدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيل } أي :هذه سنة ال وعادته في
ل وَلَنْ تَ ِ
ثم قال { :سُنّةَ اللّهِ الّتِي َقدْ خََلتْ مِنْ قَ ْب ُ
خلقه ،ما تقابل الكفر واليمان في موطن فيصل إلى نصر ال اليمان على الكفر ،فرفع الحق
ووضع الباطل ،كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين ،
مع قلة عدد المسلمين وعُدَدهم ،وكثرة المشركين وعددهم (.)6
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في ت ،م " :لرسوله".
( )3في ت " :إلى يوم القيامة".
( )4في م " :الكفر".
( )5في ت ،أ " :ولعباده".
( )6في ت ،م " :ومددهم".
( )7/341
( )7/342
خرج النبي صلى ال عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة ،قال له عمر :يا نبي ال ،
تدخل على قوم لك حَرْب بغير سلح ول كُرَاع ؟ قال :فبعث إلى المدينة ،فلم يدع فيها كراعا
ول سلحا إل حمله ،فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ،فسار حتى أتى منى ،فنزل بمنى ،فأتاه
عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة ،فقال لخالد بن الوليد " :يا خالد ،هذا
ابن عمك أتاك في الخيل ( ، )1فقال خالد :أنا سيف ال ،وسيف رسوله -فيومئذ سمي سيف
ال -يا رسول ال ،ارم بي أين شئت .فبعثه على خيل ،فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى
أدخله حيطان مكة ،ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ،ثم عاد في الثالثة فهزمه
حتى أدخله حيطان مكة ،فأنزل ال { :وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَ ْيدِ َيهُمْ عَ ْن ُك ْم وَأَيْدِ َيكُمْ عَ ْن ُهمْ بِبَطْنِ َمكّةَ [مِنْ
عذَابًا أَلِيمًا } .قال :فكف ال النبي عنهم من بعد أن أظفره
ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِمْ ] } ( )2إلى َ { :
َبعْدِ أَنْ َأ ْ
( )3عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل (.)4
ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه .وهذا السياق فيه نظر ؛ فإنه ل يجوز أن يكون عام
الحديبية ؛ لن خالدا لم يكن أسلم ؛ بل قد كان طليعة المشركين ( )5يومئذ ،كما ثبت في
الصحيح .ول يجوز أن يكون في عمرة القضاء ،لنهم قاضوه على أن يأتي من العام المقبل ()6
فيعتمر ويقيم بمكة ثلثة أيام ،فلما قدم لم يمانعوه ،ول حاربوه ول قاتلوه .فإن قيل :فيكون يوم
الفتح ؟ فالجواب :ول يجوز أن يكون يوم الفتح ؛ لنه لم يسق عام الفتح هَديًا ،وإنما جاء
محاربا مقاتل في جيش عَ َرمْرَم ،فهذا السياق فيه خلل ،قد وقع فيه شيء فليتأمل ،وال أعلم.
وقال ابن إسحاق :حدثني من ل أتهم ،عن عكرمة مولى ابن عباس :أن قريشا بعثوا أربعين
رجل منهم أو خمسين ،وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصيبوا من
أصحابه أحدًا ،فأُخذُوا أخذًا ،فأُتي بهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فعفا عنهم وخلى سبيلهم
،وقد كانوا رموا إلى ( )7عسكر رسول ال صلى ال عليه وسلم ( )8بالحجارة والنبل .قال ابن
إسحاق :وفي ذلك أنزل ال { :وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَ ْنكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ عَ ْنهُمْ } الية (.)9
وقال قتادة :ذكر لنا أن رجل يقال له " :ابن زُنَيْم" اطلع على الثنية من الحديبية ،فرماه
المشركون بسهم فقتلوه ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم خيل فأتوه باثني عشر فارسًا من
الكفار ،فقال لهم " :هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟" .قالوا :ل .فأرسلهم ،وأنزل ال في
ذلك { :وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَ ْنكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ عَ ْنهُمْ } الية.
__________
( )1في أ " :الجبل".
( )2زيادة من ت.
( )3في أ " :أظفركم".
( )4تفسير الطبري (.)26/59
( )5في أ " :للمشركين".
( )6في ت " :قابل".
( )7في أ " :في".
( )8في ت ،م " :عسكر المسلمين".
( )9رواه الطبري في تفسيره (.)26/59
( )7/343
جدِ ا ْلحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ َمحِلّ ُه وََلوْلَا ِرجَالٌ ُم ْؤمِنُونَ
هُمُ الّذِينَ َكفَرُوا وَصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَسْ ِ
حمَتِهِ مَنْ
خلَ اللّهُ فِي رَ ْ
وَنِسَاءٌ ُم ْؤمِنَاتٌ َلمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ لِ ُيدْ ِ
حمِيّةَ
ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ الْ َ
عذَابًا أَلِيمًا ( )25إِذْ َ
يَشَاءُ َلوْ تَزَيّلُوا َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ َ
حقّ
ن وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى َوكَانُوا أَ َ
سكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
حمِيّةَ الْجَا ِهلِيّةِ فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ
َ
شيْءٍ عَلِيمًا ()26
ِبهَا وَأَهَْلهَا َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
{ هُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّ ُه وََلوْل ِرجَالٌ ُم ْؤمِنُونَ
حمَتِهِ مَنْ
خلَ اللّهُ فِي رَ ْ
وَنِسَاءٌ ُم ْؤمِنَاتٌ َلمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ لِ ُيدْ ِ
حمِيّةَ
ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ الْ َ
عذَابًا أَلِيمًا ( )25إِذْ َ
يَشَاءُ َلوْ تَزَيّلُوا َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ َ
حقّ
ن وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى َوكَانُوا أَ َ
سكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
حمِيّةَ الْجَا ِهلِيّةِ فَأَنزلَ اللّهُ َ
َ
شيْءٍ عَلِيمًا (} )26
ِبهَا وَأَهَْلهَا َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
يقول تعالى مخبرا عن الكفار من مشركي العرب من قريش ومن مالهم ( )1على نصرتهم على
رسول ال صلى ال عليه وسلم ُ { :همُ الّذِينَ َكفَرُوا } أي :هم الكفار دون غيرهم َ { ،وصَدّوكُمْ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ } أي :وأنتم أحق به ،وأنتم أهله في نفس المر { ،وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفًا أَنْ يَبُْلغَ
عَنِ ا ْلمَ ْ
مَحِلّهُ } أي :وصدوا الهدي أن يصل ( )2إلى محله ،وهذا من بغيهم وعنادهم ،وكان الهديُ
سبعين بدنة ،كما سيأتي بيانه.
ن وَنِسَاءٌ ُم ْؤمِنَاتٌ } أي :بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم
وقوله { :وََلوْل ِرجَالٌ ُم ْؤمِنُو َ
خيفة على أنفسهم من قومهم ،لكنا سَلّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ،ولكن بين أفنائهم
من المؤمنين والمؤمنات أقوام ل تعرفونهم حالة ( )3القتل ؛ ولهذا قال َ { :لمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ َتطَئُوهُمْ
حمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي :يؤخر
خلَ اللّهُ فِي رَ ْ
فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ َمعَ ّرةٌ } أي :إثم وغرامة { ِبغَيْرِ عِلْمٍ لِيُ ْد ِ
عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين ،وليرجع كثير منهم إلى السلم.
ثم قال َ { :لوْ تَزَيّلُوا } أي :لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم { َل َعذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا
مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي :لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتل ذريعا.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا أبو الزّنْباع -روح بن الفرج -حدثنا عبد الرحمن بن
حجْر
أبي عباد المكي ،حدثنا عبد الرحمن بن عبد ال ( )4أبو سعيد -مولى بني هاشم -حدثنا ُ
بن خلف :سمعت عبد ال بن عوف ( )5يقول ( : )6سمعت ( )7جنيد بن سبع يقول ( : )8قاتلت
رسول ال صلى ال عليه وسلم أول النهار كافرا ،وقاتلت معه آخر النهار مسلما ،وفينا نزلت :
ن وَنِسَاءٌ ُم ْؤمِنَاتٌ } قال :كنا تسعة نفر :سبعة رجال وامرأتين (.)9
{ وََلوْل ِرجَالٌ ُم ْؤمِنُو َ
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به ،وقال فيه :عن أبي جمعة جنيد بن سبيع
،فذكره ( )10والصواب أبو جعفر :حبيب بن سباع .ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن
خلف (، )11
__________
( )1في ت ،أ " :ول هم".
( )2في ت " :يبلغ".
( )3في أ " :حال".
( )4في م ،أ " :عبيد ال".
( )5في أ " :عمرو".
( )6في ت " :روى الحافظ الطبراني بسنده".
( )7في ت " :عن".
( )8في ت " :قال".
( )9المعجم الكبير (.)2/290
( )10المعجم الكبير (.)4/24
( )11في أ " :حنيف".
( )7/344
به .وقال :كنا ثلثة ( )1رجال وتسع نسوة ،وفينا نزلت { :وَلَوْل رِجَالٌ ُم ْؤمِنُونَ وَنِسَاءٌ
ُم ْؤمِنَاتٌ }.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ،حدثنا عبد ال
بن عثمان بن جبلة ،عن أبي حمزة ( ، )2عن عطاء عن سعيد بن جبير ( ، )3عن ابن عباس :
{ َلوْ تَزَيّلُوا َل َعذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } يقول :لو تزيل الكفار من المؤمنين ،لعذبهم ال
عذابا أليما بقتلهم إياهم.
حمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ } ،وذلك حين أبوا أن يكتبوا "بسم
حمِيّةَ َ
ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ الْ َ
وقوله ِ { :إذْ َ
ال الرحمن الرحيم" ،وأبوا أن يكتبوا " :هذا ما قاضى عليه محمد رسول ال" { ،فَأَنزلَ اللّهُ
ن وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى } ،وهي قول " :ل إله إل ال" ،كما
سكِينَتَهُ عَلَى َرسُولِ ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
َ
قال ابن جرير ،وعبد ال ابن المام أحمد :حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري ،حدثنا
سفيان بن حبيب ،حدثنا شعبة ،عن ثوير ( ، )4عن أبيه عن الطفيل -يعني :ابن أبي بن كعب
([ )5رضي ال عنه] ( - )6عن أبيه [أنه] ( )7سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :
{ وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّتقْوَى } قال " :ل إله إل ال".
وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة ،وقال :غريب ل نعرفه إل من حديثه ،وسألت أبا
زُرْعَة عنه فلم يعرفه إل من هذا الوجه (.)8
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ،حدثنا عبد ال بن صالح ،حدثني الليث ،
حدثني عبد الرحمن بن خالد ،عن ابن شهاب ( ، )9عن سعيد بن المسيب ،أن أبا هريرة
أخبره ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا :ل إله إل
ال ،فمن قال :ل إله إل ال ،فقد عصم مني ماله ونفسه إل بحقه ،وحسابه على ال" ،وأنزل
ال في كتابه ،وذكر قوما فقال { :إِ ّنهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ َل ُه ْم ل إِلَهَ إِل اللّهُ يَسْ َتكْبِرُونَ } [الصافات :
حقّ ِبهَا وَأَهَْلهَا } وهي " :ل إله إل ال
، ]35وقال ال جل ثناؤه { :وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى َوكَانُوا أَ َ
،محمد رسول ال" ،فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون ( )10يوم الحديبية ،وكاتبهم
رسول ال صلى ال عليه وسلم على قضية المدة..
وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري ( ، )11والظاهر أنها مدرجة من كلم
الزهري ،وال أعلم.
وقال مجاهد { :كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى } :الخلص .وقال عطاء بن أبي رباح :هي ل إله إل ال وحده
ل شريك ،له له الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير.
__________
( )1في م " :ثلث".
( )2في أ " :عن أبي هريرة".
( )3في ت " :روى ابن أبي حاتم بسنده".
( )4في أ " :ثور".
( )5في ت " :كما روى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب".
( )6زيادة من ت.
( )7زيادة من ت ،م.
( )8تفسير الطبري ( )26/66وزوائد عبد ال على المسند ( )5/138وسنن الترمذي برقم (
.)3265
( )9في ت " :وروى بن أبي حاتم بسنده".
( )10في أ " :قريش".
( )11تفسير الطبري (.)26/66
( )7/345
وقال يونس بن بكير ،عن ابن إسحاق ،عن الزهري ،عن عروة ،عن المسور { :وَأَلْ َز َمهُمْ
كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى } قال :ل إله إل ال ،وحده ل شريك له.
وقال الثوري ،عن سلمة بن كهيل ،عن عَبَاية بن رِ ْبعِي ،عن علي { :وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى }
قال :ل إله إل ال ،وال أكبر .وكذا قال ابن عمر ،رضي ال عنهما.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس قوله { :وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّتقْوَى } قال :يقول :شهادة أن
ل إله إل ال ،وهي رأس كل تقوى.
وقال سعيد بن جبير { :وَأَلْ َز َمهُمْ كَِل َمةَ ال ّت ْقوَى } قال :ل إله إل ال والجهاد في سبيله.
وقال عطاء الخراساني :هي :ل إله إل ال ،محمد رسول ال.
وقال عبد ال بن المبارك ،عن َم ْعمَر عن الزهري { :وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّتقْوَى } قال :بسم ال
الرحمن الرحيم.
وقال قتادة { :وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّتقْوَى } قال :ل إله إل ال.
حقّ ِبهَا وَأَهَْلهَا } :كان المسلمون أحق بها ،وكانوا أهلها.
{ َوكَانُوا أَ َ
شيْءٍ عَلِيمًا } أي :هو عليم بمن يستحق الخير من يستحق الشر.
{ َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
وقد قال النسائي :حدثنا إبراهيم بن سعيد ،حدثنا شبابة بن سوار ،عن أبي رزين ،عن عبد ال
بن العلء بن زبر ،عن بسر بن عبيد ال ،عن أبي إدريس ،عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ { :
حمِيّةَ ا ْلجَاهِلِيّةِ } [الفتح ، ]26 :ولو حميتم كما حموا لفسد
حمِيّةَ َ
ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل َ
إِذْ َ
المسجد الحرام .فبلغ ذلك عمر فأغلظ له ،فقال :إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول ال صلى
ال عليه وسلم فيعلمني مما علمه ال .فقال عمر :بل أنت رجل عندك علم وقرآن ،فاقرأ وعلم
مما علمك ال ورسوله (.)1
وهذا ذكر الحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح :
قال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا محمد بن إسحاق بن يَسَار ،عن الزهري ،عن
عُ ْروَة بن الزبير ،عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قال خرج رسول ال صلى ال عليه
وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ،ل يريد قتال وساق معه الهدي سبعين بدنة ،وكان الناس
سبعمائة رجل ،فكانت كل بدنة عن عشرة ،وخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى إذا كان
بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي ( ، )2فقال :يا رسول ال ،هذه قريش قد سمعت بمسيرك
فخرجت معها العُوذ المطافيل ،قد لبست جلود النمور ،يعاهدون ال أل تدخلها عليهم عنوة أبدًا ،
وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب ،ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر
__________
( )1النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11505
( )2في ت " :بشر بن كعب الكلبي".
( )7/346
الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ،وإن أظهرني ال [عليهم] ( )1دخلوا في السلم وهم
وافرون ،وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ،فماذا تظن قريش ؟ فوال ل أزال أجاهدهم على الذي
بعثني ال به حتى يظهرني ال أو تنفرد هذه السالفة" .ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري
الحمض على طريق تخرجه ( )2على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة .قال :فسلك بالجيش
تلك الطريق ،فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ،ركضوا راجعين إلى
قريش ،فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حتى إذا سلك ثنية المرار ،بركت ناقته ،فقال
الناس :خلت .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما خلت ،وما ذلك ( )3لها بخلق ،
ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ،وال ل تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة
الرحم ،إل أعطيتهم إياها" [ثم] ( )4قال للناس " :انزلوا" .قالوا :يا رسول ال ،ما بالوادي من
ماء ينزل عليه الناس .فأخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم سهمًا من كنانته فأعطاه رجل من
أصحابه ،فنزل في قليب من تلك القلب ،فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
فلما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إذا بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة ،فقال لهم
كقوله لبشر بن سفيان ،فرجعوا إلى قريش فقالوا :يا معشر قريش ،إنكم تعجلون على محمد ،
وإن محمدًا لم يأت لقتال ،إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه ،فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق :قال الزهري [ :و] ( )5كانت خزاعة في عَيْبَة رسول ال صلى ال عليه
وسلم مشركها ومسلمها ،ل يخفون على رسول ال صلى ال عليه وسلم شيئًا كان بمكة ،فقالوا :
وإن كان إنما جاء لذلك فوال ل يدخلها أبدًا علينا عَنْوة ،ول يتحدث بذلك العرب .ثم بعثوا إليه
ِمكْرَز بن حفص ،أحد بني عامر بن لؤي ،فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :هذا
رجل غادر" .فلما انتهى إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم كلمه رسول ال صلى ال عليه وسلم
بنحو ما كَلّم به أصحابه ،ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول ال [صلى ال عليه
وسلم] ( )6؛ فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني ،وهو يومئذ سيد الحابيش ،فلما رآه رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال " :هذا من قوم يتألهون ،فابعثوا الهَدْي" في وجهه ،فبعثوا الهدي ،
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلئده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله
،رجع ولم يصل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم إعظامًا لما رأى ( ، )7فقال :يا معشر
قريش ،قد رأيت ما ل يحل صَده ،الهدي في قلئده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله.
قالوا :اجلس ،إنما أنت أعرابي ل علم لك .فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي ،فقال :يا معشر
قريش ،إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم ،من التعنيف وسوء اللفظ ،
وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد ،وقد سمعت بالذي نابكم ،فجمعت من أطاعني من قومي ،ثم
جئت حتى آسيتكم بنفسي .قالوا :صدقت ما أنت عندنا بمتهم .فخرج ( )8حتى أتى رسول ال
صلى ال عليه وسلم فجلس بين يديه ،فقال :يا محمد جمعت أوباش الناس ،ثم جئت بهم
لبيضتك لتفضها ،إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ،قد لبسوا جلود النمور ،يعاهدون
ال
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في أ " :يحرصه".
( )3في ت " :وما ذاك".
( )4زيادة من ت ،م ،أ.
( )5زيادة من ت ،م.
( )6زيادة من ت ،م.
( )7في ت " :فلما رجع إلى أصحابه".
( )8في أ " :ثم خرج".
( )7/347
أل تدخلها عليهم عنوة أبدا ،وايم ال لكأني بهؤلء قد انكشفوا عنك غدا .قال :وأبو بكر قاعد
خلف رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :امصص بظر اللت! أنحن ننكشف عنه ؟! قال :
من هذا يا محمد ؟ قال " :هذا ابن أبي قحافة" .قال :أما وال لول يد كانت لك عندي لكافأتك
بها ،ولكن هذه بها .ثم تناول لحية رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والمغيرة بن شعبة واقف
على رأس رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديد ( ، )1قال :فقرع يده .ثم قال :أمسك يدك
عن لحية رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل -وال -ل تصل إليك .قال :ويحك! ما أفظعك
وأغلظك! فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم .قال :من هذا يا محمد ؟ قال صلى ال عليه
وسلم " :هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة" .قال :أغدر ،وهل غسلت سوأتك إل بالمس ؟! قال
فكلمه رسول ال صلى ال عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه ،وأخبره أنه لم يأت يريد حربا.
قال :فقام من عند رسول ال [صلى ال عليه وسلم] ( )2وقد رأى ما يصنع به أصحابه ،ل
يتوضأ وضوءا إل ابتدروه ،ول يبصق بصاقا إل ابتدروه ،ول يسقط من شعره شيء إل أخذوه.
فرجع إلى قريش فقال :يا معشر قريش ،إنى جئت كسرى في ملكه ،وجئت قيصر والنجاشي
في ملكهما ،وال ما رأيت مَلكا قط مثل محمد في أصحابه ،ولقد رأيت قوما ل يسلمونه لشيء
أبدا ،فروا رأيكم .قال :وقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل ذلك قد بعث خراش بن
أمية الخزاعي إلى مكة ،وحمله على جمل له يقال له " :الثعلب" فلما دخل مكة عقرت ( )3به
قريش ،وأرادوا قتل خراش ،فمنعتهم الحابيش ،حتى أتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
فدعا عمر ليبعثه إلى مكة ،فقال :يا رسول ال ،إنى أخاف قريشا على نفسي ،وليس بها من
بني عدي أحد يمنعني ،وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ،ولكن أدلك على رجل
هو أعز مني :عثمان بن عفان .قال :فدعاه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فبعثه إلى قريش
يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد ،وإنما جاء زائرا لهذا البيت ،معظما لحرمته .فخرج عثمان حتى
أتى مكة ،فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ،فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه ،وأجاره
حتى بلغ رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء
قريش ،فبلغهم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ما أرسله به ،فقالوا لعثمان :إن شئت أن
تطوف بالبيت فطف به ،فقال :ما كنت لفعل حتى يطوف به رسول ال [صلى ال عليه وسلم] (
)4قال :واحتبسته قريش عندها ،قال :وبلغ رسول ال أن عثمان قد قتل.
قال محمد :فحدثني الزهري :أن قريشًا بعثوا سهل بن عمرو ،وقالوا :ائت محمدًا فصالحه ول
يكون في صلحه إل أن يرجع عنا عامه هذا ،فوال ل تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا.
فأتاه سهل بن عمرو فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :قد أراد القوم الصلح حين
بعثوا هذا الرجل" .فلما انتهى إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم تكلما وأطال الكلم ،وتراجعا
حتى جرى بينهما الصلح ،فلما التأم المر ولم يبق إل الكتاب ،وثب عمر بن الخطاب فأت أبا
بكر فقال :يا أبا بكر ،أو ليس برسول ال ؟ أو لسنا بالمسلمين ؟ أو ليسوا بالمشركين ؟ قال :
بلى .قال :فعلم نعطي الذلة في ديننا ؟ فقال أبو بكر :يا عمر ،
__________
( )1في ت " :بالحدد".
( )2زيادة من ت ،أ.
( )3في ت " :عثرت".
( )4زيادة من ت ،أ.
( )7/348
الزم غرزه حيث كان ،فإني أشهد أنه رسول ال[ .ثم] ( )1قال عمر :وأنا أشهد .ثم أتى رسول
ال فقال :يا رسول ال ،أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين ؟ قال " :بلى" قال :فعلم نعطي
الذلة في ديننا ؟ فقال " :أنا عبد ال ورسوله ،لن أخالف أمره ولن يضيعني" .ثم قال عمر :ما
زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من ( )2الذي صنعت مخافة كلمي الذي تكلمت به يومئذ
حتى رجوت أن يكون خيرا .قال :ثم دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم علي بن أبي طالب
[رضي ال عنه] ( )3فقال :اكتب " :بسم ال الرحمن الرحيم" .فقال سهل بن عمرو :ول أعرف
هذا ،ولكن اكتب " :باسمك اللهم ،فقال رسول ال " :اكتب باسمك اللهم .هذا ما صلح ( )4عليه
محمد رسول ال ،سهل بن عمرو" ،فقال سهل بن عمرو :ولو شهدت أنك رسول ال لم
أقاتلك ،ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد ال ،وسهل بن عمرو ،على وضع
الحرب عشر سنين ،يأمن فيها الناس ،ويكف بعضهم عن بعض ،على أنه من أتى رسول ال (
)5من أصحابه بغير إذن وليه ،رده عليهم ،ومن أتى قريشا ممن مع رسول ال صلى ال عليه
وسلم ( )6لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة ،وأنه ل أسلل ول أغلل ،وكان في شرطهم
حين كتبوا الكتاب :أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده ،دخل فيه ،ومن أحب أن يدخل
في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ،فتواثبت خزاعة فقالوا :نحن في عقد رسول ال وعهده ،
وتواثبت بنو بكر فقالوا :نحن في عقد قريش وعهدهم ،وأنك ترجع عنا عامنا هذا فل تدخل
علينا مكة ،وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك ،وأقمت بها ثلثًا معك سلح
الراكب ل تدخلها بغير السيوف في القرب ،فبينا رسول ال صلى ال عليه وسلم يكتب الكتاب ،
إذا جاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ()7
قال :وقد كان أصحاب رسول ال خرجوا وهم ل يشكون في الفتح ،لرؤيا رآها رسول ال صلى
ال عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ،وما تحمل رسول ال [صلى ال عليه
وسلم] ( )8على نفسه ،دخل الناس من ذلك أمر عظيم ،حتى كادوا أن يهلكوا .فلما رأى سهل أبا
جندل قام إليه فضرب وجهه وقال :يا محمد ،قد لجّت ( )9القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك
هذا .قال " :صدقت" .فقام إليه فأخذ بتلبيبه .قال :وصرخ أبو جندل بأعلى صوته :يا معشر
المسلمين ،أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ قال :فزاد الناس شرا إلى ما بهم ،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا أبا جندل ،اصبر واحتسب ،فإن ال جاعل لك ولمن
معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا ،إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك
وأعطونا عليه عهدا ( ، )10وإنا لن نغدر بهم" .قال :فوثب إليه عمر بن الخطاب فجعل يمشي
مع [أبي] ( )11جندل إلى جنبه وهو يقول :اصبر أبا جندل ،فإنما هم المشركون ،وإنما دم
أحدهم دم كلب ،قال :ويدني قائم السيف منه ،قال :يقول :رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به
أباه قال :فضن الرجل بأبيه .قال :ونفذت القضية ،فلما فرغا من الكتاب ،وكان رسول ال
صلى ال عليه وسلم يصلي في الحرم ،وهو مضطرب في الحل ،قال :فقام رسول ال صلى
ال عليه وسلم فقال " :يا أيها الناس ،انحروا ( )12واحلقوا" .قال :فما قام أحد .قال :ثم عاد
بمثلها ،فما قام رجل حتى عاد صلى ال عليه وسلم بمثلها ،فما قام رجل.
فرجع رسول ال صلى ال عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال " :يا أم سلمة ما شأن الناس ؟"
قالت :يا رسول ال ،قد دخلهم ما رأيت ،فل ُتكَلّمن ( )13منهم إنسانًا ،واعمد إلى هديك حيث
كان فانحره واحلق ،فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك .فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ل
يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره ،ثم جلس فحلق ،قال :فقام الناس ينحرون ويحلقون .قال :حتى
إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح.
هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه ،وهكذا رواه يونس بن ُبكَيْر وزياد البكائي ،عن ابن إسحاق ،
بنحوه ( ، )14وفيه إغراب ،وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن الزهري ،به
نحوه ( )15وخالفه في أشياء وقد رواه البخاري ،رحمه ال ،في صحيحه ،فساقه سياقة ()16
حسنة مطولة بزيادات جيدة ،فقال في كتاب الشروط ( )17من صحيحه :
حدثنا عبد ال بن محمد ،حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر :أخبرني الزهري :أخبرني عُرْوة
بن الزبير ،عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ،يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ،
قال خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ،فلما
أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره ،وأحرم منها بعمرة وبعث عينًا له من خزاعة ،وسار حتى إذا
كان بغير الشطاط أتاه عينه ،فقال :إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا ،وقد جمعوا لك الحابيش
وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك .فقال " :أشيروا أيها الناس عليّ ،أترون أن نميل عل عيالهم ،
وذراري هؤلء الذين يريدون أن صدونا عن البيت ؟" وفي لفظ " :أترون أن نميل على ذراري
هؤلء الذين أعانوهم .فإن يأتونا كان ال قد قطع عُنُقا من المشركين وإل تركناهم محزونين" ،
وفي لفظ " :فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرُوبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها ال ،أم
ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟" .فقال أبو بكر [رضي ال عنه] ( : )18يا رسول ال
خرجت عامدًا لهذا البيت ،ل نريد قتل أحد ول حربًا ،فتوجه له ،فمن صدنا عنه قاتلناه .وفي
لفظ :فقال أبو بكر ،رضي ال عنه :ال ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ،ولم نجئ لقتال أحد ،
ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :فروحوا إذن" ،وفي لفظ
" :فامضوا على اسم ال".
حتى إذا كانوا ببعض الطريق ،قال النبي صلى ال عليه وسلم " :إن خالد بن الوليد في خيل
لقريش طليعة ،
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )2في ت " :عن".
( )3زيادة من ت.
( )4في أ " :ما صالح".
( )5في أ " :محمدا".
( )6زيادة من ت.
( )7زيادة من ت.
( )8زيادة من ت ،أ.
( )9في ت ،أ " :تمت".
( )10في ت ،م ،أ " :عهدنا".
( )11زيادة من ت ،م ،أ.
( )12في ت ،أ " :انحروا في الحرم".
( )13في ت ،أ " :فل تكلمن".
( )14المسند ( )4/323والسيرة النبوية لبن هشام (.)2/316
( )15رواه أحمد في مسنده ( )4/328من طريق عبد الرزاق به.
( )16في م " :بسياقات".
( )17في ت ،م " :الشرط".
( )18زيادة من أ.
( )7/349
فخذوا ذات اليمين" .فوال ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش ،فانطلق يركض نذيرًا
لقريش ،وسار النبي صلى ال عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ،بركت به
راحلته .فقال الناس :حل حل فألحت ،فقالوا :خلت القصواء ،خلت القصواء ،فقال النبي
صلى ال عليه وسلم " :ما خلت القصواء ،وما ذاك لها بخلق ،ولكن حبسها حابس الفيل" .ثم
قال " :والذي نفسي بيده ،ل يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات ال ،إل أعطيتهم إياها" .ثم
زجرها فوثبت ،فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ،يتبرضه الناس
تبرضًا ،فلم يلبث ( )1الناس حتى نزحوه ،وشكي ( )2إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم
العطش ،فانتزع من كنانته سهمًا ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ،فوال ما زال يجيش لهم بالري حتى
صدروا عنه ،فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة ،
وكانوا عيبة نصح رسول ال [صلى ال عليه وسلم] ( )3من أهل تهامة ،فقال :إني تركت كعب
بن لؤي وعامر بن لؤي ،نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ،وهم مقاتلوك
وصادوك عن البيت .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :إنا لم نجئ لقتال أحد ،ولكن جئنا
معتمرين ،وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم ،فإن شاؤوا ماددنهم مدة ويخلوا بيني وبين
الناس ،فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ،وإل فقد جموا ،وإن هم أبوا
فوالذي نفسي بيده لقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ،ولينفذن ( )4ال أمره" قال بديل :
سأبلغهم ما تقول ،فانطلق حتى أتى قريشا فقال :إنا قد جئنا من عند هذا الرجل ،وسمعناه يقول
قول فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ،فقال سفهاؤهم :ل حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء .وقال
:ذوو الرأي منهم :هات ما سمعته يقول :قال :سمعته يقول كذا وكذا ،فحدثهم بما قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،فقام عروة بن مسعود فقال :أي قوم ،ألستم بالوالد ؟ قالوا :بلى .قال
:أولست بالولد ؟ قالوا :بلى .قال :فهل تتهموني ؟ قالوا :ل .قال :ألستم تعلمون أني أستنفرت
أهل عكاظ ،فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا :بلى .قال :فإن هذا قد
عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته .قالوا :ائته .فأتاه فجعل يكلم رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء .فقال عروة عند
ذلك :أي محمد ،أرأيت إن استأصلت أمر قومك ،هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك
؟ وإن تك الخرى فإني وال لرى وجوها ،وإني لرى أشوابا ( )5من الناس خليقا أن يفروا
ويدعوك ،فقال أبو بكر ،رضي ال عنه :امصص بَظْر اللت! أنحن نفر وندعه ؟! قال :من
ذا ؟ قالوا :أبو بكر .قال :أما والذي نفسي بيده لول يد كانت لك عندي لم أجزك بها ،لجبتك.
قال :وجعل يكلم النبي صلى ال عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته ،والمغيرة بن شعبة ،رضي
ال عنه قائم على رأس النبي صلى ال عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ،فكلما أهوى عروة
بيده إلى لحية النبي صلى ال عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ،وقال له :أخر يدك من لحية
النبي صلى ال عليه وسلم .فرفع عروة رأسه وقال :من هذا ؟ قال :المغيرة بن شعبة .فقال :
أي غدر ،ألست أسعى في غدرتك ؟! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم
وأخذ أموالهم ،ثم جاء فأسلم ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أما السلم فأقبل ،وأما المال
فلست منه في شي".
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم بعينيه ( ، )6قال :فوال ما تنخم
رسول ال [صلى ال عليه وسلم] ( )7نخامة إل وقعت في كف رجل منهم ،فدلك بها وجهه
وجلده ،وإذا أمرهم ابتدروا أمره ،وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم خفضوا
أصواتهم عنده ،وما يحدون النظر إليه ،تعظيما له صلى ال عليه وسلم ،فرجع عروة إلى
أصحابه فقال :أي قوم ،وال لقد وفدت على الملوك ،ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ،
وال إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا ،وال إن تنخم نخامة إل
وقعت في كف رجل منهم ،فدلك بها وجهه وجلده ،وإذا أمرهم ابتدروا أمره ،وإذا توضأ كادوا
يقتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ،وما يُحدون النظر إليه تعظيما له ،وإنه
قد عرض عليكم خطة رشْد فاقبلوها .فقال رجل منهم من بني كنانة :دعوني آته .فقالوا :ائته
فلما أشرف على النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،قال النبي صلى ال عليه وسلم " :هذا
فلن ،وهو من قوم يعظمون البُدْن ،فابعثوها له" ف ُبعِ َثتْ له ،واستقبله الناس يُلَبّون ،فلما رأى
ذلك قال :سبحان ال! ما ينبغي لهؤلء أن يصدوا عن البيت .فلما رجع إلى أصحابه قال :رأيت
البُدْن قد قُلّدت وأشعرت ،فما أرى أن ُيصَدّوا عن البيت .فقال ( )8رجل منهم يقال له ِ " :مكْرَز
بن حفص" ،فقال :دعوني آته .فقالوا :ائته .فلما أشرف عليهم قال النبي صلى ال عليه وسلم :
"هذا مكرز [بن حفص] ( )9وهو رجل فاجر" ،فجعل يكلم النبي صلى ال عليه وسلم ،فبينما هو
يكلمه إذ جاء سهل بن عمرو.
عكْ ِرمَةَ أنه قال :لما جاء سهل بن عمرو قال النبي صلى ال
وقال معمر :أخبرني أيوب ،عن ِ
سهُل لكم من أمركم".
عليه وسلم " :قد َ
قال معمر :قال الزهري في حديثه :فجاء سهل بن عمرو فقال :هات أكتب بيننا وبينك ()10
كتابا فدعا النبي صلى ال عليه وسلم الكاتب ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم [" :اكتب] (: )11
بسم ال الرحمن الرحيم" ،فقال سهل [بن عمرو] ( : )12أما "الرحمن" فوال ما أدري ما هو ،
ولكن اكتب " :باسمك اللهم" ،كما كنت تكتب .فقال المسلمون :وال ل نكتبها إل "بسم ال
الرحمن الرحيم" .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :اكتب :باسمك اللهم" .ثم قال " :هذا ما قاضى
عليه محمد رسول ال" .فقال سهل :وال لو كنا نعلم أنك رسول ال ما صددناك عن البيت ول
قاتلناك ،ولكن اكتب " :محمد بن عبد ال" ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :وال إني لرسول
ال وإن كذبتموني .اكتب محمد بن عبد ال" قال الزهري :وذلك لقوله " :وال ل يسألوني خطة
يعظمون فيها حرمات ال إل أعطيتهم إياها" .فقال له النبي صلى ال عليه وسلم " :على أن تخلوا
ضغْطَةً ،ولكن ذلك من
بيننا وبين البيت فنطوف به" .فقال سهل :وال ل تتحدث العرب أنا أخذنا ُ
العام المقبل ،فكتب ،فقال سهل " :وعلى أن ل يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إل رددته
إلينا" .فقال المسلمون :سبحان ال! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟! فبينما هم كذلك إذ
جاء أبو جندل بن سهل
__________
( )1في ت ،م " :يلبثه".
( )2في أ " :شكوا".
( )3زيادة من م.
( )4في ت ،م " :أو لينفذن".
( )5في أ " :أوشابا".
( )6في ت " :بعينه".
( )7زيادة من ت.
( )8في أ " :فقام".
( )9زيادة من أ.
( )10في ت " :بينكم".
( )11زيادة من أ.
( )12زيادة من ت ،م.
( )7/351
سفُ في قيوده قد ( )1خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ،
بن عمرو ير ُ
فقال سهل :هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تَرُدّه إلي ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم :
"إنا لم َن ْقضِ الكتاب بعد" .قال :فوال إذًا ل أصالحك على شيء أبدا .فقال النبي صلى ال عليه
وسلم " :فأجزه لي" فقال :ما أنا بمجيز ذلك لك ،قال " :بلى فافعل" .قال :ما أنا بفاعل .قال
مكرز :بلى قد أجزناه لك .قال أبو جندل :أي معشر المسلمين ،أرَدّ إلى المشركين وقد جئت
مسلما ؟ أل ترون ما قد لقيت ؟! وكان قد عُ ّذبَ عذابا شديدا في ال عز وجل .قال عمر [بن
الخطاب] ( )2رضي ال عنه :فأتيت نبي ال صلى ال عليه وسلم ،فقلت :ألست نبي ال حقا ؟
قال صلى ال عليه وسلم " :بلى" .قلت :ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال " :بلى" .قلت
:فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال " :إني رسول ال ،ولستُ أعصيه ،وهو ناصري" ،قلت :
أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال " :بلى ،أفأخبرتك أنا نأتيه ( )3العام ؟"
قلت :ل قال " :فإنك آتيه ومُطوّف به" .قال :فأتيت أبا بكر فقلت :يا أبا بكر أليس هذا نبي ال
حقا ؟ قال :بلى .قلت :ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال :بلى .قلت :فلم نعطي
الدنية في ديننا إذا ؟ قال :أيها الرجل ،إنه رسول ال ،وليس يعصي ربه ،وهو ناصره ،
فاستمسك بغَرْزه ،فوال إنه على الحق .قلت :أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟
قال :بلى قال :أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت :ل .قال :فإنك تأتيه وتطوف به.
قال الزهري :قال عمر :فعملت لذلك أعمال .قال :فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول ()4
ال صلى ال عليه وسلم لصحابه " :قوموا فانحروا ثم احلقوا" .قال :فوال ما قام منهم رجل
حتى قال ذلك ثلث مرات!! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة ،فذكر لها ما لقي من الناس
،قالت له أم سلمة :يا نبي ال ،أتحب ذلك ؟ اخرج ثم ل تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك
وتدعو حالقك فيحلقك ،فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ،نحر بدنه ،ودعا حالقه فحلقه ،
فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا ،حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ،ثم
جاءه نسوة مؤمنات ،فأنزل ال ،عز وجل { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَا َء ُكمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ
ُمهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ ِ { :ب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } [الممتحنة .]10 :فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في
الشرك ،فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ،والخرى صفوان بن أمية .ثم رجع النبي صلى
ال عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير -رجل من قريش -وهو مسلم ،فأرسلوا في طلبه
رجلين ،فقالوا :العهد الذي جعلت لنا ،فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ،
فنزلوا يأكلون من تمر لهم ،فقال أبو بصير لحد الرجلين :وال إني لرى سيفك هذا يا فلن
جيدًا ،فاستله الخر ،فقال :أجل! وال إنه لجيد ،لقد جربت منه ثم جربت ،فقال أبو بصير :
أرني أنظر إليه ،فأمكنه منه فضربه حتى بَرَد ،وفَرّ الخر حتى أتى المدينة ،فدخل المسجد
يعدو ،فقال رسول ال ( )5صلى ال عليه وسلم حين رآه " :لقد رأى هذا ذُعرًا" ،فلما انتهى إلى
النبي صلى ال عليه وسلم قال :
__________
( )1في ت " :حتى".
( )2زيادة من ت.
( )3في ت " :أنك تأتيه".
( )4في ت " :النبي".
( )5في م " :االنبي".
( )7/353
قتل وال صاحبي ،وإني لمقتول .فجاء أبو بصير فقال :يا رسول ال ،قد -وال -أوفى ال
سعَرُ
ذمتك ،قد رددتني إليهم ثم نجاني ال منهم ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :ويل أمّه مِ ْ
حرب! لو كان له أحد" .فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ،فخرج حتى أتى سيف البحر ،قال
:وتفلت منهم أبو جندل بن سهل ،فلحق بأبي بصير ،فجعل ل يخرج من قريش رجل قد أسلم
إل لحق بأبي بصير ،حتى اجتمعت منهم عصابة ،فوال ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى
الشام إل اعترضوا لها فقتلوهم ،وأخذوا أموالهم .فأرسلت قريش إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،
تناشده ال والرحم لما أرسل إليهم " :فمن أتاه منهم فهو آمن" .فأرسل النبي صلى ال عليه وسلم
إليهم ،وأنزل ال عز وجل { :وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَ ْنكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ عَ ْنهُمْ بِ َبطْنِ َمكّةَ } حتى بلغ :
حمِيّةَ ا ْلجَاهِلِيّةِ } ،وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول ال ولم يقروا ببسم ال الرحمن
{ َ
الرحيم ،وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا ساقه البخاري هاهنا ( ، )1وقد أخرجه في التفسير ،وفي عمرة الحديبية ،وفي الحج ،
وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة ،كلهما عن الزهري ،به ( )2ووقع في بعض
سوَر بن [مَخْرَمة] ( ، )3عن رجال من
الماكن عن الزهري ،عن عروة ،عن مروان والمِ ْ
أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم بذلك ( .)4وهذا أشبه وال أعلم ،ولم يسقه أبسط من هاهنا ،
وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع ،وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا ،
ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه ،وال المستعان وعليه التكلن ،ول حول ول قوة إل بال العزيز
الحكيم.
وقال البخاري في التفسير :حدثنا أحمد بن إسحاق السَّلمِي ،حدثنا يعلى ،حدثنا عبد العزيز بن
سياه ،عن حبيب بن أبي ثابت ،قال :أتيت أبا وائل أسأله فقال :كنا بصفين فقال رجل :ألم تر
إلى الذين يدعون إلى كتاب ال ؟ فقال علي بن أبي طالب :نعم .فقال سهل بن حُنَيْف :اتهمُوا
أنفسكم ،فلقد رأيتنا يوم الحديبية -يعني :الصلح الذي كان بين النبي صلى ال عليه وسلم
والمشركين -ولو نرى قتال لقاتلنا ،فجاء عمر فقال :ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس
قتلنا في الجنة وقتلهم في النار ؟ فقال " :بلى" قال :ففيم نعطي الدنية في ديننا ،ونرجع ولما
يحكم ال بيننا ؟ فقال " :يا ابن الخطاب ،إني رسول ال ،ولن يضيعني ال أبدا" ،فرجع
متغيظا ،فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال :يا أبا بكر ،ألسنا على الحق وهم على الباطل ،فقال
:يا ابن الخطاب ،إنه رسول ال ،ولن يضيعه ال أبدا ،فنزلت سورة الفتح (.)5
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان (
)6
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)2732 ، 2731
( )2صحيح البخاري برقم (.)4180
( )3زيادة من م.
( )4رواه البخاري في صحيحه في أول الشروط برقم (.)2711
( )5صحيح البخاري برقم (.)4844
( )6في هـ " :شقيق".
( )7/354
سكُمْ
جدَ ا ْلحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ َآمِنِينَ مُحَّلقِينَ رُءُو َ
َلقَ ْد صَ َدقَ اللّهُ َرسُولَهُ ال ّرؤْيَا بِا ْلحَقّ لَ َتدْخُلُنّ ا ْلمَسْ ِ
سلَ
ج َعلَ مِنْ دُونِ ذَِلكَ فَتْحًا قَرِيبًا (ُ )27هوَ الّذِي أَرْ َ
َومُ َقصّرِينَ لَا تَخَافُونَ َفعَلِمَ مَا لَمْ َتعَْلمُوا فَ َ
شهِيدًا ()28
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه َوكَفَى بِاللّهِ َ
رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِ ُي ْ
ابن سلمة ،عن سهل ( )1بن حنيف به ( ، )2وفي بعض ألفاظه " :يا أيها الناس ،اتهموا الرأي ،
فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول ال صلى ال عليه وسلم أمره
لرددته" وفي رواية :فنزلت سورة الفتح ،فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عمر بن الخطاب
فقرأها عليه.
قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا حماد ،عن ثابت ،عن أنس ،أن قريشا صالحوا النبي
صلى ال عليه وسلم ،فيهم سهل بن عمرو ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم لعلي " :اكتب :بسم
ال الرحمن الرحيم" ،فقال سهل :ل ندري ما بسم ال الرحمن الرحيم ،ولكن اكتب ما نعرف :
"باسمك اللهم" .فقال " :اكتب من محمد رسول ال" .قال :لو نعلم ( )3أنك رسول ال لتبعناك ،
ولكن اكتب :اسمك واسم أبيك .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :اكتب :من محمد بن عبد ال".
واشترطوا على النبي صلى ال عليه وسلم أن ( )4من جاء منكم لم نرده عليكم ،ومن جاءكم منا
رددتموه علينا ،فقال :يا رسول ال أتكتب هذا ؟ قال " :نعم ،إنه من ذهب منا إليهم فأبعده ال".
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ،به (.)5
وقال أحمد أيضا :حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا عكرمة بن عمار قال :حدثني سماك ،
عن عبد ال بن عباس قال :لما خرجت الحرورية اعتزلوا ،فقلت لهم :إن رسول ال صلى ال
عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين ،فقال لعلي " :اكتب يا علي :هذا ما صالح عليه محمد
رسول ال" قالوا :لو نعلم أنك رسول ال ما قاتلناك ،فقال رسول ال " :امح يا علي ،اللهم إنك
تعلم أني رسولك ،امح يا علي ،واكتب :هذا ما صالح عليه محمد بن عبد ال" .وال لرسول ال
خير من علي ،وقد محا نفسه ،ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة ،أخرجت من هذه ؟ قالوا :
نعم.
ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي ،بنحوه (.)6
وروى المام أحمد ،عن يحيى بن آدم :حدثنا زهير ،عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،
عن الحكم ،عن ِمقْسَم ،عن ابن عباس ،رضي ال عنهما ،قال :نحر رسول ال صلى ال
عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لبي جهل ،فلما صُدّت عن البيت حَ ّنتْ كما َتحِنّ
إلى أولدها (.)7
سكُمْ
حّلقِينَ ُرءُو َ
سجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُ َ
حقّ لَتَ ْدخُلُنّ ا ْلمَ ْ
صدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ ال ّرؤْيَا بِالْ َ
{ َلقَ ْد َ
سلَ
ج َعلَ مِنْ دُونِ ذَِلكَ فَ ْتحًا قَرِيبًا (ُ )27هوَ الّذِي أَرْ َ
َومُ َقصّرِينَ ل َتخَافُونَ َفعَلِمَ مَا َلمْ َتعَْلمُوا َف َ
شهِيدًا (.} )28
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه َوكَفَى بِاللّهِ َ
رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِ ُي ْ
__________
( )1في م " :سهل".
( )2صحيح البخاري برقم ( )3182 ، 4189 ، 7308 ، 3181وصحيح مسلم برقم ()1785
والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11504
( )3في م " :علمنا".
( )4في م " :أنه".
( )5المسند ( )3/268وصحيح مسلم برقم (.)1784
( )6المسند ( )1/342وسنن أبي داود برقم (.)4037
( )7المسند (.)1/314
( )7/355
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أُ ِرىَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه
بذلك وهو بالمدينة ،فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر ( )1هذا
العام ،فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل ،وقع في
نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء ،حتى سأل عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،في ذلك ،
فقال له فيما قال :أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال " :بلى ،أفأخبرتك أنك تأتيه
( )2عامك هذا" قال :ل قال " :فإنك آتيه ومطوف به" .وبهذا أجاب الصديق ،رضي ال عنه ،
سجِدَ
حقّ لَتَ ْدخُلُنّ ا ْلمَ ْ
حذْو القُذّة بالقُذّة ؛ ولهذا قال تعالى َ { :لقَ ْد صَ َدقَ اللّهُ رَسُولَهُ ال ّرؤْيَا بِالْ َ
أيضا َ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ } [ :و] ( )3هذا لتحقيق الخبر وتوكيده ،وليس هذا من الستثناء في شيء ،
سكُ ْم َو ُم َقصّرِينَ } ،حال
[وقوله] ( { : )4آمِنِينَ } أي :في حال دخولكم .وقوله { :مُحَّلقِينَ رُءُو َ
مقدرة ؛ لنهم في حال حرمهم ( )5لم يكونوا محلقين ومقصرين ،وإنما كان هذا في ثاني الحال ،
كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره ،وثبت في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :رحم ال المحلقين" ،قالوا :والمقصرين يا رسول ال ؟ قال " :رحم ال المحلقين".
قالوا :والمقصرين يا رسول ال ؟ قال " :رحم ال المحلقين" .قالوا :والمقصرين يا رسول ال ؟
قال " :والمقصرين" في الثالثة أو الرابعة (.)6
وقوله { :ل تَخَافُونَ } :حال مؤكدة في المعنى ،فأثبت لهم المن حال الدخول ،ونفى عنهم
الخوف حال استقرارهم في البلد ل يخافون من أحد .وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة
سنة سبع ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة
فأقام بها ذا الحجة والمحرم ،وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها ال عليه بعضها عنوة وبعضها
صلحا ،وهي إقليم عظيم كثير النخل ( )7والزروع ،فاستخدم ( )8من فيها من اليهود عليها على
الشطر ،وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ،ولم يشهدها أحد غيرهم إل الذين قدموا من الحبشة ،
جعفر بن أبي طالب وأصحابه ،وأبو موسى الشعري وأصحابه ،ولم يغب منهم أحد ،قال ابن
سمَاك بن خَرَشَة ،كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة ،فلما كان
زيد :إل أبا دجانة ِ
في ذي القعدة [في] ( )9سنة سبع خرج إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية ،فأحرم من ذي
الحليفة ،وساق معه الهدي ،قيل :كان ستين بدنة ،فلبى وسار أصحابه يلبون .فلما كان قريبا
من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلح أمامه ،فلما رآه المشركون رعبوا رعبا
شديدا ،وظنوا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يغزوهم ،وأنه قد نكث العهد الذي بينه بينهم
من وضع القتال عشر سنين ،وذهبوا فأخبروا أهل مكة ،فلما جاء رسول ال صلى ال عليه
وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ،بعث السلح من القسي والنبل والرماح
إلى بطن يأجج ،وسار إلى مكة بالسيف مغمدة في قربها ،كما شارطهم عليه .فلما كان في أثناء
الطريق بعثت قريش ِمكْرَز
__________
( )1في أ " :تتعين".
( )2في ت ،م " :آتيه".
( )3زيادة من ت.
( )4زيادة من ت ،أ.
( )5في م ،أ " :دخولهم".
( )6صحيح البخاري برقم ( )1727وصحيح مسلم برقم ( )1301من حديث عبد ال بن عمر
رضي ال عنهما.
( )7في أ " :النخيل".
( )8في ت " :واستخدم".
( )9زيادة من ت.
( )7/356
بن حفص فقال :يا محمد ،ما عرفناك تنقض العهد .قال " :وما ذاك ؟" قال ( : )1دخلت :علينا
بالسلح والقسي والرماح .فقال " :لم يكن ذلك ،وقد بعثنا به إلى يأجج" ،فقال :بهذا عرفناك ،
بالبر والوفاء .وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئل ينظروا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم و
[ل] ( )2إلى أصحابه غيظا وحنقا ،وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في
الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،فدخلها عليه
الصلة والسلم ،وبين يديه أصحابه يلبون ،والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ،وهو راكب ناقته
القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ،وعبد ال بن رواحة النصاري آخذ بزمام ناقة رسول
ال صلى ال عليه وسلم يقودها ،وهو يقول :
باسم الذي ل دين إل دينُه ...باسم الذي محمدٌ رسوله...
خَلّوا بني ال ُكفّار عَنْ سَبِيله ...اليوم نضربكم على تَأْويله...
كما ضربناكم على تنزيله ...ضربًا يزيلُ الهام عَن َمقِيله...
ويُذْهِل الخليل عن خليله ...قد أنزل الرحمن في تنزيله...
في صُحف تتلى على رسُوله ...بأن خير القَتْل في سبيله...
يا رب إني مؤمن بقيله
فهذا مجموع من روايات متفرقة.
قال يونس بن بكير ،عن محمد بن إسحاق :حدثني عبد ال بن أبي بكر ( )3بن حزم قال :لما
دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة في عمرة القضاء ،دخلها وعبد ال بن رواحة آخذ
بخطام ناقته صلى ال عليه وسلم ( ، )4وهو يقول :
خلّوا بني الكفار عن سبيله ...إني شَهيدٌ أنه رَسُولُهُ...
خلوا فكل ( )5الخير في رسوله ...يا رب إني مؤمن بقيله...
نحن قتلناكم على تأويله ...كما قتلناكم على تنزيله...
ضربًا يُزيل الهام عن مقيله ...ويذهل الخليل عن خليله...
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن الزهري ،عن أنس بن مالك قال :لما دخل رسول ال
صلى ال عليه وسلم مكة في عمرة القضاء ،مشى عبد ال بن رواحة بين يديه ،وفي رواية
وابن رواحة آخذ بغرزه ،وهو يقول :
__________
( )1في ت ،م " :فقال".
( )2زيادة من ت ،م ،أ.
( )3في ت " :محمد".
( )4في ت " :مشى عبد ال بن رواحة بين يديه".
( )5في ت " :وكل".
( )7/357
( )7/358
قال البخاري :وزاد ابن سلمة -يعني حماد بن سلمة -عن أيوب ،عن سعيد بن جبير ،عن
ابن عباس قال :لما قدم النبي صلى ال عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال " :ارملوا" .ليري
المشركون قوتهم ،والمشركون من قبل قعيقعان.
وحدثنا محمد ،حدثنا سفيان بن عيينة ،عن عمرو بن دينار ،عن عطاء ،عن ابن عباس قال :
إنما سعى النبي صلى ال عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ،ليرى المشركون قوته (.)1
ورواه في مواضع أخر ،ومسلم والنسائي ،من طرق ،عن سفيان بن عيينة ،به (.)2
وقال أيضا :حدثنا علي بن عبد ال ،حدثنا سفيان ،حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ،سمع ابن أبي
أوفى يقول :لما اعتمر رسول ال صلى ال عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم ؛ أن
يؤذوا رسول ال صلى ال عليه وسلم .انفرد به البخاري دون مسلم (.)3
وقال ( )4البخاري أيضا :حدثنا محمد بن رافع ،حدثنا سريج بن النعمان ،حدثنا فليح ،وحدثني
محمد بن الحسين بن إبراهيم ،حدثنا أبي حدثنا فليح بن سليمان ،عن نافع ،عن ابن عمر ؛ أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج معتمرا ،فحال كفار قريش بينه وبين البيت ،فنحر هديه
وحلق رأسه بالحديبية ،وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ،ول يحمل سلحا عليهم إل
سيوفا ،ول يقيم بها إل ما أحبوا .فاعتمر من العام المقبل ،فدخلها كما كان صالحهم ،فلما أن
قام بها ثلثا ،أمروه أن يخرج فخرج.
وهو في صحيح مسلم أيضا (.)5
وقال البخاري أيضا :حدثنا عبيد ال بن موسى ،عن إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن البراء ،
قال :اعتمر النبي صلى ال عليه وسلم في ذي القعدة ،فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخل مكة حتى
قاضاهم على أن يقيم بها ثلثة أيام ،فلما كتبوا الكتاب كتبوا " :هذا ما قاضانا عليه محمد رسول
ال" .قالوا :ل نقر بهذا ،ولو نعلم أنك رسول ال ما منعناك شيئًا ،ولكن أنت محمد بن عبد ال.
قال " :أنا رسول ال ،وأنا محمد بن عبد ال" .ثم قال لعلي بن أبي طالب " :امح رسول ال" .قال
:ل وال ل أمحوك أبدا .فأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم الكتاب ،وليس يحسن يكتب ،
فكتب " :هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد ال :ل يدخل مكة السلح إل السيف في القراب ،وأل
يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه ،وأل يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها" فلما دخلها
ومضى الجل ،أتوا عليا فقالوا :قل لصاحبك :اخرج عنا فقد مضى الجل ،فخرج النبي صلى
ال عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي :يا عم ،يا عم .فتناولها علي فأخذ بيدها ،وقال لفاطمة :
دونك ابنة عمك فحملتها ،فاختصم فيها علي وزيد
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.42579
( )2صحيح البخاري برقم ( )1649وصحيح مسلم برقم ( )1266والنسائي في السنن الكبرى برقم
(.39739
( )3صحيح البخاري برقم (.)4255
( )4في ت " :روى".
( )5صحيح البخاري برقم (.)4252
( )7/359
وجعفر ،فقال عليّ :أنا أخذتها وهي ابنة عمي ،وقال جعفر :ابنة عمي وخالتها تحتي ،وقال
زيد :ابنة أخي ،فقضى بها النبي صلى ال عليه وسلم لخالتها ،وقال " :الخالة بمنزلة الم" ،
وقال لعلي " :أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر " :أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيد " :أنت أخونا
ومولنا" قال علي :أل تتزوج ابنة حمزة ؟ قال " :إنها ابنة أخي من الرضاعة" انفرد به من هذا
الوجه (.)1
ج َعلَ مِنْ دُونِ ذَِلكَ فَتْحًا قَرِيبًا } أي :فعلم ال تعالى من الخيرة
وقوله َ { :فعَلِمَ مَا لَمْ َتعَْلمُوا فَ َ
ج َعلَ مِنْ دُونِ
والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم { ،فَ َ
ذَِلكَ } أي :قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى ال عليه وسلم { ،فَتْحًا قَرِيبًا } :
وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين.
ثم قال تعالى ،مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلوات ال [وسلمه] ( )2عليه على عدوه وعلى
حقّ } أي :بالعلم النافع والعمل
سلَ رَسُولَهُ بِا ْلهُدَى َودِينِ الْ َ
سائر أهل الرض ُ { :هوَ الّذِي أَ ْر َ
الصالح ؛ فإن الشريعة تشتمل على شيئين :علم وعمل ،فالعلم الشرعي صحيح ،والعمل
علَى الدّينِ كُلّهِ } أي :على أهل
ظهِ َرهُ َ
الشرعي مقبول ،فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل { ،لِ ُي ْ
جميع الديان من سائر أهل الرض ،من عرب وعجم ومليين ( )3ومشركين َ { ،و َكفَى بِاللّهِ
شهِيدًا } أي :أنه رسوله ،وهو ناصره.
َ
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4251
( )2زيادة من ت.
( )3في أ " :مسلمين".
( )7/360
حمَاءُ بَيْ َن ُهمْ تَرَا ُهمْ ُر ّكعًا سُجّدًا يَبْ َتغُونَ َفضْلًا مِنَ
حمّدٌ َرسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ
مُ َ
ضوَانًا سِيمَا ُهمْ فِي ُوجُو ِههِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة َومَثَُلهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
اللّ ِه وَ ِر ْ
جبُ الزّرّاعَ لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْل ُكفّا َر وَعَدَ اللّهُ
شطَْأهُ فَآَزَ َرهُ فَاسْ َتغَْلظَ فَاسْ َتوَى عَلَى سُوقِهِ ُيعْ ِ
كَزَ ْرعٍ َأخْرَجَ َ
عظِيمًا ()29
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ مِ ْن ُهمْ َمغْفِ َر ًة وَأَجْرًا َ
الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
( )7/360
منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر" ( ، )1وقال " :المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه ( )2كل الحديثين في الصحيح.
سجّدًا يَبْ َتغُونَ َفضْل مِنَ اللّهِ وَ ِرضْوَانًا } :وصفهم بكثرة العمل وكثرة ()3
وقوله { :تَرَاهُمْ ُر ّكعًا ُ
الصلة ،وهي خير العمال ،ووصفهم بالخلص فيها ل ،عز وجل ،والحتساب عند ال
جزيل الثواب ،وهو الجنة ( )4المشتملة على فضل ال ،وهو سعة الرزق عليهم ،ورضاه ،
ضوَانٌ مِنَ اللّهِ َأكْبَرُ } [التوبة .]72 :
تعالى ،عنهم وهو أكبر من الول ،كما قال { :وَ ِر ْ
وقوله { :سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } :قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ } يعني :السمت الحسن.
وقال مجاهد وغير واحد :يعني :الخشوع والتواضع.
جعْفي ،عن
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنَافسي ،حدثنا حسين ال َ
زائدة ( ، )5عن منصور عن مجاهد { :سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } قال :الخشوع
قلت :ما كنت أراه إل هذا الثر في الوجه ،فقال :ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من
فرعون.
وقال السدي :الصلة تحسن وجوههم.
وقال بعض السلف :من كثرت صلته بالليل حسن وجهه بالنهار.
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ،عن إسماعيل بن محمد الطّلْحي ،عن ثابت بن موسى ،عن
شريك ،عن العمش ،عن أبي سفيان ،عن جابر قال :قال رسول ال ( )6صلى ال عليه وسلم
" :من كَثُ َرتْ صلته بالليل حسن وجهه بالنهار" والصحيح أنه موقوف (.)7
وقال بعضهم :إن للحسنة نورا في القلب ،وضياء في الوجه ،وسعة في الرزق ،ومحبة في
قلوب الناس.
صفَحَات وجهه ،وفَلتَات
وقال أمير المؤمنين عثمان :ما أسر أحد سريرة إل أبداها ال على َ
لسانه.
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ،فالمؤمن إذا كانت سريرته
صحيحة مع ال أصلح ال ظاهره للناس ،كما روي عن عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،أنه
قال :من أصلح سريرته أصلح ال علنيته.
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا محمود بن محمد المروزي ،حدثنا حامد بن آدم المروزي ،
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3011ومسلم فس صحيحه برقم ( )2586من حديث
النعمان بن بشير رضي ال عنه.
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )481ومسلم في صحيحه برقم ( )2585من حديث أبي
موسى الشعري رضي ال عنه.
( )3في ت ،م " :وذكر".
( )4في م " :المحبة".
( )5في م " :المحبة".
( )6في ت " :عن النبي".
( )7سنن ابن ماجة برقم (.)1333
( )7/361
حدثنا الفضل بن موسى ،عن محمد بن عبيد ال العَرْزَمي ،عن سلمة بن ُكهَيْل ( ، )1عن جُنْدَب
بن سفيان ال َبجَلي قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ما أسر أحد سريرة إل ألبسه ال رداءها
،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر" ،العرزمي متروك (.)2
وقال ( )3المام أحمد :حدثنا حسن بن ( )4موسى ،حدثنا ابن لهيعة ،حدثنا دراج ،عن أبي
الهيثم ،عن أبي سعيد ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أنه قال " :لو أن أحدكم يعمل في
صخرة صماء ليس لها باب ول كوة ،لخرج عمله للناس كائنا ما ( )5كان" (.)6
وقال ( )7المام أحمد [أيضا] ( : )8حدثنا حسن ،حدثنا زُهَيْر ،حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان :أن
أباه حدثه عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :إن الهدي الصالح ،والسمت
الصالح ،والقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" ورواه أبو داود عن عبد ال بن
محمد النفيلي ،عن زهير ،به (.)9
فالصحابة [رضي ال عنهم] ( )10خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ،فكل من نظر إليهم أعجبوه
في سمتهم وهديهم.
وقال مالك ،رحمه ال :بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون :
"وال لهؤلء خير من الحواريين فيما بلغنا" .وصدقوا في ذلك ،فإن هذه المة معظمة في الكتب
المتقدمة ،وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد نوه ال بذكرهم في
الكتب المنزلة والخبار المتداولة ( )11؛ ولهذا قال هاهنا { :ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَاةِ } ُ ،ثمّ قَالَ { :
شطَْأهُ ] }
شطَْأهُ [فَآزَ َرهُ فَاسْ َتغَْلظَ فَاسْ َتوَى عَلَى سُوقِهِ } َ { :أخْرَجَ َ
َومَثَُلهُمْ فِي ال ْنجِيلِ كَزَ ْرعٍ َأخْرَجَ َ
( )12أي :فراخه { ،فَآزَ َرهُ } أي :شده { فَاسْ َتغْلَظَ } أي :شب وطال { ،فَاسْ َتوَى عَلَى سُوقِهِ
جبُ الزّرّاعَ } أي :فكذلك أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه
ُيعْ ِ
كالشطء مع الزرع { ،لِ َيغِيظَ ِب ِهمُ ا ْل ُكفّارَ }.
ومن هذه الية انتزع المام مالك -رحمه ال ،في رواية عنه -بتكفير الروافض الذين
يبغضون الصحابة ،قال :لنهم يغيظونهم ،ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الية .ووافقه
طائفة من العلماء على ذلك .والحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة
كثيرة ( ، )13ويكفيهم ثناء ال عليهم ،ورضاه عنهم.
__________
( )1في ت " :وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده".
( )2المعجم الكبير ( )2/171وحامد بن آدم كذاب.
( )3في ت " :وروى".
( )4في أ " :عن".
( )5في ت " :من".
( )6المسند (.)3/28
( )7في ت " :وروى".
( )8زيادة من ت.
( )9المسند ( )1/296وسنن أبي داود برقم (.)4776
( )10زيادة من ت ،م ،أ.
( )11في م " :المقدسة".
( )12زيادة من م.
( )13في م " :كبيرة".
( )7/362
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ مِ ْن ُهمْ } من" هذه لبيان الجنس َ { ،مغْفِ َرةً } أي
ثم قال { :وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
عظِيمًا } أي :ثوابا جزيل ورزقا كريما ،ووعد ال حق وصدق ،ل يخلف
:لذنوبهم { .وَأَجْرًا َ
ول يبدل ،وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ،ولهم الفضل والسبق والكمال الذي ل
يلحقهم فيه أحد من هذه المة ،رضي ال عنهم وأرضاهم ،وجعل جنات الفردوس مأواهم (، )1
وقد فعل.
قال مسلم في صحيحه :حدثنا يحيى بن يحيى ،حدثنا أبو معاوية ،عن العمش ،عن أبي صالح
،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تسبوا أصحابي ،فوالذي نفسي
بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ول نصيفه" (.)2
آخر تفسير سورة الفتح ،ول الحمد والمنة.
__________
( )1في ت ،م ،أ " :مثواهم".
( )2صحيح مسلم برقم (.)2540
( )7/363
( )7/364
وقال الحسن البصري { :ل ُتقَ ّدمُوا بَيْنَ َي َديِ اللّهِ وَرَسُولِهِ } قال :ل تدعوا قبل المام.
وقال قتادة :ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون :لو أنزل في كذا كذا ،وكذا لو صنع كذا ،فكره ال
ذلك ،وتقدم فيه.
سمِيعٌ } أي :لقوالكم { عَلِيمٌ } بنياتكم.
{ وَا ّتقُوا اللّهَ } أي :فيما أمركم به { ،إِنّ اللّهَ َ
ص ْوتِ النّ ِبيّ } :هذا أدب ثان أدب ال به
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
وقوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ ْر َفعُوا َأ ْ
المؤمنين أل يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى ال عليه وسلم [فوق صوته] ( .)1وقد روي
أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر ،رضي ال عنهما.
وقال البخاري :حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ،حدثنا نافع بن عمر ،عن ابن أبي مُلَ ْيكَة قال :
كاد الخيّران أن يهلكا ،أبو بكر وعمر ،رضي ال عنهما ،رفعا أصواتهما عند النبي صلى ال
عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ،فأشار أحدهما بالقرع بن حابس أخي بني مجاشع ،
وأشار الخر برجل آخر -قال نافع :ل أحفظ اسمه -فقال أبو بكر لعمر :ما أردت إل خلفي.
قال :ما أردت خلفك .فارتفعت أصواتهما في ذلك ،فأنزل ال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ ْر َفعُوا
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ } الية ،قال ابن الزبير :
جهْرِ َب ْع ِ
جهَرُوا لَهُ بِا ْل َق ْولِ َك َ
ي وَل تَ ْ
ص ْوتِ النّ ِب ّ
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
َأ ْ
فما كان عمر يسمعُ رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد هذه الية حتى يستفهمه ،ولم يذكر ذلك
عن أبيه :يعني أبا بكر رضي ال عنه .انفرد به دون مسلم (.)2
حجّاج ،عن ابن جُرَيْج ،حدثني ابن أبي مليكة :
ثم قال البخاري :حدثنا حسن بن محمد ،حدثنا َ
أن عبد ال بن الزبير أخبره :أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال
أبو بكر :أم ّر القعقاعَ بن َمعْبد .وقال عمر :بل أمرّ القرع بن حابس ،فقال أبو بكر :ما أردت
إلى -أو :إل -خلفي .فقال عمر :ما أردتُ خلفَك ،فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ،فنزلت
في ذلك { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل ُتقَ ّدمُوا بَيْنَ َي َديِ اللّ ِه وَرَسُوِلهِ } ،حتى انقضت الية { ،وََلوْ
أَ ّنهُ ْم صَبَرُوا حَتّى َتخْرُجَ إِلَ ْيهِمْ } الية [الحجرات .]5 :
وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا (.)3
وقال ( )4الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :حدثنا الفضل بن سهل ،حدثنا إسحاق بن منصور ،
عمَر ،عن مُخَارق ،عن طارق بن شهاب ،عن أبى بكر الصديق قال :لما
حدثنا حصين بن ُ
ص ْوتِ النّ ِبيّ } ،قلت :يا رسول
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
نزلت هذه الية { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ ْر َفعُوا َأ ْ
ال ،وال ل أكلمك إل كأخي السّرار (.)5
__________
( )1زيادة من ت ،م ،أ.
( )2صحيح البخاري برقم (.)4845
( )3صحيح البخاري برقم (.)4847
( )4في ت " :وروى".
( )5مسند البزار برقم (" )2257كشف الستار" وقال " :ل نعلمه يروى متصل إل عن أبي بكر ،
وحصين حدث بأحاديث لم يتابع عليها ،ومخارق مشهور ،ومن عداه أجلء".
( )7/365
حصين بن عمر هذا -وإن كان ضعيفًا -لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف ،
وأبي هريرة [رضي ال عنه] ( )1بنحو ذلك ،وال أعلم (.)2
وقال البخاري :حدثنا علي بن عبد ال ،حدثنا أزهر بن سعد ،أخبرنا ابن عون ،أنبأني موسى
بن أنس ( ، )3عن أنس بن مالك ،رضي ال عنه ،أن النبي صلى ال عليه وسلم افتقد ثابت بن
قيس ،فقال رجل :يا رسول ال ،أنا أعلم لك علمه .فأتاه فوجده في بيته مُ َنكّسًا رأسه ،فقال له
:ما شأنك ؟ فقال :شر ،كان يَ ْرفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى ال عليه وسلم ،فقد حبط
عمله ،فهو من أهل النار .فأتى الرجل النبي صلى ال عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ،قال
موسى :فرجع إليه المرة الخرة ببشارة عظيمة فقال " :اذهب إليه فقل له :إنك لست من أهل
النار ،ولكنك من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا هاشم ،حدثنا ( )5سليمان بن المغيرة ،عن ثابت ،عن أنس قال :لما
ص ْوتِ النّ ِبيّ } إلى { :وَأَنْ ُت ْم ل
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
نزلت هذه الية { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ ْر َفعُوا َأ ْ
شعُرُونَ } ،وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال :أنا الذي كنت أرفع صوتي
تَ ْ
على رسول ال صلى ال عليه وسلم حبط عملي ،أنا من أهل النار ،وجلس في أهله حزينا ،
ففقده رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له :تفقدك رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ما لك ؟ قال :أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى ال عليه وسلم ،
وأجهر له بالقول حبط عملي ،أنا من أهل النار .فأتوا النبي صلى ال عليه وسلم فأخبروه بما قال
،فقال " :ل بل هو من أهل الجنة" .قال أنس :فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ،ونحن نعلم أنه من
أهل الجنة .فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض النكشاف ،فجاء ثابت بن قيس بن شماس ،وقد
تحنط ولبس كفنه ،فقال :بئسما تُعوّدون أقرانكم .فقاتلهم حتى قُتل (.)7( )6
وقال مسلم :حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ،حدثنا الحسن بن موسى ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن
ثابت البُناني ،عن أنس بن مالك قال :لما نزلت هذه الية { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ ْر َفعُوا
ص ْوتِ النّ ِبيّ } إلى آخر الية ،جلس ثابت في بيته ،قال :أنا من أهل النار.
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
َأ ْ
واحتبس عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال ( )8النبي صلى ال عليه وسلم لسعد بن معاذ " :يا
أبا عمرو ،ما شأن ثابت ؟ أشتكى ؟" فقال سعد :إنه لجاري ،وما علمت له بشكوى .قال :فأتاه
سعد فذكر له قول رسول ال ( )9صلى ال عليه وسلم ،فقال ثابت :أُنزلَت هذه الية ،ولقد
علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأنا من أهل النار .فذكر ذلك
سعد للنبي صلى ال عليه وسلم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بل ،هو من أهل
الجنة".
__________
( )1زيادة من أ.
( )2أما حديث أبي هريرة فرواه الحاكم في المستدرك ( )2/462من طريق محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عنه ،وقال " :صحيح السناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
( )3في ت " :وروى البخاري بسنده".
( )4صحيح البخاري برقم (.)4846
( )5في ت " :ابن".
( )6في ت " :حتى قتل رحمه ال".
( )7المسند (.)3/137
( )8في م " :فسأل".
( )9في م " :النبي".
( )7/366
ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد ( )1الدارمي ،عن حَيّان بن هلل ،عن سليمان بن المغيرة ،
به ،قال :ولم يذكر سعد بن معاذ .وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان ( ، )2عن ثابت ،
عن أنس بنحوه .وقال :ليس فيه ذكر سعد بن معاذ.
حدثنا هُرَيم ( )3بن عبد العلى السدي ،حدثنا المعتمر بن سليمان ،سمعت أبي يذكر ،عن
ثابت ،عن أنس قال :لما نزلت هذه الية ،واقتص الحديث ،ولم يذكر سعد بن معاذ ،وزاد :
فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة.)4( .
فهذه الطرق الثلث ُمعَلّلة لرواية حماد بن سلمة ،فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ .والصحيح
:أن حال نزول هذه الية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا ؛ لنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام
قلئل سنة خمس ،وهذه الية نزلت في وفد بني تميم ،والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من
الهجرة ،وال أعلم.
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا زيد بن الحُبَاب ،حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن
شمّاس ،حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ،عن أبيه قال :لما نزلت
جهَرُوا لَهُ بِا ْل َق ْولِ } قال :قعد ثابت بن
ي وَل تَ ْ
ص ْوتِ النّ ِب ّ
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
هذه الية { :ل تَ ْر َفعُوا َأ ْ
قيس ( )5في الطريق يبكي ،قال :فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلن ،فقال :ما يبكيك يا
ثابت ؟ قال :هذه الية ،أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا صيت ،رفيع الصوت .قال :فمضى
عاصم بن عدي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :وغلبه البكاء ،فأتى امرأته جميلة ابنة
عبد ال بن أبي بن سلول فقال لها :إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عََليّ الضبّة بمسمار فضربته
بمسمار حتى إذا خرج عطفه ،وقال :ل أخرج حتى يتوفاني ال ،عز وجل ،أو يرضى عني
رسول ال صلى ال عليه وسلم .قال :وأتى عاصم رسولَ ال صلى ال عليه وسلم فأخبره
خبره ،فقال " :اذهب فادعه لي" .فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده ،فجاء إلى أهله فوجده في
بيت الفَرَس ،فقال له :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعوك .فقال :اكسر الضبة .قال :
فخرجا فأتيا ( )6النبي صلى ال عليه وسلم فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما يبكيك يا
صوَا َتكُمْ َفوْقَ
ثابت ؟" .فقال :أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الية نزلت في { :ل تَ ْر َفعُوا َأ ْ
جهَرُوا لَهُ بِا ْل َق ْولِ } .فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أما ترضى أن
ي وَل َت ْ
صوْتِ النّ ِب ّ
َ
َتعِيش حَميدًا ،وتقتل شهيدا ،وتدخل الجنة ؟" .فقال :رضيت ببشرى ال ورسوله صلى ال عليه
وسلم ،ول أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى ال عليه وسلم .قال :وأنزل ال { :إِنّ
صوَا َتهُمْ عِنْدَ َرسُولِ اللّهِ أُولَ ِئكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ لِل ّت ْقوَى } ()8( .)7
الّذِينَ َي ُغضّونَ َأ ْ
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ،فقد نهى ال عز وجل ،عن رفع الصوات
__________
( )1في أ " :سعد".
( )2في م " :مسلم".
( )3في م " :هدبة".
( )4صحيح مسلم برقم (.)119
( )5في أ " :ثابت بن قيس بن شماس".
( )6في أ " :حتى أتيا".
( )7في أ :بعدها " :لهم مغفرة وأجر عظيم " بدل "الية".
( )8تفسير الطبري (.)26/75
( )7/367
بحضرة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [رضي
ال عنه] ( )1أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول ال ( )2صلى ال عليه وسلم قد ارتفعت
أصواتهما ،فجاء ،فقال :أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال :مِن أين أنتما ؟ قال من أهل الطائف .فقال
:لو كنتما من أهل المدينة لوجعتكما ضربا (.)3
وقال العلماء :يكره رفع الصوت عند قبره ،كما كان يكره في حياته ؛ لنه محترم حيا وفي قبره
،صلوات ال وسلمه عليه ( ، )4دائما .ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه
جهْرِ
جهَرُوا لَهُ بِا ْلقَ ْولِ كَ َ
ممن عداه ،بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ؛ ولهذا قال { :وَل تَ ْ
ضكُمْ َب ْعضًا } [النور :
جعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْ َن ُكمْ كَدُعَاءِ َب ْع ِ
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ } ،كما قال { :ل َت ْ
َب ْع ِ
.]63
شعُرُونَ } أي :إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن
عمَاُلكُ ْم وَأَنْتُمْ ل تَ ْ
وقوله { :أَنْ َتحْبَطَ أَ ْ
يغضب من ذلك ،فيغضب ال لغضبه ،فيحبط ال عمل من أغضبه وهو ل يدري ،كما جاء في
الصحيح " :إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان ال ل يُلقي لها بَال يكتب له بها الجنة .وإن
سخَط ال ل يُلقي لها بال َي ْهوِي بها في النار أبعد ما بين السموات
الرجل ليتكلم بالكلمة من َ
والرض" (.)5
حثّ على ذلك ،وأرشد إليه ،ورغّب
ثم ندب ال عز وجل ( ، )6إلى خفض الصوت عنده ،و َ
صوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولَ ِئكَ الّذِينَ امْ َتحَنَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ لِل ّت ْقوَى }
فيه ،فقال { :إِنّ الّذِينَ َي ُغضّونَ َأ ْ
أي :أخلصها لها وجعلها أهل ومحل { َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ عَظِيمٌ }.
وقد قال ( )7المام أحمد في كتاب الزهد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان ،عن منصور ،عن
مجاهد ،قال :كُتب إلى عمر ( )8يا أمير المؤمنين ،رجل ل يشتهي المعصية ول يعمل بها ،
أفضل ،أم رجل يشتهي المعصية ول يعمل بها ؟ فكتب عمر ،رضي ال عنه :إن الذين
يشتهون المعصية ول يعملون بها { أُولَ ِئكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ لِل ّتقْوَى َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ
عَظِيمٌ } (.)9
حجُرَاتِ َأكْثَرُهُمْ ل َي ْعقِلُونَ (} )4
ن وَرَاءِ الْ ُ
{ إِنّ الّذِينَ يُنَادُو َنكَ مِ ْ
__________
( )1زيادة من ت.
( )2في ت ،م " :النبي".
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم ( )470من طريق السائب بن يزيد فذكره.
( )4في ت " :صلى ال عليه وسلم".
( )5صحيح البخاري برقم ( )6478من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )6في ت " :سبحانه وتعالى".
( )7في ت " :وقد روى".
( )8في ت " :عمر بن الخطاب رضي ال عنه".
( )9ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )7/552وعزاه لحمد في الزهد.
( )7/368
( )7/369
ورواه ابن جرير ،عن الحسن بن عرفة ،عن المعتمر بن سليمان ،به (.)1
جهَالَةٍ فَ ُتصْبِحُوا عَلَى مَا َفعَلْتُمْ
سقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ ُتصِيبُوا َق ْومًا ِب َ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَا َءكُمْ فَا ِ
ن المْرِ َلعَنِتّ ْم وََلكِنّ اللّهَ حَ ّببَ إِلَ ْيكُمُ
نَا ِدمِينَ ( )6وَاعَْلمُوا أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ َلوْ ُيطِي ُعكُمْ فِي كَثِيرٍ مِ َ
ق وَا ْل ِعصْيَانَ أُولَ ِئكَ هُمُ الرّاشِدُونَ (َ )7فضْل مِنَ
اليمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُو ِبكُ ْم َوكَ ّرهَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكُفْ َر وَا ْلفُسُو َ
حكِيمٌ (.} )8
اللّ ِه وَ ِن ْعمَ ًة وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له ،لئل يحكم بقوله فيكون -في نفس المر -كاذبًا
أو مخطئًا ،فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه ،وقد نهى ال عن اتباع سبيل المفسدين ،ومن
هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لحتمال فسقه في نفس المر ،
وقبلها آخرون لنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ،وهذا ليس بمحقق الفسق لنه مجهول
الحال .وقد قررنا ( )2هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ،ول الحمد والمنة.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ،حين بعثه
رسول ال صلى ال عليه وسلم على صدقات بني المصطلق .وقد روي ذلك من طرق ،ومن
أحسنها ما رواه المام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق ،وهو الحارث بن ضِرَار ،
والد جُويرية ( )3بنت الحارث أم المؤمنين ،رضي ال عنها ،قال المام أحمد :
حدثنا محمد بن سابق ،حدثنا عيسى بن دينار ،حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي
يقول :قدمت على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فدعاني إلى السلم ،فدخلت فيه وأقررت
به ،ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ،وقلت :يا رسول ال ،أرجع إليهم فأدعوهم إلى السلم
وأداء الزكاة ،فمن استجاب لي جمعت زكاته ،ويُرسل إليّ رسول ال رسول لبّان كذا وكذا
ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة .فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ،وبلغ البان الذي أراد
رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبعث إليه ،احتبس عليه الرسول فلم يأته ،فظن الحارث أنه
قد حدث فيه سُخْطة من ال ورسوله ،فدعا بسَرَوات قومه ،فقال لهم :إن رسول ال صلى ال
عليه وسلم كان َوقّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ،وليس من
رسول ال صلى ال عليه وسلم الخُلْف ،ول أرى حبس رسوله إل من سخطة كانت ،فانطلقوا
فنأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى
الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ،فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق
فَرَق -أي :خاف -فرجع فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا رسول ال ،إن
الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي .فضرب رسول ال صلى ال عليه وسلم البعث إلى الحارث.
وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث و َفصَل عن المدينة لقيهم الحارث ،فقالوا :هذا
الحارث ،فلما
__________
( )1تفسير الطبري ( )26/77ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )5/210من طريق إسحاق بن
راهويه عن معتمر بن سليمان به ،قال الهيثمي في المجمع (" : )7/108فيه داود الطفاوي وثقه
ابن حبان ،وضعفه ابن معين ،وبقية رجاله ثقات".
( )2في ت " :قررت".
( )3في أ " :ميمونة".
( )7/370
غشيهم قال لهم :إلى من بُعثتم ؟ قالوا :إليك .قال :ولم ؟ قالوا :إن رسول ال صلى ال عليه
وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة ،فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله .قال :ل والذي بعث
محمدا بالحق ما رأيته بَتّ ًة ول أتاني .فلما دخل الحارث على رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
" :منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟" .قال :ل والذي بعثك بالحق ما رأيته ول أتاني ،وما
أقبلت إل حين احتبس علي رسول رسول ال ( )1صلى ال عليه وسلم ،خشيت أن يكون كانت
سقٌ بِنَبَإٍ } إلى
سخطة من ال ورسوله .قال :فنزلت الحجرات { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَا َء ُكمْ فَا ِ
قوله { :حكيم }
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار ،عن محمد بن سابق به .ورواه الطبراني من
حديث محمد بن سابق ،به ( ، )2غير أنه سماه الحارث بن سرار ،والصواب :الحارث بن
ضرار ،كما تقدم.
عوْن ،عن موسى بن عبيدة ،عن ثابت
وقال ( )3ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا جعفر بن َ
مولى أم سلمة ،عن أم سلمة قالت :بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم رجل في صدقات بني
المصطلق بعد الوقيعة ( ، )4فسمع بذلك القوم ،فتلقوه يعظمون أمر رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،قالت :فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ،قالت :فرجع إلى رسول ال ( )5فقال :إن
بني المصطلق قد منعوني ( )6صدقاتهم .فغضب رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون.
قالت :فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فصفوا له حين صلى الظهر ،
فقالوا :نعوذ بال من سخط ال وسخط رسوله ،بعثت إلينا رجل مصدقًا ،فسررنا بذلك ،وقرت
به أعيننا ،ثم إنه رجع من بعض الطريق ،فخشينا أن يكون ذلك غضبا من ال ومن رسوله ،
فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلل فأذن بصلة العصر ،قالت :ونزلت { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جهَالَةٍ فَ ُتصْبِحُوا عَلَى مَا َفعَلْتُمْ نَا ِدمِينَ } (.)7
سقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ ُتصِيبُوا َق ْومًا ِب َ
جَا َءكُمْ فَا ِ
وروى ابن جرير أيضا من طريق ال َعوْفي ،عن ابن عباس في هذه الية قال :كان رسول ال
صلى ال عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي ُمعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات ،
وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنه لما
ح ّدثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ،رجع الوليد إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا
ُ
رسول ال ،إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة .فغضب رسول ال صلى ال عليه وسلم من ذلك
غضبا شديدا ،فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا :يا رسول ال ،إنا حدثنا أن
رسولك رجع من نصف الطريق ،وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ،
وإنا نعوذ بال من غضبه وغضب رسوله .وإن النبي صلى ال عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم ،
سقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا } إلى
فأنزل ال ( )8عذرهم في الكتاب ،فقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَا َءكُمْ فَا ِ
آخر الية (.)9
__________
( )1في ت " :احتبس علي يا رسول ال".
( )2المسند ( )4/279والمعجم الكبير ( )3/274قال الهيثمي في المجمع (" : )7/109رجال أحمد
ثقات" ،وهذا متعقب فإن دينار والدعيسي لم يوثقه إل ابن حبان ،ول يعرف له راويا غير ابنه
عيسى.
( )3في ت " :وروى".
( )4في ت " :الوقعة".
( )5في ت ،م ،أ " :رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )6في ت ،م " :منعوا".
( )7تفسير الطبري ( )26/78وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ،وثابت مولى أم
سلمة مجهول.
( )8في م " :ال عز وجل".
( )9تفسير الطبري (.)26/78
( )7/371
وقال مجاهد وقتادة :أرسل رسول ال الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم ،فتلقوه
بالصدقة ،فرجع فقال :إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك -زاد قتادة :وإنهم قد ارتدوا
عن السلم -فبعث رسول ال خالد بن الوليد إليهم ،وأمره أن يتثبت ول يعجل .فانطلق حتى
أتاهم ليل فبعث عيونه ،فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالسلم ،وسمعوا أذانهم
وصلتهم ،فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه ،فرجع إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم فأخبره الخبر ،فأنزل ال هذه الية .قال قتادة :فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول
" :التّبيّن من ال ،والعَجَلَة من الشيطان".
وكذا ذكر غير واحد من السلف ،منهم :ابن أبي ليلى ،ويزيد بن رومان ،والضحاك ،ومقاتل
بن حَيّان ،وغيرهم في هذه الية :أنها نزلت في الوليد بن عقبة ،وال أعلم (.)1
وقوله { :وَاعَْلمُوا أَنّ فِيكُمْ َرسُولَ اللّهِ } أي :اعلموا أن بين أظهركم رسول ال فعظّموه
ووقروه ،وتأدبوا معه ،وانقادوا لمره ،فإنه أعلم بمصالحكم ،وأشفق عليكم منكم ،ورأيه فيكم
سهِمْ } [الحزاب .]6 :
أتمّ من رأيكم لنفسكم ،كما قال تعالى { :النّ ِبيّ َأوْلَى بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ
ثم بَيّن [تعالى] ( )2أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال َ { :لوْ يُطِي ُعكُمْ فِي كَثِيرٍ
ن المْرِ َلعَنِتّمْ } أي :لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم ،كما قال
مِ َ
ض َومَنْ فِيهِنّ َبلْ أَتَيْنَاهُمْ ِب ِذكْرِهِمْ َف ُهمْ
ت وَالرْ ُ
س َموَا ُ
تعالى { :وََلوِ اتّبَعَ ا ْلحَقّ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
عَنْ ِذكْرِ ِهمْ ُمعْ ِرضُونَ } [المؤمنون .]71 :
وقوله { :وََلكِنّ اللّهَ حَ ّببَ إِلَ ْيكُمُ اليمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُو ِبكُمْ } أي :حببه إلى نفوسكم وحسنه في
قلوبكم.
سعَدة ،حدثنا قتادة ،عن أنس قال :كان
قال ( )3المام أحمد :حدثنا َبهْز ،حدثنا علي بن مَ ْ
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :السلم علنية ،واليمان في القلب" قال :ثم يشير بيده
إلى صدره ثلث مرات ،ثم يقول " :التقوى هاهنا ،التقوى هاهنا" (.)4
ق وَا ْل ِعصْيَانَ } أي :وبغض إليكم الكفر والفسوق ،وهي :الذنوب
{ َوكَ ّرهَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكُفْ َر وَا ْلفُسُو َ
__________
( )1وقد ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين ،وهذا القول فيه نظر ؛ فإن الروايات التي ساقت
القصة معلولة ،وأحسنها وهي رواية أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي ،وفي إسنادها
مجهول ،وقد أنكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" (ص )102هذه
القصة قال " :وقد اختلف فيه ،فقيل :نزلت في ذلك -أي في شأن الوليد .وقيل :في علي
والوليد في قصة أخرى -وقيل :إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول ال صلى
ال عليه وسلم فمسح روءسهم وبرك عليهم إل هو فقال :إنه كان على رأسي خلوق ،فامتنع
صلى ال عليه وسلم من مسه ،فمن يكون في مثل هذه السنن يرسل مصدقا ،وبهذا الختلف
يسقط العلماء الحاديث القوية ،وكيف يفسق رجل هذا الكلم ؟ فكيف برجل من أصحاب محمد
صلى ال عليه وسلم وللشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه ال كلم على الوليد بن عقبة في النوار
الكاشفة (ص )263أثبت فيه أنه لم يؤثر له رواية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ومن جملة
ما نفاه هذا الحديث الذي ذكره ابن العربي.
( )2زيادة من ت.
( )3في ت " :وروى".
( )4المسند ( )3/134قال الهيثمي في المجمع (" : )1/52رجاله رجال الصحيح ما خل علي بن
مسعدة ،وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون".
( )7/372
وَإِنْ طَا ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَ َتلُوا فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا عَلَى الْأُخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي
سطِينَ ()9
حبّ ا ْلمُقْ ِ
حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأمْرِ اللّهِ فَإِنْ فَا َءتْ فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ وََأقْسِطُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ
حمُونَ ()10
خوَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّل ُكمْ تُرْ َ
خ َوةٌ فََأصِْلحُوا بَيْنَ أَ َ
إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ِإ ْ
( )7/373
يقول تعالى آمرًا بالصلح بين المسلمين ( )1الباغين بعضهم على بعض { :وَإِنْ طَا ِئفَتَانِ مِنَ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا } ،فسماهم مؤمنين مع القتتال .وبهذا استدل البخاري وغيره
على أنه ل يخرج من اليمان بالمعصية وإن عظمت ،ل كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من
المعتزلة ونحوهم .وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن ،عن أبي بكرة أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي ،فجعل ينظر إليه مرة
وإلى الناس أخرى ويقول " :إن ابني هذا سيد ولعل ال أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من
المسلمين" ( .)2فكان كما قال ،صلوات ال وسلمه عليه ،أصلح ال به بين أهل الشام وأهل
العراق ،بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.
وقوله { :فَإِنْ َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا عَلَى الخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأمْرِ اللّهِ } أي :حتى
ترجع إلى أمر ال ( )3وتسمع للحق وتطيعه ،كما ثبت في الصحيح عن أنس :أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :انصر أخاك ظالما أو مظلوما" .قلت :يا رسول ال ،هذا نصرته
مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال " :تمنعه من الظلم ،فذاك نصرك إياه" (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا عارم ،حدثنا معتمر قال :سمعت أبي يحدث :أن أنسًا قال :قيل للنبي
صلى ال عليه وسلم ،لو أتيت عبد ال بن أبي ؟ فانطلق إليه نبي ال صلى ال عليه وسلم وركب
حمارًا ،وانطلق المسلمون يمشون ،وهي أرض سبخة ،فلما انطلق إليه النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :إليك عني ،فوال لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من النصار :وال لحمار
رسول ال أطيب ريحا منك .قال :فغضب لعبد ال رجال من قومه ،فغضب لكل واحد منهما
أصحابه ،قال :فكان بينهم ضرب بالجريد واليدي والنعال ،فبلغنا أنه أنزلت فيهم { :وَإِنْ
طَا ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فََأصْلِحُوا بَيْ َن ُهمَا }
ورواه البخاري في "الصلح" عن مُسَدّد ،ومسلم في "المغازي" عن محمد بن عبد العلى ،كلهما
عن المعتمر بن سليمان ،عن أبيه ،به نحوه (.)5
وذكر سعيد بن جبير :أن الوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ،فأنزل ال هذه
الية ،فأمر بالصلح بينهما.
وقال السدي :كان رجل من النصار يقال له " :عمران" ،كانت له امرأة تدعى أم زيد (، )6
وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيّة له ل يدخل عليها أحد من
أهلها .وإن المرأة بعثت إلى أهلها ،فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ،وإن الرجل قد كان
خرج ،فاستعان أهل الرجل ،فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ،فتدافعوا واجتلدوا
بالنعال ،فنزلت فيهم هذه
__________
( )1في أ " :المقتتلين".
( )2صحيح البخاري برقم (.)2704
( )3في ت ،م " :إلى أمر ال ورسوله".
( )4صحيح البخاري برقم (.)2443
( )5المسند ( )3/157وصحيح البخاري برقم ( )2691وصحيح مسلم برقم (.)1799
( )6في أ " :يزيد".
( )7/374
الية .فبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصلح بينهم ،وفاءوا إلى أمر ال.
سطِينَ } أي :اعدلوا بينهم
حبّ ا ْل ُمقْ ِ
وقوله { :فَإِنْ فَا َءتْ فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا بِا ْل َع ْدلِ وََأقْسِطُوا إِنّ اللّهَ يُ ِ
حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ }
فيما كان أصاب بعضهم لبعض ،بالقسط ،وهو العدل { ،إِنّ اللّهَ يُ ِ
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ،حدثنا عبد العلى ،عن
َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن سعيد بن المسيب ( ، )1عن عبد ال بن عمرو ؛ أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال " :إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن ،بما أقسطوا
في الدنيا".
ورواه النسائي ( )2عن محمد بن المثنى ،عن عبد العلى ،به ( .)3وهذا إسناده جيد قوي ،
رجاله على شرط الصحيح.
وحدثنا محمد بن عبد ال بن يزيد ،حدثنا سفيان بن عيينة ،عن عمرو بن دينار ،عن عمرو بن
أوس ،عن عبد ال بن عمرو ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :المقسطون عند ال يوم
القيامة على منابر من نور على يمين العرش ،الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا".
ورواه مسلم والنسائي ،من حديث سفيان بن عيينة ،به (.)4
خ َوةٌ } أي :الجميع إخوة في الدين ،كما قال رسول ال صلى ال عليه
وقوله { :إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ إِ ْ
وسلم " :المسلم أخو المسلم ل يظلمه ول يسلمه" ( .)5وفي الصحيح " :وال في عون العبد ما كان
العبد في عون أخيه" ( .)6وفي الصحيح أيضا " :إذا دعا المسلم لخيه بظهر الغيب قال الملك :
آمين ،ولك بمثله" ( .)7والحاديث في هذا كثيرة ،وفي الصحيح " :مثل المؤمنين في تَوادّهم
حمّى
وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بال ُ
سهَر" .وفي الصحيح أيضا " :المؤمن للمؤمن كالبنيان ،يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه
وال ّ
(.)8
وقال أحمد :حدثنا أحمد بن الحجاج ،حدثنا عبد ال ،أخبرنا مصعب بن ثابت ،حدثني أبو حازم
قال :سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن المؤمن
من أهل اليمان بمنزلة الرأس من الجسد ،يألم المؤمن لهل اليمان ،كما يألم الجسد لما في
الرأس" ( .)9تفرد به ول بأس بإسناده.
__________
( )1في ت " :وروى ابن أبي حاتم بسنده".
( )2في ت " :مسلم".
( )3النسائي في السنن الكبرى برقم (.)5917
( )4صحيح مسلم برقم ( )1827وسنن النسائي (.)8/321
( )5رواه البخاري في صحيحه برقم ( )2442ومسلم في صحيحه برقم ( )2580من حديث عبد
ال بن عمر بن الخطاب رضي ال عنهما.
( )6صحيح مسلم برقم ( )2699من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )7صحيح مسلم برقم ( )2732من حديث أبي الدرداء رضي ال عنه.
( )8صحيح البخاري برقم ( )6011وصحيح مسلم برقم ( )2586من حديث النعمان بن بشير
رضي ال عنه.
( )9المسند ( )5/340وقال الهيثمي في المجمع (" : )8/187رجال أحمد رجال الصحيح".
( )7/375
عسَى أَنْ َيكُونُوا خَيْرًا مِ ْنهُ ْم وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ
سخَرْ َقوْمٌ مِنْ َقوْمٍ َ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا يَ ْ
ن َومَنْ لَمْ يَ ُتبْ
سكُ ْم وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَ ْلقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ ا ْلفُسُوقُ َب ْعدَ الْإِيمَا ِ
ن وَلَا تَ ْلمِزُوا أَ ْنفُ َ
َيكُنّ خَيْرًا مِ ْنهُ ّ
فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ ()11
( )7/376
( )7/377
ضكُمْ َب ْعضًا
جسّسُوا وَلَا َيغْ َتبْ َب ْع ُ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظّنّ إِنّ َب ْعضَ الظّنّ إِ ْث ٌم وَلَا تَ َ
حبّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُوهُ وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َتوّابٌ رَحِيمٌ ()12
أَيُ ِ
ضكُمْ
جسّسُوا وَل َيغْ َتبْ َب ْع ُ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظّنّ إِنّ َب ْعضَ الظّنّ إِثْ ٌم وَل تَ َ
ح ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ َلحْمَ َأخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُو ُه وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َتوّابٌ رَحِيمٌ (} )12
حبّ أَ َ
َب ْعضًا أَيُ ِ
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن ،وهو التهمة والتخون للهل والقارب
والناس في غير محله ؛ لن بعض ذلك يكون إثما محضا ،فليجتنب كثير منه احتياطا ،وروينا
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،أنه قال :ول تظنن بكلمة خرجت من
أخيك المسلم إل خيرا ،وأنت تجد لها في الخير محمل (.)1
وقال أبو عبد ال بن ماجه :حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان
حمْصي ،حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن أبي قيس النّضري ،حدثنا ( )2عبد ال بن عمر ()3
ال ِ
قال :رأيت النبي صلى ال عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول " :ما أطيبك وأطيب ريحك ،ما
أعظمك وأعظم حرمتك .والذي نفس محمد بيده ،لحرمة المؤمن أعظم عند ال حرمة منك ،ماله
ودمه ،وأن يظن به إل خير ( .)4تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه (.)5
وقال مالك ،عن أبي الزّناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :إياكم والظن فإن الظن ( )6أكذب الحديث ،ول تجسسوا ول تحسسوا ،ول تنافسوا ،ول
تحاسدوا ،ول تباغضوا ،ول تدابروا ،وكونوا عباد ال إخوانا".
رواه البخاري عن عبد ال بن يوسف ،ومسلم عن يحيى بن يحيى ،وأبو داود عن العتبي
[ثلثتهم] ( ، )7عن مالك ،به (.)8
وقال سفيان بن عيينة ،عن الزهري ،عن أنس [رضي ال عنه] ( )9قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :ل تقاطعوا ،ول تدابروا ،ول تباغضوا ،ول تحاسدوا ،وكونوا عباد ال
إخوانا ،ول يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلثة أيام".
رواه مسلم والترمذي -وصححه -من حديث سفيان بن عيينة ،به (.)10
__________
( )1رواه أحمد في الزهد كما في الدر المنثور (.)7/565
( )2في ت " :وروى ابن ماجه بسنده عن".
( )3في ت " :بن عمر رضي ال عنه".
( )4في ت ،م " :خيرا".
( )5سنن ابن ماجه برقم ( )3932وقال البوصيري في الزوائد (" )3/223هذا إسناد فيه مقال ،
نصر بن محمد ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات ،وباقي رجال السناد ثقات".
( )6في ت ،م " :فإنه".
( )7زيادة من أ.
( )8الموطأ ( )2/908وصحيح البخاري برقم ( )6066وصحيح مسلم برقم (.)2563
( )9زيادة من ت.
( )10صحيح مسلم برقم ( ، )2559وسنن الترمذي برقم (.)1935
( )7/377
وقال ( )1الطبراني :حدثنا محمد بن عبد ال القِ ْرمِطي العدوي ،حدثنا بكر بن عبد الوهاب
المدني ،حدثنا إسماعيل بن قيس النصاري ،حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال ،عن
أبيه ،عن جده حارثة بن النعمان قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلث لزمات
لمتي :الطّيَ َرةُ ،والحسد وسوء الظن" .فقال رجل :ما يذهبهن يا رسول ال ممن هن فيه ؟ قال
" :إذا حسدت فاستغفر ال ،وإذا ظننت فل تحقق ،وإذا تطيرت فَأمض ( .)3( " )2وقال ( )4أبو
داود :حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ،حدثنا أبو معاوية ،عن العمش ،عن زيد قال :أتي ابن
مسعود ،رضي ال عنه ،برجل ( ، )5فقيل له :هذا فلن تقطر لحيته خمرا .فقال عبد ال :إنا
قد نهينا عن التجسس ،ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به (.)6
سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط (.)7
خوْلني ،عن كعب بن
وقال ( )8المام أحمد :حدثنا هاشم ،حدثنا لَيْث ،عن إبراهيم بن نَشِيط ال َ
علقمة ،عن أبي الهيثم ،عن دُخَيْن كاتب عقبة قال :قلت لعقبة :إن لنا جيرانا يشربون الخمر ،
وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم .قال :ل تفعل ،ولكن عظهم وتهددهم .قال :ففعل فلم ينتهوا .قال
:فجاءه ُدخَيْن فقال :إني قد نهيتهم فلم ينتهوا ،وإني داع لهم الشرط فيأخذونهم .قال :ل تفعل ،
ولكن عظهم وتهددهم .قال :ففعل فلم ينتهوا .قال :فجاءه دخين فقال :إني قد نهيتهم فلم ينتهوا ،
وإني داع لهم الشرط فتأخذهم .فقال له عقبة :ويحك ل تفعل ،فإني سمعت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها".
ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد ،به نحوه (.)9
وقال سفيان الثوري ،عن ثور ،عن راشد بن سعد ،عن معاوية قال :سمعت النبي صلى ال
عليه وسلم يقول " :إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم" أو " :كدت أن تفسدهم" .فقال أبو
الدرداء :كلمة سمعها معاوية من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،نفعه ال بها .رواه أبو داود
منفردا به من حديث الثوري ،به (.)10
وقال أبو داود أيضا :حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ،حدثنا إسماعيل بن عياش ،حدثنا
ض ْمضَم بن زُرَعَة ،عن شُرَيْح بن عبيد ،عن جُبَيْر بن ُنفَيْر ،وكثير بن مُرّة ،وعمرو بن
َ
السود ،والمقدام بن معد يكرب ( ، )11وأبي أمامة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن
المير إذا ابتغى الريبة في الناس ،
__________
( )1في ت " :وروى".
( )2في ت " :وإذا نظرت فاغضض" وفي م ،أ " :وإذا تطيرت فاغمض".
( )3المعجم الكبير ( ، )3/228قال الهيثمي في المجمع (" : )8/78فيه إسماعيل بن قيس
النصاري وهو ضعيف".
( )4في ت " :وروى".
( )5لفظة "برجل" غير موجودة بسنن أبي داود.
( )6سنن أبي داود برقم (.)4890
( )7وذلك لما أكثر الناس في الوليد بن عقبة ،وقد كان ابن مسعود على بيت المال في ولية
الوليد بن عقبة في عهد عثمان رضي ال عنه وقصة جلد الوليد على الخمر مشهورة في
الصحيحين.
( )8في ت " :وروى".
( )9المسند ( )4/153وسنن أبي داود برقم ( )4892والنسائي في السنن الكبري برقم (.)7283
( )10سنن أبي داود برقم (.)4888
( )11في م " :معدي كرب".
( )7/378
أفسدهم" (.)1
جسّسُوا } أي :على بعضكم بعضا .والتجسس غالبا يطلق في الشر ،ومنه
[وقوله] { )2( :وَل تَ َ
الجاسوس .وأما التحسس فيكون غالبا في الخير ،كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب [عليه السلم]
سفَ وَأَخِي ِه وَل تَيْأَسُوا مِنْ َروْحِ اللّهِ } [يوسف :
حسّسُوا مِنْ يُو ُ
( )3أنه قال { :يَا بَ ِنيّ اذْهَبُوا فَتَ َ
، ]87وقد يستعمل كل منهما في الشر ،كما ثبت في الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال " :ل تجسسوا ،ول تحسسوا ،ول تباغضوا ،ول تدابروا ،وكونوا عباد ال إخوانا" (.)4
وقال الوزاعي :التجسس :البحث عن الشيء .والتحسس :الستماع إلى حديث القوم وهم له
كارهون ،أو يتسمع على أبوابهم .والتدابر :الصّرْم .رواه ابن أبي حاتم.
ضكُمْ َب ْعضًا } فيه نهي عن الغيبة ،وقد فسرها الشارع كما جاء في
وقوله { :وَل َيغْ َتبْ َب ْع ُ
الحديث الذي رواه أبو داود :حدثنا ال َقعْنَبِي ،حدثنا عبد العزيز بن محمد ،عن العلء ،عن
أبيه ،عن أبي هريرة ( )5قال :قيل :يا رسول ال ،ما الغيبة ؟ قال " :ذكرك أخاك بما يكره".
قيل :أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال " :إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ،وإن لم يكن فيه
ما تقول فقد بهته".
ورواه الترمذي عن قتيبة ،عن الدّرَاوَرْدي ،به ( .)6وقال :حسن صحيح .ورواه ابن جرير عن
بُنْدَار ،عن غُنْدَر ،عن شعبة ،عن العلء ( .)7وهكذا قال ابن عمر ،ومسروق ،وقتادة ،وأبو
إسحاق ،ومعاوية بن قُرّة.
وقال ( )8أبو داود :حدثنا مُسَدّد ،حدثنا يحيى ،عن سفيان ،حدثني علي بن القمر ،عن أبي
حذيفة ،عن عائشة قالت :قلت للنبي صلى ال عليه وسلم :حسبك من صفية كذا وكذا! -قال
جتْ بماء البحر لمزجته" .قالت :وحكيت
غير مسدد :تعني قصيرة -فقال " :لقد قلت كلمة لو مُزِ َ
له إنسانا ،فقال صلى ال عليه وسلم " :ما أحب أني حكيت إنسانًا ،وإن لي كذا وكذا".
ي ،و َوكِيع ،ثلثتهم عن سفيان
ورواه الترمذي من حديث يحيى القَطّان ،وعبد الرحمن بن َمهْ ِد ّ
الثوري ،عن علي بن القمر ،عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الرحبي ،عن عائشة ،به .وقال
:حسن صحيح (.)9
وقال ابن جرير :حدثني ابن أبي الشوارب :حدثنا عبد الواحد بن زياد ،حدثنا سليمان
الشيباني ،حدثنا حسان بن المخارق ( )10؛ أن امرأة دخلت على عائشة ،فلما قامت لتخرج
أشارت عائشة بيدها
__________
( )1سنن أبي داود برقم (.)4889
( )2زيادة من ت.
( )3زيادة من ت.
( )4صحيح البخاري برقم (.)2442
( )5في ت " :أبي هريرة رضي ال عنه".
( )6سنن أبي داود برقم ( )4874وسنن الترمذي برقم (.)1935
( )7تفسير الطبري (.)26/86
( )8في ت " :وروى".
( )9سنن أبي داود برقم ( )4875وسنن الترمذي برقم (.)2503 ، 2502
( )10في ت " :وروى ابن جرير بسنده".
( )7/379
إلى النبي صلى ال عليه وسلم -أي :إنها قصيرة -فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :اغتبتيها"
(.)1
والغيبة محرمة بالجماع ،ول يستثنى من ذلك إل ما رجحت مصلحته ،كما في الجرح والتعديل
والنصيحة ،كقوله صلى ال عليه وسلم ( ، )2لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر " :ائذنوا له ،
بئس أخو العشيرة" ( ، )3وكقوله لفاطمة بنت قيس -وقد خطبها معاوية وأبو الجهم " : -أما
معاوية فصعلوك ( ، )4وأما أبو الجهم فل يضع عصاه عن عاتقه" ( .)5وكذا ما جرى مجرى
ذلك .ثم بقيتها على التحريم الشديد ،وقد ورد فيها الزجر الكيد ( )6؛ ولهذا شبهها تعالى بأكل
حمَ َأخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُوهُ } ؟
حبّ أَحَ ُد ُكمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ لَ ْ
اللحم من النسان الميت ،كما قال تعالى { :أَ ُي ِ
أي :كما تكرهون هذا طبعا ،فاكرهوا ذاك شرعا ؛ فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير
عنها والتحذير منها ،كما قال ،عليه السلم ،في العائد في هبته " :كالكلب يقيء ثم يرجع في
قيئه" ،وقد قال " :ليس لنا مثل السوء" .وثبت في الصحاح ( )7والحسان والمسانيد من غير وجه
أنه ،عليه السلم ،قال في خطبة [حجة] ( )8الوداع " :إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام ،كحرمة يومكم هذا ،في شهركم هذا ،في بلدكم هذا" (.)9
وقال ( )10أبو داود :حدثنا واصل بن عبد العلى ،حدثنا أسباط بن محمد ،عن هشام بن
سعد ،عن زيد بن أسلم ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :كل المسلم على المسلم حرام :ماله وعرضه ودمه ،حسب امرىء من الشر أن يحقر
أخاه المسلم".
ورواه الترمذي ( )11عن عبيد بن أسباط بن محمد ،عن أبيه ،به ( .)12وقال :حسن غريب.
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ( ، )13حدثنا السود بن عامر ،حدثنا أبو بكر بن عياش ،عن
العمش ،عن سعيد بن عبد ال ( )14بن جريج ،عن أبي برزة السلمي قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل اليمان قلبه ،ل تغتابوا المسلمين ،
ول تتبعوا عوراتهم ،فإنه من يتبع عوراتهم يتبع ال عورته ومن يتبع ال عورته يفضحه في
بيته".
تفرد به أبو داود ( .)15وقد روي من حديث البراء بن عازب ،فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده
:حدثنا إبراهيم بن دينار ،حدثنا مصعب بن سلم ،عن حمزة بن حبيب الزيات ،عن أبي
إسحاق
__________
( )1تفسير الطبري (.)26/87
( )2في ت " :عليه السلم".
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3132من حديث عائشة رضي ال عنها.
( )4في أ " :فصعلوك ل مال له".
( )5رواه مسلم في صحيحه برقم (.)1480
( )6في ت ،م " :الشديد".
( )7في ت ،م " :الصحيح".
( )8زيادة من ت ،م ،أ.
( )9رواه مسلم في صحيحه برقم ( )1218من حديث جابر رضي ال عنه.
( )10في ت " :وروى".
( )11في ت " :رواه الترمذي وحسنه".
( )12سنن أبي داود برقم ( )4882وسنن الترمذي برقم (.)1927
( )13في ت " :وروى أبو داود".
( )14في أ " :عبيد ال".
( )15سنن أبي داود برقم (.)4880
( )7/380
السّبِيعي ( ، )1عن البراء بن عازب ( )2قال :خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى أسمع
العواتق في بيوتها -أو قال :في خدورها -فقال " :يا معشر من آمن بلسانه ،ل تغتابوا
المسلمين ،ول تتبعوا عوراتهم ،فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع ال عورته ،ومن يتبع ال عورته
يفضحه ( )3في جوف بيته" (.)4
طريق أخرى عن ابن عمر :قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم السماعيلي :أخبرنا عبد ال بن ناجية
،حدثنا يحيى بن أكثم ،حدثنا الفضل بن موسى الشيباني ،عن الحسين بن واقد ،عن أوفى بن
دَ ْلهَم ،عن نافع ،عن ابن عمر ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يا معشر من آمن
بلسانه ولم ُي ْفضِ اليمانُ إلى قلبه ،ل تغتابوا المسلمين ،ول تتبعوا عوراتهم ؛ فإنه من يتبع
عورات المسلمين يتبع ال عورته ،ومن يتبع ال عورته يفضحه ولو في جوف رحله" .قال :
ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال :ما أعظمك وأعظم حرمتك ،وللمؤمن أعظمُ حرمة عند
ال منك (.)5
قال أبو داود :وحدثنا حَ ْيوَة بن شُرَيْح ،حدثنا َبقِيّة ،عن ابن ثوبان ،عن أبيه ،عن مكحول ،
عن وقاص بن ربيعة ،عن المستورد ؛ أنه حدثه :أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :من أكل
برجل مسلم أكلة فإن ال يطعمه مثلها في ( )6جهنم ( ، )7ومن كُسى ثوبا برجل مسلم فإن ال
يكسوه مثله في ( )8جهنم .ومن قام برجل مقام سمعةٍ ورياء فإن ال يقوم به مقام سمعة ورياء
يوم القيامة" .تفرد به أبو داود (.)9
وحدثنا ابن مصفى ،حدثنا بقية وأبو المغيرة قال حدثنا صفوان ،حدثني راشد بن سعد وعبد
الرحمن بن جبير ،عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لما عُرِج بي
مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ،يخمشون وجوههم وصدورهم ،قلت :من هؤلء يا جبرائيل
( )10؟ قال :هؤلء الذين يأكلون لحوم الناس ،ويقعون في أعراضهم".
تفرد به أبو داود ،وهكذا رواه المام أحمد ،عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي ،
به (.)11
وقال ( )12ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أحمد بن عبدة ،حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد
العزيز ابن عبد الصمد العمي ،حدثنا أبو هارون العَبْديّ ،عن أبي سعيد الخدري [رضي ال
عنه] ( )13قال :قلنا يا رسول ال ،حدثنا ما رأيت ليلة أسريَ بك ؟ ...قال " :ثم انطلق بي إلى
حذُون
خلق من خلق ال كثير ،رجال ونساء ُم َوكّل بهم رجال يعمدون إلى عُرْض جنَب أحدهم فَيَ ْ
منه الحُ ْذوَة من مثل النعل ثم يضعونه في فيّ أحدهم ،فيقال له " :كل كما ( )14أكلت" ،وهو يجد
من أكله الموت -يا
__________
( )1في ت " :وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده بسنده".
( )2في ت " :البراء بن عازب رضي ال عنه".
( )3في ت " :يفضحه ولو في".
( )4مسند أبي يعلى ( )3/237قال الهيثمي في المجمع (" : )8/93رجاله ثقات".
( )5ورواه الترمذي في السنن برقم ( )2032من طريق الفضل بن موسى به ،وقال " :هذا حديث
حسن غريب ل نعرفه إل من حديث الحسين بن واقد".
( )6في ت ،م ،أ " :من".
( )7في ت " :في نار جهنم".
( )8في أ " :من".
( )9سنن أبي داود برقم (.)4881
( )10في ت ،م " :جبريل".
( )11سنن أبي داود برقم ( ، )4878والمسند (.)3/224
( )12في ت " :وروى".
( )13زيادة من ت.
( )14في ت " :ما".
( )7/381
محمد -لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت :يا جبرائيل ( ، )1من هؤلء :قال :هؤلء
حمَ أَخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُوهُ
حبّ َأحَ ُد ُكمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ لَ ْ
الهمّازون اللمّازون أصحاب النميمة .فيقال ( { : )2أَ ُي ِ
} وهو يكره على أكل لحمه.
هكذا أورد هذا الحديث ،وقد سقناه بطوله في أول تفسير "سورة سبحان" ول الحمد (.)3
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده :حدثنا الربيع ،عن يزيد ،عن أنس ؛ أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ول يفطرن أحدٌ حتى آذن له .فصام الناس ،فلما
أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فيقول :ظللت منذ اليوم صائما ،
فائذن لي .فأفطر فيأذن له ،ويجيء الرجل فيقول ذلك ،فيأذن له ،حتى جاء رجل فقال :يا
رسول ال ،إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين ،فائذن لهما فَلْيفطرا فأعرض عنه ،ثم
أعاد ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما صامتا ،وكيف صام من ظل يأكل لحوم
الناس ؟ اذهب ،فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا" .ففعلتا ،فقاءت كل واحدة منهما عَلَقةً علقَةً
فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فأخبره ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو ماتتا وهما
فيهما لكلتهما النار" (.)4
إسناد ضعيف ،ومتن غريب .وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون :حدثنا سليمان
التيمي قال :سمعت رجل يحدث في مجلس أبي عثمان ال ّنهْدِي عن عبيد -مولى رسول ال ()5
-أن امرأتين صامتا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأن رجل أتى رسول ال فقال :
يا رسول ال ،إن هاهنا امرأتين صامتا ،وإنهما كادتا تموتان من العطش -أرَاهُ قال :بالهاجرة
-فأعرض عنه -أو :سكت عنه -فقال :يا نبي ال ،إنهما -وال قد ماتتا أو كادتا تموتان (
.)6فقال :ادعهما .فجاءتا ،قال :فجيء بقدح -أو عُسّ -فقال لحداهما " :قيئي" فقاءت من
قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح .ثم قال للخرى :قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما
ودما عبيطا وغيره حتى ملت القدح .فقال :إن هاتين صامتا عما أحل ال لهما ،وأفطرتا على
ما حرم ال عليهما ،جلست إحداهما إلى الخرى فجعلتا تأكلن لحوم الناس.
وهكذا قد رواه المام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي ،كلهما عن سليمان بن طِرْخان
التيمي ،به مثله أو نحوه ( .)7ثم رواه أيضا من حديث ُمسَدّد ،عن يحيى القَطّان ،عن عثمان
بن غياث ،حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان ،عن سعد -مولى رسول ال صلى ال عليه
وسلم -أنهم أمروا بصيام ،فجاء رجل في نصف النهار فقال :يا رسول ال ،فلنة وفلنة قد
بلغتا الجهد .فأعرض عنه مرتين أو ثلثا ،ثم قال " :ادعهما" .فجاء بعُس -أو :قَدَح -فقال
حمًا ودمًا عبيطا وقيحا ،وقال للخرى مثل ذلك ،فقال " :إن هاتين
لحداهما " :قيئي" ،فقاءت لَ ْ
صامتا عما أحل ال لهما ،وأفطرتا على ما حرم ال عليهما ،أتت إحداهما للخرى فلم تزال
تأكلن لحوم الناس حتى امتلت أجوافهما
__________
( )1في ت ،م " :جبريل".
( )2في أ " :فقال".
( )3عند الية الولى.
( )4مسند الطيالسي برقم (.)2107
( )5في ت ،م " :رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )6في ت " :أن تموتا".
( )7المسند ( )5/431ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم ( )171من طريق يزيد بن هارون
عن سليمان التيمي به.
( )7/382
قيحا" (.)1
وقال البيهقي :كذا قال "عن سعد" ،والول -وهو عبيد -أصح.
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا عمرو بن الضحاك بن مَخْلَد ،حدثنا أبي أبو عاصم ،حدثنا ابن
جُرَيْج ،أخبرني أبو الزبير ( )2عن ابن عَ ّم لبي هريرة أن ماعزًا جاء إلى رسول ال صلى ال
عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،إني قد زنيت فأعرض عنه -قالها أربعا -فلما كان في
الخامسة قال " :زنيت" ؟ قال :نعم .قال " :وتدري ما الزنا ؟" قال :نعم ،أتيت منها حراما ما
يأتي الرجل من امرأته حلل .قال " :ما تريد إلى هذا القول ؟" قال :أريد أن تطهرني .قال :
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المِيل في المكحلة
والرّشاء ( )3في البئر ؟" .قال :نعم ،يا رسول ال .قال :فأمر برجمه فرجم ،فسمع النبي
صلى ال عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه :ألم تر إلى هذا الذي ستر ال عليه فلم تدعه
نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب .ثم سار النبي صلى ال عليه وسلم حتى مَرّ بجيفة حمار فقال :أين
فلن وفلن ؟ أنزل فكل من جيفة هذا الحمار" قال غفر ال لك يا رسول ،ال وهل يُؤكل هذا ؟
قال " :فما نلتما من أخيكما ( )4آنفا أشد أكل من ،والذي نفسي بيده ،إنه الن لفي أنهار الجنة
ينغمس فيها" (] )5إسناده صحيح] (.)6
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد ،حدثني أبي ،حدثنا واصل -مولى ابن عيينة -حدثني
خالد بن عُ ْرفُطَة ،عن طلحة بن نافع ،عن جابر بن عبد ال قال :كنا مع النبي صلى ال عليه
وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أتدرون ما هذه الريح ؟
هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين (.)8( " )7
طريق أخرى :قال عبد بن حُميد في مسنده :حدثنا إبراهيم بن الشعث ،حدثنا الفُضيل بن
عياض ،عن سليمان ،عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع -عن جابر قال :كنا مع النبي
صلى ال عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة ( ، )9فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :إن نفرًا
من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين ،فلذلك بعثت هذه الريح" وربما قال " :فلذلك هاجت هذه
الريح" (.)10
حبّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ َلحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } :زعم أن سلمان الفارسي كان مع
وقال السدي في قوله { :أَيُ ِ
رجلين من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما ،وينال من طعامهما
،وأن سلمان لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان نائما ،لم يسر معهم ،فجعل صاحباه يكلمانه (
)11فلم يجداه ،فضربا الخِباء فقال ما يريد سليمان -أو :هذا العبد -شيئا غير هذا :أن يجيء
إلى طعام مقدور ،وخباء مضروب! فلما جاء سلمان أرسله إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم
يطلب لهما إداما ،فانطلق فأتى رسول
__________
( )1المسند (.)5/431
( )2في ت " :وروى الحافظ أبو يعلى بمسنده".
( )3في ت ،م ،أ " :والعصا".
( )4في ت " :من عرض أخيكما".
( )5مسند أبي يعلى ( )6/524ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( )8/227من طريق عمرو بن
الضحاك به ؛ ورواه أبو داود في السنن برقم ( )4429من طريق الضحاك به.
( )6زيادة من ت.
( )7في ت ،أ " :الناس".
( )8المسند ( )3/351قال الهيثمي في المجمع (" : )8/91رجاله ثقات".
( )9في م " :ريح شديدة منتنة".
( )10المنتخب برقم (.)1026
( )11في م " :يكلماه".
( )7/383
ال [صلى ال عليه وسلم] ( )1ومعه قَدَح له ،فقال :يا رسول ال ،بعثني أصحابي لِتؤ ِدمَهم إن
كان عندك ؟ قال " :ما يصنع أصحابك بالدْم ؟ قد ائتدموا" .فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،فانطلقا حتى أتيا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ل والذي بعثك
بالحق ،ما أصبنا طعاما منذ نزلنا .قال " :إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما".
حمَ أَخِيهِ مَيْتًا } ،إنه كان نائما (.)2
حبّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ لَ ْ
قال :ونزلت { :أَيُ ِ
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المختارة" من طريق حَبّان بن هلل ،عن حماد بن
سلمة ،عن ثابت ،عن أنس بن مالك قال :كانت العرب تخدم بعضها بعضا في السفار ،وكان
مع أبي بكر وعمر ما رجل يخدمهما ،فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما ،فقال إن هذا لنؤوم ،
فأيقظاه ،فقال له :ائت رسول ال فقل له :إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلم ،ويستأدمانك.
فقال " :إنهما قد ائتدما" فجاءا فقال يا رسول ال ،بأي شيء ائتدمنا ؟ فقال " :بلحم أخيكما ،
والذي نفسي بيده ،إني لرى لحمه بين ثناياكما" .فقال استغفر لنا يا رسول ال فقال " :مُرَاه
فليستغفر لكما" (.)3
وقال ( )4الحافظ أبو يعلى :حدثنا الحكم بن موسى ،حدثنا محمد بن مسلم ،عن محمد بن
إسحاق ،عن عمه موسى بن يَسار ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من أكل من لحم أخيه في الدنيا ،قُرّب له لحمه في الخرة ،فيقال له :كله مَيْتًا كما أكلته حَيّا.
قال :فيأكله و َيكْلَح ويصيح" .غريب جدا (.)5
وقوله { :وَا ّتقُوا اللّهَ } أي :فيما أمركم به ونهاكم عنه ،فراقبوه في ذلك واخشوا منه { ،إِنّ اللّهَ
َتوّابٌ َرحِيمٌ } أي :تواب على من تاب إليه ،رحيم بمن رجع إليه ،واعتمد عليه.
قال الجمهور من العلماء :طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع ( )6عن ذلك ،ويعزم على أل
يعود .وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع ،وأن يتحلل من الذي اغتابه .وقال آخرون :ل
يشترط أن يتحلله فإنه إذا ( )7أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه ،فطريقه
إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ،وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ،
فتكون ( )8تلك بتلك ،كما قال ( )9المام أحمد :
حدثنا أحمد بن الحجاج ،أخبرنا عبد ال ،أخبرنا يحيى بن أيوب ،عن عبد ال بن سليمان ؛ أن
جهَنِيّ أخبره ،عن أبيه ،عن (
إسماعيل بن يحيى المعَافِريّ أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس ال ُ
)10النبي
__________
( )1زيادة من ت.
( )2رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (.)7/570
( )3المختارة برقم (.)1697
( )4في ت " :وروى".
( )5ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )4961مجمع البحرين" من طريق محمد بن
سلمة عن محمد بن إسحاق به ،وقال :لم يروه عن ابن إسحاق إل محمد بن سلمة وقد وقع هنا
"محمد بن مسلم" وأظنه تصحيفا ،لكني ل أستطيع الجزم بذلك قال الهيثمي في المجمع (: )8/92
"فيه ابن إسحاق وهو مدلس ومن لم أعرفه".
( )6في م " :يرجع".
( )7في ت " :لو".
( )8في ت " :لتكون".
( )9في ت " :روى".
( )10في ت " :أن".
( )7/384
صلى ال عليه وسلم قال " :من حمى مؤمنا من منافق يعيبه ( ، )1بعث ال إليه ملكا يحمي لحمه
يوم القيامة من نار جهنم .ومن رمى مؤمنا بشيء يريد شينه ،حبسه ال على جسر جهنم حتى
يخرج مما قال" .وكذا رواه أبو داود من حديث عبد ال -وهو ابن المبارك -به بنحوه (.)2
وقال ( )3أبو داود أيضا :حدثنا إسحاق بن الصباح ،حدثنا ابن أبي مريم ،أخبرنا الليث :
حدثني يحيى بن سليم ؛ أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول :سمعت جابر بن عبد ال ،وأبا طلحة
بن سهل النصاري يقولن :قال ( )4رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما من امرىء يخذل
امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه ،إل خذله ال في مواطن يحب
فيها نصرته .وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه ،وينتهك فيه
من حرمته ( ، )5إل نصره ال في مواطن يحب فيها نصرته" .تفرد به أبو داود (.)6
شعُوبًا َوقَبَا ِئلَ لِ َتعَا َرفُوا إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عِنْدَ اللّهِ
جعَلْنَاكُمْ ُ
{ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُمْ مِنْ َذكَ ٍر وَأُنْثَى وَ َ
أَ ْتقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (} )13
يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة ،وجعل منها زوجها ،وهما آدم وحواء ،
وجعلهم شعوبا ،وهي أعم من القبائل ،وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر
والفخاذ وغير ذلك.
وقيل :المراد بالشعوب بطون العَجَم ،وبالقبائل بطون العرب ،كما أن السباط بطون بني
إسرائيل .وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب " :النباه" لبي عمر ( )7بن عبد
البر ،ومن كتاب "القصد والمم ،في معرفة أنساب العرب والعجم" .فجميع الناس في الشرف
بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء ،وإنما يتفاضلون بالمور الدينية ،وهي طاعة ال ومتابعة
رسوله صلى ال عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا ،
شعُوبًا
جعَلْنَاكُمْ ُ
منبها على تساويهم في البشرية { :يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُمْ مِنْ َذكَ ٍر وَأُنْثَى وَ َ
َوقَبَائِلَ لِ َتعَا َرفُوا } أي :ليحصل التعارف بينهم ،كلٌ يرجع إلى قبيلته.
وقال مجاهد في قوله { :لِ َتعَا َرفُوا } ،كما يقال :فلن بن فلن من كذا وكذا ،أي :من قبيلة كذا
وكذا.
حمْير ينتسبون إلى ُمخَاليفها ،وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى
وقال سفيان الثوري :كانت ِ
قبائلها.
وقد قال ( )8أبو عيسى الترمذي :حدثنا أحمد بن محمد ،حدثنا عبد ال بن المبارك ،عن عبد
__________
( )1في أ "بغيبة".
( )2المسند ( )3/441وسنن أبي داود برقم (.)4883
( )3في ت " :وروى".
( )4في ت " :أن".
( )5في أ " :عرضه".
( )6سنن أبي داود برقم (.)4884
( )7في م " :عمرو".
( )8في ت " :وروى".
( )7/385
الملك بن عيسى الثقفي ،عن يزيد -مولى المنبعث -عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ؛ فإن صلة الرحم محبة في الهل ،مثراة
في المال ،منسأة في الثر" .ثم قال :غريب ،ل نعرفه إل من هذا الوجه (.)1
وقوله { :إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَ ْتقَاكُمْ } أي :إنما تتفاضلون عند ال بالتقوى ل بالحساب .وقد
وردت الحاديث بذلك عن رسول ال صلى ال عليه وسلم :
قال ( )2البخاري رحمه ال :حدثنا محمد بن سلم ،حدثنا عبدة ،عن عبيد ال ،عن سعيد بن
أبي سعيد ،عن أبي هريرة قال :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أي الناس أكرم ؟ قال :
"أكرمهم عند ال أتقاهم" قالوا :ليس عن هذا نسألك .قال " :فأكرم الناس يوسف نبي ال ،ابن نبي
ال ،ابن خليل ال" .قالوا :ليس عن هذا نسألك .قال " :فعن معادن العرب تسألوني ؟" قالوا :
نعم .قال " :فخياركم في الجاهلية خياركم في السلم إذا فَ ِقهُوا" (.)3
وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان ( .)4ورواه النسائي في
التفسير من حديث عبيد ال -وهو ابن عمر العمري -به (.)5
حديث آخر :قال مسلم ( ، )6رحمه ال :حدثنا عمرو الناقد ،حدثنا كَثِير بن هشام ،حدثنا جعفر
بن برقان ،عن يزيد بن الصم ،عن أبي هريرة ( )7قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :إن ال ل ينظر إلى صوركم وأموالكم ،ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان ،عن كَثِير بن هشام ،به (.)8
حديث آخر :وقال ( )9المام أحمد :حدثنا وكيع ،عن أبي هلل ،عن بكر ،عن أبي ذر قال :
إن النبي صلى ال عليه وسلم قال له " :انظر ،فإنك لست بخير من أحمر ول أسود إل أن تفضله
بتقوى ( .)10تفرد به أحمد (.)11
حديث آخر :وقال ( )12الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم
العسكري ،حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جَبَلة ،حدثنا عبيد بن حنين الطائي ،سمعت محمد
بن حبيب بن خِرَاش ال َعصَ ِريّ ،يحدث عن أبيه :أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول
( : )13المسلمون إخوة ،ل
__________
( )1سنن الترمذي برقم (.)1979
( )2في ت " :فروى".
( )3صحيح البخاري برقم (.)4689
( )4صحيح البخاري برقم (.)3383 ، 3374
( )5النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11250
( )6في ت " :وروى".
( )7في ت " :أبي هريرة رضي ال عنه".
( )8صحيح مسلم برقم ( )2564وسنن ابن ماجه برقم (.)4143
( )9في ت " :وروى".
( )10في ت " :بتقوى ال".
( )11المسند (.)5/158
( )12في ت " :وروى".
( )13في ت " :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال".
( )7/386
( )7/387
يقول تعالى منكرا على العراب الذين أول ما دخلوا في السلم ادعوا لنفسهم مقام اليمان ،ولم
خلِ
سَلمْنَا وََلمّا َيدْ ُ
يتمكن اليمان في قلوبهم بعد { :قَاَلتِ العْرَابُ آمَنّا ُقلْ لَمْ ُت ْؤمِنُوا وََلكِنْ قُولُوا أَ ْ
اليمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } .وقد استفيد من هذه الية الكريمة :أن اليمان أخص من السلم كما هو
مذهب أهل السنة والجماعة ،ويدل عليه حديث جبريل ،عليه السلم ،حين سأل عن السلم ،
ثم عن اليمان ،ثم عن الحسان ،فترقى من العم إلى الخص ،ثم للخص منه.
قال ( )1المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن عامر بن سعد بن
أبي وقاص ،عن أبيه قال :أعطى رسول ال صلى ال عليه وسلم رجال ولم يعط رجل منهم
شيئًا ،فقال سعد :يا رسول ال ،أعطيت فلنًا وفلنا ولم تُعط فلنًا شيئًا ،وهو مؤمن ؟ فقال
النبي صلى ال عليه وسلم " :أو مسلم" حتى أعادها سعد ثلثا ،والنبي صلى ال عليه وسلم يقول
" :أو مسلم" ثم قال النبي صلى ال عليه وسلم " :إني لعطي رجال وأدع من هو أحب إليّ منهم
فلم أعطيه شيئًا ؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم".
أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ،به (.)2
فقد فرق النبي صلى ال عليه وسلم بين المسلم والمؤمن ،فدل على أن اليمان أخص من
السلم .وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب اليمان من "صحيح البخاري" ول الحمد
والمنة .ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا ؛ لنه تركه من العطاء ووكله إلى ما
هو فيه من السلم ،فدل هذا على ( )3أن هؤلء العراب المذكورين في هذه الية ليسوا
بمنافقين ،وإنما هم مسلمون لم يستحكم اليمان في قلوبهم ،فادعوا لنفسهم مقاما أعلى مما
وصلوا إليه ،فأدبوا في ذلك .وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي ،وقتادة ،واختاره ابن
جرير .وإنما قلنا هذا لن البخاري ،رحمه ال ،ذهب إلى أن هؤلء كانوا منافقين يُظهرون
اليمان وليسوا كذلك .وقد روي عن سعيد بن جبير ،ومجاهد ،وابن زيد أنهم قالوا في قوله :
{ وََلكِنْ قُولُوا أَسَْلمْنَا } أي :استسلمنا خوف القتل والسباء .قال مجاهد :نزلت في بني أسد بن
خزيمة .وقال قتادة :نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
والصحيح الول ؛ أنهم قوم ادعوا لنفسهم مقام اليمان ،ولم يحصل لهم بعد ،فأدبوا وأعلموا أن
ذلك لم يصلوا إليه بعد ،ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا ،كما ذكر المنافقون في سورة براءة.
ل اليمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } أي :
خِوإنما قيل لهؤلء تأديبًا ُ { :قلْ لَمْ ُت ْؤمِنُوا وََلكِنْ قُولُوا َأسَْلمْنَا وََلمّا يَدْ ُ
لم تصلوا إلى حقيقة اليمان بعد.
عمَاِلكُمْ [شَيْئًا ] } ( )4أي :ل ينقصكم من
ثم قال { :وَإِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ل يَلِ ْتكُمْ مِنْ أَ ْ
شيْءٍ } [الطور .]21 :
عمَِلهِمْ مِنْ َ
أجوركم شيئا ،كقوله َ { :ومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ َ
غفُورٌ رَحِيمٌ } أي :لمن تاب إليه وأناب.
وقوله { :إِنّ اللّهَ َ
__________
( )1في ت " :وروى".
( )2المسند ( )1/176وصحيح البخاري برقم ( )27وصحيح مسلم برقم (.)150
( )3في ت " :إلى".
( )4زيادة من ت.
( )7/389
وقوله { :إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي :إنما المؤمنون ال ُكمّل { الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا }
أي :لم يشكوا ول تزلزلوا ،بل ثبتوا ( )1على حال واحدة ،وهي التصديق المحض ،
سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي :وبذلوا مهجهم ( )2ونفائس أموالهم في طاعة
{ وَجَاهَدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
ال ورضوانه { ،أُولَ ِئكَ ُهمُ الصّا ِدقُونَ } أي :في قولهم إذا قالوا " :إنهم مؤمنون" ،ل كبعض
العراب الذين ليس معهم من الدين إل الكلمة الظاهرة.
وقال ( )3المام أحمد :حدثنا يحيى بن غيلن ،حدثنا رِشْدين ،حدثني عمرو بن الحارث ،عن
أبي السمح ،عن أبي الهيثم ،عن أبي سعيد ( )4قال :إن النبي صلى ال عليه وسلم قال :
"المؤمنون في الدنيا على ثلثة أجزاء [ :الذين] ( )5آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل ال .والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم .ثم الذي إذا أشرف على
طمع تركه ل ،عز وجل" (.)6
وقوله ُ { :قلْ أَ ُتعَّلمُونَ اللّهَ ِبدِي ِنكُمْ } أي :أتخبرونه ( )7بما في ضمائركم { ،وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا فِي
س َموَاتِ َومَا فِي ال ْرضِ } أي :ل يخفى عليه مثقال ذرة في الرض ول في السماء ،ول
ال ّ
شيْءٍ عَلِيمٌ }.
أصغر من ذلك ول أكبر { ،وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
ثم قال [تعالى] (َ { : )8يمُنّونَ عَلَ ْيكَ أَنْ أَسَْلمُوا } ،يعني :العراب [الذين] ( )9يمنون بإسلمهم
ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول ،يقول ال ردًا عليهم ُ { :قلْ ل َتمُنّوا عََليّ ِإسْل َمكُمْ } ،فإن
نفع ذلك إنما يعود عليكم ،ول المنة عليكم فيه َ { ،بلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْي ُكمْ أَنْ َهدَاكُمْ لِليمَانِ إِنْ كُنْ ُتمْ
صَا ِدقِينَ } أي :في دعواكم ذلك ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم للنصار يوم حنين " :يا
معشر النصار ،ألم أجدكم ضلل فهداكم ال بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم ال بي ؟ وعالة فأغناكم
ال بي ؟" كلما قال شيئًا قالوا :ال ورسوله َأمَنّ (.)10
وقال ( )11الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ،حدثنا يحيى بن سعيد
الموي ،عن محمد بن قيس ،عن أبي عون ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس [رضي ال
عنهما] ( )12قال :جاءت بنو أسد إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا :يا رسول ال ،
أسلمنا وقاتلتك العرب ،ولم تقاتلك ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن فقههم قليل ،وإن
الشيطان ينطق ( )13على ألسنتهم" .ونزلت هذه الية َ { :يمُنّونَ عَلَ ْيكَ أَنْ أَسَْلمُوا ُقلْ ل َتمُنّوا عََليّ
إِسْل َمكُمْ َبلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْيكُمْ أَنْ هَدَا ُكمْ لِليمَانِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ }
__________
( )1في ت " :تثبتوا".
( )2في ت " :مهجتهم".
( )3في ت " :وروى".
( )4في ت " :أبي سعيد رضي ال عنه".
( )5زيادة من ت ،أ ،والمسند.
( )6المسند ( )3/8وفي إسناده بن أبي السمح عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
( )7في ت " :أتخبرون".
( )8زيادة من ت.
( )9زيادة من ت ،أ.
( )10رواه البخاري في صحيحه برقم ( )4330من حديث عبد ال بن زيد بن عاصم رضي ال
عنه.
( )11في ت " :وروى".
( )12زيادة من ت.
( )13في أ " :ينطق".
( )7/390
ثم قال :ل نعلمه يروى إل من هذا الوجه ،ول نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد ال ،عن
سعيد بن جبير ،غير ( )1هذا الحديث (.)2
ثم كرر الخبار بعلمه بجميع الكائنات ،وبصره بأعمال المخلوقات فقال { :إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ غَ ْيبَ
ض وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ }
س َموَاتِ وَال ْر ِ
ال ّ
آخر تفسير الحجرات ،ول الحمد والمنة
__________
( )1في أ " :سوى".
( )2ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم ( )11519من طريق يحيى بن سعيد الموي به.
( )7/391
تفسير سورة ق
وهي مكية.
وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح ،وقيل :من الحجرات .وأما ما يقوله
العامة ( : )1إنه من(عَمّ) فل أصل له ،ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين ( )2فيما نعلم .والدليل
على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه ،باب "تحزيب القرآن" ثم قال :
حدثنا مُسَدّد ،حدثنا قُرّان بن تمام ( ،ح) وحدثنا عبد ال بن سعيد أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو
خالد سليمان بن حبان -وهذا لفظه -عن عبد ال بن عبد الرحمن بن يعلى ،عن عثمان بن عبد
ال بن أوس ،عن جده -قال عبد ال بن سعيد :حدثنيه أوس بن حذيفة -ثم اتفقا .قال :قدمنا
على رسول ال صلى ال عليه وسلم في وفد ثقيف ،قال :فنزلت الحلف على المغيرة بن شعبة
،وأنزل رسول ال صلى ال عليه وسلم بني مالك في قُبة له -قال مسَدّد :وكان في الوفد الذين
قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم من ثقيف ،قال :كان رسول ال [صلى ال عليه
وسلم] ( )3كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا -قال أبو سعيد :قائما على رجليه حتى يراوح بين
رجليه من طول القيام -فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش ،ثم يقول :ل سواء ( )4وكنا
مستضعفين مستذلين -قال مُسدّد :بمكة -فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا
وبينهم ،ندال عليهم ويدالون علينا .فلما كانت ليلة أبطأ ( )5عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ،فقلنا
:لقد أبطأت عنا ( )6الليلة! قال " :إنه طرأ علي حزبي من القرآن ،فكرهت أن أجيء حتى
أتمه" .قال أوس :سألت أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم :كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا
:ثلث ،وخمس ،وسبع ،وتسع ،وإحدى عشرة ،وثلث عشرة ،وحزب المفصل وحده.
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ،عن أبي خالد الحمر ،به .ورواه المام أحمد عن
عبد الرحمن بن مهدي ،عن عبد ال بن عبد الرحمن ،هو ابن ( )7يعلى الطائفي به (.)8
إذا علم هذا ،فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة ،فالتي بعدهن سورة "ق" .بيانه :ثلث :البقرة ،
وآل عمران ،والنساء .وخمس :المائدة ،والنعام ،والعراف ،والنفال ،وبراءة .وسبع :
يونس ،وهود ،ويوسف ،والرعد ،وإبراهيم ،والحجر ،والنحل .وتسع :سبحان ،والكهف ،
ومريم ،وطه ،والنبياء ،والحج ،والمؤمنون ،والنور ،والفرقان .وإحدى عشرة :الشعراء ،
والنمل ،والقصص ،والعنكبوت ،والروم ،ولقمان ،والم ،السجدة ،والحزاب ،وسبأ ،
وفاطر ،و يس .وثلث عشرة :الصافات ،وص ،والزمر ،وغافر ،و حم ،السجدة ،وحم
عسق ،والزخرف ،والدخان ،والجاثية ،
__________
( )1في م ،أ " :العوام".
( )2في أ " :المفسرين".
( )3زيادة من م ،أ.
( )4في م ،أ " :ل أساء".
( )5في م " :أبطأ علينا".
( )6في أ " :علينا".
( )7في أ " :أبو".
( )8سنن أبي داود برقم ( )1393وسنن ابن ماجه برقم ( ، )1345والمسند (.)4/9
( )7/392
والحقاف ،والقتال ،والفتح ،والحجرات .ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة ،
رضي ال عنهم .فتعين أن أوله سورة "ق" وهو الذي قلناه ( ، )1ول الحمد والمنة.
ضمْرة بن سعيد ،عن عُبَيد
قال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا مالك ،عن َ
ال ( )2بن عبد ال ؛ أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي :ما كان رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقرأ في العيد ؟ قال :بقاف ،واقتربت.
ورواه مسلم وأهل السنن الربعة ،من حديث مالك ،به ( .)3وفي رواية لمسلم عن فليح ( )4عن
ضمرة ،عن عبيد ال ( ، )5عن أبي واقد قال :سألني عمر ،فذكره (.)6
حديث آخر :وقال أحمد :حدثنا يعقوب ،حدثنا أبي ،عن ابن إسحاق ،حدثني عبد ال بن محمد
بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ،عن يحيى بن عبد ال بن عبد الرحمن بن سعد ( )7بن زُرَارة ،
عن أم هشام بنت حارثة قالت :لقد كان تَنّورنا وتنور النبي صلى ال عليه وسلم واحدا سنتين ،
أو سنة وبعض سنة ،وما أخذت { ق وَالْقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ } إل على لسان رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
رواه مسلم [أيضا] ( )8من حديث ابن إسحاق ،به (.)9
وقال أبو داود :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن خبيب (، )10
عن عبد ال بن محمد بن معن ،عن ابنة الحارث بن النعمان قالت :ما حفظت "ق" إل من فِي
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،يخطب بها كل جمعة .قالت :وكان تنورنا وتنور رسول ال
صلى ال عليه وسلم واحدًا.
وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ،من حديث شعبة ،به (.)11
والقصد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ،كالعيد
والجمع ،لشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ،والمعاد والقيام ،والحساب ،والجنة
والنار ،والثواب والعقاب ،والترغيب والترهيب.
عجِيبٌ ( )2أَ ِئذَا
شيْءٌ َ
عجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُ ْنذِرٌ مِ ْنهُمْ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا َ
{ ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ (َ )1بلْ َ
حفِيظٌ (َ )4بلْ
مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا ذَِلكَ َرجْعٌ َبعِيدٌ ( )3قَدْ عَِلمْنَا مَا تَ ْن ُقصُ ال ْرضُ مِ ْنهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ َ
حقّ َلمّا جَاءَ ُهمْ َفهُمْ فِي َأمْرٍ مَرِيجٍ (} )5
كَذّبُوا بِالْ َ
__________
( )1في أ " :قدمناه".
( )2في م " :عبد ال".
( )3المسند ( )5/217وصحيح مسلم برقم ( ، )891وسنن أبي داود برقم ( )1154وسنن الترمذي
برقم ( )534وسنن النسائي ( )3/183وسنن ابن ماجه برقم (.)1282
( )4في م ،أ " :مالك".
( )5في م " :عبد ال".
( )6صحيح مسلم برقم (.)891
( )7في م ،أ " :أسعد".
( )8زيادة من م.
( )9المسند ( )6/435وصحيح مسلم برقم (.)873
( )10في م ،أ " :حبيب".
( )11سنن أبي داود برقم ( )1100وصحيح مسلم برقم ( )873وسنن النسائي ( )2/157لكنه ليس
من هذا الطريق.
( )7/393
{ ق } :حرف من حروف الهجاء المذكورة ( )1في أوائل السور ،كقوله ( :ص ،ن ،الم ،حم
،طس) ونحو ذلك ،قاله مجاهد وغيره .وقد أسلفنا الكلم عليها ،في أول "سورة البقرة" بما
أغنى عن إعادته.
وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا { ق } :جبل محيط بجميع الرض ،يقال له جبل قاف.
وكأن هذا -وال أعلم -من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ،لما رأى من
جواز الرواية عنهم فيما ( )2ل يصدق ول يكذب .وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلق
بعض زنادقتهم ،يلبسون به على الناس أمر دينهم ،كما افترى في هذه المة -مع جللة قدر
علمائها وحفاظها وأئمتها -أحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم وما بالعهد من قدم ،فكيف
بأمة بني إسرائيل مع طول المدى ،وقلة الحفاظ النقاد فيهم ،وشربهم الخمور ( ، )3وتحريف
علمائهم الكلم عن مواضعه ،وتبديل كتب ال وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله :
"وحدثوا عن بني إسرائيل ،ول حرج" فيما قد يجوزه العقل ،فأما فيما تُحيله العقول ويحكم عليه
بالبطلن ،ويغلب على الظنون كذبه ،فليس من هذا القبيل -وال أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ،وكذا طائفة كثيرة من الخلف ،من الحكاية عن كتب
أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ،وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ،ول الحمد والمنة ،حتى
إن المام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ،رحمه ال ،أورد هاهنا أثرا غريبا ل
يصح سنده عن ابن عباس فقال :
حدثنا أبي قال :حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي :حدثنا ليث بن أبي سليم ،عن
مجاهد ،عن ابن عباس قال :خلق ال من وراء هذه الرض بحرًا محيطًا ،ثم خلق من وراء
ذلك جبل يقال له "ق" السماء الدنيا مرفوعة عليه .ثم خلق ال من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك
الرض سبع مرات .ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطًا بها ،ثم خلق من وراء ذلك جبل يقال له
"ق" السماء الثانية مرفوعة عليه ،حتى عد سبع أرضين ،وسبعة أبحر ،وسبعة أجبل ،وسبع
سموات .قال :وذلك قوله { :وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِنْ َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ } [لقمان .]27 :
فإسناد هذا الثر فيه انقطاع ،والذي رواه ابن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله { :ق } قال :
هو اسم من أسماء ال ،عز وجل.
والذي ثبت عن مجاهد :أنه حرف من حروف الهجاء ،كقوله ( :ص ،ن ،حم ،طس ،الم)
ونحو ذلك .فهذه تُ ْبعِد ما تقدم عن ابن عباس.
وقيل :المراد "قضِي المر والِ" ،وأن قوله { :ق } دلت على المحذوف من بقية الكلم ()4
كقول
__________
( )1في م " :الذي تقدم ذكرها".
( )2في م " :مما".
( )3في أ " :الخمر".
( )4في م ،أ " :الكلمة".
( )7/394
( )7/395
سمَاءِ َف ْوقَهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا َومَا َلهَا مِنْ فُرُوجٍ ( )6وَالْأَ ْرضَ مَ َددْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا
َأفَلَمْ يَ ْنظُرُوا إِلَى ال ّ
سيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ ( )7تَ ْبصِ َر ًة وَ ِذكْرَى ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( )8وَنَزّلْنَا مِنَ
فِيهَا َروَا ِ
سقَاتٍ َلهَا طَلْعٌ َنضِيدٌ ( )10رِ ْزقًا
خلَ بَا ِ
حصِيدِ ( )9وَالنّ ْ
حبّ الْ َ
سمَاءِ مَاءً مُبَا َركًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَ َ
ال ّ
لِ ْلعِبَا ِد وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ا ْلخُرُوجُ ()11
سمَاءِ َف ْو َقهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا َومَا َلهَا مِنْ فُرُوجٍ ( )6وَال ْرضَ مَدَدْنَاهَا
{ َأفََلمْ يَنْظُرُوا ِإلَى ال ّ
ي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ ( )7تَ ْبصِ َرةً وَ ِذكْرَى ِل ُكلّ عَ ْبدٍ مُنِيبٍ ( )8وَنزلْنَا
سَوَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ
سقَاتٍ َلهَا طَلْعٌ َنضِيدٌ ()10
خلَ بَا ِ
حصِيدِ ( )9وَالنّ ْ
حبّ الْ َ
سمَاءِ مَاءً مُبَا َركًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَ َ
مِنَ ال ّ
رِ ْزقًا لِ ْلعِبَا ِد وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ا ْلخُرُوجُ (} )11
يقول تعالى منبها للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين
سمَاءِ َف ْو َقهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا } ؟ أي :بالمصابيح َ { ،ومَا َلهَا
لوقوعه َ { :أفََلمْ يَنْظُرُوا إِلَى ال ّ
مِنْ فُرُوجٍ } .قال مجاهد :يعني من شقوق .وقال غيره :فتوق .وقال غيره :من صدوع.
حمَنِ مِنْ
س َموَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَ ْلقِ الرّ ْ
والمعنى متقارب ،كقوله تعالى { :الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ
َتفَا ُوتٍ فَارْجِعِ الْ َبصَرَ َهلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ .ثُمّ ارْجِعِ الْ َبصَرَ كَرّتَيْنِ يَ ْنقَلِبْ إِلَ ْيكَ الْ َبصَرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ
حسِيرٌ } [ الملك ] 4 ، 3 :أي :كليل ،أي :عن أن يرى عيبًا أو نقصًا.
َ
سيَ } وهي :الجبال ؛
وقوله { :وَال ْرضَ َمدَدْنَاهَا } أي :وسعناها وفرشناها { ،وَأَلْقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ
لئل تميد بأهلها وتضطرب ؛ فإنها ُمقَرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها { ،وَأَنْبَتْنَا
شيْءٍ
فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ } أي :من جميع الزروع والثمار والنبات والنواع َ { ،ومِنْ ُكلّ َ
خََلقْنَا َزوْجَيْنِ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ } [ الذاريات ، ] 49 :وقوله { :بهيج } أي :حسن نضر.
{ تَ ْبصِ َر ًة وَ ِذكْرَى ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } أي :ومشاهدة خلق السموات [والرض] ( )1وما جعل [ال] (
)2فيهما من اليات العظيمة تبصرة ودللة وذكرى لكل عبد منيب ،أي :خاضع خائف وجل
رَجّاع إلى ال عز وجل.
سمَاءِ مَاءً مُبَا َركًا } أي :نافعًا { ،فَأَنْبَتْنَا ِبهِ جَنّاتٍ } أي :حدائق من
وقوله تعالى { :وَنزلْنَا مِنَ ال ّ
حصِيدِ } وهو :الزرع الذي يراد لحبه وادخاره.
حبّ ا ْل َ
بساتين ونحوها { ،وَ َ
سقَاتٍ } أي :طوال شاهقات .وقال ابن عباس ،ومجاهد ،وعكرمة ،والحسن ،
خلَ بَا ِ
{ وَالنّ ْ
وقتادة ،والسدي ،وغيرهم :الباسقات الطوالَ { .لهَا طَ ْلعٌ َنضِيدٌ } أي :منضود { .رِ ْزقًا لِ ْلعِبَادِ }
أي :للخلق { ،وَأَحْيَيْنَا ِبهِ بَلْ َدةً مَيْتًا } وهي :الرض التي كانت هامدة ،فلما نزل عليها الماء
اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ،من أزاهير وغير ذلك ،مما يحار الطرف في ()3
حسنها ،وذلك بعد ما كانت ل نبات بها ،فأصبحت تهتز خضراء ،فهذا مثال للبعث بعد الموت
والهلك ،كذلك يحيي ال الموتى .وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره
س َموَاتِ وَال ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ } [ غافر :
الجاحدون للبعث ( )4كقوله تعالى َ { :لخَلْقُ ال ّ
ت وَال ْرضَ وَلَمْ َيعْيَ ِبخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ
س َموَا ِ
، ] 57وقوله َ { :أوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََلقَ ال ّ
شيْءٍ قَدِيرٌ } [ الحقاف ، ] 33 :وقال تعالى َ { :ومِنْ آيَا ِتهِ أَ ّنكَ
يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
شعَةً ( )5فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّزتْ وَرَ َبتْ إِنّ الّذِي أَحْيَاهَا َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى إِنّهُ
تَرَى ال ْرضَ خَا ِ
شيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت .] 39 :
عَلَى ُكلّ َ
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )2زيادة من أ.
( )3في م " :من".
( )4في م ،أ " :البعث".
( )5في م " :هامدة" وهو خطأ.
( )7/396
( )7/397
سوِسُ بِهِ َنفْسُ ُه وَ َنحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ ( )16إِذْ يَ َتَلقّى
ن وَ َنعْلَمُ مَا ُتوَ ْ
وَلَقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَا َ
شمَالِ َقعِيدٌ ( )17مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َقوْلٍ إِلّا َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ ( )18وَجَا َءتْ
ن وَعَنِ ال ّ
ا ْلمُتََلقّيَانِ عَنِ الْ َيمِي ِ
حقّ ذَِلكَ مَا كُ ْنتَ مِنْهُ َتحِيدُ ( )19وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َذِلكَ َيوْمُ ا ْلوَعِيدِ ( )20وَجَا َءتْ
سكْ َرةُ ا ْل َم ْوتِ بِالْ َ
َ
شفْنَا عَ ْنكَ غِطَا َءكَ فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ
غفْلَةٍ مِنْ َهذَا َفكَ َ
شهِيدٌ (َ )21لقَدْ كُ ْنتَ فِي َ
ق وَ َ
ُكلّ َنفْسٍ َم َعهَا سَا ِئ ٌ
حدِيدٌ ()22
َ
سوِسُ بِهِ َنفْسُهُ وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ (ِ )16إذْ يَتََلقّى
{ وََلقَدْ خََلقْنَا النْسَانَ وَ َنعْلَمُ مَا ُتوَ ْ
شمَالِ َقعِيدٌ ( )17مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َقوْلٍ إِل لَدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ ( )18وَجَا َءتْ
ن وَعَنِ ال ّ
ا ْلمُتََلقّيَانِ عَنِ الْ َيمِي ِ
حقّ ذَِلكَ مَا كُ ْنتَ مِنْهُ َتحِيدُ ( )19وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َذِلكَ َيوْمُ ا ْلوَعِيدِ ( )20وَجَا َءتْ
سكْ َرةُ ا ْل َم ْوتِ بِالْ َ
َ
شفْنَا عَ ْنكَ غِطَا َءكَ فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ
غفْلَةٍ مِنْ َهذَا َفكَ َ
شهِيدٌ (َ )21لقَدْ كُ ْنتَ فِي َ
ق وَ َ
ُكلّ َنفْسٍ َم َعهَا سَا ِئ ٌ
حدِيدٌ (} )22
َ
( )7/397
يخبر تعالى عن قدرته على النسان بأنه خالقه ،وعمله محيط بجميع أموره ،حتى إنه تعالى يعلم
ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر .وقد ثبت في الصحيح عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم أنه قال " :إن ال ( )1تجاوز لمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" (.)2
وقوله { :وَنَحْنُ َأقْ َربُ ِإلَيْهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ } يعني :ملئكته تعالى أقربُ إلى النسان من حبل
وريده ( )3إليه .ومن تأوله على العلم فإنما فر لئل يلزم حلول أو اتحاد ،وهما منفيان بالجماع ،
تعالى ال وتقدس ،ولكن اللفظ ل يقتضيه فإنه لم يقل :وأنا أقرب إليه من حبل الوريد ،وإنما
قال { :وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَ ْيهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ } كما قال في المحتضر { :وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِ ْن ُك ْم وََلكِنْ
ل تُ ْبصِرُونَ } [ الواقعة ، ] 85 :يعني ملئكته .وكما قال [تعالى] ( { : )4إِنّا َنحْنُ نزلْنَا ال ّذكْرَ
وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ } [ الحجر ، ] 9 :فالملئكة نزلت بالذكر -وهو القرآن -بإذن ال ،عز
وجل .وكذلك ( )5الملئكة أقرب إلى النسان من حبل وريده إليه بإقدار ( )6ال لهم على ذلك ،
فالملك َلمّة في النسان كما أن للشيطان لمة وكذلك " :الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" ،
كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ؛ ولهذا قال هاهنا { :إِذْ يَتََلقّى ا ْلمُتََلقّيَانِ } يعني :الملكين اللذين
شمَالِ َقعِيدٌ } أي :مترصد (.)7
ن وَعَنِ ال ّ
يكتبان عمل النسان { .عَنِ الْ َيمِي ِ
{ مَا يَ ْلفِظُ } أي :ابن آدم { مِنْ َقوْلٍ } أي :ما يتكلم بكلمة ( { )8إِل َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ } أي :إل
ولها من يراقبها معتد ( )9لذلك يكتبها ،ل يترك كلمة ول حركة ،كما قال تعالى { :وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ
لَحَا ِفظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ } [ النفطار .] 12 - 10 :
وقد اختلف العلماء :هل يكتب الملك كل شيء من الكلم ؟ وهو قول الحسن وقتادة ،أو إنما
يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس ،على قولين ،وظاهر الية الول ،لعموم
قوله { :مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َق ْولٍ إِل َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }
وقد قال المام أحمد :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي ،عن أبيه ،عن
جده علقمة ،عن بلل بن الحارث المزني قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الرجل
ليتكلم بالكلمة من رضوان ال تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ،يكتب ال له بها رضوانه إلى يوم
يلقاه ( .)10وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط ال ما يظن أن تبلغ ما بلغت ،يكتب ال عليه بها
( )11سخطه إلى يوم يلقاه" .قال :فكان علقمة يقول :كم من كلم قد منعنيه حديث بلل بن
الحارث.
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ،من حديث محمد بن عمرو به ( .)12وقال الترمذي :
حسن
__________
( )1في أ " :إن ال تعالى".
( )2صحيح البخاري برقم ( )5269وصحيح مسلم برقم (.)127
( )3في أ " :الوريد".
( )4زيادة من م ،أ.
( )5في أ " :ولذلك".
( )6في م " :باقتدار".
( )7في م " :مرصد".
( )8في م " :بكلم".
( )9في م " :معد".
( )10في أ " :القيامة".
( )11في م " :له بها عليه".
( )12المسند ( )3/469وسنن الترمذي برقم ( )2319والنسائي في السنن الكبرى ،كما في تحفة
الشراف ( )2/103وسنن ابن ماجه برقم (.)3969
( )7/398
( )7/399
( )7/400
( )7/401
( )7/402
ت وَ َتقُولُ َهلْ مِنْ مَزِيدٍ ( )30وَأُزِْلفَتِ ا ْلجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ َبعِيدٍ ( )31هَذَا
جهَنّمَ َهلِ امْتَلَ ْأ ِ
َيوْمَ َنقُولُ ِل َ
ب وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ ( )33ادْخُلُوهَا
حمَنَ بِا ْلغَ ْي ِ
شيَ الرّ ْ
خِحفِيظٍ ( )32مَنْ َ
مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ َ
بِسَلَامٍ ذَِلكَ َيوْمُ الْخُلُودِ (َ )34ل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ()35
بكل جبار ،ومن جعل مع ال إلها آخر ،ومن قتل نفسا بغير نفس ( .)1فتنطوي عليهم ،فتقذفهم
في غمرات جهنم" (.)2
{ قَالَ قَرِينُهُ } :قال ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،وغيرهم :هو الشيطان الذي وكل به :
طغَيْتُهُ } أي :يقول عن النسان الذي قد وافى القيامة كافرًا ،يتبرأ منه شيطانه ،
{ رَبّنَا مَا أَ ْ
طغَيْتُهُ } أي :ما أضللته { ،وََلكِنْ كَانَ فِي ضَللٍ َبعِيدٍ } أي :بل كان هو في
فيقول { :رَبّنَا مَا أَ ْ
نفسه ضال قابل للباطل معاندًا للحق .كما أخبر تعالى في الية الخرى في قوله َ { :وقَالَ
ق َووَعَدْ ُتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ لِي عَلَ ْي ُكمْ مِنْ
حّضيَ المْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ الْ َ
الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ
خ ُك ْم َومَا أَنْتُمْ
سكُمْ مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَل تَلُومُونِي وَلُومُوا أَ ْنفُ َ
سُ ْلطَانٍ إِل أَنْ دَ َ
عذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم .] 22 :
خيّ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَا أَشْ َركْ ُتمُونِي مِنْ قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ َ
ِب ُمصْرِ ِ
صمُوا لَ َديّ } يقول ( )3الرب عز وجل للنسي وقرينه من الجن ،وذلك
وقوله { :قَالَ ل تَخْ َت ِ
أنهما يختصمان بين يدي الحق فيقول النسي :يا رب ،هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني.
طغَيْتُ ُه وََلكِنْ كَانَ فِي ضَللٍ َبعِيدٍ } أي :عن منهج الحق .فيقول
ويقول الشيطان { :رَبّنَا مَا َأ ْ
صمُوا َل َديّ } أي :عندي َ { ،وقَدْ قَ ّد ْمتُ إِلَ ْيكُمْ بِا ْلوَعِيدِ } أي :قد
الرب عز وجل لهما { :ل َتخْ َت ِ
أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ،وأنزلت الكتب ،وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين.
{ مَا يُ َب ّدلُ ا ْلقَ ْولُ لَ َديّ } قال مجاهد :يعني قد قضيت ما أنا قاض َ { ،ومَا أَنَا ِبظَلمٍ لِ ْلعَبِيدِ } أي :
لست أعذب أحدا بذنب أحد ،ولكن ل أعذب أحدًا إل بذنبه ،بعد قيام الحجة عليه.
جهَنّمَ َهلِ امْتَلتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِنْ مَزِيدٍ ( )30وَأُزِْل َفتِ الْجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ َبعِيدٍ ()31
{ َيوْمَ َنقُولُ لِ َ
ب وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ ( )33ادْخُلُوهَا
حمَنَ بِا ْلغَ ْي ِ
شيَ الرّ ْ
خِحفِيظٍ ( )32مَنْ َ
هَذَا مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ َ
بِسَلمٍ ذَِلكَ َيوْمُ ا ْلخُلُودِ (َ )34ل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (} )35
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة :هل امتلت ؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة
والناس أجمعين ،فهو سبحانه يأمر بمن ( )4يأمر به إليها ،ويلقى وهي تقول َ { :هلْ مِنْ مَزِيدٍ }
أي :هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر من سياق الية ،وعليه تدل الحاديث :
عمَارة حدثنا
قال البخاري عند تفسير هذه الية :حدثنا عبد ال بن أبي السود ،حدثنا حَرَمي بن ُ
شعبة ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يُلقَى في النار ،
وتقول :هل من مزيد ،حتى يضع قدمه فيها ،فتقول قط قط" (.)5
__________
( )1في م " :حق".
( )2المسند (.)3/40
( )3في م " :يقوله".
( )4في م " :من".
( )5صحيح البخاري برقم (.)4848
( )7/403
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الوهاب ،عن سعيد ،عن قتادة ،عن أنس قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ل تزال جهنم يلقى فيها وتقول :هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة
فيها قدمه ،فينزوي بعضها إلى بعض ،وتقول :قط قط ،وعزتك وكَ َرمِك ول يزال في الجنة
فضل حتى ينشئ ال لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول ( )1الجنة" (.)2
ثم رواه مسلم من حديث قتادة ،بنحوه ( .)3ورواه أبان العطار وسليمان التيمي ،عن قتادة ،
بنحوه (.)4
حديث آخر :قال ( )5البخاري :حدثنا محمد بن موسى القطان ،حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد
عوْف ،عن محمد عن أبي هريرة -رفعه ،وأكثر ما كان يوقفه أبو
بن يحيى بن مهدي ،حدثنا َ
سفيان " : -يقال لجهنم :هل امتلت ،وتقول :هل من مزيد ،فيضع الرب ،عز وجل ،قدمه
عليها ( ، )6فتقول :قط قط" (.)7
رواه أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين ،به (.)8
طريق أخرى :قال ( )9البخاري :وحدثنا عبد ال بن محمد ،حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا معمر
عن همام ( )10عن أبي هريرة قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :تحاجت الجنة والنار ،
فقالت النار :أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين .وقالت الجنة :ما لي ل يدخلني إل ضعفاء الناس
وسقطهم .قال ال ،عز وجل ،للجنة :أنت رحمتي ،أرحم بك من أشاء من عبادي .وقال للنار
:إنما أنت عذابي ،أعذب بك من أشاء من عبادي ،ولكل واحدة منكما ملؤها ،فأما النار فل
تمتلئ حتى يضع رجله ،فتقول :قط قط ،فهنالك تمتلئ ويزوي ( )11بعضها إلى بعض ول
يظلم ال من خلقه أحدا ،وأما الجنة فإن ال ينشئ لها خلقا آخر" (.)12
حديث آخر :قال ( )13مسلم في صحيحه :حدثنا عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا جرير ،عن
العمش ،عن أبي صالح ،عن أبي سعيد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :احتجت
ي ضعفاء الناس
الجنة والنار ،فقالت النار :فيّ الجبارون والمتكبرون .وقالت الجنة :ف ّ
ومساكينهم .فقضى بينهما ،فقال للجنة :إنما أنت رحمتي ،أرحم بك من أشاء من عبادي .وقال
للنار :إنما أنت عذابي ،أعذب بك من
__________
( )1في أ " :فضل".
( )2المسند (.)3/234
( )3صحيح مسلم برقم (.)4848
( )4أخرجه الطبري في تفسيره (.)26/106
( )5في م " :وقال".
( )6في م " :عليها قدمه".
( )7صحيح البخاري برقم (.)4849
( )8رواه احمد في مسنده ( )2/507من طريق هشام بن حسان به .ورواه الطبري في تفسيره (
)26/107من طريق أيوب وهشام بن حسان به.
( )9في م " :وقال".
( )10في م " :همام بن منبه".
( )11في أ " :ينزوي".
( )12صحيح البخاري برقم (.)4850
( )13في م " :وقال".
( )7/404
أشاء من عبادي ،ولكل واحدة منكما ملؤها" انفرد به مسلم دون البخاري ( )1من هذا الوجه .وال
،سبحانه وتعالى ،أعلم.
وقد رواه المام أحمد من طريق أخرى ،عن أبي سعيد بأبسط من هذا السياق فقال :
حدثنا حسن وروح قال حدثنا حماد بن سلمة ،عن عطاء بن السائب ،عن عبيد ال بن عبد ال
بن عتبة ،عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :افتخرت الجنة
والنار ،فقالت النار :يا رب ،يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والشراف .وقالت الجنة :
أي رب ،يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين .فيقول ال ،عز وجل ،للنار :أنت عذابي ،
أصيب بك من أشاء .وقال للجنة :أنت رحمتي ،وسعت كل شيء ،ولكل واحدة منكما ملؤها ،
فيلقى في النار أهلها فتقول :هل من مزيد ؟ قال :ويلقى فيها وتقول :هل من مزيد ؟ ويلقى فيها
وتقول :هل من مزيد ؟ حتى يأتيها ( )2عز وجل ،فيضع قدمه عليها ،فتزوي وتقول :قدني ،
قدني .وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء ال أن يبقى ،فينشئ ال لها خلقا ما يشاء" (.)3
حديث آخر :وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده :حدثنا عقبة بن ُمكْرَم ،حدثنا يونس ،حدثنا عبد
الغفار بن القاسم ،عن عُدي بن ثابت ،عن زِرّ بن حُبَيْش ،عن أبي بن كعب ؛ أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :يعرفني ال ،عز وجل ،نفسه يوم القيامة ،فأسجد سجدة يرضى بها
عني ،ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني ،ثم يؤذن لي في الكلم ،ثم تمر أمتي على الصراط -
مضروب بين ظهراني جهنم -فيمرون أسرع من الطرف والسهم ،وأسرع من أجود الخيل ،
حتى يخرج الرجل منها يحبو ،وهي العمال .وجهنم تسأل المزيد ،حتى يضع فيها قدمه ،
فينزوي بعضها إلى بعض وتقول :قط قط! وأنا على الحوض" .قيل :وما الحوض يا رسول
ال ؟ قال " :والذي نفسي بيده ،إن شرابه أبيض من اللبن ،وأحلى من العسل ،وأبرد من الثلج ،
وأطيب ريحا من المسك .وآنيته أكثر من عدد النجوم ،ل يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا ،ول
يصرف فيروى أبدا" ( .)4وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو يحيى الحمّاني ( )5عن نضر الخزاز ،
جهَنّمَ َهلِ امْتَلتِ وَتَقُولُ َهلْ مِنْ مَزِيدٍ } قال :ما
عن عكرمة ،عن ابن عباس َ { ،يوْمَ َنقُولُ لِ َ
امتلت ،قال :تقول :وهل في من مكان يزاد في.
وكذا روى الحكم بن أبان عن عكرمة { :وَ َتقُولُ َهلْ مِنْ مَزِيدٍ } :وهل في مدخل واحد ،قد
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)2847
( )2في م " :يأتيها ربها".
( )3المسند (.)3/13
( )4ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم ( )790من طريق عقبة بن مكرم به.
وقال اللباني " :إسناده موضوع آفته عبد الغفار بن القاسم ،وهو أبو مريم النصاري كان يضع
الحديث كما قال ابن المديني وأبو داود".
( )5في م " :الحمان".
( )7/405
امتلت.
[و] ( )1قال الوليد بن مسلم ،عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدًا يقول :ل يزال يقذف فيها
حتى تقول :قد امتلت فتقول :هل [فيّ] ( )2من مزيد ؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو
هذا.
فعند هؤلء أن قوله تعالى َ { :هلِ امْتَلتِ } ،إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه ،فتنزوي وتقول
حينئذ :هل بقي في [من] ( )3مزيد ؟ يسع شيئا.
قال العوفي ،عن ابن عباس :وذلك حين ل يبقى فيها موضع [يسع] ( )4إبرة .فال ( )5أعلم.
وقوله { :وَأُزِْل َفتِ الْجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ َبعِيدٍ } :قال قتادة ،وأبو مالك ،والسدي { :أُزِْلفَتِ } أدنيت
وقربت من المتقين { ،غَيْرَ َبعِيدٍ } وذلك يوم القيامة ،وليس ببعيد ؛ لنه واقع ل محالة ،وكل ما
هو آت آت.
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ } ( )6أي :رجاع تائب مقلع { ،حفيظ } أي :يحفظ العهد فل
ينقضه و[ل] ( )7ينكثه.
وقال عبيد بن عمير :الواب :الحفيظ الذي ل يجلس مجلسًا [فيقوم] ( )8حتى يستغفر ال ،عز
وجل.
حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ } أي :من خاف ال في سره حيث ل يراه أحد إل ال .كقوله [عليه
شيَ الرّ ْ
{ مَنْ خَ ِ
السلم] ( )9ورجل ذكر ال خاليا ،ففاضت عيناه".
{ وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ } أي :ولقي ال يوم القيامة بقلب سليم منيب إليه خاضع لديه.
{ ادْخُلُوهَا } أي :الجنة { بِسَلمٍ } ،قال قتادة :سلموا من عذاب ال ،وسلم عليهم ملئكة ال.
وقوله { :ذَِلكَ َيوْمُ ا ْلخُلُودِ } أي :يخلدون في الجنة فل يموتون أبدًا ،ول يظعنون أبدًا ،ول
يبغون عنها حول.
وقوله َ { :ل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } أي :مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملذ طلبوا أحضر
لهم.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا عمرو بن عثمان ،حدثنا َبقِيّة ،عن بَحِير ( )10بن
سعد ،عن خالد بن َمعْدان ،عن كثير بن مُرّة قال :من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول
:ماذا تريدون فأمطره لكم ؟ فل يدعون بشيء إل أمطرتهم .قال كثير :لئن أشهدني ال ذلك
لقولن :أمطرينا جواري مزينات.
__________
( )1زيادة من م.
( )2زيادة من م.
( )3زيادة من م.
( )4زيادة من م ،أ.
( )5في م " :وال".
( )6في أ ( :أواب حفيظ).
( )7زيادة من م.
( )8زيادة من م ،أ.
( )9زيادة من م ،أ.
( )10في م " :يحيى".
( )7/406
وفي الحديث عن ابن مسعود أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له " :إنك لتشتهي الطير في
الجنة ،فيخر بين يديك مشويا" (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا علي بن عبد ال ،حدثنا معاذ بن هشام ،حدثني أبي عن عامر
الحول ،عن أبي الصديق ( ، )2عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
" :إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة ،كان حمله ووضعه وسِنّه في ساعة واحدة".
ورواه الترمذي وابن ماجه ،عن بُنْدار ،عن معاذ بن هشام ،به ( )3وقال الترمذي :حسن
غريب ،وزاد "كما يشتهي".
وقوله { :وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله تعالى { :لِلّذِينَ َأحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ } [ يونس .]26 :وقد تقدم
صهَيب بن سنان الرومي :أنها النظر إلى وجه ال الكريم .وقد روى البزار
في صحيح مسلم عن ُ
وابن أبي حاتم ،من حديث شريك القاضي ،عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ،عن أنس بن
مالك في قوله عز وجل { :وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال :يظهر لهم الرب ،عز وجل ،في كل جمعة (.)4
وقد رواه المام أبو عبد ال الشافعي مرفوعًا فقال في مسنده :أخبرنا إبراهيم بن محمد ،حدثني
موسى بن عبيدة ،حدثني أبو الزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة ،عن عبد ال بن عبيد بن
عمير ( )5أنه سمع أنس بن مالك يقول :أتى جبرائيل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول ال ،
فقال النبي ( )6صلى ال عليه وسلم " :ما هذه ؟" فقال :هذه الجمعة ُ ،فضّلتَ بها أنت وأمتك ،
فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ،ولكم فيها خير ،ولكم فيها ساعة ل يوافقها مؤمن ()7
يدعو ال بخير إل استجيب له ،وهو عندنا يوم المزيد .قال النبي صلى ال عليه وسلم " :يا
جبريل ،وما يوم المزيد ؟" قال :إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك ،فإذا
كان يوم الجمعة أنزل ال ما شاء ( )8من ملئكته ،وحوله منابر من نور ،عليها مقاعد النبيين ،
وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب ،مكللة بالياقوت والزبرجد ،عليها الشهداء والصديقون ()9
فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ،فيقول ال عز وجل :أنا ربكم ،قد صدقتكم وعدي ،
فسلوني أعطكم .فيقولون :ربنا ،نسألك رضوانك ،فيقول :قد رضيت عنكم ،ولكم علي ما
تمنيتم ،ولدي مزيد .فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ،وهو اليوم الذي
استوى فيه ربكم على العرش ،وفيه خلق آدم ،وفيه تقوم الساعة".
__________
( )1رواه الحسن بن عرفة في جزئه برقم ( )22والبزار في مسنده برقم (" )3532كشف الستار"
وابن عدي في الكامل ( )6/689من طريق خلف بن خليفة عن حميد العرج عن عبد ال بن
الحارث عن ابن مسعود مرفوعا به .وفيه حميد العرج ،قال البخاري :منكر الحديث وقال ابن
حبان :أحاديثه شبه الموضوعة.
( )2في م " :عن أبي بكر الصديق".
( )3المسند ( )3/9وسنن الترمذي برقم ( )2563وسنن ابن ماجة برقم (.)4338
( )4في أ " :جهة".
( )5في م " :عن عبيد ال بن عمير" وفي الصل " :عبد ال عمير" والتصويب من الم للشافعي.
( )6في م " :رسول ال".
( )7في أ " :ل يوافقها عبد مؤمن".
( )8في م " :ناسا".
( )9في أ " :الصالحون".
( )7/407
[و] ( )1هكذا أورده المام الشافعي في كتاب "الجمعة" من الم ( ، )2وله طرق عن أنس بن مالك
،رضي ال عنه .وقد أورد ابن جرير هذا من رواية عثمان بن عمير ،عن أنس بأبسط من هذا
( )3وذكر هاهنا أثرًا مطول عن أنس بن مالك موقوفًا وفيه غرائب كثيرة (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثنا دَراج ،عن أبي الهيثم ،عن أبي
سعيد ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين
سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبه ( )5فينظر وجهه في خدها أصفى من
المرآة ،وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب .فتسلم عليه ،فيرد السلم ،
فيسألها :من أنت ؟ فتقول :أنا من المزيد .وإنه ليكون عليها سبعون حلة ،أدناها مثل النعمان ،
من طوبى ،فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ،وإن عليها من التيجان ،إن أدنى
لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب" (.)6
وهكذا رواه عبد ال بن وهب ،عن عمرو بن الحارث ،عن دراج ،به (.)7
__________
( )1زيادة من م.
( )2الم (.)1/185
( )3تفسير الطبري (.)26/109
( )4تفسير الطبري (.)26/109
( )5في أ " :منكبيه".
( )6المسند ( )3/75وفيه :دراج عن أبي الهيثم ،ضعيف.
( )7رواه الطبري في تفسيره ( )26/110والكلم عليه كسابقه.
( )7/408
طشًا فَ َنقّبُوا فِي الْبِلَادِ َهلْ مِنْ مَحِيصٍ ( )36إِنّ فِي ذَِلكَ
َوكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدّ مِ ْنهُمْ بَ ْ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
شهِيدٌ ( )37وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ
سمْعَ وَ ُهوَ َ
لَ ِذكْرَى ِلمَنْ كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ َأوْ أَ ْلقَى ال ّ
حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ
ن وَسَبّحْ ِب َ
فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ ( )38فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُو َ
س َوقَ ْبلَ ا ْلغُرُوبِ (َ )39ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْ ُه وَأَدْبَارَ السّجُودِ ()40
شمْ ِ
ال ّ
{ َوكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ َأشَدّ مِ ْنهُمْ َبطْشًا فَ َنقّبُوا فِي الْبِلدِ َهلْ مِنْ مَحِيصٍ ( )36إِنّ فِي ذَِلكَ
س َموَاتِ وَال ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا
شهِيدٌ ( )37وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ
سمْعَ وَ ُهوَ َ
لَ ِذكْرَى ِلمَنْ كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ َأوْ أَ ْلقَى ال ّ
حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ
ن وَسَبّحْ ِب َ
فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ ( )38فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُو َ
س َوقَ ْبلَ ا ْلغُرُوبِ (َ )39ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْ ُه وَأَدْبَارَ السّجُودِ (} )40
شمْ ِ
ال ّ
شدّ مِ ْنهُمْ َبطْشًا } أي :كانوا
يقول تعالى :وكم أهلكنا قبل هؤلء المنكرين ( { : )1مِنْ قَرْنٍ ُهمْ أَ َ
أكثر منهم وأشد قوة ،وأثاروا الرض وعمروها أكثر مما عمروها ؛ ولهذا قال هاهنا { :فَنَقّبُوا
فِي الْبِلدِ } قال ابن عباس :أثروا فيها .وقال مجاهد { :فَ َنقّبُوا فِي الْبِلدِ } :ضربوا في الرض.
وقال قتادة :فساروا في البلد ،أي ساروا فيها يبتغون الرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما
طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلد :نقب فيها .قال امرؤ القيس :
لقد َنقّ ْبتُ في الفاق حَتّى ...رضيتُ من الغَنِيمة باليَابِ ()2
__________
( )1في م ،أ " :المكذبين".
( )2البيت في تفسير الطبري (.)26/110
( )7/408
وقوله َ { :هلْ مِنْ َمحِيصٍ } أي :هل من مفر كان لهم من قضاء ال وقدره ؟ وهل نفعهم ما
جمعوه ورد عنهم عذاب ال إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ؟ فأنتم أيضًا ل مفر لكم ول محيد ول
مناص ول محيص.
وقوله { :إِنّ فِي ذَِلكَ لَ ِذكْرَى } أي :لعبرة { ِلمَنْ كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ } أي ُ :لبّ َيعِي به .وقال مجاهد :
شهِيدٌ } أي :استمع الكلم فوعاه ،وتعقله بقلبه وتفهمه بلبه.
س ْم َع وَ ُهوَ َ
عقل { َأوْ أَ ْلقَى ال ّ
شهِيدٌ } وقال :شاهد
سمْعَ } يعني :ل يحدث نفسه بغيره { ،وَ ُهوَ َ
وقال مجاهد َ { :أوْ أَ ْلقَى ال ّ
بالقلب (.)1
وقال الضحاك :العرب تقول :ألقى فلن سمعه :إذا استمع بأذنيه وهو شاهد يقول غير غائب.
وهكذا قال الثوري وغير واحد.
س َموَاتِ وَال ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ } :فيه تقرير
وقوله { :وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ
المعاد ؛ لن من قدر على خلق السموات والرض ولم يعي بخلقهن ،قادر على أن يحيي الموتى
بطريق الولى والحرى.
وقال قتادة :قالت اليهود -عليهم لعائن ال : -خلق ال السموات والرض في ستة أيام ،ثم
استراح في اليوم السابع ،وهو يوم السبت ،وهم يسمونه يوم الراحة ،فأنزل ال تكذيبهم فيما
قالوه وتأولوه َ { :ومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ } أي :من إعياء ول نصب ول تعب ،كما قال في الية
ض وَلَمْ َي ْعيَ بِخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ
س َموَاتِ وَال ْر َ
الخرى َ { :أوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََلقَ ال ّ
ت وَال ْرضِ
س َموَا ِ
شيْءٍ َقدِيرٌ } [ الحقاف ، ] 33 :وكما قال { :لَخَ ْلقُ ال ّ
ا ْل َموْتَى بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
سمَاءُ بَنَاهَا } [ النازعات .] 27 :
شدّ خَ ْلقًا َأمِ ال ّ
َأكْبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ } [ غافر ] 57 :وقال { أَأَنْ ُتمْ أَ َ
وقوله { :فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ } يعني :المكذبين ،اصبر عليهم واهجرهم هجرًا جميل
س َوقَ ْبلَ ا ْلغُرُوبِ } ،وكانت الصلة المفروضة قبل السراء
شمْ ِ
حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ ال ّ
{ وَسَبّحْ ِب َ
ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر ،وقبل الغروب في وقت العصر ،وقيام الليل كان واجبًا
على النبي صلى ال عليه وسلم وعلى أمته حول ثم نسخ في حق المة وجوبه .ثم بعد ذلك نسخ
ال ذلك كله ليلة السراء بخمس صلوات ،ولكن منهن ( )2صلة الصبح والعصر ،فهما قبل
طلوع الشمس وقبل الغروب.
وقد قال المام أحمد :حدثنا وكيع ،حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ،عن قيس بن أبي حازم (، )3
عن جرير بن عبد ال قال :كنا جلوسا عند النبي صلى ال عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر
فقال " :أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر ،ل تضامون فيه ،فإن
ح ْمدِ
استطعتم أل تغلبوا على صلة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ،فافعلوا" ثم قرأ { :وَسَبّحْ بِ َ
س َوقَ ْبلَ ا ْلغُرُوبِ }
شمْ ِ
رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ ال ّ
__________
( )1في م " :القلب".
( )2في أ " :بينهن".
( )3في أ " :حاتم".
( )7/409
ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة ،من حديث إسماعيل ،به (.)1
وقوله َ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْهُ } أي :فصل له ،كقوله َ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافَِلةً َلكَ عَسَى أَنْ
حمُودًا } [ السراء .] 79 :
يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ مَقَامًا مَ ْ
{ وَأَدْبَارَ السّجُودِ } قال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس :هو التسبيح بعد الصلة.
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال :جاء فقراء المهاجرين فقالوا :يا
رسول ال ،ذهب أهل الدثور بالدرجات ( )2العُلَى والنعيم المقيم .فقال " :وما ذاك ؟" قالوا :
يصلون كما نصلي ،ويصومون كما نصوم ،ويتصدقون ول نتصدق ،ويعتقون ول نعتق! قال :
"أفل أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ،ول يكون أحد أفضل منكم إل من فعل مثل ما
فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلة ثلثًا وثلثين" .قال :فقالوا :يا رسول ال ،
سمع إخواننا أهل الموال ( )3بما فعلنا ،ففعلوا مثله .قال " :ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء" (.)4
والقول الثاني :أن المراد بقوله { :وَأَدْبَارَ السّجُودِ } هما الركعتان بعد المغرب ،روي ذلك عن
عمر وعلي ،وابنه الحسن وابن عباس ،وأبي هريرة ،وأبي أمامة ،وبه يقول مجاهد ،وعكرمة
خعِي والحسن ،وقتادة وغيرهم.
،والشعبي ،والنّ َ
قال المام أحمد :حدثنا وكيع وعبد الرحمن ،عن سفيان ،عن أبي إسحاق ،عن عاصم بن
ضمْرَة ،عن علي قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي على أثر كل صلة مكتوبة
َ
ركعتين ( )5إل الفجر والعصر .وقال عبد الرحمن :دبر كل صلة.
ورواه أبو داود والنسائي ،من حديث سفيان الثوري ،به ( .)6زاد النسائي :ومطرف ،عن أبي
إسحاق ،به (.)7
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ،حدثنا ابن فضيل ،عن رشدين بن
كريب ،عن أبيه ،عن ابن عباس قال :بت ليلة عند رسول صلى ال عليه وسلم فصلى ركعتين
خفيفتين ،اللتين قبل الفجر .ثم خرج إلى الصلة فقال " :يا ابن عباس ،ركعتين قبل صلة الفجر
إدبار النجوم ،وركعتين بعد المغرب إدبار السجود".
ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي ،عن محمد بن فضيل ،به ( .)8وقال :غريب ل نعرفه
إل
__________
( )1المسند ( )4/365وصحيح البخاري برقم ( )4851وصحيح مسلم برقم ( )633وسنن أبي
داود برقم ( )3729وسنن الترمذي برقم ( )2551والنسائي في السنن الكبرى برقم ()11330
وسنن ابن ماجه برقم (.)117
( )2في أ " :بالجور".
( )3في أ " :اليمان".
( )4صحيح البخاري برقم ( )6329وصحيح مسلم برقم (.)595
( )5في م " :ركعتين مكتوبة".
( )6المسند ( )1/124وسنن أبي داود برقم ( )1275والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)341
( )7النسائي في السنن الكبرى برقم (.)346
( )8سنن الترمذي برقم (.)3275
( )7/410
( )7/411
حشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي :تلك إعادة سهلة علينا ،يسيرة لدينا ،كما قال تعالى :
وقوله { :ذَِلكَ َ
ح َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ } [ القمر ، ] 50 :وقال تعالى { :مَا خَ ْل ُقكُ ْم وَل َبعْ ُثكُمْ إِل
{ َومَا َأمْرُنَا إِل وَا ِ
سمِيعٌ َبصِيرٌ } [ لقمان .] 28 :
كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ إِنّ اللّهَ َ
وقوله َ { :نحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا َيقُولُونَ } أي :نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فل
ح ْمدِ رَ ّبكَ
ق صَدْ ُركَ ِبمَا َيقُولُونَ فَسَبّحْ بِ َ
يهيدنك ذلك ،كقوله [تعالى] ( { : )1وََلقَدْ َنعَْلمُ أَ ّنكَ َيضِي ُ
جدِينَ .وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّى يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ } [ الحجر .] 99 - 97 :
َوكُنْ مِنَ السّا ِ
وقوله َ { :ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ } أي :ولست بالذي تجبر هؤلء على الهدى ،وليس ذلك ما
كلفت به.
وقال مجاهد ،وقتادة ،والضحاك َ { :ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ } أي :ل تتجبر عليهم.
والقول الول أولى ،ولو أراد ما قالوه لقال :ول تكن جبارًا عليهم ،وإنما قال َ { :ومَا أَ ْنتَ
عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ } بمعنى :وما أنت بمجبرهم على اليمان إنما أنت مبلغ.
قال الفراء :سمعت العرب تقول :جبر فلن فلنا على كذا ( ، )2بمعنى أجبره (.)3
ف وَعِيدِ } أي :بلغ أنت رسالة ربك ،فإنما ( )4يتذكر من
ثم قال تعالى َ { :ف َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ يَخَا ُ
حسَابُ }
غ وَعَلَيْنَا الْ ِ
يخاف ال ووعيده ويرجو وعده ،كقوله [تعالى] ( { : )5فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ
ستَ عَلَ ْيهِمْ ِبمُسَ ْيطِرٍ } [ الغاشية ، ]22 ، 21 :
[ الرعد ، ] 40 :وقوله { :فَ َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ لَ ْ
{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة { ، ] 272 :إِ ّنكَ ل َت ْهدِي مَنْ أَحْبَ ْبتَ
وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ } [ القصص ، ] 56 :ولهذا قال هاهنا َ { :ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْي ِهمْ بِجَبّارٍ َف َذكّرْ
ف وَعِيدِ } كان قتادة يقول :اللهم ،اجعلنا ممن يخاف وعيدك ،ويرجو
بِا ْلقُرْآنِ مَنْ يَخَا ُ
موعودك ،يا بار ،يا رحيم.
آخر تفسير سورة(ق) ،والحمد ل وحده ،وحسبنا ال ونعم الوكيل
__________
( )1زيادة من م.
( )2في م " :جبر فلن على فلن كذا".
( )3انظر تفسير الطبري (.)26/115
( )4في م " :فأما".
( )5زيادة من م.
( )7/412
( )7/413
سمَاءِ ذَاتِ الْحُ ُبكِ ( )7إِ ّنكُمْ َلفِي َقوْلٍ مُخْتَِلفٍ (ُ )8ي ْؤ َفكُ عَ ْنهُ مَنْ ُأ ِفكَ ( )9قُ ِتلَ ا ْلخَرّاصُونَ ()10
وَال ّ
غمْ َرةٍ سَاهُونَ (َ )11يسْأَلُونَ أَيّانَ َيوْمُ الدّينِ (َ )12يوْمَ ُهمْ عَلَى النّارِ ُيفْتَنُونَ ()13
الّذِينَ هُمْ فِي َ
ذُوقُوا فِتْنَ َتكُمْ َهذَا الّذِي كُنْ ُتمْ بِهِ َتسْ َتعْجِلُونَ ()14
سمَاءِ ذَاتِ ا ْلحُ ُبكِ ( )7إِ ّن ُكمْ َلفِي َق ْولٍ مُخْتَِلفٍ (ُ )8ي ْؤ َفكُ عَنْهُ مَنْ ُأ ِفكَ ( )9قُ ِتلَ الْخَرّاصُونَ (
{ وَال ّ
غمْ َرةٍ سَاهُونَ (َ )11يسْأَلُونَ أَيّانَ َيوْمُ الدّينِ (َ )12يوْمَ ُهمْ عَلَى النّارِ ُيفْتَنُونَ (
)10الّذِينَ هُمْ فِي َ
)13ذُوقُوا فِتْنَ َتكُمْ َهذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ َتسْ َتعْجِلُونَ (} )14
سمَاك ،عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا ،عن
قال شعبة ( )1بن الحجاج ،عن ِ
طفَيْل ،سمع عليًا .وثبت أيضًا من غير وجه ،عن أمير المؤمنين
القاسم بن أبي بزّة ،عن أبي ال ّ
علي بن أبي طالب :أنه صعد منبر الكوفة فقال :ل تسألوني عن آية في كتاب ال ،ول عن
سنة عن رسول ال ،إل أنبأتكم بذلك .فقام إليه ابن الكواء فقال :يا أمير المؤمنين ،ما معنى
ت ِوقْرًا } ؟ قال :
قوله تعالى { :وَالذّارِيَاتِ ذَ ْروًا } ؟ قال :الريح [قال] ( { : )2فَالْحَامِل ِ
سمَاتِ َأمْرًا } ؟ قال
السحاب[ .قال] ( { : )3فَالْجَارِيَاتِ ُيسْرًا } ؟ قال :السفن[ .قال] ( { : )4فَا ْل ُمقَ ّ
:الملئكة (.)5
وقد روي في ذلك حديث مرفوع ،فقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا إبراهيم بن هانئ ،حدثنا
سعيد بن سلم العطار ،حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة ،عن يحيى بن سعيد ،عن سعيد بن المسيب
قال :جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال :يا أمير المؤمنين ،أخبرني عن { الذّارِيَاتِ
ذَ ْروًا } ؟ فقال :هي الرياح ،ولول أنى سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقوله ما قلته .قال
سمَاتِ َأمْرًا } قال :هي الملئكة ،ولول أني سمعت رسول ال صلى ال
:فأخبرني عن { ا ْل ُمقَ ّ
عليه وسلم يقوله ما قلته .قال :فأخبرني عن { ا ْلجَارِيَاتِ ُيسْرًا } قال :هي السفن ،ولول أني
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقوله ما قلته .ثم أمر به فضرب مائة ،وجعل في بيت ،
فلما برأ ([ )6دعا به و] ( )7ضربه مائة أخرى ،وحمله على قَتَب ،وكتب إلى أبي موسى
الشعري :امنع الناس من مجالسته .فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف باليمان الغليظة ما
يجد في نفسه مما كان يجد شيئا .فكتب في ذلك إلى عمر ،فكتب عمر :ما إخاله إل صدق ،
فخل بينه وبين مجالسة الناس.
__________
( )1في أ " :سعيد".
( )2زيادة من م.
( )3زيادة من م.
( )4زيادة من م.
( )5رواه الطبري في تفسيره ( )26/115عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
( )6في م " :برد".
( )7زيادة من م ،أ.
( )7/413
قال أبو بكر البزار :فأبو بكر بن أبي سبرة لين ،وسعيد بن سلم ليس من أصحاب الحديث (.)1
قلت :فهذا الحديث ضعيف رفعه ،وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر ،فإن قصة صَبِيغ بن
عسل مشهورة مع عمر ( ، )2وإنما ضربه لنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ،وال
أعلم.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة ( .)3وهكذا فسرها ابن عباس ،
وابن عمر ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،والحسن ،وقتادة ،والسدي ،وغير واحد .ولم يحك
ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك.
وقد قيل :إن المراد بالذاريات :الريح كما تقدم وبالحاملت وقرًا :السحاب كما تقدم ؛ لنها
تحمل الماء ،كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
ح ِملُ عَذْبا زُلل ()4
وَأسَْل ْمتُ َنفْسي لمَنْ أسَْل َمتَْ ...لهُ المزْنُ تَ ْ
فأما الجاريات يسرًا ،فالمشهور عن الجمهور -كما تقدم : -أنها السفن ،تجري ميسرة في
الماء جريا سهل .وقال بعضهم :هي النجوم تجري يسرا ( )5في أفلكها ،ليكون ذلك ترقيا من
الدنى إلى العلى ،إلى ما هو أعلى منه ،فالرياح فوقها السحاب ،والنجوم فوق ذلك ،
والمقسمات أمرا الملئكة فوق ذلك ،تنزل بأوامر ال الشرعية والكونية .وهذا قسم من ال عز
جل على وقوع المعاد ؛ ولهذا قال { :إِ ّنمَا تُوعَدُونَ َلصَا ِدقٌ } أي :لخبر صدق { ،وَإِنّ الدّينَ } ،
وهو :الحساب { لواقع } أي :لكائن ل محالة.
سمَاءِ ذَاتِ الْحُ ُبكِ } قال ابن عباس :ذات البهاء والجمال والحسن والستواء .وكذا
ثم قال { :وَال ّ
قال مجاهد ،وعكرمة ،وسعيد بن جُبَيْر ،وأبو مالك ( ، )6وأبو صالح ،والسدي ،وقتادة ،
وعطية العوفي ،والربيع بن أنس ،وغيرهم.
وقال الضحاك ،والمِ ْنهَال بن عمرو ،وغيرهما :مثل تجعد الماء والرمل والزرع إذا ضربته
الريح ،فينسج بعضه بعضا طرائق [طرائق] ( ، )7فذلك الحبك.
قال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُلَيّة ،حدثنا أيوب ،عن أبي قلبة ،عن
رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ؛ أنه قال :
"إن من ورائكم الكذاب المضل ،وإن رأسه من ورائه حُبُك حُبُك" يعني بالحبك :الجعودة (.)8
وعن أبي صالح { :ذَاتِ الْحُ ُبكِ } :الشدة .وقال خصيف { :ذَاتِ ا ْلحُ ُبكِ } :ذات الصفافة.
__________
( )1مسند البزار برقم (" )2259كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/112فيه أبو بكر
بن أبي سبرة ،وهو متروك".
( )2في م " :مع التميمي عمر".
( )3تاريخ دمشق (" )8/230القسم المخطوط".
( )4البيت في سيرة ابن هشام (.)1/231
( )5في أ " :سيرا".
( )6في م " :وابن مالك".
( )7زيادة من م ،أ.
( )8تفسير الطبري ( )26/118ورواه أحمد في مسنده ( )5/410من طريق إسماعيل بن علية به.
( )7/414
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري { :ذَاتِ الْحُ ُبكِ } :حبكت بالنجوم.
جعْد ،عن َمعْدان بن أبي طلحة ،عن عمرو البكالي ،عن عبد
وقال قتادة :عن سالم بن أبي ال َ
سمَاءِ ذَاتِ ا ْلحُ ُبكِ } :يعني :السماء السابعة.
ال بن عمرو { :وَال ّ
وكأنه -وال أعلم -أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة ،وهي عند كثير من علماء
الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع ،وال أعلم .وكل هذه القوال ترجع إلى شيء واحد ،
وهو الحسن والبهاء ،كما قال ابن عباس رضي ال عنهما ( ، )1فإنها من حسنها مرتفعة شفافة
صفيقة ،شديدة البناء ،متسعة الرجاء ،أنيقة البهاء ،مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات ،
موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات.
وقوله { :إِ ّن ُكمْ َلفِي َق ْولٍ ُمخْتَِلفٍ } أي :إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف
مضطرب ،ل يلتئم ول يجتمع.
وقال قتادة :إنكم لفي قول مختلف [ ،يعني] ( )2ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به.
{ ُي ْؤ َفكُ عَنْهُ مَنْ ُأ ِفكَ } أي :إنما يروج على من هو ضال في نفسه ؛ لنه قول باطل إنما ينقاد له
غمْر ،ل فهم له ،كما قال تعالى { :فَإِ ّن ُك ْم َومَا
ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال َ
علَيْهِ ِبفَاتِنِينَ إِل مَنْ ُهوَ صَالِ ا ْلجَحِيمِ } [ الصافات .] 163 - 161 :
َتعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ َ
قال ابن عباس ،والسدي ُ { :ي ْؤ َفكُ عَنْهُ مَنْ ُأ ِفكَ } :يضل عنه من ضل .وقال مجاهد ُ { :ي ْؤ َفكُ
عَنْهُ مَنْ ُأ ِفكَ } يؤفن عنه من أفن .وقال الحسن البصري :يصرف عن هذا القرآن من كذب به.
وقوله { :قُ ِتلَ ا ْلخَرّاصُونَ } قال مجاهد :الكذابون .قال :وهي مثل التي في عبس { :قُ ِتلَ
النْسَانُ مَا َأ ْكفَ َرهُ } [ عبس ، ] 17 :والخراصون الذين يقولون ل نبعث ول يوقنون.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :قُ ِتلَ الْخَرّاصُونَ } أي :لعن المرتابون.
وهكذا كان معاذ ،رضي ال عنه ،يقول في خطبه :هلك المرتابون .وقال قتادة :الخراصون
أهل الغرة والظنون.
غمْ َرةٍ سَاهُونَ } :قال ابن عباس وغير واحد :في الكفر والشك غافلون
وقوله { :الّذِينَ ُهمْ فِي َ
لهون.
{ َيسْأَلُونَ أَيّانَ َيوْمُ الدّينِ } :وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا .قال ال تعالى :
{ َيوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ ُيفْتَنُونَ }.
قال ابن عباس ،ومجاهد ،والحسن ،وغير واحد { :يفتنون } :يعذبون [قال مجاهد] ( : )3كما
__________
( )1في م ،أ " :عنه".
( )2زيادة من أ.
( )3زيادة من م ،أ.
( )7/415
حسِنِينَ ( )16كَانُوا
خذِينَ مَا آَتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُوا قَ ْبلَ ذَِلكَ مُ ْ
إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ ( )15آَ ِ
جعُونَ ( )17وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ (َ )18وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لِلسّا ِئلِ
قَلِيلًا مِنَ اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
سمَاءِ
سكُمْ َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ (َ )21وفِي ال ّ
وَا ْلمَحْرُومِ (َ )19وفِي الْأَ ْرضِ آَيَاتٌ لِ ْلمُوقِنِينَ (َ )20وفِي أَ ْنفُ ِ
طقُونَ ()23
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ إِنّهُ َلحَقّ مِ ْثلَ مَا أَ ّن ُكمْ تَنْ ِ
رِ ْز ُقكُ ْم َومَا تُوعَدُونَ (َ )22فوَ َربّ ال ّ
( )7/416
تمضي عليهم ليلة إل يأخذون منها ولو شيئا .وقال قتادة ،عن مطرف بن عبد ال :قلّ ليلة تأتي
عليهم ل يصلون فيها ل ،عز وجل ،إما من أولها وإما من أوسطها .وقال مجاهد :قلّ ما
يرقدون ليلة حتى ( )1الصباح ل يتهجدون .وكذا قال قتادة .وقال أنس بن مالك ،وأبو العالية :
كانوا يصلون بين المغرب والعشاء .وقال أبو جعفر الباقر ،كانوا ل ينامون حتى يصلوا العتمة.
والقول الثاني :أن "ما" مصدرية ،تقديره :كانوا قليل من الليل هجوعهم ونومهم .واختاره ابن
جعُونَ } :كابدوا قيام الليل ،فل
جرير .وقال الحسن البصري { :كَانُوا قَلِيل مِنَ اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ
ينامون من الليل إل أقله ،ونشطوا فمدوا إلى السحر ،حتى كان الستغفار بسحر .وقال قتادة :
جعُونَ } :كانوا ل ينامون إل قليل ثم يقول :
قال الحنف بن قيس { :كَانُوا قَلِيل مِنَ اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ
لست من أهل هذه الية .وقال الحسن البصري :كان الحنف بن قيس يقول :عرضت عملي
على عمل أهل الجنة ،فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدا ،إذا قوم ل نبلغ أعمالهم ،كانوا قليل من
الليل ما يهجعون .وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم ل خير فيهم يكذبون ( )2بكتاب
ال وبرسل ال ،يكذبون بالبعث بعد الموت ،فوجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عمل صالحا
وآخر سيئا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :قال رجل من بني تميم لبي :يا أبا أسامة ،صفة ل أجدها
جعُونَ } ،ونحن وال قليل من الليل ما
فينا ،ذكر ال قوما فقال { :كَانُوا قَلِيل مِنَ اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
نقوم .فقال له أبي :طوبى لمن رقد إذا نعس ،واتقى ال إذا استيقظ.
وقال عبد ال بن سلم :لما قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة ،انجفل الناس إليه ،
فكنت فيمن انجفل .فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه َرجُل كذاب ،فكان أول ما
سمعته يقول " :يا أيها الناس ،أطعموا الطعام ،وصِلُوا الرحام ،وأفشوا السلم ،وصَلّوا بالليل
والناس نيام ،تدخلوا الجنة بسلم" (.)3
وقال المام أحمد :حدثنا حسن بن موسى ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثني حيي بن عبد ال ،عن أبي
عبد الرحمن الحُبُلى ،عن عبد ال بن عمرو ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن في
الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ،وباطنها من ظاهرها" .فقال أبو موسى الشعري :لمن هي
يا رسول ال ؟ قال " :لمن ألن الكلم ،وأطعم الطعام ،وبات ل قائما ،والناس نيام" (.)4
جعُونَ } :كان ( )5الزهري والحسن يقولن :
وقال َم ْعمَر في قوله { :كَانُوا قَلِيل مِنَ اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ
__________
( )1في م " :إلى".
( )2في م " :فيكذبون".
( )3رواه أحمد في المسند ( )5/451والترمذي في السنن برقم ( )2485وابن ماجه في السنن
برقم (.)1334
( )4المسند ( )2/173وقال الهيثمي في المجمع " : )05/16فيه ابن لهيعة وحديثه حسن ،وبقية
رجاله ثقات" ولعل تحسين الحافظ الهيثمي لحديث ابن لهيعة لنه قد توبع :تابعه عبد ال بن وهب
-روايته عن ابن لهيعة صحيحة -أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (" )103الجزء
المفقود".
( )5في م " :قال".
( )7/417
( )7/418
وقال أبو قِلبَة :جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ،فقال رجل من الصحابة :هذا المحروم.
وقال ابن عباس أيضا ،وسعيد بن المسيّب ،وإبراهيم النخعي ،ونافع -مولى ابن عمر -
وعطاء بن أبي رباح { المحروم } :المحارف.
وقال قتادة ،والزهري { :ا ْلمَحْرُوم } :الذي ل يسأل الناس شيئا ،قال الزهري وقد قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :ليس المسكين بالطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ،والتمرة والتمرتان
،ولكن المسكين الذي ل يجد غنى يغنيه ،ول يُفطن له فيتصدق عليه".
وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر (.)1
وقال سعيد بن جبير :هو الذي يجيء وقد قُسّم المغنم ،فيرضخ له.
وقال محمد بن إسحاق :حدثني بعض أصحابنا قال :كنا مع عمر بن عبد العزيز في طريق مكة
فجاء كلب فانتزع عمر كتف شاة فرمى بها إليه ،وقال :يقولون :إنه المحروم.
وقال الشعبي :أعياني أن أعلم ما المحروم.
واختار ابن جرير أن المحروم [ :هو] ( )2الذي ل مال له بأي سبب كان ،قد ذهب ماله ،سواء
كان ل يقدر على الكسب ،أو قد هلك ماله أو نحوه ( )3بآفة أو نحوها.
وقال الثوري ،عن قيس بن مسلم ،عن الحسن بن محمد ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
بعث سرية فغنموا ،فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة فنزلت هذه الية َ { :وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لِلسّا ِئلِ
وَا ْلمَحْرُومِ } (.)4
وهذا يقتضي أن هذه مدنية ،وليس كذلك ،بل هي مكية شاملة لما بعدها.
وقوله َ { :وفِي الرْضِ آيَاتٌ ِل ْلمُوقِنِينَ } أي :فيها من اليات الدالة على عظمة خالقها وقدرته
الباهرة ،مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات ،والمهاد والجبال ،والقفار والنهار
والبحار ،واختلف ألسنة الناس وألوانهم ،وما جبلوا عليه من الرادات والقوى ،وما بينهم من
التفاوت في العقول والفهوم والحركات ،والسعادة والشقاوة ،وما في تركيبهم من الحكم في وضع
سكُمْ َأفَل
كل عضو من أعضائهم ( )5في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ؛ ولهذا قال َ { :وفِي أَ ْنفُ ِ
تُ ْبصِرُونَ } :قال قتادة :من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة.
عدُونَ } يعني :الجنة .قاله ابن عباس ،
سمَاءِ رِ ْز ُقكُمْ } يعني :المطر َ { ،ومَا تُو َ
ثم قال َ { :وفِي ال ّ
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4539وصحيح مسلم برقم ( )1039من طريق شريك بن عبد ال
عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا.
( )2زيادة من م.
( )3في م " :أو ثمرة".
( )4رواه الطبري في تفسيره (.)26/125
( )5في م ،أ " :أجسادهم".
( )7/419
حدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ا ْل ُمكْ َرمِينَ ( )24إِذْ دَخَلُوا عَلَ ْيهِ َفقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ َقوْمٌ مُ ْنكَرُونَ (
َهلْ أَتَاكَ َ
جسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً
سمِينٍ (َ )26فقَرّبَهُ إِلَ ْيهِمْ قَالَ أَلَا تَ ْأكُلُونَ ( )27فََأوْ َ
جلٍ َ
)25فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ َفجَاءَ ِب ِع ْ
عقِيمٌ
عجُوزٌ َ
ج َههَا َوقَاَلتْ َ
ت وَ ْ
صكّ ْ
ف وَبَشّرُوهُ ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ ( )28فََأقْبََلتِ امْرَأَتُهُ فِي صَ ّرةٍ َف َ
خ ْ
قَالُوا لَا تَ َ
حكِيمُ ا ْلعَلِيمُ ()30
( )29قَالُوا كَذَِلكِ قَالَ رَ ّبكِ إِنّهُ ُهوَ الْ َ
( )7/420
( )7/421
( )7/421
عوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( )38فَ َتوَلّى بِ ُركْنِهِ َوقَالَ سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُونٌ ()39
َوفِي مُوسَى إِذْ أَ ْرسَلْنَاهُ إِلَى فِرْ َ
خذْنَاهُ وَجُنُو َدهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ وَ ُهوَ مُلِيمٌ (َ )40وفِي عَادٍ إِذْ أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ ( )41مَا
فَأَ َ
جعَلَتْهُ كَال ّرمِيمِ (َ )42وفِي َثمُودَ ِإذْ قِيلَ َلهُمْ َتمَ ّتعُوا حَتّى حِينٍ ()43
شيْءٍ أَ َتتْ عَلَيْهِ إِلّا َ
تَذَرُ مِنْ َ
عقَ ُة وَ ُهمْ يَنْظُرُونَ (َ )44فمَا اسْ َتطَاعُوا مِنْ قِيَا ٍم َومَا كَانُوا
خذَ ْتهُمُ الصّا ِ
َفعَ َتوْا عَنْ َأمْرِ رَ ّبهِمْ فَأَ َ
سقِينَ ()46
مُنْ َتصِرِينَ (َ )45و َقوْمَ نُوحٍ مِنْ قَ ْبلُ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
( )7/422
وعنادا.
وقال مجاهد :تعزز بأصحابه .وقال قتادة :غلب عدُو ال على قومه .وقال ابن زيد { :فَ َتوَلّى
شدِيدٍ } [ هود :
بِ ُركْنِهِ } أي :بجموعه التي معه ،ثم قرأ َ { :لوْ أَنّ لِي ِبكُمْ ُق ّوةً َأوْ آوِي إِلَى ُركْنٍ َ
.] 80
ضلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } [ الحج ] 9 :أي :معرض عن
طفِهِ لِ ُي ِ
والمعنى الول قوي كقوله { :ثَا ِنيَ عِ ْ
الحق مستكبر َ { ،وقَالَ سَاحِرٌ َأوْ َمجْنُونٌ } أي :ل يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا
،أو مجنونا.
خذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ فَنَبَذْنَاهُمْ } أي :ألقيناهم في اليم ،وهو البحر { ،وَ ُهوَ مُلِيمٌ }
قال ال تعالى { :فَأَ َ
أي :وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
ثم قال َ { :وفِي عَادٍ إِذْ أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ } أي :المفسدة التي ل تنتج شيئا .قاله
الضحاك ،وقتادة ،وغيرهما.
جعَلَتْهُ كَال ّرمِيمِ } أي :
شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ } أي :مما تفسده الريح { إِل َ
ولهذا قال { :مَا َتذَرُ مِنْ َ
كالشيء الهالك البالي.
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو عبيد ال بن أخي ابن وهب ،حدثنا عمي عبد ال بن وهب ،
حدثني عبد ال -يعني :ابن عياش ( - )1القتباني ،حدثني عبد ال بن سليمان ،عن دراج ،
عن عيسى بن هلل الصّ َدفِي ،عن عبد ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"الريح مسخرة من الثانية -يعني من الرض الثانية -فلما أراد ال أن يهلك عادًا أمر خازن
الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا ،قال :أي َربَ ،أرسل عليهم [من] ( )2الريح قدر منخر
الثور ؟ قال له الجبار :ل إذًا تكفأ الرض ومن عليها ،ولكن أرسل [عليهم] ( )3بقدر خاتم .فهي
جعَلَتْهُ كَال ّرمِيمِ }
شيْءٍ أَ َتتْ عَلَيْهِ إِل َ
التي يقول ( )4ال في كتابه { :مَا تَذَرُ مِنْ َ
هذا الحديث رفعه منكر ( ، )5والقرب أن يكون موقوفا على عبد ال بن عمرو ،من زاملتيه
اللتين ( )6أصابهما يوم اليرموك ،وال أعلم.
قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله { :إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ } قالوا :هي الجنوب .وقد
ثبت في الصحيح من رواية شعبة ،عن الحكم ،عن مجاهد ،عن ابن عباس قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :نصرت بالصّبا ،وأهلكت عاد بالدبور" (.)7
{ َوفِي َثمُودَ إِذْ قِيلَ َلهُمْ َتمَ ّتعُوا حَتّى حِينٍ } قال ابن جرير :يعني إلى وقت فناء آجالكم.
__________
( )1في م " :ابن عباس".
( )2زيادة من م.
( )3زيادة من م.
( )4في م ،أ " :قال".
( )5رواه الحاكم في المستدرك ( )4/594وابن منده في كتاب التوحيد ( )1/186من طريق عبد
ال بن وهب بأطول منه.
وقال ابن منده :إسناده متصل مشهور ورواته مصريين .وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله :
"بل منكر ،فيه عبد ال بن عياس ضعفه أبو داود ،وعند مسلم أنه ثقة ،ودراج وهو كثير
المناكير".
( )6في م " :اللذين".
( )7صححه مسلم برقم (.)900
( )7/423
شيْءٍ
سعُونَ ( )47وَالْأَ ْرضَ فَرَشْنَاهَا فَ ِنعْمَ ا ْلمَاهِدُونَ (َ )48ومِنْ ُكلّ َ
سمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْ ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
وَال ّ
جعَلُوا مَعَ اللّهِ
خََلقْنَا َزوْجَيْنِ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ (َ )49ففِرّوا إِلَى اللّهِ إِنّي َلكُمْ مِنْهُ َنذِيرٌ مُبِينٌ ( )50وَلَا تَ ْ
إَِلهًا َآخَرَ إِنّي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ()51
.
عقَةُ
خذَ ْتهُ ْم صَا ِ
والظاهر أن هذه كقوله { :وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْلهُدَى فَأَ َ
ا ْلعَذَابِ ا ْلهُونِ } [ فصلت .] 17 :
عقَةُ
وهكذا قال هاهنا َ { :وفِي َثمُودَ إِذْ قِيلَ َلهُمْ َتمَ ّتعُوا حَتّى حِينٍ َفعَ َتوْا عَنْ َأمْرِ رَ ّبهِمْ فََأخَذَ ْتهُمُ الصّا ِ
وَهُمْ يَ ْنظُرُونَ } ،وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلثة أيام وجاءهم في صبيحة اليوم الرابع ُبكْرَة
النهار { َفمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ } أي :من هَ َربٍ ول نهوض َ { ،ومَا كَانُوا مُنْ َتصِرِينَ } أي :ول
يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه.
سقِينَ }
وقوله َ { :و َقوْمَ نُوحٍ مِنْ قَ ْبلُ } أي :وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلء { إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة ،من سور متعددة.
شيْءٍ
سعُونَ ( )47وَال ْرضَ فَرَشْنَاهَا فَ ِنعْمَ ا ْلمَاهِدُونَ (َ )48ومِنْ ُكلّ َ
سمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَ ْي ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
{ وَال ّ
جعَلُوا مَعَ اللّهِ
خََلقْنَا َزوْجَيْنِ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ (َ )49ففِرّوا إِلَى اللّهِ إِنّي َلكُمْ مِنْهُ َنذِيرٌ مُبِينٌ ( )50وَل َت ْ
إَِلهًا آخَرَ إِنّي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (} )51
سمَاءَ بَنَيْنَاهَا } أي :جعلناها سقفا
يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي { :وَال ّ
[محفوظا] ( )1رفيعا { بأيد } أي :بقوة .قاله ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،والثوري ،وغير
سعُونَ } ،أي :قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد ،حتى استقلت كما هي.
واحد { ،وَإِنّا َلمُو ِ
{ وَال ْرضَ فَرَشْنَاهَا } أي :جعلناها فراشًا للمخلوقات { ،فَ ِنعْمَ ا ْلمَاهِدُونَ } أي :وجعلناها مهدا
لهلها.
شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ } أي :جميع المخلوقات أزواج :سماء وأرض ،وليل ونهار ،
{ َومِنْ ُكلّ َ
وشمس وقمر ،وبر وبحر ،وضياء وظلم ،وإيمان وكفر ،وموت وحياة ،وشقاء وسعادة ،
وجنة ونار ،حتى الحيوانات [جن وإنس ،ذكور وإناث] ( )2والنباتات ،ولهذا قال َ { :لعَّلكُمْ
تَ َذكّرُونَ } أي :لتعلموا أن الخالق واحدٌ ل شريك له.
{ َففِرّوا إِلَى اللّهِ } أي :الجئوا إليه ،واعتمدوا في أموركم عليه { ،إِنّي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }.
جعَلُوا مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ } أي [ :و] ( )3ل تشركوا به شيئا { ،إِنّي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }.
{ وَل تَ ْ
__________
( )1زيادة من م.
( )2زيادة من أ.
( )3زيادة من م.
( )7/424
( )7/424
يقول تعالى مسليا نبيه صلى ال عليه وسلم :وكما قال لك هؤلء المشركون ،قال المكذبون
الولون لرسلهم { :كَذَِلكَ مَا أَتَى الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ مِنْ رَسُولٍ إِل قَالُوا سَاحِرٌ َأوْ َمجْنُونٌ } !.
صوْا ِبهِ } أي :أوصى بعضُهم بعضا بهذه المقالة ؟ " { َبلْ هُمْ َقوْمٌ
قال ال تعالى { :أَ َتوَا َ
طَاغُونَ } أي :لكن هم قوم طغاة ،تشابهت قلوبهم ،فقال متأخرهم كما قال متقدمهم.
قال ال تعالى { :فَ َت َولّ عَ ْن ُهمْ } أي :فأعرض عنهم يا محمد َ { ،فمَا أَ ْنتَ ِبمَلُومٍ } يعني :فما
نلومك على ذلك.
{ وَ َذكّرْ فَإِنّ ال ّذكْرَى تَ ْنفَعُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي :إنما تنتفع ( )1بها القلوب المؤمنة.
ن وَالنْسَ إِل لِ َيعْبُدُونِ } أي :إنما خلقتهم لمرهم بعبادتي ،ل لحتياجي
ثم قال َ { :ومَا خََل ْقتُ ا ْلجِ ّ
إليهم.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :إِل لِ َيعْبُدُونِ } أي :إل ليقروا بعبادتي طوعا أو
كرها ( )2وهذا اختيار ابن جرير.
وقال ابن جُرَيْج :إل ليعرفون .وقال الربيع بن أنس { :إِل لِ َيعْبُدُونِ } أي :إل للعبادة .وقال
ت وَالرْضَ لَ َيقُولُنّ
س َموَا ِ
السدي :من العبادة ما ينفع ومنها ما ل ينفع { ،وَلَئِنْ سَأَلْ َت ُهمْ مَنْ خََلقَ ال ّ
اللّهُ } [ لقمان ] 25 :هذا منهم عبادة ،وليس ينفعهم مع الشرك .وقال الضحاك :المراد بذلك
المؤمنون.
ط ِعمُونِ .إِنّ اللّهَ ُهوَ الرّزّاقُ ذُو ا ْلقُ ّوةِ ا ْلمَتِينُ } قال
ق َومَا أُرِيدُ أَنْ ُي ْ
وقوله { :مَا أُرِيدُ مِ ْنهُمْ مِنْ رِ ْز ٍ
( )3المام أحمد :
حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قال حدثنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق ،عن عبد الرحمن بن يزيد (
، )4عن عبد ال بن مسعود قال :أقرأني رسول ال ( )5صلى ال عليه وسلم " :إني لنا الرزاق
ذو القوة المتين".
ورواه أبو داود ،والترمذي ،والنسائي ،من حديث إسرائيل ،وقال الترمذي :حسن صحيح (
.)6
ومعنى الية :أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده ل شريك له ،فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ،
ومن عصاه عذبه أشد العذاب ،وأخبر أنه غير محتاج إليهم ،بل هم الفقراء إليه في جميع
أحوالهم ،فهو خالقهم ورازقهم.
قال المام أحمد :حدثنا محمد بن عبد ال ،حدثنا عمران -يعني ابن زائدة بن َنشِيط -عن
أبيه ،عن أبي خالد -هو الوالبي -عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
قال ال " :يا ابن
__________
( )1في م ،أ " :فإنما ينتفع".
( )2في م " :وكرها".
( )3في م " :وقال".
( )4في أ " :زيد".
( )5في م " :النبي".
( )6المسند ( )1/394وسنن أبي داود برقم ( )3989وسنن الترمذي برقم ( )2940والنسائي في
السنن الكبرى برقم (.)11527
( )7/425
آدم َ ،تفَرّغ لعبادتي أمل صدرك غِنًى ،وأس ّد فقرك ،وإل تفعل ملت صدرك شغل ولم أسد
فقرك".
ورواه الترمذي وابن ماجه ،من حديث عمران بن زائدة ،وقال الترمذي :حسن غريب (.)1
وقد روى المام أحمد عن وكيع وأبي معاوية ،عن العمش ،عن سلم أبي شُرحْبِيل ،سمعت
حَبّة وسواء ابني خالد يقولن :أتينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يعمل عمل أو يبني بناء
-وقال أبو معاوية :يصلح شيئا -فأعناه عليه ،فلما فرغ دعا لنا وقال " :ل تيأسا من الرزق ما
تهززت رءوسكما ،فإن النسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ،ثم يعطيه ال ويرزقه" ( .)2و
[قد ورد] ( )3في بعض الكتب اللهية " :يقول ال تعالى :ابن آدم ،خلقتك لعبادتي فل تلعب ،
وتكفلت برزقك فل تتعب فاطلبني تجدني ؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء ،وإن فُتك فاتك كل
شيء ،وأنا أحب إليك من كل شيء".
وقوله { :فَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُوا ذَنُوبًا } أي :نصيبا من العذاب { ،مِ ْثلَ ذَنُوبِ َأصْحَا ِبهِمْ فَل يَسْ َتعْجِلُونِ
} أي :فل يستعجلون ذلك ،فإنه واقع [بهم] ( )4ل محالة.
{ َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َي ْو ِمهِمُ الّذِي يُوعَدُونَ } يعني :يوم القيامة.
آخر تفسير سورة الذاريات
__________
( )1المسند ( )2/358وسنن الترمذي برقم ( )2466وسنن ابن ماجه برقم (.)4107
( )2المسند (.)3/469
( )3زيادة من م ،أ.
( )4زيادة من أ.
( )7/426
( )7/427
( )7/427
يطوف أهل الرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت ،هو كعبة أهل السماء السابعة ؛ ولهذا وجد إبراهيم
الخليل ،عليه السلم ،مسندا ظهره إلى البيت المعمور ؛ لنه باني الكعبة الرضية ،والجزاء
من جنس العمل ،وهو بحيال الكعبة ،وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ،ويصلون إليه ،والذي
في السماء الدنيا يقال له :بيت العزة .وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا هشام بن عمار ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا روح بن
جناح ،عن الزهري ،عن سعيد بن المسيب ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم
قال " :في السماء السابعة بيت يقال له " :المعمور" ؛ بحيال الكعبة ،وفي السماء الرابعة نهر يقال
له " :الحيوان" يدخله جبريل كل يوم ،فينغمس فيه انغماسة ،ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه
سبعون ألف قطرة ،يخلق ال من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ،فيصلوا ()1
فيه فيفعلون ،ثم يخرجون فل يعودون إليه أبدا ،ويولي عليهم أحدهم ،يؤمر أن يقف بهم من
السماء موقفا يسبحون ال فيه إلى أن تقوم الساعة".
هذا حديث غريب جدا ،تفرد به روح بن جناح هذا ،وهو القرشي الموي مولهم أبو سعد
الدمشقي ،وقد أنكر هذا الحديث عليه جماعة من الحفاظ منهم :الجوزجاني ،والعقيلي ،والحاكم
أبو عبد ال النيسابوري ،وغيرهم.
قال الحاكم :ل أصل له من حديث أبي هريرة ،ول سعيد ،ول الزهري ()2
وقال ابن جرير :حدثنا هَنّاد بن السّريّ ،حدثنا أبو الحوص ،عن سماك بن حرب ،عن خالد
بن ( )3عرعرة ؛ أن رجل قال لعلي :ما البيت المعمور ؟ قال :بيت في السماء يقال له :
"الضّراح" وهو بحيال الكعبة من فوقها ،حرمته في السماء كحرمة البيت في الرض ،يصلي فيه
كل يوم سبعون ألفا من الملئكة ،ل ( )4يعودون فيه أبدا ()5
سمَاك وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ،ثم
وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري ،عن ِ
رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب ،عن طَلْق بن غنام ،عن زائدة ،عن عاصم ،عن علي بن
ربيعة قال :سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور ،قال :مسجد في السماء يقال له :
"الضّراح" ،يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملئكة ،ثم ل يعودون فيه أبدا .ورواه من حديث أبي
طفَيْل ،عن علي بمثله.
ال ّ
وقال ال َعوْفي عن ابن عباس :هو بيت حذاء العرش ،تعمره الملئكة ،يصلي فيه كل يوم
سبعون
__________
( )1في م " :فيصلون".
( )2ورواه ابن عدي في الكامل ( )3/144من طريق هشام بن عمار به ،وقال " :سمعت ابن
حماد يقول :قال السعدي :روح بن جناح ذكر عنالزهري حديثا معضل في البيت المعمور" ثم
ساقه بإسناده وتعقبه بقوله " :ول يعرف هذا الحديث إل بروح بن جناح عن الزهري".
( )3في م " :عن".
( )4في م " :ثم ل".
( )5تفسير الطبري ()27/10
( )7/428
ألفا من الملئكة ثم ل يعودون إليه ،وكذا قال عكرمة ،ومجاهد ،والربيع بن أنس ،والسدي ،
وغير واحد من السلف.
وقال قتادة :ذكر لنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال يوما لصحابه " :هل تدرون ما البيت
المعمور ؟" قالوا :ال ورسوله أعلم .قال " :فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة ،لو خر لخر
عليها ،يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ،إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم".
وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملئكة يقال لهم :الحِن ( ، )1من قبيلة إبليس ( ، )2فال
أعلم.
سمَاك ،عن
س ْقفِ ا ْلمَ ْرفُوعِ } :قال سفيان الثوري ،وشعبة ،وأبو الحوص ،عن ِ
وقوله { :وَال ّ
جعَلْنَا
س ْقفِ ا ْلمَ ْرفُوعِ } يعني :السماء ،قال سفيان :ثم تل { وَ َ
خالد بن عَرْعَرَة ،عن علي { :وَال ّ
حفُوظًا وَ ُهمْ عَنْ آيَا ِتهَا ُمعْ ِرضُونَ } [ النبياء .] 32 :وكذا قال مجاهد ،وقتادة ،
سقْفًا مَ ْ
سمَاءَ َ
ال ّ
والسدي ،وابن جُرَيْج ،وابن زيد ،واختاره ابن جرير.
وقال الربيع بن أنس :هو العرش يعني :أنه سقف لجميع المخلوقات ،وله اتجاه ،وهو يُراد مع
غيره كما قاله الجمهور.
سجُورِ } :قال الربيع بن أنس :هو الماء الذي تحت العرش ،الذي ينزل
وقوله { :وَالْ َبحْرِ ا ْلمَ ْ
[ال] ( )3منه المطر الذي يحيى به الجساد في قبورها يوم معادها .وقال الجمهور :هو هذا
البحر .واختلف في معنى قوله { :المسجور } ،فقال بعضهم :المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا
كقوله { :وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ } [ التكوير ] 6 :أي :أضرمت فتصير ( )4نارا تتأجج ،محيطة
بأهل الموقف .رواه سعيد بن المسيب’ عن علي بن أبي طالب ،ورُوي عن ابن عباس .وبه يقول
سعيد بن جبير ،ومجاهد ،وعبد ال بن عبيد بن عُمير ( )5وغيرهم.
وقال العلء بن بدر :إنما سمي البحر المسجور لنه ل يُشرب منه ماء ،ول يسقى به زرع ،
وكذلك البحار يوم القيامة .كذا رواه عنه ابن أبي حاتم.
سجُورِ }
وعن سعيد بن جُبير { :وَالْبَحْرِ ا ْل َمسْجُورِ } يعني :المرسل .وقال قتادة [ { :وَالْبَحْرِ] ا ْلمَ ْ
( )6المملوء .واختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء.
وقيل :المراد به الفارغ ،قال الصمعي عن أبي عمرو بن العلء ،عن ذي الرمة ،عن ابن
سجُورِ } قال :الفارغ ؛ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت " :إن
عباس في قوله { :وَالْبَحْرِ ا ْلمَ ْ
الحوض مسجور" ،تعني :فارغا .رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء.
__________
( )1في م ،أ " :الجن".
( )2تفسير الطبري (.)27/11
( )3زيادة من م ،أ.
( )4في م " :فصيرت".
( )5في م " :وعبيد ال بن عمير".
( )6زيادة من م.
( )7/429
وقيل :المراد بالمسجور :الممنوع المكفوف عن الرض ؛ لئل ( )1يغمرها فيغرق أهلها .قاله (
)2علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ،وبه يقول السدي وغيره ،وعليه يدل الحديث الذي رواه
المام أحمد ،رحمه ال ،في مسنده ،فإنه قال :
حدثنا يزيد ،حدثنا ( )3العوام ،حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال :لقيت أبا صالح مولى
عمر بن الخطاب فقال :حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ليس
من ليلة إل والبحر يشرف فيها ثلث مرات ،يستأذن ال أن ينفضخ ( )4عليهم ،فيكفه ال عز
وجل" (.)5
وقال الحافظ أبو بكر السماعيلي :حدثنا الحسن بن سفيان ،عن إسحاق بن راهويه ،عن يزيد -
وهو ابن هارون -عن العوام بن حوشب ،حدثني شيخ مرابط قال :خرجت ليلة لحرسي ( )6لم
يخرج أحد من الحرس غيري ،فأتيت الميناء فصعدت ،فجعل يخيل إليّ أن البحر يشرف يحاذي
رءوس الجبال ،فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ ،فلقيت أبا صالح فقال :حدثنا عمر بن الخطاب :
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ما من ليلة إل والبحر يشرف ثلث مرات ،يستأذن ال
أن ينفضخ عليهم ،فيكفه ال عز وجل" .فيه رجل مبهم لم يسم (.)7
عذَابَ رَ ّبكَ َلوَاقِعٌ } :هذا هو المقسم عليه ،أي :الواقع ( )8بالكافرين ،كما قال
وقوله { :إِنّ َ
في الية الخرى { :مَا َلهُ مِنْ دَا ِفعٍ } أي :ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد ال بهم ذلك.
قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا :حدثنا أبي ،حدثنا موسى بن داود ،عن صالح المري ،عن
جعفر بن ( )9زيد العبدي قال :خرج عمر َيعِسّ المدينة ذات ليلة ،فمر بدار رجل من
المسلمين ،فوافقه قائما يصلي ،فوقف يستمع قراءته فقرأ { :والطور } حتى بلغ { إِنّ عَذَابَ
رَ ّبكَ َلوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } قال :قسم -ورب الكعبة -حق .فنزل عن حماره واستند إلى
حائط ،فمكث مليا ،ثم رجع إلى منزله ،فمكث شهرا يعوده الناس ل يدرون ما مرضه ،رضي
ال عنه (.)10
وقال المام أبو عبيد في "فضائل القرآن" :حدثنا محمد بن صالح ،حدثنا هشام بن حسان ،عن
عذَابَ رَ ّبكَ َلوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } ( ، )11فربا لها ربوة عيد منها
الحسن :أن عمر قرأ { :إِنّ َ
عشرين يوما (.)12
سمَاءُ َموْرًا } :قال ابن عباس وقتادة :تتحرك تحريكا .وعن ابن عباس :
وقوله َ { :يوْمَ َتمُورُ ال ّ
هو تشققها ،وقال مجاهد :تدور دورا .وقال الضحاك :استدارتها وتحريكها لمر ال ،وموج
بعضها في
__________
( )1في م " :ل".
( )2في م " :وقال".
( )3في م " :بن".
( )4في م " :ينفضح".
( )5المسند ( )1/43ورواه من طريق ابن الجوزي في العلل المتناهية ( )1/52وقال " :العوام
ضعيف ،والشيخ مجهول".
( )6في م " :لمحرثي".
( )7وذكره المؤلف في مسند عمر ( )2/608من رواية السماعيلي ،وقال " :فيه رجل مبهم لم
يسم ،وال أعلم بحاله".
( )8في م " :واقع".
( )9في أ " :عن".
( )10وذكره المؤلف في مسند عمر ( )2/608من رواية ابن أبي الدنيا وفي إسناده صالح
المري ،ووقع في مسند عمر "المدني" فإن كان المري فهو ضعيف.
( )11زيادة من م.
( )12فضائل القرآن لبي عبيد (ص .)64
( )7/430
إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ َنعِيمٍ ( )17فَا ِكهِينَ ِبمَا آَتَا ُهمْ رَ ّبهُ ْم َو َوقَاهُمْ رَ ّب ُهمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ ( )18كُلُوا
صفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ ()20
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ( )19مُ ّتكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ َم ْ
بعض .وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك ( )1في استدارة .قال :وأنشد أبو عبيدة معمر بن
المثنى بيت العشى :
كأن مشْيَتَها من بيتِ جَارتها ...مَورُ السحابة ل رَ ْيثٌ ول عجل ()2
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي :تذهب فتصير هباء منبثا ،وتنسف نسفا.
{ َفوَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } أي :ويل لهم ذلك اليوم من عذاب ال ونكاله بهم ،وعقابه لهم.
خ ْوضٍ يَ ْلعَبُونَ } أي :هم في الدنيا يخوضون في الباطل ،ويتخذون دينهم هزوا
{ الّذِينَ ُهمْ فِي َ
ولعبا.
جهَنّمَ دَعّا } :وقال مجاهد ،والشعبي ،
{ َيوْمَ يُدَعّونَ } أي :يدفعون ويساقون { ،إِلَى نَارِ َ
ومحمد بن كعب ،والضحاك ،والسدي ،والثوري :يدفعون فيها دفعا.
{ هَ ِذهِ النّارُ الّتِي كُنْ ُتمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ } أي :تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا.
{ َأ َفسِحْرٌ هَذَا َأمْ أَنْتُمْ ل تُ ْبصِرُونَ اصَْلوْهَا } أي :ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته
سوَاءٌ عَلَ ْيكُمْ } أي :سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا ،
{ فَاصْبِرُوا َأوْ ل َتصْبِرُوا َ
ل محيد لكم عنها ول خلص لكم منها ( { ، )3إِ ّنمَا ُتجْ َزوْنَ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } أي :ول يظلم ال
أحدا ،بل يجازي كل بعمله.
جحِيمِ ( )18كُلُوا
عذَابَ الْ َ
ت وَ َنعِيمٍ ( )17فَا ِكهِينَ ِبمَا آتَاهُمْ رَ ّب ُه ْم َووَقَا ُهمْ رَ ّبهُمْ َ
{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
صفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ (} )20
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ( )19مُ ّتكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ َم ْ
ت وَ َنعِيمٍ } ،وذلك بضد ما أولئك فيه
يخبر تعالى عن حال السعداء فقال { :إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
من العذاب والنكال.
{ فَا ِكهِينَ ِبمَا آتَاهُمْ رَ ّب ُهمْ } أي :يتفكهون بما آتاهم ال من النعيم ،من أصناف الملذ ،من مآكل
ومشارب وملبس ومساكن ومراكب وغير ذلك َ { ،و َوقَاهُمْ رَ ّب ُهمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ } أي :وقد نجاهم
من عذاب النار ،وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة ،التي
فيها من السرور ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
وقوله { :كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } ،كقوله { :كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا أَسَْلفْتُمْ فِي
اليّامِ ا ْلخَالِيَةِ } [ الحاقة .] 24 :أي هذا بذاك ،تفضل منه وإحسانا.
صفُوفَةٍ } قال الثوري ،عن حصين ،عن مجاهد ،عن ابن عباس
وقوله { :مُ ّتكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ َم ْ
:السرر في الحجال.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو اليمان ،حدثنا صفوان بن عمرو ؛ أنه سمع الهيثم بن
__________
( )1في م ،أ " :المتحرك".
( )2البيت في تفسير الطبري (.)27/13
( )3في أ " :فيها".
( )7/431
مالك الطائي يقول :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار
أربعين سنة ما يتحول عنه ول يمله ،يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه".
وحدثنا أبي ،حدثنا هُدْبَة بن خالد ،عن سليمان بن المغيرة ،عن ثابت قال :بلغنا أن الرجل
ليتكئ في الجنة سبعين سنة ،عنده من أزواجه وخدمه وما أعطاه ال من الكرامة والنعيم ،فإذا
حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك ،فيقلن :قد آن لك أن تجعل لنا منك
نصيبا.
ومعنى { مصفوفة } أي :وجوه بعضهم إلى بعض ،كقوله { :عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [ الصافات :
{ .] 44وَ َزوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ } أي :وجعلناهم قرينات صالحات ،وزوجات حسانا من الحور
العين.
وقال مجاهد { :وزوجناهم } :أنكحناهم بحور عين ،وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما
أغنى عن إعادته.
شيْءٍ ُكلّ
عمَِلهِمْ مِنْ َ
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ َ
{ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُت ُهمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ
سبَ رَهِينٌ ( )21وََأمْدَدْنَا ُهمْ ِبفَا ِكهَ ٍة وَلَحْمٍ ِممّا َيشْ َتهُونَ ( )22يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا ل
امْ ِرئٍ ِبمَا كَ َ
ضهُمْ عَلَى
َل ْغوٌ فِيهَا وَل تَأْثِيمٌ ( )23وَيَطُوفُ عَلَ ْيهِمْ غِ ْلمَانٌ َلهُمْ كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ ( )24وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
سمُومِ
ش ِفقِينَ (َ )26فمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َو َوقَانَا عَذَابَ ال ّ
َب ْعضٍ يَ َتسَاءَلُونَ ( )25قَالُوا إِنّا كُنّا قَ ْبلُ فِي َأهْلِنَا مُ ْ
( )27إِنّا كُنّا مِنْ قَ ْبلُ نَدْعُوهُ إِنّهُ ُهوَ الْبَرّ الرّحِيمُ (} )28
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ،وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه :أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم
في اليمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ،لتقر أعين الباء بالبناء عندهم في
منازلهم ،فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ،بأن يرفع الناقص العمل ،بكامل العمل ،ول ينقص
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ
ذلك من عمله ومنزلته ،للتساوي بينه وبين ذاك ؛ ولهذا قال { :أَلْ َ
شيْءٍ }
عمَِلهِمْ مِنْ َ
َ
قال الثوري ،عن عمرو بن مُرّة ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :إن ال ليرفع ذرية
المؤمن في درجته ،وإن كانوا دونه في العمل ،لتقر بهم عينه ثم قرأ { :وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ
شيْءٍ }
عمَِلهِمْ مِنْ َ
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ َ
ذُرّيّ ُتهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري ،به .وكذا رواه ابن جرير من حديث
شعبة عن عمرو بن مُرّة به ( .)1ورواه البزار ،عن سهل بن بحر ( ، )2عن الحسن بن حماد
الوراق ،عن قيس بن الربيع ،عن عمرو بن مُرّة ،عن سعيد ،عن ابن عباس مرفوعا ،
فذكره ،ثم قال :وقد رواه
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/15
( )2في أ " :يحيى".
( )7/432
الثوري ،عن عمرو بن مرة ،عن سعيد عن ابن عباس موقوفا (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد ( )2البيروتي ،أخبرني محمد بن شعيب (
)3أخبرني شيبان ،أخبرني ليث ،عن حبيب بن أبي ثابت السدي ،عن سعيد بن جبير ،عن
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُمْ }
ابن عباس في قول ال ،عز وجل { :وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُت ُهمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ
قال :هم ذرية المؤمن ،يموتون على اليمان :فإن كانت منازل آبائهم ،أرفع من منازلهم
ألحقوا بآبائهم ،ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئا.
وقال الحافظ الطبراني :حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتَرِي ،حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن
غَزْوان ،حدثنا شريك ،عن سالم الفطس ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس -أظنه عن
النبي صلى ال عليه وسلم -قال " :إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ،فيقال :
إنهم لم يبلغوا درجتك .فيقول :يا رب ،قد عملت لي ولهم .فيؤمر بإلحاقهم به ،وقرأ ابن عباس
{ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُت ُهمْ بِإِيمَانٍ } الية (.)4
وقال ال َعوْفي ،عن ابن عباس في هذه الية :يقول :والذين أدرك ذريتهم اليمان فعملوا بطاعتي
،ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ،وأولدهم الصغار تلحق بهم.
وهذا راجع إلى التفسير الول ،فإن ذاك مفسر أصرح من هذا .وهكذا يقول الشعبي ،وسعيد بن
جبير ،وإبراهيم ،وقتادة ،وأبو صالح ،والربيع بن أنس ،والضحاك ،وابن زيد .وهو اختيار
ابن جرير .وقد قال عبد ال بن المام أحمد :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا حمد بن ُفضَيْل ،عن محمد بن عثمان ،عن زاذان ،عن علي
قال :سألتْ خديجة النبي صلى ال عليه وسلم ،عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :هما في النار" .فلما رأى الكراهة في وجهها قال " :لو رأيت مكانهما
لبغضتهما" .قالت :يا رسول ال ،فولدي منك .قال " :في الجنة" .قال :ثم قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :إن المؤمنين وأولدهم في الجنة ،وإن المشركين وأولدهم في النار" .ثم
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُمْ }
قرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم { :وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُت ُهمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ
[الية] (.)6( )5
هذا فضله تعالى على البناء ببركة عمل الباء ،وأما فضله على الباء ببركة دعاء البناء ،فقد
__________
( )1مسند البزار برقم (" )2260كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/114فيه قيس
بن الربيع وثقه شعبة والثوري ،وفيه ضعف".
( )2في م ،أ " :يزيد".
( )3في م " :شعبة".
( )4رواه الطبراني في المجمع الكبير ( )11/440حدثنا محمد بن عبد ال الحضرمي حدثنا محمد
بن عبد الرحمن بن غزوان به .ورواه في المعجم الصغير برقم ( )640حدثنا عبد ال بن يزيد
الدقيقي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به .ولم أجد رواية الحسين بن إبراهيم التستري.
( )5زيادة من م.
( )6زوائد عبد ال على المسند ( )1/134وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/217فيه محمد بن
عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح".
( )7/433
( )7/434
ن وَلَا َمجْنُونٍ (َ )29أمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَ ّبصُ ِبهِ رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ ()30
فَ َذكّرْ َفمَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبكَاهِ ٍ
ُقلْ تَرَ ّبصُوا فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ ()31
حشَمهم في الجنة
خدَمهم و َ
وقوله { :وَيَطُوفُ عَلَ ْيهِمْ غِ ْلمَانٌ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ } :إخبار عن َ
كأنهم اللؤلؤ الرطب ،المكنون في حسنهم وبهائهم ( )1ونظافتهم وحسن ملبسهم ،كما قال
خلّدُونَ بَِأ ْكوَابٍ وَأَبَارِيقَ َوكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ } [ الواقعة .] 18 ، 17 :
{ َيطُوفُ عَلَ ْي ِه ْم وِلْدَانٌ مُ َ
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ يَ َتسَاءَلُونَ } أي :أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم
وقوله { :وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
وأحوالهم في الدنيا ،وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان
من أمرهم.
شفِقِينَ } أي :قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا
{ قَالُوا إِنّا كُنّا قَ ْبلُ فِي أَهْلِنَا ُم ْ
سمُومِ } أي :فتصدق علينا وأجارنا
مشفقين من عذابه وعقابه َ { ،فمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َو َوقَانَا عَذَابَ ال ّ
مما نخاف.
{ إِنّا كُنّا مِنْ قَ ْبلُ َندْعُوهُ } أي :نتضرع إليه فاستجاب [ال] ( )2لنا وأعطانا سؤلنا { ،إِنّهُ ُهوَ الْبَرّ
الرّحِيمُ }
وقد ورد في هذا المقام حديث ،رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال :حدثنا سلمة بن
شبيب ،حدثنا سعيد بن دينار ،حدثنا الربيع بن صبيح ،عن الحسن ،عن أنس قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الخوان ،فيجيء سرير هذا
حتى يحاذي سرير هذا ،فيتحدثان ،فيتكئ هذا ويتكئ هذا ،فيتحدثان بما كان في الدنيا ،فيقول
أحدهما لصاحبه :يا فلن ،تدري أي يوم غفر ال لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا ،فدعونا
ال -عز وجل -فغفر لنا".
ثم قال البزار :ل نعرفه يُ ْروَى إل بهذا السناد (.)3
قلت :وسعيد بن دينار الدمشقي قال أبو حاتم :هو مجهول ،وشيخه الربيع بن صبيح قد تكلم فيه
غير واحد من جهة حفظه ،وهو رجل صالح ثقة في نفسه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا عمرو بن عبد ال الوْ ِديّ ،حدثنا وَكيع ،عن العمش ،عن أبي
الضحَى ،عن مسروق ،عن عائشة ؛ أنها قرأت هذه الية َ { :فمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َو َوقَانَا عَذَابَ
سمُومِ إِنّا كُنّا مِنْ قَ ْبلُ َندْعُوهُ إِنّهُ ُهوَ الْبَرّ الرّحِيمُ } فقالت :اللهم مُنّ علينا وقنا عذاب السموم ،
ال ّ
إنك أنت البر الرحيم .قيل للعمش :في الصلة ؟ قال :نعم (.)4
ن وَل َمجْنُونٍ (َ )29أمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَ ّبصُ ِبهِ رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ (
{ َف َذكّرْ َفمَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبكَاهِ ٍ
ُ )30قلْ تَرَ ّبصُوا فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ (} )31
__________
( )1في م " :وبياضهم".
( )2زيادة من أ.
( )3مسند البزار برقم (" )3553كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/421رجاله
رجال الصحيح غير سعيد بن دينار والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا".
( )4ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في شعيب اليمان كما في الدر
المنثور للسيوطي (.)7/634
( )7/435
أَمْ تَ ْأمُرُ ُهمْ َأحْلَا ُمهُمْ ِبهَذَا أَمْ ُهمْ َقوْمٌ طَاغُونَ (َ )32أمْ َيقُولُونَ َت َقوّلَهُ َبلْ لَا ُي ْؤمِنُونَ ( )33فَلْيَأْتُوا
حدِيثٍ مِثِْلهِ إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ ()34
بِ َ
{ َأمْ تَ ْأمُرُهُمْ أَحْل ُمهُمْ ِب َهذَا أَمْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ ( )32أَمْ َيقُولُونَ َتقَوّلَهُ َبلْ ل ُي ْؤمِنُونَ ( )33فَلْيَأْتُوا
حدِيثٍ مِثِْلهِ إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ (} )34
بِ َ
( )7/435
يقول ( )1تعالى آمرا رسوله ،صلوات ال وسلمه عليه ،بأن يبلغ رسالته إلى عباده ،وأن
يذكرهم بما أنزل ال عليه .ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال َ { :ف َذكّرْ َفمَا أَ ْنتَ
ن وَل مَجْنُونٍ } أي :لست بحمد ال بكاهن كما تقوله ( )2الجهلة من كفار
بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبكَاهِ ٍ
قريش .والكاهن :الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء { ،وَل مَجْنُونٍ } :
وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول ،صلوات ال وسلمه عليه { :أَمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ
نَتَرَ ّبصُ بِهِ رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ } أي :قوارع الدهر .والمنون :الموت :يقولون :ننظره ونصبر عليه
حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه ،قال ال تعالى ُ { :قلْ تَرَ ّبصُوا فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ
ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ } أي :انتظروا فإني منتظر معكم ،وستعلمون لمن تكون العاقبة والنّصرة في الدنيا
والخرة.
قال محمد بن إسحاق ،عن عبد ال بن أبي نَجِيح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس :إن قريشا لما
اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى ال عليه وسلم قال قائل منهم :احتبسوه ( )3في
وثاق ،ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك ،كما هلك من هلك قبله من الشعراء :زهير
والنابغة ،إنما هو كأحدهم .فأنزل ال في ذلك من قولهم َ { :أمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَ ّبصُ بِهِ رَ ْيبَ
ا ْلمَنُونِ } (.)4
ثم قال تعالى َ { :أمْ تَ ْأمُرُ ُهمْ أَحْل ُمهُمْ ِب َهذَا } أي :عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من
القوال الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور ؟ { أَمْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ } أي :ولكن هم
قوم ضلل معاندون ،فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك.
وقوله َ { :أمْ َيقُولُونَ َت َقوّلَهُ } أي :اختلقه وافتراه من عند نفسه ،يعنون القرآن :قال ال َ { :بلْ
حدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا
ل ُي ْؤمِنُونَ } أي :كفرهم هو الذي يحملهم ( )5على هذه المقالة { .فَلْيَأْتُوا بِ َ
صَا ِدقِينَ } أي :إن كانوا صادقين في قولهم " :تَقوّله وافتراه" فليأتوا بمثل ما جاء به محمد [صلى
ال عليه وسلم] ( )6من هذا القرآن ،فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الرض من الجن
والنس ،ما جاءوا بمثله ،ول بعشر سور [من] ( )7مثله ،ول بسورة من مثله.
__________
( )1في م " :قال".
( )2في م " :يقوله".
( )3في أ " :احبسوه".
( )4رواه الطبري في تفسيره ( )27/19من طريق ابن إسحاق به
( )5في م " :حملهم"
( )6زيادة من أ.
( )7زيادة من م.
( )7/436
( )7/437
سمَاءِ سَاقِطًا َيقُولُوا سَحَابٌ مَ ْركُومٌ ( )44فَذَرْ ُهمْ حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي فِيهِ
سفًا مِنَ ال ّ
وَإِنْ يَ َروْا كِ ْ
عذَابًا دُونَ
ظَلمُوا َ
صعَقُونَ (َ )45يوْمَ لَا ُيغْنِي عَ ْنهُمْ كَ ْيدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ ( )46وَإِنّ لِلّذِينَ َ
ُي ْ
حمْدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ (
حكْمِ رَ ّبكَ فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ ِب َ
ك وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ ( )47وَاصْبِرْ ِل ُ
ذَِل َ
ح ُه وَإِدْبَارَ النّجُومِ ()49
َ )48ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّ ْ
هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه ،فكيدهم إنما يرجع وباله على
عمّا يُشْ ِركُونَ } .وهذا
أنفسهم ،فالذين كفروا هم المكيدون { ،أَمْ َل ُهمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ َ
إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الصنام والنداد مع ال .ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون
عمّا يُشْ ِركُونَ }
ويفترون ويشركون ،فقال { :سُبْحَانَ اللّهِ َ
سحَابٌ مَ ْركُومٌ (َ )44فذَرْهُمْ حَتّى يُلقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي فِيهِ
سمَاءِ سَا ِقطًا َيقُولُوا َ
سفًا مِنَ ال ّ
{ وَإِنْ يَ َروْا كِ ْ
عذَابًا دُونَ
ظَلمُوا َ
صعَقُونَ (َ )45يوْمَ ل ُيغْنِي عَ ْن ُهمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئًا وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ ( )46وَإِنّ لِلّذِينَ َ
ُي ْ
حمْدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ (
حكْمِ رَ ّبكَ فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِ َ
ك وََلكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم ل َيعَْلمُونَ ( )47وَاصْبِرْ لِ ُ
ذَِل َ
ح ُه وَإِدْبَارَ النّجُومِ (} )49
َ )48ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّ ْ
سمَاءِ
سفًا مِنَ ال ّ
يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس { :وَإِنْ يَ َروْا كِ ْ
سحَابٌ
سَاقِطًا َيقُولُوا } أي :عليهم يعذبون به ،لما صدقوا ولما ( )1أيقنوا ،بل يقولون :هذا { َ
سمَاءِ فَظَلّوا فِيهِ َيعْ ُرجُونَ.
مَ ْركُومٌ } أي :متراكم .وهذه كقوله تعالى { :وََلوْ فَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ بَابًا مِنَ ال ّ
سحُورُونَ } [ الحجر .] 15 ، 14 :قال ال تعالى :
سكّ َرتْ أَ ْبصَارُنَا َبلْ َنحْنُ َقوْمٌ مَ ْ
َلقَالُوا إِ ّنمَا ُ
صعَقُونَ } ،وذلك يوم
{ فذرهم } أي :دعهم -يا محمد { -حَتّى يُلقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي فِيهِ ُي ْ
القيامة َ { ،يوْمَ ل ُيغْنِي عَ ْنهُمْ كَ ْيدُهُمْ شَيْئًا } أي :ل ينفعهم كيدهم ومكرهم الذي استعملوه في الدنيا
،ل يُجدي عنهم يوم القيامة شيئا { ،وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ }
ثم قال { :وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُوا عَذَابًا دُونَ ذَِلكَ } أي :قبل ذلك في الدار الدنيا ،كقوله { :وَلَنُذِيقَ ّنهُمْ
جعُونَ } [ السجدة ، ] 21 :ولهذا قال { :وََلكِنّ
مِنَ ا ْلعَذَابِ الدْنَى دُونَ ا ْل َعذَابِ الكْبَرِ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ
َأكْثَرَهُمْ ل َيعَْلمُونَ } أي :نعذبهم في الدنيا ،ونبتليهم فيها بالمصائب ،لعلهم يرجعون وينيبون (
، )2فل يفهمون ما يراد بهم ،بل إذا جلي عنهم مما كانوا فيه ،عادوا إلى أسوأ ( )3ما كانوا
عليه ،كما جاء في بعض الحاديث " :إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير ،
ل يدري فيما عقلوه ول فيما أرسلوه" ( .)4وفي الثر اللهي :كم أعصيك ول تعاقبني ؟ قال ال
:يا عبدي ،كم أعافيك ( )5وأنت ل تدري ؟
ح ْكمِ رَ ّبكَ فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا } أي :اصبر على أذاهم ول تبالهم ،فإنك بمرأى منا
وقوله { :وَاصْبِرْ لِ ُ
وتحت كلءتنا ،وال يعصمك من الناس.
حمْدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ } قال الضحاك :أي إلى الصلة :سبحانك اللهم
وقوله { :وَسَبّحْ ِب َ
__________
( )1في م " :ول".
( )2في أ " :ينسون"
( )3في أ " :أشر".
( )4رواه أبو داود في السنن برقم ( )3089من حديث عامر الرام رضي ال عنه.
( )5في م ،أ " :أعاقبك".
( )7/438
( )7/439
من جلس في مجلس فكثر ( )1فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه :سبحانك اللهم وبحمدك ،
أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك وأتوب إليك ،إل غفر ( )2له ما كان في مجلسه ذلك".
رواه الترمذي -وهذا لفظه -والنسائي في اليوم والليلة ،من حديث ابن جريج .وقال الترمذي :
حسن صحيح .وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال :إسناد على شرط مسلم ،إل أن البخاري علله
(.)3
قلت :علله المام أحمد ،والبخاري ،ومسلم ،وأبو حاتم ،وأبو زُرَعة ،والدارقطني ،وغيرهم.
ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جُرَيْج .على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ( )4ابن
جريج إلى أبي هريرة ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم بنحوه ( )5ورواه أبو
داود -واللفظ له -والنسائي ،والحاكم في المستدرك ،من طريق الحجاج بن دينار ،عن هاشم
( )6عن أبي العالية ،عن أبي بَرْزَة السلمي قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول
بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس " :سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك
وأتوب إليك" .فقال رجل :يا رسول ال ،إنك لتقول قول ما كنت تقوله فيما مضى ؟! قال :
"كفارة لما يكون في المجلس" (.)7
وقد روي مرسل عن أبي العالية ،وال ( )8أعلم .وهكذا رواه النسائي والحاكم ،من حديث
الربيع بن أنس ،عن أبي العالية ،عن رافع بن خَدِيج ،عن النبي صلى ال عليه وسلم مثله سواء
( )9وروي مرسل أيضا ،وال أعلم .وكذا رواه أبو داود عن عبد ال بن عمرو ؛ أنه قال :
"كلمات ل يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلث مرات ،إل كفر بهن عنه ،ول يقولهن في
مجلس خير ومجلس ذكر ،إل ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة :سبحانك اللهم
وبحمدك ،ل إله إل أنت ،أستغفرك وأتوب إليك" ( )10وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين
عائشة ،وصححه ،ومن رواية جُبَير بن مطعم ( )11ورواه أبو بكر السماعيلي عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب ،كلهم عن النبي صلى ال عليه وسلم .وقد أفردت لذلك جزءا على
حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله ،وما يتعلق به ،ول الحمد والمنة ()12
وقوله َ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْهُ } أي :اذكره واعبده بالتلوة والصلة في الليل ،كما قال َ { :ومِنَ
حمُودًا } [ السراء .] 79 :
اللّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً َلكَ عَسَى أَنْ يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَامًا َم ْ
__________
( )1في " :فأكثر".
( )2في م ،أ " :إل غفر ال له".
( )3سنن الترمذي برقم ( )3433والنسائي في السنن الكبرى برقم ( )10230والمستدرك (
.)1/536
( )4في أ " :عن".
( )5سنن أبي داود برقم (.)4858
( )6في أ " :عن أبي هاشم".
( )7سنن أبي داود برقم ( )4859والنسائي في السنن الكبرى برقم ( )10259والمستدرك (
.)1/537
( )8في م " :فال".
( )9النسائي في السنن الكبرى برقم ( )10260والمستدرك (.)1/537
( )10سنن أبي داود برقم (.)4857
( )11المستدرك (.)1/537
( )12وقد ذكرت أحاديث كفارة المجلس عند تفسير الصافات في خاتمتها.
( )7/440
وقوله { :وَإِدْبَارَ النّجُومِ } قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلة الفجر ،
فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم ،أي :عند جنوحها للغيبوبة .وقد روى ([ )1في حديث] ()2
ابن سيلن ،عن أبي هريرة مرفوعا " :ل تَدَعُوهما ،وإن طردتكم الخيل" .يعني :ركعتي الفجر
( )3رواه أبو داود .ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب المام أحمد القول بوجوبهما ،
وهو ضعيف لحديث " :خمس صلوات في اليوم والليلة" .قال :هل علي غيرها ( )4؟ قال " :ل
إل أن تطوع" ( )5وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ،رضي ال عنها ،أنها قالت :لم يكن
رسول ال صلى ال عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر ()6
وفي لفظ لمسلم " :ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" ()7
آخر تفسير سورة الطور [ وال أعلم] ()8
__________
( )1في م ،أ " :ورد".
( )2زيادة من م ،أ.
( )3رواه أبو داود في السنن برقم (.)1258
( )4في أ " :غيرهن".
( )5رواه البخاري في صحيحه برقم ( )46ومسلم في صحيحه برقم ( )11من حديث طلحة بن
عبيد ال رضي ال عنه.
( )6صحيح البخاري برقم ( )1169وصحيح مسلم برقم (.)724
( )7صحيح مسلم برقم (.)725
( )8زيادة من أ.
( )7/441
حيٌ
غوَى (َ )2ومَا يَ ْنطِقُ عَنِ ا ْل َهوَى ( )3إِنْ ُهوَ إِلّا َو ْ
ضلّ صَاحِ ُبكُ ْم َومَا َ
وَالنّجْمِ إِذَا َهوَى ( )1مَا َ
يُوحَى ()4
( )7/442
بغير علم ،والغاوي :هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره ،فنزه ال [سبحانه وتعالى] (
)1رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل ( )2الضلل كالنصارى وطرائق اليهود ،وعن ( )3علم
الشيء وكتمانه والعمل بخلفه ،بل هو صلوات ال وسلمه عليه ،وما بعثه ال به من الشرع
العظيم في غاية الستقامة والعتدال والسداد ؛ ولهذا قال َ { :ومَا يَ ْنطِقُ عَنِ ا ْل َهوَى } أي :ما
حيٌ يُوحَى } أي :إنما يقول ما أمر به ،يبلغه إلى
يقول قول عن هوى وغرض { ،إِنْ ُهوَ إِل وَ ْ
الناس كامل موفّرًا من غير زيادة ول نقصان ،كما رواه المام أحمد.
حدثنا يزيد ،حدثنا حَرِيز بن عثمان ،عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة ،عن أبي أمامة ؛ أنه سمع
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين -أو :
مثل أحد الحيين : -رَبِيعة و ُمضَر" .فقال رجل :يا رسول ال ،أو ما ربيعة من مضر ؟ قال :
"إنما أقول ما أقول" (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا يحيى بن سعيد ،عن عُبَيد ال بن الخنس ،أخبرنا الوليد بن عبد ال ،
عن يوسف بن مَاهَك ،عن عبد ال بن عمرو قال :كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول ال
صلى ال عليه وسلم أريد حفظه ،فنهتني قريش فقالوا :إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول
ال ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم بشر ،يتكلم في الغضب .فأمسكتُ عن الكتاب ،فذكرت
ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال " :اكتب ،فوالذي نفسي بيده ،ما خرج مني إل
حق".
سدّد وأبي بكر بن أبي شيبة ،كلهما عن يحيى بن سعيد القَطّان ،به (.)5
ورواه أبو داود عن مُ َ
وقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا أحمد بن منصور ،حدثنا عبد ال بن صالح ،حدثنا الليث ،
عجْلن ،عن زيد بن أسلم ،عن أبي صالح ،عن أبي هُرَيرة ،عن النبي صلى ال عليه
عن ابن َ
شكّ فيه" .ثم قال :ل نعلمه يُروَى إل
وسلم قال " :ما أخبرتكم أنه الذي من عند ال ،فهو الذي ل َ
بهذا السناد (.)6
وقال المام أحمد :حدثنا يونس ،حدثنا ليث ،عن محمد ،عن سعيد بن أبي سعيد ،عن أبي
هريرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :ل أقول إل حقا" .قال بعض أصحابه :
فإنك تداعبنا يا رسول ال ؟ قال " :إني ل أقول إل حقا" (.)7
__________
( )1زيادة من م.
( )2في م " :أصحاب".
( )3في م " :وهي".
( )4المسند ( )5/257وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/381رجال أحمد رجال الصحيح غير
عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة".
( )5المسند ( )2/162وسنن أبي داود برقم (.)3646
( )6مسند البزار برقم (" )203كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (" : )1/179فيه أحمد بن
منصور الرمادي وهو ثقة ،وفيه كلم ل يضر وبقية رجاله رجال الصحيح ،وعبد ال بن صالح
مختلف فيه".
( )7المسند ( )2/340ورواه الترمذي في السنن برقم ( )1990من طريق المقبري به وقال " :هذا
حديث حسن صحيح".
( )7/443
شدِيدُ ا ْلقُوَى ( )5ذُو مِ ّرةٍ فَاسْ َتوَى ( )6وَ ُهوَ بِالُْأفُقِ الْأَعْلَى ( )7ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى (َ )8فكَانَ قَابَ
عَّلمَهُ َ
َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى ( )9فََأوْحَى إِلَى عَبْ ِدهِ مَا َأوْحَى ( )10مَا َك َذبَ ا ْلفُؤَادُ مَا رَأَى (َ )11أفَ ُتمَارُونَهُ عَلَى
سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى ( )14عِ ْندَهَا جَنّةُ ا ْلمَ ْأوَى ( )15إِذْ
مَا يَرَى ( )12وََلقَدْ رَ َآهُ نَزَْلةً أُخْرَى ( )13عِ ْندَ ِ
طغَى (َ )17لقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى (
َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى ( )16مَا زَاغَ الْ َبصَ ُر َومَا َ
)18
{ عَّل َمهُ شَدِيدُ ا ْل ُقوَى ( )5ذُو مِ ّرةٍ فَاسْ َتوَى ( )6وَ ُهوَ بِالفُقِ العْلَى (ُ )7ثمّ دَنَا فَ َتدَلّى (َ )8فكَانَ قَابَ
َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى ( )9فََأوْحَى إِلَى عَبْ ِدهِ مَا َأوْحَى ( )10مَا َك َذبَ ا ْلفُؤَادُ مَا رَأَى (َ )11أفَ ُتمَارُونَهُ عَلَى
سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى ( )14عِ ْندَهَا جَنّةُ ا ْلمَ ْأوَى ( )15إِذْ
مَا يَرَى ( )12وََلقَدْ رَآهُ نزَلةً أُخْرَى ( )13عِ ْندَ ِ
طغَى (َ )17لقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى (
َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى ( )16مَا زَاغَ الْ َبصَ ُر َومَا َ
.} )18
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم أنه عَلّمه الذي جاء به إلى الناس
{ شَدِيدُ ا ْلقُوَى } ،وهو جبريل ،عليه السلم ،كما قال { :إِنّهُ َل َق ْولُ َرسُولٍ كَرِيمٍ .ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ
ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍُ .مطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ } [ التكوير .] 21 - 19 :
وقال هاهنا { :ذُو مِ ّرةٍ } أي :ذو قوة .قاله مجاهد ،والحسن ،وابن زيد .وقال ابن عباس :ذو
منظر حسن.
وقال قتادة :ذو خَلْق طويل حسن.
ول منافاة بين القولين ؛ فإنه ،عليه السلم ،ذو منظر حسن ،وقوة شديدة .وقد ورد في الحديث
الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو ( )1أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ل تحل
س ِويّ" (.)2
الصدقة لغنيّ ،ول لِذِي مرّة َ
وقوله { :فَاسْ َتوَى } يعني :جبريل ،عليه السلم .قاله مجاهد والحسن وقتادة ،والربيع بن أنس.
{ وَ ُهوَ بِالفُقِ العْلَى } يعني :جبريل ،استوى في الفق العلى .قاله عكرمة وغير واحد .قال
عكرمة :والفق العلى :الذي يأتي منه الصبح .وقال مجاهد :هو مطلع الشمس .وقال قتادة :
هو الذي يأتي منه النهار .وكذا قال ابن زيد ،وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا ُمصَرّف بن عمرو اليامي أبو القاسم ،حدثنا عبد
الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف ،حدثني أبي ،عن الوليد -هو ابن قيس -عن إسحاق
بن أبي ال َكهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد ال بن مسعود أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم ير جبريل
في صورته إل مرتين ،أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الفق .وأما الثانية فإنه كان
معه حيث صعد ،فذلك ( )3قوله { :وَ ُهوَ بِالفُقِ العْلَى }.
وقد قال ابن جرير هاهنا قول لم أره لغيره ،ول حكاه هو عن أحد ،وحاصله :أنه ذهب إلى أن
المعنى { :فَاسْ َتوَى } أي :هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى ال عليهما وسلم { بِالفُقِ
العْلَى } أي :استويا جميعا بالفق ،وذلك ليلة السراء كذا قال ،ولم يوافقه أحد على ذلك .ثم
__________
( )1في م " :ابن عمرو وأبي هريرة".
( )2حديث عبد ال بن عمرو :رواه أبو داود في السنن برقم ( )1634والترمذي في السنن برقم
( )652عن ريحان بن يزيد عنه وحديث أبي هريرة :رواه النسائي في السنن ( )5/99وابن ماجه
في السنن برقم ( )1839عن سالم بن أبي الجعد عنه.
( )3في م " :فكذلك".
( )7/444
شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال :وهذا كقوله تعالى { :أَئِذَا كُنّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا } [ النمل :
، ] 67فعطف بالباء على المكنّى في { كنا } من غير إظهار "نحن" ،فكذلك قوله { :فَاسْ َتوَى.
وَ ُهوَ } قال :وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
صفُ ()1
ألم تَرَ أنّ النبعَ َيصُْلبُ عُودُه ...ول َيسْتَوي والخرْوعُ المُتَق ّ
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ،ولكن ل يساعده المعنى على ذلك ؛ فإن هذه الرؤية
لجبريل لم تكن ليلة السراء ،بل قبلها ،ورسولُ ال صلى ال عليه وسلم في الرض ،فهبط
عليه جبريل ،عليه السلم ،وتدلى إليه ،فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه ال عليها ،له
ستمائة جناح ،ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ،يعني ليلة السراء ،وكانت هذه
الرؤية الولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل ،عليه السلم ،أول مرة ،فأوحى ال إليه
صدر سورة "اقرأ" ،ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى ال عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من
رؤوس الجبال ،فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء " :يا محمد ،أنت رسول ال حقا ،وأنا
جبريل" .فيسكن لذلك جأشه ،وتقر عينه ،وكلما طال عليه المر عاد لمثلها ،حتى تَبَدّى له
جبريل ورسول ال صلى ال عليه وسلم في البطح في صورته التي خلقه ال عليها ،له ستمائة
جناح قد سد عُظْم خلقه الفق ،فاقترب منه ( )2وأوحى إليه عن ال ،عز وجل ،ما أمره به ،
فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة ،وجللة َقدْره ،وعلوّ مكانته عند خالقه الذي
بعثه إليه .فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال :
حدثنا سلمة بن شَبِيب ،حدثنا سعيد بن منصور ،حدثنا الحارث بن عبيد ،عن أبي عمران
جوْني ،عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بينا أنا قاعد إذ جاء
ال َ
جبريل ،عليه السلم ،ف َوكَز بين كتفي ،فقمت إلى شجرة فيها َكوَكْرَي الطير ،فقعد في أحدهما
سمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي ،ولو شئت أن أمس
وقعدت في الخرَ .ف َ
السماء لمسست ،فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لطٍ ( ، )3فعرفتُ فضل علْمه بال علي .وفُتِح لي
بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور العظم ،وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت .وأوحى
إلي ما شاء ال أن يوحي".
ثم قال البزار :ل يرويه إل الحارث بن عبيد ،وكان رجل مشهورا من أهل البصرة (.)4
قلت :الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة اليادي ،أخرج له مسلم في صحيحه إل أن ابن معين
ضعّفه ،وقال :ليس هو بشيء .وقال المام أحمد :مضطرب الحديث .وقال أبو حاتم الرازي :
كتب حديثه ول يحتج به .وقال ابن حبان :كَثُر وَهَمه فل يجوز الحتجاج به إذا انفرد .فهذا
الحديث من غرائب رواياته ،فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا ،ولعله منام ،وال أعلم.
وقال المام أحمد :حدثنا حجاج ،حدثنا شريك ،عن عاصم ،عن أبي وائل ،عن عبد ال
__________
( )1البيت في تفسير الطبري ( )27/25وهو لجرير بن عطية.
( )2في م " :وأقرب منه".
( )3في م " :لطي".
( )4مسند البزار برقم (.)58
( )7/445
قال :رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ،كل جناح منها
قد سَدّ الفق ،يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما ال به عليم ( .)1انفرد به أحمد (
.)2
وقال أحمد :حدثنا يحيى بن آدم ،حدثنا أبو بكر بن عياش ،عن إدريس بن مُنَبّه ،عن وهب بن
منبه ،عن ابن عباس قال :سأل النبي صلى ال عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته ،فقال :
ادع ربك .فدعا ربه ،عز وجل ،فطلع عليه سواد من قبل المشرق ،فجعل يرتفع وينتشر ،فلما
شدْقه.
رآه النبي صلى ال عليه وسلم صعِق ،فأتاه فَ َنعَشَه ومسح البزاق عن ِ
انفرد به أحمد ( .)3وقد رواه ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" ،من طريق محمد بن
إسحاق ،عن عثمان بن عروة بن الزبير ،عن أبيه ،عن هَبّار بن السود قال :كان أبو لهب
وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام ،فتجهزت معهما ،فقال ابنه عتبة :وال لنطلقن إلى محمد
ولوذينه في ربه ،سبحانه ،فانطلق حتى أتى النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا محمد ،هو
يكفر بالذي دنى فتدلى ،فكان قاب قوسين أو أدنى .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :اللهم ابعث
إليه كلبا من كلبك" .ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال :يا بني ،ما قلت له ؟ فذكر له ما قال
له ،قال :فما قال لك ؟ قال :قال " :اللهم سلط عليه كلبا من كلبك" قال :يا بني ،وال ما آمنُ
ص ْومَعة راهب ،فقال الراهب :
عليك دُعاءه .فسرنا حتى نزلنا الشراة ،وهي مأْسَدَة ،ونزلنا إلى َ
سدُ فيها كما تسرح الغنم ؟ فقال لنا أبو لهب
يا معشر العرب ،ما أنزلكم هذه البلد فإنها تسرح ال ْ
:إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ،وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً -وال -ما آمنها
عليه ،فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ،وافرشوا لبني عليها ،ثم افرشوا حولها .ففعلنا ،
شمّ وجوهنا ،فلما لم يجد ما يريد َتقَبّض ،فوثب ،فإذا هو فوق المتاع ،فشم وجهه
فجاء السد فَ َ
ثم هزمه هَزْمة َففَضخ رأسه .فقال أبو لهب :قد عرفت أنه ل ينفلت عن دعوة محمد (.)4
وقوله َ { :فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى } أي :فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى
الرض ،حتى كان بينه وبين محمد صلى ال عليه وسلم قاب قوسين أي :بقدرهما إذا مُدّا .قاله
( )5مجاهد ،وقتادة.
وقد قيل :إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله َ { :أوْ َأدْنَى } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لثبات المخبر عنه ونفي ما زاد
س َوةً } [ البقرة ، ] 74 :أي
شدّ قَ ْ
حجَا َرةِ َأوْ أَ َ
ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ َف ِهيَ كَالْ ِ
عليه ،كقوله { :ثُمّ قَ َ
:ما هي بألين من الحجارة ،بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة .وكذا قوله :
شوْنَ النّاسَ َكخَشْيَةِ اللّهِ َأوْ َأشَدّ خَشْيَةً } [ النساء ، ] 77 :وقوله { :وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ َأ ْلفٍ
{ َيخْ َ
َأوْ يَزِيدُونَ } [الصافات ، ]147 :
__________
( )1في أ " :أعلم".
( )2المسند (.)1/395
( )3المسند (.)1/322
( )4لم أجد ترجمة عتبة بن أبي لهب في تاريخ دمشق المخطوط ول في مختصره لبن منظور.
( )5في م " :قال".
( )7/446
أي :ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ،أو يزيدون عليها .فهذا تحقيق للمخبر به ل شك ول
تردد ( ، )1فإن هذا ممتنع هاهنا ،وهكذا هذه الية َ { :فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى }.
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى ال عليه وسلم ،إنما
هو جبريل ،عليه السلم ،هو قول أم المؤمنين عائشة ،وابن مسعود ،وأبي ذر ،وأبي
هريرة ،كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء ال .وروى مسلم في صحيحه ،عن ابن عباس أنه
قال " :رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" ( .)2فجعل هذه إحداهما .وجاء في حديث شريك بن أبي
نمر ،عن أنس في حديث السراء " :ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" ولهذا تكلم ( )3كثير من
الناس في متن هذه الرواية ،وذكروا أشياء فيها من الغرابة ،فإن صح فهو محمول على وقت
آخر وقصة أخرى ،ل أنها تفسير لهذه الية ؛ فإن هذه كانت ورسول ال صلى ال عليه وسلم
سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى } ،
في الرض ل ليلة السراء ؛ ولهذا قال بعده { :وََلقَدْ رَآهُ نزَلةً ُأخْرَى .عِ ْندَ ِ
فهذه هي ليلة السراء والولى كانت في الرض.
وقد قال ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ،حدثنا عبد الواحد بن زياد ،
حدثنا سليمان الشيباني ،حدثنا زر بن حبيش قال :قال عبد ال بن مسعود في هذه الية َ { :فكَانَ
قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى } ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :رأيت جبريل له ستمائة
جناح" (.)4
وقال ابن وهب :حدثنا ابن َلهِيعة ،عن أبي السود ،عن عُ ْروَة ،عن عائشة قالت :كان أولَ
شأن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ،ثم إنه خرج ليقضي
حاجته فصرخ به جبريل :يا محمد ،يا محمد .فنظر رسول ال صلى ال عليه وسلم يمينا
وشمال فلم ير شيئًا ( - )5ثلثا -ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع ( )6الخرى على
أفق السماء فقال :يا محمد ،جبريل ،جبريلُ -يُسكّنه -فهرب النبي صلى ال عليه وسلم حتى
دخل في الناس ،فنظر فلم ير شيئًا ،ثم خرج من الناس ،ثم نظر فرآه ،فدخل في الناس فلم ير
ل صَاحِ ُبكُ ْم َومَا
ضّشيئًا ،ثم خرج فنظر فرآه ،فذلك قول ال عز وجل { :وَالنّجْمِ ِإذَا َهوَى[ .مَا َ
غوَى ( } ] )7إلى قوله { :ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى } يعني جبريل إلى محمد َ { ،فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ َأدْنَى }
َ
:ويقولون :القاب نصف الصبع .وقال بعضهم :ذراعين كان بينهما.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ،من حديث ابن وهب ( .)8وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ،
عن جابر شاهد لهذا.
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام ،عن زائدة ،عن الشيباني قال :سألت زرّا عن قوله :
__________
( )1في م ،أ " :ول ترديد".
( )2صحيح مسلم برقم (.)176
( )3في م " :ولهذا قد تكلم".
( )4تفسير الطبري (.)27/27
( )5في م " :أحدا".
( )6في م ،أ " :على".
( )7زيادة من م.
( )8تفسير الطبري (.)27/27
( )7/447
{ َفكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى .فََأوْحَى إِلَى عَبْ ِدهِ مَا َأ ْوحَى } قال :حدثنا عبد ال أن محمدا صلى ال
عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح (.)1
وقال ابن جرير :حدثني ابن بَزِيع البغدادي ،حدثنا إسحاق بن منصور ،حدثنا إسرائيل ،عن
أبي إسحاق ،عن عبد الرحمن بن يزيد ،عن عبد ال { :مَا كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ مَا رَأَى } قال :رأى
رسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل عليه حلتا ( )2رفرف ،قد مل ما بين السماء والرض (
.)3
فعلى ما ذكرناه يكون قوله { :فََأوْحَى إِلَى عَبْ ِدهِ مَا َأ ْوحَى } معناه :فأوحى جبريل إلى عبد ال
محمد ما أوحى .أو :فأوحى ال إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل وكل المعنيين صحيح ،
وقد ذُكر عن سعيد بن جبير في قوله { :فََأوْحَى ِإلَى عَ ْب ِدهِ مَا َأوْحَى } ،قال :أوحى إليه " :ألم
أجدك يتيما" { ،وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ } [ الشرح .] 4 :
وقال غيره :أوحى [ال] ( )4إليه أن الجنة محرمة على النبياء حتى تدخلها ،وعلى المم حتى
تدخلها أمتك.
وقوله { :مَا كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ مَا رَأَىَ .أفَ ُتمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } قال مسلم :حدثنا أبو سعيد الشج ،
حصَين ،عن أبي العالية ،عن ابن عباس { :مَا
حدثنا وَكيع ،حدثنا العمش ،عن زياد بن ُ
كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ مَا رَأَى } { ،وََلقَدْ رَآهُ نزلَةً ُأخْرَى } قال :رآه بفؤاده مرتين (.)5
سمَاك ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،مثله .وكذا قال أبو صالح والسّدي وغيرهما :
وكذا رواه ِ
إنه رآه بفؤاده مرتين [أو مرة] ( ، )6وقد خالفه ابن مسعود وغيره ( ، )7وفي رواية عنه أنه
أطلق الرؤية ،وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد .ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب ،فإنه ل
يصح في ذلك شيء عن الصحابة ،رضي ال عنهم ،وقولُ البغوي في تفسيره :وذهب جماعة
إلى أنه رآه بعينه ،وهو قول أنس والحسنُ وعكرمة .فيه نظر ،وال أعلم (.)8
وقال الترمذي :حدثنا محمد بن عمرو بن نَبْهان ( )9بن صفوان ،حدثنا يحيى بن كثير
العنبري ،عن سَلْم بن جعفر ،عن الحكم بن أبان ،عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :رأى
محمد ربه .قلت :أليس ال يقول { :ل تُدْ ِركُهُ البْصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِركُ ال ْبصَارَ } [النعام ]103 :
قال :ويحك! ذاك إذا تَجَلى بنوره الذي هو نُورُه ،وقد رأى ربه مرتين.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4857
( )2في م ،أ " :ليا".
( )3تفسير الطبري (.)27/29
( )4زيادة من أ.
( )5صحيح مسلم برقم (.)176
( )6زيادة من م.
( )7في م " :ابن عمرو عنه".
( )8انظر تفسير البغوي (.)7/403
( )9في م " :منهال".
( )7/448
ثم قال :حسن غريب (.)1
وقال أيضا :حدثنا ابن أبي عمر ،حدثنا سفيان ،عن مجالد ،عن الشعبي قال :لقي ابن عباس
كعبًا بعرفة ،فسأله عن شيء فكَبّر حتى جاوبته الجبال ،فقال ابن عباس :إنا بنو هاشم فقال
كعب :إن ال قسم رؤيته وكلمه بين محمد وموسى ،فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين.
وقال مسروق :دخلتُ على عائشة فقلت :هل رأى محمد ربه ؟ فقالت :لقد تكلمت بشيء َقفّ له
شعري .فقلت ُ :روَيدًا ،ثم قرأتُ َ { :لقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى }
فقالت :أين يُذ َهبُ بك ؟ إنما هو جبريل من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمرَ به ،
أو يعلم الخمس التي قال ال تعالى { :إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَيُنزلُ ا ْلغَ ْيثَ } [لقمان ، ]34 :
فقد أعظم الفرية ( ، )2ولكنه رأى جبريل ،لم يره في صورته إل مرتين ،مرة عند سدرة
المنتهى ومرة في جياد ( ، )3وله ستمائة جناح قد سد الفق (.)4
وقال النسائي :حدثنا إسحاق بن إبراهيم ،حدثنا معاذ بن هشام ،حدثني أبي ،عن قتادة ،عن
عكرمة ،عن ابن عباس قال :أتعجبون أن تكون الحُلّة لبراهيم ،والكلم لموسى ،والرؤية
لمحمد ،عليهم السلم ؟! (.)5
وفي صحيح مسلم ،عن أبي ذر قال :سألت رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم :هل رأيتَ
ربك ؟ فقال " :نورٌ أنّى أراه" .وفي رواية " :رأيت نورا" (.)6
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو خالد ،عن موسى بن عُبيدةَ ،عن محمد
بن كعب قال :قالوا :يا رسول ال ،رأيت ( )7ربك ؟ قال " :رأيته بفؤادي مرتين" ثم قرأ { :مَا
كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ مَا رَأَى }.
حمَيد ،عن ِمهْرَان ،عن موسى بن عبيدة ،عن محمد بن كعب ،
ورواه ابنُ جرير ،عن ابن ُ
عن بعض أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم قال :قلنا :يا رسول ال ،هل رأيت ربك ؟ قال :
"لم أره بعيني ،ورأيته بفؤادي مرتين" ثم تل { ثُمّ دَنَا فَ َتدَلّى } (.)8
__________
( )1سنن الترمذي برقم (.)3279
( )2في م " :أعظم على ال الفرية".
( )3في م " :أجنادين".
( )4سنن الترمذي برقم (.)3278
( )5النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11539
( )6صحيح مسلم برقم (.)178
( )7في أ " :هل رأيت".
( )8تفسير الطبري (.)27/27
( )7/449
ثم قال ابن أبي حاتم :وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا محمد بن عبد ال النصاري ،
أخبرني عَبّاد بن منصور قال :سألت عكرمة { :مَا كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ مَا رَأَى } ،فقال عكرمة :تريد
أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت :نعم .قال :قد رآه ،ثم قد رآه .قال :فسألت عنه الحسن فقال :
رأى جلله وعَظَمته ورِداءَه.
وحدثنا أبي ،حدثنا محمد بن مجاهد ،حدثنا أبو عامر العقدي ،أخبرنا أبو خلدة ،عن أبي العالية
قال :سُئِل رسول ال صلى ال عليه وسلم :هل رأيت ربك ؟ قال " :رأيت نهرا ،ورأيت وراء
النهر حجابا ،ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير" (.)1
وذلك غريب جدا ،فأما الحديث الذي رواه المام أحمد :
حدثنا أسود بن عامر ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن قتادة ،عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :رأيت ربي عز وجل" (.)2
فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ،لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه المام أحمد
أيضا :
حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن أيوب ،عن أبي قِلبة عن ابن عباس ؛ أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :أتاني ربي الليلة في أحسن صورة -أحسبه يعني في النوم -فقال :
يا محمد ،أتدري فيم يختصم المل العلى ؟" قال " :قلت :ل .فوضع يده بين كتفي حتى وجدت
بَرْدَها بين ثدييّ -أو قال :نَحْرِي -فعلمت ما في السموات وما في الرض ،ثم قال :يا محمد
،هل تدري فيم يختصم المل العلى ؟" قال " :قلت :نعم ،يختصمون في الكفارات والدرجات".
قال " :وما الكفارات والدرجات ؟" قال " :قلت :المكث في المساجد بعد الصلوات ،والمشي على
جمُعات ( ، )3وإبلغ الوضوء في المكاره ،من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير ،
القدام إلى ال ُ
وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه .وقال :قل يا محمد إذا صليت :اللهم ،إني أسألك الخيرات (
)4وترك المنكرات ،وحبّ المساكين ،وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون".
قال " :والدرجات بَ ْذلُ الطعام ،وإفشاء السلم ،والصلة بالليل والناس نيام" (.)5
وقد تقدم في آخر سورة "ص" ،عن معاذ نحوه ( .)6وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن
عباس ،وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال :
عمَر بن سَيّار ،حدثني أبي ،عن سعيد بن
حدثني أحمد بن عيسى التميمي ،حدثني سليمان بن ُ
زَرْبِي ،عن عمر بن سليمان ( ، )7عن عطاء ،عن ابن عباس قال :قال النبي صلى ال عليه
وسلم " :رأيت ربي في
__________
( )1ورواه ابن المنذر كما في الدر المنثور ( )7/648وهو مرسل.
( )2المسند (.)1/285
( )3في هـ ،أ " :الجماعات".
( )4في م " :إني أسألك فعل الخيرات".
( )5المسند (.)1/368
( )6انظر تفسير الية 69 :من سورة "ص".
( )7في أ " :سليم".
( )7/450
أحسن صورة فقال لي :يا محمد ،هل تدري فيم يختصم المل العلى ؟ فقلت :ل يا رب.
فوضع يده بين كتفي فوجدت بَرْدَها بين ثدييّ ،فعلمت ما في السموات والرض ،فقلت :يا رب
جمُعات ( ، )1وانتظار الصلة بعد الصلة .فقلت :
،في الدرجات والكفارات ،ونقل القدام إلى ال ُ
يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليل وكلمتَ موسى تكليما ،وفعلت وفعلت ،فقال :ألم أشرح لك
صدرك ؟ ألم أضع عنك وِزْرَك ؟ ألم أفعل بك ؟ ألم أفعل ؟ قال " :فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي
أن أحدثكموها" قال " :فذاك قوله في كتابه ُ { :ثمّ دَنَا فَتَدَلّىَ .فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ َأدْنَى .فََأوْحَى
إِلَى عَبْ ِدهِ مَا َأوْحَى .مَا كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ مَا رَأَى } ،فجعل نور بصري في فؤادي ،فنظرت إليه
بفؤادي" .إسناده ضعيف (.)2
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هَبّار بن السود ،رضي ال عنه ؛ أن عتبة بن أبي لهب
لما خرج في تجارة إلى الشام قال لهل مكة :اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى .فبلغ قوله رسولَ
ال صلى ال عليه وسلم ،فقال " :سَلّطَ ال عليه كلبا من كلبه" .قال هبار :فكنت معهم ،فنزلنا
بأرض كثيرة السد ،قال :فلقد رأيت السد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا واحدا ،حتى
تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم (.)3
وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة :أن ذلك كان بأرض الزرقاء ،وقيل :بالسراة ،وأنه خاف
ليلتئذ ،وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله ،فجاء السد فجعل يزأر ،ثم تخطاهم إليه فضغم
رأسه ،لعنه ال.
وقوله { :وََلقَدْ رَآهُ نزلَةً ُأخْرَى عِنْدَ سِدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى عِنْدَهَا جَنّةُ ا ْلمَ ْأوَى } ،هذه هي المرة الثانية
التي رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه ال عليها ،وكانت
ليلة السراء .وقد قدمنا الحاديث الواردة في السراء بطرقها وألفاظها في أول سورة "سبحان"
بما أغنى عن إعادته هاهنا ،وتقدم أن ابن عباس ،رضي ال عنهما ،كان يثبت الرؤية ليلة
السراء ،ويستشهد بهذه الية .وتابعه جماعة من السلف والخلف ،وقد خالفه جماعات من
الصحابة ،رضي ال عنهم ،والتابعين وغيرهم.
وقال المام أحمد :حدثنا حسن بن موسى ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن عاصم بن َبهْدَلَة ،عن
سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى } ،قال
زر بن حُبَيْش ،عن ابن مسعود في هذه الية { :وََلقَدْ رَآهُ نزَلةً أُخْرَى عِ ْندَ ِ
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :رأيت جبريل وله ستمائة جناح ،ينتثر من ريشه التهاويل
:الدرّ والياقوت" ( .)4وهذا إسناد جيد قوي.
وقال أحمد أيضا :حدثنا يحيى بن آدم ،حدثنا شريك ،عن جامع بن أبي راشد ،عن أبي وائل ،
__________
( )1في أ " :الجماعات".
( )2تفسير الطبري (.)27/28
( )3مختصر تاريخ دمشق لبن منظور ( )27/63ولم يقع لي في ترجمته فيما بين يدي من
مخطوطات تاريخ دمشق.
( )4المسند (.)1/460
( )7/451
عن عبد ال قال :رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ،
كل جناح منها قد سد الفق :يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما ال به عليم" (.)1
إسناده حسن أيضا.
وقال أحمد أيضا :حدثنا زيد بن الحُبَاب ،حدثني حسين ،حدثني عاصم بن َبهْدَلَة قال :سمعت
شقِيق بن سلمة يقول :سمعت ابن مسعود يقول قال :رسول ال صلى ال عليه وسلم " :رأيت
َ
جبريل على سدرة ( )2المنتهى وله ستمائة جناح" سألت عاصما عن الجنحة فأبى أن يخبرني.
قال :فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب ( .)3وهذا أيضا إسناد جيد.
وقال أحمد :حدثنا زيد بن الحباب ،حدثنا حسين ،حدثني عاصم بن َبهْدَلَة ( ، )4حدثني ()5
شقيق ( )6قال )7( :سمعت ابن مسعود يقول :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أتاني
جبريل ،عليه السلم ،في خُضر معلق به الدر ( .)9( " )8إسناده جيد أيضا.
وقال المام أحمد :حدثني يحيى عن إسماعيل ،حدثنا عامر قال :أتى مسروقُ عائشة فقال :يا
أم المؤمنين ،هل رأى محمد صلى ال عليه وسلم ربه عز وجل ؟ قالت :سبحان ال لقد َقفّ
حدّثكهن فقد كذب :من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد
شعري لما قلت ،أين أنت من ثلث من َ
كذب ،ثم قرأت { :ل تُدْ ِركُهُ ال ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِركُ ال ْبصَارَ } [ النعام َ { ، ] 103 :ومَا كَانَ
حجَابٍ } [ الشورى ، ] 51 :ومن أخبرك أنه يعلم ما
لِبَشَرٍ أَنْ ُيكَّلمَهُ اللّهُ إِل َوحْيًا َأوْ مِنْ وَرَاءِ ِ
ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الرْحَامِ }
في غد فقد كذب ،ثم قرأت { :إِنّ اللّهَ عِ ْن َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَيُنزلُ ا ْلغَ ْي َ
الية [ لقمان ، ] 34 :ومن أخبرك أن محمدا قد كتم ( ، )10فقد كذب ،ثم قرأت { :يَا أَ ّيهَا
الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ } [ المائدة ، ] 67 :ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين (
.)11
وقال أحمد أيضا :حدثنا محمد بن أبي عدي ،عن داود ،عن الشعبي ،عن مسروق قال :كنت
عند عائشة فقلت :أليس ال يقول { :وََلقَدْ رَآهُ بِالفُقِ ا ْلمُبِينِ } [ التكوير { ، ] 23 :وََلقَدْ رَآهُ
نزلَةً ُأخْرَى } فقالت :أنا أول هذه المة سأل ( )12رسول ال صلى ال عليه وسلم عنها ،فقال :
"إنما ذاك جبريل" .لم يره في صورته التي خلق عليها إل مرتين ،رآه منهبطا من السماء إلى
عظْمُ خلقه ما بين السماء والرض.
الرض ،سادّا ُ
أخرجاه في الصحيحين ،من حديث الشعبي ،به (.)13
رواية أبي ذر ،قال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا همام ،حدثنا قتادة ،عن عبد ال بن شقيق
__________
( )1لم أجده في المسند وذكره الحافظ ابن حجر في أطرف المسند (.)4/158
( )2في م " :السدرة".
( )3المسند (.)1/407
( )4في أ " :حصين".
( )5في م " :قال سمعت".
( )6في م " :شقيق بن سلمة".
( )7في م ،أ " :يقول".
( )8في م " :الدر به".
( )9المسند (.)1/407
( )10في أ " :كتم شيئا من الوحي".
( )11المسند (.)6/49
( )12في أ " :سألت".
( )13المسند ( )6/241وصحيح البخاري برقم ( )4855وصحيح مسلم برقم ( )177بنحوه.
( )7/452
قال :قلت لبي ذر :لو رأيتُ رسول ال صلى ال عليه وسلم لسألته .قال :وما كنت تسأله ؟
قال :كنت أسأله :هل رأى ربه ،عز وجل ؟ فقال :إني قد سألته فقال " :قد رأيته ،نورا أنى
أراه" (.)1
هكذا وقع في رواية المام أحمد ،وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال :حدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة ،حدثنا َوكِيع ،عن يزيد بن إبراهيم ،عن قتادة ،عن عبد ال بن شقيق ،عن أبي ذر
قال :سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم :هل رأيت ربك ؟ فقال " :نور أنى أراه".
وقال :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا معاذ بن هشام ،حدثنا أبي ،عن قتادة ،عن عبد ال بن
شقيق قال :قلت لبي ذر :لو رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم لسألته .فقال :عن أي شيء
كنت تسأله ؟ قال :قلت :كنت أسأله :هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر :قد سألت فقال " :رأيت
نورا" (.)2
وقد حكى الخلل في "علله" أن المام أحمد سُئل عن هذا الحديث فقال :ما زلتُ منكرا له ،وما
أدري ما وجهه (.)3
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عمرو بن عون الواسطي ،أخبرنا ُهشَيْم ،عن منصور
،عن الحكم ،عن إبراهيم ،عن أبيه ،عن أبي ذر قال :رآه بقلبه ،ولم يره بعينه.
شقِيق وبين أبي ذر ،وأما ابن الجوزي
وحاول ابن خُزَيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد ال بن َ
فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل السراء ،فأجابه بما أجابه به
،ولو سأله بعد السراء لجابه بالثبات .وهذا ضعيف جدا ،فإن عائشة أم المؤمنين ،رضي ال
عنها ،قد سألت عن ذلك بعد السراء ،ولم يثبت لها الرؤية .ومن قال :إنه خاطبها على قدر
عقلها ،أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه -كابن خُزيمة في كتاب التوحيد ( ، - )4فإنه هو
المخطئ ،وال أعلم.
وقال النسائي :حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا هشام ( ، )5عن منصور ،عن الحكم ،عن يزيد
بن شريك ،عن أبي ذر قال :رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم ربه بقلبه ،ولم يره ببصره (
.)6
سهِر ،عن عبد الملك بن
وقد ثبت في صحيح مسلم ،عن أبي بكر بن أبي شيبة ،عن علي بن مُ ْ
أبي سليمان ،عن عطاء بن أبي رباح ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،أنه قال في قوله :
{ وََلقَدْ رَآهُ نزلَةً ُأخْرَى } ،قال :رأى جبريل ( ، )7عليه السلم (.)8
وقال مجاهد في قوله { :وََلقَدْ رَآهُ نزَلةً أُخْرَى } قال :رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم
جبريل في صورته مرتين ،وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ،وغيرهم.
__________
( )1المسند (.)5/147
( )2صحيح مسلم برقم (.)178
( )3ووجه النكار ل محل له في المتن ،فإن له شواهد وهو دليل على نفي الرؤية في الدنيا.
( )4التوحيد لبن خزيمة (ص ( )206 ، 205ص .)225
( )5في م ،أ " :هشيم".
( )6النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11536
( )7في أ " :رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل".
( )8صحيح مسلم برقم (.)175
( )7/453
وقوله تعالى { :إِذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َي ْغشَى } :قد تقدم في أحاديث السراء أنه غشيتها الملئكة
مثل الغِربان ،وغشيها نور الرب ،وغشيها ألوان ما أدري ما هي.
وقال المام أحمد :حدثنا مالك بن ِم ْغوَل ،حدثنا الزبير بن عدي ،عن ( )1طلحة ،عن مرة ،
عن عبد ال -هو ابن مسعود -قال :لما أسري برسول ال صلى ال عليه وسلم انتهي به إلى
سدرة المنتهى ،وهي في السماء السابعة ( ، )2إليها ينتهي ما يعرج به من الرض فيقبض
منها ،وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها { ،إِذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َي ْغشَى } قال :فراش
من ذهب ،قال :وأعطي رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثا :أعطي الصلوات الخمس ،
وأعطي خواتيم سورة البقرة ،وغُفر لمن ل يشرك بال شيئًا من أمته المُقحمات .انفرد به مسلم (
.)3
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع ،عن أبي العالية ،عن أبي هريرة أو غيره -شك أبو
جعفر -قال :لما أسري برسول ال انتهى إلى السدرة ،فقيل له :هذه السدرة [قال] )4( :
فغشيها نور الخلق ،وغشيتها الملئكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر ،قال :فكلمه عند
ذلك ،فقال له :سل.
وقال ( )5ابن أبي نَجِيح ،عن مجاهد { :إِذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى } قال :كان أغصان السدرة
لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا ،فرآها محمد ،ورأى ربه بقلبه.
وقال ابن زيد :قيل :يا رسول ال ،أيّ شيء رأيت يغشى تلك السدرة ؟ قال " :رأيتُ يغشاها
فَرَاشٌ من ذهب ،ورأيت على كل ورقة من ورقها مَلَكا قائما يسبح ال ،عز وجل" (.)6
طغَى } ما
طغَى } قال ابن عباس :ما ذهب يمينا ول شمال { َومَا َ
وقوله { :مَا زَاغَ الْ َبصَ ُر َومَا َ
جاوز ما أمر به.
وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة ،فإنه ما فعل إل ما أمر به ،ول سأل فوق ما أعطي.
وما أحسن ما قال الناظم :
رأَى جَنّةَ المَأوَى َومَا َف ْوقَها ،وَلَو ...رَأى غَي ُرهُ ما قَد رَآه لتَاهَا...
وقوله َ { :لقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى } ،كقوله { :لِنُرِ َيكَ مِنْ آيَاتِنَا } [ طه )7( ] 23 :أي :
الدالة على قدرتنا وعظمتنا .وبهاتين اليتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم
تقع ؛ لنه قال َ { :لقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى } ،ولو كان رأى ربه لخبر بذلك ولقال ذلك
للناس ،وقد تقدم تقرير ذلك في سورة "سبحان" وقد قال المام أحمد :
حدثنا أبو النضر ،حدثنا محمد بن طلحة ،عن الوليد بن قيس ،عن إسحاق بن أبي ال َكهْتَلة ()8
__________
( )1في أ " :بن".
( )2في م " :السادسة".
( )3المسند ( )1/422وصحيح مسلم برقم (.)173
( )4زيادة من أ.
( )5في م " :فقال".
( )6وهذا من مراسيل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
( )7في م " :لنريه".
( )8في م ،أ " :الكهبلة".
( )7/454
سمَةٌ
َأفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَا ْلعُزّى (َ )19ومَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ( )20أََل ُكمُ ال ّذكَ ُر وََلهُ الْأُنْثَى ( )21تِ ْلكَ إِذًا قِ ْ
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُ ْم وَآَبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا
سمَاءٌ َ
ضِيزَى ( )22إِنْ ِهيَ إِلّا أَ ْ
س وَلَقَدْ جَا َءهُمْ مِنْ رَ ّبهِمُ ا ْلهُدَى ( )23أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا َتمَنّى ( )24فَلِلّهِ الْآَخِ َرةُ
الظّنّ َومَا َت ْهوَى الْأَ ْنفُ ُ
شفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلّا مِنْ َب ْعدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ ِلمَنْ َيشَاءُ
سمَاوَاتِ لَا ُتغْنِي َ
وَالْأُولَى (َ )25وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ
وَيَ ْرضَى ()26
قال محمد :أظنه عن ابن مسعود -أنه قال :إن محمدا لم ير جبريل في صورته إل مرتين ،
أما مرة فإنه سأله أن يُريه نفسه في صورته ،فأراه صورته فسد الفق .وأما الخرى فإنه صَعد
معه حين صعد به .وقوله { :وَ ُهوَ بِالفُقِ العْلَى .ثُمّ دَنَا فَتَ َدلّىَ .فكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ أَدْنَى.
فََأوْحَى إِلَى عَ ْب ِدهِ مَا َأوْحَى } قال :فلما أحسّ ( )1جبريل ربه ،عز وجل ،عاد في صورته
سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى .عِ ْندَهَا جَنّةُ ا ْلمَ ْأوَى .إِذْ َي ْغشَى السّدْ َرةَ
وسجد .فقوله { :وََلقَدْ رَآهُ نزَلةً ُأخْرَى .عِ ْندَ ِ
طغَىَ .لقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى } قال :خَ ْلقَ جبريل عليه
مَا َيغْشَى .مَا زَاغَ الْ َبصَرُ َومَا َ
السلم.
هكذا رواه المام أحمد ،وهو غريب (.)2
ت وَا ْلعُزّى (َ )19ومَنَاةَ الثّالِثَةَ الخْرَى ( )20أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَهُ النْثَى ( )21تِ ْلكَ إِذًا
{ َأفَرَأَيْ ُتمُ الل َ
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُ ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ
سمَاءٌ َ
سمَ ٌة ضِيزَى ( )22إِنْ ِهيَ إِل أَ ْ
قِ ْ
س وَلَقَدْ جَا َءهُمْ مِنْ رَ ّبهِمُ ا ْلهُدَى ( )23أَمْ لِلنْسَانِ مَا َتمَنّى ()24
ن َومَا َت ْهوَى ال ْنفُ ُ
يَتّ ِبعُونَ إِل الظّ ّ
شفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِل مِنْ َبعْدِ أَنْ يَ ْأذَنَ
س َموَاتِ ل ُتغْنِي َ
فَلِلّهِ الخِ َرةُ وَالولَى (َ )25وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ
اللّهُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَ ْرضَى (} )26
يقول تعالى ُمقَرّعا للمشركين في عبادتهم الصنام والنداد والوثان ،واتخاذهم لها البيوت
مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن ،عليه [الصلة و] ( )3السلم َ { :أفَرَأَيْتُمُ اللتَ } ؟
وكانت "اللت" ( )4صخرةً بيضاء منقوشة ،وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة ،وحوله فناء
معظّم عند أهل الطائف ،وهم ثقيف ومن تابعها ،يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب
بعد قريش.
قال ابن جرير :وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم ال [تعالى] ( ، )5فقالوا :اللت ،يعنون مؤنثة
منه ،تعالى ال عن قولهم علوا كبيرا .وحكي عن ابن عباس ،ومجاهد ،والربيع بن أنس :أنهم
قرؤوا "اللتّ" بتشديد التاء ،وفسروه بأنه كان رجل يَُلتّ للحجيج في الجاهلية السويق ،فلما مات
عكفوا على قبره فعبدوه.
وقال البخاري :حدثنا مسلم -هو ابن إبراهيم -حدثنا أبو الشهب ،حدثنا أبو الجوزاء عن ابن
ت وَا ْلعُزّى } قال :كان اللت رجل يلت السّويق ،سويق الحاج (.)7
عباس ( { : )6الل َ
قال ابن جرير :وكذا العُزّى من العزيز.
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ،وهي بين مكة والطائف ،كانت قريش يعظمونها ،كما
__________
( )1في أ " :أخبر".
( )2المسند (.)1/407
( )3زيادة من م.
( )4في م " :العزى".
( )5زيادة من م.
( )6في م " :عن ابن عباس عن".
( )7صحيح البخاري برقم (.)4859
( )7/455
قال أبو سفيان يوم أحد :لنا العزى ول عزّى لكم فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قولوا :
ال مولنا ،ول مولى لكم" (.)1
حمَيد بن عبد الرحمن ،عن أبي هريرة قال :قال
وروى البخاري من حديث الزهري ،عن ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من حلف فقال في حلفه :واللت والعزى ،فليقل :ل إله إل
ال .ومن قال لصاحبه :تعال أقَامرْك ،فليتصدق" (.)2
وهذا محمول على من سبق لسانه في ( )3ذلك ،كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ،
كما قال النسائي :أخبرنا أحمد بن َبكّار وعبد الحميد بن محمد قال حدثنا مَخْلَد ،حدثنا يونس ،
عن أبيه ،حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص ،عن أبيه قال :حلفت باللت والعزى ،فقال
لي أصحابي :بئس ما قلت! قلت هجرا! فأتيت رسول صلى ال عليه سلم ،فذكرت ذلك له ،
فقال " :قل :ل إله إل ال وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير.
وانفث عن شمالك ثلثا ،وتعوّذ بال من الشيطان الرجيم ،ثم ل تعد" (.)4
وأما "مناة" فكانت بالمُشَلّل ( - )5عند قُدَيد ،بين مكة والمدينة -وكانت خزاعة والوس
والخزرج في جاهليتها يعظمونها ،ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة .وروى البخاري عن عائشة
نحوه ( .)6وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير
هذه الثلثة التي نص عليها في كتابه العزيز ،وإنما أفرد هذه بالذكر لنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة :وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ،وهي بيوت تعظمها
كتعظيم الكعبة ،بها ( )7سدنة وحجاب ،وتهدي لها كما يهدى ( )8للكعبة ،وتطوف بها
ط ْوفَاتِها بها ،وتنحر عندها ،وهي تعرف فضل الكعبة عليها ؛ لنها كانت قد عرفت أنها بيت
كَ
إبراهيم ،عليه السلم ،ومسجده .فكانت لقريش وبني كنانة العُزّى بنخلة ،وكانت سدنتها
وحجابها ( )9بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم (.)10
قلت :بعث إليها رسول ال صلى ال عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها ،وجعل يقول :
يا عُزّ ُ ،كفْرَانَك ل سُبْحَانَك ...إني رأيت ال قَدْ أهَانَك...
جمَيْع ،عن أبي
وقال النسائي :أخبرنا علي بن المنذر ،أخبرنا ابن ُفضَيْل ،حدثنا الوليد بن ُ
طفَ ْيلِ قال :لما فتح رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ،وكانت
ال ّ
سمُرات ،وهدم البيت الذي كان
سمُرات ،فقطع ال ّ
بها العزى ،فأتاها خالد وكانت على ثلث َ
عليها .ثم أتى النبي صلى ال عليه وسلم
__________
( )1تقدم تخريج الحديث عند تفسير سورة "محمد" الية .11 :
( )2صحيح البخاري برقم (.)4860
( )3في م " :إلى".
( )4سنن النسائي (.)7/8
( )5في أ " :بالمنال".
( )6صحيح البخاري برقم (.)4861
( )7في م " :لها".
( )8في م " :تهدي".
( )9في م " :وحجبتها".
( )10السيرة النبوية لبن هشام (.)1/83
( )7/456
حجَبتها -
فأخبره فقال " :ارجع فإنك لم تصنع شيئًا" .فرجع خالد ،فلما أبصرته السّدَنة -وهم َ
أمعنوا في الحِيَل وهم يقولون " :يا عزى ،يا عزى" .فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها
تحفن ( )1التراب على رأسها ،فغمسها بالسيف حتى قتلها ،ثم رجع إلى رسول ال صلى ال
عليه وسلم فأخبره ،فقال " :تلك العزى" (.)2
سدَنتها وحجابها بنى ُمعَتّب (.)3
قال ابن إسحاق :وكانت اللت لثقيف بالطائف ،وكان َ
قلت :وقد بعث إليها رسول ال صلى ال عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن
حرب ،فهدماها وجعل مكانها مسجد الطائف.
قال ابن إسحاق :وكانت مناة للوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر
من ناحية المُشَلّل بقديد ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم [إليها] ( )4أبا سفيان صخر بن
حرب ،فهدمها .ويقال :علي بن أبي طالب.
قال :وكانت ذو الخَلَصة ( )5لدَوس وخَثعم وبَجِيلة ،ومن كان ببلدهم من العرب بِتَبَالة.
قلت :وكان يقال لها :الكعبة اليمانية ،وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم جرير بن عبد ال البجلي فهدمه.
قال :وكانت فَلْس ( )6لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من ( )7سَلمى وأجا.
قال ابن هشام :فحدثني بعض أهل العلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي
طالب فهدمه ،واصطفى منه سيفين :الرّسُوب والمخْذَم ،فَنفّله أياهما رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فهما سيفا علي (.)8
قال ابن إسحاق :وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له :ريام .وذكر أنه كان به كلب
أسود ،وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتله ،وهدما البيت.
قال ابن إسحاق :وكانت " ُرضَاء" بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ،ولها
يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في السلم :
حمَا...
ولقد شَ َد ْدتُ عَلَى ُرضَاء شَ ّدةً ...فَتَ َركْتُها َقفْرًا ِبقَاع أس َ
قال ابن هشام :إنه عاش ثلثمائة وثلثين ( )9سنة ،وهو القائل :
عدَد السّنِينَ مِئِينَا...
عمّ ْرتُ منْ َ
وَلَقَد سَ ِئ ْمتُ مِنَ الحيَا ِة وَطُوِلهَا ...وَ ُ
مائَةً حَدّتها َبعْدَها مائَتَان لي ...وازددت ( )10مِنْ عَدَد الشّهور سِنِينَا...
حدُونَا...
َهلْ مَا َبقِي إل َكمَا قَدْ فَاتَنَا ...يَومٌ َيمُ ّر وَلَيلةٌ تَ ْ
__________
( )1في م " :تحثو".
( )2النسائي في السنن الكبرى رقم (.)11567
( )3في م " :مغيت".
( )4زيادة من أ.
( )5في أ " :الحليفة".
( )6في م " :فيس".
( )7في م ،أ " :بين".
( )8السيرة النبوية لبن هشام (.)1/87
( )9في أ " :وستون".
( )10في م ،أ " :وعمرت".
( )7/457
قال ابن إسحاق :وكان ذو ال َكعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل ،وإياد ِبسَنْداد وله يقول أعشى بن
قيس بن ثعلبة :
خوَرْنَق والسّدير وَبَارقٍ ...والبيت ذو ال َكعَبَات من سَنْدَاد ()1
بَيْنَ ال َ
ولهذا قال [تعالى] (َ { : )2أفَرَأَيْتُمُ اللتَ وَا ْلعُزّىَ .ومَنَاةَ الثّالِثَ َة الخْرَى } ؟.
ثم قال { :أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَهُ النْثَى } ؟ أي :أتجعلون له ولدا ،وتجعلون ولده أنثى ،وتختارون
سمَ ٌة ضِيزَى } أي :جورا
لنفسكم الذكور ،فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت { ِق ْ
باطلة ،فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها.
ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والفتراء والكفر ،من عبادة الصنام
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ } أي :من تلقاء أنفسكم { مَا أَنزلَ اللّهُ
سمَاءٌ َ
وتسميتها آلهة { :إِنْ ِهيَ إِل َأ ْ
ن َومَا َت ْهوَى ال ْنفُسُ } أي :ليس لهم مستند
ِبهَا مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي :من حجة { ،إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِل الظّ ّ
إل حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم ،وإل حظ نفوسهم في رياستهم
وتعظيم آبائهم القدمين { ،وََلقَدْ جَا َءهُمْ مِنْ رَ ّب ِهمُ ا ْلهُدَى } أي :ولقد أرسل ال إليهم الرسل بالحق
المنير والحجة القاطعة ،ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به ،ول انقادوا له.
ثم قال { :أَمْ لِل ْنسَانِ مَا َتمَنّى } أي :ليس كل من تمنى خيرا حصل له { ،لَيْسَ بَِأمَانِ ّيكُمْ وَل
َأمَا ِنيّ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } [ النساء ، ] 123 :ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال ،ول كل من ود
( )3شيئا يحصل له.
عوَانة ،عن عمر ( )4بن أبي سلمة ،عن أبيه ،عن
قال المام أحمد :حدثنا إسحاق ،حدثنا أبو َ
أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى ،فإنه ل
يدري ما يكتب له من أمنيته" .تفرد به أحمد (.)5
وقوله { :فَلِلّهِ الخِ َر ُة وَالولَى } أي :إنما المر كله ل ،مالك الدنيا والخرة ،والمتصرف في
الدنيا والخرة ،فهو الذي ما شاء كان ،وما لم يشأ لم يكن.
شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا إِل مِنْ َبعْدِ أَنْ يَ ْأذَنَ اللّهُ ِلمَنْ يَشَاءُ
س َموَاتِ ل ُتغْنِي َ
وقوله َ { :وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ
شفَاعَةُ
شفَعُ عِ ْن َدهُ إِل بِإِذْنِهِ } [البقرة { ، ]255 :وَل تَ ْنفَعُ ال ّ
وَيَ ْرضَى } ،كقوله { :مَنْ ذَا الّذِي يَ ْ
عِنْ َدهُ إِل ِلمَنْ َأذِنَ لَهُ } [سبأ ، ]23 :فإذا كان هذا في حق الملئكة المقربين ،فكيف ترجون أيها
الجاهلون شفاعة هذه الصنام والنداد عند ال ،وهو لم يشرع عبادتها ول أذن فيها ،بل قد نهى
عنها على ألسنة جميع رسله ،وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟.
__________
( )1انظر السيرة النبوية لبن هشام (.)88 ، 1/87
( )2زيادة من م.
( )3في م " :رد".
( )4في أ " :عمرو".
( )5المسند ( )1/357وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/151رجاله رجال الصحيح".
( )7/458
( )7/459
يخبر تعالى أنه مالك السموات والرض ،وأنه الغني عما سواه ،الحاكم في خلقه بالعدل ،وخلق
حسْنَى } أي :يجازي
حسَنُوا بِالْ ُ
عمِلُوا وَيَجْ ِزيَ الّذِينَ أَ ْ
الخلق بالحق { ،لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ َأسَاءُوا ِبمَا َ
كل بعمله ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر.
ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش ،أي :ل يتعاطون المحرمات
والكبائر ،وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم ،كما قال في الية الخرى
خ ْلكُمْ مُ ْدخَل كَرِيمًا } [النساء .]31 :
{ :إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُ ْن َهوْنَ عَنْهُ ُن َكفّرْ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَنُدْ ِ
حشَ إِل الّلمَمَ } .وهذا استثناء منقطع ؛ لن اللمم
وقال هاهنا { :الّذِينَ َيجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الثْ ِم وَا ْلفَوَا ِ
من صغائر الذنوب ومحقرات العمال.
قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ( )1عن ابن طاوس ،عن أبيه ،عن ابن
عباس قال :ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال :
"إن ال تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ،أدرك ذلك ل محالة ،فَزِنَا العين النظر ،وزنا
اللسان النطق ،والنفس تَمنّى وتَشْ َتهِي ،والفرج يُصدّق ذلك أو ُيكَذّبه".
أخرجاه في الصحيحين ،من حديث عبد الرزاق ،به (.)2
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد العلى ،أخبرنا ابن ( )3ثور حدثنا َم ْعمَر ،عن العمش ،
عن أبي الضّحَى ؛ أن ابن مسعود قال " :زنا العينين النظر ،وزنا الشفتين التقبيل ،وزنا اليدين
البطش ،وزنا الرجلين المشي ،ويُصدّق ذلك الفرج أو ُي َكذّبه ،فإن تقدم بفرجه كان زانيا ،وإل
فهو الّلمَم" ( .)4وكذا قال مسروق ،والشعبي.
وقال عبد الرحمن بن نافع -الذي يقال له :ابن لبابة الطائفي -قال :سألت أبا هريرة عن قول
ال { :إِل الّلمَمَ } قال :القُبلة ،والغمزة ،والنظرة ،والمباشرة ،فإذا مس الختانُ الختانَ فقد
وجب الغسل ،وهو الزنا.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :إِل الّلمَمَ } إل ما سلف .وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن المثنى ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن منصور ،عن
مجاهد أنه قال :في هذه الية { :إِل الّلمَمَ } قال :الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه ،قال الشاعر :
جمّا ...وَأيّ عَبْد َلكَ مَا أََلمّا?!...
إنْ َت ْغفِر اللهُ ّم تغفر َ
__________
( )1في م " :معمر بن أرطأة" وزيادة "ابن أرطأة" خطأ .انظر :تعليق أحمد شاكر على المسند
على المسند حديث رقم (.)7705
( )2المسند ( )2/276وصحيح البخاري برقم ( )6612وصحيح مسلم برقم (.)2657
( )3في أ " :أبو".
( )4تفسير الطبري (.)27/39
( )7/460
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا جرير ،عن منصور ،عن مجاهد ،في قول ال :
{ إِل الّل َممَ } قال :الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ،قال :وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم
يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما ...وأي عبد لك ما ألما?!...
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا (.)1
قال ابن جرير :حدثني سليمان بن عبد الجبار ،حدثنا أبو عاصم ،حدثنا زكريا بن إسحاق ،عن
عمرو بن دينار ،عن عطاء ،عن ابن عباس { :الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الثْ ِم وَا ْل َفوَاحِشَ إِل الّلمَمَ }
قال :هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
إن تغفر اللهم تغفر جما ...وأي عبد لك ما ألما?!...
وهكذا رواه الترمذي ،عن أحمد بن عثمان أبي ( )2عثمان البصري ،عن أبي عاصم النبيل .ثم
قال :هذا حديث حسن صحيح غريب ،ل نعرفه إل من حديث زكريا بن إسحاق .وكذا قال
البزار :ل نعلمه يُروى متصل إل من هذا الوجه .وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي
عاصم النبيل ،وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة "تنزيل" وفي صحته مرفوعا نظر (.)3
ثم قال ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد ال بن بَزِيع ،حدثنا يزيد بن زُرَيْع ،حدثنا يونس ،عن
الحسن ،عن أبي هريرة -أراه رفعه { : -الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الثْ ِم وَا ْل َفوَاحِشَ إِل الّلمَمَ } قال
" :اللمة من الزنا ثم يتوب ول يعود ،واللمة من السرقة ثم يتوب ول يعود ،واللمة من شرب
الخمر ثم يتوب ول يعود" ،قال " :ذلك ( )4اللمام" (.)5
وحدثنا ابن بشار ،حدثنا ابن أبي عَديّ ،عن عوف ،عن الحسن في قول ال { :الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الثْ ِم وَا ْلفَوَاحِشَ إِل الّلمَمَ } قال :اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ،ثم ل يعود.
وحدثني يعقوب ،حدثنا ابن عُلَيّةَ ،عن أبي رَجاء ،عن الحسن في قول ال { :الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الثْ ِم وَا ْلفَوَاحِشَ إِل الّلمَمَ } قال :كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون :هو
الرجل يصيب اللمة من الزنا ،واللمة من شرب الخمر ،فيجتنبها ويتوب منها.
وقال ابن جرير ( ، )6عن عطاء ،عن ابن عباس { :إِل الّلمَمَ } يلم بها في الحين .قلت :الزنا ؟
قال :الزنا ثم يتوب.
وقال ابن جرير أيضا :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا ابن عُيَيْنَة ،عن عمرو ،عن عطاء ،عن ابن
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/39
( )2في م " :أي".
( )3سنن الترمذي برقم ( )3284وتفسير البغوي (.)7/128
( )4في م " :فتلك" وفي أ " :فعلك".
( )5تفسير الطبري (.)27/39
( )6في أ " :جريج".
( )7/461
( )7/462
َأفَرَأَ ْيتَ الّذِي َتوَلّى ( )33وَأَعْطَى قَلِيلًا وََأكْدَى ( )34أَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى (َ )35أمْ لَمْ يُنَبّأْ ِبمَا
حفِ مُوسَى ( )36وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى ( )37أَلّا تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( )38وَأَنْ لَيْسَ
صُفِي ُ
سوْفَ يُرَى (ُ )40ثمّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الَْأ ْوفَى ()41
سعْيَهُ َ
سعَى ( )39وَأَنّ َ
لِلْإِنْسَانِ ِإلّا مَا َ
بن أبي حبيب ،عن محمد بن عمرو بن عطاء قال :سميت ابنتي بَ ّرةَ ،فقالت لي زينب بنت أبي
سلمة :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى عن هذا السم ،وسميت بَرّة ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ل تزكوا أنفسكم ،إن ال أعلم بأهل البر منكم" .فقالوا :بم نسميها ؟ قال :
"سموها زينب" (.)1
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه المام أحمد حيث قال :حدثنا عفان ،حدثنا وهيب ،حدثنا
جلٌ رجل عند النبي صلى
خالد الحَذّاء ،عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة ،عن أبيه قال :مدح َر ُ
ال عليه وسلم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ويلك! قطعت عُنُقَ صاحبك -مرارًا -
إذا كان أحدكم مادحا صاحبه ل محالة فليقل :أحسب فلنا -وال حسيبه ،ول أزكي على ال
أحدا -أحسبه كذا وكذا ،إن كان يعلم ذلك" (.)2
ثم رواه عن غُ ْندَر ،عن شعبة ،عن خالد الحذاء ،به .وكذا رواه البخاري ،ومسلم ،وأبو
داود ،وابن ماجه ،من طرق ،عن خالد الحذاء ،به (.)3
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،وعبد الرحمن قال حدثنا سفيان ،عن منصور ،عن إبراهيم ،
عن همام بن الحارث قال :جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ،قال :فجعل المقداد بن
السود يحثو في وجهه التراب ويقول :أمرنا رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن
نحثو في وجوههم التراب.
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري ،عن منصور ،به (.)4
عطَى قَلِيل وََأكْدَى ( )34أَعِ ْن َدهُ عِلْمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى ( )35أَمْ لَمْ يُنَبّأْ
{ َأفَرَأَ ْيتَ الّذِي َتوَلّى ( )33وَأَ ْ
حفِ مُوسَى ( )36وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى ( )37أَل تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى ( )38وَأَنْ لَيْسَ
صُِبمَا فِي ُ
سوْفَ يُرَى (ُ )40ثمّ يُجْزَاهُ الْجَزَا َء ال ْوفَى (.} )41
سعْيَهُ َ
سعَى ( )39وَأَنّ َ
لِلنْسَانِ إِل مَا َ
ب وَ َتوَلّى } [القيامة :
ق وَل صَلّى .وََلكِنْ كَ ّذ َ
صدّ َ
يقول تعالى ذَامّا لمن تولى عن طاعة ال { :فَل َ
{ ، ]32 ، 31وَأَعْطَى قَلِيل وََأكْدَى } قال ابن عباس :أطاع قليل ثم قطعه .وكذا قال مجاهد ،
وسعيد بن جبير ،وعكرمة ،وقتادة ،وغير واحد .قال عكرمة وسعيد :كمثل القوم إذا كانوا
يحفرون بئرًا ،فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل ،فيقولون " :أكدينا" ،
ويتركون العمل.
وقوله { :أَعِ ْن َدهُ عِلْمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى } أي :أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية النفاق ،وقطع
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)2142
( )2المسند (.)5/45
( )3المسند ( )5/41وصحيح البخاري برقم ( )2662وصحيح مسلم برقم ( )3000وسنن أبي
داود برقم ( )4805وسنن ابن ماجه برقم (.)3744
( )4صحيح مسلم برقم ( )3002وسنن أبي داود برقم (.)4804
( )7/463
معروفه ،أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده ،حتى قد أمسك عن معروفه ،فهو يرى ذلك
عيانا ؟! أي :ليس المر كذلك ،وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخل وشحا
خشَ من ذي العرش إقلل" ( ، )1وقد قال ال
وهلعا ؛ ولهذا جاء في الحديث " :أنفق بلل ول تَ ْ
شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُ ُه وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } [سبأ .]39 :
تعالى َ { :ومَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َ
حفِ مُوسَى .وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } قال سعيد بن جبير ،والثوري
صُوقوله َ { :أمْ لَمْ يُنَبّأْ ِبمَا فِي ُ
أي بلّغ جميع ما أمر به.
وقال ابن عباس َ { :وفّى } ل بالبلغ .وقال سعيد بن جُبَير َ { :وفّى } ما أمر به .وقال قتادة :
{ َوفّى } طاعة ال ،وأدى رسالته الى خلقه .وهذا القول هو اختيار ابن جرير ،وهو يشمل الذي
قبله ،ويشهد له قوله تعالى { :وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا
} [البقرة ]124 :فقام بجميع الوامر ،وترك جميع النواهي ،وبلغ الرسالة على التمام والكمال ،
فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يُقتَدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله ،قال ال تعالى :
{ ُثمّ َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [النحل .]123 :
حمْصي ،حدثنا آدم بن أبي أياس العسقلني ،حدثنا
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عوف ال ِ
حماد بن سلمة ،حدثنا جعفر بن الزبير ،عن القاسم ،عن أبي أمامة قال :تل رسول ال صلى
ال عليه وسلم هذه الية { :وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } قال " :أتدري ما وفى ؟" قلت :ال ورسوله
أعلم .قال " :وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار".
ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير ،وهو ضعيف (.)2
سهِر ،حدثنا إسماعيل بن
سمْناني ،حدثنا أبو مُ ْ
وقال الترمذي في جامعه :حدثنا أبو جعفر ال ّ
عياش ،عن بحير بن سعد ( ، )3عن خالد بن َمعْدان ،عن جبير بن ُنفَير ،عن أبي الدرداء
وأبي ذر ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ال ،عز وجل ،أنه قال " :ابن آدم اركع لي
أربع ركعات من أول النهار ،أكفك آخره" (.)4
قال ابن أبي حاتم رحمه ال :حدثنا أبي ،حدثنا الربيع بن سليمان ،حدثنا أسد بن موسى ،حدثنا
ابن َلهِيعَة ،حدثنا زَبّان بن قائد ،عن سهل بن معاذ بن أنس ،عن أبيه ،عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أنه قال " :أل أخبركم لم سمى ال إبراهيم خليله الذي وفى ؟ إنه كان يقول كلما
أصبح وأمسى :
__________
( )1جاء من حديث ابي هريرة وبلل وابن مسعود .أما حديث أبي هريرة :فرواه أبو نعيم في
الحلية ( )2/280والطبراني في المعجم الكبير ( )1/341من طريقين عن محمد بن سيرين عنه
به.
وأما حديث بلل :فرواه الطبراني في المعجم الكبير ( )1/359من طريق أبي إسحاق عن
مسروق عنه به.
وأما حديث ابن مسعود :فرواه الطبراني في المعجم الكبير ( )10/191من طريق يحيى بن وثاب
عن مسروق عنه به.
( )2تفسير الطبري (.)27/43
( )3في م ،أ " :يحيى بن سعيد".
( )4سنن الترمذي برقم ( )475وقال " :هذا حديث حسن غريب".
( )7/463
{ َفسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُونَ وَحِينَ ُتصْبِحُون } [الروم ]17 :حتى ختم الية .ورواه ابن جرير عن
أبي كُرَيْب ،عن ِرشْدِين بن سعد ،عن ( )1زَبّان ،به (.)2
ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال { :أَل تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ
أُخْرَى } أي :كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها ،ل يحمله
شيْ ٌء وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر :
ح َملْ مِ ْنهُ َ
حمِْلهَا ل ُي ْ
عنها أحد ،كما قال { :وَإِنْ َت ْدعُ مُ ْثقَلَةٌ إِلَى ِ
سعَى } أي :كما ل يحمل عليه وزر غيره ،كذلك ل يحصل
{ ، ]18وَأَنْ لَيْسَ لِلنْسَانِ إِل مَا َ
من الجر إل ما كسب هو لنفسه .ومن وهذه الية الكريمة استنبط الشافعي ،رحمه ال ،ومن
اتبعه أن القراءة ل يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ؛ لنه ليس من عملهم ول كسبهم ؛ ولهذا لم
يندب إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم أمته ول حثهم عليه ،ول أرشدهم إليه بنص ول
إيماء ،ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ،رضي ال عنهم ،ولو كان خيرا لسبقونا إليه ،
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ،ول يتصرف فيه بأنواع القيسة والراء ،فأما الدعاء
والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ،ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :إذا مات النسان انقطع عمله إل من ثلث :من ولد صالح يدعو له ،أو صدقة جارية
من بعده ،أو علم ينتفع به" ( ، )3فهذه الثلثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله ،كما جاء
في الحديث " :إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ،وإن ولده من كسبه" ( .)4والصدقة الجارية
كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه ،وقد قال تعالى { :إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي ا ْل َموْتَى وَ َنكْ ُتبُ مَا
قَ ّدمُوا وَآثَارَهُم } ( )5الية [يس .]12 :والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو
أيضا من سعيه وعمله ،وثبت في الصحيح " :من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من
اتبعه ،من غير أن ينقص من أجورهم شيئا".
عمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ
س ْوفَ يُرَى } أي :يوم القيامة ،كما قال تعالى َ { :وقُلِ ا ْ
سعْ َيهُ َ
وقوله { :وَأَنّ َ
شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئ ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُون } [التوبة :
ب وَال ّ
عمََلكُ ْم وَرَسُولُ ُه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَسَتُ َردّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْي ِ
َ
]105أي :فيخبركم به ،ويجزيكم عليه أتم الجزاء ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر .وهكذا قال
هاهنا { :ثُمّ يُجْزَاهُ ا ْلجَزَاءَ ال ْوفَى } أي :الوفر.
__________
( )1في م " :بن".
( )2تفسير الطبري ( )27/43ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )20/192من كل الطريقين
وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/117فيه ضعفاء وثقوا".
قلت في الولى :ابن لهيعة وهو ضعيف.
وفي الثانية :رشدين بن سعد وهو ضعيف.
وفيهما :زيان بن فائد وهو ضعيف.
( )3صحيح مسلم برقم (.)1631
( )4رواه أحمد في المسند ( )6/31وأبو داود في السنن برقم ( )3528والترمذي في السنن برقم (
)1358والنسائي في السنن ( )7/240من حديث عائشة رضي ال عنها /وقال الترمذي " :هذا
حديث حسن صحيح".
( )5في م ( :وآثارهم وكل شيء أحصيناه).
( )7/465
( )7/466
( )7/466
طفَةً مِنْ
سبُ النْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى .أَلَمْ َيكُ نُ ْ
طفَةٍ إِذَا ُتمْنَى } ،كقوله { :أَ َيحْ َ
ال ّذكَ َر وَالنْثَى .مِنْ ُن ْ
ج َعلَ مِنْهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالنْثَى .أَلَيْسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى
سوّىَ .ف َ
مَ ِنيّ ُيمْنَى .ثُمّ كَانَ عََلقَةً َفخَلَقَ فَ َ
أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } [القيامة .)1( .]40 - 36 :
وقوله { :وَأَنّ عَلَ ْيهِ النّشَْأةَ الخْرَى } أي :كما خلق البداءة هو قادر على العادة ،وهي النشأة
الخرة يوم القيامة { .وَأَنّهُ ُهوَ أَغْنَى وََأقْنَى } أي :مَلّك عباده المال ،وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم
،ل يحتاجون إلى بيعه ،فهذا تمام النعمة عليهم .وعلى هذا يدور كلم كثير من المفسرين ،منهم
أبو صالح ،وابن جرير ،وغيرهما .وعن مجاهد { :أَغْنَى } َ :موّل { ،وََأقْنَى } :أخدم .وكذا
قال قتادة.
وقال ابن عباس ومجاهد أيضا { :أَغْنَى } :أعطى { ،وََأقْنَى } َ :رضّى.
وقيل :معناه :أغنى نفسه وأفقر الخلئق إليه ،قاله الحضرمي بن لحق.
وقيل { :أَغْنَى } من شاء من خلقه و { وََأقْنَى } :أفقر من شاء منهم ،قاله ابن زيد .حكاهما ابن
جرير ( )2وهما بعيدان من حيث اللفظ.
شعْرَى } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،وابن زيد ،وغيرهم :هو
وقوله { :وَأَنّهُ ُهوَ َربّ ال ّ
هذا النجم الوقاد الذي يقال له " :مِرْزَم الجوزاء" كانت طائفة من العرب يعبدونه.
{ وَأَنّهُ أَهَْلكَ عَادًا الولَى } وهم :قوم هود .ويقال لهم :عاد بن إرم بن سام بن نوح ،كما قال
تعالى { :أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ .إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ .الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلدِ } [الفجر 6 :
، ]8 -فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على ال وعلى رسوله ،فأهلكهم ال { بِرِيحٍ
حسُومًا } [الحاقة .]7 ، 6 :
ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ ُ
سخّرَهَا عَلَ ْيهِمْ سَبْعَ لَيَا ٍ
صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍَ .
وقوله { :وَ َثمُودَ َفمَا أَ ْبقَى } ،أي :دمرهم فلم يبق منهم أحدا َ { ،وقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْل } أي :من
طغَى } أي :أشد تمردا من الذين من بعدهم { ،وَا ْل ُمؤْتَ ِفكَةَ
قبل هؤلء { ،إِ ّنهُمْ كَانُوا هُمْ َأظْلَ َم وََأ ْ
أَ ْهوَى } يعني :مدائن لوط ،قَلَبها عليهم فجعل عاليها سافلها ،وأمطر عليهم حجارة من سجيل
منضود ؛ ولهذا قال َ { :فغَشّاهَا مَا غَشّى } يعني :من الحجارة التي أرسلها عليهم { وََأمْطَرْنَا
عَلَ ْيهِمْ َمطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ ا ْلمُنْذَرِين } [الشعراء .]173 :
قال قتادة :كان في مدائن لوط أربعة آلف ألف إنسان ،فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط
وقَطِران كفم التون ( .)3رواه ( )4ابن أبي حاتم ،عن أبيه ،عن محمد بن وهب بن عطية ،
عن الوليد بن مسلم ،عن خليد ،عنه به .وهو غريب جدا.
__________
( )1في م " :تمنى".
( )2تفسير الطبري (.)27/44
( )3في أ " :كتم النوف".
( )4في م " :ورواه".
( )7/467
( )7/468
( )7/469
اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ وَانْشَقّ ا ْل َقمَرُ ( )1وَإِنْ يَ َروْا آَيَةً ُيعْ ِرضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ ُمسْ َتمِرّ (َ )2وكَذّبُوا وَاتّ َبعُوا
ح ْكمَةٌ بَاِلغَةٌ َفمَا ُتغْنِ
أَ ْهوَاءَ ُه ْم َو ُكلّ َأمْرٍ ُمسْ َتقِرّ ( )3وََلقَدْ جَا َءهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُ ْزدَجَرٌ (ِ )4
النّذُرُ ()5
( )7/470
وقال المام أحمد :حدثنا حسين ،حدثنا محمد بن ُمطَرّف ،عن أبي حازم ،عن سهل بن سعد
قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ُ " :بعِثتُ والساعة ( )1هكذا" .وأشار بإصبعيه
:السبابة والوسطى.
أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار (.)2
سوَائي
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن عُبَيد ،حدثنا العمش ،عن أبي خالد ،عن وهب ال ّ
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها (
" )3وجمع العمش بين السبابة والوسطى (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا أبو المغيرة ،حدثنا الوزاعي ،حدثنا إسماعيل بن عبيد ( )5ال ،قال
:قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله :ماذا سمعت من رسول ال صلى ال عليه
وسلم يذكر به الساعة ؟ فقال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :أنتم والساعة
كهاتين".
تفرد به أحمد ،رحمه ال ( .)6وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول ال صلى ال
عليه وسلم :أنه الحاشر الذي ُيحْشَرُ الناس على قدميه.
وقال المام أحمد :حدثنا َبهْزُ بن أسد ،حدثنا سليمان بن المغيرة ،حدثنا حميد بن هلل ،عن
خالد بن عمير قال :خطب عتبة بن غَ ْزوَان -قال بهز :وقال قبل هذه المرة -خطبنا رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال :فحمد ال وأثنى عليه ،ثم قال " :أما بعد ،فإن الدنيا قد آذنت
بصَرْ ٍم وولت حذاء ،ولم يبق منها إل صُبَابة كصبابة الناء يتصابها صاحبها ،وإنكم منتقلون
منها إلى دار ل زوال لها ،فانتقلوا بخير ما بحضرتكم ،فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقَى من شفير
جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ( )7ما يدرك لها قعرًا ،وال لتملؤنه ،أفعجبتم! وال لقد ذكر لنا
أن ما بين ِمصْرَاعَي الجنة مسيرة أربعين عاما ،وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام" وذكر تمام
الحديث ،انفرد به مسلم (.)8
علَيّةَ ،أخبرنا عطاء بن السائب ،عن
وقال أبو جعفر بن جرير :حدثني يعقوب ،حدثني ابن ُ
أبي عبد الرحمن السّلَمي قال :نزلنا المدائن فكنا منها على فَ ْرسَخ ،فجاءت ( )9الجمعة ،فحضر
أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال :أل إن ال يقول { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَ ُة وَا ْنشَقّ ا ْل َقمَرُ } ،أل
وإن الساعة قد اقتربت ،أل وإن القمر قد انشق ،أل وإن الدنيا قد آذنت بفراق ،أل وإن اليوم
المضمار ،وغدا السباق ،فقلت لبي :أيستبق الناس غدا ؟ فقال :يا بني إنك لجاهل ،إنما هو
السباق بالعمال.
__________
( )1في م " :بعثت أنا والساعة".
( )2المسند ( )5/388وصحيح البخاري برقم ( )6503وصحيح مسلم برقم (.)2950
( )3في م ،أ " :لتسبقني".
( )4المسند (.)4/309
( )5في أ " :عبد".
( )6المسند (.)3/223
( )7في م " :خريفا".
( )8المسند ( )4/174وصحيح مسلم برقم (.)2967
( )9في أ " :حانت".
( )7/471
ثم جاءت الجمعة الخرى فحضرنا فخطب حذيفة ،فقال :أل إن ال ،عز وجل يقول { :اقْتَرَ َبتِ
ع ُة وَانْشَقّ ا ْلقَمَرُ } ،أل وإن الدنيا قد آذنت بفراق ،أل وإن اليوم المضمار وغدا السباق ،أل
السّا َ
وإن الغاية النار ،والسابق من سبق إلى الجنة (.)1
شقّ ا ْل َقمَرُ } :قد كان هذا في زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كما ثبت ذلك
وقوله { :وَانْ َ
في الحاديث المتواترة بالسانيد الصحيحة .وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال :
"خمس قد مضين :الروم ،والدخان ،واللزام ،والبطشة ،والقمر" ( .)2وهذا أمر متفق عليه بين
العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى ال عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات
الباهرات.
ذكر الحاديث الواردة في ذلك :
رواية أنس بن مالك :
قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك قال :سأل
أهل مكة النبي صلى ال عليه وسلم آية ،فانشق القمر بمكة مرتين ،فقال { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ
وَانْشَقّ ا ْلقَمَرُ }.
ورواه مسلم ،عن محمد بن رافع ،عن عبد الرزاق (.)3
وقال البخاري :حدثني عبد ال بن عبد الوهاب ،حدثنا بشر بن المفضل ،حدثنا سعيد بن أبي
عَرُوبة ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك ؛ أن أهل مكة سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن
شقّين ،حتى رأوا حِرَاء بينهما (.)4
يريهم آية ،فأراهم القمر ِ
وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدّب ،عن شيبان ،عن قتادة ( .)5ورواه مسلم
أيضا من حديث أبي داود الطيالسي ،ويحيى القطان ،وغيرهما ،عن شعبة ،عن قتادة ،به (
.)6
رواية جبير بن مطعم رضي ال عنه :
قال المام أحمد :حدثنا محمد بن كثير ،حدثنا سليمان بن كثير ،عن حصين بن عبد الرحمن ،
عن محمد بن جبير بن مطعم ،عن أبيه ،قال :انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه
وسلم فصار فرقتين :فرقة على هذا الجبل ،وفرقة على هذا الجبل ،فقالوا :سحرنا محمد.
فقالوا :إن كان سحرنا فإنه ل يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به المام أحمد من هذا الوجه ،وأسنده البيهقي في "الدلئل" من طريق محمد بن كثير ،
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/51
( )2صحيح البخاري برقم (.)4767
( )3المسند ( )3/165وصحيح مسلم برقم (.)2802
( )4صحيح البخاري برقم (.)3868
( )5صحيح البخاري برقم ( )4867وصحيح مسلم برقم (.)2802
( )6صحيح مسلم برقم ( )2802ورواه البخاري في صحيحه برقم ( )4868من طريق يحيى عن
شعبة به.
( )7/472
عن أخيه سليمان بن كثير ،عن حصين بن عبد الرحمن [ ،به] ( .)2( )1وهكذا رواه ابن جرير
( )3من حديث محمد بن فضيل وغيره ،عن حصين ،به ( .)4ورواه البيهقي أيضا من طريق
حصَين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ،عن أبيه
ط ْهمَان وهُشَيْم ،كلهما عن ُ
إبراهيم بن َ
،عن جده فذكره (.)5
رواية عبد ال بن عباس [رضي ال عنهما] ()6
قال البخاري :حدثنا يحيى بن بكير ،حدثنا بكر ،عن جعفر ،عن عِرَاك بن مالك ،عن عبيد
ال بن عبد ال بن عتبة ،عن ابن عباس قال :انشق القمر في زمان رسول ( )7ال صلى ال
عليه وسلم (.)8
ورواه البخاري أيضا ومسلم ،من حديث بكر بن مضر ،عن جعفر بن ربيعة ،عن عِرَاك [بن
مالك] ( ، )9به مثله (.)10
وقال ابن جرير :حدثنا ابن مثنى ،حدثنا عبد العلى ،حدثنا داود بن أبي هند ،عن علي بن
أبي طلحة ،عن ابن عباس قوله { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ وَانْشَقّ ا ْلقَمَرُ .وَإِنْ يَ َروْا آ َيةً ُيعْ ِرضُوا وَ َيقُولُوا
سحْرٌ مُسْ َتمِرّ } قال :قد مضى ذلك ،كان قبل الهجرة ،انشق القمر حتى رأوا شقيه.
ِ
وروى ال َعوْفي ،عن ابن عباس نحو هذا.
طعِي ،حدثنا محمد بن
وقال الطبراني :حدثنا أحمد بن عمرو البزار ،حدثنا محمد بن يحيى القُ َ
سفَ القمر
بكر ،حدثنا ابن جريج ،عن عمرو بن دينار ،عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :كُ ِ
شقّ
على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا :سُحِر القمر .فنزلت { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَ ُة وَانْ َ
ا ْل َقمَرُ } إلى قوله { :مستمر }.
رواية عبد ال بن عمر :
قال الحافظ أبو بكر البيهقي :أخبرنا أبو عبد ال الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قال
حدثنا أبو العباس الصم ،حدثنا العباس بن محمد الدّوري ،حدثنا وهب بن جرير ،عن شعبة ،
شقّ ا ْل َقمَرُ
عن العمش ،عن مجاهد ،عن عبد ال بن عمر في قوله تعالى { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَ ُة وَانْ َ
} قال :وقد كان ذلك على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم انشق فِ ْلقَتَين :فِ ْلقَة من دون الجبل
،وفلقة من خلف الجبل ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :اللهم اشهد".
__________
( )1زيادة من م.
( )2المسند ( )4/81ودلئل النبوة للبيهقي (.)2/268
( )3في أ " :جبير".
( )4تفسير الطبري (.)27/51
( )5دلئل النبوة (.)2/268
( )6زيادة من م.
( )7في م ،أ " :النبي".
( )8صحيح البخاري برقم (.)4866
( )9زيادة من أ.
( )10صحيح البخاري برقم ( )3638وصحيح مسلم برقم (.)2803
( )7/473
وهكذا رواه مسلم ،والترمذي ،من طرق عن شعبة ،عن العمش ،عن مجاهد ،به ( .)1قال
مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود .وقال الترمذي :حسن صحيح.
رواية عبد ال ابن مسعود :
قال المام أحمد :حدثنا سفيان ،عن ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد ،عن أبي َم ْعمَر ،عن ابن
مسعود قال :انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم شقين حتى نظروا إليه ،فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم "اشهدوا".
وهكذا رواه البخاري ومسلم ،من حديث سفيان بن عيينة ،به ( .)2وأخرجاه من حديث
العمش ،عن إبراهيم ،عن أبي معمر عبد ال بن سَخْبَرَة ،عن ابن مسعود ،به (.)3
وقال ابن جرير :حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ،حدثنا عمي يحيى بن عيسى ،عن
العمش ،عن إبراهيم ،عن رجل ،عن عبد ال ،قال :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم
بمنى فانشق القمر ،فأخذت فرقة خلف الجبل ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اشهدوا ،
اشهدوا" (.)4
قال البخاري :وقال أبو الضحى ،عن مسروق ،عن عبد ال :بمكة (.)5
وقال أبو داود الطيالسي :حدثنا أبو عوانة ،عن المغيرة ،عن أبي الضّحَى ،عن مسروق ،عن
عبد ال بن مسعود ،قال :انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالت قريش :
سفّار ،فإن محمدًا ل يستطيع أن
هذا سحر ابن أبي كبشة .قال :فقالوا :انظروا ما يأتيكم به ال ّ
سفّار فقالوا :ذلك (.)6
يسحر الناس كلهم .قال :فجاء ال ّ
وقال البيهقي :أخبرنا أبو عبد ال الحافظ ،أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ،حدثنا العباس
بن محمد ال ّدوْري ،حدثنا سعيد بن سليمان ،حدثنا هُشَيْم ،حدثنا مغيرة ،عن أبى الضحى ،عن
مسروق ،عن عبد ال ،قال :انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين ،فقال كفار قريش أهل مكة :
هذا سحر سحركم به ابن أبي كَ ْبشَة ،انظروا السفار ،فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ،وإن
سحْرٌ سحركم به .قال :فسئل السفار ،قال :وقدموا من كل
كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو ِ
وجهة ،فقالوا :رأيناه.
رواه ابن جرير من حديث المغيرة ،به ( .)7وزاد :فأنزل ال عز وجل { :اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ
وَانْشَقّ ا ْلقَمَرُ } .ثم قال ابن جرير :
__________
( )1دلئل النبوة للبيهقي ( )2/267وصحيح مسلم برقم ( )2801وسنن الترمذي برقم (.)3288
( )2المسند ( )1/377وصحيح البخاري برقم ( )4865وصحيح مسلم برقم (.)2800
( )3صحيح البخاري برقم ( )4864وصحيح مسلم برقم (.)2800
( )4تفسير الطبري (.)27/50
( )5صحيح البخاري برقم (.)295
( )6مسند الطيالسي برقم (.)295
( )7دلئل النبوة للبيهقي ( )2/266وتفسير الطبري (.)27/50
( )7/474
حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُلَيّة ،أخبرنا أيوب ،عن محمد -هو ابن سيرين -قال :
نبئت أن ابن مسعود ،رضي ال عنه ،كان يقول :لقد انشق القمر (.)1
وقال ابن جرير أيضا :حدثني محمد بن عمارة ،حدثنا عمرو بن حماد ،حدثنا أسباط ،عن
سماك ،عن إبراهيم ،عن السود ،عن عبد ال قال :لقد رأيت الجبل من فَرْج القمر حين
انشق.
سمَاك ،عن إبراهيم ،عن السود ،عن عبد
ورواه المام أحمد عن ُم َؤمّل ،عن إسرائيل ،عن ِ
ال ،قال :انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حتى رأيت الجبل من بين
فرجتي القمر (.)2
وقال ليث عن مجاهد :انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فصار فرقتين ،
فقال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر " :اشهد يا أبا بكر" .فقال المشركون :سُحِر القمر حتى
انشق (.)3
وقوله { :وَإِنْ يَ َروْا آ َيةً } أي :دليل وحجة وبرهانا { يعرضوا } أي :ل ينقادون له ،بل
سحْرٌ مُسْ َتمِرّ } أي :ويقولون :هذا الذي
يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم { ،وَ َيقُولُوا ِ
شاهدناه من الحجج ،سحرٌ سحرنا به.
ومعنى { ُمسْ َتمِرّ } أي :ذاهب .قاله مجاهد ،وقتادة ،وغيرهما ،أي :باطل مضمحل ،ل دوام
له.
{ َوكَذّبُوا وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ } أي :كذبوا بالحق إذ جاءهم ،واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم
من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله َ { :و ُكلّ َأمْرٍ مُسْ َتقِرّ } قال ( )4قتادة :معناه :أن الخير واقع بأهل الخير ،والشر واقع
بأهل الشر.
وقال ابن جريج :مستقر بأهله .وقال مجاهد َ { :و ُكلّ َأمْرٍ ُمسْ َتقِرّ } أي :يوم القيامة.
وقال السدي { :مُسْ َتقِرّ } أي :واقع.
وقوله { :وََلقَدْ جَاءَ ُهمْ مِنَ النْبَاءِ } أي :من الخبار عن قصص المم المكذبين بالرسل ،وما
حل بهم من العقاب والنكال والعذاب ،مما يتلى عليهم في هذا القرآن { ،مَا فِيهِ مُ ْزدَجَرٌ } أي :
ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب.
ح ْكمَةٌ بَاِلغَةٌ } أي :في هدايته تعالى لمن هداه وإضلله لمن أضله َ { ،فمَا ُتغْنِ النّذُرُ }
وقوله ِ { :
يعني ( : )5أي شيء تغني النذر عمن كتب ال عليه الشقاوة ،وختم على قلبه ؟ فمن الذي يهديه
ج َمعِينَ } [ النعام
من بعد ال ؟ وهذه الية كقوله تعالى ُ { :قلْ فَلِلّهِ ا ْلحُجّةُ الْبَاِلغَةُ فََلوْ شَاءَ َلهَدَا ُكمْ أَ ْ
ت وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ ل ُي ْؤمِنُونَ } [ يونس :
، ] 149 :وكذا قوله تعالى َ { :ومَا ُتغْنِي ( )6اليَا ُ
.] 101
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/51
( )2المسند (.)1/413
( )3تفسير الطبري (.)27/51
( )4في م " :قاله".
( )5في م ،أ " :بمعنى".
( )6في م ،أ " :فما تغني".
( )7/475
( )7/476
( )7/476
( )7/477
كَذّ َبتْ عَادٌ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( )18إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا فِي َيوْمِ َنحْسٍ مُسْ َتمِرّ (
عذَابِي وَنُذُرِ ( )21وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآَنَ
خلٍ مُ ْن َقعِرٍ (َ )20فكَ ْيفَ كَانَ َ
عجَازُ َن ْ
)19تَنْ ِزعُ النّاسَ كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ ()22
وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إل ابن ماجه ،من حديث أبي إسحاق (.)1
وقوله َ { :فكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي :كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ
بما جاءت به نُذُري ،وكيف انتصرت لهم ،وأخذت لهم بالثأر.
{ وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ } أي :سهلنا لفظه ،ويسرنا معناه لمن أراده ،ليتذكر الناس .كما قال
{ :كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لِ َيدّبّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَ َذكّرَ ( )2أُولُو اللْبَابِ } [ ص ، ] 29 :وقال تعالى
ن وَتُنْذِرَ بِهِ َق ْومًا ُلدّا } [ مريم .] 97 :
{ :فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ بِلِسَا ِنكَ لِتُ َبشّرَ بِهِ ا ْلمُ ّتقِي َ
قال مجاهد { :وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ } يعني َ :هوّنّا قراءته.
وقال السدي :يسرنا تلوته على اللسن.
وقال الضحاك عن ابن عباس :لول أن ال يسره على لسان الدميين ،ما استطاع أحد من الخلق
أن يتكلم بكلم ال ،عز وجل.
قلت :ومن تيسيره ،تعالى ،على الناس تلوة القرآن ما تَقدّم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
قال " :إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" .وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن
إعادته هاهنا ،ول الحمد والمنة.
وقوله َ { :ف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } أي :فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد َيسّر ال حفظه ومعناه ؟
وقال محمد بن كعب القرظي :فهل من منزجر عن المعاصي ؟
شوْذَب ،
ضمْرَة ( ، )3عن ابن َ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا الحسن بن رافع ،حدثنا َ
عن مَطَر -هو الوراق -في قوله تعالى َ { :فهَلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } هل من طالب علم فَ ُيعَان عليه ؟
وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم ،عن ( )4مطر الوراق و[كذا] ( )5رواه ابن جرير (، )6
وروي عن قتادة مثله.
سلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا فِي َيوْمِ نَحْسٍ ُمسْ َتمِرّ
عذَابِي وَنُذُرِ ( )18إِنّا أَرْ َ
{ َكذّ َبتْ عَادٌ َفكَ ْيفَ كَانَ َ
عذَابِي وَنُذُرِ ( )21وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ
خلٍ مُ ْن َقعِرٍ (َ )20فكَ ْيفَ كَانَ َ
عجَازُ َن ْ
( )19تَنزعُ النّاسَ كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ (.} )22
يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود :إنهم كذبوا رسولهم أيضا ،كما صنع قوم نوح ،وأنه
تعالى
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4871وصحيح مسلم برقم ( )823وسنن أبي داود برقم ()3994
وسنن الترمذي برقم ( )2937وسنن النسائي (.)2/150
( )2في م " :ليذكر".
( )3في أ " :حمزة".
( )4في أ " :على".
( )5زيادة من م.
( )6تفسير الطبري (.)27/57
( )7/478
أرسل { عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا } ،وهي الباردة الشديدة البرد { ،فِي َيوْمِ َنحْسٍ } أي :عليهم.
قاله الضحاك ،وقتادة ،والسّدّي { .مُسْ َتمِرّ } عليهم نحسه ودماره ؛ لنه يوم اتصل فيه عذابهم
الدنيوي بالخروي.
خلٍ مُ ْنقَعِرٍ } وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى
وقوله { :تَنزعُ النّاسَ كَأَ ّن ُهمْ أَعْجَازُ َن ْ
تغيبه عن البصار ،ثم تنكسه على أم رأسه ،فيسقط إلى الرض ،فتثلغ رأسه فيبقى جثة بل
خلٍ مُ ْن َقعِرٍَ .فكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ .وََلقَدْ َيسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ
عجَازُ نَ ْ
رأس ؛ ولهذا قال { :كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
َف َهلْ مِنْ ُم ّدكِرٍ }.
سعُرٍ (َ )24أؤُ ْل ِقيَ
{ َكذّ َبتْ َثمُودُ بِالنّذُرِ (َ )23فقَالُوا أَبَشَرًا مِنّا وَاحِدًا نَتّ ِبعُهُ إِنّا إِذًا َلفِي ضَللٍ وَ ُ
ال ّذكْرُ عَلَ ْيهِ مِنْ بَيْنِنَا َبلْ ُهوَ كَذّابٌ َأشِرٌ ( )25سَ َيعَْلمُونَ غَدًا مَنِ ا ْلكَذّابُ الشِرُ ( )26إِنّا مُرْسِلُو
النّاقَةِ فِتْ َنةً َلهُمْ فَارْ َتقِ ْبهُ ْم وَاصْطَبِرْ (.} )27
( )7/479
سمَةٌ بَيْ َنهُمْ ُكلّ شِ ْربٍ ُمحْ َتضَرٌ ( )28فَنَا َدوْا صَاحِ َب ُهمْ فَ َتعَاطَى َفعَقَرَ (َ )29فكَ ْيفَ
وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ
كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( )30إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِه ْم صَيْحَ ًة وَاحِ َدةً َفكَانُوا َكهَشِيمِ ا ْلمُحْتَظِرِ ( )31وََلقَدْ يَسّرْنَا
ا ْلقُرْآَنَ لِل ّذكْرِ َفهَلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ ()32
س َمةٌ بَيْ َنهُمْ ُكلّ شِ ْربٍ مُحْ َتضَرٌ ( )28فَنَا َدوْا صَاحِ َبهُمْ فَ َتعَاطَى َف َعقَرَ (َ )29فكَ ْيفَ
{ وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ
كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( )30إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِه ْم صَيْحَ ًة وَاحِ َدةً َفكَانُوا َكهَشِيمِ ا ْلمُحْتَظِرِ ( )31وََلقَدْ يَسّرْنَا
ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َفهَلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ (.} )32
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا َ { ،فقَالُوا أَبَشَرًا مِنّا وَاحِدًا نَتّ ِبعُهُ إِنّا ِإذًا َلفِي
سعُرٍ } ،يقولون :لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادنا لواحد منا!
ضَللٍ وَ ُ
ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ،ثم رموه بالكذب فقالوا َ { :بلْ ُهوَ كَذّابٌ
غدًا مَنِ ا ْلكَذّابُ الشِرُ } وهذا
أَشِرٌ } أي :متجاوز في حد الكذب .قال ال تعالى { :سَ َيعَْلمُونَ َ
تهديد لهم شديد ووعيد أكيد.
ثم قال تعالى { :إِنّا مُرْسِلُو النّاقَةِ فِتْ َنةً َلهُمْ } أي :اختبارا لهم ؛ أخرج ال لهم ناقة عظيمة عُشراء
من صخرة صمّاء طبق ما سألوا ،لتكون حجة ال عليهم في تصديق صالح ،عليه السلم ،فيما
جاءهم به.
ثم قال آمرا لعبده ورسوله صالح { :فَارْ َتقِ ْبهُ ْم وَاصْطَبِرْ } أي :انتظر ما يؤول إليه أمرهم ،
س َمةٌ بَيْ َنهُمْ }
واصبر عليهم ،فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والخرة { ،وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ
أي :يوم لهم ويوم للناقة ؛ كقوله { :قَالَ َه ِذهِ نَاقَةٌ َلهَا شِ ْربٌ وََلكُمْ شِ ْربُ َيوْمٍ َمعْلُومٍ } [الشعراء :
.]155
وقوله ُ { :كلّ شِ ْربٍ مُحْ َتضَرٌ } قال مجاهد :إذا غابت حضروا الماء ،وإذا جاءت حضروا
اللبن.
ثم قال تعالى { :فَنَا َدوْا صَاحِ َبهُمْ فَ َتعَاطَى َف َعقَرَ } قال المفسرون :هو عاقر الناقة ،واسمه قُدّار
شقَاهَا } [ الشمس { .] 12 :فَ َتعَاطَى } أي :
بن سالف ،وكان أشقى قومه .كقوله { :إِذِ انْ َب َعثَ أَ ْ
فَجَسر ()1
عذَابِي وَنُذُرِ } أي :فعاقبتهم ،فكيف كان عقابي ([ )2لهم] ( )3على كفرهم
{ َف َعقَرََ .فكَيْفَ كَانَ َ
بي
__________
( )1في م " :حسر".
( )2في م " :عذابي".
( )3زيادة من م ،أ.
( )7/479
عوْنَ النّذُرُ (َ )41كذّبُوا بِآَيَاتِنَا كُّلهَا فَأَخَذْنَاهُمْ َأخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (َ )42أ ُكفّا ُركُمْ خَيْرٌ
وَلَقَدْ جَاءَ َآلَ فِرْ َ
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ
جمِيعٌ مُنْ َتصِرٌ ( )44سَ ُيهْزَمُ الْ َ
مِنْ أُولَ ِئكُمْ أَمْ َلكُمْ بَرَا َءةٌ فِي الزّبُرِ ( )43أَمْ َيقُولُونَ نَحْنُ َ
الدّبُرَ (َ )45بلِ السّاعَةُ َموْعِدُ ُه ْم وَالسّاعَةُ أَدْهَى وََأمَرّ ()46
وقيل :إنه لم تبق لهم عيون بالكلية ،فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان ،ويتوعدون
لوطا ،عليه السلم ،إلى الصباح.
عذَابٌ مُسْ َتقِرّ } أي :ل محيد لهم عنه ،ول انفكاك لهم
حهُمْ ُبكْ َرةً َ
قال ال تعالى { :وََلقَ ْد صَبّ َ
منه { ،فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ .وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }.
خذَ عَزِيزٍ ُمقْتَدِرٍ (َ )42أ ُكفّا ُركُمْ
خذْنَا ُهمْ أَ ْ
عوْنَ النّذُرُ ( )41كَذّبُوا بِآيَاتِنَا كُّلهَا فَأَ َ
{ وََلقَدْ جَاءَ آلَ فِرْ َ
جمْعُ
جمِيعٌ مُنْ َتصِرٌ ( )44سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
خَيْرٌ مِنْ أُولَ ِئكُمْ أَمْ َل ُكمْ بَرَا َءةٌ فِي الزّبُرِ (َ )43أمْ َيقُولُونَ َنحْنُ َ
وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ (َ )45بلِ السّاعَةُ َموْعِدُهُ ْم وَالسّاعَةُ َأدْهَى وََأمَرّ (.} )46
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول ال موسى وأخوه هارون بالبشارة إن
آمنوا ،والنذارة إن كفروا ،وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة ،فكذبوا بها كلها ،فأخذهم
ال أخذ عزيز مقتدر ،أي :فأبادهم ال ولم ( )1يُبق منهم مخبرًا ول عينًا ول أثرًا.
ثم قال َ { :أ ُكفّارُكُمْ } أي :أيها المشركون من كفار قريش { خَيْرٌ مِنْ أُولَ ِئكُمْ } يعني :من الذين
تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل ،وكفرهم بالكتب :أأنتم خير أم أولئك ؟ { أَمْ َلكُمْ
بَرَا َءةٌ فِي الزّبُرِ } أي :أم معكم ( )2من ال براءة أل ينالكم عذاب ول نكال ؟.
جمِيعٌ مُنْ َتصِرٌ } أي :يعتقدون أنهم مناصرون ( )3بعضهم
ثم قال مخبرا عنهم { :أَمْ َيقُولُونَ َنحْنُ َ
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ
بعضا ،وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء ،قال ال تعالى { :سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
} أي :سيتفرق شملهم ويغلبون.
قال البخاري :حدثنا إسحاق ،حدثنا خالد ،عن خالد -وقال أيضا :حدثنا محمد ،حدثنا ()4
عفان بن مسلم ،عن وُهيب ،عن خالد ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى ال عليه
وسلم قال -وهو في قبة له يوم بدر " : -أنشدك عهدك ووعدك ،اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم
( )5أبدا" .فأخذ أبو بكر ،رضي ال عنه ،بيده وقال :حسبك يا رسول ال! ألححت على ربك.
عةُ َموْعِدُهُمْ
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرََ .بلِ السّا َ
فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول { :سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
وَالسّاعَةُ َأدْهَى وََأمَرّ }.
وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع ،من حديث خالد -وهو ِمهْران ( )6الحذاء -به (
.)7
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو الربيع الزّهرَاني ،حدثنا حماد عن أيوب ،عن
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ } [قال] ( )8قال عمر :أيّ جمَع يهزم ؟
عكرمة ،قال :لما نزلت { سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
جمْع
أيّ َ
__________
( )1في م " :فلم".
( )2في م " :معهم".
( )3في م ،أ " :يتناصرون".
( )4في م " :بن".
( )5في م " :بعد اليوم في الرض".
( )6في م ،أ " :وهو ابن مهران".
( )7صحيح البخاري برقم ( )4877 ، 4875 ، 3953 ، 2915والنسائي في السنن الكبرى برقم
(.)11557
( )8زيادة من أ.
( )7/481
سقَرَ ()48
سحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى وُجُو ِههِمْ ذُوقُوا مَسّ َ
سعُرٍ (َ )47يوْمَ يُ ْ
ل وَ ُ
إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي ضَلَا ٍ
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ ()49
إِنّا ُكلّ َ
يغلب ؟ قال عمر :فلما كان يوم بدر رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يثب في الدرع ،وهو
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ } فعرفت تأويلها يومئذ (.)1
يقول { :سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
وقال البخاري :حدثنا إبراهيم بن موسى ،حدثنا هشام بن يوسف ؛ أن ابن جُرَيج أخبرهم :
أخبرني يوسف بن ما َهكَ قال :إني عند عائشة أم المؤمنين ،قالت :نزل على محمد صلى ال
عةُ أَدْهَى وََأمَرّ } هكذا رواه
عليه وسلم بمكة -وإني لجارية ألعب َ { -بلِ السّاعَةُ َموْعِدُ ُه ْم وَالسّا َ
ها هنا مختصرا ( .)2ورواه في فضائل القرآن مطول ( ، )3ولم يخرجه مسلم.
سقَرَ (
سعُرٍ (َ )47يوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى وُجُو ِههِمْ ذُوقُوا مَسّ َ
{ إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي ضَللٍ وَ ُ
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ (.} )49
)48إِنّا ُكلّ َ
__________
( )1رواه عبد الرزاق في تفسيره ( )2/209من طريق معمر عن أيوب به.
( )2صحيح البخاري برقم (.)4876
( )3صحيح البخاري برقم (.)4993
( )7/482
شيْءٍ
عكُمْ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ (َ )51و ُكلّ َ
َومَا َأمْرُنَا إِلّا وَاحِ َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ ( )50وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا أَشْيَا َ
ت وَ َنهَرٍ ( )54فِي َم ْقعَدِ
صغِيرٍ َوكَبِيرٍ مُسْ َتطَرٌ ( )53إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
ل َ
َفعَلُوهُ فِي الزّبُرِ (َ )52و ُك ّ
صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ ُمقْتَدِرٍ ()55
شيْءٍ
عكُمْ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ (َ )51و ُكلّ َ
ح َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ ( )50وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا أَشْيَا َ
{ َومَا َأمْرُنَا إِل وَا ِ
ت وَ َنهَرٍ ( )54فِي َم ْقعَدِ
صغِيرٍ َوكَبِيرٍ مُسْ َتطَرٌ ( )53إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
ل َ
َفعَلُوهُ فِي الزّبُرِ (َ )52و ُك ّ
صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ ُمقْتَدِرٍ (} )55
سعُر مما هم فيه من الشكوك
يخبرنا ( )1تعالى عن المجرمين أنهم في ضلل عن الحق ،و ُ
والضطراب في الراء ،وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق.
سعُر وشك وتردد أورثهم
سحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى ُوجُو ِههِمْ } أي :كما كانوا في ُ
ثم قال َ { :يوْمَ يُ ْ
ذلك النار ،وكما كانوا ضلل سُحبوا فيها على وجوههم ،ل يدرون أين يذهبون ،ويقال لهم
سقَرَ }.
تقريعا وتوبيخا { :ذُوقُوا مَسّ َ
شيْءٍ َفقَدّ َرهُ َتقْدِيرًا } [ الفرقان ] 2 :
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ } ،كقوله { :وَخَلَقَ ُكلّ َ
وقوله { :إِنّا ُكلّ َ
سوّى .وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَى } [ العلى ] 3 - 1 :أي
وكقوله { :سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ العْلَى .الّذِي خَلَقَ َف َ
:قدر قدرا ،وهدى الخلئق إليه ؛ ولهذا يستدل بهذه الية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر ال
السابق لخلقه ،وهو علمه الشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها ،وردّوا بهذه الية وبما ()2
شاكلها من اليات ،وما ورد في معناها من الحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا (
)3في أواخر عصر الصحابة .وقد تكلمنا على هذا المقام مفصل وما ورد فيه من الحاديث في
شرح "كتاب اليمان" من "صحيح البخاري" رحمه ال ،ولنذكر هاهنا الحاديث المتعلقة بهذه الية
الكريمة :
قال أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا سفيان الثوري ،عن زياد بن إسماعيل السهمي ،عن محمد بن
عباد بن جعفر ،عن أبي هُرَيرَة قال :جاء مشركو قريش إلى النبي صلى ال عليه وسلم
سقَرَ .إِنّا ُكلّ
سحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى وُجُو ِه ِهمْ ذُوقُوا مَسّ َ
يخاصمونه في القدر ،فنزلت َ { :ي ْومَ يُ ْ
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ }.
َ
__________
( )1في م " :يخبر".
( )2في م " :وما".
( )3في أ " :سعوا".
( )7/482
وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ،من حديث وكيع ،عن سفيان الثوري ،به (.)1
خلَد ،حدثنا يونس بن الحارث ،عن
وقال البزار :حدثنا عمرو بن على ،حدثنا الضحاك بن مَ ْ
عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده قال :ما نزلت هذه اليات { :إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي ضَللٍ
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ } ،إل في
سقَرَ .إِنّا ُكلّ َ
سحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى ُوجُو ِههِمْ ذُوقُوا مَسّ َ
سعُرٍَ .يوْمَ يُ ْ
وَ ُ
أهل القدر (.)2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا سهل ( )3بن صالح النطاكي ،حدثني قُرّة بن حبيب ،
جعْ َدةَ ،عن ابن زُرَارة ،عن أبيه ،
عن كنانة حدثنا جرير بن حازم ،عن سعيد بن عمرو بن َ
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ } ،
سقَرَ .إِنّا ُكلّ َ
عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه تل هذه الية { :ذُوقُوا مَسّ َ
قال " :نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر ال" (.)4
وحدثنا الحسن بن عرفة ،حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزَري ،عن عبد الملك بن جُرَيْج ،عن
عطاء بن أبي رَبَاح ،قال :أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم ،وقد ابتلّت أسافل ثيابه ،فقلت
له :قد ُتكُلّم في القدر .فقال :أو [قد] ( )5فعلوها ؟ قلت :نعم .قال :فوال ما نزلت هذه الية إل
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ } ،أولئك شرار هذه المة ،فل تعودوا
سقَرَ .إِنّا ُكلّ َ
فيهم { :ذُوقُوا مَسّ َ
مرضاهم ول ُتصَلّوا على موتاهم ،إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين.
وقد رواه المام أحمد من وجه آخر ،وفيه مرفوع ،فقال :
حدثنا أبو المغيرة ،حدثنا الوزاعي ،عن بعض إخوته ،عن محمد بن عُبَيد المكي ،عن عبد ال
بن عباس ،قال :قيل له :إن رجل قدم علينا ُيكَذّب بالقدر فقال :دلوني عليه -وهو أعمى -
قالوا :وما تصنع به يا أبا عباس قال :والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لعضّنّ أنفه حتى
أقطعه ،ولئن وقعت رقبته في يدي لدقنها ؛ فإني ( )6سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم
طفْنَ بالخزرج ،تصطفق ألياتهن مشركات ،هذا أول شرك هذه
يقول " :كأني بنساء بني ِفهْر يَ ُ
المة ،والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا ال من أن يكون قَدّر خيرا ،كما
أخرجوه من أن يكون قدر شرا" (.)7
ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة ،عن الوزاعي ،عن العلء بن الحجاج ،عن محمد بن عبيد ،
فذكر مثله ( .)8لم يخرجوه.
__________
( )1المسند ( )2/444وصحيح مسلم برقم ( )2656وسنن الترمذي برقم ( )3290وسنن ابن ماجة
برقم (.)83
( )2مسند البزار برقم (" )2265كشف الستار" ،وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/117فيه يونس
بن الحارث ،وثقه ابن معين وابن حيان وفيه ضعف ،وبقية رجاله ثقات".
( )3في أ " :سهيل".
( )4رواه الطبراني في المعجم الكبير ( )5/276من طريق قرة بن حبيب عن جرير بن حازم -
وأظن أن كنانة ساقط منه -عن سعيد بن عمرو به.
( )5زيادة من م.
( )6في أ " :قال".
( )7المسند (.)1/330
( )8المسند (.)1/330
( )7/483
وقال المام أحمد :حدثنا عبد ال بن يزيد ،حدثنا سعيد بن أبي أيوب ،حدثني أبو صخر ،عن
نافع قال :كان لبن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه ( ، )1فكتب إليه عبد ال بن عمر :إنه
بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ،فإياك أن تكتب إليّ ،فإني سمعت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر".
رواه أبو داود ،عن أحمد بن حنبل ،به (.)2
غفْرَة ،عن عبد ال بن عمر ؛
وقال أحمد :حدثنا أنس بن عياض ،حدثنا عمر بن عبد ال مولى ُ
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :لكل أمة مجوس ،ومجوس أمتي الذين يقولون :ل
قدر .إن مرضوا فل تعودوهم ،وإن ماتوا فل تشهدوهم" (.)3
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
حمَيد بن زياد ،عن نافع ،عن ابن
شدِين ،عن أبي صخر ُ
وقال أحمد :حدثنا قتيبة ،حدثنا رِ ْ
عمر قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :سيكون في هذه المة مسخ ،أل وذاك
في المكذبين بالقدر والزنديقية".
ورواه الترمذي وابن ماجه ،من حديث أبي صخر حميد بن زياد ،به ( .)4وقال الترمذي :
حسن صحيح غريب.
وقال أحمد :حدثنا إسحاق بن الطباع ،أخبرني مالك ،عن زياد بن سعد ،عن عمرو بن مسلم ،
عن طاوس اليماني قال :سمعت ابن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كل شيء
بقدرن حتى العجز والكيس".
ورواه مسلم منفردا به ،من حديث مالك (.)6( )5
وفي الحديث الصحيح " :استعن بال ول تعجز ،فإن أصابك أمر فقل َ :قدّ ُر ال وما شاء فعل ،
ول تقل :لو أني فعلت لكان كذا ،فإن لو تفتح عمل الشيطان" (.)7
وفي حديث ابن عباس :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له " :واعلم أن المة لو اجتمعوا
على أن ينفعوك بشيء ،لم يكتبه ال لك ،لم ينفعوك ،ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ،لم
يكتبه ال عليك ،لم يضروك .جفّت القلم وطويت الصحف" (.)8
__________
( )1في م " :فكاتبه".
( )2المسند ( )2/90وسنن أبي داود برقم (.)4613
( )3المسند (.)2/86
( )4المسند ( )2/108وسنن الترمذي برقم ( )2152وسنن ابن ماجه برقم (.)4061
( )5في م " :ورواه مسلم من حديث مالك منفردا به".
( )6المسند ( )2/110وصحيح مسلم برقم (.)2655
( )7رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2664من حديث أبي هريرة ،رضي ال عنه.
( )8رواه المام أحمد في مسنده (.)1/293
( )7/484
( )7/485
بنفوذ قدره فيهم ،فقال َ { :ومَا َأمْرُنَا إِل وَاحِ َدةٌ } أي :إنما نأمر بالشيء مرة واحدة ،ل نحتاج
إلى تأكيد بثانية ،فيكون ذلك الذي نأمر به حاصل موجودا كلمح البصر ( ، )1ل يتأخر طرفة
عين ،وما أحسن ما قال بعض الشعراء :
إذَا ما أرَادَ ال أمْرًا فَإِنّما ...يقُولُ لهُ :كُنْ َ ،قوَلةً ( )2فَ َيكُونُ...
عكُمْ } يعني :أمثالكم وسلفكم من المم السابقة المكذبين بالرسل َ { ،ف َهلْ
وقوله { :وََلقَدْ أَهَْلكْنَا أَشْيَا َ
مِنْ مُ ّدكِرٍ } أي :فهل من متعظ بما أخزى ال أولئك ،وقدر لهم من العذاب ،كما قال { :وَحِيلَ
عهِمْ مِنْ قَ ْبلُ } [ سبأ .] 54 :
بَيْ َنهُ ْم وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ َكمَا ُف ِعلَ بَِأشْيَا ِ
شيْءٍ َفعَلُوهُ فِي الزّبُرِ } أي :مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملئكة عليهم
وقوله َ { :و ُكلّ َ
صغِيرٍ َوكَبِيرٍ } أي :من أعمالهم { مُسْ َتطَرٌ } أي :مجموع عليهم ،ومسطر في
ل َ
السلم َ { ،و ُك ّ
صحائفهم ،ل يغادر صغيرة ول كبيرة إل أحصاها.
وقد قال المام أحمد :حدثنا أبو عامر ،حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك :سمعت عامر بن عبد ال
بن الزبير ،حدثني عوف بن الحارث -وهو ابن أخي عائشة لمها -عن عائشة أن رسول ال
حقّرات الذنوب ،فإن لها من ال طالبا".
صلى ال عليه وسلم كان يقول " :يا عائشة ،إياك ومُ َ
ورواه النسائي وابن ماجه ،من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني ( .)3وثقه ( )4أحمد ،
وابن معين ،وأبو حاتم ،وغيرهم.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر ( ، )5ثم قال سعيد :
فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي :ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن
المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره ،فأتاه آت في منامه فقال له :يا سليمان :
صغِيرا ...إن الصّغير غدًا يعود ( )6كبيرا...
ب َ
حقِرنّ مِنَ الذنو ِ
ل َت ْ
سطّرٌ تسطيرا...
إن الصغير ولو تقادم عهده ...عند الله مُ َ
فازجر هواك عن البطالة ل تكن ...صعب القياد وشمرن ( )7تشميرا...
حبّ إذا أحب إلههُ ...طار الفؤاد وأُ ْلهِم التفكيرا...
إن المُ ِ
فاسأل هدايتك الله بِنِيّةَ ...ف َكفَى بِرَ ّبكَ هاديا ونصيرا ()8
__________
( )1في م " :كلمح البصر".
( )2في أ " :في الوجود".
( )3المسند ( )6/151وسنن ابن ماجه برقم (.)4243
( )4في أ " :الذي وثقه".
( )5تاريخ دمشق (" 7/353المخطوط") من طريق أبي عامر العقدي والقعنبي ،كلهما عن سعيد
بن مسلم به.
( )6في أ " :يكون".
( )7في م " :وشمر".
( )8تاريخ دمشق (" 7/353القسم المخطوط").
( )7/486
( )7/487
( )7/488
حسْبَانٍ ()5
س وَا ْل َقمَرُ بِ ُ
شمْ ُ
حمَنُ ( )1عَلّمَ ا ْلقُرْآَنَ ( )2خَلَقَ الْإِنْسَانَ ( )3عَّلمَهُ الْبَيَانَ ( )4ال ّ
الرّ ْ
ط َغوْا فِي ا ْلمِيزَانِ ()8
سمَاءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ ( )7أَلّا َت ْ
جدَانِ ( )6وَال ّ
وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ َيسْ ُ
خلُ
ض َعهَا لِلْأَنَامِ ( )10فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وَالنّ ْ
ض َو َ
ط وَلَا تُخْسِرُوا ا ْلمِيزَانَ ( )9وَالْأَ ْر َ
سِوََأقِيمُوا ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِ ْ
صفِ وَالرّ ْيحَانُ ( )12فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ()13
حبّ ذُو ا ْل َع ْ
ذَاتُ الَْأ ْكمَامِ ( )11وَا ْل َ
( )7/489
سمَاءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ } يعني :العدل ،كما قال َ { :لقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ
وقوله { :وَال ّ
وَأَنزلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ } [ الحديد ، ] 25 :وهكذا قال هاهنا { :أَل
ط َغوْا فِي ا ْلمِيزَانِ } أي :خلق السموات والرض بالحق والعدل ،لتكون ( )1الشياء كلها بالحق
تَ ْ
خسِرُوا ا ْلمِيزَانَ } أي :ل تبخسوا الوزن ،بل
ط وَل تُ ْ
والعدل ؛ ولهذا قال { :وََأقِيمُوا ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْ ِ
زِنوا بالحق والقسط ،كما قال [تعالى] ( { )2وَزِنُوا بِا ْلقِسْطَاسِ ا ْل ُمسْ َتقِيمِ } [ الشعراء .] 182 :
ض َعهَا لِلنَامِ } أي :كما رفع السماء وضع الرض ومهدها ،وأرساها
وقوله { :وَال ْرضَ َو َ
بالجبال الراسيات الشامخات ،لتستقر لما على وجهها من النام ،وهم :الخلئق المختلفة أنواعهم
وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم ،في سائر أقطارها وأرجائها .قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن
زيد :النام :الخلق.
خلُ ذَاتُ ال ْكمَامِ } أفرده بالذكر
{ فِيهَا فَا ِكهَةٌ } أي :مختلفة اللوان والطعوم والروائح { ،وَالنّ ْ
لشرفه ونفعه ،رطبا ويابسا .والكمام -قال ابن جُرَيْج عن ابن عباس :هي أوعية الطلع .وهكذا
قال غير واحد من المفسرين ،وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود ،فيكون بسرا ثم
رطبا ،ثم ينضج ويتناهى يَ ْنعُه واستواؤه.
قال ابن أبي حاتم (ُ )3ذكِرَ عن عمرو بن علي الصيرفي :حدثنا أبو قتيبة ،حدثنا يونس بن
الحارث الطائفي ،عن الشعبي قال :كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب :أخبرك أن رسلي أتتني
من قبلك ،فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير ،تخرج مثل آذان الحمير ،ثم
تشقق مثل اللؤلؤ ،ثم تخضر فتكون مثل الزمرد ( )4الخضر ،ثم تحمر فتكون كالياقوت الحمر
،ثم تَيْنَع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج ُأكِل ،ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادًا للمسافر ،فإن
تكن رسلي صدقتني فل أرى هذه الشجرة إل من شجر الجنة .فكتب إليه عمر بن الخطاب ()5
من عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم ،إن رسلك قد صدقوك ( ، )6هذه الشجرة عندنا ،
وهي الشجرة التي أنبتها ال على مريم حين نفست بعيسى ابنها ،فاتق ال ول تتخذ عيسى إلها
حقّ مِنْ
من دون ال ،فإن { مَ َثلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ َكمَ َثلِ آ َدمَ خََلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ .الْ َ
رَ ّبكَ فَل َتكُنْ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [ آل عمران .)7( ] 60 ، 59 :
وقيل :الكمام رفاتها ،وهو :الليف الذي على عنق النخلة .وهو قول الحسن وقتادة.
صفِ }
حبّ ذُو ا ْل َع ْ
صفِ وَالرّ ْيحَانُ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { :وَالْ َ
حبّ ذُو ا ْل َع ْ
{ وَا ْل َ
يعني :التبن.
__________
( )1في م " :ليكون".
( )2زيادة من أ.
( )3في أ " :ابن جرير".
( )4في م " :كالرمد".
( )5في م " :عمر بن عبد ال".
( )6في م ،أ " :صدقتك".
( )7في م " :تكونن".
( )7/490
صفِ } ورق الزرع الخضر الذي قطع رؤوسه ،فهو
وقال ال َعوْفي ،عن ابن عباس { :ا ْل َع ْ
يسمى العصف إذا يبس .وكذا قال قتادة ،والضحاك ،وأبو مالك :عصفه :تبنه.
وقال ابن عباس ،ومجاهد ،وغير واحد { :والريحان } يعني :الورق.
وقال الحسن :هو ريحانكم هذا.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :والريحان } خضر ( )1الزرع.
ومعنى هذا -وال أعلم -أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف ،وهو :
ما على السنبلة ،وريحان ،وهو :الورق الملتف على ساقها.
وقيل :العصف :الورق أول ما ينبت الزرع بقل .والريحان :الورق ،يعني :إذا أدجن وانعقد
فيه الحب .كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة.
حبّ في الثّرى ...فَ ُيصْبِحَ منه البقلُ َيهْتَزّ رابيا?...
َوقُول له :من يُنْ ِبتُ ال َ
وَيُخْرجَ منْه حَبّه في رُؤوسه? ...فَفي ذاك آياتٌ ِلمَنْ كَانَ واعيا ()2
وقوله { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ } أي :فبأي اللء ( - )3يا معشر الثقلين ،من النس والجن
-تكذبان ؟ قاله مجاهد ،وغير واحد .ويدل عليه السياق بعده ،أي :ال ّنعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم
مغمورون بها ،ل تستطيعون إنكارها ول جحودها ( ، )4فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون :
"اللهم ،ول بشيء من آلئك ربنا نكذّب ،فلك الحمد" .وكان ابن عباس يقول " :ل بأيّها يا رب".
أي :ل نكذب بشيء منها.
قال المام أحمد :حدثنا يحيى بن إسحاق ،حدثنا ابن لهيعة ،عن أبي السود ،عن عُ ْروَة ،عن
أسماء بنت أبي بكر قالت :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يقرأ ،وهو يصلي نحو
الركن قبل أن يصدع بما يؤمر ،والمشركون يستمعون ( { )5فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } (.)6
__________
( )1في أ " :خضرة".
( )2انظر البيات في السيرة النبوية لبن هشام (.)1/228
( )3في م " :آلء".
( )4في م " :جحدها".
( )5في م " :يسمعون".
( )6المسند (.)6/349
( )7/491
( )7/492
ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ ( )17فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )18مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ ()19
َربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ
بَيْ َن ُهمَا بَرْزَخٌ لَا يَ ْبغِيَانِ ( )20فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )21يَخْرُجُ مِ ْن ُهمَا الّلؤُْل ُؤ وَا ْلمَرْجَانُ ()22
جوَارِ ا ْلمُنْشََآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( )24فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا
فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ ( )23وَلَهُ ا ْل َ
ُتكَذّبَانِ ()25
{ َربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ وَرَبّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ ( )17فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )18مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ ()19
خ ل يَ ْبغِيَانِ ( )20فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )21يَخْرُجُ مِ ْن ُهمَا الّلؤُْل ُؤ وَا ْلمَرْجَانُ ()22
بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ
جوَارِي ا ْلمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالعْلمِ ( )24فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )23وَلَهُ الْ َ
ُتكَذّبَانِ (.} )25
يذكر تعالى خلقه النسان من صلصال كالفخار ،وخلقه ( )1الجان من مارج من نار ،وهو :
طرف لهبها .قاله الضحاك ،عن ابن عباس .وبه يقول عكرمة ،ومجاهد ،والحسن ،وابن زيد.
وقال ال َعوْفي ،عن ابن عباس { :مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } من لهب النار ،من أحسنها.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } من خالص النار .وكذا قال
عكرمة ،ومجاهد ،والضحاك وغيرهم.
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا معمر ،عن الزهري ،عن عروة ،عن عائشة ،
قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :خلقت الملئكة من نور ،وخلق الجان من مارج
من نار ،وخلق آدم مما وصف لكم".
ورواه مسلم ،عن محمد بن رافع ،وعبد بن حميد ،كلهما عن عبد الرزاق ،به (.)2
وقوله { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ } تقدم تفسيره.
{ َربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ وَرَبّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ } يعني :مشرقي الصيف والشتاء ،ومغربي الصيف والشتاء.
سمُ بِ َربّ ا ْلمَشَارِقِ وَا ْل َمغَارِبِ } [ المعارج ، ] 40 :وذلك
وقال في الية الخرى { :فَل ُأقْ ِ
باختلف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم ،وبروزها منه إلى الناس .وقال في الية الخرى { :
َربّ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِبِ ل إِلَهَ إِل ُهوَ فَاتّخِ ْذ ُه َوكِيل } [ المزمل .] 9 :وهذا المراد منه جنس
المشارق والمغارب ،ولما كان في اختلف هذه المشارق والمغارب ،مصالح للخلق من الجن
والنس قال { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } ؟.
وقوله { :مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ } قال ابن عباس :أي أرسلهما.
وقوله { :يلتقيان } قال ابن زيد :أي :منعهما أن يلتقيا ،بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز
الفاصل بينهما.
والمراد بقوله { :البحرين } الملح والحلو ،فالحلو هذه النهار السارحة بين الناس .وقد قدمنا
الكلم على ذلك في سورة "الفرقان" عند قوله تعالى { :وَ ُهوَ الّذِي مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ َهذَا عَ ْذبٌ فُرَاتٌ
ج َعلَ بَيْ َن ُهمَا بَرْزَخًا َوحِجْرًا َمحْجُورًا } [ الفرقان .] 53 :وقد اختار ابن جرير
ج وَ َ
وَهَذَا مِلْحٌ ُأجَا ٌ
هاهنا أن المراد بالبحرين :بحر السماء وبحر الرض ،وهو مروي عن مجاهد ،وسعيد بن
جبير ،وعطية وابن أبْزَى.
قال ابن جرير :لن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء ،وأصداف ( )3بحر الرض ( .)4وهذا وإن
كان هكذا ليس المراد [بذلك] ( )5ما ذهب إليه ،فإنه ل يساعده اللفظ ؛ فإنه تعالى قد قال :
{ بَيْ َن ُهمَا بَرْزَخٌ ل يَ ْبغِيَانِ } أي :وجعل بينهما برزخا ،وهو :الحاجز من الرض ،لئل يبغي
هذا على هذا ،وهذا على
__________
( )1في أ " :خلق".
( )2المسند ( )6/168وصحيح مسلم برقم (.)2996
( )3في م " :واختلف".
( )4تفسير الطبري (.)27/75
( )5زيادة من م ،أ.
( )7/492
هذا ،فيفسد كل واحد منهما الخر ،ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه .وما بين السماء
والرض ل يسمى برزخا وحجرا محجورا.
وقوله َ { :يخْرُجُ مِ ْن ُهمَا الّلؤُْلؤُ وَا ْلمَ ْرجَانُ } أي :من مجموعهما ،فإذا وجد ذلك لحدهما ( )1كفى
سلٌ مِ ْنكُمْ } [ النعام ] 130 :والرسل إنما
ن وَالنْسِ أَلَمْ يَأْ ِت ُكمْ رُ ُ
،كما قال تعالى { :يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
كانوا في النس خاصة دون الجن ،وقد صح هذا الطلق .واللؤلؤ معروف ،وأما المرجان فقيل
:هو صغار اللؤلؤ .قاله مجاهد ،وقتادة ،وأبو رزين ،والضحاك .وروي عن علي.
وقيل :كباره وجيده .حكاه ابن جرير عن بعض السلف .ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن ()2
أنس ،وحكاه عن السدي ،عمن حدثه ،عن ابن عباس .وروي مثله عن علي ،ومجاهد أيضا ،
ومرة الهمداني.
وقيل :هو نوع من الجواهر أحمر اللون .قال السدي ،عن أبي مالك ،عن مسروق ،عن عبد
ال قال :المرجان :الخرز الحمر .قال السدي وهو البُسّذ ( )3بالفارسية.
حمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْ ِرجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا } [ فاطر ، ] 12 :فاللحم
وأما قوله َ { :ومِنْ ُكلّ تَ ْأكُلُونَ َل ْ
من كل من الجاج والعذب ،والحلية ،إنما هي من الملح دون العذب.
قال ابن عباس :ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر ،فوقعت في صدفة إل صار منها
لؤلؤة .وكذا قال عكرمة ،وزاد :فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة .وروي من غير وجه
عن ابن عباس نحوه.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سنان ،حدثنا عبد الرحمن بن َمهْ ِديّ ،حدثنا سفيان ،عن
العمش ،عن عبد ال بن عبد ال ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :إذا أمطرت
السماء ،فتحت الصداف في البحر أفواهها ،فما وقع فيها -يعني :من قطر -فهو اللؤلؤ.
إسناده ( )4صحيح ،ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الرض ،امتن بها عليهم فقال (
{ : )5فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
جوَارِ ا ْلمُنْشَآتُ } يعني :السفن التي تجري في البحر ،قال مجاهد :ما رفع قلعه
وقوله { :وَلَهُ الْ َ
من السفن فهي منشأة ،وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة ،وقال قتادة { :المنشآت } يعني
المخلوقات .وقال غيره :المنشآت -بكسر الشين -يعني :البادئات.
{ كالعلم } أي :كالجبال في كبرها ،وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى
قطر ،وإقليم إلى إقليم ،مما فيه من صلح للناس في ( )6جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع
البضائع ؛ ولهذا قال [تعالى] ( { )7فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
__________
( )1في أ " :أحدهما".
( )2في أ " :عن".
( )3في م ،أ " :الكسد".
( )4في م " :إسناد".
( )5في م " :وقال".
( )6في م " :من".
( )7زيادة من أ.
( )7/493
قال العمش ،عن مجاهد ،عن عبيد بن عمير ُ { :كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ } ،قال :من شأنه أن
يجيب داعيا ،أو يعطي سائل أو يفك عانيا ،أو يشفي سقيما.
وقال ابن أبي نجيح ،عن مجاهد قال :كل يوم هو يجيب داعيا ،ويكشف كربا ،ويجيب
مضطرا ويغفر ذنبا.
وقال قتادة :ل يستغني عنه أهل السموات والرض ،يحيي حيا ،ويميت ميتا ،ويربي صغيرا ،
ويفك أسيرا ،وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ،ومنتهى شكواهم.
سوَيْد
حمْصيّ ،حدثنا حرير بن عثمان ،عن ُ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو اليمان ال ِ
بن جبلة -هو الفزاري -قال :إن ربكم كل يوم هو في شأن ،فيعتق رقابا ،ويعطي رغابا ،
ويقحم عقابا.
وقال ابن جرير :حدثني عبد ال بن محمد بن عمرو الغُزّي ،حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف
سكْسكي ( ، )1حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني ،عن
الفريابي ،حدثني عمرو بن بكر ال ّ
أبيه ،عن منيب بن عبد ال بن منيب الزدي ،عن أبيه قال :تل رسول ال صلى ال عليه وسلم
هذه الية ُ { :كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ } ،فقلنا :يا رسول ال ،وما ذاك الشأن ؟ قال " :أن يغفر ذنبا
،ويفرج كربا ،ويرفع قوما ،ويضع آخرين (.)3( " )2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا هشام بن عمار ،وسليمان بن أحمد الواسطي قال حدثنا
الوزير ( )4بن صَبِيح الثقفي أبو روح الدمشقي -والسياق لهشام -قال :سمعت يونس بن
ميسرة بن حَلْبَس ،يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال :
"قال ال عز وجل ُ { :كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ } قال " :من شأنه أن يغفر ذنبا ،ويفرج كربا ،ويرفع
قوما ،ويضع آخرين (.)6( " )5
وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة ،عن هشام بن عمار ،به .ثم ساقه من حديث أبي همام
الوليد بن شجاع ،عن الوزير بن صَبِيح قال :ودلنا عليه الوليد بن مسلم ،عن مُطرّف ،عن
الشعبي ،عن أم الدرداء ،عن أبي الدرداء ،عن النبي صلى ال عليه وسلم فذكره .قال :
والصحيح الول .يعني إسناده الول (.)7
قلت :وقد روي موقوفا ،كما ( )8علقه البخاري بصيغة الجزم ،فجعله من كلم أبي الدرداء (
، )9فال أعلم.
__________
( )1في م " :الشكسي".
( )2في أ " :قوما".
( )3تفسير الطبري ( )27/79ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )3401مجمع البحرين"
والبزار في مسنده برقم (" )2266كشف الستار" من طريق عمرو بن بكر السكسكي -وهو
متروك -عن الحارث بن عبدة به.
( )4في م " :أبو رزين".
( )5في أ :قوما".
( )6رواه ابن ماجه برقم ( )202من طريق هشام بن عمار به.
قال البوصيري في الزوائد (" : )1/88هذا إسناد حسن لتقاصر الوزير عن درجة الحفظ والتقان".
( )7تاريخ دمشق (" )17/771القسم المخطوط").
( )8في م ،أ " :وقد".
( )9صحيح البخاري (" )8/620فتح" ،ورواه البيهقي في شعب اليمان موصول برقم ()1102
من طريق إسماعيل بن عبد ال عن أم الدرداء عن أبي الدرداء موقوفا.
( )7/495
وقال البزار :حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا محمد بن الحارث ،حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن
البيلماني ،عن أبيه عن ابن عمر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ُ { :كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ } ،
قال " :يغفر ذنبا ،ويكشف كربا" (.)1
ثم قال ابن جرير :وحدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عبيد ال بن موسى ،عن أبي حمزة الّثمَالي ،عن
سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن عباس ،أن ال خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء ،دفّتاه ياقوتة حمراء
،قلمه نور ،وكتابه نور ،عرضه ما بين السماء والرض ،ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين
نظرة ،يخلق في كل نظرة ،ويحيي ويميت ،ويعز ويذل ،ويفعل ما يشاء (.)2
طعْتُمْ
ن وَالنْسِ إِنِ اسْ َت َ
{ سَ َنفْرُغُ َلكُمْ أَ ّيهَا ال ّثقَلنِ ( )31فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )32يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
س َموَاتِ وَال ْرضِ فَا ْنفُذُوا ل تَ ْنفُذُونَ إِل بِسُ ْلطَانٍ ( )33فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأقْطَارِ ال ّ
شوَاظٌ مِنْ نَا ٍر وَنُحَاسٌ فَل تَنْ َتصِرَانِ ( )35فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ (
علَ ْي ُكمَا ُ
سلُ َ
ُتكَذّبَانِ ( )34يُ ْر َ
.} )36
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله { :سَ َنفْرُغُ َلكُمْ أَ ّيهَا ال ّثقَلنِ } ،قال :وعيد من
ال للعباد ،وليس بال شغل وهو فارغ .وكذا قال الضحاك :هذا وعيد .وقال قتادة :قد دنا من
ال فراغ لخلقه .وقال ابن جريج { :سَ َنفْ ُرغُ َلكُمْ } أي :سنقضي لكم.
وقال البخاري :سنحاسبكم ( ، )3ل يشغله شيء عن شيء ،وهو معروف في كلم العرب ،
يقال ( )4لتفرغن لك" وما به شغل ،يقول " :لخذنك على غِرّتك (." )5
وقوله { :أَ ّيهَا ال ّثقَلنِ } الثقلن :النس والجن ،كما جاء في الصحيح " :يسمعها كل شيء إل
الثقلين" وفي رواية " :إل الجن والنس" .وفي حديث الصور " :الثقلن النس والجن" { فَبَِأيّ آلءِ
رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
ت وَالرْضِ فَا ْنفُذُوا ل
س َموَا ِ
طعْتُمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ
ن وَالنْسِ إِنِ اسْ َت َ
ثم قال { :يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
تَ ْنفُذُونَ إِل ِبسُلْطَانٍ } أي :ل تستطيعون هربا من أمر ال وقدره ،بل هو محيط بكم ،ل تقدرون
على التخلص من حكمه ،ول النفوذ عن حكمه فيكم ،أينما ذهبتم أحيط بكم ،وهذا في مقام
المحشر ،الملئكة محدقة بالخلئق ،سبع صفوف من كل جانب ،فل يقدر أحد على الذهاب
سلْطَانٍ } أي :إل بأمر ال َ { ،يقُولُ النْسَانُ َي ْومَئِذٍ أَيْنَ ا ْل َمفَرّ .كَل ل وَزَرَ .إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ
{ إِل بِ ُ
ا ْلمُسْ َتقَرّ } [ القيامة .] 12 - 10 :وقال تعالى { :وَالّذِينَ كَسَبُوا السّيّئَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ ِبمِثِْلهَا
طعًا مِنَ اللّ ْيلِ ُمظِْلمًا أُولَ ِئكَ
ت وُجُو ُه ُهمْ قِ َ
وَتَرْ َهقُهُمْ ذِلّةٌ مَا َلهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَ ّنمَا أُغْشِ َي ْ
َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس ] 27 :
__________
( )1مسند البزار برقم (" )2268كشف الستار" .قال ابن حجر " :البيلماني ضعيف".
( )2تفسير الطبري (.)27/79
( )3في م " :سيحاسبكم".
( )4في أ " :يقول".
( )5في م " :غرة".
( )7/496
( )7/497
سمَاءُ َفكَا َنتْ وَ ْر َدةً كَالدّهَانِ ( )37فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )38فَ َي ْومَئِذٍ لَا يُسَْألُ عَنْ
شقّتِ ال ّ
فَإِذَا ا ْن َ
س وَلَا جَانّ ( )39فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ()40
ذَنْبِهِ إِنْ ٌ
( )7/498
جهَنّمُ
ُيعْ َرفُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ ِبسِيمَاهُمْ فَ ُي ْؤخَذُ بِال ّنوَاصِي وَالَْأ ْقدَامِ ( )41فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )42هَ ِذهِ َ
حمِيمٍ آَنٍ ( )44فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ()45
الّتِي ُيكَ ّذبُ ِبهَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ ( )43يَطُوفُونَ بَيْ َنهَا وَبَيْنَ َ
خذُ بِال ّنوَاصِي وَالقْدَامِ ( )41فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )42هَ ِذهِ
{ ُيعْ َرفُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ بِسِيمَا ُهمْ فَ ُيؤْ َ
حمِيمٍ آنٍ ( )44فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ
جهَنّمُ الّتِي ُيكَ ّذبُ ِبهَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ ( )43يَطُوفُونَ بَيْ َنهَا وَبَيْنَ َ
َ
(.} )45
سمَاءُ } يوم القيامة ،كما دلت عليه هذه الية مع ما شاكلها من
ش ّقتِ ال ّ
يقول [تعالى] ( { : )1فَإِذَا انْ َ
سمَاءُ َف ِهيَ َي ْومَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [ الحاقة ، ] 16 :
شقّتِ ال ّ
اليات الواردة في معناها ،كقوله { :وَانْ َ
سمَاءُ بِا ْل َغمَا ِم وَنزلَ ا ْلمَل ِئكَةُ تَنزيل } [ الفرقان ، ] 25 :وقوله ِ { :إذَا
شقّقُ ال ّ
وقوله { :وَ َيوْمَ تَ َ
ح ّقتْ } [ النشقاق .] 2 ، 1 :
ش ّقتْ .وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
سمَاءُ انْ َ
ال ّ
ت وَرْ َدةً كَالدّهَانِ } أي :تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك ،وتتلون كما
وقوله َ { :فكَا َن ْ
تتلون الصباغ التي يدهن بها ،فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء ،وذلك من شدة المر
وهول يوم القيامة العظيم .وقد قال المام أحمد :
حدثنا أحمد بن عبد الملك ،حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء ،حدثنا نافع أبو غالب الباهلي ،
حدثنا أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يبعث الناس يوم القيامة والسماء
تَطِش عليهم" (.)2
قال الجوهري :الطش :المطر الضعيف.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس في قوله { :وَرْ َدةً كَالدّهَانِ } ،قال :هو الديم الحمر .وقال أبو
كُدَيْنة ،عن قابوس ،عن أبيه ،عن ابن عباس َ { :فكَا َنتْ وَرْ َدةً كَالدّهَانِ } :كالفرس الورد .وقال
العوفي ،عن ابن عباس :تغير لونها .وقال أبو صالح :كالبِرْذَون الورد ،ثم كانت بعد كالدهان.
وحكى ال َبغَوي وغيره :أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء ،وفي الشتاء حمراء ،فإذا
اشتد البرد اغْبَ ّر لونها.
وقال الحسن البصري :تكون ألوانا .وقال السدي .تكون كلون البغلة الوردة ،وتكون كالمهل
كدردي الزيت .وقال مجاهد { :كَالدّهَان } :كألوان الدهان .وقال عطاء الخراساني :كلون دُهْن
الوَرْد في الصفرة .وقال قتادة :هي اليوم خضراء ،ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان.
وقال أبو الجوزاء :
__________
( )1زيادة من م.
( )2المسند (.)3/226
( )7/498
في صفاء الدهن .وقال [أبو صالح] ( )1بن جريج :تصير السماء كالدهن الذائب ،وذلك حين
يُصيبها حر جهنم.
طقُونَ .وَل
وقوله { :فَ َي ْومَئِذٍ ل يُسَْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَل جَانّ } ،وهذه كقوله َ { :هذَا َيوْمُ ل يَنْ ِ
ُيؤْذَنُ َلهُمْ فَ َيعْ َتذِرُونَ } [ المرسلت ، ] 36 ، 35 :فهذا في حال ،وثَمّ حال يسأل الخلئق فيها
عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } [ الحجر :
ج َمعِينََ .
عن جميع أعمالهم ،قال ال تعالى َ { :فوَرَ ّبكَ لَنَسْأَلَ ّن ُهمْ أَ ْ
س وَل جَانّ } ،قال :قد كانت
] 93 ، 92؛ ولهذه قال قتادة { :فَ َي ْومَئِذٍ ل يُسَْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إِ ْن ٌ
مسألة ،ثم ختم على أفواه القوم ،وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :ل يسألهم :هل عملتم كذا وكذا ؟ لنه أعلم بذلك
منهم ،ولكن يقول :لم عملتم كذا وكذا ؟ فهو قول ثان.
وقال مجاهد في هذه الية :ل يسأل الملئكة عن المجرم ُ ،يعْ َرفُون بسيماهم.
وهذا قول ( )2ثالث .وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار ،فذلك الوقت ل يسألون عن ذنوبهم ،
بل يقادون إليها ( )3ويلقون فيها ،كما قال تعالى ُ { :يعْ َرفُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي :بعلمات
تظهر عليهم.
وقال الحسن وقتادة :يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.
قلت :وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
خذُ بِال ّنوَاصِي وَالقْدَامِ } أي :تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ،ويلقونه في النار
وقوله { :فَ ُيؤْ َ
كذلك.
وقال العمش عن ابن عباس :يؤخذ بناصيته وقدمه ( ، )4فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.
وقال الضحاك :يجمع بين ناصيته وقدميه ( )5في سلسلة من وراء ظهره.
وقال السدي :يجمع بين ناصية الكافر وقدميه ،فتربط ناصيته بقدمه ،ويُفتل ظهره.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ،حدثنا معاوية بن سلم ،عن
أخيه زيد بن سلم أنه سمع أبا سلم -يعني جده -أخبرني عبد الرحمن ،حدثني رجل من كندة
قال :أتيت عائشة فدخلت عليها ،وبيني وبينها حجاب ،فقلت :حدثك رسول ال صلى ال عليه
وسلم أنه يأتي عليه ساعة ل يملك لحد فيها شفاعة ؟ قالت :نعم ،لقد سألته عن هذا وأنا وهو
شعَار واحد ،قال " :نعم حين يوضع الصراط ،ول أملك لحد فيها شفاعة ،حتى أعلم أين
في ِ
يسلك بي ؟ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه ،حتى أنظر ماذا يفعل بي -أو قال :يوحى -وعند
الجسر حين يستحد ويستحر" فقالت :وما يستحد وما يستحر ؟ قال " :يستحد حتى يكون مثل شفرة
السيف ،ويستحر حتى يكون
__________
( )1زيادة من أ.
( )2في م " :جواب".
( )3في م " :إلى النار".
( )4في أ " :قدميه".
( )5في أ " :قدمه".
( )7/499
وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ ( )46فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ (َ )47ذوَاتَا َأفْنَانٍ ( )48فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا
ُتكَذّبَانِ ( )49فِي ِهمَا عَيْنَانِ َتجْرِيَانِ ( )50فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )51فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َزوْجَانِ
( )52فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ()53
مثل الجمرة ،فأما المؤمن فيجيزه ل يضره ،وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من
قدمه فيهوي بيده إلى قدميه ،فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه ،فتقذفه في جهنم ،
فيهوي ( )1فيها مقدار خمسين عاما" .قلت :ما ثقل الرجل ؟ قالت :ثقل عشر خلفات سمان ،
فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والقدام.
سمّ ،ومثله ل يحتج
هذا حديث غريب [جدا] ( ، )2وفيه ألفاظ منكر رفعها ،وفي السناد من لم يُ َ
به ( ، )3وال أعلم.
جهَنّمُ الّتِي ُيكَ ّذبُ ِبهَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ } أي :هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها
وقوله َ { :ه ِذهِ َ
هي حاضرة تشاهدونها عيانًا ،يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.
حمِيمٍ آنٍ } أي :تارة يعذبون في الجحيم ،وتارة يسقون من الحميم
وقوله َ { :يطُوفُونَ بَيْ َنهَا وَبَيْنَ َ
،وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب ،يقطع المعاء والحشاء ،وهذه كقوله تعالى ِ { :إذِ
حمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ ُيسْجَرُونَ } [ غافر .] 72 ، 71 :
سلُ ُيسْحَبُونَ .فِي الْ َ
الغْللُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَالسّل ِ
وقوله { :آن } أي :حار وقد بلغ الغاية في الحرارة ،ل يستطاع من شدة ذلك.
حمِيمٍ آنٍ } قد انتهى غلْيه ،واشتد حرّه .وكذا قال
قال ابن عباس في قوله { :يَطُوفُونَ بَيْ َنهَا وَبَيْنَ َ
مجاهد ،وسعيد بن جبير ،والضحاك ،والحسن ،والثوري ،والسدي.
وقال قتادة :قد أنَى طبخه منذ خلق ال السموات والرض .وقال محمد بن كعب القرظي :يؤخذ
العبد فيح ّركُ بناصيته في ذلك الحميم ،حتى يذوب ( )4اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس.
سجَرُونَ } .والحميم الن :يعني الحار.
حمِيمِ ُثمّ فِي النّارِ يُ ْ
وهي كالتي يقول ال تعالى { :فِي ا ْل َ
حمِيمٍ آنٍ } أي :حاضر .وهو قول ابن زيد أيضا ،والحاضر ،
وعن القرظي رواية أخرى َ { :
سقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية :
ل ينافي ما روي عن القرظي أول أنه الحار ،كقوله تعالى { :تُ ْ
] 5أي حارة شديدة الحر ل تستطاع .وكقوله { :غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الحزاب ] 53 :يعني :
حمِيمٍ آنٍ } أي :حميم حار جدا .ولما كان معاقبة العصاة ()5
استواءه ونضجه .فقوله َ { :
المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه ،وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه
مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك ،قال ممتنا بذلك على بريته { :فَبَِأيّ
آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
{ وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ ( )46فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ (َ )47ذوَاتَا َأفْنَانٍ ( )48فَبَِأيّ آلءِ
رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )49فِي ِهمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( )50فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )51فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ
َزوْجَانِ ( )52فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ (.} )53
__________
( )1في م " :فهوى".
( )2زيادة من م.
( )3رواه عبد الرزاق في المصنف كما في الدر المنثور ( )7/704عن رجل من كنده بنحوه.
( )4في م " :حتى تذوب".
( )5في أ " :العاصين".
( )7/500
شوْذب ،وعطاء الخراساني :نزلت هذه الية { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } في أبي
قال ابن َ
بكر الصديق.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن مصفى ،حدثنا بَقيّة ،عن أبي بكر بن أبي مريم
،عن عطية بن قيس في قوله { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } :نزلت في الذي قال :أحرقوني
بالنار ،لعلي أضل ال ،قال :تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا ،فقبل ال منه وأدخله الجنة.
والصحيح أن هذه الية عامة كما قاله ابن عباس وغيره ،يقول تعالى :ولمن خاف مقامه بين
يدي ال ،عز وجل ،يوم القيامة { ،وَ َنهَى ال ّنفْسَ عَنِ ا ْل َهوَى } [ النازعات ، ] 40 :ولم يطغ ،
ول آثر الدنيا ،وعلم أن الخرة خير وأبقى ،فأدى فرائض ال ،واجتنب محارمه ،فله يوم
القيامة عند ربه جنتان ،كما قال البخاري ،رحمه ال.
عمْران
حدثنا عبد ال بن أبي السود ،حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ال َعمّي ،حدثنا أبو ِ
جوْني ،عن أبي بكر بن عبد ال بن قيس ،عن أبيه ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
ال َ
"جنتان من فضة ،آنيتهما وما فيهما ،وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ،وما بين القوم وبين
أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إل رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
وأخرجه بقية الجماعة إل أبا داود ،من حديث عبد العزيز ،به (.)1
وقال حماد بن سلمة ،عن ثابت ،عن أبي بكر بن أبي موسى ،عن أبيه -قال حماد :ول أعلمه
إل قد رفعه -في قوله تعالى { :وَِلمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } ،وفي قوله َ { :ومِنْ دُو ِنهِمَا
جَنّتَانِ } [قال ] )2( :جنتان من ذهب للمقربين ،وجنتان من ورِق لصحاب اليمين.
وقال ابن جرير :حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ( ، )3حدثنا ابن أبي مريم ،أخبرنا
محمد بن جعفر ،عن محمد بن أبي حَ ْرمَلَة ،عن عطاء بن يَسَار ،أخبرني أبو الدرداء ؛ أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ يوما هذه الية { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } ،فقلت :
وإن زنى أو سرق ؟ فقال { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } ،فقلت :وإن زنى وإن سرق ؟ فقال
{ :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } .فقلت :وإن زنى وإن سرق يا رسول ال ؟ فقال " :وإن رغم
أنف أبي الدرداء".
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَ ْرمَلَة ،به ( )4ورواه النسائي أيضا عن مؤمّل ( )5بن
هشام ،عن إسماعيل ،عن الجُرَيري ،عن موسى ،عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ،عن أبي
الدرداء ،به ( .)6وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء .وروي عنه أنه قال :إن من خاف مقام
ربه لم يزْنِ
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4878وصحيح مسلم برقم ( )180وسنن الترمذي برقم ()2528
والنسائي في السنن الكبرى برقم ( )7765وسنن ابن ماجه برقم (.)186
( )2زيادة من أ.
( )3في م " :المقري".
( )4تفسير الطبري (" )5/490ط .المعارف" ،والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11560
( )5في أ " :موسى".
( )6النسائي في السنن الكبرى برقم (.)11561
( )7/501
ولم يسرق.
وهذه الية عامة في النس والجن ،فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا
واتقوا ؛ ولهذا امتن ال تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ .فَبَِأيّ
آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
ثم نعت هاتين الجنتين فقال َ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } أي :أغصان َنضِرَة حسنة ،تحمل من كل ثمرة
نضيجة فائقة { ،فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ } .هكذا ( )1قال عطاء الخراساني وجماعة :إن الفنان
أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عمرو بن علي ،حدثنا مسلم بن قتيبة ،حدثنا عبد ال بن
النعمان ،سمعت عكرمة يقول َ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } ،يقول :ظِل الغصان على الحيطان ،ألم تسمع
قول الشاعر حيث يقول :
حمَاما...
حمَامَةٍ ...تَدْعُو على فَنَن ال ُغصُون َ
ما هاجَ شَو َقكَ من هَديل َ
تَدْعُو أبا فَ ْرخَين صادف طاويا ...ذا مخلبين من الصقور قَطاما ()2
وحكى البغوي ،عن مجاهد ،وعكرمة ،والضحاك ،والكلبي :أنه الغصن المستقيم ([ )3طوال]
(.)4
قال :وحدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا عبد السلم بن حرب ،حدثنا عطاء بن السائب ،عن سعيد
بن جبير ،عن ابن عباس َ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } :ذواتا ألوان.
خصَيف ،والنضر بن عربي
قال :و [قد] ( )5روي عن سعيد بن جبير ،والحسن ،والسدي ،و ُ
( ، )6وأبي سِنَان مثل ذلك .ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملذ ،واختاره ابن جرير.
وقال عطاء :كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة ،وقال الربيع بن أنس َ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } :واسعتا
الفناء.
وكل هذه القوال صحيحة ،ول منافاة بينها ،وال أعلم .وقال قتادة َ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } ينبئ بسعتها
وفضلها ( )7ومزيتها على ما سواها.
وقال محمد بن إسحاق ،عن يحيى بن عباد بن عبد ال بن الزبير ،عن أبيه ،عن أسماء ()8
قالت :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم -وذكر سدرة المنتهى -فقال " :يسير في ظل
الفَنَن منها الراكب مائة سنة -أو قال :يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب -فيها فراش
الذهب ،كأن ثمرها القِلل".
__________
( )1في أ " :وكذا".
( )2رواه عبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر بن حيان في الفنون وابن النباري في الوقف
والبتداء كما في الدر المنثور (.)7/709
( )3في م " :الغصن المنيف طول".
( )4زيادة من أ.
( )5زيادة من م.
( )6في أ " :عدي".
( )7في م " :بفضلها وسعتها".
( )8في م " :أسماء بنت يزيد" ،وفي ا " :أسماء بنت أبي بكر".
( )7/502
( )7/503
وقال سفيان الثوري -أو شريك : -بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد.
وقال القاسم بن محمد ( : )1بطائنها من إستبرق ،وظواهرها من الرحمة.
شوْذَب ،عن أبي عبد ال الشامي :ذكر ال البطائن ولم يذكر الظواهر ،وعلى
وقال ابن َ
الظواهر المحابس ،ول يعلم ما تحت المحابس إل ال .ذكر ذلك كله المام ابن أبي حاتم.
{ وَجَنَى ا ْلجَنّتَيْنِ دَانٍ } أي :ثمرها قريب إليهم ،متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا ،كما
قال ُ { :قطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة ، ] 23 :وقال { :وَدَانِيَةً عَلَ ْيهِمْ ظِلُلهَا وَذُلَّلتْ قُطُو ُفهَا تَذْلِيل }
[ النسان ] 14 :أي :ل تمنع ممن تناولها ،بل تنحط إليه من أغصانها { ،فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
ُتكَذّبَانِ }.
ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك { :فِيهِنّ } أي :في الفرش { قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ } أي
غضيضات عن غير أزواجهن ،فل يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن .قاله ابن عباس ،
وقتادة ،وعطاء الخراساني ،وابن زيد.
وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها :وال ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ،ول في الجنة
شيئ أحب إلي منك ،فالحمد ل الذي جعلك لي وجعلني لك.
طمِ ْثهُنّ إِ ْنسٌ قَبَْلهُ ْم وَل جَانّ } أي :بل هن أبكار عرب أتراب ،لم يطأهن أحد قبل أزواجهن
{ َلمْ يَ ْ
من النس والجن .وهذه أيضا من الدلة على دخول مؤمني الجن الجنة.
ضمْ َرةُ بن حبيب :هل يدخل الجن الجنة ؟ قال :نعم ،وينكحون ،
قال أرطاة بن المنذر :سئل َ
طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْلهُ ْم وَل جَانّ .فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
للجن جنيات ،وللنس إنسيات .وذلك قوله َ { :لمْ يَ ْ
ُتكَذّبَانِ }.
ت وَا ْلمَرْجَانُ } ،قال مجاهد ،والحسن [ ،والسدي] (، )2
ثم قال ينعتهن للخطاب { :كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُو ُ
وابن زيد ،وغيرهم :في صفاء الياقوت وبياض المرجان ،فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ.
حمَيْد ،عن عطاء بن
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن حاتم ،حدثنا عُبِيدة بن ُ
السائب ،عن عمرو بن ميمون الودي ( ، )3عن عبد ال بن مسعود ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير (
، )4حتى يرى مخها ،وذلك أن ال تعالى يقول { :كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُوتُ وَا ْلمَرْجَانُ } ،فأما الياقوت
فإنه حَجَرٌ لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه".
وهكذا رواه الترمذي من حديث عُبَ ْيدَة بن حميد وأبي الحوص ،عن عطاء بن السائب ،به (.)5
ورواه موقوفا ،ثم قال :وهو أصح (.)6
__________
( )1في م " :مخيمر".
( )2زيادة من م.
( )3في أ " :الزدي".
( )4في م " :حرير".
( )5سنن الترمذي برقم (.)2533
( )6سنن الترمذي برقم (.)2534
( )7/504
وقال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا حماد بن سلمة ،أخبرنا يونس ،عن محمد بن سِيرِين ،
عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور
العين ،على كل واحدة سبعون حلة ،يُرى مخ ساقها من وراء الثياب".
تفرد به المام أحمد من هذا الوجه ( .)1وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن عُلَيّة ،عن
أيوب ،عن محمد بن سيرين قال :إما تفاخروا وإما تذكروا ،الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟
فقال أبو هريرة :أو لم يقل أبو القاسم صلى ال عليه وسلم " :إن أول زمرة تدخل الجنة على
ضوَأ كوكب دُرّي في السماء ،لكل امرئ منهم
صورة القمر ليلة البدر ،والتي تليها على أ ْ
زوجتان اثنتان ،يُرَى مخ سوقهما من وراء اللحم ،وما في الجنة أعزب" (.)2
وهذا الحديث ُمخَرّجٌ في الصحيحين ،من حديث َهمّام بن مُنَبّه وأبي زُرْعَة ،عن أبي هريرة
رضي ال عنه (.)3
وقال المام أحمد :حدثنا أبو النضر ،حدثنا محمد بن طلحة ،عن حميد عن أنس ؛ أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال َ" :لغَ ْد َوةٌ في سبيل ال أو روحة خير من الدنيا وما فيها ،وََلقَابُ
قوس أحدكم -أو موضع قيده ( - )4يعني :سوطه -من الجنة خير من الدنيا وما فيها ،ولو
اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الرض لملت ما بينهما ريحا ،ولطاب ما بينهما ،
ول َنصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق ،عن حميد ،عن أنس بنحوه (.)5
وقوله َ { :هلْ جَزَا ُء الحْسَانِ إِل الحْسَانُ } أي :ما لمن أحسن في الدنيا العمل ( )6إل الحسان
حسْنَى وَزِيَا َدةٌ } [ يونس .] 26 :
حسَنُوا الْ ُ
إليه في الدار الخرة .كما قال تعالى { :لِلّذِينَ أَ ْ
جوَيه ،
وقال البغوي :أخبرنا أبو سعيد الشّريحِي ،حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ،أخبرني ابن فَن ُ
حدثنا ابن شيبة ،حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن َبهْرَام ،حدثنا الحجاج بن يوسف ال ُمكْتَب ،حدثنا
ع ِديّ ،عن أنس بن مالك قال :قرأ رسول ال صلى ال عليه
بِشْر بن الحسين ،عن الزبير بن َ
حسَانِ إِل الحْسَانُ } ،قال " :هل تدرون ما قال ربكم ؟" قالوا :ال
وسلم َ { :هلْ جَزَاءُ ال ْ
ورسوله أعلم .قال " :يقول هل جزاء ما أنعمت عليه بالتوحيد إل الجنة" (.)7
ولما كان في الذي ُذكِرَ نعم عظيمة ل يقاومها عمل ،بل مجرد تفضل وامتنان ،قال بعد ذلك كله
{ :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
__________
( )1المسند (.)2/345
( )2صحيح مسلم برقم (.)2834
( )3صحيح البخاري برقم ( )3245وصحيح مسلم برقم (.)2834
( )4في م " :قده" وفي أ " :قدمه".
( )5المسند ( )3/141وصحيح البخاري برقم (.)2796
( )6في م " :العمل في الدنيا".
( )7معالم التنزيل للبغوي ( )7/456وفيه بشر الصبهاني يروي عن الزبير بن عدي عن أنس
بنسخة موضوعة.
( )7/505
َومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ ( )62فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )63مُدْهَامّتَانِ ( )64فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ (
)65فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ ( )66فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ()67
ومما يتعلق بقوله تعالى { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } ،ما رواه الترمذي والبغوي ،من
حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ،عن أبي عقيل الثقفي ،عن أبي فروة يزيد بن سِنان الرّهاوي
،عن ُبكَيْر ابن فيروز ( ، )1عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من
خاف أدلج ،ومن أدلج بلغ المنزل ،أل إن سلعة ال غالية ،أل إن سلعة ال الجنة".
ثم قال الترمذي :غريب ،ل نعرفه إل من حديث أبي النضر (.)2
وروى البغوي من حديث علي بن حُجْر ،عن إسماعيل بن جعفر ،عن محمد بن أبي حَ ْرمَلَة -
مولى حويطب بن عبد العزى -عن عطاء بن يَسَار ،عن أبي الدرداء ؛ أنه سمع رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } ،قلت :وإن
زنى وإن سرق يا رسول ال ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { :وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ
جَنّتَانِ } .فقلت الثانية :وإن زنى وإن سرق يا رسول ال ؟ فقال [رسول ال صلى ال عليه وسلم]
( { )3وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } .فقلت الثالثة :وإن زنى وإن سرق يا رسول ال ؟ فقال :
"وإن ،رغم أنف أبي الدرداء" (.)4
{ َومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ ( )62فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )63مُدْهَامّتَانِ ( )64فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ
( )65فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ ( )66فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ (.} )67
__________
( )1في أ " :فيروز الديلمي".
( )2سنن الترمذي برقم ( )2450وتفسير البغوي (.)7/451
( )3زيادة من م ،أ.
( )4معالم التنزيل للبغوي (.)7/452
( )7/506
خلٌ وَ ُرمّانٌ ( )68فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )69فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( )70فَبَِأيّ آَلَاءِ
فِي ِهمَا فَا ِكهَةٌ وَنَ ْ
طمِ ْثهُنّ
رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )71حُورٌ َم ْقصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( )72فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )73لَمْ َي ْ
خضْ ٍر وَعَ ْبقَ ِريّ
إِنْسٌ قَبَْلهُمْ وَلَا جَانّ ( )74فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )75مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ
ل وَالِْإكْرَامِ ()78
سمُ رَ ّبكَ ذِي ا ْلجَلَا ِ
حسَانٍ ( )76فَبَِأيّ آَلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )77تَبَا َركَ ا ْ
ِ
ل وَ ُرمّانٌ ( )68فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )69فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( )70فَبَِأيّ
خٌ{ فِي ِهمَا فَا ِكهَ ٌة وَنَ ْ
آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )71حُورٌ مَ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ ( )72فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )73لَمْ
خضْرٍ
طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْل ُه ْم وَل جَانّ ( )74فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )75مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ
يَ ْ
ل وَالكْرَامِ (
حسَانٍ ( )76فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ ( )77تَبَا َركَ اسْمُ رَ ّبكَ ذِي الْجَل ِ
وَعَبْقَ ِريّ ِ
.} )78
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ،قال ال تعالى :
{ َومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ }.
وقد تقدم في الحديث " :جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ،وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ،
فالوليان ( )1للمقربين ،والخريان ( )2لصحاب اليمين".
__________
( )1في م " :فالولتان".
( )2في م " :والخيرتان".
( )7/506
وقال أبو موسى :جنتان من ذهب للمقربين ،وجنتان من فضة لصحاب اليمين.
وقال ابن عباس َ { :ومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ } من دونهما في الدرج .وقال ابن زيد :من دونهما في
الفضل.
والدليل على شرف الوليين على الخريين وجوه :أحدها :أنه نعت الولين قبل هاتين ،والتقديم
يدل على العتناء ثم قال َ { :ومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ } .وهذا ظاهر في شرف التقدم ( )1وعلوه على
الثاني.
وقال هناك َ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } :وهي الغصان أو الفنون في الملذ ،وقال هاهنا { :مُدْهَامّتَان }
أي سوداوان من شدة الري.
قال ابن عباس في قوله { :مُدْهَامّتَان } قد اسودتا من الخضرة ،من شدة الري من الماء.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا ابن ُفضَيْل ،حدثنا عطاء بن السائب ،عن
سعيد بن جبير ،عن ابن عباس { :مُدْهَامّتَان } :قال :خضراوان .ورُوي عن أبي أيوب
النصاري ،وعبد ال بن الزبير ،وعبد ال بن أبي َأ ْوفَى ،وعكرمة ،وسعيد بن جُبَير ،ومجاهد
-في إحدى الروايات -وعطاء ،وعطية ال َعوْفي ،والحسن البصري ،ويحيى بن رافع ،
وسفيان الثوري ،نحو ذلك.
وقال محمد بن كعب { :مُ ْدهَامّتَان } :ممتلئتان من الخضرة .وقال قتادة :خضراوان من الري
ناعمتان .ول شك في نضارة الغصان على الشجار المشبكة بعضها في بعض .وقال هناك :
{ فِي ِهمَا عَيْنَانِ َتجْرِيَانِ } ،وقال هاهنا َ { :نضّاخَتَان } ،وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس
:أي فياضتان .والجري أقوى من النضخ.
وقال الضحاك َ { :نضّاخَتَان } أي ممتلئتان ل تنقطعان.
ل وَ ُرمّانٌ } ،ول
خٌوقال هناك { :فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َزوْجَانِ } ،وقال هاهنا { :فِي ِهمَا فَا ِكهَ ٌة وَنَ ْ
شك أن الولى أعم وأكثر في الفراد والتنويع على فاكهة ،وهي نكرة في سياق الثبات ل تعم ؛
ل وَ ُرمّانٌ } من باب عطف الخاص على العام ،كما قرره البخاري
خٌولهذا فسر قوله { :وَنَ ْ
وغيره ،وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما.
قال عبد بن حميد :حدثنا يحيى بن عبد الحميد ،حدثنا حصين بن عمر ،حدثنا مخارق ،عن
طارق بن شهاب ،عن عمر بن الخطاب قال :جاء أناس من اليهود إلى رسول ال صلى ال
عليه وسلم فقالوا :يا محمد ،أفي ( )2الجنة فاكهة ؟ قال " :نعم ،فيها فاكهة ونخل ورمان" .قالوا
:أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال " :نعم وأضعاف" .قالوا :فيقضون الحوائج ؟ قال " :ل
ولكنهم يعرقون ويرشحون ،فيذهب ال ما في بطونهم من أذى" (.)3
__________
( )1في أ " :التقديم".
( )2في م " :في".
( )3المنتخب برقم ( )35وفيه حصين بن عمر وهو متروك.
( )7/507
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي حدثنا الفَضْل بن ُدكَيْن ،حدثنا سفيان ،عن حماد ،عن سعيد بن
طعَاتهم ،ومنها
جُبَير ،عن ابن عباس قال :نخل الجنة سعفها كسوة لهل الجنة ،منها ُمقَ ّ
حُلَلهم ،وكَرَبُها ذهب أحمر ،وجذوعها زمرد أخضر ،وثمرها أحلى من العسل ،وألين من
الزبد ،وليس له عجم.
وحدثنا أبي :حدثنا موسى بن إسماعيل ،حدثنا حماد -هو ابن سلمة -عن أبي هارون ،عن
أبي سعيد الخدري ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :نظرت إلى الجنة فإذا الرّمانة من
رمانها كمثل البعير ال ُمقْتَب" (.)1
ثم قال { :فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } قيل :المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة ،قاله قتادة .وقيل :
خيرات جمع خيرة ،وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه ،قاله الجمهور .وروي
مرفوعا عن أم سلمة ( .)2وفي الحديث الخر الذي سنورده في سورة "الواقعة" ( : )3أن الحور
العين يغنين :نحن الخيرات الحسان ،خلقنا لزواج كرام .ولهذا قرأ بعضهم " :فيهن خَيّرات" ،
حسَانٌ .فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
بالتشديد { ِ
ثم قال { :حُورٌ َم ْقصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ،وهناك قال { :فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ } ،ول شك أن
التي قد َقصَرَت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت ،وإن كان الجميع مخدرات.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا عمرو بن عبد ال الودي ،حدثنا وكيع ،عن سفيان ،عن جابر ،عن
القاسم بن أبي بزّة ،عن أبي عبيدة ،عن مسروق ،عن عبد ال قال :إن لكل مسلم خَيرة ،
ولكل خَيرة خيمة ،ولكل خيمة أربعة أبواب ،يدخل عليها ( )4كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم
طمّاحات ،ول بخرات ول ذفرات ،حور عين ،كأنهن بيض
تكن قبل ذلك ،ل مَرّاحات ول َ
مكنون.
وقوله { :فِي ا ْلخِيَامِ } ،قال البخاري :
حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ،حدثنا أبو عمران الجوني ،عن أبي
بكر بن عبد ال بن قيس ،عن أبيه ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن في الجنة خيمة
من لؤلؤة مجوفة ،عرضها ستون ( )5ميل في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الخرين ،يطوف
عليهم المؤمنون".
ورواه أيضا من حديث أبي عمران ،به ( .)6وقال " :ثلثون ميل" .وأخرجه مسلم من حديث أبي
عمران ،به .ولفظه " :إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة ،طولها ستون ميل
__________
( )1رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الحياء ( )6/2787وابن عساكر في تاريخ دمشق
كما في تهذيبه ( )5/462من طريق أبي هارون العبدي به.
وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين كذبه بعض الئمة.
( )2رواه الطبراني في المعجم الكبير ( )23/367مطول وفيه سليمان بن أبي كريمة وهو
ضعيف.
( )3عند تفسير اليات 38 - 35من نفس السورة.
( )4في م " :عليهم".
( )5في أ " :سبعون".
( )6صحيح البخاري برقم (.)3243( ، )4879
( )7/508
للمؤمن فيها أهل ( )1يطوف عليهم المؤمن ،فل يرى بعضهم بعضا" (.)2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن أبي الربيع ،حدثنا عبد الرزّاق ،أخبرنا معمر ،عن
قتادة ،أخبرني خُلَيْد ال َعصَري ،عن أبي الدرداء قال :الخيمة لؤلؤة واحدة ،فيها سبعون بابا من
در.
وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة ،حدثنا جرير ،عن هشام ،عن محمد بن المثنى ،عن
ابن عباس في قوله { :حُورٌ َم ْقصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ،وقال [ :في] ( )3خيام اللؤلؤ ،وفي الجنة
خيمة واحدة من لؤلؤة ،أربع فراسخ في أربعة فراسخ ،عليها أربعة آلف مصراع من الذهب.
وقال عبد ال بن وهب :أخبرنا عمرو أن دَرّاجا أبا السّمح حدثه ،عن أبي الهيثم ،عن أبي سعيد
،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،قال " :أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم ،
واثنتان وسبعون زوجة ،وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ،كما بين الجابية وصنعاء".
ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث ،به (.)4
طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْلهُ ْم وَل جَانّ } [ :قد] ( )5تقدم مثله سواء ،إل أنه زاد في وصف
وقوله َ { :لمْ يَ ْ
ت وَا ْلمَرْجَانُ .فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ }.
الوائل بقوله { :كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُو ُ
خضْ ٍر وَعَ ْبقَرِيّ حِسَانٍ } :قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس
وقوله { :مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ
:الرفرف :المحابس .وكذا قال مجاهد ،وعكرمة ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،وغيرهما :
هي المحابس .وقال العلء بن بدر ( )6الرفرف على السرير ،كهيئة المحابس المتدلي.
خضْرٍ } يعني :الوسائد .وهو قول الحسن
وقال عاصم الجحدري { :مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ
البصري في رواية عنه.
وقال أبو داود الطيالسي ،عن شعبة ،عن أبي بشر ،عن سعيد بن جبير في قوله { :مُ ّتكِئِينَ
خضْرٍ } قال :الرفرف :رياض الجنة.
عَلَى َرفْ َرفٍ ُ
وقوله { :وَعَ ْبقَ ِريّ حِسَانٍ } :قال ابن عباس ،وقتادة ،والضحاك ،والسدي :العبقري :
الزرابي .وقال سعيد بن جبير :هي عتاق الزرابي ،يعني :جيادها.
وقال مجاهد :العبقري :الديباج.
حسَانٍ } فقال :هي بسط أهل الجنة -ل أبا لكم -
وسئل الحسن البصري عن قوله { :وَعَبْقَ ِريّ ِ
__________
( )1في م " :أهلون".
( )2صحيح مسلم برقم (.)2838
( )3زيادة من م.
( )4سنن الترمذي برقم ( )2562وقال " :هذا حديث غريب ل نعرفه إل من حديث رشدين" .ولم
يتفرد به رشدين بل تابعه ابن وهب كما هنا ،وفي إسناده دراج يروي عن أبي الهيثم مناكير.
( )5زيادة من م ،أ.
( )6في م " :زيد".
( )7/509
فاطلبوها .وعن الحسن [البصري] ( )1رواية :أنها المرافق .وقال زيد بن أسلم :العبقري :
أحمر وأصفر وأخضر .وسئل العلء بن زيد عن العبقري ،فقال :البسط أسفل من ذلك .وقال
أبو حَزْرَة ( )2يعقوب بن مجاهد :العبقري :من ثياب أهل الجنة ،ل يعرفه أحد .وقال أبو
خمَلة ،إلى الرقة ما هي .وقال القتيبي :كل ثوب ُموَشى عند
العالية :العبقري :الطنافس الم ْ
العرب عبقري .وقال أبو عبيدة :هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي .وقال الخليل بن أحمد :
كل شيء يسر ( )3من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا .ومنه قول النبي صلى ال
عليه وسلم في عمر " :فلم أر عبقريا يفري فريه" (.)4
وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة ؛ فإنه قد قال
علَى فُرُشٍ بَطَائِ ُنهَا مِنْ إِسْتَبْ َرقٍ } ،فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها (
هناك { :مُ ّتكِئِينَ َ
، )5اكتفاءً بما مدح به البطائن بطريق الولى والحرى .وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات
حسَانُ } فوصف أهلها بالحسان وهو أعلى المراتب
المتقدمة َ { :هلْ جَزَاءُ الحْسَانِ إِل ال ْ
والنهايات ،كما في حديث جبريل لما سأل عن السلم ،ثم اليمان .فهذه وجوه عديدة في تفضيل
الجنتين الوليين على هاتين الخيريين ( ، )6ونسأل ال الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل
الوليين.
سمُ رَ ّبكَ ذِي ا ْلجَللِ وَالكْرَامِ } أي :هو أهل أن يجل فل يعصى ،وأن يكرم
ثم قال { :تَبَا َركَ ا ْ
فيعبد ،ويشكر فل يكفر ،وأن يذكر فل ينسى.
ل وَالكْرَامِ } ذي العظمة والكبرياء.
وقال ابن عباس { :ذِي الْجَل ِ
وقال المام أحمد :حدثنا موسى بن داود ،حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ،عن عمير ()7
بن هانئ ،عن أبي العذراء ،عن أبي الدرداء ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
جدّوا ال يغفر لكم" (.)8
"أ ِ
وفي الحديث الخر " :إن من إجلل ال إكرام ذي الشيبة المسلم ،وذي السلطان ،وحامل القرآن
( )9غير الغالي فيه ول الجافي عنه" (.)10
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا أبو يوسف الجيزي ( ، )11حدثنا مؤمل بن إسماعيل ،حدثنا
حماد ،حدثنا حميد الطويل ،عن أنس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ألظّوا بيا ذا
الجلل والكرام".
وكذا رواه الترمذي ،عن محمود بن غيلن ،عن مؤمل بن إسماعيل ،عن حماد بن سلمة ،به (
.)12
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )2في أ " :حزيرة".
( )3في م ،أ " :نفيس".
( )4صحيح البخاري برقم ( )3682وصحيح مسلم برقم ( )2393من حديث عبد ال بن عمر
رضي ال عنهما.
( )5في م " :ظهارتها".
( )6في م " :الخيرتين".
( )7في أ " :عمر".
( )8المسند ( )5/199وقال الهيثمي في المجمع (" : )1/31وفي إسناده أبو العذراء وهو مجهول".
( )9في م " :الذكر".
( )10رواه أبو داود في السنن برقم ( )4843والبيهقي في السنن الكبرى ( )8/163من حديث أبي
موسى الشعري رضي ال عنه.
( )11في الصل وبقية النسخ " :الحربي" والتصويب من أبي يعلى.
( )12مسند أبي يعلى ( )6/445وسنن الترمذي برقم (.)3522
وقال ابن طاهر " :وقد تابع المؤمل فيه روح بن عبادة وروح حافظ ثقة".
أخرجه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي ( )3/396من طريق روح بن
عبادة عن حماد بن سلمة عن+
( )7/510
ثم قال :غلط المؤمل فيه ،وهو غريب وليس بمحفوظ ،وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة ،
عن حميد ،عن الحسن ،عن النبي صلى ال عليه وسلم.
وقال المام أحمد :حدثنا إبراهيم بن إسحاق ،حدثنا عبد ال بن المبارك ،عن يحيى بن حسان
المقدسي ،عن ربيعة بن عامر قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ألظوا بذي
الجلل والكرام".
ورواه النسائي من حديث عبد ال بن المبارك ،به (.)1
وقال الجوهري :ألظ فلن بفلن :إذا لزمه (.)2
وقول ابن مسعود " :ألظوا بيا ذا الجلل والكرام" أي :الزموا .ويقال :اللظاظ هو اللحاح.
قلت :وكلهما قريب من الخر -وال أعلم -وهو المداومة واللزوم واللحاح .وفي صحيح
مسلم والسنن الربعة من حديث عبد ال بن الحارث ،عن عائشة قالت :كان رسول ال صلى
ال عليه وسلم إذا سلم ل يقعد -يعني :بعد الصلة -إل قدر ما يقول " :اللهم أنت السلم ومنك
السلم ،تباركت ذا الجلل والكرام" (.)3
آخر تفسير سورة الرحمن ،ول الحمد [والمنة] ()4
__________
( )1المسند ( )4/177والنسائي في السنن الكبرى برقم (.)11563
( )2لسان العرب (.)7/459
( )3صحيح مسلم برقم ( )592وسنن أبي داود برقم ( )1512وسنن الترمذي برقم ( )298وسنن
النسائي ( )3/69وسنن ابن ماجه برقم (.)924
( )4زيادة من م ،أ.
( )7/511
( )7/512
بطوله .قال عثمان بن اليمان :كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب (.)1
وقال [المام] ( )2أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا إسرائيل ،ويحيى بن آدم ،حدثنا إسرائيل ،
سمُرَة يقول :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي
سمَاك بن حرب ؛ أنه سمع جابر بن َ
عن ِ
الصلوات كنحو من صلتكم التي تصلون اليوم ،ولكنه كان يخفف .كانت صلته أخف من
صلتكم ،وكان يقرأ في الفجر "الواقعة" ونحوها من السور (.)3
بسم ال الرحمن الرحيم
جتِ ال ْرضُ رَجّا ()4
{ ِإذَا َو َق َعتِ ا ْلوَا ِقعَةُ ( )1لَيْسَ ِل َو ْقعَ ِتهَا كَاذِبَةٌ ( )2خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ (ِ )3إذَا ُر ّ
ستِ الْجِبَالُ بَسّا (َ )5فكَا َنتْ هَبَاءً مُنْبَثّا (َ )6وكُنْتُمْ أَ ْزوَاجًا ثَل َثةً ( )7فََأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ مَا
وَبُ ّ
صحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ ( )9وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ ( )10أُولَ ِئكَ
َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ ( )8وََأصْحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ مَا َأ ْ
ا ْل ُمقَرّبُونَ ( )11فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ (.} )12
الواقعة :من أسماء يوم القيامة ،سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ،كما قال { :فَ َي ْومَئِ ٍذ َو َق َعتِ
ا ْلوَا ِقعَةُ } [الحاقة ]15 :
وقوله { :لَيْسَ ِل َو ْقعَتِهَا كَاذِ َبةٌ } أي :ليس لوقوعها إذا أراد ال كونها صارف يصرفها ،ول دافع
يدفعها ،كما قال { :اسْتَجِيبُوا لِرَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ } [الشورى ، ]47 :
ب وَاقِعٍ .لِ ْلكَافِرينَ لَ ْيسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج ، ]2 ، 1 :وقال تعالى :
وقال { :سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
شهَا َد ِة وَ ُهوَ
ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
{ وَ َيوْمَ َيقُولُ كُنْ فَ َيكُونُ َقوْلُهُ ا ْلحَ ّ
حكِيمُ الْخَبِيرُ } [النعام .]73 :
الْ َ
ومعنى { كَاذِبَة } -كما قال محمد بن كعب : -ل بد أن تكون .وقال قتادة :ليس فيها مثنوية ول
__________
( )1تاريخ دمشق (ق " )294مصورة معهد المخطوطات" وكذا رواه حجاج بن المنهال عن
السري بن يحيى فقال :عن أبي فاطمة :أخرجه البيهقي في شعب اليمان برقم ( )2498وقد
أعمل الزيلعي رحمه ال هذا الحديث بأربع علل تلجح بعدها ضعفه :الولى :النقطاع كما
ذكره الدارقطني وابن أبي حاتم في علله نقل عن أبيه .الثانية :نكارة متنه قاله المام أحمد.
الثالثة :ضعف رواته :السري بن يحيى وشجاع كما ذكره ابن الجوزي .الرابعة :الضطراب
فمنهم من يقول :أبو طيبة بالطاء المهملة ومنهم من يقول :أبو ظبية بالظاء المعجمة .ومنهم من
يقول :أبو فاطمة ومنهم من يقول :شجاع ومنهم من يقول :أبو شجاع وقد اجتمع على ضعفه :
المام أحمد وأبو حاتم وابنه والدار قطني والبيهقي وابن الجوزي تلويحا وتصريحا وال أعلم.
( )2زيادة من م.
( )3المسند (.)5/104
( )7/513
ارتداد ول رجعة.
قال ابن جرير :والكاذبة :مصدر كالعاقبة والعافية.
وقوله { :خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ } أي :تحفض ( )1أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم ،وإن كانوا في
الدنيا أعزّاء .وترفع آخرين إلى أعلى عليّين ،إلى النعيم المقيم ،وإن كانوا في الدنيا وضعاء.
وهكذا قال الحسن وقتادة ،وغيرهما.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى ،حدثنا حميد بن
عكْ ِرمَة ،عن ابن عباس { :خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ }
سمَاك ،عن ِ
عبد الرحمن الرؤاسي ،عن أبيه ،عن ِ
تخفض أناسًا وترفع آخرين.
وقال عبيد ال ( )2العتكي ،عن عثمان بن سراقة ،ابن خالة عمر بن الخطاب { :خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ
} [قال ( : ] )3الساعة خفضت أعداء ال إلى النار ،ورفعت أولياء ال إلى الجنة.
وقال محمد بن كعب :تخفض رجال كانوا في الدنيا مرتفعين ،وترفع رجال كانوا في الدنيا
مخفوضين.
وقال السّ ّديّ :خفضت المتكبرين ،ورفعت المتواضعين.
وقال ال َع ْو ِفيّ ،عن ابن عباس { :خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ } أسمعت القريب والبعيد .وقال عكرمة :
خفضت فأسمعت الدنى ،ورفعت فأسمعت القصى .وكذا قال الضحاك ،وقتادة.
جتِ ال ْرضُ رَجّا } أي :حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها.
وقوله ِ { :إذَا رُ ّ
جتِ ال ْرضُ َرجّا } أي :
ولهذا قال ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،وغير واحد في قوله { :إِذَا ُر ّ
زلزلت زلزال [شديدا] (.)4
وقال الربيع بن أنس :ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه.
وهذه كقوله تعالى ِ { :إذَا زُلْزَِلتِ ال ْرضُ زِلْزَاَلهَا } [الزلزلة ، ]1 :وقال تعالى { :يَا أَ ّيهَا النّاسُ
شيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج .]1 :
ا ّتقُوا رَ ّبكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ َ
عكْ ِرمَة ،
ستِ ا ْلجِبَالُ بَسّا } أي :فُتّ َتتْ فَتّا ( .)5قاله ابن عباس ،ومجاهد ،و ِ
وقوله { :وَبُ ّ
وقتادة ،وغيرهم.
وقال ابن زيد :صارت الجبال كما قال [ال] ( )6تعالى { :كَثِيبًا َمهِيل } [المزمل .]14 :
وقوله َ { :فكَا َنتْ هَبَاءً مُنْبَثّا } ،قال أبو إسحاق ،عن الحارث ،عن علي ،رضي ال عنه :
{ هَبَاءً مُنْبَثّا }
__________
( )1في م " :تخفض".
( )2في أ " :عبد ال".
( )3زيادة من م.
( )4زيادة من م.
( )5في م " :تفتيتا".
( )6زيادة من أ.
( )7/514
( )7/515
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن الصباح ،حدثنا الوليد بن أبي ثور ،عن
سمَاك ،عن النعمان بن بشير قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { :وَإِذَا الّنفُوسُ
ِ
جتْ } [التكوير ]7 :قال :الضرباء ،كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله ،وذلك بأن ال
ُزوّ َ
يقول َ { :وكُنْتُمْ أَ ْزوَاجًا ثَلثَةً .فََأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ مَا َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ .وََأصْحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ مَا
َأصْحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ .وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ } قال :هم الضرباء (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن عبد ال المثنى ،حدثنا البراء الغنوي ،حدثنا الحسن ،عن
معاذ بن جبل ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم تل ( )2هذه الية { :وََأصْحَابُ الْ َيمِينِ } (
شمَالِ } ( )4فقبض بيده قبضتين فقال " :هذه للجنة ( )5ول أبالي ،وهذه للنار
{ ، )3وََأصْحَابُ ال ّ
( )6ول أبالي" (.)7
وقال أحمد أيضا :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعَة ،حدثنا خالد بن أبي عمران ،عن القاسم بن
محمد ،عن عائشة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أنه قال " :أتدرون من السابقون إلى
ظل يوم القيامة ؟" قالوا :ال ورسوله أعلم .قال " :الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ،وإذا سئلوه بذلوه
،وحكموا للناس كحكمهم لنفسهم" (.)8
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْ َزةَ يعقوب بن مجاهد { :وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ } :هم النبياء ،
عليهم السلم .وقال السّ ّديّ :هم أهل عليين .وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس :
{ وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ } ،قال :يوشع بن نون ،سبق إلى موسى ،ومؤمن آل "يس" ،سبق إلى
عيسى ،وعلي بن أبي طالب ،سبق إلى محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم .رواه ابن أبي
شعَيْب بن
حاتم ،عن محمد بن هارون الفلس ،عن عبد ال بن إسماعيل المدائني البزاز ،عن ُ
الضحاك المدائني ،عن سفيان بن عُيَيْنَة ،عن ابن أبي نَجِيح به.
وقال ابن أبي حاتم :وذكر محمد ( )9بن أبي حماد ،حدثنا ِمهْرَان ،عن خارجة ،عن قُرّة َ ،
عن ابن سِيرين { :وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ } الذين صلوا للقبلتين.
ورواه ابن جرير ( )10من حديث خارجة ،به.
وقال الحسن وقتادة { :وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ } أي :من كل أمة.
وقال الوزاعي ،عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الية { :وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ .أُولَ ِئكَ
ا ْل ُمقَرّبُونَ } ثم قال :أولهم رواحًا إلى المسجد ،وأولهم خروجًا في سبيل ال.
__________
( )1سيأتي تخريج الحديث عند الية 7 :من سورة التكوير.
( )2في أ " :قرأ".
( )3في م ،أ " :وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين".
( )4في م ،أ " :وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال".
( )5في م ،أ " :هذه في الجنة".
( )6في م ،أ " :وهذه في النار".
( )7المسند ( )5/239والحسن لم يسمع من معاذ.
( )8المسند (.)6/67
( )9في أ " :وذكر عن محمد".
( )10في أ " :ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير".
( )7/516
ثُلّةٌ مِنَ الَْأوّلِينَ (َ )13وقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ( )14عَلَى سُرُرٍ َم ْوضُونَةٍ ( )15مُ ّتكِئِينَ عَلَ ْيهَا مُ َتقَابِلِينَ (
)16
وهذه القوال كلها صحيحة ،فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ،
س َموَاتُ وَال ْرضُ } [آل عمران
ضهَا ال ّ
كما قال تعالى { :وَسَارِعُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
سمَا ِء وَال ْرضِ } [الحديد
ضهَا َكعَرْضِ ال ّ
، ]133 :وقال { :سَا ِبقُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
، ]22 :فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ،كان في الخرة من السابقين إلى الكرامة ،
فإن الجزاء من جنس العمل ،وكما تدين تدان ؛ ولهذا قال تعالى { :أُولَ ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ .فِي جَنّاتِ
ال ّنعِيمِ }.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا يحيى بن زكريا القزاز ( )1الرازي ،حدثنا خارجة بن
مُصعَب ،عن زيد بن أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن عبد ال بن عمرو قال :قالت الملئكة :
يا رب ،جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ،فاجعل لنا الخرة .فقال :ل
أفعل .فراجعوا ثلثا ،فقال :ل أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له :كن ،فكان .ثم قرأ عبد ال
{ :وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ .أُولَ ِئكَ ا ْلمُقَرّبُونَ .فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ }.
وقد روى هذا الثر المام عثمان ( )2بن سعيد الدارمي في كتابه " :الرد على الجهمية" ،ولفظه
:فقال ال عز وجل " :لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ،كمن قلت له :كن فكان" (.)3
ن الوّلِينَ (َ )13وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ ( )14عَلَى سُرُرٍ َموْضُونَةٍ ( )15مُ ّتكِئِينَ عَلَ ْيهَا مُ َتقَابِلِينَ
{ ثُلّةٌ مِ َ
(.} )16
__________
( )1في أ " :الفزاري".
( )2في أ " :عمر".
( )3وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي فرفعه كما في البداية والنهاية ( )1/55للمؤلف وقال :
"وهو أصح" وله شاهد من حديث عبد ال بن عمر بن الخطاب رواه ابن الجوزي في العلل
المتناهية ( )1/48وقال " :هذا حديث ل يصح".
( )7/517
خلّدُونَ ( )17بَِأ ْكوَابٍ وَأَبَارِيقَ َوكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ ( )18ل ُيصَدّعُونَ عَ ْنهَا
{ َيطُوفُ عَلَ ْي ِه ْم وِلْدَانٌ مُ َ
وَل يُنزفُونَ (َ )19وفَا ِكهَةٍ ِممّا يَ َتخَيّرُونَ ( )20وَلَحْمِ طَيْرٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ ( )21وَحُورٌ عِينٌ ()22
س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا وَل تَأْثِيمًا ()25
كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ ( )23جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ( )24ل يَ ْ
إِل قِيل سَلمًا سَلمًا (.} )26
ن الوّلِينََ .وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلء السابقين أنهم { ثُلّةٌ } أي :جماعة { مِ َ
} .وقد اختلفوا في المراد بقوله { :الوّلِينَ } ،و { الخِرِينَ } .فقيل :المراد بالولين :المم
الماضية ،والخرين :هذه المة .هذا رواية عن مجاهد ،والحسن البصري ،رواها عنهما ابن
أبي حاتم .وهو اختيار ابن جرير ،واستأنس بقوله صلى ال عليه وسلم " :نحن الخرون
السابقون يوم القيامة" ( .)1ولم يحك غيره ول عزاه إلى أحد.
__________
( )1لم أجد الحديث في تفسير الطبري والحديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( )896ومسلم
في صحيحه برقم ( )885من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )7/517
ومما يستأنس به لهذا القول ،ما رواه المام أبو محمد بن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن
عيسى بن الطباع ،حدثنا شريك ،عن محمد بن عبد الرحمن ،عن أبيه ،عن أبي هريرة ،قال
ن الوّلِينََ .وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ } شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال عليه
:لما نزلت ُ { :ثلّةٌ مِ َ
وسلم ،فنزلت { :ثُلّةٌ مِنَ الوّلِينَ .وثُلّةٌ مِنَ الخِرِينَ } فقال النبي صلى ال عليه وسلم :إني
لرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ،ثلث أهل الجنة ،بل أنتم نصف أهل الجنة -أو :شطر أهل
الجنة -وتقاسمونهم النصف الثاني".
ورواه المام أحمد ،عن أسود بن عامر ،عن شريك ،عن محمد ،بياع الملء ،عن أبيه ،عن
أبي هريرة ،فذكره ( .)1وقد روي من حديث جابر نحو هذا ،ورواه الحافظ ابن عساكر من
طريق هشام بن عمار :حدثنا عبد ربه بن صالح ،عن عروة بن رويم ،عن جابر بن عبد ال ،
عن النبي صلى ال عليه وسلم :لما نزلت { :فَ َي ْومَئِ ٍذ َو َق َعتِ ا ْلوَا ِقعَةُ } ،ذكر فيها { ُثلّةٌ مِنَ
الوّلِينََ .وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ } ،قال عمر :يا رسول ال ،ثلة من الولين وقليل منا ؟ قال :
ن الخِرِينَ } ،فقال رسول ال
ن الوّلِينَ .وَثُلّةٌ مِ َ
فأمسك آخر السورة سنة ،ثم نزل { :ثُلّةٌ مِ َ
ن الوّلِينَ .وَثُلّةٌ مِنَ
صلى ال عليه وسلم " :يا عمر ،تعال فاسمع ما قد أنزل ال { :ثُلّةٌ مِ َ
الخِرِينَ } ،أل وإن من آدم إليّ ثلة ،وأمتي ثلة ،ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من
رعاة البل ،ممن شهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له".
هكذا أورده في ترجمة "عروة بن رويم" ( ، )2إسنادا ومتنا ،ولكن في إسناده نظر .وقد وردت
طرق كثيرة متعددة بقوله صلى ال عليه وسلم " :إني لرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" الحديث
بتمامه ( ، )3وهو مفرد في "صفة الجنة" ول الحمد والمنة .وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا ،
فيه نظر ،بل هو قول ضعيف ؛ لن هذه المة هي خير المم بنص القرآن ،فيبعد أن يكون
المقربون في غيرها أكثر منها ،اللهم إل أن يقابل مجموع المم بهذه المة .والظاهر أن المقربين
من هؤلء أكثر من سائر المم ،وال أعلم .فالقول الثاني في هذا المقام ،هو الراجح ،وهو أن
ن الوّلِينَ } أي :من صدر هذه المة َ { ،وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ } أي :
يكون المراد بقوله ُ { :ثلّةٌ مِ َ
من هذه المة.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا عفان ،حدثنا عبد ال بن بكر ()4
المزني ،سمعت الحسن :أتى على هذه الية { :وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ .أُولَ ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ } فقال :
أما السابقون ،فقد مضوا ،ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين.
ثم قال :حدثنا أبي ،حدثنا أبو الوليد ،حدثنا السّ ّريّ بن يحيى قال :قرأ الحسن { :وَالسّا ِبقُونَ
السّا ِبقُونَ .أُولَ ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ .فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ .ثُلّةٌ مِنَ الوّلِينَ } ثلة ممن مضى من هذه المة.
__________
( )1المسند (.)2/391
( )2تاريخ دمشق لبن عساكر (/11ق " )279مصورة معهد المخطوطات".
( )3منها حديث عمران بن حصين ،أخرجه الترمذي في السنن برقم ( )3168وحديث عبد ال
بن مسعود ،أخرجه أحمد في المسند (.)1/420
( )4في أ " :بكير" وفي م " :أبي بكر".
( )7/518
وحدثنا أبي ،حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المَ ْنقَري ،حدثنا أبو هلل ،عن محمد بن سيرين ،
ن الوّلِينََ .وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ } قال :كانوا يقولون ،أو يرجون ،
أنه قال في هذه الية { :ثُلّةٌ مِ َ
أن يكونوا كلهم من هذه المة .فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه المة .ول شك
أن أول كل أمة خير من آخرها ،فيحتمل أن يعم المر ( )1جميع المم كل أمة بحسبها ؛ ولهذا
ثبت في الصحاح وغيرها ،من غير وجه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :خير
القرون قرني ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم" ( )2الحديث بتمامه.
فأما الحديث الذي رواه المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا زياد أبو عمر ،عن الحسن ،
عن عمار بن ياسر ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مثل أمتي مثل المطر ،ل
يدرى أوله خير أم آخره" ( ، )3فهذا الحديث ،بعد الحكم بصحة إسناده ،محمول على أن الدين
كما هو محتاج إلى أول المة في إبلغه إلى من بعدهم ،كذلك هو محتاج إلى القائمين به في
أواخرها ،وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها ،والفضل للمتقدم .وكذلك الزرع الذي
يحتاج ( )4إلى المطر الول وإلى المطر الثاني ،ولكن العمدة الكبرى على الول ،واحتياج
الزرع إليه آكد ،فإنه لوله ما نبت في الرض ،ول تعلق أساسه فيها ؛ ولهذا قال ،عليه السلم
" :ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ،ل يضرهم من خذلهم ،ول من خالفهم ،إلى
قيام الساعة" .وفي لفظ " :حتى يأتي أمر ال وهم كذلك" .والغرض أن هذه المة أشرف من سائر
المم ،والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة ؛ لشرف دينها وعظم نبيها .ولهذا ثبت
بالتواتر عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه المة سبعين ألفا يدخلون الجنة
بغير حساب .وفي لفظ " :مع كل ألف سبعون ألفا" .وفي آخر ( )5مع كل واحد سبعون ألفا".
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا هشام ( )6بن مرثد ( )7الطبراني ،حدثنا محمد -
ض ْمضَم -يعني ابن زُرْعَة -عن شريح -
هو ابن إسماعيل بن عياش -حدثني أبي ،حدثني َ
هو ابن عبيد -عن أبي مالك ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أما والذي نفسي بيده
،ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل السود زمرة جميعها يحيطون الرض ،تقول الملئكة لما
جاء مع محمد صلى ال عليه وسلم أكثر مما جاء مع النبياء ،عليهم السلم" (.)8
ن الوّلِينََ .وقَلِيلٌ مِنَ الخِرِينَ } ] ( )9الحديث الذي
وحسن أن يذكر هاهنا [عند قوله { :ثُلّةٌ مِ َ
رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في "دلئل النبوة" حيث قال :أخبرنا أبو نصر بن قتادة ،أخبرنا أبو
عمرو بن مطر ،حدثنا جعفر [ -هو] ( )10بن محمد بن المستفاض الفريابي -حدثني أبو وهب
الوليد بن عبد
__________
( )1في م " :المة".
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3651من حديث عبد ال بن مسعود رضي ال عنه.
( )3المسند (.)4/319
( )4في م " :هو محتاج".
( )5في أ " :آخره".
( )6في أ " :هاشم".
( )7في هـ وبقية النسخ " :يزيد" والتصويب من المعجم الكبير.
( )8المعجم الكبير ( )3/297وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف لم يسمع من
أبيه.
( )9زيادة من أ.
( )10زيادة من أ.
( )7/519
الملك بن عبيد ال ( )1بن ُمسَرّح الحرّاني ،حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني ،عن
شجَعة بن رِ ْبعِي ،عن ابن َزمْل الجهني ،رضي
مسلمة ( )2بن عبد ال الجهني ،عن عمه أبي مَ ْ
ال عنه ،قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا صلى الصبح قال ،وهو ثان رجله :
"سبحان ال وبحمده .أستغفر ال ،إن ال كان توابا" سبعين مرة ،ثم يقول " :سبعين بسبعمائة ،ل
خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة" .ثم يقول ذلك مرتين ،ثم يستقبل الناس
بوجهه ،وكان يعجبه الرؤيا ،ثم يقول " :هل رأى أحد منكم شيئا ؟" قال ابن زمل :فقلت :أنا يا
رسول ال .فقال " :خير تلقاه ،وشر توقاه ،وخير لنا ،وشر على أعدائنا ،والحمد ل رب
العالمين .اقصص رؤياك" .فقلت :رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل ل حب ،والناس
على الجادة منطلقين ،فبينما هم كذلك ،إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله ،يرف
رفيفا يقطر ماؤه ،فيه من أنواع الكل قال :وكأني بالرعلة ( )3الولى حين أشفوا على المرج
كبّروا ،ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ،فلم يظلموه يمينا ول شمال .قال :فكأني أنظر إليهم
منطلقين .ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا ،فلما أشفوا على المرج كبّروا ،ثم
أكبوا رواحلهم في الطريق ،فمنهم المرتع ،ومنهم الخذ الضغث .ومضوا على ذلك .قال :ثم
قدم عظم الناس ،فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا ( :هذا خير المنزل) .كأني أنظر إليهم
يميلون يمينا وشمال فلما رأيت ذلك ،لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج ،فإذا أنا بك يا
رسول ال على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلها درجة ،وإذا عن يمينك رجل آدم شثل
أقنى ،إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طول وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ ( )4كثير خيلن
الوجه ،كأنما حمم شعره بالماء ،إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له .وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه
الناس بك خلقا ووجها ،كلكم تؤمونه تريدونه ،وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف ،وإذا أنت يا
رسول ال كأنك تبعثها .قال :فامتقع لون رسول ال صلى ال عليه وسلم ساعة ثم سري عنه ،
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب الل حب ،فذاك
ما حملتم ( )5عليه من الهدى وأنتم عليه .وأما المرج الذي رأيت ،فالدنيا ( )6مضيت أنا
وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ،ولم تتعلق منا ،ولم نردها ولم تردنا .ثم جاءت ( )7الرعلة
الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا ،فمنهم المرتع ،ومنهم الخذ الضغث ،ونجوا ( )8على
ذلك .ثم جاء عظم الناس ،فمالوا في المرج يمينا وشمال فإنا ل وإنا إليه راجعون .وأما أنت ،
فمضيت على طريقة صالحة ،فلن تزال عليها حتى تلقاني .وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع
درجات وأنا في أعلها درجة ،فالدنيا سبعة آلف سنة ،أنا في آخرها ألفا .وأما الرجل الذي
رأيت على يميني الدم الشثل ،فذلك موسى ،عليه السلم ،إذا تكلم ،يعلو الرجال بفضل كلم
ال إياه .والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلن الوجه ،كأنما حمم شعره بالماء ،
فذلك عيسى ابن مريم ،نكرمه لكرام ال إياه .وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها
فذاك أبونا إبراهيم ،كلنا نؤمه ونقتدي به .وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها ،فهي الساعة ،
علينا تقوم ،ل نبي بعدي ،ول أمة بعد أمتي" .قال :فما سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم
عن رؤيا بعد هذا إل أن يجيء الرجل ،فيحدثه بها متبرعا (.)9
وقوله { :عَلَى سُرُرٍ َموْضُونَةٍ } قال ابن عباس :أي مرمولة بالذهب ،يعني :منسوجة به .وكذا
عكْ ِرمَة ،وسعيد بن جُبَيْر ،وزيد بن أسلم ،وقتادة ،والضحاك ،وغيره.
قال مجاهد ،و ِ
وقال السّ ّديّ :مرمولة بالذهب واللؤلؤ .وقال عكرمة :مشبكة بالدر والياقوت .وقال ابن جرير :
ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها ،وهو فعيل بمعنى مفعول ؛ لنه مضفور ،وكذلك
السرر في الجنة مضفورة بالذهب والللئ.
وقال { :مُ ّتكِئِينَ عَلَ ْيهَا مُ َتقَابِلِينَ } أي :وجوه بعضهم إلى بعض ،ليس أحد وراء أحدَ { .يطُوفُ
عَلَ ْيهِ ْم وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ } أي :مخلدون على صفة واحدة ،ل يكبرون عنها ول يشيبون ول
ق َوكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ } ،أما الكواب فهي :الكيزان التي ل خراطيم لها
يتغيرون { ،بَِأ ْكوَابٍ وَأَبَارِي َ
ول آذان .والباريق :التي جمعت الوصفين .والكؤوس :الهنابات ،والجميع من خمر من عين
جارية َمعِين ،ليس من أوعية تنقطع وتفرغ ،بل من عيون سارحة.
وقوله { :ل ُيصَدّعُونَ عَ ْنهَا وَل يُنزفُونَ } أي :ل تصدع رؤوسهم ول تنزف عقولهم ،بل هي
ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة.
وروى الضحاك ،عن ابن عباس ،أنه قال :في الخمر أربع خصال :السكر ،والصداع ،
والقيء ،والبول .فذكر ال خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال.
عكْ ِرمَة ،وسعيد بن جُبَيْر ،وعطية ،وقتادة ،والسّ ّديّ { :ل ُيصَدّعُونَ عَ ْنهَا }
وقال مجاهد ،و ِ
يقول :ليس لهم فيها صداع رأس.
وقالوا في قوله { :وَل يُنزفُونَ } أي :ل تذهب بعقولهم.
حمِ طَيْرٍ ِممّا َيشْ َتهُونَ } أي :ويطوفون عليهم بما يتخيرون من
وقوله َ { :وفَا ِكهَةٍ ِممّا يَتَخَيّرُونَ .وَلَ ْ
الثمار.
عكْراش
وهذه الية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ،ويدل على ذلك حديث " ِ
بن ذؤيب" الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي ،رحمه ال ،في مسنده :حدثنا العباس بن الوليد
عكْراش ،عن
النّرْسِي ،حدثنا العلء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية ،حدثنا عبيد ال بن ِ
عكْراش بن ذؤيب ،قال :بعثني بنو مرة في صدقات أموالهم إلى رسول ال صلى ال عليه
أبيه ِ
وسلم ،فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والنصار ،وقدمت عليه بإبل كأنها عروق
الرطى ،قال " :من الرجل ؟"
__________
( )1في م ،أ " :عبد ال".
( )2في م ،أ " :مسلم".
( )3في أ " :وكانوا بالرعلة".
( )4في م " :بار".
( )5في أ " :حملتكم".
( )6في م ،أ " :فالدنيا ونضارة عيشها".
( )7في م " :ثم كانت".
( )8في م " :ثم نجوا".
( )9دلئل النبوة ( )7/36وفي إسناده سليمان بن عطاء بن قيس ،قال ابن حبان في المجروحين (
" : )1/329شيخ يروي عن مسلمة ابن عبد ال الجهني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي بأشياء
موضوعة ل تشبه حديث الثقات فلست أدري التخليط فيها منه أو من مسلمة بن عبد ال".
( )7/520
عكْراش بن ذؤيب .قال " :ارفع في النسب" ،فانتسبت له إلى "مرة بن عبيد" ،وهذه صدقة
قلت ِ :
"مرة بن عبيد" .فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم .قال :هذه إبل قومي ،هذه صدقات قومي.
ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها .ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة ،
فقال " :هل من طعام ؟" فأتينا بحفنة كثيرة الثريد والوذر ،فجعل يأكل منها ،فأقبلت أخبط بيدي
في جوانبها ،فقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى ،فقال " :يا
عكْراش ،كل من موضع واحد ،فإنه طعام واحد" .ثم أتينا بطبق فيه تمر ،أو رطب -شك عبيد
ِ
ال رطبا كان أو تمرا -فجعلت آكل من بين يدي ،وجالت يد رسول ال صلى ال عليه وسلم في
عكْراش ،كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد" .ثم أتينا بماء ،فغسل
الطبق ،وقال " :يا ِ
رسول ال صلى ال عليه وسلم يده ومسح بِبََللِ كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلثا ،ثم قال " :يا
عكْراش ،هذا الوضوء مما غيرت النار".
ِ
وهكذا رواه الترمذي مطول وابن ماجه جميعًا ،عن محمد بن بشار ،عن أبي الهزيل العلء بن
الفضل ،به ( .)1وقال الترمذي :غريب ل نعرفه إل من حديثه.
وقال المام أحمد :حدثنا بهز بن أسد وعفان -وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا شيبان -قالوا :
حدثنا سليمان بن المغيرة ،حدثنا ثابت ،قال :قال أنس :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم
تعجبه الرؤيا ،فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه ،فإذا أثني عليه معروف ،
كان أعجب لرؤياه إليه .فأتته امرأة فقالت :يا رسول ال ،رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة
،فأدخلت الجنة فسمعت وَجبَة انتحبت لها الجنة ،فنظرت فإذا فلن ابن فلن ،وفلن ابن فلن ،
س ّمتْ اثني عشر رجل كان النبي صلى ال عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك ،فجيء بهم عليهم
فَ
ثياب طلس تشخب أوداجهم ،فقيل :اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ -أو :البيذخ -قال :فغمسوا
فيه ،فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر ،فأتوا بصحفة من ذهب فيها بُسر ،فأكلوا من بُسره
ما شاؤوا ،فما يقلبونها من وجه إل أكلوا من الفاكهة ما أرادوا ،وأكلت معهم .فجاء البشير من
تلك السرية ،فقال :كان ( )2من أمرنا ( )3كذا وكذا ،وأصيب ( )4فلن وفلن .حتى عد اثني
عشر رجل فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم المرأة فقال " :قصي رؤياك" فقصتها ،وجعلت
تقول :فجيء بفلن وفلن كما قال.
هذا لفظ أبي يعلى ،قال الحافظ الضياء :وهذا على شرط مسلم (.)5
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا معاذ بن المثنى ،حدثنا علي بن المديني ،حدثنا ريحان
بن سعيد ،عن عباد بن منصور ،عن أيوب ،عن أبي قِلبة ،عن أبي أسماء ،عن ثوبان ،قال
:قال
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )1848وسنن ابن ماجة برقم ( )3274وعبيد ال بن عكراش تكلم فيه ،
وتكلم في حديثه هذا.
قال البخاري " :ل يثبت حديثه" ونقل العقيلي عنه أنه قال " :في إسناده نظر".
( )2في م ،أ " :فقال :ما كان".
( )3في م ،أ " :رؤيا".
( )4في م ،أ " :فأصيب".
( )5المسند للمام أحمد ( )3/135ومسند أبي يعلى برقم ( )6/44( )3289وقال الهيثمي في
المجمع (" : )7/175رجاله رجال الصحيح".
( )7/522
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة ،عادت مكانها أخرى" (.)1
حمِ طَيْرٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ } ،قال المام أحمد :
وقوله { :وَلَ ْ
حدثنا سيار بن حاتم ،حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ،حدثنا ثابت ،عن أنس ،قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن طير الجنة كأمثال البخت ،يرعى ( )2في شجر الجنة".
فقال أبو بكر :يا رسول ال ،إن هذه لطير ناعمة فقال " :أكلتها ( )3أنعم منها -قالها ثلثا -
وإني لرجو أن تكون ممن يأكل منها" .تفرد به أحمد من هذا الوجه (.)4
وروى الحافظ أبو عبد ال المقدسي في كتابه "صفة الجنة" من حديث إسماعيل بن علي الخُطَ ِبيّ ،
عن أحمد بن علي الخُيُوطي ،عن عبد الجبار بن عاصم ،عن عبد ال بن زياد ،عن زُرْعَة ،
عن نافع ،عن ابن عمر ،قال :ذكرت عند النبي صلى ال عليه وسلم طوبى ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :يا أبا بكر ،هل بلغك ما طوبى ؟" قال :ال ورسوله أعلم .قال " :طوبى
شجرة في الجنة ،ما يعلم طولها إل ال ،يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ،
ورقها الحلل ،يقع عليها الطير كأمثال البخت" .فقال أبو بكر :يا رسول ال ،إن هناك لطيرا
ناعما ؟ قال " :أنعم منه من يأكله ،وأنت منهم إن شاء ال" (.)5
حمِ طَيْرٍ ِممّا َيشْ َتهُونَ } :ذكر لنا أن أبا بكر قال :يا رسول ال ،إني
وقال قتادة في قوله { :وَلَ ْ
أرى طيرها ناعمة كما أهلها ناعمون .قال " :من يأكلها -وال يا أبا بكر ( - )6أنعم منها ،
وإنها لمثال البخت ،وإني لحتسب على ال أن تأكل منها ( )7يا أبا بكر" (.)8
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا :حدثني مجاهد بن موسى ،حدثنا َمعْنُ بن عيسى ،حدثني ابن أخي
ابن شهاب ،عن أبيه ،عن أنس بن مالك ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل عن الكوثر
فقال " :نهر أعطانيه ربي ،عز وجل ،في الجنة ،أشد بياضا من اللبن ،وأحلى من العسل ،فيه
طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر" .فقال عمر :إنها لناعمة .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :آكلها أنعم منها".
وكذا رواه الترمذي عن عبد ( )9بن حميد ،عن ال َقعْنَبِي ،عن محمد بن عبد ال بن مسلم بن
شهاب ،عن أبيه ،عن أنس ،وقال :حسن (.)10
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنَافِسي ،حدثنا أبو معاوية ،عن عبيد
ال ( )11بن الوليد ال َوصّافي ،عن عطية ال َع ْو ِفيّ ،عن أبي سعيد الخدري ،قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم :
__________
( )1المعجم الكبير ( )2/102وفي إسناده عباد متكلم فيه.
( )2في م " :ترعى".
( )3في م ،أ " :أكلها".
( )4المسند (.)3/221
( )5ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور (.)4/649
( )6في م " :يا أبا بكر وال".
( )7في م " :أن آكل منها".
( )8وهذا مرسل وقد روى من طريق الحسن مرسل أيضا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (
.)12/13
( )9في م " :عبيد" وهو خطأ.
( )10سنن الترمذي برقم ( )2542وقال فيه " :حسن غريب".
( )11في أ " :عبد ال".
( )7/523
"إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة ،فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض ،
فيخرج من كل ريشة -يعني :لونا -أبيض من اللبن ،وألين من الزبد ،وأعذب من الشهد ،
ليس منها لون يشبه صاحبه ( )1ثم يطير" (.)2
هذا حديث غريب جدا ،وال َوصّافي وشيخه ضعيفان .ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن صالح -كاتب الليث -حدثني الليث ،حدثنا خالد بن يزيد ،عن
سعيد بن أبي هلل ،عن أبي حازم عن عطاء ،عن كعب ،قال :إن طائر الجنة أمثال البخت ،
يأكل ( )3مما خلق من ثمرات الجنة ،ويشرب ( )4من أنهار الجنة ،فيصطففن له ،فإذا اشتهى
منها شيئا أتاه حتى يقع بين يديه ،فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء .صحيح
إلى كعب.
وقال الحسن بن عرفة :حدثنا خلف بن خليفة ،عن حميد العرج ،عن عبد ال بن الحارث ،
عن عبد ال بن مسعود ،قال :قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إنك لتنظر إلى الطير
في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا" (.)5
وقوله { :وَحُورٌ عِينٌ .كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } قرأ بعضهم بالرفع ،وتقديره :ولهم فيها حور
عين .وقراءة الجر تحتمل معنيين ،أحدهما :أن يكون العراب على التباع بما قبله ؛ لقوله :
ب وَأَبَارِيقَ َوكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ .ل ُيصَدّعُونَ عَ ْنهَا وَل يُنزفُونَ.
خلّدُونَ .بَِأ ْكوَا ٍ
{ َيطُوفُ عَلَ ْي ِه ْم وِلْدَانٌ مُ َ
س ُكمْ
َوفَاكِهَةٍ ِممّا يَ َتخَيّرُونَ .وَلَحْمِ طَيْرٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ .وَحُورٌ عِينٌ } َ ،كمَا قَالَ { وَامْسَحُوا بِرُءُو ِ
خضْرٌ وَِإسْتَبْرَقٌ } [النسان .]21 :
وَأَرْجَُلكُمْ } [المائدة ، ]6 :وكما قال { :عَالِ َيهُمْ ثِيَابُ سُ ْندُسٍ ُ
والحتمال الثاني :أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين ،ولكن يكون
ذلك في القصور ،ل بين بعضهم بعضا ،بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين ،وال
أعلم.
وقوله { :كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } أي :كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه ،كما تقدم في
"سورة الصافات" { كَأَ ّنهُنّ بَ ْيضٌ َمكْنُونٌ } [الصافات ]49 :وقد تقدم في سورة "الرحمن" وصفهن
أيضا ؛ ولهذا قال { :جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } أي :هذا الذي اتحفناهم به مجازاة لهم على ما
أحسنوا من العمل.
س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا وَل تَأْثِيمًا .إِل قِيل سَلمًا سَلمًا } أي :ل يسمعون في الجنة
ثم قال { :ل َي ْ
كلمًا لغيا ،أي :غثا ( )6خاليا عن المعنى ،أو مشتمل على معنى حقير أو ضعيف ،كما قال
س َمعُ فِيهَا لغِيَةً } [الغاشية ]11 :
{ :ل تَ ْ
__________
( )1في أ " :الخر".
( )2ورواه هناد في الزهد برقم ( )119حدثنا أبو معاوية به.
( )3في م " :يأكلن".
( )4في م " :يشربن".
( )5جزء الحسن بن عرفة برقم ( )22وحميد العرج منكر الحديث.
( )6في م " :عبثا".
( )7/524
ظلّ
خضُودٍ ( )28وَطَلْحٍ مَ ْنضُودٍ ( )29وَ ِ
وََأصْحَابُ الْ َيمِينِ مَا َأصْحَابُ الْ َيمِينِ ( )27فِي سِدْرٍ َم ْ
سكُوبٍ (َ )31وفَا ِكهَةٍ كَثِي َرةٍ ( )32لَا َمقْطُوعَ ٍة وَلَا َممْنُوعَةٍ (َ )33وفُرُشٍ
َممْدُودٍ (َ )30ومَاءٍ مَ ْ
صحَابِ الْ َيمِينِ
جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارًا ( )36عُرُبًا أَتْرَابًا ( )37لَِأ ْ
مَ ْرفُوعَةٍ ( )34إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِنْشَاءً ( )35فَ َ
( )38ثُلّةٌ مِنَ الَْأوّلِينَ ( )39وَثُلّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ()40
أي :كلمة لغية { وَل تَأْثِيمًا } أي :ول كلمًا فيه قبح ( { ، )1إِل قِيل سَلمًا سَلمًا } أي :إل
التسليم منهم بعضهم على بعض ،كما قال َ { :تحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَلمٌ } [إبراهيم ]23 :وكلمهم أيضًا
سالم من اللغو والثم.
ظلّ
خضُودٍ ( )28وَطَلْحٍ مَ ْنضُودٍ ( )29وَ ِ
صحَابُ الْ َيمِينِ ( )27فِي سِدْرٍ َم ْ
{ وََأصْحَابُ الْ َيمِينِ مَا َأ ْ
سكُوبٍ (َ )31وفَا ِكهَةٍ كَثِي َرةٍ ( )32ل مَقْطُوعَةٍ وَل َممْنُوعَةٍ (َ )33وفُرُشٍ
َممْدُودٍ (َ )30ومَاءٍ مَ ْ
جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارًا ( )36عُرُبًا أَتْرَابًا ( )37لصْحَابِ الْ َيمِينِ
مَ ْرفُوعَةٍ ( )34إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِنْشَاءً ( )35فَ َ
ن الوّلِينَ ( )39وَثُلّةٌ مِنَ الخِرِينَ (.} )40
( )38ثُلّةٌ مِ َ
لما ذكر تعالى مآل السابقين -وهم المقربون -عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين -وهم البرار
-كما قال ميمون بن ِمهْرَان :أصحاب اليمين منزلة دون المقربين ،فقال { :وََأصْحَابُ الْ َيمِينِ
مَا َأصْحَابُ الْ َيمِينِ } أي :أي شيء أصحاب اليمين ؟ وما حالهم ؟ وكيف مآلهم ( )2؟ ثم فسر
عكْ ِرمَة ،ومجاهد ،وأبو الحوص ،
خضُودٍ } .قال ابن عباس ،و ِ
سدْرٍ مَ ْ
ذلك فقال { :فِي ِ
وقسَامة بن زُهَير ،والسّفر بن نُسَير ،والحسن ،وقتادة ،وعبد ال بن كثير ،والسّ ّديّ ،وأبو
حَرْزَة ،وغيرهم :هو الذي ل شوك فيه .وعن ابن عباس :هو ال ُم َوقَر بالثمر .وهو رواية عن
عكْ ِرمَة ،ومجاهد ،وكذا قال قتادة أيضا :كنا ُنحَدّث أنه المُوقَر الذي ل شوك فيه.
ِ
والظاهر أن المراد هذا وهذا فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ،وفي الخرة على عكس من
هذا ل شوك فيه ،وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله ،كما قال الحافظ أبو بكر بن سلمان
النجّاد.
حدثنا محمد ( )3بن محمد هو البغوي ،حدثني حمزة بن عباس ( ، )4حدثنا عبد ال بن عثمان ،
حدثنا عبد ال بن المبارك ،أخبرنا صفوان بن عمرو ،عن سليم بن عامر ،قال :كان أصحاب
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون :إن ال لينفعنا بالعراب ومسائلهم ؛ قال :أقبل أعرابي
يومًا فقال :يا رسول ال ،ذكر ال في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :وما هي ؟" .قال :السّدر ،فإن له شوكًا موذيًا ،فقال رسول ال صلى ال عليه
خضَد ال شوكه ،فجعل مكان كل شوكة ثمرة ،
خضُودٍ } َ ،
وسلم " :أليس ال يقول { :فِي سِدْرٍ مَ ْ
فإنها لتنبت ثمرًا َتفَتّق الثمرةُ منها عن اثنين ( )5وسبعين لونًا من طعام ،ما فيها لون يشبه الخر"
(.)6
طريق أخرى :قال أبو بكر بن أبي داود :حدثنا محمد بن المصفى ،حدثنا محمد بن المبارك ،
حدثنا يحيى بن حمزة ،حدثني ثور بن يزيد ،حدثني حبيب بن عبيد ،عن عُتْبة بن عبد السلمي
__________
( )1في م " :قبيحا".
( )2في أ " :وكيف حالهم".
( )3في أ " :وحدثنا عبد ال".
( )4في م ،أ " :بن العباس".
( )5في أ " :عن مائتي".
( )6ورواه الحاكم في المستدرك ( )2/476من طريق الربيع ،عن بشر بن بكر عن صفوان بن
عمرو عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال :كان أصحاب رسول ال فذكر مثله ،وقال الحاكم
" :صحيح السناد ولم يخرجاه".
( )7/525
قال :كنت جالسًا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فجاء أعرابي فقال :يا رسول ال ،
أسمعك تذكر في الجنة شجرة ل أعلم شجرة أكثر شوكًا منها ؟ يعني :الطلح ،فقال رسول ال
صوَة التيس الملبود ،فيها
خ ْ
صلى ال عليه وسلم " :إن ال يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل ُ
سبعون لونًا من الطعام ،ل يشبه لون آخر" (.)1
وقوله { :وَطَلْحٍ مَ ْنضُودٍ } :الطلح :شجر عظام يكون بأرض الحجاز ،من شجر العضَاه ،
واحدته طلحة ،وهو شجر كثير الشوك ،وأنشد ابن جرير لبعض الحداة (: )2
بَشّرَهَا دَليلها وقال ...غدًا تَرينَ الطّلحَ والجبَال...
وقال مجاهد { :مَ ْنضُودٍ } أي :متراكم الثمر ،يذكر بذلك قريشًا ؛ لنهم كانوا يعجبون من وَجّ ،
وظلله من طلح وسدر.
وقال السّدّي { :مَ ْنضُودٍ } :مصفوف .قال ابن عباس :يشبه طلح الدنيا ،ولكن له ثمر أحلى من
العسل.
قال الجوهري :والطلح لغة في الطلع.
قلت :وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد ،عن شيخ من همدان قال :سمعت عليّا
يقول :هذا الحرف في { َوطَلْحٍ مَ ْنضُودٍ } قال :طلع منضود ،فعلى هذا يكون هذا من صفة
السدر ،فكأنه وصفه بأنه مخضود وهو الذي ل شوك له ،وأن طلعه منضود ،وهو كثرة ثمره ،
وال أعلم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو معاوية ،عن إدريس ،عن جعفر بن
إياس ،عن أبي نضرة ،عن أبي سعيد { :وَطَلْحٍ مَ ْنضُودٍ } قال :الموز .قال :وروي عن ابن
عكْ ِرمَة ،وقسامة بن زهير ،وقتادة ،وأبي حَزْرَة ،مثل ذلك
عباس ،وأبي هريرة ،والحسن ،و ِ
،وبه قال مجاهد وابن زيد -وزاد فقال :أهل اليمن يسمون الموز الطلح .ولم يحك ابن جرير
غير هذا القول (.)3
ظلّ َممْدُودٍ } :قال البخاري :حدثنا علي بن عبد ال ،حدثنا سفيان ،عن أبي
وقوله { :وَ ِ
الزناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة -يبلُغُ به النبي صلى ال عليه وسلم -قال " :إن في
ظلّ َم ْمدُودٍ }.
الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ل يقطعها ،اقرؤوا إن شئتم َ { :و ِ
ورواه مسلم من حديث العرج ،به (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا سُرَيج ،حدثنا فُلَيح ،عن هلل بن علي ،عن عبد الرحمن بن أبي
عمْرة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن في الجنة شجرة يسير
َ
ظلّ َممْدُودٍ }.
الراكب في ظلها مائة سنة ،اقرؤوا إن شئتم { :وَ ِ
__________
( )1البعث لبن أبي داود برقم ( )69ورواه الطبراني في مسند الشاميين برقم ( )492وعنه أبو
نعيم في الحلية ( )6/103عن أبي زرعة عن أبي مسهر عن يحيى بن حمزة به ،وقال الهيثمي
في المجمع (" : )10/414رجاله رجال الصحيح".
( )2تفسير الطبري (.)27/104
( )3تفسير الطبري (.)27/104
( )4صحيح البخاري برقم ( )4881وصحيح مسلم برقم (.)2826
( )7/526
وكذا رواه البخاري ،عن محمد بن سِنَان ( ، )1عن فُلَيح به ( ، )2وكذا رواه عبد الرزاق ،عن
َم ْعمَر ،عن َهمّام ،عن أبي هريرة ( .)3وكذا رواه حماد بن سلمة ،عن محمد بن زياد ،عن
أبي هريرة ( ، )4والليث بن سعد ،عن سعيد ال َمقْبُ ِريّ ،عن أبيه ،عن أبي هريرة ( ، )5وعوف
،عن ابن سيرين ،عن أبي هُرَيرة [به] (.)6
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قال حدثنا شعبة ،سمعت أبا الضحاك يحدث
عن أبي هُرَيرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إن في الجنة شجرة يسير الراكب
في ظلها سبعين ،أو مائة سنة ،هي شجرة الخلد" (.)7
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سنان ،حدثنا يزيد بن هارون ،عن محمد بن عمرو ،عن
أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،عن رسول ال قال " :في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة
ظلّ َممْدُودٍ }.
عام ما يقطعها ،واقرؤوا إن شئتم { :وَ ِ
إسناده جيد ،ولم يخرجوه ( .)8وهكذا رواه ابن جرير ،عن أبي كُرَيْب ،عن عبدة وعبد
الرحيم ،عن محمد بن عمرو ،به .وقد رواه الترمذي ،من حديث عبد الرحيم بن سليمان ،به (
.)9
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْرَان ،حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ،عن زياد -
مولى بني مخزوم -عن أبي هريرة قال :إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ،
ظلّ َممْدُودٍ } .فبلغ ذلك كعبًا فقال :صدق ،والذي أنزل التوراة على موسى
اقرؤوا إن شئتم { :وَ ِ
جذَعة ،ثم دار حول ( )10تلك الشجرة ما بلغها
حقّة أو َ
والفرقان على محمد ،لو أن رجل ركب ِ
حتى يسقط هَ َرمًا ،إن ال غرسها بيده ونفخ فيها من روحه ،وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة ،
وما في الجنة نهر إل وهو يخرج من أصل تلك الشجرة (.)11
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي :حدثنا محمد بن مِ ْنهَال الضرير ،حدثنا يزيد بن زُرَيع ،عن
سعد بن أبي عروبة ،عن قتادة ،عن أنس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم في قول ال عز وجل
ظلّ َممْدُودٍ } ،قال " :في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ل يقطعها".
َ { :و ِ
وكذا رواه البخاري ،عن روح بن عبد المؤمن ،عن يزيد بن زُرَيع ( ، )12وهكذا رواه أبو
داود
__________
( )1في هـ " :محمد بن شيبان" والمثبت من م ،أ ،وصحيح البخاري.
( )2المسند ( )2/482وصحيح البخاري برقم (.)3252
( )3المصنف لعبد الرزاق برقم (.)20877
( )4رواه أحمد في المسند (.)2/469
( )5رواه مسلم في صحيحه برقم (.)2826
( )6زيادة من م.
( )7المسند (.)2/445
( )8رواه ابن ماجة في السنن برقم ( )4335من طريق عبد الرحمن بن عثمان عن محمد بن
عمرو به مثله.
( )9تفسير الطبري ( )27/105وسنن الترمذي برقم (.)3292
( )10في م " :بأعلى" وفي أ " :بأصل".
( )11تفسير الطبري (.)27/105
( )12صحيح البخاري برقم (.)3251
( )7/527
الطيالسي ،عن عمران بن دَاوَر القطان ،عن قتادة به .وكذا رواه َم ْعمَر ،وأبو هلل ،عن قتادة
،به .وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد ،عن رسول ال صلى ال
ضمّر السريع مائة عام ما يقطعها" (
عليه وسلم قال " :إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد ال ُم َ
.)1
فهذا حديث ثابت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة
الحديث النقاد ،لتعدد طرقه ،وقوة أسانيده ،وثقة رجاله.
حصَين قال :
وقد قال المام أبو جعفر بن جرير :حدثنا أبو كُرَ ْيبَ ،حدثنا أبو بكر ،حدثنا أبو ُ
كنا على باب في موضع ،ومعنا أبو صالح وشقيق -يعني :الضبي -فحدث أبو صالح قال :
حدثني أبو هُرَيْرَة قال :إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا .قال أبو صالح :
أتكَذّب أبا هريرة ؟ قال :ما أكذّب أبا هريرة ،ولكني أكذّبك أنت .فشق ذلك على القراء يومئذ (
.)2
قلت :فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث ،مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم.
وقال الترمذي :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا زياد بن الحسن بن الفُرَات القَزّاز ،عن أبيه ،عن
جده ،عن أبي حازم ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما في
الجنة شجرة إل ساقها من ذهب" .ثم قال :حسن غريب (.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن أبي الربيع ،حدثنا أبو عامر ال َعقَدي ،عن زمعة بن صالح
عكْ ِرمَة ،عن ابن عباس قال :الظل الممدود شجرة في الجنة على
،عن سلمة بن وهرام ،عن ِ
ساق ظلها ،قدر ما يسير الراكب في نواحيها مائة عام .قال :فيخرج إليها أهل الجنة ؛ أهل
الغرف وغيرهم ،فيتحدثون في ظلها .قال :فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ،فيرسل ال ريحًا
من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا.
هذا أثر غريب وإسناده جيد قَويّ حسن.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا ابن ( )4يمان ،حدثنا سفيان ،حدثنا أبو
ظلّ َممْدُودٍ } قال :سبعون ألف سنة .وكذا رواه ابن
إسحاق ،عن عمرو بن ميمون في قوله َ { :و ِ
جرير ،عن بُنْدَار ،عن ابن مهدي ،عن سفيان ،مثله .ثم قال ابن جرير :
ظلّ
حدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْرَان ،عن سفيان ،عن أبي إسحاق ،عن عمرو بن ميمون { :وَ ِ
َممْدُودٍ } قال :خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو الوليد الطيالسي ،حدثنا حصين بن نافع ،عن الحسن
ظلّ َممْدُودٍ } قال :في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ل
في قوله ال تعالى { :وَ ِ
يقطعها.
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )6553 ، 6552وصحيح مسلم برقم (.)2828 ، 2827
( )2تفسير الطبري (.)27/106
( )3سنن الترمذي برقم (.)2525
( )4في أ " :حدثنا أبو".
( )7/528
وقال عوف عن الحسن :بلغني أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن في الجنة لشجرة
يسير الراكب في ظلها مائة عام ل يقطعها" .رواه ابن جرير (.)1
ظلّ به .رواه ابن أبي
عكْ ِرمَة ،عن ابن عباس :في الجنة شَجَر ل يحمل ،يُست َ
وقال شبيب عن ِ
حاتم.
ظلّ َممْدُودٍ } ل ينقطع ،ليس فيها شمس ول
وقال الضحاك ،والسّ ّديّ ،وأبو حَرْ َزةَ في قوله { :وَ ِ
حر ،مثل قبل طلوع الفجر.
سجْسَج ،كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقال ابن مسعود :الجنة َ
ظّلهَا }
وقد تقدمت اليات كقوله { :وَنُ ْدخُِلهُمْ ظِل ظَلِيل } [النساء ، ]57 :وقوله ُ { :أكُُلهَا دَائِ ٌم وَ ِ
[الرعد ، ]35 :وقوله { :فِي ظِللٍ وَعُيُونٍ } [المرسلت ]41 :إلى غير ذلك من اليات.
سكُوبٍ } قال الثوري [ :يعني] ( )2يجري في غير أخدود.
وقوله َ { :ومَاءٍ مَ ْ
وقد تقدم الكلم عند ( )3تفسير قوله تعالى { :فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } الية [محمد :
، ]15بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله َ { :وفَا ِكهَةٍ كَثِي َرةٍ .ل مَقْطُوعَةٍ وَل َممْنُوعَةٍ } أي :وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في
اللوان ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر { ،كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا مِنْ
ل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَا ِبهًا } [البقرة ]25 :أي :يشبه الشكلُ
َثمَ َرةٍ رِ ْزقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْب ُ
الشكلَ ،ولكن الطعم غيرُ الطعم .وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى قال " :فإذا ورقها كآذان
الفيلة ونبقها مثل قللَ هجر" (.)4
سفَت
وفيهما أيضًا من حديث مالك ،عن زيد ،عن عطاء بن يسار ،عن ابن عباس قال :خُ ِ
الشمس ،فصلى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم والناس معه ،فذكر الصلة .وفيه :قالوا :يا
رسول ال ،رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا ،ثم رأيناك تكعكعت ( .)5قال " :إني رأيت الجنة
،فتناولت منها عنقودًا ،ولو أخذته لكلتم منه ما بقيت الدنيا" (.)6
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا أبو خَيْثَمة ،حدثنا عبد ال بن جعفر ،حدثنا عبيد ال ،حدثنا ابن (
)7عقيل ،عن جابر قال :بينا نحن في صلة الظهر ،إذ تقدم رسول ال صلى ال عليه وسلم
فتقدمنا معه ،ثم تناول شيئًا ليأخذه ثم تأخر ،فلما قضى الصلة قال له أبيّ بن كعب :يا رسول
ال ،صنعتَ اليومَ
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/105
( )2زيادة من م ،أ.
( )3في م ،أ " :على".
( )4صحيح البخاري برقم ( )3207وصحيح مسلم برقم ( )162من حديث أنس رضي ال عنه.
( )5في أ " :تكفكفت".
( )6صحيح البخاري برقم ( )1052وصحيح مسلم برقم (.)907
( )7في م ،أ " :حدثنا أبو".
( )7/529
( )7/530
هكذا قال :إنه ل يعرف هذا إل من رواية رشدين بن سعد ،وهو المصري ،وهو ضعيف.
وهكذا رواه أبو جعفر بن جرير ،عن أبي كُرَيْب ،عن رشدين ( .)1ثم رواه هو وابن أبي
حاتم ،كلهما عن يونس بن عبد العلى ،عن ابن وهب ،عن عمرو بن الحارث ،فذكره .وكذا
رواه ابن أبي حاتم أيضًا عن ُنعَيم بن حماد ،عن ابن وهب .وأخرجه الضياء في صفة الجنة من
حديث حرملة عن ابن وهب ،به مثله .ورواه المام أحمد عن حسن بن موسى ،عن ابن َلهِيعَة ،
حدثنا دراج ،فذكره (.)2
جوَيْبر ،عن أبي سهل -
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو معاوية ،عن ُ
يعني :كثير بن زياد -عن الحسن َ { : :وفُرُشٍ مَ ْرفُوعَةٍ } قال :ارتفاع فراش الرجل من أهل
الجنة مسيرة ثمانين سنة.
جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارًا .عُرُبًا أَتْرَابًا .لصْحَابِ الْ َيمِينِ } جرى الضمير
وقوله { :إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِ ْنشَاءًَ .ف َ
على غير مذكور .لكن لما دل السياق ،وهو ذكر الفرش على النساء اللتي يضاجَعن فيها ،
شيّ
اكتفى بذلك عن ذكرهن ،وعاد الضمير عليهن ،كما في قوله { :إِذْ عُ ِرضَ عَلَيْهِ بِا ْلعَ ِ
حبّ الْخَيْرِ عَنْ ِذكْرِ رَبّي حَتّى َتوَا َرتْ بِا ْلحِجَابِ } [ص ، 31 :
الصّافِنَاتُ الْجِيَادُ .فَقَالَ إِنّي أَحْبَ ْبتُ ُ
]32يعني :الشمس ،على المشهور من قول المفسرين.
قال الخفش في قوله { :إِنّا أَ ْنشَأْنَاهُنّ إِنْشَاءً } أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك .وقال أبو عبيدة :
ذكرن في قوله { :وَحُورٌ عِينٌ .كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } [الواقعة .]23 ، 22 :
فقوله { :إِنّا أَ ْنشَأْنَاهُنّ } أي :أعدناهن في النشأة الخرة بعدما كُنّ عجائز (ُ )3ر ْمصًا ،صرن
أبكارًا عربًا ،أي :بعد الثّيوبة عُدْن أبكارًا عُرُبًا ،أي :متحببات إلى أزواجهن بالحلوة
والظرافة والملحة.
وقال بعضهم { :عُرُبًا } أي :غَنِجات.
قال موسى بن عُبَيدة الرّبَذِي ،عن يزيد الرقاشي ،عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى
عمْشًا ُر ْمصًا" .رواه
ال عليه وسلم { :إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِنْشَاءً } قال " :نساء عجائز كُنّ في الدنيا ُ
الترمذي ،وابن جرير ،وابن أبي حاتم .ثم قال الترمذي :غريب ،وموسى ويزيد ضعيفا (( )4
.)5
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا محمد بن عوف الحمصي ،حدثنا آدم -يعني :ابن أبي إياس -
حدثنا شيبان ،عن جابر ،عن يزيد بن مُرّة ،عن سلمة بن يزيد قال :سمعتُ رسولَ ال صلى
ال عليه وسلم يقول في قوله { :إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِنْشَاءً } يعني " :الثيب والبكار اللتي كُنّ في الدنيا"
(.)6
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/106
( )2المسند (.)3/75
( )3في أ " :ماكن عجاف".
( )4في أ " :ضعيفان".
( )5سنن الترمذي برقم ( )3296وتفسير الطبري (.)27/107
( )6ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )7/40وأبو نعيم في صفة الجنة برقم ( )389من طريق
شيبان به ،وجابر بن يزيد ضعيف.
( )7/531
حمَيد :حدثنا مصعب بن المقدام ،حدثنا المبارك بن فضالة ،عن الحسن قال :أتت
وقال عبد بن ُ
عجوز فقالت :يا رسول ال ادع ال أن يدخلني الجنة .فقال " :يا أم فلن ،إن الجنة ل تدخلها
عجوز" .قال َ :فوَلّت تبكي ،قال " :أخبروها أنها ل تدخلها وهي عجوز ،إن ال تعالى يقول :
جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارًا }
{ إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِ ْنشَاءًَ .ف َ
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد (.)1
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ،حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي ،
حدثنا سليمان بن أبي كريمة ،عن هشام بن حسان ،عن الحسن ،عن أمه ،عن أم سلمة قالت :
قلت :يا رسول ال ،أخبرني عن قول ال َ { :وحُورٌ عِينٌ } [الواقعة ، ]22 :قال " :حور :
شفْر الحوراء بمنزلة جناح النسر" .قلت :أخبرني عن قوله :
بيض ،عين :ضخام العيون ُ ،
{ كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } [الواقعة )2( ، ]23 :قال " :صفاؤهن صفاءُ الدر الذي في الصداف ،
الذي لم َتمَسّه اليدي" .قلت :أخبرني عن قوله { :فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن .]70 :قال :
"خَيّراتُ الخلق ،حِسان الوجوه" .قلت :أخبرني عن قوله { :كَأَ ّنهُنّ بَ ْيضٌ َمكْنُونٌ } [الصافات :
، ]49قال " :رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر ،وهو :الغِرْقئُ".
قلت :يا رسول ال ،أخبرني عن قوله { :عُرُبًا أَتْرَابًا } .قال " :هن اللواتي قبضن في دار الدنيا
عجائز ُر ْمصًا شُمطًا ،خلقهن ال بعد الكبر ،فجعلهن عذارى عُرُبًا متعشقات محببات ،أترابًا
على ميلد واحد" .قلت :يا رسول ال ،نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال " :بل نساء الدنيا
أفضل من الحور العين ،كفضل الظّهارة على البطانة" .قلت :يا رسول ال ،وبم ذاك ؟ قال :
"بصلتهن وصيامهن وعبادتهن ال ،عز وجل ،ألبس ال وجوههن النور ،وأجسادهن الحرير ،
بيض اللوان ،خضر الثياب ،صفر الحلي ،مَجَامِرُهُنّ الدّرّ ،وأمشاطهن الذهب ،يقلن :نحن
الخالدات فل نموت أبدًا ،ونحن الناعمات فل نبأس أبدًا ،ونحن المقيمات فل نظعن أبدًا ،أل
ونحن الراضيات فل نسخط أبدًا ،طوبى لمن كُنّا له وكان لنا" .قلت :يا رسول ال ،المرأة منا
تتزوج زوجين والثلثة والربعة ،ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها ،من يكون زوجها ؟
قال " :يا أم سلمة ،إنها ُتخَيّر فتختار أحسنهم خلقًا ،فتقول :يا رب ،إن هذا كان أحسن خلقًا
معي فزوجنيه ،يا أم سلمة ( )3ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والخرة" (.)4
وفي حديث الصور الطويل المشهور ( )5أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يشفع للمؤمنين كلهم
في دخول الجنة فيقول ال :قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها .فكان رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :والذي بعثني بالحق ،ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة
بأزواجهم ومساكنهم ،
__________
( )1الشمائل المحمدية للترمذي برقم (.)230
( )2في أ " :كأنهن" وهو خطأ.
( )3في أ " :يا أم سليم".
( )4المعجم الكبير ( )23/368وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/119فيه إسماعيل بن أبي كريمة
ضعفه أبو حاتم وابن عدي".
( )5حديث الصور مضى عند تفسير الية 73 :من سورة النعام.
( )7/532
فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة ،سبعين مما ينشئ ال ،وثنتين من ولد ( )1آدم
لهما فضل على من أنشأ ال ،بعبادتهما ال في الدنيا ،يدخل على الولى منهما في غرفة من
ياقوتة ،على سرير من ذهب ُمكَلّل باللؤلؤ ،عليه سبعون زوجًا من سُ ْندُس وإستبرق وإنه ليضع
يده بين كتفيها ،ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها ،وإنه لينظر إلى
مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ،كبده لها مرآة -يعني :وكبدها له
مرآة -فبينما هو عندها ل يملها ول تمله ،ول يأتيها من مرة إل وجدها عذراء ،ما يفتر
َذكَرُه ،ول تشتكي قُبُلها إل أنه ل مني ول مَنيّة ،فبينما هو كذلك إذ نودي :إنا قد عرفنا أنك ل
تمل ول تمل ،إل أن لك أزواجًا غيرها ،فيخرج ،فيأتيهن واحدة واحدة ( ، )2كلما جاء واحدة
ي منك".
قالت :وال ما في الجنة شيء أحسن منك ،وما في الجنة شيء أحب إل ّ
حجَيرة ( ، )3عن أبي
وقال عبد ال بن وهب :أخبرني عمرو بن الحارث ،عن دَرّاج ،عن ابن ُ
هريرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال له :أَنَطأ في الجنة ؟ قال " :نعم ،والذي
حمًا دحمًا ،فإذا قام عنها رَجَعتْ مُطهّرة بكرًا" (.)4
نفسي بيده َد ْ
وقال الطبراني :حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي ،حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيق
الواسطي ،حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي ،حدثنا شريك ،عن عاصم الحول ،عن أبي
المتوكل ،عن أبي سعيد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أهل الجنة إذا جامعوا
عمْران ،عن قتادة ،عن أنس ،قال :
نساءهم عُدن أبكارًا" ( .)5وقال أبو داود الطيالسي :حدثنا ِ
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء" .قلت :يا
رسول ال ،ويطيق ذلك ؟ قال " :يعطى قوة مائة".
ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال :صحيح غريب (.)6
وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي ،عن زائدة ،عن هشام بن حسان ،
عن محمد بن سيرين ،عن أبي هريرة قال :قيل :يا رسول ال ،هل نصل إلى نسائنا في الجنة
؟ قال " :إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء" (.)7
قال الحافظ أبو عبد ال المقدسي :هذا الحديث عندي على شرط الصحيح ،وال أعلم.
وقوله { :عُرُبًا } قال سعيد بن جبير ،عن ابن عباس :يعني متحببات إلى أزواجهن ،ألم تر إلى
الناقة الضبعة ،هي كذلك.
وقال الضحاك ،عن ابن عباس :العُرُب :العواشق لزواجهن ،وأزواجهن لهن عاشقون .وكذا
قال عبد ال بن سَرْجس ،ومجاهد ،وعكرمة ،وأبو العالية ،ويحيى بن أبي كثير ،وعطية ،
__________
( )1في م " :من ابن".
( )2في م " :واحدة بعد واحدة".
( )3في أ " :عن ابن حجرة".
( )4رواه ابن حبان في صحيحه برقم (" )2633موارد" وأبو نعيم في صفة الجنة برقم ( )393من
طريق ابن وهب به ،ودراج متكلم فيه.
( )5المعجم الصغير ( )1/91وفيه معلى بن عبد الرحمن وهو كذاب.
( )6مسند الطيالسي برقم ( )2012وسنن الترمذي برقم (.)2536
( )7المعجم الصغير (.)13 ، 2/12
( )7/533
( )7/534
عمَر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الثبات .وقد روى هذا الحديث
قلت :إسماعيل بن ُ
المام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدُحَيْم ،عن ابن أبي فُدَيْك ،عن ابن أبي ذئب ،عن عون
بن الخطاب بن عبد ال بن رافع ،عن ابنٍ لنس ،عن أنس قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :إن الحور العين يغنين في الجنة :نحن الجوار الحسان ،خلقنا لزواج كرام" (.)1
وقوله { :لصْحَابِ الْ َيمِينِ } أي :خلقنا لصحاب اليمين ،أو :ادخرن لصحاب اليمين ،أو :
جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارًا .عُرُبًا
زوجن لصحاب اليمين .والظهر أنه متعلق بقوله { :إِنّا أَ ْنشَأْنَاهُنّ إِ ْنشَاءً .فَ َ
أَتْرَابًا .لصْحَابِ الْ َيمِينِ } فتقديره :أنشأناهن لصحاب اليمين .وهذا توجيه ابن جرير (.)2
ُروِي عن أبي سليمان الدّاراني -رحمه ال -قال :صليتُ ليلة ،ثم جلست أدعو ،وكان البردُ
شديدًا ،فجعلت أدعو بيد واحدة ،فأخذتني عيني فنمت ،فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول :
يا أبا سليمان ،أتدعو بيد واحدة وأنا أُغذّى لك في النعيم من خمسمائة سنة!
قلت :ويحتمل أن يكون قوله { :لصْحَابِ الْ َيمِينِ } متعلقًا بما قبله ،وهو قوله { :أَتْرَابًا
لصْحَابِ الْ َيمِينِ } أي :في أسنانهم .كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ،من حديث
عمَارة بن القعقاع ،عن أبي زُرْعَة ،عن أبي هُرَيرة ،قال :قال رسول ال صلى
جرير ،عن ُ
ال عليه وسلم " :أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ،والذين يلونهم على
ضوء أشد كوكب دُ ّريّ في السماء إضاءة ،ل يبولون ول يتغوطون ،ول يتفلون ول يتمخطون ،
أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الُلوّة ،وأزواجهم الحور العين ،أخلقهم على خَلْق
رجل واحد ،على صورة أبيهم آدم ،ستون ذراعًا في السماء" (.)3
وقال المام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون وعفان قال حدثنا حماد بن سلمة -وروى الطبراني ،
واللفظ له ،من حديث حماد بن سلمة -عن علي بن زيد بن جُدْعَان ،عن سعيد بن المسيب ،
عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردا مُردًا
بيضًا جِعادًا ُمكَحّلين ،أبناء ثلثين أو ثلث وثلثين ،وهم على خَلْق آدم ستون ذراعًا في عرض
سبعة أذرع" (.)4
شهْر بن
وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ،عن عمران القطان ،عن قتادة ،عن َ
حوْشب ،عن عبد الرحمن بن غَنْم ،عن ُمعَاذ بن جَبَل ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال
َ
" :يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردًا مُردًا مكحلين أبناء ثلثين ،أو ثلث وثلثين سنة" .ثم قال :حسن
غريب ()5
__________
( )1ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم ( )432من طريق دحيم به ،ورواه البيهقي في البعث
برقم ( )420من طريق ابن عبد الحكم ،وابن أبي داود في البعث برقم ( )75عن كثير بن عبيد
كلهما عن ابن أبي فديك به نحوه ،ورواه الطبراني في الوسط برقم (" )4887مجمع البحرين"
من طريق الحسن بن داود عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ،عن عون بن الخطاب عن أنس
به نحوه .قال المنذري في الترغيب والترهيب (" : )4/226رواه ابن أبي الدنيا والطبراني وإسناده
مقارب ،ورواه البيهقي عن ابن لنس لم يسمه عن أنس" وأشار البخاري إلى اختلف فيه في
التاريخ الكبير (.)7/16
( )2تفسير الطبري (.)27/109
( )3صحيح البخاري برقم ( )3327وصحيح مسلم برقم (.)2834
( )4المسند ( )2/295والمعجم الوسط برقم (" )4894مجمع البحرين".
( )5سنن الترمذي برقم (.)2545
( )7/535
وقال ابن وهب :أخبرنا عمرو بن الحارث أنّ دَرّاجًا أبا السمح حَدّثه عن أبي الهيثم ،عن أبي
سعيد قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير ،
يُرَدون بني ثلث وثلثين في الجنة ،ل يزيدون عليها أبدًا ،وكذلك أهل النار".
سوَيْد بن نصر ،عن ابن المبارك ،عن رشدين بن سعد ،عن عمرو بن
ورواه الترمذي عن ُ
الحارث ،به ()1
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا :حدثنا القاسم بن هاشم ،حدثنا صفوان بن صالح ،حدثنا روّاد بن
الجراح العسقلني ،حدثنا الوزاعي ،عن هارون بن رئاب ،عن أنس قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك! على
حسْن يوسف ،وعلى ميلد عيسى ثلث وثلثين سنة ،وعلى لسان محمد ،جُ ْردٌ مُرْدٌ ُمكَحّلُون" (
ُ
.)2
وقال أبو بكر بن أبي داود :حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قال حدثنا عمر عن
الوزاعي ،عن هارون بن رئاب ،عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :يُبعث ( )3أهل الجنة على صورة آدم في ميلد ثلثٍ وثلثين ،جُردًا مُردًا مكحلين ،ثم يذهب
بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها ،ل تبلى ثيابهم ،ول يفنى شبابهم" (.)4
ن الوّلِينَ .وَثُلّةٌ مِنَ الخِرِينَ } أي :جماعة من الولين وجماعة من الخرين.
وقوله { :ثُلّةٌ مِ َ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا المنذر بن شاذان ،حدثنا محمد بن بكار ،حدثنا سعيد بن بَشير ،عن
حصَين ،عن عبد ال بن مسعود -قال :وكان بعضهم يأخذ
قتادة ،عن الحسن ،عن عمران بن ُ
عن بعض -قال :أكرينا ذات ليلة عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم غدونا عليه ،فقال :
"عُرضت عليّ النبياء وأتباعها بأممها ،فيمر علي النبي ،والنبي في العصابة ،والنبي في
جلٌ رَشِيدٌ } [هود - ]78 :
الثلثة ،والنبي ليس معه أحد -وتل قتادة هذه الية { :أَلَيْسَ مِ ْنكُمْ َر ُ
قال :حتى مرّ عليّ موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل" .قال " :قلتُ :ربي من هذا ؟
قال :هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه ( )5من بني إسرائيل" .قال " :قلت :رب فأين أمتي
؟ قال :انظر عن يمينك في الظراب ( .)6قال " :فإذا وجوه الرجال" .قال " :قال :أرضيت ؟"
قال :قلت " :قد رضيت ،رب" .قال :انظر إلى الفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال .قال :
أرضيت ؟ قلت " :رضيت ،رب" .قال :فإن مع هؤلء سبعين ألفا ،يدخلون الجنة بغير حساب".
حصَن من بني أسد -قال سعيد :وكان بَدْريّا -قال :يا نبي ال ،ادع
عكّاشة بن مُ ْ
قال :وأنشأ ُ
ال أن يجعلني منهم .قال :فقال " :اللهم اجعله منهم" .قال :أنشأ ( )7رجل آخر ،قال :يا نبي
ال ،ادع ال
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )2562ورواه من طريق ابن وهب وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (
.)259
( )2صفة الجنة لبن أبي الدنيا برقم (.)215
( )3في أ " :يدخل".
( )4البعث لبن أبي داود برقم ( )64وانظر كلم المحقق الفاضل في سماع هارون بن رئاب عن
أنس.
( )5في م " :ومن تبعه".
( )6في م ،أ " :الضراب".
( )7في م " :ثم أنشأ".
( )7/536
أن يجعلني منهم .فقال " :سبقك بها عكاشة" قال :فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فإن
استطعتم -فداكم أبي وأمي -أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإل فكونوا ( )1من
أصحاب الظراب ( ، )2وإل فكونوا من أصحاب الفق ،فإني قد رأيت ناسًا كثيرًا قد تأشّبوا
حوله" ( .)3ثم قال " :إني لرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" .فكبرنا ،ثم قال " :إني لرجو أن
تكونوا ثلث أهل الجنة" .قال :فكبرنا ،قال " :إني لرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" .قال :
ن الوّلِينَ .وَثُلّةٌ مِنَ الخِرِينَ }
فكبرنا .ثم تل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية { :ثُلّةٌ مِ َ
قال :فقلنا بيننا :من هؤلء السبعون ألفا ؟ فقلنا :هم الذين ولدوا في السلم ،ولم يشركوا .قال
:فبلغه ذلك فقال " :بل هم الذين ل يكتوون ول يسترقون ول يتطيرون ،وعلى ربهم يتوكلون".
وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة ،به نحوه ( .)4وهذا الحديث له طرق كثيرة
من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْرَان ،حدثنا سفيان ،عن أبان بن أبي عياش ،عن
ن الوّلِينَ .وَثُلّةٌ مِنَ الخِرِينَ } قال :قال رسول ال
سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن عباس { :ثُلّةٌ مِ َ
صلى ال عليه وسلم ُ " :همَا جميعًا من أمتي" (.)5
حمُومٍ ( )43ل
ظلّ مِنْ َي ْ
حمِيمٍ ( )42وَ ِ
سمُو ٍم وَ َ
شمَالِ ( )41فِي َ
صحَابُ ال ّ
شمَالِ مَا َأ ْ
{ وََأصْحَابُ ال ّ
بَارِ ٍد وَل كَرِيمٍ ( )44إِ ّن ُهمْ كَانُوا قَ ْبلَ ذَِلكَ مُتْ َرفِينَ (َ )45وكَانُوا ُيصِرّونَ عَلَى الْحِ ْنثِ ا ْل َعظِيمِ ()46
َوكَانُوا َيقُولُونَ أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ (َ )47أوَآبَاؤُنَا الوّلُونَ (ُ )48قلْ إِنّ
جمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ َيوْمٍ َمعْلُومٍ (.} )50
الوّلِينَ وَالخِرِينَ (َ )49ل َم ْ
__________
( )1في م " :ول تكونوا".
( )2في أ " :الضراب".
( )3في م " :حوالهم".
( )4تفسير الطبري (.)27/109
( )5تفسير الطبري ( )27/110ورواه ابن عدي في الكامل ( )1/387من طريق محمد بن كثير ،
عن سفيان الثوري عن أبان بن أبي عياش به ،وقال ابن عدي " :أبان بن أبي عياش له روايات
غير ما ذكرت وعامة ما يرويه ل يتابع عليه".
( )7/537
ثُمّ إِ ّن ُكمْ أَ ّيهَا الضّالّونَ ا ْل ُمكَذّبُونَ ( )51لََآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ َزقّومٍ (َ )52فمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْ ُبطُونَ ()53
حمِيمِ (َ )54فشَارِبُونَ شُ ْربَ ا ْلهِيمِ ( )55هَذَا نُزُُل ُهمْ َيوْمَ الدّينِ ()56
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْ َ
{ ُثمّ إِ ّنكُمْ أَ ّيهَا الضّالّونَ ا ْل ُم َكذّبُونَ ( )51لكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ َزقّومٍ (َ )52فمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْ ُبطُونَ (
حمِيمِ (َ )54فشَارِبُونَ شُ ْربَ ا ْلهِيمِ ( )55هَذَا نزُل ُهمْ َيوْمَ الدّينِ (.} )56
)53فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْ َ
لما ( )1ذكر تعالى حال أصحاب اليمين ،عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال ،فقال :
شمَالِ } أي :أي شيء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فَسّر ذلك
صحَابُ ال ّ
شمَالِ مَا َأ ْ
{ وََأصْحَابُ ال ّ
حمِيمٍ } وهو :الماء الحار.
سمُومٍ } وهو :الهواء الحار { وَ َ
فقال { :فِي َ
عكْرِمَة ،وأبو صالح ،
حمُومٍ } قال ابن عباس :ظل الدخان .وكذا قال مجاهد ،و ِ
ظلّ مِنْ َي ْ
{ وَ ِ
وقتادة ،والسّ ّديّ ،وغيرهم .وهذه كقوله تعالى { :ا ْنطَِلقُوا ِإلَى مَا كُنْ ُتمْ بِهِ ُتكَذّبُونَ .ا ْنطَِلقُوا إِلَى
صفْرٌ.
جمَاَل ٌة ُ
ل وَل ُيغْنِي مِنَ الّل َهبِ .إِ ّنهَا تَ ْرمِي بِشَرَرٍ كَا ْل َقصْرِ .كَأَنّهُ ِ
ش َعبٍ .ل ظَلِي ٍ
ظلّ ذِي ثَلثِ ُ
ِ
وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُم َكذّبِينَ } [المرسلت ، ]34 ، 29 :
__________
( )1في م " :ولما".
( )7/537
( )7/538
نَحْنُ خََلقْنَاكُمْ فََلوْلَا ُتصَ ّدقُونَ (َ )57أفَرَأَيْتُمْ مَا ُتمْنُونَ ( )58أَأَنْ ُتمْ َتخُْلقُونَهُ َأمْ نَحْنُ الْخَاِلقُونَ ()59
ت َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ ( )60عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ َأمْثَاَلكُمْ وَنُنْشِ َئكُمْ فِي مَا لَا َتعَْلمُونَ
نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْو َ
( )61وََلقَدْ عَِلمْتُمُ النّشَْأةَ الْأُولَى فََلوْلَا َت َذكّرُونَ ()62
وعن خالد بن معدان :أنه كان يكره أن يشرب شُ ْربَ الهيم عَبّة واحدة من غير أن يتنفس ثلثًا.
ثم قال تعالى { :هَذَا نزُل ُهمْ َيوْمَ الدّينِ } أي :هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ كَا َنتْ َل ُهمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ
،كما قال في حق المؤمنين { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
نزل } [الكهف ]107 :أي :ضيافة وكرامة.
خَلقْنَاكُمْ فََلوْل ُتصَ ّدقُونَ (َ )57أفَرَأَيْتُمْ مَا ُتمْنُونَ ( )58أَأَنْ ُتمْ َتخُْلقُونَهُ َأمْ نَحْنُ الْخَاِلقُونَ ()59
{ َنحْنُ َ
ت َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ ( )60عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ َأمْثَاَلكُمْ وَنُنْشِ َئكُمْ فِي مَا ل َتعَْلمُونَ
نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْو َ
( )61وََلقَدْ عَِلمْتُمُ النّشَْأ َة الولَى فََلوْل َت َذكّرُونَ (.} )62
يقول تعالى مُقررًا للمعاد ( ، )1وردّا على المكذبين به من أهل الزيغ واللحاد ،من الذين قالوا :
{ أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ } [الصافات ، ]16 :وقولهم ذلك صدر منهم على
وجه التكذيب والستبعاد ،فقال { :نَحْنُ خََلقْنَاكُمْ } أي :نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا
مذكورًا ،أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على العادة بطريق الولى والحرى ؛ فلهذا قال { :
فََلوْل ُتصَ ّدقُونَ } أي :فهل تصدقون بالبعث! ثم قال مستدل عليهم بقوله َ { :أفَرَأَيْتُمْ مَا ُتمْنُونَ.
أَأَنْتُمْ َتخُْلقُونَهُ أَمْ َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ } أي :أنتم تقرونه في الرحام وتخلقونه فيها ،أم ال الخالق
لذلك ؟
ثم قال { :نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ } أي :صرفناه بينكم.
وقال الضحاك :ساوى فيه بين أهل السماء والرض.
{ َومَا نَحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ } أي :وما نحن بعاجزين.
{ عَلَى أَنْ نُ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُمْ } أي :نغير خلقكم يوم القيامة { ،وَنُنْشِ َئكُمْ فِي مَا ل َتعَْلمُونَ } أي :من
الصفات والحوال.
ثم قال { :وَلَقَدْ عَِلمْتُمُ النّشَْأةَ الولَى فََلوْل َت َذكّرُونَ } أي :قد علمتم أن ال أنشأكم بعد أن لم
تكونوا شيئًا مذكورًا ،فخلقكم وجعل لكم السمع والبصار والفئدة ،فهل تتذكرون وتعرفون أن
الذي قدر على هذه النشأة -وهي البَداءة -قادر على النشأة الخرى ،وهي العادة بطريق
الولى والحرى ،وكما قال { :وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدأُ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ } [الروم ، ]27 :
ل وَلَمْ َيكُ شَيْئًا } [مريم ، ]67 :وقال َ { :أوَلَمْ يَرَ
وقال َ { :أوَل َي ْذكُرُ النْسَانُ أَنّا خََلقْنَاهُ مِنْ قَ ْب ُ
سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي
خصِيمٌ مُبِينٌَ .وضَ َربَ لَنَا مَثَل وَنَ ِ
طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ
النْسَانُ أَنّا خََلقْنَاهُ مِنْ ُن ْ
ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌُ .قلْ يُحْيِيهَا الّذِي أَنْشَأَهَا َأوّلَ مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِب ُكلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس ، ]79 - 77 :
طفَةً مِنْ مَنِيّ ُيمْنَى .ثُمّ كَانَ عََلقَةً َفخَلَقَ
سبُ النْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى .أََلمْ َيكُ ُن ْ
وقال تعالى { :أَيَحْ َ
ج َعلَ مِنْهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالنْثَى .أَلَيْسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } ؟ [القيامة :
سوّى .فَ َ
فَ َ
.]40 - 36
__________
( )1في أ " :للعباد".
( )7/539
( )7/540
( )7/541
وهذا الذي أرسله قتادة رواه المام أحمد في مسنده ،فقال :
حدثنا سفيان ،عن أبي الزّناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم :
"إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ،وضربت بالبحر مرتين ،ولول ذلك ما
جعل ال فيها منفعة لحد" (.)1
وقال المام مالك ،عن أبي الزناد ،عن العرج ،عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم" .فقالوا :يا رسول ال
إن كانت لكافية فقال " :إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا".
رواه البخاري من حديث مالك ،ومسلم ،من حديث أبي الزناد ( ، )2ورواه مسلم ،من حديث
عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن همام ،عن أبي هريرة ،به ( .)3وفي لفظ " :والذي نفسي بيده ،
لقد ُفضّلَت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها".
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا أحمد بن عمرو الخلل ،حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ،
حدثنا َمعْن بن عيسى القزاز ،عن مالك ،عن عمه أبي السهيل ،عن أبيه ،عن أبي هريرة قال
:قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد
سوادًا من [دخان] ( )4ناركم هذه بسبعين ضعفًا" (.)5
قال الضياء المقدسي :وقد رواه ابن ( )6مصعب عن مالك ،ولم يرفعه ،وهو عندي على شرط
الصحيح.
وقوله َ { :ومَتَاعًا لِ ْل ُم ْقوِينَ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،والضحاك ،والنضر بن عربي :
معنى { لِ ْل ُمقْوِينَ } المسافرين ،واختاره ابن جرير ،وقال :ومنه قولهم " :أقوت الدار إذا رحل
أهلها".
ي والقَوَاء :القفر الخالي البعيد من العمران.
وقال غيره :الق ّ
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :المقوي هنا الجائع.
وقال ليث ابن أبي سليم ،عن مجاهد َ { :ومَتَاعًا لِ ْل ُم ْقوِينَ } للحاضر والمسافر ،لكل طعام ل
يصلحه إل النار .وكذا روى سفيان ،عن جابر الجعفي ،عن مجاهد.
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد قوله { :لِ ْل ُم ْقوِينَ } المستمتعين ،الناس أجمعين .وكذا ذكر عن
عكرمة.
__________
( )1المسند (.)2/244
( )2صحيح البخاري برقم ( )3265وصحيح مسلم برقم (.)2843
( )3صحيح مسلم برقم (.)2843
( )4زيادة من المعجم الوسط للطبراني.
( )5المعجم الوسط برقم (" )4843مجمع البحرين".
( )6في م ،أ " :وقد رواه أبو".
( )7/542
عظِيمٌ ()76
سمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ ( )75وَإِنّهُ َلقَسَمٌ َلوْ َتعَْلمُونَ َ
فَلَا ُأقْ ِ
وهذا التفسير أعم من غيره ،فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل ( )1محتاجون للطبخ
والصطلء والضاءة وغير ذلك من المنافع .ثم من لطف ال تعالى أن أودعها في الحجار ،
وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ،فإذا احتاج إلى ذلك في
منزله أخرج زنده وأورى ،وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى ،واشتوى واستأنس بها ،وانتفع بها
سائر النتفاعات .فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامّا في حق الناس كلهم .وقد يستدل له بما
رواه المام أحمد وأبو داود من حديث أبي خِدَاش حَبّان بن زَيد الشّرعَبي الشّامي ،عن رجل من
المهاجرين من قَرَن ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :المسلمون شركاء في ثلثة :
النار والكل والماء" (.)2
وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلثٌ ل
ُيمْ َنعْنَ :الماء والكل والنار" (.)3
وله من حديث ابن عباس مرفوعًا مثل هذا وزيادة " :وثمنه حرام" ( .)4ولكن في إسناده "عبد ال
حوْشب" وهو ضعيف ،وال أعلم.
بن خِرَاش بن َ
وقوله { :فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ } أي :الذي بقدرته خلق هذه الشياء المختلفة المتضادة الماء
العذب الزلل البارد ،ولو شاء لجعله ملحًا أجاجًا كالبحار المغرقة .وخلق النار المحرقة ،وجعل
ذلك مصلحة للعباد ،وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم ،وزاجرًا لهم في المعاد.
عظِيمٌ (.} )76
{ فَل ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ ( )75وَإِنّهُ َلقَسَمٌ َلوْ َتعَْلمُونَ َ
__________
( )1في م ،أ " :الجميع".
( )2المسند ( )5/364وسنن أبي داود برقم (.)3477
( )3سنن ابن ماجه برقم (.)2472
( )4سنن ابن ماجه برقم (.)2472
( )7/543
( )7/543
وقال ابن جرير :وقال بعض أهل العربية :معنى قوله { :فَل ُأ ْقسِمُ } فليس المر كما تقولون ،
ثم استأنف القسم بعد فقيل :أقسم.
واختلفوا في معنى قوله ِ { :ب َموَاقِعِ النّجُومِ } ،فقال حكيم بن جُبَيْر ،عن سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن
عباس يعني :نجوم القرآن ؛ فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ،ثم
نزل مُفَ ّرقًا ( )1في السنين بعد .ثم قرأ ابن عباس هذه الية.
سفَرة
وقال الضحاك عن ابن عباس :نزل القرآن جملة من عند ال من اللوح المحفوظ إلى ال ّ
جمَته السّفرة على جبريل عشرين ليلة ،ونجمه جبريل على
الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ،فن ّ
محمد صلى ال عليه وسلم عشرين سنة ،فهو قوله { :فَل ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ } نجوم القرآن.
عكْ ِرمَة ،ومجاهد ،والسّ ّديّ ،وأبو حَزْرَة.
وكذا قال ِ
وقال مجاهد أيضًا ِ { :ب َموَاقِعِ النّجُومِ } في السماء ،ويقال :مطالعها ومشارقها .وكذا قال
الحسن ،وقتادة ،وهو اختيار ابن جرير .وعن قتادة :مواقعها :منازلها .وعن الحسن أيضًا :
أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة .وقال الضحاك { :فَل ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ } يعني بذلك :
النواء التي كان أهل الجاهلية إذا مُطِروا ،قالوا :مطرنا بنوء كذا وكذا.
عظِيمٌ } أي :وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ،لو
وقوله { :وَإِنّهُ َلقَسَمٌ َلوْ َتعَْلمُونَ َ
تعلمون ( )2عظمته لعظمتم المقسم به عليه { ،إِنّهُ َلقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي :إن هذا القرآن الذي نزل
على محمد لكتاب عظيم { .فِي كِتَابٍ َمكْنُونٍ } أي :معظّم في كتاب معظم محفوظ موقر.
قال ابن جرير :حدثني إسماعيل بن موسى ( ، )3أخبرنا شريك ،عن حكيم -هو ابن جبير -
طهّرُونَ } قال :الكتاب الذي في السماء.
عن سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن عباس { :ل َيمَسّهُ إِل ا ْل ُم َ
طهّرُونَ } ( )4يعني :الملئكة .وكذا قال
وقال ال َع ْو ِفيّ ،عن ابن عباس [ { :ل َيمَسّهُ ] إِل ا ْل ُم َ
عكْ ِرمَة ،وسعيد بن جُبَيْر ،والضحاك ،وأبو الشعثاء جابر بن زيد ،وأبو
أنس ،ومجاهد ،و ِ
َنهِيك ،والسّ ّديّ ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،وغيرهم.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن عبد العلى ،حدثنا ابن ثور ،حدثنا معمر ،عن قتادة { :ل َيمَسّهُ
طهّرُونَ } قال :ل يمسه عند ال إل المطهرون ،فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس
إِل ا ْلمُ َ
طهّرُونَ }.
،والمنافق الرجس .وقال :وهي في قراءة ابن مسعود { :مَا َي َمسّهُ إِل ا ْلمُ َ
طهّرُونَ } ليس أنتم أصحاب الذنوب.
وقال أبو العالية { :ل َيمَسّهُ إِل ا ْلمُ َ
وقال ابن زيد :زَعَمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ،فأخبر ال تعالى أنه ل
يمسه إل المطهرون كما قال َ { :ومَا تَنزَلتْ ِبهِ الشّيَاطِينَُ .ومَا يَنْ َبغِي َلهُمْ َومَا َيسْتَطِيعُونَ .إِ ّنهُمْ عَنِ
سمْعِ َل َمعْزُولُونَ } [الشعراء .]212 - 210 :
ال ّ
__________
( )1في أ " :متفرقا".
( )2في أ " :لو علمتم".
( )3في م ،أ " :موسى ابن إسماعيل".
( )4زيادة من م.
( )7/544
( )7/545
عبد الرحمن ،عن علي ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ } ،يقول " :شكركم { أَ ّن ُكمْ ُتكَذّبُونَ } ،تقولون :مطرنا بِنَوء كذا وكذا ،بنجم
{ وَتَ ْ
كذا وكذا" (.)1
خوّل ( )2بن إبراهيم النهدي -وابن جرير ،عن
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ،عن أبيه ،عن ُم َ
محمد بن المثنى ،عن عبيد ال بن موسى ،وعن يعقوب بن إبراهيم ،عن يحيى بن أبي ُبكَيْر ،
ثلثتهم عن إسرائيل ،به مرفوعًا ( .)3وكذا رواه الترمذي ،عن أحمد بن مَنِيع ،عن حسين بن
محمد -وهو المروزي -به .وقال " :حسن غريب" .وقد رواه سفيان ،عن عبد العلى ،ولم
يرفعه (.)4
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن أبي بشر ،
عن سعيد بن جُبَيْر ،عن ابن عباس قال :ما مُطِرَ قوم قط إل أصبح بعضهم كافرًا يقولون :
مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا .وقرأ ابن عباس " :وتجعلون شكركم أنكم تكذبون".
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
وقال مالك في الموطأ ،عن صالح بن ك ْيسَان ،عن عبيد ال بن عبد ال بن عتبة بن مسعود ،
جهَنّي أنه قال :صلى بنا رسول ال صلى ال عليه وسلم صلة الصبح
عن زيد بن خالد ال ُ
بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ،فلما انصرف أقبل على الناس فقال " :هل تدرون ماذا
قال ربكم ؟" قالوا :ال ورسوله أعلم" .قال :أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ،فأما من قال :
مطرنا بفضل ال ورحمته ،فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب .وأما من قال :مطرنا بنوء كذا وكذا.
فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب".
أخرجاه في الصحيحين ،وأبو داود ،والنسائي ،كلهم من حديث مالك ،به (.)5
سوّاد ،حدثنا عبد ال بن وهب ،عن
عمْرو بن َ
وقال مسلم :حدثنا محمد بن سلمة المرادي ،و َ
حدّثه ،عن أبي هريرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم
عمرو بن الحارث ؛ أن أبا يونس َ
أنه قال " :ما أنزل ال من السماء من بركة إل أصبح فريق من الناس بها كافرين ،ينزل الغيث ،
فيقولون :بكوكب كذا وكذا".
َتفَرّد به مسلم من هذا الوجه (.)6
وقال ابن جرير :حدثني يونس ،أخبرنا سفيان ،عن محمد بن إسحاق ،عن محمد بن إبراهيم
بن الحارث التيمي ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"إن ال لَ ُيصْبِحُ القومَ بالنعمة أو يُمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون :مُطِرنا بنوء كذا
وكذا".
__________
( )1المسند (.)1/108
( )2في أ " :عن محمد".
( )3تفسير الطبري (.)27/119
( )4سنن الترمذي برقم (.)3295
( )5الموطأ ( )1/192وصحيح البخاري برقم ( )846وصحيح مسلم برقم ( )71وسنن أبي داود
برقم ( )3906وسنن النسائي (.)3/164
( )6صحيح مسلم برقم (.)72
( )7/546
فََلوْلَا إِذَا بََل َغتِ ا ْلحُ ْلقُومَ ( )83وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَ ْنظُرُونَ ( )84وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِ ْنكُ ْم وََلكِنْ لَا تُ ْبصِرُونَ (
جعُو َنهَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ()87
)85فََلوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( )86تَرْ ِ
قال محمد -هو ابن إبراهيم : -فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب ،فقال :ونحن قد سمعنا
من أبي هُرَيرة ،وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،وهو يستسقي ،فلما
استسقى التفت إلى العباس فقال :يا عباس ،يا عم رسول ال ،كم بقى من نوء الثريا ؟ فقال :
العلماء يزعمون أنها تعترض في الفق بعد سقوطها سبعًا .قال :فما مضت سابعة حتى ُمطِروا (
.)1
وهذا مَحمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى ال فيه العادة بإنزال المطر ،ل أن ذلك النوء
يؤثر بنفسه في نزول المطر ؛ فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده .وقد تقدم شيء من هذه الحاديث
سكَ َلهَا } [فاطر .]2 :
حمَةٍ فَل ُممْ ِ
عند قوله { :مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ َر ْ
وقال ابن جرير :حدثني يونس ،أخبرنا سفيان ،عن إسماعيل بن أمية -أحسبه أو غيره -أن
عشَانين السد.
رسول ال صلى ال عليه وسلم سمع رجل -ومطروا -يقول :مُطِرنا ببعض َ
فقال " :كذبت! بل هو رزق ال" (.)2
ثم قال ابن جرير :حدثني أبو صالح الصراري ،حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الزدي (
، )3حدثنا جعفر بن الزبير ،عن القاسم ،عن أبي أمامة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال :
جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ أَ ّنكُمْ
"ما مُطِر قوم من ليلة إل أصبح قوم بها كافرين" ( .)4ثم قال { " :وَتَ ْ
ُتكَذّبُونَ } ،يقول قائل ُ :مطِرنا بنجم كذا وكذا" (.)5
حطَ الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا :مطرنا بنوء
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعًا " :لو قُ ِ
جدَح" (.)6
المِ ْ
جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ أَ ّن ُكمْ ُتكَذّبُونَ } قال :قولهم في النواء :مُطِرنا بنوء كذا ،
وقال مجاهد { :وَتَ ْ
وبنوء كذا ،يقول :قولوا :هو من عند ال ،وهو رزقه .وهكذا قال الضحاك وغير واحد.
وقال قتادة :أما الحسن فكان يقول :بئس ما أخذ قوم لنفسهم ،لم يرزقوا من كتاب ال إل
التكذيب .فمعنى قول الحسن هذا :وتجعلون حظكم من كتاب ال أنكم تكذبون به ؛ ولهذا قال قبله
جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ أَ ّنكُمْ ُت َكذّبُونَ }
َ { :أفَ ِب َهذَا ا ْلحَدِيثِ أَنْتُمْ ُمدْهِنُونَ .وَتَ ْ
نل
{ فََلوْل إِذَا َبَل َغتِ ا ْلحُ ْلقُومَ ( )83وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَ ْنظُرُونَ ( )84وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِ ْنكُ ْم وََلكِ ْ
جعُو َنهَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (.} )87
تُ ْبصِرُونَ ( )85فََلوْل إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( )86تَرْ ِ
يقول تعالى { :فََلوْل إِذَا بََل َغتِ } أي :الروح { ا ْلحُ ْلقُومَ } أي :الحلق ،وذلك حين الحتضار
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/120
( )2تفسير الطبري (.)27/120
( )3في أ " :الودي".
( )4في أ " :كافرون" وهو خطأ.
( )5تفسير الطبري (.)27/120
( )6رواه المام أحمد في مسنده ( )3/7وابن حبان في صحيحه برقم (" )606موارد" من طريق
عمرو بن دينار عن عتاب بن حنين عن أبي سعيد بلفظ " :لو أمسك ال القطر عن الناس سبع
سنين ثم أرسله لصبحت طائفة بها كافرين يقولون :مطرنا بنوء المجدح".
( )7/547
كما قال { :كَل إِذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيََ .وقِيلَ مَنْ رَاقٍ .وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ .وَالْتَ ّفتِ السّاقُ بِالسّاقِ .إِلَى
رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمَسَاقُ } [القيامة ]30 ، 26 :؛ ولهذا قال هاهنا { :وَأَنْتُمْ حِينَ ِئذٍ تَنْظُرُونَ } أي :إلى
المحتضر وما يُكابده من سكرات الموت.
{ وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِ ْنكُمْ } أي :بملئكتنا { وََلكِنْ ل تُ ْبصِرُونَ } أي :ولكن ل ترونهم .كما قال
حفَظَةً حَتّى إِذَا جَاءَ َأحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ
سلُ عَلَ ْيكُمْ َ
في الية الخرى { :وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ
ح ْك ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ الْحَاسِبِينَ }
َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَ ُهمْ ل ُيفَرّطُونَُ .ثمّ رُدّوا إِلَى اللّهِ َموْلهُمُ ا ْلحَقّ أَل لَهُ الْ ُ
[النعام .]62 ، 61 :
جعُو َنهَا } :معناه :فهل تَرجعُون هذه النفس التي قد بلغت
وقوله { :فََلوْل إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ َمدِينِينَ تَرْ ِ
الحلقوم إلى مكانها الول ( ، )1ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين.
عكْ ِرمَة ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،
قال ابن عباس :يعني محاسبين .ورُوي عن مجاهد ،و ِ
والسّ ّديّ ،وأبي حَزْرَة ،مثله.
وقال سعيد بن جُبَيْر ،والحسن ال َبصْرِي { :فََلوْل إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ َمدِينِينَ } غير مصدقين أنكم
تُدانون وتبعثون وتجزون ،فردوا هذه النفس.
وعن مجاهد { :غَيْرَ مَدِينِينَ } غير موقنين.
وقال ميمون بن ِمهْران :غير معذبين مقهورين.
صحَابِ
ن َوجَنّةُ َنعِيمٍ ( )89وََأمّا إِنْ كَانَ مِنْ َأ ْ
ح وَرَيْحَا ٌ
{ فََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ ( )88فَ َروْ ٌ
الْ َيمِينِ ( )90فَسَلمٌ َلكَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ ( )91وََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّالّينَ ( )92فَنزلٌ
جحِيمٍ ( )94إِنّ هَذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ (َ )95فسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ (
حمِيمٍ ( )93وَ َتصْلِيَةُ َ
مِنْ َ
.} )96
هذه الحوال الثلثة هي أحوال الناس عند احتضارهم :إما أن يكون من المقربين ( ، )2أو يكون
ممن دونهم من أصحاب اليمين .وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى ،الجاهلين بأمر
ال ؛ ولهذا قال تعالى { :فََأمّا إِنْ كَانَ } أي :المحتضر { ،مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ } ،وهم الذين فعلوا
الواجبات والمستحبات ،وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات { ،فَ َروْحٌ وَرَ ْيحَانٌ
وَجَنّةُ َنعِيمٍ } أي :فلهم روح وريحان ،وتبشرهم الملئكة بذلك عند الموت ،كما تقدم في حديث
البراء :أن ملئكة الرحمة تقول " :أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ،اخرجي
إلى روح وريحان ،ورب غير غضبان".
قال علي بن طلحة ( ، )3عن ابن عباس { :فَ َروْحٌ } يقول :راحة وريحان ،يقول :مستراحة.
__________
( )1في م " :الولى".
( )2في أ " :المقربين العلية".
( )3في م ،أ " :علي بن أبي طلحة".
( )7/548
( )7/549
وقال المام أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعَة ،حدثنا أبو السود محمد بن عبد الرحمن بن
نوفل :أنه سمع درّة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ :أنها سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم :
أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضًا ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :تكون النَسمُ ()1
طيرًا يعلق بالشجر ،حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها" (.)2
هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن ،ومعنى "يعلق" :يأكل ،ويشهد له بالصحة أيضًا ما رواه
المام أحمد ،عن المام محمد بن إدريس الشافعي ،عن المام مالك بن أنس ،عن الزهري ،
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ،عن أبيه ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إنما
نَسَمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" ( .)3وهذا إسناد
عظيم ،ومتن قويم.
وفي الصحيح :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن أرواح الشهداء في حواصل طير
خضر تسرح في الجنة ( )4حيث شاءت ،ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" ( )5الحديث.
وقال المام أحمد :حدثنا عفان ،حدثنا همام ،حدثنا عطاء بن السائب قال :كان أول يوم عرفت
فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى :رأيت شيخًا ( )6أبيض الرأس واللحية على حمار ،وهو يتبع
جنازة ،فسمعته يقول :حدثني فلن بن فلن ،سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :من
أحب لقاء ال أحب ال لقاءه ،ومن كره لقاء ال كره ال لقاءه" .قال :فأكب القوم يبكون فقال :
حضِر { فََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ
"ما يُبكيكم ؟" فقالوا :إنا نكره الموت .قال " :ليس ذاك ،ولكنه إذا ُ
ن َوجَنّةُ َنعِيمٍ } ،فإذا بُشّر بذلك أحب لقاء ال عز وجل ،وال ،عز وجل
ح وَرَيْحَا ٌ
ا ْل ُمقَرّبِينَ .فَ َروْ ٌ
جحِيمٍ] } ( )7فإذا
حمِيمٍ [ وَتَصْلِيَةُ َ
،للقائه أحب { وََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّالّينَ .فَنزلٌ مِنْ َ
بُشّر بذلك كره لقاء ال ،وال للقاءه أكره.
هكذا رواه المام أحمد ( ، )8وفي الصحيح عن عائشة -رضي ال عنها -شاهد لمعناه (.)9
صحَابِ الْ َيمِينِ } أي :وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين { ،
وقوله { :وََأمّا إِنْ كَانَ مِنْ َأ ْ
فَسَلمٌ َلكَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ } أي :تبشرهم الملئكة بذلك ،تقول لحدهم :سلم لك ،أي :ل
بأس عليك ،أنت إلى سلمة ،أنت من أصحاب اليمين.
عكْ ِرمَة تسلم عليه
سلِمَ من عذاب ال ،وسَلّمت عليه ملئكة ال .كما قال ِ
وقال قتادة وابن زيد َ :
الملئكة ،وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
__________
( )1في م ،أ " :النسمة".
( )2المسند (.)6/424
( )3المسند (.)3/455
( )4في م " :في رياض الجنة".
( )5تقدم الحديث عند تفسير الية 169 :من سورة آل عمران ،وانظر تخريجه هناك.
( )6في أ " :شخصا".
( )7زيادة من م.
( )8المسند (.)4/259
( )9صحيح مسلم برقم (.)2684
( )7/550
وهذا معنى حسن ويكون ذلك كقوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنزلُ عَلَ ْي ِهمُ
ا ْلمَل ِئكَةُ أَل تَخَافُوا وَل تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونََ .نحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا
غفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت :
سكُمْ وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ .نزل مِنْ َ
َوفِي الخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا مَا َتشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
.]32 - 30
وقال البخاري َ { :فسَلمٌ َلكَ } أي :مُسلم لك ،أنك من أصحاب اليمين .وألغيت "إن" ( )1وهو :
معناها ،كما تقول :أنت ُمصَدق مسافر عن قليل .إذا كان قد قال :إني مسافر عن قليل .وقد
يكون كالدعاء له ،كقولك :سقيًا لك من الرجال ،إن رفعت "السلم" فهو من الدعاء (.)2
وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ،ومال إليه ،وال أعلم (.)3
حمِي ٍم وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي :وأما إن كان
وقوله { :وََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّالّينَ .فَنزلٌ مِنْ َ
حمِيمٍ } وهو
المحتضر من المكذبين بالحق ،الضالين عن الهدى { ،فَنزلٌ } أي :فضيافة { مِنْ َ
المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود { ،وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي :وتقرير له في النار التي
تغمره من جميع جهاته.
ثم قال تعالى { :إِنّ هَذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ } أي :إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي ل مرية فيه ،
ول محيد لحد عنه.
{ َفسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ } قال أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا موسى بن أيوب الغافقي ،حدثني عمّي إياس بن عامر ،عن عقبة
بن عامر الجهني قال :لما نزلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم َ { :فسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ
سمَ رَ ّبكَ العْلَى } [العلى ، ]1 :قال رسول
} قال " :اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت { :سَبّحْ ا ْ
ال صلى ال عليه وسلم " :اجعلوها في سجودكم".
وكذا رواه أبو داود ،وابن ماجة من حديث عبد ال بن المبارك ،عن موسى بن أيوب ،به (.)4
حجّاجُ الصّوافُ ،عن أبي الزبير ،عن جابر قال :قال رسول ال
وقال روح بن عبادة :حدثنا َ
ستْ له نخلة في الجنة".
صلى ال عليه وسلم " :من قال :سبحان ال العظيم وبحمده ،غُرِ َ
هكذا رواه الترمذي من حديث روح ( ، )5ورواه هو والنسائي أيضًا من حديث حماد بن سلمة ،
من حديث أبي الزبير ،عن جابر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ( ، )6وقال الترمذي :حسن
غريب ،ل نعرفه إل من حديث أبي الزبير.
__________
( )1في م " :من".
( )2صحيح البخاري (" )8/625فتح".
( )3تفسير الطبري (.)27/123
( )4المسند ( )4/155وسنن أبي داود برقم ( )2869وسنن ابن ماجه برقم (.)887
( )5سنن الترمذي برقم (.)3464
( )6سنن الترمذي برقم ( )3465وسنن النسائي الكبرى برقم ( )10663لكن النسائي رواه من
طريق حماد بن سلمة عن حجاج الصواف ،عن أبي الزبير خلفا للترمذي ،فإنه لم يذكر في
هذه الرواية حجاج الصواف فليتنبه.
( )7/551
وقال البخاري في آخر كتابه :حدثنا أحمد بن إشكاب ،حدثنا محمد بن فضيل ،حدثنا عُمارة بن
القعقاع ،عن أبي زُرْعَة ،عن أبي هُريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كلمتان
خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن :سبحان ال وبحمده ،سبحان
ال العظيم".
ورواه بقية الجماعة إل أبا داود ،من حديث محمد بن فضيل ،بإسناده ،مثله (.)1
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )7563وصحيح مسلم برقم ( )2694وسنن الترمذي برقم ()3467
وسنن النسائي الكبرى برقم ( )10666وسنن ابن ماجه برقم (.)3806
( )7/552
( )7/5
وقال أبو داود حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا النضر بن محمد ،حدثنا عكرمة -يعنى بن
عمار -حدثنا أبو ُزمَيْل قال :سألت بن عباس فقلت :ما شيء أجده في صدري ؟ قال ما هو ؟
قلت وال ل أتكلم به قال :فقال لي أشيء من شك ؟ قال -وضحك -قال :ما نجا من ذلك أحد
شكّ ِممّا أَنزلْنَا إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ [ َلقَدْ
قال حتى أنزل ال { فَإِنْ كُ ْنتَ فِي َ
حقّ مِنْ رَ ّبكَ ] } ( )1الية [يونس ]94 :قال :وقال لي :إذا وجدت في نفسك شيئا فقل
جَا َءكَ الْ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ } ()2
ن وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
ُ { :هوَ ال ّولُ وَالخِرُ وَالظّاهِ ُر وَالْبَاطِ ُ
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قول.
وقال البخاري :قال يحيى :الظاهر على كل شيء علمًا والباطن على كل شيء علمًا ()3
قال شيخنا الحافظ المزيّ :يحيى هذا هو بن زياد الفراء ،له كتاب سماه " :معاني القرآن".
وقد ورد في ذلك أحاديث ،فمن ذلك ما قال المام أحمد :حدثنا خلف بن الوليد ،حدثنا ابن
عياش ،عن سُهيل بن أبي صالح ،عن أبيه ،عن أبي هريرة ،أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم كان يدعو ( )4عند النوم " :اللهم ،رب السموات السبع ،ورب العرش العظيم ،ربنا ورب
كل شيء ،منزل التوراة والنجيل والفرقان ،فالق الحب والنوى ،ل إله إل أنت ،أعوذ بك من
شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ،أنت الول ليس ( )5قبلك شيء وأنت الخر ليس ( )6بعدك
شيء ،وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء .اقض عنا الدين ،وأغننا
من الفقر" ()7
سهَيل قال :كان أبو صالح
ورواه مسلم في صحيحه :حدثني زهير بن حرب ،حدثنا جرير عن ُ
يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام :أن يضطجع على شقه اليمن ،ثم يقول :اللهم ،ربّ السموات
وربّ الرض وربّ العرش العظيم ،رَبّنَا وربّ كل شيء ،فالق الحب والنوى ،ومنزل التوراة
والنجيل والفرقان ،أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ،اللهم ،أنت الول فليس
قبلك شيء ،وأنت الخر فليس بعدك شيء ،وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ،وأنت الباطن فليس
دونك شيء ،اقض عنا الدين ،وأغننا من الفقر.
وكان يروي ذلك ،عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم ()8
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا ،فقال حدثنا
عقبة ،حدثنا يونس ،حدثنا السري بن إسماعيل ،عن الشعبى ،عن مسروق ،عن عائشة أنها
قالت :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة ،فإذا أوى إليه
توسد كفه اليمنى ،ثم همس -ما يدرى ما يقول -فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال :
"اللهم ،رب السموات السبع ورب العرش العظيم ،إله كل شيء ،ورب كل شيء ،ومنزل
التوراة والنجيل والفرقان ،
__________
( )1زيادة من م.
( )2سنن أبي داود برقم (.)5110
( )3صحيح البخاري (" )13/361فتح".
( )4في م " :يقول".
( )5في م " :فليس".
( )6في م " :فليس"
( )7المسند (.)2/404
( )8صحيح مسلم برقم (.)2713
( )7/6
فالق الحب والنوى ،أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم ،أنت الول الذي ليس (
)1قبلك شيء ،وأنت الخر الذي ليس بعدك شيء ،وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ،وأنت
الباطن فليس دونك شيء ،اقض عنا الدين ،وأغننا من الفقر" ()2
السري بن إسماعيل هذا ابن عم الشعبي ،وهو ضعيف جدا وال أعلم.
وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الية :حدثنا عبدُ بن حميد وغير واحد -المعنى واحد
-قالوا :حدثنا يونس بن محمد ،حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال :حدث الحسن ،
عن أبي هريرة قال :بينما رسول ال صلى ال عليه وسلم جالس وأصحابه ،إذ أتى عليهم
سحَاب فقال نبي ال صلى ال عليه وسلم " :هل تدرون ما هذا ؟" .قالوا :ال ورسوله أعلم .قال :
َ
"هذا العَنَان ،هذه َروَايا الرض تسوقه إلى قوم ل يشكرونه ول يَدْعُونه" .ثم قال " :هل تدرون ما
فوقكم ؟ قالوا ال ورسوله أعلم قال " فإنها الرقيع ،سقف محفوظ ،وموج مكفوف" .ثم قال " :هل
تدرون كم بينكم وبينها" قالوا :ال ورسوله أعلم .قال " :بينكم وبينها خمسمائة سنة" .ثم قال :
"هل تدرون ما فوق ذلك ؟" قالوا :ال ورسوله أعلم قال " :فإن فوق ذلك سماء ( )3بُعدُ ما
بينهما مسيرة خمسمائة سنة -حتى عدّ سبع سموات -ما بين كل سماءين كما بين السماء
والرض" .ثم قال " :هل تدرون ما فوق ذلك ؟" قالوا :ال ورسوله أعلم .قال " :فإن فوق ذلك
العرش ،وبينه وبين السماء بُعدُ ( )4ما بين السماءين" .ثم قال " :هل تدرون ما الذي تحتكم ؟".
قالوا :ال ورسوله أعلم .قال " :فإنها الرض" .ثم قال " :هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟" .قالوا
:ال ورسوله أعلم .قال " :فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة -حتى عدّ ()5
سبع أرضين -بين كل أَ ْرضَيْن مسيرة خمسمائة سنة" .ثم قال " :والذي نفس محمد بيده ،لو أنكم
دَليتم بحبل إلى الرض السفلي لهبط على ال" ،ثم قرأ ُ { :هوَ ال ّولُ وَالخِرُ وَالظّاهِ ُر وَالْبَاطِنُ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
ثم قال الترمذي :هذا حديث غريب من هذا الوجه ،ويُروى عن أيوب ويونس -يعني بن عبيد
-وعلي بن زيد قالوا :لم يسمع الحسن من أبي هريرة .وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا
:إنما هَبَط على علْم ال وقدرته وسلطانه ،وعلم ال وقدرته وسلطانه في كل مكان ،وهو على
العرش ،كما وصف في كتابه .انتهى كلمه ()6
وقد روى المام أحمد هذا الحديث عن سريج ،عن الحكم بن عبد الملك ،عن قتادة ،عن الحسن
،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فذكره ،وعنده بُعدُ ما بين الرْضين مسيرة
سبعمائة عام ،وقال " :لو دليتم أحدكم بحبل إلى الرض السفلي السابعة لهبط على ال" ،ثم قرأ :
شيْءٍ عَلِيمٌ }
ن وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
{ ُهوَ ال ّولُ وَالخِرُ وَالظّاهِ ُر وَالْبَاطِ ُ
__________
( )1في م " :فليس".
( )2مسند أبي يعلى (.)8/210
( )3في م " :سماء بعد سماء".
( )4في م ،أ " :مثل بعد".
( )5في م " :عدد".
( )6سنن الترمذي برقم (.)3298
( )7/7
ورواه بن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي ،عن قتادة ،عن الحسن ،عن أبي
هريرة ...فذكر الحديث ،ولم يذكر بن أبي حاتم آخره وهو قوله " :لو دليتم بحبل" ،وإنما قال :
"حتى عَدّ سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام" ،ثم تل { ُه َو ال ّولُ وَالخِرُ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
ن وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
وَالظّاهِ ُر وَالْبَاطِ ُ
وقال البزار :لم يروه عن النبي صلى ال عليه وسلم إل أبو هريرة.
ورواه بن جرير ،عن بشر ،عن يزيد ،عن سعيد ،عن قتادة ُ { :ه َو ال ّولُ وَالخِ ُر وَالظّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ } ذكر لنا أن نبي ال صلى ال عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم
سحاب ،فقال " :هل تدرون ما هذا ؟" ( )1وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء ،إل أنه
مرسل من هذا الوجه ،ولعل هذا هو المحفوظ ،وال أعلم .وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري
،رضي ال عنه وأرضاه ،رواه البزار في مسنده ،والبيهقي في كتاب السماء والصفات ()2
ولكن في إسناده نظر ،وفي متنه غرابة ونكارة ،وال سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن جرير عند قوله تعالى { َومِنَ ال ْرضِ مِثَْلهُنّ } [الطلق " ]"12حدثنا ابن عبد العلى ،
حدثنا ابن ثور ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة قال :التقى أربعة من الملئكة بين السماء والرض ،
فقال بعضهم لبعض :من أين جئت ؟ قال أحدهم :أرسلني ربي ،عز وجل ،من السماء السابعة
وتركته ثَمّ ،قال الخر :أرسلني ربي ،عز وجل من الرض السابعة وتركته َثمّ ،قال الخر :
أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ ،قال الخر :أرسلني ربي من المغرب وتركته َثمّ ()3
وهذا [حديث] ( )4غريب جدا ،وقد يكون الحديث الول موقوفًا على قتادة كما روي هاهنا من
قوله ،وال أعلم.
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/124
( )2السماء والصفات للبيهقي (ص )506من طريق أحمد بن عبد الجبار ،عن أبي معاوية ،
عن العمش ،عن أبي نصر ،عن أبي ذر ،ومن طريق البيهقي رواه الجوزقاني في الباطيل (
)1/68وقال " :هذا حديث منكر"
( )3تفسير الطبري (.)28/99
( )4زيادة من م.
( )7/8
ض َومَا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ َيعَْلمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْر ِ
ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
سمَاءِ َومَا َيعْرُجُ فِيهَا وَ ُهوَ َم َعكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (
يَخْرُجُ مِ ْنهَا َومَا يَنْ ِزلُ مِنَ ال ّ
جعُ الُْأمُورُ ( )5يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي
ت وَالْأَ ْرضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ
سمَاوَا ِ
َ )4لهُ مُ ْلكُ ال ّ
ل وَ ُهوَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ ()6
اللّ ْي ِ
ت وَال ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ َيعَْلمُ مَا يَلِجُ فِي ال ْرضِ
سمَاوَا ِ
خلَقَ ال ّ
{ ُهوَ الّذِي َ
سمَا ِء َومَا َيعْرُجُ فِيهَا وَ ُهوَ َم َعكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُ ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
َومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا َومَا يَنزلُ مِنَ ال ّ
ض وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَ ُع المُورُ ( )5يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ
ت وَالرْ ِ
سمَاوَا ِ
َبصِيرٌ (َ )4لهُ مُ ْلكُ ال ّ
ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ وَ ُهوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ (} )6
يخبر تعالى عن خلقه السموات والرض وما بينهما في ستة أيام ،ثم أخبر باستوائه على العرش
بعد خلقهن ،وقد تقدم الكلم على هذه الية وأشباهها في سورة "العراف ( )1بما أغنى عن
إعادته هاهنا.
__________
( )1عند تفسير الية .54 :
( )8/8
{ َيعَْلمُ مَا يَلِجُ فِي ال ْرضِ } أي :يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر { َومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا } من
زرع ونَبات وثمار ،كما قال { :وَعِنْ َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ ل َيعَْل ُمهَا إِل ُه َو وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ
ب وَل يَابِسٍ إِل فِي كِتَابٍ
ط ٍ
ن وَ َرقَةٍ إِل َيعَْل ُمهَا وَل حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ ال ْرضِ وَل رَ ْ
سقُطُ مِ ْ
َومَا َت ْ
مُبِينٍ } [النعام .]59 :
سمَاءِ } أي :من المطار ،والثلوج والبرَد ،والقدار والحكام مع
وقوله َ { :ومَا يَنزلُ مِنَ ال ّ
الملئكة الكرام ،وقد تقدم في سورة "البقرة" أنه ما ينزل من قطرة من السماء إل ومعها ملك
يُقرّرها في المكان الذي يأمر ال به حيث يشاء تعالى.
ع َملُ
وقوله َ { :ومَا َيعْرُجُ فِيهَا } أي :من الملئكة والعمال ،كما جاء في الصحيح " :يُ ْرفَعُ إليه َ
الليل قبل النهار ،وعمل النهار قبل الليل" ()1
وقوله { :وَ ُهوَ َم َعكُمْ أَيْنَ مَا كُنْ ُت ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي :رقيب عليكم ،شهيد على
أعمالكم حيث أنتم ،وأين كنتم ،من بر أو بحر ،في ليل أو نهار ،في البيوت أو القفار ،الجميع
في علمه على السواء ،وتحت بصره وسمعه ،فيسمع كلمكم ويرى مكانكم ،ويعلم سركم
خفُوا مِنْهُ أَل حِينَ َيسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ َيعْلَمُ مَا
ونجواكم ،كما قال { :أَل إِ ّن ُهمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِ َيسْتَ ْ
سوَاءٌ مِ ْنكُمْ مَنْ أَسَرّ ا ْلقَ ْولَ َومَنْ
ن َومَا ُيعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } [هود .]5 :وقال { َ
يُسِرّو َ
ل وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ } [الرعد ، ]10 :فل إله غيره ول رب سواه.
خفٍ بِاللّ ْي ِ
جهَرَ ِب ِه َومَنْ ُهوَ ُمسْتَ ْ
َ
وقد ثبت في الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه سلم قال لجبريل ،لما سأله عن الحسان " :أن
تعبد ال كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وروى الحافظ أبو بكر السماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة ،
حدثني أبي ،عن نصر بن علقمة ،عن أخيه ،عن عبد الرحمن بن عائذ قال :قال عمر :جاء
رجل إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :زودني كلمة أعيش بها فقال " :اسْتَحِ ال كما تستحي
رجل من صَالِح عشيرتك ل يفارقك" ()2
هذا حديث غريب ،وروى أبو نعيم من حديث عبد ال بن معاوية الغاضري مرفوعًا " :ثلث من
طعِمَ اليمان :من عبد ال وحده ،وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام ،ولم
َفعََلهُنّ فقد َ
يعط الهَرَمة ول الدَرنة ،ول الشّرط اللئيمة ول المريضة ولكن من أوسط أموالكم .وزكى َنفْسَه"
وقال رجل :يا رسول ال ،ما تزكية المرء نفسه ؟ فقال " :يعلم أن ال معه حيث كان" ()3
حمّاد ،رحمه ال :حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي ،عن محمد
وقال ُنعَيْم بن َ
بن مهاجر ،عن عُ ْر َوةَ بن ُروَيم ،عن عبد الرحمن بن غَنم ،عن عبادة بن الصامت قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أفضل اليمان أن تعلم أن ال معك حيثما كنت" .غريب( .
)4
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )179من حديث أبي موسى الشعري ،رضي ال عنه.
( )2وذكره المؤلف في مسند عمر بن الخطاب ( )2/609من طريق السماعيلي وقال " :إسناده
غريب ،وفي حديث القدر " :فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وله شاهد من حديث سعيد بن يزيد عن
بن عم له قال :قلت يا رسول ال أوصني ،قال " :استح من ال كما تستحي من الرجل الصالح
من قومك" .أخرجه مجشل في تاريخ واسط (ص .)209
( )3ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( )4/96من طريق الزبيدي عن يحيى بن جابر ،أن عبد
الرحمن بن جبير حدثه أن أباه حدثه أن عبد ال بن معاوية الغاضري به ،ورواه أبو داود من
طريق الزبيدي عن يحيى بن جابر ،عن جبير بن نفير به نحوه ،والول أصح.
( )4ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )47مجمع البحرين" عن مطلب ،عن نعيم بن
حماد به وقال " :تفرد به عثمان" .ورواه أبو نعيم في الحلية ( )6/124عن الطبراني ،عن يحيى
بن عثمان ،عن نعيم بن حماد به ،وقال " :غريب من حديث عروة لم نكتبه إل من حديث محمد
بن مهاجر" .وعثمان بن سعيد لم يعرفه الهيثمي في المجمع ( ، )1/60وذكره بن أبي حاتم في
الجرح والتعديل ( )6/152ونقل عن يحيى بن معين أنه ثقة.
( )8/9
جعََلكُمْ مُسْ َتخَْلفِينَ فِيهِ فَالّذِينَ َآمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَأَ ْنفَقُوا َلهُمْ َأجْرٌ كَبِيرٌ ()7
َآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِ ِه وَأَ ْنفِقُوا ِممّا َ
َومَا َل ُكمْ لَا ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِ ُت ْؤمِنُوا بِرَ ّبكُ ْم َوقَدْ َأخَذَ مِيثَا َقكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (ُ )8هوَ
جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَإِنّ اللّهَ ِبكُمْ لَرَءُوفٌ َرحِيمٌ ()9
الّذِي يُنَ ّزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آَيَاتٍ بَيّنَاتٍ لِيُخْ ِر َ
ت وَالْأَ ْرضِ لَا يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ
سمَاوَا ِ
َومَا َل ُكمْ أَلّا تُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ
ظمُ دَ َرجَةً مِنَ الّذِينَ أَ ْن َفقُوا مِنْ َبعْدُ َوقَاتَلُوا َوكُلّا وَعَدَ اللّهُ ا ْلحُسْنَى وَاللّهُ ِبمَا
ا ْلفَتْحِ َوقَاتَلَ أُولَ ِئكَ أَعْ َ
عفَهُ لَ ُه وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ()11
َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ ( )10مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ
( )8/10
أمر تعالى باليمان به وبرسوله على الوجه الكمل ،والدوام والثبات على ذلك والستمرار ،
وحث على النفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية ،فإنه قد كان
في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم ،فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته
،فإن ( )1يفعلوا وإل حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه.
جعََلكُمْ مُسْ َتخَْلفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك ،فلعل وارثك أن
وقوله ِ { :ممّا َ
يطيع ال فيه ،فيكون أسعد بما أنعم ال به عليك منك ،أو يعصي ال فيه فتكون قد سعيت في
معاونته على الثم والعدوان.
قال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،سمعت قتادة يحدث ،عن مُطَرّف -
يعني بن عبد ال بن الشّخّير -عن أبيه قال :انتهيت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
يقول َ { " :أ ْلهَاكُمُ ال ّتكَاثُرُ } [التكاثر ، ]1 :يقول ابن آدم :مالي مالي! وهل لك من مالك إل ما
أكلت فأفنيت ،أو لبست فأبليت ،أو تصدقت فأمضيت ؟".
ورواه مسلم من حديث شعبة ،به ( )2وزاد " :وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس"
وقوله { :فَالّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَأَ ْنفَقُوا َلهُمْ َأجْرٌ كَبِيرٌ } ترغيب في اليمان والنفاق في الطاعة ،
ثم قال َ { :ومَا َل ُكمْ ل ُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالرّسُولُ َيدْعُوكُمْ لِ ُت ْؤمِنُوا بِرَ ّب ُكمْ } ؟ أي :وأي شيء يمنعكم
من اليمان والرسول بين أظهركم ،يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما
جاءكم به ؟ وقد روينا في الحديث من طُرُق في أوائل شرح "كتاب اليمان" من صحيح البخاري :
ي المؤمنين أعجب إليكم إيمانًا ؟" قالوا
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال يوما لصحابه " :أ ّ
:الملئكة .قال " :وما لهم ل يؤمنون وهم عند ربهم ؟" قالوا :فالنبياء .قال " :وما لهم ل
يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟" .قالوا :فنحن ؟ قال " :وما لكم ل تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟
حفًا يؤمنون بما فيها" ()3
ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيؤون بعدكم يجدون صُ ُ
وقد ذكرنا طرفًا من هذا في أول سورة "البقرة" عند قوله { :الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ } [البقرة .]3 :
وقوله َ { :وقَدْ َأخَذَ مِيثَا َقكُمْ } كما قال { :وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم َومِيثَاقَهُ الّذِي وَا َث َقكُمْ بِهِ إِذْ قُلْ ُتمْ
طعْنَا } [المائدة .]7 :ويعني بذلك :بيعة الرسول صلى ال عليه وسلم.
س ِمعْنَا وَأَ َ
َ
وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم ،وهو مذهب مجاهد ،
فال أعلم.
وقوله ُ { :هوَ الّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } أي :حججًا واضحات ،ودلئل باهرات ،
جكُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ } أي :من ظلمات الجهل والكفر والراء
وبراهين قاطعات { ،لِيُخْ ِر َ
__________
( )1في م " :وإن لم".
( )2المسند ( )4/24وصحيح مسلم برقم (.)2958
( )3سبق تخريج الحديث عند تفسير الية 3 :من سورة البقرة.
( )8/11
المتضادة إلى نور الهدى واليقين واليمان { ،وَإِنّ اللّهَ ِب ُكمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي :في إنزاله الكتب
وإرساله الرسل لهداية الناس ،وإزاحة العلل وإزالة الشبه.
ولما أمرهم أول باليمان والنفاق ،ثم حثهم على اليمان ،وبين أنه قد أزال عنهم موانعه ،
سمَاوَاتِ
حثهم ( )1أيضًا على النفاق .فقال َ { :ومَا َلكُمْ أَل تُ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ
وَالرْضِ } أي :أنفقوا ول تخشَوا فقرًا ( )2وإقلل فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات
والرض ،وبيده مقاليدهما ،وعنده خزائنهما ،وهو مالك العرش بما حوى ،وهو القائل َ { :ومَا
شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُ ُه وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } [سبأ ، ]39 :وقال { مَا عِنْ َدكُمْ يَ ْنفَدُ َومَا عِ ْندَ اللّهِ
أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َ
بَاقٍ } [النحل ]96 :فمن توكل على ال أنفق ،ولم يخش من ذي العرش إقلل وعلم أن ال
سيخلفه عليه.
ح َوقَا َتلَ } أي :ل يستوي هذا ومن لم يفعل
وقوله { :ل يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْ ِ
كفعله ،وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا ،فلم يكن يؤمن حينئذ إل الصديقون ،وأما بعد
الفتح فإنه ظهر السلم ظهورًا عظيمًا ،ودخل الناس في دين ال أفواجا ؛ ولهذا قال { :أُولَ ِئكَ
حسْنَى }
ظمُ دَ َرجَةً مِنَ الّذِينَ أَ ْن َفقُوا مِنْ َبعْ ُد َوقَاتَلُوا َوكُل وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
أَعْ َ
والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة .وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا :
صلح الحديبية ،وقد يستدل لهذا القول بما قال المام أحمد :
حمَيد الطويل ،عن أنس قال :كان بين خالد بن
حدثنا أحمد بن عبد الملك ،حدثنا زُهَير ،حدثنا ُ
الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلم ،فقال خالد لعبد الرحمن :تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا
بها ؟ فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي صلى ال عليه وسلم فقال " :دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي
بيده ،لو أنفقتم مثل أحد -أو مثل الجبال -ذهبًا ،ما بلغتم أعمالهم" ()3
ومعلوم أن إسلم خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة ،وكانت
هذه المشاجرة بينهما في بني جَذيمة الذين بعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم خالد بن
الوليد بعد الفتح ،فجعلوا يقولون " :صبأنا ،صبأنا" ،فلم يحسنوا أن يقولوا " :أسلمنا" ،فأمر خالد
بقتلهم وقتل من أسر منهم ،فخالفه عبد الرحمن بن عوف ،وعبد ال بن عمر وغيرهما .فاختصم
خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك ()4
والذي في الصحيح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :ل تسبوا أصحابي ،فوالذي
نفسي بيده ،لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ،ما بلغ مُدّ أحدهم ول نَصيفه" ()5
وروى ابن جرير ،وابن أبي حاتم ،من حديث ابن وهب :أخبرنا هشام بن سعد ،عن زيد بن
__________
( )1في م " :ثم حثهم".
( )2في أ " :قترًا".
( )3المسند (.)3/266
( )4رواه البخاري في صحيحه برقم ( )7189من حديث بن عمر ،رضي ال عنه.
( )5صحيح البخاري برقم ( )3673وصحيح مسلم برقم ( )2541من حديث أبي سعيد الخدري ،
رضي ال عنه.
( )8/12
أسلم ،عن عطاء بن يسار ،عن أبي سعيد الخدري أنه قال :خرجنا مع رسول ال صلى ال
عليه وسلم عام الحديبية ،حتى إذا كنا بعسفان قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يوشك أن
يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" فقلنا :من هم يا رسول ال أقريش ؟ قال :ل ولكن أهل
اليمن ،هم أرق أفئدةً وألين قلوبًا" .فقلنا :أهم خير منا يا رسول ال ؟ قال " :لو كان لحدهم جبل
من ذهب فأنفقه ،ما أدرك مُدّ أحدكم ول نَصيفه ،أل إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس { ،ل
عظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أَ ْن َفقُوا مِنْ َب ْع ُد َوقَاتَلُوا َوكُل
ح َوقَا َتلَ أُولَ ِئكَ أَ ْ
يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْ ِ
حسْنَى وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } ()1
وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
]وهذا الحديث غريب بهذا السياق ،والذي في الصحيحين من رواية جماعة ،عن عطاء بن يسار
عن أبي سعيد َ -ذكَر الخوارج " : -تحقرون صلتكم مع صلتهم ،وصيامكم مع صيامهم ،
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ( )2الحديث .ولكن روى ابن جرير هذا الحديث
من وجه آخر ،فقال :
حدثني بن البرقي ،حدثنا بن أبي مريم ،أخبرنا محمد بن جعفر ،أخبرني زيد بن أسلم ،عن
أبي سعيد التمار ،عن أبي سعيد الخدري :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :يوشك أن
يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" .قلنا :من هم يا رسول ال ؟ قريش ؟ قال " :ل ولكن أهل
اليمن ،لنهم أرق أفئدة ،وألين قلوبًا" .وأشار بيده إلى اليمن ،فقال " :هم أهل اليمن ،أل إن
اليمان يمان ،والحكمة يمانية" .فقلنا :يا رسول ال ،هم خير منا ؟ قال " :والذي نفسي بيده ،
لو كان لحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مُدّ أحدكم ول نصيفه" .ثم جمع أصابعه ومد خنصره ،
وقال " :أل إن هذا فضلُ ما بيننا وبين الناس { ،ل َيسْ َتوِي مِ ْن ُكمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْحِ َوقَاتَلَ
عدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
ظمُ دَ َرجَةً مِنَ الّذِينَ أَ ْنفَقُوا مِنْ َبعْ ُد َوقَاتَلُوا َوكُل وَ َ
أُولَ ِئكَ أَعْ َ
خَبِيرٌ } ]" ()4( )3
فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم ،فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح
إخبارا عما بعده ،كما في قوله تعالى في سورة "المزمل" -وهي مكية ،من أوائل ما نزل { : -
وَآخَرُونَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } الية [المزمل ]20 :فهي بشارة بما يستقبل ،وهكذا هذه وال
أعلم.
حسْنَى } يعني المنفقين قبل الفتح وبعده ،كلهم لهم ثواب على ما عملوا
وقوله َ { :وكُل وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
،وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال { :ل يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ
سهِمْ
ضلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
س ِهمْ َف ّ
أُولِي الضّرَ ِر وَا ْل ُمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَنْفُ ِ
ضلَ اللّهُ ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }
حسْنَى َوفَ ّ
عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ دَ َرجَ ًة َوكُل وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
[النساء .]95 :وهكذا ( )5الحديث الذي في الصحيح " :المؤمن القوي خير وأحب إلى ال من
المؤمن الضعيف ،
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/127
( )2صحيح البخاري برقم ( )6931وصحيح مسلم برقم (.)4601
( )3زيادة من م ،أ.
( )4تفسير الطبري (.)17/127
( )5في م ،أ " :وهذا".
( )8/13
وفي كل خير" ( )1وإنما نَبّه بهذا لئل يُهدرَ جانب الخر بمدح الول دون الخر ،فيتوهم متوهم
ذمه ؛ فلهذا عطف بمدح الخر والثناء عليه ،مع تفضيل الول عليه ؛ ولهذا قال { :وَاللّهُ ِبمَا
َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي :فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ،ومن فعل ذلك بعد
ذلك ،وما ذلك إل لعلمه بقصد الول وإخلصه التام ،وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق.
وفي الحديث " :سبق درهم مائة ألف" ( )2ول شك عند أهل اليمان أن الصديق أبا بكر ،رضي
ال عنه ،له الحظ الوفر من هذه الية ،فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم النبياء ،فإنه أنفق
ماله كله ابتغاء وجه ال ،عز وجل ،ولم يكن لحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الية أخبرنا أحمد بن إبراهيم
الشريحي ( )3أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ،أخبرنا عبد ال بن حامد بن
محمد ،أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ،أخبرنا محمد بن يونس ،حدثنا العلء بن عمرو
الشيباني ،حدثنا أبو إسحاق الفزاري ،حدثنا سفيان بن سعيد ،عن آدم بن علي ،عن ابن عمر
خلّها في
قال :كنت عند النبي صلى ال عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق ،وعليه عباءة قد َ
صدره بخلل ،فنزل جبريل فقال :مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلّها في صدره بِخلل ؟
فقال " :أنفق ماله عليّ قبل الفتح" قال :فإن ال يقول :اقرأ عليه السلم ،وقل له :أراض أنت
عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول ال " :يا أبا بكر ،إن ال يقرأ عليك السلم ،ويقول
لك :أراض أنت عَني في فقرك هذا أم ساخط ؟" فقال :أبو بكر ،رضي ال عنه :أسخط على
ربي عز وجل ؟ إني عن ربي راض ()4
هذا الحديث ضعيف السناد من هذا الوجه.
وقوله { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا } قال عمر بن الخطاب :هو النفاق في سبيل
ال ،وقيل :هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك ،فكل من أنفق في سبيل ال بنية
خالصة وعزيمة صادقة ،دخل في عموم هذه الية ؛ ولهذا قال { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا
ط وَإِلَ ْيهِ
ضعَافًا كَثِي َرةً وَاللّهُ َيقْ ِبضُ وَيَ ْبصُ ُ
حسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ } كما قال في الية الخرى َ { :أ ْ
َ
جعُونَ } [البقرة )5( ]245 :أي :جزاء جميل ورزق باهر -وهو الجنة -يوم القيامة.
تُرْ َ
قال بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة ،حدثنا خلف بن خليفة ،عن حميد العرج ،عن عبد
ال بن الحارث ،عن عبد ال بن مسعود قال :لما نزلت هذه الية { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ
قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ } قال أبو الدحداح النصاري :يا رسول ال ،وإن ال ليريد منا القرض
؟ " قال " :نعم ،يا أبا الدحداح" .قال أرني يدك يا رسول ال قال :فناوله يده قال :فإني قد
أقرضت ربي حائطي -وله حائط ( )6فيه ستمائة نخلة ،وأم الدحداح فيه وعيالها -قال :فجاء
__________
( )1صحيح مسلم برقم ( )2664من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )2رواه النسائي في السنن ( )5/59من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )3في أ " :الشرعي".
( )4معالم التنزيل للبغوي ( )8/34وفيه " :إني عن ربي راض" مرتين ،ووجه ضعفه أنه فيه
العلء بن عمرو .قال بن حبان " :يروى أبي إسحاق الفزاري العجائب ،ل يجوز الحتجاج به
بحال" وساق الحديث.
( )5في أ ،م ،هـ " :أضعافًا كثيرة وله أجر كريم" وهوخطأ ،والصواب ما أثبتناه.
( )6في أ " :وحائط له".
( )8/14
أبو الدحداح فنادها :يا أم الدحداح .قالت :لبيك .فقال :اخرجي ،فقد أقرضته ربي ،عز وجل
-وفي رواية :أنها قالت له :رَبح بيعك يا أبا الدحداح .ونقلت منه متاعها وصبيانها ،وإن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :كم من عَذْق رَدَاح في الجنة لبي الدحداح" .وفي لفظ :
"رب نخلة مدلة عروقها درّ وياقوت لبي الدحداح في الجنة")1( .
__________
( )1ورواه أبو يعلى في مسنده ( )8/404عن محرز بن عون ،عن خلف بن خليفة به ،وضعفه
الحافظ بن حجر في المطالب العالية برقم ( )4080كما ذكره المحقق الفاضل حسين أسد.
( )8/15
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ بُشْرَا ُكمُ الْ َيوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ
َيوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ يَ ْ
تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ (َ )12يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ لِلّذِينَ َآمَنُوا
جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا َفضُرِبَ بَيْ َنهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ
انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ
سكُمْ
حمَ ُة وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَلِهِ ا ْل َعذَابُ ( )13يُنَادُو َنهُمْ أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ قَالُوا بَلَى وََلكِ ّنكُمْ فَتَنْ ُتمْ أَ ْنفُ َ
فِيهِ الرّ ْ
وَتَرَ ّبصْتُ ْم وَارْتَبْتُ ْم وَغَرّ ْتكُمُ الَْأمَا ِنيّ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّ ِه وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ ( )14فَالْ َيوْمَ لَا ُيؤْخَذُ
مِ ْنكُمْ فِدْ َي ٌة وَلَا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مَ ْأوَاكُمُ النّارُ ِهيَ َموْلَاكُ ْم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ ()15
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ بُشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ
{ َيوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ َي ْ
ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا
تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ (َ )12يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُو َ
جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا َفضُرِبَ بَيْ َنهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ
انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ
سكُمْ
حمَ ُة وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَلِهِ ا ْل َعذَابُ ( )13يُنَادُو َنهُمْ أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ قَالُوا بَلَى وََلكِ ّنكُمْ فَتَنْ ُتمْ أَ ْنفُ َ
فِيهِ الرّ ْ
وَتَرَ ّبصْتُ ْم وَارْتَبْتُ ْم وَغَرّ ْتكُ ُم المَا ِنيّ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّ ِه وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ ( )14فَالْ َيوْمَ ل ُيؤْخَذُ
مِ ْنكُمْ فِدْ َي ٌة وَل مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مَ ْأوَاكُمُ النّارُ ِهيَ َموْلكُ ْم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ (} )15
يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين :أنهم ( )1يوم القيامة يسعَى نورهم بين أيديهم في
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
عَرصات القيامة ،بحسب أعمالهم ،كما قال عبد ال بن مسعود في قوله { :يَ ْ
أَيْدِيهِمْ } قال :على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ،منهم مَن نوره مثل الجبل ،ومنهم مَن
نوره مثل النخلة ،ومنهم مَن نوره مثل الرجل القائم ،وأدناهم نورًا مَن نوره في إبهامه يتّقد مرة
ويطفأ مرة ( )2ورواه بن أبي حاتم وبن جرير.
وقال قتادة :ذكر لنا أن نبي ال صلى ال عليه وسلم كان يقول " :من المؤمنين من يضيء نُوره
من المدينة إلى عَدن أبين وصنعاء فدون ذلك ،حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع
قدميه" ()3
حصَين ،عن مجاهد عن جُنَادة بن أمية قال :إنكم مكتوبون عند ال
وقال سفيان الثوري ،عن ُ
بأسمائكم ،وسيماكم وحُلكم ،ونجواكم ومجالسكم ،فإذا كان يوم القيامة قيل :يا فلن ،هذا
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَ ْيدِيهِمْ }
نورك .يا فلن ،ل نور لك .وقرأ { :يَ ْ
وقال الضحاك :ليس لحد إل يعطى نورًا يوم القيامة ،فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور
المنافقين ،فلما رأي ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طُفئ نور المنافقين ،فقالوا :
ربنا ،أتمم لنا نورنا.
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني :على الصراط.
وقال الحسن [في قوله] ( { )4يَ ْ
__________
( )1في م " :أنه".
( )2في م " :ويطفأ أخرى".
( )3تفسير الطبري (.)27/128
( )4زيادة من أ.
( )8/15
وقد قال ابن أبي حاتم ،رحمه ال :حدثنا أبو عبيد ال ابن أخي ابن وهب ،أخبرنا عمي ()1
عن يزيد بن أبي حبيب ،عن سعيد ( )2بن مسعود :أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَيْر يحدث :أنه
سمِع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :أنا أول من يؤذن له يوم
َ
القيامة بالسجود ،وأول من يؤذن له برفع رأسه ،فأنظر من بين يدي ومن خلفي ،وعن يميني
وعن شمالي ،فأعرف أمتي من بين المم" .فقال له رجل :يا نبي ال ،كيف تعرف أمتك من
حجّلون من أثر الوضوء ،ول يكون لحد
بين المم ،ما بين نوح إلى أمتك ؟ قال " :أعرفهم ،مُ َ
من المم غيرهم ،وأعرفهم ُيؤْتَون كتبهم بأيمانهم ،وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ،وأعرفهم
بنورهم يسعى بين أيديهم وذريتهم ()4( )3
وقوله { وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ } قال الضحاك :أي وبأيمانهم كتبهم ،كما قال َ { :فمَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ }
[السراء .]71 :
وقوله ُ { :بشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ } أي :يقال لهم :بشراكم اليوم جنات ،
أي :لكم البشارة بجنات تجري من تحتها النهار { ،خَاِلدِينَ فِيهَا } أي :ماكثين فيها أبدًا { ذَِلكَ
ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }.
ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ } وهذا إخبار منه
وقوله َ { :يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُو َ
تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الهوال المزعجة ،والزلزل العظيمة ،والمور
الفظيعة ( )5وإنه ل ينجو يومئذ إل من آمن بال ورسوله ،وعمل بما أمر ال ،به وترك ما عنه
زجر.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبدة بن سليمان ،حدثنا ابن المبارك ،حدثنا صفوان بن
عمرو ،حدثني سليم بن عامر قال :خرجنا على جنازة في باب دمشق ،ومعنا أبو أمامة الباهلي
،فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها ،قال أبو أمامة :أيها الناس ،إنكم قد أصبحتم
وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ،وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر ،
وهو هذا -يشير إلى القبر -بيت الوحدة ،وبيت الظلمة ،وبيت الدود ،وبيت الضيق ،إل ما
وسع ال ،تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ،فإنكم في بعض تلك المواطن [حتى] ( )6يغشى
الناس أمر من ال ،فتبيض وجوه وتسود وجوه ،ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فتغشى الناس
ظلمة شديدة ،ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورًا ويترك الكافر والمنافق فل يعطيان شيئًا ،وهو
جيّ } إلى قوله َ { :فمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }
المثل الذي ضربه ال في كتابه ،قال { َأوْ كَظُُلمَاتٍ فِي بَحْرٍ ُل ّ
[النور ، ]40 :فل يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما ل يستضيء العمى بنور ()7
جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا
البصير ،ويقول المنافقون للذين آمنوا { :ا ْنظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ
نُورًا } وهي خدعة ال التي خدع
__________
( )1في أ " :أخي"
( )2في م " :سعيد".
( )3في م " :وبأيمانهم".
( )4ورواه الحاكم في المستدرك ( )2/478من طريق عبد ال بن صالح ،عن الليث بن سعد ،
عن يزيد بن أبي حبيب به نحوه ،وله طريق آخر سيأتي عند تفسير سورة التحريم.
( )5في أ " :العظيمة".
( )6في هـ " :يوم" ،والمثبت من م ،أ.
( )7في م " :ببصر".
( )8/16
( )8/17
مؤذن بيت المقدس -قال :سمعت عبد ال بن عمرو يقول :إن السور الذي ذكر ( )1ال في
حمَةُ وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَلِهِ ا ْلعَذَابُ } هو السور
القرآن َ { :فضُرِبَ بَيْ َنهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ
الشرقي باطنه المسجد وما يليه ،وظاهره وادي جهنم.
ثم روي عن عبادة بن الصامت ،وكعب الحبار ،وعلي بن الحسين زين العابدين ،نحو ذلك.
وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثال لذلك ،ل أن هذا هو الذي أريد من
القرآن هذا الجدار المعين ونفس المسجد وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم ؛ فإن الجنة
في السموات في أعلى عليين ،والنار في الدركات أسفل سافلين .وقول كعب الحبار :إن الباب
المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد ،فهذا من إسرائيلياته وتُرّهاته.
وإنما المراد بذلك :سورٌ ُيضْرَب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ،فإذا انتهى إليه
المؤمنون دخلوه من بابه ،فإذا استكملوا دُخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة
والظلمة والعذاب ،كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة { يُنَادُو َنهُمْ أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ
} أي :ينادي المنافقون المؤمنين :أما ( )2كنا معكم في الدار الدنيا ،نشهد معكم الجمعات ،
ونصلي معكم الجماعات ،ونقف معكم بعرفات ،ونحضر معكم الغزوات ،ونؤدي معكم سائر
الواجبات ؟ { قَالُوا بَلَى } أي :فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين :بلى ،قد كنتم معنا { ،وََلكِ ّنكُمْ
سكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُ ْم وَغَرّ ْتكُ ُم المَا ِنيّ } قال بعض السلف :أي فتنتم أنفسكم باللذات
فَتَنْتُمْ أَ ْنفُ َ
والمعاصي والشهوات { وَتَرَ ّبصْتُمْ } أي :أخرتم التوبة من وقت إلى وقت.
وقال قتادة { :وَتَرَ ّبصْتُمْ } بالحق وأهله { وَارْتَبْتُمْ } أي :بالبعث بعد الموت { وَغَرّ ْتكُمُ المَانِيّ }
أي :قلتم :سيغفر لنا .وقيل :غرتكم الدنيا { حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } أي :ما زلتم في هذا حتى جاء
الموت { وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ } أي :الشيطان.
قال قتادة :كانوا على خدعة من الشيطان ،وال ما زالوا عليها حتى قذفهم ال في النار.
ومعنى هذا الكلم من المؤمنين للمنافقين :إنكم كنتم معنا [أي] ( )3بأبدان ل نية لها ول قلوب
معها ،وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تُراؤون الناس ول تذكرون ال إل قليل.
قال مجاهد :كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم ،وكانوا معهم
أمواتا ،ويعطون النور جميعًا يوم القيامة ،ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ،ويُماز
بينهم حينئذ.
وهذا القول من المؤمنين ل ينافي قولهم الذي أخبر ال به عنهم ،حيث يقول -وهو أصدق
القائلين ُ { : -كلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ رَهِي َنةٌ إِل َأصْحَابَ الْ َيمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ مَا
ن َوكُنّا
ن َوكُنّا نَخُوضُ مَعَ ا ْلخَا ِئضِي َ
سكِي َ
ط ِعمُ ا ْلمِ ْ
سقَرَ قَالُوا لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ وَلَمْ َنكُ نُ ْ
سََل َككُمْ فِي َ
ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ } [المدثر ، ]47 - 38 :
__________
( )1في م " :ذكره".
( )2في م " :إنا".
( )3زيادة من م.
( )8/18
شفَاعَةُ
فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ .ثم قال تعالى َ { :فمَا تَ ْن َف ُعهُمْ َ
الشّا ِفعِينَ } [المدثر ، ]48 :كما قال تعالى هاهنا { :فَالْ َيوْمَ ل ُيؤْخَذُ مِ ْنكُمْ فِدْيَةٌ وَل مِنَ الّذِينَ
َكفَرُوا } أي :لو جاء أحدكم اليوم بملء الرض ذهبًا ومثله معه ليفتدى به من عذاب ال ،ما قبل
منه.
وقوله { :مَ ْأوَاكُمُ النّارُ } أي :هي مصيركم وإليها منقلبكم.
وقوله ِ { :هيَ َموْلكُمْ } أي :هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم ،وبئس المصير.
ق وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ
حّ{ أََلمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نزلَ مِنَ الْ َ
سقُونَ ( )16اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُيحْيِي ال ْرضَ
ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
مِنْ قَ ْبلُ َفطَالَ عَلَ ْيهِ ُم المَدُ َفقَ َ
َبعْدَ َموْ ِتهَا قَدْ بَيّنّا َل ُكمُ اليَاتِ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ (} )17
يقول ال تعالى :أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر ال ،أي :تلين عند الذكر والموعظة
وسماع القرآن ،فتفهمه وتنقادُ له وتسمع له وتطيعه.
قال عبد ال بن المبارك :حدثنا صالح المُرّي ،عن قتادة ،عن ابن عباس أنه قال :إن ال
استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلث عشرة من نزول القرآن ،فقال { :أََلمْ يَأْنِ لِلّذِينَ
آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّهِ } الية ،رواه ابن أبي حاتم ،عن الحسن بن محمد بن الصباح ،
عن حسين المروزي ،عن ابن المبارك ،به.
ثم قال هو ومسلم :حدثنا يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني عمرو بن الحارث ،
عن سعيد بن أبي هلل -يعني الليث -عن عون بن عبد ال ،عن أبيه ،عن ابن مسعود ،
رضي ال عنه ،قال :ما كان بين إسلمنا وبين أن عاتبنا ال بهذه الية { أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ
خشَعَ قُلُو ُبهُمْ ِل ِذكْرِ اللّهِ } [الية] ( )1إل أربع سنين ()2
تَ ْ
كذا رواه مسلم في آخر الكتاب .وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الية ،عن هارون بن سعيد
اليلي ،عن ابن وهب ،به ( )3وقد رواه ابن ماجة من حديث موسى بن يعقوب الزمعي ()4
عن أبي حزم ،عن عامر بن عبد ال بن الزبير ،عن أبيه ،مثله ( )5فجعله من مسند بن
الزبير .لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب ،عن أبي حازم ،عن عامر ،
عن بن الزبير ،
__________
( )1زيادة من م.
( )2صحيح مسلم برقم (.)3027
( )3سنن النسائي الكبري برقم ()11568
( )4في أ " :الربعي".
( )5سنن ابن ماجة برقم (.)4192
( )8/19
( )8/20
بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ،فمن تابعنا عليه تركناه ،ومن كره أن يتابعنا ( )1قتلناه .ففعلوا
عمَدَ إلى ما يعرف من كتاب ال فكتبه في
ذلك ،وكان فيهم رجل فقيه ،فلما رأي ما يصنعون َ
شيء لطيف ،ثم أدرجه ،فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه ،فلما أكثروا القتل قال
بعضهم لبعض :يا هؤلء ،إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل ،فادعوا فلنا فاعرضوا عليه
كتابكم ،فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ،وإن أبى فاقتلوه .فدعوا فلنًا ذلك الفقيه فقالوا :
تؤمن بما في كتابنا ؟ قال :وما فيه ؟ اعرضوه عليّ .فعرضوه عليه إلى آخره ،ثم قالوا :أتؤمن
بهذا ؟ قال :نعم ،آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن -فتركوه ،فلما مات نبشوه فوجدوه
مُ َتعَلّقًا ( )2ذلك القرن ،فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب ال ،فقال بعضهم لبعض :يا هؤلء ،ما
كنا نسمع هذا أصابه فتنة .فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة ،وخير ملَلهم ملة
أصحاب ذي القرن".
قال ابن مسعود [ :وإنكم] ( )3أوشك بكم إن بقيتم -أو :بقي من بقي منكم ( - )4أن تروا أمورا
تنكرونها ،ل تستطيعون لها غِيَرًا ،فبحسب المرء منكم أن يعلم ال من قلبه أنه لها كاره.
وقال أبو جعفر الطبري :حدثنا ابن ( )5حميد ،حدثنا جرير ،عن مغيرة ،عن أبي معشر ،عن
إبراهيم قال :جاء عتريس بن عُرقوب ( )6إلى بن مسعود فقال :يا أبا عبد ال ( )7هلك من لم
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .فقال عبد ال :هلك من لم يعرف قلبُه معروفًا ولم ينكر قلبُه
منكرًا ؛ إن بني إسرائيل لما طال عليهم المد وقست قلوبهم ،اخترعوا كتابًا من بين أيديهم
وأرجلهم ،استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ،وقالوا :نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن
آمن به تركناه ،ومن كفر به قتلناه .قال :فجعل رجل منهم كتاب ال في قَرْن ،ثم جعل القرن
بين ثندوتيه فلما قيل له :أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به -ويومئ إلى القرن بين ثَنْدُوتيه -ومالي ل
أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مِلَلِهم اليوم مِلّة صاحب القَرن ()8
وقوله { :اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُيحْيِي ال ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا قَدْ بَيّنّا َلكُمُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } فيه إشارة إلى
أنه ،تعالى ،يلين القلوب بعد قسوتها ،ويَهدي الحَيَارى بعد ضَلتها ،ويفرّج الكروب بعد شدتها ،
فكما يحيي الرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتّان [الوابل] ( )9كذلك يهدي القلوب القاسية
ببراهين القرآن والدلئل ،ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة ل يصل إليها الواصل ،فسبحان
الهادي لمن يشاء بعد الضلل ،والمضل لمن أراد بعد الكمال ،الذي هو لما يشاء فعال ،وهو
الحكم العدل في جميع الفعال ،اللطيف الخبير الكبير المتعال.
__________
( )1في أ " :يتابعنا عليه"
( )2في أ " :معلقا"
( )3زيادة من م.
( )4في م " :معكم".
( )5في أ " :أبو"
( )6في أ " :جابر بن سويد عن قرب"
( )7في أ " :يا أبا عبد ال".
( )8تفسير الطبري (.)27/132
( )9زيادة من أ.
( )8/21
( )8/22
شهَدَاءُ عِنْدَ رَ ّب ِهمْ َلهُمْ َأجْرُ ُه ْم وَنُورُهُ ْم وَالّذِينَ
ن وَال ّ
وَالّذِينَ َآمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ أُولَ ِئكَ هُمُ الصّدّيقُو َ
َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ ()19
( )8/22
حدثني صالح ابن حرب أبو َم ْعمَر ،حدثنا إسماعيل بن يحيى ،حدثنا ابن عَجْلن عن زيد بن
أسلم ،عن البراء بن عازب قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :مؤمنو أمتي
شهداء" .قال :ثم تل صلى ال عليه وسلم هذه الية { وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ أُولَ ِئكَ ُهمُ
شهَدَاءُ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ [َلهُمْ َأجْرُهُمْ] } ( )1هذا حديث غريب ()2
الصّدّيقُونَ وَال ّ
وقال أبو إسحاق ،عن عمرو بن ميمون في قوله { :وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ أُولَ ِئكَ هُمُ
شهَدَاءُ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ َل ُهمْ أَجْ ُرهُ ْم وَنُورُهُمْ } قال :يجيؤون يوم القيامة معًا كالصبعين.
الصّدّيقُونَ وَال ّ
ش َهدَاءُ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ } أي :في جنات النعيم ،كما جاء في الصحيحين " :إن أرواح
وقوله { :وَال ّ
خضْر تسرح في الجنة حيث شاءت ،ثم تأوي إلى تلك القناديل ،فاطلع
الشهداء في حواصل طير ُ
عليهم ربك اطلعة فقال :ماذا تريدون ؟ فقالوا :نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل
كما قُتِلنا أول مرة .فقال إني قضيت أنهم إليها ل يرجعون" ()3
وقوله َ { :ل ُهمْ أَجْ ُرهُ ْم وَنُورُهُمْ } أي :لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم ،
وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من العمال ،كما قال المام أحمد :
حدثنا يحيى ابن إسحاق ،حدثنا بن َلهِيعَة ،عن عطاء بن دينار ،عن أبي يزيد الخولني قال :
سمعت فضالة بن عُبَيد يقول :سمعت عمر بن الخطاب يقول :سمعت النبي صلى ال عليه وسلم
يقول " :الشهداء أربعة :رجل مؤمن جيد اليمان ،لقي العدو فصدق ال فقتل ،فذلك ( )4الذي
ينظر الناس إليه هكذا -ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول ال صلى ال عليه وسلم أو
قلنسوة عمر -والثاني مؤمن ( )5لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح ،جاءه سهم غَرْب
فقتله ،فذاك في الدرجة الثانية ،والثالث رجل مؤمن خلط عمل صالحا وآخر سيئًا لقي العدو
فصدق ال حتى قتل ،فذاك في الدرجة الثالثة ،والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا
كثيرًا ،لقي العدو فصدق ال حتى قتل ،فذاك في الدرجة الرابعة")6( .
وهكذا رواه علي بن المديني ،عن أبي داود الطيالسي ،عن ابن المبارك ،عن ابن َلهِيعَة ،وقال
:هذا إسناد مصري صالح .ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال :حسن غريب ()7
وقوله { :وَالّذِينَ كَفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم ،عطف
بذكر الشقياء وبين حالهم.
__________
( )1زيادة من م.
( )2تفسير الطبري (.)27/133
( )3صحيح مسلم برقم ( )1887من حديث ابن مسعود ،رضي ال عنه ،ولم أقع عليه عند
البخاري.
( )4في م " :فذاك".
( )5في أ " :رجل".
( )6المسند (.)1/23
( )7سنن الترمذي برقم (.)1644
( )8/23
( )8/24
بها وتعجبه حتى يعتقد أنه ل دار سواها ول معاد وراءها ،وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار
الخرة.
قال ابن جرير :حدثنا علي ابن حرب الموصلي ،حدثنا المحاربي ،حدثنا محمد بن عمرو ،عن
أبي سلمة ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :موضع سوط في الجنة
خير من الدنيا وما فيها .اقرؤوا َ { :ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِل مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ } ()1
وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة ( )2وال أعلم.
وقال المام أحمد :حدثنا ابن نمير و َوكِيع ،كلهما عن العمش ،عن شقيق ،عن عبد ال قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله ،والنار مثل ذلك".
انفرد بإخراجه البخاري في "الرقاق" ،من حديث الثوري ،عن العمش ،به ()3
ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من النسان ،وإذا كان المر كذلك ؛ فلهذا حثه
ال ( )4على المبادرة إلى الخيرات ،من فعل الطاعات ،وترك المحرمات ،التي تكفر عنه
الذنوب والزلت ،وتحصل له الثواب والدرجات ،فقال تعالى { :سَا ِبقُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّب ُكمْ
سمَاءِ وَال ْرضِ } والمراد جنس السماء والرض ،كما قال في الية
ضهَا َكعَ ْرضِ ال ّ
وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
سمَاوَاتُ وَال ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }
ضهَا ال ّ
الخرى { :وَسَارِعُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ َيشَاءُ
[آل عمران .]133 :وقال هاهنا { :أُعِ ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ ذَِلكَ َف ْ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ } أي :هذا الذي أهلهم ال له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم ،
وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ
كما قدّمنا في الصحيح :أن فقراء المهاجرين قالوا :يا رسول ال ،ذهب أهل الدّثور بالدرجات
العلى والنعيم المقيم .قال " :وما ذاك ؟" .قالوا :يُصلّون كما نصلي ،ويصومون كما نصوم ،
ويتصدقون ول نتصدق ،ويُعتقون ول ُنعْتِق .قال " :أفل أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من
بعدكم ،ول يكون أحد أفضل منكم إل من صنع مثل ما صنعتم :تسبحون وتكبرون وتحمدون
دُبُر كل صلة ثلثًا وثلثين" .قال :فرجعوا فقالوا :سمع إخواننا أهل الموال ما فعلنا ،ففعلوا
مثله! فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء" ()5
__________
( )1تفسير الطبري ( )27/134وليس في المطبوع هذه الزيادة ،فلعل الحافظ رآها في نسخة
أخرى.
( )2صحيح البخاري برقم ( )6415من حديث سهل بن سعد ،رضي ال عنه.
( )3المسند ( )1/387وصحيح البخاري برقم (.)6488
( )4في م " :فلهذا حث تعالى".
( )5صحيح البخاري برقم ( )843وصحيح مسلم برقم (.)595
( )8/25
سكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ
ض وَلَا فِي أَ ْنفُ ِ
مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي الْأَ ْر ِ
حبّ ُكلّ ُمخْتَالٍ َفخُورٍ ()23
سوْا عَلَى مَا فَا َتكُ ْم وَلَا َتفْرَحُوا ِبمَا آَتَاكُمْ وَاللّهُ لَا ُي ِ
يَسِيرٌ (ِ )22لكَيْلَا تَ ْأ َ
حمِيدُ ()24
ل َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ
خِن وَيَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبُ ْ
الّذِينَ يَ ْبخَلُو َ
س ُكمْ إِل فِي كِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذَِلكَ عَلَى
{ مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي ال ْرضِ وَل فِي أَ ْنفُ ِ
حبّ ُكلّ مُخْتَالٍ َفخُورٍ (
علَى مَا فَا َتكُمْ وَل َتفْرَحُوا ِبمَا آتَا ُك ْم وَاللّهُ ل يُ ِ
سوْا َ
اللّهِ َيسِيرٌ (ِ )22ل َكيْ ل تَ ْأ َ
حمِيدُ (} )24
ل َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ
خِن وَيَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبُ ْ
)23الّذِينَ يَبْخَلُو َ
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي
س ُكمْ } أي :في الفاق وفي نفوسكم { إِل فِي كِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَبْرََأهَا } أي :
ال ْرضِ وَل فِي أَ ْنفُ ِ
من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.
وقال بعضهم { :مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } عائد على النفوس .وقيل :عائد على المصيبة .والحسن
عوده على الخليقة والبرية ؛ لدللة الكلم عليها ،كما قال ابن جرير :
حدثني يعقوب ،حدثنا ابن عُلَيّة ،عن منصور بن عبد الرحمن قال :كنت جالسًا مع الحسن ،
س ُكمْ إِل فِي كِتَابٍ مِنْ
فقال رجل :سله عن قوله { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي ال ْرضِ وَل فِي أَ ْنفُ ِ
قَ ْبلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } فسألته عنها ،فقال :سبحان ال! ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء
والرض ،ففي كتاب ال من قبل أن يبرأ النسمة ()1
جدْب { ،وَل فِي
وقال قتادة { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي ال ْرضِ } قال :هي السنون .يعني :ال َ
سكُمْ } يقول :الوجاع والمراض .قال :وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ول نكبة قدم ،
أَ ْنفُ ِ
ول خلجان عرق إل بذنب ،وما يعفو ال عنه أكثر.
وهذه الية الكريمة من أدل دليل على القَدَرية نُفاة العلم السابق -قبحهم ال -وقال المام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا حيوة وابن َلهِيعة قال حدثنا أبو هانئ الخولني :أنه سمع أبا عبد
الرحمن الحُبُلي يقول :سمعت عبد ال بن عَمرو بن العاص يقول :سمعت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :قدّر ال المقادير قبل أن يخلق السموات والرض بخمسين ألف سنة".
ورواه مسلم في صحيحه ،من حديث عبد ال بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن يزيد ،
وثلثتهم عن أبي هانئ ،به .وزاد بن وَهب " :وكان عرشه على الماء" .ورواه الترمذي وقال :
حسن صحيح ()2
وقوله { :إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } أي :أن علمه تعالى الشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما
يوجد في حينها سهل على ال ،عز وجل ( )3؛ لنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان
كيف كان يكون.
__________
( )1تفسير الطبري (.)27/135
( )2المسند ( )2/169وصحيح مسلم برقم ( )2653وسنن الترمذي برقم (.)2156
( )3في أ " :تعالى".
( )8/26
سوْا عَلَى مَا فَا َتكُ ْم وَل َتفْرَحُوا ِبمَا آتَاكُمْ } أي :أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق
وقوله ِ { :ل َكيْ ل تَأْ َ
كتابتنا ( )1للشياء قبل كونها ،وتقديرنا الكائنات قبل وجودها ،لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن
ليخطئكم ،وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ،فل تأسوا على ما فاتكم ،فإنه ( )2لو قدر شيء لكان {
وَل َتفْرَحُوا ِبمَا آتَا ُكمْ } أي :جاءكم ،ويقرأ " :آتاكُم" أي :أعطاكم .وكلهما متلزمان ،أي :ل
تفخروا على الناس بما أنعم ال به عليكم ،فإن ذلك ليس بسعيكم ول كدكم ،وإنما هو عن قدر
ال ورزقه لكم ،فل تتخذوا نعم ( )3ال أشرًا وبطرًا ،تفخرون بها على الناس ؛ ولهذا قال :
حبّ ُكلّ ُمخْتَالٍ فَخُورٍ } أي :مختال في نفسه متكبر فخور ،أي :على غيره.
{ وَاللّ ُه ل ُي ِ
وقال عكرمة :ليس أحد إل وهو يفرح ويحزن ،ولكن اجعلوا الفَرَح شكرًا والحزن صبرًا.
خلِ } أي :يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ،
ن وَيَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبُ ْ
ثم قال { :الّذِينَ يَ ْبخَلُو َ
حمِيدُ } كما قال موسى عليه
{ َومَنْ يَ َت َولّ } أي :عن أمر ال وطاعته { فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ
حمِيدٌ } [إبراهيم .]8 :
جمِيعًا فَإِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ َ
السلم { :إِنْ َتكْفُرُوا أَنْتُمْ َومَنْ فِي ال ْرضِ َ
__________
( )1في أ " :كتابنا".
( )2في م " :لنه".
( )3في أ " :نعمة".
( )8/27
حدِيدَ فِيهِ
ط وَأَنْزَلْنَا الْ َ
سِب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ
ت وَأَنْزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ
َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ
س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ إِنّ اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ ()25
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
بَأْسٌ َ
( )8/27
سقُونَ (
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا النّ ُب ّوةَ وَا ْلكِتَابَ َفمِ ْنهُمْ ُمهْتَ ٍد َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِي َم وَ َ
جعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ
ل وَ َ
)26ثُمّ َقفّيْنَا عَلَى آَثَارِ ِهمْ بِرُسُلِنَا َوقَفّيْنَا ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَ َم َوآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِي َ
عوْهَا حَقّ
ضوَانِ اللّهِ َفمَا رَ َ
حمَ ًة وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَ ْيهِمْ إِلّا ابْ ِتغَاءَ ِر ْ
اتّ َبعُوهُ رَ ْأ َف ًة وَرَ ْ
سقُونَ ()27
رِعَايَ ِتهَا فَآَتَيْنَا الّذِينَ َآمَنُوا مِ ْنهُمْ َأجْرَهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
خالف ( )1شرع ال الهجرة ،وأمرهم بالقتال بالسيوف ،وضرب الرقاب والهام لمن خالف
القرآن وكذب به وعانده.
وقد روى المام أحمد وأبو داود ،من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ،عن حسان بن
عطية ،عن أبي المنيب ( )2الجرشي الشامي ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه
ظلّ
جعِل رزقي تحت ِ
وسلم ُ " :بعِثتُ بالسيف بين َيدَي الساعة حتى يُعبَد ال وحده ل شريك له ،و ُ
ُرمْحي ،وجعل الذلة والصّغار على من خالف أمري ،ومن تَشبّه بقوم فهو منهم" ()3
شدِيدٌ } يعني :السلح كالسيوف ،والحراب ،والسنان ،والنصال ،
ولهذا قال تعالى { :فِيهِ بَ ْأسٌ َ
والدروع ،ونحوهاَ { .ومَنَافِعُ لِلنّاسِ } أي :في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم ،والمنشار ،
والزميل ،والمجرفة ،واللت التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما ل قوام
للناس بدونه ،وغير ذلك.
عكْرِمة ،أن ابن عباس قال :ثلثة أشياء نزلت مع آدم :السندان
علْباء ( )4بن أحمد ،عن ِ
قال ِ
( )5والكلْبَتان والميقعَة ( - )6يعني المطرقة .رواه ابن جرير ،وابن أبي حاتم.
وقوله { :وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُر ُه وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ } أي :من نيته في حمل السلح نصرة ال
ورسله { ،إِنّ اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ } أي :هو قوي عزيز ،ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى
الناس ،وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.
سقُونَ (
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ َفمِ ْنهُمْ ُمهْتَ ٍد َوكَثِيرٌ مِ ْن ُهمْ فَا ِ
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِي َم وَ َ
جعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ
)26ثُمّ َقفّيْنَا عَلَى آثَارِ ِهمْ بِرُسُلِنَا َوقَفّيْنَا ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَ َم وَآتَيْنَاهُ النْجِيلَ وَ َ
حقّ
عوْهَا َ
ضوَانِ اللّهِ َفمَا رَ َ
حمَ ًة وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَ ْيهِمْ إِل ابْ ِتغَاءَ ِر ْ
اتّ َبعُوهُ رَ ْأ َف ًة وَرَ ْ
سقُونَ (} )27
رِعَايَ ِتهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنهُمْ َأجْرَهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحًا ،عليه السلم ،لم يرسل بعده رسول ول نبيّا إل من ذريته ،
وكذلك إبراهيم ،عليه السلم ،خليل الرحمن ،لم ينزل من السماء كتابًا ول أرسل رسول ول
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا
أوحى إلى بشر من بعده ،إل وهو من سللته كما قال في الية الخرى { :وَ َ
النّ ُب ّوةَ وَا ْلكِتَابَ } [يعني] ( )7حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من
بعده بمحمد ،صلوات ال وسلمه عليهما ؛ ولهذا قال تعالى { :ثُمّ قَفّيْنَا عَلَى آثَا ِرهِمْ بِ ُرسُلِنَا َوقَفّيْنَا
ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَ َم وَآتَيْنَاهُ ال ْنجِيلَ }
__________
( )1في م " :على من تخلف منهم".
( )2في أ " :المسيب"
( )3المسند ( )2/50وسنن أبي داود برقم (.)4031
( )4في أ " :قال علياء".
( )5في أ " :السنداب"
( )6في م " :المدقة" ،وفي أ " :والمنفعة".
( )7زيادة من أ.
( )8/28
( )8/29
( )8/30
ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ ِبهِ
حمَتِ ِه وَيَ ْ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَ َآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ َر ْ
ضلِ اللّ ِه وَأَنّ
شيْءٍ مِنْ َف ْ
غفُورٌ َرحِيمٌ ( )28لِئَلّا َيعْلَمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَلّا َيقْدِرُونَ عَلَى َ
وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
ضلِ ا ْل َعظِيمِ ()29
ا ْل َفضْلَ بِيَدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ،وهو يصلي صلة خفيفة ( )1كأنها صلة
مسافر أو قريبًا منها ،فلما سلم قال :يرحمك ال ،أرأيت هذه الصلة المكتوبة ،أم شيء تنفلته ؟
قال :إنها المكتوبة ،وإنها صلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ما أخطأت إل شيئًا سهوت
عنه ،إن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول " :ل تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ،فإن
قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ،فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ،رهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم" .ثم غدوا من الغد فقالوا :نركب فننظر ونعتبر قال :نعم فركبوا جميعًا ،فإذا هم
بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا ،خاوية على عروشها فقالوا :تعرف هذه الديار ؟ قال :
ما أعرفني بها وبأهلها .هؤلء أهل الديار ،أهلكهم البغي والحسد ،إن الحسد يطفئ نور الحسنات
،والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ،والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان ،والفرج يصدق
ذلك أو يكذبه ()2
وقال المام أحمد :حدثنا يعمُر ،حدثنا عبد ال ،أخبرنا سفيان ،عن زيد ال َعمّي ،عن أبي
إياس ،عن أنس بن مالك أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :لكل نبي رهبانية ،ورهبانية هذه
المة الجهاد في سبيل ال عز وجل" ()3
ورواه الحافظ أبو يعلى ،عن عبد ال بن محمد بن أسماء ،عن عبد ال بن المبارك به ولفظه :
"لكل أمة رهبانية ،ورهبانية هذه المة الجهاد في سبيل ال" ()4
وقال المام أحمد :حدثنا حسين -هو ابن محمد -حدثنا ابن عياش -يعني إسماعيل -عن
الحجاج بن مروان ( )5الكلعي ،وعقيل بن مدرك السلمي ،عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال
عنه ،أن رجل جاءه فقال :أوصني فقال :سألت عما سألت عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم
من قبلك ،أوصيك بتقوى ال ،فإنه رأس كل شيء ،وعليك بالجهاد فإنه رهبانية السلم ،
وعليك بذكر ال وتلوة القرآن ،فإنه روحك في السماء وذكرك في الرض .تفرد به أحمد ()6
ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ
حمَتِهِ وَيَ ْ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ
ضلِ اللّ ِه وَأَنّ
شيْءٍ مِنْ َف ْ
غفُورٌ َرحِيمٌ ( )28لِئَل َيعَْلمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَل َيقْدِرُونَ عَلَى َ
وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
ضلِ ا ْل َعظِيمِ (} )29
ا ْل َفضْلَ بِيَدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس :أنه حمل هذه الية على مؤمني أهل الكتاب ،وأنهم
يؤتون أجرهم مرتين كما في الية التي في القصص ( )7وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة ،
عن
__________
( )1في أ ،م "خفيفة وقعة".
( )2مسند أبي يعلى (.)6/365
( )3المسند ( )3/266وفيه زيد العمى ضعيف.
( )4مسند أبي يعلى (.)7/210
( )5في م " :هارون".
( )6المسند ( )3/82وقال الهيثمي في المجمع (" : )4/215رجال أحمد ثقاب".
( )7عند تفسير الية .54 :
( )8/31
أبي موسى الشعري قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلثة يؤتون أجرهم مرتين :
رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ،وعبد مملوك أدى حق ال وحق َموَاليه فله
أجران ،ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" .أخرجاه في الصحيحين
()1
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك ،وعتبة بن أبي حكيم ،وغيرهما ،وهو اختيار ابن
جرير.
وقال سعيد بن جبير :لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل ال هذه الية في
حمَتِهِ } أي :
حق هذه المة { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ
ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ } يعني :هدى يُتَ َبصّر به من العمى والجهالة ،
ضعفين ،وزادهم { :وَيَ ْ
ويغفر لكم .فضلهم بالنور والمغفرة .ورواه ابن جرير عنه.
ج َعلْ َلكُمْ فُ ْرقَانًا وَ ُي َكفّرْ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُكمْ
وهذه الية كقوله تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ّتقُوا اللّهَ يَ ْ
ضلِ ا ْل َعظِيمِ } [النفال .]29 :
وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
وقال سعيد بن عبد العزيز :سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود :كم أفضل ما ضعفت (
)2لكم حسنة ؟ قال :كفل ثلثمائة وخمسون ( )3حسنة .قال :فحمد ال عمر على أنه أعطانا
حمَتِهِ } قال سعيد :والكفلن
كفلين[ .ثم] ( )4ذكر سعيد قول ال ،عز وجل ُ { :يؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ َر ْ
في الجمعة مثل ذلك .رواه ابن جرير ()5
ومما يؤيد هذا القول ما رواه المام أحمد :حدثنا إسماعيل ،حدثنا أيوب عن نافع ،عن ابن عمر
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل
عمال فقال :من يعمل لي من صلة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ أل فعملت
اليهود .ثم قال :من يعمل لي من نصف النهار إلى صلة العصر على قيراط قيراط ؟ أل فعملت
النصارى .ثم قال من يعمل لي من صلة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ أل
فأنتم الذي عملتم .فغضبت النصارى واليهود ،وقالوا :نحن أكثر عمل وأقل عطاء .قال :هل
ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا :ل .قال :فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء" ()6
قال أحمد :وحدثناه ُم َؤمّل ،عن سفيان ،عن عبد ال بن دينار ،عن ابن عمر ،نحو حديث نافع
،عنه ()7
انفرد بإخراجه البخاري ،فرواه عن سليمان ( )8بن حرب ،عن حماد [ ،عن أيوب] ( )9عن
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )97وصحيح مسلم برقم (.)154
( )2في م " :ضعف".
( )3في م " :وخمسين".
( )4زيادة من أ.
( )5تفسير الطبري (.)27/141
( )6المسند (.)2/6
( )7المسند (.)2/111
( )8في أ " :سليم".
( )9زيادة من صحيح البخاري.
( )8/32
نافع ،به ( )1وعن قتيبة ،عن الليث ،عن نافع ،بمثله ()2
وقال البخاري :حدثنى محمد بن العلء ،حدثنا أبو أسامة ،عن بَريد ( )3عن أبي بردة ،عن
أبي موسى ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل
استأجر قومًا يعملون له عمل يومًا إلى الليل على أجر معلوم ،فعملوا إلى نصف النهار فقالوا :
ل حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا ،وما عملنا باطل .فقال لهم :ل تفعلوا ،أكملوا بقية
عملكم وخذوا أجركم كامل فأبوا وتَ َركُوا ،واستأجر آخرين بعدهم فقال :أكملوا بقية يومكم ولكم
الذي شرطت لهم من الجر ،فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا :ما عملنا باطل ،
ولك الجر الذي جعلت لنا فيه .فقال أكملوا بقية عملكم ؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير.
فأبوا ،فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم ،فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ،فاستكملوا
أجر الفريقين كليهما ،فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور" انفرد به البخاري ()4
شيْءٍ مِنْ َفضْلِ اللّهِ } أي :ليتحققوا
ولهذا قال تعالى { :لِئَل َيعَْلمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَل َيقْدِرُونَ عَلَى َ
ضلَ بِيَدِ اللّهِ
أنهم ل يقدرون على رَدّ ما أعطاه ال ،ول [على] ( )5إعطاء ما منع ال { ،وَأَنّ ا ْل َف ْ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ }
ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ
قال ابن جرير { :لِئَل َيعَْلمَ } أي :ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها " :لكي يعلم" .وكذا
حطّان ( )6بن عبد ال ،وسعيد بن جبير ،قال ابن جرير :لن العرب تجعل "ل" صلة في كل
سجُدَ } [العراف
كلم دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح ،فالسابق كقوله { :مَا مَ َن َعكَ أَل تَ ْ
شعِ ُركُمْ أَ ّنهَا ِإذَا جَا َءتْ ل ُي ْؤمِنُونَ } [النعام { ، ]109 :وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ
َ { ، ]12 :ومَا ُي ْ
جعُونَ } [النبياء .]95 :
أَهَْلكْنَاهَا أَ ّن ُهمْ ل يَرْ ِ
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)2268
( )2صحيح البخاري برقم (.)3459
( )3في أ " :يزيد".
( )4صحيح البخاري برقم (.)2271
( )5زيادة من أ.
( )6في م " :حطاب".
( )8/33
سمِيعٌ
سمَعُ تَحَاوُ َر ُكمَا إِنّ اللّهَ َ
جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّ ِه وَاللّهُ َي ْ
سمِعَ اللّهُ َقوْلَ الّتِي تُجَادُِلكَ فِي َزوْ ِ
قَدْ َ
َبصِيرٌ ()1
( )8/34
الّذِينَ ُيظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ إِلّا اللّائِي وََلدْ َنهُ ْم وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ مُ ْنكَرًا
غفُورٌ ( )2وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا
ل وَزُورًا وَإِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ
مِنَ ا ْل َقوْ ِ
فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َذِلكُمْ تُوعَظُونَ بِ ِه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (َ )3فمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ
سكِينًا ذَِلكَ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ
طعَامُ سِتّينَ ِم ْ
شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َفمَنْ َلمْ يَسْ َتطِعْ فَإِ ْ
َ
عذَابٌ أَلِيمٌ ()4
وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّ ِه وَلِ ْلكَافِرِينَ َ
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة ،حدثنا جرير -يعني بن
عمَرَ -يقال لها :خولة بنت ثعلبة -وهو
حازم -قال :سمعت أبا يزيد يحدث قال :لقيت امرأة ُ
يسير مع الناس ،فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ،ووضع يديه على منكبيها
حتى قضت حاجتها وانصرفت .فقال له رجل :يا أمير المؤمنين ،حبست رجالت قريش على
هذه العجوز ؟! قال :ويحك! وتدري من هذه ؟ قال :ل .قال :هذه امرأة سمع ال شكواها من
فوق سبع سموات ،هذه خولة بنت ثعلبة ،وال لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها
حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلة فأصليها ،ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها ()1
هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب .وقد روي من غير هذا الوجه .وقال ابن أبي حاتم
أيضًا :حدثنا المنذر بن شاذان ( )2حدثنا يعلى ،حدثنا زكريا عن عامر قال :المرأة التي جادلت
في زوجها خولة بنت الصامت ،وأمها معاذة التي أنزل ال فيها { :وَل ُتكْ ِرهُوا فَتَيَا ِت ُكمْ عَلَى
حصّنًا } [ النور ] 33 :
الْ ِبغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ َت َ
صوابه :خولة امرأة أوس بن الصامت.
{ الّذِينَ ُيظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ إِل اللئِي وَلَدْ َن ُه ْم وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ
غفُورٌ ( )2وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا
ل وَزُورًا وَإِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ
مُ ْنكَرًا مِنَ ا ْلقَ ْو ِ
فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َذِلكُمْ تُوعَظُونَ بِ ِه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (َ )3فمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ
سكِينًا ذَِلكَ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ
طعَامُ سِتّينَ ِم ْ
شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َفمَنْ َلمْ يَسْ َتطِعْ فَإِ ْ
َ
عذَابٌ أَلِيمٌ (} )4
وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّ ِه وَلِ ْلكَافِرِينَ َ
قال المام أحمد :حدثنا سعد ( )3بن إبراهيم ويعقوب قال حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن إسحاق ،
حدثني َم ْعمَر بن عبد ال بن حنظلة ،عن ابن عبد ال بن سلم ،عن خويلة ( )4بنت ثعلبة قالت
:فيّ -وال -وفي أوس بن الصامت أنزل ال صَدْرَ سورة "المجادلة" ،قالت :كنت عنده وكان
ي يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال :أنت عليّ كظهر
شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه ،قالت :فدخل عل ّ
أمي .قالت :ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ،ثم دخل عليّ فإذا هو يريدني عن نفسي.
قالت :قلت :كل والذي نفس خويلة ( )5بيده ،ل تخلص إليّ وقد قلت ما قلت ،حتى يحكم ال
ورسوله فينا بحكمه .قالت :فواثبني وامتنعت منه ،فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ،
فألقيته عني ،قالت :ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي ،فاستعرت منها ثيابًا ،ثم خرجتُ حتى جئت
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فجلست بين يديه ،فذكرت له ما لقيت منه ،وجعلت أشكو إليه
ما
__________
( )1ورواه الدرامي في الرد على الجهمية (ص )26من طريق أبي يزيد ،عن عمر بن الخطاب
به .قال الذهبي في العلو (ص " : )113هذا إسناد صالح فيه انقطاع ،أبو يزيد لم يلحق عمر".
( )2في أ " :حدثنا الوليد بن المنذر به شاذان".
( )3في أ " :سعيد".
( )4في أ " :خولة".
( )5في أ " :خولة".
( )8/35
ألقى من سوء خلقه .قالت :فجعل رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :يا خويلة ( )1ابنُ عمك
شيخ كبير ،فاتقي ال فيه" .قالت :فوال ما برحت حتى نزل فيّ القرآن ،فتغشى رسول ال
صلى ال عليه وسلم ما كان يتغشاه ،ثم سُ ّريَ عنه ،فقال لي " :يا خويلة ( )2قد أنزل ال فيك
جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ
سمِعَ اللّهُ َق ْولَ الّتِي ُتجَادُِلكَ فِي َزوْ ِ
وفي صاحبك" .ثم قرأ عليّ َ { :قدْ َ
سمِيعٌ َبصِيرٌ } إلى قوله { :وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت :فقال لي
سمَعُ َتحَاوُ َر ُكمَا إِنّ اللّهَ َ
يَ ْ
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مُريه فليعتق رقبة" .قالت :فقلت يا رسول ال ،ما عنده ما
يعتق .قال " :فليصم شهرين متتابعين" .قالت :فقلت :وال إنه شيخ كبير ،ما به من صيام .قال
" :فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر" .قالت :فقلت :يا رسول ال ،ما ذاك عنده .قالت :فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فإنا سنعينه بعَ َرقٍ من تمر" .قالت :فقلت :يا رسول ال ،وأنا
سأعينه بعَرَقٍ آخر ،قال " :فقد أصبت وأحسَنْت ،فاذهبي فتصدقي به عنه ،ثم استوصي بابن
عمك خيرًا" .قالت :ففعلت.
ورواه أبو داود في كتاب الطلق من سننه من طريقين ،عن محمد بن إسحاق بن يسار ،به ()3
خوَيلة .ول
وعنده :خولة بنت ثعلبة ،ويقال فيها :خولة بنت مالك بن ثعلبة .وقد تصغر فيقال ُ :
منافاة بين هذه القوال ،فالمر فيها قريب .وال أعلم.
هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ،فأما حديث سَلَمة بن صَخْر فليس فيه أنه
كان سبب النزول ،ولكن أمر بما أنزل ال في هذه السورة ،من العتق أو الصيام ،أو الطعام ،
كما قال المام أحمد :
حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا محمد بن إسحاق ،عن محمد بن عمرو بن عطاء ،عن سُلَيمان
بن يَسَار ،عن سلمة بن صخر النصاري قال :كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت
غيري ،فلما دخل رمضان تظهّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ،فَ َرقًا من أن أصيب في
ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ،وأنا ل أقدر أن أنزع ،فبينا هي تخدمني من
الليل إذ تكشف لي منها شيء ،فوثبت عليها ،فلما أصبحتُ غدوتُ على ( )4قومي فأخبرتهم
خبري وقلت :انطلقوا معي إلى النبي ( )5صلى ال عليه وسلم -فأخبره بأمري .فقالوا :ل وال
ل نفعل ؛ نتخوف أن ينزل فينا ( - )6أو يقول فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم -مقالة يبقى
علينا عارها ،ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك .قال :فخرجتُ حتى أتيتُ النبي صلى ال عليه
وسلم ،فأخبرته خبري .فقال لي " :أنت بذاك" .فقلت :أنا بذاك .فقال "أنت بذاك" .فقلت :أنا
بذاك .قال "أنت بذاك" .قلت :نعم ،ها أناذا فأمض فيّ حكم ال تعالى ( )7فإني صابر له .قال :
"أعتق رقبة" .قال :فضربت صفحة رقبتي ( )8بيدي وقلت :ل والذي بعثك بالحق ما أصبحت
أملك غيرها .قال " :فصم شهرين" .قلت :يا رسول ال ،وهل أصابني ما أصابني إل في الصيام
؟ قال " :فتصدق" .فقلت :والذي بعثك بالحق ،
__________
( )1في أ " :يا خولة".
( )2في أ " :يا خولة".
( )3المسند ( )6/410وسنن أبي داود برقم (.)2215 ، 2214
( )4في م " :إلى"
( )5في م " :رسول ال".
( )6في أ " :فينا شيء".
( )7في م ،أ " :عز وجل".
( )8في م " :عنقي".
( )8/36
حشَى ما لنا عشاء .قال " :اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها
لقد بتنا ليلتنا هذه وَ ْ
إليك ،فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا ،ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" .قال :
فرجعت إلى قومي فقلت :وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي ،ووجدت عند رسول ال صلى ال
سعَة والبركة ،قد أمر لي بصدقتكم ،فادفعوها إليّ .فدفعوها إليّ.
عليه وسلم ال ّ
حسّنه ()1
وهكذا رواه أبو داود ،وابن ماجة ،واختصره الترمذي و َ
وظاهر السياق :أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة ،
كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.
قال خَصيف ،عن مجاهد ،عن بن عباس :أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت ،أخو
عبادة بن الصامت ،وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك ،فلما ظاهر منها خَشِيت أن يكون ذلك
طلقًا ،فأتت رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالت :يا رسول ال ،إن أوسًا ظاهر مني ،وإنا
ت صُحْبَتَهُ .وهي تشكو ذلك وتبكي ،ولم يكن جاء
إن افترقنا هلكنا ،وقد نَثَرتُ بطني منه ،وقَدم ْ
جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّهِ } إلى
سمِعَ اللّهُ َقوْلَ الّتِي تُجَادُِلكَ فِي َزوْ ِ
في ذلك شيء .فأنزل ال { :قَدْ َ
عذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :أتقدر على رقبة
قوله { :وَلِ ْلكَافِرِينَ َ
تعتقها ؟ " .قال :ل وال يا رسول ال ما أقدر عليها ؟ قال :فجمع له رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،حتى أعتق عنه ،ثم راجع أهله رواه بن جرير ()2
ولهذا ذهب ابنُ عباس والكثرون إلى ما قلناه ،وال أعلم.
فقوله تعالى { :الّذِينَ ُيظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ } أصل الظهار مشتق من الظهر ،وذلك أن
ظهْرِ أمي ،ثم في الشرع كان
الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها :أنت عليّ كَ َ
الظهار في سائر العضاء قياسًا على الظهر ،وكان الظهار عند الجاهلية طلقًا ،فأرخص ال
لهذه المة وجعل فيه كفارة ،ولم يجعله طلقًا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم .هكذا قال غير
واحد من السلف.
عكْرمة ،
قال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا عبيد ال بن موسى ،عن أبي حمزة ،عن ِ
عن ابن عباس قال :كان الرجل إذا قال لمرأته في الجاهلية :أنت عليّ كظهر أمي ،حُرّمت
عليه ،فكان أول من ظاهر في السلم أوس ،وكان تحته ابنة عم له يقال لها " :خويلة بنت ثعلبة
( .)3فظاهر منها ،فأسقط في يديه ،وقال :ما أراك إل قد حَرُمت علي .وقالت له مثل ذلك ،
قال :فانطلقي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم .فأتت رسول ال فوجدت عنده ماشطة تمشط
رأسه ،فقال " :ياخويلة ،ما أمرنا في أمرك بشيء ( )4فأنزل ال على رسوله صلى ال عليه
سمِعَ اللّهُ َقوْلَ الّتِي
وسلم ،فقال " :يا خويلة ،أبشري" قالت :خيرًا .قال فقرأ عليها { :قَدْ َ
سمَعُ تَحَاوُ َر ُكمَا } إلى قوله { :وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّ ِه وَاللّهُ َي ْ
تُجَادُِلكَ فِي َز ْو ِ
نِسَا ِئهِمْ ُثمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا }
__________
( )1المسند ( )4/37وسنن أبي داود برقم ( )2213وسنن ابن ماجة برقم ( )2062وسنن الترمذي
برقم (.)3299
( )2تفسير الطبري (.)28/6
( )3في أ " :بنت خويلد" وهو خطأ.
( )4قي م " :ما أمرنا فيك بشيء".
( )8/37
( )8/38
( )8/39
وقال ابن َلهِيعة :حدثني عطاء ،عن سعيد بن جبير { :ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا } يعني :يريدون أن
يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.
وقال الحسن البصري :يعني الغشيان في الفرج .وكان ل يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج
قبل أن يكفر.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا } والمس :النكاح .وكذا قال
عطاء ،والزهري ،وقتادة ،ومقاتل ابن حيان.
وقال الزهري :ليس له أن يقبلها ول يمسها حتى يكفر.
وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة ،عن ابن عباس أن رجل قال :يا رسول ال ،إني
ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر .فقال " :ما حملك على ذلك يرحمك ال ؟" .قال :
رأيت خلخالها في ضوء القمر .قال " :فل تقربها حتى تفعل ما أمرك ال ،عز وجل" ()1
وقال الترمذي :حسن غريب صحيح ( )2ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسل.
قال النسائي :وهو أولى بالصواب ()3
وقوله { :فَ َتحْرِيرُ َرقَبَةٍ } أي :فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ،فها هنا الرقبة مطلقة غير
مقيدة باليمان ،وفي كفارة القتل مقيدة باليمان ،فحمل الشافعي ،رحمه ال ،ما أطلق ها هنا
على ما قيد هناك لتحاد الموجب ،وهو عتق الرقبة ،واعتضد ( )4في ذلك بما رواه عن مالك
بسنده ،عن معاوية بن الحكم السلمي ،في قصة الجارية السوداء ،وأن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :أعتقها فإنها مؤمنة" .وقد رواه أحمد في مسنده ،ومسلم في صحيحه ()5
وقال الحافظ أبو بكر البزار :حدثنا يوسف ( )6بن موسى ،حدثنا عبد ال بن نمير ،عن
إسماعيل بن مسلم ،عن عمرو بن دينار ،عن طاوس ،عن ابن عباس قال :أتى رسول ال
صلى ال عليه وسلم رجل فقال :إني تظاهرت ( )7من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر .فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ألم يقل ال { مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا } قال :أعجبتني ؟ قال :
"أمسك حتى تكفر" ()8
ثم قال البزار :ل يروي عن ابن عباس بأحسن من هذا ،وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه ،وروي
عنه جماعة كثيرة من أهل العلم ،وفيه من الفقه أنه لم يأمره إل بكفارة واحدة.
__________
( )1رواه أبو داود في السنن برقم ( )2223والترمذي في السنن برقم ( )1990والنسائي في
السنن ( )6/167وابن ماجة في السنن برقم (.)2065
( )2في م : :حسن صحيح غريب".
( )3سنن أبي داود برقم ( )2222 ، 2221وسنن النسائي (.)6/168
( )4في م " :واعتمد".
( )5الموطأ ( )2/777والمسند ( )5/447وصحيح مسلم برقم (.)537
( )6في أ " :حدثنا يونس".
( )7في م " :إني ظاهرت".
( )8ورواه الحاكم في المستدرك ( )2/204والبيهقي في السنن الكبرى ( )7/386من طريق
إسماعيل بن مسلم ،عن عمرو بن دينار به نحوه ،وقال الذهبي " :فيه إسماعيل بن مسلم وهو
واه".
( )8/40
إِنّ الّذِينَ يُحَادّونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ كُبِتُوا َكمَا كُ ِبتَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِه ْم َوقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَلِ ْلكَافِرِينَ
شيْءٍ
حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُو ُه وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
عمِلُوا َأ ْ
جمِيعًا فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
عَذَابٌ ُمهِينٌ (َ )5يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
شهِيدٌ ()6
َ
وقوله { :ذَِلكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي :تزجرون به { وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي :خبير بما
يصلحكم ،عليم بأحوالكم.
طعَامُ سِتّينَ
شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َفمَنْ لَمْ َيسْتَطِعْ فَِإ ْ
جدْ َفصِيَامُ َ
وقوله َ { :فمَنْ َلمْ يَ ِ
سكِينًا } وقد تقدمت الحاديث الواردة ( )1بهذا على الترتيب ،كما ثبت في الصحيحين في قصة
مِ ْ
الذي جامع امرأته في رمضان.
{ ذَِلكَ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ } أي :شرعنا هذا لهذا.
حدُودُ اللّهِ } أي :محارمه فل تنتهكوها.
وقوله { :وَتِ ْلكَ ُ
وقوله { :وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي :الذين لم يؤمنوا ول التزموا بأحكام هذه الشريعة ،ل
تعتقدوا أنهم ناجون من البلء ،كل ليس المر كما زعموا ،بل لهم عذاب أليم ،أي :في الدنيا
والخرة.
ت وَلِ ْلكَافِرِينَ
{ إِنّ الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ كُبِتُوا َكمَا كُ ِبتَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َوقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيّنَا ٍ
شيْءٍ
حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُو ُه وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
عمِلُوا َأ ْ
جمِيعًا فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
عَذَابٌ ُمهِينٌ (َ )5يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
شهِيدٌ (} )6
َ
__________
( )1في م " :المرة".
( )8/41
( )8/41
ن َو َمعْصِيَةِ
جوْنَ بِالْإِ ْث ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ
جوَى ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَيَتَنَا َ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ ُنهُوا عَنِ النّ ْ
سهِمْ َلوْلَا ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ
ل وَإِذَا جَاءُوكَ حَ ّي ْوكَ ِبمَا لَمْ ُيحَ ّيكَ بِهِ اللّ ُه وَ َيقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِ
الرّسُو ِ
جوْا بِالْإِ ْث ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ
جهَنّمُ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ ( )8يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْ ُتمْ فَلَا تَتَنَا َ
حسْ ُبهُمْ َ
َ
جوَى مِنَ
حشَرُونَ ( )9إِ ّنمَا النّ ْ
جوْا بِالْبِرّ وَالتّ ْقوَى وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إِلَ ْيهِ تُ ْ
َو َمعْصِيَةِ الرّسُولِ وَتَنَا َ
الشّ ْيطَانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ َآمَنُوا وَلَيْسَ ِبضَارّهِمْ شَيْئًا إِلّا بِإِذْنِ اللّ ِه وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ()10
( )8/42
فَرقا منه .فقال " :أل أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ " .قلنا :بلى يا رسول ال .قال :
"الشرك الخفي ،أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل" .هذا إسناد غريب ،وفيه بعض الضعفاء ()1
ن َو َم ْعصِ َيتِ الرّسُولِ } أي :يتحدثون فيما بينهم بالثم ،وهو
جوْنَ بِالثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ
وقوله { :وَيَتَنَا َ
ما يختص بهم ،والعدوان ،وهو ما يتعلق بغيرهم ،ومنه معصية الرسول ومخالفته ُ ،يصِرون
عليها ويتواصون بها.
وقوله { :وَإِذَا جَاءُوكَ حَ ّي ْوكَ ِبمَا َلمْ يُحَ ّيكَ ِبهِ اللّهُ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا بن نمير ،عن العمش [ ،عن مسلم] ( )2عن مسروق ،عن
عائشة قالت :دخل على رسول ال صلى ال عليه وسلم يهود فقالوا :السام عليك يا أبا القاسم.
فقالت عائشة :وعليكم السام و[اللعنة] ( )3قالت :فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يا
عائشة ،إن ال ل يحب الفحش ول التفحش" .قلت :أل تسمعهم يقولون :السام عليك ؟ فقال
رسول ال " :أو ما سمعت أقول ( )4وعليكم ؟" .فأنزل ال { :وَإِذَا جَاءُوكَ حَ ّي ْوكَ ِبمَا لَمْ يُحَ ّيكَ بِهِ
اللّهُ } ()5
وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم :عليكم السام والذام واللعنة .وأن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :إنه يستجاب لنا فيهم ،ول يستجاب لهم فينا" ()6
وقال ابن جرير :حدثنا بشر ،حدثنا يزيد ،حدثنا سعيد ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك :أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه ،إذ أتى عليهم يهودي فسلّم عليهم ،
فردوا عليه ،فقال نبي ال صلى ال عليه وسلم " :هل تدرون ما قال ؟" .قالوا :سلم يا رسول
ال .قال " :بل قال :سام عليكم ،أي :تسامون دينكم" .قال رسول ال " :ردوه" .فردوه عليه.
فقال نبي ال " :أقلت :سام عليكم ؟" .قال :نعم .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا سلم
عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا :عليك" أي :عليك ما قلت ()7
وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح ،وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة ،بنحوه ()8
سهِمْ َلوْل ُي َعذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ } أي :يفعلون هذا ،ويقولون ما يحرفون
وقوله { :وَ َيقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِ
من الكلم وإيهام السلم ،وإنما هو شتم في الباطن ،ومع هذا يقولون في أنفسهم :لو كان هذا
نبيًا لعذبنا ال بما نقول له في الباطن ؛ لن ال يعلم ما نسره ،فلو كان هذا نبيًا حقّا لوشك أن
__________
( )1رواه المام أحمد في المسند ( )3/30وابن ماجة في السنن برقم ( )4204من طريق كثير بن
زيد به نحوه ،وقال البوصيري في الزوائد (" : )3/296هذا إسناد حسن ،كثير بن زيد وربيع بن
عبد الرحمن مختلف فيهما".
( )2زيادة من المسند (.)6/229
( )3زيادة من أ.
( )4في أ " :ما أقول".
( )5رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2165من طريق يعلى بن عبيد ،عن العمش به نحوه.
( )6انظر :صحيح البخاري برقم ( )6030وصحيح مسلم برقم ( )2166من حديث عائشة ،
رضي ال عنها.
( )7تفسير الطبري (.)27/11
( )8صحيح مسلم برقم (.)2163
( )8/43
( )8/44
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا قِيلَ َل ُكمْ َتفَسّحُوا فِي ا ْلمَجَاِلسِ فَافْسَحُوا َيفْسَحِ اللّهُ َلكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا
فَانْشُزُوا يَ ْرفَعِ اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ دَ َرجَاتٍ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ ()11
حدثنا وكيع وأبو معاوية قال حدثنا العمش ،عن أبي وائل ،عن عبد ال بن مسعود قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا كنتم ثلثة فل يتناجَينّ اثنان دون صاحبهما ،فإن ذلك
يحزنه" .وأخرجاه من حديث العمش ()1
وقال عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :إذا كنتم ثلثة فل يتناجى اثنان دون الثالث إل بإذنه ؛ فإن ذلك يحزنه".
انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل ،كلهما عن حماد بن زيد ،عن أيوب ،به ()2
سحُوا َيفْسَحِ اللّهُ َلكُ ْم وَإِذَا قِيلَ ا ْنشُزُوا
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ َلكُمْ َتفَسّحُوا فِي ا ْلمَجَالِسِ فَافْ َ
فَانْشُزُوا يَ ْرفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ دَ َرجَاتٍ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (} )11
يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين ،وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس { :يَا
سحُوا َيفْسَحِ اللّهُ َل ُكمْ
أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ َل ُكمْ َتفَسّحُوا فِي ا ْلمَجَالِسِ } وقرئ { في المجلس } { فَافْ َ
} وذلك أن الجزاء من جنس العمل ،كما جاء في الحديث الصحيح " :من بَنَى ل مسجدًا بنى ال
له بيتًا في الجنة" ( )3وفي الحديث الخر " :ومن يَسّر على ُمعْسِر َيسّر ال عليه في الدنيا
والخرة [ ،ومن ستر مسلما ستره ال في الدنيا والخرة] ( )4وال في عون العبد ما كان العبد في
سحُوا َيفْسَحِ اللّهُ َلكُمْ }.
عون أخيه" ( )5ولهذا أشباه كثيرة ؛ ولهذا قال { :فَافْ َ
قال قتادة :نزلت هذه الية في مجالس ( )6الذكر ،وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبل ضَنّوا
بمجالسهم عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأمرهم ال أن يفسح بعضهم لبعض.
جمُعة وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يومئذ
وقال مقاتل ابن حيان :أنزلت هذه الية يوم ُ
في الصفة ،وفي المكان ضيق ،وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والنصار ،فجاء ناس من
أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس ،فقاموا حيال رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالوا :السلم
عليك أيها النبي ورحمة ال وبركاته .فرد النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم سلموا على القوم بعد
ذلك ،فردوا عليهم ،فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ،فعرف النبي صلى ال عليه
وسلم ما يحملهم على القيام ،فلم ُيفْسَح لهم ،فشق ذلك على النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال لمن
حوله من المهاجرين والنصار ،من غير أهل بدر " :قم يا فلن ،وأنت يا فلن" .فلم يزل
__________
( )1المسند ( )1/431وصحيح مسلم برقم ( )2184ولم أقع عليه عند البخاري عن العمش ،
وإنما هو عنده عن منصور ،عن أبي وائل برقم (.)6290
( )2صحيح مسلم برقم (.)2183
( )3رواه البخاري في صحيحه برقم ( )450ومسلم في صحيحه برقم ( )533من حديث عثمان ،
رضي ال عنه.
( )4زيادة من صحيح مسلم (.)2699
( )5رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2699من حديث أبي هريرة ،رضي ال عنه.
( )6في م " :في مجلس".
( )8/45
يقيمهم بعدة ( )1النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والنصار من أهل بدر ،فشق ذلك
على من أقيم من مجلسه ،وعرف النبي صلى ال عليه وسلم الكراهة في وجوههم ،فقال
المنافقون :ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ وال ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلء
،إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم ،فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه .فبلغنا أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال " :رحم ال رجل فَسَح ( )2لخيه" .فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا ،
فَ َتفَسّحَ القومُ لخوانهم ،ونزلت هذه الية يوم الجمعة .رواه بن أبي حاتم.
وقد قال المام أحمد ،والشافعي :حدثنا سفيان ،عن أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر ،أن
جلَ من مجلسه فيجلس فيه ،ولكن
جلُ الرّ ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يقيم الرّ ُ
َتفَسّحُوا وتَوسّعوا".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع ،به ()3
وقال الشافعي :أخبرنا عبد المجيد ،عن ابن جريج قال :قال سليمان بن موسى ،عن جابر بن
عبد ال .أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة ،ولكن ليقل
:افسحوا" .على شرط السنن ولم يخرجوه ()4
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الملك بن عمرو ،حدثنا فُلَيْح ،عن أيوب عن عبد الرحمن بن
ص ْعصَعة ،عن يعقوب بن أبي يعقوب ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه
[أبي] (َ )5
وسلم قال " :ل يقم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ،ولكن افسحوا يفسح ال لكم" ()6
ورواه أيضًا عن سُرَيج ( )7بن يونس ،ويونس بن محمد المؤدب ،عن فُلَيْح ،به .ولفظه " :ل
يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه ،ولكن افسحوا يفسح ال لكم" تفرد به أحمد ()8
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال :فمنهم من رخص في ذلك محتجّا
حبّ أن يَتَم ّثلَ له
بحديث " :قوموا إلى سيدكم" ( )9ومنهم من منع من ذلك محتجّا بحديث " :من أ َ
الرجال قيامًا فَلْيَتبوّأ َم ْقعَدَه من النار" ( )10ومنهم من فصل فقال :يجوز عند القدوم من سفر ،
وللحاكم في محل وليته ،كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ،فإنه لما استقدمه النبي صلى ال
عليه وسلم حاكمًا
__________
( )1في أ " :بعدد".
( )2في م ،أ " :يفسح".
( )3لم يقع هذا الحديث لي في مسند أحمد هكذا ،وإنما هو فيه ( : )2/22عن ابن نمير ،عن
عبيد ال بن عمر ،عن نافع ،عن ابن عمر )2/45( ،عن غندر ،عن شعبة ،عن أيوب بن
موسى ،عن نافع ،عن ابن عمر .وهو في صحيح البخاري برقم ( )6269وصحيح مسلم برقم (
.)2177
( )4مسند الشافعي برقم (" )454بدائع المنن".
( )5زيادة من المسند (.)2/523
( )6المسند (.)2/523
( )7في م ،أ " :شريح".
( )8المسند (.)2/338
( )9رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3043ومسلم في صحيحه برقم ( )1768من حديث أبي
سعيد الخدري ،رضي ال عنه.
( )10رواه أبو داود في السنن برقم ( )5229والترمذي في السنن برقم ( )2755من حديث
معاوية رضي ال عنه ،وقال الترمذي " :إسناد حسن".
( )8/46
في بني قريظه فرآه مقبل قال للمسلمين " :قوموا إلى سيدكم" .وما ذاك إل ليكون أنفذ لحكمه ،
وال أعلم .فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم .وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب
إليهم من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان إذا جاء ل يقومون له ،لما يعلمون من كراهته (
)1لذلك ()3( )2
وفي الحديث المروي في السنن :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به
المجلس ،ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ،وكان الصحابة ،رضي ال عنهم ،
يجلسون منه على مراتبهم ،فالصديق يجلسه عن يمينه ،وعمر عن يساره ،وبين يديه غالبًا
عثمان وعلي ؛ لنهما كانا ممن يكتب ( )4الوحي ،وكان يأمرهما بذلك ،كما رواه مسلم من
حديث العمش ،عن عمارة بن عمير ،عن أبي َم ْعمَر ،عن أبي مسعود ،أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم كان يقول " :لِيَليني منكم أولوا الحلم والّنهَى ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم"
( )5وما ذاك إل ليعقلوا عنه ما يقوله ،صلوات ال وسلمه عليه ؛ ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام
ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ،إما لتقصير أولئك في حق البدريين ،أو ليأخذ البدريون من
العلم بنصيبهم ،كما أخذ أولئك قبلهم ،أو تعليما بتقديم الفاضل إلى المام.
عمَارة بن عمير ( )6التيمي ( )7عن أبي
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،عن العمش ،عن ُ
معمر ،عن أبي مسعود قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلة
ويقول " :استووا ول تختلفوا فتختلف قلوبكم ،ليليني منكم أولو الحلم والنّهى ،ثم الذين يلونهم ،
ثم الذين يلونهم" .قال أبو مسعود ( )8فأنتم اليوم أشد اختلفًا.
وكذا رواه مسلم وأهل السنن ،إل الترمذي ،من طرق عن العمش ،به ()9
وإذا كان هذا أمره لهم في الصلة أن يليه العقلء ( )10ثم العلماء ،فبطريق الولى أن يكون ذلك
في غير الصلة.
وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح ،عن أبي الزاهرية ،عن كثير بن مرة ،عن عبد
ال بن عمر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :أقيموا الصفوف ،وحَاذُوا بين المناكب ،
وسُدّوا الخلل ،ولِينُوا بأيدي إخوانكم ،ول تَذَروا فرجات للشيطان ،ومن وَصَل صفّا وصله ال ،
ومن قطع صفّا قطعه ال" ()11
__________
( )1في م " :من كراهيته".
( )2رواه الترمذي في السنن برقم ( )2754من حديث أنس ،رضي ال عنه.
( )3وللمام النووي -رحمه ال -رسالة سماها " :الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من
أهل السلم" أطنب في الكلم على هذه المسألة ،وهى مطبوعة بدار الفكر بدمشق.
( )4في م " :يكتبان".
( )5صحيح مسلم برقم (.)432
( )6في أ " :بكير".
( )7في م ،أ " :الليثي".
( )8في أ " :سعيد".
( )9المسند ( )4/122وصحيح مسلم برقم ( )432وسنن أبي داود برقم ( )674وسنن النسائي (
)2/87وسنن ابن ماجة برقم (.)976
( )10في أ " :الفضلء".
( )11سنن أبي داود برقم (.)666
( )8/47
ولهذا كان أبي بن كعب -سيد القراء -إذا انتهى إلى الصف الول انتزع منه رجل يكون من
أفناء ( )1الناس ،ويدخل هو في الصف المقدم ،ويحتج بهذا الحديث " :ليلينى منكم أولو الحلم
والنهى" .وأما عبد ال بن عمر فكان ل يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه ،عمل
بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه .ولنقتصر على هذا المقدار ( )2من النموذج
المتعلق بهذه الية ،وإل فبسطه يحتاج ( )3إلى غير هذا الموضع ،وفي الحديث الصحيح :بينا
رسول ال صلى ال عليه وسلم جالس ،إذ أقبل ثلثة نفر ،فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة
فدخل فيها ،وأما الخر فجلس وراء الناس ،وأدبر الثالث ذاهبًا .فقال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :أل أنبئكم بخبر الثلثة ،أما الول فآوى إلى ال فآواه ال ،وأما الثاني فاستحيا فاستحيا
ال منه ،وأما الثالث فأعرض فأعرض ال عنه" ()4
وقال المام أحمد :حدثنا عَتّاب بن زياد ،أخبرنا عبد ال ،أخبرنا أسامة بن زيد ،عن عمرو بن
شعيب ،عن أبيه ،عن عبد ال بن عمرو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يحل
لرجل أن يفرق بين اثنين إل بإذنهما".
ورواه أبو داود والترمذي ،من حديث أسامة بن زيد الليثي ،به ( )5وحسنه الترمذي.
وقد رُوي عن بن عباس ،والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا ( )6في قوله تعالى { :إذا قيل
لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا } ( )7يعني :في مجالس الحرب ،قالوا :ومعنى قوله { :وَِإذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي :انهضوا للقتال.
وقال قتادة { :وَإِذَا قِيلَ ا ْنشُزُوا فَانْشُزُوا } أي :إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال مقاتل [بن حيان] ( )8إذا دعيتم إلى الصلة فارتفعوا إليها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :كانوا إذا كانوا عند النبي صلى ال عليه وسلم في بيته
فأرادوا النصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده ،فربما يشق ( )9ذلك
عليه -عليه السلم -وقد تكون له ( )10الحاجة ،فأمروا أنهم إذا أمروا بالنصراف أن
جعُوا } [ النور )11( ] 28 :
جعُوا فَا ْر ِ
ينصرفوا ،كقوله { :وَإِنْ قِيلَ َل ُكمُ ارْ ِ
ت وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي :ل
وقوله { :يَ ْرفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ دَرَجَا ٍ
تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لخيه إذا أقبل ،أو إذا أمر بالخروج فخرج ،أن يكون ذلك نقصا
في حقه ،بل هو رفعة ومزية ( )12عند ال ،وال تعالى ل يضيع ذلك له ،بل يجزيه بها في
الدنيا والخرة ،فإن من تواضع لمر ال َرفَع ال قدره ،ونَشَر ذكره ؛ ولهذا قال { :يَ ْرفَعِ اللّهُ
الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ دَ َرجَاتٍ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }
__________
( )1في م ،أ " :أفناد".
( )2في م " :القدر".
( )3في م " :محتاج".
( )4رواه البخاري في صحيحه برقم ( )66ومسلم في صحيحه برقم (.)2176
( )5المسند ( )2/213وسنن أبي داود برقم ( )4845وسنن الترمذي برقم (.)2752
( )6في م ،أ " :أنهما قال".
( )7في أ " :المجالس".
( )8زيادة من م.
( )9في م " :شق".
( )10في م " :لهم".
( )11في م " :وإذا قيل ارجعوا" وهو خطأ.
( )12في م " :ورتبة" ،وفي أ " :ومنزلة"
( )8/48
أي :خبير بمن يستحق ذلك وبمن ل يستحقه.
قال المام أحمد :حدثنا أبو كامل ،حدثنا إبراهيم ،حدثنا ابن شهاب ،عن أبي الطفيل عامر بن
واثلة ،أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ،وكان عمر استعمله على مكة ،
فقال له عمر :من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال :استخلفت عليهم ابن أبزي .قال :وما ابن
أبزي ؟ فقال :رجل من موالينا .فقال عمر [بن الخطاب] ( )1استخلفت عليهم مولى ؟ .فقال :يا
أمير المؤمنين ،إنه قارئ لكتاب ال ،عالم بالفرائض ،قاض .فقال عمر ،رضي ال عنه :أما
إن نبيكم صلى ال عليه وسلم قد قال " :إن ال يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين" ()2
وهكذا رواه مسلم من غير وجه ،عن الزهري ،به ( )3وقد ذكرت ( )4فضل العلم وأهله وما
ورد في ذلك من الحاديث مستقصاة في شرح "كتاب العلم" من صحيح البخاري ،ول الحمد
والمنة.
__________
( )1زيادة من م.
( )2المسند (.)1/35
( )3جاء من طريق حماد بن سلمة عن حميد ،عن الحسن بن مسلم :أن عمر استعمل ابن عبد
الحارث على مكة ،فذكر نحوه ،أخرجه أبو يعلى في مسنده ( )1/185وفيه انقطاع .وأيضا من
طريق العمش عن حبيب بن أبي ثابت :أن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال :خرجت مع عمر ،
فاستقبلنا أمير مكة -نافع بن علقمة -فذكر نحو الحديث المتقدم ،أخرجه أبو يعلى في مسنده (
.)1/186
( )4في م " :ذكرنا".
( )8/49
( )8/49
( )8/50
ب وَ ُهمْ
غضِبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مَا هُمْ مِ ْنكُ ْم وَلَا مِ ْنهُمْ وَيَحِْلفُونَ عَلَى ا ْلكَ ِذ ِ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
خذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً َفصَدّوا
شدِيدًا إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ( )15اتّ َ
عذَابًا َ
عدّ اللّهُ َلهُمْ َ
َيعَْلمُونَ ( )14أَ َ
عذَابٌ ُمهِينٌ ( )16لَنْ ُتغْنِيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَ ِئكَ
عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فََلهُمْ َ
حسَبُونَ
جمِيعًا فَ َيحِْلفُونَ َلهُ َكمَا يَحِْلفُونَ َلكُ ْم وَيَ ْ
َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ (َ )17يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
علَ ْيهِمُ الشّ ْيطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ِذكْرَ اللّهِ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ
حوَذَ َ
شيْءٍ أَلَا إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ ( )18اسْتَ ْ
أَ ّنهُمْ عَلَى َ
الشّ ْيطَانِ أَلَا إِنّ حِ ْزبَ الشّ ْيطَانِ ُهمُ الْخَاسِرُونَ ()19
( )8/51
اليهود ،الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن .ثم قال { :مَا ُهمْ مِ ْنكُ ْم وَل مِ ْنهُمْ }
أي :هؤلء المنافقون ،ليسوا في الحقيقة ل منكم أيها المؤمنون ،ول من الذين تولوهم وهم
اليهود.
ثم قال { :وَيَحِْلفُونَ عَلَى ا ْل َك ِذبِ وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ } يعني :المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون
بأنهم كاذبون فيما حلفوا ،وهي اليمين الغموس ،ول سيما في مثل حالهم اللعين ،عياذًا بال منه
( )1فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا :آمنا ،وإذا جاءوا الرسول حلفوا بال [له] ( )2أنهم
مؤمنون ،وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به ؛ لنهم ل يعتقدون صدق ما قالوه ،
وإن كان في نفس المر مطابقًا ؛ ولهذا شهد ال بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.
ثم قال { :أَعَدّ اللّهُ َلهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِ ّنهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } أي :أرصد ال لهم على هذا
الصنيع العذاب الليم على أعمالهم السيئة ،وهي موالة الكافرين ونصحهم ،ومعاداة المؤمنين
وغشهم ؛ ولهذا قال تعالى { اتّخَذُوا أَ ْيمَا َن ُهمْ جُنّةً َفصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } أي :أظهروا اليمان
وأبطنوا الكفر ،واتقوا باليمان الكاذبة ،فظن كثير ممن ل يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر
بهم ،فحصل بهذا صد عن سبيل ال لبعض الناس { فََل ُهمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } أي :في مقابلة ما
امتهنوا من الحلف باسم ال العظيم في اليمان الكاذبة الحانثة.
ثم قال { :لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْل ُدهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } أي :لن يدفع ذلك عنهم بأسا ()3
إذا جاءهم { ،أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ }
جمِيعًا } أي :يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فل يغادر منهم أحدًا { ،
ثم قال َ { :يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
شيْءٍ } أي :يحلفون بال ( )4عز وجل ،أنهم
حِلفُونَ َلكُ ْم وَ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ عَلَى َ
فَيَحِْلفُونَ لَهُ َكمَا يَ ْ
كانوا على الهدى والستقامة ،كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا ؛ لن من عاش على شيء مات
عليه وبعث عليه ،ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند ال كما كان ينفعهم عند الناس ،فيجرون عليهم
شيْءٍ } أي :حلفهم ذلك لربهم ،عز وجل.
حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ عَلَى َ
الحكام الظاهرة ؛ ولهذا قال { :وَيَ ْ
ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم ( { )5أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ } فأكد الخبر عنهم بالكذب.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن نفيل ،حدثنا زهير ،عن ( )6سمَاك بن حرب ،
حدثني سعيد بن جُبَير ؛ أن ابن عباس حدثه :أن النبي صلى ال عليه وسلم كان في ظل حجرة
حجَره ،وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل ،قال " :إنه سيأتيكم إنسان ينظر
من ُ
بعيني شيطان ،فإذا أتاكم فل تكلموه" .فجاء رجل أزرق ،فدعاه رسول ال صلى ال عليه وسلم
فكلمه ،فقال ؛ "علم تشتمني أنت وفلن وفلن ؟" -نفر دعاهم بأسمائهم -قال :فانطلق الرجل
فدعاهم ،فحلفوا له واعتذروا إليه ،قال فأنزل ال ،عز وجل { :فَيَحِْلفُونَ لَهُ َكمَا َيحِْلفُونَ َلكُمْ
شيْءٍ أَل إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ }
وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ عَلَى َ
__________
( )1في م " :عياذًا بال من ذلك".
( )2زيادة من م.
( )3في م " :بأس ال".
( )4في م " :ال".
( )5في م ،أ " :حسابهم".
( )6في م " :حدثنا".
( )8/52
إِنّ الّذِينَ يُحَادّونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ أُولَ ِئكَ فِي الَْأذَلّينَ ( )20كَ َتبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ اللّهَ َق ِويّ
عَزِيزٌ ()21
وهكذا رواه المام أحمد من طريقين ،عن سماك ،به ( )1ورواه ابن جرير ،عن محمد بن
المثني ،عن غُنْدَر ،عن شعبة ،عن سماك ،به نحوه ( )2وأخرجه أيضًا من حديث سفيان
الثوري ،عن سماك ،بنحوه .إسناد جيد ولم يخرجوه.
وحال هؤلء كما أخبر ال تعالى عن المشركين حيث يقول { :ثُمّ َلمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ إِل أَنْ قَالُوا وَاللّهِ
س ِه ْم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } [النعام ، 23 :
رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ َكذَبُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
]24
حوَذَ عَلَ ْيهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ِذكْرَ اللّهِ } أي :استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى
ثم قال { :اسْ َت ْ
أنساهم أن يذكروا ال ،عز وجل ،وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه ؛ ولهذا قال أبو داود :
حدثنا أحمد ابن يونس ،حدثنا زائدة ،حدثنا السائب بن حُبَيش ،عن َمعْدان بن أبي طلحة
ال َي ْعمُري ،عن أبي الدرداء :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ما من ثلثة في
قرية ول بَدْو ،ل تقام فيهم الصلة إل قد استحوذ عليهم الشيطان ،فعليك بالجماعة ،فإنما يأكل
الذئب القاصية" .قال زائدة :قال السائب :يعني الصلة في الجماعة (.)3
ثم قال تعالى { :أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ الشّ ْيطَانِ } يعني :الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر ال.
ثم قال تعالى { :أَل إِنّ حِ ْزبَ الشّ ْيطَانِ ُهمُ الْخَاسِرُونَ }
{ إِنّ الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ أُولَ ِئكَ فِي الذَلّينَ ( )20كَ َتبَ اللّهُ لغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ اللّهَ َق ِويّ
عَزِيزٌ (} )21
__________
( )1المسند (.)1/240
( )2تفسير الطبري (.)28/17
( )3سنن أبي داود برقم (.)547
( )8/53
جدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُولَهُ وََلوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ َأوْ أَبْنَاءَ ُهمْ
لَا تَ ِ
ن وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخُِل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ
عشِيرَ َتهُمْ أُولَ ِئكَ كَ َتبَ فِي قُلُو ِبهِمُ الْإِيمَا َ
خوَا َنهُمْ َأوْ َ
َأوْ إِ ْ
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ أَلَا إِنّ حِ ْزبَ اللّهِ هُمُ
تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا َر ِ
ا ْل ُمفْلِحُونَ ()22
{ ل َتجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُوا آبَا َءهُمْ َأوْ
خوَا َنهُمْ َأوْ عَشِيرَ َتهُمْ أُولَ ِئكَ كَ َتبَ فِي قُلُو ِبهِمُ اليمَانَ وَأَيّ َدهُمْ بِرُوحٍ مِنْ ُه وَيُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ
أَبْنَاءَ ُهمْ َأوْ إِ ْ
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ أَل إِنّ حِ ْزبَ
تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا َر ِ
اللّهِ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ (} )22
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المعاندين المحادين ( )1ل ورسوله ،يعني :الذين هم في حَدّ
والشرع في حَدّ ،أي :مجانبون للحق مشاقون له ،هم في ناحية والهدى في ناحية { ،أُولَ ِئكَ فِي
الذَلّينَ } أي :في الشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب ،الذلين في الدنيا والخرة.
{ كَ َتبَ اللّهُ لغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي } أي :قد حكم وكتب في كتابه الول وقَدَره الذي ل يُخالَف ول
يُمانع ،ول يبدل ،بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والخرة ،وأن
العاقبة
__________
( )1في أ " :المحاربين".
( )8/53
شهَادُ َيوْمَ
للمتقين ،كما قال تعالى { :إِنّا لَنَ ْنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ َيقُومُ ال ْ
ل يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُتهُمْ وََلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } [غافر ]52 ، 51 :وقال ها هنا { كَ َتبَ
اللّهُ لغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ } أي :كتب القوي العزيز أنه الغالب لعدائه .وهذا
قدر محكم وأمر مبرم ،أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والخرة.
ثم قال تعالى { :ل َتجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُوا
خوَا َنهُمْ َأوْ عَشِيرَ َت ُهمْ } أي :ل يوادون المحادين ولو كانوا من القربين ،
آبَا َءهُمْ َأوْ أَبْنَاءَهُمْ َأوْ ِإ ْ
ن َومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ فَلَ ْيسَ مِنَ
كما قال تعالى { :ل يَتّخِذِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُمؤْمِنِي َ
شيْءٍ إِل أَنْ تَ ّتقُوا مِ ْنهُمْ ُتقَا ًة وَيُحَذّ ُر ُكمُ اللّهُ َنفْسَهُ } [آل عمران ]28 :الية ،وقال تعالى :
اللّهِ فِي َ
شوْنَ
جكُ ْم وَعَشِيرَ ُت ُك ْم وََأ ْموَالٌ اقْتَ َرفْ ُتمُوهَا وَتِجَا َرةٌ َتخْ َ
خوَا ُنكُ ْم وَأَ ْزوَا ُ
{ ُقلْ إِنْ كَانَ آبَا ُؤكُ ْم وَأَبْنَا ُؤكُمْ وَإِ ْ
جهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَ ّبصُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ
حبّ ِإلَ ْيكُمْ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ِ
كَسَا َدهَا َومَسَاكِنُ تَ ْرضَوْ َنهَا َأ َ
سقِينَ } [التوبة ]24 :
بَِأمْ ِرهِ وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره :أنزلت هذه الية { ل َتجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ
الخِرِ } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد ال بن الجراح ،حين قتل أباه يوم بدر ؛ ولهذا
قال عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه ،حين جعل المر شورى بعده في أولئك الستة ،رضي
ال عنهم " :ولو كان أبو عبيدة حيّا لستخلفته".
وقيل في قوله { :وََلوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر { َأوْ أَبْنَاءَهُمْ } في ()1
خوَا َنهُمْ } في مصعب بن عمير ،قتل أخاه
الصديق ،هَمّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن َ { ،أوْ إِ ْ
عبيد بن عمير يومئذ { َأوْ عَشِيرَ َت ُهمْ } في عمر ،قتل قريبا له يومئذ أيضًا ،وفي حمزة وعلي
وعبيدة بن الحارث ،قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ ،وال أعلم.
قلت :ومن هذا القبيل حين استشار رسول ال صلى ال عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ،
فأشار الصديق بأن يفادوا ،فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ،وهم بنو العم والعشيرة ،ولعل
ال أن يهديهم .وقال عمر :ل أرى ما رأى يا رسول ال ،هل ( )2تمكني من فلن -قريب
لعمر -فأقتله ،وتمكن عليًا من عقيل ،وتمكن فلنًا من فلن ،ليعلم ال أنه ليست ( )3في قلوبنا
هوادة للمشركين ...القصة بكاملها.
ن وَأَيّ َدهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي :من اتصف بأنه ل يواد من حاد
وقوله { :أُولَ ِئكَ كَ َتبَ فِي قُلُو ِبهِ ُم اليمَا َ
ال ورسوله ولو كان أباه أو أخاه ،فهذا ممن كتب ال في قلبه اليمان ،أي :كتب له السعادة
وقررها في قلبه وزين اليمان في بصيرته.
__________
( )1في م " :وفي".
( )2في م " :بل".
( )3في م " :ليس".
( )8/54
وقال السدي { :كَ َتبَ فِي قُلُو ِبهِ ُم اليمَانَ } جعل في قلوبهم اليمان.
وقال ابن عباس { :وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي :قواهم.
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ }
وقوله { :وَيُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا َر ِ
كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } سر بديع ،وهو أنه لما سخطوا على القرائب
وفي قوله َ { :ر ِ
والعشائر في ال عوضهم ال بالرضا عنهم ،وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ،
والفوز العظيم ،والفضل العميم.
وقوله { :أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ أَل إِنّ حِ ْزبَ اللّهِ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } أي :هؤلء حزبُ ال ،أي :عباد
ال ( )1وأهل كرامته.
وقوله { :أَل إِنّ حِ ْزبَ اللّهِ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } تنويه بفلحهم وسعادتهم ونصرهم ( )2في الدنيا
والخرة ،في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان .ثم قال { :أَل إِنّ حِ ْزبَ الشّيْطَانِ
هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقد قال بن أبي حاتم :حدثنا هارون بن حميد الواسطي ،حدثنا الفضل بن عَنْبَسة ،عن رجل قد
سماه -يقال ( )3هو عبد الحميد بن سليمان ،انقطع من كتابي -عن الذَيّال بن عباد قال :كتب
أبو حازم العرج إلى الزهري :أعلم أن الجاه جاهان ،جاه يجريه ال على أيدي أوليائه لوليائه
،وأنهم الخامل ذكرهم ،الخفية شخوصهم ،ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول ال صلى ال
عليه وسلم" .إن ال يحب الخفياء التقياء البرياء ،الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا ،وإذا حضروا لم
يُدْعَوا ،قلوبهم مصابيح الهدى ،يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة" ( )4فهؤلء أولياء ال
تعالى الذين قال ال { :أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ أَل إِنّ حِ ْزبَ اللّهِ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }
حمّاد :حدثنا محمد بن ثور ،عن يونس ،عن الحسن قال :قال رسول ال صلى
وقال ُنعَيم بن َ
ال عليه وسلم " :اللهم ،ل تجعل لفاجر ول لفاسق عندي يدًا ول نعمة ،فإني وجدت فيما أوحيته
إلي { :ل َتجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُولَهُ } قال سفيان :يرون
أنها نزلت فيمن يخالط السلطان .ورواه أبو أحمد العسكري.
__________
( )1في م : :عباده".
( )2في م " :ونصرتهم".
( )3في م " :فقال".
( )4الحديث أخرجه ابن ماجة في السنن برقم ( )3989من طريق ابن لهيعة ،عن عيسى بن عبد
الرحمن ،عن زيد بن أسلم ،عن أبيه ،عن عمر مرفوعًا ،وفيه ابن لهيعة وقد توبع ،تابعه
عياش بن عباس ،عن عيسى بن عبد الرحمن به ،رواه الحاكم في المستدرك ( )4/328وقال :
"هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه".
( )8/55
( )8/56
( )8/56
عهدًا وذمة ،على أل يقاتلهم ول يقاتلوه ،فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ،فأحل ال بهم
بأسه الذي ل مَرَدّ ( )1له ،وأنزل عليهم قضاءه الذي ل ُيصَدّ ،فأجلهم النبي صلى ال عليه
وسلم ،وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ،وظنوا هم أنها مانعتهم من
بأس ال ،فما أغنى عنهم من ال شيئًا ،وجاءهم ما لم يكن ببالهم ،وسيّرهم رسول ال وأجلهم
من المدينة ،فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام ،وهي أرض المحشر والمنشر
،ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر .وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ،فكانوا
يخربون ما في بيوتهم من المنقولت التي يمكن أن تحمل معهم ؛ ولهذا قال ُ { :يخْرِبُونَ بُيُو َتهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي ال ْبصَارِ } أي :تفكروا في عاقبة من خالف أمر ال
وخالف رسوله ،وكذب كتابه ،كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا ،مع ما يدخره له في
الخرة من العذاب الليم.
قال أبو داود :حدثنا محمد بن داود وسفيان ،حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ،عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ،أن كفار
قريش كتبوا إلى ابن أبي ،ومن كان معه يعبد [معه] ( )2الوثان من الوس والخزرج ،ورسول
ال صلى ال عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر :إنكم آويتم صاحبنا ،وإنا نقسم بال لنقاتلنه
،أو لتخرجنه ،أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ،حتى نقتل ُمقَاتلتكم ونستبيح نساءكم ،فلما بلغ ذلك عبد
ال بن أبي ومن كان معه من عبدة الوثان ،اجتمعوا لقتال النبي صلى ال عليه وسلم ،فلما بلغ
ذلك النبي صلى ال عليه وسلم لقيهم ،فقال " :لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ،ما كانت تكيدكم
بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم ،تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ؟" ،فلما سمعوا ذلك
من النبي صلى ال عليه وسلم تفرقوا ،فبلغ ذلك كفار قريش ،فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر
إلى اليهود :إنكم أهل الحلقة والحصون ،وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ،ول
يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء -وهي الخلخيل -فلما بلغ كتابهم النبي صلى ال عليه وسلم
اجتمعت بنو النضير بالغدر ،فأرسلوا إلى النبي صلى ال عليه وسلم :اخرج إلينا في ثلثين
رجل من أصحابك ليخرج منا ثلثون حبرًا ،حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك ،فإن
صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ،فلما كان الغد غدا عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم [بالكتائب]
( )3فحصرهم ،قال لهم " :إنكم وال ل تأمنوا عندي إل بعهد تعاهدوني عليه" .فأبوا أن يعطوه
عهدًا ،فقاتلهم يومهم ذلك ،ثم غدا الغَد على بني قريظة بالكتائب ،وترك بني النضير ،ودعاهم
إلى أن يعاهدوه ،فعاهدوه ،فانصرف عنهم .وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم ،حتى نزلوا
على الجلء .فجلت بنو النضير ،واحتملوا ما أقلت البل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ،
وكان نخل بني النضير لرسول ال صلى ال عليه وسلم خاصة ،أعطاه ال أياها وخصه بها ،
علَيْهِ مِنْ خَ ْيلٍ وَل ِركَابٍ } يقول :بغير قتال ،
جفْتُمْ َ
فقال َ { :ومَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى َرسُولِهِ مِ ْنهُمْ َفمَا َأوْ َ
فأعطى النبي صلى ال عليه وسلم أكثرها للمهاجرين ،قسمها بينهم ،وقسم منها لرجلين من
النصار وكانا ذوي حاجة ،ولم يقسم من النصار غيرهما ،وبقي
__________
( )1في م " :ل يرد".
( )2زيادة من سنن أبي داود.
( )3زيادة من سنن أبي داود.
( )8/57
منها صدقة رسول ال صلى ال عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة (.)1
ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الختصار ،وبال المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسَير :أنه لما قُتِل أصحابُ بئر معونة ،من
أصحاب رسول ال ( )2صلى ال عليه وسلم ،وكانوا سبعين ،وأفلت منهم عمرو بن أمية
الضمري ،فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر ،وكان معهما
عهد من رسول ال صلى ال عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو ،فلما رجع أخبر رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لقد قتلت رجلين ،لدينّهما"
وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد ،فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى بني
النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين ،وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها
شرقيها.
قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة :ثم خرج رسول ال إلى بني النضير ،يستعينهم
في دية ذينك القتيلين من بني عامر ،اللذين قتل ( )3عمرو بن أمية الضمري ؛ للجوار الذي كان
رسول ال صلى ال عليه وسلم عقد لهما ،فيما حدثني يزيد بن رُومان ،وكان بين بني النضير
وبني عامر عَقد وحلف .فلما أتاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين
قالوا :نعم ،يا أبا القاسم ،نعينك على ما أحببت ،مما استعنت بنا عليه .ثم خل بعضهم ببعض
فقالوا :إنكم لن ( )4تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول ال صلى ال عليه وسلم إلى
جنب جدار من بيوتهم َ -فمَن ( )5رجل يعلو على هذا البيت ،فيلقي عليه صخرة ،فيريحنا
منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدُهم ،فقال :أنا لذلك ،فصعَدَ ليلقي عليه صخرة
كما قال ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم في نفر من أصحابه ،فيهم أبو بكر وعمر وعلي ،
رضي ال عنهم .فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ،فقام
وخرج راجعًا إلى المدينة ،فلما استلبث النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا
رجل مقبل من المدينة ،فسألوه عنه ،فقال :رأيته داخل المدينة .فأقبل أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم حتى انتهوا إليه ،فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به ،وأمر
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم .ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا
منه في الحصون ،فأمر رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بقطع النخل والتّحريق فيها .فنادوه :أن
يا محمد ،قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه ،فما بال قطع النخل وتحريقها ؟
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج ،منهم عبد ال ابن أبي [بن] ( )6سلول ،ووديعة ،
سوَيد وداعس ،قد بعثوا إلى بني النضير :أن اثبتوا و َتمَنّعوا فإنا لن
ومالك بن أبي قوقل ( )7و ُ
نسلمكم ،إن قوتلتم قاتلنا معكم ،وإن أخرجتم خَرَجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم ،فلم يفعلوا
،وقذف ال في قلوبهم الرعب ،فسألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن
دمائهم ،على أن لهم ما حملت البل من أموالهم إل الحلقة ،ففعل ،فاحتملوا من أموالهم ما
استقلت به البل ،فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ،فيضعه على ظهر بعيره فينطلق
به .فخرجوا إلى خيبر ،ومنهم من سار إلى الشام ،وَخَلّوا الموال إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فكانت لرسول ال خاصة
__________
( )1سنن أبي داود برقم (.)3004
( )2في م " :أصحاب النبي".
( )3في م " :قتلهما".
( )4في م " :لم".
( )5في أ " :فمر".
( )6زيادة من م ،أ.
( )7في أ " :نوفل".
( )8/58
يضعها حيث شاء ،فقسمها على المهاجرين الولين دون النصار .إل أن سهل بن حُنَيف وأبا
دُجانة سماك بن خَرشَة ذكرا َفقْرًا ،فأعطاهما رسول ال صلى ال عليه وسلم.
عمَير ( )1بن كعب بن عمرو بن جحاش ،
قال :ولم يسلم من بني النضير إل رجلن :يامين بن ُ
وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال :ابن إسحاق :قد حدثني بعض آل يامين :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ليامين :
جعِل علي
عمَير ( )2لرجل ُ
"ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك ،وما هم به من شأني" .فجعل يامين بن ُ
أن يقتل عمرو بن جحاش ،فقتله فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق :ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها (.)3
وهكذا روي يونس بن ُبكَيْر ،عن ابن إسحاق ،بنحو ما تقدم (.)4
فقوله ُ { :هوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } يعني :بني النضير { مِنْ دِيَارِهِ ْم ل ّولِ
حشْرِ }.
الْ َ
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا ابن أبي عمر ،حدثنا سفيان ،عن أبي سعد ،عن
عكرمة ،عن ابن عباس قال :من شك في أن أرض المحشر هاهنا -يعني الشام فَلْيَتْل ( )5هذه
الية ُ { :هوَ الّذِي َأخْرَجَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مِنْ دِيَا ِرهِ ْم ل ّولِ ا ْلحَشْرِ } قال لهم رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :اخرجوا" .قالوا :إلى أين ؟ قال " :إلى أرض المحشر".
وحدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو أسامة ،عن عوف ،عن الحسن قال :لما أجلى رسول ال
صلى ال عليه وسلم بني النضير ،قال " :هذا أول الحشر ،وأنا على الثر".
ورواه ابن جرير ،عن بُ ْندَار ،عن ابن أبي عدي ،عن عوف ،عن الحسن ،به (.)6
وقوله { :مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْ ُرجُوا } أي :في مدة حصاركم لهم وقصَرها ،وكانت ستة أيام ،مع
حصُو ُنهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ
شدة حصونهم ومنعتها ؛ ولهذا قال { :وَظَنّوا أَ ّنهُمْ مَا ِنعَ ُتهُمْ ُ
لَمْ َيحْتَسِبُوا } أي :جاءهم من أمر ال ما لم يكن لهم في بال ،كما قال في الية الخرى { :قَدْ
س ْقفُ مِنْ َف ْو ِقهِ ْم وَأَتَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ
َمكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَا َنهُمْ مِنَ ا ْلقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
شعُرُونَ } [النحل .]26 :
حَ ْيثُ ل يَ ْ
عبَ } أي :الخوف والهَلَع والجَزَع ،وكيف ل يحصل لهم ذلك
وقوله َ { :وقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ
وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر ،صلوات ال وسلمه عليه.
__________
( )1في م " :ابن عمرو".
( )2في م " :بن عمرو".
( )3انظر :السيرة النبوية لبن هشام ( )192 - 2/190وتفسير الطبري (.)28/21
( )4في م " :مما تقدم".
( )5في م ،أ " :فليقرأ".
( )6تفسير الطبري ( )28/20ورواه ابن سعد في الطبقات ( )2/42عن هوذة ابن خليفة ،عن
عوف ،عن الحسن به وهو مرسل.
( )8/59
وقوله ُ { :يخْرِبُونَ بُيُو َتهُمْ بِأَيْدِيهِ ْم وَأَ ْيدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك ،وهو نقض
( )1ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم ،وتَحملها على البل ،وكذا قال عروة بن الزبير ،وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ،وغير واحد.
وقال مقاتل ابن حيان :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقاتلهم ،فإذا ظهر على دَرْب أو دار
،هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال .وكان ( )2اليهود إذا علوا مكانًا أو غلبوا على درب أو دار ،
نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها ،يقول ال تعالى { :فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي ال ْبصَارِ }.
وقوله { :وََلوْل أَنْ كَ َتبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمُ الْجَلءَ َلعَذّ َبهُمْ فِي الدّنْيَا } أي :لول أن كتب ال عليهم هذا
الجلء ،وهو النفي من ديارهم وأموالهم ،لكان لهم عند ال عذاب آخر من القتل والسبي ،ونحو
ذلك ،قاله الزهري ،عن عُ ْروَة ،والسّدّي وابن زيد ؛ لن ال قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في
الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبد ال بن صالح -كاتب الليث -حدثني الليث ،عن
عقيل ،عن ابن شهاب قال :أخبرني عروة بن الزبير قال :ثم كانت وقعة بني النضير ،وهم
طائفة من اليهود ،على رأس ستة أشهر من وقعة بدر .وكان منزلهم بناحية من المدينة ،
فحاصرهم رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى نزلوا من الجلء ،وأن لهم ما أقَلّت البل من
الموال والمتعة إل الحلقة ،وهي السلح ،فأجلهم رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل الشام.
قال :والجلء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة ،وكانوا من سبط لم يصبهم الجلء قبل ما سلط
سمَاوَاتِ َومَا فِي
عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنزل ال فيهم { :سَبّحَ ِللّهِ مَا فِي ال ّ
سقِينَ }.
ال ْرضِ } إلى قوله { وَلِيُخْ ِزيَ ا ْلفَا ِ
وقال عكرمة :الجلء :القتل .وفي رواية عنه :الفناء.
وقال قتادة :الجلء :خروج الناس من البلد إلى البلد.
وقال الضحاك :أجلهم إلى الشام ،وأعطى كل ثلثة بعيرًا وسقاء ،فهذا الجلء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي :أخبرنا أبو عبد ال الحافظ ،أخبرنا أحمد بن كامل القاضي ،
حدثنا محمد بن سعيد ( )3العوفي ،حدثني أبي ،عن عمي ،حدثني أبي عن جدي ،عن ابن
عباس قال :كان النبي ( )4صلى ال عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مَبْلَغ ،فأعطوه
ما أراد منهم ،فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم ،وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم
وأوطانهم ،وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام ،وجعل لكل ثلثة منهم بعيرًا وسقاء ،والجلء
إخراجهم من أرضهم ( )5إلى أرض أخرى ()6
وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمد الزهري ،عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد
__________
( )1في أ " :بعض".
( )2في م " :وكانت".
( )3في أ " :سعد".
( )4في م " :كان رسول ال".
( )5في م " :أرض".
( )6دلئل النبوة للبيهقي ( )3/359وإسناده مسلسل بالضعفاء.
( )8/60
بن مسلمة ،عن أبيه ،عن جده ،عن محمد بن مسلمة ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعثه
إلى بني النضير ،وأمره أن يؤجلهم في الجلء ثلث ليال (.)2( )1
عذَابُ النّارِ } أي :حتم لزم ل بد لهم منه.
وقوله { :وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ
وقوله { :ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ شَاقّوا اللّ َه وَرَسُولَهُ } أي :إنما فَعلَ ال بهم ذلك وسَلّط عليهم رسوله وعباده
المؤمنين ؛ لنهم خالفوا ال ورسوله ،وكذبوا بما أنزل ال على رسله المتقدمين في ( )3البشارة
بمحمد صلى ال عليه وسلم ،وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ،ثم قال َ { :ومَنْ ُيشَاقّ اللّهَ
فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }.
سقِينَ }
طعْ ُتمْ مِنْ لِينَةٍ َأوْ تَ َركْ ُتمُوهَا قَا ِئمَةً عَلَى ُأصُوِلهَا فَبِإِذْنِ اللّ ِه وَلِيُخْ ِزيَ ا ْلفَا ِ
وقوله تعالى { :مَا قَ َ
اللين :نوع من التمر ،وهو جيد.
قال :أبو عبيدة :وهو ما خالف العجوة والبَرْ ِنيّ من التمر.
وقال كثيرون ( )4من المفسرين :اللينة :ألوان التمر سوى العجوة.
قال :ابن جرير :هو جميع النخل .ونقله عن مجاهد :وهو ال ُبوَيرة أيضًا ؛ وذلك أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم ( )5إهانة لهم ،وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم.
فروى محمد ابن إسحاق عن يزيد بن رومان ،وقتادة ،ومقاتل بن حيان أنهم قالوا [ :فبعث بنو
النضير] ( )6يقولون لرسول ال صلى ال عليه وسلم :إنك تنهى عن الفساد ،فما بالك تأمر
بقطع الشجار ؟ فأنزل ال هذه الية الكريمة ،أي :ما قطعتم وما تركتم من الشجار ،فالجميع
بإذن ال ومشيئته وقدرته ( )7ورضاه ،وفيه نكاية بالعدو ( )8وخزي لهم ،وإرغام لنوفهم.
وقال مجاهد :نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل ،وقالوا :إنما هي مغانم المسلمين.
فنزل ( )9القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ،وتحليل من قطعه من الثم ،وإنما قطعه وتركه
بإذنه .وقد روي نحو هذا مرفوعًا ،فقال النسائي :أخبرنا الحسن بن محمد ،عن ( )10عفان ،
حدثنا حفص بن غياث ،حدثنا حبيب بن أبي عمرة ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس ،في
سقِينَ } قال :
طعْتُمْ مِنْ لِي َنةٍ َأوْ تَ َركْ ُتمُوهَا قَا ِئمَةً عَلَى ُأصُوِلهَا فَبِِإذْنِ اللّهِ وَلِيُخْ ِزيَ ا ْلفَا ِ
قوله { :مَا قَ َ
يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل ،فحاك في صدورهم ،فقال المسلمون :قطعنا
بعضًا وتركنا بعضًا ،فلنسألن رسول ال صلى ال عليه وسلم :هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟
طعْ ُتمْ مِنْ لِينَةٍ } ()11
وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل ال { :مَا قَ َ
__________
( )1في م " :أيام".
( )2دلئل النبوة (.)3/360
( )3في م " :من".
( )4في م " :كثير".
( )5في م " :نخلهم".
( )6في هـ بياض ،وفي م " :بنو قريظة" وهو خطأ ،والمثبت من تفسير الطبري .ومستفادا من
هامش ط .الشعب.
( )7في م " :وقدره".
( )8في م " :للعدو".
( )9في م " :فأنزل".
( )10في م " :بن".
( )11سنن النسائي الكبرى برقم (.)11574
( )8/61
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده :حدثنا سفيان بن َوكِيع ،حدثنا حفص ،عن ابن جريج ،عن
سليمان بن موسى ،عن جابر -وعن أبي الزبير ،عن جابر -قال :رخص لهم في قطع النخل
،ثم شدد عليهم فأتوا ( )1النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا :يا رسول ال ،علينا إثم فيما
طعْ ُتمْ مِنْ لِينَةٍ َأوْ تَ َركْ ُتمُوهَا
قطعنا ؟ أو علينا وزر فيما تركنا ؟ فأنزل ال ،عز وجل { :مَا قَ َ
قَا ِئمَةً عَلَى ُأصُوِلهَا فَبِِإذْنِ اللّهِ } (.)2
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان ،عن موسى بن عقبة ،عن نافع ،عن ابن
عمر ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحَرّق.
وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة ،بنحوه ( )3ولفظ البخاري من طريق عبد
الرزاق ،عن ابن جريج ،عن موسى بن عقبة ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :حاربت ()4
النضيرُ وقريظة ،فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومَنّ عليهم حتى حاربت قريظة فقتل من
رجالهم وقسم ( )5نساءهم وأولدهم وأموالهم بين المسلمين ،إل بعضهم لحقوا بالنبي صلى ال
عليه وسلم فأمّنهم وأسلموا ،وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع ،وهم رهط عبد ال بن سلم ،
ويهود بني حارثة ،وكلّ يهود بالمدينة.
ولهما أيضًا عن قتيبة ،عن الليث بن سعد ،عن نافع ،عن ابن عمر :أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير وقطع -وهي ال ُبوَيرةُ -فأنزل ال ،عز وجل فيه { :مَا
سقِينَ } (.)6
طعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ َأوْ تَ َركْ ُتمُوهَا قَا ِئمَةً عَلَى ُأصُوِلهَا فَبِِإذْنِ اللّ ِه وَلِيُخْ ِزيَ ا ْلفَا ِ
قَ َ
جوَيْرية بن أسماء عن نافع ،عن عبد ال بن عمر ؛ أن
وللبخاري ،رحمه ال ،من رواية ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير ( .)7ولها يقول حسان بن ثابت ،رضي
ال عنه :
وَهَان عَلى سَراة بني لُؤيّ ...حَريق بال ُبوَيَرة ُمسْتَطيرّ...
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول :
أدَام الُ ذلكَ من صَنيعَ ...وحَرّق في َنوَاحيها السّعير...
سَتَعلم أيّنا منْها بِنزهٍ ...وَ َتعْلُمُ أيّ أرْضينَا َنضِيرُ...
__________
( )1في م " :فسألوا".
( )2مسند أبي يعلى ( )4/135وفيه سفيان بن وكيع ،وهو ضعيف .تنبيه :رواية سليمان بن
موسى عن جابر لم أجدها في مسند أبي يعلى المطبوع فلعلها سقطت.
( )3المسند ( )2/7وصحيح البخاري برقم ( )2021وصحيح مسلم برقم (.)1746
( )4في م " :حارب".
( )5في م " :فقتل من رجالهم وسبى وقسم".
( )6صحيح البخاري برقم ( )4884وصحيح مسلم برقم (.)1746
( )7في هـ ،أ " :نخل بنى النضير ،وقطع البويرة" ،وقوله " :قطع البويرة" غير ثابت في
البخاري ،ويبدو أنه سهو من الناسخ.
( )8/62
( )8/63
( )8/64
ن وَابْنِ
مَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلقُرَى فَلِلّ ِه وَلِلرّسُولِ وَِلذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا وَا ّتقُوا
السّبِيلِ َكيْ لَا َيكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِ ْنكُ ْم َومَا آَتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ()7
الغْنِيَاءِ مِ ْنكُ ْم َومَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُو ُه َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَانْ َتهُوا وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ ()7
}
يقول تعالى مبينًا لما الفيء وما صفته ؟ وما حكمه ؟ فالفيء :فكلّ مال أخذ من الكفار بغير ()1
قتال ول إيجاف خيل ول ركاب ،كأموال بني النضير هذه ،فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه (
)2بخيل ول ركاب ،أي :لم يقاتلوا العداء فيها بالمبارزة والمصاولة ،بل نزل أولئك من
الرعب الذي ألقى ال في قلوبهم من هيبة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأفاءه ال على رسوله
؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء ،فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها ال ،
عز وجل ،في هذه اليات ،فقال َ { :ومَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِ ْنهُمْ } أي :من بني النضير
علَى مَنْ َيشَاءُ
جفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَ ْيلٍ وَل ِركَابٍ } يعني :البل { ،وََلكِنّ اللّهَ ُيسَلّطُ رُسُلَهُ َ
{ َفمَا َأوْ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ } أي :هو قدير ل يغالب ول يمانع ،بل هو القاهر لكل شيء.
وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
ثم قال { :مَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلقُرَى } أي :جميع البلدان التي تُفتَح هكذا ،فحكمها
ل وَلِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ } إلى
حكم أموال بني النضير ؛ ولهذا قال { :فَلِلّ ِه وَلِلرّسُو ِ
ف أموال الفيء ووجوهه.
آخرها والتي بعدها .فهذه مصار ُ
قال المام أحمد :حدثنا سفيان ،عن عمرو ومَ ْعمَر ،عن الزهري ،عن مالك بن أوس بن
حدَثان ،عن عمر ،رضي ال عنه ،قال :كانت أموال بني النضير مما أفاء ال إلى رسوله
ال َ
مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ول ركاب ،فكانت لرسول ال صلى ال عليه وسلم خالصة (
)3فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته ( - )4وقال مَرّة :قوت ( )5سنته -وما بقي جعله في
الكُرَاع والسلح في سبيل ال ،عز وجل.
هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا ،وقد أخرجه الجماعة في كتبهم -إل ابن ماجة -من حديث
سفيان ،عن عمرو بن دينار ،عن الزهري ،به ( )6وقد رويناه مطول فقال أبو داود ،رحمه
ال :
عمَر
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس -المعنى واحد -قال حدثنا بشرِ بن ُ
الزهراني ،حدثني مالك بن أنس ،عن ابن شهاب ،عن مالك بن أوس قال :أرسل إلىّ عمر بن
الخطاب ،رضي ال عنه ،حين تعالى النهار ،فجئته فوجدته جالسًا على سرير مُفضيًا إلى
رُماله ،فقال حين دخلت عليه :يا مال ،إنه قد َدفّ أهل أبيات ( )7من قومك ،وقد أمرت فيهم
بشيء ،فاقسم فيهم .قلت :لو أمرتَ غيري بذلك ؟ فقال :خذه .فجاءه ( )8يرفا ،فقال :يا أمير
__________
( )1في م " :من غير".
( )2في م " :عليه المسلمون".
( )3في م " :خاصة".
( )4في م " :سنة".
( )5في أ " :مسيرة".
( )6المسند ( )1/25وصحيح البخاري برقم ( )4885وصحيح مسلم برقم ( )1757وسنن أبي
داود برقم ( )2965وسنن الترمذي برقم ( )1719وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11575
( )7في أ " :أهل بنات".
( )8في م " :فجاء".
( )8/65
المؤمنين ،هل لك في عثمان بن عفان ،وعبد الرحمن بن عوف ،والزبير بن العوام ،وسعد بن
أبي وقاص ؟ فقال :نعم .فأذن لهم فدخلوا ،ثم جاءه يرفا فقال :يا أمير المؤمنين ،هل لك في
العباس وعلي ؟ قال :نعم .فأذن لهم فدخلوا ،فقال العباس :يا أمير المؤمنين ،اقض بيني وبين
هذا -يعني :عليًا -فقال بعضهم :أجل يا أمير المؤمنين ،اقض بينهما وأرحهما .قال مالك بن
أوس :خُيّل إليّ أنهما قَدّما أولئك النفر لذلك .فقال عمر ،رضي ال عنه :اتئدا .ثم أقبل على
أولئك الرهط فقال :أنشدكم بال الذي بإذنه تقوم السماء والرض ،هل تعلمون أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال " :ل نُورَث ،ما تركنا صدقة" .قالوا :نعم .ثم أقبل على عليّ والعباس
فقال :أنش ُدكُما بال الذي بإذنه تقوم السماء والرض ،هل تعلمان أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :ل نورث ،ما تركنا صدقة" .فقال نعم .فقال :فإن ال خص رسوله بخاصة لم يخص
ل وَل ِركَابٍ
جفْتُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ خَ ْي ٍ
بها أحدًا من الناس ،فقال َ { :ومَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى َرسُولِهِ مِ ْنهُمْ َفمَا َأوْ َ
شيْءٍ َقدِيرٌ } فكان ال أفاء إلى رسوله أموال
وََلكِنّ اللّهَ ُيسَلّطُ ُرسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
بني النضير ،فوال ما استأثر بها عليكم ول أحرزها دونكم ،فكان رسول ال صلى ال عليه
وسلم يأخذ منها نفقة سنة -أو :نفقته ونفقة أهله سنة -ويجعل ما بقي أسوة المال .ثم أقبل عليّ
أولئك الرهط فقال :أنشدكم بال الذي بإذنه تقوم السماء والرض :هل تعلمون ذلك ؟ قالوا :
ي والعباس فقال :أنشدُكما بال الذي بإذنه تقوم السماء والرض :هل
نعم .ثم أقبل على عل ّ
تعلمان ذلك ؟ قال نعم .فلما تُوفي رسول ال صلى ال عليه وسلم قال أبو بكر " :أنا وليّ رسول
ال" ،فجئت أنتَ وهذا إلى أبي بكر ،تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك ،ويطلب هذا ميراث
امرأته من أبيها ،فقال أبو بكر ،رضي ال عنه :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل
نورث ،ما تركنا صدقة" .وال يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق .فوليها أبو بكر ،فلما توفي
قلتُ :أنا وَِليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم ووليّ أبي بكر ،فَوليتها ما شاء ال أن أليها ،
فجئت أنت وهذا ،وأنتما جَميع وأمركما واحد ،فسألتمانيها ،فقلت :إن شئتما فأنا أدفعها إليكما
على أنّ عليكما عهد ال أن تلياها بالذي كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يليها ،فأخذتماها
مني على ذلك ،ثم جئتماني لقضي بينكما بغير ذلك .وال ل أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم
الساعة ،فإن عَجَزتُما عنها فَ ُردّاها إلي.
أخرجوه من حديث الزهري ،به ( .)1وقال المام أحمد :
حدثنا عارم وعفان قال حدثنا معتمر ،سمعت أبي يقول :حدثنا أنس بن مالك ،عن نبيّ ال
صلى ال عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلت ،أو كما شاء ال ،حتى فُتحَت
عليه قريظة والنضير .قال :فجعل يَرُدّ بعد ذلك ،قال :وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى
ال عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه ،وكان نبي ال صلى ال عليه وسلم قد
أعطاه أمّ أيمن ،أو كما شاء ال ،قال :فسألتُ النبي صلى ال عليه وسلم فأعطانيهن ،فجاءت أم
أيمن فجعلت الثوبَ في عنقي وجعلت تقول :كل وال الذي ل إله إل هو ل يُعطي َكهُنّ وقد
أعطانيهن ،أو كما قالت ،فقال نبي ال " :لك كذا وكذا" .قال :وتقول :
__________
( )1سنن أبي داود برقم ( )2963وصحيح البخاري برقم ( )3094وصحيح مسلم برقم ()1757
وسنن النسائي ( )7/136وسنن الترمذي برقم (.)1610
( )8/66
كل وال .قال ويقول " :لك كذا وكذا" .قال :وتقول :كل وال .قال " :ويقول :لك كذا وكذا".
قال :حتى أعطاها ،حسبت أنه قال :عشرة أمثال أو قال قريبًا من عشرة أمثاله ،أو كما قال.
رواه البخاري ومسلم من طُرُق عن معتمر ،به (.)1
وهذه المصارف المذكورة في هذه الية هي المصارف المذكورة في خُمس الغَنيمة .وقد قدمنا
الكلم عليها في سورة "النفال" بما أغنى عن إعادته هاهنا ،ول الحمد (.)2
وقوله َ { :كيْ ل َيكُونَ دُولَةً بَيْنَ الغْنِيَاءِ مِ ْنكُمْ } أي :جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئل يبقى
مأكلة يتغلب عليها الغنياء ويتصرفون فيها ،بمحض الشهوات والراء ،ول يصرفون منه شيئًا
إلى الفقراء.
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } أي :مهما أمركم به فافعلوه ،ومهما
وقوله َ { :ومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
نهاكم عنه فاجتنبوه ،فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا يحيى بن أبي طالب ،حدثنا عبد الوهاب ،حدثنا سعيد ،عن قتادة ،
عن الحسن العوفي ،عن يحيى بن الجزار ،عن مسروق قال :جاءت امرأة إلى ابن مسعود
فقالت :بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة ،أشيء وجدته في كتاب ال أو عن رسول ال
صلى ال عليه وسلم ؟ قال :بلى ،شيء وجدته في كتاب ال وعن رسول ال صلى ال عليه
وسلم .قالت :وال لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول! .قال :فما
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } ؟ قالت :بلى .قال :فإني
وجدت فيه َ { :ومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة .قالت :فلعله في
بعض أهلك .قال :فادخلي فانظري .فدخلت فَنَظرت ثم خرجَت ،قالت :ما رأيتُ بأسا .فقال لها
:أما حفظت وصية العبد الصالح َ { :ومَا أُرِيدُ أَنْ ُأخَاِل َفكُمْ إِلَى مَا أَ ْنهَاكُمْ عَنْهُ }
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،حدثنا سفيان ،عن منصور [ ،عن إبراهيم] ( )3عن
علقمة ،عن عبد ال -هو ابن مسعود -قال :لعن ال الواشمات والمستوشمات ،
والمتنمصات ،والمُتفَلجات للحُسْن ،المغيرات خلق ال ،عز وجل .قال :فبلغ امرأة في البيت
يقال لها " :أم يعقوب" ،فجاءت إليه فقالت :بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ .قال :ما لي ل ألعن من
لعن رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ،وفي كتاب ال .فقالت :إني لقرأ ما بين لوحيه فما وجدته.
فقال :إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه .أما قرأت َ { :ومَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُو ُه َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْ َتهُوا } ؟ قالت :بلى .قال :فإن النبي صلى ال عليه وسلم نهى عنه .قالت [ :إني] ( )4لظن
أهلك يفعلونه .قال :اذهبي فانظري.
__________
( )1المسند ( )3/219وصحيح البخاري برقم ( )4120 ، 4030 ، 3128وصحيح مسلم برقم (
.)1771
( )2في أ " :ول الحمد والمنة".
( )3زيادة من مسند المام أحمد والبخاري ومسلم.
( )4زيادة من م ،أ ،والمسند.
( )8/67
( )8/68
ج َعلْ فِي
خوَانِنَا الّذِينَ سَ َبقُونَا بِاليمَانِ وَل تَ ْ
غفِرْ لَنَا وَل ْ
{ وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َب ْعدِهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَا ا ْ
قُلُوبِنَا غِل لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِ ّنكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (} )10
يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم { الّذِينَ ُأخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وََأمْوَاِلهِمْ
يَبْ َتغُونَ َفضْل مِنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانًا } أي :خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة ال
صدَقوا قولهم بفعلهم
ورضوانه { وَيَ ْنصُرُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ أُولَ ِئكَ ُهمُ الصّا ِدقُونَ } أي :هؤلء الذين َ
،وهؤلء هم سادات المهاجرين.
ثم قال تعالى مادحًا للنصار ،ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ،وإيثارهم مع
الحاجة ،فقال { :وَالّذِينَ تَ َبوّءُوا الدّارَ وَاليمَانَ مِنْ قَبِْلهِمْ } أي :سكنوا دار الهجرة من قبل
المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.
قال عمر :وأوصي الخليفة [من] ( )1بعدي بالمهاجرين الولين أن يعرف لهم حقهم ،ويحفظ لهم
كرامتهم .وأوصيه بالنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار واليمان من قبل ،أن يقبل من محسنهم ،
__________
( )1زيادة من أ.
( )8/68
( )8/69
ذلك الرجل على مثل حالته الولى ( )1فلما قام رسول ال صلى ال عليه وسلم تبعه عبد ال بن
عمرو بن العاص ،فقال :إني لحيت أبي فأقسمت أل أدخل عليه ثلثًا ،فإن رأيت أن تؤويني (
)2إليك حتى تمضي فعلتُ .قال :نعم .قال أنس :فكان عبد ال يحدث أنه بات معه تلك الثلث
الليالي ( )3فلم يره يقوم من الليل شيئًا ،غير أنه إذا تَعا ّر تقلب على فراشه ،ذكر ال وكبر ،
حتى يقوم لصلة الفجر .قال عبد ال :غير أني لم أسمعه يقول إل خيرًا ،فلما مضت الثلث
غضَب ول هَجْر ()4
ليال وكدت أن أحتقر عمله ،قلت :يا عبد ال ،لم يكن بيني وبين أبي َ
ولكن سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول لك ثلث مرَار ( )5يطلع عليكم الن رجل من
أهل الجنة" .فطلعت أنت الثلث المرار ( )6فأردت أن آوي إليك لنظر ما عملكَ فأقتدي به ،فلم
أرك تعمل كثير ( )7عمل ،فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال :ما
هو إل ما رأيت .فلما وليت دعاني فقال :ما هو إل ما رأيت ،غير أني ل أجدُ في نفسي لحد
من المسلمين غِشّا ،ول أحسدُ أحدًا على خير أعطاه ال إياه .قال عبد ال :هذه التي بلغت بك ،
وهي التي ل تطاق (.)8
سوَيد بن نصر ،عن ابن المبارك ،عن معمر به ( )9وهذا
ورواه النسائي في اليوم والليلة ،عن ُ
إسناد صحيح على شرط الصحيحين ،لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ،عن رجل ،عن
أنس ( .)10فال أعلم.
جةً ِممّا أُوتُوا } يعني
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { :وَل َيجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَا َ
{ ِممّا أُوتُوا } المهاجرون .قال :وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من النصار ،
ل وَل ِركَابٍ
جفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَ ْي ٍ
فعاتبهم ال في ذلك ،فقال َ { :ومَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِ ْن ُهمْ َفمَا َأوْ َ
شيْءٍ َقدِيرٌ } قال :وقال رسول ال " :إن
وََلكِنّ اللّهَ ُيسَلّطُ ُرسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
إخوانكم قد تركوا الموال والولد وخرجوا إليكم" .فقالوا :أموالنا بيننا قطائع .فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :أو غير ذلك ؟" .قالوا :وما ذاك يا رسول ال ؟ قال " :هم قوم ل يعرفون
العمل ،فتكفونهم وتقاسمونهم ( )11الثمر" .فقالوا :نعم يا رسول ال ()12
خصَاصَةٌ } ( )13يعني :حاجة ،أي :يقدمون
سهِمْ وَلَوْ كَانَ ِبهِمْ َ
وقوله { :وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَى أَ ْنفُ ِ
المحاويج على حاجة أنفسهم ،ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ".
وهذا المقام
__________
( )1في م " :الول".
( )2في أ " :أن توريني".
( )3في م " :الليالي الثلث".
( )4في م ،أ " :ول هجرة".
( )5في م " :مرات".
( )6في م " :المرات".
( )7في م " :كبير".
( )8في م " :ل نطيق" ،وفي أ " :ل تطيق".
( )9المسند ( )3/166وسنن النسائي الكبرى برقم (.)10699
( )10انظر :تحفة الشراف للمزى ( )1/395وكلم الحافظ بن حجر في النكت الظراف بهامشه.
( )11في م " :ويقاسمونكم".
( )12رواه الطبري في تفسيره (.)28/28
( )13ذكر في "م" بقية الية.
( )8/70
( )8/71
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ،والنسائي من طريق العمش ،كلهما عن عمرو بن
مُرّة ،به (.)1
سهَيل بن أبي صالح ،عن صفوان بن أبي يزيد ،عن
وقال الليث ،عن يزيد [بن الهاد] ( )2عن ُ
القعقاع بن اللجلج ( )3عن أبي هريرة ،أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل
يجتمع غبار في سبيل ال ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ،ول يجتمع الشح واليمان في قلب
عبد أبدًا" (.)4
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عبدة بن سليمان ،أخبرنا ابن المبارك ،حدثنا
المسعودي ،عن جامع بن شداد ،عن السود بن هلل قال :جاء رجل إلى عبد ال فقال :يا أبا
عبد الرحمن ،إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد ال :وما ذاك ؟ قال :سمعت ال يقول
َ { :ومَنْ يُوقَ شُحّ َنفْسِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ،ل أكاد أن أخرج من يدي شيئًا!
فقال عبد ال :ليس ذلك ( )5بالشح الذي ذكر ال في القرآن ،إنما الشح الذي ذكر ال في القرآن
أن تأكل مال أخيك ظلمًا ،ولكن ذلك ( )6البخل ،وبئس الشيء البخل" ()7
وقال سفيان الثوري ،عن طارق بن عبد الرحمن ،عن سعيد بن جبير ،عن أبي الهياج السدي
قال :كنت أطوف بالبيت ،فرأيت رجل يقول :اللهم قني شح نفسي" .ل يزيد على ذلك ،فقلت
له ،فقال :إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل" ،وإذا الرجل عبد الرحمن بن
عوف ،رضي ال عنه ،رواه ابن جرير ()8
وقال ابن جرير :حدثني محمد بن إسحاق ،حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ،حدثنا
إسماعيل ابن عَيّاش ،حدثنا مُجَمع بن جارية النصاري ،عن عمه يزيد بن جارية ،عن أنس بن
مالك ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ،وقَرَى
الضيف ،وأعطى في النائبة" (.)9
ج َعلْ
خوَانِنَا الّذِينَ سَ َبقُونَا بِاليمَانِ وَل تَ ْ
غفِرْ لَنَا وَل ْ
وقوله { :وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َب ْعدِهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَا ا ْ
فِي قُلُوبِنَا غِل لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِ ّنكَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ } هؤلء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم
من مال الفيء ،وهم المهاجرون ثم النصار ،ثم التابعون بإحسان ،كما قال في آية براءة :
ن الوّلُونَ مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِينَ وَال ْنصَا ِر وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ َرضِيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ } [التوبة
{ وَالسّا ِبقُو َ
]100 :فالتابعون لهم بإحسان
__________
( )1المسند ( )2/159وسنن أبي داود برقم ( )1698وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11583
( )2زيادة من م ،أ.
( )3في م " :الجلح".
( )4رواه النسائي في السنن (.)6/13
( )5في م " :ليس ذاك".
( )6في م " :ذاك".
( )7رواه الطبري في تفسيره ( )28/29من طريق جامع به.
( )8تفسير الطبري (.)28/29
( )9تفسير الطبري ( )28/29ورواه البيهقي في شعب اليمان برقم ( )10842من طريق محمد
بن إسحاق به ،وروي مرسلً ،رواه الطبراني في المعجم الكبير ( )4/188من طريق عمرو بن
يحيى وإبراهيم بن إسماعيل ،وابن حبان في الثقات ( )4/202من طريق ابن المبارك ،كلهم عن
مجمع ابن يحيى ،عن عمه مرسلً.
( )8/72
هم :المتبعون لثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة ،الداعون لهم في السر والعلنية ؛ ولهذا قال
خوَانِنَا
غفِرْ لَنَا وَل ْ
في هذه الية الكريم { :وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َبعْدِ ِهمْ َيقُولُونَ } أي :قائلين { :رَبّنَا ا ْ
ج َعلْ فِي قُلُوبِنَا غِل } أي :بغضًا وحسدًا { لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِ ّنكَ
ن وَل َت ْ
الّذِينَ سَ َبقُونَا بِاليمَا ِ
رَءُوفٌ َرحِيمٌ } وما أحسن ما استنبط المام مالك من هذه الية الكريمة :أن الرافضي الذي يسبّ
الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح ال به هؤلء في قولهم { :رَبّنَا
ج َعلْ فِي قُلُوبِنَا غِل لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِ ّنكَ رَءُوفٌ
خوَانِنَا الّذِينَ سَ َبقُونَا بِاليمَانِ وَل تَ ْ
غفِرْ لَنَا وَل ْ
اْ
رَحِيمٌ }.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ،حدثنا محمد بن بشر ،حدثنا
إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ،عن أبيه ،عن عائشة أنها قالت :أمروا أن يستغفروا لهم ،
خوَانِنَا الّذِينَ
غفِرْ لَنَا وَل ْ
فسبوهم! ثم قرأت هذه الية { :وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َبعْدِهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَا ا ْ
سَ َبقُونَا بِاليمَانِ } الية.
وقال إسماعيل بن عُلَية ،عن عبد الملك بن عمير ،عن مسروق ،عن عائشة قالت :أمرتم
بالستغفار لصحاب محمد صلى ال عليه وسلم ،فسببتموهم .سمعتُ نبيكم صلى ال عليه وسلم
يقول " :ل تذهب هذه المة حتى يلعن آخرها أولها" .رواه البغوي (..)1
سدّد ،حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،حدثنا أيوب ،عن الزهري قال :قال
وقال أبو داود :حدثنا مُ َ
ل وَل ِركَابٍ }
جفْتُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ خَ ْي ٍ
علَى َرسُولِهِ مِ ْنهُمْ َفمَا َأوْ َ
عمر ،رضي ال عنه َ { :ومَا َأفَاءَ اللّهُ َ
قال الزهري :قال عمر :هذه لرسول ال صلى ال عليه وسلم خاصة ،قُرى [عربية :فَدَك
وكذا] ( )2وكذا ،فما أفاء ال على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامي
والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم { ،وَالّذِينَ تَ َبوّءُوا الدّارَ
وَاليمَانَ مِنْ قَبِْلهِمْ } { وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َبعْدِ ِهمْ } فاستوعبت هذه الية الناس ،فلم يبق أحد من
المسلمين إل له فيها حق -قال أيوب :أو قال :حظ -إل بعض من تملكون من أرقائكم .كذا
رواه أبو داود ،وفيه انقطاع (.)3
وقال ابن جرير :حدثنا ابن عبد العلى ،حدثنا ابن ثور ،عن َم ْعمَر ،عن أيوب ،عن عكرمة
حدَثان قال :قرأ عمر بن الخطاب { :إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْل ُفقَرَاءِ
ابن خالد ،عن مالك بن أوس بن ال َ
حكِيمٌ } [التوبة ، ]60 :ثم قال هذه لهؤلء ،ثم قرأ { :وَاعَْلمُوا أَ ّنمَا
وَا ْلمَسَاكِينِ } حتى بلغ { عَلِيمٌ َ
ل وَلِذِي ا ْلقُرْبَى [وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ] } ([ )4النفال ]41 :
خمُسَ ُه وَلِلرّسُو ِ
شيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ ُ
غَ ِنمْتُمْ مِنْ َ
،ثم قال :هذه لهؤلء ،ثم قرأ { :مَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى َرسُولِهِ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَى } حتى بلغ للفقراء
{ وَالّذِينَ تَ َبوّءُوا الدّا َر وَاليمَانَ } { وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َبعْ ِدهِمْ } ثم قال :استوعبت هذه الية
المسلمين عامة ،
__________
( )1معالم التنزيل للبغوي ( )8/08وله شاهد في صحيح مسلم برقم ( )3022عن عروة قال :
قالت لي عائشة " :يا ابن أختي ،أمروا أن يستغفروا لصحاب النبي صلى ال عليه وسلم
فسبوهم".
( )2زيادة من م ،أ ،وسنن أبي داود.
( )3سنن أبي داود برقم ()2966
( )4زيادة من م.
( )8/73
خوَا ِنهِمُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ لَئِنْ أُخْ ِرجْتُمْ لَ َنخْرُجَنّ َم َعكُمْ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَا َفقُوا َيقُولُونَ لِإِ ْ
شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ ( )11لَئِنْ أُخْ ِرجُوا لَا
حدًا أَ َبدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَ ْنصُرَ ّنكُ ْم وَاللّهُ يَ ْ
وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَ َ
يَخْ ُرجُونَ َم َعهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَ ْنصُرُو َنهُ ْم وَلَئِنْ َنصَرُوهُمْ لَ ُيوَلّنّ الْأَدْبَارَ ُثمّ لَا يُ ْنصَرُونَ ( )12لَأَنْ ُتمْ
جمِيعًا إِلّا فِي قُرًى
شدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ ِهمْ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ ( )13لَا ُيقَاتِلُو َنكُمْ َ
أَ َ
جمِيعًا َوقُلُو ُبهُمْ شَتّى ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َي ْعقِلُونَ
سهُمْ بَيْ َن ُهمْ شَدِيدٌ َتحْسَ ُبهُمْ َ
ن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْ ُ
حصّنَةٍ َأوْ مِ ْ
مُ َ
عذَابٌ أَلِيمٌ (َ )15كمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ
(َ )14كمَ َثلِ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ َأمْ ِرهِ ْم وََلهُمْ َ
لِلْإِنْسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()16
وليس أحد إل له فيها حق ( ، )1ثم قال :لئن عشت ليأتين الراعي -وهو بَسرو حِمير -نصيبه
فيها ،لم يعرق فيها جبينه.
خوَا ِنهِمُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ لَئِنْ أُخْ ِرجْتُمْ لَنَخْ ُرجَنّ َم َعكُمْ
{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَا َفقُوا َيقُولُونَ ل ْ
شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ ( )11لَئِنْ ُأخْرِجُوا ل
وَل ُنطِيعُ فِيكُمْ َأحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَ ْنصُرَ ّنكُ ْم وَاللّهُ َي ْ
يَخْ ُرجُونَ َم َعهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا ل يَ ْنصُرُو َنهُ ْم وَلَئِنْ َنصَرُوهُمْ لَ ُيوَلّنّ الدْبَارَ ُث ّم ل يُ ْنصَرُونَ ( )12لنْتُمْ
جمِيعًا إِل فِي قُرًى
شدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ ِهمْ مِنَ اللّهِ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ ل َي ْف َقهُونَ ( )13ل ُيقَاتِلُو َنكُمْ َ
أَ َ
جمِيعًا َوقُلُو ُبهُمْ شَتّى ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ ل َي ْعقِلُونَ
سهُمْ بَيْ َن ُهمْ شَدِيدٌ َتحْسَ ُبهُمْ َ
ن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْ ُ
حصّنَةٍ َأوْ مِ ْ
مُ َ
عذَابٌ أَلِيمٌ (َ )15كمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ
(َ )14كمَ َثلِ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ َأمْ ِرهِ ْم وََلهُمْ َ
لِلنْسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (} )16
__________
( )1في أ " :فيها جزء".
( )8/74
َفكَانَ عَاقِبَ َت ُهمَا أَ ّن ُهمَا فِي النّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَ َذِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ ()17
{ َفكَانَ عَاقِبَ َت ُهمَا أَ ّن ُهمَا فِي النّارِ خَاِلدَيْنِ فِيهَا وَذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ (} )17
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد ال بن أبي وأضرابه ،حين بعثوا إلى يهود بني النضير يَعدُونهم
خوَا ِنهِمُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ
النصر من أنفسهم ،فقال تعالى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَا َفقُوا َيقُولُونَ ل ْ
ا ْلكِتَابِ لَئِنْ أُخْ ِرجْتُمْ لَنَخْ ُرجَنّ َم َعكُ ْم وَل ُنطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَ ْنصُرَ ّنكُمْ } قال ال تعالى
شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ } أي :لكاذبون فيما وعدوهم به إما أنهم ( )1قالوا لهم قول من نيتهم
{ :وَاللّهُ يَ ْ
أل يفوا لهم به ،وإما أنهم ( )2ل يقع منهم الذي قالوه ؛ ولهذا قال { :وَلَئِنْ قُوتِلُوا ل
يَ ْنصُرُونَهُمْ } أي :ل يقاتلون معهم { ،وَلَئِنْ َنصَرُوهُمْ } أي :قاتلوا معهم { لَ ُيوَلّنّ الدْبَارَ ثُمّ ل
يُ ْنصَرُونَ } وهذه بشارة مستقلة بنفسها.
ثم قال تعالى { :لنْتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ } أي :يخافون منكم أكثر من خوفهم من
خشْيَةً } [النساء ]77 :؛ ولهذا
شدّ َ
خشْيَةِ اللّهِ َأوْ أَ َ
شوْنَ النّاسَ كَ َ
خَال ،كقوله ِ { :إذَا فَرِيقٌ مِ ْن ُهمْ يَ ْ
قال { :ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ ل َيفْ َقهُونَ }
ن وَرَاءِ جُدُرٍ } ( )3يعني :أنهم من جُبنهم
حصّنَةٍ َأوْ مِ ْ
جمِيعًا إِل فِي قُرًى مُ َ
ثم قال { ل ُيقَاتِلُو َنكُمْ َ
وهَلَعهم ل يقدرون على مواجهة جيش السلم بالمبارزة والمقابلة ( )4بل إما في حصون أو من
وراء جدر ( )5محاصرين ،فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
__________
( )1في م " :إما لنهم".
( )2في م " :إما لنهم".
( )3في م ،أ " :أو من وراء جدار".
( )4في م " :والمقاتلة".
( )5في م ،أ " :أو من وراء جدار".
( )8/74
ضكُمْ
شدِيدٌ } أي :عداوتهم [فيما] ( )1بينهم شديدة ،كما قال { :وَيُذِيقَ َب ْع َ
سهُمْ بَيْ َن ُهمْ َ
ثم قال { بَأْ ُ
جمِيعًا َوقُلُو ُبهُمْ شَتّى } أي :تراهم مجتمعين
حسَ ُبهُمْ َ
بَأْسَ َب ْعضٍ } [النعام ]65 :؛ ولهذا قال { :تَ ْ
فتحسبهم مؤتلفين ،وهم مختلفون غاية الختلف.
قال :إبراهيم النخعي :يعني :أهل الكتاب والمنافقين { ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ ل َي ْعقِلُونَ }
عذَابٌ أَلِيمٌ } قال مجاهد ،والسدى ،
ثم قال َ { :كمَ َثلِ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ َأمْرِ ِه ْم وََلهُمْ َ
ومقاتل بن حيان [ :يعني] ( )2كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.
وقال ابن عباس َ { :كمَ َثلِ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } يعني :يهود بني قينقاع .وكذا قال قتادة ،ومحمد ابن
إسحاق.
وهذا القول أشبه بالصواب ،فإن يهود بني قينقاع كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أجلهم
قبل هذا.
وقوله َ { :كمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِل ْنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ } يعني :مثل هؤلء
اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين ،وقول المنافقين لهم { :وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَ ْنصُرَ ّنكُمْ } ثم لما حقت الحقائق وجَدّ بهم الحصار والقتال ،تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة ،
مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ ( )3سول للنسان -والعياذ بال -الكفر ،فإذا دخل فيما سوله (
)4تبرأ منه وتنصل ،وقال { :إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل ،ل أنها المرادة
وحدها بالمثل ،بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكله لها ،فقال ابن جرير :
شمَيْل ،أخبرنا شعبة ،عن أبي إسحاق ،سمعت عبد ال
حدثنا خلد بن أسلم ،أخبرنا النضر بن ُ
بن َنهِيك قال :سمعت عليًا ،رضي ال عنه ،يقول :إن راهبًا تعبد ستين سنة ،وإن الشيطان
أراده فأعياه ،فعمد إلى امرأة فأجنّها ولها إخوة ،فقال لخوتها :عليكم بهذا القس فيداويها .قال :
فجاءوا بها إليه فداواها ،وكانت عنده ،فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته ،فأتاها فحملت ،فعمد
إليها فقتلها ،فجاء إخوتها ،فقال الشيطان للراهب :أنا صاحبك ،إنك أعييتني ،أنا صنعت هذا
بك فأطعني أنجك مما صنعت بك ،فاسجد لي سجدة .فسجد له ،فلما سجد له قال :إني بريء
منك ،إني أخاف ال رب العالمين ،فذلك قوله َ { :كمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِل ْنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ
قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } (.)5
وقال ابن جرير :حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ،حدثنا أبي ،عن أبيه ،عن جده ،عن
العمش ،عن عمارة ،عن عبد الرحمن بن يزيد ،عن عبد ال بن مسعود في هذه الية :
{ َكمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِل ْنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
قال :كانت
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )2زيادة من أ.
( )3في م " :إذا".
( )4في م ،أ " :سوله له".
( )5تفسير الطبري (.)28/33
( )8/75
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَلْتَنْظُرْ َنفْسٌ مَا َق ّد َمتْ ِل َغ ٍد وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ()18
سقُونَ ( )19لَا يَسْ َتوِي َأصْحَابُ النّارِ
سهُمْ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَ ْنفُ َ
وََأصْحَابُ الْجَنّةِ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمُ ا ْلفَائِزُونَ ()20
امرأة ترعى الغنم ،وكان لها أربعة أخوة ،وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب .قال :فنزل
الراهب ففجَر بها ،فحملت ،فأتاه الشيطان فقال له :اقتلها ثم ادفنها ،فإنك رجل مُصدّق يسمع
قولك .فقتلها ثم دفتها .قال :فأتى الشيطانُ إخوتها في المنام فقال لهم :إن الراهب صاحب
الصومعة فجَر بأختكم ،فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا .فلما أصبحوا قال رجل منهم
:وال لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا :ل بل قصها علينا .قال :
فقصها ،فقال الخر :وأنا وال لقد رأيت ذلك ،فقال الخر :وأنا وال لقد رأيت ذلك .فقالوا :
فوال ما هذا إل لشيء .قال :فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب ،فأتوه فأنزلوه ثم
انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال :إني أنا الذي أوقعتك في هذا ،ولن ينجيك منه غيري ،فاسجد لي
خ َذ فقتل (
سجدة واحدةً وأنجيك مما أوقعتك فيه .قال :فسجد له ،فلما أتوا به مَلكهم تَبَرأ منه ،وأُ ِ
.)1
وكذا روي عن ابن عباس ،وطاوس ،ومقاتل بن حيان ،نحو ذلك .واشتهر عند كثير من الناس
أن هذا العابد هو برصيصا ،وال أعلم .وهذه القصة مخالفة لقصة جُرَيج العابد ،فإن جريجًا
اتهمته امرأة بَغي بنفسها ،وادعت أن حَملها منه ،ورفعت أمره إلى ولي المر ،فأمر به فأنزل
من صومعته وخُربت صومعته وهو يقول :ما لكم ؟ ما لكم ؟ فقالوا :يا عدو ال ،فعلت بهذه
المرأة كذا وكذا .فقال :جريج :اصبروا .ثم أخذ ابنها وهو صغير جدًا ثم قال :يا غلم ،من
أبوك ؟ قال ( )2أبي الراعي -وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه -فلما رأى بنو إسرائيل
ذلك عظموه كلهم تعظيمًا بليغًا وقالوا :نعيد صومعتك من ذهب .قال :ل بل أعيدوها من طين ،
كما كانت.
وقوله َ { :فكَانَ عَاقِبَ َت ُهمَا أَ ّن ُهمَا فِي النّارِ خَاِلدَيْنِ فِيهَا } أي :فكانت عاقبة المر بالكفر والفاعل
له ،وتصيرهما ( )3إلى نار جهنم خالدين فيها { ،وَذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ } أي :جزاء كل ظالم.
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَلْتَنْظُرْ َنفْسٌ مَا قَ ّد َمتْ ِلغَ ٍد وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ (
سقُونَ ( )19ل يَسْ َتوِي َأصْحَابُ
سهُمْ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
)18وَل َتكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَ ْنفُ َ
النّا ِر وََأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ (} )20
جحَيْفة ،عن المنذر
قال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن عون بن أبي ُ
ابن جرير ،عن أبيه قال :كنا عند رسول ال صلى ال عليه وسلم في صدر النهار ،قال :
حفَاة عُراة مُجْتَابي النمار -أو :العَبَاء -مُ َتقَلّدي السيوف عامتهم من ُمضَر ،بل كلهم
فجاءه قوم ُ
من مضر ،فتغير وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ،قال :فدخل ثم
خرج ،فأمر بلل فأذن وأقام الصلة ،فصلى ثم خطب ،فقال { :يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُمُ الّذِي
ح َدةٍ } إلى آخر الية { :إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْي ُكمْ َرقِيبًا } [النساء .]1 :وقرأ الية
س وَا ِ
خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ
التي في الحشر { :وَلْتَنْظُرْ َنفْسٌ مَا َق ّد َمتْ ِل َغدٍ }
__________
( )1تفسير الطبري (.)28/33
( )2في م " :فقال".
( )3في م " :ومصيرهما".
( )8/76
َتصَدّق رجل من ديناره ،من درهمه ،من ثوبه ،من صاع بُرّه ،من صاع تمره -حتى قال -
:ولو بشق تمرة" .قال :فجاء رجل من النصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها ،بل قد عجزت ،
ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ،حتى رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم
يتهلل وجهه كأنه ُمذْهبة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مَن سَنّ في السلم سنة
حسنة ،فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ،من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء ،ومن سَنّ
في السلم سنة سيئة ،كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها ،من غير أن ينقص من أوزارهم
شيء".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه ،بإسناد مثله (.)1
فقوله تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ } أمر بتقواه ،وهي تشمل فعل ما به أمر ،وترك ما
عنه زجر.
وقوله { :وَلْتَنْظُرْ َنفْسٌ مَا َق ّد َمتْ ِلغَدٍ } أي :حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ،وانظروا ماذا
ادخرتم لنفسكم من العمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم { ،وَا ّتقُوا اللّهَ } تأكيد ثان
{ ،إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } أي :اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم ( )2ل تخفى عليه
منكم خافية ،ول يغيب عنه من أموركم جليل ول حقير.
سهُمْ } أي :ل تنسوا ذكر ال فينسيكم العمل
وقال ( { )3وَل َتكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْسَا ُهمْ أَ ْنفُ َ
لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم ،فإن الجزاء من جنس العمل ؛ ولهذا قال { :أُولَ ِئكَ هُمُ
سقُونَ } أي :الخارجون عن طاعة ال ،الهالكون يوم القيامة ،الخاسرون يوم معادهم ،كما
ا ْلفَا ِ
قال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْل ِهكُمْ َأ ْموَاُلكُمْ وَل َأوْل ُدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } [المنافقون .]9 :
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ،حدثنا [أبو] (
)4المغيرة ،حدثنا حَريز بن عثمان ،عن نعيم بن نَمحة قال :كان في خطبة أبي بكر الصديق ،
رضي ال عنه :أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضي الجل
وهو في عمل ال ،عز وجل ،فليفعل ،ولن تنالوا ذلك إل بال ،عز وجل .إن قومًا جعلوا
سهُمْ } أين
آجالهم لغيرهم ،فنهاكم ال تكونوا أمثالهم { :وَل َتكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَ ْنفُ َ
من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ،وخلوا بالشقوة والسعادة ،أين
الجبارون الولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والبار ،هذا
كتاب ال ل تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة [ ،وائتضحوا بسنائه وبيانه] ( )5إن ال أثنى
على زكريا وأهل بيته فقال { :إِ ّنهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ وَ َيدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا َوكَانُوا لَنَا
شعِينَ }
خَا ِ
__________
( )1المسند ( )4/358وصحيح مسلم برقم (.)1017
( )2في م " :وخفيها".
( )3في م " :وقوله".
( )4زيادة من المعجم الكبير للطبري.
( )5زيادة من م ،والمعجم الكبير.
( )8/77
[النبياء ، ]90 :ل خير في قول ل يراد به وجه ال ،ول خير في مال ل ينفق في سبيل ال ،
ول خير فيمن يغلب جهله حلمه ،ول خير فيمن يخاف في ال لومة لئم (.)1
هذا إسناد جيد ،ورجاله كلهم ثقات ،وشيخ حَريز بن عثمان ،وهو نعيم بن نمحة ،ل أعرفه
بنفي ول إثبات ،غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حَريز كلهم ثقات .وقد روي لهذه
الخطبة شواهد من وجوه أخر ،وال أعلم.
وقوله { :ل يَسْ َتوِي َأصْحَابُ النّا ِر وََأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأصْحَابُ الْجَنّةِ } أي ( )2ل يستوي هؤلء
جعََلهُمْ كَالّذِينَ
سبَ الّذِينَ اجْتَ َرحُوا السّيّئَاتِ أَنْ َن ْ
وهؤلء في حكم ال يوم القيامة ،كما قال { :أَمْ حَ ِ
ح ُكمُونَ } [الجاثية ، ]21 :وقال { َومَا
سوَاءً َمحْيَاهُ ْم َو َممَا ُتهُمْ سَاءَ مَا َي ْ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َ
آمَنُوا وَ َ
ت وَل ا ْلمُسِيءُ } الية[غافر .]58 :قال :
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
عمَى وَالْ َبصِي ُر وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
يَسْ َتوِي ال ْ
ج َعلُ ا ْلمُ ّتقِينَ كَا ْلفُجّارِ } [ص
عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا ْل ُمفْسِدِينَ فِي ال ْرضِ َأمْ نَ ْ
ج َعلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
{ َأمْ نَ ْ
]28 :؟ في آيات أخر دالت على أن ال ،سبحانه ،يكرم البرار ،ويهين الفجار ؛ ولهذا قال
هاهنا َ { :أصْحَابُ ا ْلجَنّةِ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ } أي :الناجون المسلمون من عذاب ال ،عز وجل.
شعًا مُ َتصَدّعًا مِنْ خَشْ َيةِ اللّهِ وَتِ ْلكَ المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا
{ َلوْ أَنزلْنَا هَذَا ا ْلقُرْآنَ عَلَى جَ َبلٍ لَرَأَيْتَهُ خَا ِ
حمَنُ الرّحِيمُ (
شهَا َدةِ ُهوَ الرّ ْ
ب وَال ّ
لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ (ُ )21هوَ اللّهُ الّذِي ل إِلَهَ إِل ُهوَ عَالِمُ ا ْلغَ ْي ِ
ُ )22هوَ اللّهُ الّذِي ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْلمَِلكُ ا ْلقُدّوسُ السّلمُ ا ْل ُم ْؤمِنُ ا ْل ُمهَ ْيمِنُ ا ْلعَزِيزُ الْجَبّارُ ا ْلمُ َتكَبّرُ
سمَاءُ ا ْلحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا
صوّرُ َلهُ ال ْ
عمّا ُيشْ ِركُونَ (ُ )23هوَ اللّهُ ا ْلخَالِقُ الْبَا ِرئُ ا ْل ُم َ
سُ ْبحَانَ اللّهِ َ
حكِيمُ (} )24
سمَاوَاتِ وَال ْرضِ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
فِي ال ّ
يقول تعالى معظمًا لمر القرآن ،ومبينا علو قدره ،وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب ،وتتصدع
شعًا
عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الكيد َ { :لوْ أَنزلْنَا َهذَا ا ْلقُرْآنَ عَلَى جَ َبلٍ لَرَأَيْ َتهُ خَا ِ
خشْيَةِ اللّهِ } أي :فإن كان الجبل في غلظته وقساوته ،لو فهم هذا القرآن فتدبر ما
مُ َتصَدّعًا مِنْ َ
فيه ،لخشع وتصدع من خوف ال ،عز وجل ،فكيف يليق بكم أيها البشر أل تلين قلوبكم وتخشع
،وتتصدع من خشية ال ،وقد فهمتم عن ال أمره وتدبرتم كتابه ؟ ولهذا قال تعالى { :وَتِ ْلكَ
المْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَ َت َفكّرُونَ }.
شعًا] } ()3
قال العوفي :عن ابن عباس في قوله َ { :لوْ أَنزلْنَا هَذَا ا ْلقُرْآنَ عَلَى جَ َبلٍ [لَرَأَيْتَهُ خَا ِ
حمّلته إياه ،لتصدع ( )4وخشع من
إلى آخرها ،يقول :لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل َ
ثقله ،ومن خشية ال .فأمر ال الناس إذا نزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع.
ثم
__________
( )1المعجم الكبير (.)1/60
( )2بياض في م.
( )3زيادة من م.
( )4في م " :لصدع".
( )8/78
قال :كذلك يضرب ال المثال للناس لعلهم يتفكرون .وكذا قال قتادة ،وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث المتواتر :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما عمل له المنبر ،وقد كان
يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ،فلما وضع المنبر أول ما وضع ،وجاء
النبي صلى ال عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ،فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل (
سكّن ( ، )2لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده .ففي بعض
)1يئن كما يئن الصبي الذي يُ َ
روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده " :فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول ال صلى
ال عليه وسلم من الجذع" ( .)3وهكذا هذه الية الكريمة ،إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلم
ال وفهمته ،لخشعت وتصدعت من خشيته ( )4فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعالى :
ط َعتْ بِهِ ال ْرضُ َأوْ كُلّمَ ِبهِ ا ْل َموْتَى } الية [الرعد .]31 :
{ وََلوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّ َرتْ بِهِ ا ْلجِبَالُ َأوْ قُ ّ
حجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْهُ
وقد تقدم أن معنى ذلك :أي لكان هذا القرآن .وقال تعالى { :وَإِنّ مِنَ الْ ِ
شقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَا ُء وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْ َيةِ اللّهِ } [البقرة .]74 :
ال ْنهَارُ وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا َي ّ
حمَنُ الرّحِيمُ } أخبر
شهَا َدةِ ُهوَ الرّ ْ
ثم قال تعالى ُ { :هوَ اللّهُ الّذِي ل إِلَهَ إِل ُهوَ عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
تعالى أنه الذي ل إله إل هو فل رب غيره ،ول إله للوجود سواه ،وكل ما يعبد من دونه
فباطل ،وأنه عالم الغيب ( )5والشهادة ،أي :يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا
فل يخفى عليه شيء في الرض ،ول في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير ،حتى الذر
في الظلمات.
حمَنُ الرّحِيمُ } قد تقدم الكلم على ذلك في أول التفسير ،بما أغنى عن إعادته
وقوله ُ { :هوَ الرّ ْ
هاهنا .والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ،فهو رحمن الدنيا والخرة
شيْءٍ } [العراف ، ]156 :وقال { كَ َتبَ
س َعتْ ُكلّ َ
حمَتِي وَ ِ
ورحيمهما ،وقد قال تعالى { :وَرَ ْ
حمَ ِتهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ
ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
حمَةَ } [النعام ، ]54 :وقال { ُقلْ ِب َف ْ
رَ ّبكُمْ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ
ج َمعُونَ } [يونس .]58 :
خَيْرٌ ِممّا َي ْ
وقوله (ُ { )6هوَ اللّهُ الّذِي ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْلمَِلكُ } أي :المالك لجميع الشياء المتصرف فيها بل
ممانعة ول مدافعة.
وقوله { :ا ْلقُدّوسُ } قال وهب بن منبه :أي الطاهر .وقال مجاهد ،وقتادة :أي المبارك :وقال
ابن جريج :تقدسه الملئكة الكرام.
__________
( )1حديث حنين الجذع رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3583من حديث ابن عمر ،وبرقم (
)3585 ، 3584من حديث جابر ،رضي ال عنه.
( )2في م " :يسكت".
( )3رواه أبو القاسم البغوي كما في البداية والنهاية للمؤلف ( )6/132من طريق شيبان بن
فروخ ،عن مبارك بن فضالة ،عن الحسن ،عن أنس في قصة الجذع ،ثم زاد :فكان الحسن
إذا حدث بهذا الحديث بكي ثم قال " :يا عباد ال الخشبة تحن إلي رسول ال شوقًا إليه لمكانه من
ال ،فأنتم أحق أن تشتاقوا إلي لقائه".
( )4في م " :من خشية ال".
( )5في م " :بالغيب".
( )6في م " :ثم قال".
( )8/79
{ السّلمُ } أي :من جميع العيوب والنقائص ؛ بكماله ( )1في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله { :ا ْل ُم ْؤمِنُ } قال الضحاك ،عن ابن عباس [ :أي] ( )2أمن خلقه من أن يظلمهم .وقال
قتادة :أمّن بقوله :إنه حق .وقال ابن زيد :صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.
وقوله { :ا ْل ُمهَ ْيمِنُ } قال ابن عباس وغير واحد :أي ( )3الشاهد على خلقه بأعمالهم ،بمعنى :
شهِيدٌ
شهِيدٌ } [البروج ، ]9 :وقوله { ثُمّ اللّهُ َ
شيْءٍ َ
هو رقيب عليهم ،كقوله { :وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
عَلَى مَا َيفْعَلُونَ } [يونس .]46 :
وقوله َ { :أ َفمَنْ ُهوَ قَا ِئمٌ عَلَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ } الية [الرعد .]33 :
وقوله { :ا ْلعَزِيزُ } أي :الذي قد عزّ كل شيء فقهره ،وغلب الشياء فل ينال جنابه ؛ لعزته
وعظمته وجبروته وكبريائه ؛ ولهذا قال { :ا ْلجَبّارُ ا ْلمُ َتكَبّرُ } أي :الذي ل تليق الجَبْرّية إل له ،
ول التكبر إل لعظمته ،كما تقدم في الصحيح " :العَظَمة إزاري ،والكبرياء ردائي ،فمن نازعني
عذّبته".
واحدًا منهما َ
وقال قتادة :الجبار :الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.
ح أمورَ خلقه ،المتصرف فيهم بما فيه صلحهم.
وقال ابن جرير :الجبار :المصل ُ
وقال قتادة :المتكبر :يعني عن كل سوء.
عمّا ُيشْ ِركُونَ } (.)4
ثم قال { :سُ ْبحَانَ اللّهِ َ
صوّرُ } الخلق :التقدير ،والبَراء :هو الفري ،وهو التنفيذ
وقوله ُ { :هوَ اللّهُ ا ْلخَالِقُ الْبَا ِرئُ ا ْل ُم َ
وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ،وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى
ال ،عز وجل .قال الشاعر يمدح آخر ()5
ولنت تَفري ما خَلَقت ...وبعضُ القوم يَخلُق ثم ل َيفْري...
أي :أنت تنفذ ما خلقت ،أي :قدرت ،بخلف غيرك فإنه ل يستطيع ما يريد .فالخلق :التقدير.
والفري :التنفيذ .ومنه يقال :قدر الجلد ثم فَرَى ،أي :قطع على ما قدره بحسب ما يريده.
وقوله تعالى { :ا ْلخَالِقُ الْبَا ِرئُ ا ْل ُمصَوّرُ } أي :الذي إذا أراد شيئًا قال له :كن ،فيكون على
ي صُو َرةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ } [النفطار ]8 :
الصفة التي يريد ،والصورة التي يختار .كقوله { :فِي َأ ّ
ولهذا قال { :ا ْل ُمصَوّرُ } أي :الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
__________
( )1في م " :لكماله".
( )2زيادة من م.
( )3في م " :إنه".
( )4في م " :يصفون" وهو خطأ.
( )5هو زهير بن أبي سلمي يمدح به هرم بن سنان ،والبيت في ديوانه (ص )94أ .هـ مستفادًا
من حاشية ط الشعب.
( )8/80
سمَاءُ ا ْلحُسْنَى } قد تقدم الكلم على ذلك في "سورة العراف" ،وذكر الحديث
وقوله َ { :لهُ ال ْ
المروي في الصحيحين عن أبي هريرة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ل تعالى
تسعة وتسعين اسمًا ،مائة إل واحدًا ،من أحصاها دخل الجنة ،وهو وتر يحب الوتر" .وتقدم
سياق الترمذي وابن ماجة له ،عن أبي هريرة أيضا ،وزاد بعد قوله " :وهو وتر يحب الوتر" -
واللفظ للترمذي " : -هو ال الذي ل إله إل هو ،الرحمن ،الرحيم ،الملك ،القدوس ،السلم ،
المؤمن ،المهيمن ،العزيز ،الجبار ،المتكبر ،الخالق ،البارئ ،المصور ،الغفار ،القهار ،
الوهاب ،الرزاق ،الفتاح ،العليم ،القابض ،الباسط ،الخافض ،الرافع ،المعز ،المذل ،
السميع ،البصير ،الحكم ،العدل ،اللطيف ،الخبير ،الحليم ،العظيم ،الغفور ،الشكور ،
العلي ،الكبير ،الحفيظ ،المقيت ،الحسيب ،الجليل ،الكريم ،الرقيب ،المجيب ،الواسع ،
الحكيم ،الودود ،المجيد ،الباعث ،الشهيد ،الحق ،الوكيل ،القوي ،المتين ،الولي ،الحميد ،
المحصي ،المبدئ ،المعيد ،المحيي ،المميت ،الحي ،القيوم ،الواجد ،الماجد ،الواحد ،
الصمد ،القادر ،المقتدر ،المقدم ،المؤخر ،الول ،الخر ،الظاهر ،الباطن ،الولي ،
المتعالي ،البر ،التواب ،المنتقم ،العفو ،الرءوف ،مالك الملك ،ذو الجلل والكرام ،
المقسط ،الجامع ،الغني ،المغني ،المانع ،الضار ،النافع ،النور ،الهادي ،البديع ،الباقي ،
الوارث ،الرشيد ،الصبور".
وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان ،وتقديم وتأخير ،وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطول بطرقه وألفاظه
بما أغنى عن إعادته هنا (.)2( )1
ض َومَنْ
سمَاوَاتُ السّ ْب ُع وَالرْ ُ
ت وَالرْضِ } كقوله { تُسَبّحُ َلهُ ال ّ
سمَاوَا ِ
وقوله ُ { :يسَبّحُ لَهُ مَا فِي ال ّ
غفُورًا } [السراء :
حهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ
حمْ ِد ِه وََلكِنْ ل َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ
شيْءٍ إِل يُسَبّحُ ِب َ
ن وَإِنْ مِنْ َ
فِيهِ ّ
.]44
حكِيمُ } في شرعه وقدره .وقد قال المام أحمد :
وقوله { :وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } أي :فل يرام جَنَابه { ال َ
( )8/81
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تَتّخِذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ تُ ْلقُونَ إِلَ ْيهِمْ بِا ْل َموَ ّدةِ َوقَدْ َكفَرُوا ِبمَا جَا َءكُمْ مِنَ
جهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْ ِتغَاءَ
ل وَإِيّاكُمْ أَنْ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ رَ ّب ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْ ُتمْ ِ
حقّ ُيخْرِجُونَ الرّسُو َ
الْ َ
سوَاءَ
ضلّ َ
خفَيْتُ ْم َومَا أَعْلَنْتُمْ َومَنْ َي ْفعَلْهُ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ
مَ ْرضَاتِي تُسِرّونَ إِلَ ْي ِهمْ بِا ْل َموَ ّد ِة وَأَنَا أَعْلَمُ ِبمَا أَ ْ
السّبِيلِ ( )1إِنْ يَ ْثقَفُوكُمْ َيكُونُوا َلكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَ ْيكُمْ أَيْدِ َيهُمْ وَأَلْسِنَ َتهُمْ بِالسّو ِء َووَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ
( )2لَنْ تَ ْنفَ َعكُمْ أَ ْرحَا ُمكُ ْم وَلَا َأوْلَا ُد ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْفصِلُ بَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ()3
( )8/82
إلى ناس من المشركين بمكة ،يخبرهم ببعض أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :يا حاطب ،ما هذا ؟" .قال :ل تعجل علي ،إني كنت امرأ مُلصَقًا في
قريش ،ولم أكن من أنفسهم ،وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ،
فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي ،وما فعلت ذلك كفرًا
ول ارتدادًا عن ديني ول رضى بالكفر بعد السلم .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إنه
صَدَقكم" .فقال عمر :دعني أضرب عنق هذا المنافق .فقال " :إنه قد شهد بدرًا ،ما يدريك َل َعلّ
ال اطلع إلى أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهكذا أخرجه الجماعة إل ابن ماجة ،من غير وجه ،عن سفيان بن عُيَينة ،به ( .)1وزاد
خذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ
البخاري في كتاب "المغازي" :فأنزل ال السورة { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّ ِ
َأوْلِيَاءَ } ( .)2وقال في كتاب التفسير :قال عمرو :ونزلت فيه { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا
عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ } قال ( " : )3ل أدري الية في الحديث أو قال عمرو" .قال البخاري :قال
خذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ
علي -يعني :ابن المديني : -قيل لسفيان في هذا :نزلت { ل تَتّ ِ
َأوْلِيَاءَ } ؟ فقال سفيان :هذا في حديث الناس ،حفظته من عمرو ،ما تركت منه حرفًا ،وما
أرى ( )4أحدًا حفظه غيري (.)5
حصَين بن عبد الرحمن ،عن سعد ( )6بن عُبَيدة ،عن
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ُ
أبي عبد الرحمن السلمي ،عن علي قال :بعثني رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا مَرْثَد ،
والزبير بن العوام ،وكلنا فارس ،وقال :انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ،فإن بها امرأة من
المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين :فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم فقلنا :الكتابُ ؟ فقالت :ما معي كتاب .فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا ،
فقلنا :ما كذب رسول ال صلى ال عليه وسلم! لتخرجن الكتاب أو لنُجردنك .فلما رأت الجد
أهوت إلى حُجْزتها وهي مُح َتجِزة بكساء فأخرجته .فانطلقنا بها إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فقال عمر :يا رسول ال ،قد خان ال ورسوله والمؤمنين ،فَدعني فلضْرِب عنقه .فقال
" :ما حملك على ما صنعت ؟" .قال :وال ما بي إل أن أكون مؤمنًا بال ورسوله ،أردت أن
تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع ال بها عن أهلي ومالي ،وليس أحد من أصحابك إل له هنالك من
عشيرته من يدفع ال به عن أهله وماله .فقال " :صدق ،ل تقولوا له إل خيرًا" .فقال عمر :إنه
قد خان ال ورسوله والمؤمنين ،فدعني فلضرب عنقه .فقال " :أليس من أهل بدر ؟" فقال :
"لعل ال قد اطلع إلى أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة -أو :
__________
( )1المسند ( )80 ، 1/79وصحيح البخاري برقم ( )4890 ، 3007وصحيح مسلم برقم ()2494
وسنن أبي داود برقم ( )2650وسنن الترمذي برقم ( )3305وسنن النسائي الكبرى برقم (
.)11585
( )2صحيح البخاري برقم (.)4274
( )3في م " :وقال".
( )4في م " :ول أرى".
( )5صحيح البخاري برقم (.)4890
( )6في م " :عن سعيد".
( )8/83
قد غفرت لكم" .ف َدمِعت عينا عُمر ،وقال :ال ورسوله أعلم (.)1
هذا لفظ البخاري في "المغازي" في غزوة بدر ،وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي
حاتم :
حدثنا علي بن الحسن الهِسْنجَاني ،حدثنا عبيد بن يعيش ،حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ،عن
جمَلي ،عن أبي البختري الطائي (، )2
أبي سِنان -هو سعيد بن سنان -عن عمرو بن مُرة ال َ
عن الحارث ،عن علي قال :لما أراد النبي صلى ال عليه وسلم أن يأتي مكة ،أسرّ إلى أناس
من أصحابه أنه يريد مكة ،فيهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في الناس أنه يريد خيبر .قال :
فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يريدكم .فأخبر رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال :فبعثني رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبا مَرْثد ،وليس منا رجل
إل وعند ( )3فرس ،فقال " :ائِتوا روضة خاخ ،فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب ،فخذوه
منها" .فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي َذكَر رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقلنا لها :هات
الكتاب .فقالت :ما معي كتاب .فوضعنا متاعها وفتشناها ( )4فلم نجده في متاعها ،فقال أبو
مرثد :لعله أل يكون معها .فقلت :ما كذب رسول ال صلى ال عليه وسلم ول كذبنا ( .)5فقلنا
لها :لتخرجِنّه أو لنُعرينّك .فقالت :أما تتقون ال ؟! ألستم مسلمين ؟ فقلنا :لتخرجنه أو لنعرينّك.
حجُزَتها .وقال حبيب بن أبي ثابت :أخرجته ( )6من قُبُلها.
قال عمرو بن مرة :فأخرجته من ُ
فأتينا به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة .فقام عمر فقال :
يا رسول ال ،خان ال ورسوله ،فائذن لي فلضرب عنقه .فقال رسول ال " :أليس قد شهد بدرًا
؟" .قالوا :بلى .وقال عمر :بلى ،ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك .فقال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :فلعل ال اطلع إلى على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم ،إني بما تعملون
بصير" .ففاضت عينا عمر وقال :ال ورسوله أعلم .فأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى
حاطب فقال " :يا حاطب ،ما حملك على ما صنعت ؟" .فقال :يا رسول ال ،إني كنت امرأ
مُلصَقًا في قريش ،وكان لي بها مال وأهل ،ولم يكن من أصحابك أحد إل وله بمكة من يمنع
أهله وماله ،فكتبت إليهم بذلك ووال -يا رسول ال -إني لمؤمن بال ورسوله .فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :صدق حاطب ،فل تقولوا لحاطب إل خيرًا" .قال ( )7حبيب بن أبي ثابت
:فأنزل ال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ تُ ْلقُونَ إِلَ ْيهِمْ بِا ْل َموَ ّدةِ } الية.
وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن ِمهْران ،عن أبي سنان -سعيد بن سنان -بإسناده مثله
( .)8وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير ،فقال محمد بن إسحَاق بن يَسَار في السيرة.
حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ،عن عُ ْروَة بن الزبير وغيره من علمائنا قال :لما أجمع
رسول
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )3983وصحيح مسلم برقم (.)2494
( )2في هـ" "عن أبي إسحاق البختري الطائي وللمثبت من الطبري.
( )3في م ،أ " :وعنده".
( )4في م " :وفتشناه".
( )5في م " :ول كاذب".
( )6في م " :فأخرجته".
( )7في م " :فقال".
( )8تفسير الطبري (.)23/38
( )8/84
ال صلى ال عليه وسلم المسير ( )1إلى مكة ،كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم
بالذي أجمع عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم من المر في السير إليهم ،ثم أعطاه امرأة -
زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ،وزعم غيره أنها :سارة ،مولة لبني عبد المطلب -
وجعل لها جُعل على أن تبلغه قُريشًا فجعلته في رأسها ،ثم فتلت عليه قرونها ،ثم خرجت به.
وأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب ،فبعث عليّ بن أبي
طالب والزبير بن العوام فقال " :أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش ،يحذرهم ما
قد أجمعنا ( )2له من أمرهم".
فخرجا حتى أدركاها بالخُلَيفْة -خليفة ( )3بني أبي أحمد -فاستنزلها بالخليفة ،فالتمسا في
رحلها فلم يجدا شيئًا ،فقال لها علي بن أبي طالب :إني أحلف بال ما كذب رسول ال وما كذبنا
جدّ منه قالت :أعرض .فأعرض ،فحلت
( )4ولتُخرجِنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك .فلما رأت ال ِ
قُرون رأسها ،فاستخرجت الكتاب منها ،فدفعته إليه .فأتى به رسول ال صلى ال عليه وسلم
فدعا رسول ال حاطبًا فقال " :يا حاطب ما حملك على هذا ؟" .فقال :يا رسول ال ،أما وال
إني لمؤمن بال ورسوله ( )5ما غَيّرت ول بَدّلت ،ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل
ول عشيرة ،وكان لي بين أظهرهم وَلَد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب :يا رسول
ال ،دعني فَلضربْ عنقه ،فإن الرجل قد نافق .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :وما
يدريك يا عمر! لعل ال قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال :اعملوا ما شئتم ،فقد غفرت
لكم" .فأنزل ال ،عز وجل ،في حاطب { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ
حسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِي َم وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا ِل َق ْو ِمهِمْ
س َوةٌ َ
تُ ْلقُونَ إِلَ ْي ِهمْ بِا ْل َموَ ّدةِ } إلى قوله { :قَدْ كَا َنتْ َل ُكمْ أُ ْ
إِنّا بُرَآءُ مِ ْنكُ ْم َو ِممّا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َكفَرْنَا ِبكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ ا ْل َعدَا َوةُ وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا حَتّى
ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَحْ َدهُ } [الممتحنة ]4 :إلى آخر القصة (.)6
وروى َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن عُ ْروَة نحو ذلك .وهكذا ذكر مقاتل بن حيان :أن هذه اليات
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة :أنه بعث سارة مولة بني هاشم ،وأنه أعطاها عشرة دراهم ،
وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ،
رضي ال عنهما ،فأدركاها بالجحفة ...وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم .وعن السدي قريبا منه.
وهكذا قال العوفي ،عن ابن عباس ،ومجاهد وقتادة ،وغير واحد :أن هذه اليات نزلت في
حاطب بن أبي بلتعة.
ع ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ تُ ْلقُونَ إِلَ ْيهِمْ بِا ْل َموَ ّد ِة َوقَدْ َكفَرُوا
خذُوا َ
فقوله تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّ ِ
ِبمَا جَا َءكُمْ مِنَ ا ْلحَقّ } يعني :المشركين والكفار الذين هم محاربون ل ولرسوله وللمؤمنين ،
الذين شرع ال ( )7عداوتهم ومصارمتهم ،ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلء ،كما قال
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَإِنّهُ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا الْ َيهُو َد وَال ّنصَارَى َأوْلِيَاءَ َب ْع ُ
مِ ْنهُمْ } [المائدة .]51 :
__________
( )1في م " :السير".
( )2في م ،أ " :اجتمعنا".
( )3في أ " :بالحليفة حليفة".
( )4في م " :ول كذبنا".
( )5في م " :وبرسوله".
( )6ورواه الطبري في تفسيره ( )23/39من طريق أبي إسحاق.
( )7في م " :شرع لهم".
( )8/85
( )8/86
س َوةٌ حَسَ َنةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ ِإذْ قَالُوا ِلقَ ْو ِمهِمْ إِنّا بُ َرآَءُ مِ ْنكُمْ َومِمّا َتعْبُدُونَ مِنْ
قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ ُأ ْ
دُونِ اللّهِ َكفَرْنَا ِبكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ ا ْل َعدَا َوةُ وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه َوحْ َدهُ إِلّا َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ
شيْءٍ رَبّنَا عَلَ ْيكَ َت َوكّلْنَا وَإِلَ ْيكَ أَنَبْنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ ()4
ك َومَا َأمِْلكُ َلكَ مِنَ اللّهِ مِنْ َ
لِأَبِيهِ لََأسْ َت ْغفِرَنّ َل َ
حكِيمُ ()5
غفِرْ لَنَا رَبّنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
جعَلْنَا فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا وَا ْ
رَبّنَا لَا َت ْ
( )8/87
حمِيدُ
حسَنَةٌ ِلمَنْ كَانَ يَ ْرجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الْآَخِ َر َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَنِيّ ا ْل َ
س َوةٌ َ
َلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي ِهمْ أُ ْ
()6
س َوةٌ حَسَ َنةٌ ِلمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الخِ َر َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ
{ َلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِيهِمْ ُأ ْ
حمِيدُ (} )6
الْ َ
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم :
س َوةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِي َم وَالّذِينَ َمعَهُ } أي :وأتباعه الذين آمنوا معه { ِإذْ قَالُوا
{ َقدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
ِلقَ ْو ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِ ْنكُمْ } أي :تبرأنا منكم { َو ِممّا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َكفَرْنَا ِبكُمْ } أي :بدينكم
وطريقكم { ،وَ َبدَا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا } يعني :وقد شُرعت العداوة والبغضاء من
الن بيننا وبينكم ،ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم { حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَحْ َدهُ }
أي :إلى أن تُوحدوا ال فتعبدوه وحده ل شريك له ،وتخلعوا ما تعبدون معه من النداد
والوثان.
وقوله { :إِل َق ْولَ إِبْرَاهِي َم لبِيهِ لسْ َتغْفِرَنّ َلكَ } أي :لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون
بها ،إل في استغفار إبراهيم لبيه ،فإنه إنما كان عن مَوعِدة وعدها إياه ،فلما تبين له أنه عدو
ل تبرأ منه .وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يَدعون لبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون
ي وَالّذِينَ
لهم ،ويقولون :إن إبراهيم كان يستغفر لبيه ،فأنزل ال ،عز وجل { :مَا كَانَ لِلنّ ِب ّ
جحِي ِم َومَا
صحَابُ الْ َ
ن وََلوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َل ُهمْ أَ ّنهُمْ َأ ْ
آمَنُوا أَنْ يَسْ َت ْغفِرُوا لِ ْلمُشْ ِركِي َ
كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لبِيهِ إِل عَنْ َموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ
س َوةٌ
لوّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة .]114 ، 113 :وقال تعالى في هذه الية الكريمة { :قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ ُأ ْ
ك َومَا َأمِْلكُ َلكَ مِنَ
حسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِي َم وَالّذِينَ َمعَهُ } إلى قوله { :إِل َق ْولَ إِبْرَاهِي َم لبِيهِ لسْ َت ْغفِرَنّ َل َ
َ
شيْءٍ } أي :
اللّهِ مِنْ َ
( )8/87
ليس لكم في ذلك أسوة ،أي :في الستغفار للمشركين ،هكذا قال ابن عباس ،ومجاهد ،
وقتادة ،ومقاتل ،والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه ،حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم ،فلجئوا إلى
ال وتضرّعوا ( )1إليه فقالوا { :رَبّنَا عَلَ ْيكَ َت َوكّلْنَا وَإِلَ ْيكَ أَنَبْنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } أي :توكلنا عليك
في جميع المور ،وسَلّمنا أمورَنا إليك ،وفوضناها إليك { وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ } أي :المعاد في الدار
الخرة.
جعَلْنَا فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا } قال مجاهد :معناه :ل تعذبنا بأيديهم ،ول بعذاب من
{ رَبّنَا ل َت ْ
عندك ،فيقولوا :لو كان هؤلء على حق ما أصابهم هذا .وكذا قال الضحاك.
ظهِرهم علينا فيفتتنوا بذلك ،يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه .واختاره
وقال قتادة ل ُت ْ
ابن جرير (.)2
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :ل تسلطهم علينا فيفتنونا.
حكِيمُ } أي :واستر ذنوبنا عن غيرك ،واعف عنها
غفِرْ لَنَا رَبّنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
وقوله { :وَا ْ
حكِيم }
حكِيمُ } أي :الذي ل ُيضَام من لذ بجناحك ( { )3ا ْل َ
فيما بيننا وبينك { ،إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك.
س َوةٌ حَسَ َنةٌ ِلمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الخِرَ } وهذا تأكيد لما
ثم قال تعالى َ { :لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِيهِمْ ُأ ْ
تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضًا لن هذه السوة المثبتة ( )4هاهنا هي الولى بعينها.
وقوله ِ { :لمَنْ كَانَ يَ ْرجُو اللّ َه وَالْ َيوْ َم الخِرَ } تهييج إلى ذلك كل مقر ( )5بال والمعاد.
حمِيدُ } كقوله { إِنْ َت ْكفُرُوا
وقوله َ { :ومَنْ يَ َت َولّ } أي :عما أمر ال به { ،فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَنِيّ ا ْل َ
حمِيدٌ } [إبراهيم .]8 :
جمِيعًا فَإِنّ اللّهَ َلغَنِيّ َ
أَنْتُ ْم َومَنْ فِي ال ْرضِ َ
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { :ا ْلغَ ِنيّ } الذي [قد] ( )6كمل في غناه ،وهو ال ،هذه
حمِيدُ }
صفته ل تنبغي إل له ،ليس له كفء ،وليس كمثله شيء ،سبحان ال الواحد القهار { .الْ َ
المستحمد إلى خلقه ،أي :هو المحمود في جميع أفعاله وأقواله ،ل إله غيره ،ول رب سواه.
__________
( )1في م " :وضرعوا".
( )2تفسير الطبري (.)28/42
( )3في أ " :بجنابك".
( )4في أ " :المبيتة".
( )5في م " :لكل موقن".
( )6زيادة من م.
( )8/88
( )8/89
غفُورٌ َرحِيمٌ }
ج َعلَ بَيْ َنكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُمْ مِ ْنهُمْ َموَ ّد ًة وَاللّهُ قَدِي ٌر وَاللّهُ َ
ال فيه { :عَسَى اللّهُ أَنْ يَ ْ
(.)1
وفي صحيح مسلم ،عن ابن عباس :أن أبا سفيان قال :يا رسول ال ،ثلث أعطنيهنّ .قال :
"نعم" .قال :وتؤمّرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين .قال " :نعم" .قال :ومعاوية تجعله
كاتبًا بين يديك .قال " :نعم" .قال :وعندي أحسن العرب وأجمله ،أم حبيبة بنت أبي سفيان
أزوجكها ...الحديث .وقد تقدم الكلم عليه (.)2
ن وَلَمْ يُخْ ِرجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ } أي ل
وقوله تعالى { :ل يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ
ينهاكم عن الحسان إلى الكفرة الذين ل يقاتلونكم في الدين ،كالنساء والضعفة منهم { ،أَنْ
سطِينَ }.
حبّ ا ْل ُمقْ ِ
تَبَرّوهُمْ } أي :تحسنوا إليهم { وَ ُتقْسِطُوا إِلَ ْيهِمْ } أي :تعدلوا { إِنّ اللّهَ يُ ِ
قال المام أحمد :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا هشام بن عروة ،عن فاطمة بنت المنذر ،عن أسماء
-هي بنت أبي بكر ،رضي ال عنهما -قالت :قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ
عاهدوا ،فأتيتُ النبي ( )3صلى ال عليه وسلم فقلت :يا رسول ال ،إن أمي قدمت وهي راغبة
،أفأصلها ؟ قال " :نعم ،صلي أمك" أخرجاه (.)4
وقال المام أحمد :حدثنا عارم ،حدثنا عبد ال بن المبارك ،حدثنا مصعب بن ثابت ،حدثنا
عامر بن عبد ال بن الزبير ،عن أبيه قال :قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا :
صِنَاب وأقط ( )5وسمن ،وهي مشركة ،فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها ،فسألت
عائشة النبي صلى ال عليه وسلم ،فأنزل ال ،عز وجل { :ل يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ
فِي الدّينِ } إلى آخر الية ،فأمرها أن تقبل هديتها ،وأن تدخلها بيتها.
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ،من حديث مصعب بن ثابت ،به ( .)6وفي رواية لحمد
وابن ( )7جرير " :قُتَيلة بنت عبد العزي بن [عبد] ( )8أسعد ،من بني مالك بن حسل ( .)9وزاد
ابن أبي حاتم " :في المدة التي كانت بين قريش ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم".
__________
( )1ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )8/130وعزاه لبن أبي حاتم ،وهو مرسل.
( )2صحيح مسلم برقم ( )2501من حديث ابن عباس ،رضي ال عنه ،وقول الحافظ " :تقدم
الكلم عليه" ل أدري ما مقصوده ،فإنه ذكر الحديث عند تفسير الية 227 :من سورة
الشعراء ،ولم يتكلم عليه بشيء ،وقد يكون تكلم عليه في مكان آخر لم أقع عليه ،وال أعلم.
والحديث استشكل ،فقول أبي سفيان في الحديث :وعندى أم حبيبة أزوجكها ،منقوض بأن أبا
سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة ،والنبي صلى ال عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طوبل.
انظر كلم المام النووي في :المنهاج ( )16/63وإجابته على ذلك.
( )3في م " :رسول ال".
( )4الحديث وقع لي من غير هذا الطريق ،انظر :المسند ( )347 ، 6/344وصحيح البخاري
برقم ( )5978 ، 3183 ، 2620وصحيح مسلم برقم (.)1003
( )5في م " :وصناب وقرظ" ،وفي أ " :وضباب وقرط" ،والمثبت من اللطبري.
( )6المسند ( )4/4وتفسير الطبري (.)28/43
( )7في م " :ولبن".
( )8زيادة من مسند المام أحمد.
( )9في أ " :قبيلة بنت العزي بن سعد من بني مالك بن حنبل".
( )8/90
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار :حدثنا عبد ال بن شبيب ،حدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة ،حدثنا أبو قتادة العدوي ،عن ابن أخي الزهري ،عن الزهري ،عن عروة ،عن
عائشة وأسماء أنهما قالتا :قدمت علينا أمنا المدينة ،وهي مشركة ،في الهدنة التي كانت بين
قريش وبين رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقلنا :يا رسول ال ،إن أمنا قدمت علينا المدينة
راغبةً ،أفنصلها ؟ قال " :نعم َ ،فصِلها" (.)1
ثم قال :وهذا الحديث ل نعلمه يروي عن الزهري ،عن عروة ،عن عائشة إل من هذا الوجه.
قلت :وهو منكر بهذا السياق ؛ لن أم عائشة هي أم رومان ،وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء
غيرها ،كما هو مصرح باسمها في هذه الحاديث المتقدمة وال أعلم.
حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة "الحجرات" ،وأورد الحديث
وقوله { :إِنّ اللّهَ ُي ِ
الصحيح " :المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ،الذين يعدلون في حكمهم ،وأهاليهم
،وما وَلُوا" (.)2
ن وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُ ْم َوظَاهَرُوا عَلَى
وقوله { :إِ ّنمَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّي ِ
جكُمْ أَنْ َتوَلّوْ ُهمْ } أي :إنما ينهاكم عن موالة هؤلء الذين ناصبوكم العداوة ،فقاتلوكم
إِخْرَا ِ
وأخرجوكم ،وعاونوا على إخراجكم ،ينهاكم ال عن موالتهم ويأمركم بمعاداتهم .ثم أكد الوعيد
على موالتهم فقال َ { :ومَنْ يَ َتوَّلهُمْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ } كقوله { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا
ض َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَإِنّهُ مِ ْن ُهمْ إِنّ اللّ َه ل َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْع ٍ
الْ َيهُو َد وَال ّنصَارَى َأوْلِيَاءَ َب ْع ُ
الظّاِلمِينَ } [المائدة .]51 :
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتُ ُمهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعَْلمُ بِإِيمَا ِنهِنّ فَإِنْ عَِلمْ ُتمُوهُنّ
ن وَآتُوهُمْ مَا أَ ْن َفقُوا وَل جُنَاحَ
حلّ َل ُه ْم وَل هُمْ َيحِلّونَ َلهُ ّ
جعُوهُنّ إِلَى ا ْل ُكفّارِ ل هُنّ ِ
ُم ْؤمِنَاتٍ فَل تَرْ ِ
سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِ ِر وَاسْأَلُوا مَا أَ ْن َفقْتُ ْم وَلْيَسْأَلُوا مَا
ن وَل ُتمْ ِ
عَلَ ْيكُمْ أَنْ تَ ْن ِكحُوهُنّ إِذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ ُأجُورَهُ ّ
جكُمْ إِلَى ا ْل ُكفّارِ
شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ
حكِيمٌ ( )10وَإِنْ فَا َتكُمْ َ
حكُمُ بَيْ َنكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
حكْمُ اللّهِ َي ْ
أَ ْنفَقُوا ذَِلكُمْ ُ
ج ُهمْ مِ ْثلَ مَا أَ ْنفَقُوا وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ ُم ْؤمِنُونَ (} )11
َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ أَ ْزوَا ُ
__________
( )1مسند البزار برقم (" )1873كشف الستار" وقال الهيثمي " :حديث أسماء في الصحيح ،وأم
عائشة غير أم أسماء" ؛ ولهذا أنكره الحافظ هنا ،وفيه عبد ال بن شبيب شيخ البزار ضعيف.
( )2صحيح مسلم برقم ( )1827من حديث عبد ال بن عمرو ،رضي ال عنهما.
( )8/91
تقدم في سورة "الفتح" ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول ال صلى ال عليه وسلم وبين كفار
قريش ،فكان فيه " :على أل يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك -إل رددته إلينا" .وفي رواية
" :على أنه ل يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك -إل رددته إلينا" .وهذا قول عروة ،
والضحاك ،وعبد الرحمن بن زيد ،والزهري ،ومقاتل ،والسدي .فعلى هذه الرواية تكون هذه
الية مخصصة للسنة ،وهذا من أحسن أمثلة ذلك ،وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ،فإن
ال ،عز وجل ،أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ،فإن عَلِموهن
مؤمنات فل يرجعوهن إلى الكفار ،ل هن حل لهم ول هم يحلون لهن.
وقد ذكرنا في ترجمة عبد ال بن أبي أحمد بن جحش ،من المسند الكبير ،من طريق أبي بكر
بن أبي عاصم ،عن محمد بن يحيى الذهلي ،عن يعقوب بن محمد ،عن عبد العزيز بن
جمّع بن يعقوب ،عن حسين بن أبي لُبانة ،عن عبد ال بن أبي أحمد قال :
عمران ،عن مُ َ
هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي ُمعَيط في الهجرة ،فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما
على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكلماه فيها أن يردها إليهما ،فنقض ال العهد بينه وبين
المشركين في النساء خاصة ،ومنعهن أن يُ ْردَدْنَ إلى المشركين ،وأنزل ال آية المتحان (.)1
قال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا يونس بن ُبكَيْر ،عن قيس بن الربيع ،عن الغر بن
حصَين ،عن أبي نصر السدي قال :سُئِل ابنُ عباس :كيف كان
الصباح ،عن خليفة عن ُ
امتحانُ رسول ال صلى ال عليه وسلم النساءَ ؟ قال :كان يمتحنهن :بال ما خَرجت من بُغض
زوج ؟ وبال ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض ؟ وبال ما خرجت التماس دنيا ؟ وبال ما
خرجت إل حبًا ل ولرسوله ؟ (.)2
ثم رواه من وجه آخر ،عن الغر بن الصباح ،به .وكذا رواه البزار من طريقه ،وذكر فيه أن
الذي كان يحلفهن عن أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم له عمر بن الخطاب (.)3
وقال العوفي ،عن ابن عباس في قوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ ُمهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن ل إله إل ال ،وأن محمدًا عبد ال ( )4ورسوله.
وقال مجاهد { :فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن :عما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو
سخْطة أو غيره ،ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.
َ
وقال عكرمة :يقال لها :ما جاء بك إل حب ال ورسوله ؟ وما جاء بك عشق رجل منا ،ول
__________
( )1جامع المسانيد والسنن لبن كثير ( )7/243ورواه ابن الثير في أسد الغابة ( )3/67من
طريق أبي بكر بن أبي عاصم ،وعبد العزيز ابن عمران ضعيف.
( )2تفسير الطبري (.)28/44
( )3مسند البزار برقم (" )2272كشف الستار" وقال " :ل نعلمه يروى عن ابن عباس إل بهذا
السناد ،ول روي عن أبي نصر إل خليفة" .قال الهيثمي في المجمع (" : )7/123وفيه قيس بن
الربيع ،وثقه شعبة والثوري ،وضعفه غيرهما ،وبقية رجاله ثقاب" .وتعقبه ابن حجر في
مختصر الزوائد ( .)1/112قلت " :أعله الشيخ بقيس ،وقد ذكر البخاري أن أبا نصر لم يسمع من
ابن عباس فهي العلة".
( )4في م " :وإن محمدًا عبده".
( )8/92
عدّتها منه ؛
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض ِ
لن الذي عليه الكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم ( )1انفسخَ نِكاحُها منه.
وقال آخرون :بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ،إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ،وإن
شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ،وحملوا عليه حديث ابن عباس ،وال أعلم.
وقوله { :وَآتُو ُهمْ مَا أَ ْنفَقُوا } يعني :أزواج المهاجرات من المشركين ،ادفعوا إليهم الذي غرموه
عليهن من الصدقة .قاله ابن عباس ،ومجاهد وقتادة ،والزهري ،وغير واحد.
وقوله { :وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ أَنْ تَ ْنكِحُوهُنّ إِذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُنّ } يعني :إذا أعطيتموهن أصدقتهن
فانكحوهن ،أي :تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.
سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } تحريم من ال ،عز وجل ،على عباده المؤمنين نكاح
وقوله { :وَل ُتمْ ِ
المشركات ،والستمرار معهن.
وفي الصحيح ،عن الزهري ،عن عروة ،عن المسور ومَرْوان بن الحكم :أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات ،فأنزل ال عز وجل :
سكُوا
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتُ ُمهَاجِرَاتٍ [فَامْتَحِنُوهُنّ] } ( )2إلى قوله { :وَل ُتمْ ِ
ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ،تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ،
والخرى صفوان بن أمية (.)3
وقال ابن ثور ،عن َم ْعمَر ،عن الزهري :أنزلت هذه الية على رسول ال صلى ال عليه وسلم
،وهو بأسفل الحديبية ،حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ،فلما جاءه النساء نزلت
هذه الية ،وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ،وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم
سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } وهكذا
امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها ،وقال { :وَل ُتمْ ِ
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،وقال :وإنما حكم ال بينهم بذلك ،لجل ما كان بينهم وبينهم
من العهد.
وقال محمد بن إسحاق ،عن الزهري :طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ،
فتزوجها معاوية ،وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ،وهي أم عُبَيد ال ،فتزوجها أبو
جهم ابن حذيفة بن غانم ،رجل من قومه ،وهما على شركهما ،وطلق طلحةُ بن عبيد ال أروي
بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ،فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص (.)4
وقوله { :وَاسْأَلُوا مَا أَ ْن َفقْتُ ْم وَلْيَسْأَلُوا مَا أَ ْن َفقُوا } أي :وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللتي
__________
( )1في م " :ولم تسلم".
( )2زيادة من م.
( )3صحيح البخاري برقم (.)2732 ، 2731
( )4تفسير الطبري ( )28/47مع اختلف يسير.
( )8/94
يذهبن إلى الكفار ،إن ذهبن ،وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللتي هاجرن إلى المسلمين.
ح ُكمُ بَيْ َنكُمْ } أي :في الصلح واستثناء النساء منه ،والمر بهذا كله هو
حكْمُ اللّهِ يَ ْ
وقوله { :ذَِلكُمْ ُ
حكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك.
حكم ال يحكم به بين خلقه { :وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
ج ُهمْ مِ ْثلَ مَا
جكُمْ إِلَى ا ْل ُكفّارِ َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ أَ ْزوَا ُ
شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ
ثم قال { :وَإِنْ فَا َتكُمْ َ
أَ ْنفَقُوا } قال مجاهد ،وقتادة :هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد ،إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا
إلى زوجها شيئًا ،فإذا جاءت منهم امرأة ل يدفع إلى زوجها شيء ،حتى يدفع إلى زوج الذاهبة
إليهم مثل نفقته عليها.
وقال ابن جرير :حدثنا يونس ،حدثنا ابن وهب ،أخبرني يونس ،عن الزهري قال :أقر
المؤمنون بحكم ال ،فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم ،وأبى
المشركون أن يقروا بحكم ال فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ،فقال ال للمؤمنين به :
جهُمْ مِ ْثلَ مَا أَ ْن َفقُوا وَا ّتقُوا
ج ُكمْ إِلَى ا ْل ُكفّارِ َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ أَ ْزوَا ُ
شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ
{ وَإِنْ فَا َتكُمْ َ
اللّهَ الّذِي أَنْ ُتمْ بِهِ ُم ْؤمِنُونَ } فلو أنها ذهبت بعد هذه الية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى
المشركين َ ،ر ّد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم ،الذي أمروا
أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللتي آمن وهاجرنَ ،ثم ردوا إلى
المشركين فضل إن كان بقي لهم .والعقب :ما كان [بأيدي المؤمنين] ( )1من صداق نساء الكفار
حين آمنّ وهاجرن (.)2
وقال العوفي ،عن ابن عباس في هذه الية :يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار ،
أمر له رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق.
ج ُهمْ
وهكذا قال مجاهد َ { :فعَاقَبْتُم } أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم { فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ أَ ْزوَا ُ
مِ ْثلَ مَا أَ ْن َفقُوا } يعني :مهر مثلها .وهكذا قال مسروق ،وإبراهيم ،وقتادة ،ومقاتل ،
والضحاك ،وسفيان بن حسين ،والزهري أيضًا.
وهذا ل ينافي الول ؛ لنه إن أمكن الول ( )3فهو أولى ،وإل فمن الغنائم اللتي تؤخذ من أيدي
الكفار .وهذا أوسع ،وهو اختيار ابن جرير ،ول الحمد والمنة ()4
__________
( )1زيادة من تفسير الطبري.
( )2تفسير الطبري (.)28/48
( )3في م " :أمكن بالول".
( )4في م " :وال أعلم".
( )8/95
ن وَلَا
ن وَلَا يَزْنِي َ
يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا جَا َءكَ ا ْل ُمؤْمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلَا َيسْ ِرقْ َ
ن وَلَا َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ فَبَا ِي ْعهُنّ
ن وَأَرْجُِلهِ ّ
ن وَلَا يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ّ
َيقْتُلْنَ َأوْلَادَهُ ّ
غفُورٌ َرحِيمٌ ()12
وَاسْ َت ْغفِرْ َلهُنّ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
ن وَل
ن وَل يَزْنِي َ
{ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا جَا َءكَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ عَلَى أَنْ ل يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَل يَسْ ِرقْ َ
ن وَل َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ فَبَا ِي ْعهُنّ
ن وَأَرْجُِلهِ ّ
َيقْتُلْنَ َأوْلدَهُنّ وَل يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ّ
غفُورٌ َرحِيمٌ (} )12
وَاسْ َت ْغفِرْ َلهُنّ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
( )8/95
قال البخاري :حدثنا يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن أخي ابن شهاب ،عن عمه قال :أخبرني
عروة أن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم ،أخبرته :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الية { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا جَا َءكَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ }
غفُورٌ رَحِيمٌ } قال عروة :قالت عائشة :فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات ،قال
إلى قوله َ { :
لها رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قد بايعتك" ،كلمًا ،ول وال ما مست يده يد امرأة قَطّ في
المبايعة ،ما يبايعهن إل بقوله " :قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري (.)1
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا سفيان ،عن محمد بن المُ ْنكَدِر ،عن
أميمة بنت ُرقَيقة قالت :أتيت رسول ال ( )2صلى ال عليه وسلم في نساء لنبايعه ،فأخذ علينا
ما في القرآن { :أَنْ ل ُيشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا } الية ،وقال " :فيما استطعتن وأطقتن" ،قلنا :ال
ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ،قلنا :يا رسول ال ،أل تصافحنا ؟ قال "إني ل أصافح النساء ،
إنما قولي لمرأة واحدة ( )3كقولي لمائة امرأة".
هذا إسناد صحيح ،وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ،من حديث سفيان بن عيينة -
والنسائي أيضًا من حديث الثوري -ومالك بن أنس كلهم ،عن محمد بن المنكدر ،به ( .)4وقال
الترمذي :حسن صحيح ،ل نعرفه إل من حديث محمد بن المنكدر.
وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد ابن إسحاق ،عن محمد بن المنكدر ،عن أميمة ،به .وزاد
" :ولم يصافح منا امرأة" ( .)5وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة ،عن محمد بن
المنكدر ،به ( .)6ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي ،عن محمد بن المنكدر :
حدثتني أميمة بنت رقيقة -وكانت أخت خديجة خالة فاطمة ،من فيها إلى في ،فذكره.
وقال المام أحمد :حدثنا يعقوب ،حدثنا أبي ،عن ابن إسحاق ،حدثني سليط بن أيوب بن الحكم
بن سُلَيم ،عن أمه سلمى بنت قيس -وكانت إحدى خالت رسول ال صلى ال عليه وسلم قد
صلت معه القبلتين ،وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار -قالت :جئت رسول ال صلى ال
عليه وسلم نبايعه في نسوة من النصار ،فلما شرط علينا :أل نشرك بال شيئًا ،ول نسرق ،
ول نزني ،ول نقتل أولدنا ،ول نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ،ول نعصيه في معروف
-قال " :ول تغشُشْن أزواجكن" .قالت :فبايعناه ،ثم انصرفنا ،فقلت لمرأة منهن :ارجعي
فسلي رسول ال صلى ال عليه وسلم :ما غش أزواجنا ؟ قال :فسألته فقال " :تأخذ ماله ،
فتحابي به غيره" (.)7
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )4891ووقع في رواية أبي ذر " :حدثنا إسحاق ،حدثنا يعقوب بن
إبراهيم".
( )2في م " :أتيت النبي".
( )3في م " :واحدة منكن".
( )4المسند ( )6/357وسنن الترمذي برقم ( )1597وسنن النسائي ( )7/149وسنن ابن ماجة
برقم (.)2874
( )5المسند (.)6/357
( )6تفسير الطبري (.)28/53
( )7المسند (.)6/379
( )8/96
وقال المام أحمد :حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ،حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن
محمد بن حاطب ،حدثني أبي ،عن أمه عائشة بنت ُقدَامة -يعني :ابن مظعون -قالت :أنا
مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية ،والنبي صلى ال عليه وسلم يبايع النسوة ويقول " :أبايعكنّ
على أن ل تشركن بال شيئًا ،ول تسرقن ،ول تزنين ،ول تقتلن أولدكن ،ول تأتين ببهتان
تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ،ول تعصينني في معروف"[ .قالت :فأطرقن .فقال لهن النبي
صلى ال عليه وسلم] ( )1قُلن :نعم فيما استطعتن"َ .فكُنّ يقلن وأقول معهن ،وأمي تُلقّني :قولي
( )2أي بنية ،نعم [فيما استطعتُ] ( .)3فكنت أقول كما يقلن ()4
وقال البخاري :حدثنا أبو َم ْعمَر ،حدثنا عبد الوارث ،حدثنا أيوب ،عن حفصة بنت سيرين ،
عن أم عطية قالت :بَا َيعْنَا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقرأ ( )5علينا { :أَنْ ل ُيشْ ِركْنَ
بِاللّهِ شَيْئًا } ونهانا عن النياحة ،فقبضت امرأة يدها ،قالت :أسعدتني فلنة أريد أن أجزيها .فما
قال لها رسول ال صلى ال عليه وسلم شيئا ،فانطلقت ورجعت فبايعها.
ورواه مسلم ( .)6وفي رواية " :فما وفى منهن امرأة غيرها ،وغير أم سليم ابنة ملحان".
وللبخاري عن أم عطية قالت :أخذ علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم عند البيعة أل ننوح ،
فما َوفّت منا امرأة غير خمس نسوة :أم سليم ،وأم العلء ،وابنة أبي سبرة امرأة معاذ ،
وامرأتان -أو :ابنة أبي سَبرة ،وامرأة معاذ ،وامرأة أخرى (.)7
وقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد ،كما قال البخاري :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم ،حدثنا هارون بن ( )8معروف ،حدثنا عبد ال بن وهب ،أخبرني
ابن جُرَيج :أن الحسن بن مسلم أخبره ،عن طاوس ،عن ابن عباس قال :شهدت الصلة يوم
الفطر مع رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ،فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم
يخطب بَعدُ ،فنزل نبي ال صلى ال عليه وسلم ،فكأني أنظر إليه حين ( )9يُجَلّس الرجالَ بيده ،
ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلل فقال { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا جَا َءكَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ عَلَى أَنْ
ن وَل يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنّ
ن وَل َيقْتُلْنَ َأوْل َدهُ ّ
ن وَل يَزْنِي َ
ل ُيشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَل َيسْ ِرقْ َ
وَأَرْجُِلهِنّ } حتى فرغ من الية كلها .ثم قال حين فرغ " :أنتن على ذلك ؟" .فقالت امرأة واحدة ،
ولم يجبه غيرها :نعم يا رسول ال -ل يدري الحسن ( )10من هي -قال " :فتصدقن" ،قال :
وبسط بلل ثوبه فجعلن ( )11يلقين الفَتَخَ
__________
( )1زيادة من مسند المام أحمد.
( )2زيادة من مسند المام أحمد ،وفي هـ ،م ،أ " :تقول لي".
( )3زيادة من مسند المام أحمد.
( )4المسند (.)6/365
( )5في م " :فشرط".
( )6صحيح البخاري برقم ( )4892وصحيح مسلم برقم (.)936
( )7صحيح البخاري برقم (.)1306
( )8في م " :حدثنا".
( )9في م " :إليه حتى".
( )10في م ،أ " :ل يدري حسن".
( )11في م " :فجعل".
( )8/97
( )8/98
يقتلن أولدهن" .قالت هند :أنت قتلتهم يوم بدر ،فأنت وهم أبصر .قال { :وَل يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ
ن وَأَ ْرجُِلهِنّ } قال { وَل َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ } قال :منعهن أن ينحن ،وكان
َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِ ّ
أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ،ويقطعن الشعور ،ويدعون بالثبور .والثبور :
الويل (.)1
وهذا أثر غريب ،وفي بعضه نكارة ،وال أعلم ؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول
ال صلى ال عليه وسلم يخيفهما ،بل أظهر الصفاء والود له ،وكذلك كان المر من جانبه ،
عليه السلم ،لهما.
وقال مقاتل بن حيان :أنزلت هذه الية يوم الفتح ،فبايع رسول ال صلى ال عليه وسلم الرجال
على الصفا ،وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فذكر بقيته كما تقدم
وزاد :فلما قال { :وَل َيقْتُلْنَ َأوْلدَهُنّ } قالت هند :ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا .فضحك
عمر بن الخطاب حتى استلقى .رواه بن أبي حاتم.
وقال بن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا نصر بن علي ،حدثتني عطية بنت سليمان ،حدثني عمتي
،عن جدتها ( )2عن عائشة قالت :جاءت هند بنت عتبة إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم
لتبايعه ،فنظر إلى يدها فقال " :اذهبي فغيري يدك" .فذهبت فغيرتها بحناء ،ثم جاءت فقال :
"أبايعك على أل تشركي بال شيئا" ،فبايعها وفي يدها سواران من ذهب ،فقالت :ما تقول في
هذين السوارين ؟ فقال " :جمرتان من جمر جهنم" (.)3
فقوله { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ِإذَا جَا َءكَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ } أي :من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط
فبايعها { ،عَلَى أَنْ ل يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَل يَسْ ِرقْنَ } أي :أموال الناس الجانب ،فأما إذا كان
الزوج مقصرًا في نفقتها ،فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ،ما جرت به عادة أمثالها ،وإن كان
شحِيح ل
بغير علمه ،عمل بحديث هند بنت عتبة أنها قالت :يا رسول ال ،إن أبا سفيان رجل َ
يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ،فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" .أخرجاه في
الصحيحين (.)4
وقوله { :وَل يَزْنِينَ } كقوله { وَل َتقْرَبُوا الزّنَا إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيل } [السراء .]32 :
سمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الليم في نار الجحيم (.)5
وفي حديث َ
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أخبرنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن عُرْوة ،عن عائشة
قالت :جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذ عليها { :أَنْ ل ُيشْ ِركْنَ
ن وَل يَزْنِينَ } الية ،قالت :فوضعت يدها على رأسها حياء ،فأعجبه ما
بِاللّهِ شَيْئًا وَل َيسْ ِرقْ َ
رأى منها ،فقالت عائشة :
__________
( )1تفسير الطبري (.)28/52
( )2في أ " :حدثني عمي عن جدي".
( )3ورواه أبو يعلى في المسند ( )8/195عن نصر بن على به نحو ،وقال الهيثمي في المجمع (
" : )6/37فيه من لم أعرفهن".
( )4صحيح البخاري برقم ( )7180وصحيح مسلم برقم (.)1714
( )5رواه المام أحمد في المسند (.)5/15
( )8/99
أقري أيتها المرأة ،فوال ما بايعنا إل على هذا .قالت :فنعم إذًا .فبايعها بالية (.)1
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا ابن فضيل ،عن حصين ،عن عامر -هو
الشعبي -قال :بايع رسول ال صلى ال عليه وسلم النساء ،وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه
،ثم قال " :ول تقتلن أولدكن" .فقالت امرأة :تقتل آباءهم وتوصينا بأولدهم ؟ قال :وكان بعد
ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه ،جمعهن فعرض عليهن ،فإذا أقررن رجعن.
وقوله { وَل َيقْتُلْنَ َأوْلدَهُنّ } وهذا يشمل قتله بعد وجوده ،كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولدهم
خشية الملق ،ويعم قتله وهو جنين ،كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ،تطرح نفسها لئل
تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
ن وَأَ ْرجُِلهِنّ } قال ابن عباس :يعني ل يلحقن
وقوله { :وَل يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِ ّ
بأزواجهن غير أولدهم .وكذا قال مقاتل .ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا أحمد بن صالح ،حدثنا بن وهب ،حدثنا عمرو -يعني :ابن الحارث -عن ابن الهاد ،
عن عبد ال بن يونس ،عن سعيد ال َمقْبُري ،عن أبي هريرة أنه سمع رسول ال صلى ال عليه
وسلم ويقول حين نزلت آية الملعنة " :أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم ،فليست من ال
في شيء ،ولن يدخلها ال جَنّته ،وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه ،احتجب ال منه ،
وفضحه على رءوس الولين والخرين" (.)2
وقوله { :وَل َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ } يعني :فيما أمرتهن به من معروف ،ونهيتهن عنه من
منكر.
قال البخاري :حدثنا عبد ال بن محمد ،حدثنا وهب بن جرير ،حدثنا أبي قال :سمعت الزبير ،
عكْرِمة ،عن ابن عباس في قوله { :وَل َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ } قال :إنما هو شرط شَرَطه
عن ِ
ال للنساء (.)3
وقال ميمون بن ِمهْرَان :لم يجعل ال لنبيه طاعة إل لمعروف ( )4والمعروف :طاعة.
وقال ابن زيد :أمر ال بطاعة رسوله ،وهو خِيَرة ال من خلقه في المعروف .وقد قال غيره ابن
جعْد ،وأبي صالح ،وغير واحد :نهاهن يومئذ عن
عباس ،وأنس بن مالك ،وسالم بن أبي ال َ
النوح .وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا.
وقال ابن جرير :حدثنا بشر ،حدثنا يزيد ،حدثنا سعيد ،عن قتادة في هذه الية :ذكر لنا أن
نبي ال صلى ال عليه وسلم أخذ عليهن النياحة ،ول تحدثن الرجال إل رجل منكن محرمًا .فقال
عبد الرحمن بن عوف :يا نبي ال ،إن لنا أضيافًا ،وإنا نغيب عن نسائنا .فقال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :ليس أولئك
__________
( )1المسند (.)6/151
( )2سنن أبي داود برقم (.)2263
( )3صحيح البخاري برقم (.)4893
( )4في م " :في معروف".
( )8/100
( )8/101
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ َقدْ يَئِسُوا مِنَ الَْآخِ َرةِ َكمَا يَئِسَ ا ْل ُكفّارُ مِنْ
غ ِ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ ()13
حمَيد ،عن أبي ُنعَيم -وابن ماجة ،عن أبي بكر بن
ورواه الترمذي في التفسير ،عن عبد بن ُ
أبي شيبة ،عن وكيع -كلهما عن يزيد بن عبد ال الشيباني مولي ( )1الصهباء ،به ( )2وقال
الترمذي :حسن غريب.
وقال ابن جرير :حدثنا محمد ( )3بن سنان القزاز ،حدثنا إسحاق بن إدريس ،حدثنا إسحاق بن
عثمان أبو يعقوب ،حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية ،عن جدته أم عطية قالت :لما
قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم جمع نساء النصار في بيت ،ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب
،رضي ال عنه ،فقام على الباب وسلم علينا ،فرددن -أو :فرددنا -عليه السلم ،ثم قال :
"أنا رُسولُ رسول ال صلى ال عليه وسلم إليكن" .قالت :فقلنا :مرحبًا برسول ال وبرسول
رسول ال .فقال " :تبايعن على أل تشركن بال شيئا ،ول تسرقن ول تزنين ؟" قالت :فقلنا :
نعم .قالت :فمد يده من خارج الباب -أو :البيت -ومددنا أيدينا من داخل البيت ،ثم قال :
"اللهم اشهد" .قالت :وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيّض والعواتق ،ول جمعة علينا ،ونهانا
عن اتباع الجنائز .قال إسماعيل :فسألت جدتي عن قوله { :وَل َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ } قالت :
النياحة (.)4
وفي الصحيحين من طريق العمش ،عن عبد ال بن مُرة ،عن مسروق ،عن عبد ال بن
مسعود قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ليس منا من ضَرَب الخدود ،وشَقّ
الجيوب ،ودعا بدعوى الجاهلية" (.)5
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم برئ من الصالقة
والحالقة والشاقة (.)6
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا ُهدْبَة بن خالد ،حدثنا أبان بن يزيد ،حدثنا يحيى بن أبي كثير :
أن زيدًا حدثه :أن أبا سلم حدثه :أن أبا مالك الشعري حدثه :أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قال " :أربع في أمتي من أمر الجاهلية ل يتركونهن :الفخر في الحساب ،والطعن في
النساب ،والستسقاء بالنجوم ،والنياحة .وقال :النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة
وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب".
ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به ،من حديث أبان بن يزيد العطار ،به (.)7
وعن أبي سعيد :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة .رواه أبو داود ()8
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ َقدْ يَئِسُوا مِنَ الخِ َرةِ َكمَا يَئِسَ ا ْلكُفّارُ مِنْ
غ ِ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ (} )13
__________
( )1في أ " :عن أبي".
( )2سنن الترمذي برقم ( )3307وسنن ابن ماجة برقم (.)1579
( )3في م " :حدثنا أحمد".
( )4تفسير الطبري (.)28/53
( )5صحيح البخاري برقم ( )1297وصحيح مسلم برقم (.)103
( )6صحيح البخاري برقم ( )1296وصحيح مسلم برقم (.)104
( )7مسند أبي يعلى ( )3/148وصحيح مسلم برقم (.)934
( )8سنن أبي داود برقم (.)3128
( )8/102
ينهى تبارك وتعالى عن موالة الكافرين في آخر "هذه السورة" كما نهى عنها في أولها فقال { :يَا
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } يعني :اليهود والنصارى وسائر الكفار ،ممن
غ ِ
أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
غضب ال عليه ولعنه واستحق من ال الطرد والبعاد ،فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء
وأخلء وقد يئسوا من الخرة ،أي :من ثواب الخرة ونعيمها في حكم ال عز وجل .وقوله :
{ َكمَا يَئِسَ ا ْلكُفّارُ مِنْ َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ } فيه قولن ،أحدهما :كما يئس الكفار الحياء من
قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك ؛ لنهم ل يعتقدون بعثا ول نشورا ،فقد انقطع
رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } إلى آخر
غ ِ
قال العوفي ،عن ابن عباس { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
السورة ،يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو
يبعثهم ال عز وجل.
وقال الحسن البصري َ { :كمَا يَئِسَ ا ْل ُكفّارُ مِنْ َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ } قال :الكفار الحياء قد يئسوا من
الموات.
وقال قتادة :كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا .وكذا قال الضحاك.
رواهن ابن جرير.
والقول الثاني :معناه :كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.
قال العمش ،عن أبي الضّحَى ،عن مسروق ،عن ابن مسعود َ { :كمَا يَئِسَ ا ْل ُكفّارُ مِنْ َأصْحَابِ
ا ْلقُبُورِ } قال :كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه .وهذا قول مجاهد ،
وعكرمة ،ومقاتل ،وابن زيد ،والكلبي ،ومنصور .وهو اختيار ابن جرير.
( )8/103
( )8/104
قال الترمذي :وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الوزاعي ،نحو رواية محمد بن كثير.
قلت :وكذا رواه الوليد بن يزيد ،عن الوزاعي ،كما رواه ابن كثير.
قلت :وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه
عمَر بن اللّتي ( )1أخبرنا أبو الوقت عبد الول بن
وأنا أسمع ،أخبرنا أبو المُ َنجّا عبد ال بن ُ
شعَيب السّجْزيّ قال :أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود
عيسى بن ُ
عمَر بن
سيّ ،أخبرنا عيسى بن ُ
ح ّموَية السرَخ ِ
الداودي ،أخبرنا أبو محمد عبد ال بن أحمد بن َ
عمران السمرقندي ،أخبرنا المام الحافظ أبو محمد عبد ال بن عبد الرحمن الدارمي بجميع
مسنده ( )2أخبرنا محمد بن كثير ،عن الوزاعي ...فذكر بإسناده مثله ،وتسلسل لنا قراءتها إلى
شيخنا أبي العباس الحجار ،ولم يقرأها ،لنه كان أميا ،وضاق الوقت عن تلقينها إياه .ولكن
أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد ال محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ،رحمه ال :أخبرنا القاضي
تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر ،أخبرنا أبو المنجا بن اللّتي ( )3فذكره بإسناده ،وتَسلل (
)4لي من طريقة ،وقرأها علي بكمالها ،ول الحمد والمنة.
بسم ال الرحمن الرحيم
حكِيمُ ( )1يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ت َومَا فِي ال ْر ِ
سمَاوَا ِ
{ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي
مَا ل َت ْفعَلُونَ ( )2كَبُرَ َمقْتًا عِنْدَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا ل َت ْفعَلُونَ ( )3إِنّ اللّهَ يُ ِ
سَبِيلِهِ صَفّا كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ (} )4
حكِيمُ } غير
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ت َومَا فِي ال ْر ِ
سمَاوَا ِ
تقدم الكلم على قوله { :سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
مرة ،بما أغنى عن إعادته.
وقوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ } ؟ إنكار على من يَعد ع َدةً ،أو يقول قول
ل يفي به ،ولهذا استدل بهذه الية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد
مطلقا ،سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم ل .واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :آية المنافق ثلث :إذا حَدّث كذب ،إذا وَعَد أخلف ،
وإذا اؤتمن خان" ( )5وفي الحديث الخر في الصحيح " :أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا ،
خصْلَة من نفاق حتى َيدَعها" ( - )6فذكر منهن إخلف
ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه َ
الوعد .وقد استقصينا الكلم على هذين الحديثين في أول "شرح البخاري" ،ول الحمد والمنة.
ولهذا أكد ال تعالى هذا النكار عليهم بقوله { :كَبُرَ َمقْتًا عِ ْندَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا ل َت ْفعَلُونَ }
__________
( )1في أ " :الليثي".
( )2في أ " :سنده".
( )3في أ " :الليثي".
( )4في أ " :وتسلسل".
( )5صحيح البخاري برقم ( )33وصحيح مسلم برقم ( )59من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )6صحيح البخاري برقم ( )34وصحيح مسلم برقم ( )58من حديث عبد ال بن عمرو بن
العاص رضي ال عنهما.
( )8/105
وقد روى المام أحمدُ وأبو داود ،عن عبد ال بن عامر بن ربيعة قال :أتانا رسول ال صلى ال
عليه وسلم [في بيتنا] ( )1وأنا صبي قال :فذهبت لخرج للعب ،فقالت أمي :يا عبد ال :تعال
أعطك .فقال لها رسول ال صلى ال عليه وسلم " :وما أردت أن تُعطِيه ؟" .قالت :تمرا .فقال :
"أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة" ()2
وذهب المام مالك ،رحمه ال ،إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به ،
كما لو قال لغيره " :تزوج ولك علي كل يوم كذا" .فتزوجَ ،وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك ،
لنه تعلق به حق آدمي ،وهو مبني على المضايقة .وذهب الجمهور إلى أنه ل يجب مطلقا ،
وحملوا الية على أنها نزلت حين تمنوا فَرضِيّة الجهاد عليهم ،فلما فرض نكل عنه بعضهم ،
كقوله تعالى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ َلهُمْ ُكفّوا أَيْدِ َيكُمْ وََأقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ
خشْيَ ًة َوقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَ ْبتَ عَلَيْنَا ا ْلقِتَالَ َلوْل
شدّ َ
خشْيَةِ اللّهِ َأوْ أَ َ
شوْنَ النّاسَ كَ َ
خَا ْلقِتَالُ ِإذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَ ْ
جلٍ قَرِيبٍ ُقلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى وَل تُظَْلمُونَ فَتِيل أَيْ َنمَا َتكُونُوا
أَخّرْتَنَا إِلَى َأ َ
ت وََلوْ كُنْ ُتمْ فِي بُرُوجٍ ُمشَيّ َدةٍ } [النساء .]78 ، 77 :وقال تعالى { :وَيَقُولُ الّذِينَ
يُدْرِككّمُ ا ْل َموْ ُ
ح َكمَةٌ وَ ُذكِرَ فِيهَا ا ْلقِتَالُ رَأَ ْيتَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ
آمَنُوا َلوْل نزَلتْ سُو َرةٌ فَِإذَا أُنزَلتْ سُو َرةٌ مُ ْ
شيّ عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َموْتِ } الية [محمد ]20 :وهكذا هذه الية معناها ،كما
يَنْظُرُونَ إِلَ ْيكَ َنظَرَ ا ْل َمغْ ِ
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ }
قال :كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون َ :لوَ ِددْنَا أن ال -عز وجل -دلنا
على أحب العمال إليه ،فنعملَ به .فأخبر ال نبيه أن أحب العمال إيمانٌ به ( )3ل شك فيه ،
وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا اليمان ولم يقروا به .فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من
المؤمنين ،وشق عليهم أمره ،فقال ال سبحانه { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ
} ؟ .وهذا اختيار ابن جرير (.)4
ب العمال إلى ال لعملنا به .فدلهم ال على
وقال مقاتل بن حَيّان :قال المؤمنون :لو نعلم أح ّ
صفّا } فبين لهم ،فابتلوا يوم
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ِه َ
أحب العمال إليه ،فقال { :إِنّ اللّهَ ُي ِ
أحد بذلك ،فولوا عن النبي صلى ال عليه وسلم مدبرين ،فأنزل ال في ذلك { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ } ؟ وقال :أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول :أنزلت في شأن القتال ،يقول الرجل " :قاتلت" ،ولم يقاتل ( )5وطعنت" ولم
يطعن و "ضربت" ،ولم يضرب و "صبرت" ،ولم يصبر.
وقال قتادة ،والضحاك :نزلت ( )6توبيخًا لقوم كانوا يقولون " :قتلنا ،ضربنا ،طعنا ،وفعلنا".
ولم يكونوا فعلوا ذلك.
__________
( )1زيادة من المسند.
( )2المسند ( )3/447وسنن أبي داود برقم (.)4991
( )3في م " :إيمان بال".
( )4تفسير الطبري (.)28/56
( )5في م " :ولم أقاتل".
( )6في م " :أنزلت".
( )8/106
وقال ابن يزيد :نزلت في قوم من المنافقين ،كانوا يَعدون المسلمين النص َر ،ول َيفُون لهم بذلك.
وقال مالك ،عن زيد بن أسلم { :لِمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ } ؟ ،قال :في الجهاد.
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد { :لِمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ } إلى قوله { :كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ
مَ ْرصُوصٌ } فما بين ذلك :في نفر من النصار ،فيهم عبد ال بن رواحة ،قالوا في مجلس :لو
ي العمال أحبّ إلى ال ،لعملنا بها حتى نموت .فأنزل ال هذا فيهم .فقال عبد ال بن
نعلم أ ّ
رواحة :ل أبرح ( )1حبيسا في سبيل ال حتى أموت .فقتل شهيدًا.
سهِر ( )2عن
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا فروة بن أبي المغراء ،حدثنا علي بن مُ ْ
داود بن أبي هند ،عن أبي حرب بن أبي السود الديلي ( )3عن أبيه قال :بعث أبو موسى إلى
قراء أهل البصرة ،فدخل عليه منهم ثلثمائة رجل ،كلهم قد قرأ القرآن ،فقال .أنتم قراء أهل
البصرة وخيارهم .وقال :كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات ،فأنسيناها ،غير أني قد
حفظت منها { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا ل َت ْفعَلُونَ } فتكتب شهادة في أعناقكم ،فتسألون
عنها يوم القيامة.
صفّا كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } فهذا
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ِه َ
ولهذا قال ال تعالى { :إِنّ اللّهَ ُي ِ
إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لعداء ال في حومة الوغى ،
يقاتلون في سبيل ال مَن كفر بال ،لتكون كلمة ال هي العليا ،ودينه هو الظاهر العالي على
سائر الديان.
وقال المام أحمد :حدثنا علي بن عبد ال ،حدثنا ُهشَيْم ،قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودّاك ،
عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلث
يضحك ال إليهم :الرجل يقوم من الليل ،والقوم إذا صفوا للصلة ،والقوم إذا صفوا للقتال".
ورواه ابن ماجة من حديث مجالد ،عن أبي الوَدّاك جبر بن نوف ،به (.)4
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو ُنعَيم الفضل بن ُدكَيْن ،حدثنا السود -يعني ابن
شيبان -حدثني يزيد بن عبد ال بن الشّخّير قال :قال مُطرَف :كان يبلغني عن أبي ذر حديث
كنت أشتهي لقاءه ،فلقيته فقلت :يا أبا ذر ،كان يبلغني عنك حديث ،فكنت أشتهي لقاءك ،فقال
:ل أبوك ! فقد لقيت ،فهات .فقلت :كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم حدثكم أن ال يحب ثلثة ويبغض ثلثة ؟ قال :أجل ،فل إخالني أكذب على خليلي صلى
ال عليه وسلم .قلت :فمن هؤلء الثلثة الذين يحبهم ال ؟ قال :رجل غزا في سبيل ال ،خرج
حبّ الّذِينَ
محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل ،وأنتم تجدونه في كتاب ال المنزل ،ثم قرأ { إِنّ اللّهَ يُ ِ
ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيِل ِه صَفّا كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } وذكر الحديث.
__________
( )1في أ " :فما أبرح".
( )2في أ " :شهر".
( )3في أ " :الديلمي".
( )4المسند ( )3/80وسنن ابن ماجة برقم ( )200وقال البوصيري في الزوائد (" : )1/87هذا
إسناد فيه مقال ،مجالد بن سعيد وإن أخرج له مسلم في صحيحه فإنما روى له مقرونًا بغيره قال
ابن عدى :عامة ما يرويه غير محفوظ".
( )8/107
هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق ،وبهذا اللفظ ،واختصره .وقد أخرجه
الترمذي والنسائي من حديث شعبة ،عن منصور بن المعتمر ،عن رِ ْبعَي بن حِرَاش ،عن زيد
بن ظَبْيان ،عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم ( )1وقد أوردناه في موضع آخر ،ول
الحمد.
وعن كعب الحبار أنه قال :يقول ال تعالى لمحمد صلى ال عليه وسلم " :عبدي المتوكل
ظ ول غَليظ ول صَخّاب في السواق ،ول يجزي بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو
المختار ليس بفَ ّ
ويغفر مولده بمكة ،وهجرته بطابة ،وملكه بالشام ،وأمته الحمادون يحمَدُون ال على كلّ حال ،
وفي كل منزلة ،لهم َد ِويّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر ُ ،ي َوضّون أطرافهم ،ويأتزرون
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ
على أنصافهم ،صفهم في القتال مثل صفهم في الصلة" .ثم قرأ { :إِنّ اللّهَ يُ ِ
صفّا كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } رعاة الشمس ،يصلون الصلة حيث أدركتهم ،ولو على
فِي سَبِيلِ ِه َ
ظهر دابة" رواه بن أبي حاتم.
صفّا } قال :كان رسول ال
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ِه َ
وقال سعيد بن جبير في قوله { إِنّ اللّهَ ُي ِ
صلى ال عليه وسلم ل يقاتل العدو إل أن يصافهم ،وهذا تعليم من ال للمؤمنين .قال :وقوله { :
كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } ملتصق بعضه في بعض ،من الصف في القتال.
وقال مقاتل بن حيان :ملتصق بعضه إلى بعض.
وقال ابن عباس { :كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } مُثَبّت ،ل يزول ،ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة { :كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان ،كيف ل يحب أن يختلف
بنيانه ؟ فكذلك ال عز وجل [يحب أن] ( )2ل يختلف أمره ،وإن ال صف المؤمنين في قتالهم
وصفهم في صلتهم ،فعليكم بأمر ال ،فإنه عصمة لمن أخذ به .أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير :حدثني سعيد بن عَمرو السكوني ،حدثنا َبقِيّة بن الوليد ،عن أبي بكر بن أبي
مريم ،عن يحيى بن جابر الطائي ،عن أبي بحرية ( )3قال :كانوا يكرهون القتال على الخيل ،
صفّا
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ِه َ
ويستحبون القتال على الرض ،لقول ال عز وجل { :إِنّ اللّهَ ُي ِ
كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ } قال :وكان أبو بحرية ( )4يقول :إذا رأيتموني التفتّ في الصف فَجَثُوا
في لَحيي ()5
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )2568وسنن النسائي ( )3/207 ، 5/84وقال الترمذي " :هذا حديث
صحيح".
( )2زيادة من م ،أ.
( )3في أ " :عن أبي يحيى به".
( )4في أ " :أبو بحيرة".
( )5تفسير الطبري (.)28/57
( )8/108
وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ِلمَ ُتؤْذُونَنِي َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ
سقِينَ ()5
قُلُو َبهُ ْم وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ لِمَ ُتؤْذُونَنِي َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ
سقِينَ (} )5
قُلُو َبهُ ْم وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
( )8/109
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َي َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ
سحْرٌ مُبِينٌ ()6
حمَدُ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا َهذَا ِ
سمُهُ َأ ْ
َومُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِي ا ْ
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي َرسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ
سحْرٌ مُبِينٌ (} )6
حمَدُ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا َهذَا ِ
سمُهُ َأ ْ
َومُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِي ا ْ
يقول تعالى مخبرّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلم أنه قال لقومه { :لِمَ
ُتؤْذُونَنِي َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ ِإلَ ْيكُمْ } أي :لم توصلون الذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي
فيما جئتكم به من الرسالة ؟ .وفي هذا تسلية لرسول ال صلى ال عليه وسلم فيما أصاب ( )1من
الكفار من قومه وغيرهم ،وأمر له بالصبر ؛ ولهذا قال " :رحمة ال على موسى :لقد أوذي
بأكثر من هذا فصبر" ( )2وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى ال عليه وسلم أو ُي َوصّلوا
إليه أذى ،كما قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتكُونُوا كَالّذِينَ آ َذوْا مُوسَى فَبَرَّأهُ اللّهُ ِممّا قَالُوا
َوكَانَ عِ ْندَ اللّ ِه وَجِيهًا } [الحزاب ]69 :
وقوله { :فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } أي :فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ،أزاغ ال
قلوبهم عن الهدى ،وأسكنها الشك والحيرة والخذلن ،كما قال تعالى { :وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َت ُهمْ
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [النعام ]110 :وقال { َومَنْ
وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ
جهَنّمَ
يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُ ا ْلهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى وَ ُنصْلِهِ َ
وَسَا َءتْ َمصِيرًا } [النساء ]115 :ولهذا قال ال تعالى في هذه الية { :وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ
سقِينَ }
ا ْلفَا ِ
وقوله { :وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ
حمَدُ } يعني :التوراة قد بَشّرَت بي ،وأنا مصداقُ
سمُهُ َأ ْ
ال ّتوْرَا ِة َومُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِي ا ْ
ما أخبرت عنه ،وأنا مُبَشّر بمن بعدي ،وهو الرسول النبي المي العربي المكي أحمد .فعيسى ،
عليه السلم ،وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل ،وقد أقام ( )3في مل بني إسرائيل مبشرًا بمحمد ،
وهو أحمد خاتم النبياء والمرسلين ،الذي ل رسالة بعده ول نبوة .وما أحسن ما أورد البخاري
الحديثَ الذي قال فيه :
حدثنا أبو اليمان ،حدثنا شعيب ،عن الزهري قال :أخبرني محمد بن جُبَير بن مُطعم ،عن أبيه
قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إن لي أسماء :أنا محمد ،وأنا أحمد ،وأنا
الماحي الذي يَمحُو ال به الكفر ،وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ،وأنا العاقب".
ورواه مسلم ،من حديث الزهري ،به نحوه ()4
وقال أبو داود الطيالسي :حدثنا المسعودي ،عن عمرو بن مُرّة ،عن أبي عُبَيدة ،عن أبي
سمّى لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم نَفسه أسماءً ،منها ما حفظنا فقال " :أنا
موسى قال َ :
محمد ،وأنا أحمد ،والحاشر ،والمقفي ،ونبي الرحمة ،والتوبة ،والملحمة".
ورواه مسلم من حديث العمش ،عن عمرو بن مرة ،به ()5
__________
( )1في م " :فيما أصابه".
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم ( )3405ومسلم في صحيحه برقم ( )10622من حديث عبد
ال بن مسعود رضي ال عنه.
( )3في م " :وقد قام".
( )4صحيح البخاري برقم ( )4896وصحيح مسلم برقم (.)2354
( )5مسند الطيالسي برقم ( )492وصحيح مسلم برقم (.)2355
( )8/109
وقد قال ال تعالى { :الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِبيّ ال ّميّ الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبًا عِنْدَ ُهمْ فِي ال ّتوْرَاةِ
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ َلمَا آتَيْ ُتكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَالنْجِيلِ } [العراف ]157 :وقال تعالى { :وَِإذْ أَ َ
علَى ذَِلكُمْ
خذْتُمْ َ
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَا َء ُكمْ رَسُولٌ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ ِب ِه وَلَتَ ْنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُ ْم وَأَ َ
وَ ِ
شهَدُوا وَأَنَا َم َعكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } [آل عمران ]81 :
ِإصْرِي قَالُوا َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
قال ابن عباس :ما بعث ال نبيا إل أخذ عليه العهد :لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه ،وأخذ
عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
وقال محمد بن إسحاق :حدثني ثور بن يَزيد ،عن خالد بن َمعْدَانَ ،عن أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم أنهم قالوا :يا رسول ال ،أخبرنا عن نفسك .قال " :دعوة أبي إبراهيم ،
وبُشْرَى عيسى ،ورأت أمي حين حملت بي ( )1كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى
من أرض الشام" (.)2
وهذا إسناد جيد .ورُوي له شواهد من وجوه أخر ،فقال المام أحمد :
سوَيد الكلبي ،عن عبد
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،حدثنا معاوية بن صالح ،عن سعيد بن ُ
العلى بن هلل ( )3السلمي ،عن العِرْباض بن سارية قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :إني عند ال لخاتم النبيين ،وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته ،وسأنبئكم بأول ذلك دَعْوة أبي
إبراهيم ،وبشارة عيسى بي ،ورؤيا أمي التي رأت ،وكذلك أمهات النبيين يَرَين" (.)4
وقال أحمد أيضا :حدثنا أبو النضر ،حدثنا الفرج بن فضالة ،حدثنا لقمان بن عامر قال :
سمعت أبا أمامة قال :قلت يا نبي ال ،ما كان بدء أمرك ؟ قال " :دعوة أبي إبراهيم ،وبُشْرَى
عيسى ،ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له قصورُ الشام" ()5
خدَيجًا أخا زهير بن معاوية ،عن أبي إسحاق
وقال أحمد أيضا :حدثنا حسن بن موسى :سمعت ُ
عن عبد ال بن عتبة ،عن عبد ال بن مسعود قال :بعثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى
النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجل منهم :عبد ال بن مسعود ،وجعفر ،وعبد ال بن [عُ ْرفُطَة]
( )6وعثمان بن مظعون ،وأبو موسى .فأتوا النجاشي ،وبعثَت قريش عمرو بن العاص ،
وعمارة بن الوليد بهدية ،فلما دخل على النجاشي سَجَدا له ،ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ،
ثم قال له :إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك ،ورغبوا عنا وعن ملتنا .قال :فأين هم ؟ قال
هم في أرضك ،فابعث إليهم .فبعث إليهم .فقال جعفر :أنا خطيبكم اليوم .فاتبعوه فسلّم ولم يسجد
،
__________
( )1في م " :حملتني".
( )2رواه الحاكم في المستدرك ( )2/600من طريق يوني بن بكير عن ابن إسحاق به ،وقال :
"خالد بن معدان من خيار التابعين ،صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة ،فإذا أسند
حديث إلى الصحابة فإنه صحيح السناد وإن لم يخرجاه" .قلت :وقد ورد موصولً كما سيأتي في
رواية أحمد.
( )3في أ " :بلل".
( )4المسند ( )4/127وسعيد بن سويد لم يوثقه غير ابن حبان.
( )5المسند (.)5/262
( )6زيادة من المسند ،ومكانه بياض في هـ ،م ،أ.
( )8/110
ب وَ ُهوَ يُدْعَى إِلَى الِْإسْلَا ِم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ()7
علَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ
سلَ َرسُولَهُ
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُ ِتمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ (ُ )8هوَ الّذِي أَرْ َ
يُرِيدُونَ لِ ُي ْ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ ()9
بِا ْلهُدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِيُ ْ
فقالوا له :ما لك ل تسجد للملك ؟ قال :إنا ل نسجد إل ل عز وجل .قال وما ذاك ؟ قال :إن
ال بعث إلينا رسوله ،فأمرنا أل نسجد لحد إل ل عز وجل ،وأمرنا بالصلة والزكاة.
قال عمرو بن العاص :فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم .قال :ما تقولون في عيسى ابن مريم
وأمه ؟ قالوا :نقول كما قال ال عز وجل :هو كلمة ال وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول ،التي
لم يمسها بَشَر ولم َيفْرضْها ( )1ولد .قال :فرفع عودًا من الرض ثم قال :يا معشر الحبشة
والقسيسين والرهبان ،وال ما يزيدون على الذي نقول فيه ،ما يساوي هذا .مرحبا بكم وبمن
جئتم من عنده ،أشهد أنه رسول ال ،وأنه الذي نجد في النجيل ،وأنه الذي بشر به عيسى ابن
مريم .انزلوا حيث شئتم ،وال لول ما أنا فيه من الملك لتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه
وأوضئه .وأمَرَ بهدية الخرَين فردت إليهما ،ثم تعجل عبد ال بن مسعود حتى أدرك بدرًا ،
وزعم أن النبي صلى ال عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته ()2
وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي ال عنهما ،وموضع ذلك كتاب السيرة.
والمقصد أن النبياء عليهم السلم لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها ،وتأمرهم باتباعه
ونصره وموازرته إذا بعث .وكان ما اشتهر المر في أهل الرض على لسان إبراهيم الخليل والد
النبياء بعده ،حين دعا لهل مكة أن يبعث ال فيهم رسول منهم ،وكذا على لسان عيسى ابن
مريم ؛ ولهذا قالوا " :أخبرنا عن َبدْء أمرك" يعني :في الرض ،قال " :دعوة أبي إبراهيم ،
وبشارة عيسى ابن مريم ،ورؤيا أمي التي رأت" أي :ظهر في أهل مكة أثر ذلك والرهاص
بذكره صلوات ال وسلمه عليه.
وقوله { :فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } قال ابن جريج وابن جرير { :فََلمّا جَاءَ ُهمْ }
أحمد ،أي :المبشر به في العصار المتقادمة ،المنّوه بذكره في القرون السالفة ،لما ظهر أمره
سحْرٌ مُبِينٌ }
وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون َ { :هذَا ِ
ب وَ ُهوَ يُدْعَى إِلَى السْل ِم وَاللّهُ ل َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ ()7
{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
سلَ َرسُولَهُ
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُ ِتمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ (ُ )8هوَ الّذِي أَرْ َ
يُرِيدُونَ لِ ُي ْ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ (} )9
بِا ْلهُدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِيُ ْ
يقول تعالى َ { :ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ وَ ُهوَ ُيدْعَى إِلَى السْلمِ } أي :ل أحد أظلم
ممن يفتري الكذب على ال ( )3ويجعل له أندادا وشركاء ،وهو يدعى إلى التوحيد والخلص ؛
ولهذا قال { :وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }
__________
( )1في أ " :ولم يعترضها".
( )2المسند (.)1/461
( )3في م " :يفتري على ال الكذب".
( )8/111
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِمْ } أي :يحاولون ( )1أن يَرُدّوا الحق بالباطل ،
ثم قال { :يُرِيدُونَ لِ ُي ْ
ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ،وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك
سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَى
مستحيل ( )2؛ ولهذا قال { :وَاللّهُ مُتِمّ نُو ِر ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ ُهوَ الّذِي أَرْ َ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ } وقد تقدم الكلم على هاتين اليتين في
وَدِينِ ا ْلحَقّ لِ ُي ْ
سورة "براءة" ،بما فيه كفاية ،ول الحمد والمنة ()3
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َهلْ أَدُّلكُمْ عَلَى ِتجَا َرةٍ تُنْجِي ُكمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (ُ )10ت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ
سكُمْ َذِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ (َ )11ي ْغفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُمْ
وَتُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ
وَيُدْخِ ْل ُكمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَا ُر َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ ()12
وَأُخْرَى تُحِبّو َنهَا َنصْرٌ مِنَ اللّ ِه َوفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ (} )13
تقدم في حديث عبد ال بن سلم أن الصحابة ،رضي ال عنهم ،أرادوا أن يسألوا عن أحب
العمال إلى ال عز وجل ليفعلوه ،فأنزل ال هذه السورة ،ومن جملتها هذا الية { :يَا أَ ّيهَا
الّذِينَ آمَنُوا َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى تِجَا َرةٍ تُ ْنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ َألِيمٍ } ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي ل
تبور ،والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال ُ { :ت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَ ُتجَاهِدُونَ
سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي :من تجارة الدنيا ،والكد لها
فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ
والتصدي لها وحدها.
ثم قال َ { :ي ْغفِرْ َل ُكمْ ذُنُو َبكُمْ } أي :إن فعلتم ما أمرتكم ( )4به ودللتكم عليه ،غفرت لكم
الزلت ،وأدخلتكم الجنات ،والمساكن الطيبات ،والدرجات العاليات ؛ ولهذا قال { :وَيُ ْدخِ ْلكُمْ
جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَا ُر َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ }
ثم قال { :وَأُخْرَى تُحِبّو َنهَا } أي :وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها ،وهي َ { :نصْرٌ مِنَ اللّهِ
َوفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي :إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه ،تكفل ال بنصركم .قال ال تعالى { :يَا
أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُمْ وَيُثَبّتْ َأقْدَا َمكُمْ } [محمد ]7 :وقال تعالى { :وَلَيَ ْنصُرَنّ
اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ } [الحج ]40 :وقوله { َوفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي :عاجل فهذه الزيادة
هي خير الدنيا موصول بنعيم الخرة ،لمن أطاع ال ورسوله ،ونصر ال ودينه ؛ ولهذا قال { :
وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
__________
( )1في أ " :أي يجادلون".
( )2في م ،أ " :كذاك ذلك".
( )3في أ " :وال أعلم".
( )4في أ " :ما آمركم".
( )8/112
( )8/113
فقام الشاب ،فقال :أنا .فقال :نعم ،أنت ذاك .قال :فألقي عليه شبه عيسى ،ورُفع عيسى عليه
السلم من روزَنة في البيت إلى السماء ،قال :وجاء الطَلبُ من اليهود ،فأخذوا شِبهَه فقتلوه
وصلبوه ،وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ،فتفرقوا فيه ثلث فرق .فقالت فرقة
:كان ال فينا ما شاء ،ثم صعد إلى السماء .وهؤلء اليعقوبية .وقالت فرقة :كان فينا ابن ال ما
شاء ،ثم رفعه إليه وهؤلء النسطورية ،وقالت فرقة كان فينا عبد ال ورسوله ما شاء ال ثم
رفعه اليه ،وهؤلء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة ،فقتلوها ،فلم يزل السلم
ل َو َكفَرَتْ طَا ِئفَةٌ
طامسا حتى بعث ال محمدا صلى ال عليه وسلم { ،فَآمَ َنتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِي َ
} يعني :الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى ،والطائفة التي آمنت في زمن
عيسى { ،فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَ ُدوّهِمْ فََأصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } بإظهار محمد صلى ال عليه وسلم
دينهم على دين الكفار { فََأصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الية الكريمة .وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الية من
سننه ،عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلء ،عن أبي معاوية ،بمثله سواء (.)1
فأمة محمد صلى ال عليه وسلم ل يزالون ظاهرين على الحق ،حتى يأتي أمر ال وهم كذلك ،
وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلم ،كما وردت [بذلك] ()2
الحاديث الصحاح ،وال أعلم.
__________
( )1تفسير الطبري ( )28/60وسنن النسائي الكبري برقم (.)11591
( )2زيادة من م ،أ.
( )8/114
( )8/115
وهذه الية هي مصداق إجابة ال لخليله إبراهيم ،حين دعا لهل مكة أن يبعث ال فيهم رسول
منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .فبعثه ال سبحانه وتعالى وله الحمد
طمُوس من السبل ،وقد اشتدت الحاجة إليه ،وقد مقت ال
والمنة ،على حين فترة من الرسل ،و ُ
أهلَ الرض عربهم وعجمهم ،إل بقايا من أهل الكتاب -أي :نزرا يسيرا -ممن تمسك بما
بعث ال به عيسى ابن مريم عليه السلم ؛ ولهذا قال تعالى ُ { :هوَ الّذِي َب َعثَ فِي المّيّينَ َرسُول
ح ْكمَ َة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َلفِي ضَللٍ مُبِينٍ }
ب وَالْ ِ
مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِ ِه وَيُ َزكّيهِ ْم وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ
وذلك أن العرب كانوا [قديما] ( )1متمسكين بدين إبراهيم [الخليل] ( )2عليه السلم فبدلوه وغيروه
،وقلبوه وخالفوه ،واستبدلوا بالتوحيد شركا ( )3وباليقين شكا ،وابتدعوا أشياء لم يأذن بها ال (
)4وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ،فبعث ال محمدًا صلوات ال
وسلمه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ،فيه هدايتهم ،والبيان لجميع ما يحتاجون
إليه من أمر معاشهم ومعادهم ،والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ،ورضا ال عنهم ،والنهي
عما يقربهم إلى النار وسخط ال .حاكم ،فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الصول
والفروع .وجمَعَ له تعالى ،وله الحمد والمنة ،جميع المحاسن ممن كان قبله ،وأعطاه ما لم يُعطِ
أحدًا من الولين ،ول يعطيه أحدًا من الخرين ،فصلوات ال وسلمه عليه [دائمًا] ( )5إلى يوم
الدين.
حكِيمُ } قال المام أبو عبد ال البخاري
حقُوا ِب ِه ْم وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
وقوله { :وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَ ْل َ
رحمه ال.
حدثنا عبد العزيز بن عبد ال ،حدثنا سليمان بن بلل ،عن ثور ،عن أبي الغَيث ،عن أبي
هريرة ،رضي ال عنه ،قال :كنا جلوسا عند النبي صلى ال عليه وسلم فأنزلت عليه سورة
حقُوا ِب ِهمْ } قالوا :من هم يا رسول ال ؟ فلم يراجعهم حتى سئل
الجمعة { :وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَ ْل َ
ثلثا ،وفينا سلمان الفارسي ،فوضع رسول ال صلى ال عليه وسلم يده على سلمان ثم قال " :لو
كان اليمان عند الثّرَيّا لناله رجال -أو :رجل -من هؤلء".
ورواه مسلم ،والترمذي ،والنسائي ،وابن أبي حاتم ،وابن جرير ،من طرق عن ثور بن زيد
الدّيلي ( )6عن سالم أبي الغيث ،عن أبي هريرة ،به ()7
ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية ،وعلى عموم بعثته صلى ال عليه وسلم إلى
جميع الناس ؛ لنه فسر قوله { :وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ } بفارس ؛ ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم
وغيرهم من المم ،يدعوهم إلى ال عز وجل ،وإلى اتباع ما جاء به ؛ ولهذا قال مجاهد وغير
حقُوا ِبهِمْ } قال :هم العاجم ،وكل من صدق النبي صلى
واحد في قوله { :وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَ ْل َ
ال عليه وسلم من غير العرب.
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )2زيادة من م.
( )3في أ " :شركا فيه".
( )4في م " :لم يأذن ال بها".
( )5زيادة من م ،أ.
( )6في أ " :الديلمي".
( )7صحيح البخاري برقم ( )4897وصحيح مسلم برقم ( )2546وسنن الترمذي برقم ()3310
وسنن النسائي الكبرى برقم ( )11592وتفسير الطبري (.)28/62
( )8/116
( )8/117
عمْتُمْ أَ ّن ُكمْ َأوْلِيَاءُ لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ
ثم قال تعالى ُ { :قلْ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ هَادُوا إِنْ زَ َ
كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } أي :إن كنتم تزعمون أنكم على هدى ،وأن محمدا وأصحابه على ضللة ،
فادعوا بالموت على الضال من الفئتين { إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } فيما تزعمونه.
قال ال تعالى { :وَل يَ َتمَ ّنوْنَهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ } أي :بما يعلمون لهم ( )1من الكفر والظلم
علِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } وقد قدمنا في سورة "البقرة" الكلم على هذه المباهلة لليهود ،
والفجور { ،وَاللّهُ َ
حيث قال تعالى ُ { :قلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ الدّارُ الخِ َرةُ عِ ْندَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ
إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ وَلَنْ يَ َتمَ ّنوْهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِي ِه ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ وَلَتَجِدَ ّنهُمْ أَحْ َرصَ النّاسِ
عَلَى حَيَا ٍة َومِنَ الّذِينَ أَشْ َركُوا َيوَدّ َأحَدُ ُهمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ سَنَ ٍة َومَا ُهوَ ِبمُزَحْ ِزحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّرَ
وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ } [البقرة ]96 - 94 :وقد أسلفنا الكلم هناك وبينا أن المراد أن يدعوا
على الضال ( )2من أنفسهم أو خصومهم ،كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران َ { :فمَنْ
جكَ فِيهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ َف ُقلْ َتعَاَلوْا َن ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَا َءكُ ْم وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُمْ وَأَنْفُسَنَا
حَا ّ
ج َعلْ َلعْنَةَ اللّهِ عَلَى ا ْلكَاذِبِينَ } [آل عمران ]61 :ومباهلة المشركين في سورة
س ُكمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَنَ ْ
وَأَنْفُ َ
حمَنُ مَدّا } [مريم ]75 :
مريم ُ { :قلْ مَنْ كَانَ فِي الضّللَةِ فَلْ َيمْدُدْ لَهُ الرّ ْ
وقد قال المام أحمد :حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد ،حدثنا فرات ،عن ( )3عبد
الكريم بن مالك الجزري ،عن عكرمة ،عن ابن عباس قال :قال أبو جهل لعنه ال :إن رأيتُ
محمدا عند الكعبة لتينّه حتى أطأ على عُنُقه .قال :فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو
فعل لخذَته الملئكة عيانًا ،ولو أن اليهود َتمَنّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من ( )4النار .ولو
خرج الذين يُباهلون رسول ال صلى ال عليه وسلم لرجعوا ل يجدون مال ول أهل.
رواه البخاري والترمذي ،والنسائي ،من حديث عبد الرزاق عن معمر ،عن عبد الكريم [ ،به]
( )6( )5قال البخاري " :وتبعه ( )7عمرو بن خالد ،عن عبيد ال بن عمرو ،عن عبد الكريم".
ورواه النسائي ،أيضا عن عبد الرحمن بن عبد ال الحلَبِي ،عن عبيد ال بن عمرو الرقي ،به
أتم ()8
شهَا َدةِ
وقوله تعالى ُ { :قلْ إِنّ ا ْل َم ْوتَ الّذِي َتفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ مُلقِيكُمْ ُثمّ تُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
ت وََلوْ كُنْتُمْ
فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } كقوله تعالى في سورة النساء { :أَيْ َنمَا َتكُونُوا يُدْ ِر ُككُمُ ا ْل َموْ ُ
فِي بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ } [النساء ]78 :
وفي معجم الطبراني من حديث معاذ محمد بن محمد الهذلي ،عن يونس ،عن الحسن ،عن
سمُرَة مرفوعا " :مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الرض بدين ،فجاء يسعى حتى
َ
حصَاص ،فلم يزل
إذا أعيا وانبهر دخل جحره ،فقالت له الرض :يا ثعلب ديني .فخرج له ُ
كذلك حتى
__________
( )1في أ " :هم".
( )2في م " :الضلل".
( )3في م " :بن".
( )4في أ " :في".
( )5زيادة من أ.
( )6المسند ( )1/248وصحيح البخاري برقم ( )4958وسنن الترمذي برقم ( )3348وسنن
النسائي الكبرى برقم (.)11685
( )7في م ،أ " :وتابعه".
( )8سنن النسائي الكبرى برقم (.)11061
( )8/118
( )8/119
( )8/119
وفي لفظ لمسلم " :أضل ال من كان قبلنا ( )1فكان لليهود يوم السبت ،وكان للنصارى يوم
الحد .فجاء ال بنا فهدانا ال ليوم الجمعة ،فجعل الجمعة والسبت والحد ،وكذلك هم تبع لنا يوم
القيامة ،نحن الخرون من أهل الدنيا ،والولون يوم القيامة ،المقضي بينهم ( )2قبل الخلئق".
وقد أمر ال المؤمنين بالجتماع لعبادته يوم الجمعة ،فقال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُو ِديَ
س َعوْا إِلَى ِذكْرِ اللّهِ } أي :اقصدوا واعمدوا ( )3واهتموا في مَسيركم
ج ُمعَةِ فَا ْ
لِلصّلةِ مِنْ َيوْمِ ا ْل ُ
إليها ،وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع ،وإنما هو الهتمام بها ،كقوله تعالى َ { :ومَنْ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ } [السراء ]19 :وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود
سعَى َلهَا َ
أَرَا َد الخِ َر َة وَ َ
رضي ال عنهما يقرآنها " :فامضوا إلى ذكر ال" .فأما المشي السريع إلى الصلة فقد نهي عنه ،
لما أخرجاه في الصحيحين ،عن أبي هُرَيرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إذا سمعتم
القامة فامشوا إلى الصلة ،وعليكم السكينة والوقار ،ول تُسرِعوا ،فما أدركتم فصَلّوا ،وما
فاتكم فأتموا" .لفظ البخاري ()4
وعن أبي قتادة قال :بينما نحن ُنصَلي مع النبي صلى ال عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال ،فلما
صلى قال " :ما شأنكم ؟" .قالوا :استعجلنا إلى الصلة .قال " :فل تفعلوا ،إذا أتيتم الصلة
فامشوا وعليكم بالسكينة ( )5فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" .أخرجاه ()6
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ،رضي
ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا أقيمت الصلة فل تأتوها تسعون ،ولكن
ائتوها تمشون ،وعليكم السكينة والوقار ،فما أدركتم فصلوا ،وما فاتكم فأتموا".
رواه الترمذي ،من حديث عبد الرزاق كذلك ( )7وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع ،عن معمر
،عن الزهري ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،بمثله ()8
قال الحسن أما وال ما هو بالسعي على القدام ،ولقد ُنهُوا أن يأتوا الصلة إل وعليهم السكينة
والوقار ،ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
س َعوْا إِلَى ِذكْرِ اللّهِ } يعني :أن تسعى بقلبك وعملك ،وهو المشي
وقال قتادة في قوله { :فَا ْ
س ْعيَ } [الصافات ]102 :أي :المشي معه.
إليها ،وكان يتأولُ قوله تعالى { :فََلمّا بَلَغَ َمعَهُ ال ّ
روي عن محمد بن كعب ،وزيد بن أسلم ،وغيرهما نحو ذلك.
ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ،لما ثبت في الصحيحين عن عبد ال بن
عمَر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل" ()9
ُ
__________
( )1بعدها في أ " :ثم هذا يومهم الذي فرض ال عليهم".
( )2في م ،أ " :لهم".
( )3في أ " :واعبدوا".
( )4صحيح مسلم برقم (.)856
( )5في م " :فعليكم السكينة والوقار".
( )6صحيح البخاري برقم ( )636وصحيح مسلم برقم (.)602
( )7سنن الترمذي برقم (.)328
( )8سنن الترمذي برقم (.)327
( )9صحيح البخاري برقم ( )877وصحيح مسلم برقم (.)844
( )8/120
ولهما عن أبي سعيد ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "غُسلُ يوم
الجمعة واجب على كل مُح َتلِم" ()1
وعن أبي هُرَيرة ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :حق ل على كل مسلم أن يغتسل
في كل سبعة أيام ،يغسل رأسه وجسده" .رواه مسلم ()2
وعن جابر ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :على كل رجل مسلم
في كل سبعة أيام غسل يوم ،وهو يوم الجمعة" .رواه أحمد ،والنسائي ،وابن حبان ()3
وقال المام أحمد :حدثنا يحيى بن آدم ،حدثنا ابن المبارك ،عن الوزاعي ،عن حسان بن
عطية ،عن أبي الشعث الصنعاني ،عن أوس بن أوس الثقفي قال :سمعت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :من غَسّل واغتسل يوم الجمعة ،وبكر وابتكر ،ومشى ولم يركب ،ودنا من
المام واستمع ولم َيلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة ،صيامها وقيامها".
وهذا الحديث له طرق وألفاظ ،وقد أخرجه أهل السنن الربعة وحَسّنَهُ الترمذي ()4
وعن أبي هُرَيرة ،رضي ال عنه ،إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من اغتسل يوم
الجمعة غُسلَ الجنابة ،ثم راح فكأنما قرب بدنه ،ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ،
ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن ،ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب
دجاجة ،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ،فإذا خرج المام حضرت الملئكة
يستمعون الذكر" أخرجاه ()5
ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ،ويتطيب ويتسوك ،ويتنظف ويتطهر .وفي حديث أبي سعيد
المتقدم " :غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم ،والسواكُ ،وأن َيمَس من طيب أهله".
وقال المام أحمد :حدثنا يعقوب ،حدثنا أبي ،عن محمد بن إسحاق ،حدثني محمد بن إبراهيم
التيمي ،عن عمران بن أبي يحيى ،عن عبد ال بن كعب بن مالك ،عن أبي أيوب النصاري :
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله -إن
كان عنده -ولبس من أحسن ثيابه ،ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ( - )6إن بدا له -ولم
يُؤذ أحدا ،ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ،كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الخرى" (
)7
وفي سنن أبي داود وابن ماجة ،عن عبد ال بن سلم ،رضي ال عنه ،أنه سمع رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقول على المنبر " :ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي
ِمهْنَته" ()8
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )879وصحيح مسلم برقم (.)846
( )2صحيح البخاري برقم ( )897وصحيح مسلم برقم (.)849
( )3المسند ( )3/304وسنن النسائي ( )3/92وصحيح ابن حبان برقم (" )558موارد".
( )4المسند ( )4/104وسنن أبي داود برقم ( )345وسنن الترمذي برقم ( )496وسنن النسائي (
)3/95وسنن ابن ماجة برقم (.)1087
( )5صحيح البخاري برقم ( )881وصحيح مسلم برقم (.)850
( )6في م ،أ " :فركع".
( )7المسند (.)5/420
( )8سنن أبي داود برقم ( )1078وسنن ابن ماجة برقم (.)1095
( )8/121
وعن عائشة رضي ال عنها :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة ،
سعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته ،سوى
فرأى عليهم ثياب النّمار ،فقال " :ما على أحدكم إن وجد َ
ثوبي مهنته" .رواه ابن ماجة ()1
وقوله تعالى { :إِذَا نُو ِديَ لِلصّلةِ } المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي
رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ،فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه ،
فهذا هو المراد ،فأما النداء الول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،رضي ال عنه ،
فإنما كان هذا لكثرة الناس ،كما رواه البخاري رحمه ال حيث قال :حدثنا آدم -هو ابن أبي
إياس -حدثنا ابن أبي ذئب ،عن الزهري ،عن السائب بن يزيد قال :كان النداء يوم الجمعة
أولهُ إذا جلس المام على المنبر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبي بكر وعمر ،فلما
كان عثمان [بعد زمن] ( )2وكثر الناس ،زاد النداء الثاني ( )3على الزوراء ( )4يعني :يؤذن به
على الدار التي تسمى بالزوراء ،وكانت أرفع دار بالمدينة ،بقرب المسجد.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو نعيم ،حدثنا محمد بن راشد المكحولى ،عن مكحول
:أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج المام ،ثم تقام الصلة ،وذلك النداء
الذي يحرم عنده البيع الشراء ( )5إذا نودي به ،فأمر عثمان ،رضي ال عنه ،أن ينادى قبل
خروج المام حتى يجتمع الناس.
وإنما يؤمر بحضور الجمعة [الرجال] ( )6الحرار دون النساء والعبيد والصبيان ،ويعذر
المسافر والمريض ،وقَيّم المريض ،وما أشبه ذلك من العذار ،كما هو مقرر في كتب الفروع.
وقوله { :وَذَرُوا الْبَ ْيعَ } أي :اسعوا إلى ذكر ال واتركوا البيع إذا نودي للصلة :ولهذا اتفق
العلماء رضي ال عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني .واختلفوا :هل يصح إذا تعاطاه متعاط
أم ل ؟ على قولين ،وظاهر الية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ،وال أعلم.
وقوله { :ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أي :ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر ال وإلى الصلة
خيرٌ لكم ،أي :في الدنيا والخرة إن كنتم تعلمون.
ضلِ اللّهِ }
وقوله { :فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّلةُ } أي :فُرغ منها { ،فَانْتَشِرُوا فِي ال ْرضِ وَابْ َتغُوا مِنْ َف ْ
حجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالجتماع ،أذن لهم بعد الفراغ في النتشار في
َلمّا َ
الرض والبتغاء من فضل ال .كما كان عرَاك بن مالك رضي ال عنه إذا صلى الجمعة
انصرف فوقف على باب المسجد ،فقال :اللهم إني أجبتُ دعوتَك ،وصليتُ فريضتك ،
وانتشرت كما أمرتني ،
__________
( )1سنن ابن ماجة برقم ( )1096وقال البوصيري في الزوائد (" : )1/365هذا إسناد صحيح
رجاله ثقات".
( )2ما بين المعقوفين غير ثابت في الصحيح .مستفادًا من هامش ط .الشعب.
( )3في الصحيح " :النداء الثالث" ومثله في سنن ابن ماجة ،كتاب القامة ،باب ما جاء في
الذان يوم الجمعة ،حديث رقم ( 1/359 )1135مستفادًا من هامش ط .الشعب.
( )4صحيح البخاري برقم (.)912
( )5في م " :الشراء والبيع".
( )6زيادة من أ.
( )8/122
فارزقني من فضلك ،وأنت خير الرازقين .رواه ابن أبي حاتم.
وروي ( )1عن بعض السلف أنه قال :من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلة ،بارك ال
ضلِ
له سبعين مرة ،لقول ال تعالى { :فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّلةُ فَانْتَشِرُوا فِي ال ْرضِ وَابْ َتغُوا مِنْ َف ْ
اللّهِ }
وقوله { :وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } أي :حال بيعكم وشرائكم ،وأخذكم وعَطَائكم ،
اذكروا ال ذكرا كثيرا ،ول تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الخرة ؛ ولهذا جاء في
الحديث " :من دخل سوقا من السواق فقال :ل إله إل ال ،وحده ل شريك له ،له الملك وله
الحمد ،وهو على كل شيء قدير كُتبت ( )2له ألفُ ألف حَسنة ،ومُحي عنه ألفُ ألف سَيئة" ()3
وقال مجاهد :ل يكون العبد من الذاكرين ال كثيرا ،حتى يذكر ال قائما وقاعدا ومضطجعا.
{ وَإِذَا رََأوْا تِجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا ُقلْ مَا عِ ْندَ الِ خَيْرٌ مِنَ الّل ْهوِ َومِنَ التّجَا َرةِ
والُ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ(} )11
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من النصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي
قدمت المدينة يومئذ ،فقال تعالى { :وَِإذَا رََأوْا تِجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا ِإلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا } أي :
على المنبر تخطب .هكذا ذكره غير واحد من التابعين ،منهم :أبو العالية ،والحسن ،وزيد بن
أسلم ،وقتادة.
وزعم مقاتل بن حيان :أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ،وكان معها طبل ،
فانصرفوا إليها وتركوا رسول ال صلى ال عليه وسلم قائمًا على المنبر إل القليل منهم .وقد صَحّ
بذلك الخبر ،فقال المام أحمد :
حصَين ،عن سالم بن أبي الجعد ،عن جابر قال :قَدمَت عيرٌ المدينة ،
حدثنا ابن إدريس ،عن ُ
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يخطب ،فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجل فنزلت { :وَإِذَا
رََأوْا تِجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا إِلَ ْيهَا }
أخرجاه في الصحيحين ،من حديث سالم ،به ()4
حصَين ،عن سالم بن أبي
وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا زكريا بن يحيى ،حدثنا هُشَيم ،عن ُ
الجعد وأبي سفيان ،عن جابر بن عبد ال قال :بينما النبي صلى ال عليه وسلم يخطب يوم
الجمعة ،فقدمت عيرٌ إلى المدينة ،فابتدرها أصحابُ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حتى لم
يبق مع رسول ال صلى ال عليه وسلم إل اثنا عشر رجل فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"والذي نفسي بيده ،لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ،لسال بكم الوادي
__________
( )1في م " :وروى أيضا".
( )2في أ " :كتب ال".
( )3جاء من حديث عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،رواه المام أحمد في المسند ()1/47
والترمذي في السنن برقم ( )8243وابن ماجة في السنن برقم ( )2235وقال الترمذي " :هذا
حديث غريب".
( )4المسند ( )3/313وصحيح البخاري برقم ( )4899وصحيح مسلم برقم (.)863
( )8/123
نارًا" ونزلت هذه الية { :وَإِذَا رََأوْا ِتجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا } وقال :كان في
الثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم :أبو بكر ،وعمر ،رضي ال عنهما
(.)1
وفي قوله { :وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا } دليل على أن المام يخطب يوم الجمعة قائما .وقد َروَى مسلم في
سمُرَة قال :كانت للنبي صلى ال عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ،يقرأ
صحيحه عن جابر بن َ
القرآن ويذكر الناس.
ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو :أن هذه القصة قد قيل :إنها كانت لما كان رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقدّم الصلة يوم الجمعة على الخطبة ،كما رواه أبو داود في كتاب
المراسيل :حدثنا محمود بن خالد ،عن الوليد ،أخبرني أبو معاذ ُبكَير بن مَعروف ،أنه سمع
ُمقَاتل بن حَيّان يقول " :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل
العيدين ،حتى إذا كان يوم والنبي صلى ال عليه وسلم يخطب ،وقد صلى الجمعة ،فدخل رجل
فقال :إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة ( )2يعني :فانفضوا ،ولم يبق معه إل نفر يسير.
وقوله ُ { :قلْ مَا عِنْدَ اللّهِ } أي :الذي عند ال من الثواب في الدار الخرة { خَيْرٌ مِنَ الّل ْه ِو َومِنَ
التّجَا َر ِة وَاللّهُ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } أي :لمن توكل عليه ،وطلب الرزق في وقته.
__________
( )1مسند أبي يعلى (.)3/468
( )2المراسيل برقم (.)62
( )8/124
( )8/125
النفاق لرجوعهم عن اليمان إلى الكفران ،واستبدالهم الضللة بالهدى { فَطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َف ُه ْم ل
َيفْ َقهُونَ } أي :فل يصل إلى قلوبهم هدى ،ول يخلص إليها خير ،فل تعي ول تهتدي.
سمَعْ ِل َقوِْلهِمْ } أي :كانوا أشكال حسنة وذوي فصاحة
{ وَإِذَا رَأَيْ َتهُمْ ُت ْعجِ ُبكَ أَجْسَا ُم ُه ْم وَإِنْ َيقُولُوا تَ ْ
وألسنة ،إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم ( )1لبلغتهم ،وهم مع ذلك في غاية الضعف
علَ ْيهِمْ } أي :كلما وقع أمر
ل صَيْحَةٍ َ
والخَور والهلع والجزع والجبن ؛ ولهذا قال َ { :يحْسَبُونَ ُك ّ
أو كائنة أو خوف ،يعتقدون ،لجبنهم ،أنه نازل بهم ،كما قال تعالى { :أَشِحّةً عَلَ ْيكُمْ فَِإذَا جَاءَ
خوْفُ سََلقُوكُمْ
خ ْوفُ رَأَيْ َتهُمْ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ تَدُورُ أَعْيُ ُنهُمْ كَالّذِي ُيغْشَى عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َموْتِ فَإِذَا ذَ َهبَ ا ْل َ
الْ َ
عمَاَلهُ ْم َوكَانَ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرًا }
حدَادٍ َأشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَ ِئكَ َلمْ ُي ْؤمِنُوا فََأحْبَطَ اللّهُ أَ ْ
بِأَلْسِنَةٍ ِ
جهَامات وصور بل معاني .ولهذا قال { :هُمُ ا ْل َع ُدوّ فَاحْذَرْ ُهمْ قَاتََلهُمُ اللّهُ أَنّى
[الحزاب ]19 :فهم َ
ُي ْؤ َفكُونَ } أي :كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلل.
جمَحي ،عن إسحاق بن بكر ()2
وقد قال المام أحمد :حدثنا يزيد ،حدثنا عبد الملك بن ُقدَامة ال ُ
بن أبي الفرات ،عن سعيد بن أبي سعيد المقبري .عن أبيه ،عن أبي هريرة ،رضي ال عنه ،
عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إن للمنافقين علمات يعرفون بها :تحيتهم لعنة ،وطعامهم
نُهبَة ،وغنيمتهم غلول ،ول يقربون المساجد إل هُجْرا ول يأتون الصلة إل دُبْرا ،مستكبرين ل
خبٌ بالنهار ()3
صخُب بالنهار" .وقال يزيد مَرةً :سُ ُ
شبٌ بالليل ُ ،
خُيألَفون ول يُؤلَفون ُ ،
__________
( )1في م " :إلى قلوبهم".
( )2في أ " :بكير".
( )3المسند (.)2/293
( )8/126
( )8/126
( )8/127
قال يونس بن ُبكَيْر ،عن ابن إسحاق :حدثني محمد بن يحيى بن حبان ،وعبد ال بن أبي بكر ،
عمَر بن قتادة ،في قصة بني المصطلق :فبينا رسول ال مقيم هناك ،اقتتل على
وعاصم بن ُ
الماء جَهجاه بن سعيد الغفاري -وكان أجيرا -لعمر بن الخطاب ،وسنان بن وَبْر ( )1قال ابن
إسحاق :فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال :ازدحما على الماء فاقتتل فقال سنان :يا معشر
النصار .وقال الجهجاه :يا معشر المهاجرين -وزيد بن أرقم ونفر من النصار عند عبد ال بن
أبي -فلما سمعها قال :قد ثاورُونا في بلدنا .وال ما مثلُنا وجلبيب قريش هذه إل كما قال
القائل " :سَمن كلبك يأكلك" .وال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل .ثم أقبل على
من عنده من قومه وقال :هذا ما صنعتم بأنفسكم ،أحللتموهم بلدكم ،وقاسمتموهم أموالكم ،أما
وال لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلدكم إلى غيرها .فسمعها زيد ابن أرقم ،فذهب بها إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو غُلَّيمٌ -وعنده عمر بن الخطاب رضي ال عنه -فأخبره
الخبر ،فقال عمر رضي ال عنه :يا رسول ال مر عَبّاد بن بشرْ ( )2فليضرب عنقه .فقال
صلى ال عليه وسلم " :فكيف إذا تحدث الناس -يا عمر -أن محمدا يقتل أصحابه ؟ ل ولكن ناد
يا عمر في الرحيل".
فلما بلغ عبد ال بن أبي أن ذلك قد بلغ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ،أتاه فاعتذر إليه ،وحلف
بال ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم -وكان عند قومه بمكان -فقالوا :يا رسول ال ،عسى أن
يكون هذا الغلم أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول ال صلى ال عليه وسلم مُهجرًا في ساعة كان ل يروح فيها ،فلقيه أسيد بن
الحضير فسلم عليه بتحية النبوة ،ثم قال :وال لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرَة ما كنت تروح فيها.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أما بلغك ( )3ما قال صاحبك ابن أبي ؟ .زعم أنه إذا قدم
المدينة سيخرج العز منها الذل" .قال :فأنت -يا رسول ال -العزيزُ وهو الذليل .ثم قال :يا
رسول ال ارفق به فوال لقد جاء ال بك وإنا لننظم له الخَرزَ لِنُ َتوّجه ،فإنه ليرى ( )4أن قد
استلبتَه ملكا.
فسار رسول ال صلى ال عليه وسلم بالناس حتى أمسوا ،ليلته حتى أصبحوا ،وصَدرَ يومه
حتى اشتد الضحى .ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث ،فلم يأمن الناس أن وجدوا مَس
الرض فناموا ،ونزلت سورة المنافقين ()5
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي :أخبرنا أبو عبد ال الحافظ ،أخبرنا أبو بكر بن إسحاق ،أخبرنا
بشر بن موسى ،حدثنا الحُميدي ،حدثنا سفيان ،حدثنا ( )6عمرو بن دينار ،سمعت جابر بن
سعَ رجلٌ من المهاجرين رجل
عبد ال يقول :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في غَزَاة فكَ َ
من النصار ،فقال النصاري :ياللنصار .وقال المهاجري :يا للمهاجرين .فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ما بال دعوى الجاهلية ؟ دعوها فإنها منتنة" .وقال عبد ال بن أبي بن
سلول -وقد فعلوها : -وال لئن رجعنا
__________
( )1في م " :سنان بن يزيد".
( )2في أ " :بشير".
( )3في م " :ما بلغك".
( )4في م " :يرى".
( )5السيرة النبوية لبن هشام (.)292 - 2/290
( )6في م " :عن".
( )8/128
إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل .قال جابر :وكان النصار بالمدينة أكثر من المهاجرين
حين قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك ،فقال عمر :دعني أضرب
عنق هذا المنافق .فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :دعه ؛ ل يتحدث الناس أن محمدًا يقتل
أصحابه" ()1
ورواه المام أحمد عن حسين بن محمد المروزي ،عن سفيان بن عيينة ( )2ورواه البخاري عن
الحميدي ،ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ،عن سفيان ،به نحوه ()3
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن الحكم ،عن محمد بن كعب
القرظي ،عن زيد بن أرقم قال :كنت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك ،فقال
عبد ال بن أبي :لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل .قال :فأتيت النبي ( )4صلى
ال عليه وسلم فأخبرته ،قال :فحلف عبد ال بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك .قال :فلمني
قومي وقالوا :ما أردتَ إلى هذا ؟ قال :فانطلقت فنمتُ كئيبا حَزينا ،قال :فأرسل إلي نبي ال
ك وصَدّقك" .قال :فنزلت هذه الية { هُمُ الّذِينَ
صلى ال عليه وسلم فقال " :إن ال قد أنزل عُذر َ
جعْنَا إِلَى ا ْلمَدِينَةِ
علَى مَنْ عِ ْندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْنفَضّوا } حتى بلغ { :لَئِنْ َر َ
َيقُولُونَ ل تُ ْنفِقُوا َ
لَيُخْ ِرجَنّ العَزّ مِ ْنهَا ال َذلّ }
ورواه البخاري عند هذه الية ،عن آدم بن أبي إياس ،عن شعبة ( )5ثم قال " :وقال ابن أبي
زائدة ،عن العمش ،عن عمرو ،عن ابن أبي ليلى ،عن زيد ،عن النبي صلى ال عليه وسلم
ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة ،به ()6
طريق أخرى عن زيد :قال المام أحمد ،رحمه ال ،حدثنا يحيى بن آدم ،ويحيى بن أبي ُبكَير
( )7قال :حدثنا إسرائيل ،عن أبي إسحاق قال :سمعت زيد بن أرقم -وقال ابن أبي ُبكَير ()8
عن زيد بن أرقم -قال :خرجت مع عمي في غزاة ،فسمعت عبد ال بن أبي بن سلول يقول
لصحابه :ل تنفقوا على من عند رسول ال ،ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها
الذل .فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول ال صلى ال عليه وسلم فأرسل إلي رسول ال
صلى ال عليه وسلم فحدثته فأرسل إلى عبد ال بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا ما قالوا :
فكَذبني رسول ال صلى ال عليه وسلم وصَدّقه ،فأصابني َهمٌ لم يصبني مثله قط ،وجلست في
البيت ،فقال عمي :ما أردت إل أن كذبك رسول ال صلى ال عليه وسلم ومقتك .قال :حتى
أنزل ال ِ { :إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ } قال :فبعث إليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم فقرأها رسول
ال على ،ثم قال " :إن ال قد صدقك" ()9
ثم قال أحمد أيضا :حدثنا حسن بن موسى ،حدثنا زهير ،حدثنا أبو إسحاق :أنه سمع زيد
__________
( )1دلئل النبوة للبيهقي (.)4/53
( )2المسند (.)3/392
( )3صحيح البخاري برقم ( )4907وصحيح مسلم برقم (.)2584
( )4في م " :رسول ال".
( )5المسند ( )4/368وصحيح البخاري برقم (.)4902
( )6سنن الترمذي برقم ( )3314وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11594
( )7في أ " :بكر".
( )8في م " :وقال أبو بكر".
( )9المسند (.)4/373
( )8/129
ابن أرقم يقول :خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في سفر ،فأصاب الناس شدةٌ ،فقال
عبد ال بن أبي لصحابه :ل تنفقوا على من عند رسول ال حتى ينفضوا من حوله .وقال :لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل .فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم فأخبرته بذلك ،
فأرسل إلى عبد ال بن أبي فسأله ،فاجتهد يمينَه ما فعل .فقالوا :كذب زيد يا رسول ال .فوقع
في نفسي ما قالوا ،حتى أنزل ال تصديقي ِ { :إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ } قال :ودعاهم رسول ال
شبٌ مُسَنّ َدةٌ } قال :
صلى ال عليه وسلم ليستغفر لهم ،فلووا رؤوسهم .وقوله تعالى { :كَأَ ّنهُمْ خُ ُ
كانوا رجال أجمل شيء.
وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي ،من حديث زهير ( )1ورواه البخاري أيضا والترمذي من
ي الهمداني الكوفي ،عن
حديث إسرائيل ،كلهما عن أبي إسحاق عمرو ( )2بن عبد ال السّبيع ّ
زيد ،به (.)3
حمَيد ،حدثنا عبيد ال بن موسى
طريق أخرى عن زيد :قال أبو عيسى الترمذي :حدثنا عبد بن ُ
،عن إسرائيل ،عن السدي ،عن أبي سعد ( )4الزدي قال :حدثنا زيد بن أرقم قال :غزونا
مع رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان معنا أناس من العراب ،فكنا نَبتَدرُ الماء ،وكان
العراب يسبقوننا يسبق العرابي أصحابه يمل الحوض ،ويجعل حوله حجارة ،ويجعل النّطع
عليه حتى يجيء أصحابه .قال :فأتى رجل من النصار العرابي ،فأرخى زمام ناقته لتشرب ،
فأبى أن يدعه ،فانتزع حجرًا ففاض الماء ،فرفع العرابي خشبة ،فضرب بها رأس النصاري
س المنافقين فأخبره -وكان من أصحابه -فغضب عبد ال بن
فشجّه ،فأتى عبدَ ال بن أبيّ رأ َ
أبي ،ثم قال :ل تنفقوا على من عند رسول ال حتى ينفضوا من حوله -يعني العراب -
وكانوا يحضرون رسول ال صلى ال عليه وسلم عند الطعام .فقال عبد ال لصحابه :إذا
انفضوا من عند محمد فائتوا محمدًا بالطعام ،فليأكل هو ومن عنده ،ثم قال لصحابه :إذا
رجعتم إلى المدينة فليخرج العز منها الذل .قال زيد :وأنا ردف عمي ،فسمعت عبد ال
فأخبرت عمي ،فانطلق فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأرسل إليه رسول ال ،فحلف
وجحد ،قال :فصدقه رسول ال صلى ال عليه وسلم وكذبني ،فجاء إلي عمي فقال :ما أردت
إل أن مقتك رسول ال صلى ال عليه وسلم وكذبكَ المسلمون .فوقع علي من الغم ما لم يقع على
خفَ ْقتُ برأسي من الهم ،
أحد قط ،فبينما أنا أسير مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في سفر وقد َ
إذ أتاني رسول ال صلى ال عليه وسلم َفعَرَك أذني ،وضحك في وجهي ،فما كان يسرني أن
لي بها الخلد في الدنيا ،ثم إن أبا بكر لحقني وقال :ما قال لك رسول ال صلى ال عليه وسلم
قلت :ما قال لى رسول ال شيئًا ،غير أن عرك أذني وضحك في وجهي .فقال :أبشر .ثم
لحقني عمر فقلت له مثل قولي لبي بكر .فلما أن أصبحنا قرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم
سورة المنافقين.
انفرد بإخراجه الترمذي وقال :هذا حديث حسن صحيح .وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن
__________
( )1المسند ( )4/373وصحيح البخاري برقم ( )4903وصحيح مسلم برقم ( )2772وسنن
النسائي الكبرى برقم (.)11598
( )2في أ " :عن أبي إسحاق عن عمرو".
( )3صحيح البخاري برقم ( )4900وسنن الترمذي برقم (.)3312
( )4في م " :عن أبي سعيد".
( )8/130
الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي ،عن سعيد بن مسعود ،عن عبيد ال بن موسى
شهَدُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ } حتى بلغ
،به ( )1وزاد بعد قوله "سورة المنافقين" { إِذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا َن ْ
{ :هُمُ الّذِينَ َيقُولُونَ ل تُ ْنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْن َفضّوا } حتى بلغ { :لَ ُيخْرِجَنّ
العَزّ مِ ْنهَا ال َذلّ }
وقد روى عبد ال بن لهيعة ،عن أبي السود ،عُر َوةَ بن الزبير في المغازي -وكذا ذكر موسى
بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق ،ولكن جعل الذي بَلّغ رسول ال صلى ال
عليه وسلم كلم عبد ال بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم ،من بني الحارث بن الخزرج.
فلعله مبلغ آخر ،أو تصحيف من جهة السمع ،وال أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم ،رحمه ال :حدثنا محمد بن عزيز اليلي ،حدثنا سلمة ،حدثني عقيل ،
أخبرنى محمد بن مسلم ،أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت النصاري أخبراه :أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم غزا غزوة المريسيع ،وهي التي هدم رسول ال صلى ال عليه وسلم فيها
شلّل وبين البحر ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم خالد
مناة الطاغية التي كانت بين قفا المُ َ
بن الوليد فكسر مناة ،فاقتتل رجلن في غزوة رسول ال صلى ال عليه وسلم تلك ،أحدهما من
المهاجرين ،والخر من َبهْز ،وهم حلفاء النصار ،فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على
البهزي ،فقال البهزي :يا معشر النصار ،فنصره رجال من النصار ،وقال المهاجري :يا
معشر المهاجرين .فنصره رجال من المهاجرين ،حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين
والرجال من النصار شيء من القتال ،ثم حُجز بينهم فانكفأ كل منافق -أو :رجل في قلبه
مرض -إلى عبد ال بن أبيّ بن سلول ،فقال :قد كنت تُرْجَى وتَدفع فأصبحت ل تضر ول تنفع
،قد تناصرت علينا الجلبيب -وكانوا َيدْعُون ُكلّ حديث هجرة ( )2الجلبيب -فقال عبد ال بن
أبي عدو ال [ :وال] ( )3لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل .قال مالك بن الدخْشُم
-وكان من المنافقين : -أولم أقل لكم ل تنفقوا على من عند رسول ال حتى ينفضوا .فسمع
بذلك عمرُ بن الخطاب ،فأقبل يمشي حتى جاء ( )4رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا
رسول ال ،ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس ،أضربُ عنقه -يريد عمرُ عبدَ ال بن
أبي -فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعمر " :أو قاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله ؟" .قال :عمر
[نعم] ( )5وال لئن أمرتني بقتله لضربَنّ عنقه .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اجلس".
فأقبل أسيدُ بن الحضير ( - )6وهو أحد النصار ،ثم أحد بني عبد الشهل -حتى أتى رسول
ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس [حتى]
( )7أضرب عنقه .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أوقاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله ؟" .قال :
نعم ،وال لئن أمرتني بقتله لضربن بالسيف تحت قُرط أذنيه .فقال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :اجلس" .ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :آذنوا بالرحيل"َ .فهَجّرَ بالناس ،فسار
__________
( )1سنن الترمذي برقم ( )3313ودلئل النبوة للبيهقي (.)4/54
( )2في م " :أهجرة".
( )3زيادة من م.
( )4في أ " :حتى أتى".
( )5زيادة من م ،أ.
( )6في م " :حضير".
( )7زيادة من م.
( )8/131
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تُ ْل ِهكُمْ َأ ْموَاُلكُمْ وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّهِ َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
جلٍ قَرِيبٍ
( )9وَأَ ْن ِفقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ فَ َيقُولَ َربّ َلوْلَا أَخّرْتَنِي إِلَى َأ َ
ق وََأكُنْ مِنَ الصّاِلحِينَ ( )10وَلَنْ ُيؤَخّرَ اللّهُ َنفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَُلهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ()11
فََأصّدّ َ
يومه وليلته والغد حتى مَتَعَ النهار ،ثم نزل .ثم َهجّر بالناس مثلها ،فَصبح ( )1بالمدينة في ثلث
سارها من قفا المُشلّل فلما قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه ،
فقال له رسول ال " :أي ْعمر ،أكنت قاتله لو أمرتك بقتله ؟" قال ( )2عمر :نعم ،فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :وال لو قتلته يومئذ لرغمتَ أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه
( )3فيتحدث الناسُ أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرًا" .وأنزل ال عز وجل { :هُمُ الّذِينَ
جعْنَا إلَى ا ْلمَدِي َنةِ
علَى مَنْ عِ ْندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْنفَضّوا } إلى قوله { :لَئِنْ َر َ
َيقُولُونَ ل تُ ْنفِقُوا َ
[لَ ُيخْرِجَنّ العَزّ مِ ْنهَا الذَل] } ( )4الية.
وهذا سياق غريب ،وفيه أشياء نفيسة ل توجد إل فيه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار :حدثني عاصم بن عمر بن قتادة :أن عَبدَ ال بن أبي -يعنى
لما بلغه ما كان من أمر أبيه -أتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،إنه
بلغني أنك تريد قتل عبد ال بن أ َبيّ فيما بلغك عنه ،فإن كنت فاعل فمرني به ،فأنا أحمل إليك
رأسه ،فوال لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ،إني أخشى أن تأمر به
غيري فيقتله ،فل تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد ال بن أبي يمشي في الناس ،فأقتله ،فأقتل
مؤمنًا بكافر ،فأدخل النار .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بل نترفق به ونحسن
صحبته ،ما بقي معنا" ()5
وذكر عكرمةُ وابن زيد وغيرهما :أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة ،وقف عبدُ ال بن
عبد ال هذا على باب المدينة ،واستل سيفه ،فجعل الناس يمرون عليه ،فلما جاء أبوه عبد ال
بن أبي قال له ابنه :وراءك .فقال :ما لك ؟ ويلك .فقال :وال ل تجوز من هاهنا حتى يأذنَ لك
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإنه العزيز وأنت الذليل .فلما جاء رسول ال صلى ال عليه
وسلم -وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد ال بن أبيّ ابنه ،فقال ابنه عبد ال :وال يا رسول
ال ل يدخلها حتى تأذن له .فأذن له رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :أما إذ أذن لك رسول
ال صلى ال عليه وسلم فَجُز الن.
وقال أبو بكر عبد ال بن الزبير في مسنده :حدثنا سفيان بن عُيَينة ،حدثنا أبو هارون المدني قال
:قال عبد ال بن عبد ال ابن أبي بن سلول لبيه :وال ل تدخل المدينة أبدًا حتى تقول :رسولُ
ال صلى ال عليه وسلم العز وأنا الذل .قال وجاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :يا
رسول ال ،إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي ،فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له ،
لئن شئت أن آتيك برأسه لتينك ،فإني أكره أن أرى قاتل أبي (\ )6
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْل ِهكُمْ َأ ْموَاُلكُ ْم وَل َأوْل ُدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّهِ َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ فَ َيقُولَ َربّ َلوْل أَخّرْتَنِي إِلَى
الْخَاسِرُونَ ( )9وَأَ ْنفِقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ أَ َ
جلٍ قَرِيبٍ فََأصّدّقَ وََأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ ( )10وَلَنْ ُيؤَخّرَ اللّهُ َنفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَُلهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا
أَ َ
َت ْعمَلُونَ (} )11
__________
( )1في م " :حتى صبح".
( )2في م " :فقال".
( )3في م " :لقتلوه".
( )4زيادة من م ،أ.
( )5السيرة النبوية لبن هشام (.)2/292
( )6مسند الحميدي (.)2/520
( )8/132
يقول تعالى آمرًا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الموال والولد عن ذلك
ومخبرًا لهم بأنه من ال َتهَى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خُِلقَ له من طاعة ربه وذكره ،فإنه
من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ،ثم حثهم على النفاق في طاعته فقال :
جلٍ قَرِيبٍ
{ وَأَ ْن ِفقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ فَ َيقُولَ َربّ َلوْل َأخّرْتَنِي إِلَى أَ َ
ق وََأكُنْ مِنَ الصّاِلحِينَ } فكل ُمفَرّط يندم عند الحتضار ،ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا
فََأصّدّ َ
،يستعتب ويستدرك ما فاته ،وهيهات! كان ما كان ،وأتى ما هو آت ،وكل بحسب تفريطه ،
أما الكفار فكما قال [ال] ( )1تعالى { :وَأَنْذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِيهِمُ ا ْلعَذَابُ فَ َيقُولُ الّذِينَ ظََلمُوا رَبّنَا
سمْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ مَا َلكُمْ مِنْ َزوَالٍ }
سلَ َأوََلمْ َتكُونُوا َأ ْق َ
ك وَنَتّبِعِ الرّ ُ
عوَ َت َ
جبْ دَ ْ
جلٍ قَرِيبٍ نُ ِ
أَخّرْنَا إِلَى َأ َ
ل صَالِحًا
ع َم ُ
جعُونِ َلعَلّي أَ ْ
[إبراهيم ]44 :وقال تعالى { :حَتّى إِذَا جَاءَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ ا ْر ِ
فِيمَا تَ َر ْكتُ كَل إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَائُِلهَا َومِنْ وَرَا ِئهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } [المؤمنون ]100 ، 99 :
ثم قال تعالى { :وَلَنْ ُيؤَخّرَ اللّهُ َنفْسًا ِإذَا جَاءَ َأجَُلهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } أي :ل ينظر أحدًا
بعد حلول أجله ،وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقًا في قوله وسؤاله ممن لو ُردّ لعاد إلى شر
مما كان عليه ؛ ولهذا قال { :وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } وقال أبو عيسى الترمذي :حدثنا عبد بن
حميد ،حدثنا جعفر بن عون ،حدثنا أبو جَنَاب الكلبي ،عن الضحاك بن مُزاحم ،عن ابن عباس
قال :من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ،أو تجب عليه فيه زكاةٌ ،فلم يفعل ،سأل الرجعة عند
الموت .فقال رجل :يا ابن عباس ،اتق ال ،فإنما يسأل الرجعة الكفار .فقال سأتلوا عليك بذلك
قرآنا { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْل ِهكُمْ َأ ْموَاُلكُ ْم وَل َأوْل ُدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه َومَنْ َي ْفعَلْ َذِلكَ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ
جلٍ
الْخَاسِرُونَ وَأَنْ ِفقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َأحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ فَ َيقُولَ َربّ َلوْل أَخّرْتَنِي إِلَى أَ َ
ن وَلَنْ ُيؤَخّرَ اللّهُ َنفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَُلهَا] وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } (
قَرِيبٍ فََأصّدّقَ [وََأكُنْ مِنَ الصّاِلحِي َ
)2قال :فما يوجب الزكاة ؟ قال :إذا بلغ المال مائتين فصاعدا .قال :فما يوجب الحج ؟ قال :
الزاد والبعير.
ثم قال :حدثنا عبد بن حُميَد ،حدثنا عبد الرزاق ،عن الثوري ،عن يحيى بن أبي حَيّة -وهو
أبو جناب الكلبي -عن الضحاك ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم ،بنحوه ()3
ثم قال :وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره ،عن أبي جَنَاب ،عن ابن الضحاك ،عن ابن
عباس ،من قوله .وهو أصح ،وضعّف أبا جناب الكلبي.
__________
( )1زيادة من أ.
( )2زيادة من م ،وفي هـ :
( )3سنن الترمذي برقم (.)3316
( )8/133
( )8/134
شيْءٍ قَدِيرٌ (ُ )1هوَ
ح ْم ُد وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ وَلَهُ الْ َ
يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
حقّ
ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ
سمَاوَا ِ
الّذِي خََل َقكُمْ َفمِ ْنكُمْ كَافِ ٌر َومِ ْنكُمْ ُم ْؤمِنٌ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ( )2خََلقَ ال ّ
ن َومَا
ت وَالْأَ ْرضِ وَ َيعْلَمُ مَا تُسِرّو َ
سمَاوَا ِ
صوَ َركُ ْم وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ (َ )3يعْلَمُ مَا فِي ال ّ
ن ُ
َوصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ
ُتعْلِنُونَ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ()4
( )8/135
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ (} )10
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين والكفار والملحدين أنهم يزعمون أنهم ل يبعثون ُ { :قلْ بَلَى
عمِلْتُمْ } أي :ل ُتخْبَرُنّ بجميع أعمالكم ،جليلها وحقيرها ،صغيرها
وَرَبّي لَتُ ْبعَثُنّ ُثمّ لَتُنَ ّبؤُنّ ِبمَا َ
علَى اللّهِ يَسِيرٌ } أي :بعثكم ومجازاتكم.
وكبيرها { ،وَذَِلكَ َ
وهذه هي الية الثالثة التي أمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقسم بربه ،عز وجل ،على
وقوع المعاد ووجوده فالولى في سورة يونس { :وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ُقلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ َلحَقّ َومَا
عةُ ُقلْ َبلَى
أَنْتُمْ ِب ُم ْعجِزِينَ } [يونس ]53 :والثانية في سورة سبأ َ { :وقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا ل تَأْتِينَا السّا َ
وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ } الية [سبأ ]3 :
( )8/136
عمِلْ ُتمْ
والثالثة هي هذه [ { زَعَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ لَنْ يُ ْبعَثُوا ُقلْ َبلَى وَرَبّي لَتُ ْبعَثُنّ ثُمّ لَتُنَ ّبؤُنّ ِبمَا َ
وَذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } ] ()1
ثم قال تعالى { :فَآمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَالنّورِ الّذِي أَنزلْنَا } يعني :القرآن { ،وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
خَبِيرٌ } أي :فل تخفى عليه من أعمالكم خافية.
جمْعِ } وهو يوم القيامة ،سمي بذلك لنه يجمع فيه الولون
ج َم ُعكُمْ لِ َيوْمِ الْ َ
وقوله َ { :يوْمَ َي ْ
والخرون في صعيد واحد ،يسمعهم الداعي وي َنفُذَهم البصر ،كما قال تعالى { :ذَِلكَ َيوْمٌ
ن الوّلِينَ وَالخِرِينَ
شهُودٌ } [هود ]103 :وقال تعالى ُ { :قلْ إِ ّ
س وَ َذِلكَ َيوْمٌ مَ ْ
جمُوعٌ َلهُ النّا ُ
مَ ْ
جمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ َيوْمٍ َمعْلُومٍ } [الواقعة ]50 ، 49 :
َلمَ ْ
وقوله { :ذَِلكَ َيوْمُ ال ّتغَابُنِ } قال ابن عباس :هو اسم من أسماء يوم القيامة .وذلك أن أهل الجنة
يغبنون أهل النار .وكذا قال قتادة ومجاهد.
وقال مقاتل بن حيان :ل غبن أعظمُ من أن يدخل هؤلء إلى الجنة ،و ُيذْهَب بأولئك إلى النار.
ل صَالِحًا ُي َكفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِ ِه وَيُ ْدخِلْهُ
قلت :وقد فسر ذلك بقوله تعالى َ { :ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَ َي ْعمَ ْ
جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا
أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } وقد تقدم تفسير مثلُ هذه ( )2غير مرة.
شيْءٍ عَلِيمٌ ( )11وََأطِيعُوا
{ مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ إِل بِإِذْنِ اللّ ِه َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َيهْدِ قَلْبَ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
اللّ َه وََأطِيعُوا الرّسُولَ فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَإِ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ ا ْلمُبِينُ ( )12اللّهُ ل إَِلهَ إِل ُه َو وَعَلَى
اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ (} )13
يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي ال ْرضِ وَل فِي
سكُمْ إِل فِي كِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَبْرََأهَا } [الحديد ]22 :وهكذا قال هاهنا { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ
أَ ْنفُ ِ
إِل بِإِذْنِ اللّهِ } قال ابن عباس :بأمر ال ،يعني :عن قدره ( )3ومشيئته.
شيْءٍ عَلِيمٌ } أي :ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء ال
{ َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َي ْهدِ قَلْبَ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
وقدره ،فصبر واحتسب واستسلم لقضاء ال ،هدى ال قلبه ،وعَوّضه عما فاته من الدنيا هُدى
في قلبه ،ويقينا صادقًا ،وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه ،أو خيرًا منه.
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس َ { :ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َي ْهدِ قَلْبَهُ } يعني :يهد قلبه لليقين ،
فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
__________
( )1زيادة من م فصل .1
( )2في م " :هذا" ،وفي أ " :ذلك".
( )3في أ " :عن قدرته".
( )8/137
وقال العمش ،عن أبي ظِبْيان قال :كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الية َ { :ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ
َيهْدِ قَلْبَهُ } فسئل عن ذلك فقال :هو الرجل تصيبه المصيبة ،فيعلم أنها من عند ال ،فيرضى
ويسلم .رواه ابن جرير ( )1وابن أبي حاتم ()2
وقال سعيد بن جبير ،ومقاتل بن حيان َ { :ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َيهْدِ قَلْبَهُ } يعني :يسترجع ،يقول { :
جعُونَ } [البقرة ]156 :
إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ
وفي الحديث المتفق عليه " :عجبًا للمؤمن ،ل يقضي ال له قضاء إل كان خيرًا له ،إن أصابته
ضَرّاء صبر فكان خيرًا له ،وإن أصابته سَرّاء شكر فكان خيرًا له ،وليس ذلك لحد إل للمؤمن"
()3
وقال أحمد :حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثنا الحارث بن يزيد ،عن علي بن رَبَاح ؛ أنه
سمع جنادة بن أبي أمية يقول :سمعت عبادة بن الصامت يقول :إن رجل أتى رسول ال صلى
ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ،أي العمل أفضل ؟ قال " :إيمان بال ،وتصديق به ،وجهاد
في سبيله" .قال :أريد أهونَ من هذا يا رسول ال .قال " :ل تتهم ال في شيء ،قضى لك به" .لم
يخرجوه ()4
وقوله { :وَأَطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ } أمرٌ بطاعة ال ورسوله فيما شرع ،وفعل ما به أمر
وترك ما عنه نهى ( )5وزجر ،ثم قال { :فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَإِ ّنمَا عَلَى َرسُولِنَا الْبَلغُ ا ْلمُبِينُ } أي :إن
حمّلْتم من السمع والطاعة.
حمّل من البلغ ،وعليكم ما ُ
نكلتم عن العمل فإنما عليه ما ُ
قال الزهري :من ال الرسالة ،وعلى الرسول البلغ وعلينا التسليم ()6
ثم قال تعالى مخبرًا أنه الحد الصمد ،الذي ل إله غيره ،فقال { :اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُه َو وَعَلَى اللّهِ
فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } فالول خَبَرٌ عن التوحيد ،ومعناه معنى الطلب ،أي :وحدوا اللهية له ،
وأخلصوها لديه ،وتوكلوا عليه ،كما قال تعالى َ { :ربّ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِبِ ل إِلَهَ إِل ُهوَ فَاتّخِ ْذهُ
َوكِيل } [المزمل .]9 :
__________
( )1تفسير الطبري (.)28/79
( )2في م " :وابن أبي حاتم في تفسيرهما".
( )3الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2999من حديث صهيب الرومي ،رضي ال عنه.
( )4المسند (.)5/318
( )5في م " :ما ينهي عنه".
( )6رواه البخاري في صحيحه معلقًا (" )13/503فتح".
( )8/138
صفَحُوا وَ َتغْفِرُوا
حذَرُوهُ ْم وَإِنْ َت ْعفُوا وَتَ ْ
ع ُدوّا َلكُمْ فَا ْ
ج ُك ْم وََأوْلَا ِدكُمْ َ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِنّ مِنْ أَ ْزوَا ِ
عظِيمٌ ( )15فَا ّتقُوا اللّهَ مَا
غفُورٌ رَحِيمٌ ( )14إِ ّنمَا َأ ْموَاُلكُ ْم وََأوْلَا ُدكُمْ فِتْ َن ٌة وَاللّهُ عِ ْن َدهُ أَجْرٌ َ
فَإِنّ اللّهَ َ
سكُ ْم َومَنْ يُوقَ شُحّ َنفْسِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ ()16
س َمعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْ ِفقُوا خَيْرًا لِأَ ْنفُ ِ
طعْتُ ْم وَا ْ
اسْ َت َ
شهَا َدةِ
ب وَال ّ
شكُورٌ حَلِيمٌ ( )17عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
حسَنًا ُيضَاعِفْهُ َلكُ ْم وَ َيغْفِرْ َلكُمْ وَاللّهُ َ
إِنْ ُتقْ ِرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا َ
حكِيمُ ()18
ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
( )8/139
( )8/140
( )8/141
حصُوا ا ْلعِ ّد َة وَا ّتقُوا اللّهَ رَ ّبكُمْ لَا تُخْ ِرجُوهُنّ مِنْ
ن وَأَ ْ
يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ َفطَّلقُوهُنّ ِل ِعدّ ِتهِ ّ
حشَةٍ مُبَيّنَ ٍة وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّ ِه َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْسَهُ لَا
بُيُو ِتهِنّ وَلَا َيخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ ِبفَا ِ
ح ِدثُ َب ْعدَ ذَِلكَ َأمْرًا ()1
تَدْرِي َل َعلّ اللّهَ يُ ْ
( )8/142
وأمَسّ لفظ يورَد ها هنا ما رواه مسلم في صحيحه ،من طريق ابن جُرَيْج :أخبرني أبو الزبير :
أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن -مولى عَزة يسأل ابن عمر -وأبو الزبير يسمع ذلك :كيف
ترى في رجل طلق امرأته حائضًا ؟ فقال :طَلّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،فسأل عمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :إن عبد ال بن عمر
طلق امرأته وهي حائض ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ليراجعها" فَردّها ،وقال " :إذا
طهرت فليطلق أو يمسك" .قال ابن عمر :وقرأ النبي صلى ال عليه وسلم { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا
طَّلقْتُمُ النّسَاءَ َفطَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ } (.)1
وقال العمش ،عن مالك بن الحارث ،عن عبد الرحمن بن يزيد ،عن عبد ال في قوله :
{ َفطَّلقُوهُنّ ِل ِعدّ ِتهِنّ } قال :الطهر من غير جماع ( )2وروي عن ابن عمر وعطاء ،ومجاهد ،
والحسن ،وابن سيرين ،وقتادة ،وميمون بن ِمهْران ،ومقاتل بن حيان مثل ذلك ،وهو رواية
عن عكرمة ،والضحاك.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله تعالى { :فَطَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ } قال :ل يطلقها
وهي حائض ول في طهر قد جامعها فيه ،ولكن :تتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها
تطليقة.
وقال عكرمة { :فَطَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ } العدة :الطهر ،والقرء الحيضة ،أن يطلقها حبلى مستبينا
حملها ،ول يطلقها وقد طاف عليها ،ول يدري حبلى هي أم ل.
ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلق وقسموه إلى طلق سنة وطلق بدعة ،فطلق السنة :أن
يطلقها طاهرًا من غير جماع ،أو حامل قد استبان حملها .والبدعى :هو أن يطلقها في حال
الحيض ،أو في طهر قد جامعها فيه ،ول يدري أحملت أم ل ؟ وطلق ثالث ل سنة فيه ول
بدعة ،وهو طلق الصغيرة واليسة ،وغير المدخول بها ،وتحرير الكلم في ذلك وما يتعلق به
مستقصى في كتب الفروع ،وال سبحانه وتعالى أعلم.
حصُوا ا ْلعِ ّدةَ } أي :احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها ؛ لئل تطول العدة على المرأة
وقوله { وَأَ ْ
فتمتنع من الزواج { .وَا ّتقُوا اللّهَ رَ ّبكُمْ } أي :في ذلك.
ن وَل َيخْرُجْنَ } أي :في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج
وقوله { :ل تُخْ ِرجُوهُنّ مِنْ بُيُو ِتهِ ّ
ما دامت معتدة منه ،فليس للرجل أن يخرجها ،ول يجوز لها أيضا الخروج لنها معتقلة ()3
لحق الزوج أيضًا.
حشَةٍ مُبَيّنَةٍ } أي :ل يخرجن من بيوتهن إل أن ترتكب المرأة فاحشة
وقوله { :إِل أَنْ يَأْتِينَ ِبفَا ِ
مبينة ،فتخرج من المنزل ،والفاحشة المبينة تشمل الزنا ،كما قاله ابن مسعود ،وابن عباس ،
عكْرمة ،وسعيد بن جبير ،
وسعيد بن ال ُمسَيّب ،والشعبي ،والحسن ،وابن سيرين ،ومجاهد ،و ِ
وأبو قِلبة ،وأبو صالح ،والضحاك ،وزيد بن أسلم ،وعطاء الخراساني ،والسّدّي ،وسعيد بن
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)14719
( )2رواه الطبري في تفسيره (.)28/83
( )3في أ " :لنها متعلقة".
( )8/143
أبي هلل ،وغيرهم وتشمل ما ذا ( )1نشزَت المرأة أو بَذَت على أهل الرجل وآذتهم في الكلم
والفعال ،كما قاله أبي بن كعب ،وابن عباس ،وعكرمة ،وغيرهم.
حدُودُ اللّهِ } أي :شرائعه ومحارمه { َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ } أي :يخرج عنها
وقوله { :وَتِ ْلكَ ُ
سهُ } أي :بفعل ذلك.
ويتجاوزها إلى غيرها ول يأتمر بها { َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ
ح ِدثُ َبعْدَ َذِلكَ َأمْرًا } أي :إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في
وقوله { :ل تَدْرِي َل َعلّ اللّهَ يُ ْ
جعَتَها ،فيكون ذلك أيسر وأسهل.
مدة العدة ،لعل الزوج يندم على طلقها ويخلق ال في قلبه رَ ْ
قال الزهري ،عن عبيد ال بن عبد ال ،عن فاطمة بنت قيس في قوله { :ل تَدْرِي َل َعلّ اللّهَ
ح ِدثُ َب ْعدَ ذَِلكَ َأمْرًا } قال :هي الرجعة .وكذا قال الشعبي ،وعطاء ،وقتادة ،والضحاك ،
يُ ْ
ومقاتل ابن حيان ،والثوري .ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم ،كالمام أحمد
بن حنبل ،رحمه ال تعالى إلى أنه ل تجب السكنى للمبتوتة ،وكذا المتوفى عنها زوجها ،
واعتمدوا أيضًا على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية ،حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص
آخر ثلث تطليقات ،وكان غائبًا عنها باليمن ،فأرسل إليها بذلك ،فأرسل إليها وكيله بشعير -
سخّطته فقال :وال ليس لك علينا نفقة .فأتت رسول ال صلى ال عليه وسلم
[يعني] ( )2نفقة -فَتَ َ
،فقال " :ليس لك عليه نفقة" .ولمسلم :ول سكنى ،وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ،ثم قال :
"تلك امرأة يغشاها أصحابي ،اعتدي عند ابن أم مكتوم ،فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك" الحديث
()3
وقد رواه المام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر ،فقال :
حدثنا يحيى بن سعيد ،حدثنا مجالد ،حدثنا عامر قال :قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس ،
فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد النبي صلى ال عليه وسلم ،فبعثه رسول ال صلى ال عليه
وسلم في سَرية .قالت :فقال لي أخوه :اخرجي من الدار .فقلت :إن لي نفقة وسكنى حتى يحل
الجل .قال :ل .قالت :فأتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت :إن فلنا طلقني ،وأن أخاه
أخرجني ومنعني السكنى والنفقة [ ،فأرسل إليه] ( )4فقال " :ما لك ولبنة آل قيس" ،قال :يا
رسول ال ،إن أخي طلقها ثلثا جميعًا .قالت :فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :انظري يا
بنت آل قيس ،إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كان له عليها رجعة ،فإذا لم يكن له
حدّث إليها ،انزلي
عليها رجعة فل نفقة ول سكنى .اخرجي فانزلي على فلنة" .ثم قال " :إنه يُت َ
على ابن أم مكتوم ،فإنه أعمى ل يراك" وذكر تمام الحديث ()5
وقال أبو القاسم الطبراني :حدثنا أحمد بن عبد ال البزار التّسْتَريّ ،حدثنا إسحاق بن إبراهيم
الصواف ،حدثنا بكر بن بكار ،حدثنا سعيد بن يزيد البجلي ،حدثنا عامر الشعبي :أنه دخل
على فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس القرشي ،وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة
__________
( )1في م ،أ " :وتشمل ما إذا".
( )2زيادة من م.
( )3صحيح مسلم برقم (.)1480
( )4زيادة من المسند.
( )5المسند (.)6/373
( )8/144
المخزومي فقالت :إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلقي ،
فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى ،فقالوا :ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا ،ول أوصانا به.
فانطلقت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت :يا رسول ال ،إن أبا عمرو بن حفص أرسل
إلي بطلقي ،فطلبت السكنى والنفقة علي ،فقال :أولياؤه :لم يرسل إلينا في ذلك بشيء .فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة ،فإذا
كانت ل تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فل نفقة لها ول سكنى".
وكذا رواه النسائي ( )1عن أحمد بن يحيى الصوفي ،عن أبي نعيم الفضل بن ُدكَيْن ،عن سعيد
بن يزيد وهو الحمسي ال َبجَلي الكوفي .قال أبو حاتم الرازي :وهو شيخ ،يروى عنه ()2
شهِدُوا َذ َويْ عَ ْدلٍ مِ ْنكُ ْم وََأقِيمُوا
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ فَا ِرقُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ وَأَ ْ
{ فَِإذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ
ج َعلْ لَهُ مَخْرَجًا ()2
شهَا َدةَ لِلّهِ ذَِلكُمْ يُوعَظُ ِبهِ مَنْ كَانَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِ ِر َومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ
ال ّ
ج َعلَ اللّهُ ِل ُكلّ
حسْبُهُ إِنّ اللّهَ بَالِغُ َأمْ ِرهِ قَدْ َ
سبُ َومَنْ يَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ َف ُهوَ َ
وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ ل يَحْ َت ِ
شيْءٍ قَدْرًا (} )3
َ
يقول تعالى :فإذا بلغت المعتدات أجلهن ،أي :شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ،ولكن لم
تفرغ العدة بالكلية ،فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ،وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه
والستمرار بها على ما كانت عليه عندهِ { .ب َمعْرُوفٍ } أي :محسنًا إليها في صحبتها ،وإما أن
يعزم على مفارقتها { ِب َمعْرُوفٍ } أي :من غير مقابحة ول مشاتمة ول تعنيف ،بل يطلقها على
وجه جميل وسبيل حسن.
ش ِهدُوا َذ َويْ عَ ْدلٍ مِ ْنكُمْ } أي :على الرجعة إذا عَزَمتم عليها ،كما رواه أبو داود
وقوله { :وَأَ ْ
حصَين :أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد
وابن ماجة ،عن عمران ( )3بن ُ
على طلقها ول على رجعتها فقال :طَلّقتَ لغير سنة ،ورجعت لغير سنة ،وأشهِدْ على طلقها
وعلى رجعتها ،ول َتعُدْ ()5( )4
ع ْدلٍ مِ ْنكُمْ } قال :ل يجوز في نكاح ول
شهِدُوا َذ َويْ َ
وقال ابن جريج :كان عطاء يقول { :وَأَ ْ
طلق ول رجاع إل شاهدا عدل ،كما قال ال ،عز وجل ،إل أن يكون من عذر.
وقوله { :ذَِلكُمْ يُوعَظُ ِبهِ مَنْ كَانَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ } أي :هذا الذي أمرناكم به من
الشهاد وإقامة الشهادة ،إنما يأتمر به من يؤمن بال وأنه شرع هذا ،ومن يخاف عقاب ( )6ال
في الدار الخرة.
__________
( )1المعجم الكبير ( )24/382وسنن النسائي (.)6/144
( )2الجرح والتعديل لبن أبي حاتم (.)4/74
( )3في م " :عن عمرو"
( )4في أ " :ول تعتد".
( )5سنن أبي داود برقم ( )2186وسنن ابن ماجة برقم (.)2025
( )6في م " :ويخاف عذاب".
( )8/145
ومن ها هنا ذهب الشافعي -في أحد قوليه -إلى وجوب الشهاد في الرجعة ،كما يجب عنده
في ابتداء النكاح .وقد قال بهذا طائفة من العلماء ،ومن قال بهذا يقول :إن الرجعة ل تصح إل
بالقول ليقع الشهاد عليها.
سبُ } أي :ومن يتق ال فيما
ج َعلْ لَهُ مَخْ َرجًا وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ ل َيحْتَ ِ
وقوله َ { :ومَنْ يَتّقِ اللّهَ َي ْ
أمره به ،وتَرَك ما نهاه عنه ،يجعل له من أمره مخرجًا ،ويرزقه من حيث ل يحتسب ،أي :
من جهة ل تخطر بباله.
قال المام أحمد :حدثنا يزيد ،أخبرنا كَهمس بن الحسن ،حدثنا أبو السليل ،عن أبي ذر قال :
ج َعلْ َلهُ مَخْ َرجًا
جعل رسول ال صلى ال عليه وسلم يتلو عََليّ هذه الية َ { :ومَنْ يَتّقِ اللّهَ َي ْ
سبُ } حتى فرغ من الية ،ثم قال " :يا أبا ذر ،لو أن الناس كلهم أخذوا
وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ ل يَحْ َت ِ
بها كفتهم" .وقال :فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى َنعَست ،ثم قال " :يا أبا ذر ،كيف تصنع إن
( )1أخرجت من المدينة ؟" .قلت :إلى السعة والدّعة ( )2أنطلق ،فأكون حمامة من حمام مكة.
قال " :كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟" .قال :قلت :إلى السعة والدّعة ،وإلى الشام والرض
المقدسة .قال " :وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام ؟" .قلت :إذا -والذي بعثك بالحق (- )3
أضع سيفي على عاتقي .قال " :أوخير من ذلك ؟" .قلت :أوخير من ذلك ؟ قال " :تسمع وتطيع ،
وإن كان عبدًا حبشيّا" ()4
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ،حدثنا يعلى بن عبيد ،حدثنا زكريا ،عن
عامر ،عن شُتَير ( )5بن شكَل قال :سمعت عبد ال بن مسعود يقول :إن أجمع آية في القرآن :
حسَانِ } [النحل ]90 :وإن أكثر آية في القرآن فرجًا َ { :ومَنْ يَتّقِ اللّهَ
{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَال ْ
ج َعلْ لَهُ َمخْرَجًا }
يَ ْ
وفي المسند :حدثني مهدي بن جعفر ،حدثنا الوليد بن مسلم ،عن الحكم بن مصعب ،عن محمد
بن علي بن عبد ال بن عباس ،عن أبيه ،عن جده عبد ال بن عباس قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :من أكثر من الستغفار جعل ال له من كل َهمّ فرجًا ،ومن كل ضيق مخرجًا ،
ورزقه من حيث ل يحتسب" ()6
ج َعلْ َلهُ مَخْ َرجًا } يقول :ينجيه من
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس َ { :ومَنْ يَتّقِ اللّهَ َي ْ
سبُ }
كل كرب في الدنيا والخرة { ،وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ ل َيحْتَ ِ
ج َعلْ لَهُ َمخْرَجًا } أي :من كل شيء ضاق على الناس.
وقال الربيع بن خثيم { :يَ ْ
وقال عكرمة :من طلق كما أمره ال يجعل له مخرجًا .وكذا روي عن ابن عباس ،والضحاك.
__________
( )1في م " :إذا".
( )2في م " :إلى الدعة والسعة".
( )3في أ " :بالحق نبيا".
( )4المسند (.)5/178
( )5في أ " :عن بسر".
( )6المسند (.)1/248
( )8/146
( )8/147
( )8/148
ن وَأُولَاتُ
حضْ َ
شهُ ٍر وَاللّائِي لَمْ َي ِ
وَاللّائِي يَ ِئسْنَ مِنَ ا ْلمَحِيضِ مِنْ ِنسَا ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْ ُتمْ َفعِدّ ُتهُنّ ثَلَا َثةُ أَ ْ
ج َعلْ َلهُ مِنْ َأمْ ِرهِ يُسْرًا ( )4ذَِلكَ َأمْرُ اللّهِ أَنْزََلهُ
ن َومَنْ يَتّقِ اللّهَ َي ْ
حمَْلهُ ّ
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
الْأَ ْ
ظمْ لَهُ َأجْرًا ()5
إِلَ ْيكُ ْم َومَنْ يَتّقِ اللّهَ ُي َكفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِ ِه وَ ُيعْ ِ
ن وَأُولتُ
حضْ َ
شهُ ٍر وَاللئِي لَمْ يَ ِ
{ وَاللئِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْل َمحِيضِ مِنْ نِسَا ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ َف ِعدّ ُتهُنّ ثَلثَةُ أَ ْ
ج َعلْ لَهُ مِنْ َأمْ ِرهِ ُيسْرًا ( )4ذَِلكَ َأمْرُ اللّهِ أَنزلَهُ
ن َومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ
حمَْلهُ ّ
ضعْنَ َ
حمَالِ أَجَُلهُنّ أَنْ َي َ
ال ْ
ظمْ لَهُ َأجْرًا (} )5
إِلَ ْيكُ ْم َومَنْ يَتّقِ اللّهَ ُي َكفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِ ِه وَ ُيعْ ِ
يقول تعالى مبينًا لعدة اليسة -وهي التي قد انقطع عنها الحيض لكبرها : -أنها ثلثة أشهر ،
عوضًا عن الثلثة قروء في حق من تحيض ،كما دلت على ذلك آية "البقرة" ( )1وكذا الصغار
حضْنَ
اللئي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة اليسة ثلثة أشهر ؛ ولهذا قال { :وَاللئِي لَمْ َي ِ
}
وقوله { :إِنِ ارْتَبْتُمْ } فيه قولن :
أحدهما -وهو قول طائفة من السلف ،كمجاهد ،والزهري ،وابن زيد : -أي إن رأين دما
وشككتم في كونه حيضًا أو استحاضة ،وارتبتم فيه.
والقول الثاني :إن ارتبتم في حكم عدتهن ،ولم تعرفوه فهو ثلث أشهر .وهذا مروي ،عن سعيد
بن جبير .وهو اختيار ابن جرير ،وهو أظهر في المعنى ،وَاحتَجّ عليه بما رواه عن أبي كُرَيْب
وأبي السائب قال حدثنا ابن إدريس ،أخبرنا مطرف ،عن عمرو بن سالم قال :قال أبي بن
كعب :يا رسول ال ،إن عِددًا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب :الصغار والكبار وأولت
الحمال ( )2قال :فأنزل ال عز وجل { :وَاللئِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْل َمحِيضِ مِنْ نِسَا ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
حمَْلهُنّ }
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
ن وَأُولتُ ال ْ
حضْ َ
شهُ ٍر وَاللئِي َلمْ يَ ِ
َفعِدّ ُتهُنّ ثَلثَةُ َأ ْ
ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال :حدثنا أبي ،حدثنا يحيى بن المغيرة ،أخبرنا
جرير ،عن مُطرّف ،عن عمر ( )3بن سالم ،عن أبي بن كعب قال :قلت لرسول ال صلى ال
عليه وسلم :إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الية التي في "البقرة" في عدة النساء قالوا :
لقد بقي من عدة النساء عِدَدٌ لم يُذكَرْن في القرآن :الصغار والكبار اللئي قد انقطع عنهن
الحيض ،وذوات الحمل .قال :فأنزلت التي في النساء القصرى { :وَاللئِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْلمَحِيضِ
حضْنَ }
شهُ ٍر وَاللئِي لَمْ يَ ِ
مِنْ نِسَا ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ َف ِعدّ ُتهُنّ ثَلثَةُ أَ ْ
حمَْلهُنّ } يقول تعالى :ومن كانت حامل فعدتها
ضعْنَ َ
جُلهُنّ أَنْ َي َ
حمَالِ أَ َ
وقوله { :وَأُولتُ ال ْ
بوضعه ،ولو كان بعد الطلق أو الموت ب ُفوَاق ناقة ( )4في قول جمهور العلماء من السلف
والخلف ،كما هو نص هذه الية الكريمة ،وكما وردت به السنة النبوية .وقد رُوي عن علي ،
وابن عباس ،رضي ال عنهم ( )5أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الجلين من
الوضع أو الشهر ،عمل بهذه الية الكريمة ،والتي في سورة "البقرة" .وقد قال البخاري :
حدثنا سعد ( )6بن حفص ،حدثنا شيبان ،عن يحيى قال :أخبرني أبو سلمة قال :جاء رجل إلى
ابن عباس -وأبو هريرة جالس -فقال :أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة .فقال :
حمَْلهُنّ } قال أبو هريرة :
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
ابن عباس آخر الجلين .قلت أنا { :وَأُولتُ ال ْ
__________
( )1هي الية .228
( )2في أ " :الحمال أجلهن".
( )3في أ " :عن عمرو".
( )4في أ : :بفراق تامة".
( )5في أ " :عنهما".
( )6فيأ " :سعيد".
( )8/149
أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة -فأرسل ابن عباس غلمه كريبا إلى أم سلمة يسألها ،فقالت :
قُتِل زوج سبيعة السلمية وهي حبلى ،فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ،فخطبت ،فأنكحها
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان أبو السنابل فيمن خطبها ()1
هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرًا .وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطول من
وجوه أخر ( )2وقال المام أحمد :
حدثنا حماد بن أسامة ،أخبرنا هشام ،عن أبيه ،عن المسور بن مَخْ َرمَة ؛ أن سُبَيعَة السلمية
تُوفي عنها زوجُها وهي حامل ،فلم تمكث إل ليالي حتى وضعت ،فلما َتعَلّت من نفاسها
خطِبت ،فاستأذنت رسول ال صلى ال عليه وسلم في النكاح ،فأذن لها أن تُنكَح فنُكحت.
ُ
ورواه البخاري في صحيحه ،ومسلم ،وأبو داود ،والنسائي ،وابن ماجة من طرق عنها ()3
كما قال مسلم ابن الحجاج :
حدثني أبو الطاهر ،أخبرنا ابن وهب ،حدثني يونس بن يزيد ،عن ابن شهاب ،حدثني عبيد ال
بن عبد ال بن عُتبة :أن أباه كتب إلى عمر بن عبد ال بن الرقم الزهري يأمره أن يدخل على
سُبَيعة بنت الحارث السلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول ال صلى ال عليه وسلم
حين استفتته .فكتب عُمر بن عبد ال يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سَعد ( )4بن خَولة
-وكان ممن شهد بدرًا -فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ،فلم تَنشَب أن وضعت حملها
بعد وفاته ،فلما َتعَلّت من نفاسها تجملت للخطاب ،فدخل عليها أبو السنابل بن بَعكك فقال لها :
مالي أراك متجملة ؟ لعلك تَرجين النكاح ،إنك وال ما أنت بناكح حتى تَمرَ عليك أربعة أشهر
وعشرٌ .قالت سُبيَعة :فلما قال لي ذلك جَمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ رسول ال صلى ال
عليه وسلم فسألته عن ذلك ،فأفتاني بأني قد حَلَلت حين وضعتُ حملي ،وأمرني بالتزويج ()5
إن بدا لي.
هذا لفظ مسلم .ورواه البخاري مختصرًا ( )6ثم قال البخاري بعد [ذلك ،أي :بعد] ( )7رواية
الحديث الول عند هذه الية :
وقال ( )8سليمان بن حرب وأبو النعمان :حدثنا حماد بن زيد ،عن أيوب ،عن محمد -هو ابن
سيرين -قال :كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى ،رحمه ال ،وكان أصحابه
يعظمونه ،فذكر آخر الجلين ،فحدّثتُ بحديث سُبَيعة بنت الحارث عن عبد ال بن عتبة ،قال :
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4909
( )2صحيح البخاري برقم ( )5318وصحيح مسلم برقم ( )1485وسنن النسائي (.)6/191
( )3المسند ( )4/327وصحيح البخاري برقم ( )5320وسنن النسائي ( )6/190وسنن ابن ماجة
برقم ( )2092كلهم من هذا الطريق الذي ساقه المام أحمد ،وأما مسلم وأبو داود فهو هذا
الطريق التي بعده ،صحيح مسلم برقم ( )1484وسنن أبي داود برقم (.)2306
( )4في أ " :سعيد".
( )5في م ،أ " :بالتزويج"
( )6صحيح مسلم برقم ( )1484وصحيح البخاري برقم (.)3991 ، 5319
( )7زيادة من أ.
( )8في م " :وقال أبو سليمان".
( )8/150
ضمّزَلي ( )1بعض أصحابه ،وقال محمد :ففطنت له فقلت :له إني لجريءٌ أن أكذبَ على عبد
َف َ
عمّه لم يقل ذلك .فلقيت أبا عطية مالك بن
ال وهو في ناحية الكوفة .قال :فاستحيا وقال :لكن َ
عامر فسألته ،فذهب يحدثني بحديث سُبَيعة ،فقلت :هل سمعت عن عبد ال شيئا ؟ فقال :كنا
عند عبد ال فقال :أتجعلون عليها التغليظ ،ول تجعلون عليها الرخصة ؟ نزلت ( )2سورة
حمَْلهُنّ }
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
النساء القصرى بعد الطولى { :وَأُولتُ ال ْ
ورواه ابن جرير ،من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن عُلَيّة ،عن أيوب به مختصرا ()3
ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد العلى ،عن خالد بن الحارث ،عن ابن عون ،
عن محمد بن سيرين ،فذكره ()4
وقال ابن جرير :حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ،حدثنا سعيد بن أبي مريم ،حدثنا
محمد بن جعفر ،حدثني ابن شَبْرَمة الكوفي ،عن إبراهيم ،عن علقمة بن قيس ؛ أن عبد ال بن
حمَْلهُنّ } إل بعد
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
مسعود قال :من شاء لعنته ،ما نزلت { :وَأُولتُ ال ْ
آية المتوفى عنها زوجها .قال :وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت .يريد بآية المتوفى
شهُرٍ وَعَشْرًا }
سهِنّ أَرْ َبعَةَ َأ ْ
عنها زوجها { وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُمْ وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
[البقرة ]234 :
وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم ،به ( )5ثم قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن مَنِيع ،حدثنا محمد بن عبيد ،حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ،عن الشعبي قال :
ُذكِرَ عند ابن مسعود آخر الجلين ،فقال :من شاء قاسمته بال إن هذه الية التي في النساء
القصرى نزلت بعد الربعة الشهر والعشر ثم قال أجل الحامل أن تضع ما في بطنها (.)6
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن سفيان ،
عن العمش ،عن أبي الضّحى ،عن مسروق قال :بلغ ابن مسعود أن عليا ،رضي ال عنه ،
يقول :آخر الجلين .فقال :من شاء لعنته ،إن التي في النساء القُصرَى نزلت بعد البقرة :
حمَْلهُنّ }
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
{ وَأُولتُ ال ْ
ورواه أبو داود وابن ماجة ،من حديث أبي معاوية ،عن العمش ()7
وقال عبد ال ابن المام أحمد :حدثني محمد بن أبي بكر المقدّمي ،أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ،
حدثنا المثنى ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن عبد ال بن عمرو ،عن أبي بن كعب قال :
حمَْلهُنّ } المطلقة ثلثا أو
ضعْنَ َ
حمَالِ أَجَُلهُنّ أَنْ َي َ
قلت للنبي صلى ال عليه وسلم { :وَأُولتُ ال ْ
المتوفى
__________
( )1في أ " :فضم لي".
( )2في م " :أنزلت".
( )3تفسير الطبري (.)28/92
( )4هو في سنن النسائي ( )6/196ولم أقع عليه في الكبرى.
( )5تفسير الطبري ( )28/92وسنن النسائي (.)6/197
( )6تفسير الطبري (.)28/92
( )7سنن أبي داود برقم ( )2307وسنن ابن ماجة برقم (.)2030
( )8/151
عنها ( )1؟ فقال " :هي المطلقة ثلثا والمتوفى عنها" ()2
هذا حديث غريب جدا ،بل منكر ؛ لن في إسناده المثنى بن الصباح ،وهو متروك الحديث بمِرّة
ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر ،فقال :
سمْناني ،حدثنا عمرو بن خالد -يعني :الحراني -حدثنا ابن َلهِيعة ،عن
حدثنا محمد بن داود ال ّ
عمرو بن شعيب ،عن سعيد بن المسيب ،عن أبي بن كعب ،أنه لما نزلت هذه الية قال لرسول
ال صلى ال عليه وسلم :ل أدري أمشتركة أم مبهمة ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
حمَْلهُنّ } المتوفى عنها والمطلقة ؟ قال " :نعم".
ضعْنَ َ
"أية آية ؟" .قال َ { :أجَُلهُنّ أَنْ َي َ
وكذا رواه ابن جرير ،عن أبي كُرَيْب ،عن موسى بن داود ،عن ابن لهيعة ،به .ثم رواه عن
أبي كريب أيضا ،عن مالك بن إسماعيل ،عن ابن عيينة ،عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه
حمَالِ
حدث عن أبيّ بن كعب قال :سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن { :وَأُولتُ ال ْ
حمَْلهُنّ } قال " :أجل ،كل حامل أن تضع ما في بطنها" ()3
ضعْنَ َ
أَجَُلهُنّ أَنْ َي َ
عبد الكريم هذا ضعيف ،ولم يدرك أُبَيّا.
ج َعلْ لَهُ مِنْ َأمْ ِرهِ يُسْرًا } أي :يسهل له أمره ،وييسره عليه ،ويجعل له
وقوله َ { :ومَنْ يَتّقِ اللّهَ َي ْ
فرجا قريبًا ومخرجًا عاجل.
ثم قال { :ذَِلكَ َأمْرُ اللّهِ أَنزَلهُ إِلَ ْيكُمْ } أي :حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول ال صلى ال
عليه وسلم َ { ،ومَنْ يَتّقِ اللّهَ ُي َكفّرْ عَ ْنهُ سَيّئَاتِهِ وَ ُيعْظِمْ َلهُ أَجْرًا } أي :يذهب عنه المحذور ،
ويجزل له الثواب على العمل اليسير.
__________
( )1في م " :عنها زوجها".
( )2زوائد المسند (.)5/116
( )3تفسير الطبري ( )28/93وقال الحافظ بن حجر في الفتح ( )8/654بعد ما ساق هذه الرواية :
"وهذا المرفوع وإن كان ل يخلو شيء من أسانيده عن مقال ،لكن كثرة طرقه تشعر بأن له أصل
،ويعضده قصة سبيعة المذكورة".
( )8/152
ح ْملٍ
ن وَإِنْ كُنّ أُولتِ َ
ن وُجْ ِد ُك ْم وَل ُتضَارّوهُنّ لِ ُتضَ ّيقُوا عَلَ ْيهِ ّ
سكَنْ ُتمْ مِ ْ
سكِنُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َ
{ َأ ْ
ف وَإِنْ
ن وَأْ َتمِرُوا بَيْ َنكُمْ ِب َمعْرُو ٍ
ضعْنَ َلكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُ ّ
حمَْلهُنّ فَإِنْ أَ ْر َ
ضعْنَ َ
فَأَ ْنفِقُوا عَلَ ْيهِنّ حَتّى َي َ
سعَتِ ِه َومَنْ قُدِرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّهُ
سعَةٍ مِنْ َ
َتعَاسَرْتُمْ َفسَتُ ْرضِعُ لَهُ أُخْرَى ( )6لِيُ ْنفِقْ ذُو َ
عسْرٍ يُسْرًا (} )7
ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ ُ
ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل مَا آتَاهَا سَيَ ْ
يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدُهم المرأة أن يُسكنَها في منزل حتى تنقضي عدتها ،فقال :
ج ِدكُمْ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وغير
ن وُ ْ
سكَنْ ُتمْ } أي :عندكم { ،مِ ْ
سكِنُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َ
{ َأ ْ
سعَتكم .حتى قال قتادة :إن لم تجد إل جنب بيتك فأسكنها فيه.
واحد :يعني َ
( )8/152
وقوله { :وَل ُتضَارّوهُنّ لِ ُتضَيّقُوا عَلَ ْيهِنّ } قال مقاتل بن حيان :يعني يضاجرها لتفتدي منه
بمالها أو تخرج من مسكنه.
وقال الثوري ،عن منصور ،عن أبي الضّحَى { :وَل ُتضَارّوهُنّ لِ ُتضَ ّيقُوا عَلَ ْيهِنّ } قال :يطلقها
،فإذا بقي يومان راجعها.
حمَْلهُنّ } قال كثير من العلماء منهم ابن
ضعْنَ َ
ح ْملٍ فَأَ ْن ِفقُوا عَلَ ْيهِنّ حَتّى َي َ
وقوله { :وَإِنْ كُنّ أُولتِ َ
عباس ،وطائفة من السلف ،وجماعات من الخلف :هذه في البائن ،إن كانت حامل أنفق عليها
حتى تضع حملها ،قالوا :بدليل أن الرجعية تجب نفقتها ،سواء كانت حامل أو حائل.
وقال آخرون :بل السياق كله في الرجعيات ،وإنما نص على النفاق على الحامل وإن كانت
رجعية ؛ لن الحمل تطول مدته غالبا ،فاحتيج إلى النص على وجوب النفاق إلى الوضع ؛ لئل
يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة.
واختلف العلماء :هل النفقة لها بواسطة الحمل ،أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن
الشافعي وغيره ،ويتفرع عليها مسائل مذكورة في علم الفروع.
ضعْنَ َلكُمْ } أي :إذا وضعن حملهن وهن طوالق ،فقد بنّ بانقضاء عدتهن ،
وقوله { :فَإِنْ أَ ْر َ
ولها حينئذ أن ترضع الولد ،ولها أن تمتنع منه ،ولكن بعد أن تغذيه باللبّأ -وهو باكورة اللبن
الذي ل قوام للولد غالبًا إل به -فإن أرضعت استحقت أجر مثلها ،ولها أن تعاقد أباه أو وليه
ضعْنَ َل ُكمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ } وقوله :
على ما يتفقان عليه من أجرة ؛ ولهذا قال تعالى { :فَإِنْ أَ ْر َ
{ وَأْ َتمِرُوا بَيْ َنكُمْ ِب َمعْرُوفٍ } أي :ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف ،من غير إضرار ول
مضارة ،كما قال تعالى في سورة "البقرة" { :ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَدِهَا وَل َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِدهِ } [البقرة
]233 :
وقوله { :وَإِنْ َتعَاسَرْ ُتمْ فَسَتُ ْرضِعُ َلهُ أُخْرَى } أي :وإن اختلف الرجل والمرأة ،فطلبت المرأة
أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك ،أو بذل الرجل قليل ولم توافقه عليه ،فليسترضع
له غيرها .فلو رضيت الم بما استؤجرت عليه الجنبية فهي أحق بولدها.
سعَتِهِ } أي :لينفق على المولود والده ،أو وليه ،بحسب قدرته ،
سعَةٍ مِنْ َ
وقوله { :لِيُ ْنفِقْ ذُو َ
علَيْهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّ ُه ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِل مَا آتَاهَا } كقوله { :ل ُيكَّلفُ اللّهُ
{ َومَنْ قُدِرَ َ
س َعهَا } [البقرة .]286 :
َنفْسًا إِل وُ ْ
حكّام ،عن أبي سنان قال :سأل عمر بن الخطاب عن
روى ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا َ
أبي عبيدة ،فقيل :إنه يلبس الغليظ من الثياب ،ويأكل أخشن الطعام ،فبعث إليه بألف دينار ،
وقال للرسول :انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها :فما لبث أن لبس اللين من الثياب ،وأكل
سعَةٍ مِنْ
أطيب الطعام ،فجاءه الرسول فأخبره ،فقال :رحمه ال ،تأول هذه الية { :لِيُ ْنفِقْ ذُو َ
سعَتِ ِه َومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّهُ } ()1
َ
__________
( )1تفسير الطبري (.)28/96
( )8/153
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير :حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني ،حدثنا محمد
ض ْمضَم بن زُرْعَة ،عن شُرَيح بن عبيد ،عن
بن إسماعيل بن عياش ،أخبرني أبي ،أخبرني َ
أبي مالك الشعري -واسمه الحارث -قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلثة نفر ،
كان لحدهم عشرة دنانير ،فتصدق منها بدينار .وكان لخر عشر أواق ،فتصدق منها بأوقية.
وكان لخر مائة أوقية ،فتصدق منها بعشر أواق" .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :هم في
سعَتِهِ } ()1
سعَةٍ مِنْ َ
الجر سواء ،كل قد تصدق بعشر ماله ،قال ال تعالى { :لِيُ ْنفِقْ ذُو َ
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
ج َعلُ اللّهُ َب ْعدَ عُسْرٍ ُيسْرًا } وعد منه تعالى ،ووعده حق ،ل يخلفه ،وهذه كقوله
وقوله { :سَيَ ْ
تعالى { :فَإِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ يُسْرًا إِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا } [الشرح ]6 ، 5 :
وقد روى المام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ها هنا ،فقال :حدثنا هاشم بن القاسم ،حدثنا عبد
حوْشَب قال :قال أبو هريرة :بينما رجل وامرأة له في السلف
شهْر بن َ
الحميد بن َبهْرَام ،حدثنا َ
الخالي ل يقدران على شيء ،فجاء الرجل من سفره ،فدخل على امرأته جائعا قد أصاب ()2
سغَبَةً شديدة ،فقال لمرأته :عندك شيء ؟ قالت :نعم ،أبشر ،أتاك رزق ال ،فاستحثها ،
مَ ْ
فقال :ويحك! ابتغي إن كان عندك شيء .قالت نعم ،هُنَيهة -ترجو رحمة ال -حتى إذا طال
عليه الطوى ( )3قال :ويحك! قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به ،فإني قد بُلغتُ
جهِدتُ .فقال :نعم ،الن يُنضح التنور فل تعجل .فلما أن سكت عنها ساعة وتحيّنت أن يقول
وَ
لها ،قالت من عند نفسها :لو قمتُ فنظرتُ إلى تنوري ؟ فقا َمتْ فنظرَت إلى تَنورها ملن من
جنُوبَ الغنم ،ورَحييها تطحنَان .فقامت إلى الرحى فنَفضتها ،واستخرجت ما في تنورها من
جنوب الغنم.
قال أبو هريرة :فوالذي نفس أبي القاسم بيده ،هو ( )4قول محمد صلى ال عليه وسلم " :لو
أخذت ما في رَحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة" ()5
وقال في موضع آخر :حدثنا أبو عامر ،حدثنا أبو بكر ،عن هشام ،عن محمد -وهو ابن
سيرين -عن أبي هريرة قال :دخل رجل على أهله ،فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى
البَرِيّة ،فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها ،وإلى التنور فسَجَرته ،ثم قالت :اللهم
ارزقنا .فنظرت ،فإذا الجفنة قد امتلت ،قال :وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا ،قال :فرجع
الزوج قال :أصبتم بعدي شيئا ؟ قالت امرأته :نعم ،من ربنا .قام إلى الرحى ،فذكر ذلك للنبي
صلى ال عليه وسلم ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أما إنه لو لم ترفعها ،لم تزل تدور إلى
يوم القيامة" ()6
__________
( )1المعجم الكبير ( )3/292وفس إسناده ضعف وانقطاع كما تقدم مرارًا.
( )2في م ،أ " :أصابته".
( )3في م " :الطول".
( )4في م " :عن".
( )5المسند (.)2/421
( )6المسند (.)2/513
( )8/154
َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْ َيةٍ عَ َتتْ عَنْ َأمْرِ رَ ّبهَا وَرُسُلِهِ َفحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذّبْنَاهَا عَذَابًا ُنكْرًا ()8
ت وَبَالَ َأمْ ِرهَا َوكَانَ عَاقِ َبةُ َأمْرِهَا خُسْرًا ( )9أَعَدّ اللّهُ َل ُهمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَا ّتقُوا اللّهَ يَا أُولِي
فَذَا َق ْ
الْأَلْبَابِ الّذِينَ َآمَنُوا قَدْ أَنْ َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكُمْ ِذكْرًا ( )10رَسُولًا يَتْلُو عَلَ ْيكُمْ آَيَاتِ اللّهِ مُبَيّنَاتٍ لِ ُيخْرِجَ الّذِينَ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَ َي ْع َملْ صَاِلحًا يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ
َآمَنُوا وَ َ
تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ َأحْسَنَ اللّهُ لَهُ رِ ْزقًا ()11
( )8/155
شيْءٍ
ت َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
س َموَا ٍ
اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
شيْءٍ عِ ْلمًا ()12
قَدِي ٌر وَأَنّ اللّهَ قَدْ َأحَاطَ ِب ُكلّ َ
قد تقدم تفسير مثل هذا غير مَرّة بما أغنى عن إعادته.
سمَاوَاتٍ َومِنَ ال ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنزلُ المْرُ بَيْ َنهُنّ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ
{ اللّهُ الّذِي خََلقَ سَبْعَ َ
شيْءٍ عِ ْلمًا (} )12
شيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ َقدْ أَحَاطَ ِب ُكلّ َ
َ
يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من
سمَاوَاتٍ } كقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال لقومه { أَلَمْ تَرَوا
الدين القويم { الُ الّذِي خََلقَ سَبْعَ َ
سمَاوَاتُ السّبْ ُع وال ْرضُ
سمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [نوح ]15 :وقال تعالى { ُتسَبّحُ لَهُ ال ّ
كَ ْيفَ خَلَقَ الُ سَبْعَ َ
َومَن فِيهنّ } [السراء .]44 :وقوله تعالى { َومِنَ ال ْرضِ مِثَْلهُنّ } أي سبعا أيضا ،كما ثبت في
طوّقه من سبع أرضين " ( )1وفي صحيح البخاري
الصحيحين "من ظلم قيدَ شِبر من الرض ُ
"خُسِف به إلى سبع أرضين " ( )2وقد ُذكِرت طُرقه وألفاظه وعزوه في أول" البداية والنهاية" ()3
عند ذكر خلق الرض ول الحمد والمنة.
جعَة ،وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بل
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النّ ْ
مستند .وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله ُ { :ه َو الوّلُ والخِرُ والظّاهِ ُر والْبَاطِنُ } [الية ]3 :
ذكر الرضين السبع ،وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام وهكذا قال ابن مسعود
وغيره ،وكذا في الحديث الخر "ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والرضون السبع وما
فيهن وما بينهن في الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة" ( .)4وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن
علي ،حدثنا َوكِيع حدثنا العمش عن إبراهيم بن ُمهَاجِر عن مجاهد ،عن ابن عباس في قوله :
ت َومِنَ ال ْرضِ مِثَْلهُنّ } قال لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
سمَاوَا ٍ
{ سَبْعَ َ
وحدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب بن عبد ال بن سعد القُميّ الشعري عن جعفر بن أبي المغيرة
ت َومِنَ
سمَاوَا ٍ
الخزاعي عن سعيد بن جبير ،قال :قال رجل لبن عباس { الُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
ال ْرضِ مِثَْلهُنّ } الية .فقال :ابن عباس ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر .وقال ابن جرير حدثنا
عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قال حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرّة عن
ت َومِنَ ال ْرضِ مِثَْلهُنّ } قال
سمَاوَا ٍ
أبي الضّحى عن ابن عباس في هذه الية { الُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
عمرو قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الرض من
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )2453وصحيح مسلم برقم ( )1612من حديث عائشة ،رضي ال
عنها
( )2صحيح البخاري برقم ( )5454من حديث ابن عمر ،رضي ال عنه
( )3البداية والنهاية ( )1/16ما جاء من سبع أرضين
( )4سبق تخريج الحديث عند تفسير الية 255 :من سورة البقرة
( )8/156
الخلق.
وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم ( )1وقد وروى البيهقي في كتاب السماء
والصفات هذا الثر عن ابن عباس بأبسط من هذا [السياق] ( )2فقال :أنا أبو عبد ال الحافظ
حدثنا أحمد بن يعقوب حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عطاء بن
ت َومِنَ ال ْرضِ مِثَْلهُنّ }
سمَاوَا ٍ
خلَقَ سَبْعَ َ
السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال { الُ الّذِي َ
قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى
كعيسى.
ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول ال
ت َومِنَ الرْضِ مِثَْلهُنّ } قال في كل أرض نحو إبراهيم
سمَاوَا ٍ
عز وجل { الُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
عليه السلم.
ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة ل أعلم لبي الضحى عليه متابعا
وال أعلم
قال المام أبو بكر عبد ال بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والعتبار حدثني
إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال بلغني أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت ل يتكلمون فقال " :ما لكم ل تتكلمون ؟
"فقال :وا نتفكر في خلق ال عز وجل قال "فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق ال ول تتفكروا فيه
فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها ساحتها ( - )3أو قال ساحتها ( )4نورها -مسيرة الشمس
أربعين يومًا بها خلقُ ( )5ال تعالى لم يعصُوا ال طَرفة عين قطّ "قالوا فأين الشيطان عنهم ؟ قال
"ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق ؟ "قالوا أمن ولد آدم ؟ قال "ل يدرون خلق آدم أم لم يخلق ؟
" ()6
وهذا حديث مرسل وهو منكر جدّا وعثمان بن أبي دهرش ذكره ابن أبي حاتم في كتابه فقال :
روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن
المبارك سمعت أبي يقول ذلك)7( .
__________
( )1تفسير الطبري ()28/99
( )2زيادة من م
( )3في م "نورها بيضاء"
( )4في م "بياضها"
( )5في م "خلق من خلق"
( )6الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور ( )2/408وعزاه لبن أبي الدنيا
( )7الجرح والتعديل ()6/149
( )8/157
( )8/158
وقال سفيان الثوري وابن عُلَيّة ،عن داود بن أبي هند ،عن الشعبي ،عن مسروق قال :آلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم وحرم ،فعُو ِتبَ في التحريم ،وأمر بالكفارة في اليمين .رواه ابن
جرير .وكذا روي عن قتادة ،وغيره ،عن الشعبي ،نفسه .وكذا قال غير واحد من السلف ،
منهم الضحاك ،والحسن ،وقتادة ،ومقاتل بن حيان ،وروى العوفي ،عن ابن عباس القصة
مطولة.
وقال ابن جرير :حدثنا سعيد بن يحيى ،حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن إسحاق ،عن الزهري ،
عن عُبَيْد ال بن عبد ال ،عن ابن عباس قال :قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان ؟ قال :
عائشة وحفصة .وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية ،أصابها النبي صلى ال عليه
وسلم في بيت حفصة في نوبتها (َ )1فوَجَدت حفصة ،فقالت :يا نبي ال ،لقد جئت إليّ شيئا ما
جئت إلى أحد من أزواجك ،في يومي ،وفي دوري ،وعلى فراشي .قال " :أل ترضين أن
أحرمها فل أقربها ؟" .قالت :بلى .فحَرّمها وقال " :ل تذكري ذلك لحد" .فذكرته لعائشة ،
جكَ }
حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ أَ ْزوَا ِ
فأظهره ال عليه ،فأنزل ال { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَا َأ َ
اليات ( )2فبلغنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كفّر [عن] ( )3يمينه ،وأصاب جاريته (.)4
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده :حدثنا أبو قِلبة عبد الملك بن محمد الرقاشي ،حدثنا مسلم بن
إبراهيم ،حدثنا جرير بن حازم ،عن أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر ،عن عمر قال :قال
النبي صلى ال عليه وسلم لحفصة " :ل تخبري أحدًا ،وإن أم إبراهيم عليّ حرام" .فقالت :أتحرم
ما أحل ال لك ؟ قال " :فوال ل أقربها" .قال :فلم يقربها حتى أخبرت عائشة .قال فأنزل ال { :
قَدْ فَ َرضَ اللّهُ َلكُمْ َتحِلّةَ أَ ْيمَا ِن ُكمْ }
وهذا إسناد صحيح ،ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ،وقد اختاره الحافظ الضياء
المقدسي في كتابه المستخرج (.)5
وقال ابن جرير :أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن علية ،حدثنا هشام الدّسْ ُتوَائي قال :
كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم ،عن سعيد بن جبير :أن ابن عباس كان يقول في
حسَنَةٌ } [الحزاب :
س َوةٌ َ
الحرام :يمين تكفرها ،وقال ابن عباس َ { :لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُ ْ
]21يعني :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حرم جاريته فقال ال { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ مَا
حلّةَ أَ ْيمَا ِنكُمْ } فكفر يمينه ،فصير الحرام يمينًا (
حلّ اللّهُ َلكَ } ؟ إلى قوله َ { :قدْ فَ َرضَ اللّهُ َلكُمْ تَ ِ
أَ َ
.)6
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة ،عن هشام -هو الدستوائي -عن يحيى -هو ابن كثير -
عن ابن حكيم -وهو يعلى -عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس في الحرام :يمين ُتكَفر .وقال
__________
( )1في أ " :في يومها".
( )2في م ،أ " :اليات كلها".
( )3زيادة من أ.
( )4تفسير الطبري ( )28/102وأصله في الصحيح وسيأتي.
( )5المختارة للضياء المقدسي برقم (.)189
( )6تفسير الطبري (.)28/101
( )8/159
( )8/160
عندها عَسَل فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى ال عليه وسلم فَلْ َتقُلْ :إني أجد
منك ريح مغافير ؛ أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما النبي صلى ال عليه وسلم فقالت ذلك له ،
فقال " :ل بل شربت عسل عند زينب بنت جَحش ،ولن أعود له" .فنزلت { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ
ص َغتْ قُلُو ُب ُكمَا } لعائشة وحفصة { ،وَإِذْ
حلّ اللّهُ َلكَ } ؟ إلى { :إِنْ تَتُوبَا ِإلَى اللّهِ َفقَ ْد َ
تُحَرّمُ مَا أَ َ
حدِيثًا } لقوله " :بل شربت عسل" .وقال إبراهيم بن موسى ،عن
جهِ َ
أَسَرّ النّ ِبيّ إِلَى َب ْعضِ أَ ْزوَا ِ
هشام " :ولن أعود له ،وقد حلفت ،فل تخبري بذلك أحدًا" (.)1
وهكذا رواه في كتاب "الطلق" بهذا السناد ،ولفظه قريب منه ( .)2ثم قال :المغافير :شبيه
بالصمغ ،يكون في الرّمث فيه حلوة ،أغفر الرّمث :إذا ظهر فيه .واحدها مغفور ،ويقال :
مغافير .وهكذا قال الجوهري ،قال :وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثّمام والسّلَم والطلح .قال
حمْض .قال :والعرفط :شجر من
:والّرمث ،بالكسر :مرعى من مراعي البل ،وهو من ال َ
العضاه ينضَح المغفُور [منه] (.)3
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب "الطلق" من صحيحه ،عن محمد بن حاتم ،عن حجاج بن
محمد ،عن ابن جريج ،أخبرني عطاء ،عن عُبيد بن عمير ،عن عائشة )4( ،به ،ولفظه كما
أورده البخاري في "اليمان والنذور".
سهَر ،عن
ثم قال البخاري في كتاب "الطلق" :حدثنا فروة بن أبي المغراء ،حدثنا علي بن ُم ْ
هشام بن عُ ْروَة ،عن أبيه ،عن عائشة قالت :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب الحَلوى
والعَسل ،وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ،فيدنو من إحداهن .فدخل على حفصة
بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس َ ،فغِ ْرتُ فسألت عن ذلك ،فقيل لي :أهدت لها امرأة من
عسَل ،فسقت النبي صلى ال عليه وسلم منه شربة ،فقلت :أما وال لنحتالَن له.
عكّة َ
قومها ُ
فقلت لسودة بنت َز ْمعَةَ :إنه سيدنو منك ،فإذا دنا منك فقولي :أكلت مغَافير ؟ فإنه سيقول ذلك (
)5ل .فقولي له :ما هذه الريح التي أجد ؟ فإنه سيقول لك :سقتني حفصة شربة عسل .فقولي :
ستْ نحلُه العُرفُطَ .وسأقول ذلك ،وقولي أنت له يا صفية ذلك ،قالت -تقول سودة : -وال
جَ َر َ
( )6ما هو إل أن قام على الباب ،فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك ،فلما دنا منها قالت له
سودة :يا رسول ال ،أكلت مغافير ؟ قال " :ل " .قالت :فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال :
"سقتني حفصة شَربة عسل" .قالت :جَرَسَت نَحلُه العرفطَ .فلما دار إليّ قلت نحو ذلك ،فلما دار
إلى صفية قالت له مثل ذلك ،فلما دار إلى حفصة قالت له :يا رسول ال ،أل أسقيك منه ؟ قال
" :ل حاجةَ لي فيه" .قالت -تقول سودة : -وال لقد حَ َرمْنَاه .قلت لها :اسكتي (.)7
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)6691
( )2صحيح البخاري برقم (.)5267
( )3زيادة من الصحاح ،مادة "عرفط" .3/1142
( )4صحيح مسلم برقم (.)1474
( )5في م " :سيقول لك".
( )6في م " :فوال".
( )7صحيح البخاري برقم (.)5268
( )8/161
( )8/162
صلى ال عليه وسلم ليراجعنه ،وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل .قال :فانطلقت فدخلت على
حفصة فقلت :أتراجعين رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قالت :نعم .قلت :وتهجره إحداكن
اليوم إلى الليل ؟ قالت :نعم .قلت :قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر ،أفتأمنُ إحداكن أن
يغضب ال عليها لغضب رسوله ،فإذا هي قد هلكت ؟ ل تراجعي رسول ال صلى ال عليه وسلم
ول تسأليه شيئًا ،وسليني من مالي ما بدا لك ،ول يغرنك إن كانت جارتك هي أوس ُم وأحب إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم منك -يريد عائشة -قال :وكان لي جار من النصار ،وكنا
نتناوب النزول إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا ،فيأتيني بخبر الوحي
وغيره ،وآتيه بمثل ذلك .قال :وكنا نتحدث أن غَسّان تُنعِل الخيل لتغزونا ،فنزل صاحبي يومًا
ثم أتى عشاء ،فضرب بابي ثم ناداني ،فخرجت إليه فقال :حدث أمر عظيم! فقلت :وما ذاك ؟
أجاءت غسان ؟ قال :ل بل أعظم من ذلك وأطول! طلّق رسول ال صلى ال عليه وسلم نساءه ،
خسِرت ،قد كنت أظن ( )1هذا كائنا .حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ
فقلت :قد خابت حفصةُ و َ
عليّ ثيابي ثم نزلت ،فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت :أطلقكن رسول ال صلى ال عليه
وسلم فقالت :ل أدري ،هو هذا معتزل في هذه المشرَبة ( )2فأتيت غلمًا له أسو َد فقلت :
ي فقال :ذكرتك له فصمت .فانطلقت حتى أتيت المنبر ،
استأذن لعمر .فدخل الغلم ثم خرج إل َ
فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ،فجلست قليل ثم غلبني ما أجد ،فأتيت الغلم فقلت :
استأذن لعمرَ .فدخل ثم خرج فقال :قد ذكرتك له فصمت .فخرجت فجلست إلى المنبر ،ثم غلبني
ما أجد فأتيت الغلم فقلت :استأذن لعمر .فدخل ثم خرج إلي فقال :قد ذكرتك له فصمتَ .فوليت
مدبرًا فإذا الغلم يدعوني فقال :ادخل ،قد أذن لك .فدخلتُ فسلمتُ على رسول ال صلى ال
حصِير.
عليه وسلم فإذا هو متكئ على ُرمَال (َ )3
قال المام أحمد :وحدثناه يعقوب في حديث صالح ُ :رمَال حصير قد أثر في جنبه ،فقلت :
أطلّقت يا رسول ال نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال " :ل" .فقلت :ال أكبر ،ولو رأيتنا يا رسول
ال وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء ،فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم ،فطفق
نساؤنا يتعلمن من نسائهم ،فغضبت على امرأتي يوما ،فإذا هي تراجعني ،فأنكرت أن تراجعني
،فقالت :ما تنكر أن أراجعك ؟ فوال إن أزواج النبي صلى ال عليه وسلم ليراجعنه ،وتهجره
إحداهن اليوم إلى الليل .فقلت :قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ،أفتأمنُ إحداكن أن يغضب
ال عليها لغضب رسوله ،فإذا هي قد هلكت .فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم فقلت :يا
رسول ال ،فَدخَلت على حفصة فقلت :ل يغُرنّك أن كانت جار ُتكِ هي أوسمُ -أو :أحب إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم منك .فتبسم أخرى ،فقلت :أستأنس يا رسول ال .قال " :نعم".
فجلست فرفعت رأسي في البيت ،فوال ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إل أهَ َبةٌ ثلثة ()4
فقلت :ادع ال يا رسول ال أن يوسع على أمتك ،فقد وسّع على فارس والروم ،وهم ل يعبدون
عجَّلتْ لهم طيباتهم في
ال .فاستوى جالسًا وقال " :أفي شك أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قوم ُ
الحياة الدنيا" .فقلت :استغفر لي يا رسول ال .وكان أقسم أن ل يدخل عليهن شهرًا ؛ من شدة
موجدته عليهن حتى عاتبه ال ،عز وجل (.)5
__________
( )1في م " :أظن".
( )2المشربة :هي الغرفة.
( )3في م " :على رمل".
( )4في م " :معان".
( )5المسند (.)34 ، 1/33
( )8/163
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ،من طرق ،عن الزهري ،به ( )1وأخرجه
الشيخان من حديث يحيى بن سعيد النصاري ،عن عُبَيد بن حُنَين ،عن ابن عباس ،قال :
مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ،فما أستطيع أن أسأله هيبةً له ،حتى خرج
حاجًا فخرجت معه ،فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق ،عدل إلى الرَاك لحاجة له ،قال :فوقفت
حتى فرغ ،ثم سرت معه فقلت :يا أمير المؤمنين ،من اللتان ( )2تظاهرتا على النبي صلى ال
عليه وسلم ؟ (.)3
هذا لفظ البخاري ،ولمسلم :من المرأتان اللتان قال ال تعالى { :وَإِنْ َتظَاهَرَا عَلَيْهِ } ؟ قال :
عائشة وحفصة .ثم ساق الحديث بطوله ،ومنهم من اختصره.
وقال مسلم أيضًا :حدثني زهير بن حرب ،حدثنا عمر بن يونس الحنفي ،حدثنا عكرمة بن
عمار ،عن سِماك بن الوليد -أبي زميل -حدثني عبد ال بن عباس ،حدثني عمر بن الخطاب
قال :لما اعتزل نبي ال صلى ال عليه وسلم نساءه ،دخلت المسجد ،فإذا الناس يَنكُتُون
بالحصى ،ويقولون :طلق رسول ال صلى ال عليه وسلم نساءه! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب.
فقلت :لعلمن ذلك اليوم ...فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ،ووعظه إياهما ،إلى
أن قال :فدخلت ،فإذا أنا برباح غلم رسول ال صلى ال عليه وسلم على أس ُكفّة المشرَبة ،
فناديت فقلت :يا رباح ،استأذن لي على رسول ال صلى ال عليه وسلم ...فذكر نحو ما تقدم ،
شقّ عليك من أمر النساء ،فإن كنت طلقتهن فإن ال معك
إلى أن قال :فقلت يا رسول ال ما يَ ُ
وملئكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ،وقلما تكلمتُ -وأحمد ال -بكلم
إل رجوتُ أن يكون ال يصدق قولي ،ونزلت هذه الية ،آية التخيير { :عَسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ
ل َوصَالِحُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ
أَنْ يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } { وَإِنْ َتظَاهَرَا عَلَ ْيهِ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ َموْل ُه وَجِبْرِي ُ
ظهِيرٌ } فقلت :أطلقتهن ؟ قال " :ل" .فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى
وَا ْلمَل ِئكَةُ َبعْدَ َذِلكَ َ
خ ْوفِ أَذَاعُوا ِبهِ
ن المْنِ َأوِ الْ َ
صوتي :لم يطلق نساءه ،ونزلت هذه الية { :وَإِذَا جَاءَ ُهمْ َأمْرٌ مِ َ
وََلوْ َردّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُولِي المْرِ مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِ ْنهُمْ } [النساء ]83 :فكنت
أنا استنبطت ذلك المر (.)4
وكذا قال سعيد بن جبير ،وعكرمة ،ومقاتل بن حيان ،والضحاك ،وغيرهم َ { :وصَالِحُ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أبو بكر وعمر -زاد الحسن البصري :وعثمان .وقال ليث بن أبي سليم ،عن مجاهد
َ { :وصَالِحُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } قال :علي بن أبي طالب.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين ،حدثنا محمد بن أبي عمر ،حدثنا محمد بن جعفر
بن محمد بن علي بن الحسين قال :أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم [في] ( )5قوله َ { :وصَالِحُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } قال :هو علي بن أبي طالب .إسناده
ضعيف .وهو منكر جدًا.
وقال البخاري :حدثنا عمرو بن عون ،حدثنا هُشَيم ،عن حُميد ،عن أنس ،قال :قال
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )2468 ، 5191وصحيح مسلم برقم ( )1479وسنن الترمذي برقم (
)3318وسنن النسائي (.)4/137
( )2في م " :المرأتان اللتان".
( )3صحيح البخاري برقم ( )4913وصحيح مسلم برقم (.)1479
( )4صحيح مسلم برقم (.)1479
( )5زيادة من م ،أ.
( )8/164
عمر :اجتمع نساء النبي صلى ال عليه وسلم في الغيرة عليه ،فقلت لهن { :عَسَى رَبّهُ إِنْ
طَّل َقكُنّ أَنْ يُبْ ِدلَهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } فنزلت هذه الية (.)1
وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ ،منها في نزول الحجاب ،ومنها في أسارى بدر ،ومنها
قوله :لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل ال { :وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّى }
[البقرة .]125 :
حمَيد ،عن أنس قال :قال عمر
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا [أبي ،حدثنا] ( )2النصاري ،حدثنا ُ
بن الخطاب :بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى ال عليه وسلم ،فاستقريتهن
( )3أقول :لتكفن عن رسول ال أو ليبدلَنّه ال أزواجًا خيرا منكن .حتى أتيت على آخر أمهات
المؤمنين ،فقالت :يا عمر ،أما لي برسول ال ما يعظ نساءه ،حتى تعظهن ؟! فأمسكت ،
عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ مُسِْلمَاتٍ ُمؤْمِنَاتٍ
فأنزل ال ،عز وجل َ { :
ت وَأَ ْبكَارًا }
قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَا ِبدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَا ٍ
وهذه المرأة التي َردّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة ،كما ثبت ذلك في صحيح
البخاري (.)4
عوَانة ،
وقال الطبراني ،حدثنا إبراهيم بن نائلة الصبهاني ،حدثنا إسماعيل البجلي ،حدثنا أبو َ
عن أبي سنان ،عن الضحاك ،عن ابن عباس في قوله { :وَإِذْ أَسَرّ النّ ِبيّ إِلَى َب ْعضِ أَ ْزوَاجِهِ
حدِيثًا } قال :دخلَت حفصة على النبي صلى ال عليه وسلم في بيتها وهو َيطَأ مارية ،فقال لها
َ
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة ،فإن أباك يَلي المرَ من
بعد أبي بكر إذا أنا مت" .فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة ،فقالت عائشة لرسول ال صلى ال عليه
وسلم :من أنبأك هذا ؟ قال { :نَبّأَ ِنيَ ا ْلعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فقالت عائشة :ل أنظر إليك حتى تحرم
مارية فحرمها ،فأنزل ال { :يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ } (.)5
إسناده فيه نظر ،وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه اليات الكريمات .ومعنى قوله { :مُسِْلمَاتٍ
ُم ْؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَا ِبدَاتٍ } ظاهر.
وقوله { سَا ِئحَاتٍ } أي :صائمات ،قاله أبو هريرة ،وعائشة ،وابن عباس ،وعكرمة ،ومجاهد
،وسعيد بن جبير ،وعطاء ،ومحمد بن كعب القرظي ،وأبو عبد الرحمن السلمي ،وأبو مالك ،
وإبراهيم النخعي ،والحسن ،وقتادة ،والضحاك ،والربيع بن أنس ،والسُ ّديّ ،وغيرهم .وتقدم
فيه حديث مرفوع عند قوله { :السّائِحُونَ } من سورة "براءة" ،ولفظه " :سياحةُ هذه المة
الصيامُ".
وقال زيد بن أسلم ،وابنه عبد الرحمن { :سَائِحَاتٍ } أي :مهاجرات ،وتل عبد الرحمن :
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4916
( )2زيادة من م ،أ.
( )3في م " :فاستقريته".
( )4صحيح البخاري برقم ( )4483ولم أر فيه التصريح بأنها أم سلمة وال أعلم.
( )5المعجم الكبير ( )12/117ووجه ضعفه :أن فيه إسماعيل البجلي وهو ضعيف ،والضحاك
لم يلق ابن عباس فهو منقطع.
( )8/165
س وَا ْلحِجَا َرةُ عَلَ ْيهَا مَلَا ِئكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا
سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا َوقُودُهَا النّا ُ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ
َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُمْ وَيَ ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ ( )6يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َكفَرُوا لَا َتعْتَذِرُوا الْ َيوْمَ إِ ّنمَا ُتجْ َزوْنَ
مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ()7
{ السّائِحُونَ } [التوبة ]112 :أي :المهاجرون .والقول الول أولى ،وال أعلم.
ت وَأَ ْبكَارًا } أي :منهن ثيبات ،ومنهن أبكارا ،ليكون ذلك أشهى إلى النفوس ،
وقوله { :ثَيّبَا ٍ
ت وَأَ ْبكَارًا }
فإن التنوع يبسُط النفسَ ؛ ولهذا قال { :ثَيّبَا ٍ
وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير :حدثنا أبو بكر بن صدقة ،حدثنا محمد بن محمد بن
مرزوق ،حدثنا عبد ال بن أمية ،حدثنا عبد القدوس ،عن صالح بن حَيّان ،عن ابن بُرَيدة ،
ت وَأَ ْبكَارًا } قال :وعد ال نبيه صلى ال عليه وسلم في هذه الية أن يزوجه ،
عن أبيه { :ثَيّبَا ٍ
فالثيب :آسية امرأة فرعون ،وبالبكار :مريم بنت عمران (.)1
سوَيْد بن سعيد ( )2حدثنا
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة "مريم عليها السلم" من طريق ُ
محمد بن صالح بن عمر ،عن الضحاك ومجاهد ،عن ابن عمر قال :جاء جبريل إلى رسول
ال صلى ال عليه وسلم بموت خديجة فقال :إن ال يقرئها السلم ،ويبشرها ببيت في الجنة من
صخَب ،من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت
َقصَب ،بعيد من اللهب ( )3ل َنصَب فيه ول َ
عمران وبيت آسية بنت مزاحم (.)4
ومن حديث أبي بكر الهذلي ،عن عكرمة ،عن ابن عباس :أن النبي صلى ال عليه وسلم دخل
على خديجة ،وهي في الموت فقال " :يا خديجة ،إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلم".
فقالت :يا رسول ال ،وهل تزوجت قبلي ؟ قال " :ل" ،ولكن ال زوجني مريم بنت عمران ،
وآسية امرأة فرعون ،وكلثم أخت موسى" .ضعيف أيضًا (.)5
وقال أبو يعلى :حدثنا إبراهيم بن عرعرة ،حدثنا عبد النور بن عبد ال ،حدثنا يونس ( )6بن
شعيب ،عن أبي أمامة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أُعْلِمتُ أن ال زوجني في
الجنة مريم بنت عمران ،وكلثم أخت موسى ،وآسية امرأة فرعون" .فقلت :هنيئًا لك يا رسول
ال (.)7
وهذا أيضًا ضعيف وروي مرسل عن ابن أبي داود.
حجَا َرةُ عَلَ ْيهَا مَل ِئكَةٌ غِلظٌ شِدَا ٌد ل
س وَالْ ِ
سكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا َوقُودُهَا النّا ُ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ
َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُمْ وَيَ ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ ( )6يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َكفَرُوا ل َتعْ َتذِرُوا الْ َيوْمَ إِ ّنمَا تُجْ َزوْنَ
مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (} )7
__________
( )1لم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير للطبراني.
( )2في أ " :بن سعد".
( )3في أ " :من اللهو".
( )4تاريخ دمشق (ص " )383تراجم النساء" ط .المجمع العلمي بدمشق.
( )5تاريخ دمشق (ص " )384تراجم النساء" ط .المجمع العلمي بدمشق.
( )6في م ،أ ،هـ " :يوسف" والمثبت من المعجم الكبير للطبراني.
( )7ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )8/309والعقيلي في الضعفاء ( )4/459من طريق عبد
النور بن عبد ال به ،وعبد النور كذاب ،قال العقيلي " :وليس بمحفوظ".
( )8/166
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ َتوْبَةً َنصُوحًا عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ ُي َكفّرَ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِتكُ ْم وَيُ ْدخَِلكُمْ جَنّاتٍ
سعَى بَيْنَ أَيْدِي ِهمْ
ي وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ نُورُ ُهمْ يَ ْ
تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا ال ْنهَارُ َيوْمَ ل ُيخْزِي اللّهُ النّ ِب ّ
شيْءٍ قَدِيرٌ (} )8
غفِرْ لَنَا إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ
وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَا أَ ْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَا ْ
( )8/166
قال سفيان الثوري ،عن منصور ،عن رجل ،عن علي ،رضي ال عنه ،في قوله تعالى :
سكُ ْم وَأَ ْهلِيكُمْ نَارًا } يقول :أدبوهم ،عَلموهم.
{ قُوا أَ ْنفُ َ
سكُ ْم وَأَهْلِي ُكمْ نَارًا } يقول :اعملوا بطاعة ال
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :قُوا أَ ْنفُ َ
،واتقوا معاصي ال ،ومُروا أهليكم بالذكر ،ينجيكم ال من النار.
سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } قال :اتقوا ال ،وأوصوا أهليكم بتقوى ال..
وقال مجاهد { :قُوا أَ ْنفُ َ
وقال قتادة :يأمرهم بطاعة ال ،وينهاهم عن معصية ال ،وأن يقومَ عليهم بأمر ال ،ويأمرهم
به ويساعدهم عليه ،فإذا رأيت ل معصية ،قَدعتهم عنها وزجرتهم عنها.
وهكذا قال الضحاك ومقاتل :حق على المسلم أن يعلم أهله ،من قرابته وإمائه وعبيده ،ما
فرض ال عليهم ،وما نهاهم ال عنه.
وفي معنى هذه الية الحديث الذي رواه المام أحمد ،وأبو داود ،والترمذي ،من حديث عبد
الملك بن الربيع بن سَبْرَة ،عن أبيه ،عن جده قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مروا
الصبي بالصلة إذا بلغ سبع سنين ،فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" (.)1
هذا لفظ أبي داود ،وقال الترمذي :هذا حديث حسن.
وروى أبو داود ،من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده عن النبي صلى ال عليه
وسلم مثل ذلك (.)2
قال الفقهاء :وهكذا في الصوم ؛ ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة ،لكي يبلغ وهو مستمر على
العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر ،وال الموفق.
حجَا َرةُ } { َوقُودُهَا } أي :حطبها الذي يلقى فيها جُثث بني آدم.
س وَالْ ِ
وقوله َ { :وقُودُهَا النّا ُ
{ وَا ْلحِجَا َرةُ } قيل :المراد بذلك الصنام التي كانت تعبد لقوله { :إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ
جهَنّمَ } [النبياء .]98 :
صبُ َ
ح َ
َ
وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر ،والسدي :هي حجارة من كبريت -زاد مجاهد :
أنتن من الجيفة.
وروى ذلك ابن أبي حاتم ،رحمه ال ،ثم قال :حدثنا أبي ،حدثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري
،حدثنا عبد العزيز -يعني ابن أبي َراّود -قال :بلغني أن رسول ال صلى ال عليه وسلم تل
حجَا َرةُ } وعنده بعض
س وَالْ ِ
سكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا َوقُودُهَا النّا ُ
هذه الية { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ
أصحابه ،وفيهم
__________
( )1المسند ( )3/404وسنن أبي داود برقم ( )494وسنن الترمذي برقم (.)407
( )2سنن أبي داود برقم (.)495
( )8/167
شيخ ،فقال الشيخ :يا رسول ال ،حجارة جهنم كحجارة الدنيا ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم
" :والذي نفسي بيده َ ،لصَخرة من صخر جهنم أعظمُ من جبَال الدنيا كلها" .قال :فوقع الشيخُ
حيّ فناداه قال " :يا
مغشيًا عليه ،فوضع النبي صلى ال عليه وسلم يده على فؤاده فإذا ُهوَ َ
شيخ" ،قل " :ل إله إل ال" .فقالها ،فبشره بالجنة ،قال :فقال أصحابه :يا رسول ال ،أمن
ف وَعِيدِ } [إبراهيم ]14 :هذا
بيننا ؟ قال " :نعم ،يقول ال تعالى { :ذَِلكَ ِلمَنْ خَافَ َمقَامِي وَخَا َ
حديث مرسل غريب.
شدَادٌ } أي :طباعهم غليظة ،قد نزعت من قلوبهم الرحمة
وقوله { :عَلَ ْيهَا مَل ِئكَةٌ غِلظٌ ِ
بالكافرين بال { ،شِدَادٌ } أي :تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج.
قال ( )1ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا سلمة بن شبيب ،حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ،
حدثنا أبي ،عن عكرمة أنه قال :إذا وصل أول أهل النار إلى النار ،وَجَدوا على الباب أربعمائة
ألف من خَزَنة جهنم ،سود وجوههم ،كالحة أنيابهم ،قد نزع ال من قلوبهم الرحمة ،ليس في
قلب واحد منهم مثقال ذَرَة من الرحمة ،لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ
منكبه الخر ،ثم يجدون على الباب التسعة عشر ،عرض صدر أحدهم سبعون خريفًا ،ثم
يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة ،ثم يجدون على كل باب منها مثلَ ما وجدوا على الباب
الول ،حتى ينتهوا إلى آخرها.
وقوله { :ل َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } أي :مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه
،ل يتأخرون عنه طرفة عين ،وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه .وهؤلء هم الزبانية
عياذًا بال منهم .وقوله { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َكفَرُوا ل َتعْتَذِرُوا الْ َيوْمَ إِ ّنمَا تُجْ َزوْنَ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } أي
:يقال للكفرة يوم القيامة :ل تعتذروا فإنه ل يقبل منكم ،وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.
ثم قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ َتوْبَةً َنصُوحًا } أي :توبة صادقة جازمة ،
تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه ،وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
سمَاك بن حَرب :سمعت
قال ابن جرير :حدثنا ابن مثنى ،حدثنا محمد ،حدثنا شعبة ،عن ِ
النعمان بن بشير يخطب :سمعت عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،يقول { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللّهِ َتوْبَةً َنصُوحًا } قال :يذنب الذنب ثم ل يرجع فيه.
وقال الثوري ،عن سِماك ،عن النعمان ،عن عمر قال :التوبة النصوح :أن يتوب من الذنب
ثم ل يعود فيه ،أو ل يعود فيه.
وقال أبو الحوص وغيره ،عن سماك ،عن النعمان ،سُئِل عمر عن التوبة النصوح ،فقال :أن
يتوب الرجل من العمل السيئ ،ثم ل يعود إليه أبدًا.
وقال العمش ،عن أبي إسحاق ،عن أبي الحوص ،عن عبد ال َ { :توْبَةً َنصُوحًا } قال :
يتوب ثم ل يعود.
__________
( )1في م " :كما قال".
( )8/168
وقد روي هذا مرفوعًا فقال المام أحمد :حدثنا علي بن عاصم ،عن إبراهيم ال َهجَري ،عن أبي
الحوص ،عن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :التوبة من الذنب
أن يتوب منه ،ثم ل يعود فيه" .تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم ال َهجَري ،وهو ضعيف
،والموقوف أصح ( )1وال أعلم.
ولهذا قال العلماء :التوبة النصوح هو أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر ،ويندمَ على ما سلف منه
في الماضي ،ويعزِم على أل يفعل في المستقبل .ثم إن كان الحق لدمي ردّه إليه بطريقه.
قال المام أحمد :حدثنا سفيان ،عن عبد الكريم ،أخبرني زياد بن أبي مريم ،عن عبد ال بن
مَعقِل قال :دخلت مع أبي عَلى عبد ال بن مسعود فقال :أنت سمعت النبي صلى ال عليه وسلم
يقول " :الندم توبة ؟" .قال :نعم .وقال مَرَة :نعم سمعته يقول " :الندم توبة".
عمّار ،عن سفيان بن عُيينة ،عن عبد الكريم -وهو ابن مالك
ورواه ابن ماجة ،عن هشام بن َ
الجَزَريّ -به (.)2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن عرفة ،حدثني الوليد بن ُبكَيْر أبو خباب ،عن عبد ال بن
محمد العَدَوي ،عن أبي سِنان البصري ،عن أبي قِلبة ،عن زِرّ بن حُبَيش ،عن أبي بن كعب
قال :قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه المة عند اقتراب الساعة ،منها نكاح الرجل امرأته أو
أمته في دبرها ،وذلك مما حرم ال ورسوله ،ويمقت ال عليه ورسوله ،ومنها :نكاح الرجل
الرجل ،وذلك مما حرم ال ورسوله ،ويمقت ال عليه ورسوله .ومنها نكاح المرأة المرأة ،
وذلك مما حرم ال ورسوله ،ويمقت ال عليه ورسوله .وليس لهؤلء صلة ما أقاموا على هذا ،
حتى يتوبوا إلى ال توبة نصوحًا .قال زر :فقلت لبي بن كعب :فما التوبة النصوح ؟ فقال :
سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :هو الندم على الذنب حينَ يَفرطُ منك ،فتستغفرُ ال
بندامتك منه عند الحاضر ،ثم ل تعود إليه أبدًا" (.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عمرو بن علي ،حدثنا عباد بن عمرو ،حدثنا أبو عمرو
بن العلء ،سمعت الحسن يقول :التوبة النصوح :أن تُبغِض الذنبَ كما أحببته ،وتستغفر منه
إذا ذكرته.
فأما إذا حَزَم بالتوبة وصَمم عليها فإنها تَجُب ما قبلها من الخطيئات ،كما ثبت في الصحيح :
"السلم َيجُب ما قبله ،والتوبة تجب ما قبلها" (.)4
وهل من شرط التوبة النصوح الستمرارُ على ذلك إلى الممات ،كما تقدم في الحديث وفي الثر
" :ل يعود فيه أبدًا" ،أو يكفي العزم على أل يعود في تكفير الماضي ،بحيث لو وقع منه
__________
( )1المسند (.)1/446
( )2المسند ( )1/376وسنن ابن ماجة برقم ( )4252وقال البوصيري في الزوائد (: )3/308
"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
( )3ورواه البيهقي في شعب اليمان برقم ( )5457من طريق إسماعيل الصفار ،عن الحسن بن
عرفة به ،وقال " :إسناده ضعيف".
( )4صحيح مسلم برقم ( )121من حديث عمرو بن العاص ،رضي ال عنه.
( )8/169
ذلك الذنب بعد ذلك ل يكون ذلك ضارًا في تكفير ما تقدم ،لعموم قوله ،عليه السلم " :التوبة
تجب ما قبلها ؟" .وللول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضًا " :مَن أحسنَ في السلم لم يُؤاخَذ
بما عمل في الجاهلية ،ومن أساء في السلم أخذ بالول والخر" ( )1فإذا كان هذا في السلم
الذي هو أقوى من التوبة ،فالتوبة بطريق الولى ،وال أعلم .وقوله { :عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ ُي َكفّرَ
خَلكُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ال ْنهَارُ } و { عَسَى } من ال موجبة َ { ،يوْ َم ل
عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَيُدْ ِ
سعَى
ي وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ } أي :ول يخزيهم معه يعني :يوم القيامة { ،نُورُ ُهمْ يَ ْ
يُخْزِي اللّهُ النّ ِب ّ
بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ } كما تقدم في سورة الحديد.
شيْءٍ قَدِيرٌ } قال مجاهد ،والضحاك ،
غفِرْ لَنَا إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ
{ َيقُولُونَ رَبّنَا أَ ْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَا ْ
والحسن البصري وغيرهم :هذا يقوله المؤمنون حين يَرَون يوم القيامة نورَ المنافقين قد طفِئ.
وقال محمد بن نصر المروزي :حدثنا محمد بن مقاتل المروزي ،حدثنا ابن المبارك ،أخبرنا
ابن َلهِيعة ،حدثني يزيد بن أبي حبيب ،عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ،أنه سمع أبا ذر وأبا
الدرداء قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة ،
وأول من يؤذن له برفع رأسه ،فأنظرُ بين يَ َديّ فأعرف أمتي من بين المم ،وأنظر عن يميني
فأعرف أمتي من بين المم ،وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين المم" .فقال رجل :يا
رسول ال ،وكيف تعرف أمتك من بين المم .قال " :غُرّ مُحجلون من آثار الطّهور ( )2ول
يكون أحد من المم كذلك غيرهم ،وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم ،وأعرفهم بسيماهم في
وجوههم من أثر السجود ،وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم" (.)3
وقال المام أحمد :حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ،حدثنا ابن المبارك ،عن يحيى بن حسان
،عن رجل من بني كنانة قال :صليت خلف رسول ال صلى ال عليه وسلم عام الفتح ،فسمعته
يقول " :اللهم ،ل تخزني يوم القيامة" (.)4
جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ ( )9ضَ َربَ اللّهُ
ن وَاغْلُظْ عَلَ ْي ِه ْم َومَأْوَا ُهمْ َ
{ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ جَا ِهدِ ا ْل ُكفّارَ وَا ْلمُنَا ِفقِي َ
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا فََلمْ ُيغْنِيَا
مَثَل لِلّذِينَ َكفَرُوا ِامْرََأةَ نُوحٍ وَامْرََأةَ لُوطٍ كَانَتَا تَ ْ
عَ ْن ُهمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا َوقِيلَ ادْخُل النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ (} )10
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى ال عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين ،هؤلء بالسلح والقتال ،
وهؤلء بإقامة
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )6921وصحيح مسلم برقم ( )120من حديث عبد ال بن مسعود ،
رضي ال عنه.
( )2في م " :الوضوء".
( )3تعظيم قدر الصلة برقم ( )261ورواه أحمد في المسند ( )5/199من هذا الطريق -طريق
ابن المبارك -وعن حسن ،عن ابن لهيعة به نحوه ،قال المنذري في الترغيب والترهيب (
" : )1/151رواه أحمد ،وفي إسناده ابن لهيعو ،وهو حديث في المتابعات" .وهو هنا من رواية
ابن المبارك وهي رواية صحيحه.
( )4المسند ()4/234
( )8/170
عوْنَ إِذْ قَاَلتْ َربّ ابْنِ لِي عِنْ َدكَ بَيْتًا فِي ا ْلجَنّ ِة وَ َنجّنِي مِنْ
َوضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ َآمَنُوا ِامْرََأةَ فِرْ َ
جهَا فَ َنفَخْنَا
حصَ َنتْ فَ ْر َ
عمْرَانَ الّتِي َأ ْ
عمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ (َ )11ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ
عوْنَ وَ َ
فِرْ َ
فِيهِ مِنْ رُوحِنَا َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِهِ َوكَانَتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ ()12
( )8/171
وهذا مَ َثلٌ ضربه ال للمؤمنين أنهم ل تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم ،كما قال
خذِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي
تعالى { :ل يَتّ ِ
شيْءٍ إِل أَنْ تَ ّتقُوا مِ ْنهُمْ ُتقَاةً } [آل عمران .]28 :
َ
قال :قتادة كان فرعون أعتى أهل الرض وأبعده فوال ما ضر امرأته كُفر زوجها حين أطاعت
ح َكمٌ عدل ،ل يؤاخذ أحدًا إل بذنبه.
ربها لتعلموا أن ال َ
وقال ابن جرير :حدثنا إسماعيل بن حفص البُليّ ،حدثنا محمد بن جعفر ،عن سليمان التيمي ،
عن أبي عثمان النهدي ( )1عن سلمان قال :كانت امرأة فرعون ُتعَذّب في الشمس ،فإذا
انصرف عنها أظلتها الملئكة بأجنحتها ،وكانت ترى بيتها في الجنة.
ثم رواه عن محمد بن عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد ،عن سليمان التيمي ،به (.)2
ثم قال ابن جرير :حدثني يعقوب بن إبراهيم ،حدثنا ابن عُلَيّة ،عن هشام الدّسْ ُتوَائي ،حدثنا
القاسم بن أبي بَزّة قال :كانت امرأة فرعون تسأل :من غلب ؟ فيقال :غلب موسى وهارون.
فتقول :آمنت برب موسى وهارون ،فأرسل إليها فرعون فقالت :انظروا أعظم صخرة تجدونها
،فإن مضت على قولها فألقوها عليها ،وإن رجعت عن قولها فهي امرأته ،فلما أتوها رفعت
بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة ،فمضت على قولها ،وانتزع روحها ،وألقيت
الصخرة على جسد ليس فيه روح (.)3
فقولها َ { :ربّ ابْنِ لِي عِ ْن َدكَ بَيْتًا فِي الْجَنّةِ } قال العلماء :اختارت الجار قبل الدار .وقد ورد
عمَلِهِ } أي :خلصني منه ،فإني أبرأ
عوْنَ وَ َ
شيء من ذلك في حديث مرفوع { ،وَنَجّنِي مِنْ فِرْ َ
[إليك] ( )4من عمله { ،وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم ،رضي
ال عنها.
وقال أبو جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أبي العالية قال :كان إيمانُ امرأة فرعونَ من
قبل إيمان امرأة خازن فرعون ،وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون ،فوقع المشط من يدها ،
فقالت تعس من كفر بال ؟ فقالت لها ابنة فرعون :ولك رب غير أبي ؟ قالت :ربي ورب أبيك
ن وضربتها ،وأخبرت أباها ،فأرسل إليها فرعون فقال :
ورب كل شيء الُ .فلطمتها بنتُ فرعو َ
تعبدين ربا غيري ؟ قالت :نعم ،ربي وربك ورب كل شيء ال .وإياه أعبد فعذبها فرعون وأوتد
لها أوتادًا فشد رجليها ويديها وأرسل عليها الحيات ،وكانت كذلك ،فأتى عليها يومًا فقال لها :ما
أنت منتهية ؟ فقالت له :ربي وربك وربُ كل شيء ال .فقال لها :إني ذابح ابنك في فيك إن لم
تفعلي .فقالت له :اقض ما أنت قاض .فذبح ابنها في فيها ،وإن روح ابنها بشرها ،فقال لها :
أبشري يا أمه ،فإن لك عند ال من الثواب كذا وكذا .فصبرت ثم أتى [عليها] ( )5فرعون يومًا
آخر فقال لها
__________
( )1في أ " :الترمذي".
( )2تفسير الطبري (.)28/110
( )3تفسير الطبري (.)28/110
( )4زيادة من م ،أ.
( )5زيادة من م.
( )8/172
مثل ذلك ،فقالت له ،مثل ذلك ،فذبح ابنها الخر في فيها ،فبشرها روحه أيضًا ،وقال لها.
اصبري يا أمه فإن لك عند ال من الثواب كذا وكذا .قال :وسمعت امرأة فرعون كلمَ روح ابنها
الكبر ثم الصغر ،فآمنت امرأةُ فرعونَ ،وقبض ال روح امرأة خازن فرعون ،وكشف الغطاء
عن ثوبها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لمرأة فرعون حتى رأت فازدادت إيمانًا ويقينًا وتصديقًا ،
فاطّلع فرعون على إيمانها ،فقال للمل ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها ،فقال لهم
:إنها تعبد غيري .فقالوا له :اقتلها .فأوتد لها أوتادًا فشد يديها ورجليها ،فدعت آسية ربها فقالت
َ { :ربّ ابْنِ لِي عِ ْن َدكَ بَيْتًا فِي الْجَنّةِ } فوافق ذلك أن حضرها ،فرعون فضحكت حين رأت بيتها
في الجنة ،فقال فرعون :أل تعجبون من جنونها ،إنا نعذبها وهي تضحك ،فقبض ال روحها ،
رضي ال عنها (.)1
جهَا } أي حفظته وصانته .والحصان :هو
حصَ َنتْ فَ ْر َ
عمْرَانَ الّتِي َأ ْ
وقوله َ { :ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ
العفاف والحرية { ،فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي :بواسطة المَلَك ،وهو جبريل ،فإن ال بعثه
إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي ،وأمره ال تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها ،فنزلت
النفخة فولجت في فرجها ،فكان منه الحمل بعيسى ،عليه السلم .ولهذا قال { :فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِنْ
رُوحِنَا َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِهِ } أي :بقدره وشرعه { َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ }
عكْرِمة ،عن ابن
علْباء ،عن ِ
قال المام أحمد :حدثنا يونس ،حدثنا داود بن أبي الفرات ،عن ِ
خطّ رسول ال صلى ال عليه وسلم في الرض أربعة خطوط ،وقال " :أتدرون ما
عباس قال َ :
هذا ؟" قالوا :ال ورسوله أعلم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أفضل نساء أهل الجنة :
خديجة بنت خويلد ،وفاطمة بنت محمد ،ومريم ابنة عمران ،وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"
(.)2
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة ،عن عمرو بن مُرَة ،عن مرة الهمداني ،عن أبي موسى
الشعري ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال َ " :ك ُملَ من الرجال كثير ،ولم يكمل من النساء
خوَيلد ،وإن فضل عائشة على النساء
إل آسية امرأة فرعون ،ومريم ابنة عمران ،وخديجة بنت ُ
كفضل الثّرِيد على سائر الطعام" (.)3
وقد ذكرنا طرق هذه الحاديث وألفاظها والكلم عليها في قصة عيسى ابن مريم ،عليهما
السلم ،في كتابنا "البداية والنهاية" ول الحمد والمنة ( )4وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها
ت وَأَ ْبكَارًا }
تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه ،عليه السلم ،في الجنة عند قوله { :ثَيّبَا ٍ
__________
( )1رواه الطبرى في تفسيره (.)28/10
( )2المسند ( )1/293وقال الهيثمي في المجمع (" : )9/223رجاله رجال الصحيح".
( )3صحيح البخاري برقم ( )5418وصحيح مسلم برقم (.)2431
( )4البداية والنهاية (.)85 - 2/55
( )8/173
( )8/174
هذا حديث غريب ،وإبراهيم ضعيف ،وقد تقدم مثله في سورة "يس" وقد روى هذا الحديث عبد
حمَيد في مسنده بأبسط من هذا ،فقال :
بن ُ
حدثنا إبراهيم بن الحكم ،عن أبيه ،عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل :أل أتحفك بحديث
ك " وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان
تفرح به ؟ قال :بلى .قال اقرأ " :تَبَا َركَ الّذِي بِ َي ِدهِ ا ْلمُ ْل ُ
بيتك وجيرانك ،فإنها المنجية والمجادلة ،تجادل -أو تخاصم -يوم القيامة عند ربها لقارئها ،
وتطلب له أن [ينجيه] ( )1من عذاب النار ،وينجي بها صاحبها من عذاب القبر ؛ قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :لوددتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي" (.)2
وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه ،في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد ،أبي عبد ال
القرشي النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه ،أحد الثقات الذين روي عنهم البخاري ومسلم ،ولكن
في غير الصحيحين ،وروى عنه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة .وعليه تفقه في مذهب أبي
عُبَيد بن حَرْبَويه ،وخلق سواهم ،ساق بسنده من حديثه عن فرات بن السائب ،عن الزهري ،
عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن رجل ممن كان قبلكم مات ،
وليس معه شيء من كتاب ال إل " تَبَا َركَ " ،فلما وضع في حفرته أتاه المَلَك فثارت السورة في
وجهه ،فقال لها :إنك من كتاب ال ،وأنا أكره مساءتك ،وإني ل أملك لك ول له ول لنفسي
ضرا ول نفعا ،فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له .فتنطلق إلى الرب
عمَد إليّ من بين كتابك ف َتعَلّمني وتلني أفتحرقه ( )3أنت بالنار وتعذبه
فتقول :يا رب ،إن فلنًا َ
وأنا في جوفه ؟ فإن كنت فاعل ذاك به فامحني من كتابك .فيقول :أل أراك غضبت ؟ فتقول :
شفّعتك فيه .قال :فتجيء فيخرج الملك ،
وحُقّ لي أن أغضب .فيقول :اذهبي فقد وهبته لك ،و َ
حلَ منه بشيء .قال :فتجيء فتضع فاها على فيه ،فتقول مرحبا بهذا الفم
فيخرج كاسف البال لم يَ ْ
،فربما تلني ،ومرحبا بهذا الصدر ،فربما وعاني ،ومرحبا بهاتين القدمين ،فربما قامتا بي.
حدّث بهذا رسولُ ال صلى ال عليه وسلم لم
وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه" .قال :فلما َ
يبق صغير ول كبير ول حُرّ ول عبد ،إل تعلمها ،وسماها رسول ال صلى ال عليه وسلم
المنجية (.)4
قلت :وهذا حديث منكر جدا ،وفرات بن السائب هذا ضعفه المام أحمد ،ويحيى بن معين ،
والبخاري ،وأبو حاتم ،والدارقطني وغير واحد .وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر ،عن
الزهري ،من قوله مختصرا .وروى البيهقي في كتاب "إثبات عذاب القبر" عن ابن مسعود
موقوفًا ومرفوعًا ما يشهد لهذا ( )5وقد كتبناه في كتاب الجنائز من الحكام الكبرى ،ول الحمد (
.)6
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )2ذكره البوصيري في إتحاف المهرة (ق 214سليمانية) من مسند عبد بن حميد.
( )3في أ " :أفتجزيه".
( )4تاريخ دمشق (" 2/256المخطوط").
( )5إثبات عذاب القبر للبيهقي برقم ( )99وقد فصل الكلم عليه الفاضل محمد طرهوني في
موسوعة فضائل القرآن (.)2/193
( )6في أ " :ول الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".
( )8/175
حسَنُ
شيْءٍ قَدِيرٌ ( )1الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّي ُكمْ أَ ْ
ك وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
تَبَا َركَ الّذِي بِ َي ِدهِ ا ْلمُ ْل ُ
حمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ
س َموَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَ ْلقِ الرّ ْ
عمَلًا وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َغفُورُ ( )2الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ
َ
جعِ الْ َبصَرَ كَرّتَيْنِ يَ ْنقَِلبْ ِإلَ ْيكَ الْ َبصَرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ
فَارْجِعِ الْ َبصَرَ َهلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (ُ )3ثمّ ارْ ِ
سعِيرِ
عذَابَ ال ّ
ن وَأَعْ َتدْنَا َلهُمْ َ
جعَلْنَاهَا ُرجُومًا لِلشّيَاطِي ِ
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ وَ َ
حسِيرٌ ( )4وََلقَدْ زَيّنّا ال ّ
َ
()5
( )8/176
حمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ } أي :بل هو مصطحب مستو ،ليس فيه اختلف
وقوله { :مَا تَرَى فِي خَ ْلقِ الرّ ْ
ول تنافر ول مخالفة ،ول نقص ول عيب ول خلل ؛ ولهذا قال { :فَارْجِعِ الْ َبصَرَ َهلْ تَرَى مِنْ
فُطُورٍ } أي :انظر إلى السماء فتأملها ،هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خلل ؛ أو فطورًا ؟.
قال ابن عباس ،ومجاهد ،والضحاك ،والثوري ،وغيرهم في قوله { :فَارْجِعِ الْ َبصَرَ َهلْ تَرَى
مِنْ فُطُورٍ } أي :شقوق.
وقال السدي َ { :هلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي :من خُروق .وقال ابن عباس في رواية { :مِنْ ُفطُورٍ
} أي :من وُ ِهيّ ( )1وقال قتادة َ { :هلْ تَرَى مِنْ ُفطُورٍ } أي :هل ترى خَلَل يا ابن آدم ؟.
جعِ الْ َبصَرَ كَرّتَيْنِ } قال :مرتين { .يَ ْنقَِلبْ إِلَ ْيكَ الْ َبصَرُ خَاسِئًا } قال ابن عباس :
وقوله ُ { :ثمّ ارْ ِ
ذليل ؟ وقال مجاهد ،وقتادة :صاغرًا.
{ وَ ُهوَ حَسِيرٌ } قال ابن عباس :يعني :وهو كليل .وقال مجاهد ،وقتادة ،والسدي :الحسير :
المنقطع من العياء.
ومعنى الية :إنك لو كررت البصر ،مهما كررت ،لنقلب إليك ،أي :لرجع إليك البصر ،
{ خَاسِئًا } عن أن يرى عيبًا أو خلل { وَ ُهوَ حَسِيرٌ } أي :كليل قد انقطع من العياء من كثرة
التكرر ،ول يرى نقصًا.
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ }
ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال { :وَلَقَدْ زَيّنّا ال ّ
وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.
جعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح
جعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } عاد الضمير في قوله { :وَ َ
وقوله { :وَ َ
ل على عينها ؛ لنه ل يرمي بالكواكب التي في السماء ،بل بشهب من دونها ،وقد تكون
مستمدة منها ،وال أعلم.
سعِيرِ } أي :جعلنا ( )2للشياطين هذا الخزي في الدنيا ،وأعتدنا
وقوله { :وَأَعْتَدْنَا َلهُمْ عَذَابَ ال ّ
سمَاءَ الدّنْيَا بِزِي َنةٍ
لهم عذاب السعير في الخرى ،كما قال :في أول الصافات { :إِنّا زَيّنّا ال ّ
س ّمعُونَ إِلَى ا ْلمَل العْلَى وَيُقْ َذفُونَ مِنْ ُكلّ جَا ِنبٍ ُدحُورًا
حفْظًا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ مَارِدٍ ل َي ّ
ب وَ ِ
ا ْل َكوَاكِ ِ
شهَابٌ ثَا ِقبٌ } [الصافات .]10 - 6 :
طفَةَ فَأَتْ َبعَهُ ِ
طفَ ا ْلخَ ْ
صبٌ إِل مَنْ خَ ِ
ب وَا ِ
وََلهُمْ عَذَا ٌ
قال قتادة :إنما خلقت هذه النجوم لثلث خصال :خلقها ال زينة للسماء ،ورجوما للشياطين ،
وعلمات يهتدى بها ،فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه ،وأضاع نصيبه ،
وتكلف ما ل علم له به .رواه ابن جرير ،وابن أبي حاتم.
__________
( )1في هـ ،أ " :من وهاء" والمثبت من تفسير الطبري .مستفادا من هوامش ط .الشعب.
( )2في م " :أي :جعلناها".
( )8/177
( )8/178
( )8/178
يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس ،فينكف عن
المعاصي ويقوم بالطاعات ،حيث ل يراه أحد إل ال ،بأنه له مغفرة وأجر كبير ،أي :يكفر
عنه ذنوبه ،ويجازى بالثواب الجزيل ،كما ثبت في الصحيحين " :سبعة يظلهم ال تعالى في ظل
عرشه يوم ل ظل إل ظله" ،فذكر منهم " :رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال :إني
أخاف ال ،ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ،حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه" (.)1
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :حدثنا طالوت بن عباد ،حدثنا الحارث بن عبيد ،عن
ثابت ،عن أنس قال :قالوا :يا رسول ال ،إنا نكون عندك على حال ،فإذا فارقناك كنا على
غيره ؟ قال " :كيف أنتم وربكم ؟" قالوا :ال ربنا في السر والعلنية .قال " :ليس ذلكم النفاق" (
.)2
لم يروه عن ثابت إل الحارث بن عُبَيد فيما نعلمه.
جهَرُوا بِهِ إِنّهُ
ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر { :وَأَسِرّوا َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ
عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ } أي :بما خطر في القلوب.
{ أَل َيعْلَمُ مَنْ خََلقَ } ؟ أي :أل يعلم الخالق .وقيل :معناه أل يعلم ال مخلوقه ؟ والول أولى ،
لقوله { :وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الرض وتذليله إياها لهم ،بأن جعلها قارة ساكنة ل تمتد
( )3ول تضطرب ( )4بما جعل فيها من الجبال ،وأنبع فيها من العيون ،وسلك فيها من السبل ،
ج َعلَ َلكُمُ ال ْرضَ َذلُول
وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار ،فقال ُ { :هوَ الّذِي َ
فَامْشُوا فِي مَنَاكِ ِبهَا } أي :فسافروا حيث شئتم من أقطارها ،وترددوا في أقاليمها وأرجائها في
أنواع المكاسب والتجارات ،واعلموا أن سعيكم ل يجدي عليكم شيئًا ،إل أن ييسره ال لكم ؛
ولهذا قال َ { :وكُلُوا مِنْ رِ ْزقِهِ } فالسعي في السبب ل ينافي التوكل ،كما قال المام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا حَ ْيوَة ،أخبرني بكر بن عمرو ،أنه سمع عبد ال بن هُبَيْرة يقول :
إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول :إنه سمع عمر بن الخطاب يقول :إنه سمع رسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :لو أنكم تتوكلون على ال حق توكله ،لرزقكم كما يرزق الطير َ ،تغْدُو
خمَاصًا وتَرُوح ِبطَانًا".
ِ
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة ( )5وقال الترمذي :حسن صحيح.
فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق ،مع توكلها على ال ،عز وجل ،وهو المسَخّر المسير
المسبب { .وَإِلَ ْيهِ النّشُورُ } أي :المرجع يوم القيامة.
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( )660وصحيح مسلم برقم ( )1031من حديث أبي هريرة ،رضي
ال عنه.
( )2مسند البزار برقم (" )52كشف الستار" وقال الحافظ ابن حجر في مختصر الزوائد ()1/67
" :الحارث له مناكير وإن أخرج له في الصحيح".
( )3في أ " :ل تميد".
( )4في م " :ل تضطرب ول تميد".
( )5المسند ( )1/30وسنن الترمذي برقم ( )2344وسنن ابن ماجة برقم (.)4164
( )8/179
سلَ
سمَاءِ أَنْ يُ ْر ِ
سفَ ِبكُمُ الْأَ ْرضَ فَإِذَا ِهيَ َتمُورُ (َ )16أمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
سمَاءِ أَنْ َيخْ ِ
أََأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا فَسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ نَذِيرِ ( )17وََلقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ (َ )18أوََلمْ
شيْءٍ َبصِيرٌ (َ )19أمْ مَنْ
حمَنُ إِنّهُ ِب ُكلّ َ
س ُكهُنّ إِلّا الرّ ْ
ت وَيَقْ ِبضْنَ مَا ُيمْ ِ
يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّا ٍ
حمَنِ إِنِ ا ْلكَافِرُونَ إِلّا فِي غُرُورٍ ( )20أَمْ مَنْ هَذَا الّذِي
هَذَا الّذِي ُهوَ جُنْدٌ َل ُكمْ يَ ْنصُ ُركُمْ مِنْ دُونِ الرّ ْ
جهِهِ أَ ْهدَى أَمْ مَنْ
سكَ رِ ْزقَهُ َبلْ لَجّوا فِي عُ ُت ّو وَنُفُورٍ (َ )21أ َفمَنْ َيمْشِي ُمكِبّا عَلَى َو ْ
يَرْ ُز ُقكُمْ إِنْ َأ ْم َ
سمْعَ وَالْأَ ْبصَارَ وَالَْأفْ ِئ َدةَ
ج َعلَ َل ُكمُ ال ّ
سوِيّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (ُ )22قلْ ُهوَ الّذِي أَنْشََأكُمْ وَ َ
َيمْشِي َ
ض وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ ( )24وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا
شكُرُونَ (ُ )23قلْ ُهوَ الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْر ِ
قَلِيلًا مَا تَ ْ
ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ (ُ )25قلْ إِ ّنمَا ا ْلعِلْمُ عِ ْندَ اللّهِ وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ()26
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي { :مَنَاكِ ِبهَا } أطرافها وفجاجها ونواحيها .وقال ابن عباس
وقتادة { :مَنَاكِ ِبهَا } الجبال.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا عمرو بن حكام الزدي ،حدثنا شعبة ،عن قتادة ،عن
يونس بن جبير ،عن بشير بن كعب :أنه قرأ هذه الية { :فَامْشُوا فِي مَنَاكِ ِبهَا } فقال لم ولد له
:إن علمت { مَنَاكِ ِبهَا } فأنت عتيقة .فقالت :هي الجبال .فسأل أبا الدرداء فقال :هي الجبال.
سمَاءِ أَنْ
سفَ ِبكُمُ ال ْرضَ فَِإذَا ِهيَ َتمُورُ (َ )16أمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
سمَاءِ أَنْ يَخْ ِ
{ أََأمِنْ ُتمْ مَنْ فِي ال ّ
سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا فَسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ َنذِيرِ ( )17وََلقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ ()18
يُرْ ِ
شيْءٍ َبصِيرٌ (} )19
حمَنُ إِنّهُ ِب ُكلّ َ
س ُكهُنّ إِل الرّ ْ
َأوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّاتٍ وَ َيقْ ِبضْنَ مَا ُيمْ ِ
وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم ،بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه
خذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا
غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح ،ويؤجل ول يعجل ،كما قال { :وََلوْ ُيؤَا ِ
سمّى فَِإذَا جَاءَ أَجَُل ُهمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ
جلٍ ُم َ
ظهْرِهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّ ُرهُمْ إِلَى َأ َ
كَسَبُوا مَا تَ َركَ عَلَى َ
ِبعِبَا ِدهِ َبصِيرًا } [فاطر .]45 :
سفَ ِب ُكمُ ال ْرضَ فَِإذَا ِهيَ َتمُورُ } أي :تذهب وتجيء
خِسمَاءِ أَنْ يَ ْ
وقال هاهنا { :أََأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
سلَ عَلَ ْي ُكمْ حَاصِبًا } أي :ريحا فيها حصباء تدمغكم ،
سمَاءِ أَنْ يُرْ ِ
وتضطرب َ { ،أمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
جدُوا َلكُ ْم َوكِيل }
سلَ عَلَ ْي ُكمْ حَاصِبًا ُثمّ ل تَ ِ
سفَ ِبكُمْ جَا ِنبَ الْبَرّ َأوْ يُ ْر ِ
كما قال َ { :أفََأمِنْتُمْ أَنْ يَخْ ِ
[السراء .]68 :وهكذا توعدهم هاهنا بقوله َ { :فسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ نَذِيرِ } أي :كيف يكون إنذاري
وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال { :وَلَقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ } أي :من المم السالفة والقرون الخالية َ { ،فكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ
} أي :فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟ أي :عظيمًا شديدًا أليمًا.
ت وَ َيقْبِضْنَ } أي :تارة يصففن أجنحتهن في
ثم قال تعالى َ { :أوََلمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّا ٍ
حمَنُ } أي :بما
س ُكهُنّ } أي :في الجو { إِل الرّ ْ
الهواء ،وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا { مَا ُيمْ ِ
شيْءٍ َبصِيرٌ } أي :بما يصلح كل شيء من
سخر لهن من الهواء ،من رحمته ولطفه { ،إِنّهُ ِب ُكلّ َ
س ُكهُنّ إِل اللّهُ إِنّ فِي
سمَاءِ مَا ُيمْ ِ
جوّ ال ّ
سخّرَاتٍ فِي َ
مخلوقاته .وهذه كقوله { :أَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ مُ َ
ك ليَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [النحل .]79 :
ذَِل َ
حمَنِ إِنِ ا ْلكَافِرُونَ إِل فِي غُرُورٍ (َ )20أمْ مَنْ
{ َأمْ مَنْ َهذَا الّذِي ُهوَ جُنْدٌ َلكُمْ يَ ْنصُ ُركُمْ مِنْ دُونِ الرّ ْ
جهِهِ
سكَ رِ ْزقَهُ َبلْ َلجّوا فِي عُ ُت ّو وَ ُنفُورٍ (َ )21أ َفمَنْ َيمْشِي ُمكِبّا عَلَى وَ ْ
هَذَا الّذِي يَرْ ُز ُقكُمْ إِنْ َأمْ َ
سمْعَ
ج َعلَ َلكُمُ ال ّ
سوِيّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (ُ )22قلْ ُهوَ الّذِي أَ ْنشََأكُ ْم وَ َ
أَهْدَى أَمْ مَنْ َيمْشِي َ
حشَرُونَ ()24
شكُرُونَ (ُ )23قلْ ُهوَ الّذِي ذَرََأكُمْ فِي ال ْرضِ وَإِلَ ْيهِ تُ ْ
وَالبْصَا َر وَالفْئِ َدةَ قَلِيل مَا تَ ْ
وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (ُ )25قلْ إِ ّنمَا ا ْلعِ ْلمُ عِنْدَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا َنذِيرٌ مُبِينٌ (} )26
( )8/180
ت وُجُوهُ الّذِينَ َكفَرُوا َوقِيلَ َهذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ ()27
فََلمّا رََأ ْوهُ زُ ْلفَةً سِي َئ ْ
{ فََلمّا رََأ ْوهُ زُ ْلفَةً سِي َئتْ ُوجُوهُ الّذِينَ َكفَرُوا َوقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ َتدّعُونَ (} )27
( )8/180
يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره ،يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا ،مُنكرًا عليهم فيما
اعتقدوه ،ومُخبرا لهم أنه ل يحصل لهم ما أملوه ،فقال َ { :أمّنْ َهذَا الّذِي ُهوَ جُ ْندٌ َلكُمْ يَ ْنصُ ُركُمْ
حمَنِ } أي :ليس لكم من دونه من ولي ول واق ،ول ناصر لكم غيره ؛ ولهذا قال :
مِنْ دُونِ الرّ ْ
{ إِنِ ا ْلكَافِرُونَ إِل فِي غُرُورٍ }
سكَ رِ ْزقَهُ } ؟! أي :من هذا الذي إذا قطع ال رزقه عنكم
ثم قال َ { :أمّنْ هَذَا الّذِي يَرْ ُز ُقكُمْ إِنْ َأمْ َ
يرزقكم بعده ؟! أي :ل أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق ،وينصر إل ال ،عز وجل ،وحده ل
شريك له ،أي :وهم يعلمون ذلك ،ومع هذا يعبدون غيره ؛ ولهذا قال َ { :بلْ َلجّوا } أي :
استمروا في طغيانهم وإفكهم وضللهم { فِي عُ ُت ّو وَ ُنفُورٍ } أي :في معاندة واستكبارًا ونفورًا على
أدبارهم عن الحق [ ،أي] ( )1ل يسمعون له ول يتبعونه.
سوِيّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } ؟ :وهذا
ج ِههِ أَ ْهدَى َأمّنْ َيمْشِي َ
علَى وَ ْ
ثم قال َ { :أ َفمَنْ َيمْشِي ُمكِبّا َ
مثل ضربه ال للمؤمن والكافر ،فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه ،أي
:يمشي منحنيا ل مستويا على وجهه ،أي :ل يدري أين يسلك ول كيف يذهب ؟ بل تائه حائر
سوِيّا } أي :منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :على
ضال ،أهذا أهدى { َأمّنْ َيمْشِي َ
طريق واضح بين ،وهو في نفسه مستقيم ،وطريقه مستقيمة .هذا مثلهم في الدنيا ،وكذلك
يكونون في الخرة .فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم ،مُفض به إلى الجنة الفيحاء
جهُ ْم َومَا
،وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم { ،احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ
كَانُوا َيعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلجَحِي ِم َوقِفُوهُمْ إِ ّن ُهمْ مَسْئُولُونَ مَا َلكُمْ ل تَنَاصَرُونَ
َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ }
قال المام أحمد ،رحمه ال :حدثنا ابن ُنمَير ،حدثنا إسماعيل ،عن ُنفَيع قال :سمعت أنس بن
مالك يقول :قيل :يا رسول ال ،كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال " :أليس الذي أمشاهم
على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم" (.)2
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق [يونس بن محمد ،عن شيبان ،عن قتادة ،عن
__________
( )1زيادة من م.
( )2المسند (.)3/167
( )8/181
( )8/182
توكلنا في جميع أمورنا ،كما قال { :فَاعْبُ ْد ُه وَ َت َو ّكلْ عَلَ ْيهِ } [هود .]123 :ولهذا قال :
{ َفسَ َتعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ فِي ضَللٍ مُبِينٍ } ؟ أي :منا ومنكم ،ولمن تكون العاقبة في الدنيا
والخرة ؟.
غوْرًا } أي :ذاهبا في الرض إلى أسفل ،فل يُنَال
ثم قال ُ { :قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَا ُؤكُمْ َ
بالفئوس الحداد ،ول السواعد الشداد ،والغائر :عكس النابع ؛ ولهذا قال َ { :فمَنْ يَأْتِي ُكمْ ِبمَاءٍ
َمعِينٍ } أي :نابع سائح جار على وجه الرض ،ل يقدر على ذلك إل ال ،عز وجل ،فمن
فضله وكرمه [أن] ( )1أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الرض ،بحسب ما يحتاج العباد
إليه من القلة والكثرة ،فلله الحمد والمنة.
[آخر تفسير سورة "تبارك" ول الحمد] ()2
__________
( )1زيادة من أ.
( )2زيادة من م ،وفي أ " :آخر تفسير سورة الملك ول الحمد والثناء الحسن الجميل".
( )8/183
ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَسْطُرُونَ ( )1مَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ ( )2وَإِنّ َلكَ لََأجْرًا غَيْرَ َممْنُونٍ ( )3وَإِ ّنكَ
ضلّ عَنْ
ن َ
َلعَلَى خُُلقٍ عَظِيمٍ (َ )4فسَتُ ْبصِرُ وَيُ ْبصِرُونَ ( )5بِأَيّي ُكمُ ا ْل َمفْتُونُ ( )6إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَ ْ
علَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ ()7
سَبِيلِهِ وَ ُهوَ أَ ْ
( )8/184
وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال :حدثنا أبو حبيب ( )1زيد بن المهتدي المروذي ( )2حدثنا
سعيد بن يعقوب الطالقاني ،حدثنا ُمؤَمّل بن إسماعيل ،حدثنا حماد بن زيد ،عن عطاء بن
السائب ،عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :إن أول ما خلق ال القلم والحوت ،قال للقلم :اكتب ،قال :ما أكتب ،قال :كل شيء
سطُرُونَ } فالنون :الحوت .والقلم :القلم (.)3
كائن إلى يوم القيامة" .ثم قرأ { :ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ
حديث آخر في ذلك :رواه ابن عساكر عن أبي عبد ال مولى بني أمية ،عن أبي صالح ،عن
أبي هُرَيرة :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إن أول شيء خلقه ال القلم ،ثم
خلق "النون" وهي :الدواة .ثم قال له :اكتب .قال وما أكتب ؟ قال :اكتب ما يكون -أو :ما
هو كائن -من عمل أو رزق أو أثر أو أجل .فكتب ذلك إلى يوم القيامة ،فذلك قوله { :ن وَا ْلقَلَمِ
َومَا َيسْطُرُونَ } ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ،ثم خلق العقل وقال :وعزتي
لكملنك فيمن أحببت ،ولنقصنك ممن أبغضت" (.)4
وقال ابن أبي َنجِيح :إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال :كان يقال :النون :الحوت
[العظيم] ( )5الذي تحت الرض السابعة.
وذكر البغوي وجماعة من المفسرين :إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات
والرض ،وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن ،وعلى متنه الرضون السبع وما فيهن وما
بينهن ( )6فال أعلم .ومن العجيب ( )7أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه
المام أحمد :
حمَيد ،عن أنس :أن عبد ال بن سلم بَلَغه َمقْدَم رسول ال صلى ال
حدثنا إسماعيل ،حدثنا ُ
عليه وسلم المدينة ،فأتاه فسأله عن أشياء ،قال :إني سائلك عن أشياء ل يعلمها إل نبي ،قال :
ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه ؟ والولد
ينزع إلى أمه ؟ قال " :أخبرني بهن جبريل آنفًا" .قال ابن سلم :فذاك عدو اليهود من الملئكة.
قال " :أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم ( )8من المشرق إلى المغرب .وأول طعام يأكله أهل
الجنة زيادةُ كبد حوت .وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ،وإذا سبق ماء
المرأة ماء الرجل نزعت".
__________
( )1في أ " :أبو صهيب".
( )2في أ " :المهدى".
( )3المعجم الكبير ( )11/433وقال " :لم يرفعه عن حماد بن زيد إل مؤمل بن إسماعيل" .ومؤمل
كثير الخطأ ،فلعله أخطأ في رفعه.
( )4تاريخ دمشق (" 17/492المخطوط" ) ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (
)1/454من طريق يحيى الغساني ،عن أبي عبد ال ،عن أبي صالح ،به .ورواه ابن عدي في
الكامل ( )6/269من طريق محمد بن وهب ،عن مسلم ،عن مالك ،عن سمي ،عن أبي صالح
،عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه ،قال " :هذا بهذا السناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب .قال
الذهبي في الميزان " :صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
( )5زيادة من م.
( )6معالم التنزيل ( )8/186وهذا من السرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه
" :السرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص )305وقال المام ابن القيم في المنار
المنيف (ص )76في ذكر علمات الوضع " :أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على
بطلنه ،ومن هذا حديث " :إن الرض على صخرة ،والصخرة على قرن ثور ،فإذا حرك
الثور قرنه تحركت الصخرة ،فتحركت الرض ،وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه
الهذيانات" .أ .هـ.
( )7في أ " :ومن العجب".
( )8في أ " :تحشر الناس".
( )8/185
وقوله { :والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله { اقْرَ ْأ وَرَ ّبكَ الكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِا ْلقَلَمِ
عَلّمَ النْسَانَ مَا لَمْ َيعَْلمْ } [العاق .]5 - 3 :فهو قسم منه تعالى ،وتنبيه لخلقه على ما أنعم به
سطُرُونَ } قال ابن عباس ،
عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ؛ ولهذا قال َ { :ومَا يَ ْ
ومجاهد ،وقتادة :يعني :وما يكتبون.
وقال أبو الضّحى ،عن ابن عباس َ { :ومَا َيسْطُرُونَ } أي :وما يعملون.
وقال السدي َ { :ومَا َيسْطُرُونَ } يعني الملئكة وما تكتب من أعمال العباد.
وقال آخرون :بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه ال بالقدر حين كتب مقادير الخلئق قبل أن
يخلق السموات والرضين بخمسين ألف سنة .وأوردوا في ذلك الحاديث الواردة في ذكر القلم ،
فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي ،حدثنا
عبد الواحد بن سُليم السلمي ،عن عطاء -هو ابن أبي رباح -حدثني الوليد بن عبادة بن
الصامت قال :دعاني أبي حين حضره الموت فقال :إني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول " :إن أول ما خلق ال القلم ،فقال له :اكتب .قال :يا رب وما أكتب ؟ قال :اكتب القدر
[ما كان] ( )1وما هو كائن إلى البد".
وهذا الحديث قد رواه المام أحمد من طرق ،عن الوليد بن عبادة ،عن أبيه ،به ( )2وأخرجه
الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ،به ( )3وقال :حسن صحيح غريب .ورواه أبو داود في
كتاب "السنة" من سننه ،عن جعفر بن مسافر ،عن يحيى بن حسان ،عن ابن رباح ،عن
إبراهيم بن أبي عبلة ( )4عن أبي حفصة -واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي -عن عبادة
،فذكره (.)5
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن عبد ال الطوسي ،حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ،أنبأنا عبد
ال بن المبارك ،حدثنا رباح بن زيد ،عن عمر بن حبيب ،عن القاسم بن أبي بَزة ( )6عن
سعيد بن جبير ،عن ابن عباس :أنه كان يحدث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن
أول شيء خلقه ال القلم فأمره فكتب كل شيء" .غريب من هذا الوجه ،ولم يخرجوه ()7
وقال ابن أبي نَجيح ،عن مجاهد { :وَا ْلقَلَمِ } يعني :الذي كتب به الذكر..
سطُرُونَ } أي :يكتبون كما تقدم.
وقوله َ { :ومَا يَ ْ
__________
( )1زيادة من منحة المعبود .مستفادًا من هامش ط -الشعب.
( )2المسند (.)5/317
( )3سنن الترمذي برقم (.)3319
( )4في أ " :عن ابن أبي عبلة".
( )5سنن أبي داود برقم (.)4700
( )6في أ " :بن أبي مرة".
( )7تفسير الطبري (.)29/11
( )8/187
وقوله { :مَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ } أي :لست ،ول الحمد ،بمجنون ،كما قد يقوله الجهلة
من قومك ،المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين ،فنسبوك فيه إلى الجنون { ،وَإِنّ َلكَ
لجْرًا غَيْرَ َممْنُونٍ } أي :بل لك الجر العظيم ،والثواب الجزيل الذي ل ينقطع ول يبيد ،على
إبلغك رسالة ربك إلى الخلق ،وصبرك على أذاهم .ومعنى { غَيْرُ َممْنُونٍ } أي :غير مقطوع
جذُوذٍ } [هود {]108 :فََلهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ } [التين ]6 :أي :غير
كقوله { :عَطَاءً غَيْرَ مَ ْ
مقطوع عنهم .وقال مجاهد { :غَيْرُ َممْنُونٍ } أي :غير محسوب ،وهو يرجع إلى ما قلناه.
وقوله { :وَإِ ّنكَ َلعَلى خُُلقٍ عَظِيمٍ } قال العوفي ،عن ابن عباس :أي :وإنك لعلى دين ( )1عظيم
،وهو السلم .وكذلك قال مجاهد ،وأبو مالك ،والسدي ،والربيع بن أنس ،والضحاك ،وابن
زيد.
وقال عطية :لعلى أدب عظيم .وقال َم ْعمَر ،عن قتادة :سُئلت عائشةُ عن خلق رسول ال صلى
ال عليه وسلم .قالت :كان خلقه القرآن ،تقول كما هو في القرآن.
عظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد ( )2بن
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ،عن قتادة قوله { :وَإِ ّنكَ َلعَلى خُلُقٍ َ
هشام سأل عائشة عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقالت :ألست تقرأ القرآن ؟ قال :
بلى .قالت :فإن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم كان القرآن.
وقال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة ،عن زُرارة بن أوفى ( )3عن سعد بن هشام قال :
سألت عائشة فقلت :أخبريني يا أم المؤمنين -عن خُلُق رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقالت :
أتقرأ القرآن ؟ فقلتُ :نعم .فقالت :كان خلقه القرآن (.)4
هذا حديث طويل .وقد رواه المام مسلم في صحيحه ،من حديث قتادة بطوله ( )5وسيأتي في
سورة "المزمل" إن شاء ال تعالى.
وقال المام أحمد :حدثنا إسماعيل ،حدثنا يونس ،عن الحسن قال :سألت عائشة عن خلق
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالت :كان خلقه القرآن (.)6
وقال المام أحمد :حدثنا أسود ،حدثنا شريك ،عن قيس بن وهب ،عن رجل من بني سواد قال
:سألت عائشة عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقالت :أما تقرأ القرآن { :وَإِ ّنكَ َلعَلى
خُُلقٍ عَظِيمٍ } ؟ قال :قلت :حدثيني عن ذاك .قالت :صنعت له طعامًا ،وصنعت له حفصة
طعامًا ،فقلت لجاريتي :اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام! قالت :
طعًا (- )8
فجاءت بالطعام .قالت :فألقت ( )7الجارية ،فوقعت القصعة فانكسرت -وكان نِ ْ
قالت :فجمعه رسول ال
__________
( )1في أ " :لعلى خلق".
( )2في أ " :أ ،سعيد".
( )3في أ " :زرارة بن أبي أوفي".
( )4تفسير عبد الرزاق (.)2/245
( )5صحيح مسلم برقم (.)746
( )6المسند (.)6/216
( )7في أ " :فالتفتت".
( )8في هـ ،م ،أ " :نطع" ،والمثبت من المسند.
( )8/188
وقال " :اقتضوا -أو :اقتضى -شك أسود -ظَرفًا مكان ظَرفِك" .قالت :فما قال شيئًا (.)1
وقال ابن جرير :حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس ،حدثنا أبي ،حدثنا المبارك بن فضالة ،عن
الحسن ،عن سعد ( )2بن هشام :قال :أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها :أخبريني بخلُق النبي
عظِيمٍ }
( )3صلى ل عليه وسلم .فقالت :كان خلقه القرآن .أما تقرأ { :وَإِ ّنكَ َلعَلى خُلُقٍ َ
وقد روى أبو داود والنسائي ،من حديث الحسن ،نحوه ()4
وقال ابن جرير :حدثني يونس ،أنبأنا ابن وهب ،وأخبرني معاوية بن صالح ،عن أبي
الزاهرية ،عن جُبَير بن نفير قال :حججتُ فدخلتُ على عائشة ،رضي ال عنها ،فسألتها عن
خُلُق رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقالت :كان خُلُق رسول ال صلى ال عليه وسلم القرآن.
وهكذا رواه أحمد ،عن عبد الرحمن بن مهدي .ورواه النسائي في التفسير ،عن إسحاق بن
منصور ،عن عبد الرحمن بن مهدي ،عن معاوية بن صالح ،به ()5
ومعنى هذا أنه ،عليه السلم ،صار امتثالُ القرآن ،أمرًا ونهيًا ،سجية له ،وخلقًا تَطَ ّبعَه ،
وترك طبعه الجِبِلّي ،فمهما أمره القرآن فعله ،ومهما نهاه عنه تركه .هذا مع ما جَبَله ال عليه
من الخلق العظيم ،من الحياء والكرم والشجاعة ،والصفح والحلم ،وكل خلق جميل .كما ثبت
في الصحيحين عن أنس قال :خدمتُ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم عشر سنين فما قال لي :
"أف" قط ،ول قال لشيء فعلته :لم فعلته ؟ ول لشيء لم أفعله :أل فعلته ؟ وكان صلى ال عليه
ستُ خزًا ول حريرًا ول شيئًا كان ألين من كف رسول ال صلى
وسلم أحسن الناس خلقًا ول مَس ْ
ش َم ْمتُ مسكًا ول عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول ال صلى ال عليه وسلم
ال عليه وسلم ،ول َ
()6
وقال البخاري [ :حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد ال] ( )7حدثنا إسحاق بن منصور ،حدثنا إبراهيم
بن يوسف ،عن أبيه ،عن أبي إسحاق قال :سمعت البراء يقول :كان رسول ال صلى ال عليه
وسلم أحسن الناس وجها ،وأحسن الناس خلقًا ،ليس بالطويل البائن ،ول بالقصير ()8
والحاديث في هذا كثيرة ،ولبي عيسى الترمذي في هذا كتاب "الشمائل".
قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن الزهري ،عن عُ ْروَة ،عن عائشة قالت
:ما ضرب رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده خادمًا له قط ،ول امرأة ،ول ضرب بيده شيئًا
قط ،إل أن
__________
( )1المسند (.)6/11
( )2في هـ ،أ " :سعيد" ،والمثبت من م وتفسير الطبري.
( )3في م " :رسول ال".
( )4تفسير الطبري ( )29/13وسنن أبي داود برقم ( )1352وسنن النسائي (.)3/220
( )5تفسير الطبري ( )29/13والمسند ( )6/188وسنن النسائي الكبرى برقم (.)11138
( )6صحيح البخاري برقم ( )6038وصحيح مسلم برقم (.)2309
( )7زيادة من م ،أ ،وصحيح البخاري.
( )8صحيح البخاري برقم (.)3549
( )8/189
طعِ ا ْل ُمكَذّبِينَ ( )8وَدّوا َلوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( )9وَلَا ُتطِعْ ُكلّ حَلّافٍ َمهِينٍ (َ )10همّازٍ مَشّاءٍ
فَلَا تُ ِ
ل وَبَنِينَ ( )14إِذَا
بِ َنمِيمٍ ( )11مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ ُمعْتَدٍ أَثِيمٍ ( )12عُ ُتلّ َبعْدَ َذِلكَ زَنِيمٍ ( )13أَنْ كَانَ ذَا مَا ٍ
تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ ()15
يجاهد في سبيل ال .ول خُيّر بين شيئين قط إل كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا ،فإذا
كان إثما كان أبعد الناس من الثم ،ول انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إل أن تنتهك حرمات
ال ،فيكون هو ينتقم ل ،عز وجل ()1
وقال المام أحمد :حدثنا سعيد بن منصور ،حدثنا عبد العزيز بن محمد ،عن محمد بن
عَجْلن ،عن القعقاع بن حكيم ،عن أبي صالح ،عن أبي هُرَيرة قال :قال رسولُ ال صلى ال
عليه وسلم " :إنما ُبعِثتُ لتمم صالح الخلق" .تفرد به ()2
وقوله { :فَسَتُ ْبصِ ُر وَيُ ْبصِرُونَ بِأَيّيكُمُ ا ْل َمفْتُونُ } أي :فستعلم يا محمد ،وسيعلم مخالفوك ومكذبوك
:من المفتون الضال منك ومنهم .وهذا كقوله تعالى { :سَ َيعَْلمُونَ غَدًا مَنِ ا ْلكَذّابُ الشِرُ } [القمر
، ]26 :وكقوله { :وَإِنّا َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَى ُهدًى َأوْ فِي ضَللٍ مُبِينٍ } [سبأ .]24 :
قال ابن جريج :قال ابن عباس في هذه الية :ستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :بِأَيّيكُمُ ا ْلمَفْتُونُ } أي :الجنون .وكذا قال مجاهد ،وغيره .وقال
قتادة وغيره { :بِأَيّيكُمُ ا ْل َمفْتُونُ } أي :أولى بالشيطان.
ومعنى المفتون ظاهر ،أي :الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه ،وإنما دخلت الباء في قوله { :
بِأَيّيكُمُ ا ْل َمفْتُونُ } لتدل على تضمين الفعل في قوله { :فَسَتُ ْبصِ ُر وَيُ ْبصِرُونَ } وتقديره :فستعلم
ويعلمون ،أو :فس ُتخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون .وال أعلم.
ضلّ عَنْ سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ } أي :هو يعلم تعالى
ن َ
ثم قال تعالى { :إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَ ْ
أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي ،ويعلم الحزب الضال عن الحق.
{ فَل ُتطِعِ ا ْل ُمكَذّبِينَ ( )8وَدّوا َلوْ ُتدْهِنُ فَيُ ْدهِنُونَ ( )9وَل ُتطِعْ ُكلّ حَلفٍ َمهِينٍ (َ )10همّازٍ مَشّاءٍ
ل وَبَنِينَ ( )14إِذَا
بِ َنمِيمٍ ( )11مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ ُمعْتَدٍ أَثِيمٍ ( )12عُ ُتلّ َبعْدَ َذِلكَ زَنِيمٍ ( )13أَنْ كَانَ ذَا مَا ٍ
تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الوّلِينَ (} )15
__________
( )1المسند (.)6/232
( )2المسند (.)2/381
( )8/190
( )8/190
قال ابن عباس :المهين الكاذب .وقال مجاهد :هو الضعيف القلب .قال الحسن :كل حلف
مكابر مهين ضعيف.
وقوله { َهمّازٍ } قال ابن عباس وقتادة :يعني الغتياب.
{ مَشّاءٍ بِ َنمِيمٍ } يعني :الذي يمشي بين الناس ،ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين
وهي الحالقة ،وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد ،عن طاوس ،عن ابن عباس قال :
مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بقبرين فقال " :إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ،أما أحدهما
فكان ل يستتر ( )1من البول ،وأما الخر فكان يمشي بالنميمة" الحديث .وأخرجه بقية الجماعة
في كتبهم ،من طرق عن مجاهد ،به (.)2
وقال أحمد :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا العمش ،عن إبراهيم ،عن َهمّام ؛ أن حُذَيفة قال :
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل يدخل الجنة قَتّات".
رواه الجماعة -إل ابن ماجة -من طرق ،عن إبراهيم ،به (.)3
وحدثنا عبد الرزاق ،حدثنا الثوري ،عن منصور ،عن إبراهيم ،عن همام ،عن حذيفة قال :
سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل يدخل الجنة قتات" يعني :نماما (.)4
وحدثنا يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد الحول ،عن العمش ،حدثني إبراهيم -منذ نحو ستين
سنة -عن همام بن الحارث قال :مر رجل على حذيفة فقيل :إن هذا يرفع الحديث إلى المراء.
فقال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول -أو :قال : -قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :ل يدخل الجنة قتات" (.)5
وقال أحمد :حدثنا هاشم ،حدثنا مهدي ،عن واصل الحدب ،عن أبي وائل قال :بلغ حذيفة
عن رجل أنه ينم الحديث ،فقال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل يدخل الجنة
نمام" (.)6
حوْشَب ،عن
شهْر بن َ
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أنبأنا َم ْعمَر ،عن ابن خُثَيم ،عن َ
أسماء بنت يزيد بن السكن ؛ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :أل أخبركم بخياركم ؟" .قالوا :
بلى يا رسول ال .قال " :الذين إذا رُؤوا ذُكر ال ،عز وجل" .ثم قال " :أل أخبركم بشراركم ؟
المشاءون بالنميمة ،المفسدون بين الحبة ،والباغون للبرآء العَنَت".
ورواه ابن ماجة ،عن سويد بن سعيد ،عن يحيى بن سليم ،عن ابن خُثَيم ،به (.)7
__________
( )1في أ " :ل يستبرئ".
( )2صحيح البخاري برقم ( )218وصحيح مسلم برقم ( )292وسنن أبي داود برقم ( )20وسنن
الترمذي برقم ( )70وسنن النسائي ( )1/28وسنن ابن ماجة برقم (.)347
( )3المسند ( )5/382وصحيح البخاري برقم ( )6506وصحيح مسلم برقم ( )105وسنن أبي
داود برقم ( )4871وسنن الترمذي برقم ( )2026وسنن النسائي الكبري برقم (.)1164
( )4المسند (.)5/389
( )5المسند (.)5/389
( )6المسند (.)5/391
( )7المسند ( )6/459وسنن ابن ماجة برقم ( )4119وقال البوصيري في الزوائد (: )3/273
"هذا إسناد حسن ،شهر وسويد مختلف فيهما ،وباقي رجال السناد ثقات".
( )8/191
وقال المام أحمد حدثنا سفيان ،عن ابن أبي حُسَين ،عن شهر بن حوشب ،عن عبد الرحمن بن
غَنْم -يبلغ به النبي صلى ال عليه وسلم " :خيار عباد ال الذين إذا رؤوا ذكر ال ،وشرار عباد
ال المشاؤون بالنميمة ،المفرقون بين الحبة ،الباغون للبرآء العنت" ()1
وقوله { مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ ُمعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي :يمنع ما عليه وما لديه من الخير { ِ ُمعْتَدٍ } في متناول ما
أحل ال له ،يتجاوز فيها الحد المشروع { أَثِيمٍ } أي :يتناول المحرمات.
وقوله { :عُ ُتلّ َبعْدَ ذَِلكَ زَنِيمٍ } أما العتل :فهو الفظ الغليظ الصحيح ،الجموع المَنُوعُ.
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع وعبد الرحمن ،عن سفيان ،عن َمعْبَد ( )2بن خالد ،عن حارثة
بن وهب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أل أنبئكم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف
جوّاظ مستكبر" .وقال َوكِيع :
ضعّف لو أقسم على ال لبره ،أل أنبئكم بأهل النار ؟ كل عُتل َ
مُ َت َ
جوّاظ جعظري مستكبر".
"كل َ
أخرجاه في الصحيحين بقية الجماعة ،إل أبا داود ،من حديث سفيان الثوري وشعبة ،كلهما
عن معبد بن خالد ،به (.)3
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا موسى بن علي قال :سمعت أبي يحدّث
عن عبد ال بن عمرو بن العاص ؛ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار " :كل
جعظري جواظ مستكبر جماع مناع" .تفرد به أحمد (.)4
جمُوع المَنُوع.
جوّاظ :ال َ
قال أهل اللغة :الجعظري :الفَظّ الغَليظ ،وال َ
حوْشب ،عن عبد الرحمن بن
شهْر بن َ
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا عبد الحميد ،عن َ
خلْق
غَنْم ،قال :سُئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن العُتلّ الزنيم ،فقال " :هو الشديد ال َ
المصحح ،الكول الشروب ،الواجد للطعام والشراب ،الظلوم للناس ،رحيب الجوف" (.)5
وبهذا السناد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل يدخل الجنة الجَواظ الجعظري ،العتل
الزنيم" ( )6وقد أرسله أيضًا غير واحد من التابعين.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن عبد العلى ،حدثنا ابن ثور ،عن َمعْمر ،عن زيد بن أسلم قال قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :تبكي السماء من عبد أصح ال جسمه ،وأرحب جوفه ،
ضمًا فكان للناس ظلومًا .قال :فذلك العُتُل ( )7الزنيم" (.)8
وأعطاه من الدنيا مِق َ
__________
( )1المسند (.)4/227
( )2في أ " :سعيد".
( )3المسند ( )4/306وصحيح البخاري برقم ( )4918وصحيح مسلم برقم ( )2853وسنن
الترمذي برقم ( )2605وسنن النسائي الكبرى برقم ( )11615وسنن ابن ماجة برقم (.)4116
( )4المسند ( )2/169وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/393رجاله رجال الصحيح".
( )5المسند ( )4/227وقال الهيثمي في المجمع (" : )10/393إسناده حسن ،إل أن ابن غنم لم
يسمع من النبي صلى ال عليه وسلم" وقال في موضع آخر (" : )7/128فيه شهر بن حوشب وثقه
جماعة وفيه ضعف ،وعبد الرحمن بن غنم ليس له صحبة على الصحيح".
( )6المسند (.)4/227
( )7في م ،أ " :العبد".
( )8تفسير الطبري ( )19/16وهو مرسل.
( )8/192
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين ،ونص عليه غير واحد من السلف ،منهم
مجاهد ،وعكرمة ،والحسن ،وقتادة ،وغيرهم :أن العتل هو :المُصحّح الخَلْق ،الشديد القوي
في المأكل والمشرب والمنكح ،وغير ذلك ،وأما الزنيم فقال البخاري :
حصِين ،عن مجاهد ،عن ابن
حدثنا محمود ،حدثنا عُبَيد ال ،عن ( )1إسرائيل ،عن أبي َ
عباس { :عُ ُتلّ َبعْدَ ذَِلكَ زَنِيمٍ } قال :رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة.
ومعنى هذا :أنه كان مشهورًا بالشر ( )2كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها .وإنما الزنيم
ي في القوم .قاله ابن جرير وغير واحد من الئمة ،قال :ومنه قول
عّفي لغة العرب :هو الدّ ِ
حسان بن ثابت ،يعني يذم بعض كفار قريش :
وأنتَ زَنيم نِيطَ في آل هاشمَ ...كمَا نِيطَ خَ ْلفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ ()3
وقال آخر :
حسَب لَئيم...
زَنيمٌ لَ ْيسَ يُع َرفُ مَن أبوهُ ...بَغيّ الم ذُو َ
عكْ ِرمَة ،
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا عمار بن خالد الواسطي ،حدثنا أسباط ،عن هشام ،عن ِ
عن ابن عباس في قوله { :زَنِيمٍ } قال :الدعيّ الفاحش اللئيم .ثم قال ابن عباس :
زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيا َدةً ...كَما زيدَ في عَرضِ الديم الكَارعُ ()4
وقال العوفي عن ابن عباس :الزنيم :الدعي .ويقال :الزنيم :رجل كانت به زنمة ،يعرف بها.
ويقال :هو الخنس بن شَريق الثقفي ،حليف بني زهرة .وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم
السودُ بن عبد يغوث الزهري ،وليس به.
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد ،عن ابن عباس :أنه زعم أن الزنيم المُلحَق النسب.
وقال ابن أبي حاتم :حدثني يونس حدثنا ابن وهب ،حدثني سليمان بن بلل ،عن عبد الرحمن
بن حرملة ،عن سعيد بن المُسيّب ،أنه سمعه يقول في هذه الية { :عُ ُتلّ َب ْعدَ ذَِلكَ زَنِيمٍ } قال
سعيد :هو الملصق بالقوم ،ليس منهم.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا عقبة بن خالد ،عن عامر بن قدامة قال :
سئل عكرمة عن الزنيم ،قال :هو ولد الزنا.
وقال الحكم بن أبان ،عن عكرمة في قوله تعالى { :عُ ُتلّ َبعْدَ ذَِلكَ زَنِيمٍ } قال :يعرف المؤمن
من الكافر مثل الشاة الزنماء .والزنماء من الشياه :التي في عنقها هَنتان معلقتان في حلقها .وقال
الثوري ،عن جابر ،عن الحسن ،عن سعيد بن جبير قال :الزنيم :الذي يعرف بالشر كما
تعرف الشاة بزنمتها .والزنيم :الملصق .رواه ابن جرير.
__________
( )1في أ " :بن".
( )2في أ " :بالسوء".
( )3تفسير الطبري(.)19/17
( )4البيت في اللسان ،مادة "زنم" منسوبًا إلى الخطيم التميمي.
( )8/193
وروى أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة ،عن ابن عباس أنه قال في الزنيم :قال :
ُن ِعتَ فلم يعرف حتى قيل :زنيم .قال :وكانت له زَ َنمَةٌ في عنقه يُعرَف بها .وقال آخرون :كان
دَعيًا.
وقال ابن جرير :حدثنا أبو كُرَيْب ،حدثنا ابن إدريس ،عن أبيه ،عن أصحاب التفسير قالوا (
)1هو الذي تكون له زَ َنمَة مثل زنمة الشاة.
وقال الضحاك :كانت له زَ َنمَة في أصل أذنه ،ويقال :هو اللئيم الملصق في النسب.
وقال أبو إسحاق :عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس :هو المريب الذي يعرف بالشر.
وقال مجاهد :الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة .وقال أبو رَزِين :الزنيم علمة
الكفر .وقال عكرمة :الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها.
والقوال في هذا كثيرة ،وترجع إلى ما قلناه ،وهو أن الزنيم هو :المشهور بالشر ،الذي يعرف
به من بين الناس ،وغالبًا يكون دعيًا وله زنا ،فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما ل يتسلط
على غيره ،كما جاء في الحديث " :ل يدخل الجنة ولد زنا" ( )2وفي الحديث الخر " :ولد الزنا
شَرّ الثلثة إذا عمل بعمل أبويه" (.)3
ل وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا قَالَ َأسَاطِي ُر الوّلِينَ } يقول تعالى :هذا مقابلة
وقوله { :أَنْ كَانَ ذَا مَا ٍ
ما أنعم ال عليه من المال والبنين ،كفر بآيات ال وأعرض عنها ،وزعم أنها كَذب مأخوذ من
شهُودًا َو َمهّ ْدتُ
جعَ ْلتُ َلهُ مَال َممْدُودًا وَبَنِينَ ُ
أساطير الولين ،كقوله { :ذَرْنِي َومَنْ خََل ْقتُ َوحِيدًا وَ َ
صعُودًا إِنّهُ َفكّ َر َوقَدّرَ َفقُ ِتلَ كَ ْيفَ قَدّرَ
ن ليَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْ ِهقُ ُه َ
طمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَل إِنّهُ كَا َ
لَهُ َت ْمهِيدًا ثُمّ َي ْ
سحْرٌ ُيؤْثَرُ إِنْ َهذَا إِل
س وَبَسَرَ ُثمّ َأدْبَ َر وَاسْ َتكْبَرَ َفقَالَ إِنْ هَذَا إِل ِ
ثُمّ قُ ِتلَ كَ ْيفَ قَدّرَ ُثمّ نَظَرَ ُثمّ عَبَ َ
سمُهُ
سقَرَ } [المدثر .]26 - 11 :قال تعالى هاهنا { :سَنَ ِ
َقوْلُ الْ َبشَرِ } قال ال تعالى { :سَُأصْلِيهِ َ
عَلَى الْخُ ْرطُومِ }
قال ابن جرير :سنبين أمره بيانًا واضحًا ،حتى يعرفوه ول يخفى عليهم ،كما ل تخفى السمة
سمُهُ عَلَى ا ْلخُرْطُومِ } شين ل يفارقه آخر ما عليه.
على الخراطيم ( )4وهكذا قال قتادة { :سَ َن ِ
__________
( )1في أ " :قال".
( )2رواه المام أحمد في المسند ( )2/203من حديث عبد ال بن عمرو بن العاص ،رضي ال
عنه ،ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم ( )4926 ، 4925من حديث أبي هريرة ،رضي
ال عنه ،وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ( )3/111قال " :وفيه مخالفة للصول
وأعظمها قوله تعالى " :ول تزر وازرة أخرى" .قال المام ابن القيم متعقبًا على ابن الجوزي في
المنارالمنيف (ص " : )133ليست معرضة بها إن صحت ،فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه ،بل
لن النطفة الخبيثة ل يتخلق منها طيب في الغالب ،ول يدخل الجنة إل نفس طيبة ،فإن كانت
في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة ،وكان الحديث من العام المخصوص ،وقد ورد في ذمة " :أنه
شر الثلثة" وهو حديث حسن ومعناه صحيح بهذا العتبار ،فإن شر البوين عارض ،وهذه
نطفة خبيثة فشره في أصله وشر البوين في فعلهما" .قلت :ويوجه أيضًا بالتقييد الذي في حديث
عائشة التي بأنه شر الثلثة إذا عمل عمل أبويه ،وكلم ابن الجوزي منطبق على حديث " :ولد
الزنا في النار إلى سبعة أبناء" .وهو موضوع.
( )3رواه المام أحمد ( )6/109من حديث عائشة ،رضي ال عنها ،و ( )2/311من حديث أبي
هريرة ،رضي ال عنه.
( )4في م " :على الخرطوم".
( )8/194
سمُوا لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ ( )17وَلَا َيسْتَثْنُونَ (َ )18فطَافَ
صحَابَ الْجَنّةِ إِذْ َأ ْق َ
إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَا َأ ْ
حتْ كَالصّرِيمِ ( )20فَتَنَا َدوْا ُمصْبِحِينَ ( )21أَنِ
ك وَهُمْ نَا ِئمُونَ ( )19فََأصْبَ َ
عَلَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّب َ
اغْدُوا عَلَى حَرْ ِث ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِرمِينَ ( )22فَا ْنطََلقُوا وَ ُهمْ يَتَخَافَتُونَ ( )23أَنْ لَا َيدْخُلَ ّنهَا الْ َي ْومَ عَلَ ْيكُمْ
سكِينٌ ( )24وَغَ َدوْا عَلَى حَ ْردٍ قَادِرِينَ ( )25فََلمّا رََأوْهَا قَالُوا إِنّا َلضَالّونَ (َ )26بلْ َنحْنُ
مِ ْ
طهُمْ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ َلوْلَا تُسَبّحُونَ ( )28قَالُوا سُ ْبحَانَ رَبّنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ (
سُمَحْرُومُونَ ( )27قَالَ َأوْ َ
عسَى رَبّنَا أَنْ
علَى َب ْعضٍ يَتَلَا َومُونَ ( )30قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا طَاغِينَ (َ )31
ضهُمْ َ
)29فََأقْ َبلَ َب ْع ُ
ب وََلعَذَابُ الَْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (
يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِ ْنهَا إِنّا إِلَى رَبّنَا رَاغِبُونَ (َ )32كذَِلكَ ا ْلعَذَا ُ
)33
( )8/195
سمُوا لَ َيصْ ِرمُنّهَا ُمصْبِحِينَ } أي :حلفوا فيما بينهم لَيجُذّنَ ثَمرها ليل لئل يعلم بهم
والفواكه { إِذْ َأ ْق َ
فقير ول سائل ،ليتوفر ثمرها عليهم ول يتصدقوا منه بشيء { ،وَل يَسْتَثْنُونَ } أي :فيما حلفوا
ك وَهُمْ نَا ِئمُونَ } أي :
به .ولهذا حنثهم ال في أيمانهم ،فقال َ { :فطَافَ عَلَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّب َ
حتْ كَالصّرِيمِ } قال ابن عباس :أي كالليل السود .وقال الثوري ،
أصابتها آفة سماوية { ،فََأصْ َب َ
حصِد ،أي هشيمًا يبسًا.
والسدي :مثل الزرع إذا ُ
وقال ابن أبي حاتم :ذكر عن أحمد بن الصباح :أنبأنا بشر بن زاذان ،عن عمر بن صبح ()1
عن ليث بن أبي سليم ،عن عبد الرحمن بن سابط ،عن ابن مسعود قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :إياكم والمعاصي ،إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هُيّئ له" ،ثم تل
حتْ
ك وَهُمْ نَا ِئمُونَ فََأصْبَ َ
رسول ال صلى ال عليه وسلم َ { :فطَافَ عَلَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّب َ
كَالصّرِيمِ } قد حرموا خَير جَنّتهم بذنبهم (.)2
{ فَتَنَا َدوْا ُمصْبِحِينَ } أي :لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ ،
{ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْ ِث ُكمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِرمِينَ } أي :تريدون الصرام .قال مجاهد :كان حرثهم
عِنَبًا.
{ فَا ْنطََلقُوا وَ ُهمْ يَتَخَافَتُونَ } أي :يتناجون فيما بينهم بحيث ل يُسمعون أحدًا كلمهم .ثم فسر ال
عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به ،فقال { :فَانْطََلقُوا وَ ُهمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ ل َيدْخُلَ ّنهَا الْ َيوْمَ
سكِينٌ } أي :يقول بعضهم لبعض :ل تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم!
عَلَ ْيكُمْ مِ ْ
قال ال تعالى { :وَغَ َدوْا عَلَى حَ ْردٍ } أي :قوة وشدة .وقال مجاهد { :وَغَ َدوْا عَلَى حَ ْردٍ } أي :
جد وقال عكرمة :غيظ .وقال الشعبي { :عَلَى حَرْدٍ } على المساكين .وقال السدي { :عَلَى حَ ْردٍ
} أي :كان اسم قريتهم حرد .فأبعد السدي في قوله هذا!
{ قَادِرِينَ } أي :عليها فيما يزعمون ويَرومون.
{ فََلمّا رََأوْهَا قَالُوا إِنّا َلضَالّونَ } أي :فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها ،وهي على الحالة التي
قال ال ،عز وجل ،قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء
مُدَْل ِهمّة ،ل ينتفع بشيء منها ،فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق ؛ ولهذا قالوا { :إِنّا َلضَالّونَ }
أي :قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها .قاله ابن عباس وغيره .ثم رجعوا عما كانوا فيه ،
ظ لنا ول
حّوتيقنوا أنها هي فقالوا َ { :بلْ نَحْنُ َمحْرُومُونَ } أي :بل هذه هي ،ولكن نحن ل َ
نصيب.
طهُمْ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،وعكرمة ،ومحمد بن كعب ،
سُ{ قَالَ َأوْ َ
والربيع بن أنس ،والضحاك ،وقتادة :أي :أعدلهم وخيرهم { :أَلَمْ َأ ُقلْ َل ُكمْ َلوْل ُتسَبّحُونَ } !
قال مجاهد ،والسدي ،وابن جريج َ { :لوْل تُسَبّحُونَ } أي :لول تستثنون .قال السدي :وكان
استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا.
__________
( )1في أ " :بن صبيح".
( )2وفي إسناد عمر بن صبح قال ابن حيان :كان ممن يضع الحديث .وقال الدارقطنى :
متروك .وقال الذي :كذاب .وله شاهد من حديث ثوبان ،رضي ال عنه ،رواه المام أحمد في
المسند (.)5/277
( )8/196
ح ُكمُونَ
ج َعلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ ( )35مَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ
إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ جَنّاتِ ال ّنعِيمِ (َ )34أفَ َن ْ
( )36أَمْ َلكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْ ُرسُونَ ( )37إِنّ َلكُمْ فِيهِ َلمَا َتخَيّرُونَ (َ )38أمْ َلكُمْ أَ ْيمَانٌ عَلَيْنَا بَاِلغَةٌ إِلَى
ح ُكمُونَ ( )39سَ ْلهُمْ أَ ّيهُمْ ِبذَِلكَ زَعِيمٌ (َ )40أمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُ َركَا ِئهِمْ
َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ َل ُكمْ َلمَا تَ ْ
إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ ()41
( )8/197
( )8/198
( )8/198
قال :هو يوم كَرْب وشدة .رواه ابن جرير ثم قال :
حدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْران ،عن سفيان ،عن المغيرة ،عن إبراهيم ،عن ابن مسعود -أو
شفُ عَنْ سَاقٍ } قال :عن أمر عظيم ،كقول
:ابن عباس ،الشك من ابن جرير َ { : -يوْمَ ُيكْ َ
الشاعر :
وقامت الحرب بنا عن ساق ()1
شفُ عَنْ سَاقٍ } قال :شدة المر ()2
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد َ { :يوْمَ ُيكْ َ
وقال ابن عباس :هي أول ( )3ساعة تكون في يوم القيامة.
شفُ عَنْ سَاقٍ } قال :شدة المر وجده.
وقال ابن جُرَيح ،عن مجاهد َ { :يوْمَ ُي ْك َ
شفُ عَنْ سَاقٍ } هو المر الشديد
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس قوله َ { :يوْمَ ُي ْك َ
المُفظِع من الهول يوم القيامة.
شفُ عَنْ سَاقٍ } يقول :حين يكشف المر وتبدو
وقال العوفي ،عن ابن عباس قوله َ { :يوْمَ ُي ْك َ
العمال .وكشفه دخول الخرة ،وكشف المر عنه .وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس.
أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال :
حدثني أبو زيد عمر بن شَبّة ،حدثنا هارون بن عمر المخزومي ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثنا
أبو سعيد روح بن جناح ،عن مولى لعمر بن عبد العزيز ،عن أبي بردة بن أبي موسى ،عن
شفُ عَنْ سَاقٍ } قال " :عن نور عظيم ،
أبيه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال َ { :يوْمَ ُيكْ َ
يخرون له سجدًا".
ورواه أبو يعلى ،عن القاسم بن يحيى ،عن الوليد بن مسلم ،به ( )4وفيه رجل مبهم ( )5وال
أعلم.
__________
( )1البيت في تفسير الطبري (.)29/24
( )2في أ " :المر وجده".
( )3في م " :هي أشد".
( )4تفسير الطبري ( )29/27ومسند أبي يعلى (.)13/269
تنبيه :ظن بعض الناس أن الحافظ ابن كثير سلك هنا مسلك التأويل لصفة الساق ،وهذا فهم
خاطئ ؛ وذلك لن الحافظ ابن كثير فسر هذه الية بحديث أبي سعيد ،رضي ال عنه ،ثم ذكر
ما قيل في هذه الية ،وقد تكلم المام ابن القيم عن هذه الية كلمًا بديعًا قال ،رحمه ال ،في
الصواعق المرسلة (" : )253 ، 1/252والصحابة متنازعون في تفسير هذه الية :هل المراد
الكشف عن الشدة ؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه ؟ ول يحفظ عن الصحابة
والتابعين نزاع فيها يذكر أنه من الصفات أم ل في غير هذا الموضوع ،وليس في ظاهر القرآن
ما يدل على أن ذلك صفة ل ؛ لنه سبحانه لم يضف الساق إليه ،وإنما ذكره مجردًا عن الضافة
منكرًا ،والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والصبع لم يأخذ ذلك من ظاهر القرآن ،وإنما أثبتوه
بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته ،وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه " :فيكشف الرب
عن ساقه فيخرون له سجدًا" .ومن حمل الية على ذلك قال :قوله تعالى " :يوم يكشف عن ساق
ويدعون إلى السجود" القلم : 42 :مطابق لقوله صلى ال عليه وسلم " :فيكشف عن ساقة
فيخرون له سجدًا" .وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال :يكشف عن ساق عظيمة ،جلت عظمتها
وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثل أو شبيه ،قالوا :وحمل الية على الشدة ل يصح
بوجه ؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال :كشف الشدة عن القوم ل كشف عنها كما قال تعالى
" :فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" الزخرف ، 50 :وقال "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم
من ضر" المؤمنون ، 75 :فالعذاب والشدة هو المكشوف ل المكشوف عنه ،وأيضًا فهناك تحدث
الشدة وتشتد ،ول تزال إل بدخول الجنة ،وهناك ل يدعون إلى السجود ،وإنما يدعون إليه أشد
ما كانت الشدة" انتهى نقل عن التحذير من مختصرات الصابوني ،وانظر :عقيدة الحافظ ابن
كثير للشيخ عبد الخر الغنيمي (ص )49 ، 48والتحذير للشيخ بكر أبو زيد (ص .)353 - 350
( )5في أ " :رجل متهم".
( )8/199
حبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَ ُهوَ َم ْكظُومٌ (َ )48لوْلَا أَنْ تَدَا َركَهُ ِن ْعمَةٌ مِنْ
حكْمِ رَ ّبكَ وَلَا َتكُنْ َكصَا ِ
فَاصْبِرْ لِ ُ
جعَلَهُ مِنَ الصّاِلحِينَ ( )50وَإِنْ َيكَادُ الّذِينَ َكفَرُوا
رَبّهِ لَنُ ِبذَ بِا ْلعَرَا ِء وَ ُهوَ مَ ْذمُومٌ ( )49فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ َف َ
س ِمعُوا ال ّذكْ َر وَ َيقُولُونَ إِنّهُ َلمَجْنُونٌ (َ )51ومَا ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ ()52
لَيُزِْلقُونَكَ بِأَ ْبصَارِهِمْ َلمّا َ
شعَةً أَ ْبصَارُ ُهمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ } أي :في الدار الخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا ،
وقوله { :خَا ِ
فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه .ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم
وسلمتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الخرة ،إذا تجلى الرب ،عز وجل ،فيسجد له
المؤمنون ،ل يستطيع أحد من الكافرين ول المنافقين أن يسجُد ،بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا
،كلما أراد أحدهم أن يسجد خَرّ لقفاه ،عكس السجود ،كما كانوا في الدنيا ،بخلف ما عليه
المؤمنون.
حدِيثِ } يعني :القرآن .وهذا تهديد شديد ،أي :دعني
ثم قال تعالى َ { :فذَرْنِي َومَنْ ُيكَ ّذبُ ِبهَذَا الْ َ
وإياه مني ومنه ،أنا أعلم به كيف أستدرجه ،وأمده في غيه وأنظر ( )1ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر
جهُمْ مِنْ حَ ْيثُ ل َيعَْلمُونَ } أي :وهم ل يشعرون ،بل يعتقدون أن ذلك
؛ ولهذا قال { :سَنَسْ َتدْرِ ُ
من ال كرامة ،وهو في نفس المر إهانة ،كما قال { :أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
شعُرُونَ } [المؤمنون ، ]56 ، 55 :وقال { :فََلمّا نَسُوا مَا ُذكّرُوا
نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ بَل ل يَ ْ
شيْءٍ حَتّى ِإذَا فَرِحُوا ِبمَا أُوتُوا َأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَةً فَِإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [النعام
بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
.]44 :ولهذا قال هاهنا { :وَُأمْلِي َلهُمْ إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي :وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم ()2
وذلك من كيدي ومكري بهم ؛ ولهذا قال تعالى { :إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي :عظيم لمن خالف أمري
،وكذب رسلي ،واجترأ على معصيتي.
وفي الصحيحين عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إن ال تعالى ل ُيمْلي للظالم ،حتى
شدِيدٌ }
إذا أخذه لم ُيفْلِتْه" .ثم قرأ َ { :وكَذَِلكَ أَخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِل َمةٌ إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ
[هود .)3( ]102 :
وقوله َ { :أمْ تَسْأَُل ُهمْ أَجْرًا َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ } تقدم تفسيرهما في
سورة "الطور" ( )5( )4والمعنى في ذلك :أنك يا محمد تدعوهم إلى ال ،عز وجل ،بل أجر
تأخذه منهم ،بل ترجو ثواب ذلك عند ال ،عز وجل ،وهم يكذبون بما جئتهم به ،بمجرد الجهل
والكفر والعناد.
حبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَ ُهوَ َم ْكظُومٌ (َ )48لوْل أَنْ تَدَا َركَهُ ِن ْعمَةٌ
ك وَل َتكُنْ َكصَا ِ
حكْمِ رَ ّب َ
{ فَاصْبِرْ ِل ُ
جعَلَهُ مِنَ الصّاِلحِينَ ( )50وَإِنْ َيكَادُ الّذِينَ
مِنْ رَبّهِ لَنُ ِبذَ بِا ْلعَرَا ِء وَ ُهوَ مَ ْذمُومٌ ( )49فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ َف َ
س ِمعُوا ال ّذكْ َر وَ َيقُولُونَ إِنّهُ َلمَجْنُونٌ (َ )51ومَا ُهوَ إِل ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ (
َكفَرُوا لَيُزِْلقُو َنكَ بِأَ ْبصَارِ ِهمْ َلمّا َ
} )52
__________
( )1في أ " :وأنظره".
( )2في أ " :وأمد لهم".
( )3صحيح البخاري برقم ( )4686وصحيح مسلم برقم ( )2583من حديث أبي موسى الشعري
،رضي ال عنه.
( )4في م " :في سورة النور".
( )5عند تفسير اليتين .41 ، 40 :
( )8/200
يقول تعالى { :فَاصْبِرْ } يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم ؛ فإن ال سيحكم لك عليهم ،
حبِ الْحُوتِ } يعني :ذا النون ،
ويجعل العاقبة لك ولتباعك في الدنيا والخرة { ،وَل َتكُنْ َكصَا ِ
وهو يونس بن متى ،عليه السلم ،حين ذهب ُمغَاضِبًا على قومه ،فكان من أمره ما كان من
ركوبه في البحر والتقام الحوت له ،وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم ،
وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير ،الذي ل يُ َردّ ما أنفذه من التقدير ،فحينئذ نادى في
الظلمات { .أَنْ ل إِلَهَ إِل أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ } [النبياء .]87 :قال ال { فَاسْ َتجَبْنَا
لَ ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَ ّم َوكَذَِلكَ نُ ْنجِي ا ْل ُمؤْمِنِينَ } [النبياء ، ]88 :وقال تعالى { :فََلوْل أَنّهُ كَانَ مِنَ
ا ْلمُسَبّحِينَ لَلَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ ِإلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } [الصافات ]144 ، 143 :وقال هاهنا { :إِذْ نَادَى
وَ ُهوَ َم ْكظُومٌ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،والسدي :وهو مغموم .وقال عطاء الخراساني ،وأبو
مالك :مكروب .وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال { :ل إِلَهَ إِل أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ
حفّ حول العرش ،فقالت الملئكة :يا رب ،هذا صوت ضعيف
الظّاِلمِينَ } خرجت الكلمة َت ُ
معروف من بلد غريبة .فقال ال :أما تعرفون هذا ؟ قالوا :ل .قال :هذا يونس .قالوا :يا رب
،عبدك الذي ل يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة ؟ قال :نعم .قالوا :أفل ترحم ما كان
يعمله في الرخاء فتنجيه من البلء ؟ فأمر ال الحوت فألقاه بالعراء ؛ ولهذا قال تعالى { :فَاجْتَبَاهُ
جعَلَهُ مِنَ الصّاِلحِينَ }
رَبّهُ َف َ
وقد قال المام أحمد :حدثنا وكيع ،حدثنا سفيان ،عن العمش ،عن أبي وائل ،عن عبد ال
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل ينبغي لحد أن يقول :أنا خير من يونس بن
متى".
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري ( )1وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة (.)2
وقوله { :وَإِنْ َيكَادُ الّذِينَ َكفَرُوا لَيُزِْلقُو َنكَ بِأَ ْبصَارِهِمْ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وغيرهما :
{ لَيُزِْلقُو َنكَ } لينفذونك بأبصارهم ،أي :ليعينونك بأبصارهم ،بمعنى :يحسدونك لبغضهم إياك
لول وقاية ال لك ،وحمايته إياك منهم .وفي هذه الية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها
حق ،بأمر ال ،عز وجل ،كما وردت بذلك الحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
حديث أنس بن مالك ،رضي ال عنه :قال أبو داود :حدثنا سليمان بن داود العَتَكي ،حدثنا
شريك(ح) ،وحدثنا العباس العَنْبَريّ ،حدثنا يزيد بن هارون ،أنبأنا شريك ،عن العباس بن
ذَرِيح ،عن الشعبي -قال العباس :عن أنس -قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ل رقية
إل من عين أو حُمة أو دم ل يرقأ" .لم يذكر العباس العين .وهذا لفظ سليمان (.)3
حصَيب ،رضي ال عنه :قال أبو عبد ال ابن ماجة :حدثنا محمد بن عبد ال
حديث بُرَيدة بن ال ُ
حصَين ،عن الشعبي ،عن
بن ُنمَير ،حدثنا إسحاق بن سليمان ،عن أبي جعفر الرازي ،عن ُ
__________
( )1المسند ( )1/390وصحيح البخاري برقم (.)4603
( )2صحيح البخاري برقم ( )4631وصحيح مسلم برقم (.)2376
( )3سنن أبي داود برقم (.)3889
( )8/201
بُرَيدة بن الحصيب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل رقية إل من عين أو حُمة" (
.)1
هكذا رواه ابن ماجة وقد أخرجه مسلم في صحيحه ،عن سعيد بن منصور ،عن هشيم ،عن
حصَين بن عبد الرحمن ،عن عامر الشعبي ،عن بريدة موقوفًا ،وفيه قصة ( )2وقد رواه شعبة
ُ
،عن حصين ،عن الشعبي ،عن بريدة .قاله الترمذي ( )3وروى هذا الحديث المام البخاري
من حديث محمد بن فضيل ،وأبو داود من حديث مالك بن ِمغْول ،والترمذي من حديث سفيان
حصَين موقوفًا (.)4
بن عيينة ،ثلثتهم عن حصين ،عن عامر عن الشعبي ،عن عمران بن ُ
حديث أبي جندب بن جنادة :قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ،رحمه ال :حدثنا إبراهيم بن
محمد بن عرعرة بن البِرِند السامي ،حدثنا ديلم بن غَزوان ،حدثنا وهْب بن أبي دبي ،عن أبي
حرب عن أبي ذر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن العين لتولع الرجلَ بإذن ال ،
فيتصاعد حالقا ،ثم يتردى منه" إسناده غريب ،ولم يخرجوه (.)5
حديث حابس التميمي :قال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد ،حدثنا حرب ،حدثنا يحيى بن أبي
كثير ،حدثني حَيّة بن حابس التميمي :أن أباه أخبره :أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول " :ل شيء في الهام ،والعين حق ،وأصدق الطيَرَة ( )6الفَألُ" (.)7
وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي ،عن أبي غسان يحيى بن كثير ،عن علي بن المبارك ،
عن يحيى بن أبي كثير ،به ( )8ثم قال غريب .قال وروى شيبان ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن
حَيّة بن حابس ،عن أبيه ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم.
قلت :كذلك رواه المام أحمد ،عن حسن بن موسى وحُسَين بن محمد ،عن شيبان ،يحيى بن
أبي كثير ،عن حَيّة ،حدثه عن أبيه ،عن أبي هريرة ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"ل بأس في الهام ،والعين حق ،وأصدق الطيرة الفأل " (.)9
حديث ابن عباس :قال المام أحمد :حدثنا عبد ال بن الوليد ،عن سفيان ،عن ُدوَيد ،حدثني
إسماعيل بن ثوبان ،عن جابر بن زيد ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
" :العين
__________
( )1سنن ابن ماجة برقم (.)3513
( )2صحيح مسلم برقم (.)220
( )3سنن الترمذي (.)4/345
( )4صحيح البخاري برقم ( )5705وسنن أبي داود برقم ( )3884وسنن التلمذي برقم (.)2075
( )5ورواه ابن عدي في الكامل ( )3/104من طريق أبي يعلى لكنه وقع فيه :إبراهيم ،عن
ديلم ،عن وهب بن أبي دبي ،عن محجن ،عن أبي زر به ،فأسقط أبو حرب ،وسيأتي توجيه
ذلك من كلم ابن عدى ،ورواه المام أحمد في المسند ( )5/146من طريق يونس بن محمد ،
وابن عدى في الكامل ( )3/104من طريق الصلت بن مسعود كلهما عن ديلم بن غزوان عن
وهب عن أبي حرب عن محجن عن أبي ذر به ،قال ابن عدي :وهذا حديث يرويه ديلم عن
وهب بن أبي دبي ،وأظن أنه وهم من رواية الصلت حيث قال :عن وهب بن أبي دبي ،عن
أبي حرب ،عن محجن ،ولعل أبا حرب هو محجن".
( )6في م " :الطير" ،وفي أ " :الظن".
( )7المسند (.)5/70
( )8سنن الترمذي برقم (.)2061
( )9المسند (.)5/70
( )8/202
( )8/203
ورواه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن إياس ( )1أبي مسعود الجُرَيري ،به ( )2وقال
الترمذي :حسن.
حديث آخر عنه :قال المام أحمد :حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ،حدثني أبي ،حدثني عبد
العزيز بن صُهيب ،حدثني أبو نضرة ،عن أبي سعيد :أن جبريل أتى رسول ال صلى ال عليه
وسلم فقال :اشتكيت يا محمد ؟ قال " :نعم" .قال باسم ال أرقيك ،من كل شيء يؤذيك ،من شر
كل نفس و عين يشفيك ،باسم ال أرقيك (.)3
ورواه عن عفان ،عن عبد الوارث ،مثله .ورواه مسلم وأهل السنن -إل أبا داود -من حديث
عبد الوارث ،به (.)4
وقال المام أحمد أيضًا :حدثنا عفان ،حدثنا وهيب ،حدثنا داود ،عن أبي نَضرة ،عن أبي
سعيد -أو :جابر بن عبد ال ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم اشتكى ،فأتاه جبريل فقال :
باسم ال أرقيك ،من كل شيء يؤذيك ،من كل حاسد وعين وال يُشفيك (.)5
ورواه أيضًا ،عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ،عن داود ،عن أبي نَضرة ،عن أبي سعيد
به (.)6
قال أبو زُرْعَة الرازي :روى عبد الصمد بن عبد الوارث ،عن أبيه ،عن عبد العزيز ،عن
أبي نضرة ،وعن عبد العزيز ،عن أنس ،في معناه ،وكلهما صحيح.
حديث أبى هُرَيرة :قال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،أنبأنا َم ْعمَر ،عن َهمّام بن مُنَبّه قال :
هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن العين حق" (.)7
أخرجاه من حديث عبد الرزاق (.)8
وقال ابن ماجة :حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ،حدثنا إسماعيل بن عُلَيّة ،عن الجُرَيري ،عن
ُمضَارب بن حَزن ،عن أبي هُرَيرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :العين حق".تفرد
به.
ورواه أحمد ،عن إسماعيل بن عُلَيّة ،عن سعيد الجريري ،به (.)9
وقال المام أحمد حدثنا ابن نمير ،حدثنا ثور -يعني ابن يزيد -عن مكحول ،عن أبي
__________
( )1في م " :سعيد بن أبي إياس".
( )2سنن ابن ماجة برقم ( )3511وسنن الترمذي برقم ( )2058وسنن النسائي (.)8/271
( )3المسند (.)3/28
( )4المسند ( )3/56وصحيح مسلم برقم ( )2186وسنن الترمذي برقم ( )975وسنن النسائي
الكبري برقم ( )10843وسنن ابن ماجة برقم (.)3523
( )5المسند (.)3/75
( )6المسند (.)3/58
( )7المسند (.)2/318
( )8صحيح البخاري برقم ( )5740وصحيح مسلم برقم (.)2187
( )9سنن ابن ماجة برقم ( )3507والمسند (.)2/487
( )8/204
هُرَيرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "العين حق ،ويحضُرها الشيطانُ ،وحسد ابن
آدم" ()1
وقال أحمد :حدثنا خلف بن الوليد ،حدثنا أبو معشر ،عن محمد بن قيس :سُئل أبو هُرَيرة :
هل سمعت رسول ال يقول :الطيرة في ثلث :في المسكن والفرس والمرأة ؟ قال :قلت :إذًا
أقول على رسول ال صلى ال عليه وسلم ما لم يقل! ولكني سمعت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يقول " :أصدق الطيرة الفألُ ،والعين حق" (.)2
عمَيس :قال المام أحمد :حدثنا سفيان ،عن عمرو بن دينار ،عن عُروةَ بن
حديث أسماء بنت ُ
عامر ،عن عُبَيد بن رفاعة الزُرقي قال :قالت أسماء :يا رسول ال ،إن بني جعفر تصيبهم
العين ،أفأسترقي لهم ؟ قال " :نعم ،فلو كان شيء يسبق القدرَ لسبقته العين".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة ،به ( )3ورواه الترمذي أيضًا
والنسائي ،من حديث عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن أيوب ،عن عمرو بن دينار ،عن عُ ْروَة
بن عامر ،عن عُبَيد بن رفاعة ،عن أسماء بنت عميس ،به ( )4وقال الترمذي :حسن صحيح.
خصِيب ،حدثنا َوكِيع ،
حديث عائشة ،رضي ال عنها :قال ابن ماجة :حدثنا علي بن أبي ال َ
سعَر ،عن معبد بن خالد ،عن عبد ال بن شَدّاد ،عن عائشة ؛ أن رسول ال
عن سفيان ،ومِ ْ
صلى ال عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين (.)5
ورواه البخاري عن محمد بن كثير ،عن سفيان ،عن معبد بن خالد ،به .وأخرجه مسلم من
سعَر ،كلهما عن معبد ،به ( )6ثم قال ابن ماجة :
حديث سُفيانَ ومِ ْ
حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا أبو هشام المخزومي ،حدثنا وُهَيب ،عن أبي واقد ،عن أبي سلمة
بن عبد الرحمن ،عن عائشة قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :استعيذوا بال فإن
النفس حق" .تفرد به ()7
وقال أبو داود :حدثنا عثمان بن أبي شيبة ،حدثنا جرير ،حدثنا العمش ،عن إبراهيم ،عن
السود ،عن عائشة قالت :كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل منه المَعين (.)8
حسَين بن محمد ،حدثنا أبو أويس ( )9حدثنا
حديث سهل بن حُنَيف :قال المام أحمد :حدثنا ُ
الزهري ،عن أبي أمامة بن سَهل بن حُنَيف :أن أباه حدثه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
خرج وساروا معه
__________
( )1المسند (.)2/439
( )2المسند (.)2/289
( )3المسند ( )6/438وسنن الترمذي برقم ( )2059وسنن ابن ماجة برقم (.)3510
( )4سنن الترمذي برقم ( )2059وسنن النسائي الكبرى برقم (.)7537
( )5سنن ابن ماجة برقم (.)3510
( )6صحيح البخاري برقم ( )5738وصحيح مسلم برقم (.)2195
( )7سنن ابن ماجة برقم ( )3508وقال البوصيري في الزوائد ( )3/134ك "هذا إسناد فيه مقال".
( )8سنن أبي داود برقم (.)3880
( )9في م " :أبو إدريس".
( )8/205
نحو مكة ،حتى إذا كانوا بشعب الخَرَار -من الجحفة -اغتسل سهلُ بن حُنَيف -وكان رجل
أبيض حَسن الجسم والجلد -فنظر إليه عامر بن ربيعة ،أخو بني عدي بن كعب ،وهو يغتسل ،
فقال :ما رأيت كاليوم ول جلد مُخَبّأة .فلُ ِبطَ سهل ،فأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم فقيل له
:يا رسول ال ،هل لك في سهل .وال ما يرفع رأسه ول يُفيق .قال " :هل تتهمون فيه من
أحد ؟" .قالوا :نظر إليه عامر بن ربيعة .فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عامرا ،فتغيظ
عليه ،وقال " :علم يقتل أحدكم أخاه ،هل إذا رأيت ما يعجبك بَركت ؟" .ثم قال له " :اغتسل
له" -فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودَاخلَة إزاره في قَدح -ثم صُب ذلك
الماء عليهَ .يصُبَه رجل على رأسه وظهره من خلفه ،ثم يكفأ ( .)1القدح وراءه .ففعل ذلك ،
فراح سهل مع الناس ،ليس به بأس (.)2
حديث عامر بن ربيعة " :قال المام أحمد في مسند عامر :حدثنا َوكِيع ،حدثنا أبي ،حدثنا عبد
ال بن عيسى ،عن أمَيّة بن هند بن سهل بن حُنَيْف ،عن عبد ال بن عامر قال :انطلق عامر
بن ربيعة وسهل بن حنيف يريدان الغسل ،قال :فانطلقا يلتمسان الخمرَ -قال :فوضع عامر
جُبّة كانت عليه من صوف ،فنظرت إليه فأصبته بعيني فنزل الماء يغتسل .قال :فسمعت له في
الماء فرقعة ،فأتيته فناديته ثلثا فلم يجبني .فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم فأخبرته .قال :
فجاء يمشي فخاض الماء كأني أنظر إلى بياض ساقيه ،قال :فضرب صدره بيده ثم قال " :اللهم
اصرف عنه حرها وبردها ووصبها" .قال :فقام .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إذا رأى
أحدكم من أخيه ،أو من نفسه أو من ماله ،ما يعجبه ،فَليُبَرّك ،فإن العين حق" (.)3
حديث جابر :قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :حدثنا محمد بن َم ْعمَر ،حدثنا أبو داود ،
ضجِيع ،ضجيع حمزة ،
حدثنا طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل النصاري -ويقال له :ابن ال َ
رضي ال عنه -حدثني عبد الرحمن بن جابر بن عبد ال ،عن أبيه قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب ال وقضائه وقدره بالنفس" (.)4
قال البزار :يعني العين .قال ول نعلم يروى هذا الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم إل بهذا
السناد.
قلت :بل قد روي من وجه آخر عن جابر ؛ قال الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر
شكّر -في كتاب العجائب ،وهو مشتمل على فوائد جليلة وغريبة :حدثنا
الهروي -المعروف ب َ
الرهاوي ،حدثنا يعقوب بن محمد ،حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي ،حدثنا محمد بن المُنكَدر ،
عن جابر بن عبد ال أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :العين حق ،لتُورِد الرجل القبر ،
والجمل القِدر ،وإن أكثر هلك أمتي في العين" (.)5
__________
( )1في أ " :ثم يلقي".
( )2المسند (.)3/486
( )3المسند (.)3/486
( )4مسند البزار برقم (" )3052كشف الستار" وقال الهيثمي في المجمع (" : )5/106رجاله
رجال الصحيح ،خل طالب بن حبيب ابن عمرو ،وهو ثقة".
( )5ورواه ابن عدي في الكامل ( )5/185من طريق رحيم عن ابن أبي فديك عن علي بن أبي
علي اللهبي ،به .وقال [غير محفوظ] وعلي بن أبي علي هو آفنه ،قال أحمد :يروي أحاديث
مناكير عن جابر.
( )8/206
ثم رواه عن شعيب بن أيوب ،عن معاوية بن هشام ،عن سفيان ،عن محمد بن المنكدر ،عن
جابر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قد تُدخل الرجلَ العينُ في القبر ،وتدخل الجمل
القدر" (.)1
حديث عبد ال بن عمرو " :قال المام أحمد :حدثنا قتيبة ،حدثنا رشدين بن سعد ،عن الحسن
بن ثوبان ،عن هشام بن أبي رُقية ،عن عبد ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :ل عدوى ول طيرةَ ،ول هَامة ول حَسَد ،والعين حق" .تفرد به أحمد (.)2
حديث عن علي :روى الحافظ ابن عساكر من طريق خَيْثمة بن سليمان الحافظ :حدثنا عبيد بن
محمد الكَشَوري ،حدثنا عبد ال بن عبد ال بن عبد ربه البصري ،عن أبي رجاء ،عن شعبة ،
عن أبي إسحاق ،عن الحارث ،عن علي ؛ أن جبريل أتى النبي صلى ال عليه وسلم فوافقه
مغتما ،فقال :يا محمد ،ما هذا الغم الذي أراه في وجهك ؟ قال " :الحسن والحسين أصابتهما
صدَق بالعين ،فإن العين حق ،أفل عوذتهما بهؤلء الكلمات ؟ قال " :وما هن يا
عين" .قال َ :
جبريل ؟" .قال :قل :اللهم ذا السلطان العظيم ،ذا المن ( )3القديم ،ذا الوجه الكريم ،ولي
الكلمات التامات ،والدعوات المستجابات ،عاف الحسن والحسين من أنفس الجن ،وأعين
النس .فقالها النبي صلى ال عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه .فقال النبي صلى ال عليه وسلم :
عوّذوا أنفسكم ونساءكم وأولدكم بهذا التعويذ ،فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله".
"َ
قال الخطيب البغدادي :تفرد بروايته أبو رجاء محمد بن عبيد ال الحَيَطي ( )4من أهل تُسْتَر.
ذكره ابن عساكر في ترجمة "طراد بن الحسين" ،من تاريخه (.)5
وقوله { :وَ َيقُولُونَ إِنّهُ َلمَجْنُونٌ } أي :يزدرونه بأعينهم ويؤذونه بألسنتهم ،ويقولون { :إِنّهُ
َلمَجْنُونٌ } أي :لمجيئه بالقرآن ،قال ال تعالى { َومَا ُهوَ إِل ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ }
__________
( )1ورواه ابن عدى في الكامل ( )6/408وأبو نعيم في الحلية ( )7/90من طرق عن شعيب بن
أيوب به ،وقال أبو نعيم " :غريب من حديث الثوري ،تفرد به معاويه" وكذا قال ابن عدى.
( )2المسند (.)2/222
( )3في م " :والمن".
( )4وقع في تاريخ دمشق " :محمد بن عبد ال الحنظلى" وفي كنز العمال " :محمد بن عبد ال
الخطيبى" ولم يتبين لى الصواب ،وال أعلم.
( )5تاريخ دمشق (" 8/503المخطوط").
( )8/207
الْحَاقّةُ ( )1مَا ا ْلحَاقّةُ (َ )2ومَا أَدْرَاكَ مَا ا ْلحَاقّةُ ( )3كَذّ َبتْ َثمُو ُد وَعَادٌ بِا ْلقَارِعَةِ ( )4فََأمّا َثمُودُ
ل وَ َثمَانِيَةَ
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍ ( )6سَخّرَهَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْبعَ لَيَا ٍ
فَأُهِْلكُوا بِالطّاغِ َيةِ ( )5وََأمّا عَادٌ فَأُهِْلكُوا بِرِي ٍ
خلٍ خَاوِيَةٍ (َ )7ف َهلْ تَرَى َل ُهمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ()8
عجَازُ َن ْ
أَيّامٍ حُسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
( )8/208
ن َومَنْ قَبْلَ ُه وَا ْل ُمؤْ َتفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (َ )9ف َعصَوْا َرسُولَ رَ ّبهِمْ فََأخَ َذهُمْ َأخْ َذةً رَابِ َيةً ()10
عوْ ُ
وَجَاءَ فِرْ َ
ن وَاعِيَةٌ ()12
جعََلهَا َلكُمْ َت ْذكِ َرةً وَ َتعِيَهَا ُأذُ ٌ
حمَلْنَاكُمْ فِي ا ْلجَارِيَةِ ( )11لِ َن ْ
طغَى ا ْلمَاءُ َ
إِنّا َلمّا َ
( )8/208
قال ابن مسعود ،وابن عباس ،ومجاهد ،وعكرمة ،والثوري ،وغير واحد { حسوما }
متتابعات.
حسَاتٍ } [فصلت ]16 :قال الربيع :
وعن عكرمة والربيع :مشائيم عليهم ،كقوله { :فِي أَيّامٍ نَ ِ
وكان أولها الجمعة .وقال غيره الربعاء .ويقال :إنها التي تسميها الناس العجاز ؛ وكأن الناس
خلٍ خَاوِيَةٍ } وقيل :لنها
عجَازُ نَ ْ
أخذوا ذلك من قوله تعالى { :فَتَرَى ا ْلقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
تكون في عجز الشتاء ،ويقال :أيام العجوز ؛ لن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح
في اليوم الثامن .حكاه البغوي ( )1وال أعلم.
قال ابن عباس { :خاوية } خربة .وقال غيره :بالية ،أي :جعلت الريح تضرب بأحدهم
الرض فيخر ميتًا على أم رأسه ،فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت
بل أغصان.
وقد ثبت في الصحيحين ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال ُ " :نصِ ْرتُ بالصّبا ،
وأهلكَت عادٌ بالدّبور" (.)2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن يحيى بن الضّريس العبدي ،حدثنا ابن ُفضَيل ،
عن مسلم ،عن مجاهد ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما فتح ال
على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إل مثل موضع الخاتم ،فَمرّت بأهل البادية فحملتهم
ومواشيهم وأموالهم ،فجعلتهم بين السماء والرض .فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح ( )3وما
فيها قالوا :هذا عارض ممطرنا .فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة" (.)4
وقال الثوري عن ليث ،عن مجاهد :الريح لها جناحان وذنب.
{ َف َهلْ تَرَى َلهُمْ مِنْ بَاقِ َيةٍ } ؟ أي :هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أنه ( )5ممن ينتسب إليهم ؟
بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل ال لهم خَلفَا.
ن َومَنْ قَبَْلهُ } قُرئ بكسر القاف ،أي :ومن عنده في زمانه من
عوْ ُ
ثم قال تعالى َ { :وجَاءَ فِرْ َ
أتباعه من كفار القبط .وقرأ آخرون بفتحها ،أي :ومن قبله من المم المشبهين له.
وقوله { :والمؤتفكات } وهم المكذبون بالرسل { .بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة ،وهي التكذيب
بما أنزل ال.
قال الربيع { :بالخاطئة } أي :بالمعصية وقال مجاهد :بالخطايا.
__________
( )1معالم التنزيل للبغوي (.)208
( )2صحيح البخاري برقم ( )1035وصحيح مسلم برقم (.)900
( )3في م " :فلما رأى أهل الحاضر من عاد الريح".
( )4ورواه الطبراني في المعجم الكبير ( )12/421وأبو الشيخ في العظمة برقم ( )806من طريق
محمد بن فضيل عن مسلم ،به .وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/113فيه مسلم الملئي وهو
ضعيف".
( )5في م " :أو".
( )8/209
صوْا َرسُولَ رَ ّب ِهمْ } وهذا جنس ،أي ُ :كلّ ك ّذبَ رسول ال إليهم .كما قال
ولهذا قال :تعالى { َف َع َ
سلَ َفحَقّ وَعِيدِ } [ق )1( .]14 :ومن كذب رسول ال فقد كذب بالجميع ،كما
ُ { :كلّ كَ ّذبَ الرّ ُ
قال { :كَذّ َبتْ َقوْمُ نُوحٍ ا ْلمُ ْرسَلِينَ } [الشعراء َ { ، ]105 :كذّ َبتْ عَادٌ ا ْلمُرْسَلِينَ } [الشعراء :
{ .]123كَذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُ ْرسَلِينَ } [الشعراء ]141 :وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ؛ ولهذا
قال هاهنا َ { :ف َعصَوْا َرسُولَ رَ ّبهِمْ فََأخَ َذهُمْ َأخْ َذةً رَابِ َيةً } أي :عظيمة شديدة أليمة.
قال مجاهد { :رابية } شديدة .وقال السدي :مهلكة.
طغَى ا ْلمَاءُ } أي :زاد على الحد بإذن ال وارتفع على الوجود .وقال
ثم قال ال تعالى { :إِنّا َلمّا َ
طغَى ا ْلمَاءُ } كثر -وذلك بسبب دعوة نوح ،عليه السلم ،على قومه
ابن عباس وغيره َ { :
حين كذبوه وخالفوه ،فعبدوا غير ال فاستجاب ال له وعَمّ أهل الرض بالطوفان إل من كان مع
نوح في السفينة ،فالناس كلهم من سللة نوح وذريته.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْرَان ،عن أبي سنان سعيد بن سنان ،عن غير واحد
،عن علي بن أبي طالب قال :لم تنزل قطرة من ماء إل بكيل على يدي ملك ،فلما كان يوم
طغَى
نوح أذن للماء دون الخزان ،فطغى الماء على الخزان فخرج ،فذلك قول ال { :إِنّا َلمّا َ
حمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِ َيةِ } ولم ينزل شيء من الريح إل بكيل على يدي ملك ،إل يوم عاد ،فإنه
ا ْلمَاءُ َ
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ } عتت على الخزان (.)2
أذن لها دون الخزان فخرجت ،فذلك قوله { :بِرِي ٍ
حمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِ َيةِ } وهي السفينة
طغَى ا ْلمَاءُ َ
ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس { :إِنّا َلمّا َ
جعََلهَا َلكُمْ تَ ْذكِ َرةً } عاد الضمير على الجنس لدللة المعنى عليه ،
الجارية على وجه الماء { ،لِنَ ْ
ج َعلَ َلكُمْ مِنَ
أي :وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار ،كما قال { :وَ َ
ظهُو ِرهِ ثُمّ َت ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ ِإذَا اسْ َتوَيْتُمْ عَلَيْه } [الزخرف
ا ْلفُ ْلكِ وَال ْنعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ لِتَسْ َتوُوا عَلَى ُ
ن وَخََلقْنَا َلهُمْ مِنْ مِثْلِهِ
شحُو ِ
حمَلْنَا ذُرّيّ َت ُهمْ فِي ا ْلفُلْكِ ا ْلمَ ْ
، ]13 ، 12 :وقال تعالى { :وَآيَةٌ َلهُمْ أَنّا َ
مَا يَ ْركَبُونَ } [يس .]42 ، 41 :
وقال قتادة :أبقى ال السفينة حتى أدركها أوائل هذه المة .والول أظهر ؛ ولهذا قال { :وَ َتعِيَهَا
ن وَاعِيَةٌ } أي :وتفهم هذه النعمة ،وتذكرها أذن واعية.
أُذُ ٌ
ن وَاعِ َيةٌ } عقلت ( )4عن ال فانتفعت بما
قال ابن عباس :حافظة سامعة ( )3وقال قتادة { :أُذُ ٌ
ن وَاعِيَةٌ } سمعتها أذن ووعت .أي :من له
سمعت من كتاب ال ،وقال الضحاك { :وَ َتعِ َيهَا ُأذُ ٌ
سمع صحيح وعقل رجيح .وهذا عام فيمن فهم ،ووعى.
__________
( )1في م ،أ ،هـ " :إن كل إل".
( )2تفسير الطبري (.)29/32
( )3في م " :سامعة حافظة".
( )4في م " :تحفظت" ،وفي أ " :حفظت".
( )8/210
ح َدةً ( )14فَ َي ْومَئِذٍ
ض وَالْجِبَالُ فَ ُدكّتَا َدكّ ًة وَا ِ
حمَِلتِ الْأَ ْر ُ
ح َدةٌ ( )13وَ ُ
خ ٌة وَا ِ
فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ َنفْ َ
ح ِملُ عَرْشَ
سمَاءُ َفهِيَ َي ْومَئِ ٍذ وَاهِيَةٌ ( )16وَا ْلمََلكُ عَلَى أَ ْرجَا ِئهَا وَيَ ْ
ش ّقتِ ال ّ
َو َقعَتِ ا ْلوَا ِقعَةُ ( )15وَانْ َ
خفَى مِ ْنكُمْ خَافِيَةٌ ()18
رَ ّبكَ َف ْو َقهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِيَةٌ (َ )17ي ْومَئِذٍ ُتعْ َرضُونَ لَا تَ ْ
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي ،حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي ،
حدثنا زيد بن يحيى ،حدثنا علي بن حوشب ،سمعت مكحول يقول :لما نزل ( )1على رسول
ال صلى ال عليه وسلم { :وَ َتعِ َيهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "سألت ربي
أن يجعلها أذُنَ عَِليّ"[ .قال مكحول] ( )2فكان عَِليّ يقول :ما سمعت من رسول ال صلى ال
عليه وسلم شيئا قط فنسيته.
وهكذا رواه ابن جرير ،عن علي بن سهل ،عن الوليد بن مسلم ،عن علي بن حوشب ،عن
مكحول ( )3به .وهو حديث مرسل.
وقد قال ابن أبي حاتم أيضا :حدثنا جعفر بن محمد بن عامر ،حدثنا بشر ( )4بن آدم ،حدثنا
عبد ال بن الزبير أبو محمد -يعني والد أبي أحمد الزبيري -حدثني صالح بن الهيثم ،سمعت
بريدة السلمي يقول :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعلي " :إني أمرت أن أدنيك ول
ن وَاعِيَةٌ }
حقّ لك أن تعي" .قال :فنزلت هذه الية { وَ َتعِ َيهَا ُأذُ ٌ
أقصيك ،وأن أعلمك وأن تعي ،و ُ
ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف ،عن بشر بن آدم ،به ( )5ثم رواه ابن جرير من طريق
آخر عن داود العمى ،عن بُرَيدة ،به .ول يصح أيضا.
ح َدةً ( )14فَ َي ْومَئِذٍ
ض وَالْجِبَالُ فَ ُدكّتَا َدكّ ًة وَا ِ
حمَِلتِ ال ْر ُ
{ فَِإذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ َنفْخَ ٌة وَاحِ َدةٌ ( )13وَ ُ
ح ِملُ عَرْشَ
سمَاءُ َفهِيَ َي ْومَئِ ٍذ وَاهِيَةٌ ( )16وَا ْلمََلكُ عَلَى أَ ْرجَا ِئهَا وَيَ ْ
ش ّقتِ ال ّ
َو َقعَتِ ا ْلوَا ِقعَةُ ( )15وَانْ َ
خفَى مِ ْنكُمْ خَافِيَةٌ (} )18
رَ ّبكَ َف ْو َقهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِيَةٌ (َ )17ي ْومَئِذٍ ُتعْ َرضُونَ ل َت ْ
يقول تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامة ،وأول ذلك نفخة الفزع ،ثم يعقبها نفخة الصعق حين
يُصعق من في السموات ومن في الرض إل من شاء ال ،ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين
والبعث والنشور ،وهي هذه النفخة .وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لن أمر ال ل يخالف ول يمانع
،ول يحتاج إلى تكرار وتأكيد.
حمَِلتِ ال ْرضُ
وقال الربيع :هي النفخة الخيرة .والظاهر ما قلناه ؛ ولهذا قال هاهنا { :وَ ُ
ح َدةً } أي :فمدت َمدّ الديم ال ُعكَاظي ،وتَبَدّلت الرض غير الرض ،
وَالْجِبَالُ فَ ُدكّتَا َدكّ ًة وَا ِ
سمَاءُ َف ِهيَ َي ْومَئِ ٍذ وَاهِ َيةٌ } قال سِماك ،
شقّتِ ال ّ
{ فَ َي ْومَئِ ٍذ َو َق َعتِ ا ْلوَا ِقعَةُ } أي :قامت القيامة { .وَانْ َ
عن شيخ من بني أسد ،عن علي قال :تنشق السماء من المجرة .رواه ابن أبي حاتم.
سمَاءُ َفكَا َنتْ أَ ْبوَابًا } [النبأ .]19 :
حتِ ال ّ
وقال ابن جريج :هي كقوله َ { :وفُتِ َ
__________
( )1في م ،أ " :لما نزلت".
( )2زيادة من م ،أ.
( )3تفسير الطبري (.)29/35
( )4في أ " :حدثنا بشير".
( )5تفسير الطبري ( )29/36ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الكنز برقم ()36426
وقال ابن عساكر " :هذا إسناد ل يعرف والحديث شاذ".
( )8/211
( )8/212
فََأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِ َيمِي ِنهِ فَ َيقُولُ هَاؤُمُ اقْ َرءُوا كِتَابِ َيهْ ( )19إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلَاقٍ حِسَابِ َيهْ (َ )20ف ُهوَ
فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( )21فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ (ُ )22قطُو ُفهَا دَانِيَةٌ ( )23كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا أَسَْلفْتُمْ فِي
الْأَيّامِ الْخَالِ َيةِ ()24
ل يخفى عليه شيء من أموركم ،بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر ؛ ولهذا قال { :ل
خفَى مِ ْن ُكمْ خَافِيَةٌ }
تَ ْ
وقد قال ابن أبي الدنيا :أخبرنا إسحاق بن إسماعيل ،أخبرنا سفيان بن عيينة ،عن جعفر بن
بُرْقان ،عن ثابت بن الحجاج قال :قال عمر بن الخطاب ،رضي ال عنه :حاسبوا أنفسكم قبل
أن تحاسبوا ،وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا ،فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم
خفَى مِ ْنكُمْ خَافِيَةٌ } (.)1
اليوم ،وَتَزَيّنُوا للعرض الكبر َ { :ي ْومَئِذٍ ُتعْ َرضُونَ ل َت ْ
وقال المام أحمد :حدثنا َوكِيع ،حدثنا علي بن علي بن رفاعة ،عن الحسن ،عن أبي موسى
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يعرض الناس يوم القيامة ثلث عرضات ،فأما
عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ ،وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في اليدي ،فآخذ بيمينه وآخذ
بشماله".
ورواه ابن ماجة ،عن أبي بكر بن أبي شيبة ،عن َوكِيع ،به ( )2وقد رواه الترمذي عن أبي
كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي ،عن الحسن ،عن أبي هريرة ،به (.)3
وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى ،عن يزيد ،بن سليم بن حيان ،عن مروان
الصغر ،عن أبي وائل ،عن عبد ال قال :يعرض الناس يوم القيامة ثلث عرضات :
عرضتان ،معاذير وخصومات ،والعرضة الثالثة تطير الصحف في اليدي .ورواه سعيد بن أبي
عَروبة ،عن قتادة مرسل مثله (.)4
حسَابِيَهْ ()20
{ فََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ فَ َيقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ( )19إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلقٍ ِ
شةٍ رَاضِيَةٍ ( )21فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ (ُ )22قطُو ُفهَا دَانِيَةٌ ( )23كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا
َف ُهوَ فِي عِي َ
أَسَْلفْتُمْ فِي اليّامِ ا ْلخَالِيَةِ (} )24
يخبر تعالى عن سعادة من أوتى كتابه يوم القيامة بيمينه ،وفرحه بذلك ،وأنه من شدة فرحه
يقول لكل من لقيه { :هَا ُؤمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } أي :خذوا اقرؤوا كتابيه ؛ لنه يعلم أن الذي فيه خير
وحسنات محضة ؛ لنه ممن بَدل ال سيئاته حسنات.
قال عبد الرحمن بن زيد :معنى { :هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِ َيهْ } أي :ها اقرؤوا كتابيه ،و "ؤم" زائدة.
كذا قال ،والظاهر أنها بمعنى :هاكم.
وقد قال ابن أبى حاتم حدثنا :بشر بن مطر ( )5الواسطي ،حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا
__________
( )1محاسبة النفس لبن أبي الدنيا برقم ( )2وذكره المؤلف في مسند عمر ( )2/618وقال " :أثر
مشهور وفيه انقطاع ،وثابت بن الحجاج هذا جزري تابعي صغير لم يدرك ،ولم يرو عنه سوى
جعفر بن برقان ،وله عند أبي داود في السنن حديثان".
( )2المسند ( )14/414وسنن ابن ماجة برقم ( )4277وقال البوصيري في الزوائد (: )3/315
"هذا إسناد رجاله ثقات إل أنه منقطع ،الحسن لم يسمح من أبي موسي .قاله علي لن المديني وأبو
حاتم وأبو زرعة".
( )3سنن الترمذي برقم (.)2425
( )4تفسير الطبري (.)29/38
( )5في أ " :بشر بن مطير".
( )8/213
عاصم الحول ،عن أبي عثمان قال :المؤمن يعطى كتابه [بيمينه] ( )1في ستر من ال ،فيقرأ
سيئاته ،فكلما قرأ سيئةً تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها ،فيرجع إليه لونه .ثم ينظر فإذا
سيئاته قد بدلت حسنات ،قال :فعند ذلك يقول { :هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ }
وحدثنا أبي ،حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة ،حدثنا روح بن عبادة ،حدثنا موسى بن عبيدة (
)2أخبرني عبد ال بن عبد ال بن حنظلة -غسيل الملئكة -قال :إن ال َيقِفُ عبده يوم القيامة
فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته ،فيقول له :أنت عملت هذا ؟ فيقول :نعم أي رب .فيقول له
إني لم أفضحك به ،وإني قد غفرت لك .فيقول عند ذلك { :هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي
مُلقٍ حِسَابِيَهْ } حين نجا من َفضْحه يوم القيامة.
وقد تقدم في الصحيح حديثُ ابن عمر حين سئل عن النجوى ،فقال :سمعت النبي ال صلى ال
عليه وسلم يقول " :يُدْنِي الُ العبدَ يوم القيامة ،ف ُيقَرّره بذنوبه كلها ،حتى إذا رأى أنه قد هلك قال
ال :إني سترتها عليك في الدنيا ،وأنا أغفرها لك اليوم .ثم يُعطَى كتابَ حسناته بيمينه ،وأما
الكافر والمنافق فيقول الشهاد َ { :هؤُلءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَ ّبهِمْ أَل َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ } [هود
.)3( ]18 :
وقوله { :إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلقٍ حِسَابِ َيهْ } أي :قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن ل محالة
،كما قال { :الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلقُو رَ ّبهِمْ } [البقرة .]46 :
قال ال َ { :ف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } أي :مرضية { ،فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ } أي :رفيعة قصورها ،
حسان حورها ،نعيمة دورها ،دائم حبورها.
سكُوني ،حدثنا
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا أبو عُتْبَةَ الحسن بن علي بن مسلم ال ّ
إسماعيل بن عياش ،عن سعيد بن يوسف ،عن يحيى بن أبي كثير ،عن أبي سلم السود قال :
سمعتُ أبا أمامة قال :سأل رجلٌ رسول ال صلى ال عليه وسلم :هل يتزاور أهل الجنة ؟ قال :
"نعم ،إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى ،فيحيونهم ويسلمون عليهم ،ول
يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى العلين ،تقصر بهم أعمالهم" ()4
وقد ثبت في الصحيح " :إن الجنة مائة درجة ،ما بين كل درجتين كما بين السماء والرض" (
.)5
وقوله ُ { :قطُو ُفهَا دَانِيَةٌ } قال البراء بن عازب :أي قريبة ،يتناولها أحدهم ،وهو نائم على
سريره .وكذا قال غير واحد.
قال الطبراني [ :حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري] ( )6عن عبد الرزاق ،عن سفيان الثوري ،
__________
( )1زيادة من م.
( )2في أ " :موسى بن أبي عبيدة".
( )3انظر :تفسير الية 18 :من سورة هود وتخريجه هناك.
( )4ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم ( )421من طريق جعفر بن الزبير وبشر بن نمير ،عن
القاسم ،عن أبي أمامة مرفوعًا بنحوه ،وجعفر بن الزبير وبشر بن نمير متروكان واتهما
بالوضع.
( )5صحيح البخاري برقم ( )2790من حديث أبي هريرة ،رضي ال عنه.
( )6زيادة من المعجم الكبير للطبراني (.)6/272
( )8/214
شمَالِهِ فَ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( )25وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( )26يَا لَيْ َتهَا
وََأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ِب ِ
خذُوهُ َفغُلّوهُ ( )30ثُمّ
كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ ( )27مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيَهْ ( )28هََلكَ عَنّي سُلْطَانِ َيهْ (ُ )29
عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ ( )32إِنّهُ كَانَ لَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ
جحِي َم صَلّوهُ ( )31ثُمّ فِي سِ ْلسِلَةٍ ذَرْ ُ
الْ َ
سكِينِ ()34
طعَامِ ا ْلمِ ْ
حضّ عَلَى َ
ا ْلعَظِيمِ ( )33وَلَا يَ ُ
عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ،عن عطاء بن يسار ،عن سلمان الفارسي قال :قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :ل يدخل أحد الجنة إل بجواز ( :بسم ال الرحمن الرحيم) هذا كتاب
من ال لفلن بن فلن ،أدخلوه جنة عالية ،قطوفها دانية" (.)1
وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد ،بن سليمان التيمي ،عن أبي
جوَازا
عثمان النهدي ،عن سلمان ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :يعطى المؤمن َ
على الصراط ( :بسم ال الرحمن الرحيم) ،هذا كتاب من ال العزيز الحكيم لفلن ،أدخلوه جنة
عالية ،قطوفها دانية" (.)2
وقوله { :كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا أَسَْلفْتُمْ فِي اليّامِ ا ْلخَالِيَةِ } أي :يقال لهم ذلك ؛ تفضل عليهم ،
وامتنانا وإنعاما وإحسانا .وإل فقد ثبت في الصحيح ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال
" :اعملوا وَسَدّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ" .قالوا :ول أنت يا رسول
ال ؟ قال " :ول أنا ،إل أن يَ َت َغمّدني ال برحمة منه وفضل" (.)3
شمَالِهِ فَ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( )25وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( )26يَا لَيْ َتهَا
{ وََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ ِ
خذُوهُ َفغُلّوهُ ( )30ثُمّ
كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ ( )27مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيَهْ ( )28هََلكَ عَنّي سُلْطَانِ َيهْ (ُ )29
عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ ( )32إِنّهُ كَانَ ل ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ
جحِي َم صَلّوهُ ( )31ثُمّ فِي سِ ْلسِلَةٍ ذَرْ ُ
الْ َ
سكِينِ (} )34
طعَامِ ا ْلمِ ْ
حضّ عَلَى َ
ا ْلعَظِيمِ ( )33وَل َي ُ
__________
( )1المعجم الكبير للطبراني ( )6/272وعبد الرحمن بن زياد ضعيف ،ورواه ابن عدى في
الكامل ( )1/344من طريق إسحاق الدبري ،به .وقال " :حدث عن عبد الرزاق بحديث منكر" ثم
ذكر هذا الحديث.
( )2ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية ( )2/446من طريق أبي بكر -محمد بن خشام -
عن العباس البلخي ،عن سعدان بن سعيد الحكمي عن سليمان التيمي به .وقال ابن الجوززي :
"هذا حديث ل يصح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أما الطريق الول -أي طريق عبد
الرزاق -ففيه عبد الرحمن بن زياد قال أحمد بن حنبل :نحن ل نروى عن عبد الرحمن .وقال
ابن حبان :يروى الموضوعات عن الثقات ويدلس .وأما الطريق الثاني ،فقال الدارقطني :تفرد
به سعدان عن التيمي .قال ابن الجوزي :سعدان مجهول ،وكذلك محمد بن خشام".
( )3صحيح البخاري برقم ( )5673وصحيح مسلم برقم ( )2816من حديث أبي هريرة ،رضي
ال عنه
( )8/215
( )8/215
أي :يأمر الزبانية أن تأخذه ع ْنفًا من المحشر ،فَ َتغُله ،أي :تضع الغلل في عنقه ،ثم تُورده
إلى جهنم فتصليه إياها ،أي :تغمره فيها.
قال ابن أبي حاتم حدثنا :أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو خالد ،عن عمرو بن قيس ،عن المِ ْنهَال
بن عمرو قال :إذا قال ال ،عز وجل { خذوه } ابتدره سبعون ألف ملك ،إن الملك منهم ليقول
هكذا ،فيلقي سبعين ألفا في النار.
وروى ابن أبي الدنيا في "الهوال" :أنه يبتدره أربعمائة ألف ،ول يبقى شيء إل َدقَه ،فيقول :
ما لي ولك ؟ فيقول :إن الرب عليك غضبان ،فكل شيء غضبان عليك.
وقال الفضيل -هو ابن عياض : -إذا قال الرب ،عز وجل { :خُذُوهُ َفغُلّوهُ } ابتدره سبعون
ألفا ملك ،أيهم يجعل الغل في عنقه.
{ ُثمّ ا ْلجَحِيمَ صَلّوهُ } أي :اغمروه فيها.
عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ } قال كعب الحبار :كل حلقة منها قدر
وقوله ُ { :ثمّ فِي سِلْسَِلةٍ ذَرْ ُ
حديد الدنيا.
وقال العَوفي عن ابن عباس ،وابن جرير :بذراع الملك .وقال ابن جريج ،قال ابن عباس :
{ فاسلكوه } تدخل في استه ثم تخرج من فيه ،ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين
يشوى.
وقال العوفي ،عن ابن عباس :يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه ،حتى ل يقوم على
رجليه.
وقال المام أحمد :حدثنا علي بن إسحاق ،أخبرنا عبد ال ،أخبرنا سعيد بن يزيد ،عن أبي
السمح ،عن عيسى بن هلل الصّدَفي ،عن عبد ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى ال
جمْجُمة -أرسلت من السماء إلى
عليه وسلم " :لو أن َرصَاصة مثل هذه -وأشار إلى [مثل] (ُ )1
الرض ،وهي مسيرة خمسمائة سنة ،لبلغت الرض قبل الليل ،ولو أنها أرسلت من رأس
السلسلة ،لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ ،قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها".
سوَيْد بن نصر ( )2عن عبد ال بن المبارك ،به ( )3قال :هذا حديث
وأخرجه الترمذي ،عن ُ
حسن.
سكِينِ } أي :ل يقوم بحق ال
طعَامِ ا ْلمِ ْ
حضّ عَلَى َ
وقوله { :إِنّهُ كَانَ ل ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِي ِم وَل َي ُ
عليه من طاعته وعبادته ،ول ينفع خلقه ويؤدي حقهم ؛ فإن ل على العباد أن يوحدوه ول
يشركوا به شيئا ،وللعباد بعضهم على بعض حقّ الحسان والمعاونة على البر والتقوى ؛ ولهذا
أمر ال بإقام الصلة وإيتاء الزكاة ،وقبض النبي صلى ال عليه وسلم وهو يقول " :الصلة ،وما
ملكت أيمانكم" (.)4
__________
( )1زيادة من المسند والترمذي.
( )2في أ " :سويد بن سعيد".
( )3المسند ( )2/197وسنن الترمذي برقم (.)2588
( )4جاء من حديث أنس ،وعلي وأم سلمة ،وسفينة ،رضي ال عنهم ،وحديث علي ،رضي
ال عنه " :كان آخر كلم النبي صلى ال عليه وسلم "...فذكره ،رواه المام أحمد في المسند (
)1/78وأبو داود في السنن برقم (.)5154
( )8/216
سمُ ِبمَا تُ ْبصِرُونَ (َ )38ومَا لَا تُ ْبصِرُونَ ( )39إِنّهُ َل َق ْولُ َرسُولٍ كَرِيمٍ (َ )40ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ
فَلَا ُأقْ ِ
شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا ُت ْؤمِنُونَ ( )41وَلَا ِبقَ ْولِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا َت َذكّرُونَ ( )42تَنْزِيلٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()43
( )8/217
( )8/218
وروى ابن أبي حاتم ،من طريق السدي ،عن أبي مالك { :وَإِنّهُ َلحَسْ َرةٌ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } يقول :
لندامة .ويحتمل عود الضمير على القرآن ،أي :وإن القرآن واليمان به لحسرة في نفس المر
على الكافرين ،كما قال { :كَذَِلكَ سََلكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ل ُي ْؤمِنُونَ ِبهِ } [الشعراء ، 200 :
، ]201وقال تعالى َ { :وحِيلَ بَيْ َن ُه ْم وَبَيْنَ مَا يَشْ َتهُونَ } [سبأ ]54 :ولهذا قال ها هنا { :وَإِنّهُ
حقّ الْ َيقِينِ } أي :الخبر الصدق الحق الذي ل مرية فيه ول شك ول ريب.
لَ َ
سمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ } أي :الذي أنزل هذا القرآن العظيم[ .آخر تفسير سورة
ثم قال { :فَسَبّحْ بِا ْ
"الحاقة" ،ول الحمد ()2( ] )1
__________
( )1في أ " :ول الحمد والمنة والثناء والحمد الجميل".
( )2زيادة من م ،أ.
( )8/219
ب وَاقِعٍ ( )1لِ ْلكَافِرِينَ لَيْسَ َلهُ دَا ِفعٌ ( )2مِنَ اللّهِ ذِي ا ْل َمعَارِجِ (َ )3تعْرُجُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ
سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
جمِيلًا ( )5إِ ّنهُمْ يَ َروْنَهُ َبعِيدًا
خ ْمسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ ( )4فَاصْبِرْ صَبْرًا َ
وَالرّوحُ ِإلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
( )6وَنَرَاهُ قَرِيبًا ()7
تفسير سورة سأل سائل
وهي مكية.
بسم ال الرحمن الرحيم
ب وَاقِعٍ ( )1لِ ْلكَافِرينَ لَ ْيسَ لَهُ دَافِعٌ ( )2مِنَ اللّهِ ذِي ا ْل َمعَارِجِ (َ )3تعْرُجُ ا ْلمَل ِئكَةُ
{ سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
جمِيل ( )5إِ ّن ُهمْ يَ َروْنَهُ َبعِيدًا
خ ْمسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ ( )4فَاصْبِرْ صَبْرًا َ
وَالرّوحُ ِإلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
( )6وَنَرَاهُ قَرِيبًا (} )7
ب وَاقِعٍ } فيه تضمين دل عليه حرف "الباء" ،كأنه ُمقَدر :يستعجل سائل بعذاب
{ سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
ب وَلَنْ ُيخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َدهُ } أي :وعذابه واقع ل محالة.
واقع .كقوله { :وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
قال النسائي :حدثنا بشر بن خالد ،حدثنا أبو أسامة ،حدثنا سفيان ،عن العمش ،عن المِ ْنهَال
ب وَاقِعٍ } قال :
بن عمرو ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس في قوله { :سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
النضر بن الحارث بن كَلَدَة.
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :سََألَ سَا ِئلٌ ِب َعذَابٍ وَاقِعٍ } قال :ذلك سؤال الكفار عن عذاب ال
وهو واقع.
وقال ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد في قوله :تعالى { سََألَ سَا ِئلٌ } دعا داع بعذاب واقع يقع في
حجَا َرةً مِنَ
علَيْنَا ِ
الخرة ،قال :وهو قولهم { :الّلهُمّ إِنْ كَانَ هَذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِنْ ِدكَ فََأمْطِرْ َ
سمَاءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ } [النفال .]32 :
ال ّ
ب وَاقِعٍ } أي :واد في جهنم ،يسيل يوم القيامة بالعذاب.
وقال ابن زيد وغيره { :سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ
وهذا القول ضعيف ،بعيد عن المراد .والصحيح الول لدللة السياق عليه.
وقوله { :وَاقِعٍ لِ ْلكَافِرينَ } أي :مُرصد ُمعَدّ للكافرين.
وقال ابن عباس { :وَاقِعٍ } جاء { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي :ل دافع له إذا أراد ال كونه ؛ ولهذا قال
{ مِنَ اللّهِ ذِي ا ْل َمعَارِجِ } قال الثوري ،عن العمش ،عن رجل ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن
عباس في قوله { :ذِي ا ْل َمعَارِجِ } قال :ذو الدرجات.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :ذِي ا ْل َمعَارِجِ } يعني :العلو والفواضل.
وقال مجاهد { :ذِي ا ْل َمعَارِجِ } معارج السماء .وقال قتادة :ذي الفواضل والنعم.
( )8/220
وقوله َ { :تعْرُجُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَ ْيهِ } قال عبد الرزاق ،عن َم ْعمَر ،عن قتادة َ { :تعْرُجُ }
تصعد.
وأما الروح فقال أبو صالح :هم خلق من خلق ال .يشبهون الناس ،وليسوا أناسا.
قلت :ويحتمل أن يكون المراد به جبريل ،ويكون من باب عطف الخاص على العام .ويحتمل
أن يكون اسم جنس لرواح بني آدم ،فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء ،كما دل عليه
حديث البراء .وفي الحديث الذي رواه المام أحمد ،وأبو داود ،والنسائي ،وابن ماجه ،من
حديث المِ ْنهَال ،عن زاذان ،عن البراء مرفوعًا -الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة -قال
فيه " :فل يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء ( )1السابعة" .وال أعلم
بصحته ،فقد تُكلم في بعض رواته ،ولكنه مشهور ،وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم
من رواية المام أحمد والترمذي وابن ماجة ،من طريق ابن أبي ذئب ،عن محمد بن عمرو بن
عطاء ،عن سعيد بن يسار ،عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة ،وقد بسطنا لفظه عند
ضلّ اللّهُ
قوله تعالى { :يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِا ْلقَ ْولِ الثّا ِبتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َرةِ وَيُ ِ
ن وَ َي ْف َعلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم .]27 :
الظّاِلمِي َ
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ } فيه أربعة أقوال :
وقوله { :فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
أحدهما :أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين ،وهو قرار الرض
السابعة ،وذلك مسيرة خمسين ألف سنة ،هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الرض
السابعة .وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة ،وأنه من ياقوتة حمراء
،كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش .وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الية :
عمَر بن معروف ،عن ليث
حكّام ،عن ُ
حدثنا أحمد بن سلمة ،حدثنا إسحاق بن إبراهيم ،أخبرنا َ
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ } قال :منتهى أمره
،عن مجاهد ،عن ابن عباس قوله { :فِي َي ْومٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
من أسفل الرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره
ألف سنة .يعني بذلك :تَنزل المر من السماء إلى الرض ،ومن الرض إلى السماء في يوم
واحد فذلك مقداره ألف سنة ؛ لن ما بين السماء والرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة.
عمَر بن معروف ،عن ليث ،عن
حكّام بن سلم ،عن ُ
وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد ،عن َ
مجاهد قوله ،لم يذكر ابن عباس (.)2
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا علي بن محمد الطّنافِسيّ ،حدثنا إسحاق بن منصور ،
حدثنا نوح المؤدب ،عن عبد الوهاب بن مجاهد ،عن أبيه ،عن ابن عباس قال :غلظ كل
أرض خمسمائة عام ،وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام ،فذلك سبعة آلف عام .وغلظ
كل سماء
__________
( )1في م " :السماء التي فيها ال".
( )2تفسير الطبري (.)29/44
( )8/221
خمسمائة عام ،وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام ،فذلك أربعة عشر ألف عام ،وبين السماء
خمْسِينَ
السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلثين ألف عام ،فذلك قوله { :فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
أَ ْلفَ سَنَةٍ }
القول الثاني :أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق ال هذا العالم إلى قيام الساعة ،قال ابن
أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ،أخبرنا إبراهيم بن موسى ،أخبرنا ابن أبي زائدة ،عن ابن جريج ،عن
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } قال :الدنيا عمرها خمسون ألف سنة .وذلك
مجاهد { :فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
عمرها يوم سماها ال تعالى يوم َ { ،تعْرُجُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَالرّوحُ ِإلَيْهِ فِي َيوْمٍ } قال :اليوم :الدنيا.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا َم ْعمَر ،عن ابن أبي َنجِيح ،عن مجاهد -وعن الحكم بن أبان ،عن
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } قال :الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين
عكرمة { :فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
ألف سنة ،ل يدري أحدٌ كم مضى ،ول كم بقي إل ال ،عز وجل (.)1
القول الثالث :أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والخرة ،وهو قول غريب جدًا .قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ،حدثنا بُهلول بن المورق ( )2حدثنا موسى بن
خمْسِينَ َأ ْلفَ سَنَةٍ } قال :هو يوم الفصل
عبيدة ،أخبرني محمد بن كعب { :فِي َيوْمٍ كَانَ مِقْدَا ُرهُ َ
بين الدنيا والخرة.
القول الرابع :أن المراد بذلك يوم القيامة ،قال ابن أبي حاتم :
سمَاك ،عن
حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ،حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن إسرائيل ،عن ِ
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَ َنةٍ } قال :يوم القيامة .هذا
عكرمة ،عن ابن عباس { :فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
خمْسِينَ
وإسناده صحيح .ورواه الثوري عن سماك بن حرب ،عن عكرمة { فِي َي ْومٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
أَ ْلفَ سَنَةٍ } يوم القيامة .وكذا قال الضحاك ،وابن زيد.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله َ { :تعْرُجُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ } قال :فهذا يوم القيامة ،جعله ال تعالى على الكافرين مقدار خمسين
ِمقْدَا ُرهُ َ
ألف سنة.
وقد وردت أحاديث في معنى ذلك ،قال المام أحمد :
حدثنا الحسن بن موسى ،حدثنا ابن َلهِيعة ،حدثنا دَرّاج ،عن أبي الهيثم ،عن أبي سعيد قال :
خ ْمسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ } ما أطول هذا
قيل لرسول ال صلى ال عليه وسلم { :فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
اليوم ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :والذي نفسي بيده ،إنه ليخفف على المؤمن حتى
يكون أخفّ عليه من صلة مكتوبة يصليها في الدنيا".
__________
( )1تفسير عبد الرزاق (.)2/253
( )2في أ " :بهلول بن معروف".
( )8/222
ورواه ابن جرير ،عن يونس ،عن ابن وهب ،عن عمرو بن الحارث ،عن دراج ،به ( )1إل
أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان ،وال أعلم.
وقال المام أحمد :حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن قتادة ،عن أبي عمرو الغُداني قال
:كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة ،فقيل له :هذا أكثر عامري مال.
فقال أبو هريرة :ردوه ( )2فقال :نبئت أنك ذو مال كثير ؟ فقال العامري :أي وال ،إن لي
حمْرًا و مائة أدمًا ،حتى عد من ألوان البل ،وأفنان الرقيق ،ورباط الخيل فقال أبو
لمائة ُ
هريرة :إياك وأخفاف البل وأظلفَ النعم ( - )3يُ َردّد ذلك عليه ،حتى جعل لونُ العامري
يتغير -فقال :ما ذاك يا أبا هُرَيرة ؟ قال :سمعتُ رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :من
كانت له إبلٌ ل يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها -قلنا يا رسول ال :ما نجدتُها ورِسْلُها ؟ قال :
"في عُسرها ويسرها " -فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ،حتى يبطح
لها بقاع قَرقَر ،فتطؤه بأخفافها ،فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولها ،في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة ،حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ،وإذا كانت له بقر ل يعطي حقها في
نجدتها ورسلها ،فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع
قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ،وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ،إذا جاوزته أخراها أعيدت
عليه أولها ،في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله .وإذا
كانت له غنم ل يعطي حقها في نجدتها ورسلها ،فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه
وآشره ،حتى يبطح لها بقاع قَرقَر ،فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ،
ليس فيها عَقصاء ول عضباء ،إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولها ،في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة ،حتى يقضى بين الناس ،فيرى سبيله" .قال العامري :وما حق البل يا أبا
هريرة ؟ قال :أن تعطي الكريمة ،وتمنح الغَزيرَة ،وتفقر الظهر ،وتَسقيَ اللبن ( )4وتُطرقَ
الفحل.
وقد رواه أبو داود من حديث شعبة ،والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة ،كلهما عن قتادة
،به (.)5
سهَيل ( )6بن أبي صالح ،
طريق أخرى لهذا الحديث :قال المام أحمد :حدثنا أبو كامل ،عن ُ
عن أبيه ،عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما من صاحب كنز ل
يؤدي حقه إل جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم ،فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره ،حتى
يحكم ال بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ،ثم يرى سبيله إما إلى
الجنة وإما إلى النار" .وذكر بقية الحديث في الغنم والبل كما تقدم ،وفيه " :الخيل الثلثة ؛ لرجل
أجر ،ولرجل ستر ،وعلى
__________
( )1المسند ( )3/75وتفسير الطبري ( )29/45ودراج عن أب الهيثم ضعيف.
( )2في أ " :ردوه إلى".
( )3في م " :الغنم".
( )4في م " :وتسقي البل".
( )5المسند ( )2/489وسنن أبي داود برقم ( )1660وسنن النسائي (.)5/12
( )6في أ " :عن سهل".
( )8/223
حمِيمًا ()10
حمِيمٌ َ
سمَاءُ كَا ْل ُم ْهلِ ( )8وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ ( )9وَلَا َيسَْألُ َ
َيوْمَ َتكُونُ ال ّ
( )8/224
يُ َبصّرُونَهُمْ َيوَدّ ا ْلمُجْ ِرمُ َلوْ َيفْتَدِي مِنْ عَذَابِ َي ْومِئِذٍ بِبَنِيهِ (َ )11وصَاحِبَتِ ِه وَأَخِيهِ (َ )12و َفصِيلَتِهِ الّتِي
شوَى ( )16تَدْعُوا
عةً لِل ّ
جمِيعًا ثُمّ يُنْجِيهِ ( )14كَلّا إِ ّنهَا َلظَى ( )15نَزّا َ
ُت ْؤوِيهِ (َ )13ومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ
ج َمعَ فََأوْعَى ()18
مَنْ أَدْبَ َر وَ َتوَلّى ( )17وَ َ
( )8/224
بعد ذلك ،يقول ِ { :ل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }
شوْا َي ْومًا ل َيجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَ ِد ِه وَل
وهذه الية الكريمة كقوله { :يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُمْ وَاخْ َ
حقّ } [لقمان .]33 :وكقوله { :وَإِنْ َت ْدعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى
ن وَاِل ِدهِ شَيْئًا إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ
َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَ ْ
شيْ ٌء وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر .]18 :وكقوله { :فَِإذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ فَل
ح َملْ مِنْهُ َ
حمِْلهَا ل يُ ْ
ِ
أَنْسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِ ٍذ وَل يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون .]101 :وكقوله َ { :ي ْومَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِي ِه وَُأمّهِ
وَأَبِي ِه َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ } [عبس .]37 - 34 :
عذَابِ َي ْومِئِذٍ بِبَنِي ِه َوصَاحِبَ ِت ِه وَأَخِي ِه َو َفصِيلَتِهِ الّتِي ُت ْؤوِي ِه َومَنْ
وقوله َ { :يوَدّ ا ْلمُجْرِمُ َلوْ َيفْتَدِي مِنْ َ
جمِيعًا ُثمّ يُنْجِيهِ كَل } أي :ل يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الرض ،وبأعز ما يجده
فِي ال ْرضِ َ
حشَاشة كبده ،يود يوم
من المال ،ولو بملء الرض ذهبًا ،أو من ولده الذي كان في الدنيا ُ
القيامة إذا رأى الهوال أن يفتدي من عذاب ال به ،ول يقبل منه .قال مجاهد والسدي :
{ َفصِيلَتِهِ } قبيلته وعشيرته .وقال عكرمة :فَخذه الذي هو منهم .وقال أشهب ،عن مالك :
{ َفصِيلَتِهِ } أمه.
شوَى } قال ابن عباس ،ومجاهد :جلدة
وقوله { :إِ ّنهَا َلظَى } يصف النار وشدة حرها { نزاعَةً لِل ّ
شوَى } الجلود والهام .وقال مجاهد :ما دون
الرأس .وقال العوفي ،عن ابن عباس { :نزاعَةً لِل ّ
شوَى }
العظم من اللحم .وقال سعيد بن جبير :العصب .والعقب .وقال أبو صالح { :نزاعَةً لِل ّ
يعني :أطراف اليدين والرجلين .وقال أيضا :نزاعة لحم الساقين .وقال الحسن البصري ،وثابت
شوَى } أي :مكارم وجهه .وقال الحسن أيضا :تحرق كل شيء فيه ،ويبقى
عةً لِل ّ
البناني { :نزا َ
شوَى } أي :نزاعة لهامته ومكارم وَجهه وخَ ْلقَه وأطرافه.
عةً لِل ّ
فؤاده يصيح .وقال قتادة { :نزا َ
وقال الضحاك :تبري اللحم والجلد عن العظم ،حتى ل تترك منه شيئًا .وقال ابن زيد :الشوى :
الراب العظام .فقوله :نزاعة ،قال :تقطع عظامهم ،ثم ُيجَدد خلقهم وتبدل جلودهم.
جمَعَ فََأوْعَى } أي :تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم ال لها
وقوله َ { :تدْعُوا مَنْ أَدْبَ َر وَ َتوَلّى َو َ
،وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها ،فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلق ذَلِق ،ثم تلتقطهم
من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب .وذلك أنهم -كما قال ال ،عز وجل -كانوا ممن {
جمَعَ فََأوْعَى } أي :جمع المال بعضه
أَدْبَ َر وَ َتوَلّى } أي :كذب بقلبه ،وترك العمل بجوارحه { وَ َ
على بعض فأوعاه ،أي :أوكاه ومنع حق ال منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج
الزكاة .وقد ورد في الحديث " :ول تُوعي فَيُوعي ال عليك" ( )1وكان عبد ال بن عُكيم ل يربط
جمَعَ فََأوْعَى }
له كيسا ويقول :سمعت ال يقول { :وَ َ
وقال الحسن البصري :يا ابن آدم ،سمعتَ وعيدَ ال ثم أوعيتَ الدنيا.
جمُوعًا قمُومًا للخَبيث.
جمَعَ فََأوْعَى } قال :كان َ
وقال قتادة في قوله { :وَ َ
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( )1434ومسلم في صحيحه برقم ( )1029من حديث أسماء
بنت أبي بكر الصديق ،رضي ال عنهما.
( )8/225
إِنّ الْإِنْسَانَ خُِلقَ هَلُوعًا ( )19إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا ( )20وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( )21إِلّا
ا ْل ُمصَلّينَ ( )22الّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ دَا ِئمُونَ ( )23وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ َمعْلُومٌ ( )24لِلسّا ِئلِ
شفِقُونَ ( )27إِنّ
وَا ْلمَحْرُومِ ( )25وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ ( )26وَالّذِينَ ُهمْ مِنْ عَذَابِ رَ ّب ِهمْ مُ ْ
جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ
ج ِهمْ حَا ِفظُونَ ( )29إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ
عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ ( )28وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (َ )30فمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ ( )31وَالّذِينَ هُمْ
شهَادَا ِتهِمْ قَا ِئمُونَ ( )33وَالّذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ
عهْدِ ِهمْ رَاعُونَ ( )32وَالّذِينَ ُهمْ بِ َ
لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ
يُحَا ِفظُونَ ( )34أُولَ ِئكَ فِي جَنّاتٍ ُمكْ َرمُونَ ()35
{ إِنّ النْسَانَ خُِلقَ هَلُوعًا (ِ )19إذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا ( )20وَإِذَا مَسّهُ ا ْلخَيْرُ مَنُوعًا ( )21إِل
حقّ َمعْلُومٌ ( )24لِلسّا ِئلِ
ا ْل ُمصَلّينَ ( )22الّذِينَ هُمْ عَلَى صَل ِتهِمْ دَا ِئمُونَ ( )23وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
شفِقُونَ ( )27إِنّ
وَا ْلمَحْرُومِ ( )25وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ ( )26وَالّذِينَ ُهمْ مِنْ عَذَابِ رَ ّب ِهمْ مُ ْ
ج ِهمْ َأوْ مَا مََل َكتْ
ج ِهمْ حَا ِفظُونَ ( )29إِل عَلَى أَ ْزوَا ِ
عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ ( )28وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (َ )30فمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ ( )31وَالّذِينَ هُمْ
شهَادَا ِتهِمْ قَا ِئمُونَ ( )33وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صَل ِتهِمْ
عهْدِهِمْ رَاعُونَ ( )32وَالّذِينَ هُمْ بِ َ
لمَانَاتِهِمْ وَ َ
يُحَا ِفظُونَ ( )34أُولَ ِئكَ فِي جَنّاتٍ ُمكْ َرمُونَ (} )35
يقول تعالى مخبرًا عن النسان وما هو مجبول عليه من الخلق الدنيئة { :إِنّ النْسَانَ خُلِقَ
هَلُوعًا } ثم فسره بقوله { :إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا } أي :إذا أصابه الضر فزع وجزع وانخلع
قلبه من شدة الرعب ،وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير.
{ وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } أي :إذا حصلت له ( )1نعمة من ال بخل بها على غيره ،ومنع حق
ال فيها.
عَليّ بنُ رَباح :سمعت أبي يحدث
وقال المام أحمد :حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا موسى بن ُ
عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال :سمعت أبا هُرَيرة يقول :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :شر ما في رجل شُحٌ هالع ،وجبن خالع".
ورواه أبو داود عن عبد ال بن الجراح ،عن أبي عبد الرحمن المقري ،به ( )2وليس لعبد
العزيز عنده سواه.
ثم قال { :إِل ا ْل ُمصَلّينَ } أي :النسان من حيث هو متصف بصفات الذم إل من عصمه ال
ووفقه ،وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه ،وهم المصلون { الّذِينَ هُمْ عَلَى صَل ِتهِمْ دَا ِئمُونَ } قيل
:معناه يحافظون على أوقاتهم وواجباتهم .قاله ابن مسعود ،ومسروق ،وإبراهيم النخعي.
وقيل :المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع ،كقوله { :قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَل ِتهِمْ
شعُونَ } [المؤمنون .]2 ، 1 :قاله عتبة بن عامر .ومنه الماء الدائم ،أي :الساكن الراكد.
خَا ِ
وقيل :المراد بذلك الذين إذا عملوا عمل داوموا عليه وأثبتوه ،كما جاء في الصحيح عن
عائشة ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :أحب العمال إلى ال أدومها وإن َقلّ".
وفي لفظ " :ما داوم عليه صاحبه" ،قالت :وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا عمل عمل
داوم عليه .وفي لفظ :أثبته (.)3
__________
( )1في م " :عنده".
( )2المسند ( )2/320وسنن أبي داود برقم (.)2511
( )3صحيح البخاري برقم ( )6465 ، 43وصحيح مسلم برقم ( )785من حديث عائشة ،رضي
ال عنها.
( )8/226
وقال قتادة في قوله { :الّذِينَ هُمْ عَلَى صَل ِتهِمْ دَا ِئمُونَ } ذُكر لنا أن دانيال ،عليه السلم ،نعت
أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقال :يصلون صلة لو صلها قوم نوح ما غرقوا ،أو قوم عاد
ما أرسلت عليهم الريح العقيم ،أو ثمود ما أخذتهم الصيحة .فعليكم بالصلة فإنها خُلُق للمؤمنين
حسن.
ل وَا ْلمَحْرُومِ } أي :في أموالهم نصيب مقرر لذوي
وقوله { :وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ َمعْلُومٌ لِلسّا ِئ ِ
الحاجات .وقد تقدم الكلم على ذلك في "سورة الذاريات".
وقوله { :وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ } أي :يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء ،فهم يعملون
شفِقُونَ } أي :
عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ؛ ولهذا قال { :وَالّذِينَ ُهمْ مِنْ عَذَابِ رَ ّبهِمْ ُم ْ
خائفون وجلون { ،إِنّ عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ } أي :ل يأمنه أحد ممن عقل عن ال أمره إل
بأمان من ال تبارك وتعالى.
جهِمْ حَا ِفظُونَ } أي :يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير
وقوله { :وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
ج ِه ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُن ُهمْ } أي :من الماء ،
ما أذن ال [فيه] ( )1ولهذا قال { :إِل عَلَى أَ ْزوَا ِ
{ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ } وقد تقدم تفسير ذلك في أول
سورة ( { )2قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } بما أغنى عنى إعادته هاهنا.
عهْدِ ِهمْ رَاعُونَ } أي :إذا اؤتمنوا لم يخونوا ،وإذا عاهدوا لم
وقوله { :وَالّذِينَ هُ ْم لمَانَا ِتهِ ْم وَ َ
يغدروا .وهذه صفات المؤمنين ،وضدها صفات المنافقين ،كما ورد في ( )3الحديث الصحيح :
"آية المنافق ثلث :إذا حدث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤتمن خان" .وفي رواية " :إذا حَدّث
غدَر ،وإذا خاصم فجر" (.)4
كذب ،وإذا عاهد َ
شهَادَا ِتهِمْ قَا ِئمُونَ } أي :محافظون عليها ل يزيدون فيها ،ول ينقصون
وقوله { :وَالّذِينَ هُمْ ِب َ
منها ،ول يكتمونها َ { ،ومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آ ِثمٌ قَلْبُهُ } [البقرة .]283 :
ثم قال { :وَالّذِينَ ُهمْ عَلَى صَل ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ } ( )5أي :على مواقيتها وأركانها وواجباتها
ومستحباتها ،فافتتح الكلم بذكر الصلة واختتمه بذكرها ،فدل على العتناء بها والتنويه بشرفها
،كما تقدم في أول سورة { :قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } ؛ سواء لهذا قال هناك { :أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلوَارِثُونَ
الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون ]11 ، 10 :وقال هاهنا { :أُولَ ِئكَ فِي جَنّاتٍ
ُمكْ َرمُونَ } أي :مكرمون بأنواع الملذ والمسار.
طمَعُ ُكلّ امْ ِرئٍ
شمَالِ عِزِينَ ( )37أَ َي ْ
ن وَعَنِ ال ّ
طعِينَ ( )36عَنِ الْ َيمِي ِ
{ َفمَالِ الّذِينَ كَفَرُوا قِبََلكَ ُمهْ ِ
خلَ جَنّةَ َنعِيمٍ ( )38كَل إِنّا خََلقْنَاهُمْ ِممّا َيعَْلمُونَ (} )39
مِ ْنهُمْ أَنْ ُيدْ َ
__________
( )1زيادة من م.
( )2في م " :سورة المؤمنون".
( )3في م " :كما ورد به".
( )4تقدم تخريج الحديث عند تفسير الية 8 :من سورة المؤمنون.
( )5في أ " :على صلتهم".
( )8/227
سمُ بِ َربّ ا ْلمَشَارِقِ وَا ْل َمغَارِبِ إِنّا َلقَادِرُونَ ( )40عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ خَيْرًا مِ ْنهُ ْم َومَا نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ
فَلَا ُأقْ ِ
( )41فَذَرْ ُهمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ (َ )42يوْمَ َيخْرُجُونَ مِنَ الَْأجْدَاثِ
شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ ذَِلكَ الْ َيوْمُ الّذِي كَانُوا
صبٍ يُو ِفضُونَ ( )43خَا ِ
سِرَاعًا كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ
يُوعَدُونَ ()44
ق وَا ْل َمغَا ِربِ إِنّا َلقَادِرُونَ ( )40عَلَى أَنْ نُ َب ّدلَ خَيْرًا مِ ْنهُمْ َومَا َنحْنُ
{ فَل ُأ ْقسِمُ بِ َربّ ا ْلمَشَا ِر ِ
ِبمَسْبُوقِينَ ( )41فَذَرْ ُهمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ (َ )42يوْمَ َيخْرُجُونَ مِنَ
شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ ذَِلكَ الْ َي ْومُ الّذِي
صبٍ يُوفِضُونَ ( )43خَا ِ
الجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ
عدُونَ (} )44
كَانُوا يُو َ
( )8/227
يقول تعالى منكرًا على الكفار الذين كانوا في زمن ( )1النبي صلى ال عليه وسلم وهم مشاهدون
له ،ولما أرسله ال به من الهدى وما أيده ال به من المعجزات الباهرات ،ثم هم مع هذا كله
فارون منه ،متفرقون عنه ،شاردون يمينًا وشمال فِ َرقًا فِ َرقًا ،وشِيعًا شِيعًا ،كما قال تعالى :
سوَ َرةٍ } [المدثر ]51 ، 49 :الية
حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ فَ ّرتْ مِنْ قَ ْ
{ َفمَا َل ُهمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ كَأَ ّنهُمْ ُ
طعِينَ } أي :فما لهؤلء الكفار الذين
وهذه مثلها ؛ فإنه قال تعالى َ { :فمَالِ الّذِينَ َكفَرُوا قِبََلكَ ُمهْ ِ
طعِينَ }
طعِينَ } أي مسرعين نافرين منك ،كما قال الحسن البصري ُ { :مهْ ِ
عندك يا محمد { ُمهْ ِ
شمَالِ عِزِينَ } واحدها ع َزةٌ ،أي :متفرقين .وهو حال من
ن وَعَنِ ال ّ
أي :منطلقين { ،عَنِ الْ َيمِي ِ
مهطعين ،أي :في حال تفرقهم واختلفهم ،كما قال المام أحمد في أهل الهواء :فهم مخالفون
للكتاب ،مختلفون في الكتاب ،متفقون على مخالفة الكتاب.
طعِينَ } قال :قبلك ينظرون { ،عَنِ
وقال العوفي ،عن ابن عباس َ { :فمَالِ الّذِينَ َكفَرُوا قِبََلكَ ُمهْ ِ
شمَالِ عِزِينَ } قال :العزين :ال ُعصَب من الناس ،عن يمين وشمال معرضين
ن وَعَنِ ال ّ
الْ َيمِي ِ
يستهزئون به.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن بشار .حدثنا أبو عامر ،حدثنا قرة ،عن الحسن ( )2في قوله :
شمَالِ عِزِينَ } متفرقين ،يأخذون يمينًا وشمال يقولون :ما قال هذا الرجل ؟
{ عَنِ الْ َيمِينِ وَعَنِ ال ّ
شمَالِ عِزِينَ } أي :فِ َرقًا حول النبي
ن وَعَنِ ال ّ
طعِينَ } عامدين { ،عَنِ الْ َيمِي ِ
وقال قتادة ُ { :مهْ ِ
صلى ال عليه وسلم ل يرغبون في كتاب ال ،ول في نبيه صلى ال عليه وسلم.
وقال الثوري ،وشعبة ،وعيسى بن يونس وعَبْثَر بن القاسم ( )3ومحمد بن فضيل ،و َوكِيع ،
ويحيى القطان ،وأبو معاوية ،كلهم عن العمش ،عن المسيب بن رافع ،عن تميم بن طرفة ،
عن جابر بن سمرة ؛ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج عليهم ( )4وهم حلق ،فقال " :ما
لي أراكم عزين ؟"
رواه أحمد ،ومسلم ،وأبو داود ،والنسائي ،وابن جرير ،من حديث العمش ،به ()5
__________
( )1في أ " :في زمان".
( )2في م " :عن الحسين".
( )3في م " :وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس".
( )4في م " :خرج على أصحابه".
( )5المسند ( )5/93وصحيح مسلم برقم ( )430وسنن أبي داود برقم ( )4823وسنن النسائي
الكبرى برقم ( )11622وتفسير الطبري (.)29/54
( )8/228
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا ُم َؤمّل ،حدثنا سفيان ،عن عبد الملك بن عمير ،
عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة :رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج على
أصحابه وهم حِلَق حِلق ،فقال " :ما لي أراكم عزين ؟" (.)1
وهذا إسناد جيد ،ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
خلَ جَنّةَ َنعِيمٍ } أي :أيطمع هؤلء -والحالة هذه -من
طمَعُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيدْ َ
وقوله { :أَ َي ْ
فرارهم عن الرسول صلى ال عليه وسلم ونفارهم عن الحق -أن يدخلوا جنات النعيم ؟ كل بل
مأواهم الجحيم.
ثم قال تعالى مقررًا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده ،مستدل
عليهم بالبداءة التي العادة أهون منها وهم معترفون بها ،فقال { إِنّا خََلقْنَاهُمْ ِممّا َيعَْلمُونَ } أي :
من المني الضعيف ،كما قال { :أََلمْ َنخُْلقْكُمْ مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ } [المرسلت .]20 :وقال { :فَلْيَ ْنظُرِ
جعِهِ َلقَادِرٌ َيوْمَ
ب وَالتّرَا ِئبِ إِنّهُ عَلَى َر ْ
النْسَانُ مِمّ خُلِقَ خُِلقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ َيخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصّ ْل ِ
تُبْلَى السّرَائِرُ َفمَا َلهُ مِنْ ُق ّوةٍ وَل نَاصِرٍ } [الطارق .]10 - 5 :
ق وَا ْل َمغَا ِربِ } أي :الذي خلق السموات والرض ،وجعل
ثم قال { :فَل ُأقْسِمُ بِ َربّ ا ْلمَشَارِ ِ
مشرقا ومغربا ،وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها .وتقدير الكلم :ليس
المر كما يزعمون أن ل معاد ول حساب ،ول بعث ول نشور ،بل كل ذلك واقع وكائن ل
محالة .ولهذا أتى ب "ل" في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي ،وهو مضمون الكلم ،
وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة ،وقد شاهدوا من عظيم قدرة ال تعالى ما هو
أبلغ من إقامة القيامة ،وهو خلق السموات والرض ،وتسخير ما فيهما من المخلوقات من
سمَاوَاتِ
الحيوانات والجمادات ،وسائر صنوف الموجودات ؛ ولهذا قال تعالى { :لَخَ ْلقُ ال ّ
وَالرْضِ َأكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ } [غافر ]57 :وقال تعالى َ { :أوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََلقَ
شيْءٍ قَدِيرٌ }
ض وَلَمْ َي ْعيَ بِخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
سمَاوَاتِ وَال ْر َ
ال ّ
سمَاوَاتِ وَال ْرضَ ِبقَادِرٍ
[الحقاف .]33 :وقال تعالى في الية الخرى َ { :أوَلَيْسَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
عَلَى أَنْ يَخُْلقَ مِثَْلهُمْ بَلَى وَ ُهوَ ا ْلخَلقُ ا ْلعَلِيمُ إِ ّنمَا َأمْ ُرهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ َيقُولَ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ } [يس
سمُ بِ َربّ ا ْلمَشَارِقِ وَا ْل َمغَارِبِ إِنّا َلقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ خَيْرًا
.]82 ، 81 :وقال هاهنا { :فَل ُأقْ ِ
مِ ْنهُمْ } أي :يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه ،فإن قدرته صالحة لذلك َ { ،ومَا نَحْنُ
ج َمعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى
سبُ النْسَانُ أَلّنْ نَ ْ
حَِبمَسْبُوقِينَ } أي :بعاجزين .كما قال تعالى { :أَيَ ْ
س ّويَ بَنَانَهُ } [القيامة .]4 ، 3 :وقال تعالى َ { :نحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َن ُكمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ
أَنْ نُ َ
عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنْشِ َئ ُكمْ فِي مَا ل َتعَْلمُونَ } [الواقعة .]61 ، 6 :
واختار ابن جرير { عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ خَيْرًا مِ ْنهُمْ } أي :أمة تطيعنا ول تعصينا وجعلها ،كقوله :
{ وَإِنْ تَ َتوَّلوْا يَسْتَ ْب ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ ُثمّ ل َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ } [محمد .]38 :والمعنى الول أظهر لدللة
__________
( )1تفسير الطبري (.)29/54
( )8/229
اليات الخر عليه ،وال أعلم.
ثم قال تعالى َ { :فذَرْهُمْ } أي :يا محمد { يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا } أي :دعهم في تكذيبهم وكفرهم
وعنادهم { ،حَتّى يُلقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ } أي :فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله { َيوْمَ
صبٍ يُو ِفضُونَ } أي :يقومون من القبور إذا دعاهم
يَخْ ُرجُونَ مِنَ الجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ
الرب ،تبارك وتعالى ،لموقف الحساب ،ينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.
قال ابن عباس ،ومجاهد ،والضحاك :إلى عَلَم يسعون .وقال أبو العالية ،ويحيى بن أبي كثير
:إلى غاية يسعون إليها.
وقد قرأ الجمهور َ " :نصْب" بفتح النون وإسكان الصاد ،وهو مصدر بمعنى المنصوب .وقرأ
صبٍ } بضم النون والصاد ،وهو الصنم ،أي :كأنهم في إسراعهم إلى
الحسن البصري ُ { :ن ُ
الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون ،يبتدرون ،أيهم يستلمه
أول .وهذا مروي عن مجاهد ،ويحيى بن أبي كثير ،ومسلم البَطين ( )1وقتادة ،والضحاك ،
والربيع بن أنس ،وأبي صالح ،وعاصم بن َب ْهدَلة ،وابن زيد ،وغيرهم.
شعَةً أَ ْبصَارُ ُهمْ } أي :خاضعة { تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ } أي :في مقابلة ما استكبروا في الدنيا
وقوله { :خَا ِ
عن الطاعة { ،ذَِلكَ الْ َيوْمُ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
آخر تفسير سورة "سأل سائل" ول الحمد والمنة.
__________
( )1في م " :وأبو مسلم البطين".
( )8/230
إِنّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ أَنْ أَ ْنذِرْ َق ْومَكَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َيهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( )1قَالَ يَا َقوْمِ إِنّي َل ُكمْ نَذِيرٌ
سمّى إِنّ
جلٍ ُم َ
مُبِينٌ ( )2أَنِ اعْبُدُوا اللّ َه وَاتّقُو ُه وَأَطِيعُونِ (َ )3ي ْغفِرْ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَ ُيؤَخّ ْركُمْ إِلَى َأ َ
عوْتُ َق ْومِي لَيْلًا وَ َنهَارًا ( )5فَلَمْ
جلَ اللّهِ إِذَا جَاءَ لَا ُيؤَخّرُ َلوْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ ( )4قَالَ َربّ إِنّي دَ َ
أَ َ
شوْا
جعَلُوا َأصَا ِب َعهُمْ فِي آَذَا ِن ِه ْم وَاسْ َتغْ َ
عوْ ُتهُمْ لِ َت ْغفِرَ َلهُمْ َ
يَزِدْ ُهمْ دُعَائِي إِلّا فِرَارًا ( )6وَإِنّي كُّلمَا دَ َ
جهَارًا (ُ )8ثمّ إِنّي أَعْلَ ْنتُ َلهُ ْم وَأَسْرَ ْرتُ
عوْ ُتهُمْ ِ
ثِيَا َبهُ ْم وََأصَرّوا وَاسْ َتكْبَرُوا اسْ ِتكْبَارًا (ُ )7ثمّ إِنّي دَ َ
غفّارًا ()10
َلهُمْ ِإسْرَارًا (َ )9فقُ ْلتُ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُكمْ إِنّهُ كَانَ َ
( )8/231
ج َعلْ َل ُكمْ أَ ْنهَارًا (
ج َعلْ َلكُمْ جَنّاتٍ وَ َي ْ
ن وَيَ ْ
ل وَبَنِي َ
سمَاءَ عَلَ ْيكُمْ مِدْرَارًا ( )11وَ ُيمْدِ ْدكُمْ بَِأ ْموَا ٍ
سلِ ال ّ
يُرْ ِ
طوَارًا ( )14أََلمْ تَ َروْا كَ ْيفَ خََلقَ اللّهُ سَبْعَ
)12مَا َلكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلّهِ َوقَارًا (َ )13وقَدْ خََل َقكُمْ َأ ْ
شمْسَ سِرَاجًا ( )16وَاللّهُ أَنْبَ َت ُكمْ مِنَ الْأَ ْرضِ
ج َعلَ ال ّ
ج َعلَ ا ْل َقمَرَ فِيهِنّ نُورًا وَ َ
س َموَاتٍ طِبَاقًا ( )15وَ َ
َ
ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ ِبسَاطًا ( )19لِ َتسُْلكُوا
جكُمْ ِإخْرَاجًا ( )18وَاللّهُ َ
نَبَاتًا ( )17ثُمّ ُيعِي ُدكُمْ فِيهَا وَيُخْ ِر ُ
مِ ْنهَا سُبُلًا ِفجَاجًا ()20
( )8/231
يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح ،عليه السلم ،أنه اشتكى إلى ربه ،عز وجل ،ما لقي من
قومه ،وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إل خمسين عاما ،وما بين
ع ْوتُ َق ْومِي لَيْل وَ َنهَارًا
لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل القوم ،فقال َ { :ربّ إِنّي دَ َ
} أي :لم أترك دعاءهم في ليل ول نهار ،امتثال لمرك وابتغاء لطاعتك { ،فََلمْ يَزِ ْدهُمْ دُعَائِي
عوْ ُتهُمْ
إِل فِرَارًا } أي :كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فَروا منه وحَادُوا عنه { . ،وَإِنّي كُّلمَا دَ َ
شوْا ثِيَا َب ُهمْ } أي :سدوا آذانهم لئل يسمعوا ما أدعوهم
جعَلُوا َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِ ْم وَاسْ َتغْ َ
لِ َت ْغفِرَ َل ُهمْ َ
ن وَا ْل َغوْا فِيهِ
س َمعُوا ِل َهذَا ا ْلقُرْآ ِ
إليه .كما أخبر تعالى عن كفار قريش َ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا ل َت ْ
َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ } [فصلت .]26 :
شوْا ثِيَا َب ُهمْ } قال ابن جريح ،عن ابن عباس :تنكروا له لئل يعرفهم .وقال سعيد بن
{ وَاسْ َت ْغ َ
جبير ،والسدي :غطوا رءوسهم لئل يسمعوا ما يقول.
{ وََأصَرّوا } أي :استمروا على ما هم فيه ( )1من الشرك والكفر العظيم الفظيع { ،وَاسْ َتكْبَرُوا
اسْ ِتكْبَارًا } أي :واستنكفوا عن اتباع الحق والنقياد له.
جهَارًا } أي :جهرة بين الناس.
عوْ ُتهُمْ ِ
{ ُثمّ إِنّي دَ َ
{ ُثمّ إِنّي أَعْلَ ْنتُ َلهُمْ } أي :كلما ظاهرا بصوت عال { ،وََأسْرَ ْرتُ َل ُهمْ إِسْرَارًا } أي :فيما بيني
وبينهم ،عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم.
غفّارًا } أي :ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من
{ َفقُ ْلتُ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُكمْ إِنّهُ كَانَ َ
قريب ،فإنه من تاب إليه تاب عليه ،ولو كانت ذنوبه ( )2مهما كانت في الكفر والشرك .ولهذا
سمَاءَ عَلَ ْيكُمْ ِمدْرَارًا } أي :متواصلة
سلِ ال ّ
غفّارًا يُرْ ِ
قال َ { :فقُ ْلتُ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ إِنّهُ كَانَ َ
المطار .ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلة الستسقاء لجل هذه الية .وهكذا روي عن
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب :أنه صعد المنبر ليستسقي ،فلم يزد على الستغفار ،وقرأ
اليات في الستغفار .ومنها
__________
( )1في م " :ما هم عليه".
( )2في أ " :ولو كان ذنبه".
( )8/232
( )8/233
صوْنِي وَاتّ َبعُوا مَنْ َلمْ يَزِ ْدهُ مَاُل ُه َووَلَ ُدهُ إِلّا خَسَارًا (َ )21و َمكَرُوا َمكْرًا كُبّارًا (
ع َ
قَالَ نُوحٌ َربّ إِ ّنهُمْ َ
ق وَنَسْرًا (َ )23وقَدْ َأضَلّوا
سوَاعًا وَلَا َيغُوثَ وَ َيعُو َ
ن َودّا وَلَا ُ
َ )22وقَالُوا لَا تَذَرُنّ آَِلهَ َتكُ ْم وَلَا تَذَرُ ّ
كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظّاِلمِينَ إِلّا ضَلَالًا ()24
وقوله { :وَاللّهُ أَنْبَ َتكُمْ مِنَ ال ْرضِ نَبَاتًا } هذا اسم مصدر ،والتيان به هاهنا أحسن { ،ثُمّ ُيعِي ُدكُمْ
جكُمْ ِإخْرَاجًا } أي :يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة.
فِيهَا } أي :إذا متم { وَيُخْ ِر ُ
ج َعلَ َلكُمُ ال ْرضَ بِسَاطًا } أي :بسطها ومهدها وقررها وثَبتها بالجبال الراسيات الشم
{ وَاللّهُ َ
الشامخات.
{ لِ َتسُْلكُوا مِ ْنهَا سُبُل فِجَاجًا } أي :خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها ( )1أين شئتم ،من
نواحيها وأرجائها وأقطارها ،وكل هذا مما ينبههم به نوح ،عليه السلم على قدرة ال وعظمته
في خلق السموات والرض ،ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والرضية ،فهو
الخالق الرزاق ،جعل السماء بناء ،والرض مهادا ،وأوسع ( )2على خلقه من رزقه ،فهو
الذي يجب أن يعبد ويوحد ول يشرك به أحد ؛ لنه ل نظير له ول عَديل ( )3له ،ول ند ول
كفء ،ول صاحبة ول ولد ،ول وزير ول مشير ،بل هو العلي الكبير.
صوْنِي وَاتّ َبعُوا مَنْ لَمْ يَزِ ْدهُ مَالُ ُه َووَلَ ُدهُ إِل خَسَارًا (َ )21و َمكَرُوا َمكْرًا كُبّارًا
ع َ
{ قَالَ نُوحٌ َربّ إِ ّنهُمْ َ
ق وَنَسْرًا (َ )23وقَدْ َأضَلّوا
سوَاعًا وَل َيغُوثَ وَ َيعُو َ
ن َودّا وَل ُ
(َ )22وقَالُوا ل َتذَرُنّ آِلهَ َتكُ ْم وَل تَذَرُ ّ
كَثِيرًا وَل تَ ِزدِ الظّاِلمِينَ إِل ضَلل (} )24
يقول تعالى مخبرا عن نوح ،عليه السلم ،أنه أنهى إليه ،وهو العليم الذي ل يعزب عنه
شيء ،أنه مع البيان المتقدم ذكره ،والدعوة المتنوعة المتشملة على الترغيب تارة والترهيب
أخرى :أنهم عصوه وكذبوه وخالفوه ،واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ال ،ومتع بمال
وأولد ،وهي في نفس المر استدراج وإنظار ل إكرام ؛ ولهذا قال { :وَاتّ َبعُوا مَنْ َلمْ يَزِ ْدهُ مَاُلهُ
َووَلَ ُدهُ إِل خَسَارًا } قُرئ { وَوُلْ ُدهُ } بالضم وبالفتح ،وكلهما متقارب.
وقوله َ { :و َمكَرُوا َمكْرًا كُبّارًا } قال مجاهد { :كُبّارًا } أي عظيمًا .وقال ابن زيد { :كُبّارًا } أي
جمّال ،
جمَال و ُ
حسَان .وحُسّان :و ُ
:كبيرا .والعرب تقول :أمر عجيب وعُجَاب وعُجّاب .ورجل ُ
بالتخفيف والتشديد ،بمعنى واحد.
والمعنى في قوله َ { :و َمكَرُوا َمكْرًا كُبّارًا } أي :باتباعهم في تسويلهم لهم بأنهم على الحق
ج َعلَ
ل وَال ّنهَارِ إِذْ تَ ْأمُرُونَنَا أَنْ َن ْكفُرَ بِاللّهِ وَنَ ْ
والهدى ،كما يقولون لهم يوم القيامة َ { :بلْ َمكْرُ اللّ ْي ِ
لَهُ أَ ْندَادًا } [سبأ ]33 :ولهذا قال هاهنا َ { :و َمكَرُوا َمكْرًا كُبّارًا َوقَالُوا ل تَذَرُنّ آِلهَ َتكُ ْم وَل تَذَرُنّ
ق وَنَسْرًا } وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون ال.
سوَاعًا وَل َيغُوثَ وَ َيعُو َ
وَدّا وَل ُ
قال البخاري :حدثنا إبراهيم ،حدثنا هشام ،عن ابن جريج ،وقال عطاء ،عن ابن عباس :
صارت الوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد :أما وَد :فكانت لكلب بدومة الجندل ؛
وأما
__________
( )1في م " :منها".
( )2في م " :ووسع".
( )3في م ،أ " :ول عدل".
( )8/234
( )8/235
خطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُوا فَأُ ْدخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا َل ُهمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ ْنصَارًا (َ )25وقَالَ نُوحٌ َربّ لَا َتذَرْ
ِممّا َ
ك وَلَا يَلِدُوا ِإلّا فَاجِرًا َكفّارًا ()27
عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا ( )26إِ ّنكَ إِنْ تَذَرْ ُهمْ ُيضِلّوا عِبَا َد َ
خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنًا وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ وَلَا تَ ِزدِ الظّاِلمِينَ إِلّا تَبَارًا (
ي وَِلمَنْ َد َ
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
َربّ ا ْ
)28
صوّر لهم مثله ،قال :ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه .فلما رأى ما بهم من ذكره
نعم .ف ُ
قال :هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثال مثله ،فيكون ( )1له في بيته فتذكرونه ؟
قالوا :نعم .قال :فمثل لكل أهل بيت تمثال مثله ،فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به ،قال :وأدرك
أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به ،قال وتناسلوا ودَرَس أمر ذكرهم إياه ،حتى اتخذوه إلها
يعبدونه من دون ال أولد أولدهم ،فكان أول ما عبد من غير ال :الصنم الذي سموه َودّا.
وقوله َ { :وقَدْ َأضَلّوا كَثِيرًا } يعني :الصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرًا ،فإنه استمرت
عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم .وقد قال الخليل ،
عليه السلم ،في دعائه { :وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَنْ َنعْ ُب َد الصْنَامَ َربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ }
[إبراهيم .]36 ، 35 :
وقوله { :وَل تَزِدِ الظّاِلمِينَ إِل ضَلل } دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم ،كما
طمِسْ عَلَى َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَل
دعا موسى على فرعون ومثله في قوله { :رَبّنَا ا ْ
ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ اللِيمَ } [يونس ]88 :وقد استجاب ال لكل من النبيين في قومه ،
وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.
{ ِممّا خَطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُوا فَُأدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ َيجِدُوا َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ ْنصَارًا (َ )25وقَالَ نُوحٌ َربّ ل
ك وَل َيلِدُوا إِل فَاجِرًا َكفّارًا
تَذَرْ عَلَى ال ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا ( )26إِ ّنكَ إِنْ تَذَرْ ُهمْ ُيضِلّوا عِبَا َد َ
خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنًا وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ وَل تَزِدِ الظّاِلمِينَ إِل
ي وَِلمَنْ َد َ
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
(َ )27ربّ ا ْ
تَبَارًا (} )28
خطِيئَا ِتهِمْ } { أُغْ ِرقُوا } أي :من كثرة ذنوبهم وعتوهم
يقول تعالى ِ { :ممّا خَطايَا ُهمْ } وقرئ َ { :
وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم { أُغْ ِرقُوا فَأُ ْدخِلُوا نَارًا } أي :نقلوا من تيار البحار (
)2إلى حرارة النار { ،فَلَمْ َيجِدُوا َل ُهمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ ْنصَارًا } أي :لم يكن لهم معين ول مُغيث
حمَ } [هود :
ول مُجير ينقذهم من عذاب ال كقوله { :قَالَ ل عَاصِمَ الْ َيوْمَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِل مَنْ رَ ِ
.]43
{ َوقَالَ نُوحٌ َربّ ل َتذَرْ عَلَى الرْضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } أي :ل تترك على [وجه] ( )3الرض
منهم أحدًا ول تُومُريّا ( )4وهذه من صيغ تأكيد النفي.
قال الضحاك { :دَيّارًا } واحدا .وقال السّدّي :الديار :الذي يسكن الدار.
فاستجاب ال له ،فأهلك جميع من على وجه الرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي
صمُنِي مِنَ ا ْلمَاءِ قَالَ ل عَاصِمَ الْ َي ْومَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِل
اعتزل عن أبيه ،وقال { :سَآوِي إِلَى جَ َبلٍ َي ْع ِ
ح َم وَحَالَ بَيْ َن ُهمَا ا ْل َموْجُ َفكَانَ مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ } [هود .]43 :
مَنْ رَ ِ
__________
( )1في م " :ليكون".
( )2في م " :البحر".
( )3زيادة من م ،أ.
( )4في م " :ولدومريا".
( )8/236
وقال ابن أبي حاتم :قرئ ( )1على يونس بن عبد العلى ،أخبرنا ابن وهب ،أخبرني شَبيب بن
سعد ،عن أبي الجوزاء ،عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو رحم
ال من قوم نوح أحدا ،لرحم امرأة ،لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل ،فلما بلغها
الماء صعدت ( )2به منكبها ،فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها ،فلما بلغ الماء
رأسها رفعت ولدها بيدها .فلو رحم ال منهم أحدا لرحم هذه المرأة")3( .
هذا حديث غريب ،ورجاله ثقات .ونجى ال أصحاب السفينة الذين آمنوا مع نوح ،عليه السلم ،
وهم الذين أمره ال بحملهم معه.
وقوله { :إِ ّنكَ إِنْ تَذَرْ ُهمْ ُيضِلّوا عِبَا َدكَ } أي :إنك إن أبقيت منهم أحدًا أضلوا عبادك ،أي :
الذين تخلقهم بعدهم { وَل يَِلدُوا إِل فَاجِرًا َكفّارًا } أي :فاجرًا في العمال كافر القلب ،وذلك
لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إل خمسين عاما.
خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنًا } قال الضحاك :يعني :مسجدي ،ول
ي وَِلمَنْ َد َ
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
ثم قال َ { :ربّ ا ْ
مانع من حمل الية على ظاهرها ،وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن ،وقد قال المام
أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ،حدثنا حَ ْيوَة ،أنبأنا سالم بن غيلن :أن الوليد بن قيس التّجِي ِبيّ أخبره :
أنه سمع أبا سعيد الخدري -أو :عن أبي الهيثم ،عن أبي سعيد - :أنه سمع رسول ال صلى
ال عليه وسلم يقول " :ل تصحب إل مؤمنا ،ول يأكل طعامك إل تقي".
ورواه أبو داود والترمذي ،من حديث عبد ال بن المبارك ،عن حيوة بن شريح ،به ( )4ثم قال
الترمذي :إنما نعرفه من هذا الوجه.
وقوله { :وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ } دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات ،وذلك َيعُم الحياءَ منهم
والموات ؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء ،اقتداء بنوح ،عليه السلم ،وبما جاء في الثار ،
والدعية [المشهورة] ( )5المشروعة.
وقوله { :وَل تَزِدِ الظّاِلمِينَ إِل تَبَارًا } قال السدي :إل هلكا .وقال مجاهد :إل خسارا ،أي :
في الدنيا والخرة.
آخر تفسير سورة "نوح" [عليه السلم ول الحمد والمنة] (.)6
__________
( )1في هـ " :لما قرئ" والمثبت من م ،أ.
( )2في م " :فلما بلغ الماء رأسها صعدت".
( )3وله شاهد من حديث عائشة رواه الطبراني في المعجم الوسط برقم ( )3591والحاكم في
المستدرك ( )2/342من طريق سعيد بن أبي مريم ،عن موسى بن يعقوب ،عن فائد مولى عبيد
ال بن علي بن أبي رافع :أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أخبريه أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :لو رحم ال من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي" وذكره
نحوه ،وقال الحاكم " :صحيح السناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله " :إسناد مظلم ،وموسى
بن يعقوب المذكور في إسناده ليس بذاك".
( )4المسند ( )3/38وسنن أبي داود برقم ( )4832وسنن الترمذي برقم (.)2395
( )5زيادة من م.
( )6زيادة من أ.
( )8/237
( )8/237
الجن :تنزه الرب تعالى جلله وعظمته ،حين أسلموا وآمنوا بالقرآن ،عن اتخاذ الصاحبة
والولد.
ططًا } قال مجاهد ،وعكرمة ،وقتادة ،والسدي :
سفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَ َ
ثم قالوا { :وَأَنّهُ كَانَ َيقُولُ َ
شطَطًا } أي :جورا .وقال
ططًا } قال السّدّي ،عن أبي مالك َ { :
سفِيهُنَا } يعنون :إبليس { ،شَ َ
{ َ
ابن زيد :ظلما كبيرا.
سفِيهُنَا } اسم جنس لكل من زعم أن ل صاحبة أو ولدا .ولهذا
ويحتمل أن يكون المراد بقولهم َ { :
شطَطًا } أي :باطل وزورا ؛
سفِيهُنَا } أي :قبل إسلمه { عَلَى اللّهِ َ
قالوا { :وَأَنّهُ كَانَ َيقُولُ َ
س وَا ْلجِنّ عَلَى اللّهِ َكذِبًا } أي :ما حسبنا أن النس والجن يتمالئون
{ وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ َتقُولَ النْ ُ
على الكذب على ال في نسبة الصاحبة والولد إليه .فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به ،علمنا أنهم
كانوا يكذبون على ال في ذلك.
وقوله { :وَأَنّهُ كَانَ ِرجَالٌ مِنَ النْسِ َيعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ ا ْلجِنّ فَزَادُوهُمْ رَ َهقًا } أي :كنا نرى أن
لنا فضل على النس ؛ لنهم كانوا يعوذون بنا ،إي :إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من
البراري وغيرها كما كان عادة العرب في جاهليتها .يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان ،أن
يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ،
فلما رأت الجن أن النس يعوذون ( )1بهم من خوفهم منهم { ،فَزَادُوهُمْ رَ َهقًا } أي :خوفا
وإرهابا وذعرا ،حتى تبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم ،كما قال قتادة { :فَزَادُو ُهمْ رَ َهقًا }
أي :إثما ،وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة.
وقال الثوري ،عن منصور عن إبراهيم { :فَزَادُوهُمْ َر َهقًا } أي :ازدادت الجن عليهم جرأة.
وقال السدي :كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الرض فينزلها فيقول :أعوذ بسيد هذا الوادي من
الجن أن أضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي ،قال :فإذا عاذ بهم من دون ال ،رَهقَتهم
الجن الذى عند ذلك.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان ،حدثنا وهب بن جرير ،حدثنا أبي ،
حدثنا الزبير بن الخرّيت ،عن عكرمة قال :كان الجن َيفْ َرقُون من النس كما يفرَق النس منهم
أو أشد ،وكان النس إذا نزلوا واديا هرب الجن ،فيقول سيد القوم :نعوذ بسيد أهل هذا الوادي.
فقال الجن :نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم .فدنوا من النس فأصابوهم بالخبل والجنون ،
فذلك قول ال { :وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ النْسِ َيعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ ا ْلجِنّ فَزَادُو ُهمْ رَ َهقًا }
وقال أبو العالية ،والربيع ،وزيد بن أسلم { :رَ َهقًا } أي :خوفا .وقال العوفي ،عن ابن عباس
{ :فَزَادُوهُمْ َر َهقًا } أي :إثما .وكذا قال قتادة .وقال مجاهد :زاد الكفار طغيانا.
__________
( )1في م " :سيعوذون".
( )8/239
سمْعِ َفمَنْ
شهُبًا ( )8وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ
سمَاءَ َفوَجَدْنَاهَا مُلِ َئتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَ ُ
وَأَنّا َلمَسْنَا ال ّ
شهَابًا َرصَدًا ( )9وَأَنّا لَا َندْرِي أَشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِب ِهمْ رَ ّبهُمْ
جدْ لَهُ ِ
يَسْ َتمِعِ الْآَنَ يَ ِ
رَشَدًا ()10
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا فروة بن المغراء الكندي ،حدثنا القاسم بن مالك -يعني
المزني -عن عبد الرحمن بن إسحاق ،عن أبيه ،عن كَردم بن أبي السائب النصاري قال :
خرجت مع أبي من المدينة في حاجة ،وذلك أول ما ذكر رسول ال صلى ال عليه وسلم بمكة ،
فآوانا المبيت إلى راعي غنم .فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حمل من الغنم ،فوثب الراعي
فقال :يا عامر الوادي ،جارك .فنادى مناد ل نراه ،يقول :يا سرحان ،أرسله .فأتى الحملَ
يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة .وأنزل ال تعالى على رسوله بمكة { وَأَنّهُ كَانَ ِرجَالٌ مِنَ
النْسِ َيعُوذُونَ بِ ِرجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَ َهقًا }
ثم قال :ورُوي عن عبيد بن عمير ،ومجاهد ،وأبي العالية ،والحسن ،وسعيد بن جبير ،
وإبراهيم النّخَعي ،نحوه.
وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل -وهو ولد الشاة -وكان جنّيا حتى يُرهب النسي ويخاف
منه ،ثم رَدّه عليه لما استجار به ،ليضله ويهينه ،ويخرجه عن دينه ،وال أعلم.
حدًا } أي :لن يبعث ال بعد هذه المدة رسول.
وقوله { :وَأَ ّنهُمْ ظَنّوا َكمَا ظَنَنْ ُتمْ أَنْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ أَ َ
قاله الكلبي ،وابن جرير.
سمْعِ َفمَنْ
شهُبًا ( )8وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ
شدِيدًا وَ ُ
سمَاءَ َف َوجَدْنَاهَا مُلِ َئتْ حَرَسًا َ
{ وَأَنّا َلمَسْنَا ال ّ
شهَابًا َرصَدًا ( )9وَأَنّا ل َندْرِي أَشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي ال ْرضِ َأمْ أَرَادَ ِبهِمْ رَ ّبهُمْ
يَسْ َتمِعِ النَ َيجِدْ َلهُ ِ
رَشَدًا (} )10
يخبر تعالى عن الجن حين بعث ال رسوله محمدًا صلى ال عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ،
وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسا شديدًا ،وحفظت من سائر أرجائها ،وطردت
الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك ؛ لئل يسترقوا شيئا من القرآن .فيلقوه على
ألسنة الكهنة ،فيلتبس المر ويختلط ول يدرى من الصادق .وهذا ( )1من لطف ال بخلقه ()2
سمَاءَ َفوَجَدْنَاهَا مُلِ َئتْ
ورحمته بعباده ،وحفظه لكتابه العزيز ،ولهذا قال الجن { :وَأَنّا َل َمسْنَا ال ّ
شهَابًا َرصَدًا } أي :
جدْ لَهُ ِ
سمْعِ َفمَنْ َيسْ َتمِعِ النَ يَ ِ
شهُبًا وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ
حَ َرسًا شَدِيدًا وَ ُ
من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له ،ل يتخطاه ول يتعداه ،بل يمحقه
شدًا } أي :ما ندري هذا
ويهلكه { ،وَأَنّا ل نَدْرِي َأشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي ال ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِب ِهمْ رَ ّبهُمْ رَ َ
المر الذي قد حدث في السماء ،ل ندري أشر أريد بمن في الرض ،أم أراد بهم ربهم رشدا ؟
وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل ،والخير أضافوه إلى ال عز وجل.
وقد ورد في الصحيح " :والشر ليس إليك" .وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك ،ولكن ليس
بكثير بل في الحيان بعد الحيان ،كما في حديث ابن عباس ( )3بينما نحن جلوس مع رسول ال
صلى ال عليه وسلم إذا رمي بنجم فاستنار ،فقال " :ما كنتم تقولون
__________
( )1في م " :فكان هذا".
( )2في م " :عليه".
( )3في م " :كما في حديث العباس".
( )8/240
ن َومِنّا دُونَ ذَِلكَ كُنّا طَرَائِقَ قِدَدًا ( )11وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللّهَ فِي الْأَ ْرضِ
وَأَنّا مِنّا الصّالِحُو َ
س ِمعْنَا ا ْلهُدَى َآمَنّا ِبهِ َفمَنْ ُي ْؤمِنْ بِرَبّهِ فَلَا َيخَافُ َبخْسًا وَلَا رَ َهقًا (
وَلَنْ ُنعْجِ َزهُ هَرَبًا ( )12وَأَنّا َلمّا َ
)13
في هذا ؟ فقلنا :كنا نقول :يولد عظيم ،يموت عظيم ،فقال " :ليس كذلك ،ولكن ال إذا قضى
المر في السماء" ،وذكر تمام الحديث ،وقد أوردناه في سورة "سبأ" بتمامه ( )1وهذا هو السبب
الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك ،فأخذوا يضربون مشارق الرض ومغاربها ،فوجدوا
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلة ،فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من
أجله السماء ،فآمن من آمن منهم ،وتمرد في طغيانه من بقي ،كما تقدم حديث ابن عباس في
ذلك ،عند قوله في سورة "الحقاف" { :وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ الْجِنّ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآنَ } الية
.29ول شك أنه لما حدث هذا المر وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها ،هال ذلك النس
والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك ،وظنوا أن ذلك لخراب العالم -كما قال السدي :لم تكن
السماء تحرس إل أن يكون في الرض نبي أو دين ل ظاهر ،فكانت الشياطين قبل محمد صلى
ال عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا ،يستمعون ما يحدث في السماء من أمر .فلما
بعث ال محمدًا نبيا ،رُجموا ليلة من الليالي ،ففزع لذلك أهل الطائف ،فقالوا :هلك أهل السماء
،لما رأوا من شدة النار في السماء واختلف الشهب .فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويُسَيّبون مواشيهم ،
فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو بن عمير :ويحكم يا معشر أهل الطائف .أمسكوا عن أموالكم ،
وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء ،إنما هذا من
أجل ابن أبي كبشة -يعني :محمدا صلى ال عليه وسلم -وإن أنتم لم تروها فقد هلك أهل
السماء .فنظروا فرأوها ،فكفوا عن أموالهم .وفزعت الشياطين في تلك الليلة ،فأتوا إبليس
فحدثوه بالذي كان من أمرهم ،فقال :ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها .فأتوه فَشَم
فقال :صاحبكم بمكة .فبعث سبعة نفر من جن نصيبين ،فقدموا مكة فوجدوا رسول ال ()2
صلى ال عليه وسلم قائما يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن ،فدنوا منه حرصا على القرآن
حتى كادت كلكلهم تصيبه ،ثم أسلموا .فأنزل ال تعالى أمرهم على نبيه صلى ال عليه وسلم ،
وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من(كتاب السيرة) المطول ،وال أعلم ،ول
الحمد والمنة.
{ وَأَنّا مِنّا الصّاِلحُونَ َومِنّا دُونَ ذَِلكَ كُنّا طَرَائِقَ ِقدَدًا ( )11وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللّهَ فِي ال ْرضِ
س ِمعْنَا ا ْلهُدَى آمَنّا ِبهِ َفمَنْ ُي ْؤمِنْ بِرَبّهِ فَل يَخَافُ َبخْسًا وَل رَ َهقًا (
وَلَنْ ُنعْجِ َزهُ هَرَبًا ( )12وَأَنّا َلمّا َ
} )13
__________
( )1عند تفسير الية .23 :
( )2في م " :نبي ال".
( )8/241
سطُونَ َفكَانُوا
{ وَأَنّا مِنّا ا ْل ُمسِْلمُونَ َومِنّا ا ْلقَاسِطُونَ َفمَنْ َأسْلَمَ فَأُولَ ِئكَ تَحَ ّروْا َرشَدًا ( )14وََأمّا ا ْلقَا ِ
غ َدقًا ( )16لِ َنفْتِ َنهُمْ فِي ِه َومَنْ
سقَيْنَاهُمْ مَاءً َ
حطَبًا ( )15وَأَنْ َلوِ اسْ َتقَامُوا عَلَى الطّرِيقَةِ ل ْ
جهَنّمَ َ
لِ َ
صعَدًا (} )17
عذَابًا َ
ُيعْ ِرضْ عَنْ ِذكْرِ رَبّهِ يَسُْلكْهُ َ
ن َومِنّا دُونَ ذَِلكَ }
يقول مخبرا عن الجن :أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم { :وَأَنّا مِنّا الصّالِحُو َ
أي :غير ذلك { ،كُنّا طَرَائِقَ ِقدَدًا } أي :طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة.
( )8/241
قال ابن عباس ،ومجاهد وغير واحد { :كُنّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي :منا المؤمن ومنا الكافر.
وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه ،حدثنا أسلم بن سهل بحشل ،حدثنا علي بن الحسن بن
سليمان -هو أبو الشعثاء الحضرمي ،شيخ مسلم -حدثنا أبو معاوية ( )1قال :سمعتُ العمش
يقول :تروح إلينا جني ،فقلت له :ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال الرز .قال :فأتيناهم به ،
فجعلت أرى اللقم ترفع ول أرى أحدا .فقلت :فيكم من هذه الهواء التي فينا ؟ قال :نعم .قلت :
فما الرافضة فيكم ( )2؟ قال ( )3شرنا .عرضت هذا السناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج
المِزّي فقال :هذا إسناد صحيح إلى العمش.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال ( )4سمعتُ بعض الجَنّ وأنا
في منزل لي بالليل ينشد :
قُلوبٌ بَرَاها الحبّ حَتى تعلّقتَ ...مذَاهبُها في ُكلّ غَرب وشَارقِ...
تَهيم بحب ال ،والُ رَبّهاُ ...معَلّقةٌ بال دُونَ الخَلئقِ ()5
ض وَلَنْ ُنعْجِ َزهُ هَرَبًا } أي :نعلم أن قدرة ال حاكمة
وقوله { :وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللّهَ فِي ال ْر ِ
علينا وأنا ل نعجزه في الرض ،ولو أمعنا في الهرب ،فإنه علينا قادر ( )6ل يعجزه أحد منا.
س ِمعْنَا ا ْلهُدَى آمَنّا ِبهِ } يفتخرون بذلك ،وهو مفخر ( )7لهم ،وشرف رفيع وصفة
{ وَأَنّا َلمّا َ
حسنة.
وقولهم َ { :فمَنْ ُي ْؤمِنْ بِرَبّهِ فَل َيخَافُ َبخْسًا وَل رَ َهقًا } قال ابن عباس ،وقتادة ،وغيرهما :فل
يخاف أن يُنقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته ،كما قال تعالى { :فَل يَخَافُ ظُ ْلمًا وَل
ضمًا } [طه ]112 :
َه ْ
{ وَأَنّا مِنّا ا ْل ُمسِْلمُونَ َومِنّا ا ْلقَاسِطُونَ } أي :منا المسلم ومنا القاسط ،وهو :الجائر عن الحق
سلَمَ فَأُولَ ِئكَ تَحَ ّروْا َرشَدًا } أي :طلبوا لنفسهم
الناكب عنه ،بخلف المقسط فإنه العادل َ { ،فمَنْ أَ ْ
النجاة ،
جهَنّمَ حَطَبًا } أي :وقودًا تسعر بهم.
سطُونَ َفكَانُوا ِل َ
{ وََأمّا ا ْلقَا ِ
سقَيْنَاهُمْ مَاءً غَ َدقًا لِ َنفْتِ َنهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في
وقوله { :وَأَنْ َلوِ اسْ َتقَامُوا عَلَى الطّرِيقَةِ ل ْ
معنى هذا على قولين :
سقَيْنَاهُمْ
أحدهما :وأن لو استقام القاسطون على طريقة السلم وعدلوا إليها واستمروا عليها { ،ل ْ
سعَة الرزق .كقوله تعالى { :وََلوْ أَ ّنهُمْ َأقَامُوا ال ّتوْرَاةَ
مَاءً غَ َدقًا } أي :كثيرًا .والمراد بذلك َ
حتِ أَ ْرجُِلهِمْ } [المائدة ]66 :وكقوله :
وَالنْجِيلَ َومَا أُنزلَ إِلَ ْيهِمْ مِنْ رَ ّبهِ ْم لكَلُوا مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ تَ ْ
__________
( )1في أ " :أبو عوانة".
( )2في أ " :منكم".
( )3في م " :قالوا".
( )4في م " :أنه قال".
( )5تاريخ دمشق (" 8/887المخطوط" ).
( )6في م " :فإنه قادر علينا.
( )7في أ " :وهو مفتخر".
( )8/242
( )8/243
جدَ لِلّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ َأحَدًا ( )18وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَ ْبدُ اللّهِ َيدْعُوهُ كَادُوا َيكُونُونَ عَلَ ْيهِ لِبَدًا
وَأَنّ ا ْلمَسَا ِ
شدًا (ُ )21قلْ
حدًا (ُ )20قلْ إِنّي لَا َأمِْلكُ َلكُ ْم ضَرّا وَلَا رَ َ
(ُ )19قلْ إِ ّنمَا أَدْعُو رَبّي وَلَا أُشْ ِركُ بِهِ أَ َ
جدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( )22إِلّا بَلَاغًا مِنَ اللّ ِه وَرِسَالَا ِت ِه َومَنْ َي ْعصِ
ح ٌد وَلَنْ أَ ِ
إِنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَ َ
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( )23حَتّى إِذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَ َيعَْلمُونَ مَنْ
اللّ َه وَرَسُوَلهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ َ
ضعَفُ نَاصِرًا وََأ َقلّ عَدَدًا ()24
َأ ْ
حدًا ( )18وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا َيكُونُونَ عَلَيْهِ
{ وَأَنّ ا ْل َمسَاجِدَ لِلّهِ فَل َتدْعُوا مَعَ اللّهِ أَ َ
شدًا ()21
حدًا (ُ )20قلْ إِنّي ل َأمِْلكُ َلكُمْ ضَرّا وَل رَ َ
لِبَدًا (ُ )19قلْ إِ ّنمَا َأدْعُو رَبّي وَل أُشْ ِركُ بِهِ أَ َ
جدَ مِنْ دُونِهِ مُلْ َتحَدًا ( )22إِل بَلغًا مِنَ اللّ ِه وَرِسَالتِ ِه َومَنْ
ح ٌد وَلَنْ أَ ِ
ُقلْ إِنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَ َ
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا ( )23حَتّى ِإذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَ َيعَْلمُونَ
َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ َ
ضعَفُ نَاصِرًا وََأ َقلّ عَدَدًا (} )24
مَنْ َأ ْ
يقول تعالى آمرًا عباده أن ُيوَحّدوه في مجال عبادته ،ول ُيدْعى معه أحد ول يشرك به ( )1كما
حدًا } قال :كانت اليهود والنصارى إذا
جدَ لِلّهِ فَل َتدْعُوا مَعَ اللّهِ أَ َ
قال قتادة في قوله { :وَأَنّ ا ْل َمسَا ِ
دخلوا كنائسهم وبِ َي ِعهِم ،أشركوا بال ،فأمر ال نبيه صلى ال عليه وسلم أن يوحدوه وحده.
وقال ابن أبي حاتم :ذكر علي بن الحسين :حدثنا إسماعيل بن بنت السدي ،أخبرنا رجل سماه ،
عن السدي ،عن أبي مالك -أو أبي صالح -عن ابن عباس في قوله { :وَأَنّ ا ْلمَسَاجِدَ لِلّهِ فَل
تَدْعُوا مَعَ اللّهِ َأحَدًا } قال :لم يكن يوم نزلت هذه الية في الرض مسجد إل المسجد الحرام ،
ومسجد إيليا :بيت المقدس.
وقال العمش :قالت الجن :يا رسول ال ،ائذن لنا نشهد معك الصلوات في مسجدك .فأنزل ال
حدًا } يقول :صلوا ،ل تخالطوا الناس.
جدَ لِلّهِ فَل َتدْعُوا مَعَ اللّهِ أَ َ
{ :وَأَنّ ا ْل َمسَا ِ
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا مهران ،حدثنا سفيان ،عن إسماعيل بن أبي خالد ،
عن محمود عن سعيد بن جبير { : ،وَأَنّ ا ْلمَسَاجِدَ لِلّهِ } قال :قالت الجن لنبي ( )2ال صلى ال
عليه وسلم :كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءون [عنك] ( )3؟ ،وكيف نشهد الصلة ونحن
حدًا } ()4
جدَ لِلّهِ فَل َتدْعُوا مَعَ اللّهِ أَ َ
ناءون عنك ؟ فنزلت { :وَأَنّ ا ْلمَسَا ِ
خصَيْف ،عن عكرمة :نزلت في المساجد كلها.
وقال سفيان ،عن ُ
وقال سعيد بن جبير .نزلت في أعضاء السجود ،أي :هي ل فل تسجدوا بها لغيره .وذكروا عند
هذا القول الحديث الصحيح ،من رواية عبد ال بن طاوس ،عن أبيه ،عن ابن عباس ،رضي
ال عنهما ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أمرت أن أسجد على سبعة أعظم :
على الجبهة -أشار ( )5بيديه إلى أنفه -واليدين والركبتين وأطراف القدمين" ()6
وقوله { :وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ َيدْعُوهُ كَادُوا َيكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } قال العوفي ،عن ابن عباس
يقول :لما سمعوا النبي صلى ال عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه ؛ من الحرص ،لما
حيَ إَِليّ أَنّهُ
سمعوه يتلو القرآن ،ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه ُ { :قلْ أُو ِ
اسْ َتمَعَ َنفَرٌ مِنَ ا ْلجِنّ } يستمعون القرآن.
هذا قول ،وهو مروي عن الزبير بن العوام ،رضي ال عنه.
عوَانة ،عن أبي بشر ،
وقال ابن جرير :حدثني محمد بن معمر ،حدثنا أبو مسلم ،عن أبي َ
__________
( )1في م " :ول يشرك به أحدًا".
( )2في م " :قالت الجن للنبي".
( )3زيادة من م.
( )4تفسير الطبري ()29/73
( )5في م " :وأشار".
( )6رواه البخاري في صحيحه برقم ( ، )812صحيح مسلم برقم (.)490
( )8/244
عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس قال :قال الجن لقومهم { :وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا
َيكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } قال :لما رأوه يصلي وأصحابه ،يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ،قالوا
:عجبوا من طواعية أصحابه له ،قال :فقالوا لقومهم َ { :لمّا قَامَ عَ ْبدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا َيكُونُونَ
عَلَيْهِ لِ َبدًا }
وهذا قول ثان ،وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا.
وقال الحسن :لما قام رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل إله إل ال" ويدعو الناس إلى
ربهم ،كادت العرب تلبد عليه جميعًا.
وقال قتادة في قوله { :وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ َيدْعُوهُ كَادُوا َيكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } قال :تَلَبّدت النس
والجن على هذا المر ليطفئوه ،فأبى ال إل أن ينصره ويمضيه ( )1ويظهره على من ناوأه.
هذا قول ثالث ،وهو مروي عن ابن عباس ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،وقول ابن زيد ،
واختيار ابن جرير ،وهو الظهر لقوله بعده ُ { :قلْ إِ ّنمَا أَدْعُو رَبّي وَل ُأشْ ِركُ بِهِ َأحَدًا } أي :
قال لهم الرسول -لما آذوه ( )2وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ،ليبطلوا ما جاء به من الحق
واجتمعوا على عداوته { :إِ ّنمَا أَدْعُو رَبّي } أي :إنما أعبد ربي وحده ل شريك له ،وأستجير به
وأتوكل عليه { ،وَل أُشْ ِركُ بِهِ َأحَدًا }
وقوله ُ { :قلْ إِنّي ل َأمِْلكُ َلكُ ْم ضَرّا وَل َرشَدًا } أي :إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ،وعبد من
ي من المر شيء في هدايتكم ول غوايتكم ،بل المرجع في ذلك كله إلى ال عز
عباد ال ليس إل ّ
وجل.
ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه ل يجيره من ال أحد ،أي :لو عصيته فإنه ل يقدر أحد على إنقاذي
حدًا } قال مجاهد ،وقتادة ،والسدي :ل ملجأ .وقال قتادة
من عذابه { ،وَلَنْ َأجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ
حدًا } أي :ل نصير ول ملجأ.
أيضا ُ { :قلْ إِنّي لَنْ ُيجِيرَنِي مِنَ اللّهِ َأحَ ٌد وَلَنْ َأجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ
وفي رواية :ل ولي ول موئل.
وقوله تعالى { :إِل بَلغًا مِنَ اللّهِ وَرِسَالتِهِ } قال بعضهم :هو مستثنى من قوله { :ل َأمِْلكُ َلكُمْ
حدٌ }
شدًا } { إِل بَلغًا } ويحتمل أن يكون استثناء من قوله { :لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَ َ
ضَرّا وَل رَ َ
أي :ل يجيرني منه ويخلصني إل إبلغي الرسالة التي أوجب أداءها عليّ ،كما قال تعالى { :يَا
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }
ك وَإِنْ َلمْ َت ْفعَلْ َفمَا بَّل ْغتَ رِسَالَ َت ُه وَاللّهُ َي ْع ِ
أَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّب َ
[المائدة )3( ]67 :
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي :أنما أبلغكم رسالة ال
وقوله َ { :ومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ َ
،فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا ،أي ل محيد لهم عنها ،ول
خروج
__________
( )1في م " :ويعينه".
( )2في م " :لما نادوه.
( )3في م " :فإن" وهو خطأ.
( )8/245
لهم منها.
ض َعفُ نَاصِرًا وََأ َقلّ عَ َددًا } أي :حتى إذا
وقوله { :حَتّى إِذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَ َيعَْلمُونَ مَنْ َأ ْ
رأى هؤلء المشركون من الجن والنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف
ناصرًا وأقل عددًا ،هم أم المؤمنون الموحدون ل عز وجل ،أي :بل المشركين ل ناصر لهم
بالكلية ،وهم أقل عددًا من جنود ال عز وجل.
ظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
ج َعلُ َلهُ رَبّي َأمَدًا ( )25عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَل يُ ْ
{ ُقلْ إِنْ َأدْرِي َأقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ َي ْ
حدًا ( )26إِل مَنِ ارْ َتضَى مِنْ َرسُولٍ فَإِنّهُ َيسُْلكُ مِنْ بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدًا ( )27لِ َيعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَ َ
عدَدًا (} )28
شيْءٍ َ
حصَى ُكلّ َ
أَبَْلغُوا رِسَالتِ رَ ّب ِه ْم وَأَحَاطَ ِبمَا لَدَ ْيهِمْ وَأَ ْ
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول للناس :إنه ل علم له بوقت الساعة ،ول
ج َعلُ َلهُ رَبّي َأمَدًا } ؟ أي :
يدري أقريب وقتها أم بعيد ؟ { ُقلْ إِنْ َأدْرِي َأقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ َي ْ
مدة طويلة.
وفي هذه الية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه السلم ،
ل يؤلف تحت الرض ،كذب ل أصل له ،ولم نره في شيء من الكتب .وقد كان صلى ال عليه
وسلم يسأل عن وقت الساعة فل يجيب عنها ،ولما تَبدّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما
سأله أن قال :يا محمد ،فأخبرني عن الساعة ؟ قال " :ما المسئول عنها بأعلم من السائل" ()1
ولما ناداه ذلك العرابي بصوت جَهوريّ فقال :يا محمد ،متى الساعة ؟ قال " :ويحك .إنها
كائنة ،فما أعددت لها ؟" .قال :أما إني لم أعد لها كثير ( )2صلة ول صيام ،ولكني أحب ال
ورسوله .قال " :فأنت مع من أحببت" .قال أنس :فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث (
)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا محمد بن مُصفَى ،حدثنا محمد بن حمير ( )4حدثني أبو
بكر بن أبي مريم ،عن عطاء بن أبي رباح ،عن أبي سعيد الخدري ،عن النبي صلى ال عليه
وسلم قال " :يا بني آدم ،إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى ،والذي نفسي بيده ،إنما
توعدون لت" ()5
وقد قال أبو داود في آخر "كتاب الملحم" :حدثنا موسى بن سهيل ،حدثنا حجاج بن إبراهيم ،
حدثنا ابن وهب ،حدثني معاوية بن صالح ،عن عبد الرحمن بن جُبَير ،عن أبيه ،عن أبي
ثَعلبة الخُشني قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لن يعجز ال هذه المة من نصف يوم"
()6
__________
( )1هو جزء من حديث جبريل الطويل ،رواه مسلم في صحيحه برقم ( )8من حديث عمر بن
الخطاب رضي ال عنه.
( )2في م " :كبير".
( )3رواه مسلم في صحيحه برقم ( )2639من حديث أنس ،رضي ال عنه.
( )4في أ " :محمد بن جبير".
( )5ورواه البيهقي في شعب اليمان برقم ( )10564من طريق الحسن بن سفيان ،عن محمد بن
المصفي ،به.
( )6سنن أبي داود برقم ( ، ، )4349ورواه الحاكم في المستدرك ( )4/424من طريق ابن
وهب ،به .وقال الحاكم " :صحيح على شرطهما ولم يخرجاه".
( )8/246
( )8/247
وقال البغوي :قرأ يعقوب " :ليُعلَم" بالضم ،أي :ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا.
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى ال عز وجل ،وهو قول حكاه ابن الجوزي في "زاد المسير"
( )1ويكون المعنى في ذلك :أنه يحفظ رسله بملئكته ليتمكنوا من أداء رسالته ،ويحفظ ما بُيّن
جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي
إليهم من الوحي ؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالت ربهم ،ويكون ذلك كقوله َ { :ومَا َ
عقِبَيْهِ } [البقرة ]143 :وكقوله { :وَلَ َيعَْلمَنّ
كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعَْلمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ يَ ْنقَِلبُ عَلَى َ
اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ } [العنكبوت ]11 :إلى أمثال ذلك ،مع العلم بأنه تعالى يعلم
شيْءٍ
حصَى ُكلّ َ
الشياء قبل كونها قطعا ل محالة ؛ ولهذا قال بعد هذا { :وَأَحَاطَ ِبمَا لَدَ ْيهِ ْم وََأ ْ
عَ َددًا }.
__________
( )1زاد المسير (.)8/386
( )8/248
صفَهُ َأوِ ا ْنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (َ )3أوْ زِدْ عَلَ ْي ِه وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآَنَ
يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ (ُ )1قمِ اللّ ْيلَ إِلّا قَلِيلًا (ِ )2ن ْ
تَرْتِيلًا ( )4إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َقوْلًا َثقِيلًا ( )5إِنّ نَاشِئَةَ اللّ ْيلِ ِهيَ أَشَ ّد َوطْئًا وََأ ْقوَمُ قِيلًا ( )6إِنّ َلكَ فِي
ك وَتَبَ ّتلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (َ )8ربّ ا ْلمَشْرِقِ وَا ْل َمغْرِبِ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ
سمَ رَ ّب َ
طوِيلًا ( )7وَا ْذكُرِ ا ْ
ال ّنهَارِ سَ ْبحًا َ
خ ْذهُ َوكِيلًا ()9
فَاتّ ِ
( )8/249
ُزمّلتَ القرآن.
صفَهُ } بدل من الليل { َأوِ ا ْن ُقصْ مِنْهُ قَلِيلَ .أوْ ِزدْ عَلَيْهِ } أي :أمرناك أن تقوم نصف
وقوله ِ { :ن ْ
الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل ،ل حرج عليك في ذلك.
وقوله { :وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيل } أي :اقرأه على تمهل ،فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره.
وكذلك كان يقرأ صلوات ال وسلمه عليه ،قالت عائشة :كان يقرأ السورة فيرتلها ،حتى تكون
أطول من أطول منها .وفي صحيح البخاري ،عن أنس :أنه سئل عن قراءة رسول ال صلى ال
حمَنِ الرّحِيمِ } يمد بسم ال ،ويمد الرحمن ،
سمِ اللّهِ الرّ ْ
عليه وسلم ،فقال :كانت مدًا ،ثم قرأ { بِ ْ
ويمد الرحيم)1( .
وقال ابن جُرَيج ،عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة :أنها سُئلت عن قراءة رسول ال صلى ال
ح ْمدُ لِلّهِ َربّ
حمَنِ الرّحِيمِ الْ َ
عليه وسلم ،فقالت :كان يقطع قراءته آية آية ِ { ،بسْمِ اللّهِ الرّ ْ
حمَنِ الرّحِيمِ مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ } رواه أحمد ،وأبو داود ،والترمذي)2( .
ا ْلعَاَلمِينَ الرّ ْ
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،عن سفيان ،عن عاصم ،عن زرّ ،عن عبد ال بن
عمرو ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يقال لصاحب ( )3القرآن :اقرأ وارْقَ ،ورَتّل كما
كنت ترتل في الدنيا ،فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها".
ورواه أبو داود ،والترمذي والنسائي ،من حديث سفيان الثوري ،به ( )4وقال الترمذي :حسن
صحيح.
وقد قدمنا في أول التفسير الحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة ،كما
جاء في الحديث " :زَيّنوا القرآن بأصواتكم" ،و "ليس منا من لم يَ َتغَنّ بالقرآن" ،و "لقد أوتي هذا
مزمار من مزامير آل داود" يعني :أبا موسى ،فقال أبو موسى :لو كنت أعلم أنك كنت تسمع
قراءتي لحبّرْته لك تحبيرا)5( .
وعن ابن مسعود أنه قال :ل تنثروه نثر الرمل ( )6ول تهذّوه هذّ الشعر ،قفوا عند عجائبه ،
وحركوا به القلوب ،ول يكن همّ أحدكم آخر السورة .رواه البغوي)7( .
وقال البخاري :حدثنا آدم ،حدثنا شعبة ،حدثنا عمرو بن مرة :سمعت أبا وائل قال :جاء رجل
إلى ابن مسعود فقال :قرأت المفصل ( )8الليلة في ركعة .فقال :هذّا كهذّ الشعر .لقد عرفت
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)5046
( )2المسند ( ، )6/302وسنن أبي داود برقم ( ، )4001والشمائل للترمذي برقم (.)299
( )3في م " :لقارئ".
( )4المسند ( )2/192وسنن أبي داود برقم ( ، )1464وسنن الترمذي برقم ( ، )2914وسنن
النسائي الكبرى برقم (.)8056
( )5انظر هذه الحاديث في :فضائل القرآن في المقدمة.
( )6في أ " :الدقل".
( )7معالم التنزيل للبغوي (.)8/215
( )8في أ " :المعضل".
( )8/250
النظائر التي كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرن بينهن .فذكر عشرين سورة من ال ُم َفصّل
سورتين في ركعة)1( .
وقوله { :إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َقوْل َثقِيل } قال الحسن ،وقتادة :أي العمل به.
وقيل :ثقيلٌ وقت نزوله ؛ من عظمته .كما قال زيد بن ثابت :أنزل على رسول ال صلى ال
عليه وسلم وفخذه على فخذي ،فكادت تُرض فَخذي)2( .
وقال المام أحمد :حدثنا قتيبة ،حدثنا ابن لهيعة ،عن يزيد بن أبي حبيب ،عن عمرو بن الوليد
،عن عبد ال بن عمرو قال :سألت النبي صلى ال عليه وسلم فقلت :يا رسول ال ،هل تحس
بالوحي ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أسم ُع صَلصيل ،ثم أسكتُ عند ذلك ،فما من
مرة يوحى إلي إل ظننت أن نفسي تفيض" ،تفرد به أحمد)3( .
وفي أول صحيح البخاري عن عبد ال بن يوسف ،عن مالك ،عن هشام ،عن أبيه ،عن عائشة
:أن الحارث بن هشام سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم :كيف يأتيك الوحي ؟ فقال " :أحيانا
يأتيني في مثل صلصلة الجرس ،وهو أشده عََليّ ،فَ َيفْصِمُ عني وقد وَعَيت عنه ما قال ،وأحيانا
يتمثل لي الملك رجل فيكلمني فأعي ما يقول" .قالت عائشة :ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى
ال عليه وسلم في اليوم الشديد البرد ،فَ َي ْفصِمُ عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا هذا لفظه)4( .
وقال المام أحمد :حدثنا سليمان بن داود ،أخبرنا عبد الرحمن ،عن هشام بن عُ ْروَة ،عن
أبيه ،عن عائشة قالت :إن كان ليوحَى إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو على راحلته ،
فتضرب بِجرَانها)5( .
وقال ابن جرير :حدثنا ابن عبد العلى ،حدثنا ابن ثور ،عن َم ْعمَر ،عن هشام بن عروة ،
عن أبيه ؛ أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ،وضعت جرانها ،
فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه)6( .
وهذا مرسل .الجران :هو باطن العنق.
واختار ابن جرير أنه ثقيل ( )7من الوجهين معا ،كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :كما
ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.
وقوله { :إِنّ نَاشِئَةَ اللّ ْيلِ ِهيَ َأشَ ّد َوطْئًا وََأ ْقوَمُ قِيل } قال أبو إسحاق ،عن سعيد بن جبير ،عن
ابن عباس :نشأ :قام بالحبشة.
وقال عمر ،وابن عباس ،وابن الزبير :الليل كله ناشئة .وكذا قال مجاهد ،وغير واحد ،
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)775
( )2رواه البخاري في صحيحه برقم (.)4592
( )3المسند (.)2/222
( )4صحيح البخاري برقم (.)2
( )5المسند (.)6/118
( )6تفسير الطبري (.)29/82
( )7في أ " :أنه يقبل".
( )8/251
يقال :نشأ :إذا قام من الليل .وفي رواية عن مجاهد :بعد العشاء .وكذا قال أبو مِجْلَز ،وقتادة ،
وسالم وأبو حازم ،ومحمد بن المنكدر.
والغرض أن ناشئة الليل هي :ساعاته وأوقاته ،وكل ساعة منه تسمى ناشئة ،وهي النات.
والمقصود أن قيام الليل هو ( )1أشد مواطأة بين القلب واللسان ،وأجمع على التلوة ؛ ولهذا قال
ِ { :هيَ َأشَ ّد َوطْئًا وََأ ْقوَمُ قِيل } أي :أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ؛ لنه
وقت انتشار الناس وَلغَط الصوات وأوقات المعاش.
[وقد] ( )2قال الحافظ أبو يعلى الموصلي :حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ،حدثنا أبو أسامة ،
حدثنا العمش ،أن أنس بن مالك قرأ هذه الية " :إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيل"
فقال له رجل :إنما نقرؤها { وََأ ْقوَمُ قِيل } فقال له :إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد( .
)3
طوِيل } قال ابن عباس ،وعكرمة ،وعطاء بن أبي مسلم :
ولهذا قال { :إِنّ َلكَ فِي اَل ّنهَارِ سَبْحًا َ
الفراغ والنوم.
وقال أبو العالية ،ومجاهد ،وابن مالك ،والضحاك ،والحسن ،وقتادة ،والربيع بن أنس ،
وسفيان الثوري :فراغًا طويل.
وقال قتادة :فراغا وبغية ومنقلبا.
طوِيل } تطوعا كثيرًا.
وقال السدي { :سَ ْبحًا َ
طوِيل } ( )4قال :
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله [ { :إِنّ َلكَ فِي اَل ّنهَارِ] سَبْحًا َ
لحوائجك ،فَأفْرغ لدينك الليل .قال :وهذا حين كانت صلة الليل فريضة ،ثم إن ال من على
العباد فخففها ووضعها ،وقرأ ُ { :قمِ اللّ ْيلَ إِل قَلِيل } إلى آخر الية ،ثم قال { :إِنّ رَ ّبكَ َيعْلَمُ أَ ّنكَ
َتقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُ َثيِ اللّ ْيلِ } حتى بلغ { :فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ } [الليل نصفة أو ثلثه .ثم جاء أمر
أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته] ( )5فقال :قال َ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَ َت َهجّدْ بِهِ نَافِلَةً َلكَ
حمُودًا } [السراء ]49 :وهذا الذي قاله كما قاله.
عَسَى أَنْ يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَامًا َم ْ
والدليل عليه ما رواه المام أحمد في مسنده حيث قال :حدثنا يحيى ،حدثنا سعيد ابن أبي عَرُوبة
،عن قتادة ،عن زُرارة بن أوفى ،عن سعيد بن هشام :أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة
ليبيع عقارًا له بها ويجعله في الكُرَاع والسلح ،ثم يجاهد الروم حتى يموت .فلقي رهطًا من
قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :
"أليس لكم فيّ أسوة ( )6؟"
__________
( )1في م " :هي".
( )2زيادة من م.
( )3مسند أبي يعلى ( )7/88ونقل النحقق في الحاشية عن أبي بكر بن النباري أنه قال " :حديث
ل يصح عن أحد من أهل العلم ،لنه مبنى على رواية العمش عن أنس ،فهو مقطوع ليس
بمتصل ،فيؤخذ من قبل أن العمش رأي أنسًا ولم يسمع منه".
( )4زيادة من أ.
( )5زيادة من تفسير الطبري.
( )6في أ " :أسوة حسنة".
( )8/252
فنهاهم عن ذلك ،فأشهدهم على رَجعتها ،ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن
الوتر فقال :أل أنبئك بأعلم أهل الرض بوتر رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قال :نعم قال :
ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك .قال :فأتيت على حكيم بن أفلحَ فاستلحقتُه
إليها ،فقال :ما أنا بقاربها ؛ إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا ،فأبت فيهما إل ُمضِيًا.
فأقسمتُ عليه ،فجاء معي ،فدخلنا عليها فقالت :حكيم ؟ وعرفته ،قال :نعم .قالت :من هذا
معك ؟ قال :سعيد بن هشام .قالت :من هشام ؟ قال :ابن عامر .قال :فترحمت عليه وقالت :
نعم المرء كان عامر .قلت :يا أم المؤمنين ،أنبئينى عن خلق رسول صلى ال عليه وسلم ؟ قالت
:ألست تقرأ القرآن ؟ قلت :بلى ( )1قالت :فإن خلق رسول ال صلى ال عليه وسلم كان
القرآن .فَهممت أن أقوم ،ثم بدا لي قيامُ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قلت :يا أم المؤمنين ،
أنبئيني عن قيام رسول ال صلى ال عليه وسلم.ألست تقرأ هذه السورة { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ } ؟
قلت :بلى .قالت :فإن ال افترض قيام الليل في أول هذه السورة ،فقام رسول ال صلى ال
عليه وسلم وأصحابه حول حتى انتفخت أقدامهم ،وأمسك ال خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا
،ثم أنزل ال التخفيف في آخر هذه السورة ،فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة .فهممت (
)2أن أقوم ،ثم بدا لي وتر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قلت :يا أم المؤمنين ،أنبئيني عن
طهُوره ،فيبعثه ال لما شاء أن
وتر رسول ال صلى ال عليه وسلم .قالت :كنا نعد له سِواكه و َ
يبعثه من الليل ،فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات ل يجلس فيهن إل عند الثامنة ،
فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ويستغفر ثم ينهض وما يسلم .ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه
ويذكره ويدعو] ( )3ثم يسلم تسليمًا يسمعنا ،ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم .فتلك
إحدى عشرة ركعة يا بني .فلما أسن رسول ال صلى ال عليه وسلم وأخذه اللحم ،أوتر بسبع ،
ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ،فتلك تسع يا بني .وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم
شغَله عن قيام الليل نوم أو وَجَع أو مرض ،
إذا صلى صلة أحب أن يداوم عليها ،وكان ( )4إذا َ
صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ،ول أعلم نبي ال صلى ال عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة
،ول قام ليلة حتى أصبح ،ول صام شهرًا كامل غير رمضان.
فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها ،فقال :صدقت ،أما لو كنت أدخل عليها لتيتها حتى تشافهني
مشافهة.
هكذا رواه المام أحمد بتمامه .وقد أخرجه مسلم في صحيحه ،من حديث قتادة ،بنحوه)5( .
طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى :قال ابن جرير :حدثنا ابن َوكِيع ،حدثنا زيد بن
الحُبَاب -وحدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْران قال جميعا ،واللفظ لبن وكيع :عن موسى بن
طحْلء ،عن أبي سلمة ،عن عائشة قالت :كنت أجعل لرسول ال
عُبَيدة ،حدثني محمد بن َ
صلى ال عليه وسلم حصيرا ُيصَلي عليه من الليل ،فتسامع الناس به فاجتمعوا ،فخرج
كالمغضب -وكان بهم رحيما ،فخشي أن يكتب
__________
( )1في أ " :نعم".
( )2في م " :ثم هممت".
( )3زيادة من المسند.
( )4في أ " :وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم".
( )5المسند ( ، )6/54وصحيح مسلم برقم (.)746
( )8/253
ل من الثواب
عليهم قيام الليل -فقال " :أيها الناس ،اكَلفُوا من العمال ما تطيقون ،فإن ال ل َي َم ّ
حتى تملوا من العمل ،وخير العمال ما ديمَ عليه" .ونزل القرآن { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ قُمِ اللّ ْيلَ إِل
صفَهُ َأوِ ا ْنقُصْ مِنْهُ قَلِيل َأوْ ِزدْ عَلَيْهِ } حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ،فمكثوا بذلك
قَلِيل ِن ْ
ثمانية أشهر ،فرأى ال ما يبتغون من رضوانه ،فرحمهم فردهم إلى الفريضة ،وترك قيام
الليل)1( .
ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي ،وهو ضعيف .والحديث في الصحيح (
)2بدون زيادة نزول هذه السورة ،وهذا السياق قد يُوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ،وليس
كذلك ،وإنما هي مكية .وقوله في هذا السياق :إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر -
غريب ؛ فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.
سعَر ،عن سِماك الحنفي ،
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو أسامة ،عن ِم ْ
سمعت ابن عباس يقول :أول ما نزل :أول المزمل ،كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر
رمضان ،وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة.
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ،عن أبي أسامة ،به)3( .
وقال الثوري ومحمد بن بشر العَبدي ،كلهما عن مسعر ،عن سماك ،عن ابن عباس :كان
بينهما سنة .وروى ابن جرير ،عن أبي كريب ،عن وكيع ،عن إسرائيل ،عن سماك ،عن
عكرمة ،عن ابن عباس ،مثله.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن حميد ،حدثنا ِمهْرَان ،عن سفيان ،عن قيس بن وهب ،عن أبي
عبد الرحمن قال :لما نزلت { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ } قاموا حول حتى ورمت أقدامهم وسُوقُهم ،حتى
نزلت { :فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنْهُ } قال :فاستراح الناس)4( .
وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن أبي حاتم [ :حدثنا أبو زُرْعَة ،حدثنا عُبَيد ال بن عمر القواريري ،حدثنا معاذ بن هشام
،حدثنا أبي] ( )5عن قتادة ،عن زُرارة بن أوفى ،عن سعد بن هشام قال :فقلت -يعني لعائشة
: -أخبرينا عن قيام رسول ال صلى ال عليه وسلم .قالت :ألست تقرأ { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ } ؟
قلت :بلى .قالت :فإنها كانت قيام رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،حتى انتفخت
أقدامهم ،وحُبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا ،ثم نزل.
وقال َم ْعمَر ،عن قتادة { :قُمِ اللّ ْيلَ إِل قَلِيل } قاموا حول أو حولين ،حتى انتفخت سوقُهم
__________
( )1تفسير الطبري (.)29/79
( )2صحيح البخاري برقم ( ، )6465وصحيح مسلم برقم (.)782
( )3تفسير الطبري (.)29/78
( )4تفسير الطبري (.)29/79
( )5زيادة من م ،أ.
( )8/254
( )8/255
( )8/256
( )8/257
( )8/257
( )8/258
{ وَعُّلمْتُمْ مَا لَمْ َتعَْلمُوا أَنْتُ ْم وَل آبَا ُؤكُمْ } قلت :يا أبا سعيد ،قال ال { :فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنَ
ا ْلقُرْآنِ } ؟ قال :نعم ،ولو خمس آيات.
حمَلة القرآن أن يقوموا
وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري :أنه كان يرى حقًا واجبًا على َ
ولو بشيء منه في الليل ؛ ولهذا جاء في الحديث :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل عن
رجل نام حتى أصبح ،فقال " :ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" )1( .فقيل معناه :نام عن
المكتوبة .وقيل :عن قيام الليل .وفي السنن " :أوتِرُوا يا أهل القرآن )2( ".وفي الحديث الخر :
"من لم يوتر فليس منا")3( .
وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز ،من الحنابلة ،من إيجابه قيام شهر رمضان ،
فال أعلم.
وقال الطبراني :حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجُدّي ،حدثنا أبو [حمة] ( )4محمد بن يوسف
الزبيدي ،حدثنا عبد الرحمن [ ،عن محمد بن عبد ال] ( )5بن طاوس -من ولد طاوس -عن
أبيه ،عن طاوس ،عن ابن عباس ،عن النبي صلى ال عليه وسلم { :فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ }
قال " :مائة آية")6( .
وهذا حديث غريب جدًا لم أره إل في معجم الطبراني ،رحمه ال.
وقوله { :وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ } أي :أقيموا صلتكم الواجبة عليكم ،وآتوا الزكاة
المفروضة .وهذا يدل لمن قال :إن فرض الزكاة نزل بمكة ،لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم
تُبَين إل بالمدينة .وال أعلم.
وقد قال ابن عباس ،وعكرمة ،ومجاهد ،والحسن ،وقتادة ،وغير واحد من السلف :إن هذه
الية نَسَخت الذي كان ال قد أوجبه على المسلمين أول من قيام الليل .واختلفوا في المدة التي
بينهما على أقوال كما تقدم .وقد ثبت في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لذلك
الرجل " :خمس صلوات في اليوم والليلة" .قال :هل عليّ غيرها ؟ قال " :ل إل أن تَطوّع")7( .
حسَنًا } يعني :من الصدقات ،فإن ال يجازي على ذلك
وقوله تعالى { :وََأقْ َرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا َ
ضعَافًا
عفَهُ لَهُ َأ ْ
أحسن الجزاء وأوفره ،كما قال { :مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَا ِ
كَثِي َرةً } [البقرة .]245 :
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( ، )1144ومسلم في صحيحه برقم ( )774من حديث عبد
ال بن مسعود رضي ال عنه.
( )2جاء من حديث علي وعبد ال بن مسعود ،رضي ال عنهما ،أما حديث علي ،فقد رواه أبو
داود في السنن برقم ( ، )1416والترمذي في السنن برقم ( ، )453والنسائي في السنن (
، )3/228وابن ماجة في السنن برقم ( ، )1169وقال الترمذي " :حديث علي حديث حسن" ،
وأما حديث ابن مسعود ،فرواه أبو داود في السنن برقم ( ، )1417وابن ماجة برقم (.)1170
( )3جاء من حديث بريدة وأبي هريرة ،رضي ال عنهما ،أما حديث بريدة ،فرواه أحمد في
المسند ( ، )5/357وأبو داود في السنن برقم ( ، )1419وأما حديث أبي هريرة ،فرواه أحمد في
المسند (.)3/443
( )4زيادة من المعجم الكبير للطبراني (.)11/29
( )5زيادة من م ،أ.
( )6المعجم الكبير (.)11/29
( )7صحيح البخاري برقم ( ، )46وصحيح مسلم برقم ( )11من حديث طلحة رضي ال عنه.
( )8/259
( )8/260
( )8/261
ي وتَتَابع".
قال أبو سلمة :والرجز :الوثان -ثم حَميَ الوح ُ
هذا لفظ البخاري ( )1وهذا السياق هو المحفوظ ،وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا ،لقوله
" :فإذا الملك الذي جاءني ( )2بحراء" ،وهو جبريل حين أتاه بقوله { :اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ
علّمَ بِا ْلقَلَمِ عَلّمَ النْسَانَ مَا َلمْ َيعْلَمْ } ثم إنه حصل
ك الكْرَمُ الّذِي َ
خََلقَ النْسَانَ مِنْ عََلقٍ اقْرَ ْأ وَرَ ّب َ
بعد هذا فترة ،ثم نزل الملك بعد هذا .ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه
السورة ،كما قال المام أحمد :
عقَيل ،عن ابن شهاب ( )3قال :سمعت أبا سلمة بن عبد
حدثنا حجاج ،حدثنا لَيْث ،حدثنا ُ
الرحمن يقول :أخبرني جابر بن عبد ال :أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ثم
ت صوتًا من السماء ،فرفعت بصري قِبَل السماء ،
فتر الوحي عني فترة ،فبينا أنا أمشي سمع ُ
فإذا الملك الذي جاءني [بحراء الن] ( )4قاعد على كرسي بين السماء والرض ،فَجُثت ( )5منه
فَ َرقًا ،حتى َهوَيت إلى الرض ،فجئت أهلي فقلت لهم :زملوني زملوني .فزملوني ،فأنزل ال
طهّ ْر وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ } ثم حمي الوحي [بعدُ] ()6
{ :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ ُقمْ فَأَنْذِ ْر وَرَ ّبكَ َفكَبّ ْر وَثِيَا َبكَ َف َ
وتتابع" .أخرجاه من حديث الزهري ،به (.)7
وقال الطبراني :حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ،حدثنا الحسن بن بشر ( )8البَجَلي ،
حدثنا المعافى بن عمران ،عن إبراهيم بن يزيد ،سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول :سمعت ابن عباس
يقول :إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ،فلما أكلوا .قال :ما تقولون في هذا الرجل ؟
فقال بعضهم :ساحر .وقال بعضهم ليس بساحر .وقال بعضهم :كاهن .وقال بعضهم :ليس
بكاهن .وقال بعضهم :شاعر .وقال بعضهم ليس بشاعر .وقال بعضهم [ :بل] ( )9سحر يُؤثر.
ن وقَنعَ رأسه ،
فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر .فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فحز َ
طهّ ْر وَالرّجْزَ فَاهْجُ ْر وَل َتمْنُنْ
وتَدَثّر ،فأنزل ال { يَا أَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ ُقمْ فَأَنْذِ ْر وَرَ ّبكَ َفكَبّ ْر وَثِيَا َبكَ فَ َ
تَسْ َتكْثِ ُر وَلِرَ ّبكَ فَاصْبِرْ } (.)10
فقوله { قُمْ فَأَ ْنذِرْ } أي :شمر عن ساق العزم ،وأنذر الناس .وبهذا حصل الرسال ،كما حصل
بالول النبوة.
{ وَرَ ّبكَ َفكَبّرْ } أي :عظم.
طهّرْ } قال الجلح الكندي ،عن عكرمة ،عن ابن عباس :أنه أتاه رجل فسأله
وقوله { :وَثِيَا َبكَ فَ َ
طهّرْ }
عن هذه الية { :وَثِيَا َبكَ َف َ
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)4926
( )2في م " :الذي كان".
( )3في أ " :ابن هشام".
( )4زيادة من م ،أ ،والمسند.
( )5في م " :فجثيت".
( )6زيادة من المسند.
( )7المسند ( ، )3/325وصحيح البخاري برقم ( ، )4926وصحيح مسلم برقم (.)161
( )8في أ :الحسن بن بشير".
( )9زيادة من م.
( )10المعجم الكبير للطبراني ( ، )11/125وقال الهيثمي في المجمع (" : )7/131وفيه إبراهيم
بن يزيد الخوري وهو ضعيف".
( )8/262
( )8/263
( )8/264
وأسباط ،كلهما عن مطرف ،به .ورواه من طريق أخرى ،عن العوفي ،عن ابن عباس ،به
(.)1
وقوله َ { :فذَِلكَ َي ْومَئِذٍ َيوْمٌ عَسِيرٌ } أي :شديد.
{ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ غَيْرُ َيسِيرٍ } أي :غير سهل عليهم .كما قال تعالى { َيقُولُ ا ْلكَافِرُونَ هَذَا َيوْمٌ
عَسِرٌ } [القمر .]8 :
وقد روينا عن زُرَارة بن أوفى -قاضي البصرة : -أنه صلى بهم الصبح ،فقرأ هذه السورة ،
عسِيرٌ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }
فلما وصل إلى قوله { :فَإِذَا ُنقِرَ فِي النّاقُورِ فَذَِلكَ َي ْومَئِذٍ َيوْمٌ َ
شهِقَ شهقة ،ثم خر ميتا ،رحمه ال (.)2
َ
شهُودًا (َ )13و َمهّ ْدتُ َلهُ
جعَ ْلتُ لَهُ مَال َممْدُودًا ( )12وَبَنِينَ ُ
ت وَحِيدًا ( )11وَ َ
{ ذَرْنِي َومَنْ خََلقْ ُ
صعُودًا (} )17
ن ليَاتِنَا عَنِيدًا ( )16سَأُرْ ِهقُ ُه َ
طمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( )15كَل إِنّهُ كَا َ
َت ْمهِيدًا ( )14ثُمّ َي ْ
__________
( )1تفسير الطبري ()29/95
( )2رواه أبو نعيم في الحلية (.)259 ، 2/258
( )8/265
س وَبَسَرَ (
إِنّهُ َفكّ َر َوقَدّرَ (َ )18فقُ ِتلَ كَيْفَ قَدّرَ ( )19ثُمّ قُ ِتلَ كَ ْيفَ قَدّرَ (ُ )20ثمّ نَظَرَ (ُ )21ثمّ عَبَ َ
سحْرٌ ُيؤْثَرُ ( )24إِنْ َهذَا إِلّا َق ْولُ الْبَشَرِ ( )25سَُأصْلِيهِ
)22ثُمّ َأدْبَ َر وَاسْ َتكْبَرَ (َ )23فقَالَ إِنْ هَذَا إِلّا ِ
سعَةَ عَشَرَ (
سقَرُ ( )27لَا تُ ْبقِي وَلَا َتذَرُ (َ )28لوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ( )29عَلَ ْيهَا ِت ْ
سقَرَ (َ )26ومَا أَدْرَاكَ مَا َ
َ
)30
س وَبَسَرَ (
{ إِنّهُ َفكّ َر َوقَدّرَ (َ )18فقُتِلَ كَ ْيفَ قَدّرَ (ُ )19ثمّ قُ ِتلَ كَ ْيفَ َقدّرَ ( )20ثُمّ َنظَرَ ( )21ثُمّ عَ َب َ
)22ثُمّ َأدْبَ َر وَاسْ َتكْبَرَ (َ )23فقَالَ إِنْ هَذَا إِل سِحْرٌ ُيؤْثَرُ ( )24إِنْ هَذَا إِل َق ْولُ الْبَشَرِ ()25
سقَرُ ( )27ل تُ ْبقِي وَل تَذَرُ (َ )28لوّاحَةٌ لِلْ َبشَرِ ( )29عَلَ ْيهَا
سقَرَ (َ )26ومَا أَدْرَاكَ مَا َ
سَُأصْلِيهِ َ
عشَرَ (} )30
سعَةَ َ
تِ ْ
يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم ال عليه بنعم الدنيا ،فكفر بأنعم ال ،وبدلها كفرا ،
وقابلها بالجحود بآيات ال والفتراء عليها ،وجعلها من قول البشر .وقد عدد ال عليه نعَمه حيث
ت وَحِيدًا } أي :خرج من بطن أمه وحده ل مال له ول ولد ،ثم رزقه
خَلقْ ُ
قال { :ذَرْنِي َومَنْ َ
ال ،
{ مَال َممْدُودًا } أي :واسعًا كثيرًا قيل :ألف دينار .وقيل :مائة ألف دينار .وقيل :أرضا
يستغلها .وقيل غير ذلك.
شهُودًا } قال مجاهد :ل يغيبون ،أي :حضورا عنده ل يسافرون في
وجعل له { وَبَنِينَ ُ
التجارات ،بل مَواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم ،يتمتع بهم وي َتمَلّى بهم.
وكانوا -فيما ذكره السدي ،وأبو مالك ،وعاصم بن عمر بن قتادة -ثلثة عشر .وقال ابن
عباس ،ومجاهد :كانوا عشرة .وهذا أبلغ في النعمة [وهو إقامتهم عنده ])1( .
{ َو َمهّ ْدتُ لَهُ َت ْمهِيدًا } أي :مكنته من صنوف المال والثاث وغير ذلك ،
ن ليَاتِنَا عَنِيدًا } أي :معاندا ،وهو الكفر على نعمه بعد العلم.
طمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَل إِنّهُ كَا َ
{ ُثمّ يَ ْ
صعُودًا } قال المام أحمد :
قال ال { :سَأُرْ ِهقُ ُه َ
حدثنا حسن ،حدثنا ابن َلهِيعة ،عن دَرّاج ،عن أبي الهيثم ،عن أبي سعيد ،عن رسول ال
__________
( )1زيادة من م ،أ.
( )8/265
صلى ال عليه وسلم قال " :ويل :واد في جهنم ،يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ
صعُود :جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ،ثم يهوي به كذلك فيه أبدا".
قعره ،وال ّ
حمَيد ،عن الحسن بن موسى الشيب ،به ( )1ثم قال :غريب ،
وقد رواه الترمذي عن عبد بن ُ
ل نعرفه إل من حديث ابن َلهِيعة عن دراج .كذا قال .وقد رواه ابن جرير ،عن يونس ،عن عبد
ال بن وهب ،عن عمرو بن الحارث ،عن دَرّاج ( )2وفيه غرابة ونكارة.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زُرْعَة وعلي بن عبد الرحمن -المعروف بعلن المصري (- )3
قال :حدثنا مِنْجاب ،أخبرنا شريك ،عن عمار الدّهَ ِنيّ ،عن عطية العوفي ،عن أبي سعيد ،
صعُودًا } قال " :هو جبل في النار من نار يكلف أن
عن النبي صلى ال عليه وسلم { :سَأُرْ ِهقُ ُه َ
يصعده ،فإذا وضع يده ذابت ،وإذا رفعها عادت ،فإذا وضع رجله ذابت ،وإذا رفعها عادت".
ورواه البزار وابن جرير ،من حديث شريك ،به (.)4
وقال قتادة ،عن ( )5ابن عباس :صعود :صخرة [في جهنم] ( )6عظيمة يسحب عليها الكافر
على وجهه.
وقال السدي :صعودا :صخرة ملساء في جهنم ،يكلف أن يصعدها.
صعُودًا } أي :مشقة من العذاب .وقال قتادة :عذابا ل راحة فيه.
وقال مجاهد { :سَأُ ْر ِهقُهُ َ
واختاره ابن جرير.
وقوله { :إِنّهُ َفكّ َر َوقَدّرَ } أي :إنما أرهقناه صعودا ،أي :قربناه من العذاب الشاق ؛ لبعده عن
اليمان ،لنه فكر وقدر ،أي :تَ َروّى ماذا يقول في القرآن حين سُئل عن القرآن ،ففكر ماذا
يختلق من المقال َ { ،وقَدّرَ } أي :تروى َ { ،فقُ ِتلَ كَ ْيفَ قَدّرَ ثُمّ قُ ِتلَ كَ ْيفَ َقدّرَ } دعاء عليه ،
{ ُثمّ نَظَرَ } أي :أعاد النظرة ( )7والترويُ { .ثمّ عَبَسَ } أي :قبض بين عينيه وقطب { ،وَبَسَرَ
حمَير الشاعر :
} أي :كلح وكره ،ومنه قول توبة بن ال ُ
َوقَد رَابَني منها صُدُودٌ رَأيتُه ...وَإعرَاضُها عَن حاجَتي وبُسُورُها...
وقوله ُ { :ثمّ أَدْبَ َر وَاسْ َتكْبَرَ } أي :صُرف عن الحق ،ورجع القهقرى مستكبرا عن النقياد
للقرآن ،
{ َفقَالَ إِنْ هَذَا إِل سِحْرٌ ُيؤْثَرُ َفقَالَ إِنْ َهذَا إِل سِحْرٌ ُيؤْثَرُ } أي :هذا سحر ينقله محمد عن غيره
عمن قبله ويحكيه عنهم ؛
ولهذا قال { :إِنْ هَذَا إِل َق ْولُ الْبَشَرِ } أي :ليس بكلم ال.
__________
( )1المسند ( ، )3/75وسنن الترمذي برقم (.)3164
( )2تفسير الطبري (.)29/97
( )3في م " :البصري".
( )4تفسير الطبري ( ، )29/97ورواه الطبراني في المعجم الوسط برقم (" )3409مجمع
البحرين" من طريق منجاب بن الحارث به مرفوعًا .وقال الطبراني " :لم يرفع هذا الحديث عن
عمار الدهني إل شريك ،ورواه سفيان بن عيينة عن عمار الدهني فوافقه".
( )5في م " :وقال".
( )6زيادة من م.
( )7في م " :النظر".
( )8/266
وهذا المذكور في هذا السياق هو :الوليد بن المغيرة المخزومي ،أحد رؤساء قريش -لعنه ال
-وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي ،عن ابن عباس قال :دخل الوليد بن المغيرة على أبي
بكر بن أبي قحافة فسأله ( )1عن القرآن ،فلما أخبره خرج على قريش فقال :يا عجبا لما يقول
ابن أبي كبشة .فوال ما هو بشعر ول بسحر ول بهذْي من الجنون ،وإن قوله لمن كلم ال .فلما
سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا :وال لئن صبا الوليد لتصْ ُبوَنّ قريش .فلما سمع بذلك
أبو جهل بن هشام قال :أنا وال أكفيكم شأنه .فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد :ألم تر
قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ فقال :ألستُ أكثرهم مال وولدا .فقال له أبو جهل :يتحدثون أنك
إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه .فقال الوليد :أقد ( )2تحدث به عشيرتي ؟! فل
وال ل أقرب ابن أبي قحافة ،ول عمر ،ول ابن أبي كبشة ،وما قوله إل سحر يؤثر .فأنزل ال
على رسوله صلى ال عليه وسلم { :ذَرْنِي َومَنْ خََل ْقتُ َوحِيدًا } إلى قوله { :ل تُ ْبقِي وَل تَذَرُ }
وقال قتادة :زعموا أنه قال :وال لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر ،وإن له
لحلوة ،وإن عليه لطلوة ،وإنه ليعلو وما يعلى ،وما أشك أنه سحر .فأنزل ال َ { :فقُ ِتلَ كَ ْيفَ
قَدّرَ } الية { ،ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ } قبض ما بين عينيه وكلح.
وقال ابن جرير :حدثنا ابن عبد العلى ،أخبرنا محمد بن ثور ،عن َم ْعمَر ،عن عَبّاد بن
منصور ،عن عكرمة :أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقرأ عليه
القرآن ،فكأنه رق له .فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام ،فأتاه فقال :أي عم ،إن قومك يريدون أن
يجمعوا لك مال .قال :لم ؟ قال :يعطونكه ،فإنك أتيت محمدًا تَ َتعَرض لما قبله .قال :قد علمت
قريش أني أكثرها مال .قال :فقل فيه قول يعلم قومك أنك ( )3منكر لما قال ،وأنك كاره له .قال
:فماذا أقول فيه ؟ فوال ما منكم رجل أعلم بالشعار مني ،ول أعلم برجزه ول بقصيده ول
بأشعار الجن ،وال ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك .وال إن لقوله الذي يقول لحلوة ،وإنه
ليحطم ما تحته ،وإنه ليعلو وما يعلى .وقال :وال ل يرضى قومك حتى تقول فيه .قال :فدعني
حتى أفكر فيه .فلما فكر قال :إن هذا سحر يأثره عن غيره .فنزلت { :ذَرْنِي َومَنْ خََل ْقتُ
سعَةَ عَشَرَ } ()5
وَحِيدًا } [قال قتادة :خرج من بطن أمه وحيدا] ( )4حتى بلغ ِ { :ت ْ
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا .وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار
الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه ،قبل أن يقدم عليهم وفودُ العرب للحج ليصدّوهُم
عنه ،فقال قائلون :شاعر .وقال آخرون :ساحر .وقال آخرون :كاهن .وقال آخرون :
ك المْثَالَ َفضَلّوا فَل يَسْ َتطِيعُونَ سَبِيل }
ف ضَرَبُوا َل َ
مجنون .كما قال تعالى { :انْظُرْ كَ ْي َ
[ السراء ]48 :كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ،ففكر وقدر ،ونظر وعبس وبسر ،فقال :
{ إِنْ هَذَا إِل سِحْرٌ ُيؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِل َق ْولُ الْبَشَرِ }
سقَرَ } أي :سأغمره فيها من جميع جهاته.
قال ال عز وجل { :سَُأصْلِيهِ َ
__________
( )1في م ،أ " :يسأله".
( )2في أ " :أوقد".
( )3في م " :أنه".
( )4زيادة من تفسير الطبري
( )5تفسير الطبري (.)29/98
( )8/267
( )8/268
عدّ َتهُمْ إِلّا فِتْ َنةً لِلّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا
جعَلْنَا ِ
جعَلْنَا َأصْحَابَ النّارِ إِلّا مَلَا ِئكَ ًة َومَا َ
َومَا َ
ا ْلكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ َآمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَلِ َيقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ
ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا َيعَْلمُ
مَ َرضٌ وَا ْلكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَلًا َكذَِلكَ ُي ِ
جُنُودَ رَ ّبكَ إِلّا ُه َو َومَا ِهيَ إِلّا ِذكْرَى لِلْ َبشَرِ ( )31كَلّا وَا ْل َقمَرِ ( )32وَاللّ ْيلِ ِإذْ أَدْبَرَ ( )33وَالصّبْحِ
سفَرَ ( )34إِ ّنهَا لَِإحْدَى ا ْلكُبَرِ (َ )35نذِيرًا لِلْبَشَرِ (ِ )36لمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ يَ َتقَدّمَ َأوْ يَتَأَخّرَ ()37
إِذَا أَ ْ
ل نعرفه ( )1إل من حديث مجالد .وقد رواه المام أحمد ،عن علي بن المديني ،عن سفيان ،
فقص الدرمك فقط)2( .
عدّ َتهُمْ إِل فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا لِ َيسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا
جعَلْنَا ِ
جعَلْنَا َأصْحَابَ النّارِ إِل مَل ِئكَ ًة َومَا َ
{ َومَا َ
ن وَلِ َيقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ
ب وَا ْل ُمؤْمِنُو َ
ا ْلكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَل يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَا َ
ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ َومَا َيعَْلمُ
مَ َرضٌ وَا ْلكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَل َكذَِلكَ ُي ِ
جُنُودَ رَ ّبكَ إِل ُهوَ َومَا ِهيَ إِل ِذكْرَى لِلْ َبشَرِ ( )31كَل وَا ْلقَمَرِ ( )32وَاللّ ْيلِ إِذْ َأدْبَرَ ( )33وَالصّبْحِ
حدَى ا ْلكُبَرِ ( )35نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (ِ )36لمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ يَ َتقَدّمَ َأوْ يَتََأخّرَ (
سفَرَ ( )34إِ ّنهَا ل ْ
إِذَا أَ ْ
} )37
صحَابَ النّارِ } أي :خُزّانها { ،إِل مَل ِئكَةً } أي [ :زبانية] ()3
جعَلْنَا َأ ْ
يقول تعالى َ { :ومَا َ
غلظا شدادا .وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة ،فقال أبو جهل :يا معشر
جعَلْنَا َأصْحَابَ
قريش ،أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ( )4؟ فقال ال َ { :ومَا َ
النّارِ إِل مَل ِئكَةً } أي :شديدي الخَلْق ل يقاومون ول يغالبون .وقد قيل :إن أبا الشدين -واسمه
:كَلَدَة بن أسيد بن خلف -قال :يا معشر قريش ،اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة
عشر ،إعجابا منه بنفسه ،وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة
ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه ،فيتمزق الجلد ول يتزحزح عنه .قال السهيلي :وهو
الذي دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى مصارعته وقال :إن صرعتني آمنت بك ،
فصرعه النبي صلى ال عليه وسلم مرارا ،فلم يؤمن .قال :وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر
المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب (.)5
قلت :ول منافاة بين ما ذكراه ،وال أعلم.
جعَلْنَا عِدّ َتهُمْ إِل فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا } أي :إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منّا
{ َومَا َ
للناس { ،لِيَسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ } أي :يعلمون أن هذا الرسول حق ؛ فإنه نطق بمطابقة ما
بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على النبياء قبله.
{ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } أي :إلى إيمانهم .بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى
ال عليه وسلم { ،وَل يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَلِ َيقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } أي
:من المنافقين { وَا ْلكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِب َهذَا مَثَل } ؟ أي :يقولون :ما الحكمة في ذكر هذا
هاهنا ؟ قال ال
__________
( )1في م " :ل يعرف".
( )2المسند (.)3/361
( )3زيادة من م.
( )4في أ " :فتغلبوهم".
( )5الروض النف للسهيلي (.)1/200
( )8/269
ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ َيهْدِي مَنْ َيشَاءُ } أي :من مثل هذا وأشباهه يتأكد اليمان
تعالى { :كَذَِلكَ ُي ِ
في قلوب أقوام ،ويتزلزل عند آخرين ،وله الحكمة البالغة ،والحجة الدامغة.
وقوله َ { :ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ إِل ُهوَ } أي :ما يعلم عددهم وكثرتهم إل هو تعالى ،لئل يتوهم
متوهم أنهم تسعة عشر فقط ،كما قد قاله طائفة من أهل الضللة والجهالة ومن الفلسفة
اليونانيين .ومن تابعهم ( )1من الملتين الذين سمعوا هذه الية ،فأرادوا تنزيلها على العقول
العشرة والنفوس التسعة ،التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدللة على مقتضاها ،
فأفهموا ( )2صدر هذه الية وقد كفروا بآخرها ،وهو قوله َ { :ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ إِل ُهوَ }
وقد ثبت في حديث السراء المروي في الصحيحين وغيرهما .عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة " :فإذا هو يدخله في كل يوم
سبعون ألف ملك ،ل يعودون إليه آخر ما عليهم" (.)3
وقال المام أحمد :حدثنا أسود ،حدثنا إسرائيل ،عن إبراهيم بن مهاجر ،عن مجاهد ،عن
مورق ،عن أبي ذر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إني أرى ما ل ترون ،وأسمع
ما ل تسمعون ،أطت السماء وحُقّ لها أن تَئط ،ما فيها موضع أصابع إل عليه ملك ساجد ،لو
علمتم ما أعلم لضحكتم قليل ولبكيتم كثيرًا ،ول تَلَذّذتم بالنساء على ( )4الفُرُشات ،ولخرجتم إلى
الصعدات تجأرون إلى ال عز وجل" .فقال أبو ذر :وال لوددتُ أني شجرة تُعضد.
ورواه الترمذي وابن ماجه ،من حديث إسرائيل ( )5وقال الترمذي :حسن غريب ،ويروى عن
أبي ذر موقوفًا.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني :حدثنا خير ( )6بن عرفة المصري ،حدثنا عُ ْروَة بن مروان
الرقي ،حدثنا عبيد ال بن عمرو ،عن عبد الكريم بن مالك ،عن عطاء بن أبي رباح ،عن
جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما في السموات السبع موضع قدم
ول شبر ول كف إل وفيه ملك قائم ،أو ملك ساجد ،أو ملك راكع ،فإذا كان يوم القيامة قالوا
جميعا :سبحانك! ما عبدناك حَقّ عبادتك ،إل أنا لم نشرك بك شيئًا".)7( .
وقال محمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلة" :حدثنا عمرو بن زرارة ،أخبرنا عبد الوهاب
بن عطاء ،عن سعيد ،عن قتادة ،عن صفوان بن مُحْرِز ،عن حكيم بن حزام قال :بينما
رسول ال صلى ال عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم " :هل تسمعون ما أسمع ؟" قالوا :ما
نسمع من شيء .فقال
__________
( )1في م " :ومن شايعهم".
( )2في أ " :فما فهموا".
( )3هذا جزء من حديث أنس الطويل في السراء ،وهو في صحيح البخاري برقم (، )7517
وصحيح مسلم برقم ( .)162وهذا القدر قد وقع لمسلم من هذا الوجه ،وانظر أحاديث السراء
عند تفسير أول سورة السراء.
( )4في أ " :في".
( )5المسند ( ، )5/173وسنن الترمذي برقم ( ، )2312وسنن ابن ماجة برقم (.)4190
( )6في م " :حدثنا حسين".
( )7المعجم الكبير ( ، )2/184وقال الهيثمي في المجمع (" : )1/52وفيه عروة بن مروان" .قلت
:قال الدارقطني :ليس بالقوى.
( )8/270
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أسمع أطيط السماء وما تلم أن تَئطّ ،ما فيها موضع شبر إل
وعليه ملك راكع أو ساجد" (.)1
وقال أيضا :حدثنا محمد بن عبد ال بن قهزاذ ( )2حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي ،
حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ،سمعت الضحاك بن مزاحم ،يحدث عن مسروق بن الجدع ،
عن عائشة أنها قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما في السماء الدنيا موضع قدم إل
وعليه ملك ساجد أو قائم ،وذلك قول الملئكة َ { :ومَا مِنّا إِل لَهُ َمقَامٌ َمعْلُو ٌم وَإِنّا لَ َنحْنُ الصّافّونَ
وَإِنّا لَنَحْنُ ا ْلمُسَبّحُونَ } [الصاقات .)3( .]166 - 164 :
وهذا مرفوع ( )4غريب جدا ثم رواه ( )5عن محمود بن آدم ،عن أبي معاوية ،عن العمش ،
عن أبي الضّحى ،عن مسروق ،عن ابن مسعود أنه قال :إن من السماوات سماءً ما فيها
موضع شبر إل وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما ،ثم قرأ { :وَإِنّا لَ َنحْنُ الصّافّونَ وَإِنّا لَنَحْنُ
ا ْلمُسَبّحُونَ } (.)6
ثم قال :حدثنا أحمد بن سيار :حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه ،
حدثنا المغيرة بن عثمان ( )7بن عطية من بني عمرو بن عوف ،حدثني سليمان بن أيوب [من
بني] ( )8سالم بن عوف .حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلي ،حدثني سليمان بن
عمرو بن الربيع ،من بني سالم ،حدثني عبد الرحمن بن العلء ،من بني ساعدة ،عن أبيه
العلء بن سعد -وقد شهد الفتح وما بعده -أن النبي صلى ال عليه وسلم قال يوما لجلسائه :
طتِ السماء وحقّ لها أن تَئط ،
"هل تسمعون ما أسمع ؟" قالوا :وما تسمع يا رسول ال ؟ قال " :أ ّ
إنه ليس فيها موضع َقدَم إل وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد ،وقالَ الملئكة { :وَإِنّا لَنَحْنُ
الصّافّونَ وَإِنّا لَ َنحْنُ ا ْلمُسَبّحُونَ } ( )9وهذا إسناد غريب جدا.
ثم قال :حدثنا [محمد بن يحيى ،حدثنا] ( )10إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَروي ،حدثنا عبد
الملك بن قدامة ،عن عبد الرحمن عن عبد ال بن ديناره ،عن أبيه ،عن عبد ال بن عمر :أن
عمر جاء والصلة قائمة ،ونفر ثلثة جلوس ،أحدهم أبو جحش الليثي ،فقال :قوموا فصلوا مع
رسول ال .فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم ،وقال :ل أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني
ذراعين ،وأشد مني بطشًا فيصرعني ،ثم يَدس وجهي في التراب .قال عمر :فصرعته
ودسست وجهه في التراب ،فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه ،فخرج عمر مغضبا حتى انتهى
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :ما رَأ َيكَ يا أبا حفص ؟" .فذكر له ما كان منه فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن رضى
__________
( )1تعظيم قدر الصلة للمروزي برقم (.)248
( )2في م " :مهزاذ".
( )3تعظيم قدر الصلة برقم (.)253
( )4في أ " :وهذا مرفوعا" وهو خطأ.
( )5في م " :ثم رواه".
( )6تعظيم قدر الصلة برقم (.)254
( )7في هـ " :عمر".
( )8زيادة من م.
( )9تعظيم قدر الصلة برقم (.)255
( )10زيادة من تعظيم قدر الصلة (.)256
( )8/271
عمر رحمةٌ ،وال لود ْدتُ أنك جئتني برأس الخبيث" ،فقام عمر يُوجّهُ نحوه ،فلما أبعد ناداه فقال
" :اجلس حتى أخبرك بغنى الرب عز وجل عن صلة أبي جحش ،إن ل في السماء الدنيا ملئكة
خشوعًا ( )1ل يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة .فإذا قامت رفعوا رءوسهم ثم قالوا :ربنا ،ما
عبدناك حق عبادتك ،وإن ل في السماء الثانية ملئكة سجودًا ل يرفعون رءوسهم حتى تقوم
الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رءوسهم ،وقالوا :سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك" فقال له
عمر :وما يقولون يا رسول ال ؟ فقال " :أما أهل السماء الدنيا فيقولون :سبحان ذي الملك
والملكوت .وأما أهل السماء الثانية فيقولون :سبحان ذي العزة والجبروت .وأما أهل السماء
الثالثة فيقولون :سبحان الحي الذي ل يموت .فقلها يا عمر في صلتك" .فقال عمر :يا رسول
ال ،فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلتي ؟ فقال " :قل هذا مرة وهذا مرة".
وكان الذي أمره به أن يقول " :أعوذ بعفوك من عقابك ،وأعوذ برضاك من سخَطك ،وأعوذ بك
منك ،جل وجهك" ( )2وهذا حديث غريب جدا ،بل منكر نكارة شديدة ،وإسحاق الفروي روى
عنه البخاري ،وذكره ابن حبان في الثقات ،وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني.
وقال أبو حاتم الرازي :كان صدوقا إل أنه ذهب بصره فرُبما لقن ،وكتبه صحيحة .وقال مرة :
هو مضطرب ،وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي :تكلم فيه أيضا .والعجب من
المام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه ،ول عَرّف بحاله ،ول تعرض لضعف بعض
رجاله ؟! غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسل بنحوه .ومن طريق أخرى عن
الحسن البصري مرسل قريبًا منه ،ثم قال محمد بن نصر :
حدثنا محمد بن عبد ال بن قهزاذ ،أخبرنا النضر ،أخبرنا عباد بن منصور قال :سمعت عدي
بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال :سمعت رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه
وسلم ،عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن ل تعالى ملئكة تُرعَد فرائصهم من
خيفته ،ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إل وقعت على ملك يصلي ،وإن منهم ملئكة
سجودًا منذ خلق ال السماوات والرض لم يرفعوا رءوسهم ول يرفعونها إلى يوم القيامة ،وإن
منهم ملئكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق ال السماوات والرض ول يرفعونها إلى يوم
القيامة ،فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه ال عز وجل ،قالوا :سبحانك! ما عبدناك حق
عبادتك" (.)3
وهذا إسناد ل بأس به.
وقوله َ { :ومَا ِهيَ إِل ِذكْرَى لِلْبَشَرِ } قال مجاهد وغير واحد َ { :ومَا ِهيَ } أي :النار التي
وصفت { ،إِل ِذكْرَى لِلْ َبشَرِ }
__________
( )1في م ،أ " :خشوع".
( )2تعظيم قدر الصلة برقم ( ، )256ورواه الحاكم في المستدرك ( )3/87من طريق إسحاق
الفروي به ،وقال " :حديث صحيح السناد على شريط البخاري ولم يخرجاه" ،وتعقبه الذهبي.
قلت " :منكر غريب ،وما هو على شرط البخاري ،وفيه عبد الملك بن قدامة الجحمي ضعيف ،
تفرد به".
( )3تعظيم قدر الصلة برقم (.)260
( )8/272
ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ رَهِي َنةٌ ( )38إِلّا َأصْحَابَ الْ َيمِينِ ( )39فِي جَنّاتٍ يَ َتسَاءَلُونَ ( )40عَنِ
سكِينَ (
طعِمُ ا ْلمِ ْ
سقَرَ ( )42قَالُوا لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ ( )43وَلَمْ َنكُ نُ ْ
ا ْلمُجْ ِرمِينَ ( )41مَا سََل َككُمْ فِي َ
َ )44وكُنّا َنخُوضُ مَعَ الْخَا ِئضِينَ (َ )45وكُنّا ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ ( )46حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ ()47
سفَرَ } أي :أشرق { ،إِ ّنهَا
ثم قال { :كَل وَالْ َقمَ ِر وَاللّ ْيلِ إِذْ َأدْبَرَ } أي :ولى { ،وَالصّبْحِ إِذَا أَ ْ
لحْدَى ا ْلكُبَرِ } أي :العظائم ،يعني :النار ،قاله ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،والضحاك ،
وغير واحد من السلفَ { .نذِيرًا لِلْبَشَرِ ِلمَنْ شَاءَ مِ ْن ُكمْ أَنْ يَ َتقَدّمَ َأوْ يَتََأخّرَ } أي :لمن شاء أن يقبل
النّذارة ويهتدي للحق ،أو يتأخر عنها ويولي ويردها.
{ ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ رَهِينَةٌ ( )38إِل َأصْحَابَ الْ َيمِينِ ( )39فِي جَنّاتٍ يَ َتسَاءَلُونَ ( )40عَنِ
سكِينَ (
طعِمُ ا ْلمِ ْ
سقَرَ ( )42قَالُوا لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ ( )43وَلَمْ َنكُ نُ ْ
ا ْلمُجْ ِرمِينَ ( )41مَا سََل َككُمْ فِي َ
َ )44وكُنّا َنخُوضُ مَعَ الْخَا ِئضِينَ (َ )45وكُنّا ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ ( )46حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ (} )47
( )8/273
{ َوكُنّا ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ } يعني :الموت .كقوله { :وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّى يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ
} [الحجر ]99 :وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أما هو -يعني عثمان بن مظعون -فقد
جاءه اليقين من ربه")1( .
شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ } أي :من كان متصفا بهذه ( )2الصفات فإنه ل
قال ال تعالى َ { :فمَا تَ ْن َفعُهُمْ َ
تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه ؛ لن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابل فأما من وافى ال
كافرا يوم القيامة فإنه له النار ل محالة ،خالدا فيها.
ثم قال تعالى َ { :فمَا َل ُهمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ } أي :فما لهؤلء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم
إليه وتذكرهم به معرضين ،
حمُر
سوَ َرةٍ } أي :كأنهم في نفارهم عن الحق ،وإعراضهم عنه ُ
حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ فَ ّرتْ مِنْ قَ ْ
{ كَأَ ّنهُمْ ُ
من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ،قاله أبو هريرة ،وابن عباس -في رواية
-عنه وزيد بن أسلم ،وابنه عبد الرحمن .أو :رام ،وهو رواية ( )3عن
__________
( )1رواه البخاري في صحيحه برقم ( )1243من حديث أم العلء رضي ال عنها.
( )2في م " :بمثل هذه".
( )3في م " :وهما روايتان".
( )8/273
( )8/274
( )8/275
ورواه ابن جرير ،عن أبي كُرَيْب ،عن َوكِيع عن إسرائيل)1( .
وقال ابن جرير :حدثنا محمد بن بشار ،حدثنا مؤمل ،حدثنا سفيان ،عن ابن جُرَيج ،عن
الحسن بن مسلم ،عن سعيد بن جُبَير في { :وَل ُأقْسِمُ بِال ّنفْسِ الّلوّامَةِ } قال :تلوم على الخير
والشر.
ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك :فقال :هي النفس اللؤوم)2( .
وقال علي ابن أبي نجيح ،عن مجاهد :تندم على ما فات وتلوم عليه.
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :اللوامة :المذمومة.
وقال قتادة { :الّلوّامَةِ } الفاجرة.
قال ابن جرير :وكل هذه القوال متقاربة المعنى ،الشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها
على الخير والشر وتندم على ما فات.
عظَامَهُ } أي :يوم القيامة ،أيظن أنا ل نقدر على إعادة
جمَعَ ِ
سبُ النْسَانُ أَلّنْ َن ْ
وقوله { :أَ َيحْ َ
س ّويَ بَنَانَهُ } قال سعيد بن جُبَير
عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة ؟ { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُ َ
خفّا أو حافرًا .وكذا قال مجاهد ،وعكرمة ،والحسن ،
والعَوفي ،عن ابن عباس :أن نجعله (ُ )3
وقتادة ،والضحاك ،وابن جرير .ووجّهه ابنُ جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا.
ج َمعَ } أي :أيظن النسان أنا ل نجمع
والظاهر من الية أن قوله { :قَادِرِينَ } حال من قوله { :نَ ْ
سوّي بنانه ،أي :قدرتنا صالحة لجمعها ،ولو شئنا
عظامه ؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نُ َ
لبعثناه أزيد مما كان ،فتجعل بنانه -وهي أطراف أصابعه -مستوية .وهذا معنى قول ابن قتيبة
،والزجاج.
وقوله َ { :بلْ يُرِيدُ النْسَانُ لِ َيفْجُرَ َأمَامَهُ } قال سعيد ،عن ابن عباس :يعني يمضي قدما.
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :لِ َيفْجُرَ َأمَامَهُ } يعني :المل ،يقول النسان :أعمل ثم أتوب
قبل يوم القيامة ،ويقال :هو الكفر بالحق بين يدي القيامة.
وقال مجاهد { لِ َيفْجُرَ َأمَامَهُ } ليمضي أمامه راكبا رأسه .وقال الحسن :ل يلقى ابن آدم إل تنزع
نفسه إلى معصية ال قدما قدما ،إل من عصمه ال.
ورُوي عن عكرِمة ،وسعيد بن جُبَير ،والضحاك ،والسدي ،وغير واحد من السلف :هو الذي
ب ويُسوّف التوبة.
يَعجَل الذنو َ
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس :هو الكافر يكذب بيوم الحساب .وكذا قال ابن زيد ،
وهذا هو الظهر من المراد ؛ ولهذا قال بعده { َيسَْألُ أَيّانَ َيوْمُ ا ْلقِيَامَةِ } ؟ أي :يقول متى يكون
يوم
__________
( )1تفسير الطبري (.)29/109
( )2تفسير الطبري (.)29/109
( )3في أ " :أن نحوله".
( )8/276
القيامة ؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه ،وتكذيب لوجوده ،كما قال تعالى { :وَ َيقُولُونَ مَتَى
هَذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ُقلْ َلكُمْ مِيعَادُ َي ْو ٍم ل َتسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَ ًة وَل تَسْ َتقْ ِدمُونَ } [ سبأ :
.] 30 ، 29
وقال تعالى ها هنا { :فَِإذَا بَرِقَ الْ َبصَرُ } قال أبو عمرو بن العلء { :بَرِقَ } بكسر الراء ،أي :
حار .وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى { :ل يَرْتَدّ إِلَ ْي ِهمْ طَ ْر ُفهُمْ } [ إبراهيم ، ] 43 :بل ينظرون
من الفزع هكذا وهكذا ،ل يستقر لهم بصر على شيء ؛ من شدة الرعب.
وقرأ آخرون " :بَ َرقَ" بالفتح ،وهو قريب في المعنى من الول .والمقصود أن البصار تنبهر يوم
القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الهوال ،ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من المور.
سفَ ا ْلقَمَرُ } أي :ذهب ضوءه.
خَوقوله { :وَ َ
شمْسُ
س وَا ْل َقمَرُ } قال مجاهد ُ :كوّرا .وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الية { :إِذَا ال ّ
شمْ ُ
ج ِمعَ ال ّ
{ وَ ُ
ت وَإِذَا النّجُومُ ا ْن َكدَ َرتْ } [ التكوير ] 2 ، 1 :ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ " :وجُمع بين
ُكوّرَ ْ
الشمس والقمر".
وقوله َ { :يقُولُ النْسَانُ َي ْومَئِذٍ أَيْنَ ا ْل َمفَرّ } أي :إذا عاين ابنُ آدم هذه الهوال يوم القيامة ،حينئذ
يريد أن يفر ويقول :أين المفر ؟ أي :هل من ملجأ أو موئل ؟ قال ال تعالى { :كَل ل وَزَرَ
إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ } قال ابن مسعود ،وابن عباس ،وسعيد بن جُبَير ،وغير واحد من
السلف :أي ل نجاة.
وهذه كقوله { :مَا َل ُكمْ مِنْ مَلْجَإٍ َي ْومَئِذٍ َومَا َل ُكمْ مِنْ َنكِيرٍ } [ الشورى ] 47 :أي :ليس لكم مكان
تتنكرون فيه ،وكذا قال هاهنا { ل وَزَرَ } أي :ليس لكم مكان تعتصمون فيه ؛ ولهذا قال { :إِلَى
رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ } أي :المرجع والمصير.
ثم قال تعالى { :يُنَبّأُ النْسَانُ َي ْومَئِذٍ ِبمَا قَدّ َم وَأَخّرَ } أي :يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ،
عمِلُوا حَاضِرًا وَل َيظْلِمُ رَ ّبكَ
جدُوا مَا َ
أولها وآخرها ،صغيرها وكبيرها ،كما قال تعالى { :وَوَ َ
حدًا } [ الكهف ] 49 :وهكذا قال هاهنا َ { :بلِ النْسَانُ عَلَى َنفْسِهِ َبصِي َر ٌة وََلوْ َأ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ }
أَ َ
أي :هو شهيد على نفسه ،عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ،كما قال تعالى { :اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا } [ السراء .] 14 :
بِ َنفْ ِ
وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس َ { :بلِ النْسَانُ عَلَى َنفْسِهِ َبصِي َرةٌ } يقول :سمعُه
وبصرُه ويداه ورجله وجوارحُه.
وقال قتادة :شاهد على نفسه .وفي رواية قال :إذا شئت -وال -رأيته بصيرا بعيوب الناس
وذنوبهم غافل عن ذنوبه ،وكان يقال :إن في النجيل مكتوبا :يا ابن آدم ،تُبصر القَذَاة في
عين أخيك ،وتترك الجِذْل ( )1في عينك ل تبصره.
__________
( )1في م " :وتترك الجذع".
( )8/277
ج ْمعَ ُه َوقُرْآَ َنهُ ( )17فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّ ِبعْ قُرْآَنَهُ ( )18ثُمّ
جلَ بِهِ ( )16إِنّ عَلَيْنَا َ
لَا تُحَ ّركْ ِبهِ لِسَا َنكَ لِ َت ْع َ
إِنّ عَلَيْنَا بَيَا َنهُ ()19
وقال مجاهد { :وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } ولو جادل عنها فهو بصير عليها .وقال قتادة { :وََلوْ أَ ْلقَى
َمعَاذِي َرهُ } ولو اعتذر يومئذ بباطل ل يقبل منه .وقال السدي { :وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } حجته .وكذا
قال ابن زيد ،والحسن البصري ،وغيرهم .واختاره ابن جرير.
وقال قتادة ،عن زرارة ،عن ابن عباس { :وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } يقول :لو ألقى ثيابه.
وقال الضحاك :ولو أرخى ستوره ،وأهل اليمن يسمون الستر :المعذار.
والصحيح قول مجاهد وأصحابه ،كقوله ُ { :ثمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ إِل أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا
حِلفُونَ لَهُ َكمَا َيحِْلفُونَ َل ُك ْم وَيَحْسَبُونَ
جمِيعًا فَيَ ْ
مُشْ ِركِينَ } [ النعام ] 23 :وكقوله { َي ْومَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
شيْءٍ أَل إِ ّن ُهمْ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ } [ المجادلة .] 18 :
أَ ّنهُمْ عَلَى َ
وقال العوفي ،عن ابن عباس { :وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } هي العتذار ( )1ألم تسمع أنه قال { :ل
يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُت ُهمْ } [ غافر ] 52 :وقال { وَأَ ْلقَوْا إِلَى اللّهِ َي ْومَئِذٍ السَّلمَ } [ النحل ] 87 :
{ فَأَ ْل َقوُا السَّلمَ مَا كُنّا َن ْع َملُ مِنْ سُوءٍ } [ النحل ] 28 :وقولهم { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ }
ج ْمعَ ُه َوقُرْآ َنهُ ( )17فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّ ِبعْ قُرْآنَهُ ( )18ثُمّ
جلَ بِهِ ( )16إِنّ عَلَيْنَا َ
{ ل ُتحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ
إِنّ عَلَيْنَا بَيَا َنهُ (} )19
__________
( )1في أ " :هي العذار".
( )8/278
جلَةَ ( )20وَتَذَرُونَ الْآَخِ َرةَ ( )21وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ ( )22إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ (
كَلّا َبلْ تُحِبّونَ ا ْلعَا ِ
َ )23ووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ ( )24تَظُنّ أَنْ ُي ْفعَلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ ()25
{ كَل َبلْ ُتحِبّونَ ا ْلعَاجِلَةَ ( )20وَتَذَرُونَ الخِ َرةَ ( )21وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ ( )22إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ (
َ )23ووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ ( )24تَظُنّ أَنْ ُي ْفعَلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ (} )25
هذا تعليم من ال عز وجل لرسوله صلى ال عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ،فإنه
كان يبادر إلى أخذه ،ويسابق الملك في قراءته ،فأمره ال عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن
يستمع له ،وتكفل له أن يجمعه في صدره ،وأن ييسره لدائه على الوجه الذي ألقاه إليه ،وأن
يبينه له ويفسره ويوضحه .فالحالة ( )1الولى جمعه في صدره ،والثانية تلوته ،والثالثة تفسيره
جلَ ِبهِ } أي :بالقرآن ،كما قال { :وَل
وإيضاح معناه ؛ ولهذا قال { :ل تُحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ
ك وَحْ ُي ُه َو ُقلْ َربّ ِزدْنِي عِ ْلمًا } [ طه .] 114 :
جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ ُي ْقضَى إِلَ ْي َ
َتعْ َ
ج ْمعَهُ } أي :في صدرك َ { ،وقُرْآنَهُ } أي :أن تقرأه { ،فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي :
ثم قال { :إِنّ عَلَيْنَا َ
إذا تله عليك الملك عن ال عز وجل { ،فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ } أي :فاستمع له ،ثم اقرأه كما أقرأك ،
{ ُثمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَا َنهُ } أي :بعد حفظه وتلوته نبينه لك ونوضحه ،ونلهمك معناه على ما أردنا
وشرعنا.
عوَانة ،عن موسى بن أبي عائشة ،عن سعيد
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرحمن ،عن أبي َ
بن جُبَير ،عن ابن عباس قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ،
فكان يحرك شفتيه -قال :فقال لي ابن عباس :أنا أحرك شفتي ( )2كما كان رسول ال صلى
ال عليه وسلم يحرك شفتيه .وقال
__________
( )1في م " :فالحال".
( )2في أ " :أنا أحركهما".
( )8/278
لي سيعد :وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه -فأنزل ال عز وجل { ل ُتحَ ّركْ
ج ْمعَهُ َوقُرْآنَهُ } قال :جمعه في صدرك ،ثم تقرأه { ،فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
جلَ بِهِ إِنّ عَلَيْنَا َ
بِهِ ِلسَا َنكَ لِ َتعْ َ
فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ } فاستمع له وأنصت { ،ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما
أقرأه)1( .
وقد رواه البخاري ومسلم ،من غير وجه ،عن موسى بن أبي عائشة ،به ( )2ولفظ البخاري :
فكان إذا أتاه جبريل أطرق ،فإذا ذهب قرأه كما وعده ال عز وجل (.)3
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو سعيد الشج ،حدثنا أبو يحيى التيمي ،حدثنا موسى بن أبي
عائشة ،عن سعيد بن جُبَير ،عن ابن عباس قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا أنزل
عليه الوحي يلقى منه شدة ،وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه ،يتلقى أوله ويحرك به
جلَ ِبهِ }
شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره ،فأنزل ال { :ل تُحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ
وهكذا قال الشعبي ،والحسن البصري ،وقتادة ،ومجاهد ،والضحاك ،وغير واحد :إن هذه
الية نزلت في ذلك.
جلَ بِهِ } قال :
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي ،عن ابن عباس { :ل ُتحَ ّركْ بِهِ ِلسَا َنكَ لِ َتعْ َ
جلَ ِبهِ إِنّ عَلَيْنَا } أن
كان ل يفتر من القراءة مخافة أن ينساه ،فقال ال { :ل تُحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ
نجمعه لك { َوقُرْآنَهُ } أن نقرئك فل تنسى.
وقال ابن عباس وعطية العوفي ُ { :ثمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَا َنهُ } تبيين حلله وحرامه .وكذا قال قتادة.
وقوله { :كَل َبلْ تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَ َة وَتَذَرُونَ الخِ َرةَ } أي :إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة
ومخالفة ما أنزله ال عز وجل على رسوله صلى ال عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم
:إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة ،وهم لهون متشاغلون عن الخرة.
ثم قال تعالى ُ { :وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ } من النضارة ،أي حسنة َبهِيّة مشرقة مسرورة { ،إِلَى
رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ } أي :تراه عيانا ،كما رواه البخاري ،رحمه ال ،في صحيحه " :إنكم سترون
ربكم عَيَانا" )4( .وقد ثبتت رؤية المؤمنين ل عز وجل في الدار الخرة في الحاديث الصحاح ،
من طرق متواترة عند أئمة الحديث ،ل يمكن دفعها ول منعها ؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة -
وما في الصحيحين : -أن ناسا قالوا :يا رسول ال ،هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال " :هل
ُتضَارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب ؟" قالوا :ل .قال " :فإنكم تَرَون ربكم
كذلك" )5( .وفي الصحيحين عن جرير قال :نظر رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى القمر ليلة
البدر فقال " :إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر ،فإن استطعتم أل تُغلَبوا على صلة قبل
طلوع الشمس ول قبل
__________
( )1المسند (.)1/343
( )2صحيح البخاري برقم ( ، )4928 ، 4927وصحيح مسلم برقم (.)448
( )3صحيح البخاري برقم (.)4929
( )4صحيح البخاري برقم ( )485 ، 573 ، 554من حديث جرير رضي ال عنه.
( )5صحيح البخاري برقم ( ، )7438 ، 7437وصحيح مسلم برقم (.)182
( )8/279
غروبها فافعلوا" ( )1وفي الصحيحين عن أبي موسى قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"جَنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ،وجنتان من ِفضّة آنيتهما وما فيهما ،وما بين القوم وبين أن
ينظروا إلى ال إل رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" )2( .وفي أفراد مسلم ،عن صهيب ،
عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إذا دخل أهلُ الجنة الجنة" قال " :يقول ال تعالى :تريدون
شيئا أزيدكم ؟ فيقولون :ألم تُبَيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟" قال " :فيكشف
الحجاب ،فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ،وهي الزيادة" .ثم تل هذه الية :
{ لِلّذِينَ َأحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ } [ يونس )3( .] 26 :
وفي أفراد مسلم ،عن جابر في حديثه " :إن ال يَتَجلّى للمؤمنين يضحك" ( - )4يعني في
عرصات القيامة -ففي هذه الحاديث أن المؤمنين ينظرون ( )5إلى ربهم عز وجل في
العرصات ،وفي روضات الجنات.
وقال المام أحمد :حدثنا أبو معاوية ،حدثنا عبد الملك بن أبجر ،حدثنا ُثوَير ( )6بن أبي
فاختة ،عن ابن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أدنى أهل الجنة منزلة
لينظر في ملكه ألفي سنة ،يرى أقصاه كما يرى أدناه ،ينظر إلى أزواجه وخدمه .وإن أفضلهم
منزلة لينظر إلى وجه ال كل يوم مرتين")7( .
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ،عن شَبابة ،عن إسرائيل ،عن ُثوَير قال " :سمعت ابن
عمر ."..فذكره ،قال " :ورواه عبد الملك بن أبجر ،عن ُثوَير ،عن مجاهد ،عن ابن عمر ،
قوله" .وكذلك رواه الثوري ،عن ُثوَير ،عن مجاهد ،عن ابن عمر ،لم يرفعه ( )8ولول خشية
الطالة لوردنا الحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ،ولكن ذكرنا
ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير ،وبال التوفيق ( .)9وهذا بحمد ال مجمع عليه بين
الصحابة والتابعين وسلف هذه المة ،كما هو متفق عليه بين أئمة السلم .وهُدَاة النام.
ومن تأول ذلك بأن المراد بـ { إِلَى } مفرد اللء ،وهي النعم ،كما قال الثوري ،عن
منصور ،عن مجاهد { :إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ } فقال تنتظر الثواب من ربها .رواه ابن جرير من
غير وجه عن مجاهد .وكذا قال أبو صالح أيضا -فقد أبعد هذا القائل ( )10النجعة ،وأبطل فيما
ذهب إليه .وأين هو من قوله تعالى { :كَل إِ ّن ُهمْ عَنْ رَ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ َل َمحْجُوبُونَ } ؟[ المطففين :
، ] 15قال الشافعي ،رحمه ال :ما حَجَب الفجار إل وقد عَلم أن البرار يرونه عز وجل .ثم
قد تواترت الخبار عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بما دل عليه سياق الية الكريمة ،وهي
قوله { :إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ } قال ابن جرير :
__________
( )1صحيح البخاري برقم ( ، )7436 ، 7434وصحيح مسلم برقم (.)633
( )2صحيح البخاري برقم ( ، )7444وصحيح مسلم برقم (.)180
( )3صحيح مسلم برقم (.)181
( )4صحيح مسلم برقم (.)191
( )5في م " :ينظروا".
( )6في م ،أ " :حدثنا يزيد.
( )7المسند (.)2/13
( )8سنن الترمذي برقم (.)3330
( )9وانظر :كتاب النهاية في الفتن والملحم للحافظ ابن كثير ( )2/300فقد أطال قي ذكر
أحاديث الرؤية.
( )10في م " :الناظر".
( )8/280
كَلّا إِذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيَ (َ )26وقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( )27وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ ( )28وَالْ َتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ (
ب وَ َتوَلّى (ُ )32ثمّ َذ َهبَ ِإلَى
ق وَلَا صَلّى ( )31وََلكِنْ كَ ّذ َ
)29إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمَسَاقُ ( )30فَلَا صَدّ َ
سدًى (
سبُ الْإِ ْنسَانُ أَنْ يُتْ َركَ ُ
أَهْلِهِ يَ َتمَطّى (َ )33أوْلَى َلكَ فََأوْلَى ( )34ثُمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى ( )35أَ َيحْ َ
ج َعلَ مِنْهُ ال ّز ْوجَيْنِ ال ّذكَرَ
سوّى ( )38فَ َ
طفَةً مِنْ مَ ِنيّ ُيمْنَى (ُ )37ثمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ
)36أَلَمْ َيكُ نُ ْ
وَالْأُنْثَى ( )39أَلَ ْيسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى ()40
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ،حدثنا آدم ،حدثنا المبارك عن الحسن { :وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ
حقّ لها أن تَنضُر وهي
نَاضِ َرةٌ } قال :حسنة { ،إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ } قال تنظر إلى الخالق ،و ُ
تنظر إلى الخالق (.)1
وقوله { :وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ } هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة .قال قتادة :كالحة.
وقال السدي :تغير ألوانها .وقال ابن زيد { بَاسِ َرةٌ } أي :عابسة.
{ َتظُنّ } أي :تستيقن { ،أَنْ ُيفْ َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ } قال مجاهد :داهية .وقال قتادة :شر .وقال السدي
:تستيقن أنها هالكة .وقال ابن زيد :تظن أن ستدخل النار.
سوَ ّد وُجُوهٌ } [ أل عمران ] 106 :وكقوله { وُجُوهٌ
ض وُجُو ٌه وَتَ ْ
وهذا المقام كقوله َ { :يوْمَ تَبْ َي ّ
حكَةٌ مُسْتَ ْبشِ َر ٌة َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ } [
سفِ َرةٌ ضَا ِ
َي ْومَئِذٍ مُ ْ
شعَةٌ عَامَِلةٌ نَاصِبَةٌ َتصْلَى نَارًا حَامِيَةً } إلى قوله { :
عبس ] 42 - 38 :وكقوله { وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ خَا ِ
سعْ ِيهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنّةٍ عَالِ َيةٍ } [ الغاشية ] 10 - 2 :في أشباه ذلك من
عمَةٌ لِ َ
وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَا ِ
اليات والسياقات.
{ كَل ِإذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيَ (َ )26وقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( )27وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ ( )28وَالْ َت ّفتِ السّاقُ بِالسّاقِ (
)29إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمَسَاقُ ( )30فَل صَدّقَ وَل صَلّى ( )31وََلكِنْ كَ ّذبَ وَتَوَلّى ( )32ثُمّ ذَ َهبَ
سبُ النْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ
إِلَى أَهْلِهِ يَ َتمَطّى (َ )33أوْلَى َلكَ فََأوْلَى ( )34ثُمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى ( )35أَ َيحْ َ
ج َعلَ مِ ْنهُ ال ّزوْجَيْنِ
سوّى (َ )38ف َ
طفَةً مِنْ مَنِيّ ُيمْنَى ( )37ثُمّ كَانَ عََلقَةً َفخَلَقَ فَ َ
سُدًى ( )36أََلمْ َيكُ ُن ْ
ال ّذكَ َر وَالنْثَى ( )39أَلَ ْيسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى (} )40
يخبر تعالى عن حالة الحتضار وما عنده من الهوال -ثبتنا ال هنالك بالقول الثابت -فقال
تعالى { :كَل إِذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيَ } إن جعلنا { كَل } رداعة فمعناها :لست يا ابن آدم تكذب هناك
بما أخبرت به ،بل صار ذلك عندك عيانا .وإن جعلناها بمعنى(حقا) فظاهر ،أي :حقا إذا بلغت
التراقي ،أي :انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ،والتراقي :جمع ترقوة ،وهي العظام
التي بين ثغرة النحر والعاتق ،كقوله { :فََلوْل إِذَا بََل َغتِ ا ْلحُ ْلقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَ ِئذٍ تَ ْنظُرُونَ وَ َنحْنُ َأقْ َربُ
جعُونَهَا إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } [ الواقعة
إِلَيْهِ مِ ْنكُمْ وََلكِنْ ل تُ ْبصِرُونَ فََلوْل ( )2إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَ ْر ِ
.] 87 - 83 :وهكذا قال هاهنا { :كَل ِإذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيَ } ويذكر هاهنا حديث بُسْر بن جِحاش
الذي تقدم في سورة "يس" ( .)3والتراقي :جمع ترقوة ،وهي قريبة من الحلقوم.
__________
( )1تفسير الطبري (.)29/119
( )2في أ " :كل" وهو خطأ.
( )3حديث بسر بن جحاش ،رواه المام أحمد في المسند ( )4/310من طريق جبير بن نفير ،
عن بسر بن جحاش :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بصق يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه
ثم قال " :قال ال تعالى :ابن آدم أني تعجزني وقد خلقتك مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ،
مشيت بين برديك وللرض منك وئيد ،فجمعت ومنعت ،حتى إذا بلغت التراقي قلت :أتصدق
وأنى أوان الصدقة ؟!" وقد سبق عند تفسير الية 77 :من سورة يس.
( )8/281
{ َوقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قال :عكرمة ،عن ابن عباس :أي من راق يرقى ؟ وكذا قال أبو قلبة :
{ َوقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي :من طبيب شاف .وكذا قال قتادة ،والضحاك ،وابن زيد.
وقال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ،حدثنا نصر بن علي ،حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء
الكلبي ،حدثنا عمرو بن مالك ،عن أبي الجوزاء ،عن ابن عباس َ { :وقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قال :قيل
:من يرقى بروحه :ملئكة الرحمة أم ملئكة العذاب ؟ فعلى هذا يكون من كلم الملئكة.
وبهذا السناد ،عن ابن عباس في قوله { :وَالْ َتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ } قال :التفت عليه الدنيا
والخرة .وكذا قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { :وَالْ َت ّفتِ السّاقُ بِالسّاقِ } يقول :آخر
يوم في الدنيا ،وأول يوم من أيام الخرة ،فتلتقي الشدة بالشدة إل من رحم ال.
وقال عكرمة { :وَالْ َتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ } المر العظيم بالمر العظيم .وقال مجاهد :بلء ببلء.
وقال الحسن البصري في قوله { :وَالْ َتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ } هما ساقاك إذا التفتا ( .)1وفي رواية
عنه :ماتت رجله فلم تحمله ،وقد كان عليها جوال .وكذا قال السدي ،عن أبي مالك.
وفي رواية عن الحسن :هو لفهما في الكفن.
وقال الضحاك { :وَالْ َت ّفتِ السّاقُ بِالسّاقِ } اجتمع عليه أمران :الناس يجهزون جسده ،والملئكة
يجهزون روحه.
وقوله { :إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْل َمسَاقُ } أي :المرجع والمآب ،وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات ،
فيقول ال عز وجل :ردوا عبدي إلى الرض ،فإني منها خلقتهم ،وفيها أعيدهم ،ومنها
أخرجهم تارة أخرى .كما ورد في حديث البراء الطويل .وقد قال ال تعالى { :وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ ل ُيفَرّطُونَ ُثمّ رُدّوا إِلَى
حفَظَةً حَتّى إِذَا جَاءَ أَ َ
سلُ عَلَ ْيكُمْ َ
عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ
حكْ ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ ا ْلحَاسِبِينَ } [ النعام .] 62 ، 61 :
حقّ أَل لَهُ ا ْل ُ
اللّهِ َموْلهُمُ الْ َ
ب وَ َتوَلّى } هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا
ق وَل صَلّى وََلكِنْ كَ ّذ َ
وقوله { :فَل صَدّ َ
مكذبا للحق بقلبه ،متوليا عن العمل بقالبه ،فل خير فيه باطنا ول ظاهرا ،ولهذا قال { :فَل
صَدّقَ وَل صَلّى وََلكِنْ َك ّذبَ وَ َتوَلّى ثُمّ ذَ َهبَ إِلَى أَهْلِهِ يَ َت َمطّى } أي :جَذل ( .)2أشرا بَطرا كسلنا
،ل همة له ول عمل ،كما قال { :وَإِذَا ا ْنقَلَبُوا إِلَى أَهِْل ِهمُ ا ْنقَلَبُوا َف ِكهِينَ } [المطففين .]34 :وقال
{ إِنّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ َمسْرُورًا إِنّهُ ظَنّ أَنْ لَنْ َيحُورَ } أي :يرجع { بَلَى إِنّ رَبّهُ كَانَ ِبهِ َبصِيرًا }
[النشقاق .]15 - 13 :
وقال الضحاك :عن ابن عباس { :ثُمّ ذَ َهبَ إِلَى أَهِْلهِ يَ َتمَطّى } [أي] ( .)3يختال .وقال قتادة ،
وزيد بن أسلم :يتبختر.
قال ال تعالى َ { :أوْلَى َلكَ فََأوْلَى ثُمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به
المتبختر في مشيته ،أي :يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ،كما يقال
__________
( )1في أ " :إذا التقيا".
( )2في م " :أي جزلن".
( )3زيادة من م.
( )8/282
في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله { :ذُقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ } [الدخان .]49 :و
كقوله { :كُلُوا وَ َتمَ ّتعُوا قَلِيل إِ ّنكُمْ مُجْ ِرمُونَ } [المرسلت ، ]46 :وكقوله { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ
عمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت .]40 :إلى غير ذلك.
دُونِهِ } [الزمر ، ]15 :وكقوله { ا ْ
وقد قال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ،حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي -
عن إسرائيل ،عن موسى بن أبي عائشة قال :سألت سعيد بن جبير قلت َ { :أوْلَى َلكَ فََأوْلَى ُثمّ
َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } ؟ قال :قاله النبي صلى ال عليه وسلم لبي جهل ،ثم نزل به القرآن.
وقال أبو عبد الرحمن النسائي :حدثنا إبراهيم بن يعقوب ( .)1حدثنا أبو النعمان ،حدثنا أبو
عوَانة ( -ح) وحدثنا أبو داود :حدثنا محمد بن سليمان ( .)2حدثنا أبو عوانة -عن موسى بن
َ
أبي عائشة ،عن سعيد بن جبير قال :قلت لبن عباس َ { :أوْلَى َلكَ فََأوْلَى ثُمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } ؟
قال :قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم ( )3ثم أنزله ال عز وجل (.)4
قال ابن أبي حاتم :وحدثنا أبي ،حدثنا هشام بن خالد ،حدثنا شعيب عن إسحاق ،حدثنا سعيد ،
عن قتادة ،قوله َ { :أوْلَى َلكَ فََأوْلَى ُثمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } وعيد على أثر وعيد ،كما تسمعون ،
وزعموا أن عدو ال أبا جهل أخذ نَبيّ ال بمجامع ثيابه ،ثم قال " :أولى لك فأولى ثم أولى لك
فأولى" .فقال عدو ال أبو جهل :أتوعدني يا محمد ؟ وال ل تستطيع أنت ول ربك شيئا ،وإني
لعز من مشى بين جبليها.
سبُ النْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى } قال السدي :يعني :ل يبعث.
وقوله { :أَ َيحْ َ
وقال مجاهد ،والشافعي ،وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم :يعني ل يؤمر ول ينهى.
والظاهر أن الية تعم الحالين ،أي :ليس يترك في هذه الدنيا مهمل ل يؤمر ول ينهى ،ول
يترك في قبره سدى ل يبعث ،بل هو مأمور منهي في الدنيا ،محشور إلى ال في الدار الخرة.
والمقصود هنا إثبات المعاد ،والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ( ، )5ولهذا قال
مستدل على العادة بالبداءة فقال.
طفَةً مِنْ مَنِيّ ُيمْنَى } ؟ أي :أما كان النسان نطفة ضعيفة من ماء مهين ،يمنى يراق
{ أََلمْ َيكُ ُن ْ
شكّل
سوّى } أي :فصار علقة ،ثم مضغة ،ثم ُ
من الصلب في الرحام { .ثُمّ كَانَ عََلقَةً َفخَلَقَ فَ َ
ونفخ فيه الروح ،فصار خلقا آخر سَويًا سليم العضاء ،ذكرا أو أنثى بإذن ال وتقديره ؛ ولهذا
ج َعلَ مِنْهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَرَ وَالنْثَى }
قال َ { :ف َ
ثم قال { :أَلَيْسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } أي :أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من
هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه ؟ وتناولُ القدرة للعادة إما بطريق الولى
بالنسبة إلى البداءة ،وإما مساوية على القولين في قوله { :وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدأُ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ
أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ } [الروم .]27 :
__________
( )1في م ،أ ،هـ " :يعقوب بن إبراهيم" والمثبت من سنن النسائي الكبري (.)11638
( )2في م " :عن ابن سليمان".
( )3في م " :قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم لبي جهل".
( )4سنن النسائي الكبري برقم (.)11638
( )5في أ " :والفساد".
( )8/283
والول أشهر كما تقدم في سورة "الروم" بيانه وتقريره ،وال أعلم.
قال ابن أبي حاتم :حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ،حدثنا شبابة ،عن شعبة ،عن موسى بن
أبي عائشة ،عن آخر :أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ،فإذا قرأ { :أَلَيْسَ ذَِلكَ
ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } ؟ قال :سبحانك اللهم فبلى .فسئل عن ذلك فقال :سمعت رسول
ال صلى ال عليه وسلم يقول ذلك .وقال أبو داود ،رحمه ال :حدثنا محمد بن المثنى ،حدثنا
محمد بن جعفر ،حدثنا شعبة ،عن موسى بن أبي عائشة قال :كان رجل يصلي فوق بيته ،
فكان إذا قرأ { :أَلَ ْيسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } ؟ قال ( )1سبحانك ،فبلى ،فسألوه عن
ذلك فقال :سمعته من رسول ال صلى ال عليه وسلم.
تفرد به أبو داود ( )2ولم يسم هذا الصحابي ،ول يضر ذلك.
وقال أبو داود أيضا :حدثنا عبد ال بن محمد الزهري ،حدثنا سفيان ،حدثني إسماعيل بن أمية
:سمعت أعرابيا يقول :سمعت أبا هُرَيرة يقول :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من قرأ
حكَمِ الْحَا ِكمِينَ } ؟ فليقل :بلى ،وأنا على
منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها { :أَلَ ْيسَ اللّهُ بِأَ ْ
ذلك من الشاهدين .ومن قرأ { :ل ُأقْسِمُ بِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ } فانتهى إلى { :أَلَيْسَ َذِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ
حدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ } ؟
يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } ؟ فليقل :بلى .ومن قرأ { :وَا ْلمُرْسَلت } فبلغ { فَبَِأيّ َ
فليقل :آمنا بال".
ورواه أحمد ،عن سفيان بن عيينة .ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ،عن سفيان بن عيينة (
.)3وقد رواه شعبة ،عن إسماعيل بن أمية قال :قلت له :من حدثك ؟ قال رجل صدق ،عن
أبي هريرة ()4
وقال ابن جرير :حدثنا بشر ،حدثنا يزيد ،حدثنا سعيد ،عن قتادة ،قوله { :أَلَيْسَ ذَِلكَ ِبقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } ُذكِر لنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا قرأها قال " :سبحانك
وبلى" (.)5
قال ابن أبي حاتم :حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ،حدثنا أبو أحمد الزبيري ،حدثنا سفيان ،عن
أبي إسحاق ،عن مسلم البطين ،عن سعيد بن جُبَير ،عن ابن عباس أنه مر بهذه الية { :أَلَيْسَ
ذَِلكَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } ؟ ،قال :سبحانك ؛ فبلى.
آخر تفسير سورة "القيامة" ول الحمد والمنة
__________
( )1في م " :فقال".
( )2سنن أبي داود برقم ( ، )884ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (.)2/310
( )3سنن أبي داود برقم ( ، )887والمسند ( ، )2/249وسنن الترمذي برقم ( .)3347وقد جاء
تسمية هذا العرابي في رواية الحاكم ،فرواه في المستدرك ( )2/510من طريق يزيد بن عياض
،عن إسماعيل بن أمية ،عن أبي اليسع ،عن أبي هريرة بنحوه وقال " :هذا حديث صحيح
السناد ولم يخرجاه" .قلت :يزيد بن عياض كذاب.
( )4انظر :تحفة الشراف للمزي ( ، )11/105وقد ذكر له متابعات أخرى.
( )5تفسير الطبري (.)29/125
( )8/284
طفَةٍ َأمْشَاجٍ
َهلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَمْ َيكُنْ شَيْئًا مَ ْذكُورًا ( )1إِنّا خََلقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ ُن ْ
سمِيعًا َبصِيرًا ( )2إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ ِإمّا شَاكِرًا وَِإمّا َكفُورًا ()3
جعَلْنَاهُ َ
نَبْتَلِيهِ َف َ
( )8/285
جعَلْنَاهُ
عمَل } [ الملك { .] 2 :فَ َ
وقوله { :نَبْتَلِيهِ } أي :نختبره ،كقوله { :لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ
سمِيعًا َبصِيرًا } أي :جعلنا له سمعا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
َ
وقوله { :إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ } أي :بيناه له ووضحناه وبصرناه به ،كقوله { :وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ
جدَيْنِ } [ البلد ، ] 10 :
فَاسْتَحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْلهُدَى } [ فصلت ، ] 17 :وكقوله { :وَ َهدَيْنَاهُ النّ ْ
أي :بينا له طريق الخير وطريق الشر .وهذا قول عكرمة ،وعطية ،وابن زيد ،ومجاهد -في
المشهور عنه -والجمهور.
ورُوي عن مجاهد ،وأبي صالح ،والضحاك ،والسدي أنهم قالوا في قوله { :إِنّا َهدَيْنَاهُ السّبِيلَ }
يعني خروجه من الرحم .وهذا قول غريب ،والصحيح المشهور الول.
وقوله ِ { :إمّا شَاكِرًا وَِإمّا َكفُورًا } منصوب على الحال من "الهاء" في قوله { :إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ }
تقديره :فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ،كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم ،عن أبي مالك
الشعري قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كل الناس َيغْدو ،فبائع نفسه فموبقها أو
ُمعْتقها" ( .)1وتقدم في سورة "الروم" عند قوله { :فِطْ َرةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا } [ الروم :
] 30من رواية جابر بن عبد ال قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كل مولود يولد
على الفطرة حتى يُعربَ عنه لسانه ،فإذا أعرب عنه لسانه ،فإما شاكرًا وإما كفورًا".
وقال المام أحمد :حدثنا أبو عامر ،حدثنا عبد ال بن جعفر ،عن عثمان بن محمد ،عن
المقبري ،عن أبي هُرَيرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ما من خارج يخرج إل ببابه
حبّ الُ اتبعَه المَلَك برايته ،فلم يزل
رايتان :رايةٌ بيد مَلَك ،وراية بيد شَيطان ،فإن خرج لما يُ ِ
تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته .وإن خرج لما يُسخط ال اتبعه الشيطان برايته ،فلم يزل
تحت راية الشيطان ،حتى يرجع إلى بيته" (.)2
وقال المام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا َم ْعمَر ،عن ابن خُثَيم ،عن عبد الرحمن بن
سابط ،عن جابر بن عبد ال :أن النبي صلى ال عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة " :أعاذك ال
من إمارة السفهاء" .قال :وما إمارة السفهاء ؟ قال " :أمراء يكونون من بعدي ،ل يهتدون بهداي
صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ،فأولئك ليسوا مني ولست منهم ،
،ول يستَنّونَ بسنتي ،فمن َ
ول يَردُون على حوضي .ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم ُيعِنهم على ظلمهم ،فأولئك مني وأنا
منهم ،وسيردون على حوضي .يا كعب بن عُجرَة ،الصوم جنة ،والصدقة تطفئ الخطيئة ،
والصلة قربان -أو قال :برهان -يا كعبَ بنَ عجرَة ،إنه ل يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت ،
النار أولى به .يا كعب ،الناس غَاديان ،فمبتاعُ نفسَه فمعتقها ،وبائع نفسه فموبقها".
عفّان ،عن وُهَيب ( ، )3عن عبد ال بن عثمان بن خثيم ،به (.)4
ورواه عن َ
__________
( )1صحيح مسلم برقم (.)223
( )2المسند (.)2/323
( )3في أ " :عن وهب".
( )4المسند (.)3/321
( )8/286
جهَا كَافُورًا (
سعِيرًا ( )4إِنّ الْأَبْرَارَ َيشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَا ُ
ل وَأَغْلَالًا وَ َ
سَإِنّا أَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ سَلَا ِ
)5
جهَا
سعِيرًا ( )4إِنّ البْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَا ُ
{ إِنّا أَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ سَلسِل وَأَغْلل وَ َ
كَافُورًا (} )5
( )8/287
عَيْنًا يَشْ َربُ ِبهَا عِبَادُ اللّهِ ُيفَجّرُو َنهَا َتفْجِيرًا ( )6يُوفُونَ بِالنّذْ ِر وَيَخَافُونَ َي ْومًا كَانَ شَ ّرهُ مُسْ َتطِيرًا (
جهِ اللّهِ لَا نُرِيدُ مِ ْنكُمْ
ط ِع ُمكُمْ ِلوَ ْ
سكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( )8إِ ّنمَا ُن ْ
طعَامَ عَلَى حُبّهِ مِ ْ
ط ِعمُونَ ال ّ
)7وَيُ ْ
شكُورًا ( )9إِنّا نَخَافُ مِنْ رَبّنَا َي ْومًا عَبُوسًا َقمْطَرِيرًا (َ )10ف َوقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَِلكَ الْ َيوْمِ
جَزَا ًء وَلَا ُ
وَلَقّا ُهمْ َنضْ َرةً وَسُرُورًا ( )11وَجَزَاهُمْ ِبمَا صَبَرُوا جَنّ ًة وَحَرِيرًا ()12
{ عَيْنًا َيشْ َربُ ِبهَا عِبَادُ اللّهِ ُيفَجّرُو َنهَا َتفْجِيرًا ( )6يُوفُونَ بِالنّذْ ِر وَ َيخَافُونَ َي ْومًا كَانَ شَ ّرهُ ُمسْتَطِيرًا
جهِ اللّهِ ل نُرِيدُ مِ ْنكُمْ
ط ِع ُمكُمْ ِلوَ ْ
سكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( )8إِ ّنمَا ُن ْ
طعَامَ عَلَى حُبّهِ مِ ْ
ط ِعمُونَ ال ّ
( )7وَيُ ْ
شكُورًا ( )9إِنّا َنخَافُ مِنْ رَبّنَا َي ْومًا عَبُوسًا َق ْمطَرِيرًا (َ )10ف َوقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَِلكَ الْ َيوْمِ
جَزَا ًء وَل ُ
وَلَقّا ُهمْ َنضْ َرةً وَسُرُورًا ( )11وَجَزَاهُمْ ِبمَا صَبَرُوا جَنّ ًة وَحَرِيرًا (} )12
يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلسل والغلل والسعير ،وهو اللهب
حمِيمِ ثُمّ فِي
سلُ ُيسْحَبُونَ فِي الْ َ
والحريق في نار جهنم ،كما قال { :إِذِ الغْللُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَالسّل ِ
سجَرُونَ } [غافر .]72 ، 71 :
النّارِ يُ ْ
ولما ذكر ما أعده ( )1لهؤلء الشقياء من السعير قال بعده { :إِنّ البْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
جهَا كَافُورًا } وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة ،مع ما يضاف إلى ذلك من
مِزَا ُ
اللذاذة في الجنة.
قال الحسن :برد الكافور في طيب الزنجبيل ؛ ولهذا قال { :عَيْنًا َيشْ َربُ ِبهَا عِبَادُ اللّهِ ُيفَجّرُو َنهَا
َتفْجِيرًا } أي :هذا الذي مُزج لهؤلء البرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد
ال صرفا بل مزج ويَ ْروَوْنَ بها ؛ ولهذا ضمن يشرَب "يروى" حتى عداه بالباء ،ونصب { عَيْنًا }
على التمييز.
قال بعضهم :هذا الشراب ( )2في طيبه كالكافور .وقال بعضهم :هو من عين كافور .وقال
بعضهم :يجوز أن يكون منصوبًا بـ { يَشْ َربُ } حكى هذه القوال الثلثة ابنُ جرير.
وقوله ُ { :يفَجّرُو َنهَا َتفْجِيرًا } أي :يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا ،من قصورهم
ودورهم ومجالسهم ومحالهم.
والتفجير هو النباع ،كما قال تعالى َ { :وقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ ال ْرضِ يَنْبُوعًا }
[السراء .]90 :وقال َ { :وفَجّرْنَا خِلَل ُهمَا َنهَرًا } [الكهف .]33 :
وقال مجاهد ُ { :يفَجّرُو َنهَا َتفْجِيرًا } يقودونها حيث شاؤوا ،وكذا قال عكرمة ،وقتادة .وقال
الثوري :يصرفونها حيث شاؤوا.
وقوله { :يُوفُونَ بِالنّذْ ِر وَيَخَافُونَ َي ْومًا كَانَ شَ ّرهُ مُسْ َتطِيرًا } أي :يتعبدون ل فيما أوجبه عليهم
من [فعل] ( )3الطاعات الواجبة بأصل الشرع ،وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.
__________
( )1في أ " :أعده ال".
( )2في م " :الطعام".
( )3زيادة من م ،أ.
( )8/287
قال المام مالك ،عن طلحة بن عبد الملك اليلي ،عن القاسم بن مالك ،عن عائشة ،رضي ال
عنها ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من نذر أن يطيع ال فليطعه ،ومن نذر أن
يَعصي ال فل يَعصِه" ،رواه البخاري من حديث مالك (.)1
ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد ،وهو اليوم الذي شره
حمَ ال.
مستطير ،أي :منتشر عام على الناس إل من رَ ِ
قال ابن عباس :فاشيًا .وقال قتادة :استطار -وال -شرّ ذلك اليوم حتى مَل السماوات
والرض.
قال ابن جرير :ومنه قولهم :استطار الصدع في الزجاجة واستطال .ومنه قول العشى :
صدْعًا ،على نَأيها مُستَطيرًا ()2
فَبَا َنتْ َوقَد أسْأرت في الفُؤا ...د َ
يعني :ممتدا فاشيا.
طعَامَ عَلَى حُبّهِ } قيل :على حب ال تعالى .وجعلوا الضمير عائدًا إلى ال
ط ِعمُونَ ال ّ
وقوله { :وَيُ ْ
عز وجل لدللة السياق عليه .والظهر أن الضمير عائد على الطعام ،أي :ويطعمون الطعام في
حال محبتهم وشهوتهم له ،قاله مجاهد ،ومقاتل ،واختاره ابن جرير ،كقوله تعالى { :وَآتَى
ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ } [ البقرة ، ] 177 :وكقوله تعالى { :لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْنفِقُوا ِممّا تُحِبّونَ }
[ آل عمران .] 92 :
وروى البيهقي ،من طريق العمش ،عن نافع قال :مرض ابن عمر فاشتهى عنبا -أول ما
جاء العنب -فأرسلت صفية -يعني امرأته -فاشترت عنقودًا بدرهم ،فاتبع الرسولَ السائل ،
فلما دخل به قال السائل :السائل .فقال ابن عمر :أعطوه إياه .فأعطوه إياه .ثم أرسلت بدرهم
آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ ،فلما دخل قال السائل :السائل .فقال ابن عمر :
ت ل تصيبُ منه خيرًا
أعطوه إياه .فأعطوه إياه .فأرسلت صفية إلى السائل فقالت :وال إن عُد َ
أبدًا .ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به (.)3
وفي الصحيح " :أفضل الصدقة أن َتصَ ّدقَ وأنت صحيح ،شحيح ،تأمل الغنى ،وتخشى الفقر" (
ط ِعمُونَ
)4أي :في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ؛ ولهذا قال تعالى { :وَيُ ْ
سكِينًا وَيَتِيمًا وََأسِيرًا } أما المسكين واليتيم ،فقد تقدم بيانهما وصفتهما .وأما
طعَامَ عَلَى حُبّهِ مِ ْ
ال ّ
السير :فقال سعيد بن جبير ،والحسن ،والضحاك :السير :من أهل القبلة .وقال ابن عباس :
كان أسراؤهم يومئذ مشركين .ويشهد لهذا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر أصحابه يوم
بدر أن يكرموا السارى ،فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ،وهكذا قال سعيد بن جبير ،
وعطاء ،والحس ،وقتادة.
__________
( )1صحيح البخاري برقم (.)6700 ، 6696
( )2تفسير الطبري (.)29/129
( )3السنن الكبرى للبيهقي (.)4/185
( )4صحيح مسلم برقم ( )1032من حديث أبي هريرة رضي ال عنه.
( )8/288
وقد وصى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالحسان إلى الرقاء في غير ما حديث ،حتى إنه
كان آخر ما أوصى أن جعل يقول " :الصلةَ وما ملكت أيمانكم" (.)1
وقال عكرمة :هم العبيد -واختاره ابن جرير -لعموم الية للمسلم والمشرك.
قال مجاهد :هو المحبوس ،أي :يطعمون لهؤلء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه ،قائلين بلسان
شكُورًا
ط ِع ُمكُمْ ِلوَجْهِ اللّهِ } أي :رجاءَ ثواب ال ورضاه { ل نُرِيدُ مِ ْنكُمْ جَزَا ًء وَل ُ
الحال { :إِ ّنمَا نُ ْ
} أي :ل نطلب منكم مجازاة تكافئونا بها ول أن تشكرونا عند الناس.
قال مجاهد وسعيد بن جبير :أما وال ما قالوه بألسنتهم ،ولكن علم ال به من قلوبهم ،فأثنى
عليهم به ليرغب في ذلك راغب.
{ إِنّا نَخَافُ مِنْ رَبّنَا َي ْومًا عَبُوسًا َقمْطَرِيرًا } أي :إنما نفعل هذا لعل ال أن يرحمنا ويتلقانا
بلطفه ،في اليوم العبوس القمطرير.
قال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس { عَبُوسًا } ضيقا َ { ،قمْطَرِيرًا } طويل.
وقال عكرمة وغيره ،عنه ،في قوله َ { :ي ْومًا عَبُوسًا َقمْطَرِيرًا } أي :يعبس الكافر يومئذ حتى
يسيل من بين عينيه عَرَق مثل القَطرَان.
وقال مجاهد { :عَبُوسًا } العابس الشفتين َ { ،قمْطَرِيرًا } قال :تقبيض الوَجه بالبُسُور.
وقال سعيد بن جبير ،وقتادة :تعبس فيه الوجوه من الهول َ { ،قمْطَرِيرًا } تقليص الجبين وما بين
العينين ،من الهول.
وقال ابن زيد :العبوس :الشر .والقمطرير :الشديد.
وأوضح العبارات وأجلها وأحلها ،وأعلها وأولها -قولُ ابن عباس ،رضي ال عنه.
عصِيب
قال ابن جرير :والقمطرير هو :الشديد ؛ يقال :هو يوم قمطرير ويوم قُماطِر ،ويوم َ
عصَبْصَب ،وقد اقمطرّ اليومُ يقمطرّ اقمطرارا ،وذلك أشد اليام وأطولها في البلء والشدة ،
وَ
ومنه قول بعضهم :
علَيكم إذَا ما كانَ يومُ ُقمَاطرُ ()2
عمّنا ،هل تَذكُرونَ بَلءنَا ?َ ...
بنَي َ
قال ال تعالى َ { :ف َوقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَِلكَ الْ َيوْ ِم وََلقّاهُمْ َنضْ َر ًة وَسُرُورًا } وهذا من باب التجانس البليغ
َ { ،ف َوقَا ُهمُ اللّهُ شَرّ ذَِلكَ الْ َيوْمِ } أي :آمنهم مما خافوا منه { ،وََلقّاهُمْ َنضْ َرةً } أي :في
وجوههم { ،وَسُرُورًا } أي :في قلوبهم .قاله الحسن البصري ،وقتادة ،وأبو العالية ،والربيع
حكَةٌ مُسْتَبْشِ َرةٌ } [ عبس .] 39 ، 38 :
سفِ َرةٌ ضَا ِ
بن أنس .وهذه كقوله تعالى { :وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ مُ ْ
وذلك أن القلب إذا سُرّ استنار الوجه ،قال كعب بن مالك في حديثه الطويل :وكان رسول ال
صلى ال عليه وسلم
__________
( )1رواه أحمد في المسند ( )1/78من حديث على رضي ال عنه.
( )2البيت في تفسير الطبري ( )29/131غير منسوب.
( )8/289
ظلَاُلهَا وَذُلَّلتْ
علَ ْيهِمْ ِ
شمْسًا وَلَا َز ْمهَرِيرًا ( )13وَدَانِيَةً َ
علَى الْأَرَا ِئكِ لَا يَ َروْنَ فِيهَا َ
مُ ّتكِئِينَ فِيهَا َ
قُطُو ُفهَا تَذْلِيلًا ( )14وَيُطَافُ عَلَ ْي ِهمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ ِفضّ ٍة وََأ ْكوَابٍ كَا َنتْ َقوَارِيرَ (َ )15قوَارِيرَ مِنْ ِفضّةٍ
سمّى سَ ْلسَبِيلًا ()18
جهَا زَ ْنجَبِيلًا ( )17عَيْنًا فِيهَا تُ َ
س َقوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَا ُ
قَدّرُوهَا َتقْدِيرًا ( )16وَيُ ْ
وَيَطُوفُ عَلَ ْي ِه ْم وِلْدَانٌ ُمخَلّدُونَ إِذَا رَأَيْ َتهُمْ حَسِبْ َتهُمْ ُلؤُْلؤًا مَنْثُورًا ( )19وَإِذَا رَأَ ْيتَ َثمّ رَأَ ْيتَ َنعِيمًا
سقَا ُهمْ رَ ّبهُمْ شَرَابًا
ق وَحُلّوا أَسَاوِرَ مِنْ ِفضّ ٍة وَ َ
خضْ ٌر وَإِسْتَبْ َر ٌ
َومُ ْلكًا كَبِيرًا ( )20عَالِ َي ُهمْ ثِيَابُ سُنْ ُدسٍ ُ
شكُورًا ()22
سعْ ُيكُمْ مَ ْ
طهُورًا ( )21إِنّ َهذَا كَانَ َلكُمْ جَزَاءً َوكَانَ َ
َ
( )8/290
{ وَدَانِ َيةً عَلَ ْيهِمْ ظِلُلهَا } أي :قريبة إليهم أغصانها { ،وَذُلَّلتْ ُقطُو ُفهَا َتذْلِيل } أي :متى تعاطاه
طفُ إليه وتدلى من أعلى غصنه ،كأنه سامع طائع ،كما قال تعالى في الية الخرى :
دنا الق ْ
{ وَجَنَى ا ْلجَنّتَيْنِ دَانٍ } [الرحمن ]54 :وقال تعالى { ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة ]23 :
قال ( )1مجاهد { :وَذُلَّلتْ قُطُو ُفهَا تَذْلِيل } إن قام ارتفعت بقَدْره ،وإن قعد َتدَّلتْ ( )2له حتى
ينالها ،وإن اضطجع تَ َدلّت ( )3له حتى ينالها ،فذلك قوله { :تَ ْذلِيل }
ك ول بُعدُ.
وقال قتادة :ل يرد أيديهم عنها شو ٌ
وقال مجاهد :أرض الجنة من وَرق ،وترابها المسك ،وأصول شجرها من ذهب وفضة ،
وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت ،والوَرَق والثمر بين ذلك .فمن أكل منها قائما لم
يؤذه ،ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه ،ومن أكل منها مضطجعًا لم يؤذه.
خدَم بأواني الطعام ،وهي
وقوله { :وَيُطَافُ عَلَ ْيهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ ِفضّ ٍة وََأ ْكوَابٍ } أي :يطوف عليهم ال َ
من فضة ،وأكواب الشراب وهي الكيزان التي ل عرى لها ول خراطيم.
وقوله (َ { : )4قوَارِيرَ َقوَارِيرَ مِنْ ِفضّةٍ } فالول منصوب بخبر "كان" أي :كانت قوارير.
والثاني منصوب إما على البدلية ( )5أو تمييز ؛ لنه بينه بقوله َ { :قوَارِيرَ مِنْ ِفضّةٍ }
قال ابن عباس ،ومجاهد ،والحسن البصري ،وغير واحد :بياض الفضة في صفاء الزجاج ،
والقوارير ل تكون إل من زجاج .فهذه الكواب هي من فضة ،وهي مع هذا شفافة يرى ما في
باطنها من ظاهرها ،وهذا مما ل نظير له في الدنيا.
قال ابن المبارك ،عن إسماعيل ،عن رجل ،عن ابن عباس :ليس في الجنة شيء إل قد
أعطيتم في الدنيا شبهه إل قوارير من فضة .رواه ابن أبي حاتم.
وقوله َ { :قدّرُوهَا َتقْدِيرًا } أي :على قدر ريّهم ،ل تزيد عنه ول تنقص ،بل هي ُمعَدّة لذلك ،
مقدرة بحسب ريّ صاحبها .هذا معنى قول ابن عباس ،ومجاهد ،وسعيد بن جبير ،وأبي صالح
،وقتادة ،وابن أبزى ،وعبد ال بن عُبَيد ال بن عمير ،وقتادة ،والشعبي ،وابن زيد .وقاله
ابن جرير وغير واحد .وهذا أبلغ في العتناء والشرف والكرامة.
وقال العَوفي ،عن ابن عباس { :قَدّرُوهَا َتقْدِيرًا } قدرت للكف .وهكذا قال الربيع بن أنس .وقال
الضحاك :على قدر أ ُكفّ الخُدّام .وهذا ل ينافي القول الول ،فإنها مقدرة في القَدْر والرّي.
جهَا زَ ْنجَبِيل } ( )6أي :ويسقون -يعني البرار أيضا -
س َقوْنَ فِيهَا كَ ْأسًا كَانَ مِزَا ُ
وقوله { :وَيُ ْ
جهَا زَنْجَبِيل } فتارة يُمزَج لهم الشراب
في هذه الكواب { كَأْسًا } أي :خمرًا { ،كَانَ مِزَا ُ
بالكافور
__________
( )1في م " :وقال".
( )2في أ " :تذللت".
( )3في أ " :تذللت".
( )4في م ،أ " :وهذه".
( )5في أ " :على البداية".
( )6في أ " :كان مزاجه" وهو خطأ.
( )8/291
وهو بارد ،وتارة بالزنجبيل وهو حار ،ليعتدل المر ،وهؤلء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا
تارة .وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صِ ْرفًا ،كما قاله قتادة وغير واحد .وقد تقدم
سمّى سَلْسَبِيل } أي :الزنجبيل
قوله { :عَيْنًا يَشْ َربُ ِبهَا عِبَادُ اللّهِ } وقال هاهنا { :عَيْنًا فِيهَا تُ َ
عين في الجنة تسمى سلسبيل.
قال عكرمة :اسم عين في الجنة .وقال مجاهد :سميت بذلك لسلسة سيلها وحِدّة جَريها.
سمّى سَلْسَبِيل } عين سَِلسَة مُس َتقِيد ( )1ماؤها.
وقال قتادة { :عَيْنًا فِيهَا ُت َ
وحكى ابنُ جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلستها في الحَلْق .واختار هو أنها َت ُعمّ ذلك
كلّه ،وهو كما قال.
علَ ْيهِ ْم وِلْدَانٌ ُمخَلّدُونَ ِإذَا رَأَيْ َتهُمْ حَسِبْ َتهُمْ ُلؤُْلؤًا مَنْثُورًا } أي :يطوف
وقوله تعالى { :وَيَطُوفُ َ
على أهل الجنة للخ ْدمَة ولدانٌ من ولدان الجنة { مُخَلّدُونَ } أي :على حالة واحدة مخلدون عليها ،
ل يتغيرون عنها ،ل تزيد أعمارهم عن تلك السن .ومن فسرهم بأنهم ُمخَ ّرصُونَ في آذانهم
القرطة ،فإنما عبر عن المعنى بذلك ؛ لن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير.
وقوله ِ { :إذَا رَأَيْ َتهُمْ حَسِبْ َت ُهمْ ُلؤُْلؤًا مَنْثُورًا } أي :إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة
،وكثرتهم ،وصباحة وجوههم ،وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ،حسبتهم لؤلؤا منثورا .ول
يكون في التشبيه أحسن من هذا ،ول في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
قال قتاده ،عن أبي أيوب ،عن عبد ال بن عمرو :ما من أهل الجنة من أحد إل يسعى عليه
ألف خادم ،كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.
وقوله { :وَإِذَا رَأَ ْيتَ } أي :وإذا رأيت يا محمد َ { ،ثمّ } أي :هناك ( ، )2يعني في الجنة
سعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور { ،رَأَ ْيتَ َنعِيمًا َومُ ْلكًا كَبِيرًا } أي :
ونعيمها و َ
مملكةً ل هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا.
وثبت في الصحيح أن ال تعالى يقول لخر أهل النار خروجا منها ،وآخر أهل الجنة دخول إليها
:إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها.
وقد قَدّمنا ( )3في الحديث المَرويّ من طريق ُثوَير بن أبي فاختة ،عن ابن عمر قال :قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي ()4
سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه" .فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لدنى من يكون في الجنة ،
فما ظنك بما هو أعلى منزلة ،وأحظى عنده تعالى.
وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال :حدثنا علي بن عبد العزيز ،حدثنا محمد بن
__________
( )1في أ " :مستعذب".
( )2في أ " :أي هنالك".
( )3عند تفسير الية 23 :من سورة "القيامة".
( )4في أ " :مسيرة ألف".
( )8/292
عمار الموصلي ،حدثنا عفيف ( )1بن سالم ،عن أيوب بن عتبة ،عن عطاء ،عن ابن عمر
قال :جاء رجل من الحبشة إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم :فقال له رسول ال " :سل
واستفهم" .فقال :يا رسول ال ُ ،فضّلْتُم علينا بالصور واللوان والنبوة ،أفرأيتَ إن آمنتُ بما
آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به ،إني لكائن معكَ في الجنة ؟ قال " :نعم ،والذي نفسي بيده ،
إنه لَيُرَى بياض السود في الجنة من مسيرة ألف عام" .ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من قال :ل إله إل ال ،كان له بها عَهدٌ عند ال ،ومن قال :سبحان ال وبحمده ،كتب له مائة
ألف حسنة ،وأربعة وعشرون ألف حسنة" .فقال رجل :كيف نهلك بعد هذا يا رسول ال ؟ فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو ُوضِعَ على جبل لثقله ،
فتقوم النعمة -أو :نعَم ال -فتكاد تستنفذ ذلك كله ،إل أن يَ َت َغمّده ال برحمته" .ونزلت هذه
السورة َ { :هلْ أَتَى عَلَى النْسَانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ } إلى قوله َ { :ومُلْكًا كَبِيرًا } فقال الحبشي :وإن
عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال " :نعم" .فاستبكى حتى فاضت نفسه .قال ابن عمر :
فلقد رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده (.)2
خضْ ٌر وَإِسْتَبْ َرقٌ } أي :لباس أهل الجنة فيها الحرير ،ومنه سندس
وقوله { :عَالِ َي ُهمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ ُ
،وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ،والستبرق منه ما فيه بريق ولمعان ،
وهو مما يلي الظاهر ،كما هو المعهود في اللباس (َ { )3وحُلّوا أَسَاوِرَ مِنْ ِفضّةٍ } وهذه صفة
سهُمْ فِيهَا
ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ
حّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِنْ ذَ َه ٍ
البرار ،وأما المقربون فكما قال { :يُ َ
حَرِيرٌ } [الحج ]23 :
طهُورًا } أي
سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ شَرَابًا َ
ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال ( )4بعده { :وَ َ
:طهر بواطنهم من الحَسَد والحقد والغل والذى وسائر الخلق الرّديّة ،كما روينا عن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال :إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجَدوا هنالك عينين
فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [فأذهب ال] ( )5ما في بطونهم من أذى ،ثم اغتسلوا من
الخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم.
شكُورًا } أي :يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا
سعْ ُيكُمْ مَ ْ
وقوله { :إِنّ هَذَا كَانَ َل ُكمْ جَزَا ًء َوكَانَ َ
إليهم كقوله { :كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا أَسَْلفْتُمْ فِي اليّامِ ا ْلخَالِيَةِ } [الحاقة ]24 :وكقوله { :وَنُودُوا
أَنْ تِ ْلكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } [العراف ]43 :
شكُورًا } أي :جزاكم ال على القليل بالكثير.
سعْ ُيكُمْ َم ْ
وقوله َ { :وكَانَ َ
حكْمِ رَ ّبكَ وَل ُتطِعْ مِ ْنهُمْ آ ِثمًا َأوْ كَفُورًا ()24
علَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ تَنزيل ( )23فَاصْبِرْ لِ ُ
{ إِنّا نَحْنُ نزلْنَا َ
سمَ رَ ّبكَ ُبكْ َر ًة وََأصِيل (} )25
وَا ْذكُرِ ا ْ
__________
( )1في م ،أ ،هـ " :حدثنا عقبة" والمثبت من المعجم الوسط للطبراني.
( )2المعجم الوسط برقم (" )4774مجمع البحرين" ،وقال " :ل يروى عن ابن عمر إل بهذا
السناد ،تفرد به عفيف".
( )3في أ " :في الملبس".
( )4في أ " :فقال".
( )5مكانها في هـ ،كلمة غير واضحة ،والمثبت من م ،أ.
( )8/293
طوِيلًا ( )26إِنّ َهؤُلَاءِ ُيحِبّونَ ا ْلعَاجِلَ َة وَ َيذَرُونَ وَرَا َءهُمْ َي ْومًا َثقِيلًا
جدْ لَ ُه وَسَبّحْهُ لَ ْيلًا َ
َومِنَ اللّ ْيلِ فَاسْ ُ
شدَدْنَا َأسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدّلْنَا َأمْثَاَلهُمْ تَبْدِيلًا ( )28إِنّ هَ ِذهِ َت ْذكِ َرةٌ َفمَنْ شَاءَ اتّخَذَ
( )27نَحْنُ خََلقْنَاهُ ْم وَ َ
خلُ مَنْ يَشَاءُ
حكِيمًا (ُ )30يدْ ِ
إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا (َ )29ومَا َتشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ
حمَتِ ِه وَالظّاِلمِينَ أَعَدّ َل ُهمْ عَذَابًا أَلِيمًا ()31
فِي َر ْ
( )8/293
يقول تعالى ممتنًا على رسوله صلى ال عليه وسلم بما نزله عليه من القرآن العظيم تنزيل
حكْمِ رَ ّبكَ } أي :كما أكرم ُتكَ بما أنزلتُ عليك ،فاصبر على قضائه وقَدَره ،واعلم أنه
{ فَاصْبِرْ ِل ُ
سَيُدَبرك بحسن تدبيره { ،وَل ُتطِعْ مِ ْنهُمْ آ ِثمًا َأوْ كَفُورًا } أي :ل تطع الكافرين والمنافقين إن
أرادوا صَدّك عما أنزل إليك ( )1بل بَلّغ ما أنزل إليك من ربك ،وتوكل على ال ؛ فإن ال
يعصمك من الناس .فالثم هو الفاجر في أفعاله ،والكفور هو الكافر بقلبه.
{ وَا ْذكُرِ اسْمَ رَ ّبكَ ُبكْ َر ًة وََأصِيل } أي :أولَ النهار وآخره.
طوِيل } كقوله َ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافَِلةً َلكَ عَسَى أَنْ
حهُ لَيْل َ
سجُدْ َل ُه وَسَبّ ْ
{ َومِنَ اللّ ْيلِ فَا ْ
صفَهُ َأوِ
حمُودًا } [السراء ]79 :وكقوله { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ قُمِ اللّ ْيلَ إِل قَلِيل ِن ْ
يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ مَقَامًا مَ ْ
ا ْن ُقصْ مِنْهُ قَلِيل َأوْ زِدْ عَلَ ْي ِه وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيل } [المزمل .]4 - 1 :
حبّ الدنيا والقبال عليها والنصباب إليها ،وترك
ثم قال :منكرًا على الكفار ومن أشبههم في ُ
ن وَرَاءَ ُهمْ َي ْومًا َثقِيل } يعني :
الدار الخرة وراء ظهورهم { :إِنّ َهؤُلءِ يُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَ َة وَيَذَرُو َ
يوم القيامة.
شدَدْنَا َأسْرَهُمْ } قال ابن عباس ،ومجاهد ،وغير واحد :يعني خَ ْلقَهم{ .
ثم قال { :نَحْنُ خََلقْنَاهُ ْم وَ َ
وَإِذَا شِئْنَا بَدّلْنَا َأمْثَاَل ُهمْ تَبْدِيل } أي :وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة ،وبَدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا.
وهذا استدلل بالبداءة على الرجعة.
وقال ابن زيد ،وابن جرير { :وَإِذَا شِئْنَا َبدّلْنَا َأمْثَاَلهُمْ تَ ْبدِيل } [أي] ( : )2وإذا شئنا أتينا بقوم
س وَيَ ْأتِ بِآخَرِينَ َوكَانَ اللّهُ عَلَى ذَِلكَ ( )3قَدِيرًا
آخرين غيرهم ،كقوله { :إِنْ َيشَأْ يُذْهِ ْب ُكمْ أَ ّيهَا النّا ُ
} [النساء ]133 :وكقوله { :إِنْ يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ بِخَ ْلقٍ جَدِيدٍ َومَا ذَِلكَ عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ } [إبراهيم
، 20 ، 19 :وفاطر .]17 ، 16
ثم قال تعالى { :إِنّ هَ ِذهِ } يعنى :هذه السورة { َت ْذكِ َرةٌ َفمَنْ شَاءَ اتّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيل } أي طريقا
ومسلكا ،أي :من شاء اهتدى بالقرآن ،كقوله َ { :ومَاذَا عَلَ ْيهِمْ َلوْ آمَنُوا بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ
وَأَنْ َفقُوا ِممّا رَ َز َقهُمُ اللّ ُه َوكَانَ اللّهُ ِبهِمْ عَلِيمًا } [النساء .]39 :
__________
( )1في أ " :عليك".
( )2زيادة من م.
( )3في أ " :وكان ال على كل شيء" وهو خطأ.
( )8/294
ثم قال َ { :ومَا َتشَاءُونَ إِل أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } أي :ل يقدر أحد أن يَهدي نفسه ،ول يدخل في
حكِيمًا } أي :عليم بمن
اليمان ( )1ول يجر لنفسه نفعًا { ،إِل أَنْ يَشَاءَ اللّهُ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ
يستحق الهداية فَيُيَسّرها له ،ويقيض له أسبابها ،ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى ،وله
حكِيمًا }
الحكمة البالغة ،والحجة الدامغة ؛ ولهذا قال تعالى { :إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا َ
عذَابًا أَلِيمًا } أي :يهدي من يشاء ويضل
عدّ َلهُمْ َ
حمَ ِت ِه وَالظّاِلمِينَ أَ َ
خلُ مَنْ َيشَاءُ فِي رَ ْ
ثم قال { :يُ ْد ِ
من يشاء ،ومن يهده فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له.
[آخر سورة "النسان"] ([ )2وال أعلم] ()3
__________
( )1في م " :في إيمان"
( )2زيادة من م ،أ.
( )3زيادة من أ.
( )8/295
صفًا ( )2وَالنّاشِرَاتِ َنشْرًا ( )3فَا ْلفَا ِرقَاتِ فَ ْرقًا ( )4فَا ْلمُ ْلقِيَاتِ
ع ْ
صفَاتِ َ
وَا ْلمُرْسَلَاتِ عُ ْرفًا ( )1فَا ْلعَا ِ
جتْ (
سمَاءُ فُرِ َ
ستْ ( )8وَإِذَا ال ّ
طمِ َ
ِذكْرًا ( )5عُذْرًا َأوْ ُنذْرًا ( )6إِ ّنمَا تُوعَدُونَ َلوَاقِعٌ ( )7فَإِذَا النّجُومُ ُ
سلُ ُأقّ َتتْ ( )11لَِأيّ َيوْمٍ أُجَّلتْ ( )12لِ َيوْمِ ا ْل َفصْلِ (َ )13ومَا
سفَتْ ( )10وَإِذَا الرّ ُ
)9وَإِذَا الْجِبَالُ ُن ِ
صلِ ( )14وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ ِل ْل ُمكَذّبِينَ ()15
أَدْرَاكَ مَا َيوْمُ ا ْلفَ ْ