Professional Documents
Culture Documents
net
سـيـد قـطب
1
www.ikhwan-info.net
2
www.ikhwan-info.net
3
www.ikhwan-info.net
ب عد أن أفل حت تلك الجهود الضخ مة ،ونالت انت صارها الحا سم على يد (الب طل!!!)
أتاتورك ..تحولت إذن إلى الخطوة التالية -او الموقعة التالية -ممثلة في الجهود النهائية،
ال تي تبذل الن في ش تى أنحاء (الو طن ال سلمي) -او بت عبير أدق الذي كان إ سلميا-
ل كف هذا الد ين عن الوجود أ صلً؛ وتنحي ته ح تى عن مكان العقيدة ،وإحلل ت صورات
وضعيـة أخرى مكانـه ؛ تنبثـق منهـا مفاهيـم وقيـم ،وأنظمـة وأوضاع ،تمل فراغ
( العقيدة ) ! وتسمى مثلها ..عقيدة ..
وصاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلئع البعث السلمي في كل مكان
على ظهر هذه الرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي ل تلتقي على شيء
في مشارق الرض ومغاربها ،إل على الخوف من البعث السلمي الوشيك؛ الذي تحتمه
طبائع الشياء ،وحقائق الوجود والحياة ،ودللت الواقع البشري من هنا و من هناك ..
ولكن نا نعلم كذلك أن هذا الد ين اض خم حقي قة ،وا صلب عودا ،واع مق جذورا ،من
أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها ،ول هذه الضربات الوحشية كذلك .كما أننا نعلم أن
حاجة البشرية إلى هذا المنهج اكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة
مخي فة في هاو ية الدمار ال سحيقة؛ ويتنادى الواعون من ها ب صيحة الخ طر ،ويتلم سون ل ها
طريق النجاة ..ول نجاة إل بالرجوع إلى ال ..والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة مـن هنـا ومـن هناك تنبعـث مـن القلوب الحائرة .وترتفـع مـن
الحنا جر المتع بة ..ته تف بمن قذ ،وتتل فت على (مخلّص) .وتت صور لهذا المخلص سمات
وملمح معينة تطلبها فيه .وهذه السمات والملمح المعينة ل تنطبق على أحد إل على هذا
الدين!
ف من طبي عة المن هج الذي ير سمه هذا الد ين ،و من حا جة البشر ية إلى هذا المن هج،
نسـتمد نحـن يقيننـا الذي ل يتزعزع ،فـي أن المسـتقبل لهذا الديـن ،وان له دورا فـي هذه
الرض هو مد عو لدائه -أراد أعداؤه كل هم أم لم يريدوا -وان دوره هذا المرت قب ل
4
www.ikhwan-info.net
تملك عقيدة أخرى -كما ل يملك منهج آخر -أن يؤديه .وأن البشرية بجملتها ل تملك أن
تستغني طويلً عنه.
إن البشريـة قـد تمضـي فـي إعتسـاف تجارب متنوعـة هنـا وهناك -كمـا هـي الن
ماضيـة فـي الشرق وفـي الغرب سـواء -ولكننـا نحـن مطمئنون إلى نهايـة هذه التجارب،
واثقون من المر في نهاية المطاف.
إن هذه التجارب كلها تدور في حل قة مفرغة ،ودا خل هذه الحلقة ل تتعداها -حل قة
الت صور البشري والتجر بة البشر ية وال خبرة البشر ية المشو بة بالج هل والن قص والض عف
والهوى – فـي حيـن يحتاج الخلص إلى الخروج مـن هذه الحلقـة المفرغـة ،وبدء تجربـة
جديدة أ صيلة ،تقوم على قاعدة مختل فة كل الختلف :قاعدة المن هج الربا ني ال صادر عن
علم (بدل الجهل) وكمال (بدل النقص) وقدرة (بدل الضعف) وحكمة (بدل الهوى) ..القائم
على أساس :إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده دون سواه.
* * *
إن مفرق الطر يق ب ين من هج هذا الد ين ،و سائر المنا هج غيره :أن الناس في نظام
الحياة ال سلمي يعبدون إلها واحدا ،يفردو نه -سبحانه -باللوه ية والربوب ية والقوا مة -
بكـل مفهومات القوامـة -فيتلقون منـه -وحده -التصـورات والقيـم والموازيـن ،والنظمـة
والشرائع والقوانيـن ،والتوجيهات والخلق والداب ..بين ما هم في سائر الن ظم يعبدون
آلهـة وأربابا متفرقـة ،يجعلون لهـا القوامـة عليهـم مـن دون ال ،حيـن يتلقون التصـورات
والقيم والموازين ،والنظمة والشرائع والقوانين والتوجيهات والداب والخلق ،من بشر
مثل هم .فيجعلون هم -بهذا التل قي -أربابا ،و يمنحون هم حقوق اللوه ية والربوب ية والقوا مة
عليهم ..وهم مثلهم بشر ..عبيد كما انهم عبيد..
ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس-كما يسيمها ال سبحانه -نظما
جاهل ية .مه ما تعددت أشكال ها وبيئات ها وأزمان ها .ف هي قائ مة على ذات ال ساس الذي جاء
هذا الديـن-يوم جاء -ليحطمـه ،وليحرر البشـر منـه ،وليقيـم فـي الرض ألوهيـة واحدة
5
www.ikhwan-info.net
للناس؛ وليطلقهـم مـن عبادة العباد إلى عبادة ال وحده؛ بالمعنـى الواسـع الشامـل لمفهوم
(العبادة) ومفهوم ( الله) ومفهوم (الرب) ومفهوم (الدين) (.)1
لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر ،في كل صورة من الصور ،وليوحد
العبودية ل في الرض ،كما أنها عبودية واحدة ل في هذا الكون العريض.
(أفغ ير د ين ال يبغون ،وله أ سلم من في ال سماوات والرض طوعا وكرها ،وال يه
يرجعون)..
[ آل عمران] 83 :
* * *
والمنهج السلمي المنبثق من هذا الدين -بهذا العتبار -ليس نظاما تاريخيا لفترة
من فترات التاريخ ،كما انه ليس نظاما محليا لمجموعة من البشر في جيل من الجيال،
ول في بيئة من البيئات ..إن ما هو المن هج الثا بت الذي ارتضاه ال لحياة الب شر المتجددة،
لتب قى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارت ضى ال أن تدور عل يه أبدا ،ودا خل الطار
الذي ارتضى ال أن ت ظل داخله أبدا ،ولتب قى هذه الحياة مكي فة بالصورة العل يا التي اكرم
ال فيها النسان عن العبودية لغير ال..
وهذا المنهـج حقيقـة كونيـة قائمـة بإزاء البشريـة المتجددة قيام النواميـس الكونيـة
الدائ مة .ال تي تع مل في ج سم الكون م نذ نشأ ته ،وال تي تع مل ف يه اليوم وغدا ،وال تي يل قى
البشر من جراء المخالفة عنها ،والصطدام بها ،ما يلقون من آلم ودمار ونكال!
والناس ..إمـا أن يعيشوا بمن هج ال هذا بكليتـه ف هم مسـلمون ،وإ ما أن يعيشوا بأي
منهج آخر من وضع البشر ،فهم في جاهلية ل يعرفها هذا الدين ..ذات الجاهلية التي جاء
هذا الدين ليحطمها ،وليغيرها من الساس .ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال..
والناس إ ما أن يعيشوا بمن هج ال بكلي ته ف هم في توا فق مع نوام يس الكون ،وفطرة
الوجود ،وفطرت هم هم أنفسهم .وإ ما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع الب شر ،ف هم في
() يراجع بتوسع البحث القيم العميق الدقيق بعنوان" :المصطلحات الربعة في القرآن" للستاذ المودودي. 1
6
www.ikhwan-info.net
خصام مع نواميس الكون ،وتصادم مع فطرة الوجود ،ومع فطرتهم هم أنفسهم ،بوصفهم
قطاعا في هذا الوجود ..تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب او من بعيد..
* * *
ونحن -كما قلنا -نستيقن أن الناس عائدون إلى ال؛ عائدون إلى منهجه هذا للحياة.
وان المستقبل لهذا الدين عن يقين.
ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت او سوف تبذل لزحزحة هذا الدين
عن طبيعته هي انه منهج للحياة البشرية الواقعية ،في كل مجالتها العملية والشعورية،
سوف تبوء بالف شل والخي بة .و قد با نت بوادر الف شل والخي بة ..لن هذه العزلة لي ست من
طبيعة هذا الدين .كما أنها في الحقيقة ليست من طبيعة أي دين!!!
7
www.ikhwan-info.net
حيَاة
كُلّ ديِن منهَج َ
هنالك ارتباط وث يق ب ين طبي عة(النظام الجتما عي) وطبي عة(الت صور العتقادي) ..
بـل هنالك مـا هـو اكـبر مـن الرتباط الوثيـق .هنالك النبثاق الحيوي :انبثاق النظام
الجتما عي من الت صور العتقادي ..فالنظام الجتما عي بكل خصائصه هو أ حد انبثاقات
التصور العتقادي؛ إذ هو ينبت نباتا حيويا وفطريا ،ويتكيف بعد ذلك تكيفا تاما بالتفسير
الذي يقدمـه ذلك التصـور للوجود ،ولمركـز النسـان فـي هذا الوجود ،ولغايـة وجوده
النساني.
وهذا النبثاق ثم هذا التكيف هو الوضع الصحيح للمور .بل هو الوضع الوحيد.
فما من نظام اجتماعي يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية ،وان يقوم بعد ذلك قياما صحيحا
سليما ،إل حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة الوجود؛ ولحقيقة النسان ،ولمركز النسان
في هذا الوجود ،ولغاية الوجود النساني ..إذ أن غاية أي نظام اجتماعي ينبغي أن تكون
هـي تحقيـق غايـة الوجود النسـاني ..كذلك فان الحقوق المخولة للنسـان بحكـم حقيقـة
مركزه في هذا الوجود هي التي ترسم خط سيره ،وتحدد وسائله التي له حق استخدامها
لتحق يق غا ية وجوده ،ك ما تحدد نوع الرتباطات ال تي تقوم بي نه وب ين هذا الوجود ،ونوع
الرتباطات التي تقوم بين أفراد جنسه ومنظماته وتشكيلته ..إلى آخر ما يعبر عنه باسم
(النظام الجتماعي)..
وكـل نظام اجتماعـي يقوم على غيـر هذا السـاس ،هـو نظام غيـر طـبيعي .نظام
متعسف .ل يقوم على جذوره الفطرية ..ول أمل في أن تعمر مثل هذه النظم طويلً .ول
أ مل في تنا سق حر كة (الن سان) في ظل ها مع الحر كة الكون ية .ول مع الفطرة البشر ية؛
ول مع احتياجات النسان الحقيقية.
وم تى ف قد هذا التنا سق فل م فر من تعا سة الناس وشقوت هم بم ثل هذه الن ظم ،مه ما
استطاعت أن توفر لهم من التسهيلت المادية والنتاجية ..ثم ل مفر بعد ذلك من تحطم
هذه النظم ،لتعارضها مع فطرة الكون ،وفطرة النسان..
8
www.ikhwan-info.net
() يراجع بتوسع معنى كلمة "دين" في كتاب المصطلحات الربعة للستاذ المودودي. 1
9
www.ikhwan-info.net
المؤدية إلى كل التطورات والنقلبات فيه .وهو ما يعبر عنه بالمادية الجدلية ،كما يقوم
على التفسـير القتصـادي للتاريـخ ،ورد التطورات فـي الحياة البشريـة إلى تطور أداة
النتاج ..الخ .و من ثم ف هي لي ست مجرد نظام اجتما عي ،إن ما هي ت صور اعتقادي يقوم
عليه-او يدعي انه يقوم عليه-نظام اجتماعي ..وذلك بغض النظر عما بين اصل التصور
وحقيقة النظام الذي يقوم الن من فجوات ضخام!
كذلك سـائر مناهـج الحياة وأنظمتهـا الواقعيـة ،يسـميها أصـحابها (عقائد) ويقولون:
(عقيدتنا الجتماعية) او(عقيدتنا الوطنية) او(عقيدتنا القومية) ..وكلها تعبيرات صادقة في
تصوير حقي قة ال مر :و هو أن كل من هج للحياة او كل نظام للحياة هو (د ين) هذه الحياة،
ومن ثم فالذين يعيشون في ظل هذا المنهج او في ظل ذلك النظام ..دينهم هو هذا المنهج
او دينهم هو هذا النظام ..فان كانوا في منهج ال ونظامه فهم في (دين ال) ..وان كانوا
في منهج غيره او نظامه ،فهم في (دين غير ال).
10
www.ikhwan-info.net
اتجاه ،ول يوجه تصوراتهم وأفكارهم ومشاعرهم وأخلقهم ونشاطهم وارتباطاتهم في كل
اتجاه..
ل ..ول يس هناك د ين من ع ند ال هو من هج للخرة وحد ها ،ليتولى د ين آ خر من
عند غير ال وضع منهج للحياة الدنيا!
هذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري ..وذلك أن مقتضى هذا التقسيم
المفت عل أن يكون ل -سبحانه-جا نب وا حد من جوا نب هذه الحياة ينظ مه ،ويشرف عل يه،
وينح صر (اخت صاصه) ف يه ،ويكون لغير ال جوانب أخرى كثيرة ينظم ها ويشرف علي ها
(أرباب) اخرون ،يتعلق بها اختصاصهم.
انه-كما ترى -تصور مضحك للغاية ،مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا
النحو ،سيضحكون من أنفسهم ،ومن تفكيرهم ،ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم..
لو انهم رأوا المر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة ،وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
* * *
على أن للم سالة وجها آ خر ..إن (الشخ صية الن سانية) (وحدة) .وحدة في طبيعت ها
وكينونتهـا .وحدة تؤدي كـل وظائفهـا كوحدة .وهـي ل تسـتقيم فـي حركتهـا ول تتناسـق
خطواتها إل حين يحكمها منهج واحد منبثق في اصله من تصور واحد..
فأما حين تحكم ضمير النسان ووجدانه شريعة ،ثم تحكم واقعه ونشاطه شريعة..
و كل من هذه وتلك ينب ثق من ت صور مختلف ..هذه من ت صور الب شر ،وتلك من و حي
ال ..فان شخ صيته ت صاب ب ما يش به داء الف صام (شيزوفرن يا)! وي قع فري سة لهذا التمزق
بيـن واقعـه الشعوري الوجدانـي ،وواقعـه الحركـي العملي ،ويصـيبه القلق والحيرة ..كمـا
نشاهد اليوم في أرقى البلد الوروبية والمريكية ،ثمرة للصراع بين بقايا الوجدان الديني
الذابلة ووا قع الحياة العمل ية ،القائم على ت صورات وق يم ل عل قة ل ها بالوجدان الدي ني..
11
www.ikhwan-info.net
وذلك بعد (الفصام النكد) الذي وقع هناك بين الدين والحياة ،وكانت له أسبابه الخاصة في
تاريخ النصرانية بها(.)1
و(د ين ال) هو الذي يقدم التف سير الشا مل الكا مل للوجود ،وعلق ته بخال قه العظ يم.
ولمر كز الن سان في هذا الوجود؛ ولغا ية وجوده الن ساني ..و من ثم يحدد تحديدا سليما
نوع الرتباطات التـي تحقـق غايـة وجود النوع البشري ،فـي حدود مركـز هذا النوع فـي
الوجود ،وحقو قه المخولة له بح كم هذا المر كز ،والو سائل ال تي يبلغ ب ها هذه الغا ية ،ول
تخرج عن حدود حقو قه ومركزه ،وال تي يبلغ ب ها من ثم ر ضى خال قه العظ يم؛ و سعادة
الدنيـا والخرة ،بمنهـج واحـد ل يمزقـه كـل ممزق؛ ول يصـيب شخصـيته بداء الفصـام
اللعين! ول ينتهي به إلى التصادم مع فطرته وفطرة الكون كله في نهاية المطاف!
من ثم جاء كل د ين من ع ند ال ،يقدم للب شر ال ساس الت صوري العتقادي ،الذي
يقوم عليه نظام حياتهم كلها :الوجدانية والعملية ..جاء ليرد البشر إلى ربهم؛ ويرد نظام
حياتهـم إلى منهجـه المتفرد ..كمـا يقـع التواؤم والتناسـق بيـن ضميرهـم وواقعهـم؛ وبيـن
وجدانهم ونشاطهم؛ وبين حركتهم ونواميس الكون أيضا..
وجاء كل دين من عند ال لينفذ في الدنيا الواقع ،وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي
كله ،ل ليبقـى مجرد شعور وجدانـي قابـع فـي ضمائرهـم .ول مجرد تهذيـب روحـي فـي
أخلق هم .ول مجرد شعائر تعبد ية في محاريب هم وم ساجدهم؛ ول مجرد أحوال شخ صية
في جانب واحد من حياتهم" :وما أرسلنا من رسول إل ليطاع بإذن ال"..
[النساء]64 :
* * *
وهكذا جاءت التوراة تتضمن عقيدة وشريعة ،وكلف أهلها أن يتحاكموا إليها في كل
شؤون حياتهـم؛ ل أن يجعلوهـا مواعـظ تهذيبيـة ل تتجاوز وجدانهـم ،ول شعائر تعبديـة
يقيمونها في هياكلهم:
12
www.ikhwan-info.net
"إ نا أنزل نا التوراة في ها هدى ونور .يح كم ب ها ال نبيون الذ ين ا سلموا للذ ين هادوا،
والربانيون والحبار ،ب ما ا ستحفظوا من كتاب ال ،وكانوا عل يه شهداء ،فل تخشوا الناس
واخشون ،ول تشتروا بآيا تي ثمنا قليلً و من لم يح كم ب ما انزل ال فأولئك هم الكافرون.
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ،والعين بالعين والنف بالنف والذن بالذن ،والسن
بالسـن ،والجروح قصـاص .فمـن تصـدق بـه فهـو كفارة له .ومـن لم يحكـم بمـا انزل ال
فأولئك هم الظالمون".
[المائدة]45-44:
وهذا الذي ذكره القرآن من شريعة التوراة مثل للكثير الذي تحتويه ،والذي نظم به
موسى-عليه السلم -ومن بعده أنبياء بني إسرائيل حياتهم الواقعية عدة قرون.
ثم جاء المسيح-عليه السلم -بالنصرانية ..أرسله ال إلى بني إسرائيل -فهو أحد
أ نبيائهم -و من ثم جاء م صدقا لشري عة التوراة -مع ب عض تعديلت خفي فة ،لر فع ب عض
الثقال ال تي فر ضت علي هم في صورة عقوبات تأديب ية ،او كفارات عن مع صية؛ كالذي
أشار إليه القرآن الكريم:
"وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر .ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها-
إل مـا حملت ظهورهمـا او الحوايـا او مـا اختلط بعظـم -ذلك جزيناهـم ببغيهـم ،وإنـا
لصادقون"..
[النعام]146:
وقد أقرت هذه الشريعة المعدلة لتكون نظاما للحكم والحياة أيضا:
"وقفي نا على آثار هم بعي سى ا بن مر يم ،م صدقا ل ما ب ين يد يه من التوراة ،وآتيناه
النجيـل فيـه هدى ونور ،ومصـدقا لمـا بيـن يديـه مـن التوراة ،وهدى وموعظـة للمتقيـن.
وليحكم أهل النجيل بما انزل ال فيه .ومن لم يحكم بما انزل ال فأولئك هم الفاسقون".
[المائدة]47-46:
13
www.ikhwan-info.net
ثـم جاء محمـد-صـلى ال عليـه وسـلم -بالسـلم ،ل ينقـض الشرائع السـماوية
ال صحيحة قبله،ول كن ي صدقها ،ويهي من علي ها .ب ما ا نه الر سالة الخيرة الشاملة للبشر ية
كافة ،المعلنة عن الرشد النساني ،المتضمنة للتفسير الواسع الكلي ،الذي يقوم عليه نظام
الحياة النسانية ،الذي يخرج الناس من (الجاهلية) إلى (الربانية) ويكل واقعهم إلى شريعة
ال ،كما يكل ضمائرهم إلى تقوى ال:
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ،مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ..فاحكم
بينهـم بمـا انزل ال ،ول تتبـع أهواءهـم عمـا جاءك مـن الحـق .لكـل جعلنـا منكـم شرعـة
ومنهاجا.ولو شاء ال لجعلكم أمة واحدة ،ولكن ليبلوكم فيما آتاكم .فاستبقوا الخيرات .إلى
ال مرجعكم جميعا ،فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ..وان احكم بينهم بما انزل ال؛ ول تتبع
أهواءهم ،واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل ال إليك .فإن تولوا فاعلم إنما يريد ال
إنّ يصيبهم ببعض ذنوبهم .وان كثيرا من الناس لفاسقون ..أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن
احسن من ال حكما لقوم يوقنون".
[المائدة]50-48:
ومـن قبـل هذه الديانات الرئيسـية جاء كـل ديـن ليرد الناس إلى ربوبيـة ال وحده؛
والى من هج ال وحده ..وم نذ نوح-عل يه ال سلم -توالت الر سل على هذا المن هج الوا حد،
يختلف في تف صيلت الشري عة ويت فق في ا صل الت صور؛ و في الغا ية ال ساسية ال كبرى؛
وهــي :إخراج الناس مــن عبادة العباد إلى عبادة ال دون ســواه .وإبطال اللوهيات
والربوبيات الزائفة ورد اللوهية والربوبية إلى ال دون سواه..
وفـي موضـع آخـر يُجمـل القرآن الكريـم هذه الحقيقـة ..ويـبين طبيعـة ذلك المنهـج
الواحـد الموصـول بال .بمـا ان ال هـو خالق الكون والناس ،وبيده مقاليـد الكون والناس؛
و يبين كذلك مقام هذا الد ين الخ ير ،و سبب مجيئه مهيمنا على الجم يع ،ويعلن المفا صلة
بين أهل هذا الدين ،وسائر الجاهليين:
14
www.ikhwan-info.net
"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى ال .ذلكم ال ربي ،عليه توكلت ،واليه أنيب.
فاطر السموات والرض ،جعل لكم من أنفسكم أزواجا ،ومن النعام ازواجا ،يذرؤكم فيه،
ل يس كمثله ش يء و هو ال سميع الب صير .له مقال يد ال سماوات والرض،يب سط الرزق ل من
يشاء ويقدر ،إ نه ب كل ش يء عل يم .شرع ل كم من الد ين ما و صى به نوحا والذي أوحي نا
إليك ،وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى :أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه .كبر على
المشركين ما تدعوهم إليه .ال يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .وما تفرقوا إل
من ب عد ما جاء هم العلم ،بغيا بين هم ،ولول كل مة سبقت من ربك إلى ا جل م سمى لق ضي
بين هم .وان الذ ين أوتوا الكتاب من بعد هم ل في شك م نه مر يب ..فلذلك فادع وا ستقم ك ما
امرت ،ول تتبع أهواءهم .وقل :آمنت بما انزل ال من الكتاب ،وأمرت لعدل بينكم .ال
ربنا وربكم .لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .ل حجة بيننا وبينكم .ال يجمع بيننا واليه المصير".
[الشورى]15-10:
وفيما يروي لنا القرآن عن شعيب-عليه السلم-وعن قومه ،أهل مدين ،يرد ذكر
التشريـع للحياة العمليـة ،واعتراض القوم عليـه ،لعدم إدراكهـم طبيعـة الديـن :وانـه منهـج
للحياة شامل ،ل للضمير المكنون وحده ،ول للشعائر التعبدية في الهياكل-شأنهم شأن أهل
الجاهلية الحاضرة سواء!:
"والى مدين أخاهم شعيبا .قال :يا قوم اعبدوا ال ما لكم من اله غيره؛ ول تنقصوا
المكيال والميزان .أ ني أرا كم بخ ير ،وإ ني أخاف علي كم عذاب يوم مح يط .و يا قوم أوفوا
المكيال والميزان بالقسط ،ول تبخسوا الناس أشياءهم ،ول تعثوا في الرض مفسدين ،بقية
ال خير لكم إن كنتم مؤمنين ،وما انا عليكم بحفيظ ..قالوا :يا شعيب أصلتك تأمرك أن
نترك ما يعبد آباؤنا ،أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ انك لنت الحليم الرشيد."!..
[هود]87-84:
كذلك تبدو تلك الحقيقة في حكاية القرآن الكريم لقول صالح-عليه السلم-لقومه:
15
www.ikhwan-info.net
"فاتقوا ال وأطيعون .ول تطيعوا أمـر المسـرفين .الذيـن يفسـدون فـي الرض ول
يصلحون"..
[الشعراء]152-150:
فهو يردهم إلى دين ال ومنهجه للحياة ،عن دين المسرفين المفسدين ومنهجهم ..أي
انه يردهم من العبودية للعبيد ،إلى العبودية ل في نظام الحياة.
وفـي موضـع آخـر يحدد ال وظيفـة الرسـل كافـة ،ووظيفـة كتاب ال عامـة :بأنهـا
الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه:
"كان الناس أ مة واحدة .فب عث ال ال نبيين مبشريـن ومنذريـن ،وانزل معهـم الكتاب
بالحق ،ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"..
[البقرة]213:
فينت هي كل جدل في وظي فة الكتاب و في وظي فة الر سل .ويتحدد مع نى د ين ال،
ومرادفته لنظام الحياة الذي يريده ال..
* * *
ول حا جة ب نا إلى الطالة اك ثر من هذا -في الب حث المج مل -عن طبي عة (الد ين)
وشموله لنظام الحياة الواقع ية .فا نه ل مع نى للد ين أ صلً إذا هو تخلى عن تنظ يم الحياة
الواقعية؛ بتصوراته الخاصة ،ومفاهيمه الخاصة ،وشرائعه الخاصة ،وتوجيهاته الخاصة،
فهذه الحياة الن سانية ل بد أن يقوم نظام ها ال ساسي على قاعدة الت صور العتقادي ،الذي
يفسر حقيقة الوجود ،وعلقته بخالقه ،ومركز النسان فيه ،وغاية وجوده النساني ،ونوع
الرتباطات ال تي تح قق هذه الغا ية .سواء الرتباطات ب ين الن سان ور به .او الرتباطات
بين النسان والكون من حوله .او الرتباطات بين النسان وسائر الحياء .او الرتباطات
بين بني النسان .كما يرتضيها ال لعباده.
16
www.ikhwan-info.net
وإل ي جئ هذا التف سير الشا مل الكا مل من ع ند ال ،وإل يق يم نظام الحياة كله على
هذا التف سير الشا مل الكا مل ،ف هي إذن أهواء الب شر .و هي إذن ( الجاهل ية) ال تي جاء كل
دين من عند ال لخراج الناس منها ،ورفعهم إلى (الربانية).
وإل تكن العبودية ل وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد..
وقد جاء دين ال لتحرير العباد من عبادة العبيد!
ل حا جة ب نا للطالة اك ثر من هذا في هذه الحقي قة البديه ية ال تي ما كان يجوز أن
تكون موضـع جدال .لول تلك الملبسـات النكدة التـي قامـت فـي أوروبـا ،وأدت إلى ذلك
( الفصام النكد) بين الدين والدولة .بل بين الدين والحياة.
إن ما الم هم أن نل قي الن نظرة سريعة على تلك الملب سات النكدة ..ال تي ع صمنا
منها ال في تاريخنا وديننا .فاجتلبنا ثمارها النكدة لنفسنا من هناك!
17
www.ikhwan-info.net
الفصَــامُ ال ّنكِـــدْ
ل يس من طبي عة (الد ين) أن ينف صل عن الدن يا ول يس من طبي عة المن هج الل هي أن
ينح صر في المشا عر الوجدان ية ،والخلقيات التهذيب ية ،والشعائر التعبد ية .او في ر كن
ضيق من أركان الحياة البشرية ..ركن ما يسمونه (الحوال الشخصية).
ل يس من طبي عة (الد ين) أن يفرد ل -سبحانه -قطاعا ضيقا في ر كن ضئ يل-او
سلبي -في الحياة البشرية ،ثم يسلم سائر قطاعات الحياة اليجابية العملية الواقعية للهة
أخرى وأرباب متفرقيـن ،يضعون القواعـد والمذاهـب ،والنظمـة والوضاع ،والقوانيـن
والتشكيلت على أهوائهم ،دون الرجوع إلى ال!
ليـس مـن طبيعـة (الديـن) أن يشرع طريقا للخرة ،ل يمـر بالحياة الدنيـا! طريقا
ينت ظر الناس في نهاي ته فردوس الخرة عن غ ير طر يق الع مل في الرض ،وعمارت ها،
والخلفة فيها عن ال ،وفق منهجه الذي ارتضاه!
ليـس مـن طبيعـة (الديـن) أن يكون هذا المسـخ الشائه الهزيـل! ول هذه اللعوبـة
المزو قة التي يل هو ب ها الطفال! ول هذه المرا سم التقليدية ال تي ل عل قة ل ها بن ظم الحياة
العملية!
ليـس مـن طبيعـة (الديـن) -أي ديـن فضلً عـن ديـن ال -أن يكون هذا العبـث
الممسوخ الهزيل ..فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك (الفصام
النكد) بين الدين والحياة ؟.
لقد تم ذلك (الفصام النكد) في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا..
ثـم فـي الرض كلهـا ،حيـن طغـت التصـورات الغربيـة ،والنظمـة الغربيـة ،والوضاع
الغربية ،على البشرية كلها في مشارق الرض ومغاربها..
ولم يكـن بـد-وقـد انفصـمت حياة المخاليـق عـن منهـج الخالق -ان تسـير فـي هذا
الطريـق البائس؛ وان تنتهـي إلى هذه النهايـة التعيسـة؛ وان تحيـط بالبشـر الدائرة التـي
18
www.ikhwan-info.net
يتعذبون الن فـي داخلهـا ،ويذوق بعضهـم بأس بعـض ،بينمـا هـم عاجزون عـن معرفـة
طريق الخلص منها ..وهم يصطرخون فيها.!!..
ول يس ه نا مجال الحد يث عن الشقوة ال تي ت صطرخ في ها البشر ية ف سيجيء ش يء
عنها في الفصول التالية .فلنعد إلى الحديث عن تلك الظروف النكدة ،التي وقع فيها ذلك
(الفصام النكد).
* * *
لقد جاءت اليهودية لتكون منهجا لحياة بني إسرائيل-كما جاء كل دين قبلها ليكون
من هج حياة ل من جاء هم -كذلك جاءت الن صرانية -ب عد اليهود ية -لتكون المن هج المعدل
لبني إسرائيل.
ول كن اليهود لم يقبلوا ر سالة الم سيح-عل يه ال سلم -ولم يقبلوا م نه التخف يف الذي
جاءهم به من عند ال .وهو يقول لهم-كما حكى القرآن الكريم:
"ومصدقا لما بين يدي من التوراة ،ولحل لكم بعض الذي حرم عليكم ،وجئتكم بآية
من ربكم ،فاتقوا ال وأطيعون"..
[آل عمران]50:
ومـن ثـم قاوموا المسـيح-عليـه السـلم -وقاوموا دعوتـه إلى السـماحة والسـلم
والتط هر الرو حي ،والتخ فف من المرا سم الشكل ية ال تي ل ر صيد ل ها من تقوى القلوب!
وانتهى بهم المر إلى إغراء (بيلطس) الحاكم الروماني على ارض الشام يومئذ بمحاولة
قتل المسيح-عليه السلم-وصلبه .لول أن توفاه ال ورفعه إليه (في صورة ل نعلم كيفيتها
لنه ليس عندنا نص قاطع من قرآننا ول سنة نبينا عليها).
وأ يا ما كان ال مر ،ف قد سارت المور ب عد ذلك الح ين ب ين اليهود واتباع عي سى-
عل يه ال سلم -سيرتها البائ سة .فبذرت بذور الح قد على اليهود في نفوس الذ ين صاروا
نصـارى .كمـا بذرت بذور الكره فـي نفوس اليهود على هؤلء! وانتهـت بانفصـال اتباع
الم سيح عن اليهود ،وانف صال الن صرانية عن اليهود ية (و هي جاءت في ال صل لتكون
19
www.ikhwan-info.net
تجديدا لليهودية وتعديلً طفيفا في أحكامها ،مع الحياء الروحي والتهذيب الخلقي العميق
الواضح في دعوة المسيح عليه السلم).
ول ما وق عت الجفوة والفر قة -بل البغضاء والح قد -ب ين اتباع عي سى عل يه ال سلم
واليهود ،انفصل كتابهم النجيل-في حسهم -عن التوراة-وان بقيت التوراة وكتبها معدودة
عندهم من الكتاب المقدس -وانفصلت شريعتهم عن شريعة التوراة .بينما جسم الشريعة
لب ني إ سرائيل كل هم في التوراة ..وبذلك لم ي عد للن صرانية بهذا النف صال شري عة مف صلة
تنظم الحياة!
ولكن التصور العتقادي-كما جاء به المسيح عليه السلم من عند ال -كان كفيلً-
لو ظل سليما -أن يقدم التفسير الصحيح للوجود ،ولمركز النسان في هذا الوجود ،ولغاية
وجوده النسـاني ..هذا التفسـير الذي يمكـن ان يقوم عليـه نظام اجتماعـي .كمـا كان ذلك
التصور -لو ظل سليما كما جاء من عند ال -كفيلً أن يرد النصارى إلى الشريعة التي
تضمنت ها التوراة ،مع التعديلت ال تي جاء ب ها الم سيح للتخف يف في ب عض تكال يف العبادة
وتكاليف الحياة.
غير ان الذي حدث ،هو ان عهدا طويلً من الضطهاد الفظيع قد اظل اتباع عيسى
عل يه ال سلم .سواء من اليهود المنكر ين ،او من الرومان الوثني ين ،الذ ين كانوا يحكمون
و طن الم سيح .م ما اض طر الحواري ين-تلم يذ الم سيح -واتباع هم وتلميذ هم الى التخ في،
والتن قل والع مل سرا ،فترة من الو قت طويلة .وم ما اضطر هم كذلك إلى تنا قل ن صوص
النجيل ،وتاريخ عيسى عليه السلم ،وأحداث الفترة التي عاشها بينهم تناقلً خاطفا ،في
ظروف ل تسمح بالدقة ول بالتواتر ..مما انتهى إلى رواية نصوص النجيل الذي أنزله
ال على عي سى-عل يه ال سلم -في ثنا يا روايات عن حيا ته وأعماله؛ يختلف بعض ها عن
ب عض؛ في ما سمي بالناج يل ..و هي كلم هؤلء التلم يذ وروايات هم عن حياة الم سيح،
متضمنة في ثناياها بعض ما يروى من كلم السيد المسيح ..وقد كتب اقدم هذه الناجيل
بعد المسيح بجيل كامل ،ويختلف المؤرخون للنصرانية اختلفا كبيرا في تحديد تاريخه ما
20
www.ikhwan-info.net
بين 40سنة و 64سنة ،ك ما يختلفون في اللغة ال تي ك تب ب ها ..إذ لم تو جد سوى ترجمة
له..
ولقـد كان مـن نصـيب (بولس) ( الذي لم يـر المسـيح -عليـه السـلم -وإنمـا دخـل
النصرانية من الوثنية الرومانية) أن يتولى نشر النصرانية في أوروبا .مطعمة بما رسب
في ت صوراته من الوثن ية والفل سفة الغريق ية ..وكا نت هذه كار ثة على الن صرانية م نذ
أيامها الولى في أوروبا ..فوق ما لحق بها من تحريف في فترة الضطهاد الولى .فترة
تناقل الروايات في ظروف ل تسمح بتمحيصها ول بتواترها!.
(وكتب بولس رسائله بعد ذلك-بعد القرن الول الميلدي -وهي شاهد على امتزاج
المثلة الدينيـة بصـور الفلسـفة-ول سـيما فلسـفة الحلول -وكان يقول :ان المسـيح جالس
على يم ين ال ،ويد عو ل من يطلب ل هم الخ ير "أن ت سكن في هم كلم ته" وي سأل ل هم الغفران
منه ،ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الرض! ويبدو من جملة كلمه انه كان
ينتظر معاده في زمن قريب .وكثيرا ما أشار إليه-صلوات ال عليه -باسم":ربنا يسوع
المسيح"! وسمى نفسه باسم":رسول يسوع المسيح بحسب أمر ال مخلصنا وربنا يسوع
المسيح!") (.)1
* * *
ول كن الكار ثة العظ مى كا نت في الحدث الذي تم ب عد ذلك .وكان ظاهره انت صار
النصـرانية ،وهـو دخول المـبراطور الرومانـي (قسـطنطين) فـي النصـرانية ،واسـتطاعة
الحزب النصراني أن يصبح هو الحاكم سنة 355م.
ويصف درابر المريكي في كتابه(الدين والعلم) هذا الحادث وآثاره النكدة يقول:
( دخلت الوثنيـة والشرك فـي النصـرانية بتأثيـر المنافقيـن ،الذيـن تقلدوا وظائف
خطيرة ،ومناصـب عاليـة فـي الدولة الروميـة ،بتظاهرهـم بالنصـرانية ولم يكونوا يحفلون
21
www.ikhwan-info.net
بأمر الدين ،ولم يخلصوا له يوما من اليام ..وكذلك كان (قسطنطين) ..فقد قضى عمره
في الظلم والفجور؛ ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إل قليلً في آخر عمره (سنة 337م).
( ان الجماعـة النصـرانية ،وان كانـت قـد بلغـت مـن القوة بحيـث ولت قسـطنطين
الملك ،ولكن ها لم تتم كن من أن تق طع دابر الوثن ية ،وتقلع جرثومت ها .وكان نتي جة كفاح ها
ان اختلطـت مبادئهـا ،ونشـأ مـن ذلك ديـن جديـد ،تتجلى فيـه النصـرانية والوثنيـة سـواء
بسواء ..هنالك يختلف السلم عن النصرانية ،إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتا،
ونشر عقائد خالصة بغير غبش ..
(وان هذا المـبراطور الذي كان عبدا للدنيـا ،والذي لم تكـن عقائده الدينيـة تسـاوي
شيئا ،رأى لم صلحته الشخ صية ،ولم صلحة الحزب ين المتناف سين-الن صراني والوث ني-ان
يوحده ما ويؤلف بينه ما :ح تى إن الن صارى الرا سخين أيضا لم ينكروا عل يه هذه الخ طة.
ولعلهـم كانوا يعتقدون أن الديانـة الجديدة سـتزدهر إذا طعمـت ولقحـت بالعقائد الوثنيـة
القديمة! وسيخلص الدين النصراني عاقبة المر من أدناس الوثنية وأرجاسها) (.)1
* * *
ول كن الديا نة الجديدة لم تتخلص-ب عد ذلك -قط من أدناس الوثن ية وأرجا سها-ك ما
أمل النصارى الراسخون -فقد ظلت تتلبس بهذه الساطير والتصورات الوثنية .ثم زادت
الطينة بلة .فأصبحت تتلبس كذلك بالخلفات السياسية والعنصرية ،وأصبحت العقيدة تغير
وتنقح لتحقيق أهداف سياسية:
يقول (الفرد بتلر) في كتا به( :فتح العرب لمصر) ترج مة ال ستاذ (مح مد فر يد أبو
حديد):
(إن ذينـك القرنيـن-الخامـس والسـادس -كانـا عهـد نضال متصـل بيـن المصـريين
والروماني ين .نضال يذك يه اختلف في الج نس واختلف في الد ين .وكان اختلف الد ين
اشد من اختلف الجنس إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت ،تلك العداوة بين (الملكانية) و
() نقلً عن كتاب" :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" للسيد أبي الحسن الندوي. 1
22
www.ikhwan-info.net
(المونوفيسـية) وكانـت الطائفـة الولى-كمـا يدل عليهـا اسـمها -حزب مذهـب الدولة
المبراطورية ،وحزب الملك والبلد .وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة-وهي ازدواج
طبيعة المسيح -على حين أن الطائفة الخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين-أهل مصر-
كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها ،وتحاربها حربا عنيفة ،في حماسة هوجاء ،يصعب
علينا ان نتصورها ،او نعرف كنهها في قوم يعقلون .بله يؤمنون بالنجيل!)..
ويقول (ت.و.أرنولد) فـي كتابـه( :الدعوة إلى السـلم) ترجمـة حسـن إبراهيـم
وزميليه ،عن هذا الخلف الطائفي السياسي العنصري وآثاره في البتداعات والضافات
والتعديلت في النصرانية:
"… ولقد افلح (جستنيان) قبل الفتح السلمي بمئة عام في ان يكسب المبراطورية
الرومانية مظهرا من مظاهر الوحدة .ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته ،وأصبحت في
حاجة ماسة إلى شعور قوي مشترك ،يربط الوليات وحاضرة الدولة".
(أ ما هر قل ف قد بذل جهودا لم ت صادف نجاحا كاملً في إعادة ر بط الشام بالحكو مة
المركزية .ولكن ما اتخذه من و سائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى-ل سوء الحظ -إلى
زيادة النق سام ،بدلً من القضاء عل يه .ولم ي كن ث مة ما يقوم مقام الشعور بالقوم ية سوى
العوا طف الدين ية .فحاول بتف سيره العقيدة تف سيرا ي ستعين به على تهدئة النفوس ،ان ي قف
مـا يمكـن ان يشجـر بعـد ذلك بيـن الطوائف المتناحرة مـن خصـومات ،وان يوحـد بيـن
الخارجين على الدين وبين الكنيسة الرثوذكسية؛ وبينهم وبين الحكومة المركزية) (.)1
(وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة 451ميلدية أن المسيح ينبغي أن يعترف
بأ نه يتم ثل في طبيعتيه ،ل اختلط بينه ما ،ول تغ ير ،ول تجزؤ ،ول انف صال .ول يم كن
أن ينت في خلفه ما ب سبب اتحاده ما .بل الحرى أن تحت فظ كل طبي عة من ها بخ صائصها،
() يدل هذا النص على أن جهود المبراطور لتفسير الدين لم تكن من أجل الدين ولكنها كانت محاولة سياسية بحتة 1
دفعه إليها ضعف "القومية" التي تربط بين أجزاء المبراطورية .فأراد أن يتخذ من الدين صنما آخر بدلً من صنم
القومية !!!
23
www.ikhwan-info.net
وتجت مع في أقنوم وا حد ،وج سد وا حد .ل ك ما لو كا نت متجزئة او منف صلة في أقنوم ين.
بل مجتمعة في أقنوم واحد :هو ذلك البن ،وال ،والكلمة)..
(وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع ،وكانوا ل يعترفون في المسيح إل بطبيعة واحدة.
وقالوا :انه مركب القانيم .له كل الصفات اللهية والبشرية .ولكن المادة التي تحمل هذه
الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة القانيم..
وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الرثوذكس وبين اليعاقبة
الذ ين ازدهروا بو جه خاص في م صر والشام والبلد الخار جة عن نطاق المبراطور ية
البيزنطية ،في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلح ذات البين ،عن طريف المذهب
القائل بان للم سيح مشيئة واحدة ..ف في الو قت الذي ن جد ف يه .هذا المذ هب يعترف بوجود
الطـبيعتين ،إذا بـه يتمسـك بوحدة القنوم فـي حياة المسـيح البشريـة .وذلك بإنكاره وجود
نوعيـن مـن الحياة فـي أقنوم واحـد .فالمسـيح الواحـد-الذي هـو ابـن ال-يحقـق الجانـب
النساني والجانب اللهي ،بقوة إلهية إنسانية واحدة .ومعنى هذا انه ل يوجد سوى إرادة
واحدة ،في الكلمة المتجسدة..
لكـن هرقـل قـد لقـي المصـير الذي انتهـى إليـه كثيرون جدا ممـن كانوا يأملون أن
يقيموا دعائم السلم .ذلك بان الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب .بل إن
هرقل نفسه قد وصم باللحاد ،وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء(.)1
* * *
هذه الملبسـات التـي عاجلت النصـرانية فـي بدء نشأتهـا أولً ،ثـم عنـد انتصـارها
ال سياسي على ذلك الن حو ثانيا ،ثم ما تل ذلك النت صار من خلفات سياسية وعن صرية
وتحريفات وتعديلت في العقيدة بسببها ثالثا..
كل أولئك قد مل التصور العتقادي فيها بعناصر غريبة كل الغرابة على طبيعتها،
وعلى طبيعـة(الديـن اللهـي) كله ..ومـن ثـم لم يعـد التصـور النصـراني-كمـا صـنعته
24
www.ikhwan-info.net
التحريفات المتوالية أولً ثم كما صاغته المجامع المقدسة العامة والخاصة أخيرا( - )2قادرا
على أن يعطي التفسير اللهي للوجود وحقيقته ،وحقيقة صلته بخالقه .وحقيقة هذا الخالق
وصفاته ،وحقيقة الوجود النساني وغايته وطريقه ..هذه المقومات التي لبد أن تصح كي
يصح النظام الجتماعي الذي ينبثق منها ،ويقوم بعد ذلك عليها.
* * *
غ ير أن ال مر لم ي قف ع ند ف ساد الت صور العتقادي على هذا الن حو؛ بل م ضت
الملبسات النكدة في طريقها خطوات أخرى عاثرة!
ل قد أرادت الكني سة أن تقـف في وجـه الترف الرومانـي ،وال سعار الشهوا ني الذي
كا نت المبراطور ية الرومان ية قد انت هت ال يه ،ق بل دخول ها في الن صرانية ،والذي ي صفه
درابر المريكي في كتابه (الدين والعلم) بقوله:
"لمـا بلغـت الدولة الروميـة فـي القوة الحربيـة والنفوذ السـياسي اوجهـا ،ووصـلت
الحضارة إلى أقصـى الدرجات ..هبطـت فـي فسـاد الخلق ،وفـي النحطاط فـي الديـن
والتهذ يب إلى أ سفل الدركات ..ب طر الرومان معيشت هم واخلدوا إلى الرض ،وا ستهتروا
استهتارا ،وكان مبدؤهم ان الحياة إنما هي فرصة للتمتع ،ينتقل فيها النسان من نعيم إلى
ترف ،و من ل هو إلى لذة .ولم ي كن اعتدال هم إل ليطول ع مر اللذة! كا نت موائد هم تز هو
بأوا ني الذ هب والف ضة مر صعة بالجوا هر ،ويح تف ب هم خدم في مل بس جميلة خل بة،
وغادات روميـة حسـان ،وغوان كاسـيات عاريات غيـر متعففات تدل دللً .ويزيـد فـي
نعيمهـم حمامات باذخـة ،ومياديـن للهـو واسـعة ،ومصـارع يتصـارع فيهـا البطال مـع
البطال ،أو مع السباع؛ ول يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعا يتشحط في
دمـه .وقـد أدرك هؤلء الفاتحون الذيـن دوخوا العالم ،انـه ان كان هناك شيـء يسـتحق
العبادة فهـو القوة ،لنـه بهـا يقدر النسـان ان ينال الثروة التـي يجمعهـا أصـحابها بعرق
الجـبين وكـد اليميـن ،وإذا غلب النسـان فـي سـاحة القتال بقوة سـاعده ،فحينئذ يمكـن أن
() يراجع بالتفصيل كتاب محاضرات في النصرانية للستاذ محمد أبو زهرة. 2
25
www.ikhwan-info.net
يصـادر الموال والملك ،ويعيـن إيرادات القطاع ،وان راس الدولة الروميـة هـو رمـز
لهذه القوة القاهرة ،فكان نظام رومة يشف عن أبهة الملك .ولكنه كان طلء خادعا كالذي
نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها(.)1
أرادت الكنيسة أن تقف في وجه هذا السعار الجامح ،وهذا التردي الكاسح ..ولكنها
لم تسلك إليه طريق الفطرة السوية المعتدلة المتزنة ،ول كان قد بقي بين يديها من حقيقة
التصور النصراني الصحيح ما تقيم به الميزان بين الناس بالقسط ،ول ما تقيم به الميزان
بين الفراط والتفريط في وظائف فطرتهم الطبيعية.
عندئذ اند فع في الجا نب ال خر تيار من (الرهبان ية) العات ية ،لعل ها كا نت اشأم على
البشريـة مـن بهيمـة الرومان الوثنيـة .واصـبح الحرمان مـن طيبات الحياة ،وسـحق
الخصائص الفطرية في النسان ،ومحق الطاقات والستعدادات التي خلقها ال فيه لتكفل
بقاء النوع من ناح ية ،ك ما تك فل عمارة الرض والقيام بفرائض الخل فة في ها من ناح ية
أخرى ..ا صبح هذا النحراف العا تي عن الفطرة هو عنوان الكمال والتقوى والفضيلة..
المر الذي لم يأذن به ال ،ول يمكن أن تستقيم معه حياة!
ولم ينشـئ ذلك علجا لذلك النحلل .ولكنـه انشـأ صـراعا بيـن طرفيـن جامحيـن،
كلهما بعيد عن جادة الفطرة وحقيقة حاجات النسان.
ويصور (ليكى) في كتابه( :تاريخ أخلق أوروبا) ما كان عليه العالم النصراني في
ذلك العصر من التاريخ بين الرهبانية والفجور ..بقوله:
"إن التبذل والسفاف قد بلغا غايتهما في أخلق الناس واجتماعهم .وكانت الدعارة
والفجور ،والخلد إلى الترف ،والتســاقط على الشهوات ،والتحلق فــي مجالس الملوك
وأنديـة الغنياء والمراء ،والمسـابقة فـي زخارف اللباس والحلي والزينـة فـي حدتهـا
() عن كتاب " :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للستاذ أبي الحسن الندوي. 1
26
www.ikhwan-info.net
وشدت ها ..كا نت الدن يا في ذلك الح ين تتأر جح ب ين الرهبان ية الق صوى والفجور الق صى.
وان المدن التي ظهر فيها اكثر الزهاد كانت اسبق المدن في الخلعة والفجور(.)2
وهكذا ع جز نظام الرهب نة ،المنب ثق من ت صورات كن سية ومجمع ية منحر فة عن
اصـل التصـور النصـراني الربانـي ،عـن أن يكون حتـى نظاما أخلقيا للعالم النصـراني.
وخلف في النفوس جفوة للدين-والدين منه براء!-وترك فيها تحفزا للنتقاض عليه وعلى
نظامه الذي ل تطيقه الفطرة ..وكان عاملً نكدا من عوامل ذلك ( الفصام النكد) في نهاية
المطاف!
* * *
ثم كا نت الطا مة يوم اكت شف الناس ،الذ ين تأخذ هم الكني سة بهذا الحرمان القا سي،
وتنذرهم باستحالة نفاذهم إلى الجنة إذا هم زاولوا من طيبات الحياة شيئا!..
نقول :كا نت الطا مة يوم اكت شف الناس ان حياة رجال الكني سة الشخ صية ،ل ت عج
بالمتاع بالطيبات فحسب! ول تسقط في الترف فحسب! وإنما هي تعج بالفواحش والمناكر
في اشد صورها شذوذا وفحشا ونكرا!
يقول درابر في كتابه( :الدين والعلم):
لم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إل مصادمة للفطرة .فبقيت مقهورة بعوامل
الديانة الجديدة وسلطانها الروحي ،وساعدتها عوامل أخرى .ثم قهرت الطبيعة ،وتسرب
الض عف والنحراف إلى المرا كز الدين ية ،ح تى صارت تزا حم المرا كز الدنيو ية-ورب ما
تسـبقها فـي فسـاد الخلق والدعارة والفجور .لذلك وقفـت الحكومـة المآدب الدينيـة،
والولياء وذكريات هم ،ال تي وجدت في ها الخل عة والفجور ح مى ومرتعا ،وات هم الق سوس
بكبائر ومنكرات.
(ويقول الرا هب جروم ( : )jerumeان ع يش الق سوس ونعيم هم كان يزري بترف
المراء والغنياء المترفيـن .وقـد انحطـت أخلق البابوات انحطاطا عظيما ،واسـتحوذ
() عن كتاب " :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للستاذ أبي الحسن الندوي. 2
27
www.ikhwan-info.net
عليهم الج شع و حب المال ،وعدوا طور هم ،حتى ان هم كانوا يبيعون المناصب والوظائف
كالسـلع ،وقـد تباع بالمزاد العلنـي ،ويؤجرون ارض الجنـة بالوثائق والصـكوك وتذاكـر
الغفران ،ويأذنون بنقــض القانون ،ويمنحون شهادات النجاة ،وأجازات حــل المحرمات
والمحظورات ،كأوراق النقد وطوابع البريد ،ويرتشون ويرابون .وقد بذروا المال تبذيرا،
حتى اضطر البابا (إنوسنت الثامن) أن يرهن تاج البابوية! ويذكر عن البابا (ليو العاشر)
انه انفق ما ترك البابا السابق من ثروة واموال ،وانفق نصيبه ودخله ،واخذ إيراد خليفته
المترقـب سـلفا وأنفقـه! ويروى ان مجموع دخـل فرنسـا لم يكـن يكفـي البابوات لنفقاتهـم
وإرضاء شهواتهم!) (.)1
ومسألة صكوك الغفران التي يشير إليها درابر في الفقرة السابقة ،كانت الكنيسة قد
قررت أن تم نح لنف سها ال حق في إعطائ ها في أ حد المجا مع الكن سية الكثيرة ،ال تي كا نت
تجتمـع بيـن الحيـن والحيـن .وتغيـر وتبدل وتحرف وتنشـئ وتضيـف مـا تشاؤه الهواء
(المقدسة!) إلى العقيدة النصرانية!
(و قد جاء فـي كتاب :تاريـخ الكني سة في بيان قرار المج مع الثانـي ع شر فـي هذا
الشأن:
(أنهى المجمع تعليمه ،فيما يتعلق بأمر الغفران ،فقال :ان يسوع المسيح لما كان قد
قلد كني سته سلطان م نح الغفرانات ،و قد ا ستعملت الكني سة هذا ال سلطان الذي نال ته من
العلي منذ اليام الولى ،قد أعلم المجمع المقدس وأمر ،بان تحفظه للكنيسة ،في الكنيسة،
هذه العمل ية الخل صية للش عب الم سيحي ،والمثب تة ب سلطان المجا مع ..ثم ضرب ب سيف
الحرمان من يزعمون ان الغفرانات غ ير مفيده ،او ينكرون على الكني سة سلطان منح ها.
غير انه قد رغب في ان يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز ،حسب العادة المحفوظة
قديما ،والمثبتة في الكنيسة ،لئل يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل).
"…وهذا نص صك الغفران ،الذي كان يباع بيع السلعة":
() عن كتاب " :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للستاذ أبي الحسن الندوي. 1
28
www.ikhwan-info.net
(ربنـا يسـوع يرحمـك (يـا فلن) ،ويحلك باسـتحقاقات المـة الكليـة القداسـة .وأنـا
بالسلطان الرسولي المعطى لي ،احلك من جميع القصاصات ،والحكام والطائلت الكنسية
ال تي ا ستوجبتها وأيضا من جم يع الفراط والخطا يا والذنوب ال تي ارتكبت ها-مه ما كا نت
عظيمـة وفظيعـة -ومـن كـل علة-وان كانـت محفوظـة لبينـا القدس البابـا والكرسـي
الرسولي -وأمحو جميع أقذار الذنب ،وكل علمات الملمة ،التي ربما جلبتها على نفسك
في هذه الفرصة .وارفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر؛ وأردك حديثا
إلى الشر كة في أ سرار الكني سة ،وأقر نك في شر كة القدي سين .أردك ثان ية إلى الطهارة
والبر اللذ ين كا نا لك ع ند معمودي تك ،ح تى ا نه في ساعة الموت يغلق أما مك الباب الذي
يد خل م نه الخ طأ إلى م حل العذاب والعقاب ،ويف تح الباب الذي يؤدي الى فردوس الفرح.
وان لم تمت سنين مستطيلة ،فهذه النعمة تبقى غير متغيرة ،حتى تأتي ساعتك الخيرة..
باسم الب والبن والروح القدس.)1( )..
فإذا أضفنا هذه إلى تلك ..إذا أضفنا عنت الكنيسة في اخذ الناس بالحرمان القاسي،
باسم الدين-والدين بريء! -إلى ترف رجال الكنيسة وفساد حياتهم ..إلى مهزلة صكوك
الغفران ،أدركنا طرفا من تلك الملبسات النكدة ،التي أدت في النهاية إلى (الفصام النكد)
في تاريخ أوروبا المنكود!..
* * *
غير أن ال مر لم ي قف ع ند هذه الحدود ..ف قد دخلت الكني سة في نزاع طو يل وحاد
مع الباطرة والملوك-ل على الدين والخلق -ولكن على السلطة والنفوذ.
وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والمبراطورية في القرن الحادي عشر ،فاشتدت
بعنـف ،وحمـى وطيسـها ،وانتصـرت فيهـا البابويـة أولً حتـى أن هنري الرابـع ممثـل
المبراطوريـة اضطـر فـي سـنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحـو البلط البابوي فـي قلعـة
كانو سا ..ولم ي سمح له البا با بالدخول إل ب عد أن يش فع له الرجال ،ف سمح له بالمثول ب ين
() من كتاب " :محاضرات في النصرانية " للستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. 1
29
www.ikhwan-info.net
يد يه ،فد خل ال مبراطور حافيا .لب سا ال صوف ،وتاب على يد يه؛ فغ فر له البا با زل ته..
وكانت الحرب بين البابوية والمبراطورية بعد ذلك سجالً حتى ضعفت البابوية(.)1
وقد حدث في سنة -1245كما جاء في كتاب (سوسنة سليمان)-أن المجمع الثالث
عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا ،بأمر البابا( .إنوسنت) الرابع ،لجل عزل فردريك
ملك فرنسا وحرمه .ولكن كنيسة فرنسا لم تسلم بصحته او بسلطانه! (.)2
ولمـا كانـت الكنيسـة-إلى جوار صـراعها مـع الباطرة والملوك على السـلطة -قـد
فرضت لنفسها سلطانا على الجماهير؛ واستغلته ابشع استغلل ،في فرض التاوات المالية
الباه ظة ال تي ت جبى إلي ها مباشرة؛ م ما ج عل الناس يئنون ت حت هذا الرهاق ،ف قد ا ستغل
الحكام ال ساخطون هذا الض غط العام ليثيروا ال سخط العام على الكني سة؛ وا ستخدموا لهذه
الغاية كل وسيلة؛ وفي أولها فضح رجال الدين؛ وكشف أقذارهم وأدناسهم ،وبيان خبايا
حياتهم الشخصية ،التي يخفونها وراء وقار الزي الكهنوتي والمراسم الكنسية!!!
* * *
وكانت القاصمة التي تم بها ذلك (الفصام النكد) وانتهى بها المر في أوروبا بين
الدين والحياة ،وانقطع بها نهائيا ما بين التصور العتقادي والنظام الجتماعي من سبب..
بل كانت الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة الغربية على نفسها ،وعلى الدين النصراني،
ثم على الدين كله في الرض جميعا-إلى أن يأذن ال بتغيير الحوال -هي ذاك:
ل قد احتجزت (الكني سة) لنف سها حق ف هم (الكتاب المقدس) وتف سيره ،وحظرت على
أي عقل من خارج (الكهنوت) أن يحاول فهمه او تفسيره.
ثـم اتبعـت هذا بإدخال معميات فـي العقيدة ل سـبيل لدراكهـا او تصـورها او
تصــديقها ..وقــد ذكرنــا مثلً مــن هذه المعميات فــي النــص الذي نقلناه عــن
(سيرت.م.أرنولد)عن حقيقة السيد المسيح وطبيعته..
30
www.ikhwan-info.net
ثم أدخلت مثل هذه المعميات في الشعائر التعبدية ..والمثال الصارخ لها هو مسألة
(العشاء الرباني) الذي كان أحد الحالت التي ثار عليها مارتن لوثر وكالفن وزنجلي فيما
سمي (بالصلح الديني).
وم سألة العشاء الربا ني م سألة م ستحدثة ما جاء ب ها (الكتاب المقدس) عند هم ،و ما
تعرض لها النصارى الولون ،ول (المجامع المقدسة) الولى ..وقصتها كما يلي:
إن النصـارى يأكلون فـي الفصـح خبزا ،ويشربون خمرا ،ويسـمون ذلك (العشاء
الرباني).
وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل
إلى دم الم سيح الم سفوك .ف من أكله ما و قد ا ستحال هذه ال ستحالة ف قد اد خل الم سيح في
جسده .بلحمه ودمه...
وقـد فرضـت الكنيسـة على الناس قبول هذا الزعـم ومنعتهـم مـن مناقشتـه .وإل
عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.
ثم لم تك تف الكني سة بتلك المعميات والخرافات في العقيدة و في الشعائر -مع كف
الناس عن البحث عن أصولها في (الكتاب المقدس) ومحاولة فهمه او تفسيره -بل اتبعتها
بأمثال ها في الكون والحياة .فاد عت آراء ونظريات جغراف ية وتاريخ ية وطبيع ية م ما كان
سائدا في عصرها ،مليئة بالخطأ والخرافة عن الكون والحياة والنسان .وجعلتها (مقدسة)
ل تجوز مناقشتها ول تصحيحها ول تجربتها ،ول القول بسواها.
وكانـت هذه هـي القاصـمة! لنهـا الباطـل الذي يسـهل على التجربـة بيان بطلنـه،
وكشف زيفه! ولنها المنطقة التي أطلق ال فيها العقل النساني ليرتادها ،وهو مزود بكل
المؤهلت التي تمكنه من كشفها وتحقيقها ،ولم يفرض عليه فيها نظرية معينة!
و في هذا يقول ال سيد أ بو الح سن الندوي ما يغني نا عن العادة ،وي صور ا ثر هذه
القاصمة في ذلك (الفصام النكد) تصويرا مختصرا دقيقا في كتابه القيم " ماذا خسر العالم
بانحطاط المسلمين " :
31
www.ikhwan-info.net
( ..ولكـن مـن أعظـم أخطاء رجال الديـن فـي أوروبـا ،ومـن اكـبر جناياتهـم على
أنف سهم وعلى الد ين الذي كانوا يمثلو نه ،ان هم د سوا في كتب هم الدين ية المقد سة ،معلومات
بشرية ،ومسلمات عصرية ،عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية ،ربما كانت أقصى
ما و صلوا إل يه من العلم في ذلك الع صر ،وكا نت حقائق راه نة ل ي شك في ها رجال ذلك
العصر ،ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم النساني.
( وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فانه ل يؤمن
عل يه التحول والتعارض .فان العلم الن ساني متدرج مترق ف من ب نى عل يه دي نه ف قد ب نى
ق صرا على كث يب مه يل من الر مل .ولعل هم فعلوا ذلك بن ية ح سنة ولك نه كان ا كبر جنا ية
على أنفسهم وعلى الدين فان ذلك كان سببا للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم ،الذي
انهزم فيـه الديـن ،ذلك الديـن المختلط بعلم البشـر ،الذي فيـه الحـق والباطـل ،والخالص
والزائف ..هزيمة منكرة ،و سقط رجال الد ين سقوطا لم ينهضوا بعده .و شر من ذلك كله
وأشأم :أن أوروبا أصبحت ل دينية.
ولم يك تف رجال الد ين ب ما ادخلوه في كتب هم المقد سة ،بل در سوا كل ما تناقل ته
اللسن ،واشتهر بين الناس ،وذكره بعض شراح التوراة والنجيل ومفسريها من معلومات
جغراف ية وتاريخ ية وطبيع ية .وصبغوها صبغة دين ية ،وعدو ها من تعاليم الدين وأصوله
ال تي ي جب العتقاد ب ها ،ون بذ كل ما يعارض ها ،وألفوا في ذلك كتبا وتآل يف ،و سموا هذه
الجغرافيـا التـي مـا انزل ال بهـا مـن سـلطان( :الجغرافيـا المسـيحية) (Christian
)Geographyوعضوا عليها بالنواجذ ،وكفروا كل من لم يدن بها.
وكان ذلك في ع صر انف جر ف يه بركان العقل ية في أورو با ،وح طم علماء الطبي عة
والعلوم سـلسل التقليـد الدينـي .فزيفوا هذه النظريات الجغرافيـة التـي اشتملت عليهـا هذه
الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة ،واعتذروا عن عدم اعتقادها واليمان بها بالغيب؛
وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم .فقامت قيامة الكنيسة ،وقام رجالها المتصرفون في زمام
المور فـي أوروبـا وكفروهـم ،واسـتحلوا دماءهـم وأموالهـم فـي سـبيل الديـن المسـيحي،
32
www.ikhwan-info.net
وأنشأوا محاكم التفتيش ،التي تعاقب-كما يقول البابا(-أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم
منتشرون فـــي المدن والبيوت والســـراب والغابات والمغارات والحقول!) ..فجدت
واجتهدت و سهرت على عمل ها ،واجتهدت أل تدع في العالم الن صراني عرقا نابضا ضد
الكنيسـة ،وانبثـت عيونهـا فـي طول البلد وعرضهـا ،وأحصـت على الناس النفاس،
وناق شت علي ها الخوا طر ،ح تى يقول عالم ن صراني " :ل يم كن لر جل ان يكون م سيحيا
ويموت حتف انفه" ( يقصد الموت موتة طبيعية).
( ويقدر أن مـن عاقبـت هذه المحاكـم يبلغ عددهـم ثلثمئة ألف .احرق منهـم اثنان
وثلثون ألف أحياء! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو) ،نقمت منه الكنيسة آراء
من اشدها قوله بتعدد العوالم ،وحكمت عليه بالقتل ،واقترحت بان ل تراق قطرة من دمه!
ـر
ـبيعي الشهيـ
ـب العالم الطـ
ـي أن يحرق حيا! وكذلك كان! وكذلك عوقـ
وكان ذلك يعنـ
(جاليليو) بالقتل لنه كان يعتقد بدوران الرض حول الشمس!.
( هنالك ثار المجددون المتنورون ،وعيـل صـبرهم ،واصـبحوا حربا لرجال الديـن
وممثلي الكني سة ،والمحافظ ين على القد يم ،ومقتوا كل ما يت صل ب هم ،ويعزى إلي هم ،من
عقيدة ،وثقافة ،وعلم ،وأخلق ،وآداب ،وعادوا الدين المسيحي اولً ،والدين المطلق ثانية،
وا ستحالت الحرب ب ين زعماء الد ين الم سيحي-وبل فظ ا صح الديا نة البول سية -حربا ب ين
العلم والديـن مطلقا! وقرر الثائرون أن العلم والديـن ضرتان ل تتصـالحان ،وان العقـل
والنظام الدي ني ضدان ل يجتمعان؛ ف من ا ستقبل أحده ما ا ستدبر ال خر ،و من آ من بالول
كفـر بالثانـي .وإذا ذكروا الديـن ذكروا تلك الدماء الزكيـة التـي أريقـت فـي سـبيل العلم
والتحق يق ،وتلك النفوس البريئة ال تي ذه بت ضح ية لق سوة الق ساوسة وو ساوسهم ،وتم ثل
لعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة ،وعيون ترمي بالشرر ،وصدور ضيقة حرجة،
وعقول سخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهم؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلء ،وكل ما يمثلونه،
وتواصوا به ،وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!
33
www.ikhwan-info.net
( ولم يكن عند هؤلء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير ،ومن
الودا عة والهدوء ،و من الع قل والجتهاد ،ما يميزون به ب ين الد ين ،ورجاله المحتكر ين
لزعامته ،ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسؤولية .وما يرجع إلى رجال
الكنيسـة مـن جمود واسـتبداد وسـوء تمثيـل ،فل ينبذوا الديـن نبـذ النواة ..ولكـن الحفيظـة
وشنآن رجال الد ين ،وال ستعجال ..لم ي سمح بالن ظر في أ مر الد ين والتر يث في شأ نه
كغالب الثوار ،في أكثر العصار والمصار!!!).
* * *
هذه-باخت صار وإجمال شديد ين -أ هم الملب سات النكدة لذلك (الف صام الن كد) الذي
تعاني أوروبا-وتعاني معها البشرية كلها اليوم مع السف -آثاره التعيسة ،وتتجرع كأسه
المريرة.
وهذا هو (الدين) الذي ثارت عليه أوروبا ..ثم تابعها في الثورة الببغاوات والقرود
في الرض كلها ،دون تفرقة بين دين ودين!
وهذا هـو(الديـن) الذي ثارت عليـه أوروبـا ..الديـن الذي شوهـت معالمـه منـذ أول
خطوة .ثم زيفت خصائصه الربانية ،وتصوراته السماوية ،وقيمه وأسسه ..ذلك التزييف
الشنيع!
هؤلء هم (رجال الد ين) الذ ين قدموا هذه الجنا ية على أنف سهم وعلى الد ين ،وعلى
البشرية المنكودة ،بقيادة الغرب الموتور من الدين المزيف ،ومن رجال الدين المزيفين!
وهي كلها-ول الحمد -ملبسات (أوروبية) بحتة ،وليست إنسانية عالمية-ومتعلقة
بنوع معين من (الدين) ل بحقيقة الدين .وخاصة بحقبة من التاريخ خاصة ،تملك البشرية
أن تتخلص من آثار ها التعي سة ،ح ين تف تح أعين ها على الحقي قة من وراء دخان المعر كة
التاريخية!
ول كن هذا الخلص لن يج يء أبدا عن طر يق العقل ية الغرب ية ،ولن ينب ثق أبدا من
هذه العقليـة المكبلة بأغلل ذلك التاريـخ المريـر ،وبالرواسـب التـي خلفتهـا تلك المعركـة
34
www.ikhwan-info.net
التعي سة ،وبالموجات ال تي أطلقت ها في الف كر والضم ير ،و في الدب وال فن ،و في ال سياسة
والقت صاد ،و في كل أوضاع الحياة التي قا مت على ذلك (الف صام الن كد) ب عد ما تعم قت
جذوره في تربة الغرب المنكود!
35
www.ikhwan-info.net
36
www.ikhwan-info.net
لقد أصيبت بالعقم-او كادت -بعد ما ولدته في (الماجنا كارتا) النجليزية .ومبادئ
الثورة الفرنسية .ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه (التجربة المريكية).
وكلهـا كانـت قيما محدودة تروج فـي فترة خاصـة .وتواجـه حالت محدودة
وأوضاعا خا صة .ولم ت كن ر صيدا لب ني الن سان ي صلح للبقاء مدة أطول من الفترة ال تي
عاشتها تلك المبادئ الموقوتة!
وكلها كانت مبتوتة عن الصل الكبير الذي ل تقوم النظمة الجتماعية ،ول تعيش
المبادئ والقيم ،إل إذا انبثقت منه ،وقامت عليه .الصل العتقادي المرتبط بال ،والتفسير
الكلي للوجود ،ومركز النسان فيه ،وغاية وجوده النساني ..ومن ثم كانت قيما محدودة
موقو تة لن ها في ال صل ق يم مبتو تة!( ..نبات شيطا ني) ل جذور له في أعماق الفطرة
البشرية ،لنه ليس آتيا من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.
و من أ جل أن ها لم تنب ثق من ذلك ال صل؛ ولم ت جئ من هذا الم صدر ،فإن ها قا مت
على أسـاس مناقـض لفطرة الحياة ،ولفطرة النسـان؛ ولم تراع فـي السـس التـي قامـت
عليها ،ول في الوسائل التي اتخذتها ،ول في الطريق التي سارت فيه ..لم تراع في هذا
كله احتياجات (النسان) الحقيقية ،المنبثقة من طبيعة تكوينه ،واصل خلقته وحقيقة فطرته
وأهملت إهمالً شنيعا أهم مقوماته-التي بها صار النسان إنسانا -ولم تهملها فحسب ،بل
طاردتها في جفوة وعنف..
وكان ذلك كله بسـبب تلك الملبسـات النكدة ،التـي أثمرت ذلك (الفصـام النكـد).
فقامت تلك الحضارة-من ثم -على أسس معادية للدين ..أسس فكرية وشعورية وواقعية..
و سارت كذلك -من ثم -في طر يق معارض للحقي قة الن سانية ،وللحاجات الحقيق ية لب ني
النسان وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة النسانية وتميزها.
ومـن ثـم اخـذ (النسـان) يشقـى شقاءً مريرا بالحضارة ،التـي قامـت أصـلً-او
المفروض أن ها قا مت أ صلً -لخدم ته وترقي ته وإ سعاده ..وح ين تتنا قض(الحضارة) مع
(النسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول او تقصر -من صراع النسان مع الحضارة،
37
www.ikhwan-info.net
ومـن اللم والتضحيات ،والخسـائر والمرارات ،ان ينتصـر النسـان ،لنـه هـو الصـل.
ولن فطرته اعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها..
* * *
وعند ما يكون هذا هو مقياس البقاء ،فإن الرو سي ي قف مع النجليزي والمري كي
والفرنسي والسويسري والسويدي ..وسائر البيض ..على قدم سواء!
ل بل إن الروسي ليبدو متخلفا بنظامه المتعسف ،الذي ل يملك البقاء بغير الوسائل
البوليسـية البشعـة ،وبغيـر(حمامات الدم) و( حركات التطهيـر) الدوريـة ،ومعسـكرات
العتقال ،ومعسكرات الموت ...لشدة مصادمته للفطرة النسانية في الكليات والجزئيات!
إن الماركسـية-مـن الوجهـة النظريـة -تقوم على جهالة عميقـة بالنفـس البشريـة
وطبيعتها وتاريخها -فضلً على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية ،وتفسير الكون والحياة-
فهـي إذ تصـور جميـع الدوافـع النسـانية قائمـة على جوعـة المعدة والصـراع على لقمـة
الخبـز ،وتصـور جميـع الحركات التاريخيـة منبثقـة مـن تغيـر أدوات النتاج ..تلغـي أهـم
مقومات الن سان ال تي تفرق ب ين تاري خه وتار يخ البهي مة! وتل غي أ هم وظائف الن سان.
و هي أن يكون العا مل اليجا بي الول في هذه الرض و في أطوار التار يخ ..ثم هي-
فجأة -تتصـور المسـتقبل خلوا مـن كـل وراثات البشريـة؛ وتفترض أن الناس سـيتحولون
ملئكة خيرين ،ينتج كل منهم أقصى ما في طوقه ،ول يأخذ إل قدر ما يكفيه ..وكل هذا
بدون رقابـة ،وبدون حكومـة ،وبدون عقيدة سـماوية تطمعـه فـي جنـة او تخيفـه مـن نار.
وبدون أي سـبب معقول ..اللهـم إل ذلك النقلب الخرافـي العجيـب ،الذي يتـم فـي طبائع
البشر ،بمجرد تحطيم العناصر البرجوازية ،وتسليم المر للبروليتريا.
وإذا كان هذا الت صور (العل مي) عن الم ستقبل يبدو (خرا فة) فان ذلك الت صور عن
التاريـخ ل يقـل عنـه إمعانا فـي الجهالة (العلميـة) بحقيقـة النفـس البشريـة ،وطبيعتهـا،
وتاريخها على السواء.
38
www.ikhwan-info.net
حيـن يكون هذا الجهـل العميـق ،وهذه الخرافـة الطاغيـة ،همـا أسـاس التصـور
المارك سي ،فإن نا ل ننت ظر أبدا أن يقوم على أ ساسه وا قع عملي في الحياة ال تي يزاول ها
الب شر ،إل أن يكون ف يه من العت ساف قدر ما في هذا الت صور من رغ بة جام حة في
مجانية حقائق الفطرة ،التي تصطدم اصطداما عنيفا بذلك التصور.
و من ثم اضطرت المارك سية-ع ند الت طبيق العملي -ان تتخلى عن أ هم مقد ساتها
الماركسـية! وعللت هذا التخلي الذي يكاد يكون كاملً ،بان الماركسـية مذهـب متطور،
على حين أن ليس هنالك مذهب يحتشد (بالحتميات) احتشاد النظرية الماركسية!
ل قد تحطمت النظرية (العلمية) المارك سية ت حت مطارق الفطرة في مع ظم أجزائ ها
الرئي سية .ولم ي بق إل (الدولة) وإل النظ مة الديكتاتور ية البولي سية ،ال تي تعرف ها رو سيا
جيدا في أيام القيصرية!
ووفـق النظريـة (المحطمـة) فان (الدولة) كان ينبغـي أن تكون الن-وبعـد حوالي
نصـف قرن -فـي طريقهـا إلى الذبول والزوال ..ولكـن الذي يعلمـه كـل أحـد أن الدولة
هناك ،تتضخم يوما بعد يوم ،وتبتلع كل شيء – بما في ذلك الشعب نفسه!
ولعله من المفارقات الطري فة أن المارك سية ال تي تفترض إمكان قيام المجتمع بدون
حكومة في نهاية المطاف ،هي التي تنتهي فيها الحكومة إلى أن تصبح هي الشيء الوحيد
الذي له وجود! حيث ل وجود (للفرد) ول وجود (للشعب) ول وجود (لفطرة النسان) في
ظل ذلك النظام!
إن الماركسية-كمذهب -ل تزيد على أن تكون جهالة (علمية) منقطعة النظير .أما
النظام البولي سي الذي قام با سمها ،ف هو نظام تعر فه رو سيا من ق بل أيام القي صرية .و هو
نظام يم كن أن تطي قه الشعوب المتخل فة-ب عض الو قت -ول كن الدمي ين الذ ين ي ستشعرون
وجودهـم (النسـاني) ل يصـبرون عليـه طويلً ..وحتـى هذه الشعوب التـي ترزح تحـت
وطأ ته فان فطرت ها تقاو مه مقاومة عنيفة-على الر غم من طول خضوعها قبله للقيصرية
الطاغية -وهو ل يعيش إل في ظل الرهاب البوليسي؛ على الرغم من سيطرة (الحزب
39
www.ikhwan-info.net
الشيوعي) القل يل العدد ،على مرافق البلد؛ وعلى الر غم من احتكار كل موارد الرتزاق
والمعاش في يد الدولة ،المر الذي يذل لها الرقاب! وعلى الرغم من بلشفة الصغار عن
طريـق المنظمات الخاصـة للطفال وللشباب .وعلى الرغـم مـن سـيطرة الدولة على كـل
أجهزة التوجيـه والعلم .وعلى الرغـم مـن أن المدرسـين جميعا يتبعون(اليديولوجيـة
الشيوعيـة) .وعلى الرغـم مـن حركات التطهيـر لكـل مـن يشـك فـي عدم ولئه للنظام
الشيوعي ..فلبد ان يكون هذا النظام من الكراهية والصطدام بالفطرة إلى الحد الذي ل
تجدي كل هذه العوامل الساحقة في جعله آمنا على نفسه من انتقاض الجماهير-او بتعبير
آخر من انتقاض الفطرة ،التي يستحيل أن تصبر طويلً على مثل هذا النظام المتعسف-
وآية الفشل لي نظام ل يقوم إل في حراسة الرهاب.
* * *
من ثم تبدد نبوءة (برتراند رسل) قريبة الجذور سطحية المقدمات مادية السباب.
ل تخرج عن نطاق التفكير المادي المحدود .سجين هذه الحضارة المادية على كل حال!
إن القضية اعمق من هذا واشمل بكثير .أنها قضية الحضارة المنبتة عن ال ،وعن
منه جه للحياة .قض ية النظ مة الجتماع ية والمنا هج الفكر ية والمذا هب الوضع ية ،ال تي لم
تنبثق من اصلها الواحد الصحيح؛ ومن ثم لم تعط النسان التفسير الواحد الصحيح لحقيقة
هذا الوجود وعلقته بخالقه؛ ولحقيقة هذا النسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده
النساني ووسائل بلوغها المشروعة.
إنه (الفصام النكد) الذي تستوي في القيام على أساسه كل النظمة السائدة في عالم
(الرجـل البيـض)؛ والذي يسـتوي فيـه الروسـي والمريكـي ،والنجليزي والفرنسـي،
والسويسري والسويدي ..وسائر من يتبعهم في الشرق وفي الغرب سواء.
انه ل يس هنالك فارق حقيقي-من ناحية الصل الوضعي لهذه النظمة كلها! -ول
عبرة بان تكون الكنائس مثلً مفتو حة البواب في أمري كا الرأ سمالية؛ او مغل قة البواب
40
www.ikhwan-info.net
في رو سيا الشيوع ية؛ او مهملة ل ل ها ول علي ها -مع ضمان حر ية اللحاد -في ال سويد
الشتراكية!
ل عبرة بهذه الفوارق الشكل ية ما دام أن الن ظم الجتماع ية ،والمذا هب الفكر ية في
هذه البلد كلهـا ليسـت منبثقـة انبثاقا مـن التصـور العتقادي اللهـي ،الذي يكفـل-وحده-
التفسـير الصـحيح لحقيقـة الوجود وعلقتـه بخالقـه؛ ولحقيقـة النسـان ومركزه فـي هذا
الوجود؛ ولغا ية وجوده الن ساني ..هذه العنا صر ال ساسية ال تي تنب ثق من ها أ سس النظام
الجتما عي ،كما تنبثق منها مناهج الفكر ال صحيحة ،الموصولة بفطرة الن سان الحقيقية،
الملبية لحاجات النسان الحقيقية كذلك.
هذه هي القض ية في جذور ها العمي قة الشاملة .ل ك ما يتصـورها-دا خل القضبان
الفكرية!( -براتراند رسل) شأنه في التفكير من داخل القضبان شأن كل مفكري الغرب،
أ سارى بيئتهم وحضارت هم وتاريخ هم التع يس مع كني ستهم الغاش مة ،وف صامهم النكد الذي
طبع حياتهم كلها خلل خمسة قرون مريرة!
* * *
ثم ماذا؟
ثم انه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية ،بمذاهبها جميعا .وبأنظمتها جميعا..
الخواء الذي تختنـق فيـه روح (النسـان) ،وتنهدر فيـه قيمـة (النسـان) ،وتنحدر فيـه
خصـائص (النسـان) ..بينمـا تتكدس (الشياء) وتعلو قيمتهـا ،وتطغـى على كـل قيمـة
للنسان!
انـه الخواء الذي يهدد الحياة النسـانية ورقيهـا بالتوقـف .بـل يهددهـا بالنكسـة
والنحدار-على الرغم من ضخامة النتاج المادي والفتوح العلمية والتقدم الصناعي -ذلك
أن (النسـان) ذاتـه لم تراع فطرتـه ،ول احتياجاتـه الحقيقيـة عنـد إقامـة النظام الحضاري
الذي ساد!
41
www.ikhwan-info.net
إن بريق الحضارة المادية ل يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت
تعانيـه البشريـة فـي ظـل هذه الحضارة .وان الصـواريخ المطلقـة ،والقمار الصـاعدة ،ل
يجوز ان تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه (النسان) ومقومات (النسان)!
إن النسان هو اكرم ما في هذه الرض .انه هو الكائن الساسي فيها ،والمستخلف
في مقدراتها .وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و(إنسانيته) هي المقوم
العلى الذي يقاس به مدى صعوده او هبوطه .وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة
التي يعيش فيها من ملءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا (النسان) ينحدر في صفاته (النسانية) وفي تصوره للقيم النسانية..
إذا رأيناه وقودا لللة ،او عبدا لها ،او تابعا ذليلً من توابعها..
إذا رأيناه -تبعا لهذا -ينحط في تصوره وذكائه وأخلقه..
إذا رأيناه يهبط في علقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الساسية تعطل وتذوي وتتراجع.
إذا رأيناه يشقـى ويقلق ويتحيـر ،ويعانـي مـن القلق والحيرة مـا لم يعانيـه قـط فـي
تاريخـه مـن الشقاء والتعاسـة والمراض العصـبية والنفسـية والشذوذ والعتـه والجنون
والجريمة..
إذا رأيناه هاربا من نفسه ومن المخاوف والقلقل التي تلفه بها الحضارة المادية ،
والنظمة الجتماعية والسياسية والخلقية والفكرية.
إذا رأيناه هائمـا على وجهـه يقتـل سـآمته وملله ،بمـا يقتـل بـه روحـه وجسـمه
وأعصـابه ،مـن المكيفات والخمور ،او مـا يشبـه المكيفات والخمور مـن الفكار السـود،
ومذاهب اليأس الكابي والقنوط الملبس والضياع الليم ..كما في (الوجودية) وغيرها من
مذاهب الفكر التعيسة..
إذا رأيناه يئد ن سله ،او يبيع اولده ،ليشتري ب هم ثلجات وغ سالت كهربائ ية-ك ما
جاءتنا النباء عن أوروبا الضائعة..
42
www.ikhwan-info.net
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة ..فان جميع ما يصل إليه (العلم) في معزل عن
(روح الن سان) من تي سيرات للحياة الماد ية ،و من رفاهيات حضار ية ..ل يغ ير شيئا من
حقيقـة النحدار الذي تهوي إليـه البشريـة؛ ومـن حقيقـة الشقاء الذي تعانيـه؛ ومـن حقيقـة
التعاسة التي تزاولها ..ثم ..من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها ..ومن ثم حقيقة
الحاجـة الماسـة إلي نظام آخـر أصـيل ،بريـء-فـي أسـاسه -مـن العيوب السـاسية التـي
أف سدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري ..نظام يسمح
للن سانية بان تح قق غا ية وجود ها الن ساني-ك ما أراد ها خالق ها العظ يم -وان ت ستخدم
(العقـل) و(العلم) و(التجربـة) اسـتخداما آخـر ،يتناسـق مـع احتياجاتهـا الحقيقيـة؛ ومـع
مقتضيات فطرتها الصيلة.
* * *
لقد انتهى دور الرجل البيض ..انتهى دوره سواء أكان روسيا أم أمريكيا ،إنجليزيا
أم فرنسـويا ،ام سـويسريا أم سـويديا ..انتهـى لن ذلك (الفصـام النكـد) فـي التاريـخ
الورو بي ،و في جم يع المذا هب والمنا هج والن ظم والوضاع ال تي تقوم في الغرب ..قد
حدد بدوره نهاية دور الرجل البيض!
إنـه لبـد مـن قاعدة مـن التصـور العتقادي لكافـة المذاهـب والمناهـج والنظـم
والوضاع التي تقوم عليها حياة (النسان)..
ل بد من تف سير صحيح للوجود ،ولمر كز الن سان ف يه ،ولغا ية وجوده الن ساني..
وهذا التف سير ال صحيح ،وذلك الت صور المطا بق للحقي قة-ك ما هي في الوا قع لك ما يرا ها
الناس مـن خلل عدسـات عقولهـم القاصـرة وشهواتهـم وأهوائهـم وانفعالتهـم المتغيرة-
ضرورة من ضرورات (الحياة النسانية)..
وهذا ما أغفل ته حضارة الر جل الب يض .بل حارب ته حربا شعواء ،ي ستوي في هذا
جميع النظمة السائدة في الغرب وفي الشرق جميعا.
43
www.ikhwan-info.net
والنسان هو النسان منذ نشأ .انه في حاجة إلى (عقيدة) تعمر قلبه؛ وتنبثق منها
تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلقته هو والكون بالخالق
العلى(..عقيدة) ترسم له أهدافا اكبر من ذاته ،واعم من جيله ،وابعد من حاضره ،وأرفع
من واقعه؛ وتربطه بذات علوية ،لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها
ويطلب رضاهـا؛ وينتظـر عونهـا على الخيـر؛ ويسـتحي مـن مواجهتهـا بالشـر؛ ويرجـو
جزاءهـا العادل الكامـل ،الذي يعوض عليـه مـا يفوتـه فـي صـراعه للشـر فـي هذه الحياة
الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته ،ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى
عن ها شعائر عباد ته سواء ب سواء ..فت ستقيم حيا ته كل ها حز مة واحدة ،ل ف صام في ها ول
صدام..
ول قد يش غل الن سان بعض الو قت بجو عة الج سد ،و ما يتعلق ب ها من النتاج بشتى
وسائله وصنوفه ،ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته ..ولكن هذه الجوعة وكل ما
يتعلق بها ل تستغرق الكينونة النسانية .وإشباعها ل يسد سائر الجوعات (النسانية) .وما
أن تهدأ هذه الجوعـة حتـى تتحرك فـي الكائن النسـاني جوعـة أخرى .جوعـة ل يسـدها
الطعام ،ول يرويهـا الشراب ،ول يكفيهـا الكسـاء ،ول تسـكنها كـل ضروب المتاع ..إنهـا
جوعة من نوع آخر .جوعة إلى اليمان بقوة اكبر من البشر؛ وعالم اكبر من المحسوس؛
ومجال اكـبر مـن الحياة الدنيـا ..وجوعـة إلى الوئام بيـن ضميـر النسـان وواقعـه ،بيـن
الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته .بين منهج حركته الذاتية ومنهج
الحركة الكونية من حوله .جوعة إلى (إله) واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه وشريعة مجتمعه
على السواء..
وكل نظام للحياة ل يحقق السعادة للكائن البشري إل إذا تضمن كفاية هذه الجوعات
المتعددة في كينونته الواحدة ..وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل البيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب -انتهى دور الرجل البيض..
44
www.ikhwan-info.net
45
www.ikhwan-info.net
صيْحَـــاتُ الخَطــــر
َ
والن تتعالى الصيحات من هنا ومن هناك ؛ منذرة بسوء مصير البشرية في ظل
هذه الحضارة الماد ية الخاو ية من اليمان خواء ها من الروح الن ساني-حضارة الر جل
الب يض -وتتنوع هذه ال صرخات ..فتارة تكون نذيرا بانحدار البشر ية كل ها إلى الهاو ية.
وتارة تكون نذيرا بانحدارهـا إلى الماركسـية! وتتنوع كذلك القتراحات لدرء هذا الخطـر
او ذاك..
ولكن ها كل ها تحاول عبثا.لن ها ل تعالج المشكلة من ال ساس .ول تر جع إلى جذور
المشكلة العميقة البعيدة في التربة الوروبية!
و من خلل تلك ال صيحات ،و من خلل هذه القتراحات كذلك ي تبين ل نا ن حن مدى
قصر النظر ،ومدى العمى النوعي عن الرؤية! في العقلية الغربية!
وإننـا نكاد نبصـر بهؤلء الحيارى سـجناء فـي قفـص مـن (العلم)! يشـد أقدامهـم
بالغلل؛ فإذا أرادوا الوثوب ،كان أق صى وثوب هم قفزة في دا خل الق فص! او سجناء في
قفص من (الواقع) يعجزهم عن الستشراف لما وراءه!
وهي ظاهرة تلقي علينا-نحن أصحاب المنهج السلمي -تبعة خطيرة ..إن النقاذ
الحقيقـي للبشريـة المهددة فـي كينونتهـا النسـانية ،ل يجيـء إل عـن طرق تحطيـم هذا
الق فص ،والخروج م نه ،ورؤ ية الو ضع كله من زاو ية م ستقلة تماما :وتقد يم ت صور كلي
شامل للمشكلة ،واقتراح حلول مبتكرة ،تنبثق من هذا التصور الشامل الجديد.
ول نريد أن نسبق السياق ..فلنبدأ بإثبات نموذجين من نماذج تلك الصيحات المنذرة
بالخطر؛ وتلك القتراحات المقدمة من زاوية النظر القصير ،او العمى النوعي!
أ حد هذ ين النموذج ين لعالم كبير من علماء هذا القرن هو دكتور ألك سيس كار يل.
والخر لسياسي خطير من ساسة هذا الجيل هو مستر دالس وزير الخارجية المريكية..
* * *
46
www.ikhwan-info.net
() ترجمة شفيق أسعد فريد ،نشر مكتبة المعارف بيروت. 1
47
www.ikhwan-info.net
مبلغ مستطاع من المال .وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون
اللت ،ودون أي اعتبار للتأثيرات التـي تحدثهـا طريقـة الحياة الصـناعية التـي يفرضهـا
المصنع على الفراد ،وأحفادهم( )...ص)40
(يجب أن يكون النسان مقياسا لكل شيء .ولكن الواقع هو عكس ذلك .فهو غريب
في العالم الذي ابتد عه! ا نه لم ي ستطع أن ين ظم دنياه بنف سه ،ل نه ل يملك معر فة عمل ية
بطـبيعته ...ومـن ثـم فان التقدم الهائل الذي أحرزتـه علوم الجماد على علوم الحياة هـو
إحدى الكوارث التي عانت منها الن سانية ...فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير
صالحة ل بالنسبة لقوام نا ول بالنسبة لهيئتنا ...إننا قوم تعساء ،ننحط أخلقيا وعقليا...
إن الجماعات والمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية اعظم نمو وتقدم هي على وجه
الدقة ،الجماعات والمم الخذة في الضعف؛ والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية
أسرع من عودة غيرها إليها .ولكنها ل تدرك ذلك ،إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف
العدائ ية ال تي شيد ها العلم حول ها… وحقي قة ال مر أن مدنيت نا م ثل المدنيات ال تي سبقتها،
أوجدت أحوالً معي نة للحياة من شأن ها ان تج عل الحياة نف سها م ستحيلة.وذلك ل سباب ل
تزال غامضـة… إن القلق والهموم التـي يعانـي منهـا سـكان المدن العصـرية تتولد عـن
نظمهم السياسية والقتصادية والجتماعية…) (ص)44
(إننـا لن نصـيب أيـة فائدة مـن زيادة عدد الختراعات الميكانيكيـة .وقـد يكون مـن
الجدى أن ل نضفـي مثـل هذا القدر الكـبير مـن الهميـة على اكتشافات الطبيعـة والفلك
والكيمياء .فحقي قة ال مر أن العلم الخالص ل يجلب ل نا مطلقا ضررا مباشرا .ول كن حين ما
يسيطر جماله الطاغي على عقولنا ،ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد ،فانه يصبح خطرا.
ومن ثم يجب أن يحول النسان اهتمامه إلى نفسه والى السبب في عجزه الخلقي والعقلي.
إذ ما جدوى زيادة الرا حة والفخا مة والجمال والمن ظر وأ سباب تعق يد حضارت نا إذا كان
ضعفنا يمنعنا من الستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع؟ حقا انه لمما ل يستحق أي عناء أن
48
www.ikhwan-info.net
نمضـي فـي تجميـل طريـق حياة تعود علينـا بالنحطاط الخلقـي ،وتؤدي إلى اختفاء أنبـل
عناصر الجناس الطيبة) (ص)60
(النسان نتيجة الوراثة والبيئة ،وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع
العصـري ..ولقـد وصـفنا كيـف تؤثـر هذه العادات فـي حسـه وشعوره ...وعرفنـا انـه ل
يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها (التكنولوجيا) وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى
انحلله؛ وان العلم والميكاني كا لي سا م سؤولين عن حال ته الراه نة ،وإن ما ن حن الم سؤولون
لن نا لم ن ستطع التمي يز ب ين الممنوع والمشروع… ل قد نقض نا قوان ين الطبي عة ،فارتكب نا
بذلك الخطيئة العظمـى .الخطيئة التـي يعاقـب مرتكبهـا دائما ..إن مبادئ (الديـن العلمـي)
و(الداب الصناعية) قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة(البيولوجية) .فالحياة ل تعطي إل
إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد (الرض المحرمة) ..إنها تضعف السائل!
ولهذا فان الحضارة آخذة في النهيار ،لن علوم الجماد قادت نا إلى بلد لي ست ل نا .فقبل نا
هدايا ها جمي عا بل تمي يز ول تب صر! ول قد ا صبح الفرد ضيقا ،متخ صصا ،فاجرا ،غبيا،
غير قادر على التحكم في نفسه ومؤسساته)( .ص.)322
ولسـوف يكون مـن الصـعب أن نتخلص مـن مذهـب ظـل يسـيطر خلل اكثـر مـن
ثلثمائة عام على عقول القوم المتحضرين..
فإذا كان على الحضارة العلمية ان تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر
النهضـة ،وتعود إلى ملحظـة المادة الجامدة ببسـاطة ،فسـوف تقـع أحداث عجيبـة على
الفور..
ستفقد المادة سيادتها؛ ويصبح النشاط العقلي كالنشاط الفسيولوجي .وسيبدو أل مفر
من دراسة الوظائف الدبية والجمالية والدينية ،كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء..
وسوف تبدو وسائل التعليم الحالية سخيفة ،وتضطر المدارس والجامعات إلى تعديل
برامجها..
49
www.ikhwan-info.net
50
www.ikhwan-info.net
الطبيع ية لم صل الدم وتواز نه اليو ني ،وقابلي ته اختراق البروتوبلزم ...الخ .ك ما ندرس
الحلم والشهوة والتأثيرات ال سيكولوجية لل صلة وذاكرة الكلمات ...الخ .ب يد أن ا ستبدال
الرو حي بالمادي لن ي صحح الخ طأ الذي ارتكب ته النه ضة ...فا ستبعاد المادة سوف يكون
أك ثر إضرارا بالن سان من ا ستبعاد الع قل! وإن ما سيوجد الخلص ف قط في التن حي عن
جميع المذاهب (ص)332-331
* * *
هذه هي خلصة صيحة دكتور كاريل ..فما هي اقتراحاته؟
ما الحل الذي يقترحه للخلص؟ ما المنهج الذي يصحح غلطة عصر النهضة في
اليمان بالمادة-والمادة وحد ها -و في الو قت ذا ته ل ي سبب الغل طة الخرى بإهمال المادة
وإن ما ي سير و سطا ،يل حظ جوا نب الن سان كل ها ،وجوا نب الحياة الن سانية كل ها ؟ ما
المنهـج الذي يجعـل النسـان سـيدا للمادة ،دون ان يهملهـا او يلجـأ إلى سـيكلوجية فرويـد
المضللة ،او إلى رهبانية القرون الوسطى المعطلة للحياة؟
وماذا عنده بعـد هذا الدراك العميـق للكارثـة التـي تهدد الجنـس البشري .ومناداتـه
بضرورة (قلب الحضارة الصـناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري) و(التنحـي عـن
جميع المذاهب)؟.
إننا نستمع إليه فنسمع عجبا ،ونرى عجبا كذلك!
( إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)!
( إن العلج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة اكثر عمقا بأنفسنا .فمثل
هذه المعرفـة سـتمكننا مـن أن نفهـم مـا هـي العمليات الميكانيكيـة التـي تؤثـر بهـا الحياة
العصرية على وجداننا وجسمنا ..وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف
المحيطة بنا ،وكيف نغيرها .إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها .ولئن استطاع هذا
العلم-علم النسان -أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة ،وامكانياتنا ،والطريقة التي تمكننا
51
www.ikhwan-info.net
من تحق يق هذه المكانيات ،فا نه سيمدنا باليضاح ال صحيح ل ما يطرأ علي نا من ض عف
فسيولوجي .كذا لمراضنا الدبية والعقلية.
( إن نا ل نملك و سيلة أخرى لمعر فة القوا عد ال تي ل تل ين لوجوه نشاط نا العضوي
والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحرارا لنعدل في بيئتنا
وفي أنفسنا تبعا لهوائنا..
و ما دا مت الحوال الطبيع ية للحياة قد حطمت ها المدن ية الع صرية ،ف قد ا صبح (علم
النسان) اكثر العلوم ضرورة( ..ص)45-44
هذا هو كل ما في جعبة العالم العالمي الكبير؛ بعد كل هذا الدراك العميق للكارثة
المحيقة!
وانتهاء الرجـل إلى هذا القتراح ،واعتباره الحـل الوحيـد الممكـن للمشكلة-مشكلة
بقاء هذه البشرية متحفظة بإنسانيتها ،او انحدارها منها وتراجعها إلى البربرية الوحشية-
اعتباره إن ال حل الوح يد المم كن هو (مز يد من علوم الن سان) ..هو ظاهرة تل فت الن ظر
بشدة-كما أسلفنا -إلى فعل هذه الحضارة في تفكير أهلها وتصوراتهم ،بحيث تضعهم في
قفـص حديدي مـن (حدود العلم والواقـع) ل يملكون الخروج مـن إسـاره! كمـا ان هذه
الظاهرة تجزم بأن ال حل لن يج يء من هناك! ل نه يحتاج إلى را قب ير قب الو ضع من
خارج القفص ل من داخله!
إن تأخر علوم البشر عن علوم الجماد ليس ظاهرة تلقائية-كما يميل دكتور كاريل
في كتابه إلى تقريره -وإنما نتيجة طبيعة-تكاد تكون حتمية -لتقدير قيمة النسان ودوره،
في التصور الزائف الذي قامت عليه هذه الحضارة ،حين افترقت في نشأتها عن التصور
العتقادي الصحيح .الذي يحمل تكريم النسان ،واعتباره خليفة ال في هذه الرض..
كما أن تلك الفات التي ذكرها في نظام الصناعة ووسائل النتاج ،والتي ل اعتبار
في ها لن سانية الن سان ،وخ صائصه الثمي نة ،وحاجا ته الحقيق ية ..إن ما تر جع إلى النظ مة
52
www.ikhwan-info.net
القتصـادية المنبثقـة مـن تصـورات ومناهـج تتوخـى العداء للتصـور العتقادي وللخلق
الدينية؛ وتسخر من فكرة تدخل العنصر الخلقي في نظام الحياة القتصادي!
ك ما أن اعتماد الناس على معلومات هم القليلة ..او بت عبير أدق على جهل هم المط بق-
كمـا يعـبر دكتور كاريـل -بفطرة النسـان وحقيقتـه ،فـي إقامـة أنظمتهـم الجتماعيـة
والقتصـادية والسـياسية والتربويـة ..لم يأت عفوا .إنمـا جاء نتيجـة مباشرة لروح العداء
لكل ما يجيء من عند ال؛ ومن كل ما يمدهم به المنهج اللهي من معرفة بهذا النسان
على حقيقتـه ..هذا العداء الذي قامـت هذه الحضارة على أسـاسه .بسـبب تلك الملبسـات
النكدة بين الكنيسة والعلم في أوروبا..
و من هذه اليماءات ال سريعة ندرك أن ال مر اع مق بكث ير م ما يت صوره هذا العالم
العالمـي الكـبير؛ ويقـف عنده ،بسـبب القيود التـي تشده بهـا عقليتـه ،الناشئة فـي ظـل تلك
الحضارة العقيم!
* * *
وكمـا أحـس دكتور كاريـل بالخطـر على مقومات النسـان وكينونتـه مـن الحضارة
الصناعية المادية ..كذلك أحس مستر دالس وزير خارجية أمريكا بالخطر على الوليات
المتحدة ،وعلى العالم الغربي من الشيوعية التي يقوم نظامها الجتماعي على أساس من
(المذ هب المادي) و من (التف سير القت صادي للتار يخ) ..وو جه م ستر دالس في كتا به(:
حرب أم سلم) صيحة الذعر من هذا الخطر ،وطالب بدفعه ،ولكن مقترحاته كذلك جاءت
جزئ ية ،ل تعالج المشكلة من جذور ها ..ل قد طلب من رجال الكني سة عنده أن يقوموا ب ما
ل يس من طوق هم ،ول في طبي عة موقف هم ان يؤدوه ،ب عد ذلك الوا قع التاري خي في حياة
الكنيسة وحياة المجتمع منذ عهد بعيد..
وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول:
53
www.ikhwan-info.net
( إن هناك شيئا ما يسير بشكل خاطئ في امتنا .وإل لما أصبحنا في هذا الحرج،
وفي هذه الحالة النفسية ..ل يجدر بنا ان نأخذ موقفا دفاعيا ،وان يتملكنا الذعر ..إن ذلك
أمر جديد في تاريخنا!
( إن المر ل يتعلق بالماديات ،فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الشياء المادية ،ان ما
ينق صنا هو إيمان صحيح قوي .فبدو نه يكون كل ما لدي نا قليلً .وهذا الن قص ل يعو ضه
السـياسيون مهمـا بلغـت قدرتهـم ،او الدبلوماسـيون مهمـا كانـت فطنتهـم ،او العلماء مهمـا
كثرت اختراعاتهم ،او القنابل مهما بلغت قوتها!
( فم تى ش عر الناس بالحا جة إلى العتماد على الشياء الماد ية .فإن النتائج ال سيئة
تصبح أمرا حتميا.
( وفي بلدنا ل تجتذب نظمنا الخلص الروحي اللزم للدفاع عنها .وهناك حيرة
في عقول الناس ،وتآكل لرواحهم .وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي-كما كشف
عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الن -ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس
ان تقوم بحمايتها في هذه الظروف).
( لقد تقابلنا مع أقسى الختبارات التي يمكن ان يلتقي بها أي شعب ..وهو اختبار
الحياة في رفاهية..
( لقد قال يسوع :إن هذه الشياء المادية سيحظى بها أولئك الذين يعملون من اجل
ما أ مر به ال ،و من ا جل تحق يق عدال ته ..ول كن عند ما يحدث ذلك فعندئذ يبدأ المتحان
الكبر .لن هذه الشياء المادية-كما انذر يسوع -يمكنها أن تصبح الصدأ الذي ينخر في
الرواح.
( كذلك فإن لدينا نموذجا معروفا .فالرجال الذين لديهم إحساس بالواجب إزاء كائن
أعلى ،يجاهدون لتحقيق إرادته ،لن إيمانهم يمنحهم القوة والفضيلة والحكمة المبسطة 00
إنهـم ل يبنون ليومهـم فقـط ،بـل للغـد؛ وليـس لنفسـهم وحدهـم ،وإنمـا للجنـس البشري.
ومجت مع هذا أ ساسه ستكون من نتائ جه الثروة والرفاه ية للكثير ين إذا ساعدته الحوال..
54
www.ikhwan-info.net
وعندما تأتي هذه المنتجات الفرعية فإنها تكون طيبة ،إلى درجة أنها تشجع على العتقاد
بأنهـا النهايـة المرتقبـة! وبذا سـيبتعد الناس عـن بذل الجهود النشائيـة للجـل الطويـل؛
ويبدأون الصراع من أجل الحصول على الشياء المادية.
( ومع ذلك التغير ينمو خطر متزايد .فالمريكيون قد حصلوا على المن بالطريقة
الوحيدة التي يمكن بها ضمان المن .أعني كنتيجة فرعية لمسعاهم العظيم .وعندما بدأنا
نتقا عس عن سعينا ،ونطلب ال من كنها ية في ذا ته ،أ خذ ال من يزداد بعدا ع نا! و ستظل
الحال دائما هكذا ،ومه ما ت كن در جة ثرائ نا .فال من ل يم كن شراؤه بأي ث من نقدي 00
وخمسة بليين ،أو خمسون بليونا ل تكفي .فالمن والسلم ليسا سلعتين يمكن شراؤهما.
ل قد حاول الباطرة الرومان أيام انحدار هم أن يشتروا ال سلم .وكا نت النتي جة ف تح شه ية
أولئك الذين كانوا يسعون إلى تدميرهم.
( وبينمـا ينحدر نفوذنـا وأمننـا ،فإن نفوذ الشيوعيـة السـوفيتية وأمنهـا آخذان فـي
الرتفاع 00إن ها ت ستطيع أن تن فذ – بل هي تن فذ فعلً -سياسات تح مل طا بع " تجر بة
الشيوعية السوفييتية العظمى" تلك التجربة التي استطاع بها الشيوعيون أن يجتذبوا إليهم
خيال شعوب العالم .تماما كمـا فعلنـا نحـن فـي القرن التاسـع عشـر بالتجربـة المريكيـة
العظمى!
( وإننـا نعلم أن التصـويرات الشيوعيـة خادعـة ومضللة؛ ونعلم أن الشيوعيـة
السوفيتية لن تفتح أبواب التجربة التي قاموا بها في وطنهم للحكم عليها حكما حرّا محايدا.
ونعلم أن أولئك الذين يقعون في براثنهم من جراء الغراء الزائف لهذا التصوير ،سرعان
ما يدركون الفرق بين ها وب ين الحقي قة 00إن العنكبوت ين سج بيتا جميلً يتألق في ضوء
الشمس ويدعوا الذباب إلى صالونه! والدعاية الشيوعية جذابة مثل بيت العنكبوت .ومتى
وقع في قبضتها شعب فإن الستبداد يمتص قواه الروحية 00ولكن الشيوعية –كأمل -لها
قبول عند الجماهير في كل مكان من آسيا ،وفي جزر الباسفيك ،وجنوب أمريكا ،وأفريقيا
00وحتى في أوروبا الغربية ..
55
www.ikhwan-info.net
( لقـد قال سـتالين :إن قوة وحيويـة الماركسـية –اللينينيـة ،تكمـن ،فـي أنهـا تركـز
نشاطها العملي في الحاجة في تنمية الحياة المادية للمجتمع.
( ويبدو أن كثيرا من البلد غير الشيوعية –بما في ذلك الدول المسيحية الغربية-
تع طي الولو ية "لتنم ية الحياة الماد ية للمجت مع" وتج عل من "الروح ية" أمرا ثانويّا يتعلق
بالفراد أنفسهم..
( ويت خذ الشيوعيون ذلك مثالً ل كي يثبتوا أ نه ح تى المجتمعات الغرب ية كان علي ها
أن تتبع النظريات المادية للشيوعية! ول يقوم الزعماء الغربيون بإنكار ذلك بطريقة مقنعة
00وهكذا يرتفع المستوى الدبي للشيوعية السوفييتية في العالم بدرجة كبيرة!
( إن الصعوبة ناشئة في أننا نقف موقفا غامضا من إيماننا؛ ومن العلقة التي بين
هذا اليمان ونشاطنا!
( إننـا نسـتطيع أن نتحدث ببلغـة عـن التحرر والحريـة ،وعـن حقوق النسـان
والحريات الساسية؛ وعن الكرامة والقيمة النسانية للفرد 00ولكن معظم حديثنا مشتق
من فترة كان مجتمع نا فيها قائما على "الفرد ية" 00ونتيجة لذلك فليس لها أ ثر كبير عند
أولئك الذين يعيشون في ظروف يكون معنى الفردية فيها هو الموت المبكر..
( ونسـتطيع كذلك أن نتحدث ببلغـة عـن التقدم المادي الذي حققناه ،وعـن روائع
النتاج الجماعي ،وعدد السيارات وأجهزة الراديو والتليفزيون التي يمتلكها أفراد شعبنا..
ولكن المبالغة في وصف الماديات تعطي البعض فكرة بأننا قد أفلسنا من الناحية الروحية؛
وتجعل من البعض حاسدين لنا ،وأميل إلى التمجيد الشيوعي (للجهود الجماعية) من أجل
تنمية الحياة المادية للمجتمع! ) ..
( إننا ل نستطيع أن نكافح الشيوعية السيوفييتية في العالم ،وأن نحبط أساليبها في
الخداع والرهاب والعنف ،ما لم يكن لدينا إيمان ،واستعانة بالوسائل الروحية في مجتمعنا
الحديث المعقد؛ والتي تحول نفسها إلى أعمال خالصة من الدناءة ،وظروف الحياة الذليلة،
التي ل يمكن أن تنمو فيها الروح! )
56
www.ikhwan-info.net
( لقد أخفقنا بشكل يدعو إلى الرثاء في أن نرى أن من الممكن الحصول على عدالة
اجتماعية ،دون أن نمارس اللحاد والمادية ..إن ذلك يعتمد على الرغبة الختيارية للفرد
في قبول أو التخلي عن اللتزامات الجتماعية تجاه الفرد الخر..
( ونتي جة لذلك فإن كثيرا من قوم نا قد فقدوا إيمان هم في مجت مع حر .وكأ مة فقد نا
كذلك إيمان نا الدي ني وممار سة شعائر نا الدين ية .ر غم أن نا ما زل نا متدين ين! إن نا نفرق ب ين
الد ين وممار سة الد ين! ولم ن عد نؤ من بأن اليمان يتم شى مع الظروف الحدي ثة ..وم تى
تحط مت ال صلة ب ين اليمان والع مل ،فلن ن ستطيع ب عد ذلك أن نن مي قوة روح ية ن ستطيع
نشرها في جميع أنحاء العالم )..
( إن علي نا أن نغ ير كل ذلك .إن نا ن ستطيع -بل ي جب -أن نر فض كل ية النظر ية
الماركسـية القائلة :إن الشياء الماديـة لهـا الولويـة ،والروحيـة تابعـة لهـا .إن العبوديـة
والستبداد ل يمكن ان يكونا صوابا ،حتى ولو بصفة استثنائية .ويجب أل نخشى وضع
اليمان في مرتبة ال صدارة بالن سبة لحرية الن سانية والتحرر ،وان نتم سك بالرأي الدي ني
القائل :إن ال قد خلق النسان لكي يكون اكثر من منتج مادي؛ وان غايته النهائية شيء
آ خر غ ير ال من الجثما ني .ي جب أن نؤ من بأ نه ي جب تحر ير الناس في كل مكان من
التضييـق الروحـي والعقلي والقتصـادي المتزايـد ،بحجـة أن ذلك سـينمي الرفاهيـة
القتصادية للمجتمع الذي ينتمون إليه! )..
( ويجب أن نفهم كذلك بوضوح أن مجتمعا حرا ليس معناه مجتمعا يسعى كل فرد
فيه لنفسه .بل انه مجتمع متناسق .والقيود المفروضة هي ،قبل كل شيء ،روابط الخوة
المنبعثة من اليمان .فان الناس خلقوا لكي يعيشوا إخوانا في رعاية ال ) ..
ثم يختم هذا الفصل بقوله:
( لن تكون هناك فائدة مـن إنشاء (أصـوات أمريكـا) أخرى عاليـة الصـوت ،إل إذا
كان لدينا شيء نقوله ،يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الن!.
57
www.ikhwan-info.net
( وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لمتنا .وبعثورهم
عليهـا يسـتطيعون أن يسـاهموا بشكـل حاسـم فـي الحباط السـلمي للسـاليب الشريرة،
والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية.
( إن كثيرا مـن الوعاظ والمعلميـن يأسـفون لن المعرفـة العلميـة قـد زادت قدرة
النسان على الذى إلى درجة كبيرة .ول يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء
يمكن الهرب منه.
( إن القوة الماد ية ال كبيرة تكون خطرة في ع صر الماد ية ف قط؛ ول يس في ع صر
روحي .والمعرفة العلمية الجديدة خطرة اليوم لنها حدثت في وقت أخفقت فيه الزعامة
الروحيـة أن توضـح الصـلة بيـن العقيدة والعمـل .ولعله يكون اكثـر أهميـة لو أن العبادة
الروحية تطورت بدلً من محاولة وقف التقدم العلمي ،او الرجوع به القهقري ) .
( لقد كتب الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالً استعرض فيه تهديد المبادئ
الثوريـة وأعمال الشيوعيـة .وختمـه بقول :إن اختصـار المسـألة بأسـرها هـو مـا يلي :إن
حضارتنا ل تستطيع الستمرار في البقاء من الناحية المادية ،إل إذا استردت روحانيتها..
( هذا هو التحدي النهائي لكنائ سنا ومنظمات نا ال سياسية وللرأ سماليين عند نا ،ول كل
فرد يخاف ال ،او يحب بلده! ) ..
* * *
ولكن هذه الصيحة التي أرسلها مستر دالس-كالصيحة التي أرسلها دكتور كاريل
من قبل -ل تمكن تلبيتها بهذا السهولة! ول بهذا التحدي الذي يضعه دالس أمام كنائسهم
ومنظماتهم والرأسماليين وكل فرد يخاف ال او يحب بلده!
إن المسـألة اعمـق مـن هذا بكثيـر .فالكنائس لم يعـد لديهـا مـن النصـرانية-منـذ مـا
أفسدها بولس أولً .وقسطنطين ثانيا .والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثا -ما يصلح أساسا
شاملً للحياة النسانية.
58
www.ikhwan-info.net
وحتى البقية الباقية من التصور النصراني-هذه التي يتحدث عنها مستر دالس -لم
ت عد الحضارة المريك ية الماد ية تطيق ها .هذه الحضارة ال تي قا مت ابتداء على (الفرد ية)
الجامحة ،ممثلة في النظام الرأسمالي الربوي الحتكاري إلى أبعد الحدود..
وما أظن مستر دالس نفسه قد فكر-وهو يرسل هذه الصيحة في ساعة الخطر-
في ت طبيق بق ية الت صور الن صراني تلك .فان أول ما تقتض يه :إلغاء النظام الربوي الذي
تقوم هذه الحضارة عليـه ،والذي يسـاهم بالقسـط الول والوفـر فـي ويلت البشريـة،
وويلت الحضارة الماد ية .والذي تحرّ مه الن صرانية ،ك ما يحر مه كل د ين سماوي و كل
فطرة سليمة!
إنمـا أراد مسـتر دالس صـورة باهتـة مـن النصـرانية ل تتدخـل فـي صـميم النظام
القتصادي .وفي الوقت ذاته تخدم أغراضه السياسية الخرى في دفع غائلة الشيوعية!
وح تى لو كان جادا في أعمال الت صور الدي ني في صميم الحياة كل ها ..فان هنالك
هوة ل تعبر ،ول يقام عليها معبر بين التعاليم النصرانية الصحيحة ،وبين الحياة الواقعية
عنده .اشترك في حفرها وتعميقها خمسمائة عام من الصراع المرير!
و هو يكلف رجال الكني سة عنده والزعماء الروحي ين مال ق بل ل هم به .ح تى يطلب
إليهم ،بما بين أيديهم من رصيد مهلهل للدين النصراني ،ومن تاريخ مرير بين الكنيسة
ورجالهـا والديـن وأهله وبيـن ضمائر الناس وعقولهـم ،ومـن فصـام نكـد قامـت بعده كـل
جوا نب الحياة والف كر والشعور على أ ساس العداء للد ين كله ..أقول يكلف هم مال ق بل ل هم
به ،وهو يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل ،يصل بين اليمان والعمل.
وبين الفردية والجماعية .وبين الروح والمادة .وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على
هذا التقدم .وبين العناية بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح اليماني ..منهج ل يفرق
ب ين الد ين وممار سة الد ين .وير فض القول :بأ نه من غ ير المم كن الح صول على عدالة
اجتماع ية بدون ممار سة اللحاد والماد ية .ك ما ير فض أن يكون للشياء المادية الولوية.
او أن تكون العبوديـة والسـتبداد وسـيلة الكثار مـن النتاج المادي .او أن يعتدي على
59
www.ikhwan-info.net
الحرية العقلية والروحية والقتصادية في سبيل هذا الكثار ..منهج ل يطلب وقف التقدم
العلمي باسم (الدين)! ول يجعل التدين وسيلة واحدة هي عودة العلم والمعرفة القهقري!..
وفي النهاية منهج تتطور (العبادة) فيه حتى يصبح (العمل) إحدى صورها..
فأ نى يجدون هذا المن هج في بقا يا الت صور المهل هل؛ و في أنقاض التار يخ المر ير،
وفي الفجوة التي ل تعبر ،وال تي ل يقام عليها معبر ،بين طبيعة الدين الذي عندهم-كما
صـاغته هذه الملبسـات كلهـا -وبيـن طبيعـة الحياة النسـانية بصـفة عامـة ،وطبيعـة هذه
الحضارة المادية بصفة خاصة؟!
إن الذي يملك اسـتحداث هذا المنهـج قوم آخرون ..والديـن الذي يتضمـن مثـل هذا
المنهج في اكمل صورة ليس هو ما يسمى عند قومه اليوم بالدين!
إن مستر دالس يريد أن يجند (الدين) لحماية النظمة الغربية من الشيوعية ..ولكن
الدين ل يملك أن يصنع شيئا في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية
من نوع آخر! انه ل يملك أن يصنع شيئا في صورته الباهتة التي تراد له ..ل يملك أن
يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طردا قبيحا!
إن (ديـن ال) ل يصـلح خادما يلبـس منطقـة الخدم ،ويقـف بحضرة (أسـياده)،
ويوجهونـه حيـث يريدون! يطردونـه مـن حضرتهـم فينصـرف ،وهـو يقبـل الرض بيـن
أيديهم ..ثم يقف وراء الباب-في شارة الخدم -رهن الشارة! ..ويستدعونه للخدمة ،فيقبل
الرض بين أيديهم ،وينحني قائلً :لبيك يا مولي! كما يفعل من يسمونهم (رجال الدين)!
كل! إن (ديـن ال) ل يرضـى إل أن يكون سـيدا مهيمنا .قويا متصـرفا .عزيزا
كريما .حاكما ل محكوما .قائدا ل مقودا ..و هو ل يح مي الناس من الشيوع ية ول من
غ ير الشيوع ية إل أن تكون حيات هم كل ها ر هن إشار ته .ي صرفها بجملت ها ،وينظم ها من
أطراف ها ،وين سقها و فق شريع ته ..ح ين يتحا كم إل يه الناس في أمور هم كل ها :صغيرها
وكبيرها .ثم يرتضون حكمه في ثقة وفي استسلم:
60
www.ikhwan-info.net
" فل وربـك ل يؤمنون حتـى يحكموك فيمـا شجـر بينهـم ،ثـم ل يجدوا فـي أنفسـهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " ..
[النساء]65 :
ويومئذ فقط يؤدي دوره كاملً ..دور السيد المدبر ..ل دور الخادم الملبي..
ويومئذ ف قط ينت هي ذلك الف صام الن كد .الذي أن شأ كل هذا الشقاء المر ير .و كل هذا
الخطر الخطير..
ويومئذ ف قط ي جئ المخلص ،الذي تتعالى ال صيحات ب صفاته و سماته! هذا المخلص
المرتقب للناس أجمعين ..هو هذا الدين ..
61
www.ikhwan-info.net
خلّــص
الم َ
"إن هتافات كثيرة مـن هنـا ومـن هناك ،تنبعـث مـن القلوب الحائرة وترتفـع مـن
الحنا جر المتع بة ..ته تف بمن قذ ،وتتل فت على (مخلص) ،وتت صور لهذا المخلص سمات
وملمح معينة تطلبها فيه ..وهذه السمات والملمح المعينة ل تنطبق على أحد إل على
(هذا الدين) ..
جاءت هذه الفقرة فـي الفصـل الول مـن هذا الكتاب 00والفصـل الذي سـلف
(صيحات الخطر) يتضمن التفسير الكامل لهذه الفقرة في أقوال دكتور كاريل ،وفي أقوال
م ستر دالس على ال سواء! لول أن كل منه ما –ل مر قد قدر -ل يت جه بدعائه للمخلص
الحقيقي الذي عليه وحده تنطبق هذه الوصاف؛ وفيه وحده تتحقق هذه السمات!
* * *
إن دكتور كاريل يطلب منهجا للحياة غير (دين الصناعة) و (التكنولوجيا).
ير يد منهجا يع تبر (الن سان مقيا سا ل كل ش يء) ول يجعله (غريبا في العالم
الذي ابتدعه) ..ول ينهض على الجهل المطبق بخصائصه ومقوماته.
منهجا ( ل يهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالً تاما
ع ند تنظ يم الحياة ال صناعية) ول ( ين هض على مبدأ ال حد الق صى من النتاج بأ قل قدر
من التكال يف ..ح تى ي ستطيع فرد أو مجمو عة من الفراد أن يح صلوا على أ كبر مبلغ
مستطاع من المال).
منهجا ل ينشئ بيئة (غير صالحة ل بالنسبة لقوامنا ول بالنسبة لهيئتنا) .ول يجعلنا
( ننحط أخلقيا وعقليا) .ول يكبت ويعطل ( نمو وجوه النشاط العاطفي والجمالي والديني
فيخلق أشخاصا في المرتبة الدنيا .ذوي عقول ضيقة غير صحيحة).
منهجا ل يل غي شخ صية الفرد من ح سابه ،ولك نه كذلك ل ين سى حا جة الفرد للحياة
الجماعية .فل (نربي ونعيش ونعمل في قطعان كبيرة أشبه بقطعان الغنام!).
62
www.ikhwan-info.net
منهجا ل يلغـي شخصـية الذكـر وشخصـية النثـى( .فإهمال انعدام المسـاواة بيـن
الجنسين أمر خطر جدّا).
منهجا ل يدع حياة بني الن سان نهبا (لخيالت ماركس ولينين وفرو يد) و (شهوات
الناس وأهوائهم ونظرياتهم ورغباتهم).
منهجا ل يعتدي على قوانيـن الفطرة .ول يشجـع على (ارتياد الرض المحرمـة).
ول يصطدم من الحقائق الحيوية للكينونة النسانية ..
وأخيرا ..منهجا ل يتخذ من فشل (المادية) سببا للنكسة إلى (الروحية) السلبية التي
عرفتها أوربا في نظام الرهبنة ول إلى سيكولوجية فرويد المضللة!
ولكـن دكتور كاريـل يطلب هذا المنهـج الذي هذه سـماته عنـد (علم النسـان) الذي
يطالب بإنشائه على الرغـم مـن تقريره أن فـي العقـل البشري بطـبيعته عجزا عـن العلم
بالنسان!
* * *
وما الذي يطلبه مستر دالس كذلك؟
إنـه يطلب منهجا (ل يعطـي الولويـة المطلقـة لتنميـة الحياة الماديـة للمجتمـع مـع
إعطاء الروحية أهمية ثانوية ،ول يعتبر اليمان أمرا ثانويا يتعلق بالفراد).
منهجا (ل يقف موقفا غامضا من اليمان وعلقته بالنشاط الحيوي)..
منهجا (ل يقوم على الفرديـة المطلقـة -كمـا عرفتهـا التجربـة المريكيـة -هذه
الفردية التي يكون معناها في بعض الظروف :الموت المبكر)..
منهجا (ل يخفق –بشكل يدعو إلى الرثاء ! – في أن يرى أن من الممكن الحصول
على عدالة اجتماعية بدون ممارسة اللحاد والمادية).
منهجا (ل يفرق بين الدين وممارسة الدين .ول يحطم الصلة بين اليمان والعمل.
ول يزعم أن اليمان ل يتمشى مع الظروف الحديثة).
63
www.ikhwan-info.net
منهجا (يرفـض أن يكون للشياء الماديـة الولويـة ول يجعـل الروحيـة تابعـة لهـا.
ويرفض أن يعتبر العبودية والستبداد صوابا -ولو في حالة استثنائية -ويرفض اعتبار
الن سان أداة إنتاج فح سب .وير فض الرفاه ية القت صادية على ح ساب الحر ية الروح ية
والعقلية).
منهجا يعيش الفراد في المجتمع الذي يقوم عليه ،إخوانا في ال .روابطهم الخوية
هي القيود التي تشدهم ،والتي تحفظ مجتمعهم من الفردية الطاغية ومن الجماعية الطاغية
كذلك.
منهجا ي ظل الروح اليما ني ف يه مهيمنا على المعر فة العلم ية .فل يطلب و قف تقدم
المعرفة والعلم بحجة أنها بذاتها خطرة على اليمان الديني!
وأخيرا ..يريـد منهجا يوضـح العلقـة بيـن العقيدة والعمـل ،وتتطور فيـه (العبادة)
حتى يصبح العمل إحدى صورها ...
ولكن مستر دالس يطلب هذا المنهج عند رجال الكنيسة المريكية ،وعند الزعماء
الروحي ين في بلده ...على الر غم م ما يعر فه من تار يخ الكني سة الغرب ية ،و من (الف صام
النكد) بينها وبين المجتمع ،ورواسبه المريرة!
* * *
ولكـن الذي ينبغـي أن يكون واضحا ..أنـه ل (علم النسـان) يملك أن يسـتجيب
لصيحة دكتور كاريل ،ول الكنيسة وآباؤها الروحيون يملكون أن يستجيبوا لصيحة مستر
دالس!
إن هذه الصفات التي يطلبانها في (المخلص) ل تتوافر في أحد إل في (هذا الدين).
وإن هذا المنهـج الذي يصـفانه ل يملكـه إل السـلم .مـن بيـن سـائر المناهـج والمذاهـب
والنظريات التي يعرفها بنو النسان!
64
www.ikhwan-info.net
ودكتور كار يل ل يت جه إلى هذا (المخلص) ..ل نه -على الر غم من سعة أف قه،
ومـن غزارة علمـه -رجـل أبيـض ..يتجـه بتمجيده كله للجنـس البيـض! ويؤلف كتابـه
لنقاذ الجنس البيض! ويوجه اهتمامه لنقاذ الجنس البيض من النحلل والبوار.
وال سلم ل يس من صنع الر جل الب يض ،و من ثم ل يم كن أن يت جه إل يه العالم
العالمي الكبير!
وم ستر دالس كذلك ل يت جه إلى هذا (المخلص) ل نه فوق أ نه (ر جل أب يض) ،فإن
له مـع هذا الديـن شأنا ..إنـه الرجـل الذي قام بأكـبر نصـيب قام بـه سـياسي عالمـي فـي
الع صر الحد يث في حرب ال سلم ،وإقا مة الجهزة ال تي تر صد لهذا الد ين في كل بقاع
الرض بل استثناء ،وتحاول أن تحل محله تصورات وقيما أخرى من صنع النسان!
ولكن هذا الدين ،هو وحده الذي يملك تلبية تلك الصرخات وهو وحده الذي تتحقق
فيه هذه السمات .وهو وحده الذي توجد عنده هذه (الوصفة) اللزمة لشفاء بني النسان!
* * *
إن السـلم منهـج جديـد للحياة غيـر الذي عرفتـه أوروبـا وعرفـه العالم فـي فترة
الفصـام النكـد وقبلهـا وبعدهـا كذلك 00منهـج أصـيل ،مسـتقل الجذور ..منهـج شامـل
متكامـل .وليـس مجرد تعديـل للحياة الراهنـة وأوضاعهـا القائمـة ..إنـه منهـج للتصـور
والعتقاد؛ ك ما أ نه من هج للع مل والوا قع ..و من ثم ف هو -وحده -الك فء للضطلع
بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة.
لقد أخطأ المجتمع البشري طريقه .ل من يوم أن اتجه إلى تنمية علوم الجماد وترك
علوم النسـان بدون نماء ..ول مـن يوم أن ترك اللة تتحكـم فـي حياتـه ،وتكيفهـا هذا
التكيـف المناقـض لطبيعـة النسـان ..ول مـن يوم أن ترك النظـم السـياسية والجتماعيـة
والقتصـادية تحـت رحمـة المسـتغلين يوجهونهـا لغيـر صـالح البشـر ،ولغيـر احتياجاتهـم
الحقيقية -كما يقرر دكتور كاريل ..
كل! فهذه مراحل متأخرة في تاريخ النحراف..
65
www.ikhwan-info.net
إنما أخطأ المجتمع طريقه يوم أن جعل تلك الملبسات النكدة التي صاحبت عصر
الحياء وع صر التنو ير ،وع صر النه ضة ال صناعية ..ت صرفه عن من هج ال كله -ل
عن تصورات الكنيسة وحدها -وتوقع (الفصام النكد) في حياته ،بين التصور العتقادي
اللهي ،ونظام الحياة الجتماعي ..
ولم ي عد ذلك الترق يع الجزئي عن طر يق العنا ية بعلوم الحياة وعلوم الن سان –ك ما
يظن دكتور كاريل -فالناس ل يوجه حياتهم ول يغيرها أن ( يعلموا ) ولكن يوجه حياتهم
ويغيرها أن ( يعتقدوا ) والنسان هو النسان!
ولقـد انتظرت مـن دكتور كاريـل -وهـو يذكـر "ضرورة قلب الحضارة الصـناعية
وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري" – أن يثـب وثبـة كاملة ،فيخرج مـن قفصـه الحديدي
"العلمي"! ولكنه لم يستطع هذه الوثبة الكبرى وبقي داخل القفص ،يهتف بصيحة الخطر
الذي يراه يتهدد البشرية المسكينة الصائرة إلى البوار!
إن الحياة البشرية المهددة في حاجة إلى هذه الوثبة الكاملة ،في حاجة إلى أن ترجع
إلى فطرتهـا التـي فطرهـا ال عليهـا .وهـي ل يمكـن أن ترجـع إلى هذه الفطرة بمبادئ
ونظريات أو و سائل تن بع من ذلك الت صور الحضاري الذي يك من ف يه الخ طر؛ والذي قام
ابتداء على أصول معادية لينابيع لفطرة ..لبد من تصور جديد جدة حقيقية كاملة؛ يغير
قاعدة الحياة من ال ساس ويرد ها إلى الفطرة؛ ويقيم ها على أ ساس آ خر يت فق مع طبي عة
التكو ين الن ساني المتكا مل؛ و مع الحقي قة الكون ية – ك ما هي في الوا قع ل ك ما تبدو من
خلل المناظير الملونة ،المصنوعة في معامل الحضارة المعادية!
إن علمنـا القليـل المحدود عـن الكائن البشري -أو جهلنـا المطبـق بهذا الكائن
البشري -كما وصفه هذا العالم العالمي الكبير ،ل يسمح إطلقا بأن نكون نحن -البشر-
الذي نتولى وضع (التصميم) الساسي ابتداءً لحياة هذا الكائن ..ولو كان هذا مدى علمنا
-أو مدى جهل نا -بجهاز مادي صغير ،ما أ من صاحبه أن يتر كه ل نا ل صلحه -بله
66
www.ikhwan-info.net
تركيبه! -ولكننا بهذا الجهل – نتصدى لقامة نظام (للنسان) ..أعز وأثمن ما في هذه
الرض جميعا! ول نبالي ما يصيبه من جراء (هذا النظام!).
لقد أدركنا الغرور ،ونحن نرى العقل البشري يبدع في عالم المادة ،ويأتي بما يشبه
الخوارق! فوهمنـا أن العقـل الذي يبدع الطائرة والصـاروخ؛ ويحطـم الذرة وينشـئ القنبلة
اليدروجينيـة؛ ويعرف القوانيـن الطبيعيـة ويسـتخدمها فـي هذا البداع ..وهمنـا أن هذا
العقـل جديـر بأن نكـل إليـه كذلك وضـع (نظام) الحياة البشريـة ..وقواعـد التصـور
والعتقاد ،وأسس الخلق والسلوك ..ناسين أنه حين يعمل في (عالم المادة) فإنه يعمل
في عالم يمكن أن يعرفه ،لنه مجهز بإدراك قوانينه ..أما حين يعمل في (عالم النسان)
ف هو يع مل في متا هة وا سعة بالقياس إل يه! هو غ ير مج هز ابتداء بإدراك حقيقت ها الهائلة
الغامضة.
ومـن عجـب أن الذي يقرر هذه الحقيقـة هـو العالم العالمـي الكـبير الذي يطلب هذه
الحقيقة عند (علم النسان)!!
* * *
وفي مقابل ذلك الوهم الكبير ،يوجد وهم آخر كبير!
إن ب عض الناس ي ظن أن هيمنة المنهج اليما ني على الحياة ،من شأ نه طرد العلوم
المادية ونتائجها الحضارية من الحياة!
وهو وهم ساذج -على الرغم من أنه وهم كبير! -بل وهم مضحك! ولكنه -مع
السف -يرتكن في الغرب وفي التاريخ الحضاري له ،على واقع تاريخي طويل .حتى
ليحتاج من م ستر دالس إلى ذلك الف صل المطول في كتا به( :حرب أم سلم) ..ف صل:
(حاجاتنا الروحية) الذي اقتطعنا منه في الفصل السابق تلك الصرخات؛ وتلك التحديات!
غير أن المر في المنهج اللهي الصحيح ليس على هذا النحو ..إن (الدين) ليس
بديلً مـن العلم والحضارة .ول عدوّا للعلم والحضارة .إنمـا هـو إطار للعلم والحضارة،
67
www.ikhwan-info.net
ومحور للعلم والحضارة ،ومنهـج للعلم والحضارة فـي حدود إطاره ومحوره الذي يحكـم
كل شؤون الحياة.
والسـلم -بالذات -كان هـو العلن الشامـل لحريـة العقـل البشري تجاه الكون
المادي ،وقواني نه ،وقواه ،ومدخرا ته .وكان اليذان العام بانطلق هذا الع قل ليع مل ويبدع
في ذلك الملك العر يض الذي ا ستخلفه ر به ف يه .وكا نت هذه إحدى الحقائق ال تي تضمن ها
التصـور السـلمي عـن حقيقـة علقـة الخلق بالخالق؛ ومركـز النسـان فـي هذا الكون،
وحدود اخت صاصه( .. )1و من ثم ازدهرت في ظل ال سلم حضارة كاملة ب كل مقومات ها
البداع ية ال تي كا نت تتيح ها ل ها الدوات والو سائل في حين ها -والدوات والو سائل قابلة
دائما للتطور والتر قي -وال سلم يد فع هذا الن مو ويقوده ،ولك نه يحف ظه دائما دا خل إطار
الفطرة؛ ل ي صطدم بطبي عة الن سان وخ صائصه الثمي نة ،ول يحطم ها ويكبت ها ،ك ما يقرر
دكتور كاريل عن الحضارة المعاصرة!
ولقد كان السلم هو الذي أنشأ -بطبيعة واقعية منهجه -المنهج التجريبي ،الذي
انتقـل إلى أوربـا مـن جامعات الندلس؛ والذي أقام عليـه (روجـر بيكون) و (فرنسـيس
بيكون) -الذي ي سمونه افتراء (أ با المن هج التجر يبي) -منهجه ما ك ما قرر ذلك بريفولت
وجوهرنج من الكتاب الغربيين أنفسهم(.)2
إن السلم يكل رسم (التصميم) الساسي للحياة البشرية ،إلى العلم الكامل الشامل،
ال مبرأ من الج هل والق صور والهوى كذلك يكله إلى علم ال -سبحانه -ب ما أن ال هو
الذي أبدع الكون وما فيه؛ وأبدع قوانينه وطاقاته؛ وأبدع النسان وزوده باستعداداته للعمل
في مادة هذا الكون العر يض ..و هو الذي يعلم -وحده -كل حقائق الكينو نة البشر ية
و كل حقائق الطبي عة الكون ية ..ف هو -وحده -القادر على أن ي صنع للن سان نظام حياة؛
شاملً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به ..عن (علم مطلق) يقابل
68
www.ikhwan-info.net
(جهل نا المط بق) ..و في الو قت ذا ته ل يل غي الع قل البشري -ك ما أرادت الكني سة ذات
يوم -هذه الداة العظي مة ،ال تي وهب ها ال للن سان ليع مل ب ها ويبدع؛ ل ليغل ها أو يلغي ها!
وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى ،ومن التهور ،ومن الخبط في التيه ،ومن النكسة
والنحدار .ويضع ل ها المنهج الذي يقوّمها من ها فل تم يل؛ ويهدي ها فل تضل؛ ويكفل ل ها
حريتها واستقامتها على السواء.
وبهذا يظـل (النسـان) هـو سـيد (المادة) بضمانـة مـن المنهـج الذي أبدعـه له مبدع
الن سان والمادة .وبالت صور الذي يشعره بكرام ته على ال؛ ك ما يشعره بعبودي ته ل .و في
الوقت ذاته يشعره بأنه مستخلف في هذا الملك العريض ..
* * *
ومـن هذا كله يتـبين أن السـلم -وحده -هـو المنهـج الذي يسـتصرخه مسـتر
دالس -ولك نه ل يت جه إل يه! -المن هج الذي يملك أن يتقدم لتخل يص البشر ية من بربر ية
الحضارة الصـناعية –كمـا يعـبر دكتور كاريـل -ومـن مصـيدة الشيوعيـة -كمـا يقول
مسـتر دالس -وأننـا نحـن أصـحاب المنهـج السـلم -وحدنـا -الذيـن نملك تلك الوثبـة
الكبرى!
إن هذه الحضارة الصـناعية التـي تحيـط بالبشريـة اليوم ،تحطـم أهـم مـا فـي كيان
(النسـان) وتحارب أرفـع مقوماتـه النسـانية ،وفـي الوقـت الذي تقدم له تلك التسـهيلت
الرائعة -وإن كانت هذه التسهيلت قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته -كما يقرر العالم
العالمي الكبير ،في مواضع شتى من كتابه القيم ..
والسـلم -بطبيعـة تصـوره لحقيقـة الكون ودور النسـان فيـه ،وبطبيعـة منهجـه
الواق عي التجر يبي -لن يع مد إلى الم صانع فيحطم ها! ولن يع مد إلى تلك التي سيرات ال تي
تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!
ولكن السلم سيعمد -ابتداء -إلى تغيير النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتها ..
سـيمنحها قيمتهـا الحقيقيـة بل مبالغـة وبل بخـس كذلك! بحيـث يصـبح الروح النسـاني
69
www.ikhwan-info.net
المؤمن هو المسيطر عليها .ل أن تكون هي المسيطرة عليه ،وعلى تصوراته ومشاعره
وأوضاعه وأنظمته ..
إن السـلم سـيقر فـي خلد النسـان قيمتـه العلويـة ومقوماتـه الكريمـة ..سـيستنقذ
الروح الن ساني من المها نة ال تي فرض ها عل يه (دارون) و (كارل مار كس) وأشباه هم!
وعندئذ سيشعر أ نه هو ال سيد ،الذي ينب غي أن ي سيطر على اللة ،وعلى البداع المادي،
والحضارة ..
وحين يصبح الروح النساني المؤمن هو المسيطر ،فيومئذ سيصبح متمتعا بحريته
-فـي إطار عقيدتـه -قادرا على الختيار ..فالختيار هـو العنصـر الهام الذي يفتقده
الروح الن ساني الن .و هو م جبر مقهور ذل يل لللة؛ وللت صورات المنبث قة من دورت ها
اللية!
والقدرة على الختيار ستتيح للروح الن ساني المؤ من ،أن ي ستبعد العناصر الضارة
في هذه الحضاريات ،وين مي العنا صر ال صالحة ،المتف قة مع الحاجات الحقيق ية للكينو نة
النسانية .كما أن سيطرة الروح النساني المؤمن ستتيح له التحرر من الوضاع المنافية
لكرام ته ،و من طرائق النتاج وأنظ مه الع مل ال تي تهدر في ها مقومات الن سان الكري مة ،
فليسـت طرائق النتاج وأنظمـة العمـل شرائع مقدسـة! إنمـا هـي مجرد وسـائل اسـتغللية
لتنميـة مقاديـر النتاج المادي ،على حسـاب المقومات النسـانية! فإذا تقرر أن (النسـان)
أكرم وأغلى مـن (الشياء) تغيرت طرائق النتاج وأنظمـة العمـل بحيـث توائم بيـن وفرة
النتاج ومقومات النسان الكريمة ..
و في حالة نشأة ت صورات وق يم جديدة ،منبث قة من المن هج ال سلمي للحياة ..و ما
يتبـع هذه النشأة مـن سـيطرة الروح النسـاني المؤمـن على الحضارة الصـناعية وأدواتهـا
وطرائق ها ،مع القدرة على الختيار ال تي هي وليدة تلك ال سيطرة ..في هذه الحالة ف قط
يصبح المزيد من (علوم النسان) ذا قيمة حقيقية في إطار التصميم الكلي .كما يصبح من
70
www.ikhwan-info.net
الممكن تلبية هتاف مستر دالس إلى المنهج الذي يصف سماته ،ول يجده بين يديه؛ ول
تملك كنيسته ول آباؤه الروحيون -وهو أحدهم! -أن تقدمه له!
و من ح سن ال حظ أن الفطرة الن سانية ذات ها -ك ما أبدع ها ال -متنا سقة مع فطرة
الكون .وأن فطرة الكون ،كفطرة الن سان ،تحتوي على عنا صر الحر كة والبداع والن مو
والترقـي ..ومـن ثـم سـتجد الفطرة أن الكثيـر مـن هذه الحضاريات يلبـي ويتمشـى مـع
حاجاتها الحقيقية المترقية ..ولن تصطدم إل بما هو ضار بكينونة النسان ذاته .وهذا ما
يجـب أن يطرد وينفـى ..وهذا مـا يكفله منهـج ال للحياة ..هذا الديـن ..المخلّص الذي
يطلبه الغرب ولكنه يأباه !!!
71
www.ikhwan-info.net
وح ين يتقرر أن ال سلم هو -وحده -القادر على إنقاذ البشر ية م ما يحدق ب ها
من أخطار ماح قة ،تدلف إلي ها مقودة ب سلسل الحضارة الماد ية البرا قة .و هو -وحده -
القادر على منح ها المن هج الملئم لفطرت ها ولحتياجات ها الحقيق ية .و هو -وحده -الذي
ينسق بين خطاها في البداع المادي وخطاها في الستشراف الروحي .وهو -وحده -
الذي يملك أن يقيم لها نظاما واقعيا للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط
إل في النظام السلمي -وحده -على مدى التاريخ ..
ح ين يتقرر هذا كله تت ضح م عه شنا عة الجري مة ال تي يرتكب ها -في حق البشر ية
كلها -أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلئع البعث السلمي في كل مكان -
و في أول هم م ستر دالس الذي ي صرح وي ستصرخ في طلب م ثل هذا المن هج -والذ ين
يجندون قواهم كلها ،لطمس معالم المنهج السلمي ،ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة
إلى منقذ ،المتلفتة على (مخلص) ،وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والكاذيب!
إنهـا جريمـة بشعـة -فـي حـق البشريـة كلهـا -البشريـة المسـكينة المنكوبـة بهذه
الحضارة المناقضـة لفطرتهـا ولحتياجاتهـا الحقيقـة -كمـا يقرر العالم الغربـي الكـبير-
المهددة بغل بة الفل سفة الماد ية علي ها -ك ما ينذر م ستر دالس – البشر ية ال تي تدلف إلى
الهاو ية ،مقودة ب سلسل هذه الحضارة الماد ية البرا قة ،و هي في كل لح ظة تقترب من
الهوة الرعيبة ،ول منقذ لها إل هذا الدين ،الذي يحاربه أعداء البشرية ،في كل مكان على
وجه الرض ،بشتى الخطط والمؤامرات والساليب!
إل أن هذه الحرب المشبو بة على ال سلم ل تفقد نا الث قة المطل قة في أن (الم ستقبل
لهذا الدين).
لقـد صـمد السـلم فـي حياتـه المديدة ،لمـا هـو أعنـف وأقسـى مـن هذه الضربات
الوحشية ،التي توجه اليوم إلى طلئع البعث السلمي في كل مكان .وكافح -وهو مجرد
72
www.ikhwan-info.net
من كل قوة غير قوته الذاتية -وانتصر ،وبقى ،وأبقى على شخصية الجماعات والوطان،
التي كان يحميها ،وهو مجرد من السلح!
إن ال سلم هو الذي ح مى الو طن الٍ سلمي في الشرق من هجمات التتار؛ ك ما
حماه مـن هجمات الصـليبيين على السـواء ..ولو انتصـر الصـليبيون فـي الشرق كمـا
انتصـروا فـي الندلس قديما ،أو كمـا انتصـر الصـهيونيون فـي فلسـطين حديثا ،مـا بقيـت
قوميـة عربيـة ،ول جنـس عربـي ول وطـن عربـي ..والندلس قديما وفلسـطين حديثا
كله ما شا هد على أ نه ح ين يطرد ال سلم من أرض ،فإ نه ل تب قى في ها ل غة ول قوم ية،
بعد اقتلع الجذر الصيل!
والممال يك الذين حموا هذه البقعة من التتار ،لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا
من جنس التتار! ولكن هم صمدوا في و جه ب ني جن سهم المهاجم ين ،حمية لل سلم ،لنهم
كانوا م سلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة ال سلمية ،وبقيادة روح ية إ سلمية من المام
المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية ،وقاتل في مقدمة الصفوف!
ولقد حمى صلح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية
..و هو كردي ل عر بي ..ولك نه ح فظ ل ها عروبت ها ولغت ها ح ين ح فظ ل ها إ سلمها من
غارة ال صليبيين .وكان ال سلم في ضميره هو الذ ين كا فح ال صليبيين .ك ما كان ال سلم
فـي ضميـر الظاهـر بيـبرس ،والمظفـر قطـز ،والملك الناصـر ..هـو الذي كافـح التتار
المتبربرين!
والسلم هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاما .وهو الذي استبقى أرومة
العرو بة في ها .ح تى ب عد أن تحط مت مقومات ها الممثلة في الل غة والثقا فة ،حين ما اع تبرت
فرن سا الل غة العرب ية – في الجزائر -ل غة أجنب ية محظورا تعليم ها! هنالك قام ال سلم -
وحده -في الضم ير ،يكا فح الغزاة ،وي ستعلي علي هم ،ول يح نى رأ سه ل هم لن هم أعداؤه
(ال صليبيون)! وبهذا -وحده -بق يت روح المقاو مة في الجزائر ،ح تى أزكت ها من جد يد
الحركة السلمية التي قام بها عبد الحميد بن باديس ،فأضاءت شعلتها من جديد 00وهذه
73
www.ikhwan-info.net
الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلّلون ،يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيدا
لنهم (صليبيون)!
إنهـم على يقيـن أن (السـلم) ،باسـتعلء روحـه على أعدائه ،هـو الذي يقـف فـي
طريقهـم فـي الجزائر .ومـن ثـم يعلنونهـا حربا على (المسـلمين) ..ل على (العرب) ول
على (الجزائريين)!
والسـلم هـو الذي هـب فـي السـودان فـي ثورة المهدي الكـبير على الحتلل
البريطانـي للقسـم الشمالي مـن الوادي (مصـر) ثـم القسـم الجنوبـي (السـودان) ومراجعـة
إعلنات (المهدي) الكبير ،ورسائل (عثمان دقنة) لكتشنر وكرومر وتوفيق ،تشهد بحيوية
هذا الباعث الصيل.
وال سلم هو الذي كا فح في بر قة وطرابلس ضد الغزو الطليا ني ..و في أرب طة
السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة .ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..
وأول انتفاضـة فـي مراكـش ،كانـت منبثقـة مـن الروح السـلمي .وكان (الظهيـر
البربري) الذي سنه الفرنسيون سنة 1931وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية،
وفصلهم عن الشريعة السلمية ..هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.
ل قد كا فح الٍ سلم -و هو أعزل -لن عن صر القوة كا من في طبيعته .كا من في
بساطته ووضوحه وشموله ،وملءمته للفطرة البشرية ،وتلبيته لحاجاتها الحقيقية ..كامن
في ال ستعلء عن العبود ية للعباد بالعبود ية ل رب العباد؛ و في ر فض التل قي إل م نه،
ورفـض الخضوع إل له مـن دون العالميـن ..كامـن كذلك فـي السـتعلء بأهله على
الملب سات العار ضة كالوقوع ت حت سلطان المت سلطين .فهذا ال سلطان ي ظل خارج نطاق
الضمير مهما اشتدت وطأته ..ومن ثم ل تقع الهزيمة الروحية طالما عمر السلم القلب
والضمير ،وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الحايين.
74
www.ikhwan-info.net
و من أجـل هذه الخ صائص في السـلم يحاربـه أعداؤه هذه الحرب المنكرة ،ل نه
ي قف ل هم في الطر يق ،يعوق هم عن أهداف هم ال ستعمارية ال ستغللية ،ك ما يعوق هم عن
الطغيان والتأله في الرض كما يريدون!
و من أ جل هذه الخ صائص يطلقون عل يه حملت الق مع والبادة ،ك ما يطلقون عل يه
حملت التشويه والخداع والتضليل!
ومـن أجـل هذا يريدون أن يسـتبدلوا بـه قيما أخرى ،وتصـورات أخرى ،ل تمـت
بسـبب إلى هذا المناضـل العنيـد؛ لتسـتريح الصـهيونية العالميـة ،والصـليبية العالميـة،
والستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!
إن خ صائص ال سلم الذات ية هي ال تي تح نق عل يه أعداءه الطامع ين في أ سلب
الوطن السلمي ..هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الصيل..
* * *
ولكن الذي ل شك فيه -على الرغم من ذلك كله -هو أن (المستقبل لهذا الدين)..
( ف من طبي عة المن هج الذي ير سمه هذا الد ين؛ و من حا جة البشر ية إلى هذا المن هج
نسـتمد نحـن يقيننـا الذي ل يتزعزع ،فـي أن المسـتقبل لهذا الديـن .وأن له دورا فـي هذه
الرض هـو مدعـو لدائه -أراد أعداؤه أم لم يريدوا -وأن دوره هذا المرتقـب ل تملك
عقيدة أخرى -ك ما ل يملك من هج آ خر -أن يؤد يه .وأن البشر ية بجملت ها ل تملك كذلك
أن تستغني طويلً عنه ) ..كما قلنا في صدر هذا الكتاب..
ول حا جة ب نا إلى الم ضي في توك يد هذه الحقي قة على هذا الن حو .فنكت في في هذا
الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للسلم ،لعلها أنسب العبر في هذا المقام:
بين ما كان ( سراقة بن مالك) يطارد ر سول ال صلى ال عل يه و سلم .و صاحبه أ با
بكر رضي ال عنه -وهما مهاجران خفية عن أعين قريش ..وبينما كان سراقة يعثر
بـه فرسـه كلمـا هـم أن يتابـع الرسـول وصـاحبه ،طمعا فـي جائزة قريـش المغريـة التـي
75
www.ikhwan-info.net
76
www.ikhwan-info.net
الوحش ية ال تي تكال لطلئع الب عث ال سلمي في كل مكان ،ول ب سبب ما نراه كذلك من
ضخا مة ال سس ال تي تقوم علي ها الحضارة الماد ية ..إن الذي يف صل في ال مر ل يس هو
ضخامة الباطل ،وليس هو قوة الضربات التي تكال للسلم .إنما الذي يفصل في المر
هو قوة الحق ،ومدى الصمود للضربات!
إن نا ل سنا وحد نا ..إن ر صيد الفطرة مع نا ..فطرة الكون وفطرة الن سان ..و هو
ر صيد هائل ض خم ..أض خم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة ..وم تى
تعارضـت الفطرة مـع الحضارة ،فل بـد أن يكتـب النصـر للفطرة ..قصـر الصـراع أم
طال(.)1
* * *
أمـر واحـد يجـب أن يكون فـي حسـابنا ..إن أمامنـا كفاحا مريرا شاقا طويلً.
لستنقاذ الفطرة من الركام .ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام.
كفاحا مريرا يجب أن نستعد له استعدادا طويلً ..
يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين ..
نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بال .وفي حقيقة معرفتنا بال فإننا لن نؤمن به
حق اليمان حتى نعرفه حق المعرفة ..
ونرت فع إلى م ستواه في عبادت نا ل .فإن نا لن نعرف ال حق المعر فة إل إذا عبدناه
حق العبادة.
ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا ،ومعرفتنا لساليب عصرنا ..ور حم ال
رجلً عرف زمانه واستقامت طريقته.
ونرت فع إلى م ستواه في إحاطت نا لثقا فة ع صرنا وحضار ته؛ وممار سة هذه الثقا فة
وهذه الحضارة ممارسـة اختبار واختيار ..فإننـا ل نملك الحكـم على مـا ينبغـي أن نأخـذ
77
www.ikhwan-info.net
من ها و ما ينب غي أن ندع ،إل إذا سيطرنا علي ها بالمعر فة وال خبرة .ف من المعر فة وال خبرة
نستمد سلطان الختيار ..
ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الحقيقية المتجددة،
فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة ،ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل
خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!
وهذا كفاح مرير ..وكفاح طويل 00ولكنه كفاح بصير وفاح أصيل..
وال معنا " ..وال غالب على أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون" ..
وصدق ال العظيم.
78