Professional Documents
Culture Documents
-الكآبة الخرساء
فتنهدت وشكوت.
أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات
وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم وسمعت همس
طهركم ،وأنا أيضا ً أذكر تلك البقية الجميلة من شمال
ي عن هذا المحيط إل ورأيت تلك لبنان ،فما أغمضت عين ّ
الودية المملوءة سحرا ً وهيبة ،وتلك الجبال المتعالية
بالمجد والعظمة نحو العلء ،ول صممت أذني عن ضجة
هذا الجتماع إل وسمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك
الغصون ,ولكن هذه المحاسن التي أذكرها الن وأشوق
إليها شوق الرضيع إلى ذراعي أمه هي التي كانت تعذب
روحي المسجونة في ظلمة الحداثة مثلما يتعذب البازي
بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة
في الخلء الوسيع ــ وهي التي كانت تمل صدري بأوجاع
التأمل ومرارة التفكير ،وتنسج بأصابع الحيرة واللتباس
نقابا ً من اليأس والقنوط حول قلبي ــ فلم أذهب إلى
البرية إل وعدت منها كئيبا ً جاهل ً أسباب الكآبة .ول نظرت
مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إل وشعرت
بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني النقباض ،ول سمعت
تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير إل وقفت حزينا ً لجهلي
موجبات الحزن.
يقولون إن الغباوة مهد الخلود والخلود مرقد الراحة ــ وقد
يكون ذلك صحيحا ً عند الذين يولدون أمواتا ً ويعيشون
كالجساد الهامدة الباردة فوق التراب ،ولكن إذا كانت
8
-يد القضاء
صديق أبيه.
ولما خرج فارس كرامة استزدت صاحبي من أخباره فقال
بلهجة يساورها التحذر" :ل أعرف رجل ً سواه في بيروت
قد جعلته الثروة فاضل ً والفضيلة مثرياً .وهو واحد من
القليلين الذين يجيئون هذا العالم ويغادرونه قبل أن
يلمسوا بالذى نفس مخلوق ــ ولكن هؤلء الرجال
يكونون غالبا ً تعساء مظلومين لنهم يجهلون سبل الحتيال
التي تنقذهم من مكر الناس وخبثهم .ولفارس كرامة ابنة
وحيدة تسكن معه منزل ً فخما ً في ضاحية المدينة وهي
تشابهه بالخلق وليس بين النساء من يماثلها جمال ً وهي
أيضا ً ستكون تاعسة لن ثروة والدها الطائلة توقفها الن
على شفير هاوية مظلمة مخيفة".
لفظ صديقي الكلمات الخيرة وظهرت على محياه لوائح
الغم والسف ثم زاد قائلً " :فارس كرامة شيخ شريف
القلب كريم الصفات ولكنه ضعيف الرادة يقوده رياء
الناس كالعمى وتوقفه مطامعهم كالخرس .أما ابنته
فتخضع ممتثلة لرادته الواهنة على رغم كل ما في روحها
الكبيرة من القوى والمواهب وهذا هو السر الكريه الكامن
وراء حياة الوالد وابنته .وقد فهم هذا السر رجل يأتلف في
شخصه الطمع بالرياء والخبث بالدهاء .وهذا الرجل هو
مطران تسير قبائحه بظل النجيل فتظهر للناس
كالفضائل .وهو رئيس دين في بلد الديان والمذاهب.
تخافه الرواح والجساد وتخر لديه ساجدة مثلما تنحني
13
-الشعلة البيضاء
-العاصفة
-بحيرة النار
إلى ابنه البكر بعد موته أما مجد الرئيس الديني فينتقل
بالعدوى إلى الخوة وأبناء الخوة في حياته ،وهكذا يصبح
النسان كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض
كثيرة وتمتص دماءها بأفواه عديدة.
عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه
ذلك الشيخ بغير السكوت العميق والدموع السخينة ،وأي
والد ل يشق عليه فراق ابنته حتى ولو كانت ذاهبة إلى
بيت جاره أو إلى قصر ملك ،أي رجل ل ترتعش أعماق
نفسه بالغصات عندما يفصله ناموس الطبيعة عن البنة
التي لعبها طفلة وهذبها صبية ورافقها امرأة .إن كآبة
الوالدين لزواج البنة تضارع فرحهم بزواج البن لن هذا
يكسب العائلة عضوا ً جديدا ً أما ذاك فيسلبها عضوا ً قديماً
عزيزاً.
أجاب الشيخ طلب المطران مضطرا ً وانحنى أمام مشيئته
38
فوق ينبوع ماء يخفره ثعبان جائع مخيف فما أظلم هذه
الليلة وما أعمق أسرارها".
فأجبتها وقد تخيلت القنوط شبحا ً مظلما ً قابضا ً على عنق
حبنا ليميته في طفولته "سيظل هذا الطائر حائما مرفرفاً
ل نهاية لفظاظته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟ أنت قوي يا
رب وهي ضعيفة فلماذا تبيدها بالوجاع؟ أنت عظيم وهي
تدب حول عرشك فلماذا تسحقها بقدميك؟ أنت عاصفة
شديدة وهي كالغبار أمام وجهك فلماذا تذريها على
الثلوج؟ أنت جبار وهي بائسة فلماذا تحاربها؟ أنت بصير
57
في قبضة الحب وفي هذا المكان يجعلنا الن الشتاء أمام
عرش الموت فما أبهى ذلك النهار وما أشد ظلمة هذا
الليل".
قالت هذه الكلمات وقد ابتلعت الغصات أواخرها ثم عادت
وسترت وجهها بيديها كأن ذكرى الماضي قد تجسدت
ووقفت أمامها فلم تشأ أن تراها ،فوضعت يدي على
شعرها قائل ً "تعالي يا سلمى ــ تعالي ننتصب كالبراج
أمام الزوبعة .هلمي نقف كالجنود أمام العداء متلقين
شفار السيوف بصدورنا ل بظهورنا .فإن صرعنا نموت
كالشهداء وإن تغلبنا نعيش كالبطال ...إن عذاب النفس
بثبات أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها
إلى حيث المن والطمأنينة فالفراشة التي تظل مرفرفة
حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي
يعيش براحة وسلمة في نفقه المظلم .والنواة التي ل
تحتمل برد الشتاء وثورات العناصر ل تقوى على شق
الرض ولن تفرح بجمال نيسان ...هلمي نسير يا سلمى
بقدم ثابتة على هذه الطريق الوعرة رافعين أعيننا نحو
الشمس كيل نرى الجماجم المطروحة بين الصخور،
والفاعي المنسابة بين الشواك ،فإن أوقفنا الخوف في
منتصف الطريق أسمعتنا أشباح الليل صراخ الستهزاء
والسخرية ،وإن بلغنا قمة الجبل بشجاعة فترنم معنا أرواح
الفضاء بأنشودة النصر والستظهار .خففي عنك يا سلمى
وجففي دموعك واخفي هذه الكآبة الظاهرة على محياك
70
فلم يعد يرى غير الظلمة .هو أخ أحبه ويحبني مثل جميع
الخوة يشترك بالمصيبة ول يخففها ويساعد بالبكاء فيزيد
الدمع مرارة والقلب احتراقاً".
كنت أسمع سلمى متكلمة وعواطفي تنمو وصدري يضيق
حتى شعرت بأن أضلعي تكاد تتفجر حناجر وفوهات .أما
الشيخ فكان ينظر إليها وجسده المهزول يهبط ببطء بين
الوسائد والمساند ونفسه المتعبة ترتجف كشعلة السراج
أمام الريح .ثم بسط ذراعيه وقال بهدوء "دعيني أذهب
بسلم يا ولدي .لقد لمحت عيناي ما وراء الغيوم فلن
أحولهما نحو هذه الكهوف ..دعيني أطير فقد كسرت
بأجنحتي قضبان هذا القفص .لقد نادتني أمك يا سلمى فل
توقفيني ..ها قد طاب الريح وتبدد الضباب عن وجه البحر
فرفعت السفينة شراعها وتأهبت للمسير فل توقيفها ول
تنزعي دفتها ..دعي جسدي يرقد مع الذين رقدوا ،ودعي
روحي تستيقظ لن الفجر قد لح والحلم قد انتهى..
قبليني قبلة رجاء وأمل ..ول تسكبي قطرة من مرارة
الحزن على جسدي لئل تمنع العشاب والزهار عن
امتصاص عناصره ..ول تذرفي دموع اليأس على يدي لنها
تنبت شوكا ً على قبري .ول ترسمي بزفرات السى سطراً
على جبهتي لن نسيم البحر يمر ويقرؤه فل يجمل غبار
عظامي إلى المروج الخضراء ...قد أحببتك بالحياة يا ولدي
وسوف أحبك بالموت فتظل روحي قريبة منك لتحميك
وترعاك".
76
-التضحية
منهم".
فسترت وجهها بيدها وتأوهت ملتاعة ثم قالت مترددة "إن
المطران بولس غالب قد صار يعلم بأنني أخرج مرة في
الشهر من القبر الذي وضعني فيه".
فقلت "وهل علم المطران بأنك تلتقين بي في هذا
المكان".
فأجابت "لو علم بذلك لما رأيتني الن جالسة بقربك"
ولكن الشكوك تخامره والظنون تتلعب بأفكاره وقد بث
ي العيون لترقبني وأوعز إلى خدمه ليتجسسوا حركاتي عل ّ
حتى صرت أشعر بأن للمنزل الذي أسكنه والطرقات التي
ي وآذانا ً تسمع
أسير عليها نواظر تحدق بي وأصابع تشير إل ّ
همس أفكاري".
وأطرقت هنيهة ثم زادت والدمع ينسكب على وجنتيها "أنا
ل أخاف على نفسي لن الغريق ل يخشى البلل ،ولكنني
أخاف عليك وأنت حر كنور الشمس أن تقع مثلي في
أشراكه فيقبض عليك بأظافره وينهشك بأنيابه ..أنا ل
أخاف من الدهر لنه أفرغ جميع سهامه في صدري.
ولكنني أخاف عليك وأنت في ربيع العمر أن تلسع الفعى
قدميك وتوقفك عن المسير نحو قمة الجبل حيث ينتظرك
المستقبل بأفراحه وأمجاده".
فقلت "إن من ل تلسعه أفاعي اليام وتنهشه ذئاب الليل
يظل مغرورا ً باليام والليالي .ولكن اسمعي يا سلمى،
اسمعيني جيداً ،أليس أمامنا غير الفراق لنتقي صغارة
88
-المنقذ
وقال آخر:
"تأملوا بوجه منصور بك فهو ينظر إلى الفضاء بعينين
زجاجيتين كأنه لم يفقد زوجته وطفله في يوم واحد".
وظل الكهان يرتلون ويسبحون حتى فرغ حفار القبور من
ردم الحفرة فأخذ المشيعون إذ ذاك يقتربون واحدا ً واحداً
من المطران وابن أخيه يصبرونهما ويواسونهما
بمستعذبات الكلم.
أما أنا فبقيت واقفا ً منفردا ً وحدي وليس من يعزيني على
ي.
مصيبتي كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إل ّ
عاد المشيعون وبقي حفار القبور منتصبا ً بجانب القبر
الجديد وفي يده رفشه ومحفره ،فدنوت منه وسألته قائلً:
"أتذكر أين قبر فارس كرامة؟
فنظر إلي طويل ً ثم أشار نحو قبر "سلمى" وقال:
"في هذه الحفرة قد مددت ابنته على صدره ،وعلى صدر
ابنته مددت طفلها وفوق الجميع قد وضعت التراب بهذا
الرفش".
فأجبته:
"وفي هذه الحفرة أيضا ً قد دفنت قلبي أيها الرجل ...فما
أقوى ساعديك".
ولما توارى حفار القبور وراء أشجار السرو...
خانني الصبر والتجلد
فارتميت على قبر "سلمى"
102
أبكيها...
وأرثيها
الفهرس
جبران خليل جبران
الجنحة المتكسرة
1
......................................................................................................................................1توطئة
.........................................................................................................................6الكآبة الخرساء -
...............................................................................................................................9يد القضاء -
.......................................................................................................................14في باب الهيكل -
........................................................................................................................19الشعلة البيضاء-
................................................................................................................................22العاصفة-
............................................................................................................................35بحيرة النار -
...................................................................................................................63أمام عرش الموت -
.............................................................................................................78بين عشتروت والمسيح -
...............................................................................................................................84التضحية -
...................................................................................................................................94المنقذ -
منتديات الساخر
http://www.alsakher.com/vb
103
http://naelkhalil.jeeran.com/archive/2007/8/281686.html