You are on page 1of 16

‫ضهُمْ عَلَى ا ْلمَلَ ِئكَةِ فَقَالَ‬

‫سمَاء كُّلهَا ثُمّ عَرَ َ‬


‫وَعَلّمَ آدَمَ الَ ْ‬
‫سمَاء هَؤُلء‬ ‫أَنبِئُونِي ِبأَ ْ‬

‫من هم هؤلء؟!‪.‬‬

‫صلح الدين إبراهيم أبو عرفة‬

‫إنها سورة البقرة‪ ,‬وفاتحة العلوم والحكام‪ ,‬وفيها ما فيها من الشارات لول الخلق والتكوين‪ ,‬وفيها‬
‫بانفراد‪ ,‬نبأ الساعات الولى التي سبقت القضاء بآدم‪ ,‬ذلك الحدث الحاسم الذي نمر عليه هكذا‪ ,‬دون‬
‫واجب تفكير لئق‪.‬‬

‫ذلك أن المر كان أول ما كان‪ ,‬من ال‪ ,‬وكان هذا بذاته كافيًا أن نقف عنده لنسأل‪ :‬لِمَ؟!‪.‬‬

‫حكَ ِم الْحَا ِكمِينَ﴾؟‪.‬‬


‫لّ بِأَ ْ‬
‫وهذا سؤال المؤمن بربه وحكمته وتدبيره‪ ,‬ل سؤال المنكر الجاحد‪َ﴿ ,‬أَل ْيسَ ا ُ‬

‫لنرجع إلى مبدأ سؤالنا‪ ,‬ولنقل أسئلتنا!‪.‬‬

‫خلِيفَةً﴾ فلماذا الرض؟‪ ,‬ومن للسماء؟‪.‬‬


‫لرْضِ َ‬
‫‪ِ﴿ -‬إنّي جَاعِلٌ فِي ا َ‬
‫سمَاء َهؤُلء ﴾ من هم هؤلء الذين‬
‫ل ِئكَةِ فَقَالَ أَن ِبئُونِي بِأَ ْ‬
‫علَى ا ْلمَ َ‬
‫ضهُمْ َ‬
‫ع َر َ‬
‫سمَاء ُكّلهَا ثُ ّم َ‬
‫علّمَ آدَمَ الَ ْ‬
‫‪﴿ -‬وَ َ‬
‫عرضهم ال سبحانه؟‬

‫عوْ‬
‫سمَاء َهؤُلء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ماذا ادّعى الملئكة حتى يُد َ‬
‫ل ِئكَةِ فَقَالَ أَن ِبئُونِي بِأَ ْ‬
‫علَى ا ْلمَ َ‬
‫ضهُمْ َ‬
‫عرَ َ‬
‫‪﴿ -‬ثُمّ َ‬
‫إلى بينة صدقهم؟‪ .‬ثم إن سياقها البشري‪-‬أي لو كنا نحن المتكلمين‪ -‬أن تكون‪ :‬إن كنتم تعلمون؟‪.‬‬

‫لرْ ِ‬
‫ض‬ ‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫غ ْيبَ ال ّ‬
‫علَمُ َ‬
‫سمَآ ِئهِمْ قَالَ َألَمْ أَقُل ّلكُمْ ِإنّي أَ ْ‬
‫سمَآ ِئهِمْ َفَلمّا أَنبَأَهُمْ بِأَ ْ‬
‫‪﴿ -‬قَالَ يَا آدَمُ أَن ِب ْئهُم بِأَ ْ‬
‫علَمُ مَا ُتبْدُونَ َومَا كُنتُمْ َت ْك ُتمُونَ﴾‪ ,‬ألم يشهد الملئكة من قبل من قدرة ال مما يثبت العلم ل‪ ,‬ما هو أعظم‬ ‫َوأَ ْ‬
‫من سرد آدم لسماء هؤلء؟‪ ,‬فماذا وراء هذا السرد من آدم‪ ,‬وهذا الثبات –الن‪ -‬من ال؟‪.‬‬

‫ماذا تقول كتب التفسير؟‬

‫قبل أن نجيب‪ ,‬نمرّ على ما وصلنا من أقوال المفسرين من قبل‪ ,‬وسبق وقدمنا أن هذه القوال‪ ,‬إنما هي‬
‫آراء يصيب بعضها‪ ,‬ويخطئ بعض‪ ,‬ما لم تتصل بسند إلى النبي المعصوم محمد عليه الصلة والسلم‪,‬‬
‫ول تصل بحال لتتعلق بذات النص فتتلبس به‪ ,‬ويصبحا سواءً!‪ ,‬فكلم ال شيء‪ ,‬وآراء التأويل شيء آخر‪,‬‬
‫ل يحق لحد أن يحمل الناس عليها!‪.‬‬

‫وجمهور المفسرين على ما ينسب إلى ابن عباس رضي ال عنهما‪- ,‬على افتراض صحة النسبة‪ -‬من أنها‬
‫أسماء الشياء كلها‪ ,‬حتى القصعة والملعقة‪ ,‬والفسوة والفسية‪ ,‬والضرطة والضريطة!‪ ,‬فهي عندهم أسماء‬
‫المخلوقات كلها‪ ,‬ما كان وما سيكون!‪.‬‬

‫ومنهم من ذهب إلى أنها أسماء الملئكة‪ ,‬أو قد تكون أسماء النبييين من ذرية آدم!‪ .‬ثم ذهبوا فيها نحواً من‬
‫عشرة مذاهب‪ ,‬كلها ظن ل ثابت فيه!‪.‬‬
‫وسبق وقدمنا من قبل‪ ,‬أننا في هذا الدين ل ندين ل قيل وقال‪ ,‬ويرى فلن!‪ .‬فما لم يقل به النبي محمد عليه‬
‫الصلة والسلم فليس بدين‪ ,‬بل هو قول وحسب‪ ,‬لنا أن نؤمن‪ ,‬ولنا أن ل نؤمن‪ ,‬ما لم يأتنا عن ببينة!‪.‬‬

‫أقوال المفسرين واختلفاتهم‪ ,‬ل تتفق مع ظاهر النص والسياق!‪.‬‬

‫إذا نظرنا في قول الكثرين‪ ,‬اعترضنا كثير من التساؤل والضطراب‪.‬‬

‫أولها‪ :‬أن ضمائر الخطاب‪ ,‬ل تتحدث عن جمادات‪ ,‬أو مخلوقات منثورة‪ ,‬بل هي عواقل ظاهرة {ثم‬
‫عرضهم}‪{ ,‬أنبئوني بأسماء هؤلء}‪{ ,‬أنبئهم بأسمائهم}‪{ ,‬فلما أنبأهم بأسمائهم}‪ ,‬فلو كان تأويل الجمهور‬
‫صحيحاً‪ ,‬لكانت الصياغة هكذا‪ :‬وعلم آدم السماء كلها ثم عرضها على الملئكة‪ ,‬فقال أنبؤني بأسماء هذه‬
‫إن كنتم صادقين‪ ....‬قال يا آدم أنبئهم بأسمائها‪ ,‬فلما أنبأهم بأسمائها‪.!..‬‬

‫فمن منا يعرض ألف شيء مختلط مختلف‪ ,‬ثم يقول‪ :‬احصوا لنا هؤلء الشياء؟‪.‬‬

‫وحتى إن كانوا ألف إنسان‪ ,‬وألف دابة‪ ,‬وألف قصعة‪ ,‬فل يستوي البتة أن يشير أحد إليها جميعهاً فيسألنا‪:‬‬
‫من هؤلء؟‪ ,‬وهو يريد الجميع المنظور‪ .‬فل يستقيم أن تدخل الدواب والنباتات والجمادات تحت هؤلء!‪.‬‬

‫هذا إلى جانب اضطراب التأويل مع سياق الموضوع ‪ ,‬وارتباطه بما قبله وما يليه من اليات والمبنيات‬
‫والمتتاليات على ما جرى بعدها‪ .‬فل يعقل أبداً أن الملئكة ل تعلم من المعروضات شيئاً‪ ,‬وهي لتوها‬
‫جعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا َويَسْ ِفكُ ال ّدمَاء﴾‪ ،‬فالرض وما فيها‪ ,‬والدماء وسفكها‪ ,‬كانت معلومة عند‬
‫تقول‪َ﴿ :‬أتَ ْ‬
‫الملئكة‪ ,‬قبل أن يخلق آدم‪ ,‬بشاهد هذه الية!‪.‬‬
‫ثم أن كانت السماء كلها‪ ,‬تجمع الشياء كلها‪- ,‬كما يُروى‪ ,-‬لوجب أن يكون الملئكة المسئولون ضمن‬
‫هذه الشياء نفسها‪ ,‬ولوجب عليها أن تعلم أسماء أنفسها هي‪ ,‬على أقل القول!‪.‬‬

‫إل أن يكون ما بدا للملئكة مما عُرض عليهم شيئاً ل تعلمه البتة‪ ,‬ولم تره من قبل‪ ,‬بل إن سياق سؤال ال‬
‫لهم‪ ,‬يوحي ابتداءً‪ ,‬بأنهم ل يعلمون‪ ,‬ولن يعلموا!‪ ,‬فما هو‪ ,‬وماذا يكون؟!‪.‬‬

‫علّم أسماء ما قد يخطر له في معيشته وأمره‪ ,‬ليتخاطب بها من‬ ‫ول يبعد أبداً‪ ,‬بل هو الوْلى‪ ,‬أن يكون آدم ُ‬
‫عّلمَهُ ا ْل َبيَانَ﴾ (‪ )4‬سورة الرحمن‪ ,‬ثم بشاهد ما ثبت عن نبي ال صلى‬ ‫خلَقَ الِنسَانَ ‪َ ,‬‬ ‫بَعد‪ ,‬بشاهد قول ال ﴿ َ‬
‫طسَ‪,‬‬ ‫خلَقَ الُّ آدَمَ َونَفَخَ فِيهِ الرّوحَ عَ َ‬ ‫ال عليه وسلم‪ ,‬حديثه عن أول خلق آدم –فتدبّره جيداً‪ -‬قال‪َ« :‬لمّا َ‬
‫ح َمكَ َر ّبكَ يَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ‪ :‬يَا آدَمُ اذْ َهبْ ِإلَى أُوَل ِئكَ‬ ‫حمِدَ الَّ بِإِذْنِ الِّ‪ ,‬فَقَالَ لَهُ َربّهُ‪ :‬رَ ِ‬ ‫حمْدُ لِِّ‪ ,‬فَ َ‬
‫فَقَالَ‪ :‬الْ َ‬
‫حمَةُ الِّ َو َب َركَاتُهُ‪ ,‬ثُمّ‬ ‫عَل ْيكَ السّلَمُ َورَ ْ‬‫عَل ْيكُمْ‪ ,‬فَذَ َهبَ‪ ,‬قَالُوا‪ :‬وَ َ‬‫جلُوسٍ‪ ,‬فَقُلِ‪ :‬السّلَمُ َ‬ ‫ل ِئكَةِ‪ِ ,‬إلَى مَلٍ ِم ْنهُمْ ُ‬‫ا ْلمَ َ‬
‫خ َترْ‬‫ضتَانِ‪ :‬ا ْ‬ ‫حيّةُ َبنِيكَ َو َبنِيهِمْ‪ ,‬وَقَالَ الُّ َتبَا َركَ َو َتعَالَى لَهُ َويَدَاهُ مَ ْقبُو َ‬ ‫ح ّي ُتكَ َوتَ ِ‬
‫رَجَعَ ِإلَى َربّهِ‪ ,‬فَقَالَ‪ :‬هَ ِذهِ تَ ِ‬
‫طهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَ ُذ ّر ّيتُهُ‪ ,‬فَقَالَ‪:‬‬
‫خ َت ْرتُ َيمِينَ َربّى َو ِك ْلتَا يَ َدىْ َربّى َيمِينٌ ُمبَا َركَةٌ‪ ,‬ثُمّ بَسَ َ‬ ‫ش ْئتَ!‪ ,‬فَقَالَ‪ :‬ا ْ‬‫َأ ّي ُهمَا ِ‬
‫ع ْي َنيْهِ‪َ ,‬وإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ‬ ‫ع ْمرُهُ َبيْنَ َ‬ ‫ل ِإنْسَانٍ َم ْكتُوبٌ ُ‬ ‫َأىْ َربّ‪ ,‬مَا َهؤُلَءِ؟‪ ,‬قَالَ َهؤُلَءِ ُذ ّر ّي ُتكَ‪ ,‬فَإِذَا كُ ّ‬
‫ع ْم ِرهِ!‪ ,‬قَالَ‪ :‬ذَاكَ الّذِى‬ ‫سنَةً‪ ,‬فَقَالَ‪َ :‬أىْ َربّ زِدْ فِى ُ‬ ‫ض َو ِئهِمْ‪ ,‬لَمْ ُي ْك َتبْ لَهُ إِلّ َأ ْر َبعُونَ َ‬
‫َأضْ َوؤُهُمْ‪َ ,‬أوْ قَالَ مِنْ َأ ْ‬
‫جنّةَ مَا شَاءَ الُّ ثُمّ‬ ‫سكُنِ الْ َ‬‫سنَةً‪ ,‬قَالَ‪َ :‬أ ْنتَ وَذَاكَ‪ ,‬قَالَ‪ :‬ثُمّ ا ْ‬ ‫ستّينَ َ‬ ‫ع ْمرِى ِ‬ ‫ج َع ْلتُ لَهُ مِنْ ُ‬ ‫ُك ِتبَ لَهُ‪ ,‬قَالَ‪ :‬فَِإنّى قَدْ َ‬
‫ا ْهبِطْ ِم ْنهَا»‪ .‬فانظر في الحديث جيداً‪ ,‬وانظر إلى حال الملئكة الجلوس‪ ,‬ثم انتبه إلى أن آدم تكلم ب البيان‬
‫من أول نفخ الروح‪ ,‬ثم سمع كلم ال وأمره‪ ,‬فوعاه‪ ,‬ثم قال للملئكة ما قال‪ ,‬فردوا عليه‪ ,‬وزادوه كلمة‪,‬‬
‫فانتبه أنهم ليسوا بجهلء‪ ,‬ول غافلين‪ ,‬ثم خيره ال بما خيره به‪ ,‬فقال‪َ :‬أىْ َربّ‪ ,‬مَا َهؤُلَءِ؟‪ ,‬فلم يعرف من‬
‫هم هؤلء‪ ,‬وهم بنوه وذريته!‪ ,‬بل إن الذي لفت نظره كان نبي ال داود‪ ,‬فكيف يعرف أسماء كل شيء‪,‬‬
‫ول يعرف اسم نبي عظيم‪ ,‬هو ابنه‪ ,‬وخليفة مثله كذلك‪ ,‬وهو يعرف الفسوة و الفسية كما يقولون!؟‪.‬‬

‫سمَاء ُكّلهَا﴾‪ ,‬فيظهر أنه شيء عظيم آخر‪ ,‬استنفر الملئكة‪,‬‬


‫علّمَ آدَمَ الَ ْ‬
‫أما الية التي نحن بصددها ﴿وَ َ‬
‫واستثار سؤالها واهتمامها‪ ,‬فما هو؟‪.‬‬
‫ول بدّ قبل كل شيء ‪ ,‬أن نلفت وننبّه‪ ,‬إلى العلقة الظاهرة المفروضة‪ ,‬بين الفساد وسفك الدماء‪ ,‬وبين‬
‫السماء!‪ ,‬فما عليه أكثر المفسرين‪ ,‬ل يطّرد أبداً مع هذين المتعلّقين!‪ ,‬بل يتناقض معهما أيما تناقض‪,‬‬
‫ف السماء عندهم أول لزم للعلم؛ والعلم عندهم‪ ,‬أول لزم ل العمار والخلفة‪ ,‬بينما السماء من سياق‬
‫اليات‪ ,‬متعلّق الفساد والدماء‪ ,‬فانتبه!‪.‬‬

‫وإذا رفضنا التأويل المشهور لضطرابه مع السياقين السابق واللحق ‪ ,‬وجب علينا نحن ‪-‬إن تقدمنا بفهم‬
‫ما‪ ,-‬أن نأتي بتأويل مضطرد يسد خلل اضطراب التأويل الول‪ .‬فأيّما فهم مطروح‪ ,‬وجب أن يأخذ‬
‫بأطراف السياق والدللت والمقاصد‪ ,‬ليشدها جميعا بعضها إلى بعض‪ ,‬لنخرج بصورة متسقة من أولها‬
‫إلى آخرها‪.‬‬

‫كيف نفهمها إذا؟‪.‬‬

‫فاليات من أول السورة‪ ,‬جاءت لتفصل بين المؤمنين وبين الكافرين‪ ,‬بين المصلحين والمفسدين في‬
‫لرْضِ قَالُواْ ِإ ّنمَا نَحْنُ‬
‫الرض‪ ,‬وتلكم هي مناطات الستخلف في الرض‪َ ﴿ ,‬وإِذَا قِيلَ لهمْ لَ تُفْسِدُواْ فِي ا َ‬
‫صلِحُونَ﴾ (‪ )11‬سورة البقرة‪.‬‬
‫ُم ْ‬

‫فهذه هي المرتكزات والُصول الولى‪ ..‬من يؤمن ومن يكفر!‪.‬‬

‫واليمان والكفر محور الدين كلّه!‪ .‬والسماء محور الكفر واليمان!‪.‬‬

‫فالمر كله على السماء‪ ,‬فلن يعقل أنها مجرد اللغة كما يزعمون‪ ,‬فهل كانت الملئكة بكماً ل ينطقون!؟‪.‬‬
‫حيِيكُمْ ثُ ّم ِإَليْ ِه‬
‫حيَاكُمْ ثُ ّم ُيمِي ُتكُمْ ثُ ّم ُي ْ‬‫ثم تسترسل اليات حتى تصل إلى ﴿ َك ْيفَ َتكْ ُفرُونَ بِالِّ َوكُنتُمْ َأ ْموَاتاً َفأَ ْ‬
‫سوّاهُنّ‬ ‫سمَاء فَ َ‬ ‫س َتوَى ِإلَى ال ّ‬ ‫جمِيعاً ثُ ّم ا ْ‬ ‫لرْضِ َ‬ ‫خلَقَ َلكُم مّا فِي ا َ‬ ‫جعُونَ﴾ (‪ ) 28‬سورة البقرة ﴿ ُهوَ الّذِي َ‬ ‫ُترْ َ‬
‫لرْضِ‬ ‫ل ِئكَةِ ِإنّي جَاعِلٌ فِي ا َ‬ ‫علِيمٌ﴾ (‪ ) 29‬سورة البقرة ﴿ َوإِذْ قَالَ َر ّبكَ ِل ْلمَ َ‬ ‫شيْءٍ َ‬
‫ل َ‬‫سمَاوَاتٍ وَ ُهوَ ِبكُ ّ‬
‫سبْعَ َ‬
‫َ‬
‫خلِيفَةً﴾ (‪ )30‬سورة البقرة‪,‬‬ ‫َ‬

‫فانسياب السياق ابتداء من اليمان والكفر إلى الستخلف في الرض جلي لِعيان‪.‬‬

‫ثم ما تلبث القصة أن تصل إلى هذا الصل الول مباشرة بعد هبوط الفريقين الضدين إلى الرض‬
‫جمِيعاً َفِإمّا َي ْأ ِت َي ّنكُم ّمنّي هُدًى َفمَن َتبِعَ هُدَايَ فَلَ‬
‫ليوصي ال بهذا الصل مرة أخرى ﴿ ُق ْلنَا ا ْهبِطُواْ ِم ْنهَا َ‬
‫ح َزنُونَ﴾ (‪ )38‬سورة البقرة‬ ‫ل هُمْ يَ ْ‬
‫خ ْوفٌ عَليهمْ و َ‬
‫َ‬

‫ولكن ترى كثيراً من المفسرين‪ ,‬ل يبنون موضوعاً موحداً لتأويل مشكل ما؛ كأن يقول أحدهم في معرض‬
‫تأويله ل أسماء هؤلء‪ :‬هي أسماء الشياء‪ ,‬ثم ل يبني ما يرى على السياقات والمباني المشتركة للسورة‬
‫نفسها‪ ,‬أو يقول‪ :‬هي أسماء النبيين‪- ,‬وقد تبيّن بطلنه‪ -‬هكذا دون بناء موضوعي‪ ,‬ول إسناد دللي‪ ,‬يشد‬
‫مذهبه ويقنع سامعه‪ ,‬بل قول بظن وحسب!‪ ,‬ول تتورع بعض كتب التفسير أن تفسح محلً‪ ,‬لمن قال‪ :‬هي‬
‫أسماء النجوم!!‪ .‬ثم تنغلق دائرة كتب التفسير على الغث والسمين‪ ,‬دونما استيعاب لجديد ذي بينة!‪ .‬فهذا ما‬
‫ل يصلح أن يكون تأويلً‪ ,‬مهما عل شأن قائله من دون النبي صلى ال عليه وسلّم‪.‬‬

‫فمن هذا الباب نلج أية الستخلف‪ ,‬وبهذا المفتاح نفتح مكامنها‪ ,‬ونحن مطمئنون مستندون إلى شديد‪ ,‬ذلك‬
‫هو السياق والبناء الموضوعي‪ ,‬الذي ل يخلو منه كلم عامة الناس‪ ,‬عدا أن يخلو منه كلم الرب الحكيم‪.‬‬

‫عود على بدء‬

‫﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾!‪ ,‬وماذا كانت دعوى الملئكة التي تلزمهم بينة الصدق؟‬
‫جعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويَسْ ِفكُ ال ّدمَاء﴾‪ ,‬وهذه هي الولى‪ ,‬ثم‬‫الملئكة بنص الية ادّعوا ادعاءين‪﴿ ,‬قَالُواْ َأتَ ْ‬
‫حمْ ِدكَ َونُقَ ّدسُ َلكَ﴾‪ ,‬وهذه الثانية‪.‬‬
‫سبّحُ ِب َ‬
‫﴿ َونَحْنُ نُ َ‬

‫أما الولى‪ ,‬فما جرى بعد هبوط آدم إلى الرض‪ ,‬فقد كان بينة على صدقهم‪ ,‬إذ ما لبث أن سفك ابن آدم‬
‫دم أخيه!‪ ,‬فها هو السفك‪ ,‬وها هو الفساد‪ ,‬فهذه مضت وبان صوابهم بها‪.‬‬

‫حمْ ِدكَ َونُقَ ّدسُ َلكَ﴾‪ ,‬ولعل في تقديمهم لنفسهم‬


‫سبّحُ بِ َ‬
‫وأما الثانية ‪ ,‬فهي موضع الحدث والحديث‪َ ﴿,‬ونَحْنُ نُ َ‬
‫خ َيرَة أمره‪ ,‬فل يكفر ول يعصي‪ ,‬لعلّ هذا ما استوجب مراجعة‬ ‫في ملٍ ل يعرف إل ال أصلً‪ ,‬ول يملك ِ‬
‫البيّنة؟!‪.‬‬

‫فالمخلوق الجديد على خلف هذا كله‪ ,‬ومحل ميدانه خلف ما هم فيه تماماً‪ ,‬ولذلك جاء الجمع بين الخليفة‬
‫وبين الرض!‪ ,‬فوضح أن ما اُعدّ له‪ ,‬شيء غاب عن شهادة علم الملئكة‪ ,‬بما أبطل محل ظنهم ودعواهم‬
‫وسباقهم!‪.‬‬

‫فالملئكة بالجماع ل تعصي ال‪ ,‬وهي ل تطيعه باختيار‪ ,‬بل هي مفطورة مجبولة على الطاعة ل‪ ,‬فهي‬
‫ملئكة من جذر ال ُملْك‪ ,‬ولذلك ليس لها ثواب ول عقاب‪ ,‬ولو كانت مختارة لجوزيت على اختيارها‪﴿ .‬ل‬
‫َي ْعصُونَ الَّ مَا َأ َمرَهُمْ ويَ ْف َعلُونَ مَا ُي ْؤ َمرُونَ﴾‪ .‬فعُلم بذلك أن السماء هي ذاتها المتعلق الصيل في الفارق‬
‫بين الملئكة وآدم!‪ ,‬أي أن السماء تتعلق في ذات الختيار بين الكفر واليمان‪ ,‬الذي فُطر في آدم دون‬
‫الملئكة‪ ,‬ول علقة لها ب اللغة من قريب أو بعيد!؟‪.‬‬

‫فالرجل –آدم‪ ,-‬تكلّم من أول نفخ الروح فيه‪ ,‬كما مرّ معنا في الحديث‪ ,‬ولم يكن في ذلك شيء تستغربه‬
‫الملئكة‪ ,‬بل هم زادوه كلماً‪ ,‬ولكن السماء شيء كبير آخر‪ ,‬متعلق بالفساد وسفك الدماء‪ ,‬من يوم هبوطه‬
‫إلى الرض‪ ,‬حتى يهدم الناس الكعبة –كما صحّ في الحديث‪ ,-‬ويرمي يأجوج ومأجوج السماء بالسهام‪,‬‬
‫فتُردّ لهم مغموسة بالدم!!‪.‬‬

‫أل يكفي أن ننتبه إلى تركيز الملئكة على الدم والفساد‪ ,‬حتى يفصل بينهم ب السماء!؟‪.‬‬

‫فمن هم هؤلء؟‪.‬‬

‫قبل أن نبدأ ب هؤلء ‪ ,‬نلفت أن ال أثبتها على أسماء هؤلء‪ ,‬ولم يقل أنبؤني ب هؤلء‪ ,‬بل المطلوب هو‬
‫السماء‪ ,‬ف السماء وهؤلء‪ ,‬هما مادّة الفصل والسؤال!‪.‬‬

‫والملئكة ل تختار ‪ ,‬ولهذا لم يعلموا أسماء هؤلء‪ ,‬أما المخلوق الجديد‪ ,‬فخلق يختار‪ ,‬وحتى يختار‪ ,‬فله‬
‫عند ال أن يفطر فيه ويعلمه الخيارين ويهديه النجدين‪ ,‬ثم يسأله ربه ما يشاء‪ ,‬ليختار هو بعدها ما يشاء!‪.‬‬

‫السماء‪ ,‬وما أدراك ما السماء؟‪.‬‬

‫سمَاء‬
‫لِ الَ ْ‬
‫السماء في القرآن ‪-‬بهذا الذكر الصريح‪ -‬لم ترد إل في اثنتين‪ ,‬إما بما يراد به ال الحد ﴿وَ ّ‬
‫سنَى فَادْعُو ُه ِبهَا﴾ (‪ )180‬سورة العراف‪ ,‬وإما بما يراد به النداد وما يعبد من دون ال عموماً‪.‬‬
‫الْحُ ْ‬

‫س ّم ْي ُتمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم ﴾ (‪ )71‬سورة‬


‫سمَاء َ‬
‫ضبٌ َأتُجَا ِدلُو َننِي فِي أَ ْ‬
‫غ َ‬
‫جسٌ وَ َ‬
‫عَل ْيكُم مّن ّر ّبكُمْ رِ ْ‬
‫﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ َ‬
‫العراف‪.‬‬
‫وكما ذكرنا آنفا‪ ,‬فالسماء في كتاب ال ل إله إل هو‪ ,‬واحدة من اثنتين‪ ,‬إما أسماؤه هو‪ ,‬أو أسماء النداد‬
‫التي يتخذها الكافرون المختارون لفعالهم‪ ,‬الذين افتتحت سورة البقرة عليهم وعلى نقيضم من المؤمنين‪.‬‬

‫ف السماء الحسنى التي ل تنبغي إل للرب الواحد ل إله إل هو‪ ,‬ذُكرت في الكتاب أربع مرات‪ ,‬في‬
‫العراف‪ ,‬وفي السراء وفي طه وفي الحشر‪ ,‬وقصة آدم حاضرة صريحة في الثلثة الوَل منها‪.‬‬

‫أما أسماء النداد –تعالى ال عن الند والشبيه‪ ,-‬فهي في العراف كذلك أولً‪ ,‬وهذا وحده محل إشارة‬
‫والتفات‪ ,‬أن تجتمع السماء وتذكر أول ما تذكر بضديها‪ ,‬في المحل الواحد‪ ,‬وفي السورة التي تتحدث‬
‫بالذات عن الفرق بين الفريقين من المؤمنين والكافرين!‪.‬‬

‫س ّم ْي ُتمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم﴾ (‪ )71‬سورة العراف‪ ,‬وفي‬


‫سمَاء َ‬
‫وجاء ذكرها على لسان هود ﴿َأتُجَا ِدلُو َننِي فِي أَ ْ‬
‫س ّم ْي ُتمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآ ُؤكُم} (‪ )40‬سورة يوسف‪ ,‬وفي النجم ﴿إِنْ ِهيَ‬
‫سمَاء َ‬ ‫يوسف ﴿مَا َت ْعبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلّ أَ ْ‬
‫س ّم ْي ُتمُوهَا أَنتُمْ وَآبَا ُؤكُم﴾‪.‬‬
‫سمَاء َ‬
‫إِل أَ ْ‬

‫ول عجب نجد اليات القليلة التي تسبق هذا الحدث العظيم من سورة البقرة‪ ,‬تحذّر وتنفّر من عبادة‬
‫عبُدُواْ َر ّبكُمُ الّذِي‬
‫النداد‪ ,‬راجعة بالناس جميعاً‪ ،‬بفريقيهم إلى أصلهم الول وآبائهم الولين﴿يَا َأ ّيهَا النّاسُ ا ْ‬
‫سمَاء مَاء‬ ‫سمَاء ِبنَاء َوأَنزَلَ مِنَ ال ّ‬ ‫لرْضَ ِفرَاشاً وَال ّ‬
‫جعَلَ َلكُمُ ا َ‬
‫خلَ َقكُمْ وَالّذِينَ مِن َق ْبِلكُمْ َل َعّلكُمْ َتتّقُونَ * الّذِي َ‬
‫َ‬
‫لِ أَندَاداً َوأَنتُمْ َت ْعَلمُونَ﴾ (‪ )22‬سورة البقرة‪.‬‬ ‫ج َعلُواْ ّ‬
‫ل تَ ْ‬
‫ن ال ّثمَرَاتِ ِرزْقًا ّلكُمْ فَ َ‬‫ج بِهِ مِ َ‬
‫خرَ َ‬‫فَأَ ْ‬

‫فها هي النداد‪ ,‬وها هو نهي الربّ الواحد عنها‪ ,‬وها هي حجته فيها علينا‪﴿ ,‬وَأَنتُمْ َت ْعَلمُونَ﴾‪ ،‬فهي أصل‬
‫سمَاء ُكّلهَا﴾!‪.‬‬
‫علّمَ آدَمَ الَ ْ‬
‫الفطرة الولى ‪ ,‬والعلم الول من لدن أبينا آدم ﴿وَ َ‬

‫ظهُورِهِمْ ُذ ّر ّي َتهُ ْم‬


‫وآيات سورة العراف تسند ما نقول بسند قوي صريح ﴿ َوإِذْ أَخَذَ َر ّبكَ مِن َبنِي آدَمَ مِن ُ‬
‫شهِ ْدنَا أَن تَقُولُواْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ هَذَا غَا ِفلِينَ * َأوْ‬
‫ستَ ِب َر ّبكُمْ قَالُواْ َبلَى َ‬
‫سهِمْ َألَ ْ‬
‫علَى أَنفُ ِ‬
‫شهَدَهُمْ َ‬
‫َوأَ ْ‬
‫طلُونَ﴾ (‪ )173‬سورة‬ ‫شرَكَ آبَا ُؤنَا مِن َقبْلُ َو ُكنّا ُذ ّريّةً مّن َبعْدِهِمْ أَ َف ُت ْهِل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُمبْ ِ‬ ‫تَقُولُواْ ِإ ّنمَا أَ ْ‬
‫العراف‪ .‬ففي تأويل هذه اليات حديث صحيح صريح ‪ ,‬يشرح هذا كله‪ :‬عن ابن عباس عن النبِى صلى‬
‫ص ْلبِهِ كُلّ ُذ ّريّةٍ َذ َرأَهَا‬‫خرَجَ مِنْ ُ‬ ‫عرَفَةَ‪ ,‬فَأَ ْ‬ ‫ظ ْهرِ آدَمَ ِب َن ْعمَانَ‪ ,‬يَومَ َ‬ ‫ال عليه وسلم قال‪« :‬أَخَذَ الُّ ا ْلمِيثَاقَ مِنْ َ‬
‫شهِ ْدنَا أَن تَقُولُواْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ‬ ‫ستَ ِب َر ّبكُمْ قَالُواْ َبلَى َ‬‫َف َن َثرَهُمْ َبيْنَ يَ َديْهِ كَال ّذرّ ثُمّ َكّل َمهُمْ ِقبَلً قَالَ‪َ﴿ :‬ألَ ْ‬
‫طلُونَ ﴾»‪ .‬وفي‬ ‫ش َركَ آبَا ُؤنَا مِن َقبْلُ َو ُكنّا ُذ ّريّةً مّن َبعْدِهِمْ أَ َف ُت ْهِل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُمبْ ِ‬
‫هَذَا غَا ِفلِينَ * َأوْ تَقُولُواْ ِإ ّنمَا أَ ْ‬
‫هذا الحديث ما فيه من التقرير الواجب‪ ,‬أننا جميعاً قد واثقنا ال أل نُشرك به شيئاً‪ ,‬بشاهد قول ال ﴿أَوْ‬
‫ش َركَ آبَا ُؤنَا﴾‪ ,‬إذ ل يحاججنا ال العادل بهذا‪ ,‬لو كنّا ل نعلم الشرك تفصيلً!‪ ,‬وفي هذا حجة‬ ‫تَقُولُواْ ِإ ّنمَا أَ ْ‬
‫ودليل أننا نعلم نعمة التوحيد ونعلم شرّ الشرك من فطرتنا الولى‪ ,‬وإل‪ ,‬كيف يُحذّرنا ال وينهانا عمّا ل‬
‫نعلم؟!‪.‬وفي هذا ذرعٌ من دليل إلى ما نشير إليه‪ ,‬من أن السماء هي أسماء ما سُيعبد من دون ال بغير‬
‫حق!‪.‬‬

‫سمَاءَ ُكّلهَا﴾‪ ,‬طرفاً من تسويغ لمن ظن أنها أسماء كل الشياء‪ ,‬أو هي ك ّ‬


‫ل‬ ‫ولعل في قوله المجيد ﴿الَ ْ‬
‫المسميّات –وانتبه إلى حيرة الكثير‪ ,‬بين قول بعضهم هي السماء‪ ,‬وقول بعضهم هي المسميات‪ ,‬ممّا‬
‫يؤكد الختلف والضطراب‪ ,‬في إدراك مرادها‪ ,-‬فلعل قوله المجيد ﴿ ُكّلهَا﴾ هو ما صرفهم إلى الكلّيات‬
‫الشاملة‪ ,‬بأسمائها أو بمسمياتها!‪.‬‬

‫وكان يكفي أن نفطن إلى آية سورة طه لنرى أن المر ل يتطلب هذا!‪ ,‬ذلك من قوله المجيد ﴿ َولَقَدْ َأ َر ْينَا ُه‬
‫آيَا ِتنَا ُكّلهَا َفكَ ّذبَ َوَأبَى﴾‪ ,‬فهل يُعقل أن فرعون رأى كل آيات ال في السموات والرض‪ ,‬وأحاط بها!؟‪.‬‬
‫عوْنَ وَ َق ْومِهِ﴾ (‪ )12‬سورة‬ ‫وإذا علمت أن ال أرسل موسى إلى فرعون ب تسع آيات ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ ِإلَى ِفرْ َ‬
‫النمل‪ ,‬فجمعت بين هاتين اليتين‪ -‬آية طه وآية النمل‪ ,-‬علمت بعدها أن آيات ال كلها التي رآها فرعون‪,‬‬
‫إنما هي تسع آيات محصورات!‪ .‬فل لزم بعدها إلى النصراف إلى الدللة الكلّية الشاملة للشياء!‪ .‬ول‬
‫سمَاءَ ُكّلهَا﴾‪ ,‬عدّة أسماء محصورات معلومات‪ ,‬تتعلق بها ما رأت الملئكة من‬ ‫مانع كذلك أن تكون ﴿الَ ْ‬
‫الفساد وسفك الدماء!‪ .‬أمّا الكلم والبيان وما يلزمه من اللفاظ والتراكيب‪ ,‬فشيء كان في الجبلّة الُولى‬
‫لبينا آدم‪ ,‬ومن لحظة نفخ الروح‪ ,‬بشاهد الحديث الذي سلف معنا!‪.‬‬

‫فانتبه‪ ,‬وأقم المر كله على أن السماء هي الفارق الصيل‪ ,‬بين الملئكة الطائعة المطوّعة‪ ,‬وبين النسان‬
‫المُخيّر بين النجدين‪ ,‬إما شاكراً‪ ,‬وإما كفوراً؛ ال ُمعَدّ ل الرض الدنيا‪ ,‬المُعدّة هي لما ترون وتسمعون‪ ,‬من‬
‫الدماء والفساد‪ ,‬حتى يكون في آخرها يأجوج ومأجوج المفسدون في الرض‪ ,‬الذين يرمون أهل السماء‬
‫بسهامهم التي تُردّ لهم مغموسة ب الدم‪ ,‬كما في صحيح الحديث!‪ .‬ليدور ذلك كله على رحى السماء مما ل‬
‫تعرفه الملئكة‪ ,‬ول ينبغي لها أن تعرف!‪.‬‬
‫لماذا أشارت الية ل السماء إشارة العاقل‪ ,‬وهي أوثان وأصنام؟‪.‬‬

‫لعل ممّا لم تجب عليه كتب التفسير ولم يشف سائلً‪ ,‬هذا السؤال الواجب!‪.‬‬

‫فكان المفسرون يسألون هذا السؤال‪ ,‬ويقولون فيه على خلف‪ ,‬وهذا أبلغ دليل أنه عرض مشكل‪ ,‬وإل لما‬
‫سأل أحد أصلً‪ ,‬عدا أن يختلفوا ويتدارأوا فيها!‪ .‬ثم تأولها من تأولها على ما ل يقنع ول يرضي‪ ,‬بدليل‬
‫رفض بعضهم تأويل بعض!‪.‬‬

‫بيد أن القرآن يكشفها بجلء؛ فحيثما وردت النداد والصنام في القرآن ‪ ,‬اُنزلت منزلة العواقل!‪ ,‬ولعل‬
‫أجلها بياناً‪ ,‬ما تكشفه سورة النبياء!‪ .‬فتتبع معنا خطاب إبراهيم عليه الصلة والسلم في آياتها‪ ,‬وكيف‬
‫تأتي ب الضمائر عاقلت بما ل يدع مجالً للشك!‪.‬‬

‫فتتبعها معنا!‪.‬‬

‫لبِيهِ وَ َق ْومِهِ مَا هَ ِذهِ ال ّتمَاثِيلُ اّلتِي أَنتُمْ َلهَا‬ ‫﴿ َولَقَدْ آ َت ْينَا ِإ ْبرَاهِيمَ رُشْ َدهُ مِن َقبْلُ َو ُكنّا بِه عَاِلمِينَ * إِذْ قَالَ َ‬
‫ج ْئ َتنَا بِالْحَقّ‬
‫عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَ ْدنَا آبَاءنَا َلهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ فِي ضَللٍ ّمبِينٍ * قَالُوا أَ ِ‬
‫علَى َذِلكُم مّنَ الشّاهِدِينَ *‬ ‫طرَهُنّ َوَأنَا َ‬ ‫لرْضِ الّذِي فَ َ‬ ‫س َموَاتِ وَا َ‬‫عبِينَ * قَالَ بَل ّر ّبكُمْ َربّ ال ّ‬ ‫أَمْ أَنتَ مِنَ الل ِ‬
‫جعُونَ * قَالُوا مَن‬ ‫ج َعَلهُمْ جُذَاذاً إِل َكبِيراً ّلهُمْ َل َعّلهُمْ ِإَليْهِ َيرْ ِ‬
‫صنَا َمكُم َبعْدَ أَن ُت َولّوا مُ ْد ِبرِينَ * َف َ‬
‫لكِيدَنّ َأ ْ‬ ‫َوتَالِّ َ‬
‫عيُنِ‬
‫علَى أَ ْ‬‫س ِم ْعنَا َفتًى يَ ْذ ُكرُهُمْ يُقَالُ لَهُ ِإ ْبرَاهِيمُ * قَالُوا فَ ْأتُوا بِهِ َ‬ ‫َفعَلَ هَذَا بِآِل َه ِتنَا ِإنّهُ َلمِنَ الظّاِلمِينَ * قَالُوا َ‬
‫شهَدُو قَالُوا َأأَنتَ َف َع ْلتَ هَذَا بِآِل َه ِتنَا يَا ِإ ْبرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ َف َعلَهُ َكبِيرُهُمْ هَذَا فَاسَْألُوهُمْ إِن كَانُوا‬ ‫النّاسِ َل َعّلهُمْ يَ ْ‬
‫عِل ْمتَ مَا َهؤُلء‬ ‫سهِمْ لَقَدْ َ‬ ‫علَى ُرؤُو ِ‬ ‫سهِمْ فَقَالُوا ِإ ّنكُمْ أَنتُمُ الظّاِلمُونَ * ثُ ّم ُنكِسُوا َ‬ ‫جعُوا ِإلَى أَنفُ ِ‬ ‫يَنطِقُونَ * َفرَ َ‬
‫يَنطِقُونَ﴾ {‪ }65‬النبياء‬
‫ج َعَلهُمْ جُذَاذاً إِل َكبِيراً ّلهُمْ﴾‪ ,‬فهي عند ال‬
‫ولعل أشد ما يؤازر ما نقول‪ ,‬كلم ال نفسه بضمير العاقل‪﴿ ,‬فَ َ‬
‫تماثيل ل تعقل البتّة‪ ,‬ومع ذلك‪ ,‬ذكرهم ال ذكر العاقل بضمير العاقل!‪.‬‬

‫سمَاء َهؤُلء﴾‪.‬‬
‫عِل ْمتَ مَا َهؤُلء يَنطِقُونَ﴾ كالتي في ﴿أَن ِبئُونِي ِبأَ ْ‬
‫ثم قول قوم أبينا إبراهيم ﴿لَقَ ْد َ‬

‫ثم تتابع آيات سورة النبياء لتختم على اُصولها الرئيسة من التوحيد ونفي النداد ‪ ,‬حتى تصل آواخرها‬
‫ج َهنّمَ أَنتُمْ َلهَا وَارِدُونَ * َلوْ كَانَ َهؤُلء آِلهَةً مّا‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫على هذه الكبيرة ﴿إِّنكُمْ َومَا َت ْعبُدُونَ مِن دُونِ الِّ َ‬
‫َورَدُوهَا َوكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (‪ )99‬سورة النبياء‪,‬‬

‫وهل أجلى من { َهؤُلء‪ ..‬آِلهَةً}؟!‪.‬‬

‫وبالعتماد على ما تعضد به سورة النبياء ما نقول من أن السماء هي أسماء ما سيُعبد من دون ال –ل‬
‫إله إل هو–‪ ,‬بالعتماد على هذا‪ ,‬فهل لنا أن نستشرف تخصيصاً ما لذكر اللهة في هذه السورة المحور‬
‫للرسالة والمرسلين‪ ,‬والملّة والدين‪ ,‬أن ل إله إل ال!؟‪.‬‬

‫نعم‪..‬‬

‫فقد ورد لفظ اللهة ‪-‬هكذا بصيغة الجمع‪ -‬فيها أكثر بثلثة أضعاف مما سواها من السور‪ ,‬بواقع تسع‬
‫مرات إلى ثلث في التي تليها!‪ .‬وهي التي قاربت ختامها على هذه‪..‬‬
‫ج َهنّ َم أَنتُمْ َلهَا وَارِدُونَ‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫﴿ِإ ّنكُمْ َومَا َت ْعبُدُونَ مِن دُونِ الِّ َ‬

‫ل فِيهَا خَالِدُونَ﴾‪.‬‬
‫ن َهؤُلء آِلهَةً مّا َورَدُوهَا َوكُ ّ‬
‫َلوْ كَا َ‬

‫ومما لحظنا أيضاً ‪ ,‬أن سورة النبياء هي السورة ذات الترتيب الواحد والعشرين في المصحف‪ ,‬فماذا‬
‫نتوقع أن تكون الية الواحدة والعشرون في السورة الواحدة والعشرين؟‪.‬‬

‫شرُونَ﴾ (‪ )21‬سورة النبياء‬


‫لرْضِ هُ ْم يُن ِ‬
‫ناَ‬
‫إنها هذه الية ﴿أَمِ اتّخَذُوا آِلهَةً مّ َ‬

‫خلِيفَةً﴾‪.‬‬
‫لرْضِ َ‬
‫وهي تختصر البحث كله وتؤكده‪ ,‬من عند قوله المجيد ﴿ِإنّي جَاعِلٌ فِي ا َ‬

‫فها هي الرض‪ ,‬وها هي السماء التي اتخذها المُستَخلفون آلهة!‪.‬‬

‫إشارة‪..‬‬

‫تتبعنا السور التي ذكرت قصة آدم وأمر ال للملئكة بالسجود‪ ,‬فكانت سبع سور‪ :‬البقرة‪ ,‬العراف‪,‬‬
‫الحجر‪ ,‬السراء‪ ,‬الكهف‪ ,‬طه‪ ,‬ص‪ .‬فوجدنا البقرة تختلف عن السور التي معها‪ ,‬أن ال لم يَسِمْ ابليس‬
‫بالكفر –وهو كافر بربه‪ -‬إل فيها‪ ,‬وفي السورة الخيرة في ترتيب ذكر القصة‪ ,‬أي في سورة ص!‪,‬‬
‫والغريب المتفِق بين السورتين أيضاً‪ ,‬أن الستخلف جاء صريحاً في السورتين‪ ,‬فتجتمع السورتان على‬
‫سمَاء‬ ‫خلَ ْقنَا ال ّ‬
‫الستخلف وعلى التصريح ب كفر إبليس!‪ ,‬واقرأ إن شئت تباعاً‪ ,‬بعد الخليفة في ص ﴿ َومَا َ‬
‫جعَلُ الّذِينَ آ َمنُوا‬ ‫ن الّذِينَ كَ َفرُوا َف َويْلٌ ّللّذِينَ كَ َفرُوا مِنَ النّارِ * أَمْ نَ ْ‬
‫لرْضَ َومَا َب ْي َن ُهمَا بَاطِلً َذِلكَ ظَ ّ‬‫وَا َ‬
‫جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْفُجّارِ﴾‪.‬‬
‫لرْضِ أَمْ َن ْ‬
‫ت كَا ْلمُفْسِدِينَ فِي ا َ‬
‫ع ِملُوا الصّالِحَا ِ‬
‫وَ َ‬
‫فهذه هي المجامع الكبرى‪..‬‬

‫الرض‪ ..‬الخليفة‪ ..‬ثم على مؤمن مصلح‪ ,‬أو كافر مفسد‪..‬‬

‫وليس بينهما إل السماء!‪.‬‬

‫ثمّ‪ ,‬على ماذا اختتمت سورة البقرة صاحبة السماء؟‪.‬‬

‫قلنا في معرض الستدلل والعتماد على السياقات والبناء الواحد للموضوع ‪ ,‬أن السورة من أولها بدأت‬
‫تحدّد وتفصل بين فريقين‪ ,‬من آمن وأصلح‪ ,‬ومن كفر وأفسد‪ ,‬واعتمدنا على هذه لتقرير حجتنا بأن‬
‫السماء كانت أساساً في هذا البناء الموحّد لنفي الندّ عن الله الواحد ل إله إل هو‪ ,‬وأن مكان الية في‬
‫أول القرآن –الية ‪ 31‬من البقرة‪ -‬ليؤكد صدارتها وأصالتها في تقرير ملّة التوحيد القائمة على نفي الند‬
‫والشريك!‪.‬‬

‫حتى إذا توالت أدلة التوحيد بتوالي آيات البقرة‪ ,‬جاء ختامها بناء للتقرير العظيم في الخاتمة المهيبة على‬
‫كثير مما ذهبنا إليه؛ وليتدبر معنا من تدبر!‪..‬‬

‫لرْضِ‪..‬‬
‫سمَواتِ َومَا فِي ا َ‬
‫﴿لِّ ما فِي ال ّ‬
‫علَى الْ َقوْمِ ا ْلكَا ِفرِينَ﴾‪.‬‬
‫ص ْرنَا َ‬
‫لنَا فَان ُ‬
‫أَنتَ َموْ َ‬

‫ها هي صراحة تختم على الصول التي ذهبنا إليها‪ ,‬من تأكيد أن الرض والسماء ل‪ ,‬ول إله فيهما إل‬
‫ال‪ ,‬وعلى الصل الثاني الذي تفصل فيه السماء‪ ,‬بين من يؤمن ومن يكفر!‪.‬‬

‫ثم ستجد القرآن كلّه ‪ ,‬والنبيين والرسل أجمعين‪ ,‬على هذه‪ ,‬بادية كآية النهار‪ ,‬فل جرم تترأس في أول‬
‫اليات والسور‪ ,‬ول جرم استثقلتها الملئكة‪ ,‬ول جرم المر أشد وأثقل من اللّغة‪ ,‬واسم الحجر والشجر‪,‬‬
‫وما نستحيي أن نعيد ممّا يكتبون!‪ .‬أكانت ملئكة العليم خرسًا بكماً ل ينطقون!؟‪.‬‬

‫مختصر جامع‬

‫فالسماء ‪-‬وال أعلم‪ -‬وكما يظهر لنا من تضافر اليات‪ ,‬واحدة من اثنتين؛ إما أسماء ال الحسنى‪ ,‬أو‬
‫أسماء النداد وما يعبد من دون ال‪ ,‬ولما كانت الملئكة أعلم خلق ال بال‪ ,‬وبملكه وخلقه‪ ,‬ولم تعلم البتة‬
‫أسماء هؤلء الذين عرضوا عليها‪ ,‬على اعتبار فطرتها القويمة في التوحيد الخالص‪ ,‬ثم لن السماء‬
‫محصورة خاصة في خليفة الرض‪ ,‬فالسماء خالصة للتوحيد والطاعة‪ ,‬والرض للفساد والدماء‪ ,‬ومِلك‬
‫ذلك كله السماء!‪ ,‬فعرفها المخيّر بين الكفر واليمان‪ ,‬وبين السماء الحسنى والسماء السوءى!‪ ,‬على‬
‫ذلك كله‪ ,‬لزم أن تكون السماء الثانية أسماء النداد‪ ,‬التي يصير المستخلف بها كافراً أو مؤمناً!‪.‬‬

‫ول محلّ البتّة لما يذهب إليه كثير من الناس‪ ,‬أنها أسماء الشياء كلها‪ ,‬وأنها اللغات واللسن‪ ,‬فهل كانت‬
‫الملئكة بل منطق ول لسان؟‪ .‬وذلك كله ل يقدّم ول يؤخّر‪ ,‬ول يستلزم أرضاً ول استخلفاً‪ ,‬ول وحيًا ول‬
‫رسلً‪ ,‬ول حرباً ول جهاداً‪ ,‬ول صلةً ول صوماً!‪ .‬ألم تسمع ما عند الهدهد والنملة من أسماء الشياء‪,‬‬
‫وليسا آدميين وليسا مستخلفين؟‪.‬‬

‫فحسبك اضطرابهم طرائق قِدداً‪ ,‬في أمر تصدّر أول الكتاب‪ ,‬وأول الخلق‪ ,‬واصطبغ بالدم والفساد‪ ,‬لتلعلم‬
‫أن ل بيّنة لمن قال بما قالوا‪ ,‬وأن المر أشد وأثقل ممّا يقولون!‪.‬‬

‫سبِيلَ﴾‪.‬‬
‫ل الْحَقّ وَ ُهوَ َيهْدِي ال ّ‬
‫﴿ َذِلكُمْ َق ْوُلكُم بَِأ ْفوَا ِهكُمْ وَالُّ يَقُو ُ‬

You might also like