You are on page 1of 2

‫عمالقة النظافة‬

‫الكائنات المجهرية‬
‫د‪ .‬ولي قارابوغه‬
‫لو لم يتم تحويل أجساد موتى النسان والحيوان والنباتات التي علي سطح الكرة الرضية وإعادتُها إلي التربة ولو لعدة سنوات فقط –‬
‫بَلْهَ المدة المديدة – وبقيت كما هي ؛ ماذا كان يحدث ؟! ‪.‬‬
‫حكمة تحلل الجساد بعد الموت ‪:‬‬
‫إذن لْمتل سطح الرض بالمخلّفات والقاذورات ‪ ،‬ولما وجد من أن تتحول إلي مزيلة وكأنها أجهزة تصفية وتنقية ‪ ،‬وذلك بتجلّ لسم‬
‫ال " القدوس" ‪ .‬تُري كم يتطلب تنظيف منزلنا الصغير وحارتنا المحدودة من الجهد والمال للحفاظ عليهما نظيفة كل يوم وكل ساعة ؟ إن‬
‫البلديات تقوم بجهوده ومصاريف باهظة من أجل تنظيف شوارعنا ‪ .‬فالنظافة أمر صعب ‪ ،‬وسيّدات البيوت يعرفن تمامًا كم بنو البشر‬
‫طيَت الساحات الزراعية بالكامل بالنقاض ‪ ،‬ولما بقيت تربة للزراعة ‪ ،‬ولهلكنا من الجوع ‪ .‬في الواقع إن‬ ‫مكانا حتى للسير عليها ‪ ،‬ولغُ ّ‬
‫تنظيف الكرة الرضية من بقايا النباتات والحيوانات وموتى البشر ‪ ،‬وإعادتها إلي تربة ‪ ،‬وتغذية النباتات وتسميدها بها من جديد ‪ ،‬لتعتبر‬
‫من أهم الحداث وأخطرها ‪ .‬إذن كيف تم تحقيق هذه العمال الخارقة واستمرارها بدون أي تقصير لمئات السنين ‪ ،‬أمام أعيننا جميعا ؟!‬
‫إن ربنا صاحب العلم والقدرة اللمتناهية قد أعدّ الرض لكل مخلوقاته – وفي مقدمتها النسان – لتصبح مكانًا تستطيع أن تعيش عليه‬
‫‪ ...‬وبناء علي ذلك نظم آليات تنظيف هذه المنظومة الكونية ؛ حيث تقوم مخلوقات بوظيفة حماية وجه الكرة الرضية تستغرق عملية‬
‫التنظيف من الجهد يوميّا ‪ ،‬وكم هي عملية مرهقة ‪ .‬نحن والبلديات نترك الفضلت التي نجمعها في أماكن محدّدة فقط ‪ ،‬وحتى إنه ل‬
‫يخطر علي بالنا ماذا يحدث لها هنالك ‪ .‬كل ما نفعله ؛ هو أن نتركها ونعود أدراجنا ‪ ..‬هذه الجبال من القمامة ‪ ،‬تُري كيف تُحوّل إلي‬
‫ي أجر مقابل‬ ‫تُراب ؟ ومن ينظف لنا ما وسّخناه ‪ ،‬ويقدمه لنا من جديد نظيفا وتقيا ؟ وكيف يحقق ذلك ؟ هذا بالضافة إلي أنه ل يطَلب أ َ‬
‫ذلك ؟‬
‫الكائنات المجهرية ودورها في التنظيف ‪:‬‬
‫فمن أجل تقديم إجابة علي هذه السئلة وأمثالها ‪ ،‬يجب التعرف علي عالم المُتعَضّيات المجهرية أي الكائنات الدقيقة ‪ .‬إن الكائنات‬
‫الدقيقة هي كائنات حيّة متناهية الصغر ‪ ،‬ل يمكن رؤيتها بالعين المجردة ؛ ولكن بعد اكتشاف الميكروسكوب (المجهر) أمكن التعرف علي‬
‫ض من المعارف عن تلك المخلوقات الصغيرة جدّا خلل ‪ 150‬سنة الخيرة ‪.‬‬ ‫هذه الحياء الصغيرة ‪ ،‬وتمكن عالم النسانية من اكتساب بع ٍ‬
‫وقبل هذا التاريخ لم يكن البشر علي دراية أو علم بأنهم يتعايشون مع تلك الحياء الدقيقة التي ل تُري بالعين المجردة ‪ .‬إن مجموع الكثافة‬
‫العددية لهذه المخلوقات التي ل تُري بالعين المجردة تزيد عن مجموع كثافة البشر والحيوانات التي علي وجه الكرة الرضية بخمس‬
‫وعشرين مرة ‪ .‬فكان النسان يري أصناف الحيوانات التي تشغل جز ًء قليل من الرض ‪ ،‬ولكنه كان غافل عن هذا الكم الهائل من‬
‫الكائنات المجهرية الدقيقة ‪.‬‬
‫وكما توجد آلف الصناف من الفيلة والحمام والرانب والحيتان والنمل في عالم الحيوانات ‪ ،‬فكذلك هناك أنواع كثيرة جدّا من الكائنات‬
‫المجهرية الدقيقة ‪ .‬إن الكائنات المجهرية الدقيقة غير مرغوبة أو محبوبة ‪ ،‬لن بني البشر يتذكرونها ويقرِنوِنها دائمًا بالمراض والوبئة‬
‫حدَثتها طوال التاريخ ‪ .‬بينما الواقع ‪ ،‬أن الغالبية ألبتّة بالمراض ‪ .‬ففي مقابل اللف من البكتريا ‪ ،‬فإن فقسما ضئيل جدّا من‬ ‫القاتلة التي َأ ْ‬
‫هذه الكائنات المجهرية الدقيقة هي التي تضر بالنسان ‪ .‬فالقسم الذي يسبب المرض للنسان من هذه تضر بالنسان من هذه الكائنات‬
‫الدقيقة كلها ربما ل يمثل واحدّا في المليار من بين كل هذه المتعضيات المجهرية ‪ .‬ففي حالة مراعاة البشر لقواعد النظافة وتطبيقها ؛ فإن‬
‫ل من أن تُحدث المرض ‪ .‬وليست‬ ‫هذه الكائنات الدقيقة – وحتى التي تُحدث المراض ‪ ،-‬ستسهم في الحفاظ علي التوازن الطبيعي بد ً‬
‫الكائنات المجهرية الدقيقة هي السبب في المراض بل السبب هو النسان الذي ل يراعي أو يهتم بالنظافة ‪.‬‬
‫ويمكن دراسة الكائنات المجهرية الدقيقة تحت أربعة أنواع رئيسية ‪ -1 :‬البكتريا ‪ -2 ،‬الفيروسات ‪ -3 ،‬الفطريات ‪ -4 ،‬الحيوانات‬
‫الطفيلية ذات الخلية الواحدة أو المتعددة الخليا ‪ .‬إن الكائنات المجهرية الدقيقة موجودة في كل مكان ؛ فهي تعيش في التربة والماء وعلي‬
‫النباتات وعلي أجساد الحيوانات ‪ .‬وتحملها التيارات الهوائية من علي سطح الرض إلي الطبقات العليا من الجو ومن قارة إلي أخري ‪.‬‬
‫وفي ملعقة واحدة من التراب توجد المليين من البكتريا ‪ .‬كما أن الحيوانات وبني البشر يحملون الكثير جدّا من الكائنات المجهرية‬
‫الدقيقة ؛ ففي مقابل كل عشرة تريليونات من الخليا في النسان توجد مائة تريليون من الكائنات الدقيقة ‪ ،‬بحيث إن كل خلية بشرية يقابلها‬
‫عشر من الكائنات المجهرية ‪.‬‬
‫علوة علي ذلك لو سلّمنا أن الكائنات المجهرية الدقيقة هي السبب في المرض ‪ ،‬فالمضادات الحيوية التي تستخدم في علج المراض‬
‫هي أيضا مستخلصة من الكائنات الدقيقة ؛ فالقدرة التي أوجدت المرض وضعت الدواء في ثنايا الداء ‪ .‬أما الكائنات المجهرية الدقيقة التي‬
‫تلعب دورًا مهمًا في صناعة العديد من موادنا الغذائية اعتبارا من الزبادي إلي الجبان والخبز وحتى الخل فهي عالم آخر ‪ .‬ولهذا السبب ‪،‬‬
‫فعند تقييم المخلوقات يجب أن نُقيّمها ليس من زاوية واحدة ‪ ،‬بل في نطاق الوظائف الكليّة الموجودة في النظام البيئي بشكل عام ‪ .‬إن ال‬
‫قد منح الكائنات المجهرية دور المفتاح من أجل استمرار الحياة علي الرض ‪ .‬ولدي مقارنتها بالكائنات الحيّة الخرى فإنها تحتلّ المقام‬
‫الول في المحافظة علي التوازن البيئي بوظيفتها الحيوية ‪ ،‬رغم حرمانها من ميّزات عدة مثل العقل والشعور والمخ والنظام العصبي ‪.‬‬
‫فمن أجل تغذية النباتات وتسميدها تُستخدم المخلفات الحيوانية والزراعية ‪ ،‬ولكن هذه المخلفات هي جزيئات عضوية يجب أن تحول‬
‫وتفتت إلي جزيئاتها اللعضوية ‪ ،‬أي إلي حالتها الصلية ‪ .‬وإذا لم يحدث ذلك ‪ ،‬فإن جذور النباتات ل تستطيع أن تمتص هذه الذرات ‪.‬‬
‫فالكائنات المجهرية هي التي تنفّذ عملية تحويل موتى الحيوانات والنباتات إلي تراب بحيث يمكن للنباتات أن تمتصها ‪.‬‬
‫ولبد لتحويل كل عنصر كيميائي من عناصرِ ذوات الروح الميّتة وتغييرها إلي حالة ل عضوية في التربة ‪ ،‬من صنف خاص من‬
‫الكائنات المجهرية ‪ .‬ولكي يقوم كل عنصر في التربة بتقديم خدمة للنبات ‪ ،‬فإن المشاركة بين الكائنات المجهرية المتنوعة أمر ضروري‬
‫ل يمكن الستغناء عنه لستمرار الحياة ‪ .‬والحقيقة أن هذه العمليات هي أكثر تعقيدا من العمليات التي أثناء النتاج في مصنع للسيارات ‪.‬‬
‫الكائنات المجهرية وتوازن الكربون ‪:‬‬
‫إن الكائنات المجهرية الدقيقة المختلفة النواع مكلّفة بوظائف في عملية تحويل كل عنصر من عناصر الفوسفور والحديد والزنك وكل‬
‫عنصر من العناصر الخرى إلي أشكال ل عضوية ‪ .‬إن ما يربو علي ‪ 80‬نوعا من العناصر توجد في الحياء في حالة مركبات عضوية‬
‫حيّر‬
‫‪ ،‬فتفتيت كل عنصر من هذه العناصر من قبل مجموعة مختلفة من الكائنات المجهرية الدقيقة ‪ ،‬وتقديمها لعالم الحياء لهو تنظيم مُ َ‬
‫ومدهش ‪ .‬إن كل منا مُحاط من الداخل ومن الخارج بكائنات مجهرية دقيقة ل تُحصي ول تُعد ‪ ،‬تجعل الحياة تستمر بشكل مشترك وتغير‬
‫بشكل مطرد ومتوازن معنا ومع بعضها البعض ‪ .‬وعندما اكتشف سنة ‪ 1850‬أن الكائنات المجهرية الدقيقة كانت سببا في أمراض مُهلكة‬
‫ومعدية ‪ ،‬أعلن النسان عداوته الضارية لهذه المخلوقات الدقيقة ‪ .‬وفي الحقيقة لم تكن هذه الكائنات هي المدنية بل كان النسان هو المدان‬
‫‪ .‬فخلل الحرب التي بدأها القادة الظلَمة الذين ل يقيمون وزنا أو حقّا للنسان والنسانية بسبب أنانيتهم الذاتية ‪ ،‬ولعدم اهتمام الكتل‬
‫العسكرية بالنظافة ‪ ،‬والستخدام الخرق لمصادر ومواد الغذاء في الدول الفقيرة من قبل الدول الخرى ‪ ،‬وعدم إعطاء العناية الكافية‬
‫لنظافة البيئة وأجسام البشر ‪ ...‬بسبب هذه العوامل كلها أصيبت البشرية بأوبئة الفتاكة التي أودت بحياة ثلُث سكّان القارات طوال التاريخ ‪.‬‬
‫لو استطعنا نحن كعقلء أن نستوعب الحكمة من خلق هذه الكائنات الحيّة ؛ ولو بذلنا جهودنا من أجل منع تطور الوساط المسببة‬
‫للوبئة الفتاكة ؛ ولو فكرنا أن المضادات الحيوية التي تستعمل لبعض المراض التي تظهر من حين لخر إنما هي من الكائنات المجهرية‬
‫الدقيقة أيضا ‪ ،‬وأننا نأكل أغذيتنا بد ًء من الخبز حتى الجبان بواسطة الكائنات الدقيقة التي يُسمي جزء منها الخميرة ؛ والهم من كل ذلك‬
‫لو استطعنا أن ُنمْعن النظر والتفكير في كمون هذه الكائنات الحيّة التي ل تُري بالعين المجردة تحت هذا التوازن البديع المتكامل ‪ ...‬لو‬
‫فكّرنا في ذلك كله لمكننا أن ندرك الرحمة والشفقة التي أولنا إياها ربنا صاحب القدرة اللنهائية ‪.‬‬
‫إن الكائنات المجهرية الدقيقة التي تجعل وجه هذه الرض الشاسعة لمعةً ناصعة ‪ ،‬والتي تستحق أن تسمّي " عمالقة النظافة " بما تقوم‬
‫به من أعمال ‪ ...‬لتظهر حكمة الخلق الباهرة ونظام الكون المتكامل العجيب ‪ ،‬وتجليات اسم ال " القدوس" التي تشمل كل الوجود ‪.‬‬

You might also like