Professional Documents
Culture Documents
ويرى الناس ذاك المترف فيتمنون ما عنده ليتمتعوا بهذه النعم كما يتمتع ويتنعم هو بها ،ول
يدرون حقيقتها ،فإذا تبين لهم قالوا كما قال قوم قارون " وأصبح الذين تمنوا مكانه بالمس
يقولون ويكأن ال يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لول أن من ال علينا لخسف بنا
ويكأنه ل يفلح الكافرون "
ومن هنا تكمن خطورة النظر إلى المور بسطحية ،وعدم التدبر في الحقائق ،ومن هنا دعونا
نتأمل هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعاتنا السلمية والتي أودت بكثير من شبابنا ،أل وهي "
الترف " وفق منظور إسلمي سلفي صحيح ،لنبصر خطورة جعل " الرخاء والرفاهية "
مقصدًا للشعوب كما يدندن من ل يؤمن بال ول باليوم الخر ،وكيف ضاع كثير من شباب
المة ورجالها تحت بريق هذا الهدف المنشود ،ودعونا نفهم عن ال قضية " الفقر والغنى " ،
ونتعلم كيف نعيش كما يريد ال ل كما نريد نحن أو يُراد لنا ،ونتعلم كيف نستثمر أموالنا
وكيف ننفقها .
إخوتاه ..
ما المقصود بالترف وما حده ؟
أصحاب اللغة يقولون أنّ :
ط َرتْه النعمةُ وسَعة
الترَفُ :هو ال ّتنَعّمُ ،و ال ُم ْت َرفٌ من كان ُم َنعّمَ البدنِ مُ َدلّلً ،وهو :الذي قد َأبْ َ
ط َغتْه ،وهو :الـ ُم َتنَعّ ُم الـ ُم َتوَسّعُ في مَلذّ الدنيا وشَهواتِها.
العيْشِ .وَأ ْترَ َفتْه ال ّنعْمةُ أَي أَ ْ
يقول الراغب الصفهاني :الترف :التوسع في النعمة.
قال ال تعالى " :أترفناهم في الحياة الدنيا" [المؤمنون]33/
وقال تعالى " :واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه " [هود] 116/
وقال تعالى " :ارجعوا إلى ما أترفتم فيه " [النبياء]13/
وقال تعالى " :أخذنا مترفيهم بالعذاب" [المؤمنون] 64/
وهم الموصوفون بقوله سبحانه " :فأما النسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب
أكرمن وأمّا إذا ما ابتله فقدر عليه رزقه فيقول رب أهانن كل " [الفجر] 16-15/
فالمترف من توسع في التنعم بشهوات الدنيا وملذاتها ،ومن شأن ذلك أن يؤثر في شخصيته ،
فتراه مدلل ،يفارق الرجال في القوة والحتمال ،مخنث العزم ،مائع الرادة ،فالدنيا عنده
كأس وغانية ،نهم في طلب شهوات الدنيا ،يعيش لنفسه ،منطقه " اليوم خمر وغدًا أمر " ،
شعاره " عش الحياة اليوم فتمتع بكل ما فيها ووقت ال يدبرها ال "
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
وهذا الوصف تراه يغلب على شباب المة اليوم ،الذين ضاعوا أمام تيارات التغريب
والغزو الثقافي ،الذين نشأوا وسط عالم مادي بحت ،فالدين مغيّب ،والدين أفيون الشعوب ،
والدين مجموعة من الشعائر يؤديها المرء ـ إن شاء ـ في بيت العبادة ،فل علقة للدين
بالحياة ،والنسان مخلوق حر ،والحرية مكفولة لكل أحد ،فل غضاضة ول حرج إنْ سارت
النساء كاسيات عاريات ،ول شيء في أن يتشبه الرجال بالنساء ،ول مانع من الختلط ،
والزنا بالتراضي ل يدخل في حكم القاضي ،ومقصود النسان في هذه الحياة هو " الرخاء
والرفاهية " ومن أجلها توضع الخطط الحكومية ،فهي ضمان السعادة ،والمال هو السلح
القوى ،وقيمة المرء بما في جيبه ل ما يتقنه .
ولعلك تسمع كل يوم هذه الشعارات ،ويدندون حولها في جميع وسائل العلم ،حتى صدقها
الناس وصارت كالحقائق التي ل تقبل النقاش ،وكل من يخرج عن هذا الطار فهو متخلف
رجعي أصولي متطرف إرهابي ،يريد لنا أن نعيش بالطريقة التي لم نخترها ،يريد لنا أن
نعيش في الكهوف ونعود للعصور الوسطى … إلى آخر هذه الطنطنات التي يرددها من ل
يؤمن بال ول باليوم الخر ،من صارت الحياة همّه وشغله ،ونسي أنّ الحياة دار ابتلء ل دار
إخلد ،فهؤلء هم الذين أخلدوا إلى الرض واتبعوا أهواءهم ولم يفكروا فيما بعد الحياة ،لم
يؤمنوا بالخرة فلم يعملوا لها ،ولسان حالهم " ربنا آتنا في الدنيا وما له في الخرة من خلق "
شرَحَ بِا ْلكُ ْفرِ
،يريدون عرض الدنيا وال يريد الخرة ،وصفهم ال لنا فقال َ " :ولَـكِن مّن َ
خ َرةِ َوأَنّ
علَى ال ِ
حيَاةَ الْ ّد ْنيَا َ
حبّواْ الْ َ
ستَ َ
ضبٌ مّنَ اللّهِ َوَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ َذِلكَ بَِأ ّنهُمُ ا ْ
غ َ
صَ ْدرًا َف َعَل ْيهِمْ َ
س ْم ِعهِمْ َوَأبْصَارِهِمْ َوأُولَـ ِئكَ
علَى ُقلُو ِبهِمْ وَ َ
طبَعَ اللّهُ َ
اللّهَ لَ َيهْدِي الْ َقوْمَ ا ْلكَا ِفرِينَ أُولَـ ِئكَ الّذِينَ َ
خ َرةِ هُمُ الْخَاسِرونَ "
جرَمَ َأ ّنهُمْ فِي ال ِ
هُمُ ا ْلغَا ِفلُونَ لَ َ
فل تتبع من أغفلنا قلبه واتبع هواه وكان أمره فرطًا .
من مظاهر الترف في عصرنا الحالي
إخوتاه ..
حيَاةُ ال ّد ْنيَا إِلّ َل ِعبٌ
إلى هؤلء اللهين اللعبين المترفين أقول :قال ال تعالى " َومَا الْ َ
خ ْيرٌ ّللّذِينَ َيتّقُونَ أَفَلَ َتعْ ِقلُونَ "
خ َرةُ َ
َوَل ْهوٌ َولَلدّارُ ال ِ
فالترف مفسد أي مفسد ،إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا ،وللسف الشديد إنّ أكثر المة اليوم
يعيش ترفًا غريبًا عجيبًا دخيلً علينا .
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف ،ولو في بعض الشياء ،تجده ل يجد إل قوته
الضروري ،ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول ،ويشتري أفخر الثاث ،ويشتري
أحدث الجهزة ،ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة ،وهذا يقتطع من
قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك ،والقائمة طويلة تعرفونها جيدًا ،وإلى ال المشتكى .
ترف وللسف الشديد أمر يخجل ،فلجل ال يشح ويبخل ،ويقدم لك العتذارات لضيق الوقت
وضيق ذات اليد و … و… الخ لكن للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر .
إنه التنافس على الدنيا ،وكأنه لو لم يحصل هذه المور سيعيش في الضنك ،وسيبلغ به الحرج
المدى ،ول وال فما الزيادة في الدنيا إل زيادة في الخسران .
فالغني يصاب بالبطر والكبر ،ويصبح ماله نقمة عليه في الخرة فيصرخ يوم القيامة " :مَا
س ْبعُونَ
عهَا َ
سلَةٍ َذرْ ُ
سلْ ِ
صلّوهُ ثُمّ فِي ِ
سلْطَانِيهْ خُذُوهُ َف ُغلّوهُ ثُمّ الْجَحِي َم َ
عنّي ُ
عنّي مَالِيهْ َهَلكَ َ
غنَى َ
أَ ْ
سكِينِ َفَل ْيسَ لَهُ ا ْل َيوْمَ هَا ُهنَا
طعَامِ ا ْلمِ ْ
علَى َ
حضّ َ
سُلكُوهُ ِإنّهُ كَانَ لَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِيمِ َولَا يَ ُ
ِذرَاعًا فَا ْ
سلِينٍ لَا يَ ْأ ُكلُهُ ِإلّا الخاطئون " [ الحاقة ]37-28/
طعَامٌ ِإلّا مِنْ غِ ْ
حمِيمٌ َولَا َ
َ
والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد ،ناهيك عمّن يتكبر وهو معوز فيدخل في قول رسول ال
صلى ال عليه وسلم وآله وسلم " :ثلثة ل يكلمهم ال يوم القيامة ول يزكيهم ول ينظر إليهم
ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " .1
فرجل كبير السن يزني ،وملك يكذب على رعيته ول يحتاج لذلك فإذا كذب غش ،فهنا ـ
كما يقول العلماء ـ ضعف الداعي ،وتم الفعل ،فعظم الوزر ،وهذا عائل أي فقير وهو مع
طغَى أَن
هذا مستكبر ،فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف قال تعالى " :إِنّ الْإِنسَانَ َليَ ْ
س َت ْغنَى " [ العلق ] 7-6/لكن فقير يتكبر فلماذا ـ يا عبد ال ـ ؟ !! وكذلك فقير مترف
رّآهُ ا ْ
هذا شيء يبغضه ال تعالى .
الترف وإفساد البناء
إخوتاه ..
ول شك أنّ الترف أف سد أبناء نا ،فوجد نا في نا من يتفا خر يقول :أ نا ل أج عل اب ني في
احتياج إلى شيء أبدًا فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته .
أخرجه مسلم ( )107ك اليمان ،باب بيان غلظ تحريم إسبال الزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف 1
وبيان الثلثة الذين ل يكلمهم ال يوم القيامة ول ينظر إليهم ول يزكيهم ولهم عذاب أليم .
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده ،وأنا أعرف أنّ العاطفة لها دخل كبير في هذا ،بل من ل
يستطيع أن يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الولد والتي ل يستطيع أن يلبيها لهم ،
والحقيقة أنّ هذا ليس من التربية في شيء ،فأنت بذلك تفسد الولد ،إننا نفتقد الحكمة في التربية
،نفتقد التربية اليمانية الصحيحة لولدنا .
لماذا ل تر بي ولدك م نذ البدا ية على أن يتعلق بال ،فإذا طلب شيئًا مفيدًا ولم ت ستطع أن
تجيبه فقل له :هيا يا بني نصلي ركعتين وندعو ال فيهما ،فإنّ ال هو الرزاق ،وهو ربنا
المدبر لمور نا ،فإذا لم يمنح نا المال الذي أ ستطيع به أن آت يك ب ما تر يد ،فاعلم أنّ هذا ل يس
مفيدًا لنا الن ؛ لنّ ال صرفه عنّا .
فتعلمه قول النبي صلى ال عليه وسلم " :إذا سألت فاسأل ال ،وإذا استعنت فاستعن بال "، 2
وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولدك فينشأ الواحد منهم عبد شهواته ،كلما تاقت
نفسه إلى شيء طلبه فإنّه إن لم يجده سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .
إن لبنك حقًا أعظم من الدنيا ،وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار ،اللهم نجنا وأولدنا من
سكُمْ َوأَ ْهلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَا َرةُ
النار .قال ال تعالى " :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا قُوا أَنفُ َ
غلَاظٌ شِدَادٌ لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأ َمرَهُمْ َويَ ْف َعلُونَ مَا ُي ْؤ َمرُون " [التحريم ] 6 /
عَل ْيهَا َملَا ِئكَةٌ ِ
َ
إخوتاه ..
الجيل المنشود نحتاج فيه إلى صفات " الرجولة " ،والرجل الحق ل يعرف الترف .
أخرج المام أحمد في مسنده والبيهقي في سننه وحسنه اللباني في صحيح الجامع ()2668
عن معاذ بن جبل رضي ال عنه أنّ النبي صلى ال عليه وسلم قال " :إياك و التنعم فإن
عباد ال ليسوا بالمتنعمين " .
وهذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده ،وذلك لنّ التنعم بالمباح ـ وإن
كان جائزا ـ لكنه يوجب النس به ،ويُخشى من غائلته من نحو بطر وأشر ومداهنة وتجاوز
إلى مكروه ونحو ذلك ،والتنعم بالمباح خطر عظيم لنه يورث المرء ارتياحًا إلى الدنيا
وركونًا إليها ،ويبعد عن الخوف الذي هو جناح المؤمن .
وأخرج المام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم في المستدرك وصححه الشيخ اللباني في
ن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :
صحيح الجامع ( )2879عن أبي أمامة الحارثي أ ّ
البذاذة من اليمان "
أخرجه الترمذي ( )2516ك صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول ال . 2
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
و ( البذاذة ) رثاثة الهيئة ،وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثارا
للخمول بين الناس .
وقد جعلها النبي صلى ال عليه وسلم من أخلق أهل اليمان إن قصد به تواضعا وزهدا وكفا
للنفس عن الفخر والتكبر ،ل إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال ،وإل فليس من اليمان من
عرّض النعمة للكفران ،وأعرض عن شكر المنعم المنان ،فالحسن والقبح في أشباه هذا بحسب
قصد القائم بها إنما العمال بالنيات .
وكان عمر بن الخطاب يقول " :اخشوشنوا ،وتمعددوا ،وانزوا على الخيل نزوا ،واقطعوا
الركب وامشوا حفاة " .
معنى تمعددوا أي اقتدوا بمعد بن عدنان وتشبهوا به في عيشه بالتقشف والزموا خشونة اللباس،
ودعوا التنعم وزي العجم ،ويقال تمعدد الغلم إذا شب وغلظ ويشهد له ما في الحديث الخر:
ث على التواضع ونهيٌ عن الفراط في الترفه
عليكم باللبسة المع ّديّةِ ،وامشوا حفاة .فهو ح ٌ
والتنعم.
وإنّما كان يأمرهم بالتخشن في عيشهم لئل يتنعموا فيركنوا إلى خفض العيش ويميلوا إلى الدعة
فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم .
ولعل هذا هو حال المة وهي تواجه أعداءها المتربصين بها ،فكثير يؤثر الذل باسم " السلم "
لنّه ألف حياة الترف والرفاهية ،وعاد من اليسير على أمثال هؤلء التفريط في كل شيء من
أجل ضمان أن يعيش كما هو .فال المستعان على ما يعملون .
إخوتاه ..
والشدة هي التي تصنع الرجال ،وترويض النفوس يحتاج إلى زجرها وترغيبها على حد
سواء ،أمّا أن تعطيها كل شيء ،أو تلبي لولدك جميع طلباته فقد وكلته لنفسه ،فاللهم يا حي
يا قيوم برحمتك نستغيث ،اصلح لنا شاننا كله ،ول تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
فإنّه من المهم للغاية أن تتربى أجيالنا على تحمل المشاق ،وبذل الوسع في طلب الخرة ،وقد
قالت العرب قديما :وعند الصباح يحمد القوم السّري .3
السّرى :سير عامة الليل .وهو مثل يضرب في الرجل يحتمل المشقة من أجل الراحة . 3
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
بل كان من سلفنا الصالح من يعد الماء البارد من أعظم المنن التي إن لم يستوفَ شكرها فهي
ل تصلح لمثالهم فيهجرون الشرب من الماء البارد ،فنأمل ذلك وعليها فقس ،فبأي آلء ربكم
تكذبون يا معشر المسلمين اليوم .
إخوتاه ..
ومما تقدم نخلص إلى أنّ ترك الترفه مأمور به شرعًا ،وذلك لنه أنفى للكبر ،وأبعد
من العجب والزهو والخيلء والصلف وهي أمور ذمها الشرع ،ومن هنا كان ذلك من صفات
الحاج ،بل وصفة أهل القيامة فإنّهم غبر شعث عراة حفاة ،ومن ثمّ جعلها النبي صلى ال عليه
وسلم من اليمان وألحقها بشعبه ،فإن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم قال " :اليمان بضع
وسبعون شعبة أعلها ل إله إل اللّه وأدناها إماطة الذى عن الطريق " ول شك أن الزهو
والعجب والكبر أذى في طريق سعادة المؤمن ول يماط هذا الذى إل بالبذاذة وترك الترفه
فلذلك جعلها من اليمان .
قضية الغنى والفقر من منظور سلفي
إخوتاه ..
في هذا الصدد يحسن بنا أن نفقه عن ال تعالى قضية " الفقر والغنى " ونتساءل عن
ن الغنى شر كله ،وأن الفقر
المطلوب من أهل اليمان في عصرنا ،فهل معنى ما ذكرنا أ ّ
أصلح ،وعليه فالمقصود أن يكون المؤمن فقيرًا ؟!!
بطبيعة الحال ليس المر كذلك بل قد يكون الغني الشاكر أفضل عند ال من الفقير الصابر ؛
وقد أعطى ال نبييه داود وسليمان الملك والغنى ،وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنى
صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو من المبشرين العشرة بالجنة ،ناهيك عن ابن
المبارك وغيره من سلفنا الصالح .
وقد كتب ابن القيم ـ رحمه ال ـ جزءًا كبيرا في كتابه الماتع " عدة الصابرين وذخيرة
الشاكرين " ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة ،وبين كثر ة النزاع فيها بين الغنياء
والفقراء ،واحتجاج كل طائفة على الخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والثار
والعتبار ؛ وفصل الخطاب ما حكاه عن شيخ السلم ابن تيمية ـ رحمه ال ـ في هذه
المسألة ،بأنّه ليس لحدهما على الخرى فضيلة إل بالتقوى ،فأيهما أعظم إيمانا وتقوى كان
أفضل ،فإن استويا فى ذلك استويا فى الفضيلة … ..لن نصوص الكتاب والسنة إنما تفضل
باليمان والتقوى وقد قال تعالى " :إن يكن غنيا أو فقيرًا فال أولى بهما " وقد كان فى النبياء
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
والسابقين الولين من الغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء ،وكان فيهم من الفقراء من هو
أفضل من أكثر الغنياء ،والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام
كحال نبينا وحال أبى بكر وعمر رضى ال عنهما ،ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع ،
والغنى لخرين أنفع ،كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع ،كما فى الحديث
الذى رواه البغوى وغيره عن النبى فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى " إن من عبادي من ل
يصلحه إل الغنى ولو أفقرته لفسده ذلك ،وإنّ من عبادي من ل يصلحه إل الفقر ولو أغنيته
لفسده ذلك ،وإنّ من عبادي من ل يصلحه إل الصحة ولو أسقمته لفسده ذلك ،وإنّ من
عبادي من ل يصلحه إل السقم ولو أصححته لفسده ذلك ،إنّي أدبر عبادي إني بهم خبير
بصير "
وقد صح عن النبي أنه قال " :إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الغنياء "
وفى الحديث الخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلة سمع بذلك الغنياء ،فقالوا مثل ما قالوا
،فذكر ذلك الفقراء للنبي فقال " :ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء "
فالفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم ،والغنياء يؤخرون لجل الحساب
عليهم ،ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة
فوقه وإن تأخر في الدخول ،كما أن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ـ ومنهم
عكاشه بن محصن ـ قد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم في الدرجات ،لكن
أولئك استراحوا من تعب الحساب .
ن العبرة ليست بالفقر ول بالغنى ،فهذا أو ذاك ل يغني عنك من ال شيئًا إل
نخلص من هذا أ ّ
إذا كان سببًا في زيادة اليمان والتقوى ،فهذا هو المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين ،
فالمهم هو " الرضا " عن ال ،وعدم التسخط عند المنع وعدم البطر عن العطية .
قال الحرالي :من كان رضاه من الدنيا سد جوعته ،وستر عورته ،لم يكن عليه خوف ول
حزن في الدن يا ول في الخرة ،سواء جعله اللّه فقيرا أو غنيا أو ذا كفاف إذا اطمأن قل به على
الرضى ببلغتها .
فعجبًا لحال المؤمن حقًا فهو إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ،وإنْ أصابته سراء شكر
فكان خيرًا له ،فهو بين مطالعة الجناية ومشاهدة المنة يصبر ويشكر ،ويوقن بأنّ ال أعلم
" أل يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " بحاله منه ،
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
فإذا وجدت ال يرزق هذا ويمنع عن ذلك فتذكر قول ال تعالى " :أليس ال بأعلم بالشاكرين
جعُونَ " واعلم أن خزائن
ُترْ َ خ ْيرِ ِف ْتنَةً َوِإَل ْينَا
شرّ وَالْ َ
" ،وتذكر قول ال تعالى َ " :و َن ْبلُوكُم بِال ّ
ال ل تنفد ،وهو المعطي المانع فليتعلق قلبك به ،ودع عنك زخرف الحياة الدنيا فإنما هي
أوهام ،والدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءًا حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد ال عنده
فوفاه حسابه .
إخوتاه ..
إذا كان ال مر كذلك ،فعل يك بالر ضا فإ نه ملك ال مر ،وعل يك أن تح سن الن ظر إلى
المور فتقي سها بمقياس أ هل اليمان ،ول ت عر اهتمامًا ل ما دون ذلك ،فالفق ير يفرح بأنّ ه أ خف
الناس حسابًا ،وأنّ ال اختار ذلك الحال لنبيه صلى ال عليه وسلم ،ويأخذ من حياة النبي صلى
ال عليه و سلم ال عبرة وال سوة ،فل يق نط ول ييأس ،ويعلم أنّ ال مر صبر ساعة ،ول ين ظر
بعين الحسد إلى من يعلوه في أمور الدنيا لنه فهم عن ال أنّ العلو ليس بكثرة المال ورفاهية
العيش ،ل بل العلو بالتقوى وكثرة الطاعات والقرب من ال تعالى ،فهؤلء هم أهل غبطته .
" أمّا الغني فيخشى أ نْ تكون زيادة النعم استدراجًا ،قال صلى ال عليه وسلم :
إذا رأ يت ال تعالى يع طي الع بد من الدن يا ما ي حب و هو مق يم على معا صيه فإن ما ذلك م نه
استدراج " 4
ويخاف شدة العذاب إنْ لم يوفّ شكر النعم التي بمحض فضل ال تعالى رزقها
" لئن شكرتم لزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد " فهو مشغول بشكر نعمة ال عليه ،فيعطي
حق المال من زكاة وصدقة ونفقة في سبيل ال تعالى ،فل يعرف الترف بابه وإن ملك المليين
،لنّه يعلم أنّ ال سائله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟!!
إخوتاه ..
ولعـل كثيرًا منكـم يقول :إنّ هذا ل يدري عـن واقـع الناس اليوم شيئًا وإنّهـ يحدثنـا بمـا
يصلح لعصور السلف ،فكيف بال في ظل كل هذه المغريات والفتن المتلحقات أن يسير المر
هكذا .
أخرجه المام أحمد والطبراني في الكبير والبيهقي وصححه اللباني في صحيح الجامع ()561 4
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
وإنـي ناصـحك نصـيحة حريـص مشفـق عليـك ،فإنّيـ لعلم مدى الخطـر الذي يداهـم
المسـلمون الن ،ومدى الفتـن التـي يواجهونهـا ،وحجـم المغريات التـي توضـع فـي طريقهـم
فتتخطف السواد العظم منهم ولكن ..
القض ية أولً قض ية يق ين بال تعالى ،قض ية إيمان واعتقاد ،فأي م حك آ خر نحت كم إل يه
ف هو خداع وشراك ،وأ نت ح ين تن ظر إلى المور بهذه الطري قة لنتقول مثل ما تقول الن ،ح ين
تفرغ قل بك من حب الدن يا وتخرج قليلًا خارج أ سوارها فترى بع ين اليمان المور ف ستذكر ما
أقول لك ،ومن هنا يبدأ العلج :
العلج
أولً :التوحيد وصحة العتقاد ليصح اليقين واليمان .
ثانيًا :إشغال القلب بالخرة ،بكثرة سماع المحاضرات العلمية التي تحض على ذلك ،وقراءة
الكتـب ،والتعاظ بحال مـن كنـت تعرف وداهمهـم الموت ،وعيادة المرضـى والمحتضريـن ،
وزيارة القبور والنظر لمآلك بعد هذه الحياة .
ثالثًا :تخليص القلب من حب الدنيا ،الذي هو سبب للعجز والوهن الذي أصاب المسلمون هذه
اليام ،وهذا يحصـل عندمـا تعايـن حقارتهـا ،وقـد ضرب ال المثلة الكثيرة للدنيـا ومدى
بعوضة ،وارجع إن خستها ،وبيّن النبي صلى ال عليه وسلم أنها ل تعدل عند ال جناح
شئت لكتاب " عدة الصابرين " في الباب الثالث والعشرين فقد كتب في آخره فصلً تحت اسم :
فبها اعتبر . في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا وتحته اثنان وعشرون مثلً
رابعًا :عدم الختلط بأهل الدنيا فإنّ خلطتهم كالداء العضال .
قال ال تعالى " :ول تمدنّ عين يك إلى ما متع نا به أزواجًأ من هم زهرة الحياة الدن يا لنفتن هم ف يه
ورزق ربك خير وأبقى "
فالناس ثلث طبقات :طبقـة كالغذاء ل يسـتغنى عنـه ،وهؤلء هـم أهـل العلم والفضـل ،أهـل
اليمان وال صلح ،فا ستكثر من هم ،ول تفارق مجال سهم ،فإن ها رياض الج نة ،وطب قة كالدواء
يحتاج إل يه أحيانا ،وهؤلء من تحتاج هم ع ند الضرورة ول بد لك من مخالطت هم ك من تخالط هم
فـي طلب الرزق أو شراء طعام ونحوه ،فتخالطهـم بقدر ول تجمـح فـي مصـاحبتهم ،وطبقـة
كالداء ل يحتاج إليه أبدا وهؤلء هم سفلة الناس من خلن الدنيا ،هؤلء هم المترفون الذين ل
ي صدقون بيوم الد ين ،فإياك و هم ،وإ نْ ازدانوا وتزخرفوا وأظهروا سعادة لم يبطنو ها ـ علم
ال ـ
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
فخل طة هؤلء تث ير ح سد الفق ير المعوز ،وتش قي الغ ني الذي ي سعى لمشاكلت هم ،وربّ ما يزدري
نعمة ال عليه مقارنة بمن يعلوه في الدنيا .
خامسًا :الخوة اليمانية
فإنّها نعم المعين ،فعليك برفقة الصالحين ومخالطتهم وحبهم ومنافستهم في الطاعة " وفي ذلك
فليتنافس المتنافسون "
سادسًا :التقيد بمنهج تربوي
فل بد لك من مر بٍ يتابعك ويك شف لك عيو بك ،ويبصرك بالطريق ،ك ما قالوا :لول المربي
بعد ربي ما عرفت ربي ،وإن كانت الساحة تفتقد لهؤلء ولكن اجتهد وأخلص النية ،ولسوف
يعطيك ربك فترضى .
أخيرًا إخوتاه …
كيف تنفق مالك ؟
أخرج المام أحمد في الزهد من حديث زياد بن جبير مرسل وحسنه اللباني في صحيح الجامع
( " ) 3275خير الرزق الكفاف " .
و الكفاف هو ما كف عن النّاس ـ أي أغ نى عن هم ـ ،و هو ما ي كف الن سان عن الجوع ،
و عن ال سؤال ؛ لن ما قلّ وك فى خ ير مم ّا ك ثر وأل هى ،والكفاف مداره على الر ضا ،ف ما
يكفيك هو ما ترضى به دون سرف أو ترف .
وقد أرشدنا ال تبارك وتعالى لكيفية انفاق المال قال تعالى " :ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو
" كذلك يبين ال لكم اليات لعلكم تتفكرون
قال ابن عباس :ما يفضل عن أهلك .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أفضل
الصدقة ما ترك غني ،واليد العليا خير من اليد السفلى ،وابدأ بمن تعول تقول المرأة :إما أن
تطعمني وإمّا أن تطلقني ،ويقول العبد :أطعمني واستعملني ،ويقول البن :أطعمني إلى من
تدعني".
وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :اليد العليا خير من
اليد السفلى ،وابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان على ظهر غنى ،ومن يستعف يعفه ال ،
ومن يستغن يغنه ال".
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
قال :أمر وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة
رسول ال صلى ال عليه وسلم بالصدقة .فقال رجل :يا رسول ال عندي دينار .قال :تصدق
به على نفسك .قال :عندي آخر؟ قال :تصدق به على ولدك ،قال :عندي آخر .قال :تصدق به
على زوجتك .قال :عندي آخر .قال :تصدق به على خادمك .قال :عندي آخر .قال :أنت
أبصر".
وأخرج ابن سعد وأبو داود والحاكم وصححه عن جابر بن عبد ال قال "كنا عند رسول ال
صلى ال عليه وسلم إذ جاء رجل ،وفي لفظ :قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة من الحمامة
من ذهب فقال :يا رسول ال أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها ،فأعرض
عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ثم أتاه من خلفه ،فأخذها رسول ال صلى ال عليه وسلم
فحذفه بها ،فلو أصابته لوجعته أو لعقرته .فقال :يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد
يستكف الناس ،خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول".
وفي صحيح مسلم عن جابر "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لرجل :ابدأ بنفسك
فتصدق عليها ،فإن فضل شيء فلهلك ،فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ،فإن فضل عن
ذي قرابتك شيء ،فهكذا وهكذا".
وأخرج المام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه اللباني في صحيح الجامع ( )2794عن
مالك بن نضلة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اليدي ثلثة فيد ال العليا ،و يد
المعطي التي تليها ،و يد السائل السفلى فأعط الفضل و ل تعجز عن نفسك "
وأخرج مسلم عن خيثمة قال :كنا جلوسا مع عبد ال بن عمرو إذ جاءه قهرمان له ،فدخل فقال:
أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال :ل .قال :فأنطلق فأعطهم ،وقال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".
وأخرج أبو داود والن سائي والحاكم وصححه عن عبد ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلى
وسلم " :كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ". ال عليه
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أفضل دينار ينفقه
الرجل على أصحابه في سبيل ال ،قال أبو قلبة :وبدأ بالعيال ،ثم قال أبو قلبة :وأي رجل
أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم ال به ويعينهم ؟ ".
الترف مظاهره وأسبابه وعلجه
وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :دينار أنفقته
في سبيل ال ،ودينار أنفقته في رقبة ،ودينار تصدقت به على مسكين ،ودينار أنفقته على أهلك،
أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك".
ابذل الفضل من مالك ول تمسكه فإنه شر عليك
بين لنا النبي صلى ال عليه وسلم الطريقة المثلى في استثمار المال على الوجه الذي يرضي ال
تبارك وتعالى .
في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رضي ال عنه أنّ النبي صلى ال عليه وسلم قال " :يا
ابن آدم ! إنك أن تبذل الفضل خير لك ،و أن تمسكه شر لك ،و ل تلم على كفاف ،و
ابدأ بمن تعول ،و اليد العليا خير من اليد السفلى "
ولعمر ال طوبى لمن تواضع من غير منقصة ،وذل في نفسه من غير مسكنة ،وأنفق مال
جمعه في غير معصية ،ورحم أهل الذلة والمسكنة ،وخالط أهل العفة والحكمة ،طوبى لمن ذل
في نفسه ،وطاب كسبه ،وصلحت سريرته ،وكرمت علنيته ،وعزل عن الناس شره ،وأنفق
الفضل من ماله ،وأمسك الفضل من قوله".
إخوتاه ..
هذه هي القضية أن الترف مفسد ،وكثرة المال تلهى ،فاللهم أعطنا ما يكفينا ،وعافنا مما
يطغينا .
وللسف الشديد الناس في هذا الزمان ل يطلبون ما يكفيهم ،بل يطلبون ما يطغيهم ،ل يكتفون
بما يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم ،فاتقوا ال يا عباد ال ،فقد ذكرتم فهل من مدكر .