You are on page 1of 56

‫سورة النحل‬

‫ش ِركُونَ (‪)1‬‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫س ْبحَانَهُ َو َتعَالَى َ‬
‫ستَ ْعجِلُوهُ ُ‬
‫َأتَى َأ ْمرُ اللّ ِه فَلَ َت ْ‬

‫النحل‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الوحدة الولى‪ 21 - 1:‬الموضوع‪:‬بعض آيات ال في الخلق والنعام والعلم التعريف بسورة النحل‬

‫هذه السورة هادئة اليقاع ‪ ,‬عادية الجرس ; ولكنها مليئة حافلة ‪ .‬موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة ; والطار‬
‫الذي تعرض فيه واسع شامل ; والوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة ‪ ,‬والظلل التي تلونها عميقة الخطوط‬
‫‪.‬‬

‫وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى‪:‬اللوهية ‪ .‬والوحي ‪ .‬والبعث ‪ .‬ولكنها تلم‬
‫بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية ‪ .‬تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين‬
‫دين إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ودين محمد [ ص ] وتلم بحقيقة الرادة اللهية والرادة البشرية فيما يختص‬
‫باليمان والكفر والهدى والضلل ‪ .‬وتلم بوظيفة الرسل ‪ ,‬وسنة ال في المكذبين لهم ‪ .‬وتلم بموضوع التحليل‬
‫والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع ‪ .‬وتلم بالهجرة في سبيل ال ‪ ,‬وفتنة المسلمين في دينهم ‪ ,‬والكفر‬
‫بعد اليمان وجزاء هذا كله عند ال ‪ . .‬ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة‪:‬العدل‬
‫والحسان والنفاق والوفاء بالعهد ‪ ,‬وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة ‪ . .‬وهكذا هي مليئة‬
‫حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها ‪.‬‬

‫فأما الطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات ‪ ,‬والمجال الذي تجري فيه الحداث ‪ ,‬فهو فسيح شامل ‪ . .‬هو‬
‫السماوات والرض ‪ .‬والماء الهاطل والشجر النامي ‪ .‬والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ‪ .‬والبحار‬
‫والجبال والمعالم والسبل والنهار ‪ .‬وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها ‪ ,‬والخرى بأقدارها ومشاهدها ‪ .‬وهو‬
‫الغيب بألوانه وأعماقه في النفس والفاق ‪.‬‬

‫في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير ‪.‬‬
‫حملة هادئة اليقاع ‪ ,‬ولكنها متعددة الوتار ‪ .‬ليست في جلجلة النعام والرعد ‪ ,‬ولكنها في هدوئها تخاطب كل‬
‫حاسة وكل جارحة في الكيان البشري ‪ ,‬وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس ‪ .‬إنها‬
‫تخاطب العين لترى ‪ ,‬والذن لتسمع ‪ ,‬واللمس ليستشعر ‪ ,‬والوجدان ليتأثر ‪ ,‬والعقل ليتدبر ‪ .‬وتحشد الكون‬
‫كله‪:‬سماؤه وأرضه ‪ ,‬وشمسه وقمره ‪ ,‬وليله ونهاره ‪ ,‬وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلله وأكنانه نبته‬
‫وثماره ‪ ,‬وحيوانه وطيوره ‪ .‬كما تحشد دنياه وآخرته ‪ ,‬وأسراره وغيوبه ‪ . .‬كلها أدوات توقع بها على أوتار‬
‫الحواس والجوارح والعقول والقلوب ‪ ,‬مختلف اليقاعات التي ل يصمد لها فل يتأثر بها إل العقل المغلق‬
‫والقلب الميت ‪ ,‬والحس المطموس ‪.‬‬

‫هذه اليقاعات تتناول التوجيه إلى آيات ال في الكون ‪ ,‬وآلئه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة ‪ ,‬وصور‬
‫الحتضار ‪ ,‬ومصارع الغابرين ; تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار النفس ‪ ,‬وإلى أحوال‬
‫البشر وهم أجنة في البطون ‪ ,‬وهم في الشباب والهرم والشيخوخة ‪ ,‬وهم في حالت الضعف والقوة ‪ ,‬وهم في‬
‫أحوال النعمة والنقمة ‪ .‬كذلك يتخذ المثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض واليضاح ‪.‬‬

‫فأما الظلل العميقة التي تلون جو السورة كله فهي اليات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق ‪ ,‬وعظمة النعمة ‪,‬‬
‫وعظمة العلم والتدبير ‪ . .‬كلها متداخلة ‪ . .‬فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ‪ ,‬ملحوظ فيه أن‬
‫يكون نعمة على البشر ‪ ,‬ل تلبي ضروراتهم وحدها ‪ ,‬ولكن تلبي أشواقهم كذلك ‪ ,‬فتسد الضرورة ‪ .‬وتتخذ‬
‫للزينة ‪ ,‬وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم ‪ ,‬لعلهم يشكرون ‪. .‬‬

‫ومن ثم تتراءى في السورة ظلل النعمة وظلل الشكر ‪ ,‬والتوجيهات إليها ‪ ,‬والتعقيب بها في مقاطع السورة ‪,‬‬
‫وتضرب عليها المثال ‪ ,‬وتعرض لها النماذج ‪ ,‬وأظهرها نموذج إبراهيم(شاكرا لنعمه اجتباه وهداه إلى‬
‫صراط مستقيم)‪.‬‬

‫كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلل والعبارات واليقاعات ‪ ,‬والقضايا والموضوعات نرجو أن‬
‫نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق ‪.‬‬

‫ونبدأ الشوط الول ‪ ,‬وموضوعه هو التوحيد ; وأدواته هي آيات ال في الخلق ‪ ,‬وأياديه في النعمة ‪ ,‬وعلمه‬
‫الشامل في السر والعلنية ‪ ,‬والدنيا والخرة ‪ .‬فلنأخذ في التفصيل‪:‬‬

‫الدرس الول‪ 2 - 1:‬إثبات الوحي والنبوة والنذار‬

‫(أتى أمر ال فل تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ‪ .‬ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من‬
‫عباده‪:‬أن أنذروا أنه ل إله إل أنا فاتقون)‪. .‬‬

‫لقد كان مشركوا مكة يستعجلون الرسول [ ص ] أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الخرة ‪ .‬وكلما امتد بهم‬
‫الجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجال ‪ ,‬وزادوا استهزاء ‪ ,‬وزادوا استهتارا ; وحسبوا أن محمدا يخوفهم‬
‫ما ل وجود له ول حقيقة ‪ ,‬ليؤمنوا له ويستسلموا ‪ .‬ولم يدركوا حكمة ال في إمهالهم ورحمته في إنظارهم ;‬
‫ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون ‪ ,‬وآياته في القرآن ‪ .‬هذه اليات التي تخاطب العقول والقلوب ‪ ,‬خيرا من‬
‫خطابها بالعذاب ! والتي تليق بالنسان الذي أكرمه ال بالعقل والشعور ‪ ,‬وحرية الرادة والتفكير ‪.‬‬

‫وجاء مطلع السورة حاسما جازما‪ :‬أتى أمر ال ‪ . .‬يوحي بصدور المر وتوجه الرادة ; وهذا يكفي لتحققه‬
‫في الموعد الذي قدره ال لوقوعه (فل تستعجلوه)فإن سنة ال تمضي وفق مشيئته ‪ ,‬ل يقدمها استعجال ‪ .‬ول‬
‫يؤخرها رجاء ‪ .‬فأمر ال بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى ‪ ,‬أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر ‪,‬‬
‫ل يستقدم ساعة ول يتأخر ‪.‬‬

‫وهذه الصيغة الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر ‪ ,‬وذلك فوق مطابقتها لحقيقة الواقع‬
‫; فأمر ال ل بد واقع ‪ ,‬ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه ‪ ,‬ويتحقق به وجوده ‪ ,‬فل مبالغة في الصيغة ول‬
‫مجانبة للحقيقة ‪ ,‬في الوقت الذي تؤدي غايتها من التأثر العميق في الشعور ‪.‬‬

‫فأما ما هم عليه من شرك بال الواحد ‪ ,‬وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه ال عنه وتعالى‪:‬‬

‫ل إِلَـ َه ِإلّ َأ َناْ فَاتّقُونِ (‪ )2‬خََلقَ‬


‫عبَادِهِ َأنْ أَن ِذرُواْ َأنّهُ َ‬
‫ن َأمْرِهِ عَلَى مَن َيشَا ُء مِنْ ِ‬
‫ح مِ ْ‬
‫ُينَزّلُ ا ْلمَل ِئكَةَ بِا ْلرّو ِ‬
‫خصِيمٌ ّمبِينٌ (‪)4‬‬
‫ن مِن ّنطْفَةٍ َفِإذَا ُهوَ َ‬
‫ش ِركُونَ (‪ )3‬خََلقَ الِنسَا َ‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫حقّ َتعَالَى َ‬
‫لرْضَ بِا ْل َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ال ّ‬
‫(سبحانه وتعالى عما يشركون)بكل صوره وأشكاله ‪ ,‬الناشئة عن هبوط في التصور والتفكير ‪.‬‬

‫أتى أمر ال المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون ‪ .‬ال الذي ل يدع الناس إلى ضللهم وأوهامهم إنما هو‬
‫ينزل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم‪( :‬ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)‪. .‬‬

‫وهذا أولى نعمه وكبراها ‪ .‬فهو ل ينزل من السماء ماء يحيي الرض والجسام وحدها ‪ -‬كما سيجيء ‪ -‬إنما‬
‫ينزل الملئكة بالروح من أمره ‪ .‬وللتعبير بالروح ظله ومعناه ‪ .‬فهو حياة ومبعث حياة‪:‬حياة في النفوس‬
‫والضمائر والعقول والمشاعر ‪ .‬وحياة في المجتمع تحفظه من الفساد والتحلل والنهيار ‪ .‬وهو أول ما ينزله‬
‫ال من السماء للناس ‪ ,‬وأول النعم التي يمن ال بها على العباد ‪ .‬تنزل به الملئكة أطهر خلق ال على‬
‫المختارين من عباده ‪ -‬النبياء ‪ -‬خلصته وفحواه‪( :‬أن أنذروا أنه ل إله إل أنا فاتقون ‪).‬‬

‫إنها الوحدانية في اللوهية ‪ .‬روح العقيدة ‪ .‬وحياة النفس ‪ .‬ومفرق الطريق بين التجاه المحيي والتجاه المدمر‬
‫‪ .‬فالنفس التي ل توحد المعبود نفس حائرة هالكة تتجاذبها السبل وتخايل لها الوهام وتمزقها التصورات‬
‫المتناقضة ‪ ,‬وتناوشها الوساوس ‪ ,‬فل تنطلق مجتمعة لهدف من الهداف !‬
‫والتعبير بالروح يشمل هذه المعاني كلها ويشير إليها في مطلع السورة المشتملة على شتى النعم ‪ ,‬فيصدر بها‬
‫نعمه جميعا ; وهي النعمة الكبرى التي ل قيمة لغيرها بدونها ; ول تحسن النفس البشرية النتفاع بنعم الرض‬
‫كلها إن لم توهب نعمة العقيدة التي تحييها ‪.‬‬

‫ويفرد النذار ‪ ,‬فيجعله فحوى الوحي والرسالة ‪ ,‬لن معظم سياق السورة يدور حول المكذبين والمشركين‬
‫والجاحدين لنعمة ال ‪ ,‬والمحرمين ما أحله ال ‪ ,‬والناقضين لعهد ال ‪ ,‬والمرتدين عن اليمان ومن ثم يكون‬
‫إظهار النذار أليق في هذا السياق ‪ .‬وتكون الدعوة إلى التقوى والحذر والخوف أولى في هذا المقام ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 16 - 3:‬خمسة مجالت واسعة لنعم ال على الناس‬

‫ثم يأخذ في عرض اليات ‪ .‬آيات الخلق الدالة على وحدانية الخالق ; وآيات النعمة الدالة على وحدانية المنعم‬
‫; يعرضها فوجا فوجا ‪ ,‬ومجموعة مجموعة ‪ .‬بادئا بخلق السماوات والرض وخلق النسان ‪.‬‬

‫(خلق السماوات والرض بالحق ‪ ,‬تعالى عما يشركون ‪ .‬خلق النسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)‪.‬‬

‫(خلق السماوات والرض بالحق)‪ . .‬الحق قوام خلقهما ‪ ,‬والحق قوام تدبيرهما ‪ ,‬والحق عنصر أصيل في‬
‫تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما ‪ .‬فما شيء من ذلك كله عبث ول جزاف ‪ .‬إنما كل شيء قائم على‬
‫الحق ومتلبس به ومفض له وصائر في النهاية إليه ‪( . .‬تعالى عما يشركون)‪ . .‬تعالى عن شركهم ‪ ,‬وتعالى‬
‫عما يشركون به من خلق ال الذي خلق السماوات والرض ‪ ,‬وخلق من فيهما وما فيهما ‪ ,‬فليس أحد وليس‬
‫شيء شريكا له وهو الخالق الواحد بل شريك ‪.‬‬

‫(خلق النسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير ‪ .‬بين النطفة الساذجة‬
‫والنسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه فيكفر به ويجادل في وجوده أو في وحدانيته ‪ .‬وليس بين مبدئه‬
‫من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ول مهلة ‪ .‬فهكذا يصوره التعبير ‪ ,‬ويختصر المسافة بين‬
‫المبدأ والمصير ‪ ,‬لتبدو المفارقة كاملة ‪ ,‬والنقلة بعيدة ‪ ,‬ويقف النسان بين مشهدين وعهدين متواجهين‪:‬مشهد‬
‫النطفة المهينة الساذجة ‪ ,‬ومشهد النسان الخصيم المبين ‪ . .‬وهو إيجاز مقصود في التصوير ‪.‬‬

‫وفي هذا المجال الواسع ‪ -‬مجال الكون‪:‬السماوات والرض ‪ -‬الذي يقف فيه النسان ‪ ,‬يأخذ السياق‬

‫س َرحُونَ (‪)6‬‬
‫ن ُترِيحُونَ َوحِينَ َت ْ‬
‫جمَالٌ حِي َ‬
‫ل ْنعَامَ خَلَ َقهَا َل ُكمْ فِيهَا ِدفْءٌ َو َمنَافِعُ َو ِم ْنهَا َت ْأكُلُونَ (‪ )5‬وََل ُكمْ فِيهَا َ‬
‫وَا َ‬
‫ل ِبشِقّ الَنفُسِ إِنّ َربّ ُكمْ َلرَؤُوفٌ ّرحِيمٌ (‪)7‬‬
‫حمِلُ َأثْقَاَل ُكمْ إِلَى بََل ٍد ّلمْ َتكُونُو ْا بَاِلغِيهِ ِإ ّ‬
‫َو َت ْ‬
‫في استعراض خلق ال الذي سخره للنسان ‪ ,‬ويبدأ بالنعام‪:‬‬
‫(والنعام خلقها ‪ ,‬لكم فيها دفء ومنافع ‪ ,‬ومنها تأكلون ‪ .‬ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ‪,‬‬
‫وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إل بشق النفس ‪ ,‬إن ربكم لرؤوف رحيم ‪ ,‬والخيل والبغال والحمير‬
‫لتركبوها وزينة ‪ ,‬ويخلق ما ل تعلمون)‪. .‬‬

‫وفي بيئة كالبيئة التي نزل فيها القرآن أول مرة ‪ ,‬وأشباهها كثير ; وفي كل بيئة زراعية والبيئات الزراعية‬
‫هي الغالبة حتى اليوم في العالم ‪ . .‬في هذه البيئة تبرز نعمة النعام ‪ ,‬التي ل حياة بدونها لبني النسان ‪.‬‬
‫والنعام المتعارف عليها في الجزيرة كانت هي البل والبقر والضأن والمعز ‪ .‬أما الخيل والبغال والحمير‬
‫فللركوب والزينة ول تؤكل والقرآن إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر‬
‫وتلبية لشواقهم كذلك‪:‬ففي النعام دفء من الجلود والصواف والوبار والشعار ‪ ,‬ومنافع في هذه وفي اللبن‬
‫واللحم وما إليها ‪ .‬ومنها تأكلون لحما ولبنا وسمنا ‪ ,‬وفي حمل الثقال إلى البلد البعيد ل يبلغونه إل بشق‬
‫النفس ‪ .‬وفيها كذلك جمال عند الراحة في المساء وعند السرح في الصباح ‪ .‬جمال الستمتاع بمنظرها‬
‫فارهة رائعة صحيحة سمينة ‪ .‬وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أكثر مما يدركه‬
‫أهل المدينة ‪.‬‬

‫وفي الخيل والبغال والحمير تلبية للضرورة وفي الركوب ‪ .‬وتلبية لحاسة الجمال في الزينة‪( :‬لتركبوها‬
‫وزينة)‪.‬‬

‫وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة السلم للحياة ‪ .‬فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة‬
‫وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب ; بل تلبية الشواق الزائدة على‬
‫الضرورات ‪ .‬تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور النساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان‬
‫‪.‬‬

‫(إن ربكم لرؤوف رحيم)يعقب بها على حمل الثقال إلى بلد لم يكونوا بالغيه إل بشق النفس توجيها إلى ما‬
‫في خلق النعام من نعمة ‪ ,‬وما في هذه النعمة من رحمة ‪.‬‬

‫(ويخلق ما ل تعلمون)‪ . .‬يعقب بها على خلق النعام للكل والحمل والجمال ‪ ,‬وخلق الخيل والبغال والحمير‬
‫للركوب والزينة ‪ . .‬ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل‬
‫والركوب والزينة ‪ ,‬فل يغلق تصورهم خارج حدود البيئة ‪ ,‬وخارج حدود الزمان الذي يظلهم ‪ .‬فوراء‬
‫الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى ‪ ,‬يريد ال للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم ‪ ,‬ويريد‬
‫لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فل يعادوها ول يجمدوا دون استخدامها والنتفاع بها ‪ .‬ول‬
‫يقولوا‪:‬إنما استخدم آباؤنا النعام والخيل والبغال والحمير فل نستخدم سواها ‪ .‬وإنما نص القرآن على هذه‬
‫الصناف فل نستخدم ما عداها ! ‪.‬‬
‫إن السلم عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لستقبال طاقات الحياة كلها ‪ ,‬ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهيء القرآن‬
‫الذهان والقلوب لستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ‪ ,‬ويتمخض عنه العلم ‪ ,‬ويتمخض عنه المستقبل ‪.‬‬
‫استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة ‪.‬‬

‫ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان ‪ .‬وستجد وسائل‬

‫سبِيلِ َو ِم ْنهَا جَآ ِئرٌ وََلوْ‬


‫صدُ ال ّ‬
‫حمِيرَ ِل َت ْر َكبُوهَا َوزِينَةً َو َيخُْلقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ (‪ )8‬وَعَلَى الّلهِ َق ْ‬
‫خيْلَ وَا ْل ِبغَالَ وَا ْل َ‬
‫وَا ْل َ‬
‫جرٌ فِيهِ ُتسِيمُونَ (‪ )10‬يُنبِتُ َلكُم‬
‫شَ‬‫شرَابٌ َو ِم ْنهُ َ‬
‫سمَاءِ مَاءً ّلكُم ّمنْ ُه َ‬
‫ج َمعِينَ (‪ُ )9‬هوَ اّلذِي أَنزَلَ ِمنَ ال ّ‬
‫شَاء َل َهدَاكُمْ َأ ْ‬
‫سخّرَ َل ُكمُ الّليْلَ‬
‫عنَابَ َومِن كُلّ ال ّث َمرَاتِ ِإنّ فِي ذَِلكَ ليَ ًة لّ َق ْومٍ َيتَ َف ّكرُونَ (‪َ )11‬و َ‬
‫بِهِ الزّ ْرعَ وَال ّزيْتُونَ وَال ّنخِيلَ وَالَ ْ‬
‫ك لَآيَاتٍ لّ َق ْومٍ َيعْقِلُونَ (‪)12‬‬
‫ت ِبَأمْرِهِ إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫سخّرَا ٌ‬
‫شمْسَ وَالْ َق َمرَ وَا ْلّنجُومُ ُم َ‬
‫وَا ْل ّنهَارَ وَال ّ‬
‫أخرى ل يعلمها أهل هذا الزمان ‪ .‬والقرآن يهييء لها القلوب والذهان ‪ ,‬بل جمود ول تحجر (ويخلق ما ل‬
‫تعلمون)‪. .‬‬

‫وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الرض ‪ ,‬يدخل السياق غايات‬
‫معنوية وسيرا معنويا وطرقا معنوية ‪ .‬فثمة الطريق إلى ال ‪ .‬وهو طريق قاصد مستقيم ل يلتوي ول يتجاوز‬
‫الغاية ‪ .‬وثمة طرق أخرى ل توصل ول تهدي ‪ .‬فاما الطريق إلى ال فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها‪:‬بآياته‬
‫في الكون وبرسله إلى الناس‪:‬‬

‫(وعلى ال قصد السبيل ‪ .‬ومنها جائر ‪ .‬ولو شاء لهداكم أجمعين)‪. .‬‬

‫والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي ل يلتوي كأنه يقصد قصدا إلى غايته فل يحيد عنها ‪ .‬والسبيل‬
‫الجائر هو السبيل المنحرف المجاوز للغاية ل يوصل إليها ‪ ,‬أو ل يقف عندها !‬

‫(ولو شاء لهداكم أجمعين)‪ . .‬ولكنه شاء أن يخلق النسان مستعدا للهدى والضلل ‪ ,‬وأن يدع لرادته اختيار‬
‫طريق الهدى أو طريق الضلل ‪ .‬فكان منهم من يسلك السبيل القاصد ‪ ,‬ومنهم من يسلك السبيل الجائر ‪.‬‬
‫وكلهما ل يخرج على مشيئة ال ‪ ,‬التي قضت بأن تدع للنسان حرية الختيار ‪.‬‬

‫والفوج الثاني من آيات الخلق والنعمة‪:‬‬

‫(هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ‪ ,‬ومنه شجر فيه تسيمون ‪ ,‬ينبت لكم به الزرع والزيتون‬
‫والنخيل والعناب ‪ ,‬ومن كل الثمرات ‪ .‬إن في ذلك لية لقوم يتفكرون)‪. .‬‬
‫والماء ينزل من السماء وفق النواميس التي خلقها ال في هذا الكون ‪ ,‬والتي تدبر حركاته ‪ ,‬وتنشيء نتائجها‬
‫وفق إرادة الخالق وتدبيره ‪ ,‬بقدر خاص من أقداره ينشيء كل حركة وكل نتيجة ‪ .‬هذا الماء يذكر هنا نعمة‬
‫من نعم ال (لكم منه شراب)فهي خصوصية الشراب التي تبرز في هذا المجال ثم خصوصية المرعى (ومنه‬
‫شجر فيه تسيمون)وهي المراعي التي تربون فيها السوائم ‪ .‬ذلك بمناسبة ذكر النعام قبلها وتنسيقا للجو العام‬
‫بين المراعي والنعام ‪ .‬ثم الزروع التي يأكل منها النسان مع الزيتون والنخيل والعناب وغيرها من أشجار‬
‫الثمار ‪. .‬‬

‫إن في ذلك لية لقوم يتفكرون ‪ . .‬في تدبير ال لهذا الكون ‪ ,‬ونواميسه المواتية لحياة البشر ‪ ,‬وما كان النسان‬
‫ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون مواتية لحياته ‪ ,‬موافقة لفطرته ‪ ,‬ملبية لحاجاته ‪.‬‬
‫وما هي بالمصادفة العابرة أن يخلق النسان في هذا الكوكب الرضي ‪ ,‬وأن تكون النسب بين هذا الكوكب‬
‫وغيره من النجوم والكواكب هي هذه النسب ‪ ,‬وأن تكون الظواهر الجوية والفلكية على ما هي عليه ‪ ,‬ممكنة‬
‫للنسان من الحياة ‪ ,‬ملبية هكذا لحاجاته على النحو الذي نراه ‪.‬‬

‫والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير ‪ ,‬وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما ينشئه‬
‫على الرض من حياة وشجر وزروع وثمار ‪ ,‬وبين النواميس العليا للوجود ‪ ,‬ودللتها على الخالق وعلى‬
‫وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره ‪ .‬أما الغافلون فيمرون على مثل هذه الية في الصباح والمساء‬
‫‪ ,‬في الصيف والشتاء ‪ ,‬فل توقظ تطلعهم ‪ ,‬ول تثير استطلعهم ول تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن‬
‫صاحب هذا النظام الفريد ‪.‬‬

‫والفوج الثالث من أفواج اليات‪:‬‬

‫(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر ‪ ,‬والنجوم مسخرات بأمره ‪ .‬إن في ذلك ليات لقوم يعقلون)‪. .‬‬

‫حرَ ِل َت ْأكُلُواْ ِمنْهُ‬


‫خرَ ا ْل َب ْ‬
‫سّ‬‫ن فِي ذَِلكَ ليَةً لّ َق ْومٍ َي ّذكّرُونَ (‪ )13‬وَ ُهوَ اّلذِي َ‬
‫ختَلِفا أَ ْلوَانُ ُه إِ ّ‬
‫لرْضِ ُم ْ‬
‫َومَا َذرَأَ َل ُكمْ فِي ا َ‬
‫ش ُكرُونَ (‪)14‬‬
‫خ ِرجُواْ ِم ْنهُ حِ ْليَ ًة تَ ْل َبسُو َنهَا َو َترَى الْفُ ْلكَ َموَاخِ َر فِيهِ وَِل َت ْب َتغُو ْا مِن فَضْلِهِ وََلعَّل ُكمْ َت ْ‬
‫ستَ ْ‬
‫َلحْما طَ ِريّا َو َت ْ‬
‫سبُلً ّلعَّل ُكمْ َت ْه َتدُونَ (‪ )15‬وَعَلمَاتٍ َوبِال ّنجْمِ ُه ْم َي ْهتَدُونَ (‪)16‬‬
‫سيَ أَن َتمِي َد ِبكُمْ وََأ ْنهَارا َو ُ‬
‫ض رَوَا ِ‬
‫لرْ ِ‬
‫وَأَلْقَى فِي ا َ‬

‫ومن مظاهر التدبير في الخلق ‪ ,‬وظواهر النعمة على البشر في آن‪:‬الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ‪.‬‬
‫فكلها مما يلبي حاجة النسان في الرض ‪ .‬وهي لم تخلق له ولكنها مسخرة لمنفعته ‪ .‬فظاهرة الليل والنهار‬
‫ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري ‪ .‬ومن شاء فليتصور نهارا بل ليل أو ليل بل نهار ‪ ,‬ثم يتصور‬
‫مع هذا حياة النسان والحيوان والنبات في هذه الرض كيف تكون ‪.‬‬
‫كذلك الشمس والقمر ‪ .‬وعلقتهما بالحياة على الكوكب الرضي ‪ ,‬وعلقة الحياة بهما في أصلها وفي نموها ‪,‬‬
‫(والنجوم مسخرات بأمره)للنسان ولغير النسان مما يعلم ال ‪. .‬‬

‫وكل أولئك طرف من حكمة التدبير ‪ ,‬وتناسق النواميس في الكون كله ‪ ,‬يدركه أصحاب العقول التي تتدبر‬
‫وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين‪( :‬إن في ذلك ليات لقوم يعقلون)‪. .‬‬

‫والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق ال للنسان‪:‬‬

‫(وما ذرأ لكم في الرض مختلفا ألوانه ‪ .‬إن في ذلك لية لقوم يذكرون)‪. .‬‬

‫وما خلق ال في الرض وما أودع فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات‬
‫وفي بعض الزمان ‪ .‬ونظرة إلى هذه الذخائر المخبوءة في الرض ‪ ,‬المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما‬
‫بعد يوم ‪ ,‬ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها ‪ .‬وكلما قيل‪:‬إن كنزا منها قد نفد أعقبه كنز آخر‬
‫غني ‪ ,‬من رزق ال المدخر للعباد ‪( . .‬إن في ذلك لية لقوم يذكرون)ول ينسون أن يد القدرة هي التي خبأت‬
‫لهم هذه الكنوز ‪.‬‬

‫والفوج الخامس من أفواج الخلق والنعام في البحر الملح الذي ل يشرب ول يسقي ‪ ,‬ولكنه يشتمل على‬
‫صنوف من آلء ال على النسان‪:‬‬

‫(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ‪ ,‬وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ‪ ,‬وترى الفلك مواخر فيه ‪,‬‬
‫ولتبتغوا من فضله ‪ ,‬ولعلكم تشكرون)‪. .‬‬

‫ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات النسان وأشواقه ‪ .‬فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام ‪.‬‬
‫وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان ‪ ,‬وغيرهما من الصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون‬
‫حتى الن ‪ .‬والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال ل بمجرد الركوب والنتقال‪( :‬وترى الفلك‬
‫مواخر فيه)فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها‪:‬رؤية الفلك(مواخر)تشق الماء وتفرق العباب ‪ . .‬ومرة أخرى‬
‫نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلي الجمال في مظاهر الكون ‪ ,‬بجانب الضرورة والحاجة ‪ ,‬لنتملى هذا‬
‫الجمال ونستمتع به ‪ ,‬ول نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات ‪.‬‬

‫كذلك يوجهنا السياق ‪ -‬أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه ‪ -‬إلى ابتغاء فضل ال ورزقه ‪ ,‬وإلى شكره على‬
‫ما سخر من الطعام والزينة والجمال في ذلك الملح الجاج‪( :‬ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)‪.‬‬

‫والفوج الخير في هذا المقطع من السورة‪:‬‬

‫وألقى في الرض رواسي أن تميد بكم ‪ ,‬وانهارا وسبل لعلكم تهتدون ‪ .‬وعلمات وبالنجم هم يهتدون ‪.‬‬
‫فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه ل يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا ‪ .‬يعلل‬
‫وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الرض الملتهب يبرد فينكمش ‪ ,‬فتتقلص القشرة الرضية‬
‫من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات ‪ .‬ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الرض ‪.‬‬
‫وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث ‪.‬‬

‫حصُوهَا ِإنّ الّلهَ َلغَفُورٌ ّرحِيمٌ (‪ )18‬وَالّلهُ‬


‫ل َيخْلُقُ َأفَل َت َذ ّكرُونَ (‪ )17‬وَإِن َت ُعدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬
‫ق َكمَن ّ‬
‫َأ َفمَن َيخْلُ ُ‬
‫غ ْيرُ‬
‫شيْئا وَ ُه ْم ُيخْلَقُونَ (‪َ )20‬أمْواتٌ َ‬
‫ن َ‬
‫ل َيخْلُقُو َ‬
‫ن َيدْعُونَ مِن دُونِ الّلهِ َ‬
‫سرّونَ َومَا ُتعِْلنُونَ (‪ )19‬وَاّلذِي َ‬
‫َيعَْلمُ مَا ُت ِ‬
‫ن َأيّانَ ُي ْب َعثُونَ (‪)21‬‬
‫ش ُعرُو َ‬
‫حيَاء َومَا َي ْ‬
‫َأ ْ‬

‫وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى النهار الجواري ‪ ,‬والسبل السوالك ‪ .‬والنهار ذات علقة طبيعية‬
‫في المشهد بالجبال ‪ ,‬ففي الجبال في الغالب تكون منابع النهار ; حيث مساقط المطار ‪ .‬والسبل ذات علقة‬
‫بالجبال والنهار ‪ .‬وذات علقة كذلك بجو النعام والحمال والنتقال ‪ .‬وإلى جوار ذلك معالم الطرق التي‬
‫يهتدي بها السالكون في الرض من جبال ومرتفعات ومنفرجات ‪ ,‬وفي السماء من النجم الذي يهدي السالكين‬
‫في البر والبحر سواء ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 21 - 17:‬ال الخالق المنعم وعجز المعبودين من دونه عن أي شيء‬

‫وعندما ينتهي استعراض آيات الخلق ‪ ,‬وآيات النعمة ‪ ,‬وآيات التدبير في هذا المقطع من السورة يعقب السياق‬
‫عليه بما سيق هذا الستعراض من أجله ‪ .‬فقد ساقه في صدد قضية التعريف بال سبحانه وتوحيده وتنزيهه‬
‫عما يشركون‪:‬‬

‫(أفمن يخلق كمن ل يخلق ? أفل تذكرون ? وإن تعدوا نعمة ال ل تحصوها إن ال لغفور رحيم ‪ .‬وال يعلم‬
‫ما تسرون وما تعلنون ‪ ,‬والذين يدعون من دون ال ل يخلقون شيئا وهم يخلقون ‪ ,‬أموات غير أحياء وما‬
‫يشعرون أيان يبعثون)‪. .‬‬

‫وهو تعقيب يجيء في أوانه ‪ ,‬والنفس متهيئة للقرار بمضمونه‪( :‬أفمن يخلق كمن ل يخلق ?)‪ . .‬فهل هنالك‬
‫إل جواب واحد‪:‬ل ‪ .‬وكل‪:‬أفيجوز أن يسوي إنسان في حسه وتقديره ‪ . .‬بين من يخلق ذلك الخلق كله ‪ ,‬ومن‬
‫ل يخلق ل كبيرا ول صغيرا ? (أفل تذكرون)فما يحتاج المر إلى أكثر من التذكر ‪ ,‬فيتضح المر ويتجلى‬
‫اليقين ‪.‬‬

‫ولقد استعرض ألوانا من النعمة ‪ .‬فهو يعقب عليها‪( :‬وإن تعدوا نعمة ال ل تحصوها)‪ . .‬فضل على أن‬
‫تشكروها ‪ .‬وأكثر النعم ل يدريها النسان ‪ ,‬لنه يألفها فل يشعر بها إل حين يفتقدها ‪ . .‬وهذا تركيب جسده‬
‫ووظائفه متى يشعر بما فيه من إنعام إل حين يدركه المرض فيحس بالختلل ? إنما يسعه غفران ال‬
‫للتقصير ورحمته بالنسان الضعيف (إن ال لغفور رحيم)‪. .‬‬

‫والخالق يعلم ما خلق ‪ .‬يعلم الخافي والظاهر‪(:‬وال يعلم ما تسرون وما تعلنون)فكيف يسوونه في حسهم‬
‫وتقديرهم بتلك اللهة المدعاة وهم ل يخلقون شيئا ول يعلمون شيئا ‪ ,‬بل إنهم لموات غير قابلين للحياة على‬
‫الطلق ‪ .‬ومن ثم فهم ل يشعرون‪:‬‬

‫(والذين يدعون من دون ال ل يخلقون شيئا وهم يخلقون ‪ .‬أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون)‪. .‬‬

‫والشارة هنا إلى البعث وموعده فيها تقرير أن الخالق ل بد أن يعلم موعد البعث ‪ .‬لن البعث تكملة للخلق ‪,‬‬
‫وعنده يستوفي الحياء جزاءهم على ما قدموا ‪ .‬فاللهة التي ل تعلم متى يبعث عبادها هي آلهة ل تستحق‬
‫التأليه ‪ ,‬بل هي سخرية الساخرين ‪ .‬فالخالق يبعث مخاليقه ويعلم متى يبعثهم على التحقيق !‬

‫الوحدة الثانية‪ 50 - 22:‬الموضوع‪:‬نماذج المستكبرين وتفنيد شبهاتهم في مقابل نماذج المتقين ونعيمهم مقدمة‬
‫الوحدة‬

‫وقفنا في الدرس السابق عند استعراض آيات الخالق في خلقه ‪ ,‬وفي نعمته على عباده ‪ ,‬وفي علمه بالسر‬
‫والعلن ‪ . .‬بينما اللهة المدعاة ‪ ,‬ل تخلق شيئا ‪ ,‬بل هي مخلوقة ‪ .‬ول تعلم شيئا ‪ ,‬بل هي ميتة ل تنتظر لها‬
‫حياة ‪ .‬وهي ل تعلم متى يبعث عبادها للجزاء ! وهذا وذلك قاطع في بطلن عبادتها ‪ ,‬وفي بطلن عقيدة‬
‫الشرك كافة ‪ . .‬وكان هذا هو الشوط الول في قضية التوحيد في السورة مع إشارة إلى قضية البعث أيضا ‪.‬‬

‫وها نحن أولء نبدأ في الدرس الجديد من حيث انتهينا في الدرس السابق ‪ .‬نبدأ شوطا جديدا ‪ ,‬يفتتح بتقرير‬
‫وحدة اللوهية ‪ ,‬ويعلل عدم إيمان الذين ل يؤمنون بالخرة بأن قلوبهم منكرة ‪ ,‬فالجحود صفة كامنة فيها‬
‫تصدهم عن القرار باليات البينات ‪ ,‬وهم مستكبرون ‪ ,‬فالستكبار يصدهم عن الذعان والتسليم ‪ . .‬ويختم‬
‫بمشهد مؤثر‪:‬مشهد الظلل في الرض كلها ساجدة ل ‪ ,‬ومعها ما في السماوات وما في الرض من دابة ‪,‬‬
‫والملئكة ‪ ,‬قد برئت نفوسهم من الستكبار ‪ ,‬وامتلت بالخوف من ال ‪ ,‬والطاعة لمره بل جدال ‪ . .‬هذا‬
‫المشهد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المنكرة قلوبهم في مفتتح هذا الشوط الجديد ‪.‬‬

‫وبين المقطع والختام يستعرض السياق مقولت أولئك المستكبرين المنكرين عن الوحي والقرآن إذ يزعمون‬
‫أنه أساطير الولين ‪ .‬ومقولتهم عن أسباب شركهم بال وتحريمهم ما لم يحرمه ال ‪ ,‬إذ يدعون أن ال أراد‬
‫منهم الشر وارتضاه ‪ .‬ومقولتهم عن البعث والقيامة إذ يقسمون جهدهم ل يبعث ال من يموت ‪ .‬ويتولى الرد‬
‫على مقولتهم جميعا ‪ .‬ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرأون من تلك المقولت‬
‫الباطلة ‪ ,‬كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم ‪ ,‬ويخوفهم أخذ ال في ساعة من ليل أو‬
‫نهار وهم ل يشعرون ‪ ,‬وهم في تقلبهم في البلد ‪ ,‬أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار للعذاب ‪ . .‬وإلى جوار‬
‫هذا‬

‫سرّونَ‬
‫ل جَ َرمَ َأنّ الّلهَ َيعَْلمُ مَا ُي ِ‬
‫س َتكْ ِبرُونَ (‪َ )22‬‬
‫خرَةِ قُلُو ُبهُم مّن ِكرَةٌ وَهُم ّم ْ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ بِال ِ‬
‫حدٌ فَاّلذِينَ َ‬
‫إَِل ُه ُكمْ إِلَهٌ وَا ِ‬
‫س َت ْكبِرِينَ (‪)23‬‬
‫ل ُيحِبّ ا ْل ُم ْ‬
‫َومَا ُيعِْلنُونَ ِإنّهُ َ‬
‫يعرض صورا من مقولت المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء ‪.‬‬
‫وينتهي بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلل والدواب والملئكة في الرض والسماء ‪. .‬‬

‫الدرس الول‪ 29 - 22:‬شرك الكفار وإنكارهم النبوة ولفت نظرهم لهلك السابقين‬

‫(إلهكم إله واحد ‪ .‬فالذين ل يؤمنون بالخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ‪ .‬ل جرم أن ال يعلم ما يسرون‬
‫وما يعلنون ‪ ,‬إنه ل يحب المستكبرين)‪. .‬‬

‫ويجمع السياق بين اليمان بوحدة ال واليمان بالخرة ‪ .‬بل يجعل إحداهما دالة على الخرى لرتباط عبادة‬
‫ال الواحد بعقيدة البعث والجزاء ‪ .‬فبالخرة تتم حكمة الخالق الواحد ويتجلى عدله في الجزاء ‪. .‬‬

‫(إلهكم إله واحد)وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة‬
‫الكبيرة البارزة ‪ ,‬الواضحة الثار في نواميس الكون وتناسقها وتعاونها كما سلف الحديث ‪.‬‬

‫فالذين ل يسلمون بهذه الحقيقة ‪ ,‬ول يؤمنون بالخرة ‪ -‬وهي فرع عن العتقاد بوحدانية الخالق وحكمته‬
‫وعدله ‪ -‬هؤلء ل تنقصهم اليات ول تنقصهم البراهين ‪ ,‬إنما تكمن العلة في كيانهم وفي طباعهم ‪ .‬إن قلوبهم‬
‫منكرة جاحدة ل تقر بما ترى من اليات ‪ ,‬وهم مستكبرون ل يريدون التسليم بالبراهين والستسلم ل‬
‫والرسول ‪ .‬فالعلة أصيلة والداء كامن في الطباع والقلوب ! ‪.‬‬

‫وال الذي خلقهم يعلم ذلك منهم ‪ .‬فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون ‪ .‬يعلمه دون شك ول ريب ويكرهه فيهم ‪.‬‬
‫(إنه ل يحب المستكبرين)فالقلب المستكبر ل يرجى له أن يقتنع أو يسلم ‪ .‬ومن ثم فهم مكرهون من ال‬
‫لستكبارهم الذي يعلمه من يعلم حقيقة أمرهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون ‪.‬‬

‫(وإذا قيل لهم‪:‬ماذا أنزل ربكم ? قالوا‪:‬أساطير الولين ‪ .‬ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين‬
‫يضلونهم بغير علم ‪ ,‬أل ساء ما يزرون)‪.‬‬

‫هؤلء المستكبرون ذوو القلوب المنكرة التي ل تقتنع ول تستجيب إذا سئلوا‪( :‬ماذا أنزل ربكم ?)لم يجيبوا‬
‫الجواب الطبيعي المباشر ‪ ,‬فيتلوا شيئا من القرآن أو يلخصوا فحواه ‪ ,‬فيكونوا أمناء في النقل ‪ ,‬ولو لم يعتقدوه‬
‫‪ .‬إنما هم يعدلون عن الجواب المين فيقولون‪( :‬أساطير الولين)والساطير هي الحكايات الوهمية الحافلة‬
‫بالخرافة ‪ . .‬وهكذا يصفون هذا القرآن الذي يعالج النفوس والعقول ‪ ,‬ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس‬
‫وعلقات المجتمع وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل ‪ .‬هكذا يصفونه لما يحويه من قصص‬
‫الولين ‪ .‬وهكذا يؤدي بهم ذلك النكار والستهتار إلى حمل ذنوبهم وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا‬
‫القول ‪ ,‬ويصدونهم عن القرآن واليمان ‪ ,‬وهم جاهلون به ل يعلمون حقيقته ‪ . .‬ويصور التعبير هذه الذنوب‬
‫أحمال ذات ثقل ‪ -‬وساءت أحمال وأثقال ! ‪ -‬فهي توقر النفوس كما توقر الحمال الظهور ‪ ,‬وهي تثقل‬
‫القلوب ‪ ,‬كما تثقل الحمال العواتق ‪ ,‬وهي تتعب وتشقي كما تتعب الثقال حامليها بل هي أدهى وأنكى !‬

‫روى ابن أبي حاتم عن السدي قال‪":‬اجتمعت قريش ‪ ,‬فقالوا‪:‬إن محمدا رجل حلو اللسان ‪ ,‬إذا كلمه الرجل ذهب‬
‫بعقله ‪ ,‬فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ‪ ,‬فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على‬
‫رأس ليلة أو ليلتين ‪ ,‬فمن جاء يريده فردوه عنه ‪ .‬فخرج ناس في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه‬
‫ينظر ما يقول محمد ‪ ,‬ووصل إليهم ‪ ,‬قال أحدهم‪:‬أنا فلن ابن فلن ‪ .‬فيعرفه نسبه ‪ ,‬ويقول له‪:‬أنا أخبرك عن‬
‫محمد ‪ .‬إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إل السفهاء والعبيد ومن ل خير فيهم ‪,‬‬

‫ن أَ ْوزَارِ اّلذِينَ‬
‫حمِلُواْ َأ ْوزَارَ ُهمْ كَامِلَ ًة يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ َومِ ْ‬
‫لوّلِينَ (‪ِ )24‬ل َي ْ‬
‫وَِإذَا قِيلَ َلهُم مّاذَا أَنزَلَ َر ّب ُكمْ قَالُواْ َأسَاطِيرُ ا َ‬
‫عدِ َفخَرّ عََل ْيهِمُ‬
‫ُيضِلّو َنهُم ِب َغ ْيرِ عِ ْلمٍ َألَ سَاء مَا َيزِرُونَ (‪ )25‬قَدْ َم َكرَ اّلذِينَ مِن َقبِْلهِ ْم فََأتَى اللّ ُه ُب ْنيَا َنهُم مّنَ الْ َقوَا ِ‬
‫ش َركَآ ِئيَ اّلذِينَ‬
‫ل َأيْنَ ُ‬
‫شعُرُونَ (‪ُ )26‬ثمّ َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة ُيخْزِي ِهمْ َويَقُو ُ‬
‫حيْثُ لَ َي ْ‬
‫ن َ‬
‫السّ ْقفُ مِن فَ ْوقِ ِهمْ وََأتَا ُهمُ ا ْل َعذَابُ مِ ْ‬
‫خ ْزيَ ا ْليَ ْومَ وَا ْلسّوءَ عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ (‪)27‬‬
‫ن أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ ِإنّ ا ْل ِ‬
‫ن فِي ِهمْ قَالَ اّلذِي َ‬
‫كُنتُمْ ُتشَاقّو َ‬
‫وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له ‪ .‬فيرجع الوافد ‪ .‬فذلك قوله تعالى‪(:‬وإذا قيل لهم‪:‬ماذا أنزل ربكم ?‬
‫قالوا‪:‬أساطير الولين)‪ .‬فإن كان الوافد ممن عزم ال له الرشاد ‪ ,‬فقالوا له مثل ذلك قال‪:‬بئس الوافد لقومي إن‬
‫كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل ‪ ,‬وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره‬
‫‪ .‬فيدخل مكة ‪ ,‬فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد ? فيقولون‪:‬خيرا ‪. " . .‬‬

‫فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة ‪ ,‬ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من‬
‫المستكبرين الذين ل يريدون الخضوع للحق والبرهان ‪ ,‬لن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان ‪.‬‬
‫فهؤلء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر ‪ ,‬وليسوا أول من يمكر ‪ .‬والسياق يعرض عليهم نهاية‬
‫الماكرين من قبلهم ‪ ,‬ومصيرهم يوم القيامة ‪ ,‬بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لجسادهم حتى يلقوا في‬
‫الخرة جزاءهم ‪ .‬يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة‪:‬‬

‫(قد مكر الذين من قبلهم ‪ .‬فأتى ال بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ‪ ,‬وأتاهم العذاب من حيث‬
‫ل يشعرون ‪ .‬ثم يوم القيامة يخزيهم ‪ ,‬ويقول‪:‬أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ? قال الذين أوتوا العلم‪:‬إن‬
‫الخزي اليوم والسوء على الكافرين ‪ ,‬الذين تتوفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم ‪ ,‬فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء‬
‫‪ .‬بلى إن ال عليم بما كنتم تعملون ‪ .‬فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ‪ ,‬فلبئس مثوى المتكبرين)‪.‬‬

‫(قد مكر الذين من قبلهم)والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف إشارة إلى دقته‬
‫وإحكامه ومتانته وضخامته ‪ .‬ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة ال وتدبيره‪( :‬فأتى ال بنيانهم من القواعد ‪ ,‬فخر‬
‫عليهم السقف من فوقهم)وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل ‪ ,‬يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ‪,‬‬
‫فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها ‪ ,‬والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم‬
‫(وأتاهم العذاب من حيث ل يشعرون)فإذا البناء الذي بنوه وأحكموا واعتمدوا على الحتماء فيه ‪ .‬إذا هو‬
‫مقبرتهم التي تحتويهم ‪ ,‬ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم ‪ .‬وهو الذي اتخذوه للحماية ولم‬
‫يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته !‬

‫إنه مشهد كامل للدمار والهلك ‪ ,‬وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين ‪ ,‬الذين يقفون لدعوة ال ‪,‬‬
‫ويحسبون مكرهم ل يرد ‪ ,‬وتدبيرهم ل يخيب ‪ ,‬وال من ورائهم محيط !‬

‫وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها ‪ .‬ودعوة ال ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون ‪ ,‬ومهما‬
‫يدبر المدبرون ‪ .‬وبين الحين والحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر الذي رسمه القرآن الكريم‪:‬‬
‫(فأتى ال بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ‪ ,‬وأتاهم العذاب من حيث ل يشعرون)‪.‬‬

‫هذا في الدنيا ‪ ,‬وفي واقع الرض‪( :‬ثم يوم القيامة يخزيهم ‪ ,‬ويقول‪:‬أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ?)‪.‬‬

‫ويرتسم مشهد من مشاهد القيامة يقف فيه هؤلء المستكبرون الماكرون موقف الخزي ; وقد انتهى عهد‬
‫الستكبار والمكر ‪ .‬وجاءوا إلى صاحب الخلق والمر ‪ ,‬يسألهم سؤال التبكيت والتأنيب‪( :‬أين شركائي الذين‬
‫كنتم تشاقون فيهم ?)أين شركائي الذين كنتم تخاصمون من أجلهم الرسول والمؤمنين ‪ ,‬وتجادلون فيهم المقرين‬
‫الموحدين ? ‪.‬‬

‫ويسكت القوم من خزي ‪ ,‬لتنطلق ألسنة الذين أوتوا العلم من الملئكة والرسل والمؤمنين وقد أذن ال لهم أن‬
‫يكونوا في هذا اليوم متكلمين ظاهرين‪( :‬قال الذين أوتوا العلم‪:‬إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين)‪. .‬‬

‫ن اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُن ُتمْ َت ْعمَلُونَ (‪)28‬‬


‫س ِهمْ َفأَلْقَوُاْ السَّلمَ مَا ُكنّا َن ْعمَلُ مِن سُو ٍء بَلَى إِ ّ‬
‫اّلذِينَ َتتَ َوفّا ُهمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَن ُف ِ‬
‫خيْرا‬
‫ن اتّقَوْ ْا مَاذَا أَنزَلَ َربّ ُكمْ قَالُو ْا َ‬
‫ن فِيهَا فََل ِبئْسَ َمثْوَى ا ْل ُم َت َكبّرِينَ (‪َ )29‬وقِيلَ لِّلذِي َ‬
‫ج َهنّ َم خَالِدِي َ‬
‫ب َ‬
‫فَا ْدخُلُو ْا َأبْوَا َ‬
‫عدْنٍ َي ْدخُلُو َنهَا َتجْرِي مِن‬
‫جنّاتُ َ‬
‫خ ْيرٌ وََل ِن ْعمَ دَارُ ا ْل ُمتّقِينَ (‪َ )30‬‬
‫خرَةِ َ‬
‫سنَةٌ وََلدَارُ ال ِ‬
‫حَ‬‫سنُو ْا فِي َه ِذهِ ال ّد ْنيَا َ‬
‫حَ‬‫لّّلذِينَ َأ ْ‬
‫ن سَلمٌ‬
‫ن يَقُولُو َ‬
‫طيّبِي َ‬
‫ن َتتَ َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ َ‬
‫ل ْنهَارُ َل ُهمْ فِيهَا مَا َيشَآؤُونَ َكذَِلكَ َيجْزِي الّلهُ ا ْل ُمتّقِينَ (‪ )31‬اّلذِي َ‬
‫ح ِتهَا ا َ‬
‫َت ْ‬
‫جنّةَ ِبمَا كُن ُتمْ َت ْعمَلُونَ (‪)32‬‬
‫عََل ْي ُكمُ ا ْدخُلُو ْا ا ْل َ‬
‫(إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين)‪( . .‬الذين تتوفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم)فيعود السياق بهم خطوة قبل‬
‫خطوة القيامة ‪ .‬يعود بهم إلى ساعة الحتضار ‪ ,‬والملئكة تتوفاهم ظالمين لنفسهم بما حرموها من اليمان‬
‫واليقين ‪ ,‬وبما أوردوها موارد الهلك ‪ ,‬وبما قادوها في النهاية إلى النار والعذاب ‪.‬‬

‫ويرسم مشهدهم في ساعة الحتضار ‪ ,‬وهم قريبو عهد بالرض ‪ ,‬وما لهم فيها من كذب ومكر وكيد‪:‬‬

‫(فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء !)ألقوا السلم ‪ .‬هؤلء المستكبرون ‪ .‬فإذا هم مستسلمون ل يهمون بنزاع أو‬
‫خصام ‪ ,‬إنما يلقون السلم ويعرضون الستسلم ! ثم يكذبون ‪ -‬ولعله طرف من مكرهم في الدنيا ‪ -‬فيقولون‬
‫مستسلمين‪( :‬ما كنا نعمل من سوء)! وهو مشهد مخز وموقف مهين لولئك المستكبرين !‬

‫ويجيئهم الجواب‪(:‬بلى)من العليم بما كان منهم (إن ال عليم بما كنتم تعملون)فل سبيل إلى الكذب والمغالطة‬
‫والتمويه ‪.‬‬

‫ويجيئهم الجزاء جزاء المتكبرين‪(:‬فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ‪ ,‬فلبئس مثوى المتكبرين)!‬

‫الدرس الثاني‪ 32 - 30:‬المتقون طيبون منعمون عند الحتضار وفي الجنة‬

‫وعلى الجانب الخر ‪ . .‬الذين اتقوا ‪ . .‬يقابلون المتكبرين المستكبرين في المبدأ والمصير‪:‬‬

‫وقيل للذين اتقوا‪:‬ماذا أنزل ربكم ? قالوا‪:‬خيرا ‪ .‬للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ‪ ,‬ولدار الخرة خير ‪ ,‬ولنعم‬
‫دار المتقين ‪ .‬جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها النهار ‪ ,‬لهم فيها ما يشاءون ‪ ,‬كذلك يجزي ال المتقين ‪.‬‬
‫الذين تتوفاهم الملئكة طيبين ‪ ,‬يقولون‪:‬سلم عليكم ‪ ,‬ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ‪. .‬‬

‫إن المتقين يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوة ‪ ,‬وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه وتشريع ‪.‬‬
‫فيلخصون المر كله في كلمة‪ :‬قالوا‪:‬خيرا ثم يفصلون هذا الخير حسبما علموا مما أنزل ال‪( :‬للذين أحسنوا في‬
‫هذه الدنيا حسنة)حياة حسنة ومتعة حسنة ‪ ,‬ومكانة حسنة ‪( .‬ولدار الخرة خير)من هذه الدار الدنيا (ولنعم دار‬
‫المتقين)‪ . .‬ثم يفصل ما أجمل ‪ .‬عن هذه الدار ‪ .‬فإذا هي (جنات عدن)للقامة (تجري من تحتها النهار)رخاء‬
‫‪( .‬لهم فيها ما يشاءون)فل حرمان ول كد ‪ ,‬ول حدود للرزق كما هي الحياة الدنيا ‪( . .‬كذلك يجزي ال‬
‫المتقين)‪.‬‬

‫ثم يعود السياق خطوة بالمتقين كما عاد من قبلهم خطوة بالمستكبرين ‪ .‬فإذا هم في مشهد الحتضار وهو مشهد‬
‫هين لين كريم‪( :‬الذين تتوفاهم الملئكة طيبين)طيبة نفوسهم بلقاء ال ‪ ,‬معافين من الكرب وعذاب الموت ‪.‬‬
‫(يقولون‪:‬سلم عليكم)طمأنة لقلوبهم وترحيبا بقدومهم (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)تعجيل لهم بالبشرى ‪ ,‬وهم‬
‫على عتاب الخرة ‪ ,‬جزاء وفاقا على ما كانوا يعملون ‪.‬‬

‫الدرس الثالث ‪:3334‬ظلم المشركين لنفسهم بشركهم بال‬

‫وفي ظل هذا المشهد بشقيه ‪ .‬مشهد الحتضار ومشهد البعث ‪ .‬يعقب السياق بسؤال عن المشركين من‬
‫قريش‪:‬ماذا ينتظرون ? أينتظرون الملئكة فتتوفاهم ? أم ينتظرون أمر ال فيبعثهم ‪ .‬وهذا ما ينتظرهم عند‬
‫الوفاة ‪ ,‬وما ينتظرهم يوم يبعثهم ال ! أو ليس في مصير المكذبين قبلهم وقد شهدوه ممثل في ذينك المشهدين‬
‫عبرة وغناء‪:‬‬

‫هل ينظرون إل أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك ? كذلك فعل الذين من قبلهم ‪ ,‬وما ظلمهم ال ‪ ,‬ولكن‬
‫كانوا أنفسهم يظلمون ‪ .‬فأصابهم سيئات ما عملوا ‪ ,‬وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‪. .‬‬

‫ن مِن قَبِْل ِهمْ َومَا ظََل َمهُمُ الّلهُ وَلـكِن كَانُواْ‬


‫ن ِإلّ أَن َت ْأ ِت َيهُمُ ا ْلمَل ِئكَ ُة أَ ْو َي ْأ ِتيَ َأ ْمرُ َربّكَ َكذَِلكَ َفعَلَ اّلذِي َ‬
‫ظرُو َ‬
‫هَلْ يَن ُ‬
‫س َت ْهزِئُونَ (‪َ )34‬وقَالَ اّلذِينَ َأشْ َركُواْ لَوْ‬
‫عمِلُواْ َوحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ َي ْ‬
‫س ّيئَاتُ مَا َ‬
‫سهُ ْم يَظِْلمُونَ (‪ )33‬فََأصَابَ ُهمْ َ‬
‫أَن ُف َ‬
‫ن مِن َقبِْل ِهمْ‬
‫شيْءٍ َكذَِلكَ َفعَلَ اّلذِي َ‬
‫حرّ ْمنَا مِن دُو ِنهِ مِن َ‬
‫ل َ‬
‫شيْ ٍء ّنحْنُ وَل آبَا ُؤنَا َو َ‬
‫ع َب ْدنَا مِن دُونِ ِه مِن َ‬
‫شَاء الّلهُ مَا َ‬
‫ل ا ْلبَلغُ ا ْل ُمبِينُ (‪)35‬‬
‫َفهَلْ عَلَى ال ّرسُلِ ِإ ّ‬

‫وعجيب أمر الناس ‪ .‬فإنهم يرون ما حل بمن قبلهم ممن يسلكون طريقهم ‪ ,‬ثم يظلون سادرين في الطريق غير‬
‫متصورين أن ما أصاب غيرهم يمكن أن يصيبهم ‪ ,‬وغير مدركين أن سنة ال تمضي وفق ناموس مرسوم ‪,‬‬
‫وأن المقدمات تعطي دائما نتائجها ‪ ,‬وأن العمال تلقى دائما جزاءها ‪ ,‬وأن سنة ال لن تحابيهم ولن تتوقف‬
‫إزاءهم ‪ ,‬ولن تحيد عن طريقهم ‪.‬‬

‫(وما ظلمهم ال ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)فقد آتاهم ال حرية التدبر والتفكر والختيار ‪ ,‬وعرض عليهم آياته‬
‫في الفاق وفي أنفسهم ‪ ,‬وحذرهم العاقبة ‪ ,‬ووكلهم إلى عملهم وإلى سنته الجارية ‪ .‬فما ظلمهم في مصيرهم‬
‫المحتوم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‪.‬‬

‫وما قسا عليهم في عقوبة ‪ ,‬إنما قست عليهم سيئات أعمالهم ‪ ,‬لنهم أصيبوا بها أي بنتائجها الطبيعية‬
‫وجرائرها‪(:‬فأصابهم سيئات ما عملوا ‪ ,‬وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون)‪ . .‬ولهذا التعبير وأمثاله دللة فإنهم‬
‫ل يعاقبون بشيء خارج عن ثمرة أعمالهم الذاتية ‪ .‬وإنهم ليصابون بجرائر سلوكهم التلقائية ‪ .‬وهم ينتكسون‬
‫إلى أدنى من رتبة البشرية بما يعملون ‪ ,‬فيجازون بما هو أدنى من رتبة البشرية في دركات المقام المهين ‪,‬‬
‫والعذاب الليم ‪.‬‬
‫الدرس الرابع‪ 37 - 35:‬تصويب فهم المشركين الخاطيء للمشيئة اللهية‬

‫ومقولة جديدة من مقولت المشركين عن علة شركهم وملبساته‪:‬‬

‫وقال الذين أشركوا‪:‬لو شاء ال ما عبدنا من دونه من شيء نحن ول آباؤنا ‪ ,‬ول حرمنا من دونه من شيء ‪.‬‬
‫كذلك فعل الذين من قبلهم ‪ .‬فهل على الرسل إل البلغ المبين ? ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا ال‬
‫واجتنبوا الطاغوت ; فمنهم من هدى ال ‪ ,‬ومنهم من حقت عليه الضللة ‪ .‬فسيروا فى الرض فانظروا كيف‬
‫كان عاقبة المكذبين ‪. .‬‬

‫إنهم يحيلون شركهم وعبادتهم آلهة من دون ال هم وآباؤهم ‪ ,‬وأوهام الوثنية التي يزاولونها من تحريمهم‬
‫لبعض الذبائح وبعض الطعمة على أنفسهم بغير شريعة من ال ‪ . .‬إنهم يحيلون هذا كله على إرادة ال‬
‫ومشيئته ‪ .‬فلو شاء ال ‪ -‬في زعمهم ‪ -‬أل يفعلوا شيئا من هذا لمنعهم من فعله ‪.‬‬

‫وهذا وهم وخطأ في فهم معنى المشيئة اللهية ‪ .‬وتجريد للنسان من أهم خصائصه التي وهبها له ال‬
‫لستخدامها في الحياة ‪.‬‬

‫فال سبحانه ل يريد لعباده الشرك ‪ ,‬ول يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات ‪ .‬وإرادته هذه ظاهرة‬
‫منصوص عليها في شرائعه ‪ ,‬على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده فقاموا به وأدوه‪( :‬ولقد بعثنا في كل‬
‫أمة رسول أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت)فهذا أمره وهذه إرادته لعباده ‪ .‬وال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ل يأمر الناس‬
‫بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ‪ ,‬أو دفعهم قسرا إلى مخالفته ‪ .‬وآية عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا‬
‫ما أخذ به المكذبين (فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)‪.‬‬

‫إنما شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلل ‪ ,‬وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار‬
‫أي الطريقين ; ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد التجاهين ‪ ,‬بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما‬
‫يلمس العين والذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار ‪ . .‬ثم شاءت رحمة ال‬
‫بعباده بعد هذا كله أل يدعهم لهذا العقل وحده ‪ ,‬فوضع لهذا العقل ميزانا ثابتا في شرائعه التي‬

‫ن حَقّتْ عََليْهِ‬
‫ن َهدَى اللّهُ َو ِم ْنهُم مّ ْ‬
‫ت َفمِ ْنهُم مّ ْ‬
‫ج َت ِنبُواْ الطّاغُو َ‬
‫ع ُبدُو ْا اللّهَ وَا ْ‬
‫ل أَنِ ا ْ‬
‫ل ُأمّ ٍة رّسُو ً‬
‫وَلَ َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُ ّ‬
‫ن اللّ َه لَ َي ْهدِي‬
‫ظرُواْ َك ْيفَ كَانَ عَا ِقبَةُ ا ْل ُم َك ّذبِينَ (‪ )36‬إِن َتحْرِصْ عَلَى ُهدَا ُهمْ َفإِ ّ‬
‫لرْضِ فَان ُ‬
‫الضّللَةُ َفسِيرُو ْا فِي ا َ‬
‫مَن ُيضِلّ َومَا َلهُم مّن نّاصِرِينَ (‪)37‬‬
‫جاءت بها رسله ‪ ,‬يثوب إليه العقل كلما غم عليه المر ‪ ,‬ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق‬
‫الميزان الثابت الذي ل تعصف به الهواء ‪ .‬ولم يجعل الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى اليمان ‪ ,‬ولكن‬
‫مبلغين ليس عليهم إل البلغ ‪ ,‬يأمرون بعبادة ال وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة‬
‫وسلطان‪:‬‬

‫(ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت)‪. .‬‬

‫ففريق استجاب‪( :‬فمنهم من هدى ال)وفريق شرد في طريق الضلل (ومنهم من حقت عليه الضللة)‪ . .‬وهذا‬
‫الفريق وذلك كلهما لم يخرج على مشيئة ال ‪ ,‬وكلهما لم يقسره ال قسرا على هدى أو ضلل ‪ ,‬إنما سلك‬
‫طريقه الذي شاءت إرادة ال أن تجعل إرادته حرة في سلوكه ‪ ,‬بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي‬
‫الفاق ‪.‬‬

‫كذلك ينفي القرآن الكريم بهذا النص وهم الجبار الذي لوح به المشركون ‪ ,‬والذي يستند إليه كثير من العصاة‬
‫والمنحرفين ‪ .‬والعقيدة السلمية عقيدة ناصعة واضحة في هذه النقطة ‪ .‬فال يأمر عباده بالخير وينهاهم عن‬
‫الشر ‪ ,‬ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم ‪ .‬فل مجال بعد هذا لن‬
‫يقال‪:‬إن إرادة ال تتدخل لترغمهم على النحراف ثم يعاقبهم عليه ال ! إنما هم متروكون لختيار طريقهم‬
‫وهذه هي إرادة ال ‪ .‬وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر ‪ .‬من هدى ومن ضلل ‪ .‬يتم وفق مشيئة ال على‬
‫هذا المعنى الذي فصلناه ‪.‬‬

‫ومن ثم يعقب على هذا بخطاب إلى الرسول [ ص ] يقرر سنة ال في الهدى والضلل‪:‬‬

‫(إن تحرص على هداهم فإن ال ل يهدي من يضل وما لهم من ناصرين)‪.‬‬

‫فليس الهدى أو الضلل بحرص الرسول على هدى القوم أو عدم حرصه ‪ ,‬فوظيفته البلغ ‪ .‬أما الهدى أو‬
‫الضلل فيمضي وفق سنة ال وهذه السنة ل تتخلف ول تتغير عواقبها ‪ ,‬فمن أضله ال لنه استحق الضلل‬
‫وفق سنة ال ‪ ,‬فإن ال ليهديه ‪ ,‬لن ل سننا تعطي نتائجها ‪ .‬وهكذا شاء ‪ .‬وال فعال لما يشاء ‪( .‬وما لهم من‬
‫ناصرين)ينصرونهم من دون ال ‪.‬‬

‫الدرس الخامس‪ 40 - 38:‬تفنيد شبهات المشركين حول البعث وبيان حكمته‬

‫ومقولة ثالثة من مقولت المنكرين المستكبرين‪:‬‬

‫(وأقسموا بال جهد أيمانهم ل يبعث ال من يموت ‪ .‬بلى ‪ .‬وعدا عليه حقا ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل يعلمون ‪.‬‬
‫ليبين لهم الذي يختلفون فيه ‪ ,‬وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ‪ .‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له‪:‬كن‬
‫‪ .‬فيكون)‪. .‬‬
‫ولقد كانت قضية البعث دائما هي مشكلة العقيدة عند كثير من القوام منذ أن أرسل ال رسله للناس ‪ ,‬يأمرونهم‬
‫بالمعروف وينهونهم عن المنكر ‪ ,‬ويخوفونهم حساب ال يوم البعث والحساب ‪.‬‬

‫وهؤلء المشركون من قريش أقسموا بال جهد أيمانهم ل يبعث ال من يموت ! فهم يقرون بوجود ال ولكنهم‬
‫ينفون عنه بعث الموتى من القبور ‪ .‬يرون هذا البعث أمرا عسيرا بعد الموت والبلى وتفرق الشلء‬
‫والذرات ! ‪.‬‬

‫ن َأ ْك َثرَ النّاسِ لَ َيعَْلمُونَ (‪)38‬‬


‫ل َي ْبعَثُ الّلهُ مَن َيمُوتُ بَلَى َوعْدا عََل ْيهِ حَقّا وَلـكِ ّ‬
‫ج ْهدَ َأ ْيمَا ِنهِمْ َ‬
‫سمُواْ بِاللّ ِه َ‬
‫وََأ ْق َ‬
‫شيْءٍ ِإذَا َأ َر ْدنَاهُ أَن نّقُولَ َلهُ‬
‫ن كَ َفرُواْ َأ ّن ُهمْ كَانُواْ كَا ِذبِينَ (‪ِ )39‬إ ّنمَا قَوُْلنَا ِل َ‬
‫ن فِيهِ وَِل َيعَْلمَ اّلذِي َ‬
‫ختَلِفُو َ‬
‫ِل ُي َبيّنَ َل ُهمُ اّلذِي َي ْ‬
‫جرُ الخِرَةِ َأ ْكبَ ُر لَوْ‬
‫سنَةً وََلَأ ْ‬
‫حَ‬‫ن هَاجَرُو ْا فِي اللّ ِه مِن َب ْعدِ مَا ظُِلمُواْ َل ُن َب ّو َئ ّنهُمْ فِي ال ّد ْنيَا َ‬
‫كُن فَ َيكُونُ (‪ )40‬وَاّلذِي َ‬
‫ص َبرُواْ وَعَلَى َر ّب ِهمْ َيتَ َوكّلُونَ (‪)42‬‬
‫كَانُواْ َيعَْلمُونَ (‪ )41‬اّلذِينَ َ‬

‫وغفلوا عن معجزة الحياة الولى ‪ . .‬وغفلوا عن طبيعة القدرة اللهية ‪ ,‬وأنها ل تقاس إلى تصورات البشر‬
‫وطاقاتهم ‪ .‬وأن إيجاد شيء ل يكلف تلك القدرة شيئا ; فيكفي أن تتوجه الرادة إلى كون الشيء ليكون ‪.‬‬

‫وغفلوا كذلك عن حكمة ال في البعث ‪ .‬وهذه الدنيا ل يبلغ أمر فيها تمامه ‪ .‬فالناس يختلفون حول الحق‬
‫والباطل ‪ ,‬والهدى والضلل ‪ ,‬والخير والشر ‪ .‬وقد ل يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في هذه الرض لن إرادة‬
‫ال شاءت أن يمتد ببعضهم الجل ‪ ,‬وأل يحل بهم عذابه الفاصل في هذه الديار ‪ .‬حتى يتم الجزاء في الخرة‬
‫ويبلغ كل أمر تمامه هناك ‪.‬‬

‫والسياق يرد على تلك المقولة الكافرة ‪ ,‬ويكشف ما يحيط بها في نفوس القوم من شبهات فيبدأ بالتقرير‪( :‬بلى ‪.‬‬
‫وعدا عليه حقا)ومتى وعد ال فقد كان ما وعد به ل يتخلف بحال من الحوال (ولكن أكثر الناس ل‬
‫يعلمون)حقيقة وعد ال ‪.‬‬

‫وللمر حكمته‪(:‬ليبين لهم الذي يختلفون فيه ‪ ,‬وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين)فيما ادعوا أنهم على الهدى‬
‫; وفيما زعموا من كذب الرسل ‪ ,‬ومن نفي الخرة ; وفيما كانوا فيه من اعتقاد ومن فساد ‪.‬‬

‫والمر بعد ذلك هين‪(:‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له‪:‬كن ‪ .‬فيكون)‪. .‬‬

‫والبعث شيء من هذه الشياء يتم حالما تتوجه إليه الرادة دون إبطاء ‪.‬‬

‫الدرس السادس‪ 42 - 41:‬ثواب المهاجرين الصابرين‬


‫وهنا يعرض في الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين ‪ ,‬لمحة عن المؤمنين المصدقين ‪ ,‬الذين يحملهم يقينهم في‬
‫ال والخرة على هجر الديار والموال ‪ ,‬في ال ‪ ,‬وفي سبيل ال‪:‬‬

‫(والذين هاجروا في ال من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ‪ ,‬ولجر الخرة أكبر لو كانوا يعلمون ‪.‬‬
‫الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)‪. .‬‬

‫فهؤلء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم ‪ ,‬وتعروا عما يملكون وعما يحبون ‪ ,‬وضحوا بدارهم وقرب‬
‫عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم ‪ . .‬هؤلء يرجون في الخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا ‪ .‬وقد‬
‫عانوا الظلم وفارقوه ‪ .‬فإذا كانوا قد خسروا الديار ف (لنبوئنهم في الدنيا حسنة)و لنسكننهم خيرا مما فقدوا‬
‫(ولجر الخرة أكبر)لو كان الناس يعلمون ‪ .‬هؤلء (الذين صبروا)واحتملوا ما احتملوا (وعلى ربهم‬
‫يتوكلون)ل يشركون به أحدا في العتماد والتوجه والتكلن ‪.‬‬

‫الدرس السابع‪ 44 - 43:‬إثبات نبوة محمد ونبوات النبياء السابقين وسؤال أهل الكتاب‬

‫ثم يعود السياق إلى بيان وظيفة الرسل التي أشار عليها عند الرد على مقولة المشركين عن إرادة ال الشرك‬
‫لهم ولبائهم ‪ .‬يعود إليها لبيان وظيفة الرسول الخير ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليه ‪ -‬وما معه من الذكر‬
‫الخير ‪ .‬وذلك تمهيدا لنذار المكذبين به ما يتهددهم من هذا التكذيب‪:‬‬

‫(وما أرسلنا من قبلك إل رجال نوحي إليهم ‪ ,‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون ‪ .‬بالبينات والزبر ‪ ,‬وأنزلنا‬
‫إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ‪ ,‬ولعلهم يتفكرون)‪. .‬‬

‫وما أرسلنا من قبلك إل رجال ‪ . .‬لم نرسل ملئكة ‪ ,‬ولم نرسل خلقا آخر ‪ .‬رجال مختارين (نوحي إليهم)كما‬
‫أوحينا إليك ‪ ,‬ونكل إليهم التبليغ كما وكلنا إليك ‪( .‬فاسألوا أهل الذكر)أهل الكتاب الذين جاءتهم‬

‫سأَلُواْ أَهْلَ ال ّذ ْكرِ إِن كُن ُتمْ لَ َتعَْلمُونَ (‪ )43‬بِا ْل َب ّينَاتِ وَال ّز ُبرِ وَأَنزَ ْلنَا‬
‫ل ِرجَالً نّوحِي إَِل ْي ِهمْ فَا ْ‬
‫َومَا َأ ْرسَ ْلنَا مِن قَبِْلكَ ِإ ّ‬
‫سفَ اللّ ُه ِب ِهمُ‬
‫خِ‬‫س ّيئَاتِ أَن َي ْ‬
‫ن َم َكرُواْ ال ّ‬
‫إَِل ْيكَ ال ّذ ْكرَ ِل ُت َبيّنَ لِلنّاسِ مَا ُنزّلَ إَِل ْي ِهمْ وََلعَّل ُهمْ َيتَ َف ّكرُونَ (‪َ )44‬أ َفَأمِنَ اّلذِي َ‬
‫خذَهُمْ‬
‫جزِينَ (‪ )46‬أَ ْو َي ْأ ُ‬
‫خذَ ُهمْ فِي تَقَّل ِبهِ ْم فَمَا هُم ِب ُمعْ ِ‬
‫ش ُعرُونَ (‪َ )45‬أوْ َي ْأ ُ‬
‫حيْثُ لَ َي ْ‬
‫ن َ‬
‫ب مِ ْ‬
‫لرْضَ أَ ْو َي ْأ ِت َيهُمُ ا ْل َعذَا ُ‬
‫اَ‬
‫شيْ ٍء َيتَ َف ّيأُ ظِلَلُهُ عَنِ ا ْل َيمِينِ‬
‫خ ّوفٍ َفإِنّ َر ّبكُ ْم لَرؤُوفٌ ّرحِيمٌ (‪َ )47‬أوَ َلمْ َيرَوْ ْا إِلَى مَا خََلقَ الّل ُه مِن َ‬
‫عَلَى َت َ‬
‫لرْضِ مِن دَآبّةٍ وَا ْلمَل ِئكَةُ وَ ُهمْ لَ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ا َ‬
‫جدُ مَا فِي ال ّ‬
‫سُ‬‫سجّدا لِلّهِ وَ ُه ْم دَاخِرُونَ (‪ )48‬وَلِّلهِ َي ْ‬
‫شمَآئِلِ ُ‬
‫وَا ْل ّ‬
‫ن َربّهُم مّن فَ ْو ِقهِمْ َويَ ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤ َمرُونَ (‪)50‬‬
‫ستَ ْك ِبرُونَ (‪َ )49‬يخَافُو َ‬
‫َي ْ‬
‫الرسل من قبل ‪ ,‬أكانوا رجال أم كانوا ملئكة أم خلقا آخر ‪ .‬اسألوهم (إن كنتم ل تعلمون)‪ .‬أرسلناهم بالبينات‬
‫وبالكتب [ والزبر الكتب المتفرقة ] (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)سواء منهم السابقون أهل‬
‫الكتاب الذين اختلفوا في كتابهم ‪ ,‬فجاء القرآن ليفصل في هذا الخلف ‪ .‬وليبين لهم وجه الحق فيه ‪ .‬أو‬
‫المعاصرون الذين جاءهم القرآن والرسول [ ص ] يبينه لهم ويشرحه بفعله وقوله (ولعلهم يتفكرون)في آيات‬
‫ال وآيات القرآن فإنه يدعو دائما إلى التفكر والتدبر ‪ ,‬وإلى يقظة الفكر والشعور ‪.‬‬

‫الدرس الثامن‪ 50 - 45:‬التخويف من القدوم المفاجيء لعذاب ال والدعوة إلى الخضوع والعبادة ل‬

‫ويختم هذا الدرس الذي بدأه بالشارة إلى الذين يستكبرون ويمكرون ‪ . .‬ينتهي بلمسة وجدانية بعد لمسة‪:‬‬

‫أولهما للتخويف من مكر ال الذي ل يأمنه أحد في ساعة من ليل أو نهار ‪ .‬والثانية لمشاركة هذا الوجود في‬
‫عبادة ال وتسبيحه ‪ .‬فليس إل النسان هو الذي يستكبر ويمكر ‪ .‬وكل ما حوله يحمد ويسبح ‪.‬‬

‫(أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف ال بهم الرض ‪ ,‬أو يأتيهم العذاب من حيث ل يشعرون ? أو يأخذهم‬
‫في تقلبهم فما هم بمعجزين ? أو يأخذهم على تخوف ? فإن ربكم لرؤوف رحيم)‪.‬‬

‫أولم يروا إلى ما خلق ال من شيء يتفيأ ظلله عن اليمين والشمائل سجدا ل وهم داخرون ?‬

‫(ول يسجد ما في السماوات وما في الرض من دابة ‪ ,‬والملئكة ‪ ,‬وهم ل يستكبرون ‪ ,‬يخافون ربهم من‬
‫فوقهم ‪ ,‬ويفعلون ما يؤمرون ‪. .‬‬

‫وأعجب العجب في البشر أن يد ال تعمل من حولهم ‪ ,‬وتأخذ بعضهم أخذ عزيز مقتدر ‪ ,‬فل يغني عنهم‬
‫مكرهم وتدبيرهم ‪ ,‬ول تدفع عنهم قوتهم وعلمهم ومالهم ‪ . .‬وبعد ذلك يظل الذين يمكرون يمكرون ‪ ,‬ويظل‬
‫الناجون آمنين ل يتوقعون أن يؤخذوا كما أخذ من قبلهم ومن حولهم ‪ ,‬ول يخشون أن تمتد إليهم يد ال في‬
‫صحوهم أو في منامهم ‪ ,‬في غفلتهم أو في استيقاظهم والقرآن الكريم يلمس وجدانهم من هذا الجانب ليثير‬
‫حساسيتهم للخطر المتوقع ‪ ,‬الذي ليغفل عنه إل الخاسرون‪:‬‬

‫(أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف ال بهم الرض أو يأتيهم العذاب من حيث ل يشعرون)? ‪.‬‬

‫أو يأخذهم وهم يتقلبون في البلد ‪ ,‬من بلد إلى بلد للتجارة والسياحة ‪( ,‬فما هم بمعجزين)ل ‪ ,‬ول يبعد عليه‬
‫مكانهم في حل أو ترحال ‪( .‬أو يأخذهم على تخوف)فإن يقظتهم وتوقعهم ل يرد يد ال عنهم فهو قادر على‬
‫أخذهم وهم متأهبون قدرته على أخذهم وهم ل يشعرون ? ولكن ال رؤوف رحيم ‪.‬‬

‫أفأمن الذين مكروا السيئات أن يأخذهم ال ? فهم لجون في مكرهم سادرون في غيهم ل يثوبون ول يتقون ‪.‬‬

‫ذلك والكون من حولهم بنواميسه وظواهره يوحي باليمان ‪ ,‬و يوحي بالخشوع‪(:‬أولم يروا إلى ما خلق ال من‬
‫شيء يتفيأ ظلله عن اليمين والشمائل سجدا ل وهم داخرون)‪. .‬‬
‫ومشهد الظلل تمتد وتتراجع ‪ ,‬تثبت وتتمايل ‪ ,‬مشهد موح لمن يفتح قلبه ‪ ,‬ويوقظ حسه ‪ ,‬ويتجاوب مع الكون‬
‫حوله ‪.‬‬

‫والسياق القرآني يعبر عن خضوع الشياء لنواميس ال بالسجود ‪ -‬وهو أقصى مظاهر الخضوع ‪ -‬ويوجه‬
‫إلى حركة الظلل المتفيئة ‪ -‬أي الراجعة بعد امتداد ‪ -‬وهي حركة لطيفة خفية ذات دبيب في المشاعر وئيد‬
‫عميق ‪ .‬ويرسم المخلوقات داخرة أي خاضعة خاشعة طائعة ‪ .‬ويضم إليها ما في السماوات وما في الرض‬
‫مندابة ‪ .‬ويضيف إلى الحشد الكوني ‪ . .‬الملئكة فإذا مشهد عجيب من الشياء والظلل والدواب ‪ .‬ومعهم‬
‫الملئكة ‪ .‬في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود ‪ .‬ل يستكبرون عن عبادة ال ول يخالفون عن أمره ‪.‬‬
‫والمنكرون المستكبرون من بني النسان وحدهم شواذ في هذا المقام العجيب ‪.‬‬

‫وبهذا المشهد يختم الدرس الذي بدأ بالشارة إلى المنكرين المستكبرين ‪ ,‬ليفردهم في النهاية بالنكار‬
‫والستكبار في مشهد الوجود ‪. . .‬‬

‫الوحدة الثالثة‪ 76 - 51:‬الموضوع‪:‬الدلة على توحيد اللوهية من خلل الكون والحياة والنسان وبعض نعم‬
‫ال على الناس مقدمة الوحدة‬

‫هذا الشوط الثالث في قضية اللوهية الواحدة التي ل تتعدد ‪ ,‬يبدأ فيقرر وحده الله ‪ ,‬ووحدة المالك ‪ ,‬ووحدة‬
‫المنعم في اليات الثلث الولى متواليات ‪ ,‬ويختم بمثلين يضربهما للسيد المالك الرازق ‪ ,‬والعبد المملوك ل‬
‫يقدر على شيء ‪ ,‬ول يملك شيئا ‪ . .‬هل يستوون ? فكيف يسوي ال المالك الرازق بمن ل يقدر ول يملك ول‬
‫يرزق ? فيقال‪:‬هذا إله وهذا إله ?! ‪.‬‬

‫وفي خلل الدرس يعرض نموذجا بشريا للناس حين يصيبهم الضر فيجأرون إلى ال وحده ‪ ,‬حتى إذا كشف‬
‫عنهم الضر راحوا يشركون به غيره ! ‪.‬‬

‫ويعرض كذلك صورا من أوهام الوثنية وخرافاتها ‪ .‬في تخصيص بعض ما رزقهم ال للهتهم المدعاة ‪ ,‬في‬
‫حين أنهم ل يردون شيئا مما يملكونه على عبيدهم ول يقاسمونهم إياه ! وفي نسبة البنات إلى ال على حين‬
‫يكرهون ولدة البنات لهم‪(:‬وإذا بشر أحدهم بالنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)! وفي الوقت الذي‬

‫لرْضِ وَلَهُ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫حدٌ فَإيّايَ فَارْ َهبُونِ (‪ )51‬وَلَ ُه مَا فِي ا ْل ّ‬
‫ن ِإ ّنمَا هُ َو إِلهٌ وَا ِ‬
‫ل َت ّتخِذُو ْا إِلـ َهيْنِ ا ْث َنيْ ِ‬
‫َوقَالَ الّلهُ َ‬
‫الدّينُ وَاصِبا َأ َف َغ ْيرَ اللّ ِه َتتّقُونَ (‪)52‬‬
‫يجعلون ل ما يكرهون تروح ألسنتهم تتشدق بأن لهم الحسنى ‪ ,‬وأنهم سينالون على ما فعلوا خيرا ! وهذه‬
‫الوهام التي ورثوها من المشركين قبلهم هي التي جاءهم الرسول [ ص ] ليبين لهم الحقيقة فيها هدى ورحمة‬
‫للمؤمنين ‪.‬‬

‫ثم يأخذ في عرض نماذج من صنع اللوهية الحقة في تأملها عظة وعبرة فال وحده هو القادر عليها الموجد‬
‫لها ‪ ,‬وهي هي دلئل اللوهية ل سواها‪:‬فال أنزل من السماء ماء فأحيا به الرض بعد موتها ‪ .‬وال يسقي‬
‫الناس ‪ -‬غير الماء ‪ -‬لبنا سائغا يخرج من بطون النعام من بين فرث ودم ‪ .‬وال يطلع للناس ثمرات النخيل‬
‫والعناب يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا ‪ .‬وال أوحى إلى النحل لتتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما‬
‫يعرشون ‪ ,‬ثم تخرج عسل فيه شفاء للناس ‪ . .‬ثم ال يخلق الناس ويتوفاهم ويؤجل بعضهم حتى يشيخ فينسى‬
‫ما تعلمه ويرتد ساذجا ل يعلم شيئا ‪ .‬وال فضل بعضهم على بعض في الرزق ‪ .‬وال جعل لهم من أنفسهم‬
‫أزواجا وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ‪ . . .‬وهم بعد هذا كله يعبدون من دون ال ما ل يملك لهم رزقا‬
‫في السماوات والرض ول يقدرون على شيء ‪ .‬ويجعلون ل الشباه والمثال ! ‪.‬‬

‫هذه اللمسات كلها في أنفسهم وفيما حولهم ‪ ,‬يوجههم إليها لعلهم يستشعرون القدرة وهي تعمل في ذواتهم وفي‬
‫أرزاقهم وفي طعامهم وفي شرابهم ‪ ,‬وفي كل شيء حولهم ‪ . .‬ثم يختمها بالمثلين الواضحين الموضحين اللذين‬
‫أشرنا إليهما آنفا ‪ .‬فهي حملة على الوجدان البشري والعقل البشري ‪ ,‬ذات إيقاعات عميقة ‪ ,‬تضرب على‬
‫أوتار حساسة في النفس البشرية يصعب أل تهتز لها وتتأثر وتستجيب ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 55 - 51:‬دعوة إلى توحيد اللوهية لن ال هو المالك المنعم الضار النافع‬

‫وقال ال‪:‬ل تتخذوا إلهين اثنين ‪ ,‬إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ‪ .‬وله ما في السماوات والرض وله الدين‬
‫واصبا ‪ .‬أفغير ال تتقون ‪ .‬وما بكم من نعمة فمن ال ; ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ‪ .‬ثم إذا كشف الضر‬
‫عنكم إذا فريق منكم بربهم يشكرون ‪ ,‬ليكفروا بما آتيناهم ‪ ,‬فتمتعوا فسوف تعلمون ‪. .‬‬

‫لقد أمر ال أل يتخذ الناس إلهين اثنين ‪ .‬إنما هو إله واحد ل ثاني له ‪ .‬ويأخذ التعبير أسلوب التقرير والتكرير‬
‫فيتبع كلمة إلهين بكلمة اثنين ‪ ,‬ويتبع النهي بالقصر إنما هو إله واحد ‪ .‬ويعقب على النهي والقصر بقصر آخر‬
‫(فإياي فارهبون)دون سواي بل شبيه أو نظير ‪ .‬ويذكر الرهبة زيادة في التحذير ‪ . .‬ذلك أنها القضية‬
‫الساسية في العقيدة كلها ‪ ,‬ل تقوم إل بها ‪ ,‬ول توجد إل بوجودها في النفس واضحة كاملة دقيقة ل لبس فيها‬
‫ول غموض ‪.‬‬

‫إنما هو إله واحد ‪ . .‬وإنما هو كذلك مالك واحد‪( :‬وله ما في السماوات والرض)‪ . .‬ودائن واحد (وله الدين‬
‫واصبا)[ أي واصل منذ ما وجد الدين ‪ ,‬فل دين إل دينه ] ومنعم واحد‪( :‬وما بكم من نعمة فمن ال)‪ .‬وفطرتكم‬
‫تلجأ إليه وحده ساعة العسرة والضيق ‪ ,‬وتنتفي عنها أوهام الشرك والوثنية فل تتوجه إل إليه دون شريك‪( :‬ثم‬
‫إذا مسكم الضر فإليه تجأرون)وتصرخون لينجيكم مما أنتم فيه ‪.‬‬

‫وهكذا يتفرد سبحانه وتعالى باللوهية والملك والدين والنعمة والتوجه ; وتشهد فطرة البشر بهذا كله حين‬
‫يصهرها الضر وينفض عنها أوشاب الشرك ‪ . .‬ومع هذا فإن فريقا من البشر يشركون بال بعد توحيده حالما‬
‫ينجيهم من الضر المحيق ! فينتهوا إلى الكفر بنعمة ال عليهم ‪ ,‬وبالهدى الذي آتاهم ‪ . .‬فلينظروا إذن ما‬
‫يصيبهم بعد المتاع القصير‪( :‬فتمتعوا فسوف تعلمون)‪. .‬‬

‫شفَ الضّرّ عَن ُكمْ ِإذَا َفرِيقٌ مّنكُم‬


‫جأَرُونَ (‪ُ )53‬ثمّ ِإذَا َك َ‬
‫ضرّ َفإِلَيْهِ َت ْ‬
‫س ُكمُ ال ّ‬
‫ن اللّ ِه ُثمّ ِإذَا َم ّ‬
‫َومَا ِبكُم مّن ّن ْعمَ ٍة فَمِ َ‬
‫ل َيعَْلمُونَ َنصِيبا ّممّا‬
‫جعَلُونَ ِلمَا َ‬
‫ف َتعَْلمُونَ (‪َ )55‬و َي ْ‬
‫شرِكُونَ (‪ِ )54‬ل َيكْ ُفرُواْ ِبمَا آ َت ْينَا ُهمْ َفتَ َم ّتعُواْ فَسَ ْو َ‬
‫ِبرَ ّب ِهمْ ُي ْ‬
‫ش َتهُونَ (‪)57‬‬
‫س ْبحَانَهُ وََلهُم مّا َي ْ‬
‫ن لِلّ ِه ا ْل َبنَاتِ ُ‬
‫جعَلُو َ‬
‫عمّا كُن ُتمْ تَ ْف َترُونَ (‪َ )56‬و َي ْ‬
‫سأَلُنّ َ‬
‫رَ َز ْقنَاهُمْ تَاللّ ِه َل ُت ْ‬

‫هذا النموذج الذي يرسمه التعبير هنا (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ‪ ,‬ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق‬
‫منكم بربهم يشكرون)‪ . .‬نموذج متكرر في البشرية ‪ .‬ففي الضيق تتوجه القلوب إلى ال ‪ ,‬لنها تشعر بالفطرة‬
‫إل عاصم لها سواه ‪ .‬وفي الفرج تتلهى بالنعمة والمتاع ‪ ,‬فتضعف صلتها بال ‪ ,‬وتزيغ عنه ألوانا من الزيغ‬
‫تبدو في الشرك به وتبدو كذلك في صور شتى من تأليه قيم وأوضاع ولو لم تدع باسم الله ! ‪.‬‬

‫ولقد يشتد انحراف الفطرة وفسادها ‪ ,‬فإذا بعضهم في ساعة العسرة ل يلجأ إلى ال ; ولكن يلجأ إلى بعض‬
‫مخاليقه يدعوها للنصرة والنقاذ والنجاة ‪ ,‬بحجة أنها ذات جاه أو منزلة عند ال ‪ ,‬أو بغير هذه الحجة في‬
‫بعض الحيان ‪ ,‬كالذين يدعون الولياء لنقاذهم من مرض أو شدة أو كرب ‪ . .‬فهؤلء أشد انحرافا من‬
‫مشركي الجاهلية الذين يرسم لهم القرآن ذلك النموذج الذي رأيناه ! ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 56:‬ذم الكفار في تحريمه مالم يحرمه ال وتوجيهه لغير ال‬

‫(ويجعلون لما ل يعلمون نصيبا مما رزقناهم)‪ .‬فإذا هم يحرمون على أنفسهم بعض النعام ‪ .‬ل يركبونها أول‬
‫يذوقون لحومها ‪ .‬أو يبيحونها للذكور دون الناث ‪ -‬كما أسلفنا في سورة النعام ‪ -‬باسم اللهة المدعاة ; التي‬
‫ل يعلمون عنها شيئا ‪ ,‬إنما هي أوهام موروثة من الجاهلية الولى ‪ .‬وال هو الذي رزقهم هذه النعمة التي‬
‫يجعلون لما ل يعلمون نصيبا منها ‪ ,‬فليست هي من رزق اللهة المدعاة لهم ليردوها عليها ‪ ,‬إنما هي من‬
‫رزق ال ‪ ,‬الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه ! ‪.‬‬
‫وهكذا تبدو المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء ‪ . .‬الرزق كله من ال ‪ .‬وال يأمر أل يعبد سواه‬
‫فهم يخالفون عن أمره فيتخذون اللهة ‪ .‬وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما نهاهم عنه ! وبهذا تتبدى المفارقة‬
‫واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة ! ‪.‬‬

‫وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت ‪ ,‬يجعلون نصيبا من رزق ال لهم موقوفا على ما يشبه‬
‫آلهة الجاهلية ‪ .‬ما يزال بعضهم يطلق عجل يسميه "عجل السيد البدوي" يأكل من حيث يشاء ل يمنعه أحد ‪,‬‬
‫ول ينتفع به أحد ‪ ,‬حتى يذبح على اسم السيد البدوي ل على اسم ال ! وما يزال بعضهم ينذرون للولياء‬
‫ذبائح يخرجونها من ذمتهم ل ل ‪ ,‬ول باسم ال ‪ ,‬ولكن باسم ذلك الولي ‪ ,‬على ما كان أهل الجاهلية يجعلون‬
‫لما ل يعلمون نصيبا مما رزقهم ال ‪ .‬وهو حرام نذره على هذا الوجه ‪ .‬حرام لحمه ‪ .‬ولو سمي اسم ال عليه‬
‫‪ .‬لنه أهل لغير ال به ! ‪.‬‬

‫(تال لتسألن عما كنتم تفترون)بالقسم والتوكيد الشديد ‪ .‬فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لنه يحطم فكرة‬
‫التوحيد ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 62 - 57:‬ذم الكفار في موقفهم من البنات ونسبتهن ل‬

‫(ويجعلون ل البنات ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ولهم ما يشتهون ‪ .‬وإذا بشر أحدهم بالنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ‪.‬‬
‫يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ‪ ,‬أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ? أل ساء ما يحكمون !)‪. .‬‬

‫إن النحراف في العقيدة ل تقف آثاره عند حدود العقيدة ‪ ,‬بل يتمشى في أوضاع الحياة الجتماعية وتقاليدها ‪.‬‬
‫فالعقيدة هي المحرك الول للحياة ‪ ,‬سواء ظهرت أو كمنت ‪ .‬وهؤلء عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن ل‬
‫بنات ‪ -‬هن الملئكة ‪ -‬على حين أنهم كانوا يكرهون لنفسهم ولدة البنات ! فالبنات ل أما هم فيجعلون‬
‫لنفسهم ما يشتهون من الذكور ! ‪.‬‬

‫شرَ بِ ِه َأ ُي ْمسِكُهُ عَلَى‬


‫ن الْ َق ْومِ مِن سُو ِء مَا ُب ّ‬
‫جهُ ُه ُمسْ َودّا وَ ُه َو كَظِيمٌ (‪َ )58‬يتَوَارَى مِ َ‬
‫حدُ ُهمْ بِالُنثَى ظَلّ َو ْ‬
‫شرَ َأ َ‬
‫وَِإذَا ُب ّ‬
‫ح ُكمُونَ (‪)59‬‬
‫ب َألَ سَاء مَا َي ْ‬
‫هُونٍ َأمْ َي ُدسّ ُه فِي التّرَا ِ‬

‫وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو البقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة‬
‫والنظرة الوضيعة ‪ .‬ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولدة البنات ‪ .‬إذ البنات ل يقاتلن ول يكسبن ;‬
‫وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار ; أو يعشن كل على أهليهن فيجلبن الفقر ‪.‬‬
‫والعقيدة الصحيحة عصمة من هذا كله ‪ .‬إذ الرزق بيد ال يرزق الجميع ; ول يصيب أحد إل ما كتب له ; ثم‬
‫إن النسان بجنسيه كريم على ال ‪ ,‬والنثى ‪ -‬من حيث إنسانيتها ‪ -‬صنو الرجل وشطر نفسه كما يقرر‬
‫السلم ‪.‬‬

‫ويرسم السياق صورة منكرة لعادات الجاهلية‪(:‬وإذا بشر أحدهم بالنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)مسودا من‬
‫الهم والحزن والضيق ‪ ,‬وهو كظيم ‪ ,‬يكظم غيظه وغمه ‪ ,‬كأنها بلية ‪ ,‬والنثى هبة ال له كالذكر ‪ ,‬وما يملك‬
‫أن يصور في الرحم أنثى ول ذكرا ‪ ,‬وما يملك أن ينفخ فيه حياة ‪ ,‬وما يملك أن يجعل من النطفة الساذجة‬
‫إنسانا سويا ‪ .‬وإن مجرد تصور الحياة نامية متطورة من نطفة إلى بشر ‪ -‬بإذن ال ‪ -‬ليكفي لستقبال المولود‬
‫‪ -‬أيا كان جنسه ‪ -‬بالفرح والترحيب وحسن الستقبال ‪ ,‬لمعجزة ال التي تتكرر ‪ ,‬فل يبلى جدتها التكرار !‬
‫فكيف يغتم من يبشر بالنثى ويتواري من القوم من سوء ما بشر به وهو لم يخلق ولم يصور ‪ .‬إنما كان أداة‬
‫القدرة في حدوث المعجزة الباهرة ? ‪.‬‬

‫وحكمة ال ‪ ,‬وقاعدة الحياة ‪ ,‬اقتضت أن تنشأ الحياة من زوجين ذكر وأنثى ‪ .‬فالنثى أصيلة في نظام الحياة‬
‫أصالة الذكر ; بل ربما كانت أشد أصالة لنها المستقر ‪ .‬فكيف يغتم من يبشر بالنثى ‪ ,‬وكيف يتوارى من‬
‫القوم من سوء ما بشر به ونظام الحياة ل يقوم إل على وجود الزوجين دائما ? ‪.‬‬

‫إنه انحراف العقيدة ينشيء آثاره في انحراف المجتمع وتصوراته وتقاليده ‪( . .‬أل ساء ما يحكمون)وما أسوأه‬
‫من حكم وتقدير ‪.‬‬

‫وهكذا تبدو قيمة العقيدة السلمية في تصحيح التصورات والوضاع الجتماعية ‪ .‬وتتجلى النظرة الكريمة‬
‫القويمة التي بثها في النفوس والمجتمعات تجاه المرأة ‪ ,‬بل تجاه النسان ‪ .‬فما كانت المرأة هي المغبونة‬
‫وحدها في المجتمع الجاهلي الوثني إنما كانت "النسانية " في أخص معانيها ‪ .‬فالنثى نفس إنسانية ‪ ,‬إهانتها‬
‫إهانة للعنصر النساني الكريم ‪ ,‬ووأدها قتل للنفس البشرية ‪ ,‬وإهدار لشطر الحياة ; ومصادمة لحكمة الخلق‬
‫الصيلة ‪ ,‬التي اقتضت أن يكون الحياء جميعا ‪ -‬ل النسان وحده ‪ -‬من ذكر وأنثى ‪.‬‬

‫وكلما انحرفت المجتمعات عن العقيدة الصحيحة عادت تصورات الجاهلية تطل بقرونها ‪ . .‬وفي كثير من‬
‫المجتمعات اليوم تعود تلك التصورات إلى الظهور ‪ .‬فالنثى ل يرحب بمولدها كثير من الوساط وكثير من‬
‫الناس ‪ ,‬ول تعامل معاملة الذكر من العناية والحترام ‪ .‬وهذه وثنية جاهلية في إحدى صورها ‪ ,‬نشأت من‬
‫النحراف الذي أصاب العقيدة السلمية ‪.‬‬

‫ومن عجب أن ينعق الناعقون بلمز العقيدة السلمية والشريعة السلمية ‪ -‬في مسألة المرأة ‪ , -‬نتيجة لما‬
‫يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ول يكلف هؤلء الناعقون اللمزون أنفسهم وأن يراجعوا نظرة السلم ‪,‬‬
‫وما أحدثته من ثورة في التطورات والوضاع ‪ .‬وفي المشاعر والضمائر ‪ .‬وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها‬
‫ضرورة واقعية ول دعوة أرضية ول مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية ‪ .‬إنما أنشأتها العقيدة اللهية الصادرة‬
‫عن ال الذي كرم النسان ‪ ,‬فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للنثى ‪ ,‬ووصفها بأنها شطر النفس‬
‫البشرية ‪ ,‬فل تفاضل بين الشطرين الكريمين على ال ‪.‬‬

‫خذُ اللّ ُه النّاسَ ِبظُلْ ِمهِم‬


‫حكِيمُ (‪ )60‬وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫خرَةِ َمثَلُ السّوْءِ وَلِلّ ِه ا ْل َمثَلُ الَعَْلىَ وَ ُهوَ ا ْل َعزِيزُ ا ْل َ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ بِال ِ‬
‫لِّلذِينَ َ‬
‫ستَ ْقدِمُونَ (‪)61‬‬
‫ن سَاعَةً َولَ َي ْ‬
‫خرُو َ‬
‫ستَ ْأ ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫سمّى َفِإذَا جَاء َأجَُل ُهمْ َ‬
‫خرُهُمْ إلَى َأجَلٍ ّم َ‬
‫مّا َت َركَ عََل ْيهَا مِن دَآبّةٍ وََلكِن ُي َؤ ّ‬
‫ن َل ُهمُ ا ْلنّارَ وََأ ّنهُم مّ ْفرَطُونَ (‪)62‬‬
‫ج َرمَ أَ ّ‬
‫سنَى لَ َ‬
‫حْ‬‫ن َل ُهمُ ا ْل ُ‬
‫س َن ُت ُهمُ ا ْل َكذِبَ أَ ّ‬
‫جعَلُونَ لِّلهِ مَا َيكْرَهُونَ َو َتصِفُ أَ ْل ِ‬
‫َو َي ْ‬

‫والفارق بين طبيعة النظرة الجاهلية والنظرة السلمية ‪ ,‬هو الفارق بين صفة الذين ل يؤمنون بالخرة وصفة‬
‫ال سبحانه ‪ -‬ول المثل العلى ‪:-‬‬

‫(للذين ل يؤمنون بالخرة مثل السوء ‪ .‬ول المثل العلى ‪ ,‬وهو العزيز الحكيم)‪. .‬‬

‫وهنا تقترن قضية الشرك بقضية إنكار الخرة ‪ ,‬لنهما ينبعان من معين واحد وانحراف واحد ‪ .‬ويختلطان في‬
‫الضمير البشري ‪ ,‬وينشئان آثارهما في النفس والحياة والمجتمع والوضاع ‪ .‬فإذا ضرب مثل للذين ل يؤمنون‬
‫بالخرة فهو مثل السوء ‪ .‬السوء المطلق في كل شيء‪:‬في الشعور والسلوك ‪ ,‬في العتقاد والعمل ‪ .‬في‬
‫التصور والتعامل ‪ ,‬في الرض والسماء ‪( . .‬ول المثل العلى)الذي ل يقارن ول يوازن بينه وبين أحد ‪ ,‬بله‬
‫الذين ل يؤمنون بالخرة هؤلء ‪( . .‬وهو العزيز الحكيم)ذو المنعة وذو الحكمة الذي يتحكم ليضع كل شيء‬
‫موضعه ‪ ,‬ويحكم ليقر كل شيء في مكانه بالحق والحكمة والصواب ‪.‬‬

‫وإنه لقادر أن يأخذ الناس بظلمهم الذي يقع منهم ولو فعل لدمرها عليهم تدميرا ; ولكن حكمته اقتضت أن‬
‫يؤخرهم إلى أجل ‪ .‬وهو العزيز الحكيم‪:‬‬

‫(ولو يؤاخذ ال الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ‪ ,‬ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ‪ ,‬فإذا جاء أجلهم ل‬
‫يستأخرون ساعة ول يستقدمون)‪. .‬‬

‫وال خلق هذا الخلق ‪ -‬البشري ‪ -‬وأنعم عليه بآلئه ‪ .‬وهو وحده الذي يفسد في الرض ويظلم ‪ ,‬وينحرف عن‬
‫ال ويشرك ; ويطغى بعضه على بعض ‪ ,‬ويؤذي سواه من الخلق ‪ . .‬وال بعد هذا كله يحلم عليه ويرأف به ‪,‬‬
‫ويمهله وإن كان ل يهمله ‪ .‬فهي الحكمة تصاحب القوة ‪ ,‬وهي الرحمة تصاحب العدل ‪ .‬ولكن الناس يغترون‬
‫بالمهال ‪ ,‬فل تستشعر قلوبهم رحمة ال وحكمته ‪ ,‬حتى يأخذهم عدله وقوته ‪ .‬عند الجل المسمى الذي ضربه‬
‫ال لحكمة ‪ ,‬وأمهلهم إليه لرحمة ‪( .‬فإذا جاء أجلهم ل يستأخرون ساعة ول يستقدمون)‪.‬‬
‫وأعجب ما في المر أن المشركين ‪ ,‬يجعلون ل ما يكرهون من البنات وغير البنات ‪ ,‬ثم يزعمون كاذبين أن‬
‫سينالهم الخير والحسان جزاء على ما يجعلون ويزعمون ! والقرآن يقرر ما ينتظرهم وهو غير ما يزعمون‪:‬‬

‫(ويجعلون ل ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ‪ .‬ل جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون)‪.‬‬

‫والتعبير يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ‪ ,‬أو كأنها صورة له ‪ ,‬تحكيه وتصفه بذاتها ‪ .‬كما تقول قوامه‬
‫يصف الرشاقة وعينه تصف الحور ‪ .‬لن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة مفصح عنها ‪ ,‬ولن هذه العين‬
‫بذاتها تعبير عن الحور مفصح عنه ‪ .‬كذلك قال‪:‬تصف ألسنتهم الكذب ‪ ,‬فهي بذاتها تعبير عن الكذب مفصح‬
‫عنه مصور له ‪ ,‬لطول ما قالت الكذب وعبرت عنه حتى صارت رمزا عليه ودللة له ! ‪.‬‬

‫وقولهم‪:‬أن لهم الحسنى ‪ ,‬وهم يجعلون ل ما يكرهون هو ذلك الكذب الذي تصفه ألسنتهم أما الحقيقة التي‬
‫يجبههم بها النص قبل أن تكمل الية ‪ ,‬فهي أن لهم النار دون شك ول ريب ‪ ,‬وعن استحقاق وجدارة‪:‬‬

‫(ل جرم أن لهم النار)وأنهم معجلون إليها غير مؤخرين عنها‪( :‬وأنهم مفرطون)والفرط هو ما يسبق ‪,‬‬
‫والمفرط ما يقدم ليسبق فل يؤجل ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 64 - 63:‬الكفار اللحقون مختلفون كالكفار السابقين والقرآن يحل الخلف‬

‫وبعد فإن القوم ليسوا أول من انحرف ‪ ,‬وليسوا أول من جدف ‪ ,‬فقد كان قبلهم منحرفون ومجدفون ‪ ,‬أغواهم‬
‫الشيطان ‪ ,‬وزين لهم ما انحرفوا إليه من تصورات وأعمال ‪ ,‬فصار وليهم الذي يشرف عليهم ويصرفهم ;‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‪َ )63‬ومَا أَنزَ ْلنَا‬


‫عمَاَلهُمْ َفهُوَ وَِل ّي ُهمُ ا ْل َي ْومَ وََل ُهمْ َ‬
‫ش ْيطَانُ َأ ْ‬
‫تَاللّهِ لَ َق ْد َأ ْرسَلْنَا إِلَى ُأ َممٍ مّن َقبِْلكَ َف َزيّنَ َل ُهمُ ال ّ‬
‫حيَا‬
‫سمَا ِء مَاءً َفَأ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫حمَةً لّقَ ْومٍ ُي ْؤ ِمنُونَ (‪ )64‬وَاللّهُ أَنزَلَ مِ َ‬
‫ختَلَفُواْ فِيهِ وَ ُهدًى َو َر ْ‬
‫ن َل ُهمُ اّلذِي ا ْ‬
‫ب ِإلّ ِل ُت َبيّ َ‬
‫عََل ْيكَ ا ْل ِكتَا َ‬
‫ل ْنعَامِ َل ِعبْرَةً ّنسْقِيكُم ّممّا فِي ُبطُونِ ِه مِن‬
‫ن َل ُكمْ فِي ا َ‬
‫س َمعُونَ (‪ )65‬وَإِ ّ‬
‫لرْضَ َب ْعدَ مَ ْو ِتهَا ِإنّ فِي ذَِلكَ ليَةً لّقَ ْومٍ َي ْ‬
‫بِ ِه ا َ‬
‫َبيْنِ َفرْثٍ َو َدمٍ ّلبَنا خَالِصا سَآئِغا لِلشّا ِربِينَ (‪)66‬‬
‫وإنما أرسل ال رسوله [ ص ] ليستنقذهم ‪ ,‬وليبين لهم الحق من الباطل ‪ ,‬ويفصل فيما وقع بينهم من خلف‬
‫في عقائدهم وكتبهم ; وليكون هدى ورحمة لمن يؤمنون ‪.‬‬

‫(تال لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ‪ ,‬فزين لهم الشيطان أعمالهم ‪ ,‬فهو وليهم اليوم ‪ ,‬ولهم عذاب أليم ‪ .‬وما أنزلنا‬
‫عليك الكتاب إل لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ‪ ,‬وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)‪. .‬‬

‫فوظيفة الكتاب الخير والرسالة الخيرة هي الفصل فيما شجر من خلف بين أصحاب الكتب السابقة‬
‫وطوائفهم ‪ . .‬إذ الصل هو التوحيد ‪ ,‬وكل ما طرأ على التوحيد من شبهات وكل ما شابه من شرك في‬
‫صورة من الصور ‪ ,‬ومن تشبيه وتمثيل ‪ . .‬كله باطل جاء القرآن الكريم ليجلوه وينفيه ‪ .‬وليكون هدى ورحمة‬
‫لمن استعدت قلوبهم لليمان وتفتحت لتلقيه ‪.‬‬

‫الدرس الخامس‪ 69 - 65:‬نعم ال بالماء واللبن والعنب والعسل‬

‫وعند هذا الحد يأخذ السياق في استعراض آيات اللوهية الواحدة فيما خلق ال في الكون ‪ ,‬وفيما أودع النسان‬
‫من صفات واستعدادات ‪ ,‬وفيما وهبه من نعم وآلء ‪ ,‬مما ل يقدر عليه أحد إل ال ‪.‬‬

‫وقد ذكر في الية السابقة إنزال الكتاب ‪ -‬وهو خير ما أنزل ال للناس وفيه حياة الروح ‪ -‬فهو يتبعه بإنزال‬
‫الماء من السماء ‪ ,‬وفيه حياة الجسام‪:‬‬

‫(وال أنزل من السماء ماء ‪ ,‬فأحيا به الرض بعد موتها ‪ .‬إن في ذلك لية لقوم يسمعون)‪. .‬‬

‫والماء حياة كل حي‪:‬والنص يجعله حياة للرض كلها على وجه الشمول لكل ما عليها ومن عليها ‪ .‬والذي‬
‫يحول الموت إلى حياة هو الذي يستحق أن يكون إلها‪ :‬إن في ذلك لية لقوم يسمعون فيتدبرون ما يسمعون ‪.‬‬
‫فهذه القضية ‪ .‬قضية آيات اللوهية ودلئلها من الحياة بعد الموت ذكرها القرآن كثيرا ووجه النظار إليها‬
‫كثيرا ‪ ,‬ففيها آية لمن يسمع ويعقل ويتدبر ما يقال ‪.‬‬

‫وعبرة أخرى في النعام تشير إلى عجيب صنع الخالق ‪ ,‬وتدل على اللوهية بهذا الصنع العجيب‪:‬‬

‫(وإن لكم في النعام لعبرة ‪ ,‬نسقيكم مما في بطونه ‪ -‬من بين فرث ودم ‪ -‬لبنا خالصا سائغا للشاربين)فهذا‬
‫اللبن الذي تدره ضروع النعام مم هو ? إنه مستخلص من بين فرث ودم ‪ .‬والفرث ما يتبقى في الكرش بعد‬
‫الهضم ‪ ,‬وامتصاص المعاء للعصارة التي تتحول إلى دم ‪ .‬هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ‪ ,‬فإذا‬
‫صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع ال العجيب ‪ ,‬الذي ل يدري أحد كيف يكون ‪.‬‬

‫وعملية تحول الخلصات الغذائية في الجسم إلى دم ‪ ,‬وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا‬
‫الدم ‪ ,‬عملية عجيبة فائقة العجب ‪ ,‬وهي تتم في الجسم في كل ثانية ‪ ,‬كما تتم عمليات الحتراق ‪ .‬وفي كل‬
‫لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة ل تكف حتى تفارق الروح الجسد ‪ . .‬ول يملك‬
‫إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة ل تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز‬
‫النساني ‪ ,‬الذي ل يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ‪ ,‬ول إلى خلية واحدة من خلياه التي ل تحصى ‪.‬‬

‫ووراء الوصف العام لعمليات المتصاص والتحول والحتراق تفصيلت تدير العقل ‪ ,‬وعمل الخلية الواحدة‬
‫في الجسم في هذه العملية عجب ل ينقضي التأمل فيه ‪.‬‬

‫وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب ‪ .‬وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من‬
‫حسَنا ِإنّ فِي ذَِلكَ ليَ ًة لّ َق ْومٍ َيعْقِلُونَ (‪ )67‬وََأ ْوحَى َربّكَ‬
‫سكَرا َورِزْقا َ‬
‫ن ِمنْ ُه َ‬
‫خذُو َ‬
‫عنَابِ َت ّت ِ‬
‫لْ‬‫ت ال ّنخِيلِ وَا َ‬
‫َومِن َثمَرَا ِ‬
‫سبُلَ‬
‫ت فَاسُْلكِي ُ‬
‫ل ال ّثمَرَا ِ‬
‫جرِ َو ِممّا َيعْ ِرشُونَ (‪ُ )68‬ثمّ كُلِي مِن كُ ّ‬
‫شَ‬‫جبَالِ ُبيُوتا َومِنَ ال ّ‬
‫ن ا ْل ِ‬
‫خذِي مِ َ‬
‫ن ا ّت ِ‬
‫إِلَى ال ّنحْلِ أَ ِ‬
‫ختَِلفٌ أَلْوَا ُنهُ فِيهِ شِفَاء لِلنّاسِ ِإنّ فِي ذَِلكَ ل َيةً لّ َق ْومٍ َيتَ َف ّكرُونَ (‪)69‬‬
‫شرَابٌ ّم ْ‬
‫خرُجُ مِن ُبطُو ِنهَا َ‬
‫َربّكِ ذُلُلً َي ْ‬
‫بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ‪ ,‬وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضل على أن يقررها بهذه الدقة‬
‫العلمية الكاملة ‪ .‬وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل ‪ .‬ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه‬
‫الحقيقة يكفي وحده لثبات الوحي من ال بهذا القرآن ‪ .‬فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة ‪.‬‬

‫والقرآن ‪ -‬يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة ‪ -‬يحمل أدلة الوحي من ال في خصائصه الخرى لمن يدرك هذه‬
‫الخصائص ويقدرها ; ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين ‪.‬‬

‫(ومن ثمرات النخيل والعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ‪ .‬إن في ذلك لية لقوم يعقلون)‪. .‬‬

‫هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء ‪ .‬تتخذون منه سكرا [ والسكر الخمر ولم‬
‫تكن حرمت بعد ] ورزقا حسنا ‪ .‬والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا‬
‫‪ ,‬وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها ‪ ,‬وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من‬
‫ثمرات النخيل والعناب ‪ ,‬وليس فيه نص بحلها ‪ ,‬بل فيه توطئة لتحريمها (إن في ذلك لية لقوم يعقلون)‪. .‬‬
‫فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو ال ‪. .‬‬

‫وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ‪ ,‬ومن الشجرة ومما يعرشون ‪ ,‬ثم كلي من كل الثمرات‬
‫فاسلكي سبل ربك ذلل ‪ ,‬يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ‪ .‬إن في ذلك لية لقوم‬
‫يتفكرون ‪. .‬‬

‫والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق ‪ ,‬فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه ‪ .‬وهي تعمل‬
‫بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلياها ‪ ,‬أو في تقسيم العمل بينها ‪ ,‬أو في طريقة‬
‫إفرازها للعسل المصفى ‪.‬‬

‫وهي تتخذ بيوتها ‪ -‬حسب فطرتها ‪ -‬في الجبال والشجر وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها ‪-‬‬
‫وقد ذلل ال لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق ‪ .‬والنص على أن العسل‬
‫فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب ‪ .‬شرحا فنيا ‪ .‬وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه ‪.‬‬
‫وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب ال ; كما أثر عن رسول ال ‪.‬‬
‫روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجل جاء إلى رسول ال [ ص ] فقال‪:‬إن أخي استطلق بطنه‬
‫‪ ,‬فقال له رسول ال [ ص ]‪ ":‬اسقه عسل " فسقاه عسل ‪ .‬ثم جاء فقال‪:‬يا رسول ال سقيته عسل فما زاده إل‬
‫استطلقا ‪ .‬قال‪ ":‬اذهب فاسقه عسل " فذهب فسقاه عسل ثم جاء فقال‪:‬يا رسول ال ما زاده ذلك إل استطلقا ‪.‬‬
‫فقال رسول ال [ ص ] " صدق ال وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسل " فذهب فسقاه عسل فبرى ء ‪.‬‬

‫ويروعنا في هذا الثر يقين الرسول [ ص ] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلق بطن الرجل كلما سقاه أخوه‬
‫‪ .‬وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية ‪ .‬وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل‬
‫حقيقة وردت في كتاب ال ‪ .‬مهما بدا في ظاهر المر أن ما يسمى الواقع يخالفها ‪ .‬فهي أصدق من ذلك‬
‫الواقع الظاهري ‪ ,‬الذي ينثني في النهاية ليصدقها ‪. .‬‬

‫ن اللّهَ عَلِيمٌ َقدِيرٌ (‪)70‬‬


‫شيْئا إِ ّ‬
‫وَالّلهُ خَلَ َق ُكمْ ُثمّ َي َت َوفّا ُكمْ َومِنكُم مّن ُي َردّ إِلَى َأ ْرذَلِ ا ْل ُع ُمرِ ِل َكيْ لَ َيعَْلمَ َب ْعدَ عِ ْلمٍ َ‬
‫ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم‪:‬إنزال الماء من السماء ‪ .‬وإخراج اللبن من بين فرث ودم‬
‫‪ .‬واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والعناب ‪ .‬والعسل من بطون النحل ‪ . .‬إنها كلها‬
‫أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها ‪ .‬ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من النعام لبنها وحده‬
‫في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله ‪ .‬وسنرى في الدرس التالي أنه عرض من النعام جلودها‬
‫وأصوافها وأوبارها لن الجو هناك جو أكنان وبيوت وسرابيل فناسب أن يعرض من النعام جانبها الذي‬
‫يتناسق مع مفردات المشهد ‪ . .‬وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن ‪.‬‬

‫الدرس السادس‪ 76 70:‬من نعم ال في الحياة والرزق والزواج والولد وعدم ضرب المثال ل‬

‫ومن النعام والشجار والثمار والنحل والعسل إلى لمسة أقرب إلى أعماق النفس البشرية ‪ ,‬لنها في صميم‬
‫ذواتهم‪:‬في أعمارهم وأرزاقهم وأزواجهم وبنيهم وأحفادهم ‪ .‬فهم أشد حساسية بها ‪ ,‬وأعمق تأثرا واستجابة لها‪:‬‬

‫(وال خلقكم ثم يتوفاكم ‪ ,‬ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي ل يعلم بعد علم شيئا ‪ ,‬إن ال عليم قدير)‪.‬‬

‫(وال فضل بعضكم على بعض في الرزق ‪ ,‬فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه‬
‫سواء ‪ .‬أفبنعمة ال يجحدون)?‬

‫(وال جعل لكم من أنفسكم أزواجا ‪ ,‬وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ‪ ,‬ورزقكم من الطيبات أفبالباطل‬
‫يؤمنون وبنعمة ال هم يكفرون ? ويعبدون من دون ال ما ل يملك لهم رزقا من السماوات والرض شيئا ول‬
‫يستطيعون ?)‪. .‬‬
‫واللمسة الولى في الحياة والوفاة ‪ ,‬وهي متصلة بكل فرد وبكل نفس ; والحياة حبيبة ‪ ,‬والتفكر في أمرها قد‬
‫يرد القلب الصلد إلى شيء من اللين ‪ ,‬وإلى شيء من الحساسية بيد ال ونعمته وقدرته ‪ .‬والخوف عليها قد‬
‫يستجيش وجدان التقوى والحذر واللتجاء إلى واهب الحياة ‪ .‬وصورة الشيخوخة حين يرد النسان إلى أرذل‬
‫العمر ‪ ,‬فينسى ما كان قد تعلم ‪ ,‬ويرتد إلى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة ‪ .‬هذه الصورة قد ترد‬
‫النفس إلى شيء من التأمل في أطوار الحياة ‪ ,‬وقد تغض من كبرياء المرء واعتزازه بقوته وعلمه ومقدرته ‪.‬‬
‫ويجيء التعقيب‪( :‬إن ال عليم قدير)ليرد النفس إلى هذه الحقيقة الكبيرة ‪ .‬أن العلم الشامل الزلي الدائم ل ‪,‬‬
‫وأن القدرة الكاملة التي ل تتأثر بالزمن هي قدرة ال ‪ .‬وأن علم النسان إلى حين ‪ ,‬وقدرته إلى أجل ‪ ,‬وهما‬
‫بعد جزئيان ناقصان محدودان ‪.‬‬

‫واللمسة الثانية في الرزق ‪ .‬والتفاوت فيه ملحوظ ‪ .‬والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل ال لبعضهم على‬
‫بعض في الرزق ‪ .‬ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة ال ‪ .‬فليس شيء من ذلك جزافا ول عبثا‬
‫‪ .‬وقد يكون النسان مفكرا عالما عاقل ‪ ,‬ولكن موهبته في الحصول على الرزق وتنميته محدودة ‪ ,‬لن له‬
‫مواهب في ميادين أخرى ‪ .‬وقد يبدو غبيا جاهل ساذجا ‪ ,‬ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته ‪.‬‬

‫وَالّلهُ َفضّلَ َب ْعضَ ُكمْ عَلَى َبعْضٍ فِي ا ْل ّرزْقِ َفمَا اّلذِينَ فُضّلُواْ ِبرَآدّي ِرزْ ِق ِهمْ عَلَى مَا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُهمْ َفهُمْ فِيهِ سَوَاء‬
‫جكُم َبنِينَ َوحَ َفدَةً َو َرزَ َقكُم مّنَ‬
‫ن َأزْوَا ِ‬
‫جعَلَ َلكُم مّ ْ‬
‫س ُكمْ َأزْوَاجا َو َ‬
‫ل َلكُم مّنْ أَن ُف ِ‬
‫جعَ َ‬
‫جحَدُونَ (‪ )71‬وَالّلهُ َ‬
‫َأ َفبِ ِن ْعمَ ِة اللّ ِه َي ْ‬
‫ت اللّهِ ُهمْ َيكْ ُفرُونَ (‪َ )72‬و َي ْعبُدُونَ مِن دُونِ الّل ِه مَا لَ َيمِْلكُ َل ُهمْ ِرزْقا مّنَ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ َو ِب ِنعْمَ ِ‬
‫ت َأفَبِا ْلبَاطِ ِ‬
‫طيّبَا ِ‬
‫ال ّ‬
‫ل َتعَْلمُونَ (‪)74‬‬
‫ن اللّ َه َيعَْلمُ وَأَن ُتمْ َ‬
‫ل ْمثَالَ إِ ّ‬
‫ضرِبُواْ لِلّ ِه ا َ‬
‫ستَطِيعُونَ (‪ )73‬فَلَ َت ْ‬
‫ل َي ْ‬
‫شيْئا َو َ‬
‫لرْضِ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ال ّ‬
‫جهْرا هَلْ‬
‫سرّا َو َ‬
‫حسَنا فَهُ َو يُن ِفقُ ِمنْ ُه ِ‬
‫شيْءٍ َومَن ّرزَ ْقنَاهُ ِمنّا رِزْقا َ‬
‫عبْدا ّممْلُوكا لّ يَ ْق ِدرُ عَلَى َ‬
‫ب اللّ ُه َمثَلً َ‬
‫ضَرَ َ‬
‫شيْءٍ وَهُوَ‬
‫حدُ ُهمَا َأ ْب َكمُ لَ يَ ْق ِدرُ عََلىَ َ‬
‫ضرَبَ اللّهُ َمثَلً ّرجَُليْنِ َأ َ‬
‫ح ْمدُ لِلّ ِه بَلْ َأ ْك َثرُ ُهمْ لَ َيعَْلمُونَ (‪َ )75‬و َ‬
‫ستَوُونَ ا ْل َ‬
‫َي ْ‬
‫ستَقِيمٍ (‪)76‬‬
‫صرَاطٍ ّم ْ‬
‫ستَوِي ُهوَ َومَن َي ْأمُرُ بِا ْل َعدْلِ وَهُوَ عَلَى ِ‬
‫خ ْيرٍ هَلْ َي ْ‬
‫ل َيأْتِ ِب َ‬
‫كَلّ عَلَى مَوْلهُ َأ ْي َنمَا يُ َوجّههّ َ‬

‫والناس مواهب وطاقات ‪ .‬فيحسب من ل يدقق أن ل علقة للرزق بالمقدرة ‪ ,‬وإنما هي مقدرة خاصة في‬
‫جانب من جوانب الحياة ‪ .‬وقد تكون بسطة الرزق ابتلء من ال ‪ ,‬كما يكون التضييق فيه لحكمة يريدها‬
‫ويحققها بالبتلء ‪ . .‬وعلى أية حال فإن التفاوت في الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لختلف في المواهب ‪-‬‬
‫وذلك حين تمتنع السباب المصطنعة الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلة ‪ -‬والنص يشير إلى هذه‬
‫الظاهرة التي كانت واقعة في المجتمع العربي ; ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي‬
‫يزاولونها ‪ ,‬والتي سبقت الشارة إليها ‪ .‬ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق ال الذي أعطاهم ويجعلونه‬
‫للهتهم المدعاة ‪ .‬فهو يقول عنهم هنا‪:‬إنهم ل يردون جزءا من أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق ‪.‬‬
‫[ وكان هذا أمرا واقعا قبل السلم ] ليصبحوا سواء في الرزق ‪ .‬فما بالهم يردون جزءا من مال ال الذي‬
‫رزقهم إياه على آلهتهم المدعاة ? (أفبنعمة ال يجحدون ?)فيجازون النعمة بالشرك ‪ ,‬بدل الشكر للمنعم‬
‫المتفضل الوهاب ? ‪.‬‬

‫واللمسة الثالثة في النفس والزواج والبناء والحفاد وتبدأ بتقرير الصلة الحية بين الجنسين‪( :‬جعل لكم من‬
‫أنفسكم أزواجا)فهن من أنفسكم ‪ ,‬شطر منكم ‪ ,‬ل جنس أحط يتوارى من يبشر به ويحزن ! (وجعل لكم من‬
‫أزواجكم بنين وحفدة)والنسان الفاني يحس المتداد في البناء والحفدة ‪ ,‬ولمس هذا الجانب في النفس يثير أشد‬
‫الحساسية ‪ . .‬ويضم إلى هبة البناء والحفاد هبة الطيبات من الرزق للمشاكلة بين الرزقين ليعقب عليها‬
‫بسؤال استنكاري‪( :‬أفبالباطل يؤمنون وبنعمة ال هم يكفرون ?)فيشركون به ويخالفون عن أمره ‪ .‬وهذه النعم‬
‫كلها من عطائه ‪ .‬وهي آيات على ألوهيته وهي واقعة في حياتهم ‪ ,‬تلبسهم في كل آن ‪. .‬‬

‫أفبالباطل يؤمنون ? وما عدا ال باطل ‪ ,‬وهذه اللهة المدعاة ‪ ,‬والوهام المدعاة كلها باطل ل وجود له ‪ ,‬ول‬
‫حق فيه ‪ .‬وبنعمة ال هم يكفرون ‪ ,‬وهي حق يلمسونه ويحسونه ويتمتعون به ثم يجحدونه ‪.‬‬

‫ويعبدون من دون ال ما ل يملك لهم رزقا من السموات والرض شيئا ول يستطيعون ‪. .‬‬

‫وإنه لعجيب أن تنحرف الفطرة إلى هذا الحد ‪ ,‬فيتجه الناس بالعبادة إلى ما ل يملك لهم رزقا وما هو بقادر في‬
‫يوم من اليام ‪ ,‬ول في حال من الحوال ‪ .‬ويدعون ال الخالق الرازق ‪ ,‬وآلؤه بين أيديهم ل يملكون إنكارها‬
‫‪ ,‬ثم يجعلون ل الشباه والمثال !‬

‫(فل تضربوا ل المثال ‪ .‬إن ال يعلم وأنتم ل تعلمون)‪. .‬‬

‫إنه ليس ل مثال ‪ ,‬حتى تضربوا له المثال ‪.‬‬

‫ثم يضرب لهم مثلين للسيد المالك الرازق وللمملوك العاجز الذي ل يملك ول يكسب ‪ .‬لتقريب الحقيقة الكبرى‬
‫التي غفلوا عنها ‪ .‬حقيقة أن ليس ل مثال ‪ ,‬وما يجوز أن يسووا في العبادة بين ال وأحد من خلقه وكلهم لهم‬
‫عبيد‪:‬‬

‫(ضرب ال مثل عبدا مملوكا ل يقدر على شيء ‪ ,‬ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ‪ .‬هل‬
‫يستوون ? الحمد ل ‪ .‬بل أكثرهم ل يعلمون ‪).‬‬

‫(وضرب ال مثل رجلين‪:‬أحدهما أبكم ل يقدر على شيء وهو كل على موله أينما يوجهه ل يأت بخير ‪ .‬هل‬
‫يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ?)‬
‫والمثل الول مأخوذ من واقعهم ‪ ,‬فقد كان لهم عبيد مملوكون ‪ ,‬ل يملكون شيئا ول يقدرون على شيء ‪ .‬وهم‬
‫ل يسوون بين العبد المملوك العاجز والسيد المالك المتصرف ‪ .‬فكيف يسوون بين سيد العباد ومالكهم وبين‬
‫أحد أو شيء مما خلق ‪ .‬وكل مخلوقاته له عبيد ?‬

‫والمثل الثاني يصور الرجل البكم الضعيف البليد الذي ل يدري شيئا ول يعود بخير ‪ .‬والرجل القوي المتكلم‬
‫المر بالعدل ‪ ,‬العامل المستقيم على طريق الخير ‪ . .‬ول يسوي عاقل بين هذا وذاك ‪ .‬فكيف تمكن التسوية‬
‫بين ضم أو حجر ‪ ,‬وبين ال سبحانه وهو القادر العليم المر بالمعروف ‪ ,‬الهادي إلى الصراط المستقيم ?‬

‫وبهذين المثلين يختم الشوط الذي بدأ بأمر ال للناس أل يتخذوا إلهين اثنين ‪ ,‬وختم بالتعجيب من أمر قوم‬
‫يتخذون إلهين اثنين !‬

‫الوحدة الرابعة‪ 89 - 77:‬الموضوع‪:‬من الدلة على الوحدانية وإنعام ال على الناس ولقطات من مشهد البعث‬

‫مقدمة الوحدة يستمر السياق في هذا الدرس في استعراض دلئل اللوهية الواحدة التي يتكى ء عليها في هذه‬
‫السورة‪:‬عظمة الخلق ‪ ,‬وفيض النعمة وإحاطة العلم ‪ .‬غير أنه يركز في هذا الشوط على قضية البعث ‪.‬‬
‫والساعة أحد أسرار الغيب الذي يختص ال بعلمه فل يطلع عليه أحدا ‪.‬‬

‫وموضوعات هذا الدرس تشمل ألوانا من أسرار غيب ال في السماوات والرض ‪ ,‬وفي النفس والفاق ‪.‬‬
‫غيب الساعة ‪ .‬التي ل يعلمها إل ال وهو عليها قادر وهي عليه هينة‪( :‬وما أمر الساعة إل كلمح البصر أو‬
‫هو أقرب)‪ . .‬وغيب الرحام وال وحده هو الذي يخرج الجنة من هذا الغيب ‪ .‬ل تعلم شيئا ‪ ,‬ثم ينعم على‬
‫الناس بالسمع والبصار والفئدة لعلهم يشكرون نعمته ‪ . .‬وغيب أسرار الخلق يعرض منها تسخير الطير في‬
‫جو السماء ما يمسكهن إل ال ‪.‬‬

‫يلي هذا في الدرس استعراض لبعض نعم ال المادية على الناس وهي بجانب تلك السرار وفي جوها ‪ ,‬نعم‬
‫السكن والهدوء والستظلل ‪ .‬في البيوت المبنية والبيوت المتخذة من جلود النعام للظعن والقامة ‪ ,‬والثاث‬
‫والمتاع من الصواف والوبار والشعار ‪ .‬وهي كذلك الضلل والكنان والسرابيل تقي الحر وتقي البأس في‬
‫الحرب‪( :‬كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون)‪.‬‬

‫ثم تفصيل لمر البعث في مشاهد يعرض فيها المشركين وشركاءهم ‪ ,‬والرسل شهداء عليهم ‪ .‬والرسول [ ص‬
‫] شهيدا على قومه ‪ .‬وبذلك تتم هذه الجولة في جو البعث والقيامة ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 79 - 77:‬تصوير حقيقة البعث وآيات ال في النسان والطير‬

‫(ول غيب السماوات والرض ‪ .‬وما أمر الساعة إل كلمح البصر أو هو أقرب ‪ .‬إن ال على كل شيء قدير)‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫وقضية البعث إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدل شديدا في كل عصر ‪ ,‬ومع كل رسول ‪ .‬وهي غيب من‬
‫غيب ال الذي يختص بعلمه ‪( .‬ول غيب السماوات والرض)وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين‬
‫قاصرين ‪ ,‬مهما يبلغ علمهم الرضي ‪ ,‬ومهما تتفتح لهم كنوز الرض وقواها المذخورة ‪ .‬وإن أعلم العلماء‬
‫من بني البشر ليقف مكانه ل يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه ‪ .‬أيرتد نفسه الذي خرج أم يذهب‬
‫فل يعود ! وتذهب المال بالنسان كل مذهب ‪ ,‬وقدره كامن خلف ستار الغيب ل يدري متى يفجؤه ‪ ,‬وقد‬
‫يفجؤه اللحظة ‪ .‬وإنه لمن رحمة ال بالناس أن يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا‬
‫وينشئوا ‪ ,‬ويخلفوا وراءهم ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبى ء لهم خلف الستار الرهيب ‪.‬‬

‫والساعة من هذا الغيب المستور ‪ .‬ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة ‪ ,‬أو اختلت ‪ ,‬ولما سارت‬
‫الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة ‪ ,‬والناس يعدون السنين واليام والشهور والساعات واللحظات لليوم‬
‫الموعود ! (وما أمر الساعة إل كلمح البصر أو هو أقرب)‪ . .‬فهي قريب ‪ .‬ولكن في حساب غير حساب‬
‫البشر المعلوم ‪ .‬وتدبير أمرها ل يحتاج إلى وقت ‪ .‬طرفة عين ‪ .‬فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها (إن ال‬
‫على كل شيء قدير)وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق ‪ ,‬وانتفاضها ‪ ,‬وجمعها ‪,‬‬
‫وحسابها ‪ ,‬وجزاؤها ‪ . .‬كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء‪:‬كن ‪ .‬فيكون ‪ .‬إنما يستهول المر‬
‫ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر ‪ ,‬وينظرون بعين البشر ‪ ,‬ويقيسون بمقاييس البشر ‪ . .‬ومن هنا‬
‫يخطئون التصور والتقدير !‬

‫ويقرب القرآن المر بعرض مثل صغير من حياة البشر ‪ ,‬تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم ‪ ,‬وهو يقع‬
‫في كل لحظة من ليل أو نهار‪:‬‬

‫(وال أخرجكم من بطون أمهاتكم ل تعلمون شيئا ‪ ,‬وجعل لكم السمع والبصار والفئدة لعلكم تشكرون)‪. .‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)77‬‬


‫ل َ‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُ ّ‬
‫ب إِ ّ‬
‫صرِ أَ ْو هُ َو َأقْرَ ُ‬
‫ل كََلمْحِ ا ْل َب َ‬
‫عةِ ِإ ّ‬
‫لرْضِ َومَا َأ ْمرُ السّا َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫غيْبُ ال ّ‬
‫وَلِّلهِ َ‬
‫ش ُكرُونَ (‪ )78‬أََلمْ‬
‫ل ْبصَارَ وَالَ ْف ِئدَ َة َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫سمْعَ وَا َ‬
‫جعَلَ َل ُكمُ ا ْل ّ‬
‫شيْئا َو َ‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِت ُكمْ لَ َتعَْلمُونَ َ‬
‫خ َر َ‬
‫وَالّلهُ َأ ْ‬
‫سمَاء مَا ُي ْمسِ ُكهُنّ ِإلّ الّلهُ ِإنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لّقَ ْومٍ ُي ْؤ ِمنُونَ (‪)79‬‬
‫جوّ ال ّ‬
‫ت فِي َ‬
‫سخّرَا ٍ‬
‫ط ْيرِ ُم َ‬
‫َيرَوْاْ إِلَى ال ّ‬
‫وهو غيب قريب ‪ ,‬ولكنه موغل بعيد ‪ .‬وأطوار الجنين قد يراها الناس ‪ ,‬ولكنهم ل يعلمون كيف تتم ‪ ,‬لن‬
‫سرها هو سر الحياة المكنون ‪ .‬والعلم الذي يدعيه النسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر‬
‫الغيب ‪ ,‬علم حادث مكسوب‪( :‬وال أخرجكم من بطون أمهاتكم ل تعلمون شيئا)ومولد كل عالم وكل باحث ‪,‬‬
‫ومخرجه من بطن أمه ل يعلم شيئا قريب قريب ! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من ال بالقدر الذي أراده‬
‫للبشر ‪ ,‬وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب ‪ ,‬في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود‪( :‬وجعل لكم‬
‫السمع والبصار والفئدة)والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك النسان الواعية ; وهي تشمل‬
‫ما اصطلح على أنه العقل ‪ ,‬وتشمل كذلك قوى اللهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل ‪ .‬جعل لكم السمع‬
‫والبصار والفئدة (لعلكم تشكرون)حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلء ال عليكم ‪ .‬وأول‬
‫الشكر‪:‬اليمان بال الواحد المعبود ‪.‬‬

‫وعجيبة أخرى من آثار القدرة اللهية يرونها فل يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون‪:‬‬

‫(ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ‪ ,‬ما يمسكهن إل ال ‪ .‬إن في ذلك ليات لقوم يؤمنون)‪. .‬‬

‫ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور ‪ ,‬قد ذهبت اللفة بما فيه من عجب ‪ ,‬وما يتلفت القلب‬
‫البشري عليه إل حين يستيقظ ‪ ,‬ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب ‪ .‬وإن تحليقة طائر في جو السماء‬
‫لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه ‪ .‬فينتفض للمشهد القديم الجديد ‪( . .‬ما يمسكهن إل‬
‫ال)بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها ‪ ,‬وجعل الطير قادرة على الطيران ‪ ,‬وجعل‬
‫الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران ; وأمسك بها الطير وهي في جو السماء‪ :‬إن في ذلك ليات لقوم يؤمنون‬
‫‪ . .‬فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين ‪ ,‬المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر‬
‫وتستجيش الضمائر ‪ .‬وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق ‪ ,‬باليمان والعبادة والتسبيح ; والموهوبون من‬
‫المؤمنين هبة التعبير ‪ ,‬قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين ‪ ,‬ل يبلغ إليها شاعر‬
‫لم تمس قلبه شرارة اليمان المشرق الوضيء ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 83 - 80:‬من نعم ال على النسان في المساكن والملبس‬

‫ويخطو السياق خطوة أخرى في أسرار الخلق وآثار القدرة ومظاهر النعمة ‪ ,‬يدخل بها إلى بيوت القوم وما‬
‫يسر لهم فيها وحولها من سكن ومتاع وأكنان وظلل !‬

‫(وال جعل لكم من بيوتكم سكنا ‪ ,‬وجعل لكم من جلود النعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن‬
‫أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ‪ .‬وال جعل لكم مما خلق ظلل ; وجعل لكم من الجبال‬
‫أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ‪ .‬كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون)‪. .‬‬

‫والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة ل يقدرها حق قدرها إل المشردون الذين ل بيوت لهم ول سكن ول‬
‫طمأنينة ‪ .‬وذكرها في السياق يجيء بعد الحديث عن الغيب ‪ ,‬وظل السكن ليس غريبا عن ظل الغيب ‪,‬‬
‫فكلهما فيه خفاء وستر ‪ .‬والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة ‪.‬‬

‫ونستطرد هنا إلى شيء عن نظرة السلم إلى البيت ‪ ,‬بمناسبة هذا التعبير الموحي‪( :‬وال جعل لكم من بيوتكم‬
‫سكنا)‪ . .‬فهكذا يريد السلم البيت مكانا للسكينة النفسية والطمئنان الشعوري ‪ .‬هكذا يريده مريحا تطمئن إليه‬
‫النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة ‪ ,‬أو باطمئنان من فيه بعضهم‬
‫ظ ْع ِنكُمْ َويَ ْو َم ِإقَا َم ِت ُكمْ َومِنْ‬
‫ل ْنعَامِ ُبيُوتا َتسْ َتخِفّو َنهَا يَ ْومَ َ‬
‫جعَلَ َلكُم مّن جُلُودِ ا َ‬
‫سكَنا َو َ‬
‫ل َلكُم مّن ُبيُو ِتكُ ْم َ‬
‫جعَ َ‬
‫وَالّلهُ َ‬
‫جبَالِ‬
‫ل َلكُم مّنَ ا ْل ِ‬
‫جعَ َ‬
‫للً َو َ‬
‫ل َلكُم ّممّا خََلقَ ظِ َ‬
‫جعَ َ‬
‫شعَارِهَا َأثَاثا َو َمتَاعا إِلَى حِينٍ (‪ )80‬وَالّلهُ َ‬
‫َأصْوَا ِفهَا وَأَ ْوبَارِهَا وََأ ْ‬
‫سرَابِيلَ تَقِيكُم َب ْأسَ ُكمْ َكذَِلكَ ُي ِتمّ ِن ْع َمتَهُ عََل ْي ُكمْ َلعَّل ُكمْ ُتسِْلمُونَ (‪َ )81‬فإِن تَوَلّوْاْ‬
‫حرّ َو َ‬
‫سرَابِيلَ تَقِي ُكمُ ا ْل َ‬
‫جعَلَ َل ُكمْ َ‬
‫َأ ْكنَانا َو َ‬
‫ث مِن كُلّ‬
‫ن ِن ْعمَتَ الّلهِ ُثمّ يُن ِكرُو َنهَا وََأ ْكثَرُ ُهمُ ا ْلكَا ِفرُونَ (‪َ )83‬ويَ ْومَ َن ْبعَ ُ‬
‫لغُ ا ْل ُمبِينُ (‪َ )82‬يعْ ِرفُو َ‬
‫َفإِ ّنمَا عََل ْيكَ ا ْلبَ َ‬
‫ع ْنهُمْ َولَ‬
‫ستَ ْع َتبُونَ (‪ )84‬وَِإذَا رَأى اّلذِينَ ظََلمُو ْا ا ْل َعذَابَ فَلَ ُيخَ ّففُ َ‬
‫ن كَ َفرُواْ َولَ ُه ْم ُي ْ‬
‫شهِيدا ُثمّ لَ ُي ْؤذَنُ لِّلذِي َ‬
‫ُأمّ ٍة َ‬
‫ُهمْ يُنظَرُونَ (‪)85‬‬
‫لبعض ‪ ,‬ويسكن من فيه كل إلى الخر ‪ .‬فليس البيت مكانا للنزاع والشقاق والخصام ‪ ,‬إنما هو مبيت وسكن‬
‫وأمن واطمئنان وسلم ‪.‬‬

‫ومن ثم يضمن السلم للبيت حرمته ‪ ,‬ليضمن له أمنه وسلمه واطمئنانه ‪ .‬فل يدخله داخل إل بعد الستئذان‬
‫‪ ,‬ول يقتحمه أحد ‪ -‬بغير حق ‪ -‬باسم السلطان ‪ ,‬ول يتطلع أحد على من فيه لسبب من السباب ‪ ,‬ول يتجسس‬
‫أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة ‪ ,‬فيروع أمنهم ‪ ,‬ويخل بالسكن الذي يريده السلم للبيوت ‪ ,‬ويعبر عنه‬
‫ذلك التعبير الجميل العميق !‬

‫ولن المشهد مشهد بيوت وأكنان وسرابيل ‪ ,‬فإن السياق يعرض من النعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات‬
‫المشهد‪( :‬وجعل لكم من جلود النعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ‪ ,‬ومن أصوافها وأوبارها‬
‫وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين)‪ .‬وهو هنا كذلك يستعرض من نعمة النعام ما يلبي الضرورات وما يلبي‬
‫الشواق ‪ ,‬فيذكر المتاع ‪ ,‬إلى جانب الثاث ‪ .‬والمتاع ولو أنه يطلق على ما في الرحال من فرش وأغطية‬
‫وأدوات ‪ ,‬إل أنه يشي بالتمتع والرتياح ‪.‬‬

‫ويرق التعبير في جو السكن والطمأنينة ‪ ,‬وهو يشير إلى الظلل والكنان في الجبال ‪ ,‬وإلى السرابيل تقي في‬
‫الحر وتقي في الحرب‪( :‬وال جعل لكم مما خلق ظلل ‪ ,‬وجعل لكم من الجبال أكنانا ‪ ,‬وجعل لكم سرابيل‬
‫تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم)وللنفس في الظلل استرواح وسكن ‪ ,‬ولها في الكنان طمأنينة ووسن ‪ ,‬ولها‬
‫في السرابيل التي تقي الحر من الردية والغطية راحة وفي السرابيل التي تقي البأس من الدروع وغيرها‬
‫وقاية ‪ . .‬وكلها بسبيل من طمأنينة البيوت وأمنها وراحتها وظلها ‪ . .‬ومن ثم يجيء التعقيب‪( :‬كذلك يتم نعمته‬
‫عليكم لعلكم تسلمون)والسلم استسلم وسكن وركون ‪. .‬‬

‫وهكذا تتناسق ظلل المشهد كله على طريقة القرآن في التصوير ‪.‬‬

‫فإن أسلموا فبها ‪ .‬وإن تولوا وشردوا فما على الرسول إل البلغ ‪ .‬وليكونن إذا جاحدين منكرين ‪ ,‬بعد ما‬
‫عرفوا نعمة ال التي ل تقبل النكران !‬
‫(فإن تولوا فإنما عليك البلغ المبين ‪ .‬يعرفون نعمة ال ثم ينكرونها ‪ ,‬وأكثرهم الكافرون)‪. .‬‬

‫الدرس الثالث‪ 89 - 84:‬مشهد لخزي وتلعن الكافرين في الخرة والرسول شاهد على الجميع‬

‫ثم يعرض ما ينتظر الكافرين عندما تأتي الساعة التي ذكرت في مطلع الحديث‪:‬‬

‫ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ‪ ,‬ثم ل يؤذن للذين كفروا ول هم يستعتبون ‪ .‬وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فل‬
‫يخفف عنهم ول هم ينظرون ‪ .‬وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا‪:‬ربنا هؤلء شركاؤنا الذين كنا ندعو من‬
‫دونك ‪ .‬فألقوا إليهم القول‪:‬إنكم لكاذبون ‪ .‬وألقوا إلى ال يومئذ السلم ‪ ,‬وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪ .‬الذين‬
‫كفروا وصدوا عن سبيل ال زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ‪. .‬‬

‫والمشهد يبدأ بموقف الشهداء من النبياء يدلون بما يعلمون مما وقع لهم في الدنيا مع أقوامهم من تبليغ‬
‫وتكذيب والذين كفروا واقفون ل يؤذن لهم في حجة ول استشفاع ول يطلب منهم أن يسترضوا ربهم بعمل أو‬
‫قول ‪ ,‬فقد فات أوان العتاب والسترضاء ‪ ,‬وجاء وقت الحساب والعقاب ‪(.‬وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فل‬
‫يخفف عنهم ول هم ينظرون)‪ . .‬ثم يقطع هذا الصمت رؤية الذين أشركوا لشركائهم في ساحة الحشر ممن‬
‫كانوا يزعمون أنهم شركاء ل ‪ ,‬وأنهم آلهة يعبدونهم مع ال أو من دون ال ‪ .‬فإذا هم يشيرون إليهم ويقولون !‬
‫(ربنا هؤلء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك)فاليوم يقرون‪(:‬ربنا)واليوم ل يقولون عن هؤلء إنهم‬

‫عوْ مِن دُو ِنكَ فَألْقَوْا إَِل ْي ِهمُ الْ َقوْلَ ِإ ّن ُكمْ‬
‫ش َركَآ ُؤنَا اّلذِينَ ُكنّا َندْ ُ‬
‫شرَكَاء ُهمْ قَالُو ْا َربّنَا هَـؤُلء ُ‬
‫ن َأشْ َركُو ْا ُ‬
‫وَِإذَا رَأى اّلذِي َ‬
‫سبِيلِ‬
‫ن كَ َفرُواْ َوصَدّواْ عَن َ‬
‫ع ْنهُم مّا كَانُو ْا يَ ْف َترُونَ (‪ )87‬اّلذِي َ‬
‫َلكَاذِبُونَ (‪ )86‬وَأَلْ َقوْاْ إِلَى اللّ ِه يَ ْو َم ِئذٍ السَّلمَ َوضَلّ َ‬
‫سدُونَ (‪)88‬‬
‫ق ا ْل َعذَابِ ِبمَا كَانُواْ يُ ْف ِ‬
‫عذَابا فَ ْو َ‬
‫اللّ ِه ِزدْنَا ُهمْ َ‬
‫شركاء ل ‪ .‬إنما يقولون‪( :‬هؤلء شركاؤنا)‪ . .‬ويفزع الشركاء ويرتجفون من هذا التهام الثقيل ‪ ,‬فإذا هم‬
‫يجبهون عبادهم بالكذب في تقرير وتوكيد‪( :‬فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون)ويتجهون إلى ال مستسلمين‬
‫خاضعين (وألقوا إلى ال يومئذ السلم)‪ . .‬وإذا المشركون ل يجدون من مفترياتهم شيئا يعتمدون عليه في‬
‫موقفهم العصيب‪( :‬وضل عنهم ما كانوا يفترون)‪ . .‬وينتهي الموقف بتقرير مضاعفة العذاب للذين كفروا‬
‫وحملوا غيرهم على الكفر وصدوهم عن سبيل ال‪(:‬الذين كفروا وصدوا عن سبيل ال زدناهم عذابا فوق‬
‫العذاب بما كانوا يفسدون)فالكفر فساد ‪ ,‬والتكفير فساد ‪ ,‬وقد ارتكبوا جريمة كفرهم ‪ ,‬وجريمة صد غيرهم عن‬
‫الهدى ‪ ,‬فضوعف لهم العذاب جزاء وفاقا ‪.‬‬

‫ذلك شأن عام مع جميع القوام ‪ .‬ثم يخصص السياق موقفا خاصا للرسول [ ص ] مع قومه‪:‬‬
‫(ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ‪ ,‬وجئنا بك شهيدا على هؤلء ‪ ,‬ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل‬
‫شيء ‪ ,‬وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)‪. .‬‬

‫وفي ظل المشهد المعروض للمشركين ‪ ,‬والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم ‪ ,‬ويستسلمون‬
‫ل متبرئين من دعوى عبادهم الضالين ‪ ,‬يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة‬
‫شهيد ‪ .‬فتجيء هذه اللمسة في وقتها وفوتها‪( :‬وجئنا بك شهيدا على هؤلء)‪ . .‬ثم يذكر أن في الكتاب الذي‬
‫نزل على الرسول (تبيانا لكل شيء)فل حجة بعده لمحتج ‪ ,‬ول عذر معه لمعتذر ‪( .‬وهدى ورحمة وبشرى‬
‫للمسلمين)‪ . .‬فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب ‪ ,‬فل يؤذن للذين كفروا ول هم‬
‫يستعتبون ‪. .‬‬

‫وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لداء غرض في السياق ‪ ,‬تتناسق مع جوه وتؤديه ‪.‬‬

‫الوحدة الخامسة‪ 111 - 90:‬الموضوع‪:‬توجيهات حول الخلق والوفاء بالعهد وآداب التلوة والستعاذة‬
‫والرخصة‬

‫شهِيدا عَلَى هَـؤُلء َو َنزّ ْلنَا عََل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ ِت ْبيَانا ّلكُلّ‬
‫ج ْئنَا ِبكَ َ‬
‫س ِهمْ َو ِ‬
‫ن أَن ُف ِ‬
‫شهِيدا عََل ْيهِم مّ ْ‬
‫َو َي ْومَ َن ْبعَثُ فِي كُلّ ُأمّةٍ َ‬
‫حمَةً َو ُبشْرَى لِ ْل ُمسِْلمِينَ (‪)89‬‬
‫شيْءٍ وَ ُهدًى َو َر ْ‬
‫َ‬
‫مقدمة الوحدة ختم الدرس الماضي بقوله تعالى‪( :‬ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ‪ ,‬وهدى ورحمة وبشرى‬
‫للمسلمين)‪ .‬وفي هذا الدرس بيان لبعض ما في الكتاب من التبيان والهدى والرحمة والبشرى ‪ .‬فيه المر‬
‫بالعدل والحسان وإيتاء ذي القربى ‪ ,‬والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ‪ ,‬وفيه المر بالوفاء بالعهد والنهي‬
‫عن نقض اليمان بعد توكيدها ‪ . .‬وكلها من مباديء السلوك الساسية التي جاء بها هذا الكتاب ‪.‬‬

‫ظكُمْ َلعَّل ُكمْ َت َذ ّكرُونَ (‬


‫حشَاء وَا ْلمُن َكرِ وَا ْل َب ْغيِ َي ِع ُ‬
‫عنِ الْ َف ْ‬
‫حسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْ ُق ْربَى َو َي ْنهَى َ‬
‫لْ‬‫إِنّ اللّ َه َي ْأمُرُ بِا ْل َعدْلِ وَا ِ‬
‫جعَ ْل ُتمُ اللّهَ عََل ْي ُكمْ كَفِيلً إِنّ اللّ َه َيعَْلمُ مَا‬
‫ل ْيمَانَ َب ْعدَ تَ ْوكِيدِهَا َو َقدْ َ‬
‫ل تَنقُضُواْ ا َ‬
‫‪ )90‬وََأ ْوفُواْ ِب َع ْهدِ الّلهِ ِإذَا عَاهَدّتمْ َو َ‬
‫تَ ْفعَلُونَ (‪)91‬‬

‫وفيه بيان الجزاء المقرر لنقض العهد واتخاذ اليمان للخداع والتضليل ‪ ,‬وهو العذاب العظيم ‪ .‬والبشرى للذين‬
‫صبروا وتوفيتهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‪.‬‬

‫ثم يذكر بعض آداب قراءة هذا الكتاب ‪ .‬وهو الستعاذة بال من الشيطان الرجيم ‪ ,‬لطرد شبحه من مجلس‬
‫القرآن الكريم ‪ .‬كما يذكر بعض تقولت المشركين عن هذا الكتاب ‪ .‬فمنهم من يرمي الرسول [ ص ] بافترائه‬
‫على ال ‪ .‬ومنهم من يقول‪:‬إن غلما أعجميا هو الذي يعلمه هذا القرآن !‬
‫وفي نهاية الدرس يبين جزاء من يكفر بعد إيمانه ‪ ,‬ومن يكره على الكفر وقلبه مطمئن باليمان ‪ ,‬ومن فتنوا‬
‫عن دينهم ثم هاجروا وجاهدوا وصبروا ‪ . .‬وكل أولئك تبيان ‪ ,‬وهدى ورحمة وبشرى للمسليمن ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 93 - 90:‬أمر بالعدل والحسان والوفاء والنهي عن نقض العهد‬

‫(إن ال يأمر بالعدل والحسان وإيتاء ذي القربى ‪ ,‬وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ‪ .‬يعظكم لعلكم تذكرون‬
‫‪ .‬وأوفوا بعهد ال إذا عاهدتم ‪ ,‬ول تنقضوا اليمان بعد توكيدها ‪ ,‬وقد جعلتم ال عليكم كفيل ‪ ,‬إن ال يعلم ما‬
‫تفعلون ‪ .‬ول تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ‪ ,‬تتخذون أيمانكم دخل بينكم أن تكون أمة هي‬
‫أربى من أمة ‪ ,‬إنما يبلوكم ال به ‪ ,‬وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ‪ .‬ولو شاء ال لجعلكم أمة‬
‫واحدة ‪ ,‬ولكن يضل من يشاء ‪ ,‬ويهدي من يشاء ‪ ,‬ولتسألن عما كنتم تعملون)‪. .‬‬

‫لقد جاء هذا الكتاب لينشيء أمة وينظم مجتمعا ‪ ,‬ثم لينشيء عالما ويقيم نظاما ‪ .‬جاء داء دعوة عالمية إنسانية‬
‫ل تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس ; إنما العقيدة وحدها هي الصرة والرابطة والقومية والعصبية ‪.‬‬

‫ومن ثم جاء بالمباديء التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات ‪ ,‬واطمئنان الفراد والمم والشعوب ‪ ,‬والثقة‬
‫بالمعاملت والوعود والعهود ‪.‬‬

‫جاء(بالعدل)الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل ‪ ,‬ل تميل مع الهوى ‪ ,‬ول تتأثر‬
‫بالود والبغض ‪ ,‬ول تتبدل مجاراة للصهر والنسب ‪ ,‬والغني والفقير ‪ ,‬والقوة والضعف ‪ .‬إنما تمضي في‬
‫طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع ‪ ,‬وتزن بميزان واحد للجميع ‪.‬‬

‫وإلى جوار العدل ‪(. .‬الحسان)‪ . .‬يلطف من حدة العمل الصارم الجازم ‪ ,‬ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن‬
‫يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب ‪ ,‬وشفاء لغل الصدور ‪ .‬ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب‬
‫عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضل ‪.‬‬

‫والحسان أوسع مدلول ‪ ,‬فكل عمل طيب إحسان ‪ ,‬والمر بالحسان يشمل كل عمل وكل تعامل ‪ ,‬فيشمل‬
‫محيط الحياة كلها في علقات العبد بربه ‪ ,‬وعلقاته بأسرته ‪ ,‬وعلقاته بالجماعة ‪ ,‬وعلقاته بالبشرية جميعا ‪.‬‬

‫ومن الحسان (إيتاء ذي القربى)إنما يبرز المر به تعظيما لشأنه ‪ ,‬وتوكيدا عليه ‪ .‬وما يبني هذا على عصبية‬
‫السرة ‪ ,‬إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به السلم من المحيط المحلي إلى المحيط العام ‪ .‬وفق‬
‫نظريته التنظيمية لهذا التكافل ‪.‬‬

‫(وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)‪ . .‬والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد ‪ .‬ومنه ما خصص به غالبا‬
‫وهو فاحشة العتداء على العرض ‪ ,‬لنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء‬
‫ويختص بها ‪ .‬والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة ‪ .‬وقد تنحرف الفطرة‬
‫أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها ‪ .‬والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل ‪.‬‬

‫وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي ‪ .‬ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولتها ‪,‬‬
‫والمنكر بكل مغرراته ‪ ,‬والبغي بكل معقباته ‪ ,‬ثم يقوم ‪. .‬‬

‫والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة ‪ ,‬مهما تبلغ قوتها ‪ ,‬ومهما يستخدم الطغاة‬
‫من الوسائل لحمايتها ‪ .‬وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي ‪ .‬فل يهم أن‬
‫تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر ‪ ,‬فالنتفاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم‬
‫الحياة ‪ ,‬فهي تنتفض لطردها ‪ ,‬كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه ‪ .‬وأمر ال بالعدل والحسان‬
‫ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة ‪ ,‬ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم ال ‪ .‬لذلك‬
‫يجيء التعقيب‪( :‬يعظكم لعلكم تذكرون)فهي عظة للتذكر وتذكر وحي الفطرة الصيل القويم ‪.‬‬

‫وأفوا بعهد ال إذا عاهدتم ول تنقضوا اليمان بعد توكيدها وقد جعلتم ال عليكم كفيل إن ال يعلم ما تفعلون ‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫والوفاء بعهد ال يشمل بيعة المسلمين للرسول [ ص ] ويشمل كل عهد على معروف يأمر به ال ‪ .‬والوفاء‬
‫بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس ‪ ,‬وبدون هذه الثقة ل يقوم مجتمع ‪ ,‬ول تقوم‬
‫إنسانية ‪ .‬والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا اليمان بعد توكيدها وقد جعلوا ال كفيل عليهم ‪ ,‬وأشهدوه‬
‫عهدهم ‪ ,‬وجعلوه كافل للوفاء بها ‪ .‬ثم يهددهم تهديدا خفيا (إن ال يعلم ما تفعلون)‪.‬‬

‫وقد تشدد السلم في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا ‪ ,‬لنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد‬
‫الجماعة ويتهدم ‪ ,‬والنصوص القرآنية هنا ل تقف عند حد المر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد‬
‫لضرب المثال ‪ ,‬وتقبيح نكث العهد ‪ ,‬ونفي السباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات‪:‬‬

‫(ول تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخل بينكم ‪ ,‬أن تكون أمة هي أربى من‬
‫أمة ‪ .‬إنما يبلوكم ال به ‪ .‬وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون)‪.‬‬

‫فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ‪ ,‬تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة‬
‫أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب ‪ .‬وتشوه‬
‫المر في النفوس وتقبحه في القلوب ‪ .‬وهو المقصود ‪ .‬وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه‬
‫المرأة الضعيفة الرادة الملتاثة العقل ‪ ,‬التي تقضي حياتها فيما ل غناء فيه !‬
‫وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول [ ص ] بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة ‪ ,‬بينما قريش كثرة‬
‫قوية ‪ .‬فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها‪( :‬تتخذون أيمانكم دخل‬
‫بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة)أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة ‪ .‬وطلبا للمصلحة مع المة‬
‫الربى ‪.‬‬

‫ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الن "مصلحة الدولة " فتعقد دولة معاهدة مع‬
‫دولة أو مجموعة دول ‪ ,‬ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الخر ‪,‬‬
‫تحقيقا‬

‫ي َأ ْربَى مِنْ ُأمّةٍ‬


‫غزَْلهَا مِن َب ْعدِ قُوّ ٍة أَنكَاثا َت ّتخِذُونَ َأ ْيمَا َن ُكمْ َدخَلً َب ْي َنكُمْ أَن َتكُونَ ُأمّةٌ ِه َ‬
‫َولَ َتكُونُو ْا كَاّلتِي نَ َقضَتْ َ‬
‫حدَةً وَلكِن‬
‫جعََلكُمْ ُأمّةً وَا ِ‬
‫ختَلِفُونَ (‪ )92‬وََلوْ شَاء اللّهُ َل َ‬
‫ن َل ُكمْ يَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ مَا كُن ُتمْ فِيهِ َت ْ‬
‫ِإ ّنمَا َيبْلُو ُكمُ الّلهُ بِ ِه وََل ُي َبيّنَ ّ‬
‫ل َت ّتخِذُو ْا َأ ْيمَا َنكُمْ َدخَلً َب ْي َن ُكمْ َفتَزِلّ َق َدمٌ َب ْعدَ‬
‫عمّا كُن ُتمْ َت ْعمَلُونَ (‪َ )93‬و َ‬
‫سأَلُنّ َ‬
‫ُيضِلّ مَن َيشَاءُ َو َي ْهدِي مَن َيشَاءُ وََل ُت ْ‬
‫عظِيمٌ (‪)94‬‬
‫عذَابٌ َ‬
‫سبِيلِ اللّهِ وََل ُكمْ َ‬
‫صدَدتّمْ عَن َ‬
‫ُثبُو ِتهَا َو َتذُوقُواْ ا ْلسّوءَ ِبمَا َ‬
‫لمصلحة الدولة ! فالسلم ل يقر مثل هذا المبرر ‪ ,‬ويجزم بالوفاء بالعهد ‪ ,‬وعدم اتخاذ اليمان ذريعة للغش‬
‫والدخل ‪ .‬ذلك في مقابل أنه ل يقر تعاهدا ول تعاونا على غير البر والتقوى ‪ .‬ول يسمح بقيام تعاهد أو تعاون‬
‫على الثم والفسوق والعصيان ‪ ,‬وأكل حقوق الناس ‪ ,‬واستغلل الدول والشعوب ‪ . .‬وعلى هذا الساس قام‬
‫بناء الجماعة السلمية وبناء الدولة السلمية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملت الفردية‬
‫والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى السلم ‪.‬‬

‫والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر ‪ ,‬وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة‪( :‬أن تكون أمة هي أربى من‬
‫أمة)هو ابتلء من ال لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي‬
‫أشهدوا ال عليه‪( :‬إنما يبلوكم ال به)‪. .‬‬

‫ثم يكل أمر الخلفات التي تنشب بين الجماعات والقوام إلى ال في يوم القيامة للفصل فيه‪( :‬وليبينن لكم يوم‬
‫القيامة ما كنتم فيه تختلفون)يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة‪(:‬ولو‬
‫شاء ال لجعلكم أمة واحدة ‪ ,‬ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون)‪ . .‬ولو شاء ال‬
‫لخلق الناس باستعداد واحد ‪ ,‬ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة ‪ ,‬نسخا غير مكررة ول معادة ‪ ,‬وجعل نواميس‬
‫للهدى والضلل ‪ ,‬تمضي بها مشيئته في الناس ‪ .‬وكل مسؤول عما يعمل ‪ .‬فل يكون الختلف في العقيدة‬
‫سببا في نقض العهود ‪ .‬فالختلف له أسبابه المتعلقة بمشيئة ال ‪ .‬والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات ‪.‬‬
‫وهذه قمة في نظافة التعامل ‪ ,‬والسماحة الدينية ‪ ,‬لم يحققها في واقع الحياة إل السلم في ظل هذا القرآن ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 96 - 94:‬النهي عن المخادعة باليمان أو المتاجرة بها‬


‫ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود ‪ ,‬ونهيه عن اتخاذ اليمان للغش والخديعة ‪ ,‬وبث الطمأنينة الكاذبة‬
‫للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية ‪ .‬ويحذرعاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية‬
‫والجتماعية ‪ ,‬وزلزلة العقائد والرتباطات والمعاملت ‪ .‬وينذر بالعذاب العظيم في الخرة ‪ ,‬ويلوح بما عند‬
‫ال من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة ‪ ,‬وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند ال الذي ل تنفد‬
‫خزائنه ‪ ,‬ول ينقطع رزقه‪:‬‬

‫ول تتخذوا أيمانكم دخل بينكم ‪ ,‬فتزل قدم بعد ثبوتها ‪ ,‬وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل ال ‪ ,‬ولكم عذاب‬
‫عظيم ‪ .‬ول تشتروا بعهد ال ثمنا قليل ‪ .‬إن ما عند ال هو خير لكم إن كنتم تعلمون ‪ .‬ما عندكم ينفد وما عند‬
‫ال باق ‪ .‬ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‪.‬‬

‫واتخاذ اليمان غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير ‪ ,‬ويشوه صورتها في ضمائر الخرين ‪ .‬فالذي يقسم‬
‫وهو يعلم أنه خادع في قسمه ‪ ,‬ل يمكن أن تثبت له عقيدة ‪ ,‬ول أن تثبت له قدم على صراطها ‪ .‬وهو في‬
‫الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث ‪ ,‬ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل ; ومن ثم‬
‫يصدهم عن سبيل ال بهذا المثل السييء الذي يضربه للمؤمنين بال ‪.‬‬

‫ولقد دخلت في السلم جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم ‪ ,‬ومن صدقهم في وعدهم‬
‫‪ ,‬ومن إخلصهم في أيمانهم ‪ ,‬ومن نظافتهم في معاملتهم ‪ .‬فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية‬
‫الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم ‪.‬‬

‫ولقد ترك القرآن وسنة الرسول [ ص ] في نفوس المسلمين أثرا قويا وطابعا عاما في هذه الناحية ظل هو‬
‫طابع التعامل السلمي الفردي والدولي المتميز ‪ . .‬روى أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك‬

‫خ ْيرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ (‪ )95‬مَا عِن َدكُمْ يَن َفدُ َومَا عِندَ اللّهِ‬
‫شتَرُو ْا ِب َعهْ ِد اللّ ِه َثمَنا قَلِيلً ِإ ّنمَا عِندَ الّلهِ ُهوَ َ‬
‫َولَ َت ْ‬
‫عمِلَ صَالِحا مّن َذكَ ٍر أَ ْو أُنثَى وَ ُهوَ‬
‫ن مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ (‪ )96‬مَنْ َ‬
‫حسَ ِ‬
‫جرَهُم ِبَأ ْ‬
‫صبَرُو ْا َأ ْ‬
‫ن َ‬
‫ج ِزيَنّ اّلذِي َ‬
‫بَاقٍ وََل َن ْ‬
‫حسَنِ مَا كَانُو ْا َي ْعمَلُونَ (‪)97‬‬
‫جرَهُم ِبَأ ْ‬
‫جزِ َي ّن ُهمْ َأ ْ‬
‫ط ّيبَةً وََل َن ْ‬
‫حيَا ًة َ‬
‫ح ِي َينّهُ َ‬
‫مُ ْؤمِنٌ فََلنُ ْ‬
‫الروم أمد ‪ ,‬فسار إليهم في آخر الجل ‪ [ .‬حتى إذا انقضى وهو قريب من بلدهم أغار عليهم وهم غارون ل‬
‫يشعرون ] فقال له عمر بن عتبة‪:‬ال أكبر يا معاوية ‪ .‬وفاء ل غدر ‪ .‬سمعت رسول ال [ ص ] يقول‪ ":‬من‬
‫كان بينه وبين قوم أجل فل يحلن عقده حتى ينقضي أمدها " فرجع معاوية بالجيش ‪ .‬والروايات عن حفظ‬
‫العهود ‪ -‬مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها ‪ -‬متواترة مشهورة ‪.‬‬

‫وقد ترك هذا القرآن في النفوس ذلك الطابع السلمي البارز ‪ .‬وهو يرغب ويرهب ‪ ,‬وينذر ويحذر ويجعل‬
‫العهد عهد ال ‪ ,‬ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيل هزيل ‪ ,‬وما عند ال على الوفاء عظيما جزيل‪(:‬ول‬
‫تشتروا بعهد ال ثمنا قليل ‪ .‬إنما عند ال هو خير لكم إن كنتم تعلمون)‪ . .‬ويذكر بأن ما عند البشر ولو ملكه‬
‫فرد فإنه زائل ‪ ,‬وما عند ال باق دائم‪( :‬ما عندكم ينفد وما عند ال باق)‪ ,‬ويقوي العزائم على الوفاء ‪ ,‬والصبر‬
‫لتكاليف الوفاء ‪ ,‬ويعد الصابرين أجرا حسنا (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)والتجاوز‬
‫عما وقع منهم من عمل سيء ‪ ,‬ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 97:‬البشرى بقبول عمل الصالحين والصالحات وحياتهم الطيبة‬

‫وبمناسبة العمل والجزاء ‪ ,‬يعقب بالقاعدة العامة فيهما‪:‬‬

‫(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ‪ ,‬فلنحيينه حياة طيبة ‪ ,‬ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا‬
‫يعملون)‪ . .‬فيقرر بذلك القواعد التالية‪:‬‬

‫أن الجنسين‪:‬الذكر والنثى ‪ .‬متساويان في قاعدة العمل والجزاء ‪ ,‬وفي صلتهما بال ‪ ,‬وفي جزائهما عند ال ‪.‬‬
‫ومع أن لفظ(من)حين يطلق يشمل الذكر والنثى إل أن النص يفصل‪( :‬من ذكر أو أنثى)لزيادة تقرير هذه‬
‫الحقيقة ‪ .‬وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في النثى ‪ ,‬وضيق المجتمع بها ‪ ,‬واستياء من‬
‫يبشر بمولدها ‪ ,‬وتواريه من القوم حزنا وغما وخجل وعارا !‬

‫وأن العمل الصالح ل بد له من القاعدة الصيلة يرتكز عليها ‪ .‬قاعدة اليمان بال (وهو مؤمن)فبغير هذه‬
‫القاعدة ل يقوم بناء ‪ ,‬وبغير هذه الرابطة ل يتجمع شتاته ‪ ,‬إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم‬
‫عاصف ‪ .‬والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعا ‪ ,‬وإل فهي أنكاث ‪ .‬فالعقيدة هي التي تجعل للعمل‬
‫الصالح باعثا وغاية ‪ .‬فتجعل الخير أصيل ثابتا يستند إلى أصل كبير ‪ .‬ل عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات‬
‫والهواء حيث تميل ‪.‬‬

‫وأن العمل الصالح مع اليمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الرض ‪ .‬ل يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال ‪.‬‬
‫فقد تكون به ‪ ,‬وقد ل يكون معها ‪ .‬وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود‬
‫الكفاية‪:‬فيها التصال بال والثقة به والطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه ‪ .‬وفيها الصحة والهدوء والرضى‬
‫والبركة ‪ ,‬وسكن البيوت ومودات القلوب ‪ .‬وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة ‪.‬‬
‫‪ .‬وليس المال إل عنصرا واحدا يكفي منه القليل ‪ ,‬حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند ال ‪.‬‬

‫وأن الحياة الطيبة في الدنيا ل تنقص من الجر الحسن في الخرة ‪.‬‬

‫وأن هذا الجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ‪ ,‬ويتضمن هذا تجاوز ال لهم عن‬
‫السيئات ‪ .‬فما أكرمه من جزاء !‬
‫ن آ َمنُواْ َوعَلَى َر ّبهِمْ‬
‫س لَ ُه سُلْطَانٌ عَلَى اّلذِي َ‬
‫ن الرّجِيمِ (‪ِ )98‬إنّهُ َليْ َ‬
‫شيْطَا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن فَاسْ َت ِعذْ بِاللّ ِه مِ َ‬
‫َفإِذَا َقرَأْتَ الْ ُقرْآ َ‬
‫ن آيَةٍ وَالّلهُ‬
‫ن َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِينَ هُم بِ ِه ُمشْ ِركُونَ (‪ )100‬وَِإذَا َبدّ ْلنَا آ َيةً ّمكَا َ‬
‫َيتَ َوكّلُونَ (‪ِ )99‬إ ّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى اّلذِي َ‬
‫حقّ ِل ُي َثبّتَ‬
‫س مِن رّ ّبكَ بِا ْل َ‬
‫ل َيعَْلمُونَ (‪ )101‬قُلْ َنزّلَهُ رُوحُ الْ ُقدُ ِ‬
‫أَعَْلمُ ِبمَا ُي َنزّلُ قَالُو ْا ِإ ّنمَا أَنتَ ُم ْفتَ ٍر بَلْ َأ ْكثَرُ ُهمْ َ‬
‫شرَى لِ ْل ُمسْلِمِينَ (‪)102‬‬
‫اّلذِينَ آ َمنُواْ وَ ُهدًى َو ُب ْ‬

‫الدرس الرابع‪ 105 98:‬آداب تلوة القرآن وردعلي شبهات الكفار حوله ثم يأخذ السياق في شيء عن خاصة‬
‫الكتاب ‪ .‬عن آداب قراءته ‪ .‬وعن تقولت المشركين عليه‪:‬‬

‫(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بال من الشيطان الرجيم ‪ .‬إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‬
‫‪ .‬إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)‪.‬‬

‫والستعاذة بال من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب ال ‪ ,‬وتطهير له من الوسوسة واتجاه‬
‫بالمشاعر إلى ال خالصة ل يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي يمثله الشيطان ‪.‬‬

‫فاستعذ بال من الشيطان الرجيم ‪(. .‬إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)فالذين يتوجهون‬
‫إلى ال وحده ‪ ,‬ويخلصون قلوبهم ل ‪ ,‬ل يملك الشيطان أن يسيطر عليهم ‪ ,‬مهما وسوس لهم فإن صلتهم بال‬
‫تعصمهم أن ينساقوا معه ‪ ,‬وينقادوا إليه ‪ .‬وقد يخطئون ‪ ,‬لكنهم ل يستسلمون ‪ ,‬فيطردون الشيطان عنهم‬
‫ويثوبون إلى ربهم من قريب ‪( . .‬إنما سلطانه على الذين يتولونه)أولئك الذين يجعلونه وليهم ويستسلمون له‬
‫بشهواتهم ونزواتهم ‪ ,‬ومنهم من يشرك به ‪ .‬فقد عرفت عبادة الشيطان وعبادة إله الشر عند بعض القوام ‪.‬‬
‫على أن أتباعهم للشيطان نوع من الشرك بالولء والتباع ‪.‬‬

‫وعند ذكر المشركين يذكر تقولتهم عن القرآن الكريم‪:‬‬

‫(وإذا بدلنا آية مكان آية ‪ ,‬وال أعلم بما ينزل قالوا‪:‬إنما أنت مفتر ‪ .‬بل أكثرهم ل يعلمون ‪ .‬قل‪:‬نزله روح‬
‫القدس من ربك بالحق ‪ ,‬ليثبت الذين آمنوا ‪ ,‬وهدى وبشرى للمسلمين ‪ .‬ولقد نعلم أنهم يقولون‪:‬إنما يعلمه بشر ‪.‬‬
‫لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ‪ ,‬وهذا لسان عربي مبين ‪ .‬إن الذين ل يؤمنون بآيات ال ل يهديهم ال ولهم‬
‫عذاب أليم ‪ .‬إنما يفتري الكذب الذين ل يؤمنون بآيات ال ‪ ,‬وأولئك هم الكاذبون)‪. .‬‬

‫إن المشركين ل يدركون وظيفة هذا الكتاب ‪ .‬ل يدركون أنه جاء لنشاء مجتمع عالمي إنساني ‪ ,‬وبناء أمة‬
‫تقود هذا المجتمع العالمي ‪ .‬وأنه الرسالة الخيرة التي ليست بعدها من السماء رسالة ; وأن ال الذي خلق‬
‫البشر عليم بما يصلح لهم من المباديء والشرائع ‪ .‬فإذا بدل آية انتهى أجلها واستنفدت أغراضها ‪ ,‬ليأتي بآية‬
‫أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها المة ‪ ,‬وأصلح للبقاء بعد ذلك الدهر الطويل الذي ل يعلمه إل‬
‫هو ‪ ,‬فالشأن له ‪ ,‬ومثل آيات هذا الكتاب كمثل الدواء تعطى للمريض منه جرعات حتى يشفى ‪ ,‬ثم ينصح‬
‫بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية ‪.‬‬

‫إن المشركين ل يدركون شيئا من هذا كله ‪ ,‬ومن ثم لم يدركوا حكمة تبديل آية مكان آية في حياة الرسول‬
‫[ ص ] فحسبوها افتراء منه وهو الصادق المين الذي لم يعهدوا عليه كذبا قط ‪( .‬بل أكثرهم ل يعلمون)‪. .‬‬

‫(قل‪:‬نزله روح القدس من ربك بالحق)‪ . .‬فما يمكن أن يكون افتراء ‪ .‬وقد نزله (روح القدس)‪ -‬جبريل عليه‬
‫السلم ‪( -‬من ربك)ل من عندك(بالحق)ل يتلبس به الباطل (ليثبت الذين آمنوا)الموصولة قلوبهم بال ‪ ,‬فهي‬
‫تدرك أنه من عند ال ‪ ,‬فتثبت على الحق وتطمئن إلى الصدق (وهدى وبشرى للمسلمين)بما يهديهم إلى‬
‫الطريق المستقيم ‪ ,‬وبما يبشرهم بالنصر والتمكين ‪.‬‬

‫(ولقد نعلم أنهم يقولون‪:‬إنما يعلمه بشر ‪ .‬لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ‪ .‬وهذا لسان عربي مبين)‪. .‬‬

‫والفرية الخرى بزعمهم أن الذي يعلم الرسول [ ص ] هذا القرآن إنما هو بشر ‪ .‬سموه باسمه ‪ ,‬واختلفت‬
‫الروايات في تعيينه ‪ . .‬قيل‪:‬كانوا يشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلم لبعض‬

‫ع َربِيّ ّمبِينٌ (‪ِ )103‬إنّ‬


‫ج ِميّ وَهَـذَا ِلسَانٌ َ‬
‫عَ‬‫حدُونَ إَِليْ ِه أَ ْ‬
‫شرٌ ّلسَانُ اّلذِي يُ ْل ِ‬
‫ن ِإ ّنمَا ُيعَّلمُهُ َب َ‬
‫وَلَ َقدْ َنعَْلمُ َأ ّنهُ ْم يَقُولُو َ‬
‫ن لَ ُي ْؤ ِمنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ‬
‫ب أَلِيمٌ (‪ِ )104‬إ ّنمَا يَ ْف َترِي ا ْل َكذِبَ اّلذِي َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫ل َي ْهدِي ِهمُ الّلهُ وََل ُهمْ َ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ بِآيَاتِ الّلهِ َ‬
‫اّلذِينَ َ‬
‫وَُأوْلـ ِئكَ ُهمُ ا ْلكَا ِذبُونَ (‪)105‬‬
‫بطون قريش ‪ ,‬وكان بياعا يبيع عند الصفا ‪ ,‬وربما كان رسول ال [ ص ] يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ‪,‬‬
‫وذلك كان أعجمي اللسان ل يعرف العربية ‪ ,‬أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب‬
‫فيما ل بد منه ‪.‬‬

‫وقال محمد بن إسحاق في السيرة‪:‬كان رسول ال [ ص ] فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى سبيعة ‪.‬‬
‫غلم نصراني يقال له‪:‬جبر ‪ .‬عبد لبعض بني الحضرمي ‪ ,‬فأنزل ال‪(:‬ولقد نعلم أنهم يقولون‪:‬إنما يعلمه بشر ‪.‬‬
‫لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ‪ ,‬وهذا لسان عربي مبين)‪.‬‬

‫وقال عبد ال بن كثير وعن عكرمة وقتادة كان اسمه "يعيش" ‪.‬‬

‫وروى ابن جرير ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن ابن عباس قال‪:‬كان رسول ال [ ص ] يعلم قنا بمكة وكان اسمه بلعام ‪.‬‬
‫وكان أعجمي اللسان ‪ ,‬وكان المشركون يرون رسول ال [ ص ] يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا‪:‬إنما‬
‫يعلمه بلعام ‪ .‬فأنزل ال هذه الية ‪. . .‬‬
‫وأما ما كان فقد رد عليهم البسيط الواضح الذي ل يحتاج إلى جدل‪":‬لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ‪ .‬وهذا‬
‫لسان عربي مبين" فكيف يمكن لمن لسانه أعجمي أن يعلم محمدا هذا الكتاب العربي المبين ?‬

‫وهذه المقالة منهم يصعب حملها على الجد ‪ ,‬وأغلب الظن أنها كيد من كيدهم الذي كانوا يدبرونه وهم يعلمون‬
‫كذبه وافتراءه ‪ .‬وإل فكيف يقولون ‪ -‬وهم أخبر بقيمة هذا الكتاب وإعجازه ‪ -‬إن أعجميا يملك أن يعلم محمدا‬
‫هذا الكتاب ‪ .‬ولئن كان قادرا على مثله ليظهرن به لنفسه !‬

‫واليوم ‪ ,‬بعد ما تقدمت البشرية كثيرا ‪ ,‬وتفتقت مواهب البشر عن كتب ومؤلفات ‪ ,‬وعن نظم وتشريعات ;‬
‫يملك كل من يتذوق القول ‪ ,‬وكل من يفقه أصول النظم الجتماعية ‪ ,‬والتشريعات القانونية أن يدرك أن مثل‬
‫هذا الكتاب ل يمكن أن يكون من عمل البشر ‪.‬‬

‫وحتى الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية ‪ ,‬عندما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر المستشرقين‬
‫عام ‪ 1954‬كانت دعواهم أن هذا القرآن ل يمكن أن يكون من عمل فرد واحد ‪ -‬هو محمد ‪ -‬بل من عمل‬
‫جماعة كبيرة ‪ .‬وأنه ل يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها !!!‬

‫دعاهم إلى هذا استكثار هذا الكتاب على موهبة رجل واحد ‪ .‬وعلى علم أمة واحدة ‪.‬‬

‫ولم يقولوا ما يوحي به المنطق الطبيعي المستقيم‪:‬إنه من وحي رب العالمين ‪ .‬لنهم ينكرون أن يكون لهذا‬
‫الوجود إله ‪ ,‬وأن يكون هناك وحي ورسل ونبوات !‬

‫فكيف كان يمكن ‪ -‬وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين ‪ -‬أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني‬
‫فلن في الجزيرة العربية ?!‬

‫ويعلل القرآن هذه المقولة الضالة فيقول‪:‬‬

‫"إن الذين ل يؤمنون بآيات ال ل يهديهم ال ولهم عذاب أليم" ‪. .‬‬

‫فهؤلء الذين ل يؤمنوا بآيات ال لم يهدهم ال إلى الحقيقة في أمر هذا الكتاب ‪ ,‬ول يهديهم إلى الحقيقة في‬
‫شيء ما ‪ .‬بكفرهم وإعراضهم عن اليات المؤدية إلى الهدى "ولهم عذاب أليم" بعد ذلك الضلل المقيم ‪.‬‬

‫ثم يثني بأن الفتراء على ال ل يصدر إل من مثل هؤلء الذين ل يؤمنون ‪ .‬ول يمكن أن يصدر من الرسول‬
‫المين‪:‬‬
‫غضَبٌ‬
‫صدْرا َفعََل ْي ِهمْ َ‬
‫شرَحَ بِا ْلكُ ْفرِ َ‬
‫ط َمئِنّ بِالِيمَانِ وَلَـكِن مّن َ‬
‫ن ُأ ْكرِهَ َوقَ ْلبُهُ ُم ْ‬
‫ل مَ ْ‬
‫مَن كَ َفرَ بِالّلهِ مِن َب ْعدِ إيمَانِهِ ِإ ّ‬
‫ل َي ْهدِي الْ َق ْومَ ا ْلكَافِرِينَ‬
‫خرَةِ وََأنّ الّلهَ َ‬
‫حيَا َة ا ْل ّد ْنيَا عَلَى ال ِ‬
‫حبّواْ ا ْل َ‬
‫س َت َ‬
‫عظِيمٌ (‪ )106‬ذَِلكَ ِبَأ ّنهُمُ ا ْ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫ن اللّهِ وََل ُهمْ َ‬
‫مّ َ‬
‫جرَمَ َأ ّن ُهمْ فِي‬
‫س ْم ِع ِهمْ وََأ ْبصَارِ ِهمْ وَأُولَـ ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ (‪ )108‬لَ َ‬
‫طبَعَ الّلهُ عَلَى قُلُو ِب ِهمْ َو َ‬
‫ك اّلذِينَ َ‬
‫(‪ )107‬أُولَـئِ َ‬
‫الخِرَ ِة ُهمُ ا ْلخَاسِرونَ (‪)109‬‬

‫(إنما يفتري الكذب الذين ل يؤمنون بآيات ال ‪ .‬وأولئك هم الكاذبون)‬

‫فالكذب جريمة فاحشة ل يقدم عليها مؤمن ‪ .‬وقد نفى الرسول [ ص ] في حديث له صدورها عن المسلم ‪ ,‬وإن‬
‫كان يصدر عنه غيرها من الذنوب ‪.‬‬

‫الدرس الخامس‪ 111 - 106:‬الرخصة في النطق بكلمة الكفر وأجر المجاهدين المهاجرين‬

‫ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد اليمان‪:‬‬

‫(من كفر بال من بعد إيمانه ‪ -‬إل من أكره وقلبه مطمئن باليمان ‪ -‬ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم‬
‫غضب من ال ‪ ,‬ولهم عذاب عظيم ‪ .‬ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة ‪ ,‬وأن ال ل يهدي القوم‬
‫الكافرين ‪ .‬أولئك الذين طبع ال على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ‪ ,‬وأولئك هم الغافلون ‪ .‬ل جرم أنهم في‬
‫الخرة هم الخاسرون)‪. .‬‬

‫ولقد لقي المسلمون الوائل في مكة من الذى ما ل يطيقه إل من نوى الشهادة ‪ ,‬وآثر الحياة الخرى ‪,‬‬
‫ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلل ‪.‬‬

‫والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بال من بعد إيمانه ‪ .‬لنه عرف اليمان وذاقه ‪ ,‬ثم ارتد عنه إيثارا للحياة‬
‫الدنيا على الخرة ‪ .‬فرماهم بغضب من ال ‪ ,‬وبالعذاب العظيم ‪ ,‬والحرمان من الهداية ; ووصمهم بالغفلة‬
‫وانطماس القلوب والسمع والبصار ; وحكم عليهم بأنهم في الخرة هم الخاسرون ‪ . .‬ذلك أن العقيدة ل يجوز‬
‫أن تكون موضع مساومة ‪ ,‬وحساب للربح والخسارة ‪ .‬ومتى آمن القلب بال فل يجوز أن يدخل عليه مؤثر‬
‫من مؤثرات هذه الرض ; فللرض حساب ‪ ,‬وللعقيدة حساب ول يتداخلن ‪ .‬وليست العقيدة هزل ‪ ,‬وليست‬
‫صفة قابلة للخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز ‪ .‬ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ‪ ,‬والتفظيع للجريمة ‪.‬‬

‫واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن باليمان ‪ .‬أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من‬
‫الهلك ‪ ,‬وقلبه ثابت على اليمان مرتكن إليه مطمئن به ‪ .‬وقد روى أن هذه الية نزلت في عمار بن ياسر ‪.‬‬

‫روى ابن جرير ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال‪:‬أخذ المشركون عمار بن ياسر‬
‫فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ‪ .‬فشكا ذلك إلى النبي [ ص ] فقال النبي [ ص ] " كيف تجد قلبك ? "‬
‫قال‪:‬مطمئنا باليمان ‪ .‬قال النبي [ ص ]‪ ":‬إن عادوا فعد " ‪ . .‬فكانت رخصة في مثل هذه الحال ‪.‬‬
‫وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان ‪ .‬كذلك صنعت سمية أم‬
‫ياسر ‪ ,‬وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر ‪.‬‬

‫وقد كان بلل ‪ -‬رضوان ال عليه ‪ -‬يفعل المشركون به الفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره‬
‫في شدة الحر ‪ ,‬ويأمرونه بالشرك بال ‪ ,‬فيأبى عليهم وهو يقول‪:‬أحد ‪ .‬أحد ‪ .‬ويقول‪:‬وال لو أعلم كلمة هي‬
‫أغيظ لكم منها لقلتها ‪.‬‬

‫وكذلك حبيب بن زيد النصاري لما قال له مسيلمة الكذاب‪:‬أتشهد أن محمدا رسول ال ‪ .‬فيقول‪:‬نعم ‪.‬‬
‫فيقول‪:‬أتشهد أني رسول ال ? فيقول‪:‬ل أسمع ! فلم يزل يقطعه إربا إربا ‪ ,‬وهو ثابت على ذلك ‪.‬‬

‫وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد ال بن حذيفة السهمي ‪ -‬أحد الصحابة رضوان ال عليهم ‪ -‬أنه‬

‫ك مِن َب ْعدِهَا َلغَفُورٌ ّرحِيمٌ (‪ )110‬يَ ْومَ َت ْأتِي‬


‫ن َربّ َ‬
‫صبَرُو ْا إِ ّ‬
‫جرُواْ مِن َب ْعدِ مَا فُ ِتنُو ْا ُثمّ جَا َهدُواْ َو َ‬
‫ك لِّلذِينَ هَا َ‬
‫ن َربّ َ‬
‫ُثمّ إِ ّ‬
‫ل ُيظَْلمُونَ (‪)111‬‬
‫عمِلَتْ وَ ُهمْ َ‬
‫سهَا َوتُ َوفّى كُلّ نَفْسٍ مّا َ‬
‫س ُتجَادِلُ عَن نّ ْف ِ‬
‫كُلّ نَفْ ٍ‬
‫أسرته الروم ‪ ,‬فجاءوا به إلى ملكهم ‪ ,‬فقال له‪:‬تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي ‪ .‬فقال له‪:‬لو‬
‫أعطيتني جميع ما تملك و جميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد [ ص ] طرفة عين ما فعلت ‪.‬‬
‫فقال‪:‬إذن أقتلك ‪ ,‬فقال‪:‬أنت وذاك ‪ .‬قال‪:‬فأمر به فصلب ‪ ,‬وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو‬
‫يعرض عليه دين النصرانية فيأبى ‪ .‬ثم أمر به فأنزل ‪ .‬ثم أمر بقدر ‪ .‬وفي رواية‪:‬بقرة من نحاس فأحميت ‪,‬‬
‫وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح ‪ .‬وعرض عليه فأبى ‪ ,‬فأمر به أن يلقى فيها ‪.‬‬
‫فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى ‪ .‬فطمع فيه ودعاه ‪ .‬فقال‪:‬إني إنما بكيت لن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى‬
‫في هذه القدر الساعة في ال ‪ ,‬فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في ال ‪.‬‬

‫وفي رواية أنه سجنه ‪ ,‬ومنع عنه الطعام والشراب أياما ‪ ,‬ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ‪ ,‬فلم يقربه ‪ ,‬ثم‬
‫استدعاه فقال‪:‬ما منعك أن تأكل ? فقال‪:‬أما إنه قد حل لي ‪ ,‬ولكن لم أكن لشمتك في ‪ .‬فقال له الملك‪:‬فقبل‬
‫رأسي وأنا أطلقك ‪ .‬فقال‪:‬تطلق معي جميع أسارى المسليمن ‪ .‬فقال‪:‬نعم ‪ .‬فقبل رأسه ‪ ,‬فأطلق معه جميع‬
‫أسارى المسلمين عنده ‪ .‬فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪:‬حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد‬
‫ال بن حذافة ‪ ,‬وأنا ابدأ ‪ .‬فقام فقبل رأسه رضي ال عنهما ‪.‬‬

‫ذلك أن العقيدة أمر عظيم ‪ ,‬ل هوادة فيها ول ترخص ‪ ,‬وثمن الحتفاظ بها فادح ‪ ,‬ولكنها ترجحه في نفس‬
‫المؤمن ‪ ,‬وعند ال ‪ .‬وهي أمانة ل يؤتمن عليها إل من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم‬
‫‪.‬‬
‫(ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ‪ ,‬ثم جاهدوا وصبروا ‪ ,‬إن ربك من بعدها لغفور رحيم ‪ .‬يوم تأتي‬
‫كل نفس تجادل عن نفسها ‪ .‬وتوفى كل نفس ما عملت ‪ ,‬وهم ل يظلمون)‪.‬‬

‫وقد كانوا من ضعاف العرب ‪ ,‬الذين فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب وغيره ‪ .‬ولكنهم هاجروا بعد‬
‫ذلك عندما أمكنتهم الفرصة ‪ ,‬وحسن إسلمهم ‪ ,‬وجاهدوا في سبيل ال ‪ ,‬صابرين على تكاليف الدعوة ‪ .‬فال‬
‫يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم (إن ربك من بعدها لغفور رحيم)‪.‬‬

‫ذلك يوم تشغل كل نفس بأمرها ‪ ,‬ل تتلفت إلى سواها ; (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)وهو تعبير يلقي‬
‫ظل الهول الذي يشغل كل امريء بنفسه ‪ ,‬يجادل عنها لعلها تنجو من العذاب ‪ .‬ول غناء في انشغال ول جدال‬
‫‪ .‬إنما هو الجزاء ‪ .‬كل نفس وما كسبت ‪( .‬وهم ل يظلمون)‪. .‬‬

‫الوحدة السادسة‪ 128 - 112:‬الموضوع‪:‬نماذج من عقاب جاحدي نعم ال وقواعد في الدعوة إلى ال‬

‫مقدمة الوحدة سبق أن ضرب ال في هذه السورة مثلين لتقريب حقيقة من حقائق العقيدة ‪ .‬وهو يضرب هنا‬
‫مثل لتصوير حال مكة ‪ ,‬وقومها المشركين ‪ ,‬الذين جحدوا نعمة ال عليهم ‪ .‬لينظروا المصير الذي يتهددهم‬
‫من خلل المثل الذي يضرب لهم ‪.‬‬

‫ومن ذكر النعمة في المثل ‪ ,‬وهي نعمة الرزق الرغد مع المن والطمأنينة ينتقل السياق بهم إلى الطيبات التي‬
‫يحرمونها عليهم إتباعا لوهام الوثنية ‪ ,‬وقد أحلها ال لهم ‪ ,‬وحدد المحرمات وبينها وليست هذه منها ‪ .‬وذلك‬
‫لون من الكفر بنعمة ال ‪ ,‬وعدم القيام بشكرها ‪ .‬يتهددهم بالعذاب الليم من أجله ‪ ,‬وهو افتراء على ال لم‬
‫ينزل به شريعة ‪.‬‬

‫ن َفكَ َفرَتْ ِبَأ ْنعُمِ الّلهِ َفَأذَاقَهَا الّلهُ ِلبَاسَ‬


‫ط َم ِئنّةً َي ْأتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن كُلّ َمكَا ٍ‬
‫ضرَبَ اللّ ُه َمثَلً َقرْيَ ًة كَانَتْ آ ِم َنةً ّم ْ‬
‫َو َ‬
‫خذَهُ ُم ا ْل َعذَابُ وَ ُهمْ ظَالِمُونَ (‬
‫ص َنعُونَ (‪ )112‬وَلَ َقدْ جَاء ُهمْ رَسُولٌ ّم ْن ُهمْ َفكَ ّذبُوهُ َفَأ َ‬
‫ا ْلجُوعِ وَا ْلخَ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َي ْ‬
‫‪)113‬‬

‫وبمناسبة ما حرم على المسلمين من الخبائث ‪ ,‬يشير إلى ما حرم على اليهود من الطيبات ‪ .‬بسبب ظلمهم ‪.‬‬
‫جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم ولم يكن محرما على آبائهم في عهد إبراهيم الذي كان أمة قانتا ل‬
‫حنيفا ‪ ,‬ولم يك من المشركين شاكرا لنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ‪ ,‬فكانت حلل له الطيبات ولبنيه‬
‫من بعده ‪ ,‬حتى حرم ال بعضها على اليهود في صورة عقوبة لهم خاصة ‪ .‬ومن تاب بعد جهالته فال غفور‬
‫رحيم ‪.‬‬
‫ثم جاء دين محمد امتدادا واتباعا لدين إبراهيم ‪ ,‬فعادت الطيبات حلل كلها ‪ .‬وكذلك السبت الذي منع فيه‬
‫اليهود من الصيد ‪ .‬فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه ففريق كف عن الصيد وفريق نقض عهده فمسخه‬
‫ال وانتكس عن مستوى النسانية الكريم ‪.‬‬

‫وتختم السورة عند هذه المناسبة بالمر إلى الرسول [ ص ] أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة‬
‫‪ .‬وأن يجادلهم بالتي هي أحسن ‪ .‬وأن يلتزم قاعدة العدل في رد العتداء بمثله دون تجاوز ‪ . .‬والصبر والعفو‬
‫خير ‪ .‬والعاقبة بعد ذلك للمتقين المحسنين لن ال معهم ‪ ,‬ينصرهم ويرعاهم ويهديهم طريق الخير والفلح ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 117 - 112:‬عقاب من جحدوا نعم ال وبيان ما حرم ال والنهي عن التحريم بغير أمر ال‬

‫(وضرب ال مثل قرية كانت آمنة مطمئنة ‪ ,‬يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ‪ ,‬فكفرت بأنعم ال ‪ ,‬فأذاقها ال‬
‫لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ‪ .‬ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ‪ ,‬فأخذهم العذاب وهم ظالمون)‪. .‬‬

‫وهي حال أشبه شيء بحال مكة ‪ .‬جعل ال فيها البيت ‪ ,‬وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن ‪ ,‬ل تمتد‬
‫إليه يد ولو كان قاتل ‪ ,‬ول يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت ال الكريم ‪ .‬وكان الناس يتخطفون من‬
‫حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون ‪ .‬كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان‬
‫مع الحجيج ومع القوافل المنة ‪ ,‬مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ‪ ,‬فكانت تجبي إليهم ثمرات كل‬
‫شيء فيتذوقون طعم المن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل ‪.‬‬

‫ثم إذا رسول منهم ‪ ,‬يعرفونه صادقا أمينا ‪ ,‬ول يعرفون عنه ما يشين ‪ ,‬يبعثه ال فيهم رحمة لهم وللعالمين ‪,‬‬
‫دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالمن والطمأنينة والعيش الرغيد ; فإذا هم يكذبونه ‪,‬‬
‫ويفترون عليه الفتراءات ‪ ,‬وينزلون به وبمن اتبعوه الذى ‪ .‬وهم ظالمون ‪.‬‬

‫والمثل الذي يضربه ال لهم منطبق على حالهم ‪ ,‬وعاقبة المثل أمامهم ‪ .‬مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة‬
‫يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم ال ‪ ,‬وكذبت رسوله (فأذاقها ال لباس الجوع والخوف بما كانوا‬
‫يصنعون)وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون ‪.‬‬

‫ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا ; ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا ‪ ,‬لن الذوق أعمق أثرا في‬
‫الحس من مساس اللباس للجلد ‪ .‬وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم‬
‫ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس ‪ .‬لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون ‪.‬‬

‫وفي ظل هذا المثل الذي تخايل فيه النعمة والرزق ‪ ,‬كما يخايل فيه المنع والحرمان ‪ ,‬يأمرهم بالكل مما أحل‬
‫لهم من الطيبات وشكر ال على نعمته إن كانوا يريدون أن يستقيموا على اليمان الحق بال ‪ ,‬وأن يخلصوا له‬
‫ح ّرمَ عََل ْي ُكمُ ا ْل َم ْيتَةَ وَا ْل ّدمَ‬
‫ش ُكرُو ْا ِن ْعمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ ِإيّاهُ َت ْع ُبدُونَ (‪ِ )114‬إ ّنمَا َ‬
‫طيّبا وَا ْ‬
‫َفكُلُواْ ِممّا َرزَ َق ُكمُ الّلهُ حَللً َ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ ّرحِيمٌ (‪َ )115‬ولَ تَقُولُواْ ِلمَا‬
‫غ ْيرَ بَاغٍ َولَ عَادٍ َفإِ ّ‬
‫ضطُرّ َ‬
‫ل ِل َغ ْيرِ اللّ ِه بِ ِه َفمَنِ ا ْ‬
‫حمَ ا ْلخَنزِيرِ َومَا أُهِ ّ‬
‫وََل ْ‬
‫ن يَ ْف َترُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َكذِبَ لَ‬
‫حرَامٌ ّلتَ ْف َترُواْ عَلَى اللّ ِه ا ْل َكذِبَ ِإنّ اّلذِي َ‬
‫س َن ُت ُكمُ ا ْل َكذِبَ هَـذَا حَلَلٌ وَهَـذَا َ‬
‫َتصِفُ أَ ْل ِ‬
‫صنَا عََل ْيكَ مِن َقبْلُ َومَا‬
‫ص ْ‬
‫ح ّر ْمنَا مَا قَ َ‬
‫ب أَلِيمٌ (‪َ )117‬وعَلَى اّلذِينَ هَادُو ْا َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫يُفِْلحُونَ (‪َ )116‬متَاعٌ قَلِيلٌ وََل ُهمْ َ‬
‫جهَالَ ٍة ُثمّ تَابُو ْا مِن َبعْدِ ذَِلكَ‬
‫عمِلُو ْا السّو َء ِب َ‬
‫س ُهمْ َيظِْلمُونَ (‪ُ )118‬ثمّ ِإنّ َر ّبكَ لِّلذِينَ َ‬
‫ظََلمْنَا ُهمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَن ُف َ‬
‫ن َربّكَ مِن َب ْعدِهَا َلغَفُورٌ ّرحِيمٌ (‪)119‬‬
‫وََأصَْلحُو ْا إِ ّ‬
‫العبودية خالصة من الشرك ‪ ,‬الذي يوحي إليهم بتحريم بعض الطيبات على أنفسهم باسم اللهة المدعاة‪:‬‬

‫(فكلوا مما رزقكم ال حلل طيبا ‪ ,‬واشكروا نعمة ال إن كنتم إياه تعبدون)‪.‬‬

‫ويحدد لهم المحرمات على سبيل الحصر ‪ .‬وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق ال من بحيرة أو‬
‫سائبة أو وصيلة أوحام‪:‬‬

‫(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ‪ ,‬وما أهل لغير ال به)‪ . .‬وهي محرمة إما لن فيها أذى للجسم‬
‫والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير ‪ ,‬أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير ال ‪( .‬فمن اضطر‬
‫غير باغ ول عاد فإن ال غفور رحيم)فهذا الدين يسر ل عسر ‪ .‬ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من‬
‫الجوع والظمأ فل عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر [ على خلف فقهي ذكرناه من‬
‫قبل ] غير باغ على مبدأ التحريم ول متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور ‪.‬‬

‫ذلك حد الحلل والحرام الذي شرعه ال في المطعومات ‪ ,‬فل تخالفوه اتباعا لوهام الوثنية ‪ ,‬ول تكذبوا‬
‫فتدعوا تحريم ما أحله ال ‪ .‬فالتحريم والتحليل ل يكونان إل بأمر من ال ‪ .‬فهما تشريع ‪ .‬والتشريع ل وحده ل‬
‫لحد من البشر ‪ .‬وما يدعي أحد لنفسه حق التشريع بدون أمر من ال إل مفتر ‪ ,‬والمفترون على ال ل‬
‫يفلحون‪:‬‬

‫(ول تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب‪:‬هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على ال الكذب ‪ ,‬إن الذين يفترون على ال‬
‫الكذب ل يفلحون ‪ .‬متاع قليل ولهم عذاب أليم)‪. .‬‬

‫ل تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم وتحكيه‪:‬هذا حلل وهذا حرام ‪ .‬فهذا حلل وهذا حرام حين تقولونها بل‬
‫نص هي الكذب عينه ‪ ,‬الذي تفترونه على ال ‪ .‬والذين يفترون على ال الكذب ليس لهم إل المتاع القليل في‬
‫الدنيا ومن ورائه العذاب الليم ‪ ,‬والخيبة والخسران ‪. .‬‬

‫ثم يجرؤ ناس بعد ذلك على التشريع بغير إذن من ال ‪ ,‬وبغير نص في شريعته يقوم عليه ما يشرعونه من‬
‫القوانين ‪ ,‬وينتظرون أن يكون لهم فلح في هذه الرض أو عند ال !‬
‫الدرس الثاني‪ 119 - 118:‬إشارة إلى بعض ما حرمه على اليهود عقوبة لهم‬

‫فأما ما حرمه ال على اليهود في قوله من قبل في سورة النعام ‪( .‬وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ‪,‬‬
‫ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إل ما حملت ظهورهما ‪ ,‬أو الحوايا أو ما اختلط بعظم)فقد كان‬
‫عقوبة خاصة بهم ل تسري على المسلمين‪:‬‬

‫(وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ‪ ,‬وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‪ .‬ثم إن ربك‬
‫للذين عملوا السوء بجهالة ‪ ,‬ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ‪ .‬إن ربك من بعدها لغفور رحيم)‪. .‬‬

‫ولقد استحق اليهود تحريم هذه الطيبات عليهم بسبب تجاوزهم الحد ومعصيتهم ل ‪ .‬فكانوا ظالمين لنفسهم لم‬
‫يظلمهم ال ‪ .‬فمن تاب ممن عمل السوء بجهالة ولم يصر على المعصية ‪ ,‬ولم يلج فيها حتى يوافيه الجل ; ثم‬
‫أتبع التوبة القلبية بالعمل الصالح فإن غفران ال يسعه ورحمته تشمله ‪ .‬والنص عام يشمل التائبين العاملين من‬
‫اليهود المذنبين وغيرهم إلى يوم الدين ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 124 - 120:‬بيان حقيقة دين وملة إبراهيم عليه السلم‬

‫وبمناسبة ما حرم على اليهود خاصة ‪ ,‬ومناسبة ادعاء مشركي قريش أنهم على ملة إبراهيم فيما يحرمونه على‬
‫أنفسهم ويجعلونه لللهة ‪ ,‬يعرج السياق على إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يجلو حقيقة ديانته ‪ ,‬ويربط بينها وبين‬
‫الدين‬

‫ستَقِيمٍ‬
‫صرَاطٍ ّم ْ‬
‫ج َتبَاهُ وَ َهدَا ُه إِلَى ِ‬
‫ش ِركِينَ (‪ )120‬شَاكِرا ّلَأ ْن ُعمِهِ ا ْ‬
‫حنِيفا وََلمْ َيكُ ِمنَ ا ْل ُم ْ‬
‫ن ُأمّ ًة قَانِتا لِّلهِ َ‬
‫إِنّ ِإ ْبرَاهِيمَ كَا َ‬
‫حنِيفا‬
‫ح ْينَا إَِل ْيكَ َأنِ ا ّتبِ ْع مِلّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ‬
‫خرَةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ (‪ُ )122‬ثمّ أَ ْو َ‬
‫سنَةً وَِإنّ ُه فِي ال ِ‬
‫حَ‬‫(‪ )121‬وَآ َت ْينَاهُ فِي ا ْل ّد ْنيَا َ‬
‫ح ُكمُ َب ْي َنهُمْ َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة فِيمَا‬
‫ختَلَفُواْ فِيهِ وَِإنّ َر ّبكَ َل َي ْ‬
‫سبْتُ عَلَى اّلذِينَ ا ْ‬
‫جعِلَ ال ّ‬
‫شرِكِينَ (‪ِ )123‬إ ّنمَا ُ‬
‫ن ا ْل ُم ْ‬
‫َومَا كَانَ مِ َ‬
‫ن َر ّبكَ‬
‫ن إِ ّ‬
‫حسَ ُ‬
‫سنَةِ َوجَادِ ْلهُم بِاّلتِي ِهيَ َأ ْ‬
‫حَ‬‫عظَةِ ا ْل َ‬
‫ح ْكمَةِ وَا ْلمَ ْو ِ‬
‫سبِيلِ َر ّبكَ بِا ْل ِ‬
‫ختَلِفُونَ (‪ )124‬ا ْدعُ إِلِى َ‬
‫كَانُواْ فِي ِه َي ْ‬
‫سبِيلِهِ وَهُوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُم ْه َتدِينَ (‪)125‬‬
‫هُ َو أَعَْلمُ ِبمَن ضَلّ عَن َ‬
‫الذي جاء به محمد [ ص ] ويبين ما اختص به اليهود من المحظورات التي لم تكن على عهد إبراهيم ‪.‬‬

‫(إن إبراهيم كان أمة قانتا ل حنيفا ولم يك من المشركين ‪ ,‬شاكرا لنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ;‬
‫وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الخرة لمن الصالحين ‪ .‬ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من‬
‫المشركين ‪ .‬إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ‪ ,‬وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه‬
‫يختلفون)‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يرسم إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬نموذجا للهداية والطاعة والشكر والنابة ل ‪ .‬ويقول عنه‬
‫هنا‪:‬إنه كان أمة ‪ .‬واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة ‪ .‬ويحتمل أنه كان إماما‬
‫يقتدى به في الخير ‪ .‬وورد في التفسير المأثور هذا المعنى وذاك ‪ .‬وهما قريبان فالمام الذي يهدي إلى الخير‬
‫هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه ل فرد واحد ‪( .‬قانتا‬
‫ل)طائعا خاشعا عابدا(حنيفا)متجها إلى الحق مائل إليه (ولم يك من المشركين)فل يتعلق به ول يتمسح فيه‬
‫المشركون ! (شاكرا لنعمه)بالقول والعمل ‪ .‬ل كهؤلء المشركين الذين يجحدون نعمة ال قول ‪ ,‬ويكفرونها‬
‫عمل ‪ ,‬ويشركون في رزقه لهم ما يدعون من الشركاء ‪ ,‬ويحرمون نعمة ال عليهم اتباعا للوهام والهواء‬
‫‪(.‬اجتباه)اختاره (وهداه إلى صراط مستقيم)هو صراط التوحيد الخالص القويم ‪.‬‬

‫ذلك شأن إبراهيم الذي يتعلق به اليهود ويتمسح به المشركون ‪(.‬ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما‬
‫كان من المشركين)فكان ذلك وصل ما انقطع من عقيدة التوحيد ‪ ,‬ويؤكدها النص من جديد على أن إبراهيم (ما‬
‫كان من المشركين)فالصلة الحقيقية هي صلة الدين الجديد ‪ .‬فأما تحريم السبت فهو خاص باليهود الذين اختلفوا‬
‫فيه ‪ ,‬وليس من ديانة إبراهيم ‪ ,‬وليس كذلك من دين محمد السائر على نهج إبراهيم‪( :‬إنما جعل السبت على‬
‫الذين اختلفوا فيه)وأمرهم موكول إلى ال (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 128 - 125:‬بيان طريق الدعوة والصبر على مشقاتها‬

‫ذلك بيان المشتبهات في العلقة بين التوحيد الذي جاء بها إبراهيم من قبل ‪ ,‬وكملت في الدين الخير ‪ ,‬والعقائد‬
‫المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود ‪ .‬وهو بعض ما جاء هذا الكتاب لتبيانه ‪ .‬فليأخذ الرسول [ ص ]‬
‫في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة ‪ ,‬ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي‬
‫هي أحسن ‪ .‬فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين عاقبهم بمثل ما اعتدوا ‪ .‬إل أن يغفروا ويصبر مع المقدرة على‬
‫العقاب بالمثل ; مطمئنا إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين ‪ .‬فل يحزن على من ل يهتدون ‪ ,‬ول يضيق صدره‬
‫بمكرهم به وبالمؤمنين‪:‬‬

‫(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ‪ ,‬وجادلهم بالتي هي أحسن ‪ ,‬إن ربك هو أعلم بمن ضل عن‬
‫سبيله ‪ ,‬وهو أعلم بالمهتدين ‪ .‬وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ‪ ,‬ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ‪.‬‬
‫واصبر وما صبرك إل بال ‪ .‬ول تحزن عليهم ول تك في ضيق مما يمكرون ‪ .‬إن ال مع الذين اتقوا ‪,‬‬
‫والذين هم محسنون)‪. .‬‬

‫على هذه السس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها ‪ ,‬ويعين وسائلها وطرائقها ‪ ,‬ويرسم المنهج‬
‫للرسول الكريم ‪ ,‬وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه ال في هذا القرآن ‪.‬‬

‫إن الدعوة دعوة إلى سبيل ال ‪ .‬ل لشخص الداعي ول لقومه ‪ .‬فليس للداعي من دعوته إل أنه يؤدي واجبه‬
‫ص ْب ُركَ ِإلّ بِاللّهِ‬
‫ص ِبرْ َومَا َ‬
‫خ ْيرٌ لّلصّابِرينَ (‪ )126‬وَا ْ‬
‫ص َب ْرتُمْ َل ُهوَ َ‬
‫ل مَا عُو ِقبْتُم ِبهِ وََلئِن َ‬
‫وَِإنْ عَا َق ْب ُتمْ َفعَا ِقبُواْ ِب ِمثْ ِ‬
‫ض ْيقٍ ّممّا َي ْمكُرُونَ (‪)127‬‬
‫َولَ َتحْزَنْ عََل ْي ِهمْ َولَ َتكُ فِي َ‬
‫ل ‪ ,‬ل فضل له يتحدث به ‪ ,‬ل على الدعوة ول على من يهتدون به ‪ ,‬وأجره بعد ذلك على ال ‪.‬‬

‫والدعوة بالحكمة ‪ ,‬والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم ‪ ,‬والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى ل يثقل‬
‫عليهم ول يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها ‪ ,‬والطريقة التي يخاطبهم بها ‪ ,‬والتنويع في هذه الطريقة‬
‫حسب مقتضياتها ‪ .‬فل تستبد به الحماسة والندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه ‪.‬‬

‫وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق ‪ ,‬وتتعمق المشاعر بلطف ‪ ,‬ل بالزجر والتأنيب في غير‬
‫موجب ‪ ,‬ول يفضح الخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية ‪ .‬فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي‬
‫القلوب الشاردة ‪ ,‬ويؤلف القلوب النافرة ‪ ,‬ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ ‪.‬‬

‫وبالجدل بالتي هي أحسن ‪ .‬بل تحامل على المخالف ول ترذيل له وتقبيح ‪ .‬حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر‬
‫أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل ‪ ,‬ولكن القناع والوصول إلى الحق ‪ .‬فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها‬
‫‪ ,‬وهي ل تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إل بالرفق ‪ ,‬حتى ل تشعر بالهزيمة ‪ .‬وسرعان ما تختلط على‬
‫النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس ‪ ,‬فتعتبر التنازل عن الرأي تنازل عن هيبتها واحترامها وكيانها ‪,‬‬
‫والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة ‪ ,‬ويشعر المجادل أن ذاته مصونة ‪ ,‬وقيمته كريمة‬
‫‪ ,‬وأن الداعي ل يقصد إل كشف الحقيقة في ذاتها ‪ ,‬والهتداء إليها ‪ .‬في سبيل ال ‪ ,‬ل في سبيل ذاته ونصرة‬
‫رأيه وهزيمة الرأي الخر !‬

‫ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن ال هو العلم بمن ضل عن سبيله وهو‬
‫العلم بالمهتدين ‪ .‬فل ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والمر بعد ذلك ل ‪.‬‬

‫هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام المر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة ‪ .‬فأما إذا وقع العتداء‬
‫على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير ‪ ,‬فالعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق ‪ ,‬ودفعا لغلبة‬
‫الباطل ‪ ,‬على أل يتجاوز الرد على العتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع ‪ ,‬فالسلم دين العدل والعتدال ‪,‬‬
‫ودين السلم والمسالمة ‪ ,‬إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ول يبغي (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)‪.‬‬
‫وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه ‪ .‬فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها‬
‫كرامتها وعزتها ‪ ,‬فل تهون في نفوس الناس ‪ .‬والدعوة المهينة ل يعتنقها أحد ‪ ,‬ول يثق أنها دعوة ال ‪ .‬فال‬
‫ل يترك دعوته مهينة ل تدفع عن نفسها ‪ ,‬والمؤمنون بال ل يقبلون الضيم وهم دعاة ل والعزة ل جميعا ‪ .‬ثم‬
‫إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الرض وتحقيق العدل بين الناس ‪ ,‬وقيادة البشرية إلى الطريق القويم ‪,‬‬
‫فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فل يعاقبون ‪ ,‬ويعتدي عليهم فل يردون ?! ‪.‬‬
‫ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل ‪ ,‬فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر ‪ ,‬حين يكون المسلمون قادرين‬
‫على دفع الشر ووقف العدوان ‪ ,‬في الحالت التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا ‪ .‬وأكثر فائدة للدعوة‬
‫‪ .‬فأشخاصهم ل وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر ‪ .‬فأما إذا كان العفو والصبر يهينان‬
‫دعوة ال ويرخصانها ‪ ,‬فالقاعدة الولى هي الولى ‪.‬‬

‫ولن الصبر يحتاج إلى مقاومة للنفعال ‪ ,‬وضبط للعواطف ‪ ,‬وكبت للفطرة ‪ ,‬فإن القرآن يصله بال ويزين‬
‫عقباه‪( :‬ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ‪ .‬واصبر وما صبرك إل بال)‪ . .‬فهو الذي يعين على الصبر وضبط‬
‫النفس ‪ ,‬والتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد العتداء بمثله والقصاص له بقدره ‪.‬‬

‫ويوصي القرآن الرسول [ ص ] وهي وصية لكل داعية من بعده ‪ ,‬أل يأخذه الحزن إذا‬

‫سنُونَ (‪)128‬‬
‫حِ‬‫ن هُم ّم ْ‬
‫ن اتّقَواْ وّاّلذِي َ‬
‫إِنّ اللّ َه مَعَ اّلذِي َ‬
‫رأى الناس ل يهتدون ‪ ,‬فإنما عليه واجبه يؤديه ‪ ,‬والهدى والضلل بيد ال ‪ ,‬وفق سنته في فطرة النفوس‬
‫واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلل ‪ .‬وأل يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية ل ‪ ,‬فال‬
‫حافظه من المكر والكيد ‪ ,‬ل يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته ل يبتغي من ورائها شيئا لنفسه ‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫ولقد يقع به الذى لمتحان صبره ‪ ,‬ويبطيء عليه النصر لبتلء ثقته بربه ‪ ,‬ولكن العاقبة مظنونة‬
‫ومعروفة(إن ال مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)ومن كان ال معه فل عليه ممن يكيدون وممن يمكرون ‪.‬‬

‫هذا هو دستور الدعوة إلى ال كما رسمه ال ‪ .‬والنصر مرهون بإتباعه كما وعد ال ‪ .‬ومن أصدق من ال ?‬
‫‪.‬‬

‫انتهى الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر مبدوءا بسورة السراء‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫سورة السراء وقسم من سورة الكهف‬

‫الجزء الخامس عشر‬

‫الوحدة الولى‪ 21 - 1:‬الموضوع‪:‬السراء وإفسادات لليهود والحساب والجزاء‬

You might also like